Aldoha_magazine_N_84

Page 1

‫رئيس الهيئة االستشارية‬

‫د‪ .‬حمد بن عبد العزيز الكواري‬ ‫وزير الثقافة والفنون والتراث‬

‫رئيس التحرير‬

‫د‪.‬علي أحمد الكبيسي‬ ‫سكرتير التحرير‬ ‫سـعــيد خـطـيـبـي‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫ديـمـــــة الـشـكــــر‬ ‫محســـن العتيقـــي‬ ‫رئيس القسم الفني‬

‫ســلـمـان المـالك‬ ‫اإلخراج والتنفيذ‬

‫عـــــــاء األلــفـــــي‬ ‫رش ــا أبوشوش ــة‬ ‫هـــنــــد خـمـيــــس‬

‫الهيئة االستشارية‬

‫أ‪ .‬مبارك بن ناصر آل خليفة‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عبد الرحيم كافود‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد غانم الرميحي‬ ‫د‪ .‬عـــلـي فــخــــرو‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬رضوان السيد‬ ‫أ‪ .‬خـالد الخـمـيـسي‬ ‫جميع المشاركات ترسل باسم رئيس‬ ‫التحرير ويفضل أن ترسل عبر البريد‬ ‫االلكتروني للمجلة أو على قرص مدمج في‬ ‫حدود ‪ 1000‬كلمة على العنوان اآلتي‪:‬‬ ‫تليفون ‪)+974( 44022295 :‬‬ ‫تليفون ‪ -‬فاكس ‪)+974( 44022690 :‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪aldoha_magazine@yahoo.com‬‬

‫مكتب القاهرة‪:‬‬ ‫مدير المكتب‪ :‬وحيد الطويلة‬

‫‪  34‬ش طلعت حرب‪ ،‬الدور الخامس‪،‬‬ ‫شقة ‪  25‬ميدان التحرير‬ ‫تليفاكس‪5783770 :‬‬ ‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪aldoha.cairo@gmail.com‬‬ ‫عبر عن‬ ‫المواد المنشورة في المجلة ُت ِّ‬ ‫عبر بالضرورة عن رأي‬ ‫آراء كّتابها وال ُت ِّ‬ ‫برد‬ ‫الوزارة أو المجلة‪ .‬وال تلتزم المجلة ّ‬ ‫أصول ما ال تنشره‪.‬‬

‫مشكالت التعليم العالي‬ ‫في الوطن العربي‬ ‫تحديـــات كبيـــرة‪،‬‬ ‫مـــا زال التعليـــم العالـــي فـــي الوطـــن العربـــي يواجـــه ِّ‬ ‫ـور وتق ـ ُّـدم نتيج ــة‬ ‫عل ــى الرغ ــم مم ــا حقّقت ــه بع ــض الجامع ــات العربي ــة م ــن تط ـ ُّ‬ ‫اإلصالحـــات والمراجعـــات التـــي قامـــت بهـــا مـــن أجـــل جـــودة األداء وتحســـين‬ ‫المخرج ــات‪ ،‬ولك ــن الواق ــع يش ــهد أن م ــا حقَّقت ــه الجامع ــات العربي ــة ف ــي مج ــال‬ ‫متوق ــع منهــا‬‪‭.‬‬ ‫ـل مم ــا ه ــو‬ ‫ـل مش ــكالت المجتم ــع أق ـ ّ‬ ‫التنمي ــة وح ـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫م ــن المتع ــارف علي ــه أن للجامع ــة ث ــاث وظائ ــف كب ــرى ه ــي‪‬:‬التدري ــس‪،‬‬ ‫والبح ــث‪ ،‬وخدم ــة المجتم ــع‪ ،‬وق ــد حص ــرت أغل ــب الجامع ــات العربي ــة نفس ــها‬ ‫تتوجـــه إلـــى البحـــث‬ ‫فـــي ميـــدان التدريـــس‪ ،‬وصرفـــت اهتمامهـــا إليـــه‪ ،‬ولـــم‬ ‫َّ‬ ‫مؤخ ــرًا بع ــد عملي ــات المراجع ــة واإلص ــاح‪ ،‬وإس ــهاماتها‬ ‫وخدم ــة المجتم ــع إال َّ‬ ‫ف ــي هذي ــن المجالي ــن مح ــدودة‪‭.‬‬ ‫تواجـــه أكثـــر هـــذه الجامعـــات تحّديـــات عديـــدة فـــي مجـــال التدريـــس‪،‬‬ ‫فمـــا زالـــت برامجهـــا ومناهجهـــا غيـــر مالئمـــة لمســـتجّدات العصـــر وحاجـــات‬ ‫المجتمـــع‪ ،‬وأغلـــب أســـاتذتها بحاجـــة إلـــى تنميـــة كفاياتهـــم التدريســـية‬ ‫تشـــجع‬ ‫فعالـــة‪ ،‬وال‬ ‫الم َّتبعـــة فيهـــا غيـــر ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وتطويرهـــا‪ ،‬وطرائـــق التدريـــس ُ‬ ‫الطال ــب الجامع ــي عل ــى الح ــوار البّن ــاء والتفكي ــر الناق ــد‪ ،‬ومخرج ــات تعليمه ــا‬ ‫الخريجيـــن‪ ،‬وأن‬ ‫ضعيفـــة؛ حيـــث يشـــكو ســـوق العمـــل مـــن تدنّـــي مســـتوى ّ‬ ‫تخصصاتهـــم ال تناســـب متطلَّباتـــه‪‭.‬‬ ‫كثيـــرًا مـــن ُّ‬ ‫والبحـــث العلمـــي فـــي هـــذه الجامعـــات‪ -‬وخاصـــة فـــي مجـــال العلـــوم‬ ‫اإلنس ــانية واالجتماعي ــة‪ -‬يغل ــب علي ــه الطاب ــع النظ ــري والجه ــد الف ــردي بغي ــة‬ ‫التخصـــص‪ ،‬كمـــا أن إنتاجيـــة الباحـــث الســـنوية‬ ‫الترقيـــة العلميـــة فـــي مجـــال‬ ‫ُّ‬ ‫متدنِّي ــة جــّدًا أو معدوم ــة‪ ،‬ويكش ــف ه ــذا الواق ــع عج ــز الجامع ــات العربي ــة ع ــن‬ ‫ــل مش ــكالت المجتم ــع أو اإلســـهام النوعـــي فـــي‬ ‫توظي ــف أبحاثهـــا العلمي ــة لحـ ّ‬ ‫تحقي ــق أغ ــراض التنمي ــة‪ ،‬ومعن ــى ذل ــك أن ــه لي ــس ل ــدى أكث ــر ه ــذه الجامع ــات‬ ‫مبني ــة عل ــى دراس ــة احتياج ــات المجتم ــع وله ــا مس ــارات‬ ‫اس ــتراتيجية بحثي ــة ّ‬ ‫واضح ــة يمك ــن أن تس ــهم ف ــي تطوي ــره وتنميت ــه‪ ،‬ويرج ــع ذل ــك‪ -‬ف ــي المق ــام‬ ‫األول‪ -‬إل ــى اهتمامه ــا األكب ــر بالتدري ــس عل ــى حس ــاب البح ــث العلم ــي األصي ـل‬‪‭.‬‬ ‫أمـــا الوظيفـــة الثالثـــة (خدمـــة المجتمـــع)‬فمـــا زالـــت تســـميتها غامضـــة‪،‬‬ ‫ومدلولهـــا مقــصـــورعــــند أكــــــثرالـجـامــعـــــات علـــى عقـــد الـــدورات وإلقـــاء‬ ‫المحاضـــرات‪ ،‬فـــي حيـــن أن مفهومهـــا واســـع‪ ،‬وقـــد يســـتوعب الوظيفتيـــن‬ ‫اهتـــم خبـــراء التعليـــم العالـــي بهـــذه الوظيفـــة‪،‬‬ ‫وليْيـــن أيضـــاً‪ .‬ومـــن هنـــا‬ ‫ّ‬ ‫ا ُأل َ‬ ‫وس ــعوا إل ــى َبْل ـ َـورة المضم ــون الحقيق ــي له ــا‪ ،‬فقام ــت الجامع ــات األوروبي ــة‬ ‫بإجـــراء بحـــث علمـــي فـــي هـــذا المجـــال نتـــج عنـــه إقامـــة مؤتمـــر دبلـــن‬ ‫(فبراير‪/‬شـــباط ‪ )2012‬الـــذي ناقـــش نتائـــج المشـــروع البحثـــي‪ ،‬وانتهـــى‬ ‫إل ــى تحدي ــد ثالث ــة جوان ــب له ــذه الوظيف ــة‪ ،‬وه ــي‪ :‬التعلي ــم المس ــتمر‪ ،‬ونق ــل‬ ‫المؤش ــرات‬ ‫وح ـ َّـدد مجموع ــة م ــن‬ ‫ِّ‬ ‫التقني ــة واالبت ــكار‪ ،‬والمش ــاركة المجتمعي ــة‪َ .‬‬ ‫لقيـــاس كل جانـــب‪.‬‬ ‫تأملن ــا دور الجامع ــات العربي ــة ف ــي ه ــذه الجوان ــب الثالث ــة لوجدن ــاه‬ ‫ول ــو َّ‬ ‫مح ــدودًا ف ــي بعضه ــا‪ ،‬ومعدومــ ًا ف ــي بعضه ــا اآلخ ــر‪‭.‬‬ ‫أي جامعـــة عربيـــة ترتيبـــ ًا‬ ‫وليـــس‬ ‫مســـتغرباً‪ -‬بعـــد هـــذا كلِّـــه‪ّ -‬أل تحـــرز ّ‬ ‫َ‬ ‫متقدمـــ ًا فـــي تصنيـــف الجامعـــات علـــى المســـتوى العالمـــي‪‭.‬‬ ‫ِّ‬ ‫رئيس التحرير‬


‫مجان ًا مع العدد‪:‬‬

‫الغالف‪:‬‬

‫ثــقــافـيـة شــــهــريــة‬

‫العدد‬

‫‪84‬‬

‫السنة السابعة ‪ -‬العدد الرابع والثمانون‬ ‫ذو الحجة ‪ - 1435‬إكتوبر ‪2014‬‬

‫تصدر عن‬

‫وزارة الثقافة والفنون والتراث‬ ‫الـــدوحــــة ‪ -‬قـــــطــــر‬

‫الشرق الفنّان‬

‫غرافيك‪:‬‬

‫د‪.‬زكي نجيب محمود‬

‫عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫صدر العدد األول في نوفمبر ‪ ،1969‬وفي يناير ‪ 1976‬أخــذت توجهها العربي واستمرت‬ ‫فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام ‪ 1986‬لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر ‪.2007‬‬ ‫توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب‪ ،‬د‪ .‬محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش‪.‬‬

‫االشتراكات السنوية‬

‫رئيس قسم التوزيع واالشتراكات‬

‫متابعات‬

‫داخل دولة قطر‬

‫عبد اهلل محمد عبداهلل المرزوقي‬

‫صباح غــزة الجديــد ‪( ................‬غزة‪ :‬عبداهلل عمر)‬

‫األفراد ‬

‫‪ 120‬ريــا ًال‬

‫الدوائر الرســمية‬

‫‪ 240‬ريا ًال‬

‫مفارقــات الدخول الثقافــي ‪ (....‬الرباط‪ :‬عبدالحق ميفراني)‬

‫فـاكـس ‪)+974( 44022343 :‬‬

‫نســاء موريتانيا‪ ..‬بين السياسة والمجتمع(نواكشــوط‪ :‬عبداهلل ولد محمدو)‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬

‫خارج دولة قطر‬ ‫دول الخليــج العربــي‬

‫‪ 300‬ريال‬

‫باقــي الــدول العربيــة‬

‫‪ 300‬ريال‬

‫دول االتحاد األوروب ‬ ‫ي‬

‫تليفون ‪)+974( 44022338 :‬‬

‫‪75‬يورو‬

‫أمـــــــــيــــركـــــــــا‬

‫‪ 100‬دوالر‬

‫كــــنــــدا وأســتـــرالـــيــــا‬

‫‪150‬دوالرًا‬

‫الموزعون‬

‫‪al-marzouqi501@hotmail.com‬‬ ‫‪doha.distribution@yahoo.com‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪www.aldohamagazine.com‬‬

‫ترســل قيمة االشتراك بموجب حوالة‬ ‫مصرفيــة أو شــيك بالريــال القطري‬ ‫باسم وزارة الثقافة والفنون والتراث‬ ‫على عنوان المجلة‪.‬‬

‫وكيل التوزيع في دولة قطر‪:‬‬ ‫دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ 44557810 :‬فاكس‪44557819 :‬‬

‫وكالء التوزيع في الخارج‪:‬‬ ‫المملكة العربية السعودية ‪ -‬الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ‪ -‬الرياض‪ -‬ت‪0096614871262 :‬‬ ‫ فاكــس‪ /0096614870809 :‬مملكــة البحريــن ‪ -‬مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف ‪ -‬المنامة ‪-‬‬‫ت‪ - 007317480800 :‬فاكــس‪/007317480819 :‬دولــة اإلمارات العربية المتحدة ‪ -‬المؤسســة‬ ‫العربيــة للصحافــة واإلعــام ‪ -‬أبــو ظبــي ‪ -‬ت‪ - 4477999 :‬فاكس‪ /4475668 :‬ســلطنة ُعمان‬ ‫ مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن ‪ -‬مســقط ‪ -‬ت‪ - 009682493356 :‬فاكس‪:‬‬‫‪ /0096824649379‬دولــة الكويــت ‪ -‬شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان ‪ -‬الكويت‬ ‫ ت‪ - 009651838281 :‬فاكــس‪ /0096524839487 :‬الجمهوريــة اللبنانيــة ‪ -‬مؤسســة‬‫نعنــوع الصحفيــة للتوزيــع ‪ -‬بيــروت ‪ -‬ت‪ - 009611666668 :‬فاكــس‪/009611653260 :‬‬ ‫الجمهوريــة اليمنيــة ‪ -‬محــات القائــد التجاريــة ‪ -‬صنعــاء ‪ -‬ت‪- 00967777745744 :‬‬ ‫فاكــس‪ / 009671240883 :‬جمهوريــة مصــر العربيــة ‪ -‬مؤسســة األهــرام ‪ -‬القاهــرة ‪ -‬ت‪:‬‬ ‫‪ - 002027704365‬فاكــس ‪/002027703196‬الجماهيريــة الليبية ‪ -‬دار الفكر الجديد الســتيراد‬ ‫ونشــر وتوزيــع المطبوعات ‪ -‬طرابلــس ‪ -‬ت‪ - 0021821333260 :‬فاكس‪00218213332610 :‬‬ ‫‪ /‬جمهورية السودان ‪ -‬دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع ‪ -‬الخرطوم ‪ -‬ت‪0024915494770 :‬‬ ‫ فاكس‪ / 00249183242703 :‬المملكة المغربية ‪ -‬الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــر‬‫والصحافة‪ ،‬سبريس ‪ -‬الدار البيضاء ‪ -‬ت‪ - 00212522249200 :‬فاكس‪/00212522249214:‬‬ ‫الجمهورية العربية الســورية ‪ -‬مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع ‪ -‬دمشق ‪-‬‬ ‫ت‪- 00963112127797 :‬فاكس‪00963112128664:‬‬

‫األسعار‬ ‫دولة قطر‬ ‫مملكة البحرين‬

‫‪ 10‬رياالت‬ ‫دينار واحد‬

‫الجمهورية العراقية‬

‫اإلمارات العربية المتحدة‬

‫‪ 10‬دراهم‬

‫سلطنة عمان‬ ‫دولة الكويت‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫الجماهيرية العربية الليبية‬ ‫الجمهورية التونسية‬ ‫الجمهورية الجزائرية‬ ‫المملكة المغربية‬ ‫الجمهورية العربية السورية‬

‫دينار واحد‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫‪ 3‬جنيهات‬ ‫‪ 3‬دنانير‬ ‫‪ 2‬دينار‬ ‫‪ 80‬دينارًا‬ ‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫‪ 80‬ليرة‬

‫جولي وأخواتها‪ ..‬عشيقات الرئيس! ‪( .‬باريس‪ :‬عبد اهلل كرمون)‬

‫‪84‬‬

‫الرشــد (تونس‪ :‬عبد المجيد دقنيش)‬ ‫تونس ‪ ..‬الثورة تبلغ ّ‬ ‫ســن ّ‬

‫ميديا‬

‫‪16‬‬

‫أفكار بسيطة‪..‬تصنع الفرق ‪( ...............‬محمود حسن)‬

‫قضية‬

‫جامعة‬

‫خلف القضبان‬ ‫‪18‬‬ ‫(د‪ .‬نزار شقرون)‬ ‫(عبد القادر عبد اللي)‬

‫الجمهورية اللبنانية‬

‫‪ 800‬بيسة‬

‫‪4‬‬

‫مهمة‬ ‫ّ‬ ‫سرّيّة في‬ ‫السودان!‬

‫المملكة األردنية الهاشمية‬ ‫الجمهورية اليمنية‬

‫‪ 3000‬ليرة‬ ‫‪ 3000‬دينار‬ ‫‪ 1.5‬دينار‬ ‫‪ 150‬ريا ًال‬

‫جمهورية السودان‬

‫‪ 1.5‬جنيه‬

‫موريتانيا‬

‫‪ 100‬أوقية‬

‫فلسطين‬ ‫الصومال‬

‫‪ 1‬دينار أردني‬ ‫‪ 1500‬شلن‬

‫بريطانيا‬

‫‪ 4‬جنيهات‬

‫دول االتحاد األوروبي‬

‫‪ 4‬يورو‬

‫الواليات المتحدة األميركية‬

‫‪ 4‬دوالرات‬

‫كندا واستراليا‬

‫‪ 5‬دوالرات‬

‫(د‪ .‬كمال مغيث)‬ ‫(د‪.‬محمد الرميحي )‬ ‫(محمد األصفر)‬ ‫(د‪ .‬نظمي الجعبة)‬ ‫(موناليزا فريحة)‬ ‫فيرو)‬ ‫(نويمي ّ‬


‫مقاالت‬ ‫وداع ًا للكلمات ‪( ......................‬إيزابيلال كامير)‬

‫‪17‬‬

‫‪ 12‬أطروحة حول المثقف ‪(....‬عبد السالم بنعبد العالي) ‪37‬‬ ‫حسرة الحكيم ‪ ...‬أفيون المصريين الجدد (عالء صادق ) ‪38‬‬ ‫وهج القصيدة ‪( .......................‬أمير تاج السر) ‪73‬‬ ‫الحوارات السماوية (مع إبراهيم) (د‪ .‬محمد عبد المطلب )‬

‫‪79‬‬

‫الشراء وال شيء سواه! ‪(................‬سعيد بنكراد) ‪108‬‬ ‫لدي ما أرويه ‪(....................‬سالمة صالح)‬ ‫كان ّ‬

‫أدب‬

‫‪160‬‬ ‫‪80‬‬

‫مرتين ‪( ..................‬جمال جبران)‬ ‫«الرهينة» اليمنية توَلد ّ‬ ‫حوار مع الكتب ‪(.....................‬ماجـد صالح الســامرائي)‬ ‫القوافي المهاجرة‪( .........................‬د‪ .‬حسين محمود )‬ ‫هشاشة الكائن ‪(.....................‬فاطمة الزهراء الرغيوي)‬

‫ترجمات‬

‫‪88‬‬

‫ملف‬

‫أجراس الفيتوري‬

‫أورورا لوكي‪ ..‬تغيير الجلد وقصائد أخرى ‪ (....‬خالد الريسوني)‬

‫أنور المرتجي‬ ‫د‪ .‬محمد الشحات‬ ‫سالم أبوظهير‬ ‫د‪ .‬نجيب العوفي‬ ‫شعبان يوسف‬ ‫رانيا مأمون‬

‫العشوائي ‪(.......................................‬أسامة الحّداد)‬

‫ريان)‬ ‫ظـِــالل َ‬ ‫الز َمـــن ‪(....................................‬أسامة ّ‬

‫كتب‬

‫‪98‬‬

‫«العربي» يستعيد كرامته ‪(..........................‬موناليزا فريحة)‬ ‫االقتراب من ِس ْحر الليالي ‪(.........................‬سامية أبو زيد)‬

‫حسين المزداوي‬ ‫فتحي عبد اهلل‬ ‫أحمد عبدالكريم‬ ‫شاكر نوري‬ ‫د‪ .‬عبدالعزيز المقالح‬

‫‪42‬‬

‫عن مجتمع رأسمالي جشع ‪(.......................‬صدوق نورالدين)‬

‫ازدواجـيـة الصــــدمة واأللـــــم ‪(.................‬جهاد الرنتيسي)‬ ‫ديوان الطرائف المعاصرة ‪(..........................‬عارف حمزة )‬ ‫نصوص أشبه بطلقة البارود ‪(......................‬أسامة حبشي)‬ ‫سيرة جديدة ألبولينير ‪(...........................‬سعيد بوكرامي)‬ ‫هويته ‪(..........................‬خاص بالدوحة )‬ ‫شعب ِّ‬ ‫يفتش عن ّ‬

‫الحنين المحايد ‪(................................‬علوان الجيالني)‬

‫مسرح‬

‫أحمد رجب‪..‬‬ ‫أنسولين‬ ‫السخريّة‬

‫مختاراتنا ‪(..........................................‬مراسلون)‬

‫سينما‬

‫تشكيل‬

‫عمارة‬

‫متوسطية ‪(. .‬اإلسكندرية‪ :‬نـاهـد صـالح)‬ ‫اإلسكندرية السينمائي‪..‬هموم‬ ‫ّ‬ ‫بقرة في اليد وال سالم على الشجرة!‪« ..‬المطلوبون الـ ‪( »18‬حوار‪ :‬س‪.‬ب)‬

‫‪142‬‬

‫‪142‬‬

‫«قبة الصخرة»‪ ..‬تنويعات الحل التصميمي (د‪ .‬خالد السلطاني)‬

‫علوم‬

‫«مارسيليا» ‪..‬طريق األمومة ‪(........................‬مروة رزق)‬

‫الطريق إلى األوسكار ‪(.........‬تورونتو ‪ -‬سوزان سامي جميل )‬

‫ستاند آب‪ ..‬عوالم افتراضية ‪(........‬بيروت‪ :‬محمد غندور)‬

‫خالد تكريتي ‪ ..‬استنســاخات الكوالج (بيروت ‪ -‬خاص بالدوحة)‬

‫َم ْي في الصيف ‪..‬ليس «اشتباك ثقافات» ‪(............‬سليم البيك)‬ ‫«وداع ًا كارمن» ‪ ..‬الحلو والمر بين ضفتين ‪(........‬محمد اشويكة)‬

‫السينما العربية خارج المضمار ‪(..........‬فينيسيا‪ :‬د‪ .‬أمل الجمل)‬

‫عن اللص الفاضل لداريفو ‪( ....................‬رضا عطية)‬

‫َط َه َسُب ْع‪..‬اســتراتيجية الخلط ‪( .................‬أنيس الرافعي )‬

‫األفالم اللبنانية ‪ ..‬بعيدًا عن شباك التذاكر (بيروت‪ :‬نسرين حمود)‬

‫حصة فرنسية من الكعكة الهوليوودية ‪(............‬صالح هاشم)‬

‫تأصيل المسرح العربي ‪ ..‬الحالة القطرية (د‪ .‬مرزوق بن بشير بن مرزوق )‬

‫أشــق النحت من رمــاد ‪( ......................‬المهدي أخريف)‬ ‫ما ّ‬

‫‪112‬‬

‫األرض وحدودها ‪..‬صمت على نهر أنغوري! ‪(.....‬حسن بن محمد)‬

‫‪134‬‬

‫‪41‬‬

‫‪158‬‬

‫إيبوال‪ ..‬اإلرهاب البيولوجي ‪(..................‬محســن العتيقي)‬

‫صفحات مطوية‬

‫‪158‬‬

‫ظالل العصا ‪( ..............................‬عبدالهادي عباس)‬


‫صباح غزة الجديد‬ ‫غزة‪ :‬عبداهلل عمر‬ ‫رغـــم هـــول الكارثـــة الناجمـــة عـــن‬ ‫العـــدوان الهمجـــي اإلســـرائيلي األخيـــر‬ ‫علـــى غـــزة‪ ،‬فقـــد عـــادت الحيـــاة بيـــن‬ ‫أهالـــي القطـــاع‪ ،‬وبـــدأوا تدريجيـــ ًا فـــي‬ ‫اســـتعادة يومياتهـــم العاديـــة‪..‬‬ ‫ال يخل ــو بي ــت ف ــي غ ــزة إال وتج ـ ّـرع‬ ‫م ــرارة الح ــرب األخي ــرة‪ ،‬بي ــن م ــن َفَق ـ َـد‬ ‫بيت ــه‪ ،‬وم ــن خس ــر تجارت ــه‪ ،‬وآخري ــن‬ ‫فقـــدوا أحبـــة لهـــم‪ ،‬وعلـــى أحســـن‬ ‫األح ــوال هن ــاك عزي ــز له ــم الزال يرق ــد‬ ‫ف ــي المستش ــفى يعان ــي م ــن إصاب ــة م ــا‬ ‫لحقــت بــه‪ ،‬غيــر أن كل هــذا لــم يمنعهــم‬ ‫مـــن طلـــب الحيـــاة واالســـتمرار فيهـــا‪،‬‬ ‫يبحث ــون ع ــن حياته ــم رغ ــم األل ــم‪ .‬وه ــا‬ ‫هـــي الطالبـــة نرميـــن موســـى تعـــود‬ ‫المَد َّم ــر لتحتف ــل م ــع عائلته ــا‬ ‫إل ــى بيته ــا ُ‬ ‫بنجاحهـــا فـــي الثانويـــة العامـــة‪،‬‬ ‫حيـــث لـــم يســـعفها الوقـــت أن تقيـــم‬ ‫هـــذا االحتفـــال وقـــت الحـــرب‪ ،‬بعدمـــا‬ ‫اضطرتهـــا الطائـــرات اإلســـرائيلية‬ ‫إلـــى مغـــادرة بيتهـــا دون أن تتمكـــن‬ ‫مـــن جلـــب حاجياتهـــا الشـــخصية‪.‬‬ ‫اليـــوم تعـــود نرميـــن وكلهـــا إصـــرار‬ ‫علـــى مواصلـــة حياتهـــا‪ ،‬ومـــن فـــوق‬ ‫أنقـــاض البيـــت توجـــه رســـالة للعالـــم‬ ‫«إنن ــا باق ــون هن ــا‪ ،‬والبي ــت ال ــذي ُدِم ـ َـر‬ ‫س ــنعاود بن ــاءه أفض ــل مم ــا كان‪ ،‬ول ــن‬ ‫تليـــن عزيمتنـــا فـــي وجـــه المحتـــل»‪،‬‬ ‫علـــى حـــد تعبيرهـــا‪.‬‬ ‫وتـــــشــــير إحـــصـــــائيات أولــيـــــة‬ ‫لـــوزارة األشـــغال العامـــة واإلســـكان‬ ‫الفلســـطـيـنـيــــــة إلــــى أن الـجــيـــــــش‬ ‫اإلســـرائيلي اســـتهدف فـــي غاراتـــه‬ ‫المدفعيـــة والجويـــة األخيـــرة قرابـــة‬ ‫‪ 15671‬من ــزالً‪ ،‬منه ــا ‪ 2276‬من ــز ًال ُدِم ـ َـر‬ ‫بش ــكل كل ــي‪ ،‬و‪ 13395‬بش ــكل جزئ ــي‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫إضافـــة إلـــى عشـــرات آالف المنـــازل‬ ‫تضـــررة بشـــكل طفيـــف‪.‬‬ ‫الم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫آالف الغزاوييـــن يتفقـــدون اليـــوم‬ ‫حياتهـــم بيـــن ثنايـــا المـــوت والـــركام‬ ‫الم ِ‬ ‫نتشــر فــي كل شــارع وزقــاق‪ .‬الحــاج‬ ‫ُ‬ ‫أميـــن‪ ،‬واحـــد منهـــم‪ ،‬أمضـــى أيـــام‬ ‫الهدنـــة األولـــى علـــى أنقـــاض منزلـــه‪،‬‬ ‫مح ــاو ًال الخ ــروج بم ــا يمك ــن م ــن أث ــاث‬ ‫المَد َّم ــر‪ ،‬ولس ــانه ال يغ ــادر كلم ــة‬ ‫البي ــت ُ‬ ‫«حس ــبنا اهلل وه ــو نع ــم الوكي ــل»‪ ،‬لك ــن‬ ‫الحـــاج أميـــن يؤكـــد علـــى أملـــه فـــي‬ ‫إعـــادة إعمـــار بيتـــه بالقـــول‪« :‬اللـــي‬ ‫عمرهـــا زمـــان بيعـــاود يعمرهـــا كمـــان‬ ‫مـــرة»‪.‬‬ ‫هكـــذا إذا عـــادت الحيـــاة بشـــكلها‬ ‫البســـيط إلـــى قطـــاع غـــزة‪ ،‬وانتشـــر‬ ‫المواطنـــون فـــي الشـــوارع‪ ،‬وعـــاد‬ ‫األطفـــال يلهـــون فـــي أزقـــة المخيمـــات‬ ‫واألحيـــاء بحثـــ ًا عـــن طفولـــة حاولـــت‬ ‫الصواريــخ والقذائــف أن تقضــي عليهــا‪،‬‬ ‫وقتل ــت مئ ــات منه ــم‪ ..‬بع ــض العائ ــات‬ ‫فضلــت اصطحــاب أطفالهــا إلــى شــاطئ‬ ‫البحـــر لالســـتجمام والترفيـــه بعـــد‬ ‫س ــبعة أس ــابيع م ــن الخ ــوف والرع ــب‪،‬‬ ‫هن ــاك حي ــث يس ــتطيع األطف ــال تفري ــغ‬ ‫طاقتهـــم وخوفهـــم‪ ،‬وتناســـي بعـــض‬ ‫فظاعـــة مـــا جـــرى‪ .‬ســـعيد طفـــل فـــي‬ ‫العاشـــرة‪ ،‬نجـــا مـــن آلـــة المـــوت‪،‬‬ ‫ـا‪« :‬كن ــا محرومي ــن‬ ‫َو َعّب ـ َـر بتلقائي ــة قائ ـ ً‬ ‫م ــن البح ــر ط ــول الح ــرب‪ ،‬والي ــوم ب ــدأ‬ ‫الصيـــف تبعنـــا‪ ،‬والزم نســـتمتع قبـــل‬ ‫مـــا نرجـــع للمدرســـة»‪.‬‬

‫سؤال كبير‬

‫الطال ــب الجامع ــي معي ــن أب ــو س ــيدو‬ ‫فعـــا نحـــب الحيـــاة‪،‬‬ ‫يقـــول‪« :‬نحـــن‬ ‫ً‬ ‫والمـــوت مفـــروض علينـــا ولـــم نطلبـــه‬ ‫يومــاً‪ ،‬ودلي ــل ذل ــك أن ــه وبع ــد انته ــاء‬

‫الح ــرب بي ــوم واح ــد فق ــط تج ــد الن ــاس‬ ‫قــد عــادت إلــى أشــغالها وكأنهــا تتحــدى‬ ‫الحـــرب»‪ .‬ويضيـــف أبـــو ســـيدو‪« :‬قـــد‬ ‫يكــون مفاجئ ـ ًا أن غــزة حتــى لــم تنتظــر‬ ‫توق ــف الح ــرب‪ ،‬فق ــد س ــمعنا ع ــن أف ــراح‬ ‫أقامهـــا الالجئـــون فـــي مراكـــز اإليـــواء‬ ‫مس ــتغلين فت ــرة الهدن ــة وس ــط الح ــرب»‬ ‫ويتس ــاءل‪« :‬ه ــل هن ــاك تح ــد أكب ــر م ــن‬ ‫هـــذا؟»‪ ..‬ســـيرة األفـــراح واالحتفـــال‬ ‫بالحيــاة جســدتهما قصــة العريــس وائــل‬ ‫أب ــو لول ــي (‪ 23‬عام ـاً) وعروس ــه أمان ــي‬ ‫عق ــل (‪ 20‬عام ـاً)‪ ،‬هم ــا م ــن س ــكان بل ــدة‬ ‫الشـــوكة المدمـــرة شـــرق مدينـــة رفـــح‪،‬‬ ‫والل ــذان عق ــدًا قرانهم ــا قب ــل نح ــو أربع ــة‬ ‫ش ــهور‪ ،‬وكان يفت ــرض أن يك ــون حف ــل‬ ‫زفافهمـــا فـــي يوليو‪/‬تمـــوز الماضـــي‪،‬‬ ‫غيـــر أن انـــدالع الحـــرب حـــال دون‬ ‫إتمامـــه‪ ،‬وتدميـــر بيـــت الزوجيـــة لـــم‬ ‫يســـمح لليـــأس أن يتســـلل إلـــى نفـــس‬ ‫وائـــل وعروســـه اللذيـــن قـــررا إتمـــام‬ ‫الزف ــاف داخ ــل مرك ــز اإلي ــواء ال ــذي لج ــآ‬ ‫إلي ــه خ ــال الح ــرب‪.‬‬ ‫وحـــول هـــذا يقـــول وائـــل‪« :‬بعـــد‬ ‫تدميـــر المنـــزل وتشـــريد العائلـــة كنـــا‬ ‫نحت ــاج إل ــى الف ــرح ال ــذي كدن ــا ننس ــاه‬ ‫التشـــرد‪ ،‬والمـــوت والبطـــش‬ ‫بفعـــل‬ ‫ُّ‬ ‫اإلسرائـيـلــ ــي الذــ ــي الحـقـهــ ــم حــ ــتى‬ ‫داخـــل هـــذه المدرســـة التـــي تعرضـــت‬ ‫للقصـــف فاتفقـــت مـــع عروســـي علـــى‬ ‫الـــزواج برغـــم كل الظـــروف‪ ،‬رغـــم‬ ‫أحالمـــي بإقامـــة فـــرح كبيـــر يجمـــع‬ ‫األهـــل واألحبـــاب‪ ،‬لكـــن كل شـــيء‬ ‫يمك ــن تعويض ــه كلم ــا بقين ــا بخي ــر أن ــا‬ ‫وعائلتـــي»‪.‬‬

‫كيف استطاعوا ؟!‬ ‫قـــد يتســـاءل البعـــض كيـــف يمكـــن‬


‫معالم الشخصية‬

‫لهـــم فـــي غـــزة تحمـــل كل هـــذا األلـــم؟‪،‬‬ ‫فيجيـــب آخـــر‪ :‬الحيـــاة فـــي غـــزة ال‬ ‫تتوق ــف مهم ــا كان ــت الظ ــروف‪ ،‬ويعّل ــق‬ ‫علـــى هـــذا المواطـــن األربعينـــي فايـــز‬ ‫الغالينـــي بالقـــول‪« :‬حاصـــروا غـــزة‬ ‫فحف ــرت األنف ــاق‪ ،‬ضربوه ــا بالطائ ــرات‬ ‫فقامـــت أقـــوى كل مـــرة‪ ،‬ادعـــوا تدميـــر‬ ‫المقاومـــة فيهـــا فخرجـــت لهـــم بخطـــط‬ ‫وهجمـــات أخطـــر مـــن ذي قبـــل»‪.‬‬ ‫ويتاب ــع فاي ــز‪« :‬غ ــزة ال تتوق ــف ع ــن‬

‫ممارســة الحيــاة‪ ،‬فأهلهــا يعلمــون أنهــم‬ ‫يعيشـــون ظروفـــ ًا اســـتثنائية‪ ،‬وهـــم‬ ‫فـــي مقابـــل ذلـــك يقابلونهـــا بعزيمـــة‬ ‫اســـتثنائية ال تليـــن تـــكاد ال توصـــف‪،‬‬ ‫فال ــكل ين ــوي أن يمض ــي الحي ــاة عل ــى‬ ‫خيـــر مـــا يكـــون‪ ،‬وإن كتـــب اهلل لنـــا‬ ‫فأهـــا بهـــا لـــم نعـــد نخـــاف‬ ‫الشـــهادة‬ ‫ً‬ ‫ـا‬ ‫ـا‪« :‬فع ـ ً‬ ‫منه ــا»‪ ،‬ويختت ــم حديث ــه قائ ـ ً‬ ‫م ــا في ــه ش ــيء كبي ــر عل ــى أه ــل غ ــزة»‪.‬‬

‫يقـــول أخصائـــي علـــم االجتمـــاع‬ ‫الدكتـــور درداح الشـــاعر إن العـــدوان‬ ‫ّـــف ‪2142‬‬ ‫علـــى غـــزة‪ ،‬والـــذي َخل َ‬ ‫شـــهيداً‪ ،‬و‪ 11100‬مصـــاب‪ ،‬وتدميـــر‬ ‫م ــا يزي ــد عل ــى ‪ 10700‬من ــزل ومس ــجد‬ ‫وكنيســـة‪ ،‬باإلضافـــة إلـــى األضـــرار‬ ‫التـــي لحقـــت بالمـــدارس والجامعـــات‬ ‫والمستش ــفيات‪ ،‬كان ــت آثاره ــا لحظي ــة‬ ‫انته ــت بانته ــاء الع ــدوان إل ــى ح ــد م ــا‪،‬‬ ‫حيـــث يمتلـــك الشـــعب الفلســـطيني‬ ‫وأه ــل غ ــزة بش ــكل خ ــاص ق ــدرة عل ــى‬ ‫الع ــودة إل ــى الحي ــاة الطبيعي ــة‪ .‬وله ــذا‬ ‫ع ــدة عوام ــل يمك ــن اختصاره ــا بقناع ــة‬ ‫الشـــعب أن التضحيـــات والبطـــوالت‬ ‫بات ــت ج ــزءًا م ــن ش ــخصيته الجمعي ــة‪،‬‬ ‫وه ــذه الش ــخصية تحت ــم علي ــه التكي ــف‬ ‫م ــع حيات ــه الصعب ــة وإن كان ــت تحم ــل‬ ‫مزي ــدًا م ــن التدمي ــر والقت ــل والخ ــوف‪،‬‬ ‫هـــذا مـــا يدفعهـــم دومـــا للبحـــث عـــن‬ ‫الحيـــاة بيـــن ثنايـــا األلـــم‪ ،‬فقـــد أثبتـــت‬ ‫الحـــرب األخيـــرة علـــى غـــزة أن هـــذا‬ ‫الش ــعب ق ــادر عل ــى الصم ــود والوق ــوف‬ ‫فـــي وجـــه االحتـــال اإلســـرائيلي‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫مفارقات الدخول الثقافي‬ ‫الرباط‪ :‬عبدالحق ميفراني‬ ‫يتجـــدد الحديـــث كل خريـــف‪ ،‬عـــن‬ ‫َّ‬ ‫الدخ ــول الثقاف ــي ف ــي المغ ــرب‪ ،‬ومـ ــعه‬ ‫تكبـــر انتظـــارات المشـــهد الثقافـــي‬ ‫ـــل‬ ‫والـــذي تـــزداد مفارقاتـــه‪ ،‬فـــي ِظ ّ‬ ‫غيـــاب اســـتراتيجية ثقافيـــة وطنيـــة‬ ‫تـــوازي مســـتوى الحـــراك الـــذي‬ ‫يعرفـــه قطـــاع النشـــر والكتـــاب‪ .‬وإلـــى‬ ‫اليـــوم الزال مطلـــب إنشـــاء «المجلـــس‬ ‫األعلـــى للثقافـــة واللغـــات»‪ ،‬والـــذي‬ ‫أقـــره التعديـــل الدســـتوري األخيـــر‪،‬‬ ‫مؤجـــا ينتظـــر قـــرارًا سياســـي ًا‬ ‫مطلبـــ ًا‬ ‫ً‬ ‫ـل‬ ‫لتحيين ــه عل ــى أرض الواق ــع‪ .‬كم ــا َظ ـ ّ‬ ‫الدخ ــول الثقاف ــي محكومــ ًا بـــ «الدخ ــول‬ ‫المدرســـي» وعبـــره تتفـــرغ دور النشـــر‬ ‫لطب ــع عناوين ــه‪ ،‬وه ــو م ــا يجع ــل م ــن‬ ‫المش ــهد الثقاف ــي وضعــ ًا مركبــ ًا يحت ــاج‬ ‫للخ ــروج م ــن ش ــرنقة االنتظاري ــة‪ .‬وإذا‬ ‫مـــا تأكـــد‪ ،‬الشـــهور القليلـــة القادمـــة‪،‬‬ ‫انعقـــاد المناظـــرة الوطنيـــة حـــول‬ ‫الثقافـــة المغربيـــة والتـــي ظلـــت أحـــد‬ ‫المشـــاريع الكبـــرى المؤجلـــة التحـــاد‬ ‫كّت ــاب المغ ــرب‪ ،‬ف ــإن الدخ ــول الثقاف ــي‬ ‫هـــذه الســـنة ســـيكون اســـتثنائياً‪ .‬إذ‬ ‫يؤكـــد منســـق هـــذه التظاهـــرة الشـــاعر‬ ‫والنـــــاقد عــــبدالدين حـمــــــــروش‪ ،‬أن‬ ‫المناظـــرة تشـــكل ُمنطلقـــ ًا «للخـــروج‬ ‫ال‬ ‫بخارط ــة طري ــق جامع ــة تك ــون س ــبي ً‬ ‫تصـــور عـــام يرســـم مالمـــح‬ ‫لتحديـــد‬ ‫ُّ‬ ‫سياســـة ثقافيـــة بالمغـــرب»‪ .‬المناظـــرة‬ ‫الت ــي م ــن المرتق ــب أن تحتضنه ــا مدين ــة‬ ‫طنجـــة قبـــل نهايـــة الســـنة الحاليـــة‪،‬‬ ‫ـتمكن م ــن تجس ــيد اس ــتراتيجية عام ــة‬ ‫س ـ ِّ‬ ‫لتدبيـــر الشـــأن الثقافـــي فـــي البلـــد‪.‬‬ ‫ـل طبيع ــة تع ـ ُّـدد الممارس ــة الثقافي ــة‬ ‫ولع ـ ّ‬ ‫فـــي المغـــرب وتنوعهـــا (األمازيغـــي‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫العربـــي‪ ،‬المتوســـطي‪ ،‬اإلفريقـــي‪،)..‬‬ ‫كفيلـــة بصياغـــة اســـتراتيجية أكثـــر‬ ‫قربـــ ًا مـــن طبيعـــة التحـــوالت التـــي‬ ‫شـــهدها الســـنوات األخيـــرة‪ .‬وكمـــا‬ ‫يؤش ــر عبدالدي ــن حم ــروش‪ ،‬فالمناظ ــرة‬ ‫ستؤس ــس ألف ــق تح ــول البع ــد الثقاف ــي‬ ‫ألهـــم «األبعـــاد المتحصنـــة للتنميـــة‬ ‫السياس ــية واالجتماعي ــة واالقتصادي ــة‪،‬‬ ‫وفرص ــة لط ــرح األس ــئلة ح ــول الس ــبل‬ ‫لتحقيـــق التنميـــة الثقافيـــة»‪.‬‬ ‫لرســـم خريطـــة طريـــق لمالمـــح‬ ‫السياســـة الثقافيـــة بالمغـــرب‪ ،‬تحتـــاج‬ ‫المناظ ــرة إل ــى انخ ــراط جمي ــع الفاعلي ــن‬ ‫فـــي المجـــال الثقافـــي‪ .‬وهـــو المجـــال‬ ‫ال ــذي ل ــم يتخل ــص بع ــد م ــن مفارقات ــه‪،‬‬ ‫والتـــي تعيـــد تأســـيس نفـــس األســـئلة‬ ‫كلمـــا تجـــّدد الســـؤال خريـــف كل ســـنة‬ ‫عـــن الدخـــول الثقافـــي «المؤجـــل»‬ ‫والكفيـــل بإعطـــاء مزيـــد مـــن الديناميـــة‬ ‫وتقعيـــد لحـــراك ثقافـــي‪ .‬كمـــا يؤســـس‬ ‫أفـــق الدخـــول الثقافـــي وانتظامـــه فـــي‬ ‫المغـــرب‪ ،‬إلـــى تجـــاوز تلـــك النمطيـــة‬ ‫التـــي ترغـــب الدولـــة‪ ،‬ومـــن خـــال‬ ‫مهرجاناتهـــا الصيفيـــة‪ ،‬أن تحافـــظ‬ ‫علي ــه كص ــورة وحي ــدة للفع ــل الثقاف ــي‪.‬‬ ‫وهـــو فعـــل «البهرجـــة» بأســـلوبه‬ ‫«الس ــياحي» بعي ــدًا ع ــن أنم ــاط الفرج ــة‬ ‫الفعليـــة والتـــي تســـاهم فـــي ترســـيخ‬ ‫قيـــم الـــذوق الفنـــي‪ .‬لقـــد ظلّـــت إرادة‬ ‫األفـــراد أحـــد أوجـــه الحـــراك الثقافـــي‬ ‫الس ــنوات األخي ــرة‪ ،‬ه ــذا إذا م ــا أضفن ــا‬ ‫بعــض الجمعيــات الفاعلــة مــن المجتمــع‬ ‫المدن ــي‪ ،‬والت ــي تناض ــل عب ــر وس ــائلها‬ ‫الخاصـــة فـــي الحفـــاظ علـــى تـــداول‬ ‫المعرفـــة والثقافـــة‪ .‬وزاد الحـــراك‬ ‫الشـــبابي األخيـــر مـــن إعـــادة تحييـــن‬ ‫الس ــؤال ح ــول «الربي ــع الثقاف ــي» كأح ــد‬

‫المغيب ــة م ــن الح ــراك العرب ــي‪.‬‬ ‫األس ــئلة‬ ‫ّ‬ ‫إن غيـــاب لبنيـــات فعليـــة تؤســـس‬ ‫للدخـــول الثقافـــي كل ســـنة‪ ،‬كنظيـــره‬ ‫فــي تجــارب ودول أخــرى‪ ،‬أقلهــا فرنســا‬ ‫التـــي ترتبـــط بالمشـــهد الثقافـــي فـــي‬ ‫المغـــرب بالعديـــد مـــن وشـــائج ورؤى‪،‬‬ ‫يعيـــد الســـؤال إلـــى وضعيـــة الثقافـــة‬ ‫فـــي المغـــرب‪ .‬وبعيـــدًا عـــن غيـــاب‬ ‫اســتراتيجية ورهانــات المشــهد المؤجلــة‬ ‫وحـــاالت انحســـار المقروئيـــة واألرقـــام‬ ‫المخيفـــة‪ ،‬يبـــدو أن تـــم أســـئلة جديـــدة‬ ‫بـــدأت تطفـــو اليـــوم علـــى الســـطح‪،‬‬ ‫خصوصـــ ًا بعدمـــا أصبـــح الرهـــان‬ ‫الرقمـــي يتجـــّدد ويهـــّدد فـــي األســـاس‬ ‫حضـــور ومســـتقبل الثقافـــة المرتبطـــة‬ ‫بالكت ــاب الورق ــي‪ .‬كم ــا انض ــاف س ــؤال‬ ‫تحديـــث آليـــات التـــداول الثقافـــي وفـــق‬ ‫ومتطـــورة‪،‬‬ ‫روزنامـــة جديـــدة وحديثـــة‬ ‫ّ‬ ‫تتج ــاوز تل ــك اآللي ــات التقليدي ــة يعيدن ــا‬ ‫إلـــى صلـــب إشـــكاالت المشـــهد الثقافـــي‬ ‫وال ــذي تكب ــر رهانات ــه كل ي ــوم وم ــع كل‬ ‫دخ ــول ثقاف ــي تتجــّدد ض ــرورة تج ــاوز‬ ‫انتكاســـاته الحاليـــة‪.‬‬ ‫فش ــهري س ــبتمبر‪/‬أيلول وأكتوب ــر‪/‬‬ ‫تشـــرين األول مـــن كل ســـنة يعلنـــان‬ ‫الدخـــول األدبـــي الجديـــد فـــي فرنســـا‪،‬‬ ‫وتتنافـــس دور النشـــر فـــي طـــرح‬ ‫أح ــدث عناوينه ــا ف ــي مج ــاالت المعرف ــة‬ ‫اإلنس ــانية‪ ،‬كم ــا تك ــون مناس ــبة إلع ــان‬ ‫البرامـــج المصاحبـــة للدخـــول األدبـــي‬ ‫والثقافـــي‪ .‬ويبـــدو أن وزارة الثقافـــة‬ ‫المغربيـــة‪ ،‬وبعـــد قرارهـــا األخيـــر‬ ‫بتحويـــل مشـــاريع الدعـــم الخاصـــة‬ ‫بالنشــر والكتــاب والمســرح والموســيقى‬ ‫للصيـــف تؤشـــر علـــى تفكيـــر قبلـــي‬ ‫فـــي محاولـــة تكييـــف الدخـــول الثقافـــي‬ ‫يظـــل‬ ‫مـــع التوقيـــت الفـرنـســــي‪ .‬ولـــن‬ ‫ّ‬


‫المعـــرض الدولـــي للكتـــاب بالـــدار‬ ‫البيضـــاء هـــو المحـــدد لتقليـــد للدخـــول‬ ‫الثقافـــي‪ ،‬رغـــم أن العديـــد مـــن الكّتـــاب‬ ‫تظـــل موســـمية‬ ‫يعتبـــرون أن البرمجـــة‬ ‫ّ‬ ‫بـــدون أيـــة اســـتراتيجية واضحـــة‬ ‫للـــوزارة المســـؤولة عـــن القطـــاع‪ ،‬بـــل‬ ‫إن كثي ــرًا م ــن الباحثي ــن نبه ــوا إل ــى أن‬ ‫الـــوزارة نفســـها هـــي طـــرف مهـــم فـــي‬ ‫بق ــاء ه ــذا الوض ــع دون ح ــل‪ ،‬ب ــل ه ــي‬ ‫المســـؤولة عـــن هـــذا الوضـــع البنيـــوي‬ ‫ـش‪ ،‬م ــع أنه ــا أق ــرت ف ــي أكث ــر م ــن‬ ‫اله ـ ّ‬ ‫مـــرة أنهـــا ليســـت الفاعـــل الوحيـــد فـــي‬ ‫المشـــهد‪.‬‬ ‫هن ــاك «خل ــل بني ــوي أمس ــت تعاني ــه‬ ‫منظومتنـــا الثقافيـــة»‪ ،‬أشـــار يومـــ ًا‬ ‫مـــا المســـرحي بوســـرحان الزيتونـــي‪،‬‬ ‫ولعــل هــذا التوصيــف يفيــد فــي التفكيــر‬ ‫اليـــوم‪ ،‬إلـــى أن الدخـــول الثقافـــي فـــي‬ ‫المغـــرب يؤســـس لمرحلـــة جديـــدة قـــد‬ ‫تفيـــد بإعـــادة التأكيـــد علـــى أن الثقافـــة‬ ‫بالمغـــرب ليســـت أمـــرًا «هامشـــياً»‪،‬‬ ‫ـل رهينــاً‪ ،‬حس ــب الباح ــث‬ ‫كم ــا أن ــه يظ ـ ّ‬

‫إدري ــس لكرين ــي‪ ،‬باس ــتراتيجية ثقافي ــة‬ ‫ت ــروم «إعط ــاء المثق ــف دوره الحقيق ــي‬ ‫ف ــي المجتم ــع وتخلي ــق الفض ــاء الثقاف ــي‬ ‫ليســـتأثر بـــدوره المحـــوري علـــى‬ ‫مســـتوى التنشـــئة االجتماعيـــة‪ ،‬إلـــى‬ ‫جان ــب دمقرط ــة المؤسس ــات المحس ــوبة‬ ‫علـــى القطـــاع»‪ .‬وإذا مـــا أضفنـــا الـــدور‬ ‫المحـــوري لإلعـــام نكـــون قـــد وصلنـــا‬ ‫إل ــى تل ــك الش ــبكة الت ــي بإمكانه ــا خل ــق‬ ‫ح ــراك ثقاف ــي تنطل ــق عناوين ــه الكب ــرى‬ ‫مـــع الدخـــول الثقافـــي‪ ،‬ال أن تظـــل‬ ‫خاضعـــة لمبـــادرات فرديـــة معزولـــة‪.‬‬ ‫وتتجـــه بعـــض اآلراء إلـــى حـــدود‬ ‫اعتبـــار أن «الدخـــول الثقافـــي» ليـــس‬ ‫رهانـــ ًا فـــي حـــد ذاتـــه‪ ،‬مادامـــت الـــدول‬ ‫التـــي ظلـــت وفيـــة العتبـــار الدخـــول‬ ‫الثقافـــي تقليـــدًا راجعـــ ًا لطبيعـــة‬ ‫ومنظومـــة الممارســـة الثقافيـــة فـــي‬ ‫سياســـاتها العموميـــة‪ .‬والحـــال أن‬ ‫المجتمعـــات العربيـــة‪ ،‬والمغـــرب‬ ‫نموذجــ ًا هن ــا‪ ،‬مطالب ــة بتكري ــس نظ ــرة‬ ‫جديـــدة للفعـــل الثقافـــي ووظيفتـــه‬

‫المركزيــة بالنســبة لإلنســان والمجتمــع‪.‬‬ ‫كمـــا أن اإلشـــارة إلـــى الموضـــوع‬ ‫تأتـــي فـــي صلـــب موضـــوع الدخـــول‬ ‫الثقافـــي‪ ،‬للخـــروج مـــن وضعيـــة‬ ‫التره ــل الت ــي يعانيه ــا المش ــهد الثقاف ــي‪،‬‬ ‫وأيضـــ ًا للدفـــع باتجـــاه تحمـــل الدولـــة‬ ‫لمســـؤوليتها المباشـــرة قصـــد إخـــراج‬ ‫«المجلـــس األعلـــى للثقافـــة واللغـــات»‬ ‫للوجـــود ووقـــف نزيـــف إغـــاق‬ ‫القاع ــات الس ــينمائية‪ ،‬وتراج ــع الق ــراءة‬ ‫وانحســـارها‪ ،‬وعـــزوف الجمهـــور عـــن‬ ‫المســـارح‪ ،‬وإغـــاق المكتبـــات وأيضـــ ًا‬ ‫لترســـيخ الثقافـــة ضمـــن السياســـات‬ ‫العموميـــة‪ ..‬هـــذا النزيـــف المتواصـــل‬ ‫يقابلـــه فـــي الوقـــت نفســـه مشـــهد‬ ‫مفـــارق يتحكـــم فيـــه ارتفـــاع لمعـــدالت‬ ‫النش ــر والت ــي تع ــرف أرقامــ ًا متزاي ــدة‪،‬‬ ‫والح ــراك الس ــينمائي والمس ــرحي عل ــى‬ ‫أشـــده‪.‬‬ ‫يذكرنـــا الكــاتــــب محــمــــد برــــــادة‬ ‫بـــ «غيـــاب المجلــس األعلــى للثقافة»‪،‬‬ ‫بحكـــم أن المغـــرب ال يتوافـــر «علـــى‬ ‫تـصـــور مـتـــكامل لسياسة ثقافية وأدبية‬ ‫وفـنــــية»‪ .‬ويؤكـــد الباحـــث المســـرحي‬ ‫أحمـــد بلخيـــري أن «مفهـــوم الدخـــول‬ ‫الثقافـــي‪ ،‬هـــو حديـــث االســـتعمال فـــي‬ ‫الثقاف ــة المغربي ــة‪ ،‬ه ــو واق ــع يصنع ــه‬ ‫بالدرجـــة األولـــى المثقفـــون والفنانـــون‬ ‫بفضـــل إبداعاتهـــم واجتهاداتهـــم» أمـــا‬ ‫المب ــدع إس ــماعيل غزال ــي فيق ــول «يبق ــى‬ ‫مـــارس فـــي‬ ‫الفعـــل الثقافـــي الـــذي ُي َ‬ ‫مشـــهدنا العربـــي فلكلوريـــاً‪ ،‬يحتكـــم‬ ‫إل ــى س ــلطة لي ــس ف ــي ني ــة تعاقده ــا إ ّال‬ ‫ســطوة االحتــواء»‪ .‬وعلــى هــذا األســاس‬ ‫ـل الره ــان ه ــذا الموس ــم عل ــى انعق ــاد‬ ‫يظ ـ ّ‬ ‫المناظ ــرة الوطني ــة للثقاف ــة المغربي ــة‪،‬‬ ‫ك ــي تش ــكل ق ــوة اقتراحي ــة م ــن ش ــأنها‪،‬‬ ‫حســـب منظميهـــا‪ ،‬تقديـــم توصيـــات‬ ‫لص ــوغ سياس ــة ثقافي ــة بوع ــي نق ــدي‪.‬‬ ‫ويب ــدو عل ــى ه ــذا األس ــاس أن المعن ــي‬ ‫بالدخ ــول الثقاف ــي‪ ،‬أصب ــح الي ــوم ه ــو‬ ‫المؤسســـات والتـــي أمســـت مطالبـــة‬ ‫بكتابـــة لحظـــة تاريخيـــة جديـــدة مـــن‬ ‫خ ــال تكري ــس سياس ــة ثقافي ــة تك ــون‬ ‫ف ــي مقدم ــة منظوم ــة التدبي ــر العموم ــي‪،‬‬ ‫بعي ــدًا ع ــن لعب ــة التوازن ــات السياس ــية‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫نساء موريتانيا‬

‫بين السياسة والمجتمع‬

‫نواكشوط‪ :‬عبداهلل ولد محمدو‬ ‫بلغـــت حصـــة النســـاء فـــي آخـــر‬ ‫حكومـــة موريتاني ــة نســـبة تزي ــد عل ــى‬ ‫‪ ،% 25‬حيـــث احتلّـــت ســـبع نســـوة‬ ‫مقاع ــد وزاري ــة ضم ــن تش ــكيلة جدي ــدة‬ ‫تض ــم س ــبعة وعش ــرين وزي ــراً‪ُ ،‬وتعــّد‬ ‫هـــذه النســـبة ســـابقة هـــي األولـــى‬ ‫فـــي تاريـــخ المـــرأة السياســـي بالبلـــد‪،‬‬ ‫بـــل فـــي الـــدول العربيـــة إذا اســـتثنينا‬ ‫حكومـــة الجـــارة الجزائـــر‪ ،‬التـــي‬ ‫اســـتقبل تعيينهـــا ســـبع نســـاء فـــي‬ ‫مناص ــب وزاري ــة بإش ــادة م ــن جامع ــة‬ ‫الــدول العربيــة واألمــم المتحــدة‪ .‬ويفيــد‬ ‫آخ ــر إحص ــاء ع ــام للس ــكان والمس ــاكن‬ ‫ـــم ســـنة ‪،)2013‬‬ ‫فـــي موريتانيـــا ُ‬ ‫(ن ِّظ َ‬ ‫بـــأن نســـبة النســـاء تبلـــغ ‪ 50.7‬فـــي‬ ‫المئ ــة‪ ،‬وق ــد ناضل ــت الم ــرأة م ــن أج ــل‬ ‫الحصــول علــى تمثيــل يضاهــي نســبتها‬ ‫فــي التركيبــة الســكانية‪ ،‬حيــث انتزعــت‬ ‫تشـــريع ًا يضمـــن لهـــا حضـــورًا تمثيليـــ ًا‬ ‫ف ــي البرلـ ــمان بــنـسـبــ ــة ال تـقــــ ــل ع ــن‬ ‫‪ ،% 20‬دخل ــت بموجب ــه ‪ 31‬ام ــرأة م ــن‬ ‫أصـــل ‪ 147‬قبـــة البرلمـــان‪ ،‬أي بنســـبة‬ ‫‪.% 21‬‬ ‫ويط ــرح التداخ ــل بي ــن أدوار الم ــرأة‬ ‫االجتماعيـــة واالقتصاديـــة مـــن جهـــة‬ ‫والسياســـية مـــن جهـــة أخـــرى عـــــدة‬ ‫تســـاؤالت فـــي مجتمعاتنـــا العربيـــة‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫تغي ــر النظ ــرة إل ــى الم ــرأة‬ ‫فبالرغ ــم م ــن ّ‬ ‫فـــي صورتهـــا النمطيـــة التقليديـــة‬ ‫إال أن كابـــوس ِظـــال تلـــك الصـــورة‬ ‫النمطيـــة ال يـــزال يحـــّد مـــن روح‬ ‫ّ‬ ‫والتحمـــس لـــدى المـــرأة‬ ‫االندفـــاع‬ ‫ّ‬ ‫لول ــوج مراك ــز القي ــادة‪ .‬ويتس ــم موق ــع‬ ‫المـــرأة فـــي المجتمـــع الموريتانـــي‬ ‫بجملـــة مـــن الخصوصيـــات‪ ،‬فهـــي فـــي‬ ‫منزل ــة وس ــطى بي ــن تل ــك المجتمع ــات‬ ‫األموميـــة التـــي تجعـــل المـــرأة مركـــز‬ ‫القـــرار وبيـــن تلـــك التـــي تحتجـــب‬ ‫فيهـــا عـــن كثيـــر مـــن األدوار‪ ،‬ويرجـــع‬ ‫الباحثـــون االجتماعيـــون مـــا تتمتـــع‬ ‫بـــه هـــذه المـــرأة مـــن نفـــوذ ودالل فـــي‬ ‫محيطيهـــا العائلـــي واالجتماعـــي إلـــى‬ ‫إرث بعــض ميــزات المجتمــع الصنهاجــي‬ ‫القائـــم علـــى نظـــام أمومـــي‪ ،‬تعـــود‬ ‫س ــلطة الق ــرار واس ــتمداد المش ــورة في ــه‬ ‫إلـــى المـــرأة‪ ،‬وهـــذا النظـــام بالنســـبة‬ ‫للم ــرأة الموريتاني ــة‪ ،‬رغ ــم تكيف ــه م ــع‬ ‫النظ ــام األب ــوي وتهذّب ــه بالقي ــم الديني ــة‬ ‫ق ــد بقي ــت من ــه رواس ــب منح ــت الم ــرأة‬ ‫حصانـــة ضـــد صنـــوف عديـــدة مـــن‬ ‫اإلكراه ــات الت ــي تتع ـّـرض له ــا مثيلته ــا‬ ‫فـــي بعـــض المجتمعـــات العربيـــة‪،‬‬ ‫منهـــا علـــى ســـبيل المثـــال أن التقاليـــد‬ ‫الس ــائدة بالمجتم ــع الموريتان ــي تش ـّـرع‬ ‫زوجيتهـــا‬ ‫لهـــا الخـــروج مـــن بيـــت‬ ‫ّ‬ ‫التعـــرض‬ ‫عنـــد‬ ‫مغاضبـــة دال ًال وغيـــرة‬ ‫ُّ‬ ‫ألبس ــط إهان ــة‪ُ ،‬وتل ـِـزم الم ــروءة الرج ــل‬

‫باالســـتجابة لهـــا‪ ،‬وتحظـــى المـــرأة‬ ‫المطلّقـــة داخـــل المجتمـــع الموريتانـــي‬ ‫ُ‬ ‫بفـــرص كبيـــرة للـــزواج‪ ،‬فبحســـب‬ ‫إحصائي ــات ال ــوزارة‪ ،‬المكلّف ــة بش ــؤون‬ ‫المــرأة‪ ،‬فــإن نســبة ‪ 70.5‬فــي المئــة مــن‬ ‫المطلقـــات ألول مـــرة يتزوجـــن للمـــرة‬ ‫الثانيـــة‪ ،‬بينمـــا يظفـــر ‪ 20‬فـــي المئـــة‬ ‫ممـــن طلقـــن للمـــرة الثانيـــة بفرصـــة‬ ‫زواج ثالـــث‪ ،‬وتزاحـــم المـــرأة الرجـــل‬ ‫فـــي التجـــارة والمقـــاوالت متمتعـــة‬ ‫فضـــا‬ ‫بشـــخصية اقتصاديـــة ُمســـتقلّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عـــن احتكارهـــا ألســـواق خاصـــة بهـــا‪.‬‬ ‫فليـــس بمســـتغرب علـــى المـــرأة‬ ‫ـــل هـــذه الســـوانح‬ ‫الموريتانيـــة فـــي ِظ ّ‬ ‫التـــي منحهـــا المجتمـــع الموريتانـــي أن‬ ‫ترتقـــي لمراكـــز قياديـــة‪ ،‬فقـــد نافســـت‬ ‫شـــريكها الرجـــل علـــى كرســـي الحكـــم‬ ‫فـــي عـــدة انتخابـــات رئاســـية آخرهـــا‬ ‫اســـتحقاقات شـــهر يونيـــو الماضـــي‪،‬‬ ‫وهـــي تشـــغل مناصـــب ســـامية عديـــدة‬ ‫دون الـــوزارة‪ ،‬كأمينـــة عامـــة لـــوزارة‬ ‫ومحافظـــة (واليـــة) وســـفيرة ومديـــرة‬ ‫للتليفزيـــون الرســـمي‪ ،‬وتتربـــع علـــى‬ ‫إدارات مركزيـــة أخـــرى مهمـــة‪.‬‬ ‫وم ــن أب ــرز ال ــوزارات الت ــي تقلدته ــا‬ ‫المـــرأة فـــي الحكومـــة الجديـــدة حقيبـــة‬ ‫وزارة الثقافـــة والصناعـــة التقليديـــة‬ ‫التـــي تعاقبـــت عليهـــا مؤخـــرًا عـــدة‬ ‫نســـوة آخرهـــن الوزيـــرة الحاليـــة‬ ‫الســـيدة فاطمـــة فـــال بنـــت اصوينـــع‬


‫أســـتاذة الدراســـات األميركيـــة واآلداب‬ ‫بقســـم اللغـــات والترجمـــة بكليـــة‬ ‫اآلداب والعل ــوم اإلنس ــانية ف ــي جامع ــة‬ ‫نواكش ــوط س ــابقاً‪ ،‬وق ــد أعي ــدت هيكل ــة‬ ‫وزارتهـــا لتتـــاءم مـــع مرجعيتهـــا‬ ‫الثقافيـــة‪ ،‬فقـــد أزيحـــت الرياضـــة‬ ‫والشـــباب عـــن امـــرأة جامعيـــة نقـــل‬ ‫عديـــد المواقـــع تصريحـــ ًا مثيـــرًا‬ ‫عنهـــا‬ ‫ُ‬ ‫لبعـــض مهنئيهـــا الرياضييـــن علـــى‬ ‫تعيينهـــا قبـــل شـــهور بمنصـــب وزيـــرة‬ ‫للثقافـــة والشـــباب والرياضـــة‪ ،‬ذكـــرت‬ ‫فيـــه أنهـــا صـــارت اآلن مجبـــرة علـــى‬ ‫متابعـــة المباريـــات الرياضيـــة‪ ،‬وهـــي‬ ‫التـــي لـــم تتابـــع فـــي حياتهـــا مبـــاراة‬ ‫واحـــدة ! ولذلـــك يعـــّد إعفـــاء الوزيـــرة‬ ‫مـــن الرياضـــة أمـــرًا طبيعيـــاً‪.‬‬ ‫ومـــن وزارات المـــرأة الجديـــدة‬ ‫حقيب ــة التج ــارة والصناع ــة والس ــياحة‬ ‫المســـندة للســـيدة الناهـــا بنـــت حمـــدي‬ ‫ولـــد مكنـــاس‪ ،‬وهـــي وزيـــرة ســـابقة‬ ‫للشـ ــؤون الخارجي ــة والتع ــاون (‪2009‬‬ ‫ ‪ ،) 2011‬وكانـــت أول وزيـــرة‬‫خارجيـــة فـــي العالـــم العربـــي وابنـــة‬ ‫أبـــرز دبلوماســـي فـــي تاريـــخ الدولـــة‬ ‫الحديـــث‪ ،‬فقـــد شـــغل والدهـــا حمـــدي‬ ‫ولـــد مكنـــاس منصـــب وزيـــر خارجيـــة‬ ‫موريتانيــا لمــدة عقــد مــن الزمــن‪ ،‬وهــي‬ ‫برلماني ــة ورئيس ــة ح ــزب االتح ــاد م ــن‬ ‫أجـــل الديموقراطيـــة والتقـــدم‪.‬‬ ‫ومـــن الحقائـــب النســـوية الجديـــدة‬ ‫وزارة منتدبـــة لـــدى وزيـــر الشـــؤون‬ ‫الخارجي ــة والتع ــاون مكلف ــة بالش ــؤون‬ ‫المغاربي ــة واإلفريقي ــة وبالموريتانيي ــن‬ ‫فـــي الخـــارج تقلّدتهـــا اإلعالميـــة‬ ‫المخضرمـــة هنـــد بنـــت عينينـــه‪ ،‬وقـــد‬ ‫شـــغلت هـــذه المـــرأة فـــي الســـابق‬ ‫منص ــب رئي ــس تحري ــر لصحيف ــة القل ــم‬ ‫المعارضـــة الناطقـــة بالفرنســـية قبـــل‬ ‫ـــن مستشـــارة مكلفـــة باالتصـــال‬ ‫أن ُت ّ‬ ‫عي َ‬ ‫بالـــوزارة األولـــى مـــن ســـنة ‪2007‬‬ ‫وحتــى تعيينهــا فــي هــذا المنصــب‪ .‬وقــد‬ ‫ُعينـــت ألول مـــرة وزيـــرة أمينـــة عامـــة‬ ‫للحكومـــة هـــي الخبيـــرة القانونيـــة‬ ‫والحقوقيـــة هـــاوا تانديـــا‪ .‬وقـــد منحـــت‬ ‫وزارة مس ــتحدثة ه ــي حقيب ــة البيط ــرة‬ ‫لدكتـــورة فـــي الطـــب البشـــري هـــي‬

‫الســـيدة فاطمـــة حبيـــب أخصائيـــة‬ ‫أمـــراض النســـاء والتوليـــد‪.‬‬ ‫عبـــرت نســـوة عربيـــات‬ ‫لقـــد ّ‬ ‫عـــن غيرتهـــن مـــن مكاســـب المـــرأة‬ ‫الموريتاني ــة السياس ــية‪ ،‬حي ــث ذك ــرت‬ ‫الكاتب ــة العراقي ــة س ــهى الش ــيخلي ف ــي‬ ‫مق ــال له ــا ع ــن وزي ــرات موريتاني ــا أن ــه‬ ‫«أمـــر مفـــرح أن نجـــد نحـــن النســـاء أن‬ ‫شـــقيقات لنـــا فـــي موريتانيـــا قـــد تـــم‬

‫اختياره ــن كوزي ــرات‪ ،‬ويحدون ــا األم ــل‬ ‫أن نـــرى قريبـــ ًا فـــي وزارتنـــا الجديـــدة‬ ‫وزيـــرات عراقيـــات‪ .»..‬لكـــن المـــرأة‬ ‫الموريتاني ــة الت ــي ارتق ــت إل ــى مناص ــب‬ ‫وزاري ــة‪ ،‬وتب ــوأت مراك ــز صن ــع الق ــرار‬ ‫ال تـــزال تطمـــح للمزيـــد مـــن الحظـــوة‬ ‫والنفـــوذ‪ ،‬فهـــل يشـــفع لهـــا أداؤهـــا‬ ‫الحاض ــر ب ــاألدوار الجدي ــدة ف ــي تحقي ــق‬ ‫نفـــوذ أكبـــر مســـتقبالً؟‬ ‫‪9‬‬


‫جولي وأخواتها‬

‫عشيقات الرئيس!‬

‫باريس‪ :‬عبد اهلل كرمون‬ ‫شـــكل صـــدور كتـــاب «شـــكرًا علـــى‬ ‫ّ‬ ‫تلـــك اللحظـــة» لفاليريـــه ترييرفيليـــر‪،‬‬ ‫الش ــهر الماض ــي‪ ،‬مفاج ــأة غي ــر س ــارة‬ ‫للرئيـــس الفرنســـي فرانســـوا هوالنـــد‪،‬‬ ‫خاصــة فــي خضــم الظــروف السياســية‬ ‫الم ِ‬ ‫ـــمة‬ ‫تس َ‬ ‫الداخليـــة والدوليـــة الراهنـــة‪ُ ،‬‬ ‫باالضطـــراب والبلبلـــة‪ ،‬كمـــا أثـــار‬ ‫اســـتنكار عـــدد كبيـــر مـــن الفرنســـيين‪.‬‬ ‫جديـــر بالذكـــر أن فاليريـــه هـــي‬ ‫شــريكة الرئيــس هوالنــد الســابقة بــدون‬ ‫ق ــران‪ ،‬وق ــد ت ــم اإلع ــان مطل ــع الس ــنة‬ ‫عل ــى فس ــخ عالقتهم ــا ع ــن طري ــق ب ــاغ‬ ‫رس ــمي‪ ،‬بع ــد أكث ــر م ــن أرب ــع س ــنوات‬ ‫مـــن االرتبـــاط‪ .‬غابـــت فيهـــا بعـــد ذلـــك‬ ‫عـــن قصـــر اإليليزيـــه‪ ،‬وانصرفـــت إلـــى‬ ‫انش ــغاالتها الصحافي ــة وإل ــى انخراطه ــا‬ ‫فـــي العمـــل االجتماعـــي والخيـــري‪.‬‬ ‫لـــم تنـــس فاليريـــه نـــص إعـــان‬ ‫فراقهمـــا الـــذي أفتـــاه هوالنـــد بنفســـه‬ ‫علـــى وكالـــة األنبـــاء الفرنســـية‪،‬‬ ‫والمتضمـــن لثمانـــي عشـــرة كلمـــة‬ ‫بالتحديـــد‪ .‬رأت فيـــه نوعـــ ًا مـــن حكـــم‬ ‫اإلع ــدام عليه ــا‪ ،‬وال ــذي طبع ــه‪ ،‬حس ــب‬ ‫زعمهـــا‪ ،‬بـــرود وقســـوة شـــديدان؛‬ ‫خاصــة أنهــا كانــت متشــبثة بحبهــا لــه‪،‬‬ ‫وحريصـــة علـــى بقائهـــا بقربـــه‪.‬‬ ‫فـــإذا كانـــت فاليريـــه (‪ ،)1965‬قـــد‬ ‫‪10‬‬

‫أصيبـــت لحظتهـــا بالذهـــول‪ ،‬وابتلعـــت‬ ‫ع ــددًا م ــن المهدئ ــات م ــن ه ــول صدم ــة‬ ‫فراقهـــا مـــع فرانســـوا كمـــا كتبـــت‪،‬‬ ‫وظلّـــت لمـــدة طريحـــة الفـــراش فـــي‬ ‫مستشـــفى ســـالبتريير الباريســـي‪،‬‬ ‫خاضع ــة للعناي ــة الش ــديدة‪ ،‬وللمراقب ــة‬ ‫النفســـية‪ ،‬فـــإن كتابهـــا هـــو بمثابـــة‬ ‫رد مجلجـــل علـــى تلـــك الضربـــة التـــي‬ ‫كانـــت قـــد تلقتهـــا حينهـــا‪.‬‬ ‫يع ــد الكت ــاب م ــن ه ــذا المنطل ــق إذن‬ ‫خطــاب انتقــام تكتبــه امــرأة تــم طعنه ــا‬ ‫طعن ــة ال التئ ــام له ــا‪ ،‬وه ــي الخيان ــة‪..‬‬ ‫ج ــاءت نتيج ــة للعالق ــة العاطفي ــة الت ــي‬ ‫ربطـــت حينئـــذ الرئيـــس هوالنـــد مـــع‬ ‫ممثلـــة تدعـــى جولـــي غاييـــت (‪.)1972‬‬ ‫تب ــرز ق ــراءة الكت ــاب رغب ــة فاليري ــه‬ ‫المِل َحـــة فـــي اإلســـاءة إلـــى الرئيـــس‬ ‫ُ‬ ‫هوالن ــد‪ ،‬بس ــعيها إل ــى وصم ــه بأقب ــح‬ ‫النع ــوت والصف ــات‪ ،‬راجي ــة أن يصغ ــر‬ ‫مـــر َغ هيبتـــه‬ ‫فـــي أعيـــن النـــاس‪ ،‬وأن ُت ِّ‬ ‫فـــي الوحـــل‪.‬‬ ‫لـــن يفـــوت كل قـــارئ للكتـــاب أن‬ ‫يســـجل طابـــع أفـــكاره المبعثـــرة‪ ،‬إذ‬ ‫تكـــرر فيـــه بعـــض المعلومـــات‪ ،‬وال‬ ‫تتبــع فيــه المؤلفــة خيط ـ ًا كرونولوجي ـ ًا‬ ‫لوقائ ــع وأح ــداث قصته ــا م ــع فرانس ــوا‬ ‫هوالنـــد‪ ،‬بـــل تســـتعيد فيـــه وتســـتبق‬ ‫وتستشـــرف تبعـــ ًا لمزاجهـــا لحظـــة‬ ‫الكتابـــة‪ .‬غيـــر أن هنـــاك بعـــض‬

‫االتهامـــات التـــي البـــد أنهـــا اختـــارت‬ ‫ذكرهـــا اختيـــارًا واعيـــاً‪ ،‬تنشـــد مـــن‬ ‫ورائهـــا قصـــم عزيمـــة الرئيـــس وكســـر‬ ‫شـــوكته‪ ،‬منهـــا اتهامهـــا لـــه بالكـــذب‪،‬‬ ‫يتـــردد عشـــرات المـــرات فـــي‬ ‫والـــذي‬ ‫ّ‬ ‫الكتـــاب‪ ،‬وكأنهـــا بذلـــك تريـــد أن‬ ‫تجع ــل تل ــك الصف ــة تخ ــرج م ــن الحي ــز‬ ‫الشـــخصي الضيـــق إلـــى إعطائهـــا‬ ‫اللبـــوس السياســـي‪ ،‬طاعنـــة بذلـــك‬ ‫فـــي مصداقيـــة اســـتحقاقه الرئاســـي‪،‬‬ ‫خاص ــة أن المج ــال السياس ــي الفرنس ــي‬ ‫يف ــور ه ــذه األي ــام بغلي ــان ال مثي ــل ل ــه‪،‬‬ ‫يح ـ ِّـرض هوالن ــد عل ــى االس ــتقالة‪ ،‬أل ــن‬ ‫تذكـــي بهـــذا جـــذوة اللهـــب؟‬ ‫فه ــذه ماري ــن لوب ــان‪ ،‬زعيم ــة اليمي ــن‬ ‫المتطـــرف‪ ،‬تتلقـــف بدورهـــا تهمـــة‬ ‫أخـــرى تلصقهـــا فاليريـــه بفرانســـوا‬ ‫هوالنـــد‪ ،‬تتمثـــل فـــي إفشـــائها كـــون‬ ‫هوالنـــد يقـــول عـــن النـــاس البســـطاء‬ ‫أو الفقـــراء إنهـــم ُدرم‪ ،‬أي‪« :‬ال أســـنان‬ ‫لهـــم»‪ ،‬وصـــارت تتنطـــع بأنهـــا فـــي‬ ‫حزبهـــا يدافعـــون عـــن هـــذه الفئـــة مـــن‬ ‫وهبـــت تتكســـب بالتالـــي دون‬ ‫النـــاس‪ّ ،‬‬ ‫انتظـــار مـــن هـــذا الفتـــات السياســـي‬ ‫الـــذي ال يغنـــي وال يســـمن‪.‬‬ ‫إن الـــركام الهائـــل مـــن األحاديـــث‬ ‫التـــي يفيـــض بهـــا الكتـــاب فيضـــاً‪،‬‬ ‫والتـــي ال يمكـــن التأكـــد مـــن صحتهـــا‪،‬‬ ‫ت ــكاد تب ــدو انتح ــا ًال واختالق ـاً‪ ،‬الغ ــرض‬


‫منهـــا اإلســـاءة ليـــس إال‪ .‬فبالرغـــم مـــن‬ ‫كـــون فاليريـــه تدعـــي كونهـــا حقائـــق‬ ‫ال غبـــار عليهـــا‪ ،‬فـــإن النيـــة المبيتـــة‬ ‫للكتـــاب تحيـــل دون تصديقهـــا جملـــة‬ ‫وتفصيـــا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فحاجتهـــا‪ ،‬هـــي إفـــراغ دواخلهـــا‬ ‫مـــن الحقـــد الدفيـــن علـــى الرجـــل الـــذي‬ ‫ـــز عليهـــا فراقـــه‬ ‫أحبتـــه وغادرهـــا‪َ ،‬و َع ّ‬ ‫فتحـــول الحـــب الشـــديد بعـــد‬ ‫وفقدانـــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تلق ــي الطعن ــة ف ــي الف ــؤاد إل ــى س ــخط‬ ‫ولعـــل الكثيـــر مـــن الفقـــرات‬ ‫رهيـــب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تفضـــح اضطرابهـــا‪ ،‬وضعفهـــا‪ ،‬الـــذي‬ ‫تســـعى فـــي كثيـــر مـــن األحيـــان إلـــى‬ ‫إخفائهمـــا‪ ،‬وتـــردد علـــى مـــدى الكتـــاب‬ ‫ـــل ومـــا يـــزال‬ ‫بـــأن فرانســـوا هوالنـــد َظ ّ‬ ‫يطالبهــا بالرجــوع إليــه‪ ،‬وقبــول إعــادة‬ ‫بنـــاء عالقتهمـــا علـــى أســـس جديـــدة‬ ‫بع ــد الصف ــح عم ــا س ــلف‪ ،‬لكنه ــا تق ــول‬ ‫إنهـــا ترفـــض ذلـــك نهائيـــاً‪ ،‬وبـــأن كل‬ ‫ش ــيء ق ــد انته ــى وأنه ــا ل ــم تع ــد تث ــق‬ ‫فيـــه بتاتـــاً‪.‬‬ ‫يعـــج الكتـــاب بنـــوع مـــن «معانـــاة‬ ‫المراهقـــة»‪ ،‬تتخللـــه تفاصيـــل مكثفـــة‬ ‫حـــول اليومـــي فـــي اإليليزيـــه‪ ،‬وكـــذا‬ ‫التنق ــات‪ ،‬واألس ــفار لمس ــاندة النس ــاء‬ ‫فـــي الكونغـــو واأليتـــام هنـــا وهنـــاك‪.‬‬ ‫كم ــا أنه ــا ال تنس ــى أن تلم ــز ه ــذا أو‬ ‫ذاك م ــن رج ــال السياس ــة االش ــتراكيين‬ ‫أو حتـــى ســـاركوزي‪ ،‬وزوجتـــه‬ ‫الســـابقة سيســـيليا أو الحاليـــة كارال‪.‬‬ ‫كمـــا لـــم يفتهـــا أن تذكـــر أن ميشـــيل‬ ‫أوبامـــا صرحـــت يومـــ ًا بـــأن جـــوارب‬ ‫زوجهـــا عفنـــة الرائحـــة!‬ ‫تفش ــي أيضــ ًا م ــا ق ــد يك ــون هوالن ــد‬ ‫ق ــد قال ــه أو ل ــم يقل ــه ف ــي ح ــق ل ــورون‬ ‫فابيـــوس بأنـــه فشـــل فـــي حياتـــه‪ ،‬أو‬ ‫م ــا أوردت ــه ح ــول م ــرض وال ــدة هوالن ــد‬ ‫وحـــول وفاتهـــا مـــن بعـــد‪ ،‬وكيـــف‬ ‫عاي ــش الرج ــل تل ــك اللحظ ــات المري ــرة‬ ‫كله ــا‪.‬‬ ‫إذا كان هـــذا الكتـــاب الـــذي يشـــبه‬ ‫كراســـة خواطـــر بنـــت ليـــس لهـــا بـــاع‬ ‫فـــي الحيـــاة‪ ،‬قـــد َدّر حتـــى اآلن أمـــوا ًال‬ ‫هائلـــة علـــى كاتبتـــه‪ ،‬وعلـــى ناشـــره‬ ‫«‪ ،»Les Arènes‬إذ نفـــدت الدفعـــة‬ ‫األولـــى مـــن المكتبـــات‪ ،‬فإنـــه وإن لـــم‬

‫يكـــن ذا طالـــع حســـن علـــى فرانســـوا‬ ‫هوالنـــد‪ ،‬فلـــن يســـيء إليـــه كثيـــراً‪.‬‬ ‫فالــذي يهــم فــي الكتــاب هــو الرئيــس‬ ‫هوالنـــد‪ ،‬وليســـت كاتبتـــه فاليريـــه‪،‬‬ ‫خليلت ــه ف ــي لحظ ــة م ــا م ــن حيات ــه‪ .‬أو‬ ‫ليســـت ناكـــرة للجميـــل إذ تهكمـــت فـــي‬ ‫العنـــوان بـــأن وســـمته‪« :‬شـــكرًا علـــى‬ ‫تلـــك اللحظـــة»؟‪.‬‬ ‫إن جـــرم هـــذه المـــرأة هـــو التالعـــب‬ ‫بقــدر بلــد بأكملــه كــي تنتقــم مــن رجــل‪،‬‬ ‫ق ــد انتخب ــه الن ــاس عل ــى رأس رئاس ــة‬ ‫الجمهوريـــة‪ ،‬بـــأن اســـتغلّت مرورهـــا‬ ‫بقصــر اإليليزيــه كــي تصفــي حســاباتها‬ ‫مـــع وضعهـــا «الشـــبيه بمنديـــل ورقـــي‬ ‫مرمـــي فـــي ســـلة القمامـــة» علـــى حـــد‬ ‫تعبيرهـــا‪.‬‬ ‫ألـــم تكـــن هـــي نفســـها تتبـــرأ مـــن‬ ‫اتهامـــات النـــاس لهـــا بكونهـــا تعانـــي‬

‫م ــن الهس ــتيريا؟ أل ــم يك ــن ه ــذا الكت ــاب‬ ‫دليـــا علـــى ســـيل هســـتيري؟‬ ‫بأكملـــه‬ ‫ً‬ ‫إذا كان هوالنـــد قـــد دافـــع عـــن‬ ‫نفســـه‪ ،‬نافيـــ ًا أن يكـــون حقـــوداً‪،‬‬ ‫وكارهـــ ًا للنـــاس البســـطاء أو محبـــ ًا‬ ‫لالدعـــاء‪ ،‬ورافضـــ ًا أن ينعـــت بمجمـــوع‬ ‫الصفـــات الســـلبية التـــي ألصقتهـــا بـــه‬ ‫فاليريـــه‪ ،‬فـــإن األعـــداء السياســـيين‪،‬‬ ‫ســـوف يحاولـــون أن يســـتغلوا بعـــض‬ ‫المعلومــات المشــكوك فيهــا‪ ،‬والمبثوثــة‬ ‫القـــراء‬ ‫فـــي الكتاب‪/‬الخاطـــرة؛ أمـــا‬ ‫ّ‬ ‫الحصيفـــون فإنهـــم ســـيفهمون مـــن‬ ‫لهج ــة الكت ــاب‪ ،‬لغت ــه‪ ،‬وغايات ــه‪ ،‬بأن ــه‬ ‫ليـــس ســـوى قـــذف وهمـــز ليـــس إال‪.‬‬ ‫الشـــيء األكيـــد‪ ،‬ســـوف ينســـى‬ ‫الفرنســـيون هـــذه الجعجعـــة ســـريعاً‪،‬‬ ‫مثـــل مثيالتهـــا‪ ،‬حينمـــا تـــدق ســـاعات‬ ‫مصائـــر سياســـية أكثـــر حرجـــاً!‬ ‫‪11‬‬


‫تونس‬

‫سن الرّشد‬ ‫الثورة تبلغ‬ ‫ّ‬

‫تونس‪ :‬عبد المجيد دقنيش‬ ‫بعد نجـــاح الخطوة األولـــى‪ ،‬وتجاوز فتـــرة المخاض‬ ‫الصعبـــة بالمصادقـــة علـــى الدســـتور كوثيقـــة مهمة في‬ ‫مرحلـــة االنتقـــال الديموقراطي‪ ،‬وتنظيمهـــا لعمل مختلف‬ ‫الســـلط‪ ،‬وتحديـــد موعـــد االنتخابـــات‪ ،‬ينتظـــر الشـــعب‬ ‫التونســـي‪ ،‬ومعه النخب السياســـية والمالحظون العرب‬ ‫والدوليـــون موعد االنتخابات التونســـية التشـــريعية (‪26‬‬ ‫من الشـــهر الحالـــي)‪ ،‬والرئاســـية (‪ 23‬نوفمبر‪ /‬تشـــرين‬

‫الثانـــي)‪ ،‬لكـــي يحكمـــوا على مســـار الثورة‪ ،‬فقـــد كانت‬ ‫تونـــس المبشـــر األول بمـــا يســـمى «الربيـــع العربـــي»‪.‬‬ ‫فكيـــف ســـتكون تجربـــة االنتخابـــات؟ إلى أي مـــدى تعد‬ ‫االنتخابـــات نقطـــة تحـــول مركزيـــة؟ وكيف يمكـــن لهذه‬ ‫االنتخابـــات أن تســـاهم في تحقيق أهـــداف الثورة ومنع‬ ‫الديكتاتوريـــة مـــن العـــودة وتحقيق االســـتقرار؟ وكيف‬ ‫نفســـر عـــزوف كثيـــر من فئـــات الشـــعب عن التســـجيل‬ ‫فـــي القوائم االنتخابية؟ أســـئلة طرحتهـــا «الدوحة» على‬ ‫بعـــض المثقفين والناشـــطين التونســـيين‪.‬‬

‫وليد سليمان (كاتب ومترجم)‪:‬‬

‫اختبار حقيقي لالنتقال الديموقراطي‬ ‫االنتخابـــات التي نحـــن مقبلون عليها‬ ‫ســـتكون أول اختبـــار حقيقـــي لالنتقال‬ ‫الديموقراطـــي فـــي تونـــس‪ .‬لكنـــه لـــن‬ ‫ال نظرًا إلى الســـياق‬ ‫يكـــون اختبارًا ســـه ً‬ ‫المحلـــي واإلقليمي الذي تـــدور فيه‪ .‬لكن‬ ‫المؤكـــد هـــو أن هذه االنتخابـــات لو تمت‬ ‫علـــى أفضـــل وجه فســـوف تمثـــل نقطة‬ ‫تحـــول مفصليـــة فـــي تاريـــخ تونـــس‬ ‫وفـــي العالم العربـــي برمته‪ .‬ذلـــك أنها‬ ‫‪12‬‬

‫ســـتكون أول انتخابـــات ديموقراطيـــة‬ ‫في المنطقـــة‪ ،‬وهذا يبـــرز أهمية الرهان‬ ‫الـــذي تنطـــوي عليه‪.‬‬ ‫وتكمـــن أهمية هـــذه االنتخابات أيض ًا‬ ‫فـــي كونهـــا حلقـــة مهمـــة ضمن مســـار‬ ‫االنتقـــال الديموقراطـــي الـــذي تشـــهده‬ ‫تونـــس‪ ،‬ومن ثم ستســـاهم حتمـــ ًا – في‬ ‫حالـــة نجاحهـــا – فـــي تحقيـــق أهـــداف‬ ‫الثـــورة ودعم اســـتقرار البـــاد‪ ،‬خاصة‬

‫بعـــد الهـــزة االجتماعيـــة واالقتصاديـــة‬ ‫التـــي نتجت عن التحـــوالت العميقة التي‬ ‫أحدثتهـــا الثورة‪.‬‬ ‫ورغـــم ذلـــك يجـــب أال يحجـــب عنـــا‬ ‫التقـــدم الحاصـــل عديـــد المخاطـــر التي‬ ‫تهّدد المســـار الديموقراطـــي في تونس‪.‬‬ ‫ذلـــك أن تشـــتت القـــوى الديموقراطيـــة‬ ‫فـــي أغلب األحيـــان‪ ،‬وعـــدم قدرتها على‬ ‫صياغـــة اســـتراتيجية موحـــدة وناجعة‬


‫يجعـــان المخاطـــر كبيـــرة خاصـــة في‬ ‫ـــل تدخـــل عديـــد القـــوى األجنبية في‬ ‫ِظ ّ‬ ‫الشـــأن التونسي‪.‬‬ ‫لذلـــك يجب علـــى النخبة السياســـية‬ ‫فـــي تونس‪ ،‬في هـــذه المرحلـــة بالذات‪،‬‬ ‫أن تكـــون حـــذرة وأال تنســـاق وراء‬ ‫مغامـــرات غيـــر محســـوبة‪ ،‬والتـــي من‬ ‫شـــأنها أن تؤثـــر علـــى نزاهـــة العملية‬ ‫السياســـية في المســـتقبل‪ .‬فمن مصلحة‬ ‫كل األحزاب السياســـية أن تحترم قواعد‬ ‫اللعبـــة لتكريس مبـــدأ التداول الســـلمي‬ ‫للسلطة ‪.‬‬ ‫والحق يقال إن أداء النخبة السياسية‬ ‫فـــي تونـــس‪ -‬بقطـــع النظر عـــن بعض‬

‫االســـتثناءات‪ -‬لـــم يكـــن في المســـتوى‬ ‫المطلـــوب‪ ،‬وهـــو ما يفســـر فـــي الواقع‬ ‫عزوف شـــرائح عديـــدة مـــن المواطنين‬ ‫عـــن التســـجيل فـــي القوائـــم االنتخابية‬ ‫ممـــا يطـــرح عديد اإلشـــكاليات ويؤشـــر‬ ‫علـــى هشاشـــة الوضع المرتهـــن بقناعة‬ ‫النـــاس بجـــدوى العمليـــة السياســـية‪.‬‬ ‫أعتقـــد أن مـــن أهـــم األولويـــات اآلن أن‬ ‫يبذل السياســـيون مجهودًا أكبر لتحسين‬ ‫صورتهـــم وأدائهـــم علّهـــم يســـترجعون‬ ‫ثقـــة الناخب‪.‬‬ ‫وبنـــاء على مـــا تقدم نفهـــم أهمية أن‬ ‫يكون إنجـــاح االنتخابات هاجس الجميع‬ ‫وإال فإن شـــبح العودة إلـــى الدكتاتورية‬

‫ســـيبقى يتهـــّدد الحيـــاة السياســـية في‬ ‫البلد‪ ،‬كمـــا يجب أن تكـــون قواعد اللعبة‬ ‫واضحة وتقـــدم كل الضمانات للمواطن‪،‬‬ ‫ولـــن ينجـــح المســـار الديموقراطي دون‬ ‫مســـاهمته الفاعلـــة‪ ،‬والمواطـــن يبقـــى‬ ‫قـــادرًا علـــى التعبيـــر عـــن عـــدم رضاه‬ ‫بشـــتى الطـــرق‪ ،‬مثـــل المقاطعـــة وعدم‬ ‫االنخراط فـــي العمليـــة االنتخابية‪.‬‬ ‫مع هذا‪ ،‬ســـتكون االنتخابات المقبلة‬ ‫عالمـــة فارقة في تاريـــخ تونس الحديث‬ ‫وســـتؤثر علـــى مســـتقبل البـــاد‪ ،‬كمـــا‬ ‫ســـتكون لهـــا تداعيـــات علـــى المنطقة‪،‬‬ ‫ولذلك يتوجب تضافـــر الجهود إلنجاحها‬ ‫بـــأي ثمن‪.‬‬

‫نور الدين العلوي (كاتب وباحث في علم االجتماع)‪:‬‬

‫التونسي تذ َّوق الحرية ولن يفرِّط فيها‬ ‫حســـب اعتقادي ســـتكون انتخابات‬ ‫هذا الشـــهر انتخابـــات مصيرية يتوقف‬ ‫عليهـــا مصير تونـــس وجيرانهـــا أيض ًا‬ ‫خـــال الســـنوات القادمة‪ .‬ولكـــن األمر‬ ‫ليـــس محســـوم ًا فـــي أي اتجـــاه بعـــد‬ ‫فالنظـــام الســـابق اســـتعاد بعـــض‬ ‫مواقعـــه‪ ،‬ومن ثم ســـتكون المنافســـة‬ ‫بيـــن المنظومـــة الجديـــدة المنبثقة عن‬ ‫الثورة ومضادهـــا النظـــام القديم الذي‬ ‫يملـــك ماكينة انتخابية لـــم تفقد قدرتها‬ ‫على الحشـــد‪.‬‬ ‫احتمـــاالت انتصـــار الثـــورة حتـــى‬ ‫اللحظة تبدو أقـــوى‪ ،‬ألن النظام القديم‬ ‫يحتفظ برصيـــده البغيـــض في نفوس‬ ‫التونســـيين رغم الفشـــل الذي ساد عمل‬ ‫الترويكا‪.‬‬ ‫ســـيصوت الكثيرون ضـــد المنظومة‬ ‫القديمة أكثر مما هـــو لصالح المنظومة‬

‫الجديـــدة‪ ،‬ولكـــن النتيجـــة هـــي مزيـــد‬ ‫مـــن إضعـــاف القديـــم‪ .‬بحســـب رأيي‪،‬‬ ‫أهـــداف الثـــورة ال تـــزال معلقـــة وقـــد‬ ‫تشـــتت التركيز علـــى أهـــداف بعينها‪،‬‬ ‫خاصـــة أمـــام التمييع اإلعالمـــي الذي‬ ‫صبـــغ الثورة‪ ،‬مع التشـــكيك فيها وفي‬ ‫منجزهـــا وفـــي مطالبهـــا نفســـها‪ ،‬لكن‬ ‫مطلب الحريـــة تحقق منـــه الكثير وهو‬ ‫الكفيل بـــإدارة حملـــة انتخابيـــة جدية‬ ‫يمكـــن أن تهـــز أركان منظومة عاشـــت‬ ‫دومـــ ًا بالقمـــع والقهر‪.‬‬ ‫العـــزوف عـــن االنتخابـــات يمثـــل‬ ‫مؤشـــرًا علـــى الخيبـــة التـــي أنتجتهـــا‬ ‫ســـنوات الثورة األولى فـــي الحكم‪ ،‬فقد‬ ‫كان هناك عديد األخطـــاء‪ ،‬لكن الضربة‬ ‫األكبـــر لعزيمـــة النـــاس وحماســـهم‬ ‫جـــاءت من اإلعـــام المعـــادي للثورة‪،‬‬ ‫والـــذي يمثـــل أداة المنظومـــة القديمـــة‬

‫وســـاحها‪ ،‬فهناك فشـــل في التســـيير‬ ‫ضاعـــف خطـــره اإلعـــام والنقابـــات‬ ‫المسيســـة التـــي حرفت مطالـــب الثورة‬ ‫عـــن المســـار االجتماعـــي إلـــى مســـار‬ ‫آخـــر‪ ..‬صحيـــح يوجـــد إحبـــاط لـــدى‬ ‫الكثيريـــن‪ ،‬لكـــن الثورة لم تقـــل كلمتها‬ ‫بعـــد‪ ،‬هناك متحمســـون لهـــا ال يزالون‬ ‫ال ونهـــارًا إلنجاحها وهم‬ ‫يشـــتغلون لي ً‬ ‫رصيدهـــا الثابت‪.‬‬ ‫وبالنســـبة لعـــودة الديكتاتوريـــة‪،‬‬ ‫يمكـــن أن تعـــود‪ ،‬لكـــن ليس بشـــكلها‬ ‫القديم‪ ،‬بل بأشـــكال أخرى‪ ،‬فقد تستفيد‬ ‫مـــن الديموقراطية نفســـها‪ ،‬فالمنظومة‬ ‫القديمة ليســـت رأس المخلـــوع وعائلته‬ ‫فقـــط‪ ،‬بـــل هـــي نظـــام إداري وأجهزة‬ ‫حكـــم إداريـــة باليـــة‪ ،‬ونظـــام مصالح‬ ‫صغرى ومتوســـطة تنتج دومـــ ًا رغبة‬ ‫في عـــدم التغيير‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫هشام السنوسي (عضو الهيئة العليا لإلعالم)‪:‬‬

‫غربلة الساحة السياسية وعقلنة خطاباتها‬ ‫الشـــك فـــي أن االنتخابـــات القادمـــة‬ ‫ســـوف تشـــكل عالمـــة فارقة فـــي الحياة‬ ‫السياســـية التونســـية باعتبـــار أن معيار‬ ‫النجـــاح ألي عمليـــة انتقـــال ديموقراطي‬ ‫هـــو التداول الســـلمي على الســـلطة وفق‬ ‫دســـتور يضمـــن اســـتمرارية ذلـــك‪ .‬هذا‬ ‫المبـــدأ العـــام الـــذي تحقـــق فـــي ألمانيا‬ ‫وإســـبانيا وجنـــوب إفريقيـــا وغيرها من‬ ‫تجارب االنتقـــال الديموقراطـــي الناجحة‬ ‫يجـــد صعوبة فـــي التموقع فـــي التجربة‬ ‫لعل من أهمها‪،‬‬ ‫التونســـية لعدة أســـباب‪ّ ،‬‬ ‫بعـــد اإلرهـــاب‪ ،‬أن أغلـــب األحـــزاب هي‬ ‫أحـــزاب عقائديـــة ال تؤمن فـــي تكويناتها‬ ‫األيديولوجيـــة بقيـــم الديموقراطيـــة‬ ‫المتعلقة خاصة بالحريـــات الفردية‪ ،‬لهذا‬ ‫نجد بعـــض األحزاب يعيش هـــذا التجربة‬ ‫ُمنصاعـــ ًا وليـــس ُمختـــارًا وهو ما يفســـر‬

‫دعوتهم مـــن داخل النظـــام الديموقراطي‬ ‫إلى تهديـــم النظـــام الديموقراطي‪ .‬وعليه‬ ‫يمكن القول إن االنتخابات القادمة ســـوف‬ ‫تشـــكل تحديـــ ًا أمـــام النخـــب‪ ،‬وســـوف‬ ‫ّ‬ ‫تغربـــل الســـاحة السياســـية وتعقلـــن‬ ‫خطاباتهـــا‪ .‬أســـوق هذا الـــرأي وأنا تحت‬ ‫تأثير الســـيناريوهات األكثـــر تفاؤالً‪ ،‬ألن‬ ‫الهدف االســـتراتيجي لإلرهابيين هو عدم‬ ‫نجـــاح العمليـــة الديموقراطيـــة وتخريب‬ ‫مؤسســـات الدولة‪.‬‬ ‫النقطة الثانيـــة التي نتمنـــى أن تأخذ‬ ‫الحيز الذي تســـتحق في هـــذه االنتخابات‬ ‫هي مســـألة برامج األحزاب السياســـية‪،‬‬ ‫فإلـــى حـــّد هـــذه اللحظـــة هنـــاك أحزاب‬ ‫أصـــا‪ ،‬وأحـــزاب‬ ‫ليســـت لهـــا برامـــج‬ ‫ً‬ ‫أخـــرى تؤجل اإلفصاح عـــن برنامجها في‬ ‫حركة تشـــويقية متناســـية أن مشروعية‬

‫هـــذه البرامـــج تتأتـــى مـــن تداولهـــا لدى‬ ‫الرأي العـــام‪ .‬وأعتقد أن هـــذا الرأي العام‬ ‫ســـوف يفاجـــئ الفاعليـــن السياســـيين‬ ‫بسبب قضيتين أساســـيتين‪ :‬هما المسألة‬ ‫تم التالعب بهـــا‪ ،‬وقضية‬ ‫الجهويـــة التـــي ّ‬ ‫شـــهداء الثورة التي ســـوف تتحـــول إلى‬ ‫عـــار يالحق بعـــض األحـــزاب التي آثرت‬ ‫اللهث وراء ســـراب النجـــاح ولو أدى ذلك‬ ‫إلى إعـــادة رمـــوز النظـــام الســـابق إلى‬ ‫الواجهـــة السياســـية‪ .‬ومـــن شـــأن هـــذه‬ ‫العـــودة التـــي هـــي بمثابة نفـــخ الروح‬ ‫في جثـــة النظام الســـابق أن تـــؤدي إلى‬ ‫عـــزوف الناخبين عـــن التصويـــت‪ ،‬وفي‬ ‫مطلق األحـــوال فـــإن إجـــراء االنتخابات‬ ‫وتســـليم الســـلطة فـــي إطـــار توافقـــي‬ ‫ومســـتقر ســـوف يشـــكالن نجاحـــ ًا فـــي‬ ‫واقع جيوسياســـي موســـوم بالفشـــل‪.‬‬

‫ناجي البغوري (رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين)‪:‬‬

‫النساء والعمل الديموقراطي‬ ‫أكيـــد أن االنتخابـــات القادمة ســـتكون‬ ‫تحـــول مهمـــة جـــدًا فـــي طريـــق‬ ‫نقطـــة‬ ‫ُّ‬ ‫االنتقـــال الديموقراطـــي‪ ،‬والتـــي يجـــب‬ ‫إصالحهـــا وتغييرها‪ ،‬حيث ســـتنتقل بنا‬ ‫من فتـــرة الســـلطة والحكومـــة والرئيس‬ ‫المؤقتيـــن إلـــى مرحلـــة دائمـــة وحكومة‬ ‫منتخبـــة ورئيـــس منتخـــب شـــعبياً‪،‬‬ ‫وبرلمـــان منتخـــب ســـيكون لـــه كامـــل‬ ‫‪14‬‬

‫الصالحيات التشـــريعية‪ ،‬ومن المفروض‬ ‫أن هـــذه الرؤيـــة السياســـية الواضحـــة‬ ‫ســـتكون لهـــا انعكاســـات إيجابيـــة على‬ ‫الوضع االقتصـــادي واالجتماعي‪ ،‬وكذلك‬ ‫على العالقات الدولية ومســـألة االستثمار‬ ‫والمســـاعدات الدوليـــة‪ ،‬وخاصة الوضع‬ ‫األمنـــي باعتبـــار أن الحكومـــات المؤقتة‬ ‫التـــي جاءت بعـــد الثـــورة لم تكـــن لديها‬

