رئيس الهيئة االستشارية
د .حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والتراث
رئيس التحرير
د.علي أحمد الكبيسي سكرتير التحرير سـعــيد خـطـيـبـي هيئة التحرير ديـمـــــة الـشـكــــر محســـن العتيقـــي رئيس القسم الفني
ســلـمـان المـالك اإلخراج والتنفيذ
عـــــــاء األلــفـــــي رش ــا أبوشوش ــة هـــنــــد خـمـيــــس
الهيئة االستشارية
أ .مبارك بن ناصر آل خليفة أ.د .محمد عبد الرحيم كافود أ.د .محمد غانم الرميحي د .عـــلـي فــخــــرو أ.د .رضوان السيد أ .خـالد الخـمـيـسي جميع المشاركات ترسل باسم رئيس التحرير ويفضل أن ترسل عبر البريد االلكتروني للمجلة أو على قرص مدمج في حدود 1000كلمة على العنوان اآلتي: تليفون )+974( 44022295 : تليفون -فاكس )+974( 44022690 : ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر
البريد اإللكتروني: aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة: مدير المكتب :وحيد الطويلة
34ش طلعت حرب ،الدور الخامس، شقة 25ميدان التحرير تليفاكس5783770 : البريد اإللكتروني: aldoha.cairo@gmail.com عبر عن المواد المنشورة في المجلة ُت ِّ عبر بالضرورة عن رأي آراء كّتابها وال ُت ِّ برد الوزارة أو المجلة .وال تلتزم المجلة ّ أصول ما ال تنشره.
مشكالت التعليم العالي في الوطن العربي تحديـــات كبيـــرة، مـــا زال التعليـــم العالـــي فـــي الوطـــن العربـــي يواجـــه ِّ ـور وتق ـ ُّـدم نتيج ــة عل ــى الرغ ــم مم ــا حقّقت ــه بع ــض الجامع ــات العربي ــة م ــن تط ـ ُّ اإلصالحـــات والمراجعـــات التـــي قامـــت بهـــا مـــن أجـــل جـــودة األداء وتحســـين المخرج ــات ،ولك ــن الواق ــع يش ــهد أن م ــا حقَّقت ــه الجامع ــات العربي ــة ف ــي مج ــال متوق ــع منهــا. ـل مم ــا ه ــو ـل مش ــكالت المجتم ــع أق ـ ّ التنمي ــة وح ـ ّ َّ م ــن المتع ــارف علي ــه أن للجامع ــة ث ــاث وظائ ــف كب ــرى ه ــي:التدري ــس، والبح ــث ،وخدم ــة المجتم ــع ،وق ــد حص ــرت أغل ــب الجامع ــات العربي ــة نفس ــها تتوجـــه إلـــى البحـــث فـــي ميـــدان التدريـــس ،وصرفـــت اهتمامهـــا إليـــه ،ولـــم َّ مؤخ ــرًا بع ــد عملي ــات المراجع ــة واإلص ــاح ،وإس ــهاماتها وخدم ــة المجتم ــع إال َّ ف ــي هذي ــن المجالي ــن مح ــدودة. تواجـــه أكثـــر هـــذه الجامعـــات تحّديـــات عديـــدة فـــي مجـــال التدريـــس، فمـــا زالـــت برامجهـــا ومناهجهـــا غيـــر مالئمـــة لمســـتجّدات العصـــر وحاجـــات المجتمـــع ،وأغلـــب أســـاتذتها بحاجـــة إلـــى تنميـــة كفاياتهـــم التدريســـية تشـــجع فعالـــة ،وال الم َّتبعـــة فيهـــا غيـــر ّ ِّ وتطويرهـــا ،وطرائـــق التدريـــس ُ الطال ــب الجامع ــي عل ــى الح ــوار البّن ــاء والتفكي ــر الناق ــد ،ومخرج ــات تعليمه ــا الخريجيـــن ،وأن ضعيفـــة؛ حيـــث يشـــكو ســـوق العمـــل مـــن تدنّـــي مســـتوى ّ تخصصاتهـــم ال تناســـب متطلَّباتـــه. كثيـــرًا مـــن ُّ والبحـــث العلمـــي فـــي هـــذه الجامعـــات -وخاصـــة فـــي مجـــال العلـــوم اإلنس ــانية واالجتماعي ــة -يغل ــب علي ــه الطاب ــع النظ ــري والجه ــد الف ــردي بغي ــة التخصـــص ،كمـــا أن إنتاجيـــة الباحـــث الســـنوية الترقيـــة العلميـــة فـــي مجـــال ُّ متدنِّي ــة جــّدًا أو معدوم ــة ،ويكش ــف ه ــذا الواق ــع عج ــز الجامع ــات العربي ــة ع ــن ــل مش ــكالت المجتم ــع أو اإلســـهام النوعـــي فـــي توظي ــف أبحاثهـــا العلمي ــة لحـ ّ تحقي ــق أغ ــراض التنمي ــة ،ومعن ــى ذل ــك أن ــه لي ــس ل ــدى أكث ــر ه ــذه الجامع ــات مبني ــة عل ــى دراس ــة احتياج ــات المجتم ــع وله ــا مس ــارات اس ــتراتيجية بحثي ــة ّ واضح ــة يمك ــن أن تس ــهم ف ــي تطوي ــره وتنميت ــه ،ويرج ــع ذل ــك -ف ــي المق ــام األول -إل ــى اهتمامه ــا األكب ــر بالتدري ــس عل ــى حس ــاب البح ــث العلم ــي األصي ـل. أمـــا الوظيفـــة الثالثـــة (خدمـــة المجتمـــع)فمـــا زالـــت تســـميتها غامضـــة، ومدلولهـــا مقــصـــورعــــند أكــــــثرالـجـامــعـــــات علـــى عقـــد الـــدورات وإلقـــاء المحاضـــرات ،فـــي حيـــن أن مفهومهـــا واســـع ،وقـــد يســـتوعب الوظيفتيـــن اهتـــم خبـــراء التعليـــم العالـــي بهـــذه الوظيفـــة، وليْيـــن أيضـــاً .ومـــن هنـــا ّ ا ُأل َ وس ــعوا إل ــى َبْل ـ َـورة المضم ــون الحقيق ــي له ــا ،فقام ــت الجامع ــات األوروبي ــة بإجـــراء بحـــث علمـــي فـــي هـــذا المجـــال نتـــج عنـــه إقامـــة مؤتمـــر دبلـــن (فبراير/شـــباط )2012الـــذي ناقـــش نتائـــج المشـــروع البحثـــي ،وانتهـــى إل ــى تحدي ــد ثالث ــة جوان ــب له ــذه الوظيف ــة ،وه ــي :التعلي ــم المس ــتمر ،ونق ــل المؤش ــرات وح ـ َّـدد مجموع ــة م ــن ِّ التقني ــة واالبت ــكار ،والمش ــاركة المجتمعي ــةَ . لقيـــاس كل جانـــب. تأملن ــا دور الجامع ــات العربي ــة ف ــي ه ــذه الجوان ــب الثالث ــة لوجدن ــاه ول ــو َّ مح ــدودًا ف ــي بعضه ــا ،ومعدومــ ًا ف ــي بعضه ــا اآلخ ــر. أي جامعـــة عربيـــة ترتيبـــ ًا وليـــس مســـتغرباً -بعـــد هـــذا كلِّـــهّ -أل تحـــرز ّ َ متقدمـــ ًا فـــي تصنيـــف الجامعـــات علـــى المســـتوى العالمـــي. ِّ رئيس التحرير
مجان ًا مع العدد:
الغالف:
ثــقــافـيـة شــــهــريــة
العدد
84
السنة السابعة -العدد الرابع والثمانون ذو الحجة - 1435إكتوبر 2014
تصدر عن
وزارة الثقافة والفنون والتراث الـــدوحــــة -قـــــطــــر
الشرق الفنّان
غرافيك:
د.زكي نجيب محمود
عالء األلفي -مجلة الدوحة
صدر العدد األول في نوفمبر ،1969وفي يناير 1976أخــذت توجهها العربي واستمرت فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام 1986لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر .2007 توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب ،د .محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش.
االشتراكات السنوية
رئيس قسم التوزيع واالشتراكات
متابعات
داخل دولة قطر
عبد اهلل محمد عبداهلل المرزوقي
صباح غــزة الجديــد ( ................غزة :عبداهلل عمر)
األفراد
120ريــا ًال
الدوائر الرســمية
240ريا ًال
مفارقــات الدخول الثقافــي (....الرباط :عبدالحق ميفراني)
فـاكـس )+974( 44022343 :
نســاء موريتانيا ..بين السياسة والمجتمع(نواكشــوط :عبداهلل ولد محمدو)
البريد اإللكتروني:
خارج دولة قطر دول الخليــج العربــي
300ريال
باقــي الــدول العربيــة
300ريال
دول االتحاد األوروب ي
تليفون )+974( 44022338 :
75يورو
أمـــــــــيــــركـــــــــا
100دوالر
كــــنــــدا وأســتـــرالـــيــــا
150دوالرًا
الموزعون
al-marzouqi501@hotmail.com doha.distribution@yahoo.com الموقع اإللكتروني: www.aldohamagazine.com
ترســل قيمة االشتراك بموجب حوالة مصرفيــة أو شــيك بالريــال القطري باسم وزارة الثقافة والفنون والتراث على عنوان المجلة.
وكيل التوزيع في دولة قطر: دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاكس44557819 :
وكالء التوزيع في الخارج: المملكة العربية السعودية -الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع -الرياض -ت0096614871262 : فاكــس /0096614870809 :مملكــة البحريــن -مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف -المنامة -ت - 007317480800 :فاكــس/007317480819 :دولــة اإلمارات العربية المتحدة -المؤسســة العربيــة للصحافــة واإلعــام -أبــو ظبــي -ت - 4477999 :فاكس /4475668 :ســلطنة ُعمان مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن -مســقط -ت - 009682493356 :فاكس: /0096824649379دولــة الكويــت -شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان -الكويت ت - 009651838281 :فاكــس /0096524839487 :الجمهوريــة اللبنانيــة -مؤسســةنعنــوع الصحفيــة للتوزيــع -بيــروت -ت - 009611666668 :فاكــس/009611653260 : الجمهوريــة اليمنيــة -محــات القائــد التجاريــة -صنعــاء -ت- 00967777745744 : فاكــس / 009671240883 :جمهوريــة مصــر العربيــة -مؤسســة األهــرام -القاهــرة -ت: - 002027704365فاكــس /002027703196الجماهيريــة الليبية -دار الفكر الجديد الســتيراد ونشــر وتوزيــع المطبوعات -طرابلــس -ت - 0021821333260 :فاكس00218213332610 : /جمهورية السودان -دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع -الخرطوم -ت0024915494770 : فاكس / 00249183242703 :المملكة المغربية -الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــروالصحافة ،سبريس -الدار البيضاء -ت - 00212522249200 :فاكس/00212522249214: الجمهورية العربية الســورية -مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع -دمشق - ت- 00963112127797 :فاكس00963112128664:
األسعار دولة قطر مملكة البحرين
10رياالت دينار واحد
الجمهورية العراقية
اإلمارات العربية المتحدة
10دراهم
سلطنة عمان دولة الكويت المملكة العربية السعودية جمهورية مصر العربية الجماهيرية العربية الليبية الجمهورية التونسية الجمهورية الجزائرية المملكة المغربية الجمهورية العربية السورية
دينار واحد 10رياالت 3جنيهات 3دنانير 2دينار 80دينارًا 15درهم ًا 80ليرة
جولي وأخواتها ..عشيقات الرئيس! ( .باريس :عبد اهلل كرمون)
84
الرشــد (تونس :عبد المجيد دقنيش) تونس ..الثورة تبلغ ّ ســن ّ
ميديا
16
أفكار بسيطة..تصنع الفرق ( ...............محمود حسن)
قضية
جامعة
خلف القضبان 18 (د .نزار شقرون) (عبد القادر عبد اللي)
الجمهورية اللبنانية
800بيسة
4
مهمة ّ سرّيّة في السودان!
المملكة األردنية الهاشمية الجمهورية اليمنية
3000ليرة 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال
جمهورية السودان
1.5جنيه
موريتانيا
100أوقية
فلسطين الصومال
1دينار أردني 1500شلن
بريطانيا
4جنيهات
دول االتحاد األوروبي
4يورو
الواليات المتحدة األميركية
4دوالرات
كندا واستراليا
5دوالرات
(د .كمال مغيث) (د.محمد الرميحي ) (محمد األصفر) (د .نظمي الجعبة) (موناليزا فريحة) فيرو) (نويمي ّ
مقاالت وداع ًا للكلمات ( ......................إيزابيلال كامير)
17
12أطروحة حول المثقف (....عبد السالم بنعبد العالي) 37 حسرة الحكيم ...أفيون المصريين الجدد (عالء صادق ) 38 وهج القصيدة ( .......................أمير تاج السر) 73 الحوارات السماوية (مع إبراهيم) (د .محمد عبد المطلب )
79
الشراء وال شيء سواه! (................سعيد بنكراد) 108 لدي ما أرويه (....................سالمة صالح) كان ّ
أدب
160 80
مرتين ( ..................جمال جبران) «الرهينة» اليمنية توَلد ّ حوار مع الكتب (.....................ماجـد صالح الســامرائي) القوافي المهاجرة( .........................د .حسين محمود ) هشاشة الكائن (.....................فاطمة الزهراء الرغيوي)
ترجمات
88
ملف
أجراس الفيتوري
أورورا لوكي ..تغيير الجلد وقصائد أخرى (....خالد الريسوني)
أنور المرتجي د .محمد الشحات سالم أبوظهير د .نجيب العوفي شعبان يوسف رانيا مأمون
العشوائي (.......................................أسامة الحّداد)
ريان) ظـِــالل َ الز َمـــن (....................................أسامة ّ
كتب
98
«العربي» يستعيد كرامته (..........................موناليزا فريحة) االقتراب من ِس ْحر الليالي (.........................سامية أبو زيد)
حسين المزداوي فتحي عبد اهلل أحمد عبدالكريم شاكر نوري د .عبدالعزيز المقالح
42
عن مجتمع رأسمالي جشع (.......................صدوق نورالدين)
ازدواجـيـة الصــــدمة واأللـــــم (.................جهاد الرنتيسي) ديوان الطرائف المعاصرة (..........................عارف حمزة ) نصوص أشبه بطلقة البارود (......................أسامة حبشي) سيرة جديدة ألبولينير (...........................سعيد بوكرامي) هويته (..........................خاص بالدوحة ) شعب ِّ يفتش عن ّ
الحنين المحايد (................................علوان الجيالني)
مسرح
أحمد رجب.. أنسولين السخريّة
مختاراتنا (..........................................مراسلون)
سينما
تشكيل
عمارة
متوسطية (. .اإلسكندرية :نـاهـد صـالح) اإلسكندرية السينمائي..هموم ّ بقرة في اليد وال سالم على الشجرة!« ..المطلوبون الـ ( »18حوار :س.ب)
142
142
«قبة الصخرة» ..تنويعات الحل التصميمي (د .خالد السلطاني)
علوم
«مارسيليا» ..طريق األمومة (........................مروة رزق)
الطريق إلى األوسكار (.........تورونتو -سوزان سامي جميل )
ستاند آب ..عوالم افتراضية (........بيروت :محمد غندور)
خالد تكريتي ..استنســاخات الكوالج (بيروت -خاص بالدوحة)
َم ْي في الصيف ..ليس «اشتباك ثقافات» (............سليم البيك) «وداع ًا كارمن» ..الحلو والمر بين ضفتين (........محمد اشويكة)
السينما العربية خارج المضمار (..........فينيسيا :د .أمل الجمل)
عن اللص الفاضل لداريفو ( ....................رضا عطية)
َط َه َسُب ْع..اســتراتيجية الخلط ( .................أنيس الرافعي )
األفالم اللبنانية ..بعيدًا عن شباك التذاكر (بيروت :نسرين حمود)
حصة فرنسية من الكعكة الهوليوودية (............صالح هاشم)
تأصيل المسرح العربي ..الحالة القطرية (د .مرزوق بن بشير بن مرزوق )
أشــق النحت من رمــاد ( ......................المهدي أخريف) ما ّ
112
األرض وحدودها ..صمت على نهر أنغوري! (.....حسن بن محمد)
134
41
158
إيبوال ..اإلرهاب البيولوجي (..................محســن العتيقي)
صفحات مطوية
158
ظالل العصا ( ..............................عبدالهادي عباس)
صباح غزة الجديد غزة :عبداهلل عمر رغـــم هـــول الكارثـــة الناجمـــة عـــن العـــدوان الهمجـــي اإلســـرائيلي األخيـــر علـــى غـــزة ،فقـــد عـــادت الحيـــاة بيـــن أهالـــي القطـــاع ،وبـــدأوا تدريجيـــ ًا فـــي اســـتعادة يومياتهـــم العاديـــة.. ال يخل ــو بي ــت ف ــي غ ــزة إال وتج ـ ّـرع م ــرارة الح ــرب األخي ــرة ،بي ــن م ــن َفَق ـ َـد بيت ــه ،وم ــن خس ــر تجارت ــه ،وآخري ــن فقـــدوا أحبـــة لهـــم ،وعلـــى أحســـن األح ــوال هن ــاك عزي ــز له ــم الزال يرق ــد ف ــي المستش ــفى يعان ــي م ــن إصاب ــة م ــا لحقــت بــه ،غيــر أن كل هــذا لــم يمنعهــم مـــن طلـــب الحيـــاة واالســـتمرار فيهـــا، يبحث ــون ع ــن حياته ــم رغ ــم األل ــم .وه ــا هـــي الطالبـــة نرميـــن موســـى تعـــود المَد َّم ــر لتحتف ــل م ــع عائلته ــا إل ــى بيته ــا ُ بنجاحهـــا فـــي الثانويـــة العامـــة، حيـــث لـــم يســـعفها الوقـــت أن تقيـــم هـــذا االحتفـــال وقـــت الحـــرب ،بعدمـــا اضطرتهـــا الطائـــرات اإلســـرائيلية إلـــى مغـــادرة بيتهـــا دون أن تتمكـــن مـــن جلـــب حاجياتهـــا الشـــخصية. اليـــوم تعـــود نرميـــن وكلهـــا إصـــرار علـــى مواصلـــة حياتهـــا ،ومـــن فـــوق أنقـــاض البيـــت توجـــه رســـالة للعالـــم «إنن ــا باق ــون هن ــا ،والبي ــت ال ــذي ُدِم ـ َـر س ــنعاود بن ــاءه أفض ــل مم ــا كان ،ول ــن تليـــن عزيمتنـــا فـــي وجـــه المحتـــل»، علـــى حـــد تعبيرهـــا. وتـــــشــــير إحـــصـــــائيات أولــيـــــة لـــوزارة األشـــغال العامـــة واإلســـكان الفلســـطـيـنـيــــــة إلــــى أن الـجــيـــــــش اإلســـرائيلي اســـتهدف فـــي غاراتـــه المدفعيـــة والجويـــة األخيـــرة قرابـــة 15671من ــزالً ،منه ــا 2276من ــز ًال ُدِم ـ َـر بش ــكل كل ــي ،و 13395بش ــكل جزئ ــي، 4
إضافـــة إلـــى عشـــرات آالف المنـــازل تضـــررة بشـــكل طفيـــف. الم ّ ُ آالف الغزاوييـــن يتفقـــدون اليـــوم حياتهـــم بيـــن ثنايـــا المـــوت والـــركام الم ِ نتشــر فــي كل شــارع وزقــاق .الحــاج ُ أميـــن ،واحـــد منهـــم ،أمضـــى أيـــام الهدنـــة األولـــى علـــى أنقـــاض منزلـــه، مح ــاو ًال الخ ــروج بم ــا يمك ــن م ــن أث ــاث المَد َّم ــر ،ولس ــانه ال يغ ــادر كلم ــة البي ــت ُ «حس ــبنا اهلل وه ــو نع ــم الوكي ــل» ،لك ــن الحـــاج أميـــن يؤكـــد علـــى أملـــه فـــي إعـــادة إعمـــار بيتـــه بالقـــول« :اللـــي عمرهـــا زمـــان بيعـــاود يعمرهـــا كمـــان مـــرة». هكـــذا إذا عـــادت الحيـــاة بشـــكلها البســـيط إلـــى قطـــاع غـــزة ،وانتشـــر المواطنـــون فـــي الشـــوارع ،وعـــاد األطفـــال يلهـــون فـــي أزقـــة المخيمـــات واألحيـــاء بحثـــ ًا عـــن طفولـــة حاولـــت الصواريــخ والقذائــف أن تقضــي عليهــا، وقتل ــت مئ ــات منه ــم ..بع ــض العائ ــات فضلــت اصطحــاب أطفالهــا إلــى شــاطئ البحـــر لالســـتجمام والترفيـــه بعـــد س ــبعة أس ــابيع م ــن الخ ــوف والرع ــب، هن ــاك حي ــث يس ــتطيع األطف ــال تفري ــغ طاقتهـــم وخوفهـــم ،وتناســـي بعـــض فظاعـــة مـــا جـــرى .ســـعيد طفـــل فـــي العاشـــرة ،نجـــا مـــن آلـــة المـــوت، ـا« :كن ــا محرومي ــن َو َعّب ـ َـر بتلقائي ــة قائ ـ ً م ــن البح ــر ط ــول الح ــرب ،والي ــوم ب ــدأ الصيـــف تبعنـــا ،والزم نســـتمتع قبـــل مـــا نرجـــع للمدرســـة».
سؤال كبير
الطال ــب الجامع ــي معي ــن أب ــو س ــيدو فعـــا نحـــب الحيـــاة، يقـــول« :نحـــن ً والمـــوت مفـــروض علينـــا ولـــم نطلبـــه يومــاً ،ودلي ــل ذل ــك أن ــه وبع ــد انته ــاء
الح ــرب بي ــوم واح ــد فق ــط تج ــد الن ــاس قــد عــادت إلــى أشــغالها وكأنهــا تتحــدى الحـــرب» .ويضيـــف أبـــو ســـيدو« :قـــد يكــون مفاجئ ـ ًا أن غــزة حتــى لــم تنتظــر توق ــف الح ــرب ،فق ــد س ــمعنا ع ــن أف ــراح أقامهـــا الالجئـــون فـــي مراكـــز اإليـــواء مس ــتغلين فت ــرة الهدن ــة وس ــط الح ــرب» ويتس ــاءل« :ه ــل هن ــاك تح ــد أكب ــر م ــن هـــذا؟» ..ســـيرة األفـــراح واالحتفـــال بالحيــاة جســدتهما قصــة العريــس وائــل أب ــو لول ــي ( 23عام ـاً) وعروس ــه أمان ــي عق ــل ( 20عام ـاً) ،هم ــا م ــن س ــكان بل ــدة الشـــوكة المدمـــرة شـــرق مدينـــة رفـــح، والل ــذان عق ــدًا قرانهم ــا قب ــل نح ــو أربع ــة ش ــهور ،وكان يفت ــرض أن يك ــون حف ــل زفافهمـــا فـــي يوليو/تمـــوز الماضـــي، غيـــر أن انـــدالع الحـــرب حـــال دون إتمامـــه ،وتدميـــر بيـــت الزوجيـــة لـــم يســـمح لليـــأس أن يتســـلل إلـــى نفـــس وائـــل وعروســـه اللذيـــن قـــررا إتمـــام الزف ــاف داخ ــل مرك ــز اإلي ــواء ال ــذي لج ــآ إلي ــه خ ــال الح ــرب. وحـــول هـــذا يقـــول وائـــل« :بعـــد تدميـــر المنـــزل وتشـــريد العائلـــة كنـــا نحت ــاج إل ــى الف ــرح ال ــذي كدن ــا ننس ــاه التشـــرد ،والمـــوت والبطـــش بفعـــل ُّ اإلسرائـيـلــ ــي الذــ ــي الحـقـهــ ــم حــ ــتى داخـــل هـــذه المدرســـة التـــي تعرضـــت للقصـــف فاتفقـــت مـــع عروســـي علـــى الـــزواج برغـــم كل الظـــروف ،رغـــم أحالمـــي بإقامـــة فـــرح كبيـــر يجمـــع األهـــل واألحبـــاب ،لكـــن كل شـــيء يمك ــن تعويض ــه كلم ــا بقين ــا بخي ــر أن ــا وعائلتـــي».
كيف استطاعوا ؟! قـــد يتســـاءل البعـــض كيـــف يمكـــن
معالم الشخصية
لهـــم فـــي غـــزة تحمـــل كل هـــذا األلـــم؟، فيجيـــب آخـــر :الحيـــاة فـــي غـــزة ال تتوق ــف مهم ــا كان ــت الظ ــروف ،ويعّل ــق علـــى هـــذا المواطـــن األربعينـــي فايـــز الغالينـــي بالقـــول« :حاصـــروا غـــزة فحف ــرت األنف ــاق ،ضربوه ــا بالطائ ــرات فقامـــت أقـــوى كل مـــرة ،ادعـــوا تدميـــر المقاومـــة فيهـــا فخرجـــت لهـــم بخطـــط وهجمـــات أخطـــر مـــن ذي قبـــل». ويتاب ــع فاي ــز« :غ ــزة ال تتوق ــف ع ــن
ممارســة الحيــاة ،فأهلهــا يعلمــون أنهــم يعيشـــون ظروفـــ ًا اســـتثنائية ،وهـــم فـــي مقابـــل ذلـــك يقابلونهـــا بعزيمـــة اســـتثنائية ال تليـــن تـــكاد ال توصـــف، فال ــكل ين ــوي أن يمض ــي الحي ــاة عل ــى خيـــر مـــا يكـــون ،وإن كتـــب اهلل لنـــا فأهـــا بهـــا لـــم نعـــد نخـــاف الشـــهادة ً ـا ـا« :فع ـ ً منه ــا» ،ويختت ــم حديث ــه قائ ـ ً م ــا في ــه ش ــيء كبي ــر عل ــى أه ــل غ ــزة».
يقـــول أخصائـــي علـــم االجتمـــاع الدكتـــور درداح الشـــاعر إن العـــدوان ّـــف 2142 علـــى غـــزة ،والـــذي َخل َ شـــهيداً ،و 11100مصـــاب ،وتدميـــر م ــا يزي ــد عل ــى 10700من ــزل ومس ــجد وكنيســـة ،باإلضافـــة إلـــى األضـــرار التـــي لحقـــت بالمـــدارس والجامعـــات والمستش ــفيات ،كان ــت آثاره ــا لحظي ــة انته ــت بانته ــاء الع ــدوان إل ــى ح ــد م ــا، حيـــث يمتلـــك الشـــعب الفلســـطيني وأه ــل غ ــزة بش ــكل خ ــاص ق ــدرة عل ــى الع ــودة إل ــى الحي ــاة الطبيعي ــة .وله ــذا ع ــدة عوام ــل يمك ــن اختصاره ــا بقناع ــة الشـــعب أن التضحيـــات والبطـــوالت بات ــت ج ــزءًا م ــن ش ــخصيته الجمعي ــة، وه ــذه الش ــخصية تحت ــم علي ــه التكي ــف م ــع حيات ــه الصعب ــة وإن كان ــت تحم ــل مزي ــدًا م ــن التدمي ــر والقت ــل والخ ــوف، هـــذا مـــا يدفعهـــم دومـــا للبحـــث عـــن الحيـــاة بيـــن ثنايـــا األلـــم ،فقـــد أثبتـــت الحـــرب األخيـــرة علـــى غـــزة أن هـــذا الش ــعب ق ــادر عل ــى الصم ــود والوق ــوف فـــي وجـــه االحتـــال اإلســـرائيلي. 5
مفارقات الدخول الثقافي الرباط :عبدالحق ميفراني يتجـــدد الحديـــث كل خريـــف ،عـــن َّ الدخ ــول الثقاف ــي ف ــي المغ ــرب ،ومـ ــعه تكبـــر انتظـــارات المشـــهد الثقافـــي ـــل والـــذي تـــزداد مفارقاتـــه ،فـــي ِظ ّ غيـــاب اســـتراتيجية ثقافيـــة وطنيـــة تـــوازي مســـتوى الحـــراك الـــذي يعرفـــه قطـــاع النشـــر والكتـــاب .وإلـــى اليـــوم الزال مطلـــب إنشـــاء «المجلـــس األعلـــى للثقافـــة واللغـــات» ،والـــذي أقـــره التعديـــل الدســـتوري األخيـــر، مؤجـــا ينتظـــر قـــرارًا سياســـي ًا مطلبـــ ًا ً ـل لتحيين ــه عل ــى أرض الواق ــع .كم ــا َظ ـ ّ الدخ ــول الثقاف ــي محكومــ ًا بـــ «الدخ ــول المدرســـي» وعبـــره تتفـــرغ دور النشـــر لطب ــع عناوين ــه ،وه ــو م ــا يجع ــل م ــن المش ــهد الثقاف ــي وضعــ ًا مركبــ ًا يحت ــاج للخ ــروج م ــن ش ــرنقة االنتظاري ــة .وإذا مـــا تأكـــد ،الشـــهور القليلـــة القادمـــة، انعقـــاد المناظـــرة الوطنيـــة حـــول الثقافـــة المغربيـــة والتـــي ظلـــت أحـــد المشـــاريع الكبـــرى المؤجلـــة التحـــاد كّت ــاب المغ ــرب ،ف ــإن الدخ ــول الثقاف ــي هـــذه الســـنة ســـيكون اســـتثنائياً .إذ يؤكـــد منســـق هـــذه التظاهـــرة الشـــاعر والنـــــاقد عــــبدالدين حـمــــــــروش ،أن المناظـــرة تشـــكل ُمنطلقـــ ًا «للخـــروج ال بخارط ــة طري ــق جامع ــة تك ــون س ــبي ً تصـــور عـــام يرســـم مالمـــح لتحديـــد ُّ سياســـة ثقافيـــة بالمغـــرب» .المناظـــرة الت ــي م ــن المرتق ــب أن تحتضنه ــا مدين ــة طنجـــة قبـــل نهايـــة الســـنة الحاليـــة، ـتمكن م ــن تجس ــيد اس ــتراتيجية عام ــة س ـ ِّ لتدبيـــر الشـــأن الثقافـــي فـــي البلـــد. ـل طبيع ــة تع ـ ُّـدد الممارس ــة الثقافي ــة ولع ـ ّ فـــي المغـــرب وتنوعهـــا (األمازيغـــي، 6
العربـــي ،المتوســـطي ،اإلفريقـــي،).. كفيلـــة بصياغـــة اســـتراتيجية أكثـــر قربـــ ًا مـــن طبيعـــة التحـــوالت التـــي شـــهدها الســـنوات األخيـــرة .وكمـــا يؤش ــر عبدالدي ــن حم ــروش ،فالمناظ ــرة ستؤس ــس ألف ــق تح ــول البع ــد الثقاف ــي ألهـــم «األبعـــاد المتحصنـــة للتنميـــة السياس ــية واالجتماعي ــة واالقتصادي ــة، وفرص ــة لط ــرح األس ــئلة ح ــول الس ــبل لتحقيـــق التنميـــة الثقافيـــة». لرســـم خريطـــة طريـــق لمالمـــح السياســـة الثقافيـــة بالمغـــرب ،تحتـــاج المناظ ــرة إل ــى انخ ــراط جمي ــع الفاعلي ــن فـــي المجـــال الثقافـــي .وهـــو المجـــال ال ــذي ل ــم يتخل ــص بع ــد م ــن مفارقات ــه، والتـــي تعيـــد تأســـيس نفـــس األســـئلة كلمـــا تجـــّدد الســـؤال خريـــف كل ســـنة عـــن الدخـــول الثقافـــي «المؤجـــل» والكفيـــل بإعطـــاء مزيـــد مـــن الديناميـــة وتقعيـــد لحـــراك ثقافـــي .كمـــا يؤســـس أفـــق الدخـــول الثقافـــي وانتظامـــه فـــي المغـــرب ،إلـــى تجـــاوز تلـــك النمطيـــة التـــي ترغـــب الدولـــة ،ومـــن خـــال مهرجاناتهـــا الصيفيـــة ،أن تحافـــظ علي ــه كص ــورة وحي ــدة للفع ــل الثقاف ــي. وهـــو فعـــل «البهرجـــة» بأســـلوبه «الس ــياحي» بعي ــدًا ع ــن أنم ــاط الفرج ــة الفعليـــة والتـــي تســـاهم فـــي ترســـيخ قيـــم الـــذوق الفنـــي .لقـــد ظلّـــت إرادة األفـــراد أحـــد أوجـــه الحـــراك الثقافـــي الس ــنوات األخي ــرة ،ه ــذا إذا م ــا أضفن ــا بعــض الجمعيــات الفاعلــة مــن المجتمــع المدن ــي ،والت ــي تناض ــل عب ــر وس ــائلها الخاصـــة فـــي الحفـــاظ علـــى تـــداول المعرفـــة والثقافـــة .وزاد الحـــراك الشـــبابي األخيـــر مـــن إعـــادة تحييـــن الس ــؤال ح ــول «الربي ــع الثقاف ــي» كأح ــد
المغيب ــة م ــن الح ــراك العرب ــي. األس ــئلة ّ إن غيـــاب لبنيـــات فعليـــة تؤســـس للدخـــول الثقافـــي كل ســـنة ،كنظيـــره فــي تجــارب ودول أخــرى ،أقلهــا فرنســا التـــي ترتبـــط بالمشـــهد الثقافـــي فـــي المغـــرب بالعديـــد مـــن وشـــائج ورؤى، يعيـــد الســـؤال إلـــى وضعيـــة الثقافـــة فـــي المغـــرب .وبعيـــدًا عـــن غيـــاب اســتراتيجية ورهانــات المشــهد المؤجلــة وحـــاالت انحســـار المقروئيـــة واألرقـــام المخيفـــة ،يبـــدو أن تـــم أســـئلة جديـــدة بـــدأت تطفـــو اليـــوم علـــى الســـطح، خصوصـــ ًا بعدمـــا أصبـــح الرهـــان الرقمـــي يتجـــّدد ويهـــّدد فـــي األســـاس حضـــور ومســـتقبل الثقافـــة المرتبطـــة بالكت ــاب الورق ــي .كم ــا انض ــاف س ــؤال تحديـــث آليـــات التـــداول الثقافـــي وفـــق ومتطـــورة، روزنامـــة جديـــدة وحديثـــة ّ تتج ــاوز تل ــك اآللي ــات التقليدي ــة يعيدن ــا إلـــى صلـــب إشـــكاالت المشـــهد الثقافـــي وال ــذي تكب ــر رهانات ــه كل ي ــوم وم ــع كل دخ ــول ثقاف ــي تتجــّدد ض ــرورة تج ــاوز انتكاســـاته الحاليـــة. فش ــهري س ــبتمبر/أيلول وأكتوب ــر/ تشـــرين األول مـــن كل ســـنة يعلنـــان الدخـــول األدبـــي الجديـــد فـــي فرنســـا، وتتنافـــس دور النشـــر فـــي طـــرح أح ــدث عناوينه ــا ف ــي مج ــاالت المعرف ــة اإلنس ــانية ،كم ــا تك ــون مناس ــبة إلع ــان البرامـــج المصاحبـــة للدخـــول األدبـــي والثقافـــي .ويبـــدو أن وزارة الثقافـــة المغربيـــة ،وبعـــد قرارهـــا األخيـــر بتحويـــل مشـــاريع الدعـــم الخاصـــة بالنشــر والكتــاب والمســرح والموســيقى للصيـــف تؤشـــر علـــى تفكيـــر قبلـــي فـــي محاولـــة تكييـــف الدخـــول الثقافـــي يظـــل مـــع التوقيـــت الفـرنـســــي .ولـــن ّ
المعـــرض الدولـــي للكتـــاب بالـــدار البيضـــاء هـــو المحـــدد لتقليـــد للدخـــول الثقافـــي ،رغـــم أن العديـــد مـــن الكّتـــاب تظـــل موســـمية يعتبـــرون أن البرمجـــة ّ بـــدون أيـــة اســـتراتيجية واضحـــة للـــوزارة المســـؤولة عـــن القطـــاع ،بـــل إن كثي ــرًا م ــن الباحثي ــن نبه ــوا إل ــى أن الـــوزارة نفســـها هـــي طـــرف مهـــم فـــي بق ــاء ه ــذا الوض ــع دون ح ــل ،ب ــل ه ــي المســـؤولة عـــن هـــذا الوضـــع البنيـــوي ـش ،م ــع أنه ــا أق ــرت ف ــي أكث ــر م ــن اله ـ ّ مـــرة أنهـــا ليســـت الفاعـــل الوحيـــد فـــي المشـــهد. هن ــاك «خل ــل بني ــوي أمس ــت تعاني ــه منظومتنـــا الثقافيـــة» ،أشـــار يومـــ ًا مـــا المســـرحي بوســـرحان الزيتونـــي، ولعــل هــذا التوصيــف يفيــد فــي التفكيــر اليـــوم ،إلـــى أن الدخـــول الثقافـــي فـــي المغـــرب يؤســـس لمرحلـــة جديـــدة قـــد تفيـــد بإعـــادة التأكيـــد علـــى أن الثقافـــة بالمغـــرب ليســـت أمـــرًا «هامشـــياً»، ـل رهينــاً ،حس ــب الباح ــث كم ــا أن ــه يظ ـ ّ
إدري ــس لكرين ــي ،باس ــتراتيجية ثقافي ــة ت ــروم «إعط ــاء المثق ــف دوره الحقيق ــي ف ــي المجتم ــع وتخلي ــق الفض ــاء الثقاف ــي ليســـتأثر بـــدوره المحـــوري علـــى مســـتوى التنشـــئة االجتماعيـــة ،إلـــى جان ــب دمقرط ــة المؤسس ــات المحس ــوبة علـــى القطـــاع» .وإذا مـــا أضفنـــا الـــدور المحـــوري لإلعـــام نكـــون قـــد وصلنـــا إل ــى تل ــك الش ــبكة الت ــي بإمكانه ــا خل ــق ح ــراك ثقاف ــي تنطل ــق عناوين ــه الكب ــرى مـــع الدخـــول الثقافـــي ،ال أن تظـــل خاضعـــة لمبـــادرات فرديـــة معزولـــة. وتتجـــه بعـــض اآلراء إلـــى حـــدود اعتبـــار أن «الدخـــول الثقافـــي» ليـــس رهانـــ ًا فـــي حـــد ذاتـــه ،مادامـــت الـــدول التـــي ظلـــت وفيـــة العتبـــار الدخـــول الثقافـــي تقليـــدًا راجعـــ ًا لطبيعـــة ومنظومـــة الممارســـة الثقافيـــة فـــي سياســـاتها العموميـــة .والحـــال أن المجتمعـــات العربيـــة ،والمغـــرب نموذجــ ًا هن ــا ،مطالب ــة بتكري ــس نظ ــرة جديـــدة للفعـــل الثقافـــي ووظيفتـــه
المركزيــة بالنســبة لإلنســان والمجتمــع. كمـــا أن اإلشـــارة إلـــى الموضـــوع تأتـــي فـــي صلـــب موضـــوع الدخـــول الثقافـــي ،للخـــروج مـــن وضعيـــة التره ــل الت ــي يعانيه ــا المش ــهد الثقاف ــي، وأيضـــ ًا للدفـــع باتجـــاه تحمـــل الدولـــة لمســـؤوليتها المباشـــرة قصـــد إخـــراج «المجلـــس األعلـــى للثقافـــة واللغـــات» للوجـــود ووقـــف نزيـــف إغـــاق القاع ــات الس ــينمائية ،وتراج ــع الق ــراءة وانحســـارها ،وعـــزوف الجمهـــور عـــن المســـارح ،وإغـــاق المكتبـــات وأيضـــ ًا لترســـيخ الثقافـــة ضمـــن السياســـات العموميـــة ..هـــذا النزيـــف المتواصـــل يقابلـــه فـــي الوقـــت نفســـه مشـــهد مفـــارق يتحكـــم فيـــه ارتفـــاع لمعـــدالت النش ــر والت ــي تع ــرف أرقامــ ًا متزاي ــدة، والح ــراك الس ــينمائي والمس ــرحي عل ــى أشـــده. يذكرنـــا الكــاتــــب محــمــــد برــــــادة بـــ «غيـــاب المجلــس األعلــى للثقافة»، بحكـــم أن المغـــرب ال يتوافـــر «علـــى تـصـــور مـتـــكامل لسياسة ثقافية وأدبية وفـنــــية» .ويؤكـــد الباحـــث المســـرحي أحمـــد بلخيـــري أن «مفهـــوم الدخـــول الثقافـــي ،هـــو حديـــث االســـتعمال فـــي الثقاف ــة المغربي ــة ،ه ــو واق ــع يصنع ــه بالدرجـــة األولـــى المثقفـــون والفنانـــون بفضـــل إبداعاتهـــم واجتهاداتهـــم» أمـــا المب ــدع إس ــماعيل غزال ــي فيق ــول «يبق ــى مـــارس فـــي الفعـــل الثقافـــي الـــذي ُي َ مشـــهدنا العربـــي فلكلوريـــاً ،يحتكـــم إل ــى س ــلطة لي ــس ف ــي ني ــة تعاقده ــا إ ّال ســطوة االحتــواء» .وعلــى هــذا األســاس ـل الره ــان ه ــذا الموس ــم عل ــى انعق ــاد يظ ـ ّ المناظ ــرة الوطني ــة للثقاف ــة المغربي ــة، ك ــي تش ــكل ق ــوة اقتراحي ــة م ــن ش ــأنها، حســـب منظميهـــا ،تقديـــم توصيـــات لص ــوغ سياس ــة ثقافي ــة بوع ــي نق ــدي. ويب ــدو عل ــى ه ــذا األس ــاس أن المعن ــي بالدخ ــول الثقاف ــي ،أصب ــح الي ــوم ه ــو المؤسســـات والتـــي أمســـت مطالبـــة بكتابـــة لحظـــة تاريخيـــة جديـــدة مـــن خ ــال تكري ــس سياس ــة ثقافي ــة تك ــون ف ــي مقدم ــة منظوم ــة التدبي ــر العموم ــي، بعي ــدًا ع ــن لعب ــة التوازن ــات السياس ــية. 7
نساء موريتانيا
بين السياسة والمجتمع
نواكشوط :عبداهلل ولد محمدو بلغـــت حصـــة النســـاء فـــي آخـــر حكومـــة موريتاني ــة نســـبة تزي ــد عل ــى ،% 25حيـــث احتلّـــت ســـبع نســـوة مقاع ــد وزاري ــة ضم ــن تش ــكيلة جدي ــدة تض ــم س ــبعة وعش ــرين وزي ــراًُ ،وتعــّد هـــذه النســـبة ســـابقة هـــي األولـــى فـــي تاريـــخ المـــرأة السياســـي بالبلـــد، بـــل فـــي الـــدول العربيـــة إذا اســـتثنينا حكومـــة الجـــارة الجزائـــر ،التـــي اســـتقبل تعيينهـــا ســـبع نســـاء فـــي مناص ــب وزاري ــة بإش ــادة م ــن جامع ــة الــدول العربيــة واألمــم المتحــدة .ويفيــد آخ ــر إحص ــاء ع ــام للس ــكان والمس ــاكن ـــم ســـنة ،)2013 فـــي موريتانيـــا ُ (ن ِّظ َ بـــأن نســـبة النســـاء تبلـــغ 50.7فـــي المئ ــة ،وق ــد ناضل ــت الم ــرأة م ــن أج ــل الحصــول علــى تمثيــل يضاهــي نســبتها فــي التركيبــة الســكانية ،حيــث انتزعــت تشـــريع ًا يضمـــن لهـــا حضـــورًا تمثيليـــ ًا ف ــي البرلـ ــمان بــنـسـبــ ــة ال تـقــــ ــل ع ــن ،% 20دخل ــت بموجب ــه 31ام ــرأة م ــن أصـــل 147قبـــة البرلمـــان ،أي بنســـبة .% 21 ويط ــرح التداخ ــل بي ــن أدوار الم ــرأة االجتماعيـــة واالقتصاديـــة مـــن جهـــة والسياســـية مـــن جهـــة أخـــرى عـــــدة تســـاؤالت فـــي مجتمعاتنـــا العربيـــة، 8
تغي ــر النظ ــرة إل ــى الم ــرأة فبالرغ ــم م ــن ّ فـــي صورتهـــا النمطيـــة التقليديـــة إال أن كابـــوس ِظـــال تلـــك الصـــورة النمطيـــة ال يـــزال يحـــّد مـــن روح ّ والتحمـــس لـــدى المـــرأة االندفـــاع ّ لول ــوج مراك ــز القي ــادة .ويتس ــم موق ــع المـــرأة فـــي المجتمـــع الموريتانـــي بجملـــة مـــن الخصوصيـــات ،فهـــي فـــي منزل ــة وس ــطى بي ــن تل ــك المجتمع ــات األموميـــة التـــي تجعـــل المـــرأة مركـــز القـــرار وبيـــن تلـــك التـــي تحتجـــب فيهـــا عـــن كثيـــر مـــن األدوار ،ويرجـــع الباحثـــون االجتماعيـــون مـــا تتمتـــع بـــه هـــذه المـــرأة مـــن نفـــوذ ودالل فـــي محيطيهـــا العائلـــي واالجتماعـــي إلـــى إرث بعــض ميــزات المجتمــع الصنهاجــي القائـــم علـــى نظـــام أمومـــي ،تعـــود س ــلطة الق ــرار واس ــتمداد المش ــورة في ــه إلـــى المـــرأة ،وهـــذا النظـــام بالنســـبة للم ــرأة الموريتاني ــة ،رغ ــم تكيف ــه م ــع النظ ــام األب ــوي وتهذّب ــه بالقي ــم الديني ــة ق ــد بقي ــت من ــه رواس ــب منح ــت الم ــرأة حصانـــة ضـــد صنـــوف عديـــدة مـــن اإلكراه ــات الت ــي تتع ـّـرض له ــا مثيلته ــا فـــي بعـــض المجتمعـــات العربيـــة، منهـــا علـــى ســـبيل المثـــال أن التقاليـــد الس ــائدة بالمجتم ــع الموريتان ــي تش ـّـرع زوجيتهـــا لهـــا الخـــروج مـــن بيـــت ّ التعـــرض عنـــد مغاضبـــة دال ًال وغيـــرة ُّ ألبس ــط إهان ــةُ ،وتل ـِـزم الم ــروءة الرج ــل
باالســـتجابة لهـــا ،وتحظـــى المـــرأة المطلّقـــة داخـــل المجتمـــع الموريتانـــي ُ بفـــرص كبيـــرة للـــزواج ،فبحســـب إحصائي ــات ال ــوزارة ،المكلّف ــة بش ــؤون المــرأة ،فــإن نســبة 70.5فــي المئــة مــن المطلقـــات ألول مـــرة يتزوجـــن للمـــرة الثانيـــة ،بينمـــا يظفـــر 20فـــي المئـــة ممـــن طلقـــن للمـــرة الثانيـــة بفرصـــة زواج ثالـــث ،وتزاحـــم المـــرأة الرجـــل فـــي التجـــارة والمقـــاوالت متمتعـــة فضـــا بشـــخصية اقتصاديـــة ُمســـتقلّة، ً عـــن احتكارهـــا ألســـواق خاصـــة بهـــا. فليـــس بمســـتغرب علـــى المـــرأة ـــل هـــذه الســـوانح الموريتانيـــة فـــي ِظ ّ التـــي منحهـــا المجتمـــع الموريتانـــي أن ترتقـــي لمراكـــز قياديـــة ،فقـــد نافســـت شـــريكها الرجـــل علـــى كرســـي الحكـــم فـــي عـــدة انتخابـــات رئاســـية آخرهـــا اســـتحقاقات شـــهر يونيـــو الماضـــي، وهـــي تشـــغل مناصـــب ســـامية عديـــدة دون الـــوزارة ،كأمينـــة عامـــة لـــوزارة ومحافظـــة (واليـــة) وســـفيرة ومديـــرة للتليفزيـــون الرســـمي ،وتتربـــع علـــى إدارات مركزيـــة أخـــرى مهمـــة. وم ــن أب ــرز ال ــوزارات الت ــي تقلدته ــا المـــرأة فـــي الحكومـــة الجديـــدة حقيبـــة وزارة الثقافـــة والصناعـــة التقليديـــة التـــي تعاقبـــت عليهـــا مؤخـــرًا عـــدة نســـوة آخرهـــن الوزيـــرة الحاليـــة الســـيدة فاطمـــة فـــال بنـــت اصوينـــع
أســـتاذة الدراســـات األميركيـــة واآلداب بقســـم اللغـــات والترجمـــة بكليـــة اآلداب والعل ــوم اإلنس ــانية ف ــي جامع ــة نواكش ــوط س ــابقاً ،وق ــد أعي ــدت هيكل ــة وزارتهـــا لتتـــاءم مـــع مرجعيتهـــا الثقافيـــة ،فقـــد أزيحـــت الرياضـــة والشـــباب عـــن امـــرأة جامعيـــة نقـــل عديـــد المواقـــع تصريحـــ ًا مثيـــرًا عنهـــا ُ لبعـــض مهنئيهـــا الرياضييـــن علـــى تعيينهـــا قبـــل شـــهور بمنصـــب وزيـــرة للثقافـــة والشـــباب والرياضـــة ،ذكـــرت فيـــه أنهـــا صـــارت اآلن مجبـــرة علـــى متابعـــة المباريـــات الرياضيـــة ،وهـــي التـــي لـــم تتابـــع فـــي حياتهـــا مبـــاراة واحـــدة ! ولذلـــك يعـــّد إعفـــاء الوزيـــرة مـــن الرياضـــة أمـــرًا طبيعيـــاً. ومـــن وزارات المـــرأة الجديـــدة حقيب ــة التج ــارة والصناع ــة والس ــياحة المســـندة للســـيدة الناهـــا بنـــت حمـــدي ولـــد مكنـــاس ،وهـــي وزيـــرة ســـابقة للشـ ــؤون الخارجي ــة والتع ــاون (2009 ،) 2011وكانـــت أول وزيـــرةخارجيـــة فـــي العالـــم العربـــي وابنـــة أبـــرز دبلوماســـي فـــي تاريـــخ الدولـــة الحديـــث ،فقـــد شـــغل والدهـــا حمـــدي ولـــد مكنـــاس منصـــب وزيـــر خارجيـــة موريتانيــا لمــدة عقــد مــن الزمــن ،وهــي برلماني ــة ورئيس ــة ح ــزب االتح ــاد م ــن أجـــل الديموقراطيـــة والتقـــدم. ومـــن الحقائـــب النســـوية الجديـــدة وزارة منتدبـــة لـــدى وزيـــر الشـــؤون الخارجي ــة والتع ــاون مكلف ــة بالش ــؤون المغاربي ــة واإلفريقي ــة وبالموريتانيي ــن فـــي الخـــارج تقلّدتهـــا اإلعالميـــة المخضرمـــة هنـــد بنـــت عينينـــه ،وقـــد شـــغلت هـــذه المـــرأة فـــي الســـابق منص ــب رئي ــس تحري ــر لصحيف ــة القل ــم المعارضـــة الناطقـــة بالفرنســـية قبـــل ـــن مستشـــارة مكلفـــة باالتصـــال أن ُت ّ عي َ بالـــوزارة األولـــى مـــن ســـنة 2007 وحتــى تعيينهــا فــي هــذا المنصــب .وقــد ُعينـــت ألول مـــرة وزيـــرة أمينـــة عامـــة للحكومـــة هـــي الخبيـــرة القانونيـــة والحقوقيـــة هـــاوا تانديـــا .وقـــد منحـــت وزارة مس ــتحدثة ه ــي حقيب ــة البيط ــرة لدكتـــورة فـــي الطـــب البشـــري هـــي
الســـيدة فاطمـــة حبيـــب أخصائيـــة أمـــراض النســـاء والتوليـــد. عبـــرت نســـوة عربيـــات لقـــد ّ عـــن غيرتهـــن مـــن مكاســـب المـــرأة الموريتاني ــة السياس ــية ،حي ــث ذك ــرت الكاتب ــة العراقي ــة س ــهى الش ــيخلي ف ــي مق ــال له ــا ع ــن وزي ــرات موريتاني ــا أن ــه «أمـــر مفـــرح أن نجـــد نحـــن النســـاء أن شـــقيقات لنـــا فـــي موريتانيـــا قـــد تـــم
اختياره ــن كوزي ــرات ،ويحدون ــا األم ــل أن نـــرى قريبـــ ًا فـــي وزارتنـــا الجديـــدة وزيـــرات عراقيـــات .»..لكـــن المـــرأة الموريتاني ــة الت ــي ارتق ــت إل ــى مناص ــب وزاري ــة ،وتب ــوأت مراك ــز صن ــع الق ــرار ال تـــزال تطمـــح للمزيـــد مـــن الحظـــوة والنفـــوذ ،فهـــل يشـــفع لهـــا أداؤهـــا الحاض ــر ب ــاألدوار الجدي ــدة ف ــي تحقي ــق نفـــوذ أكبـــر مســـتقبالً؟ 9
جولي وأخواتها
عشيقات الرئيس!
باريس :عبد اهلل كرمون شـــكل صـــدور كتـــاب «شـــكرًا علـــى ّ تلـــك اللحظـــة» لفاليريـــه ترييرفيليـــر، الش ــهر الماض ــي ،مفاج ــأة غي ــر س ــارة للرئيـــس الفرنســـي فرانســـوا هوالنـــد، خاصــة فــي خضــم الظــروف السياســية الم ِ ـــمة تس َ الداخليـــة والدوليـــة الراهنـــةُ ، باالضطـــراب والبلبلـــة ،كمـــا أثـــار اســـتنكار عـــدد كبيـــر مـــن الفرنســـيين. جديـــر بالذكـــر أن فاليريـــه هـــي شــريكة الرئيــس هوالنــد الســابقة بــدون ق ــران ،وق ــد ت ــم اإلع ــان مطل ــع الس ــنة عل ــى فس ــخ عالقتهم ــا ع ــن طري ــق ب ــاغ رس ــمي ،بع ــد أكث ــر م ــن أرب ــع س ــنوات مـــن االرتبـــاط .غابـــت فيهـــا بعـــد ذلـــك عـــن قصـــر اإليليزيـــه ،وانصرفـــت إلـــى انش ــغاالتها الصحافي ــة وإل ــى انخراطه ــا فـــي العمـــل االجتماعـــي والخيـــري. لـــم تنـــس فاليريـــه نـــص إعـــان فراقهمـــا الـــذي أفتـــاه هوالنـــد بنفســـه علـــى وكالـــة األنبـــاء الفرنســـية، والمتضمـــن لثمانـــي عشـــرة كلمـــة بالتحديـــد .رأت فيـــه نوعـــ ًا مـــن حكـــم اإلع ــدام عليه ــا ،وال ــذي طبع ــه ،حس ــب زعمهـــا ،بـــرود وقســـوة شـــديدان؛ خاصــة أنهــا كانــت متشــبثة بحبهــا لــه، وحريصـــة علـــى بقائهـــا بقربـــه. فـــإذا كانـــت فاليريـــه ( ،)1965قـــد 10
أصيبـــت لحظتهـــا بالذهـــول ،وابتلعـــت ع ــددًا م ــن المهدئ ــات م ــن ه ــول صدم ــة فراقهـــا مـــع فرانســـوا كمـــا كتبـــت، وظلّـــت لمـــدة طريحـــة الفـــراش فـــي مستشـــفى ســـالبتريير الباريســـي، خاضع ــة للعناي ــة الش ــديدة ،وللمراقب ــة النفســـية ،فـــإن كتابهـــا هـــو بمثابـــة رد مجلجـــل علـــى تلـــك الضربـــة التـــي كانـــت قـــد تلقتهـــا حينهـــا. يع ــد الكت ــاب م ــن ه ــذا المنطل ــق إذن خطــاب انتقــام تكتبــه امــرأة تــم طعنه ــا طعن ــة ال التئ ــام له ــا ،وه ــي الخيان ــة.. ج ــاءت نتيج ــة للعالق ــة العاطفي ــة الت ــي ربطـــت حينئـــذ الرئيـــس هوالنـــد مـــع ممثلـــة تدعـــى جولـــي غاييـــت (.)1972 تب ــرز ق ــراءة الكت ــاب رغب ــة فاليري ــه المِل َحـــة فـــي اإلســـاءة إلـــى الرئيـــس ُ هوالن ــد ،بس ــعيها إل ــى وصم ــه بأقب ــح النع ــوت والصف ــات ،راجي ــة أن يصغ ــر مـــر َغ هيبتـــه فـــي أعيـــن النـــاس ،وأن ُت ِّ فـــي الوحـــل. لـــن يفـــوت كل قـــارئ للكتـــاب أن يســـجل طابـــع أفـــكاره المبعثـــرة ،إذ تكـــرر فيـــه بعـــض المعلومـــات ،وال تتبــع فيــه المؤلفــة خيط ـ ًا كرونولوجي ـ ًا لوقائ ــع وأح ــداث قصته ــا م ــع فرانس ــوا هوالنـــد ،بـــل تســـتعيد فيـــه وتســـتبق وتستشـــرف تبعـــ ًا لمزاجهـــا لحظـــة الكتابـــة .غيـــر أن هنـــاك بعـــض
االتهامـــات التـــي البـــد أنهـــا اختـــارت ذكرهـــا اختيـــارًا واعيـــاً ،تنشـــد مـــن ورائهـــا قصـــم عزيمـــة الرئيـــس وكســـر شـــوكته ،منهـــا اتهامهـــا لـــه بالكـــذب، يتـــردد عشـــرات المـــرات فـــي والـــذي ّ الكتـــاب ،وكأنهـــا بذلـــك تريـــد أن تجع ــل تل ــك الصف ــة تخ ــرج م ــن الحي ــز الشـــخصي الضيـــق إلـــى إعطائهـــا اللبـــوس السياســـي ،طاعنـــة بذلـــك فـــي مصداقيـــة اســـتحقاقه الرئاســـي، خاص ــة أن المج ــال السياس ــي الفرنس ــي يف ــور ه ــذه األي ــام بغلي ــان ال مثي ــل ل ــه، يح ـ ِّـرض هوالن ــد عل ــى االس ــتقالة ،أل ــن تذكـــي بهـــذا جـــذوة اللهـــب؟ فه ــذه ماري ــن لوب ــان ،زعيم ــة اليمي ــن المتطـــرف ،تتلقـــف بدورهـــا تهمـــة أخـــرى تلصقهـــا فاليريـــه بفرانســـوا هوالنـــد ،تتمثـــل فـــي إفشـــائها كـــون هوالنـــد يقـــول عـــن النـــاس البســـطاء أو الفقـــراء إنهـــم ُدرم ،أي« :ال أســـنان لهـــم» ،وصـــارت تتنطـــع بأنهـــا فـــي حزبهـــا يدافعـــون عـــن هـــذه الفئـــة مـــن وهبـــت تتكســـب بالتالـــي دون النـــاسّ ، انتظـــار مـــن هـــذا الفتـــات السياســـي الـــذي ال يغنـــي وال يســـمن. إن الـــركام الهائـــل مـــن األحاديـــث التـــي يفيـــض بهـــا الكتـــاب فيضـــاً، والتـــي ال يمكـــن التأكـــد مـــن صحتهـــا، ت ــكاد تب ــدو انتح ــا ًال واختالق ـاً ،الغ ــرض
منهـــا اإلســـاءة ليـــس إال .فبالرغـــم مـــن كـــون فاليريـــه تدعـــي كونهـــا حقائـــق ال غبـــار عليهـــا ،فـــإن النيـــة المبيتـــة للكتـــاب تحيـــل دون تصديقهـــا جملـــة وتفصيـــا . ً فحاجتهـــا ،هـــي إفـــراغ دواخلهـــا مـــن الحقـــد الدفيـــن علـــى الرجـــل الـــذي ـــز عليهـــا فراقـــه أحبتـــه وغادرهـــاَ ،و َع ّ فتحـــول الحـــب الشـــديد بعـــد وفقدانـــه، ّ تلق ــي الطعن ــة ف ــي الف ــؤاد إل ــى س ــخط ولعـــل الكثيـــر مـــن الفقـــرات رهيـــب. ّ تفضـــح اضطرابهـــا ،وضعفهـــا ،الـــذي تســـعى فـــي كثيـــر مـــن األحيـــان إلـــى إخفائهمـــا ،وتـــردد علـــى مـــدى الكتـــاب ـــل ومـــا يـــزال بـــأن فرانســـوا هوالنـــد َظ ّ يطالبهــا بالرجــوع إليــه ،وقبــول إعــادة بنـــاء عالقتهمـــا علـــى أســـس جديـــدة بع ــد الصف ــح عم ــا س ــلف ،لكنه ــا تق ــول إنهـــا ترفـــض ذلـــك نهائيـــاً ،وبـــأن كل ش ــيء ق ــد انته ــى وأنه ــا ل ــم تع ــد تث ــق فيـــه بتاتـــاً. يعـــج الكتـــاب بنـــوع مـــن «معانـــاة المراهقـــة» ،تتخللـــه تفاصيـــل مكثفـــة حـــول اليومـــي فـــي اإليليزيـــه ،وكـــذا التنق ــات ،واألس ــفار لمس ــاندة النس ــاء فـــي الكونغـــو واأليتـــام هنـــا وهنـــاك. كم ــا أنه ــا ال تنس ــى أن تلم ــز ه ــذا أو ذاك م ــن رج ــال السياس ــة االش ــتراكيين أو حتـــى ســـاركوزي ،وزوجتـــه الســـابقة سيســـيليا أو الحاليـــة كارال. كمـــا لـــم يفتهـــا أن تذكـــر أن ميشـــيل أوبامـــا صرحـــت يومـــ ًا بـــأن جـــوارب زوجهـــا عفنـــة الرائحـــة! تفش ــي أيضــ ًا م ــا ق ــد يك ــون هوالن ــد ق ــد قال ــه أو ل ــم يقل ــه ف ــي ح ــق ل ــورون فابيـــوس بأنـــه فشـــل فـــي حياتـــه ،أو م ــا أوردت ــه ح ــول م ــرض وال ــدة هوالن ــد وحـــول وفاتهـــا مـــن بعـــد ،وكيـــف عاي ــش الرج ــل تل ــك اللحظ ــات المري ــرة كله ــا. إذا كان هـــذا الكتـــاب الـــذي يشـــبه كراســـة خواطـــر بنـــت ليـــس لهـــا بـــاع فـــي الحيـــاة ،قـــد َدّر حتـــى اآلن أمـــوا ًال هائلـــة علـــى كاتبتـــه ،وعلـــى ناشـــره « ،»Les Arènesإذ نفـــدت الدفعـــة األولـــى مـــن المكتبـــات ،فإنـــه وإن لـــم
يكـــن ذا طالـــع حســـن علـــى فرانســـوا هوالنـــد ،فلـــن يســـيء إليـــه كثيـــراً. فالــذي يهــم فــي الكتــاب هــو الرئيــس هوالنـــد ،وليســـت كاتبتـــه فاليريـــه، خليلت ــه ف ــي لحظ ــة م ــا م ــن حيات ــه .أو ليســـت ناكـــرة للجميـــل إذ تهكمـــت فـــي العنـــوان بـــأن وســـمته« :شـــكرًا علـــى تلـــك اللحظـــة»؟. إن جـــرم هـــذه المـــرأة هـــو التالعـــب بقــدر بلــد بأكملــه كــي تنتقــم مــن رجــل، ق ــد انتخب ــه الن ــاس عل ــى رأس رئاس ــة الجمهوريـــة ،بـــأن اســـتغلّت مرورهـــا بقصــر اإليليزيــه كــي تصفــي حســاباتها مـــع وضعهـــا «الشـــبيه بمنديـــل ورقـــي مرمـــي فـــي ســـلة القمامـــة» علـــى حـــد تعبيرهـــا. ألـــم تكـــن هـــي نفســـها تتبـــرأ مـــن اتهامـــات النـــاس لهـــا بكونهـــا تعانـــي
م ــن الهس ــتيريا؟ أل ــم يك ــن ه ــذا الكت ــاب دليـــا علـــى ســـيل هســـتيري؟ بأكملـــه ً إذا كان هوالنـــد قـــد دافـــع عـــن نفســـه ،نافيـــ ًا أن يكـــون حقـــوداً، وكارهـــ ًا للنـــاس البســـطاء أو محبـــ ًا لالدعـــاء ،ورافضـــ ًا أن ينعـــت بمجمـــوع الصفـــات الســـلبية التـــي ألصقتهـــا بـــه فاليريـــه ،فـــإن األعـــداء السياســـيين، ســـوف يحاولـــون أن يســـتغلوا بعـــض المعلومــات المشــكوك فيهــا ،والمبثوثــة القـــراء فـــي الكتاب/الخاطـــرة؛ أمـــا ّ الحصيفـــون فإنهـــم ســـيفهمون مـــن لهج ــة الكت ــاب ،لغت ــه ،وغايات ــه ،بأن ــه ليـــس ســـوى قـــذف وهمـــز ليـــس إال. الشـــيء األكيـــد ،ســـوف ينســـى الفرنســـيون هـــذه الجعجعـــة ســـريعاً، مثـــل مثيالتهـــا ،حينمـــا تـــدق ســـاعات مصائـــر سياســـية أكثـــر حرجـــاً! 11
تونس
سن الرّشد الثورة تبلغ ّ
تونس :عبد المجيد دقنيش بعد نجـــاح الخطوة األولـــى ،وتجاوز فتـــرة المخاض الصعبـــة بالمصادقـــة علـــى الدســـتور كوثيقـــة مهمة في مرحلـــة االنتقـــال الديموقراطي ،وتنظيمهـــا لعمل مختلف الســـلط ،وتحديـــد موعـــد االنتخابـــات ،ينتظـــر الشـــعب التونســـي ،ومعه النخب السياســـية والمالحظون العرب والدوليـــون موعد االنتخابات التونســـية التشـــريعية (26 من الشـــهر الحالـــي) ،والرئاســـية ( 23نوفمبر /تشـــرين
الثانـــي) ،لكـــي يحكمـــوا على مســـار الثورة ،فقـــد كانت تونـــس المبشـــر األول بمـــا يســـمى «الربيـــع العربـــي». فكيـــف ســـتكون تجربـــة االنتخابـــات؟ إلى أي مـــدى تعد االنتخابـــات نقطـــة تحـــول مركزيـــة؟ وكيف يمكـــن لهذه االنتخابـــات أن تســـاهم في تحقيق أهـــداف الثورة ومنع الديكتاتوريـــة مـــن العـــودة وتحقيق االســـتقرار؟ وكيف نفســـر عـــزوف كثيـــر من فئـــات الشـــعب عن التســـجيل فـــي القوائم االنتخابية؟ أســـئلة طرحتهـــا «الدوحة» على بعـــض المثقفين والناشـــطين التونســـيين.
وليد سليمان (كاتب ومترجم):
اختبار حقيقي لالنتقال الديموقراطي االنتخابـــات التي نحـــن مقبلون عليها ســـتكون أول اختبـــار حقيقـــي لالنتقال الديموقراطـــي فـــي تونـــس .لكنـــه لـــن ال نظرًا إلى الســـياق يكـــون اختبارًا ســـه ً المحلـــي واإلقليمي الذي تـــدور فيه .لكن المؤكـــد هـــو أن هذه االنتخابـــات لو تمت علـــى أفضـــل وجه فســـوف تمثـــل نقطة تحـــول مفصليـــة فـــي تاريـــخ تونـــس وفـــي العالم العربـــي برمته .ذلـــك أنها 12
ســـتكون أول انتخابـــات ديموقراطيـــة في المنطقـــة ،وهذا يبـــرز أهمية الرهان الـــذي تنطـــوي عليه. وتكمـــن أهمية هـــذه االنتخابات أيض ًا فـــي كونهـــا حلقـــة مهمـــة ضمن مســـار االنتقـــال الديموقراطـــي الـــذي تشـــهده تونـــس ،ومن ثم ستســـاهم حتمـــ ًا – في حالـــة نجاحهـــا – فـــي تحقيـــق أهـــداف الثـــورة ودعم اســـتقرار البـــاد ،خاصة
بعـــد الهـــزة االجتماعيـــة واالقتصاديـــة التـــي نتجت عن التحـــوالت العميقة التي أحدثتهـــا الثورة. ورغـــم ذلـــك يجـــب أال يحجـــب عنـــا التقـــدم الحاصـــل عديـــد المخاطـــر التي تهّدد المســـار الديموقراطـــي في تونس. ذلـــك أن تشـــتت القـــوى الديموقراطيـــة فـــي أغلب األحيـــان ،وعـــدم قدرتها على صياغـــة اســـتراتيجية موحـــدة وناجعة
يجعـــان المخاطـــر كبيـــرة خاصـــة في ـــل تدخـــل عديـــد القـــوى األجنبية في ِظ ّ الشـــأن التونسي. لذلـــك يجب علـــى النخبة السياســـية فـــي تونس ،في هـــذه المرحلـــة بالذات، أن تكـــون حـــذرة وأال تنســـاق وراء مغامـــرات غيـــر محســـوبة ،والتـــي من شـــأنها أن تؤثـــر علـــى نزاهـــة العملية السياســـية في المســـتقبل .فمن مصلحة كل األحزاب السياســـية أن تحترم قواعد اللعبـــة لتكريس مبـــدأ التداول الســـلمي للسلطة . والحق يقال إن أداء النخبة السياسية فـــي تونـــس -بقطـــع النظر عـــن بعض
االســـتثناءات -لـــم يكـــن في المســـتوى المطلـــوب ،وهـــو ما يفســـر فـــي الواقع عزوف شـــرائح عديـــدة مـــن المواطنين عـــن التســـجيل فـــي القوائـــم االنتخابية ممـــا يطـــرح عديد اإلشـــكاليات ويؤشـــر علـــى هشاشـــة الوضع المرتهـــن بقناعة النـــاس بجـــدوى العمليـــة السياســـية. أعتقـــد أن مـــن أهـــم األولويـــات اآلن أن يبذل السياســـيون مجهودًا أكبر لتحسين صورتهـــم وأدائهـــم علّهـــم يســـترجعون ثقـــة الناخب. وبنـــاء على مـــا تقدم نفهـــم أهمية أن يكون إنجـــاح االنتخابات هاجس الجميع وإال فإن شـــبح العودة إلـــى الدكتاتورية
ســـيبقى يتهـــّدد الحيـــاة السياســـية في البلد ،كمـــا يجب أن تكـــون قواعد اللعبة واضحة وتقـــدم كل الضمانات للمواطن، ولـــن ينجـــح المســـار الديموقراطي دون مســـاهمته الفاعلـــة ،والمواطـــن يبقـــى قـــادرًا علـــى التعبيـــر عـــن عـــدم رضاه بشـــتى الطـــرق ،مثـــل المقاطعـــة وعدم االنخراط فـــي العمليـــة االنتخابية. مع هذا ،ســـتكون االنتخابات المقبلة عالمـــة فارقة في تاريـــخ تونس الحديث وســـتؤثر علـــى مســـتقبل البـــاد ،كمـــا ســـتكون لهـــا تداعيـــات علـــى المنطقة، ولذلك يتوجب تضافـــر الجهود إلنجاحها بـــأي ثمن.
نور الدين العلوي (كاتب وباحث في علم االجتماع):
التونسي تذ َّوق الحرية ولن يفرِّط فيها حســـب اعتقادي ســـتكون انتخابات هذا الشـــهر انتخابـــات مصيرية يتوقف عليهـــا مصير تونـــس وجيرانهـــا أيض ًا خـــال الســـنوات القادمة .ولكـــن األمر ليـــس محســـوم ًا فـــي أي اتجـــاه بعـــد فالنظـــام الســـابق اســـتعاد بعـــض مواقعـــه ،ومن ثم ســـتكون المنافســـة بيـــن المنظومـــة الجديـــدة المنبثقة عن الثورة ومضادهـــا النظـــام القديم الذي يملـــك ماكينة انتخابية لـــم تفقد قدرتها على الحشـــد. احتمـــاالت انتصـــار الثـــورة حتـــى اللحظة تبدو أقـــوى ،ألن النظام القديم يحتفظ برصيـــده البغيـــض في نفوس التونســـيين رغم الفشـــل الذي ساد عمل الترويكا. ســـيصوت الكثيرون ضـــد المنظومة القديمة أكثر مما هـــو لصالح المنظومة
الجديـــدة ،ولكـــن النتيجـــة هـــي مزيـــد مـــن إضعـــاف القديـــم .بحســـب رأيي، أهـــداف الثـــورة ال تـــزال معلقـــة وقـــد تشـــتت التركيز علـــى أهـــداف بعينها، خاصـــة أمـــام التمييع اإلعالمـــي الذي صبـــغ الثورة ،مع التشـــكيك فيها وفي منجزهـــا وفـــي مطالبهـــا نفســـها ،لكن مطلب الحريـــة تحقق منـــه الكثير وهو الكفيل بـــإدارة حملـــة انتخابيـــة جدية يمكـــن أن تهـــز أركان منظومة عاشـــت دومـــ ًا بالقمـــع والقهر. العـــزوف عـــن االنتخابـــات يمثـــل مؤشـــرًا علـــى الخيبـــة التـــي أنتجتهـــا ســـنوات الثورة األولى فـــي الحكم ،فقد كان هناك عديد األخطـــاء ،لكن الضربة األكبـــر لعزيمـــة النـــاس وحماســـهم جـــاءت من اإلعـــام المعـــادي للثورة، والـــذي يمثـــل أداة المنظومـــة القديمـــة
وســـاحها ،فهناك فشـــل في التســـيير ضاعـــف خطـــره اإلعـــام والنقابـــات المسيســـة التـــي حرفت مطالـــب الثورة عـــن المســـار االجتماعـــي إلـــى مســـار آخـــر ..صحيـــح يوجـــد إحبـــاط لـــدى الكثيريـــن ،لكـــن الثورة لم تقـــل كلمتها بعـــد ،هناك متحمســـون لهـــا ال يزالون ال ونهـــارًا إلنجاحها وهم يشـــتغلون لي ً رصيدهـــا الثابت. وبالنســـبة لعـــودة الديكتاتوريـــة، يمكـــن أن تعـــود ،لكـــن ليس بشـــكلها القديم ،بل بأشـــكال أخرى ،فقد تستفيد مـــن الديموقراطية نفســـها ،فالمنظومة القديمة ليســـت رأس المخلـــوع وعائلته فقـــط ،بـــل هـــي نظـــام إداري وأجهزة حكـــم إداريـــة باليـــة ،ونظـــام مصالح صغرى ومتوســـطة تنتج دومـــ ًا رغبة في عـــدم التغيير. 13
هشام السنوسي (عضو الهيئة العليا لإلعالم):
غربلة الساحة السياسية وعقلنة خطاباتها الشـــك فـــي أن االنتخابـــات القادمـــة ســـوف تشـــكل عالمـــة فارقة فـــي الحياة السياســـية التونســـية باعتبـــار أن معيار النجـــاح ألي عمليـــة انتقـــال ديموقراطي هـــو التداول الســـلمي على الســـلطة وفق دســـتور يضمـــن اســـتمرارية ذلـــك .هذا المبـــدأ العـــام الـــذي تحقـــق فـــي ألمانيا وإســـبانيا وجنـــوب إفريقيـــا وغيرها من تجارب االنتقـــال الديموقراطـــي الناجحة يجـــد صعوبة فـــي التموقع فـــي التجربة لعل من أهمها، التونســـية لعدة أســـبابّ ، بعـــد اإلرهـــاب ،أن أغلـــب األحـــزاب هي أحـــزاب عقائديـــة ال تؤمن فـــي تكويناتها األيديولوجيـــة بقيـــم الديموقراطيـــة المتعلقة خاصة بالحريـــات الفردية ،لهذا نجد بعـــض األحزاب يعيش هـــذا التجربة ُمنصاعـــ ًا وليـــس ُمختـــارًا وهو ما يفســـر
دعوتهم مـــن داخل النظـــام الديموقراطي إلى تهديـــم النظـــام الديموقراطي .وعليه يمكن القول إن االنتخابات القادمة ســـوف تشـــكل تحديـــ ًا أمـــام النخـــب ،وســـوف ّ تغربـــل الســـاحة السياســـية وتعقلـــن خطاباتهـــا .أســـوق هذا الـــرأي وأنا تحت تأثير الســـيناريوهات األكثـــر تفاؤالً ،ألن الهدف االســـتراتيجي لإلرهابيين هو عدم نجـــاح العمليـــة الديموقراطيـــة وتخريب مؤسســـات الدولة. النقطة الثانيـــة التي نتمنـــى أن تأخذ الحيز الذي تســـتحق في هـــذه االنتخابات هي مســـألة برامج األحزاب السياســـية، فإلـــى حـــّد هـــذه اللحظـــة هنـــاك أحزاب أصـــا ،وأحـــزاب ليســـت لهـــا برامـــج ً أخـــرى تؤجل اإلفصاح عـــن برنامجها في حركة تشـــويقية متناســـية أن مشروعية
هـــذه البرامـــج تتأتـــى مـــن تداولهـــا لدى الرأي العـــام .وأعتقد أن هـــذا الرأي العام ســـوف يفاجـــئ الفاعليـــن السياســـيين بسبب قضيتين أساســـيتين :هما المسألة تم التالعب بهـــا ،وقضية الجهويـــة التـــي ّ شـــهداء الثورة التي ســـوف تتحـــول إلى عـــار يالحق بعـــض األحـــزاب التي آثرت اللهث وراء ســـراب النجـــاح ولو أدى ذلك إلى إعـــادة رمـــوز النظـــام الســـابق إلى الواجهـــة السياســـية .ومـــن شـــأن هـــذه العـــودة التـــي هـــي بمثابة نفـــخ الروح في جثـــة النظام الســـابق أن تـــؤدي إلى عـــزوف الناخبين عـــن التصويـــت ،وفي مطلق األحـــوال فـــإن إجـــراء االنتخابات وتســـليم الســـلطة فـــي إطـــار توافقـــي ومســـتقر ســـوف يشـــكالن نجاحـــ ًا فـــي واقع جيوسياســـي موســـوم بالفشـــل.
ناجي البغوري (رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين):
النساء والعمل الديموقراطي أكيـــد أن االنتخابـــات القادمة ســـتكون تحـــول مهمـــة جـــدًا فـــي طريـــق نقطـــة ُّ االنتقـــال الديموقراطـــي ،والتـــي يجـــب إصالحهـــا وتغييرها ،حيث ســـتنتقل بنا من فتـــرة الســـلطة والحكومـــة والرئيس المؤقتيـــن إلـــى مرحلـــة دائمـــة وحكومة منتخبـــة ورئيـــس منتخـــب شـــعبياً، وبرلمـــان منتخـــب ســـيكون لـــه كامـــل 14
الصالحيات التشـــريعية ،ومن المفروض أن هـــذه الرؤيـــة السياســـية الواضحـــة ســـتكون لهـــا انعكاســـات إيجابيـــة على الوضع االقتصـــادي واالجتماعي ،وكذلك على العالقات الدولية ومســـألة االستثمار والمســـاعدات الدوليـــة ،وخاصة الوضع األمنـــي باعتبـــار أن الحكومـــات المؤقتة التـــي جاءت بعـــد الثـــورة لم تكـــن لديها
اســـتراتيجيات واضحـــة ومحـــددة عكس الحكومة التي ســـتتمخض عن االنتخابات القادمـــة .إذن ولكل ذلك ،فهذه االنتخابات ســـيكون لهـــا دور مفصلـــي فـــي عمليـــة البنـــاء واالنتقـــال الديموقراطي. وبالنســـبة للقضـــاء علـــى اإلرهـــاب فهـــو ليـــس مرتبطـــ ًا فقـــط باالنتخابـــات ونجاحهـــا رغـــم أهمية هذا الـــدور ،ولكنه
مرتبـــط بالسياســـة األمنيـــة والخطـــط االســـتراتيجية ،وكذلك تحســـين الوضع االجتماعـــي واالقتصـــادي والتوعيـــة الثقافيـــة والقضـــاء على الجهـــل واألمية واالنقطـــاع عـــن الدراســـة ،إذن المســـألة يلزمهـــا عمـــل وتوحيـــد جهـــود كل القوى علـــى المدى البعيد ،وهـــذا طبع ًا دون نفي الحـــل األمني اآلنـــي المســـتعجل ،وربما
نجـــاح هـــذه االنتخابات سيســـهل كل هذه الجهود وســـينتج مناخ ًا مالئمـــ ًا لمكافحة ظاهـــرة اإلرهـــاب .وبالنســـبة لمســـألة العـــزوف فأعتقـــد أن النســـبة المســـجلة حسب أرقام الهيئة المســـتقلة لالنتخابات ظل هـــي نســـبة محترمـــة ومعقولة فـــي ّ إلي الوضـــع الراهـــن ،والمهـــم بالنســـبة ّ هو اإلقبـــال على عمليـــة االنتخاب وليس
التســـجيل فقـــط .ومـــن ناحيـــة أخرى ال أعتقـــد أن الديموقراطيـــة يمكـــن أن تكون ال وســـبب ًا في عـــودة الديكتاتورية. ســـبي ً االنتخابـــات هـــي اآللية المثلى لممارســـة الديموقراطيـــة وتحقيـــق أهـــداف االنتقال الديموقراطي الســـلس ،ومـــن هنا ال يمكن لالنتخابات الحرة النزيهة أن تســـاهم في عـــودة الديكتاتورية.
قيس سعيد (محلل سياسي وأستاذ القانون الدستوري):
الشعب فقد ثقته في النخب السياسية بالنســـبة لالنتخابـــات التشـــريعية فهي تتعلق بانتخاب الهيئة التشـــريعية التـــي صـــارت تســـمى مجلـــس نـــواب الشـــعب ،وهـــو المجلـــس التأسيســـي الـــذي ســـيتولى التشـــريع للمـــواد فضـــا أن التـــي خصـــه بها الدســـتور، ً الحكومـــة ســـتنبثق عن األغلبيـــة التي ســـتفرزها هذه االنتخابات التشريعية. أمـــا بالنســـبة لالنتخابـــات الرئاســـية فأهميتها ال تســـتمدها من االختصاصات المخصصـــة لرئيـــس الجمهوريـــة مثلما نـــص علـــى ذلـــك الدســـتور بقـــدر مـــا تســـتمدها من تمثيل التونســـي لرئيس الدولـــة ،علما بـــأن رئيـــس الجمهورية في ِظّل الدســـتور الجديـــد يتمتع بدوره بجملـــة مـــن االختصاصـــات التنفيذية في مجال السياســـة الخارجيـــة والدفاع الوطنـــي ،إلى جانب حقه فـــي المبادرة التشـــريعية وتعديل الدســـتور. وعمومـــ ًا ال يمكـــن أن تقـــاس أهمية هـــذه االنتخابـــات مقارنة بتلـــك ،بناء علـــى مقياس واحـــد ،لكـــن بالنظر إلى مقيـــاس االختصاصات علـــى األقل فإن االنتخابـــات التشـــريعية تتنـــزل منزلة مهمـــة مقارنـــة بمـــا كان يحصـــل فـــي ـــل الدســـتور الســـابق .أما بالنســـبة ِظ ّ لألثـــر علـــى االنتقـــال الديموقراطي فال
يمكن الفصـــل بين االنتخابـــات النيابية واالنتخابـــات الرئاســـية فـــإذا فشـــلت إحداهمـــا سينســـحب الفشـــل علـــى كل العمليـــة االنتخابيـــة وعلـــى كل عملية االنتقـــال الديموقراطـــي .فـــي الواقـــع، االختيـــارات التـــي تمـــت بالنســـبة لالنتخابـــات التشـــريعية وهـــي طريقة االقتـــراع علـــى القوائـــم فـــي دوائـــر انتخابيـــة واســـعة ســـتؤدي إلى نفس المشـــهد الحالي وإلى ســـيطرة األحزاب الكبرى علـــى المجلس النيابـــي القادم، كما ســـتؤدي مرة أخرى إلـــى االنحراف بالوكالة التـــي يقوم عليهـــا االنتخاب، فالنائب المنتخب بهذه الطريقة سيشـــعر أنه مديـــن بانتخابـــه ال للناخبين الذين صوتوا عليـــه ،ولكن للهيئـــة المركزية للحزب التي رشـــحته لالنتخابات ،علما بأن ِ الحَراك الـــذي عرفته تونس لم يأت تحـــت قيـــادة أي حـــزب مـــن األحزاب، بل جـــاء بصفـــة تلقائية والشـــباب هو الـــذي حـــّدد مطالبه واختار شـــعاراته، وفي مســـتوى آخر كان يجـــب أن يكون البناء السياســـي واإلداري الجديد متفق ًا مـــع طبيعـــة الحـــراك الـــذي انطلق من داخـــل الجمهوريـــة وبلـــغ ذروتـــه في المركـــز .وحســـب اعتقـــادي البناء يجب أن يكـــون مـــن القاعـــدة نحـــو المركز،
ولكن لألســـف ،المؤسسون التونسيون أعـــادوا نفـــس البنـــاء القديـــم ولـــم يســـتوعبوا جيدًا أسباب فشـــل التجربة الدســـتورية األولى ،كما لم يســـتوعبوا جيـــدًا طبيعـــة الحـــراك ومســـاره ،وتم بســـرعة صـــرف األنظـــار عـــن القضايا الحقيقية نحـــو قضايا وهميـــة ورفعوا شـــعارات كانـــت ترفـــع منـــذ أربعـــة عقود ،وحصلـــت مرة أخـــرى القطيعة بيـــن النخبة السياســـية وبعـــض فئات الشعب .وفي ســـياق متصل االنتخابات الرئاســـية ال تبـــدو أنهـــا مختلفـــة فـــي المرحلـــة الراهنـــة ألنها تتنـــزل في هذا اإلطار العـــام ،ويعرف التونســـيون أن الذين يحكمون بقصر الرئاســـة ليســـت لهـــم مشـــاريع غيـــر تحقيـــق أحالمهم فـــي الجلوس علـــى أرائـــك ،فأحالمهم واحـــدة ألنهـــم يضعون رؤوســـهم على نفـــس الوســـادة ويتقاســـمون نفـــس الحلم .االنتخابات يمكن أن تســـاهم في عودة الديكتاتورية مـــن الباب الخلفي، في حـــال غيـــاب برامـــج واضحة وفي ـــل تحالفات معلنة وغيـــر معلنة ،فقد ِظ ّ تـــؤدي هـــذه االنتخابات إلـــى نتائج أو إلـــى وضع غيـــر طبيعي بالنســـبة إلى شـــعب أراد القطـــع نهائيـــ ًا مـــع ما كان قائمـــ ًا وأراد أن ينشـــئ منظومة جديدة. 15
ميديا
أفكار بسيطة .. تصنع الفرق محمود حسن
الصيـــف الماضـــي ،انطلقـــت حملـــة لجمـــع التبرعـــات ،لصالـــح مرضـــى التصل ــب العضل ــي الجانب ــي (المع ــروف ُّ اختصـــارًا بالـــ ،)ALSوهـــو مـــرض يســـبب ضمـــورًا فـــي الجهـــاز العصبـــي يفق ــد م ــن خالل ــه المري ــض الق ــدرة عل ــى التحكــم فــي أعصــاب أطرافــه والشــعور يتوســـع المـــرض بهـــا ،وســـريع ًا مـــا َّ إلـــى أن يلتهـــم الجســـد كلـــه. الحمل ــة حمل ــت اس ــم «تح ــدي س ــطل الثلـــج» ،والفكـــرة ببســـاطة هـــي أن يقـــوم شـــخص بتصويـــر نفســـه وهـــو ال م ــن الم ــاء يس ــكب ف ــوق رأس ــه س ــط ً المثلـــج ،ليمـــر للحظـــات بشـــعور مماثـــل ألعـــراض مـــرض التصلُّـــب العضلـــي ،ويتحـــّدى بعدهـــا أشـــخاص ًا آخريـــن ليفعلـــوا مثلـــه ،فـــي خـــال أربـــع وعشـــرين ســـاعة ،وإن رفضـــوا ســيكونوا مجبريــن علــى التبــرع بـــ 100 التصلــب دوالر لصالــح جمعيــة مرضــى ُّ العضلـــي. الحملـــة التـــي ترجـــع بدايتهـــا إلـــى العـــب بيســـبول أميركـــي ،ســـرعان تحولـــت إلـــى جنـــون غـــزا العالـــم، مـــا ّ وخاض ــه المئ ــات م ــن مش ــاهير العال ــم، مـــن بيـــل غيتـــس ومـــارك زوكربـــارغ، إلــى الرئيــس األميركــي األســبق جــورج بـــوش االبـــن ،والعبـــي الكـــرة األشـــهر ف ــي العال ــم ،ومئ ــات م ــن نج ــوم الف ــن، والكّتـــاب فـــي مختلـــف دول العالـــم، ُ باإلضافـــة إلـــى عشـــرات اآلالف مـــن المشـــاهير المحلييـــن فـــي بلدانهـــم واألنـــاس العادييـــن. وص ــار التح ــدي نفس ــه ،ف ــي ظ ــرف بضعــة أيــام ،الحملــة األكبــر فــي تاريــخ 16
اإلنترن ــت ،فق ــد أعل ــن موق ــع «يوتي ــوب» أن ع ــدد المش ــاهدات لفيديوه ــات تح ــدي ســـطل الثلـــج قـــد تجـــاوزت المليـــار مشـــاهدة حتـــى كتابـــة هـــذه الســـطور، كمـــا اســـتطاعت مؤسســـة ALSجمـــع 100مليـــون دوالر كتبرعـــات ناتجـــة عـــن عـــدم قبـــول بعـــض المشـــاهير التحـــدي. علــى الرغــم مــن النجــاح التــي القتــه، واجهــت الحملــة انتقــادات قويــة ،فكثيــر مـــن الذيـــن خاضـــوا التحـــدي لـــم يكـــن األمـــر بالنســـبة إليهـــم ســـوى عمليـــة تقليـــد للمشـــاهير ،أو ســـعي لجلـــب ش ــهرة س ــريعة عل ــى اإلنترن ــت ،حي ــث مثـــا لفيديـــو جـــد تفاجـــأ متتبعـــون ً يقـــوم بإجبـــار حفيدتـــه ذات العشـــرة أشـــهر علـــى خـــوض تحـــدي ســـطل الثلـــج كمحاولـــة الســـتجداء الشـــهرة!. كمـــا واجهـــت الحملـــة االنتقـــادات، بس ــبب ك ــون ع ــدد المصابي ــن بالم ــرض ح ــول العال ــم نح ــو 150أل ــف ش ــخص، وهـــو رقـــم يقـــل كثيـــرًا عـــن عـــدد المصابيـــن بأمـــراض عصبيـــة أخـــرى، ويقـــل كثيـــرًا عـــن عـــدد األشـــخاص الذيـــن ال يســـتطيعون الحصـــول علـــى ميـــاه صالحـــة للشـــرب والذيـــن ُقـــِد َر عددهـــم بنحـــو 786مليـــون شـــخص – حســـب اليونيســـيف – التـــي قـــدرت أيضـــ ًا عـــدد 1400طفـــل يموتـــون كل ي ــوم بس ــبب ع ــدم الحص ــول عل ــى مي ــاه صالحـــة للشـــرب ،فـــي حيـــن تشـــير أرقـــام إلـــى أن نحـــو 30مليـــون لتـــر م ــن المي ــاه اس ــتخدم ف ــي تح ــدي س ــطل الثلـــج حـــول العالـــم. جـــاء التحـــدي ذاتـــه ،فـــي وقـــت
كانـــت غـــزة تحـــت غـــارات العـــدوان اإلس ــرائيلي ،له ــذا ق ــرر أهال ــي القط ــاع، الذيـــن يعيشـــون وســـط نـــدرة الميـــاه، خـــوض تحـــٍد آخـــر علـــى طريقتهـــم، غيـــروا لنقـــل مأســـاتهم للعالـــم ،حيـــث ّ تحـــدي ســـطل الثلـــج إلـــى تحـــدي «الـــركام» ،وقـــام غزاويـــون بتصويـــر أنفســـهم وهـــم يســـكبون بعـــض ركام هدمـــة علـــى رؤوســـهم. الم َّ البيـــوت ُ ومـــازال المئـــات مـــن المشـــاهير يخوضـــون التحـــدي حتـــى اللحظـــة، ومـــازال آالف األشـــخاص يبثـــون الفيديوهــات وهــم يتحــدون الثلــج علــى موقــع يوتيــوب ،وهــو مــا عــزاه بعــض المحلليـــن النفســـيين علـــى صفحـــات الجرائـــد الغربيـــة مخاطبـــة «حســـنة» للنرجســـية التـــي تصنعهـــا مواقـــع التواصـــل االجتماعـــي مـــن محـــاوالت األشــخاص الظهــور بمظهــر حســن علــى مواقـــع التواصـــل. النجـــاح الـــذي حققـــه تحـــدي الثلـــج دفـــع رواد التواصـــل االجتماعـــي فـــي مص ــر ،ودول عربي ــة أخ ــرى ،لمقارنت ــه بحمـــات جمـــع التبرعـــات التـــي تمـــأ شاشـــات التلفـــاز ،خصوصـــ ًا شـــهر تحولـــت مـــن مصـــدر رمضـــان ،والتـــي ّ لجم ــع التبرع ــات إل ــى مص ــدر لإلزع ــاج وحتـــى الســـخرية مـــن فـــرط إغراقهـــا فـــي الميلودرامـــا ،وكيـــف أن أفـــكارًا بســـيطة ومبتكـــرة وغيـــر مكلفـــة علـــى مواقـــع التواصـــل االجتماعـــي صـــارت قـــادرة علـــى صنـــع مـــا ال تســـتطيع اآللـــة اإلعالميـــة التقليديـــة صناعتـــه؟!
بين الضفتين
إيزابيلال كاميرا
وداع ًا للكلمات
عندمـــا التحقنـــا ونحـــن صغـــار بالمدرســـة علّمونـــا أن حـــروف الكتابـــة األولـــى ،الهيروغليفيـــة أو األبجديـــة أو ســـجلت مـــرور الرســـوم الدالـــة علـــى حـــروف ،هـــي التـــي ّ ـور البش ــري. ـ التط اإلنس ــانية م ــن العص ــر البدائ ــي إل ــى عملي ــة ُّ وهك ــذا انتهين ــا م ــن حف ــر أو كتاب ــة رم ــوز أو رس ــومات عل ــى الحجـــر ،لنمضـــي نحـــو الكتابـــة ونهـــدي للتـــراث اإلنســـاني األعمـــال الكبـــرى التـــي نعرفهـــا جميعـــاً .ولكـــن يكفـــي اليـــوم أن ننظـــر إلـــى شـــاب يكتـــب رســـالة علـــى مواقـــع التواصـــل التراس ــل الفوري ــة لك ــي ن ــدرك أنن ــا االجتماع ــي وعل ــى نظ ــم ُّ نع ــود إل ــى الرم ــوز للتعبي ــر ع ــن المواق ــف ،وربم ــا أيضــ ًا ع ــن المشـــاعر واألحاســـيس .وهكـــذا أيضـــ ًا فإننـــا عندمـــا نريـــد أن نقـــول «أوكيـــه» وهـــو التعبيـــر األميركـــي الـــذي ســـاد العالـــم كل ــه ،فإنن ــا نكتف ــي بإرس ــال رم ــز لك ــف ي ــد مضموم ــة ترف ــع إبهامهـــا ألعلـــى .حتـــى عندمـــا تكـــون رافضـــ ًا أو غاضبـــاً، أو ُمندهشـــاً ،أو قلقـــاً ،أو ُمرتابـــاً ،أو ُمعذبـــ ًا أو فرحـــاً ،أو ُمنزعجـــ ًا أو يائســـاً ،أو تشـــع بالســـعادة ،فلـــم تعـــد تحتـــاج إل ــى التعبي ــر ع ــن ذل ــك بعب ــارة أو بكلم ــة أو بص ــورة مجازي ــة بليغـــة جميلـــة ،وإنمـــا بواســـطة واحـــد مـــن تلـــك الوجـــوه الت ــي تس ــمى « ،»emoticonالت ــي تس ــتطيع أن تختاره ــا م ــن بي ــن مجموع ــات واس ــعة س ــابقة التجهي ــز تب ــدع ف ــي اختراعه ــا بع ــض المواق ــع المخصص ــة لذل ــك ،بعضه ــا مجانــاً ،وبعضه ــا اآلخـــر مقابـــل نفقـــات غيـــر باهظـــة .يكفـــي أن تنقـــر فـــوق إح ــدى ه ــذه الص ــور حت ــى يت ــم بثه ــا إل ــى وجهته ــا المنش ــودة. يصبـــح األمـــر أســـوأ عندمـــا يظهـــر أحـــد تلـــك الوجـــوه المرس ــومة عل ــى واجه ــة مس ــتخدم لموق ــع تواص ــل اجتماع ــي، حي ــث ي ــراه الن ــاس كله ــم ،ويع ــرف القاص ــي والدان ــي الحال ــة الش ــعورية للمس ــتخدم ،حت ــى أولئ ــك الذي ــن ال يهمه ــم األم ــر.
حتـــى غيـــر المتمرســـين فـــي التكنولوجيـــا يســـتطيعون االكتفـــاء باســـتخدام رمـــوز قليلـــة للتعبيـــر عـــن مشـــاعرهم، تتكـّـون مــن قوســين ونقطتيــن ،والمنــاورة بهمــا للتعبيــر عــن االبتســـام أو االنزعـــاج وخالفـــه. ولـــو كان الشـــخص ال يريـــد أن يتكلـــم أو يســـمع أو يـــرى فإنن ــي ال أفه ــم لم ــاذا ب ــد ًال م ــن أن يك ــف ع ــن الكتاب ــة يرس ــل إل ــى كل أصق ــاع األرض بثالث ــة وج ــوه لق ــردة تغل ــق أعينه ــا وأفواههـــا وآذانهـــا بأيديهـــا. وعلي ــه يص ــح لن ــا أن نس ــأل عم ــا يح ــدث اآلن .ه ــل نح ــن تطـــور جديـــدة حقـــ ًا أم أننـــا ال نعيـــش فـــي مواجهـــة مرحلـــة ُّ مرحلـــة تطـــور ،وإنمـــا تدهـــور وإفقـــار بطـــيء وعنيـــد فـــي اللغ ــة؟ ف ــإذا واصلن ــا التس ــاؤل ف ــي ه ــذا االتج ــاه يص ــح لن ــا أيض ـ ًا أن نس ــأل عم ــا إذا كان ه ــذا الجي ــل «االجتماع ــي» س ــوف يهــدي إلينــا شــعراء مثــل نيــرودا أو ناظــم حكمــت أو مونتالــي أو محم ــود دروي ــش؟ كي ــف س ــوف يس ــتطيع المؤلف ــون الج ــدد يعب ــروا ع ــن أنفس ــهم وق ــد ُحِر ُم ــوا م ــن أدق ط ــرق التعبي ــر أن ّ اللغــوي عــن أخــص خصوصياتهــم؟ هــل ســوف يكــون شــعراء المســتقبل ضحايــا غيــر واعيــن لطــرق التمثيــل الرمــزي الرقمــي الحديــث؟ ومــاذا عــن األدب؟ كيــف ســيكون دور المترجميــن فــي هـــذا المشـــهد اللغـــوي الجديـــد؟ فهـــذه األيقونجرافيـــا عالميـــة، وال تحت ــاج إل ــى ف ــك ش ــفرتها الداللي ــة .ق ــد يب ــدو ه ــذا بمثاب ــة ميــزة وحيــدة .ولكــن نحــن ،وهــذا هــو الســؤال األكثــر إيالم ـاً، ـوث ســوف هــل ســنكون قادريــن علــى الكتابــة؟ أم أن هــذا التلـ ُّ يكتســـح مـــا يعتـــرض طريقـــه ،حتـــى فـــي أوســـاط غيـــر ش ــبابية؟ ).......... وي! ال أستطيع أن أجيب. 17
قضية
18
جـامــعــة
خلف القضبان هذا الشهر يعود الطلبة إلى مقاعد الجامعة، فما جديد الموسم 2015/2014؟ ..مبدئي ًا ال بشائر تغيير في األفق ،فالجامعات العربية تفكر ،على األقل في الوقت الروتين نفسه ،وال ّ استقرت على ّ ّ
الراهن ،في إعادة النظر في مناهجها وهياكلها التي خذلتها ّ
طويالً ،وجعلت منها جامعات تتأرجح في ذيــل ترتيب العالمية .الوضع ليس مهي ًأ للتفاؤل بجامعات الجامعات ّ
دولية ،فبين تراجع المستوى األكاديمي عربية بمقاسات ّ ّ وتسييس اإلدارة ،يجد الطالب واألستاذ نفسيهما الحلقة ّ فر َغ ْت من محتواها ..ما هي أسباب علمية ُأ ِ األضعف في قالع ّ الوضع الحالي؟ وكيف الخروج منه؟ أسئلة تحاول «الدوحة» لعل الجامعات العربية تستفيق من سباتها، مالمستها ّ وتنتفض كما انتفض الشارع قبلها ،وتعود إلى لعب دورها
العالية. داخل وخارج أسوارها ّ
19
هل باإلمكان مقاربة سؤال الجامعي في عالقته بالمجتمع دون العاجية أن األبراج ثم هــل ّ ّ أن نطــرح صلــة الجامعة بمحيطها؟ ّ حقيقية «الطينيــة» ،التــي كان يحتمــي بهــا الجامعــي ما تــزال قالعــ ًا أو ّ ّ مجرد لمبــدأ المباعدة بين كاريزمية الجامعي وصــورة المجتمع؟ وهل ّ ّ أن ّ متغيرات الّتعليم العالي أي في طور ما بعد الســؤال في ِظّل ّ اســتعادة هذا ّ العربية ما بأن النّخبة غربي ًا هو نوع من اإلقرار ّ ّ صناعــي وما بعد حداثــي ّ تــزال ُملتحفة بالمباينة التي رفعها الفكر العربي القروســطي بين الثقافة مسك بمفهوم للمعرفة العالمة وبين ثقافة العوام .وهو شكل من أشكال الّت ّ يرى في العلم من «المظنون به على غير أهله»؟.