‫اســـتراتيجيات واضحـــة ومحـــددة عكس‬ ‫الحكومة التي ســـتتمخض عن االنتخابات‬ ‫القادمـــة‪ .‬إذن ولكل ذلك‪ ،‬فهذه االنتخابات‬ ‫ســـيكون لهـــا دور مفصلـــي فـــي عمليـــة‬ ‫البنـــاء واالنتقـــال الديموقراطي‪.‬‬ ‫وبالنســـبة للقضـــاء علـــى اإلرهـــاب‬ ‫فهـــو ليـــس مرتبطـــ ًا فقـــط باالنتخابـــات‬ ‫ونجاحهـــا رغـــم أهمية هذا الـــدور‪ ،‬ولكنه‬


‫مرتبـــط بالسياســـة األمنيـــة والخطـــط‬ ‫االســـتراتيجية‪ ،‬وكذلك تحســـين الوضع‬ ‫االجتماعـــي واالقتصـــادي والتوعيـــة‬ ‫الثقافيـــة والقضـــاء على الجهـــل واألمية‬ ‫واالنقطـــاع عـــن الدراســـة‪ ،‬إذن المســـألة‬ ‫يلزمهـــا عمـــل وتوحيـــد جهـــود كل القوى‬ ‫علـــى المدى البعيد‪ ،‬وهـــذا طبع ًا دون نفي‬ ‫الحـــل األمني اآلنـــي المســـتعجل‪ ،‬وربما‬

‫نجـــاح هـــذه االنتخابات سيســـهل كل هذه‬ ‫الجهود وســـينتج مناخ ًا مالئمـــ ًا لمكافحة‬ ‫ظاهـــرة اإلرهـــاب‪ .‬وبالنســـبة لمســـألة‬ ‫العـــزوف فأعتقـــد أن النســـبة المســـجلة‬ ‫حسب أرقام الهيئة المســـتقلة لالنتخابات‬ ‫ظل‬ ‫هـــي نســـبة محترمـــة ومعقولة فـــي ّ‬ ‫إلي‬ ‫الوضـــع الراهـــن‪ ،‬والمهـــم بالنســـبة ّ‬ ‫هو اإلقبـــال على عمليـــة االنتخاب وليس‬

‫التســـجيل فقـــط‪ .‬ومـــن ناحيـــة أخرى ال‬ ‫أعتقـــد أن الديموقراطيـــة يمكـــن أن تكون‬ ‫ال وســـبب ًا في عـــودة الديكتاتورية‪.‬‬ ‫ســـبي ً‬ ‫االنتخابـــات هـــي اآللية المثلى لممارســـة‬ ‫الديموقراطيـــة وتحقيـــق أهـــداف االنتقال‬ ‫الديموقراطي الســـلس‪ ،‬ومـــن هنا ال يمكن‬ ‫لالنتخابات الحرة النزيهة أن تســـاهم في‬ ‫عـــودة الديكتاتورية‪.‬‬

‫قيس سعيد (محلل سياسي وأستاذ القانون الدستوري)‪:‬‬

‫الشعب فقد ثقته في النخب السياسية‬ ‫بالنســـبة لالنتخابـــات التشـــريعية‬ ‫فهي تتعلق بانتخاب الهيئة التشـــريعية‬ ‫التـــي صـــارت تســـمى مجلـــس نـــواب‬ ‫الشـــعب‪ ،‬وهـــو المجلـــس التأسيســـي‬ ‫الـــذي ســـيتولى التشـــريع للمـــواد‬ ‫فضـــا أن‬ ‫التـــي خصـــه بها الدســـتور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحكومـــة ســـتنبثق عن األغلبيـــة التي‬ ‫ســـتفرزها هذه االنتخابات التشريعية‪.‬‬ ‫أمـــا بالنســـبة لالنتخابـــات الرئاســـية‬ ‫فأهميتها ال تســـتمدها من االختصاصات‬ ‫المخصصـــة لرئيـــس الجمهوريـــة مثلما‬ ‫نـــص علـــى ذلـــك الدســـتور بقـــدر مـــا‬ ‫تســـتمدها من تمثيل التونســـي لرئيس‬ ‫الدولـــة‪ ،‬علما بـــأن رئيـــس الجمهورية‬ ‫في ِظّل الدســـتور الجديـــد يتمتع بدوره‬ ‫بجملـــة مـــن االختصاصـــات التنفيذية‬ ‫في مجال السياســـة الخارجيـــة والدفاع‬ ‫الوطنـــي‪ ،‬إلى جانب حقه فـــي المبادرة‬ ‫التشـــريعية وتعديل الدســـتور‪.‬‬ ‫وعمومـــ ًا ال يمكـــن أن تقـــاس أهمية‬ ‫هـــذه االنتخابـــات مقارنة بتلـــك‪ ،‬بناء‬ ‫علـــى مقياس واحـــد‪ ،‬لكـــن بالنظر إلى‬ ‫مقيـــاس االختصاصات علـــى األقل فإن‬ ‫االنتخابـــات التشـــريعية تتنـــزل منزلة‬ ‫مهمـــة مقارنـــة بمـــا كان يحصـــل فـــي‬ ‫ـــل الدســـتور الســـابق‪ .‬أما بالنســـبة‬ ‫ِظ ّ‬ ‫لألثـــر علـــى االنتقـــال الديموقراطي فال‬

‫يمكن الفصـــل بين االنتخابـــات النيابية‬ ‫واالنتخابـــات الرئاســـية فـــإذا فشـــلت‬ ‫إحداهمـــا سينســـحب الفشـــل علـــى كل‬ ‫العمليـــة االنتخابيـــة وعلـــى كل عملية‬ ‫االنتقـــال الديموقراطـــي‪ .‬فـــي الواقـــع‪،‬‬ ‫االختيـــارات التـــي تمـــت بالنســـبة‬ ‫لالنتخابـــات التشـــريعية وهـــي طريقة‬ ‫االقتـــراع علـــى القوائـــم فـــي دوائـــر‬ ‫انتخابيـــة واســـعة ســـتؤدي إلى نفس‬ ‫المشـــهد الحالي وإلى ســـيطرة األحزاب‬ ‫الكبرى علـــى المجلس النيابـــي القادم‪،‬‬ ‫كما ســـتؤدي مرة أخرى إلـــى االنحراف‬ ‫بالوكالة التـــي يقوم عليهـــا االنتخاب‪،‬‬ ‫فالنائب المنتخب بهذه الطريقة سيشـــعر‬ ‫أنه مديـــن بانتخابـــه ال للناخبين الذين‬ ‫صوتوا عليـــه‪ ،‬ولكن للهيئـــة المركزية‬ ‫للحزب التي رشـــحته لالنتخابات‪ ،‬علما‬ ‫بأن ِ‬ ‫الحَراك الـــذي عرفته تونس لم يأت‬ ‫تحـــت قيـــادة أي حـــزب مـــن األحزاب‪،‬‬ ‫بل جـــاء بصفـــة تلقائية والشـــباب هو‬ ‫الـــذي حـــّدد مطالبه واختار شـــعاراته‪،‬‬ ‫وفي مســـتوى آخر كان يجـــب أن يكون‬ ‫البناء السياســـي واإلداري الجديد متفق ًا‬ ‫مـــع طبيعـــة الحـــراك الـــذي انطلق من‬ ‫داخـــل الجمهوريـــة وبلـــغ ذروتـــه في‬ ‫المركـــز‪ .‬وحســـب اعتقـــادي البناء يجب‬ ‫أن يكـــون مـــن القاعـــدة نحـــو المركز‪،‬‬

‫ولكن لألســـف‪ ،‬المؤسسون التونسيون‬ ‫أعـــادوا نفـــس البنـــاء القديـــم ولـــم‬ ‫يســـتوعبوا جيدًا أسباب فشـــل التجربة‬ ‫الدســـتورية األولى‪ ،‬كما لم يســـتوعبوا‬ ‫جيـــدًا طبيعـــة الحـــراك ومســـاره‪ ،‬وتم‬ ‫بســـرعة صـــرف األنظـــار عـــن القضايا‬ ‫الحقيقية نحـــو قضايا وهميـــة ورفعوا‬ ‫شـــعارات كانـــت ترفـــع منـــذ أربعـــة‬ ‫عقود‪ ،‬وحصلـــت مرة أخـــرى القطيعة‬ ‫بيـــن النخبة السياســـية وبعـــض فئات‬ ‫الشعب‪ .‬وفي ســـياق متصل االنتخابات‬ ‫الرئاســـية ال تبـــدو أنهـــا مختلفـــة فـــي‬ ‫المرحلـــة الراهنـــة ألنها تتنـــزل في هذا‬ ‫اإلطار العـــام‪ ،‬ويعرف التونســـيون أن‬ ‫الذين يحكمون بقصر الرئاســـة ليســـت‬ ‫لهـــم مشـــاريع غيـــر تحقيـــق أحالمهم‬ ‫فـــي الجلوس علـــى أرائـــك‪ ،‬فأحالمهم‬ ‫واحـــدة ألنهـــم يضعون رؤوســـهم على‬ ‫نفـــس الوســـادة ويتقاســـمون نفـــس‬ ‫الحلم‪ .‬االنتخابات يمكن أن تســـاهم في‬ ‫عودة الديكتاتورية مـــن الباب الخلفي‪،‬‬ ‫في حـــال غيـــاب برامـــج واضحة وفي‬ ‫ـــل تحالفات معلنة وغيـــر معلنة‪ ،‬فقد‬ ‫ِظ ّ‬ ‫تـــؤدي هـــذه االنتخابات إلـــى نتائج أو‬ ‫إلـــى وضع غيـــر طبيعي بالنســـبة إلى‬ ‫شـــعب أراد القطـــع نهائيـــ ًا مـــع ما كان‬ ‫قائمـــ ًا وأراد أن ينشـــئ منظومة جديدة‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫ميديا‬

‫أفكار بسيطة ‪..‬‬ ‫تصنع الفرق‬ ‫محمود حسن‬

‫الصيـــف الماضـــي‪ ،‬انطلقـــت حملـــة‬ ‫لجمـــع التبرعـــات‪ ،‬لصالـــح مرضـــى‬ ‫التصل ــب العضل ــي الجانب ــي (المع ــروف‬ ‫ُّ‬ ‫اختصـــارًا بالـــ ‪ ،)ALS‬وهـــو مـــرض‬ ‫يســـبب ضمـــورًا فـــي الجهـــاز العصبـــي‬ ‫يفق ــد م ــن خالل ــه المري ــض الق ــدرة عل ــى‬ ‫التحكــم فــي أعصــاب أطرافــه والشــعور‬ ‫يتوســـع المـــرض‬ ‫بهـــا‪ ،‬وســـريع ًا مـــا‬ ‫َّ‬ ‫إلـــى أن يلتهـــم الجســـد كلـــه‪.‬‬ ‫الحمل ــة حمل ــت اس ــم «تح ــدي س ــطل‬ ‫الثلـــج»‪ ،‬والفكـــرة ببســـاطة هـــي أن‬ ‫يقـــوم شـــخص بتصويـــر نفســـه وهـــو‬ ‫ال م ــن الم ــاء‬ ‫يس ــكب ف ــوق رأس ــه س ــط ً‬ ‫المثلـــج‪ ،‬ليمـــر للحظـــات بشـــعور‬ ‫مماثـــل ألعـــراض مـــرض التصلُّـــب‬ ‫العضلـــي‪ ،‬ويتحـــّدى بعدهـــا أشـــخاص ًا‬ ‫آخريـــن ليفعلـــوا مثلـــه‪ ،‬فـــي خـــال‬ ‫أربـــع وعشـــرين ســـاعة‪ ،‬وإن رفضـــوا‬ ‫ســيكونوا مجبريــن علــى التبــرع بـــ ‪100‬‬ ‫التصلــب‬ ‫دوالر لصالــح جمعيــة مرضــى‬ ‫ُّ‬ ‫العضلـــي‪.‬‬ ‫الحملـــة التـــي ترجـــع بدايتهـــا إلـــى‬ ‫العـــب بيســـبول أميركـــي‪ ،‬ســـرعان‬ ‫تحولـــت إلـــى جنـــون غـــزا العالـــم‪،‬‬ ‫مـــا ّ‬ ‫وخاض ــه المئ ــات م ــن مش ــاهير العال ــم‪،‬‬ ‫مـــن بيـــل غيتـــس ومـــارك زوكربـــارغ‪،‬‬ ‫إلــى الرئيــس األميركــي األســبق جــورج‬ ‫بـــوش االبـــن‪ ،‬والعبـــي الكـــرة األشـــهر‬ ‫ف ــي العال ــم‪ ،‬ومئ ــات م ــن نج ــوم الف ــن‪،‬‬ ‫والكّتـــاب فـــي مختلـــف دول العالـــم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫باإلضافـــة إلـــى عشـــرات اآلالف مـــن‬ ‫المشـــاهير المحلييـــن فـــي بلدانهـــم‬ ‫واألنـــاس العادييـــن‪.‬‬ ‫وص ــار التح ــدي نفس ــه‪ ،‬ف ــي ظ ــرف‬ ‫بضعــة أيــام‪ ،‬الحملــة األكبــر فــي تاريــخ‬ ‫‪16‬‬

‫اإلنترن ــت‪ ،‬فق ــد أعل ــن موق ــع «يوتي ــوب»‬ ‫أن ع ــدد المش ــاهدات لفيديوه ــات تح ــدي‬ ‫ســـطل الثلـــج قـــد تجـــاوزت المليـــار‬ ‫مشـــاهدة حتـــى كتابـــة هـــذه الســـطور‪،‬‬ ‫كمـــا اســـتطاعت مؤسســـة ‪ ALS‬جمـــع‬ ‫‪ 100‬مليـــون دوالر كتبرعـــات ناتجـــة‬ ‫عـــن عـــدم قبـــول بعـــض المشـــاهير‬ ‫التحـــدي‪.‬‬ ‫علــى الرغــم مــن النجــاح التــي القتــه‪،‬‬ ‫واجهــت الحملــة انتقــادات قويــة‪ ،‬فكثيــر‬ ‫مـــن الذيـــن خاضـــوا التحـــدي لـــم يكـــن‬ ‫األمـــر بالنســـبة إليهـــم ســـوى عمليـــة‬ ‫تقليـــد للمشـــاهير‪ ،‬أو ســـعي لجلـــب‬ ‫ش ــهرة س ــريعة عل ــى اإلنترن ــت‪ ،‬حي ــث‬ ‫مثـــا لفيديـــو جـــد‬ ‫تفاجـــأ متتبعـــون‬ ‫ً‬ ‫يقـــوم بإجبـــار حفيدتـــه ذات العشـــرة‬ ‫أشـــهر علـــى خـــوض تحـــدي ســـطل‬ ‫الثلـــج كمحاولـــة الســـتجداء الشـــهرة!‪.‬‬ ‫كمـــا واجهـــت الحملـــة االنتقـــادات‪،‬‬ ‫بس ــبب ك ــون ع ــدد المصابي ــن بالم ــرض‬ ‫ح ــول العال ــم نح ــو ‪ 150‬أل ــف ش ــخص‪،‬‬ ‫وهـــو رقـــم يقـــل كثيـــرًا عـــن عـــدد‬ ‫المصابيـــن بأمـــراض عصبيـــة أخـــرى‪،‬‬ ‫ويقـــل كثيـــرًا عـــن عـــدد األشـــخاص‬ ‫الذيـــن ال يســـتطيعون الحصـــول علـــى‬ ‫ميـــاه صالحـــة للشـــرب والذيـــن ُقـــِد َر‬ ‫عددهـــم بنحـــو ‪ 786‬مليـــون شـــخص‬ ‫– حســـب اليونيســـيف – التـــي قـــدرت‬ ‫أيضـــ ًا عـــدد ‪ 1400‬طفـــل يموتـــون كل‬ ‫ي ــوم بس ــبب ع ــدم الحص ــول عل ــى مي ــاه‬ ‫صالحـــة للشـــرب‪ ،‬فـــي حيـــن تشـــير‬ ‫أرقـــام إلـــى أن نحـــو ‪ 30‬مليـــون لتـــر‬ ‫م ــن المي ــاه اس ــتخدم ف ــي تح ــدي س ــطل‬ ‫الثلـــج حـــول العالـــم‪.‬‬ ‫جـــاء التحـــدي ذاتـــه‪ ،‬فـــي وقـــت‬

‫كانـــت غـــزة تحـــت غـــارات العـــدوان‬ ‫اإلس ــرائيلي‪ ،‬له ــذا ق ــرر أهال ــي القط ــاع‪،‬‬ ‫الذيـــن يعيشـــون وســـط نـــدرة الميـــاه‪،‬‬ ‫خـــوض تحـــٍد آخـــر علـــى طريقتهـــم‪،‬‬ ‫غيـــروا‬ ‫لنقـــل مأســـاتهم للعالـــم‪ ،‬حيـــث ّ‬ ‫تحـــدي ســـطل الثلـــج إلـــى تحـــدي‬ ‫«الـــركام»‪ ،‬وقـــام غزاويـــون بتصويـــر‬ ‫أنفســـهم وهـــم يســـكبون بعـــض ركام‬ ‫هدمـــة علـــى رؤوســـهم‪.‬‬ ‫الم َّ‬ ‫البيـــوت ُ‬ ‫ومـــازال المئـــات مـــن المشـــاهير‬ ‫يخوضـــون التحـــدي حتـــى اللحظـــة‪،‬‬ ‫ومـــازال آالف األشـــخاص يبثـــون‬ ‫الفيديوهــات وهــم يتحــدون الثلــج علــى‬ ‫موقــع يوتيــوب‪ ،‬وهــو مــا عــزاه بعــض‬ ‫المحلليـــن النفســـيين علـــى صفحـــات‬ ‫الجرائـــد الغربيـــة مخاطبـــة «حســـنة»‬ ‫للنرجســـية التـــي تصنعهـــا مواقـــع‬ ‫التواصـــل االجتماعـــي مـــن محـــاوالت‬ ‫األشــخاص الظهــور بمظهــر حســن علــى‬ ‫مواقـــع التواصـــل‪.‬‬ ‫النجـــاح الـــذي حققـــه تحـــدي الثلـــج‬ ‫دفـــع رواد التواصـــل االجتماعـــي فـــي‬ ‫مص ــر‪ ،‬ودول عربي ــة أخ ــرى‪ ،‬لمقارنت ــه‬ ‫بحمـــات جمـــع التبرعـــات التـــي تمـــأ‬ ‫شاشـــات التلفـــاز‪ ،‬خصوصـــ ًا شـــهر‬ ‫تحولـــت مـــن مصـــدر‬ ‫رمضـــان‪ ،‬والتـــي ّ‬ ‫لجم ــع التبرع ــات إل ــى مص ــدر لإلزع ــاج‬ ‫وحتـــى الســـخرية مـــن فـــرط إغراقهـــا‬ ‫فـــي الميلودرامـــا‪ ،‬وكيـــف أن أفـــكارًا‬ ‫بســـيطة ومبتكـــرة وغيـــر مكلفـــة علـــى‬ ‫مواقـــع التواصـــل االجتماعـــي صـــارت‬ ‫قـــادرة علـــى صنـــع مـــا ال تســـتطيع‬ ‫اآللـــة اإلعالميـــة التقليديـــة صناعتـــه؟!‬


‫بين الضفتين‬

‫إيزابيلال كاميرا‬

‫وداع ًا للكلمات‬

‫عندمـــا التحقنـــا ونحـــن صغـــار بالمدرســـة علّمونـــا أن‬ ‫حـــروف الكتابـــة األولـــى‪ ،‬الهيروغليفيـــة أو األبجديـــة أو‬ ‫ســـجلت مـــرور‬ ‫الرســـوم الدالـــة علـــى حـــروف‪ ،‬هـــي التـــي‬ ‫ّ‬ ‫ـور البش ــري‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫التط‬ ‫اإلنس ــانية م ــن العص ــر البدائ ــي إل ــى عملي ــة‬ ‫ُّ‬ ‫وهك ــذا انتهين ــا م ــن حف ــر أو كتاب ــة رم ــوز أو رس ــومات عل ــى‬ ‫الحجـــر‪ ،‬لنمضـــي نحـــو الكتابـــة ونهـــدي للتـــراث اإلنســـاني‬ ‫األعمـــال الكبـــرى التـــي نعرفهـــا جميعـــاً‪ .‬ولكـــن يكفـــي اليـــوم‬ ‫أن ننظـــر إلـــى شـــاب يكتـــب رســـالة علـــى مواقـــع التواصـــل‬ ‫التراس ــل الفوري ــة لك ــي ن ــدرك أنن ــا‬ ‫االجتماع ــي وعل ــى نظ ــم‬ ‫ُّ‬ ‫نع ــود إل ــى الرم ــوز للتعبي ــر ع ــن المواق ــف‪ ،‬وربم ــا أيضــ ًا ع ــن‬ ‫المشـــاعر واألحاســـيس‪ .‬وهكـــذا أيضـــ ًا فإننـــا عندمـــا نريـــد أن‬ ‫نقـــول «أوكيـــه» وهـــو التعبيـــر األميركـــي الـــذي ســـاد العالـــم‬ ‫كل ــه‪ ،‬فإنن ــا نكتف ــي بإرس ــال رم ــز لك ــف ي ــد مضموم ــة ترف ــع‬ ‫إبهامهـــا ألعلـــى‪ .‬حتـــى عندمـــا تكـــون رافضـــ ًا أو غاضبـــاً‪،‬‬ ‫أو ُمندهشـــاً‪ ،‬أو قلقـــاً‪ ،‬أو ُمرتابـــاً‪ ،‬أو ُمعذبـــ ًا أو فرحـــاً‪ ،‬أو‬ ‫ُمنزعجـــ ًا أو يائســـاً‪ ،‬أو تشـــع بالســـعادة‪ ،‬فلـــم تعـــد تحتـــاج‬ ‫إل ــى التعبي ــر ع ــن ذل ــك بعب ــارة أو بكلم ــة أو بص ــورة مجازي ــة‬ ‫بليغـــة جميلـــة‪ ،‬وإنمـــا بواســـطة واحـــد مـــن تلـــك الوجـــوه‬ ‫الت ــي تس ــمى «‪ ،»emoticon‬الت ــي تس ــتطيع أن تختاره ــا م ــن‬ ‫بي ــن مجموع ــات واس ــعة س ــابقة التجهي ــز تب ــدع ف ــي اختراعه ــا‬ ‫بع ــض المواق ــع المخصص ــة لذل ــك‪ ،‬بعضه ــا مجانــاً‪ ،‬وبعضه ــا‬ ‫اآلخـــر مقابـــل نفقـــات غيـــر باهظـــة‪ .‬يكفـــي أن تنقـــر فـــوق‬ ‫إح ــدى ه ــذه الص ــور حت ــى يت ــم بثه ــا إل ــى وجهته ــا المنش ــودة‪.‬‬ ‫يصبـــح األمـــر أســـوأ عندمـــا يظهـــر أحـــد تلـــك الوجـــوه‬ ‫المرس ــومة عل ــى واجه ــة مس ــتخدم لموق ــع تواص ــل اجتماع ــي‪،‬‬ ‫حي ــث ي ــراه الن ــاس كله ــم‪ ،‬ويع ــرف القاص ــي والدان ــي الحال ــة‬ ‫الش ــعورية للمس ــتخدم‪ ،‬حت ــى أولئ ــك الذي ــن ال يهمه ــم األم ــر‪.‬‬

‫حتـــى غيـــر المتمرســـين فـــي التكنولوجيـــا يســـتطيعون‬ ‫االكتفـــاء باســـتخدام رمـــوز قليلـــة للتعبيـــر عـــن مشـــاعرهم‪،‬‬ ‫تتكـّـون مــن قوســين ونقطتيــن‪ ،‬والمنــاورة بهمــا للتعبيــر عــن‬ ‫االبتســـام أو االنزعـــاج وخالفـــه‪.‬‬ ‫ولـــو كان الشـــخص ال يريـــد أن يتكلـــم أو يســـمع أو يـــرى‬ ‫فإنن ــي ال أفه ــم لم ــاذا ب ــد ًال م ــن أن يك ــف ع ــن الكتاب ــة يرس ــل‬ ‫إل ــى كل أصق ــاع األرض بثالث ــة وج ــوه لق ــردة تغل ــق أعينه ــا‬ ‫وأفواههـــا وآذانهـــا بأيديهـــا‪.‬‬ ‫وعلي ــه يص ــح لن ــا أن نس ــأل عم ــا يح ــدث اآلن‪ .‬ه ــل نح ــن‬ ‫تطـــور جديـــدة حقـــ ًا أم أننـــا ال نعيـــش‬ ‫فـــي مواجهـــة مرحلـــة‬ ‫ُّ‬ ‫مرحلـــة تطـــور‪ ،‬وإنمـــا تدهـــور وإفقـــار بطـــيء وعنيـــد فـــي‬ ‫اللغ ــة؟ ف ــإذا واصلن ــا التس ــاؤل ف ــي ه ــذا االتج ــاه يص ــح لن ــا‬ ‫أيض ـ ًا أن نس ــأل عم ــا إذا كان ه ــذا الجي ــل «االجتماع ــي» س ــوف‬ ‫يهــدي إلينــا شــعراء مثــل نيــرودا أو ناظــم حكمــت أو مونتالــي‬ ‫أو محم ــود دروي ــش؟ كي ــف س ــوف يس ــتطيع المؤلف ــون الج ــدد‬ ‫يعب ــروا ع ــن أنفس ــهم وق ــد ُحِر ُم ــوا م ــن أدق ط ــرق التعبي ــر‬ ‫أن ّ‬ ‫اللغــوي عــن أخــص خصوصياتهــم؟ هــل ســوف يكــون شــعراء‬ ‫المســتقبل ضحايــا غيــر واعيــن لطــرق التمثيــل الرمــزي الرقمــي‬ ‫الحديــث؟ ومــاذا عــن األدب؟ كيــف ســيكون دور المترجميــن فــي‬ ‫هـــذا المشـــهد اللغـــوي الجديـــد؟ فهـــذه األيقونجرافيـــا عالميـــة‪،‬‬ ‫وال تحت ــاج إل ــى ف ــك ش ــفرتها الداللي ــة‪ .‬ق ــد يب ــدو ه ــذا بمثاب ــة‬ ‫ميــزة وحيــدة‪ .‬ولكــن نحــن‪ ،‬وهــذا هــو الســؤال األكثــر إيالم ـاً‪،‬‬ ‫ـوث ســوف‬ ‫هــل ســنكون قادريــن علــى الكتابــة؟ أم أن هــذا التلـ ُّ‬ ‫يكتســـح مـــا يعتـــرض طريقـــه‪ ،‬حتـــى فـــي أوســـاط غيـــر‬ ‫ش ــبابية؟‬ ‫‪)..........‬‬ ‫وي! ال أستطيع أن أجيب‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫قضية‬

‫‪18‬‬


‫جـامــعــة‬

‫خلف القضبان‬ ‫هذا الشهر يعود الطلبة إلى مقاعد الجامعة‪،‬‬ ‫فما جديد الموسم ‪2015/2014‬؟‪ ..‬مبدئي ًا ال‬ ‫بشائر تغيير في األفق‪ ،‬فالجامعات العربية‬ ‫تفكر‪ ،‬على األقل في الوقت‬ ‫الروتين نفسه‪ ،‬وال ّ‬ ‫استقرت على ّ‬ ‫ّ‬

‫الراهن‪ ،‬في إعادة النظر في مناهجها وهياكلها التي خذلتها‬ ‫ّ‬

‫طويالً‪ ،‬وجعلت منها جامعات تتأرجح في ذيــل ترتيب‬ ‫العالمية‪ .‬الوضع ليس مهي ًأ للتفاؤل بجامعات‬ ‫الجامعات‬ ‫ّ‬

‫دولية‪ ،‬فبين تراجع المستوى األكاديمي‬ ‫عربية بمقاسات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتسييس اإلدارة‪ ،‬يجد الطالب واألستاذ نفسيهما الحلقة‬ ‫ّ‬ ‫فر َغ ْت من محتواها‪ ..‬ما هي أسباب‬ ‫علمية ُأ ِ‬ ‫األضعف في قالع ّ‬ ‫الوضع الحالي؟ وكيف الخروج منه؟ أسئلة تحاول «الدوحة»‬ ‫لعل الجامعات العربية تستفيق من سباتها‪،‬‬ ‫مالمستها ّ‬ ‫وتنتفض كما انتفض الشارع قبلها‪ ،‬وتعود إلى لعب دورها‬

‫العالية‪.‬‬ ‫داخل وخارج أسوارها‬ ‫ّ‬

‫‪19‬‬


‫هل باإلمكان مقاربة سؤال الجامعي في عالقته بالمجتمع دون‬ ‫العاجية‬ ‫أن األبراج‬ ‫ثم هــل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن نطــرح صلــة الجامعة بمحيطها؟ ّ‬ ‫حقيقية‬ ‫«الطينيــة»‪ ،‬التــي كان يحتمــي بهــا الجامعــي ما تــزال قالعــ ًا‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مجرد‬ ‫لمبــدأ المباعدة بين‬ ‫كاريزمية الجامعي وصــورة المجتمع؟ وهل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫متغيرات الّتعليم العالي أي في طور ما بعد‬ ‫الســؤال في ِظّل ّ‬ ‫اســتعادة هذا ّ‬ ‫العربية ما‬ ‫بأن النّخبة‬ ‫غربي ًا هو نوع من اإلقرار ّ‬ ‫ّ‬ ‫صناعــي وما بعد حداثــي ّ‬ ‫تــزال ُملتحفة بالمباينة التي رفعها الفكر العربي القروســطي بين الثقافة‬ ‫مسك بمفهوم للمعرفة‬ ‫العالمة وبين ثقافة العوام‪ .‬وهو شكل من أشكال الّت ّ‬ ‫يرى في العلم من «المظنون به على غير أهله»؟‪.‬‬

‫د‪ .‬نزار شقرون‬

‫الصورة التّقليديّة‬ ‫انهيار ّ‬ ‫إن ضجيـــج المجتمـــع‪ :‬مـــا يحـــدث‬ ‫ّ‬ ‫يوميـ ًا مــن أســئلة تعنــى بمشــاكل شــرائح‬ ‫ّ‬ ‫ـأي حــال‬ ‫واســعة مــن الجماهيــر ال يمكــن بـ ّ‬ ‫أن يبقـــى بعيـــدًا عـــن دائـــرة اإلنصـــات‪.‬‬ ‫وهــو إنصــات ال يشــمل الّدائــرة السياسـّـية‬ ‫فحس ــب‪ ،‬ب ــل يس ــتهدف‪ ،‬وبش ــكل عمي ــق‪،‬‬ ‫المجــال الجامعــي الــذي بقــي طيلــة حقــب‬ ‫ـلبي ًا علــى وجــود صلــة‬ ‫عديــدة ّ‬ ‫مؤشــرًا سـ ّ‬ ‫ممكن ــة بين ــه وبي ــن المحي ــط االجتماع ــي‬ ‫واالقتصـــادي والثقافـــي فـــي الخارطـــة‬ ‫عامـــة‪ .‬ألـــم ينتقـــد الباحـــث‬ ‫ّ‬ ‫العربيـــة ّ‬ ‫الجامعيـــة فـــي‬ ‫ـــة‬ ‫المؤسس‬ ‫عبـــده‬ ‫ســـمير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهـــم‬ ‫الوطـــن العربـــي بقولـــه‪« :‬مـــن‬ ‫ّ‬ ‫مظاه ــر الّتخّل ــف ف ــي الوط ــن العرب ــي ه ــو‬ ‫نســـميها‬ ‫المؤسســـة التـــي‬ ‫تخلّـــف هـــذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجامعـــة‪ ،‬فليـــس هنـــاك مـــن المحيـــط‬ ‫إلـــى الخليـــج جامعـــة واحـــدة بالمفهـــوم‬ ‫إن مـــا نســـميه‬ ‫الحديـــث للجامعـــة‪ّ .‬‬ ‫بالجامعـــات ليـــس إ ّال مـــدار الّتعليـــم‬ ‫العالـــي يكـــون فيهـــا الّتعليـــم بواســـطة‬ ‫الّتلقيـــن والّتبشـــير والوعـــظ ودراســـة‬ ‫الكالســـيكية فقـــد أفـــرزت هـــده‬ ‫الكتـــب‬ ‫ّ‬ ‫تتمكــن مــن‬ ‫الجامعــات قيــادات هزيلــة لــم ّ‬ ‫‪20‬‬

‫العلمي ــة ‪ ،‬ه ــذه الّث ــورة‬ ‫القي ــام بالّث ــورة‬ ‫ّ‬ ‫ضروري ــة النتش ــال اإلنس ــان العرب ــي م ــن‬ ‫ّ‬ ‫كه ــوف األس ــطورة إل ــى المعرف ــة»‪ .‬لك ــن‬ ‫ه ــذا ال ـّـرأي المس ــتنفر للواق ــع الجامع ــي‪،‬‬ ‫وكأنّهـــا ســـياج حديـــدي ماورائـــي فـــي‬ ‫المؤسس ــة ُمش ـ ّـكلة م ــن إس ــهام‬ ‫أن‬ ‫حي ــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن للجامعــي ال ـّدور‬ ‫الجامعــي أساس ـاً‪ ،‬إذ ّ‬ ‫مقـــررات الّدراســـة‬ ‫األبـــرز فـــي تحديـــد‬ ‫ّ‬ ‫صـــورات‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫بلـــورة‬ ‫ومحتوياتهـــا وفـــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الســـتراتيجيات النقـــات‬ ‫العامـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمليـــات اإلصـــاح‬ ‫والمنعطفـــات فـــي ّ‬ ‫أو المراجعـــة ألنظمـــة الّتعليـــم العالـــي‬ ‫ـإن المــأزق العميــق الــذي‬ ‫العربيــة‪ .‬لهــذا فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتخبـــط فيـــه الّتعليـــم العالـــي العربـــي‬ ‫ّ‬ ‫الجامعيـــة‬ ‫ّهنيـــة‬ ‫ّ‬ ‫يعـــود إلـــى طبيعـــة الذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن للسياســـي‬ ‫الســـائدة‪ ،‬فـــا‬ ‫شـــك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـتراتيجيات‬ ‫ـ‬ ‫االس‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫وض‬ ‫ـي‬ ‫العربــي دوره فـ‬ ‫ّ‬ ‫المجالي ــة‬ ‫العام ــة دون إغف ــال للمؤّث ــرات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي ــة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫جرب‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫تقري‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المحايث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالميـــة‪ ،‬ولكـــن ذلـــك ال‬ ‫مـــن الّتجربـــة‬ ‫ّ‬ ‫ينفـــي الـــّدور الممكـــن للجامعـــي‪.‬‬ ‫إن م ــآزق المجتم ــع‪ :‬بطال ــة أصح ــاب‬ ‫ّ‬ ‫المؤسســـة‬ ‫الشـــهادات العليـــا‪ ،‬هشاشـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫للعقليـــة‬ ‫االقتصاديـــة‪ ،‬انتشـــار واســـع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل ذل ــك م ــن بي ــن الّتحّدي ــات‬ ‫الخرافي ــة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الت ــي م ــن المفت ــرض أن تك ــون ف ــي ســلّم‬ ‫أولويـــات الجامعـــي‪ .‬ولقـــد أصبحـــت‬ ‫ّ‬ ‫الواقعي ــة تحّت ــم عل ــى الجامع ــي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫البداه‬ ‫ّ‬ ‫أن الواقـــع هـــو‬ ‫االنتبـــاه الّدقيـــق إلـــى ّ‬ ‫مـــا يجـــب الّتفكيـــر فيـــه‪ ،‬فـــا يعقـــل أن‬ ‫تبقـــى مخابـــر البحـــث العلمـــي معزولـــة‬ ‫الصناعيـــة‬ ‫عـــن احتياجـــات المؤسســـة‬ ‫ّ‬ ‫تظـــل‬ ‫واالقتصاديـــة وال يعقـــل أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الميـــة ومقاســـ ًا‬ ‫محتويـــات الّدراســـة ُه ّ‬ ‫لـــكل مجتمـــع‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫عامـــاً‪ ،‬فـــي حيـــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقاســـات‪ ،،‬كمـــا مـــن غيـــر المعقـــول أن‬ ‫اإلنســـانية علومـــ ًا منبّتـــة‬ ‫تبقـــى العلـــوم‬ ‫ّ‬ ‫عـــن ســـياقها العربـــي المعاصـــر وعـــن‬ ‫أســـئلة الواقـــع‪.‬‬ ‫أن الجامعــة‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫البع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ظ‬ ‫ّ‬ ‫لقــد كان فــي ّ‬ ‫للعامــة‬ ‫قلعــة حصينــة ال تلقــي بمعرفتهــا ّ‬ ‫إ ّال ف ــي ش ــكل الفت ــات‪ .‬لك ــن ه ــذه النّظ ــرة‬ ‫الضيقـــة والتـــي تعيـــد إلـــى األذهـــان‬ ‫ّ‬ ‫مفهومــ ًا باليــ ًا للمعرف ــة ق ــد زال ــت ب ــزوال‬ ‫فكـــر مـــا بعـــد الحداثـــة‪ .‬ولكـــن هـــل زال‬ ‫فعـــا عـــن مجتمعنـــا‪ ،‬ذاك‬ ‫هـــذا الفكـــر‬ ‫ً‬


‫م ــا يجع ــل م ــن نم ــط المعرف ــة نمطــ ًا م ــا‬ ‫حداثـــي‪ .‬علـــى الجامعـــة اليـــوم أن‬ ‫قبـــل‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي ــة‬ ‫ـرات‬ ‫ـ‬ ‫المتغي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫فه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـعى‬ ‫تس ـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالقتصاديـــة وأن تعمـــل علـــى‬ ‫ّ‬ ‫اس ــتيعابها والتفكي ــر ف ــي أس ــئلة التقــّدم‬ ‫م ــن جدي ــد ب ــدل أن تتقوق ــع ف ــي المفه ــوم‬ ‫أن‬ ‫األكاديمـــي الّتقليـــدي‪ ،‬ومـــن الغريـــب ّ‬ ‫حركـــة اإلنصـــات إلـــى المجتمـــع بـــدأت‬ ‫تزح ــف ف ــي قطاع ــات العل ــوم م ــن خ ــال‬ ‫الســـنوات‬ ‫إحـــداث شـــعب ُممهننـــة فـــي ّ‬ ‫األخيـــرة ومـــن خـــال إحـــكام الّتواصـــل‬ ‫الجامعييـــن‪ -‬الباحثيـــن وبيـــن‬ ‫بيـــن‬ ‫ّ‬ ‫ولكـــن حركـــة اإلنصـــات‬ ‫المســـتثمرين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـلحفاتية الخط ــو ف ــي قطاع ــات‬ ‫بقي ــت س ـ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنســـانية‪.‬‬ ‫اآلداب والعلـــوم‬ ‫ّ‬ ‫أن الفصـــل‬ ‫إلـــى‬ ‫الغـــرب‬ ‫تفطـــن‬ ‫لقـــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الموجـــود منـــذ مئـــات الســـنين «بيـــن‬ ‫و«المهنيـــة» لـــم يعـــد‬ ‫الفنـــون» واآلداب‬ ‫ّ‬ ‫عالميـــ ًا وأضحـــى الّتفكيـــر فـــي‬ ‫معيـــارًا‬ ‫ّ‬ ‫عوائ ــد الّتعلي ــم العال ــي عل ــى االس ــتثمار‬ ‫ّ‬ ‫المحـــك األساســـي إلحـــداث‬ ‫هـــو‬ ‫المتغي ــرات وع ــرض البرام ــج‪ .‬وال نغال ــي‬ ‫ّ‬ ‫أن اســـتتباعات الّتجـــارب‬ ‫حيـــن نعتبـــر ّ‬ ‫الغربيـــة مؤثّـــرة فـــي نظامنـــا الّتعليمـــي‬ ‫ّ‬ ‫بحكـــم االنخـــراط الوطنـــي فـــي مســـار‬ ‫العالميـــة‪،‬‬ ‫عليميـــة‬ ‫ّ‬ ‫توحيـــد المنظومـــة الّت ّ‬ ‫وجهـــات‬ ‫ت‬ ‫لل‬ ‫مســـايرة‬ ‫أدى إلـــى‬ ‫ّ‬ ‫وهـــو مـــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫نســـميه بـ«العولمـــة‬ ‫العالميـــة نحـــو مـــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإليجابيـــة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الجامعـــي الـــذي يعتبـــر المجتمـــع‬ ‫ّ‬ ‫أولويـــات البحـــث والّتفكيـــر‬ ‫مـــن‬ ‫ا‬ ‫جـــزء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتخطـــى هـــذا القيـــد‬ ‫واإلبـــداع هـــو الـــذي‬ ‫ّ‬ ‫الصـــوري الـــذي جعـــل الجامعـــة فـــي‬ ‫ّ‬ ‫ّوريـــا مـــن‬ ‫الالّشـــعور الجمعـــي فضـــاء بل ّ‬ ‫زج ــه ف ــي مع ــارك‬ ‫الكريس ــتال‪ ،‬ال ينبغ ــي ّ‬ ‫مدعـــو إلـــى‬ ‫فالجامعـــي‬ ‫المجتمع‪.‬لهـــذا‬ ‫ّ‬ ‫المتغيـــرات ‪ ،‬فـــا معنـــى للبحـــث‬ ‫قبـــول‬ ‫ّ‬ ‫دراســـية ترهـــن‬ ‫رات‬ ‫ولمقـــر‬ ‫العلمـــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البشـــرية فـــي مخبـــر أو كتـــاب‬ ‫الكفـــاءة‬ ‫ّ‬ ‫دون أن تكـــون نتائجهـــا مؤثّـــرة فـــي‬ ‫مجتمعهـــا‪.‬‬ ‫لكـــن هـــذا المنشـــود الـــذي يتبلـــور‬ ‫الضغـــط الواقعـــي والّدولـــي‬ ‫بفضـــل ّ‬ ‫بعقليـــة الجامعـــي ذاتـــه‪.‬‬ ‫يظـــل مرتهنـــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن شـــريحة كبيـــرة مطالبـــة بـــأن تعيـــد‬ ‫ّ‬ ‫الّتفكيـــر فيمـــا يحـــدث خـــارج جـــدران‬

‫نهائيـــ ًا‬ ‫الجامعـــة ّ‬ ‫ألن هـــذا الواقـــع تســـلّل ّ‬ ‫إلـــى الجامعـــة دون أن يطلـــب إذنـــ ًا‬ ‫«برجعاجي ــة» الجامع ــي‬ ‫أن‬ ‫للّدخ ــول‪ .‬كم ــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكالس ــيكي مآله ــا االنهي ــار مثلم ــا تنه ــار‬ ‫ّاتيـــة‬ ‫القصائـــد‬ ‫الهالميـــة الغامضـــة والذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫المفرطـــة والمســـتبّدة فـــي القصيـــدة‬ ‫وإن اإلبقـــاء علـــى المنظـــور‬ ‫المســـتقبلية ّ‬ ‫ّ‬ ‫األح ــادي لألش ــياء والذّاتان ــي م ــن ش ــأنه‬ ‫أن يجع ــل م ــن اإلنس ــان العرب ــي مس ــتلب ًا‬ ‫أكث ــر ف ــا حاج ــة لن ــا الي ــوم تح ــت وق ــع‬ ‫نتوهـــم العيـــش فـــي‬ ‫زحـــف الواقـــع أن ّ‬ ‫مجرتنـــا‪.‬‬ ‫مجـــرة غيـــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولكـــن هـــل يعنـــي هـــذا الّتشـــخيص‬ ‫اإلقــرار بأنّنــا نمـّـر اليــوم مــن اإلنتلجنســيا‬ ‫المهنيـــة»‬ ‫الفكريـــة إلـــى «اإلنتلجنســـيا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فنصـــور إلفـــراغ الجامعـــة مـــن دورهـــا‬ ‫ّ‬ ‫الّتقلي ــدي ف ــي بل ــورة تص ـ ّـورات المجتم ــع‬ ‫المســـتقبلية؟‬ ‫وتشـــخيص إمكاناتـــه‬ ‫ّ‬ ‫مبســـط هـــل ننـــادي بـــدور‬ ‫وبتعبيـــر ّ‬ ‫تكنوقراطـــي للجامعـــة فحســـب؟‬ ‫إن اإلس ــراع إل ــى تأكي ــد ه ــذا المنح ــى‬ ‫ّ‬ ‫أقـــره‬ ‫فيمـــا‬ ‫مباشـــرة‬ ‫نســـقط‬ ‫يجعلنـــا‬ ‫ّ‬ ‫بيـــن أنّـــه «فـــي المجتمـــع‬ ‫«مولـــر» حيـــن ّ‬ ‫ـروعية‬ ‫الصناعــي المتقـّدم تحـّـل محـّـل المشـ ّ‬ ‫مشـــروعية‬ ‫القانونيـــة – العقالنيـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي اهتمـــام‬ ‫تكنوقراطيـــة ال تولـــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لمعتقـــدات المواطـــن أو لألخـــاق فـــي‬ ‫ذاته ــا»‪ .‬وه ــو م ــا يفي ــد معن ــى غطرس ــة‬ ‫عقالنيــة الحداثــة‪.‬‬ ‫األدائيــة مقابــل تراجــع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـأن الجامع ــة ه ــي‬ ‫ـ‬ ‫فف ــي س ــياق الوع ــي ب ّ‬ ‫نســـق فرعـــي مـــن النّســـق االجتماعـــي‬ ‫األدائيـــة‬ ‫قـــد يخشـــى االنـــزالق فـــي هـــذه‬ ‫ّ‬ ‫الخلفيــات‬ ‫تامــا‬ ‫المشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـطة التــي تنفــي نفيــا ّ‬

‫الطالئع ــي‬ ‫المعرفي ــة وتس ــكت ع ــن الــّدور ّ‬ ‫ّ‬ ‫للجامعـــة‪ .‬وهـــو دور ثابـــت وتقليـــدي‬ ‫جوهري ــة‬ ‫كآلي ــة‬ ‫ّ‬ ‫بمعن ــى حض ــوره الّدائ ــم ّ‬ ‫فـــي الكيـــان الجامعـــي‪.‬‬ ‫األدائي ــة مس ــاهمة‬ ‫يف ــرز س ــيادة مب ــدأ‬ ‫ّ‬ ‫أوال فـــي الّتعامـــل‬ ‫الّتعليـــم العالـــي ّ‬ ‫العالميـــة بتنويـــع‬ ‫مـــع المنافســـة‬ ‫ّ‬ ‫االختصاصـــات حّتـــى تســـتطيع الّدولـــة‬ ‫وليــة‪.‬‬ ‫الســوق الّد ّ‬ ‫ّ‬ ‫القوميــة أن تنخــرط فــي ّ‬ ‫وثانيـــ ًا فـــي إمـــداد المجتمـــع بالخبـــرات‬ ‫تلبـــي احتياجاتـــه‪.‬‬ ‫والمهـــارات التـــي ّ‬ ‫لألدائيـــة اقتصـــار‬ ‫ويفيـــد هـــذا الّتعريـــف‬ ‫ّ‬ ‫عمليـــة إمـــداد تنمـــوي‬ ‫الجامعـــة علـــى ّ‬ ‫فعـــال‬ ‫أمـــر‬ ‫وهـــو‬ ‫متواصـــل للمجتمـــع‬ ‫ّ‬ ‫الشـــطط‬ ‫أن ّ‬ ‫وعقالنـــي أيضـــ ًا غيـــر ّ‬ ‫يـــؤدي إلـــى اللّبـــس‬ ‫فـــي إمالءاتـــه قـــد‬ ‫ّ‬ ‫أن الجامعـــة لـــن تلعـــب‬ ‫اآلتـــي وهـــو ّ‬ ‫الســـابق فـــي إنتـــاج مثـــل عليـــا‬ ‫دورهـــا ّ‬ ‫وهـــو للبـــس خطيـــر‪ .‬فقـــد ينظـــر إلـــى‬ ‫«الصـــورة‬ ‫الســـير الحثيـــث نحـــو تغييـــر ّ‬ ‫قليدي ــة» للجامع ــي‪ ،‬ف ــي ظاه ــر األم ــر‪،‬‬ ‫الّت ّ‬ ‫بمثاب ــة انتكاس ــة المث ــل العلي ــا‪ .‬وه ــو م ــا‬ ‫لتوجه ــات‬ ‫ينت ــج عمليــ ًا «ثقاف ــة مض ـ ّ‬ ‫ـادة» ّ‬ ‫ـإن الّتفكي ــر ف ــي تأهي ــل‬ ‫تأهيلي ــة‪ ،‬له ــذا ف ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـانيات‬ ‫ـ‬ ‫واإلنس‬ ‫واآلداب‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫الفن‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫تخص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـروري‬ ‫يمّث ــل رهانــ ًا متش ـ ّـعباً‪ ،‬إ ّال أّن ــه ض ـ ّ‬ ‫وعاجـــل أيضـــا‪ .‬ومـــن البديهـــي أن يثيـــر‬ ‫ه ــذا الّتفكي ــر اّتجاهــ ًا ثالثــ ًا ف ــي الّتعام ــل‬ ‫ـانيات‬ ‫م ــع اختصاص ــات الفن ــون واإلنس ـ ّ‬ ‫حركيــة‬ ‫برمتــه فــي‬ ‫ّ‬ ‫حّتــى يندمــج القط ــاع ّ‬ ‫المجتم ــع دون أن يتخّل ــى الجامع ــي ع ــن‬ ‫دوره األصلـــي فـــي إنتـــاج القيـــم رغـــم‬ ‫كنوقراطيـــة‪.‬‬ ‫فخـــاخ الّت‬ ‫ّ‬ ‫‪21‬‬


‫يعــود ُعمــر التعليم الجامعي في ســورية إلى ما قبل تأســيس‬

‫تأسســت المدرســة الطبية عام‬ ‫الدولــة الســورية الحالية‪ ،‬فقد ّ‬

‫تتأســس‬ ‫‪ ،1903‬ومدرســة الحقــوق عام ‪ 1913‬فــي العهد العثماني‪ ،‬ولم ّ‬

‫الجامعة الســورية حتى عــام ‪ 1923‬بعد االنتداب الفرنســي‪ ،‬وذلك بدمج‬

‫عبد القادر عبد اليل‬

‫تحولــت الجامعــة الســورية إلــى جامعة دمشــق فيمــا بعد‪،‬‬ ‫المدرســتين‪ّ .‬‬ ‫المطرد‬ ‫وتوسعت لتشمل فروع العلوم البحتة واإلنسانية كلها‪ ،‬ومع النمو ّ‬ ‫ّ‬

‫لــم يعد باإلمكان اســتيعاب الطالب‪ ،‬فتأسســت جامعة حلــب عام ‪،1958‬‬ ‫وكانت نواتها كلية الهندسة التي تتبع الجامعة السورية مع كلية زراعة‪،‬‬ ‫تطورت بســرعة في أواخر الســتينيات لتضم عددًا كبيــرًا من الكليات‬ ‫ثــم ّ‬ ‫والمعاهد‪.‬‬

‫من الريادة إلى االنهيار‬ ‫مع االنفجار التعليمي الذي شهدته‬ ‫سورية إبان حرب ‪ ،1973‬كان البد من‬ ‫تأسيس جامعات جديدة وافتتاح كليات‬ ‫أخرى‪ ،‬فكانت جامعة الالذقية (تشرين)‪،‬‬ ‫ثم تلتها جامعة حمص (البعث)‪ ،‬وهناك‬ ‫فــروع لهذه الجامعات األربـــع تغطي‬ ‫المحافظات كافة‪.‬‬ ‫التوسع األفقي الحاجة‬ ‫لب هذا‬ ‫لم ُي ِ‬ ‫ّ‬ ‫الــمــتــنــامــيــة‪ ،‬فــصــدر مــرســوم افتتاح‬ ‫الجامعات الخاصة‪ ،‬فهل حققت المرجو‬ ‫منها؟‬

‫ريادة الجامعة السورية‬ ‫‪ /‬جامعة دمشق‬ ‫لم تكن جامعة دمشق الرائدة عربي ًا‬ ‫على صعيد التأسيس فقط‪ ،‬بل حقّقت‬ ‫الــريــادة باعتمادها التدريس باللغة‬ ‫عرب‬ ‫العربية أيضاً‪ ،‬وكانت أول من ّ‬ ‫المناهج‪ .‬لقد كانت منبرًا علمي ًا استقطب‬ ‫كثيرًا من الطالب العرب من مختلف‬ ‫‪22‬‬

‫األقطار‪ ،‬ومن خالل الجو الديموقراطي‬ ‫الـــذي س ــاد فــتــرة خمسينيات الــقــرن‬ ‫العشرين سجلت ريادة أخرى بانخراطها‬ ‫في العمل العام‪ ،‬فمع كونها منبرًا علمي ًا‬ ‫مهماً‪ ،‬كانت رائدة في العمل السياسي‪،‬‬ ‫وتحولت إلى أحد مراكز القوى السياسية‬ ‫الفاعلة في سورية‪ ،‬وبوصلة للكثير من‬ ‫التيارات السياسية العربية‪.‬‬ ‫كان المستوى العلمي الذي تتمتع به‬ ‫جامعة دمشق يجعلها نموذج ًا يحتذى‬ ‫به‪ ،‬وقد وقف على منابر التدريس فيها‬ ‫علماء اشتهروا كثيراً‪ ،‬ال يتسع المجال‬ ‫لتعداد أسمائهم‪ .‬وبقي هذا المستوى‬ ‫العلمي محافظ ًا على حد معين على‬ ‫الصعيدين العلمي والتربوي إلى أواسط‬ ‫السبعينيات‪.‬‬ ‫خـّـرجــت جامعة دمــشــق خــال هذه‬ ‫الفترة أعدادًا كبيرة من الكوادر العلمية‬ ‫التي ساهمت بتأسيس شقيقاتها في‬ ‫ســوريــة‪ ،‬وســاهــم بعضها بتأسيس‬ ‫كثير من الجامعات العربية أو التحقت‬ ‫بكوادر تلك الجامعات بعد التأسيس من‬

‫خريجين عرب وسوريين‪.‬‬ ‫الجمود والعيش على سمعة الماضي‬ ‫شهد التعليم الجامعي توسع ًا أفقي ًا‬ ‫كبيرًا جــدًا في ستينيات وسبعينيات‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬بالتوازي مع التوسع‬ ‫التعليمي لما قبل الجامعة الذي حدث في‬ ‫الفترة نفسها‪.‬‬ ‫الطريف باألمر أن الكتب التربوية‬ ‫المعتمدة في كلية التربية في جامعة‬ ‫تـــدرس اإلجــــراءات التي يجب‬ ‫دمشق ّ‬ ‫اتخاذها في حال االنفجار التعليمي من‬ ‫أجل التقليل من تأثيراته السلبية‪ ،‬ولكن‬ ‫شيئ ًا على أرض الواقع لم يحدث‪ ،‬وهذه‬ ‫كانت بداية اتساع الهوة بين الكتاب (أو‬ ‫المنهج بشكل عام) والواقع‪ ،‬ولكن على‬ ‫الرغم من هذه المشاكل المستعصية بقي‬ ‫التعليم الجامعي في سورية يعيش على‬ ‫سمعة حققها من إنجازات ماضية‪.‬‬

‫بداية االنهيار‬ ‫شكلت أواسط السبعينيات منعطف ًا‬


‫حـــادًا فــي الــحــيــاة الــســوريــة عموماً‪،‬‬ ‫والحياة الجامعية خصوصاً‪ ،‬حيث‬ ‫بدأت طالئع الكوادر الموفدة إلى االتحاد‬ ‫السوفياتي والمعسكر الشرقي بالقدوم‬ ‫إلى الجامعات لتشغل مكانها‪ ،‬والزال‬ ‫جيلنا الذي كان على مقاعد الجامعات‬ ‫في تلك الفترة يذكر كثيرًا من الطرائف‬ ‫عن المفارقات التي عاشها‪ .‬من نتائج‬ ‫االنفجار التعليمي األعــداد الكبيرة جدًا‬ ‫في قاعات الــدروس النظرية إذ وصل‬ ‫مجموع الطالب الذين من المفروض أن‬ ‫يحضروا محاضرة في كلية العلوم عام‬ ‫‪ 1977‬إلى مئتي طالب‪ .‬يصل هذا العدد‬ ‫إلــى ثالثمئة إذا كــان الــمــدرس خريج‬ ‫جامعة فرنسية أو إنجليزية والمدرس‬ ‫الذي يدرس المادة نفسها في المجموعة‬ ‫األخرى للمستوى نفسه قادم ًا من إحدى‬ ‫جامعات الصداقة السوفياتية‪.‬‬

‫لم يكن التخبط على صعيد المدرسين‬ ‫فقط‪ ،‬بل امتد إلى المناهج‪ ،‬وهنا يمكن‬ ‫أن نــدرج أمثلة بسيطة تعطي فكرة‬ ‫وافية عن هذا التخبط‪ .‬يعرف أحد كتب‬ ‫كلية التربية ديموقراطية التعليم «بأنها‬ ‫مجانية التعليم» ويستفيض بالشرح‬ ‫كيف أن الدولة تدرس الطالب في أطوار‬ ‫ما قبل الجامعة مجاناً‪ ،‬وتتقاضى منهم‬ ‫رسوم ًا رمزية في الجامعة‪ ،‬وبهذا تثبت‬ ‫بأن سورية من أكثر دول العالم تطبيق ًا‬ ‫لديموقراطية التعليم‪ .‬ولكن في كتب‬ ‫المرحلة السابقة والتي مازالت تعتمد‬ ‫في بعض المعاهد منها كتاب معهد إعداد‬ ‫المدرسين‪ ،‬يعرف ديموقراطية التعليم‬ ‫«بأنها اشتراك المعنيين جميع ًا بإعداد‬ ‫المناهج التعليمية» ويشرح «المعنيين»‬ ‫بأنهم القوى المجتمعية كلها بمن في‬ ‫ذلــك الــطــاب أنفسهم لتلبية التعليم‬

‫لحاجة المجتمع‪ .‬لو أردنــا أن نقيس‬ ‫الواقع التعليمي وفق هذا التعريف لظهر‬ ‫أن سورية من الدولة التي ليس لديها أي‬ ‫ديموقراطية في التعليم‪.‬‬ ‫المثال اآلخــر‪ :‬كنت ذات يــوم أمام‬ ‫طالبي في المعهد المتوسط أعطيهم‬ ‫درســ ًا في تاريخ الفن‪ ،‬وكــان بحسب‬ ‫المقرر «المدرسة السريالية»‪ ،‬وقفت‬ ‫أمــامــهــم وقــلــت لــهــم حــرفــي ـاً‪« :‬نــشــأت‬ ‫المدرسة السريالية إبان الحرب العالمية‬ ‫الثانية وهي ضرب من ضروب التخبط‪،‬‬ ‫وطرحت أمورًا ال يمكن تحقيقها‪ ،‬وهي‬ ‫مدرسة فاشلة بدليل أنها لم تستطع‬ ‫إثبات نفسها»‪ .‬هنا قاطعني أحد الطالب‪،‬‬ ‫وقال لي‪« :‬أستاذ‪ ،‬قبل أسبوعين تقريب ًا‬ ‫قــرأت مقا ًال عنك في إحــدى الصحف‪،‬‬ ‫وذكر الكاتب أنك فنان سريالي‪ ،‬بما أن‬ ‫المدرسة السريالية على هذه الدرجة من‬ ‫السوء لماذا أنت سريالي؟» ضحكت‪ ،‬قلت‬ ‫له ببساطة شديدة‪ ،‬يا بني‪ ،‬أنا أقول لك‬ ‫علي وعليك‪ ،‬وما يجب‬ ‫ما هو مفروض ّ‬ ‫أن تكتبه في االمتحان إذا ُسِئَلت عن هذا‬ ‫األمر‪ ،‬أما إذا أردت تثقيف نفسك فعليك‬ ‫الخروج من المؤسسة التعليمية‪...‬‬ ‫االســتــيــعــاب الــكــبــيــر للخريجين‬ ‫الجامعيين في المؤسسات الحكومية‬ ‫أبقى اإلقبال على هذا التعليم مرتفعاً‪،‬‬ ‫ولم يعد الطالب يبحث عن تحقيق طموح‬ ‫علمي‪ ،‬بل طموح وظيفي‪ ،‬وإذا سعى‬ ‫للطموح العلمي فلن يحصل عليه أساس ًا‬ ‫لعدم توافره‪ .‬ومن مفارقات هذه الفترة‬ ‫أن بعض طالبات معاهد إعداد المعلمات‬ ‫التابعة لــوزارة التربية‪ ،‬والتي تلتزم‬ ‫الوزارة بتعيينهن بعد التخرج إثر دراسة‬ ‫مدتها سنتين حصلن على مجموع في‬ ‫‪23‬‬


‫الثانوية العامة يؤهلهن للدخول في أي‬ ‫فرع جامعي يردن ومنها كلية التربية‪،‬‬ ‫ولكنهن فضلن هذا المعهد ألنه فرصة‬ ‫عمل مضمونة‪.‬‬ ‫ينسحب األمـــر نفسه عــلــى طــاب‬ ‫الهندسات‪ ،‬فقرار الــدولــة باستيعات‬ ‫المهندسين كافة أبقى طموح الطالب‬ ‫جميع ًا الــدراســة في كليات الهندسة‪،‬‬ ‫حتى امــتــأت دوائـــر النفوس السجل‬ ‫العقاري والمالية واألوقاف بالمهندسين‬ ‫من مختلف االختصاصات‪.‬‬

‫محاوالت اإلصالح‬ ‫لم يغب هذا الواقع عن أعين أصحاب‬ ‫القرار‪ ،‬ولم يكن من المحرمات التي ال‬ ‫يمكن مناقشتها‪ .‬فقد طرحت عدة مبادرات‬ ‫بــاســم اإلصــــاح‪ ،‬وتــمــت االستعانة‬ ‫بالمؤسسات الدولية وخبراتها أحياناً‪.‬‬ ‫بالطبع هنا البــد مــن التنويه أن‬ ‫السلطات كانت على وعــي تــام بعدم‬ ‫‪24‬‬

‫إمكانية فصل تطوير التعليم الجامعي‬ ‫عن تطوير التعليم ما قبل الجامعي‪.‬‬ ‫والبد من ذكر هذه الحادثة التي عايشتها‬ ‫بنفسي في إحدى المرات‪.‬‬ ‫ُعــيــنــت لــفــتــرة قــصــيــرة فــي دائـــرة‬ ‫المناهج في وزارة التربية‪ ،‬وحضرنا‬ ‫اجتماع ًا على درجة كبيرة من األهمية مع‬ ‫لجنة قيل لنا إنها جاءت من اليونسكو‪،‬‬ ‫وقد ساهم أعضاؤها في إصالح التعليم‬ ‫في دول أوروب ــا الشرقية بعد انهيار‬ ‫النظام الشيوعي‪ ،‬وفي جنوب إفريقيا‬ ‫بعد إنــهــاء نــظــام الفصل العنصري‪،‬‬ ‫وقدمت لنا هذه اللجنة تقريرًا عن واقع‬ ‫التعليم ما قبل الجامعي في سورية‬ ‫من خالل زيارات ميدانية ومتابعة عن‬ ‫كثب‪ .‬لم أستطع أن أمسك نفسي عن‬ ‫الضحك في ذلك االجتماع الذي حضره‬ ‫أعضاء دائرة المناهج ومعاونو وزير‬ ‫إلي‬ ‫التربية المختصون‪ ،‬وحين توجهت ّ‬ ‫نظرات االستغراب‪ ،‬تقمصت جديتي‪،‬‬

‫ومنحته‪ .‬قلت‬ ‫وطلبت اإلذن بالحديث‪ُ ،‬‬ ‫لو حضرتم في كلية التربية محاضرة‬ ‫لــأســتــاذ الــدكــتــور فـــان فــي أصــول‬ ‫التدريس وهو يشرح مساوئ التدريس‬ ‫بطريقة المحاضرة‪ ،‬وينفذ هذه المساوئ‬ ‫دون أي نقص‪ ،‬لما احتجتم إلــى هذا‬ ‫الجهد‪ .‬باختصار كل ما جاء في التقرير‬ ‫كــان ُيــدرس في جامعاتنا‪ ..‬ولكن هل‬ ‫يمكن إصالحه؟ لعله يحتاج إلى عملية‬ ‫جرحية أليمة‪.‬‬ ‫من مبادرات اإلصالح أيض ًا الجامعات‬ ‫الخاصة‪ ،‬فقد جاءت هذه الجامعات لضخ‬ ‫دم جديد في التعليم الجامعي‪ ،‬ولكن‬ ‫أساتذتها كانوا من الجامعات الحكومية‪،‬‬ ‫وتـــــدرس ال ــم ــق ــررات الــتــي تــدرســهــا‬ ‫الجامعات الحكومية بموجب قوانين‬ ‫التأسيس‪ .‬وهنا أذكــر حديث ًا لألستاذ‬ ‫المربي الكبير أنطون مقدسي حول كلمة‬ ‫مقرر‪ ،‬فيقول إنه من الفعل الثالثي َقَر َر‬ ‫أي أملى وفرض‪ .‬بالطبع يمكن أن تكون‬ ‫هناك مقررات في جزء كبير من التعليم‬ ‫األساسي‪ ،‬ولكن أن يكون التعليم من‬ ‫أوله إلى نهاية الجامعة «مقررات» فأين‬ ‫تنمية المواهب والمبادرات والبحث؟‬ ‫وبالطبع إدخال هذه األمور إلى التعليم‬ ‫أمر شبه مستحيل‪ ،‬ويحتاج إلى تأهيل‬ ‫لجزء كبير من الكوادر التي ُتدرس في‬ ‫الجامعات‪.‬‬ ‫وهــكــذا جــاءت الجامعات الخاصة‬ ‫حلقة جديدة من التعليم السائد لم ُتلق‬ ‫مجرد حصى فــي الــمــاء الــراكــد‪ .‬كانت‬ ‫الجامعات الخاصة ذلك الشبل من ذلك‬ ‫األسد‪.‬‬ ‫إذا مــا نظرنا إلــى مــا وصلت إليه‬ ‫سورية اليوم‪ ،‬فــإن دراســة مسار أي‬ ‫قطاع‪ ،‬ومنها القطاع الجامعي ستكون‬ ‫صـــورة مختصرة عــن الــمــســار الــذي‬ ‫أوصل البلد إلى ما وصل إليه‪ .‬ولم يكن‬ ‫هناك بد من بدء عملية إصالح واسعة‬ ‫إليقاف هذا المسار الذي يتسارع نحو‬ ‫االنهيار‪ .‬اإلصالح كان معروفاً‪ ،‬ولكنه‬ ‫مؤلم‪ ،‬وهو مؤلم ألم ًا شديداً‪ ،‬ومن أجل‬ ‫تجنب هذا األلم استعيض عنه ببعض‬ ‫الترقيعات أو التلفيقات‪ ،‬وبهذا سار‬ ‫نحو نهايته وبدأ االنهيار الشامل‪.‬‬


‫مع مطلع القرن العشرين‪ ،‬وكرد فعل على الهيمنة االستعمارية‬ ‫البريطانيــة علــى مصــر‪ ،‬راح العديد مــن المفكريــن الوطنيين‬ ‫يتنــادون لتأســيس جامعة وطنية أهليــة‪ ،‬وكان من هؤالء‪ :‬قاســم أمين‬

‫د‪ .‬كامل مغيث‬

‫وجرجي زيدان وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد وغيرهم‪ ،‬وبالفعل فتحت‬

‫باحث باملركز القومي للبحوث الرتبوية‬

‫الجامعــة أبوابها أمام طــاب العلم في ديســمبر ‪ ،1908‬وحّددت الجامعة‬ ‫الوليدة وظائفها في تكوين نخبة مثقفة ومتميزة ووطنية‪ ،‬تمتلك معارف‬ ‫علمية وإنســانية رفيعة وتلتقــي فيها الثقافة الوطنيــة بخصوصيتها مع‬ ‫الثقافة اإلنســانية بما يؤدي إلى إثراء حصيلة تلك النخبة في تعاملها مع‬ ‫مجتمعها في الظروف العالمية المحيطة به‪.‬‬

‫ماض مجيد وحاضر بائس‬ ‫ٍ‬

‫جامعة القاهرة‬

‫وعلى الــرغــم مــن أنها وقــت نشأتها‬ ‫ولعقود متتالية كانت جامعة للنخبة‬ ‫االجتماعية القادرة على دفع مصروفاتها‪،‬‬ ‫إال أنــهــا قــد نجحت فــي خلق جماعات‬ ‫من المثقفين الوطنيين الذين كانوا هم‬ ‫للتقدم االجتماعى وللحياة‬ ‫األســـاس‬ ‫ُّ‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬وكــانــت الجامعة هي‬ ‫المؤسسة التي لعب خريجوها دورًا كبيرًا‬

‫تنوع وثــراء مختلف مــدارس الفكر‬ ‫في ُّ‬ ‫واألدب والفنون‪ ،‬وترفد مختلف األحزاب‬ ‫والتنظيمات السياسية بالعناصر البشرية‬ ‫القادرة على قيادة النضال الوطني في‬ ‫سبيل تعزيز الديموقراطية والمطالبة‬ ‫بالدستور والبرلمان‪ ،‬والعمل على تأكيد‬ ‫قيمة االستقالل الوطني في نفس الوقت‪،‬‬ ‫وقد لعب طالب الجامعة وخريجوها الدور‬

‫األكبر في قيادة االحتجاجات الشعبية‬ ‫ضد االستبداد عامي ‪ 1935‬و‪.1946‬‬ ‫ونجحت ثـــورة يوليو ‪ ،1952‬بما‬ ‫حققته مــن مطالب شعبية كاإلصالح‬ ‫الــزراعــي وإعــان الجمهورية واتفاقية‬ ‫الجالء في كسب تعاطف قطاعات كبيرة‬ ‫من طالب وأساتذة الجامعة‪ ،‬وفي نفس‬ ‫الوقت فقد قامت بفصل عشرات األساتذة‬ ‫‪25‬‬


‫الذين عارضوا توجه ضباط يوليو في‬ ‫االنفراد بالحكم ووأد الحياة الدستورية‪،‬‬ ‫وهــكــذا تــم تــأمــيــم الــنــشــاط السياسي‬ ‫للطالب‪ ،‬وتم توظيف النشاط السياسي‬ ‫للترويج لفكرة الحشد األيديولوجي‪،‬‬ ‫وقدمت الثورة للشعب مطلب ًا عزيزًا بتقرير‬ ‫مجانية التعليم العالي والجامعي‪ ،‬سنة‬ ‫‪ ،1961‬غير أن هزيمة يونيو ‪،1967‬‬ ‫أدت إلى اشتعال الجامعة باالحتجاجات‬ ‫المواجهة لجمال عبد الناصر ونظامه‪،‬‬ ‫وهو ما أدى إلى ترك هامش كبير من‬ ‫الحرية أمام الطالب‪ ،‬ومات عبد الناصر‬ ‫عام ‪ ،1970‬فسعى خلفه أنور السادات‬ ‫إلى توسيع هامش الحرية أمام الطالب‬ ‫بحث ًا عن مشروعية سياسية مختلفة عن‬ ‫مشروعية عبد الناصر‪ ،‬وهو ما أدى إلى‬ ‫عــودة االزدهــار إلى الحركة السياسية‬ ‫والــــدور السياسي للجامعة‪ ،‬فعرفت‬ ‫الجامعة المظاهرات الحاشدة عام ‪1972‬‬ ‫المطالبة بتحرير أرض سيناء من محتليها‬ ‫الصهاينة‪ ،‬واحتضنت الجامعة الظاهرة‬ ‫الغنائية الشهيرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد‬ ‫نجم فكانا من الضيوف الدائمين ألنشطتها‬ ‫الطالبية‪ ،‬وتصاعدت احتجاجات الطالب‬ ‫عــلــى الــتــوجــه الــرأســمــالــي لــلــســادات‬ ‫والــخــضــوع لتعليمات صــنــدوق النقد‬ ‫الدولي برفع الدعم عن الفقراء واشتعلت‬ ‫الــجــامــعــة ومــصــر كــلــهــا بــالــغــضــب في‬ ‫‪26‬‬

‫االنتفاضة الشعبية يومي ‪ 18‬و‪ 19‬يناير‬ ‫سنة ‪ ،1977‬ومن هنا سعى السادات إلى‬ ‫إصدار القوانين التي منعت تمام ًا النشاط‬ ‫السياسي من الجامعة‪ ،‬وفي نفس الوقت‬ ‫سعى إلــى وجــود األمــن داخــل الجامعة‬ ‫ل ــوأد أي نــشــاط سياسي للطالب في‬ ‫مهده‪ ،‬فاختفت القوى السياسية المختلفة‬ ‫من الجامعة ولم يعد فيها سوى القوى‬ ‫السياسية اإلسالمية بحجة أنها صاحبة‬ ‫نشاط ديني وليس نشاط ًا سياسياً‪،‬‬ ‫ومــن هنا فقد أصبحت الجامعة بــؤرة‬ ‫للمحافظة بعد أن كانت قلعة لالستنارة‬ ‫والتقدم‪ ،‬واتفق هذا الدور الجامعي مع‬ ‫ُّ‬ ‫توجهات الحكم الجديد للرئيس مبارك‬ ‫الـــذي سعى إلــى تفريغ الجامعة من‬ ‫النشاط السياسي المعارض فسعى إلى‬ ‫وتوسع‬ ‫تشديد القبضة األمنية عليها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫األمن في سيطرته على الجامعة فأصبح‬ ‫يتدخل في تعيين األســاتــذة وتنقالتهم‬ ‫ويــعــتــرض عــلــى الـــنـــدوات المختلفة‬ ‫ويستبدل انتخابات االتحادات الطالبية‬ ‫بالتعيين من العناصر المتعاونة معه‪،‬‬ ‫والتي تلعب أدوارًا أمنية في مواجهة‬ ‫زمــائــهــا وأســاتــذتــهــا‪ ،‬ومــع ذلــك فإن‬ ‫مجموعة من أساتذة الجامعة التقدميين قد‬ ‫شكلوا مجموعة تنادي باستقالل الجامعة‬ ‫وإبــعــاد األمــن عــن مبانيها وأنشطتها‬ ‫هي مجموعة ‪ 9‬مــارس التي تمكنت من‬

‫الحصول على حكم قضائي بابعاد األمن‬ ‫عن الجامعة وعندما سعى بعض هؤالء‬ ‫األســاتــذة إلــى توزيع نص الحكم على‬ ‫ـار من فرق‬ ‫الطالب تعرضوا لهجوم ضـ ٍ‬ ‫طالب متعاونة مع أمن الدولة فيما سمي‬ ‫بموقعة ‪ 4‬نوفمبر ‪ ،2010‬والتي أظن أنها‬ ‫كانت واحــدة من أهم إرهاصات سقوط‬ ‫نظام مبارك‪ ،‬وعلى الرغم من سقوط‬ ‫مبارك فإن االستقطاب الحاد الذي شهدته‬ ‫البالد قد جعل من الجامعة ساحة لمعارك‬ ‫طاحنة‪ ،‬يستخدم فيها العصي والطوب‬ ‫والمولوتوف‪ ،‬وربما أسلحة الخرطوش‪،‬‬ ‫ويعتدي فيها الــطــاب على أساتذتهم‬ ‫المؤيدين للحكم القائم ويقومون بإحراق‬ ‫المعامل والــمــدرجــات‪ ،‬وهــو مــا يــؤدي‬ ‫في النهاية إلــى الشك في معنى الــدور‬ ‫السياسي للجامعة وإلقاء ظالل قاتمة‬ ‫عليه‪ ،‬وهو األمر الذي يبدو واضح ًا في‬ ‫الموقف المعادي لألنشطة السياسية‬ ‫للطالب‪ ،‬ولكنني أعتقد أن األمــور لن‬ ‫تستقيم لمن يسعون إلى تجريد الجامعة‬ ‫من دورها السياسي والوطني وأن هذا‬ ‫النشاط السياسي السلمي سيعود حتم ًا‬ ‫للجامعة بمجرد استقرار األوضاع وعودة‬ ‫الهدوء إلى الجامعة‪.‬‬ ‫أمــا فــي مــا يتعلق بــالــدور المعرفي‬ ‫للجامعة فال شك أنه قد تراوح صعودًا‬ ‫وهبوط ًا تبع ًا للظروف السياسية التي‬


‫أحاطت بالجامعة‪ ،‬فقبل ثورة يوليو كانت‬ ‫الجامعة على اتصال مباشر بالمعرفة‬ ‫اإلنسانية بمعناها الــواســع‪ ،‬فلم تكن‬ ‫تمنح لخريجيها وللمعينين فيها كمعيدين‬ ‫درجات الماجستير أو الدكتوراه‪ ،‬وإنما‬ ‫كانت توفر لهم البعثات التي يوفدون‬ ‫من خاللها إلى جامعات إنجلترا وفرنسا‬ ‫وال ــوالي ــات المتحدة فيحصلون على‬ ‫المعارف والعلوم الحديثة من مصادر‬ ‫إنتاجها األصــلــيــة‪ ،‬س ــواء أكــانــت تلك‬ ‫المعارف والعلوم في المجال اإلنساني‬ ‫أم العلمي‪ ،‬ويــعــودون إلــى الجامعة‬ ‫المصرية محملين بتلك المعارف لينقلوها‬ ‫إلــى طالبهم ومجتمعهم‪ ،‬ومــع ثــورة‬ ‫يوليو وزيــادة أعــداد الطالب‪ ،‬ومن َثّم‬ ‫أساتذتهم فلم تعد الدولة تقدر على توفير‬ ‫التمويل الـــازم للبعثات فــي مختلف‬ ‫التخصصات فاكتفت بالتخصصات التي‬ ‫ال يمكن الحصول عليها من مصر وكانت‬ ‫كلها فــي الغالب تخصصات هندسية‬ ‫وتكنولوجية‪ ،‬أما العلوم اإلنسانية فقد‬ ‫أصبحت الجامعة تمنح شهاداتها من‬ ‫مرحلة الليسانس حتى الدكتوراه‪ ،‬وهو‬ ‫ما أدى إلى شكل من أشكال التدهور في‬ ‫تلك العلوم والمعارف مقارنة بما كان‬ ‫يتم من قبل‪ ،‬وفي السبعينيات شهدت‬ ‫البالد سعي ًا حثيث ًا نحو دعم الالمركزية‬ ‫وزيادة سلطات وصالحيات المحافظين‬ ‫في المحافظات المختلفة‪ ،‬وهو ما أدى‬ ‫إلــى نــوع من السباق بين المحافظات‬ ‫المختلفة في إنشاء الجامعات اإلقليمية‪،‬‬ ‫والتي أعدت على عجل وبدون استعدادات‬ ‫حقيقية ال فــي المباني وال األســاتــذة‪،‬‬ ‫ويكفي أن نعرف أن مصر قــد أنشأت‬ ‫الجامعة األهلية ‪ ،1908‬وعــلــى مدى‬ ‫نصف قرن لم تشهد إنشاء سوى ثالث‬ ‫جامعات أخرى هي‪ :‬جامعات اإلسكندرية‬ ‫وعين شمس وأسيوط‪ ،‬ولكن في عقد‬ ‫واحــد هو عقد السبعينيات فقد شهدت‬ ‫إنشاء عشر جامعات دفعة واحــدة ومن‬ ‫هنا فقد راحت تسعى للهاث إلى استكمال‬ ‫هيئات التدريس فيها بالتسريع في منح‬ ‫شهادات الماجستير والدكتوراه بصرف‬ ‫النظر عن المستوى العلمي والمعرفي‬ ‫المتدني لهم‪ ،‬وقــد تواكب ذلــك اإلعــداد‬ ‫المتدني لهيئات التدريس مع توجه الدولة‬

‫جامعة عين شمس‬

‫نحو الحد من فاعلية ودور الجامعة من‬ ‫ناحية وهيمنة الفكر الديني المتطرف من‬ ‫ناحية ثانية‪ ،‬وهو ما أدى إلى مزيد من‬ ‫التدني في المستوى المعرفي والعلمي‬ ‫للجامعة ومــع غياب المعايير المهنية‬ ‫العلمية واألكاديمية راحت معايير القرابة‬ ‫والعائلية ومقتضيات الشللية والــوالء‬ ‫لألساتذة الكبار تلعب دوره ــا المؤثر‬ ‫في المزيد من تدني المستوى المعرفي‬ ‫والعلمي للجامعة‪ ،‬ويضاف إلــى تلك‬ ‫العوامل ما يتعلّق بمستوى األجور التي‬ ‫يحصل عليها أعضاء هيئة التدريس في‬ ‫الجامعة‪ ،‬فقد كــان مرتب عضو هيئة‬ ‫التدريس في بداية حياته مع تحويل‬ ‫الجامعة األهلية إلــى جامعة حكومية‬

‫سنة ‪ 1925‬يبلغ ما يعادل ثالثين ألف ًا‬ ‫من الجنيهات‪ ،‬وهو ما ال يزيد اليوم عن‬ ‫ثالثة آالف من الجنيهات أي ما يعادل‬ ‫واحدًا على عشرة مما كان يحصل عليه‬ ‫المعيد منذ تسعين عاماً‪ ،‬وهو ما ادى‬ ‫التفرغ للعلم‬ ‫إلى انصراف األساتذة عن‬ ‫ُّ‬ ‫والطالب بكتابة المقاالت واألبحاث هنا‬ ‫وهناك والسعي إلى الحصول على فرصة‬ ‫لإلعارة إلى إحدى جامعات الدول العربية‬ ‫للعمل على تأمين مستوى الئق من الحياة‬ ‫الكريمة لألستاذ وأسرته‪ ،‬ولم يكن غريب ًا‬ ‫بعد كل هذا أن تخرج جميع الجامعات‬ ‫المصرية من مختلف التصنيفات الدولية‬ ‫المعتبرة ألحسن خمسمئة جامعة في‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫الكتابة حول الجامعات في الخليج هي كتابة بطعم العلقم‪ ،‬من‬ ‫شخص خبر التعليم الجامعي الرسمي ألربعة عقود حتى اآلن‪،‬‬ ‫والجامعــات‪ ،‬كمثل غيرها مــن الموضوعات في الخليــج‪ ،‬ال يمكن معرفة‬ ‫عددهــا على وجــه الدقة‪ ،‬فهناك أو ًال اختالل فــي المفاهيم‪ ،‬بمعنى ما هي‬ ‫مواصفات الجامعة؟‬

‫د‪.‬محمد الرميحي‬ ‫أستاذ االجتامع السيايس ‪ -‬جامعة الكويت‬

‫هياكل دون محتوى!‬

‫يــصــر عــلــى أن مــا لديه‬ ‫بعضهم‬ ‫ّ‬ ‫جامعة‪ ،‬وهــي فــي الحقيقة (مدرسة‬ ‫ثانوية) على أبعد تقدير‪ .‬حاولت أن‬ ‫أحصر عدد الجامعات في دول الخليج‬ ‫(دول مجلس التعاون الست) فلم أجد إال‬ ‫أرقام ًا تقريبية‪ ،‬وهي خمس جامعات‬ ‫رسمية (حكومية)‪ ،‬عدا المملكة العربية‬ ‫السعودية‪ ،‬فاألخيرة لديها من الجامعات‬ ‫الحكومية أربع وعشرون‪ .‬أما الجامعات‬ ‫الخاصة‪ ،‬المصنفة رسمي ًا كجامعات‬ ‫فمجموعها فــي دول مجلس التعاون‬ ‫إحــدى وثالثون جامعة ! أي أن هناك‬ ‫في الخليج اليوم‪ ،‬ستين جامعة تقريباً‪،‬‬ ‫يتقاسم المشهد جــامــعــات حكومية‬ ‫وأخرى أهلية ! هذا إذا استثنينا المعاهد‬ ‫تقدم نوع ًا من التعليم‬ ‫والكليات التي ِّ‬ ‫العالي‪ ،‬والتي يدعي بعض أصحابها‬ ‫أنها (جامعة) ! ويبدو أن فتح الجامعات‬ ‫األهلية أصبح في الخليج في العشرين‬ ‫ال‬ ‫سنة األخيرة يتكاثر كالفطر‪،‬كونه عم ً‬ ‫(تجارياً) مربحاً‪ ،‬وليس لدي اعتراض‬ ‫‪28‬‬

‫على التربح‪ ،‬إال أن بعضه يميل مع‬ ‫األسف‪ ،‬إلى تخريج أعداد دون محتوى‬ ‫ثقافي له معنى اجتماعي أو تنموي‪،‬‬ ‫بــل ال توجد فــي الخليج قاطبة حتى‬ ‫اليوم (جامعات أهلية خيرية ) �‪phil‬‬ ‫‪ anthropic‬أي جامعات خيرية‪ ،‬وهي‬ ‫المتقدم‪ ،‬خاصة‬ ‫المثال األنجح في العالم‬ ‫ِّ‬ ‫الواليات المتحدة وبعض دول الغرب‪،‬‬ ‫على الرغم من الشغف الخليجي بـ(أعمال‬ ‫الخير)‪ ،‬التي يدفع لها الماليين من شمال‬ ‫الخليج إلى جنوبه‪ ،‬معظم هذه األموال‬ ‫تذهب إلى أشكال تقليدية من (اإلحسان)!‬ ‫ال أميل إلى أن ضعف التعليم الجامعي‬ ‫في الخليج سببه عامل أوحد‪ ،‬في العلم‬ ‫االجتماعي ال يحق أن نعزو ظاهرة إلى‬ ‫عامل واحد‪ ،‬فهناك عوامل عديدة تتدخل‬ ‫مــن أجــل الــوصــول إلــى تلك النتيجة‬ ‫المحزنة ضعف التعليم الجامعي وفقر‬ ‫مخرجاته‪ ،‬كما ال أميل إلــى التعميم‪،‬‬ ‫فبعض الجامعات‪ ،‬وهي قليلة جداً‪ ،‬تهتم‬ ‫اهتمام ًا كبيرًا بالكيف والجودة‪ ،‬قبل أي‬

‫شي آخر‪ ،‬ولكنها قليلة‪ ،‬في خضم كم‬ ‫هائل من مؤسسات أخــرى‪ ،‬اهتمامها‬ ‫بالجودة في التعليم ال يظهر حتى في‬ ‫تقاريرها‪ .‬كما أن جامعات الخليج‪ ،‬على‬ ‫كثرتها‪ ،‬لم تنل أية واحدة منها مكان ًا في‬ ‫أي تقييم بين الخمسمئة جامعة األولى‬ ‫في العالم‪ ،‬حسب التقديرات المختلفة‪،‬‬ ‫فهي جامعات (فقيرة المستوى)‪.‬‬ ‫نشأت الجامعات الرسمية في الخليج‬ ‫(دول مجلس الــتــعــاون) بــيــن نهاية‬ ‫خمسينيات الــقــرن الماضي (جامعة‬ ‫الملك سعود بالرياض ‪ ،)1957‬وبين‬ ‫النصف الثاني من الثمانينيات(جامعة‬ ‫السلطان قابوس في عمان عام ‪)1986‬‬ ‫فيما بين هذين التاريخين‪ ،‬تعّددت‬ ‫الجامعات الرسمية بشكل تدريجي‪،‬‬ ‫أما األهلية فقد شهدت تراكم ًا كبيرًا في‬ ‫العدد واالنتشار‪ ،‬فيما بعد دخول القرن‬ ‫الــحــادي والــعــشــريــن‪ ،‬حيث تضخمت‬ ‫الحاجة للجامعات‪ ،‬بسبب تدفق الثروة‬ ‫النفطية الهائلة لدى معظم دول مجلس‬


‫التعاون‪ ،‬التي أنتجت ديناميكية غريبة‪،‬‬ ‫وهي اإلقبال على التعليم العالي ال بسبب‬ ‫الشغف به‪ ،‬بل ألن اإلدارات الحكومية قد‬ ‫ربطت بين (الوظيفة العليا في الدولة‬ ‫وبين الشهادة)‪ ،‬وقد نتج عن ذلك في‬ ‫العالم العربي قاطبة (الفقير والغني)‬ ‫معادلة غريبة‪ ،‬وهي أن الفقر والعوز‪،‬‬ ‫أنتج في التعليم ما أنتجته الثروة‪ ،‬أي‬ ‫كل منهما أثر في تدني نوعية وسوية‬ ‫التعليم‪ ،‬على الرغم من تناقضهما في‬ ‫الظاهر‪.‬‬ ‫من األسباب األخــرى التي أدت إلى‬ ‫ضعف مخرجات التعليم الجامعي في‬ ‫العقود األخــيــرة فــي الخليج‪ ،‬ضعف‬ ‫التأسيس الــطــابــي فيما قبل السلم‬ ‫الجامعي‪ ،‬ذلــك أن الطالب يصل إلى‬ ‫الجامعة دون إعــداد كـ ٍ‬ ‫ـاف ال من حيث‬ ‫ال‬ ‫المنهج أو حتى المهارة‪ ،‬كما أن عام ً‬ ‫آخر أثر في تدني التعليم‪ ،‬وهو التدخل‬ ‫السياسي‪ ،‬إذا قــرر السياسيون أن‬ ‫أفضل طريقة المتصاص غضب الجيل‬ ‫الصاعد أن يفتح له مجا ًال في تعليم‬ ‫ٍ‬ ‫عال (مفرغ من محتواه) من أجل إرضاء‬ ‫رغبة اجتماعية في (الشهادة العليا)‪،‬‬ ‫كما أن انعدام (التنافسية) بين مخرجات‬ ‫التعليم‪ ،‬أضــاف من عوامل الضعف‪،‬‬ ‫ال آخر مهماً‪ ،‬فالوظيفة مضمونة!‬ ‫عام ً‬ ‫أن كان لديك شهادة!! خبراء التعليم‬ ‫في مجتمعات أخرى وجدوا أن العوامل‬ ‫األربــعــة (المبنى‪ ،‬المنهج‪ ،‬المعلم‪،‬‬ ‫المجتمع)‪ ،‬هي التي تشترك في العملية‬

‫التعليمية جودة أو ضعفاً‪ ،‬منها اثنان‬ ‫مهمان أكثر‪ ،‬هما المجتمع‪ ،‬الذي يضع‬ ‫خطط التنمية ويرسم الطريق إليها‪،‬‬ ‫والمعلم‪ ،‬وهو األكثر أهمية‪ ،‬إلى درجة‬ ‫أن المعلم و(مستواه المادي واحترامه‬ ‫االجتماعي) في المجتمعات التي نهضت‬ ‫مثل (اليابان أو ألمانيا) هو في مستوى‬ ‫أعلى بكثير‪ ،‬مادي ًا ومعنوياً‪ ،‬من أي‬ ‫ـام أو طبيب) على‬ ‫محترف آخــر (مــحـ ٍ‬ ‫العكس من ذلك في مجتمعنا العربي‬ ‫قاطبة وفــي دول الخليج‪ ،‬فهو ليس‬ ‫أكثر (من معلم صبيان)!‪ ،‬زاد من ذلك‬ ‫انصراف (المواطنين) عن هذه المهنة‪.‬‬ ‫ففي بداية التعليم في الخليج‪ ،‬كانت‬

‫هناك نهضة معقولة في التعليم‪ ،‬بسبب‬ ‫حاجة المجتمع أو ًال وألن المعلم (محلي‬ ‫ال بشكل جيد لمهنتها‪،‬‬ ‫أو عربي) كان مؤه ً‬ ‫وثاني ًا كانت نظرة المجتمع إليه نظرة‬ ‫إيجابية‪ ،‬فأوائل المعلمين‪ ،‬سواء أكانوا‬ ‫في المستوى قبل الجامعي‪ ،‬أم حتى‬ ‫في أول بدايات الجامعات الحكومية‬ ‫في الخليج (الستينيات والسبعينيات‬ ‫من القرن الماضي) تم تجنيد أفضل‬ ‫األســاتــذة‪ ،‬وبعد ذلــك توسعت فرص‬ ‫العمل‪ ،‬فانصرف كثيرون عــن مهنة‬ ‫التعليم‪ ،‬وأصبح التعليم (مهنة طاردة‬ ‫للكفاءات) معنوي ًا ومادياً‪ .‬إذا أضفنا‬ ‫إلى كل ذلك فقدان (البوصلة) في وضع‬ ‫‪29‬‬


‫جامعة السلطان قابوس‬

‫فلسفة مجتمعية ناضجة ومستدامة‬ ‫للتعليم‪ ،‬فإن النتائج التي تظهر لنا‬ ‫عيان ًا ليست بالمفاجئة أو المستغربة!‬ ‫يحتشد الجيل الخليجي القادم في‬ ‫الــمــدارس والجامعات الــيــوم‪ ،‬بشكل‬ ‫لم تألفه مجتمعاتنا من قبل‪ ،‬بثقلها‬ ‫الــديــمــوغــرافــي‪ ،‬وحــجــم متطلباتها‪،‬‬ ‫ومستلزماتها األساسية‪ ،‬وستواجه‬ ‫الحياة المقبلة مصاعب شتى‪ ،‬خصوص ًا‬ ‫عندما سيندفع المواطنون يبحثون‬ ‫عن فرص عمل‪ ،‬واكتفاء ذاتي‪ ،‬وحياة‬ ‫كريمة‪ .‬إن مجتمعاتنا ستواجه بنفسها‬ ‫تــحــديــات سيفرضها الــواقــع بكل ما‬ ‫فيه من معضالت ومشكالت وأزمــات‬ ‫تتفاقم مخاطرها يوم ًا بعد يوم سياسي ًا‬ ‫واقتصادي ًا واجتماعي ًا وثقافياً‪ ،‬فالوفرة‬ ‫المالية الحالية ليست بالضرورة دائمة‬ ‫وال هي ُمتجّددة‪ .‬وعليه‪ ،‬فثمة مهمات‬ ‫أساسية وعملية‪ ،‬البد من الوعي بها‬ ‫في تكوين األجيال وتدريبهم‪ ،‬بعيدًا‬ ‫عن كل الترسبات والبقايا والمألوفات‬ ‫والخطايا والمثالب التي مازالت سائدة‬ ‫في التربويات المدرسية وفي المناهج‬ ‫الــجــامــعــيــة‪ ،‬ودون الــحــديــث الــجــدي‬ ‫والفعال لما يعرف اليوم بتكوين (رأس‬ ‫المال البشري)‪ ،‬فإن كل الصيحات‪ ،‬مثل‬ ‫غيرها‪،‬سوف تتبخر في الفضاء الكبير‪،‬‬ ‫معتمدة على تراث أصيل في التواكل‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫أضــابــيــر مــســؤولــي الــتــعــلــيــم في‬ ‫الخليج مليئة بدراسات حول (النهوض‬ ‫بالتعليبم) إال أنه حتى اليوم لم توجد‬ ‫بعد (كتلة وطنية حرجة) تضع النهوض‬ ‫بالتعليم على أعلى المستويات‪ ،‬إما‬ ‫ال بأهمية تجويد التعليم‪ ،‬وقدرته‬ ‫جه ً‬ ‫على النهوض بالمجتمعات‪ ،‬أو عدم‬ ‫رغبة في إشاعة االستنارة بين الناس‪،‬‬ ‫ال خارجاً) وديكورًا‬ ‫واعتبار التعليم (شك ً‬ ‫من بناء وشخوص‪ ،‬ال يوجد احد على‬ ‫سطح هــذه الدنيا فــي أي عــالــم كان‬ ‫(متقدم ًا أو نــاهــضـاً) إال وقــد اعترف‬ ‫بأهمية تجويد التعليم‪ ،‬أمــا منطقتنا‬ ‫فالزال الوعي بتلك األهمية في حدوده‬ ‫الدنيا‪ ،‬فال يوجد نقاش مجتمعي واسع‬ ‫حول هذا الموضوع‪ ،‬بل يتفشى إهمال‬ ‫مــن وســائــل اإلعــــام‪ ،‬وبــيــن متخذي‬ ‫القرار‪ ،‬ومن جماعات المجتمع المدني‬ ‫(إن وجدت) في تصور أن ما لدينا تعليم‬ ‫جامعي متقن!‬ ‫ولعله من الالفت أن أول مرة تذكر‬ ‫فيه مفردة (الثقافة) وأهميتها في وثيقة‬ ‫رسمية جماعية عربية‪ ،‬كانت في البيان‬ ‫الختامي الجتماع القمة العربية في‬ ‫بيروت الرابع عشر‪ ،‬الصادر في ‪29‬‬ ‫مارس ‪،2002‬كما أن أكثر تقرير أممي‬ ‫كتبته نخبة عربية‪ ،‬واهتم بموضوع‬ ‫التعليم والثقافة‪ ،‬هو (تقرير التنمية‬

‫اإلنسانية العربية) الصادر من (برنامج‬ ‫األمــم المتحدة للتنمية) عــام ‪،2002‬‬ ‫والتقارير الالحقة‪ .‬ومن المالحظ أن هذا‬ ‫التقرير اعتمدت عليه الواليات المتحدة‬ ‫فــي إصــدارهــا (مــبــادرة الــشــراكــة بين‬ ‫الواليات المتحدة والشرق األوســط)‪،‬‬ ‫التي أطلقها وزير الخارجية األميركي‬ ‫وقتذاك (كولن بــاول) ‪ ،2002‬والتي‬ ‫أشــار فيها‪ ،‬للعجب‪ ،‬إلــى قــول شاعر‬ ‫النيل‪ ،‬حافظ إبراهيم حول تعليم المرأة‬ ‫(األم مدرسة إذا أعددتها‪ ،،‬أعددت شعب ًا‬ ‫طيب األعراق) رابط ًا بين معضلتي قطبي‬ ‫التنمية في بالدنا (المرأة والتعليم)!‬ ‫ولكن كــل ذاك كــان نتيجة ردة فعل‬ ‫ألحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ 2001‬المشؤومة!‬ ‫تبين بما ال يدع مجا ًال للشك‪ ،‬أن‬ ‫لقد ّ‬ ‫هــذا النوع والسوية من التعليم الذي‬ ‫نقدمه ألبنائنا وبناتنا ‪-‬فــي الغالب‪-‬‬ ‫ينتج أفرادًا منزوعي المقاومة الثقافية‪،‬‬ ‫وليست لديهم الــقــدرة منهجي ًا على‬ ‫(القراءة المضادة) لما يعرض لهم‪ ،‬لذلك‬ ‫التشدد والتعصب األعمى‪ ،‬ليس‬ ‫ينتشر‬ ‫ُّ‬ ‫ضد اآلخر فقط‪ ،‬بل في بعض األوقات‬ ‫ضــد النفس‪ .‬دون إعـــادة نظر جدية‬ ‫وحقيقية في فلسفة التعليم وأهدافه‪،‬‬ ‫فإن اآلية تنقلب من التعليم إلى الغد‪،‬‬ ‫إلى تعليم األمس البائد!‬


‫تحت مهب النار‬ ‫محمد األصفر‬ ‫تعاني الجامعات الليبية‪ ،‬ومــن قبل‬ ‫ثورة فبراير‪ ،‬من مشاكل مزمنة‪ ،‬رغم ما‬ ‫يبذله أساتذة وطالب غيورون من جهود‬ ‫لتصحيح الوضع‪ ،‬لكن ظروف ًا خارجة‬ ‫عــن إرادتـــهـــم‪ ،‬تطيح بــجــهــودهــم‪ ،‬وقد‬ ‫توجه إليهم تهم سياسية تنتهي بهم إلى‬ ‫ّ‬ ‫االستبعاد أو السجن أو حتى اإلعدام داخل‬ ‫الحرم الجامعي‪.‬‬ ‫في السابق‪ ،‬كانت الجامعات تعاني من‬ ‫سلطة النظام‪،‬من خالل اللجان الثورية‪،‬‬ ‫واآلن صارت تعاني من سطوة متطرفين‬ ‫وغــيــرهــم‪ ،‬وكـــذا مــن االنــفــات األمــنــي‬ ‫والمعارك الدائرة بين التيارات المسلحة‬ ‫في محيط الجامعات‪.‬‬ ‫تعتقد د‪.‬عائشة المغربي‪ ،‬أستاذة‬ ‫فلسفة الــجــمــال فــي جــامــعــة الزيتونة‬ ‫بطرابلس‪ ،‬أن الجامعات الليبية فقدت‬ ‫دورها التنويري منذ سنوات بعيدة‪ ،‬حين‬ ‫تحولت إلى لعبة في أيدي اللجان الثورية‬ ‫ّ‬ ‫في زمن القذافي‪« .‬وبدل أن تكون منارات‬ ‫علمية وثقافية‪ ،‬صارت موشومة بذاكرة‬ ‫اإلعدامات واإلرهاب الفكري لفترة طويلة‬ ‫واستمر هذا الوضع بعد ثورة فبراير»‬ ‫من جهته‪ ،‬د‪ .‬المبروك سلطان‪ ،‬األستاذ‬ ‫بجامعة بنغازي‪ ،‬يركز في انشغاله على‬ ‫قضايا تتعلّق باألمن وارتــبــاك العملية‬ ‫التعليمية بسبب إيقاف الدراسة ومشاكل‬ ‫‪«:‬تعرضت الجامعات‬ ‫إدارية أخرى‪ ،‬ويقول‬ ‫ّ‬ ‫الليبية‪ ،‬مثلها مثل غيرها من المؤسسات‬ ‫الحيوية لهزات الثورة وارتداداتها‪ ،‬فترتب‬ ‫عن توقف الجامعة في بنغازي إعداد فصل‬ ‫مضغوط لتسوية العام الدراسي‪ ،‬ودخلت‬ ‫الجامعة فــي دوامـــة مالحقة الــجــداول‬ ‫الــدراســيــة ومــواءمــة متطلبات الطالب‬ ‫واألساتذة‪ ،‬هذا رافقته اعتصامات طالبية‬ ‫لتحقيق طلبات خاصة بهم»‬ ‫ويضيف دكــتــور سلطان‪ ،‬وال ــذي له‬ ‫نشاط مكثف في مؤسسات المجتمعات‬ ‫المدني أيضاً‪ ،‬متطرق ًا للوضع األمني الذي‬

‫تعيشه جامعة بنغازي‪« :‬وازداد الوضع‬ ‫األمــنــي س ــوءًا عندما بــدأت الــحــرب بين‬ ‫أطــراف مسلحة تحيط بالجامعة إحاطة‬ ‫السوار بالمعصم‪ ،‬فالجامعة (ببنغازي)‬ ‫يقابلها معسكر ‪ 17‬فبراير‪ ،‬وخلفها مقر‬ ‫لــوزارة الدفاع‪ ،‬وعلى جانبها مقر ألحد‬ ‫كتائب الصاعقة وتقع في مرمى نيران‬ ‫الجميع‪ ،‬مما اضطرها إليقاف الدراسة‬ ‫للعام الحالي وعدم القدرة على استئنافها‬ ‫لآلن»‪.‬‬ ‫أما‪ ،‬د‪.‬أم العز الفارسي‪ ،‬رئيسة قسم‬ ‫الــعــلــوم السياسية بجامعة بنغازي‪،‬‬ ‫فشخصت مشاكل الجامعة حالي ًا مصرحة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«الجامعات لها لوائحها ومناهجها وتحاول‬ ‫أن تفرض استقالليتها طيلة فترة تلقي‬ ‫الطالب للعلم فيها‪ ..‬ثم له أن يشارك أو‬ ‫يمتنع وفق ًا لقناعاته السياسية وتوجهاته‬ ‫الثقافية والتي تصيغ الجامعات قدرًا كبيرًا‬ ‫منها‪..‬هذا بشكل عام ما تنجزه الجامعات‪..‬‬ ‫لكن فــي ليبيا على وجــه التحديد وجد‬ ‫الطالب نفسه داخــل بوتقة االستقطاب‬ ‫الحاد عسكري ًا وسياسياً‪ ..‬بل إن مقار‬ ‫الجامعات لم تخل من االنتهاك المباشر‪،‬‬ ‫ســواء أكــان على مقارها بتوظيفها من‬ ‫نــاحــيــة أم بــفــرض تــوجــهــات سياسية‬

‫ومجتمعية من ناحية أخرى»‪.‬‬ ‫وعـــن مــعــايــيــر الــجــامــعــات الليبية‬ ‫ومستواها مقارنة بالجامعات العربية‬ ‫والعالمية فتقول أم الــعــز‪« :‬فــي ليبيا‬ ‫معايير جودة الجامعات دولية ولدينا ست‬ ‫جامعات مازالت تحظى بموقعها الدولي‬ ‫ولم يحدث أن تم رفض طالب ليبي تخرج‬ ‫في أي منها‪ ..‬أعني الجامعات الحكومية‬ ‫(بنغازي‪ ،‬مصراتة‪ ،‬طرابلس‪ ،‬البيضاء‪،‬‬ ‫سرت‪ ،‬سبها)‪ .»..‬وحول عمليات اإليفاد‬ ‫للدراسة بالخارج والتي تالقي انتقادات‬ ‫شديدة‪ ،‬حيث يتم إيفاد طالب كبار السن‬ ‫أو يفتقدون لشهادات عليا‪ ،‬فتعلّق أم‬ ‫العز‪« :‬هذا ال يحدث أبدًا في الجامعة‪ ،‬من‬ ‫الجامعة‬ ‫مؤسساتهم‪..‬أماالقديمة‬ ‫تقصدهم توفدهم جامعة بنغازي‬ ‫فال توفد إال األوائــل ومن تنطبق عليهم‬ ‫شروط المعيد وال يمكن أن يتم قبول أستاذ‬ ‫جامعي ال تنطبق عليه شروط المعيد في‬ ‫حالة قدومه من الخارج مباشرة»‪.‬‬ ‫الجامعات الليبية تجد نفسها اليوم في‬ ‫مصيدة السياسة‪ ،‬مطوقة وغير قــادرة‬ ‫على الخروج من عنق الزجاجة‪ُ ،‬م ِ‬ ‫نتظرة‬ ‫ومرتِقبة نهاية األزمات المتعاقبة‪ ،‬وعودة‬ ‫ُ‬ ‫الروح األكاديمية الصافية إليها‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫د‪ .‬نظمي الجعبة‬ ‫جامعة بريزيت‬

‫الجامعات الفلســطينية نشــأت في ِظّل االحتــال‪ ،‬وهي بالمفهوم‬ ‫العــام مؤسســات حديثــة نســبياً‪ ،‬أقدمهــا جامعــة بيرزيــت التي‬ ‫دشــنت كجامعة في العام ‪ ،1972‬بعد أن كانت قد تأسســت كمدرســة في‬ ‫تحولت إلى كلية جامعية‪ .‬يبلغ عدد الجامعات‬ ‫مطلع القرن العشــرين ثم ّ‬ ‫الفلسطينية اليوم ‪ 14‬جامعة موزعة على القدس والضفة الغربية وقطاع‬ ‫غــزة‪ ،‬وبالرغم مــن طاقتها االســتيعابية الكبيرة‪ ،‬إال أن عــددًا وافرًا من‬ ‫طلبة فلسطين مازالوا يتوجهون إلى خارج فلسطين للتحصيل العلمي‪.‬‬

‫‪ ..‬خلف االحتالل‬ ‫تنقسم الجامعات في فلسطين إلى‬ ‫المجموعات التالية‪ :‬الجامعات العامة‪،‬‬ ‫ُتـــدار مــن قبل مجلس أمــنــاء مستقل‬ ‫يمتلكها كمؤسسة غير ربحية غير‬ ‫تشكل غالبية الجامعات‬ ‫حكومية‪ ،‬وهي ّ‬ ‫ويبلغ عــددهــا تسع جامعات‪ ،‬يكون‬ ‫مجلس األمناء ليس مسؤو ًال فقط عن‬ ‫تحديد السياسات العامة وإقرار البرامج‬ ‫المختلفة‪ ،‬بل أيض ًا عن تأمين احتياجات‬ ‫الجامعة خاصة المالية‪ ،‬وال يتدخل في‬ ‫اإلدارة اليومية للمؤسسة ما عدا تعيين‬ ‫رئيس الجامعة‪ ،‬في حين يتم تعيين‬ ‫نواب الرئيس وعمداء الكليات من قبل‬ ‫مجلس األمــنــاء بتوصية مــن رئيس‬ ‫الجامعة‪ .‬تتلقى غالبية هذه الجامعات‬ ‫دعم ًا حكومي ًا رمزي ًا انعدم تقريب ًا خالل‬ ‫السنوات األخيرة في ِظّل تنامي األزمة‬ ‫المالية لدى السلطة الفلسطينية‪ ،‬في‬ ‫حين يساهم الطلبة بأكثر من نصف‬ ‫التكاليف عبر الرسوم الجامعية التي‬ ‫تتراوح بين ‪ 800‬و‪ 1000‬دوالر أميركي‬ ‫فصلياً‪ ،‬ويقوم مجلس األمناء بتجنيد‬ ‫الناقص من األمــوال‪ ،‬إن نجح في ذلك‬ ‫وتبع ًا للظروف‪.‬‬ ‫أمــا الــنــوع الثاني فهو الجامعات‬ ‫الحكومية (جــامــعــتــان)‪ ،‬وتـــدار كأي‬ ‫مؤسسة حكومية أخـــرى‪ ،‬وتخضع‬ ‫‪32‬‬

‫لــــإدارة الــمــبــاشــرة لــــوزارة التعليم‬ ‫العالي‪ .‬أما النوع الثالث‪ ،‬فهو الجامعات‬ ‫الخاصة وعددها ثالث جامعات‪ ،‬وال‬ ‫يغيب وجودها عن الفكرة االستثمارية‪.‬‬ ‫وكل الجامعات في فلسطين هي جامعات‬ ‫دوام كــامــل‪ ،‬مــا عــدا جامعة القدس‬ ‫المفتوحة‪ ،‬وهي أكبر جامعات فلسطين‬ ‫من حيث عدد الطالب‪ ،‬التي تتبع نظام‬ ‫الجامعات المفتوحة‪ .‬تقدم كل الجامعات‬ ‫تقريب ًا درجــة الماجستير في غالبية‬ ‫التخصصات عالوة على البكالوريوس‬ ‫والدبلوم‪ ،‬وبعضها تقّدم برامج محدودة‬ ‫في درجة الدكتوراه‪ ،‬وهي ظاهرة آخذة‬ ‫بالتوسع التدريجي‪.‬‬ ‫تتمتع الجامعات في فلسطين بشكل‬ ‫عــام بسمعة طيبة‪ ،‬بعضها ألسباب‬ ‫تاريخية ولدورها االجتماعي والتعليمي‬ ‫المميز‪ ،‬خاصة لقدرتها الحفاظ على‬ ‫ــل‬ ‫مــســتــوى أكــاديــمــي مــعــقــول فــي ِظ ّ‬ ‫االحتالل والحصار وفي ِظّل عدم توافر‬ ‫الحد المعقول من الحرية األكاديمية‬ ‫الــضــروريــة لــإبــداع‪ ،‬وهــي مسألة لم‬ ‫يكن الوصول إليها بدون تحٍد مجتمعي‪.‬‬ ‫بسبب بنيوية الجامعات‪ ،‬وكون غالبيتها‬ ‫غير حكومية‪ ،‬تتمتع بحرية داخلية‬ ‫وعــاقــات ديموقراطية معقولة غير‬ ‫معتادة في منطقتنا‪ ،‬كما يتمتع الجسم‬

‫الطالبي فيها بقوة تأثير كبيرة في‬ ‫تشكيالت الجامعة وسياساتها وبتمثيل‬ ‫معقول داخل البنى الداخلية للجامعة‪،‬‬ ‫وبهذا فإن االنتخابات السنوية لمجالس‬ ‫الطلبة تأخذ أبعادًا تتجاوز جدران الحرم‬ ‫الجامعي‪ ،‬وتساهم في تشكيل الخارطة‬ ‫السياسية على مستوى الوطن‪ ،‬وتعد‬ ‫هذه االنتخابات حدث ًا يتم تقييم نتائجه‬ ‫بمستويات مختلفة‪ .‬وبالرغم من أهمية‬ ‫هذا األمــر في تشكيل شخصية الطلبة‬ ‫ووعيهم بقضايا شعبهم‪ ،‬إال أنه يتجاوز‬ ‫ح ــدود المعقول فــي بعض األحــيــان‪،‬‬ ‫ويــحــول الــحــرم الجامعي إلــى أماكن‬ ‫للتجاذبات السياسية‪.‬‬ ‫تــواجــه الجامعات فــي فلسطين ما‬ ‫تواجهه الجامعات في العالم العربي‪،‬‬ ‫فــهــي أفــقــر مــن أن تستطيع مواكبة‬ ‫التحديات التكنولوجية المتسارعة‬ ‫وتسخيرها كأدوات ناجعة في التعليم‪،‬‬ ‫وإن لم تفعل ذلك تزداد الهوة عمق ًا بينها‬ ‫وبين من يستطيع ذلــك‪ .‬عــاوة على‬ ‫التحديات والمتغيرات التي تطرأ على‬ ‫الفكر التربوي‪ ،‬والتي تجبر الجامعات‬ ‫على تطوير أساليبها بشكل مستمر‪،‬‬ ‫وهو تحٍد ال تقوى عليه غالبية الجامعات‬ ‫تدن في‬ ‫في فلسطين‪ ،‬ومن َث َّم تؤدي إلى ٍ‬ ‫مستوى التحصيل العملي‪.‬‬


‫جامعة الضفة الغربية‬

‫وبالرغم من إشراف وزارة التعليم‬ ‫الــعــالــي عــلــى التعليم الــجــامــعــي في‬ ‫فلسطين‪ ،‬إال أن غالبية الجامعات قد‬ ‫حافظت على استقالليتها فــي طرح‬ ‫البرامج التي تريد‪ ،‬ما دامــت تتوافق‬ ‫والمعايير المحددة لذلك‪ ،‬وهذا أفقدها‬ ‫بوصلة الحاجة المجتمعية وتوافق‬ ‫برامجها إلى حد ما مع حاجات السوق‪،‬‬ ‫وبالتأكيد هــذه المسألة فيها نظر‪،‬‬ ‫فالبعض يقول إن الجامعة ليست مصنع ًا‬ ‫يقوم بتصنيع المنتجات للسوق حسب‬ ‫احتياجاته‪ ،‬وهناك من يتبع فلسفة أن‬ ‫الجامعة هي مكان إلنتاج المعرفة بكل‬ ‫أبعادها‪ ،‬وهي ليست أسيرة لحاجات‬ ‫السوق وعقلية االستهالك التي تلبي‬ ‫حاجات المستثمر‪ ،‬وليس بالضرورة‬ ‫حاجة المجتمع‪.‬‬ ‫لــم تستطع غالبية الجامعات في‬ ‫فلسطين كــســر ط ــوق الــحــصــار الــذي‬ ‫يفرضه االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬بالرغم‬ ‫من الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل‬ ‫ذلك‪ ،‬وتطوير التفاعل البناء والمتواصل‬ ‫مع جامعات العالم العربي‪ ،‬لكنها تمكنت‬ ‫من تسجيل نجاح نسبي بالتفاعل مع‬ ‫جامعات الــغــرب‪ ،‬كــون الغالبية من‬ ‫أساتذة الجامعات في فلسطين‪ ،‬هم من‬ ‫خريجي الجامعات الغربية‪ .‬ومن َث َّم ال‬

‫توجد أشكال متطورة من التبادل العلمي‬ ‫مع العالم العربي‪ ،‬وال يوجد أي طالب‬ ‫عربي يدرس في الجامعات الفلسطينية‪،‬‬ ‫بالرغم مــن وجــود بضع عــشــرات من‬ ‫الطالب الغربيين الذين يدرسون في‬ ‫جامعة بيرزيت وأقــل منهم ع ــددًا في‬ ‫تتحول الجامعات‬ ‫جامعة القدس‪ .‬كما‬ ‫ّ‬ ‫إلى جامعات مناطق بسبب عزل غزة‬ ‫عن الضفة الغربية وعــزل القدس عن‬ ‫الضفة‪ ،‬وعزل فلسطين عن أماكن تجمع‬ ‫أبــنــاء الشعب الفلسطيني بالشتات‪،‬‬ ‫وبهذا اختفت فكرة الجامعة القادرة على‬ ‫تجميع شباب الوطن الواحد في حرم‬ ‫واحد‪ ،‬لمحو الفوارق القبلية والمحلية‪،‬‬ ‫وللمساهمة في تشكيل الهوية‪.‬‬ ‫لقد نجحت الكثير من الجامعات في‬ ‫بمبان‬ ‫تطوير الحرم الجامعي ورفــده‬ ‫ٍ‬ ‫حديثة تتمتع بخدمات معقولة جــداً‪،‬‬ ‫حيث يكثر المتبرعون من أبناء الشعب‬ ‫الفلسطيني أو من المتبرعين العرب‬ ‫مبان‬ ‫الراغبين في التبرع بتكاليف تشييد ٍ‬ ‫معينة‪ ،‬لكنهم يحجمون عن المساهمة‪،‬‬ ‫إال قــلــي ـاً‪ ،‬بــالــتــكــالــيــف التشغيلية‬ ‫للجامعات وعــلــى رأســهــا الــرواتــب‪.‬‬ ‫وضمن هذا اإلطــار‪ ،‬يمكن الحديث عن‬ ‫المكتبات‪ ،‬والتي لم تصل غالبيتها إلى‬ ‫مستوى تلبية حاجات البحث العلمي‪،‬‬

‫عــاوة على عــدم قدرتها اقتناء الكتب‬ ‫الــحــديــثــة فــي غالبية التخصصات‪،‬‬ ‫وصعوبة الوصول إلى أســواق الكتب‬ ‫وخــضــوع الــكــتــب لتدقيق االحــتــال‪،‬‬ ‫مما يعني اختفاء الكثير من الكتب من‬ ‫مكتبات الجامعات نتيجة مقص الرقيب‬ ‫اإلسرائيلي‪.‬‬ ‫تعاني اليوم غالبية جامعات فلسطين‬ ‫من أزمة مالية خانقة‪ ،‬فقد بلغ‪ ،‬على‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬العجز المالي في جامعة‬ ‫بيرزيت الــعــام ‪ 2013‬حــوالــي سبعة‬ ‫ماليين دوالر‪ ،‬وال توجد أية آفاق لحل‬ ‫اإلشكالية المرشحة للتفاقم‪ ،‬فقد فشلت‬ ‫السلطة الوطنية ومؤسسات المجتمع‬ ‫المدني من توفير األمان المالي النسبي‬ ‫للجامعات‪ ،‬فعمدت بعضها إلى زيادة‬ ‫عــدد الطلبة لتخفيف األعباء المالية‪،‬‬ ‫بالرغم من التبعات السلبية للقرار على‬ ‫مستوى التحصيل األكاديمي وأبحاث‬ ‫المدرسين‪ .‬إن الواقع الحالي للجامعات‬ ‫الفلسطينية ال يبشر بمستقبل واعــد‪،‬‬ ‫فهي مرشحة ألن يتراجع فيها مستوى‬ ‫التحصيل العلمي‪ ،‬كما أن البحث العلمي‬ ‫مرشح للتراجع سواء أكان على مستوى‬ ‫الكم أم مستوى الكيف‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫موناليزا فريحة‬

‫فــي العــام ‪ ،1975‬اندلعــت الحــرب اللبنانية األهليــة‪ ،‬وكانت‬ ‫بمثابة القدر المأســاوي الذي انتهى إليه تاريخ لبنان الحديث‪،‬‬ ‫هــذه الحرب لم تفاجئ اللبنانيين أنفســهم وال الدول العربية والعالم على‬ ‫رغــم العنــف الذي ســادها‪ ،‬فمعالمها بــدأت بالظهور في األعوام الســابقة‬ ‫لهــا وبخاصــة فــي العاميــن ‪ 1973‬و‪ 1974‬فــي قلــب الجامعــة اللبنانية‬ ‫وســائر الجامعات الخاصة‪ ،‬كالجامعة األميركية والجامعة اليســوعية أو‬ ‫الجزويتية‪.‬‬

‫صراع وانقسام‬ ‫ـل م ــا كـــان يــحــصــل ف ــي حــرم‬ ‫ول ــع ـ ّ‬ ‫الجامعة وفي محيطها كان أشبه بصورة‬ ‫صغرة عما حصل في الحرب‪ ،‬ولكن‬ ‫ُم ّ‬ ‫بعيدًا عن العنف الرهيب‪ ،‬فالطالب لم‬ ‫يكونوا يملكون أسلحة وال عتادًا ولم‬ ‫تتعد حروبهم السياسية واأليديولوجية‬ ‫المواجهة اللفظية والتضارب باأليدي‬ ‫وفي أحيان قليلة جرى إطالق نار‪ ،‬من‬ ‫المعروف في لبنان أن الجامعة اللبنانية‬ ‫أو الوطنية ليست هي الجامعة األولى‬ ‫زمنياً‪ ،‬لقد سبقتها الجامعة األميركية‬ ‫والجامعة اليسوعية اللتان يعود تاريخ‬ ‫تأسيسهما إلى القرن التاسع عشر وما‬ ‫قبل‪ .‬الجامعة اللبنانية أسست عام ‪1951‬‬ ‫وراحــت ترسخ كلياتها واختصاصاتها‬ ‫حتى أصبحت خــال عقدين مــن أشد‬ ‫الجامعات استقطاب ًا للطالب‪ ،‬ال سيما‬ ‫الذين ينتمون إلــى الطبقتين الفقيرة‬ ‫والوسطى‪ .‬فالتعليم فيها مجاني على‬ ‫عكس الجامعات الخاصة التي كانت‬ ‫مرتفعة األقساط وحكرًا على الطبقات‬ ‫الــثــريــة‪ .‬ومــن هنا كــان على الجامعة‬ ‫اللبنانية أن تقود الـ ِ‬ ‫ـحـ َـراك السياسي‬ ‫والثقافي وتستقطب الحركات الحزبية‪،‬‬ ‫اليسارية‪ ،‬اليمينية‪ ،‬التقدمية والرجعية‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫وكانت هذه الجامعة ساحة للمواجهات‬ ‫التي كانت تمثل الصراع الــذي تشهده‬ ‫الحياة الثقافية والسياسية في البلد‪.‬‬ ‫الالفت في هذا السياق هو أن الجامعة‬ ‫اللبنانية كانت هي المركز الذي صبت فيه‬ ‫بقية التيارات التي تنتمي إلى الجامعات‬ ‫الــخــاصــة‪ .‬فــقــد ضــمــت كــل الــشــرائــح‬ ‫االجتماعية اللبنانية من خالل مرجعيات‬ ‫المتعّددة‪،‬‬ ‫طالبها وجذورهم وبيئاتهم ُ‬ ‫واستقطبت تيارات الطالب المنحدرين‬ ‫من طبقات عليا‪ ،‬ثرية ونافذة وال سيما‬ ‫طــاب الجامعة اليسوعية والجامعة‬ ‫األميركية الذين ينتمي الكثيرون منهم‬ ‫إلى البرجوازية‪ ،‬المسيحية واإلسالمية‪.‬‬ ‫كانت الجامعة اللبنانية في مقدمة ِ‬ ‫الحَراك‬ ‫السياسي والحزبي‪ ،‬هي التي تقرر مبدأ‬ ‫التظاهر واإلضراب وحركات االحتجاج‬ ‫والمواجهة سواء أكانت مع رموز النظام‬ ‫السياسي أم مع الشرطة أم مع األحزاب‬ ‫نفسها وفق انتماءات الطالب أنفسهم‪ً.‬‬ ‫وبــرزت بين اليمين واليسار كتلة‬ ‫طالبية سياسية علمانية حملت اسم‬ ‫«حركة الوعي» جمعت في صفوفها طالب ًا‬ ‫من كل الطوائف يؤمنون بالعلمانية‬ ‫والــحــوار والــعــدالــة وقــد ساهمت في‬

‫تأسيس هذه الحركة أسماء ما برحت‬ ‫أن لمعت الحــق ـ ًا فــي الحياة الثقافية‬ ‫والسياسية من أمثال الدكتور عصام‬ ‫خليفة والــدكــتــور انــطــوان الــدويــهــي‬ ‫والشاعر بول شاوول وسواهم‪.‬‬ ‫كان للطالب الجامعيين قبل الحرب‬ ‫وخــالــهــا دور رئــيــســي فــي التغيير‬ ‫والتمرد والدعوة إلى اإلصالح‪.‬‬ ‫والرفض‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫كــان الــطــاب نـــواة ال ــح ـ َـراك الثقافي‬ ‫والسياسي الذي قاد لبنان إلى حال من‬ ‫االنقسام والتشرذم بعدما وقعت الحرب‬ ‫وحل السالح محل الكلمة‪ .‬وبعد اندالع‬ ‫الحرب كان على الجامعة اللبنانية أن‬ ‫تنقسم على نفسها بحسب انقسام لبنان‬ ‫وعاصمته التي أصبحت شرقية وغربية‪.‬‬ ‫وسرعان ما استحدثت فروع في المناطق‬ ‫كــافــة‪ ،‬منقسمة على نفسها أكاديمي ًا‬ ‫وسياسي ًا وطائفياً‪ .‬ولكن‪ ،‬ما أن َح َّل‬ ‫السلم األهلي المتمثل بـ«اتفاق الطائف»‬ ‫حتى بــرزت مــحــاوالت إلع ــادة توحيد‬ ‫الجامعة اللبنانية وتوحيد صفوف‬ ‫طالبها‪ .‬لكن هذه المحاوالت لم تنجح إال‬ ‫جزئي ًا ال سيما بعد بروز تيارات حزبية‬ ‫شبه جديدة‪ ،‬طائفية بمعظمها‪.‬‬ ‫في هــذا السياق كــان ال بد من لقاء‬


‫الجامعة األميركية ببيروت‬

‫الدكتور عصام خليفة‪ ،‬المناضل العريق‬ ‫والــدائــم ورئــيــس لجنة األســاتــذة في‬ ‫الجامعة اللبنانية‪ ،‬فقد رافــق الحركة‬ ‫الــطــابــيــة ويــرافــقــهــا‪ .‬يــقــول خليفة‬ ‫لـــ«الــدوحــة»‪« :‬مــن الطبيعي أن تكون‬ ‫الجامعات في طليعة ِ‬ ‫الحَراك الثقافي‪،‬‬ ‫خصوص ًا أنها أساس مجتمع المعرفة‪.‬‬ ‫الجامعة اللبنانية اضطلعت بــدور في‬ ‫ِ‬ ‫الحَراك السياسي والثقافي واألكاديمي‬ ‫في البالد‪ ،‬فقد كانت ملتقى التيارات‬ ‫الــعــقــائــديــة والــفــكــريــة فــي المجتمع‪.‬‬ ‫الجامعة التي كــان يفترض أن تكون‬ ‫صورة مجتمع الغد كانت ُمختبرًا لتفاعل‬ ‫التيارات المؤثرة فيها‪ .‬في ذاك الوقت‪،‬‬ ‫كانت حركة األساتذة والطالب جزءًا من‬ ‫الحركة المطلبية في المجتمع‪ .‬وكان‬ ‫المجتمع يتعاطف مع قضايا الجامعة‬ ‫اللبنانية عموماً‪.‬‬ ‫وبعد الحرب تأثر وضــع الجامعة‬ ‫بوضع المجتمع لجهة االنقسام العنفي‪.‬‬ ‫ووضعت قوى األمــر الواقع يدها على‬ ‫الجامعة وهيئاتها الطالبية على الرغم‬ ‫من مقاومة بعض األســاتــذة وطالبهم‬ ‫باستقالل الجامعة والحريات األكاديمية‪.‬‬ ‫وبالنتيجة نجحت قــوى األمــر الواقع‬

‫بوضع يدها على إدارة الجامعة‪ ،‬فكانت‬ ‫تعين من تريد وتقيل من تريد‪.‬وبذلك‪،‬‬ ‫انتقلت الجامعة اللبنانية من االستقالل‬ ‫عن السياسيين الــذي أرســاه الدكتور‬ ‫إدمـــون نعيم إلــى التبعية‪ .‬فــي هذه‬ ‫الفترة‪ ،‬استمر العطاء الثقافي للجامعة‬ ‫لجهة اإلنتاج األكاديمي لألساتذة وإن‬ ‫يكن بمستوى أقل‪ .‬وبقيت الجامعة خزان ًا‬ ‫للتيارات الفكرية‪ ،‬فعقدت مؤتمرات‬ ‫وأصدرت كتباً‪ ،‬ولكن ذلك تأثر إلى حد‬ ‫كبير باألزمة القائمة في البلد»‪.‬‬ ‫وعــن ســؤال حــول مــقــدرة الجامعة‬ ‫اللبنانية تحديدًا في االنخراط في العمل‬ ‫السياسي‪ ،‬يجيب خليفة قائالً‪« :‬في عام‬ ‫‪ ،1964‬رفض مجلس الجامعة اللبنانية‬ ‫المرسوم االشتراعي الرقم ‪ ،112‬الذي‬ ‫يمنع موظفي الــدولــة مــن االنــخــراط‬ ‫في العمل السياسي‪ .‬ففي حينه أبلغ‬ ‫المجلس مجلس الخدمة المدنية قراره‬ ‫أن من واجب األستاذ الجامعي‪ ،‬ال من‬ ‫حقه فحسب‪ ،‬أن يقيم األبحاث وأن يكتب‬ ‫ويطلق مواقف‪ ،‬فاألستاذ سلطة معرفية‬ ‫قائمة بذاتها‪ .‬وحاولت السلطة السياسية‬ ‫مــرارًا إرســال تعاميم تطالب األساتذة‬ ‫بااللتزام بالمرسوم ‪ ،112‬إال أن الهيئة‬

‫التعليمية ممثلة برابطة األساتذة رفضت‬ ‫ذلك‪ ،‬واحتكمت في قرارها إلى الشرعة‬ ‫العالمية للتعليم العالي والقوانين‬ ‫الــدولــيــة‪ .‬ومــع ذلـــك‪ ،‬كــانــت السلطة‬ ‫االستبدادية وأجهزة المخابرات في البلد‬ ‫تشرف على أســاتــذة الجامعة وتمنع‬ ‫الكتابة والنشر»‪.‬‬ ‫لبنان واقــع في فالق صراعي بين‬ ‫واقعه الجيوسياسي من جهة وانقسام‬ ‫داخلي من جهة ثانية وهما يضربان‬ ‫أسس ًا كثيرة فيه‪ .‬واألزمة تنعكس ال على‬ ‫الوضع السياسي فحسب‪ ،‬وإنما على‬ ‫الوضع الثقافي واألكاديمي‪ .‬لكن ذلك ال‬ ‫يمنع أن حرية الكتابة قائمة في بيروت‪،‬‬ ‫ومطابعها ال تزال تنتج ‪ % 60‬من الكتب‬ ‫العربية‪ ،‬مــع تــراجــع تأثير الجامعة‬ ‫أكاديمي ًا وثقافي ًا وفكري ًا عن السابق‬ ‫بسبب ممارسات السلطات المتعاقبة‬ ‫وغــيــاب الــقــانــون وســيــطــرة الــقــوى‬ ‫الحزبية‪ ،‬ويشمل ذلك الشهادات المزورة‬ ‫لألساتذة والمحسوبيات في التوظيف‪..‬‬ ‫الجامعة اللبنانية هي كالمجتمع اللبناني‬ ‫في حال صراع وانقسام‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫نختلف لنتعلم‬ ‫نوميي فريّو‬ ‫مرتجمة وأستاذة إسبانية‬ ‫عالقتي بالجامعات العربية تحمل‬ ‫وجهين‪ .‬فــي الــبــدايــة‪ ،‬جلست كطالبة‬ ‫للغة العربية لغير الناطقين بها‪ ،‬ثم‬ ‫وقفت كأستاذة للغة اإلسبانية لغير‬ ‫الناطقين بها‪ .‬وحاولت أن أجد وجه ًا ثالث ًا‬ ‫بالجلوس بين الطلبة العرب الذين لم‬ ‫يكونوا يدرسون لغتي‪ ،‬ولكن التجربة لم‬ ‫ال لسوء الحظ‪.‬‬ ‫تدم طوي ً‬ ‫ّ‬ ‫أن الجامعة كمؤسسة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫شــك‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫تتولى أمور التدريس والتأهيل‪ ،‬وتلعب‬ ‫دورًا بــالــغ األهــمــيــة داخـــل المجتمع‪،‬‬ ‫وعليه‪ ،‬مــاذا ينبغي أن يطلب الطالب‬ ‫أقل‬ ‫العربي من الجامعات العربية؟ ليس ّ‬ ‫مما يطلب الطالب األوروبي أو األميركي‬ ‫أو الياباني من أي جامعة حديثة أخرى‪.‬‬ ‫دعونا نسأل‪ :‬هل توجد جامعة عربية أم‬ ‫جامعات عربية؟ هل الطالب الموريتاني‬ ‫ال يتابع المواد نفسها التي يدرسها‬ ‫مث ً‬ ‫ال في‬ ‫الطالب اإلمــاراتــي أو القطري مث ً‬ ‫مــجــاالت الــطــب أو األدب أو العلوم‬ ‫تعددة عشتها مع‬ ‫السياسية؟ مواقف ُم ِّ‬ ‫طالب عرب‪ ،‬من عدة دول‪ ،‬مستوياتهم‬ ‫العلمية متفاوتة في الجودة‪ ،‬تجعلني‬ ‫ـوحــدة‬ ‫أشعر بأنه ال توجد سياسة ُمـ َّ‬ ‫للعالم العربي فيما يتعلق بالدراسات‬ ‫العليا‪ ،‬فالرعاية التي يحظى بها طالب‬ ‫هــذه الــدولــة تختلف عن الرعاية التي‬ ‫يحظى بها طالب دولة أخرى‪ ،‬ومن هنا‬ ‫يأتي التفاوت بين الطلبة‪.‬‬ ‫ومـــن خـــال معايشتي للعمليات‬ ‫التعليمية‪ ،‬كأستاذة زائ ــرة أجنبية‪،‬‬ ‫أستطيع أن ُأِقّدم بعض األفكار والرؤى‬ ‫من أجل التفكير في تحسين األداء في‬ ‫الطور الجامعي‪.‬‬ ‫الجامعة قد تكون أحيان ًا مكان ًا بدون‬ ‫يتم تكرار نموذج تعليم‬ ‫فاعلية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫‪36‬‬

‫مستخدم في المراحل الدراسية السابقة‪.‬‬ ‫نموذج تبذل فيه جهود هائلة فيما يخص‬ ‫الحفظ غيباً‪ ،‬حفظ آلــي ال يحفز على‬ ‫التفكير وال يدعو لالبتكار‪.‬‬ ‫مــن البديهي أن فعل الحفظ لديه‬ ‫إيجابيات كثيرة ومفيدة في التعليم‬ ‫ولن أناقش هذا األمر‪ -‬ولكن أيض ًا ال بّد‬‫أال ننسى أن جزءًا ُمهم ًا آخر من التعليم‬ ‫لن يظهر إذا انحصر جهد الطالب في تكرار‬ ‫كالم اآلخرين أو كالم األستاذ‪ .‬الدراسة‬ ‫يجب أن تكون‪ ،‬في األساس‪ ،‬بئر أسئلة‪،‬‬ ‫ومن ثم فواجب األستاذ هو أن يشجع‬ ‫تلك األسئلة التي في أحيان كثيرة ال‬ ‫يتجرأ الطالب بالتفكير فيها‪.‬‬ ‫إن هذه المشكلة ليست‬ ‫في الحقيقة‪ّ ،‬‬ ‫محصورة في الجامعات العربية‪ ،‬بل‬ ‫هي منتشرة في جامعات الغرب‪ .‬الفرق‬ ‫الوحيد بين الجامعات في البلدان العربية‬ ‫والجامعات في الغرب قد يكون فقط‬ ‫في سبل اإلقناع التي يتبعها األساتذة‬ ‫في التعليم‪ ،‬باالبتعاد شيئ ًا فشيئ ًا عن‬ ‫نموذج الحفظ‪ ،‬واالقــتــراب من نموذج‬ ‫يعتمد على االستيعاب والتحليل‪.‬‬ ‫خبرتي بتدريس اللغة اإلسبانية في‬ ‫أن الطالب‬ ‫الجامعات العربية علمتني ّ‬ ‫العرب متعودون على الحفظ‪ ،‬وهذا شيء‬ ‫جيد لكثير من المهارات اللغوية‪ ،‬خاصة‬ ‫في المستويات االبتدائية‪ .‬وال أذكر أي‬ ‫عالم لغة قــال إن تعليم النحو يجعل‬ ‫حرًا بمعنى أنه يعطيه قدرة إنتاج‬ ‫الطالب ّ‬ ‫لغة ليست لغته األم‪ ،‬ولكن أظن أننا قد‬ ‫نطبق المعنى نفسه على دراسات أخرى‪.‬‬ ‫ال أدري ما سبب ميل بعض األساتذة إلى‬ ‫عدم التشجيع على التحليل والتفكير‪،‬‬ ‫ربما ألننا نخشى الحرية؟ أو أن التفكير‬ ‫والتحليل الطازجين‪ ،‬لدى بعض الطالب‬

‫األذكــيــاء‪ ،‬قد يكشف محدودية مستوى‬ ‫األســتــاذ‪ ،‬الـــذي ربــمــا لــم يكن قــد نال‬ ‫شهادته بجهده‪ ،‬إنما بطرق أخرى‪ ..‬هو‬ ‫مجرد سؤال وال أقصد اتهام أحد‪.‬‬ ‫لما يعيش المرء تجربة الوقوف أمام‬ ‫مجموعة طالب ينظرون إليه ويستمعون‬ ‫إلى كالمه قد يشعر بأحاسيس مختلفة أو‬ ‫متناقضة‪ ،‬بحسب شخصيته‪ .‬أول شيء‬ ‫شعرت به بين الطالب العرب كان شعورًا‬ ‫بمسؤولية كبيرة‪ .‬قالوا لي في الخارجية‬ ‫اإلسبانية إنــنــي واألســاتــذة اإلســبــان‬ ‫اآلخـــرون ســوف نكون وجــه إسبانيا‬ ‫في الخارج‪ ،‬وهــذا الموضوع بالضبط‬ ‫جعلني أرغب في الهروب مباشرة إلى‬ ‫االتجاه المعاكس‪ .‬ما هو وجه إسبانيا؟‬ ‫هل أملك أنــا وجه ًا إسبانياً؟ كابوس‬ ‫حقيقي كان يتعقبني لنصف ساعة قبل‬ ‫كل محاضراتي‪ .‬كيف هو وجــه شعب‬ ‫خمسة وأربعين مليون نسمة؟ لم أكتشف‬ ‫الجواب أبداً‪ ،‬ولحسن الحظ اختفى قلقي‬ ‫بعد فترة صعبة‪..‬فأنا لم ُأعلِّم التالميذ‬ ‫بوجهي‪ ،‬إنما بقلبي وما به من نور‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬المطلوب من أي جامعة حديثة‬ ‫هو االستقالل‪ ،‬استقالل عن السياسة‬ ‫وعــن السلطة وعــن أي نــوع من أنــواع‬ ‫الرقابة التي تهدف إلى السيطرة على‬ ‫حــريــة التفكير‪ .‬هــل تــكــون الجامعة‬ ‫مؤسسة مستقلة؟هل تكون الجامعة مكان ًا‬ ‫مفتوح ًا للنقاش والنقد؟ هل يجد الطالب‬ ‫الــعــربــي‪ ،‬مــن موريتانيا إلــى ُعــمــان‪،‬‬ ‫إمكانيات للبحث الحر والمستقل عن رأي‬ ‫قيم امتحانه؟ ما أحب‬ ‫أستاذه‪ ،‬الــذي ُي ّ‬ ‫قوله هو أن نستمر في التمارين الحيوية‬ ‫لتنشيط العقل‪ ،‬والتي لن تأتي إال بشيء‬ ‫واحد وهو اختالف اآلراء‪ ،‬فلنختلف كي‬ ‫نتعلم أكثر‪.‬‬


‫فاصلة‬

‫عبد السالم بنعبد العالي‬

‫‪ 12‬أطروحة حول المثقف‬ ‫«إذا كان الناس يتهافتون نحو األضواء‪،‬‬ ‫حسنوا من قدراتهم‬ ‫فليس ذلك لكي ُي ِّ‬ ‫على اإلبصار‪ ،‬وإنما لكي يزداد لمعانهم‪.‬‬ ‫وهذا الذي يلمعون أمامه ُيعَتبر نوراً»‬ ‫ف‪.‬نيتشه‬ ‫‪ -1‬عل ــى عك ــس م ــا يقول ــه غوس ــتاف فلوبي ــر ع ــن الروائ ــي‬ ‫«مــن كونــه ينبغــي أن يتــوارى خلــف أعمالــه»‪ ،‬فــإن المثقفيــن‬ ‫الي ــوم يجعل ــون أعماله ــم تت ــوارى خل ــف صوره ــم‪ ،‬عونه ــم‬ ‫الكبي ــر ف ــي ذل ــك ه ــو الوس ــائط اإلعالمي ــة‪.‬‬ ‫‪ -2‬إذا كان المثقـــف لـــم يســـهم فـــي االنتفاضـــات‪ ،‬فـــإن‬ ‫االنتفاضــات قــد نالــت منــه‪ ،‬ولــم تتركــه علــى حالــه‪ .‬فهــي قــد‬ ‫بدل ــت صورت ــه عن ــد الغي ــر‪ ،‬وزعزع ــت صورت ــه ع ــن نفس ــه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ -3‬ل ــم يك ــن ش ــعار «ارح ــل» موجهــ ًا لس ــلطة أو ح ــزب أو‬ ‫جماع ــة حاكم ــة فحس ــب‪ ،‬وإنم ــا كان موجهــ ًا أساســ ًا لعالئ ــق‬ ‫اجتماعيـــة وعوائـــد أخالقيـــة وأســـاليب فكريـــة‪ .‬إنـــه ُو ّجـــه‬ ‫لمفهوماتنـــا عـــن اإلنســـان والمجتمـــع والفكـــر والتاريـــخ‪،‬‬ ‫يتعل ــق أساســ ًا باس ــتبدال أنظم ــة‪ ،‬وإنم ــا بتغيي ــر‬ ‫فاألم ــر ال َّ‬ ‫ذهنيـــات‪.‬‬ ‫‪ -4‬مض ــى زم ــن كان ــت الدهش ــة كافي ــة ألن توق ــظ الفك ــر‪.‬‬ ‫مقابـــل دهشـــة األقدميـــن‪ ،‬خجـــل المحدثيـــن‪.‬‬ ‫‪ -5‬صم ــت المثق ــف‪ :‬كث ــر الحدي ــث بع ــد «الربي ــع» ع ــن عزل ــة‬ ‫المثقـــف وصمتـــه‪ ،‬ولـــم ينظـــر لذلـــك الصمـــت إال كموقـــف‬ ‫س ــلبي‪ .‬الصم ــت يك ــون ف ــي بع ــض األحي ــان إيجاب ـ ًا وفعالي ــة‪.‬‬ ‫قـــد يكـــون الصمـــت توقفـــ ًا عـــن الـــكالم‪ ،‬إال أنّـــه يغـــدو فـــي‬ ‫أحي ــان أخ ــرى ُمقاوم ــة وإضرابــ ًا ع ــن ال ــكالم‪.‬‬ ‫تتمي ــز المقاوم ــة ع ــن المفه ــوم الج ــاري ع ــن النّض ــال‪.‬‬ ‫‪ّ -6‬‬ ‫النّضـــال يتبنّـــى عقيـــدة وينخـــرط ضمـــن عائلـــة‪ .‬مـــا يبعـــد‬ ‫يميـــز المنظومـــة‬ ‫النضـــال عـــن المقاومـــة‪ ،‬هـــو بالضبـــط مـــا ّ‬

‫العقائديـــة عـــن الشـــبكة‪.‬‬ ‫تتحـــدد المقاومـــة بلونهـــا و«مضمونهـــا» بقـــدر مـــا‬ ‫‪ -7‬ال‬ ‫َّ‬ ‫تتعي ــن بم ــا تق ــوم ب ــه‪ .‬فه ــي ال يمك ــن أن ُت َع ـ ّـرف إال إجرائيــ ًا‬ ‫َّ‬ ‫تتعي ــن بالمس ــار‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫هايدغ‬ ‫دروب‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫مث‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـتراتيجي‬ ‫ـ‬ ‫واس‬ ‫َّ‬ ‫الســـير‪ .‬إنهـــا ال تنخـــرط فـــي مواقـــف‬ ‫الـــذي ّ‬ ‫تخطـــه أثنـــاء ّ‬ ‫ومذاهـــب وتيـــارات‪ ،‬وإنمـــا تشـــكل شـــبكات‪.‬‬ ‫‪ -8‬ال يتبقَّـــى للمثقـــف إال االنخـــراط فـــي شـــبكات مقاومـــة‬ ‫تســـعى جهدهـــا إلـــى بلـــورة أســـئلة وإحـــداث شـــروخ فـــي‬ ‫والتخش ــب وتكري ــس الباله ــة ‪la‬‬ ‫عال ــم ينح ــو نح ــو التنمي ــط‬ ‫ُّ‬ ‫‪.bêtise‬‬ ‫‪ -9‬ليســت البالهــة مجــرد الحماقــات ‪ ،les bêtises‬وليســت‬ ‫ه ــي الب ــادة أو الجه ــل‪ ،‬وإنم ــا الالفك ــر ال ــذي تنط ــوي علي ــه‬ ‫األف ــكار الجاه ــزة‪.‬‬ ‫‪ -10‬الحديـــث عـــن شـــبكات مقاومـــة يعنـــي أساســـ ًا أن‬ ‫الرفـــض‪ .‬يتعلـــق‬ ‫ليســـت هنـــاك نقطـــة بعينهـــا هـــي مـــكان ّ‬ ‫الرف ــض م ــن دون س ــعي نح ــو‬ ‫األم ــر بفس ــح المج ــال ألش ــكال ّ‬ ‫توحيده ــا وإخضاعه ــا لس ــيادة ال ــكل‪ ،‬أو اختزاله ــا ف ــي موق ــف‬ ‫ســـمى نفســـه يســـاراً‪.‬‬ ‫بعينـــه‪ ،‬حتـــى وإن َّ‬ ‫‪ -11‬المقاومـــة ال «تقـــف» يســـارًا فتعلنهـــا حربـــ ًا ضـــد كل‬ ‫تتموض ــع جه ــة الحقيق ــة فتعلنه ــا حرب ـ ًا عل ــى‬ ‫يمي ــن‪ ،‬وه ــي ال‬ ‫َ‬ ‫الحـــق فتعلنهـــا حربـــ ًا علـــى الباطـــل‪ ،‬وال‬ ‫الخطـــأ‪ ،‬وال جهـــة‬ ‫ّ‬ ‫جه ــة الخي ــر فتعلنه ــا حربــ ًا عل ــى الش ـّـر‪ .‬إنه ــا تعم ــل‪ ،‬ب ــدءاً‪،‬‬ ‫عل ــى تفكي ــك ه ــذه الثنائي ــات الميتافيزيقي ــة‪.‬‬ ‫ترســـخ‬ ‫‪ -12‬ال يلحقنـــا‬ ‫ُّ‬ ‫التخشـــب والتبلُّـــد فحســـب مـــن ُّ‬ ‫مقوالتنـــا فـــي الماضـــي‪ ،‬وال مـــن ترديـــد مقـــوالت‬ ‫«اس ــتوردناها»‪ ،‬وإنم ــا أيضــاً‪ ،‬وربم ــا أساســاً‪ ،‬مم ــا نتش ـ َّـربه‬ ‫لحظيـــ ًا مـــن أشـــكال الالفكـــر التـــي نتغـــذَّى عليهـــا‪ ،‬وممـــا ال‬ ‫يرســـخه فينـــا‪.‬‬ ‫ينفـــك «مجتمـــع الفرجـــة» ِّ‬ ‫‪37‬‬


‫مقال‬

‫عالء صادق‬

‫توارت كرة القدم (أفيون المصريين) في ِ‬ ‫الظّل بعد أن أدمن الشعب السياسة‬ ‫في السنوات األخيرة‪.‬‬ ‫اختفى السؤال التقليدي (أنت أهالوي ّ‬ ‫وتحول مؤخرًا إلى‬ ‫ول زملكاوي؟)‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫سؤال سياسي بحت (أنت سيساوي ّ‬ ‫ول إخوان؟)‪ ..‬وال ينتهي األمر باتفاق‬ ‫أو امتعــاض كســابقه‪ ،‬ولكنه يســفر دائم ًا عن عنــاق أو خناق‪ ..‬وال يكمل‬ ‫الطرفان عالقتهما اإلنسانية أبدًا إذا كانا مختلفين‪.‬‬

‫حسرة الحكيم‬

‫أفيون المصريين الجدد‬ ‫كان طبيعي ًا أن نرى األخ أهالوي ًا متعصب ًا وشقيقه زملكاوي ًا‬ ‫متحمساً‪ ،‬والعالقة بينهما ممتازة‪ ..‬وتغطي الصور الحمراء‬ ‫لنجوم األهلي جدران غرفة األول‪ ،‬بينما يكسو اللون األبيض‬ ‫المميز للزمالك غرفة الثاني‪ ..‬فاألنظمة السياسية من عصر‬ ‫وظفت شغف المصريين‬ ‫جمال عبد الناصر إلى حسني مبارك ّ‬ ‫الزائد بكرة القدم إلبعادهم عن السياسة وعن الحياة الحزبية‪..‬‬ ‫وتفنّنت الحكومات في إعــاء شــأن الرياضة وكــرة القدم‬ ‫ومباريات الدوري العام وإغراق الصحف باألخبار والصور‪،‬‬ ‫حتى أصبحت مباراة األهلي والزمالك في الستينيات الحدث‬ ‫األوحــد الذي تخلو فيه شــوارع مصر من السيارات والمارة‬ ‫لمدة ساعتين‪ ..‬واستخدم حسني مبارك نجاح منتخب مصر‬ ‫بين عامي ‪ 2006‬و‪ 2010‬كمحرك عمالق لدعم توريث نجله‬ ‫جمال ليخلفه في رئاسة الجمهورية‪ ..‬واحتلت انتصارات‬ ‫منتخب مصر اإلفريقية صدر الصفحات األولــى في الصحف‬ ‫اليومية السياسية حتى الرصين منها‪ ..‬وهو األمر الذي دفع‬ ‫والمفكرين إلى السخرية من الحكومات‬ ‫العشرات من الفالسفة‬ ‫ِّ‬ ‫والصحف وسياساتها في إغراق الشعب في إدمان كرة القدم‪..‬‬ ‫وتداول المثقَّفون في السبعينيات كلمات األديب توفيق الحكيم‪:‬‬ ‫«وانتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم!»‪ ..‬عبارة عنونت مقا ًال‬ ‫للكاتب أنيس منصور‪ ،‬في صحيفة األهرام‪ ،‬جاء فيه‪« :‬رحم‬ ‫اهلل أستاذنا توفيق الحكيم‪ ..‬لقد مات من الحسرة‪ ..‬قرأ أن‬ ‫أحد العبي كرة القدم‪ ،‬وهو دون العشرين‪ ،‬قد دفعوا له ثالثة‬ ‫ماليين جنيه‪ ..‬وعلى الفور أمسك توفيق الحكيم قلم ًا وورق ًا‬ ‫وراح يحسبها‪ ..‬وخرج من عمليات الحساب هذه بأن جميع‬ ‫األدباء المصريين من آدم حتى توفيق الحكيم لم يكسبوا ثالثة‬ ‫‪38‬‬

‫ماليين جنيه»‪ ..‬وكتب عباس العقاد ساخرًا من إهمال ِ‬ ‫العلم‬ ‫والثقافة واقتصار االهتمام على كرة القدم‪« :‬ركلة بالقدم تمنح‬ ‫صاحبها ما ًال وشهرة ومجدًا أكثر من عشر رسائل دكتوراه أو‬ ‫عشرين ديوان شعر»‪.‬‬

‫اندثار الكرة‬ ‫كرة القدم تراجعت كثيرًا بعد ثورة ‪ 25‬يناير ‪ ،2011‬وتوقّف‬ ‫نشاطها شهورًا طويلة دون أي مضض من الجماهير التي‬ ‫كانت تتلهف للمباريات وضجيج المدرجات ومظاهرات الفرح‬ ‫في الشوارع‪ ..‬وما لبثت أحداث عنف كارثية أودت بحياة ‪74‬‬ ‫مشجع ًا من جماهير األهلي بعد مباراة الدوري في بورسعيد أن‬ ‫ِّ‬ ‫أوقفت اللعبة نهائي ًا زهاء عام كامل‪ ..‬وعادت بعدها المباريات‬ ‫وراء أبواب مغلقة ومدرجات خالية‪ ،‬يرتفع فيها نعيق الغربان‬ ‫فوق صراخ المدربين وصفارات الحكام‪.‬‬ ‫تراجع النشاط الكروي يواكب تنامي النشاط السياسي‬ ‫بين الشباب‪ ،‬من طالب الجامعات وروابط األلتراس المنتمية‬ ‫لألندية المختلفة‪ ،‬ال سيما ألتراس األهلي‪ ،‬الذي تواجد بكثافة‬ ‫في ميدان التحرير خالل ثورة يناير‪ ..‬وانضمت إليهم جموع‬ ‫هائلة من رواد مواقع التواصل االجتماعي‪ ..‬وتوجهت طاقات‬ ‫الشباب واهتماماتهم وقراءاتهم وتحركاتهم ومظاهراتهم‬ ‫إلى دنيا السياسة بضبابيتها الكثيفة‪ ..‬ونظرًا لنقص الوعي‬ ‫السياسي لدى األغلبية من الشباب حديثي العهد بتلك القضايا‪،‬‬ ‫تعّددت األخطاء من ناحيتهم وتعرضوا للخداع أو لالستخدام‬ ‫من محترفي السياسة‪ ،‬سواء أكانوا من رجال الدولة العميقة‬ ‫مجددًا‬ ‫تمهيدًا للقفز َّ‬ ‫التابعين لنظام مبارك والقابعين في الظل ّ‬


‫على السلطة‪ ..‬أم من التيارات اإلسالمية التي طفت على‬ ‫السطح بعد سنوات من القمع والكبت‪ ،‬أو من السياسيين الجدد‬ ‫الذين انتهزوا الفرصة للقفز على السطح على أكتاف الشباب‬ ‫بشعارات ثورية ووعود خيالية‪.‬‬

‫محيط السياسة‬ ‫الغرق في محيط السياسة أدخل المصريين في انقسام‬ ‫جديد بين مؤيدين لثورة يناير وبين رافضين إلبعاد الرئيس‬ ‫حسني مبارك من الحكم‪ ..‬وتوهم الماليين من المصريين من‬ ‫حديثي العهد بالسياسة ومن السعداء بممارستها بعد غياب أو‬ ‫قهر طويلين أنهم أدركوا غايتهم‪ ..‬وعشقوا اللعبة وصاروا‬ ‫حريصين على الغرق في ممارستها حتى تمكن منهم محترفو‬ ‫اللعبة واستخدموهم أكثر وأكثر‪ ..‬وتعّددت وسائل التقسيم‬ ‫وأنواع االنقسام بين المصريين من شهر إلى شهر ومن فصل‬ ‫إلى فصل‪ ..‬وبعد االنقسام بين مؤيد ومعارض للثورة‪ ،‬جاء‬ ‫الدور على اإلعالن الدستوري الذي وضعه العسكر‪ ،‬ثم على‬ ‫استمرار المظاهرات في الشارع‪ ..‬وتفاقم االنقسام بعد أن‬ ‫اقتصر سباق االنتخابات الرئاسية بين محمد مرسي ممثل‬ ‫الثورة ومرشح جماعة اإلخوان المسلمين والفريق أحمد شفيق‬ ‫آخر رئيس وزراء لمبارك‪ ..‬وعاش المصريون في جانبين‬ ‫وأسفرت النتيجة عن فوز مرسي بنسبة ‪ % 51‬فقط‪ ،‬وهو‬ ‫رقم كاشف لحدة االنقسام بين أوساط الشعب‪ .‬وما أن نجح‬ ‫مرسي حتى دخلت البالد في انقسام جديد بين أنصاره وأعدائه‬ ‫وذكــت القنوات الفضائية الخاصة‬ ‫(وليس معارضيه)‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫المملوكة لرجال األعمال المحسوبين على نظام مبارك مشاعر‬ ‫الكراهية والغضب ضد مرسي‪ ..‬وعندما انتهى األمر بمظاهرات‬ ‫عارمة في شوارع مصر يوم ‪ 30‬يونيو ‪ 2013‬بدعم معلن من‬

‫القوات المسلحة والشرطة وقــرارات من وزير الدفاع حينها‬ ‫عبد الفتاح السيسي باإلطاحة بمرسي‪ ،‬دخل المصريون إلى‬ ‫االنقسام األخير وهو األكثر حدة وخطورة وعمق ًا وتأثيرًا في‬ ‫تاريخ البالد‪ ..‬سيساوي ّ‬ ‫ول إخوان؟‬ ‫تعمق في العام األخير‬ ‫االنقسام في نسيج الشعب المصري ّ‬ ‫بصورة غير مسبوقة‪ ..‬مع عزف يومي من وسائل اإلعالم‬ ‫المتنوعة على أوتار االنقسام‪ ،‬والنيل من اإلخوان وأعوانهم‬ ‫ومتشددين‪ .‬هكذا انتشرت‬ ‫ومواليهم باعتبارهم إرهابيين‬ ‫ِّ‬ ‫الخالفات داخل األسرة الواحدة على أسس سياسية‪..‬‬ ‫مصر اليوم منقسمة فريقين‪ ..‬وصدق المطرب علي الحجار‬ ‫حينما أطلق أغنيته االحتفالية بعد اإلطاحة بالرئيس محمد‬ ‫مرسي ساخرًا من اإلخــوان ومناصريهم‪ :‬انتو شعب وإحنا‬ ‫شعب‪ ..‬ليكم رب ولينا رب‪.‬‬ ‫تفاصيل األزمة‪ ..‬أسبابها وأعراضها وعالجها تكشفها ثالث‬ ‫قصص قصيرة‪:‬‬

‫المونولوج‬ ‫استوقفني في أحد األسواق التجارية الضخمة وأمسك يدي‬ ‫بجدية وإصرار على إبالغي ما بداخله‪.‬‬ ‫شــاب مصري أسمر ال تغادره البشاشة وإن غطاها أو‬ ‫أخفاها عامدًا بقدر ضخم من النظرات الحادة من عينيه ومعها‬ ‫تعبيرات األسف والندم على ما يجري في مصر اآلن‪ ..‬واندفعت‬ ‫الكلمات من لسانه دون أن يسمح لي باالختالف معه أو إبداء‬ ‫الرأي أو حتى المقاطعة‪ .‬وملخص ما قال في الدقائق األولى‬

‫‪39‬‬


‫من محاضرته التي سارت على شكل المونولوج بين متحدث‬ ‫دائم ومستمع مكره وصامت‪« :‬خالص يا دكتور إحنا اتقسمنا‪..‬‬ ‫وأوعى تخدع نفسك أو تصدق الكالم الفارغ بتاع اإلعالم عن‬ ‫لم الشمل والمصالحة والمبادرات‪ ..‬وعشان كده الزم نتعامل‬ ‫ّ‬ ‫معاهم على هذا األساس»‪.‬‬ ‫وبمجرد انتهاء الفصل األول من المونولوج‪ ،‬أحسست‬ ‫برغبة في إشباع رغبته أو إطفاء نار الغضب داخله‪ ،‬باالتفاق‬ ‫الكامل معه في الرأي لعلّه يقتنع ويسعد ويرحل‪ ..‬وأبلغته‬ ‫أنني أؤيد كل ما قال وهممت باالستدارة للرحيل فإذا به يمسك‬ ‫متمسك ًا بإغراقي‬ ‫بذراعي من المرفق بقوة‪ ،‬وليس بعنف‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ال مونولوجه‪:‬‬ ‫مكم ً‬ ‫بفيضان غضبه وآرائه وحلوله وقصته‪ّ ،‬‬ ‫«الزم نعاقبهم‪ ..‬إحنا أكتر‪ ..‬ولو كل واحد من أنصار الشرعية‬ ‫قاطع تجار االنقالب هيخسروا جامد وهيعرفوا أن اهلل حق‬ ‫وأنهم وقفوا مع الباطل‪ ..‬ويرجعوا عن غيهم‪ ..‬وأنا في آخر‬ ‫نزول لمصر عملت كده»‪.‬‬ ‫منحني تفاصيل كثيرة عن مواقفه المتعّددة في معاقبة‬ ‫ومقاطعة التجار والشركات التابعة أو المؤيدة للنظام الحالي‬ ‫مكررًا‬ ‫في مصر‪ ..‬وعندما طال زمن الوقوف وبــات الكالم َّ‬ ‫وتعاظمت رغبتي في الذهاب‪ ،‬ولم تكن قبضته على مرفقي‬ ‫قد خفتت‪ ،‬اضطررت إلى التظاهر بالتعب وأبديت رغبتي في‬ ‫الجلوس‪.‬‬ ‫كان الشاب األسمر في أعلى درجــات النشوة بإخراج ما‬ ‫بداخله‪ ،‬وإحساسه أنه وجد الشخص الــذي يمكن أن ينقل‬ ‫أفكاره وحلوله إلى إخوانه‪ ،‬المناهضين للنظام في مصر‪..‬‬ ‫ولم يصدق مظاهر التعب التي كشفتها‪ ،‬واعتقد أنني مللت‬ ‫وقرر‬ ‫حديثه القائم على آراء وتوجيهات ونصائح وأوامر‪ّ ..‬‬ ‫تعديل مسار الحوار بد ًال من إنهائه لتوفير قدر أكبر من الترفيه‬ ‫والتسلية‪ ،‬بحكاية عالقته مع والدته المقيمة في مصر والمؤيدة‬ ‫بشدة للرئيس عبد الفتاح السيسي‪ ،‬قائالً‪« :‬عشان تصدق‬ ‫أن إحنا اتقسمنا‪ ..‬أمي الست الكبيرة‪ ،‬قاعدة ليل نهار أمام‬ ‫الشاشات المنحرفة‪ ،‬وعقلها اتلوث بكالمهم الجارح – استخدم‬ ‫لفظ ًا ثاني ًا ال يمكنني كتابته ‪ -‬وغضبانة مني وال تتصل بي إال‬ ‫نادراً‪ ..‬لكن لما أسعار البنزين زادت والكهرباء زادت‪ ،‬وكل‬ ‫حاجة ارتفع سعرها‪ ،‬كلمتني مرة واتنين عشان تطلب مني‬ ‫أزود المصروف الذي أرسله لها شهرياً‪ ،‬ألن الفلوس المقررة‬ ‫لم تعد كافية للمصروفات التقليدية التي اعتادت إنفاقها‪..‬‬ ‫فما كان مني إال أن قلت لها‪ :‬مش هو ده الشخص القوي إللي‬ ‫بتقولي إنه هيصلح البلد‪ ..‬خالص استحملي يا أمي‪ ..‬ومفيش‬ ‫لتليين‬ ‫زيادة في المصروف‪ .‬وتكررت توسالتها إلقناعي أو ّ‬ ‫صممت على موقفي‪ ،‬فكانت كلماتها األخيرة قبل‬ ‫قلبي‪ ،‬ولكني ّ‬ ‫أن تغلق الخط في وجهي‪ :‬روح أنا متبرية منك‪ ..‬إنت ال ابني‬ ‫وال أعرفك»‪.‬‬ ‫سحبت ذراعــي بقوة ملحوظة واستدرت مسرع ًا قبل أن‬ ‫‪40‬‬

‫أسمح له بالموافقة أو الرفض على إنهاء المونولوج‪.‬‬

‫االنتقام‬ ‫وقف المناصر للشرعية أمام محل كبير للمواد الغذائية‪،‬‬ ‫ُمندهش ًا من الفتة (ممنوع دخول اإلخــوان) المعلّقة على كل‬ ‫جــدران المحل‪ ،‬من الداخل والــخــارج‪ ..‬ومع انتشار ظاهرة‬ ‫االنتقام بين الناس اندفع الرجل إلى داخل المحل‪ ،‬بعد أن قرر‬ ‫االنتقام من أصحابه على طريقته‪ ..‬اصطحب عربة المشتريات‬ ‫ودار بين كل األقسام يملؤها بأغراض لم ولن يحتاجها أبداً‪،‬‬ ‫وكلها من أرقى وأغلى األصناف‪ ،‬وكانت تالحقه نظرات حسد‬ ‫من بقية الزبائن على مظهر ثرائه الفاحش الذي يمكنه من ابتياع‬ ‫األغلى‪ ..‬وأخيرًا ذهب إلى البائع يدفع عربته بكل صعوبة‪ ،‬فإذا‬ ‫بالبائع يطلب من بقية الزبائن االتجاه إلى زمالئه الصرافين‬ ‫اآلخرين ليتفرغ ألهم زبــون‪ ..‬ووقــف الرجل سعيدًا منتشي ًا‬ ‫والبائع يخرج البضاعة بعناية والحساب يتصاعد حتى تجاوز‬ ‫مئة ألف‪ ..‬وعندما لم يعد في العربة سوى صندوق واحد وجه‬ ‫المشتري سؤا ًال للبائع حول الغرض من تعليق الالفتة‪ ،‬ورد‬ ‫البائع بفخر‪ :‬أصل دول خرفان ومالهمش مكان وسطنا‪ ..‬وإذا‬ ‫بالمشتري يقول بغضب‪ :‬إذن‪ ..‬ممنوع دخول اإلخــوان‪ ..‬مع‬ ‫السالمة وخليلك حاجتك‪ ..‬أنا إخوان‪ ..‬وغادر المحل مسرع ًا‬ ‫تالحقه اللعنات‪.‬‬

‫طلقني‬ ‫فتح الصحافي باب منزله منهكاً‪ ،‬بعد يوم مرهق من العمل‬ ‫ومن الجدل اليومي مع زمالئه المؤيدين للسيسي‪ ،‬ودارت عيناه‬ ‫بحث ًا عن مقعد للجلوس‪ ..‬لكن صرخة عالية من زوجته شقت‬ ‫جدار الصمت وأوقفته فزع ًا قبل أن يكمل جلوسه‪« :‬طلقني!»‪..‬‬ ‫لم يفهم ولم يصدق‪.‬‬ ‫صحيح أن زوجته صحافية من أنصار السيسي‪ ،‬لكن‬ ‫سعيهما لتربية األوالد غطى على المشاكل العميقة بينهما‪..‬‬ ‫تحولت حياتهما‬ ‫واكتفيا بأقل كالم في شؤون المنزل بعد أن ّ‬ ‫إلى جحيم بسبب خالفاتهما السياسية‪ .‬لم يتطور األمر أبدًا إلى‬ ‫طلب الطالق‪ ..‬وقبل أن يسألها عن السبب كانت الكلمات تخترقه‬ ‫كالرصاص‪« :‬بص إليدك أنت إيدك غرقانة في الدم‪ ..‬أنا مش‬ ‫هقعد مع واحد إيده فيها دم»‪ ..‬ودون أن يشعر نظر الصحافي‬ ‫إلى يديه فوجدها نظيفة بال دماء‪ ..‬فاتجه ببصره إلى مالبسه‬ ‫باحث ًا عن الدماء أو أي صبغات وألوان أخرى فلم يجدها‪.‬‬ ‫رد ببراءة‪ :‬فين الدم؟!‬ ‫عادت الرصاصات أو الكلمات من لسانها‪« :‬ابن القاضي‬ ‫قتلوه‪ ..‬اإلرهابيون قتلوه‪ ..‬اإلرهابيون إللي إنت بتؤيدهم‪..‬‬ ‫أنت مشارك في القتل‪ ..‬طلقني طلقني طلقني»‪.‬‬ ‫قام إلى الباب‪ ،‬فتحه وخرج‪ ،‬وأغلقه بقوة متمنّي ًا لو سقط‬ ‫على زوجته السيساوية‪ ..‬ولم يعد إلى منزله حتى اليوم‪.‬‬


‫رحيل‬

‫أحمد رجب‬

‫أنسولين السخري ّة‬ ‫خاص بالدوحة‬ ‫صافحة‬ ‫لم َ‬ ‫«نصف كلمة» انشطرت ولن تعود ُ‬ ‫قــراء الصحافة المصرية‪ ،‬فأحمد رجــب (‪)1928‬‬ ‫ّ‬ ‫قد انسحب‪ ،‬أيام قليلة بعد رحيل رفيقه مصطفى‬ ‫وغيبه الــمــوت‪ ..‬مــن اإلسكندرية إلى‬ ‫حسين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القاهرة‪ ،‬ومن أخبار الجامعة إلى أخبار اليوم‪،‬‬ ‫الساخر‬ ‫دامت الرحلة عقوداً‪ ،‬جعلت من ّ‬ ‫الصحافي ّ‬ ‫واحــدًا من أهم أركان الصحافة المكتوبة في بالد‬ ‫النيل‪ ،‬فقد استطاع بكتابته أن يالمس ُجــرح‬ ‫ويغرد‬ ‫المواطن البسيط‪ ،‬ويفضح عيب المسؤول‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بعيدًا عن زمرة المطبلين والمتملقين والمتعطشين‬ ‫فضل أن يؤسس‬ ‫لبريق السلطة ونعيمها‪ ،‬فقد ّ‬ ‫لنفسه ُسلطة منفصلة‪ ،‬تنسجم وتتناغم مع روحه‬ ‫الساخرة‪ ،‬وتوثق الرباط بينه وبين قرائه‪ُ ،‬مبتعدًا‬ ‫عن سباقات الظهور في التليفزيونات‪ ،‬مديرًا‬ ‫ظهره‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬للحوارات الصحافية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مكتف بدوره بالعيش في‬ ‫فقد كان يبدو كمتعفف‪،‬‬ ‫دير السخرية وسرد يوميات تقترب مشاهدها من‬ ‫العبثية أحياناً‪ .‬أحمد رجب كتب في آخر عمود له‬ ‫«نصف كلمة»‪ ،‬الشهر الماضي‪ ،‬ما يشبه النبوءة‪،‬‬ ‫أو رؤية بحتمية القضاء‪« :‬اآلن يامصر أموت مطمئن ًا‬ ‫عليك‪ ،‬وعلى أهلي المصريين‪ ،‬إنــي ال أوصي‬ ‫حاكم ًا صالح ًا بأهلي‪ ،‬ولكن أوصيكم بحاكم ندر‬ ‫وجوده على الزمان‪ ،‬وقال ادخلوا مصر إن شاء اهلل‬ ‫آمنين»‪ ..‬كانت تلك وصية الراحل‪ ،‬والتي تناقلها‬ ‫رواد مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬بشكل واسع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وصية‪،‬‬ ‫في األسابيع الماضية‪ ،‬لقد ترك أحمد رجب‬ ‫ّ‬ ‫ليس له وألهله والمقربين منه‪ ،‬بل وصية جامعة‪،‬‬ ‫لبلد‪ ،‬لوطن ُمشتت‪ ،‬لمصر حلم فيها بحاكم صالح‪،‬‬ ‫في زمن كثرت فيه الالعدالة وتصفية الحسابات‪.‬‬ ‫الراحل توفي‪ ،‬بعد صراع مع المرض‪ ،‬وقبل فترة‬ ‫قصيرة استحضر المرض والــمــوت‪ ،‬بشكل غير‬ ‫مباشر‪ ،‬وكتب‪« :‬ثمن عقار فيروس سي ‪2300‬‬ ‫جنيه ليغطي تكاليف أبحاثه‪ ،‬فبعد أن أنفق العلماء‬ ‫طور‬ ‫ماليين الــدوالرات لمقاومة ميكروب السل‪ّ ،‬‬ ‫ميكروب السل نفسه بال علماء وال معامل وال ماليين‬ ‫وعاد الميكروب يقتل ضحاياه من جديد‪ ،‬إنها حكمة‬

‫اهلل ‪َ -‬عّز َو َجّل‪ -‬نلمسها على الطبيعة تقول ال تستهن‬ ‫بكائن مهما صغر وعجزت أن تراه بالعين المجردة‪.‬‬ ‫سبحانه جلت قدرته»‪ .‬جرعات النقد والسخرية التي‬ ‫كان يبثها أحمد رجب في زاوية «نصف كلمة» كانت‬ ‫أشبه بالحقن المكثفة‪ ،‬المضادة لليأس واإلحباط‪،‬‬ ‫كانت مثل أنسولين يتعاطاه الــقــارئ صباحاً‪،‬‬ ‫ال فيها وفي معانيها‪ .‬بضع‬ ‫ليقضي بقية اليوم ُمتأم ً‬ ‫كلمات‪ ،‬عبارة واحدة‪ ،‬جملة‪ ،‬أو صورة ساخرة‪،‬‬ ‫كانت تلك عّدة أحمد‬ ‫رجــــب وتــرســانــتــه‬ ‫فــي التعليق على‬ ‫اليوميات المصرية‪،‬‬ ‫لــــم يـــكـــن يــحــتــاج‬ ‫لــكــومــة أوراق وال‬ ‫لصفحات أو أعمدة‬ ‫ليطلق أفــكــاره مثل‬ ‫عيارات نارية‪ .‬كان‬ ‫مختصراً‪ ،‬مقتصدًا‬ ‫فــي الــلــغــة‪ ،‬يكتب‬ ‫بشكل مقتضب‪ ،‬كما‬ ‫ال‬ ‫لــو أنـــه مستعج ً‬ ‫الحديث والمضي في‬ ‫طريقه‪ ،‬غير عابئ‬ ‫بالتراكيب اللغوية‬ ‫المعقدة‪ ،‬وال المفردات القاموسية‪ ،‬مكتفي ًا بلغة‬ ‫ـل دائم ًا يخاطبها‪،‬‬ ‫العامة‪ ،‬التي انطلق منها وظـّ‬ ‫ويدافع عنها‪ ،‬فقد كتب مرة‪« :‬أسئلة حائرة»‬ ‫‪1‬ــــ هــل مــن الممكن اســتــعــادة فلوسنا التي‬ ‫سرقوها خالل الثورة؟‬ ‫‪2‬ـ وهل من الممكن القبض ومصادرة أموال‬ ‫الحرامية طوال ‪ 30‬سنة في عهد مبارك؟ اإلجابة‬ ‫بنعم حالل‪ ،‬فلوسنا يا رب يتعالجوا بها من غير‬ ‫شفاء‪.‬‬ ‫الفاتحة لهم جميعاً»‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫ملف‬

‫رسم‪ :‬إسماعيل عزام ‪ -‬العراق‬

‫‪42‬‬


‫أجراس الفيتوري‬

‫األعمال الفنية للملف‪ :‬عمر خيري ‪ -‬السودان‬

‫ال ومضمونـــ ًا وتاريخ ًا تبقى‬ ‫رغـــم اكتمالها شـــك ً‬ ‫تجربة الشـــاعر الســـوداني محمد مفتاح الفيتوري‬ ‫عصيـــة على التقييم‪ .‬الكثيـــر من القضايا‬ ‫(‪)1936‬‬ ‫َّ‬ ‫تتداخـــل وتتقاطـــع في منجزه الشـــعري‏لترســـم‬ ‫معالم شـــخصية ُمنفِلتـــة من زمانهـــا‪ .‬وكحال كل‬ ‫ُمخضـــرم فإنـــه يعيش فـــي أيامنـــا شـــاهدًا على‬ ‫المد والجزر المرتبطتيـــن بوالدة القصيدة‬ ‫حركتـــي ِّ‬ ‫تغيرات ثقافية‬ ‫العربيـــة الحديثة وما صاحبها مـــن‬ ‫ُّ‬ ‫وسياســـية على صعيد البـــاد العربيـــة‪ .‬والكثير‬ ‫من أنـــداده الرواد لم َي ُط ْل بهـــم العمر حتى يدركوا‬ ‫مـــا نعيشـــه اليـــوم مـــن فصـــول نصف قـــرن من‬ ‫التحو الت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أجنحـــة الفيتـــوري حلَّقـــت به بعيـــداً‪ ،‬وتجاوز‬ ‫بهـــا الحواجـــز واألوطـــان‪ .‬قـــارة بأكملهـــا رثاها‬ ‫ومدحهـــا وعشـــقها في «أغانـــي إفريقيـــا ‪،»1956‬‬ ‫«عاشـــق مـــن إفريقيـــا ‪« ،»1964‬اذكرينـــي يـــا‬ ‫إفريقيـــا ‪ ،»1965‬وفي مســـرحية «أحزان إفريقيا»‪.‬‬ ‫ولم تكـــن بوصلته ســـوى مرايا ينظـــر فيها فيجد‬ ‫عنترة بن شـــداد‪ ،‬أو ســـحيم عبد بني حســـحاس‬ ‫وإمـــام العبـــد‪ ،‬وغيرهم مـــن الشـــعراء الزنوج‪...‬‬ ‫ـــل الفيتـــوري علـــى ثالثينيـــات القـــرن‬ ‫كمـــا َط ّ‬ ‫يتردد‬ ‫العشـــرين فوجـــد قطـــار‬ ‫الـــرواد الـــذي لـــم َّ‬ ‫ّ‬ ‫في ذكـــر أفضاله عليه‪ ،‬بدءًا بالشـــاعر الســـوداني‬ ‫التيجاني يوســـف بشير‪ ،‬والشـــاعر التونسي أبو‬ ‫القاســـم الشـــابي‪ ،‬ثم الشـــاعر المصري محمد عبد‬ ‫شـــكلوا المعين الذي‬ ‫المعطي الهمشـــري‪ ،‬والثالثة‬ ‫َّ‬ ‫ارتـــوت منه مدرســـتا الديـــوان وأبولو‪ ،‬ووســـط‬ ‫هـــذه الروافد تأثـــر الفيتوري شـــخصي ًا بميخائيل‬ ‫نعيمـــة‪ .‬صاحـــب «عريانـــ ًا يرقـــص في الشـــمس‬

‫(‪ »)2005‬كان صحافيـــ ًا أيضـــاً‪ ،‬عمل في الصحافة‬ ‫المصريـــة إلى جوار محمد حســـنين هيـــكل وكامل‬ ‫الشـــناوي وأبـــو الخيـــر نجيـــب‪ ،‬ثـــم فـــي مجلة‬ ‫«الدعـــوة» التـــي كان يرأســـها ســـيد قطـــب‪ .‬وفي‬ ‫الصحافة الســـودانية عمل في «التلغـــراف» و«هنا‬ ‫أم درمـــان»‪ .‬إلى أن التحـــق بجامعة الدول العربية‬ ‫فكان عملـــه الدبلوماســـي تذكـــرة ســـفر مفتوحة‬ ‫فـــي أرجـــاء المعمورة مكنتـــه من لقـــاء العديد من‬ ‫الكّتـــاب واألدبـــاء والسياســـيين‪ ،‬وهـــي تجربـــة‬ ‫جعلتـــه يعي حقائـــق ووقائـــع زمانه عـــن كثب‪.‬‬ ‫تصالـــح الفيتوري دائمـــ ًا مع شـــكل القصيدة‪،‬‬ ‫فلـــم يكن متطرفـــ ًا فـــي القواعد الشـــعرية‪ ،‬وعلى‬ ‫رأســـها األوزان‪ ،‬وإنمـــا انتصـــر الرجـــل لـــروح‬ ‫ميـــا ًال إلـــى رؤية‬ ‫الشـــعر‪ ،‬وإن كان نثريـــاً‪ ،‬وكان ّ‬ ‫شـــيد الفيتوري‬ ‫إيقاع الـــرؤى داخل الكلمات‪ .‬هكذا ّ‬ ‫تصالحـــه بدبلوماســـية مع شـــكل القصيـــدة التي‬ ‫كانت وقتها على محك الســـلطة واأليديولوجيات‪،‬‬ ‫لكـــن وداعته ال تـــداري مواقفه إن لـــزم األمر‪ ،‬فهو‬ ‫يعـــرف هـــذا الزمن الـــذي أدركـــه في جـــواب عن‬ ‫قائـــا‪« :‬الحداثة في رأيي تنشـــأ‬ ‫معنـــى الحداثـــة‬ ‫ً‬ ‫مـــن التـــراث المتجـــه نحـــو المســـتقبل مـــن أجل‬ ‫رفعـــة اإلنســـان وحريته‪ ،‬أمـــا أن تكـــون الحداثة‬ ‫هـــي االنتقال من ســـيد درويش ومحمـــد عبده إلى‬ ‫«شـــعبوال» و«روبي»‪ ...‬فهذه ليســـت حداثة‪ ،‬لكنها‬ ‫ســـقطة من ســـقطات التاريـــخ التي تمـــر مثل أي‬ ‫شيء‪.»...‬‬ ‫الزال شـــاعرنا يهنـــأ بحيـــاة هادئـــة فـــي بيت‬ ‫بضواحي الرباط‪ ،‬وقـــد زارته «الدوحة» وحاورته‬ ‫احتفاء بـــه‪ ..‬وتحيـــة له في هـــذ الملف‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫محمد الفيتوري لـ «الدوحة»‬

‫«محاط بدفء تغمرني به أسرتي»‬ ‫من ــذ مطل ــع س ــنة ‪ ،2012‬تناس ــلت اإلش ــاعات الت ــي ُتعِل ــن‬ ‫رحيـــل الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري‪ ،‬وكان فـــرع اتحـــاد كّتـــاب‬ ‫المغـــرب بالهرهـــورة‪ ،‬قـــد أصـــدر فـــي حينـــه بيانـــ ًا للـــرأي‬ ‫العــام الثقافــي فــي المغــرب وخارجــه‪ ،‬أوضــح فيــه أن شــاعر‬ ‫إفريقيـــا مـــا زال حاضـــرًا ُيقيـــم فـــي شـــاطئ ســـيدي العابـــد‪،‬‬ ‫بضواح ــي العاصم ــة الرب ــاط‪ .‬وبحض ــور الفيت ــوري وجمه ــور‬ ‫وازن م ــن الجالي ــة الس ــودانية المقيم ــة ف ــي المغ ــرب وخارج ــه‬ ‫حفـــا تكريميـــ ًا لصاحـــب «اذكرينـــي يـــا‬ ‫أقـــام فـــرع االتحـــاد‬ ‫ً‬ ‫إفريقي ــا» (‪ ،)1965‬كم ــا واكب ــت أش ــغال ه ــذا الح ــدث الثقاف ــي‪،‬‬ ‫متابعـــة إعالميـــة واســـعة فـــي الصحافـــة العربيـــة واإلعـــام‬ ‫البصـــري والمكتـــوب‪ ،‬وفـــي ســـياق الحـــدث أرســـل اتحـــاد‬ ‫كّت ــاب المغ ــرب بيانــ ًا توضيحيــ ًا إل ــى أعض ــاء اتح ــاد كّت ــاب‬ ‫مص ــر وحصريــ ًا إل ــى الجري ــدة الثقافي ــة األس ــبوعية (أخب ــار‬ ‫األدب)‪ ،‬التـــي نشـــرت ســـهوًا خبـــر نعـــي الفيتـــوري‪ .‬رحـــب‬ ‫المثقفـــون المصريـــون بالبيـــان التوضيحـــي‪ ،‬وبـــادروا إلـــى‬ ‫االحتف ــاء بالفيت ــوري‪ ،‬فه ــم يعتبرون ــه ف ــي القاه ــرة مص ــري‬ ‫الوج ــدان؛ ف ــأول دي ــوان للش ــاعر الس ــوداني «أغان ــي إفريقي ــا»‬ ‫(‪ ،)1955‬صـــدر فـــي مصـــر‪ ،‬وكتـــب مقدمتـــه الناقـــد المصـــري‬ ‫الكبي ــر محم ــود أمي ــن العال ــم‪.‬‬

‫الرباط ‪ -‬حوار‪ :‬أنور المرتجي‬ ‫§ فــي البدايــة ســألنا الشــاعر محمــد‬ ‫الملتِبســة‪ ،‬كشــاعر‬ ‫الفيتــوري عــن هويتــه ُ‬ ‫عــاش بيــن تخــوم الجغرافيــات العربيــة‪،‬‬ ‫فهــو مــن أصــل ســوداني مــن جهــة األم‪،‬‬ ‫شــكل وعيــه‬ ‫وليبــي مــن جهــة األب‪َ ،‬ت ّ‬ ‫واســتقر بــه‬ ‫وتكوينــه التعليمــي بمصــر‬ ‫ّ‬ ‫المقــام والتقاعــد عــن العمــل فــي المغــرب‪،‬‬ ‫عــن هــذا المســار الحياتــي ســألناه كيــف‬ ‫ُيقيــم تجربــة الترحــال األوديســية علــى‬ ‫مســتوى تجربتــه الشــعرية؟‬ ‫إننـــي أشـــعر باالنتمـــاء الوجدانـــي‬ ‫‪44‬‬

‫تكـــرر بواســـطة ســـاح اإلشـــاعة‬ ‫الم ِّ‬ ‫ظاهـــرة االغتيـــال ُ‬ ‫للشـــاعر محمـــد الفيتـــوري‪ ،‬مســـألة تحتـــاج إلـــى البحـــث‬ ‫والتقص ــي‪ ،‬ربم ــا الغ ــرض منه ــا م ــن ط ــرف خصوم ــه نس ــيان‬ ‫ِّ‬ ‫ومحـــو الشـــاعر إبداعيـــاً‪ ،‬وإســـقاط اســـمه مـــن قائمـــة رواد‬ ‫الحداثـــة الشـــعرية‪ ،‬ألن كل األخبـــار الكاذبـــة عـــن مـــوت‬ ‫الش ــاعر الفيت ــوري مجهول ــة الس ــند والرواي ــة‪ ،‬ومصدره ــا ف ــي‬ ‫الغال ــب ق ــادم م ــن ش ــرق المتوس ــط‪ ،‬حي ــث م ــا زال ــت تط ــارد‬ ‫ش ــاعرنا الكبي ــر مالبس ــات أصول ــه الموزعـــة بيـــن الس ــودان‬ ‫موطن ــه األول‪ ،‬ال ــذي أس ــقط عن ــه الجنس ــية ف ــي عه ــد النمي ــري‬ ‫الرئي ــس المؤم ــن‪ ،‬وانتمائ ــه االضط ــراري إل ــى ح ــوزة القذاف ــي‬ ‫المقب ــور‪ ،‬ال ــذي احتضن ــه ف ــي ع ــز الض ــرورة الت ــي أباح ــت ل ــه‬ ‫آنـــذاك‪ ،‬بعضـــ ًا مـــن المحظـــورات السياســـوية‪.‬‬ ‫م ــن أج ــل تنوي ــر ال ــرأي الع ــام الثقاف ــي‪ ،‬طلب ــت «الدوح ــة»‬ ‫مــن الفيتــوري حــوارًا خاص ـ ًا ضمــن ملــف تكريمــي بــه وتحيــة‬ ‫لــه مــن المجلــة‪ .‬اســتجاب الفيتــوري لطلبنــا‪ ،‬برحابــة وبقلــب‬ ‫مفت ــوح وابتس ــامة صادق ــة‪ ،‬والش ــكر موص ــول إل ــى الس ــيدة‬ ‫زوجتـــه المغربيـــة أشـــرقت الفيتـــوري‪ ،‬التـــي هيـــأت لنـــا‬ ‫الم ِ‬ ‫ناس ــبة إلنج ــاز ه ــذا الح ــوار‪.‬‬ ‫الظ ــروف ُ‬

‫إلــى كل أرض عربيــة أقمــت فيهــا‪ ،‬ألننــي‬ ‫مزي ــج مرك ــب لم ــا تمي ــز ب ــه غي ــري م ــن‬ ‫الشـــعراء‪ ،‬فـــي كل المحطـــات الحياتيـــة‬ ‫التـــي مـــررت بهـــا‪ ،‬ســـتجدها حاضـــرة‬ ‫فـــي أشـــعاري بصدقهـــا وعفويتهـــا‪،‬‬ ‫فـــي صـــور ذكريـــات طفولتـــي التـــي‬ ‫تمثـــل مســـرح أحالمـــي‪ ،‬حيـــث ســـعيت‬ ‫م ــن خالله ــا إل ــى أن ألت ــزم الص ــدق ف ــي‬ ‫التعبي ــر ع ــن ذات ــي وع ــن عالقت ــي م ــع‬ ‫اآلخريـــن‪ ،‬إننـــي أشـــعر أن هويـــات‬ ‫متع ــددة تخترقن ــي‪ ،‬ه ــذا م ــا َعّب ــرت عن ــه‬ ‫فـــي قصائـــدي‪.‬‬

‫أنا جسد‪ ...‬شجر‪ ...‬شيء عبر الشارع‬

‫جزر غرقى في قاع البحر‬ ‫حريق في الزمن الضائع‪.‬‬

‫التمي ــز والتف ـ ُّـرد‪ ،‬لق ــد كن ــت‬ ‫ال أدع ــي‬ ‫ُّ‬ ‫فـــي شـــعري مثـــل اآلخريـــن‪ ،‬إنســـان‬ ‫يحل ــم ب ــأن تص ــل كلمت ــه إل ــى اإلنس ــانية‬ ‫جمعـــاء‪ .‬وأن تنمـــو كلمتـــي الشـــعرية‬ ‫وتتالقـــح مـــع أفـــكار اآلخريـــن‪.‬‬ ‫§ الفيتــوري أحــد رواد قصيــدة الحداثــة‬ ‫تميــز عــن بقيــة الشــعراء‬ ‫العربيــة‪َّ ،‬‬ ‫بانحيــازه للدفــاع عــن حريــة اإلنســان‪،‬‬ ‫وكرامــة زنوجــة إفريقيــا‪( ،‬يلتقــي فــي‬


‫ال ــذي يتع ــارض م ــع الخل ــود الش ــعري‪.‬‬ ‫يكتفــي الفيتــوري كلمــا بلغتــه إشــاعة‬ ‫موتــه‪ ،‬بــأن يطلــق عند ســماعها ابتســامة‬ ‫عريضــة تــدل علــى إصــراره األكيــد بــأن‬ ‫شــمس إبداعــه لــن تغيــب‪ ،‬وإن حضــره‬ ‫المــوت ووقــت الرحيــل‪َ ،‬يســتحضر فــي‬ ‫هــذا الســياق بعض ـ ًا مــن شــعره‪:‬‬

‫ال تقل ليتني أبد ًا لم أ كن‬

‫ربما كنت أو ربما لم تكن‬

‫أنت هذا الذي اختزن الصرخات‬

‫العميقة في روحه‬

‫والكآبة والصمت والضحكات‪.‬‬

‫تجربتــه الشــعرية مــع كبــار شــعراء‬ ‫الفرنكفونيــة‪ ،‬مثــل ليبولــد ســيدار‬ ‫يتفــرد‬ ‫ســنغور وايمــي ســيزار)‪ ،‬لكنــه‬ ‫ّ‬ ‫وحــده فــي التعبيــر عــن صــوت إفريقيــا‬ ‫باللغــة العربيــة‪ .‬ســألناه كيــف ينظــر إلى‬ ‫تجربتــه الشــعرية الملتزمــة بالقضايــا‬ ‫اإلفريقيــة؟‬ ‫التحـــوالت التـــي‬ ‫مـــن‬ ‫بالرغـــم‬ ‫‬‫ُّ‬ ‫عرفتهـــا إفريقيـــا‪ ،‬فإننـــي مـــا زلـــت‬ ‫ومخلصـــ ًا لقضيتهـــا‪ ...‬لقـــد‬ ‫ُم ّ‬ ‫تحمســـ ًا ُ‬ ‫ســـعيت منـــذ أن وعيـــت وجـــودي إلـــى‬ ‫أن‪ :‬أكـــون مخلصـــ ًا لعدالـــة كفـــاح‬ ‫ش ــعوب إفريقي ــا‪ ،‬الت ــي مازال ــت تج ــري‬ ‫فـــي عروقـــي‪ .‬كل مـــا أتمنـــاه إلفريقيـــا‬ ‫الســـمراء أن تســـتمر فـــي كفاحهـــا‪ .‬وأن‬ ‫تتخلّـــص مـــن مســـتغليها الجـــدد ومـــن‬ ‫حكامهـــا الفاســـدين‪ ،‬الذيـــن يقبلـــون‬ ‫بالســـيادة المنقوصـــة مقابـــل بقائهـــم‬ ‫ف ــي الس ــلطة‪ ،‬أن ــا متفائ ــل ب ــأن إفريقي ــا‬ ‫قـــادرة غـــدًا أن تتخطـــى عثراتهـــا‪ ،‬وأن‬ ‫تجتــاز بنجــاح حــروب الحقــد والكراهيــة‬ ‫التـــي تجتاحهـــا‪ ،‬ومواجهـــة حـــروب‬ ‫تتعـــرض لهـــا‬ ‫اإلبـــادة العرقيـــة التـــي‬ ‫ّ‬ ‫ش ــعوبها نتيج ــة لالنقالب ــات العس ــكرية‬ ‫التـــي تنتـــج عنهـــا أنظمـــة اســـتبدادية‪،‬‬ ‫وذل ــك بالتح ــدي اليق ــظ لش ــعوبها ض ــد‬ ‫كل المنـــاورات الخارجيـــة التـــي ُتحـــاك‬ ‫ضدهـــا‪.‬‬

‫أعيـــش قلقـــاً‪ ،‬نتيجـــة لألوضـــاع‬ ‫المتدهـــورة التـــي تعرفهـــا إفريقيـــا فـــي‬ ‫مجـــال الحريـــات وحقـــوق اإلنســـان‪،‬‬ ‫التـــي ال تتجـــاوب وال تنســـجم مـــع‬ ‫تطلعاتنـــا التـــي حلمنـــا بهـــا بعـــد‬ ‫االســـتقالل‪ .‬إن تغييـــر إفريقيـــا إلـــى‬ ‫األحســـن‪ ،‬لـــن يتحقـــق فـــي ظـــل واقـــع‬ ‫الفرقـــة والتجزئـــة وتكريـــس الحـــدود‬ ‫المصطنعـــة وتأجيـــج الصراعـــات‬ ‫ُ‬ ‫القبليـــة التـــي تعرفهـــا اليـــوم شـــعوب‬ ‫إفريقيـــا المتناحـــرة‪.‬‬ ‫§ برغــم ضيــق الحــال وتدهــور حالتــه‬ ‫الصحيــة‪ ،‬فإنــه مــازال متشــبث ًا ببســمة‬ ‫األمــل‪ ،‬يــردد مــع المتنبــي‪( :‬كــم قــد قتلت‪،‬‬ ‫وكــم قــد مــت عندكــم ‪ /‬ثــم انتفضــت فــزال‬ ‫القبــر والكفــن)‪ .‬اغتنمنــا الفرصــة ورغبــة‬ ‫الفيتــوري الصادقــة فــي الحديــث معنــا‪،‬‬ ‫وســألناه عــن الموضــوع الــذي يؤرقــه‬ ‫واإلشــاعات التــي تعلــن رحيلــه؟‬ ‫ (بابتســـامة ســـاخرة) ال أخـــاف‬‫الم ــوت‪ ،‬ألنن ــي مؤم ــن ب ــأن الم ــوت ح ــق‬ ‫علـــى اإلنســـانية كلهـــا‪ ،‬طيلـــة حياتـــي‬ ‫كنـــت أنظـــر إلـــى المـــوت مـــن موقـــع‬ ‫الرؤي ــا بالمعن ــى الصوف ــي‪ ،‬الت ــي ت ــرى‬ ‫أن المـــوت ليـــس هـــو المـــوت الجســـدي‬

‫§ بعــد انتفاضــات الربيــع العربــي دالــت‬ ‫دول‪ ،‬ســقط النظــام الليبــي الــذي كان‬ ‫الفيتــوري يحمــل جــواز ســفره‪ ،‬لكــن مــن‬ ‫حســنات هــذا ِ‬ ‫الحـَـراك العربــي أن اســتعاد‬ ‫الفيتــوري جــواز ســفره الســوداني‪ ،‬الــذي‬ ‫ُحـ ِـر َم منــه طيلــة أربعــة عقــود‪ .‬ســألناه‬ ‫يتدبــر حاجياتــه المعيشــية وتوفيــر‬ ‫كيــف َّ‬ ‫مصــروف العــاج؟‬ ‫ متأثـــر بالوضـــع المـــادي الصعـــب‬‫الـــذي أجتـــازه‪ ،‬لكـــن مـــا يخفـــف عســـر‬ ‫الحـــال‪ ،‬أننـــي محـــاط بـــدفء العائلـــة‬ ‫الحنـــون‪ ،‬الـــذي تغمرنـــي بـــه أســـرتي‬ ‫قرائـــي‪.‬‬ ‫الصغيـــرة وجمهـــور َّ‬ ‫(ثـــم أنشـــد الفيتـــوري فـــي ختـــام‬ ‫قائـــا)‪:‬‬ ‫لقائنـــا معـــه‬ ‫ً‬

‫وبعض عمرك ما لم تعشه‪،‬‬

‫وما لم تمته‬

‫وما لم تقله‬

‫وما ال يقال‬

‫وبعض حقائق عصرك‪،‬‬

‫أنك عصر من الكلمات‬

‫وأنك مستغرق في الخيال‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫شعرية الفيتوري ‪:‬‬

‫بين مجازات التّخوم واالستعارات السوداء‬ ‫د‪ .‬محمد الشحات‬

‫ناقد وأكادميي مرصي‬

‫‪-1‬‬‫ل ــم يس ــتطع محم ــد مفت ــاح الفيت ــوري‬ ‫(‪ ) - 1936‬أن يجع ــل م ــن مقول ــة «الح ــب»‬ ‫جوهــرًا شــعري ًا أو مركــزًا تتمحــور حولــه‬ ‫الثـــرة‪ ،‬كمـــا كان يفعـــل‬ ‫رؤاه وبالغتـــه‬ ‫ّ‬ ‫مثـــا‪ ،‬وال أن يصنـــع مـــن‬ ‫نـــزار قبانـــي‬ ‫ً‬ ‫تراكيـــب معجمـــه الشـــعري واســـتعاراته‬ ‫ٍ‬ ‫اكـــة‬ ‫ـــة‬ ‫رصاصـــات‬ ‫وأســـلحة فّت ً‬ ‫ً‬ ‫مجازي ً‬ ‫ّ‬ ‫المحتـــل‪،‬‬ ‫موجهـــة إلـــى صـــدر العـــدو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫كمـــا كان يفعـــل محمـــود درويـــش أو‬ ‫س ــميح القاس ــم‪ ،‬أو غيرهم ــا م ــن ش ــعراء‬ ‫المقاوم ــة‪ .‬ل ــم ُي ـ ِـرْد الفيت ــوري أن يعي ــد‪،‬‬ ‫ش ــعرياً‪ ،‬إنت ــاج ص ــورة مصطف ــى س ــعيد‬ ‫بطـــل (موســـم الهجـــرة إلـــى الشـــمال)‬ ‫بوصفهـــا أيقونـــة ســـردية وثقافيـــة‬ ‫اســـتطاع مـــن خاللهـــا رفيقـــه الســـوداني‬ ‫الطيـــب صالـــح (‪ )2009 - 1929‬أن‬ ‫ّ‬ ‫يفـــكك بنيـــة المجتمـــع اإلنجليـــزي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكولونيالـــي‪ ،‬عبـــر تمثيالتـــه الجنســـية‬ ‫واســـتعاراته اإلفريقيـــة‪ ،‬التـــي كانـــت‬ ‫تخ ــرج م ــن رح ــم األرض المثقل ــة باألني ــن‬ ‫كالشـــال‬ ‫والفقـــر والطمـــوح الجـــارف‬ ‫ّ‬ ‫اله ــادر‪ .‬وعل ــى الرغ ــم م ــن كل ه ــذا تظ ــل‬ ‫ـدودة بحب ــل متي ــن‬ ‫قصي ــدة الفيت ــوري مش ـ ً‬ ‫إلــى جماليــات الحيــاة اليوميــة‪ ،‬ومترعـ ًـة‬ ‫برائحـــة األرض والطيـــن والبشـــر‬ ‫‪46‬‬

‫المهمشـــين والمطحونيـــن والمقموعيـــن‬ ‫ّ‬ ‫والمتمرديـــن‪ ،‬كأنـــه‬ ‫ار‬ ‫والثـــو‬ ‫والبســـطاء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نمـــوذج شـــعري يقـــف علـــى الحافـــة‬ ‫بيـــن جماليتيـــن أو بالغتيـــن‪ :‬قصيـــدة‬ ‫الفصحـــى‪ ،‬الرســـمية‪ ،‬الســـلطوية‪،‬‬ ‫الفوقيــة‪ ،‬النخبويــة‪ ،‬التــي كان أنموذجهــا‬ ‫متمثـــا فـــي نـــازك المالئكـــة (‪- 1923‬‬ ‫ً‬ ‫‪ )2007‬وعبـــد الوهـــاب البياتـــي (‪1926‬‬ ‫ ‪ )1999‬وبـــدر شـــاكر الســـياب (‪- 1926‬‬‫‪ ،)1964‬ث ــم لح ــق به ــم محم ــود دروي ــش‬ ‫(‪ )2008 - 1941‬وســـميح القاســـم‬ ‫(‪ )2014 - 1939‬ونـــزار قبانـــي (‪- 1923‬‬ ‫‪ )1998‬وأدوني ــس (‪ )1930‬وص ــاح عب ــد‬ ‫الصبـــور (‪ )1981 - 1931‬وأمـــل دنقـــل‬ ‫(‪ ،)1983 - 1940‬وغيره ــم م ــن أس ــاطين‬ ‫القصي ــدة الفصيح ــة‪ ،‬ف ــي مقاب ــل بالغ ــة‬ ‫القصي ــدة العامي ــة‪ ،‬الش ــعبية‪ ،‬التحتي ــة‪،‬‬ ‫ممثَّلـــة فـــي بيـــرم التونســـي (‪- 1893‬‬ ‫‪ّ )1961‬‬ ‫وفـــؤاد حـــّداد(‪ ) - 1928‬وصـــاح‬ ‫جاهيـــن (‪ )1986 - 1930‬وعبـــد الرحمـــن‬ ‫األبنـــودي (‪ ،) - 1939‬وغيرهـــم‪.‬‬ ‫مـــن هنـــا‪ ،‬يمكـــن القـــول إن قصيـــدة‬ ‫الفيتـــوري قصيـــدة مخضرمـــة؛ بمعنـــى‬ ‫أنه ــا عاص ــرت أكث ــر م ــن جي ــل ش ــعري‪،‬‬ ‫ـا ع ــن كونه ــا ق ــد راهن ــت‪ ،‬أو قام ــرت‬ ‫فض ـ ً‬ ‫باألســـاس‪ ،‬علـــى الجمـــع بيـــن طبقتيـــن‬

‫بالمصطلــح السوســيولوجي‪ ،‬أو مقاميــن‬ ‫بالمصطلـــح الموســـيقي‪ ،‬فـــي مزيـــج‬ ‫كيميائ ــي واح ــد معج ــون بنب ــرة مش ــبعة‬ ‫بالهـــم العربـــي واإلنســـاني العـــام‪ ،‬دون‬ ‫ّ‬ ‫أن ُتغِف ــل‪ ،‬ول ــو للحظ ــة‪ ،‬غائي ــة انتم ــاء‬ ‫صاحبهـــا إلـــى القـــارة الســـوداء التـــي‬ ‫مفكـــر كبيـــر بحجـــم‬ ‫انتمـــى إليهـــا فكريـــ ًا ّ‬ ‫فرانـــز فانـــون‪ ،‬أو عضويـــ ًا الكثيـــر مـــن‬ ‫الكّت ــاب م ــن أمث ــال نجوج ــي وا ثيونج ــو‬ ‫وشـــينوا أتشـــيبي‪ ..،‬وآخريـــن‪.‬‬ ‫يعـــّد فانـــون ‪ F. Fanon‬واحـــدًا مـــن‬ ‫أبـــرز مـــن كتبـــوا عـــن مناهضـــة اآلخـــر‬ ‫(المس ـ ِ‬ ‫ـتعمر) ف ــي الق ــرن العش ــرين‪ ،‬جنبــ ًا‬ ‫ُ‬ ‫إل ــى جن ــب ألب ــرت ميم ــي ‪Albert Mimi‬‬ ‫وإدوارد ســـعيد ‪ E. W. Said‬وهومـــي‬ ‫بابـــا ‪ Homi Bhabha‬وغيرهـــم‪،‬‬ ‫بحي ــث ألهم ــت كتابات ــه ومواقف ــه الكثي ــر‬ ‫م ــن ح ــركات التح ـ ّـرر ف ــي العال ــم خ ــال‬ ‫القـــرن الفائـــت‪ ،‬وهـــو األمـــر الـــذي دفـــع‬ ‫الكثيريـــن إلـــى وصفـــه بصفـــات عـــّدة؛‬ ‫و«نبـــي‬ ‫مـــن بينهـــا «شـــاعر العالـــم»‬ ‫ّ‬ ‫العن ــف» و«مس ــيح الثقاف ــات المقه ــورة»‪،‬‬ ‫وغيـــر ذلـــك‪ ،‬كمـــا قـــال عنـــه صبحـــي‬ ‫حديـــدي‪ .‬وليـــس فانـــون بعيـــدًا كثيـــرًا‬ ‫عـــن الفيتـــوري الـــذي وصفـــه عبـــده‬ ‫وازن بأنـــه «شـــاعر التخـــوم»‪ .‬فـــإذا‬


‫كان فانـــون شـــبيه ًا بإيميـــه ســـيزار فـــي‬ ‫كونهمــا فرنســيين مــن جــزر المارتينيــك‪،‬‬ ‫ومداِف َعْيـــن عـــن حـــركات التحـــرر فـــي‬ ‫العال ــم آن ــذاك‪ ،‬م ــن ناحي ــة‪ ،‬ف ــإن وج ــه‬ ‫الشـــبه بيـــن الفيتـــوري وفانـــون يكمـــن‬ ‫ـاد وتعريتهم ــا خط ــورة‬ ‫ف ــي إدراكهم ــا الح ـ ّ‬ ‫الـــدور الـــذي مارســـه الرجـــل األبيـــض‬ ‫طويـــا ضـــد إفريقيـــا الســـوداء‪.‬‬ ‫ً‬

‫مركب ــة داعب ــت الكثيري ــن م ــن‬ ‫أو رمزي ــة ّ‬ ‫أرب ــاب الحداث ــة الت ــي تنط ــوي قصائده ــم‬ ‫علــى رمزيــة الرؤيــة‪ /‬الرؤيــا فــي المقــام‬ ‫األول‪ ،‬كمـــا كان أدونيـــس يفعـــل فـــي‬ ‫بدايات ــه عل ــى س ــبيل المث ــال ال الحص ــر‪.‬‬ ‫ل ــم تنش ــغل قصي ــدة الفيت ــوري كثي ــرًا‬ ‫طويـــا عنـــد‬ ‫بثيمـــة الحـــب‪ ،‬ولـــم يقـــف‬ ‫ً‬

‫ـبوبة‪ ،‬مثلمــا‬ ‫المــرأة جســدًا أو عاطفـ ًـة مشـ ً‬ ‫ـا‪ ،‬الله ـّـم إال وقوف ــه عنده ــا‬ ‫فع ــل ن ــزار مث ـ ً‬ ‫بوصفهـــا امـــرأة مـــن لحـــم ودم وجســـد‬ ‫ُمْث َخـــن بطعنـــات القهـــر المتراكـــم فـــي‬ ‫فضـــا‬ ‫طبقـــات بعضهـــا فـــوق بعـــض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عـــن ســـعيه الحثيـــث‪ ،‬المتواتـــر‪ ،‬إلـــى‬ ‫تكبيـــر صـــورة المـــرأة لتصبـــح موازيـــ ًا‬

‫‪-2‬‬‫تـــنـــــوعت التـجــــــربة الشـعــريــــة‬ ‫ّ‬ ‫تنوعـــ ًا الفتـــ ًا للنظـــر‪ ،‬ال‬ ‫للفيتـــوري ّ‬ ‫الكمـــي فحســـب؛ إذ هـــو‬ ‫علـــى المســـتوى ّ‬ ‫ش ــاعر مخض ــرم عاص ــر أجي ــا ًال ش ــعرية‬ ‫متنوعـــة مـــا بيـــن قصيـــدة التفعيلـــة‬ ‫والشـــعر الحـــر وقصيـــدة النثـــر‪ ،‬بـــل‬ ‫علـــى المســـتوى النّوعـــي أيضـــاً‪ ،‬حيـــث‬ ‫اســـتطاعت قصيدتـــه أن تخلـــق لنفســـها‬ ‫مس ــارًا خاصــاً‪ ،‬جمع ــت في ــه بي ــن طاق ــة‬ ‫وتمـــرد‬ ‫التفعيلـــة وبـــراءة الشـــعر الحـــر‬ ‫ّ‬ ‫القصيـــدة النثريـــة‪ .‬وهـــذا أمـــر واضـــح‬ ‫للعي ــان ف ــي تن ـ ّـوع دواوين ــه الت ــي ب ــدأت‬ ‫مـــن «أغانـــي إفريقيـــا (صـــدر فـــي عـــام‬ ‫‪« ،)1955‬عاش ــق م ــن إفريقي ــا» (‪،)1964‬‬ ‫«اذكرين ــي ي ــا إفريقي ــا» (‪« ،)1965‬أح ــزان‬ ‫إفريقيـــا» (‪« ،)1966‬البطـــل والثـــورة‬ ‫والمشـــنقة» (‪ ،)1968‬مـــرورًا بتحـــوالت‬ ‫تجس ــدت ف ــي «س ــقوط‬ ‫ش ــعرية وجمالي ــة ّ‬ ‫دبشـــليم» (‪« ،)1969‬معزوقـــة إلـــى‬ ‫متجـــول» (‪« ،)1971‬ثـــورة‬ ‫درويـــش‬ ‫ّ‬ ‫عم ــر المخت ــار «(‪« ،)1973‬ابتس ــمي حت ــى‬ ‫تم ــر الخي ــل» (‪« ،)1975‬عصف ــورة ال ــدم»‬ ‫(‪« ،)1983‬ش ــرق الش ــمس‪ ،‬غ ــرب القم ــر»‬ ‫(‪« ،)1985‬يأتـــي العاشـــقون إليـــك»‬ ‫(‪« ،)1989‬قـــوس الليـــل‪ ،‬قـــوس النهـــار»‬ ‫(‪ ،)1994‬وانتهـــاء بـ«عريانـــ ًا يرقـــص‬ ‫فضـــا عـــن‬ ‫فـــي الشـــمس» (‪،)2005‬‬ ‫ً‬ ‫بع ــض المس ــرحيات الش ــعرية األخ ــرى‪،‬‬ ‫مثـــل «ســـوالرا» (‪« ،)1970‬يوســـف بـــن‬ ‫تاشـــفين» (‪« ،)1997‬الشـــاعر واللعبـــة»‬ ‫(‪.)1997‬‬ ‫والواقـــع أن قصيـــدة الفيتـــوري‪ ،‬فـــي‬ ‫أغل ــب منعطفاته ــا الجمالي ــة‪ ،‬ل ــم تتن ــازل‬ ‫عـــن إيقاعهـــا الصوتـــي والجمالـــي يومـــ ًا‬ ‫م ــا‪ ،‬كم ــا أنه ــا ل ــم تس ــقط ف ــي أحض ــان‬ ‫بالغـــة شـــكلية‪ ،‬أو معاضلـــة جماليـــة‪،‬‬ ‫‪47‬‬