د .نزار شقرون
الصورة التّقليديّة انهيار ّ إن ضجيـــج المجتمـــع :مـــا يحـــدث ّ يوميـ ًا مــن أســئلة تعنــى بمشــاكل شــرائح ّ ـأي حــال واســعة مــن الجماهيــر ال يمكــن بـ ّ أن يبقـــى بعيـــدًا عـــن دائـــرة اإلنصـــات. وهــو إنصــات ال يشــمل الّدائــرة السياسـّـية فحس ــب ،ب ــل يس ــتهدف ،وبش ــكل عمي ــق، المجــال الجامعــي الــذي بقــي طيلــة حقــب ـلبي ًا علــى وجــود صلــة عديــدة ّ مؤشــرًا سـ ّ ممكن ــة بين ــه وبي ــن المحي ــط االجتماع ــي واالقتصـــادي والثقافـــي فـــي الخارطـــة عامـــة .ألـــم ينتقـــد الباحـــث ّ العربيـــة ّ الجامعيـــة فـــي ـــة المؤسس عبـــده ســـمير ّ ّ أهـــم الوطـــن العربـــي بقولـــه« :مـــن ّ مظاه ــر الّتخّل ــف ف ــي الوط ــن العرب ــي ه ــو نســـميها المؤسســـة التـــي تخلّـــف هـــذه ّ ّ الجامعـــة ،فليـــس هنـــاك مـــن المحيـــط إلـــى الخليـــج جامعـــة واحـــدة بالمفهـــوم إن مـــا نســـميه الحديـــث للجامعـــةّ . بالجامعـــات ليـــس إ ّال مـــدار الّتعليـــم العالـــي يكـــون فيهـــا الّتعليـــم بواســـطة الّتلقيـــن والّتبشـــير والوعـــظ ودراســـة الكالســـيكية فقـــد أفـــرزت هـــده الكتـــب ّ تتمكــن مــن الجامعــات قيــادات هزيلــة لــم ّ 20
العلمي ــة ،ه ــذه الّث ــورة القي ــام بالّث ــورة ّ ضروري ــة النتش ــال اإلنس ــان العرب ــي م ــن ّ كه ــوف األس ــطورة إل ــى المعرف ــة» .لك ــن ه ــذا ال ـّـرأي المس ــتنفر للواق ــع الجامع ــي، وكأنّهـــا ســـياج حديـــدي ماورائـــي فـــي المؤسس ــة ُمش ـ ّـكلة م ــن إس ــهام أن حي ــن ّ ّ إن للجامعــي ال ـّدور الجامعــي أساس ـاً ،إذ ّ مقـــررات الّدراســـة األبـــرز فـــي تحديـــد ّ صـــورات ت ال بلـــورة ومحتوياتهـــا وفـــي ّ ّ الســـتراتيجيات النقـــات العامـــة ّ ّ عمليـــات اإلصـــاح والمنعطفـــات فـــي ّ أو المراجعـــة ألنظمـــة الّتعليـــم العالـــي ـإن المــأزق العميــق الــذي العربيــة .لهــذا فـ ّ ّ يتخبـــط فيـــه الّتعليـــم العالـــي العربـــي ّ الجامعيـــة ّهنيـــة ّ يعـــود إلـــى طبيعـــة الذ ّ ّ أن للسياســـي الســـائدة ،فـــا شـــك ّ ّ ـتراتيجيات ـ االس ـع ـ وض ـي العربــي دوره فـ ّ المجالي ــة العام ــة دون إغف ــال للمؤّث ــرات ّ ّ العربي ــة ـة ـ جرب ت ال ـب ـ تقري ـي ـ ف ـة ـ المحايث ّ ّ العالميـــة ،ولكـــن ذلـــك ال مـــن الّتجربـــة ّ ينفـــي الـــّدور الممكـــن للجامعـــي. إن م ــآزق المجتم ــع :بطال ــة أصح ــاب ّ المؤسســـة الشـــهادات العليـــا ،هشاشـــة ّ ّ
للعقليـــة االقتصاديـــة ،انتشـــار واســـع ّ ّ كل ذل ــك م ــن بي ــن الّتحّدي ــات الخرافي ــةّ ، ّ الت ــي م ــن المفت ــرض أن تك ــون ف ــي ســلّم أولويـــات الجامعـــي .ولقـــد أصبحـــت ّ الواقعي ــة تحّت ــم عل ــى الجامع ــي ـة ـ البداه ّ أن الواقـــع هـــو االنتبـــاه الّدقيـــق إلـــى ّ مـــا يجـــب الّتفكيـــر فيـــه ،فـــا يعقـــل أن تبقـــى مخابـــر البحـــث العلمـــي معزولـــة الصناعيـــة عـــن احتياجـــات المؤسســـة ّ تظـــل واالقتصاديـــة وال يعقـــل أن ّ ّ الميـــة ومقاســـ ًا محتويـــات الّدراســـة ُه ّ لـــكل مجتمـــع أن ّ عامـــاً ،فـــي حيـــن ّ ّ مقاســـات ،،كمـــا مـــن غيـــر المعقـــول أن اإلنســـانية علومـــ ًا منبّتـــة تبقـــى العلـــوم ّ عـــن ســـياقها العربـــي المعاصـــر وعـــن أســـئلة الواقـــع. أن الجامعــة ـض ـ البع ـن ـ ظ ّ لقــد كان فــي ّ للعامــة قلعــة حصينــة ال تلقــي بمعرفتهــا ّ إ ّال ف ــي ش ــكل الفت ــات .لك ــن ه ــذه النّظ ــرة الضيقـــة والتـــي تعيـــد إلـــى األذهـــان ّ مفهومــ ًا باليــ ًا للمعرف ــة ق ــد زال ــت ب ــزوال فكـــر مـــا بعـــد الحداثـــة .ولكـــن هـــل زال فعـــا عـــن مجتمعنـــا ،ذاك هـــذا الفكـــر ً
م ــا يجع ــل م ــن نم ــط المعرف ــة نمطــ ًا م ــا حداثـــي .علـــى الجامعـــة اليـــوم أن قبـــل ّ االجتماعي ــة ـرات ـ المتغي ـم ـ فه ـى ـ إل ـعى تس ـ ّ ّ واالقتصاديـــة وأن تعمـــل علـــى ّ اس ــتيعابها والتفكي ــر ف ــي أس ــئلة التقــّدم م ــن جدي ــد ب ــدل أن تتقوق ــع ف ــي المفه ــوم أن األكاديمـــي الّتقليـــدي ،ومـــن الغريـــب ّ حركـــة اإلنصـــات إلـــى المجتمـــع بـــدأت تزح ــف ف ــي قطاع ــات العل ــوم م ــن خ ــال الســـنوات إحـــداث شـــعب ُممهننـــة فـــي ّ األخيـــرة ومـــن خـــال إحـــكام الّتواصـــل الجامعييـــن -الباحثيـــن وبيـــن بيـــن ّ ولكـــن حركـــة اإلنصـــات المســـتثمرين، ّ ـلحفاتية الخط ــو ف ــي قطاع ــات بقي ــت س ـ ّ اإلنســـانية. اآلداب والعلـــوم ّ أن الفصـــل إلـــى الغـــرب تفطـــن لقـــد ّ ّ الموجـــود منـــذ مئـــات الســـنين «بيـــن و«المهنيـــة» لـــم يعـــد الفنـــون» واآلداب ّ عالميـــ ًا وأضحـــى الّتفكيـــر فـــي معيـــارًا ّ عوائ ــد الّتعلي ــم العال ــي عل ــى االس ــتثمار ّ المحـــك األساســـي إلحـــداث هـــو المتغي ــرات وع ــرض البرام ــج .وال نغال ــي ّ أن اســـتتباعات الّتجـــارب حيـــن نعتبـــر ّ الغربيـــة مؤثّـــرة فـــي نظامنـــا الّتعليمـــي ّ بحكـــم االنخـــراط الوطنـــي فـــي مســـار العالميـــة، عليميـــة ّ توحيـــد المنظومـــة الّت ّ وجهـــات ت لل مســـايرة أدى إلـــى ّ وهـــو مـــا ّ ّ نســـميه بـ«العولمـــة العالميـــة نحـــو مـــا ّ ّ اإليجابيـــة». ّ إن الجامعـــي الـــذي يعتبـــر المجتمـــع ّ أولويـــات البحـــث والّتفكيـــر مـــن ا جـــزء ً ّ يتخطـــى هـــذا القيـــد واإلبـــداع هـــو الـــذي ّ الصـــوري الـــذي جعـــل الجامعـــة فـــي ّ ّوريـــا مـــن الالّشـــعور الجمعـــي فضـــاء بل ّ زج ــه ف ــي مع ــارك الكريس ــتال ،ال ينبغ ــي ّ مدعـــو إلـــى فالجامعـــي المجتمع.لهـــذا ّ المتغيـــرات ،فـــا معنـــى للبحـــث قبـــول ّ دراســـية ترهـــن رات ولمقـــر العلمـــي ّ ّ البشـــرية فـــي مخبـــر أو كتـــاب الكفـــاءة ّ دون أن تكـــون نتائجهـــا مؤثّـــرة فـــي مجتمعهـــا. لكـــن هـــذا المنشـــود الـــذي يتبلـــور الضغـــط الواقعـــي والّدولـــي بفضـــل ّ بعقليـــة الجامعـــي ذاتـــه. يظـــل مرتهنـــ ًا ّ ّ إن شـــريحة كبيـــرة مطالبـــة بـــأن تعيـــد ّ الّتفكيـــر فيمـــا يحـــدث خـــارج جـــدران
نهائيـــ ًا الجامعـــة ّ ألن هـــذا الواقـــع تســـلّل ّ إلـــى الجامعـــة دون أن يطلـــب إذنـــ ًا «برجعاجي ــة» الجامع ــي أن للّدخ ــول .كم ــا ّ ّ الكالس ــيكي مآله ــا االنهي ــار مثلم ــا تنه ــار ّاتيـــة القصائـــد الهالميـــة الغامضـــة والذ ّ ّ المفرطـــة والمســـتبّدة فـــي القصيـــدة وإن اإلبقـــاء علـــى المنظـــور المســـتقبلية ّ ّ األح ــادي لألش ــياء والذّاتان ــي م ــن ش ــأنه أن يجع ــل م ــن اإلنس ــان العرب ــي مس ــتلب ًا أكث ــر ف ــا حاج ــة لن ــا الي ــوم تح ــت وق ــع نتوهـــم العيـــش فـــي زحـــف الواقـــع أن ّ مجرتنـــا. مجـــرة غيـــر ّ ّ ولكـــن هـــل يعنـــي هـــذا الّتشـــخيص اإلقــرار بأنّنــا نمـّـر اليــوم مــن اإلنتلجنســيا المهنيـــة» الفكريـــة إلـــى «اإلنتلجنســـيا ّ ّ فنصـــور إلفـــراغ الجامعـــة مـــن دورهـــا ّ الّتقلي ــدي ف ــي بل ــورة تص ـ ّـورات المجتم ــع المســـتقبلية؟ وتشـــخيص إمكاناتـــه ّ مبســـط هـــل ننـــادي بـــدور وبتعبيـــر ّ تكنوقراطـــي للجامعـــة فحســـب؟ إن اإلس ــراع إل ــى تأكي ــد ه ــذا المنح ــى ّ أقـــره فيمـــا مباشـــرة نســـقط يجعلنـــا ّ بيـــن أنّـــه «فـــي المجتمـــع «مولـــر» حيـــن ّ ـروعية الصناعــي المتقـّدم تحـّـل محـّـل المشـ ّ مشـــروعية القانونيـــة – العقالنيـــة ّ ّ أي اهتمـــام تكنوقراطيـــة ال تولـــي ّ ّ لمعتقـــدات المواطـــن أو لألخـــاق فـــي ذاته ــا» .وه ــو م ــا يفي ــد معن ــى غطرس ــة عقالنيــة الحداثــة. األدائيــة مقابــل تراجــع ّ ّ ـأن الجامع ــة ه ــي ـ فف ــي س ــياق الوع ــي ب ّ نســـق فرعـــي مـــن النّســـق االجتماعـــي األدائيـــة قـــد يخشـــى االنـــزالق فـــي هـــذه ّ الخلفيــات تامــا المشـ ّ ّ ـطة التــي تنفــي نفيــا ّ
الطالئع ــي المعرفي ــة وتس ــكت ع ــن الــّدور ّ ّ للجامعـــة .وهـــو دور ثابـــت وتقليـــدي جوهري ــة كآلي ــة ّ بمعن ــى حض ــوره الّدائ ــم ّ فـــي الكيـــان الجامعـــي. األدائي ــة مس ــاهمة يف ــرز س ــيادة مب ــدأ ّ أوال فـــي الّتعامـــل الّتعليـــم العالـــي ّ العالميـــة بتنويـــع مـــع المنافســـة ّ االختصاصـــات حّتـــى تســـتطيع الّدولـــة وليــة. الســوق الّد ّ ّ القوميــة أن تنخــرط فــي ّ وثانيـــ ًا فـــي إمـــداد المجتمـــع بالخبـــرات تلبـــي احتياجاتـــه. والمهـــارات التـــي ّ لألدائيـــة اقتصـــار ويفيـــد هـــذا الّتعريـــف ّ عمليـــة إمـــداد تنمـــوي الجامعـــة علـــى ّ فعـــال أمـــر وهـــو متواصـــل للمجتمـــع ّ الشـــطط أن ّ وعقالنـــي أيضـــ ًا غيـــر ّ يـــؤدي إلـــى اللّبـــس فـــي إمالءاتـــه قـــد ّ أن الجامعـــة لـــن تلعـــب اآلتـــي وهـــو ّ الســـابق فـــي إنتـــاج مثـــل عليـــا دورهـــا ّ وهـــو للبـــس خطيـــر .فقـــد ينظـــر إلـــى «الصـــورة الســـير الحثيـــث نحـــو تغييـــر ّ قليدي ــة» للجامع ــي ،ف ــي ظاه ــر األم ــر، الّت ّ بمثاب ــة انتكاس ــة المث ــل العلي ــا .وه ــو م ــا لتوجه ــات ينت ــج عمليــ ًا «ثقاف ــة مض ـ ّ ـادة» ّ ـإن الّتفكي ــر ف ــي تأهي ــل تأهيلي ــة ،له ــذا ف ـ ّ ّ ـانيات ـ واإلنس واآلداب ـون ـ الفن ـات ـ ص تخص ّ ّ ـروري يمّث ــل رهانــ ًا متش ـ ّـعباً ،إ ّال أّن ــه ض ـ ّ وعاجـــل أيضـــا .ومـــن البديهـــي أن يثيـــر ه ــذا الّتفكي ــر اّتجاهــ ًا ثالثــ ًا ف ــي الّتعام ــل ـانيات م ــع اختصاص ــات الفن ــون واإلنس ـ ّ حركيــة برمتــه فــي ّ حّتــى يندمــج القط ــاع ّ المجتم ــع دون أن يتخّل ــى الجامع ــي ع ــن دوره األصلـــي فـــي إنتـــاج القيـــم رغـــم كنوقراطيـــة. فخـــاخ الّت ّ 21
يعــود ُعمــر التعليم الجامعي في ســورية إلى ما قبل تأســيس
تأسســت المدرســة الطبية عام الدولــة الســورية الحالية ،فقد ّ
تتأســس ،1903ومدرســة الحقــوق عام 1913فــي العهد العثماني ،ولم ّ
الجامعة الســورية حتى عــام 1923بعد االنتداب الفرنســي ،وذلك بدمج
عبد القادر عبد اليل
تحولــت الجامعــة الســورية إلــى جامعة دمشــق فيمــا بعد، المدرســتينّ . المطرد وتوسعت لتشمل فروع العلوم البحتة واإلنسانية كلها ،ومع النمو ّ ّ
لــم يعد باإلمكان اســتيعاب الطالب ،فتأسســت جامعة حلــب عام ،1958 وكانت نواتها كلية الهندسة التي تتبع الجامعة السورية مع كلية زراعة، تطورت بســرعة في أواخر الســتينيات لتضم عددًا كبيــرًا من الكليات ثــم ّ والمعاهد.
من الريادة إلى االنهيار مع االنفجار التعليمي الذي شهدته سورية إبان حرب ،1973كان البد من تأسيس جامعات جديدة وافتتاح كليات أخرى ،فكانت جامعة الالذقية (تشرين)، ثم تلتها جامعة حمص (البعث) ،وهناك فــروع لهذه الجامعات األربـــع تغطي المحافظات كافة. التوسع األفقي الحاجة لب هذا لم ُي ِ ّ الــمــتــنــامــيــة ،فــصــدر مــرســوم افتتاح الجامعات الخاصة ،فهل حققت المرجو منها؟
ريادة الجامعة السورية /جامعة دمشق لم تكن جامعة دمشق الرائدة عربي ًا على صعيد التأسيس فقط ،بل حقّقت الــريــادة باعتمادها التدريس باللغة عرب العربية أيضاً ،وكانت أول من ّ المناهج .لقد كانت منبرًا علمي ًا استقطب كثيرًا من الطالب العرب من مختلف 22
األقطار ،ومن خالل الجو الديموقراطي الـــذي س ــاد فــتــرة خمسينيات الــقــرن العشرين سجلت ريادة أخرى بانخراطها في العمل العام ،فمع كونها منبرًا علمي ًا مهماً ،كانت رائدة في العمل السياسي، وتحولت إلى أحد مراكز القوى السياسية الفاعلة في سورية ،وبوصلة للكثير من التيارات السياسية العربية. كان المستوى العلمي الذي تتمتع به جامعة دمشق يجعلها نموذج ًا يحتذى به ،وقد وقف على منابر التدريس فيها علماء اشتهروا كثيراً ،ال يتسع المجال لتعداد أسمائهم .وبقي هذا المستوى العلمي محافظ ًا على حد معين على الصعيدين العلمي والتربوي إلى أواسط السبعينيات. خـّـرجــت جامعة دمــشــق خــال هذه الفترة أعدادًا كبيرة من الكوادر العلمية التي ساهمت بتأسيس شقيقاتها في ســوريــة ،وســاهــم بعضها بتأسيس كثير من الجامعات العربية أو التحقت بكوادر تلك الجامعات بعد التأسيس من
خريجين عرب وسوريين. الجمود والعيش على سمعة الماضي شهد التعليم الجامعي توسع ًا أفقي ًا كبيرًا جــدًا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ،بالتوازي مع التوسع التعليمي لما قبل الجامعة الذي حدث في الفترة نفسها. الطريف باألمر أن الكتب التربوية المعتمدة في كلية التربية في جامعة تـــدرس اإلجــــراءات التي يجب دمشق ّ اتخاذها في حال االنفجار التعليمي من أجل التقليل من تأثيراته السلبية ،ولكن شيئ ًا على أرض الواقع لم يحدث ،وهذه كانت بداية اتساع الهوة بين الكتاب (أو المنهج بشكل عام) والواقع ،ولكن على الرغم من هذه المشاكل المستعصية بقي التعليم الجامعي في سورية يعيش على سمعة حققها من إنجازات ماضية.
بداية االنهيار شكلت أواسط السبعينيات منعطف ًا
حـــادًا فــي الــحــيــاة الــســوريــة عموماً، والحياة الجامعية خصوصاً ،حيث بدأت طالئع الكوادر الموفدة إلى االتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي بالقدوم إلى الجامعات لتشغل مكانها ،والزال جيلنا الذي كان على مقاعد الجامعات في تلك الفترة يذكر كثيرًا من الطرائف عن المفارقات التي عاشها .من نتائج االنفجار التعليمي األعــداد الكبيرة جدًا في قاعات الــدروس النظرية إذ وصل مجموع الطالب الذين من المفروض أن يحضروا محاضرة في كلية العلوم عام 1977إلى مئتي طالب .يصل هذا العدد إلــى ثالثمئة إذا كــان الــمــدرس خريج جامعة فرنسية أو إنجليزية والمدرس الذي يدرس المادة نفسها في المجموعة األخرى للمستوى نفسه قادم ًا من إحدى جامعات الصداقة السوفياتية.
لم يكن التخبط على صعيد المدرسين فقط ،بل امتد إلى المناهج ،وهنا يمكن أن نــدرج أمثلة بسيطة تعطي فكرة وافية عن هذا التخبط .يعرف أحد كتب كلية التربية ديموقراطية التعليم «بأنها مجانية التعليم» ويستفيض بالشرح كيف أن الدولة تدرس الطالب في أطوار ما قبل الجامعة مجاناً ،وتتقاضى منهم رسوم ًا رمزية في الجامعة ،وبهذا تثبت بأن سورية من أكثر دول العالم تطبيق ًا لديموقراطية التعليم .ولكن في كتب المرحلة السابقة والتي مازالت تعتمد في بعض المعاهد منها كتاب معهد إعداد المدرسين ،يعرف ديموقراطية التعليم «بأنها اشتراك المعنيين جميع ًا بإعداد المناهج التعليمية» ويشرح «المعنيين» بأنهم القوى المجتمعية كلها بمن في ذلــك الــطــاب أنفسهم لتلبية التعليم
لحاجة المجتمع .لو أردنــا أن نقيس الواقع التعليمي وفق هذا التعريف لظهر أن سورية من الدولة التي ليس لديها أي ديموقراطية في التعليم. المثال اآلخــر :كنت ذات يــوم أمام طالبي في المعهد المتوسط أعطيهم درســ ًا في تاريخ الفن ،وكــان بحسب المقرر «المدرسة السريالية» ،وقفت أمــامــهــم وقــلــت لــهــم حــرفــي ـاً« :نــشــأت المدرسة السريالية إبان الحرب العالمية الثانية وهي ضرب من ضروب التخبط، وطرحت أمورًا ال يمكن تحقيقها ،وهي مدرسة فاشلة بدليل أنها لم تستطع إثبات نفسها» .هنا قاطعني أحد الطالب، وقال لي« :أستاذ ،قبل أسبوعين تقريب ًا قــرأت مقا ًال عنك في إحــدى الصحف، وذكر الكاتب أنك فنان سريالي ،بما أن المدرسة السريالية على هذه الدرجة من السوء لماذا أنت سريالي؟» ضحكت ،قلت له ببساطة شديدة ،يا بني ،أنا أقول لك علي وعليك ،وما يجب ما هو مفروض ّ أن تكتبه في االمتحان إذا ُسِئَلت عن هذا األمر ،أما إذا أردت تثقيف نفسك فعليك الخروج من المؤسسة التعليمية... االســتــيــعــاب الــكــبــيــر للخريجين الجامعيين في المؤسسات الحكومية أبقى اإلقبال على هذا التعليم مرتفعاً، ولم يعد الطالب يبحث عن تحقيق طموح علمي ،بل طموح وظيفي ،وإذا سعى للطموح العلمي فلن يحصل عليه أساس ًا لعدم توافره .ومن مفارقات هذه الفترة أن بعض طالبات معاهد إعداد المعلمات التابعة لــوزارة التربية ،والتي تلتزم الوزارة بتعيينهن بعد التخرج إثر دراسة مدتها سنتين حصلن على مجموع في 23
الثانوية العامة يؤهلهن للدخول في أي فرع جامعي يردن ومنها كلية التربية، ولكنهن فضلن هذا المعهد ألنه فرصة عمل مضمونة. ينسحب األمـــر نفسه عــلــى طــاب الهندسات ،فقرار الــدولــة باستيعات المهندسين كافة أبقى طموح الطالب جميع ًا الــدراســة في كليات الهندسة، حتى امــتــأت دوائـــر النفوس السجل العقاري والمالية واألوقاف بالمهندسين من مختلف االختصاصات.
محاوالت اإلصالح لم يغب هذا الواقع عن أعين أصحاب القرار ،ولم يكن من المحرمات التي ال يمكن مناقشتها .فقد طرحت عدة مبادرات بــاســم اإلصــــاح ،وتــمــت االستعانة بالمؤسسات الدولية وخبراتها أحياناً. بالطبع هنا البــد مــن التنويه أن السلطات كانت على وعــي تــام بعدم 24
إمكانية فصل تطوير التعليم الجامعي عن تطوير التعليم ما قبل الجامعي. والبد من ذكر هذه الحادثة التي عايشتها بنفسي في إحدى المرات. ُعــيــنــت لــفــتــرة قــصــيــرة فــي دائـــرة المناهج في وزارة التربية ،وحضرنا اجتماع ًا على درجة كبيرة من األهمية مع لجنة قيل لنا إنها جاءت من اليونسكو، وقد ساهم أعضاؤها في إصالح التعليم في دول أوروب ــا الشرقية بعد انهيار النظام الشيوعي ،وفي جنوب إفريقيا بعد إنــهــاء نــظــام الفصل العنصري، وقدمت لنا هذه اللجنة تقريرًا عن واقع التعليم ما قبل الجامعي في سورية من خالل زيارات ميدانية ومتابعة عن كثب .لم أستطع أن أمسك نفسي عن الضحك في ذلك االجتماع الذي حضره أعضاء دائرة المناهج ومعاونو وزير إلي التربية المختصون ،وحين توجهت ّ نظرات االستغراب ،تقمصت جديتي،
ومنحته .قلت وطلبت اإلذن بالحديثُ ، لو حضرتم في كلية التربية محاضرة لــأســتــاذ الــدكــتــور فـــان فــي أصــول التدريس وهو يشرح مساوئ التدريس بطريقة المحاضرة ،وينفذ هذه المساوئ دون أي نقص ،لما احتجتم إلــى هذا الجهد .باختصار كل ما جاء في التقرير كــان ُيــدرس في جامعاتنا ..ولكن هل يمكن إصالحه؟ لعله يحتاج إلى عملية جرحية أليمة. من مبادرات اإلصالح أيض ًا الجامعات الخاصة ،فقد جاءت هذه الجامعات لضخ دم جديد في التعليم الجامعي ،ولكن أساتذتها كانوا من الجامعات الحكومية، وتـــــدرس ال ــم ــق ــررات الــتــي تــدرســهــا الجامعات الحكومية بموجب قوانين التأسيس .وهنا أذكــر حديث ًا لألستاذ المربي الكبير أنطون مقدسي حول كلمة مقرر ،فيقول إنه من الفعل الثالثي َقَر َر أي أملى وفرض .بالطبع يمكن أن تكون هناك مقررات في جزء كبير من التعليم األساسي ،ولكن أن يكون التعليم من أوله إلى نهاية الجامعة «مقررات» فأين تنمية المواهب والمبادرات والبحث؟ وبالطبع إدخال هذه األمور إلى التعليم أمر شبه مستحيل ،ويحتاج إلى تأهيل لجزء كبير من الكوادر التي ُتدرس في الجامعات. وهــكــذا جــاءت الجامعات الخاصة حلقة جديدة من التعليم السائد لم ُتلق مجرد حصى فــي الــمــاء الــراكــد .كانت الجامعات الخاصة ذلك الشبل من ذلك األسد. إذا مــا نظرنا إلــى مــا وصلت إليه سورية اليوم ،فــإن دراســة مسار أي قطاع ،ومنها القطاع الجامعي ستكون صـــورة مختصرة عــن الــمــســار الــذي أوصل البلد إلى ما وصل إليه .ولم يكن هناك بد من بدء عملية إصالح واسعة إليقاف هذا المسار الذي يتسارع نحو االنهيار .اإلصالح كان معروفاً ،ولكنه مؤلم ،وهو مؤلم ألم ًا شديداً ،ومن أجل تجنب هذا األلم استعيض عنه ببعض الترقيعات أو التلفيقات ،وبهذا سار نحو نهايته وبدأ االنهيار الشامل.
مع مطلع القرن العشرين ،وكرد فعل على الهيمنة االستعمارية البريطانيــة علــى مصــر ،راح العديد مــن المفكريــن الوطنيين يتنــادون لتأســيس جامعة وطنية أهليــة ،وكان من هؤالء :قاســم أمين
د .كامل مغيث
وجرجي زيدان وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد وغيرهم ،وبالفعل فتحت
باحث باملركز القومي للبحوث الرتبوية
الجامعــة أبوابها أمام طــاب العلم في ديســمبر ،1908وحّددت الجامعة الوليدة وظائفها في تكوين نخبة مثقفة ومتميزة ووطنية ،تمتلك معارف علمية وإنســانية رفيعة وتلتقــي فيها الثقافة الوطنيــة بخصوصيتها مع الثقافة اإلنســانية بما يؤدي إلى إثراء حصيلة تلك النخبة في تعاملها مع مجتمعها في الظروف العالمية المحيطة به.
ماض مجيد وحاضر بائس ٍ
جامعة القاهرة
وعلى الــرغــم مــن أنها وقــت نشأتها ولعقود متتالية كانت جامعة للنخبة االجتماعية القادرة على دفع مصروفاتها، إال أنــهــا قــد نجحت فــي خلق جماعات من المثقفين الوطنيين الذين كانوا هم للتقدم االجتماعى وللحياة األســـاس ُّ الديموقراطية ،وكــانــت الجامعة هي المؤسسة التي لعب خريجوها دورًا كبيرًا
تنوع وثــراء مختلف مــدارس الفكر في ُّ واألدب والفنون ،وترفد مختلف األحزاب والتنظيمات السياسية بالعناصر البشرية القادرة على قيادة النضال الوطني في سبيل تعزيز الديموقراطية والمطالبة بالدستور والبرلمان ،والعمل على تأكيد قيمة االستقالل الوطني في نفس الوقت، وقد لعب طالب الجامعة وخريجوها الدور
األكبر في قيادة االحتجاجات الشعبية ضد االستبداد عامي 1935و.1946 ونجحت ثـــورة يوليو ،1952بما حققته مــن مطالب شعبية كاإلصالح الــزراعــي وإعــان الجمهورية واتفاقية الجالء في كسب تعاطف قطاعات كبيرة من طالب وأساتذة الجامعة ،وفي نفس الوقت فقد قامت بفصل عشرات األساتذة 25
الذين عارضوا توجه ضباط يوليو في االنفراد بالحكم ووأد الحياة الدستورية، وهــكــذا تــم تــأمــيــم الــنــشــاط السياسي للطالب ،وتم توظيف النشاط السياسي للترويج لفكرة الحشد األيديولوجي، وقدمت الثورة للشعب مطلب ًا عزيزًا بتقرير مجانية التعليم العالي والجامعي ،سنة ،1961غير أن هزيمة يونيو ،1967 أدت إلى اشتعال الجامعة باالحتجاجات المواجهة لجمال عبد الناصر ونظامه، وهو ما أدى إلى ترك هامش كبير من الحرية أمام الطالب ،ومات عبد الناصر عام ،1970فسعى خلفه أنور السادات إلى توسيع هامش الحرية أمام الطالب بحث ًا عن مشروعية سياسية مختلفة عن مشروعية عبد الناصر ،وهو ما أدى إلى عــودة االزدهــار إلى الحركة السياسية والــــدور السياسي للجامعة ،فعرفت الجامعة المظاهرات الحاشدة عام 1972 المطالبة بتحرير أرض سيناء من محتليها الصهاينة ،واحتضنت الجامعة الظاهرة الغنائية الشهيرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم فكانا من الضيوف الدائمين ألنشطتها الطالبية ،وتصاعدت احتجاجات الطالب عــلــى الــتــوجــه الــرأســمــالــي لــلــســادات والــخــضــوع لتعليمات صــنــدوق النقد الدولي برفع الدعم عن الفقراء واشتعلت الــجــامــعــة ومــصــر كــلــهــا بــالــغــضــب في 26
االنتفاضة الشعبية يومي 18و 19يناير سنة ،1977ومن هنا سعى السادات إلى إصدار القوانين التي منعت تمام ًا النشاط السياسي من الجامعة ،وفي نفس الوقت سعى إلــى وجــود األمــن داخــل الجامعة ل ــوأد أي نــشــاط سياسي للطالب في مهده ،فاختفت القوى السياسية المختلفة من الجامعة ولم يعد فيها سوى القوى السياسية اإلسالمية بحجة أنها صاحبة نشاط ديني وليس نشاط ًا سياسياً، ومــن هنا فقد أصبحت الجامعة بــؤرة للمحافظة بعد أن كانت قلعة لالستنارة والتقدم ،واتفق هذا الدور الجامعي مع ُّ توجهات الحكم الجديد للرئيس مبارك الـــذي سعى إلــى تفريغ الجامعة من النشاط السياسي المعارض فسعى إلى وتوسع تشديد القبضة األمنية عليها، َّ األمن في سيطرته على الجامعة فأصبح يتدخل في تعيين األســاتــذة وتنقالتهم ويــعــتــرض عــلــى الـــنـــدوات المختلفة ويستبدل انتخابات االتحادات الطالبية بالتعيين من العناصر المتعاونة معه، والتي تلعب أدوارًا أمنية في مواجهة زمــائــهــا وأســاتــذتــهــا ،ومــع ذلــك فإن مجموعة من أساتذة الجامعة التقدميين قد شكلوا مجموعة تنادي باستقالل الجامعة وإبــعــاد األمــن عــن مبانيها وأنشطتها هي مجموعة 9مــارس التي تمكنت من
الحصول على حكم قضائي بابعاد األمن عن الجامعة وعندما سعى بعض هؤالء األســاتــذة إلــى توزيع نص الحكم على ـار من فرق الطالب تعرضوا لهجوم ضـ ٍ طالب متعاونة مع أمن الدولة فيما سمي بموقعة 4نوفمبر ،2010والتي أظن أنها كانت واحــدة من أهم إرهاصات سقوط نظام مبارك ،وعلى الرغم من سقوط مبارك فإن االستقطاب الحاد الذي شهدته البالد قد جعل من الجامعة ساحة لمعارك طاحنة ،يستخدم فيها العصي والطوب والمولوتوف ،وربما أسلحة الخرطوش، ويعتدي فيها الــطــاب على أساتذتهم المؤيدين للحكم القائم ويقومون بإحراق المعامل والــمــدرجــات ،وهــو مــا يــؤدي في النهاية إلــى الشك في معنى الــدور السياسي للجامعة وإلقاء ظالل قاتمة عليه ،وهو األمر الذي يبدو واضح ًا في الموقف المعادي لألنشطة السياسية للطالب ،ولكنني أعتقد أن األمــور لن تستقيم لمن يسعون إلى تجريد الجامعة من دورها السياسي والوطني وأن هذا النشاط السياسي السلمي سيعود حتم ًا للجامعة بمجرد استقرار األوضاع وعودة الهدوء إلى الجامعة. أمــا فــي مــا يتعلق بــالــدور المعرفي للجامعة فال شك أنه قد تراوح صعودًا وهبوط ًا تبع ًا للظروف السياسية التي
أحاطت بالجامعة ،فقبل ثورة يوليو كانت الجامعة على اتصال مباشر بالمعرفة اإلنسانية بمعناها الــواســع ،فلم تكن تمنح لخريجيها وللمعينين فيها كمعيدين درجات الماجستير أو الدكتوراه ،وإنما كانت توفر لهم البعثات التي يوفدون من خاللها إلى جامعات إنجلترا وفرنسا وال ــوالي ــات المتحدة فيحصلون على المعارف والعلوم الحديثة من مصادر إنتاجها األصــلــيــة ،س ــواء أكــانــت تلك المعارف والعلوم في المجال اإلنساني أم العلمي ،ويــعــودون إلــى الجامعة المصرية محملين بتلك المعارف لينقلوها إلــى طالبهم ومجتمعهم ،ومــع ثــورة يوليو وزيــادة أعــداد الطالب ،ومن َثّم أساتذتهم فلم تعد الدولة تقدر على توفير التمويل الـــازم للبعثات فــي مختلف التخصصات فاكتفت بالتخصصات التي ال يمكن الحصول عليها من مصر وكانت كلها فــي الغالب تخصصات هندسية وتكنولوجية ،أما العلوم اإلنسانية فقد أصبحت الجامعة تمنح شهاداتها من مرحلة الليسانس حتى الدكتوراه ،وهو ما أدى إلى شكل من أشكال التدهور في تلك العلوم والمعارف مقارنة بما كان يتم من قبل ،وفي السبعينيات شهدت البالد سعي ًا حثيث ًا نحو دعم الالمركزية وزيادة سلطات وصالحيات المحافظين في المحافظات المختلفة ،وهو ما أدى إلــى نــوع من السباق بين المحافظات المختلفة في إنشاء الجامعات اإلقليمية، والتي أعدت على عجل وبدون استعدادات حقيقية ال فــي المباني وال األســاتــذة، ويكفي أن نعرف أن مصر قــد أنشأت الجامعة األهلية ،1908وعــلــى مدى نصف قرن لم تشهد إنشاء سوى ثالث جامعات أخرى هي :جامعات اإلسكندرية وعين شمس وأسيوط ،ولكن في عقد واحــد هو عقد السبعينيات فقد شهدت إنشاء عشر جامعات دفعة واحــدة ومن هنا فقد راحت تسعى للهاث إلى استكمال هيئات التدريس فيها بالتسريع في منح شهادات الماجستير والدكتوراه بصرف النظر عن المستوى العلمي والمعرفي المتدني لهم ،وقــد تواكب ذلــك اإلعــداد المتدني لهيئات التدريس مع توجه الدولة
جامعة عين شمس
نحو الحد من فاعلية ودور الجامعة من ناحية وهيمنة الفكر الديني المتطرف من ناحية ثانية ،وهو ما أدى إلى مزيد من التدني في المستوى المعرفي والعلمي للجامعة ومــع غياب المعايير المهنية العلمية واألكاديمية راحت معايير القرابة والعائلية ومقتضيات الشللية والــوالء لألساتذة الكبار تلعب دوره ــا المؤثر في المزيد من تدني المستوى المعرفي والعلمي للجامعة ،ويضاف إلــى تلك العوامل ما يتعلّق بمستوى األجور التي يحصل عليها أعضاء هيئة التدريس في الجامعة ،فقد كــان مرتب عضو هيئة التدريس في بداية حياته مع تحويل الجامعة األهلية إلــى جامعة حكومية
سنة 1925يبلغ ما يعادل ثالثين ألف ًا من الجنيهات ،وهو ما ال يزيد اليوم عن ثالثة آالف من الجنيهات أي ما يعادل واحدًا على عشرة مما كان يحصل عليه المعيد منذ تسعين عاماً ،وهو ما ادى التفرغ للعلم إلى انصراف األساتذة عن ُّ والطالب بكتابة المقاالت واألبحاث هنا وهناك والسعي إلى الحصول على فرصة لإلعارة إلى إحدى جامعات الدول العربية للعمل على تأمين مستوى الئق من الحياة الكريمة لألستاذ وأسرته ،ولم يكن غريب ًا بعد كل هذا أن تخرج جميع الجامعات المصرية من مختلف التصنيفات الدولية المعتبرة ألحسن خمسمئة جامعة في العالم. 27
الكتابة حول الجامعات في الخليج هي كتابة بطعم العلقم ،من شخص خبر التعليم الجامعي الرسمي ألربعة عقود حتى اآلن، والجامعــات ،كمثل غيرها مــن الموضوعات في الخليــج ،ال يمكن معرفة عددهــا على وجــه الدقة ،فهناك أو ًال اختالل فــي المفاهيم ،بمعنى ما هي مواصفات الجامعة؟
د.محمد الرميحي أستاذ االجتامع السيايس -جامعة الكويت
هياكل دون محتوى!
يــصــر عــلــى أن مــا لديه بعضهم ّ جامعة ،وهــي فــي الحقيقة (مدرسة ثانوية) على أبعد تقدير .حاولت أن أحصر عدد الجامعات في دول الخليج (دول مجلس التعاون الست) فلم أجد إال أرقام ًا تقريبية ،وهي خمس جامعات رسمية (حكومية) ،عدا المملكة العربية السعودية ،فاألخيرة لديها من الجامعات الحكومية أربع وعشرون .أما الجامعات الخاصة ،المصنفة رسمي ًا كجامعات فمجموعها فــي دول مجلس التعاون إحــدى وثالثون جامعة ! أي أن هناك في الخليج اليوم ،ستين جامعة تقريباً، يتقاسم المشهد جــامــعــات حكومية وأخرى أهلية ! هذا إذا استثنينا المعاهد تقدم نوع ًا من التعليم والكليات التي ِّ العالي ،والتي يدعي بعض أصحابها أنها (جامعة) ! ويبدو أن فتح الجامعات األهلية أصبح في الخليج في العشرين ال سنة األخيرة يتكاثر كالفطر،كونه عم ً (تجارياً) مربحاً ،وليس لدي اعتراض 28
على التربح ،إال أن بعضه يميل مع األسف ،إلى تخريج أعداد دون محتوى ثقافي له معنى اجتماعي أو تنموي، بــل ال توجد فــي الخليج قاطبة حتى اليوم (جامعات أهلية خيرية ) �phil anthropicأي جامعات خيرية ،وهي المتقدم ،خاصة المثال األنجح في العالم ِّ الواليات المتحدة وبعض دول الغرب، على الرغم من الشغف الخليجي بـ(أعمال الخير) ،التي يدفع لها الماليين من شمال الخليج إلى جنوبه ،معظم هذه األموال تذهب إلى أشكال تقليدية من (اإلحسان)! ال أميل إلى أن ضعف التعليم الجامعي في الخليج سببه عامل أوحد ،في العلم االجتماعي ال يحق أن نعزو ظاهرة إلى عامل واحد ،فهناك عوامل عديدة تتدخل مــن أجــل الــوصــول إلــى تلك النتيجة المحزنة ضعف التعليم الجامعي وفقر مخرجاته ،كما ال أميل إلــى التعميم، فبعض الجامعات ،وهي قليلة جداً ،تهتم اهتمام ًا كبيرًا بالكيف والجودة ،قبل أي
شي آخر ،ولكنها قليلة ،في خضم كم هائل من مؤسسات أخــرى ،اهتمامها بالجودة في التعليم ال يظهر حتى في تقاريرها .كما أن جامعات الخليج ،على كثرتها ،لم تنل أية واحدة منها مكان ًا في أي تقييم بين الخمسمئة جامعة األولى في العالم ،حسب التقديرات المختلفة، فهي جامعات (فقيرة المستوى). نشأت الجامعات الرسمية في الخليج (دول مجلس الــتــعــاون) بــيــن نهاية خمسينيات الــقــرن الماضي (جامعة الملك سعود بالرياض ،)1957وبين النصف الثاني من الثمانينيات(جامعة السلطان قابوس في عمان عام )1986 فيما بين هذين التاريخين ،تعّددت الجامعات الرسمية بشكل تدريجي، أما األهلية فقد شهدت تراكم ًا كبيرًا في العدد واالنتشار ،فيما بعد دخول القرن الــحــادي والــعــشــريــن ،حيث تضخمت الحاجة للجامعات ،بسبب تدفق الثروة النفطية الهائلة لدى معظم دول مجلس
التعاون ،التي أنتجت ديناميكية غريبة، وهي اإلقبال على التعليم العالي ال بسبب الشغف به ،بل ألن اإلدارات الحكومية قد ربطت بين (الوظيفة العليا في الدولة وبين الشهادة) ،وقد نتج عن ذلك في العالم العربي قاطبة (الفقير والغني) معادلة غريبة ،وهي أن الفقر والعوز، أنتج في التعليم ما أنتجته الثروة ،أي كل منهما أثر في تدني نوعية وسوية التعليم ،على الرغم من تناقضهما في الظاهر. من األسباب األخــرى التي أدت إلى ضعف مخرجات التعليم الجامعي في العقود األخــيــرة فــي الخليج ،ضعف التأسيس الــطــابــي فيما قبل السلم الجامعي ،ذلــك أن الطالب يصل إلى الجامعة دون إعــداد كـ ٍ ـاف ال من حيث ال المنهج أو حتى المهارة ،كما أن عام ً آخر أثر في تدني التعليم ،وهو التدخل السياسي ،إذا قــرر السياسيون أن أفضل طريقة المتصاص غضب الجيل الصاعد أن يفتح له مجا ًال في تعليم ٍ عال (مفرغ من محتواه) من أجل إرضاء رغبة اجتماعية في (الشهادة العليا)، كما أن انعدام (التنافسية) بين مخرجات التعليم ،أضــاف من عوامل الضعف، ال آخر مهماً ،فالوظيفة مضمونة! عام ً أن كان لديك شهادة!! خبراء التعليم في مجتمعات أخرى وجدوا أن العوامل األربــعــة (المبنى ،المنهج ،المعلم، المجتمع) ،هي التي تشترك في العملية
التعليمية جودة أو ضعفاً ،منها اثنان مهمان أكثر ،هما المجتمع ،الذي يضع خطط التنمية ويرسم الطريق إليها، والمعلم ،وهو األكثر أهمية ،إلى درجة أن المعلم و(مستواه المادي واحترامه االجتماعي) في المجتمعات التي نهضت مثل (اليابان أو ألمانيا) هو في مستوى أعلى بكثير ،مادي ًا ومعنوياً ،من أي ـام أو طبيب) على محترف آخــر (مــحـ ٍ العكس من ذلك في مجتمعنا العربي قاطبة وفــي دول الخليج ،فهو ليس أكثر (من معلم صبيان)! ،زاد من ذلك انصراف (المواطنين) عن هذه المهنة. ففي بداية التعليم في الخليج ،كانت
هناك نهضة معقولة في التعليم ،بسبب حاجة المجتمع أو ًال وألن المعلم (محلي ال بشكل جيد لمهنتها، أو عربي) كان مؤه ً وثاني ًا كانت نظرة المجتمع إليه نظرة إيجابية ،فأوائل المعلمين ،سواء أكانوا في المستوى قبل الجامعي ،أم حتى في أول بدايات الجامعات الحكومية في الخليج (الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي) تم تجنيد أفضل األســاتــذة ،وبعد ذلــك توسعت فرص العمل ،فانصرف كثيرون عــن مهنة التعليم ،وأصبح التعليم (مهنة طاردة للكفاءات) معنوي ًا ومادياً .إذا أضفنا إلى كل ذلك فقدان (البوصلة) في وضع 29
جامعة السلطان قابوس
فلسفة مجتمعية ناضجة ومستدامة للتعليم ،فإن النتائج التي تظهر لنا عيان ًا ليست بالمفاجئة أو المستغربة! يحتشد الجيل الخليجي القادم في الــمــدارس والجامعات الــيــوم ،بشكل لم تألفه مجتمعاتنا من قبل ،بثقلها الــديــمــوغــرافــي ،وحــجــم متطلباتها، ومستلزماتها األساسية ،وستواجه الحياة المقبلة مصاعب شتى ،خصوص ًا عندما سيندفع المواطنون يبحثون عن فرص عمل ،واكتفاء ذاتي ،وحياة كريمة .إن مجتمعاتنا ستواجه بنفسها تــحــديــات سيفرضها الــواقــع بكل ما فيه من معضالت ومشكالت وأزمــات تتفاقم مخاطرها يوم ًا بعد يوم سياسي ًا واقتصادي ًا واجتماعي ًا وثقافياً ،فالوفرة المالية الحالية ليست بالضرورة دائمة وال هي ُمتجّددة .وعليه ،فثمة مهمات أساسية وعملية ،البد من الوعي بها في تكوين األجيال وتدريبهم ،بعيدًا عن كل الترسبات والبقايا والمألوفات والخطايا والمثالب التي مازالت سائدة في التربويات المدرسية وفي المناهج الــجــامــعــيــة ،ودون الــحــديــث الــجــدي والفعال لما يعرف اليوم بتكوين (رأس المال البشري) ،فإن كل الصيحات ،مثل غيرها،سوف تتبخر في الفضاء الكبير، معتمدة على تراث أصيل في التواكل. 30
أضــابــيــر مــســؤولــي الــتــعــلــيــم في الخليج مليئة بدراسات حول (النهوض بالتعليبم) إال أنه حتى اليوم لم توجد بعد (كتلة وطنية حرجة) تضع النهوض بالتعليم على أعلى المستويات ،إما ال بأهمية تجويد التعليم ،وقدرته جه ً على النهوض بالمجتمعات ،أو عدم رغبة في إشاعة االستنارة بين الناس، ال خارجاً) وديكورًا واعتبار التعليم (شك ً من بناء وشخوص ،ال يوجد احد على سطح هــذه الدنيا فــي أي عــالــم كان (متقدم ًا أو نــاهــضـاً) إال وقــد اعترف بأهمية تجويد التعليم ،أمــا منطقتنا فالزال الوعي بتلك األهمية في حدوده الدنيا ،فال يوجد نقاش مجتمعي واسع حول هذا الموضوع ،بل يتفشى إهمال مــن وســائــل اإلعــــام ،وبــيــن متخذي القرار ،ومن جماعات المجتمع المدني (إن وجدت) في تصور أن ما لدينا تعليم جامعي متقن! ولعله من الالفت أن أول مرة تذكر فيه مفردة (الثقافة) وأهميتها في وثيقة رسمية جماعية عربية ،كانت في البيان الختامي الجتماع القمة العربية في بيروت الرابع عشر ،الصادر في 29 مارس ،2002كما أن أكثر تقرير أممي كتبته نخبة عربية ،واهتم بموضوع التعليم والثقافة ،هو (تقرير التنمية
اإلنسانية العربية) الصادر من (برنامج األمــم المتحدة للتنمية) عــام ،2002 والتقارير الالحقة .ومن المالحظ أن هذا التقرير اعتمدت عليه الواليات المتحدة فــي إصــدارهــا (مــبــادرة الــشــراكــة بين الواليات المتحدة والشرق األوســط)، التي أطلقها وزير الخارجية األميركي وقتذاك (كولن بــاول) ،2002والتي أشــار فيها ،للعجب ،إلــى قــول شاعر النيل ،حافظ إبراهيم حول تعليم المرأة (األم مدرسة إذا أعددتها ،،أعددت شعب ًا طيب األعراق) رابط ًا بين معضلتي قطبي التنمية في بالدنا (المرأة والتعليم)! ولكن كــل ذاك كــان نتيجة ردة فعل ألحداث 11سبتمبر 2001المشؤومة! تبين بما ال يدع مجا ًال للشك ،أن لقد ّ هــذا النوع والسوية من التعليم الذي نقدمه ألبنائنا وبناتنا -فــي الغالب- ينتج أفرادًا منزوعي المقاومة الثقافية، وليست لديهم الــقــدرة منهجي ًا على (القراءة المضادة) لما يعرض لهم ،لذلك التشدد والتعصب األعمى ،ليس ينتشر ُّ ضد اآلخر فقط ،بل في بعض األوقات ضــد النفس .دون إعـــادة نظر جدية وحقيقية في فلسفة التعليم وأهدافه، فإن اآلية تنقلب من التعليم إلى الغد، إلى تعليم األمس البائد!
تحت مهب النار محمد األصفر تعاني الجامعات الليبية ،ومــن قبل ثورة فبراير ،من مشاكل مزمنة ،رغم ما يبذله أساتذة وطالب غيورون من جهود لتصحيح الوضع ،لكن ظروف ًا خارجة عــن إرادتـــهـــم ،تطيح بــجــهــودهــم ،وقد توجه إليهم تهم سياسية تنتهي بهم إلى ّ االستبعاد أو السجن أو حتى اإلعدام داخل الحرم الجامعي. في السابق ،كانت الجامعات تعاني من سلطة النظام،من خالل اللجان الثورية، واآلن صارت تعاني من سطوة متطرفين وغــيــرهــم ،وكـــذا مــن االنــفــات األمــنــي والمعارك الدائرة بين التيارات المسلحة في محيط الجامعات. تعتقد د.عائشة المغربي ،أستاذة فلسفة الــجــمــال فــي جــامــعــة الزيتونة بطرابلس ،أن الجامعات الليبية فقدت دورها التنويري منذ سنوات بعيدة ،حين تحولت إلى لعبة في أيدي اللجان الثورية ّ في زمن القذافي« .وبدل أن تكون منارات علمية وثقافية ،صارت موشومة بذاكرة اإلعدامات واإلرهاب الفكري لفترة طويلة واستمر هذا الوضع بعد ثورة فبراير» من جهته ،د .المبروك سلطان ،األستاذ بجامعة بنغازي ،يركز في انشغاله على قضايا تتعلّق باألمن وارتــبــاك العملية التعليمية بسبب إيقاف الدراسة ومشاكل «:تعرضت الجامعات إدارية أخرى ،ويقول ّ الليبية ،مثلها مثل غيرها من المؤسسات الحيوية لهزات الثورة وارتداداتها ،فترتب عن توقف الجامعة في بنغازي إعداد فصل مضغوط لتسوية العام الدراسي ،ودخلت الجامعة فــي دوامـــة مالحقة الــجــداول الــدراســيــة ومــواءمــة متطلبات الطالب واألساتذة ،هذا رافقته اعتصامات طالبية لتحقيق طلبات خاصة بهم» ويضيف دكــتــور سلطان ،وال ــذي له نشاط مكثف في مؤسسات المجتمعات المدني أيضاً ،متطرق ًا للوضع األمني الذي
تعيشه جامعة بنغازي« :وازداد الوضع األمــنــي س ــوءًا عندما بــدأت الــحــرب بين أطــراف مسلحة تحيط بالجامعة إحاطة السوار بالمعصم ،فالجامعة (ببنغازي) يقابلها معسكر 17فبراير ،وخلفها مقر لــوزارة الدفاع ،وعلى جانبها مقر ألحد كتائب الصاعقة وتقع في مرمى نيران الجميع ،مما اضطرها إليقاف الدراسة للعام الحالي وعدم القدرة على استئنافها لآلن». أما ،د.أم العز الفارسي ،رئيسة قسم الــعــلــوم السياسية بجامعة بنغازي، فشخصت مشاكل الجامعة حالي ًا مصرحة: ّ «الجامعات لها لوائحها ومناهجها وتحاول أن تفرض استقالليتها طيلة فترة تلقي الطالب للعلم فيها ..ثم له أن يشارك أو يمتنع وفق ًا لقناعاته السياسية وتوجهاته الثقافية والتي تصيغ الجامعات قدرًا كبيرًا منها..هذا بشكل عام ما تنجزه الجامعات.. لكن فــي ليبيا على وجــه التحديد وجد الطالب نفسه داخــل بوتقة االستقطاب الحاد عسكري ًا وسياسياً ..بل إن مقار الجامعات لم تخل من االنتهاك المباشر، ســواء أكــان على مقارها بتوظيفها من نــاحــيــة أم بــفــرض تــوجــهــات سياسية
ومجتمعية من ناحية أخرى». وعـــن مــعــايــيــر الــجــامــعــات الليبية ومستواها مقارنة بالجامعات العربية والعالمية فتقول أم الــعــز« :فــي ليبيا معايير جودة الجامعات دولية ولدينا ست جامعات مازالت تحظى بموقعها الدولي ولم يحدث أن تم رفض طالب ليبي تخرج في أي منها ..أعني الجامعات الحكومية (بنغازي ،مصراتة ،طرابلس ،البيضاء، سرت ،سبها) .»..وحول عمليات اإليفاد للدراسة بالخارج والتي تالقي انتقادات شديدة ،حيث يتم إيفاد طالب كبار السن أو يفتقدون لشهادات عليا ،فتعلّق أم العز« :هذا ال يحدث أبدًا في الجامعة ،من الجامعة مؤسساتهم..أماالقديمة تقصدهم توفدهم جامعة بنغازي فال توفد إال األوائــل ومن تنطبق عليهم شروط المعيد وال يمكن أن يتم قبول أستاذ جامعي ال تنطبق عليه شروط المعيد في حالة قدومه من الخارج مباشرة». الجامعات الليبية تجد نفسها اليوم في مصيدة السياسة ،مطوقة وغير قــادرة على الخروج من عنق الزجاجةُ ،م ِ نتظرة ومرتِقبة نهاية األزمات المتعاقبة ،وعودة ُ الروح األكاديمية الصافية إليها.
31
د .نظمي الجعبة جامعة بريزيت
الجامعات الفلســطينية نشــأت في ِظّل االحتــال ،وهي بالمفهوم العــام مؤسســات حديثــة نســبياً ،أقدمهــا جامعــة بيرزيــت التي دشــنت كجامعة في العام ،1972بعد أن كانت قد تأسســت كمدرســة في تحولت إلى كلية جامعية .يبلغ عدد الجامعات مطلع القرن العشــرين ثم ّ الفلسطينية اليوم 14جامعة موزعة على القدس والضفة الغربية وقطاع غــزة ،وبالرغم مــن طاقتها االســتيعابية الكبيرة ،إال أن عــددًا وافرًا من طلبة فلسطين مازالوا يتوجهون إلى خارج فلسطين للتحصيل العلمي.
..خلف االحتالل تنقسم الجامعات في فلسطين إلى المجموعات التالية :الجامعات العامة، ُتـــدار مــن قبل مجلس أمــنــاء مستقل يمتلكها كمؤسسة غير ربحية غير تشكل غالبية الجامعات حكومية ،وهي ّ ويبلغ عــددهــا تسع جامعات ،يكون مجلس األمناء ليس مسؤو ًال فقط عن تحديد السياسات العامة وإقرار البرامج المختلفة ،بل أيض ًا عن تأمين احتياجات الجامعة خاصة المالية ،وال يتدخل في اإلدارة اليومية للمؤسسة ما عدا تعيين رئيس الجامعة ،في حين يتم تعيين نواب الرئيس وعمداء الكليات من قبل مجلس األمــنــاء بتوصية مــن رئيس الجامعة .تتلقى غالبية هذه الجامعات دعم ًا حكومي ًا رمزي ًا انعدم تقريب ًا خالل السنوات األخيرة في ِظّل تنامي األزمة المالية لدى السلطة الفلسطينية ،في حين يساهم الطلبة بأكثر من نصف التكاليف عبر الرسوم الجامعية التي تتراوح بين 800و 1000دوالر أميركي فصلياً ،ويقوم مجلس األمناء بتجنيد الناقص من األمــوال ،إن نجح في ذلك وتبع ًا للظروف. أمــا الــنــوع الثاني فهو الجامعات الحكومية (جــامــعــتــان) ،وتـــدار كأي مؤسسة حكومية أخـــرى ،وتخضع 32
لــــإدارة الــمــبــاشــرة لــــوزارة التعليم العالي .أما النوع الثالث ،فهو الجامعات الخاصة وعددها ثالث جامعات ،وال يغيب وجودها عن الفكرة االستثمارية. وكل الجامعات في فلسطين هي جامعات دوام كــامــل ،مــا عــدا جامعة القدس المفتوحة ،وهي أكبر جامعات فلسطين من حيث عدد الطالب ،التي تتبع نظام الجامعات المفتوحة .تقدم كل الجامعات تقريب ًا درجــة الماجستير في غالبية التخصصات عالوة على البكالوريوس والدبلوم ،وبعضها تقّدم برامج محدودة في درجة الدكتوراه ،وهي ظاهرة آخذة بالتوسع التدريجي. تتمتع الجامعات في فلسطين بشكل عــام بسمعة طيبة ،بعضها ألسباب تاريخية ولدورها االجتماعي والتعليمي المميز ،خاصة لقدرتها الحفاظ على ــل مــســتــوى أكــاديــمــي مــعــقــول فــي ِظ ّ االحتالل والحصار وفي ِظّل عدم توافر الحد المعقول من الحرية األكاديمية الــضــروريــة لــإبــداع ،وهــي مسألة لم يكن الوصول إليها بدون تحٍد مجتمعي. بسبب بنيوية الجامعات ،وكون غالبيتها غير حكومية ،تتمتع بحرية داخلية وعــاقــات ديموقراطية معقولة غير معتادة في منطقتنا ،كما يتمتع الجسم
الطالبي فيها بقوة تأثير كبيرة في تشكيالت الجامعة وسياساتها وبتمثيل معقول داخل البنى الداخلية للجامعة، وبهذا فإن االنتخابات السنوية لمجالس الطلبة تأخذ أبعادًا تتجاوز جدران الحرم الجامعي ،وتساهم في تشكيل الخارطة السياسية على مستوى الوطن ،وتعد هذه االنتخابات حدث ًا يتم تقييم نتائجه بمستويات مختلفة .وبالرغم من أهمية هذا األمــر في تشكيل شخصية الطلبة ووعيهم بقضايا شعبهم ،إال أنه يتجاوز ح ــدود المعقول فــي بعض األحــيــان، ويــحــول الــحــرم الجامعي إلــى أماكن للتجاذبات السياسية. تــواجــه الجامعات فــي فلسطين ما تواجهه الجامعات في العالم العربي، فــهــي أفــقــر مــن أن تستطيع مواكبة التحديات التكنولوجية المتسارعة وتسخيرها كأدوات ناجعة في التعليم، وإن لم تفعل ذلك تزداد الهوة عمق ًا بينها وبين من يستطيع ذلــك .عــاوة على التحديات والمتغيرات التي تطرأ على الفكر التربوي ،والتي تجبر الجامعات على تطوير أساليبها بشكل مستمر، وهو تحٍد ال تقوى عليه غالبية الجامعات تدن في في فلسطين ،ومن َث َّم تؤدي إلى ٍ مستوى التحصيل العملي.
جامعة الضفة الغربية
وبالرغم من إشراف وزارة التعليم الــعــالــي عــلــى التعليم الــجــامــعــي في فلسطين ،إال أن غالبية الجامعات قد حافظت على استقالليتها فــي طرح البرامج التي تريد ،ما دامــت تتوافق والمعايير المحددة لذلك ،وهذا أفقدها بوصلة الحاجة المجتمعية وتوافق برامجها إلى حد ما مع حاجات السوق، وبالتأكيد هــذه المسألة فيها نظر، فالبعض يقول إن الجامعة ليست مصنع ًا يقوم بتصنيع المنتجات للسوق حسب احتياجاته ،وهناك من يتبع فلسفة أن الجامعة هي مكان إلنتاج المعرفة بكل أبعادها ،وهي ليست أسيرة لحاجات السوق وعقلية االستهالك التي تلبي حاجات المستثمر ،وليس بالضرورة حاجة المجتمع. لــم تستطع غالبية الجامعات في فلسطين كــســر ط ــوق الــحــصــار الــذي يفرضه االحتالل اإلسرائيلي ،بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل ذلك ،وتطوير التفاعل البناء والمتواصل مع جامعات العالم العربي ،لكنها تمكنت من تسجيل نجاح نسبي بالتفاعل مع جامعات الــغــرب ،كــون الغالبية من أساتذة الجامعات في فلسطين ،هم من خريجي الجامعات الغربية .ومن َث َّم ال
توجد أشكال متطورة من التبادل العلمي مع العالم العربي ،وال يوجد أي طالب عربي يدرس في الجامعات الفلسطينية، بالرغم مــن وجــود بضع عــشــرات من الطالب الغربيين الذين يدرسون في جامعة بيرزيت وأقــل منهم ع ــددًا في تتحول الجامعات جامعة القدس .كما ّ إلى جامعات مناطق بسبب عزل غزة عن الضفة الغربية وعــزل القدس عن الضفة ،وعزل فلسطين عن أماكن تجمع أبــنــاء الشعب الفلسطيني بالشتات، وبهذا اختفت فكرة الجامعة القادرة على تجميع شباب الوطن الواحد في حرم واحد ،لمحو الفوارق القبلية والمحلية، وللمساهمة في تشكيل الهوية. لقد نجحت الكثير من الجامعات في بمبان تطوير الحرم الجامعي ورفــده ٍ حديثة تتمتع بخدمات معقولة جــداً، حيث يكثر المتبرعون من أبناء الشعب الفلسطيني أو من المتبرعين العرب مبان الراغبين في التبرع بتكاليف تشييد ٍ معينة ،لكنهم يحجمون عن المساهمة، إال قــلــي ـاً ،بــالــتــكــالــيــف التشغيلية للجامعات وعــلــى رأســهــا الــرواتــب. وضمن هذا اإلطــار ،يمكن الحديث عن المكتبات ،والتي لم تصل غالبيتها إلى مستوى تلبية حاجات البحث العلمي،
عــاوة على عــدم قدرتها اقتناء الكتب الــحــديــثــة فــي غالبية التخصصات، وصعوبة الوصول إلى أســواق الكتب وخــضــوع الــكــتــب لتدقيق االحــتــال، مما يعني اختفاء الكثير من الكتب من مكتبات الجامعات نتيجة مقص الرقيب اإلسرائيلي. تعاني اليوم غالبية جامعات فلسطين من أزمة مالية خانقة ،فقد بلغ ،على سبيل المثال ،العجز المالي في جامعة بيرزيت الــعــام 2013حــوالــي سبعة ماليين دوالر ،وال توجد أية آفاق لحل اإلشكالية المرشحة للتفاقم ،فقد فشلت السلطة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني من توفير األمان المالي النسبي للجامعات ،فعمدت بعضها إلى زيادة عــدد الطلبة لتخفيف األعباء المالية، بالرغم من التبعات السلبية للقرار على مستوى التحصيل األكاديمي وأبحاث المدرسين .إن الواقع الحالي للجامعات الفلسطينية ال يبشر بمستقبل واعــد، فهي مرشحة ألن يتراجع فيها مستوى التحصيل العلمي ،كما أن البحث العلمي مرشح للتراجع سواء أكان على مستوى الكم أم مستوى الكيف. 33
موناليزا فريحة
فــي العــام ،1975اندلعــت الحــرب اللبنانية األهليــة ،وكانت بمثابة القدر المأســاوي الذي انتهى إليه تاريخ لبنان الحديث، هــذه الحرب لم تفاجئ اللبنانيين أنفســهم وال الدول العربية والعالم على رغــم العنــف الذي ســادها ،فمعالمها بــدأت بالظهور في األعوام الســابقة لهــا وبخاصــة فــي العاميــن 1973و 1974فــي قلــب الجامعــة اللبنانية وســائر الجامعات الخاصة ،كالجامعة األميركية والجامعة اليســوعية أو الجزويتية.
صراع وانقسام ـل م ــا كـــان يــحــصــل ف ــي حــرم ول ــع ـ ّ الجامعة وفي محيطها كان أشبه بصورة صغرة عما حصل في الحرب ،ولكن ُم ّ بعيدًا عن العنف الرهيب ،فالطالب لم يكونوا يملكون أسلحة وال عتادًا ولم تتعد حروبهم السياسية واأليديولوجية المواجهة اللفظية والتضارب باأليدي وفي أحيان قليلة جرى إطالق نار ،من المعروف في لبنان أن الجامعة اللبنانية أو الوطنية ليست هي الجامعة األولى زمنياً ،لقد سبقتها الجامعة األميركية والجامعة اليسوعية اللتان يعود تاريخ تأسيسهما إلى القرن التاسع عشر وما قبل .الجامعة اللبنانية أسست عام 1951 وراحــت ترسخ كلياتها واختصاصاتها حتى أصبحت خــال عقدين مــن أشد الجامعات استقطاب ًا للطالب ،ال سيما الذين ينتمون إلــى الطبقتين الفقيرة والوسطى .فالتعليم فيها مجاني على عكس الجامعات الخاصة التي كانت مرتفعة األقساط وحكرًا على الطبقات الــثــريــة .ومــن هنا كــان على الجامعة اللبنانية أن تقود الـ ِ ـحـ َـراك السياسي والثقافي وتستقطب الحركات الحزبية، اليسارية ،اليمينية ،التقدمية والرجعية. 34
وكانت هذه الجامعة ساحة للمواجهات التي كانت تمثل الصراع الــذي تشهده الحياة الثقافية والسياسية في البلد. الالفت في هذا السياق هو أن الجامعة اللبنانية كانت هي المركز الذي صبت فيه بقية التيارات التي تنتمي إلى الجامعات الــخــاصــة .فــقــد ضــمــت كــل الــشــرائــح االجتماعية اللبنانية من خالل مرجعيات المتعّددة، طالبها وجذورهم وبيئاتهم ُ واستقطبت تيارات الطالب المنحدرين من طبقات عليا ،ثرية ونافذة وال سيما طــاب الجامعة اليسوعية والجامعة األميركية الذين ينتمي الكثيرون منهم إلى البرجوازية ،المسيحية واإلسالمية. كانت الجامعة اللبنانية في مقدمة ِ الحَراك السياسي والحزبي ،هي التي تقرر مبدأ التظاهر واإلضراب وحركات االحتجاج والمواجهة سواء أكانت مع رموز النظام السياسي أم مع الشرطة أم مع األحزاب نفسها وفق انتماءات الطالب أنفسهمً. وبــرزت بين اليمين واليسار كتلة طالبية سياسية علمانية حملت اسم «حركة الوعي» جمعت في صفوفها طالب ًا من كل الطوائف يؤمنون بالعلمانية والــحــوار والــعــدالــة وقــد ساهمت في
تأسيس هذه الحركة أسماء ما برحت أن لمعت الحــق ـ ًا فــي الحياة الثقافية والسياسية من أمثال الدكتور عصام خليفة والــدكــتــور انــطــوان الــدويــهــي والشاعر بول شاوول وسواهم. كان للطالب الجامعيين قبل الحرب وخــالــهــا دور رئــيــســي فــي التغيير والتمرد والدعوة إلى اإلصالح. والرفض ُّ ِ كــان الــطــاب نـــواة ال ــح ـ َـراك الثقافي والسياسي الذي قاد لبنان إلى حال من االنقسام والتشرذم بعدما وقعت الحرب وحل السالح محل الكلمة .وبعد اندالع الحرب كان على الجامعة اللبنانية أن تنقسم على نفسها بحسب انقسام لبنان وعاصمته التي أصبحت شرقية وغربية. وسرعان ما استحدثت فروع في المناطق كــافــة ،منقسمة على نفسها أكاديمي ًا وسياسي ًا وطائفياً .ولكن ،ما أن َح َّل السلم األهلي المتمثل بـ«اتفاق الطائف» حتى بــرزت مــحــاوالت إلع ــادة توحيد الجامعة اللبنانية وتوحيد صفوف طالبها .لكن هذه المحاوالت لم تنجح إال جزئي ًا ال سيما بعد بروز تيارات حزبية شبه جديدة ،طائفية بمعظمها. في هــذا السياق كــان ال بد من لقاء
الجامعة األميركية ببيروت
الدكتور عصام خليفة ،المناضل العريق والــدائــم ورئــيــس لجنة األســاتــذة في الجامعة اللبنانية ،فقد رافــق الحركة الــطــابــيــة ويــرافــقــهــا .يــقــول خليفة لـــ«الــدوحــة»« :مــن الطبيعي أن تكون الجامعات في طليعة ِ الحَراك الثقافي، خصوص ًا أنها أساس مجتمع المعرفة. الجامعة اللبنانية اضطلعت بــدور في ِ الحَراك السياسي والثقافي واألكاديمي في البالد ،فقد كانت ملتقى التيارات الــعــقــائــديــة والــفــكــريــة فــي المجتمع. الجامعة التي كــان يفترض أن تكون صورة مجتمع الغد كانت ُمختبرًا لتفاعل التيارات المؤثرة فيها .في ذاك الوقت، كانت حركة األساتذة والطالب جزءًا من الحركة المطلبية في المجتمع .وكان المجتمع يتعاطف مع قضايا الجامعة اللبنانية عموماً. وبعد الحرب تأثر وضــع الجامعة بوضع المجتمع لجهة االنقسام العنفي. ووضعت قوى األمــر الواقع يدها على الجامعة وهيئاتها الطالبية على الرغم من مقاومة بعض األســاتــذة وطالبهم باستقالل الجامعة والحريات األكاديمية. وبالنتيجة نجحت قــوى األمــر الواقع
بوضع يدها على إدارة الجامعة ،فكانت تعين من تريد وتقيل من تريد.وبذلك، انتقلت الجامعة اللبنانية من االستقالل عن السياسيين الــذي أرســاه الدكتور إدمـــون نعيم إلــى التبعية .فــي هذه الفترة ،استمر العطاء الثقافي للجامعة لجهة اإلنتاج األكاديمي لألساتذة وإن يكن بمستوى أقل .وبقيت الجامعة خزان ًا للتيارات الفكرية ،فعقدت مؤتمرات وأصدرت كتباً ،ولكن ذلك تأثر إلى حد كبير باألزمة القائمة في البلد». وعــن ســؤال حــول مــقــدرة الجامعة اللبنانية تحديدًا في االنخراط في العمل السياسي ،يجيب خليفة قائالً« :في عام ،1964رفض مجلس الجامعة اللبنانية المرسوم االشتراعي الرقم ،112الذي يمنع موظفي الــدولــة مــن االنــخــراط في العمل السياسي .ففي حينه أبلغ المجلس مجلس الخدمة المدنية قراره أن من واجب األستاذ الجامعي ،ال من حقه فحسب ،أن يقيم األبحاث وأن يكتب ويطلق مواقف ،فاألستاذ سلطة معرفية قائمة بذاتها .وحاولت السلطة السياسية مــرارًا إرســال تعاميم تطالب األساتذة بااللتزام بالمرسوم ،112إال أن الهيئة
التعليمية ممثلة برابطة األساتذة رفضت ذلك ،واحتكمت في قرارها إلى الشرعة العالمية للتعليم العالي والقوانين الــدولــيــة .ومــع ذلـــك ،كــانــت السلطة االستبدادية وأجهزة المخابرات في البلد تشرف على أســاتــذة الجامعة وتمنع الكتابة والنشر». لبنان واقــع في فالق صراعي بين واقعه الجيوسياسي من جهة وانقسام داخلي من جهة ثانية وهما يضربان أسس ًا كثيرة فيه .واألزمة تنعكس ال على الوضع السياسي فحسب ،وإنما على الوضع الثقافي واألكاديمي .لكن ذلك ال يمنع أن حرية الكتابة قائمة في بيروت، ومطابعها ال تزال تنتج % 60من الكتب العربية ،مــع تــراجــع تأثير الجامعة أكاديمي ًا وثقافي ًا وفكري ًا عن السابق بسبب ممارسات السلطات المتعاقبة وغــيــاب الــقــانــون وســيــطــرة الــقــوى الحزبية ،ويشمل ذلك الشهادات المزورة لألساتذة والمحسوبيات في التوظيف.. الجامعة اللبنانية هي كالمجتمع اللبناني في حال صراع وانقسام. 35
نختلف لنتعلم نوميي فريّو مرتجمة وأستاذة إسبانية عالقتي بالجامعات العربية تحمل وجهين .فــي الــبــدايــة ،جلست كطالبة للغة العربية لغير الناطقين بها ،ثم وقفت كأستاذة للغة اإلسبانية لغير الناطقين بها .وحاولت أن أجد وجه ًا ثالث ًا بالجلوس بين الطلبة العرب الذين لم يكونوا يدرسون لغتي ،ولكن التجربة لم ال لسوء الحظ. تدم طوي ً ّ أن الجامعة كمؤسسة ـي ـ ف شــك ال ّ تتولى أمور التدريس والتأهيل ،وتلعب دورًا بــالــغ األهــمــيــة داخـــل المجتمع، وعليه ،مــاذا ينبغي أن يطلب الطالب أقل العربي من الجامعات العربية؟ ليس ّ مما يطلب الطالب األوروبي أو األميركي أو الياباني من أي جامعة حديثة أخرى. دعونا نسأل :هل توجد جامعة عربية أم جامعات عربية؟ هل الطالب الموريتاني ال يتابع المواد نفسها التي يدرسها مث ً ال في الطالب اإلمــاراتــي أو القطري مث ً مــجــاالت الــطــب أو األدب أو العلوم تعددة عشتها مع السياسية؟ مواقف ُم ِّ طالب عرب ،من عدة دول ،مستوياتهم العلمية متفاوتة في الجودة ،تجعلني ـوحــدة أشعر بأنه ال توجد سياسة ُمـ َّ للعالم العربي فيما يتعلق بالدراسات العليا ،فالرعاية التي يحظى بها طالب هــذه الــدولــة تختلف عن الرعاية التي يحظى بها طالب دولة أخرى ،ومن هنا يأتي التفاوت بين الطلبة. ومـــن خـــال معايشتي للعمليات التعليمية ،كأستاذة زائ ــرة أجنبية، أستطيع أن ُأِقّدم بعض األفكار والرؤى من أجل التفكير في تحسين األداء في الطور الجامعي. الجامعة قد تكون أحيان ًا مكان ًا بدون يتم تكرار نموذج تعليم فاعلية ،حيث ّ 36
مستخدم في المراحل الدراسية السابقة. نموذج تبذل فيه جهود هائلة فيما يخص الحفظ غيباً ،حفظ آلــي ال يحفز على التفكير وال يدعو لالبتكار. مــن البديهي أن فعل الحفظ لديه إيجابيات كثيرة ومفيدة في التعليم ولن أناقش هذا األمر -ولكن أيض ًا ال بّدأال ننسى أن جزءًا ُمهم ًا آخر من التعليم لن يظهر إذا انحصر جهد الطالب في تكرار كالم اآلخرين أو كالم األستاذ .الدراسة يجب أن تكون ،في األساس ،بئر أسئلة، ومن ثم فواجب األستاذ هو أن يشجع تلك األسئلة التي في أحيان كثيرة ال يتجرأ الطالب بالتفكير فيها. إن هذه المشكلة ليست في الحقيقةّ ، محصورة في الجامعات العربية ،بل هي منتشرة في جامعات الغرب .الفرق الوحيد بين الجامعات في البلدان العربية والجامعات في الغرب قد يكون فقط في سبل اإلقناع التي يتبعها األساتذة في التعليم ،باالبتعاد شيئ ًا فشيئ ًا عن نموذج الحفظ ،واالقــتــراب من نموذج يعتمد على االستيعاب والتحليل. خبرتي بتدريس اللغة اإلسبانية في أن الطالب الجامعات العربية علمتني ّ العرب متعودون على الحفظ ،وهذا شيء جيد لكثير من المهارات اللغوية ،خاصة في المستويات االبتدائية .وال أذكر أي عالم لغة قــال إن تعليم النحو يجعل حرًا بمعنى أنه يعطيه قدرة إنتاج الطالب ّ لغة ليست لغته األم ،ولكن أظن أننا قد نطبق المعنى نفسه على دراسات أخرى. ال أدري ما سبب ميل بعض األساتذة إلى عدم التشجيع على التحليل والتفكير، ربما ألننا نخشى الحرية؟ أو أن التفكير والتحليل الطازجين ،لدى بعض الطالب
األذكــيــاء ،قد يكشف محدودية مستوى األســتــاذ ،الـــذي ربــمــا لــم يكن قــد نال شهادته بجهده ،إنما بطرق أخرى ..هو مجرد سؤال وال أقصد اتهام أحد. لما يعيش المرء تجربة الوقوف أمام مجموعة طالب ينظرون إليه ويستمعون إلى كالمه قد يشعر بأحاسيس مختلفة أو متناقضة ،بحسب شخصيته .أول شيء شعرت به بين الطالب العرب كان شعورًا بمسؤولية كبيرة .قالوا لي في الخارجية اإلسبانية إنــنــي واألســاتــذة اإلســبــان اآلخـــرون ســوف نكون وجــه إسبانيا في الخارج ،وهــذا الموضوع بالضبط جعلني أرغب في الهروب مباشرة إلى االتجاه المعاكس .ما هو وجه إسبانيا؟ هل أملك أنــا وجه ًا إسبانياً؟ كابوس حقيقي كان يتعقبني لنصف ساعة قبل كل محاضراتي .كيف هو وجــه شعب خمسة وأربعين مليون نسمة؟ لم أكتشف الجواب أبداً ،ولحسن الحظ اختفى قلقي بعد فترة صعبة..فأنا لم ُأعلِّم التالميذ بوجهي ،إنما بقلبي وما به من نور. اآلن ،المطلوب من أي جامعة حديثة هو االستقالل ،استقالل عن السياسة وعــن السلطة وعــن أي نــوع من أنــواع الرقابة التي تهدف إلى السيطرة على حــريــة التفكير .هــل تــكــون الجامعة مؤسسة مستقلة؟هل تكون الجامعة مكان ًا مفتوح ًا للنقاش والنقد؟ هل يجد الطالب الــعــربــي ،مــن موريتانيا إلــى ُعــمــان، إمكانيات للبحث الحر والمستقل عن رأي قيم امتحانه؟ ما أحب أستاذه ،الــذي ُي ّ قوله هو أن نستمر في التمارين الحيوية لتنشيط العقل ،والتي لن تأتي إال بشيء واحد وهو اختالف اآلراء ،فلنختلف كي نتعلم أكثر.
فاصلة
عبد السالم بنعبد العالي
12أطروحة حول المثقف «إذا كان الناس يتهافتون نحو األضواء، حسنوا من قدراتهم فليس ذلك لكي ُي ِّ على اإلبصار ،وإنما لكي يزداد لمعانهم. وهذا الذي يلمعون أمامه ُيعَتبر نوراً» ف.نيتشه -1عل ــى عك ــس م ــا يقول ــه غوس ــتاف فلوبي ــر ع ــن الروائ ــي «مــن كونــه ينبغــي أن يتــوارى خلــف أعمالــه» ،فــإن المثقفيــن الي ــوم يجعل ــون أعماله ــم تت ــوارى خل ــف صوره ــم ،عونه ــم الكبي ــر ف ــي ذل ــك ه ــو الوس ــائط اإلعالمي ــة. -2إذا كان المثقـــف لـــم يســـهم فـــي االنتفاضـــات ،فـــإن االنتفاضــات قــد نالــت منــه ،ولــم تتركــه علــى حالــه .فهــي قــد بدل ــت صورت ــه عن ــد الغي ــر ،وزعزع ــت صورت ــه ع ــن نفس ــه. َّ -3ل ــم يك ــن ش ــعار «ارح ــل» موجهــ ًا لس ــلطة أو ح ــزب أو جماع ــة حاكم ــة فحس ــب ،وإنم ــا كان موجهــ ًا أساســ ًا لعالئ ــق اجتماعيـــة وعوائـــد أخالقيـــة وأســـاليب فكريـــة .إنـــه ُو ّجـــه لمفهوماتنـــا عـــن اإلنســـان والمجتمـــع والفكـــر والتاريـــخ، يتعل ــق أساســ ًا باس ــتبدال أنظم ــة ،وإنم ــا بتغيي ــر فاألم ــر ال َّ ذهنيـــات. -4مض ــى زم ــن كان ــت الدهش ــة كافي ــة ألن توق ــظ الفك ــر. مقابـــل دهشـــة األقدميـــن ،خجـــل المحدثيـــن. -5صم ــت المثق ــف :كث ــر الحدي ــث بع ــد «الربي ــع» ع ــن عزل ــة المثقـــف وصمتـــه ،ولـــم ينظـــر لذلـــك الصمـــت إال كموقـــف س ــلبي .الصم ــت يك ــون ف ــي بع ــض األحي ــان إيجاب ـ ًا وفعالي ــة. قـــد يكـــون الصمـــت توقفـــ ًا عـــن الـــكالم ،إال أنّـــه يغـــدو فـــي أحي ــان أخ ــرى ُمقاوم ــة وإضرابــ ًا ع ــن ال ــكالم. تتمي ــز المقاوم ــة ع ــن المفه ــوم الج ــاري ع ــن النّض ــال. ّ -6 النّضـــال يتبنّـــى عقيـــدة وينخـــرط ضمـــن عائلـــة .مـــا يبعـــد يميـــز المنظومـــة النضـــال عـــن المقاومـــة ،هـــو بالضبـــط مـــا ّ
العقائديـــة عـــن الشـــبكة. تتحـــدد المقاومـــة بلونهـــا و«مضمونهـــا» بقـــدر مـــا -7ال َّ تتعي ــن بم ــا تق ــوم ب ــه .فه ــي ال يمك ــن أن ُت َع ـ ّـرف إال إجرائيــ ًا َّ تتعي ــن بالمس ــار ـر، ـ هايدغ دروب ـل ـ مث ـي ـ وه ً، ا ـتراتيجي ـ واس َّ الســـير .إنهـــا ال تنخـــرط فـــي مواقـــف الـــذي ّ تخطـــه أثنـــاء ّ ومذاهـــب وتيـــارات ،وإنمـــا تشـــكل شـــبكات. -8ال يتبقَّـــى للمثقـــف إال االنخـــراط فـــي شـــبكات مقاومـــة تســـعى جهدهـــا إلـــى بلـــورة أســـئلة وإحـــداث شـــروخ فـــي والتخش ــب وتكري ــس الباله ــة la عال ــم ينح ــو نح ــو التنمي ــط ُّ .bêtise -9ليســت البالهــة مجــرد الحماقــات ،les bêtisesوليســت ه ــي الب ــادة أو الجه ــل ،وإنم ــا الالفك ــر ال ــذي تنط ــوي علي ــه األف ــكار الجاه ــزة. -10الحديـــث عـــن شـــبكات مقاومـــة يعنـــي أساســـ ًا أن الرفـــض .يتعلـــق ليســـت هنـــاك نقطـــة بعينهـــا هـــي مـــكان ّ الرف ــض م ــن دون س ــعي نح ــو األم ــر بفس ــح المج ــال ألش ــكال ّ توحيده ــا وإخضاعه ــا لس ــيادة ال ــكل ،أو اختزاله ــا ف ــي موق ــف ســـمى نفســـه يســـاراً. بعينـــه ،حتـــى وإن َّ -11المقاومـــة ال «تقـــف» يســـارًا فتعلنهـــا حربـــ ًا ضـــد كل تتموض ــع جه ــة الحقيق ــة فتعلنه ــا حرب ـ ًا عل ــى يمي ــن ،وه ــي ال َ الحـــق فتعلنهـــا حربـــ ًا علـــى الباطـــل ،وال الخطـــأ ،وال جهـــة ّ جه ــة الخي ــر فتعلنه ــا حربــ ًا عل ــى الش ـّـر .إنه ــا تعم ــل ،ب ــدءاً، عل ــى تفكي ــك ه ــذه الثنائي ــات الميتافيزيقي ــة. ترســـخ -12ال يلحقنـــا ُّ التخشـــب والتبلُّـــد فحســـب مـــن ُّ مقوالتنـــا فـــي الماضـــي ،وال مـــن ترديـــد مقـــوالت «اس ــتوردناها» ،وإنم ــا أيضــاً ،وربم ــا أساســاً ،مم ــا نتش ـ َّـربه لحظيـــ ًا مـــن أشـــكال الالفكـــر التـــي نتغـــذَّى عليهـــا ،وممـــا ال يرســـخه فينـــا. ينفـــك «مجتمـــع الفرجـــة» ِّ 37
مقال
عالء صادق
توارت كرة القدم (أفيون المصريين) في ِ الظّل بعد أن أدمن الشعب السياسة في السنوات األخيرة. اختفى السؤال التقليدي (أنت أهالوي ّ وتحول مؤخرًا إلى ول زملكاوي؟).. ّ سؤال سياسي بحت (أنت سيساوي ّ ول إخوان؟) ..وال ينتهي األمر باتفاق أو امتعــاض كســابقه ،ولكنه يســفر دائم ًا عن عنــاق أو خناق ..وال يكمل الطرفان عالقتهما اإلنسانية أبدًا إذا كانا مختلفين.
حسرة الحكيم
أفيون المصريين الجدد كان طبيعي ًا أن نرى األخ أهالوي ًا متعصب ًا وشقيقه زملكاوي ًا متحمساً ،والعالقة بينهما ممتازة ..وتغطي الصور الحمراء لنجوم األهلي جدران غرفة األول ،بينما يكسو اللون األبيض المميز للزمالك غرفة الثاني ..فاألنظمة السياسية من عصر وظفت شغف المصريين جمال عبد الناصر إلى حسني مبارك ّ الزائد بكرة القدم إلبعادهم عن السياسة وعن الحياة الحزبية.. وتفنّنت الحكومات في إعــاء شــأن الرياضة وكــرة القدم ومباريات الدوري العام وإغراق الصحف باألخبار والصور، حتى أصبحت مباراة األهلي والزمالك في الستينيات الحدث األوحــد الذي تخلو فيه شــوارع مصر من السيارات والمارة لمدة ساعتين ..واستخدم حسني مبارك نجاح منتخب مصر بين عامي 2006و 2010كمحرك عمالق لدعم توريث نجله جمال ليخلفه في رئاسة الجمهورية ..واحتلت انتصارات منتخب مصر اإلفريقية صدر الصفحات األولــى في الصحف اليومية السياسية حتى الرصين منها ..وهو األمر الذي دفع والمفكرين إلى السخرية من الحكومات العشرات من الفالسفة ِّ والصحف وسياساتها في إغراق الشعب في إدمان كرة القدم.. وتداول المثقَّفون في السبعينيات كلمات األديب توفيق الحكيم: «وانتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم!» ..عبارة عنونت مقا ًال للكاتب أنيس منصور ،في صحيفة األهرام ،جاء فيه« :رحم اهلل أستاذنا توفيق الحكيم ..لقد مات من الحسرة ..قرأ أن أحد العبي كرة القدم ،وهو دون العشرين ،قد دفعوا له ثالثة ماليين جنيه ..وعلى الفور أمسك توفيق الحكيم قلم ًا وورق ًا وراح يحسبها ..وخرج من عمليات الحساب هذه بأن جميع األدباء المصريين من آدم حتى توفيق الحكيم لم يكسبوا ثالثة 38
ماليين جنيه» ..وكتب عباس العقاد ساخرًا من إهمال ِ العلم والثقافة واقتصار االهتمام على كرة القدم« :ركلة بالقدم تمنح صاحبها ما ًال وشهرة ومجدًا أكثر من عشر رسائل دكتوراه أو عشرين ديوان شعر».
اندثار الكرة كرة القدم تراجعت كثيرًا بعد ثورة 25يناير ،2011وتوقّف نشاطها شهورًا طويلة دون أي مضض من الجماهير التي كانت تتلهف للمباريات وضجيج المدرجات ومظاهرات الفرح في الشوارع ..وما لبثت أحداث عنف كارثية أودت بحياة 74 مشجع ًا من جماهير األهلي بعد مباراة الدوري في بورسعيد أن ِّ أوقفت اللعبة نهائي ًا زهاء عام كامل ..وعادت بعدها المباريات وراء أبواب مغلقة ومدرجات خالية ،يرتفع فيها نعيق الغربان فوق صراخ المدربين وصفارات الحكام. تراجع النشاط الكروي يواكب تنامي النشاط السياسي بين الشباب ،من طالب الجامعات وروابط األلتراس المنتمية لألندية المختلفة ،ال سيما ألتراس األهلي ،الذي تواجد بكثافة في ميدان التحرير خالل ثورة يناير ..وانضمت إليهم جموع هائلة من رواد مواقع التواصل االجتماعي ..وتوجهت طاقات الشباب واهتماماتهم وقراءاتهم وتحركاتهم ومظاهراتهم إلى دنيا السياسة بضبابيتها الكثيفة ..ونظرًا لنقص الوعي السياسي لدى األغلبية من الشباب حديثي العهد بتلك القضايا، تعّددت األخطاء من ناحيتهم وتعرضوا للخداع أو لالستخدام من محترفي السياسة ،سواء أكانوا من رجال الدولة العميقة مجددًا تمهيدًا للقفز َّ التابعين لنظام مبارك والقابعين في الظل ّ
على السلطة ..أم من التيارات اإلسالمية التي طفت على السطح بعد سنوات من القمع والكبت ،أو من السياسيين الجدد الذين انتهزوا الفرصة للقفز على السطح على أكتاف الشباب بشعارات ثورية ووعود خيالية.
محيط السياسة الغرق في محيط السياسة أدخل المصريين في انقسام جديد بين مؤيدين لثورة يناير وبين رافضين إلبعاد الرئيس حسني مبارك من الحكم ..وتوهم الماليين من المصريين من حديثي العهد بالسياسة ومن السعداء بممارستها بعد غياب أو قهر طويلين أنهم أدركوا غايتهم ..وعشقوا اللعبة وصاروا حريصين على الغرق في ممارستها حتى تمكن منهم محترفو اللعبة واستخدموهم أكثر وأكثر ..وتعّددت وسائل التقسيم وأنواع االنقسام بين المصريين من شهر إلى شهر ومن فصل إلى فصل ..وبعد االنقسام بين مؤيد ومعارض للثورة ،جاء الدور على اإلعالن الدستوري الذي وضعه العسكر ،ثم على استمرار المظاهرات في الشارع ..وتفاقم االنقسام بعد أن اقتصر سباق االنتخابات الرئاسية بين محمد مرسي ممثل الثورة ومرشح جماعة اإلخوان المسلمين والفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء لمبارك ..وعاش المصريون في جانبين وأسفرت النتيجة عن فوز مرسي بنسبة % 51فقط ،وهو رقم كاشف لحدة االنقسام بين أوساط الشعب .وما أن نجح مرسي حتى دخلت البالد في انقسام جديد بين أنصاره وأعدائه وذكــت القنوات الفضائية الخاصة (وليس معارضيه).. ّ المملوكة لرجال األعمال المحسوبين على نظام مبارك مشاعر الكراهية والغضب ضد مرسي ..وعندما انتهى األمر بمظاهرات عارمة في شوارع مصر يوم 30يونيو 2013بدعم معلن من
القوات المسلحة والشرطة وقــرارات من وزير الدفاع حينها عبد الفتاح السيسي باإلطاحة بمرسي ،دخل المصريون إلى االنقسام األخير وهو األكثر حدة وخطورة وعمق ًا وتأثيرًا في تاريخ البالد ..سيساوي ّ ول إخوان؟ تعمق في العام األخير االنقسام في نسيج الشعب المصري ّ بصورة غير مسبوقة ..مع عزف يومي من وسائل اإلعالم المتنوعة على أوتار االنقسام ،والنيل من اإلخوان وأعوانهم ومتشددين .هكذا انتشرت ومواليهم باعتبارهم إرهابيين ِّ الخالفات داخل األسرة الواحدة على أسس سياسية.. مصر اليوم منقسمة فريقين ..وصدق المطرب علي الحجار حينما أطلق أغنيته االحتفالية بعد اإلطاحة بالرئيس محمد مرسي ساخرًا من اإلخــوان ومناصريهم :انتو شعب وإحنا شعب ..ليكم رب ولينا رب. تفاصيل األزمة ..أسبابها وأعراضها وعالجها تكشفها ثالث قصص قصيرة:
المونولوج استوقفني في أحد األسواق التجارية الضخمة وأمسك يدي بجدية وإصرار على إبالغي ما بداخله. شــاب مصري أسمر ال تغادره البشاشة وإن غطاها أو أخفاها عامدًا بقدر ضخم من النظرات الحادة من عينيه ومعها تعبيرات األسف والندم على ما يجري في مصر اآلن ..واندفعت الكلمات من لسانه دون أن يسمح لي باالختالف معه أو إبداء الرأي أو حتى المقاطعة .وملخص ما قال في الدقائق األولى
39
من محاضرته التي سارت على شكل المونولوج بين متحدث دائم ومستمع مكره وصامت« :خالص يا دكتور إحنا اتقسمنا.. وأوعى تخدع نفسك أو تصدق الكالم الفارغ بتاع اإلعالم عن لم الشمل والمصالحة والمبادرات ..وعشان كده الزم نتعامل ّ معاهم على هذا األساس». وبمجرد انتهاء الفصل األول من المونولوج ،أحسست برغبة في إشباع رغبته أو إطفاء نار الغضب داخله ،باالتفاق الكامل معه في الرأي لعلّه يقتنع ويسعد ويرحل ..وأبلغته أنني أؤيد كل ما قال وهممت باالستدارة للرحيل فإذا به يمسك متمسك ًا بإغراقي بذراعي من المرفق بقوة ،وليس بعنف، ِّ ال مونولوجه: مكم ً بفيضان غضبه وآرائه وحلوله وقصتهّ ، «الزم نعاقبهم ..إحنا أكتر ..ولو كل واحد من أنصار الشرعية قاطع تجار االنقالب هيخسروا جامد وهيعرفوا أن اهلل حق وأنهم وقفوا مع الباطل ..ويرجعوا عن غيهم ..وأنا في آخر نزول لمصر عملت كده». منحني تفاصيل كثيرة عن مواقفه المتعّددة في معاقبة ومقاطعة التجار والشركات التابعة أو المؤيدة للنظام الحالي مكررًا في مصر ..وعندما طال زمن الوقوف وبــات الكالم َّ وتعاظمت رغبتي في الذهاب ،ولم تكن قبضته على مرفقي قد خفتت ،اضطررت إلى التظاهر بالتعب وأبديت رغبتي في الجلوس. كان الشاب األسمر في أعلى درجــات النشوة بإخراج ما بداخله ،وإحساسه أنه وجد الشخص الــذي يمكن أن ينقل أفكاره وحلوله إلى إخوانه ،المناهضين للنظام في مصر.. ولم يصدق مظاهر التعب التي كشفتها ،واعتقد أنني مللت وقرر حديثه القائم على آراء وتوجيهات ونصائح وأوامرّ .. تعديل مسار الحوار بد ًال من إنهائه لتوفير قدر أكبر من الترفيه والتسلية ،بحكاية عالقته مع والدته المقيمة في مصر والمؤيدة بشدة للرئيس عبد الفتاح السيسي ،قائالً« :عشان تصدق أن إحنا اتقسمنا ..أمي الست الكبيرة ،قاعدة ليل نهار أمام الشاشات المنحرفة ،وعقلها اتلوث بكالمهم الجارح – استخدم لفظ ًا ثاني ًا ال يمكنني كتابته -وغضبانة مني وال تتصل بي إال نادراً ..لكن لما أسعار البنزين زادت والكهرباء زادت ،وكل حاجة ارتفع سعرها ،كلمتني مرة واتنين عشان تطلب مني أزود المصروف الذي أرسله لها شهرياً ،ألن الفلوس المقررة لم تعد كافية للمصروفات التقليدية التي اعتادت إنفاقها.. فما كان مني إال أن قلت لها :مش هو ده الشخص القوي إللي بتقولي إنه هيصلح البلد ..خالص استحملي يا أمي ..ومفيش لتليين زيادة في المصروف .وتكررت توسالتها إلقناعي أو ّ صممت على موقفي ،فكانت كلماتها األخيرة قبل قلبي ،ولكني ّ أن تغلق الخط في وجهي :روح أنا متبرية منك ..إنت ال ابني وال أعرفك». سحبت ذراعــي بقوة ملحوظة واستدرت مسرع ًا قبل أن 40
أسمح له بالموافقة أو الرفض على إنهاء المونولوج.
االنتقام وقف المناصر للشرعية أمام محل كبير للمواد الغذائية، ُمندهش ًا من الفتة (ممنوع دخول اإلخــوان) المعلّقة على كل جــدران المحل ،من الداخل والــخــارج ..ومع انتشار ظاهرة االنتقام بين الناس اندفع الرجل إلى داخل المحل ،بعد أن قرر االنتقام من أصحابه على طريقته ..اصطحب عربة المشتريات ودار بين كل األقسام يملؤها بأغراض لم ولن يحتاجها أبداً، وكلها من أرقى وأغلى األصناف ،وكانت تالحقه نظرات حسد من بقية الزبائن على مظهر ثرائه الفاحش الذي يمكنه من ابتياع األغلى ..وأخيرًا ذهب إلى البائع يدفع عربته بكل صعوبة ،فإذا بالبائع يطلب من بقية الزبائن االتجاه إلى زمالئه الصرافين اآلخرين ليتفرغ ألهم زبــون ..ووقــف الرجل سعيدًا منتشي ًا والبائع يخرج البضاعة بعناية والحساب يتصاعد حتى تجاوز مئة ألف ..وعندما لم يعد في العربة سوى صندوق واحد وجه المشتري سؤا ًال للبائع حول الغرض من تعليق الالفتة ،ورد البائع بفخر :أصل دول خرفان ومالهمش مكان وسطنا ..وإذا بالمشتري يقول بغضب :إذن ..ممنوع دخول اإلخــوان ..مع السالمة وخليلك حاجتك ..أنا إخوان ..وغادر المحل مسرع ًا تالحقه اللعنات.
طلقني فتح الصحافي باب منزله منهكاً ،بعد يوم مرهق من العمل ومن الجدل اليومي مع زمالئه المؤيدين للسيسي ،ودارت عيناه بحث ًا عن مقعد للجلوس ..لكن صرخة عالية من زوجته شقت جدار الصمت وأوقفته فزع ًا قبل أن يكمل جلوسه« :طلقني!».. لم يفهم ولم يصدق. صحيح أن زوجته صحافية من أنصار السيسي ،لكن سعيهما لتربية األوالد غطى على المشاكل العميقة بينهما.. تحولت حياتهما واكتفيا بأقل كالم في شؤون المنزل بعد أن ّ إلى جحيم بسبب خالفاتهما السياسية .لم يتطور األمر أبدًا إلى طلب الطالق ..وقبل أن يسألها عن السبب كانت الكلمات تخترقه كالرصاص« :بص إليدك أنت إيدك غرقانة في الدم ..أنا مش هقعد مع واحد إيده فيها دم» ..ودون أن يشعر نظر الصحافي إلى يديه فوجدها نظيفة بال دماء ..فاتجه ببصره إلى مالبسه باحث ًا عن الدماء أو أي صبغات وألوان أخرى فلم يجدها. رد ببراءة :فين الدم؟! عادت الرصاصات أو الكلمات من لسانها« :ابن القاضي قتلوه ..اإلرهابيون قتلوه ..اإلرهابيون إللي إنت بتؤيدهم.. أنت مشارك في القتل ..طلقني طلقني طلقني». قام إلى الباب ،فتحه وخرج ،وأغلقه بقوة متمنّي ًا لو سقط على زوجته السيساوية ..ولم يعد إلى منزله حتى اليوم.
رحيل
أحمد رجب
أنسولين السخري ّة خاص بالدوحة صافحة لم َ «نصف كلمة» انشطرت ولن تعود ُ قــراء الصحافة المصرية ،فأحمد رجــب ()1928 ّ قد انسحب ،أيام قليلة بعد رحيل رفيقه مصطفى وغيبه الــمــوت ..مــن اإلسكندرية إلى حسين، ّ القاهرة ،ومن أخبار الجامعة إلى أخبار اليوم، الساخر دامت الرحلة عقوداً ،جعلت من ّ الصحافي ّ واحــدًا من أهم أركان الصحافة المكتوبة في بالد النيل ،فقد استطاع بكتابته أن يالمس ُجــرح ويغرد المواطن البسيط ،ويفضح عيب المسؤول، ِّ بعيدًا عن زمرة المطبلين والمتملقين والمتعطشين فضل أن يؤسس لبريق السلطة ونعيمها ،فقد ّ لنفسه ُسلطة منفصلة ،تنسجم وتتناغم مع روحه الساخرة ،وتوثق الرباط بينه وبين قرائهُ ،مبتعدًا عن سباقات الظهور في التليفزيونات ،مديرًا ظهره ،في الوقت نفسه ،للحوارات الصحافية، ٍ مكتف بدوره بالعيش في فقد كان يبدو كمتعفف، دير السخرية وسرد يوميات تقترب مشاهدها من العبثية أحياناً .أحمد رجب كتب في آخر عمود له «نصف كلمة» ،الشهر الماضي ،ما يشبه النبوءة، أو رؤية بحتمية القضاء« :اآلن يامصر أموت مطمئن ًا عليك ،وعلى أهلي المصريين ،إنــي ال أوصي حاكم ًا صالح ًا بأهلي ،ولكن أوصيكم بحاكم ندر وجوده على الزمان ،وقال ادخلوا مصر إن شاء اهلل آمنين» ..كانت تلك وصية الراحل ،والتي تناقلها رواد مواقع التواصل االجتماعي ،بشكل واسع، ّ وصية، في األسابيع الماضية ،لقد ترك أحمد رجب ّ ليس له وألهله والمقربين منه ،بل وصية جامعة، لبلد ،لوطن ُمشتت ،لمصر حلم فيها بحاكم صالح، في زمن كثرت فيه الالعدالة وتصفية الحسابات. الراحل توفي ،بعد صراع مع المرض ،وقبل فترة قصيرة استحضر المرض والــمــوت ،بشكل غير مباشر ،وكتب« :ثمن عقار فيروس سي 2300 جنيه ليغطي تكاليف أبحاثه ،فبعد أن أنفق العلماء طور ماليين الــدوالرات لمقاومة ميكروب السلّ ، ميكروب السل نفسه بال علماء وال معامل وال ماليين وعاد الميكروب يقتل ضحاياه من جديد ،إنها حكمة
اهلل َ -عّز َو َجّل -نلمسها على الطبيعة تقول ال تستهن بكائن مهما صغر وعجزت أن تراه بالعين المجردة. سبحانه جلت قدرته» .جرعات النقد والسخرية التي كان يبثها أحمد رجب في زاوية «نصف كلمة» كانت أشبه بالحقن المكثفة ،المضادة لليأس واإلحباط، كانت مثل أنسولين يتعاطاه الــقــارئ صباحاً، ال فيها وفي معانيها .بضع ليقضي بقية اليوم ُمتأم ً كلمات ،عبارة واحدة ،جملة ،أو صورة ساخرة، كانت تلك عّدة أحمد رجــــب وتــرســانــتــه فــي التعليق على اليوميات المصرية، لــــم يـــكـــن يــحــتــاج لــكــومــة أوراق وال لصفحات أو أعمدة ليطلق أفــكــاره مثل عيارات نارية .كان مختصراً ،مقتصدًا فــي الــلــغــة ،يكتب بشكل مقتضب ،كما ال لــو أنـــه مستعج ً الحديث والمضي في طريقه ،غير عابئ بالتراكيب اللغوية المعقدة ،وال المفردات القاموسية ،مكتفي ًا بلغة ـل دائم ًا يخاطبها، العامة ،التي انطلق منها وظـّ ويدافع عنها ،فقد كتب مرة« :أسئلة حائرة» 1ــــ هــل مــن الممكن اســتــعــادة فلوسنا التي سرقوها خالل الثورة؟ 2ـ وهل من الممكن القبض ومصادرة أموال الحرامية طوال 30سنة في عهد مبارك؟ اإلجابة بنعم حالل ،فلوسنا يا رب يتعالجوا بها من غير شفاء. الفاتحة لهم جميعاً». 41
ملف
رسم :إسماعيل عزام -العراق
42
أجراس الفيتوري
األعمال الفنية للملف :عمر خيري -السودان
ال ومضمونـــ ًا وتاريخ ًا تبقى رغـــم اكتمالها شـــك ً تجربة الشـــاعر الســـوداني محمد مفتاح الفيتوري عصيـــة على التقييم .الكثيـــر من القضايا ()1936 َّ تتداخـــل وتتقاطـــع في منجزه الشـــعريلترســـم معالم شـــخصية ُمنفِلتـــة من زمانهـــا .وكحال كل ُمخضـــرم فإنـــه يعيش فـــي أيامنـــا شـــاهدًا على المد والجزر المرتبطتيـــن بوالدة القصيدة حركتـــي ِّ تغيرات ثقافية العربيـــة الحديثة وما صاحبها مـــن ُّ وسياســـية على صعيد البـــاد العربيـــة .والكثير من أنـــداده الرواد لم َي ُط ْل بهـــم العمر حتى يدركوا مـــا نعيشـــه اليـــوم مـــن فصـــول نصف قـــرن من التحو الت. ّ أجنحـــة الفيتـــوري حلَّقـــت به بعيـــداً ،وتجاوز بهـــا الحواجـــز واألوطـــان .قـــارة بأكملهـــا رثاها ومدحهـــا وعشـــقها في «أغانـــي إفريقيـــا ،»1956 «عاشـــق مـــن إفريقيـــا « ،»1964اذكرينـــي يـــا إفريقيـــا ،»1965وفي مســـرحية «أحزان إفريقيا». ولم تكـــن بوصلته ســـوى مرايا ينظـــر فيها فيجد عنترة بن شـــداد ،أو ســـحيم عبد بني حســـحاس وإمـــام العبـــد ،وغيرهم مـــن الشـــعراء الزنوج... ـــل الفيتـــوري علـــى ثالثينيـــات القـــرن كمـــا َط ّ يتردد العشـــرين فوجـــد قطـــار الـــرواد الـــذي لـــم َّ ّ في ذكـــر أفضاله عليه ،بدءًا بالشـــاعر الســـوداني التيجاني يوســـف بشير ،والشـــاعر التونسي أبو القاســـم الشـــابي ،ثم الشـــاعر المصري محمد عبد شـــكلوا المعين الذي المعطي الهمشـــري ،والثالثة َّ ارتـــوت منه مدرســـتا الديـــوان وأبولو ،ووســـط هـــذه الروافد تأثـــر الفيتوري شـــخصي ًا بميخائيل نعيمـــة .صاحـــب «عريانـــ ًا يرقـــص في الشـــمس
( »)2005كان صحافيـــ ًا أيضـــاً ،عمل في الصحافة المصريـــة إلى جوار محمد حســـنين هيـــكل وكامل الشـــناوي وأبـــو الخيـــر نجيـــب ،ثـــم فـــي مجلة «الدعـــوة» التـــي كان يرأســـها ســـيد قطـــب .وفي الصحافة الســـودانية عمل في «التلغـــراف» و«هنا أم درمـــان» .إلى أن التحـــق بجامعة الدول العربية فكان عملـــه الدبلوماســـي تذكـــرة ســـفر مفتوحة فـــي أرجـــاء المعمورة مكنتـــه من لقـــاء العديد من الكّتـــاب واألدبـــاء والسياســـيين ،وهـــي تجربـــة جعلتـــه يعي حقائـــق ووقائـــع زمانه عـــن كثب. تصالـــح الفيتوري دائمـــ ًا مع شـــكل القصيدة، فلـــم يكن متطرفـــ ًا فـــي القواعد الشـــعرية ،وعلى رأســـها األوزان ،وإنمـــا انتصـــر الرجـــل لـــروح ميـــا ًال إلـــى رؤية الشـــعر ،وإن كان نثريـــاً ،وكان ّ شـــيد الفيتوري إيقاع الـــرؤى داخل الكلمات .هكذا ّ تصالحـــه بدبلوماســـية مع شـــكل القصيـــدة التي كانت وقتها على محك الســـلطة واأليديولوجيات، لكـــن وداعته ال تـــداري مواقفه إن لـــزم األمر ،فهو يعـــرف هـــذا الزمن الـــذي أدركـــه في جـــواب عن قائـــا« :الحداثة في رأيي تنشـــأ معنـــى الحداثـــة ً مـــن التـــراث المتجـــه نحـــو المســـتقبل مـــن أجل رفعـــة اإلنســـان وحريته ،أمـــا أن تكـــون الحداثة هـــي االنتقال من ســـيد درويش ومحمـــد عبده إلى «شـــعبوال» و«روبي» ...فهذه ليســـت حداثة ،لكنها ســـقطة من ســـقطات التاريـــخ التي تمـــر مثل أي شيء.»... الزال شـــاعرنا يهنـــأ بحيـــاة هادئـــة فـــي بيت بضواحي الرباط ،وقـــد زارته «الدوحة» وحاورته احتفاء بـــه ..وتحيـــة له في هـــذ الملف.
43
محمد الفيتوري لـ «الدوحة»
«محاط بدفء تغمرني به أسرتي» من ــذ مطل ــع س ــنة ،2012تناس ــلت اإلش ــاعات الت ــي ُتعِل ــن رحيـــل الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري ،وكان فـــرع اتحـــاد كّتـــاب المغـــرب بالهرهـــورة ،قـــد أصـــدر فـــي حينـــه بيانـــ ًا للـــرأي العــام الثقافــي فــي المغــرب وخارجــه ،أوضــح فيــه أن شــاعر إفريقيـــا مـــا زال حاضـــرًا ُيقيـــم فـــي شـــاطئ ســـيدي العابـــد، بضواح ــي العاصم ــة الرب ــاط .وبحض ــور الفيت ــوري وجمه ــور وازن م ــن الجالي ــة الس ــودانية المقيم ــة ف ــي المغ ــرب وخارج ــه حفـــا تكريميـــ ًا لصاحـــب «اذكرينـــي يـــا أقـــام فـــرع االتحـــاد ً إفريقي ــا» ( ،)1965كم ــا واكب ــت أش ــغال ه ــذا الح ــدث الثقاف ــي، متابعـــة إعالميـــة واســـعة فـــي الصحافـــة العربيـــة واإلعـــام البصـــري والمكتـــوب ،وفـــي ســـياق الحـــدث أرســـل اتحـــاد كّت ــاب المغ ــرب بيانــ ًا توضيحيــ ًا إل ــى أعض ــاء اتح ــاد كّت ــاب مص ــر وحصريــ ًا إل ــى الجري ــدة الثقافي ــة األس ــبوعية (أخب ــار األدب) ،التـــي نشـــرت ســـهوًا خبـــر نعـــي الفيتـــوري .رحـــب المثقفـــون المصريـــون بالبيـــان التوضيحـــي ،وبـــادروا إلـــى االحتف ــاء بالفيت ــوري ،فه ــم يعتبرون ــه ف ــي القاه ــرة مص ــري الوج ــدان؛ ف ــأول دي ــوان للش ــاعر الس ــوداني «أغان ــي إفريقي ــا» ( ،)1955صـــدر فـــي مصـــر ،وكتـــب مقدمتـــه الناقـــد المصـــري الكبي ــر محم ــود أمي ــن العال ــم.
الرباط -حوار :أنور المرتجي § فــي البدايــة ســألنا الشــاعر محمــد الملتِبســة ،كشــاعر الفيتــوري عــن هويتــه ُ عــاش بيــن تخــوم الجغرافيــات العربيــة، فهــو مــن أصــل ســوداني مــن جهــة األم، شــكل وعيــه وليبــي مــن جهــة األبَ ،ت ّ واســتقر بــه وتكوينــه التعليمــي بمصــر ّ المقــام والتقاعــد عــن العمــل فــي المغــرب، عــن هــذا المســار الحياتــي ســألناه كيــف ُيقيــم تجربــة الترحــال األوديســية علــى مســتوى تجربتــه الشــعرية؟ إننـــي أشـــعر باالنتمـــاء الوجدانـــي 44
تكـــرر بواســـطة ســـاح اإلشـــاعة الم ِّ ظاهـــرة االغتيـــال ُ للشـــاعر محمـــد الفيتـــوري ،مســـألة تحتـــاج إلـــى البحـــث والتقص ــي ،ربم ــا الغ ــرض منه ــا م ــن ط ــرف خصوم ــه نس ــيان ِّ ومحـــو الشـــاعر إبداعيـــاً ،وإســـقاط اســـمه مـــن قائمـــة رواد الحداثـــة الشـــعرية ،ألن كل األخبـــار الكاذبـــة عـــن مـــوت الش ــاعر الفيت ــوري مجهول ــة الس ــند والرواي ــة ،ومصدره ــا ف ــي الغال ــب ق ــادم م ــن ش ــرق المتوس ــط ،حي ــث م ــا زال ــت تط ــارد ش ــاعرنا الكبي ــر مالبس ــات أصول ــه الموزعـــة بيـــن الس ــودان موطن ــه األول ،ال ــذي أس ــقط عن ــه الجنس ــية ف ــي عه ــد النمي ــري الرئي ــس المؤم ــن ،وانتمائ ــه االضط ــراري إل ــى ح ــوزة القذاف ــي المقب ــور ،ال ــذي احتضن ــه ف ــي ع ــز الض ــرورة الت ــي أباح ــت ل ــه آنـــذاك ،بعضـــ ًا مـــن المحظـــورات السياســـوية. م ــن أج ــل تنوي ــر ال ــرأي الع ــام الثقاف ــي ،طلب ــت «الدوح ــة» مــن الفيتــوري حــوارًا خاص ـ ًا ضمــن ملــف تكريمــي بــه وتحيــة لــه مــن المجلــة .اســتجاب الفيتــوري لطلبنــا ،برحابــة وبقلــب مفت ــوح وابتس ــامة صادق ــة ،والش ــكر موص ــول إل ــى الس ــيدة زوجتـــه المغربيـــة أشـــرقت الفيتـــوري ،التـــي هيـــأت لنـــا الم ِ ناس ــبة إلنج ــاز ه ــذا الح ــوار. الظ ــروف ُ
إلــى كل أرض عربيــة أقمــت فيهــا ،ألننــي مزي ــج مرك ــب لم ــا تمي ــز ب ــه غي ــري م ــن الشـــعراء ،فـــي كل المحطـــات الحياتيـــة التـــي مـــررت بهـــا ،ســـتجدها حاضـــرة فـــي أشـــعاري بصدقهـــا وعفويتهـــا، فـــي صـــور ذكريـــات طفولتـــي التـــي تمثـــل مســـرح أحالمـــي ،حيـــث ســـعيت م ــن خالله ــا إل ــى أن ألت ــزم الص ــدق ف ــي التعبي ــر ع ــن ذات ــي وع ــن عالقت ــي م ــع اآلخريـــن ،إننـــي أشـــعر أن هويـــات متع ــددة تخترقن ــي ،ه ــذا م ــا َعّب ــرت عن ــه فـــي قصائـــدي.
أنا جسد ...شجر ...شيء عبر الشارع
جزر غرقى في قاع البحر حريق في الزمن الضائع.
التمي ــز والتف ـ ُّـرد ،لق ــد كن ــت ال أدع ــي ُّ فـــي شـــعري مثـــل اآلخريـــن ،إنســـان يحل ــم ب ــأن تص ــل كلمت ــه إل ــى اإلنس ــانية جمعـــاء .وأن تنمـــو كلمتـــي الشـــعرية وتتالقـــح مـــع أفـــكار اآلخريـــن. § الفيتــوري أحــد رواد قصيــدة الحداثــة تميــز عــن بقيــة الشــعراء العربيــةَّ ، بانحيــازه للدفــاع عــن حريــة اإلنســان، وكرامــة زنوجــة إفريقيــا( ،يلتقــي فــي
ال ــذي يتع ــارض م ــع الخل ــود الش ــعري. يكتفــي الفيتــوري كلمــا بلغتــه إشــاعة موتــه ،بــأن يطلــق عند ســماعها ابتســامة عريضــة تــدل علــى إصــراره األكيــد بــأن شــمس إبداعــه لــن تغيــب ،وإن حضــره المــوت ووقــت الرحيــلَ ،يســتحضر فــي هــذا الســياق بعض ـ ًا مــن شــعره:
ال تقل ليتني أبد ًا لم أ كن
ربما كنت أو ربما لم تكن
أنت هذا الذي اختزن الصرخات
العميقة في روحه
والكآبة والصمت والضحكات.
تجربتــه الشــعرية مــع كبــار شــعراء الفرنكفونيــة ،مثــل ليبولــد ســيدار يتفــرد ســنغور وايمــي ســيزار) ،لكنــه ّ وحــده فــي التعبيــر عــن صــوت إفريقيــا باللغــة العربيــة .ســألناه كيــف ينظــر إلى تجربتــه الشــعرية الملتزمــة بالقضايــا اإلفريقيــة؟ التحـــوالت التـــي مـــن بالرغـــم ُّ عرفتهـــا إفريقيـــا ،فإننـــي مـــا زلـــت ومخلصـــ ًا لقضيتهـــا ...لقـــد ُم ّ تحمســـ ًا ُ ســـعيت منـــذ أن وعيـــت وجـــودي إلـــى أن :أكـــون مخلصـــ ًا لعدالـــة كفـــاح ش ــعوب إفريقي ــا ،الت ــي مازال ــت تج ــري فـــي عروقـــي .كل مـــا أتمنـــاه إلفريقيـــا الســـمراء أن تســـتمر فـــي كفاحهـــا .وأن تتخلّـــص مـــن مســـتغليها الجـــدد ومـــن حكامهـــا الفاســـدين ،الذيـــن يقبلـــون بالســـيادة المنقوصـــة مقابـــل بقائهـــم ف ــي الس ــلطة ،أن ــا متفائ ــل ب ــأن إفريقي ــا قـــادرة غـــدًا أن تتخطـــى عثراتهـــا ،وأن تجتــاز بنجــاح حــروب الحقــد والكراهيــة التـــي تجتاحهـــا ،ومواجهـــة حـــروب تتعـــرض لهـــا اإلبـــادة العرقيـــة التـــي ّ ش ــعوبها نتيج ــة لالنقالب ــات العس ــكرية التـــي تنتـــج عنهـــا أنظمـــة اســـتبدادية، وذل ــك بالتح ــدي اليق ــظ لش ــعوبها ض ــد كل المنـــاورات الخارجيـــة التـــي ُتحـــاك ضدهـــا.
أعيـــش قلقـــاً ،نتيجـــة لألوضـــاع المتدهـــورة التـــي تعرفهـــا إفريقيـــا فـــي مجـــال الحريـــات وحقـــوق اإلنســـان، التـــي ال تتجـــاوب وال تنســـجم مـــع تطلعاتنـــا التـــي حلمنـــا بهـــا بعـــد االســـتقالل .إن تغييـــر إفريقيـــا إلـــى األحســـن ،لـــن يتحقـــق فـــي ظـــل واقـــع الفرقـــة والتجزئـــة وتكريـــس الحـــدود المصطنعـــة وتأجيـــج الصراعـــات ُ القبليـــة التـــي تعرفهـــا اليـــوم شـــعوب إفريقيـــا المتناحـــرة. § برغــم ضيــق الحــال وتدهــور حالتــه الصحيــة ،فإنــه مــازال متشــبث ًا ببســمة األمــل ،يــردد مــع المتنبــي( :كــم قــد قتلت، وكــم قــد مــت عندكــم /ثــم انتفضــت فــزال القبــر والكفــن) .اغتنمنــا الفرصــة ورغبــة الفيتــوري الصادقــة فــي الحديــث معنــا، وســألناه عــن الموضــوع الــذي يؤرقــه واإلشــاعات التــي تعلــن رحيلــه؟ (بابتســـامة ســـاخرة) ال أخـــافالم ــوت ،ألنن ــي مؤم ــن ب ــأن الم ــوت ح ــق علـــى اإلنســـانية كلهـــا ،طيلـــة حياتـــي كنـــت أنظـــر إلـــى المـــوت مـــن موقـــع الرؤي ــا بالمعن ــى الصوف ــي ،الت ــي ت ــرى أن المـــوت ليـــس هـــو المـــوت الجســـدي
§ بعــد انتفاضــات الربيــع العربــي دالــت دول ،ســقط النظــام الليبــي الــذي كان الفيتــوري يحمــل جــواز ســفره ،لكــن مــن حســنات هــذا ِ الحـَـراك العربــي أن اســتعاد الفيتــوري جــواز ســفره الســوداني ،الــذي ُحـ ِـر َم منــه طيلــة أربعــة عقــود .ســألناه يتدبــر حاجياتــه المعيشــية وتوفيــر كيــف َّ مصــروف العــاج؟ متأثـــر بالوضـــع المـــادي الصعـــبالـــذي أجتـــازه ،لكـــن مـــا يخفـــف عســـر الحـــال ،أننـــي محـــاط بـــدفء العائلـــة الحنـــون ،الـــذي تغمرنـــي بـــه أســـرتي قرائـــي. الصغيـــرة وجمهـــور َّ (ثـــم أنشـــد الفيتـــوري فـــي ختـــام قائـــا): لقائنـــا معـــه ً
وبعض عمرك ما لم تعشه،
وما لم تمته
وما لم تقله
وما ال يقال
وبعض حقائق عصرك،
أنك عصر من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال. 45
شعرية الفيتوري :
بين مجازات التّخوم واالستعارات السوداء د .محمد الشحات
ناقد وأكادميي مرصي
-1ل ــم يس ــتطع محم ــد مفت ــاح الفيت ــوري ( ) - 1936أن يجع ــل م ــن مقول ــة «الح ــب» جوهــرًا شــعري ًا أو مركــزًا تتمحــور حولــه الثـــرة ،كمـــا كان يفعـــل رؤاه وبالغتـــه ّ مثـــا ،وال أن يصنـــع مـــن نـــزار قبانـــي ً تراكيـــب معجمـــه الشـــعري واســـتعاراته ٍ اكـــة ـــة رصاصـــات وأســـلحة فّت ً ً مجازي ً ّ المحتـــل، موجهـــة إلـــى صـــدر العـــدو ّ ً كمـــا كان يفعـــل محمـــود درويـــش أو س ــميح القاس ــم ،أو غيرهم ــا م ــن ش ــعراء المقاوم ــة .ل ــم ُي ـ ِـرْد الفيت ــوري أن يعي ــد، ش ــعرياً ،إنت ــاج ص ــورة مصطف ــى س ــعيد بطـــل (موســـم الهجـــرة إلـــى الشـــمال) بوصفهـــا أيقونـــة ســـردية وثقافيـــة اســـتطاع مـــن خاللهـــا رفيقـــه الســـوداني الطيـــب صالـــح ( )2009 - 1929أن ّ يفـــكك بنيـــة المجتمـــع اإلنجليـــزي، ّ الكولونيالـــي ،عبـــر تمثيالتـــه الجنســـية واســـتعاراته اإلفريقيـــة ،التـــي كانـــت تخ ــرج م ــن رح ــم األرض المثقل ــة باألني ــن كالشـــال والفقـــر والطمـــوح الجـــارف ّ اله ــادر .وعل ــى الرغ ــم م ــن كل ه ــذا تظ ــل ـدودة بحب ــل متي ــن قصي ــدة الفيت ــوري مش ـ ً إلــى جماليــات الحيــاة اليوميــة ،ومترعـ ًـة برائحـــة األرض والطيـــن والبشـــر 46
المهمشـــين والمطحونيـــن والمقموعيـــن ّ والمتمرديـــن ،كأنـــه ار والثـــو والبســـطاء ّ ّ نمـــوذج شـــعري يقـــف علـــى الحافـــة بيـــن جماليتيـــن أو بالغتيـــن :قصيـــدة الفصحـــى ،الرســـمية ،الســـلطوية، الفوقيــة ،النخبويــة ،التــي كان أنموذجهــا متمثـــا فـــي نـــازك المالئكـــة (- 1923 ً )2007وعبـــد الوهـــاب البياتـــي (1926 )1999وبـــدر شـــاكر الســـياب (- 1926 ،)1964ث ــم لح ــق به ــم محم ــود دروي ــش ( )2008 - 1941وســـميح القاســـم ( )2014 - 1939ونـــزار قبانـــي (- 1923 )1998وأدوني ــس ( )1930وص ــاح عب ــد الصبـــور ( )1981 - 1931وأمـــل دنقـــل ( ،)1983 - 1940وغيره ــم م ــن أس ــاطين القصي ــدة الفصيح ــة ،ف ــي مقاب ــل بالغ ــة القصي ــدة العامي ــة ،الش ــعبية ،التحتي ــة، ممثَّلـــة فـــي بيـــرم التونســـي (- 1893 ّ )1961 وفـــؤاد حـــّداد( ) - 1928وصـــاح جاهيـــن ( )1986 - 1930وعبـــد الرحمـــن األبنـــودي ( ،) - 1939وغيرهـــم. مـــن هنـــا ،يمكـــن القـــول إن قصيـــدة الفيتـــوري قصيـــدة مخضرمـــة؛ بمعنـــى أنه ــا عاص ــرت أكث ــر م ــن جي ــل ش ــعري، ـا ع ــن كونه ــا ق ــد راهن ــت ،أو قام ــرت فض ـ ً باألســـاس ،علـــى الجمـــع بيـــن طبقتيـــن
بالمصطلــح السوســيولوجي ،أو مقاميــن بالمصطلـــح الموســـيقي ،فـــي مزيـــج كيميائ ــي واح ــد معج ــون بنب ــرة مش ــبعة بالهـــم العربـــي واإلنســـاني العـــام ،دون ّ أن ُتغِف ــل ،ول ــو للحظ ــة ،غائي ــة انتم ــاء صاحبهـــا إلـــى القـــارة الســـوداء التـــي مفكـــر كبيـــر بحجـــم انتمـــى إليهـــا فكريـــ ًا ّ فرانـــز فانـــون ،أو عضويـــ ًا الكثيـــر مـــن الكّت ــاب م ــن أمث ــال نجوج ــي وا ثيونج ــو وشـــينوا أتشـــيبي ..،وآخريـــن. يعـــّد فانـــون F. Fanonواحـــدًا مـــن أبـــرز مـــن كتبـــوا عـــن مناهضـــة اآلخـــر (المس ـ ِ ـتعمر) ف ــي الق ــرن العش ــرين ،جنبــ ًا ُ إل ــى جن ــب ألب ــرت ميم ــي Albert Mimi وإدوارد ســـعيد E. W. Saidوهومـــي بابـــا Homi Bhabhaوغيرهـــم، بحي ــث ألهم ــت كتابات ــه ومواقف ــه الكثي ــر م ــن ح ــركات التح ـ ّـرر ف ــي العال ــم خ ــال القـــرن الفائـــت ،وهـــو األمـــر الـــذي دفـــع الكثيريـــن إلـــى وصفـــه بصفـــات عـــّدة؛ و«نبـــي مـــن بينهـــا «شـــاعر العالـــم» ّ العن ــف» و«مس ــيح الثقاف ــات المقه ــورة»، وغيـــر ذلـــك ،كمـــا قـــال عنـــه صبحـــي حديـــدي .وليـــس فانـــون بعيـــدًا كثيـــرًا عـــن الفيتـــوري الـــذي وصفـــه عبـــده وازن بأنـــه «شـــاعر التخـــوم» .فـــإذا
كان فانـــون شـــبيه ًا بإيميـــه ســـيزار فـــي كونهمــا فرنســيين مــن جــزر المارتينيــك، ومداِف َعْيـــن عـــن حـــركات التحـــرر فـــي العال ــم آن ــذاك ،م ــن ناحي ــة ،ف ــإن وج ــه الشـــبه بيـــن الفيتـــوري وفانـــون يكمـــن ـاد وتعريتهم ــا خط ــورة ف ــي إدراكهم ــا الح ـ ّ الـــدور الـــذي مارســـه الرجـــل األبيـــض طويـــا ضـــد إفريقيـــا الســـوداء. ً
مركب ــة داعب ــت الكثيري ــن م ــن أو رمزي ــة ّ أرب ــاب الحداث ــة الت ــي تنط ــوي قصائده ــم علــى رمزيــة الرؤيــة /الرؤيــا فــي المقــام األول ،كمـــا كان أدونيـــس يفعـــل فـــي بدايات ــه عل ــى س ــبيل المث ــال ال الحص ــر. ل ــم تنش ــغل قصي ــدة الفيت ــوري كثي ــرًا طويـــا عنـــد بثيمـــة الحـــب ،ولـــم يقـــف ً
ـبوبة ،مثلمــا المــرأة جســدًا أو عاطفـ ًـة مشـ ً ـا ،الله ـّـم إال وقوف ــه عنده ــا فع ــل ن ــزار مث ـ ً بوصفهـــا امـــرأة مـــن لحـــم ودم وجســـد ُمْث َخـــن بطعنـــات القهـــر المتراكـــم فـــي فضـــا طبقـــات بعضهـــا فـــوق بعـــض، ً عـــن ســـعيه الحثيـــث ،المتواتـــر ،إلـــى تكبيـــر صـــورة المـــرأة لتصبـــح موازيـــ ًا
-2تـــنـــــوعت التـجــــــربة الشـعــريــــة ّ تنوعـــ ًا الفتـــ ًا للنظـــر ،ال للفيتـــوري ّ الكمـــي فحســـب؛ إذ هـــو علـــى المســـتوى ّ ش ــاعر مخض ــرم عاص ــر أجي ــا ًال ش ــعرية متنوعـــة مـــا بيـــن قصيـــدة التفعيلـــة والشـــعر الحـــر وقصيـــدة النثـــر ،بـــل علـــى المســـتوى النّوعـــي أيضـــاً ،حيـــث اســـتطاعت قصيدتـــه أن تخلـــق لنفســـها مس ــارًا خاصــاً ،جمع ــت في ــه بي ــن طاق ــة وتمـــرد التفعيلـــة وبـــراءة الشـــعر الحـــر ّ القصيـــدة النثريـــة .وهـــذا أمـــر واضـــح للعي ــان ف ــي تن ـ ّـوع دواوين ــه الت ــي ب ــدأت مـــن «أغانـــي إفريقيـــا (صـــدر فـــي عـــام « ،)1955عاش ــق م ــن إفريقي ــا» (،)1964 «اذكرين ــي ي ــا إفريقي ــا» (« ،)1965أح ــزان إفريقيـــا» (« ،)1966البطـــل والثـــورة والمشـــنقة» ( ،)1968مـــرورًا بتحـــوالت تجس ــدت ف ــي «س ــقوط ش ــعرية وجمالي ــة ّ دبشـــليم» (« ،)1969معزوقـــة إلـــى متجـــول» (« ،)1971ثـــورة درويـــش ّ عم ــر المخت ــار «(« ،)1973ابتس ــمي حت ــى تم ــر الخي ــل» (« ،)1975عصف ــورة ال ــدم» (« ،)1983ش ــرق الش ــمس ،غ ــرب القم ــر» (« ،)1985يأتـــي العاشـــقون إليـــك» (« ،)1989قـــوس الليـــل ،قـــوس النهـــار» ( ،)1994وانتهـــاء بـ«عريانـــ ًا يرقـــص فضـــا عـــن فـــي الشـــمس» (،)2005 ً بع ــض المس ــرحيات الش ــعرية األخ ــرى، مثـــل «ســـوالرا» (« ،)1970يوســـف بـــن تاشـــفين» (« ،)1997الشـــاعر واللعبـــة» (.)1997 والواقـــع أن قصيـــدة الفيتـــوري ،فـــي أغل ــب منعطفاته ــا الجمالي ــة ،ل ــم تتن ــازل عـــن إيقاعهـــا الصوتـــي والجمالـــي يومـــ ًا م ــا ،كم ــا أنه ــا ل ــم تس ــقط ف ــي أحض ــان بالغـــة شـــكلية ،أو معاضلـــة جماليـــة، 47
رمزي ـ ًا لصــورة الوطــن الســليب ،كمــا فــي قصيـــدة «الليـــل والحديقـــة المهجـــورة»: المتوجيـــن.. «الليـــل /ليـــل العبيـــد ّ العرايـــا /القابعيـــن تماثيـــل /فـــوق أرض الخطايـــا /اآلثميـــن ..النبييـــن/.. القاتلي ــن ..الضحاي ــا /مثل ــي ..ومثل ــك/ نحـــن المســـوخ /..نحـــن الســـبايا.».. تنـــزع قصيـــدة الفيتـــوري كثيـــرًا إلـــى تعـــّدد األصـــوات ،كأنهـــا قصيـــدة بوليفوني ــة ،Polyphonicوه ــذا عنص ــر دراميتهــا؛ إذ تشــتغل أصيــل مــن عناصــر ّ عل ــى رس ــم مالم ــح اإلنس ــان ف ــي عالقت ــه الرباعيـــة بالزمـــان والمـــكان والحـــدث تتفجـــر الحالـــة والصـــراع .عندئـــذ، َّ الدراميـــة ويتخلّـــق صـــراع درامـــي بيـــن األصــوات والضمائــر والصــور فــي فضــاء القصيـــدة الواحـــدة .فقصيدتـــه قصيـــدة دراميـــة ،تشـــتغل علـــى مبـــدأ تحويـــل الصــورة الشــعرية إلــى صــورة بصريــة، ذات أحــداث متراكمــة ،وهــو أمــر واضــح الدالل ــة حت ــى فيم ــا كتب ــه م ــن نص ــوص مســـرحية .وهنـــا ،يمكـــن االستشـــهاد بقصيـــدة «معزوفـــة إلـــى درويـــش متج ــول» الت ــي تش ــبه حواري ـ ًـة صوتي ـ ًـة تتنـــاص مـــن ناحيـــة ،وتتناغـــم أو ّ بوضـــوح ،وزنـــ ًا ولحنـــ ًا موســـيقياً، وشـــك ًا فلســـفياً ،مـــع (مأســـاة الحـــاج) ّ لصــاح عبــد الصبــور مــن ناحيــة أخــرى: «دني ــا ال يملكه ــا م ــن يملكه ــا /أغن ــى أهليهـــا ســـادتها الفقـــراء /الخاســـر مـــن ل ــم يأخ ــذ ..م ــا تعطي ــه عل ــى اس ــتحياء/ ظـــن أن األشـــياء هـــي والغافـــل مـــن ّ األشـــياء /تـــاج الســـلطان الغاشـــم تفاحـــة /تتأرجـــح أعلـــى ســـارية الســـاحة ... /والراحـــة ليســـت هاتيـــك أي بح ــار العال ــم تس ــألني الراح ــة /ع ــن ّ ٍ صـــوت قدمـــاه مـــن يـــا محبوبـــي؟ /عـــن صخــر وعينــاه مــن ياقــوت؟ /عــن ســحب مـــن نيـــران؟ /وجزائـــر مـــن مرجـــان؟/ مي ٍ ـــت يحمـــل جثتـــه ويهـــرول حيـــث عـــن ْ يم ــوت؟ /ال تعج ــب ي ــا ياق ــوت /األعظ ــم مـــن قـــدر اإلنســـان هـــو اإلنســـان.».. -3تنطـــوي شـــعرية الفيتـــوري علـــى تضافـــر عـــدد كبيـــر مـــن الثيمـــات اإلفريقيـــة؛ أقصـــد إلـــى تجســـيد همـــوم
48
القـــارة الســـوداء شـــعرياً ،والدفـــاع عـــن قضاياهـــا التاريخيـــة جماليـــاً؛ األمـــر يجســـد مأســـاة اإلنســـان األســـود الـــذي ّ ِ المســتعمر فــي مســيرته الكبــرى لمقاومــة ُ احتـــل إفريقيـــا ،كأنـــه األبيـــض الـــذي ّ يس ــتدعي فان ــون وألب ــرت ميم ــي وج ــدل ِ ســـتعمر ،حيـــث يقـــول والم الم َ ســـتعمر ُ ُ أرض»: ً مثـــا فـــي قصيـــدة «حـــدث فـــي ٍ «أنـــا ال أملـــك شـــيئ ًا غيـــر إيمانـــي بشـــعبي /وبتاريـــخ بـــادي /وبـــادي أرض إفريقيـــا البعيـــدة /هـــذه األرض التـــي أحملهـــا مـــلء دمائـــي /والتـــي أنشـــقها مـــلء الهـــواء /والتـــي أعبدهـــا ف ــي كبري ــاء /ه ــذه األرض الت ــي يعتن ــق العطـــر عليهـــا والخمـــول /والخرافـــات وأعشـــاب الحقـــول /هـــذه األســـطورة الكبـــرى ..بـــادي». فـــي قصائـــد الفيتـــوري مالمـــح ومفـــردات عالـــم إفريقـــي مكتمـــل
غنـــي بالتفاصيـــل ،علـــى القســـمات، ّ طريقـــة الديكـــور والســـينوغرافيا رايـــات المســـرحية .ففـــي قصائـــده ٌ كراي ــات الح ــروب ،وطب ــول ال تك ـ ّ ـف ع ــن ـدق ف ــي مواس ــم البهج ــة أو الحص ــاد أو ال ـ ّ النذيــر بحــروب مشــؤومة ،ورقــص مفعــم التواقيـــن بـــروح األفارقـــة المخلصيـــن َّ البريـــة ،وإيقـــاع متجـــاوب إلـــى الحيـــاة ّ صعـــودًا وهبوطـــ ًا مـــع نوائـــب الدهـــر والقـــدر، وتحـــوالت الزمـــان والمـــكان َ وألـــوان شـــّتى تمتـــاح مـــن خصوبـــة األرض والـــزرع والدمـــاء والكرنفـــال، وكثي ــر م ــن مف ــردات الص ــورة اإلفريقي ــة المش ــبعة بع ــرق الجس ــد األس ــود ورائح ــة مثـــا فـــي قصيـــدة «مـــن البخـــور .يقـــول ً أغانـــي إفريقيـــا» الشـــهيرة: «يــا أخــي فــي الشــرق فــي كل ســكن/ ي ــا أخ ــي ف ــي األرض ف ــي كل وط ــن /أن ــا أدع ــوك ..فه ــل تعرفن ــي؟ .»...
لكنّـــه فـــي ســـياق آخـــر يســـتدعي ّـــة علـــى لومومبـــا ،بوصفـــه أيقونـــة دال ً ً ِ ســـتعمر، الم براثـــن مـــن تحـــرر الكونغـــو ّ ُ المتنبـــي وآخريـــن فـــي كمـــا يســـتدعي ّ مدونتــه الشــعرية العريضــة ،ال اســتدعاء ّ المترّقــب الحنيــن المنكســر ،بــل اســتدعاء ُ المتش ـ ِّـبث بالخي ــط األبي ــض ف ــي للنص ــرُ ، آخ ــر النف ــق .يق ــول ف ــي قصي ــدة «عص ــر الميـــاد»: «يـــا لومومبـــا /..فـــي قلبـــي أنـــت/ البط ــل األس ــود ذو القدمي ــن العاريتي ــن/ الراكضتي ــن عل ــى نه ــر الكونغ ــو /كان ــت تركــض خلفهمــا أشــجار الغابــات /كانــت تتهـــّدج لهمـــا أنفـــاس الظلمـــات /كانـــت أمــواج الكونغــو /..توغــل فــي الركــض/ كان الفـــارس ذو الرهبـــة /ذو الصـــوت الفض ــي /عين ــاه عالقت ــان عل ــى نجم ــة/ شـــفتاه مطبقتـــان علـــى كلمـــة /كانـــت أصــوات المضطهديــن /تجلجــل فــي روح األرض /يـــا لومومبـــا /..إن الخونـــة ال بطـــا مـــن خـــان ينتصـــرون /ال يصبـــح ً قضي ــة ش ــعبه /م ــن أس ــقط رايت ــه ي ــوم نضالــه /مــن سـ َّـد عليــه طريــق الحريــة/ قبـــل أقـــدام القتلـــة /أبـــداً ..أبـــدًا يـــا مـــن َّ لومومبـــا». لـــذا ،ال يبـــدو غريبـــاً ،فـــي هـــذا الســـياق ،احتفـــاء الفيتـــوري بالزنوجـــة التـــي هـــي قـــدر اإلنســـان اإلفريقـــي المســـتَلَبة منـــذ فجـــر المرتبـــط بـــاألرض ُ التاريـــخ ،الباحـــث عـــن الحـــق والخيـــر التـــواق إلـــى غـــد مشـــرق، والجمـــال، ّ ال ســـلطان فيـــه ألحـــد ســـوى ســـلطان الحريـــة وميـــزان العـــدل: «أنـــا زنجـــي /قلهـــا ال تجبـــن ..ال تجبــن! /قلهــا فــي وجــه البشــرية /..أنــا زنجـــي /..وأبـــي زنجـــي الجـــد /وأمـــي زنجيـــة /..أنـــا أســـود /..أســـود لكنـــي ح ـّـر أمتل ــك الحري ــة /أرض ــي إفريقي ــا/.. عاشـــت أرضـــي /..عاشـــت إفريقيـــا/.. أرضـــي ..واألبيـــض دنّســـها /دنّســـها فألمـــض شـــهيداً/.. المحتـــل العـــادي/.. ِ وليمض ــوا مثل ــي ش ــهداء أوالدي /ف ــوراء المـــوت ..وراء األرض /تـــدوي صرخـــة ْر أجـــدادي /..لســـتم ببنينـــا إن لـــم َتـــذِ رمـــاد الجـــاد. الريـــح َ ُ
-4ينتمـــي الفيتـــوري إلـــى جيـــل محيـــي الديـــن فـــارس وأحمـــد صالـــح إبراهيـــم وغيرهم ــا م ــن ش ــعراء وكت ــاب الس ــودان الذيــن تفّتــح وعيهم علــى الحــرب العالمية تحـــوالت الثانيـــة ،ومـــا تالهـــا مـــن ّ ـــم سياســـية وأيديولوجيـــة .ومـــن َث ّ أسســـوا جميعـــ ًا لتدشـــين جماليـــات فقـــد ّ القصيـــدة الحديثـــة فـــي الســـودان، متأثّريـــن بشـــكل أو بآخـــر بالقصيـــدة المصريـــة والعراقيـــة واللبنانيـــة، ومســتلهِمين النمــاذج الكبــرى التــي كانــت م ــلء الس ــمع والبص ــر آن ــذاك ،م ــن أمث ــال نـــازك المالئكـــة والســـياب والبياتـــي وبلنـــد الحيـــدري ..،وغيرهـــم ،ال علـــى س ــبيل المح ــاكاة الش ــعرية فحس ــب ،ب ــل علـــى ســـبيل المعارضـــة والمغايـــرة. طويـــا مـــن قضـــى الفيتـــوري شـــطرًا ً ـا ف ــي المش ــهد حيات ــه ف ــي القاه ــرة ،فاع ـ ً اإلبداعـــي المصـــري ،إلـــى الدرجـــة التـــي كّنــا -ونحــن فــي المرحلــة اإلعداديــة فــي أواخ ــر الس ــبعينيات -ن ــدرس قصائ ــده؛ تحدي ــدًا قصيدت ــي «م ــن أغان ــي إفريقي ــا» و«أصبـــح الصبـــح» ،دون أن نلتفـــت ُمطلقــ ًا إل ــى كون ــه ش ــاعرًا س ــوداني ًا ف ــي األص ــل .ك ــم كّن ــا نظّن ــه مصريــ ًا خالصــ ًا آن ــذاك! ولع ــل ه ــذا راج ــع إل ــى مف ــردات صورتـــه الشـــعرية التـــي كانـــت تمتـــاح م ــن بيئ ــة وروح مصريتي ــن ،يحت ـ ّـل نه ــر الني ــل فيه ــا والثقاف ــة الفرعوني ــة مرك ــزًا تلمســـه دالليـــ ًا بـــارزاً .وهـــو أمـــر يمكـــن ّ ف ــي ع ــدد غي ــر قلي ــل م ــن القصائ ــد؛ منه ــا قصيدت ــه «الت ــراب المقــّدس» الت ــي يق ــول فيهـــا: «وســـْد اآلن رأســـك /فـــوق التـــراب ِّ طويـــا لـــدى حافـــة المقـــّدس /واركـــع ً النهـــر /ثمـــة مـــن ســـكنت روحـــه شـــجر النيـــل /أو دخلـــت فـــي الّدجـــى خب ــأت ذاته ــا ف ــي نق ــوش األبنوس ــي /أو ّ التضاري ــس /ثم ــة م ــن المس ــت ش ــفتاه/ القرابي ــن قبل ــك /مملك ــة الزرق ــة الوثني ــة قبلـــك /عاصفـــة اللحظـــات البطيئـــة قبلـــك.».. هكـــذا ،تبـــدو اســـتعارة النّيـــل ،لـــدى ـتعارة أثي ــرة ،غي ــر أن ــه الفيت ــوري ،اس ـ ّ يتســامى بهــا فــوق جغرافيتهــا المحــدودة
التـــي قـــد تصلهـــا بمصـــر أو الســـودان فحس ــب؛ ليجع ــل منه ــا اس ــتعارة تمثيلي ــة ـب، كب ــرى تمتــّد م ــن المنب ــع حت ــى المص ـ ّ مـــرورًا ببلـــدان وحضـــارات شـــّتى. -5الجيـــد لمدونـــة يســـتطيع القـــارئ ّ الفيتــوري الشــعرية أن يلمــح مــدى قدرتــه عل ــى متابع ــة أغل ــب التح ـ ّـوالت السياس ــية واالجتماعيـــة التـــي مـــرت بهـــا المنطقـــة العربيـــة وإفريقيـــا ،منـــذ تفاعلـــه مـــع ث ــورة عراب ــي 1881م ،وحادث ــة دنش ــواي 1906م( ،كمـــا فـــي قصائـــد «عندمـــا يتكل ــم ش ــعب» و«النه ــر الظام ــئ» و«إل ــى موميـــاء») ،مـــرورًا برصـــده الجمالـــي ألحـــداث القضييـــة الفلســـطينية فـــي بعـــض القصائـــد مثـــل «طفـــل الحجـــارة» وغيرهــا ،والمســألة العراقيــة فــي قصيــدة جميلــة ذات نفــس ملحمــي بعنــوان «يأتــي العاشــقون إليــك يــا بغــداد» ،يقــول فيهــا: «ل ــم يترك ــوا ل ــك م ــا تق ــول /والش ــعر صوت ــك /حي ــن يغ ــدو الصم ــت مائ ــدة/.. وتنســـكب المجاعـــة فـــي العقـــول /لـــم يعرفـــوك ،وأنـــت توغـــل عاريـــ ًا فـــي الك ــون /..إال م ــن بنفس ــجة الذب ــول /ل ــم يبص ــروا عيني ــك /..كي ــف تقلّب ــان ت ــراب أزمن ــة الخم ــول /ل ــم يس ــكنوا ش ــفتيك/.. ســاعة تطبقــان علــى ارتجافــات الذهــول/ ل ــم يش ــهدوك /..وأن ــت تول ــد مث ــل عش ــب األرض /فــي وجــع الفصــول /لــم يتركــوا ل ــك م ــا تق ــول /ل ــم يترك ــوا ل ــك م ــا تق ــول .»... تنهـــض شـــعرية الفيتـــوري وطاقتـــه اإلبداعي ــة عل ــى محوري ــن؛ أولهم ــا قدرت ــه علــى نســج مجــازات ُمدهشــة تتخّلــق عنــد المنفــى؛ الّتخــوم ،كأنــه واحــد مــن شــعراء َ نظـــرًا الرتحالـــه الدائـــم بيـــن الســـودان اســـتقر ومصـــر ولبنـــان وليبيـــا ،حتـــى ّ فضـــا بـــه المقـــام أخيـــرًا فـــي المغـــرب، ً عمـــا ينطـــوي عليـــه الفنّـــان مـــن غربـــة ّ وجوديـــة ،وثانيهمـــا خـــروج اســـتعاراته م ــن رح ــم من ــاخ إفريق ــي ُمفع ــم بمف ــردات والبريـــة والدمـــاء الحـــارة وإرث البـــكارة ّ أســـود مثقـــل بالعبوديـــة ،وكل مـــا مـــن شـــأنه إنضـــاج قصيـــدة حـــارة الطعـــم، فواحـــة الرائحـــة. ســـوداء اللـــونّ ،
49
لخص في مقال واحد مســيرة إبداعية ربمــا من الصعوبة لي ولغيري أن ُي ِّ طويلة من العطاء المتواصل والمستمر ،بدأت مع ستينيات القرن الماضي
سامل أبوظهري
لتقترب من الخمســين عاماً ،لشــاعر بقيمة محمد مفتاح الفيتوري .في هذا نسى ظاهرياً ،ولكنها العمر الطويل ثمة حاالت عاشها الشاعر قد ُت َ همل أو ُت َ تتضح بمجرد اإلشارة إليها وتسليط قليل من الضوء عليها.
الحاالت النفسية للفيتوري
هــذا المقــال يســتعرض وبشــكل موجــز بعــض مــن الحــاالت النفســـية التـــي عاشـــها وعايشـــها وتعايـــش معهـــا الشـــاعر وأث ــرت في ــه أو تأث ــر به ــا بش ــكل مباش ــر أو غي ــر مباش ــر ،أو كان له ــا دور ف ــي تكوي ــن ش ــخصيته اإلبداعي ــة واإلنس ــانية، وم ــن َث ـّـم انعكس ــت عل ــى حيات ــه العملي ــة والش ــعرية ومجم ــل نتاج ــه األدب ــي والثقاف ــي عل ــى م ــدى عش ــرات الس ــنين. الش ــاعر محم ــد الفيت ــوري ال يع ــرف الع ــام ال ــذي ُوِل ـ َـد في ــه فقـــد ذكـــر إحســـان عبـــاس أنـــه(« )1يجهـــل تاريـــخ ميـــاده، ولكــن الباحثيــن أجمعــوا علــى أن ،1930هــو تاريــخ ميــاده الفعل ــي» .ع ــاش طفولت ــه ف ــي الجنين ــة ،وه ــي بل ــدة صغي ــرة هادئــة بغــرب الســودان ،وهــذا َأّثـ َـر علــى شــخصيته فأصبــح ِ ـــر االنطـــواء علـــى نفســـه ويكـــره الضوضـــاء .كان ُي ْؤث ُ لحكايـــات جدتـــه زهـــرة (أم والدتـــه) تأثيرهـــا العميـــق علـــى تكوينـــه النفســـي وهـــو فـــي مراحـــل الطفولـــة؛ هـــذه الجـــدة كانــت دائمــة الشــكوى والتذمــر فتحكــي بحرقــة وربمــا بدمــوع لحفيده ــا الصغي ــر ع ــن ماضيه ــا البائ ــس ،وع ــدم اس ــتقرارهم وهجرتهـــم مـــن ليبيـــا إلـــى الســـودان هربـــ ًا مـــن ســـطوة الطليــان ،كمــا كانــت تشــكو إليــه معاناتهــا الشــخصية ونظــرة الن ــاس الدوني ــة له ــا لدمامته ــا ولونه ــا األس ــود ،ه ــذا كل ــه كان ل ــه تأثي ــره العمي ــق ف ــي تكوين ــه النفس ــي وأدائ ــه اإلبداع ــي فكان ــت زه ــرة حاض ــرة بق ــوة ،ول ــم ينس ــها ،وأهداه ــا دي ــوان شـــعره المهـــم «يأتـــي العاشـــقون إليـــك» فكتـــب يقـــول(:)2 50
«إلـــى الزهـــرة اإلفريقيـــة ..جدتـــي المســـكينة ..القائمـــة فـــي ذات ــي ..رغ ــم ش ــواهد النس ــيان». كم ــا تأث ــر الفيت ــوري بحكاي ــات جدت ــه ع ــن ج ــده ال ــذي كان يتاجـــر بالعـــاج والرقيـــق ،وكيـــف أن أمـــه لوالدتـــه أصلهـــا جاريــة ،هــذا كلــه كان كافي ـ ًا لطفــل يعيــش فــي جلبــاب جدتــه أن ي ــورث منه ــا وف ــي وق ــت مبك ــر عق ــدة العبودي ــة لتالزم ــه وتك ــون مح ــور اهتمام ــه طيل ــة حيات ــه كله ــا ،وربم ــا لتك ــون أيضــ ًا س ــبب تمي ــزه ف ــي معظ ــم نتاج ــه اإلبداع ــي. فـــي مرحلـــة الصبـــا غـــادر والـــد الشـــاعر قريـــة الجنينـــة صط ِحبــ ًا أس ــرته ،ليس ــتقر ف ــي اإلس ــكندرية ،لتب ــدأ الهادئ ــة ُم َ معان ــاة ش ــاعرنا وي ــزداد ش ــعوره بالح ــزن بس ــبب العي ــون التـــي كانـــت ترمقـــه باســـتغراب بســـبب لونـــه وتعاظـــم إحساســـه بالدونيـــة وقصـــر القامـــة ،وكان نتيجـــة هـــذا اإلحســـاس أن أصبـــح أكثـــر انطـــواء علـــى نفســـه مـــن ذي قب ــل ،وق ــد وص ــف محم ــود أمي ــن العال ــم( )3ذل ــك فق ــال «إن بشــرته الســوداء كانــت تقيــم بينــه وبيــن المدينــة التــي يحيــا فيهــا حاجــزًا كثيف ـ ًا يحرمــه المشــاركة واالندمــاج ويشــعل فــي نفس ــه مش ــاعر مري ــرة» ،وق ــد بقي ــت ه ــذه المش ــاعر والح ــاالت طويـــا ،حتـــى النفســـية مكبوتـــة فـــي عقلـــه الباطـــن زمنـــ ًا ً عب ــر عنه ــا ف ــي ش ــعره:
فقير أجل ..ودميم دميم
بلون الشتاء ..بلون الغيوم يسير فتسخر منه الوجوه
وتسخر حتى وجوه الهموم
فيحمل أحقاده في جنون
ويحضن أحزانه في وجوم()4 وق ــد بي ــن نجي ــب صال ــح( )5أن الش ــاعر ف ــي
هـــذه المرحلـــة «كان يحـــس إحســـاس الرجـــل، كانـــت عنـــده يقظـــات حـــواس مبكـــرة قبـــل أن تنضـــج ،وكانـــت ألقاصيـــص جدتـــه الزنجيـــة وألســـاطيرها أثرهـــا البعيـــد فـــي نفســـه ،كان يبحـــث عـــن الحقيقـــة فـــي اليقظـــة المبكـــرة ،كل ذلـــك تضافـــر وســـاعد علـــى اســـتيقاظه الدائـــم للكلمـــة والنظـــرة ،لقـــد كان فـــي هـــذه المرحلـــة ُمتذمـــرًا تحـــت وطـــأة شـــعوره بأنـــه مشـــدود إل ــى قي ــد م ــا ه ــو قي ــد ال ي ــدرك م ــداه ،ويرف ــض محتـــواه ،وكان يحـــس أن بركانـــ ًا بـــدأ مرحلـــة االنفجـــار األولـــى». فـــي هـــذه المرحلـــة أيضـــ ًا حفـــظ القـــرآن الكريـــم ،وكتبـــه بيـــده ،كمـــا درس الحســـاب واألناشــيد وكتــب مواضيــع اإلنشــاء ،ثــم التحــق بعده ــا بالمعه ــد الدين ــي األزه ــري ،ث ــم بالمعه ــد الثانـــوي فـــي القاهـــرة ،وليواصـــل دراســـته ـع النقــاد علــى أن وي ْجِمـ ُ هنــاك حتــى عــام ُ ،1953 هــذه الفتــرة تعـّد مــن الفتــرات المهمــة فــي حياتــه، تمكــن مــن االطــاع علــى مختلــف المعــارف حيــث ّ اإلنس ــانية والديني ــة والفلس ــفية ،وأكاد أج ــزم أن بس ــبب انط ــواء الش ــاعر عل ــى نفس ــه زاد نهم ــه ف ــي التحصي ــل المعرف ــي ال ــذي َمّث ـ َـل راف ــدًا قويــ ًا ل ــه ف ــي عمل ــه كصحاف ــي، ورغ ــم أن ــه ل ــم يك ــن ل ــه أصدق ــاء ف ــي العال ــم الواقع ــي ،لكن ــه ـو َن صداق ــات متين ــة م ــع عنت ــرة ،وأب ــي زي ــد وب ــا ش ــك َك ـ ّ الهالل ــي ،وتولوس ــتوي ،وفاوس ــت ،وجوت ــه ،وبودلي ــر ه ــذا الش ــاعر الفرنس ــي الش ــهير ال ــذي ن ــادى ف ــي ش ــعره بتحطي ــم الف ــوارق الطبقي ــة. ف ــي ع ــام 1954التح ــق بجامع ــة القاه ــرة ،وب ــدأ الدراس ــة بقســـم اآلداب اإلنســـانية ،وهـــو مزهـــوًا بنفســـه معتـــدًا بمـــا يحملـــه فـــي رأســـه متفوقـــ ًا بـــه عـــن أقرانـــه ،ولكنـــه كان كســـوالً ،وال يواظـــب علـــى حضـــور المحاضـــرات ،وتنامـــى إحساســـه بأنـــه مقيـــد ،وأن هنـــاك مـــن يكبلـــه بقوانيـــن ولوائ ــح ،فت ــرك الجامع ــة قب ــل أن ين ــال ش ــهادتها .والتح ــق بالصحافـــة ووجـــد فيهـــا البـــراح الواســـع للحريـــة ،فأطلـــق العنــان لقلمــه ،وبــرز نجمــه كصحافــي قديــر ثــم كشــاعر مهــم ف ــي مص ــر ،وال ــدول العربي ــة وإفريقي ــا كله ــا الت ــي تغن ــى به ــا
وح ــده كم ــا كان يق ــول دائمــاً. أثــر فــي شــخصيته والــده الشــيخ مفتــاح رجــب الفيتــوري صوفـــي كبيـــر وشـــيخ الســـجادة الصوفيـــة مـــن خلفـــاء الطريقـــة الشـــاذلية األســـمرية ،فقـــد كان الشـــاعر يتـــرك اللعـــب ،لينضـــم لرفـــاق والـــده ُمـــرددًا معهـــم التواشـــيح الصوفيـــة التـــي كان لهـــا دور بـــارز فـــي شـــعره. أزمـــة الهويـــة عنـــد الفيتـــوري واالنتمـــاء للوطـــن واالســـتقرار فيـــه كانـــت حالـــة نفســـية تشـــكل لـــه هاجســـ ًا ـؤرق حيات ــه الش ــعرية والش ــخصية بس ــبب اخت ــاط نس ــبه ي ـ ِّ وتحدي ــد هويت ــه ،فجدت ــه زنجي ــة ،ووال ــده م ــن ليبي ــا ،وأم ــه تع ــود أصوله ــا لتاج ــر إفريق ــي يتاج ــر ف ــي الرقي ــق والع ــاج. س ــحب من ــه النمي ــري جنس ــيته الس ــودانية ،فمنح ــه القذاف ــي الجنســـية الليبييـــة وجـــواز ســـفر دبلوماســـياً ،ثـــم ُس ِ ـــحَب ْت من ــه الجنس ــية الليبي ــة بع ــد قي ــام الث ــورة الليبي ــة ،ومؤخ ــرًا منحت ــه القي ــادة الس ــودانية ج ــواز س ــفر دبلوماس ــي ًا وأع ــادت إليـــه جنســـيته الســـودانية .مهنتـــه كدبلوماســـي ســـهلت لـــه 51
كتـــب قصيـــدة شـــعرية فـــي بغـــداد عنوانهـــا «يأتـــي العاش ــقون إلي ــك» ،أعج ــب به ــا ص ــدام حس ــين كثي ــرًا فقرب ــه من ــه ومنح ــه جائ ــزة قيمته ــا مئ ــة أل ــف دوالر ،وكان صديقــ ًا حميمـــ ًا للرئيـــس الجزائـــري الســـابق أحمـــد بـــن بلـــة ،كتـــب عنـــه يقـــول :
يا بن بيال
ما أجمل أن يصحو اإلنسان فإذا التاريخ بال قضبان
وإذا الثورة في كل مكان()7
هــذه العالقــة مــع الرؤســاء ولــدت عنــده نوع ـ ًا مــن الزهــو والتفاخـــر جعـــاه يتطـــاول علـــى النقـــاد وال يعتـــرف بهـــم، ويقلـــل مـــن أهميـــة أقرانـــه الشـــعراء ،فقـــال إن أحمـــد عبـــد المعط ــي حج ــازي لي ــس ش ــاعرًا بالمطل ــق وإن ــه مج ــرد ناق ــد، والبياتـــي أيضـــاً ،وحتـــى محمـــود درويـــش عنـــده ليـــس ش ــاعراً ،ولك ــن القضي ــة جعل ــت من ــه ش ــاعراً ،ون ــزار قبان ــي ف ــي نظ ــره ش ــاعر ،لكن ــه كان ف ــي خدم ــة آخري ــن .الفيت ــوري يعتقـــد دائمـــ ًا واليـــزال إن كان الشـــعراء ال يموتـــون فهـــو أكثره ــم بع ــدًا ع ــن الم ــوت ،ويق ــول
الســـفر الدائـــم ،وقبلهـــا تنقلـــه الدائـــم مـــن بلـــد لبلـــد أورث شـــكلت أبـــرز متأصـــا بالغربـــة التـــي شـــاعرنا إحساســـ ًا ً َّ مالم ــح ش ــخصيته ومنحت ــه لونــ ًا ممي ــزًا ف ــي أدب ــه وش ــعره. عالقتـــه بالســـلطة والرؤســـاء معقـــدة ،أحبـــه أنـــور الســـادات ،وقربـــه إليـــه فـــي بدايـــة مســـيرته ،وأرســـله ليشـــارك بـــاده فـــي عيـــد اســـتقاللها عـــام ،1956وبعدهـــا بســـنوات هجـــاه فـــي قصيـــدة (الراقـــدون علـــى بطونهـــم والدج ــى م ــن فوقه ــم حج ــر) الش ــهيرة ،إرض ــاء للقذاف ــي ال ــذي رحــب بــه بعــد أن طــرده النميــري وســحب منــه جــواز ســفره وجنســـيته ،فمنحـــه القذافـــي كل مـــا يريـــد ..وســـام الفاتـــح وجنس ــية ليبي ــة وج ــواز س ــفر دبلوماس ــي ًا ووظيف ــة س ــفير، ه ــذا م ــا جع ــل الفيت ــوري يصف ــه ف ــي إح ــدى قصائ ــده بأن ــه مثـــل بعـــض النبييـــن!!! كان شـــاعرنا شـــديد اإلعجـــاب بالرئيـــس محمـــد نجيـــب، بينمــا هاجــم جمــال عبــد الناصــر ،هجوم ـ ًا الذع ـ ًا فــي قصيــدة «م ــات غ ــداً»( )6ق ــال فيه ــا:
مات
وملء روحه المسودة المحترقة رمز يغطيه دم المشانق المعلقة
وصرخات الثائرين في السجون المطبقة 52
مثلي أنا ليس يسكن قبر ًا
( )8ال تحفروا لي قبر ًا
سأرقد في كل شبر من األرض هامش
-1د .إحســـان عبـــاس :اتجاهـــات الشـــعر العربـــي المعاصـــر ،المجلـــس الوطنـــي للثقافـــة والفنـــون واآلداب الكويـــت ،1998 ،ص .2 -2محمـــد مفتـــاح الفيتـــوري :يأتـــي العاشـــقون إليـــك ،دار الشـــروق، القاهـــرة ،ط 1992 1م _ 1413ه ،ص.5 -3محم ــود أمي ــن العال ــم« :ه ــذا الدي ــوان» مقدم ــة دي ــوان أغان ــي إفريقي ــا المجلـــد األول ،دار العـــودة بيـــروت ،الطبعـــة الثالثـــة ،1979 ،ص .42 -4محمـــد الفيتـــوري :ديـــوان الفيتـــوري ،المجلـــد األول ،دار العـــودة، بيـــروت ،الطبعـــة الثالثـــة 1979 ،ص.16 -5نجيـــب صالـــح .محمـــد الفيتـــوري والمرايـــا الدائريـــة .الـــدار العربيـــة للموســـوعات بيـــروت .الطبعـــة األولـــى 1998ص.8 -6محم ــد الفيت ــوري :دي ــوان «أغان ــي إفريقي ــا» ،مكتب ــة الحي ــاة ،بي ــروت، 1967م .ص.20 -7محمـــد الفيتـــوري :ديـــوان «عاشـــق مـــن إفريقيـــا» ،دار الشـــروق ،ط 1 1992ص.22 -8محم ــد الفيت ــوري :دي ــوان أق ــوال ش ــاهد إثب ــات ،منش ــورات الفيت ــوري الثقافيـــة 1988 ،م ،ط 4ص.26
هو ناي إفريقي دافئ وشجي ،بإيقاع عربي جزل وبهي.
د .نجيب العويف
*
وقبــل هــذا وذاك ،هــو نــاي مجبول بتــراب الســودان ،مســكون بحرارة ونضارة السودان.
ناي إفريقيا العربي
يظل السودان ومهما شط به المزار ونــأت عنه الديارّ ، باستمرار ،في السويداء من قلب الشاعر الفيتوري ،وأغنية ال تفارق شفتيه:
(في زمن الغربة واالرتحال،
تأخذني منك وتعدو الظالل، وأنت عشقي
حيث ال عشق يا سودان إال النسور الجبال
يا شرفة التاريخ يا راية منسوجة
من شموخ النساء وكبرياء الرجال،
لمن ترى أعزف أغنيتي
ساعة ال مقياس إال الكمال). (عرس السودان)
وقد كان هذا السودان الــذي خرج من صلبه ودرج على ثراه ،كماله ومثاله .ورفيق روحه في ِ الحل والترحال. كانت إطاللة الفيتوري الشعرية في طالئع الخمسينيات من القرن الفارطُ ،م ِ زامنة إلطاللة الشعر العربي الحديث 53
حرك السواكن ،وآذن بربيع شعري جديد ،وكان الذي ّ الفيتوري في طليعة هذا ِ الحَراك الحداثي. كان السمه ألق ووقع خاص على األذن ،ضمن كورال األسماء الرائدة :السياب – نازك -البياتي -عبد الصبور – حجازي -أدونيس – نزار – خليل حاوي. تسلّل اســم الفيتوري ُمبكرًا إلــى المشهد الشعري العربي ،صوت ًا عربي ًا إفريقي ًا دافئاً ،طافح ًا بأشواق وهموم إفريقيا والوطن العربي المتماوج بين الماء والماء. ترسلت تراتيله وأغنياته من ناي إفريقي – عربي، دافئ النغمات. وطلع علينا ،نخلة شعرية من ربوع السودان ،معبأة بشموس ومراجل إفريقيا. وهنا فرادة وخصوصية اسم الفيتوري ،ضمن رواد الشعر الحديث أو الحداثة الشعرية. لقد أضــاف لحن ًا جديدًا وساخن ًا إلى معزوفة هذا الشعر .أضاف لحن ًا إفريقي ًا بهي ًا إلى هذه المعزوفة. وقد كان السياق التاريخي الذي بزغ فيه الفيتوري، ا مشتعالً .سياق النهوض التحرري – سياق ًا نــاغـ ً النضالي للعالم الثالث ..كانت آسيا وأميركا الالتينية، بــؤرًا تشتعل ،وكانت إفريقيا تتأهب وتتحفز وتفرك عيونها للنور. وبضربة معلم شعرية ،أدخل الفيتوري إفريقيا في العزف الشعري العربي. شاهدة على ذلك: األولى، ودواوينه الشعرية ً أغاني إفريقيا. عاشق من إفريقيا. اذكريني يا إفريقيا. أحزان إفريقيا. والحزن ،خاتمة عربية ،لكل حلم وأمل . ال وملتزماً، جاءنا الفيتوري إذن ،شاعرًا حداثي ًا أصي ً وعاشق ًا وامق ًا من إفريقيا:
(عاشق من إفريقيا صناعتي الكالم
وكل ثروتي شعور ونغم.
ولست واحد ًا من أنبياء العصر
لست من فرسانه الذين يحملون رايات النضال
أو يخطون مصائر األمم).
(عاشق من إفريقيا)
منذ البدء أيضاً ،يقطع الشاعر مع الدونكيشوتية الشعرية
54
ويتجرد من األوهام والشعارات ومعسول الوعود والنضالية، ّ واألمنيات ،مما كان سائدًا إبانئذ،ـ ويكتفي باإلنصات لهموم وشجون العالم ،يكتفي بأن يلبس جبة درويش متجول عبر براري الشعر ومضارب الوطن العربي الممتدة أوجاعه من الماء إلى الماء. هو درويــش ضــارب في اآلفــاق ،وطافح دوم ـ ًا بالعشق واألشواق. عشق وتوق للذي يأتي وال يأتي ،حسب عبارة رصيفه ورفيق جيله ،البياتي .نقرأ من قصيدته (معزوفة لدرويش متجول):
(شحبت روحي ،صارت شفقا شعت غيم ًا وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي ،مواله أنا، أتمرغ في شجني
أتوهج في بدني. ().....
حدقت بال وجه
ورقصت بال ساق
وزحمت براياتي وطبولي
في اآلفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك ..لكني سلطان العشاق).
(معزوفة لدرويش متجول)
وعبر دواوينه الحوافل التي أربت على العشرين ،كان الفيتوري يتنطس جيدًا هموم وشجون الوطن العربي، ويتحسس جيدًا أشواق وأحالم الوطن العربي ،ويرهص جيدًا ببروق الرعود اآلتية. وما يزال نداء الفيتوري البهي في الستينيات الماضيات، يرن في اآلذان ويتصادى في الوجدان:
(يا أخي في الشرق ،في كل سكن،
يا أخي في األرض ،في كل وطن، أنا أدعوك ..فهل تعرفني ؟! يا أخا أعرفه ..رغم المحن، إنني مزقت أ كفان الدجى،
إنني هدمت جدران الوهن، لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن لم أعد عبد قيودي).
(عاشق من إفريقيا)
كان الشاعر بحق ،شاهدًا ورائياً. كان عاشق ًا دائم ًا للسودان وإفريقيا والعروبة واإلنسانية ..كان عاشق ًا للحياة. لكن ،كلما غذ الشاعر في السير ،وأوغل في الحلم ،ترامت وتراكمت األش ــواك واألشـــراك في طريقه ،وأدرك التعب
الخيول وغرق الحلم في األمطار والدجى:
(أيها السائق،
رفق ًا بالخيول المتعبة،
قف ..فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبه،
قف ..
فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه،
هكذا كان يغني الموت حول العربة،
وهي تهوى تحت أمطار الدجى مضطربة).
(تحت األمطار)
هكذا ينتهي الشاعر ،آخر المطاف ،إلى رؤيا رمادية ،بعد أن آل العالم العربي إلى وضع ال يحسد عليه .وكأن تلك األحالم ِ العراض واألشواق ِ الحرار ،التي كانت تسكن النفوس والجوانح ،تبّددت وأضحت قبض ريح:
(خارج ًا من غيابك،
ال قمر في الغياب،
وال مطر في الحضور،
مثلما أنت في حفلة العرس والموت
ال شيء ،إال انتظار مرير،
وانحناء حزين على حافة الشعر، في ليل هذا الشتاء الكبير). (رؤيا)
وكذلك الحال والمال ،بعد طول معاناة وتجوال. لكن مع ذلك، سيبقى شعر الفيتوري ورفاقه أجمل وأنبل إرث وذكرى ،في هذه العقود العربية العجاف. *ناقد وباحث /كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية -الرباط
55
ضد «النقد األسود» شعبان يوسف
منذ حوالي ستين عاماً ،كتب محمود أمين العالم (1922 تطور )2009دراسة حول الشعر المصري ،وتناول فيها ّالشعر منذ مدرسة الديوان ،إلى مدرسة أبولو ،إلى الشعر الجديد ،وكان العالم ينتصر لنظرية الواقعية ،وكتب دراسات ومقاالت وآراء عديدة في صحف ومجالت ،تطبيق ًا على هذا المنهج ،وكان يرافقه في هذه الكتابات الدكتور عبدالعظيم حركت الدكتور أنيس ،وأثارت هذه المقاالت ردود فعل عديدةّ ، طه حسين ،وتكلّم عباس العقاد وقال« :إنهما شيوعيان ،ولن أرد عليهما ،بل سأقبض عليهما» ،ودخــل في ّ المعركة توفيق الحكيم ،الذي كتب سلسلة مقاالت تحت عنوان «األدب للحياة» ،وكتب د .محمد مندور ورد علي الراعي وأحمد عباس صالح ،واشتعلت الحياة الثقافية واألدبية .في هذه الدراسة التي تطرق كتبها محمود العالم عن الشعر المصريّ ، إلــى تجربة الشاعر الشاب وقتها محمد مفتاح الفيتوري ،الــذي كــان يعيش في مصر ،وكان ينشر قصائده في عدد من المجالت المصرية، مثل الرسالة الجديدة ،والمجالت اللبنانية ،مثل اآلداب واألديــب ،ولم يكن قد أصدر بعد ديوانه األول ،وكانت أولى قصائده قد كتبها عام ،1948 متأثرًا بإفريقيته وبلونه األسود:
(اآلن وجهي أسود
وألن وجهك أبيض.. سميتني عبد ًا!) .
بعدها التقى في الخرطوم أحد مواطنيه ،وقدمه إلى الفنان عثمان وقيع ،ونهره هذا الفنان قائالً: (ما هذا الشعر الذي تكتبه يا أخي ..لقد فضحتنا.. إنني أكــرهــك) .ويعترف الفيتوري ُمستطرداً: «لقد أردت بالفعل أن أفضح واقعنا األسود ،ولن أسمح لنفسي بتزييف هذا الواقع ..أريد أن أكون صادق ًا مع نفسي أوالً ..وأن يكون ما أكتبه هو 56
أتعرف على الوجه اآلخر ما أحسه ..غير أنني أطمح إلى أن ّ لشقائي ..وال تحسبوا أنني وحدي فمعي الماليين» ،هذا الكالم كتبه الفيتوري عام 1966في مقدمة ديوانه «اذكريني يا إفريقيا» ،أي بعد كتابة قصيدته األولى بما يقرب من عشرين عاماً ،وبعد أن أدرك تجربته بعمق ،ولكن الشعر الذي كتبه في تلك المرحلة المبكرة لم يكن معبرًا تعبيرًا دقيق ًا عن تلك الكلمات ،لذلك كتب العالم في دراسته« :الفيتوري يقف موقف ًا وسط ًا في حركة الشعر الجديد ،فهو ُيعد امتدادًا لتجربة ناجي،
وهو يعيش داخل مأساته الخاصة ،ومشاعره الحادة ،وهو لم يتخلّص بعد من اإلطــار التقليدي للتعبير ،ولكنه يتميز بقدرة خارقة -تفوق قدرة ناجي -على إبراز القسمات وتجسيد الرؤية واصطناع الصور في جو رمزي غيبي ..وأنه لو نجح في التخلي عن قيود الشكل التقليدي وفي استيعاب اآلفاق الجديدة والمشاركة في تعميق أبعادها الرحبة فسيكون له ورد عليه الفيتوري – كما سنوضح فيما بعد –، شأن كبير»ّ ، وكان قد استفاد من حواره مع العالم ،وبدأ يخرج من ذاته المتألمة ألن جلدته ســوداء ،وراح يتعامل مع األمر بالفعل كقضية عامة تخص ماليين الناس ،وهذا ما ترك أثرًا على مستواه الفني ،وأقــدم الفيتوري على إصــدار ديوانه األول ( ،)1955وذهب بقصائده إلى أستاذه محمود العالم ليكتب له مقدمة ،وصدر الديوان ُمتضمن ًا مقدمة رئيسية لمحمود العالم ،ومقدمتين أخريين لزكريا الحجاوي ورجاء النقاش. وكان المنهج الواقعي يتجلّى في مقالة محمود العالم ،إذ يقول عن الفيتوري« :وكان يقف على العتبة األخيرة من الفئة البورجوازية الصغيرة التي يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من أجل العيش ،وتمزقه قيمها المنهارة القلقة ،وترددها القاتل، وتهدده هوات الشقاء التي تفتأ تتسع تحت أقدامها بين يوم وآخر ..في هذه المدينة التجارية الكبيرة -يقصد اإلسكندرية- التي ال تكف سفنها عن المجيء والذهاب ،والتي تقيم فيها الطبقة األرستقراطية األوروبية البيضاء مجتمع ًا يكاد يكون ال على أبناء البالد ..والتي ال تعرف الوجه األسود إال ُمقف ً خادم ًا ذليالً ..واتخذت رحلته من الشعر مركب ًا لها ..واستهلت سبيلها متخذة حمولتها من هذه األجواء جميعاً ..حصيلة من الضياع والغربة واإلحساس البالغ بالدمامة والمهانة» ،وبعد أن صدرت الطبعة األولــى من ديــوان «أغاني إفريقيا» ،لم يعجب هذا الكالم الكاتب الصحافي فتحي غانم ،فشن هجوم ًا ضاري ًا على محمود العالم ،في مجلة «آخر ساعة» ،موقع ًا مقا ًال تحت عنوان «النقد األســود» .وأورد فتحي غانم فقرة يزعم أنها للعالم تقول «:إن الفيتوري يخدع نفسه ويخدع قـّـراءه ،وأنه يعيش داخل مأساته الخاصة ،وأنه خائن ال يستحق شرف الدفاع عن الرجل األسود ،وأنه وزميله الكاتب األميركي ريتشارد رايت كالهما جاهل ،ليس هناك ما يسمى بالقومية اإلفريقية ،وأن إفريقيا ليست موطن ًا للرجل األسود»، وفي العدد الصادر من مجلة روز اليوسف في 28نوفمبر/ تشرين الثاني ،1955كتب محمود العالم ردًا على فتحي غانم ،واعترف بأن بعض الكلمات التي جاءت في الفقرة ورد السابقة ،قد كتبها بالفعل ،ولكن بعضها اآلخر لم يكتبهّ ، عليه الفيتوري في مجلة «اآلداب» .وما كان من فتحي غانم إال أن قرأ مقدمة الديوان ،وقرأ ما كتبه الفيتوري سابقاً ،وشن هجوم ًا على العالمُ ،مختِلق ًا بعض العبارات والمفردات التي لم ترد عند العالم ،ال في مقاله بمجلة اآلداب ،وال في مقدمة الديوان ،وينتهي العالم ،في رده على غانم ،إلى أن «:حقيقة مشكلة فتحي غانم أنه يرفض المعالجة الموضوعية لألدب، كما يرفض كذلك المواجهة الموضوعية لحياتنا اإلنسانية،
ومثل هذا الرفض هو الذي يمنعه من البحث الجاد ،ومن تحري يتصور أن الحقيقة والوقوف إلى جانبها ،وهو الذي يجعله ّ المسألة فيها تهديد ووعيد ...ولكن التهديد والوعيد في الحقيقة صوت صادر من أعماقه». وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه المناقشات، كتب محمد الفيتوري شهادته عن هذا الجدل ،وعن العالم في مقدمته لديوانه «اذكريني يا إفريقيا» ،والمقدمة مؤرخة بتاريخ الفاتح من يناير/كانون الثاني « :1966إن محمود أمين العالم ،أكثرهم جدية ،وإحساس ًا بمسؤولية الناقد.. إنني أحمل له قدرًا كبيرًا من المحبة والتقدير ،غير أنني أثق تمام ًا في خطأ موقفه من االتجاه الشعري الجديد الذي تبلورت مالمحه في ديواني «أغاني إفريقيا» ..هل الخطأ في الموقف، أم أن الخطأ في التفسير؟ في النظرية أم في التطبيق؟ ،قلت له ،وأنا أناقشه في مجلة «اآلداب» :إنك ال تستطيع أن تتعمق في مأساتي ..ألنك ال تستطيع أن تعيش تجربتي».. قال لي :إنها مأساتك الخاصة ،تسقطها على قارة بأكملها على إفريقيا ..إنك شاعر مريض.. قلت له :المرضى كثيرون ،وأنا واحد منهم ..كلهم يعانون مثلي ..أقصد كلنا ..ثق فيما أقول ..وأنا أريد في -هذه المرحلة من شعري -أن أتطهر من مرضي ..بأن أبوح به ..لقد جرؤت على أن أكسر الصدفة من الداخل ،ولذلك تجدني أغني ُمبتهج ًا بمادة حزني:
(قلها ..ال تجبن ..ال تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي ..وأبي زنجي الجد ..وأمي زنجية
أنا أسود ..أسود..
لكن حر أمتلك الحرية.)..
قال لي :إنك تمزق القضية ،وتمزق الطبقة ،وتمزق الكتلة الجماهيرية الواحدة بدعواك إن هناك قضية منفصلة للسود.. إن العامل األبيض والعامل األســود ،ينوءان معاً ،تحت عبء تاريخي اجتماعي واحد ،هو عبء الرأسمالي األبيض والرأسمالي األسود ..عبء االستعمار واالستغالل ..فالقضية إذن ليست قضية أسود وأبيض ،إنها قضية ُم ِ ستغل.. وم َ ستغل ُ قلت له :هذا حق ..وحق أيض ًا هذه الوراثات والخصائص النفسية والفسيولوجية ..هــذه األحاسيس واالنفعاالت الملتوية التي انحدرت إلينا مع عذابات التاريخ ..إن بصمات عهد العبودية تركت آثارها على األرواح أيضاً ،وليس على األجساد». الحاد والحاسم في اختالف موقف الشاعر الحوار هذا ورغم ّ عن موقف الناقد ،إال أن الفيتوري ينهي شهادته قائالً« :وعلى الرغم من كثرة المتكلمين ،فقد َظّل صوت محمود أمين العالم، أعلى األصوات ،وأعمقها في وجداني». 57
أحتفي بزنوجتي
رانيا مأمون
تغنَّى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري بإفريقيا كثيراً ،ومنذ أول قصيدة كتبها عن إفريقيا «إلى ٍ وجه أبيض» عام ،1948 اعتبر أن كل ما سبقها من كتابة شعرية إنما هو إجهاض لميالد تجربته اإلنسانية الحقيقية ،التي يريد التغني بها وإعالنها على المأل؛ فهو كما قال يريد أن يكون صادق ًا مع يحسه ،غير أنه يطمح نفسه أوالً ،وأن يكون ما يكتبه هو ما ّ يتعرف على الوجه اآلخر لشقائه ،وهذا الوجه اآلخر إلى أن َّ هو إفريقيا ومأساتها اإلنسانية الكبرى.
ُ انطلقت ضائع ًا مشرد ًا ومنذ ما أطوي ليالي غربتي
وأمتطي خيول سأمي
كنت عذابيِ .. ِ أنت يا إفريقيا
ِ وكنت غربتي التي أعيشها ُ وشئت أن أعيشها
هو إذن في سابق أعماله لقصيدة «إلى وجه أبيض» كان متعدد الهويات والجنسيات يبحث عن ذاته ،بحث شاعر قلق ِّ وطن يقبع بين البين ،بين التخوم ،يبحث عن هويته ،عن ٍ ينام مطمئن ًا على ذراعه متمرغ ًا في ترابه ،كان كذلك يبحث ٍ يتسع للتمزقات النفسية ،لأللم والعذاب الذي عن فني َّ شكل ّ 58
لوعيه عاشه ألنه مختلف ،مختلف اللَّون ،الشكل والجذور. ِّ رسم لنفسه اتجاه ًا شعري ًا جديداً ،أذاب الّتام بهذا االختالف َ أعم ،إفريقيا أرض ًا وشعباً ،نضاالً فيه ذاته الصغرى في ذاتية ّ وتطلع ًا لالنعتاق. الفيتوري أوفر الشعراء إنتاج ًا عن موضوعة إفريقيا (ثالث مجموعات ومسرحية شعرية) ،بل أكثر من كتب عنها في اللغة العربية مقارنة بشعراء العربية ،لكنه ليس الوحيد الذي كتب السودانيين ،فقد كان معه عن إفريقيا من الشعراء والكّتاب ُّ السر حسن ()2013 - 1935 من رفقائه وأصدقائه الشاعر تاج ِّ شاعر القصيدة الشهيرة آسيا وإفريقيا:
ُ أعزف يا قلبي األناشيد القديمة عندما
ّ ويطل الفج ُر في قلبي على أج ُنح غيمة ِ لألرض الحميمة سأغني آخر المقطع
للظالل ال ُز ِ رق في غابات كينيا والماليو
وكان معه في القاهرة كذلك الشاعر محيي الدين فارس ( ،)2008 - 1936صاحب قصيدة (لن أحيد):
ُ يكبل خطوه ثقل الحديد أنا لست رعديد ًا ِ ّ
وهناك أسراب الضحايا الكادحون
العائدون مع الظالم من المصانع والحقول
لحظة الميالد ما أروع أن نشقى ونحزن ّ المغضن شعبي المغروس في الكونغو
دفء أيامي ،عذاباتي ونبضي
كثيرون هم الشعراء السودانيون الذين اتجهوا صوب صيحة نضالية وثورية إفريقيا في شعرهم ،سواء أكانت ً ضد المستعمر ،أم رؤية تسعى إلى إحياء البعد اإلفريقي هوية سودانية ثقافي ًا وعرقي ًا وحضارياً ،واالرتكاز على َّ بمنهج تجديدي ،على سبيل المثال برز في هذا االتجاه الشاعر محمد عبد الحي (:)1989 - 1944
الصحو جرح ًا سنا ُر تسفر في بالد َّ أزرق ًا ،قوس ًا ،حصان ًا
أسود األعراف َ
الدم فهد ًا قافز ًا في عتمة ِ ّ
معدن ًا في الشمس ،مئذنة
الصخر ،رمح ًا فوق مقبر ٍة - نجوم ًا في عظام َّ كتاب
مألوا الطريق
وعيونهم مجروحة األغوار ذابلة البريق يتهامسون
وسياط ج َّلاد تسوق خطاهمو
ما تصنعون؟
والحق ًا الشاعر جيلي عبد الرحمن ( ،)1931-1990الذي مجد ثائر الكونغو العظيم لومومبا في قصيدته (خمس أغنيات َّ إلى لومومبا):
ورد ٌة حمراء ،كقلبك
أرعشتها ال ِ ّريح في موحل دربك
السلطنة الزرقاء (،)1821 - 1504 وسنار هي عاصمة َّ ٍ مطولة واتخذها الشاعر رمــزًا لهذه العودة في قصيدة َّ (العودة إلى سنار). الفيتوري ( )1936أحد هؤالء الشعراء من الجيل الذي عايش المّد الثوري التحرري في إفريقيا ،حملت أشعاره الصرخة اإلفريقية العارمة والرافضة للمستعمر والستعباده، وقد واكب هذا المّد الشعبي ،بل سبقه اتجاه ثقافي تبلور في أقرت بقبول وتماهي حركة (الزنوجة) في الثالثينيات ،التي ّ اإلنسان األسود لحقيقة كونه أسود صاحب قيم ثقافية وفنية عبر الفيتوري عن هذا بقوله: َّ تخصه وتختلف عن غيرهُ ،ي ِّ
قلها ال تجبن ..ال تجبن قلها في وجه البشرية أنا زنجي..
خد الشمس ذابت فيك أنفاس المروج مثل ِ ّ
الجد وأبي زنجي ّ
يا عيون الطير ،يا أرض الزنوج
أنا أسود..
كل روح تتك َّون
أمتلك الحريَّة
فتفاءلت وغنيت لشعبك
كل شيء يت َّلون
وأمي زنجية
أسود لكني ح ٌّر
59
األســود حـ ّـر ،اللون ال يستتبع العبودية ،فليس ألنه أسود هو عبد ،وإنما ألن هناك أبيض في قارة بعيدة رغب أن يستعبده ويشحن به السفن ،يكّدسه ويكبلّه كي يخدمه، يسأله الفيتوري:
ألئن وجهي أسود
ولئن وجهك أبيض سميتني عبدا ووطئت إنسانيتي
وحقَّ رت روحانيتي فصنعت لي قيد ًا؟
حرقت روحه وهي تستدعي تلك األجساد األسئلة التي َّ المتعرقة واألقــدام الدامية في السفن ،األصفاد والجباه في ُّ ِّ مسيرتها األليمة كي تبني حضارة شعوب أخرى بعرقها ودمها وكرامتها ،كي تعمل في المزارع والمناجم ثم وتقتل ،فقط لكونها ولدت بوجوه ُتغتصب ُ سوداء! لقد أراد الشاعر فضح الواقع الالإنساني وتعريته وإظــهــار الجانب القبيح للوجه األبيض:
كنت صغير ًا
عندما أبصرت عيناي وجه األبيض
المحتقن
ولم أزل أذكر لي إخوة
مشوا عبيد ًا تحت ثقل القيود
والسيد األبيض من خلفهم
وسوطه ملتصق بالجلود
يمكننا القول إن الفيتوري شاعر ثوري، شــاعـ ٌـر ثــائــر ضــّد األبــيــض ،ليس مطلق ـاد، المستبد ،الــجـ َّ أبــيــض ،إنما األبــيــض ُ الم ِ الم ِ ستغل ،تاجر الرقيقُ ،مذل ستعمرُ ، ُ والحقد الذي يأتي ذكره في ومهين اإلنسان. ُ شعره ،ليس حقدًا لعقد نفسية من أسود تجاه أبيض (عقدة لون) ،إنما الحقد نابع من السيد لنفسه ليسترق الحق الذي أعطاه هذا ّ ِّ بذريعته إنسان ًا آخر ،كان آمن ًا في حقله
لتنتفض جثة تاريخنا
ولينصب تمثال أحقادنا
آن لهذا األسود ..المنزوي
60
المتواري عن عيون السنا
يتحدى الورى آن له أن َّ
ٍ ٍ ونظرة قاتمة يتنبأ بمرارة لكننا نقرأه في موضع آخر بمصير شاب ساقه الجند إلى السجن ،في قصيدة (مات غداً) منسي الكفن: حكم عليه بالموت مشنوق ًا مّتسخ الجثة ّ
مات
وملء روحه المس َّودة المحترقة
ماض يغطيه دم المشانق المع َّلقة ٍ
وصرخات الثائرين في السجون المطبقة وأوجه العجائز األليمة المشققة
وهن يرفعن إلى السماء َّ
ابقَ مكانك
معوجة مثل مناجل الحقول أذرعة َّ
فتوهج في نار جروحي َّ
في أسى ذليل
وأعين ًا يغوص فيها ُّ ظل مشنقة
إال أنه وسط القتامة يحلم بغٍد أخضر ،دون ٍ قحط دون ِ المستعمر وطرده من جنة إفريقيا، جوع ،غٍد يتحقق عند دحر ٍ فالشاعر ال يستطيع تغيير لون األرض وال السماء ،لكنه يقدر يبث بها األمل في الغد: أن يرسم لوحة ملونة زاهية ُ
ال بُد أن تصبح يوم ًا غِ لة الحصاد لي
وتصبح السماء واألرض ومجرى الجدول وتنتهي مجاعة التراب والبشر
رؤية الفيتوري الشعرية (اإلفريقية) هامت بالمضامين فانصبت في توصيفها من وشغفت بالقضية اإلنسانية، َّ تعددة ،لم تعبأ هذه الرؤية بالشكل واألسلوب؛ الم ِّ زواياها ُ ألنه يرى أن األصالة ليست وفق ًا للشكل واألسلوب ،وإنما األصالة أصالة الفكر والعاطفة .وعاطفته ملتهبة وانفعاله مضطرب وغضبه عــارم ،لذا ينادي إفريقيا مناداة متوترة تشي باالنفعال والغضب:
ِ أناديك إني
أنادي دمي ِ فيك
أنادي أمتي العارية
إني أنادي األوجه البالية
واألعين ال َّراكدة ..الكابية
لن تصدأ في تربة روحي اصبغ أعالم الثورة يا سيف بالدي الزم الشاعر الحنين والشوق الدائم إلى األرض المقّدسة التي ال يملك شيئ ًا سوى اإليمان بشعبها وتاريخها هذه األرض البعيدة ،إفريقيا األرض الموعودة ،األرض الحلم.
المقدس وسد اآلن رأسك فوق التراب َّ ِّ
واركع طوي ً ال
لدى حافة النهر اركع
سكنت روحه شجر النيل ثمة من ْ َّ
الدجى األبنوسي أو دخلت في ُّ
أو خبأت ذاتها في نقوش التضاريس ثمة من المست شفتاه القرابين َّ قبلك
مملكة ال ُزرق الوثنية
قبلك
عاصفة اللحظات البطيئة
ِ فويك إن لم تحضني صرختي
قبلك
ِ باألبيض المعتدي عاصف ًة
قبلك.
زاحف ًة من ظلمة الهاويَّة
يحتفي الشاعر باألسود ،األسود الرمز ،القارة ،الثائر، اإلنــســان الــذي ستنحني الشمس لهامته وتخشع األرض لصوته؛ ألنه سيملؤها فرح ًا كما امتألت قرون ًا بأحزانه، وتزخر مجموعاته الشعرية بهذا األســود ،أو ما يرمز إليه معان كالدجى ،الظالم ،الليل ،الزنوج، من مترادفات أو ٍ األبنوس ،األمس وسواها من مفردات. يحتفي باإلنسان الزنجي الذي هو أحد الماليين التي ال تموت والتي تولد في كل صباح من جديد ،ويحتفي بالمناضل والثائر ببن بال ،مانديال ولومومبا:
طقس الوجوه المدالة في مهرجان المشانق وألن الفيتوري الشاعر مناضل ،جاء إلى الخرطوم في ذلك اليوم األول من يناير/كانون الثاني 1956يوم االستقالل ليشهد رفع العلم السوداني وتنكيس علم بريطانيا ،كي يحضر ويعيش وينفعل بهذه اللحظة التاريخية المفصلية في تاريخ وحاضر السودان ليكون جزءًا من هذا الحدث ،هو المتغرب طول عمره ،اللحظة التي حلم بها متمني ًا أن ُينثر ّ حبة رمل في جبال وطنه أو أن ُيكتب حرف ًا صغيرًا في نضاله، وحق له ذلك ،فالكلمة نضال والكلمات أصوات حياة وثورة ّ ال تعرف الموت. 61
منذ أكثر من عشــرين عام ًا مضــت ،قامت مجلة الفصول األربعة ،الصادرة عن رابطة األدباء والكّتاب الليبيين ،بإعداد ونشــر عدد خاص عن المشهد
حسني املزداوي
الشعري الليبي ،قمت فيه بإعداد كشف ببليوغرافي عن الدواوين الشعرية التي صدرت للشــعراء الليبييــن ،خالل عقدي الســبعينيات والثمانينيات الماضية والتعريف بأصحابها.