‫رمزي ـ ًا لصــورة الوطــن الســليب‪ ،‬كمــا فــي‬ ‫قصيـــدة «الليـــل والحديقـــة المهجـــورة»‪:‬‬ ‫المتوجيـــن‪..‬‬ ‫«الليـــل‪ /‬ليـــل العبيـــد‬ ‫ّ‬ ‫العرايـــا‪ /‬القابعيـــن تماثيـــل‪ /‬فـــوق‬ ‫أرض الخطايـــا‪ /‬اآلثميـــن‪ ..‬النبييـــن‪/..‬‬ ‫القاتلي ــن‪ ..‬الضحاي ــا‪ /‬مثل ــي‪ ..‬ومثل ــك‪/‬‬ ‫نحـــن المســـوخ‪ /..‬نحـــن الســـبايا‪.»..‬‬ ‫تنـــزع قصيـــدة الفيتـــوري كثيـــرًا‬ ‫إلـــى تعـــّدد األصـــوات‪ ،‬كأنهـــا قصيـــدة‬ ‫بوليفوني ــة ‪ ،Polyphonic‬وه ــذا عنص ــر‬ ‫دراميتهــا؛ إذ تشــتغل‬ ‫أصيــل مــن عناصــر‬ ‫ّ‬ ‫عل ــى رس ــم مالم ــح اإلنس ــان ف ــي عالقت ــه‬ ‫الرباعيـــة بالزمـــان والمـــكان والحـــدث‬ ‫تتفجـــر الحالـــة‬ ‫والصـــراع‪ .‬عندئـــذ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الدراميـــة ويتخلّـــق صـــراع درامـــي بيـــن‬ ‫األصــوات والضمائــر والصــور فــي فضــاء‬ ‫القصيـــدة الواحـــدة‪ .‬فقصيدتـــه قصيـــدة‬ ‫دراميـــة‪ ،‬تشـــتغل علـــى مبـــدأ تحويـــل‬ ‫الصــورة الشــعرية إلــى صــورة بصريــة‪،‬‬ ‫ذات أحــداث متراكمــة‪ ،‬وهــو أمــر واضــح‬ ‫الدالل ــة حت ــى فيم ــا كتب ــه م ــن نص ــوص‬ ‫مســـرحية‪ .‬وهنـــا‪ ،‬يمكـــن االستشـــهاد‬ ‫بقصيـــدة «معزوفـــة إلـــى درويـــش‬ ‫متج ــول» الت ــي تش ــبه حواري ـ ًـة صوتي ـ ًـة‬ ‫تتنـــاص‬ ‫مـــن ناحيـــة‪ ،‬وتتناغـــم أو‬ ‫ّ‬ ‫بوضـــوح‪ ،‬وزنـــ ًا ولحنـــ ًا موســـيقياً‪،‬‬ ‫وشـــك ًا فلســـفياً‪ ،‬مـــع (مأســـاة الحـــاج)‬ ‫ّ‬ ‫لصــاح عبــد الصبــور مــن ناحيــة أخــرى‪:‬‬ ‫«دني ــا ال يملكه ــا م ــن يملكه ــا‪ /‬أغن ــى‬ ‫أهليهـــا ســـادتها الفقـــراء‪ /‬الخاســـر مـــن‬ ‫ل ــم يأخ ــذ ‪ ..‬م ــا تعطي ــه عل ــى اس ــتحياء‪/‬‬ ‫ظـــن أن األشـــياء هـــي‬ ‫والغافـــل مـــن‬ ‫ّ‬ ‫األشـــياء‪ /‬تـــاج الســـلطان الغاشـــم‬ ‫تفاحـــة‪ /‬تتأرجـــح أعلـــى ســـارية‬ ‫الســـاحة‪ ... /‬والراحـــة ليســـت هاتيـــك‬ ‫أي بح ــار العال ــم تس ــألني‬ ‫الراح ــة‪ /‬ع ــن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫صـــوت قدمـــاه مـــن‬ ‫يـــا محبوبـــي؟‪ /‬عـــن‬ ‫صخــر وعينــاه مــن ياقــوت؟‪ /‬عــن ســحب‬ ‫مـــن نيـــران؟‪ /‬وجزائـــر مـــن مرجـــان؟‪/‬‬ ‫مي ٍ‬ ‫ـــت يحمـــل جثتـــه ويهـــرول حيـــث‬ ‫عـــن ْ‬ ‫يم ــوت؟‪ /‬ال تعج ــب ي ــا ياق ــوت‪ /‬األعظ ــم‬ ‫مـــن قـــدر اإلنســـان هـــو اإلنســـان‪.»..‬‬ ‫‪-3‬‬‫تنطـــوي شـــعرية الفيتـــوري علـــى‬ ‫تضافـــر عـــدد كبيـــر مـــن الثيمـــات‬ ‫اإلفريقيـــة؛ أقصـــد إلـــى تجســـيد همـــوم‬

‫‪48‬‬

‫القـــارة الســـوداء شـــعرياً‪ ،‬والدفـــاع عـــن‬ ‫قضاياهـــا التاريخيـــة جماليـــاً؛ األمـــر‬ ‫يجســـد مأســـاة اإلنســـان األســـود‬ ‫الـــذي ّ‬ ‫ِ‬ ‫المســتعمر‬ ‫فــي مســيرته الكبــرى لمقاومــة ُ‬ ‫احتـــل إفريقيـــا‪ ،‬كأنـــه‬ ‫األبيـــض الـــذي‬ ‫ّ‬ ‫يس ــتدعي فان ــون وألب ــرت ميم ــي وج ــدل‬ ‫ِ‬ ‫ســـتعمر‪ ،‬حيـــث يقـــول‬ ‫والم‬ ‫الم‬ ‫َ‬ ‫ســـتعمر ُ‬ ‫ُ‬ ‫أرض»‪:‬‬ ‫ً‬ ‫مثـــا فـــي قصيـــدة «حـــدث فـــي ٍ‬ ‫«أنـــا ال أملـــك شـــيئ ًا غيـــر إيمانـــي‬ ‫بشـــعبي‪ /‬وبتاريـــخ بـــادي‪ /‬وبـــادي‬ ‫أرض إفريقيـــا البعيـــدة‪ /‬هـــذه األرض‬ ‫التـــي أحملهـــا مـــلء دمائـــي‪ /‬والتـــي‬ ‫أنشـــقها مـــلء الهـــواء‪ /‬والتـــي أعبدهـــا‬ ‫ف ــي كبري ــاء‪ /‬ه ــذه األرض الت ــي يعتن ــق‬ ‫العطـــر عليهـــا والخمـــول‪ /‬والخرافـــات‬ ‫وأعشـــاب الحقـــول‪ /‬هـــذه األســـطورة‬ ‫الكبـــرى‪ ..‬بـــادي»‪.‬‬ ‫فـــي قصائـــد الفيتـــوري مالمـــح‬ ‫ومفـــردات عالـــم إفريقـــي مكتمـــل‬

‫غنـــي بالتفاصيـــل‪ ،‬علـــى‬ ‫القســـمات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫طريقـــة الديكـــور والســـينوغرافيا‬ ‫رايـــات‬ ‫المســـرحية‪ .‬ففـــي قصائـــده‬ ‫ٌ‬ ‫كراي ــات الح ــروب‪ ،‬وطب ــول ال تك ـ ّ‬ ‫ـف ع ــن‬ ‫ـدق ف ــي مواس ــم البهج ــة أو الحص ــاد أو‬ ‫ال ـ ّ‬ ‫النذيــر بحــروب مشــؤومة‪ ،‬ورقــص مفعــم‬ ‫التواقيـــن‬ ‫بـــروح األفارقـــة المخلصيـــن َّ‬ ‫البريـــة‪ ،‬وإيقـــاع متجـــاوب‬ ‫إلـــى الحيـــاة ّ‬ ‫صعـــودًا وهبوطـــ ًا مـــع نوائـــب الدهـــر‬ ‫والقـــدر‪،‬‬ ‫وتحـــوالت الزمـــان والمـــكان‬ ‫َ‬ ‫وألـــوان شـــّتى تمتـــاح مـــن خصوبـــة‬ ‫األرض والـــزرع والدمـــاء والكرنفـــال‪،‬‬ ‫وكثي ــر م ــن مف ــردات الص ــورة اإلفريقي ــة‬ ‫المش ــبعة بع ــرق الجس ــد األس ــود ورائح ــة‬ ‫مثـــا فـــي قصيـــدة «مـــن‬ ‫البخـــور‪ .‬يقـــول‬ ‫ً‬ ‫أغانـــي إفريقيـــا» الشـــهيرة‪:‬‬ ‫«يــا أخــي فــي الشــرق فــي كل ســكن‪/‬‬ ‫ي ــا أخ ــي ف ــي األرض ف ــي كل وط ــن‪ /‬أن ــا‬ ‫أدع ــوك‪ ..‬فه ــل تعرفن ــي؟ ‪.»...‬‬


‫لكنّـــه فـــي ســـياق آخـــر يســـتدعي‬ ‫ّـــة علـــى‬ ‫لومومبـــا‪ ،‬بوصفـــه‬ ‫أيقونـــة دال ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ســـتعمر‪،‬‬ ‫الم‬ ‫براثـــن‬ ‫مـــن‬ ‫تحـــرر الكونغـــو‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫المتنبـــي وآخريـــن فـــي‬ ‫كمـــا يســـتدعي‬ ‫ّ‬ ‫مدونتــه الشــعرية العريضــة‪ ،‬ال اســتدعاء‬ ‫ّ‬ ‫المترّقــب‬ ‫الحنيــن المنكســر‪ ،‬بــل اســتدعاء ُ‬ ‫المتش ـ ِّـبث بالخي ــط األبي ــض ف ــي‬ ‫للنص ــر‪ُ ،‬‬ ‫آخ ــر النف ــق‪ .‬يق ــول ف ــي قصي ــدة «عص ــر‬ ‫الميـــاد»‪:‬‬ ‫«يـــا لومومبـــا‪ /..‬فـــي قلبـــي أنـــت‪/‬‬ ‫البط ــل األس ــود ذو القدمي ــن العاريتي ــن‪/‬‬ ‫الراكضتي ــن عل ــى نه ــر الكونغ ــو‪ /‬كان ــت‬ ‫تركــض خلفهمــا أشــجار الغابــات‪ /‬كانــت‬ ‫تتهـــّدج لهمـــا أنفـــاس الظلمـــات‪ /‬كانـــت‬ ‫أمــواج الكونغــو‪ /..‬توغــل فــي الركــض‪/‬‬ ‫كان الفـــارس ذو الرهبـــة‪ /‬ذو الصـــوت‬ ‫الفض ــي‪ /‬عين ــاه عالقت ــان عل ــى نجم ــة‪/‬‬ ‫شـــفتاه مطبقتـــان علـــى كلمـــة‪ /‬كانـــت‬ ‫أصــوات المضطهديــن‪ /‬تجلجــل فــي روح‬ ‫األرض‪ /‬يـــا لومومبـــا‪ /..‬إن الخونـــة ال‬ ‫بطـــا مـــن خـــان‬ ‫ينتصـــرون‪ /‬ال يصبـــح‬ ‫ً‬ ‫قضي ــة ش ــعبه‪ /‬م ــن أس ــقط رايت ــه ي ــوم‬ ‫نضالــه‪ /‬مــن سـ َّـد عليــه طريــق الحريــة‪/‬‬ ‫قبـــل أقـــدام القتلـــة‪ /‬أبـــداً‪ ..‬أبـــدًا يـــا‬ ‫مـــن َّ‬ ‫لومومبـــا»‪.‬‬ ‫لـــذا‪ ،‬ال يبـــدو غريبـــاً‪ ،‬فـــي هـــذا‬ ‫الســـياق‪ ،‬احتفـــاء الفيتـــوري بالزنوجـــة‬ ‫التـــي هـــي قـــدر اإلنســـان اإلفريقـــي‬ ‫المســـتَلَبة منـــذ فجـــر‬ ‫المرتبـــط بـــاألرض ُ‬ ‫التاريـــخ‪ ،‬الباحـــث عـــن الحـــق والخيـــر‬ ‫التـــواق إلـــى غـــد مشـــرق‪،‬‬ ‫والجمـــال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال ســـلطان فيـــه ألحـــد ســـوى ســـلطان‬ ‫الحريـــة وميـــزان العـــدل‪:‬‬ ‫«أنـــا زنجـــي‪ /‬قلهـــا ال تجبـــن‪ ..‬ال‬ ‫تجبــن!‪ /‬قلهــا فــي وجــه البشــرية‪ /..‬أنــا‬ ‫زنجـــي‪ /..‬وأبـــي زنجـــي الجـــد‪ /‬وأمـــي‬ ‫زنجيـــة‪ /..‬أنـــا أســـود‪ /..‬أســـود لكنـــي‬ ‫ح ـّـر أمتل ــك الحري ــة‪ /‬أرض ــي إفريقي ــا‪/..‬‬ ‫عاشـــت أرضـــي‪ /..‬عاشـــت إفريقيـــا‪/..‬‬ ‫أرضـــي‪ ..‬واألبيـــض دنّســـها‪ /‬دنّســـها‬ ‫فألمـــض شـــهيداً‪/..‬‬ ‫المحتـــل العـــادي‪/..‬‬ ‫ِ‬ ‫وليمض ــوا مثل ــي ش ــهداء أوالدي‪ /‬ف ــوراء‬ ‫المـــوت‪ ..‬وراء األرض‪ /‬تـــدوي صرخـــة‬ ‫ْر‬ ‫أجـــدادي‪ /..‬لســـتم ببنينـــا إن لـــم َتـــذِ‬ ‫رمـــاد الجـــاد‪.‬‬ ‫الريـــح‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪-4‬‬‫ينتمـــي الفيتـــوري إلـــى جيـــل محيـــي‬ ‫الديـــن فـــارس وأحمـــد صالـــح إبراهيـــم‬ ‫وغيرهم ــا م ــن ش ــعراء وكت ــاب الس ــودان‬ ‫الذيــن تفّتــح وعيهم علــى الحــرب العالمية‬ ‫تحـــوالت‬ ‫الثانيـــة‪ ،‬ومـــا تالهـــا مـــن‬ ‫ّ‬ ‫ـــم‬ ‫سياســـية وأيديولوجيـــة‪ .‬ومـــن َث ّ‬ ‫أسســـوا جميعـــ ًا لتدشـــين جماليـــات‬ ‫فقـــد ّ‬ ‫القصيـــدة الحديثـــة فـــي الســـودان‪،‬‬ ‫متأثّريـــن بشـــكل أو بآخـــر بالقصيـــدة‬ ‫المصريـــة والعراقيـــة واللبنانيـــة‪،‬‬ ‫ومســتلهِمين النمــاذج الكبــرى التــي كانــت‬ ‫م ــلء الس ــمع والبص ــر آن ــذاك‪ ،‬م ــن أمث ــال‬ ‫نـــازك المالئكـــة والســـياب والبياتـــي‬ ‫وبلنـــد الحيـــدري‪ ..،‬وغيرهـــم‪ ،‬ال علـــى‬ ‫س ــبيل المح ــاكاة الش ــعرية فحس ــب‪ ،‬ب ــل‬ ‫علـــى ســـبيل المعارضـــة والمغايـــرة‪.‬‬ ‫طويـــا مـــن‬ ‫قضـــى الفيتـــوري شـــطرًا‬ ‫ً‬ ‫ـا ف ــي المش ــهد‬ ‫حيات ــه ف ــي القاه ــرة‪ ،‬فاع ـ ً‬ ‫اإلبداعـــي المصـــري‪ ،‬إلـــى الدرجـــة التـــي‬ ‫كّنــا ‪ -‬ونحــن فــي المرحلــة اإلعداديــة فــي‬ ‫أواخ ــر الس ــبعينيات ‪ -‬ن ــدرس قصائ ــده؛‬ ‫تحدي ــدًا قصيدت ــي «م ــن أغان ــي إفريقي ــا»‬ ‫و«أصبـــح الصبـــح»‪ ،‬دون أن نلتفـــت‬ ‫ُمطلقــ ًا إل ــى كون ــه ش ــاعرًا س ــوداني ًا ف ــي‬ ‫األص ــل‪ .‬ك ــم كّن ــا نظّن ــه مصريــ ًا خالصــ ًا‬ ‫آن ــذاك! ولع ــل ه ــذا راج ــع إل ــى مف ــردات‬ ‫صورتـــه الشـــعرية التـــي كانـــت تمتـــاح‬ ‫م ــن بيئ ــة وروح مصريتي ــن‪ ،‬يحت ـ ّـل نه ــر‬ ‫الني ــل فيه ــا والثقاف ــة الفرعوني ــة مرك ــزًا‬ ‫تلمســـه‬ ‫دالليـــ ًا بـــارزاً‪ .‬وهـــو أمـــر يمكـــن ّ‬ ‫ف ــي ع ــدد غي ــر قلي ــل م ــن القصائ ــد؛ منه ــا‬ ‫قصيدت ــه «الت ــراب المقــّدس» الت ــي يق ــول‬ ‫فيهـــا‪:‬‬ ‫«وســـْد اآلن رأســـك‪ /‬فـــوق التـــراب‬ ‫ِّ‬ ‫طويـــا لـــدى حافـــة‬ ‫المقـــّدس‪ /‬واركـــع‬ ‫ً‬ ‫النهـــر‪ /‬ثمـــة مـــن ســـكنت روحـــه‬ ‫شـــجر النيـــل‪ /‬أو دخلـــت فـــي الّدجـــى‬ ‫خب ــأت ذاته ــا ف ــي نق ــوش‬ ‫األبنوس ــي‪ /‬أو ّ‬ ‫التضاري ــس‪ /‬ثم ــة م ــن المس ــت ش ــفتاه‪/‬‬ ‫القرابي ــن قبل ــك‪ /‬مملك ــة الزرق ــة الوثني ــة‬ ‫قبلـــك‪ /‬عاصفـــة اللحظـــات البطيئـــة‬ ‫قبلـــك‪.»..‬‬ ‫هكـــذا‪ ،‬تبـــدو اســـتعارة النّيـــل‪ ،‬لـــدى‬ ‫ـتعارة أثي ــرة‪ ،‬غي ــر أن ــه‬ ‫الفيت ــوري‪ ،‬اس ـ‬ ‫ّ‬ ‫يتســامى بهــا فــوق جغرافيتهــا المحــدودة‬

‫التـــي قـــد تصلهـــا بمصـــر أو الســـودان‬ ‫فحس ــب؛ ليجع ــل منه ــا اس ــتعارة تمثيلي ــة‬ ‫ـب‪،‬‬ ‫كب ــرى تمتــّد م ــن المنب ــع حت ــى المص ـ ّ‬ ‫مـــرورًا ببلـــدان وحضـــارات شـــّتى‪.‬‬ ‫‪-5‬‬‫الجيـــد لمدونـــة‬ ‫يســـتطيع القـــارئ‬ ‫ّ‬ ‫الفيتــوري الشــعرية أن يلمــح مــدى قدرتــه‬ ‫عل ــى متابع ــة أغل ــب التح ـ ّـوالت السياس ــية‬ ‫واالجتماعيـــة التـــي مـــرت بهـــا المنطقـــة‬ ‫العربيـــة وإفريقيـــا‪ ،‬منـــذ تفاعلـــه مـــع‬ ‫ث ــورة عراب ــي ‪1881‬م‪ ،‬وحادث ــة دنش ــواي‬ ‫‪1906‬م‪( ،‬كمـــا فـــي قصائـــد «عندمـــا‬ ‫يتكل ــم ش ــعب» و«النه ــر الظام ــئ» و«إل ــى‬ ‫موميـــاء»)‪ ،‬مـــرورًا برصـــده الجمالـــي‬ ‫ألحـــداث القضييـــة الفلســـطينية فـــي‬ ‫بعـــض القصائـــد مثـــل «طفـــل الحجـــارة»‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬والمســألة العراقيــة فــي قصيــدة‬ ‫جميلــة ذات نفــس ملحمــي بعنــوان «يأتــي‬ ‫العاشــقون إليــك يــا بغــداد»‪ ،‬يقــول فيهــا‪:‬‬ ‫«ل ــم يترك ــوا ل ــك م ــا تق ــول‪ /‬والش ــعر‬ ‫صوت ــك‪ /‬حي ــن يغ ــدو الصم ــت مائ ــدة‪/..‬‬ ‫وتنســـكب المجاعـــة فـــي العقـــول‪ /‬لـــم‬ ‫يعرفـــوك‪ ،‬وأنـــت توغـــل عاريـــ ًا فـــي‬ ‫الك ــون‪ /..‬إال م ــن بنفس ــجة الذب ــول‪ /‬ل ــم‬ ‫يبص ــروا عيني ــك‪ /..‬كي ــف تقلّب ــان ت ــراب‬ ‫أزمن ــة الخم ــول‪ /‬ل ــم يس ــكنوا ش ــفتيك‪/..‬‬ ‫ســاعة تطبقــان علــى ارتجافــات الذهــول‪/‬‬ ‫ل ــم يش ــهدوك‪ /..‬وأن ــت تول ــد مث ــل عش ــب‬ ‫األرض‪ /‬فــي وجــع الفصــول‪ /‬لــم يتركــوا‬ ‫ل ــك م ــا تق ــول‪ /‬ل ــم يترك ــوا ل ــك م ــا تق ــول‬ ‫‪.»...‬‬ ‫تنهـــض شـــعرية الفيتـــوري وطاقتـــه‬ ‫اإلبداعي ــة عل ــى محوري ــن؛ أولهم ــا قدرت ــه‬ ‫علــى نســج مجــازات ُمدهشــة تتخّلــق عنــد‬ ‫المنفــى؛‬ ‫الّتخــوم‪ ،‬كأنــه واحــد مــن شــعراء َ‬ ‫نظـــرًا الرتحالـــه الدائـــم بيـــن الســـودان‬ ‫اســـتقر‬ ‫ومصـــر ولبنـــان وليبيـــا‪ ،‬حتـــى‬ ‫ّ‬ ‫فضـــا‬ ‫بـــه المقـــام أخيـــرًا فـــي المغـــرب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عمـــا ينطـــوي عليـــه الفنّـــان مـــن غربـــة‬ ‫ّ‬ ‫وجوديـــة‪ ،‬وثانيهمـــا خـــروج اســـتعاراته‬ ‫م ــن رح ــم من ــاخ إفريق ــي ُمفع ــم بمف ــردات‬ ‫والبريـــة والدمـــاء الحـــارة وإرث‬ ‫البـــكارة‬ ‫ّ‬ ‫أســـود مثقـــل بالعبوديـــة‪ ،‬وكل مـــا مـــن‬ ‫شـــأنه إنضـــاج قصيـــدة حـــارة الطعـــم‪،‬‬ ‫فواحـــة الرائحـــة‪.‬‬ ‫ســـوداء اللـــون‪ّ ،‬‬

‫‪49‬‬


‫لخص في مقال واحد مســيرة إبداعية‬ ‫ربمــا من الصعوبة لي ولغيري أن ُي ِّ‬ ‫طويلة من العطاء المتواصل والمستمر‪ ،‬بدأت مع ستينيات القرن الماضي‬

‫سامل أبوظهري‬

‫لتقترب من الخمســين عاماً‪ ،‬لشــاعر بقيمة محمد مفتاح الفيتوري‪ .‬في هذا‬ ‫نسى ظاهرياً‪ ،‬ولكنها‬ ‫العمر الطويل ثمة حاالت عاشها الشاعر قد ُت َ‬ ‫همل أو ُت َ‬ ‫تتضح بمجرد اإلشارة إليها وتسليط قليل من الضوء عليها‪.‬‬

‫الحاالت النفسية للفيتوري‬

‫هــذا المقــال يســتعرض وبشــكل موجــز بعــض مــن الحــاالت‬ ‫النفســـية التـــي عاشـــها وعايشـــها وتعايـــش معهـــا الشـــاعر‬ ‫وأث ــرت في ــه أو تأث ــر به ــا بش ــكل مباش ــر أو غي ــر مباش ــر‪ ،‬أو‬ ‫كان له ــا دور ف ــي تكوي ــن ش ــخصيته اإلبداعي ــة واإلنس ــانية‪،‬‬ ‫وم ــن َث ـّـم انعكس ــت عل ــى حيات ــه العملي ــة والش ــعرية ومجم ــل‬ ‫نتاج ــه األدب ــي والثقاف ــي عل ــى م ــدى عش ــرات الس ــنين‪.‬‬ ‫الش ــاعر محم ــد الفيت ــوري ال يع ــرف الع ــام ال ــذي ُوِل ـ َـد في ــه‬ ‫فقـــد ذكـــر إحســـان عبـــاس أنـــه(‪« )1‬يجهـــل تاريـــخ ميـــاده‪،‬‬ ‫ولكــن الباحثيــن أجمعــوا علــى أن ‪ ،1930‬هــو تاريــخ ميــاده‬ ‫الفعل ــي»‪ .‬ع ــاش طفولت ــه ف ــي الجنين ــة‪ ،‬وه ــي بل ــدة صغي ــرة‬ ‫هادئــة بغــرب الســودان‪ ،‬وهــذا َأّثـ َـر علــى شــخصيته فأصبــح‬ ‫ِ‬ ‫ـــر االنطـــواء علـــى نفســـه ويكـــره الضوضـــاء‪ .‬كان‬ ‫ُي ْؤث ُ‬ ‫لحكايـــات جدتـــه زهـــرة (أم والدتـــه) تأثيرهـــا العميـــق علـــى‬ ‫تكوينـــه النفســـي وهـــو فـــي مراحـــل الطفولـــة؛ هـــذه الجـــدة‬ ‫كانــت دائمــة الشــكوى والتذمــر فتحكــي بحرقــة وربمــا بدمــوع‬ ‫لحفيده ــا الصغي ــر ع ــن ماضيه ــا البائ ــس‪ ،‬وع ــدم اس ــتقرارهم‬ ‫وهجرتهـــم مـــن ليبيـــا إلـــى الســـودان هربـــ ًا مـــن ســـطوة‬ ‫الطليــان‪ ،‬كمــا كانــت تشــكو إليــه معاناتهــا الشــخصية ونظــرة‬ ‫الن ــاس الدوني ــة له ــا لدمامته ــا ولونه ــا األس ــود‪ ،‬ه ــذا كل ــه كان‬ ‫ل ــه تأثي ــره العمي ــق ف ــي تكوين ــه النفس ــي وأدائ ــه اإلبداع ــي‬ ‫فكان ــت زه ــرة حاض ــرة بق ــوة‪ ،‬ول ــم ينس ــها‪ ،‬وأهداه ــا دي ــوان‬ ‫شـــعره المهـــم «يأتـــي العاشـــقون إليـــك» فكتـــب يقـــول(‪:)2‬‬ ‫‪50‬‬

‫«إلـــى الزهـــرة اإلفريقيـــة‪ ..‬جدتـــي المســـكينة‪ ..‬القائمـــة فـــي‬ ‫ذات ــي‪ ..‬رغ ــم ش ــواهد النس ــيان»‪.‬‬ ‫كم ــا تأث ــر الفيت ــوري بحكاي ــات جدت ــه ع ــن ج ــده ال ــذي كان‬ ‫يتاجـــر بالعـــاج والرقيـــق‪ ،‬وكيـــف أن أمـــه لوالدتـــه أصلهـــا‬ ‫جاريــة‪ ،‬هــذا كلــه كان كافي ـ ًا لطفــل يعيــش فــي جلبــاب جدتــه‬ ‫أن ي ــورث منه ــا وف ــي وق ــت مبك ــر عق ــدة العبودي ــة لتالزم ــه‬ ‫وتك ــون مح ــور اهتمام ــه طيل ــة حيات ــه كله ــا‪ ،‬وربم ــا لتك ــون‬ ‫أيضــ ًا س ــبب تمي ــزه ف ــي معظ ــم نتاج ــه اإلبداع ــي‪.‬‬ ‫فـــي مرحلـــة الصبـــا غـــادر والـــد الشـــاعر قريـــة الجنينـــة‬ ‫صط ِحبــ ًا أس ــرته‪ ،‬ليس ــتقر ف ــي اإلس ــكندرية‪ ،‬لتب ــدأ‬ ‫الهادئ ــة ُم َ‬ ‫معان ــاة ش ــاعرنا وي ــزداد ش ــعوره بالح ــزن بس ــبب العي ــون‬ ‫التـــي كانـــت ترمقـــه باســـتغراب بســـبب لونـــه وتعاظـــم‬ ‫إحساســـه بالدونيـــة وقصـــر القامـــة‪ ،‬وكان نتيجـــة هـــذا‬ ‫اإلحســـاس أن أصبـــح أكثـــر انطـــواء علـــى نفســـه مـــن ذي‬ ‫قب ــل‪ ،‬وق ــد وص ــف محم ــود أمي ــن العال ــم(‪ )3‬ذل ــك فق ــال «إن‬ ‫بشــرته الســوداء كانــت تقيــم بينــه وبيــن المدينــة التــي يحيــا‬ ‫فيهــا حاجــزًا كثيف ـ ًا يحرمــه المشــاركة واالندمــاج ويشــعل فــي‬ ‫نفس ــه مش ــاعر مري ــرة»‪ ،‬وق ــد بقي ــت ه ــذه المش ــاعر والح ــاالت‬ ‫طويـــا‪ ،‬حتـــى‬ ‫النفســـية مكبوتـــة فـــي عقلـــه الباطـــن زمنـــ ًا‬ ‫ً‬ ‫عب ــر عنه ــا ف ــي ش ــعره‪:‬‬

‫فقير أجل‪ ..‬ودميم دميم‬


‫بلون الشتاء‪ ..‬بلون الغيوم‬ ‫يسير فتسخر منه الوجوه‬

‫وتسخر حتى وجوه الهموم‬

‫فيحمل أحقاده في جنون‬

‫ويحضن أحزانه في وجوم(‪)4‬‬ ‫وق ــد بي ــن نجي ــب صال ــح(‪ )5‬أن الش ــاعر ف ــي‬

‫هـــذه المرحلـــة «كان يحـــس إحســـاس الرجـــل‪،‬‬ ‫كانـــت عنـــده يقظـــات حـــواس مبكـــرة قبـــل أن‬ ‫تنضـــج‪ ،‬وكانـــت ألقاصيـــص جدتـــه الزنجيـــة‬ ‫وألســـاطيرها أثرهـــا البعيـــد فـــي نفســـه‪ ،‬كان‬ ‫يبحـــث عـــن الحقيقـــة فـــي اليقظـــة المبكـــرة‪ ،‬كل‬ ‫ذلـــك تضافـــر وســـاعد علـــى اســـتيقاظه الدائـــم‬ ‫للكلمـــة والنظـــرة‪ ،‬لقـــد كان فـــي هـــذه المرحلـــة‬ ‫ُمتذمـــرًا تحـــت وطـــأة شـــعوره بأنـــه مشـــدود‬ ‫إل ــى قي ــد م ــا ه ــو قي ــد ال ي ــدرك م ــداه‪ ،‬ويرف ــض‬ ‫محتـــواه‪ ،‬وكان يحـــس أن بركانـــ ًا بـــدأ مرحلـــة‬ ‫االنفجـــار األولـــى»‪.‬‬ ‫فـــي هـــذه المرحلـــة أيضـــ ًا حفـــظ القـــرآن‬ ‫الكريـــم‪ ،‬وكتبـــه بيـــده‪ ،‬كمـــا درس الحســـاب‬ ‫واألناشــيد وكتــب مواضيــع اإلنشــاء‪ ،‬ثــم التحــق‬ ‫بعده ــا بالمعه ــد الدين ــي األزه ــري‪ ،‬ث ــم بالمعه ــد‬ ‫الثانـــوي فـــي القاهـــرة‪ ،‬وليواصـــل دراســـته‬ ‫ـع النقــاد علــى أن‬ ‫وي ْجِمـ ُ‬ ‫هنــاك حتــى عــام ‪ُ ،1953‬‬ ‫هــذه الفتــرة تعـّد مــن الفتــرات المهمــة فــي حياتــه‪،‬‬ ‫تمكــن مــن االطــاع علــى مختلــف المعــارف‬ ‫حيــث ّ‬ ‫اإلنس ــانية والديني ــة والفلس ــفية‪ ،‬وأكاد أج ــزم أن‬ ‫بس ــبب انط ــواء الش ــاعر عل ــى نفس ــه زاد نهم ــه ف ــي التحصي ــل‬ ‫المعرف ــي ال ــذي َمّث ـ َـل راف ــدًا قويــ ًا ل ــه ف ــي عمل ــه كصحاف ــي‪،‬‬ ‫ورغ ــم أن ــه ل ــم يك ــن ل ــه أصدق ــاء ف ــي العال ــم الواقع ــي‪ ،‬لكن ــه‬ ‫ـو َن صداق ــات متين ــة م ــع عنت ــرة‪ ،‬وأب ــي زي ــد‬ ‫وب ــا ش ــك َك ـ ّ‬ ‫الهالل ــي‪ ،‬وتولوس ــتوي‪ ،‬وفاوس ــت‪ ،‬وجوت ــه‪ ،‬وبودلي ــر ه ــذا‬ ‫الش ــاعر الفرنس ــي الش ــهير ال ــذي ن ــادى ف ــي ش ــعره بتحطي ــم‬ ‫الف ــوارق الطبقي ــة‪.‬‬ ‫ف ــي ع ــام ‪ 1954‬التح ــق بجامع ــة القاه ــرة‪ ،‬وب ــدأ الدراس ــة‬ ‫بقســـم اآلداب اإلنســـانية‪ ،‬وهـــو مزهـــوًا بنفســـه معتـــدًا بمـــا‬ ‫يحملـــه فـــي رأســـه متفوقـــ ًا بـــه عـــن أقرانـــه‪ ،‬ولكنـــه كان‬ ‫كســـوالً‪ ،‬وال يواظـــب علـــى حضـــور المحاضـــرات‪ ،‬وتنامـــى‬ ‫إحساســـه بأنـــه مقيـــد‪ ،‬وأن هنـــاك مـــن يكبلـــه بقوانيـــن‬ ‫ولوائ ــح‪ ،‬فت ــرك الجامع ــة قب ــل أن ين ــال ش ــهادتها‪ .‬والتح ــق‬ ‫بالصحافـــة ووجـــد فيهـــا البـــراح الواســـع للحريـــة‪ ،‬فأطلـــق‬ ‫العنــان لقلمــه‪ ،‬وبــرز نجمــه كصحافــي قديــر ثــم كشــاعر مهــم‬ ‫ف ــي مص ــر‪ ،‬وال ــدول العربي ــة وإفريقي ــا كله ــا الت ــي تغن ــى به ــا‬

‫وح ــده كم ــا كان يق ــول دائمــاً‪.‬‬ ‫أثــر فــي شــخصيته والــده الشــيخ مفتــاح رجــب الفيتــوري‬ ‫صوفـــي كبيـــر وشـــيخ الســـجادة الصوفيـــة مـــن خلفـــاء‬ ‫الطريقـــة الشـــاذلية األســـمرية‪ ،‬فقـــد كان الشـــاعر يتـــرك‬ ‫اللعـــب‪ ،‬لينضـــم لرفـــاق والـــده ُمـــرددًا معهـــم التواشـــيح‬ ‫الصوفيـــة التـــي كان لهـــا دور بـــارز فـــي شـــعره‪.‬‬ ‫أزمـــة الهويـــة عنـــد الفيتـــوري واالنتمـــاء للوطـــن‬ ‫واالســـتقرار فيـــه كانـــت حالـــة نفســـية تشـــكل لـــه هاجســـ ًا‬ ‫ـؤرق حيات ــه الش ــعرية والش ــخصية بس ــبب اخت ــاط نس ــبه‬ ‫ي ـ ِّ‬ ‫وتحدي ــد هويت ــه‪ ،‬فجدت ــه زنجي ــة‪ ،‬ووال ــده م ــن ليبي ــا‪ ،‬وأم ــه‬ ‫تع ــود أصوله ــا لتاج ــر إفريق ــي يتاج ــر ف ــي الرقي ــق والع ــاج‪.‬‬ ‫س ــحب من ــه النمي ــري جنس ــيته الس ــودانية‪ ،‬فمنح ــه القذاف ــي‬ ‫الجنســـية الليبييـــة وجـــواز ســـفر دبلوماســـياً‪ ،‬ثـــم ُس ِ‬ ‫ـــحَب ْت‬ ‫من ــه الجنس ــية الليبي ــة بع ــد قي ــام الث ــورة الليبي ــة‪ ،‬ومؤخ ــرًا‬ ‫منحت ــه القي ــادة الس ــودانية ج ــواز س ــفر دبلوماس ــي ًا وأع ــادت‬ ‫إليـــه جنســـيته الســـودانية‪ .‬مهنتـــه كدبلوماســـي ســـهلت لـــه‬ ‫‪51‬‬


‫كتـــب قصيـــدة شـــعرية فـــي بغـــداد عنوانهـــا «يأتـــي‬ ‫العاش ــقون إلي ــك»‪ ،‬أعج ــب به ــا ص ــدام حس ــين كثي ــرًا فقرب ــه‬ ‫من ــه ومنح ــه جائ ــزة قيمته ــا مئ ــة أل ــف دوالر‪ ،‬وكان صديقــ ًا‬ ‫حميمـــ ًا للرئيـــس الجزائـــري الســـابق أحمـــد بـــن بلـــة‪ ،‬كتـــب‬ ‫عنـــه يقـــول ‪:‬‬

‫يا بن بيال‬

‫ما أجمل أن يصحو اإلنسان‬ ‫فإذا التاريخ بال قضبان‬

‫وإذا الثورة في كل مكان(‪)7‬‬

‫هــذه العالقــة مــع الرؤســاء ولــدت عنــده نوع ـ ًا مــن الزهــو‬ ‫والتفاخـــر جعـــاه يتطـــاول علـــى النقـــاد وال يعتـــرف بهـــم‪،‬‬ ‫ويقلـــل مـــن أهميـــة أقرانـــه الشـــعراء‪ ،‬فقـــال إن أحمـــد عبـــد‬ ‫المعط ــي حج ــازي لي ــس ش ــاعرًا بالمطل ــق وإن ــه مج ــرد ناق ــد‪،‬‬ ‫والبياتـــي أيضـــاً‪ ،‬وحتـــى محمـــود درويـــش عنـــده ليـــس‬ ‫ش ــاعراً‪ ،‬ولك ــن القضي ــة جعل ــت من ــه ش ــاعراً‪ ،‬ون ــزار قبان ــي‬ ‫ف ــي نظ ــره ش ــاعر‪ ،‬لكن ــه كان ف ــي خدم ــة آخري ــن‪ .‬الفيت ــوري‬ ‫يعتقـــد دائمـــ ًا واليـــزال إن كان الشـــعراء ال يموتـــون فهـــو‬ ‫أكثره ــم بع ــدًا ع ــن الم ــوت‪ ،‬ويق ــول‬

‫الســـفر الدائـــم‪ ،‬وقبلهـــا تنقلـــه الدائـــم مـــن بلـــد لبلـــد أورث‬ ‫شـــكلت أبـــرز‬ ‫متأصـــا بالغربـــة التـــي‬ ‫شـــاعرنا إحساســـ ًا‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مالم ــح ش ــخصيته ومنحت ــه لونــ ًا ممي ــزًا ف ــي أدب ــه وش ــعره‪.‬‬ ‫عالقتـــه بالســـلطة والرؤســـاء معقـــدة‪ ،‬أحبـــه أنـــور‬ ‫الســـادات‪ ،‬وقربـــه إليـــه فـــي بدايـــة مســـيرته‪ ،‬وأرســـله‬ ‫ليشـــارك بـــاده فـــي عيـــد اســـتقاللها عـــام ‪ ،1956‬وبعدهـــا‬ ‫بســـنوات هجـــاه فـــي قصيـــدة (الراقـــدون علـــى بطونهـــم‬ ‫والدج ــى م ــن فوقه ــم حج ــر) الش ــهيرة‪ ،‬إرض ــاء للقذاف ــي ال ــذي‬ ‫رحــب بــه بعــد أن طــرده النميــري وســحب منــه جــواز ســفره‬ ‫وجنســـيته‪ ،‬فمنحـــه القذافـــي كل مـــا يريـــد‪ ..‬وســـام الفاتـــح‬ ‫وجنس ــية ليبي ــة وج ــواز س ــفر دبلوماس ــي ًا ووظيف ــة س ــفير‪،‬‬ ‫ه ــذا م ــا جع ــل الفيت ــوري يصف ــه ف ــي إح ــدى قصائ ــده بأن ــه‬ ‫مثـــل بعـــض النبييـــن!!!‬ ‫كان شـــاعرنا شـــديد اإلعجـــاب بالرئيـــس محمـــد نجيـــب‪،‬‬ ‫بينمــا هاجــم جمــال عبــد الناصــر‪ ،‬هجوم ـ ًا الذع ـ ًا فــي قصيــدة‬ ‫«م ــات غ ــداً»(‪ )6‬ق ــال فيه ــا‪:‬‬

‫مات‬

‫وملء روحه المسودة المحترقة‬ ‫رمز يغطيه دم المشانق المعلقة‬

‫وصرخات الثائرين في السجون المطبقة‬ ‫‪52‬‬

‫مثلي أنا ليس يسكن قبر ًا‬

‫(‪ )8‬ال تحفروا لي قبر ًا‬

‫سأرقد في كل شبر من األرض‬ ‫هامش‬

‫‪ -1‬د‪ .‬إحســـان عبـــاس‪ :‬اتجاهـــات الشـــعر العربـــي المعاصـــر‪ ،‬المجلـــس‬ ‫الوطنـــي للثقافـــة والفنـــون واآلداب الكويـــت‪ ،1998 ،‬ص ‪.2‬‬ ‫‪ -2‬محمـــد مفتـــاح الفيتـــوري‪ :‬يأتـــي العاشـــقون إليـــك‪ ،‬دار الشـــروق‪،‬‬ ‫القاهـــرة‪ ،‬ط‪ 1992 1‬م _ ‪ 1413‬ه‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫‪ -3‬محم ــود أمي ــن العال ــم‪« :‬ه ــذا الدي ــوان» مقدم ــة دي ــوان أغان ــي إفريقي ــا‬ ‫المجلـــد األول‪ ،‬دار العـــودة بيـــروت‪ ،‬الطبعـــة الثالثـــة‪ ،1979 ،‬ص ‪.42‬‬ ‫‪ -4‬محمـــد الفيتـــوري‪ :‬ديـــوان الفيتـــوري‪ ،‬المجلـــد األول‪ ،‬دار العـــودة‪،‬‬ ‫بيـــروت‪ ،‬الطبعـــة الثالثـــة‪ 1979 ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪ -5‬نجيـــب صالـــح‪ .‬محمـــد الفيتـــوري والمرايـــا الدائريـــة‪ .‬الـــدار العربيـــة‬ ‫للموســـوعات بيـــروت‪ .‬الطبعـــة األولـــى ‪ 1998‬ص‪.8‬‬ ‫‪ -6‬محم ــد الفيت ــوري‪ :‬دي ــوان «أغان ــي إفريقي ــا»‪ ،‬مكتب ــة الحي ــاة‪ ،‬بي ــروت‪،‬‬ ‫‪ 1967‬م‪ .‬ص‪.20‬‬ ‫‪ -7‬محمـــد الفيتـــوري‪ :‬ديـــوان «عاشـــق مـــن إفريقيـــا»‪ ،‬دار الشـــروق‪ ،‬ط ‪1‬‬ ‫‪ 1992‬ص‪.22‬‬ ‫‪ -8‬محم ــد الفيت ــوري‪ :‬دي ــوان أق ــوال ش ــاهد إثب ــات‪ ،‬منش ــورات الفيت ــوري‬ ‫الثقافيـــة‪ 1988 ،‬م‪ ،‬ط ‪ 4‬ص‪.26‬‬


‫هو ناي إفريقي دافئ‪ ‬وشجي‪ ،‬بإيقاع عربي جزل وبهي‪.‬‬

‫د‪ .‬نجيب العويف‬

‫*‬

‫وقبــل هــذا وذاك‪ ،‬هــو نــاي مجبول بتــراب الســودان‪ ،‬مســكون بحرارة‬ ‫ونضارة السودان‪.‬‬

‫ناي إفريقيا العربي‬

‫يظل السودان‬ ‫ومهما شط به المزار ونــأت عنه الديار‪ّ ،‬‬ ‫باستمرار‪ ،‬في السويداء من قلب الشاعر الفيتوري‪ ،‬وأغنية‬ ‫ال تفارق شفتيه‪:‬‬

‫(في زمن الغربة واالرتحال‪،‬‬

‫تأخذني منك وتعدو الظالل‪،‬‬ ‫وأنت عشقي‬

‫حيث ال عشق يا سودان‬ ‫إال النسور الجبال‬

‫يا شرفة التاريخ‬ ‫يا راية منسوجة‬

‫من شموخ النساء‬ ‫وكبرياء الرجال‪،‬‬

‫لمن ترى أعزف أغنيتي‬

‫ساعة ال مقياس إال الكمال)‪.‬‬ ‫(عرس السودان)‬

‫وقد كان هذا السودان الــذي خرج من صلبه ودرج على‬ ‫ثراه‪ ،‬كماله ومثاله‪ .‬ورفيق روحه في ِ‬ ‫الحل والترحال‪.‬‬ ‫كانت إطاللة الفيتوري الشعرية في طالئع الخمسينيات‬ ‫من القرن الفارط‪ُ ،‬م ِ‬ ‫زامنة إلطاللة الشعر العربي الحديث‬ ‫‪53‬‬


‫حرك السواكن‪ ،‬وآذن بربيع شعري جديد‪ ،‬وكان‬ ‫الذي ّ‬ ‫الفيتوري في طليعة هذا ِ‬ ‫الحَراك الحداثي‪.‬‬ ‫كان السمه ألق ووقع خاص على األذن‪ ،‬ضمن كورال‬ ‫األسماء الرائدة‪ :‬السياب – نازك ‪ -‬البياتي‪ -‬عبد الصبور‬ ‫– حجازي‪ -‬أدونيس – نزار – خليل حاوي‪.‬‬ ‫تسلّل اســم الفيتوري ُمبكرًا إلــى المشهد الشعري‬ ‫العربي‪ ،‬صوت ًا عربي ًا إفريقي ًا دافئاً‪ ،‬طافح ًا بأشواق‬ ‫وهموم إفريقيا والوطن العربي المتماوج بين الماء‬ ‫والماء‪.‬‬ ‫ترسلت تراتيله وأغنياته من ناي إفريقي – عربي‪،‬‬ ‫دافئ النغمات‪.‬‬ ‫وطلع علينا‪ ،‬نخلة شعرية من ربوع السودان‪ ،‬معبأة‬ ‫بشموس ومراجل إفريقيا‪.‬‬ ‫وهنا فرادة وخصوصية اسم الفيتوري‪ ،‬ضمن رواد‬ ‫الشعر الحديث أو الحداثة الشعرية‪.‬‬ ‫لقد أضــاف لحن ًا جديدًا وساخن ًا إلى معزوفة هذا‬ ‫الشعر‪ .‬أضاف لحن ًا إفريقي ًا بهي ًا إلى هذه المعزوفة‪.‬‬ ‫وقد كان السياق التاريخي الذي بزغ فيه الفيتوري‪،‬‬ ‫ا مشتعالً‪ .‬سياق النهوض التحرري –‬ ‫سياق ًا نــاغـ ً‬ ‫النضالي للعالم الثالث ‪ ..‬كانت آسيا وأميركا الالتينية‪،‬‬ ‫بــؤرًا تشتعل‪ ،‬وكانت إفريقيا تتأهب وتتحفز وتفرك‬ ‫عيونها للنور‪.‬‬ ‫وبضربة معلم شعرية‪ ،‬أدخل الفيتوري إفريقيا في‬ ‫العزف الشعري العربي‪.‬‬ ‫شاهدة على ذلك‪:‬‬ ‫األولى‪،‬‬ ‫ودواوينه الشعرية‬ ‫ً‬ ‫أغاني إفريقيا‪.‬‬ ‫عاشق من إفريقيا‪.‬‬ ‫اذكريني يا إفريقيا‪.‬‬ ‫أحزان إفريقيا‪.‬‬ ‫والحزن‪ ،‬خاتمة عربية‪ ،‬لكل حلم وأمل ‪.‬‬ ‫ال وملتزماً‪،‬‬ ‫جاءنا الفيتوري إذن‪ ،‬شاعرًا حداثي ًا أصي ً‬ ‫وعاشق ًا وامق ًا من إفريقيا‪:‬‬

‫(عاشق من إفريقيا‬ ‫صناعتي الكالم‬

‫وكل ثروتي شعور ونغم‪.‬‬

‫ولست واحد ًا من أنبياء العصر‬

‫لست من فرسانه الذين يحملون‬ ‫رايات النضال‬

‫أو يخطون مصائر األمم)‪.‬‬

‫(عاشق من إفريقيا)‬

‫منذ البدء أيضاً‪ ،‬يقطع الشاعر مع الدونكيشوتية الشعرية‬

‫‪54‬‬

‫ويتجرد من األوهام والشعارات ومعسول الوعود‬ ‫والنضالية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألمنيات‪ ،‬مما كان سائدًا إبانئذ‪،‬ـ ويكتفي باإلنصات لهموم‬ ‫وشجون العالم‪ ،‬يكتفي بأن يلبس جبة درويش متجول عبر‬ ‫براري الشعر ومضارب الوطن العربي الممتدة أوجاعه من‬ ‫الماء إلى الماء‪.‬‬ ‫هو درويــش ضــارب في اآلفــاق‪ ،‬وطافح دوم ـ ًا بالعشق‬ ‫واألشواق‪.‬‬ ‫عشق وتوق للذي يأتي وال يأتي‪ ،‬حسب عبارة رصيفه‬ ‫ورفيق جيله‪ ،‬البياتي‪ .‬نقرأ من قصيدته (معزوفة لدرويش‬ ‫متجول)‪:‬‬

‫(شحبت روحي‪ ،‬صارت شفقا‬ ‫شعت غيم ًا وسنا‬

‫كالدرويش المتعلق في قدمي‪ ،‬مواله أنا‪،‬‬ ‫أتمرغ في شجني‬


‫أتوهج في بدني‪.‬‬ ‫(‪).....‬‬

‫حدقت بال وجه‬

‫ورقصت بال ساق‬

‫وزحمت براياتي وطبولي‬

‫في اآلفاق‬

‫عشقي يفني عشقي‬ ‫وفنائي استغراق‬

‫مملوكك ‪ ..‬لكني سلطان العشاق)‪.‬‬

‫(معزوفة لدرويش متجول)‬

‫وعبر دواوينه الحوافل التي أربت على العشرين‪ ،‬كان‬ ‫الفيتوري يتنطس جيدًا هموم وشجون الوطن العربي‪،‬‬ ‫ويتحسس جيدًا أشواق وأحالم الوطن العربي‪ ،‬ويرهص جيدًا‬ ‫ببروق الرعود اآلتية‪.‬‬ ‫وما يزال نداء الفيتوري البهي في الستينيات الماضيات‪،‬‬ ‫يرن في اآلذان ويتصادى في الوجدان‪:‬‬

‫(يا أخي في الشرق‪ ،‬في كل سكن‪،‬‬

‫يا أخي في األرض‪ ،‬في كل وطن‪،‬‬ ‫أنا أدعوك ‪ ..‬فهل تعرفني ؟!‬ ‫يا أخا أعرفه ‪ ..‬رغم المحن‪،‬‬ ‫إنني مزقت أ كفان الدجى‪،‬‬

‫إنني هدمت جدران الوهن‪،‬‬ ‫لم أعد مقبرة تحكي البلى‬

‫لم أعد ساقية تبكي الدمن‬ ‫لم أعد عبد قيودي)‪.‬‬

‫(عاشق من إفريقيا)‬

‫كان الشاعر بحق‪ ،‬شاهدًا ورائياً‪.‬‬ ‫كان عاشق ًا دائم ًا للسودان وإفريقيا والعروبة واإلنسانية‬ ‫‪ ..‬كان عاشق ًا للحياة‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬كلما غذ الشاعر في السير‪ ،‬وأوغل في الحلم‪ ،‬ترامت‬ ‫وتراكمت األش ــواك واألشـــراك في طريقه‪ ،‬وأدرك التعب‬

‫الخيول وغرق الحلم في األمطار والدجى‪:‬‬

‫(أيها السائق‪،‬‬

‫رفق ًا بالخيول المتعبة‪،‬‬

‫قف ‪ ..‬فقد أدمى حديد السرج‬ ‫لحم الرقبه‪،‬‬

‫قف ‪..‬‬

‫فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه‪،‬‬

‫هكذا كان يغني الموت حول العربة‪،‬‬

‫وهي تهوى تحت أمطار الدجى مضطربة)‪.‬‬

‫(تحت األمطار)‬

‫هكذا ينتهي الشاعر‪ ،‬آخر المطاف‪ ،‬إلى رؤيا رمادية‪ ،‬بعد‬ ‫أن آل العالم العربي إلى وضع ال يحسد عليه‪ .‬وكأن تلك‬ ‫األحالم ِ‬ ‫العراض واألشواق ِ‬ ‫الحرار‪ ،‬التي كانت تسكن النفوس‬ ‫والجوانح‪ ،‬تبّددت وأضحت قبض ريح‪:‬‬

‫(خارج ًا من غيابك‪،‬‬

‫ال قمر في الغياب‪،‬‬

‫وال مطر في الحضور‪،‬‬

‫مثلما أنت في حفلة العرس والموت‬

‫ال شيء‪ ،‬إال انتظار مرير‪،‬‬

‫وانحناء حزين على حافة الشعر‪،‬‬ ‫في ليل هذا الشتاء الكبير)‪.‬‬ ‫(رؤيا)‬

‫وكذلك الحال والمال‪ ،‬بعد طول معاناة وتجوال‪.‬‬ ‫لكن مع ذلك‪،‬‬ ‫سيبقى شعر الفيتوري ورفاقه أجمل‬ ‫وأنبل إرث وذكرى‪ ،‬في هذه العقود العربية العجاف‪.‬‬ ‫*ناقد وباحث‪ /‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ‪ -‬الرباط‬

‫‪55‬‬


‫ضد «النقد األسود»‬ ‫شعبان يوسف‬

‫منذ حوالي ستين عاماً‪ ،‬كتب محمود أمين العالم (‪1922‬‬ ‫تطور‬ ‫ ‪ )2009‬دراسة حول الشعر المصري‪ ،‬وتناول فيها ّ‬‫الشعر منذ مدرسة الديوان‪ ،‬إلى مدرسة أبولو‪ ،‬إلى الشعر‬ ‫الجديد‪ ،‬وكان العالم ينتصر لنظرية الواقعية‪ ،‬وكتب دراسات‬ ‫ومقاالت وآراء عديدة في صحف ومجالت‪ ،‬تطبيق ًا على هذا‬ ‫المنهج‪ ،‬وكان يرافقه في هذه الكتابات الدكتور عبدالعظيم‬ ‫حركت الدكتور‬ ‫أنيس‪ ،‬وأثارت هذه المقاالت ردود فعل عديدة‪ّ ،‬‬ ‫طه حسين‪ ،‬وتكلّم عباس العقاد وقال‪« :‬إنهما شيوعيان‪ ،‬ولن‬ ‫أرد عليهما‪ ،‬بل سأقبض عليهما»‪ ،‬ودخــل في‬ ‫ّ‬ ‫المعركة توفيق الحكيم‪ ،‬الذي كتب سلسلة مقاالت‬ ‫تحت عنوان «األدب للحياة»‪ ،‬وكتب د‪ .‬محمد مندور‬ ‫ورد علي الراعي وأحمد عباس صالح‪ ،‬واشتعلت‬ ‫الحياة الثقافية واألدبية‪ .‬في هذه الدراسة التي‬ ‫تطرق‬ ‫كتبها محمود العالم عن الشعر المصري‪ّ ،‬‬ ‫إلــى تجربة الشاعر الشاب وقتها محمد مفتاح‬ ‫الفيتوري‪ ،‬الــذي كــان يعيش في مصر‪ ،‬وكان‬ ‫ينشر قصائده في عدد من المجالت المصرية‪،‬‬ ‫مثل الرسالة الجديدة‪ ،‬والمجالت اللبنانية‪ ،‬مثل‬ ‫اآلداب واألديــب‪ ،‬ولم يكن قد أصدر بعد ديوانه‬ ‫األول‪ ،‬وكانت أولى قصائده قد كتبها عام ‪،1948‬‬ ‫متأثرًا بإفريقيته وبلونه األسود‪:‬‬

‫(اآلن وجهي أسود‬

‫وألن وجهك أبيض‪..‬‬ ‫سميتني عبد ًا!‪) .‬‬

‫بعدها التقى في الخرطوم أحد مواطنيه‪ ،‬وقدمه‬ ‫إلى الفنان عثمان وقيع‪ ،‬ونهره هذا الفنان قائالً‪:‬‬ ‫(ما هذا الشعر الذي تكتبه يا أخي‪ ..‬لقد فضحتنا‪..‬‬ ‫إنني أكــرهــك)‪ .‬ويعترف الفيتوري ُمستطرداً‪:‬‬ ‫«لقد أردت بالفعل أن أفضح واقعنا األسود‪ ،‬ولن‬ ‫أسمح لنفسي بتزييف هذا الواقع‪ ..‬أريد أن أكون‬ ‫صادق ًا مع نفسي أوالً‪ ..‬وأن يكون ما أكتبه هو‬ ‫‪56‬‬

‫أتعرف على الوجه اآلخر‬ ‫ما أحسه‪ ..‬غير أنني أطمح إلى أن ّ‬ ‫لشقائي‪ ..‬وال تحسبوا أنني وحدي فمعي الماليين»‪ ،‬هذا الكالم‬ ‫كتبه الفيتوري عام ‪ 1966‬في مقدمة ديوانه «اذكريني يا‬ ‫إفريقيا»‪ ،‬أي بعد كتابة قصيدته األولى بما يقرب من عشرين‬ ‫عاماً‪ ،‬وبعد أن أدرك تجربته بعمق‪ ،‬ولكن الشعر الذي كتبه‬ ‫في تلك المرحلة المبكرة لم يكن معبرًا تعبيرًا دقيق ًا عن تلك‬ ‫الكلمات‪ ،‬لذلك كتب العالم في دراسته‪« :‬الفيتوري يقف موقف ًا‬ ‫وسط ًا في حركة الشعر الجديد‪ ،‬فهو ُيعد امتدادًا لتجربة ناجي‪،‬‬


‫وهو يعيش داخل مأساته الخاصة‪ ،‬ومشاعره الحادة‪ ،‬وهو‬ ‫لم يتخلّص بعد من اإلطــار التقليدي للتعبير‪ ،‬ولكنه يتميز‬ ‫بقدرة خارقة‪ -‬تفوق قدرة ناجي‪ -‬على إبراز القسمات وتجسيد‬ ‫الرؤية واصطناع الصور في جو رمزي غيبي‪ ..‬وأنه لو نجح‬ ‫في التخلي عن قيود الشكل التقليدي وفي استيعاب اآلفاق‬ ‫الجديدة والمشاركة في تعميق أبعادها الرحبة فسيكون له‬ ‫ورد عليه الفيتوري – كما سنوضح فيما بعد –‪،‬‬ ‫شأن كبير»‪ّ ،‬‬ ‫وكان قد استفاد من حواره مع العالم‪ ،‬وبدأ يخرج من ذاته‬ ‫المتألمة ألن جلدته ســوداء‪ ،‬وراح يتعامل مع األمر بالفعل‬ ‫كقضية عامة تخص ماليين الناس‪ ،‬وهذا ما ترك أثرًا على‬ ‫مستواه الفني‪ ،‬وأقــدم الفيتوري على إصــدار ديوانه األول‬ ‫(‪ ،)1955‬وذهب بقصائده إلى أستاذه محمود العالم ليكتب‬ ‫له مقدمة‪ ،‬وصدر الديوان ُمتضمن ًا مقدمة رئيسية لمحمود‬ ‫العالم‪ ،‬ومقدمتين أخريين لزكريا الحجاوي ورجاء النقاش‪.‬‬ ‫وكان المنهج الواقعي يتجلّى في مقالة محمود العالم‪ ،‬إذ‬ ‫يقول عن الفيتوري‪« :‬وكان يقف على العتبة األخيرة من الفئة‬ ‫البورجوازية الصغيرة التي يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من‬ ‫أجل العيش‪ ،‬وتمزقه قيمها المنهارة القلقة‪ ،‬وترددها القاتل‪،‬‬ ‫وتهدده هوات الشقاء التي تفتأ تتسع تحت أقدامها بين يوم‬ ‫وآخر‪ ..‬في هذه المدينة التجارية الكبيرة‪ -‬يقصد اإلسكندرية‪-‬‬ ‫التي ال تكف سفنها عن المجيء والذهاب‪ ،‬والتي تقيم فيها‬ ‫الطبقة األرستقراطية األوروبية البيضاء مجتمع ًا يكاد يكون‬ ‫ال على أبناء البالد‪ ..‬والتي ال تعرف الوجه األسود إال‬ ‫ُمقف ً‬ ‫خادم ًا ذليالً‪ ..‬واتخذت رحلته من الشعر مركب ًا لها‪ ..‬واستهلت‬ ‫سبيلها متخذة حمولتها من هذه األجواء جميعاً‪ ..‬حصيلة من‬ ‫الضياع والغربة واإلحساس البالغ بالدمامة والمهانة»‪ ،‬وبعد‬ ‫أن صدرت الطبعة األولــى من ديــوان «أغاني إفريقيا»‪ ،‬لم‬ ‫يعجب هذا الكالم الكاتب الصحافي فتحي غانم‪ ،‬فشن هجوم ًا‬ ‫ضاري ًا على محمود العالم‪ ،‬في مجلة «آخر ساعة»‪ ،‬موقع ًا‬ ‫مقا ًال تحت عنوان «النقد األســود»‪ .‬وأورد فتحي غانم فقرة‬ ‫يزعم أنها للعالم تقول ‪«:‬إن الفيتوري يخدع نفسه ويخدع‬ ‫قـّـراءه‪ ،‬وأنه يعيش داخل مأساته الخاصة‪ ،‬وأنه خائن ال‬ ‫يستحق شرف الدفاع عن الرجل األسود‪ ،‬وأنه وزميله الكاتب‬ ‫األميركي ريتشارد رايت كالهما جاهل‪ ،‬ليس هناك ما يسمى‬ ‫بالقومية اإلفريقية‪ ،‬وأن إفريقيا ليست موطن ًا للرجل األسود»‪،‬‬ ‫وفي العدد الصادر من مجلة روز اليوسف في ‪ 28‬نوفمبر‪/‬‬ ‫تشرين الثاني ‪ ،1955‬كتب محمود العالم ردًا على فتحي‬ ‫غانم‪ ،‬واعترف بأن بعض الكلمات التي جاءت في الفقرة‬ ‫ورد‬ ‫السابقة‪ ،‬قد كتبها بالفعل‪ ،‬ولكن بعضها اآلخر لم يكتبه‪ّ ،‬‬ ‫عليه الفيتوري في مجلة «اآلداب»‪ .‬وما كان من فتحي غانم إال‬ ‫أن قرأ مقدمة الديوان‪ ،‬وقرأ ما كتبه الفيتوري سابقاً‪ ،‬وشن‬ ‫هجوم ًا على العالم‪ُ ،‬مختِلق ًا بعض العبارات والمفردات التي‬ ‫لم ترد عند العالم‪ ،‬ال في مقاله بمجلة اآلداب‪ ،‬وال في مقدمة‬ ‫الديوان‪ ،‬وينتهي العالم‪ ،‬في رده على غانم‪ ،‬إلى أن ‪«:‬حقيقة‬ ‫مشكلة فتحي غانم أنه يرفض المعالجة الموضوعية لألدب‪،‬‬ ‫كما يرفض كذلك المواجهة الموضوعية لحياتنا اإلنسانية‪،‬‬

‫ومثل هذا الرفض هو الذي يمنعه من البحث الجاد‪ ،‬ومن تحري‬ ‫يتصور أن‬ ‫الحقيقة والوقوف إلى جانبها‪ ،‬وهو الذي يجعله‬ ‫ّ‬ ‫المسألة فيها تهديد ووعيد‪ ...‬ولكن التهديد والوعيد في الحقيقة‬ ‫صوت صادر من أعماقه»‪.‬‬ ‫وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه المناقشات‪،‬‬ ‫كتب محمد الفيتوري شهادته عن هذا الجدل‪ ،‬وعن العالم‬ ‫في مقدمته لديوانه «اذكريني يا إفريقيا»‪ ،‬والمقدمة مؤرخة‬ ‫بتاريخ الفاتح من يناير‪/‬كانون الثاني ‪« :1966‬إن محمود‬ ‫أمين العالم‪ ،‬أكثرهم جدية‪ ،‬وإحساس ًا بمسؤولية الناقد‪..‬‬ ‫إنني أحمل له قدرًا كبيرًا من المحبة والتقدير‪ ،‬غير أنني أثق‬ ‫تمام ًا في خطأ موقفه من االتجاه الشعري الجديد الذي تبلورت‬ ‫مالمحه في ديواني «أغاني إفريقيا»‪ ..‬هل الخطأ في الموقف‪،‬‬ ‫أم أن الخطأ في التفسير؟ في النظرية أم في التطبيق؟‪ ،‬قلت‬ ‫له‪ ،‬وأنا أناقشه في مجلة «اآلداب»‪ :‬إنك ال تستطيع أن تتعمق‬ ‫في مأساتي‪ ..‬ألنك ال تستطيع أن تعيش تجربتي»‪..‬‬ ‫قال لي‪ :‬إنها مأساتك الخاصة‪ ،‬تسقطها على قارة بأكملها‬ ‫على إفريقيا‪ ..‬إنك شاعر مريض‪..‬‬ ‫قلت له‪ :‬المرضى كثيرون‪ ،‬وأنا واحد منهم‪ ..‬كلهم يعانون‬ ‫مثلي‪ ..‬أقصد كلنا‪ ..‬ثق فيما أقول‪ ..‬وأنا أريد في‪ -‬هذه المرحلة‬ ‫من شعري‪ -‬أن أتطهر من مرضي‪ ..‬بأن أبوح به‪ ..‬لقد جرؤت‬ ‫على أن أكسر الصدفة من الداخل‪ ،‬ولذلك تجدني أغني ُمبتهج ًا‬ ‫بمادة حزني‪:‬‬

‫(قلها‪ ..‬ال تجبن‪ ..‬ال تجبن‬

‫قلها في وجه البشرية‬

‫أنا زنجي‪ ..‬وأبي زنجي الجد‪ ..‬وأمي زنجية‬

‫أنا أسود‪ ..‬أسود‪..‬‬

‫لكن حر أمتلك الحرية‪.)..‬‬

‫قال لي‪ :‬إنك تمزق القضية‪ ،‬وتمزق الطبقة‪ ،‬وتمزق الكتلة‬ ‫الجماهيرية الواحدة بدعواك إن هناك قضية منفصلة للسود‪..‬‬ ‫إن العامل األبيض والعامل األســود‪ ،‬ينوءان معاً‪ ،‬تحت‬ ‫عبء تاريخي اجتماعي واحد‪ ،‬هو عبء الرأسمالي األبيض‬ ‫والرأسمالي األسود‪ ..‬عبء االستعمار واالستغالل‪ ..‬فالقضية‬ ‫إذن ليست قضية أسود وأبيض‪ ،‬إنها قضية ُم ِ‬ ‫ستغل‪..‬‬ ‫وم َ‬ ‫ستغل ُ‬ ‫قلت له‪ :‬هذا حق‪ ..‬وحق أيض ًا هذه الوراثات والخصائص‬ ‫النفسية والفسيولوجية‪ ..‬هــذه األحاسيس واالنفعاالت‬ ‫الملتوية التي انحدرت إلينا مع عذابات التاريخ‪ ..‬إن بصمات‬ ‫عهد العبودية تركت آثارها على األرواح أيضاً‪ ،‬وليس على‬ ‫األجساد»‪.‬‬ ‫الحاد والحاسم في اختالف موقف الشاعر‬ ‫الحوار‬ ‫هذا‬ ‫ورغم‬ ‫ّ‬ ‫عن موقف الناقد‪ ،‬إال أن الفيتوري ينهي شهادته قائالً‪« :‬وعلى‬ ‫الرغم من كثرة المتكلمين‪ ،‬فقد َظّل صوت محمود أمين العالم‪،‬‬ ‫أعلى األصوات‪ ،‬وأعمقها في وجداني»‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫أحتفي بزنوجتي‬

‫رانيا مأمون‬

‫تغنَّى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري بإفريقيا كثيراً‪ ،‬ومنذ‬ ‫أول قصيدة كتبها عن إفريقيا «إلى ٍ‬ ‫وجه أبيض» عام ‪،1948‬‬ ‫اعتبر أن كل ما سبقها من كتابة شعرية إنما هو إجهاض‬ ‫لميالد تجربته اإلنسانية الحقيقية‪ ،‬التي يريد التغني بها‬ ‫وإعالنها على المأل؛ فهو كما قال يريد أن يكون صادق ًا مع‬ ‫يحسه‪ ،‬غير أنه يطمح‬ ‫نفسه أوالً‪ ،‬وأن يكون ما يكتبه هو ما ّ‬ ‫يتعرف على الوجه اآلخر لشقائه‪ ،‬وهذا الوجه اآلخر‬ ‫إلى أن‬ ‫َّ‬ ‫هو إفريقيا ومأساتها اإلنسانية الكبرى‪.‬‬

‫ُ‬ ‫انطلقت ضائع ًا مشرد ًا‬ ‫ومنذ ما‬ ‫أطوي ليالي غربتي‬

‫وأمتطي خيول سأمي‬

‫كنت عذابي‪ِ ..‬‬ ‫ِ‬ ‫أنت يا إفريقيا‬

‫ِ‬ ‫وكنت غربتي التي أعيشها‬ ‫ُ‬ ‫وشئت أن أعيشها‬

‫هو إذن في سابق أعماله لقصيدة «إلى وجه أبيض» كان‬ ‫متعدد الهويات والجنسيات‬ ‫يبحث عن ذاته‪ ،‬بحث شاعر قلق‬ ‫ِّ‬ ‫وطن‬ ‫يقبع بين البين‪ ،‬بين التخوم‪ ،‬يبحث عن هويته‪ ،‬عن‬ ‫ٍ‬ ‫ينام مطمئن ًا على ذراعه متمرغ ًا في ترابه‪ ،‬كان كذلك يبحث‬ ‫ٍ‬ ‫يتسع للتمزقات النفسية‪ ،‬لأللم والعذاب الذي‬ ‫عن‬ ‫فني َّ‬ ‫شكل ّ‬ ‫‪58‬‬

‫لوعيه‬ ‫عاشه ألنه مختلف‪ ،‬مختلف اللَّون‪ ،‬الشكل والجذور‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫رسم لنفسه اتجاه ًا شعري ًا جديداً‪ ،‬أذاب‬ ‫الّتام بهذا االختالف‬ ‫َ‬ ‫أعم‪ ،‬إفريقيا أرض ًا وشعباً‪ ،‬نضاالً‬ ‫فيه ذاته الصغرى في ذاتية ّ‬ ‫وتطلع ًا لالنعتاق‪.‬‬ ‫الفيتوري أوفر الشعراء إنتاج ًا عن موضوعة إفريقيا (ثالث‬ ‫مجموعات ومسرحية شعرية)‪ ،‬بل أكثر من كتب عنها في اللغة‬ ‫العربية مقارنة بشعراء العربية‪ ،‬لكنه ليس الوحيد الذي كتب‬ ‫السودانيين‪ ،‬فقد كان معه‬ ‫عن إفريقيا من الشعراء والكّتاب ُّ‬ ‫السر حسن (‪)2013 - 1935‬‬ ‫من رفقائه وأصدقائه الشاعر تاج ِّ‬ ‫شاعر القصيدة الشهيرة آسيا وإفريقيا‪:‬‬

‫ُ‬ ‫أعزف يا قلبي األناشيد القديمة‬ ‫عندما‬

‫ّ‬ ‫ويطل الفج ُر في قلبي على أج ُنح غيمة‬ ‫ِ‬ ‫لألرض الحميمة‬ ‫سأغني آخر المقطع‬

‫للظالل ال ُز ِ‬ ‫رق في غابات كينيا والماليو‬

‫وكان معه في القاهرة كذلك الشاعر محيي الدين فارس‬ ‫(‪ ،)2008 - 1936‬صاحب قصيدة (لن أحيد)‪:‬‬

‫ُ‬ ‫يكبل خطوه ثقل الحديد‬ ‫أنا‬ ‫لست رعديد ًا ِ ّ‬

‫وهناك أسراب الضحايا الكادحون‬

‫العائدون مع الظالم من المصانع والحقول‬


‫لحظة الميالد ما أروع أن نشقى ونحزن‬ ‫ّ‬ ‫المغضن‬ ‫شعبي المغروس في الكونغو‬

‫دفء أيامي‪ ،‬عذاباتي ونبضي‬

‫كثيرون هم الشعراء السودانيون الذين اتجهوا صوب‬ ‫صيحة نضالية وثورية‬ ‫إفريقيا في شعرهم‪ ،‬سواء أكانت‬ ‫ً‬ ‫ضد المستعمر‪ ،‬أم رؤية تسعى إلى إحياء البعد اإلفريقي‬ ‫هوية سودانية‬ ‫ثقافي ًا وعرقي ًا وحضارياً‪ ،‬واالرتكاز على‬ ‫َّ‬ ‫بمنهج تجديدي‪ ،‬على سبيل المثال برز في هذا االتجاه‬ ‫الشاعر محمد عبد الحي (‪:)1989 - 1944‬‬

‫الصحو جرح ًا‬ ‫سنا ُر تسفر في بالد َّ‬ ‫أزرق ًا‪ ،‬قوس ًا‪ ،‬حصان ًا‬

‫أسود األعراف‬ ‫َ‬

‫الدم‬ ‫فهد ًا قافز ًا في عتمة ِ ّ‬

‫معدن ًا في الشمس‪ ،‬مئذنة‬

‫الصخر‪ ،‬رمح ًا فوق مقبر ٍة ‪-‬‬ ‫نجوم ًا في عظام َّ‬ ‫كتاب‬

‫مألوا الطريق‬

‫وعيونهم مجروحة األغوار ذابلة البريق يتهامسون‬

‫وسياط ج َّلاد تسوق خطاهمو‬

‫ما تصنعون؟‬

‫والحق ًا الشاعر جيلي عبد الرحمن (‪ ،)1931-1990‬الذي‬ ‫مجد ثائر الكونغو العظيم لومومبا في قصيدته (خمس أغنيات‬ ‫َّ‬ ‫إلى لومومبا)‪:‬‬

‫ورد ٌة حمراء‪ ،‬كقلبك‬

‫أرعشتها ال ِ ّريح في موحل دربك‬

‫السلطنة الزرقاء (‪،)1821 - 1504‬‬ ‫وسنار هي عاصمة َّ‬ ‫ٍ‬ ‫مطولة‬ ‫واتخذها الشاعر رمــزًا لهذه العودة في قصيدة‬ ‫َّ‬ ‫(العودة إلى سنار)‪.‬‬ ‫الفيتوري (‪ )1936‬أحد هؤالء الشعراء من الجيل الذي‬ ‫عايش المّد الثوري التحرري في إفريقيا‪ ،‬حملت أشعاره‬ ‫الصرخة اإلفريقية العارمة والرافضة للمستعمر والستعباده‪،‬‬ ‫وقد واكب هذا المّد الشعبي‪ ،‬بل سبقه اتجاه ثقافي تبلور في‬ ‫أقرت بقبول وتماهي‬ ‫حركة (الزنوجة) في الثالثينيات‪ ،‬التي ّ‬ ‫اإلنسان األسود لحقيقة كونه أسود صاحب قيم ثقافية وفنية‬ ‫عبر الفيتوري عن هذا بقوله‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫تخصه وتختلف عن غيره‪ُ ،‬ي ِّ‬

‫قلها ال تجبن‪ ..‬ال تجبن‬ ‫قلها في وجه البشرية‬ ‫أنا زنجي‪..‬‬

‫خد الشمس ذابت فيك أنفاس المروج‬ ‫مثل ِ ّ‬

‫الجد‬ ‫وأبي زنجي‬ ‫ّ‬

‫يا عيون الطير‪ ،‬يا أرض الزنوج‬

‫أنا أسود‪..‬‬

‫كل روح تتك َّون‬

‫أمتلك الحريَّة‬

‫فتفاءلت وغنيت لشعبك‬

‫كل شيء يت َّلون‬

‫وأمي زنجية‬

‫أسود لكني ح ٌّر‬

‫‪59‬‬


‫األســود حـ ّـر‪ ،‬اللون ال يستتبع العبودية‪ ،‬فليس ألنه‬ ‫أسود هو عبد‪ ،‬وإنما ألن هناك أبيض في قارة بعيدة رغب‬ ‫أن يستعبده ويشحن به السفن‪ ،‬يكّدسه ويكبلّه كي يخدمه‪،‬‬ ‫يسأله الفيتوري‪:‬‬

‫ألئن وجهي أسود‬

‫ولئن وجهك أبيض سميتني عبدا‬ ‫ووطئت إنسانيتي‬

‫وحقَّ رت روحانيتي‬ ‫فصنعت لي قيد ًا؟‬

‫حرقت روحه وهي تستدعي تلك األجساد‬ ‫األسئلة التي َّ‬ ‫المتعرقة واألقــدام الدامية في‬ ‫السفن‪ ،‬األصفاد والجباه‬ ‫في ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫مسيرتها األليمة كي تبني حضارة شعوب أخرى بعرقها ودمها‬ ‫وكرامتها‪ ،‬كي تعمل في المزارع والمناجم ثم‬ ‫وتقتل‪ ،‬فقط لكونها ولدت بوجوه‬ ‫ُتغتصب ُ‬ ‫سوداء!‬ ‫لقد أراد الشاعر فضح الواقع الالإنساني‬ ‫وتعريته وإظــهــار الجانب القبيح للوجه‬ ‫األبيض‪:‬‬

‫كنت صغير ًا‬

‫عندما أبصرت عيناي وجه األبيض‬

‫المحتقن‬

‫ولم أزل أذكر لي إخوة‬

‫مشوا عبيد ًا تحت ثقل القيود‬

‫والسيد األبيض من خلفهم‬

‫وسوطه ملتصق بالجلود‬

‫يمكننا القول إن الفيتوري شاعر ثوري‪،‬‬ ‫شــاعـ ٌـر ثــائــر ضــّد األبــيــض‪ ،‬ليس مطلق‬ ‫ـاد‪،‬‬ ‫المستبد‪ ،‬الــجـ َّ‬ ‫أبــيــض‪ ،‬إنما األبــيــض ُ‬ ‫الم ِ‬ ‫الم ِ‬ ‫ستغل‪ ،‬تاجر الرقيق‪ُ ،‬مذل‬ ‫ستعمر‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫والحقد الذي يأتي ذكره في‬ ‫ومهين اإلنسان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫شعره‪ ،‬ليس حقدًا لعقد نفسية من أسود‬ ‫تجاه أبيض (عقدة لون)‪ ،‬إنما الحقد نابع من‬ ‫السيد لنفسه ليسترق‬ ‫الحق الذي أعطاه‬ ‫هذا ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بذريعته إنسان ًا آخر‪ ،‬كان آمن ًا في حقله‬

‫لتنتفض جثة تاريخنا‬

‫ولينصب تمثال أحقادنا‬

‫آن لهذا األسود‪ ..‬المنزوي‬

‫‪60‬‬

‫المتواري عن عيون السنا‬

‫يتحدى الورى‬ ‫آن له أن‬ ‫َّ‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ونظرة قاتمة يتنبأ‬ ‫بمرارة‬ ‫لكننا نقرأه في موضع آخر‬ ‫بمصير شاب ساقه الجند إلى السجن‪ ،‬في قصيدة (مات غداً)‬ ‫منسي الكفن‪:‬‬ ‫حكم عليه بالموت مشنوق ًا مّتسخ الجثة‬ ‫ّ‬

‫مات‬

‫وملء روحه المس َّودة المحترقة‬

‫ماض يغطيه دم المشانق المع َّلقة‬ ‫ٍ‬

‫وصرخات الثائرين في السجون المطبقة‬ ‫وأوجه العجائز األليمة المشققة‬


‫وهن يرفعن إلى السماء‬ ‫َّ‬

‫ابقَ مكانك‬

‫معوجة مثل مناجل الحقول‬ ‫أذرعة‬ ‫َّ‬

‫فتوهج في نار جروحي‬ ‫َّ‬

‫في أسى ذليل‬

‫وأعين ًا يغوص فيها ُّ‬ ‫ظل مشنقة‬

‫إال أنه وسط القتامة يحلم بغٍد أخضر‪ ،‬دون ٍ‬ ‫قحط دون‬ ‫ِ‬ ‫المستعمر وطرده من جنة إفريقيا‪،‬‬ ‫جوع‪ ،‬غٍد يتحقق عند دحر‬ ‫ٍ‬ ‫فالشاعر ال يستطيع تغيير لون األرض وال السماء‪ ،‬لكنه يقدر‬ ‫يبث بها األمل في الغد‪:‬‬ ‫أن يرسم لوحة ملونة زاهية ُ‬

‫ال بُد أن تصبح يوم ًا غِ لة الحصاد لي‬

‫وتصبح السماء واألرض ومجرى الجدول‬ ‫وتنتهي مجاعة التراب‬ ‫والبشر‬

‫رؤية الفيتوري الشعرية (اإلفريقية) هامت بالمضامين‬ ‫فانصبت في توصيفها من‬ ‫وشغفت بالقضية اإلنسانية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تعددة‪ ،‬لم تعبأ هذه الرؤية بالشكل واألسلوب؛‬ ‫الم ِّ‬ ‫زواياها ُ‬ ‫ألنه يرى أن األصالة ليست وفق ًا للشكل واألسلوب‪ ،‬وإنما‬ ‫األصالة أصالة الفكر والعاطفة‪ .‬وعاطفته ملتهبة وانفعاله‬ ‫مضطرب وغضبه عــارم‪ ،‬لذا ينادي إفريقيا مناداة متوترة‬ ‫تشي باالنفعال والغضب‪:‬‬

‫ِ‬ ‫أناديك‬ ‫إني‬

‫أنادي دمي ِ‬ ‫فيك‬

‫أنادي أمتي العارية‬

‫إني أنادي األوجه البالية‬

‫واألعين ال َّراكدة‪ ..‬الكابية‬

‫لن تصدأ في تربة روحي‬ ‫اصبغ أعالم الثورة يا سيف بالدي‬ ‫الزم الشاعر الحنين والشوق الدائم إلى األرض المقّدسة‬ ‫التي ال يملك شيئ ًا سوى اإليمان بشعبها وتاريخها هذه األرض‬ ‫البعيدة‪ ،‬إفريقيا األرض الموعودة‪ ،‬األرض الحلم‪.‬‬

‫المقدس‬ ‫وسد اآلن رأسك فوق التراب‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬

‫واركع طوي ً‬ ‫ال‬

‫لدى حافة النهر‬ ‫اركع‬

‫سكنت روحه شجر النيل‬ ‫ثمة من‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬

‫الدجى األبنوسي‬ ‫أو دخلت في ُّ‬

‫أو خبأت ذاتها في نقوش التضاريس‬ ‫ثمة من المست شفتاه القرابين‬ ‫َّ‬ ‫قبلك‬

‫مملكة ال ُزرق الوثنية‬

‫قبلك‬

‫عاصفة اللحظات البطيئة‬

‫ِ‬ ‫فويك إن لم تحضني صرختي‬

‫قبلك‬

‫ِ‬ ‫باألبيض المعتدي‬ ‫عاصف ًة‬

‫قبلك‪.‬‬

‫زاحف ًة من ظلمة الهاويَّة‬

‫يحتفي الشاعر باألسود‪ ،‬األسود الرمز‪ ،‬القارة‪ ،‬الثائر‪،‬‬ ‫اإلنــســان الــذي ستنحني الشمس لهامته وتخشع األرض‬ ‫لصوته؛ ألنه سيملؤها فرح ًا كما امتألت قرون ًا بأحزانه‪،‬‬ ‫وتزخر مجموعاته الشعرية بهذا األســود‪ ،‬أو ما يرمز إليه‬ ‫معان كالدجى‪ ،‬الظالم‪ ،‬الليل‪ ،‬الزنوج‪،‬‬ ‫من مترادفات أو‬ ‫ٍ‬ ‫األبنوس‪ ،‬األمس وسواها من مفردات‪.‬‬ ‫يحتفي باإلنسان الزنجي الذي هو أحد الماليين التي ال‬ ‫تموت والتي تولد في كل صباح من جديد‪ ،‬ويحتفي بالمناضل‬ ‫والثائر ببن بال‪ ،‬مانديال ولومومبا‪:‬‬

‫طقس الوجوه المدالة في مهرجان المشانق‬ ‫وألن الفيتوري الشاعر مناضل‪ ،‬جاء إلى الخرطوم في ذلك‬ ‫اليوم األول من يناير‪/‬كانون الثاني ‪ 1956‬يوم االستقالل‬ ‫ليشهد رفع العلم السوداني وتنكيس علم بريطانيا‪ ،‬كي‬ ‫يحضر ويعيش وينفعل بهذه اللحظة التاريخية المفصلية‬ ‫في تاريخ وحاضر السودان ليكون جزءًا من هذا الحدث‪ ،‬هو‬ ‫المتغرب طول عمره‪ ،‬اللحظة التي حلم بها متمني ًا أن ُينثر‬ ‫ّ‬ ‫حبة رمل في جبال وطنه أو أن ُيكتب حرف ًا صغيرًا في نضاله‪،‬‬ ‫وحق له ذلك‪ ،‬فالكلمة نضال والكلمات أصوات حياة وثورة‬ ‫ّ‬ ‫ال تعرف الموت‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫منذ أكثر من عشــرين عام ًا مضــت‪ ،‬قامت مجلة الفصول األربعة‪ ،‬الصادرة‬ ‫عن رابطة األدباء والكّتاب الليبيين‪ ،‬بإعداد ونشــر عدد خاص عن المشهد‬

‫حسني املزداوي‬

‫الشعري الليبي‪ ،‬قمت فيه بإعداد كشف ببليوغرافي عن الدواوين الشعرية‬ ‫التي صدرت للشــعراء الليبييــن‪ ،‬خالل عقدي الســبعينيات والثمانينيات‬ ‫الماضية والتعريف بأصحابها‪.‬‬

‫ليبيا والفيتوري‬

‫عالقة ملتبسة‬ ‫توقفـــت أمـــام دواويـــن وشـــخصية‬ ‫الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري‪ ،‬الـــذي يحمـــل‬ ‫جـــواز ســـفر ليبيـــاً‪ ،‬ويشـــتغل حينهـــا‬ ‫بالســـفارة الليبيـــة فـــي الربـــاط‪ ،‬فرغـــم‬ ‫قامتـــه الشـــعرية الســـامقة‪ ،‬إال أننـــي لـــم‬ ‫أج ــد ل ــه وال لش ــعره حض ــورًا ف ــي المش ــهد‬ ‫الشـــعري الليبـــي‪ ،‬فـــا عالقـــة لمفرداتـــه‬ ‫الشـــعرية بخصوصيـــة المـــكان الليبـــي‪،‬‬ ‫عـــدا تلـــك القصائـــد التـــي تغنّـــى فيهـــا‬ ‫ومجـــده فيهـــا‪.‬‬ ‫بمعمـــر القذافـــي ّ‬ ‫أمـــا قصيدتـــه الشـــهيرة «أصبـــح‬ ‫ـاق»‪،‬‬ ‫الصب ــح ف ــا الس ــجن وال الس ــجان ب ـ ٍ‬ ‫فق ــد ارتبط ــت ف ــي الذاك ــرة الليبي ــة بمحم ــد‬ ‫وردي المطــرب‪ ،‬وليــس بمحمــد الفيتــوري‬ ‫الش ــاعر‪ ،‬ف ــإن القذاف ــي ع ــام ‪ ،1988‬ف ــي‬ ‫خضــم نشــوته بحــدث إطالقــه للمســاجين‬ ‫السياســـيين‪ ،‬وهـــو ُيلقـــي مـــن شـــباك‬ ‫بأحــد المبانــي الحكوميــة بجــوازات الســفر‬ ‫الممنـــوع أصحابهـــا مـــن الســـفر‪َ ،‬قـــّد َم‬ ‫الفنــان الســوداني محمــد وردي للجماهيــر‬ ‫المحتشـــدة أســـفل ذلـــك الشـــباك علـــى‬ ‫أنـــه الشـــاعر صاحـــب قصيـــدة أصبـــح‬ ‫الصبـــح‪ ،‬فذهـــب اســـم الفيتـــوري خطـــأ‬ ‫أو قصـــدًا فـــي زحمـــة تناثـــر الجـــوازات‬ ‫وغبــار هــذا التقديــم المرتبــك الــذي حجــب‬ ‫اس ــم الش ــاعر‪ ،‬وأب ــرز ص ــورة المط ــرب‪،‬‬ ‫خاصـــة أن الجماهيـــر عمومـــ ًا تعـــرف‬ ‫‪62‬‬

‫المطربيـــن‪ ،‬وال تلتفـــت إلـــى المؤلفيـــن‬ ‫والش ــعراء‪ ،‬ف ــي فرص ــة كان م ــن الممك ــن‬ ‫أن تعـــزز حضـــور هـــذا الشـــاعر ذي‬ ‫األصـــول الليبيـــة فـــي وجـــدان شـــعبه‪.‬‬ ‫فهـــل يكفـــي شـــطط المدائـــح‬ ‫السياســـية‪ ،‬واألصـــول البعيـــدة‪ ،‬وهـــل‬ ‫يكف ــي ج ــواز الس ــفر لول ــوج خصوصي ــة‬ ‫الحالـــة الثقافيـــة ألي شـــعب؟‬ ‫ـت عل ــى الش ــاعر الفيت ــوري ع ــن‬ ‫تعرف ـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫طريـــق صديقـــه السياســـي والمثقـــف‬ ‫الدبلوماســـي الراحـــل جمعـــة الفزانـــي‪،‬‬ ‫الـــذي كنـــت قريبـــ ًا منـــه بحكـــم ظـــروف‬ ‫العمـــل الدبلوماســـي واالهتمـــام بالشـــأن‬ ‫الثقافـــي‪ ،‬فالتقينـــا معـــه فـــي أكثـــر مـــن‬ ‫مـــكان‪ ..‬فـــي طرابلـــس‪ ،‬والربـــاط‪،‬‬ ‫والقاهـــرة‪ ،‬وكانـــت لنـــا حـــوارات‬ ‫ونقاش ــات اقترب ــت فيه ــا م ــن فه ــم بع ــض‬ ‫خصوصيـــات هـــذه الـــروح المتعاظمـــة‬ ‫بشـــعرها‪.‬‬ ‫منــذ البدايــة كان انتمــاء الفيتــوري أمــرًا‬ ‫مرتب ــكاً‪ ،‬فق ــد ُوِل ـ َـد ف ــي منطق ــة الجنين ــة‬ ‫علـــى أطـــراف غـــرب الســـودان‪ ،‬مـــن أب‬ ‫ليبـــي وأم ســـودانية‪ ،‬ورثـــت ســـوادها‬ ‫األمـــة المســـترقة‪ ،‬جـــدة‬ ‫مـــن والدتهـــا َ‬ ‫الش ــاعر‪ ،‬فأورثت ــاه س ــوادًا ف ــي البش ــرة‪،‬‬ ‫وحصـــة موجعـــة مـــن ســـيرة العبوديـــة‬ ‫لتصيـــر فيمـــا بعـــد وطنـــه وانتمـــاءه‬

‫ولونـــه اإلنســـاني وقامتـــه الشـــعرية‬ ‫المتس ــامقة‪ ،‬ولذل ــك كاف ــح ف ــي التش ــبث‬ ‫به ــذا الوط ــن الجدي ــد‪ ،‬وه ــذا الل ــون ال ــذي‬ ‫انتش ــله م ــن مأزق ــه الوج ــودي‪ ،‬فأصب ــح‬ ‫موضـــع تقديـــر وإشـــادة‪ ،‬بـــد ًال مـــن أداة‬ ‫تحقيــر وازدراء‪ ،‬مــع أن ظهــور الفيتــوري‬ ‫كش ــاعر متف ــرد ج ــاء م ــع احت ــدام الحداث ــة‬ ‫الشـــعرية العربيـــة‪ ،‬وانطـــاق قصيـــدة‬ ‫النثـــر‪ ،‬إال أنـــه كان علـــى يميـــن حركـــة‬ ‫الحداثـــة الشـــعرية العربيـــة‪ ،‬مـــع مـــا‬ ‫شـــابه قصيدتـــه مـــن غنائيـــة ومباشـــرة‬ ‫وخطابـــة تجاوزهـــا العصـــر‪.‬‬ ‫لقــد عثــر فيــه المفكــر المصــري محمــود‬ ‫أمي ــن العال ــم عل ــى لقيت ــه الش ــعرية ف ــي‬ ‫وقتهـــا المناســـب‪ ،‬وكانـــت هـــذه النبتـــة‬ ‫اإلفريقيـــة الصغيـــرة فـــي حاجـــة إلـــى‬ ‫عنايـــة أبويـــة بعـــد أن أربكهـــا بـــؤس‬ ‫وتجرعـــت مـــرارة ظاللـــه‬ ‫الســـواد‬ ‫َّ‬ ‫التاريخيـــة‪ ،‬وبعـــد أن بعثـــر تشـــتت‬ ‫الديـــار موضـــوع االنتمـــاء‪ ،‬لذلـــك اهتـــم‬ ‫أميـــن العالـــم بهـــذه النبتـــة الحائـــرة‬ ‫وقدمهـــا لقـــادة مصـــر كصـــوت شـــعري‬ ‫إفريقـــي بلغـــة عربيـــة أزهريـــة فصيحـــة‬ ‫وس ــواد إفريق ــي صمي ــم‪ ،‬يحتاج ــه عب ــد‬ ‫الناص ــر لدع ــم جه ــوده لمواجه ــة الغ ــرب‬ ‫المس ــتعمر‪ ،‬ولي ــس هن ــاك ص ــوت أنس ــب‬ ‫م ــن الفيت ــوري ف ــي ه ــذه الظ ــروف ليق ــوم‬


‫بالـــدور الشـــعري المطلـــوب‪.‬‬ ‫ع ــن ق ــدوم أس ــرة الفيت ــوري م ــن دار‬ ‫مســـاليت بغـــرب الســـودان إلـــى مصـــر‪،‬‬ ‫حدثن ــي ش ــيخ األدب ــاء الليبيي ــن األس ــتاذ‬ ‫عل ــي مصطف ــى المصرات ــي ع ــن حض ــور‬ ‫وال ــد الش ــاعر الع ــم (مفت ــاح رج ــب كريب ــة‬ ‫الفيتـــوري) إلـــى مصـــر‪ ،‬حيـــث يقيـــم‬ ‫المهاج ــرون الليبي ــون‪ ،‬فق ــد ج ــاء الرج ــل‬ ‫يعـــرف‬ ‫يلتمـــس إســـناد ظهـــر أســـرته‪ّ ،‬‬ ‫بأنه ــم ليبي ــون م ــن عائل ــة عم ــر م ــن أوالد‬ ‫الش ــيخ م ــن فواتي ــر مدين ــة زليت ــن الت ــي‬ ‫اشـــتهرت بشـــيخها ســـيدي عبـــد الســـام‬ ‫األســـمر الفيتـــوري صاحـــب الطريقـــة‬ ‫العروســـية الصوفيـــة‪.‬‬ ‫وفـــي جـــو جديـــد مختلـــف عـــن‬ ‫الســـودان ظهـــرت واســـتفحلت عقـــد‬ ‫الصب ــي الفيت ــوري‪ ،‬ليعي ــش ف ــي حي ــرة‪،‬‬ ‫ب ــا انتم ــاء واض ــح‪ ،‬ف ــا ه ــو س ــوداني‬ ‫بمولـــده‪ ،‬وال هـــو مصـــري بإقامتـــه‪ ،‬وال‬ ‫هــو ليبــي بأصولــه‪ ،‬رغــم االســم الليبــي‬ ‫الصميـــم لوالـــده مفتـــاح‪ ،‬اســـم ســـيكون‬ ‫ل ــه مفتاح ـ ًا لول ــوج عال ــم القذاف ــي‪ُ ،‬بعي ــد‬ ‫وصول ــه إل ــى الس ــلطة ف ــي ليبي ــا صي ــف‬ ‫‪.1969‬‬ ‫خـــال ســـبعينيات القـــرن العشـــرين‬ ‫وجـــد القذافـــي فـــي الفيتـــوري شـــخصية‬ ‫يمكـــن بهـــا إحـــراج غريمـــه الرئيـــس‬ ‫الســـوداني جعفـــر نميـــري‪ ،‬كمـــا وجـــد‬ ‫الفيتـــوري فـــي القذافـــي مـــا يفتقـــده‬ ‫مـــن منصـــب ومـــال وتعويضـــه عمـــا‬

‫فـــات‪ ،‬فوجـــد جـــواز الســـفر والوظيفـــة‬ ‫الدبلوماســـية المســـتمرة‪ ،‬والســـيارة‬ ‫الفاره ــة الت ــي تحم ــل أرقام ـ ًا دبلوماس ــية‬ ‫لحوالـــي أربعـــة عقـــود مســـتمرة‪،‬‬ ‫فـــي مخالفـــة بينـــة لشـــروط العمـــل‬ ‫الدبلوماســـي فـــي ليبيـــا‪ ،‬وأذكـــر عنـــد‬ ‫مشـــاركتنا فـــي أحـــد االجتماعـــات‬ ‫الدبلوماســـية بالربـــاط نهايـــة ‪،1992‬‬ ‫اســـتضافنا الشـــاعر الفيتـــوري بحكـــم‬ ‫العالقـــة التـــي كانـــت تربطـــه بالوزيـــر‬ ‫الفزان ــي ودعان ــا االثني ــن إل ــى وليم ــة ف ــي‬ ‫بيت ــه‪ ،‬حاول ــت أن أتع ــرف عل ــى عالقت ــه‬ ‫بليبيـــا مـــن خـــال مـــا يجمعـــه ببلـــده‪،‬‬ ‫فل ــم أج ــد إال تل ــك المف ــردات الث ــاث الت ــي‬ ‫كان يح ــرص عل ــى اس ــتمرار اس ــتحالبها‪،‬‬ ‫وكان س ــبيله ف ــي الحص ــول عليه ــا رب ــط‬ ‫عالق ــة م ــا بمعم ــر القذاف ــي الرج ــل الق ــوي‬ ‫تـــورط كالهمـــا‬ ‫فـــي ليبيـــا آنـــذاك‪ ،‬فقـــد ّ‬ ‫ف ــي اآلخ ــر‪ ،‬القذاف ــي ح ــاول ف ــي البداي ــة‬ ‫ـوح ب ــه ف ــي وج ــه غريم ــه نمي ــري‪،‬‬ ‫أن يل ـ ِّ‬ ‫ويقـــال إنـــه اســـتخدمه لبعـــض الملفـــات‬ ‫الخاص ــة‪ ،‬ث ــم بح ــذر السياس ــي اس ــتطاع‬ ‫أن يشـــتري لســـان الشـــاعر فيـــه‪ ،‬وأن‬ ‫يبقـــي بـــركان هجائـــه خامـــداً‪.‬‬ ‫وعندمـــا أبلـــغ الفيتـــوري بوصولـــه‬ ‫إلـــى ســـن التقاعـــد‪ ،‬وهـــو بالســـفارة‬ ‫الليبيــة فــي القاهــرة‪ ،‬رغــم تقهقــر تاريــخ‬ ‫ميــاده الحقيقــي ألكثــر مــن ســت ســنوات‬ ‫لينع ــم بمزي ــد م ــن س ــني االمتي ــازات‪ ،‬ل ــم‬ ‫يجـــد أمامـــه إال إشـــعال بـــركان الهجـــاء‬

‫الخامـــد فـــي أعماقـــه‪ ،‬فأنشـــأ قصيـــدة‬ ‫هجـــاء فـــي الســـفير الليبـــي بالقاهـــرة‪،‬‬ ‫عيـــره فيهـــا بســـواد لونـــه‪ ،‬ويصفـــه‬ ‫ُي ِّ‬ ‫بأنـــه عبـــد‪ ،‬ونســـي أن لونـــه الشـــعري‬ ‫مـــا كان لـــه أن ينجـــح ويترســـخ لـــوال‬ ‫دفاع ــه ع ــن الس ــود‪ ،‬ورف ــض عبوديته ــم‬ ‫فــي شــعره‪ ،‬ولكــن بمجــرد أن شــعر بــأن‬ ‫غطـــاءه المالـــي وامتيازاتـــه الســـرمدية‬ ‫ـدة هج ــا‬ ‫ب ــدأت تته ــاوى‪ ،‬حت ــى وزع قصي ـ ً‬ ‫وعيـــره بلونـــه‪،‬‬ ‫فيهـــا صديقـــه األســـود ّ‬ ‫وبالتالـــي انفضحـــت حكايـــة أذكرينـــي‬ ‫يـــا إفريقيـــا والدفـــاع عـــن المســـتعبدين‬ ‫واألرقـــاء‪ ،‬واتضـــح أنهـــا مجـــرد عقـــدة‬ ‫نفســـية‪ ،‬وليســـت نضـــا ًال ُمترســـخ ًا فـــي‬ ‫وجـــدان شـــاعر مناضـــل‪.‬‬ ‫اتـــكأت حالـــة الهجـــاء الخامـــدة فيـــه‬ ‫علـــى شـــعراء عظـــام فـــي التاريـــخ‬ ‫الشـــعري العربـــي‪ ،‬وهـــو إن وجـــد فـــي‬ ‫الشـــاعر األســـود عنتـــرة بـــن شـــداد‬ ‫مـــا يدعـــم روحـــ ًا شـــعرية منبثقـــة مـــن‬ ‫غضب ــة الس ــواد‪ ،‬ف ــإن ش ــاعرًا آخ ــر ه ــو‬ ‫األقـــرب إليـــه – رغـــم الفـــارق – ودليلـــه‬ ‫ف ــي انتهازي ــة الموق ــف السياس ــي‪ ،‬لذل ــك‬ ‫فه ــو يس ــتضمر حال ــة المتنب ــي‪ ،‬إذ هج ــا‬ ‫عيـــره بســـواده‪،‬‬ ‫كافـــورا اإلخشـــيدي‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫وعبوديتـــه القديمـــة‪ ،‬فلـــم ال يكـــون هـــو‬ ‫متنب ــي عص ــره‪ ،‬يهج ــو أخش ــيدية س ــفير‬ ‫القذافـــي‪ ،‬ولســـان حالـــه يقـــول إيـــاك‬ ‫أعنـــي واســـمعي يـــا جـــارة؟‬ ‫تالفـــى القذافـــي الموضـــوع بنفســـه‪،‬‬ ‫وأطفـــأ فتيـــل قنبلـــة الهجـــاء الســـوداء‬ ‫التـــي كادت تنفجـــر فـــي وجهـــه‪ ،‬وهـــو‬ ‫يعـــرف أن ضررهـــا ال توقفـــه األزمـــان‪،‬‬ ‫وعارهـــا البالغـــي ال يمحـــوه التاريـــخ‪،‬‬ ‫فس ـّـرب م ــن خ ــال لق ــاء ف ــي التليفزي ــون‬ ‫الليبــي مقولــة إن الشــعراء ال يتقاعــدون‪،‬‬ ‫محـــاو ًال بذلـــك أن يوصـــل رســـالة‬ ‫مالطفـــة واعتـــذار للشـــاعر القنبلـــة‬ ‫ـــج َو ُطويـــت‬ ‫بـــأن أمـــر تقاعـــده قـــد ُعوِل َ‬ ‫صفحت ــه‪ ،‬متناس ــي ًا أن التقاع ــد ال يتعّل ــق‬ ‫بالفيتـــوري الشـــاعر‪ ،‬وإنمـــا بالفيتـــوري‬ ‫الموظ ــف‪ ،‬وبذل ــك ضم ــن كالهم ــا عواق ــب‬ ‫غضبـــة اآلخـــر‪ ،‬بعـــد أن ذهـــب ســـفير‬ ‫القذاف ــي بالقاه ــرة كب ــش ف ــداء‪ ،‬واحتف ــظ‬ ‫القذاف ــي بصف ــاء قصائ ــد الم ــدح والتمجي ــد‬ ‫التـــي قالهـــا فيـــه الفيتـــوري‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫تربــى فيهــا محمد الفيتــوري كان لهــا أكبــر األثر على‬ ‫اإلســكندرية التــي ّ‬

‫الشــاعر‪ ،‬فقد كانت رؤيته الحاكمة للعالم تتميز بطابع إنســاني‪ ،‬فمع أنه‬ ‫سوداني الجنسية مصري الثقافة‪ ،‬كانت إفريقيا مركز وعيه ومركز الداللة‬