ليبيا والفيتوري
عالقة ملتبسة توقفـــت أمـــام دواويـــن وشـــخصية الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري ،الـــذي يحمـــل جـــواز ســـفر ليبيـــاً ،ويشـــتغل حينهـــا بالســـفارة الليبيـــة فـــي الربـــاط ،فرغـــم قامتـــه الشـــعرية الســـامقة ،إال أننـــي لـــم أج ــد ل ــه وال لش ــعره حض ــورًا ف ــي المش ــهد الشـــعري الليبـــي ،فـــا عالقـــة لمفرداتـــه الشـــعرية بخصوصيـــة المـــكان الليبـــي، عـــدا تلـــك القصائـــد التـــي تغنّـــى فيهـــا ومجـــده فيهـــا. بمعمـــر القذافـــي ّ أمـــا قصيدتـــه الشـــهيرة «أصبـــح ـاق»، الصب ــح ف ــا الس ــجن وال الس ــجان ب ـ ٍ فق ــد ارتبط ــت ف ــي الذاك ــرة الليبي ــة بمحم ــد وردي المطــرب ،وليــس بمحمــد الفيتــوري الش ــاعر ،ف ــإن القذاف ــي ع ــام ،1988ف ــي خضــم نشــوته بحــدث إطالقــه للمســاجين السياســـيين ،وهـــو ُيلقـــي مـــن شـــباك بأحــد المبانــي الحكوميــة بجــوازات الســفر الممنـــوع أصحابهـــا مـــن الســـفرَ ،قـــّد َم الفنــان الســوداني محمــد وردي للجماهيــر المحتشـــدة أســـفل ذلـــك الشـــباك علـــى أنـــه الشـــاعر صاحـــب قصيـــدة أصبـــح الصبـــح ،فذهـــب اســـم الفيتـــوري خطـــأ أو قصـــدًا فـــي زحمـــة تناثـــر الجـــوازات وغبــار هــذا التقديــم المرتبــك الــذي حجــب اس ــم الش ــاعر ،وأب ــرز ص ــورة المط ــرب، خاصـــة أن الجماهيـــر عمومـــ ًا تعـــرف 62
المطربيـــن ،وال تلتفـــت إلـــى المؤلفيـــن والش ــعراء ،ف ــي فرص ــة كان م ــن الممك ــن أن تعـــزز حضـــور هـــذا الشـــاعر ذي األصـــول الليبيـــة فـــي وجـــدان شـــعبه. فهـــل يكفـــي شـــطط المدائـــح السياســـية ،واألصـــول البعيـــدة ،وهـــل يكف ــي ج ــواز الس ــفر لول ــوج خصوصي ــة الحالـــة الثقافيـــة ألي شـــعب؟ ـت عل ــى الش ــاعر الفيت ــوري ع ــن تعرف ـ ُ ّ طريـــق صديقـــه السياســـي والمثقـــف الدبلوماســـي الراحـــل جمعـــة الفزانـــي، الـــذي كنـــت قريبـــ ًا منـــه بحكـــم ظـــروف العمـــل الدبلوماســـي واالهتمـــام بالشـــأن الثقافـــي ،فالتقينـــا معـــه فـــي أكثـــر مـــن مـــكان ..فـــي طرابلـــس ،والربـــاط، والقاهـــرة ،وكانـــت لنـــا حـــوارات ونقاش ــات اقترب ــت فيه ــا م ــن فه ــم بع ــض خصوصيـــات هـــذه الـــروح المتعاظمـــة بشـــعرها. منــذ البدايــة كان انتمــاء الفيتــوري أمــرًا مرتب ــكاً ،فق ــد ُوِل ـ َـد ف ــي منطق ــة الجنين ــة علـــى أطـــراف غـــرب الســـودان ،مـــن أب ليبـــي وأم ســـودانية ،ورثـــت ســـوادها األمـــة المســـترقة ،جـــدة مـــن والدتهـــا َ الش ــاعر ،فأورثت ــاه س ــوادًا ف ــي البش ــرة، وحصـــة موجعـــة مـــن ســـيرة العبوديـــة لتصيـــر فيمـــا بعـــد وطنـــه وانتمـــاءه
ولونـــه اإلنســـاني وقامتـــه الشـــعرية المتس ــامقة ،ولذل ــك كاف ــح ف ــي التش ــبث به ــذا الوط ــن الجدي ــد ،وه ــذا الل ــون ال ــذي انتش ــله م ــن مأزق ــه الوج ــودي ،فأصب ــح موضـــع تقديـــر وإشـــادة ،بـــد ًال مـــن أداة تحقيــر وازدراء ،مــع أن ظهــور الفيتــوري كش ــاعر متف ــرد ج ــاء م ــع احت ــدام الحداث ــة الشـــعرية العربيـــة ،وانطـــاق قصيـــدة النثـــر ،إال أنـــه كان علـــى يميـــن حركـــة الحداثـــة الشـــعرية العربيـــة ،مـــع مـــا شـــابه قصيدتـــه مـــن غنائيـــة ومباشـــرة وخطابـــة تجاوزهـــا العصـــر. لقــد عثــر فيــه المفكــر المصــري محمــود أمي ــن العال ــم عل ــى لقيت ــه الش ــعرية ف ــي وقتهـــا المناســـب ،وكانـــت هـــذه النبتـــة اإلفريقيـــة الصغيـــرة فـــي حاجـــة إلـــى عنايـــة أبويـــة بعـــد أن أربكهـــا بـــؤس وتجرعـــت مـــرارة ظاللـــه الســـواد َّ التاريخيـــة ،وبعـــد أن بعثـــر تشـــتت الديـــار موضـــوع االنتمـــاء ،لذلـــك اهتـــم أميـــن العالـــم بهـــذه النبتـــة الحائـــرة وقدمهـــا لقـــادة مصـــر كصـــوت شـــعري إفريقـــي بلغـــة عربيـــة أزهريـــة فصيحـــة وس ــواد إفريق ــي صمي ــم ،يحتاج ــه عب ــد الناص ــر لدع ــم جه ــوده لمواجه ــة الغ ــرب المس ــتعمر ،ولي ــس هن ــاك ص ــوت أنس ــب م ــن الفيت ــوري ف ــي ه ــذه الظ ــروف ليق ــوم
بالـــدور الشـــعري المطلـــوب. ع ــن ق ــدوم أس ــرة الفيت ــوري م ــن دار مســـاليت بغـــرب الســـودان إلـــى مصـــر، حدثن ــي ش ــيخ األدب ــاء الليبيي ــن األس ــتاذ عل ــي مصطف ــى المصرات ــي ع ــن حض ــور وال ــد الش ــاعر الع ــم (مفت ــاح رج ــب كريب ــة الفيتـــوري) إلـــى مصـــر ،حيـــث يقيـــم المهاج ــرون الليبي ــون ،فق ــد ج ــاء الرج ــل يعـــرف يلتمـــس إســـناد ظهـــر أســـرتهّ ، بأنه ــم ليبي ــون م ــن عائل ــة عم ــر م ــن أوالد الش ــيخ م ــن فواتي ــر مدين ــة زليت ــن الت ــي اشـــتهرت بشـــيخها ســـيدي عبـــد الســـام األســـمر الفيتـــوري صاحـــب الطريقـــة العروســـية الصوفيـــة. وفـــي جـــو جديـــد مختلـــف عـــن الســـودان ظهـــرت واســـتفحلت عقـــد الصب ــي الفيت ــوري ،ليعي ــش ف ــي حي ــرة، ب ــا انتم ــاء واض ــح ،ف ــا ه ــو س ــوداني بمولـــده ،وال هـــو مصـــري بإقامتـــه ،وال هــو ليبــي بأصولــه ،رغــم االســم الليبــي الصميـــم لوالـــده مفتـــاح ،اســـم ســـيكون ل ــه مفتاح ـ ًا لول ــوج عال ــم القذاف ــيُ ،بعي ــد وصول ــه إل ــى الس ــلطة ف ــي ليبي ــا صي ــف .1969 خـــال ســـبعينيات القـــرن العشـــرين وجـــد القذافـــي فـــي الفيتـــوري شـــخصية يمكـــن بهـــا إحـــراج غريمـــه الرئيـــس الســـوداني جعفـــر نميـــري ،كمـــا وجـــد الفيتـــوري فـــي القذافـــي مـــا يفتقـــده مـــن منصـــب ومـــال وتعويضـــه عمـــا
فـــات ،فوجـــد جـــواز الســـفر والوظيفـــة الدبلوماســـية المســـتمرة ،والســـيارة الفاره ــة الت ــي تحم ــل أرقام ـ ًا دبلوماس ــية لحوالـــي أربعـــة عقـــود مســـتمرة، فـــي مخالفـــة بينـــة لشـــروط العمـــل الدبلوماســـي فـــي ليبيـــا ،وأذكـــر عنـــد مشـــاركتنا فـــي أحـــد االجتماعـــات الدبلوماســـية بالربـــاط نهايـــة ،1992 اســـتضافنا الشـــاعر الفيتـــوري بحكـــم العالقـــة التـــي كانـــت تربطـــه بالوزيـــر الفزان ــي ودعان ــا االثني ــن إل ــى وليم ــة ف ــي بيت ــه ،حاول ــت أن أتع ــرف عل ــى عالقت ــه بليبيـــا مـــن خـــال مـــا يجمعـــه ببلـــده، فل ــم أج ــد إال تل ــك المف ــردات الث ــاث الت ــي كان يح ــرص عل ــى اس ــتمرار اس ــتحالبها، وكان س ــبيله ف ــي الحص ــول عليه ــا رب ــط عالق ــة م ــا بمعم ــر القذاف ــي الرج ــل الق ــوي تـــورط كالهمـــا فـــي ليبيـــا آنـــذاك ،فقـــد ّ ف ــي اآلخ ــر ،القذاف ــي ح ــاول ف ــي البداي ــة ـوح ب ــه ف ــي وج ــه غريم ــه نمي ــري، أن يل ـ ِّ ويقـــال إنـــه اســـتخدمه لبعـــض الملفـــات الخاص ــة ،ث ــم بح ــذر السياس ــي اس ــتطاع أن يشـــتري لســـان الشـــاعر فيـــه ،وأن يبقـــي بـــركان هجائـــه خامـــداً. وعندمـــا أبلـــغ الفيتـــوري بوصولـــه إلـــى ســـن التقاعـــد ،وهـــو بالســـفارة الليبيــة فــي القاهــرة ،رغــم تقهقــر تاريــخ ميــاده الحقيقــي ألكثــر مــن ســت ســنوات لينع ــم بمزي ــد م ــن س ــني االمتي ــازات ،ل ــم يجـــد أمامـــه إال إشـــعال بـــركان الهجـــاء
الخامـــد فـــي أعماقـــه ،فأنشـــأ قصيـــدة هجـــاء فـــي الســـفير الليبـــي بالقاهـــرة، عيـــره فيهـــا بســـواد لونـــه ،ويصفـــه ُي ِّ بأنـــه عبـــد ،ونســـي أن لونـــه الشـــعري مـــا كان لـــه أن ينجـــح ويترســـخ لـــوال دفاع ــه ع ــن الس ــود ،ورف ــض عبوديته ــم فــي شــعره ،ولكــن بمجــرد أن شــعر بــأن غطـــاءه المالـــي وامتيازاتـــه الســـرمدية ـدة هج ــا ب ــدأت تته ــاوى ،حت ــى وزع قصي ـ ً وعيـــره بلونـــه، فيهـــا صديقـــه األســـود ّ وبالتالـــي انفضحـــت حكايـــة أذكرينـــي يـــا إفريقيـــا والدفـــاع عـــن المســـتعبدين واألرقـــاء ،واتضـــح أنهـــا مجـــرد عقـــدة نفســـية ،وليســـت نضـــا ًال ُمترســـخ ًا فـــي وجـــدان شـــاعر مناضـــل. اتـــكأت حالـــة الهجـــاء الخامـــدة فيـــه علـــى شـــعراء عظـــام فـــي التاريـــخ الشـــعري العربـــي ،وهـــو إن وجـــد فـــي الشـــاعر األســـود عنتـــرة بـــن شـــداد مـــا يدعـــم روحـــ ًا شـــعرية منبثقـــة مـــن غضب ــة الس ــواد ،ف ــإن ش ــاعرًا آخ ــر ه ــو األقـــرب إليـــه – رغـــم الفـــارق – ودليلـــه ف ــي انتهازي ــة الموق ــف السياس ــي ،لذل ــك فه ــو يس ــتضمر حال ــة المتنب ــي ،إذ هج ــا عيـــره بســـواده، كافـــورا اإلخشـــيديُ ،ي ّ وعبوديتـــه القديمـــة ،فلـــم ال يكـــون هـــو متنب ــي عص ــره ،يهج ــو أخش ــيدية س ــفير القذافـــي ،ولســـان حالـــه يقـــول إيـــاك أعنـــي واســـمعي يـــا جـــارة؟ تالفـــى القذافـــي الموضـــوع بنفســـه، وأطفـــأ فتيـــل قنبلـــة الهجـــاء الســـوداء التـــي كادت تنفجـــر فـــي وجهـــه ،وهـــو يعـــرف أن ضررهـــا ال توقفـــه األزمـــان، وعارهـــا البالغـــي ال يمحـــوه التاريـــخ، فس ـّـرب م ــن خ ــال لق ــاء ف ــي التليفزي ــون الليبــي مقولــة إن الشــعراء ال يتقاعــدون، محـــاو ًال بذلـــك أن يوصـــل رســـالة مالطفـــة واعتـــذار للشـــاعر القنبلـــة ـــج َو ُطويـــت بـــأن أمـــر تقاعـــده قـــد ُعوِل َ صفحت ــه ،متناس ــي ًا أن التقاع ــد ال يتعّل ــق بالفيتـــوري الشـــاعر ،وإنمـــا بالفيتـــوري الموظ ــف ،وبذل ــك ضم ــن كالهم ــا عواق ــب غضبـــة اآلخـــر ،بعـــد أن ذهـــب ســـفير القذاف ــي بالقاه ــرة كب ــش ف ــداء ،واحتف ــظ القذاف ــي بصف ــاء قصائ ــد الم ــدح والتمجي ــد التـــي قالهـــا فيـــه الفيتـــوري. 63
تربــى فيهــا محمد الفيتــوري كان لهــا أكبــر األثر على اإلســكندرية التــي ّ
الشــاعر ،فقد كانت رؤيته الحاكمة للعالم تتميز بطابع إنســاني ،فمع أنه سوداني الجنسية مصري الثقافة ،كانت إفريقيا مركز وعيه ومركز الداللة
فتحي عبد الله
التوجــه عن دور مصر الشــعرية األساســية في تجربتــه ،وال ينفصل هذا ُّ
اإلقليمــي فــي تلــك المرحلة ،وال عــن توازنات العقل فــي العالم ،خاصة أن إفريقيــا قــد أصبحت مع ثــورة يوليو إحدى مناطق النفوذ والســيطرة لمقاومة االستعمار القديم،
شاعر الثورات المغدورة وقـــد أصـــدر الفيتـــوري دواوينـــه األولـــى «أغانـــي إفريقيـــا» (،)1955 «عاشـــق إفريقيـــا» (« ،)1964اذكرينـــي يـــا إفريقيـــا» ( )1965فـــي ســـياق مـــا كان يحـــدث فـــي العالـــم مـــن تغيـــرات، ومتوافقـــ ًا مـــع اســـتراتيجية الدولـــة المصريـــة فـــي إفريقيـــا وآســـيا ،ومـــن هنــا فقــد طغــى الحــس الثــوري ذو اللغــة الرومانســـية علـــى بدايـــات تجربتـــه. إن ارتب ــاط الفيت ــوري بمص ــر ارتب ــاط رمـــزي ،ال يمكـــن حصـــره فيمـــا هـــو سياس ــي أو أيديولوج ــي ،وإنم ــا يمك ــن إحالتـــه إلـــى الوعـــي أو إلـــى الســـياق تربـــى فيـــه. الثقافـــي الـــذي ّ إن حداث ــة ال ــرواد ف ــي ش ــعر الع ــرب ل ــم تك ــن مفصول ــة ع ــن م ــا يح ــدث ف ــي الش ــرق األوس ــط م ــن صراع ــات ،س ــواء أكانـــت داخليـــة أم خارجيـــة ،وكانـــت اســـتجابة روحيـــة ورمزيـــة لتلـــك الفئـــات الفاعلـــة فـــي تلـــك الحقبـــة. وكانـــت االقتراحـــات الشـــعرية متنوع ــة ومختلف ــة ،وتتقاط ــع جميعه ــا ِّ مـــع فعـــل الحداثـــة مهمـــا كانـــت درجـــة الوعـــي واالنحيـــاز االجتماعـــي، فهنـــاك الليبراليـــة ممثلـــة فـــي صـــاح 64
تمجــد عبدالصبــور وأنســي الحــاج ،التــي ِّ حري ــة الف ــرد ف ــي المجتم ــع مهم ــا كان ــت أفعالـــه ،وهنـــاك القوميـــة ُممثَلـــة فـــي حج ــازي ،خلي ــل ح ــاوي ،والفيت ــوري، والت ــي تس ــعى إل ــى خل ــق وع ــي جمع ــي يدع ــو إل ــى التح ـ ُّـرر م ــن االس ــتعمار ،أم ــا النم ــوذج الماركس ــي ال ــذي اعتم ــد الرؤي ــة القائمـــة علـــى الصـــراع الطبقـــي فـــي الداخـــل ورفـــض الرأســـمالية العالميـــة فـــي الخـــارج فقـــد كان ممثلـــه ســـعدي يوســـف. تميــز الفيتــوري دون غيــره مــن ولقــد ّ شـــعراء العـــرب باالنحيـــاز إلـــى قـــارة إفريقيـــا ال علـــى المســـتوى السياســـي فقــط وإنمــا بمــا تملكــه مــن ثقافــة شــديدة الخصوصيـــة ،ســـواء أكانـــت ماديـــة أم رمزيـــة ،فقـــد كشـــف مـــا تعرضـــت لـــه إفريقيـــا مـــن اضطهـــاد واســـتبداد مـــن قب ــل ق ــوى االس ــتعمار القدي ــم ،فق ــد ت ــم نهـــب ثرواتهـــا وتدميـــر وعيهـــا الفطـــري وإثـــارة النزعـــات العرقيـــة والطائفيـــة بيـــن شـــعوبها ،كمـــا تمـــت الســـيطرة عليه ــا سياس ــي ًا وعس ــكري ًا حت ــى خلق ــوا لـــدى شـــعوبها قابليـــة لالســـتعمار. وكان الفيتـــوري مـــن أوائـــل
شـــعراء إفريقيـــا المناهضيـــن للنمـــوذج الكولونيالـــي ،إذ تماهـــى وتقاطـــع مـــع الوعـــي الجمعـــي لهـــذه القـــارة وكشـــف التمـــرد والعصيـــان فيـــه، عـــن جـــذور ُّ كمـــا كشـــف عـــن أســـاليب الوحشـــية الت ــي يمارس ــها الغ ــرب تج ــاه أبن ــاء ه ــذه القـــارة مـــن اســـتعباد رغـــم طوباويـــة الخطـــاب الـــذي يروجـــون لـــه. لقــد بعــث الفيتــوري أســاطير إفريقيــا وقوته ــا الروحي ــة الت ــي تمث ــل المقاوم ــة الحقيقي ــة تج ــاه ه ــذا التوح ــش ،وأظه ــر أن أبنـــاء القـــارة الســـوداء يمتلكـــون رؤيـــة أكثـــر إنســـانية تجـــاه العالـــم، فه ــم مازال ــوا يعيش ــون عل ــى الحض ــارات القديمـــة وهـــي حضـــارات أقـــل توحشـــ ًا وأق ــل عنصري ــة مم ــا يح ــدث ف ــي العال ــم الغربـــي .ويقـــول:
إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه ما لقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا.
هذه رؤيته على المستوى المعيش
واليومي ألبناء القارة ،إال أنه يدفعهم
دفع ًا إلى المقاومة والعصيان.
فلقد ثرنا على أنفسنا ومحونا
وصمة الذلة فينا
الماليين أفاقت من كراها ما تراها
خرجت تبحث عن تاريخها
بعد أن تاهت على األرض وتاها
فانظر اإلصرار في أعينها وصباح
البعث
يجتاح الجباها.
أمـــا علـــى المســـتوى الرمـــزي فقـــد واك ــب الفيت ــوري ش ــعرية الزنوج ــة ،إذ يقـــول:
أنا زنجي
قلها ال تجبن
قلها في وجه البشرية أنا زنجي
وأبي زنجي الجد وأمي زنجية
أنا أسود
أسود لكني ح ٌر امتلك الحريّة.
التطهـــر اإلنســـاني المباشـــر فهـــذا ُّ تحـــول لـــدى الشـــاعر إلـــى أيقونـــة قـــد َّ غامضـــة وفريـــدة: «ربم ــا ل ــم ت ــزل تلك ــم األرض تس ــكن صورتهـــا الفلكيـــة لكـــن شـــيئ ًا علـــى ســـطحها قـــد تكســـر
ربما بستان صيفك أبيض في
العواصف لكن برق العواصف خلف سياجك أحمر.
ربما كان طقسك نار ًا مجوسية في
شتاء النعاس الذي ال يفسر
ربما كنت أصغر مما رأت فيك
النبوءات أو كنت أ كبر».
ولقـــد اســـتخدم الشـــاعر ألداء هـــذه
التجربـــة عـــدة تقنيـــات منهـــا: -1اإلقــرار أو االعتــراف بمــا فيهــا مــن لغــة حميميــة ومحاولــة خلــق عالقــة مــع اآلخــر مثــل قصيــدة «أصبــح الصبــح»:
أصبح الصبح وها نحن مع النور التقينا
التقى جيل البطوالت بجيل التضحيات
التقى كل شهيد بشهيد
لم يزل يبذر في األرض بذور الذكريات.
-2القصيـــدة كأنهـــا خطـــاب موجـــه إلـــى اآلخـــر ،وهـــذا يســـتدعي لغـــة حـــادة وعنيفـــة وواضحـــة فـــي اآلن ذاتـــه ،كمـــا يكثـــر فيهـــا اســـتخدام أدوات النـــداء والحـــوار ،وأن تكـــون الداللـــة مشـــتركة بيـــن الشـــاعر والمتلقـــي مثـــل:
يا أخي في الشرق في كل سكن
65
يا أخي في األرض في كل وطن أنا أدعوك فهل تعرفني؟
ولـــم يقتصـــر دور الفيتـــوري علـــى تحريـــر الوعـــي الكلـــي إلفريقيـــا بـــل امتـــد للوعـــي العربـــي ،فقـــد انحـــاز مبكـــرًا للث ــورات ذات الطاب ــع القوم ــي الت ــي كان ــت تدع ــو إل ــى العدال ــة االجتماعيـــة ،وقـــد اســـتطاعت أن تدفـــع الطبقـــة المتوســـطة إل ــى إدارة ش ــؤون الب ــاد مم ــا خل ــق نوعــ ًا جدي ــدًا م ــن الوع ــي وممارس ــات مادي ــة جدي ــدة كان ــت كله ــا تس ــعى إل ــى تحقي ــق حداثـــة مـــا تتقاطـــع مـــن اللحظـــة الراهنـــة ،فهـــو يقـــول:
تبقى أمة عربية رفعت مصاحفها على راحتها وتدفقت موج ًا من األمجاد
تبقى رغم ما حشد الصليبي المعربد تحت رايته
وما استقوى به الموتور والمأجور والجالد
تبقى األرض واألوتاد تبقى فرحة الميالد.
ومـــن اإلشـــكاليات التـــي تســـيطر علـــى الخيـــال والذهـــن العربييـــن مشـــكلة فلســـطين ،فهـــي التـــي تخلـــق الوحـــي الش ــقي ،وه ــي الت ــي تدف ــع المبدعي ــن إل ــى اكتش ــاف أش ــكال جديـــدة لـــأداء:
دوي نفير الثأر يا جراح عشرين سنة نجمة إسرائيل فوق المئذنة
فمن إذن يا وطني
ينهض إلى الصالة
بينما حوافر اليهود تدوس سقف المسجد األقصى وخوذات الجنود تطال المطران العابد والشماس.
إن أســـطورة فلســـطين هـــي أســـطورة الـــذات المجروحـــة الت ــي تم ــارس فعله ــا باس ــتمرار ،ول ــم يس ــتطع الفيت ــوري ف ــي كل تجربتــه أن يغفلهــا ولــو لحظــة حتــى فــي طورهــا األخيــر، فف ــي قصي ــدة طف ــل الحج ــارة ،يكت ــب:
ليس طف ً ال ذلك القادم في أزمنة الموتى إلهي اإلشارة ليس طف ً ال وحجارة
ليس بوق ًا من نحاس ورماد
ليس طوق ًا حول أعناق الطواويس محلى بالسواد إنه طقس حضارة.
إن فع ــل المقاوم ــة هن ــا لي ــس عبث ـاً ،إن ــه قان ــون الحض ــارة
66
التـــي تعلـــي مـــن قيمـــة الحريـــة والعدالـــة (إنـــه العـــدل الـــذي يكب ــر ف ــي صم ــت الجرائ ــم) ،ث ــم يذك ــر أس ــباب الكارث ــة.:
إنها األرض التي لم تخن األرض
وخانتها الطرابيش
وخانتها العمائم
إنه الحق لم يخن الحق
وخانته الحكومات وخانته المحاكم.
ثم يمارس نقد ًا عنيف ًا لالستبداد العربي الذي صاحب
تلك الثورات:
قد م ّر طاغية من هنا ذات ليل
أتى فوق دبابة وتس ّلق مجد ًا
وحاصر شعب ًا
غاص في جسمه ثم هام بعيد ًا
ونصب من نفسه للفجيعة رب ًا.
ث ــم يص ــل الش ــاعر إل ــى ال ــذات العربي ــة ف ــي ط ــور اكتماله ــا م ــن خ ــال أح ــد رموزه ــا الفاعلي ــن وه ــو المتنب ــي وإن اعتم ــد فـــي رؤيتـــه علـــى مـــا هـــو تاريخـــي وعلـــى الصوفيـــة فـــي العالق ــات فظه ــرت ال ــذات وكأنه ــا ق ــادرة عل ــى خل ــق الممال ــك واألســـاطير:
كانوا ملوك ًا على أرض ممزقة يجوع على ثراها النبت والبشر
كانوا ملوك ًا مماليكا وأعظمهم تحت السماوات من في ظلك استتروا
ورحت تنفخ فيهم منك ترفعهم فيسقط البعض أو تبني فينكسر،
أردت تخلق أبطا ً ال تعيد بهم عصر النبوة والرؤيا فما
قدروا.
إن الفيتــوري أحــد رواد شــعر الحداثــة بمــا قـ َّـدم مــن تجربــة الحيـــة متميـــزة ولهـــا خصائـــص فريـــدة مـــن أهمهـــا اللغـــة ّ والخي ــال القري ــب ال ــذي ل ــم ينفص ــل ع ــن الواق ــع ،ونس ــتطيع أن نســـميه بوضـــوح شـــاعر الثـــورات المغـــدورة.
رسالة إلى جميلة أحمد عبدالكريم
«بيننا خائن يا رفيق
أنا أو أنت..
فلنقترع قبل بدء الطريق»
*** قويـــة ،وال أعتـــرف أننـــي ال أملـــك ذاكـــرة ّ الجيـــد ،لكـــن هـــذا المقطـــع ملكـــة الحفـــظ ّ المـــدون أعـــاه ،المأخـــوذ مـــن الشـــعري ّ قصيـــدة «ملـــك أو كتابـــة» للشـــاعر محمـــد ـــل موشـــوم ًا بذاكرتـــي ال الفيتـــوري َظ ّ يبرحهـــا رغـــم توالـــي الســـنوات ومـــرور األيـــام. مأخـــوذًا بالشـــعر العربـــي الحديـــث ورواده األوائ ــل ،رغب ــة من ــي ف ــي اقتح ــام ّ عالـــم الكتابـــة الشـــعرية منـــذ ثمانينيـــات القـــرن الماضـــي ،قـــرأت كل مـــا وقـــع بيـــن يـــدي مـــن دواويـــن الشـــعر الحديـــث التـــي ّ كانـــت دار العـــودة ببيـــروت تصدرهـــا فـــي ش ــكل مجّل ــدات صغي ــرة الحج ــم تض ـ ّـم األعم ــال الش ــعرية الكامل ــة لمعظ ــم الش ــعراء الع ــرب .تمث ــل تنويعـــة لشـــعراء مـــن كل البـــاد العربيـــة تقريبـــاً. معظمهـــم مـــن المشـــرق العربـــي ولـــم يكـــن بينهـــم شـــاعر واحـــد مـــن المغـــرب العربـــي فيمـــا أذكـــر.. ب ــذات الش ــغف ق ــرأت كل ه ــؤالء الش ــعراء ،الذي ــن س ــاهموا فــي صقــل ذائقتــي وتشــكيل وعيــي الشــعري ،غيــر مــدرك ومهتـّـم ألي تفاضـــل جمالـــي أو فنّـــي بينهـــم ،فصـــدور أعمالهـــم عـــن دار ـا ب ــأن يجعلن ــي أعامله ــم الع ــودة بنف ــس األناق ــة والش ــكل كان كفي ـ ً عل ــى ق ــدم المس ــاواة ،وبنف ــس االهتم ــام ،ال ــذي يلي ــق بأس ــمائهم الت ــي كان ــت تم ــأ الدني ــا. كانــت قصائــد هــؤالء الشــعراء تتناســخ ،تطــرق ذات المواضيــع وتصـــدر عـــن وجـــدان جماعـــي واحـــد ،تنحســـر حـــدود التمايـــز بينه ــا إال بالق ــدر اليس ــير .وح ــده الش ــاعر محم ــد الفيت ــوري كان عب ــر ع ــن ُمختلفــ ًا نوعــ ًا م ــا ،كأن ــه ق ــادم م ــن كوك ــب آخ ــرُ ،ي ّ 67
هواجـــس ال ِقبـــل للشـــعر العربـــي فـــي المشـــرق بهـــا .وبقـــدر مـــا كان مؤتلفـــ ًا مـــع ســـيرورة الشـــعر العربـــي كان بينـــاً. ُمختلفـــ ًا عنهـــا اختالفـــ ًا ّ ثمـــة ســـمات ثـــاث تشـــير كانـــت ّ تفـــرد صـــوت الفيتـــوري بيـــن إلـــى ّ نظرائـــه مـــن الشـــعراء العـــرب أولـــى هـــذه الســـمات حساســـيته الصوفيـــة التـــي تجلّـــت فـــي لغتـــه المكثفـــة الغنـــي بمفـــردات وقاموســـه الشـــعري ّ مردهـــا نشـــأته ـــمة الس ّ الداخـــل .هـــذه ّ فـــي بيئـــة صوفيـــة متصلـــة بالطريقـــة الشـــاذلية ،فلـــم يســـلم مـــن تأثيرهـــا علـــى شـــاعريته لغـــة ورؤيـــا ،ولذلـــك فه ــو يس ـّـمي نفس ــه ف ــي إح ــدى قصائ ــده العشـــاق» ،ويعنـــون إحـــدى «ســـلطان ّ مجاميعـــه الشـــعرية بـــ «يوميـــات متجـــول». درويـــش ّ الســـمة الثانيـــة هـــي تعبيـــره عـــن فكــرة الزنوجــة التــي لــم يقاســمه إياهــا أي شـــاعر عربـــي آخـــر ،إذا اســـتثنينا بعـــض إرهاصاتهـــا لـــدى الشـــعراء يســـمون العـــرب قديمـــ ًا ممكـــن كانـــوا ّ غربـــان العـــرب ،ومنهـــم ُســـحيم عبـــد بنـــي الحســـحاس صاحـــب البيـــت المعـــروف المنـــّدد بفكـــرة التمييـــز فـــي ـب عل ــى أس ــاس ل ــون البش ــرة «فل ــو الح ـ ّ كنـــت وردًا لونـــه لعشـــقنني /ولكـــن ربـــي شـــانني بســـواديا». ِّ فكـــرة الزنوجـــة كانـــت رائجـــة لـــدى الش ــعراء األفارق ــة الذي ــن كان ــوا يكتب ــون باللغ ــة الفرنس ــية ،عل ــى غ ــرار الش ــاعر الســـنغالي الكبيـــر «ليبـــول ســـيدار س ــنغور» ،ال ــذي كان ينظ ــر إلي ــه عل ــى أنـــه شـــاعر الزنوجـــة األوحـــد ،وقـــد لقي ــت ص ــدى واس ــع ًا عل ــى أنّه ــا فك ــرة خلقـــة. إنســـانية ّ أســـس التـــي الفكـــرة هـــذه لكـــن ّ لهـــا الفيتـــوري فـــي الشـــعر العربـــي الحديـــث لـــم تلـــق التجـــاوب مـــن لـــدن ـق النّق ــاد الع ــرب ،ول ــم يت ـّـم تثمينه ــا ح ـ ّ التثمي ــن نظ ــرًا ألن الفك ــرة ل ــم تك ــن ف ــي متنـــاول فهـــم النقـــاد فـــي المشـــرق. الس ــمة الثالث ــة ف ــي ش ــعر الفيت ــوري كانـــت مّتصلـــة بـ«اإلفريقانيـــة» أو البعـــد اإلفريقـــي فـــي شـــعره إيقاعـــ ًا 68
وموضوعـــات ،ذلـــك أن انتمـــاء وتشـــبعه الفيتـــوري إلـــى الســـودان ّ بثقافـــة إفريقيـــا ،جعـــاه ينحـــاز وفيـــ ًا إلنســـانها لقضاياهـــا ويكـــون ّ ومناخاتهـــا مـــن خـــال تعبيـــره عـــن مآســـي اإلنســـان اإلفريقـــي ،الـــذي عان ــى م ــن االس ــتعباد والظل ــم والمي ــز ا لعنصـــر ي . وزعـــ ًا بيـــن م الفيتـــوري عـــاش لقـــد ُ ّ بل ــده الس ــودان ،وبي ــن ليبي ــا ومص ــر، وكان األقـــرب جغرافيـــ ًا إلـــى الجزائـــر ـا م ــع ثورته ــا تحسســ ًا وتفاع ـ ً واألكث ــر ّ الت ــي ش ـّـكلت لحظ ــة فارق ــة ف ــي تاري ــخ اإلنســانية ،فــكان أن كتــب «رســالة إلــى جميلــة» بوحيــرد ،إحــدى رمــوز الثــورة الجزائري ــة ف ــي س ــجنها ،مخاطب ـ ًا إياه ــا ـوة ال ــروح: ب ــأن تمنح ــه س ـّـر الحي ــاة وق ـّ
َ األمثال يا جميلة؟ أأضرب ُ َ ُ ارات؟ أأمأل العروق بال ّث ْ ُ بالوجوم؟ أأمأل الوجو َه ْ
السما َء بالغيوم؟ أأمأل َّ
إذ ًا هبيني ساع ًة من حيا ٍة َ السجن روح حيا ِة ٍ داخل ّ ِ الساع َة يا جميلة حياتك ّ
ليل زنزانتِك الطّ ويلة. في ِ
بـــا وفـــي قصيـــدة «إلـــى بـــن ّ ورفاقـــه» التـــي كتبهـــا بعيـــد اســـتقالل أول الجزائ ــر ،مخاطبــ ًا أحم ــد ب ــن ب ـّـاّ ، رئيـــس للجزائـــر ،ربطتـــه بـــه عالقـــة ـوار الجزائــر خاصــة ،ومــن خاللــه كل ثـّ وشـــهدائها:
«سبع سنين وأياديكم تطرق باب التاريخ تبني هرم ًا للحرية
تبنيه بعظام الشهداء
بإرادة مليون ضحية».
ف ــي غم ــرة ه ــذا االحتف ــاء الش ــعري، لـــم ينـــس الفيتـــوري أن يضفـــي البعـــد اإلفريق ــي عل ــى ث ــورة الجزائ ــر كم ــا ه ــو
ديدن ــه:
«إ ّني أحني رأسي كبرا
إني أحفظه في إكبار فأنا إفريقي وجزائر بن بلّا إفريقيـ ْة
ما أجمـل أن يصحو إنسان
فإذا التاريخ بال قضبان
وإذا الثورة في كل مكان تركز أعالم الحري ْة
إفريقيةْ». في أرضي ...في ّ
أقـــل عالقتـــه بالجزائـــر لـــم تكـــن ّ األم ،وقـــد ّ قـــوة مـــن عالقتـــه بإفريقيـــا ّ امتـــّدت فـــي شـــخص صديقـــه الشـــاعر الســـوداني جيلـــي عبدالرحمـــن الـــذي أقـــام بالجزائـــر أســـتاذًا بالجامعـــة لفتـــرة طويلـــة ،وفيهـــا أصـــدر ديوانـــه «الج ــواد والس ــيف المكس ــور» ،قب ــل أن يغـــادر إلـــى القاهـــرة بســـبب العشـــرية الحم ــراء الت ــي عاش ــتها الجزائ ــر ،حي ــث توفـــي هنـــاك. اآلن أدرك كـــم أن الحيـــاة الثقافيـــة لــم تكــن عادلــة مــع الشــاعر الفيتــوري، فهمـــش ،ال اقتـــرب فُأبعـــد ،وانخـــرط ّ لشـــيء إ ّال ألن صوتـــه كان قادمـــ ًا مـــن قـــارة أخـــرى ،شـــديدة الســـمرة .وفـــي ّ هــذا المعنــى أفهــم مقطعــه الــذي يختــزل بـــكل الخيانـــات التـــي حدثـــت نبوءتـــه ّ وتحـــدث فـــي التاريـــخ. إن الخيانـــة التـــي يتـــم امتحانهـــا باالقت ــراع ال باالّته ــام واالفت ــراق ليس ــت بالتأكي ــد خيان ــة سياس ــية عادي ــة ،ب ــل ه ــي خيان ــة م ــن ن ــوع خ ــاص ،أو فع ــل رمـــزي مطلـــق.. مهمـــا جمـــح الخيـــال فلـــن يســـتطيع تصـــور مشـــهد رفيقيـــن يقترعـــان قبـــل ّ بداي ــة رحلتهم ــا ،ال م ــن أج ــل أن يفترق ــا كل ف ــي طريق ــه ،ب ــل م ــن أج ــل ويذه ــب ٌ أن يعرفـــا أيهمـــا الخائـــن وحســـب(.أنا) المتكلّـــم أو (أنـــت) المخاطـــب ،دون خي ــار ثال ــث بضمي ــر الغائ ــب جمعــ ًا أو مف ــردًا (ه ــو أو ه ــم) ،فلي ــس اآلخ ــرون هـــم الجحيـــم دائمـــاً ،وخيانـــة ذوي القربـــى لهـــا طعـــم الذع.
نسوة الفيتوري شاكر نوري
غالبـــ ًا مـــا ارتبـــط الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري فـــي أذهاننـــا بأنـــه شـــاعر الملتهِبـــة، القضايـــا القوميـــة ،ذلـــك الحامـــل لـــروح إفريقيـــا وزنوجتهـــا ُ وخصوصــ ًا انتقاالت ــه م ــن الس ــودان وليبي ــا ومص ــر والمغ ــرب ،م ــا جع ــل أســـطورته أكثـــر ســـطوة علينـــا .وهـــذا أدى إلـــى إهمـــال الحيـــاة الحميمـــة الت ــي عاش ــها ف ــي ش ــعره وف ــي حيات ــه .ول ــو تطرقن ــا إل ــى الح ــب باعتب ــاره محـــورًا مهمـــ ًا مـــن محـــاور شـــعره ،نـــراه يرتبـــط بـــروح صوفيـــة ُملتهِبـــة هـــي األخـــرى ،لذلـــك جـــاء هـــذا الحـــب فـــي صورتـــه الروحيـــة األولـــى، بعيـــدًا عـــن ملـــذات الجســـد ،ألنـــه يبقـــى ذلـــك القـــروي الـــذي يكشـــف عـــن ـوف ،ال ــذي دواخل ــه الدفين ــة ب ــكل خج ــل وب ــراءة .ه ــذا الح ــب ارتب ــط بالتص ـ ُّ تش ـّـرب ب ــه الش ــاعر ،م ــن خ ــال عائلت ــه ومعايش ــته ،لتل ــك العوال ــم الت ــي ـس الحاج ــة إل ــى االمت ــاء الروح ــي، التص ــق به ــا .فق ــد ع ــاش غريبــ ًا بأم ـ ّ وطــرح األســئلة الوجوديــة الواحــدة تلــو األخــرى ،دون أن يجــد لهــا صــدى األجوبـــة.
العاشقة والمناضلة حض ــور الم ــرأة ف ــي ش ــعره الف ــت للنظ ــر ،لي ــس م ــن حي ــث الحج ــم ،ب ــل مــن حيــث األثــر ،المــرأة المحبوبــة كانــت أول مــن يطــرق بــاب قلبــه ،ليــس باعتباره ــا جس ــداً ،ب ــل روحــ ًا متوثب ــة ،مش ــرقة ،وعاش ــقة .وس ــرعان م ــا وج ــد نفس ــه يبح ــث ع ــن ذل ــك القري ــن الروح ــي .ص ــورة الم ــرأة العاش ــقة امتزجـــت بصـــورة المـــرأة المناضلـــة ،كمـــا فـــي رســـالته الشـــهيرة «رســـالة إلـــى جميلـــة» ،رمـــز الكفـــاح ضـــد االســـتعمار الفرنســـي. وم ــا بي ــن هاتي ــن الصورتي ــن للم ــرأة الت ــي ينش ــدها ،يق ــول: فــي قصيدتــه «إلــى امــرأة عاشــقة»« :وســتطبقين جفونــك/ المس ــحورة المتبس ــمة /والح ــب يوق ــد ف ــي س ــراديب الكآب ــة أنجمـــة /وعلـــى شـــفاه الكائنـــات قصيـــدة مترنمـــة /ال.. ل ــم يك ــن وهم ــا ه ــواي /إن ال ــذي حس ــبته روح ــك /ق ــد ـا صارخــاً /جوع ــان تبعث ــر ف ــي خط ــاي /م ــازال طف ـ ً يرض ــع م ــن دم ــاي». هكـــذا تعلّـــق بالمـــرأة مثلمـــا تعلّـــق بالوطـــن، وقضايـــاه ،وغنّـــى لهـــا أعمـــق قصائـــد الحـــب .فقـــد غّن ــى للم ــرأة ،بحس ـّـية عالي ــة .حي ــث كت ــب :أعي ــدوا
69
ســـماوي /مـــن العـــزف /إن حبيبتـــي تصغـــي /وبـــي نهـــر ّ األشـــواق ال يفنـــى. ِ يقــة» يتجّلــى ســرد حكايــة هــذه المــرأة ت ي ع «م َ ْ َ وفــي قصيــدة ُ ِ يقـــة التـــي ترتبـــط بقضيـــة الوطـــن وكفاحـــه «:اســـمها ُم َعْيت َ ...مجـــرد راعيـــة صغيـــرة /ال عالقـــة لهـــا بـــكل مـــا يحـــدث ـت هن ــاك /هك ــذا كان ــت /وذات ي ــوم قب ــل ع ــام /1969خرج ـ ْ بأغنامه ــا /عل ــى مقرب ــة م ــن القاع ــدة األميركي ــة /غي ــر أنه ــا /ل ــم تع ــد ق ــط /فق ــد مزق ــت جس ـ َـدها الصغي ــر /قناب ـ ُـل ق ــوات االحت ــال الت ــي كان ــت /تق ــوم بإح ــدى مناوراته ــا الحربي ــة / يقــة يقــة لــم تكــن لهــا قضيــة ...إنهــا هــي القضيــة ُ /م َعْيِت َ ُم َعْيِت َ ِ الحلـــم فـــي ها ـــعر ش ضفائـــر / ت ل اشـــتع التـــي هـــي أأنـــت / ُ َ ِ َ ُ ِ الغريبـــة /يـــا ُم َعْيِتيقـــة /أكانـــت /تحـــت صواعـــق الخيـــل ـب /والمناقي ـ ِـر الطويل ـ ِـة /والطواحي ــن ـوار الخرائ ـ ِ نف ــس أس ـ ِ ـزن /تغتســل القوافـ ُـل فيــهِ البدائيــة؟ /وكان النهـ ُـر /نهـ ُـر الحـ ِ محطم ـ ًـة /وأش ــجارًا نحاس ــية». /ث ــم ت ــدور أقم ــارًا ّ
بين آسيا والنساء البيضاوات الح ــب ف ــي نظ ــر الفيت ــوري ،جس ــر يمت ــد بي ــن عاطفتي ــن، وبيـــن كائنيـــن ،وبيـــن ذاتيـــن فـــي انصهارهمـــا الوجدانـــي والحميمـــي ،وكل عاطفـــة إزاء المـــرأة هـــي صادقـــة ،وهـــي تمـــده باإلبـــداع والعطـــاء ،والطاقـــة اإليجابيـــة .،وقـــد التـــي ّ ع ــرف الش ــاعر الح ــب م ــرات عدي ــدة ،وه ــو يعتب ــره مقياســ ًا لرجولتـــه ،فهـــو الرجـــل الملتهـــب ،بخرائـــط إفريقيـــا ،هـــذا الزنجـــي ،المندفـــع نحـــو شـــهواته وغرائـــزه وولهـــه ،كان حبـــه الحقيقـــي األول علـــى حـــد تعبيـــره لشـــاعرة بيضـــاء ال يذكـــر اســـمها ،والفيتـــوري عامـــة ال يذكـــر أســـماء نســـائه، يحـــول جميـــع النســـاء إلـــى امـــرأة واحـــدة ،هـــي امـــرأة بـــل ّ ـا ،وهــو لــم الحلــم ،هــي التــي علمتــه العشــق وأنضجتــه رجـ ً يتج ــاوز العش ــرين م ــن عم ــره بع ــد ،وفتح ــت حواس ــه عل ــى معنـــى الحـــب .لكـــن ســـرعان مـــا أصبـــح ذلـــك الحـــب مثـــارًا للش ــك والغي ــرة ،ول ــم يك ــن له ــا ذن ــب س ــوى أنه ــا بيض ــاء، وه ــو الزنج ــي ال ــذي يحم ــل كبري ــاءه عل ــى كتف ــه ،وكان ذل ــك الحـــب نديـــ ًا وقاســـي ًا ووحشـــي ًا إلـــى درجـــة التحـــدي ،وكمـــا يقـــول فـــي إحـــدى قصائـــده مـــن ديوانـــه «أغانـــي إفريقيـــا»: ....فالمســـي جســـمك الثميـــن /فقـــد أدمتـــه يومـــ ًا أظافـــري المنهوم ــة /واس ــألي كل ذرو في ــك /تص ــرخ :إنن ــي كن ــت بي ــن يديـــه غنيمـــة!. بعـــد هـــذه التجربـــة القاســـية ،والموحشـــة ،يقـــع فـــي حـــب امـــرأة ســـودانية ســـمراء ،هـــي آســـيا ،زوجتـــه فيمـــا بع ــد .كان ذل ــك الح ــب ه ــو األش ــد عمقــ ًا وخل ــوداً ،ألن ــه لق ــاء روح ــي بالدرج ــة األول ــى ،عل ــى ح ــد اعترافه ــا ،وه ــو الباح ــث ف ــي تل ــك المرحل ــة ع ــن الم ــرأة ،رفيق ــة الحي ــاة ،والصديق ــة آن واح ــد .ولكنهم ــا ف ــي ه ــذا الح ــب ،يس ــتذكران والزوج ــة ف ــي ٍ تجاربهم ــا الماضي ــة ،ألن ــه مندم ــج ف ــي عص ــارة الحي ــاة ،ب ــكل م ــا فيه ــا م ــن أخط ــاء وأعب ــاء وهم ــوم ،لك ــن ه ــذا الح ــب أع ــاده إل ــى الش ــعر م ــن جدي ــد ،وب ــث في ــه جم ــرة العش ــق .وف ــي ه ــذه 70
المرحل ــة ب ــدأ يم ــزج بي ــن الم ــرأة والح ــب والوط ــن والث ــورة، لكنـــه فـــي الوقـــت نفســـه يخـــاف علـــى الشـــعر مـــن المـــرأة، كم ــا ق ــال ف ــي قصيدت ــه «اذكرين ــي ي ــا إفريقي ــا» :ألهتن ــي تل ــك المــرأة /أنســتني ..فنســيت /كنــا نتحــدث عــن كيــف الكلمــات تم ــوت.».. فـــي حبـــه نلمـــح ،الحقـــل األســـتوائي وغابـــات إفريقيـــا وش ــتاءات الح ــزن .وم ــن هن ــا انتق ــل عاطفيــ ًا إل ــى بي ــروت، حيـــث التقـــى الشـــاعر الراحـــل محمـــود درويـــش ،وهنـــاك تعـــرف أيضـــ ًا علـــى النســـاء اللبنانيـــات ،دون أن يذكـــر ّ أســـماءهن ،لكنـــه كتـــب ديوانيـــن مـــن خـــال هـــذه التجـــارب العاطفيـــة وهمـــا «معزوفـــة لدرويـــش متجـــول» و«ابتســـمي تمـــر الخيـــل». حتـــى ّ هـــذا الجامـــح الخيـــال والمشـــاعر ،ال يقـــف عنـــد امـــرأة واح ــدة ،ب ــل يتنق ــل م ــن واح ــدة إل ــى أخ ــرى ،لكن ــه س ــرعان م ــا يغي ــب ع ــن ه ــذه الم ــرأة ،إن جم ــرة الش ــعر تجعل ــه يتعّل ــق بي ــن عالمي ــن ف ــي العاطف ــة :الش ــهوة والتطّه ــر .يجم ــع بي ــن شـــبق الجســـد اإلفريقـــي ،وبيـــن الغـــزل الشـــريف النبيـــل، ويبقـــى أســـيرًا علـــى هـــذه الثنائيـــة واالزدواجيـــة ،ألنـــه ببســـاطة شـــاعر األبنـــوس األســـود .حبـــه نـــوع مـــن الغنـــاء حـــرك األساســـي الم ّ والعشـــق واالحتـــراق والثـــورة .وهـــو ُ لكتاب ــة الش ــعر .وي ــرى كل م ــن درس ش ــعره أن مث ــال الم ــرأة لدي ــه ه ــي «حبوبت ــه» ،وه ــو اس ــم يطل ــق عل ــى الج ــدة ف ــي الســـودان التـــي تصـــب فـــي أعماقـــه األســـاطير اإلفريقيـــة. وبيــن هــذه الصــورة المثاليــة وبيــن صــور النســاء الالتــي التقـــى بهـــن ،تبقـــى صـــورة المـــرأة عنـــده وهمـــ ًا وشـــبح ًا وطيفــاً ،وربم ــا ه ــذا م ــا يجع ــل ش ــعره مليئــ ًا بالح ــب حت ــى ل ــو كان يتكّل ــم ع ــن الث ــورة.
شاعر المراثي د .عبدالعزيز املقالح
-1الشعر هــو المعجزة المستمرة في حياة العرب ،هكذا كان ،وهكذا سيبقى. والشعراء هم رواد التغيير والوعي الجاد. والشاعر محمد الفيتوري في طليعة هؤالء الرواد ،وهو -باختصار شديد -واحد من أهم الشعراء العرب في القرن العشرين وإفريقيته التي بــدأت غاضبة صاخبة سرعان ما هدأت وتناغمت مع عروبته وخرج منهما شاعر كبير في حجم الوطن العربي وإفريقيا معاً. -2من حقي أن أبدأ هذه التناولة السريعة تعرفت بإشارة إلى صلتي بالشاعر ،فقد ّ عليه ألول مرة في أواخر الخمسينيات من خالل ديوانه األشهر «أغاني إفريقيا»، وأســعــدنــي الــحــظ بعد ذلـــك ،فــي عام تعرفت عليه شخصي ًا في مدينة 1960أن ّ الخرطوم ،كان يومها يرأس تحرير مجلة تحولت في عهده إلى مجلة «اإلذاعة» التي ّ أدبية تتسع صفحاتها للشعر والقصة القصيرة والــدراســة األدبــيــة ،وتكررت لقاءاتنا في ذلــك الحين ،وأتيحت لي الفرصة أن أعــرف من بعض أصدقائه المقربين أنــه خــرج من مصر مغاضب ًا بعد الحملة الــتــي تــعــرض لها اليسار هناك ،ويبدو أنه لم يكن بعيدًا عن ذلك التيار المغضوب عليه ،فهجر موطن أمه ليلتحق بمسقط رأس أبيه ،لكن هجره
ال فقد عاد إليها في لمصر لم يدم طوي ً أواخر الستينيات ،كما أتذكر ،وجمعتنا به جلسات أدبية طويلة وثرية في منزل شاعر سوداني شاب اسمه «أبو آمنة» الملحق الثقافي لسفارة السودان في ذلك الوقت ،وكانت ترافق الشاعر -يومئذ- زوجته الممثلة المشهورة آسيا. وانقطعت صلتي بالشاعر الكبير تجددت في لقاء أعوام ًا طويلة إلى أن َّ حميم تم في صنعاء وفي رحاب «ندوة الفكر والفن» ،التي عقدتها جامعة صنعاء في عــام 1988 انتصارًا لثورة أطفال الحجارة، وكان محمد الفيتوري من أبرز المشاركين في هذه الندوة التي جمعت العشرات من المفكرين والمبدعين والفنانين من شتى األقــطــار الــعــربــيــة .وقــد جاء الفيتوري من لبنان ،حيث كــان مقيماً ،وودت لو كان وقته يسمح لزيارة جنوب البالد ومدينة «عــــــدن» بــخــاصــة، وليتعرف إلى العدد الكبير مــن محبيه والمعجبين بشعره، لكن ظــروفــه كانت كــمــا قــال لــي -التسمح .وكــان آخـــر تــواصــل
بيننا أن بعث لي بواحد من دواوينه األخيرة من المغرب. -3كثير هم الشعراء العرب واألفارقة الذين ٌ كتبوا عن إفريقيا ،وتغنّوا بطبيعتها،
71
وواكبوا نضالها الطويل وتضحياتها في مواجهة قوى االحتالل المختلفة ،لكن يبقى محمد الفيتوري هو شاعرها األول ــل شعره فيها -إال بال مــنــازع ،وإن َظ ّ القليل منه -محصورًا في عروبة لغته. وأزعم أنني قرأت الكثير مما ترجم من قصائد الشعراء األفارقة أمثال سينجور وسيزار ،فوجدت الفيتوري يتفوق على هــؤالء ،ألنــه كــان يكتب شعره -ومنذ بداياته األولى -بأعصاب فائرة ملتهبة، وال يكاد يشبهه في هــذه الحال شاعر عربي أو إفريقي ،وربما كانت ظروف حياته األولى ومعاناته الذاتية والعامة وراء ذلك النوع من االنفعال الذي وجد في الشعر متنفسه الوحيد ،وأمـّده بكل هذا العنفوان في اللغة والصور وأسلوب البناء:
إفريقيا...
إفريقيا استيقظي..
استيقظي من حلمك األسود
قد طالما نمت ...ألم تسأمي؟
ألم تم ِ ّلي قدم السيد؟
قد طالما استلقيت تحت الدجى
مجهدهً ..في كوخك المجهد .
هذا شعر يوقظ من في القبور ،وليس يهز من على قيد الحياة فقط ،شعر ّ جدران المعمورة ال جدران القارة السمراء وحــدهــا ،وقــد كــان له دور ال ُينكر في تغيير مفهوم الشعر لدى كثير من الشعراء الشبان أو الذين كانوا في ذلك الحين -من خمسينيات القرن العشرين -شباناً .وال ننسى أن معظم األقــطــار العربية -إن لم تكن كلها -قد كانت تعاني ما تعانيه أقطار القارة السمراء من احتالل ونهب للثروات وتكميم لألفواه وقمع للحريات ومنع للتنظيمات:
الليل..
القاتلين ..الضحايا مثلي ..ومثلك
نحن المسوخ
نحن السبايا.
يشير عــدد مــن الــدارســيــن إلــى هذه المرحلة من إفريقية الشاعر بقدر من عدم الرضا ،فقد اكتوى خاللها «بلهيب البغض والنقمة والثورة الــســوداء» ،والسؤال هــو :ما الــذي كانوا يريدونه من شاب يعاني وجداني ًا من الشعور بالتمييز واإلحــســاس الجاد باالنتماء إلــى قارة كبيرة مستباحة من قبل األع ــداء ،وما يعكسه ذلك على نفسه الفتية الثائرة من انفعاالت وإحساس بدونية األسود تجاه األبيض:
فقير أجل ..ودميم دميم
بلون الشتاء ..بلون الغيوم يسير فتسخر منه الوجوه
وتسخر منه وجوه الهموم. ال حتى ولكن ما يكاد يمر الزمان قلي ً يستعيد الشاعر صفاء روحه وألق شعره وال يعود للنظر إلــى لــون اإلنــســان بل إلى فعله ،كما لم يعد ينظر في وضع القارة السمراء وحدها ،بل بدأ انشغاله يتسع ويمتد ويشمل واقع أمته العربية وواقــع العالم الــذي كــان في ستينيات القرن الماضي قد بدأ يثور على األصنام والــغــزاة .وبـــدأت القضايا اإلنسانية تــأخــذ مكانها فــي شــعــره ال ــذي ارتقى ال ومضموناً ،وإن لم يهجر النظام شك ً الكالسيكي فقد كان يعود إليه بين حين وآخر وهو عمود حديث في لغته وتركيب الجملة الشعرية فيه.
وفلسطين التي كانت لنا
يقام وقداس ًا سورة ُتتلىّ ، ُ وشيوخ ًا تذكر الله
قدسي ًا بهم كان بيت الله ّ
قبل أن يأتي على القدس الظالم. -4-
ال مبالغة إذا ما قلت إن الفيتوري شاعر المراثي بامتياز ،ومراثيه لم تكن يصور ما تختلج به سوى بوح حزين ّ نفسه من مشاعر حميمة تجاه الراحلين الكبار ،وتجاه األوطــان التي فقدتهم، ومن أبرز هؤالء الذين رثاهم الفيتوري الزعيم جمال عبدالناصر ،والسياسي عبدالخالق المحجوب ،والشاعر بشاره الخوري .ومما جاء في رثاء هذا األخير:
أنت في لبنان..
ٌ عرش ومُ قام والشعر له في ُرب ََى لبنان
شاده األخطل قصر ًا عالي ًا يزلق الضوء عليه والغمام
وتبيت الشمس في ذروته
كلما داعب جفنيها المنام.
أما رثاؤه في المحجوب فقد كان ملحمة إنسانية بالدرجة األولى ونسيج ًا معبرًا عن فقدان األمل في حياة عربية حديثة تعطي للمواطن العربي شيئ ًا من حقه الطبيعي في أن يختار االنتماء الفكري والسياسي الذي يتناسب مع توجهاته وموقفه من الحياة والناس .لقد كشفت هذه المرتبة بخاصة عن حزن دفين يمأل قلب الشاعر وعن جراح غائرة في أعماق روحه .إذ ما يكاد الحدث المؤلم يالمسها حتى تنطلق لهب ًا حارق ًا وصورًا تذكارية بالغة المرارة والشجن:
قتلوني
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني وأنا من؟
ليل العبيد المتوجين العرايا
وصيام فَمل ُء المحاريب صال ًة ُ
ِ الزمن سوى رجل واقف خارج
اآلثمين ..النبيين
سجود وقيام فلياليهم ٌ
قلت :قلبي على وطني!.
فوق أرض الخطايا
72
ونبيـين صفت أرواحهم
كلما زيفوا بط ً ال..
ضغط الكتابة
أمير تاج السر
وهج القصيدة
كما هو معروف ،فإن الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري، ُيعّد واحدًا من صنّاع القصيدة العربية الحديثة األوائل ،ومن الذين عتقوا الشعر من عبوديته القديمة وأطلقوه حراً ،ليشدو كيف ما يشاء ،ومعروف أيض ًا إنه وبرغم تقلّبه في مسألة الهوية التي كانت سودانية في البداية ،ثم ليبية ،ثم سودانية ّ في اآلخر مرة أخــرى ،إال أن قصيدته لم تفقد أبــدًا اتزانها، هي نفس القصيدة األولــى التي خرجت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ،وأعني من ناحية الحرارة والتوهج ،وهكذا يمكن قــراءة الفيتوري في أي وقــت ،من تطور أو تأخر ،حسب تلك التصنيفات دون إحساس بأنه ّ المعروفة. الذي قرأ وكتب ،في الوطن العربي وأثناء مسيرته األدبية، ال بد أن يلتقي عبر الكتب بمبدعين كثيرين ،يتعلّم منهم وينبهر يدرسونه الكتابة ،من بهم ،وربما كانوا أساتذة حقيقيينّ ، دون سبورة وال صف .نجيب محفوظ أحد هؤالء ،السياب أحد هؤالء ،حنا مينا ،يوسف إدريس ،الطيب صالح ،وآخرون، مؤكد شكلوا وجدان الكتابة لعدد غير قليل من األجيال التي تلت ،ومؤكد كان الفيتوري وما يزال ،من الذين يمنحون تلك الميزة بكل سخاء. تعرفت على شعر الفيتوري باكراً ،كانت دواوينه حقيقة ّ األولى التي تتغنّي بإفريقيا ككيان حر ،بال عبودية وال سادة يتحكمون في خيراتها ،موجودة في مكتبة بيتنا التي وعيت قرائي ًا على الكتب التي كانت فيها ،فقد كانت المكتبة المنزلية في أيــام طفولتنا ،أداة فاعلة من أدوات الحياة العامة، تمام ًا كسلة الخضار ،ومطبخ البيت والسرير الذي ينام عليه الشخص .أذكر أنني قرأت كل تلك الدواوين ،وكنت أحفظ قصيدته الشهيرة :معزوفة لدرويش متجول ،أسوة بأبناء يمل جيلنا جميعاً ،حيث كانت تلك القصيدة ،أغنية خالدة ال ّ من ترديدها الجميع.
بعد ذلك تابعت الفيتوري في قصائده التي كتبها في منفاه ،أو مغتربه بعيدًا عن السودان ،وكان يحمل هوية ال ليبيا ويعمل دبلوماسي ًا ليبيا ،تنقّل في عدة أماكن ،حام ً سحنته التي هي سحنتنا ،وقصيدته التي هي عربية ،بدم إفريقي ،وكان قد أصدر ديوانه :قوس الليل ...قوس النهار، الذي أعتبره مواصلة لتجربته الحياتية ،الشعرية الصوفية، وأيض ًا الحارة بدم إفريقيا ،وأظنني كثفت قراءاتي بعد ذلك في مجال السرد ،فلم أطلع حتى اآلن على ديوانه األخير الذي أصدره في األلفية الجديدة. شعر الفيتوري ،إضافة إلى نكهته المسيطرة كأناشيد تحررية أو صرخات تنادي بالعدل والمساواة ،أخذ كثيرًا ّ من التجربة الصوفية ،وال أعني هنا ،نظم القصيدة المادحة بالصورة التي تعودنا عليها عند الصوفيين ،ولكن نظم قصيدة تحوي كثيرًا من التأمالت الفلسفية والحوارات بين ولعل قصيدته ياقوت العرش من تلك القصائد الذات والذات، ّ التي حملت ذلك النهج ،وطافت به على اآلالف من متذوقي الشعر ..وما زلت أذكر هذه األبيات المتأملة العظيمة ،من تلك القصيدة:
دنيا ال يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء الخاسر من لم يأخذ منها ما تعطيه على استحياء
ظن األشياء والغافل من ّ هي األشياء!
الفيتوري عالمة كبيرة من عالماتنا ،التي ال يمكن ألي جيل تجاوزها ،من دون أن يتوقّف عندها طويالً. 73
رحلة
الســودان ،نصحتنــي امرأة فــي الرباط ،حيــن طلبت تأشــيرة ّ ُ
إبراهيم الحجري*
قاء لفرط مغربية تقيم في الخرطوم باصطحاب مالبس خفيفة اّت ً
الحــرارة .كانت الســيدة الخمســينية التــي -على ما يبــدو -متزوجة برجل سوداني ،تظن أنني سأقيم في البلد مدة طويلة .لكنني تركتها تحكي عن متاعب السفر وطول الطريق ورداءة أحوال الطقس .وكنت أسمع فحسب،
أتلهف لخوض مــا كان يهمني من حديثها .كنت أســتمع إليها مجامــاً .فأنا َّ التجربة؛ متيقِّن ًا من أنها ستكون ممتعة بالرغم من كل ما يقال.
مهمة سرّيّة ّ في السودان ! الســـفّرية المعقَّـــد ســـيقودنا برنامـــج ّ إلـــى أن نأتـــي الخرطوم-لحضور فعاليات جائـــزة الطيـــب صالـــح -مـــن أقصـــى الشـــرق ،وأن نظـــل يومـــ ًا بليلـــه ونهاره ّ فـــي ســـماء اهلل الواســـعة ،فاتحيـــن أعين ًا
74
متعبـــة علـــى صباح يجـــيء من الشـــرق ال محم ً مثـــل عـــروس الحكايـــات القديمـــة ّ بنشـــوة االكتشـــاف ،وبرغبة فـــي معانقة فضاء مختلف ،وإن كنّا جـــزءًا منه ،وكان جـــزءًا منـــا .الصديـــق «محمـــد عـــز الدين
التـــازي» تأفَّف مـــن اعتماد هـــذا البرنامج المتعب ...مـــن الصعب عليه أن يظل طيلة هـــذا الوقـــت جالســـ ًا أو حتى واقفـــ ًا على متن طائـــرة تتالعب بهـــا العواصف فوق ســـماء شـــرق ملتهب .كنت مرة بعد المرة،
ألقـــي نظـــرة جانبية مـــن خـــال النافذة الصغيرة ،فال يبدو ســـوى الغمام والريح ّ ولون الصحراء أو الجبـــال أو امتداد أزرق البحـــر ،وقلَّما تنفســـح الســـماء عن صور مـــدن أو قـــرى نعبرهـــا ،ونحـــن نبعد عن الكوكـــب بأكثر مـــن عشـــرة كيلومترات. كان لـــي شـــرف التعرف إلى األســـتاذ عـــز الدين التـــازي من قبل في مناســـبات عديدة ،لكنهـــا كانت خاطفـــة ،وقد أتاحت لـــي فرصة الســـفر إلى الســـودان التعرف إلـــى الشـــخص فـــي عمقـــه وبســـاطته وتواضعـــه .أما األســـتاذة ســـعيدة تاقي فلـــم أكن أعرف عنها ســـوى مـــا قرأت من كتاباتهـــا الشـــذرية الشـــعرية فـــي بعض المواقـــع اإللكترونية. *** فـــي المطـــار ،كان مـــن المفتـــرض أو المفـــروض تســـهيل مأموريـــة عبورنـــا، وإعفاؤنا على األقل ،من متاعب االنتظار، ومـــن اإلجـــراءات الروتينيـــة والتفتيش، مهمة ســـفارية بحكـــم أننـــا نســـافر فـــي ّ ثقافيـــة غيـــر مباشـــرة ،وألننـــا ،بمعنى مـــا ،نمثِّل المثقَّـــف والمبدع فـــي المغرب، ونحمـــل الراية الوطنية فـــي محتفل دولي نشـــرف المغاربة عالمـــي .وكنا نعتقد أننا ّ ونرفـــع رؤوســـهم عالياً... في لحظة ،ويـــا للمفارقة ،اســـتوقفنا ال أو اســـتوقفني رجـــل أمن بدين،متســـائ ً عـــن الدولـــة التـــي نقصدها .ولما ســـمع تغير لونـــه ،وطلب منا اســـم الســـودانَّ ، االنتظـــار ،فيمـــا كان يســـمح بالعبـــور بسالســـة لآلخرين ...وراح يطرح أســـئلة ال أظنهـــا مـــن حقِّه مـــن قبيل :مـــاذا تفعل هنـــاك؟ ومـــا الجهـــة المحتضنـــة؟ ومـــاذا تعمـــل فـــي المغـــرب؟ وما معنى مناســـبة ثقافيـــة؟! وفـــي األخير ،ســـلَّمني األوراق متماطـــا كما لو أنه يســـمح لـــي بالعبور ً يتفرس ســـحنتي... علـــى مضض ،وهـــو َّ مهمة لقـــد ظـــن الرجل أنـــي أســـافر فـــي ّ سرية خطرة ،متناســـي ًا أنني ُم َج َّرد كاتب تكرر األمر نفســـه كلمـــات ...ولألســـفَّ ، مع الزمـــاء ،ممـــا أثـــار حزن ًا دفينـــ ًا في نفوســـنا إلحساســـنا بالحقارة والتبخيس لدور الثقافة والوضـــع االعتباري للمبدع.
مطار الخرطوم الدولي
شارع النيل
*** عنـــد مـــا أقلعنـــا مـــن مطـــار الدوحـــة واتجهنـــا غرب ًا فـــي اتجاه شـــرق إفريقيا، العكســـي لرحلـــة الذهاب،كنت بـــدأ العـــد ّ علـــو بعيـــد ،نهر النيـــل وهو ألمـــح ،عن ّ متلويـــ ًا مثل الســـودان صحـــراء يختـــرق ّ ثعبـــان أخضـــر ،تحيـــط بـــه األحيـــاء ـــيدة من الطوب الم َش َّ والمســـاكن الواطئـــة ُ والطيـــن ،والغطـــاء النباتـــي الكثيـــف... تذكـــرت مقولـــة ألحـــد أســـاتذة الجغرافيا َّ درســـني ،فـــي المرحلـــة اإلعدادية الـــذي ّ جغرافيـــة إفريقيـــا ،فحواها أن الســـودان أغنـــى أرض اهلل ،وأنها تمتلـــك خيرات قد تحقِّـــق االكتفاء لكل البلـــدان العربية لو َت َّم اســـتغاللها بشـــكل عقالنـــي ُمَد َّبر. في مطـــار الخرطـــوم الّدولـــي ،حطت الطائرة بشـــكل مضطرب و قبـــل أن ننزل حدســـت أن أحـــد الـــركاب كاتـــب جزائري دون أن أكلِّمه .كان هو الصديق إســـماعيل يبريـــر صاحـــب «وصيـــة معتـــوه» .كان
يســـتعّد للنـــزول ،وهـــو معـــذّب بالتعب، ومشـــنوق األنفـــاس بلباســـه الرســـمي. كان مثلنـــا يعتقد أن َجّو صحراء الشـــمال هو جو صحـــراء الجنوب ...أهـــل إفريقيا متحررين كانوا يرتدون ألبســـة خفيفـــة، ِّ من عقال األلبســـة الرسمية ،كيف ال ،وهم األدرى بالشـــعاب؟ .كان يبريـــر يتألّـــم من خالل حـــركات يديـــه ،ومالمـــح وجهه. *** طويـــا .وجدنا ســـيارتين لم ننتظـــر ً فاخرتيـــن تترقَّبـــان خروجنـــا .ركبنـــا الســـيارة ،وفوجئنـــا بلطف المســـتقبلين الـــذي اخترقـــوا بنـــا شـــوارع الخرطوم، مختصرين المســـافة لعلمهـــم أننا متعبون جـــراء ســـفر طويـــل .كانـــت رؤوســـنا مهروســـة ،وال نعـــرف الِقْبلة مـــن غيرها. كنـــا نمشـــي فحســـب .وفـــي بهـــو الفندق الجميـــل الـــذي يشـــبه البطيخـــة ،ويدعى ـــم تعديل اســـمه فنـــدق ليبيـــا ،بعـــد أن َت َّ الســـابق «فندق الفاتح» عقب ثورة الربيع 75
ا لليبي . قيل لنا إنـــه بعد المغرب ســـوف يأتي بـــاص ليقلَّنا إلى أحـــد المطاعم الفخمة في لنتعرف الضاحيـــة الســـياحية للخرطـــوم َّ إلـــى المدعويـــن اآلخرين وباقـــي أعضاء مجلـــس اإلدارة واألمانـــة العامة للجائزة، وليقـــام هنـــاك حفل عشـــاء على شـــرف الضيـــوف .كان الوقـــت ،علـــى مـــا يبدو، ظهـــراً .وكانـــت المواقيـــت فـــي أدمغتنـــا نمـــت فحســـب ،ولـــم مقلوبـــة .لحظتهـــا ُ أســـتيقظ إال علـــى طـــرق الباب مـــن ِقَبل الصديق عـــز الديـــن التازي الـــذي لم يذق طعم النوم ،إذ فضـــل القيام بجولة فردية فـــي قـــاع الخرطـــوم الستكشـــاف األحياء والتنـــزه بعض الوقـــت ،على الشـــعبية، ُّ ـــط النيل ،وشـــرب الشـــاي بالقرنفل... َش ّ عـــاد عزالدين فرحاً؛ ليخبرني أنه ســـبقنا إلى عالم الســـودان. قصـــدت غرفـــة الصديـــق الجزائـــري إســـماعيل يبرير التي تجاورنـــي فوجدته متأهب ًا للخروج ،ويبـــدو أنه كان في نيته ِّ ـــط إيقاظنـــا للقيام بجولة جماعية على َش ّ النيل كمـــا َّاتفقنا ،فأخبرته بـــأن عز الدين ففضل ســـبقنا إلى ذلك ألن النـــوم جافاهَّ ، القيـــام بجولة كســـب ًا للوقـــت ...وانطلقنا يهزنـــا الشـــوق الستنشـــاق هـــواء معـــاًّ ، النيـــل .كان الطقـــس فـــي الخارج بـــاردًا عكـــس ما كان عليه وســـط النهـــار لحظة وصولنا .وكانت الشـــمس آنئـــذ ،قد بدأت تؤثِّـــث مخدعهـــا الليلـــي .لـــم يكـــن النيل 76
العظيم بعيـــدًا كما كنّا نتصـــور .كان قاب قوســـين منا .بـــل انتبهـــت إلـــى أن نافذة تطـــل عليه فـــي منظر غرفتـــي بالفنـــدق ّ بانورامـــي رائع. كنـــا نســـير فـــوق الكوبريـــه ،نتحّدث ونثرثر ونســـبح بأعيننا في جمال المساء نحب التدخين فـــوق ظهر النيـــل األزرق .ال ّ فضلنـــا -كمـــا يفعـــل جميعـــاً؛ لذلـــكَّ ، السودانيون والســـودانيات -شرب الشاي والقهوة على شـــط النيل لمراقبة الغروب مـــن تحـــت أشـــجار التبلـــدي العمالقـــة. ٍ مقـــاه باألســـلوب الـــذي ليســـت هنـــاك نعهده في شـــمال إفريقيا أو فـــي أوروبا. مطـــاردات من بل هناك نســـاء متطوعات َ لـــدن الســـلطات ،يضعن طاولـــة صغيرة متنوعة وتوابل :شـــاي، فيهـــا مســـاحيق ِّ قهـــوة ،قرنفـــل ،ياســـمين ،كركديـــه... ومجمـــر وأواني صغيرة لتحضير الشـــاي ويوزعن على الزبناء كراســـي والقهـــوة، ِّ خشـــبية صغيـــرة وواطئـــة ...لـــم تكـــن ِشـــعرية الجلســـة تقـــاس ببذخهـــا ،بـــل بموقعهـــا .جمـــال المـــكان وجالله يضغط اللحظة ويشـــحنها .هذا هـــو النيل العجيب الذي مـــأ الدنيـــا و قهر الصحـــاري ،تبّدل واســـتمر هو حيـــ ًا يرزق. الزمـــن ّ ّ انخرطـــت أنا وإســـماعيل في ســـجال معرفـــي مـــع مجموعـــة من طلبـــة جامعة ليتفســـحوا اآلداب بـــأم درمـــان ،جـــاؤوا ّ مثلنـــا كعادتهـــم ،نهايـــة كل يـــوم .كانت الطيبـــة تغمرهـــم ،ومـــن أول لحظـــة،
ســـوداني .يقبـــل تحـــس أنـــك مواطـــن ّ ّ ٍ تعـــال، عليـــك النـــاس دون حواجـــز أو يغدقـــون عليك مـــن الكرم واللطـــف ما لم تحدثـــوا لنا عن آفاق تعهـــده أو تتصورهَّ . ّ البحث العلمي والدراســـات األدبية والشعر والروايـــة والفـــن والقصة في الســـودان، ال وعن انشـــغاالتهم بوصفهم شـــباب ًا وجي ً جديـــداً .الســـودانيون أهـــل أدب ونكتـــة. ويعرفـــون أخبـــار الشـــعوب والثقافـــات األخـــرى ،ويتتبعـــون مـــا َج َّد في المشـــهد الثقافـــي العربي عكس مـــا يعتقد كثيرون. الخُلـــق َّ ويتمتـــع أهـــل الســـودان بطيبـــة ُ والعفّـــة والّتواضـــع والبســـاطة والقناعة وجمـــال الـــروح والتعايش وقبـــول اآلخر تعصب ،مع أنهم شـــعب كيفمـــا كان دون ّ يتمتـــع بذوق ٍ عال متديـــن ومحافظ ،لكنه َّ ِّ فـــي الفنـــون واآلداب كلهـــا ،ويســـتقبل- بانفتـــاح -الثقافـــات المغايـــرة والمختلفة عنه . *** بعد عودتنا من جولة مســـائية جميلة، وجدنا الجماعة فـــي انتظارنا لالنتقال إلى مطعـــم قريب من مطار الخرطـــوم الدولي، حتـــى أن الطائـــرات كانت تزعجنـــا كثيرًا الضاج. حين تصعـــد أو تهبـــط بصخبهـــا ّ جميـــا يشـــي برفعـــة ذوق كان المـــكان ً المنظمين :الخضرة والشالالت المصطنعة ّ واألضواء الخافتة وســـاحل النيل اللطيف الهواء ...والجلســـات الدائريـــة التي تليق متعـــددة األلوان بمؤتمـــر كبيـــر .والرايات ِّ
المنظمة التي تحمل شـــعار البلد والجهـــة ِّ والجهة المحتضنة. َّاتخذنـــا أماكننـــا فـــي المجلـــس .كان األصدقـــاء مـــن العـــراق وســـورية ومصر وفلســـطين لم يصلـــوا بعد .دردشـــنا مع األصدقـــاء الســـودانيين الذيـــن كانـــوا في قدموا غايـــة اللطـــف والظـــرف والكـــرمَّ . لنـــا عصير الكركديـــه البارد الـــذي ُي َعّد من أح ّب المشـــروبات في البلـــد .وتحدثنا عن َ الشـــعر واألدب في البلـــدان العربية .كانوا بزهـــو كبيـــر حين نســـتعرض يشـــعرون ّ بعض تجـــارب الســـودانيين فـــي الكتابة تحدث الصديق والفـــن والغناء والصحافةَّ . المغربـــي عـــز الديـــن التـــازي عـــن عالقة الصداقـــة التـــي كانـــت تربطـــه بالمرحوم الطيـــب صالح ،ولقاءاتهما في مناســـبات عديـــدة في المغرب وخارجـــه .كان التازي الكّتـــاب المغاربة المعروفيـــن جدًا لدى من ُ يمض وقت طويل حتى الســـودانيين .ولم ِ وصـــل الوفـــد المشـــرقي الـــذي يبـــدو أنه وصل فـــي الوقت نفســـه ،يتزعمـــه الناقد عبد اهلل إبراهيم ،والروائي الســـوري نبيل ســـليمان ،والقـــاص الفلســـطيني رشـــاد والمفكـــر المصـــري محمـــد أبـــو شـــاور، ِّ المصطفـــى ،والكاتبـــة أســـماء معيـــكل، والقاص والناقد محمد عبد الباســـط عيـــد، ّ محمـــد الكاظـــم ،والروائي اليمنـــي محمد عمران ...تبادلنـــا التحية ،وأخذ كل مكانه في جلســـة عشـــائية ورســـمية وحوارية على مقـــاس ســـوداني صرف.
*** زرقـــة النيـــل تعكـــس أشـــعة شـــمس تكشر منذ اســـتيقاظها ،عن أسياط حرارة ِّ ملتهبة .نزلنا ،أنا وعز الدين وإســـماعيل، إلـــى قاعـــة االنتظـــار؛ مفعمة مشـــاعرنا بثقل اللحظة ،ومشـــبعة نفوســـنا بجمال المكان. وجدنا فـــي انتظارنا الحافلـــة -الّتحفة صّممت خصيصـــاً ،لجائـــزة الطيب التـــي ُ المدعوون يبحلقون في جمال ظل صالـــح. ّ ويتأملون صـــورة الطيب تلـــك الفكـــرة، ّ صالـــح بمالمحـــه المنحوتـــة بالتجارب، وبالفراشـــات المحلِّقة حولـــه ،وبالكلمات المقتطفة من حواراته ومســـروداته :أقوال وحكـــم بليغـــة تؤســـس للحيـــاة والفكر والمتخيل ...صعدنا الحافلة ،فاســـتقبلتنا ّ الســـودانية والبخـــور العطـــور رائحـــة ّ اآلســـرة المشـــبعة بطعم الّتراث األصيل. مزينـــة كانـــت الطرقـــات إلـــى القاعـــة َّ بصـــور الطيب صالح وبالفتات إشـــهارية للحـــدث .وحيـــن نزلنـــا مـــن الحافلـــة، انطلقت عاصفة مـــن الزغاريد والتصفيق. المنظميـــن وأعضاء كان المســـتقبلون من ِّ األمانـــة العامـــة يصطفـــون فـــي طابـــور يوزعـــون البســـمات والكلمـــات طويـــل؛ ِّ المدعويـــن .وكانوا حضـــرة في الطيبـــات ّ يعرفـــون أســـماءنا وصورنـــا وبلداننـــا كأنهـــم يعرفوننـــا من قبـــل .كان الحضور والكّتـــاب كبيـــرًا وملفتـــ ًا مـــن الشـــعراء ُ والسياســـيين والفنانيـــن والمســـؤولين واألكاديمييـــن والمثقَّفيـــن مـــن مختلـــف
والتخصصـــات. المشـــارب والمرجعيـــات ُّ زرنـــا ،المعـــارض المرافقـــة :معـــرض الفنـــون التشـــكيلية ،معـــرض صـــور الطيـــب صالح ،معرض أرشـــيف الجائزة وصورها ،ومعرض منشـــورات الجائزة، قبل أن نأخـــذ أمكنتنا فـــي القاعة لمتابعة العروض والمداخالت المبرمجة ،وبالرغم مـــن كثافـــة البرنامج ،وطـــول المداخالت والتعقيبـــات عليهـــا ،فقـــد ظـــل الحضور وحب ًا حب ًا في المناســـبة ّ متمســـك ًا بصبره ّ ِّ في الطيـــب صالح الذي ُي َعّد رمزًا شـــامخ ًا وحب ًا فـــي الثقافة واألدب. الســـودانّ ، في ّ *** نغير كـــي الفندق عدنـــا منهكيـــن إلـــى ِّ ونستحم ،اســـتعدادًا لحفل عشاء ألبســـتنا ّ يحضـــره أعضـــاء األمانة العامـــة للجائزة ِّ وبعـــض أصدقاء الطيـــب صالح. غادرنـــا المكان ،وما أحسســـنا بالّتعب الســـهر. من فرط ّ وعند ما أراد السائق أن يخرج بالحافلة الصغيـــرَ ،عِلق من البوابـــة ذات الحجـــم ّ ولم يعـــرف كيف ولج مـــن ذاك المكان... استشـــاط بعـــض األصدقـــاء غضبـــ ًا من كثرة فشـــل محاوالت الســـائق للخروج من البوابة ،وعرفنا أنه حديث العهد بســـواقة الحافـــات ...لذلـــك تطـــوع الكاتـــب نبيل ســـليمان ومحمد عز الدين التـــازي لتدبير األزمة ومســـاعدة الســـائق علـــى الخروج من المأزق الـــذي وقع فيـــه وأوقعنا فيه، بحكـــم تجربتهمـــا الكبيرة في الســـواقة... كـــم تضاحكنـــا حيـــن أخفق الســـائق في ضبط تعليمات نبيل والتـــازي؛ حيث ُج َّن الســـخط، جنونهمـــا ،وبدت عليهما مالمح ّ وطلبا منا أن نمشـــي معـــ ًا راجلين بدل أن نبيـــت الليل كلّـــه في لـــف ودواران ووجع رأس .ومـــا إن نزلنـــا مـــن الحافلـــة حتى تفتقت تمكن الســـائق مـــن اإلفالت ،وهنـــا َّ َّ موهبـــة الرائـــع رشـــاد أبـــي شـــاور في الســـخرية ،واّتخـــذ مـــن الموقـــف ُمنطلق ًا وأضاحيك حّتى ومســـاخر مقالـــب إلبداع َ َ َ الضحك .كان يفقـــد بعضنا كاد صوابه من ّ َ يقول لنبيل ســـليمان وعز الديـــن التازي: فـــي الخرطـــوم اشـــتغلتما رغم ًا عنســـواق مبتـــدئ .ويضيف: أنفكمـــا دليَل ْي ّ 77
في الصورة :نبيل سليمان ،عزالدين التازي ،إبراهيم الحجري ،رشاد أبو شاور
الســـواق شـــرف أن حصـــل لـــذاكّ اشـــتغل معـــه كاتبـــان محنّـــكان... ميـــزة هـــذا الكاتـــب الـــذي كانـــت لـــي معـــه قصـــة غريبة ،وهـــو مـــن أوائل من قرأت له ،واســـتمتعت بكتاباته الســـردية الدرامية التـــي تجمع بين حنكـــة الموهبة وبراعة الســـرد ودقّـــة الوصـــف ودرامية الموضوعـــات التـــي تتعلَّـــق بمأســـاة اإلنســـان الفلســـطيني ،أنه دائم البسمة، يتذكر حيـــا ،لكن، بمجـــرد أن ّ ُ الم ّ َّ بشـــوش ُ وقضيـــة األرض ،ترى العربـــي الوضـــع ّ ّ ويتغير لونه ،وينطق مآقيـــه، يمأل الدمع َّ كالمـــ ًا أبلغ من الســـيف ،شـــديد التأثّر بما يجـــري حولـــه ،دقيق التحليل السياســـي لمـــا ُيعـــاش علـــى المســـتويين العربـــي ـــول مداخلته حول والدولي ،حتـــى أنه َح َّ الســـرد والتاريـــخ إلـــى صراخ فـــي وجه األمـــة التـــي يضحـــك عليهـــا التاريـــخ، وتتفـــرج عليهـــا األمم. َّ ظـــل رشـــاد يغـــدق علينـــا مـــن فـــرط حساســـيته ،ويســـرد علينـــا تجاربه في المخيمـــات ،وفي كل بلدان النضـــال ،وفي ّ حيث يظـــل الفلســـطيني هو هو، الدنيـــا؛ ُ ال بذاكرة الجـــراح .كان أيضاً ،يتحدث حم ً ُم ّ لـــي عـــن صداقاتـــه المغاربيـــة ،وبقدر ما كان معجبـــ ًا بعطـــاء المغاربة فـــي مجال يؤرقـــه النقـــد واإلبـــداع والفكـــر ،كانـــت ِّ أمـــر غامـــض ،هـــو كيـــف أن المغاربيين حاد وجّديـــة تزيد يتوافـــرون على مـــزاج ّ أحيانـــ ًا علـــى اللـــزوم ...حتـــى حينمـــا يكونون في موقف يفـــرض الدعابة والرقّة الجـــادة... متمســـكين بمالمحهم يظلـــون ّ ِّ قال مضيفاً :كم يرعبني هذا األمر!. 78
وفـــي كل مرة يشـــتّد فيها بيـــن الزمالء ينبههم اللغـــط والمـــزاح والضحـــك؛ كان ّ مازح ًا : أيهـــا اإلخوان ...انتبـــاه ...فيه مغاربة معنا... *** السفر،اكتشـــفت في التازي- طيلـــة هذا ُ اإلنســـان خصـــا ًال طيبـــة لـــم تكشـــفها كتاباتـــه ،ولم يقلها عنه اآلخـــرون ،أو لم يتســـن لهم معرفتها مثلما تسنّى لي بحكم ّ المناســـبة التي التقينا فيهـــا .كان التازي مقـــدرًا للغير، محبـــ ًا لإلنســـان ،وقـــوراً، ِّ ّ ميا ًال إلى الهـــدوء والرزانـــة والثبات ،في ّ مســـتوى التراكم الـــذي َحقَّقتـــه نصوصه ومحبيه. قرائه ّ وجغرافيـــات تواصله مـــع ّ تؤرق معظم لم تكـــن له تلك العقدة التـــي ِّ الكتاب ،وتجنـــي على إنســـانيتهم ،عقدة يتصرف الشـــعور بجنون العظمـــة ...كان ّ أن الكتابة هبـــة إلهيـــة يجب أن كمـــا لـــو ّ نغتنمهـــا فـــي صقـــل جوهرنا اإلنســـاني وخدمـــة اآلخريـــن والتواضع لهـــم ،وأنها عطـــاء تكليـــف ال تشـــريف ،تقتضـــي من يتصرف مـــع اآلخرين الموهـــوب فيهـــا أن ّ بوصفـــه شـــخص ًا طبيعيـــ ًا ال يفوقهـــم أو لمســـت ،أيضاً، يتميـــز عنهم بشـــيء مـــا. َّ ُ الصوفية التي أصبـــح يميل إليها النزعـــة ّ التـــازي فـــي ســـلوكه وحكمتـــه وحياته ا لشخصية . قال لي: يكفـــي .على المـــرء ّأل يعيـــش حياته يغير نمط كلها بوتيـــرة واحدة ،عليـــه أن ِّ وبتعددها. ليحس بجمالهـــا حياتـــه ُّ ّ ***
في ليلة التتويج حضر الدبلوماســـيون والسياســـيون والســـفراء والفنّانـــون لتذكر والمثقّفـــون، وغصـــت بهم القاعـــة ُّ َّ والترحـــم الرمـــز الكبيـــر الطيـــب صالـــح ُّ علـــى روحـــه واالعتـــراف لـــه بالفضـــل، إال ســـفير المغـــرب الـــذي غـــاب ،مـــع أن متوجين مغاربة ،أحسســـنا هناك ثالثـــة َّ بشـــعور غريب ،ولنقل ربما لـــم ُن ِعر األمر تعودنـــا في بلدنـــا تهميش اهتمامـــاً .لقـــد َّ وعّدهما ترفـــاً .الغياب الثقافـــة والمثقَّفين َ يتجزأ المقصود للســـفير المغربي جـــزء ال ّ من سياســـة إقصـــاء الثقافة والرأســـمال الرمـــزي الـــذي تنهجـــه الحكومـــات هـــب فيه المتعاقبـــة ،فـــي الوقـــت الـــذي ّ ســـفراء البلـــدان العربية يهنِّئوننـــا ،ربما أحســـوا ُيْتَمنـــا في محفل رســـمي، ألنهـــم ّ كان مـــن الالئـــق حضـــور التمثيليـــة الدبلوماســـية فيـــه ،خاصة مـــع الحضور الســـوداني ...أو الفعلـــي لنائـــب الرئيس ّ ّ ربمـــا الستشـــعارهم الـــوزن المغربي في الجائـــزة ألول مـــرة ،منذ إنشـــائها. بتنـــا نتســـاءل كيـــف يحتفـــي بـــك اآلخرون ،البعيـــدون ،األجانب ،ويقيمون لـــك االعتبـــار الـــذي لـــن تجـــده أبـــدًا في نحـــس غبنـــ ًا دفين ًا وشـــعورًا بلـــدك؟ كنا ّ بالحنـــق ،ونحن نذهـــب ونعـــود دون أن يتحدث عنـــا أحد ،وكأننا يعرفنـــا أحد ،أو َّ خفافيـــش الظالم .بالعكس ،كنا نســـتقبل نظـــرات االزدراء مـــن ِقَبـــل رجـــال األمـــن حيـــن يكتشـــفون -عبـــر التأشـــيرة التي تحملهـــا جوازاتنـــا -الجهة التـــي نقصدها ونعـــود منها. فـــي الســـودان الخصـــب ،مـــن حيـــث مؤهالتـــه الطبيعية والبشـــرية ،تشـــمخ ّ القصيدة لتقول ســـحر أســـطورة إفريقيا، وتعجز اللغة عن مغازلـــة الجمال .هناك، لغـــة تنهـــض باســـقة تضاهـــي أشـــجار التبلـــدي النيلية ،هي لغـــة االعتراف التي تغيـــب فـــي بلدنـــا بالرغـــم مـــن اختالف الظـــروف والشـــروط واإلمكانات. * ناقد وروائي من المغرب
صيد اللؤلؤ
د .محمد عبد المطلب
الحوارات السماوية (مع إبراهيم) َقـّد َم الكتــاب الكريــم عــدة حــوارات مــع إبراهيــم عليــه الســام، ـفة ع ــن عمق ــه اإليمان ــي ،وه ــو م ــا أهّل ــه ألن يك ــون (خلي ــل كاش ـ ً ِ ُ يـــا» (النســـاء ،)125وقـــد أتـــاح اه ر ب إ هلل ا ـــذ خ ات «و يـــم َخِل ً َّ ِ اهلل)َ َ َ : َ َْ «وِإِذ اهلل ل ــه دخ ــول تجرب ــة س ــماوية أهلّت ــه لم ــكان (اإلمام ــة)َ : ـال ِإ ِّن ــي َج ِ اهي ـ َـم ر ُّب ـ ُـه ِب َكِلَم ـ ٍ ْابَتَل ــى ِإْبر ِ ـاس ـك ِل َّ لن ـ ِ اعُل ـ َ ـات َفَأَت َّمُه ـ َّ ـن َق ـ َ َ َ الظاِلِمي ـ َـن» (البق ــرة ـال َعْه ـِدي َّ ـال َوِم ــن ُذِّر َّيِت ــي َق ـ َ ِإ َمام ـ ًا َق ـ َ ـال َال َيَن ـ ُ ،)124فه ــذا (االبت ــاء) ه ــو المقص ــود بالتجرب ــة ،وم ــدى الت ــزام إبراهيــم باألوامــر والنواهــي اإللهيــة ،وقــد مــر بالتجربــة بنجــاح ـن» ،وه ــو م ــا أكدت ــه آي ــة َعّب ـ َـر ْت عن ــه اآلي ــة القرآني ــةَ : «فَأَت َّمُه ـ َّ «وِإْبر ِ اهي ـ َـم َّالــِذي َو َّف ــى» (النج ــم ،)37ويتاب ــع الح ــوار أخ ــرىَ َ : مســيرته للوصــول إلــى الجــزاء الــذي نالــه هــذا النبــي الرســول: ـال ِإِّنــي َج ِ ـاس ِإ َمام ـاً» ،ويب ــدو أن اس ــتقبال إبراهي ــم ـك ِل َّ لنـ ِ اعُل ـ َ «قـ َ َ تظـــل لهـــذه المكافـــأة الربانيـــة أطمعتـــه فـــي المزيـــد ،وهـــو أن ّ ـــال َوِمـــن ُذِّر َّيِتـــي» وقـــد اســـتجابت «ق َ اإلمامـــة فـــي ذريتـــهَ : ِ ِ ِ ر ذ ـــي ف ـــا ن ل ع ج «و تعالـــى: لـــه الســـماء فـــي قولـــه ـــو َة ُّب الن ـــه ت ي ْ َََ َ ُ َّ ُ ِّ َّ َوالِ ـاب» (العنكب ــوت ،)27لك ــن االس ــتجابة كان ــت مش ــروطة: ْكَت ـ َ ِ ِ ِ يؤس ــس للس ــلطة ـوار ـ الح ـذا ـ فه »، ـن ـ ي م ل ا الظ ي د ـ ه ع ـال ـ ن ي ال ـال َّ َ «ق ـ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ِّ األرضيــة وأن شــرطها األول :أال يكــون صاحــب الســلطة ظالمـاً، والظلـــم يتســـع للظلـــم السياســـي واالجتماعـــي واالقتصـــادي والثقاف ــي. وفـــي حـــوار آخـــر نتكشـــف طبيعـــة اإلنســـان داخـــل هـــذا النب ــي ،عل ــى نح ــو ش ــبيه بم ــا تابعن ــاه م ــن الطبيع ــة اإلنس ــانية توج ــه إل ــى اهلل ُملتمســ ًا إنق ــاذ عن ــد ن ــوح علي ــه الس ــام عندم ــا ّ ابن ــه الكاف ــر م ــن الغ ــرق ،والح ــق أن كثي ــرًا م ــن اآلي ــات القرآني ــة قـــد أكـــدت علـــى أن النبـــوة ال تلغـــي الطبيعـــة البشـــرية فـــي النبـــي ،فـــي مثـــل قولـــه تعالـــى علـــى لســـان محمـــد صلـــى اهلل وح ــى ِإَل َّي»(الكه ــف علي ــه وس ــلمُ : َّم ــا َأَن ــا َب َش ـ ٌـر ِّمْثُلُك ـ ْـم ُي َ «ق ـ ْـل ِإنَ ـت ِإ َّال َب َش ــرًا َّر ُس ــوالً» ،)110وقول ــهُ : «ق ـ ْـل ُس ـْـب َح َ ان َرِّب ــي َه ـ ْـل ُكن ـ ُ (اإلســـراء .)93 وتجليـــات الطبيعـــة البشـــرية ببعدهـــا اإليمانـــي ،يمكـــن أن نتابعه ــا ف ــي الح ــوار ال ــذي دار بي ــن إبراهي ــم والنم ــرود (حاك ــم ِ َ ـاج ِإْبر ِ ـاه اهلل اهي ـ َـم ِف ــي َرِّب ـ ِـه َأ ْن َ آت ـ ُ باب ــل)« :أَل ـ ْـم َت ـ َـر ِإَل ــى َّال ـذي َح ـ َّ َ الْمْلــك إذ قــال إبر ِ ـال َأَنــا ُأ ْحِيــي اهيــم ربـ ـت َقـ َ ـي َّال ـِذي ُي ْحِيــي َوُيِميـ ُ ُ َ ِْ َ َ ِْ َ ُ َ ِّ َ ْ ْ ِ ِ ِ ـال ِإْبر ِ ْم ْشـِـر ِق َف ـأت اهيـ ُـم َف ـِإ َّن اهلل َيأتــي ِب َّ الشـْـم ِ َوُأِميـ ُ س مـ َـن الَ ـت َقـ َ َ ـت َّال ـِذي َكَف ـ َـر» (البق ــرة ،)258ه ــذا الح ــوار ْم ْغ ـ ِـر ِب َفُبِه ـ َ ِبَه ــا ِم ـ َـن الَ تصع ــد إبراهي ــم ف ــي ـول إل ــى ج ــدل م ــن جان ــب النم ــرود ،وق ــد ّ تح ـ َّ
المجـ ِ ـادل بتقديــم البرهــان ،فعندمــا قــال لــه النمــرود: إفحــام هــذا ُ «رِّب ــي َم ـ ْـن رب ــك ؟ كان ــت إجاب ــة إبراهي ــم تقدي ــم حجت ــه األول ــى: َ َ احتـــج عليـــه النمـــرود بقولهَ«:أَنـــا يـــت» فلمـــا ّ الَّـــِذي ُي ْحِيـــي َوُيِم ُ ـت» أي أقت ــل م ــن أش ــاء وأعف ــو عم ــن أش ــاءَ ،قــّد َم ُأ ْحِي ــي َوُأِمي ـ ُ ْ ِ ِ س ـم ـ الش ب ـي ـ ت أ ي اهلل ن إ ـ ـ «ف ـه: ـ قول ـي ـ ف ـة ـ غ الدام ـة ـ ج الح َّ ِْ ِ َ ِ َّ َ إبراهي ــم ُ ْ ْم ْغ ـ ِـر ِب» ،وكان ــت ه ــي المس ــكتة. ْم ْش ـ ِـر ِق َفــأ ِت ِبَه ــا ِم ـ َـن الَ ِم ـ َـن الَ وله ــذا الح ــوار تواب ــع ف ــي ترّق ــي إبراهي ــم ف ــي ســلّم اإليم ــان م ــن مرحل ــة (عل ــم اليقي ــن) ،ال ــذي س ــكن عقل ــه وقلب ــه بالدلي ــل، إلـــى مرحلـــة (عيـــن اليقيـــن) ،التـــي تتحقّـــق بالمشـــاهدة توج ــه إل ــى اهلل ُملتمســ ًا المس ــاعدة ف ــي الوص ــول والكش ــف ،إذ ّ ـــال ِإْبر ِ يـــم َر ِّب َأِرِنـــي إلـــى هـــذه المرحلـــة اإليمانيـــةَ : اه ُ «وِإْذ َق َ َ ِ ِ ِ ِ ـن َكْي ـ َ ّي ْطَمئ ـ َّ ـال َأ َوَل ـ ْـم ُت ْؤم ــن َق ـ َ ْم ْوَت ــى َق ـ َ ـال َبَل ــى َوَلك ــن لَ ـف ُت ْحِي ــي الَ ِ َ ـــل ـــم ث ـــك ي ل إ ـــن ه ر ص ف ـــر ي الط ـــن م ـــة ع ب ر أ ذ ـــ خ ف ـــال ق ـــي َقْلِب َّ اج َع ْ ً ْ ِ ِ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ََْ ّ َ ْ َّ ْ ُ ُْ ْ ِ ِ اعَل ـ ْـم ـن َيأتيَن ـ َ ـن ُج ـ ْـزءًا ُث ـ َّـم ْاد ُعُه ـ َّ َعَل ــى ُكِّل َجَب ـ ٍـل ّمْنُه ـ َّ ـك َس ـ ْـعي ًا َو ْ ِ َ (بصرنـــي)، أي ـــي) ن ر أ ( )260 (البقـــرة » يـــم َأ َّن اهلل َعِز ٌ ِ ّ يـــز َحِك ٌ أي أن طل ــب الرؤي ــة ج ــاء تابعــ ًا (لعل ــم اليقي ــن) ال ــذي تابعن ــاه يـــت» ،وقـــد جـــاء فـــي قولـــه للنمرود«:رب ـــي الَّـــِذي ُي ْحِيـــي َوُيِم ُ َ ِّ َ ال ــرد اإلله ــي عل ــى إبراهي ــمَ« :أ َوَل ـ ْـم ُت ْؤِم ــن» وه ــذا ال ــرد كان ف ــي صيغـــة ســـؤال إجابتـــه معروفـــة ســـلفاً ،أي أن الســـؤال هدفـــه (الزم الفائـــدة) – كمـــا يقـــول البالغيـــون – أي لكـــي يســـتفيد الس ــامعون والقارئ ــون علم ـ ًا بإيم ــان إبراهي ــم ،عل ــى الرغ ــم م ــن أن الس ــؤال ذات ــه ق ــد يوه ــم بالش ــك ف ــي إيمان ــه ،ول ــذا ج ــاءت «بَلـــى» ،أي آمنـــت ،لكنـــي أســـعى للوصـــول إجابـــة إبراهيـــمَ : «ف ُخ ـْذ إل ــى يقي ــن المش ــاهدة ،وق ــد اس ــتجابت ل ــه الس ــماء عملي ـاًَ : ـك»أي خ ــذ أربع ــة م ــن الطي ــور َأْرَب َع ـ ًـة ِّم ـ َـن َّ ـن ِإَلْي ـ َ الطْي ـ ِـر َف ُصْر ُه ـ َّ المختلفــة وضمهــن إليــك لتتعـّـرف عليهــا بأشــكالها لتتيقــن أنهــا الت ــي س ــبق ل ــك أن ضممته ــا إلي ــك ،ث ــم قطعه ــا ووزعه ــا عل ــى أربع ــة جب ــال ،فنف ــذ إبراهي ــم األم ــر اإلله ــي ،ث ــم دعاه ــن ،فوج ــد مكتمـــا وأتتـــه أجزاءهـــن تتجمـــع وتتالحـــم ،وقـــام كل طائـــر ً الطي ــور تس ــعى ،أي أن إبراهي ــم ل ــم يك ــن يطل ــب اليقي ــن بق ــدرة اهلل علـــى اإلحيـــاء ،وإنمـــا يطل ــب المعرف ــة بكيفي ــة اإلحيـــاء. وه ــذا الح ــوار ُيق ـ ِّـدم درســ ًا قرآنيــ ًا عظيمــ ًا ف ــي أن م ــن ح ــق كل إنس ــان أن يش ــك ،وأن يطل ــب اليقي ــن دون ح ــرج ،وه ــو م ــا يتواف ــق م ــع الحدي ــث النب ــوي ال ــذي رواه البخ ــاري« :نح ــن أح ــق ْم ْوَت ــى «ر ِّب َأِرِن ــي َكْي ـ َ ـف ُت ْحِي ــي الَ بالش ــك م ــن إبراهي ــم» ،إذ ق ــال َ ِ ِ ـن َقْلِب ــي». ّي ْطَمئ ـ َّ ـال َأ َوَل ـ ْـم ُت ْؤِم ــن َق ـ َ َق ـ َ ـال َبَل ــى َوَلِك ــن لَ 79
أدب
مرتني «الرهينة» اليمنية تو َلد ّ جامل جربان
دماج مــا تزال رواية «الرهينة» للكاتــب اليمني زيد مطيع ّ ّ ( )2000 - 1943تثيــر إشــكالياتها حّتــى بعــد ثالثيــن عامــ ًا علــى صدورها ،وبعد أربعة عشــر عامــ ًا من رحيل مجــددًا بالتزامن مع صاحبهــا ،حيث عاد النقــاش حولها َّ السياســي واالجتماعــي والمذهبــي الحــرج الذي الظــرف ّ األدبي الــذي اختاره تمــر بــه اليمــن اليوم .وهــي العمــل ّ ّ اّتحــاد األدباء العــرب بوصفه واحدًا من أبــرز مئة رواية عربيــة خالل القرن العشــرين .ولم يكن ذلــك االختيار قد يمني ضمن أتــى معتمدًا علــى حتمية وجود عمل روائــي ّ مكملــة لمجمل الفضاء الئحــة المئــة رواية ،أو كــي تكون ّ لهوية اّتحاد األدباء العرب .على الروائي العربي انعكاس ًا ّ العكس من ذلــك ،جاءت «الرهينة» مســتحقّة الظهور في تلــك الالئحة ،التي أثارت وقتها ردودًا نقدية عديدة تنتقد جيد استطاع فكرة اختيار القائمة بحّد ذاتها ،جاءت بنص ّ تقديم صورة عن واقع الحال االجتماعي والحال السياسي اللذين كانت تعيشهما اليمن تحت حكم نظام اإلمامة ،الذي أي تواصل عزل البالد عن محيطها مانع ًا أهلها من تحقيق ّ مع ما يدور ويتطور في العالم الخارجي. وقــد ســعى صاحب “الرهينــة” لتقديم هــذه الصورة عبر سرد روائي يصف الحالة من داخل القصر اإلمامي نفسه، ســتخدم -في جزء منه -كمكان الحتجاز أبناء والذي كان ُي َ تمدد زعمــاء القبائل الذين كان يخشــى اإلمــام الحاكم من ُّ نفوذهــم وانخراطهم في التخطيط لالنقالب عليه .وخالل 80
ال لشــخصية نســائية تنتمي إلى ذلك دماج تفصي ً هذا قّدم ّ القصر ،ومن ســليل تلك األســرة اإلمامية الحاكمة ،وهي الشــخصية التي ثار النقاش واالعتراضات حولها ،وعلى سياســية تنحدر من وجــه الخصــوص ،مــن جهة أســماء ّ صلب العائلة اإلمامية ،لكنّها قدرت على التأقلم اليوم مع النظــام الجمهــوري الحاكم ،واحتفظت لنفســها بمكان في هرم الســلطة القائمة ،ولم َت ْس َع للهجرة خارج اليمن على غرار ما فعل غيرها من أبناء وأحفاد العائلة نفسها. مجددًا حول «الرهينة» وكان من المتوقَّع أن يعود النقاش َّ تطورات الراهن المشــتعل داخلياً ،واالحتفاء الثقافي مــع ُّ والنقــدي الذي شــهدته القاعــة الكبــرى بالمركــز الثقافي الفرنســي فــي صنعــاء ،بمناســبة صدور ترجمــة جديدة للروايــة باللغة الفرنســية قامت بها المترجمــة اللبنانية- الفرنســــــــــية نـــــــــدى غصن ،والصادرة تحت عنــــوان «( »le Bel Otageدار زوي ،جنيف -سلسلة كالسيكيات من العالم). تحــدث الناقد النقاشــية التقديمية للترجمة، في الجلســة َّ ّ وقــدم ورقة نقّدية اليمني عبــد العزيز المقالح، والشــاعر َّ ّ أكد فيها على تمثيل «الرهينة» ألنموذج أدبي حول الرواية َّ نجــح في مغايرة االعتقاد الســائد لدى البعض بخصوص النــص المحلّي ألدوات ،لها أن تذهب به إلى الضفة فقدان ّ األخــرى مــن العالم ،وإلــى المتلقّين هنــاك ،وبأن النص ّيته -قادر على أن يلقى جمهورًا األدبي -على الرغم من محلّ ّ
اليمنية وتقاطعاتها ،وأن غربيــ ًا ال يعرف تفاصيل البيئة ّ ُيسهم في توضيح الصورة التي قد تبدو غامضة عن اليمن
المجهــول لديهــم ،ويتحقّق هــذا في حالة إذا مــا كان ذلك
ال لحاجته من الصدق والنقاء اإلنســاني النص األدبي حام ً المحمولين عبــر كتابة ُمنجزة بإتقان وخبرة مأخوذة من المــكان والبيئــة االجتماعيــة التي تحكي عنهــا« ،وهو ما
دماج» .من جهتها ،قالت يتوافر في َن ّ ص األديب زيد مطيع ّ
مترجمة الرواية ندى غصن إن الرهينة نجحت في تسليط اليمنــي الموصول الضــوء على فترة معقَّــدة من التاريخ ّ
بظــروف حكــم ســلطة عائليــة قامــت بتعميق عزلــة هذا الشــعب المقيــم في شــبه الجزيــرة العربية ،وقــد جاءت دال صورة المحتجز في قصر اإلمام كرهينة «كرمز ّ الصبي ُ ّ حتجز على ٍ شــعب بأكمله ّ الم َ يود الخروج مــن ذلك المكان ُ الحرية والثورة». بداخله ،والسعي لمعانقة ضوء ّ وقــد جاءت مناســبة صــدور الترجمــة الفرنســية الثانية مواز الرتفاع صوت جماعة الحوثي لـ«الرهينــة» في وقت ٍ السياســية ،التي تنحدر أصولها من بنية العائلة اإلمامية التــي كانت تحكم اليمن نفســها ،ومنها جــاء االعتقاد -من مجدداً ،وفي هذه الســنة، جهتهــا -بأن خــروج «الرهينة» َّ إنمــا جاء بمثابــة والدة أخرى وتجديد لتلك اإلشــكاليات المأخــوذة ضّد أســرة اإلمام يحيى حميــد الدين (- 1869 )1948وفــي هذا تعميــق لدرجة الخــاف المذهبي القائم حالياً ،بشكل اليعمل على خدمة الصالح العام. يمــض وقــت قصير علــى هــذا الغبار الــذي خرج مع ولــم ِ قــررت إحــدى القنوات الترجمــة الجديــدة للروايــة حتــى َّ تيار سياسي ومذهبي الفضائية اليمنية المحســوبة على ّ ّ مناهــض لجماعــة الحوثي تحويــل روايــة «الرهينة» إلى عمل درامي .ومن الصعب طرح تفســير قرار إنتاج الرواية درامي ًا بأنه يأتي في ســياق األزمة الطائفية التي يعيشها اليمن في هــذه الفترة .ولم ينحصر الجدل والنقاش داخل المســتمر على جماعة الحوثي والمناصرين لهم وتأكيدهم ّ ا أدبيــاً ،وإنمــا أتــت للنيل من أن «الرهينــة» ليســت عمــ ً أســرتهم عبر سرد نوع من السلوك الغريب عن نساء تلك األســرة ،وقد دخلت على الخط أسرة الروائي الراحل زيد دماج، دماج التي َّ هددت -بواســطة ممثّلهــا همدان ّ مطيــع ّ وهــو النجل األكبر لألديــب الراحل -باللجوء إلى القضاء، المحطة الفضائية ،عبر فريق عمل سوري بسبب قيام تلك ّ يخــص والده دون يمني مشــترك ،باســتثمار عمــل أدبي ّ الو َرثــة ،ودونما التزام الحصول علــى موافقة ّ خطّية من َ الفريــق الفني الذي تكفَّــل ،عند تحويــل الرواية إلى عمل وتعمد العامة للرواية، درامي ،باحترام البنية الرئيســية ّ ّ محددة منها دون أخرى ،بهدف اســتغاللها اجتزاء فصول َّ في تحقيق مكاسب ،ولو معنوية ،في داخل دائرة الصراع الو َرثة الطائفي الدائر اليوم في البلد ،وهو أمر – بحســب َ – ال يحترم قدســية العمل األدبي وأفكار كاتبه التي كانت السياســية لكن -بالنظر إلى الظروف بعيدة عن المســارْ . ّ الحرجة -يبدو من الصعب أن تجد المحاكم القضائية وقت ًا ٍ عنوانها األدب. إشكالية لها كي تنظر في ُ 81
حوار مع الكتب ماجـد صالح الســامرايئ
لم أكن مخطئ ًا يــوم وقع اختياري عليك صاحب ًا وصديقاً. وأنت تقول مبكر ،فإذا بك تأخذ بيدي كنــت يومها في عمــر ّ َ ُ وكنت مهمــا طال زمن لــي :طريــق المعرفة يبــدأ من هنــا. ُ كنت دائم ًا مفتوح حواري معك ال تسأم مني ،وال ّ تمل ،بل َ أنــت من علّمني كيــف أحاور من القلــب ألســئلتي ..ألجدك َ أتحــدث ،حين أتحّدث، أحاوره بهــدوء واطمئنان ،وكيف َّ بثقة ،كما علّمتني أن أفتح الباب لمن يقرعه ،وأســتقبله، ضيفــاً ،بترحيــب واحتــرام؛ فأنت تعقد صلــة الوصل كما مقرب .ولنا منك ،في هذا كله ،حديث يبدأ، نعقدها بصديق َّ وغالب ًا ما ينتهي بنا -إن انتهى -إلى ما يدعونا إليه من حوار بيــن «األنا» و«اآلخر» الذي قــد تختلف معه فتتصارع فكراً، تتقدم عليه فيتراجع أمامك ،وربما حصل العكس .وقد وقد َّ يتقبل منك اإلشارة فتنبهه على ما وقع فيه لتجده ّ ُيخطىء ِّ يصحح لك فتقبل ،فهــو -كما يدعوك إلى واإلرشــاد .وقد ِّ يتقبل منك دعوتك إلى مثيلهما. شيء ،أو أمرّ - وأنت -صديقي الكتاب -من زاوية أخرى ،لســت كالبشــر: تتقارب ممن تتقارب منه أو تتباعد عنه في ضوء المصلحة إذ تفعل هذا إنما تفعله من خالل الرؤية أنــت ْ والمــزاج ،بل َ التــي تحمــل ،وتتــرك الخيار لي ،أنــا الصديــق القارىء، فقــد أقبلــه منك وأتوافق معــه ،وقد أختلف ،فــإذا اختلفت ســمعت مني ما أقــول ،وقلت بتؤدة وصبــر :لك الحق في وموقفا ،بل حالة تتغير ً «قولــك المختلف» ..ومــن دون أن ّ ً رت منــي الرؤية، وجدتــك -فــي غير حالة وموقــف -قد ّ غي َ وســاعدت في بنــاء الموقف الذي تّتخذ ،مــن دون إكراه أو َ َعَن ْت ،فـ«سلطتك» معرفية ،وليست «سلطة سلطوية». قــرأت الشــعر فيك، هــذا فــي جانــب .وفــي جانــب آخــر: ُ والروايــة ،والقصــة ،والمســرحية ،فــإذا أنــا أمــام ً رؤى تحملنــي إلى عوالم لــم أدركها من قبل .وكثيــرًا ما وجدتها تضعني أمام ضروب من الهواجس شتى ،بعضها أورثني القلــق ،قلق اإلبداع ،وبعضها أخذني في دروب لم ِ أمشــها لدي ،ألجدني أقول: من قبل ،كما أثار بعض منها التساؤل ّ 82
إذا كان العالم هو هذا ،فكيف ينبغي علينا أن نكون؟ أتعرفك أكثر من خاللك اســتزادة منــك ..فإذا بك ُ ورحــت ّ تقــول قول المرشــد الناصح :إن الكتــاب الحقيقي هو ذلك يفجــره عندك .ومتى أصبح الذي يحمل الســؤال إليك ،أو ّ دت الكتاب جواباً ،ليس إالَّ ،فَقَد مشروعية أن يكون .وقد َّ أك َ لــي أن القــراءة بحــث ،فنحن نقــرأ لنبحــث ،أو ينبغي أن ويجدد نسيج العقل ،ويدفع حرك الذات منا، ِّ نبحث ،عما ُي ِّ مميزاً :وهناك لي تقول ووجدتك والمســاءلة.. التفكر إلــى ُّ ّ «كتــب الجــواب» التي ال ُتســلم إال لليقين ،فمن هــذا اليقين عطل في الذات فعلها، وي ِّ ما يكون استســام ًا ّ يشل اإلرادةُ ، ويغلق األفق أمام العقل. ُ «يحاكم» سواه :شعراء ،وكتاباً، ُ ووجدت من بين الكتب ما ُ ومفكريــن ..فمنهــم مــن َحَّّركهــم قلق الوجود فــي ما كتب، ِّ وحيــن نعود اليوم إليهم نجد بعضهــم قد كبر القلق عنده، تبدد ،فبّدد الفكر واللغة ،وذهب بهاجس وعند بعض آخر َّ اإلبداع. مفكرًا بأن الكاتــبِّ ، ووجــدت بيــن هذه الكتــب ما ُيخبرنــي ّ ُ كان أم مبدعــاً ،ال يكــون بمــا يريــد ،أو تريــده الكتابة ،إال إذا انطلق من كونه «فرداً» ،بفردانتيه يخلق خصوصيته، يتميز عندك قارئــاً .والفردية ال تعني وبهــذه الخصوصية َّ تتشــكل ،معاني وأبعاداً ،من خالل الغربة عن الواقع ،وال َّ َ حالة انفصال عن الكيان الجمعي ،بقدر ما هي :رؤية الذات للعالــم ،والتعبيــر عن هــذه الرؤية بحيويــة الحياة داخل الرائي. *** غير أن من بين ما تحمله الكتب من تساؤل ما يجعلنا ندرك تدار َكه َم ْن وقع «خراب العالم» الذي نحن فيه اليوم ،وكيف َ فيــه قبلنا فأعاد البناء ،لنعرف أن التاريخ تجربة ،وليس حكايات تروى عن أزمنة السلف. وأزعم اليوم ،من بعد هذه الصداقة الطويلة التي لم َت ُشْبها نتعــرف أخطاءنا، شــائبة ،لي معــك ،أننا من خاللها كنا َّ
الصغرى منها والكبرى ،ونعانق أحالمنا عند «بطل» رواية شــق الطريــق ،على وعورته ،حتــى بلغ ما إليه يكون قد ّ يصبــو ويريــد! أو فكــرة نذلِّل بهــا طريق المســتحيل ،وما أشبه!.
لذلك فإن أكثر ما ُيحزنني ،وأنا أقرأ ،هو الكتب التي تنتهي
تراجع «البطــل» في رواية إلــى حال مــن التراجع :ســواء ُ
تراجع شــاعر عن «رؤياه كاتــب عما كان يرمي بلوغه ،أو ُ عما يكون أثار تراجع ِّ مفكر ّ الزمانية» ،وكذلك ُ مــن تســاؤالت كان الغد مداهــا ،أو مبدع عما
معان جديدة .والفجيعة هي كان يلتمــس من ٍ فــي أن نجد خطاب الكاتب ينهار ،فيخذل من عقدوا عليه بعض آمالهم ،وربطوا تطلُّعاتهم بمــا يــرى ،ليجــدوه ،فــي لحظــة قريبة من التاريخ ،وقد مضى في ســياق خرج به عما ال ما كان للعصر وإنســانه من تطلُّعات ،مهم ً قد عرف من أن الكتابة تجربة ،أوهي شجرة ال بناية من حجر. *** قد يســأل القــارىء ،هنا« :ومــن أين تنطلق بنيت قولك في ما تقــول؟ وعلى أي أســاس َ هذا؟» فأجيب :إننا نقول هذا ،أو شيئ ًا منه إذا
ما نظرنا إلــى الكتابة ،ومن ثم إلى الكتاب، كونهمــا ضــرورة وجود .ومثــا ًال أقول :يوم وجدت نفســي ذات يــوم بين أربعــة جدران ُ
حاصــرت حركة وجــودي الحياتي اليومي، ْ
وأسلمتني إلى تعاسة الشعور بأني ال أملك إرادة أن أفتــح البــاب الــذي أنــا وراءه ،أو ويغلق دوني بإرادة أغلقــه ،وإنما ُيفتح لي ُ
ا عــن تجريــدي مــن الكتــاب، اآلخــر ،فضــ ً أحسســت بفــراغ كبيــر يحتوي وجــودي من الداخــل أكثــر ممــا ُيحاصرنــي فــي الخارج.
إلــي ،ذات نهار، ويوم ُ وجــدت الكتاب َي ُ عبُر َّ «حراسي» ،لم أعد يومها -مع بعيدًا عن أعين ّ السر ّي -أشعر بذلك الضيق الذي به وجوده ّ
زجوا بــي في غرفــة ضاقت شــعرت لحظــة ّ ُ
على «ساكنيها» ،وأغلقوا دوني األبواب. َ غيــر أن «الحالــة» أســلمتني إلــى ســواها؛ فمــن يومها لــم أعد أقرأ كما أريــد ،وأكتب ما أتخذهــا يداخلنــي ،إال وبــاب الغرفــة التــي َّ مكتبــ ًا مغلق دوني ،ولكن ،فــي هذه المرة،
«حراسي»!. بيدي ،ال بيد ّ 83
القوايف املهاجرة د .حسني محمود
بشــيء مــن االعتدال فــي التفســير ومقاومة النزعــات القومية نقــرر -باطمئنــان -أن العالقة مــن هوى النفس ،نســتطيع أن ِّ اصطِلــح على تســميته العصور أو بين الشــرق والغــرب فيما ُ ــميت وســطى ألنها تفصل بيــن العصور (س ِّ القرون الوســطى ُ القديمــة بحضاراتها اليونانيــة والرومانية ،والعصور الحديثة دشــنها عصــر النهضة) ،كانت عالقة بيــن أنداد .وما زلت التي َّ أذكــر مقالــة ابــن جبير فــي رحلته عندمــا َمّر بعــكا ،وكانت قد وقعــت فــي أيدي الصليبيــن ،معلِّق ًا على أســلوب حياة الناس وعالقاتهــم في كافة الدروب التي تصل الشــرق بالغرب ،حين قال« :واالّتفــاق بينهم واالعتدال في جميع األحوال (يقصد بين الغربيين والعرب) ،وأهل الحرب مشــتغلون بحربهم ،والناس في عافية ،والدنيا لمن غلب». يقررون -أيضاً -أن بل إن بعض ًا من كبار الدارســين الغربييــن ِّ تعم البالد العربية ،وكانت منقوصة في البلدان المساواة كانت ّ تع درس المســاواة بين البشــر إال ناتج ًا من الغربيــة ،التي لم ِ النواتــج الجانبيــة للحــروب الصليبيــة .ومــن أراد أن يعــرف اإلسهامات التربوية للعرب على العجم في ذلك الوقت يمكنه أن مذكرات أســامة بن منقذ ،أو رحلة ابن جبير .وقد خلصوا يقرأ ِّ مــن هــذه المالحظــات إلــى أن عالقــة النّدية ربمــا كانت تخفي ورِقّيــ ًا في الحضارة العربيــة ،التي كانت أعلى وراءها ّ ســموًا ُ شــأن ًا وأغنى إنجازاً :يكفي أن نعلم أن األوروبيين تعلّموا من الشــرق ،من مصر والشــام -تحديداً -النظافة الشخصية وآداب الطعــام وأناقــة الملبس .ومن المشــاهد المألوفــة والتي حكى رث الثياب ،وال يســتحي من عنهــا ابن منقــذ أن اإلفرنجي كان ّ يستحم ،وتفوح منه روائح كريهة. ارتداء رداء مهلهل ،وكان ال ّ والطريف -أيضاً -أن األوروبيين تعلّموا من مصر والشام كيف يتعاملون برقّة مع النســاء ،ومن اّتصالهم ُوِلد شعر الفروسية الــذي كان يجمع بين بطولة الفرســان الحربيــة ونبل تعاملهم مؤكد أننا تراجعنا خطوات كثيرة في هذا المضمار، مع المرأةَّ . نستحق أن نبكي على أحوالنا اليوم. وأننا ّ مؤخــراً -محاضــرة كتبــت للتدريس في باغتباط، قــرأت وقــد َّ المــدارس اإليطالية في مــادة «العالقات الثقافيــة البينية» َق َّرر 84
عزها) مؤلِّفهــا أن العرب في العصور الوســطى العليــا (أي في ّ التقدم كانــوا تفوقــ ًا َّ مؤكــدًا في ثالثــة ميادين هــيُّ : يســجلون ُّ ِّ والتقدم الثقافي. العلمي، م والتقد المدني، ُّ ُّ وإن كنّا اليوم نشــكو ضعف األمم العربية واإلسالمية عسكري ًا يســتطع يتغير ،فلم وسياســياً ،فــإن الحــال هو الحــال ،لــم ْ َّ نصف العالم (وربما لن يســتطيع) أن يحرز نصرًا سياســي ًا أو عســكري ًا حاســم ًا على النصف اآلخر .أما التفاعــل الثقافي فلم يتوقَّف لحظة ،واختالف الناس بين الجانبين (أي أســفارهم، وهجراتهم) لم ينقطع .ومع هجرات األشــخاص تهاجر قيمهم، ويهاجر تراثهم. هكذا تصادم الشرق والغرب عسكرياً ،والتقيا ثقافي ًا في اللحظة نفسها .وهكذا نستطيع أن نحصر معابر الثقافة من الشرق إلى الغــرب ،ومــن الغرب إلى الشــرق ،فــي عناصر ثالثة :الســفر (هجرة وتجارة وسياحة ..إلخ) ،والحرب (حمالت استعمارية واســتيطانية وحــروب معلومات وحــروب اقتصادية ..إلخ)، والترجمــة (ترجمــة األدب والفكر والعلم) .وعلــى هذه المعابر انتقلت تأثيرات الشعر العربي إلى الغرب. المؤكدة وجــود العرب فــي أوروبــا لعّدة مــن نواتــج الحــرب َّ قرون :سبعة في األندلس ،وثالثة في صقلية،و وجود الغرب فــي العالم العربــي طوال الحروب الصليبيــة ،التي امتّدت هي األخــرى على مــدى 9حمالت اســتمرت قرنين مــن الزمان (من بدايــة القرن الحادي عشــر وحتــى نهاية القرن الثاني عشــر). ومن األندلس وصقلية بدأت هجرة الشعر العربي إلى أوروبا. هناك الكثير من الدراسات األندلسية لباحثين شرقيين وغربيين مشهود لهم ،ولكن الدراسات الصقلية قليلة ،إن لم تكن نادرة، ومن أشهرها دراسة إحسان عباس «العرب في صقلية» .وألن نســب إلى أهله فإن عميد الدراســات الصقلية الفضل يجب أن ُي َ فــي العالم هو المستشــرق اإليطالي ميكيل أمــاري ،والذي قام وحده بجهد لم تقدر عليه سوى أجيال مجتمعة .ومن أهم كتبه محب ســعد ،عام ذلك الكتاب الذي ترجمه فريق بقيادة الراحل ّ ،2004وأصدرته دار النشــر اإليطالية (لومونييه) بفلورنسا، وصــدر عــام ،2004مــن ثالثــة مجلَّــدات ،واعتمــد فيــه على
العمل الفني- Edgar Degas :فرنسا
تحقيــق نحو 70مخطوطــة (ال تزال هنــاك مخطوطات عربية كثيــرة لــم يتم تحقيقهــا وموجودة فــي صقليــة) ،وكانت له- يســمى «المكتبة الصقلية» التي أيضــاً -جهود أخرى لتكوين ما ّ ضمــت الكثير من التــراث العربي في تلك البــاد .وبعد أماري َّ واصل المســتعرب الكبير «ريتســتانو» جهود أســتاذه ،وكانت َ لــه إســهامات كبيرة في هذا اإلطار .واعتمد إحســان عباس في دراســته على مجهــودات هذيــن العالمين الكبيريــن ،وأحدهما ينتمي إلى القرن التاســع عشر (ولد أماري عام )1806واآلخر في القرن العشــرين (ولد ريتسيتانو في اإلسكندرية بمصر عام ،)1913واألخيــر تــرك مكتبة عامــرة بالمخطوطــات األصلية يتم نشرها أو تحقيقها. التي لم ّ وكل هؤالء الدارسين قّدموا صورة إيجابية للوجود العربي في صقليــة من الناحية التاريخية ،ولكن الشــعر لم يكن له وجود كثيف في مؤلّفاتهم ،نظرا ألن أماري اكتفى في دراسته الرائدة بنشر القصائد والتعريف بمؤلّفيها فقط. وللصديقــة «فرانشيســكا كــوراو» كتــاب نشــرته عــام 1987 لمختــارات من الشــعر العربــي الصقلي مترجم ًا بواســطة كبار الشــعراء اإليطاليين المعاصرين ،وهو عمل مزدوج ألنه يقرب
اإلنتــاج الشــعري العربــي الذي كتبه شــعراء عرب أو شــعراء تبنّــوا العربية في الماضي ،وألنه يعيد اكتشــاف هذا الشــعر، ويجعل من السهل تحليله والكشف عن معاييره وتقنياته. وال يمكن تبيان أثر الشــعر العربي في مثيله األوروبي دون أن نعرف كيف كان الشعر في أوروبا قبل تماسه مع شعر العرب، بعروض الشــعر .يلفت النظر أن مصطلح وخاصة فيما يتعلَّق َ الشــعر فــي العربية مختلــف تمام ًا في النشــأة عن الشــعر في اللغــات األوروبيــة اعتمادًا على التــراث اليوناني والروماني، فالكلمة التي جاءت منها poetryأو poesieأو poesiaتعني «خلــق» فــي األصل ،بينما هــي في العربية من «الشــعور» في الغالب .ولكن المشترك هو أن الغالب على القصيدة موسيقاها وإيقاعهــا ،ومــن هنا عــرف الشــعر القديــم األوزان والقوافي. نقرر -باطمئنان -أن الشــعر العربي القديم وبالطبــع يمكــن أن ِّ تقدمــاً ،وإيقــاع الشــعر فيــه أكثــر تعقيدًا وتشــابك ًا كان أكثــر ُّ وتنوعاً ،بعكس الشعر اليوناني والشعر الروماني،اللذين كانا ُّ يعرفان بحرًا واحداً ،كان -في الغالبُ -يطَلق عليه اســم (البحر السداسي). ويمكــن اإلشــارة هنا إلــى الدراســات والتجارب التــي أجراها 85
الباحــث الكبير محمد عونــي عبد الرؤوف ،والذي أمكنه ترجمة الشــعر العربي إلى اللغة األلمانيــة محتفظ ًا ببحورها العربية، وهو ما يعني أن بحور الشــعر العربــي يمكن نقلها إلى اللغات األجنبية ،وهو افتراض تثبته الدراســات اللغوية الحديثة التي تهتــم بعلم األصــوات في إطار علوم اللغويــات الحديثة ،التي ّ تدرس الظواهر اللغوية من منظور إنساني عالمي. وكانت لي تجربة خاصة في دراسة عن الترجمة ،فقد استعنت متمكن هو -في الوقت نفسه -شاعر ،إنه الدكتور عبد بأكاديمي ِّ الناصــر هالل ،وقرأت عليــه أول بيتين من «الكوميديا اإللهية» مقســمين إلى تفعيــات عروضيــة ،فأدرك لدانتــي أليجيــري َّ األكاديمــي المصري أن هذين البيتيــن ينتميان إلى بحر المديد، ومن ثم يمكن القول إن ثالثيات الكوميديا اإللهية ليس لها صلة يتكون من بتراث الشــعر األوروبي سداسي الوزن ،والذي كان َّ خمس تفعيالت متشــابهات ،والسادسة مختلفة ،وأنها متأثِّرة بالعروض العربي. مباشرة َ أما القافية فلها شأن آخر ،ألنه -طبق ًا لدراسات لغوية حديثة- تخل أية لغة من اســتخدام القوافي ،ليس فقط في الشــعر، لم ُ بــل في النثــر أيضاً ،وكان هناك دائم ًا تمييــز بين النثر المقفّى والشــعر المقفّى ،ولكن الرأي السائد أن القوافي التي تصادفها فــي اآلداب اليونانيــة والالتينيــة القديمــة ربمــا اســتلزمتها الضرورات األســلوبية للمؤلِّفين ،شــعرًا ونثراً ،ولكنها لم تكن تقنيــة معروفة .وهنــاك أمثال شــعبية كثيرة منقولــة باللغة يتم فيها اســتخدام القافية ،كما أن هناك الالتينية عن الرومان ّ «المّوال» لدينا ،وكان تستخدم فيه القافية جنســ ًا شعري ًا يشبه َ
العمل الفني- Philip Burne Jones :بريطانيا
86
علــى نطــاق واســع ،وصلتنا منه نصــوص تعود إلــى القرن التاسع الميالدي. ولكن االســتخدام الفني للقافية ،أي بكامل توظيفيها الشعري، الجوالون إلى ارتبط بالشعر البروفنسالي ،الذي نقله الشعراء ّ مختلــف أنحــاء أوروبا ،ومنــه إلى صقلية علــى نحو خاص، تطــورًا خاص ًا ُعِرف في تاريــخ األدب اإليطالي والتي شــهدت ُّ باســم (المدرســة الصقليــة) .وهناك فرضيات أخــرى ترى أن القافية الشعرية انتقلت إلى الشعر البروفنسالي والفرنسي عن طريــق الجرمــان في الربع األخير من القرن التاســع الميالدي. لكــن الفرضية األقوى والتي انطلقت في القرن الســادس عشــر نشر) في القرن السادس عشر بواسطة عن طريق دراســة (لم ُت َ ج .م .باربييــري ،ووفقــ ًا لها فإن القصيــدة المقفاة انتقلت عن طريــق العــرب الذيــن فتحــوا األندلــس ،ووصلوا إلــى جنوب مســتقل فرنســا ،ثــم عادت هــذه الفرضية وظهــرت على نحو ّ وتأكدت طيلــة القرن الثامن عشــر، فــي القرن الســابع عشــرَّ ، راهبْين بين كان هــذا حول جدال وخاصة في فرنســا .وأشــهر َ مهاجرْين إلى إيطاليا ،كان أحدهما يدعم من الجزويت اإلسبان َ فرضيــة باربييــري وهو «ج .أندريه» ،واآلخــر يعارضها وهو «ســانت ارتيجــا» .وتواصلــت المجادالت حول أصــل القصيدة البروفنسالية ،وماتزال. ومــن رأيــي أن البروفنســاليين لــم يخترعــوا القافيــة كتقنيــة إيقاعيــة فــي القصيدة ،ولــم ينقلوها عــن اليونــان أو الالتين الذيــن عرفوهــا لكن في ســياق أســلوبي مختلف ،بــل نقلوها عــن الشــعراء العرب ،ليــس فقط في األندلس ،ولكن الشــعراء األندلســيين والصقلييــن هم الذيــن تبنّوا الثقافــة العربية ،كما تبنّوا اللغة العربية ،وتكلّموها ،وألّفوا الشعر فيها ،وأصبحت من تراث قومهم ،ولم يكن توريثها لألجيال التالية غريباً ،حتى وإن قيلــت بعــد ذلك بلغــات غير عربية ،خاصــة وأنها ظهرت تتحول هذه اللهجات إلى فــي اللهجات العامية الدارجة قبــل أن َّ لغات قومية مستقلّة ،وهو يوحي -دون شك -بأنها تمثَّلت في الذائقــة قبــل أن تنتقل على نحو شــكالني فــي القصائد األولى التي كتبت باللهجات الالتينية واللغات الرومانسية. ليست هناك أية مبالغة -إذًا -في الزعم بنِّدّية العالقات الشرقية تفوق العرب في الميادين الثالثة الغربيــة مع ميل واضــح إلى ُّ ال عن األستاذ اإليطالي الذي يعلِّمها لتالميذه، التي أشرنا إليها نق ً تفوقنا في جميع مناحي الحياة ،ألن هجرة بل يحتمل أن ّ نؤكد ُّ القوافي العربية إلى الغرب تعني -ببساطة -انتقال أرقى أنواع يمس الوجدان ،ويقترب من لغة التعبير اإلنساني ،ألنه انتقال ّ تتميز بمســتوى معقَّــد من التشــفير الرمزي، الموســيقى التــي َّ و-فــي الوقت نفســه -بقدرة عالية علــى التوصيل والتواصل، وهــو ما يعكــس حميمية العالقات وارتباطهــا حتى في الرموز الشعورية اإلدراكية وليس -فقط -في التراث المعرفي. هل نحن في حاجة إلى مثل هذا التأكيد؟ نعــم ،وخاصة في الوقت الحالي الذي يجب أن نســتدعي فيه، مــن تاريخنــا ،عظمــة أجدادنــا ،وإحســاس أحفادهــم المريب بالتقزم. ُّ
هشاشة الكائن فاطمة الزهراء الرغيوي
ال أذكــر -تحديــداً -متى ســمعت للمر ة األولى باســم كيليطو. الحي الشــعبي لكــن اﻷكيــد أنني ســمعت أو ًال باســم (كليطو) ّ والمخيف -في ذاكرتي على اﻷقل -قبل أن أســمع باسم الكاتب عبدالفتــاح كيليطو .كنــت متيقِّنة من أن هذا الشــخص هو ابن الحي المخيف تحديداً. مدينة العرائش ،ابن ذاك ّ على كل حال اســم عبد الفتاح هو اســم عــادي ،يليق بمنطقة شعبية ومخيفة ،هذا ما كان يراودني .لم أزر يوم ًا َح ّي كليطو فــي العرائــش .حتــى المستشــفى المحــاذي له كنــت أتجنّبه، وعندمــا كنــت أزور زميلتي في الثانوية فــي بيتها القريب من أتعجب كيف تعيش فتاة رفقــة والدتها األرملة في الحــي كنــت ّ ّ لدي أحكام مسبقة كثيرة ،كما يبدو... كانت أمان هناك. َّ تصــورت -إذاً -عبــد الفتــاح كيليطــو ابن ًا للمدينة التي نشــأت فيها .ربما لهذا الســبب شــعرت بألفة مع شخص الكاتب .كأنه ألتق به ،وهذه حالي مع فرد من األسرة ،أسمع عنه ،لكن لم ِ والمفكرين .طبع ًا هم غيــر معنيين بهذه مجموعــة من األدبــاء ِّ أضم إلى أســرتي كل بأن ا جد ة ني ع م لكنني الطفلــة المتطفِّلة، ً َْ ّ ّ من تأسرني أفكاره ،وتجعل سمائي أكثر سعة وأكثر تسامحاً. التقيــت -أخيراً -عبد الفتاح كيليطــو .أقصد أنني حضرت لقاء مؤخرًا في المعهد الفرنســي (يجيد الفرنســيون خلق ُن ِِّظم معه َّ حــوارات جميلة بيننا نحن المغاربة) .بــدا كيليطو منعز ًال قبل بدايــة اللقاء .لم يفاجئني األمر فعــاً ،فقد أخبرني -ذات مرة- صديــق اســتقبله في فعالية بالــدار البيضــاء ،أن كيليطو هو محب للعزلة وخجول إلى َحّد ما .ربما ،لهذا الســبب، شــخص ّ لــم يزعج ســكينة عزلته أحد قبل اللقاء .أنــا -أيضاً -لم أذهب ألسلِّم عليه .ما كنت سأقوله له لم يكن سيتعّدى كلمات إعجاب مســتهلكة ،لذا انتظرت نهاية اللقاء ،وذهبت إليه بنســخة من كتابه ليوقِّعها في صمت تقريباً. ــور اللقــاء -أساســاً -حــول اإلصــدار الجديد لعبــد الفتاح تم ْح َ َ كيليطــو« :أتكلَّــم جميع اللغــات ،لكن بالعربيــة» ،الذي صدر فــي توقيتيــن متقاربين :في فرنســا عن منشــورات ســندباد، ومترجمــ ًا إلــى العربيــة مــن ِقَبــل األســتاذ عبد الســام بنعبد العالي ،عن دار توبقال في المغرب .أدار الحوار ببراعة طالبه ومفتــش اللغة الفرنســية فــي أكاديمية تطوان الســيد القديــم ِّ العياشــي الصرحاني .لم تكن األســئلة تقليدية .لم يكن اللقاء
حاور عبد الفتــاح كيليطو يعني- تقليديــاً .ففــي النهايــة ،أن ُت َ أساساً -أن تكون قادرًا على مشاركته الصمت ،عندما يستسلم للحظــة تفكير ،كأنه في خلوته التي يســتعّد فيهــا للكتابة .ال يبــدو عبد الفتاح كيليطو مثل شــخص يمتلــك أجوبة جاهزة. يتمهل في تقديم الجواب ،ويبحث إنه في حالة تفكير مستمرةَّ ، ّ أمام مســتمعيه عن صيغــة ممكنة لطرح وجهة نظره .يشــعر المســتمع (هذا ما شعرت به على األقل) أن كيليطو يشركه في مسعاه للوصول إلى الجواب الشافي. أهمية في طرحه لمســألة وبعيــدًا عن كتابه األخير ،بما له من ّ تعاملنا مع اللغة ،فإن أكثر ما أثار انتباهي في لقائي بقريبي البعيــد ،هو تلك الهشاشــة الباديــة عليه .منــذ الوهلة األولى لحديثــه ،كان واضح ًا أنه ال يســعى لتقريــر يقينيات مطلقة، أظن أن هذا يطبع كتابته أيضاً ،فهو يستحضر الطفل العادي، حي كيليطــو بالعرائش ،العادي إلى درجة الــذي لم يعش في ّ أن يكون خروجه األول من بين أسوار المدينة القديمة للرباط، إلــى مدرســته األولى التــي ســيتعلَّم فيها ،ســريعاً ،اللغتين: مخيلتــه العربيــة الفصحــى ،والفرنســية ،لغتيــن ســتكونان ِّ ليكتــب بهمــا بالقــوة نفســها وباإلصــرار نفســه ربمــا .ثم إن كيليطو يســتحضر عمره «الكبير» ،وهو ينظر -بتســامح -إلى يؤكد الوجوه المحيطة به .يبدو كمن يشعر بثقل السنين ،وهو ِّ أنــه ُوِلد عــام ،1945وأنه دخل المدرســة االبتدائية في بداية الخمسينيات .لكنه -رغم هذا العمر -لم يشأ تقلُّد دور األستاذ، حتى وهو يجيب عن أسئلة الحاضرين .كان يبدو وكأنه ترك درع الفوز للسائل المرتاح والسعيد بأفكاره الواثقة. كيليطو الذي ضممته إلى أفراد أسرتي منذ سمعت أحد إخوتي يخيب ظنّــي فيه؛ فهو وإن يتحــّدث عن كتاباتــه بإعجاب ،لم ِّ لــم يكــن ابن مدينتي ،فهو شــخص يمكن أن يكــون من هناك. إن شــخص ًا بمثل الخفّة اآلســرة لكيليطو ال يمكن أال يكون من هامش ما... فــي لقــاء المعهــد الفرنســي ،كما ربما فــي كل لقاءاتــه في كل األمكنــة ،انفلق لســان عبــد الفتاح كيليطو (وهــو الذي انتصر تعدد اللغات في الفصل الثاني من كتابه السالف الذكر)، لفكرة ُّ فأصبح طريقه إلى العالم سالكاً. 87
ترجمات
أورورا لوكي
تغيري الجلد وقصائد أخرى ترجمة :خالد الريسوين
ُوِلــدت أورورا لوكــي فــي ألميريــة ســنة .1962قضــت طفولتهــا في منطقــة البشــارات التي تعبق بعطــر مرحلة حاســمة من مأســاة تاريخ األندلس العربــي؛ ولذلك كثيرًا ما اعتبرت نفســها وريثة للشــعر األندلسي وحفيدة ِل َوّلدة
بنــت المســتكفي والبــن الخطيــب ،وبــن زيدون ،درســت الفيلولوجيا الكالســيكية ،وعملت أســتاذة للغة اليونانية
فــي مالقــة ،كما عملــت مديرة لمركــز جيل 27فــي مالقة، كما تســاهم في العمــل الصحافي (كاتبة عمــود) للرأي في «دياريو سور» في مالقة. أدارت السلســلة الشــعرية «دفاتــر ترينــا كرييــا» ،وتديــر باالشــتراك مع خيسوس أغوادو -سلســلة «ماريموطو»أسســت دار النشــر «ناريــا». للشــعر العالمــي، َّ ومؤخــرًا َّ ُترجمت قصائدها إلى اإلنجليزية ،واإليطالية ،والرومانية،
واأللمانيــة ،والفرنســية ،والســويدية ،والســلوفينية، والصينية ،والعربية ،والهولندية ،والبرتغالية... مــن دواوينها الشــعرية تبــرز العناويــن التالية« :مشــكل دبلجــة» ،جائــزة الترضيــة ألدونيــس (« .)1990تملــك الليــل» ،جائــزة الملك خــوان كارلوس ،بيســور (.)1994 «عابرة» ،جائزة األندلس للنقد ،ريناســيميينطو (.)1998 «رفاق إيكاروس» ،جائزة فراي لويس دي ليون ،بيســور (« .)2003قيلولة أبيقور» ،جائزة جيل 27للشعر ،بيسور ( ،)2007كما ُن ِشــر شــعرها في العديد مــن األنطولوجيات الشعرية منها :شكوك إيروس ،مرفئية ،تملك الكلمة.
ترجمت أورورا لوكي إلى اإلســبانية ميليا غرودي غادارا، وماريا الينا وســافو ،كما قامت بترجمــة أنطولوجيا تحت عنوان« :زهر نرد إيروس» من اليونانية. 88
الكثبان
(إلى خوسيه مانويل كابييرو بونالد)
جد ًا. جد ًا والداكن ّ أن تطأ العشب البليل ّ تدشن بدلة سوداء ،أن تكون -فقط -بدلة سوداء أن ِ ّ
لم أ كن ق ُّ َط هناك ،لكني لمست بدقّ ة
أن تحيا الحياة كان يعني أن
تلك النباتات السكرى للمحيطات.
أبد ًا ُت ِ شبع
أتكهن بالمساء ،بغابات في الضفّ ة األخرى، َّ
واسني ربما في الصقاالت ِ
شبه عائمة وسوداء،
ضآلة الظل،
تلك الرمال الذهبية،
لم أ كن هناك ،لن أعود من هناك. شدفة زعفران على خضرة
أنهار بال ضباب ،ماء بأسرار َحل خطاي، ال نهائية ،و ْ
مجدد ًا للشمس رائحة الحياة ،أن تنظر َّ
أن تملك هذا القدر من الفاكهة التي لم تكن
ال تحاول مواساتي في الموت المحطّ مة للحياة
دين تجاه النوتي
لن أدفع لكارونتي من جيبي الخاص.
كما إلله جدير وشديد
تحس األسراب تحمل شيئ ًا لي وأن ّ نحو الالمتناهي.
رسم الخرائط ثمة كلمات فاتنة وعابرة ّ
َت َّتسع الحياة في تجويف ّ التل
حتى إني ال أستطيع أن أرفض إهداءها،
ألنها -فقط -تلتمس عبير ًا :عبير البحر
ثمة قصائد بفواكه ما وراء البحر ّ
وتمضي األحاسيس متدفّ قة
ذاك الذي كانت تبعثه آلهة العمق الجامدة.
َط هناك ،ولن أعود ق ّ لم أ كن ق ّ َط إلى تلك األطلنتيد.
حني العثور يف اإلنرتنيت
عىل خريطة عالم باطن -أريض للموت دليله الخاص للسفر،
أن تمشي على ضفة نهر صاخب وتنسى رنين كلمة نهر،
تثبيتها في خرائط تستكشفك.
التي أرسلها على سبيل االستعجال ولست أدري إن كانت ليلتك
ّ تستلذ بطعمها أو ترفضها.
ث َّمة مناطق من الحياة يُمنع
عبورها على الشعراء .يُم َنع االجتياح بالكلمات.
أشد مرارة ثمة مناطق من الحياة ّ ّ
حتى أنها ال تسعها خرائط قديمة لنا.
89
نشيد ّ التأن
غري قابل إلعادة التدوير
(احتفاء برونيه فيفيان)
يقطع الذكرى إرباً» ِّ «الزمن خ .أ .غارييغا بيال
كان يجب أن يكنسوا الفضالت: وعاء الزمن ،حزمته،
غالفه الكارتوني ،زجاجه القابل للطرح، الكهف األصلي ،غرف نوم الزمن،
البيوت المفتقدة ،الخزائن المعطرة، بذلته الخشبية ،حقائبه الزرقاء،
القشور الصفراء ،األكياس المجهول صاحبها، الحقنة ،البرشامة ،القطرات المنسكبة،
الرغبة ويرقاتها ،خادراتها المج ّوفة،
الرحالت الجوية الملغاة ،زهور الغردينيا الذابلة. المخزن الليلي ،العنبر المتجمد، ِّ مذبح الج ّزار المد ّنس. ُ
كان يجب أن يكنسوا هذه النفايات. تغيري الجلد ينبعث دخان البراكين تحت السماء المصف ّرة،
فتنسى األفعى جلدها المكشوط القديم
بين الصخور التي -بعد -ماتزال فاترة. هكذا ترغب األفخاذ
في الزحف خارج ذاتها .احتكاك ناقص بين العالم والجسد :ودوم ًا الجلد القديم تحت الجلد. 90
بين الزعتر الساخن ورائحته الطيبة
وأزيز النحل القلق
الطيب مذبح ًا من ذهب. أرفع للتأ ّني ِّ
(رونيه فيفيان)
لي ً ال تنقلني الخيول
المج ّنحة إلى أفالطون ،اليُرى السهل السعيد المعلن .أجد جبا ً ال شديدة االنحدار فقط .خيولي أعلنت
ّ ّ يحتك ملتذة، تصالحها.
شعرها الالمع ،أسود وأبيض،
والحوذي ،*voyeur ،يمسح بِ ا ْلتِذاذ أرجوحة خيل الساعات.
والذاكرة تنتشل
غنيمتها االعتباطية من جمال ،هي الخيول ليست أبد ًا مستعجلة.
أيها التأ ّني ،يا هذب ًا من ذهب ،تعوق
الساعات القاسية بالشمس ،دعني أ كن فيك. أال اليسحبني الزمن بأصابعه ،أصابع أفعى. أريد زيتك الخالص،
حرير عنانك.
زمن بال رسن فقط، ذلك فقط.
متلصص ًا * ِّ
اللوحات- Willem de kooning :أميركا
كليشيه التمسك باليوم .اليسمح بذلك،
ليس سه ً ال أن تخضع الحاضر،
أن تص ّر على السعادة أو أن تحتجزها ألجل اإلجراء المختزل
في منحها كلمات.
وال حين تداعب
صدغيك أو وجنتيك أو صدرك
ذكرى من اآلتي وأن تضاعفه.
ال تركضي خلف اليوم .إن لم تتح َّرشي به يمكنه أن يضطجع مستسلم ًا
في حضنك لي ً ال.
إشعار بريدي سيدقّ ون بابك في مساء ما.
وهو ما ترغب فيه بمنتهى االستعجال،
ولن يُع َرف من ذا الذي ترك
أن الضوء يالمس أطراف أصابعك،
جد قابلة لالنكسار ،يقول -على ظهرها -وقد ّ
حينما يبدو
علبة على األرض ألجلك.
مصاصي الدماء: أنت اآلن بعيد عن ّ
بعثت بها باندورا.
أنت تحبين فقط لكي تكتبي عن ذلك،
بالد اإلغريق القديمة.
الطوبى ،والفراغ ،والذاكرة.
تضمه الفرح يطالب بإلحاح أن ّ
مأوى جبل في األوليمب. أجل ،تبدو علبتها األخرى، 91
العلبة الساحرة ،المنسية، تلك التي لم يفتحها أحد، تلك التي تخفي الزمن في مخبأ، تلك التي ستعبر األساطير موفورة، تلك التي لم يكشفها قط األركيولوجيون القدامى جد ّية وال تقصاها الشعراء األكثر ّ ّ والتي تأمل أين ستظهر على بابك ،غير متوقَّعة.
تضم كمامة باندورا ،وقد ّ فكت، ّ سموم ًا قصد منحها للكلمات
التي اغتصبت العرش قرون ًا طويلة،
ومضة ال تلك، كلبية هرمس،
مقاليع لكسر سرابات
األشكال المؤذية للحب ٍ وكلمات مرتجة ونضرة
مستعدة أن تطأ مثل غزالن ّ
األلسنة المتغنغرة والالمجدية.
(شيء ما تبقّ ى في العمق .ال تنظرإليه. ِ اعتن بباندورا ،فهي النسيان)
وإن دقّ وا بابك في أي يوم،
إن حملوا رسالة من األقاصي، فانظر إلى عنوان المرسل ألن اآللهة أحيان ًا ،نزويَّة
علب جديدة. تصح ُح العالم في ٍ ِّ
تعريف العناق السدادة ب المنزوع ُة سوف لن تخاف ال ِق َر ُ ُّ أليولوس، َ الرياح تتشابك خلف البحار، ُ
تجس نبض األمواج تسافر في العواصف، ّ المتو ِ ّرمة، تشعث شعر الرياضيين والنخيل. ّ
العناقات رياح مك َّثفة وحكيمة. األزيب ،ونسيم أنت ريحيُ َص َب َ اي وشمألي.
92
الشوارع المندكةَ، سوف لن تخاف َ ِ ِ التماوجات الشاهقة. الغابات المقتلعة،
السدادة سوف لن تخاف القرب المنزوعة ُّ أليولوس.
غالل َ غالل األيام، َج ِ ّم ْع
حبوبها وغبا َر طلعِها،
بياتِها عديمة الجدوى ،لحاءاتها الم ّرة، ثما َر عِ َن َّ الس ْن ِ فات المج َّوفة، جذو َرها الضامرةّ ِ ، جد ًا. ب المسك َر الناد َر ّ ال ُّل َّ
ضع الفاكهة في ِ المربَّع ِة ِ العلب ُ المختارة التي تروق للذاكرة.
شاهدة قرب ت لو بشكل ما مِ ُّ ٍ
َح ٍل قاسية جد ًا ألني صادفت أزمنة م ْ
وإن كان البحر ينتظر في العمق فاتن ًا.
وصد ُ صد ُ قت البح َر. قت األساطي َر ّ قد ّ
أعجبتني غاربو وشجيرات ورد بايستوم، ٍ قد أحببت غريغوري ْ صيف ذات بيك َ
وأنا ّ أفضل إسترابون على ماركو أوريليو. أبديرة ِ ُ األرياف مع الفالة ولدت في قد عقيم. ومع بحرٍ ٍ عباب مياهِ ِه وال رما ِلهِ. لم أمخر َ َ ال أستحقُّ امتالك مسقط رأسي.
ب– لكني من مسا ٍء لِمسا ٍء –حينما يس ُل ُبني ُ الح ُّ َّ تحت تلك الشمس، َ المخالب الصخرية أتذكر َ
وس َّر ُه هجمة الضوء ِ ٍ صمت ومن ٍ أوار .وأستجدي لنفسي من ُ الشوق على َع َجل. أن ي َُب ِ ّر َح بي
في صقيع النسيان القاسي، أو بموت رسمي،
أىس الحورية ُ الحوريات .كلمة حورية. حورية.
اقرأ لي مرة ثانية من فضلك هذه الحاشية و َأحرقْ ها معي.
كيف تتف َّت ُت
جادة وال حتى في اآلخر. الحياة لم تكن ّ يتم استيعاب ولن ي َّ ُتأخ َر كثير ًا لكي ّ
ِ الحوريات ،قد َسمِ َع حورية. قد َسمِ َع
أن األمر يتع َّلق بمج ّرد لعبة لتأجيل الموت.
لم تكن حتى نهر ًا
ُ الكلمات المشرقة حامل ُة ِ بذرات األسطورة.
يبقى في المقاطع فقط ٍ إلنذار فظيع صدى ً ٌ وجلبة الموت.
93
نجمة ليلية ما
مكثت في األوراق. ْ
قد توقَّف الزمن أمام ضو ٍء،
َ أقايض دمي علي أن وسوف يجب َّ
ِّ األسطوري بالفضا ِء ل ُِحلم.
Eau De Parfum
أيكون دا ًء ُ
ماء العطر
قات ً ال داء اللغة؟
من الطفولة رائحة
تشامخ
الطحلب في السواقي ،الطين ،الموريات والعنف األقصى للتع ُّلم الذاتي.
الع َد ُم. في القمةَ ، ِّ ُ بالكل نجازف لكننا
الممتدة للموجة األخيرة ّ
والفن. ب ّ ُ الح ِ ّ
بأنه لن تكون هنالك حوريات البحر.
قم ِة من أجل ّ
Tempo
وقت موسيقي
قد توق َ الزمن. َّف ُ
ُ عيني :رغبت أغمضت َّ
التناغم في أن أحفظ هذا َ ِ وامتدت س، الذي ال ي َُم ُّ الغفوة في الفجر صن ٍ ّ هش. مثل ُغ ٍ 94
من البحر اإلشارة األخيرة قبل أن تعود وتقنعنا
من الليل الغبشات الخفيفة
لعطر إيطالي
بعد ،ما يزال مطابق ًا للموضة. ُ من جسدك ،نكهة
كتاب مغامرات
ُتعاد قراءته ،لكن -أيض ًا -نكهة لشجيرات الدفلى
حزينة تحترق.
تشتم رائحة حياة محترقة. ّ
نصوص
العشوايئ أسامة الحدّاد
الرسوم-Marcel gromaire :فرنسا
ما الفائدة من جمع خالياه ثانية ،وترتيب أعضاء جسده ظل ينتظره بقلق؟ وفق سياقات تناسب سحابة تتابعه ،أو ّ ً في غرفته تجلس أعوام على أريكة ،وتلعب بعض األيام بعرائس بالستيكية ،وأمام باب البيت ٍ ليال (في نوبة حراسة لفراغ) ،وتكبر بين يديه أشباح تشبهه تماماً ،تضع رتوش ًا على عاصفة تنام في فناء البيت. المفضلة هو العشوائي يركل ذاكرته ،ويضع أغنياته ّ عراف يقرأ غسالة األطباق، َّ في ّ يتصور دائم ًا أن حديثه مع ّ عرض طالعه ليس سراً ،ومشاجراته في الحافالت العامة ُت َ اآلن في دور السينما ،والشجرة التي وضعها مقلوبة في بداية تخيل الشارع يسكن كراون مصاب بالصمم في جذورها ،التي َّ صعودها في ظهيرة قاحلة لمرافقة قمر يعاني من التهاب ُش َعبه الهوائية. يحطم كل ليلة مصابيح الشارع كما رأى في إنه العشوائي ِّ أحالمه ،ويحتفي بظلمة تقترب حثيث ًا إليه. نظارة ســوداء؛ إنه الغرائبي لم يكن انطوائياً ،يرتدي ّ يفعل غير المتوقَّع ،ويضع نظرية االحتماالت في سيارة سيء الطالع طائشة ويتركها على الحافّة؛ َذ َكر من قبل أنه ّ ملوثتان بعواصف وأصدقاء. يعيش خسارات تطارده؛ ويداه َّ في العشاء وجد رؤوس ـ ًا آدمية فوق أطباقه! ظل يصرخ: هنا أنبياء َف َسدة ومالئكة هاربون من سماء مزعجة ،ورأى وتجول شجرة تتضاءلَ ،خ َّط بها حروف ًا على حائط كالح، َّ عما كتبه ،ولم يجد اسمه في َجّبانة المدينة. في الحارات بحث ًا ّ وﻻ جسده في النعوش الخاوية. لونان باهتان ،هما كل ما تبقّى لديه ،يحمالن صورته بتناقضات لم تصنع إشكالية لديه؛ فقد استخدم قوس قزح في اصطياد سحابة ،وترك القمر ينتحر على شاطئ النهر، ومضى -كعادته -يركل الفراغ ،ويطعن صياح الديكة ،في نهاية السهرة ،بأغنية تقصف المنازل الصامتة. 95
ِ الز َمـــن ظـــالل َ أسامة ريّان
تزحف الحافلة بنا ،تغوص في بحر من الباعة ،وبضائعهم تفترش الشارع ..تتصاعد نداءاتهم وسباب عــادي لحافلة يرد عليهم السائق الشاب ،بحنكة العكننة ومن يقودهاّ .. المعتاد ،من ركن فمه المشغول بسيجارة ..يثير ضحكات ّ تحف بالحافلة ،بينما أليفة ،وبحذر يرقب أجسامهم تكاد تنزلق بينهم كتنين عجوز تتصاعد أبخرته وضجيجه مع اتشبث الحارة الخانقة. حرارة األجسام في تلك العصرية َّ ّ المحصل الذي ال زفرات ال بمكاني قرب الباب الخلفي متجاه ً ِّ ّ يكف عن الصياح في الوافدين الجدد ليواصلوا السعي إلى جحيم باطن الحافلة ..تترقَّب عيناي لحظة انفالت الحافلة من زحام الميدان ،فعندما تنزلق بنا يسارًا يظهر كشك عم كامل، العامر دائم ًا بالثمين من الكتب والروايات بين باقي أكشاك يستمر التباطؤ إلى سري أن ّ سور الكتب الكبير ..أدعو في ّ تغير في أن تلتهم عيناي الجديد من العناوين ،أو ألحظ ّ أي ُّ يستحق الهبوط الفوري من فوق ظهر التنين. صفوف الكتب ّ قال لنا عم كامل في معرض الكتاب إنه يسعى للحصول على طبعة شعبية للرواية الشهيرة قريباً.. وحلّت أيام االمتحانات بحرارتها الخانقة في مطلع الصيف، بمجرد أن لمحت العنوان بالخط توتري من امتحان اليوم زال ُّ ّ الرشيق لعم كامل على اللوحة أعلى صف الكتب األخير: بشرى بتوافر نسخ الــروايــة في طبعة شعبية رخيصة.. يجلس عم كامل أسفل تلك الالفتة في جلبابه الصعيدي بلون القهوة باللبن ،والعمامة البيضاء ..تلمح السكينة في عينيه بجلوسه ّ تحف به أرواح هؤالء العظماء الكامنة في سطور كتبهم ومجلّداتهم التي تحيط به طوال اليوم. قفزت من الحافلة قبل أن تتسارعَ ..ه َّب عم كامل واقف ًا ُ يسب ..قال لي معنِّفاً: مذعوراً ،ثم جلس ثانية ..يتمتم ،ولعله ّ ِه ّي الدنيا طارت يا ابني! ..
أضاحك ُه: ال تخفى طيبة قلبه ..قلت ُ
أل ..دماغي أنا هي اللي طارت النهارده .الحقني بنسختي. مددت يدي أسحب نسختي من الرواية .تساؤل يمأل عينيه. أستطرد شارح ًا له: كنت مشغول طول اليوم في ضغط وتصوير الزمن!!! 96
في بعينين ِ دهشتين ترقبان مجنوناً ،أو كائن ًا حملق ّ أهم أسباب خرافياًَ ،مّد يده ليأخذ الرواية من يدي ،وكأنها من ّ الجنون .أبعدت يدي بالكتاب ،ولم ّ أكف عن الضحك ،قلت له وأنا أبتعد: يا عم كامل مش ده السبب ..دي هي السبب (أشير إلى رأسي) ،ويبقى لك عشرين قرش.. بتحية سريعة غادرت السور وعم كامل. انحشرت في حافلة متباطئة أخرى إلى المنزل، سعيدًا ُ المحرك وضجيجه.. حرارة من قريب قائم إلى أرتكن ِّ ُبهِتنا ،وســاد الصمت القاعة ،يصول ويجول أمامنا، تحوطه غاللة تاريخه الذي يحمل صفحات مثيرة مع أستاذه ِّ صاحب النسبية التي أربكت يقين العالم.
كتف ْي معطفه المعملي األبيض رأسه األصلع راسخ على َ الخشن ،جيباه مليئان بالطباشير الذي يعتصره على السبورة في ِ صّر صريرًا يتوه في دهشتنا وخضوع ذات الــدوريــنَ ، نظراتنا!! لثالث ساعات نحبس أنفاسنا .تبرق عيناه خلف معنى مقلق ًا للزمن ،غريب ًا صادماً، بسط لنا العدسات بينما ُي ّ ً وظل ،محفوظان في مكان ما .نستسلم فلكل َحَد ٍث صورة ّ يمّل من تكرارها مبهورين مع ّ تصورات وحسابات مضنية ،ال َ والحرية. يؤكد أنها السبيل الوحيد للمواكبة علينا بألفةِّ ، ّ مؤكدًا ّص ل يتق بل د، د يتم ا أيض الزمن أن أدركنا على يديه ً ِّ ّ التغير. ُّ أتــســاءل فــي نفسي عــن تــمـ ُّـدد اليومين القادمين حتى ارتجت الحافلة عند هذه الخاطرة ،فأحكمت قبضتي االمتحانّ .. تماسكت بصعوبة أتعجل زمن عودتي والرواية، على أوراقي ُ إلى المنزل .ليته يتقلَّص اآلن .راعتني نظرات الرجل ضخم مسوح غريبة تعود بعيدًا إلى الوراء على غالف الجثة في ٍ الرسام نظرات تنضح كراهية بينما الرواية ،أضفى عليها ّ فلحين متضائلين في ركن جموع يشير بإصبع ضخم إلى ّ الغالف في مالبس رثّة تبرز عظامهم من مزقاتها ،وصندوق يشع منها بريق نذور يتوسط الغالف بفتحة غطاء فاغرة ّ ّ ذهبي لجنيهات كثيرة .تلك النظرات المريعة كانت الدعوة لتصفُّح ورقات البداية ،تلك التي زلزلت العالم في الصحف
والــمــجـّـات .وجدتني على رأس شارعنا ..تقلَّص الزمن في الحافلة في أثناء حديث ضخم الجثة مع اإلقطاعي قبل العشاء الباذخ ..أصابني ذهول ،ومالت الشمس إلى الغروب أحيي أمي وجارتها في جلسة القهوة. وأنا أطرق البابّ ، أخفقت في امتحان اليوم ،عيناها نفّاذتان رج َح ْت أمي أنني ّ ُ حنونتان ،تركت لي صينية الطعام ،قالت بهدوء« :شّد حيلك تل الكتب أمامي، في االمتحان الجاي »..لمحت الرواية على ّ تؤكد لجارتنا علي باب غرفتي .أسمعها ِّ إليَ ، أغلق ْت ّ نظرت ّ أنني قد ركبني عفريت منذ التحقت بالجامعة. كانت خطتي هي مواصلة السعي مع األفكار ومحاضرات دونتها معه ،وحتى المواجهة مع الزمن، أستاذي الكبير كما ّ في ورقة االمتحان بعد يومين .اقتحم غليظ القلب الخطة.. ومعه وسواس خنّاسِ ، تمدد الزمن يوعز ،بال هــوادة ،أن ُّ يسمح بتصفُّح عدد آخر من الصفحات ،على األقل ،الستكشاف خطط غليظ القلب والبدن هذا في َس ْو ِق هؤالء البؤساء إلى مساء ،مرورًا المزارع نهاراً ،ثم تهديدهم بالويل إذاعصوه ً بطن بالوعيد إذا لم بصندوق نــذور يستنفذهم مع وعظ ُم ّ يسميه زمن الفضائل.. يعودوا معه بالطاعة إلى الزمن األولّ ،
ٍ عشاء يفرح له اإلقطاعي اللزج ،يشرب معه األنخاب في العصاة أمام الباقين في باذخ ،يتفقان في أثنائه على َجْلِد ُ طريقهم إلى الحقول صباحاً .عند «صباحاً» تلك انتبهت!! بزغ الفجر .تتبّدى خيوطه من النافذة مع لسعة باردة لطيفة .لم أنتبه لتوقُّف البرنامج الموسيقي منذ ساعتين .الراديو صامت إلى جواري .غافلني الزمن وتقلَّص ،طويت صفحات الرواية دونت فيها ألوقف تقلُّصه وأبدأ مسيرتي مع دفاتر رصده التي ّ
ٍ كدهر ..غمرني بالملل، لساعة تباطأ فيها ِحَيَله وقياساته. ٍ الحب التي ازدهرت في ظلمة القرية فتركيزي كله معلَّق ّ بقصة ّ المقهورة ،فعلى رأس العصاة في القرية ،ذلك الشاب الذي أوعز ألهله من الفالحين البسطاء بالمطالبة بحقوقهم ..يعود من المدينة في إجازة الجامعة ..يفرحون بلقائه ،ويتبعه شباب الفالحين ِ الحرية كظلّه، َّ يتبسط في حديثه معهم عن ّ التي تجتاح العالم ،فال وقت للعودة بالزمن إلى الخلف ،سخر من تبرعاتهم لصندوق النذور وهم ال يجدون قوت يومهم. أمه على حياته ،تبكي عند خروجه للقاء حبيبته في تخشى ّ الحقول عند الغروب ..تجمع قطيع أسرتها ،يعلم الجميع أنها زوجة المستقبل .تلك الليلة ُو ِجد غليظ القلب في مسوحه، محصن بكتابه ذي الغالف الجلدي تحت إبطه ،يقف وهو ّ بين رجاله في مسوحهم يحيطون بالفتاة ..تبكي َفِزعة بينما االتهامات للشاب ،وألبيها الذي اصطحبوه باعتبارهم يكيلون ِّ الخلق القويم .يرتجف الرجل حائراً! مواجهة بين غليظ ُحماة ُ ِ يبتزهم بحَيل للعودة بالزمن إلى المتعصب ،وهو القلب ّ ِّ الحجة الذي قوي الشاب وبين الفضيلة، زمن يه يسم الخلف، ّ ّ ّ أربك غليظ القلب ورجاله أمام الحشد .بعبارة بسيطة وبهدوء قال الشاب« :مهما أوغلت في كذبك ،كل زمن يصنع رجاله، والتغير ٍ آت برغم أنوف الجميع.». ُّ وجدتني قد تركت دفاتر الزمن ،منذ زمن .تلتهم عيناي سطور الرواية .انتهيت منها مع دخول أمي بصينية اإلفطار إلي وإلى الرواية أمامي ..ألهث جالس ًا والوقت ضحى .تنظر ّ مضاء .أطفَأته ،فهربت ظاللهم المصباح تر َكتني ،ومازال ً حيث َ تتخفّى ما بين السطورُ ..تعِلّق باستسالم يخفي الغضب: «الوقت فيه بركة ..يعني دلوقتي نبتدي نستعد!!». 97
كتب
«العريب» يستعيد كرامته موناليزا فريحة بدا الكاتب الجزائري كمــال داود مصيب ًا فــي اختيــار موضــوع باكورتــه الروائيــة ـاد»(دار أكــت ســود «ميرســو :تحقيــق مضـ ّ باريــس) ،فيكفــي أن نلفظ اســم ميرســولنتذكــر بطــل روايــة «الغريــب» للكاتــب َّ الفرنســي -الجزائــري ألبيــر كامــو. فكــرة الروايــة بديعــة حقاً.بعــد مــرور نحــو 72عامــ ًا علــى صــدور روايــة «الغريــب»( ،)1942خطــر فــي بــال الكاتب داود أن يعــود إليهــا ،بحثـ ًا عــن «العربــي» الذي قتله ميرسو مطِلق ًا عليه الرصاص ذات نهار على الشاطئ .هذا العربي الــذي ظــل مجهــو ًال فــي رواية كامــو أيقظــه داود مــن نومــه أو موتــه ،وأطلــق عليه اســم موســى ،وأوجــد لــه شــقيق ًا سـّـماه هــارون ،وألقــى عليــه مهمة الســرد بوصفــه الراوي ّ الــذي تــدور الروايــة وأحداثها أو وقائعهــا علــى لســانه. يتولّى هارون الســرد إذاً، هــو الــذي كبــر فــي الســن، ويشــرع فــي روايــة قصــة شقيقه أو الحادثة التي وقعت في صيف العام 1942على شاطئ قريب من الجزائــر العاصمة عنــد الثانية بعــد الظهر، وأودت بشــقيقه موســى بعدما اطلق عليه ميرســو «الفرنســي» -بـ«اســتهتار كبيــر»- رصاصــات مسدســه .وكان عليــه -كمــا يتحمــل جنــون أمــه المجروحــة يزعــم -أن َّ بفقــدان ابنهــا طــوال عقديــن .ثــم يكشــف كيــف انتقــم ألخيــه ،فــي اليــوم الثانــي مــن استقالل الجزائر عام ،1962وقتل فرنسي ًا فــي مدينــة حجــوط ،وهــي المدينــة التــي دفنــت فيهــا والــدة القاتــل ميرســو. كتــب الناقــد الفرنســي أوريــان جانكــور غالينيانــي مقــا ًال فــي مجلــة «ترانســفوج» الفرنســية (العدد )97أعرب فيه عن وجهة مهمة تمثِّل رؤية فرنسية إلى التقاطع نظر ّ بين فرنسا والجزائر على هذا الصعيد ،فهو 98
يقــول« :قــام الكاتــب الجزائــري كمــال داود المنسية في بتغيير نظرتنا وإحياء الذكرى ّ كتاب ألبير كامو .وســاهم كتاب (ميرسو: ـاد) المبهــر والثائــر فــي إعــادة تحقيــق مضـ ّ ـي النســيان فــي ـ ط ـب ـ ذه ـل ـ ظ الكرامــة إلــى ّ ّ بحر الجزائر .أهو مبالغ فيــه؟ نعم ،عندما شخصي ًة يشــكل كامو أي درجة ّ ندرك إلى ّ ّ معقّــدة بالنســبة إلــى الجزائرييــن ،وهــو محصــن مــن االنتقــاد بالنســبة إلــى كاتــب َّ الفرنسيين». أمــا مــن ناحيــة القاســم المشــترك بيــن الروايتيــن ،فهــو أنهــا جاهرت بضمهــا بضعــة مقاطــع مــن ّ «الغريب» ،فمــا يلفــت االنتباه هــو اســتهالل داود روايتــه بطريقــة مماثلــة ومناقضــة فــي آن واحد الســتهالل كامو: «اليــوم ،أمــي مــا زالــت َحّيــة. هــي لــم تعــد تقــول شــيئاً، لكنهــا تســتطيع أن تــروي أمــورًا كثيــرة» .األم َحّيــة هنــا وميتــة هنــاك .إنهــا المفارقــة ّ التــي تنطلق منهــا رواية داود لتفتــح أفقها الســردي ،ثــم تواصــل لعبتها ــل هــارون ،بعــد قتلــه االنقالبيــة .وإذا َمُث َ الفرنســي ،أمــام ضابــط الشــرطة الــذي فيوبخه يرتفع بالقرب منه العلم الجزائري ِّ علــى مــا قــام بــه ،فــإن ميرســو َيْمُثــل أمام لكــن القاضــي ال القاضــي فــي المحكمــةّ ، يلومــه علــى جريمتــه بقــدر مــا يلومــه على قلة إحساسه ،ال ســيما بعدما اكتشف لديه شخصيته العبثية ومواقفه العدمية مدرك ًا ا عبثيــ ًا أن قتلــه للعربــي لــم يكــن إال فعــ ً ومجانيــاً .وجــاء حكــم المحكمــة قاســياً، ّ إذ حكمــت علــى ميرســو باإلعــدام. ولم تغب -أيضاً -رواية كامو الشــهيرة ــو روايــة داود «الســقوط»( )1956عــن َج ّ يتوجــه -أيضــاً -إلــى متحــّدث فالكاتــب َّ يتذكر في لحظات وحدته، فهارون مجهول. ّ وهو يتناول المشروب في إحدى الحانات،
ـوم وفــاة شــقيقه ومــا تــاه مــن أحــداث يـ َ صغيــرة وكبيــرة .وبــدت صــورة شــقيقه محفورة حفرًا في وجدانــه كما في ذاكرته، ولــم يكــن عليــه ّإل أن يشــرع فــي تحقيقــه المضاد ،بحسب ما يوحي عنوان الخاص أو ّ ّ الروايــة ،مســتنتج ًا فرضيــات عــدة ،ومنها علــى ســبيل المثــل -إمــكان أن تكــون هــذهقص ًة ذات حافز «نسائي». الجريمة العبثية ّ ومــن الفرضيــات األخــرى أيض ـ ًا إمــكان أن تكون والدة ميرســو هي والدتــه الحقيقية. ها هــو العربــي الــذي أراده كامــو نكرة بــا اســم وال قضيــة ،يظهر شــخص ًا باسـٍـم وعائلة وتاريــخ .ولطالمــا أثار قــرار كامو هــذا حفيظــة الكثيــر مــن الجزائرييــن حتــى يحبون أدبه .كان إظهاره للشخصية الذين ّ ا الجزائريــة بهــذه الصــورة المخزيــة فعــ ً قاســي ًا بحق اإلنســان الجزائــري ،علم ـ ًا أن كامــو كان جزائري ـ ًا أكثــر ممــا كان فرنســي ًا تعبــر كتبــه وهــواه الجزائــري .أمــا كمــا ِّ ارتــكاب الــراوي ،أي هــارون ،جريمتــه يــدل ُب َعْيــد إعــان اســتقالل الجزائــر فهــو ّ علــى االنتقــام الفــردي أو الشــخصي مــن القاتــل الفرنســي ميرســو ،وعلــى االنتقــام العام أو الجماعي من االســتعمار الفرنسي والمستعمرين .ولئن كانت رواية «الغريب» رواية «شمســية» كما وصفها الناقد روالن بــارت ،فروايــة «ميرســو :تحقيــق مضــاد» هي رواية الظالل التي عاش بينها الراوي هــارون ،مســتعيدًا قصــة شــقيقه وقصــة الجزائــر .ومهمــا بــدا الكاتــب صريح ـ ًا فــي محاكمــة روايــة «الغريــب» فهو بــدا -أيضاً- ـب إلــى ألبير صريحـ ًا فــي توجيــه تحيــة ُحـ ّ كامــو وفلســفته وجزائريتــه ،وإلــى عالمــه الروائــي البديــع ولغتــه الرائعــة .ولــم َيْبـُـد ا عن كامــو وال عــن اللغة داود غريبـ ًا أصـ ً الفرنســية لغــة «الماضــي االســتعماري»، ولمــاح ،ال فهــو كاتــب ذو أســلوب واضــح ّ إفاضة فيــه وال تهــاون .أمــا لغتــه فهي في ومعقــدة التوتــر الخـّـاق ،ســهلة حــال مــن َّ ُّ فــي آن واحــد ،كثيفــة ومتماســكة.
االقرتاب من ِس ْحر الليايل سامية أبو زيد «حكايــة لــو كتبــت باإلبــر علــى آمــاق البصــر لكانــت عبــرة لمــن يعتبــر»! حســناً! فلتكــن الكتابــة حفــرًا علــى آمــاق األبصــار ،فلتكــن طريقــ ًا لعمــاء يعمــق الرؤيــة! ِّ بهذا المفتتح توعدت منصورة عزالدين القارئ ،فأخذته في تيه تتمنى أال تخرج منــه أبــداً ،وذلــك عبــر فصــول روايتهــا «جبــل الزمـ ُّـرد»( ،دار التنويــر ،القاهــرة، والمقسمة من الداخل إلى عناوين )2014 َّ دال وثيق حيث استهلّت كل فصل بمفتتح ّ الصلة بالســرد الوارد فــي كل فصل. وتبــدأ الروايــة بفصــل يحمــل عنوان ـ ًا شديد الداللة وهو «غبار الطريق» فيوحي بالتعب وبالترحال وبالخطى التي ُكِتبت علينــا .وقبــل أن تلــج فــي الفصــل األول تعطيــك النتيجــة النهائيــة مــن خــال «لســت لــي.. المفتتــح الــذي كتبــت فيــه ُ ـي ـ عل ـا ـ وم ـض، أنــا منــذورة لشــيء غامـ ّ والتوحــد بمصيري». المضي قدم ًا ســوى ُّ ّ فتنبئنــا بهــذا المفتتــح بــأن بســتان البحر المضي ومن معها ُم َس َّيرون ،وإن اختاروا ّ فــي الطريــق. التأهــب قبــل بحســن الروايــة تتميــز ُّ ّ تطــل علينــا ثقافــة البــدء بالكتابــة ،إذ ّ واطالعها على أساطير الكاتبة الواســعة ّ المتنوعة ونسخها بل الشعوب وأصولها، ِّ والمتعددة فتســتحضرها ببساطة ،وهي ِّ تمهــد لنفســها خلــق أســطورتها بذلــك ِّ ودســها الخاصــة وهــي «جبــل الزمــرد» ّ ّ فــي الليالــي ،والتــي تــكاد تكــون صــورة معكوســة ألســاطير العهــد القديــم فيمــا يتعلّق بالخروج والتيه واألفعى ،ومادتها الخــام فــي ذلــك (الليالــي ،والمهابهارتا، والشــاهنامة) ،وغيرهــا ،ولكــن تبقــى الليالــي هــي المّتــكأ الــذي تســتند إليــه روايتهــا. وعلــى الرغم مــن كــون الروايــة تحمل الزمرد ليس الزمرد» إال أن جبل ّ اسم «جبل ّ هــو البطــل الوحيــد للعمــل ،بــل ينافســه
في األهميــة والحضور جبــل المغناطيس إلى جانــب جبال أخــرى ،ويكفــي أن نقرأ مفتتح «مدينــة ُمَبلَّلة بالمطــر» الذي تقول فيــه «األســمى مــن الجبــال فكــرة الجبال؛ أن ترمــق العالــم مــن عـ ٍ ـل ،أن تصيــر أنت الجبل ،وهــو أنــت!» ليصلك إحســاس أن معنية بســيرة الجبــال أوالً. الكاتبة ّ اتسمت الرواية بالتقاطعات والتداخالت والتماثــات أو التشــابهات بيــن األحــداث والشــخصيات واألماكن فيما يشبه دوائر الفيــض المغناطيــس ،وهي بذلــك منحت أهميته من خالل الفعل جبل المغناطيسي ّ الزمرد هو الحلم والهدف والتأثير ،فجبل ّ المنشود ،أما جبل المغناطيس فهو الواقع الفاعل والمؤثِّر في األحداث. تتقاطــع الشــخصيات وتتــوازى مثــل «ن ْورســين» وأبيهــا و«بســتان» وأبيهــا. ُ ونجــد أن كال األبوين قد لعــب دور المعلم البنتــه «المنــذورة» ،أو المتشـ ِّـرد أخضــر العينين،وبلوقيــا ،ولكــن هــذا القــدر مــن الوعــي والقصدية فــي الكتابة لــم يجعلها تخلــو مــن مظاهــر الجمــال والمحســنات البديعيــة مثــل قولهــا «فيشــرد خيالهــا في بحــر مــن آللــئ تخطــف البصــر .تحفــظ الشــعر». ال تتخّلــى الكاتبة عــن الرمــوز والربط بين ما هو واقعي وما هو خيالي بصورة تفســر الظواهــر الخارقــة تفســيرًا تــكاد ِّ
موضوعيـ ًا يســتند إلى أصل مــن الواقع، أي موجز تعريف األسطورة ،فنجد توازي ًا بيــن جبل الحيــاة الموجــود في المكســيك الزمرد ،بل والذي زارته هدير وبين جبل ّ يكاد الظن أن يبلــغ بالقارئ َح ـّد االعتقاد ـو بالخضــرة هــو أن جبــل الحيــاة المكسـ ّ الزمــرد ،أو أن يربــط بيــن نفســه جبــل ّ األحجــار الفضيــة الالمعــة التــي تســلب العقــل فــي جبــل المغناطيــس والمسـّـماة (حجر الجنــون) وبين المرايا التي تســلب التطلــع إليهــا .ومعلــوم العقــل مــع طــول ُّ ـي مــن ـ مطل ـاج ـ زج إال ـي أن المرايــا مــا هـ ّ أحــد وجهيــه بطبقــة فضيــة عاكســة .وقد تكرر ظهــور المرآة في أكثــر من موضع، َّ فتارة هــي هديــة بلوقيــا لزمــردة ،وتارة أم هديــر ،كمــا ورد هــي معشــوقة ناديــة ّ فــي فصــل «الغــرق فــي المــرآة». ال تكتفــي الكاتبــة بخلــق أســطورة موازيــة لجبــل الهيــكل وهــي أســطورة جبل قاف ،بل تخلق أسطورتين أخريين موازيتيــن أللــف ليلــة ،ولخــروج آدم من الجنــة ،فنجد الراعــي زوج «مــروج» التي خانته وهجرته ،ينتظرها لثالث سنوات أي ما يزيد على األلف ليلة لينتحر بعدها، وهو عكس ما فعله شهريار ،كما نجد أن الحيات قــد خلَّص جبل قاف من قتل ملكة ّ عزلته فوجب على أهله التيه ،فكأن ملكة الحيــات هــي الصــورة العكســية إلبليــس ّ والتي قام كل مــن «نورســين» و«بلوقيا» بتخليــص الجبل مــن قبضتها. الزمــرد» «جبــل قــد يظــن القــارئ أن ُّ هــو بالفعــل الحكايــة الناقصــة مــن كتــاب الليالــي ،ولكن منصــورة عزالديــن تركت لنــا عالمــة ال تخطئهــا العيــن فــي التوكيد على انفرادها بهذه األســطورة ،فقد خلت الرواية من العفاريــت التي تحفل بها ألف ليلــة ،فلم يــرد ذكــر عفريــت واحــد بطول الروايــة الواقعــة فــي مئتيــن وعشــرين صفحــة تقريب ـاً ،ومــع ذلــك لــم يفارقنــا ســحر األســطورة في أي مــن صفحاتها!! 99
عن مجتمع رأسمايل جشع صدوق نورالدين المؤكد أن التجربة الروائية في بات من َّ فرنسا ،ومن خالل المنجز المتحقِّق ،تسهم دال ســواء على في تحقيــق تراكم نوعــي ّ الم َع َّبر مستوى الصوغ الجمالي ،أو المادة ُ عنها ..ويبرز هذا أساس ـ ًا فــي تجارب كل مــن :إميلــي نوثــوب ،مارتــن بــاج ،إريك إمانويــل شــميت ،إضافــة إلــى غريغــوار مؤخــراً -روايته دوالكــور الــذي ُت ِ رجمــتَّ - المترجم معن « الئحــة رغباتــي» مــن ِقَبــل ِ عاقل. تطرح الرواية سؤا ًال عميق ًا عن العالقة التــي تربــط بيــن القــارئ والروايــة؛ إذ اختِتــم بإضافــة المالحــظ أن هــذا النــص ُ «ملحــق» الغايــة منــه شــرح إشــكاالت وتفســيرها ،إشــكاالت قــد يكــون النــص اختــار التعتيــم عليهــا .واألصــل أن متعة تتأسس من البياضات قراءة هذه الرواية َّ التلقائية أو القصدية التــي جنح الروائي إلى تركها مفتوحة على التأويل المحدود أو واســع اآلفــاق .فالروائي -حــال تقديم ـم اإلجابــة عــن المفاتيــح كاملــة ،ومــن َثـ َّ المتخيــل طرحهــا -يعمــل علــى األســئلة َّ إغــاق بــاب االجتهــاد علــى مســتوى القــراءة والتأويــل .وكأنــه يقصــي نباهة القارئ في الفهم والتأويل« :السؤال الذي طرحتــه أغلــب األحيــان علــى نفســي هو: تصرفت ألصــل إلى هــذه النقطة في كيــف َّ الكتــاب ،وألغــدو أكثــر قربـ ًا مــن النســاء، وألفهمهــن علــى أحســن وجــه؟ ســبق أن أجبــت :إنــه الحنيــن.». أول مــا يســتوقف قــارئ الروايــة، التوزيع المتمثّل في اإليقاعات الروائية؛ إذ عمــد الروائــي إلــى تمتيــن البنــاء بـــ «وقفة» ،تمثَّلت في اإلحالة التنويعية على والمجســدة في الالئحات عنوان الرواية، َّ المذكــورة فيهــا( :الئحــة احتياجاتــي، الئحة رغباتي،الئحة حماقاتي ،الئحتي األخيــرة). فهــذه الالئحات ،بقدر ما كشــفت درجة الحلــمَ ،ج َّســدت االنكســار الــذي اختزلتــه 100
الجملــة المفتاح/بدايــة الروايــة« :يكــذب النــاس علــى أنفســهم دوم ـاً.». فــإذا كان الكــذب يرتبــط بالحلــم والحــب ،فإنــه طريــق االنكســار؛ إذ إن ّ الــزوج «جوســلن» يفقــد ثقــة زوجتــه «جوســلين» (وهنــا نالحــظ التماهــي بيــن االســمين) باللجــوء إلــى التزويــر فــي االســم .وكأن المــال مفتــاح ـب ،وهــو الفهم الســاذج الحـ ّ متأخرًا الــذي أدركــه الــزوج ِّ عنــد استشــهاده بمــا كتبتــه الروائية الفرنسية «فرنسواز «الحب ،هو الفهم ساغان»: ّ األخــص» ،وذلــك فــي فــي ّ متأخــر عــن ـذار ـ اعت ـالة ـ رس ِّ فعل طائش يكشــف صورة عن الكــذب ...« :يفتقر الرجــال كثيرًا إلى الخيــال.». ليســت هــذه الروايــة روايــة متعــة وحســب ،بــل هــي الروايــة القائمــة علــى صنعــة الكتابــة ،كمــا علــى مرجعيــات المنتــج فــي توظــف خدمــة للمعنــى ُّ َ ـان أدبية،فنية،ســينمائية النص مــن معـ ٍ وتشــكيلية .والالفــت أنهــا انبثّــت وفــق شروحات ضافية ،وكأن الغائب عن فقر يتم اســتحضاره -أساس ـاً- ثقافة التلقّي ّ لإلضــاءة وتعميــق المعنــى. بيــد أن بالغــة اإلبــداع الروائــي فــي يجســده الصــوت هــذه الروايــة بالــذاتِّ ، األنثــوي «جوســلين» الــذي اســتطاع تقمصــه والحلــول «غريغــوار دوالكــور» ُّ أدق المواصفــات االجتماعيــة فيــه وفــق ّ تتفــرد بهــا التــي والجنســية والنفســية َّ شــخصية المرأة« :أعــرف الجمــال الفريد تحت مالبســي .لكــن «جو» لــم يــره َق ّط». يتحــّدد مفهــوم الكتابــة الروائيــة- تأسيس ًا على السابق ،ومن خالله الملحق الشــارح -فــي الحنيــن؛ فالروايــة بمثابــة الحنين لما َتّم فقدانه وضياعه .إذ المعنى
تجسده على الروائي يولدَّ ، ويتخذ شــكل ُّ البياض ،بغاية تمثُّل الغائب واستحضاره كزمــن مســتعاد ينبــض حيــاة فــي دقّــة تفاصيلــه الغنيــة؛ لذلــك اعتبــر غريغوار نص دوالكور ،في الملحقَّ ، روايتــه كتابــة حنيــن إلــى األم« :كتبت هذا الكتاب ألني أحن إلى أمــي ...كانت أمي ّ تحــاول أن تجــاري ســرعة تغير مقاس جسدي ،وكنت ُّ أعــرف أن هــذه المالبــس تســاعدها وتواســيها .وفــي مــا بعــد ،عندمــا رحلــت بعــد ســنوات ،تمنّيــت بقاءهــا. أحــن إلــى كلماتهــا كنــت ّ ونظرتهــا إلــى األشــياء أيض ـاً ،إلــى فرحهــا وحزنهــا ،فاختلقــت جوســلين غربيــت ،وخــال كتابــة هــذه تقمصت شخصيتها ،وأصبحت الروايةّ ، أنــا هــي ،فحلمــت بهــا منــذ اللحظــة التــي تقرر فيها حياتها أخيراً، صار بوسعها أن ِّ وســعيت إلــى نســج عالقتنــا المفقــودة، وغــدت بائعــة حانــوت أدوات خياطة.». المالحظ أن الكتابة الروائية في «الئحة َ رغباتي» تنهض على وعي الكتابة ،وكأن قصة ثانية. المؤلِّف يكتب قصة من داخل ّ ويمكــن القــول إن هــذه الروايــة تعكــس صورة عن مجتمع جشــع للمال ،إذ وفي ســبيل الوصول إليه يتـّـم تحطيم أواصر األســرة ،كمــا الســعادة التــي َتـّـم إدراكهــا والوصــول إليهــا ،والتــي ال يمكــن -علــى اإلطــاق -التفكيــر فــي العــودة إليهــا، خاصة ،أن ذلك يقتضي ويستلزم جهودًا ضافيــة إلدراكــه ،وعلم ـ ًا بــأن التقـ ُّـدم في ـن ،ليــس هــو -بالــذات -العــودة إلــى السـ ّ مرحلــة الطفولة أو الشــباب.