‫فتحي عبد الله‬

‫التوجــه عن دور مصر‬ ‫الشــعرية األساســية في تجربتــه‪ ،‬وال ينفصل هذا‬ ‫ُّ‬

‫اإلقليمــي فــي تلــك المرحلة‪ ،‬وال عــن توازنات العقل فــي العالم‪ ،‬خاصة‬ ‫أن إفريقيــا قــد أصبحت مع ثــورة يوليو إحدى مناطق النفوذ والســيطرة‬ ‫لمقاومة االستعمار القديم‪،‬‬

‫شاعر الثورات المغدورة‬ ‫وقـــد أصـــدر الفيتـــوري دواوينـــه‬ ‫األولـــى «أغانـــي إفريقيـــا» (‪،)1955‬‬ ‫«عاشـــق إفريقيـــا» (‪« ،)1964‬اذكرينـــي‬ ‫يـــا إفريقيـــا» (‪ )1965‬فـــي ســـياق مـــا‬ ‫كان يحـــدث فـــي العالـــم مـــن تغيـــرات‪،‬‬ ‫ومتوافقـــ ًا مـــع اســـتراتيجية الدولـــة‬ ‫المصريـــة فـــي إفريقيـــا وآســـيا‪ ،‬ومـــن‬ ‫هنــا فقــد طغــى الحــس الثــوري ذو اللغــة‬ ‫الرومانســـية علـــى بدايـــات تجربتـــه‪.‬‬ ‫إن ارتب ــاط الفيت ــوري بمص ــر ارتب ــاط‬ ‫رمـــزي‪ ،‬ال يمكـــن حصـــره فيمـــا هـــو‬ ‫سياس ــي أو أيديولوج ــي‪ ،‬وإنم ــا يمك ــن‬ ‫إحالتـــه إلـــى الوعـــي أو إلـــى الســـياق‬ ‫تربـــى فيـــه‪.‬‬ ‫الثقافـــي الـــذي ّ‬ ‫إن حداث ــة ال ــرواد ف ــي ش ــعر الع ــرب‬ ‫ل ــم تك ــن مفصول ــة ع ــن م ــا يح ــدث ف ــي‬ ‫الش ــرق األوس ــط م ــن صراع ــات‪ ،‬س ــواء‬ ‫أكانـــت داخليـــة أم خارجيـــة‪ ،‬وكانـــت‬ ‫اســـتجابة روحيـــة ورمزيـــة لتلـــك‬ ‫الفئـــات الفاعلـــة فـــي تلـــك الحقبـــة‪.‬‬ ‫وكانـــت االقتراحـــات الشـــعرية‬ ‫متنوع ــة ومختلف ــة‪ ،‬وتتقاط ــع جميعه ــا‬ ‫ِّ‬ ‫مـــع فعـــل الحداثـــة مهمـــا كانـــت درجـــة‬ ‫الوعـــي واالنحيـــاز االجتماعـــي‪،‬‬ ‫فهنـــاك الليبراليـــة ممثلـــة فـــي صـــاح‬ ‫‪64‬‬

‫تمجــد‬ ‫عبدالصبــور وأنســي الحــاج‪ ،‬التــي ِّ‬ ‫حري ــة الف ــرد ف ــي المجتم ــع مهم ــا كان ــت‬ ‫أفعالـــه‪ ،‬وهنـــاك القوميـــة ُممثَلـــة فـــي‬ ‫حج ــازي‪ ،‬خلي ــل ح ــاوي‪ ،‬والفيت ــوري‪،‬‬ ‫والت ــي تس ــعى إل ــى خل ــق وع ــي جمع ــي‬ ‫يدع ــو إل ــى التح ـ ُّـرر م ــن االس ــتعمار‪ ،‬أم ــا‬ ‫النم ــوذج الماركس ــي ال ــذي اعتم ــد الرؤي ــة‬ ‫القائمـــة علـــى الصـــراع الطبقـــي فـــي‬ ‫الداخـــل ورفـــض الرأســـمالية العالميـــة‬ ‫فـــي الخـــارج فقـــد كان ممثلـــه ســـعدي‬ ‫يوســـف‪.‬‬ ‫تميــز الفيتــوري دون غيــره مــن‬ ‫ولقــد ّ‬ ‫شـــعراء العـــرب باالنحيـــاز إلـــى قـــارة‬ ‫إفريقيـــا ال علـــى المســـتوى السياســـي‬ ‫فقــط وإنمــا بمــا تملكــه مــن ثقافــة شــديدة‬ ‫الخصوصيـــة‪ ،‬ســـواء أكانـــت ماديـــة أم‬ ‫رمزيـــة‪ ،‬فقـــد كشـــف مـــا تعرضـــت لـــه‬ ‫إفريقيـــا مـــن اضطهـــاد واســـتبداد مـــن‬ ‫قب ــل ق ــوى االس ــتعمار القدي ــم‪ ،‬فق ــد ت ــم‬ ‫نهـــب ثرواتهـــا وتدميـــر وعيهـــا الفطـــري‬ ‫وإثـــارة النزعـــات العرقيـــة والطائفيـــة‬ ‫بيـــن شـــعوبها‪ ،‬كمـــا تمـــت الســـيطرة‬ ‫عليه ــا سياس ــي ًا وعس ــكري ًا حت ــى خلق ــوا‬ ‫لـــدى شـــعوبها قابليـــة لالســـتعمار‪.‬‬ ‫وكان الفيتـــوري مـــن أوائـــل‬

‫شـــعراء إفريقيـــا المناهضيـــن للنمـــوذج‬ ‫الكولونيالـــي‪ ،‬إذ تماهـــى وتقاطـــع مـــع‬ ‫الوعـــي الجمعـــي لهـــذه القـــارة وكشـــف‬ ‫التمـــرد والعصيـــان فيـــه‪،‬‬ ‫عـــن جـــذور‬ ‫ُّ‬ ‫كمـــا كشـــف عـــن أســـاليب الوحشـــية‬ ‫الت ــي يمارس ــها الغ ــرب تج ــاه أبن ــاء ه ــذه‬ ‫القـــارة مـــن اســـتعباد رغـــم طوباويـــة‬ ‫الخطـــاب الـــذي يروجـــون لـــه‪.‬‬ ‫لقــد بعــث الفيتــوري أســاطير إفريقيــا‬ ‫وقوته ــا الروحي ــة الت ــي تمث ــل المقاوم ــة‬ ‫الحقيقي ــة تج ــاه ه ــذا التوح ــش‪ ،‬وأظه ــر‬ ‫أن أبنـــاء القـــارة الســـوداء يمتلكـــون‬ ‫رؤيـــة أكثـــر إنســـانية تجـــاه العالـــم‪،‬‬ ‫فه ــم مازال ــوا يعيش ــون عل ــى الحض ــارات‬ ‫القديمـــة وهـــي حضـــارات أقـــل توحشـــ ًا‬ ‫وأق ــل عنصري ــة مم ــا يح ــدث ف ــي العال ــم‬ ‫الغربـــي‪ .‬ويقـــول‪:‬‬

‫إن نكن سرنا على الشوك سنينا‬

‫ولقينا من أذاه ما لقينا‬

‫إن نكن بتنا عراة جائعينا‬

‫أو نكن عشنا حفاة بائسينا‪.‬‬

‫هذه رؤيته على المستوى المعيش‬


‫واليومي ألبناء القارة‪ ،‬إال أنه يدفعهم‬

‫دفع ًا إلى المقاومة والعصيان‪.‬‬

‫فلقد ثرنا على أنفسنا ومحونا‬

‫وصمة الذلة فينا‬

‫الماليين أفاقت من كراها ما تراها‬

‫خرجت تبحث عن تاريخها‬

‫بعد أن تاهت على األرض وتاها‬

‫فانظر اإلصرار في أعينها وصباح‬

‫البعث‬

‫يجتاح الجباها‪.‬‬

‫أمـــا علـــى المســـتوى الرمـــزي فقـــد‬ ‫واك ــب الفيت ــوري ش ــعرية الزنوج ــة‪ ،‬إذ‬ ‫يقـــول‪:‬‬

‫أنا زنجي‬

‫قلها ال تجبن‬

‫قلها في وجه البشرية‬ ‫أنا زنجي‬

‫وأبي زنجي الجد‬ ‫وأمي زنجية‬

‫أنا أسود‬

‫أسود لكني ح ٌر امتلك الحريّة‪.‬‬

‫التطهـــر اإلنســـاني المباشـــر‬ ‫فهـــذا‬ ‫ُّ‬ ‫تحـــول لـــدى الشـــاعر إلـــى أيقونـــة‬ ‫قـــد‬ ‫َّ‬ ‫غامضـــة وفريـــدة‪:‬‬ ‫«ربم ــا ل ــم ت ــزل تلك ــم األرض تس ــكن‬ ‫صورتهـــا الفلكيـــة لكـــن شـــيئ ًا علـــى‬ ‫ســـطحها قـــد تكســـر‬

‫ربما بستان صيفك أبيض في‬

‫العواصف لكن برق العواصف خلف‬ ‫سياجك أحمر‪.‬‬

‫ربما كان طقسك نار ًا مجوسية في‬

‫شتاء النعاس الذي ال يفسر‬

‫ربما كنت أصغر مما رأت فيك‬

‫النبوءات أو كنت أ كبر»‪.‬‬

‫ولقـــد اســـتخدم الشـــاعر ألداء هـــذه‬

‫التجربـــة عـــدة تقنيـــات منهـــا‪:‬‬ ‫‪ -1‬اإلقــرار أو االعتــراف بمــا فيهــا مــن لغــة حميميــة ومحاولــة خلــق عالقــة مــع‬ ‫اآلخــر مثــل قصيــدة «أصبــح الصبــح»‪:‬‬

‫أصبح الصبح وها نحن مع النور التقينا‬

‫التقى جيل البطوالت بجيل التضحيات‬

‫التقى كل شهيد بشهيد‬

‫لم يزل يبذر في األرض بذور الذكريات‪.‬‬

‫‪ -2‬القصيـــدة كأنهـــا خطـــاب موجـــه إلـــى اآلخـــر‪ ،‬وهـــذا يســـتدعي لغـــة حـــادة‬ ‫وعنيفـــة وواضحـــة فـــي اآلن ذاتـــه‪ ،‬كمـــا يكثـــر فيهـــا اســـتخدام أدوات النـــداء‬ ‫والحـــوار‪ ،‬وأن تكـــون الداللـــة مشـــتركة بيـــن الشـــاعر والمتلقـــي مثـــل‪:‬‬

‫يا أخي في الشرق في كل سكن‬

‫‪65‬‬


‫يا أخي في األرض في كل وطن‬ ‫أنا أدعوك فهل تعرفني؟‬

‫ولـــم يقتصـــر دور الفيتـــوري علـــى تحريـــر الوعـــي الكلـــي‬ ‫إلفريقيـــا بـــل امتـــد للوعـــي العربـــي‪ ،‬فقـــد انحـــاز مبكـــرًا‬ ‫للث ــورات ذات الطاب ــع القوم ــي الت ــي كان ــت تدع ــو إل ــى العدال ــة‬ ‫االجتماعيـــة‪ ،‬وقـــد اســـتطاعت أن تدفـــع الطبقـــة المتوســـطة‬ ‫إل ــى إدارة ش ــؤون الب ــاد مم ــا خل ــق نوعــ ًا جدي ــدًا م ــن الوع ــي‬ ‫وممارس ــات مادي ــة جدي ــدة كان ــت كله ــا تس ــعى إل ــى تحقي ــق‬ ‫حداثـــة مـــا تتقاطـــع مـــن اللحظـــة الراهنـــة‪ ،‬فهـــو يقـــول‪:‬‬

‫تبقى أمة عربية رفعت مصاحفها على راحتها وتدفقت‬ ‫موج ًا من األمجاد‬

‫تبقى رغم ما حشد الصليبي المعربد تحت رايته‬

‫وما استقوى به الموتور والمأجور والجالد‬

‫تبقى األرض واألوتاد‬ ‫تبقى فرحة الميالد‪.‬‬

‫ومـــن اإلشـــكاليات التـــي تســـيطر علـــى الخيـــال والذهـــن‬ ‫العربييـــن مشـــكلة فلســـطين‪ ،‬فهـــي التـــي تخلـــق الوحـــي‬ ‫الش ــقي‪ ،‬وه ــي الت ــي تدف ــع المبدعي ــن إل ــى اكتش ــاف أش ــكال‬ ‫جديـــدة لـــأداء‪:‬‬

‫دوي نفير الثأر يا جراح عشرين سنة‬ ‫نجمة إسرائيل فوق المئذنة‬

‫فمن إذن يا وطني‬

‫ينهض إلى الصالة‬

‫بينما حوافر اليهود تدوس سقف المسجد األقصى‬ ‫وخوذات الجنود تطال المطران العابد والشماس‪.‬‬

‫إن أســـطورة فلســـطين هـــي أســـطورة الـــذات المجروحـــة‬ ‫الت ــي تم ــارس فعله ــا باس ــتمرار‪ ،‬ول ــم يس ــتطع الفيت ــوري ف ــي‬ ‫كل تجربتــه أن يغفلهــا ولــو لحظــة حتــى فــي طورهــا األخيــر‪،‬‬ ‫فف ــي قصي ــدة طف ــل الحج ــارة‪ ،‬يكت ــب‪:‬‬

‫ليس طف ً‬ ‫ال ذلك القادم في أزمنة الموتى إلهي اإلشارة‬ ‫ليس طف ً‬ ‫ال وحجارة‬

‫ليس بوق ًا من نحاس ورماد‬

‫ليس طوق ًا حول أعناق الطواويس محلى بالسواد‬ ‫إنه طقس حضارة‪.‬‬

‫إن فع ــل المقاوم ــة هن ــا لي ــس عبث ـاً‪ ،‬إن ــه قان ــون الحض ــارة‬

‫‪66‬‬

‫التـــي تعلـــي مـــن قيمـــة الحريـــة والعدالـــة (إنـــه العـــدل الـــذي‬ ‫يكب ــر ف ــي صم ــت الجرائ ــم)‪ ،‬ث ــم يذك ــر أس ــباب الكارث ــة‪.:‬‬

‫إنها األرض التي لم تخن األرض‬

‫وخانتها الطرابيش‬

‫وخانتها العمائم‬

‫إنه الحق لم يخن الحق‬

‫وخانته الحكومات‬ ‫وخانته المحاكم‪.‬‬

‫ثم يمارس نقد ًا عنيف ًا لالستبداد العربي الذي صاحب‬

‫تلك الثورات‪:‬‬

‫قد م ّر طاغية من هنا ذات ليل‬

‫أتى فوق دبابة‬ ‫وتس ّلق مجد ًا‬

‫وحاصر شعب ًا‬

‫غاص في جسمه‬ ‫ثم هام بعيد ًا‬

‫ونصب من نفسه للفجيعة رب ًا‪.‬‬

‫ث ــم يص ــل الش ــاعر إل ــى ال ــذات العربي ــة ف ــي ط ــور اكتماله ــا‬ ‫م ــن خ ــال أح ــد رموزه ــا الفاعلي ــن وه ــو المتنب ــي وإن اعتم ــد‬ ‫فـــي رؤيتـــه علـــى مـــا هـــو تاريخـــي وعلـــى الصوفيـــة فـــي‬ ‫العالق ــات فظه ــرت ال ــذات وكأنه ــا ق ــادرة عل ــى خل ــق الممال ــك‬ ‫واألســـاطير‪:‬‬

‫كانوا ملوك ًا على أرض ممزقة يجوع على ثراها النبت‬ ‫والبشر‬

‫كانوا ملوك ًا مماليكا وأعظمهم تحت السماوات‬ ‫من في ظلك استتروا‬

‫ورحت تنفخ فيهم منك ترفعهم فيسقط البعض أو تبني‬ ‫فينكسر‪،‬‬

‫أردت تخلق أبطا ً‬ ‫ال تعيد بهم عصر النبوة والرؤيا فما‬

‫قدروا‪.‬‬

‫إن الفيتــوري أحــد رواد شــعر الحداثــة بمــا قـ َّـدم مــن تجربــة‬ ‫الحيـــة‬ ‫متميـــزة ولهـــا خصائـــص فريـــدة مـــن أهمهـــا اللغـــة ّ‬ ‫والخي ــال القري ــب ال ــذي ل ــم ينفص ــل ع ــن الواق ــع‪ ،‬ونس ــتطيع‬ ‫أن نســـميه بوضـــوح شـــاعر الثـــورات المغـــدورة‪.‬‬


‫رسالة إلى جميلة‬ ‫أحمد عبدالكريم‬

‫«بيننا خائن يا رفيق‬

‫أنا أو أنت‪..‬‬

‫فلنقترع قبل بدء الطريق»‬

‫***‬ ‫قويـــة‪ ،‬وال‬ ‫أعتـــرف أننـــي ال أملـــك ذاكـــرة ّ‬ ‫الجيـــد‪ ،‬لكـــن هـــذا المقطـــع‬ ‫ملكـــة الحفـــظ ّ‬ ‫المـــدون أعـــاه‪ ،‬المأخـــوذ مـــن‬ ‫الشـــعري‬ ‫ّ‬ ‫قصيـــدة «ملـــك أو كتابـــة» للشـــاعر محمـــد‬ ‫ـــل موشـــوم ًا بذاكرتـــي ال‬ ‫الفيتـــوري َظ ّ‬ ‫يبرحهـــا رغـــم توالـــي الســـنوات ومـــرور‬ ‫األيـــام‪.‬‬ ‫مأخـــوذًا بالشـــعر العربـــي الحديـــث‬ ‫ورواده األوائ ــل‪ ،‬رغب ــة من ــي ف ــي اقتح ــام‬ ‫ّ‬ ‫عالـــم الكتابـــة الشـــعرية منـــذ ثمانينيـــات‬ ‫القـــرن الماضـــي‪ ،‬قـــرأت كل مـــا وقـــع بيـــن‬ ‫يـــدي مـــن دواويـــن الشـــعر الحديـــث التـــي‬ ‫ّ‬ ‫كانـــت دار العـــودة ببيـــروت تصدرهـــا فـــي‬ ‫ش ــكل مجّل ــدات صغي ــرة الحج ــم تض ـ ّـم األعم ــال‬ ‫الش ــعرية الكامل ــة لمعظ ــم الش ــعراء الع ــرب‪ .‬تمث ــل‬ ‫تنويعـــة لشـــعراء مـــن كل البـــاد العربيـــة تقريبـــاً‪.‬‬ ‫معظمهـــم مـــن المشـــرق العربـــي ولـــم يكـــن بينهـــم‬ ‫شـــاعر واحـــد مـــن المغـــرب العربـــي فيمـــا أذكـــر‪..‬‬ ‫ب ــذات الش ــغف ق ــرأت كل ه ــؤالء الش ــعراء‪ ،‬الذي ــن س ــاهموا‬ ‫فــي صقــل ذائقتــي وتشــكيل وعيــي الشــعري‪ ،‬غيــر مــدرك ومهتـّـم‬ ‫ألي تفاضـــل جمالـــي أو فنّـــي بينهـــم‪ ،‬فصـــدور أعمالهـــم عـــن دار‬ ‫ـا ب ــأن يجعلن ــي أعامله ــم‬ ‫الع ــودة بنف ــس األناق ــة والش ــكل كان كفي ـ ً‬ ‫عل ــى ق ــدم المس ــاواة‪ ،‬وبنف ــس االهتم ــام‪ ،‬ال ــذي يلي ــق بأس ــمائهم‬ ‫الت ــي كان ــت تم ــأ الدني ــا‪.‬‬ ‫كانــت قصائــد هــؤالء الشــعراء تتناســخ‪ ،‬تطــرق ذات المواضيــع‬ ‫وتصـــدر عـــن وجـــدان جماعـــي واحـــد‪ ،‬تنحســـر حـــدود التمايـــز‬ ‫بينه ــا إال بالق ــدر اليس ــير‪ .‬وح ــده الش ــاعر محم ــد الفيت ــوري كان‬ ‫عب ــر ع ــن‬ ‫ُمختلفــ ًا نوعــ ًا م ــا‪ ،‬كأن ــه ق ــادم م ــن كوك ــب آخ ــر‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫‪67‬‬


‫هواجـــس ال ِقبـــل للشـــعر العربـــي فـــي‬ ‫المشـــرق بهـــا‪ .‬وبقـــدر مـــا كان مؤتلفـــ ًا‬ ‫مـــع ســـيرورة الشـــعر العربـــي كان‬ ‫بينـــاً‪.‬‬ ‫ُمختلفـــ ًا عنهـــا اختالفـــ ًا ّ‬ ‫ثمـــة ســـمات ثـــاث تشـــير‬ ‫كانـــت ّ‬ ‫تفـــرد صـــوت الفيتـــوري بيـــن‬ ‫إلـــى‬ ‫ّ‬ ‫نظرائـــه مـــن الشـــعراء العـــرب أولـــى‬ ‫هـــذه الســـمات حساســـيته الصوفيـــة‬ ‫التـــي تجلّـــت فـــي لغتـــه المكثفـــة‬ ‫الغنـــي بمفـــردات‬ ‫وقاموســـه الشـــعري‬ ‫ّ‬ ‫مردهـــا نشـــأته‬ ‫ـــمة‬ ‫الس‬ ‫ّ‬ ‫الداخـــل‪ .‬هـــذه ّ‬ ‫فـــي بيئـــة صوفيـــة متصلـــة بالطريقـــة‬ ‫الشـــاذلية‪ ،‬فلـــم يســـلم مـــن تأثيرهـــا‬ ‫علـــى شـــاعريته لغـــة ورؤيـــا‪ ،‬ولذلـــك‬ ‫فه ــو يس ـّـمي نفس ــه ف ــي إح ــدى قصائ ــده‬ ‫العشـــاق»‪ ،‬ويعنـــون إحـــدى‬ ‫«ســـلطان ّ‬ ‫مجاميعـــه الشـــعرية بـــ «يوميـــات‬ ‫متجـــول»‪.‬‬ ‫درويـــش‬ ‫ّ‬ ‫الســـمة الثانيـــة هـــي تعبيـــره عـــن‬ ‫فكــرة الزنوجــة التــي لــم يقاســمه إياهــا‬ ‫أي شـــاعر عربـــي آخـــر‪ ،‬إذا اســـتثنينا‬ ‫بعـــض إرهاصاتهـــا لـــدى الشـــعراء‬ ‫يســـمون‬ ‫العـــرب قديمـــ ًا ممكـــن كانـــوا‬ ‫ّ‬ ‫غربـــان العـــرب‪ ،‬ومنهـــم ُســـحيم عبـــد‬ ‫بنـــي الحســـحاس صاحـــب البيـــت‬ ‫المعـــروف المنـــّدد بفكـــرة التمييـــز فـــي‬ ‫ـب عل ــى أس ــاس ل ــون البش ــرة «فل ــو‬ ‫الح ـ ّ‬ ‫كنـــت وردًا لونـــه لعشـــقنني ‪ /‬ولكـــن‬ ‫ربـــي شـــانني بســـواديا»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫فكـــرة الزنوجـــة كانـــت رائجـــة لـــدى‬ ‫الش ــعراء األفارق ــة الذي ــن كان ــوا يكتب ــون‬ ‫باللغ ــة الفرنس ــية‪ ،‬عل ــى غ ــرار الش ــاعر‬ ‫الســـنغالي الكبيـــر «ليبـــول ســـيدار‬ ‫س ــنغور»‪ ،‬ال ــذي كان ينظ ــر إلي ــه عل ــى‬ ‫أنـــه شـــاعر الزنوجـــة األوحـــد‪ ،‬وقـــد‬ ‫لقي ــت ص ــدى واس ــع ًا عل ــى أنّه ــا فك ــرة‬ ‫خلقـــة‪.‬‬ ‫إنســـانية ّ‬ ‫أســـس‬ ‫التـــي‬ ‫الفكـــرة‬ ‫هـــذه‬ ‫لكـــن‬ ‫ّ‬ ‫لهـــا الفيتـــوري فـــي الشـــعر العربـــي‬ ‫الحديـــث لـــم تلـــق التجـــاوب مـــن لـــدن‬ ‫ـق‬ ‫النّق ــاد الع ــرب‪ ،‬ول ــم يت ـّـم تثمينه ــا ح ـ ّ‬ ‫التثمي ــن نظ ــرًا ألن الفك ــرة ل ــم تك ــن ف ــي‬ ‫متنـــاول فهـــم النقـــاد فـــي المشـــرق‪.‬‬ ‫الس ــمة الثالث ــة ف ــي ش ــعر الفيت ــوري‬ ‫كانـــت مّتصلـــة بـ«اإلفريقانيـــة» أو‬ ‫البعـــد اإلفريقـــي فـــي شـــعره إيقاعـــ ًا‬ ‫‪68‬‬

‫وموضوعـــات‪ ،‬ذلـــك أن انتمـــاء‬ ‫وتشـــبعه‬ ‫الفيتـــوري إلـــى الســـودان‬ ‫ّ‬ ‫بثقافـــة إفريقيـــا‪ ،‬جعـــاه ينحـــاز‬ ‫وفيـــ ًا إلنســـانها‬ ‫لقضاياهـــا ويكـــون ّ‬ ‫ومناخاتهـــا مـــن خـــال تعبيـــره عـــن‬ ‫مآســـي اإلنســـان اإلفريقـــي‪ ،‬الـــذي‬ ‫عان ــى م ــن االس ــتعباد والظل ــم والمي ــز‬ ‫ا لعنصـــر ي ‪.‬‬ ‫وزعـــ ًا بيـــن‬ ‫م‬ ‫الفيتـــوري‬ ‫عـــاش‬ ‫لقـــد‬ ‫ُ ّ‬ ‫بل ــده الس ــودان‪ ،‬وبي ــن ليبي ــا ومص ــر‪،‬‬ ‫وكان األقـــرب جغرافيـــ ًا إلـــى الجزائـــر‬ ‫ـا م ــع ثورته ــا‬ ‫تحسســ ًا وتفاع ـ ً‬ ‫واألكث ــر ّ‬ ‫الت ــي ش ـّـكلت لحظ ــة فارق ــة ف ــي تاري ــخ‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬فــكان أن كتــب «رســالة إلــى‬ ‫جميلــة» بوحيــرد‪ ،‬إحــدى رمــوز الثــورة‬ ‫الجزائري ــة ف ــي س ــجنها‪ ،‬مخاطب ـ ًا إياه ــا‬ ‫ـوة ال ــروح‪:‬‬ ‫ب ــأن تمنح ــه س ـّـر الحي ــاة وق ـّ‬

‫َ‬ ‫األمثال يا جميلة؟‬ ‫أأضرب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ارات؟‬ ‫أأمأل‬ ‫العروق بال ّث ْ‬ ‫ُ‬ ‫بالوجوم؟‬ ‫أأمأل الوجو َه‬ ‫ْ‬

‫السما َء بالغيوم؟‬ ‫أأمأل َّ‬

‫إذ ًا هبيني ساع ًة من حيا ٍة‬ ‫َ‬ ‫السجن‬ ‫روح‬ ‫حيا ِة ٍ‬ ‫داخل ّ‬ ‫ِ‬ ‫الساع َة يا جميلة‬ ‫حياتك ّ‬

‫ليل زنزانتِك الطّ ويلة‪.‬‬ ‫في ِ‬

‫بـــا‬ ‫وفـــي قصيـــدة «إلـــى بـــن ّ‬ ‫ورفاقـــه» التـــي كتبهـــا بعيـــد اســـتقالل‬ ‫أول‬ ‫الجزائ ــر‪ ،‬مخاطبــ ًا أحم ــد ب ــن ب ـّـا‪ّ ،‬‬ ‫رئيـــس للجزائـــر‪ ،‬ربطتـــه بـــه عالقـــة‬ ‫ـوار الجزائــر‬ ‫خاصــة‪ ،‬ومــن خاللــه كل ثـّ‬ ‫وشـــهدائها‪:‬‬

‫«سبع سنين وأياديكم‬ ‫تطرق باب التاريخ‬ ‫تبني هرم ًا للحرية‬

‫تبنيه بعظام الشهداء‬

‫بإرادة مليون ضحية»‪.‬‬

‫ف ــي غم ــرة ه ــذا االحتف ــاء الش ــعري‪،‬‬ ‫لـــم ينـــس الفيتـــوري أن يضفـــي البعـــد‬ ‫اإلفريق ــي عل ــى ث ــورة الجزائ ــر كم ــا ه ــو‬

‫ديدن ــه‪:‬‬

‫«إ ّني أحني رأسي كبرا‬

‫إني أحفظه في إكبار فأنا إفريقي‬ ‫وجزائر بن بلّا إفريقيـ ْة‬

‫ما أجمـل أن يصحو إنسان‬

‫فإذا التاريخ بال قضبان‬

‫وإذا الثورة في كل مكان‬ ‫تركز أعالم الحري ْة‬

‫إفريقيةْ»‪.‬‬ ‫في أرضي‪ ...‬في‬ ‫ّ‬

‫أقـــل‬ ‫عالقتـــه بالجزائـــر لـــم تكـــن ّ‬ ‫األم‪ ،‬وقـــد‬ ‫ّ‬ ‫قـــوة مـــن عالقتـــه بإفريقيـــا ّ‬ ‫امتـــّدت فـــي شـــخص صديقـــه الشـــاعر‬ ‫الســـوداني جيلـــي عبدالرحمـــن الـــذي‬ ‫أقـــام بالجزائـــر أســـتاذًا بالجامعـــة‬ ‫لفتـــرة طويلـــة‪ ،‬وفيهـــا أصـــدر ديوانـــه‬ ‫«الج ــواد والس ــيف المكس ــور»‪ ،‬قب ــل أن‬ ‫يغـــادر إلـــى القاهـــرة بســـبب العشـــرية‬ ‫الحم ــراء الت ــي عاش ــتها الجزائ ــر‪ ،‬حي ــث‬ ‫توفـــي هنـــاك‪.‬‬ ‫اآلن أدرك كـــم أن الحيـــاة الثقافيـــة‬ ‫لــم تكــن عادلــة مــع الشــاعر الفيتــوري‪،‬‬ ‫فهمـــش‪ ،‬ال‬ ‫اقتـــرب فُأبعـــد‪ ،‬وانخـــرط ّ‬ ‫لشـــيء إ ّال ألن صوتـــه كان قادمـــ ًا مـــن‬ ‫قـــارة أخـــرى‪ ،‬شـــديدة الســـمرة‪ .‬وفـــي‬ ‫ّ‬ ‫هــذا المعنــى أفهــم مقطعــه الــذي يختــزل‬ ‫بـــكل الخيانـــات التـــي حدثـــت‬ ‫نبوءتـــه ّ‬ ‫وتحـــدث فـــي التاريـــخ‪.‬‬ ‫إن الخيانـــة التـــي يتـــم امتحانهـــا‬ ‫باالقت ــراع ال باالّته ــام واالفت ــراق ليس ــت‬ ‫بالتأكي ــد خيان ــة سياس ــية عادي ــة‪ ،‬ب ــل‬ ‫ه ــي خيان ــة م ــن ن ــوع خ ــاص‪ ،‬أو فع ــل‬ ‫رمـــزي مطلـــق‪..‬‬ ‫مهمـــا جمـــح الخيـــال فلـــن يســـتطيع‬ ‫تصـــور مشـــهد رفيقيـــن يقترعـــان قبـــل‬ ‫ّ‬ ‫بداي ــة رحلتهم ــا‪ ،‬ال م ــن أج ــل أن يفترق ــا‬ ‫كل ف ــي طريق ــه‪ ،‬ب ــل م ــن أج ــل‬ ‫ويذه ــب ٌ‬ ‫أن يعرفـــا أيهمـــا الخائـــن وحســـب‪(.‬أنا)‬ ‫المتكلّـــم أو (أنـــت) المخاطـــب‪ ،‬دون‬ ‫خي ــار ثال ــث بضمي ــر الغائ ــب جمعــ ًا أو‬ ‫مف ــردًا (ه ــو أو ه ــم)‪ ،‬فلي ــس اآلخ ــرون‬ ‫هـــم الجحيـــم دائمـــاً‪ ،‬وخيانـــة ذوي‬ ‫القربـــى لهـــا طعـــم الذع‪.‬‬


‫نسوة الفيتوري‬ ‫شاكر نوري‬

‫غالبـــ ًا مـــا ارتبـــط الشـــاعر محمـــد الفيتـــوري فـــي أذهاننـــا بأنـــه شـــاعر‬ ‫الملتهِبـــة‪،‬‬ ‫القضايـــا القوميـــة‪ ،‬ذلـــك الحامـــل لـــروح إفريقيـــا وزنوجتهـــا ُ‬ ‫وخصوصــ ًا انتقاالت ــه م ــن الس ــودان وليبي ــا ومص ــر والمغ ــرب‪ ،‬م ــا جع ــل‬ ‫أســـطورته أكثـــر ســـطوة علينـــا‪ .‬وهـــذا أدى إلـــى إهمـــال الحيـــاة الحميمـــة‬ ‫الت ــي عاش ــها ف ــي ش ــعره وف ــي حيات ــه‪ .‬ول ــو تطرقن ــا إل ــى الح ــب باعتب ــاره‬ ‫محـــورًا مهمـــ ًا مـــن محـــاور شـــعره‪ ،‬نـــراه يرتبـــط بـــروح صوفيـــة ُملتهِبـــة‬ ‫هـــي األخـــرى‪ ،‬لذلـــك جـــاء هـــذا الحـــب فـــي صورتـــه الروحيـــة األولـــى‪،‬‬ ‫بعيـــدًا عـــن ملـــذات الجســـد‪ ،‬ألنـــه يبقـــى ذلـــك القـــروي الـــذي يكشـــف عـــن‬ ‫ـوف‪ ،‬ال ــذي‬ ‫دواخل ــه الدفين ــة ب ــكل خج ــل وب ــراءة‪ .‬ه ــذا الح ــب ارتب ــط بالتص ـ ُّ‬ ‫تش ـّـرب ب ــه الش ــاعر‪ ،‬م ــن خ ــال عائلت ــه ومعايش ــته‪ ،‬لتل ــك العوال ــم الت ــي‬ ‫ـس الحاج ــة إل ــى االمت ــاء الروح ــي‪،‬‬ ‫التص ــق به ــا‪ .‬فق ــد ع ــاش غريبــ ًا بأم ـ ّ‬ ‫وطــرح األســئلة الوجوديــة الواحــدة تلــو األخــرى‪ ،‬دون أن يجــد لهــا صــدى‬ ‫األجوبـــة‪.‬‬

‫العاشقة والمناضلة‬ ‫حض ــور الم ــرأة ف ــي ش ــعره الف ــت للنظ ــر‪ ،‬لي ــس م ــن حي ــث الحج ــم‪ ،‬ب ــل‬ ‫مــن حيــث األثــر‪ ،‬المــرأة المحبوبــة كانــت أول مــن يطــرق بــاب قلبــه‪ ،‬ليــس‬ ‫باعتباره ــا جس ــداً‪ ،‬ب ــل روحــ ًا متوثب ــة‪ ،‬مش ــرقة‪ ،‬وعاش ــقة‪ .‬وس ــرعان م ــا‬ ‫وج ــد نفس ــه يبح ــث ع ــن ذل ــك القري ــن الروح ــي‪ .‬ص ــورة الم ــرأة العاش ــقة‬ ‫امتزجـــت بصـــورة المـــرأة المناضلـــة‪ ،‬كمـــا فـــي رســـالته الشـــهيرة‬ ‫«رســـالة إلـــى جميلـــة»‪ ،‬رمـــز الكفـــاح ضـــد االســـتعمار الفرنســـي‪.‬‬ ‫وم ــا بي ــن هاتي ــن الصورتي ــن للم ــرأة الت ــي ينش ــدها‪ ،‬يق ــول‪:‬‬ ‫فــي قصيدتــه «إلــى امــرأة عاشــقة»‪« :‬وســتطبقين جفونــك‪/‬‬ ‫المس ــحورة المتبس ــمة‪ /‬والح ــب يوق ــد ف ــي س ــراديب الكآب ــة‬ ‫أنجمـــة‪ /‬وعلـــى شـــفاه الكائنـــات قصيـــدة مترنمـــة‪ /‬ال‪..‬‬ ‫ل ــم يك ــن وهم ــا ه ــواي‪ /‬إن ال ــذي حس ــبته روح ــك‪ /‬ق ــد‬ ‫ـا صارخــاً‪ /‬جوع ــان‬ ‫تبعث ــر ف ــي خط ــاي‪ /‬م ــازال طف ـ ً‬ ‫يرض ــع م ــن دم ــاي»‪.‬‬ ‫هكـــذا تعلّـــق بالمـــرأة مثلمـــا تعلّـــق بالوطـــن‪،‬‬ ‫وقضايـــاه‪ ،‬وغنّـــى لهـــا أعمـــق قصائـــد الحـــب‪ .‬فقـــد‬ ‫غّن ــى للم ــرأة‪ ،‬بحس ـّـية عالي ــة‪ .‬حي ــث كت ــب‪ :‬أعي ــدوا‬

‫‪69‬‬


‫ســـماوي‪ /‬مـــن‬ ‫العـــزف‪ /‬إن حبيبتـــي تصغـــي‪ /‬وبـــي نهـــر‬ ‫ّ‬ ‫األشـــواق ال يفنـــى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يقــة» يتجّلــى ســرد حكايــة هــذه المــرأة‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫«م َ ْ َ‬ ‫وفــي قصيــدة ُ‬ ‫ِ‬ ‫يقـــة‬ ‫التـــي ترتبـــط بقضيـــة الوطـــن وكفاحـــه‪ «:‬اســـمها ُم َعْيت َ‬ ‫‪ ...‬مجـــرد راعيـــة صغيـــرة‪ /‬ال عالقـــة لهـــا بـــكل مـــا يحـــدث‬ ‫ـت‬ ‫هن ــاك‪ /‬هك ــذا كان ــت‪ /‬وذات ي ــوم قب ــل ع ــام ‪ /1969‬خرج ـ ْ‬ ‫بأغنامه ــا‪ /‬عل ــى مقرب ــة م ــن القاع ــدة األميركي ــة ‪ /‬غي ــر أنه ــا‬ ‫‪ /‬ل ــم تع ــد ق ــط‪ /‬فق ــد مزق ــت جس ـ َـدها الصغي ــر‪ /‬قناب ـ ُـل ق ــوات‬ ‫االحت ــال الت ــي كان ــت ‪ /‬تق ــوم بإح ــدى مناوراته ــا الحربي ــة ‪/‬‬ ‫يقــة‬ ‫يقــة لــم تكــن لهــا قضيــة ‪ ...‬إنهــا هــي القضيــة ‪ُ /‬م َعْيِت َ‬ ‫ُم َعْيِت َ‬ ‫ِ‬ ‫الحلـــم‬ ‫فـــي‬ ‫ها‬ ‫ـــعر‬ ‫ش‬ ‫ضفائـــر‬ ‫‪/‬‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫اشـــتع‬ ‫التـــي‬ ‫هـــي‬ ‫أأنـــت‬ ‫‪/‬‬ ‫ُ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الغريبـــة ‪ /‬يـــا ُم َعْيِتيقـــة ‪ /‬أكانـــت‬ ‫‪ /‬تحـــت صواعـــق الخيـــل‬ ‫ـب ‪ /‬والمناقي ـ ِـر الطويل ـ ِـة ‪ /‬والطواحي ــن‬ ‫ـوار الخرائ ـ ِ‬ ‫نف ــس أس ـ ِ‬ ‫ـزن ‪ /‬تغتســل القوافـ ُـل فيــهِ‬ ‫البدائيــة؟ ‪ /‬وكان النهـ ُـر‪ /‬نهـ ُـر الحـ ِ‬ ‫محطم ـ ًـة ‪ /‬وأش ــجارًا نحاس ــية‪».‬‬ ‫‪ /‬ث ــم ت ــدور أقم ــارًا ّ‬

‫بين آسيا والنساء البيضاوات‬ ‫الح ــب ف ــي نظ ــر الفيت ــوري‪ ،‬جس ــر يمت ــد بي ــن عاطفتي ــن‪،‬‬ ‫وبيـــن كائنيـــن‪ ،‬وبيـــن ذاتيـــن فـــي انصهارهمـــا الوجدانـــي‬ ‫والحميمـــي‪ ،‬وكل عاطفـــة إزاء المـــرأة هـــي صادقـــة‪ ،‬وهـــي‬ ‫تمـــده باإلبـــداع والعطـــاء‪ ،‬والطاقـــة اإليجابيـــة‪ .،‬وقـــد‬ ‫التـــي ّ‬ ‫ع ــرف الش ــاعر الح ــب م ــرات عدي ــدة‪ ،‬وه ــو يعتب ــره مقياســ ًا‬ ‫لرجولتـــه‪ ،‬فهـــو الرجـــل الملتهـــب‪ ،‬بخرائـــط إفريقيـــا‪ ،‬هـــذا‬ ‫الزنجـــي‪ ،‬المندفـــع نحـــو شـــهواته وغرائـــزه وولهـــه‪ ،‬كان‬ ‫حبـــه الحقيقـــي األول علـــى حـــد تعبيـــره لشـــاعرة بيضـــاء ال‬ ‫يذكـــر اســـمها‪ ،‬والفيتـــوري عامـــة ال يذكـــر أســـماء نســـائه‪،‬‬ ‫يحـــول جميـــع النســـاء إلـــى امـــرأة واحـــدة‪ ،‬هـــي امـــرأة‬ ‫بـــل‬ ‫ّ‬ ‫ـا‪ ،‬وهــو لــم‬ ‫الحلــم‪ ،‬هــي التــي علمتــه العشــق وأنضجتــه رجـ ً‬ ‫يتج ــاوز العش ــرين م ــن عم ــره بع ــد‪ ،‬وفتح ــت حواس ــه عل ــى‬ ‫معنـــى الحـــب‪ .‬لكـــن ســـرعان مـــا أصبـــح ذلـــك الحـــب مثـــارًا‬ ‫للش ــك والغي ــرة‪ ،‬ول ــم يك ــن له ــا ذن ــب س ــوى أنه ــا بيض ــاء‪،‬‬ ‫وه ــو الزنج ــي ال ــذي يحم ــل كبري ــاءه عل ــى كتف ــه‪ ،‬وكان ذل ــك‬ ‫الحـــب نديـــ ًا وقاســـي ًا ووحشـــي ًا إلـــى درجـــة التحـــدي‪ ،‬وكمـــا‬ ‫يقـــول فـــي إحـــدى قصائـــده مـــن ديوانـــه «أغانـــي إفريقيـــا»‪:‬‬ ‫‪ ....‬فالمســـي جســـمك الثميـــن‪ /‬فقـــد أدمتـــه يومـــ ًا أظافـــري‬ ‫المنهوم ــة‪ /‬واس ــألي كل ذرو في ــك‪ /‬تص ــرخ‪ :‬إنن ــي كن ــت بي ــن‬ ‫يديـــه غنيمـــة!‪.‬‬ ‫بعـــد هـــذه التجربـــة القاســـية‪ ،‬والموحشـــة‪ ،‬يقـــع فـــي‬ ‫حـــب امـــرأة ســـودانية ســـمراء‪ ،‬هـــي آســـيا‪ ،‬زوجتـــه فيمـــا‬ ‫بع ــد‪ .‬كان ذل ــك الح ــب ه ــو األش ــد عمقــ ًا وخل ــوداً‪ ،‬ألن ــه لق ــاء‬ ‫روح ــي بالدرج ــة األول ــى‪ ،‬عل ــى ح ــد اعترافه ــا‪ ،‬وه ــو الباح ــث‬ ‫ف ــي تل ــك المرحل ــة ع ــن الم ــرأة‪ ،‬رفيق ــة الحي ــاة‪ ،‬والصديق ــة‬ ‫آن واح ــد‪ .‬ولكنهم ــا ف ــي ه ــذا الح ــب‪ ،‬يس ــتذكران‬ ‫والزوج ــة ف ــي ٍ‬ ‫تجاربهم ــا الماضي ــة‪ ،‬ألن ــه مندم ــج ف ــي عص ــارة الحي ــاة‪ ،‬ب ــكل‬ ‫م ــا فيه ــا م ــن أخط ــاء وأعب ــاء وهم ــوم‪ ،‬لك ــن ه ــذا الح ــب أع ــاده‬ ‫إل ــى الش ــعر م ــن جدي ــد‪ ،‬وب ــث في ــه جم ــرة العش ــق‪ .‬وف ــي ه ــذه‬ ‫‪70‬‬

‫المرحل ــة ب ــدأ يم ــزج بي ــن الم ــرأة والح ــب والوط ــن والث ــورة‪،‬‬ ‫لكنـــه فـــي الوقـــت نفســـه يخـــاف علـــى الشـــعر مـــن المـــرأة‪،‬‬ ‫كم ــا ق ــال ف ــي قصيدت ــه «اذكرين ــي ي ــا إفريقي ــا»‪ :‬ألهتن ــي تل ــك‬ ‫المــرأة‪ /‬أنســتني‪ ..‬فنســيت‪ /‬كنــا نتحــدث عــن كيــف الكلمــات‬ ‫تم ــوت‪.»..‬‬ ‫فـــي حبـــه نلمـــح‪ ،‬الحقـــل األســـتوائي وغابـــات إفريقيـــا‬ ‫وش ــتاءات الح ــزن‪ .‬وم ــن هن ــا انتق ــل عاطفيــ ًا إل ــى بي ــروت‪،‬‬ ‫حيـــث التقـــى الشـــاعر الراحـــل محمـــود درويـــش‪ ،‬وهنـــاك‬ ‫تعـــرف أيضـــ ًا علـــى النســـاء اللبنانيـــات‪ ،‬دون أن يذكـــر‬ ‫ّ‬ ‫أســـماءهن‪ ،‬لكنـــه كتـــب ديوانيـــن مـــن خـــال هـــذه التجـــارب‬ ‫العاطفيـــة وهمـــا «معزوفـــة لدرويـــش متجـــول» و«ابتســـمي‬ ‫تمـــر الخيـــل»‪.‬‬ ‫حتـــى ّ‬ ‫هـــذا الجامـــح الخيـــال والمشـــاعر‪ ،‬ال يقـــف عنـــد امـــرأة‬ ‫واح ــدة‪ ،‬ب ــل يتنق ــل م ــن واح ــدة إل ــى أخ ــرى‪ ،‬لكن ــه س ــرعان‬ ‫م ــا يغي ــب ع ــن ه ــذه الم ــرأة‪ ،‬إن جم ــرة الش ــعر تجعل ــه يتعّل ــق‬ ‫بي ــن عالمي ــن ف ــي العاطف ــة‪ :‬الش ــهوة والتطّه ــر‪ .‬يجم ــع بي ــن‬ ‫شـــبق الجســـد اإلفريقـــي‪ ،‬وبيـــن الغـــزل الشـــريف النبيـــل‪،‬‬ ‫ويبقـــى أســـيرًا علـــى هـــذه الثنائيـــة واالزدواجيـــة‪ ،‬ألنـــه‬ ‫ببســـاطة شـــاعر األبنـــوس األســـود‪ .‬حبـــه نـــوع مـــن الغنـــاء‬ ‫حـــرك األساســـي‬ ‫الم ّ‬ ‫والعشـــق واالحتـــراق والثـــورة‪ .‬وهـــو ُ‬ ‫لكتاب ــة الش ــعر‪ .‬وي ــرى كل م ــن درس ش ــعره أن مث ــال الم ــرأة‬ ‫لدي ــه ه ــي «حبوبت ــه»‪ ،‬وه ــو اس ــم يطل ــق عل ــى الج ــدة ف ــي‬ ‫الســـودان التـــي تصـــب فـــي أعماقـــه األســـاطير اإلفريقيـــة‪.‬‬ ‫وبيــن هــذه الصــورة المثاليــة وبيــن صــور النســاء الالتــي‬ ‫التقـــى بهـــن‪ ،‬تبقـــى صـــورة المـــرأة عنـــده وهمـــ ًا وشـــبح ًا‬ ‫وطيفــاً‪ ،‬وربم ــا ه ــذا م ــا يجع ــل ش ــعره مليئــ ًا بالح ــب حت ــى‬ ‫ل ــو كان يتكّل ــم ع ــن الث ــورة‪.‬‬


‫شاعر المراثي‬ ‫د‪ .‬عبدالعزيز املقالح‬

‫‪-1‬‬‫الشعر هــو المعجزة المستمرة في‬ ‫حياة العرب‪ ،‬هكذا كان‪ ،‬وهكذا سيبقى‪.‬‬ ‫والشعراء هم رواد التغيير والوعي الجاد‪.‬‬ ‫والشاعر محمد الفيتوري في طليعة هؤالء‬ ‫الرواد‪ ،‬وهو ‪-‬باختصار شديد‪ -‬واحد من‬ ‫أهم الشعراء العرب في القرن العشرين‬ ‫وإفريقيته التي بــدأت غاضبة صاخبة‬ ‫سرعان ما هدأت وتناغمت مع عروبته‬ ‫وخرج منهما شاعر كبير في حجم الوطن‬ ‫العربي وإفريقيا معاً‪.‬‬ ‫‪-2‬‬‫من حقي أن أبدأ هذه التناولة السريعة‬ ‫تعرفت‬ ‫بإشارة إلى صلتي بالشاعر‪ ،‬فقد ّ‬ ‫عليه ألول مرة في أواخر الخمسينيات من‬ ‫خالل ديوانه األشهر «أغاني إفريقيا»‪،‬‬ ‫وأســعــدنــي الــحــظ بعد ذلـــك‪ ،‬فــي عام‬ ‫تعرفت عليه شخصي ًا في مدينة‬ ‫‪ 1960‬أن ّ‬ ‫الخرطوم‪ ،‬كان يومها يرأس تحرير مجلة‬ ‫تحولت في عهده إلى مجلة‬ ‫«اإلذاعة» التي ّ‬ ‫أدبية تتسع صفحاتها للشعر والقصة‬ ‫القصيرة والــدراســة األدبــيــة‪ ،‬وتكررت‬ ‫لقاءاتنا في ذلــك الحين‪ ،‬وأتيحت لي‬ ‫الفرصة أن أعــرف من بعض أصدقائه‬ ‫المقربين أنــه خــرج من مصر مغاضب ًا‬ ‫بعد الحملة الــتــي تــعــرض لها اليسار‬ ‫هناك‪ ،‬ويبدو أنه لم يكن بعيدًا عن ذلك‬ ‫التيار المغضوب عليه‪ ،‬فهجر موطن أمه‬ ‫ليلتحق بمسقط رأس أبيه‪ ،‬لكن هجره‬

‫ال فقد عاد إليها في‬ ‫لمصر لم يدم طوي ً‬ ‫أواخر الستينيات‪ ،‬كما أتذكر‪ ،‬وجمعتنا‬ ‫به جلسات أدبية طويلة وثرية في منزل‬ ‫شاعر سوداني شاب اسمه «أبو آمنة»‬ ‫الملحق الثقافي لسفارة السودان في ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬وكانت ترافق الشاعر ‪-‬يومئذ‪-‬‬ ‫زوجته الممثلة المشهورة آسيا‪.‬‬ ‫وانقطعت صلتي بالشاعر الكبير‬ ‫تجددت في لقاء‬ ‫أعوام ًا طويلة إلى أن َّ‬ ‫حميم تم في صنعاء وفي رحاب‬ ‫«ندوة الفكر والفن»‪ ،‬التي عقدتها‬ ‫جامعة صنعاء في عــام ‪1988‬‬ ‫انتصارًا لثورة أطفال الحجارة‪،‬‬ ‫وكان محمد الفيتوري من أبرز‬ ‫المشاركين في هذه الندوة التي‬ ‫جمعت العشرات من المفكرين‬ ‫والمبدعين والفنانين من شتى‬ ‫األقــطــار الــعــربــيــة‪ .‬وقــد جاء‬ ‫الفيتوري من لبنان‪ ،‬حيث‬ ‫كــان مقيماً‪ ،‬وودت لو‬ ‫كان وقته يسمح لزيارة‬ ‫جنوب البالد ومدينة‬ ‫«عــــــدن» بــخــاصــة‪،‬‬ ‫وليتعرف إلى العدد‬ ‫الكبير مــن محبيه‬ ‫والمعجبين بشعره‪،‬‬ ‫لكن ظــروفــه كانت‬ ‫كــمــا قــال لــي‪ -‬ال‬‫تسمح‪ .‬وكــان‬ ‫آخـــر تــواصــل‬

‫بيننا أن بعث لي بواحد من دواوينه‬ ‫األخيرة من المغرب‪.‬‬ ‫‪-3‬‬‫كثير هم الشعراء العرب واألفارقة الذين‬ ‫ٌ‬ ‫كتبوا عن إفريقيا‪ ،‬وتغنّوا بطبيعتها‪،‬‬

‫‪71‬‬


‫وواكبوا نضالها الطويل وتضحياتها في‬ ‫مواجهة قوى االحتالل المختلفة‪ ،‬لكن‬ ‫يبقى محمد الفيتوري هو شاعرها األول‬ ‫ــل شعره فيها ‪-‬إال‬ ‫بال مــنــازع‪ ،‬وإن َظ ّ‬ ‫القليل منه‪ -‬محصورًا في عروبة لغته‪.‬‬ ‫وأزعم أنني قرأت الكثير مما ترجم من‬ ‫قصائد الشعراء األفارقة أمثال سينجور‬ ‫وسيزار‪ ،‬فوجدت الفيتوري يتفوق على‬ ‫هــؤالء‪ ،‬ألنــه كــان يكتب شعره ‪-‬ومنذ‬ ‫بداياته األولى‪ -‬بأعصاب فائرة ملتهبة‪،‬‬ ‫وال يكاد يشبهه في هــذه الحال شاعر‬ ‫عربي أو إفريقي‪ ،‬وربما كانت ظروف‬ ‫حياته األولى ومعاناته الذاتية والعامة‬ ‫وراء ذلك النوع من االنفعال الذي وجد‬ ‫في الشعر متنفسه الوحيد‪ ،‬وأمـّده بكل‬ ‫هذا العنفوان في اللغة والصور وأسلوب‬ ‫البناء‪:‬‬

‫إفريقيا‪...‬‬

‫إفريقيا استيقظي‪..‬‬

‫استيقظي من حلمك األسود‬

‫قد طالما نمت‪ ...‬ألم تسأمي؟‬

‫ألم تم ِ ّلي قدم السيد؟‬

‫قد طالما استلقيت تحت الدجى‬

‫مجهدهً‪ ..‬في كوخك المجهد ‪.‬‬

‫هذا شعر يوقظ من في القبور‪ ،‬وليس‬ ‫يهز‬ ‫من على قيد الحياة فقط ‪ ،‬شعر ّ‬ ‫جدران المعمورة ال جدران القارة السمراء‬ ‫وحــدهــا‪ ،‬وقــد كــان له دور ال ُينكر في‬ ‫تغيير مفهوم الشعر لدى كثير من الشعراء‬ ‫الشبان أو الذين كانوا في ذلك الحين ‪-‬من‬ ‫خمسينيات القرن العشرين‪ -‬شباناً‪ .‬وال‬ ‫ننسى أن معظم األقــطــار العربية ‪-‬إن‬ ‫لم تكن كلها‪ -‬قد كانت تعاني ما تعانيه‬ ‫أقطار القارة السمراء من احتالل ونهب‬ ‫للثروات وتكميم لألفواه وقمع للحريات‬ ‫ومنع للتنظيمات‪:‬‬

‫الليل‪..‬‬

‫القاتلين‪ ..‬الضحايا‬ ‫مثلي‪ ..‬ومثلك‬

‫نحن المسوخ‬

‫نحن السبايا‪.‬‬

‫يشير عــدد مــن الــدارســيــن إلــى هذه‬ ‫المرحلة من إفريقية الشاعر بقدر من عدم‬ ‫الرضا‪ ،‬فقد اكتوى خاللها «بلهيب البغض‬ ‫والنقمة والثورة الــســوداء»‪ ،‬والسؤال‬ ‫هــو‪ :‬ما الــذي كانوا يريدونه من شاب‬ ‫يعاني وجداني ًا من الشعور بالتمييز‬ ‫واإلحــســاس الجاد باالنتماء إلــى قارة‬ ‫كبيرة مستباحة من قبل األع ــداء‪ ،‬وما‬ ‫يعكسه ذلك على نفسه الفتية الثائرة من‬ ‫انفعاالت وإحساس بدونية األسود تجاه‬ ‫األبيض‪:‬‬

‫فقير أجل‪ ..‬ودميم دميم‬

‫بلون الشتاء‪ ..‬بلون الغيوم‬ ‫يسير فتسخر منه الوجوه‬

‫وتسخر منه وجوه الهموم‪.‬‬ ‫ال حتى‬ ‫ولكن ما يكاد يمر الزمان قلي ً‬ ‫يستعيد الشاعر صفاء روحه وألق شعره‬ ‫وال يعود للنظر إلــى لــون اإلنــســان بل‬ ‫إلى فعله‪ ،‬كما لم يعد ينظر في وضع‬ ‫القارة السمراء وحدها‪ ،‬بل بدأ انشغاله‬ ‫يتسع ويمتد ويشمل واقع أمته العربية‬ ‫وواقــع العالم الــذي كــان في ستينيات‬ ‫القرن الماضي قد بدأ يثور على األصنام‬ ‫والــغــزاة‪ .‬وبـــدأت القضايا اإلنسانية‬ ‫تــأخــذ مكانها فــي شــعــره ال ــذي ارتقى‬ ‫ال ومضموناً‪ ،‬وإن لم يهجر النظام‬ ‫شك ً‬ ‫الكالسيكي فقد كان يعود إليه بين حين‬ ‫وآخر وهو عمود حديث في لغته وتركيب‬ ‫الجملة الشعرية فيه‪.‬‬

‫وفلسطين التي كانت لنا‬

‫يقام‬ ‫وقداس ًا‬ ‫سورة ُتتلى‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وشيوخ ًا تذكر الله‬

‫قدسي ًا بهم‬ ‫كان بيت الله‬ ‫ّ‬

‫قبل أن يأتي على القدس الظالم‪.‬‬ ‫‪-4-‬‬

‫ال مبالغة إذا ما قلت إن الفيتوري‬ ‫شاعر المراثي بامتياز‪ ،‬ومراثيه لم تكن‬ ‫يصور ما تختلج به‬ ‫سوى بوح حزين‬ ‫ّ‬ ‫نفسه من مشاعر حميمة تجاه الراحلين‬ ‫الكبار‪ ،‬وتجاه األوطــان التي فقدتهم‪،‬‬ ‫ومن أبرز هؤالء الذين رثاهم الفيتوري‬ ‫الزعيم جمال عبدالناصر‪ ،‬والسياسي‬ ‫عبدالخالق المحجوب‪ ،‬والشاعر بشاره‬ ‫الخوري‪ .‬ومما جاء في رثاء هذا األخير‪:‬‬

‫أنت في لبنان‪..‬‬

‫ٌ‬ ‫عرش ومُ قام‬ ‫والشعر له في ُرب َ​َى لبنان‬

‫شاده األخطل قصر ًا عالي ًا‬ ‫يزلق الضوء عليه والغمام‬

‫وتبيت الشمس في ذروته‬

‫كلما داعب جفنيها المنام‪.‬‬

‫أما رثاؤه في المحجوب فقد كان ملحمة‬ ‫إنسانية بالدرجة األولى ونسيج ًا معبرًا‬ ‫عن فقدان األمل في حياة عربية حديثة‬ ‫تعطي للمواطن العربي شيئ ًا من حقه‬ ‫الطبيعي في أن يختار االنتماء الفكري‬ ‫والسياسي الذي يتناسب مع توجهاته‬ ‫وموقفه من الحياة والناس‪ .‬لقد كشفت‬ ‫هذه المرتبة بخاصة عن حزن دفين يمأل‬ ‫قلب الشاعر وعن جراح غائرة في أعماق‬ ‫روحه‪ .‬إذ ما يكاد الحدث المؤلم يالمسها‬ ‫حتى تنطلق لهب ًا حارق ًا وصورًا تذكارية‬ ‫بالغة المرارة والشجن‪:‬‬

‫قتلوني‬

‫وأنكرني قاتلي‬

‫وهو يلتف بردان في كفني‬ ‫وأنا من؟‬

‫ليل العبيد المتوجين العرايا‬

‫وصيام‬ ‫فَمل ُء المحاريب صال ًة‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫الزمن‬ ‫سوى رجل واقف خارج‬

‫اآلثمين‪ ..‬النبيين‬

‫سجود وقيام‬ ‫فلياليهم‬ ‫ٌ‬

‫قلت‪ :‬قلبي على وطني!‪.‬‬

‫فوق أرض الخطايا‬

‫‪72‬‬

‫ونبيـين صفت أرواحهم‬

‫كلما زيفوا بط ً‬ ‫ال‪..‬‬


‫ضغط الكتابة‬

‫أمير تاج السر‬

‫وهج القصيدة‬

‫كما هو معروف‪ ،‬فإن الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري‪،‬‬ ‫ُيعّد واحدًا من صنّاع القصيدة العربية الحديثة األوائل‪ ،‬ومن‬ ‫الذين عتقوا الشعر من عبوديته القديمة وأطلقوه حراً‪ ،‬ليشدو‬ ‫كيف ما يشاء‪ ،‬ومعروف أيض ًا إنه وبرغم تقلّبه في مسألة‬ ‫الهوية التي كانت سودانية في البداية‪ ،‬ثم ليبية‪ ،‬ثم سودانية‬ ‫ّ‬ ‫في اآلخر مرة أخــرى‪ ،‬إال أن قصيدته لم تفقد أبــدًا اتزانها‪،‬‬ ‫هي نفس القصيدة األولــى التي خرجت في الخمسينيات‬ ‫والستينيات من القرن الماضي‪ ،‬وأعني من ناحية الحرارة‬ ‫والتوهج‪ ،‬وهكذا يمكن قــراءة الفيتوري في أي وقــت‪ ،‬من‬ ‫تطور أو تأخر‪ ،‬حسب تلك التصنيفات‬ ‫دون إحساس بأنه ّ‬ ‫المعروفة‪.‬‬ ‫الذي قرأ وكتب‪ ،‬في الوطن العربي وأثناء مسيرته األدبية‪،‬‬ ‫ال بد أن يلتقي عبر الكتب بمبدعين كثيرين‪ ،‬يتعلّم منهم وينبهر‬ ‫يدرسونه الكتابة‪ ،‬من‬ ‫بهم‪ ،‬وربما كانوا أساتذة حقيقيين‪ّ ،‬‬ ‫دون سبورة وال صف‪ .‬نجيب محفوظ أحد هؤالء‪ ،‬السياب أحد‬ ‫هؤالء‪ ،‬حنا مينا‪ ،‬يوسف إدريس‪ ،‬الطيب صالح‪ ،‬وآخرون‪،‬‬ ‫مؤكد شكلوا وجدان الكتابة لعدد غير قليل من األجيال التي‬ ‫تلت‪ ،‬ومؤكد كان الفيتوري وما يزال‪ ،‬من الذين يمنحون تلك‬ ‫الميزة بكل سخاء‪.‬‬ ‫تعرفت على شعر الفيتوري باكراً‪ ،‬كانت دواوينه‬ ‫حقيقة ّ‬ ‫األولى التي تتغنّي بإفريقيا ككيان حر‪ ،‬بال عبودية وال سادة‬ ‫يتحكمون في خيراتها‪ ،‬موجودة في مكتبة بيتنا التي وعيت‬ ‫قرائي ًا على الكتب التي كانت فيها‪ ،‬فقد كانت المكتبة المنزلية‬ ‫في أيــام طفولتنا‪ ،‬أداة فاعلة من أدوات الحياة العامة‪،‬‬ ‫تمام ًا كسلة الخضار‪ ،‬ومطبخ البيت والسرير الذي ينام عليه‬ ‫الشخص‪ .‬أذكر أنني قرأت كل تلك الدواوين‪ ،‬وكنت أحفظ‬ ‫قصيدته الشهيرة‪ :‬معزوفة لدرويش متجول‪ ،‬أسوة بأبناء‬ ‫يمل‬ ‫جيلنا جميعاً‪ ،‬حيث كانت تلك القصيدة‪ ،‬أغنية خالدة ال ّ‬ ‫من ترديدها الجميع‪.‬‬

‫بعد ذلك تابعت الفيتوري في قصائده التي كتبها في‬ ‫منفاه‪ ،‬أو مغتربه بعيدًا عن السودان‪ ،‬وكان يحمل هوية‬ ‫ال‬ ‫ليبيا ويعمل دبلوماسي ًا ليبيا‪ ،‬تنقّل في عدة أماكن‪ ،‬حام ً‬ ‫سحنته التي هي سحنتنا‪ ،‬وقصيدته التي هي عربية‪ ،‬بدم‬ ‫إفريقي‪ ،‬وكان قد أصدر ديوانه‪ :‬قوس الليل‪ ...‬قوس النهار‪،‬‬ ‫الذي أعتبره مواصلة لتجربته الحياتية‪ ،‬الشعرية الصوفية‪،‬‬ ‫وأيض ًا الحارة بدم إفريقيا‪ ،‬وأظنني كثفت قراءاتي بعد ذلك‬ ‫في مجال السرد‪ ،‬فلم أطلع حتى اآلن على ديوانه األخير الذي‬ ‫أصدره في األلفية الجديدة‪.‬‬ ‫شعر الفيتوري‪ ،‬إضافة إلى نكهته المسيطرة كأناشيد‬ ‫تحررية أو صرخات تنادي بالعدل والمساواة‪ ،‬أخذ كثيرًا‬ ‫ّ‬ ‫من التجربة الصوفية‪ ،‬وال أعني هنا‪ ،‬نظم القصيدة المادحة‬ ‫بالصورة التي تعودنا عليها عند الصوفيين‪ ،‬ولكن نظم‬ ‫قصيدة تحوي كثيرًا من التأمالت الفلسفية والحوارات بين‬ ‫ولعل قصيدته ياقوت العرش من تلك القصائد‬ ‫الذات والذات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التي حملت ذلك النهج‪ ،‬وطافت به على اآلالف من متذوقي‬ ‫الشعر‪ ..‬وما زلت أذكر هذه األبيات المتأملة العظيمة‪ ،‬من تلك‬ ‫القصيدة‪:‬‬

‫دنيا ال يملكها من يملكها‬

‫أغنى أهليها سادتها الفقراء‬ ‫الخاسر من لم يأخذ منها‬ ‫ما تعطيه على استحياء‬

‫ظن األشياء‬ ‫والغافل من ّ‬ ‫هي األشياء!‬

‫الفيتوري عالمة كبيرة من عالماتنا‪ ،‬التي ال يمكن ألي جيل‬ ‫تجاوزها‪ ،‬من دون أن يتوقّف عندها طويالً‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫رحلة‬

‫الســودان‪ ،‬نصحتنــي امرأة‬ ‫فــي الرباط‪ ،‬حيــن‬ ‫طلبت تأشــيرة ّ‬ ‫ُ‬

‫إبراهيم الحجري*‬

‫قاء لفرط‬ ‫مغربية تقيم في الخرطوم باصطحاب مالبس خفيفة اّت ً‬

‫الحــرارة‪ .‬كانت الســيدة الخمســينية التــي‪ -‬على ما يبــدو‪ -‬متزوجة برجل‬ ‫سوداني‪ ،‬تظن أنني سأقيم في البلد مدة طويلة‪ .‬لكنني تركتها تحكي عن‬ ‫متاعب السفر وطول الطريق ورداءة أحوال الطقس‪ .‬وكنت أسمع فحسب‪،‬‬

‫أتلهف لخوض‬ ‫مــا كان يهمني من حديثها‪ .‬كنت أســتمع إليها مجامــاً‪ .‬فأنا َّ‬ ‫التجربة؛ متيقِّن ًا من أنها ستكون ممتعة بالرغم من كل ما يقال‪.‬‬

‫مهمة سرّيّة‬ ‫ّ‬ ‫في السودان !‬ ‫الســـفّرية المعقَّـــد‬ ‫ســـيقودنا برنامـــج ّ‬ ‫إلـــى أن نأتـــي الخرطوم‪-‬لحضور فعاليات‬ ‫جائـــزة الطيـــب صالـــح‪ -‬مـــن أقصـــى‬ ‫الشـــرق‪ ،‬وأن نظـــل يومـــ ًا بليلـــه ونهاره‬ ‫ّ‬ ‫فـــي ســـماء اهلل الواســـعة‪ ،‬فاتحيـــن أعين ًا‬

‫‪74‬‬

‫متعبـــة علـــى صباح يجـــيء من الشـــرق‬ ‫ال‬ ‫محم ً‬ ‫مثـــل عـــروس الحكايـــات القديمـــة ّ‬ ‫بنشـــوة االكتشـــاف‪ ،‬وبرغبة فـــي معانقة‬ ‫فضاء مختلف‪ ،‬وإن كنّا جـــزءًا منه‪ ،‬وكان‬ ‫جـــزءًا منـــا‪ .‬الصديـــق «محمـــد عـــز الدين‬

‫التـــازي» تأفَّف مـــن اعتماد هـــذا البرنامج‬ ‫المتعب‪ ...‬مـــن الصعب عليه أن يظل طيلة‬ ‫هـــذا الوقـــت جالســـ ًا أو حتى واقفـــ ًا على‬ ‫متن طائـــرة تتالعب بهـــا العواصف فوق‬ ‫ســـماء شـــرق ملتهب‪ .‬كنت مرة بعد المرة‪،‬‬


‫ألقـــي نظـــرة جانبية مـــن خـــال النافذة‬ ‫الصغيرة‪ ،‬فال يبدو ســـوى الغمام والريح‬ ‫ّ‬ ‫ولون الصحراء أو الجبـــال أو امتداد أزرق‬ ‫البحـــر‪ ،‬وقلَّما تنفســـح الســـماء عن صور‬ ‫مـــدن أو قـــرى نعبرهـــا‪ ،‬ونحـــن نبعد عن‬ ‫الكوكـــب بأكثر مـــن عشـــرة كيلومترات‪.‬‬ ‫كان لـــي شـــرف التعرف إلى األســـتاذ‬ ‫عـــز الدين التـــازي من قبل في مناســـبات‬ ‫عديدة‪ ،‬لكنهـــا كانت خاطفـــة‪ ،‬وقد أتاحت‬ ‫لـــي فرصة الســـفر إلى الســـودان التعرف‬ ‫إلـــى الشـــخص فـــي عمقـــه وبســـاطته‬ ‫وتواضعـــه‪ .‬أما األســـتاذة ســـعيدة تاقي‬ ‫فلـــم أكن أعرف عنها ســـوى مـــا قرأت من‬ ‫كتاباتهـــا الشـــذرية الشـــعرية فـــي بعض‬ ‫المواقـــع اإللكترونية‪.‬‬ ‫***‬ ‫فـــي المطـــار‪ ،‬كان مـــن المفتـــرض أو‬ ‫المفـــروض تســـهيل مأموريـــة عبورنـــا‪،‬‬ ‫وإعفاؤنا على األقل‪ ،‬من متاعب االنتظار‪،‬‬ ‫ومـــن اإلجـــراءات الروتينيـــة والتفتيش‪،‬‬ ‫مهمة ســـفارية‬ ‫بحكـــم أننـــا نســـافر فـــي ّ‬ ‫ثقافيـــة غيـــر مباشـــرة‪ ،‬وألننـــا‪ ،‬بمعنى‬ ‫مـــا‪ ،‬نمثِّل المثقَّـــف والمبدع فـــي المغرب‪،‬‬ ‫ونحمـــل الراية الوطنية فـــي محتفل دولي‬ ‫نشـــرف المغاربة‬ ‫عالمـــي‪ .‬وكنا نعتقد أننا‬ ‫ّ‬ ‫ونرفـــع رؤوســـهم عالياً‪...‬‬ ‫في لحظة‪ ،‬ويـــا للمفارقة‪ ،‬اســـتوقفنا‬ ‫ال‬ ‫أو اســـتوقفني رجـــل أمن بدين‪،‬متســـائ ً‬ ‫عـــن الدولـــة التـــي نقصدها‪ .‬ولما ســـمع‬ ‫تغير لونـــه‪ ،‬وطلب منا‬ ‫اســـم الســـودان‪َّ ،‬‬ ‫االنتظـــار‪ ،‬فيمـــا كان يســـمح بالعبـــور‬ ‫بسالســـة لآلخرين‪ ...‬وراح يطرح أســـئلة‬ ‫ال أظنهـــا مـــن حقِّه مـــن قبيل‪ :‬مـــاذا تفعل‬ ‫هنـــاك؟ ومـــا الجهـــة المحتضنـــة؟ ومـــاذا‬ ‫تعمـــل فـــي المغـــرب؟ وما معنى مناســـبة‬ ‫ثقافيـــة؟! وفـــي األخير‪ ،‬ســـلَّمني األوراق‬ ‫متماطـــا كما لو أنه يســـمح لـــي بالعبور‬ ‫ً‬ ‫يتفرس ســـحنتي‪...‬‬ ‫علـــى مضض‪ ،‬وهـــو َّ‬ ‫مهمة‬ ‫لقـــد ظـــن الرجل أنـــي أســـافر فـــي ّ‬ ‫سرية خطرة‪ ،‬متناســـي ًا أنني ُم َج َّرد كاتب‬ ‫تكرر األمر نفســـه‬ ‫كلمـــات ‪ ...‬ولألســـف‪َّ ،‬‬ ‫مع الزمـــاء‪ ،‬ممـــا أثـــار حزن ًا دفينـــ ًا في‬ ‫نفوســـنا إلحساســـنا بالحقارة والتبخيس‬ ‫لدور الثقافة والوضـــع االعتباري للمبدع‪.‬‬

‫مطار الخرطوم الدولي‬

‫شارع النيل‬

‫***‬ ‫عنـــد مـــا أقلعنـــا مـــن مطـــار الدوحـــة‬ ‫واتجهنـــا غرب ًا فـــي اتجاه شـــرق إفريقيا‪،‬‬ ‫العكســـي لرحلـــة الذهاب‪،‬كنت‬ ‫بـــدأ العـــد‬ ‫ّ‬ ‫علـــو بعيـــد‪ ،‬نهر النيـــل وهو‬ ‫ألمـــح‪ ،‬عن ّ‬ ‫متلويـــ ًا مثل‬ ‫الســـودان‬ ‫صحـــراء‬ ‫يختـــرق‬ ‫ّ‬ ‫ثعبـــان أخضـــر‪ ،‬تحيـــط بـــه األحيـــاء‬ ‫ـــيدة من الطوب‬ ‫الم َش َّ‬ ‫والمســـاكن الواطئـــة ُ‬ ‫والطيـــن‪ ،‬والغطـــاء النباتـــي الكثيـــف‪...‬‬ ‫تذكـــرت مقولـــة ألحـــد أســـاتذة الجغرافيا‬ ‫َّ‬ ‫درســـني‪ ،‬فـــي المرحلـــة اإلعدادية‬ ‫الـــذي ّ‬ ‫جغرافيـــة إفريقيـــا‪ ،‬فحواها أن الســـودان‬ ‫أغنـــى أرض اهلل‪ ،‬وأنها تمتلـــك خيرات قد‬ ‫تحقِّـــق االكتفاء لكل البلـــدان العربية لو َت َّم‬ ‫اســـتغاللها بشـــكل عقالنـــي ُمَد َّبر‪.‬‬ ‫في مطـــار الخرطـــوم الّدولـــي‪ ،‬حطت‬ ‫الطائرة بشـــكل مضطرب و قبـــل أن ننزل‬ ‫حدســـت أن أحـــد الـــركاب كاتـــب جزائري‬ ‫دون أن أكلِّمه‪ .‬كان هو الصديق إســـماعيل‬ ‫يبريـــر صاحـــب «وصيـــة معتـــوه»‪ .‬كان‬

‫يســـتعّد للنـــزول‪ ،‬وهـــو معـــذّب بالتعب‪،‬‬ ‫ومشـــنوق األنفـــاس بلباســـه الرســـمي‪.‬‬ ‫كان مثلنـــا يعتقد أن َجّو صحراء الشـــمال‬ ‫هو جو صحـــراء الجنوب‪ ...‬أهـــل إفريقيا‬ ‫متحررين‬ ‫كانوا يرتدون ألبســـة خفيفـــة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫من عقال األلبســـة الرسمية‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وهم‬ ‫األدرى بالشـــعاب؟‪ .‬كان يبريـــر يتألّـــم من‬ ‫خالل حـــركات يديـــه‪ ،‬ومالمـــح وجهه‪.‬‬ ‫***‬ ‫طويـــا‪ .‬وجدنا ســـيارتين‬ ‫لم ننتظـــر‬ ‫ً‬ ‫فاخرتيـــن تترقَّبـــان خروجنـــا‪ .‬ركبنـــا‬ ‫الســـيارة‪ ،‬وفوجئنـــا بلطف المســـتقبلين‬ ‫الـــذي اخترقـــوا بنـــا شـــوارع الخرطوم‪،‬‬ ‫مختصرين المســـافة لعلمهـــم أننا متعبون‬ ‫جـــراء ســـفر طويـــل‪ .‬كانـــت رؤوســـنا‬ ‫مهروســـة‪ ،‬وال نعـــرف الِقْبلة مـــن غيرها‪.‬‬ ‫كنـــا نمشـــي فحســـب‪ .‬وفـــي بهـــو الفندق‬ ‫الجميـــل الـــذي يشـــبه البطيخـــة‪ ،‬ويدعى‬ ‫ـــم تعديل اســـمه‬ ‫فنـــدق ليبيـــا‪ ،‬بعـــد أن َت َّ‬ ‫الســـابق «فندق الفاتح» عقب ثورة الربيع‬ ‫‪75‬‬


‫ا لليبي ‪.‬‬ ‫قيل لنا إنـــه بعد المغرب ســـوف يأتي‬ ‫بـــاص ليقلَّنا إلى أحـــد المطاعم الفخمة في‬ ‫لنتعرف‬ ‫الضاحيـــة الســـياحية للخرطـــوم‬ ‫َّ‬ ‫إلـــى المدعويـــن اآلخرين وباقـــي أعضاء‬ ‫مجلـــس اإلدارة واألمانـــة العامة للجائزة‪،‬‬ ‫وليقـــام هنـــاك حفل عشـــاء على شـــرف‬ ‫الضيـــوف‪ .‬كان الوقـــت‪ ،‬علـــى مـــا يبدو‪،‬‬ ‫ظهـــراً‪ .‬وكانـــت المواقيـــت فـــي أدمغتنـــا‬ ‫نمـــت فحســـب‪ ،‬ولـــم‬ ‫مقلوبـــة‪ .‬لحظتهـــا‬ ‫ُ‬ ‫أســـتيقظ إال علـــى طـــرق الباب مـــن ِقَبل‬ ‫الصديق عـــز الديـــن التازي الـــذي لم يذق‬ ‫طعم النوم‪ ،‬إذ فضـــل القيام بجولة فردية‬ ‫فـــي قـــاع الخرطـــوم الستكشـــاف األحياء‬ ‫والتنـــزه بعض الوقـــت‪ ،‬على‬ ‫الشـــعبية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ـــط النيل‪ ،‬وشـــرب الشـــاي بالقرنفل‪...‬‬ ‫َش ّ‬ ‫عـــاد عزالدين فرحاً؛ ليخبرني أنه ســـبقنا‬ ‫إلى عالم الســـودان‪.‬‬ ‫قصـــدت غرفـــة الصديـــق الجزائـــري‬ ‫إســـماعيل يبرير التي تجاورنـــي فوجدته‬ ‫متأهب ًا للخروج‪ ،‬ويبـــدو أنه كان في نيته‬ ‫ِّ‬ ‫ـــط‬ ‫إيقاظنـــا للقيام بجولة جماعية على َش ّ‬ ‫النيل كمـــا َّاتفقنا‪ ،‬فأخبرته بـــأن عز الدين‬ ‫ففضل‬ ‫ســـبقنا إلى ذلك ألن النـــوم جافاه‪َّ ،‬‬ ‫القيـــام بجولة كســـب ًا للوقـــت‪ ...‬وانطلقنا‬ ‫يهزنـــا الشـــوق الستنشـــاق هـــواء‬ ‫معـــاً‪ّ ،‬‬ ‫النيـــل‪ .‬كان الطقـــس فـــي الخارج بـــاردًا‬ ‫عكـــس ما كان عليه وســـط النهـــار لحظة‬ ‫وصولنا‪ .‬وكانت الشـــمس آنئـــذ‪ ،‬قد بدأت‬ ‫تؤثِّـــث مخدعهـــا الليلـــي‪ .‬لـــم يكـــن النيل‬ ‫‪76‬‬

‫العظيم بعيـــدًا كما كنّا نتصـــور‪ .‬كان قاب‬ ‫قوســـين منا‪ .‬بـــل انتبهـــت إلـــى أن نافذة‬ ‫تطـــل عليه فـــي منظر‬ ‫غرفتـــي بالفنـــدق‬ ‫ّ‬ ‫بانورامـــي رائع‪.‬‬ ‫كنـــا نســـير فـــوق الكوبريـــه‪ ،‬نتحّدث‬ ‫ونثرثر ونســـبح بأعيننا في جمال المساء‬ ‫نحب التدخين‬ ‫فـــوق ظهر النيـــل األزرق‪ .‬ال ّ‬ ‫فضلنـــا‪ -‬كمـــا يفعـــل‬ ‫جميعـــاً؛ لذلـــك‪َّ ،‬‬ ‫السودانيون والســـودانيات‪ -‬شرب الشاي‬ ‫والقهوة على شـــط النيل لمراقبة الغروب‬ ‫مـــن تحـــت أشـــجار التبلـــدي العمالقـــة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مقـــاه باألســـلوب الـــذي‬ ‫ليســـت هنـــاك‬ ‫نعهده في شـــمال إفريقيا أو فـــي أوروبا‪.‬‬ ‫مطـــاردات من‬ ‫بل هناك نســـاء متطوعات‬ ‫َ‬ ‫لـــدن الســـلطات‪ ،‬يضعن طاولـــة صغيرة‬ ‫متنوعة وتوابل‪ :‬شـــاي‪،‬‬ ‫فيهـــا مســـاحيق ِّ‬ ‫قهـــوة‪ ،‬قرنفـــل‪ ،‬ياســـمين‪ ،‬كركديـــه‪...‬‬ ‫ومجمـــر وأواني صغيرة لتحضير الشـــاي‬ ‫ويوزعن على الزبناء كراســـي‬ ‫والقهـــوة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫خشـــبية صغيـــرة وواطئـــة‪ ...‬لـــم تكـــن‬ ‫ِشـــعرية الجلســـة تقـــاس ببذخهـــا‪ ،‬بـــل‬ ‫بموقعهـــا‪ .‬جمـــال المـــكان وجالله يضغط‬ ‫اللحظة ويشـــحنها‪ .‬هذا هـــو النيل العجيب‬ ‫الذي مـــأ الدنيـــا و قهر الصحـــاري‪ ،‬تبّدل‬ ‫واســـتمر هو حيـــ ًا يرزق‪.‬‬ ‫الزمـــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫انخرطـــت أنا وإســـماعيل في ســـجال‬ ‫معرفـــي مـــع مجموعـــة من طلبـــة جامعة‬ ‫ليتفســـحوا‬ ‫اآلداب بـــأم درمـــان‪ ،‬جـــاؤوا‬ ‫ّ‬ ‫مثلنـــا كعادتهـــم‪ ،‬نهايـــة كل يـــوم‪ .‬كانت‬ ‫الطيبـــة تغمرهـــم‪ ،‬ومـــن أول لحظـــة‪،‬‬

‫ســـوداني‪ .‬يقبـــل‬ ‫تحـــس أنـــك مواطـــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تعـــال‪،‬‬ ‫عليـــك النـــاس دون حواجـــز أو‬ ‫يغدقـــون عليك مـــن الكرم واللطـــف ما لم‬ ‫تحدثـــوا لنا عن آفاق‬ ‫تعهـــده أو‬ ‫تتصوره‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫البحث العلمي والدراســـات األدبية والشعر‬ ‫والروايـــة والفـــن والقصة في الســـودان‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وعن انشـــغاالتهم بوصفهم شـــباب ًا وجي ً‬ ‫جديـــداً‪ .‬الســـودانيون أهـــل أدب ونكتـــة‪.‬‬ ‫ويعرفـــون أخبـــار الشـــعوب والثقافـــات‬ ‫األخـــرى‪ ،‬ويتتبعـــون مـــا َج َّد في المشـــهد‬ ‫الثقافـــي العربي عكس مـــا يعتقد كثيرون‪.‬‬ ‫الخُلـــق‬ ‫َّ‬ ‫ويتمتـــع أهـــل الســـودان بطيبـــة ُ‬ ‫والعفّـــة والّتواضـــع والبســـاطة والقناعة‬ ‫وجمـــال الـــروح والتعايش وقبـــول اآلخر‬ ‫تعصب‪ ،‬مع أنهم شـــعب‬ ‫كيفمـــا كان دون ّ‬ ‫يتمتـــع بذوق ٍ‬ ‫عال‬ ‫متديـــن ومحافظ‪ ،‬لكنه َّ‬ ‫ِّ‬ ‫فـــي الفنـــون واآلداب كلهـــا‪ ،‬ويســـتقبل‪-‬‬ ‫بانفتـــاح‪ -‬الثقافـــات المغايـــرة والمختلفة‬ ‫عنه ‪.‬‬ ‫***‬ ‫بعد عودتنا من جولة مســـائية جميلة‪،‬‬ ‫وجدنا الجماعة فـــي انتظارنا لالنتقال إلى‬ ‫مطعـــم قريب من مطار الخرطـــوم الدولي‪،‬‬ ‫حتـــى أن الطائـــرات كانت تزعجنـــا كثيرًا‬ ‫الضاج‪.‬‬ ‫حين تصعـــد أو تهبـــط بصخبهـــا‬ ‫ّ‬ ‫جميـــا يشـــي برفعـــة ذوق‬ ‫كان المـــكان‬ ‫ً‬ ‫المنظمين‪ :‬الخضرة والشالالت المصطنعة‬ ‫ّ‬ ‫واألضواء الخافتة وســـاحل النيل اللطيف‬ ‫الهواء‪ ...‬والجلســـات الدائريـــة التي تليق‬ ‫متعـــددة األلوان‬ ‫بمؤتمـــر كبيـــر‪ .‬والرايات‬ ‫ِّ‬


‫المنظمة‬ ‫التي تحمل شـــعار البلد والجهـــة‬ ‫ِّ‬ ‫والجهة المحتضنة‪.‬‬ ‫َّاتخذنـــا أماكننـــا فـــي المجلـــس‪ .‬كان‬ ‫األصدقـــاء مـــن العـــراق وســـورية ومصر‬ ‫وفلســـطين لم يصلـــوا بعد‪ .‬دردشـــنا مع‬ ‫األصدقـــاء الســـودانيين الذيـــن كانـــوا في‬ ‫قدموا‬ ‫غايـــة اللطـــف والظـــرف والكـــرم‪َّ .‬‬ ‫لنـــا عصير الكركديـــه البارد الـــذي ُي َعّد من‬ ‫أح ّب المشـــروبات في البلـــد‪ .‬وتحدثنا عن‬ ‫َ‬ ‫الشـــعر واألدب في البلـــدان العربية‪ .‬كانوا‬ ‫بزهـــو كبيـــر حين نســـتعرض‬ ‫يشـــعرون‬ ‫ّ‬ ‫بعض تجـــارب الســـودانيين فـــي الكتابة‬ ‫تحدث الصديق‬ ‫والفـــن والغناء والصحافة‪َّ .‬‬ ‫المغربـــي عـــز الديـــن التـــازي عـــن عالقة‬ ‫الصداقـــة التـــي كانـــت تربطـــه بالمرحوم‬ ‫الطيـــب صالح‪ ،‬ولقاءاتهما في مناســـبات‬ ‫عديـــدة في المغرب وخارجـــه‪ .‬كان التازي‬ ‫الكّتـــاب المغاربة المعروفيـــن جدًا لدى‬ ‫من ُ‬ ‫يمض وقت طويل حتى‬ ‫الســـودانيين‪ .‬ولم ِ‬ ‫وصـــل الوفـــد المشـــرقي الـــذي يبـــدو أنه‬ ‫وصل فـــي الوقت نفســـه‪ ،‬يتزعمـــه الناقد‬ ‫عبد اهلل إبراهيم‪ ،‬والروائي الســـوري نبيل‬ ‫ســـليمان‪ ،‬والقـــاص الفلســـطيني رشـــاد‬ ‫والمفكـــر المصـــري محمـــد‬ ‫أبـــو شـــاور‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫المصطفـــى‪ ،‬والكاتبـــة أســـماء معيـــكل‪،‬‬ ‫والقاص‬ ‫والناقد محمد عبد الباســـط عيـــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محمـــد الكاظـــم‪ ،‬والروائي اليمنـــي محمد‬ ‫عمران‪ ...‬تبادلنـــا التحية‪ ،‬وأخذ كل مكانه‬ ‫في جلســـة عشـــائية ورســـمية وحوارية‬ ‫على مقـــاس ســـوداني صرف‪.‬‬

‫***‬ ‫زرقـــة النيـــل تعكـــس أشـــعة شـــمس‬ ‫تكشر منذ اســـتيقاظها‪ ،‬عن أسياط حرارة‬ ‫ِّ‬ ‫ملتهبة‪ .‬نزلنا‪ ،‬أنا وعز الدين وإســـماعيل‪،‬‬ ‫إلـــى قاعـــة االنتظـــار؛ مفعمة مشـــاعرنا‬ ‫بثقل اللحظة‪ ،‬ومشـــبعة نفوســـنا بجمال‬ ‫المكان‪.‬‬ ‫وجدنا فـــي انتظارنا الحافلـــة‪ -‬الّتحفة‬ ‫صّممت خصيصـــاً‪ ،‬لجائـــزة الطيب‬ ‫التـــي ُ‬ ‫المدعوون يبحلقون في جمال‬ ‫ظل‬ ‫صالـــح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويتأملون صـــورة الطيب‬ ‫تلـــك الفكـــرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صالـــح بمالمحـــه المنحوتـــة بالتجارب‪،‬‬ ‫وبالفراشـــات المحلِّقة حولـــه‪ ،‬وبالكلمات‬ ‫المقتطفة من حواراته ومســـروداته‪ :‬أقوال‬ ‫وحكـــم بليغـــة تؤســـس للحيـــاة والفكر‬ ‫والمتخيل‪ ...‬صعدنا الحافلة‪ ،‬فاســـتقبلتنا‬ ‫ّ‬ ‫الســـودانية‬ ‫والبخـــور‬ ‫العطـــور‬ ‫رائحـــة‬ ‫ّ‬ ‫اآلســـرة المشـــبعة بطعم الّتراث األصيل‪.‬‬ ‫مزينـــة‬ ‫كانـــت الطرقـــات إلـــى القاعـــة َّ‬ ‫بصـــور الطيب صالح وبالفتات إشـــهارية‬ ‫للحـــدث‪ .‬وحيـــن نزلنـــا مـــن الحافلـــة‪،‬‬ ‫انطلقت عاصفة مـــن الزغاريد والتصفيق‪.‬‬ ‫المنظميـــن وأعضاء‬ ‫كان المســـتقبلون من‬ ‫ِّ‬ ‫األمانـــة العامـــة يصطفـــون فـــي طابـــور‬ ‫يوزعـــون البســـمات والكلمـــات‬ ‫طويـــل؛ ِّ‬ ‫المدعويـــن‪ .‬وكانوا‬ ‫حضـــرة‬ ‫في‬ ‫الطيبـــات‬ ‫ّ‬ ‫يعرفـــون أســـماءنا وصورنـــا وبلداننـــا‬ ‫كأنهـــم يعرفوننـــا من قبـــل‪ .‬كان الحضور‬ ‫والكّتـــاب‬ ‫كبيـــرًا وملفتـــ ًا مـــن الشـــعراء ُ‬ ‫والسياســـيين والفنانيـــن والمســـؤولين‬ ‫واألكاديمييـــن والمثقَّفيـــن مـــن مختلـــف‬

‫والتخصصـــات‪.‬‬ ‫المشـــارب والمرجعيـــات‬ ‫ُّ‬ ‫زرنـــا‪ ،‬المعـــارض المرافقـــة‪ :‬معـــرض‬ ‫الفنـــون التشـــكيلية‪ ،‬معـــرض صـــور‬ ‫الطيـــب صالح‪ ،‬معرض أرشـــيف الجائزة‬ ‫وصورها‪ ،‬ومعرض منشـــورات الجائزة‪،‬‬ ‫قبل أن نأخـــذ أمكنتنا فـــي القاعة لمتابعة‬ ‫العروض والمداخالت المبرمجة‪ ،‬وبالرغم‬ ‫مـــن كثافـــة البرنامج‪ ،‬وطـــول المداخالت‬ ‫والتعقيبـــات عليهـــا‪ ،‬فقـــد ظـــل الحضور‬ ‫وحب ًا‬ ‫حب ًا في المناســـبة ّ‬ ‫متمســـك ًا بصبره ّ‬ ‫ِّ‬ ‫في الطيـــب صالح الذي ُي َعّد رمزًا شـــامخ ًا‬ ‫وحب ًا فـــي الثقافة واألدب‪.‬‬ ‫الســـودان‪ّ ،‬‬ ‫في ّ‬ ‫***‬ ‫نغير‬ ‫كـــي‬ ‫الفندق‬ ‫عدنـــا منهكيـــن إلـــى‬ ‫ِّ‬ ‫ونستحم‪ ،‬اســـتعدادًا لحفل عشاء‬ ‫ألبســـتنا‬ ‫ّ‬ ‫يحضـــره أعضـــاء األمانة العامـــة للجائزة‬ ‫ِّ‬ ‫وبعـــض أصدقاء الطيـــب صالح‪.‬‬ ‫غادرنـــا المكان‪ ،‬وما أحسســـنا بالّتعب‬ ‫الســـهر‪.‬‬ ‫من فرط ّ‬ ‫وعند ما أراد السائق أن يخرج بالحافلة‬ ‫الصغيـــر‪َ ،‬عِلق‬ ‫من البوابـــة ذات الحجـــم ّ‬ ‫ولم يعـــرف كيف ولج مـــن ذاك المكان‪...‬‬ ‫استشـــاط بعـــض األصدقـــاء غضبـــ ًا من‬ ‫كثرة فشـــل محاوالت الســـائق للخروج من‬ ‫البوابة‪ ،‬وعرفنا أنه حديث العهد بســـواقة‬ ‫الحافـــات‪ ...‬لذلـــك تطـــوع الكاتـــب نبيل‬ ‫ســـليمان ومحمد عز الدين التـــازي لتدبير‬ ‫األزمة ومســـاعدة الســـائق علـــى الخروج‬ ‫من المأزق الـــذي وقع فيـــه وأوقعنا فيه‪،‬‬ ‫بحكـــم تجربتهمـــا الكبيرة في الســـواقة‪...‬‬ ‫كـــم تضاحكنـــا حيـــن أخفق الســـائق في‬ ‫ضبط تعليمات نبيل والتـــازي؛ حيث ُج َّن‬ ‫الســـخط‪،‬‬ ‫جنونهمـــا‪ ،‬وبدت عليهما مالمح ّ‬ ‫وطلبا منا أن نمشـــي معـــ ًا راجلين بدل أن‬ ‫نبيـــت الليل كلّـــه في لـــف ودواران ووجع‬ ‫رأس‪ .‬ومـــا إن نزلنـــا مـــن الحافلـــة حتى‬ ‫تفتقت‬ ‫تمكن الســـائق مـــن اإلفالت‪ ،‬وهنـــا َّ‬ ‫َّ‬ ‫موهبـــة الرائـــع رشـــاد أبـــي شـــاور في‬ ‫الســـخرية‪ ،‬واّتخـــذ مـــن الموقـــف ُمنطلق ًا‬ ‫وأضاحيك حّتى‬ ‫ومســـاخر‬ ‫مقالـــب‬ ‫إلبداع‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الضحك‪ .‬كان‬ ‫يفقـــد‬ ‫بعضنا‬ ‫كاد‬ ‫صوابه من ّ‬ ‫َ‬ ‫يقول لنبيل ســـليمان وعز الديـــن التازي‪:‬‬ ‫ فـــي الخرطـــوم اشـــتغلتما رغم ًا عن‬‫ســـواق مبتـــدئ‪ .‬ويضيف‪:‬‬ ‫أنفكمـــا دليَل ْي ّ‬ ‫‪77‬‬


‫في الصورة‪ :‬نبيل سليمان‪ ،‬عزالدين التازي‪ ،‬إبراهيم الحجري‪ ،‬رشاد أبو شاور‬

‫الســـواق شـــرف أن‬ ‫ حصـــل لـــذاك‬‫ّ‬ ‫اشـــتغل معـــه كاتبـــان محنّـــكان‪...‬‬ ‫ميـــزة هـــذا الكاتـــب الـــذي كانـــت لـــي‬ ‫معـــه قصـــة غريبة‪ ،‬وهـــو مـــن أوائل من‬ ‫قرأت له‪ ،‬واســـتمتعت بكتاباته الســـردية‬ ‫الدرامية التـــي تجمع بين حنكـــة الموهبة‬ ‫وبراعة الســـرد ودقّـــة الوصـــف ودرامية‬ ‫الموضوعـــات التـــي تتعلَّـــق بمأســـاة‬ ‫اإلنســـان الفلســـطيني‪ ،‬أنه دائم البسمة‪،‬‬ ‫يتذكر‬ ‫حيـــا‪ ،‬لكن‪،‬‬ ‫بمجـــرد أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫َّ‬ ‫بشـــوش ُ‬ ‫وقضيـــة األرض‪ ،‬ترى‬ ‫العربـــي‬ ‫الوضـــع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويتغير لونه‪ ،‬وينطق‬ ‫مآقيـــه‪،‬‬ ‫يمأل‬ ‫الدمع‬ ‫َّ‬ ‫كالمـــ ًا أبلغ من الســـيف‪ ،‬شـــديد التأثّر بما‬ ‫يجـــري حولـــه‪ ،‬دقيق التحليل السياســـي‬ ‫لمـــا ُيعـــاش علـــى المســـتويين العربـــي‬ ‫ـــول مداخلته حول‬ ‫والدولي‪ ،‬حتـــى أنه َح َّ‬ ‫الســـرد والتاريـــخ إلـــى صراخ فـــي وجه‬ ‫األمـــة التـــي يضحـــك عليهـــا التاريـــخ‪،‬‬ ‫وتتفـــرج عليهـــا األمم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ظـــل رشـــاد يغـــدق علينـــا مـــن فـــرط‬ ‫حساســـيته‪ ،‬ويســـرد علينـــا تجاربه في‬ ‫المخيمـــات‪ ،‬وفي كل بلدان‬ ‫النضـــال‪ ،‬وفي ّ‬ ‫حيث يظـــل الفلســـطيني هو هو‪،‬‬ ‫الدنيـــا؛ ُ‬ ‫ال بذاكرة الجـــراح‪ .‬كان أيضاً‪ ،‬يتحدث‬ ‫حم ً‬ ‫ُم ّ‬ ‫لـــي عـــن صداقاتـــه المغاربيـــة‪ ،‬وبقدر ما‬ ‫كان معجبـــ ًا بعطـــاء المغاربة فـــي مجال‬ ‫يؤرقـــه‬ ‫النقـــد واإلبـــداع والفكـــر‪ ،‬كانـــت ِّ‬ ‫أمـــر غامـــض‪ ،‬هـــو كيـــف أن المغاربيين‬ ‫حاد وجّديـــة تزيد‬ ‫يتوافـــرون على مـــزاج ّ‬ ‫أحيانـــ ًا علـــى اللـــزوم‪ ...‬حتـــى حينمـــا‬ ‫يكونون في موقف يفـــرض الدعابة والرقّة‬ ‫الجـــادة‪...‬‬ ‫متمســـكين بمالمحهم‬ ‫يظلـــون‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫قال مضيفاً‪ :‬كم يرعبني هذا األمر!‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫وفـــي كل مرة يشـــتّد فيها بيـــن الزمالء‬ ‫ينبههم‬ ‫اللغـــط والمـــزاح والضحـــك؛ كان ّ‬ ‫مازح ًا ‪:‬‬ ‫أيهـــا اإلخوان‪ ...‬انتبـــاه‪ ...‬فيه مغاربة‬ ‫معنا‪...‬‬ ‫***‬ ‫السفر‪،‬اكتشـــفت في التازي‪-‬‬ ‫طيلـــة هذا‬ ‫ُ‬ ‫اإلنســـان خصـــا ًال طيبـــة لـــم تكشـــفها‬ ‫كتاباتـــه‪ ،‬ولم يقلها عنه اآلخـــرون‪ ،‬أو لم‬ ‫يتســـن لهم معرفتها مثلما تسنّى لي بحكم‬ ‫ّ‬ ‫المناســـبة التي التقينا فيهـــا‪ .‬كان التازي‬ ‫مقـــدرًا للغير‪،‬‬ ‫محبـــ ًا لإلنســـان‪ ،‬وقـــوراً‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ميا ًال إلى الهـــدوء والرزانـــة والثبات‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫مســـتوى التراكم الـــذي َحقَّقتـــه نصوصه‬ ‫ومحبيه‪.‬‬ ‫قرائه‬ ‫ّ‬ ‫وجغرافيـــات تواصله مـــع ّ‬ ‫تؤرق معظم‬ ‫لم تكـــن له تلك العقدة التـــي ِّ‬ ‫الكتاب‪ ،‬وتجنـــي على إنســـانيتهم‪ ،‬عقدة‬ ‫يتصرف‬ ‫الشـــعور بجنون العظمـــة‪ ...‬كان‬ ‫ّ‬ ‫أن الكتابة هبـــة إلهيـــة يجب أن‬ ‫كمـــا لـــو ّ‬ ‫نغتنمهـــا فـــي صقـــل جوهرنا اإلنســـاني‬ ‫وخدمـــة اآلخريـــن والتواضع لهـــم‪ ،‬وأنها‬ ‫عطـــاء تكليـــف ال تشـــريف‪ ،‬تقتضـــي من‬ ‫يتصرف مـــع اآلخرين‬ ‫الموهـــوب فيهـــا أن‬ ‫ّ‬ ‫بوصفـــه شـــخص ًا طبيعيـــ ًا ال يفوقهـــم أو‬ ‫لمســـت‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫يتميـــز عنهم بشـــيء مـــا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الصوفية التي أصبـــح يميل إليها‬ ‫النزعـــة ّ‬ ‫التـــازي فـــي ســـلوكه وحكمتـــه وحياته‬ ‫ا لشخصية ‪.‬‬ ‫قال لي‪:‬‬ ‫يكفـــي‪ .‬على المـــرء ّأل يعيـــش حياته‬ ‫يغير نمط‬ ‫كلها بوتيـــرة واحدة‪ ،‬عليـــه أن ِّ‬ ‫وبتعددها‪.‬‬ ‫ليحس بجمالهـــا‬ ‫حياتـــه‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫***‬

‫في ليلة التتويج حضر الدبلوماســـيون‬ ‫والسياســـيون والســـفراء والفنّانـــون‬ ‫لتذكر‬ ‫والمثقّفـــون‪،‬‬ ‫وغصـــت بهم القاعـــة ُّ‬ ‫َّ‬ ‫والترحـــم‬ ‫الرمـــز الكبيـــر الطيـــب صالـــح‬ ‫ُّ‬ ‫علـــى روحـــه واالعتـــراف لـــه بالفضـــل‪،‬‬ ‫إال ســـفير المغـــرب الـــذي غـــاب‪ ،‬مـــع أن‬ ‫متوجين مغاربة‪ ،‬أحسســـنا‬ ‫هناك ثالثـــة َّ‬ ‫بشـــعور غريب‪ ،‬ولنقل ربما لـــم ُن ِعر األمر‬ ‫تعودنـــا في بلدنـــا تهميش‬ ‫اهتمامـــاً‪ .‬لقـــد َّ‬ ‫وعّدهما ترفـــاً‪ .‬الغياب‬ ‫الثقافـــة والمثقَّفين َ‬ ‫يتجزأ‬ ‫المقصود للســـفير المغربي جـــزء ال ّ‬ ‫من سياســـة إقصـــاء الثقافة والرأســـمال‬ ‫الرمـــزي الـــذي تنهجـــه الحكومـــات‬ ‫هـــب فيه‬ ‫المتعاقبـــة‪ ،‬فـــي الوقـــت الـــذي ّ‬ ‫ســـفراء البلـــدان العربية يهنِّئوننـــا‪ ،‬ربما‬ ‫أحســـوا ُيْتَمنـــا في محفل رســـمي‪،‬‬ ‫ألنهـــم ّ‬ ‫كان مـــن الالئـــق حضـــور التمثيليـــة‬ ‫الدبلوماســـية فيـــه‪ ،‬خاصة مـــع الحضور‬ ‫الســـوداني‪ ...‬أو‬ ‫الفعلـــي لنائـــب الرئيس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ربمـــا الستشـــعارهم الـــوزن المغربي في‬ ‫الجائـــزة ألول مـــرة‪ ،‬منذ إنشـــائها‪.‬‬ ‫بتنـــا نتســـاءل كيـــف يحتفـــي بـــك‬ ‫اآلخرون‪ ،‬البعيـــدون‪ ،‬األجانب‪ ،‬ويقيمون‬ ‫لـــك االعتبـــار الـــذي لـــن تجـــده أبـــدًا في‬ ‫نحـــس غبنـــ ًا دفين ًا وشـــعورًا‬ ‫بلـــدك؟ كنا‬ ‫ّ‬ ‫بالحنـــق‪ ،‬ونحن نذهـــب ونعـــود دون أن‬ ‫يتحدث عنـــا أحد‪ ،‬وكأننا‬ ‫يعرفنـــا أحد‪ ،‬أو َّ‬ ‫خفافيـــش الظالم‪ .‬بالعكس‪ ،‬كنا نســـتقبل‬ ‫نظـــرات االزدراء مـــن ِقَبـــل رجـــال األمـــن‬ ‫حيـــن يكتشـــفون‪ -‬عبـــر التأشـــيرة التي‬ ‫تحملهـــا جوازاتنـــا‪ -‬الجهة التـــي نقصدها‬ ‫ونعـــود منها‪.‬‬ ‫فـــي الســـودان الخصـــب‪ ،‬مـــن حيـــث‬ ‫مؤهالتـــه الطبيعية والبشـــرية‪ ،‬تشـــمخ‬ ‫ّ‬ ‫القصيدة لتقول ســـحر أســـطورة إفريقيا‪،‬‬ ‫وتعجز اللغة عن مغازلـــة الجمال‪ .‬هناك‪،‬‬ ‫لغـــة تنهـــض باســـقة تضاهـــي أشـــجار‬ ‫التبلـــدي النيلية‪ ،‬هي لغـــة االعتراف التي‬ ‫تغيـــب فـــي بلدنـــا بالرغـــم مـــن اختالف‬ ‫الظـــروف والشـــروط واإلمكانات‪.‬‬ ‫* ناقد وروائي من المغرب‬