ازدواجية الصدمة واأللم جهاد الرنتييس تغلب على أعمال الروائي إســماعيل فهد إسماعيل نزعة مفارقة سطحية السرد ،منذ السطور األولى لرواياته ،وتفكيك التفاصيل الملتبسة بتقنيات ال تخلو من مخاتلة الخيال للواقع ،من غير التفريط بأطراف خيوطه، التوتــر، وإبقــاء قارئــه فــي أقصــى حــاالت ُّ ليلتقــط الفكــرة مــن دون عنــاء .وال تبتعــد روايته األخيرة «طيور التاجي» (منشورات ضفاف ،منشورات االختالف ،بيروت) عن هويته اإلبداعية، المعمار الفني ،الذي ّ شكل ّ وترك أثرًا في أجيــال من الروائيين العرب، على مدى ما يقارب ستة عقود ،منذ صدور روايته األولــى «البقعة الداكنة». يغرف إسماعيل ،في روايته الجديدة ،من منعطف مطلع تســعينيات القــرن الماضي، الــذي اّتســعت صدمتــه ،ليتجــاوز التداعيات السياسية ،الحتالل حامي البوابة الشرقية، بلــدًا صغيــرًا يجــاوره ،ويحفــر عميق ـ ًا فــي بنية الوعــي ،محـّددًا بعض مســاراته ،التي لتمــر بأحداث الربيع بقيت آفاقها مفتوحةّ ، العربي. أرقــت الكويتيين ـة ـ قضي الرواية ـاول تتنـ َّ ســنوات ،بعد تحريــر بلدهم ،وبقيــت جرح ًا يتحسســه أكثــر مــن جيــل الحــق ،ألجيــال َّ «األسرى» الذين َت َّم اقتيادهم ،إثر مشاركتهم فــي أعمــال مقاومــة ،عــاد بعضهــم ،وبقــي األخــرون فــي المجهــول ،تنتظرهــم أمهــات وزوجــات وأطفــال ،ويترقبون العــودة إلى حياتهــم اليوميــة. كان األســرى حاضــرون ،فــي روايــات إســماعيل فهــد إســماعيل ،التــي تلــت صدمة احتــال بلــده وتحريرهــا ،إال أن الروايــة األخيــرة ،أخــذت أبعــادًا جديــدة فــي طرحها للقضيــة. فقــد اســتحضر إســماعيل عوالــم جديدة، مع انتقالــه باألحــداث إلى معتقــات النظام العراقــي الســابق «ســجن بوغريــب» الــذي ُأ ِ ودعــت فيه أعــداد مــن األســرى الكويتيين، تحولوا مع غيرهم من جنســيات أخرى إلى ّ رهائــن ،لــدى توزيعهــم بعــد ســنوات علــى
معسكرات للجيش في المثلث السني ،قريبة من العاصمة ،كمعسكر «التاجي» الذي تحمل الرواية اسمه ،وتدور فيه معظم أحداثها. بمخيلــة خصبــة، اســتعان الروائــي ِّ لمتابعــة تطـ ّـورات حــرب تحريــر الكويــت، وانتفاضة الجنوب العراقي ،بعين «األسير سجانيه، الرهينة» الذي َّ يتصيد المعلومة من ّ ويتعامــل معهــا بشـ ّ ـك ،وهــو يحــاول إنارة مآالت المصير الذي سينتهي إليه ،لتضيف زاويــة النظــر الجديــدة بعــدًا مختلفــ ًا عــن األبعــاد التقليديــة للشــهادات والروايــات التي تناولت الحــدث وتداعياتــه ،من زوايا ُكّتــاب كويتييــن وعراقييــن وعــرب ،أقاموا في الكويت والعــراق ،على مدى زمنييفوق ـوالت. عقــدًا مــن التحـ ُّ واستفاد الروائي من الزمن الفاصل ،بين احتالل الكويت واإلطاحة بالنظام العراقي السابق ،ليفترض سيناريو موت الرهائن، الذين اســتغرق تســليم الكويتيين بموتهم، والتعايش مع فقدان األمل بعودتهم بضعة سنوات أعقبت رحيل نظام صدام ـول إلــى حســين ،وشــهدت التحـ ُّ البحــث عــن رفــات بعــد فقــدان األمل فــي العثور علــى األحياء. حضــور العــراق وناســه، تجــاوز حــدود الســجون والمعســكرات وأماكن االحتجاز المفترضــة ،ليمضــي بعيــدًا فــي معانــاة أجيــال مــن العراقييــن: خوفهــم ،قلقهم مــن المســتقبل، أمزجتهــم ،تفاصيــل ذاكرتهــم، لتأخــذ الروايــة منحــى يمكــن توصيفه بـ«ازدواجيــات األلم». بعــض جوانــب ازدواجيــة األلــم تظهــر فــي تزامن الحصــار الدولي المفــروض على العــراق مــع احتــال الكويــت ،ثــم اســتمرار حصار العراق ،مع احتفاظ النظام العراقي برهائــن كويتيين. وفي معســكر «التاجــي» ،حيــث الرهائن الكويتييــن ،تأخــذ ازدواجيــة األلــم منحــى
أكثــر عمق ـاً ،حيــث يتشــابه وجــود ضابــط المخابرات العراقي أيمن المعني باإلشراف عليهــم ،مــع ظــروف ارتهانهــم فــي بعــض جوانبها ،مما أغــرى الروائي للقيام ببعض المقارنات ،والبحث عن الفوارق قبل اعتقال الضابــط ونقله إلــى أحــد األقبية. تمتــّد هــذه االزدواجيــة إلــى المشــاعر المضطربــة التــي تظهــر فــي عالقــة الرهينة جعفر الـ«بدون جنســية» مع زمالئه الثالثة وســجانه ،قبل أن يفضل المــوت بينهم عن الذهاب إلى طبيب ،لمداواة معدته المصابة بالقرحة .وتظهر أيضـ ًا في االمتداد العائلي للرهينــة غالــب ،بيــن الكويــت والعــراق، وزوجتــه العراقيــة التــي ُقِتلــت وجنيَنهــا برصــاص عراقــي ،قبــل وصولهــا إلــى مستشــفي الــوالدة ،فجــر اليــوم األول مــن احتــال الكويــت. تصــل االزداوجيــات الضابطــة إليقــاع الروايــة إلــى نهايتهــا بقتــل الرهائــن وعــودة المــازم أيمــن إلــى حبيبتــه ،بعــد فــرار والــده القريب مــن حلقــات النظام الضيقة ،خوف ًا من تداعيات ســقوطه ،لترتبــط قتامــة المــوت وخاتمــة االنتظــار العــّد المأســاوية بقــرب َ التنازلــي للتغييــر. تضمنت فصول الرواية ّ إشــارات إلــى الفكــرة التــي تتمتــع بحيويــة تخليــق األحداث ،سوداوية كافكا، وكابــوس كونســتانتان جورجيــو المّتصــل في ظل نظــام شــمولي ذي قبضــة حديدية، ليعيــد الروائــي ،إلى األذهــان ،عبــارة قالها فــي أحــد لقاءاتــه ،عــن حلمــه بالنــص الــذي األمة ،وينتهي برواية صادمة يخدش ضمير ّ تتــرك قارئهــا عرضــة لألســئلة الباحثة عن إجابــات. 101
ديوان الطرائف املعارصة عارف حمزة يأتي كتاب «المستطرف الليلكي» (دار نون ،اإلمارات) كجزء ثالث من موسوعة ـوري الســاخر ـاص السـ ّ يشــتغل عليهــا القـ ّ خطيب بدلة تحت عنوان «ديوان الطرائف المعاصــرة» .فقــد ســبق لبدلــة أن أصــدر كتابيــن« :المســتطرف األزرق في حلب»، و«المستطرف األخضر». «أدبيــاً» ا عمــ ليــس جمــع الطرائــف ً ّ حديثاً؛ فقد ســبق ألســماء كثيــرة وكبيرة عالمي التدوين واألدب ،أن عملت على في َ جمــع طرائــف عصرهــا فــي كتــب ضخمــة ومتنوعة ،ومن تلك األسماء التي جمعت ّ األبشيهي (1388 واشـــتهر برز، الطرائف ّ – ،)1448وابن الجوزي (،)1201 – 1116 وأبــو فــرج األصفهانــي (،)967 – 897 حيــان والجاحــظ ( ،)868 – 772وأبــو ّ التوحيــدي ( .)1023 – 922بينمــا فــي المفكــر الراحــل ـوريا اشــتغل علــى ذك ّ سـ ّ بو علي ياسين ( ،)2000 – 1942وسبقه الحلبــي الكبيــر خيــر إلــى ذلــك العالمــة ّ األســدي ( .)1971 – 1900الــذي الديــن ّ منعــت دوائــر الرقابة ،فــي زمنــه ،الكثير مــن الطرائــف التــي جمعهــا وكتبهــا مــن الظهــور فــي كتابــه الفريــد «موســوعة حلــب المقارنــة» ،لكنــه اســتطاع نشــرها «الفــوات». بعــد ذلــك فــي كتابــه َ يختلــف الجــزء الثالــث عــن الجزئيــن القاص إيــاد جميل الســابقين ،إذ يشــارك ُّ محفوظ ،الساخر بدلة في الكتاب الجديد. خاصــة ،إذ إن األمــر الــذي أضــاف نكهــة ّ عيــش محفــوظ خــارج ســوريا لفتــرات أدى إلى مواقــف وطرائف أخرى طويلةّ ، تختلــف عــن الطرائــف التــي جمعهــا بدلــة ـوري. مــن بيئــة المجتمــع السـ ّ وأكثر ما اشتغل عليه الكاتبان خطيب بدلــة وإياد جميــل محفوظ ،هــو الطرائف بشــخصيات السياســية التــي تتعلّــق ّ ّ ومواقف وأحداث الحكومات والمسؤولين والمنظمات التابعــة لحزب البعث العربي 102
ـتراكي الحاكــم في ســوريا .وهــذا ما اإلشـ ّ ورد في عناوين كثيرة من عناوين أقسام جمعية الكتاب مثل :أنظمة ظريفة طريفة، ّ االجتماعيــة ،سياســة المعــاق التنميــة ّ الكبير ،حراك سياســي ،جذور الخوف، تطــاول علــى الــذات الرئاسـّـية ،شــجون حكوميــة ،الشـّـبيح األكبــر ،فــرع واحــد، ّ قــرار حكومــي ،حلــف الهزائــم ،صمــود الداخليــة .النفاق. الجبهــة ّ السياسية المذكورة ال تذهب الطرائف ّ نحو تأليــف النكتة السياسـّـية ،أو النكتة التــي تطــال أحــد الرمــوز الكبار فــي حقل ّية فحســب ،بل تذهب إلى السياسة المحلّ تدوين المواقــف الطريفــة التي وقــع فيها أولئك المســؤولون خــال تأديــة عملهم. ـخصيات وهــذا مــا ُيظهــر فســاد تلــك الشـ ّ والتعليمي، العقلي، وانخفاض مستواها ّ ّ والقانوني، الوطني، والوظيفي ،وكذلك ّ ّ ّ فــي التعامــل مــع األشــخاص أو القضايــا أو حتــى الحكومــات .وتذهــب كذلــك إلــى تدوين الطرائف التي وقعت لخبراء أجانب تعاقــدت معهــم الحكومــات الفاســدة فــي كمدرب منتخب سوريا لكرة القدم البالدِّ ، علــى ســبيل المثال. حكوميــة» يكتــب بدلة: ففــي «شــجون ّ «تأسست منظمة طالئع البعث في سوريا ّ تربوية تهدف ســنة ،1974وهي منظمة ّ إلــى تعليــم الجيــل الصاعــد (فــي المرحلة
ـب األب القائــد ،واإلخالص االبتدائيــة) حـ ّ ّ التاريخية للقيادات والوالء البعث، لحزب ّ التــي جــاد بهــا الزمــان مـّـرة ،وال يمكن له أن يجــود بمثلها مـّـرة أخرى!. ُعِّيــن الرفيــق أحمــد أبــو موســى ،منــذ أبدي ًا لها، لحظة تأســيس المنظمة ،قائدًا ّ ـتمر فــي قيادتهــا حتى يــوم وفاته وقد اسـ ّ ( 24شباط /فبراير .)2009والسبب في ـت بقائــه األبـ ّ ـدي هــو معرفتــه أّنــه «إذا كنـ َ أن الجهــة التــي المعرفــة، حــق تعــرف، ّ ّ َع َّينتــك فــي هــذا المنصــب ،لقــادرة ،متــى وتعيــن اآلذن شــاءت ،أن تزيحــك عنــهّ ، (الفـّـراش ..المســؤول عن تنظيــف مكتبك وتقديــم المشــروبات الســاخنة لضيوفك) مكانك ،فأنت ستبقى في هذا المكان حتى أحس ،وال من درى!». تموت فيه ،وال من ّ وفي الوقت الذي قد تكون اللغة في بعض األحيــان فقيــرة فــي ســخريتها ،وتتكـّـرر فيهــا القليــل مــن األوصــاف والمواقــف، إال أن العمــل -بمجملــهُ -ي َعــّد حاذقــ ًا فــي اكتشاف دواخل األمور وعرضها بطريقة توســع بذلــك جمهورها الذي مبســطة كي ّ ّ قــد يقــرأ هــذا الكتاب. يبــدو أن األحــداث التــي تجــري فــي سوريا قد جعلت هذا الكتاب يّتجه لفضح ممارســات تســلّط الســلطة والحكومــة ـورية فــي أزمنــة مختلفة. والقوانيــن السـ ّ مخصص ًا ـاء ـ ج الكتاب أو يمكــن القــول إن ّ السياسية ،رغم أنّه يحوي أكثر للطرائف ّ تخــص التــي األخــرى الطرائــف بعــض ّ عاديــة مــن الشــعب؛ كمــا فــي ـخصيات ّ شـ ّ الجــزء األخيــر مــن قســم «حلــف الهزائم». ـاص بــدا مــن الواضــح ّ أن مشــاركة القـ ّ مما كتبه «إيــاد جميل محفــوظ» ّ كميــة ّ أقل ّ القاص الساخر خطيب بدلة ،وبدت لغته أن هــذه الســاحة أقــل حـّدة وســخرية ،إال ّ الفقيــرة ،فــي جمــع الطرائــف وتدوينهــا، تكــون بذلــك قــد اكتســبت صوت ـ ًا جديــداً، يتأخــر نضجهــا ومنجزها. نتمّنــى ّأل ّ
نصوص أشبه بطلقة البارود أسامة حبيش مؤخراً -كتاب «حركات الوردة» صدرَّ - (دار زينب ،القاهرة) للشــاعر عبــد الفتاح بن حمودة .هو كتاب التجديف في مناطق القصيــة جــداً ،وصرخــات وردة الكتابــة ّ الشــعر التــي ال تكـ ّ ـف عــن اإلبــداع ،وهــو كتاب الذات والسيرة الذاتية لجيل كامل، مطولــة تهــدف إلــى هــدم وي َعــّد شــهادة ّ ُ الحــدود الفاصلــة بيــن ســراديب الكتابــة السـّـرية .وهو أيض ًا تجســيد َح ّي لمأســاة ضيــاع جيــل شــعري كامــل ،كأنــه بيــان يهــدم وثوقيــة الكتابــة البيانيــة ،ويقيــم في المغامرة وفي حرارة التجربة وحيوية الطمــوح. ـوده كتابه ـ حم ـن ـ ب ـاح ـ الفت عبد ـتهل يسـ ّ َ بمقطعيــن شــعريين األول لإلســباني فرانسســكو بيرنــس «الطريــق ملــيء بالورود ،وال تدوس إال العتمة العارية.. تدخل البيت ،تقفل الباب :ال أحد ينتظرك وال تنتظر أبداً» والثاني للشاعر السويدي غونارإيكلوف« :هكذا كلمت نفسي :الشاعر الوحيــد الذي أصغــي إليه ،هو مــن يحمل متوترتيــن ،إنــاء مليئــ ًا بحــذر ،وبيديــن ِّ بالــدم.»... هذه الجروح واآلثام هي مدخل حركات الوردة ،تلــك الوردة /الشــعر التــي ُي َعّد حملهــا -فــي َحــّد ذاتــه -ذنبــاً« :لــم أكــن نبياً ،بل كنــت غصن ًا بــا ذاكرة أو ســماء مشروخة بالعصافير ،سنوات مختلفة وأنا أجمع أثمــار هــذه الــوردة بعنــاء بهيج... كنت أكتــب وأمحو ،حتى صــارت الكتابة محوًا انتزاع ًا لذاكرة خاصة ،يدور زمنها فوضوي ًا دون كلل». يصبح هذا البحث عن صوت الذات في داخــل كل منــا – وخصوصـ ًا عنــد المبدع- يتطلــب الصمــود والقدرة ا َّ بالفعــل ،كاهـ ً وســط منــاخ قــد يســتهلكك أو يبتلعــك؛ لــذا فالكتابــة هــي الخــاص وهي الــوردة
المشتهاة «اللعنة ثم اللعنة على الشعراء والرســامين والفنّانين والكّتــاب والنّقــاد ُ َ جميعــاً ،المتاجريــن بأحــزان القدامــى، الغارقيــن فــي الشــوارع بــا عصافيــر أو مياه أو أرض أو سماء أو وردة أو بحر، الغارقيــن بــا أمطــار ،لهــم رمــاد ووحــل ال يضــيء». كتاب «حــركات الوردة» أشــبه بكتاب «ذاكرة النسيان» لمحمود درويش ،فهي حــركات تغوص فــي النثر والســرد بخفّة ســابحة هنا وهناك بين شــطوط اليأس واألمل ،حركات الرغبة والكتابة ورؤية العالــم والفلســفة «كنــت شــاعرًا بســيط ًا أســقط فــي حفــرة الضــوء الصغيــرة حالمــا أراهــاَ ،مـ َّـرت جبــال لــم أكــن أعلــم هل َأ ْجـ َـرت دمي أم دمــاء الســفن ،ثم عاد الحطام األخير إلى ســاحلي ...تساقطت مهمــة كتابــة الشــمس قطعــة قطعــة فــي ّ النــص الشــعري وفــق أنســاق أخرى ،سقطت في المتعة، فــي المتاهــة الجميلــة»، وينتقــل عبــد الفتــاح بــن حمــودة إلى مــا انتهــت إليه ويقــدم رؤيتــه الحداثــة، ِّ للكتابــة ولفكرتهــا ،ويقـ ِّـدم التمــرد عليهــا رغبتــه فــي ُّ وعلــى ماهــو ســائد ،إنــه يبحث عن الكتابة المغايرة دائماً.وفي نصوص صغيرة يقدم أشــبه بطلقة البــارود ِّ تنويعــات للكتابــة ســواء مــن حيث كتابة األرض باألسماك أو كتابتها باألطفــال أو كتابتهــا مــن خــال كتابــة القــرون القادمــة «يــا أيتهــا الشــمس ،يــا شمس الصباحات البعيدة فوق الضباب، كوني بسيطة جدًا وال تقتلي أطفالي.... الكتابــة عــدم انتهــاء الليــل وعــدم انتهــاء
النهار ...الوردة فجــر وكل جديد في يدي هــو قديــم .....األبديــة ،الجبال،أوهــام الحداثــة ،الشــمس ،الــوردة ،المعجــم الطبيعــي فــي الصباحــات وآنيــة الزهــر وأجــراس الــوردة هــي القــوى الوحيــدة تحركنا .....كل شــيء ينذر بالموت التي ِّ طالمــا كانــت الــوردة بال جمــال غريــب... الموت ليــس خدعة ألنــه ليس فــي حاجة إلى الحيــاة .....القلــق أن أذهب بالوردة وحيدْيــن». إلــى آخــر الليــل َ يقدم الكاتب إشــراقات الــوردة الثالث ِّ األولى إلى الناقد «محمد لطفي اليوسفي» وهــي إشــراقات تنـّـم عــن مغــزى فلســفي عميــق ،وهي ،فــي الوقــت ذاته ،رســائل كرسائل أم موتسارت البنها لحظة بردها وألمهــا قبــل موتهــا ،رســائل تكشــف َكـ ّـم الحزن واأللــم والمعانــاة« :الــوردة لذّة ال عقــاب لهــا ..تلــك آهــات الغابــة ،وذلــك هو الشــاعر بشــفاهه ولســانه األحمر وأســنانه». «حركات الوردة» ســيرة حيــز صاحبها ذاتية تتعّدى ِّ لتصبح ســيرة جيــل بكامله ـود الحفر في جبال الشــعر يـ ّ الشــامخة ،جيــل ليــس فــي تونس فقط ،بل في المنطقة العربيــة كلهــا« .حــركات الوردة» نصــوص المحاكمة للذات ،وهي نصوص الذات فــي مواجهة المحاكمــة ،إنها تشكل أنهارًا صغيرة تهدف إلى نصوص ِّ الوصول إلى محيط الروح الظمأى ،هي حناجــر ،وهــي وردة تتراقــص -أحياناً- بخّفــة ،وأحاييــن أخــرى تجــرح وتؤلــم، تأمــات شــعرية /نثريــة وأخيــرًا هــي ُّ في فضــاء جيــل يبحــث عــن مكانه وســط أجيــال ســابقة تحتكر الســاحة. 103
سرية جديدة ألبولينري سعيد بوكرامي تروي سيرة غيوم أبولينير الصادرة- مؤخــراً -عــن دار غاليمــار ،كيــف أصبــح َّ ويلهيلــم دو كوستروفتســكي ،مجهــول الجنسية ،أحد أعظم الشعراء الفرنسيين خالل القرن العشــرين ،والذي كانت لديه موهبــة أدبيــة خارقــة :شــاعر ،ســارد، صحافي ،ناقد فنــي ،ناقد أدبي ،ناشــر، مديــر مجلــة ،وكان لديــه حــدس معجــز واستشــعار مســتقبلي .كمــا كان صديــق الرســامين ومدافعــ ًا شرســ ًا عــن الفــن الحديــث .فــرض أفــكاره الجريئــة ،وفتح آفاقـ ًا جديــدة للقصيــدة فــي عصــره .وفي الوقــت نفســه بقــي مرتبطــ ًا بالماضــي، بالكتــب القديمــة وبالذكريــات .كانــت أعمال غيوم أبولينير مليئة بالتناقضات والمفاجآت ،ومحتفظة بملكة االستثنائي ومحتفلــة بواقعية جديــدة .لم تصــدر أية ســيرة ذاتية عــن أبولينيــر شــافية كافية منذ أربعين سنة .وها هي -أخيراً -تصدر المتمرسة لورانس كامبا التي عن الباحثة ِّ ال من الوثائق األصلية، ســبرت عددًا هائ ً أغلبهــا لــم يكــن منشــورًا مــن قبل. لكــن ،مــن هــو غيــوم أبولينير؟إنــه بغض النظر عن أصله وفصله، أبولينير ّ إذ تعثَّرت معظم السير التي كتبــت عن الشــاعر عنــد هذه النقطــة .بيــد أن الباحثــة ركزت -في لورانس كامباَّ ، المقابل -على العوامل التي جعلت مــن أبولينير شــاعرًا رؤيويــاً ،واستشــرافياً. «تذكروني، هــو الــذي كتــب َّ أنــا رجــل المســتقبل» ،كمــا بحثت الكاتبة عن المرجعية المعرفيــة والوجدانيــة التي مكنــت الشــاعر مــن نســج ّ دواوين شعرية ومقاالت صحافية ونقدية وفنية ،في مدة قصيرة ،لم يدركها غيره مــن األدبــاء الذيــن عاشــوا عمــرًا أطــول. المتخصصة قامــت الباحثــة الجامعيــة ّ لورانــس كامبــا بعمــل باهــر لغـ ًـة وبحثاً، 104
فأعــادت إلــى األضــواء الشــاعر غيــوم أبولينيــر ،العاشــق األبــدي لالبتــكار ـعريْين ،لكــن حياتــه -فــي والتجديــد الشـ ّ المقابــل -كانــت مثخنة بالخيبــات ،طوال حياتــه كان غيــر راض عــن نفســه .وكمــا قال ذات مرة« :ليس اآلخر من ال يحبني، ـب». أنــا مــن ال يعــرف كيــف يحـ ّ أبولينيــر ِّ يمثــل صــورة الشــاعر غيــر المرغــوب بــه .الــذي نجــده فــي قصيدتــه الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه.و تعّد الباحثــة هــذه القصيــدة الطريــق الملكــي الذي يجــب اقتفاؤه لفهــم أبولينيــر وبناء ســيرة ذاتيــة جديــدة ومغايــرة لــه ،كمــا ركــزت الباحثــة علــى البعــد المأســاوي َّ الــذي طبــع عالقــات الشــاعر بمحبوباتــه اللواتــي كــن البوتقــة التــي انصهــرت فيهــا موهبتــه وانفعاالتــه وإحباطاتــه واســتناراته ،انصهــارًا إبداعيــ ًا َأثّــر فــي مسارْيه اإلنساني والشعري .كما تناولت َ محطات من طفولته وترحاله ومشاركته ّ فــي الحــرب وعالقاتــه بالمشــهد الثقافــي الفرنسي عامة ،وبشعراء وفنّاني عصره، مزيحة الســتارة عن حيــاة غامضة ومجد ً شــعري مبهــر. علــى مــدى 800صفحــة من البحث المغامر في حياة أبولينيــر ومجمــل إبداعــه قدمت الكاتبة -بجالء -وقائع َّ حاســمة مــن حيــاة الشــاعر الحســية والصاخبــة التــي ّ كانت دائم ًا محفوفة بالدهشة ومكامــن الهــاك .حيــاة من الحــب والصــراع والحــرب، تبدو -من خالل أعماله -أنها متأخــرة، ـن ِّ امت ـّدت إلــى سـ ّ لكــن غيــوم أبولينيــر -فــي ـن ال يتع ـّدى 38 الحقيقــة -توّفــي عــن سـ ّ عاماً .)1918 - 1880( .لكنه عاش خباياها وجوهرها وإكســيرها .لــم يمــت أبولينير ـض فــي الحــرب كمــا كان يتمّنــى ،ولــم يقـ ِ متأثِّرًا بجــراح إصابتــه فــي المعركة ،بل
مات بعــد إصابتــه باإلنفلونزا اإلســبانية التي حصدت أكثر مــن 40مليون ضحية عبــر أنحــاء العالم. هذه السيرة األدبية والتاريخية ،التي حــازت جائــزة لبــوان المرموقــة 2014 التــي يــرأس لجنتهــا ماكــس غالــو الكاتب المعروف وعضــو األكاديمية الفرنســية، تجمــع بيــن نكهــة الواقــع ومتعــة البحــث وإعــادة االكتشــاف .مليئــة بالكّتــاب والفنانيــن األوروبييــن الذيــن يضيئــون شخصية الشاعر ومسار الحداثة ،وترسم صــورة شــاعر هــارب مــن ُعَقــده وعابــر للزمــن بأفــكاره وشــعره وطموحــه. نالحــق الشــاعر مــن أروقــة الفاتيــكان إلى نهر الرايــن ،ومن ضفاف نهر الســين إلى سراديب النبيذ مستكشفين بحضوره وإبداعــه عالمــ ًا هندســي ًا مــن العالقــات اإلنســانية المشــوبة بالتواصــل تــارة وبالقطيعــة تــارة أخــرى ،وعلــى رأســها عالقتــه بالمــرأة .كان أبولينيــر عاشــق ًا للحركــة والســرعة واالبتــكار ،ولكــن علــى أســاس مــن القيــم الموروثــة؛ ففــي أقصى درجــات التجديــد كان يحافظ على المــوروث اللغــوي والموروث الشــعري. تعتــرف الباحثــة أن أبولينيــر كان غيــر ـتقر فــي حياتــه وإبداعــه واختياراته. مسـ ّ هــل يعــود األمــر إلــى شــرخ الهويــة الــذي عاشــه ،أم يعود باألســاس إلى حضوره ـول بشــكل تراجيــدي نحــو فــي عالــم متحـ ِّ ومآس جذرية الت بتحو د ع ٍ ُّ حرب عظمىَ ،ت ِ ُ إنسانية؟؟ في كل األحوال ،كان أبولينير شــاعرًا كبيرًا تمثَّلت عظمته فــي امتداداته الجمالية التي سكنت روح الشعر العالمي بتمــرده ،مهادنــة إلــى اليــوم ،مجلجلــة ُّ المتجــددة بحبــه ،مســتبصرة بأفــكاره ِّ ّ العابــرة لآلفــاق.
شعب يف ِّتش عن هو ّيته خاص بالدوحة الهويــة يفصــح كتــاب «الطــوارق ..مــن ّ ســر االهتمــام الدولــي إلــى ّ القضيــة» عــن ّ واإلقليمــي بمنطقــة األزواد ،مــن منطلــق أن «اإلقليــم يســبح فــوق بحيــرة مــن الغــاز ُيَقـ َّـدر احتياطيهــا بـ«ترليون» متــر مكعب إلى جانــب مخــزون ملحــي يكفي لخمســين ســنة مقبلة مع مناجــم اليورانيــوم النيجرية التي ـزود المحطــات النوويــة الفرنســية بنصــف تـ ِّ احتياطاتهــا منــه» .الكتــاب نفســه ،الصــادر عن المركز الموريتاني للدراســات والبحوث االســتراتيجية ،يرمــي إلــى إضــاءة جوانــب مجهولة قــد طواها النســيان من حياة شــعب الطوارق ،الذي ظل يشـّـكل -نتيجة تهميشــه وعزلتــه -لغــزًا صحراوي ـاً. اسم غريب! تطرق إليه الكاتب في فصله من طريف ما َّ األول إشارته إلى أن اسم الطوارق مصطلح ال تتجــاوز معرفتــه نخــب القــوم ،فهــو -رغم غلبته عليهم -غريب علــى جمهورهم «فهم ال يسـّـمون به أنفســهم ،وال ينتســبون إليه في أصولهم ،فهو اسم أطلق عليهم من خارجهم، ال يعرفه إال المثقَّفون والمتعلِّمون ،ونادرًا ما األمي من الطــوارق الذي لم يعرفه الشــخص ّ يّتصل بالثقافات العصرية والعالم الخارجي». وقــد ذكر الباحــث عــدة روايات الشــتقاق هذا االسم ،منها -على سبيل المثال -أن الطوارق طراقو جمــع طــارق ،أي اآلتــي ليـاً ،أو هــم ّ الصحــراء ومرتادوهــا .ولشــهرة هــذا االســم لدى اآلخــر تــم تبنّيه رســمي ًا مــن قبــل القادة السياســيين والقبلييــن ،حيــث ص ـّدر زعماء المذكــرة المشــهورة الطــوارق مطالبهــم فــي ِّ التي أصدروهــا عام 1990إبــان مفاوضتهم مع الحكومة المالية ،بعبــارة «نحن طوارق مالــي» .ويبــدو أن لفظ «إيماجغــن» ،ويعني الرجال األحرار أو الشــرفاء ،هو المختار من هويتهم االســمية. قبل الطوارق للتعبير عن ّ قض ّية الجذور يناقــش الباحــث فــي هــذا الكتــاب مســألة
أصــول الطــوارق ،فالســؤال الكبير عن أصول هذا الشعب، هويتــه الثقافية، التــي تحـ ِّـدد ّ لم يحســم جوابــه بعــد ،فهم - حســب رأيه « -يفتشــون -في هويــة ضائعــة ،أو قلــق -عن ّ أوشــكت علــى الضيــاع بيــن مطرقــة القمــع والتهميــش جنوبــ ًا وســندان اإللحــاق وتفســر الثقافــي غربــاً». ِّ الروايــات المختلفة لجــذور هذا فنسابة العرب الشــعب طبيعة هذه الحيرة؛ ّ ـرددون في نســبتهم إلى أصول القدماء ال يتـ ّ صنهاجيــة عربيــة .يقول ابــن خلــدون «هذه الموطنون الطبقة من صنهاجة هم الملثَّمون ّ بالقفــر وراء الرمــال الصحراويــة بالجنــوب أبعــدوا فــي المجــاالت هنــاك منــذ دهــور قبل الفتح ..وصــاروا ما بيــن بالد البربــر وبالد الســودان حجــزاً ،واتخــذوا اللثــام خطامــ ًا تمايــزوا بشــعاره بيــن األمــم ...هــم إخــوة صنهاجة» ،ويقول عبد الرحمن السعدي في تاريخ السودان« :وهم المسوفة ،ينتسبون إلى صنهاجة ،وصنهاجة يرفعون أنسابهم إلــى حميــر» ،وهــو النســب الحميــري الــذي والمؤرخين النسابة تواترت عليه جمهرة من ّ ِّ ينيفــون علــى العشــرين.. والعلمــاء ّ ثان إلى أن أصــول الطوارق ويميل رأي ٍ أمازيغيــة بربريــة ،وهــو رأي – كمــا يقــول الكاتب -يدعمه المشترك اللغوي ،إضافة إلى نتائج االكتشافات والحفريات األركيولوجية ودراســات الســاالت والجينــات الوراثيــة. ويقول الباحث الطارقــي محمد عبد اللطيف: «إن قبائل الطوارق َسـ َّـمت نفســها «إمازغن» جدهــم إمازيــغ بــن كنعــان بــن نســبة إلــى ِّ حــام بن نــوح». وهنــاك رأي ثالــث ينــأى بالطــوارق عــن االرتمــاء فــي حضــن الثقافتيــن العربيــة أو األمازيغيــة؛ فالطــوارق هــم الطــوارق ،لهــم انتماؤهم العرقي وخصوصيتهم الثقافية بعيدًا
عن التجاذبــات اإليديولوجية بين دعاة القوميتيــن العربية واألمازيغية .والثابت الوحيد – كمــا يقــول المؤلِّــف -هــو انتماؤهم إلى األمة اإلسالمية ولعبهــم أدوارًا رياديــة هامــة في تكويــن نســيجها المعرفي مع إخوتهم من العرب والبربر واألفارقــة ،فهم شــعب يفتخر بهويتــه الحضاريــة األصيلــة ّ ولغتــه الوطنيــة الخاصــة بــه، وحروفهــا تسـ ّـمى التيفنــاغ ،وهــي تجعلــه أحد الشــعوب اإلفريقية النادرة التي تمتلك أبجديــة نظيفــة يرجــع وجودهــا إلــى ثالثــة آالف ســنة قبــل الميالد. تمجيد المرأة على عكس أغلب الشعوب الشرقية يعتز الطوارق باالنتساب ألمهاتهم ،ويعتقد العديد من الطوارق أنهم ينحدرون من ملكة عظيمة تســمى «تنهينــان» ملكة الطــوارق التــي َبَن ْت دولــة قويــة فــي القــرن الخامــس الميــادي، وتركــت لهــم مجــدًا َّ مؤثـاً ،ال تــزال شــواهده شــاخصة فــي جبــال الهقــار وكهــوف أبالســا جنوبــي الجزائــر حالي ـاً ،وإلــى هــذه الملكــة يرجــع النظــام االجتماعــي للطــوارق الــذي يســتمّد الســلطة حتى اآلن مــن حكــم المرأة. في غمرة األحداث التي عرفها إقليم أزواد في السنوات الماضية ُأجهِض حلم الطوارق باالســتقالل المعلــن عــام 2012فــي مهــده، ويعــزو الكاتــب إخفاقــات هــذا المشــروع إلى عدم قابليته لالستمرار وســط رفض النظام الدولــي واإلقليمي لــه ،إال أن هــذا اإلعالن قد أعاد قضية شــعب ذي خصوصية حضارية وثقافية ُم َغ َّيبة من رفوف النسيان إلى دائرة األضواء ،وينصح الباحث في ختام الكتاب الحــركات األزواديــة باعتمــاد اســتراتيجية سياســة واقعيــة أكثــر مرونــة وأبعد نظــراً، بد ًال من سياســة «كل شــيء أو ال شيء». 105
الحنني املحايد علوان الجيالين تتحــول الحيــاة /إلــى أزقــة «حيــن َّ متناهية الضيق والحلكة /على اللغة أن تتناثر شــقوق ًا /على امتداد االختناق / لتغدو نوافذ يعبرها األوكسجين» .يصلح هــذا المقطــع الــذي جعلــه الشــاعر جميــل مفرح عتبة للمحور الثاني من مجموعته ّ الجديدة «ربطة عنق أنيقة» ليكون عتبة لهــذه القــراءة ،فقــد جعــل الشــاعر اللغــة وم َّتكأه لعبور لحظة خياره ،بل ملجــأه ُ الحياة الحرجة ..فاللغة -في َحّد ذاتها- هدف الشاعر ،كما أن التخفيف من حلكة الواقع وضيق الخيــارات فيه والتخلُّص من االختنــاق به هدفــه اآلخر. تتجلّى في المجموعة خبرات الشاعر باللغة ومعاشرته الطويلة لها جنب ًا إلى جنــب مــع نضــج فــي الوعــي بالعمليــة اإلبداعية ،وانزياحات شاســعة في فهم الشــعر .وتلــك كلهــا ميــزات تتــآزر مــع خبراته فــي جوانــب الكتابــة المختلفة. مفرح على ال بّد من القول إن اشتغال ّ النوســتالجيا ،اشــتغال ليــس فيــه ذلــك الم َرضي الجارف الذي اشتهر به الحنين َ الشعراء الرومانســيون ،بل هو اشتغال والتأمــل الهــادىء، يــزاوج بيــن الحنيــن ُّ اشــتغال عاقــل محايــد إلــى َحــّد كبيــر. وهذه مفارقــة؛ إذ ال يمكن للنوســتالجيا أما إال أن تكــون حنين ًا شــاهق ًا وحارق ـاًّ . أن تكــون حنينـ ًا محايــدًا فهذا هــو الجديد اجــأ به: الــذي ُ نف َ «أيتهــا الســدرة ...ال أحــب أن أبــدأ طقوســي عنــد جذعــك ،وال أتمنــى أن ـى أج ـّدف باتجاهــه، تكونــي آخــر منتهـ ً عليــك أن تبحثــي عــن مبرراتــك الكافيــة إلي كما لم تشتاقي لتنتظريني ولتشتاقي ّ وعلي أن أكتمل تمام ًا ألكون ألحد قبلي.. ّ تتخيلني أشواقك المكّدسة ..تمّهلي، كما َّ انتظــري ريثمــا أتسـلّق هــذا الجــدار الذي يفصلنــي عنــك ،ثــم أتجاســر وأقفــز من أعاليــه إليــك ..ال تســتعجلي ارتفاعــي 106
وسقوطي ،فلست جديرًا بكل هذا العناء، بكل ـق ّ ولســت الئقــة بمحاوالتــي الّتحليـ َ هذا العــري إليك». أحــب»، فهــذه األلفــاظ الكابحــة «ال ّ «ال أتمّنــى»« ،ال تســتعجلي»« ،تمّهلــي، انتظــري» تشــعرنا بأنهــا تفرمــل لوعــة النوســتالجيا وانهماراتها داخل لحظات التذكــر واالســتحضار الحميــم.. ُّ مفــرح بين أيدينا تضع تجربة جميل ّ عالــم دهشــة بالــغ االّتســاع ،لكنــه ليس بعيــدًا عنّا .إنه -بشــكل مــا -عالمنا الذي كان مطمورًا في ذواتنا ،لم نكن قادرين علــى اكتشــافه ،أوكنــا نتغاضــى عنه.. نتحايــل على وجــوده فينا بالتناســي ال بالنســيان ،حتــى جــاء مفـّـرح ليمنحــه، مــن خــال هــذه النصــوص ،مشــروعية اإلعــراب عــن حضــوره ...ليحضــر الئق ًا مميزاً ،في نصوص تخلَّصت من ضغوط َّ التوصيفــات النقدية البائســة لألشــكال الشعرية ،بمقدار ما أخلصت للشعر الذي حريته أكبر وأوســع من يثبت دائم ـ ًا أن ّ كل التوصيفات ،وأن ليس بوســع أحد يلونه ،فهو أصل األلوان ومصدرها، أن ّ وهو بذرة الجمال في وجودنا اإلنساني، أينمــا وجــدت تخّلــق اإلبــداع ،وقــد أعلن عن نفســه.
و األكثــر لفتــ ًا لالنتبــاه فــي هــذه النصــوص هــو الخرشــات ..فنحــن أمام مفرح معلِّم ماهر؛ إذ إن خرشــات جميل ّ هــي مزيــج مــن البســاطة والتركيــب، المالمســة الشــفيفة والعمــق ،حــاوة الشــعر ونضــج الفكــر ،طرافــة اللقطــة وعذوبــة َتأّتيهــا: المرة/ «عليك أن تضع الخطيئة هذه ّ في مكان آمــن من جســدك ّ /وأل تســمح أن ينال منها الكالب والقطط .../هؤالء مثقلــون أيضــ ًا باقتنــاص الخطيئــة / يتلمســون روائحها/في األزقّة الموحلة ّ والزرائــب المتعفّنــة /هــذه المــرة /لــن المتكومــة / تقــع علــى عيــدان الحطــب ّ فتجرح ركبتيك /وتقّد قميصك الجديد/ ولن تتوقّف بين اللحظة ورفيقتها ..../ عليك هــذه الليلة أن /تســتأذن الطفولة /لبرهة من الزمن /تمتحن فيها الخطيئة إدانتها/ويكممــون يتحملــون وزر ّ التــي ّ دونها عيــون الرغبــة /مــن أن تعلن عن حضورها». تســتمر لعبــة المزاوجــات الناضجــة ّ والتأمل الهــادىء في ـتالجيا ـ النوس بيــن ُّ سياق ســردي وعبر اختيارات تنبع من أولــى تجــارب الحياة. وهــي ال تحضــر اعتباط ـاً ،بــل تحــت التأمــل والتفكيــر والتفلســف مجهــر ُّ المعجــون بالشــعر فــي أعلــى تجلّياتــه. مخيلته مفرح ،خصب ّ تكشــف قصائد ّ تحسس فضاءاتها في سديم القادرة على ُّ تواقة الحياة البائس ،وثمة اجتراح لغة ّ للكشــف عن خفايا يصعــب التعبير عنها بلغة عادية .والنوســتالجيا شــقوق في الــروح ،فمــا يتسـّـرب منهــا ال يرضــى إال كتــب بلغــة خاصــة ،كمــا فــي هــذه أن ُي َ القصائــد التــي تفّنــن مفـّـرح فــي إبداعهــا مرهفة مشــحونة بالروعة شــحناً.
مختاراتنا
أتيال الهوني.. ملك البرابرة صدر عن دار الكتب الوطنية في «هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة» الترجمة العربية لكتاب «أتيال الهوني ،ملك البرابرة وسقوط للمؤرخ البريطاني المعاصر روما» ِّ المتخصص في الصين جون مان ِّ ومنغوليا ،ونقله إلــى العربية عمرو المالح. أهم الكتب من ا ـد ـ واح ُي َعّد الكتاب ً ّ
التاريخية التي تناولت تاريخ قبيلة الهون على مدى قرون عدة، حيث كانت تقيم في إقليم منغوليا فــي الــصــيــن .ربــمــا كــانــت قبيلة الهون واحــدة من قبائل البرابرة المزعجة التي صعدت ثم سقطت، لــوال أنموذج أصلي ألتيال يّتسم ويدعى بالقوة إلى َحّد استثنائيُ ، موتون ،وقد صعد نجمه في عام 902قبل الميالد. قدمه والده طومان كان موتون قد َّ رهينة إلى إحدى القبائل ليتخلّص مــنــه ،لكن مــوتــون اســتــطــاع أن ينجو وينتقم من أبيه ويقتله كما قتل كثيرين ،واّتخذ من جمجمة الحكام المجاورين كأس ًا له، أحد ّ أصبحت تــرمــز للقوة المعتادة الرحل .وبعد ذلك للحكام من البدو ّ بنى موتون إمبراطورية تمتّد على مساحات شاسعة ،وكــان الهون يوسعون إمبراطوريتهم على َمّر ِّ العصور باالستيالء على مناطق جديدة ،حتى جاء دور روما التي تحالفت مع القوط لمواجهة جحافل البرابرة من آسيا الداخلية .بيد أنــه ال سبيل إلــى مقاومة الهون الــزاحــفــيــن حــتــى قــرعــوا أس ــوار روما في منتصف القرن الخامس الــمــيــادي عــلــى يــد ملكهم أتيال الشجاع الــذي اعتاد أن يستغرق في اللهو والملذّات وكثرة الشراب التي قضت على حياته بعد أن كان يخوض أعتى المعارك ،ويخرج منها منتصراً.
الغفوري في صعدة اليمني الشاب يدخل الروائي ّ مروان الغفوري دائرة الرواية بــعــمــل ثـــالـــث ،فــبــعــد «كـــود بلو» ( )8002و«الخزرجي» مؤخرًا ( ،)3102صــدرت له َّ رواية بعنوان «جدائل صعدة» (دار اآلداب -بــيــروت) .في الرواية نفسها يقوم الغفوري باستثمار الــجــدل السياسي الدائر اليوم في الجهة الشمالية مـــن الـــيـــمـــن ،وعـــلـــى وجــه الخصوص في مدينة صعدة وجبالها ،عبر سرده لمجموعة رسائل متبادلة بين الــراوي وفتاة من صعدة اسمها إيمان، لتظهر حكاية عــن جدائلها المنسدلة من أعالي الجبال، سر بطنها المنتفخ ،عن وعن ّ الحرب والمواقف والــعــادات والتقاليد ،عــن المأجورين يوظفون الدين للمصالح وعم ْن ّ َّ والسياسية ،عن الشخصية ّ والتزمت ،عن األنوثة الجهل ّ
الــمــســحــوقــة .عــبــر ك ــل هــذه التشكيلة يــرغــب مـــروان في تــقــديــم واجــهــة صــعــدة على طاولة نقاش من منظور أدبي يسعى لعدم االنحدار إلى قعر الــطــرح الــســيــاســي المباشر واإلشــكــالــيــات الــتــي ســوف يشعلها ولــن تحسب لصالح العمل في نهاية األمر. الــروايــة صـــدرت تــزامــنـ ًا مع النقاش السياسي السائد في البلد ،وتوازي ًا مع المواجهات الدائرة بين النظام السياسي الحاكم وبين جماعة الحوثي المنتمية إلى مدينة صعدة.
أمراء األسرة المالكة يقدم كتاب بعنوان «أمــراء األسرة ِّ المالكة ودورهم في الحياة المصرية ( »)1952 - 1929تأليف د .أمل فهمي قراءة تاريخية تغطي فراغـ ًا هائ ًال في تاريخ مصر الحديث. يرصد الكتاب الــصــادر حديثـ ًا عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» دور الــقــصــر فــي ف ــرض سيطرته على األمراء من خالل تحديد دورهم السياسي ورسم أوضاعهم المالية واالجتماعية ،والوضع االقتصادي الذي يحظون به ،وإسهامهم الفاعل في النواحي االجتماعية والحياة
الــثــقــافــيــة ،م ــن خـــال االهــتــمــام باإلصالح االجتماعي ،حيث تلقي هــذا الــدراســة الــضــوء على الــدور المتميز الذي لعبه أمراء األسرة في ِّ الحياة المصرية (،)1928 - 1882 متغيرات تلك الفترة التي شهدت ِّ سياسية واقتصادية واجتماعية، وانعكست آثارها في تحديد مواقف األمــراء منها ،فتأثّروا بها وأّثــروا فيها.ينقسم الكتاب إلــى خمسة فصول ،يتناول الفصل األول أمراء األسرة المالكة وعالقتهم بالحركة ويركز على دورهم الوطنية وقتهاِّ ، الــبــارز فيها .أمــا الفصل الثاني فيتناول -بإسهاب -الدور الذي لعبه القصر في تحديد أوضاع األمراء من نواح عديدة ،كالناحية السياسية، ٍ والمالية ،واالجتماعية .وفي حين يبقى الجانب االقتصادي موضوع الفصل الــثــالــث مــن الــكــتــاب الــذي يتناول أوضاع أمراء األسرة المالكة االقتصادية.ويتحدث الفصل الرابع َّ عن أمــراء األســرة المالكة والحياة المتميز فيها االجتماعية ووضعهم ِّ ومشاركتهم في احتفاالت الدولة الرسمية والدينية.ويتناول الفصل الخامس الحياة الثقافية ألمــراء األسرة المالكة ودورهم في تنشيط الحركة الثقافية واالهتمام بالتعليم والجمعيات العلمية.
طــيــور الــواقــع العربي
مؤخراً -عن «دار الساقي» صدرَّ - في لندن روايــة «طيور العتمة» لــلــقــاص والـــروائـــي الــســعــودي الشاب ماجد سليمان .ال تبتعد أجــواء الرواية كثيرًا عن الواقع العربي ،ال ،بل إنها تمتح منه، ومن مشاكله الناجمة عن تضافر ويؤدي االستبداد والفكر الظالميّ . السجن -كفضاء ومــكــان -دورًا رئيس ًا في هذه الرواية ،ومن هذه الناحية يمكن َع ـّد روايــة «طيور العتمة» إضافة جديدة إلــى متن أدب السجون العربي الذي يزداد ويتسع يوم ًا فيوماً. َّ وجدير بالذكر أنه سبق أن صدرت للروائي روايتان اثنتان« :عين حــمــئــة» عــن دار طـــوى ،و«دم يترقرق بين العمائم واللحى» عن مؤسسة االنتشار العربي، وصــــدرت لــه كــذلــك فــي القصة مجموعة بعنوان «نجم نابض في التراب» .ويميل الروائي السعودي إلى أسلوب واقعيُ ،م َط َّعم بسرد شعري ،في تصوير شخصيات روايــتــه وأحــداثــهــا ،وال يبدو أن روايته األخيرة تشّذ عن ذلك. وم ــن أجــــواء ال ــرواي ــة األخــيــرة نقتطفُ« :قبض على برهان مع اثني عشر شخص ًا آخرين بتهمة التخطيط لــمــحــاولــة انقالبية، ليجدوا أنفسهم في عالم السجن المرعب... من السجن إلــى الصحراء ،بين الــهــرب واألمــــل والــحــب ،قضى برهان أيامه على حافة الموت، بعد مقتل أصدقائه جميعاً. في السجن يكون الموت خيارًا أســهــل م ــن الــحــيــاة .ويــتــحـ ّـول قــرار السجان فــي الحفاظ على حياة السجين نوع ًا من العذاب ـاصــة حين تكون اإلضــافــي ،خـ ّ الالفتة المرفوعة على باب المدخل (رفق ًا بالسجناء ،فهم آدميون). 107
مقال
الصورة ال تخبر إال في النادر من الحاالت ،أو ال تفعل ذلك إال في مستويات تقريرية عادة ما ال تلتفت إليها العين ،إنها تغري وتســحر ،إنها تعبر عن بالم ْسَتهِلك عدد هائل من «الحقائق» ،ولكنها تفعل ذلك فقط من أجل الدفع ُ إلى حقيقة واحدة.
سعيد بنگراد
الرشاء وال يشء سواه! لـم يعـد ُممكن ًا لإلشـهاري ،في عصرنا هـذا ،أن يقـول أي شـيء عن موضوعات رسائله دون االستعانة بالنافذة البصرية وبقدرتهـا علـى اسـتثارة الحسـي فـي العيـن من خالل الحسـي ذاتـه ،بعيدًا عن تجريديـة المفاهيم وسـلطتها في التحديد 108
المسبق لألحاسيس .فكل إحساس هو في ُ األصل نسخة من نفسه ،قبل أن يستوطن مـا يمكـن أن ُي ْجلـي مضمونه« ،فال وجود لمعادل لفظي إلحساس ملون» ،كما كان يقول بـول فاليري (.)1 وتلـك هـي الحـدود الفاصلـة بيـن مـا
يأتـي مـن اللغـة الطبيعيـة (اللسـان)، وبين ما تلتقطه الحواس ،فنحن «نبصر داخـل عالـم ونتكلّـم فـي عالـم آخـر»(.)2 ذلـك أن التعبيـر «الغرافـي» ليـس آليـة تخطيطيـة بصرية طارئـة ِ والحقة للغة، بـل هـو وثيـق الصلـة بالتعبيـر اللفظـي
نفسـه ،إنهما فعاليتان من نشـأة واحدة، ومختلفتان في الطاقة التعبيرية .يتعلق األمر بطريقتين في «قول» العالم وتسريب المعنى إلى كائناته وأشيائه .فمن خالل تتحول األشياء هذا المعنى وحده يمكن أن ّ إلـى عالمات. وهـذا مـا تؤكـده طبيعـة الوصلات اإلشـهارية الجديـدة .إن اللفـظ ال يقـوم عـادة داخلهـا سـوى بـدور بسـيط ضمـن المستهِلك المحتمل سيرورة إثارة انتباه ُ موضوع للبيع .وهو ما يعني إلى ُمنَتج ٍ أن اإلشـهاري ال يصـب مضاميـن جاهـزة
ضمن سـيرورة في صورة خرسـاء ،بل ُي ِّ التمثيـل البصـري واللفظـي كتلـة هائلـة مـن االنفعـاالت هـي أصل الرغبـة وأصل الحاجات ،وهي السبيل إلى تلبيتها أيضاً. إنـه ال يبيـع فـي حقيقـة األمـر منتجـات موجهـة إلشـباع النفعـي فـي الوجـود المسـتهِلك بوابل من المباشـر ،بـل يمطـر ُ «الصور» ،هي ما يسـتثير العين ويشدها إلـى موضـوع نظرتهـا. وهـذا دليـل علـى تهافـت تصـورات كل الذيـن شـككوا ،فـي مرحلـة مـن مراحـل تاريـخ التعبيـر الغرافـي ،وفـي تاريـخ التمثيل اإلشهاري على وجه الخصوص، فـي قـدرة الصـورة علـى قـول شـيء آخر غير استنساخ موضوعات تعرضها على العين بشكل ُمحاِيد .فالتواصل اإلنساني فـي تصورهـم ،واإلشـهار جـزء منـه ،هو إرسـالية لسـانية فـي المقـام األول ،إن وي َعـّدد مزايـا المنتـج اللفـظ فيـه يمـدح ُ وفضائلـه على الـذات الفردية والجماعية استنادًا إلى كلمات «تشرح» سياق الشراء ودواعـي االسـتهالك؛ وتلـك وسـيلتها المثلـى فـي اإلقناع. بعبـارة أخـرى ،إن الصورة لإليضاح فقـط ،أمـا المضمـون الحقيقـي للوصلـة فمودع في لغة العرض اإلشهاري وحده، إذ مـن خاللهـا يسـتطيع المتلقـي معرفـة مـا تـود الوصلـة قولـه .وهـو الموقـف الـذي ُعرفـت بـه مجموعة مـن الخطاطات التواصلية الكالسـيكية في اإلشـهار ،من
قبيـل ( aidaاالنتباه والمصلحة والرغبة والشراء) والسويل وداغمار ،وهو أيض ًا الموقـف الـذي تبنـاه دعـاة «التدريج» في المغـرب ،فحولـوا الصـورة إلـى فضـاء تتخللـه «المنافـع» المباشـرة ،عـوض أن ال نحـو الكشـف عمـا ال تـوده تكـون سـبي ً الذات أو ال تستطيع قوله .وبذلك قلّصوا مـن الطاقـة التعبيريـة للصـورة واكتفـوا بصبهـا فـي ُمْرفـق دارج َيهـدي العيـن إلى ما يجب أن تستهلك ،ال ما يجب أن تحتفي بـه فـي ما هـو أبعد من المنتج ووظيفته. لقـد نظـروا إلـى الصـورة باعتبارهـا تمثيلا حسـياً ،وال ثقـة فـي مـا يأتـي مـن ً الحواس ويسـتوطنها ،وهي بذلك تحتل مرتبـة ثانيـة فـي عالقتهـا بالمفاهيـم .إن اللغـة وحدها تمتلـك القدرة على التجريد وتسمية مناطق النفس والوجود والفصل بينها .فنحن ،حسب هذا التصور دائماً ،ال ندرك مضمون الصورة إال إذا قمنا بتحويله إلـى وجـه مفهومي مجـرد ،هو ما تحتفظ به الذاكرة وهو القابل للتداول .والحاصل أن المسـتهلك ال يتوقـف عنـد الصـورة إال مـن أجل «قـراءة» ما يقوله النص اللفظي عـن محاسـن المنتـج وفضائله .وأحسـن الطـرق إلـى ذلـك وأقربها إليـه هو دارجة ال تملك من طاقات التعبير سوى الوصف المباشر. وهـذا أمـر تفنـده طبيعـة التمثيـل البصـري ذاتـه .إن الصـورة الذهنيـة ليسـت استنسـاخ ًا مطلق ًا إلدراك حسـي، 109
أو وجهـ ًا مـن وجوهـه .فعلـى عكـس مـا ُتوهـم بـه حـاالت االستنسـاخ البصـري، هنـاك دائمـ ًا فاصل بيـن الصورة والعالم المرئـي فـي الخـارجُ ،تعـد األولـى لوحـة ممتدة في العين واستيهاماتها ،أما الثاني فمتحـول فـي الطبيعة وحدها ،إنه أسـير زمنية تستوعب كل واجهات الوجود داخل منطق التتابع الالمتناهي داخلها .لذلك، نتجـ ًا «حافيـاً» ُمنفلتـ ًا ال تقـدم الصـورة ُم َ مـن أي سـياق ،بـل ُتعيـد صياغته ضمن انفعاالت الذات ورغبتها في أن تكون أكثر مـن مجـرد «أنا» معزولة تسـتهلك النفعي فـي المـواد وفـي القيم. إن هذه الرغبة وحدها قادرة على دفع المتلقـي لالنتشـاء إلـى ما يتـم تمثيله في الصورة باعتباره تجربة حسية مصدرها العيـن ال المفاهيـم .فمـا يقولـه الخطـاب اللفظي ال يشكل ،في حقيقة األمر ،سوى «تبريـر َب ْعـدي» يكتفـي بصـب مضمـون الصـورة فـي كلمات ُترسـي قاعدة لمعنى قـد يبـدو «جليـاً» فـي الذهـن ،ولكنـه لـن يكـون هـو الباعـث على الشـراء في جميع 110
الصورة ال تقترح مضمون ًا جاهز ًا ،بل تداهم الوجدان وتوجهه نحو ما نسيه أو استبطنه خلسة الحاالت. وهو ما يعني أن الصورة ال «تستثير» فحسب ،وال تشرح البعد اللفظي من خالل تتعـرف عليهـا إضافـة «جزئيـة بصريـة» ّ العيـن فـي مـا هـو مـودع فـي التسـميات الم ِ صاحـب ،إنهـا مسـتقلّة فـي والتعليـق ُ طرائـق اإلقنـاع واإلبلاغ ،وفـي اسـتثارة مـا تـوده مـن انفعاالت .إنهـا لغة بنحوها تنوعـة. الم ِّ وتركيبهـا وتأليفاتهـا الدالليـة ُ فهـي فـي األصـل حاصـل تسـنينات اجتماعيـة ُمسـبقة لقيـم أودعهـا اإلنسـان
فـي محيطـه ،فـي الشـكل واللـون والخط وزوايـا الرؤيـة. قـد ال يتعلّـق األمـر بخاصيـات لهـا صرامة اللفظي وأحكامه ،ولكنها مع ذلك ال ُت َسلم نفسها إال من خالل استنفار معرفة تسـتعيد الـذات مـن خاللهـا مـا ُه ِّـر َب فـي غفلة منها في تفاصيل العادي والمألوف والمتـداول .لذلـك عادة ما يلتقط المتلقي «كلية» الصورة قبل أن ينتبه إلى «خطية» ّ الخطاب اللفظي. بعبـارة أخـرى ،إن الصـورة ال تقتـرح مضمونـ ًا جاهـزاً ،إنهـا تداهـم الوجـدان وتوجهـه نحـو مـا نسـيه أو تناسـاه أو اسـتبطنه خلسـة .وبذلـك ،فـإن قوتهـا اإلقناعيـة تكمـن فـي قدرتهـا علـى التأثيـر المباشر دفعة واحدة في الالشعور ،على عكـس المضمـون اللفظـي الـذي يسـتدعي «طوليـة» فـي الزمـان .إنهـا ليسـت لحظـة «للتأمل» العقلي ،بل هي اندفاع «حسي» نحو الفعل ،ما يسـميه ريجيس دوبري، «طفولـة العالمـة» ،ذلـك أن «الصـورة هـي مـن طبيعـة رمزيـة ،ولكنها ال تمتلك
رغبات أخرى ال يمكن أن تشبعها سوى صور مفتوحة على الحلم والشعر واالستيهامات بعيد ًا عن السلوك النفعي
الخصائـص الدالليـة للسـان»( .)3وتلـك حقيقـة أخـرى تؤكـد أن مصـدر نجـاح الوصلـة هـو اسـتعمالها الجيـد للطاقـات التعبيريـة البصريـة ،فـي انفصـال عـن «جزالـة» اللفـظ وقوة الشـرح المصاحب، و«حسـية» التعبيـر الـدارج. ّ وهـذا معنـاه أن مصـدر اإلقنـاع فـي اإلشـهار ال يكمـن فـي مـا يمكـن أن يقدمـه «منطق الملفوظ أو الحجة ،بل ما يمكن أن يقوله منطق الحكاية واالنخراط .فنحن ال نصـدق مـا يقال لنا في الحكايات ،ولكننا نحرص مع ذلك على سماعها»( .)4وتلك هي القوة الضاربة «للمحتمل» ،إنه ال ُيقنع بالبينـة والبرهـان ،بـل ُيغـري بالتمثيـل المشـخص ،سـواء أكان ذلـك مـن خلال الحكـي أم مـن خالل حسـية الصـورة .إن التشـخيص في الحالتين معا هو السـبيل يتطور خارج إكراهات التفكير إلى وجدان ّ العقلي. إن رفـض فكـرة االستنسـاخ البصـري هاته هي في الواقع رفض للفكرة القائلة إن المنتـج مجـرد شـيء مـادي تحكمـه «نفعيـة» صريحـة .والحـال أن الطابـع المادي فيه ال يشكل سوى واجهة عرضية قـد تكـون بلا قيمـة فـي غالـب األحيـان، ذلك أن ما تلتقطه العين هو لون وشـكل ووضعة .وهو ما وخـط وامتـداد وإيقـاع ِ تقدم للعين أشـياء، يعنـي أن الصـورة ال ِّ بـل تسـتعير مـن الوجود واجهـات هي ما تقـوم بتمثيلـه اسـتنادًا إلـى خاصيـات
اإلدراك البصـري. إن المـاء واحـد فـي الوجـود ،ولكنـه تعدد في المظاهر والتجلي ،إنه شالالت ُم ِّ وسـيول وبحـار ووديـان ،إن األساسـي فيه ليس «مادة» ،بل خاصياته باعتباره منعشـ ًا وجارف ًا وعنيفـاً ،ومالح ًا ورقراق ًا وعذبـ ًا زالالً .وقـد يكـون مصـدر ذلـك هـو طبيعـة تمثُّلنـا للكون ذاته ،فالعالم ليس فطري ًا في العين ،والتمثيل البصري ليسا طارئـ ًا فـي وجودنـا ،إنـه متأصـل فينـا، «سـر» المفاهيـم وقدرتهـا فنحـن ال نـدرك ّ علـى اختصـار العالم إال مـن خالل تمثُّلها ومتعاقبـة فـي «متحيـزة فـي الفضـاء ُ الزمان». تؤكـد حـاالت التمايـز هاتـه أن مـا يتـم تمثيلـه فـي اإلشـهار والترويـج لـه ليـس المنتـج فـي حقيقتـه الماديـة ذات النفـع المباشـر ،بـل فقـط مظهـر مـن مظاهـره. فنحـن نبحـث فـي محيطنـا عـن «الليونة» و«الرقـة» و«النعومـة» و«الصالبـة» و«النقـاء» و«الطهـارة» و«البيـاض»، ونشـتري مـع السـيارة المظهـر والزهـو والرقـي االجتماعـي. إننـا فـي جميـع هـذه الحـاالت ،فـي اإلشهار وخارجه ،نستهلك قيم ًا ومواقف ولحظـات وجوديـة .فألننـا ال نكتفـي باستهالك مواد تلبي حاجة مباشرة ،فإن «اإلشـهار يدلنا على ما يجب أن نسـتهلكه مـن خلال هذه المـواد» (د .فيكتـوروف). هناك في ما هو أبعد من السلوك النفعي
رغبات أخرى ال يمكن أن تشـبعها سـوى صـور مفتوحـة علـى الحلـم والشـعر واالسـتيهامات. حسية العين ليست عيب ًا في اإلدراك إن ّ وفـي تمثُّـل الكـون ،بل هي طاقـة ُمضافة إلى ما ال يمكن أن تستوعبه الكلمات ،إنها منفـذ إلـى عوالم ُيسـتعصى ترويضها من خلال اللفـظ وحـده .لذلـك ال يتعلق األمر ٍ «حـاف» ٍ خال فـي الصـورة بحالـة إبصـار مـن المضافـات االنفعاليـة ،بـل بـ«تجربة للنظـرة» ،فهـذه التجربـة وحدهـا تخلِّص الرغبـة واالنفعـال واالسـتيهام مـن ربقـة التمثيل المفهومي المجرد ،لكي تردها إلى حالتهـا «الطبيعيـة» .لذلك ،فإن المضاف الـدارج ال يمكـن أن يشـرح البصـري ،بـل ويحول ُيفرغ الصورة من قوتها التعبيرية ّ المنتج ،من خالل ذلك ،إلى «لعبة» يلهو بها المسـتهلك ،كما يلهو كل الصغار... بعبارة أخرى ،تبدو موضوعات العالم موزعة بين اسـتعمال يشـدها إلى العملي في الوجود ،وسرعان ما يبلعها النسيان، وبين دالالت تمنحها موقع ًا ضمن المخيال اإلنسـاني ،مـا كان يسـميه روالن بـارث حـاالت «التوتـر الـذي يجمـع بشـكل دائـم بيـن وظيفـة الشـيء ومعنـاه ،فالوظيفة متحركـة فيـه ،أمـا معنـاه فثابـت ،إنـه ما ِّ يودع ضمن خزان ما نسميه الرمزية»(،)5 َ فاسـتنادًا إلـى هذه الرمزيـة وحدها يمكن للصورة أن تقترح على العين شيئ ًا آخر غيـر ما َأِلفته في معيشـها اليومي. وخالصـة ذلـك أن اإلشـهار ال يدعونـا إلـى شـراء منتجـات ،إنـه «يضيـف إليهـا ستظل المنتجات (دفئاً) ،ودون هذا الدفء ّ بلا روح» .وهـي صيغـة أخـرى للقـول، إن األساسـي ليـس مادة االسـتهالك ،بل الخطـاب الحامـل لهـا ،ونقطـة ارتكاز هذا الخطـاب هـي الصورة .والصـورة هي ما المستهِلك. يستهوي ُ هوامش 1- Régis Debray : Vie et mort de l’image, une histoire du regard en occident, éd Gallimard,1992, p.64 -2نفسه ص60 -3نفسه ص 60 4- Jean Baudrillard: Le système des objets, éd Gallimard, 1968, p.232 5- Roland Barthes: L’aventure sémiologique, éd seuil, 1985, p.259
111
سينما
األفالم اللبنانية
بعيد ًا عن شباك التذاكر منذ ســنة 2012وحتى منتصف ،2014وفي مشــهد غير مألوف ،يخترق كــم من األفالم الروائية الطويلة اللبنانية صاالت الســينما المحلية ،ومع ّ المظِلمة الكتشاف ّ كل بطاقة ُت ّ مزق ،لتحســب أن مشــاهدًا جلس في القاعة ُ
بريوت :نرسين حمود
ماهيــة هذه األفالم؟ يراكم المنتجون أرباحــ ًا ال تجعل أكثرهم تفاؤ ًال يحلم بهــا ،مــا يجعلهم يكــررون التجربة ،ليخلص مشــهد األفــام اللبنانية إلى «صرخــات» متناثــرة عاجزة عن أن ترســم مالمح ســينما وطنية ،أو أن تلبي شروط الفيلم السينمائي التجاري.
112
كلود صليبا«:لماذا نقبل الفيلم الخفيف اآلتي من «هوليوود» ،بينما ال نريد الفيلم اللبناني سوى أن ينتمي إلى سينما المؤلف؟»
ويتفاقـم المـأزق المترتـب علـى هـذه األفلام ،حيـن ُتتخـذ هذه األخيـرة معيارًا للنقـد ،ليصنّـف مـا هو أفضـل منها ،بقدر ال يسـتحق الذكـر ،فـي خانـة «التحفـة أن ثغرات بالجملة تعتوره، الفنية» ،ولو ّ بـل وحيـن يمنـع الرقيـب أحدهـا بحججـه يتحول الموقف من نقد مشاهده الواهيةّ ، إلـى االصطفـاف خلـف مخرجه! وإذا كان عـدد المشـاهدين المرتفـع سلاح ًا يشـهره معـّدو هـذه األفلام ،التي ُتصنَّـف تحـت صنف الدرامـا أو الكوميديا أو األكشـن أو الرعـب ،فـي وجه منتقديها الجدييـن ،فـإن الطامـة الكبـرى تكمـن في تحميل هذه األعمال حمل اختصار الهوية اللبنانية! ومـع تلميـع الوجـوه إلـى حـّد إخفـاء المساحيق مالمحها ،حسب تقليد اإلعالم اللبنانـي ،يتربـع القيمـون علـى هـذه األفلام علـى عـروش ُمحاكـة مـن أوهـام سـينمائية ،ولـو أن أحـدًا منهم غير مهتم فـي إيداعنـا نخـرج مـن القاعـة محمليـن باألسـئلة ،أو حتـى يكلّـف نفسـه عنـاء إقناعنـا ،نحـن المنفتحيـن علـى إنتاجات عالميـة ،أن صنيعـه محاولـة تسـتحق تفحصـة. النظـر إليهـا بعيـن ُم ِّ
إغراء لـدى محاولـة سـبر هـذه الظاهـرة، يتـردد اسـم المخرجـة اللبنانيـة ناديـن ّ لبكـي -وأن ال تحمـل الئحـة األفلام المنجـزة منـذ 2012توقيعهـا -وتحديـدًا نتاجهـا الروائـي الطويـل الثانـي «هلأ قصـة ذات توابـل لويـن» المتكـئ علـى ّ مغريـة ،تشـمل :القريـة التـي لـم تعـرف التليفزيـون إال أخيـراً ،ومناكفـات رعايـا الطوائف المسلمة والمسيحية ،وراقصات االستعراض اآلتيات من أوروبا الشرقية..
والكثير من «الكليشيهات» ،ضمن مشاهد «نظيفة» سينمائياً ،ال تزيدها الموسيقى التصويرية سوى جذب .والنتيجة :اآلالف مـن المشـاهدين ،يبرحـون مـن الصـاالت مبهوريـن بعمـل شـابة ذكيـة تعـرف مـن أيـن تـؤكل الكتف؟ تخوض غمار السـينما بعـد تجربـة طويلة فـي العمل في مجالي «الفيديو كليب» واإلعالن ،وتتقن التعامل مـع «الميديـا» ،ولكـن العالميـن باألمـور يحللـون أن إنتـاج «هلأ لويـن» المهـول المشـترك (فرنسـي ولبنانـي ومصـري وإيطالـي) ،يمكنـه أن يقـوم بمعجـزات تتجاوز مشـهد زوجة المختار المسـيحية تـؤدي فريضـة الصلاة علـى الطريقـة اإلسلامية فـي الفيلـم ،أو مشـهد مواجهة األم الثكلـى تمثال العـذراء قبل تحطيمه، أو مشـهد النسـوة المجتمعـات فـي مقهـى الحـي يخلطـن العجيـن الخاص بالعشـاء بالحشيشـة ،فـي محاولـة منهـن لـردع أزواجهـن عـن االقتتـال الطائفـي! ويثار «هأل لوين» ،لدى حديث الكاتبة ُ اللبنانيـة كلـود صليبـا لــــ «الدوحة» عن تجربتهـا فـي فيلم بيبـي (من إخراج إيلي ف .حبيـب) ،الـذي شـاهده 157949 يتربع مشاهدًا في 21أسبوعاً ،ما جعله َّ علـى رأس الئحـة األفلام اللبنانية األكثر مشاهدة في الفترة األخيرة ،ويليه «حبة لولو» لليال راجحة ( 126362مشـاهداً). تقـول« :ممـا ال شـك فيـه أن أربـاح فيلـم شجعت المنتجين اللبنانيين لبكي الثاني ّ علـى إنفـاق المال على السـينما المحلية، بعـد أن أحجمـوا مـن قبل نتيجـة العوامل المعروفـة ،مـن بقعـة لبنـان الجغرافيـة المحـدودة وعـدد سـكانها المتواضـع، رواد السـينما مـن بينهـم .فـي وضآلـة ّ المقابـل ،كان التليفزيـون يغريهـم أكثـر «هم لالسـتثمار» .وتستطرد ً موضحة أن ّ المشـتغلين فـي السـينما اليـوم مـن كّتاب
ومخرجين وممثلين ليس مادي ًا بحتاً ،بل يدغدع الفن السابع عواطفهم ،يستفزهم.. وسواء نجحوا أم لم ينجحوا في عوالمه، يبقـى اسـمهم موثق ًا فـي كتبه!». تصـر صليبـا علـى تلبيـة «بيبـي» ّ شـروط الفيلم السـينمائي ،وتشـّدد على أنهـا ال تسـتخف بعقول النـاس ،كما فعل حـول الحلقـة األخيـرة مـن غيرهـا عندمـا ّ مسلسـل تليفزيونـي جماهيـري إلـى فيلم تستضيفه قاعة (فيلم «غنوجة بيا» إليلي حبيـب) ،بغيـة تحقيـق الربـح السـريع! تدافـع عـن قصتهـا المتمحـورة حـول فتـاة ذات نمـو جسـدي طبيعـي ،تعانـي مـن بـطء عقلـي نتيجـة اسـتهالك غـذاء فاسـدُ ،تصـادف محاميـ ًا يدافـع عـن أحـد التجار المشبوهين ،فتدفعه ببراءتها إلى إعـادة حسـاباته ،قبـل أن يتزوجـا. وتعيـد صليبـا عـدم اسـتقبال النقـد الجـدي لعملهـا بالترحـاب إلـى عقليـة تعتقـد أنّـه يجـدر بالفيلـم اللبنانـي أن يكون خاص ًا بالمهرجانات ،مع اإلشـارة إلـى «أن األفلام قبل الحرب األهلية كانت تشـبه «هلأ لويـن» أو «بيبـي» ،أي كانت جماهيريـة تحاكـي الجمهـور البسـيط». وتسأل« :لماذا نقبل الفيلم الخفيف اآلتي مـن «هوليـوود» ،بينمـا ال نريـد الفيلـم اللبنانـي سـوى أن ينتمـي إلـى سـينما المؤلـف؟». وبعد أن تشرح أن «الجمهور اللبناني ليـس علـى قـدر عـال مـن الثقافـة ،مـا يجعلنا مضطرين إلى أن نعطيه جرعات سـينمائية ،ضمـن اسـتراتيجية توصلـه أخيـرًا إلـى حضـور فيلـم للمثقفيـن»، تتابـع إن «جعـل اللبناني يثق في األفالم المحليـة ،ويتكبـد عنـاء الذهـاب إلـى الصالـة لحضورهـا ،يبـدأ مـع هـذا النـوع مـن األفلام التـي القـت النجاح أخيـراً ،ما يراكـم اإلنتاجـات ويدفـع إلـى أن يمسـي 113
لمشـاهدها تفضيلات». وفـي انفعـال مبالـغ فيـه ،تختـم يحمل شـهادتها، ً قائلة إن «النقد السـلبي ّ ممـا تحتملـه ،ولـو أكثـر األولـى تجاربنـا ّ أني أعتبر أن النقد السـينمائي الحقيقي، ّ وهـذا األخيـر اختصـاص يـدرس فـي الجامعـة ،يغيـب عـن لبنـان ،وأن مـن يكتبـون فـي هـذا المجـال يحكمـون علـى أعمالنـا بطريقـة ذاتيـة للغايـة».
تلفزة في السينما شـغف الناقـد هوفيـك حبشـيان تتبـع مهرجاناتهـا بالسـينما ،يدفعـه إلـى ُّ والتعرف عن كثب إلى معلّميها. العالمية ّ هـو ال يرائـي ،عنـد مقاربـة اإلنتاجـات اللبنانيـة األخيـرة ،التـي لـم َت ْسـَلْم مـن قلمـه اللاذع. يقـول ،فـي شـهادته لــــ «الدوحـة» إن «نوعيـن مـن األفلام اكتسـحا الشاشـات فـي المرحلـة األخيـرة :األفلام اللبنانيـة تعبر عن مأزق حقيقي في الهابطـة التـي ّ فهـم السـينما (حتـى السـينما التجاريـة)، واألفلام الوثائقيـة التـي تديـن التـردي االجتماعي على المستويات كافة وتكشف تفاصيله ،أو التي تقول لنا« :ال تنسـوا. أفلام الفئـة األولـى ،من «حبة لولو» إلى «بيترويت» فـ«بيبيه» و«كاش فلو» ،..هي أفالم تليفزيونية رخيصة ،وإن كان إطار عرضهـا هـو الصالـة السـينمائية» .وإذ يصـف هذه األخيرة بظاهرة «التليفزيون بإيجابية عن تلك في السـينما» ،يتحّدث ّ الوثائقية. وال يسـتقبل حبشـيان ،بحفـاوة، وصول بعض األفالم اللبنانية إلى مراتب 114
«ينقصنا سينمائيون يمتلكون الجرأة والموهبة و«الجنون» والقدرة على بعث حياة جديدة في سينما أشبه بجثة أحيان ًا
تقدمـة فـي شـباك التذاكر أخيـراًُ ،معلّق ًا ُم ِّ علـى األمـر بالقـول« :سـنة ،2013كان الفيلـم األكثـر مشـاهدة هـو «حبـة لولـو» لليال راجحة ،وهو عمل يندرج في إطار السينما الهابطة ،سبق أن اعتبرناه فيلم ًا لبناني ًا غير صالح للعرض .وهو أن تربع علـى رأس بورصـة السـينما اللبنانيـة، فـي مقابـل نفـور النقـد الجـدي منـه ،فهـو يعـزز مجـددًا الهوة بيـن رأي الناقد ورأي ّ المشـاهد (وإن كان رأي األخير ال تعكسـه بالضـرورة عمليـة شـراء البطاقة)». ويتابـع إن «مجموعـة مـن األفلام اللبنانية الهابطة غزت السـوق ،ودخلت 3إنتاجـات مـن بينهـا في المراتب العشـر األولـى لبورصة ،2013مسـتقطبة نحو 320ألـف مشـاهد ،أي نحـو % 10مـن مجمـوع اإليـرادات .أمـا الفيلـم اللبنانـي الرابع في المراتب العشر األولى« ،غدي» ألميـن درة ،فهـو حتمـ ًا ليـس بالفيلـم الهابط ،وإن لم يشف غليلنا السينمائي، وكان نصيبـه مـن الكعكة أقل من غيره». ويختصـر هـذه األعمـال فـي أنهـا «مجـردة مـن أي عنصـر يجعلهـا تنافـس السينمات األجنبية (األميركية واألوروبية واآلسيوية) في أي من المجاالت (التقني والفنـي والجماهيـري) .ربمـا تنافـس
السـينما العربيـة تقنيـ ًا وفنيـاً ،وحتـى جماهيرياً» ،قبل أن يستدرك« :جماهيرياً، يتراجـع االحتمـال عندمـا يتعلّـق األمـر بمنافسـة الفيلـم العربـي علـى «أرضـه». لبنـان بلـد صغيـر وإمكاناتـه محـدودة ولغتـه العربيـة وقضايـاه ال تهمـان مجمـل البشـر ،وتغيـب صناعـة السـينما الحقيقيـة عنـه ،بـدون تجاوز دور بعض السينمائيين اللبنانيين ،الذين قد يشقون طريقهـم بنجـاح في سـينمات أخرى أكثر انتشـاراً». عما يحول دون وجود سينما والسؤال ّ حقيقيـة فـي لبنان ،يجيب عنه حبشـيان بالتالـي« :ينقصنـا سـينمائيون يمتلكون الجـرأة والموهبـة و«الجنـون» والقـدرة علـى بعـث حياة جديدة في سـينما أشـبه بجثـة أحيانـاً .ويلـزم السـينما أيض ًا دعم الدولـة ،ألن اإلنتاج المشـترك مع الغرب ال يكفي ،وهو يأتي بشروط .والمطلوب سن قوانين تحمي السينما اللبنانية أيض ًا ّ وترفـع مـن شـأنها أمـام الجمهـور الـذي يمتلك تجاهها أفكارًا مسبقة ،كما إسقاط الرقابة».
ثقافة «الماينستريم»
بعيدًا عن ثقافة «الماينستريم» ،يعرف
«السينيفيليون» اللبنانيون المخرج غسان سـلهب جيـداً ،وهـو المنشـغل حاليـ ًا فـي وضع اللمسات األخيرة على فيلم جديد. سـلهب رجل خمسـيني ،أنجز 5أفالم روائيـة طويلـة شـاركت فـي مهرجانـات عالميـة مرموقـة ،باإلضافـة إلـى أفلام فضلا عن مسـاهماته في كتابة قصيـرة، ً السـيناريو ألعمـال فـي لبنـان وفرنسـا. يتحّدث في دردشـة مع «الدوحة» عن الكـم من «صدفـة تقـف خلـف اقتحـام هـذا ّ معوقات األفالم الصاالت التجارية ،إذ إن ّ إنتاج األفالم اللبنانية معروفة ،وتشمل: صغـر حجـم السـوق وورود اسـم المركز الوطني للسينما صوري ًا وغياب أي فيلم يجذب إلى إعداد ما يشبهه أو يكون على مسـتواه والفقـدان إلـى «االسـتوديو»، .. ال ما يجعل كل فيلم من هذه األفالم مستق ً عـن اآلخـر ،أي يغيـب أي خط يربط بين هـذه اإلنتاجـات لناحية مضامينها ،حتى ص ِ ـود َف أن المنتـج عينـه يقـف خلف لـو ُ مجموعة منها». يقـول« :بعيـدًا عـن أي عنـف لفظي أو لـؤم مبطـن ،هـذه اإلنتاجـات «ضـروب» تجاريـة ،يرجع انتشـارها إلى أن الناس جـل أوقاتهـا مقابـل شاشـة تمضـي ّ تقـل «حشـريتها» ومـن التليفزيـون، ثـم ّ ّ تجـاه العالـم ،كمـا أن البعـض المثقـف َمّل وتعب واستسـلم ،من جراء األوضاع القاهرة التي نعيشها» .ويضيف أن «هذه األفلام تحاكـي التليفزيـون واللوحـات اإلعالنيـة ،وأن بثهـا فـي وقـت مغايـر لليـوم مـن الممكـن أال يجـذب هـذا الكم من الجمهـور ،فمـن المعلـوم أن الكوميديـا الرديئـة تالقـي النجـاح خلال األزمـات». هـو يتجـاوز أمـر خلـط صانعـي هـذه األفالم بين سحر األضواء والسينما ،ألن هـذا الخلـط لـم يمنع إعداد أفالم جيدة في الخارج ،ولكنّه ال يتجاوز حقيقة أن أفالم هـذا البلـد أكبر من واقعه! عمقـة إلـى هـذه وبعـد نظـرة ُم َّ «الظاهرة» ،ال تستثني السينمات األخرى فـي دول تعيـش ظروف ًا مشـابهة للبنان، لكنهـا تنتـج كم ًا ال ُيسـتهان به من األفالم الجيـدة سـنوياً ،يشـرح كيفيـة اسـتمرار اللبنانييـن فـي عيـش نتائـج الحـرب ،ما يجعـل أجيـا ًال كثيـرة تضيـع فـي صـورة بلدهـا« .نحـن بعيـدون عـن ممارسـة
تمرينـات النقـد الذاتـي أو عـن إلقـاء نظـرات معمقـة علـى ذواتنـا ،بـل نحـن نعيـش «اليـوم بيومـه» ،بـدون أن يحمـل معاشـنا الطريقـة الفلسـفية المصاحبـة لــــ «اليـوم بيومـه» ،ومـا يترتب عنها من وتحوالت» ،يقول« :هذا اكتشافات ذاتية ّ النتاج اللبناني األخير يسمى بالفيلم ألن صورتـه متحركـة ،وهـو يصنـع بـدون شـغف فـي هذا الفن ،ويسـتحق الدراسـة سوسـيولوجياً ،وليـس سـينمائياً» آملا فـي أن يسـتطيع الجيـل يلخـصً ، الجديـد أن يعـّد أفالمـ ًا جيـدة ،ألنـه حتـى السـاعة ال سـينما في لبنان لسـبب بسيط يعـود إلـى غيـاب الطمـوح السـينمائي لغالبيـة المخرجيـن إلعـداد أفلام جيـدة بصـورة متواتـرة ،كمـا النمـوذج الـذي يرغبـون فـي تقليـده ،أو حتـى تحطيمـه للحلـول مكانـه ،وذلـك بعيـدًا عـن الكالم «النوستاليجي» عن األفالم اللبنانية قبل الحـرب. ال يمكـن اختصـار قصـص األفلام الع َجالة ،ولو المعروضة أخيرًا في هذه ُ أن بعضهـا هـو بمثابـة تتمة لما نشـاهده فـي نشـرات األخبـار فـي لبـوس ممثلين تليفزيونييـن ذائعـي الصيـت ،يتنـاول بنية بصورة سـاذجة أو باسـتخفاف أو ّ حسـنة ال ترقـى إلـى الرؤيـة اإلخراجيـة أو بخطى متعثرة موضوعات كالشباب والمخـدرات ،والعنـف الزوجـي ،والكره للنسـاء ،والولـد «المختلـف» ،والتفاخـر اللبنانـي الكـذّاب ،ومسـتقبل مكتومـي القيد. فـي الحملـة اإلعالنيـة ألحـد هـذه األفلام ،يبـرز وجـه معـروف لحسـناء ولجـت عالـم التليفزيـون من باب عرض األزياء ،وحلّقت بعيدًا في مجالي الغناء والتمثيـل ،بيـن لبنان ومصر ،تدعو إلى حضور الفيلم اللبناني وتشجيعه .ولكن بعـد مـا تقـّدم ،أليـس الـرد علـى هـذه الدعـوة بـأن األمـر ال يسـتحق العنـاء، مبالغـ ًا فيـه! الم ْج ِحـف وضـع كل األفلام مـن ُ الروائية الطويلة خالل الفترة األخيرة، فـي كفّـة الميزان الواحـدة .وإذا كنا نميز ال مـن «ميـراث» لفيليـب عرقتنجـي كً و«قصـة ثوانـي» للارا سـابا و«طالـع نـازل» لمحمـود حجيـج و«عصفـوري»
لفؤاد عليوان من بين األفالم المعروضة أخيـرًا مـن بـاب أنهـا تمتلـك مـا قـد يثيـر النقاش ،إال أن ذلك ال يعني إعجاب ًا بها أو حتـى الثنـاء عليهـا .باختصار ،يمكن القول إن هذه األخيرة تمتلك الحّد األدنى مـن «االحتـرام» لعقـل المشـاهد. 115
َم ْي يف الصيف
ليس «اشتباك ثقافات» سليم البيك
فـي السـاِبق كانـت ُمنظمـة التحريـر الفلسـطينية أو بعـض فصائلهـا ُتنتـج أفالمـا وثائقيـة كنـوع مـن المقاومـة أو ً التوثيـق ،أمـا فنّيـة العمـل ومعاييـره السـينمائية فلم تكـن أولوية .اليوم نجد جميـع األفلام الفلسـطينية ،الروائيـة 116
تحديـدًا لمـا تتطلبـه مـن تمويـل ،تعتمـد علـى جهـات إنتـاج متعـّددة ،أوروبيـة تحديداً ،إضافة لجهات عربية وخليجية بدأت مؤخرًا تشارك في اإلنتاج ،وطبع ًا هنالك المؤسسات الفلسطينية الخاصة، لكـن عمومـ ًا يبقى الفيلم فلسـطيني ًا تبع ًا
لمخرجـه أو ًال ثـم لموضوعـه. بالنسـبة للموضـوع ،هنالـك ضمـن تصنيفـات األفلام الفلسـطينية مـا َت ّـم إنتاجـه وإخراجـه دون انتمـاءات فلسـطينية لجهـات اإلنتـاج أو اإلخـراج، إال أن موضوع الفيلم ُيحيله إلى تصنيف
فلسطيني ،وهو أحد تمظهرات التضامن القضيـة. األممـي مـع ّ هويـة الفيلـم إلـى مخرجـه إن ُتحـال ّ تحّدثنـا عـن فيلـم هـو عمليـ ًا صناعـة قصتـه، المخـرج ،قـد يكـون غالبـ ًا كاتـب ّ وهـذا حـال معظم األفالم غيـر التجارية. أمـا التجاريـة فهي أفالم شـركات اإلنتاج مجـرد والنجـوم ،حيـث المخرجـون ّ موظفيـن تختارهـم الشـركات كما تختار نجـوم الفيلـم. يمكـن الحديـث فـي هـذا السـياق عـن فيلم May in the Summerللمخرجة شـيرين دعيبس .ومسألة التصنيف هنا ُملتِبسة ،ال يهم ،إنّما المهم هو احتمال أن ُيصنّف فيلم ما كفلسـطيني ،وهو الحال فـي الفيلم موضوع حديثنا. الفيلـم الـذي بـدأت عروضـه مؤخـرًا عـرف فـي أماكـن بأنـه فـي أميـركاُ ،ي ّ
فيلـم أميركـي ،وفـي أماكـن أخـرى بأنـه أميركي-أردنـي وغيـره ،تبعـ ًا للجهـات المنتجـة .مخرجته فلسـطينية أميركية، ُ قصة عائلة فلسـطينة مسـيحية ويحكي ّ عمـان. فـي مدينـة ّ َمـي هـي بطلـة الفيلـم ،تقـوم بدورها مخرجتـه شـيرين دعيبس ،وهـي كاتبة الفيلـم كذلـك ،وهـذا بحـد ذاتـه كفيـل بجعله فيلمها بامتياز ،كاتبته ومخرجته سـوغ لنـا للتعليـق وبطلتـه ،وهـو مـا ُي ّ عليـه كفيلـم فلسـطيني ،ال أميركـي .من اسم بطلته يأتي اسم الفيلم الذي اختير ليكون باإلنجليزية ،أما ترجمته فتوحي «أيـار فـي الصيـف» ،وهـي معظـم إلـى ّ الترجمـات الصحافيـة العربيـة لـه ،فـي خطـأ ال بـّد من مشـاهدة الفيلم لتجاوزه. «م ْي في الصيف»، الترجمة المناسبة هي َ ال تشـابك بين شـهر أيار والصيف ،إنما عمان. بين َم ْي والصيف الذي قضته في ّ عمان في تعود َم ْي من نيويورك إلى ّ زيـارة ألهلها ،وكي ُت ِّ حضر لحفل زفافها يصور زياد. نيويورك، من صديقها في ّ الفيلـم األيـام القليلـة التـي تمضيهـا فـي وأختيها عمـان وصراعاتها مع المجتمع َ ّ ّقين ،كل على حدة. وأمهـا وأبيهـا المطلَ يعرف الفيلم عن نفسـه في صفحاته ّ على فيسبوك وتويتر بإنه فيلم «اشتباك صـوره بأسـلوب لم ثقافـات» ،وهـو مـا ّ يتخـط مـن الموضـوع سـطحه ،وذلـك ّ بجملـة هنـا أو لقطة هناك. فعلا ينقـل فكـرة ال يبـدو أن الفيلـم ً «اشتباك الثقافات» ،ال بشكلها المناسب وال حتـى غيـر المناسـب ،فلا ثقافـات سـيدة ترجـع إلـى تتشـابك هنـا ،بـل ّ مدينتها وعائلتها التي ترفض زواجها من خطيبها المسلم ،وهذه مشكلة مجتمعية حاضرة في الثقافة الواحدة ،بين أهالي عمـان وغيرهـا مـن المـدن دون الحاجـة ّ للذهـاب إلـى نيويـورك وتأليـف الكتب، لتسويغها. الفيلـم يبالغ في تصويـر المجتمعات العربيـة ،ال ألن مشـاكل كهـذه غيـر حاضـرة ،بـل فـي مجتمعاتنـا كل هـذه المشـاكل وأسـوأ منهـا ،تكمـن المبالغـة فـي تصويرهـا كالنقيـض االجتماعـي والثقافـي لمجتمع آخـر ،في نيويورك، هنـاك مؤلفو الكتب وأسـاتذة الجامعات
والـزواج العابـر للديانـات ،وهنـاك النسـاء يمارسـن الرياضـة في الشـوارع للتحـرش .النقيـض يتعرضـن ّ دون أن ّ لهـذه المظاهـر الحضارية هو بالضرورة ومتدين مجتمع بربري ومكبوت وجاهل ّ ومتصحر .وال يمكن علمي ًا وضع الصورة ّ عمـان كمـا رأيناهـا فـي أي الشـكل، بهـذا ّ الفيلـم مقابـل نيويـورك كمـا رأيناها في الفيلم عبر َم ْي ،ال يمكن رؤيتها إال ضمن سياق استشراقي ال يريد أن يرى في كل عمـان ونيويـورك إال ذلـك. مـن ّ هـل يكتفـي الفيلـم بذلـك؟ ال ،إضافـة لـكل مـا سـبق ،هنالـك مـا يحشـر الفيلـم فـي السـياق االستشـراقي ،فهـو يخاطب أساسـ ًا المشـاهد الغربـي ،األميركـي تحديداً ،والتطبيقات السياسية والثقافية األسـوأ لالستشـراق تأتـي مـن أميـركا، اإلمبرياليـة الثقافيـة العظمـى .الفيلـم ناطـق باإلنجليزيـة ،بلكنـة أميركيـة متصنِّعـة ،ليـس اللكنة فحسـب ،بل لغة الجسـد مـن إشـارات وتعبيـرات للوجـه وغيرهـا ،كأنهـا منسـوخة عـن أفلام هوليوود األشـد تسطيحية لمواضيعها. َلّمـا تكـون لغـة فيلـم بتنميطاتـه ومبالغاتـه ومقارباتـه لمجتمـع عربـي مـع نيويـورك ،وَلّمـا تكـون اإلنجليزية؟ سـيصعب فهـم ذلـك بغيـر الخطـاب المباشر للمشاهد هناك ،للرجل األميركي األبيـض ،لنيـل رضـاه وسـماحه للفيلـم تصوراته بدخول نادي هوليوود من باب ّ عـن مجتمعنـا. أفضـل أال يأتـي ذلـك مـن فيلـم كنـت ّ وجيـد أن تصنيفـات الفيلـم فلسـطينيّ ، في المهرجانات (لم ينل أي جائزة حتى لحظـة كتابـة هـذه األسـطر) كانـت غيـر «فلسـطيني» .هنالـك حاجـة فلسـطينية ألفلام تتنـاول مسـائل اجتماعيـة كهذه، مسـائل ال يكون لالحتالل وجود مباشـر الجيد للقضية الفلسطينية فيها ،ومن غير ّ أن تنحصر أفالم الفلسطينيين بمواضيع ُمتعلّقـة بالقضيـة .لكـن طـرح مسـاوئ مجتمعاتنـا ،وهـي كثيـرة ،ال يعنـي بالضـرورة أن يأتـي فـي سـياق نظـرة دونيـة ثقافيـ ًا واجتماعي ًا أمـام األميركي ّ دغدغ مشـاعره ثقافي ًا بفيلم من سـت الذي ُ َ هـذا القبيل. 117
«وداع ًا كارمن»
الحلو واملر بني ضفتني محمد اشويكة
التعدد والتفـاوت اللذين باتا فـي غمـرة ُّ يطبعـان المشـهد السـينمائي المغربـي مـن حيـث الـرؤى واألسـاليب الفنيـة والتكوين السـينمائي ،تنجلـي انشـغاالت المخـرج المغربـي محمـد أميـن بنعمـراوي الـذي يظهر أن نشـأته بمنطقة الريف قد كان لها بالـغ األثـر في تركيزه على بعض التيمات المَت َض َّمَنة في فيلمه الروائي األول «وداع ًا ُ كارمن» ( )ADIOS CARMENبعد أفالم روائيـة قصيـرة القـت استحسـان النقـاد ود ِ «سالَّم ِ يميَتان» والجمهور ،ومن ضمنها َ ( .)2008الفيلـم الجديـد كان عرضـه األول 118
فـي يونيـو /حزيـران المنصـرم بالربـاط، بعـد تتويجه بجائـزة المهر العربي لصنف األفلام الروائيـة الطويلـة بدبـي ،2013 وتتويجيـن آخريـن فـي كل مـن مهرجـان الفيلـم الوطنـي بطنجـة ،2013ومهرجان السـينما والذاكـرة بالناظـور ...2014 مـن عتبـة العنـوان يتضـح أن اسـم «كارمـن» مـزدوج الداللـة :فهـي األوبـرا الكوميديـة الشـهيرة التـي جـرت أحداثهـا بمدينـة إشـبيلية وضواحيهـا بالجنـوب اإلسـباني فـي بدايـة القـرن التاسـع عشـر الميلادي ،و«كارمـن» أيضـ ًا هـو اسـم
بطلـة الفيلـم (الممثلـة اإلسـبانية الشـهيرة يـس )Paulina Galvez - پْ َّاوِليَنـا َغاْلِب ْ التـي كانـت تقيـم بمدينـة الناظـور الواقعة شـمال المغـرب ،والتـي كانـت تـرزح تحت نيـر االحتلال اإلسـباني .كانـت «كارمـن» تشتغل كمسؤولة عن بيع بطاقات الدخول لقاعة السينما التي يديرها أخوها (الممثل اإلس�باني خ�وان إس�تلريك Juan Es� - .)telrich ومن هنا فتوديعها الذي يشـكل المدخل الداللي للفيلم ليس بريئاً ،وإنما جاء على شـاكلة فيلـم «وداعـ ًا بونابـرت Adieu(-
»Bonaparte (1985للراحـل يوسـف شـاهين ،ومـا يعنيـه ذلـك مـن إشـارات الم ِ ستعمر لساكنة تاريخية تخص ما أذاقه ُ شـمال منطقـة الريف المعروفـة بالمقاومة الشرسـة التـي قادهـا البطـل عبـد الكريـم الخطابـي ،وبالعنـف الالإنسـاني الـذي ال قمـع بـه جيـش االحتلال الناس ُمسـتعم ً األسلحة الكيماوية التي فتكت بأرواح عدد كبير من األبرياء ،وهو الملف الذي يكتنفه الكثيـر مـن السـكوت واإلهمـال والسـرية.. فهـل تسـعف السـينما فـي التذكيـر وإيقـاظ الضمائر المتناسية ولو باإلشارة البعيدة؟ قـد ُيْمِكُنَهـا -وإن كان ذلـك ليس سـياق الفيلم -إذا علمنا أن هذا العمل يكتسب داللة وجدانيـة قويـة في نفـوس أبناء المنطقة، فهـو الشـريط السـينمائي االحترافـي األول الـذي ُينجـزه واحد ينحدر من هذه المنطقة بالمغرب ،وأحداثه تجري كلي ًا في الريف، وهو فيلم ناطق بالريفية (واإلسبانية) مما ينفـض الغبـار عـن جـزء ُمهـم مـن تاريـخ وثقافة المنطقة ،ويساهم في طرح قضايا التثاقـف والتقـارب واالختلاف المغربـي وم ِّرِه... بحل ِ ْوِه ُ اإلسباني المشـترك ُ يحيـل اسـم «كارمـن» علـى عـدة أفلام مهمـة فـي تاريخ السـينما العالمية ،سـيما وأن االهتمـام بهـا كان مـن طـرف مخرجين كبـار اسـتطاعوا تكثيف تقنيات األسـاليب اإلخراجيـة لنسـج عالئـق الشـغف بيـن الموسـيقى واألوبـرا والسـينما ،ومـن بين هؤالء نشـير إلى األفالم التالية« :مسـخرة علـى كارمـن» ( )1915لشـارلي شـابلن، و«كارمن» ( )1921للمخرج األلماني إرنست لوبيتـش ،و«كارمـن» ( )1945للمخـرج الفرنسـي «كريسـتيان جـاك» ،و«كارمـن )1963( »63للمخـرج اإليطالـي كارميـن گالونـي ،و«كارمـن» ( )1983للمخـرج اإلسـباني كارلـوس سـاورا ،و«كارمـن» ( )1984للمخـرج اإليطالـي فرنسيسـكو روزي ،و«االسـم كارمـن» ( )1984لجـان- لـوك غـودار... استند المخرج محمد أمين بنعمراوي إلى هـذه الخلفيـات السـينمائية ،والمرجعيات اإلخراجية ليحقق فيلم ًا ال يخلو من تقاطعات فنيـة تمـزج بيـن الموسـيقى والسـينما والتاريـخ والذاكـرة والطفولـة؛ فبين الجد والسخرية ،المحاسبة والتجاوز يستدعي الشـريط فترة السـبعينيات ( ،)1975التي
َف َّـرت خاللهـا «كارمـن» مـن بطـش الجنرال الديكتاتـوري «فرانسيسـكو فرانكو» ،الذي امتدت فترة رئاسته للحكومة اإلسبانية من فاتح إبريل/نيسان 1939إلى 20نوفمبر/ تشـرين الثاني ،1975وهي المرحلة التي َسـُتَم ِّهُد الطريـق للتوتـرات بيـن المغـرب وإسـبانيا فيما بعد. لـم يلجـأ المخـرج إلـى سـرد األحـداث التاريخيـة بطريقـة مباشـرة ،وإنمـا َم َـز َج بيـن األسـلوب السـيرذاتي ،الـذي اسـتعاد عبـره جـزءًا مـن طفولتـه عبـر سـرد قصـة «ع َّمـار» ذي السـنوات العشـر؛ إذ الطفـل َ سـتتركه أمه المطلقة رفقة خاله العربيد، الـذي سـيبث فيـه كافـة أشـكال الرعـب ال المبلـغ المالـي الـذي والخـوف ُمسـتغ ً يتلقـاه شـهري ًا مـن أختـه مقابـل االعتنـاء اض ُط َّرت للرحيل إلى بلجيكا بابنها بعد أن ْ قصـد الـزواج هنـاك .قاسـى الطفـل مـرارة الحرمـان ،وذاق كافـة أشـكال االنعـزال إال لع َّمـار (أمـان اهلل ْـب «كارمـن» َس َـيِر ُّق َ أن َقل َ بـن الجياللـي) ،خاصـة أنها كانـت بدورها تعيـش حالـة ُم َشـاِبَهة -تقريبـ ًا -لوضعـه بمعيـة أخيهـا ،مالـك القاعـة السـينمائية، ذي المـزاج العكـر .سـتجعل الطفل يرافقها يوميـ ًا رغـم أنهمـا ال يتواصلان لغويـاً، فقـد نشـأت بينهما عالقة حميمية أساسـها اإلحساس بالَفْقِد واالغتراب وعنف المحيط. امها تحاول تعليمه اإلسبانية ،وسيكون َغَر َ البائـس اليائـس .أدخلتـه قاعـة السـينما وجعلته يكتشف كواليس العرض .وهناك سـتبدد، َس َـيَتَلقَّى «صدمـة السـينما» التـي ِّ نوعـ ًا مـا ،روتيـن حياتـه .يشـاهد أفالمـ ًا هنديـة سـتؤثر فيـه حكاياتهـا العاطفيـة واالجتماعية فيذرف دموع الفرحة /الحزن داخـل القاعة .يجمـع بعض لفافات األفالم ويضعهـا أمامه علـى طاولة األكل الواطئة محـاو ًال إعـادة تشـخيص بعـض لقطـات وأغاني السـينما الهندية التي كانت رائجة آنـذاك .يغني أغنيـة «الحياة هي أغنيتي» التـي ُتَذ ِّكُرنـا بأجواء الفيلم الهندي الشـهير « »Disco Dancer» (1982للمخرج «بابر سوبهاش» ( ،)Babbar Subhashوذلك الم َـر ِادف بعـد أن طـال انتظـار عـودة أمـه ُ النتظـار «كارمـن» التـي تنتظـر فرصتهـا للقيـام بعـودة مضادة إلـى الضفة األخرى بعـد أن كان حكـم الجنرال فرانكو يحتضر. تشكل «كارمن» (األجنبية الوافدة) في هذا
استلَّت الفيلم األم والصديقة والمعلِّمة التي ْ الم َساِلم من كافة أشكال العنف التي الطفل ُ َظ ّـل يتلقاهـا يوميـاً :عنـف الحرمان ،عنف الخـال ،عنـف األقـران ،عنف حـارس قاعة السـينما ،عنـف المجتمـع ..لكـن ،وبالرغم بيوغرافي، مـن اسـتناد الفيلـم إلـى ما هـو ُ وميله إلى االهتمام بالجانب اإلنساني فإنه يضعنـا أمـام مقارنـات ملتبسـة وشـائكة: صـورة األم فـي مقابـل صـورة «كارمـن»، وصـورة الخـال فـي مقابـل صـورة األخ، اللغة الريفية في مقابل اإلسبانية ،السيرة الذاتية في مقابل السيرة الجماعية ..فيكون الطفل هو الجامع بين خيوط شبكة الكتابة السيناريستية التي سيتجاوز مداها الطابع االجتماعـي إلـى السياسـي :حكـم فرانكو، المسـيرة الخضـراء ،التهميـش ،االنكمـاش على الذات... يخلـط المخـرج رؤيتـه الفنيـة بتوابـل أيديولوجيـة ذاتيـه وأخـرى اجتماعيـة، وذلـك مـن خلال إتقانـه اللعب علـى عدة حبال فنية تتبادل األدوار فيما بينها بشكل معقـد :الموازنـة بيـن لغـة السـينما ولغـة المْقَت ِ صـدة ،وتوظيـف السـينما الحـوار ُ داخـل السـينما ،الرهـان علـى المسـافة الرهيفـة بيـن الواقـع والخيـال ،والمـزج بين السينمائي والسيرذاتي ،والمزاوجة بين السياسـة والحب ،وإضفاء المسـحة النوسـتالجية على األحداث اسـتنادًا إلى الطفولة... يعتبـر فيلـم «وداعـا كارمـن» واحدًا من أهـم األشـرطة السـينمائية المغربية التي ترفـع مـن قيمة السـينما ،وتجعل من فعل المتعدد الذي الم َشـاهدة ضرب ًا من التفكير ِّ ُ يسـمح للمتفـرج باالنغمـاس فـي األحداث عبر تقليص المسافة بين الوجدان والعقل، والـذات والموضـوع .فالسـينما ،فيـه، تتجاوز طابع الفرجة البسـيط لتسـتدعي َتَأ ُّم َل التداخل الحاصل بين تقنيات الكتابة السيناريسـتية (قصـص فـي فيلـم واحد): الطفـل وكارمـن ،الهجـرة والطفولـة؛ فالم َش ِ اهد واللقطات تتجاوز طابع الصور َ النمطية التي تدغدغ العواطف ،أو تخاطب الـروح الوطنيـة ..لتتأسـس على تقنيات إخراجيـة تـدرك قيمـة الموضـوع ،وتعي كيفيـة االنطلاق منهـا للرقـي بالمونتاج كركيزة مهمة من ركائز الكتابة السينمائية بعد السـيناريو واإلخراج. 119
اإلسكندرية السينمائي
متوسطية هموم ّ اإلسكندرية :نـاهـد صـالح يبـدو أن الـدورة الــ 30مـن مهرجـان اإلسـكندرية لسـينما بلـدان البحـر األبيـض ال المتوسـط ،كانـت دورة فارقـة شـك ً ولعـل ليلـة االفتتاح الحاشـدة ومضمونـاً. ّ قـد بلـورت أفـق مهرجـان يتطلّـع إلـى ويعبر عن الوفاء للفن السينمائي األفضلّ ، و«أسـاتذته» .وكما حكى أوبريت االفتتاح التحـوالت العنيفـة التـي تعرضـت لها عـن ّ السـينما علـى مـدار تاريخهـا ،أثبتـت هـذه المحال» الدورة أن مقولة «تغيير الحال من ُ هـي مقولـة يمكـن أن تـزول ،حيـث سـعى المهرجـان إلـى إحـداث هـذا التغييـر علـى مسـتوى الصـورة والمضمـون ،بدايـة مـن تعدد الحضور الالفت للنجوم ،وصو ًال إلى ُّ مسـابقاته ،إضافة إلى المسـابقة الرسمية فـي دورة ضمـت عـددًا مـن العناويـن السـينمائية القديمـة والجديـدة ُاسـتئنفت بفيلم االفتتاح «المتشرد» لشارلي شابلن، حيـث يحتفـى المهرجـان بمـرور 150عام ًا علـى ميلاده. المهرجـان َك ّـر َم نجـم الغنـاء محمد منير حنجـرة السـينما كمـا وصفـه مرة يوسـف شـاهين .كمـا تـم تكريـم الفنانـة ناديـة الجنـدي كفنانـة جماهيريـة ،كمـا وصفتها إدارة المهرجـان .وشـمل التكريـم أيضـ ًا كال مـن :المخـرج المصـري داود عبدالسـيد والمخـرج التونسـي الطيـب الوحيشـي والفنـان اإليطالـي أوجسـتو بيلتشـيا، والمخـرج الفلسـطيني هانـي أبـو أسـعد والمخـرج السـوري محمـد ملـص... اهتمـت دورة المهرجـان بالسـينما 120
العربية بشكل خاص ،حيث عرضت سبعة أفلام عربيـة مـن 15فيلمـ ًا فـي المسـابقة الرسمية وهي لفلسطين ،سورية ،لبنان، المغرب،الجزائـر ،تونـس ومصـر .فيمـا جـاءت بقيـة األفالم من فرنسـا ،إسـبانيا، تركيـا ،اليونـان وسـلوفينيا .وإلـى جانب المسـابقة الرسـمية َقّد َم برنامج المهرجان مسـابقات فرعيـة أخرى فـي صنف األفالم الروائيـة القصيرة والتسـجيلية ،وشـملت 20فيلمـ ًا مـن 20دولـة مـن بينهـا عشـر دول عربيـة .كمـا شـاركت 14دولة عربية فـي 18فيلمـ ًا روائي ًا قصيرًا وتسـجيلي ًا في مسـابقة خاصـة بالـدول العربية. ـت ،قّدمـت مـن بيـن األفلام التـي ُعِر َ ضْ المخرجـة سـهى عـراف فيلمهـا «فيال توما» بوصفه فيلم ًا فلسطينياً ،إال أن الفيلم جّدد الجـدل حـول هويتـه وتصنيفه ،السياسـة لعبـت دورهـا هنا وصنعـت الهالة الجدلية حول مشاركته ،فالفيلم الذي يدور في 87 دقيقة ويحكي قصة إنسانية خاصة بثالث شـقيقات مسيحيات ارسـتقراطيات يسكن فـي فيلا قديمـة ،وهـي قصـة اجتماعيـة عاديـة وإن كانـت حافلـة بالتفاصيـل والمالمـح النفسـية ،لكنهـا تظـل مجـرد حكايـة ال تفجـر أي جـدل نقاشـي سـاخن حـول موضوعهـا الـذي يبـرز الصـراع الطبقـي فـي المجتمـع الفلسـطيني ،لكـن الجـدل الـذي أثـاره الفيلم هـو حول هويته التـي كانـت السـبب فـي تغييـره مـن فيلـم افتتاحي للمهرجان إلى فيلم في المسـابقة الرسـمية ،وحسـب تبريـر إدارة المهرجـان فـإن تأخـر التوصـل بالفيلـم هـو سـبب هـذا التغييـر المفاجـئ ،نافيـة تأثرها بأية
ضغـوط إعالميـة أو بالضجـة الصحافيـة التي أثيرت ،خصوص ًا أن جزءًا من التكلفة اإلنتاجيـة للفيلـم هـو تمويـل إسـرائيلي. انفجـار السـؤال الخالفـي حـول فيلـم «فيال توما» ومشاركته في المهرجان ،فتح ملف التطبيـع مـرة أخرى وجـّدد الخالف القديم إزاء الموقـف مـن عـرض أفلام لمخرجيـن مـن عـرب 48بتمويـل إسـرائيلى فـي المهرجانـات العربيـة ،ألن هنـاك قرارًا من الجمعيـة العموميـة للنقابـات الفنيـة يمنع عرض األفالم اإلسرائيلية في المهرجانات العربيـة منعـ ًا للتطبيـع مـع إسـرائيل. وفـي إطـار تكريـم مخرجه الفلسـطيني المقيم في هولندا هاني أبو أسعد ،عرض فيلـم «عمـر» المتوج بجائزة لجنة التحكيم فـي مسـابقة «نظـرة مـا» بمهرجـان كان عبـر عـن السـينمائي هـذا العـام .والفيلـم ُي ِّ الصراع الفلسطيني -اإلسرائيلي من خالل أحداثـه التـي تـدور في الضفـة الغربية. الهـم العام سـيطر علـى الفيلم اللبناني «وينـن» ،الـذي أنجـزه سـتة مخرجيـن لبنانييـن (كريسـتل إجنياديـس ،جـاد بيروتي ،ماريا عبدالكريم ،ناجي بشارة، سليم هابر ،طارق كوركوماز ،زينا مكي)، تجربـة الفتـة تسـعى وراء المفقوديـن فـي الحرب األهلية اللبنانية ،عبر سرد قصص سـت نسـاء لبنانيـات فقـدن األب أو االبـن أو األخ ،لكنهـن مازلـن يتشـبثن باألمـل، لـذا وافقـن علـى االعتصـام أمـام البرلمـان اللبنانـي إلحيـاء القضيـة. وعلـى غـرار هـذا التوجـه النضالـي والتمـردي عـرض الفيلـم المصـري «قبـل الربيـع» لمخرجـه أحمـد عاطـف الـذي
يسـتعرض مـن خالل هـذا العمل التفاصيل اليوميـة لعـدد مـن المدونيـن المصرييـن إبـان األيـام الصعبة قبل الثورة .اسـتخدم المخـرج ،وهـو كاتـب الفيلم ،أسـلوب ًا فني ًا مباشـرًا أقـرب إلـى التسـطيح باعترافـه ليعبـر بوضـوح مبيـن فكـرة شـخصياًّ ، الفيلـم عـن الربيـع العربـي ،ويتسـاءل: هـل سـيأتي؟ وهـل يمكـن أن يأتـي فـي الشـتاء؟ هـل يمكـن أن يصنـع الناس ثورة فـي ظـل الخمـود واإلحبـاط المتواصـل؟. ومـن المغـرب َقـّد َم المخـرج هشـام عيـوش فيلمـه «الحمـى» ،وبطلـه األساسـي طفـل عـاش الحرمـان العاطفـي فـي دار للرعايـة االجتماعيـة ،ثـم يكتشـف فجـأة أن لديـه أبـ ًا يعيـش فـي ضواحـي باريـس ،وعليه أن ينتقـل للعيـش معـه ،وهـو بالنسـبة له مجـرد رجـل مجهـول. وعلـى صعيـد األفلام األجنبيـة ،جـاء الفيلـم اإلسـباني «رائحة الجسـد الحزينة» إخـراج كريسـتوبال أرتياجـا روزاس ليقـدم درامـا اجتماعيـة عـن رجـل عـادي ِّ لديـه منـزل ووظيفـة وحياة تبـدو ظاهري ًا سـعيدة ،ولكنـه يخسـر كل ذلـك ويبدأ في التخطيـط لحياتـه بشـكل مختلـف يحميـه مـن التغيـرات التـي عصفـت بحياتـه .أمـا الفيلـم الـذي يمثل سـلوفينيا في المسـابقة الرسمية (شيفورس راوس) إخراج جوران فوينوفيتـش ،فيحكـي عـن أربعـة أوالد يعيشـون أزماتهـم الخاصـة حتـى ُيلقـي رجـال الشـرطة القبـض عليهـم فيتفـكك عالمهـم بعـد ذلـك ..فـي حيـن جـاء الفيلـم التركي «موسـى بال عصا» لمخرجه أيدين أوراك ليسـتعرض حيـاة الكاتـب والمفكـر والناشـط موسـى عنتـر فـي أحـداث ثريـة
باالسـتعارات والصـور لتجربـة نضاليـة وإنسـانية كبيـرة. أفلام هـذه الـدورة َقّد َم ْت لغة سـينمائية تستل من الواقع مفرداتها وإيقاعها البصري. أفلام توغلـت فـي عمـق الواقـع ،وعبـر اختياراتهـا حاولـت إدارة المهرجـان إبـراز الشـكل االحتفائـي بالسـينما وصانعيهـا، الـذي اختـاره القائمـون لتطويـر الموعـد
السينمائي المهم الذي تعرفه اإلسكندرية كل ضّم عـام .بالموازاة أقيم سـمبزيوم خاص َ مجموعـة كبيـرة مـن فنانـي البحـر األبيـض كـرس لتشـجيع الفن المتوسـط ،وهـو مـا ُي ِّ والثقافة البصرية على وجه الخصوص من ومتنوعة تعكس تعّددية غنية ّ خالل سينما ّ روافـد حـوض البحـر األبيـض المتوسـط وتشـكل فرصـة للتالقـي والحـوار الثقافـي ّ والفني لشـعوبه.