‫صيد اللؤلؤ‬

‫د‪ .‬محمد عبد المطلب‬

‫الحوارات السماوية (مع إبراهيم)‬ ‫َقـّد َم الكتــاب الكريــم عــدة حــوارات مــع إبراهيــم عليــه الســام‪،‬‬ ‫ـفة ع ــن عمق ــه اإليمان ــي‪ ،‬وه ــو م ــا أهّل ــه ألن يك ــون (خلي ــل‬ ‫كاش ـ ً‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يـــا» (النســـاء ‪ ،)125‬وقـــد أتـــاح‬ ‫اه‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫إ‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ـــذ‬ ‫خ‬ ‫ات‬ ‫«و‬ ‫يـــم َخِل ً‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل)‪َ َ َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫«وِإِذ‬ ‫اهلل ل ــه دخ ــول تجرب ــة س ــماوية أهلّت ــه لم ــكان (اإلمام ــة)‪َ :‬‬ ‫ـال ِإ ِّن ــي َج ِ‬ ‫اهي ـ َـم ر ُّب ـ ُـه ِب َكِلَم ـ ٍ‬ ‫ْابَتَل ــى ِإْبر ِ‬ ‫ـاس‬ ‫ـك ِل َّ‬ ‫لن ـ ِ‬ ‫اعُل ـ َ‬ ‫ـات َفَأَت َّمُه ـ َّ‬ ‫ـن َق ـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الظاِلِمي ـ َـن» (البق ــرة‬ ‫ـال َعْه ـِدي َّ‬ ‫ـال َوِم ــن ُذِّر َّيِت ــي َق ـ َ‬ ‫ِإ َمام ـ ًا َق ـ َ‬ ‫ـال َال َيَن ـ ُ‬ ‫‪ ،)124‬فه ــذا (االبت ــاء) ه ــو المقص ــود بالتجرب ــة‪ ،‬وم ــدى الت ــزام‬ ‫إبراهيــم باألوامــر والنواهــي اإللهيــة‪ ،‬وقــد مــر بالتجربــة بنجــاح‬ ‫ـن»‪ ،‬وه ــو م ــا أكدت ــه آي ــة‬ ‫َعّب ـ َـر ْت عن ــه اآلي ــة القرآني ــة‪َ :‬‬ ‫«فَأَت َّمُه ـ َّ‬ ‫«وِإْبر ِ‬ ‫اهي ـ َـم َّالــِذي َو َّف ــى» (النج ــم ‪ ،)37‬ويتاب ــع الح ــوار‬ ‫أخ ــرى‪َ َ :‬‬ ‫مســيرته للوصــول إلــى الجــزاء الــذي نالــه هــذا النبــي الرســول‪:‬‬ ‫ـال ِإِّنــي َج ِ‬ ‫ـاس ِإ َمام ـاً»‪ ،‬ويب ــدو أن اس ــتقبال إبراهي ــم‬ ‫ـك ِل َّ‬ ‫لنـ ِ‬ ‫اعُل ـ َ‬ ‫«قـ َ‬ ‫َ‬ ‫تظـــل‬ ‫لهـــذه المكافـــأة الربانيـــة أطمعتـــه فـــي المزيـــد‪ ،‬وهـــو أن‬ ‫ّ‬ ‫ـــال َوِمـــن ُذِّر َّيِتـــي» وقـــد اســـتجابت‬ ‫«ق َ‬ ‫اإلمامـــة فـــي ذريتـــه‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ـــي‬ ‫ف‬ ‫ـــا‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫«و‬ ‫تعالـــى‪:‬‬ ‫لـــه الســـماء فـــي قولـــه‬ ‫ـــو َة‬ ‫ُّب‬ ‫الن‬ ‫ـــه‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ​َ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ ِّ َّ‬ ‫َوالِ‬ ‫ـاب» (العنكب ــوت ‪ ،)27‬لك ــن االس ــتجابة كان ــت مش ــروطة‪:‬‬ ‫ْكَت ـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يؤس ــس للس ــلطة‬ ‫ـوار‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫فه‬ ‫»‪،‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الظ‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ـال‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫«ق ـ َ َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫األرضيــة وأن شــرطها األول‪ :‬أال يكــون صاحــب الســلطة ظالمـاً‪،‬‬ ‫والظلـــم يتســـع للظلـــم السياســـي واالجتماعـــي واالقتصـــادي‬ ‫والثقاف ــي‪.‬‬ ‫وفـــي حـــوار آخـــر نتكشـــف طبيعـــة اإلنســـان داخـــل هـــذا‬ ‫النب ــي‪ ،‬عل ــى نح ــو ش ــبيه بم ــا تابعن ــاه م ــن الطبيع ــة اإلنس ــانية‬ ‫توج ــه إل ــى اهلل ُملتمســ ًا إنق ــاذ‬ ‫عن ــد ن ــوح علي ــه الس ــام عندم ــا ّ‬ ‫ابن ــه الكاف ــر م ــن الغ ــرق‪ ،‬والح ــق أن كثي ــرًا م ــن اآلي ــات القرآني ــة‬ ‫قـــد أكـــدت علـــى أن النبـــوة ال تلغـــي الطبيعـــة البشـــرية فـــي‬ ‫النبـــي‪ ،‬فـــي مثـــل قولـــه تعالـــى علـــى لســـان محمـــد صلـــى اهلل‬ ‫وح ــى ِإَل َّي»(الكه ــف‬ ‫علي ــه وس ــلم‪ُ :‬‬ ‫َّم ــا َأَن ــا َب َش ـ ٌـر ِّمْثُلُك ـ ْـم ُي َ‬ ‫«ق ـ ْـل ِإنَ‬ ‫ـت ِإ َّال َب َش ــرًا َّر ُس ــوالً»‬ ‫‪ ،)110‬وقول ــه‪ُ :‬‬ ‫«ق ـ ْـل ُس ـْـب َح َ‬ ‫ان َرِّب ــي َه ـ ْـل ُكن ـ ُ‬ ‫(اإلســـراء ‪.)93‬‬ ‫وتجليـــات الطبيعـــة البشـــرية ببعدهـــا اإليمانـــي‪ ،‬يمكـــن أن‬ ‫نتابعه ــا ف ــي الح ــوار ال ــذي دار بي ــن إبراهي ــم والنم ــرود (حاك ــم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ـاج ِإْبر ِ‬ ‫ـاه اهلل‬ ‫اهي ـ َـم ِف ــي َرِّب ـ ِـه َأ ْن َ‬ ‫آت ـ ُ‬ ‫باب ــل)‪« :‬أَل ـ ْـم َت ـ َـر ِإَل ــى َّال ـذي َح ـ َّ َ‬ ‫الْمْلــك إذ قــال إبر ِ‬ ‫ـال َأَنــا ُأ ْحِيــي‬ ‫اهيــم ربـ‬ ‫ـت َقـ َ‬ ‫ـي َّال ـِذي ُي ْحِيــي َوُيِميـ ُ‬ ‫ُ َ ِْ َ َ ِْ َ ُ َ ِّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال ِإْبر ِ‬ ‫ْم ْشـِـر ِق َف ـأت‬ ‫اهيـ ُـم َف ـِإ َّن اهلل َيأتــي ِب َّ‬ ‫الشـْـم ِ‬ ‫َوُأِميـ ُ‬ ‫س مـ َـن الَ‬ ‫ـت َقـ َ َ‬ ‫ـت َّال ـِذي َكَف ـ َـر» (البق ــرة ‪ ،)258‬ه ــذا الح ــوار‬ ‫ْم ْغ ـ ِـر ِب َفُبِه ـ َ‬ ‫ِبَه ــا ِم ـ َـن الَ‬ ‫تصع ــد إبراهي ــم ف ــي‬ ‫ـول إل ــى ج ــدل م ــن جان ــب النم ــرود‪ ،‬وق ــد ّ‬ ‫تح ـ َّ‬

‫المجـ ِ‬ ‫ـادل بتقديــم البرهــان‪ ،‬فعندمــا قــال لــه النمــرود‪:‬‬ ‫إفحــام هــذا ُ‬ ‫«رِّب ــي‬ ‫َم ـ ْـن رب ــك ؟ كان ــت إجاب ــة إبراهي ــم تقدي ــم حجت ــه األول ــى‪:‬‬ ‫َ َ‬ ‫احتـــج عليـــه النمـــرود بقوله‪َ«:‬أَنـــا‬ ‫يـــت» فلمـــا‬ ‫ّ‬ ‫الَّـــِذي ُي ْحِيـــي َوُيِم ُ‬ ‫ـت» أي أقت ــل م ــن أش ــاء وأعف ــو عم ــن أش ــاء‪َ ،‬قــّد َم‬ ‫ُأ ْحِي ــي َوُأِمي ـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫«ف‬ ‫ـه‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫قول‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫غ‬ ‫الدام‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫الح‬ ‫َّ‬ ‫ِْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ َّ‬ ‫َ‬ ‫إبراهي ــم ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْم ْغ ـ ِـر ِب»‪ ،‬وكان ــت ه ــي المس ــكتة‪.‬‬ ‫ْم ْش ـ ِـر ِق َفــأ ِت ِبَه ــا ِم ـ َـن الَ‬ ‫ِم ـ َـن الَ‬ ‫وله ــذا الح ــوار تواب ــع ف ــي ترّق ــي إبراهي ــم ف ــي ســلّم اإليم ــان‬ ‫م ــن مرحل ــة (عل ــم اليقي ــن)‪ ،‬ال ــذي س ــكن عقل ــه وقلب ــه بالدلي ــل‪،‬‬ ‫إلـــى مرحلـــة (عيـــن اليقيـــن)‪ ،‬التـــي تتحقّـــق بالمشـــاهدة‬ ‫توج ــه إل ــى اهلل ُملتمســ ًا المس ــاعدة ف ــي الوص ــول‬ ‫والكش ــف‪ ،‬إذ ّ‬ ‫ـــال ِإْبر ِ‬ ‫يـــم َر ِّب َأِرِنـــي‬ ‫إلـــى هـــذه المرحلـــة اإليمانيـــة‪َ :‬‬ ‫اه ُ‬ ‫«وِإْذ َق َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـن‬ ‫َكْي ـ َ‬ ‫ّي ْطَمئ ـ َّ‬ ‫ـال َأ َوَل ـ ْـم ُت ْؤم ــن َق ـ َ‬ ‫ْم ْوَت ــى َق ـ َ‬ ‫ـال َبَل ــى َوَلك ــن لَ‬ ‫ـف ُت ْحِي ــي الَ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ـــل‬ ‫ـــم‬ ‫ث‬ ‫ـــك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ـــن‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ف‬ ‫ـــر‬ ‫ي‬ ‫الط‬ ‫ـــن‬ ‫م‬ ‫ـــة‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ذ‬ ‫ـــ‬ ‫خ‬ ‫ف‬ ‫ـــال‬ ‫ق‬ ‫ـــي‬ ‫َقْلِب‬ ‫َّ‬ ‫اج َع ْ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َْ​َ ّ َ ْ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعَل ـ ْـم‬ ‫ـن َيأتيَن ـ َ‬ ‫ـن ُج ـ ْـزءًا ُث ـ َّـم ْاد ُعُه ـ َّ‬ ‫َعَل ــى ُكِّل َجَب ـ ٍـل ّمْنُه ـ َّ‬ ‫ـك َس ـ ْـعي ًا َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫(بصرنـــي)‪،‬‬ ‫أي‬ ‫ـــي)‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫(‬ ‫‪)260‬‬ ‫(البقـــرة‬ ‫»‬ ‫يـــم‬ ‫َأ َّن اهلل َعِز ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫يـــز َحِك ٌ‬ ‫أي أن طل ــب الرؤي ــة ج ــاء تابعــ ًا (لعل ــم اليقي ــن) ال ــذي تابعن ــاه‬ ‫يـــت»‪ ،‬وقـــد جـــاء‬ ‫فـــي قولـــه للنمرود‪«:‬رب‬ ‫ـــي الَّـــِذي ُي ْحِيـــي َوُيِم ُ‬ ‫َ ِّ َ‬ ‫ال ــرد اإلله ــي عل ــى إبراهي ــم‪َ« :‬أ َوَل ـ ْـم ُت ْؤِم ــن» وه ــذا ال ــرد كان ف ــي‬ ‫صيغـــة ســـؤال إجابتـــه معروفـــة ســـلفاً‪ ،‬أي أن الســـؤال هدفـــه‬ ‫(الزم الفائـــدة) – كمـــا يقـــول البالغيـــون – أي لكـــي يســـتفيد‬ ‫الس ــامعون والقارئ ــون علم ـ ًا بإيم ــان إبراهي ــم‪ ،‬عل ــى الرغ ــم م ــن‬ ‫أن الس ــؤال ذات ــه ق ــد يوه ــم بالش ــك ف ــي إيمان ــه‪ ،‬ول ــذا ج ــاءت‬ ‫«بَلـــى»‪ ،‬أي آمنـــت‪ ،‬لكنـــي أســـعى للوصـــول‬ ‫إجابـــة إبراهيـــم‪َ :‬‬ ‫«ف ُخ ـْذ‬ ‫إل ــى يقي ــن المش ــاهدة‪ ،‬وق ــد اس ــتجابت ل ــه الس ــماء عملي ـاً‪َ :‬‬ ‫ـك»أي خ ــذ أربع ــة م ــن الطي ــور‬ ‫َأْرَب َع ـ ًـة ِّم ـ َـن َّ‬ ‫ـن ِإَلْي ـ َ‬ ‫الطْي ـ ِـر َف ُصْر ُه ـ َّ‬ ‫المختلفــة وضمهــن إليــك لتتعـّـرف عليهــا بأشــكالها لتتيقــن أنهــا‬ ‫الت ــي س ــبق ل ــك أن ضممته ــا إلي ــك‪ ،‬ث ــم قطعه ــا ووزعه ــا عل ــى‬ ‫أربع ــة جب ــال‪ ،‬فنف ــذ إبراهي ــم األم ــر اإلله ــي‪ ،‬ث ــم دعاه ــن‪ ،‬فوج ــد‬ ‫مكتمـــا وأتتـــه‬ ‫أجزاءهـــن تتجمـــع وتتالحـــم‪ ،‬وقـــام كل طائـــر‬ ‫ً‬ ‫الطي ــور تس ــعى‪ ،‬أي أن إبراهي ــم ل ــم يك ــن يطل ــب اليقي ــن بق ــدرة‬ ‫اهلل علـــى اإلحيـــاء‪ ،‬وإنمـــا يطل ــب المعرف ــة بكيفي ــة اإلحيـــاء‪.‬‬ ‫وه ــذا الح ــوار ُيق ـ ِّـدم درســ ًا قرآنيــ ًا عظيمــ ًا ف ــي أن م ــن ح ــق‬ ‫كل إنس ــان أن يش ــك‪ ،‬وأن يطل ــب اليقي ــن دون ح ــرج‪ ،‬وه ــو م ــا‬ ‫يتواف ــق م ــع الحدي ــث النب ــوي ال ــذي رواه البخ ــاري‪« :‬نح ــن أح ــق‬ ‫ْم ْوَت ــى‬ ‫«ر ِّب َأِرِن ــي َكْي ـ َ‬ ‫ـف ُت ْحِي ــي الَ‬ ‫بالش ــك م ــن إبراهي ــم»‪ ،‬إذ ق ــال َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـن َقْلِب ــي»‪.‬‬ ‫ّي ْطَمئ ـ َّ‬ ‫ـال َأ َوَل ـ ْـم ُت ْؤِم ــن َق ـ َ‬ ‫َق ـ َ‬ ‫ـال َبَل ــى َوَلِك ــن لَ‬ ‫‪79‬‬


‫أدب‬

‫مرتني‬ ‫«الرهينة» اليمنية تو َلد ّ‬ ‫جامل جربان‬

‫دماج‬ ‫مــا تزال رواية «الرهينة» للكاتــب‬ ‫اليمني زيد مطيع ّ‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )2000 - 1943‬تثيــر إشــكالياتها حّتــى بعــد ثالثيــن‬ ‫عامــ ًا علــى صدورها‪ ،‬وبعد أربعة عشــر عامــ ًا من رحيل‬ ‫مجــددًا بالتزامن مع‬ ‫صاحبهــا‪ ،‬حيث عاد النقــاش حولها‬ ‫َّ‬ ‫السياســي واالجتماعــي والمذهبــي الحــرج الذي‬ ‫الظــرف‬ ‫ّ‬ ‫األدبي الــذي اختاره‬ ‫تمــر بــه اليمــن اليوم‪ .‬وهــي العمــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اّتحــاد األدباء العــرب بوصفه واحدًا من أبــرز مئة رواية‬ ‫عربيــة خالل القرن العشــرين‪ .‬ولم يكن ذلــك االختيار قد‬ ‫يمني ضمن‬ ‫أتــى معتمدًا علــى حتمية وجود عمل روائــي ّ‬ ‫مكملــة لمجمل الفضاء‬ ‫الئحــة المئــة رواية‪ ،‬أو كــي تكون ّ‬ ‫لهوية اّتحاد األدباء العرب‪ .‬على‬ ‫الروائي العربي انعكاس ًا ّ‬ ‫العكس من ذلــك‪ ،‬جاءت «الرهينة» مســتحقّة الظهور في‬ ‫تلــك الالئحة‪ ،‬التي أثارت وقتها ردودًا نقدية عديدة تنتقد‬ ‫جيد استطاع‬ ‫فكرة اختيار القائمة بحّد ذاتها‪ ،‬جاءت بنص ّ‬ ‫تقديم صورة عن واقع الحال االجتماعي والحال السياسي‬ ‫اللذين كانت تعيشهما اليمن تحت حكم نظام اإلمامة‪ ،‬الذي‬ ‫أي تواصل‬ ‫عزل البالد عن محيطها مانع ًا أهلها من تحقيق ّ‬ ‫مع ما يدور ويتطور في العالم الخارجي‪.‬‬ ‫وقــد ســعى صاحب “الرهينــة” لتقديم هــذه الصورة عبر‬ ‫سرد روائي يصف الحالة من داخل القصر اإلمامي نفسه‪،‬‬ ‫ســتخدم‪ -‬في جزء منه‪ -‬كمكان الحتجاز أبناء‬ ‫والذي كان ُي‬ ‫َ‬ ‫تمدد‬ ‫زعمــاء القبائل الذين كان يخشــى اإلمــام الحاكم من ُّ‬ ‫نفوذهــم وانخراطهم في التخطيط لالنقالب عليه‪ .‬وخالل‬ ‫‪80‬‬

‫ال لشــخصية نســائية تنتمي إلى ذلك‬ ‫دماج تفصي ً‬ ‫هذا قّدم ّ‬ ‫القصر‪ ،‬ومن ســليل تلك األســرة اإلمامية الحاكمة‪ ،‬وهي‬ ‫الشــخصية التي ثار النقاش واالعتراضات حولها‪ ،‬وعلى‬ ‫سياســية تنحدر من‬ ‫وجــه الخصــوص‪ ،‬مــن جهة أســماء‬ ‫ّ‬ ‫صلب العائلة اإلمامية‪ ،‬لكنّها قدرت على التأقلم اليوم مع‬ ‫النظــام الجمهــوري الحاكم‪ ،‬واحتفظت لنفســها بمكان في‬ ‫هرم الســلطة القائمة‪ ،‬ولم َت ْس َع للهجرة خارج اليمن على‬ ‫غرار ما فعل غيرها من أبناء وأحفاد العائلة نفسها‪.‬‬ ‫مجددًا حول «الرهينة»‬ ‫وكان من المتوقَّع أن يعود النقاش َّ‬ ‫تطورات الراهن المشــتعل داخلياً‪ ،‬واالحتفاء الثقافي‬ ‫مــع ُّ‬ ‫والنقــدي الذي شــهدته القاعــة الكبــرى بالمركــز الثقافي‬ ‫الفرنســي فــي صنعــاء‪ ،‬بمناســبة صدور ترجمــة جديدة‬ ‫للروايــة باللغة الفرنســية قامت بها المترجمــة اللبنانية‪-‬‬ ‫الفرنســــــــــية نـــــــــدى غصن‪ ،‬والصادرة تحت عنــــوان‬ ‫«‪( »le Bel Otage‬دار زوي‪ ،‬جنيف‪ -‬سلسلة كالسيكيات‬ ‫من العالم)‪.‬‬ ‫تحــدث الناقد‬ ‫النقاشــية التقديمية للترجمة‪،‬‬ ‫في الجلســة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وقــدم ورقة نقّدية‬ ‫اليمني عبــد العزيز المقالح‪،‬‬ ‫والشــاعر‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫أكد فيها على تمثيل «الرهينة» ألنموذج أدبي‬ ‫حول الرواية َّ‬ ‫نجــح في مغايرة االعتقاد الســائد لدى البعض بخصوص‬ ‫النــص المحلّي ألدوات‪ ،‬لها أن تذهب به إلى الضفة‬ ‫فقدان‬ ‫ّ‬ ‫األخــرى مــن العالم‪ ،‬وإلــى المتلقّين هنــاك‪ ،‬وبأن النص‬ ‫ّيته‪ -‬قادر على أن يلقى جمهورًا‬ ‫األدبي‪ -‬على الرغم من محلّ‬ ‫ّ‬


‫اليمنية وتقاطعاتها‪ ،‬وأن‬ ‫غربيــ ًا ال يعرف تفاصيل البيئة‬ ‫ّ‬ ‫ُيسهم في توضيح الصورة التي قد تبدو غامضة عن اليمن‬

‫المجهــول لديهــم‪ ،‬ويتحقّق هــذا في حالة إذا مــا كان ذلك‬

‫ال لحاجته من الصدق والنقاء اإلنســاني‬ ‫النص األدبي حام ً‬ ‫المحمولين عبــر كتابة ُمنجزة بإتقان وخبرة مأخوذة من‬ ‫المــكان والبيئــة االجتماعيــة التي تحكي عنهــا‪« ،‬وهو ما‬

‫دماج»‪ .‬من جهتها‪ ،‬قالت‬ ‫يتوافر في َن ّ‬ ‫ص األديب زيد مطيع ّ‬

‫مترجمة الرواية ندى غصن إن الرهينة نجحت في تسليط‬ ‫اليمنــي الموصول‬ ‫الضــوء على فترة معقَّــدة من التاريخ‬ ‫ّ‬

‫بظــروف حكــم ســلطة عائليــة قامــت بتعميق عزلــة هذا‬ ‫الشــعب المقيــم في شــبه الجزيــرة العربية‪ ،‬وقــد جاءت‬ ‫دال‬ ‫صورة‬ ‫المحتجز في قصر اإلمام كرهينة «كرمز ّ‬ ‫الصبي ُ‬ ‫ّ‬ ‫حتجز‬ ‫على‬ ‫ٍ‬ ‫شــعب بأكمله ّ‬ ‫الم َ‬ ‫يود الخروج مــن ذلك المكان ُ‬ ‫الحرية والثورة»‪.‬‬ ‫بداخله‪ ،‬والسعي لمعانقة ضوء ّ‬ ‫وقــد جاءت مناســبة صــدور الترجمــة الفرنســية الثانية‬ ‫مواز الرتفاع صوت جماعة الحوثي‬ ‫لـ«الرهينــة» في وقت ٍ‬ ‫السياســية‪ ،‬التي تنحدر أصولها من بنية العائلة اإلمامية‬ ‫التــي كانت تحكم اليمن نفســها‪ ،‬ومنها جــاء االعتقاد‪ -‬من‬ ‫مجدداً‪ ،‬وفي هذه الســنة‪،‬‬ ‫جهتهــا‪ -‬بأن خــروج «الرهينة» َّ‬ ‫إنمــا جاء بمثابــة والدة أخرى وتجديد لتلك اإلشــكاليات‬ ‫المأخــوذة ضّد أســرة اإلمام يحيى حميــد الدين (‪- 1869‬‬ ‫‪ )1948‬وفــي هذا تعميــق لدرجة الخــاف المذهبي القائم‬ ‫حالياً‪ ،‬بشكل اليعمل على خدمة الصالح العام‪.‬‬ ‫يمــض وقــت قصير علــى هــذا الغبار الــذي خرج مع‬ ‫ولــم‬ ‫ِ‬ ‫قــررت إحــدى القنوات‬ ‫الترجمــة الجديــدة للروايــة حتــى َّ‬ ‫تيار سياسي ومذهبي‬ ‫الفضائية‬ ‫اليمنية المحســوبة على ّ‬ ‫ّ‬ ‫مناهــض لجماعــة الحوثي تحويــل روايــة «الرهينة» إلى‬ ‫عمل درامي‪ .‬ومن الصعب طرح تفســير قرار إنتاج الرواية‬ ‫درامي ًا بأنه يأتي في ســياق األزمة الطائفية التي يعيشها‬ ‫اليمن في هــذه الفترة‪ .‬ولم ينحصر الجدل والنقاش داخل‬ ‫المســتمر على‬ ‫جماعة الحوثي والمناصرين لهم وتأكيدهم‬ ‫ّ‬ ‫ا أدبيــاً‪ ،‬وإنمــا أتــت للنيل من‬ ‫أن «الرهينــة» ليســت عمــ ً‬ ‫أســرتهم عبر سرد نوع من السلوك الغريب عن نساء تلك‬ ‫األســرة‪ ،‬وقد دخلت على الخط أسرة الروائي الراحل زيد‬ ‫دماج‪،‬‬ ‫دماج التي َّ‬ ‫هددت‪ -‬بواســطة ممثّلهــا همدان ّ‬ ‫مطيــع ّ‬ ‫وهــو النجل األكبر لألديــب الراحل‪ -‬باللجوء إلى القضاء‪،‬‬ ‫المحطة الفضائية‪ ،‬عبر فريق عمل سوري‬ ‫بسبب قيام تلك‬ ‫ّ‬ ‫يخــص والده دون‬ ‫يمني مشــترك‪ ،‬باســتثمار عمــل أدبي‬ ‫ّ‬ ‫الو َرثــة‪ ،‬ودونما التزام‬ ‫الحصول علــى موافقة ّ‬ ‫خطّية من َ‬ ‫الفريــق الفني الذي تكفَّــل‪ ،‬عند تحويــل الرواية إلى عمل‬ ‫وتعمد‬ ‫العامة للرواية‪،‬‬ ‫درامي‪ ،‬باحترام البنية الرئيســية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محددة منها دون أخرى‪ ،‬بهدف اســتغاللها‬ ‫اجتزاء فصول َّ‬ ‫في تحقيق مكاسب‪ ،‬ولو معنوية‪ ،‬في داخل دائرة الصراع‬ ‫الو َرثة‬ ‫الطائفي الدائر اليوم في البلد‪ ،‬وهو أمر – بحســب َ‬ ‫– ال يحترم قدســية العمل األدبي وأفكار كاتبه التي كانت‬ ‫السياســية‬ ‫لكن‪ -‬بالنظر إلى الظروف‬ ‫بعيدة عن المســار‪ْ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الحرجة‪ -‬يبدو من الصعب أن تجد المحاكم القضائية وقت ًا‬ ‫ٍ‬ ‫عنوانها األدب‪.‬‬ ‫إشكالية‬ ‫لها كي تنظر في‬ ‫ُ‬ ‫‪81‬‬


‫حوار مع الكتب‬ ‫ماجـد صالح الســامرايئ‬

‫لم أكن مخطئ ًا يــوم وقع اختياري عليك صاحب ًا وصديقاً‪.‬‬ ‫وأنت تقول‬ ‫مبكر‪ ،‬فإذا بك تأخذ بيدي‬ ‫كنــت يومها في عمــر ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وكنت مهمــا طال زمن‬ ‫لــي‪ :‬طريــق المعرفة يبــدأ من هنــا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت دائم ًا مفتوح‬ ‫حواري معك ال تسأم مني‪ ،‬وال ّ‬ ‫تمل‪ ،‬بل َ‬ ‫أنــت من علّمني كيــف أحاور من‬ ‫القلــب ألســئلتي‪ ..‬ألجدك َ‬ ‫أتحــدث‪ ،‬حين أتحّدث‪،‬‬ ‫أحاوره بهــدوء واطمئنان‪ ،‬وكيف‬ ‫َّ‬ ‫بثقة‪ ،‬كما علّمتني أن أفتح الباب لمن يقرعه‪ ،‬وأســتقبله‪،‬‬ ‫ضيفــاً‪ ،‬بترحيــب واحتــرام؛ فأنت تعقد صلــة الوصل كما‬ ‫مقرب‪ .‬ولنا منك‪ ،‬في هذا كله‪ ،‬حديث يبدأ‪،‬‬ ‫نعقدها بصديق َّ‬ ‫وغالب ًا ما ينتهي بنا ‪-‬إن انتهى‪ -‬إلى ما يدعونا إليه من حوار‬ ‫بيــن «األنا» و«اآلخر» الذي قــد تختلف معه فتتصارع فكراً‪،‬‬ ‫تتقدم عليه فيتراجع أمامك‪ ،‬وربما حصل العكس‪ .‬وقد‬ ‫وقد َّ‬ ‫يتقبل منك اإلشارة‬ ‫فتنبهه على ما وقع فيه لتجده ّ‬ ‫ُيخطىء ِّ‬ ‫يصحح لك فتقبل‪ ،‬فهــو ‪-‬كما يدعوك إلى‬ ‫واإلرشــاد‪ .‬وقد‬ ‫ِّ‬ ‫يتقبل منك دعوتك إلى مثيلهما‪.‬‬ ‫شيء‪ ،‬أو أمر‪ّ -‬‬ ‫وأنت‪ -‬صديقي الكتاب‪ -‬من زاوية أخرى‪ ،‬لســت كالبشــر‪:‬‬ ‫تتقارب ممن تتقارب منه أو تتباعد عنه في ضوء المصلحة‬ ‫إذ تفعل هذا إنما تفعله من خالل الرؤية‬ ‫أنــت ْ‬ ‫والمــزاج‪ ،‬بل َ‬ ‫التــي تحمــل‪ ،‬وتتــرك الخيار لي‪ ،‬أنــا الصديــق القارىء‪،‬‬ ‫فقــد أقبلــه منك وأتوافق معــه‪ ،‬وقد أختلف‪ ،‬فــإذا اختلفت‬ ‫ســمعت مني ما أقــول‪ ،‬وقلت بتؤدة وصبــر‪ :‬لك الحق في‬ ‫وموقفا‪ ،‬بل‬ ‫حالة‬ ‫تتغير‬ ‫ً‬ ‫«قولــك المختلف»‪ ..‬ومــن دون أن ّ‬ ‫ً‬ ‫رت منــي الرؤية‪،‬‬ ‫وجدتــك‪ -‬فــي غير حالة وموقــف‪ -‬قد ّ‬ ‫غي َ‬ ‫وســاعدت في بنــاء الموقف الذي تّتخذ‪ ،‬مــن دون إكراه أو‬ ‫َ‬ ‫َعَن ْت‪ ،‬فـ«سلطتك» معرفية‪ ،‬وليست «سلطة سلطوية»‪.‬‬ ‫قــرأت الشــعر فيك‪،‬‬ ‫هــذا فــي جانــب‪ .‬وفــي جانــب آخــر‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫والروايــة‪ ،‬والقصــة‪ ،‬والمســرحية‪ ،‬فــإذا أنــا أمــام ً‬ ‫رؤى‬ ‫تحملنــي إلى عوالم لــم أدركها من قبل‪ .‬وكثيــرًا ما وجدتها‬ ‫تضعني أمام ضروب من الهواجس شتى‪ ،‬بعضها أورثني‬ ‫القلــق‪ ،‬قلق اإلبداع‪ ،‬وبعضها أخذني في دروب لم ِ‬ ‫أمشــها‬ ‫لدي‪ ،‬ألجدني أقول‪:‬‬ ‫من قبل‪ ،‬كما أثار بعض منها التساؤل ّ‬ ‫‪82‬‬

‫إذا كان العالم هو هذا‪ ،‬فكيف ينبغي علينا أن نكون؟‬ ‫أتعرفك أكثر من خاللك اســتزادة منــك‪ ..‬فإذا بك‬ ‫ُ‬ ‫ورحــت ّ‬ ‫تقــول قول المرشــد الناصح‪ :‬إن الكتــاب الحقيقي هو ذلك‬ ‫يفجــره عندك‪ .‬ومتى أصبح‬ ‫الذي يحمل الســؤال إليك‪ ،‬أو ّ‬ ‫دت‬ ‫الكتاب جواباً‪ ،‬ليس إالّ‪َ ،‬فَقَد مشروعية أن يكون‪ .‬وقد َّ‬ ‫أك َ‬ ‫لــي أن القــراءة بحــث‪ ،‬فنحن نقــرأ لنبحــث‪ ،‬أو ينبغي أن‬ ‫ويجدد نسيج العقل‪ ،‬ويدفع‬ ‫حرك الذات منا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نبحث‪ ،‬عما ُي ِّ‬ ‫مميزاً‪ :‬وهناك‬ ‫لي‬ ‫تقول‬ ‫ووجدتك‬ ‫والمســاءلة‪..‬‬ ‫التفكر‬ ‫إلــى‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫«كتــب الجــواب» التي ال ُتســلم إال لليقين‪ ،‬فمن هــذا اليقين‬ ‫عطل في الذات فعلها‪،‬‬ ‫وي ِّ‬ ‫ما يكون استســام ًا ّ‬ ‫يشل اإلرادة‪ُ ،‬‬ ‫ويغلق األفق أمام العقل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫«يحاكم» سواه‪ :‬شعراء‪ ،‬وكتاباً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ووجدت من بين الكتب ما ُ‬ ‫ومفكريــن‪ ..‬فمنهــم مــن َحَّّركهــم قلق الوجود فــي ما كتب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحيــن نعود اليوم إليهم نجد بعضهــم قد كبر القلق عنده‪،‬‬ ‫تبدد‪ ،‬فبّدد الفكر واللغة‪ ،‬وذهب بهاجس‬ ‫وعند بعض آخر َّ‬ ‫اإلبداع‪.‬‬ ‫مفكرًا‬ ‫بأن الكاتــب‪ِّ ،‬‬ ‫ووجــدت بيــن هذه الكتــب ما ُيخبرنــي ّ‬ ‫ُ‬ ‫كان أم مبدعــاً‪ ،‬ال يكــون بمــا يريــد‪ ،‬أو تريــده الكتابة‪ ،‬إال‬ ‫إذا انطلق من كونه «فرداً»‪ ،‬بفردانتيه يخلق خصوصيته‪،‬‬ ‫يتميز عندك قارئــاً‪ .‬والفردية ال تعني‬ ‫وبهــذه الخصوصية َّ‬ ‫تتشــكل‪ ،‬معاني وأبعاداً‪ ،‬من خالل‬ ‫الغربة عن الواقع‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫حالة انفصال عن الكيان الجمعي‪ ،‬بقدر ما هي‪ :‬رؤية الذات‬ ‫للعالــم‪ ،‬والتعبيــر عن هــذه الرؤية بحيويــة الحياة داخل‬ ‫الرائي‪.‬‬ ‫***‬ ‫غير أن من بين ما تحمله الكتب من تساؤل ما يجعلنا ندرك‬ ‫تدار َكه َم ْن وقع‬ ‫«خراب العالم» الذي نحن فيه اليوم‪ ،‬وكيف َ‬ ‫فيــه قبلنا فأعاد البناء‪ ،‬لنعرف أن التاريخ تجربة‪ ،‬وليس‬ ‫حكايات تروى عن أزمنة السلف‪.‬‬ ‫وأزعم اليوم‪ ،‬من بعد هذه الصداقة الطويلة التي لم َت ُشْبها‬ ‫نتعــرف أخطاءنا‪،‬‬ ‫شــائبة‪ ،‬لي معــك‪ ،‬أننا من خاللها كنا‬ ‫َّ‬


‫الصغرى منها والكبرى‪ ،‬ونعانق أحالمنا عند «بطل» رواية‬ ‫شــق الطريــق‪ ،‬على وعورته‪ ،‬حتــى بلغ ما إليه‬ ‫يكون قد ّ‬ ‫يصبــو ويريــد! أو فكــرة نذلِّل بهــا طريق المســتحيل‪ ،‬وما‬ ‫أشبه!‪.‬‬

‫لذلك فإن أكثر ما ُيحزنني‪ ،‬وأنا أقرأ‪ ،‬هو الكتب التي تنتهي‬

‫تراجع «البطــل» في رواية‬ ‫إلــى حال مــن التراجع‪ :‬ســواء ُ‬

‫تراجع شــاعر عن «رؤياه‬ ‫كاتــب عما كان يرمي بلوغه‪ ،‬أو ُ‬ ‫عما يكون أثار‬ ‫تراجع ِّ‬ ‫مفكر ّ‬ ‫الزمانية»‪ ،‬وكذلك ُ‬ ‫مــن تســاؤالت كان الغد مداهــا‪ ،‬أو مبدع عما‬

‫معان جديدة‪ .‬والفجيعة هي‬ ‫كان يلتمــس من‬ ‫ٍ‬ ‫فــي أن نجد خطاب الكاتب ينهار‪ ،‬فيخذل من‬ ‫عقدوا عليه بعض آمالهم‪ ،‬وربطوا تطلُّعاتهم‬ ‫بمــا يــرى‪ ،‬ليجــدوه‪ ،‬فــي لحظــة قريبة من‬ ‫التاريخ‪ ،‬وقد مضى في ســياق خرج به عما‬ ‫ال ما كان‬ ‫للعصر وإنســانه من تطلُّعات‪ ،‬مهم ً‬ ‫قد عرف من أن الكتابة تجربة‪ ،‬أوهي شجرة‬ ‫ال بناية من حجر‪.‬‬ ‫***‬ ‫قد يســأل القــارىء‪ ،‬هنا‪« :‬ومــن أين تنطلق‬ ‫بنيت قولك‬ ‫في ما تقــول؟ وعلى أي أســاس‬ ‫َ‬ ‫هذا؟» فأجيب‪ :‬إننا نقول هذا‪ ،‬أو شيئ ًا منه إذا‬

‫ما نظرنا إلــى الكتابة‪ ،‬ومن ثم إلى الكتاب‪،‬‬ ‫كونهمــا ضــرورة وجود‪ .‬ومثــا ًال أقول‪ :‬يوم‬ ‫وجدت نفســي ذات يــوم بين أربعــة جدران‬ ‫ُ‬

‫حاصــرت حركة وجــودي الحياتي اليومي‪،‬‬ ‫ْ‬

‫وأسلمتني إلى تعاسة الشعور بأني ال أملك‬ ‫إرادة أن أفتــح البــاب الــذي أنــا وراءه‪ ،‬أو‬ ‫ويغلق دوني بإرادة‬ ‫أغلقــه‪ ،‬وإنما ُيفتح لي ُ‬

‫ا عــن تجريــدي مــن الكتــاب‪،‬‬ ‫اآلخــر‪ ،‬فضــ ً‬ ‫أحسســت بفــراغ كبيــر يحتوي وجــودي من‬ ‫الداخــل أكثــر ممــا ُيحاصرنــي فــي الخارج‪.‬‬

‫إلــي‪ ،‬ذات نهار‪،‬‬ ‫ويوم‬ ‫ُ‬ ‫وجــدت الكتاب َي ُ‬ ‫عبُر َّ‬ ‫«حراسي»‪ ،‬لم أعد يومها ‪-‬مع‬ ‫بعيدًا عن أعين ّ‬ ‫السر ّي‪ -‬أشعر بذلك الضيق الذي به‬ ‫وجوده ّ‬

‫زجوا بــي في غرفــة ضاقت‬ ‫شــعرت لحظــة ّ‬ ‫ُ‬

‫على «ساكنيها»‪ ،‬وأغلقوا دوني األبواب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫غيــر أن «الحالــة» أســلمتني إلــى ســواها؛‬ ‫فمــن يومها لــم أعد أقرأ كما أريــد‪ ،‬وأكتب ما‬ ‫أتخذهــا‬ ‫يداخلنــي‪ ،‬إال وبــاب الغرفــة التــي َّ‬ ‫مكتبــ ًا مغلق دوني‪ ،‬ولكن‪ ،‬فــي هذه المرة‪،‬‬

‫«حراسي»!‪.‬‬ ‫بيدي‪ ،‬ال بيد ّ‬ ‫‪83‬‬


‫القوايف املهاجرة‬ ‫د‪ .‬حسني محمود‬

‫بشــيء مــن االعتدال فــي التفســير ومقاومة النزعــات القومية‬ ‫نقــرر‪ -‬باطمئنــان‪ -‬أن العالقة‬ ‫مــن هوى النفس‪ ،‬نســتطيع أن ِّ‬ ‫اصطِلــح على تســميته العصور أو‬ ‫بين الشــرق والغــرب فيما ُ‬ ‫ــميت وســطى ألنها تفصل بيــن العصور‬ ‫(س ِّ‬ ‫القرون الوســطى ُ‬ ‫القديمــة بحضاراتها اليونانيــة والرومانية‪ ،‬والعصور الحديثة‬ ‫دشــنها عصــر النهضة)‪ ،‬كانت عالقة بيــن أنداد‪ .‬وما زلت‬ ‫التي َّ‬ ‫أذكــر مقالــة ابــن جبير فــي رحلته عندمــا َمّر بعــكا‪ ،‬وكانت قد‬ ‫وقعــت فــي أيدي الصليبيــن‪ ،‬معلِّق ًا على أســلوب حياة الناس‬ ‫وعالقاتهــم في كافة الدروب التي تصل الشــرق بالغرب‪ ،‬حين‬ ‫قال‪« :‬واالّتفــاق بينهم واالعتدال في جميع األحوال (يقصد بين‬ ‫الغربيين والعرب)‪ ،‬وأهل الحرب مشــتغلون بحربهم‪ ،‬والناس‬ ‫في عافية‪ ،‬والدنيا لمن غلب»‪.‬‬ ‫يقررون‪ -‬أيضاً‪ -‬أن‬ ‫بل إن بعض ًا من كبار الدارســين الغربييــن ِّ‬ ‫تعم البالد العربية‪ ،‬وكانت منقوصة في البلدان‬ ‫المساواة كانت ّ‬ ‫تع درس المســاواة بين البشــر إال ناتج ًا من‬ ‫الغربيــة‪ ،‬التي لم ِ‬ ‫النواتــج الجانبيــة للحــروب الصليبيــة‪ .‬ومــن أراد أن يعــرف‬ ‫اإلسهامات التربوية للعرب على العجم في ذلك الوقت يمكنه أن‬ ‫مذكرات أســامة بن منقذ‪ ،‬أو رحلة ابن جبير‪ .‬وقد خلصوا‬ ‫يقرأ ِّ‬ ‫مــن هــذه المالحظــات إلــى أن عالقــة النّدية ربمــا كانت تخفي‬ ‫ورِقّيــ ًا في الحضارة العربيــة‪ ،‬التي كانت أعلى‬ ‫وراءها‬ ‫ّ‬ ‫ســموًا ُ‬ ‫شــأن ًا وأغنى إنجازاً‪ :‬يكفي أن نعلم أن األوروبيين تعلّموا من‬ ‫الشــرق‪ ،‬من مصر والشــام‪ -‬تحديداً‪ -‬النظافة الشخصية وآداب‬ ‫الطعــام وأناقــة الملبس‪ .‬ومن المشــاهد المألوفــة والتي حكى‬ ‫رث الثياب‪ ،‬وال يســتحي من‬ ‫عنهــا ابن منقــذ أن اإلفرنجي كان ّ‬ ‫يستحم‪ ،‬وتفوح منه روائح كريهة‪.‬‬ ‫ارتداء رداء مهلهل‪ ،‬وكان ال‬ ‫ّ‬ ‫والطريف‪ -‬أيضاً‪ -‬أن األوروبيين تعلّموا من مصر والشام كيف‬ ‫يتعاملون برقّة مع النســاء‪ ،‬ومن اّتصالهم ُوِلد شعر الفروسية‬ ‫الــذي كان يجمع بين بطولة الفرســان الحربيــة ونبل تعاملهم‬ ‫مؤكد أننا تراجعنا خطوات كثيرة في هذا المضمار‪،‬‬ ‫مع المرأة‪َّ .‬‬ ‫نستحق أن نبكي على أحوالنا اليوم‪.‬‬ ‫وأننا‬ ‫ّ‬ ‫مؤخــراً‪ -‬محاضــرة كتبــت للتدريس في‬ ‫باغتباط‪،‬‬ ‫قــرأت‬ ‫وقــد‬ ‫َّ‬ ‫المــدارس اإليطالية في مــادة «العالقات الثقافيــة البينية» َق َّرر‬ ‫‪84‬‬

‫عزها)‬ ‫مؤلِّفهــا أن العرب في العصور الوســطى العليــا (أي في ّ‬ ‫التقدم‬ ‫كانــوا‬ ‫تفوقــ ًا َّ‬ ‫مؤكــدًا في ثالثــة ميادين هــي‪ُّ :‬‬ ‫يســجلون ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫والتقدم الثقافي‪.‬‬ ‫العلمي‪،‬‬ ‫م‬ ‫والتقد‬ ‫المدني‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫وإن كنّا اليوم نشــكو ضعف األمم العربية واإلسالمية عسكري ًا‬ ‫يســتطع‬ ‫يتغير‪ ،‬فلم‬ ‫وسياســياً‪ ،‬فــإن الحــال هو الحــال‪ ،‬لــم‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫نصف العالم (وربما لن يســتطيع) أن يحرز نصرًا سياســي ًا أو‬ ‫عســكري ًا حاســم ًا على النصف اآلخر‪ .‬أما التفاعــل الثقافي فلم‬ ‫يتوقَّف لحظة‪ ،‬واختالف الناس بين الجانبين (أي أســفارهم‪،‬‬ ‫وهجراتهم) لم ينقطع‪ .‬ومع هجرات األشــخاص تهاجر قيمهم‪،‬‬ ‫ويهاجر تراثهم‪.‬‬ ‫هكذا تصادم الشرق والغرب عسكرياً‪ ،‬والتقيا ثقافي ًا في اللحظة‬ ‫نفسها‪ .‬وهكذا نستطيع أن نحصر معابر الثقافة من الشرق إلى‬ ‫الغــرب‪ ،‬ومــن الغرب إلى الشــرق‪ ،‬فــي عناصر ثالثة‪ :‬الســفر‬ ‫(هجرة وتجارة وسياحة‪ ..‬إلخ)‪ ،‬والحرب (حمالت استعمارية‬ ‫واســتيطانية وحــروب معلومات وحــروب اقتصادية‪ ..‬إلخ)‪،‬‬ ‫والترجمــة (ترجمــة األدب والفكر والعلم)‪ .‬وعلــى هذه المعابر‬ ‫انتقلت تأثيرات الشعر العربي إلى الغرب‪.‬‬ ‫المؤكدة وجــود العرب فــي أوروبــا لعّدة‬ ‫مــن نواتــج الحــرب‬ ‫َّ‬ ‫قرون‪ :‬سبعة في األندلس‪ ،‬وثالثة في صقلية‪،‬و وجود الغرب‬ ‫فــي العالم العربــي طوال الحروب الصليبيــة‪ ،‬التي امتّدت هي‬ ‫األخــرى على مــدى ‪ 9‬حمالت اســتمرت قرنين مــن الزمان (من‬ ‫بدايــة القرن الحادي عشــر وحتــى نهاية القرن الثاني عشــر)‪.‬‬ ‫ومن األندلس وصقلية بدأت هجرة الشعر العربي إلى أوروبا‪.‬‬ ‫هناك الكثير من الدراسات األندلسية لباحثين شرقيين وغربيين‬ ‫مشهود لهم‪ ،‬ولكن الدراسات الصقلية قليلة‪ ،‬إن لم تكن نادرة‪،‬‬ ‫ومن أشهرها دراسة إحسان عباس «العرب في صقلية»‪ .‬وألن‬ ‫نســب إلى أهله فإن عميد الدراســات الصقلية‬ ‫الفضل يجب أن ُي َ‬ ‫فــي العالم هو المستشــرق اإليطالي ميكيل أمــاري‪ ،‬والذي قام‬ ‫وحده بجهد لم تقدر عليه سوى أجيال مجتمعة‪ .‬ومن أهم كتبه‬ ‫محب ســعد‪ ،‬عام‬ ‫ذلك الكتاب الذي ترجمه فريق بقيادة الراحل ّ‬ ‫‪ ،2004‬وأصدرته دار النشــر اإليطالية (لومونييه) بفلورنسا‪،‬‬ ‫وصــدر عــام ‪ ،2004‬مــن ثالثــة مجلَّــدات‪ ،‬واعتمــد فيــه على‬


‫العمل الفني‪- Edgar Degas :‬فرنسا‬

‫تحقيــق نحو ‪ 70‬مخطوطــة (ال تزال هنــاك مخطوطات عربية‬ ‫كثيــرة لــم يتم تحقيقهــا وموجودة فــي صقليــة)‪ ،‬وكانت له‪-‬‬ ‫يســمى «المكتبة الصقلية» التي‬ ‫أيضــاً‪ -‬جهود أخرى لتكوين ما ّ‬ ‫ضمــت الكثير من التــراث العربي في تلك البــاد‪ .‬وبعد أماري‬ ‫َّ‬ ‫واصل المســتعرب الكبير «ريتســتانو» جهود أســتاذه‪ ،‬وكانت‬ ‫َ‬ ‫لــه إســهامات كبيرة في هذا اإلطار‪ .‬واعتمد إحســان عباس في‬ ‫دراســته على مجهــودات هذيــن العالمين الكبيريــن‪ ،‬وأحدهما‬ ‫ينتمي إلى القرن التاســع عشر (ولد أماري عام ‪ )1806‬واآلخر‬ ‫في القرن العشــرين (ولد ريتسيتانو في اإلسكندرية بمصر عام‬ ‫‪ ،)1913‬واألخيــر تــرك مكتبة عامــرة بالمخطوطــات األصلية‬ ‫يتم نشرها أو تحقيقها‪.‬‬ ‫التي لم ّ‬ ‫وكل هؤالء الدارسين قّدموا صورة إيجابية للوجود العربي في‬ ‫صقليــة من الناحية التاريخية‪ ،‬ولكن الشــعر لم يكن له وجود‬ ‫كثيف في مؤلّفاتهم‪ ،‬نظرا ألن أماري اكتفى في دراسته الرائدة‬ ‫بنشر القصائد والتعريف بمؤلّفيها فقط‪.‬‬ ‫وللصديقــة «فرانشيســكا كــوراو» كتــاب نشــرته عــام ‪1987‬‬ ‫لمختــارات من الشــعر العربــي الصقلي مترجم ًا بواســطة كبار‬ ‫الشــعراء اإليطاليين المعاصرين‪ ،‬وهو عمل مزدوج ألنه يقرب‬

‫اإلنتــاج الشــعري العربــي الذي كتبه شــعراء عرب أو شــعراء‬ ‫تبنّــوا العربية في الماضي‪ ،‬وألنه يعيد اكتشــاف هذا الشــعر‪،‬‬ ‫ويجعل من السهل تحليله والكشف عن معاييره وتقنياته‪.‬‬ ‫وال يمكن تبيان أثر الشــعر العربي في مثيله األوروبي دون أن‬ ‫نعرف كيف كان الشعر في أوروبا قبل تماسه مع شعر العرب‪،‬‬ ‫بعروض الشــعر‪ .‬يلفت النظر أن مصطلح‬ ‫وخاصة فيما يتعلَّق َ‬ ‫الشــعر فــي العربية مختلــف تمام ًا في النشــأة عن الشــعر في‬ ‫اللغــات األوروبيــة اعتمادًا على التــراث اليوناني والروماني‪،‬‬ ‫فالكلمة التي جاءت منها ‪ poetry‬أو ‪ poesie‬أو ‪ poesia‬تعني‬ ‫«خلــق» فــي األصل‪ ،‬بينما هــي في العربية من «الشــعور» في‬ ‫الغالب‪ .‬ولكن المشترك هو أن الغالب على القصيدة موسيقاها‬ ‫وإيقاعهــا‪ ،‬ومــن هنا عــرف الشــعر القديــم األوزان والقوافي‪.‬‬ ‫نقرر‪ -‬باطمئنان‪ -‬أن الشــعر العربي القديم‬ ‫وبالطبــع يمكــن أن ِّ‬ ‫تقدمــاً‪ ،‬وإيقــاع الشــعر فيــه أكثــر تعقيدًا وتشــابك ًا‬ ‫كان أكثــر ُّ‬ ‫وتنوعاً‪ ،‬بعكس الشعر اليوناني والشعر الروماني‪،‬اللذين كانا‬ ‫ُّ‬ ‫يعرفان بحرًا واحداً‪ ،‬كان‪ -‬في الغالب‪ُ -‬يطَلق عليه اســم (البحر‬ ‫السداسي)‪.‬‬ ‫ويمكــن اإلشــارة هنا إلــى الدراســات والتجارب التــي أجراها‬ ‫‪85‬‬


‫الباحــث الكبير محمد عونــي عبد الرؤوف‪ ،‬والذي أمكنه ترجمة‬ ‫الشــعر العربي إلى اللغة األلمانيــة محتفظ ًا ببحورها العربية‪،‬‬ ‫وهو ما يعني أن بحور الشــعر العربــي يمكن نقلها إلى اللغات‬ ‫األجنبية‪ ،‬وهو افتراض تثبته الدراســات اللغوية الحديثة التي‬ ‫تهتــم بعلم األصــوات في إطار علوم اللغويــات الحديثة‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫تدرس الظواهر اللغوية من منظور إنساني عالمي‪.‬‬ ‫وكانت لي تجربة خاصة في دراسة عن الترجمة‪ ،‬فقد استعنت‬ ‫متمكن هو‪ -‬في الوقت نفسه‪ -‬شاعر‪ ،‬إنه الدكتور عبد‬ ‫بأكاديمي ِّ‬ ‫الناصــر هالل‪ ،‬وقرأت عليــه أول بيتين من «الكوميديا اإللهية»‬ ‫مقســمين إلى تفعيــات عروضيــة‪ ،‬فأدرك‬ ‫لدانتــي أليجيــري َّ‬ ‫األكاديمــي المصري أن هذين البيتيــن ينتميان إلى بحر المديد‪،‬‬ ‫ومن ثم يمكن القول إن ثالثيات الكوميديا اإللهية ليس لها صلة‬ ‫يتكون من‬ ‫بتراث الشــعر األوروبي سداسي الوزن‪ ،‬والذي كان َّ‬ ‫خمس تفعيالت متشــابهات‪ ،‬والسادسة مختلفة‪ ،‬وأنها متأثِّرة‬ ‫بالعروض العربي‪.‬‬ ‫مباشرة َ‬ ‫أما القافية فلها شأن آخر‪ ،‬ألنه‪ -‬طبق ًا لدراسات لغوية حديثة‪-‬‬ ‫تخل أية لغة من اســتخدام القوافي‪ ،‬ليس فقط في الشــعر‪،‬‬ ‫لم ُ‬ ‫بــل في النثــر أيضاً‪ ،‬وكان هناك دائم ًا تمييــز بين النثر المقفّى‬ ‫والشــعر المقفّى‪ ،‬ولكن الرأي السائد أن القوافي التي تصادفها‬ ‫فــي اآلداب اليونانيــة والالتينيــة القديمــة ربمــا اســتلزمتها‬ ‫الضرورات األســلوبية للمؤلِّفين‪ ،‬شــعرًا ونثراً‪ ،‬ولكنها لم تكن‬ ‫تقنيــة معروفة‪ .‬وهنــاك أمثال شــعبية كثيرة منقولــة باللغة‬ ‫يتم فيها اســتخدام القافية‪ ،‬كما أن هناك‬ ‫الالتينية عن الرومان ّ‬ ‫«المّوال» لدينا‪ ،‬وكان تستخدم فيه القافية‬ ‫جنســ ًا شعري ًا يشبه َ‬

‫العمل الفني‪- Philip Burne Jones :‬بريطانيا‬

‫‪86‬‬

‫علــى نطــاق واســع‪ ،‬وصلتنا منه نصــوص تعود إلــى القرن‬ ‫التاسع الميالدي‪.‬‬ ‫ولكن االســتخدام الفني للقافية‪ ،‬أي بكامل توظيفيها الشعري‪،‬‬ ‫الجوالون إلى‬ ‫ارتبط بالشعر البروفنسالي‪ ،‬الذي نقله الشعراء ّ‬ ‫مختلــف أنحــاء أوروبا‪ ،‬ومنــه إلى صقلية علــى نحو خاص‪،‬‬ ‫تطــورًا خاص ًا ُعِرف في تاريــخ األدب اإليطالي‬ ‫والتي شــهدت‬ ‫ُّ‬ ‫باســم (المدرســة الصقليــة)‪ .‬وهناك فرضيات أخــرى ترى أن‬ ‫القافية الشعرية انتقلت إلى الشعر البروفنسالي والفرنسي عن‬ ‫طريــق الجرمــان في الربع األخير من القرن التاســع الميالدي‪.‬‬ ‫لكــن الفرضية األقوى والتي انطلقت في القرن الســادس عشــر‬ ‫نشر) في القرن السادس عشر بواسطة‬ ‫عن طريق دراســة (لم ُت َ‬ ‫ج‪ .‬م‪ .‬باربييــري‪ ،‬ووفقــ ًا لها فإن القصيــدة المقفاة انتقلت عن‬ ‫طريــق العــرب الذيــن فتحــوا األندلــس‪ ،‬ووصلوا إلــى جنوب‬ ‫مســتقل‬ ‫فرنســا‪ ،‬ثــم عادت هــذه الفرضية وظهــرت على نحو‬ ‫ّ‬ ‫وتأكدت طيلــة القرن الثامن عشــر‪،‬‬ ‫فــي القرن الســابع عشــر‪َّ ،‬‬ ‫راهبْين‬ ‫بين‬ ‫كان‬ ‫هــذا‬ ‫حول‬ ‫جدال‬ ‫وخاصة في فرنســا‪ .‬وأشــهر‬ ‫َ‬ ‫مهاجرْين إلى إيطاليا‪ ،‬كان أحدهما يدعم‬ ‫من الجزويت اإلسبان‬ ‫َ‬ ‫فرضيــة باربييــري وهو «ج‪ .‬أندريه»‪ ،‬واآلخــر يعارضها وهو‬ ‫«ســانت ارتيجــا»‪ .‬وتواصلــت المجادالت حول أصــل القصيدة‬ ‫البروفنسالية‪ ،‬وماتزال‪.‬‬ ‫ومــن رأيــي أن البروفنســاليين لــم يخترعــوا القافيــة كتقنيــة‬ ‫إيقاعيــة فــي القصيدة‪ ،‬ولــم ينقلوها عــن اليونــان أو الالتين‬ ‫الذيــن عرفوهــا لكن في ســياق أســلوبي مختلف‪ ،‬بــل نقلوها‬ ‫عــن الشــعراء العرب‪ ،‬ليــس فقط في األندلس‪ ،‬ولكن الشــعراء‬ ‫األندلســيين والصقلييــن هم الذيــن تبنّوا الثقافــة العربية‪ ،‬كما‬ ‫تبنّوا اللغة العربية‪ ،‬وتكلّموها‪ ،‬وألّفوا الشعر فيها‪ ،‬وأصبحت‬ ‫من تراث قومهم‪ ،‬ولم يكن توريثها لألجيال التالية غريباً‪ ،‬حتى‬ ‫وإن قيلــت بعــد ذلك بلغــات غير عربية‪ ،‬خاصــة وأنها ظهرت‬ ‫تتحول هذه اللهجات إلى‬ ‫فــي اللهجات العامية الدارجة قبــل أن‬ ‫َّ‬ ‫لغات قومية مستقلّة‪ ،‬وهو يوحي‪ -‬دون شك‪ -‬بأنها تمثَّلت في‬ ‫الذائقــة قبــل أن تنتقل على نحو شــكالني فــي القصائد األولى‬ ‫التي كتبت باللهجات الالتينية واللغات الرومانسية‪.‬‬ ‫ليست هناك أية مبالغة‪ -‬إذًا ‪-‬في الزعم بنِّدّية العالقات الشرقية‬ ‫تفوق العرب في الميادين الثالثة‬ ‫الغربيــة مع ميل واضــح إلى ُّ‬ ‫ال عن األستاذ اإليطالي الذي يعلِّمها لتالميذه‪،‬‬ ‫التي أشرنا إليها نق ً‬ ‫تفوقنا في جميع مناحي الحياة‪ ،‬ألن هجرة‬ ‫بل يحتمل أن ّ‬ ‫نؤكد ُّ‬ ‫القوافي العربية إلى الغرب تعني‪ -‬ببساطة‪ -‬انتقال أرقى أنواع‬ ‫يمس الوجدان‪ ،‬ويقترب من لغة‬ ‫التعبير اإلنساني‪ ،‬ألنه انتقال ّ‬ ‫تتميز بمســتوى معقَّــد من التشــفير الرمزي‪،‬‬ ‫الموســيقى التــي َّ‬ ‫و‪-‬فــي الوقت نفســه‪ -‬بقدرة عالية علــى التوصيل والتواصل‪،‬‬ ‫وهــو ما يعكــس حميمية العالقات وارتباطهــا حتى في الرموز‬ ‫الشعورية اإلدراكية وليس‪ -‬فقط‪ -‬في التراث المعرفي‪.‬‬ ‫هل نحن في حاجة إلى مثل هذا التأكيد؟‬ ‫نعــم‪ ،‬وخاصة في الوقت الحالي الذي يجب أن نســتدعي فيه‪،‬‬ ‫مــن تاريخنــا‪ ،‬عظمــة أجدادنــا‪ ،‬وإحســاس أحفادهــم المريب‬ ‫بالتقزم‪.‬‬ ‫ُّ‬


‫هشاشة الكائن‬ ‫فاطمة الزهراء الرغيوي‬

‫ال أذكــر‪ -‬تحديــداً‪ -‬متى ســمعت للمر ة األولى باســم كيليطو‪.‬‬ ‫الحي الشــعبي‬ ‫لكــن اﻷكيــد أنني ســمعت أو ًال باســم (كليطو) ّ‬ ‫والمخيف‪ -‬في ذاكرتي على اﻷقل‪ -‬قبل أن أســمع باسم الكاتب‬ ‫عبدالفتــاح كيليطو‪ .‬كنــت متيقِّنة من أن هذا الشــخص هو ابن‬ ‫الحي المخيف تحديداً‪.‬‬ ‫مدينة العرائش‪ ،‬ابن ذاك ّ‬ ‫على كل حال اســم عبد الفتاح هو اســم عــادي‪ ،‬يليق بمنطقة‬ ‫شعبية ومخيفة‪ ،‬هذا ما كان يراودني‪ .‬لم أزر يوم ًا َح ّي كليطو‬ ‫فــي العرائــش‪ .‬حتــى المستشــفى المحــاذي له كنــت أتجنّبه‪،‬‬ ‫وعندمــا كنــت أزور زميلتي في الثانوية فــي بيتها القريب من‬ ‫أتعجب كيف تعيش فتاة رفقــة والدتها األرملة في‬ ‫الحــي كنــت ّ‬ ‫ّ‬ ‫لدي أحكام مسبقة كثيرة‪ ،‬كما يبدو‪...‬‬ ‫كانت‬ ‫أمان هناك‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تصــورت‪ -‬إذاً‪ -‬عبــد الفتــاح كيليطــو ابن ًا للمدينة التي نشــأت‬ ‫فيها‪ .‬ربما لهذا الســبب شــعرت بألفة مع شخص الكاتب‪ .‬كأنه‬ ‫ألتق به‪ ،‬وهذه حالي مع‬ ‫فرد من األسرة‪ ،‬أسمع عنه‪ ،‬لكن لم ِ‬ ‫والمفكرين‪ .‬طبع ًا هم غيــر معنيين بهذه‬ ‫مجموعــة من األدبــاء‬ ‫ِّ‬ ‫أضم إلى أســرتي كل‬ ‫بأن‬ ‫ا‬ ‫جد‬ ‫ة‬ ‫ني‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫لكنني‬ ‫الطفلــة المتطفِّلة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َْ ّ‬ ‫ّ‬ ‫من تأسرني أفكاره‪ ،‬وتجعل سمائي أكثر سعة وأكثر تسامحاً‪.‬‬ ‫التقيــت‪ -‬أخيراً‪ -‬عبد الفتاح كيليطــو‪ .‬أقصد أنني حضرت لقاء‬ ‫مؤخرًا في المعهد الفرنســي (يجيد الفرنســيون خلق‬ ‫ُن ِ​ِّظم معه َّ‬ ‫حــوارات جميلة بيننا نحن المغاربة)‪ .‬بــدا كيليطو منعز ًال قبل‬ ‫بدايــة اللقاء‪ .‬لم يفاجئني األمر فعــاً‪ ،‬فقد أخبرني‪ -‬ذات مرة‪-‬‬ ‫صديــق اســتقبله في فعالية بالــدار البيضــاء‪ ،‬أن كيليطو هو‬ ‫محب للعزلة وخجول إلى َحّد ما‪ .‬ربما‪ ،‬لهذا الســبب‪،‬‬ ‫شــخص ّ‬ ‫لــم يزعج ســكينة عزلته أحد قبل اللقاء‪ .‬أنــا‪ -‬أيضاً‪ -‬لم أذهب‬ ‫ألسلِّم عليه‪ .‬ما كنت سأقوله له لم يكن سيتعّدى كلمات إعجاب‬ ‫مســتهلكة‪ ،‬لذا انتظرت نهاية اللقاء‪ ،‬وذهبت إليه بنســخة من‬ ‫كتابه ليوقِّعها في صمت تقريباً‪.‬‬ ‫ــور اللقــاء‪ -‬أساســاً‪ -‬حــول اإلصــدار الجديد لعبــد الفتاح‬ ‫تم ْح َ‬ ‫َ‬ ‫كيليطــو‪« :‬أتكلَّــم جميع اللغــات‪ ،‬لكن بالعربيــة»‪ ،‬الذي صدر‬ ‫فــي توقيتيــن متقاربين‪ :‬في فرنســا عن منشــورات ســندباد‪،‬‬ ‫ومترجمــ ًا إلــى العربيــة مــن ِقَبــل األســتاذ عبد الســام بنعبد‬ ‫العالي‪ ،‬عن دار توبقال في المغرب‪ .‬أدار الحوار ببراعة طالبه‬ ‫ومفتــش اللغة الفرنســية فــي أكاديمية تطوان الســيد‬ ‫القديــم‬ ‫ِّ‬ ‫العياشــي الصرحاني‪ .‬لم تكن األســئلة تقليدية‪ .‬لم يكن اللقاء‬

‫حاور عبد الفتــاح كيليطو يعني‪-‬‬ ‫تقليديــاً‪ .‬ففــي النهايــة‪ ،‬أن ُت َ‬ ‫أساساً‪ -‬أن تكون قادرًا على مشاركته الصمت‪ ،‬عندما يستسلم‬ ‫للحظــة تفكير‪ ،‬كأنه في خلوته التي يســتعّد فيهــا للكتابة‪ .‬ال‬ ‫يبــدو عبد الفتاح كيليطو مثل شــخص يمتلــك أجوبة جاهزة‪.‬‬ ‫يتمهل في تقديم الجواب‪ ،‬ويبحث‬ ‫إنه في حالة تفكير‬ ‫مستمرة‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمام مســتمعيه عن صيغــة ممكنة لطرح وجهة نظره‪ .‬يشــعر‬ ‫المســتمع (هذا ما شعرت به على األقل) أن كيليطو يشركه في‬ ‫مسعاه للوصول إلى الجواب الشافي‪.‬‬ ‫أهمية في طرحه لمســألة‬ ‫وبعيــدًا عن كتابه األخير‪ ،‬بما له من ّ‬ ‫تعاملنا مع اللغة‪ ،‬فإن أكثر ما أثار انتباهي في لقائي بقريبي‬ ‫البعيــد‪ ،‬هو تلك الهشاشــة الباديــة عليه‪ .‬منــذ الوهلة األولى‬ ‫لحديثــه‪ ،‬كان واضح ًا أنه ال يســعى لتقريــر يقينيات مطلقة‪،‬‬ ‫أظن أن هذا يطبع كتابته أيضاً‪ ،‬فهو يستحضر الطفل العادي‪،‬‬ ‫حي كيليطــو بالعرائش‪ ،‬العادي إلى درجة‬ ‫الــذي لم يعش في ّ‬ ‫أن يكون خروجه األول من بين أسوار المدينة القديمة للرباط‪،‬‬ ‫إلــى مدرســته األولى التــي ســيتعلَّم فيها‪ ،‬ســريعاً‪ ،‬اللغتين‪:‬‬ ‫مخيلتــه‬ ‫العربيــة الفصحــى‪ ،‬والفرنســية‪ ،‬لغتيــن ســتكونان ِّ‬ ‫ليكتــب بهمــا بالقــوة نفســها وباإلصــرار نفســه ربمــا‪ .‬ثم إن‬ ‫كيليطو يســتحضر عمره «الكبير»‪ ،‬وهو ينظر‪ -‬بتســامح‪ -‬إلى‬ ‫يؤكد‬ ‫الوجوه المحيطة به‪ .‬يبدو كمن يشعر بثقل السنين‪ ،‬وهو ِّ‬ ‫أنــه ُوِلد عــام ‪ ،1945‬وأنه دخل المدرســة االبتدائية في بداية‬ ‫الخمسينيات‪ .‬لكنه‪ -‬رغم هذا العمر‪ -‬لم يشأ تقلُّد دور األستاذ‪،‬‬ ‫حتى وهو يجيب عن أسئلة الحاضرين‪ .‬كان يبدو وكأنه ترك‬ ‫درع الفوز للسائل المرتاح والسعيد بأفكاره الواثقة‪.‬‬ ‫كيليطو الذي ضممته إلى أفراد أسرتي منذ سمعت أحد إخوتي‬ ‫يخيب ظنّــي فيه؛ فهو وإن‬ ‫يتحــّدث عن كتاباتــه بإعجاب‪ ،‬لم ِّ‬ ‫لــم يكــن ابن مدينتي‪ ،‬فهو شــخص يمكن أن يكــون من هناك‪.‬‬ ‫إن شــخص ًا بمثل الخفّة اآلســرة لكيليطو ال يمكن أال يكون من‬ ‫هامش ما‪...‬‬ ‫فــي لقــاء المعهــد الفرنســي‪ ،‬كما ربما فــي كل لقاءاتــه في كل‬ ‫األمكنــة‪ ،‬انفلق لســان عبــد الفتاح كيليطو (وهــو الذي انتصر‬ ‫تعدد اللغات في الفصل الثاني من كتابه السالف الذكر)‪،‬‬ ‫لفكرة ُّ‬ ‫فأصبح طريقه إلى العالم سالكاً‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫ترجمات‬

‫أورورا لوكي‬

‫تغيري الجلد وقصائد أخرى‬ ‫ترجمة‪ :‬خالد الريسوين‬

‫ُوِلــدت أورورا لوكــي فــي ألميريــة ســنة ‪ .1962‬قضــت‬ ‫طفولتهــا في منطقــة البشــارات التي تعبق بعطــر مرحلة‬ ‫حاســمة من مأســاة تاريخ األندلس العربــي؛ ولذلك كثيرًا‬ ‫ما اعتبرت نفســها وريثة للشــعر األندلسي وحفيدة ِل َوّلدة‬

‫بنــت المســتكفي والبــن الخطيــب‪ ،‬وبــن زيدون‪ ،‬درســت‬ ‫الفيلولوجيا الكالســيكية‪ ،‬وعملت أســتاذة للغة اليونانية‬

‫فــي مالقــة‪ ،‬كما عملــت مديرة لمركــز جيل ‪ 27‬فــي مالقة‪،‬‬ ‫كما تســاهم في العمــل الصحافي (كاتبة عمــود) للرأي في‬ ‫«دياريو سور» في مالقة‪.‬‬ ‫أدارت السلســلة الشــعرية «دفاتــر ترينــا كرييــا»‪ ،‬وتديــر‬ ‫باالشــتراك مع خيسوس أغوادو‪ -‬سلســلة «ماريموطو»‬‫أسســت دار النشــر «ناريــا»‪.‬‬ ‫للشــعر العالمــي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ومؤخــرًا َّ‬ ‫ُترجمت قصائدها إلى اإلنجليزية‪ ،‬واإليطالية‪ ،‬والرومانية‪،‬‬

‫واأللمانيــة‪ ،‬والفرنســية‪ ،‬والســويدية‪ ،‬والســلوفينية‪،‬‬ ‫والصينية‪ ،‬والعربية‪ ،‬والهولندية‪ ،‬والبرتغالية‪...‬‬ ‫مــن دواوينها الشــعرية تبــرز العناويــن التالية‪« :‬مشــكل‬ ‫دبلجــة»‪ ،‬جائــزة الترضيــة ألدونيــس (‪« .)1990‬تملــك‬ ‫الليــل»‪ ،‬جائــزة الملك خــوان كارلوس‪ ،‬بيســور (‪.)1994‬‬ ‫«عابرة»‪ ،‬جائزة األندلس للنقد‪ ،‬ريناســيميينطو (‪.)1998‬‬ ‫«رفاق إيكاروس»‪ ،‬جائزة فراي لويس دي ليون‪ ،‬بيســور‬ ‫(‪« .)2003‬قيلولة أبيقور»‪ ،‬جائزة جيل ‪ 27‬للشعر‪ ،‬بيسور‬ ‫(‪ ،)2007‬كما ُن ِشــر شــعرها في العديد مــن األنطولوجيات‬ ‫الشعرية منها‪ :‬شكوك إيروس‪ ،‬مرفئية‪ ،‬تملك الكلمة‪.‬‬

‫ترجمت أورورا لوكي إلى اإلســبانية ميليا غرودي غادارا‪،‬‬ ‫وماريا الينا وســافو‪ ،‬كما قامت بترجمــة أنطولوجيا تحت‬ ‫عنوان‪« :‬زهر نرد إيروس» من اليونانية‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫الكثبان‬

‫(إلى خوسيه مانويل كابييرو بونالد)‬

‫جد ًا‪.‬‬ ‫جد ًا والداكن ّ‬ ‫أن تطأ العشب البليل ّ‬ ‫تدشن بدلة سوداء‪ ،‬أن تكون ‪-‬فقط‪ -‬بدلة سوداء‬ ‫أن ِ ّ‬

‫لم أ كن ق ُّ‬ ‫َط هناك‪ ،‬لكني لمست بدقّ ة‬

‫أن تحيا الحياة كان يعني أن‬

‫تلك النباتات السكرى للمحيطات‪.‬‬

‫أبد ًا ُت ِ‬ ‫شبع‬

‫أتكهن بالمساء‪ ،‬بغابات في الضفّ ة األخرى‪،‬‬ ‫َّ‬

‫واسني ربما في الصقاالت‬ ‫ِ‬

‫شبه عائمة وسوداء‪،‬‬

‫ضآلة الظل‪،‬‬

‫تلك الرمال الذهبية‪،‬‬

‫لم أ كن هناك‪ ،‬لن أعود من هناك‪.‬‬ ‫شدفة زعفران على خضرة‬

‫أنهار بال ضباب‪ ،‬ماء بأسرار‬ ‫َحل خطاي‪،‬‬ ‫ال نهائية‪ ،‬و ْ‬

‫مجدد ًا للشمس‬ ‫رائحة الحياة‪ ،‬أن تنظر‬ ‫َّ‬

‫أن تملك هذا القدر من الفاكهة التي لم تكن‬

‫ال تحاول مواساتي في الموت‬ ‫المحطّ مة للحياة‬

‫دين تجاه النوتي‬

‫لن أدفع لكارونتي من جيبي الخاص‪.‬‬

‫كما إلله جدير وشديد‬

‫تحس األسراب تحمل شيئ ًا لي‬ ‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫نحو الالمتناهي‪.‬‬

‫رسم الخرائط‬ ‫ثمة كلمات فاتنة وعابرة‬ ‫ّ‬

‫َت َّتسع الحياة في تجويف ّ‬ ‫التل‬

‫حتى إني ال أستطيع أن أرفض إهداءها‪،‬‬

‫ألنها ‪-‬فقط‪ -‬تلتمس عبير ًا‪ :‬عبير البحر‬

‫ثمة قصائد بفواكه ما وراء البحر‬ ‫ّ‬

‫وتمضي األحاسيس متدفّ قة‬

‫ذاك الذي كانت تبعثه آلهة العمق الجامدة‪.‬‬

‫َط هناك‪ ،‬ولن أعود ق ّ‬ ‫لم أ كن ق ّ‬ ‫َط إلى تلك‬ ‫األطلنتيد‪.‬‬

‫حني العثور يف اإلنرتنيت‬

‫عىل خريطة عالم باطن ‪ -‬أريض‬ ‫للموت دليله الخاص للسفر‪،‬‬

‫أن تمشي على ضفة نهر صاخب‬ ‫وتنسى رنين كلمة نهر‪،‬‬

‫تثبيتها في خرائط تستكشفك‪.‬‬

‫التي أرسلها على سبيل االستعجال‬ ‫ولست أدري إن كانت ليلتك‬

‫ّ‬ ‫تستلذ بطعمها أو ترفضها‪.‬‬

‫ث َّمة مناطق من الحياة يُمنع‬

‫عبورها على الشعراء‪ .‬يُم َنع‬ ‫االجتياح بالكلمات‪.‬‬

‫أشد مرارة‬ ‫ثمة مناطق من الحياة ّ‬ ‫ّ‬

‫حتى أنها ال تسعها خرائط‬ ‫قديمة لنا‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫نشيد ّ‬ ‫التأن‬

‫غري قابل إلعادة التدوير‬

‫(احتفاء برونيه فيفيان)‬

‫يقطع الذكرى إرباً»‬ ‫ِّ‬ ‫«الزمن‬ ‫خ‪ .‬أ‪ .‬غارييغا بيال‬

‫كان يجب أن يكنسوا الفضالت‪:‬‬ ‫وعاء الزمن‪ ،‬حزمته‪،‬‬

‫غالفه الكارتوني‪ ،‬زجاجه القابل للطرح‪،‬‬ ‫الكهف األصلي‪ ،‬غرف نوم الزمن‪،‬‬

‫البيوت المفتقدة‪ ،‬الخزائن المعطرة‪،‬‬ ‫بذلته الخشبية‪ ،‬حقائبه الزرقاء‪،‬‬

‫القشور الصفراء‪ ،‬األكياس المجهول صاحبها‪،‬‬ ‫الحقنة‪ ،‬البرشامة‪ ،‬القطرات المنسكبة‪،‬‬

‫الرغبة ويرقاتها‪ ،‬خادراتها المج ّوفة‪،‬‬

‫الرحالت الجوية الملغاة‪ ،‬زهور الغردينيا الذابلة‪.‬‬ ‫المخزن الليلي‪ ،‬العنبر‬ ‫المتجمد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مذبح الج ّزار المد ّنس‪.‬‬ ‫ُ‬

‫كان يجب أن يكنسوا هذه النفايات‪.‬‬ ‫تغيري الجلد‬ ‫ينبعث دخان البراكين تحت السماء المصف ّرة‪،‬‬

‫فتنسى األفعى جلدها المكشوط القديم‬

‫بين الصخور التي ‪-‬بعد‪ -‬ماتزال فاترة‪.‬‬ ‫هكذا ترغب األفخاذ‬

‫في الزحف خارج ذاتها‪ .‬احتكاك ناقص‬ ‫بين العالم والجسد‪ :‬ودوم ًا الجلد القديم‬ ‫تحت الجلد‪.‬‬ ‫‪90‬‬

‫بين الزعتر الساخن ورائحته الطيبة‬

‫وأزيز النحل القلق‬

‫الطيب مذبح ًا من ذهب‪.‬‬ ‫أرفع للتأ ّني‬ ‫ِّ‬

‫(رونيه فيفيان)‬

‫لي ً‬ ‫ال تنقلني الخيول‬

‫المج ّنحة إلى أفالطون‪ ،‬اليُرى السهل‬ ‫السعيد المعلن‪ .‬أجد جبا ً‬ ‫ال شديدة‬ ‫االنحدار فقط‪ .‬خيولي أعلنت‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحتك‬ ‫ملتذة‪،‬‬ ‫تصالحها‪.‬‬

‫شعرها الالمع‪ ،‬أسود وأبيض‪،‬‬

‫والحوذي‪ ،*voyeur ،‬يمسح بِ ا ْلتِذاذ‬ ‫أرجوحة خيل الساعات‪.‬‬

‫والذاكرة تنتشل‬

‫غنيمتها االعتباطية من جمال‪ ،‬هي الخيول‬ ‫ليست أبد ًا مستعجلة‪.‬‬

‫أيها التأ ّني‪ ،‬يا هذب ًا من ذهب‪ ،‬تعوق‬

‫الساعات القاسية بالشمس‪ ،‬دعني أ كن فيك‪.‬‬ ‫أال اليسحبني الزمن بأصابعه‪ ،‬أصابع أفعى‪.‬‬ ‫أريد زيتك الخالص‪،‬‬

‫حرير عنانك‪.‬‬

‫زمن بال رسن فقط‪،‬‬ ‫ذلك فقط‪.‬‬

‫متلصص ًا‬ ‫*‬ ‫ِّ‬


‫اللوحات‪- Willem de kooning :‬أميركا‬

‫كليشيه‬ ‫التمسك باليوم ‪ .‬اليسمح بذلك‪،‬‬

‫ليس سه ً‬ ‫ال أن تخضع الحاضر‪،‬‬

‫أن تص ّر على السعادة أو أن تحتجزها‬ ‫ألجل اإلجراء المختزل‬

‫في منحها كلمات‪.‬‬

‫وال حين تداعب‬

‫صدغيك أو وجنتيك أو صدرك‬

‫ذكرى من اآلتي وأن تضاعفه‪.‬‬

‫ال تركضي خلف اليوم‪ .‬إن لم تتح َّرشي به‬ ‫يمكنه أن يضطجع مستسلم ًا‬

‫في حضنك لي ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫إشعار بريدي‬ ‫سيدقّ ون بابك في مساء ما‪.‬‬

‫وهو ما ترغب فيه بمنتهى االستعجال‪،‬‬

‫ولن يُع َرف من ذا الذي ترك‬

‫أن الضوء يالمس أطراف أصابعك‪،‬‬

‫جد قابلة لالنكسار‪ ،‬يقول ‪-‬على ظهرها‪ -‬وقد‬ ‫ّ‬

‫حينما يبدو‬

‫علبة على األرض ألجلك‪.‬‬

‫مصاصي الدماء‪:‬‬ ‫أنت اآلن بعيد عن ّ‬

‫بعثت بها باندورا‪.‬‬

‫أنت تحبين فقط لكي تكتبي عن ذلك‪،‬‬

‫بالد اإلغريق القديمة‪.‬‬

‫الطوبى‪ ،‬والفراغ‪ ،‬والذاكرة‪.‬‬

‫تضمه‬ ‫الفرح يطالب بإلحاح أن‬ ‫ّ‬

‫مأوى جبل في األوليمب‪.‬‬ ‫أجل‪ ،‬تبدو علبتها األخرى‪،‬‬ ‫‪91‬‬


‫العلبة الساحرة‪ ،‬المنسية‪،‬‬ ‫تلك التي لم يفتحها أحد‪،‬‬ ‫تلك التي تخفي الزمن في مخبأ‪،‬‬ ‫تلك التي ستعبر األساطير موفورة‪،‬‬ ‫تلك التي لم يكشفها قط األركيولوجيون القدامى‬ ‫جد ّية‬ ‫وال‬ ‫تقصاها الشعراء األكثر ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتي تأمل أين‬ ‫ستظهر على بابك‪ ،‬غير متوقَّعة‪.‬‬

‫تضم كمامة باندورا‪ ،‬وقد ّ‬ ‫فكت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سموم ًا قصد منحها للكلمات‬

‫التي اغتصبت العرش قرون ًا طويلة‪،‬‬

‫ومضة ال تلك‪،‬‬ ‫كلبية هرمس‪،‬‬

‫مقاليع لكسر سرابات‬

‫األشكال المؤذية للحب‬ ‫ٍ‬ ‫وكلمات مرتجة ونضرة‬

‫مستعدة أن تطأ مثل غزالن‬ ‫ّ‬

‫األلسنة المتغنغرة والالمجدية‪.‬‬

‫(شيء ما تبقّ ى في العمق‪ .‬ال تنظرإليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اعتن بباندورا‪ ،‬فهي النسيان)‬

‫وإن دقّ وا بابك في أي يوم‪،‬‬

‫إن حملوا رسالة من األقاصي‪،‬‬ ‫فانظر إلى عنوان المرسل‬ ‫ألن اآللهة أحيان ًا‪ ،‬نزويَّة‬

‫علب جديدة‪.‬‬ ‫تصح ُح العالم في ٍ‬ ‫ِّ‬

‫تعريف العناق‬ ‫السدادة‬ ‫ب المنزوع ُة‬ ‫سوف لن تخاف ال ِق َر ُ‬ ‫ُّ‬ ‫أليولوس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الرياح تتشابك خلف البحار‪،‬‬ ‫ُ‬

‫تجس نبض األمواج‬ ‫تسافر في العواصف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتو ِ ّرمة‪،‬‬ ‫تشعث شعر الرياضيين والنخيل‪.‬‬ ‫ّ‬

‫العناقات رياح مك َّثفة وحكيمة‪.‬‬ ‫األزيب‪ ،‬ونسيم‬ ‫ أنت ريحي‬‫ُ‬ ‫َص َب َ‬ ‫اي وشمألي‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫الشوارع المندكةَ‪،‬‬ ‫سوف لن تخاف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫التماوجات الشاهقة‪.‬‬ ‫الغابات المقتلعة‪،‬‬

‫السدادة‬ ‫سوف لن تخاف القرب المنزوعة‬ ‫ُّ‬ ‫أليولوس‪.‬‬

‫غالل‬ ‫َ‬ ‫غالل األيام‪،‬‬ ‫َج ِ ّم ْع‬

‫حبوبها وغبا َر طلعِها‪،‬‬

‫بياتِها عديمة الجدوى‪ ،‬لحاءاتها الم ّرة‪،‬‬ ‫ثما َر عِ َن َّ‬ ‫الس ْن ِ‬ ‫فات المج َّوفة‪،‬‬ ‫جذو َرها الضامرة‪ّ ِ ،‬‬ ‫جد ًا‪.‬‬ ‫ب المسك َر الناد َر ّ‬ ‫ال ُّل َّ‬

‫ضع الفاكهة‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫المربَّع ِة ِ‬ ‫العلب ُ‬ ‫المختارة التي تروق للذاكرة‪.‬‬

‫شاهدة قرب‬ ‫ت‬ ‫لو‬ ‫بشكل ما مِ ُّ‬ ‫ٍ‬

‫َح ٍل قاسية جد ًا‬ ‫ألني صادفت أزمنة م ْ‬

‫وإن كان البحر ينتظر في العمق فاتن ًا‪.‬‬

‫وصد ُ‬ ‫صد ُ‬ ‫قت البح َر‪.‬‬ ‫قت األساطي َر‬ ‫ّ‬ ‫قد ّ‬

‫أعجبتني غاربو وشجيرات ورد بايستوم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قد أحببت غريغوري ْ‬ ‫صيف‬ ‫ذات‬ ‫بيك َ‬

‫وأنا ّ‬ ‫أفضل إسترابون على ماركو أوريليو‪.‬‬ ‫أبديرة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫األرياف مع الفالة‬ ‫ولدت في‬ ‫قد‬ ‫عقيم‪.‬‬ ‫ومع بحرٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عباب مياهِ ِه وال رما ِلهِ‪.‬‬ ‫لم أمخر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال أستحقُّ‬ ‫امتالك مسقط رأسي‪.‬‬

‫ب–‬ ‫لكني من مسا ٍء لِمسا ٍء –حينما يس ُل ُبني ُ‬ ‫الح ُّ‬ ‫َّ‬ ‫تحت تلك الشمس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المخالب الصخرية‬ ‫أتذكر‬ ‫َ‬

‫وس َّر ُه‬ ‫هجمة الضوء ِ‬ ‫ٍ‬ ‫صمت ومن ٍ‬ ‫أوار‪ .‬وأستجدي لنفسي‬ ‫من‬ ‫ُ‬ ‫الشوق على َع َجل‪.‬‬ ‫أن ي َُب ِ ّر َح بي‬

‫في صقيع النسيان القاسي‪،‬‬ ‫أو بموت رسمي‪،‬‬

‫أىس الحورية‬ ‫ُ‬ ‫الحوريات‪ .‬كلمة حورية‪.‬‬ ‫حورية‪.‬‬

‫اقرأ لي مرة ثانية من فضلك هذه الحاشية‬ ‫و َأحرقْ ها معي‪.‬‬

‫كيف تتف َّت ُت‬

‫جادة وال حتى في اآلخر‪.‬‬ ‫الحياة لم تكن ّ‬ ‫يتم استيعاب‬ ‫ولن ي َّ‬ ‫ُتأخ َر كثير ًا لكي ّ‬

‫ِ‬ ‫الحوريات‪ ،‬قد َسمِ َع حورية‪.‬‬ ‫قد َسمِ َع‬

‫أن األمر يتع َّلق بمج ّرد لعبة‬ ‫لتأجيل الموت‪.‬‬

‫لم تكن حتى نهر ًا‬

‫ُ‬ ‫الكلمات المشرقة حامل ُة‬ ‫ِ‬ ‫بذرات األسطورة‪.‬‬

‫يبقى في المقاطع فقط‬ ‫ٍ‬ ‫إلنذار‬ ‫فظيع‬ ‫صدى‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫وجلبة الموت‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫نجمة ليلية ما‬

‫مكثت في األوراق‪.‬‬ ‫ْ‬

‫قد توقَّف الزمن‬ ‫أمام ضو ٍء‪،‬‬

‫َ‬ ‫أقايض دمي‬ ‫علي أن‬ ‫وسوف يجب‬ ‫َّ‬

‫ِّ‬ ‫األسطوري‬ ‫بالفضا ِء‬ ‫ل ُِحلم‪.‬‬

‫‪Eau De Parfum‬‬

‫أيكون دا ًء‬ ‫ُ‬

‫ماء العطر‬

‫قات ً‬ ‫ال داء اللغة؟‬

‫من الطفولة رائحة‬

‫تشامخ‬

‫الطحلب في السواقي‪ ،‬الطين‪ ،‬الموريات‬ ‫والعنف األقصى للتع ُّلم الذاتي‪.‬‬

‫الع َد ُم‪.‬‬ ‫في القمة‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بالكل‬ ‫نجازف‬ ‫لكننا‬

‫الممتدة‬ ‫للموجة األخيرة‬ ‫ّ‬

‫والفن‪.‬‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الح ِ ّ‬

‫بأنه لن تكون هنالك حوريات البحر‪.‬‬

‫قم ِة‬ ‫من أجل ّ‬

‫‪Tempo‬‬

‫وقت موسيقي‬

‫قد توق َ‬ ‫الزمن‪.‬‬ ‫َّف‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫عيني‪ :‬رغبت‬ ‫أغمضت‬ ‫َّ‬

‫التناغم‬ ‫في أن أحفظ هذا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وامتدت‬ ‫س‪،‬‬ ‫الذي ال ي َُم ُّ‬ ‫الغفوة في الفجر‬ ‫صن ٍ ّ‬ ‫هش‪.‬‬ ‫مثل ُغ ٍ‬ ‫‪94‬‬

‫من البحر اإلشارة األخيرة‬ ‫قبل أن تعود وتقنعنا‬

‫من الليل الغبشات الخفيفة‬

‫لعطر إيطالي‬

‫بعد‪ ،‬ما يزال مطابق ًا للموضة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من جسدك‪ ،‬نكهة‬

‫كتاب مغامرات‬

‫ُتعاد قراءته‪ ،‬لكن ‪-‬أيض ًا‪ -‬نكهة لشجيرات‬ ‫الدفلى‬

‫حزينة تحترق‪.‬‬

‫تشتم رائحة حياة محترقة‪.‬‬ ‫ّ‬


‫نصوص‬

‫العشوايئ‬ ‫أسامة الحدّاد‬

‫الرسوم‪-Marcel gromaire :‬فرنسا‬

‫ما الفائدة من جمع خالياه ثانية‪ ،‬وترتيب أعضاء جسده‬ ‫ظل ينتظره بقلق؟‬ ‫وفق سياقات تناسب سحابة تتابعه‪ ،‬أو ّ ً‬ ‫في غرفته تجلس أعوام على أريكة‪ ،‬وتلعب بعض األيام‬ ‫بعرائس بالستيكية‪ ،‬وأمام باب البيت ٍ‬ ‫ليال (في نوبة حراسة‬ ‫لفراغ)‪ ،‬وتكبر بين يديه أشباح تشبهه تماماً‪ ،‬تضع رتوش ًا‬ ‫على عاصفة تنام في فناء البيت‪.‬‬ ‫المفضلة‬ ‫هو العشوائي يركل ذاكرته‪ ،‬ويضع أغنياته‬ ‫ّ‬ ‫عراف يقرأ‬ ‫غسالة األطباق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫في ّ‬ ‫يتصور دائم ًا أن حديثه مع ّ‬ ‫عرض‬ ‫طالعه ليس سراً‪ ،‬ومشاجراته في الحافالت العامة ُت َ‬ ‫اآلن في دور السينما‪ ،‬والشجرة التي وضعها مقلوبة في بداية‬ ‫تخيل‬ ‫الشارع يسكن كراون مصاب بالصمم في جذورها‪ ،‬التي َّ‬ ‫صعودها في ظهيرة قاحلة لمرافقة قمر يعاني من التهاب‬ ‫ُش َعبه الهوائية‪.‬‬ ‫يحطم كل ليلة مصابيح الشارع كما رأى في‬ ‫إنه العشوائي ِّ‬ ‫أحالمه‪ ،‬ويحتفي بظلمة تقترب حثيث ًا إليه‪.‬‬ ‫نظارة ســوداء؛ إنه الغرائبي‬ ‫لم يكن انطوائياً‪ ،‬يرتدي ّ‬ ‫يفعل غير المتوقَّع‪ ،‬ويضع نظرية االحتماالت في سيارة‬ ‫سيء الطالع‬ ‫طائشة ويتركها على الحافّة؛ َذ َكر من قبل أنه ّ‬ ‫ملوثتان بعواصف وأصدقاء‪.‬‬ ‫يعيش خسارات تطارده؛ ويداه َّ‬ ‫في العشاء وجد رؤوس ـ ًا آدمية فوق أطباقه! ظل يصرخ‪:‬‬ ‫هنا أنبياء َف َسدة ومالئكة هاربون من سماء مزعجة‪ ،‬ورأى‬ ‫وتجول‬ ‫شجرة تتضاءل‪َ ،‬خ َّط بها حروف ًا على حائط كالح‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عما كتبه‪ ،‬ولم يجد اسمه في َجّبانة المدينة‪.‬‬ ‫في الحارات بحث ًا ّ‬ ‫وﻻ جسده في النعوش الخاوية‪.‬‬ ‫لونان باهتان‪ ،‬هما كل ما تبقّى لديه‪ ،‬يحمالن صورته‬ ‫بتناقضات لم تصنع إشكالية لديه؛ فقد استخدم قوس قزح‬ ‫في اصطياد سحابة‪ ،‬وترك القمر ينتحر على شاطئ النهر‪،‬‬ ‫ومضى ‪-‬كعادته‪ -‬يركل الفراغ‪ ،‬ويطعن صياح الديكة‪ ،‬في‬ ‫نهاية السهرة‪ ،‬بأغنية تقصف المنازل الصامتة‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫ِ‬ ‫الز َمـــن‬ ‫ظـــالل َ‬ ‫أسامة ريّان‬

‫تزحف الحافلة بنا‪ ،‬تغوص في بحر من الباعة‪ ،‬وبضائعهم‬ ‫تفترش الشارع‪ ..‬تتصاعد نداءاتهم وسباب عــادي لحافلة‬ ‫يرد عليهم السائق الشاب‪ ،‬بحنكة‬ ‫العكننة ومن يقودها‪ّ ..‬‬ ‫المعتاد‪ ،‬من ركن فمه المشغول بسيجارة‪ ..‬يثير ضحكات‬ ‫ّ‬ ‫تحف بالحافلة‪ ،‬بينما‬ ‫أليفة‪ ،‬وبحذر يرقب أجسامهم تكاد‬ ‫تنزلق بينهم كتنين عجوز تتصاعد أبخرته وضجيجه مع‬ ‫اتشبث‬ ‫الحارة الخانقة‪.‬‬ ‫حرارة األجسام في تلك العصرية‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫المحصل الذي ال‬ ‫زفرات‬ ‫ال‬ ‫بمكاني قرب الباب الخلفي متجاه‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫يكف عن الصياح في الوافدين الجدد ليواصلوا السعي إلى‬ ‫جحيم باطن الحافلة‪ ..‬تترقَّب عيناي لحظة انفالت الحافلة من‬ ‫زحام الميدان‪ ،‬فعندما تنزلق بنا يسارًا يظهر كشك عم كامل‪،‬‬ ‫العامر دائم ًا بالثمين من الكتب والروايات بين باقي أكشاك‬ ‫يستمر التباطؤ إلى‬ ‫سري أن‬ ‫ّ‬ ‫سور الكتب الكبير‪ ..‬أدعو في ّ‬ ‫تغير في‬ ‫أن تلتهم عيناي الجديد من العناوين‪ ،‬أو ألحظ ّ‬ ‫أي ُّ‬ ‫يستحق الهبوط الفوري من فوق ظهر التنين‪.‬‬ ‫صفوف الكتب‬ ‫ّ‬ ‫قال لنا عم كامل في معرض الكتاب إنه يسعى للحصول على‬ ‫طبعة شعبية للرواية الشهيرة قريباً‪..‬‬ ‫وحلّت أيام االمتحانات بحرارتها الخانقة في مطلع الصيف‪،‬‬ ‫بمجرد أن لمحت العنوان بالخط‬ ‫توتري من امتحان اليوم‬ ‫زال ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الرشيق لعم كامل على اللوحة أعلى صف الكتب األخير‪:‬‬ ‫بشرى بتوافر نسخ الــروايــة في طبعة شعبية رخيصة‪..‬‬ ‫يجلس عم كامل أسفل تلك الالفتة في جلبابه الصعيدي بلون‬ ‫القهوة باللبن‪ ،‬والعمامة البيضاء‪ ..‬تلمح السكينة في عينيه‬ ‫بجلوسه ّ‬ ‫تحف به أرواح هؤالء العظماء الكامنة في سطور‬ ‫كتبهم ومجلّداتهم التي تحيط به طوال اليوم‪.‬‬ ‫قفزت من الحافلة قبل أن تتسارع‪َ ..‬ه َّب عم كامل واقف ًا‬ ‫ُ‬ ‫يسب‪ ..‬قال لي معنِّفاً‪:‬‬ ‫مذعوراً‪ ،‬ثم جلس ثانية‪ ..‬يتمتم‪ ،‬ولعله ّ‬ ‫ِه ّي الدنيا طارت يا ابني‪! ..‬‬

‫أضاحك ُه‪:‬‬ ‫ال تخفى طيبة قلبه‪ ..‬قلت‬ ‫ُ‬

‫أل‪ ..‬دماغي أنا هي اللي طارت النهارده‪ .‬الحقني بنسختي‪.‬‬ ‫مددت يدي أسحب نسختي من الرواية‪ .‬تساؤل يمأل عينيه‪.‬‬ ‫أستطرد شارح ًا له‪:‬‬ ‫كنت مشغول طول اليوم في ضغط وتصوير الزمن!!!‬ ‫‪96‬‬

‫في بعينين ِ‬ ‫دهشتين ترقبان مجنوناً‪ ،‬أو كائن ًا‬ ‫حملق ّ‬ ‫أهم أسباب‬ ‫خرافياً‪َ ،‬مّد يده ليأخذ الرواية من يدي‪ ،‬وكأنها من ّ‬ ‫الجنون‪ .‬أبعدت يدي بالكتاب‪ ،‬ولم ّ‬ ‫أكف عن الضحك‪ ،‬قلت له‬ ‫وأنا أبتعد‪:‬‬ ‫يا عم كامل مش ده السبب‪ ..‬دي هي السبب (أشير إلى‬ ‫رأسي)‪ ،‬ويبقى لك عشرين قرش‪..‬‬ ‫بتحية سريعة غادرت السور وعم كامل‪.‬‬ ‫انحشرت في حافلة متباطئة أخرى إلى المنزل‪،‬‬ ‫سعيدًا‬ ‫ُ‬ ‫المحرك وضجيجه‪..‬‬ ‫حرارة‬ ‫من‬ ‫قريب‬ ‫قائم‬ ‫إلى‬ ‫أرتكن‬ ‫ِّ‬ ‫ُبهِتنا‪ ،‬وســاد الصمت القاعة‪ ،‬يصول ويجول أمامنا‪،‬‬ ‫تحوطه غاللة تاريخه الذي يحمل صفحات مثيرة مع أستاذه‬ ‫ِّ‬ ‫صاحب النسبية التي أربكت يقين العالم‪.‬‬

‫كتف ْي معطفه المعملي األبيض‬ ‫رأسه األصلع راسخ على َ‬ ‫الخشن‪ ،‬جيباه مليئان بالطباشير الذي يعتصره على السبورة‬ ‫في ِ‬ ‫صّر صريرًا يتوه في دهشتنا وخضوع‬ ‫ذات الــدوريــن‪َ ،‬‬ ‫نظراتنا!! لثالث ساعات نحبس أنفاسنا‪ .‬تبرق عيناه خلف‬ ‫معنى مقلق ًا للزمن‪ ،‬غريب ًا صادماً‪،‬‬ ‫بسط لنا‬ ‫العدسات بينما ُي ّ‬ ‫ً‬ ‫وظل‪ ،‬محفوظان في مكان ما‪ .‬نستسلم‬ ‫فلكل َحَد ٍث صورة‬ ‫ّ‬ ‫يمّل من تكرارها‬ ‫مبهورين مع ّ‬ ‫تصورات وحسابات مضنية‪ ،‬ال َ‬ ‫والحرية‪.‬‬ ‫يؤكد أنها السبيل الوحيد للمواكبة‬ ‫علينا بألفة‪ِّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مؤكدًا‬ ‫ّص‬ ‫ل‬ ‫يتق‬ ‫بل‬ ‫د‪،‬‬ ‫د‬ ‫يتم‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫الزمن‬ ‫أن‬ ‫أدركنا على يديه‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫التغير‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫أتــســاءل فــي نفسي عــن تــمـ ُّـدد اليومين القادمين حتى‬ ‫ارتجت الحافلة عند هذه الخاطرة‪ ،‬فأحكمت قبضتي‬ ‫االمتحان‪ّ ..‬‬ ‫تماسكت بصعوبة أتعجل زمن عودتي‬ ‫والرواية‪،‬‬ ‫على أوراقي‬ ‫ُ‬ ‫إلى المنزل‪ .‬ليته يتقلَّص اآلن‪ .‬راعتني نظرات الرجل ضخم‬ ‫مسوح غريبة تعود بعيدًا إلى الوراء على غالف‬ ‫الجثة في‬ ‫ٍ‬ ‫الرسام نظرات تنضح كراهية بينما‬ ‫الرواية‪ ،‬أضفى عليها ّ‬ ‫فلحين متضائلين في ركن‬ ‫جموع‬ ‫يشير بإصبع ضخم إلى‬ ‫ّ‬ ‫الغالف في مالبس رثّة تبرز عظامهم من مزقاتها‪ ،‬وصندوق‬ ‫يشع منها بريق‬ ‫نذور‬ ‫يتوسط الغالف بفتحة غطاء فاغرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذهبي لجنيهات كثيرة‪ .‬تلك النظرات المريعة كانت الدعوة‬ ‫لتصفُّح ورقات البداية‪ ،‬تلك التي زلزلت العالم في الصحف‬


‫والــمــجـّـات‪ .‬وجدتني على رأس شارعنا‪ ..‬تقلَّص الزمن‬ ‫في الحافلة في أثناء حديث ضخم الجثة مع اإلقطاعي قبل‬ ‫العشاء الباذخ‪ ..‬أصابني ذهول‪ ،‬ومالت الشمس إلى الغروب‬ ‫أحيي أمي وجارتها في جلسة القهوة‪.‬‬ ‫وأنا أطرق الباب‪ّ ،‬‬ ‫أخفقت في امتحان اليوم‪ ،‬عيناها نفّاذتان‬ ‫رج َح ْت أمي أنني‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حنونتان‪ ،‬تركت لي صينية الطعام‪ ،‬قالت بهدوء‪« :‬شّد حيلك‬ ‫تل الكتب أمامي‪،‬‬ ‫في االمتحان الجاي‪ »..‬لمحت الرواية على ّ‬ ‫تؤكد لجارتنا‬ ‫علي باب غرفتي‪ .‬أسمعها ِّ‬ ‫إلي‪َ ،‬‬ ‫أغلق ْت ّ‬ ‫نظرت ّ‬ ‫أنني قد ركبني عفريت منذ التحقت بالجامعة‪.‬‬ ‫كانت خطتي هي مواصلة السعي مع األفكار ومحاضرات‬ ‫دونتها معه‪ ،‬وحتى المواجهة مع الزمن‪،‬‬ ‫أستاذي الكبير كما ّ‬ ‫في ورقة االمتحان بعد يومين‪ .‬اقتحم غليظ القلب الخطة‪..‬‬ ‫ومعه وسواس خنّاس‪ِ ،‬‬ ‫تمدد الزمن‬ ‫يوعز‪ ،‬بال هــوادة‪ ،‬أن ُّ‬ ‫يسمح بتصفُّح عدد آخر من الصفحات‪ ،‬على األقل‪ ،‬الستكشاف‬ ‫خطط غليظ القلب والبدن هذا في َس ْو ِق هؤالء البؤساء إلى‬ ‫مساء‪ ،‬مرورًا‬ ‫المزارع نهاراً‪ ،‬ثم تهديدهم بالويل إذاعصوه‬ ‫ً‬ ‫بطن بالوعيد إذا لم‬ ‫بصندوق نــذور يستنفذهم مع وعظ ُم ّ‬ ‫يسميه زمن الفضائل‪..‬‬ ‫يعودوا معه بالطاعة إلى الزمن األول‪ّ ،‬‬

‫ٍ‬ ‫عشاء‬ ‫يفرح له اإلقطاعي اللزج‪ ،‬يشرب معه األنخاب في‬ ‫العصاة أمام الباقين في‬ ‫باذخ‪ ،‬يتفقان في أثنائه على َجْلِد ُ‬ ‫طريقهم إلى الحقول صباحاً‪ .‬عند «صباحاً» تلك انتبهت!! بزغ‬ ‫الفجر‪ .‬تتبّدى خيوطه من النافذة مع لسعة باردة لطيفة‪ .‬لم‬ ‫أنتبه لتوقُّف البرنامج الموسيقي منذ ساعتين‪ .‬الراديو صامت‬ ‫إلى جواري‪ .‬غافلني الزمن وتقلَّص‪ ،‬طويت صفحات الرواية‬ ‫دونت فيها‬ ‫ألوقف تقلُّصه وأبدأ مسيرتي مع دفاتر رصده التي ّ‬

‫ٍ‬ ‫كدهر‪ ..‬غمرني بالملل‪،‬‬ ‫لساعة تباطأ فيها‬ ‫ِحَيَله وقياساته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الحب التي ازدهرت في ظلمة القرية‬ ‫فتركيزي كله معلَّق ّ‬ ‫بقصة ّ‬ ‫المقهورة‪ ،‬فعلى رأس العصاة في القرية‪ ،‬ذلك الشاب الذي‬ ‫أوعز ألهله من الفالحين البسطاء بالمطالبة بحقوقهم‪ ..‬يعود‬ ‫من المدينة في إجازة الجامعة‪ ..‬يفرحون بلقائه‪ ،‬ويتبعه‬ ‫شباب الفالحين ِ‬ ‫الحرية‬ ‫كظلّه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يتبسط في حديثه معهم عن ّ‬ ‫التي تجتاح العالم‪ ،‬فال وقت للعودة بالزمن إلى الخلف‪ ،‬سخر‬ ‫من تبرعاتهم لصندوق النذور وهم ال يجدون قوت يومهم‪.‬‬ ‫أمه على حياته‪ ،‬تبكي عند خروجه للقاء حبيبته في‬ ‫تخشى ّ‬ ‫الحقول عند الغروب‪ ..‬تجمع قطيع أسرتها‪ ،‬يعلم الجميع أنها‬ ‫زوجة المستقبل‪ .‬تلك الليلة ُو ِجد غليظ القلب في مسوحه‪،‬‬ ‫محصن بكتابه ذي الغالف الجلدي تحت إبطه‪ ،‬يقف‬ ‫وهو‬ ‫ّ‬ ‫بين رجاله في مسوحهم يحيطون بالفتاة‪ ..‬تبكي َفِزعة بينما‬ ‫االتهامات للشاب‪ ،‬وألبيها الذي اصطحبوه باعتبارهم‬ ‫يكيلون ِّ‬ ‫الخلق القويم‪ .‬يرتجف الرجل حائراً! مواجهة بين غليظ‬ ‫ُحماة ُ‬ ‫ِ‬ ‫يبتزهم بحَيل للعودة بالزمن إلى‬ ‫المتعصب‪ ،‬وهو‬ ‫القلب‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الحجة الذي‬ ‫قوي‬ ‫الشاب‬ ‫وبين‬ ‫الفضيلة‪،‬‬ ‫زمن‬ ‫يه‬ ‫يسم‬ ‫الخلف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أربك غليظ القلب ورجاله أمام الحشد‪ .‬بعبارة بسيطة وبهدوء‬ ‫قال الشاب‪« :‬مهما أوغلت في كذبك‪ ،‬كل زمن يصنع رجاله‪،‬‬ ‫والتغير ٍ‬ ‫آت برغم أنوف الجميع‪.».‬‬ ‫ُّ‬ ‫وجدتني قد تركت دفاتر الزمن‪ ،‬منذ زمن‪ .‬تلتهم عيناي‬ ‫سطور الرواية‪ .‬انتهيت منها مع دخول أمي بصينية اإلفطار‬ ‫إلي وإلى الرواية أمامي‪ ..‬ألهث جالس ًا‬ ‫والوقت ضحى‪ .‬تنظر ّ‬ ‫مضاء‪ .‬أطفَأته‪ ،‬فهربت ظاللهم‬ ‫المصباح‬ ‫تر َكتني‪ ،‬ومازال‬ ‫ً‬ ‫حيث َ‬ ‫تتخفّى ما بين السطور‪ُ ..‬تعِلّق باستسالم يخفي الغضب‪:‬‬ ‫«الوقت فيه بركة‪ ..‬يعني دلوقتي نبتدي نستعد!!»‪.‬‬ ‫‪97‬‬


‫كتب‬

‫«العريب» يستعيد كرامته‬ ‫موناليزا فريحة‬ ‫بدا الكاتب الجزائري كمــال داود مصيب ًا‬ ‫فــي اختيــار موضــوع باكورتــه الروائيــة‬ ‫ـاد»(دار أكــت ســود‬ ‫«ميرســو‪ :‬تحقيــق مضـ ّ‬ ‫ باريــس)‪ ،‬فيكفــي أن نلفظ اســم ميرســو‬‫لنتذكــر بطــل روايــة «الغريــب» للكاتــب‬ ‫َّ‬ ‫الفرنســي ‪ -‬الجزائــري ألبيــر كامــو‪.‬‬ ‫فكــرة الروايــة بديعــة حقاً‪.‬بعــد مــرور‬ ‫نحــو ‪ 72‬عامــ ًا علــى صــدور روايــة‬ ‫«الغريــب»(‪ ،)1942‬خطــر فــي بــال الكاتب‬ ‫داود أن يعــود إليهــا‪ ،‬بحثـ ًا عــن «العربــي»‬ ‫الذي قتله ميرسو مطِلق ًا عليه الرصاص ذات‬ ‫نهار على الشاطئ‪ .‬هذا العربي‬ ‫الــذي ظــل مجهــو ًال فــي رواية‬ ‫كامــو أيقظــه داود مــن نومــه‬ ‫أو موتــه‪ ،‬وأطلــق عليه اســم‬ ‫موســى‪ ،‬وأوجــد لــه شــقيق ًا‬ ‫سـّـماه هــارون‪ ،‬وألقــى عليــه‬ ‫مهمة الســرد بوصفــه الراوي‬ ‫ّ‬ ‫الــذي تــدور الروايــة وأحداثها‬ ‫أو وقائعهــا علــى لســانه‪.‬‬ ‫يتولّى هارون الســرد إذاً‪،‬‬ ‫هــو الــذي كبــر فــي الســن‪،‬‬ ‫ويشــرع فــي روايــة قصــة‬ ‫شقيقه أو الحادثة التي وقعت‬ ‫في صيف العام ‪ 1942‬على شاطئ قريب من‬ ‫الجزائــر العاصمة عنــد الثانية بعــد الظهر‪،‬‬ ‫وأودت بشــقيقه موســى بعدما اطلق عليه‬ ‫ميرســو «الفرنســي» ‪-‬بـ«اســتهتار كبيــر»‪-‬‬ ‫رصاصــات مسدســه‪ .‬وكان عليــه ‪-‬كمــا‬ ‫يتحمــل جنــون أمــه المجروحــة‬ ‫يزعــم‪ -‬أن‬ ‫َّ‬ ‫بفقــدان ابنهــا طــوال عقديــن‪ .‬ثــم يكشــف‬ ‫كيــف انتقــم ألخيــه‪ ،‬فــي اليــوم الثانــي مــن‬ ‫استقالل الجزائر عام ‪ ،1962‬وقتل فرنسي ًا‬ ‫فــي مدينــة حجــوط‪ ،‬وهــي المدينــة التــي‬ ‫دفنــت فيهــا والــدة القاتــل ميرســو‪.‬‬ ‫كتــب الناقــد الفرنســي أوريــان جانكــور‬ ‫غالينيانــي مقــا ًال فــي مجلــة «ترانســفوج»‬ ‫الفرنســية (العدد ‪ )97‬أعرب فيه عن وجهة‬ ‫مهمة تمثِّل رؤية فرنسية إلى التقاطع‬ ‫نظر ّ‬ ‫بين فرنسا والجزائر على هذا الصعيد ‪ ،‬فهو‬ ‫‪98‬‬

‫يقــول‪« :‬قــام الكاتــب الجزائــري كمــال داود‬ ‫المنسية في‬ ‫بتغيير نظرتنا وإحياء الذكرى‬ ‫ّ‬ ‫كتاب ألبير كامو‪ .‬وســاهم كتاب (ميرسو‪:‬‬ ‫ـاد) المبهــر والثائــر فــي إعــادة‬ ‫تحقيــق مضـ ّ‬ ‫ـي النســيان فــي‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ذه‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ظ‬ ‫الكرامــة إلــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحر الجزائر‪ .‬أهو مبالغ فيــه؟ نعم‪ ،‬عندما‬ ‫شخصي ًة‬ ‫يشــكل كامو‬ ‫أي درجة ّ‬ ‫ندرك إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫معقّــدة بالنســبة إلــى الجزائرييــن‪ ،‬وهــو‬ ‫محصــن مــن االنتقــاد بالنســبة إلــى‬ ‫كاتــب َّ‬ ‫الفرنسيين»‪.‬‬ ‫أمــا مــن ناحيــة القاســم المشــترك بيــن‬ ‫الروايتيــن‪ ،‬فهــو أنهــا جاهرت‬ ‫بضمهــا بضعــة مقاطــع مــن‬ ‫ّ‬ ‫«الغريب»‪ ،‬فمــا يلفــت االنتباه‬ ‫هــو اســتهالل داود روايتــه‬ ‫بطريقــة مماثلــة ومناقضــة‬ ‫فــي آن واحد الســتهالل كامو‪:‬‬ ‫«اليــوم‪ ،‬أمــي مــا زالــت َحّيــة‪.‬‬ ‫هــي لــم تعــد تقــول شــيئاً‪،‬‬ ‫لكنهــا تســتطيع أن تــروي‬ ‫أمــورًا كثيــرة»‪ .‬األم َحّيــة هنــا‬ ‫وميتــة هنــاك‪ .‬إنهــا المفارقــة‬ ‫ّ‬ ‫التــي تنطلق منهــا رواية داود‬ ‫لتفتــح أفقها الســردي‪ ،‬ثــم تواصــل لعبتها‬ ‫ــل هــارون‪ ،‬بعــد قتلــه‬ ‫االنقالبيــة‪ .‬وإذا َمُث َ‬ ‫الفرنســي‪ ،‬أمــام ضابــط الشــرطة الــذي‬ ‫فيوبخه‬ ‫يرتفع بالقرب منه العلم الجزائري ِّ‬ ‫علــى مــا قــام بــه‪ ،‬فــإن ميرســو َيْمُثــل أمام‬ ‫لكــن القاضــي ال‬ ‫القاضــي فــي المحكمــة‪ّ ،‬‬ ‫يلومــه علــى جريمتــه بقــدر مــا يلومــه على‬ ‫قلة إحساسه‪ ،‬ال ســيما بعدما اكتشف لديه‬ ‫شخصيته العبثية ومواقفه العدمية مدرك ًا‬ ‫ا عبثيــ ًا‬ ‫أن قتلــه للعربــي لــم يكــن إال فعــ ً‬ ‫ومجانيــاً‪ .‬وجــاء حكــم المحكمــة قاســياً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إذ حكمــت علــى ميرســو باإلعــدام‪.‬‬ ‫ولم تغب ‪-‬أيضاً‪ -‬رواية كامو الشــهيرة‬ ‫ــو روايــة داود‬ ‫«الســقوط»(‪ )1956‬عــن َج ّ‬ ‫يتوجــه ‪-‬أيضــاً‪ -‬إلــى متحــّدث‬ ‫فالكاتــب‬ ‫َّ‬ ‫يتذكر في لحظات وحدته‪،‬‬ ‫فهارون‬ ‫مجهول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو يتناول المشروب في إحدى الحانات‪،‬‬

‫ـوم وفــاة شــقيقه ومــا تــاه مــن أحــداث‬ ‫يـ َ‬ ‫صغيــرة وكبيــرة‪ .‬وبــدت صــورة شــقيقه‬ ‫محفورة حفرًا في وجدانــه كما في ذاكرته‪،‬‬ ‫ولــم يكــن عليــه ّإل أن يشــرع فــي تحقيقــه‬ ‫المضاد‪ ،‬بحسب ما يوحي عنوان‬ ‫الخاص أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروايــة‪ ،‬مســتنتج ًا فرضيــات عــدة‪ ،‬ومنها‬ ‫علــى ســبيل المثــل‪ -‬إمــكان أن تكــون هــذه‬‫قص ًة ذات حافز «نسائي»‪.‬‬ ‫الجريمة العبثية ّ‬ ‫ومــن الفرضيــات األخــرى أيض ـ ًا إمــكان أن‬ ‫تكون والدة ميرســو هي والدتــه الحقيقية‪.‬‬ ‫ها هــو العربــي الــذي أراده كامــو نكرة‬ ‫بــا اســم وال قضيــة‪ ،‬يظهر شــخص ًا باسـٍـم‬ ‫وعائلة وتاريــخ‪ .‬ولطالمــا أثار قــرار كامو‬ ‫هــذا حفيظــة الكثيــر مــن الجزائرييــن حتــى‬ ‫يحبون أدبه‪ .‬كان إظهاره للشخصية‬ ‫الذين ّ‬ ‫ا‬ ‫الجزائريــة بهــذه الصــورة المخزيــة فعــ ً‬ ‫قاســي ًا بحق اإلنســان الجزائــري‪ ،‬علم ـ ًا أن‬ ‫كامــو كان جزائري ـ ًا أكثــر ممــا كان فرنســي ًا‬ ‫تعبــر كتبــه وهــواه الجزائــري‪ .‬أمــا‬ ‫كمــا ِّ‬ ‫ارتــكاب الــراوي‪ ،‬أي هــارون‪ ،‬جريمتــه‬ ‫يــدل‬ ‫ُب َعْيــد إعــان اســتقالل الجزائــر فهــو ّ‬ ‫علــى االنتقــام الفــردي أو الشــخصي مــن‬ ‫القاتــل الفرنســي ميرســو‪ ،‬وعلــى االنتقــام‬ ‫العام أو الجماعي من االســتعمار الفرنسي‬ ‫والمستعمرين‪ .‬ولئن كانت رواية «الغريب»‬ ‫رواية «شمســية» كما وصفها الناقد روالن‬ ‫بــارت‪ ،‬فروايــة «ميرســو‪ :‬تحقيــق مضــاد»‬ ‫هي رواية الظالل التي عاش بينها الراوي‬ ‫هــارون‪ ،‬مســتعيدًا قصــة شــقيقه وقصــة‬ ‫الجزائــر‪ .‬ومهمــا بــدا الكاتــب صريح ـ ًا فــي‬ ‫محاكمــة روايــة «الغريــب» فهو بــدا ‪-‬أيضاً‪-‬‬ ‫ـب إلــى ألبير‬ ‫صريحـ ًا فــي توجيــه تحيــة ُحـ ّ‬ ‫كامــو وفلســفته وجزائريتــه‪ ،‬وإلــى عالمــه‬ ‫الروائــي البديــع ولغتــه الرائعــة‪ .‬ولــم َيْبـُـد‬ ‫ا عن كامــو وال عــن اللغة‬ ‫داود غريبـ ًا أصـ ً‬ ‫الفرنســية لغــة «الماضــي االســتعماري»‪،‬‬ ‫ولمــاح‪ ،‬ال‬ ‫فهــو كاتــب ذو أســلوب واضــح ّ‬ ‫إفاضة فيــه وال تهــاون‪ .‬أمــا لغتــه فهي في‬ ‫ومعقــدة‬ ‫التوتــر الخـّـاق‪ ،‬ســهلة‬ ‫حــال مــن‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫فــي آن واحــد‪ ،‬كثيفــة ومتماســكة‪.‬‬


‫االقرتاب من ِس ْحر الليايل‬ ‫سامية أبو زيد‬ ‫«حكايــة لــو كتبــت باإلبــر علــى آمــاق‬ ‫البصــر لكانــت عبــرة لمــن يعتبــر»!‬ ‫حســناً! فلتكــن الكتابــة حفــرًا علــى‬ ‫آمــاق األبصــار‪ ،‬فلتكــن طريقــ ًا لعمــاء‬ ‫يعمــق الرؤيــة!‬ ‫ِّ‬ ‫بهذا المفتتح توعدت منصورة عزالدين‬ ‫القارئ‪ ،‬فأخذته في تيه تتمنى أال تخرج‬ ‫منــه أبــداً‪ ،‬وذلــك عبــر فصــول روايتهــا‬ ‫«جبــل الزمـ ُّـرد»‪( ،‬دار التنويــر‪ ،‬القاهــرة‪،‬‬ ‫والمقسمة من الداخل إلى عناوين‬ ‫‪)2014‬‬ ‫َّ‬ ‫دال وثيق‬ ‫حيث استهلّت كل فصل بمفتتح ّ‬ ‫الصلة بالســرد الوارد فــي كل فصل‪.‬‬ ‫وتبــدأ الروايــة بفصــل يحمــل عنوان ـ ًا‬ ‫شديد الداللة وهو «غبار الطريق» فيوحي‬ ‫بالتعب وبالترحال وبالخطى التي ُكِتبت‬ ‫علينــا‪ .‬وقبــل أن تلــج فــي الفصــل األول‬ ‫تعطيــك النتيجــة النهائيــة مــن خــال‬ ‫«لســت لــي‪..‬‬ ‫المفتتــح الــذي كتبــت فيــه‬ ‫ُ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـض‪،‬‬ ‫أنــا منــذورة لشــيء غامـ‬ ‫ّ‬ ‫والتوحــد بمصيري»‪.‬‬ ‫المضي قدم ًا‬ ‫ســوى‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫فتنبئنــا بهــذا المفتتــح بــأن بســتان البحر‬ ‫المضي‬ ‫ومن معها ُم َس َّيرون‪ ،‬وإن اختاروا‬ ‫ّ‬ ‫فــي الطريــق‪.‬‬ ‫التأهــب قبــل‬ ‫بحســن‬ ‫الروايــة‬ ‫تتميــز‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫تطــل علينــا ثقافــة‬ ‫البــدء بالكتابــة‪ ،‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫واطالعها على أساطير‬ ‫الكاتبة الواســعة ّ‬ ‫المتنوعة‬ ‫ونسخها‬ ‫بل‬ ‫الشعوب وأصولها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫والمتعددة فتســتحضرها ببساطة‪ ،‬وهي‬ ‫ِّ‬ ‫تمهــد لنفســها خلــق أســطورتها‬ ‫بذلــك ِّ‬ ‫ودســها‬ ‫الخاصــة وهــي «جبــل‬ ‫الزمــرد» ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي الليالــي‪ ،‬والتــي تــكاد تكــون صــورة‬ ‫معكوســة ألســاطير العهــد القديــم فيمــا‬ ‫يتعلّق بالخروج والتيه واألفعى‪ ،‬ومادتها‬ ‫الخــام فــي ذلــك (الليالــي‪ ،‬والمهابهارتا‪،‬‬ ‫والشــاهنامة)‪ ،‬وغيرهــا‪ ،‬ولكــن تبقــى‬ ‫الليالــي هــي المّتــكأ الــذي تســتند إليــه‬ ‫روايتهــا‪.‬‬ ‫وعلــى الرغم مــن كــون الروايــة تحمل‬ ‫الزمرد ليس‬ ‫الزمرد» إال أن جبل ّ‬ ‫اسم «جبل ّ‬ ‫هــو البطــل الوحيــد للعمــل‪ ،‬بــل ينافســه‬

‫في األهميــة والحضور جبــل المغناطيس‬ ‫إلى جانــب جبال أخــرى‪ ،‬ويكفــي أن نقرأ‬ ‫مفتتح «مدينــة ُمَبلَّلة بالمطــر» الذي تقول‬ ‫فيــه «األســمى مــن الجبــال فكــرة الجبال؛‬ ‫أن ترمــق العالــم مــن عـ ٍ‬ ‫ـل‪ ،‬أن تصيــر أنت‬ ‫الجبل‪ ،‬وهــو أنــت!» ليصلك إحســاس أن‬ ‫معنية بســيرة الجبــال أوالً‪.‬‬ ‫الكاتبة ّ‬ ‫اتسمت الرواية بالتقاطعات والتداخالت‬ ‫والتماثــات أو التشــابهات بيــن األحــداث‬ ‫والشــخصيات واألماكن فيما يشبه دوائر‬ ‫الفيــض المغناطيــس‪ ،‬وهي بذلــك منحت‬ ‫أهميته من خالل الفعل‬ ‫جبل المغناطيسي ّ‬ ‫الزمرد هو الحلم والهدف‬ ‫والتأثير‪ ،‬فجبل ّ‬ ‫المنشود‪ ،‬أما جبل المغناطيس فهو الواقع‬ ‫الفاعل والمؤثِّر في األحداث‪.‬‬ ‫تتقاطــع الشــخصيات وتتــوازى مثــل‬ ‫«ن ْورســين» وأبيهــا و«بســتان» وأبيهــا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ونجــد أن كال األبوين قد لعــب دور المعلم‬ ‫البنتــه «المنــذورة»‪ ،‬أو المتشـ ِّـرد أخضــر‬ ‫العينين‪،‬وبلوقيــا‪ ،‬ولكــن هــذا القــدر مــن‬ ‫الوعــي والقصدية فــي الكتابة لــم يجعلها‬ ‫تخلــو مــن مظاهــر الجمــال والمحســنات‬ ‫البديعيــة مثــل قولهــا «فيشــرد خيالهــا في‬ ‫بحــر مــن آللــئ تخطــف البصــر‪ .‬تحفــظ‬ ‫الشــعر»‪.‬‬ ‫ال تتخّلــى الكاتبة عــن الرمــوز والربط‬ ‫بين ما هو واقعي وما هو خيالي بصورة‬ ‫تفســر الظواهــر الخارقــة تفســيرًا‬ ‫تــكاد ِّ‬

‫موضوعيـ ًا يســتند إلى أصل مــن الواقع‪،‬‬ ‫أي موجز تعريف األسطورة‪ ،‬فنجد توازي ًا‬ ‫بيــن جبل الحيــاة الموجــود في المكســيك‬ ‫الزمرد‪ ،‬بل‬ ‫والذي زارته هدير وبين جبل ّ‬ ‫يكاد الظن أن يبلــغ بالقارئ َح ـّد االعتقاد‬ ‫ـو بالخضــرة هــو‬ ‫أن جبــل الحيــاة المكسـ ّ‬ ‫الزمــرد‪ ،‬أو أن يربــط بيــن‬ ‫نفســه جبــل‬ ‫ّ‬ ‫األحجــار الفضيــة الالمعــة التــي تســلب‬ ‫العقــل فــي جبــل المغناطيــس والمسـّـماة‬ ‫(حجر الجنــون) وبين المرايا التي تســلب‬ ‫التطلــع إليهــا‪ .‬ومعلــوم‬ ‫العقــل مــع طــول‬ ‫ُّ‬ ‫ـي مــن‬ ‫ـ‬ ‫مطل‬ ‫ـاج‬ ‫ـ‬ ‫زج‬ ‫إال‬ ‫ـي‬ ‫أن المرايــا مــا هـ‬ ‫ّ‬ ‫أحــد وجهيــه بطبقــة فضيــة عاكســة‪ .‬وقد‬ ‫تكرر ظهــور المرآة في أكثــر من موضع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فتارة هــي هديــة بلوقيــا لزمــردة‪ ،‬وتارة‬ ‫أم هديــر‪ ،‬كمــا ورد‬ ‫هــي معشــوقة ناديــة ّ‬ ‫فــي فصــل «الغــرق فــي المــرآة»‪.‬‬ ‫ال تكتفــي الكاتبــة بخلــق أســطورة‬ ‫موازيــة لجبــل الهيــكل وهــي أســطورة‬ ‫جبل قاف‪ ،‬بل تخلق أسطورتين أخريين‬ ‫موازيتيــن أللــف ليلــة‪ ،‬ولخــروج آدم من‬ ‫الجنــة‪ ،‬فنجد الراعــي زوج «مــروج» التي‬ ‫خانته وهجرته‪ ،‬ينتظرها لثالث سنوات‬ ‫أي ما يزيد على األلف ليلة لينتحر بعدها‪،‬‬ ‫وهو عكس ما فعله شهريار‪ ،‬كما نجد أن‬ ‫الحيات قــد خلَّص جبل قاف من‬ ‫قتل ملكة ّ‬ ‫عزلته فوجب على أهله التيه‪ ،‬فكأن ملكة‬ ‫الحيــات هــي الصــورة العكســية إلبليــس‬ ‫ّ‬ ‫والتي قام كل مــن «نورســين» و«بلوقيا»‬ ‫بتخليــص الجبل مــن قبضتها‪.‬‬ ‫الزمــرد»‬ ‫«جبــل‬ ‫قــد يظــن القــارئ أن‬ ‫ُّ‬ ‫هــو بالفعــل الحكايــة الناقصــة مــن كتــاب‬ ‫الليالــي‪ ،‬ولكن منصــورة عزالديــن تركت‬ ‫لنــا عالمــة ال تخطئهــا العيــن فــي التوكيد‬ ‫على انفرادها بهذه األســطورة‪ ،‬فقد خلت‬ ‫الرواية من العفاريــت التي تحفل بها ألف‬ ‫ليلــة‪ ،‬فلم يــرد ذكــر عفريــت واحــد بطول‬ ‫الروايــة الواقعــة فــي مئتيــن وعشــرين‬ ‫صفحــة تقريب ـاً‪ ،‬ومــع ذلــك لــم يفارقنــا‬ ‫ســحر األســطورة في أي مــن صفحاتها!!‬ ‫‪99‬‬


‫عن مجتمع رأسمايل جشع‬ ‫صدوق نورالدين‬ ‫المؤكد أن التجربة الروائية في‬ ‫بات من‬ ‫َّ‬ ‫فرنسا‪ ،‬ومن خالل المنجز المتحقِّق‪ ،‬تسهم‬ ‫دال ســواء على‬ ‫في تحقيــق تراكم نوعــي ّ‬ ‫الم َع َّبر‬ ‫مستوى الصوغ الجمالي‪ ،‬أو المادة ُ‬ ‫عنها‪ ..‬ويبرز هذا أساس ـ ًا فــي تجارب كل‬ ‫مــن‪ :‬إميلــي نوثــوب‪ ،‬مارتــن بــاج‪ ،‬إريك‬ ‫إمانويــل شــميت‪ ،‬إضافــة إلــى غريغــوار‬ ‫مؤخــراً‪ -‬روايته‬ ‫دوالكــور الــذي ُت ِ‬ ‫رجمــت‪َّ -‬‬ ‫المترجم معن‬ ‫« الئحــة رغباتــي» مــن ِقَبــل‬ ‫ِ‬ ‫عاقل‪.‬‬ ‫تطرح الرواية سؤا ًال عميق ًا عن العالقة‬ ‫التــي تربــط بيــن القــارئ والروايــة؛ إذ‬ ‫اختِتــم بإضافــة‬ ‫المالحــظ أن هــذا النــص ُ‬ ‫«ملحــق» الغايــة منــه شــرح إشــكاالت‬ ‫وتفســيرها‪ ،‬إشــكاالت قــد يكــون النــص‬ ‫اختــار التعتيــم عليهــا‪ .‬واألصــل أن متعة‬ ‫تتأسس من البياضات‬ ‫قراءة هذه الرواية َّ‬ ‫التلقائية أو القصدية التــي جنح الروائي‬ ‫إلى تركها مفتوحة على التأويل المحدود‬ ‫أو واســع اآلفــاق‪ .‬فالروائي‪ -‬حــال تقديم‬ ‫ـم اإلجابــة عــن‬ ‫المفاتيــح كاملــة‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬ ‫المتخيــل طرحهــا‪ -‬يعمــل علــى‬ ‫األســئلة‬ ‫َّ‬ ‫إغــاق بــاب االجتهــاد علــى مســتوى‬ ‫القــراءة والتأويــل‪ .‬وكأنــه يقصــي نباهة‬ ‫القارئ في الفهم والتأويل‪« :‬السؤال الذي‬ ‫طرحتــه أغلــب األحيــان علــى نفســي هو‪:‬‬ ‫تصرفت ألصــل إلى هــذه النقطة في‬ ‫كيــف َّ‬ ‫الكتــاب‪ ،‬وألغــدو أكثــر قربـ ًا مــن النســاء‪،‬‬ ‫وألفهمهــن علــى أحســن وجــه؟ ســبق أن‬ ‫أجبــت‪ :‬إنــه الحنيــن‪.».‬‬ ‫أول مــا يســتوقف قــارئ الروايــة‪،‬‬ ‫التوزيع المتمثّل في اإليقاعات الروائية؛‬ ‫إذ عمــد الروائــي إلــى تمتيــن البنــاء بـــ‬ ‫«وقفة»‪ ،‬تمثَّلت في اإلحالة التنويعية على‬ ‫والمجســدة في الالئحات‬ ‫عنوان الرواية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫المذكــورة فيهــا‪( :‬الئحــة احتياجاتــي‪،‬‬ ‫الئحة رغباتي‪،‬الئحة حماقاتي‪ ،‬الئحتي‬ ‫األخيــرة)‪.‬‬ ‫فهــذه الالئحات‪ ،‬بقدر ما كشــفت درجة‬ ‫الحلــم‪َ ،‬ج َّســدت االنكســار الــذي اختزلتــه‬ ‫‪100‬‬

‫الجملــة المفتاح‪/‬بدايــة الروايــة‪« :‬يكــذب‬ ‫النــاس علــى أنفســهم دوم ـاً‪.».‬‬ ‫فــإذا كان الكــذب يرتبــط بالحلــم‬ ‫والحــب‪ ،‬فإنــه طريــق االنكســار؛ إذ إن‬ ‫ّ‬ ‫الــزوج «جوســلن» يفقــد ثقــة زوجتــه‬ ‫«جوســلين» (وهنــا نالحــظ‬ ‫التماهــي بيــن االســمين)‬ ‫باللجــوء إلــى التزويــر فــي‬ ‫االســم‪ .‬وكأن المــال مفتــاح‬ ‫ـب‪ ،‬وهــو الفهم الســاذج‬ ‫الحـ ّ‬ ‫متأخرًا‬ ‫الــذي أدركــه الــزوج ِّ‬ ‫عنــد استشــهاده بمــا كتبتــه‬ ‫الروائية الفرنسية «فرنسواز‬ ‫«الحب‪ ،‬هو الفهم‬ ‫ساغان»‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫األخــص»‪ ،‬وذلــك فــي‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬ ‫متأخــر عــن‬ ‫ـذار‬ ‫ـ‬ ‫اعت‬ ‫ـالة‬ ‫ـ‬ ‫رس‬ ‫ِّ‬ ‫فعل طائش يكشــف صورة‬ ‫عن الكــذب‪ ...« :‬يفتقر الرجــال كثيرًا إلى‬ ‫الخيــال‪.».‬‬ ‫ليســت هــذه الروايــة روايــة متعــة‬ ‫وحســب‪ ،‬بــل هــي الروايــة القائمــة علــى‬ ‫صنعــة الكتابــة‪ ،‬كمــا علــى مرجعيــات‬ ‫المنتــج فــي‬ ‫توظــف خدمــة للمعنــى‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ـان أدبية‪،‬فنية‪،‬ســينمائية‬ ‫النص مــن معـ ٍ‬ ‫وتشــكيلية‪ .‬والالفــت أنهــا انبثّــت وفــق‬ ‫شروحات ضافية‪ ،‬وكأن الغائب عن فقر‬ ‫يتم اســتحضاره‪ -‬أساس ـاً‪-‬‬ ‫ثقافة التلقّي ّ‬ ‫لإلضــاءة وتعميــق المعنــى‪.‬‬ ‫بيــد أن بالغــة اإلبــداع الروائــي فــي‬ ‫يجســده الصــوت‬ ‫هــذه الروايــة بالــذات‪ِّ ،‬‬ ‫األنثــوي «جوســلين» الــذي اســتطاع‬ ‫تقمصــه والحلــول‬ ‫«غريغــوار دوالكــور» ُّ‬ ‫أدق المواصفــات االجتماعيــة‬ ‫فيــه وفــق ّ‬ ‫تتفــرد بهــا‬ ‫التــي‬ ‫والجنســية‬ ‫والنفســية‬ ‫َّ‬ ‫شــخصية المرأة‪« :‬أعــرف الجمــال الفريد‬ ‫تحت مالبســي‪ .‬لكــن «جو» لــم يــره َق ّط»‪.‬‬ ‫يتحــّدد مفهــوم الكتابــة الروائيــة‪-‬‬ ‫تأسيس ًا على السابق‪ ،‬ومن خالله الملحق‬ ‫الشــارح‪ -‬فــي الحنيــن؛ فالروايــة بمثابــة‬ ‫الحنين لما َتّم فقدانه وضياعه‪ .‬إذ المعنى‬

‫تجسده على‬ ‫الروائي يولد‪َّ ،‬‬ ‫ويتخذ شــكل ُّ‬ ‫البياض‪ ،‬بغاية تمثُّل الغائب واستحضاره‬ ‫كزمــن مســتعاد ينبــض حيــاة فــي دقّــة‬ ‫تفاصيلــه الغنيــة؛ لذلــك اعتبــر غريغوار‬ ‫نص‬ ‫دوالكور‪ ،‬في الملحق‪َّ ،‬‬ ‫روايتــه كتابــة حنيــن إلــى‬ ‫األم‪« :‬كتبت هذا الكتاب ألني‬ ‫أحن إلى أمــي‪ ...‬كانت أمي‬ ‫ّ‬ ‫تحــاول أن تجــاري ســرعة‬ ‫تغير مقاس جسدي‪ ،‬وكنت‬ ‫ُّ‬ ‫أعــرف أن هــذه المالبــس‬ ‫تســاعدها وتواســيها‪ .‬وفــي‬ ‫مــا بعــد‪ ،‬عندمــا رحلــت بعــد‬ ‫ســنوات‪ ،‬تمنّيــت بقاءهــا‪.‬‬ ‫أحــن إلــى كلماتهــا‬ ‫كنــت‬ ‫ّ‬ ‫ونظرتهــا إلــى األشــياء‬ ‫أيض ـاً‪ ،‬إلــى فرحهــا وحزنهــا‪ ،‬فاختلقــت‬ ‫جوســلين غربيــت‪ ،‬وخــال كتابــة هــذه‬ ‫تقمصت شخصيتها‪ ،‬وأصبحت‬ ‫الرواية‪ّ ،‬‬ ‫أنــا هــي‪ ،‬فحلمــت بهــا منــذ اللحظــة التــي‬ ‫تقرر فيها حياتها أخيراً‪،‬‬ ‫صار بوسعها أن ِّ‬ ‫وســعيت إلــى نســج عالقتنــا المفقــودة‪،‬‬ ‫وغــدت بائعــة حانــوت أدوات خياطة‪.».‬‬ ‫المالحظ أن الكتابة الروائية في «الئحة‬ ‫َ‬ ‫رغباتي» تنهض على وعي الكتابة‪ ،‬وكأن‬ ‫قصة ثانية‪.‬‬ ‫المؤلِّف يكتب قصة من داخل ّ‬ ‫ويمكــن القــول إن هــذه الروايــة تعكــس‬ ‫صورة عن مجتمع جشــع للمال‪ ،‬إذ وفي‬ ‫ســبيل الوصول إليه يتـّـم تحطيم أواصر‬ ‫األســرة‪ ،‬كمــا الســعادة التــي َتـّـم إدراكهــا‬ ‫والوصــول إليهــا‪ ،‬والتــي ال يمكــن‪ -‬علــى‬ ‫اإلطــاق‪ -‬التفكيــر فــي العــودة إليهــا‪،‬‬ ‫خاصة‪ ،‬أن ذلك يقتضي ويستلزم جهودًا‬ ‫ضافيــة إلدراكــه‪ ،‬وعلم ـ ًا بــأن التقـ ُّـدم في‬ ‫ـن‪ ،‬ليــس هــو‪ -‬بالــذات‪ -‬العــودة إلــى‬ ‫السـ ّ‬ ‫مرحلــة الطفولة أو الشــباب‪.‬‬


‫ازدواجية الصدمة واأللم‬ ‫جهاد الرنتييس‬ ‫تغلب على أعمال الروائي إســماعيل فهد‬ ‫إسماعيل نزعة مفارقة سطحية السرد‪ ،‬منذ‬ ‫السطور األولى لرواياته‪ ،‬وتفكيك التفاصيل‬ ‫الملتبسة بتقنيات ال تخلو من مخاتلة الخيال‬ ‫للواقع‪ ،‬من غير التفريط بأطراف خيوطه‪،‬‬ ‫التوتــر‪،‬‬ ‫وإبقــاء قارئــه فــي أقصــى حــاالت‬ ‫ُّ‬ ‫ليلتقــط الفكــرة مــن دون عنــاء‪ .‬وال تبتعــد‬ ‫روايته األخيرة «طيور التاجي» (منشورات‬ ‫ضفاف‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬بيروت) عن‬ ‫هويته اإلبداعية‪،‬‬ ‫المعمار الفني‪ ،‬الذي ّ‬ ‫شكل ّ‬ ‫وترك أثرًا في أجيــال من الروائيين العرب‪،‬‬ ‫على مدى ما يقارب ستة عقود‪ ،‬منذ صدور‬ ‫روايته األولــى «البقعة الداكنة»‪.‬‬ ‫يغرف إسماعيل‪ ،‬في روايته الجديدة‪ ،‬من‬ ‫منعطف مطلع تســعينيات القــرن الماضي‪،‬‬ ‫الــذي اّتســعت صدمتــه‪ ،‬ليتجــاوز التداعيات‬ ‫السياسية‪ ،‬الحتالل حامي البوابة الشرقية‪،‬‬ ‫بلــدًا صغيــرًا يجــاوره‪ ،‬ويحفــر عميق ـ ًا فــي‬ ‫بنية الوعــي‪ ،‬محـّددًا بعض مســاراته‪ ،‬التي‬ ‫لتمــر بأحداث الربيع‬ ‫بقيت آفاقها مفتوحة‪ّ ،‬‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫أرقــت الكويتيين‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قضي‬ ‫الرواية‬ ‫ـاول‬ ‫تتنـ‬ ‫َّ‬ ‫ســنوات‪ ،‬بعد تحريــر بلدهم‪ ،‬وبقيــت جرح ًا‬ ‫يتحسســه أكثــر مــن جيــل الحــق‪ ،‬ألجيــال‬ ‫َّ‬ ‫«األسرى» الذين َت َّم اقتيادهم‪ ،‬إثر مشاركتهم‬ ‫فــي أعمــال مقاومــة‪ ،‬عــاد بعضهــم‪ ،‬وبقــي‬ ‫األخــرون فــي المجهــول‪ ،‬تنتظرهــم أمهــات‬ ‫وزوجــات وأطفــال‪ ،‬ويترقبون العــودة إلى‬ ‫حياتهــم اليوميــة‪.‬‬ ‫كان األســرى حاضــرون‪ ،‬فــي روايــات‬ ‫إســماعيل فهــد إســماعيل‪ ،‬التــي تلــت صدمة‬ ‫احتــال بلــده وتحريرهــا‪ ،‬إال أن الروايــة‬ ‫األخيــرة‪ ،‬أخــذت أبعــادًا جديــدة فــي طرحها‬ ‫للقضيــة‪.‬‬ ‫فقــد اســتحضر إســماعيل عوالــم جديدة‪،‬‬ ‫مع انتقالــه باألحــداث إلى معتقــات النظام‬ ‫العراقــي الســابق «ســجن بوغريــب» الــذي‬ ‫ُأ ِ‬ ‫ودعــت فيه أعــداد مــن األســرى الكويتيين‪،‬‬ ‫تحولوا مع غيرهم من جنســيات أخرى إلى‬ ‫ّ‬ ‫رهائــن‪ ،‬لــدى توزيعهــم بعــد ســنوات علــى‬

‫معسكرات للجيش في المثلث السني‪ ،‬قريبة‬ ‫من العاصمة‪ ،‬كمعسكر «التاجي» الذي تحمل‬ ‫الرواية اسمه‪ ،‬وتدور فيه معظم أحداثها‪.‬‬ ‫بمخيلــة خصبــة‪،‬‬ ‫اســتعان الروائــي‬ ‫ِّ‬ ‫لمتابعــة تطـ ّـورات حــرب تحريــر الكويــت‪،‬‬ ‫وانتفاضة الجنوب العراقي‪ ،‬بعين «األسير‬ ‫سجانيه‪،‬‬ ‫الرهينة» الذي‬ ‫َّ‬ ‫يتصيد المعلومة من ّ‬ ‫ويتعامــل معهــا بشـ ّ‬ ‫ـك‪ ،‬وهــو يحــاول إنارة‬ ‫مآالت المصير الذي سينتهي إليه‪ ،‬لتضيف‬ ‫زاويــة النظــر الجديــدة بعــدًا مختلفــ ًا عــن‬ ‫األبعــاد التقليديــة للشــهادات والروايــات‬ ‫التي تناولت الحــدث وتداعياتــه‪ ،‬من زوايا‬ ‫ُكّتــاب كويتييــن وعراقييــن وعــرب‪ ،‬أقاموا‬ ‫في الكويت والعــراق‪ ،‬على مدى زمنييفوق‬ ‫ـوالت‪.‬‬ ‫عقــدًا مــن التحـ ُّ‬ ‫واستفاد الروائي من الزمن الفاصل‪ ،‬بين‬ ‫احتالل الكويت واإلطاحة بالنظام العراقي‬ ‫السابق‪ ،‬ليفترض سيناريو موت الرهائن‪،‬‬ ‫الذين اســتغرق تســليم الكويتيين بموتهم‪،‬‬ ‫والتعايش مع فقدان األمل بعودتهم بضعة‬ ‫سنوات أعقبت رحيل نظام صدام‬ ‫ـول إلــى‬ ‫حســين‪ ،‬وشــهدت التحـ ُّ‬ ‫البحــث عــن رفــات بعــد فقــدان‬ ‫األمل فــي العثور علــى األحياء‪.‬‬ ‫حضــور العــراق وناســه‪،‬‬ ‫تجــاوز حــدود الســجون‬ ‫والمعســكرات وأماكن االحتجاز‬ ‫المفترضــة‪ ،‬ليمضــي بعيــدًا فــي‬ ‫معانــاة أجيــال مــن العراقييــن‪:‬‬ ‫خوفهــم‪ ،‬قلقهم مــن المســتقبل‪،‬‬ ‫أمزجتهــم‪ ،‬تفاصيــل ذاكرتهــم‪،‬‬ ‫لتأخــذ الروايــة منحــى يمكــن‬ ‫توصيفه بـ«ازدواجيــات األلم»‪.‬‬ ‫بعــض جوانــب ازدواجيــة األلــم تظهــر‬ ‫فــي تزامن الحصــار الدولي المفــروض على‬ ‫العــراق مــع احتــال الكويــت‪ ،‬ثــم اســتمرار‬ ‫حصار العراق‪ ،‬مع احتفاظ النظام العراقي‬ ‫برهائــن كويتيين‪.‬‬ ‫وفي معســكر «التاجــي»‪ ،‬حيــث الرهائن‬ ‫الكويتييــن‪ ،‬تأخــذ ازدواجيــة األلــم منحــى‬

‫أكثــر عمق ـاً‪ ،‬حيــث يتشــابه وجــود ضابــط‬ ‫المخابرات العراقي أيمن المعني باإلشراف‬ ‫عليهــم‪ ،‬مــع ظــروف ارتهانهــم فــي بعــض‬ ‫جوانبها‪ ،‬مما أغــرى الروائي للقيام ببعض‬ ‫المقارنات‪ ،‬والبحث عن الفوارق قبل اعتقال‬ ‫الضابــط ونقله إلــى أحــد األقبية‪.‬‬ ‫تمتــّد هــذه االزدواجيــة إلــى المشــاعر‬ ‫المضطربــة التــي تظهــر فــي عالقــة الرهينة‬ ‫جعفر الـ«بدون جنســية» مع زمالئه الثالثة‬ ‫وســجانه‪ ،‬قبل أن يفضل المــوت بينهم عن‬ ‫الذهاب إلى طبيب‪ ،‬لمداواة معدته المصابة‬ ‫بالقرحة‪ .‬وتظهر أيضـ ًا في االمتداد العائلي‬ ‫للرهينــة غالــب‪ ،‬بيــن الكويــت والعــراق‪،‬‬ ‫وزوجتــه العراقيــة التــي ُقِتلــت وجنيَنهــا‬ ‫برصــاص عراقــي‪ ،‬قبــل وصولهــا إلــى‬ ‫مستشــفي الــوالدة‪ ،‬فجــر اليــوم األول مــن‬ ‫احتــال الكويــت‪.‬‬ ‫تصــل االزداوجيــات الضابطــة إليقــاع‬ ‫الروايــة إلــى نهايتهــا بقتــل الرهائــن‬ ‫وعــودة المــازم أيمــن إلــى‬ ‫حبيبتــه‪ ،‬بعــد فــرار والــده‬ ‫القريب مــن حلقــات النظام‬ ‫الضيقة‪ ،‬خوف ًا من تداعيات‬ ‫ســقوطه‪ ،‬لترتبــط قتامــة‬ ‫المــوت وخاتمــة االنتظــار‬ ‫العــّد‬ ‫المأســاوية بقــرب َ‬ ‫التنازلــي للتغييــر‪.‬‬ ‫تضمنت فصول الرواية‬ ‫ّ‬ ‫إشــارات إلــى الفكــرة التــي‬ ‫تتمتــع بحيويــة تخليــق‬ ‫األحداث‪ ،‬سوداوية كافكا‪،‬‬ ‫وكابــوس كونســتانتان جورجيــو المّتصــل‬ ‫في ظل نظــام شــمولي ذي قبضــة حديدية‪،‬‬ ‫ليعيــد الروائــي‪ ،‬إلى األذهــان‪ ،‬عبــارة قالها‬ ‫فــي أحــد لقاءاتــه‪ ،‬عــن حلمــه بالنــص الــذي‬ ‫األمة‪ ،‬وينتهي برواية صادمة‬ ‫يخدش ضمير ّ‬ ‫تتــرك قارئهــا عرضــة لألســئلة الباحثة عن‬ ‫إجابــات‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫ديوان الطرائف املعارصة‬ ‫عارف حمزة‬ ‫يأتي كتاب «المستطرف الليلكي» (دار‬ ‫نون‪ ،‬اإلمارات) كجزء ثالث من موسوعة‬ ‫ـوري الســاخر‬ ‫ـاص السـ ّ‬ ‫يشــتغل عليهــا القـ ّ‬ ‫خطيب بدلة تحت عنوان «ديوان الطرائف‬ ‫المعاصــرة»‪ .‬فقــد ســبق لبدلــة أن أصــدر‬ ‫كتابيــن‪« :‬المســتطرف األزرق في حلب»‪،‬‬ ‫و«المستطرف األخضر»‪.‬‬ ‫«أدبيــاً»‬ ‫ا‬ ‫عمــ‬ ‫ليــس‬ ‫جمــع الطرائــف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حديثاً؛ فقد ســبق ألســماء كثيــرة وكبيرة‬ ‫عالمي التدوين واألدب‪ ،‬أن عملت على‬ ‫في َ‬ ‫جمــع طرائــف عصرهــا فــي كتــب ضخمــة‬ ‫ومتنوعة‪ ،‬ومن تلك األسماء التي جمعت‬ ‫ّ‬ ‫األبشيهي (‪1388‬‬ ‫واشـــتهر‬ ‫برز‪،‬‬ ‫الطرائف‬ ‫ّ‬ ‫– ‪ ،)1448‬وابن الجوزي (‪،)1201 – 1116‬‬ ‫وأبــو فــرج األصفهانــي (‪،)967 – 897‬‬ ‫حيــان‬ ‫والجاحــظ (‪ ،)868 – 772‬وأبــو ّ‬ ‫التوحيــدي (‪ .)1023 – 922‬بينمــا فــي‬ ‫المفكــر الراحــل‬ ‫ـوريا اشــتغل علــى ذك ّ‬ ‫سـ ّ‬ ‫بو علي ياسين (‪ ،)2000 – 1942‬وسبقه‬ ‫الحلبــي الكبيــر خيــر‬ ‫إلــى ذلــك العالمــة‬ ‫ّ‬ ‫األســدي (‪ .)1971 – 1900‬الــذي‬ ‫الديــن‬ ‫ّ‬ ‫منعــت دوائــر الرقابة‪ ،‬فــي زمنــه‪ ،‬الكثير‬ ‫مــن الطرائــف التــي جمعهــا وكتبهــا مــن‬ ‫الظهــور فــي كتابــه الفريــد «موســوعة‬ ‫حلــب المقارنــة»‪ ،‬لكنــه اســتطاع نشــرها‬ ‫«الفــوات»‪.‬‬ ‫بعــد ذلــك فــي كتابــه َ‬ ‫يختلــف الجــزء الثالــث عــن الجزئيــن‬ ‫القاص إيــاد جميل‬ ‫الســابقين‪ ،‬إذ يشــارك‬ ‫ُّ‬ ‫محفوظ‪ ،‬الساخر بدلة في الكتاب الجديد‪.‬‬ ‫خاصــة‪ ،‬إذ إن‬ ‫األمــر الــذي أضــاف نكهــة ّ‬ ‫عيــش محفــوظ خــارج ســوريا لفتــرات‬ ‫أدى إلى مواقــف وطرائف أخرى‬ ‫طويلة‪ّ ،‬‬ ‫تختلــف عــن الطرائــف التــي جمعهــا بدلــة‬ ‫ـوري‪.‬‬ ‫مــن بيئــة المجتمــع السـ ّ‬ ‫وأكثر ما اشتغل عليه الكاتبان خطيب‬ ‫بدلــة وإياد جميــل محفوظ‪ ،‬هــو الطرائف‬ ‫بشــخصيات‬ ‫السياســية التــي تتعلّــق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومواقف وأحداث الحكومات والمسؤولين‬ ‫والمنظمات التابعــة لحزب البعث العربي‬ ‫‪102‬‬

‫ـتراكي الحاكــم في ســوريا‪ .‬وهــذا ما‬ ‫اإلشـ ّ‬ ‫ورد في عناوين كثيرة من عناوين أقسام‬ ‫جمعية‬ ‫الكتاب مثل‪ :‬أنظمة ظريفة طريفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬سياســة المعــاق‬ ‫التنميــة‬ ‫ّ‬ ‫الكبير‪ ،‬حراك سياســي‪ ،‬جذور الخوف‪،‬‬ ‫تطــاول علــى الــذات الرئاسـّـية‪ ،‬شــجون‬ ‫حكوميــة‪ ،‬الشـّـبيح األكبــر‪ ،‬فــرع واحــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قــرار حكومــي‪ ،‬حلــف الهزائــم‪ ،‬صمــود‬ ‫الداخليــة‪ .‬النفاق‪.‬‬ ‫الجبهــة‬ ‫ّ‬ ‫السياسية المذكورة ال تذهب‬ ‫الطرائف‬ ‫ّ‬ ‫نحو تأليــف النكتة السياسـّـية‪ ،‬أو النكتة‬ ‫التــي تطــال أحــد الرمــوز الكبار فــي حقل‬ ‫ّية فحســب‪ ،‬بل تذهب إلى‬ ‫السياسة المحلّ‬ ‫تدوين المواقــف الطريفــة التي وقــع فيها‬ ‫أولئك المســؤولون خــال تأديــة عملهم‪.‬‬ ‫ـخصيات‬ ‫وهــذا مــا ُيظهــر فســاد تلــك الشـ ّ‬ ‫والتعليمي‪،‬‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫وانخفاض مستواها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والقانوني‪،‬‬ ‫الوطني‪،‬‬ ‫والوظيفي‪ ،‬وكذلك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي التعامــل مــع األشــخاص أو القضايــا‬ ‫أو حتــى الحكومــات‪ .‬وتذهــب كذلــك إلــى‬ ‫تدوين الطرائف التي وقعت لخبراء أجانب‬ ‫تعاقــدت معهــم الحكومــات الفاســدة فــي‬ ‫كمدرب منتخب سوريا لكرة القدم‬ ‫البالد‪ِّ ،‬‬ ‫علــى ســبيل المثال‪.‬‬ ‫حكوميــة» يكتــب بدلة‪:‬‬ ‫ففــي «شــجون‬ ‫ّ‬ ‫«تأسست منظمة طالئع البعث في سوريا‬ ‫ّ‬ ‫تربوية تهدف‬ ‫ســنة ‪ ،1974‬وهي منظمة‬ ‫ّ‬ ‫إلــى تعليــم الجيــل الصاعــد (فــي المرحلة‬

‫ـب األب القائــد‪ ،‬واإلخالص‬ ‫االبتدائيــة) حـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية‬ ‫للقيادات‬ ‫والوالء‬ ‫البعث‪،‬‬ ‫لحزب‬ ‫ّ‬ ‫التــي جــاد بهــا الزمــان مـّـرة‪ ،‬وال يمكن له‬ ‫أن يجــود بمثلها مـّـرة أخرى!‪.‬‬ ‫ُعِّيــن الرفيــق أحمــد أبــو موســى‪ ،‬منــذ‬ ‫أبدي ًا لها‪،‬‬ ‫لحظة تأســيس المنظمة‪ ،‬قائدًا ّ‬ ‫ـتمر فــي قيادتهــا حتى يــوم وفاته‬ ‫وقد اسـ ّ‬ ‫(‪ 24‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ .)2009‬والسبب في‬ ‫ـت‬ ‫بقائــه األبـ ّ‬ ‫ـدي هــو معرفتــه أّنــه «إذا كنـ َ‬ ‫أن الجهــة التــي‬ ‫المعرفــة‪،‬‬ ‫حــق‬ ‫تعــرف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َع َّينتــك فــي هــذا المنصــب‪ ،‬لقــادرة‪ ،‬متــى‬ ‫وتعيــن اآلذن‬ ‫شــاءت‪ ،‬أن تزيحــك عنــه‪ّ ،‬‬ ‫(الفـّـراش‪ ..‬المســؤول عن تنظيــف مكتبك‬ ‫وتقديــم المشــروبات الســاخنة لضيوفك)‬ ‫مكانك‪ ،‬فأنت ستبقى في هذا المكان حتى‬ ‫أحس‪ ،‬وال من درى!»‪.‬‬ ‫تموت فيه‪ ،‬وال من ّ‬ ‫وفي الوقت الذي قد تكون اللغة في بعض‬ ‫األحيــان فقيــرة فــي ســخريتها‪ ،‬وتتكـّـرر‬ ‫فيهــا القليــل مــن األوصــاف والمواقــف‪،‬‬ ‫إال أن العمــل ‪-‬بمجملــه‪ُ -‬ي َعــّد حاذقــ ًا فــي‬ ‫اكتشاف دواخل األمور وعرضها بطريقة‬ ‫توســع بذلــك جمهورها الذي‬ ‫مبســطة كي ّ‬ ‫ّ‬ ‫قــد يقــرأ هــذا الكتاب‪.‬‬ ‫يبــدو أن األحــداث التــي تجــري فــي‬ ‫سوريا قد جعلت هذا الكتاب يّتجه لفضح‬ ‫ممارســات تســلّط الســلطة والحكومــة‬ ‫ـورية فــي أزمنــة مختلفة‪.‬‬ ‫والقوانيــن السـ ّ‬ ‫مخصص ًا‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫الكتاب‬ ‫أو يمكــن القــول إن‬ ‫ّ‬ ‫السياسية‪ ،‬رغم أنّه يحوي‬ ‫أكثر للطرائف‬ ‫ّ‬ ‫تخــص‬ ‫التــي‬ ‫األخــرى‬ ‫الطرائــف‬ ‫بعــض‬ ‫ّ‬ ‫عاديــة مــن الشــعب؛ كمــا فــي‬ ‫ـخصيات ّ‬ ‫شـ ّ‬ ‫الجــزء األخيــر مــن قســم «حلــف الهزائم»‪.‬‬ ‫ـاص‬ ‫بــدا مــن الواضــح ّ‬ ‫أن مشــاركة القـ ّ‬ ‫مما كتبه‬ ‫«إيــاد جميل محفــوظ» ّ‬ ‫كميــة ّ‬ ‫أقل ّ‬ ‫القاص الساخر خطيب بدلة‪ ،‬وبدت لغته‬ ‫أن هــذه الســاحة‬ ‫أقــل حـّدة وســخرية‪ ،‬إال ّ‬ ‫الفقيــرة‪ ،‬فــي جمــع الطرائــف وتدوينهــا‪،‬‬ ‫تكــون بذلــك قــد اكتســبت صوت ـ ًا جديــداً‪،‬‬ ‫يتأخــر نضجهــا ومنجزها‪.‬‬ ‫نتمّنــى ّأل ّ‬


‫نصوص أشبه بطلقة البارود‬ ‫أسامة حبيش‬ ‫مؤخراً‪ -‬كتاب «حركات الوردة»‬ ‫صدر‪َّ -‬‬ ‫(دار زينب‪ ،‬القاهرة) للشــاعر عبــد الفتاح‬ ‫بن حمودة‪ .‬هو كتاب التجديف في مناطق‬ ‫القصيــة جــداً‪ ،‬وصرخــات وردة‬ ‫الكتابــة‬ ‫ّ‬ ‫الشــعر التــي ال تكـ ّ‬ ‫ـف عــن اإلبــداع‪ ،‬وهــو‬ ‫كتاب الذات والسيرة الذاتية لجيل كامل‪،‬‬ ‫مطولــة تهــدف إلــى هــدم‬ ‫وي َعــّد شــهادة ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحــدود الفاصلــة بيــن ســراديب الكتابــة‬ ‫السـّـرية‪ .‬وهو أيض ًا تجســيد َح ّي لمأســاة‬ ‫ضيــاع جيــل شــعري كامــل‪ ،‬كأنــه بيــان‬ ‫يهــدم وثوقيــة الكتابــة البيانيــة‪ ،‬ويقيــم‬ ‫في المغامرة وفي حرارة التجربة وحيوية‬ ‫الطمــوح‪.‬‬ ‫ـوده كتابه‬ ‫ـ‬ ‫حم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـاح‬ ‫ـ‬ ‫الفت‬ ‫عبد‬ ‫ـتهل‬ ‫يسـ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بمقطعيــن شــعريين األول لإلســباني‬ ‫فرانسســكو بيرنــس «الطريــق ملــيء‬ ‫بالورود‪ ،‬وال تدوس إال العتمة العارية‪..‬‬ ‫تدخل البيت‪ ،‬تقفل الباب‪ :‬ال أحد ينتظرك‬ ‫وال تنتظر أبداً» والثاني للشاعر السويدي‬ ‫غونارإيكلوف‪« :‬هكذا كلمت نفسي‪ :‬الشاعر‬ ‫الوحيــد الذي أصغــي إليه‪ ،‬هو مــن يحمل‬ ‫متوترتيــن‪ ،‬إنــاء مليئــ ًا‬ ‫بحــذر‪ ،‬وبيديــن‬ ‫ِّ‬ ‫بالــدم‪.»...‬‬ ‫هذه الجروح واآلثام هي مدخل حركات‬ ‫الوردة‪ ،‬تلــك الوردة ‪ /‬الشــعر التــي ُي َعّد‬ ‫حملهــا‪ -‬فــي َحــّد ذاتــه‪ -‬ذنبــاً‪« :‬لــم أكــن‬ ‫نبياً‪ ،‬بل كنــت غصن ًا بــا ذاكرة أو ســماء‬ ‫مشروخة بالعصافير‪ ،‬سنوات مختلفة وأنا‬ ‫أجمع أثمــار هــذه الــوردة بعنــاء بهيج‪...‬‬ ‫كنت أكتــب وأمحو‪ ،‬حتى صــارت الكتابة‬ ‫محوًا انتزاع ًا لذاكرة خاصة‪ ،‬يدور زمنها‬ ‫فوضوي ًا دون كلل»‪.‬‬ ‫يصبح هذا البحث عن صوت الذات في‬ ‫داخــل كل منــا – وخصوصـ ًا عنــد المبدع‪-‬‬ ‫يتطلــب الصمــود والقدرة‬ ‫ا‬ ‫َّ‬ ‫بالفعــل‪ ،‬كاهـ ً‬ ‫وســط منــاخ قــد يســتهلكك أو يبتلعــك؛‬ ‫لــذا فالكتابــة هــي الخــاص وهي الــوردة‬

‫المشتهاة «اللعنة ثم اللعنة على الشعراء‬ ‫والرســامين والفنّانين‬ ‫والكّتــاب والنّقــاد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫جميعــاً‪ ،‬المتاجريــن بأحــزان القدامــى‪،‬‬ ‫الغارقيــن فــي الشــوارع بــا عصافيــر أو‬ ‫مياه أو أرض أو سماء أو وردة أو بحر‪،‬‬ ‫الغارقيــن بــا أمطــار‪ ،‬لهــم رمــاد ووحــل‬ ‫ال يضــيء»‪.‬‬ ‫كتاب «حــركات الوردة» أشــبه بكتاب‬ ‫«ذاكرة النسيان» لمحمود درويش‪ ،‬فهي‬ ‫حــركات تغوص فــي النثر والســرد بخفّة‬ ‫ســابحة هنا وهناك بين شــطوط اليأس‬ ‫واألمل‪ ،‬حركات الرغبة والكتابة ورؤية‬ ‫العالــم والفلســفة «كنــت شــاعرًا بســيط ًا‬ ‫أســقط فــي حفــرة الضــوء الصغيــرة‬ ‫حالمــا أراهــا‪َ ،‬مـ َّـرت جبــال لــم أكــن أعلــم‬ ‫هل َأ ْجـ َـرت دمي أم دمــاء الســفن‪ ،‬ثم عاد‬ ‫الحطام األخير إلى ســاحلي‪ ...‬تساقطت‬ ‫مهمــة كتابــة‬ ‫الشــمس قطعــة قطعــة فــي ّ‬ ‫النــص الشــعري وفــق أنســاق‬ ‫أخرى‪ ،‬سقطت في المتعة‪،‬‬ ‫فــي المتاهــة الجميلــة»‪،‬‬ ‫وينتقــل عبــد الفتــاح بــن‬ ‫حمــودة إلى مــا انتهــت إليه‬ ‫ويقــدم رؤيتــه‬ ‫الحداثــة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫للكتابــة ولفكرتهــا‪ ،‬ويقـ ِّـدم‬ ‫التمــرد عليهــا‬ ‫رغبتــه فــي‬ ‫ُّ‬ ‫وعلــى ماهــو ســائد‪ ،‬إنــه‬ ‫يبحث عن الكتابة المغايرة‬ ‫دائماً‪.‬وفي نصوص صغيرة‬ ‫يقدم‬ ‫أشــبه بطلقة البــارود ِّ‬ ‫تنويعــات للكتابــة ســواء مــن‬ ‫حيث كتابة األرض باألسماك أو كتابتها‬ ‫باألطفــال أو كتابتهــا مــن خــال كتابــة‬ ‫القــرون القادمــة «يــا أيتهــا الشــمس‪ ،‬يــا‬ ‫شمس الصباحات البعيدة فوق الضباب‪،‬‬ ‫كوني بسيطة جدًا وال تقتلي أطفالي‪....‬‬ ‫الكتابــة عــدم انتهــاء الليــل وعــدم انتهــاء‬

‫النهار‪ ...‬الوردة فجــر وكل جديد في يدي‬ ‫هــو قديــم‪ .....‬األبديــة‪ ،‬الجبال‪،‬أوهــام‬ ‫الحداثــة‪ ،‬الشــمس‪ ،‬الــوردة‪ ،‬المعجــم‬ ‫الطبيعــي فــي الصباحــات وآنيــة الزهــر‬ ‫وأجــراس الــوردة هــي القــوى الوحيــدة‬ ‫تحركنا‪ .....‬كل شــيء ينذر بالموت‬ ‫التي ِّ‬ ‫طالمــا كانــت الــوردة بال جمــال غريــب‪...‬‬ ‫الموت ليــس خدعة ألنــه ليس فــي حاجة‬ ‫إلى الحيــاة‪ .....‬القلــق أن أذهب بالوردة‬ ‫وحيدْيــن»‪.‬‬ ‫إلــى آخــر الليــل‬ ‫َ‬ ‫يقدم الكاتب إشــراقات الــوردة الثالث‬ ‫ِّ‬ ‫األولى إلى الناقد «محمد لطفي اليوسفي»‬ ‫وهــي إشــراقات تنـّـم عــن مغــزى فلســفي‬ ‫عميــق‪ ،‬وهي‪ ،‬فــي الوقــت ذاته‪ ،‬رســائل‬ ‫كرسائل أم موتسارت البنها لحظة بردها‬ ‫وألمهــا قبــل موتهــا‪ ،‬رســائل تكشــف َكـ ّـم‬ ‫الحزن واأللــم والمعانــاة‪« :‬الــوردة لذّة ال‬ ‫عقــاب لهــا‪ ..‬تلــك آهــات الغابــة‪ ،‬وذلــك‬ ‫هو الشــاعر بشــفاهه ولســانه‬ ‫األحمر وأســنانه»‪.‬‬ ‫«حركات الوردة» ســيرة‬ ‫حيــز صاحبها‬ ‫ذاتية تتعّدى ِّ‬ ‫لتصبح ســيرة جيــل بكامله‬ ‫ـود الحفر في جبال الشــعر‬ ‫يـ ّ‬ ‫الشــامخة‪ ،‬جيــل ليــس فــي‬ ‫تونس فقط‪ ،‬بل في المنطقة‬ ‫العربيــة كلهــا‪« .‬حــركات‬ ‫الوردة» نصــوص المحاكمة‬ ‫للذات‪ ،‬وهي نصوص الذات‬ ‫فــي مواجهة المحاكمــة‪ ،‬إنها‬ ‫تشكل أنهارًا صغيرة تهدف إلى‬ ‫نصوص ِّ‬ ‫الوصول إلى محيط الروح الظمأى‪ ،‬هي‬ ‫حناجــر‪ ،‬وهــي وردة تتراقــص‪ -‬أحياناً‪-‬‬ ‫بخّفــة‪ ،‬وأحاييــن أخــرى تجــرح وتؤلــم‪،‬‬ ‫تأمــات شــعرية ‪ /‬نثريــة‬ ‫وأخيــرًا هــي ُّ‬ ‫في فضــاء جيــل يبحــث عــن مكانه وســط‬ ‫أجيــال ســابقة تحتكر الســاحة‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫سرية جديدة ألبولينري‬ ‫سعيد بوكرامي‬ ‫تروي سيرة غيوم أبولينير الصادرة‪-‬‬ ‫مؤخــراً‪ -‬عــن دار غاليمــار‪ ،‬كيــف أصبــح‬ ‫َّ‬ ‫ويلهيلــم دو كوستروفتســكي‪ ،‬مجهــول‬ ‫الجنسية‪ ،‬أحد أعظم الشعراء الفرنسيين‬ ‫خالل القرن العشــرين‪ ،‬والذي كانت لديه‬ ‫موهبــة أدبيــة خارقــة‪ :‬شــاعر‪ ،‬ســارد‪،‬‬ ‫صحافي‪ ،‬ناقد فنــي‪ ،‬ناقد أدبي‪ ،‬ناشــر‪،‬‬ ‫مديــر مجلــة‪ ،‬وكان لديــه حــدس معجــز‬ ‫واستشــعار مســتقبلي‪ .‬كمــا كان صديــق‬ ‫الرســامين ومدافعــ ًا شرســ ًا عــن الفــن‬ ‫الحديــث‪ .‬فــرض أفــكاره الجريئــة‪ ،‬وفتح‬ ‫آفاقـ ًا جديــدة للقصيــدة فــي عصــره‪ .‬وفي‬ ‫الوقــت نفســه بقــي مرتبطــ ًا بالماضــي‪،‬‬ ‫بالكتــب القديمــة وبالذكريــات‪ .‬كانــت‬ ‫أعمال غيوم أبولينير مليئة بالتناقضات‬ ‫والمفاجآت‪ ،‬ومحتفظة بملكة االستثنائي‬ ‫ومحتفلــة بواقعية جديــدة‪ .‬لم تصــدر أية‬ ‫ســيرة ذاتية عــن أبولينيــر شــافية كافية‬ ‫منذ أربعين سنة‪ .‬وها هي‪ -‬أخيراً‪ -‬تصدر‬ ‫المتمرسة لورانس كامبا التي‬ ‫عن الباحثة‬ ‫ِّ‬ ‫ال من الوثائق األصلية‪،‬‬ ‫ســبرت عددًا هائ ً‬ ‫أغلبهــا لــم يكــن منشــورًا مــن قبل‪.‬‬ ‫لكــن‪ ،‬مــن هــو غيــوم أبولينير؟إنــه‬ ‫بغض النظر عن أصله وفصله‪،‬‬ ‫أبولينير ّ‬ ‫إذ تعثَّرت معظم السير التي‬ ‫كتبــت عن الشــاعر عنــد هذه‬ ‫النقطــة‪ .‬بيــد أن الباحثــة‬ ‫ركزت‪ -‬في‬ ‫لورانس كامبا‪َّ ،‬‬ ‫المقابل‪ -‬على العوامل التي‬ ‫جعلت مــن أبولينير شــاعرًا‬ ‫رؤيويــاً‪ ،‬واستشــرافياً‪.‬‬ ‫«تذكروني‪،‬‬ ‫هــو الــذي كتــب َّ‬ ‫أنــا رجــل المســتقبل»‪ ،‬كمــا‬ ‫بحثت الكاتبة عن المرجعية‬ ‫المعرفيــة والوجدانيــة التي‬ ‫مكنــت الشــاعر مــن نســج‬ ‫ّ‬ ‫دواوين شعرية ومقاالت صحافية ونقدية‬ ‫وفنية‪ ،‬في مدة قصيرة‪ ،‬لم يدركها غيره‬ ‫مــن األدبــاء الذيــن عاشــوا عمــرًا أطــول‪.‬‬ ‫المتخصصة‬ ‫قامــت الباحثــة الجامعيــة‬ ‫ّ‬ ‫لورانــس كامبــا بعمــل باهــر لغـ ًـة وبحثاً‪،‬‬ ‫‪104‬‬

‫فأعــادت إلــى األضــواء الشــاعر غيــوم‬ ‫أبولينيــر‪ ،‬العاشــق األبــدي لالبتــكار‬ ‫ـعريْين‪ ،‬لكــن حياتــه‪ -‬فــي‬ ‫والتجديــد الشـ ّ‬ ‫المقابــل‪ -‬كانــت مثخنة بالخيبــات‪ ،‬طوال‬ ‫حياتــه كان غيــر راض عــن نفســه‪ .‬وكمــا‬ ‫قال ذات مرة‪« :‬ليس اآلخر من ال يحبني‪،‬‬ ‫ـب»‪.‬‬ ‫أنــا مــن ال يعــرف كيــف يحـ ّ‬ ‫أبولينيــر ِّ‬ ‫يمثــل صــورة الشــاعر غيــر‬ ‫المرغــوب بــه‪ .‬الــذي نجــده فــي قصيدتــه‬ ‫الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه‪.‬و تعّد‬ ‫الباحثــة هــذه القصيــدة الطريــق الملكــي‬ ‫الذي يجــب اقتفاؤه لفهــم أبولينيــر وبناء‬ ‫ســيرة ذاتيــة جديــدة ومغايــرة لــه‪ ،‬كمــا‬ ‫ركــزت الباحثــة علــى البعــد المأســاوي‬ ‫َّ‬ ‫الــذي طبــع عالقــات الشــاعر بمحبوباتــه‬ ‫اللواتــي كــن البوتقــة التــي انصهــرت‬ ‫فيهــا موهبتــه وانفعاالتــه وإحباطاتــه‬ ‫واســتناراته‪ ،‬انصهــارًا إبداعيــ ًا َأثّــر فــي‬ ‫مسارْيه اإلنساني والشعري‪ .‬كما تناولت‬ ‫َ‬ ‫محطات من طفولته وترحاله ومشاركته‬ ‫ّ‬ ‫فــي الحــرب وعالقاتــه بالمشــهد الثقافــي‬ ‫الفرنسي عامة‪ ،‬وبشعراء وفنّاني عصره‪،‬‬ ‫مزيحة الســتارة عن حيــاة غامضة ومجد‬ ‫ً‬ ‫شــعري مبهــر‪.‬‬ ‫علــى مــدى ‪ 800‬صفحــة‬ ‫من البحث المغامر في حياة‬ ‫أبولينيــر ومجمــل إبداعــه‬ ‫قدمت الكاتبة‪ -‬بجالء‪ -‬وقائع‬ ‫َّ‬ ‫حاســمة مــن حيــاة الشــاعر‬ ‫الحســية والصاخبــة التــي‬ ‫ّ‬ ‫كانت دائم ًا محفوفة بالدهشة‬ ‫ومكامــن الهــاك‪ .‬حيــاة من‬ ‫الحــب والصــراع والحــرب‪،‬‬ ‫تبدو‪ -‬من خالل أعماله‪ -‬أنها‬ ‫متأخــرة‪،‬‬ ‫ـن ِّ‬ ‫امت ـّدت إلــى سـ ّ‬ ‫لكــن غيــوم أبولينيــر‪ -‬فــي‬ ‫ـن ال يتع ـّدى ‪38‬‬ ‫الحقيقــة‪ -‬توّفــي عــن سـ ّ‬ ‫عاماً‪ .)1918 - 1880( .‬لكنه عاش خباياها‬ ‫وجوهرها وإكســيرها‪ .‬لــم يمــت أبولينير‬ ‫ـض‬ ‫فــي الحــرب كمــا كان يتمّنــى‪ ،‬ولــم يقـ ِ‬ ‫متأثِّرًا بجــراح إصابتــه فــي المعركة‪ ،‬بل‬

‫مات بعــد إصابتــه باإلنفلونزا اإلســبانية‬ ‫التي حصدت أكثر مــن ‪ 40‬مليون ضحية‬ ‫عبــر أنحــاء العالم‪.‬‬ ‫هذه السيرة األدبية والتاريخية‪ ،‬التي‬ ‫حــازت جائــزة لبــوان المرموقــة ‪2014‬‬ ‫التــي يــرأس لجنتهــا ماكــس غالــو الكاتب‬ ‫المعروف وعضــو األكاديمية الفرنســية‪،‬‬ ‫تجمــع بيــن نكهــة الواقــع ومتعــة البحــث‬ ‫وإعــادة االكتشــاف‪ .‬مليئــة بالكّتــاب‬ ‫والفنانيــن األوروبييــن الذيــن يضيئــون‬ ‫شخصية الشاعر ومسار الحداثة‪ ،‬وترسم‬ ‫صــورة شــاعر هــارب مــن ُعَقــده وعابــر‬ ‫للزمــن بأفــكاره وشــعره وطموحــه‪.‬‬ ‫نالحــق الشــاعر مــن أروقــة الفاتيــكان‬ ‫إلى نهر الرايــن‪ ،‬ومن ضفاف نهر الســين‬ ‫إلى سراديب النبيذ مستكشفين بحضوره‬ ‫وإبداعــه عالمــ ًا هندســي ًا مــن العالقــات‬ ‫اإلنســانية المشــوبة بالتواصــل تــارة‬ ‫وبالقطيعــة تــارة أخــرى‪ ،‬وعلــى رأســها‬ ‫عالقتــه بالمــرأة‪ .‬كان أبولينيــر عاشــق ًا‬ ‫للحركــة والســرعة واالبتــكار‪ ،‬ولكــن‬ ‫علــى أســاس مــن القيــم الموروثــة؛ ففــي‬ ‫أقصى درجــات التجديــد كان يحافظ على‬ ‫المــوروث اللغــوي والموروث الشــعري‪.‬‬ ‫تعتــرف الباحثــة أن أبولينيــر كان غيــر‬ ‫ـتقر فــي حياتــه وإبداعــه واختياراته‪.‬‬ ‫مسـ ّ‬ ‫هــل يعــود األمــر إلــى شــرخ الهويــة الــذي‬ ‫عاشــه‪ ،‬أم يعود باألســاس إلى حضوره‬ ‫ـول بشــكل تراجيــدي نحــو‬ ‫فــي عالــم متحـ ِّ‬ ‫ومآس‬ ‫جذرية‬ ‫الت‬ ‫بتحو‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫حرب عظمى‪َ ،‬ت ِ ُ‬ ‫إنسانية؟؟ في كل األحوال‪ ،‬كان أبولينير‬ ‫شــاعرًا كبيرًا تمثَّلت عظمته فــي امتداداته‬ ‫الجمالية التي سكنت روح الشعر العالمي‬ ‫بتمــرده‪ ،‬مهادنــة‬ ‫إلــى اليــوم‪ ،‬مجلجلــة‬ ‫ُّ‬ ‫المتجــددة‬ ‫بحبــه‪ ،‬مســتبصرة بأفــكاره‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫العابــرة لآلفــاق‪.‬‬


‫شعب يف ِّتش عن هو ّيته‬ ‫خاص بالدوحة‬ ‫الهويــة‬ ‫يفصــح كتــاب «الطــوارق‪ ..‬مــن ّ‬ ‫ســر االهتمــام الدولــي‬ ‫إلــى‬ ‫ّ‬ ‫القضيــة» عــن ّ‬ ‫واإلقليمــي بمنطقــة األزواد‪ ،‬مــن منطلــق‬ ‫أن «اإلقليــم يســبح فــوق بحيــرة مــن الغــاز‬ ‫ُيَقـ َّـدر احتياطيهــا بـ«ترليون» متــر مكعب إلى‬ ‫جانــب مخــزون ملحــي يكفي لخمســين ســنة‬ ‫مقبلة مع مناجــم اليورانيــوم النيجرية التي‬ ‫ـزود المحطــات النوويــة الفرنســية بنصــف‬ ‫تـ ِّ‬ ‫احتياطاتهــا منــه»‪ .‬الكتــاب نفســه‪ ،‬الصــادر‬ ‫عن المركز الموريتاني للدراســات والبحوث‬ ‫االســتراتيجية‪ ،‬يرمــي إلــى إضــاءة جوانــب‬ ‫مجهولة قــد طواها النســيان من حياة شــعب‬ ‫الطوارق‪ ،‬الذي ظل يشـّـكل‪ -‬نتيجة تهميشــه‬ ‫وعزلتــه‪ -‬لغــزًا صحراوي ـاً‪.‬‬ ‫اسم غريب!‬ ‫تطرق إليه الكاتب في فصله‬ ‫من طريف ما َّ‬ ‫األول إشارته إلى أن اسم الطوارق مصطلح‬ ‫ال تتجــاوز معرفتــه نخــب القــوم‪ ،‬فهــو‪ -‬رغم‬ ‫غلبته عليهم‪ -‬غريب علــى جمهورهم «فهم ال‬ ‫يسـّـمون به أنفســهم‪ ،‬وال ينتســبون إليه في‬ ‫أصولهم‪ ،‬فهو اسم أطلق عليهم من خارجهم‪،‬‬ ‫ال يعرفه إال المثقَّفون والمتعلِّمون‪ ،‬ونادرًا ما‬ ‫األمي من الطــوارق الذي لم‬ ‫يعرفه الشــخص ّ‬ ‫يّتصل بالثقافات العصرية والعالم الخارجي»‪.‬‬ ‫وقــد ذكر الباحــث عــدة روايات الشــتقاق هذا‬ ‫االسم‪ ،‬منها‪ -‬على سبيل المثال‪ -‬أن الطوارق‬ ‫طراقو‬ ‫جمــع طــارق‪ ،‬أي اآلتــي ليـاً‪ ،‬أو هــم ّ‬ ‫الصحــراء ومرتادوهــا‪ .‬ولشــهرة هــذا االســم‬ ‫لدى اآلخــر تــم تبنّيه رســمي ًا مــن قبــل القادة‬ ‫السياســيين والقبلييــن‪ ،‬حيــث ص ـّدر زعماء‬ ‫المذكــرة المشــهورة‬ ‫الطــوارق مطالبهــم فــي ِّ‬ ‫التي أصدروهــا عام ‪ 1990‬إبــان مفاوضتهم‬ ‫مع الحكومة المالية‪ ،‬بعبــارة «نحن طوارق‬ ‫مالــي»‪ .‬ويبــدو أن لفظ «إيماجغــن»‪ ،‬ويعني‬ ‫الرجال األحرار أو الشــرفاء‪ ،‬هو المختار من‬ ‫هويتهم االســمية‪.‬‬ ‫قبل الطوارق للتعبير عن ّ‬ ‫قض ّية الجذور‬ ‫يناقــش الباحــث فــي هــذا الكتــاب مســألة‬

‫أصــول الطــوارق‪ ،‬فالســؤال‬ ‫الكبير عن أصول هذا الشعب‪،‬‬ ‫هويتــه الثقافية‪،‬‬ ‫التــي تحـ ِّـدد ّ‬ ‫لم يحســم جوابــه بعــد‪ ،‬فهم ‪-‬‬ ‫حســب رأيه ‪« -‬يفتشــون‪ -‬في‬ ‫هويــة ضائعــة‪ ،‬أو‬ ‫قلــق‪ -‬عن ّ‬ ‫أوشــكت علــى الضيــاع بيــن‬ ‫مطرقــة القمــع والتهميــش‬ ‫جنوبــ ًا وســندان اإللحــاق‬ ‫وتفســر‬ ‫الثقافــي غربــاً»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الروايــات المختلفة لجــذور هذا‬ ‫فنسابة العرب‬ ‫الشــعب طبيعة هذه الحيرة؛ ّ‬ ‫ـرددون في نســبتهم إلى أصول‬ ‫القدماء ال يتـ ّ‬ ‫صنهاجيــة عربيــة‪ .‬يقول ابــن خلــدون «هذه‬ ‫الموطنون‬ ‫الطبقة من صنهاجة هم الملثَّمون ّ‬ ‫بالقفــر وراء الرمــال الصحراويــة بالجنــوب‬ ‫أبعــدوا فــي المجــاالت هنــاك منــذ دهــور قبل‬ ‫الفتح‪ ..‬وصــاروا ما بيــن بالد البربــر وبالد‬ ‫الســودان حجــزاً‪ ،‬واتخــذوا اللثــام خطامــ ًا‬ ‫تمايــزوا بشــعاره بيــن األمــم‪ ...‬هــم إخــوة‬ ‫صنهاجة»‪ ،‬ويقول عبد الرحمن السعدي في‬ ‫تاريخ السودان‪« :‬وهم المسوفة‪ ،‬ينتسبون‬ ‫إلى صنهاجة‪ ،‬وصنهاجة يرفعون أنسابهم‬ ‫إلــى حميــر»‪ ،‬وهــو النســب الحميــري الــذي‬ ‫والمؤرخين‬ ‫النسابة‬ ‫تواترت عليه جمهرة من ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ينيفــون علــى العشــرين‪..‬‬ ‫والعلمــاء ّ‬ ‫ثان إلى أن أصــول الطوارق‬ ‫ويميل رأي ٍ‬ ‫أمازيغيــة بربريــة‪ ،‬وهــو رأي – كمــا يقــول‬ ‫الكاتب ‪ -‬يدعمه المشترك اللغوي‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫نتائج االكتشافات والحفريات األركيولوجية‬ ‫ودراســات الســاالت والجينــات الوراثيــة‪.‬‬ ‫ويقول الباحث الطارقــي محمد عبد اللطيف‪:‬‬ ‫«إن قبائل الطوارق َسـ َّـمت نفســها «إمازغن»‬ ‫جدهــم إمازيــغ بــن كنعــان بــن‬ ‫نســبة إلــى ِّ‬ ‫حــام بن نــوح»‪.‬‬ ‫وهنــاك رأي ثالــث ينــأى بالطــوارق عــن‬ ‫االرتمــاء فــي حضــن الثقافتيــن العربيــة أو‬ ‫األمازيغيــة؛ فالطــوارق هــم الطــوارق‪ ،‬لهــم‬ ‫انتماؤهم العرقي وخصوصيتهم الثقافية بعيدًا‬

‫عن التجاذبــات اإليديولوجية‬ ‫بين دعاة القوميتيــن العربية‬ ‫واألمازيغية‪ .‬والثابت الوحيد‬ ‫– كمــا يقــول المؤلِّــف ‪ -‬هــو‬ ‫انتماؤهم إلى األمة اإلسالمية‬ ‫ولعبهــم أدوارًا رياديــة هامــة‬ ‫في تكويــن نســيجها المعرفي‬ ‫مع إخوتهم من العرب والبربر‬ ‫واألفارقــة‪ ،‬فهم شــعب يفتخر‬ ‫بهويتــه الحضاريــة األصيلــة‬ ‫ّ‬ ‫ولغتــه الوطنيــة الخاصــة بــه‪،‬‬ ‫وحروفهــا تسـ ّـمى التيفنــاغ‪ ،‬وهــي تجعلــه‬ ‫أحد الشــعوب اإلفريقية النادرة التي تمتلك‬ ‫أبجديــة نظيفــة يرجــع وجودهــا إلــى ثالثــة‬ ‫آالف ســنة قبــل الميالد‪.‬‬ ‫تمجيد المرأة‬ ‫على عكس أغلب الشعوب الشرقية يعتز‬ ‫الطوارق باالنتساب ألمهاتهم‪ ،‬ويعتقد العديد‬ ‫من الطوارق أنهم ينحدرون من ملكة عظيمة‬ ‫تســمى «تنهينــان» ملكة الطــوارق التــي َبَن ْت‬ ‫دولــة قويــة فــي القــرن الخامــس الميــادي‪،‬‬ ‫وتركــت لهــم مجــدًا َّ‬ ‫مؤثـاً‪ ،‬ال تــزال شــواهده‬ ‫شــاخصة فــي جبــال الهقــار وكهــوف أبالســا‬ ‫جنوبــي الجزائــر حالي ـاً‪ ،‬وإلــى هــذه الملكــة‬ ‫يرجــع النظــام االجتماعــي للطــوارق الــذي‬ ‫يســتمّد الســلطة حتى اآلن مــن حكــم المرأة‪.‬‬ ‫في غمرة األحداث التي عرفها إقليم أزواد‬ ‫في السنوات الماضية ُأجهِض حلم الطوارق‬ ‫باالســتقالل المعلــن عــام ‪ 2012‬فــي مهــده‪،‬‬ ‫ويعــزو الكاتــب إخفاقــات هــذا المشــروع إلى‬ ‫عدم قابليته لالستمرار وســط رفض النظام‬ ‫الدولــي واإلقليمي لــه‪ ،‬إال أن هــذا اإلعالن قد‬ ‫أعاد قضية شــعب ذي خصوصية حضارية‬ ‫وثقافية ُم َغ َّيبة من رفوف النسيان إلى دائرة‬ ‫األضواء‪ ،‬وينصح الباحث في ختام الكتاب‬ ‫الحــركات األزواديــة باعتمــاد اســتراتيجية‬ ‫سياســة واقعيــة أكثــر مرونــة وأبعد نظــراً‪،‬‬ ‫بد ًال من سياســة «كل شــيء أو ال شيء»‪.‬‬ ‫‪105‬‬


‫الحنني املحايد‬ ‫علوان الجيالين‬ ‫تتحــول الحيــاة ‪ /‬إلــى أزقــة‬ ‫«حيــن‬ ‫َّ‬ ‫متناهية الضيق والحلكة ‪ /‬على اللغة أن‬ ‫تتناثر شــقوق ًا ‪/‬على امتداد االختناق ‪/‬‬ ‫لتغدو نوافذ يعبرها األوكسجين»‪ .‬يصلح‬ ‫هــذا المقطــع الــذي جعلــه الشــاعر جميــل‬ ‫مفرح عتبة للمحور الثاني من مجموعته‬ ‫ّ‬ ‫الجديدة «ربطة عنق أنيقة» ليكون عتبة‬ ‫لهــذه القــراءة‪ ،‬فقــد جعــل الشــاعر اللغــة‬ ‫وم َّتكأه لعبور لحظة‬ ‫خياره‪ ،‬بل ملجــأه ُ‬ ‫الحياة الحرجة‪ ..‬فاللغة‪ -‬في َحّد ذاتها‪-‬‬ ‫هدف الشاعر‪ ،‬كما أن التخفيف من حلكة‬ ‫الواقع وضيق الخيــارات فيه والتخلُّص‬ ‫من االختنــاق به هدفــه اآلخر‪.‬‬ ‫تتجلّى في المجموعة خبرات الشاعر‬ ‫باللغة ومعاشرته الطويلة لها جنب ًا إلى‬ ‫جنــب مــع نضــج فــي الوعــي بالعمليــة‬ ‫اإلبداعية‪ ،‬وانزياحات شاســعة في فهم‬ ‫الشــعر‪ .‬وتلــك كلهــا ميــزات تتــآزر مــع‬ ‫خبراته فــي جوانــب الكتابــة المختلفة‪.‬‬ ‫مفرح على‬ ‫ال بّد من القول إن اشتغال ّ‬ ‫النوســتالجيا‪ ،‬اشــتغال ليــس فيــه ذلــك‬ ‫الم َرضي الجارف الذي اشتهر به‬ ‫الحنين َ‬ ‫الشعراء الرومانســيون‪ ،‬بل هو اشتغال‬ ‫والتأمــل الهــادىء‪،‬‬ ‫يــزاوج بيــن الحنيــن‬ ‫ُّ‬ ‫اشــتغال عاقــل محايــد إلــى َحــّد كبيــر‪.‬‬ ‫وهذه مفارقــة؛ إذ ال يمكن للنوســتالجيا‬ ‫أما‬ ‫إال أن تكــون حنين ًا شــاهق ًا وحارق ـاً‪ّ .‬‬ ‫أن تكــون حنينـ ًا محايــدًا فهذا هــو الجديد‬ ‫اجــأ به‪:‬‬ ‫الــذي ُ‬ ‫نف َ‬ ‫«أيتهــا الســدرة‪ ...‬ال أحــب أن أبــدأ‬ ‫طقوســي عنــد جذعــك‪ ،‬وال أتمنــى أن‬ ‫ـى أج ـّدف باتجاهــه‪،‬‬ ‫تكونــي آخــر منتهـ ً‬ ‫عليــك أن تبحثــي عــن مبرراتــك الكافيــة‬ ‫إلي كما لم تشتاقي‬ ‫لتنتظريني ولتشتاقي ّ‬ ‫وعلي أن أكتمل تمام ًا ألكون‬ ‫ألحد قبلي‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫تتخيلني أشواقك المكّدسة‪ ..‬تمّهلي‪،‬‬ ‫كما‬ ‫َّ‬ ‫انتظــري ريثمــا أتسـلّق هــذا الجــدار الذي‬ ‫يفصلنــي عنــك‪ ،‬ثــم أتجاســر وأقفــز من‬ ‫أعاليــه إليــك‪ ..‬ال تســتعجلي ارتفاعــي‬ ‫‪106‬‬

‫وسقوطي‪ ،‬فلست جديرًا بكل هذا العناء‪،‬‬ ‫بكل‬ ‫ـق ّ‬ ‫ولســت الئقــة بمحاوالتــي الّتحليـ َ‬ ‫هذا العــري إليك»‪.‬‬ ‫أحــب»‪،‬‬ ‫فهــذه األلفــاظ الكابحــة «ال‬ ‫ّ‬ ‫«ال أتمّنــى»‪« ،‬ال تســتعجلي»‪« ،‬تمّهلــي‪،‬‬ ‫انتظــري» تشــعرنا بأنهــا تفرمــل لوعــة‬ ‫النوســتالجيا وانهماراتها داخل لحظات‬ ‫التذكــر واالســتحضار الحميــم‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫مفــرح بين أيدينا‬ ‫تضع تجربة جميل ّ‬ ‫عالــم دهشــة بالــغ االّتســاع‪ ،‬لكنــه ليس‬ ‫بعيــدًا عنّا‪ .‬إنه‪ -‬بشــكل مــا‪ -‬عالمنا الذي‬ ‫كان مطمورًا في ذواتنا‪ ،‬لم نكن قادرين‬ ‫علــى اكتشــافه‪ ،‬أوكنــا نتغاضــى عنه‪..‬‬ ‫نتحايــل على وجــوده فينا بالتناســي ال‬ ‫بالنســيان‪ ،‬حتــى جــاء مفـّـرح ليمنحــه‪،‬‬ ‫مــن خــال هــذه النصــوص‪ ،‬مشــروعية‬ ‫اإلعــراب عــن حضــوره‪ ...‬ليحضــر الئق ًا‬ ‫مميزاً‪ ،‬في نصوص تخلَّصت من ضغوط‬ ‫َّ‬ ‫التوصيفــات النقدية البائســة لألشــكال‬ ‫الشعرية‪ ،‬بمقدار ما أخلصت للشعر الذي‬ ‫حريته أكبر وأوســع من‬ ‫يثبت دائم ـ ًا أن ّ‬ ‫كل التوصيفات‪ ،‬وأن ليس بوســع أحد‬ ‫يلونه‪ ،‬فهو أصل األلوان ومصدرها‪،‬‬ ‫أن ّ‬ ‫وهو بذرة الجمال في وجودنا اإلنساني‪،‬‬ ‫أينمــا وجــدت تخّلــق اإلبــداع‪ ،‬وقــد أعلن‬ ‫عن نفســه‪.‬‬

‫و األكثــر لفتــ ًا لالنتبــاه فــي هــذه‬ ‫النصــوص هــو الخرشــات‪ ..‬فنحــن أمام‬ ‫مفرح‬ ‫معلِّم ماهر؛ إذ إن خرشــات جميل ّ‬ ‫هــي مزيــج مــن البســاطة والتركيــب‪،‬‬ ‫المالمســة الشــفيفة والعمــق‪ ،‬حــاوة‬ ‫الشــعر ونضــج الفكــر‪ ،‬طرافــة اللقطــة‬ ‫وعذوبــة َتأّتيهــا‪:‬‬ ‫المرة‪/‬‬ ‫«عليك أن تضع الخطيئة هذه ّ‬ ‫في مكان آمــن من جســدك ّ‬ ‫‪/‬وأل تســمح‬ ‫أن ينال منها الكالب والقطط‪ .../‬هؤالء‬ ‫مثقلــون أيضــ ًا باقتنــاص الخطيئــة ‪/‬‬ ‫يتلمســون روائحها‪/‬في األزقّة الموحلة‬ ‫ّ‬ ‫والزرائــب المتعفّنــة ‪/‬هــذه المــرة ‪/‬لــن‬ ‫المتكومــة ‪/‬‬ ‫تقــع علــى عيــدان الحطــب‬ ‫ّ‬ ‫فتجرح ركبتيك ‪/‬وتقّد قميصك الجديد‪/‬‬ ‫ولن تتوقّف بين اللحظة ورفيقتها ‪..../‬‬ ‫عليك هــذه الليلة أن ‪/‬تســتأذن الطفولة‬ ‫‪/‬لبرهة من الزمن ‪/‬تمتحن فيها الخطيئة‬ ‫إدانتها‪/‬ويكممــون‬ ‫يتحملــون وزر‬ ‫ّ‬ ‫التــي ّ‬ ‫دونها عيــون الرغبــة ‪/‬مــن أن تعلن عن‬ ‫حضورها»‪.‬‬ ‫تســتمر لعبــة المزاوجــات الناضجــة‬ ‫ّ‬ ‫والتأمل الهــادىء في‬ ‫ـتالجيا‬ ‫ـ‬ ‫النوس‬ ‫بيــن‬ ‫ُّ‬ ‫سياق ســردي وعبر اختيارات تنبع من‬ ‫أولــى تجــارب الحياة‪.‬‬ ‫وهــي ال تحضــر اعتباط ـاً‪ ،‬بــل تحــت‬ ‫التأمــل والتفكيــر والتفلســف‬ ‫مجهــر‬ ‫ُّ‬ ‫المعجــون بالشــعر فــي أعلــى تجلّياتــه‪.‬‬ ‫مخيلته‬ ‫مفرح‪ ،‬خصب ّ‬ ‫تكشــف قصائد ّ‬ ‫تحسس فضاءاتها في سديم‬ ‫القادرة على ُّ‬ ‫تواقة‬ ‫الحياة البائس‪ ،‬وثمة اجتراح لغة ّ‬ ‫للكشــف عن خفايا يصعــب التعبير عنها‬ ‫بلغة عادية‪ .‬والنوســتالجيا شــقوق في‬ ‫الــروح‪ ،‬فمــا يتسـّـرب منهــا ال يرضــى إال‬ ‫كتــب بلغــة خاصــة‪ ،‬كمــا فــي هــذه‬ ‫أن ُي َ‬ ‫القصائــد التــي تفّنــن مفـّـرح فــي إبداعهــا‬ ‫مرهفة مشــحونة بالروعة شــحناً‪.‬‬


‫مختاراتنا‬

‫أتيال الهوني‪..‬‬ ‫ملك البرابرة‬ ‫صدر عن دار الكتب الوطنية في‬ ‫«هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة»‬ ‫الترجمة العربية لكتاب «أتيال‬ ‫الهوني‪ ،‬ملك البرابرة وسقوط‬ ‫للمؤرخ البريطاني المعاصر‬ ‫روما»‬ ‫ِّ‬ ‫المتخصص في الصين‬ ‫جون مان‬ ‫ِّ‬ ‫ومنغوليا‪ ،‬ونقله إلــى العربية‬ ‫عمرو المالح‪.‬‬ ‫أهم الكتب‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫واح‬ ‫ُي َعّد الكتاب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫التاريخية التي تناولت تاريخ‬ ‫قبيلة الهون على مدى قرون عدة‪،‬‬ ‫حيث كانت تقيم في إقليم منغوليا‬ ‫فــي الــصــيــن‪ .‬ربــمــا كــانــت قبيلة‬ ‫الهون واحــدة من قبائل البرابرة‬ ‫المزعجة التي صعدت ثم سقطت‪،‬‬ ‫لــوال أنموذج أصلي ألتيال يّتسم‬ ‫ويدعى‬ ‫بالقوة إلى َحّد استثنائي‪ُ ،‬‬ ‫موتون‪ ،‬وقد صعد نجمه في عام‬ ‫‪ 902‬قبل الميالد‪.‬‬ ‫قدمه والده طومان‬ ‫كان موتون قد َّ‬ ‫رهينة إلى إحدى القبائل ليتخلّص‬ ‫مــنــه‪ ،‬لكن مــوتــون اســتــطــاع أن‬ ‫ينجو وينتقم من أبيه ويقتله كما‬ ‫قتل كثيرين‪ ،‬واّتخذ من جمجمة‬ ‫الحكام المجاورين كأس ًا له‪،‬‬ ‫أحد ّ‬ ‫أصبحت تــرمــز للقوة المعتادة‬ ‫الرحل‪ .‬وبعد ذلك‬ ‫للحكام من البدو ّ‬ ‫بنى موتون إمبراطورية تمتّد على‬ ‫مساحات شاسعة‪ ،‬وكــان الهون‬ ‫يوسعون إمبراطوريتهم على َمّر‬ ‫ِّ‬ ‫العصور باالستيالء على مناطق‬ ‫جديدة‪ ،‬حتى جاء دور روما التي‬ ‫تحالفت مع القوط لمواجهة جحافل‬ ‫البرابرة من آسيا الداخلية‪ .‬بيد‬ ‫أنــه ال سبيل إلــى مقاومة الهون‬ ‫الــزاحــفــيــن حــتــى قــرعــوا أس ــوار‬ ‫روما في منتصف القرن الخامس‬ ‫الــمــيــادي عــلــى يــد ملكهم أتيال‬ ‫الشجاع الــذي اعتاد أن يستغرق‬ ‫في اللهو والملذّات وكثرة الشراب‬ ‫التي قضت على حياته بعد أن كان‬ ‫يخوض أعتى المعارك‪ ،‬ويخرج‬ ‫منها منتصراً‪.‬‬

‫الغفوري في‬ ‫صعدة‬ ‫اليمني الشاب‬ ‫يدخل الروائي‬ ‫ّ‬ ‫مروان الغفوري دائرة الرواية‬ ‫بــعــمــل ثـــالـــث‪ ،‬فــبــعــد «كـــود‬ ‫بلو» (‪ )8002‬و«الخزرجي»‬ ‫مؤخرًا‬ ‫(‪ ،)3102‬صــدرت له‬ ‫َّ‬ ‫رواية بعنوان «جدائل صعدة»‬ ‫(دار اآلداب‪ -‬بــيــروت)‪ .‬في‬ ‫الرواية نفسها يقوم الغفوري‬ ‫باستثمار الــجــدل السياسي‬ ‫الدائر اليوم في الجهة الشمالية‬ ‫مـــن الـــيـــمـــن‪ ،‬وعـــلـــى وجــه‬ ‫الخصوص في مدينة صعدة‬ ‫وجبالها‪ ،‬عبر سرده لمجموعة‬ ‫رسائل متبادلة بين الــراوي‬ ‫وفتاة من صعدة اسمها إيمان‪،‬‬ ‫لتظهر حكاية عــن جدائلها‬ ‫المنسدلة من أعالي الجبال‪،‬‬ ‫سر بطنها المنتفخ‪ ،‬عن‬ ‫وعن ّ‬ ‫الحرب والمواقف والــعــادات‬ ‫والتقاليد‪ ،‬عــن المأجورين‬ ‫يوظفون الدين للمصالح‬ ‫وعم ْن ّ‬ ‫َّ‬ ‫والسياسية‪ ،‬عن‬ ‫الشخصية‬ ‫ّ‬ ‫والتزمت‪ ،‬عن األنوثة‬ ‫الجهل‬ ‫ّ‬

‫الــمــســحــوقــة‪ .‬عــبــر ك ــل هــذه‬ ‫التشكيلة يــرغــب مـــروان في‬ ‫تــقــديــم واجــهــة صــعــدة على‬ ‫طاولة نقاش من منظور أدبي‬ ‫يسعى لعدم االنحدار إلى قعر‬ ‫الــطــرح الــســيــاســي المباشر‬ ‫واإلشــكــالــيــات الــتــي ســوف‬ ‫يشعلها ولــن تحسب لصالح‬ ‫العمل في نهاية األمر‪.‬‬ ‫الــروايــة صـــدرت تــزامــنـ ًا مع‬ ‫النقاش السياسي السائد في‬ ‫البلد‪ ،‬وتوازي ًا مع المواجهات‬ ‫الدائرة بين النظام السياسي‬ ‫الحاكم وبين جماعة الحوثي‬ ‫المنتمية إلى مدينة صعدة‪.‬‬

‫أمراء األسرة‬ ‫المالكة‬ ‫يقدم كتاب بعنوان «أمــراء األسرة‬ ‫ِّ‬ ‫المالكة ودورهم في الحياة المصرية‬ ‫(‪ »)1952 - 1929‬تأليف د‪ .‬أمل فهمي‬ ‫قراءة تاريخية تغطي فراغـ ًا هائ ًال‬ ‫في تاريخ مصر الحديث‪.‬‬ ‫يرصد الكتاب الــصــادر حديثـ ًا عن‬ ‫«الهيئة المصرية العامة للكتاب»‬ ‫دور الــقــصــر فــي ف ــرض سيطرته‬ ‫على األمراء من خالل تحديد دورهم‬ ‫السياسي ورسم أوضاعهم المالية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬والوضع االقتصادي‬ ‫الذي يحظون به‪ ،‬وإسهامهم الفاعل‬ ‫في النواحي االجتماعية والحياة‬