تشكلت برئاسـة اإليطالية لوتشـيانو سـوفينا رئيس هيئة السـينما بروماّ ، لجنـة تحكيـم األعمـال الروائيـة الطويلـة مـن الممثلـة التركية أنجين شـاجالر، المخرجة اليونانية إلكسندرا أنتوني ،الممثلة المصرية سمية الخشاب ،الكاتبة والمصور الفرنسي باتريك السلوفينية كاتارينا ريسيك ،الممثلة التونسية درة، ّ ديومو مدير .وأسفرت نتائج المنافسة عن تتويج الفيلم المصري «بعد الحب»، بجائـزة أفضـل عمـل ،الفيلم اللبناني «وينن» بجائـزة لجنة التحكيم الخاصة، الفيلـم السـوري «سـلم إلـى دمشـق» بجائـزة اإلبـداع الفنـي ،فيما حصـل الفيلم التونسي «باستاردو» ،لمخرجه نجيب بلقاضي بجائزتين :أفضل فيلم وأفضل ممثلـة لبطلتـه لبنـى نعمـا .بينمـا حصـل بطـل الفيلـم المغربي «حمـى» ،ديدور ميشـون علـى جائـزة أفضـل ممثـل وهـو مـن إخـراج هشـام عيوش ،أمـا جائزة أفضـل سـيناريو فكانـت مـن نصيب عبـد الحميد بن عثمان وعائشـة يعقوب من ـو َج الفيلـم السـلوفيني «شـيفورس راوس» المغـرب ،ومـن األفلام األجنبيـة ُت ِّ للمخـرج جـوران جويتفيـش بجائـزة اإلخـراج المتميـز .فـي حيـن حصـد الفيلـم الفلسـطيني «إسـماعيل» جائزة أفضل فيلم روائي. وبرئاسـة الممثـل السـوري جمـال سـليمان ،وعضويـة كل مـن نادية رشـاد وإيـاد نصـار ،والمخرجـة الفلسـطينية ليالـي بـدر ،منحت لجنة تحكيـم األفالم القصيرة جائزة أفضل عمل تسجيلي للفيلم اللبناني «زرع كوكو» لمخرجه عماد ـو َج الفيلـم المصري «حياة كاملـة» بجائزة أفضل فيلم وثائقي. األشـقر ،فيمـا ُت ِّ على عكس حفل االفتتاح ،الذي كان الفتاً ،عرف اختتام مهرجان اإلسكندرية في دورته األخيرة غياب ًا ملحوظاً ،بدأ بغياب الفنان نور الشريف الذي أهديت لـه دورة هـذا العام بسـبب ارتباطه بتصوير فيلمـه «بتوقيت القاهرة» ،وانتهاء بوزير الثقافة المصري ،وبينهما العديد من رموز الفن والسينما في مصر.
121
بقرة يف اليد وال سالم عىل الشجرة!
«املطلوبون الـ »18
حوار :سليم البيك
122
تحركة والوثائقي ..تجري الم ِّ «المطلوبون الـ »18فيلم يجمع بين الرسوم ُ قصتــه فــي بلــدة بيت ســاحور المجاورة لمدينــة بيت لحــم ،والزمن إبان االنتفاضة الفلســطينية ( .)1991 – 1987الفيلم ُيســلِّط الضوء على خيال المقاومة وإبداعها من خالل ســرد قصة أبطالها أهالي بلدة بيت ســاحور، قرروا مقاطعة حليب شركات االحتالل ،وتربية األبقار بغرض إنتاج الذين ّ التصدي لالحتكار اإلسرائيلي محلي للحليب واألجبان .وسرعان ما يتحول ِّ إلى عصيان مدني ورفض شعبي لدفع الضرائب ،ما سيجر جيش االحتالل خبأها إلى مسح المدينة بيت ًا بيتاً ،بحث ًا عن البقرات الثماني عشرة ،التي ّ ال من ٍ قصة الفيلــم زمني ًا إلى وهربوهــا لي ً بيــت آلخر .تمتد ّ الفلســطينيون ّ إعالن اتفاقية «أوســلو» التي أجهزت على االنتفاضة ،كما على األســلوب الذي اتخذه أهالي بيت ساحور لمقاومة االحتالل. يأتــي هــذا الفيلــم في ســياق راهنــي حققــت فيــه المقاومة الفلســطينية انتصــارات ميدانية ورمزية مفصلية أعادت إحياء ســاح المقاطعة بقوة. ولالقتراب أكثر من هذا العمل ،وبالتزامن مع مشــاركة الفيلم قريب ًا في كل من مهرجان تورنتو الســينمائي الدولي ،ومهرجان أبو ظبي الســينمائي، ثــم أيــام قرطاج الســينمائية ،التقــت «الدوحــة» الفنان الفلســطيني عامر شوملي ،وكان هذا الحوار:
عامر شوملي من مواليد الكويت .1981درس هندسة العمارة وحصل على الباكالريوس فيها .ثم على شهادة ماجستير في الفنون الجميلة تخصص رسوم متحركة من بريطانيا .استخدم الرسوم المتحركة والكاريكاتير ،باإلضافة إلى الملصقات للتفاعل مع المحيط السياسي واالجتماعي الفلسطيني اليومي .صاحب برنامج دبلوم الرسوم المتحركة في جامعة بيرزيت ،وهو أحد مؤسسي زان ستوديو في رام اهلل ،حيث يقيم حالياً.
§ قصة البقرات معروفة عند أهالي بيــت ســاحور .مــا الــذي جعلــك تخــرج منهــا بفيلم ،وهو فيلمــك األول؟ هوســي الدائــم هــو التقــاط القصــصاليوميـــة التـــي تحمـــل دالالت أعمـــق مـــن القص ــة ذاته ــا ،قص ــص غي ــر تل ــك الت ــي تبحــث عنهــا الصحافــة ،قصــص برمزيتهــا كـــ «كليل ــة ودمن ــة» تفت ــح أبوابــ ًا جدي ــدة ـا ف ــي لق ــراءة الواق ــع .ج ــورج أوري ــل مث ـ ً مزرعـــة الحيـــوان .الجميـــل فـــي قصـــة البقـــرات فـــي الفيلـــم أنهـــا ُتقـــرأ بشـــكل بســـيط كعمليـــات تضييـــق مـــن جيـــش االحت ــال عل ــى الفلس ــطينيين وأبقاره ــم، وعــدم قدرتهــم علــى قتــل البقــرات ،بينمــا اســتطاع الفلســطيني ذاتــه قتــل أبقــاره في س ــاعة الي ــأس .الرمزي ــة المذهل ــة للبق ــرة ه ــي الت ــي أغوتن ــي له ــذه القص ــة.
§ مــا طبيعــة التعــاون مــع المخــرج الكنــدي بــاول كاون فــي إخــراج الفيلــم؟ حين بدأنا العمل على إنتاج هذا الفليمخاف المنتجون من المغامرة مع مخرج بال خبرة ،تحديدًا في الفيلم الوثائقي ،فقاموا بترشـيح بـاول ،وهـو مخـرج كنـدي أخرج أكثـر مـن 50فيلمـاً .أنـا وباول مـن عالمين مختلفين ،هو من عالم الحقيقة والوثائقي تحركة الم ِّ الواضح ،وأنا من عالم الرسوم ُ والخيـال ،وكان هـذا التعـاون صعبـ ًا فـي البدايـة .أنـا أبحث عـن الفانتازيا وهو يريد الخالصة .أعتقد أننا في النهاية وصلنا إلى منطقـة من الفنتازيـا التي تخدم القصة وال تستبدلها بغيرها.
§ لم ــاذا لجأت ــم إل ــى ع ـّدة أس ــاليب ضمـــن الفيلـــم ،الكرتـــون والدمـــى والمقابـــات والتمثيـــل واألرشـــيف؟
عامر شوملي لـم تتوافـر لدينـا مـواد أرشـيفية لهكذاقصة ،فهي ليسـت من اهتمامات الصحافة. جاءت فكرة الدمى لسـببين :األول لتغطية النقـص فـي المـواد األرشـيفية ،والثانـي لسـرد القصـة مـن خلال األبقـار كوجهـة نظـر «محايـدة» وغريبـة .اسـتطعنا مـن خلال دمـج عـدة مسـتويات مـن الواقعيـة البصريـة الحصـول علـى عالـم غريـب غيـر محـدود بأفكار مسـبقة ،عالـم جديد ،أليس فـي بلـد العجائـب.
§ ه ــل كان إيج ــاد الجه ــة المنتج ــة للفيل ــم صعب ـاً؟ ســـأكتفي بالقـــول إن إنتـــاج فيلـــمسياســي عــن االنتفاضــة األولــى ونهايتهــا ل ــم يك ــن س ــهالً .ه ــي منطق ــة وع ــرة. أســـاس موضـــوع الفيلـــم هـــو إنتـــاج الحليـــب فلســـطيني ًا ومقاطعـــة الحليـــب اإلســرائيلي ،وقد ُكِتَب ْت عبارة على جدران أح ــد البي ــوت تدع ــو لمقاطع ــة المنتج ــات اإلســرائيلية ،اليوم مسألة المقاطعة تلقى اســـتجابة عاليـــة فـــي الضفـــة الغربيـــة، وعالمي ـاً ،س ــؤالي ه ــو :كي ــف ت ــرى ه ــذا
األسلوب لمناهضة االحتالل ،من خالل تجرب ــة أهال ــي بي ــت س ــاحور؟
أعتقد أن هذا التوجه قادر على إحداثتغييــر حقيقــي ،خصوصـ ًا إن تطــور إلــى المقاطعة واإلنتاج .كل احتالل هو مشروع اســتعماري وربحي ،المقاطعة هي ضربة فــي الصميم ،في الهدف .تجارب المقاطعة نجحت في الهند وجنوب إفريقيا وستنجح في فلســطين .أما إن كان الســؤال :مقاومة س ــلمية أم مس ــلحة ،فأق ــول بأنهم ــا ليس ــا ســمك ولبن.
§ هنالـــك ممثلـــون عـــن الجيـــش
اإلسرائيلي في الفيلم شاركوا بشهادات القصــة ،مــا الــذي جعلكــم تقحمــون عــن ّ
أطراف ـ ًا ممثل ــة ع ــن االحت ــال ف ــي فيل ــم قصـــة مقاومـــة وانتفاضـــة يحكـــي ّ ومقاطع ــة؟
نادرًا ما نشـاهد وجه الفلسـطيني فياألفالم اإلسرائيلية (فيلم «فالس مع بشير» مثالً) .اإلسرائيليون يخافون حضورنا .أما نحـن فلا داعـي للخـوف ،أنـا كفلسـطيني قصتـي حقيقيـة وأنـا صاحـب حـق .كان الشعور لدى البعض أن حضور اإلسرائيلي يؤكـد القصـة ،لكـن بالنسـبة لـي كان األمـر األكثـر أهميـة هو إظهار الغرور والعنجهية اإلسرائيلية في رواية القصة بعد 25عام ًا قصـة البقـرات علـى حدوثهـا .مـا زال يـرى ّ ومطاردتها أمـرًا عادياً.
§ ه ــل م ــن راب ــط يمك ــن أن يجم ــع بيــن الفيلــم وبيــن الوضــع الفلســطيني الحالــي؟ أكيد .خصوص ًا في هذه األيام ،هنالكتوجه شـعبي السـتعادة زمام المبادرة من األحـزاب واسـترجاع قدرتهـا علـى صنـع مستقبلها بدل الحالة المهزومة التي فرضت عليهـا .الفيلـم سـيطرح نموذجـ ًا صنعـه الفلسـطينيون قبل خمسـة وعشرين عاماً، وُأجهض ،نموذجاً؛ كل فرد قادر على صنع شـيء منـه والمسـاهمة فيـه بـدل االنتظار. ثماني عشرة بقرة باليد وال رباعية (اللجنة الدولية الراعية للسلام) على الشـجرة. 123
«مارسيليا»
طريق األمومة مروة رزق
فيلـم « MARSELLAمارسـيليا» ( ،)2014هـو تجسـيد بمعنـى الكلمـة لما ُيعرف باسـم «سـينما المرأة» .الفيلم من إخراج المخرجة اإلسبانية الواعدة بيلين تخصصت في مثل هذه ماسـياس والتي ّ النوعيـة مـن األفالم التي تدور عن حياة المـرأة ونفسـيتها ومشـاعرها ،فهـي مـن مثـال المخرجـات اللواتـي يقدمـن أفالمـ ًا عـن المـرأة ،ولكنها مصنوعة لكي يراها الجميـع .ومـن أبـرز األمثلة علـى إتقانها لهـذا وإصرارهـا علـى التعبير عـن المرأة في مسـارها السـينمائي كمخرجة فيلمها (سـاحة سـجني) عام .2009يدور فيلم مارسـيليا حـول مفهـوم األمومـة ومـا قد يطـرأ علينـا مـن تغييـر بسـبب كائنـات صغيـرة ظهـرت فـي حياتنـا ومـا تثيـره تأج َجة بداخلنا ،لكي نصبح مـن رغبـة ُم ِ أفضـل مـن أجلهم. تلعب بطولة الفيلم نجمتان إسبانيتان المعتـان :ماريـا ليـون (سـارة) وجويـا توليدو (بيرخينيا) ،لعبتا دورهما باقتدار جعـل أداءهمـا المتميـز أكثر مـا َيعلق في ذهـن مشـاهد هـذا الفيلـم .ال تسـتطيع أمامهمـا سـوى أن تقتنـع بـأن كال منهمـا هـي األم األصليـة لفتـاة صغيـرة تدعـى 124
(كليـر) وأن كلتـا االثنتين تسـتحق الفوز بحضانـة الصغيـرة .تنشـد المرأتـان مـا تراه كل واحدة حق ًا لها .فاألم البيولوجية (سارة) فقدت حقها في رعاية ابنتها منذ خمس سـنوات نتيجـة إدمانها للكحول، ولذا فقد قامت (بيرخينيا) برعاية الطفلة طيلـة هـذه المـدة واعتبرتها ابنتهـا .إزاء المعقَّد والرغبة الجامحة في هذا الموقف ُ قـررت السـيدتان بدء حـل هـذه المعضلـة ّ رحلة إلى مدينة مارسيليا الفرنسية من أجل البحث عن والد الطفلة ،ولعب دوره
ممثـل صاحـب مكانـة رفيعـة أيضـ ًا فـي السـينما اإلسبانية المعاصرة ( إدواردو فيرنانـدث) ،والـذي لـم َيِقـل عنهمـا فـي األداء ،معتبرتين أن هذا قد ينهي الموقف سـريعاً .تتبـدى طـوال طريـق الرحلـة والجياشـة لهاتيـن المشـاعر المتدفقـة ّ السـيدتين الراغبتيـن فـي تحقيق ذاتيهما عن طريق الفوز بحب الطفلة الصغيرة. وهنـا ال يمكن إغفـال أداء الطفلة ناوا فونتانالـز (كليـر) ،التـي حفـرت طريقها في عالم السينما بدور الطفلة التي تبحث عن والدها الحقيقي ،بنظراتها الناضجة عبـرة عـن الظروف الصعبة الم ِّ والبالغـة ُ مـرت بها في حياتها. التـي ّ ِ ـح ْت لجائـزة ش ر التـي ليـون ماريـا ُ َ «جويـا» أفضـل ممثلـة عـام 2011عـن دورهـا في فيلم «الصوت النائم» تشـدك المتمكن الذي بأدائهـا الهادئ والطبيعـي ِّ ّل العفوية والواقعية ،وأيض ًا التفاؤل َمث َ لمرأة تحاول التغلب على ماضيها السيئ والكفـاح مـن أجل مسـتقبل أفضل .لعبت طيلـة خمسـة أعـوام دور األم التي كانت تفتقده عندما احتضنت (كلير) الصغيرة. ويمكـن أن نصنـف الفيلم كذلك ضمن أفلام الطريـق ( ،)road movieحيـث
نسـافر نحـو مدينـة مارسـيليا وندخـل مراكـز خدمـة السـيارات والفنـادق الموجـودة علـى الطريق وعربـات النقل عبـر شـخصيتي سـارة وبيرخينيـا المختلفتيـن والمتواجهتيـن طوال الوقت ليس على المسـتوى الجسـدي وحسـب، وإنمـا أيضـ ًا علـى المسـتويين العاطفـي والنفسـي. هذه المواجهة بين البطلتين الوالدتين تـؤدي إلـى صقل شـخصيتهما وتدفعهما إلـى تأمـل ذواتيهما ودوافعهما الحقيقية تدريجيـ ًا طـوال الرحلـة ،حتـى تكتشـفا أنهمـا ال ترغبـان فيما هو األفضل للطفلة وحسـب ،وإنما في الواقع تريدان ما هو أفضل لهما شـخصياً .تقرران في النهاية أن تتوقفا وأن تنظرا بداخليهما وأن تفهم كال منهمـا رغبـات ودوافـع األخـرى.. وعلـى الرغـم مـن أن هـذا كان يبـدو لهمـا صعبـ ًا فـي أول الرحلـة ،وكانـت ثمـة فجـوة عميقـة بينهمـا إال أن هـذه الفجوة أخـذت تضيـق مـع الطريـق .مـن خلال حـوار مكتـوب جيـدًا ال يبعـث علـى الملل تـم التحكـم فـي االنفعـاالت والتعامل مع هذا الموقف المأساوي من جهة بدون أن تنغمس المخرجة في مأساوية ومشاعر
جياشـة مبالـغ فيهـا .وإنمـا ،عبـرت عـن الموقـف بصـورة طبيعية. اسـتطاع السـيناريو ،الـذي كتبتـه المخرجـة باالشـتراك مـع فيرونيـكا فرنانديـز وإيتـو غابيلونـدو ،أن ينقـل لنـا جيـدًا إحسـاس رحلـة طويلـة بطيئة على الصعيدين العاطفي والجسدي أيض ًا (مثـال :ال تجـدان مـن يقلهمـا في جو حار خانق ،وحين تسـتخدمان سـيارة تكون عن طريق االستعارة بال مقابل) .كل هذا يـدور فـي مشـاهد نهاريـة خانقـة جديرة
بمنـاخ متوسـطي ُيشـعرك باإلجهـاد والتعـب اللذيـن تشـعران بهمـا. ولكـن يؤخـذ علـى الفيلـم حيـاده عـن الحبكة الرئيسية في حكايات عن (تهريب المخـدرات ،كمثـال) ،والتـي كانـت غيـر ضروريـة لسـرد القصـة ،وإنمـا أدخلـت بشـكل قسـري بـدون أن تضيـف جديـدًا على خط الحكاية .وفي النهاية مارسيليا فيلم حساس ينتصر للفرص الثانية التي يجـب أن نسـتغلها -إن أتـت -لنحقـق مـا نريده. 125
األرض وحدودها
صمت عىل نهر أنغوري! حسن بن محمد «كارلوفي فاري» ()Karlovy Vary المهرجـان السـينمائي الدولـي ،الـذي ُيقـام فـي جمهوريـة التشـيك ،واحد من أعرق المهرجانات السينمائية العالمية. إذ ُيقـام سـنوي ًا منـذ سـنة 1946بهـذه المدينـة العريقـة كارلوفـي ()Karlovy ِ والشـاهدة حاضنـة ميـاه نهـر أوهـري، على ميالدها منذ تشييدها في عهد ملك بوهيميـا عـام ،1370ومثلمـا تشـتهر بحماماتهـا الطبيعيـة اشـتهرت كذلـك بانضمام مهرجانها السينمائي إلى قائمة أربعـة عشـر مهرجانـ ًا ُمصنف ًا ضمن فئة 126
«أ» ،فمهرجـان «كارلوفـي فـاري» ال يقل جودة وأهمية عن مهرجان كان وبرلين وفينيسـيا وطوكيـو وموسـكو وسـان سباستيان. برنامـج « كارلوفـي فـاري» بـدوره يتـوزع علـى عدة أقسـام منها المسـابقة َّ الدولية ومسابقة لألفالم األولى والثانية مـن دول وسـط وشـرق أوروبـا ودول البلقان وتركيا وما يعرف بالجمهوريات السـوفياتية السـابقة ،ويشـمل كذلـك مسـابقة دوليـة لألفلام التسـجيلية، باإلضافـة إلـى مسـابقة منتـدى األفلام
المسـتقلّة .وفـي كل سـنة يقـوم هـذا المحفـل السـينمائي باختيـار شـخصية سينمائية عالمية مرموقة لمنحها جائزة خاصة ،وهي جائزة «كرة الكريستال»، وذلـك تقديـرًا للمسـاهمة المتميـزة لهذه الشـخصية فـي عالـم السـينما ،ودورة هذه السنة ،وهي التاسعة واألربعون، ـت فـي أواخـر يوليـو الماضـي، وج ْ َت َ المجـري غيوركـي بالفـي بالكريسـتال غلـوب عـن فيلمه «السـقوط الحر» ،كما بجائـزة لجنـة التحكيـم ،لكـن الحـدث األهم كان في تتويج المخرج الجيورجي
جـورج أوفاشـفيلي ( )1963بالجائـزة الكبـرى للمهرجـان كأحسـن مخـرج عـن فيلمه الدرامي «جزيرة الذرة»( (�Corn Is ،)landالذي كتبه باالشتراك مع رفيق دربـه السيناريسـت نيغزار شـاتيدز. تـروي قصـة فيلـم «جزيـرة الـذرة» حكاية مزارع عجوز يعيش مع حفيدته في جزيرة على نهر «انغوري» الفاصل بيـن حـدود جورجيـا وأبخازيـا .ويـرى توجـه لجنـة التحكيم لتتويج النقّـاد أن ّ هـذا الفيلـم هـو فـي الحقيقـة انحيـاز منهـا إلـى فئـة األعمال السـينمائية التي تشتغل على مسائل ذات مضامين رمزية هـز المسـلمات عند وفكريـة تعمـل علـى ّ المتلقـي وتزعـزع بعـض القناعـات، خصوصـ ًا أن هـذا الفيلـم هـو مـن نـوع الدرامـا البسـيكولوجية التـي تطـرح عبـرة الم ِّ األسـئلة الوجوديـة والفكريـة ُ عن دواخل الشخصيات وتكشف سلوكها وتصرفاتها. وفي فيلم «جزيرة الذرة» ثمة أسئلة عديدة وعميقة ُتطرح حول معنى الحياة والموت من دون أن تتحدث شخصيات الفيلـم عـن ذلـك ،إذ تنـوب الصـورة وحدهـا عـن الـكالم لتنقـل االنفعـاالت وتلتقـط الذبذبـات وتقلبـات الطبيعـة، مثلمـا ترصـد كفـاح عجـوز وحفيدتـه للبقـاء علـى قيـد الحيـاة وسـط أخطـار تربصـة بهما. ُم ِّ يكتنـف قصـة الفيلـم الكثيـر مـن الغمـوض ،فهـي ال تكشـف عـن كل تفاصيلهـا وإنما تبطـن صراع ًا تاريخي ًا وسياسـي ًا وقوميـ ًا بيـن جمهوريتـي أبخازيـا وجورجيـا ،وقـد تـرك المخرج ِ للمشـاهد للدخـول فـي البـاب ُمشـرع ًا قـراءة مـا وراء الحكايـة ،خاصـة فـي غيـاب نـص ُم ِ ِ سترسـل ،ويبدو وم كتمـل ُ أن كاتـب السـيناريو تجنّب الخوض في عـرض صـراع قائـم لم يحسـم بعد على المستويين السياسي والعسكري ،ومن ثم اكتفى بتسجيل موقفه منه عبر خلق نمـاذج قابلـة للتجسـيد سـينمائي ًا بأكبر قـدر مـن االقتصـاد في التعبيـر اللغوي، ال خالق ًا شـكلت اللغة البصرية بدي ً الذي ّ له . لكننـا أمـام تناول عبثـي يصوره هذا الفيلـم ،عبثيتـه تنطلق من قصة صراع
غيـر محسـوم حـول حـدود ال تخرج عن خنـدق السياسـة ونزاعاتها على خلفية األحداث الواقعة والصراع التاريخي على إقليـم أبخازيا .لكـن ،وفي هذه الحالة، خيـم علـى أحـداث الفيلم أجـواء النزاع ُت ِّ التاريخي الجورجي -األبخازي من دون أن يغرق المخرج في سرد أدق التفاصيل حـول ذلك ،بل يكتفي بعرض المشـاهد المتضمنة لرشـقات مـن الرصاص تارة وتـارة أخـرى يعرض مشـاهد جنود من الجانبيـن بلباسـهم الرسـمي يجوبـون النهـر ويلقـون التحيـة علـى العجـوز المزارع ،ومن ثم فهو فيلم صامت يقول الكثيـر عـن عالقة اإلنسـان بـاألرض من خالل ثالثة أبطال تدور حولهم القصة؛ جـد وحفيدتـه ونهـر «أنغـوري» .لكنـه،
قدم رغـم مرجعيتـه التاريخية ،فيلم ال ُي ِّ دروسـ ًا في التاريخ وال مواعظ رنانة، وإنمـا إشـارات رمزية عـن عبثية النزاع الحـدودي ،وكأن المخـرج أراد مـن هـذا الخيـار تمرير سـؤال وجـودي :ما دامت الطبيعة أقوى من كل الصراعات فلماذا االقتتال؟! استغرق هذا الفيلم سبعين يوم ًا من التصوير ،وقد ُكِل َل جهد فريق العمل بما فيـه بنـاء جزيـرة التصويـر وهدمهـا في النهاية ،بالنجاح فني ًا وجماهيرياً؛ حيث أسر هذا الفيلم مشاهديه بمتعة بصرية الفتـة مـن دون أن تنطق شـخصياته إال بأربـع أو خمـس عبـارات فقـط طـوال دقائقه المئة. وجـاءت نهايـة الفيلـم لتالئـم بيـن منطقيـن مختلفيـن وتؤسـس لمنطـق سـينمائي عبثـي جديـد وغيـر مفهـوم فـي ظاهـره مع أنه مثل الحكاية نفسـها يضمـر فهمـ ًا رائعـ ًا للعالقـة األزليـة بين البشـر واألرض مـن جهـة والصـراع مـع الطبيعة من جهة أخرى ،ومن ثم فنحن أمـام (نـص) آخـاذ عرف كيـف يفلت من سـلطة األيديولوجيا والسياسـة ليذهب إلـى نقـاط هـي بالنسـبة لصانعـه أهـم بكثيـر ،ألنهـا تؤسـس لفهـم العالقـات الوجوديـة والتباسـاتها التـي تجلّت في فيلم «جزيرة الذرة» ،مما جعله ُم ِ ستحق ًا للتتويـج فـي مهرجان كارلوفـي فاري، وكذلـك وضـع السـينما الجورجيـة فـي مسـارها الصحيـح كسـينما صاعـدة تفو قة. وم ِّ ُ 127
«لوسي» للوك بيسون :
حصة فرنسية من الكعكة الهوليوودية صالح هاشم
يتصدر فيلم « - Lucyلوسي» 2014 للمخرج الفرنسـي لوك بيسـون المشـهد السـينمائي الفرنسـي علـى مسـتوى إيرادات شباك التذاكر ،وهو عمل أقرب إلى أفالم إعالنات التليفزيون الدعائية، منه إلى السـينما ،لكن أجمل ما فيه هو فـن الكتابـة بالضـوء ،بطلتـه الممثلـة األميركية سـكارليت جوهانسون ،التي 128
تتحول إلى «أيقونة» و«فام فاتال- بدأت ّ »FEMME FATALEهوليوود ..على غرار السـويدية جريتا جاربو وشـارون سـتون ،وكيـم نوفـاك ،وجريـس كيلي مـن أميـركا ،وقد خصـص لهذه الظاهرة أحـد النقـاد السـينمائيين الفرنسـيين كتابـ ًا ليبرهـن فيه على أنهن شـقراوات هوليوود جعلن السينما األميركية تغزو
العالـم وتسـتولي على قلـوب الناس. تبـرز سـكارليت جوهانسـون فـي الفيلـم ال بتمثيلهـا ،بـل بجمالها ،وقدها الممش�وق ،وتلع�ب دور «المدم�ر » �DE STROYERمثل شفارنيزجير في أفالم الحركة ،ويشاركها بطولة الفيلم الممثل األميركـي القدير مورجان فريمان ،الذي يلعـب دور أسـتاذ جامعـي ،وصاحـب
التطور ،تؤسس للفكرة التي نظرية في ّ بنى عليها بيسون فيلمه ،والقائلة بأن البشـر اليسـتغلون إال 20في المئة فقط مـن قدراتهـم ..فمـاذا لـو أنهم اسـتثمروا قدراتهـم الذهنيـة والجسـمانية مئـة فـي المئة؟ يقـول بيسـون :إنـه اختـار مورجـان لمصداقيتـه ،فهـو يجعلنـا نصـدق كل مايقول في الفيلم ،وفي أي فيلم ،ولهذا اختـار بيسـون مورجان للـدور إلقناعنا بنظريتـه التـي هـي نظريـة مخرجنـا بيسون باألساس ،وقد أراد الترويج لها واستخدمها كـ «شماعة» – بسبب خيال قاصـر -لتعليـق فيلـم مـن نـوع األكشـن عليهـا .مـاذا يمكـن أن يحـدث لبطلتنـا «لوسي» ،والتطورات والتحوالت التي تطـرأ عليها ،وتجعلهـا قادرة هكذا على اإلتيـان بالمعجزات؟. يشـارك «سـكارليت» فـي البطولـة رجل شرطة فرنسي -لعب دوره الممثل المصري عمرو واكد في المشاهد األخيرة في الفيلم – وقد وجدت «لوسي» نفسها فجـأةُ ،مكلّفـة بإنقـاذ العالم من عصابة كورية شـريرة ،تسـتخدم «لوسـي» في تهريـب سلاح خطيـر يـزرع فـي بطنهـا بعمليـة جراحيـة ،وهـذا السلاح هـو عبـارة عـن عبـوات مـن عقـار يمنـح البشـر توظيـف كل قدراتهـم ،وبإمـكان تجـرع منـه أن يصبـح قـادرًا المـرء إذا ّ علـى اإلتيـان بالمعجزات! ،وبه تتحقق مثلا نظريـة األسـتاذ الجامعـي ،فهـو ً يسـتطيع كما تفعل «لوسـي» في الفيلم أن يسـتخدم الجـدران ،ويجعلهـا درعـ ًا يقيه من رصاص األشـرار اآلسـيويين،
وزعيمهم الكوري (الخطر األصفر والعدو الشـيوعي ،كمـا فـي بعـض أفلام فتـرة الحرب البـاردة). يمكنها من العودة إلى الوراء كما أنه ّ في الزمن ،لكي تلتقي بـ «لوسي» التي تعود إلى زمن العصر الحجري ،وتكاد لوسـي تمسـك بالنجـوم التي تـدور في الفلـك السـائر فـي الفيلـم ،وتتواجد في كل مـكان فـي وقت واحد. تتطور األحداث وإذا بالفتاة األميركية «لوسي» وبقدرة العقار السحري ،تدخل في نزال مع مئات من األشرار ،وتغلبهم وتقهرهـم ،وينتهـي الفيلم كما في أفالم الوسـترن بمواجهة بين لوسـي وزعيم العصابـة «األصفـر» ،تذكـر على طريقة أفلام الوسـترن اإلسـباجيتي لإليطالي سـرجيو ليوني ،كما في فيلم «من أجل حفنة من الدوالرات». تبرز سكارليت جوهانسون بجمالها األيقوني فقط .في فيلم من نوع األكشن ACTIONيعتمد على اإلثارة والحركة، والعنـف الصـارخ ،والمطـاردات بالسـيارات ،ويضيـف إليهـا بيسـون بضـع صـور ومشـاهد مـن الطبيعـة، ونشـأة وتطـور الكـون مـن عنـده ،لكـن باسـتخدام جـد سـاذج .وكمثـال :عندمـا تظهـر سـكارليت فـي المشـاهد األولـى للفيلـم كضحيـة ،يقطـع بيسـون فـي مونتاج الفيلم على غزال شارد ومسكين في حضن الطبيعة ،وكذلك عندما ينتقل إلـى زعيـم العصابـة الكـوري الشـرير «الخطـر األصفـر».. يقطـع بيسـون بسـذاجة علـى فهـد يتسـلل بخفـة لكـي ينقـض علـى الغزال
الشـارد ،لكـن – ومـا الـذي يمنع ،أليس الفيلم من إنتاجه؟ -ويضيف بيسون إلى «الطبخـة» عـددًا البـأس بـه مـن بهـارات أفالم األكشن المعروفة التي حفظناها، لكنه يعتمد أساس ًا على حضور النجمة سـكارليت جوهانسون. ويكشـف الفيلـم عـن براعـة المخـرج فـي أفلام األكشـن ،ودأبـه علـى إنتـاج هـذا النـوع المطلـوب فـي سـوق الفيلـم األميركي ،وذكائه كمنتج في فهم عقلية الجمهور األميركي وبخاصة من الشباب المراهـق الـذي يسـيل لعابـه أمـام أفلام وتعـود علـى ثقافـة العنف. الحركـة َّ ويقـول الفيلم بالطبع -ضمن القليل الهـش الـذي يقولـه ،إن الفرنسـيين فـي أفلام األكشـن مـن خلال أفلام بيسـون باسـتطاعتهم المنافسـة ،ليكـون لهـم ال جدًا في كعكة أسواق نصيب ولو ضئي ً الفيلـم األميركـي ،ولذلـك حقـق الفيلـم ض إيرادات شـباك عاليـة جدًا عندما ُعِر َ فـي أميـركا ،وقبـل أن يخـرج للعـرض التجـاري فـي فرنسـا ،وجلـب مالييـن الـدوالرات لمخرجـه ومنتجـه. فيلـم بيسـون – كمـا تمثلتـه -هـو ومطـرز ومفصـل «بضاعـة» اسـتهالكية ّ ّ علـى مقـاس عشـاق هذا النـوع من أفالم الحركة واألكشن ،وللمراهقين الكثر في فرنسا الذين يصنع لهم بيسون أفالمه، ويمكـن -فـي تقديرنا -مشـاهدته ،رغم الفجـة ،وخيـال مخرجـه «نمطيتـه» ّ القاصـر ،فالمـرء كمـا يقـول المخـرج اإلسباني العظيم بونويل :في الظالم، وداخل قاعة العرض ،يستطيع أن يغفر ملا. للفيلـم كل شـيء ،إال أن يكـون ُم ً 129
فينيسيا «»71
السينما العربية خارج املضمار
فينيسيا :د .أمل الجمل
المتوجة بجوائز وإلـى جانب األفالم َّ المهرجان لمعت في دورة هذا العام أفالم مثل «إنها مضحكة بهذا الشكل» للمخرج بيتر بوجدانوفيتش ،وهو فيلم كوميدي 130
نجــح مهرجان موســترا فينيســيا الســينمائي الدولــي في دورتــه الحادية والســبعين ،في جلب عدد كبير من المخرجين المميزين مثل السويدي روي أندرسون الذي ُت ِو َج بـــجائزة «األســد الذهبي» عن فيلم «حمامة فوق غصن تتأمل الوجود» ،والروســي أندريه كونتشالوفســكي بـ «األسد الفضي» عن فيلــم «الليالي البيضاء لســاعي البريد» ،وجوشــوا أوبنهايمر من الواليات المتحدة بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلم «نظرة الصمت» .فيما ذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى المخرج التركي كان موجديسي عن فيلمه شكلت أسماء آخرين كفاتح أكين وأبيل فيرارا ،اكتشافات «ســيفاس» .كما ّ قوية على مستوى السيناريو واألداء التمثيلي. جمـع بيـن القيمـة الفنيـة والمواصفـات التجاريـة ،وقـد َش ّـك َل أحـد ثالثـة أفلام الفتة تدور حول عالم التمثيل والممثلين على خشبة المسرح بعد رائعة «بيردمان
أو الفضيلـة غيـر المتوقعـة للجهـل» للمخرج أليخاندرو جونزاليز إيناريتو، والـذي أعـاد بـه الممثـل مايـكل كيتـون لألضواء ثانية بقوة في واحد من أفضل
أدواره .ولمع كذلك فيلم «الهزيمة»The Humblingللمخـرج بـاري ليفنسـون وبطولـة آل باتشـينو فـي أداء رائـع اسـتعاد بـه تألقـه من جديـد رغم بلوغه سـن الرابعة والسـبعين .هذا إلى جانب مجموعـة كبيـرة مـن األفلام اإليطالية، ثالثـة منهـا تناولت قضية بيرلسـكوني ومفاوضاتـه مـع المافيـا أثنـاء توليـه رئاسة الوزراء ،ودور مطربي الشوارع في مدينة باليرمو .والظريف في األعمال الثالثة أنها على أهميتها الكبيرة ال تخلو من الكوميديا الصاخبة ،وعلى األخص فيلم «بيرلسكوني ،قصة صقلية» ،الذي أثـار قلقـ ًا ُقبيـل عرضـه ،وطالـب بعض كبـار السياسـيين بضرورة منعه. ووسط العدد الكبير من أفالم العنف ّق برزت أفالم الرومانسية كذلك ،إذ َحق َ فيلـم «ثالثـة قلـوب» للفرنسـي بينـواه جاكـو ما يمكن وصفه تحفة سـينمائية فـي مجـال قصـص العشـق المكلـوم والحـب الـذي ال يمـوت حتـى وإن قتـل أصحابه .وبنفس القيمة الفنية برز فيلم «فقـدان ذاكرة أحمر»– Red amnesia للمخ�رج الصين�ي �Wang Xiaosh ،uaiوهو فيلم استحقت بطلته جائزة التمثيـل األولـى لوال المنافسـة الضارية التـي حرمتهـا إياهـا .وفيـه تعانـي البطلـة مـن أزمـة الضميـر ألنهـا وشـت بزميلهـا اليسـاري حتـى تحصـل علـى فرصـة العـودة إلـى بكيـن تاركـة حيـاة الفقـر والعـوز فـي الجبال وحتـى ُتربي نتظـر فـي وضع جيـد ،كانت الم َ جنينهـا ُ هـي وزميلهـا فقـط المؤهليـن للعـودة، لكـن البـد مـن اختيار عائلـة واحدة فقط لذا خانت ضميرها ،وظلّت تلك المسألة تؤرقهـا وهـو مـا ُيفسـر الحقـ ًا العالقـة المتوتـرة والمرتبكـة مـع ابنهـا األصغر الذي كلما رأته تذكرت خيانتها المريعة والتـي نتـج عنها تدهور أحوال وصحة زميلهـا ومعانـاة أسـرته وحفيـده الـذي تحول إلى مجرم .التواجد اإليراني كان ّ بارزًا ومكثف ًا ولم يخرج من دون جوائز، فرغـم أن فيلـم «الرئيـس» لمخملباف لم يرق لتوقعات النقاد ،لكن فيلم اإليرانية َ راخشان بني اعتماد «حكايات» ،Tales الـذي يسـرد قصصـ ًا متباينـة وجريئـة
تعيشـها نسـاء مـن شـرائح اجتماعيـة مختلفـة ،حصلت مخرجتـه على جائزة أحسـن سيناريو في المسابقة الرسمية باالشتراك مع الكاتب فريد مصطفاوي. وبتوقيع إيراني وإنتاج أجنبي شـارك فيلـم « 99منـزل» للمخـرج األميركي من أصـل إيرانـي راميـن بهراني ،وشـاركه كتابة السـيناريو المخـرج اإليراني أمير نادري ،واألخير ُعرض له فيلم وثائقي عن فن السينما وهو عبارة عن محادثة مـع المخـرج األميركـي أرثـر بـن ،حـول المخرج ونشـأته وحياته .أما سيناريو « 99منـزل» فيتنـاول بأسـلوب إيقاعـي متوتـر الهـث أزمـة العقارات فـي أميركا يتحـول وفسـاد رجـال البنـوك وكيـف ّ الضحيـة إلـى جلاد جديد إلنقـاذ عائلته بعد أن يتم طرده من مسـكنه ألنه عجز عن تسديد األقساط في مشهد مؤلم جداً، يتـردد في أن لكنـه تحـت إغـواء المال ال ّ يتحول إلى كرباج للجالد إلى أن تلمس ّ روحـه صحـوة الضمير تحـت تأثير أمه وابنـه فيقـرر أن يتوقـف .كذلـك شـارك راميـن بهرانـي بفيلـم – lift you up - 8ق بمسـابقة الفيلـم القصيـر دون أن يحصـل علـى جوائز. وباستثناء وجود المخرج الفلسطيني إيليا سليمان بلجنة التحكيم الرسمية، اقتصـر حضـور السـينما العربيـة علـى البرامـج الموازيـة ،ففـي تظاهـرة آفـاق جديـدة التـي تضمنـت عـرض 17
فيلمـ ًا شـارك ضمنهـا المخـرج األردنـي الواعـد نـوار أبـو ناجي بفيلمـه الروائي األول الطويـل «ذيـب» أي (ذئـب) إنتـاج مشـترك بيـن األردن وقطـر واإلمـارات وبريطانيـا .وتـدور وقائـع الفيلـم الذي ـو َج بجائـزة أفضـل مخـرج فـي (آفـاق ُت ِ جديـدة) علـى طريقـة أفالم الويسـترن، لكن في صحراء األردن ،ويتناول قصة الفتـى البـدوي ذيـب وشـقيقه حسـين اللذيـن يتـركان قبيلتهمـا فـي رحلـة مـع أجنبـي يبحـث فـي الصحـراء عـن بئـر ميـاه صالحـة للشـرب أثنـاء مطلـع الثـورة العربيـة الكبـرى ضـد األتـراك، لكنهمـا يتعرضـان إلى مذبحة يقتل فيها الجميع باستثناء الطفل ذيب الذي ينجو بإلقاء نفسـه في البئر ،ثم يسـعى للثأر واالنتقـام مـن الخائـن .ورغـم أن أغلـب فريـق العمـل مـن األجانـب ،وموضـوع السيناريو ال ينطوي على قضية مهمة، إال أن الفيلم يكشـف عن موهبة متمكنة وصاعـدة فـي عالـم اإلخـراج. السـينما الفلسـطينية شاركت بثالثة أفلام ،منهـا الفيلـم التسـجيلي الطويـل «أنا مع العروس» ،اشترك في إخراجه الفلسـطيني خالـد سـليمان الناصـري مـع اإليطالييـن أنطونيـو أوجوجليارو وجابريللـي ديـل جرانـدي .والفيلـم يتنـاول محاولـة تهريـب خمسـة أفـراد سـوريين ،مـن بينهـم اثنـان يحتفلان بعرسـهما بـدءًا مـن األراضـي اإليطاليـة مرورًا باألراضي الفرنسية إلى الدنمارك وصـو ًال إلـى السـويد .إلى جانـب الفيلم القصيـر «فـي الوقـت الضائـع» إخـراج رامـي ياسـين الـذي يشـاركه البطولـة مكـرم خـوري .ثـم فيلـم «فيلا تومـا» للمخرجـة سـهي عـراف ،والـذي أثـار الكثير من المشـاكل في إسـرائيل منذ أن تـم اإلعلان عـن مشـاركته فـي عـروض فينيسـيا ،لكـون مخرجتـه تلقـت دعمـ ًا مـن أكثـر مـن جهـة إسـرائيلية دون أن تنسـب الفيلـم إلـى إسـرائيل ،لكـن رغـم الضجة التي خلفها الفيلم فإنه لم يحظ بترحيـب النقـاد ،خاصـة إذا أخذنـا فـي عين االعتبار رتابته وسـقوطه المغرق فـي الذاتيـة. 131
تورونتو
الطريق إىل األوسكار
تورونتو -سوزان سامي جميل اختتمت الدورة الـ 39لمهرجان األفالم العالمية « 14 - 4أيلول/سـبتمبر» الذي تقيمـه مدينـة تورونتـو العظمـى -كمـا يسـميها الكنديـون -عاصمـة مقاطعـة أونتاريـو فـي كنـدا .وكانـت دورة هـذا العـام قـد عرفـت مشـاركة 393فيلمـ ًا سـينمائي ًا من شـتى دول العالم ،تباينت مواضيعهـا بيـن درامـا طويلـة وقصيـرة وأفلام كارتونيـة ووثائقية ،إال أن 143 فيلمـ ًا مـن مجمـوع األفلام المشـاركة تـم عرضها ألول مرةُ .افتتح المهرجان بفيلم «القاضي» ،وهو من إخراج ديفيد ويبكنز وبطولـة روبـرت داوي االبـن وروبـرت 132
دوفيـل ،فيمـا ُاختيـر الفيلـم البريطانـي «فوضـى قليلة» الختتـام المهرجان وهو مـن إخـراج آليـن ريكمـان وبطولـة بطلة فيلـم «تايتانـك» كيـت وينسـلت. تـوزع برنامـج العـرض علـى صاالت ّ السـينما فـي تورونتـو وضواحيهـا ،وقد كاملا خصـص منظمـو المهرجـان يومـ ًا ً لـكل ممثل مشـارك ُتعرض فيه مختارات مـن أفالمـه ،وكان اليـوم األول ُمخصص ًا للممثل بيل موراي .الحضور العربي كان واضحـ ًا فـي المهرجـان ،حيـث اشـتركت عدة دول عربية بإنتاج منفرد أو مشترك مـع دول غربيـة ،ومـن هذه األفالم :فيلم «نوم عميق» للمخرجة الفلسطينية بسمة الشـريف« .،عيـن وحورية بحـر» إخراج
شـهد أميـن« .ملحمـة أوديسـا العراقيـة» إخـراج سـمير .والفيلـم الكارتونـي «النبي» لجبران خليل لمحمد سعيد حرب وآخرين« .ضوء» إخراج ياسمين كراجا. «اإلطـار الضيـق لمنتصـف الليـل» إخراج تاال حداد« .عاصفة أكتوبر» إخراج ربى نـّدا« .كلمـة واحـدة» إخـراج مريـم سـيلال خـادي سـيلال« .ذيـب» إخـراج ناجي أبو نـوار« .الـوادي» إخـراج غسـان سـلهب. «فيللا تومـا» إخـراج السـورية سـهى عـراف« .المطلوبـون الثمانـي عشـر» إخـراج أميـر شـوميلي ،وفيلـم «الدبلـوم الوطنـي» إخـراج داوود حمـادي. وقـد توجـت األفلام العربيـة بجوائـز المهرجـان؛ منهـا جائـزة أفضـل فيلـم سـينمائي معاصـر لفيلـم «الـوادي» لغسـان سـلهب ،وهو من إنتاج لبناني/ فرنسي /ألماني /قطري /إماراتي ،أما جائـزة أفضـل لقطـات خارجيـة فقـد فـاز بها فيلما «ليبارك اهلل فرنسا» إخراج عبد المالـك ،بإنتـاج فرنسـي ،وفيلـم «فيلا تومـا» للسـورية سـهى عـراف ،وهو من إنتـاج فلسـطيني ،وأيضـ ًا جائـزة أفضل صناعـة للمغامـرة لفيلم «ذيـب» للمخرج اللبناني ناجي أبو نوار ،إنتاج أردني/ قطـري /إماراتـي /إنجليزي .كما حصل الفيلم الوثائقي العراقي «ملحمة أوديسا العراقيـة» وفيلـم «الدبلـوم الوطنـي» لداوود حمادي على جائزة أفضل فيلمين وثائقيين. ومـن األفلام التـي لفتـت األنظـار في هـذه الـدورة؛ فيلـم «نظريـة الكل شـيء»
مـن إخـراج جيمس مـارش وبطولة ايدي ويدمـان ،وتحكـي قصـة الفيلـم السـيرة الذاتية للعالم البريطاني الشهير ستيقن هاوكينـغ الـذي أصيـب بمـرض التصلـب الشـديد لضمـور العضلات وهـو طالـب فـي الجامعـة والقصة ُطرحت من منظور عالقتـه بحبـه األول جين وايلد .كما حاز كل من الفيلمين «الزاحف ليالً» من إخراج جيك كيلينهال وفيلم «طائر الفينيق» من إخـراج كريسـتيان بيتزولـد علـى إعجاب النقـاد .وكذلـك فيلـم «أليس التـزال هنا» الـذي تألقـت فيـه جوليانـا مـور فـي دور أستاذة جامعية تصاب بمرض الزهايمر . وقـد أسـفرت نتائـج مسـابقة األفلام األجنبيـة بفـوز فيلـم «لعبـة المحـاكاة» مـن إخـراج مورتيـن تايلـدم بجائـزة
أفضـل اختيـار للجمهـور ،مناصفـة مـع فيلـم «تعلـم السـياقة» للمخرجـة ايزابيـل كويكسـت وفيلـم «القديـس فنسـنت» للمخـرج ثيـودور ميلفـي ،فيما نـال فيلم «دقـات انتونوف» للمخرج هاجوج كوكا بجائـزة الجمهـور فـي صنـف األفلام الوثائقيـة .مناصفـة أيضـ ًا مـع فيلـم «تقديم» للمخرج إيثان هاوك .كما حصل فيلـم «مانفعلـه فـي الظل» للمخـرج تايكا ويتيتـي وجيميـن كليمنت حسـب اختيار الجمهـور بجائـزة جنـون منتصف الليل، مناصفـة مـع فيلـم «الناب» إخـراج كيفن سـميث ،وفيلـم «اللعبـة الكبيـرة» إخراج جلمـاري هيلينـدر . وذهبـت جائـزة أفضـل فيلـم كنـدي طويـل إلـى مكسـيم غيروكس عـن فيلمه «فيليكس وميرا» مناصفة مع فيلم «بانغ
بانـغ بيبـي» لمخرجـه جيفيـري سـانت يوليـوس .بينمـا كانـت جائـزة أفضـل فيلـم كنـدي قصير من نصيب فيلم «مذيع األخبـار الجويـة ومالكـم الظـل» إخـراج راندال أوكيتا .في حين ُت ِو َج فيلم «جسد منفرد» للمخرج سـوتيريس داونوكوس كأفضـل فيلـم عالمـي قصيـر .أمـا جائـزة العـرض الخـاص فكانـت مـن نصيب فيلم «خـارج الذهن» للمخـرج أورن موفرمان. وأخيـرًا فيلـم «مارغريتـا ،مـع القصبـة» للمخـرج شـونالي بـوس فـاز بجائـزة أفضـل فيلـم آسـيوي عالمـي. الجديـر بالذكـر أن األفلام التـي تتـوج في مسابقات تورونتو السينمائي ترشح غالبـ ًا لجوائـز األوسـكار ،لذلـك يحـرص المخرجـون والمنتجـون علـى المشـاركة فـي هـذا المهرجان. 133
مسرح
مشهد من مسرحية «خميس في باريس» - 1976تأليف :سامي المناعي -إخراج :بدر الدين حسنين
تأصيل المسرح العربي (الحالة َ الق َ طريّة)
د .مرزوق بن بشري بن مرزوق باحث وكاتب قطري
134
باهتمام ال ومضمون ًا حظيت مسألة تأصيل المسرح العربي بصفة عامة شك ً ٍ وحرص شــديٍد من القائمين على الشــأن المســرحي ،ونتج عن هذا كبير، ٍ ٍ االهتمام والحرص إشكال حول الجذور التاريخية للمسرح عند العرب؛ هل عرف العرب المسرح؟ وانقسم الرأي في ذلك ،بأن هناك فرق ًا بين األصالة والتأصيــل ،حيث يــرى األصالة تعني الثبات ،وجــودة الرأي ،والقاعدة تفرع واألســاس الــذي يقوم عليه الشــيء ،فإذا غاب األصل ينعــدم كل ما َّ ــس عليه ،أما التأصيل من (وجهة نظره) فهو أقل درجة من منه أو ما ُأ ِس َ األصالــة ،حيث ضرورات التغيير االجتماعي الملحة عادة ما تفرض على المجتمــع التخلّي عن كثيــر مما فيه من أعراف وتقاليــد ،ولكنها ال تفرض إلغــاء التــراث أو اســتئصال الثقافــة والهويــة ،وإنما تؤدي االســتجابة بالضرورة إلى ابتداع صيغ مالئمة.
من مسرحية «على جناح التبريزي»
ويعـرف الدكتـور محمـد غنيمـي هلال ِّ األصالـة بأنها ليسـت بقـاء المرء في حدود ذاته ،وليست هي إباء التجاوب مع العالم الخارجـي ،لكـي يبقـى المـرء كما هـو دون تغيير أو تحوير ،ولكن األصالة الحق هي مظـان خارجة عن القـدرة علـى اإلفـادة من ٍ نطـاق الـذات حتى يتسـنى االرتقاء بالذات عـن طريـق تنميـة إمكانياتهـا( ،)2ويتبين مـن هـذا التعريـف لألصالـة بأنهـا دعـوة للتجـاوب مـع الثقافـات األخـرى فـي إطـار األصالـة ،وبهـذا يتحقّـق مفهـوم التأصيـل فـي الثقافـة العربية. األصالـة إذن تعنـي الثبـات ،وأصـل األشـياء ومرجعيتها ،أما التأصيل فيعني المرونة والبناء على ما مضى واالستفادة مـن المبـادئ والتقاليـد األصيلـة فـي ثقافة األمة. ومحاوالت تأصيل المسرح العربي ،هي إحدى الطرق التي تعامل بها المسـرحيون العـرب مـع المسـرح حيـث كان االقتبـاس والترجمـة مـن المسـرح الغربـي الوسـيلة األخرى في ذلك التعامل ،وكان الغرض من تأصيل المسرح ،هو التأكيد على األصالة والهويـة العربيـة ،وكذلـك االختلاف عـن اآلخـر ،وربـط المسـرح بالثقافـة والبيئـة االجتماعيـة العربيـة ،وهمومهـا الماديـة والمعنويـة ،وكانت تهـدف في النهاية إلى
الجمع بين األصالة والمعاصرة ،والتوفيق بيـن التـراث العربـي واإلسلامي واإلطـار الغربـي للمسـرح .يشـير الباحـث جميـل حمداوي عمر في بحثه المنشور على شبكة اإلنترنـت إلـى أن تأصيـل المسـرح يتـم من خلال أشـكال مختلفة هي: تأصيـل المسـرح العربـي اعتمـادًا علـى المضمـون التراثـي. تأصيـل المسـرح العربـي ارتـكازًا علـى الشـكل أو القالـب التراثـي. التأصيـل النظـري (بيانـات وتصورات وورقـات نظريـة حـول أصالة المسـرح). التأصيل التطبيقي (نصوص وعروض مسرحية تأصيلية مضمون ًا وقالباً).
المسرح العربي والتراث:
من المعلوم أن بدايات المسرح اإلنساني ـت مـن خلال الممارسـات وعِرَف ْ انطلقـت ُ الطقوسـية ،وارتبـاط حكاياتهـا بقصـص اآللهة وصراعاتها (الميتافيزيقية) ،وكانت تلك الصراعات هي المادة الخام التي بنى عليها المسرحيون األوائل أعمالهم الفنية، خصوصـ ًا مسـرحيين مثـل يوروبيـدس وأرسـتوفاينس وسـوفوكليبس الذيـن شكلوا جيل الرواد للمسرح اإلغريقي .ومن ّ ذلـك المنطلـق دعـا الكثير من المسـرحيين العـرب إلـى ربـط تأصيل المسـرح العربي
ال ومضمونـاً ،ومنهـا الدعـوة بتراثـه شـك ً التـي أطلقهـا الدكتـور يوسـف إدريـس فـي عام 1963م بضرورة خلق مشروع عربي نصاً ،وروحاً ،وشكالً ،ومضموناً ،والذي أطلق عليه (مسـرحة المسرح) ،ولقد نحى عـدد كبيـر مـن المسـرحيين العـرب نفـس المنحـى فـي الدعـوة إلـى مسـرحية عربية ذات شخصية خاصة بها ،مسرحية تجمع بيـن األصالة والمعاصرة ،ولقد كان لتلك الدعـوات مسـتجيبيها ،حيـث عمـل عدد من المسـرحيين علـى العـودة إلـى التـراث العربـي واإلسلامي السـتلهامه ،آمليـن تحقيـق مسـرح عربـي مسـتقل ومعبـر عـن الثقافـة العربيـة األصيلة. أعمـال وعلـى ضـوء ذلـك انطلقـت ٌ مسـرحية ،آخـذة في اعتبارهـا ذلك النهج مـن اسـتلهام التـراث فجـاءت مسـرحيات الكاتـب ألفريـد فرج ،مثل مسـرحية (حالق بغـداد) عـام 1963م ،ومسـرحية (علـي جناح التبريزي وتابعه قفة) عام 1969م، ومسـرحية (رسـائل قاضي إشـبيلية) عام 1975م ،ومسرحية (سليمان الحلبي) عام 1965م ،التي استمدها من حادثة تاريخية واقعيـة تحكـي عـن شـاب عربـي مـن حلب ذهـب ليتعلّـم فـي األزهـر الشـريف بمصـر وتمكن هناك من قتل قائد الجيش الفرنسي ّ وتمكن ألفريد فرج (كليبر)، واسـمه حينها ّ فـي هـذا العمـل مـن تقديـم تراجيديـا عربية يتصـف فيهـا سـليمان الحلبـي بمواصفات البطـل التراجيدي األرسـطي. واسـتمرت محـاوالت اسـتلهام التـراث العربي والتاريخ والحكايات الشـعبية مع كّتاب آخرين مثل :سعد اهلل ونوس ،الذي قـّدم لنـا (مغامـرة رأس المملوك جابر) في قالب حكواتي جذاب ،ومسرحية (الملك هو الملك) ،وكذلك الطيب الصديقي الذي عمل علـى تطويـر ما يسـمى بمسـرح الحلقة في (ديوان سـيدي عبد الرحمن) ،واستفاد من مقامـات بديـع الزمـان الهمذانـي في تطوير ذلك النوع من المسرح ،وكذلك عبد الكريم رشـيد فـي أعمالـه االحتفاليـة ،ومحاوالت قاسم محمد في توظيف الموروث الشعبي في أعماله ،وغيرها من المحاوالت العربية الجـادة التـي أدت إلـى اإلسـراع فـي عملية تأصيـل الفـن المسـرحي العربـي ،وإيجاد سـمة وصيغـة خاصـة بـه ( ،)3ويالحـظ المتابعـون لمحـاوالت تأصيـل المسـرح العربـي بـأن المسـرحيين العـرب اعتمـدوا 135
علـى ثالثـة مصـادر أساسـية اسـتلهموا منها أعمالهم المسـرحية ،وذلك كما يشـير أحمـد سـعيد الديـن في مداخلة على شـبكة اإلنترنـت وهي: -1المصـدر التاريخـي :حيـث يعتمـد المسرحيون على حوادث التاريخ ووقائعه واالستفادة منه زماني ًا أو مكاني ًا أو كليهما، ويعمدون على تفكيك الوقائع التاريخية، ومـن ثـم يعيـدون تركيبهـا مـن جديـد فـي عمليـة انتقائيـة ،لدعـم فكـرة أو قضيـة معاصرة. -2المصـدر التراثـي :حيـث يتوجـه المسـرحي العربـي إلـى الحكايـات األسـطورية والخرافيـة أو القصـص الشـعبية مثـل (عنتـرة بن شـداد) و(سـيرة بنـي هلال) و(مقامات الهمذاني) و(قصص البخلاء) وقصـص ألـف ليلة وليلـة ،وهنا أيض ًا يلجأ المسرحي العربي ليعيد تركيب تلك الحكايات واألساطير ويوظفها للوقت الراهن ،والوصول من خاللها إلى رسائل معاصـرة. -3المصـدر الشـعري :اعتمـد عـدد مـن كتـاب المسـرح العربـي منـذ انطالقته على التراث الشـعري العالمي ،وكان من أوائل مـن كتبـوا ومـن نظمـوا المسـرحية شـعرًا الشـاعر أحمد شـوقي وعزيز أباظة ،حيث كتبـوا أعمالهـم المسـرحية بطريقة الشـعر العمودي ،ولربما كانت االنطالقات األولى للكتابـة المسـرحية شـعراً ،جـاءت تقليـدًا للتراجيديـا اليونانية ،وقد نضجت الكتابة للمسـرح بلغـة الشـعر علـى يـد كتـاب مثـل الشاعر صالح عبد الصبور ،الذي استلهم المسـرح الدرامـي ،واقتـرب من لغة الحوار الشـعري ،ويطلـق النقـاد علـى المرحلـة األولـى مـن اسـتخدام الشـعر فـي المسـرح اسـم (المسـرح الشـعري) ،حيث كانت لغة الشـعر هـي البـارزة علـى حسـاب الدراما، أما المرحلة الثانية فأطلقوا عليها (الشـعر المسـرحي) ،حيـث وظـف الشـعر للدرامـا، وتطور األحداث ،وأصبح جزءًا من النص ال أو مفروض ًا عليه، المسرحي وليس دخي ً ويعتبر الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي من أهـم رواد هـذه المرحلـة ،ويتضح ذلك في مسرحياته (الفتى مهران) و(الحسين ثائراً) و(الحسـين شهيداً). نالحظ مما سبق ،أن محاوالت تأصيل المسرح العربي سواء أكانت التي اعتمدت علـى وقائـع التاريخ ومصـادره المتنوعة 136
ألفريد فرج
سعد اهلل ونوس
إلى ما نطلق عليه تأصيل المسرح العربي أي االستفادة من تراث الماضي والتاريخ فـي ُأطـر وقوالـب المسـرح الحديـث ،وهذه االسـتفادة ال تقلل من شـأن األمة وثقافتها اإلنسانية ،بل تؤكد انفتاح الثقافة العربية علـى اآلخـر ،واسـتيعابها لكافـة المظاهـر اإلنسـانية وتوظيفها للثقافة األم.
(الحالة القطرية)
عبدالكريم برشيد
وشـخوصه ،أم تلـك التـي اعتمـدت علـى التراث من حكايات وأساطير وخرافات ،أم التي استلهمت التراث الشعري ووظفت لغة الشـعر في بناء الحدث المسرحي ،نالحظ أن جميعهـا بقيـت ملتصقـة ومسـتفيدة من تقدم اإلطار الغربي لشكل المسرحية ،ولم ِّ لنـا تلـك المحاوالت رغم جديتها ،أسـاليب تفردة عن ذلك المسـرح، فنية ُم ِّ تميزة أو ُم ِّ وكل مـا تـم القيـام بـه هـو توظيـف شـكل المسـرح العالمـي وأطـره فـي مضاميـن مرتبطـة بواقـع اإلنسـان العربـي وهمومه وتطلعاته ،وهذا ما يؤكد لنا بأن محاوالت البحـث عـن أصـل للمسـرح العربـي ،أدت
الراصد لظاهرة تطور المسرح القطري ونشـوئه التـي بـدأت مـن منتصـف القـرن العشـرين ،ربمـا ينتهـي بـه األمـر ،بـأن المسـرح فـي قطـر ومنـذ بداياتـه األولـى لم تعنه ظاهرة تأصيل المسرح بشكل مباشر، وال يبدو أن هناك تأثرًا مباشرًا بالمحاوالت التي قام بها بعض الكّتاب والمثقفين العرب في دول عربية مثل سورية ومصر وبعض أقطـار المغـرب العربي ،ولقـد توجهت ُجّل مواضيـع المحـاوالت المسـرحية فـي قطـر وحتـى بدايـة سـبعينيات القـرن الماضـي إلـى القضايـا المحليـة الراهنـة ،والتـي كان معظمهـا يتنـاول المشـاكل الحياتيـة االجتماعيـة المباشـرة ،مـن غلاء المهور، وغلاء األسـعار ،وقضايـا اإلرث ،أمـا مـن الناحيـة الشـكلية أو اإلطاريـة؛ فلقـد كانت قدم بشـكل اسكتشات معظم المسـرحيات ُت َّ هزليـة علـى منصـات األنديـة الرياضيـة واالجتماعية أو على منصات المعسـكرات الكشـفية ،وذلـك قبـل انتقالهـا إلـى منصة مسـرحية مسـتقلة فـي أوائـل سـبعينيات
الطيب الصديقي
قاسم محمد
محاوالت تأصيل المسرح العربي التصقت واستفادت من اإلطار الغربي لشكل المسرحية، لكنها لم تق ِّدم رغم جديتها ،أساليب فنية ُمتفرِّدة ومكتملة. القـرن الماضي. وربمـا يعـود عـدم االهتمـام بالتأصيـل المسـرحي إلـى أسـباب عـدة مـن بينهـا، انشـغاالت المؤسسين األوائل للمسرح في تقديم أعمال جماهيرية جاذبة ،تتعامل مع قضايـا الواقع ومشـاكله وفي إطار فكاهي هزلي ،ومن خالل نصوص مرتجلة وغير مكتوبـة وتؤَلـف فـي حينهـا ،منطلقـة مـن الواقـع اليومـي المعاشـي ،وكان معظمهـا يعتمـد علـى أفـكار منقولـة مـن مسـرحيات عربيـة أو حكايـات وليـدة اللحظـة .ومـن الطبيعـي أن مثـل هـذا المنـاخ المسـرحي، ال يتيـح فرصـة للتوقـف والتفكيـر لمسـار مسـرحي يقـوم علـى محـاوالت التأصيـل. إضافة إلى ذلك ،أن القائمين على المسرح فـي ذلـك الوقت ،معظمهـم من الهواة الذين تعاملوا مع المسرح كهواية ،وشغل أوقات الفـراغ .وقـد أدى عدم وجود كتابات نقدية صاحبـت بدايـات قيـام المسـرح فـي قطـر، إلـى غيـاب الدعـوة إلـى تأصيـل المسـرح القطـري أسـوة بالدعـوات التـي قامـت فـي عـدد مـن الـدول الغربيـة ،لكن هـذا ال يعني
بأن المسرح القطري منذ بداياته األولى قد أغفـل األعمـال ذات المضاميـن التاريخيـة، فلقـد اعتمـد فـي مصـادره ،وخصوصـ ًا في مطلع الستينيات الماضية ،على المسرحية التاريخيـة مثـل مسـرحية «بالل بـن رباح» التي قدمتها مدرسـة الدوحـة عام 1959م، ومسـرحية «عالـم وطاغيـة» مـن تأليـف الدكتور يوسـف القرضـاوي ،والتي قدمها المعهـد الدينـي عـام 1969م ،ومسـرحية «صقـر قريـش» ،التـي قدمتهـا فرقـة المسـرح القطـري فـي أوائل السـبعينيات، ولقـد نهـل المسـرح القطـري ،حتـى فـي بداياتـه االرتجاليـة مـن التـراث البحـري، الـذي اسـتلهم مـن حكاياتـه وأسـاطيره. شـكلت العـودة إلـى التـراث البحـري ولقـد َّ واستلهامه من أهم المصادر التي كان يعود لهـا مسـرحيون مثـل عبـد الرحمـن المناعي وحمـد الرميحي. كان عـام 1972م ،هـو بدايـة االعتـراف الرسـمي لقيام أول فرقة مسرحية ،تمتلك معظم أدوات العمل المسرحي من نصوص مكتوبـة ،وخشـبة مسـرح ،وتقنيـات فنية
التي تصاحب العرض المسرحي ،وال يمكن تجاهـل قيـام اجتهادات مسـرحية سـابقة، خصوصـ ًا تلك التـي كانت تقوم بها «فرقة األضـواء الموسـيقية» ،والتـي جمعت بين الفن الموسيقي والفن المسرحي ،لكنها لم ترتـق ،خصوصـ ًا فـي الجانب المسـرحي، إلـى المسـتوى الـذي وصلـت إليـه الفـرق التـي نشـأت بعدهـا( ،وعمومـ ًا هـذا البحث غير معني بتاريخ نشـأة قيام المسـرح في قطـر) ،وإنمـا ما يعنينا هـو األعمال الفنية التـي قدمـت بـدءًا مـن بدايـة السـبعينيات والمرتبطـة باالقتـراب مـن ظاهـرة تأصيل المسرح .ويمكن القول بأن المسرح القطري بدايـة مـن تلـك الحقبـة اعتمـد فـي محاولـة اقترابـه مـن تأصيل المسـرح «قصـدًا أو من غير قصد» إلى مصدرين أساسـيين وهما: المصـدر التراثـي .والمصدر التاريخي. تأثـرت الثقافـة القطريـة سـلب ًا وإيجاب ًا ببيئـة البحر وبيئـة البر ،وهاتان البيئتان وإن بدتا متباينتين إال إنهما عند القطريين تمثلان بيئـة واحـدة تنفتـح األولـى علـى الثانية ،وتنفتح الثانية على األولى ،فلقد آن عـرف القطريـون بيئـة البر والبحـر في ٍ واحٍد ،فثقافة البحر وثقافة البر حاضرتان دائمـ ًا عنـد القطرييـن سـواء أكانـت فـي السـلوك ،أم التصرف ،أم اإلبداع ،فعندما تنتهـي مواسـم البحـر يتوجـه القطريـون إلـى مواسـم البـر ،وقـد سـاعدت سياسـة حـكام قطـر منـذ القـدم علـى تعزيـز ودعـم هـذا التداخـل واالندمـاج بيـن البيئتيـن، فـكان حكامهـا رجـال بحـر ورجـال بـر، وقـد سـاعدت مسـاحة قطـر الصغيـرة على تقصير المسـافات بين أطرافها ،مما سـاعد على انتقال مواطنيها بيسـر وسـهولة بين مناطقهـا ،علـى الرغـم مـن صعوبـة توافر وسـائل المواصلات فـي ذلـك الوقـت. وقـد سـاهم االندمـاج بيـن سـكان قطـر فـي تداخـل الثقافتيـن البحريـة والبريـة، ونتـج عـن ذلـك رافـد ثقافـي مشـترك .كما تـوارث القطريـون هـذه الثقافـة المشـتركة أبـ ًا عـن جـد ،واسـتمدوا منهـا رموزهـا ومضامينهـا وحكاياتهـا وأسـاطيرها، وتناقلتهـا األجيـال فيمـا بينهـا ،ولقـد ظهر ذلـك فـي أشـعارهم وأغانيهـم ورقصاتهـم ومالبسهم ومسمياتهم ،وتصرفهم اليومي، ومكونـات منازلهـم ،وفـي كافـة جوانـب حياتهـم المعيشـية. ولقد أفرزت الثقافة أنماط ًا من الفنون، 137
مثل فنون البحر ،التي تبدأ بأغاني الوداع علـى السـواحل ،واألغانـي علـى ظهـر السـفينة وأغانـي العـودة واالسـتقبال، كمـا منحـت الصحـراء ثقافـة مثـل فنـون العرضـة ومسـابقات الشـعر ،وسـباقات الخيـل والجمـال ،وصناعة بيوت الشـعر. ويبـدو أن التـراث الثقافـي سـواء أكان البحـري أم البـري ،لـم ينقطع عند األجيال ـف فـي كثيـر مـن األعمـال الحديثـة فقـد ُو ِظ َ أغـان وشـعر وفنـون تشـكيلية الفنيـة مـن ٍ ومنحوتـات ،وأخيـرًا وليـس آخـرًا الفـن المسـرحي ،فلجـأ حمـد الرميحـي وعبـد الرحمـن المناعـي ،وهمـا أكثـر مـن يشـكل ظاهـرة اللجـوء واالقتـراب مـن تأصيـل المسـرح فـي قطـر فـي العديـد مـن أعمالهما المسـرحية إلـى التـراث كمصـدر مهـم اسـتلهما منـه أفكارهمـا ،واسـتعارا منـه حكايـات الماضـي وأسـاطيره ليسـقطاها علـى الواقـع ،وتبـدو هـذه الظاهـرة أكثـر وضوحـ ًا عنـد حمـد الرميحـي ،الـذي كان يحاول أن يوظف تراث الماضي ليسـقطه علـى القضايـا المعاصـرة .ولجـأ الكاتبـان إلـى االسـتفادة مـن شـخصيات كالنوخـذة والنهـام ،واألسـاطير مثـل بودريـاه، وحمـارة القايلـة ،وغيرهـا مـن مفـردات التـراث ليوظفاها في أعمالهما المعاصرة. في عام 1975م َقّد َم عبد الرحمن المناعي أهم أعماله وهي مسرحية «أم الزين» التي وشـكل أخرجهـا المرحـوم هانـي صنوبر، َّ هـذا العمـل الفنـي نقلة نوعية للمسـرح في قطـر ،وفـي هذا العمل اسـتفاد المناعي من التحـوالت االجتماعية التي حدثت في قطر مـا بيـن االنتقـال من مرحلة اقتصـاد البحر إلى الطفرة االقتصادية التي أحدثها النفط، عملا حاول فيه االسـتفادة من إرث ليقـدم ً ِّ تلـك المرحلـة االنتقالية ،ويعـود المناعي عملا ليقـدم ً مـرة أخـرى فـي عـام1982 ،م ِّ مسـرحي ًا يعتمـد هـذه المـرة علـى حكايـة شـعبية ،باسـم «هالشـكل يـا زعفـران»، يعـرض مـن خاللها قصة رحلة فالح داخل إحدى الممالك ،والتي يكتشـف فيها الملك فيمـا بعـد مـا يـدور في الخفاء فـي مملكته، وفـي هـذا العمل حاول المناعـي أن يوظف حكاية شـعبية ليلبسها بقضايا معاصرة. في عام 2001م َقّد َم المناعي مسـرحية «مغـرم هـل الشـوق» ،التـي يقـول عنهـا مؤلفهـا بأنهـا حكايـة تعتمـد علـى أحـداث تاريخيـة واجتماعيـة وحكايـات شـعبية 138
حمد الرميحي
تـدور حـول شـخصيات خليجيـة. ويعـّد عبـد الرحمـن المناعـي ،مـن أكثـر ُ المسـرحيين القطرييـن الذيـن نهلـوا مـن التـراث البحـري ،ووظفـه فـي أعمالـه المسـرحية ،كمـا كان يسـعى أحيانـ ًا إلـى تأليـف أعمـال فنيـة مباشـرة ،لكنهـا تبقـى تـدور فـي إطـار قضايـا البحـر والبـر ،مثـل مسـرحية «شـدوا الظعايـن» التـي قدمهـا عـام 2008م ،وتعرض المسـرحية بشـكل واضـح العالقـة بيـن البـر والبحـر ،عندمـا ينقضي موسـم الغوص مع بداية الشـتاء. ويرحـل أهـل البحـر إلى منازلهم الشـتوية فـي البـرَ .وَقـّد َم المناعـي فـي عـام 1980م عملا لألطفـال باسـم «الحـذاء الذهبـي»، ً والـذي اسـتمده مـن حكايـة في التـراث عن سمكة صغيرة ُيطَلق عليها العوام (فسكرة) وتصغيرها «فسيجرة» ،ويشابه هذا العمل قصـة «سـندريال» فـي األدب العالمي إال أن السـاحرة هنـا تتحـول إلـى سـمكة ،وهـو توظيـف مناسـب للبيئـة المحليـة. توجه المسرحيون القطريون إلى وكما َّ التـراث السـتلهامه وتوظيفـه فـي أعمالهم توجه كاتب المسـرحية المعاصـرة ،أيضـا َّ مثل حمد الرميحي إلى التاريخ وشخصياته السـتلهامه وتوظيفـه فـي أعمالـه ،ومنهـا مسـرحية «أبـو حيـان التوحيـدي» ،التـي عرضهـا الرميحي في عام 2007م ،والتي يقـول عنهـا (فـي مقابلة مع إحدى الصحف القطريـة) بـأن فكرتهـا جـاءت بعـد الغـزو
عبدالرحمن المناعي
األميركي للعراق ،وتخيل فيها (أي المؤلف) أزمـة المثقـف مـع السـلطة ،مشـيرًا إلى أن أحـداث هـذا النـص تـدور بعـد وفـاة البطـل أبـو حيـان التوحيدي ،حيث يحمل جثته ، ويـدور بهـا حـول الوطـن العربي رغبة في الحصول على إذن لدفنها ،ويذهب أو ًال إلى أميـر بغـداد طالبـ ًا منـه اإلذن لدفـن الجثـة، ولكـن األميـر يرفـض طلبـه ،فيغضـب أبـو حيـان التوحيـدي مـن جـراء عـدم االهتمـام بالمثقفيـن أمثالـه ،ويذهـب بجثتـه إلـى أميـر مصـر الذي يرفض بدوره ذلك ،ويمر أبـو حيـان التوحيـدي بجثتـه علـى جميـع الـدول العربيـة ،التـي يرفـض حكامها دفن جثتـه ،باعتبارهـا رمزًا للثقافة على أرض الوطـن ،وبنـاء علـى ذلك يقـوم أبو حيان التوحيـدي بحـرق كل كتبـه ومراجعه التي كتبهـا أثنـاء حياتـه ،نظـرًا ألنهـا ال تليـق بهذه األمة العربية غير المثقفة وال تسـاند الثقافة والمثقفين بأي شيء ،وال تهتم إال باألمـور الماديـة البحتـة ،وقـام أبـو حيان التوحيـدي بحـرق جثتـه وأهـدى رمادهـا للنسـور والطيـور الجارحـة ،وتـرك مـا تبقـى منهـا للذكـرى .فـي هـذا العمـل يذهب الرميحـي إلـى التاريـخ ،لكـي يسـتعير منـه شـخصية تاريخيـة ويلبسـها ثيـاب المعاصـرةَ ،وَي ْعُبـر مـن خاللها إلى قضايا ستعصى عليه طرحها بشكل مباشر، ربما ُي َ ولقـد وجـد الرميحي في شـخصية علي بن محمد العباس المولود في شيراز عام 312
من مسرحية «منصور قاهر العمالقين» 1980- إخراج :سالم ماجد
هجريـة ،إبـان العصـر العباسـي ضالتـه، فلقـد عـاش فـي عصـر «البويهييـن» ،الذين أحدثـوا فـي العـراق الخـراب والفسـاد، وانتقـل إلـى بغـداد طلبـ ًا للعلـم ،والنفوذ، وحظي بداية بالجاه والشهرة والمال ،لكن بسـبب جرأتـه وخطبـه االنتقاديـة ،التـي ـب مـن خاللهـا جام غضبـه على عصره ص َّ َ والحاكميـن والمجتمع ،وقـد اتهم بالزندقة والكفـر ،وقـد أدى به ذلك إلى حرق كتبه، ـع النـاس عليهـا .ربمـا كان ذلك كـي ال َي ّطِل َ نموذج ًا مناسباً ،سعى الرميحي إلى جلبه من التاريخ ويقدمه كنموذج مماثل للمثقف المعاصر. ومـرة أخـرى يعـود الرميحـي فـي عـام 1990م ،إلى التاريخ ليسـتدعي شـخصية تاريخيـة ،وهـي شـخصية أحمـد بـن ماجد فـي مسـرحية باسـم «أسـد البحـار ..أحمـد بـن ماجـد» أعدهـا برؤيـة دراميـة الدكتـور إبراهيـم غلـوم عـن ديـوان «عذابـات أحمـد بـن ماجـد» ،للشـاعر البحرينـي يعقـوب المحرقي ،ويصف إبراهيم غلوم ،أحمد بن يتحول من كونه ماجـد فـي هـذا العمل بأنه ّ شـخصية بحريـة كتبـت بعـض (األراجيـز) وبعض مؤلفات في علم البحار ،ليتجاوز هذا الوضع حتى يكون نموذج ًا لشخصية المثقـف الـذي يواجه أزمة حـادة جدًا تصل إلـى درجـة المأسـاة وهـذه المأسـاة يشـير
إليهـا بعـض أشـعاره ،حيـث يقـول مـن خاللها إنه سيأتي يوم لن يعرفه فيه أحد، ولـن يذكـره فيه أحد ،ولن يجد من يعترف بخصالـه وفضائلـه وعلمه في البحر والبر (صحيفـة العـرب القطريـة يناير/كانـون الثانـي 1990م). وبالفعـل تـم اتهـام ابـن ماجـد بالرذيلـة ِم في علمه ،ويقول إبراهيم والسـكرُ ، واته َ غلـوم مـرة أخـرى «إنـه يركـز علـى همـوم وأحـزان هـذه الشـخصية ،التـي هي هموم واجـه بالجهل وأحـزان كل مثقـف عربـيُ ،ي َ واإلنـكار لـكل مـا قدمـه لوطنـه وأمتـه. ومـن ذلـك المنطلق اسـتعار الرميحي هذه لي ْعُبَر بها إلى الواقع الشخصية التاريخية َ المعـاش ،ويبـرز عذابـات أحمد بـن ماجد، وكأنهـا عذابات المثقـف العربي المعاصر. إذا كان عبـد الرحمـن المناعـي وحمـد الرميحـي توجهـا إلـى اسـتدعاء التاريـخ أحيان ًا والتراث أحياناً ،ال يعني ذلك أنهما انطلقـا إلـى محاولـة مباشـرة إلـى تأصيل المسـرح العربـي ،بـل ربمـا قصـدا مـن ذلك توظيف وسـائل تواصـل مع جماهيرهما، وتمريـر رسـائل ومضاميـن عصريـة لـم يتمكنا من إيصالها بشـكل مباشـر ،سـواء أكانـت ألسـباب رقابيـة صرفـة أم عوائـق اجتماعيـة ،ويصـف الدكتور إبراهيم غلوم فـي بحـث له بعنـوان «الحضور التشـاكلي
للتراث» بأن هناك تشابه ًا بين التراث الذي يصطنعـه المؤلـف مـع التـراث المعـروف فـي التـراث العربـي وتشـابه ًا مـع الحيـاة الراهنـة ،ومـا يتيـح ذلـك مـن قـدرة علـى التخفـي بنعومـة الحمام سلسـلة الرقابات السياسـية واالجتماعية. ولـم يكتـف كل مـن المناعـي والرميحي باسـتدعاء مضامين التاريخ والتراث ،بل عرضـاه مـن خلال اسـتخدام أدوات قريبة مـن البيئـة المحلية مثل النهـام ،والراوي، والكورال الجماعي ،وأغاني البر والبحر، وربـط كل ذلـك بمضمون النـص وأهدافه. علـى وجـه العمـوم ،يمكـن القـول إن المسـرح القطـري لـم يشـغل نفسـه بجدلية البحـث عـن تأصيل المسـرح العربي ،وإن َقـّد َم أعمـا ًال مـن أشـكال المسـرح الشـعبي ال ومضمونـاً ،ويبقـى سـؤال مهم :هل شـك ً دعـوة المسـرحيين العـرب والتـي ارتفعت أصواتهـم بهـا فـي مطلـع السـتينيات مـن القـرن الماضـي لتأصيل المسـرح العربي، هي دعوة ثقافية؟ أم دعوة سياسية؟ وهذا مـا يحتـاج إلـى بحـث آخـر في المسـتقبل. هامش: ( )1د .محمد عزيزة – اإلسالم والمسرح – الدار البيضاء1988 ،م. ( )2محمد غنيمي هالل -األدب المقارن – بيروت. ( )3فاضل خليل – بحث على اإلنترنت – موقع الحوار المتمدن .2007/1/31
139
«هو يف كده»
عن اللص الفاضل لداريفو رضا عطية
عـن نـص «اللـص الفاضـل» للكاتـب قـدم اإليطالـي «داريفـو» صاحـب نوبـل ُي ِّ المخرج المصري عز الدين بدوي مسرحيته لهـذا العـام «هـو في كـده» .وإذا كان النص األصلـي يحمـل بالتقـاء دفتيـه (اللـص الفاضـل) نوعـ ًا مـن الجـدل الناجـم عـن جدليـة اإلسـناد الوصفـي ،فكيـف ُتنعـت اللصوصيـة بالفضيلـة؟ غيـر أن الرؤيـة التـي قدمهـا عـز الديـن بـدوي قـد اسـتبدلت المعطـى اإلنشـائي بالخبـري ،لتحـل المضمـون التعييني للعنـوان لينطلق في مـدى التسـاؤل (هـو فـي كـده؟) ،كمـا أن السـؤال نفسـه الـذي يحمـل طابع الدهشـة 140
والتشككُ ،يحقق في حدوث أمر يبدو أن ُّ مـن الغرابـة تحقّقـه. تتخـذ الرؤيـة الفنيـة لمسـرحية «هـو فـي كـده» (كوميديـا الفارس) قالبـ ًا درامي ًا للحكاية المسرحية ،والكوميديا تقوم فيها بمـا تنشـده مـن إضحـاك علـى المفارقـات المفصليـة التـي تسـهم فـي تحويل مجرى األحـداث عـن منطقيتهـا لما يشـهده البناء الدرامـي مـن مفاجـآت غيـر متوقعة. من البداية تلعب المفاجآت والمفارقات دورهـا فـي تحريـك أحـداث المسـرحية، فاللـص الـذي يقوم بـدوره الممثل (مجدي عبيـد) أثنـاء قيامـه بعملـه بسـرقة أحـد
المنازل في غياب أهل البيت يواجه مأزق ًا باصطحـاب صاحـب المنـزل الـذي يـؤدي دوره الفنـان (محمـود البنـا) المرأة أخرى (نيفيـن رفعـت) اسـتغال ًال لفرصـة وجـود زوجتـه عنـد أسـرتها ،فتكشـف المفارقـة للـص عـن كنـه العالقـة بيـن هـذا الثـري والمرأة التي ترافقه وتواعده من وراء ظهر زوجهـا ،وفـي الوقت نفسـه تتصل زوجة اللـص لالطمئنـان علـى زوجهـا والتحقُّـق مـن وجـوده بالمـكان إلنجـاز مهـام عمله، فتكـون المفارقـة بـأن تخبـر زوجـة اللص صاحـب المنـزل الـذي تظنـه زوجهـا بـأن ال كلفته ال غريب ًا بالمنزل ،فيظنانه رج ً رج ً
زوجـة صاحـب المنـزل بمراقبتـه ،فيكون االرتبـاك والتوجـس بين كال الطرفين في مواجهـة اللـص ،ومـا أن يفصـح اللـص فكـر الرجـل الثـري في عـن هويتـه حتـى ُي ِّ اسـتغالله للخروج من الموقف ،كما تبدو نظرة صاحب المنزل الثري عضو مجلس الشـعب االستعالئية إزاء اللص باعتباره «حرامـي صغيـر» ،وهـو مـا يسـتدعي في خلفيـة الفضـاء الدرامـي المقارنـة بيـن جرائـم أصحـاب الياقـات الزرقـاء مـن لصـوص تكـون أسـمى أمانيهـم السـطو قـدرات المنـازل ،وجرائـم أصحاب علـى ُم َّ الياقات البيضاء من األثرياء وذوي النفوذ والسلطة. ثـم تتوالـى المفارقـات بوصول زوجة صاحـب البيت التي تقـوم بدورها الممثلة الشـابة (خلـود) للبيـت حتـى تجـد فيـه زوجهـا ،فيخبرها بأنه يحاول المصالحة بيـن صديـق وزوجتـه (اللـص وعشـيقة صاحـب المنـزل) ،وفـي هـذه األثنـاء يقاوم -ولو لبعض الوقت -اللص الشريف المخلـص فقـط لمهام عمله وهو السـرقة- رغبـة صاحـب البيـت بالكـذب ،فتكمـن المفارقـة فـي أن اللـص ينفر مـن الكذب أو الخـداع ،حتـى تصـل المفارقـات لذروتهـا بوصـول زوجـة اللـص للمنـزل لرؤيـة زوجهـا ،ووصـول صديق زوجة صاحب المنـزل الـذي يقـوم بـدوره الممثـل الشـاب (مصطفى حمزة) ،فيحاول صاحب البيت إقناع زوجته بأن صديقه (اللص) متزوج من امرأتين ،غير أن األحداث تتشابك إلى ذروة المفارقـة لفقـدان الشـخوص القـدرة سـواء أكانـت علـى التبريـر أم التفسـير. تعمـل الرؤيـة الفنيـة علـى صياغـة سلسـلة حلقية من المفاجآت والمفارقات التـي مـا تلبـث أن ُت َح َـل إحداهـا حتـى تطفـو ُمفارقـة أخـرى أشـّد تعقييـدًا علـى سـطح األحـداث ،كما يعمـل قالب الفارس علـى اسـتغالل هـذه المفارقـات فـي توليد الم ِ عتمدة على مفاجآت المواقف الكوميديا ُ ال ما يطلقه الممثلون من إفيهات وقفشات تسـتدر اإلضحـاك. بدا كذلك -رغم تشابك المواقف -رؤية المخـرج فـي تخطيط حركة الممثلين على خشبة العرض المسرحي ،إذ غلبت عليها المواجهة األفقية للجمهور حتى في معظم حـركات النقلات العرضية ،وكأن الممثل ِ المشاهد يوجه رسالة للجمهور أو يستدرج ِّ
للتماهـي أو االرتبـاط السـيكودرامي مـع العـرض ولـو بالتفكيـر فـي مـآل تلـك المعلّقة المفارقـات ،كمـا عملـت اللوحـات ُ بصالـة العرض على جعل الصالة وكأنها امتداد لخشـبة العرض. وقـد أجاد الفعل السـينوغرافي مواكبة أغراض الدراما المنشودة من المسرحية، إذ أحسـن التوظيـف الديكـوري اسـتغالل المسـاحة الصغيـرة -نسـبياً -للركـح المسرحي ،بحسن توزيع مفردات الديكور التـي اتسـمت بالدقـة والصغـر كاللوحـات والتفاصيـل المعمارية للمـكان ،كاألبواب والشـباك مـع تمركـز قطعة األثـاث األبرز (الكنبة) في مركز الخشـبة ووسـطها ،مما إيحـاء باتسـاع المـكان ورحابته. أعطـى ً أمـا الدفع بالشـخصيات في مدار الخط الدرامـي ،فقـد أسـهم ظهـور شـخصيات جديـدة علـى امتـداد العـرض ودخولهـا فـي الخـط الدرامـي -فـي تنشـيط الميكنـة
الدراميـة وتأكيـد حراكية األحداث وتجديد المفارقـات ،وإذا كانـت سـقطة اللـص بانكشـاف أمـره أشـبه بسـقطة البطـل التراجيـدي -إذ يمثل اللص محور التفاعل بين شخصيات المسرحية ،فسقطته هذه تمثـل انفـراط عقـد بقيـة الشـخوص الذين يوالون السقوط بانكشاف أمرهم وتعرية مـا يمارسـونه مـن خـداع. يخـل التنامـي الدرامـي للمسـرحية لـم ُ من الكشـف عن العلل النفسـية وراء إقدام الشـخوص علـى مـا تقوم به مـن األفعال، فالعشـيقة (نيفيـن رفعت) تقاوم عشـيقها (محمود البنا) الختبار مدى صالبة إرادته وقوة رغبتها فيها ،فتكشف سبب خيانتها لزوجهـا وهـو تسـليمه إلرادتهـا فـي حالة إعراضـه عنهـا أو مراودتها له ،مما ُيبطن الفعـل الدرامـي بدوافعـه النفسـية التـي تظلله. 141
«قبرصيل بوك» ستاند آب ..عوالم افرتاضية بريوت :محمد غندور «قبرصلي بوك» ..عمل انتقادي ساخر، شـرح المجتمـع اللبنانـي ويغـوص فيـه ُي ِّ المخـرج والممثـل اللبنانـي الشـاب هشـام جابـر فـي مشـاكل الحيـاة االفتراضية. علـى مـدى سـاعتين ،يتحـّدث روبرتـو قبرصلـي ،وهـي الشـخصية التـي ابتكرها جابر ويعتمدها في عروضه ،عن كل شيء عـن التعلُّـق بالحيـاة االفتراضيـة ،ومـدى تأثيرهـا علـى تصرفاتنـا الفعليـة ،وتغيـر سـلوك البشـر فيمـا بينهـم ،واإليمـان بـأن مـا يفعلونـه علـى الموقـع األزرق واقعـي، وتبـّدل هـذا الموقـع االجتماعـي مـن موقـع والتعـرف ،إلـى منبـر للتسـلية والمعرفـة ُّ للثـورات العربيـة والحـركات األصوليـة، ومساحة للسياسيين للحاق بنا إلى العالم االفتراضي. وتتميز شخصية قبرصلي بلكنة غريبة ّ وأزياء مزركشة ،وهي شخصية ال تنتمي ألي طائفـة ،ممـا يجعلهـا ال تضـع حـدودًا ويعـرف هشـام جابر شـخصيته لالنتقـاد. ّ كاآلتي :اسمه الحقيقي روبرتو قبرصلي، ُوِلَد في زاروب الصيداني في منطقة زقاق أمه عند البلاط (حـي في بيـروت) ،توفيت ّ تـم عامـه األول ،توفـي والدتـه ،وبعدمـا َأ ّ عمه خوليـو قبرصلي، والـده ليعيـش مـع ّ الـذي علّمـه «أصـول» الهبـل والشـتائم.. فـي صبـاه ،التحـق بالمدرسـة الحربيـة تخصصـة فـي الم ِّ التابعـة لعصابـة شـبقلو ُ نشـل الفتيـات على الموتوسـيكل (الدراجة النارية) ،لكنه سرعان ما ُطِرَد منها بسبب صوتـه المزعـج ومزاجـه ِ العِكـر ...مـا لبث تعرف إلى الكوميديان العالمي ألبيرتو أن ّ عيتاني ،الذي قّدمه إلى الجمهور المولديفي قبـل أن ينطلـق إلـى العالميـة ومنهـا إلـى لبنـان البلـد الذي اختاره القبرصلي ليكون حمامـه الخاص واألخيـر .أجرى حتى اآلن ّ 142
هشام جابر
346عمليـة جراحيـة لتجميل فكه السـفلي مـن دون الوصـول إلـى نتيجة. يرصـد فنـان الــ «سـتاند آب كوميدي»، ظواهر عّدة تجتاح «فيسبوك» ،كـ «داعش» والتفنُّـن فـي طـرق القتـل ،وعرضهـا علـى مواقـع التواصـل االجتماعـي ،والثـورات العربيـة التـي نجحـت افتراضيـاً ،لكنها لم لـق النجـاح ذاتـه فـي الواقـع ،وصفحات َت َ األحزاب اللبنانية والسياسيين في لبنان، إضافـة إلـى العـودة إلـى أول أيـام ظهـور «فيسـبوك» فـي بيـروت ،والروايـات التي رافقت انتشاره ،وعرض بعض النماذج التي طـورت حضورهـا االفتراضـي ،كجمعيات ّ المجتمع المدني ،والممانعين ومن ضدهم ومؤيدي الثورات ،والعروبيين ،والشعراء االفتراضييـن .يتوقـف جابـر -قبرصلـي طويلا عنـد الفئـة األخيـرة .يتحـّدث كيـف ً سـمح الموقـع ألن يكـون الجميـع شـعراء افتراضييـن ،ومـدى ركاكـة مـا ُيكتـب .هذه تحولـت إلى المسـاحة المجانيـة للتعبيـرّ ، عاصفة شعرية تهب من كل حدب وصوب. يتميـز العـرض بجرأتـه وواقعيتـه، وانتقـاده لشـخصيات سياسـية جدليـة
فـي البلـد .ثمـة إصـرار علـى السـخرية مـن الواقع السياسـي واالجتماعي الذي أنتجه المجتمـع اللبنانـي .والصرخـة الكبرى في «قبرصلـي بـوك» ،تكمن فـي التخفيف من النشـاط االفتراضـي ،واللقـاء فـي العالـم الحقيقي لتنفيذ ما نريده ،واالسـتفادة من الخطـوات فـي السياسـة والثقافـة وغيرها مـن المواضيـع. ُيحـاول قبرصلـي فـي عرضـه تقديـم ويتعمـق فـي النقـد الذاتـي قبـل الجماعـي، َّ مشـاكل مجتمعـه قبـل الغوص في مشـاكل المجتمعات العربية ،ويعتمد في ذلك على نـص سـهل ومعبـر ،تتوافـر فيـه مقومـات إضحـاك الجمهـور عبـر جمـل قصيـرة. ويترافـق ذلـك مع حركات وتعابير طريفة يؤديهـا جابـر -قبرصلـي ،بتفاعـل مـع الجمهـور وبـردود فعـل سـريعة ومرتجلـة علـى تعليقـات صـادرة عـن الجمهـور. بهذا العمل يؤكد هشام جابر بأن الحاجة إلـى النقـد الصريح والسـخرية مـن أخطاء السياسـيين فـي البلـد ،والـكالم عـن كل ما هو ممنوع تبقى على رأس أولويات العمل الفنـي في الوقت الراهن.
مقال
بولفار األحالم المكسورة إميل أمني خيل للمرء أن صاحب «بولفار األحالم المكسورة» الفنان ُي َّ النمساوي األصل اإليرلندي الجنسية «جوتفريد هيلنوين» كان في حاجة إلى جدارية كبيرة ،من عشرات األمتار حتى َت َسع غالبية المشاهير من فنانين ،وأدبـــاء ،وكــتــاب ،ومغنّين، قرروا -وألسباب تكاد تكون وسياسيين ،ومبدعين ...من الذين َّ متشابهة -الرحيل مبكراً. هناك حــاالت انكسرت فيها األح ــام ،رغــم أن أصحابها قمة التألّق ،مثل مارلين مونورو على سبيل المثال، كانوا في ّ والبعض اآلخر كان يكفيه ما حقَّقه في رحلة حياته من مال وشهره يعيش بهما لعقود طوال. على مدى عشرين سنة قّدمت المغنية فرنسية الجنسية مصرية األصل روالنــدا جيحليوتي المشهورة باسم «داليدا» نحو ستمئة أغنية ،وباعت نحو مئة مليون أسطوانة ،ما حقَّق لها ربح ًا مالي ًا غير مسبوق ،ولم ُيَقّدر لها التخلُّص من المصير متذرعة بأن «الحياة لم تعد ُتحَتمل». المؤلم ،فانتحرت ِّ في العام 2009أقدمت الممثِّلة البريطانية «لوس جوردون» على شنق نفسها في شقّتها الباريسية الفاخرة ،وقبلها بنحو روائيي أميركا «أرنست همنجواي» أربعة عقودَ ،و َجد أشهر ّ صاحب العمل األدبي البديع «العجوز والبحر» ،نفسه وحيداً، قرر الخالص من الحياة ورغم شهرته التي بلغت اآلفاق فقد َّ بطلقة في رأسه من بندقية قديمة كان يملكها. صِدم األميركيون بخبر انتحار قبل رحيل روبن ويليامزُ ، الفنانة والمغنية السمراء «ويتني هيوستن» التي ُو ِجدت غارقة المهدئة حمامها ،فيما كانت غرفتها مليئة باألدوية ِّ في مغطس ّ والمثبطة للقلق واألرق .ما الذي يجعل روبن ويليامز والمنومة ِّ ِّ الكوميدي الضاحك الذي َس ّطر في تاريخ السينما األميركية أفالم ًا عديدة ستبقى محفورة في األذهان ،يصاب باكتئاب حاد يجعله يشنق نفسه بحزام ،لتمتّد جدارية األحالم المكسورة؟ إنها ظاهرة قديمة جديدة ،وســرد قصص مشاهير العالم المنتحرين يعود بنا إلى الملك يادس ( 63 - 132ق.م) مرورًا بـ «هانيبعل» األسطورة القرطاجي ( 183 - 221ق.م) ونيرون الروماني (68 - 27م) وصو ًال إلى أدولف هتلر (.)1945 - 1889 غير أن منوال حكاياتهم واحد ،منتظم في خيط شديد القرب تحدث عنها والشبهَ ،ج َّرهم إلى الـ «البئر العميقة السوداء» التي َّ طه حسين ،والتي يقصد بها حاالت االكتئاب التي كانت تنتابه، كغيره من الذين ُت َسلَّط عليهم األضواء. ويحدثنا توفيق الحكيم في كتابه «عصا الحكيم» عن القدر، ِّ متنكرًا يمضي إلى وسط المدينة ،وفي جعبته ثالث ويصفه ِّ كرات ،إحداها مكتوب عليها المال ،والثانية الصحة ،والثالثة راحة البال ،وألنه القدر فقد كان قادرًا على التالعب بالكرات
الثالث دون أن تسقط إحداها .وفيما دعا الناس لتقليده لم يستطع أحد من بني البشر التقاط الكرات الثالث ،فكان أحدهم يلتقط كرة المال وكرة الصحة ،وتقع منه على األرض كرة راحة البال ،أو يحتفظ الثاني براحة البال والصحة ويفقد كرة المال ،وهكذا تدور الدائرة. قديم ًا قال أحد الفالسفة إن قلب اإلنسان أقرب ما يكون لشكل المثلث وبما أن األرض كروية ،فلو وضعت الكرة األرضية برمتها في قلب اإلنسان ،فستظل هناك مساحات فراغ روحية ال ّ المادية. العالم حاجات تملؤها ّ تحدث عن إشكالية المعنى نفسه أشار إليه العقّاد ،حينما َّ المعنى والغاية التي تستنزف المبدع ،على نحو خاص ،ذاك الذي يقلقه سعي دائم ومعاناة فكرية ونفسية للحفاظ على ّ وشك عميق قاتل». توازن دقيق بين «يقين سطحي يحدثنا في كتابه «االنتحار» الذي وضعه قبل نحو مئة عامِّ ، عالم االجتماع الفرنسي الشهير «إميل دوركايم» عن الدور السلبي تسب َب فيه تفكيك المجتمع الصناعي االستهالكي للحياة الذي َّ االجتماعية وبنيتها ،وكيف أن تدهور الدعم االجتماعي والنفسي واإلنساني في المدن الكبرى الصاخبة والمزدحمة ،يضغط نحو ثقافة االنتحار لتكون ظاهرة اجتماعية في المدينة الحديثة. انضم إلى رباعياته كتب صالح جاهين ،الذي في إحدى ّ ّ مهدئات ذات نادي المنكسرة أحالمهم من خالل ابتالعه علبة ِّ ليلة حزينة ،يقول: بيحيُره/ تخيُره /يكفيه ما فيه من عقل َّ «ال تجبر اإلنسان وال َّ يغيره». هايشتهي بكره اللي هو ّاه/ اللي النهاردة بيطلبه ويتمن ّ
«بولفار األحالم المكسورة» -جوتفريد هيلنوين
143
تشكيل
أشق النحت من رماد ما ّ املهدي أخريف
المصادفة َق َادْتني إلى ُمَداهمة الفنان َو ْحَدها ُ سعد الحساني في ُعْقر َبْيته اإلبداعي ،في المرسم البحري الكبير الواقع على جانب الشارع الطويلَ :شِارع الحوريات .حدث ذلك َّ عشية من شهر مارس ،بعد جولة تسّكعية ذات ّ َ قصيرة على طرف شاطئ المون في فترة لم َأ ْعتد الخروج فيها من البيتَ .و َجْدُتني أطرق تقطعة. حاد ًة ُم ّ المغَلق طرقات ّ باب المرسم ُ لطخ ًا بمواد إلي «بلباس الميدان» ُم ّ خرج َسعد ّ اءتني «الصنعة» وألوانها .كان يبدو ُمنهكاًَ .ج ْ قبو تحيته الخفية كما لو كانت ً صاعدة من ٍ ّ بادية للعيان ،ودالّة المرئي .أمارات االرتياح ً ٍّ توتر وانخطاف. في ذات اآلن على بقايا ُّ جئت في الوقت المناسب قال. َصب آخر ما تبقَّى انتهيت لقد ِّ لتوي من ِّ ُ في جعبتي من طاقة في عمل جديد ِ أحسبه مفاجأة ِمنّي لنفسي. أما ذلك َت َّقدم .إنه هنا هو ذا أمامك َّ تظر دوره. ن ي أن عليه آخر َف َعَم ٌل ْ َ الفضاء الدرج األربعة ماسح ًا مت ناز ًال ُّ تقّد ُ َ الداخلي للمرسم بنظرة واحدة. أعمال في الجهة السفلى كانت هناك ٌ ولوحات كثيرة ُم ِ بعضها معلّق على تراكمةُ ، بعضها مكتِمل إليها. د ن س الجدران وبعضها ُم َ ُ لوحات متعّددة وبعضها َل ْن يكتمل البتة. ٌ 144
لرسامين محلّيين شباب يبحثون عن طريقهم. ِلَمن هذه المنحوتات السوداء الثالثسألت َس ْعداً: المرممة بالجبس – َّ ُ شابة عرفها حكيم يونانية اتة لنح َّها إن َّ َّ ِ في مدريد فأغراها ِبعشق جماليات هذا الفضاء. تقطعة هنا. الم ِّ َس ْعُد بدوره اختار اإلقامة ُ شيد منز ًال على أنقاض بيت َقديم في قاع المدينة َّ «جنون ُه هرب إليه ي أن له يحلو األصيلة. َ ُ ِّ التشكيلي» لفترات ُمعينة في السنة فرارًا من الضغط العالي للدار البيضاء. أجواء ّ أبصرت ثالث لوحات عمالقة اليسار على ُ (مقاس 250سم في 250سم) من القماش ُمعلّقة .واحدة قبالتي َعَلى الجدار األمامي الكبير وا ُأل ْخريَا ِن على حائطين متباعدين. «الشغل» في اللوحة األمامية - َبدا لي أن ّ متقدمة، ا أشواط قطع – » األم ً ِّ ِلُن ِّ سمها «اللوحة َّ عد العمل على اللوحتين «الشرقية» ت ي لم فيما َ َّ و«الغربية» التخطيطات البدئية األولى. ّق ُت ...- ظر ُهما عمل كبير – َعلْ هاتان َيْنَت ُِ بأقل م َّما ينتظرهما «األم» ليس َّ ما َيْنَتظر َّ– أجاب – ِ أن ما ينقصها هو بعض عجيب َحسْب ُت َّ ٌ اللمسات األخيرة. ان ذلك إحساسي باألمس ،لكنَّني َك َالتشكيل ْت اليوم ،بعد سبع ساعات من َّ ْاكَت َشف ُ
الكثيف أنها بحاجة إلى تكِن ٍ يك تشكيلي مغاير تمام ًا لما َف َعْلُته بها حّتى اآلن. «األم» بقصد المزيد من اقتربت أكثر من ِّ ُ بروز ُكَتل ملبّدة هنا التفحص .أثار اهتمامي ُ ُّ موزعة بضربات انسيابية على وهناكُ .كَتل ّ الفضاء البهيم. أن دقيقة، معاينة بعد بالفعل، تب َّيْن ُت َّ َ توهْم ُت ،بتشكيالت ا َألْمَر يتعلَّق ،خالف ًا لما َّ ُخ َطاطية ترويضية للفضاء الغفل للّوحة .لم المركزي قد َت َخلََّق ْت بوضوح تكن معالم الفضاء ّ َب ْعُد ،وال الرموز وال العالمات األساسية. َهذه ُكلُّها بدايات ِإَذن .ألم يتولّد فيمحدد عن الشكل النهائي تصور َّ ذهنك َب ْعُدُّ ، الذي ينبغي أن تّتخذه هذه اللوحة بالذات؟ ارَتْيَها؟. ثم ماذا عن َج َ تصورات محددة :ال .أبداً .يقول سعد. َّ ربما أشكال أو مالمح هالمية تأتيني أحيان ًا ولتتحول تخيالتي في الليل َ َّ لتستحوذ على ُّ تصارعة يبغي ُك ٌّل م ِّطة تسل م وساوس إلى ُ ِ ُ حل اآلخر. منها الحلول َم َّ بدا لي أن سعدًا يشتغل ُمديرًا ظهره تمام ًا طول الوقت للفضاءات المجاورة «لورشته»، شوشات» التي ُيمكن أن «الم ِّ حتى يتفادى كل ُ تنبعث من األشكال المرصوصة عن كثب. في الشعر ال ُيوجد َب ْح ٌر أزرق .البحر َدائم ًا
بحر آخر .كذلك ِهي السماء. َ ص صر على «كتابة» َن ٍّ وأنت ِلماذا ُت ُّألت سعداً. بحري بمفردات ُم َض ّ ٍّ ادة للبحر! َس ُ إبداعي ال يشبه «مالذ» بناء أبغي َّني ألن َ ٍّ مالمح هذا «المالذ» الواقعي الذي شيء في َ صت على بناء بيتي فيه على نمط ُمَماثل َحَر ُ تمام ًا للمالمح األصيلية للمكان األصيل. إنني مفتتن بهذا المكان .إنصاتي لتجلّياته اللونية ُيغذيني بأحاسيس تتجّدد كل يوم. مطوق ًا باألزرق .األزرق في كل ُهَنا أجدني ّ الجهات .السماء دائم ًا زرقاء .األزرق َماِث ٌل في ص َوري ُكّل شبر أبيض من بياضات البيتُ . ُكلُّها زرقاء .أصصي زرقاءُ .ز ُهوري نفسها تكاد ُتصاب بعدوى األزرق ،وهذا البحر على إيقاعه األزرق تنساب أحالمي. غطي كل الحيطان األزرق النيلي عندي ُي ِّ ُ المؤدية إلى البيت. أضح ْت زرقاء حتى أحالم يوسف ابني َ بدورها. مرسومة على ّاحة ته د ج و س، َأْم ً يلون تف ً َ ْ ِّ َو َرق برتقالي باألزرق الصريح ،ألنه – يقول- لحلْم التفَّاحة يريدها أن ُت َشبه تمام ًا ُّ َ الزرقاء ُ ليلته السابقة. 4إبريل: أن «األعمال» على اللوحة بدا لي كما لو َّ عادت إلى نقطة البداية أو ما يشبه «األم» قد ْ اضطر إلى إعادة تع َّمَد سعد أو ذلك .لماذا َ ّ َعقارب تشكيالته العجيبة إلى الوراء .الكتل التدرجات اللونية المتغايرة، ّية ذات البنّ ُّ صْهرًا باهت ًا في تخطيطات حالمة. ِرت صه ْ َ ُ توتراِتها التشكيلية العالية ا تقريب ت ً ُّ َم َح ْ لتتقبل أرضية مهيأة مجرد َّ َّ َوَأ َحاَلْتها إلى َّ أشكا ًال جديدة .الغيوم العلوية ،تلك التي حسبُتها غيوم ًا ُأنزلت إلى الطبقات السفلى عبارة عن َج َّرات صارت من اللوحة .لقْد ً ْ ض َّم ْت إلى فرشاتية ّ كون ،فيما لو ُ هشٍة ُت ّ بعضها البعض ،بلونها األصفر التجريبي، الهندسي للوحة. مقلوب في الَفراغ ِن ْص َف هرم ٍ ِّ أن «الشغل الرئيس» انتقل َبَدا لي أيض ًا َّ نفس التكنيك. اآلن الى الّلوحة «الشرقية»ُ . الخطاطات اللونية. نفس الروح .نفس ُ «النصي» يكتسب ُك َّل يوم لكن التشكل َّ ّ َ سع و أ الحواشي تبدو هنا ً. ا غاير م ْ َ َملْمح ًا ُ روض ًا تمام ًا من م ا هندسي «المتن» يبدو فيما ً ُ َّ اج بفوضاه حيث َشْكُل ُه الخارجي ،لكنه َ ض ٌّ ُّ
العارمة من حيث فيضه اإلشاري. صباح 28إبريل: أي شيء َب ْعُد ،ال هنا وال هناك. لم َيْنَتِه ُّ ُك ٌّل شيء يبدأ أو يعاود البدء. ّف ،لكنه العمل في اللوحة «الشرقية» توق َ ُ لم َيْنَتِه. أن تنظر إلى هذه قال سعد :بإمكانك ْ اللوحة باعتبارها مخلوق ًا ُمكتمالً .ال ُيوجد لكن االكتمال في عمل َفنّي ما يمنع من ذلكَّ . مجرد َو ْهٍم. من هذا النوع ّ يحدث في الواقع هو أنَّني أشعر ما ُ وبأن ا ُألمور ينبغي أن تتوقّف باالكتفاء، َّ هنا بالذات .إنَّه مجرد إحساس أجده اآلن بعيدًا عن متناولي. تأبي ًا على االكتمال. أكثر «الغربية» اللوحة ّ األولي الخفيف. إنها تبدو ُمكتفية َتمام ًا بشكلها ّ وزعة هنا وهناك من َحفيف لوني موجات ُم َّ ٌ مائع قليالً .عوالم «المتن» المستطيل أصفر ٍ معالمها بعد« .الحواشي» تتضح الشكل لم َّ ُ ِ خة أعاليها بأنصاف شموس ُهالمية تبدو ّ ملط ً ثم َة تخطيط الفارغة الحاشية أسفل تائهة. َّ ري .هكذا أخاله باب ًا َب ْحري ًا ح ب لباب أولي َ ْ ٍّ ٌّ المطَلق التشكيلي. ُم ْشرع ًا على ُ السبت 11إبريل: لم يسافر َس ْعُد ِوْفق المتوقَّعَ .ل ْن ُيسافر َس ْعُد ال اليوم وال بعد غد. اود المحاولة، يحاول يظل هنا أن َّ وي َع ِ عليه ْ ُ يقتنص األمواج المواتية لسماواته الثالث كيما ُ المتأبية. ّ دته ُمنهِمك ًا في لعبته الغامضة في َو َج ُ وعتمة مما كان عليه في فضاء أكثر برودة ً آخر زيارة. يوسف موجو ٌد هنا أيضاً .إن َُّه ُمنهِمك بدوره في «الثلث الخالي» من المرسم في تلوين َسَمكات «مخيلته» الزرقاء على هيئة مراكب أو طيارات تسبح في َب ْحر برتقالي مكثف. ِ تأنيث بت َندى معي ِلُتشارك في ص ِح ُ َ الح َّرة. الفضاء ِبأبجديتها ُ مستعملة علبة ألوان َماِئية يابانية. ً مساء 14إبريل: «األم» إلى ارتداء َشْكٍل عادت اللوحة ُّ شبيه بشكلها الكثيف األول .لكن اللمسات البنية العميقة تبدو مصطبغة «بشحنات
طينية أكثر كثافة وألقاً .منقوعة في لطخة سواد ُتغلِّف الطبقات العليا من «المتن» .في فجوات عارية تمام ًا من الحاشية العليا َث َّم َة ٌ تعود الشطرنجية العالمة ظاللها األولى، ُ المشع في «صدر إلى امتالك موقعها ِّ الرمزي ُ احب ص الذي الغامق األصفر النص» .لكن َ َ ُك َّل هذه التحوالت التكوينيةِللَّوحة تراجع ٍ اللونية الى الهامش التحتي. تدرجاته بكل ُّ تحول بالكاد إلى قوس من ِظ ٍّل مائل. لقد َّ 18إبريل صباحاً: تستطيع «ا ُأل ُّم» أن تستريح أخيراًَ .ليس باإلمكان أفضل مما كانَ .علَّق سعدَ ،م ِ اهرًا اللوحة بتوقيعه النهائيَ ،وِاضع ًا بذلك َحّدًا َ التحكم تضاربة ال ُيْمكن ُّ «تخلُّقات» ُم ِ لمسلسل َ في عواقبه: ال َش ْيء يكتمل َل َش ْي َء يبدأ. مساء 23إبريل: التنقيحات متواصلة على اللوحة ُ ِ َ المهب في فينة الس مهبط ن أ ح اض َ َّ ِّ «الشرقية»َ .و ٌ َّ ٍ قد َّاتخَذ شكل ُجُثوم باردُ .مْنتهى السفينة الطيني غير هذا َمْرساها .ما من َب ْحٍر آخر ِ ِّ أحقاب بحمولتها من ٍ الكامد .السفينة ُمثْقلة َ السفينة حقائب لَّع. خ ُ َش َّتى مرصوصة كبناء ُم َ من رموز .بل السفينة َتُنوء بصناديق أسرار اآللهة القدامى. سيغوص َحْتم ًا َب ْحُرها فيها. ُ ظهيرة 07مايو: الصورة ا ُألولى في اللوحة لم تكتمل ُ تتقدم الرموز ولو خطوة «الغربية» .لم َّ واحدة باتجاه َم ْجمع العالمات .الضربات التشكيلية السريعة – ُك َّل صباح – بغرض ٍ للكَتل والتلوينات لم َحْفر مجريات مفاجئة ُ متر من المساحات َتنْجح في ترويض ِن ْصف ٍ السفلية للفضاء الواسع. ُّ ذوب ت ما ا يد أن يبدو القماش. لة ز ع ل يا ً ْ َّ َ ُ ِّ ُ األصفر الغامق في البياض. َ من أين يأتي ُك ُّل هذا البياض؟ من األزرق يأتي دائم ًاشق النَّحت من رماد ِإْذن! ما َأ ّعود من جديدَ .م َّرة َأ َج ْلَ .سُأعاود ُّ الص َ وُأخرى َوَلن َأْفعل شيئ ًا ِس َوى أن َأْبَدأ ُك َّل مرٍة من جديد. ّ 145
َط َه َس ُب ْع
اسرتاتيجية الخلط أنيس الرافعي
يختزل الفنان العراقي َط َه َسُب ْع (بغداد ُ ،)1947أربعة عقود من مساره اإلبداعي والحياتي ،في معرضه لهذا الموسم الذي احتضنه مؤخرًا رواق «إسالن» بمراكش ،بعيد ُ أسابيع من عرضه بـ «رواق قرية األطفال» مسمى« :أفالك طائرة». تحت ّ تختزنه من بما الطائرة»، «األفالك وهذه ُ ليست الالنهائي، على مفتوحة ودالالت شعرية ْ ّ دوارة أو حركات دائرية عكس عقارب رقصة ّ الساعة ،مثلما هو الشأن في طقوس الطريقة المولوية الصوفية ،كما قد يتراءى للوهلة دعوة مفتوحة للناظر كي األولى ،وإنّما هي ٌ البصرية للفنان، يحلق في سماوات الذاكرة ّ يسرده الشكل واللّون ولقراءة «الغياب» الذي ُ الصور التي شتات لجمع والموضوع ،وكذا ّ تنوس كالبندول بين حسرات المكان البغدادي، ُ قتلع منه َط َه َسُب ْع ذات منفى ،وبين الذي ُا َ أطال المكوث ُمَه ِج المكان المراكشي الذي َ به حتى صارت المدينة الحمراء لباس ًا له وصار لباس ًا لها منذ .1977 ينتظم الذي الجمالي من خالل النسق ُ أن َط َه َسُب ْع ا ّي ل ج يبدو المعرض، لوحات هذا ً ّ فكل ال يقتفي نظام ًا معين ًا حين ينبري للرسم؛ ّ ﺃثر له طريقته الخاصة في التنامي وسمته المتفرد في التسامي :إذ ُنلفي قباب ًا وأضرحة ِّ ومراقد وصوامع وبيوتات وأجسادًا وأزياء ووشومات وأكف ًا وعيون ًا وآالت موسيقية وقناني ودوامات وخربشات طاعنة في الخيال الطفولي على طريقة «خوان ميرو» و«بول 146
كلي» و«بابلو بيكاسو». ويتحايث، ويتداخل ويتراكم يحتشد الكل ّ ُ ُ ُ ُ بيد أنه ينفي أي ً، ا متوازن ا بنيان ليصوغ ً َ منظور ،أو باألحرى ثمة قصدية مسلّحة بفنية عالية قصد التالعب به والتحايل عليه كي ال وتسوم تسقط اللوحة بين براثن «الصمت» َ َ مأزق «الفراغ». إن لوحة َط َه َسُب ْع هي المعادل اﻷنطولوجي ّ لروحه الجرداء ،التي تتوق على الدوام إلى «الملء» .ومن هنا ،حتمية وأهمية حدوث هذا التشييد الالنسقي الذي بمقدوره أن يوحي بشيء ّما .وحالما يتلمس َط َه َسُب ْع هذا اإليحاء تكون اللّوحة قد حققت غاية «الصورة المعبرة». صح إذا «التصعيد»، هذا داخل اضطرامات ّ «اإليحاء شبح ًا التوصيف ،الذي يغدو بموجبه ُ يجب اإلمساك به وجعله حقيقة» ،كما يقول يخلط َط َه الناقد اإلنجليزي «ناثان نوبلر»، ُ ومدوخ غالباً ،بين المادي َسُب ْع على نحو متعمد ّ والروحي ،بين اﻹيروسي والطهراني ،بين
السماوي واألرضي ،بين الكائن والشيء ،بين الساكن والمتحرك ،بين الداخلي والخارجي، بين التشبيهي وغير التشبيهي ،بين العاري والمكتسي ،بين المتجسد والغرائبي ،بين ُ والمحتجب. المرئي وبين والبعيد، القريب ُ وبوسع المشاهد أن يدرك داخل إستراتيجية «الخلط» هاته ،قدرة َط َه َسُب ْع يدمج على تمثيل الرؤية الحركية ،حيث ُ وجهة نظر مضاعفة بوجهة نظر أخرى، حتى تغدو الحواشي المتراكبة من المناظر المنفصلة عديدة داخل اللّوحة ،لدرجة يتعذر معها أحيان ًا تمييز األشياء المستقلّة وتلمس الموتيفات المفردة. أن الفارق حق ًا في هذه التجربة هو غير ّ تموقعها خارج أي أسلوب محّدد؛ فهي تجربة تمحو نفسها بنفسها وتقتل ذاتها بيديها ،كما لو كانت حيوان ًا ميثولوجي ًا عجائبي ًا تتعّدد غب كل ٍ ميتة جديدة :إذ يلوح َط َه َسُب ْع أرواحه َّ كالسيكي ًا وما بعد حداثي ًا في اآلن ذاته ،بسيط ًا ومعقدًا في اللّوحة عينها ،بدائي ًا وتكعيبي ًا
أحياناً ،أو دادائي ًا وسوريالي ًا أحيان ًا أخرى. فهاجس َط َه َسُب ْع يتجاوز االنضواء تحت يمارس فحسب لواء مدرسة أو تيار معين .ﺇنّه ُ ما نعته «كانط» ﺑ«اللّعب الحر للمخيلة». ومن خالل هذا «اللّعب» األصيل وغير المكرور ،يبحث عن «الرائع االستطيقي» الذي يبتلع اللّوحة ،ثم يحطم هالة األثر الفني، ّ ُ يحقق بداخلها وثبة في الظالم في اتجاه صورة تنفي باستمرار أصولها. إن الزخم الذي ترفل به أعمال الفنان ّ العراقي المبدع َط َه َسُب ْع ،على صعيد عناصرها التشكيلية ومفرداتها البصرية من تنويع وتشظي وحركة واستمرارية ووحدة وتقابل عماده الثنائيات المتوافقة أو المتصارعة، ُ نتاج حتمي لذائقة ثرية وتأمل عميق هو ٌ في الموروث والمرجعية والهوية .غايته األساس هي إضعاف مناعة «المطلق» في المنجز الفني ،وتحقيق البحث األبدي عن المفترض والمحتمل والنسبي ،أي عن «ما العيون». تتماله الظنون ،ال عن ما تمثله ْ ْ ُ ُ 147
خالد تكريتي استنساخات الكوالج بريوت -خاص بالدوحة
تسـتضيف «غاليـري أيـام» فـي بيـروت ،معرضـ ًا بعنـوان «لول» للسـوري خالد تكريتي .المعرض الذي يسـتمر حتى 24 أكتوبـر الجـاري ،يضـم األعمال الفنية الجديـدة لتكريتي المقيم في باريس منذ عام .2004ويترافق المعرض مع إطالق كتاب حـول الفنـان ،يضـم العديـد مـن أعمالـه الفنيـة من العـام 2002 حتى اآلن. يركـز المعـرض علـى المفاهيـم االجتماعيـة والثقافيـة التـي عمل صاحبها سابق ًا على عرضها في لوحته «الحرية المطلقة» ،2013كما يعود إلى جماليات تعود بأفكارها لما بعد الحداثة. ففـي عمـل «ميـس إن بليس» ،2014تظهر فتاة تحمل مجلة في صالـون تجميـل ،إال أنهـا مهمشـة المظهـر ،خاويـة االنطبـاع، ومحتجبـة الشـكل .ويشـير عنـوان اللوحـة إلـى اآلليـة السـائدة غيبـة فـي عمليـات الموضـة الرائجـة التـي ظلّـت فـي اللوحـةُ ،م ّ تمام ًا لصالح تلك الشخصية بمالبسها الواضحة المالمح التي
148
تعطـي انطباعـ ًا بوجود شـخص حقيقي. وفـي عمـل « 220فولـت» ،تظهـر شـخصية فتـاة يبـدو أنهـا فوجئـت مـن هـول كومـة الكترونيـات عتيقـة ،ورأسـها أصبـح جـزءًا مـن الصـورة ككل ،فهـو مكبـر صـوت وحيـد. ترتكز الرموز والصور لدى تكريتي على العديد من الوسائط، ال كوالجي ًا يميز ُمفكك ًا الخصائص التقليدية للوحةُ ،مبتكرًا شك ً الخطـوط العريضـة لتراكيبه ،وتندمج الشـخصيات المطروحة بشـكل أو بآخر مع المسـاحات الملموسـة ،ليوحي العمل أخيرًا بدقـة التصويـر وتداعيـه الوهمـي ،المرتبـط نوعـ ًا مـا بأعمالـه السابقة. لكـن مـع المزيـد من االختزال ،يهـدف الفنان إلى طرح تلميح حـول حيلـة اإلعلان القائـم والوسـائط االجتماعيـة الدارجـة والثقافـة الشـعبية .ويخلط تكريتي (مواليـد بيروت )1964من خلال هـذه التشـكيلة ،الخـط الفاصـل بيـن الفوضـى اإلعالمية ومعطيـات الحيـاة المعاصـرة باعتبارهـا لوحـ ًا واحـدًا اكتسـى بالعبثيـة المليئـة باالضطراب. ويتضمن المعرض «الساخر» العديد من اللوحات التي تعرف مـن عناوينهـا ،ولعلهـا أكثرهـا قربـ ًا مـن البورتريـه الشـخصي «االيـس» ،2014الـذي يظهـر الفنـان جالسـ ًا باسـترخاء علـى كرسـي قديـم الطراز.
تخـرج فـي كليـة الهندسـة يتميـز الفنـان السـوري ،الـذي ّ المعمارية في دمشق ،وشغل منصب ًا في المديرية العامة لآلثار والمتاحـف فـي سـورية ،بنهجـه المبتكـر فـي رسـم اللوحـة ،إذ يدمج بين الشخصي والجماعي وتداخلهما في الحياة االجتماعية المعاصرة. تظهر جمالية الصورة لديه من خالل طرح تكوينات باألبيض واألسود كالمطبوعات الصحافية مثالً ،كنوع من الطرح للتقارب الشعوري مع المسافات المؤقتة المتصلة في ما بينها في أعمال مختلفة ،في محاولة منه للتأكيد على مقولة بريندان برينديفيل بأن «الواقع مجرد ورقة رقيقة» ،استنادًا إلى الواقعية السائدة في عصر ما بعد الحداثة. وتظهر األعمال المعروضة تحو ًال ملحوظ ًا في اهتمامه برسم البورتريهات الشخصية المنحصرة بعائلته وأصدقائهُ ،مبتكرًا اهتمام ًا مرتبط ًا بالحاالت النفسية العميقة اليومية. عاش تكريتي في نيويورك سنتين ،وبعد عودته إلى دمشق وبقائـه فيهـا ،بـدأت سـمعته الفنية تظهر ،وتدريجيـ ًا قّدم نمط ًا سـباق ًا في بالده .عـرض في العديد من المعارض فنيـ ًا كان فيـه ّ الفرديـة والجماعيـة دوليـ ًا مثـل :بينالـي اإلسـكندرية وبينالـي هونـغ كونغ آرت. 149
عمارة
عمارة «قبة الصخرة» في القدس:
تنويعات الحل التصميمي
150
د .خالد السلطاين*
ـــم تشـــييد مبنـــى قبـــة الصخـــرة َت ّ وســط منطقــة الحــرم الشــريف الواســعة بالق ــدس .الت ــي ه ــي عب ــارة ع ــن مرتف ــع أرضـــي ذات شـــكل هندســـي يقتـــرب إل ــى المس ــتطيل ،تحي ــط به ــا األس ــوار، ويشـــتمل علـــى منشـــآت وأروقـــة وحدائـــق وســـاحات. ويقــدر أطــوال أضــاع منطقــة الحــرم الشـــريف بـــ 462 :متـــرًا طـــول الضلـــع الش ــرقي ،وط ــول الضل ــع الغرب ــي 492 متـــراً؛ أمـــا أطـــوال الضلعيـــن الشـــمالي والجنوبـــي فهمـــا 310أمتـــار و281 متـــرًا علـــى التوالـــي .فـــي حيـــن تبلـــغ المســـاحة اإلجماليـــة لمنطقـــة الحـــرم كلهـــا 34فدانـــاً. وباإلضافــة إلــى تشــييد قبــة الصخــرة ـــم بنـــاء فـــي منطقـــة الحـــرم ،فقـــد َت ّ منشـــآت عديـــدة ذات وظائـــف مختلفـــة يرجـــع تاريخهـــا إلـــى عهـــود إســـامية
ُيعــّد مبنــى «قبة الصخــرة» من أوائــل المباني اإلســامية التي أنشــئت في العهد األموي في مدينة «القدس» التي َتّم فتحها إبان الخليفة عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنه) عام (638م). كمــا ُيعّد المبنــى أيضاً ،من المبانــي المعمارية النــادرة التي حافظت على شــكلها األصلــي طيلة قرون عديــدة منذ إنشــائها في نهاية القرن الســابع الميــادي وحتــى الوقــت الحاضر ،وهــو أمر نــادر الحدوث بيــن المباني األثرية المعمارية األخرى في العالم.
مختلفــة :كالمســجد األقصــى ،ذي الشــهرة المعماري ــة الواس ــعة ،ويق ــع ف ــي أقص ــى الجهــة الجنوبيــة مــن الحــرم ،الــذي ُجـ ِّـد َد بنــاؤه فــي العهــد األمــوي ،وثمــة مبنيــان مج ــاوران لقب ــة الصخ ــرة يع ــود تاري ــخ بنائهمـــا إلـــى الفتـــرة األمويـــة أيضـــاً، ـا وهم ــا قبت ــا المع ــراج والسلس ــلة؛ فض ـ ً عـــن وجـــود منشـــآت إســـامية عديـــدة مثـــل المـــدارس واألســـبلة والقبـــاب والزوايـــا مبثوثـــة فـــي فضـــاء الحـــرم القدســـي الشـــريف يعـــود تاريخهـــا إلـــى حق ــب إس ــامية مختلف ــة ،كم ــا أس ــلفنا. وللق ــدس مكان ــة خاص ــة عن ــد المس ــلمين فه ــي أول ــى القبلتي ــن ،كم ــا أن مس ــجدها يعتبـــر ثالـــث الحرميـــن فـــي اإلســـام، وتعـّد الصخــرة المقدســة التــي تــم إنشــاء القبـــة حولهـــا ،والتـــي ســـميت باســـمها ـــر َي «قبـــة الصخـــرة» المـــكان الـــذي ُأ ْس ِ
رسم للقصور األموية التي كانت تحيط مبسجد قبة الصخرة ومل يتبقَ حاليا منها سوى األساسات فقط ،كام يظهر رسم للمسجد األقىص.
إلي ــه الرس ــول علي ــه الص ــاة والس ــام. تعـــود فتـــرة قبـــة الصخـــرة إلـــى ع ــام 72هجري ــة296( ،م) ،عندم ــا أم ــر الخليف ــة األم ــوي عبدالمل ــك ب ــن م ــروان: خام ــس خلف ــاء بن ــي أمي ــة ()705-685 بانشـــائها .ويذكـــر بعـــض المؤرخيـــن المســـلمين (اليعقوبـــي (897م) علـــى وجـــه الخصـــوص) أن ســـبب بنـــاء قبـــة الصخـــرة يرجـــع إلـــى رغبـــة الخليفـــة عبدالملـــك بـــن مـــروان فـــي تحويـــل قوافـــل الحجـــاج الســـوريين عـــن مكـــة التــي كانــت آنئــذ فــي حــوزة منافــس لــه ه ــو عب ــداهلل ب ــن الزبي ــر ،ف ــي حي ــن يذك ــر المقدســـي (985م) بـــأن الخليفـــة الحـــظ عظم ــة المنش ــآت المس ــيحية الموج ــودة فـــي المدينـــة المقدســـة ،وخشـــي أن تبه ــر تل ــك المنش ــآت عق ــول المس ــلمين؛
151
األمـــر الـــذي هـــداه للتفكيـــر جديـــ ًا فـــي مثيـــا ومكافئـــ ًا إنشـــاء مبنـــى يكـــون ً لروع ــة الجوان ــب المعماري ــة والجمالي ــة التـــي تتســـم بهـــا المبانـــي المســـيحية الموجـــودة فـــي المدينـــة المقدســـة. ويؤكـــد عبدالقـــادر الريحـــاوي بـــأن صخـــرة المعـــراج هـــي «المنطلـــق» واله ــدف األساس ــي م ــن بنائه ــا ه ــو «.. العناي ــة به ــا (أي بالصخ ــرة) وإحاطته ــا باإلطـــار المعمـــاري الالئـــق ،فكانـــت ْي ــق ش ــيء وأجمل ــه؛ وم ــن القب ــة ه ــي َألَ القبـــة التـــي تضـــم الصخـــرة وتظللهـــا، انتقلـــت الفكـــرة نحـــو التكامـــل»(.)1 وأيــ ًا م ــا يك ــن م ــن أم ــر ،ف ــإن عم ــارة مبنـــى قبـــة الصخـــرة تمثـــل نموذجـــ ًا فريـــدًا ومتميـــزًا فـــي أســـلوب ونوعيـــة الممارس ــة التصميمي ــة بالعه ــد األم ــوي. ومـــع أن كثيـــرًا مـــن أعمـــال الترميـــم والحف ــاظ والتجدي ــد الت ــي أجري ــت عل ــى مكون ــات المبن ــى المعماري ــة ف ــي أوق ــات زمنيـــة مختلفـــة (كالعهـــود العباســـية، واأليوبيـــة ،والمملوكيـــة ،والعثمانيـــة،
وأخيـــرًا فـــي العهـــد الهاشـــمي) ،والتـــي قـــد أشـــار إليهـــا المؤرخـــون والرحالـــة المس ــلمون مث ــل :العم ــري ،والمقدس ــي، والمهلبـــي ،وابـــن بطوطـــة وغيرهـــم فـــي كثيـــر مـــن كتاباتهـــم؛ مـــع ذلـــك ـــل محافظـــ ًا علـــى فـــإن الشـــكل العـــام َظ ّ هيئتـــه األولـــى منـــذ إنشـــاء المبنـــى فـــي نهايـــة القـــرن الســـابع الميـــادي، ذلـــك ألن أعمـــال التجديـــد ،وكذلـــك أعمـــال الحفـــاظ والترميـــم التـــي كانـــت تجـــرى باســـتمرار اعتمـــدت باألســـاس، عل ــى تغيي ــر القط ــع التالف ــة والمنه ــارة وتبديله ــا ،م ــع المحافظ ــة ق ــدر اإلم ــكان علـــى نوعيـــة وتشـــكيلة العناصـــر المرممـــة جـــراء تلفهـــا بســـبب الكـــوارث الطبيعيـــة والحرائـــق ،وكذلـــك أعمـــال التهديـــم والتخريـــب إبـــان حـــوادث الفت ــن والح ــروب الت ــي كان موق ــع قب ــة الصخـــرة مســـرح ًا لهـــا وشـــاهدًا عليهـــا طيلـــة امتـــداد تاريخهـــا الســـحيق .وال يـــزال المبنـــى حتـــى الوقـــت الحاضـــر، ُمحتفظــ ًا بوض ــوح حض ــوره المعم ــاري وج ــاء هيئت ــه الممي ــزة ف ــي خ ــط س ــماء Solhouetteفضـــاء المدينـــة المقدســـة رغ ــم قس ــاوة ض ــروب التش ــويهات الت ــي طالـــت المبنـــى ومجاوراتـــه. يتكـــون البنـــاء الهيئاتـــي form ّ العـــام لمبنـــى قبـــة الصخـــرة مـــن شـــكل ُثمانـــي األضـــاع ،مقبـــب بقبـــة مركزيـــة ضخمـــة ،يضـــم فضاؤهـــا الصخـــرة المكرمـــة؛ يصـــل ارتفـــاع القبـــة إلـــى
مقطع منظوري في قبة الصخرة 152
خمســـة وثالثيـــن متـــراً ،عـــدا ارتفـــاع الهــال عنــد رأس القبــة ،الــذي يرتفــع إلى أربع ــة أمت ــار أخ ــرى ،ويتأل ــف المس ــقط األفقـــي للمبنـــى ،مـــن جـــدران خارجيـــة بصيغـــة مضلـــع ُثمانـــي الشـــكل ،يليهـــا ص ــف م ــن األعم ــدة والدعام ــات موزع ــة فـــي محيـــط شـــكل ُثمانـــي األضـــاع أيضــاً؛ يعق ــب ذل ــك حلق ــة دائري ــة م ــن المســـاند الضخمـــة واألعمـــدة تحيـــط بالصخ ــرة الت ــي ُس ـِقَف ْت بوس ــاطة القب ــة المركزي ــة العالي ــة المش ــار إليه ــا س ــابقاً. يبل ــغ ط ــول ضل ــع كل ج ــدار م ــن الش ــكل الثمان ــي الخارج ــي نح ــو عش ــرين مت ــراً. ويبلـــغ طـــول ضلـــع المثمـــن الداخلـــي خمس ــة عش ــر مت ــرًا ف ــي حي ــن يق ــدر ُقط ــر الحلقـــة الدائريـــة المركزيـــة بعشـــرين متـــراً .ويحـــدث المثمنـــان حـــول القبـــة رواقيـــن ،الداخلـــي وعرضـــه عشـــرة أمتـــار ،والخارجـــي أربعـــة أمتـــار ونصـــف المتـــر .ويصـــل ارتفـــاع الجـــدار الخارجـــي للمبنـــى إلـــى اثنـــي عشـــر متـــراً ،بضمنهـــا الســـتائر .Parapet يتشـــكل فضـــاء المبنـــى الداخلـــي ّ المركـــزي مـــن أربـــع دعائـــم حجريـــة مس ــتطيلة المقط ــع تت ــوزع بينه ــا أرب ــع مجاميـــع مـــن األعمـــدة الرخاميـــة ،كل مجموع ــة تتأل ــف م ــن ثالث ــة أعم ــدة بي ــن دعامتيـــن؛ ويشـــكل موضـــوع الدعائـــم واألعم ــدة محي ــط دائ ــرة مركزي ــة ،توج ــد فـــي وســـطها الصخـــرة الكريمـــة التـــي يقــدر أبعادهــا بثمانيــة عشــر متــرًا طــو ًال وثالثـــة عشـــر متـــرًا عرضـــاً؛ وترتفـــع بمتـــر ونصـــف المتـــر عمـــن حولهـــا(.)2
تؤل ــف األعم ــدة والدعائ ــم رواقــ ًا م ــن العقـــود نصـــف الدائريـــة تحمـــل رقبـــة القبـــة التـــي تســـند بدورهـــا الهيـــكل التركيبـــي للقبـــة المركزيـــة .ومـــن إجـــل اض ــاءة الفض ــاء المرك ــزي فق ــد ت ــم فت ــح ســـت عشـــرة نافـــذة علويـــة فـــي رقبـــة القبـــة .ويوجـــد صـــف وســـطي مـــن األعمـــدة والدعائـــم يقـــع بيـــن الحلقـــة الدائريـــة وجـــدران المثمـــن الخارجـــي ال ُثمان ــي األض ــاع أيضــاً. ويؤل ــف ش ــك ً وهـــذا الصـــف يحمـــل رواقـــ ًا مـــن أربعـــة وعش ــرين عق ــدًا يرف ــع الس ــقف المس ــتوي ـا مــن الخــارج، مــن الداخــل والمائــل قليـ ً والواصـــل بيـــن رقبـــة القبـــة المركزيـــة والجـــدران الخارجيـــة لمثمـــن قبـــة الصخـــرة. تتشـّـكل عناصــر الواجهــات الخارجيــة مـــن معالجـــات إيقاعيـــة مكـــررة فـــي كل ضلـــع مـــن أضـــاع شـــكل المثمـــن الخارج ــي للمبن ــى؛ ال ــذي يحت ــوي عل ــى س ــبعة تجويف ــات Nichesقليل ــة العم ــق تنتهـــي فـــي أعالهـــا بنوافـــذ ،مـــا عـــدا التجويفيـــن اآلخريـــن فـــي كل ضلـــع/ تثمينـــة -فإنهـــا بـــدون نوافـــذ .ووقعـــت أبـــواب المبنـــى الرئيســـية وعددهـــا أربعـــة فـــي وســـط هـــذه التثمينـــات، مواجه ــة إل ــى الجه ــات األصلي ــة .ويق ــدر أبع ــاد ه ــذه األب ــواب بـــ 2.60م عرضــ ًا و4.30م ط ــوالً؛ يعل ــو س ــواكفها عق ــود
نصــف دائريــة .ويتقـّدم األبــواب ســقائف عرضه ــا 2.5م مؤلف ــة م ــن قب ــوة نص ــف أســـطوانية محمولـــة علـــى أعمـــدة(.)3 تمثـــل عمـــارة قبـــة الصخـــرة نوعـــ ًا مـــن الفعاليـــة التصميميـــة ذات القيـــم الجماليـــة الخاصـــة المتفـــردة التـــي لـــم ـــر نمـــاذج كثيـــرة لهـــا فـــي تطبيقـــات َن َ النشـــاط المعمـــاري ،ضمـــن محدوديـــة الفت ــرة الت ــي تتكل ــم عنه ــا ،وه ــي فت ــرة العهـــد األمـــوي؛ وإن ســـتلعب نوعيـــة الهيئـــة العامـــة لمبنـــى «قبـــة الصخـــرة» وصيغـــة تشـــكيالتها الكتلويـــة دورًا مؤثـــرًا وعميقـــ ًا فـــي مجمـــل الممارســـة التصميميـــة لفتـــرات زمنيـــة الحقـــة؛ علـــى أن األمـــر المهـــم الـــذي ينبغـــي اســتخالصه مــن عمــارة «قبــة الصخــرة» هـــو إدراك ذلـــك التـــوق المثابـــر الـــذي يســعى دائمـ ًا إلــى إثــراء وتنويــع الطــرح التصميمـــي بمفاهيـــم ورؤى جديدتيـــن، وه ــذه ال ــرؤى ق ــد ال تعم ــل باتس ــاق م ــع منهجيـــة االســـتيالد التشـــكيلي ،تلـــك المنهجي ــة الت ــي ش ــاهدناها تعم ــل م ــرارًا بفاعليـــة فـــي اســـتنباط الصياغـــات التكويني ــة لمبان ــي مس ــاجد ُمتعــّددة ف ــي مـــدن وأماكـــن مختلفـــة. بمعنـــى آخـــر أن المفاهيـــم الجديـــدة ونزعته ــا تتيح ــان المج ــال واس ــع ًا أم ــام الط ــرح التصميم ــي الجدي ــد ألن يتقاط ــع مس ــاره م ــع مس ــار االعتم ــاد الكل ــي ف ــي
الحصـــول علـــى تنويعـــات Variation مختلفـــة أساســـها وحـــدة الصيغـــة «الثيمويـــة» ،األمـــر الـــذي يجعلـــه (أي م ــن الط ــرح التصميم ــي) محتفظــ ًا دائمــ ًا بتميـــز اللغـــة المعماريـــة ،ونضـــارة أشـــكالها. لق ــد ح ــرص بن ــاة قب ــة الصخ ــرة عل ــى تكري ــس وتأكي ــد تف ــرد الش ــكل المعم ــاري وعـــدم أنمذجتـــه أو تكـــراره انطالقـــ ًا مـــن تفـــرد أســـباب الحـــدث البنائـــي وحيثيات ــه ،وبعب ــارة أخ ــرى ف ــإن ح ــدث الصخـــرة الكريمـــة الفريـــد وحالتهـــا المكانيـــة كانـــت تســـتدعي اللجـــوء الســـتثنائية الحـــل التصميمـــي. يفـــرض مبنـــى «قبـــة الصخـــرة» حضـــورًا واضحـــ ًا وقويـــ ًا فـــي المشـــهد المعمـــاري لمدينـــة القـــدس .وهـــذا الحضـــور الواضـــح والمؤثـــر يتناهـــى (يـــدرك) مـــن خـــال قـــرارات تصميميـــة تعمــل علــى تأكيــد هــذا الحضــور وتبيــان أهميتـــه .فتـــؤدي هندســـية الكتـــل المعماري ــة وانتظامه ــا الزائ ــد دورًا كبي ــرًا فـــي إكســـاب المبنـــى وجـــودًا فيزيائيـــ ًا بليغ ـ ًا ضمــن عشــوائية تراتبيــة عناصــر النس ــيج المدين ــي المج ــاور واختالطي ــة وتشـــوش أشـــكاله البنائيـــة. وي ــزداد الوج ــود الفيزي ــاوي للمبن ــى حضـــورًا جـــراء «تفريـــغ» الموقـــع المجـــاور و«تنظيفـــه إنشـــائياً ،بغيـــة 153
تفعيـــل مزايـــا الخاصيـــة التكوينيـــة الناجمــة عــن تقابــل امتــداد أفقيــة البيئــة المحيطـــة وتضادهـــا مـــع عموديـــة ـــل ارتفاعهـــا كتلـــة المبنـــى الـــذي َظ ّ العال ــي نس ــبي ًا (نح ــو 40مت ــراً) س ــائدًا ومســـيطرًا ومهيمنـــ ًا Dominantعلـــى خـــط ســـماء Solhouetteالمدينـــة لق ــرون ،من ــذ إنش ــاء «الصخ ــرة» ولحي ــن الوقـــت الحاضـــر. تبـــدو أشـــكال عناصـــر المبنـــى المعمـــاري؛ وكأن قـــرار اصطفـــاء نوعيتهـــا نابـــع مـــن وجوبيـــة الهـــدف الوظيفـــي؛ وهـــو باألســـاس ،تغطيـــة الصخـــرة المقدســـة. فالدائـــرة المركزيـــة داخـــل المبنـــى المشـــكلة مـــن رواق العقـــود نصـــف الدائريـــة المســـتندة إلـــى األعمـــدة والمســـاند الضخمـــة التـــي تحيـــط بالصخـــرة الكريمـــة؛ مهمتهـــا فـــي الغالـــب ليـــس فقـــط تحديـــد موضـــع وم ــكان «الصخ ــرة»؛ بق ــدر تأكي ــد وإب ــراز الفضـــاء المركـــزي وانســـيابيته نحـــو األعلــى ،باتجــاه الفــراغ المغطــى بالقبــة المركزيـــة ،بمعنـــى آخـــر أن الفضـــاء الح ــاوي للصخ ــرة يتماه ــى م ــع الش ــكل الفيزيـــاوي المختـــار ،بحيـــث تبـــدو كأن نوعيـــة تشـــكلية العناصـــر المعماريـــة ترغ ــب ف ــي اإليض ــاح تلقائيــ ًا ع ــن «م ــاذا تري ــد أن تك ــون»؛ وفقــ ًا لتعبي ــر «لوي ــس كان» .Louis Kahn ولئـــن كانـــت هيئـــة المبنـــى المميـــزة ذات الشــكل الهندســي المنتظــم وارتفاعها العالـــي ،وكذلـــك طبيعـــة معالجـــات فضـــاء الجـــوار ،ونوعيـــة القـــرارات التلويني ــة إلكس ــاءات المبن ــى الخارجي ــة تك ــرس ل ــدى المتلق ــي ش ــعورًا بالتوجي ــه ،Orientationوتمنـــح المبنـــى ذاتـــه تعريفــ ًا دا ًال مضافــاً؛ ف ــإن ه ــذا الش ــعور يظـــل مالزمـــ ًا للمـــرء عنـــد انتقالـــه إلـــى الحي ــز الداخل ــي Interorللمبن ــى؛ عل ــى الرغـــم مـــن تبديـــل وســـائل المعالجـــات التكوينيـــة وتغيرهـــا .إذ تـــؤدي اســـتخدامات المعالجـــات التصميميـــة المتســـمة بغـــزارة العناصـــر الزخرفيـــة وجزالـــة المســـطحات التلوينيـــة وكثـــرة 154
الفسيفساء على المبنى من الخارج
بريـــق المـــواد اإلنشـــائية إلـــى خلـــق منـــاخ تزيينـــي داخلـــي مهمتـــه تكريـــس اإلحســـاس بالتضـــاد بيـــن الداخـــل والخـــارج؛ وزيـــادة الشـــعور بأهميـــة المـــكان؛ وخلـــق التداعيـــات «لتهشـــيم» عناصـــر التركيـــب اإلنشـــائي الماديـــة بغي ــة اإليح ــاء برحاب ــة واتس ــاع الفض ــاء المحصـــور وعـــدم محدوديتـــه! ..وتعـــد أســـلوبية التوزيـــع التزيينـــي داخـــل انتري ــر Interorمبن ــى «قب ــة الصخ ــرة» وامتداداتـــه اإلكســـائية ،التـــي طالـــت جمي ــع س ــطوح ج ــدران المبن ــى الداخلي ــة والعناص ــر اإلنش ــائية األخ ــرى ،وكذل ــك ســقوف القبــة ورقبتهــا ،يعــد ذلــك حدث ـ ًا تصميميـــ ًا مهمـــ ًا ورائـــدًا وغيـــر مســـبوق فـــي الممارســـة المعماريـــة ،األمـــر الـــذي س ــيعد الحق ـاً ،أح ــد أه ــم معال ــم العم ــارة اإلســـامية وخصائصهـــا. وتتج ــاوز مه ــام اإلض ــاءة ف ــي مبن ــى الصخـــرة األهـــداف المباشـــرة إلنـــارة الوســـط الداخلـــي فقـــط ،فتضحـــى كمي ــة الض ــوء الس ــاقطة وتحدي ــد أماك ــن مصادرهــا ومســار اتجاهاتهــا مــن األمــور التــي ينبغــي مراعاتهــا تصميميـاً .وتتيــح مصـــادر اإلنـــارة الموجـــودة فـــي رقبـــة القبـــة ،وكذلـــك تلـــك الفتحـــات المقننـــة المحفـــورة فـــي الجـــدران الخارجيـــة للمبنـــى ،تتيـــح إمكانيـــة تحديـــد مقـــدار وكميـــة الضيـــاء (المســـكوب) إلنـــارة فض ــاء المبن ــى الداخل ــي وتأثي ــر نوعي ــة أشـــكال عناصـــره اإلنشـــائية!
تتميـــز المعالجـــات التكوينيـــة فـــي عمـــارة «قبـــة الصخـــرة» علـــى توظيـــف كفـــؤ لمنظومـــة التناســـب Proportion واس ــتخدامات مزاي ــا تل ــك المنظوم ــة أداة فعالـــة فـــي تحقيـــق تجانـــس العناصـــر التصميميـــة للمبنـــى وإضفـــاء طابـــع الهرمونيـــة عليهـــا. وتجــدر اإلشــارة هنــا إلــى أن أســلوب اســـتخدام منظومـــة التناســـب ،إلكســـاب عناصـــر المبنـــى قيمـــة تجانســـية عاليـــة لـــم يكـــن ،أمـــرًا هامشـــياً ،كمـــا أنـــه لـــم يكـــن محـــض مصادفـــة؛ بـــل ق ــرارًا تصميميــ ًا أساس ــي ًا ينط ــوي عل ــى قصدي ــة متعم ــدة تش ــير لمس ــتوى رفي ــع مـــن الثقافـــة البنائيـــة وصلتـــه طبيعـــة الممارس ــة المعماري ــة ف ــي العه ــد األم ــوي آنـــذاك!! تمثـــل األعمـــال التزيينيـــة المشـــغولة فـــي «قبـــة الصخـــرة» -حدثـــ ًا معماريـــ ًا ذا أهميـــة كبيـــرة فـــي مهـــام تكريـــس المفاهيــم الفنيــة الجديــدة ،التــي ســاهمت فـــي بلورتهـــا الثقافـــة اإلســـامية. وتعـــد األعمـــال الفنيـــة فـــي «قبـــة الصخـــرة» بمثابـــة األســـاس والمنطلـــق لسلس ــلة م ــن الممارس ــات النش ــطة الت ــي ارتقـــت بقيمـــة الناحيـــة التزيينيـــة، ومماثـــا وجعلـــت منهـــا أمـــرًا مكافئـــ ًا ً لقيم ــة الجان ــب التركيب ــي وأهميت ــه ف ــي الحـــل التكوينـــي -المعمـــاري .وتتمثـــل تلـــك األعمـــال بالدرجـــة األولـــى ،فـــي المشـغـــــوالت الفسـيـفــســـــــائية؛ تلـــك
رسم للصحن الخارجي
المشـــغوالت التـــي بلغـــت شـــأن ًا مهمـــاً، وغيـــر معـــروف ســـابقاً ،مـــن حيـــث س ــعتها ،ومواضيعه ــا ،ودق ــة إنجازاته ــا وخاماتهـــا. ولعـــل اللوحـــات الفسيفســـائية ّ المعمولـــة داخـــل القبـــة ،وفـــي األقســـام العلي ــا م ــن الج ــدران ف ــي الداخ ــل ،وف ــي الواجهـــات الخارجيـــة (والتـــي ُأزيلـــت فـــي وقـــت الحـــق) بمقدورهـــا أن تعطـــي تص ــورًا واضحــ ًا عل ــى مق ــدار المس ــاحات الواس ــعة الت ــي كس ــتها تل ــك التغطي ــات الفسيفســائية ،والتــي قــدرت مســاحاتها، وفقــ ًا لبع ــض الدارس ــين بـــ( )1200مت ــر مربـــع(.)4 وعلـــى الرغـــم مـــن ارتبـــاط تقنيـــة األعم ــال الفسيفس ــائية بالتقالي ــد الس ــابقة لإلســام ،فــإن مواضيــع «قبــة الصخــرة» وثماتهـــا ،نـــأت بعيـــدًا عـــن صيـــغ المواضي ــع المألوف ــة الس ــابقة ،واتس ــمت بم ــزاج ونف ــس جديدي ــن قوامهم ــا النزع ــة التجريديـــة لألشـــكال ،وإلغـــاء مفهـــوم
المنظـــور والتحجيـــم ،واالبتعـــاد كليـــ ًا عـــن التشـــخيص ،والولـــع فـــي رســـم العناص ــر البنائي ــة المح ــورة والواقعي ــة ـا المشــوبة باإلســقاطات الهندســية ،فضـ ً ع ــن مح ــاوالت إدخ ــال عنص ــر «الكتاب ــة» كموضـــوع أساســـي ،جنبـــ ًا إلـــى جنـــب مـــع مواضيـــع الرســـوم والنقوشـــات األخـــرى. ولقـــد نتـــج عـــن تلـــك المشـــغوالت الفسيفســـائية فـــي «قبـــة الصخـــرة» مزي ــج م ــن النات ــج الفن ــي انط ــوى عل ــى أمريـــن أساســـيين ،همـــا :تنـــوع ذلـــك الناتـــج ،حيـــث قلمـــا نجـــد صيغـــة مـــا، تتك ــرر ف ــي تل ــك المس ــاحات التزييني ــة، وفــي وحدتــه ،حيــث إن جميــع العناصــر الزخرفي ــة تتداخ ــل لك ــي «تش ــكل وح ــدة فنيـــة منســـجمة فـــي تكوينهـــا وموحـــدة فـــي أســـلوبها»(.)5 ويشـــير كثيـــر مـــن الدارســـين إلـــى أن األعمـــال الفسيفســـائية «لقبـــة الصخ ــرة» تش ــبه إل ــى ح ــد كبي ــر األعم ــال
الفسيفس ــائية الت ــي نف ــذت ف ــي المس ــجد األمـــوي الكبيـــر بدمشـــق ،مـــن حيـــث التقني ــة ،والس ــعة ،والمواضي ــع؛ األم ــر ال ــذي ح ــدا بالكثي ــر منه ــم لالعتق ــاد ب ــأن األعمـــال التزيينيـــة «لقبـــة الصخـــرة» بالق ــدس والمس ــجد األم ــوي بدمش ــق ،ق ــد تمت ــا ف ــي وق ــت واح ــد ،وربم ــا ف ــي عه ــد الوليـــد األول مـــع أن الـــذي أمـــر ببنـــاء «قبـــة الصخـــرة» ،كمـــا هـــو معـــروف ه ــو وال ــده :عبدالمل ــك ب ــن م ــروان ول ــم تقتصـــر األعمـــال التزيينيـــة واإلنهائيـــة لمبنـــى قبـــة الصخـــرة ،علـــى األعمـــال الفسيفســـائية لوحدهـــا وإنمـــا كان لإلكســـاءات الرخاميـــة دور مهـــم فـــي ه ــذه الناحي ــة .إذ ت ــم اس ــتعمال الرخ ــام لألعمـــدة بألوانـــه العديـــدة وأصنافـــه المختلف ــة ،كم ــا كس ــيت األقس ــام الس ــفلى للجـــدران والعضائـــد بألـــواح رخاميـــة مـــن النـــوع المعـــرق الـــذي أطلـــق عليـــه القدم ــاء المش ــجر أو المج ــزع ،واس ــتخدم الرخـــام أيضـــاً ،فـــي أماكـــن العقـــود بالقناطـــر ذات األلـــوان المتناوبـــة، و«ه ــذه الكس ــوة الرخامي ــة الداخلي ــة ،م ــا ت ــزال تحاف ــظ عل ــى أصالته ــا من ــذ العه ــد األم ــوي ،إال ف ــي أج ــزاء صغي ــرة ُج ـ ِّـد َد ْت ف ــي العهدي ــن المملوك ــي والعثمان ــي»(.)6 الهوامش والمصادر * مـــن كتـــاب رؤى معماريـــة للدكتـــور خالـــد السلطاني/المؤسســـة العربيـــة للدراســـات والنشـــر.2000 / ( )1عبدالقــادر الريحــاوي .العمــارة فــي الحضــارة اإلســامية ،جــدة ص.41 ( )2ثمـــة مغـــارة تحـــت الصخـــرة ،ينـــزل إليهـــا بـــدرج ،ويقـــدر ارتفاعهـــا بنحـــو متريـــن، ومس ــاحتها 4.5مت ــر مرب ــع وف ــي داخ ــل المغ ــارة محـــراب أصـــم؛ أرجعـــه كريزويـــل إلـــى عهـــد عبدالمل ــك ب ــن م ــروان ،فيم ــا ي ــرى آخ ــرون بأن ــه م ــن العه ــد العباس ــي .وه ــذا المح ــراب المصن ــوع غنـــي بالتفاصيـــل التزيينيـــة مـــن الرخـــام ّ المنحوتـــة ذات األشـــكال النباتيـــة والخطيـــة. ( )3كنـــوز القـــدس (مجموعـــة مؤلفيـــن) -رومـــا 1983ص.72-71 ( )4البهنســـي ،الفـــن اإلســـامي ،دمشـــق؛ 1986 ص.323 ( )5المصدر السابق نفسه ،ص.324 ( )6الريحاوي ،العمارة ،ص.48-47 155
علوم
فريق طبي يتفحص الفيروس في ليبيريا
إيبوال اإلرهاب البيولوجي محسن العتيقي تش ــارلز يغب ــا ( 42س ــنة) ،مغن ــي راب م ــن ليبيري ــا وقائ ــد فرقــة (أفروكــو) الموســيقية ،قـّـرر مخاطبــة مواطنيــه وعمــوم غـــرب إفريقيـــا ،معتقـــدًا أن الموســـيقى خيـــر وســـيلة فـــي توعيــة المجتمعــات المحليــة بخطــر اإلصابــة .تقــول أغنيتــه: «نحـــوا مخاوفكـــم جانبـــاً ،وال تخفـــوا أنفســـكم .فمـــا زال ّ باإلم ــكان النج ــاة م ــن الم ــوت بع ــد اإلصاب ــة بإيب ــوال». فـــي 30آب/أغســـطس ،2014قدمـــت وزارة الصحـــة العموميـــة والشـــؤون االجتماعيـــة فـــي الســـنغال ،لمنظمـــة الصحـــة العالميـــة تفاصيـــل عـــن حالـــة إصابـــة بفيـــروس ـــم اإلعـــان عنهـــا مـــن قبـــل .وحســـب الخبـــر إيبـــوال والتـــي َت َّ 156
المنشـــور علـــى موقـــع منظمـــة الصحـــة العالميـــة فإنـــه قبـــل ذلـــك بثالثـــة أيـــام ،أي فـــي 27مـــن الشـــهر نفســـه ،كانـــت الســلطات فــي كوناكــري قــد أصــدرت إنــذارًا إلخطــار الخدمــات الطبي ــة ف ــي غيني ــا ودول الج ــوار ،مف ــاده أن الش ــخص ال ــذي كان عل ــى اّتص ــال وثي ــق بالمري ــض ال ــذي تأك ــدت إصابت ــه ق ــد الترص ــد. أفل ــت م ــن نظ ــام ُّ إيب ــوال ،لعّل ــه األكث ــر مك ــرًا وخداعــاً! يق ــال إن ــه اس ــتطاع تطويـــر خططـــه فـــي خـــداع نظـــام المقاومـــة المناعتيـــة، خليـــة غيـــر مصابـــة .هـــل التنكـــر وأصبـــح بمقدرتـــه ُّ ّ بـــزي ّ ت ــوارى ع ــن أنظ ــار المختب ــرات؟! أم أن ه ــذه األخي ــرة انش ــغلت
بســـرية تامـــة إلـــى أن تحيـــن عنـــه فمكـــث فـــي األنســـجة ّ فرصـــة عجزنـــا الدفاعـــي؟! .ربمـــا طـــال انتظـــاره دون أن يرف ــع الجس ــم راي ــة بيض ــاء ،فق ــرر التراج ــع خل ــف األدغ ــال، يتصي ــد الفرص ــة ويتم ــرن فـــي نســـخه المســـمومة ،إل ــى أن َّ فيبعـــث مخترقـــ ًا ومنتصـــراً. بفضــل وســائل اإلعــام ،وبســبب مــا تخلِّفــه مــن ضحايــا، تحّقــق أســماء الفيروســات شــهرة عالميــة؛ مــن الطيــور إلــى البشـــر :فـــي عـــام 1918انتقـــل فيـــروس إنفلونـــزا ()H1N1 وتخط ــاه في ــروس مخلّفــ ًا م ــا يزي ــد عل ــى 30ملي ــون قتي ــل، ّ ،VIH-1وأصل ــه م ــن الش ــمبانزي س ــاكن الكه ــوف ،ليص ــل بع ــدد ضحاي ــاه إل ــى 43مليونــاً .وف ــي أيامن ــا الس ــوداوية، ليتربــص اســتفاق القاتــل إيبــوال مــن ســباته اإلفريقــي مجـ َّـددًا َّ ـــل نهائيـــ ًا بالحـــدود والجغرافيـــات وتذاكـــر الســـفر .ال َم ْص َ يحتـــل الخاليـــا البشـــرية -منـــذ لـــه حتـــى اآلن .و قبـــل أن ّ ـدرب عل ــى الفت ــك ـ يت كان ـي- ـ الماض الس ــبعينيات م ــن الق ــرن َّ بصف ــوف الخفافي ــش آكل ــة الفواك ــه .يح ـ ِّـدده المجه ــر إيب ــوال بخيـــط طولـــه 970نانومتـــر (مليـــون جـــزء مـــن المليمتـــر) وبعـــرض 200نانومتـــر .وكحـــال الفيروســـات القليلـــة المكتش ــفة فإن ــه يستنس ــخ نفس ــه ف ــي نس ــخ طب ــق األص ــل. فــي 26آب /أغســطس مــن هــذا العــام َتـّـم -مختبري ـاً -تأكيــد فاشــية منفصلــة مــن فاشــيات فيــروس إيبــوال فــي جمهوريــة الكونغ ــو الديموقراطي ــة ،ال صل ــة بينه ــا وبي ــن فاش ــية غ ــرب إفريقي ــا .حت ــى بداي ــة س ــبتمبر/أيلول الماض ــي بل ــغ مجم ــوع والمؤكـــدة فـــي إصابتها،حســـب منظمـــة الحـــاالت المحتملـــة َّ موزعـــة الصحـــة العالميـــة 3069 ،حالـــة ،و 1552وفـــاةَّ ، بي ــن غيني ــا وليبيري ــا ونيجيري ــا وس ــيراليون ،بحي ــث وص ــل معـ َّـدل اإلماتــة العــام للحــاالت إلــى .% 52ويتــراوح بيــن 42 %فــي ســيراليون و % 66فــي غينيــا .لكــن إيبــوال -وإن كان ل ــم يقت ــل بع ــد بمق ــدار أس ــافه م ــن الفيروس ــات -فإن ــه يفع ــل ـادة ووخيم ــة؛ يص ــاب الضحي ــة بالوه ــن ذل ــك بوحش ــية ح ـ ّ الشـــديد واآلالم فـــي العضـــات والصـــداع والتهـــاب الحلـــق، التقي ــؤ واإلس ــهال وظه ــور طف ــح جل ــدي واخت ــال وم ــن ث ــم ُّ ف ــي وظائ ــف الكل ــى والكب ــد ،وف ــي بع ــض الح ــاالت اإلصاب ــة وتظه ــر النتائ ــج بنزي ــف داخل ــي وخارج ــي عل ــى َح ـّد س ــواءُ . المختبريــة انخفاض ـ ًا فــي عــدد الكريــات البيضــاء والصفائــح الدموي ــة وارتفاعــ ًا ف ــي معــّدالت إف ــراز الكب ــد لألنزيم ــات. الفيروســات ليســت بــزالزل وال ببراكيــن وال بتســونامي.. خيـــال المبـــدع يراهـــا األنســـب لمجـــاز النهايـــات الكارثيـــة والمخيف ــة ،وإنه ــا ف ــي خي ــال الن ــاس تك ــون أحيانــ ًا عقابــ ًا ســـيئة علـــى خطايـــا الفقـــراء .إنهـــا ال ترحـــم ،وســـمعتها ّ الذك ــر ،وف ــي اآلن نفس ــه أس ــماؤها جذاب ــة وأحيانــاً ،تب ــدو أدبيــة ،خليقـ ًا بهــا أن تكــون عنوانـ ًا علــى غــاف روايــة مثــل دل بهــا اســم الفيــروس اإلفريقــي «غابــة ســمليكي» التــي ُيس ـَت ّ ـرار واقع ــة بي ــن أوغن ــدا وإيت ــوري .وإيب ــوال نفس ــه، عل ــى ب ـ ٍ ه ــو اس ــم نه ــر ف ــي الكونغ ــو الديموقراطي ــة ،اّتخ ــذه الروائ ــي الس ــوداني أمي ــر ت ــاج الس ــر عنوانــ ًا إلح ــدى روايات ــه .وم ــن الطبيع ــي أن يك ــون للعدوانيي ــن والشرس ــين ه ــذه الجاذبي ــة فـــي تغذيـــة خيـــال الكتـــاب ،والفيروســـات هـــي مخلوقـــات
قادم ــة م ــن الفض ــاء لك ــي تغ ــزو بن ــي البش ــر ،وتقض ــي عل ــى وتحتـــل كوكبهـــم الفريـــد! .لقـــد كتـــب ،فـــي هـــذا ســـالتهم، ّ الصـــدد ،صاحـــب «الحيـــاة الغامضـــة لألشـــجار العمالقـــة»، الكاتــب العلمــي ريتشــارد بريســتون ،وذلــك فــي عــام ،1995 روايتـــه « THE HOT ZONE: A TERRIFYING TRUE -STORYالمنطقــة الســاخنة :قصــة حقيقيــة مرعبــة» والتــي كان ــت ق ــد تص ـ َّـدرت ف ــي وقته ــا قائم ــة كت ــب الرع ــب العلمي ــة. تأمـــل بريســـتون أحـــداث ظهـــور الفيـــروس إيبـــوال، وفيهـــا َّ ليكت ــب روايت ــه ع ــن قات ــل يتس ــلَّل م ــن إفريقي ــا إل ــى الق ــارة األميركي ــة ف ــي عملي ــة اس ــتيراد ق ــرد صغي ــر ،والكت ــاب ُأخ ـِـرج ف ــي فيل ــم بع ــد ذل ــك بنف ــس العن ــوان واإلث ــارة والرع ــب. التنب ــؤ بالمس ــتقبل ف ــي مج ــال يق ــول العلم ــاء إن ــه ال يمك ــن ُّ تطـــور الحّيـــة ،وعلـــى هـــذا األســـاس فإنهـــم ،أمـــام ُّ المـــادة َ الفيروس ــات واختفائه ــا وظهوره ــا ،ال يمتلك ــون زم ــام األم ــور دائمــاً ،وإن كان ــت مطاردته ــم له ــا تص ــل إل ــى حال ــة اس ــتنفار دولي ــة تنص ــح الحكوم ــات واألف ــراد بالت ــزام الحيط ــة والح ــذر تجنُّبــ ًا لتق ـ ُّـدم الفي ــروس. المعركـــة زمنيـــة ،وقياســـ ًا بأمـــد الحيـــاة البشـــرية تـــكاد تســـتمر دون َنَفـــس طويـــل تتعاقـــب تكـــون أبديـــة ،لكنهـــا ال ّ عليـــه األجيـــال ،شـــأنها فـــي ذلـــك شـــأن معـــارك انتهـــت، وأخــرى فــي طريقهــا إلــى االنتهــاء أو االســتئناف .فيروســات انتهـــى بهـــا الحـــال إلـــى فقـــدان عدوانيتهـــا وعجزهـــا عـــن إلحـــاق الضـــرر بنـــا .لقـــد بـــات فيـــروس « »H1N1ذكـــرى س ــيئة ،وربم ــا س ــينتهي في ــروس فق ــدان المناع ــة المكتس ــبة بمـــا انتهـــى إليـــه حليفـــه فيـــروس « »SIVالـــذي لـــم نســـمع مجـــدداً. بإصابـــة قـــرد الشـــمبانزي بـــه َّ انتش ــار الفي ــروس عالميــ ًا ه ــو الي ــوم أس ــرع م ــن أي وق ــت مض ــى؛ ينتق ــل بس ــرعة الري ــح .وف ــي زمنن ــا العلم ــي ،ال ــذي ل ــم تس ــلم في ــه الحواس ــيب نفس ــها م ــن الفيروس ــات ،وال ــذي يبـــدو مـــن الصعـــب وقـــف هجرتهـــا ،تعلِّـــق أخصائيـــة علـــم الفيروس ــات الفرنس ــية أس ــتريد فاب ــري س ــاخرة عل ــى س ــرعة ـــن لنـــا كيـــف تجعلنـــا االنتقـــال هاتـــه بقولهـــا« :وهـــو مـــا َب َّي َ وس ــائل االّتص ــال الحديث ــة عرض ــة للع ــدوى أكث ــر مم ــا كن ــا فــي مــا قبــل ،وكيــف أن الفيروســات تســتفيد مثلنــا تمام ـ ًا مــن خدم ــات ش ــركات الطي ــران العالمي ــة!». أن يرعبن ــا في ــروس م ــا أم ـ ٌـر يمك ــن للبش ــرية التأقل ــم مع ــه، لك ــن ،أن يصب ــح الفي ــروس نفس ــه تح ــت تص ـ ُّـرف البش ــر فه ــذا أخط ــر فاش ــية يمك ــن أن تصي ــب الفك ــر البش ــري؛ فف ــي ع ــام ُ 1992و ِّجهـــت تهـــم إلـــى أعضـــاء جماعـــة «أوم شـــنريكيو» بالتفكيـــر باســـتخدام إيبـــوال كســـاح إرهابـــي؛ حيـــث قـــام رئيـــس الجماعـــة «شـــوكو أســـاهارا» باصطحـــاب 40مـــن بحجـــة مســـاعدة الجهـــود فـــي محاربـــة أتباعـــه إلـــى زائيـــر ّ المـــرض للحصـــول علـــى عينـــات مـــن الفيـــروس .وبســـبب ـــمّيته الكبيـــرة ُي َعـــّد فيـــروس إيبـــوال ســـاح ًا بيولوجيـــاً. ُس ّ 157
صفحات مطوية
ظالل العصا عبدالهادي عباس
المفـــردة اللفظيـــة فـــي لغِتنـــا العربيـــة بمعـــزل ال ُ تعيـــش ُ كـــر األيـــام مـــع ها اســـتخدام طـــال كلمـــا إذ الحيـــاة، عـــن ّ ُ والدهـــور كلمـــا أصبحـــت ُحبلـــى بمعـــان جديـــدة ودالالت ـا ورم ــوزًا وإيح ــاءات ُتناس ــب المس ــتخدم طريف ــة ُتكس ــبها ثق ـ ً طيع ــة الجدي ــد والعص ــر ال ــذي يعي ــش في ــه؛ وبق ــدر م ــا تك ــون ّ لين ــة بي ــن يدي ــه يتحــّدد م ــدى قدرته ــا عل ــى البق ــاء والخل ــود ّ فـــي مواجهـــة اشـــتقاقات أخـــرى تنافســـها فـــي االســـتخدام، وتعمـــل علـــى ســـّد مكانهـــا إن أصابهـــا الوهـــن فـــي تلبيـــة الحاجـــات اللســـانية لعصرهـــا. ومـــن األلفـــاظ التـــي اســـتطاعت الصمـــود والمحافظـــة علـــى جانـــب كبيـــر مـــن حيويتهـــا وقدرتهـــا علـــى التعبيـــر ع ــن مدل ــوالت اإلنس ــان العرب ــي ال ــذي يلوكه ــا كثي ــراً ،لفظ ــة (العصـــا) ..حتـــى أصبحنـــا نســـتخدم اللفظـــة اآلن فـــي اإلع ــام ،ونق ــول إن الرئي ــس الجدي ــد ال يمل ــك عص ــا س ــحرية ـل المش ــاكل ،للتدلي ــل عل ــى حج ــم المش ــاكل االقتصادي ــة لح ـ ّ واالجتماعيـــة التـــي تواجهـــه وقصـــر ذراعـــه عـــن عالجهـــا، وللبح ــث ع ــن دفاع ــات مض ــادة مس ــبقة الّتهام ــات منتظ ــرة.. وفــي األدب وجدنــا روايــة «هــاري بوتــر» بأعدادهــا المتتابعــة تســـتخدم العصـــا الســـحرية للترميـــز إلـــى قـــوة الســـاحر حيـــث ُيصبـــح مـــن غيرهـــا بـــا َحـــول وال طـــول ،إذ ُتقـــاس بقـــوة الســـحر المنضغـــط فـــي عصـــاه؛ وهـــو مدلـــول قوتـــه ّ ّ نج ــده -أيضــاً -ف ــي عال ــم الس ــيرك حي ــن يس ــتخدم الس ــاحر البس ــيط العص ــا لص ــرف أنظ ــار األطف ــال ع ــن ألع ــاب الخّف ــة مدبج ـ ًا ذل ــك بع ــدد م ــن التمتم ــات الت ــي يس ــتعين به ــا إلثب ــات ِّ قدرات ــه اإلمتاعي ــة الت ــي عل ــى أساس ــها يتح ـ َّـدد حج ــم النق ــود الموضوعـــة فـــي طاقيـــة الـــرأس الطويلـــة. وألن الطبيع ــة فرض ــت عل ــى اإلنس ــان االّت ــكاء عل ــى نفس ــه 158
فـــي تأميـــن وســـائل الدفـــاع ووســـائل الصيـــد كذلـــك ،فقـــد كان لزامــ ًا علي ــه تذلي ــل المت ــاح أمام ــه وتطويع ــه لالس ــتفادة القصـــوى منـــه ،فبعـــد أن عـــرف أنـــواع األشـــجار ودرجـــات وأيه ــا يصل ــح أعم ــدة لبيت ــه وأيه ــا يصل ــح للتدفئ ــة ّ صالدته ــا ّ وس ــقفاً ،اس ــتقر -أيضــاً -عل ــى أن ــواع متين ــة خفيف ــة تصل ــح ســـاح ًا باتـــرًا فـــي مواجهـــة غوائـــل الدخـــاء مـــن الحيـــوان واإلنســـان ،كمـــا اســـتخدمها فـــي االعتـــداء إن كان مـــن ذوي ـاء ف ــي الق ــرى النزع ــات اآلثم ــة ..وإل ــى عه ــد قري ــب كان األبن ـ ُ ّيـــة كل منهـــم فـــي الحصـــول يتناوشـــون علـــى مـــدى أحقّ «نبـــوت» الوالـــد الـــذي كان يعتنـــي بـــه ،ويطليـــه علـــى ّ ويزين ــه بأن ــواع ـه، ـ صالدت ـى ـ عل ـظ ـ ليحاف ـرة ـ فت كل بالزي ــت ِّ ـــم رأســـه بالقـــار ،ويضـــع حديـــدة مـــن الدبابيـــس ،أو ُي ّ عم ُ صف ــراء ف ــي نهايت ــه؛ وف ــي بع ــض األحي ــان إن كان ــت العص ــا «ســـودانية» أصيلـــة وقـــد ســـاعدته فـــي بعـــض معاركـــه، يضعه ــا معلق ــة ف ــي «منظ ــرة» العائل ــة ،افتخ ــارًا بانتصارات ــه واس ــتعادتها ف ــي أذه ــان المش ــاهدين؛ وإرهابــ ًا -أيضــاً -لم ــن فك ــر ف ــي معادات ــه. ُي ِّ النصيـــب األوفـــر مـــن اســـتخدام ومصـــر -تحديـــداً -نالـــت َ العص ــا ،عل ــى ط ــول تاريخه ــا ،ب ــدءًا م ــن عص ــا الصولج ــان عنـــد الفراعيـــن إلـــى «العوجايـــة» التـــي يّتكـــىء عليهـــا كبـــار والمعوقــون ،أو طلبـ ًا لألناقــة الشــاعرة كمــا كان يفعــل الســن ّ الفْت َون ــة ش ــيخنا العّق ــاد ،ويفع ــل تلمي ــذه ،إضاف ــة إل ــى رم ــز َ عمنــا نجيــب محفــوظ ســواء فــي «أوالد الــذي نــراه ّ جلي ـ ًا عنــد ّ حارتنـــا» أو «زقـــاق المـــدق» أو «الحرافيـــش» أو «الشـــيطان الخي ــر ـوةِّ ، يعــظ» ..وغيرهــا ،حيــث أوجــد وصف ـ ًا دقيق ـ ًا للفتـّ النب ــوت؛ أو الش ـ ّـرير ،وم ــدى مهارت ــه ف ــي اس ــتخدام العص ــا ّ إذ يتوّق ــف عل ــى ذل ــك غن ــاه م ــن فق ــره ،ب ــل حيات ــه نفس ــها
مـرهـــونـــــة بــهـــــــذه المهـــارة فـــي زمـــن لـــم يكـــن يعتـــرف بغيـــر الق ــوة الجس ــدية وامتداده ــا ف ــي العص ــا طريق ـ ًا للعي ــش.. ورأينـــا -أيضـــاً -فـــي روايـــة «األرض» لعبـــد الرحمـــن الشـــرقاوي النب ــوت -وإن كان ــت ه ــذه الم ــرة أهمّي ــة العص ــا ّ طرفــ ًا م ــن ّ ف ــي أي ــدى الفق ــراء ي ــذودون به ــا ع ــن أرضه ــم وأعراضه ــم دفاعـــ ًا ال َفْت َونـــة. ألهمّيـــة العصـــا إدراك مـــن العربـــي األدب يخـــل ولـــم ُ ّ من ــذ أن عص ــا بن ــو أس ــد س ـ ِّـيدهم ُحج ــراً ،آكل الم ــرار ،وال ــد الشــاعر امــرئ القيــس حتــى أغــار عليهــم ،وقتــل منهــم عــددًا كبيـــرًا بالعصـــا. والمتنب ــي نفس ــه غض ــب عل ــى كاف ــور اإلخش ــيدي وهج ــاه بعيديت ــه الش ــهيرة الت ــي ق ــرن فيه ــا العب ــد والعص ــا وكأنهم ــا العّل ــة والمعل ــول:
العبد إ ّلا والعصا معه ال تشترِ َ مناكيد ألنجاس العبيد إن ُ َ ٌ
ـل ف ــي «البي ــان والتبيي ــن» للجاح ــظ ويطالعن ــا ب ــاب كام ـ ٌ األهمّي ــة وأهمّيته ــا عن ــد خطب ــاء الع ــرب ،بتل ــك ّ ع ــن العص ــا ّ التــى وصلــت إلــى أن يقــول الخليفــة عبــد الملــك بــن مــروان إن الخيزران ــة ل ــو س ــقطت من ــه لذه ــب ش ــطر كالم ــه ،أو أن يهتـــر ســـحبان وائـــل أمـــام معاويـــة ألنـــه ال يملـــك عصـــاه التـــي تـــدور معـــه فـــي مجالـــس الخطابـــة ،وكأنهـــا امتـــداد للســـانه خـــارج جســـده ..إلـــى أن يّتخـــذ الجاحـــظ منحـــى
نجيب محفوظ
اّخ ــر حي ــن يجع ــل «غني ــة» تل ــك الم ِ عســـرة تمـــدح المـــرأة الفقيـــرة ُ ابنه ــا الهزي ــل ال ــذي يضرب ــه الن ــاس الديـــات تقتـــات وتحصـــد هـــي منهـــم ّ عليه ــا إل ــى أن تصب ــح «غني ــة» بالفع ــل:
ُ أحلف بالمرو ِة يوم ًا والصفا
أنك خي ٌر من تفاريق العصا
وم ــن قب ــل ه ــذا اس ــتخدم الق ــرآن الكري ــم العص ــا ف ــي قص ــة ســـيدنا موســـى عليـــه الســـام بمدلـــوالت مختلفـــة إلثبـــات الق ــدرة اإللهي ــة والتدلي ــل عل ــى رس ــالة النب ــي موس ــى علي ــه ـش الس ــام حي ــن أصبح ــت «العص ــا» الت ــي يت ــوكأ عليه ــا ويه ـ ّ به ــا عل ــى غنم ــه معج ــزة كب ــرى ،فه ــي ه ــي العص ــا نفس ــها ـــحرة تحولـــت إلـــى َحّيـــة تســـعى أكلـــت التـــي َّ عصـــي َّ الس َ ّ فأدركــوا أن موســى ليــس ســاحراً ،وهــي هــي العصــا نفســها وح َّولتـــه التـــي فلقـــت البحـــر لموســـى وأتباعـــه المؤمنيـــن َ نجاه ــم م ــن الغ ــرق. إل ــى طري ــق َّ الم َكْهرب ــة ف ــي أي ــدي الش ــرطة اآلن، وبعي ــدًا ع ــن العص ــا ُ يحف ــل الت ــراث الش ــعبي المص ــري بع ــدد واف ــر م ــن حكاي ــات العصـــا مـــن خـــال لعبـــة التحطيـــب التـــي لـــم يكـــن ليخلـــو منهـــا فـــرح فـــي القـــرى والنجـــوع المصريـــة؛ والتـــي كانـــت أهـــم أدوات المعـــارك بيـــن الفالحيـــن. كذلـــكّ -وهك ــذا ت ــدور العص ــا ف ــي تراثن ــا األدب ــي م ــا بي ــن انتص ــاب اللســـان وإعجـــاز النبـــوة ،إلـــى رمـــز للبلطجـــة والجبـــروت أي الجانبي ــن تمي ــل العص ــا ف ــي األي ــام والف ــرح أيضــاً .فإل ــى ّ المقبل ــة؟! 159
سالمة صالح
لدي ما أرويه كان ّ
شــعرت بالحســد إزاء طبيبــي الشــاب وأنــا أغــادر عيادتــه فكــرت أنــه ســيعمل حتــى الخامســة بعــد الظهــر ،أربعــة حيــن َّ أيــام فــي األســبوع ،وسينســى كل مــا لــه عالقــة بالعمــل فــي مــا يتبقــى لــه مــن الوقــت .عمــل الكاتــب يشــبه عمــل األمهــات، عمــل غيــر منظــور ،يســتغرق النهــار كلــه وجانبـ ًا مــن الليــل ،ال أعنــي أننــي أجلــس وراء منضــدة الكتابــة طول الوقــت بالطبع، فذلــك ال يشـّـكل إال الجانــب التنفيــذي مــن العمــل ،وال يســتغرق إال وقتـ ًا قليـاً .ومنضــدة الكتابــة هــي مــكان عقيــم ال يخطــر لــي فيــه شــيء ذو بــال .الجانــب األساســي مــن العمــل هــو انبثــاق الفكــرة وتطويرهــا .أفضــل األفــكار تولــد وأنــا فــي الطريــق. كثيــرًا مــا كتبــت مــا يخطــر لــي علــى ظهــر تذكــرة الحافلــة أو أي قصاصــة ورق وجدتهــا فــي متنــاول يــدي .كيــف ومتــى بــدأ هــذا الشــغف بــاألدب؟ هــذا ســؤال تصعــب اإلجابــة عنــه. كان كتابــي األول -مجموعــة قصــص -ال يــزال فــي المطبعــة ـي أن أغــادر مدينتــي إلــى بغداد أللتحــق بالجامعة حيــن كان علـ ّ وبعمــل مســائي فــي اإلذاعــة العراقيــة ،فلــم تتهيــأ لــي مراجعــة مســودات الطبــع ،وكان ال بــد مــن تخصيــص صفحتيــن فــي آخــر الكتــاب لتصويــب األخطــاء .لــم يكــن كتابــي الثانــي أوفــر حظــاً ،لــم يكــن قــد خــرج مــن المطبعــة حيــن حــدث انقــاب ،1963وفقــدت جــزءًا مــن دخلــي كان يتأتــى من كتابــة البرامج اإلذاعيــة ،كمــا لــم يعــد المنــاخ العــام مواتيــ ًا فتأخــر توزيــع الكتــاب بضعــة شــهور ،وحيــن صــدرت مجموعــة «التحــوالت» عــام 1974عــن اتحــاد الكّتاب العرب في دمشــق كانت العالقات الرســمية بيــن العــراق وســورية متوترة فمنع دخــول الكتب من ســورية بوجــه عــام .اشــتريت النســخ العشــر مــن الكتــاب التــي أتــى بهــا صاحــب إحــدى المكتبــات ولــم يســتطع عرضهــا فــي ـتقرت في المخــزن« .زهرة مكتبتــه بســبب المنــع ،وكانــت قد اسـ ّ األنبيــاء» رغــم تأخــر صــدوره عاميــن ،ألن الناشــر اللبنانــي 160
الــذي كان قــد وافــق علــى نشــره احتفــظ بــه كل هــذه الفتــرة ثــم اعتــذر عــن عــدم النشــر ،وضــع نهايــة لســوء الطالــع ،وحظــي باهتمــام النقــد األدبــي والقـّـراء علــى الســواء لــدى صــدوره عــام 1994فــي دمشــق .تلتــه مجموعــة «شــجرة المغفــرة» وصــدرت طبعــة جديــدة مــن روايــة «النهــوض». لــم يكــن األدب قــد أصبــح فــي العالــم العربــي مهنــة – وربمــا هــو كذلــك اليــوم أيضـ ًا .-كان الكاتــب يكســب لقمــة خبــزه مــن عمــل آخــر ،وكان أغلبنــا يكتــب ألنــه يجــد فــي الكتابــة متعــة، هنــاك أيضــ ًا مــن كان يعتقــد أنــه يســتطيع بــاألدب أن يغيــر العالــم .ليــس الحــال كذلــك بالنســبة لــي ،فأنــا أعــرف أن ألفــي نســخة مــن كتــاب ألمــة يزيــد عــدد نفوســها علــى 300مليــون هــي عــدد أقــل مــن القليــل .أصبحــت أنظر إلــى األدب نظــرة أكثر تواضعـ ًا وأضــع المعلــم فــي موضع أعلــى من موضــع الكاتب. كتبــت خــال كل تلك الســنوات مزيدًا مــن القصص ،وقصص ًا وبقي ْت ســاعات الصباح األولى لألطفــال ،وعملــت في الصحافة َ هــي الســاعات األكثــر عطــاء في الكتابــة ،فأنجزت الجــزء األكبر مــن «زهــرة األنبيــاء» فــي الصباحــات الباكــرة .كنــت أنهــض في الخامســة وأكتــب فقــرة ممــا يقــارب الخمســمئة كلمــة قبــل أن أغــادر المنــزل للذهــاب إلــى عملي الــذي يبدأ فــي الثامنة .وكانت الحالــة االنفعاليــة دائمـ ًا هــي مــا أحتــاج إليــه للكتابة .فــي فترة مبكــرة كانــت هــذه الحالــة وحدهــا كافيــة للبــدء بالكتابــة .حتــى بــدا لــي أن القصــة تكتــب نفســها .حــدث هــذا مع بعــض القصص مثــل قصــة «إســراء أرضــي» ،التــي لــم تســتغرق كتابتهــا أكثــر مــن ربــع ســاعة .مــع الزمــن تغير هــذا .بقيــت الحالــة االنفعالية ضروريــة ،ولكــن أصبــح اســتدعاؤها أكثــر صعوبــة وقــد ال يتحقّق إال بقراءة نص جيد أو االستماع إلى الموسيقى ،وظلّت الملتِبســة ،ســوء التفاهم وإخفاق اللغة الموضوعات العالقات ُ األهــم فــي نصوصي.