‫الــثــقــافــيــة‪ ،‬م ــن خـــال االهــتــمــام‬ ‫باإلصالح االجتماعي‪ ،‬حيث تلقي‬ ‫هــذا الــدراســة الــضــوء على الــدور‬ ‫المتميز الذي لعبه أمراء األسرة في‬ ‫ِّ‬ ‫الحياة المصرية (‪،)1928 - 1882‬‬ ‫متغيرات‬ ‫تلك الفترة التي شهدت‬ ‫ِّ‬ ‫سياسية واقتصادية واجتماعية‪،‬‬ ‫وانعكست آثارها في تحديد مواقف‬ ‫األمــراء منها‪ ،‬فتأثّروا بها وأّثــروا‬ ‫فيها‪.‬ينقسم الكتاب إلــى خمسة‬ ‫فصول‪ ،‬يتناول الفصل األول أمراء‬ ‫األسرة المالكة وعالقتهم بالحركة‬ ‫ويركز على دورهم‬ ‫الوطنية وقتها‪ِّ ،‬‬ ‫الــبــارز فيها‪ .‬أمــا الفصل الثاني‬ ‫فيتناول‪ -‬بإسهاب‪ -‬الدور الذي لعبه‬ ‫القصر في تحديد أوضاع األمراء من‬ ‫نواح عديدة‪ ،‬كالناحية السياسية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫والمالية‪ ،‬واالجتماعية‪ .‬وفي حين‬ ‫يبقى الجانب االقتصادي موضوع‬ ‫الفصل الــثــالــث مــن الــكــتــاب الــذي‬ ‫يتناول أوضاع أمراء األسرة المالكة‬ ‫االقتصادية‪.‬ويتحدث الفصل الرابع‬ ‫َّ‬ ‫عن أمــراء األســرة المالكة والحياة‬ ‫المتميز فيها‬ ‫االجتماعية ووضعهم‬ ‫ِّ‬ ‫ومشاركتهم في احتفاالت الدولة‬ ‫الرسمية والدينية‪.‬ويتناول الفصل‬ ‫الخامس الحياة الثقافية ألمــراء‬ ‫األسرة المالكة ودورهم في تنشيط‬ ‫الحركة الثقافية واالهتمام بالتعليم‬ ‫والجمعيات العلمية‪.‬‬

‫طــيــور الــواقــع‬ ‫العربي‬

‫مؤخراً‪ -‬عن «دار الساقي»‬ ‫صدر‪َّ -‬‬ ‫في لندن روايــة «طيور العتمة»‬ ‫لــلــقــاص والـــروائـــي الــســعــودي‬ ‫الشاب ماجد سليمان‪ .‬ال تبتعد‬ ‫أجــواء الرواية كثيرًا عن الواقع‬ ‫العربي‪ ،‬ال‪ ،‬بل إنها تمتح منه‪،‬‬ ‫ومن مشاكله الناجمة عن تضافر‬ ‫ويؤدي‬ ‫االستبداد والفكر الظالمي‪ّ .‬‬ ‫السجن‪ -‬كفضاء ومــكــان‪ -‬دورًا‬ ‫رئيس ًا في هذه الرواية‪ ،‬ومن هذه‬ ‫الناحية يمكن َع ـّد روايــة «طيور‬ ‫العتمة» إضافة جديدة إلــى متن‬ ‫أدب السجون العربي الذي يزداد‬ ‫ويتسع يوم ًا فيوماً‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وجدير بالذكر أنه سبق أن صدرت‬ ‫للروائي روايتان اثنتان‪« :‬عين‬ ‫حــمــئــة» عــن دار طـــوى‪ ،‬و«دم‬ ‫يترقرق بين العمائم واللحى»‬ ‫عن مؤسسة االنتشار العربي‪،‬‬ ‫وصــــدرت لــه كــذلــك فــي القصة‬ ‫مجموعة بعنوان «نجم نابض في‬ ‫التراب»‪ .‬ويميل الروائي السعودي‬ ‫إلى أسلوب واقعي‪ُ ،‬م َط َّعم بسرد‬ ‫شعري‪ ،‬في تصوير شخصيات‬ ‫روايــتــه وأحــداثــهــا‪ ،‬وال يبدو أن‬ ‫روايته األخيرة تشّذ عن ذلك‪.‬‬ ‫وم ــن أجــــواء ال ــرواي ــة األخــيــرة‬ ‫نقتطف‪ُ« :‬قبض على برهان مع‬ ‫اثني عشر شخص ًا آخرين بتهمة‬ ‫التخطيط لــمــحــاولــة انقالبية‪،‬‬ ‫ليجدوا أنفسهم في عالم السجن‬ ‫المرعب‪...‬‬ ‫من السجن إلــى الصحراء‪ ،‬بين‬ ‫الــهــرب واألمــــل والــحــب‪ ،‬قضى‬ ‫برهان أيامه على حافة الموت‪،‬‬ ‫بعد مقتل أصدقائه جميعاً‪.‬‬ ‫في السجن يكون الموت خيارًا‬ ‫أســهــل م ــن الــحــيــاة‪ .‬ويــتــحـ ّـول‬ ‫قــرار السجان فــي الحفاظ على‬ ‫حياة السجين نوع ًا من العذاب‬ ‫ـاصــة حين تكون‬ ‫اإلضــافــي‪ ،‬خـ ّ‬ ‫الالفتة المرفوعة على باب المدخل‬ ‫(رفق ًا بالسجناء‪ ،‬فهم آدميون)‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫مقال‬

‫الصورة ال تخبر إال في النادر من الحاالت‪ ،‬أو ال تفعل ذلك إال في مستويات‬ ‫تقريرية عادة ما ال تلتفت إليها العين‪ ،‬إنها تغري وتســحر‪ ،‬إنها تعبر عن‬ ‫بالم ْسَتهِلك‬ ‫عدد هائل من «الحقائق»‪ ،‬ولكنها تفعل ذلك فقط من أجل الدفع ُ‬ ‫إلى حقيقة واحدة‪.‬‬

‫سعيد بنگراد‬

‫الرشاء وال يشء سواه!‬ ‫لـم يعـد ُممكن ًا لإلشـهاري‪ ،‬في عصرنا‬ ‫هـذا‪ ،‬أن يقـول أي شـيء عن موضوعات‬ ‫رسائله دون االستعانة بالنافذة البصرية‬ ‫وبقدرتهـا علـى اسـتثارة الحسـي فـي‬ ‫العيـن من خالل الحسـي ذاتـه‪ ،‬بعيدًا عن‬ ‫تجريديـة المفاهيم وسـلطتها في التحديد‬ ‫‪108‬‬

‫المسبق لألحاسيس‪ .‬فكل إحساس هو في‬ ‫ُ‬ ‫األصل نسخة من نفسه‪ ،‬قبل أن يستوطن‬ ‫مـا يمكـن أن ُي ْجلـي مضمونه‪« ،‬فال وجود‬ ‫لمعادل لفظي إلحساس ملون»‪ ،‬كما كان‬ ‫يقول بـول فاليري (‪.)1‬‬ ‫وتلـك هـي الحـدود الفاصلـة بيـن مـا‬

‫يأتـي مـن اللغـة الطبيعيـة (اللسـان)‪،‬‬ ‫وبين ما تلتقطه الحواس‪ ،‬فنحن «نبصر‬ ‫داخـل عالـم ونتكلّـم فـي عالـم آخـر»(‪.)2‬‬ ‫ذلـك أن التعبيـر «الغرافـي» ليـس آليـة‬ ‫تخطيطيـة بصرية طارئـة ِ‬ ‫والحقة للغة‪،‬‬ ‫بـل هـو وثيـق الصلـة بالتعبيـر اللفظـي‬


‫نفسـه‪ ،‬إنهما فعاليتان من نشـأة واحدة‪،‬‬ ‫ومختلفتان في الطاقة التعبيرية‪ .‬يتعلق‬ ‫األمر بطريقتين في «قول» العالم وتسريب‬ ‫المعنى إلى كائناته وأشيائه‪ .‬فمن خالل‬ ‫تتحول األشياء‬ ‫هذا المعنى وحده يمكن أن ّ‬ ‫إلـى عالمات‪.‬‬ ‫وهـذا مـا تؤكـده طبيعـة الوصلات‬ ‫اإلشـهارية الجديـدة‪ .‬إن اللفـظ ال يقـوم‬ ‫عـادة داخلهـا سـوى بـدور بسـيط ضمـن‬ ‫المستهِلك المحتمل‬ ‫سيرورة إثارة انتباه ُ‬ ‫موضوع للبيع‪ .‬وهو ما يعني‬ ‫إلى ُمنَتج‬ ‫ٍ‬ ‫أن اإلشـهاري ال يصـب مضاميـن جاهـزة‬

‫ضمن سـيرورة‬ ‫في صورة خرسـاء‪ ،‬بل ُي ِّ‬ ‫التمثيـل البصـري واللفظـي كتلـة هائلـة‬ ‫مـن االنفعـاالت هـي أصل الرغبـة وأصل‬ ‫الحاجات‪ ،‬وهي السبيل إلى تلبيتها أيضاً‪.‬‬ ‫إنـه ال يبيـع فـي حقيقـة األمـر منتجـات‬ ‫موجهـة إلشـباع النفعـي فـي الوجـود‬ ‫المسـتهِلك بوابل من‬ ‫المباشـر‪ ،‬بـل يمطـر ُ‬ ‫«الصور»‪ ،‬هي ما يسـتثير العين ويشدها‬ ‫إلـى موضـوع نظرتهـا‪.‬‬ ‫وهـذا دليـل علـى تهافـت تصـورات كل‬ ‫الذيـن شـككوا‪ ،‬فـي مرحلـة مـن مراحـل‬ ‫تاريـخ التعبيـر الغرافـي‪ ،‬وفـي تاريـخ‬ ‫التمثيل اإلشهاري على وجه الخصوص‪،‬‬ ‫فـي قـدرة الصـورة علـى قـول شـيء آخر‬ ‫غير استنساخ موضوعات تعرضها على‬ ‫العين بشكل ُمحاِيد‪ .‬فالتواصل اإلنساني‬ ‫فـي تصورهـم‪ ،‬واإلشـهار جـزء منـه‪ ،‬هو‬ ‫إرسـالية لسـانية فـي المقـام األول‪ ،‬إن‬ ‫وي َعـّدد مزايـا المنتـج‬ ‫اللفـظ فيـه يمـدح ُ‬ ‫وفضائلـه على الـذات الفردية والجماعية‬ ‫استنادًا إلى كلمات «تشرح» سياق الشراء‬ ‫ودواعـي االسـتهالك؛ وتلـك وسـيلتها‬ ‫المثلـى فـي اإلقناع‪.‬‬ ‫بعبـارة أخـرى‪ ،‬إن الصورة لإليضاح‬ ‫فقـط‪ ،‬أمـا المضمـون الحقيقـي للوصلـة‬ ‫فمودع في لغة العرض اإلشهاري وحده‪،‬‬ ‫إذ مـن خاللهـا يسـتطيع المتلقـي معرفـة‬ ‫مـا تـود الوصلـة قولـه‪ .‬وهـو الموقـف‬ ‫الـذي ُعرفـت بـه مجموعة مـن الخطاطات‬ ‫التواصلية الكالسـيكية في اإلشـهار‪ ،‬من‬

‫قبيـل ‪( aida‬االنتباه والمصلحة والرغبة‬ ‫والشراء) والسويل وداغمار‪ ،‬وهو أيض ًا‬ ‫الموقـف الـذي تبنـاه دعـاة «التدريج» في‬ ‫المغـرب‪ ،‬فحولـوا الصـورة إلـى فضـاء‬ ‫تتخللـه «المنافـع» المباشـرة‪ ،‬عـوض أن‬ ‫ال نحـو الكشـف عمـا ال تـوده‬ ‫تكـون سـبي ً‬ ‫الذات أو ال تستطيع قوله‪ .‬وبذلك قلّصوا‬ ‫مـن الطاقـة التعبيريـة للصـورة واكتفـوا‬ ‫بصبهـا فـي ُمْرفـق دارج َيهـدي العيـن إلى‬ ‫ما يجب أن تستهلك‪ ،‬ال ما يجب أن تحتفي‬ ‫بـه فـي ما هـو أبعد من المنتج ووظيفته‪.‬‬ ‫لقـد نظـروا إلـى الصـورة باعتبارهـا‬ ‫تمثيلا حسـياً‪ ،‬وال ثقـة فـي مـا يأتـي مـن‬ ‫ً‬ ‫الحواس ويسـتوطنها‪ ،‬وهي بذلك تحتل‬ ‫مرتبـة ثانيـة فـي عالقتهـا بالمفاهيـم‪ .‬إن‬ ‫اللغـة وحدها تمتلـك القدرة على التجريد‬ ‫وتسمية مناطق النفس والوجود والفصل‬ ‫بينها‪ .‬فنحن‪ ،‬حسب هذا التصور دائماً‪ ،‬ال‬ ‫ندرك مضمون الصورة إال إذا قمنا بتحويله‬ ‫إلـى وجـه مفهومي مجـرد‪ ،‬هو ما تحتفظ‬ ‫به الذاكرة وهو القابل للتداول‪ .‬والحاصل‬ ‫أن المسـتهلك ال يتوقـف عنـد الصـورة إال‬ ‫مـن أجل «قـراءة» ما يقوله النص اللفظي‬ ‫عـن محاسـن المنتـج وفضائله‪ .‬وأحسـن‬ ‫الطـرق إلـى ذلـك وأقربها إليـه هو دارجة‬ ‫ال تملك من طاقات التعبير سوى الوصف‬ ‫المباشر‪.‬‬ ‫وهـذا أمـر تفنـده طبيعـة التمثيـل‬ ‫البصـري ذاتـه‪ .‬إن الصـورة الذهنيـة‬ ‫ليسـت استنسـاخ ًا مطلق ًا إلدراك حسـي‪،‬‬ ‫‪109‬‬


‫أو وجهـ ًا مـن وجوهـه‪ .‬فعلـى عكـس مـا‬ ‫ُتوهـم بـه حـاالت االستنسـاخ البصـري‪،‬‬ ‫هنـاك دائمـ ًا فاصل بيـن الصورة والعالم‬ ‫المرئـي فـي الخـارج‪ُ ،‬تعـد األولـى لوحـة‬ ‫ممتدة في العين واستيهاماتها‪ ،‬أما الثاني‬ ‫فمتحـول فـي الطبيعة وحدها‪ ،‬إنه أسـير‬ ‫زمنية تستوعب كل واجهات الوجود داخل‬ ‫منطق التتابع الالمتناهي داخلها‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫نتجـ ًا «حافيـاً» ُمنفلتـ ًا‬ ‫ال تقـدم الصـورة ُم َ‬ ‫مـن أي سـياق‪ ،‬بـل ُتعيـد صياغته ضمن‬ ‫انفعاالت الذات ورغبتها في أن تكون أكثر‬ ‫مـن مجـرد «أنا» معزولة تسـتهلك النفعي‬ ‫فـي المـواد وفـي القيم‪.‬‬ ‫إن هذه الرغبة وحدها قادرة على دفع‬ ‫المتلقـي لالنتشـاء إلـى ما يتـم تمثيله في‬ ‫الصورة باعتباره تجربة حسية مصدرها‬ ‫العيـن ال المفاهيـم‪ .‬فمـا يقولـه الخطـاب‬ ‫اللفظي ال يشكل‪ ،‬في حقيقة األمر‪ ،‬سوى‬ ‫«تبريـر َب ْعـدي» يكتفـي بصـب مضمـون‬ ‫الصـورة فـي كلمات ُترسـي قاعدة لمعنى‬ ‫قـد يبـدو «جليـاً» فـي الذهـن‪ ،‬ولكنـه لـن‬ ‫يكـون هـو الباعـث على الشـراء في جميع‬ ‫‪110‬‬

‫الصورة ال تقترح‬ ‫مضمون ًا جاهز ًا‪ ،‬بل‬ ‫تداهم الوجدان‬ ‫وتوجهه نحو ما‬ ‫نسيه أو استبطنه‬ ‫خلسة‬ ‫الحاالت‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن الصورة ال «تستثير»‬ ‫فحسب‪ ،‬وال تشرح البعد اللفظي من خالل‬ ‫تتعـرف عليهـا‬ ‫إضافـة «جزئيـة بصريـة»‬ ‫ّ‬ ‫العيـن فـي مـا هـو مـودع فـي التسـميات‬ ‫الم ِ‬ ‫صاحـب‪ ،‬إنهـا مسـتقلّة فـي‬ ‫والتعليـق ُ‬ ‫طرائـق اإلقنـاع واإلبلاغ‪ ،‬وفـي اسـتثارة‬ ‫مـا تـوده مـن انفعاالت‪ .‬إنهـا لغة بنحوها‬ ‫تنوعـة‪.‬‬ ‫الم ِّ‬ ‫وتركيبهـا وتأليفاتهـا الدالليـة ُ‬ ‫فهـي فـي األصـل حاصـل تسـنينات‬ ‫اجتماعيـة ُمسـبقة لقيـم أودعهـا اإلنسـان‬

‫فـي محيطـه‪ ،‬فـي الشـكل واللـون والخط‬ ‫وزوايـا الرؤيـة‪.‬‬ ‫قـد ال يتعلّـق األمـر بخاصيـات لهـا‬ ‫صرامة اللفظي وأحكامه‪ ،‬ولكنها مع ذلك‬ ‫ال ُت َسلم نفسها إال من خالل استنفار معرفة‬ ‫تسـتعيد الـذات مـن خاللهـا مـا ُه ِّـر َب فـي‬ ‫غفلة منها في تفاصيل العادي والمألوف‬ ‫والمتـداول‪ .‬لذلـك عادة ما يلتقط المتلقي‬ ‫«كلية» الصورة قبل أن ينتبه إلى «خطية»‬ ‫ّ‬ ‫الخطاب اللفظي‪.‬‬ ‫بعبـارة أخـرى‪ ،‬إن الصـورة ال تقتـرح‬ ‫مضمونـ ًا جاهـزاً‪ ،‬إنهـا تداهـم الوجـدان‬ ‫وتوجهـه نحـو مـا نسـيه أو تناسـاه أو‬ ‫اسـتبطنه خلسـة‪ .‬وبذلـك‪ ،‬فـإن قوتهـا‬ ‫اإلقناعيـة تكمـن فـي قدرتهـا علـى التأثيـر‬ ‫المباشر دفعة واحدة في الالشعور‪ ،‬على‬ ‫عكـس المضمـون اللفظـي الـذي يسـتدعي‬ ‫«طوليـة» فـي الزمـان‪ .‬إنهـا ليسـت لحظـة‬ ‫«للتأمل» العقلي‪ ،‬بل هي اندفاع «حسي»‬ ‫نحو الفعل‪ ،‬ما يسـميه ريجيس دوبري‪،‬‬ ‫«طفولـة العالمـة»‪ ،‬ذلـك أن «الصـورة‬ ‫هـي مـن طبيعـة رمزيـة‪ ،‬ولكنها ال تمتلك‬


‫رغبات أخرى ال‬ ‫يمكن أن تشبعها‬ ‫سوى صور مفتوحة‬ ‫على الحلم والشعر‬ ‫واالستيهامات‬ ‫بعيد ًا عن السلوك‬ ‫النفعي‬

‫الخصائـص الدالليـة للسـان»(‪ .)3‬وتلـك‬ ‫حقيقـة أخـرى تؤكـد أن مصـدر نجـاح‬ ‫الوصلـة هـو اسـتعمالها الجيـد للطاقـات‬ ‫التعبيريـة البصريـة‪ ،‬فـي انفصـال عـن‬ ‫«جزالـة» اللفـظ وقوة الشـرح المصاحب‪،‬‬ ‫و«حسـية» التعبيـر الـدارج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهـذا معنـاه أن مصـدر اإلقنـاع فـي‬ ‫اإلشـهار ال يكمـن فـي مـا يمكـن أن يقدمـه‬ ‫«منطق الملفوظ أو الحجة‪ ،‬بل ما يمكن أن‬ ‫يقوله منطق الحكاية واالنخراط‪ .‬فنحن ال‬ ‫نصـدق مـا يقال لنا في الحكايات‪ ،‬ولكننا‬ ‫نحرص مع ذلك على سماعها»(‪ .)4‬وتلك‬ ‫هي القوة الضاربة «للمحتمل»‪ ،‬إنه ال ُيقنع‬ ‫بالبينـة والبرهـان‪ ،‬بـل ُيغـري بالتمثيـل‬ ‫المشـخص‪ ،‬سـواء أكان ذلـك مـن خلال‬ ‫الحكـي أم مـن خالل حسـية الصـورة‪ .‬إن‬ ‫التشـخيص في الحالتين معا هو السـبيل‬ ‫يتطور خارج إكراهات التفكير‬ ‫إلى وجدان ّ‬ ‫العقلي‪.‬‬ ‫إن رفـض فكـرة االستنسـاخ البصـري‬ ‫هاته هي في الواقع رفض للفكرة القائلة‬ ‫إن المنتـج مجـرد شـيء مـادي تحكمـه‬ ‫«نفعيـة» صريحـة‪ .‬والحـال أن الطابـع‬ ‫المادي فيه ال يشكل سوى واجهة عرضية‬ ‫قـد تكـون بلا قيمـة فـي غالـب األحيـان‪،‬‬ ‫ذلك أن ما تلتقطه العين هو لون وشـكل‬ ‫ووضعة‪ .‬وهو ما‬ ‫وخـط وامتـداد وإيقـاع ِ‬ ‫تقدم للعين أشـياء‪،‬‬ ‫يعنـي أن الصـورة ال ِّ‬ ‫بـل تسـتعير مـن الوجود واجهـات هي ما‬ ‫تقـوم بتمثيلـه اسـتنادًا إلـى خاصيـات‬

‫اإلدراك البصـري‪.‬‬ ‫إن المـاء واحـد فـي الوجـود‪ ،‬ولكنـه‬ ‫تعدد في المظاهر والتجلي‪ ،‬إنه شالالت‬ ‫ُم ِّ‬ ‫وسـيول وبحـار ووديـان‪ ،‬إن األساسـي‬ ‫فيه ليس «مادة»‪ ،‬بل خاصياته باعتباره‬ ‫منعشـ ًا وجارف ًا وعنيفـاً‪ ،‬ومالح ًا ورقراق ًا‬ ‫وعذبـ ًا زالالً‪ .‬وقـد يكـون مصـدر ذلـك هـو‬ ‫طبيعـة تمثُّلنـا للكون ذاته‪ ،‬فالعالم ليس‬ ‫فطري ًا في العين‪ ،‬والتمثيل البصري ليسا‬ ‫طارئـ ًا فـي وجودنـا‪ ،‬إنـه متأصـل فينـا‪،‬‬ ‫«سـر» المفاهيـم وقدرتهـا‬ ‫فنحـن ال نـدرك ّ‬ ‫علـى اختصـار العالم إال مـن خالل تمثُّلها‬ ‫ومتعاقبـة فـي‬ ‫«متحيـزة فـي الفضـاء ُ‬ ‫الزمان»‪.‬‬ ‫تؤكـد حـاالت التمايـز هاتـه أن مـا يتـم‬ ‫تمثيلـه فـي اإلشـهار والترويـج لـه ليـس‬ ‫المنتـج فـي حقيقتـه الماديـة ذات النفـع‬ ‫المباشـر‪ ،‬بـل فقـط مظهـر مـن مظاهـره‪.‬‬ ‫فنحـن نبحـث فـي محيطنـا عـن «الليونة»‬ ‫و«الرقـة» و«النعومـة» و«الصالبـة»‬ ‫و«النقـاء» و«الطهـارة» و«البيـاض»‪،‬‬ ‫ونشـتري مـع السـيارة المظهـر والزهـو‬ ‫والرقـي االجتماعـي‪.‬‬ ‫إننـا فـي جميـع هـذه الحـاالت‪ ،‬فـي‬ ‫اإلشهار وخارجه‪ ،‬نستهلك قيم ًا ومواقف‬ ‫ولحظـات وجوديـة‪ .‬فألننـا ال نكتفـي‬ ‫باستهالك مواد تلبي حاجة مباشرة‪ ،‬فإن‬ ‫«اإلشـهار يدلنا على ما يجب أن نسـتهلكه‬ ‫مـن خلال هذه المـواد» (د‪ .‬فيكتـوروف)‪.‬‬ ‫هناك في ما هو أبعد من السلوك النفعي‬

‫رغبات أخرى ال يمكن أن تشـبعها سـوى‬ ‫صـور مفتوحـة علـى الحلـم والشـعر‬ ‫واالسـتيهامات‪.‬‬ ‫حسية العين ليست عيب ًا في اإلدراك‬ ‫إن ّ‬ ‫وفـي تمثُّـل الكـون‪ ،‬بل هي طاقـة ُمضافة‬ ‫إلى ما ال يمكن أن تستوعبه الكلمات‪ ،‬إنها‬ ‫منفـذ إلـى عوالم ُيسـتعصى ترويضها من‬ ‫خلال اللفـظ وحـده‪ .‬لذلـك ال يتعلق األمر‬ ‫ٍ‬ ‫«حـاف» ٍ‬ ‫خال‬ ‫فـي الصـورة بحالـة إبصـار‬ ‫مـن المضافـات االنفعاليـة‪ ،‬بـل بـ«تجربة‬ ‫للنظـرة»‪ ،‬فهـذه التجربـة وحدهـا تخلِّص‬ ‫الرغبـة واالنفعـال واالسـتيهام مـن ربقـة‬ ‫التمثيل المفهومي المجرد‪ ،‬لكي تردها إلى‬ ‫حالتهـا «الطبيعيـة»‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن المضاف‬ ‫الـدارج ال يمكـن أن يشـرح البصـري‪ ،‬بـل‬ ‫ويحول‬ ‫ُيفرغ الصورة من قوتها التعبيرية‬ ‫ّ‬ ‫المنتج‪ ،‬من خالل ذلك‪ ،‬إلى «لعبة» يلهو‬ ‫بها المسـتهلك‪ ،‬كما يلهو كل الصغار‪...‬‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬تبدو موضوعات العالم‬ ‫موزعة بين اسـتعمال يشـدها إلى العملي‬ ‫في الوجود‪ ،‬وسرعان ما يبلعها النسيان‪،‬‬ ‫وبين دالالت تمنحها موقع ًا ضمن المخيال‬ ‫اإلنسـاني‪ ،‬مـا كان يسـميه روالن بـارث‬ ‫حـاالت «التوتـر الـذي يجمـع بشـكل دائـم‬ ‫بيـن وظيفـة الشـيء ومعنـاه‪ ،‬فالوظيفة‬ ‫متحركـة فيـه‪ ،‬أمـا معنـاه فثابـت‪ ،‬إنـه ما‬ ‫ِّ‬ ‫يودع ضمن خزان ما نسميه الرمزية»(‪،)5‬‬ ‫َ‬ ‫فاسـتنادًا إلـى هذه الرمزيـة وحدها يمكن‬ ‫للصورة أن تقترح على العين شيئ ًا آخر‬ ‫غيـر ما َأِلفته في معيشـها اليومي‪.‬‬ ‫وخالصـة ذلـك أن اإلشـهار ال يدعونـا‬ ‫إلـى شـراء منتجـات‪ ،‬إنـه «يضيـف إليهـا‬ ‫ستظل المنتجات‬ ‫(دفئاً)‪ ،‬ودون هذا الدفء‬ ‫ّ‬ ‫بلا روح»‪ .‬وهـي صيغـة أخـرى للقـول‪،‬‬ ‫إن األساسـي ليـس مادة االسـتهالك‪ ،‬بل‬ ‫الخطـاب الحامـل لهـا‪ ،‬ونقطـة ارتكاز هذا‬ ‫الخطـاب هـي الصورة‪ .‬والصـورة هي ما‬ ‫المستهِلك‪.‬‬ ‫يستهوي ُ‬ ‫هوامش‬ ‫‪1- Régis Debray : Vie et mort de l’image, une his‬‬‫‪toire du regard en occident, éd Gallimard,1992,‬‬ ‫‪p.64‬‬ ‫‪ -2‬نفسه ص‪60‬‬ ‫‪ -3‬نفسه ص ‪60‬‬ ‫‪4- Jean Baudrillard: Le système des objets, éd‬‬ ‫‪Gallimard, 1968, p.232‬‬ ‫‪5- Roland Barthes: L’aventure sémiologique, éd‬‬ ‫‪seuil, 1985, p.259‬‬

‫‪111‬‬


‫سينما‬

‫األفالم اللبنانية‬

‫بعيد ًا عن شباك التذاكر‬ ‫منذ ســنة ‪ 2012‬وحتى منتصف ‪ ،2014‬وفي مشــهد غير مألوف‪ ،‬يخترق‬ ‫كــم من األفالم الروائية الطويلة اللبنانية صاالت الســينما المحلية‪ ،‬ومع‬ ‫ّ‬ ‫المظِلمة الكتشاف‬ ‫ّ‬ ‫كل بطاقة ُت ّ‬ ‫مزق‪ ،‬لتحســب أن مشــاهدًا جلس في القاعة ُ‬

‫بريوت‪ :‬نرسين حمود‬

‫ماهيــة هذه األفالم؟ يراكم المنتجون أرباحــ ًا ال تجعل أكثرهم تفاؤ ًال يحلم‬ ‫بهــا‪ ،‬مــا يجعلهم يكــررون التجربة‪ ،‬ليخلص مشــهد األفــام اللبنانية إلى‬ ‫«صرخــات» متناثــرة عاجزة عن أن ترســم مالمح ســينما وطنية‪ ،‬أو أن‬ ‫تلبي شروط الفيلم السينمائي التجاري‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫كلود صليبا‪«:‬لماذا نقبل الفيلم الخفيف‬ ‫اآلتي من «هوليوود»‪ ،‬بينما ال نريد الفيلم‬ ‫اللبناني سوى أن ينتمي إلى سينما‬ ‫المؤلف؟»‬

‫ويتفاقـم المـأزق المترتـب علـى هـذه‬ ‫األفلام‪ ،‬حيـن ُتتخـذ هذه األخيـرة معيارًا‬ ‫للنقـد‪ ،‬ليصنّـف مـا هو أفضـل منها‪ ،‬بقدر‬ ‫ال يسـتحق الذكـر‪ ،‬فـي خانـة «التحفـة‬ ‫أن ثغرات بالجملة تعتوره‪،‬‬ ‫الفنية»‪ ،‬ولو ّ‬ ‫بـل وحيـن يمنـع الرقيـب أحدهـا بحججـه‬ ‫يتحول الموقف من نقد مشاهده‬ ‫الواهية‪ّ ،‬‬ ‫إلـى االصطفـاف خلـف مخرجه!‬ ‫وإذا كان عـدد المشـاهدين المرتفـع‬ ‫سلاح ًا يشـهره معـّدو هـذه األفلام‪ ،‬التي‬ ‫ُتصنَّـف تحـت صنف الدرامـا أو الكوميديا‬ ‫أو األكشـن أو الرعـب‪ ،‬فـي وجه منتقديها‬ ‫الجدييـن‪ ،‬فـإن الطامـة الكبـرى تكمـن في‬ ‫تحميل هذه األعمال حمل اختصار الهوية‬ ‫اللبنانية!‬ ‫ومـع تلميـع الوجـوه إلـى حـّد إخفـاء‬ ‫المساحيق مالمحها‪ ،‬حسب تقليد اإلعالم‬ ‫اللبنانـي‪ ،‬يتربـع القيمـون علـى هـذه‬ ‫األفلام علـى عـروش ُمحاكـة مـن أوهـام‬ ‫سـينمائية‪ ،‬ولـو أن أحـدًا منهم غير مهتم‬ ‫فـي إيداعنـا نخـرج مـن القاعـة محمليـن‬ ‫باألسـئلة‪ ،‬أو حتـى يكلّـف نفسـه عنـاء‬ ‫إقناعنـا‪ ،‬نحـن المنفتحيـن علـى إنتاجات‬ ‫عالميـة‪ ،‬أن صنيعـه محاولـة تسـتحق‬ ‫تفحصـة‪.‬‬ ‫النظـر إليهـا بعيـن ُم ِّ‬

‫إغراء‬ ‫لـدى محاولـة سـبر هـذه الظاهـرة‪،‬‬ ‫يتـردد اسـم المخرجـة اللبنانيـة ناديـن‬ ‫ّ‬ ‫لبكـي‪ -‬وأن ال تحمـل الئحـة األفلام‬ ‫المنجـزة منـذ ‪ 2012‬توقيعهـا‪ -‬وتحديـدًا‬ ‫نتاجهـا الروائـي الطويـل الثانـي «هلأ‬ ‫قصـة ذات توابـل‬ ‫لويـن» المتكـئ علـى ّ‬ ‫مغريـة‪ ،‬تشـمل‪ :‬القريـة التـي لـم تعـرف‬ ‫التليفزيـون إال أخيـراً‪ ،‬ومناكفـات رعايـا‬ ‫الطوائف المسلمة والمسيحية‪ ،‬وراقصات‬ ‫االستعراض اآلتيات من أوروبا الشرقية‪..‬‬

‫والكثير من «الكليشيهات»‪ ،‬ضمن مشاهد‬ ‫«نظيفة» سينمائياً‪ ،‬ال تزيدها الموسيقى‬ ‫التصويرية سوى جذب‪ .‬والنتيجة‪ :‬اآلالف‬ ‫مـن المشـاهدين‪ ،‬يبرحـون مـن الصـاالت‬ ‫مبهوريـن بعمـل شـابة ذكيـة تعـرف مـن‬ ‫أيـن تـؤكل الكتف؟ تخوض غمار السـينما‬ ‫بعـد تجربـة طويلة فـي العمل في مجالي‬ ‫«الفيديو كليب» واإلعالن‪ ،‬وتتقن التعامل‬ ‫مـع «الميديـا»‪ ،‬ولكـن العالميـن باألمـور‬ ‫يحللـون أن إنتـاج «هلأ لويـن» المهـول‬ ‫المشـترك (فرنسـي ولبنانـي ومصـري‬ ‫وإيطالـي)‪ ،‬يمكنـه أن يقـوم بمعجـزات‬ ‫تتجاوز مشـهد زوجة المختار المسـيحية‬ ‫تـؤدي فريضـة الصلاة علـى الطريقـة‬ ‫اإلسلامية فـي الفيلـم‪ ،‬أو مشـهد مواجهة‬ ‫األم الثكلـى تمثال العـذراء قبل تحطيمه‪،‬‬ ‫أو مشـهد النسـوة المجتمعـات فـي مقهـى‬ ‫الحـي يخلطـن العجيـن الخاص بالعشـاء‬ ‫بالحشيشـة‪ ،‬فـي محاولـة منهـن لـردع‬ ‫أزواجهـن عـن االقتتـال الطائفـي!‬ ‫ويثار «هأل لوين»‪ ،‬لدى حديث الكاتبة‬ ‫ُ‬ ‫اللبنانيـة كلـود صليبـا لــــ «الدوحة» عن‬ ‫تجربتهـا فـي فيلم بيبـي (من إخراج إيلي‬ ‫ف‪ .‬حبيـب)‪ ،‬الـذي شـاهده ‪157949‬‬ ‫يتربع‬ ‫مشاهدًا في ‪ 21‬أسبوعاً‪ ،‬ما جعله َّ‬ ‫علـى رأس الئحـة األفلام اللبنانية األكثر‬ ‫مشاهدة في الفترة األخيرة‪ ،‬ويليه «حبة‬ ‫لولو» لليال راجحة (‪ 126362‬مشـاهداً)‪.‬‬ ‫تقـول‪« :‬ممـا ال شـك فيـه أن أربـاح فيلـم‬ ‫شجعت المنتجين اللبنانيين‬ ‫لبكي الثاني ّ‬ ‫علـى إنفـاق المال على السـينما المحلية‪،‬‬ ‫بعـد أن أحجمـوا مـن قبل نتيجـة العوامل‬ ‫المعروفـة‪ ،‬مـن بقعـة لبنـان الجغرافيـة‬ ‫المحـدودة وعـدد سـكانها المتواضـع‪،‬‬ ‫رواد السـينما مـن بينهـم‪ .‬فـي‬ ‫وضآلـة ّ‬ ‫المقابـل‪ ،‬كان التليفزيـون يغريهـم أكثـر‬ ‫«هم‬ ‫لالسـتثمار»‪ .‬وتستطرد‬ ‫ً‬ ‫موضحة أن ّ‬ ‫المشـتغلين فـي السـينما اليـوم مـن كّتاب‬

‫ومخرجين وممثلين ليس مادي ًا بحتاً‪ ،‬بل‬ ‫يدغدع الفن السابع عواطفهم‪ ،‬يستفزهم‪..‬‬ ‫وسواء نجحوا أم لم ينجحوا في عوالمه‪،‬‬ ‫يبقـى اسـمهم موثق ًا فـي كتبه!»‪.‬‬ ‫تصـر صليبـا علـى تلبيـة «بيبـي»‬ ‫ّ‬ ‫شـروط الفيلم السـينمائي‪ ،‬وتشـّدد على‬ ‫أنهـا ال تسـتخف بعقول النـاس‪ ،‬كما فعل‬ ‫حـول الحلقـة األخيـرة مـن‬ ‫غيرهـا عندمـا ّ‬ ‫مسلسـل تليفزيونـي جماهيـري إلـى فيلم‬ ‫تستضيفه قاعة (فيلم «غنوجة بيا» إليلي‬ ‫حبيـب)‪ ،‬بغيـة تحقيـق الربـح السـريع!‬ ‫تدافـع عـن قصتهـا المتمحـورة حـول‬ ‫فتـاة ذات نمـو جسـدي طبيعـي‪ ،‬تعانـي‬ ‫مـن بـطء عقلـي نتيجـة اسـتهالك غـذاء‬ ‫فاسـد‪ُ ،‬تصـادف محاميـ ًا يدافـع عـن أحـد‬ ‫التجار المشبوهين‪ ،‬فتدفعه ببراءتها إلى‬ ‫إعـادة حسـاباته‪ ،‬قبـل أن يتزوجـا‪.‬‬ ‫وتعيـد صليبـا عـدم اسـتقبال النقـد‬ ‫الجـدي لعملهـا بالترحـاب إلـى عقليـة‬ ‫تعتقـد أنّـه يجـدر بالفيلـم اللبنانـي أن‬ ‫يكون خاص ًا بالمهرجانات‪ ،‬مع اإلشـارة‬ ‫إلـى «أن األفلام قبل الحرب األهلية كانت‬ ‫تشـبه «هلأ لويـن» أو «بيبـي»‪ ،‬أي كانت‬ ‫جماهيريـة تحاكـي الجمهـور البسـيط»‪.‬‬ ‫وتسأل‪« :‬لماذا نقبل الفيلم الخفيف اآلتي‬ ‫مـن «هوليـوود»‪ ،‬بينمـا ال نريـد الفيلـم‬ ‫اللبنانـي سـوى أن ينتمـي إلـى سـينما‬ ‫المؤلـف؟»‪.‬‬ ‫وبعد أن تشرح أن «الجمهور اللبناني‬ ‫ليـس علـى قـدر عـال مـن الثقافـة‪ ،‬مـا‬ ‫يجعلنا مضطرين إلى أن نعطيه جرعات‬ ‫سـينمائية‪ ،‬ضمـن اسـتراتيجية توصلـه‬ ‫أخيـرًا إلـى حضـور فيلـم للمثقفيـن»‪،‬‬ ‫تتابـع إن «جعـل اللبناني يثق في األفالم‬ ‫المحليـة‪ ،‬ويتكبـد عنـاء الذهـاب إلـى‬ ‫الصالـة لحضورهـا‪ ،‬يبـدأ مـع هـذا النـوع‬ ‫مـن األفلام التـي القـت النجاح أخيـراً‪ ،‬ما‬ ‫يراكـم اإلنتاجـات ويدفـع إلـى أن يمسـي‬ ‫‪113‬‬


‫لمشـاهدها تفضيلات»‪.‬‬ ‫وفـي انفعـال مبالـغ فيـه‪ ،‬تختـم‬ ‫يحمل‬ ‫شـهادتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قائلة إن «النقد السـلبي ّ‬ ‫ممـا تحتملـه‪ ،‬ولـو‬ ‫أكثـر‬ ‫األولـى‬ ‫تجاربنـا‬ ‫ّ‬ ‫أني أعتبر أن النقد السـينمائي الحقيقي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهـذا األخيـر اختصـاص يـدرس فـي‬ ‫الجامعـة‪ ،‬يغيـب عـن لبنـان‪ ،‬وأن مـن‬ ‫يكتبـون فـي هـذا المجـال يحكمـون علـى‬ ‫أعمالنـا بطريقـة ذاتيـة للغايـة»‪.‬‬

‫تلفزة في السينما‬ ‫شـغف الناقـد هوفيـك حبشـيان‬ ‫تتبـع مهرجاناتهـا‬ ‫بالسـينما‪ ،‬يدفعـه إلـى ُّ‬ ‫والتعرف عن كثب إلى معلّميها‪.‬‬ ‫العالمية‬ ‫ّ‬ ‫هـو ال يرائـي‪ ،‬عنـد مقاربـة اإلنتاجـات‬ ‫اللبنانيـة األخيـرة‪ ،‬التـي لـم َت ْسـَلْم مـن‬ ‫قلمـه اللاذع‪.‬‬ ‫يقـول‪ ،‬فـي شـهادته لــــ «الدوحـة» إن‬ ‫«نوعيـن مـن األفلام اكتسـحا الشاشـات‬ ‫فـي المرحلـة األخيـرة‪ :‬األفلام اللبنانيـة‬ ‫تعبر عن مأزق حقيقي في‬ ‫الهابطـة التـي ّ‬ ‫فهـم السـينما (حتـى السـينما التجاريـة)‪،‬‬ ‫واألفلام الوثائقيـة التـي تديـن التـردي‬ ‫االجتماعي على المستويات كافة وتكشف‬ ‫تفاصيله‪ ،‬أو التي تقول لنا‪« :‬ال تنسـوا‪.‬‬ ‫أفلام الفئـة األولـى‪ ،‬من «حبة لولو» إلى‬ ‫«بيترويت» فـ«بيبيه» و«كاش فلو»‪ ،..‬هي‬ ‫أفالم تليفزيونية رخيصة‪ ،‬وإن كان إطار‬ ‫عرضهـا هـو الصالـة السـينمائية»‪ .‬وإذ‬ ‫يصـف هذه األخيرة بظاهرة «التليفزيون‬ ‫بإيجابية عن تلك‬ ‫في السـينما»‪ ،‬يتحّدث‬ ‫ّ‬ ‫الوثائقية‪.‬‬ ‫وال يسـتقبل حبشـيان‪ ،‬بحفـاوة‪،‬‬ ‫وصول بعض األفالم اللبنانية إلى مراتب‬ ‫‪114‬‬

‫«ينقصنا سينمائيون يمتلكون الجرأة‬ ‫والموهبة و«الجنون» والقدرة على بعث‬ ‫حياة جديدة في سينما أشبه بجثة أحيان ًا‬

‫تقدمـة فـي شـباك التذاكر أخيـراً‪ُ ،‬معلّق ًا‬ ‫ُم ِّ‬ ‫علـى األمـر بالقـول‪« :‬سـنة ‪ ،2013‬كان‬ ‫الفيلـم األكثـر مشـاهدة هـو «حبـة لولـو»‬ ‫لليال راجحة‪ ،‬وهو عمل يندرج في إطار‬ ‫السينما الهابطة‪ ،‬سبق أن اعتبرناه فيلم ًا‬ ‫لبناني ًا غير صالح للعرض‪ .‬وهو أن تربع‬ ‫علـى رأس بورصـة السـينما اللبنانيـة‪،‬‬ ‫فـي مقابـل نفـور النقـد الجـدي منـه‪ ،‬فهـو‬ ‫يعـزز مجـددًا الهوة بيـن رأي الناقد ورأي‬ ‫ّ‬ ‫المشـاهد (وإن كان رأي األخير ال تعكسـه‬ ‫بالضـرورة عمليـة شـراء البطاقة)»‪.‬‬ ‫ويتابـع إن «مجموعـة مـن األفلام‬ ‫اللبنانية الهابطة غزت السـوق‪ ،‬ودخلت‬ ‫‪ 3‬إنتاجـات مـن بينهـا في المراتب العشـر‬ ‫األولـى لبورصة ‪ ،2013‬مسـتقطبة نحو‬ ‫‪ 320‬ألـف مشـاهد‪ ،‬أي نحـو ‪ % 10‬مـن‬ ‫مجمـوع اإليـرادات‪ .‬أمـا الفيلـم اللبنانـي‬ ‫الرابع في المراتب العشر األولى‪« ،‬غدي»‬ ‫ألميـن درة‪ ،‬فهـو حتمـ ًا ليـس بالفيلـم‬ ‫الهابط‪ ،‬وإن لم يشف غليلنا السينمائي‪،‬‬ ‫وكان نصيبـه مـن الكعكة أقل من غيره»‪.‬‬ ‫ويختصـر هـذه األعمـال فـي أنهـا‬ ‫«مجـردة مـن أي عنصـر يجعلهـا تنافـس‬ ‫السينمات األجنبية (األميركية واألوروبية‬ ‫واآلسيوية) في أي من المجاالت (التقني‬ ‫والفنـي والجماهيـري)‪ .‬ربمـا تنافـس‬

‫السـينما العربيـة تقنيـ ًا وفنيـاً‪ ،‬وحتـى‬ ‫جماهيرياً»‪ ،‬قبل أن يستدرك‪« :‬جماهيرياً‪،‬‬ ‫يتراجـع االحتمـال عندمـا يتعلّـق األمـر‬ ‫بمنافسـة الفيلـم العربـي علـى «أرضـه»‪.‬‬ ‫لبنـان بلـد صغيـر وإمكاناتـه محـدودة‬ ‫ولغتـه العربيـة وقضايـاه ال تهمـان‬ ‫مجمـل البشـر‪ ،‬وتغيـب صناعـة السـينما‬ ‫الحقيقيـة عنـه‪ ،‬بـدون تجاوز دور بعض‬ ‫السينمائيين اللبنانيين‪ ،‬الذين قد يشقون‬ ‫طريقهـم بنجـاح في سـينمات أخرى أكثر‬ ‫انتشـاراً»‪.‬‬ ‫عما يحول دون وجود سينما‬ ‫والسؤال ّ‬ ‫حقيقيـة فـي لبنان‪ ،‬يجيب عنه حبشـيان‬ ‫بالتالـي‪« :‬ينقصنـا سـينمائيون يمتلكون‬ ‫الجـرأة والموهبـة و«الجنـون» والقـدرة‬ ‫علـى بعـث حياة جديدة في سـينما أشـبه‬ ‫بجثـة أحيانـاً‪ .‬ويلـزم السـينما أيض ًا دعم‬ ‫الدولـة‪ ،‬ألن اإلنتاج المشـترك مع الغرب‬ ‫ال يكفي‪ ،‬وهو يأتي بشروط‪ .‬والمطلوب‬ ‫سن قوانين تحمي السينما اللبنانية‬ ‫أيض ًا ّ‬ ‫وترفـع مـن شـأنها أمـام الجمهـور الـذي‬ ‫يمتلك تجاهها أفكارًا مسبقة‪ ،‬كما إسقاط‬ ‫الرقابة»‪.‬‬

‫ثقافة «الماينستريم»‬

‫بعيدًا عن ثقافة «الماينستريم»‪ ،‬يعرف‬


‫«السينيفيليون» اللبنانيون المخرج غسان‬ ‫سـلهب جيـداً‪ ،‬وهـو المنشـغل حاليـ ًا فـي‬ ‫وضع اللمسات األخيرة على فيلم جديد‪.‬‬ ‫سـلهب رجل خمسـيني‪ ،‬أنجز ‪ 5‬أفالم‬ ‫روائيـة طويلـة شـاركت فـي مهرجانـات‬ ‫عالميـة مرموقـة‪ ،‬باإلضافـة إلـى أفلام‬ ‫فضلا عن مسـاهماته في كتابة‬ ‫قصيـرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫السـيناريو ألعمـال فـي لبنـان وفرنسـا‪.‬‬ ‫يتحّدث في دردشـة مع «الدوحة» عن‬ ‫الكـم من‬ ‫«صدفـة تقـف خلـف اقتحـام هـذا ّ‬ ‫معوقات‬ ‫األفالم الصاالت التجارية‪ ،‬إذ إن ّ‬ ‫إنتاج األفالم اللبنانية معروفة‪ ،‬وتشمل‪:‬‬ ‫صغـر حجـم السـوق وورود اسـم المركز‬ ‫الوطني للسينما صوري ًا وغياب أي فيلم‬ ‫يجذب إلى إعداد ما يشبهه أو يكون على‬ ‫مسـتواه والفقـدان إلـى «االسـتوديو»‪، ..‬‬ ‫ال‬ ‫ما يجعل كل فيلم من هذه األفالم مستق ً‬ ‫عـن اآلخـر‪ ،‬أي يغيـب أي خط يربط بين‬ ‫هـذه اإلنتاجـات لناحية مضامينها‪ ،‬حتى‬ ‫ص ِ‬ ‫ـود َف أن المنتـج عينـه يقـف خلف‬ ‫لـو ُ‬ ‫مجموعة منها»‪.‬‬ ‫يقـول‪« :‬بعيـدًا عـن أي عنـف لفظي أو‬ ‫لـؤم مبطـن‪ ،‬هـذه اإلنتاجـات «ضـروب»‬ ‫تجاريـة‪ ،‬يرجع انتشـارها إلى أن الناس‬ ‫جـل أوقاتهـا مقابـل شاشـة‬ ‫تمضـي ّ‬ ‫تقـل «حشـريتها»‬ ‫ومـن‬ ‫التليفزيـون‪،‬‬ ‫ثـم ّ‬ ‫ّ‬ ‫تجـاه العالـم‪ ،‬كمـا أن البعـض المثقـف‬ ‫َمّل وتعب واستسـلم‪ ،‬من جراء األوضاع‬ ‫القاهرة التي نعيشها»‪ .‬ويضيف أن «هذه‬ ‫األفلام تحاكـي التليفزيـون واللوحـات‬ ‫اإلعالنيـة‪ ،‬وأن بثهـا فـي وقـت مغايـر‬ ‫لليـوم مـن الممكـن أال يجـذب هـذا الكم من‬ ‫الجمهـور‪ ،‬فمـن المعلـوم أن الكوميديـا‬ ‫الرديئـة تالقـي النجـاح خلال األزمـات»‪.‬‬ ‫هـو يتجـاوز أمـر خلـط صانعـي هـذه‬ ‫األفالم بين سحر األضواء والسينما‪ ،‬ألن‬ ‫هـذا الخلـط لـم يمنع إعداد أفالم جيدة في‬ ‫الخارج‪ ،‬ولكنّه ال يتجاوز حقيقة أن أفالم‬ ‫هـذا البلـد أكبر من واقعه!‬ ‫عمقـة إلـى هـذه‬ ‫وبعـد نظـرة ُم َّ‬ ‫«الظاهرة»‪ ،‬ال تستثني السينمات األخرى‬ ‫فـي دول تعيـش ظروف ًا مشـابهة للبنان‪،‬‬ ‫لكنهـا تنتـج كم ًا ال ُيسـتهان به من األفالم‬ ‫الجيـدة سـنوياً‪ ،‬يشـرح كيفيـة اسـتمرار‬ ‫اللبنانييـن فـي عيـش نتائـج الحـرب‪ ،‬ما‬ ‫يجعـل أجيـا ًال كثيـرة تضيـع فـي صـورة‬ ‫بلدهـا‪« .‬نحـن بعيـدون عـن ممارسـة‬

‫تمرينـات النقـد الذاتـي أو عـن إلقـاء‬ ‫نظـرات معمقـة علـى ذواتنـا‪ ،‬بـل نحـن‬ ‫نعيـش «اليـوم بيومـه»‪ ،‬بـدون أن يحمـل‬ ‫معاشـنا الطريقـة الفلسـفية المصاحبـة‬ ‫لــــ «اليـوم بيومـه»‪ ،‬ومـا يترتب عنها من‬ ‫وتحوالت»‪ ،‬يقول‪« :‬هذا‬ ‫اكتشافات ذاتية‬ ‫ّ‬ ‫النتاج اللبناني األخير يسمى بالفيلم ألن‬ ‫صورتـه متحركـة‪ ،‬وهـو يصنـع بـدون‬ ‫شـغف فـي هذا الفن‪ ،‬ويسـتحق الدراسـة‬ ‫سوسـيولوجياً‪ ،‬وليـس سـينمائياً»‬ ‫آملا فـي أن يسـتطيع الجيـل‬ ‫يلخـص‪ً ،‬‬ ‫الجديـد أن يعـّد أفالمـ ًا جيـدة‪ ،‬ألنـه حتـى‬ ‫السـاعة ال سـينما في لبنان لسـبب بسيط‬ ‫يعـود إلـى غيـاب الطمـوح السـينمائي‬ ‫لغالبيـة المخرجيـن إلعـداد أفلام جيـدة‬ ‫بصـورة متواتـرة‪ ،‬كمـا النمـوذج الـذي‬ ‫يرغبـون فـي تقليـده‪ ،‬أو حتـى تحطيمـه‬ ‫للحلـول مكانـه‪ ،‬وذلـك بعيـدًا عـن الكالم‬ ‫«النوستاليجي» عن األفالم اللبنانية قبل‬ ‫الحـرب‪.‬‬ ‫ال يمكـن اختصـار قصـص األفلام‬ ‫الع َجالة‪ ،‬ولو‬ ‫المعروضة أخيرًا في هذه ُ‬ ‫أن بعضهـا هـو بمثابـة تتمة لما نشـاهده‬ ‫فـي نشـرات األخبـار فـي لبـوس ممثلين‬ ‫تليفزيونييـن ذائعـي الصيـت‪ ،‬يتنـاول‬ ‫بنية‬ ‫بصورة سـاذجة أو باسـتخفاف أو ّ‬ ‫حسـنة ال ترقـى إلـى الرؤيـة اإلخراجيـة‬ ‫أو بخطى متعثرة موضوعات كالشباب‬ ‫والمخـدرات‪ ،‬والعنـف الزوجـي‪ ،‬والكره‬ ‫للنسـاء‪ ،‬والولـد «المختلـف»‪ ،‬والتفاخـر‬ ‫اللبنانـي الكـذّاب‪ ،‬ومسـتقبل مكتومـي‬ ‫القيد‪.‬‬ ‫فـي الحملـة اإلعالنيـة ألحـد هـذه‬ ‫األفلام‪ ،‬يبـرز وجـه معـروف لحسـناء‬ ‫ولجـت عالـم التليفزيـون من باب عرض‬ ‫األزياء‪ ،‬وحلّقت بعيدًا في مجالي الغناء‬ ‫والتمثيـل‪ ،‬بيـن لبنان ومصر‪ ،‬تدعو إلى‬ ‫حضور الفيلم اللبناني وتشجيعه‪ .‬ولكن‬ ‫بعـد مـا تقـّدم‪ ،‬أليـس الـرد علـى هـذه‬ ‫الدعـوة بـأن األمـر ال يسـتحق العنـاء‪،‬‬ ‫مبالغـ ًا فيـه!‬ ‫الم ْج ِحـف وضـع كل األفلام‬ ‫مـن ُ‬ ‫الروائية الطويلة خالل الفترة األخيرة‪،‬‬ ‫فـي كفّـة الميزان الواحـدة‪ .‬وإذا كنا نميز‬ ‫ال مـن «ميـراث» لفيليـب عرقتنجـي‬ ‫كً‬ ‫و«قصـة ثوانـي» للارا سـابا و«طالـع‬ ‫نـازل» لمحمـود حجيـج و«عصفـوري»‬

‫لفؤاد عليوان من بين األفالم المعروضة‬ ‫أخيـرًا مـن بـاب أنهـا تمتلـك مـا قـد يثيـر‬ ‫النقاش‪ ،‬إال أن ذلك ال يعني إعجاب ًا بها‬ ‫أو حتـى الثنـاء عليهـا‪ .‬باختصار‪ ،‬يمكن‬ ‫القول إن هذه األخيرة تمتلك الحّد األدنى‬ ‫مـن «االحتـرام» لعقـل المشـاهد‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫َم ْي يف الصيف‬

‫ليس «اشتباك ثقافات»‬ ‫سليم البيك‬

‫فـي السـاِبق كانـت ُمنظمـة التحريـر‬ ‫الفلسـطينية أو بعـض فصائلهـا ُتنتـج‬ ‫أفالمـا وثائقيـة كنـوع مـن المقاومـة أو‬ ‫ً‬ ‫التوثيـق‪ ،‬أمـا فنّيـة العمـل ومعاييـره‬ ‫السـينمائية فلم تكـن أولوية‪ .‬اليوم نجد‬ ‫جميـع األفلام الفلسـطينية‪ ،‬الروائيـة‬ ‫‪116‬‬

‫تحديـدًا لمـا تتطلبـه مـن تمويـل‪ ،‬تعتمـد‬ ‫علـى جهـات إنتـاج متعـّددة‪ ،‬أوروبيـة‬ ‫تحديداً‪ ،‬إضافة لجهات عربية وخليجية‬ ‫بدأت مؤخرًا تشارك في اإلنتاج‪ ،‬وطبع ًا‬ ‫هنالك المؤسسات الفلسطينية الخاصة‪،‬‬ ‫لكـن عمومـ ًا يبقى الفيلم فلسـطيني ًا تبع ًا‬

‫لمخرجـه أو ًال ثـم لموضوعـه‪.‬‬ ‫بالنسـبة للموضـوع‪ ،‬هنالـك ضمـن‬ ‫تصنيفـات األفلام الفلسـطينية مـا‬ ‫َت ّـم إنتاجـه وإخراجـه دون انتمـاءات‬ ‫فلسـطينية لجهـات اإلنتـاج أو اإلخـراج‪،‬‬ ‫إال أن موضوع الفيلم ُيحيله إلى تصنيف‬


‫فلسطيني‪ ،‬وهو أحد تمظهرات التضامن‬ ‫القضيـة‪.‬‬ ‫األممـي مـع‬ ‫ّ‬ ‫هويـة الفيلـم إلـى مخرجـه إن‬ ‫ُتحـال ّ‬ ‫تحّدثنـا عـن فيلـم هـو عمليـ ًا صناعـة‬ ‫قصتـه‪،‬‬ ‫المخـرج‪ ،‬قـد يكـون غالبـ ًا كاتـب ّ‬ ‫وهـذا حـال معظم األفالم غيـر التجارية‪.‬‬ ‫أمـا التجاريـة فهي أفالم شـركات اإلنتاج‬ ‫مجـرد‬ ‫والنجـوم‪ ،‬حيـث المخرجـون‬ ‫ّ‬ ‫موظفيـن تختارهـم الشـركات كما تختار‬ ‫نجـوم الفيلـم‪.‬‬ ‫يمكـن الحديـث فـي هـذا السـياق عـن‬ ‫فيلم ‪ May in the Summer‬للمخرجة‬ ‫شـيرين دعيبس‪ .‬ومسألة التصنيف هنا‬ ‫ُملتِبسة‪ ،‬ال يهم‪ ،‬إنّما المهم هو احتمال أن‬ ‫ُيصنّف فيلم ما كفلسـطيني‪ ،‬وهو الحال‬ ‫فـي الفيلم موضوع حديثنا‪.‬‬ ‫الفيلـم الـذي بـدأت عروضـه مؤخـرًا‬ ‫عـرف فـي أماكـن بأنـه‬ ‫فـي أميـركا‪ُ ،‬ي ّ‬

‫فيلـم أميركـي‪ ،‬وفـي أماكـن أخـرى بأنـه‬ ‫أميركي‪-‬أردنـي وغيـره‪ ،‬تبعـ ًا للجهـات‬ ‫المنتجـة‪ .‬مخرجته فلسـطينية أميركية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قصة عائلة فلسـطينة مسـيحية‬ ‫ويحكي ّ‬ ‫عمـان‪.‬‬ ‫فـي مدينـة ّ‬ ‫َمـي هـي بطلـة الفيلـم‪ ،‬تقـوم بدورها‬ ‫مخرجتـه شـيرين دعيبس‪ ،‬وهـي كاتبة‬ ‫الفيلـم كذلـك‪ ،‬وهـذا بحـد ذاتـه كفيـل‬ ‫بجعله فيلمها بامتياز‪ ،‬كاتبته ومخرجته‬ ‫سـوغ لنـا للتعليـق‬ ‫وبطلتـه‪ ،‬وهـو مـا ُي ّ‬ ‫عليـه كفيلـم فلسـطيني‪ ،‬ال أميركـي‪ .‬من‬ ‫اسم بطلته يأتي اسم الفيلم الذي اختير‬ ‫ليكون باإلنجليزية‪ ،‬أما ترجمته فتوحي‬ ‫«أيـار فـي الصيـف»‪ ،‬وهـي معظـم‬ ‫إلـى ّ‬ ‫الترجمـات الصحافيـة العربيـة لـه‪ ،‬فـي‬ ‫خطـأ ال بـّد من مشـاهدة الفيلم لتجاوزه‪.‬‬ ‫«م ْي في الصيف»‪،‬‬ ‫الترجمة المناسبة هي َ‬ ‫ال تشـابك بين شـهر أيار والصيف‪ ،‬إنما‬ ‫عمان‪.‬‬ ‫بين َم ْي والصيف الذي قضته في ّ‬ ‫عمان في‬ ‫تعود َم ْي من نيويورك إلى ّ‬ ‫زيـارة ألهلها‪ ،‬وكي ُت ِّ‬ ‫حضر لحفل زفافها‬ ‫يصور‬ ‫زياد‪.‬‬ ‫نيويورك‪،‬‬ ‫من صديقها في‬ ‫ّ‬ ‫الفيلـم األيـام القليلـة التـي تمضيهـا فـي‬ ‫وأختيها‬ ‫عمـان وصراعاتها مع المجتمع‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّقين‪ ،‬كل على حدة‪.‬‬ ‫وأمهـا وأبيهـا المطلَ‬ ‫يعرف الفيلم عن نفسـه في صفحاته‬ ‫ّ‬ ‫على فيسبوك وتويتر بإنه فيلم «اشتباك‬ ‫صـوره بأسـلوب لم‬ ‫ثقافـات»‪ ،‬وهـو مـا ّ‬ ‫يتخـط مـن الموضـوع سـطحه‪ ،‬وذلـك‬ ‫ّ‬ ‫بجملـة هنـا أو لقطة هناك‪.‬‬ ‫فعلا ينقـل فكـرة‬ ‫ال يبـدو أن الفيلـم‬ ‫ً‬ ‫«اشتباك الثقافات»‪ ،‬ال بشكلها المناسب‬ ‫وال حتـى غيـر المناسـب‪ ،‬فلا ثقافـات‬ ‫سـيدة ترجـع إلـى‬ ‫تتشـابك هنـا‪ ،‬بـل ّ‬ ‫مدينتها وعائلتها التي ترفض زواجها من‬ ‫خطيبها المسلم‪ ،‬وهذه مشكلة مجتمعية‬ ‫حاضرة في الثقافة الواحدة‪ ،‬بين أهالي‬ ‫عمـان وغيرهـا مـن المـدن دون الحاجـة‬ ‫ّ‬ ‫للذهـاب إلـى نيويـورك وتأليـف الكتب‪،‬‬ ‫لتسويغها‪.‬‬ ‫الفيلـم يبالغ في تصويـر المجتمعات‬ ‫العربيـة‪ ،‬ال ألن مشـاكل كهـذه غيـر‬ ‫حاضـرة‪ ،‬بـل فـي مجتمعاتنـا كل هـذه‬ ‫المشـاكل وأسـوأ منهـا‪ ،‬تكمـن المبالغـة‬ ‫فـي تصويرهـا كالنقيـض االجتماعـي‬ ‫والثقافـي لمجتمع آخـر‪ ،‬في نيويورك‪،‬‬ ‫هنـاك مؤلفو الكتب وأسـاتذة الجامعات‬

‫والـزواج العابـر للديانـات‪ ،‬وهنـاك‬ ‫النسـاء يمارسـن الرياضـة في الشـوارع‬ ‫للتحـرش‪ .‬النقيـض‬ ‫يتعرضـن‬ ‫ّ‬ ‫دون أن ّ‬ ‫لهـذه المظاهـر الحضارية هو بالضرورة‬ ‫ومتدين‬ ‫مجتمع بربري ومكبوت وجاهل‬ ‫ّ‬ ‫ومتصحر‪ .‬وال يمكن علمي ًا وضع الصورة‬ ‫ّ‬ ‫عمـان كمـا رأيناهـا فـي‬ ‫أي‬ ‫الشـكل‪،‬‬ ‫بهـذا‬ ‫ّ‬ ‫الفيلـم مقابـل نيويـورك كمـا رأيناها في‬ ‫الفيلم عبر َم ْي‪ ،‬ال يمكن رؤيتها إال ضمن‬ ‫سياق استشراقي ال يريد أن يرى في كل‬ ‫عمـان ونيويـورك إال ذلـك‪.‬‬ ‫مـن ّ‬ ‫هـل يكتفـي الفيلـم بذلـك؟ ال‪ ،‬إضافـة‬ ‫لـكل مـا سـبق‪ ،‬هنالـك مـا يحشـر الفيلـم‬ ‫فـي السـياق االستشـراقي‪ ،‬فهـو يخاطب‬ ‫أساسـ ًا المشـاهد الغربـي‪ ،‬األميركـي‬ ‫تحديداً‪ ،‬والتطبيقات السياسية والثقافية‬ ‫األسـوأ لالستشـراق تأتـي مـن أميـركا‪،‬‬ ‫اإلمبرياليـة الثقافيـة العظمـى‪ .‬الفيلـم‬ ‫ناطـق باإلنجليزيـة‪ ،‬بلكنـة أميركيـة‬ ‫متصنِّعـة‪ ،‬ليـس اللكنة فحسـب‪ ،‬بل لغة‬ ‫الجسـد مـن إشـارات وتعبيـرات للوجـه‬ ‫وغيرهـا‪ ،‬كأنهـا منسـوخة عـن أفلام‬ ‫هوليوود األشـد تسطيحية لمواضيعها‪.‬‬ ‫َلّمـا تكـون لغـة فيلـم بتنميطاتـه‬ ‫ومبالغاتـه ومقارباتـه لمجتمـع عربـي‬ ‫مـع نيويـورك‪ ،‬وَلّمـا تكـون اإلنجليزية؟‬ ‫سـيصعب فهـم ذلـك بغيـر الخطـاب‬ ‫المباشر للمشاهد هناك‪ ،‬للرجل األميركي‬ ‫األبيـض‪ ،‬لنيـل رضـاه وسـماحه للفيلـم‬ ‫تصوراته‬ ‫بدخول نادي هوليوود من باب ّ‬ ‫عـن مجتمعنـا‪.‬‬ ‫أفضـل أال يأتـي ذلـك مـن فيلـم‬ ‫كنـت ّ‬ ‫وجيـد أن تصنيفـات الفيلـم‬ ‫فلسـطيني‪ّ ،‬‬ ‫في المهرجانات (لم ينل أي جائزة حتى‬ ‫لحظـة كتابـة هـذه األسـطر) كانـت غيـر‬ ‫«فلسـطيني»‪ .‬هنالـك حاجـة فلسـطينية‬ ‫ألفلام تتنـاول مسـائل اجتماعيـة كهذه‪،‬‬ ‫مسـائل ال يكون لالحتالل وجود مباشـر‬ ‫الجيد للقضية الفلسطينية‬ ‫فيها‪ ،‬ومن غير ّ‬ ‫أن تنحصر أفالم الفلسطينيين بمواضيع‬ ‫ُمتعلّقـة بالقضيـة‪ .‬لكـن طـرح مسـاوئ‬ ‫مجتمعاتنـا‪ ،‬وهـي كثيـرة‪ ،‬ال يعنـي‬ ‫بالضـرورة أن يأتـي فـي سـياق نظـرة‬ ‫دونيـة ثقافيـ ًا واجتماعي ًا أمـام األميركي‬ ‫ّ‬ ‫دغدغ مشـاعره ثقافي ًا بفيلم من‬ ‫سـت‬ ‫الذي ُ َ‬ ‫هـذا القبيل‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫«وداع ًا كارمن»‬

‫الحلو واملر بني ضفتني‬ ‫محمد اشويكة‬

‫التعدد والتفـاوت اللذين باتا‬ ‫فـي غمـرة‬ ‫ُّ‬ ‫يطبعـان المشـهد السـينمائي المغربـي مـن‬ ‫حيـث الـرؤى واألسـاليب الفنيـة والتكوين‬ ‫السـينمائي‪ ،‬تنجلـي انشـغاالت المخـرج‬ ‫المغربـي محمـد أميـن بنعمـراوي الـذي‬ ‫يظهر أن نشـأته بمنطقة الريف قد كان لها‬ ‫بالـغ األثـر في تركيزه على بعض التيمات‬ ‫المَت َض َّمَنة في فيلمه الروائي األول «وداع ًا‬ ‫ُ‬ ‫كارمن» (‪ )ADIOS CARMEN‬بعد أفالم‬ ‫روائيـة قصيـرة القـت استحسـان النقـاد‬ ‫ود ِ‬ ‫«سالَّم ِ‬ ‫يميَتان»‬ ‫والجمهور‪ ،‬ومن ضمنها َ‬ ‫(‪ .)2008‬الفيلـم الجديـد كان عرضـه األول‬ ‫‪118‬‬

‫فـي يونيـو‪ /‬حزيـران المنصـرم بالربـاط‪،‬‬ ‫بعـد تتويجه بجائـزة المهر العربي لصنف‬ ‫األفلام الروائيـة الطويلـة بدبـي ‪،2013‬‬ ‫وتتويجيـن آخريـن فـي كل مـن مهرجـان‬ ‫الفيلـم الوطنـي بطنجـة ‪ ،2013‬ومهرجان‬ ‫السـينما والذاكـرة بالناظـور ‪...2014‬‬ ‫مـن عتبـة العنـوان يتضـح أن اسـم‬ ‫«كارمـن» مـزدوج الداللـة‪ :‬فهـي األوبـرا‬ ‫الكوميديـة الشـهيرة التـي جـرت أحداثهـا‬ ‫بمدينـة إشـبيلية وضواحيهـا بالجنـوب‬ ‫اإلسـباني فـي بدايـة القـرن التاسـع عشـر‬ ‫الميلادي‪ ،‬و«كارمـن» أيضـ ًا هـو اسـم‬

‫بطلـة الفيلـم (الممثلـة اإلسـبانية الشـهيرة‬ ‫يـس ‪)Paulina Galvez -‬‬ ‫پْ‬ ‫َّاوِليَنـا َغاْلِب ْ‬ ‫التـي كانـت تقيـم بمدينـة الناظـور الواقعة‬ ‫شـمال المغـرب‪ ،‬والتـي كانـت تـرزح تحت‬ ‫نيـر االحتلال اإلسـباني‪ .‬كانـت «كارمـن»‬ ‫تشتغل كمسؤولة عن بيع بطاقات الدخول‬ ‫لقاعة السينما التي يديرها أخوها (الممثل‬ ‫اإلس�باني خ�وان إس�تلريك ‪Juan Es� -‬‬ ‫‪.)telrich‬‬ ‫ومن هنا فتوديعها الذي يشـكل المدخل‬ ‫الداللي للفيلم ليس بريئاً‪ ،‬وإنما جاء على‬ ‫شـاكلة فيلـم «وداعـ ًا بونابـرت ‪Adieu(-‬‬


‫‪ »Bonaparte (1985‬للراحـل يوسـف‬ ‫شـاهين‪ ،‬ومـا يعنيـه ذلـك مـن إشـارات‬ ‫الم ِ‬ ‫ستعمر لساكنة‬ ‫تاريخية تخص ما أذاقه ُ‬ ‫شـمال منطقـة الريف المعروفـة بالمقاومة‬ ‫الشرسـة التـي قادهـا البطـل عبـد الكريـم‬ ‫الخطابـي‪ ،‬وبالعنـف الالإنسـاني الـذي‬ ‫ال‬ ‫قمـع بـه جيـش االحتلال الناس ُمسـتعم ً‬ ‫األسلحة الكيماوية التي فتكت بأرواح عدد‬ ‫كبير من األبرياء‪ ،‬وهو الملف الذي يكتنفه‬ ‫الكثيـر مـن السـكوت واإلهمـال والسـرية‪..‬‬ ‫فهـل تسـعف السـينما فـي التذكيـر وإيقـاظ‬ ‫الضمائر المتناسية ولو باإلشارة البعيدة؟‬ ‫قـد ُيْمِكُنَهـا ‪ -‬وإن كان ذلـك ليس سـياق‬ ‫الفيلم ‪ -‬إذا علمنا أن هذا العمل يكتسب داللة‬ ‫وجدانيـة قويـة في نفـوس أبناء المنطقة‪،‬‬ ‫فهـو الشـريط السـينمائي االحترافـي األول‬ ‫الـذي ُينجـزه واحد ينحدر من هذه المنطقة‬ ‫بالمغرب‪ ،‬وأحداثه تجري كلي ًا في الريف‪،‬‬ ‫وهو فيلم ناطق بالريفية (واإلسبانية) مما‬ ‫ينفـض الغبـار عـن جـزء ُمهـم مـن تاريـخ‬ ‫وثقافة المنطقة‪ ،‬ويساهم في طرح قضايا‬ ‫التثاقـف والتقـارب واالختلاف المغربـي‬ ‫وم ِّرِه‪...‬‬ ‫بحل ِ‬ ‫ْوِه ُ‬ ‫اإلسباني المشـترك ُ‬ ‫يحيـل اسـم «كارمـن» علـى عـدة أفلام‬ ‫مهمـة فـي تاريخ السـينما العالمية‪ ،‬سـيما‬ ‫وأن االهتمـام بهـا كان مـن طـرف مخرجين‬ ‫كبـار اسـتطاعوا تكثيف تقنيات األسـاليب‬ ‫اإلخراجيـة لنسـج عالئـق الشـغف بيـن‬ ‫الموسـيقى واألوبـرا والسـينما‪ ،‬ومـن بين‬ ‫هؤالء نشـير إلى األفالم التالية‪« :‬مسـخرة‬ ‫علـى كارمـن» (‪ )1915‬لشـارلي شـابلن‪،‬‬ ‫و«كارمن» (‪ )1921‬للمخرج األلماني إرنست‬ ‫لوبيتـش‪ ،‬و«كارمـن» (‪ )1945‬للمخـرج‬ ‫الفرنسـي «كريسـتيان جـاك»‪ ،‬و«كارمـن‬ ‫‪ )1963( »63‬للمخـرج اإليطالـي كارميـن‬ ‫گالونـي‪ ،‬و«كارمـن» (‪ )1983‬للمخـرج‬ ‫اإلسـباني كارلـوس سـاورا‪ ،‬و«كارمـن»‬ ‫(‪ )1984‬للمخـرج اإليطالـي فرنسيسـكو‬ ‫روزي‪ ،‬و«االسـم كارمـن» (‪ )1984‬لجـان‪-‬‬ ‫لـوك غـودار‪...‬‬ ‫استند المخرج محمد أمين بنعمراوي إلى‬ ‫هـذه الخلفيـات السـينمائية‪ ،‬والمرجعيات‬ ‫اإلخراجية ليحقق فيلم ًا ال يخلو من تقاطعات‬ ‫فنيـة تمـزج بيـن الموسـيقى والسـينما‬ ‫والتاريـخ والذاكـرة والطفولـة؛ فبين الجد‬ ‫والسخرية‪ ،‬المحاسبة والتجاوز يستدعي‬ ‫الشـريط فترة السـبعينيات (‪ ،)1975‬التي‬

‫َف َّـرت خاللهـا «كارمـن» مـن بطـش الجنرال‬ ‫الديكتاتـوري «فرانسيسـكو فرانكو»‪ ،‬الذي‬ ‫امتدت فترة رئاسته للحكومة اإلسبانية من‬ ‫فاتح إبريل‪/‬نيسان ‪ 1939‬إلى ‪ 20‬نوفمبر‪/‬‬ ‫تشـرين الثاني ‪ ،1975‬وهي المرحلة التي‬ ‫َسـُتَم ِّهُد الطريـق للتوتـرات بيـن المغـرب‬ ‫وإسـبانيا فيما بعد‪.‬‬ ‫لـم يلجـأ المخـرج إلـى سـرد األحـداث‬ ‫التاريخيـة بطريقـة مباشـرة‪ ،‬وإنمـا َم َـز َج‬ ‫بيـن األسـلوب السـيرذاتي‪ ،‬الـذي اسـتعاد‬ ‫عبـره جـزءًا مـن طفولتـه عبـر سـرد قصـة‬ ‫«ع َّمـار» ذي السـنوات العشـر؛ إذ‬ ‫الطفـل َ‬ ‫سـتتركه أمه المطلقة رفقة خاله العربيد‪،‬‬ ‫الـذي سـيبث فيـه كافـة أشـكال الرعـب‬ ‫ال المبلـغ المالـي الـذي‬ ‫والخـوف ُمسـتغ ً‬ ‫يتلقـاه شـهري ًا مـن أختـه مقابـل االعتنـاء‬ ‫اض ُط َّرت للرحيل إلى بلجيكا‬ ‫بابنها بعد أن ْ‬ ‫قصـد الـزواج هنـاك‪ .‬قاسـى الطفـل مـرارة‬ ‫الحرمـان‪ ،‬وذاق كافـة أشـكال االنعـزال إال‬ ‫لع َّمـار (أمـان اهلل‬ ‫ْـب «كارمـن» َس َـيِر ُّق َ‬ ‫أن َقل َ‬ ‫بـن الجياللـي)‪ ،‬خاصـة أنها كانـت بدورها‬ ‫تعيـش حالـة ُم َشـاِبَهة ‪ -‬تقريبـ ًا ‪ -‬لوضعـه‬ ‫بمعيـة أخيهـا‪ ،‬مالـك القاعـة السـينمائية‪،‬‬ ‫ذي المـزاج العكـر‪ .‬سـتجعل الطفل يرافقها‬ ‫يوميـ ًا رغـم أنهمـا ال يتواصلان لغويـاً‪،‬‬ ‫فقـد نشـأت بينهما عالقة حميمية أساسـها‬ ‫اإلحساس بالَفْقِد واالغتراب وعنف المحيط‪.‬‬ ‫امها‬ ‫تحاول تعليمه اإلسبانية‪ ،‬وسيكون َغَر َ‬ ‫البائـس اليائـس‪ .‬أدخلتـه قاعـة السـينما‬ ‫وجعلته يكتشف كواليس العرض‪ .‬وهناك‬ ‫سـتبدد‪،‬‬ ‫َس َـيَتَلقَّى «صدمـة السـينما» التـي‬ ‫ِّ‬ ‫نوعـ ًا مـا‪ ،‬روتيـن حياتـه‪ .‬يشـاهد أفالمـ ًا‬ ‫هنديـة سـتؤثر فيـه حكاياتهـا العاطفيـة‬ ‫واالجتماعية فيذرف دموع الفرحة‪ /‬الحزن‬ ‫داخـل القاعة‪ .‬يجمـع بعض لفافات األفالم‬ ‫ويضعهـا أمامه علـى طاولة األكل الواطئة‬ ‫محـاو ًال إعـادة تشـخيص بعـض لقطـات‬ ‫وأغاني السـينما الهندية التي كانت رائجة‬ ‫آنـذاك‪ .‬يغني أغنيـة «الحياة هي أغنيتي»‬ ‫التـي ُتَذ ِّكُرنـا بأجواء الفيلم الهندي الشـهير‬ ‫«‪ »Disco Dancer» (1982‬للمخرج «بابر‬ ‫سوبهاش» (‪ ،)Babbar Subhash‬وذلك‬ ‫الم َـر ِادف‬ ‫بعـد أن طـال انتظـار عـودة أمـه ُ‬ ‫النتظـار «كارمـن» التـي تنتظـر فرصتهـا‬ ‫للقيـام بعـودة مضادة إلـى الضفة األخرى‬ ‫بعـد أن كان حكـم الجنرال فرانكو يحتضر‪.‬‬ ‫تشكل «كارمن» (األجنبية الوافدة) في هذا‬

‫استلَّت‬ ‫الفيلم األم والصديقة والمعلِّمة التي ْ‬ ‫الم َساِلم من كافة أشكال العنف التي‬ ‫الطفل ُ‬ ‫َظ ّـل يتلقاهـا يوميـاً‪ :‬عنـف الحرمان‪ ،‬عنف‬ ‫الخـال‪ ،‬عنـف األقـران‪ ،‬عنف حـارس قاعة‬ ‫السـينما‪ ،‬عنـف المجتمـع‪ ..‬لكـن‪ ،‬وبالرغم‬ ‫بيوغرافي‪،‬‬ ‫مـن اسـتناد الفيلـم إلـى ما هـو ُ‬ ‫وميله إلى االهتمام بالجانب اإلنساني فإنه‬ ‫يضعنـا أمـام مقارنـات ملتبسـة وشـائكة‪:‬‬ ‫صـورة األم فـي مقابـل صـورة «كارمـن»‪،‬‬ ‫وصـورة الخـال فـي مقابـل صـورة األخ‪،‬‬ ‫اللغة الريفية في مقابل اإلسبانية‪ ،‬السيرة‬ ‫الذاتية في مقابل السيرة الجماعية‪ ..‬فيكون‬ ‫الطفل هو الجامع بين خيوط شبكة الكتابة‬ ‫السيناريستية التي سيتجاوز مداها الطابع‬ ‫االجتماعـي إلـى السياسـي‪ :‬حكـم فرانكو‪،‬‬ ‫المسـيرة الخضـراء‪ ،‬التهميـش‪ ،‬االنكمـاش‬ ‫على الذات‪...‬‬ ‫يخلـط المخـرج رؤيتـه الفنيـة بتوابـل‬ ‫أيديولوجيـة ذاتيـه وأخـرى اجتماعيـة‪،‬‬ ‫وذلـك مـن خلال إتقانـه اللعب علـى عدة‬ ‫حبال فنية تتبادل األدوار فيما بينها بشكل‬ ‫معقـد‪ :‬الموازنـة بيـن لغـة السـينما ولغـة‬ ‫المْقَت ِ‬ ‫صـدة‪ ،‬وتوظيـف السـينما‬ ‫الحـوار ُ‬ ‫داخـل السـينما‪ ،‬الرهـان علـى المسـافة‬ ‫الرهيفـة بيـن الواقـع والخيـال‪ ،‬والمـزج‬ ‫بين السينمائي والسيرذاتي‪ ،‬والمزاوجة‬ ‫بين السياسـة والحب‪ ،‬وإضفاء المسـحة‬ ‫النوسـتالجية على األحداث اسـتنادًا إلى‬ ‫الطفولة‪...‬‬ ‫يعتبـر فيلـم «وداعـا كارمـن» واحدًا من‬ ‫أهـم األشـرطة السـينمائية المغربية التي‬ ‫ترفـع مـن قيمة السـينما‪ ،‬وتجعل من فعل‬ ‫المتعدد الذي‬ ‫الم َشـاهدة ضرب ًا من التفكير‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫يسـمح للمتفـرج باالنغمـاس فـي األحداث‬ ‫عبر تقليص المسافة بين الوجدان والعقل‪،‬‬ ‫والـذات والموضـوع‪ .‬فالسـينما‪ ،‬فيـه‪،‬‬ ‫تتجاوز طابع الفرجة البسـيط لتسـتدعي‬ ‫َتَأ ُّم َل التداخل الحاصل بين تقنيات الكتابة‬ ‫السيناريسـتية (قصـص فـي فيلـم واحد)‪:‬‬ ‫الطفـل وكارمـن‪ ،‬الهجـرة والطفولـة؛‬ ‫فالم َش ِ‬ ‫اهد واللقطات تتجاوز طابع الصور‬ ‫َ‬ ‫النمطية التي تدغدغ العواطف‪ ،‬أو تخاطب‬ ‫الـروح الوطنيـة‪ ..‬لتتأسـس على تقنيات‬ ‫إخراجيـة تـدرك قيمـة الموضـوع‪ ،‬وتعي‬ ‫كيفيـة االنطلاق منهـا للرقـي بالمونتاج‬ ‫كركيزة مهمة من ركائز الكتابة السينمائية‬ ‫بعد السـيناريو واإلخراج‪.‬‬ ‫‪119‬‬


‫اإلسكندرية السينمائي‬

‫متوسطية‬ ‫هموم‬ ‫ّ‬ ‫اإلسكندرية‪ :‬نـاهـد صـالح‬ ‫يبـدو أن الـدورة الــ ‪ 30‬مـن مهرجـان‬ ‫اإلسـكندرية لسـينما بلـدان البحـر األبيـض‬ ‫ال‬ ‫المتوسـط‪ ،‬كانـت دورة فارقـة شـك ً‬ ‫ولعـل ليلـة االفتتاح الحاشـدة‬ ‫ومضمونـاً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قـد بلـورت أفـق مهرجـان يتطلّـع إلـى‬ ‫ويعبر عن الوفاء للفن السينمائي‬ ‫األفضل‪ّ ،‬‬ ‫و«أسـاتذته»‪ .‬وكما حكى أوبريت االفتتاح‬ ‫التحـوالت العنيفـة التـي تعرضـت لها‬ ‫عـن‬ ‫ّ‬ ‫السـينما علـى مـدار تاريخهـا‪ ،‬أثبتـت هـذه‬ ‫المحال»‬ ‫الدورة أن مقولة «تغيير الحال من ُ‬ ‫هـي مقولـة يمكـن أن تـزول‪ ،‬حيـث سـعى‬ ‫المهرجـان إلـى إحـداث هـذا التغييـر علـى‬ ‫مسـتوى الصـورة والمضمـون‪ ،‬بدايـة مـن‬ ‫تعدد‬ ‫الحضور الالفت للنجوم‪ ،‬وصو ًال إلى ُّ‬ ‫مسـابقاته‪ ،‬إضافة إلى المسـابقة الرسمية‬ ‫فـي دورة ضمـت عـددًا مـن العناويـن‬ ‫السـينمائية القديمـة والجديـدة ُاسـتئنفت‬ ‫بفيلم االفتتاح «المتشرد» لشارلي شابلن‪،‬‬ ‫حيـث يحتفـى المهرجـان بمـرور ‪ 150‬عام ًا‬ ‫علـى ميلاده‪.‬‬ ‫المهرجـان َك ّـر َم نجـم الغنـاء محمد منير‬ ‫حنجـرة السـينما كمـا وصفـه مرة يوسـف‬ ‫شـاهين‪ .‬كمـا تـم تكريـم الفنانـة ناديـة‬ ‫الجنـدي كفنانـة جماهيريـة‪ ،‬كمـا وصفتها‬ ‫إدارة المهرجـان‪ .‬وشـمل التكريـم أيضـ ًا‬ ‫كال مـن‪ :‬المخـرج المصـري داود عبدالسـيد‬ ‫والمخـرج التونسـي الطيـب الوحيشـي‬ ‫والفنـان اإليطالـي أوجسـتو بيلتشـيا‪،‬‬ ‫والمخـرج الفلسـطيني هانـي أبـو أسـعد‬ ‫والمخـرج السـوري محمـد ملـص‪...‬‬ ‫اهتمـت دورة المهرجـان بالسـينما‬ ‫‪120‬‬

‫العربية بشكل خاص‪ ،‬حيث عرضت سبعة‬ ‫أفلام عربيـة مـن ‪ 15‬فيلمـ ًا فـي المسـابقة‬ ‫الرسمية وهي لفلسطين‪ ،‬سورية‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫المغرب‪،‬الجزائـر‪ ،‬تونـس ومصـر ‪ .‬فيمـا‬ ‫جـاءت بقيـة األفالم من فرنسـا‪ ،‬إسـبانيا‪،‬‬ ‫تركيـا‪ ،‬اليونـان وسـلوفينيا‪ .‬وإلـى جانب‬ ‫المسـابقة الرسـمية َقّد َم برنامج المهرجان‬ ‫مسـابقات فرعيـة أخرى فـي صنف األفالم‬ ‫الروائيـة القصيرة والتسـجيلية‪ ،‬وشـملت‬ ‫‪ 20‬فيلمـ ًا مـن ‪ 20‬دولـة مـن بينهـا عشـر‬ ‫دول عربيـة‪ .‬كمـا شـاركت ‪ 14‬دولة عربية‬ ‫فـي ‪ 18‬فيلمـ ًا روائي ًا قصيرًا وتسـجيلي ًا في‬ ‫مسـابقة خاصـة بالـدول العربية‪.‬‬ ‫ـت‪ ،‬قّدمـت‬ ‫مـن بيـن األفلام التـي ُعِر َ‬ ‫ضْ‬ ‫المخرجـة سـهى عـراف فيلمهـا «فيال توما»‬ ‫بوصفه فيلم ًا فلسطينياً‪ ،‬إال أن الفيلم جّدد‬ ‫الجـدل حـول هويتـه وتصنيفه‪ ،‬السياسـة‬ ‫لعبـت دورهـا هنا وصنعـت الهالة الجدلية‬ ‫حول مشاركته‪ ،‬فالفيلم الذي يدور في ‪87‬‬ ‫دقيقة ويحكي قصة إنسانية خاصة بثالث‬ ‫شـقيقات مسيحيات ارسـتقراطيات يسكن‬ ‫فـي فيلا قديمـة‪ ،‬وهـي قصـة اجتماعيـة‬ ‫عاديـة وإن كانـت حافلـة بالتفاصيـل‬ ‫والمالمـح النفسـية‪ ،‬لكنهـا تظـل مجـرد‬ ‫حكايـة ال تفجـر أي جـدل نقاشـي سـاخن‬ ‫حـول موضوعهـا الـذي يبـرز الصـراع‬ ‫الطبقـي فـي المجتمـع الفلسـطيني‪ ،‬لكـن‬ ‫الجـدل الـذي أثـاره الفيلم هـو حول هويته‬ ‫التـي كانـت السـبب فـي تغييـره مـن فيلـم‬ ‫افتتاحي للمهرجان إلى فيلم في المسـابقة‬ ‫الرسـمية‪ ،‬وحسـب تبريـر إدارة المهرجـان‬ ‫فـإن تأخـر التوصـل بالفيلـم هـو سـبب‬ ‫هـذا التغييـر المفاجـئ‪ ،‬نافيـة تأثرها بأية‬

‫ضغـوط إعالميـة أو بالضجـة الصحافيـة‬ ‫التي أثيرت‪ ،‬خصوص ًا أن جزءًا من التكلفة‬ ‫اإلنتاجيـة للفيلـم هـو تمويـل إسـرائيلي‪.‬‬ ‫انفجـار السـؤال الخالفـي حـول فيلـم «فيال‬ ‫توما» ومشاركته في المهرجان‪ ،‬فتح ملف‬ ‫التطبيـع مـرة أخرى وجـّدد الخالف القديم‬ ‫إزاء الموقـف مـن عـرض أفلام لمخرجيـن‬ ‫مـن عـرب ‪ 48‬بتمويـل إسـرائيلى فـي‬ ‫المهرجانـات العربيـة‪ ،‬ألن هنـاك قرارًا من‬ ‫الجمعيـة العموميـة للنقابـات الفنيـة يمنع‬ ‫عرض األفالم اإلسرائيلية في المهرجانات‬ ‫العربيـة منعـ ًا للتطبيـع مـع إسـرائيل‪.‬‬ ‫وفـي إطـار تكريـم مخرجه الفلسـطيني‬ ‫المقيم في هولندا هاني أبو أسعد‪ ،‬عرض‬ ‫فيلـم «عمـر» المتوج بجائزة لجنة التحكيم‬ ‫فـي مسـابقة «نظـرة مـا» بمهرجـان كان‬ ‫عبـر عـن‬ ‫السـينمائي هـذا العـام‪ .‬والفيلـم ُي ِّ‬ ‫الصراع الفلسطيني‪ -‬اإلسرائيلي من خالل‬ ‫أحداثـه التـي تـدور في الضفـة الغربية‪.‬‬ ‫الهـم العام سـيطر علـى الفيلم اللبناني‬ ‫«وينـن»‪ ،‬الـذي أنجـزه سـتة مخرجيـن‬ ‫لبنانييـن (كريسـتل إجنياديـس‪ ،‬جـاد‬ ‫بيروتي‪ ،‬ماريا عبدالكريم‪ ،‬ناجي بشارة‪،‬‬ ‫سليم هابر‪ ،‬طارق كوركوماز‪ ،‬زينا مكي)‪،‬‬ ‫تجربـة الفتـة تسـعى وراء المفقوديـن فـي‬ ‫الحرب األهلية اللبنانية‪ ،‬عبر سرد قصص‬ ‫سـت نسـاء لبنانيـات فقـدن األب أو االبـن‬ ‫أو األخ‪ ،‬لكنهـن مازلـن يتشـبثن باألمـل‪،‬‬ ‫لـذا وافقـن علـى االعتصـام أمـام البرلمـان‬ ‫اللبنانـي إلحيـاء القضيـة‪.‬‬ ‫وعلـى غـرار هـذا التوجـه النضالـي‬ ‫والتمـردي عـرض الفيلـم المصـري «قبـل‬ ‫الربيـع» لمخرجـه أحمـد عاطـف الـذي‬


‫يسـتعرض مـن خالل هـذا العمل التفاصيل‬ ‫اليوميـة لعـدد مـن المدونيـن المصرييـن‬ ‫إبـان األيـام الصعبة قبل الثورة‪ .‬اسـتخدم‬ ‫المخـرج‪ ،‬وهـو كاتـب الفيلم‪ ،‬أسـلوب ًا فني ًا‬ ‫مباشـرًا أقـرب إلـى التسـطيح باعترافـه‬ ‫ليعبـر بوضـوح مبيـن فكـرة‬ ‫شـخصياً‪ّ ،‬‬ ‫الفيلـم عـن الربيـع العربـي‪ ،‬ويتسـاءل‪:‬‬ ‫هـل سـيأتي؟ وهـل يمكـن أن يأتـي فـي‬ ‫الشـتاء؟ هـل يمكـن أن يصنـع الناس ثورة‬ ‫فـي ظـل الخمـود واإلحبـاط المتواصـل؟‪.‬‬ ‫ومـن المغـرب َقـّد َم المخـرج هشـام عيـوش‬ ‫فيلمـه «الحمـى»‪ ،‬وبطلـه األساسـي طفـل‬ ‫عـاش الحرمـان العاطفـي فـي دار للرعايـة‬ ‫االجتماعيـة‪ ،‬ثـم يكتشـف فجـأة أن لديـه‬ ‫أبـ ًا يعيـش فـي ضواحـي باريـس‪ ،‬وعليه‬ ‫أن ينتقـل للعيـش معـه‪ ،‬وهـو بالنسـبة له‬ ‫مجـرد رجـل مجهـول‪.‬‬ ‫وعلـى صعيـد األفلام األجنبيـة‪ ،‬جـاء‬ ‫الفيلـم اإلسـباني «رائحة الجسـد الحزينة»‬ ‫إخـراج كريسـتوبال أرتياجـا روزاس‬ ‫ليقـدم درامـا اجتماعيـة عـن رجـل عـادي‬ ‫ِّ‬ ‫لديـه منـزل ووظيفـة وحياة تبـدو ظاهري ًا‬ ‫سـعيدة‪ ،‬ولكنـه يخسـر كل ذلـك ويبدأ في‬ ‫التخطيـط لحياتـه بشـكل مختلـف يحميـه‬ ‫مـن التغيـرات التـي عصفـت بحياتـه‪ .‬أمـا‬ ‫الفيلـم الـذي يمثل سـلوفينيا في المسـابقة‬ ‫الرسمية (شيفورس راوس) إخراج جوران‬ ‫فوينوفيتـش‪ ،‬فيحكـي عـن أربعـة أوالد‬ ‫يعيشـون أزماتهـم الخاصـة حتـى ُيلقـي‬ ‫رجـال الشـرطة القبـض عليهـم فيتفـكك‬ ‫عالمهـم بعـد ذلـك‪ ..‬فـي حيـن جـاء الفيلـم‬ ‫التركي «موسـى بال عصا» لمخرجه أيدين‬ ‫أوراك ليسـتعرض حيـاة الكاتـب والمفكـر‬ ‫والناشـط موسـى عنتـر فـي أحـداث ثريـة‬

‫باالسـتعارات والصـور لتجربـة نضاليـة‬ ‫وإنسـانية كبيـرة‪.‬‬ ‫أفلام هـذه الـدورة َقّد َم ْت لغة سـينمائية‬ ‫تستل من الواقع مفرداتها وإيقاعها البصري‪.‬‬ ‫أفلام توغلـت فـي عمـق الواقـع‪ ،‬وعبـر‬ ‫اختياراتهـا حاولـت إدارة المهرجـان إبـراز‬ ‫الشـكل االحتفائـي بالسـينما وصانعيهـا‪،‬‬ ‫الـذي اختـاره القائمـون لتطويـر الموعـد‬

‫السينمائي المهم الذي تعرفه اإلسكندرية كل‬ ‫ضّم‬ ‫عـام‪ .‬بالموازاة أقيم سـمبزيوم خاص َ‬ ‫مجموعـة كبيـرة مـن فنانـي البحـر األبيـض‬ ‫كـرس لتشـجيع الفن‬ ‫المتوسـط‪ ،‬وهـو مـا ُي ِّ‬ ‫والثقافة البصرية على وجه الخصوص من‬ ‫ومتنوعة تعكس تعّددية‬ ‫غنية‬ ‫ّ‬ ‫خالل سينما ّ‬ ‫روافـد حـوض البحـر األبيـض المتوسـط‬ ‫وتشـكل فرصـة للتالقـي والحـوار الثقافـي‬ ‫ّ‬ ‫والفني لشـعوبه‪.‬‬

‫تشكلت‬ ‫برئاسـة اإليطالية لوتشـيانو سـوفينا رئيس هيئة السـينما بروما‪ّ ،‬‬ ‫لجنـة تحكيـم األعمـال الروائيـة الطويلـة مـن الممثلـة التركية أنجين شـاجالر‪،‬‬ ‫المخرجة اليونانية إلكسندرا أنتوني‪ ،‬الممثلة المصرية سمية الخشاب‪ ،‬الكاتبة‬ ‫والمصور الفرنسي باتريك‬ ‫السلوفينية كاتارينا ريسيك‪ ،‬الممثلة التونسية درة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ديومو مدير‪ .‬وأسفرت نتائج المنافسة عن تتويج الفيلم المصري «بعد الحب»‪،‬‬ ‫بجائـزة أفضـل عمـل‪ ،‬الفيلم اللبناني «وينن» بجائـزة لجنة التحكيم الخاصة‪،‬‬ ‫الفيلـم السـوري «سـلم إلـى دمشـق» بجائـزة اإلبـداع الفنـي‪ ،‬فيما حصـل الفيلم‬ ‫التونسي «باستاردو»‪ ،‬لمخرجه نجيب بلقاضي بجائزتين‪ :‬أفضل فيلم وأفضل‬ ‫ممثلـة لبطلتـه لبنـى نعمـا‪ .‬بينمـا حصـل بطـل الفيلـم المغربي «حمـى»‪ ،‬ديدور‬ ‫ميشـون علـى جائـزة أفضـل ممثـل وهـو مـن إخـراج هشـام عيوش‪ ،‬أمـا جائزة‬ ‫أفضـل سـيناريو فكانـت مـن نصيب عبـد الحميد بن عثمان وعائشـة يعقوب من‬ ‫ـو َج الفيلـم السـلوفيني «شـيفورس راوس»‬ ‫المغـرب‪ ،‬ومـن األفلام األجنبيـة ُت ِّ‬ ‫للمخـرج جـوران جويتفيـش بجائـزة اإلخـراج المتميـز‪ .‬فـي حيـن حصـد الفيلـم‬ ‫الفلسـطيني «إسـماعيل» جائزة أفضل فيلم روائي‪.‬‬ ‫وبرئاسـة الممثـل السـوري جمـال سـليمان‪ ،‬وعضويـة كل مـن نادية رشـاد‬ ‫وإيـاد نصـار‪ ،‬والمخرجـة الفلسـطينية ليالـي بـدر‪ ،‬منحت لجنة تحكيـم األفالم‬ ‫القصيرة جائزة أفضل عمل تسجيلي للفيلم اللبناني «زرع كوكو» لمخرجه عماد‬ ‫ـو َج الفيلـم المصري «حياة كاملـة» بجائزة أفضل فيلم وثائقي‪.‬‬ ‫األشـقر‪ ،‬فيمـا ُت ِّ‬ ‫على عكس حفل االفتتاح‪ ،‬الذي كان الفتاً‪ ،‬عرف اختتام مهرجان اإلسكندرية‬ ‫في دورته األخيرة غياب ًا ملحوظاً‪ ،‬بدأ بغياب الفنان نور الشريف الذي أهديت‬ ‫لـه دورة هـذا العام بسـبب ارتباطه بتصوير فيلمـه «بتوقيت القاهرة»‪ ،‬وانتهاء‬ ‫بوزير الثقافة المصري‪ ،‬وبينهما العديد من رموز الفن والسينما في مصر‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫بقرة يف اليد وال سالم عىل الشجرة!‬

‫«املطلوبون الـ ‪»18‬‬

‫حوار‪ :‬سليم البيك‬

‫‪122‬‬

‫تحركة والوثائقي‪ ..‬تجري‬ ‫الم ِّ‬ ‫«المطلوبون الـ ‪ »18‬فيلم يجمع بين الرسوم ُ‬ ‫قصتــه فــي بلــدة بيت ســاحور المجاورة لمدينــة بيت لحــم‪ ،‬والزمن إبان‬ ‫االنتفاضة الفلســطينية (‪ .)1991 – 1987‬الفيلم ُيســلِّط الضوء على خيال‬ ‫المقاومة وإبداعها من خالل ســرد قصة أبطالها أهالي بلدة بيت ســاحور‪،‬‬ ‫قرروا مقاطعة حليب شركات االحتالل‪ ،‬وتربية األبقار بغرض إنتاج‬ ‫الذين ّ‬ ‫التصدي لالحتكار اإلسرائيلي‬ ‫محلي للحليب واألجبان‪ .‬وسرعان ما يتحول‬ ‫ِّ‬ ‫إلى عصيان مدني ورفض شعبي لدفع الضرائب‪ ،‬ما سيجر جيش االحتالل‬ ‫خبأها‬ ‫إلى مسح المدينة بيت ًا بيتاً‪ ،‬بحث ًا عن البقرات الثماني عشرة‪ ،‬التي ّ‬ ‫ال من ٍ‬ ‫قصة الفيلــم زمني ًا إلى‬ ‫وهربوهــا لي ً‬ ‫بيــت آلخر‪ .‬تمتد ّ‬ ‫الفلســطينيون ّ‬ ‫إعالن اتفاقية «أوســلو» التي أجهزت على االنتفاضة‪ ،‬كما على األســلوب‬ ‫الذي اتخذه أهالي بيت ساحور لمقاومة االحتالل‪.‬‬ ‫يأتــي هــذا الفيلــم في ســياق راهنــي حققــت فيــه المقاومة الفلســطينية‬ ‫انتصــارات ميدانية ورمزية مفصلية أعادت إحياء ســاح المقاطعة بقوة‪.‬‬ ‫ولالقتراب أكثر من هذا العمل‪ ،‬وبالتزامن مع مشــاركة الفيلم قريب ًا في كل‬ ‫من مهرجان تورنتو الســينمائي الدولي‪ ،‬ومهرجان أبو ظبي الســينمائي‪،‬‬ ‫ثــم أيــام قرطاج الســينمائية‪ ،‬التقــت «الدوحــة» الفنان الفلســطيني عامر‬ ‫شوملي‪ ،‬وكان هذا الحوار‪:‬‬


‫عامر شوملي من مواليد الكويت ‪ .1981‬درس هندسة‬ ‫العمارة وحصل على الباكالريوس فيها‪ .‬ثم على شهادة‬ ‫ماجستير في الفنون الجميلة تخصص رسوم متحركة من‬ ‫بريطانيا‪ .‬استخدم الرسوم المتحركة والكاريكاتير‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى الملصقات للتفاعل مع المحيط السياسي واالجتماعي‬ ‫الفلسطيني اليومي‪ .‬صاحب برنامج دبلوم الرسوم المتحركة‬ ‫في جامعة بيرزيت‪ ،‬وهو أحد مؤسسي زان ستوديو في رام‬ ‫اهلل‪ ،‬حيث يقيم حالياً‪.‬‬

‫§ قصة البقرات معروفة عند أهالي‬ ‫بيــت ســاحور‪ .‬مــا الــذي جعلــك تخــرج‬ ‫منهــا بفيلم‪ ،‬وهو فيلمــك األول؟‬ ‫ هوســي الدائــم هــو التقــاط القصــص‬‫اليوميـــة التـــي تحمـــل دالالت أعمـــق مـــن‬ ‫القص ــة ذاته ــا‪ ،‬قص ــص غي ــر تل ــك الت ــي‬ ‫تبحــث عنهــا الصحافــة‪ ،‬قصــص برمزيتهــا‬ ‫كـــ «كليل ــة ودمن ــة» تفت ــح أبوابــ ًا جدي ــدة‬ ‫ـا ف ــي‬ ‫لق ــراءة الواق ــع‪ .‬ج ــورج أوري ــل مث ـ ً‬ ‫مزرعـــة الحيـــوان‪ .‬الجميـــل فـــي قصـــة‬ ‫البقـــرات فـــي الفيلـــم أنهـــا ُتقـــرأ بشـــكل‬ ‫بســـيط كعمليـــات تضييـــق مـــن جيـــش‬ ‫االحت ــال عل ــى الفلس ــطينيين وأبقاره ــم‪،‬‬ ‫وعــدم قدرتهــم علــى قتــل البقــرات‪ ،‬بينمــا‬ ‫اســتطاع الفلســطيني ذاتــه قتــل أبقــاره في‬ ‫س ــاعة الي ــأس‪ .‬الرمزي ــة المذهل ــة للبق ــرة‬ ‫ه ــي الت ــي أغوتن ــي له ــذه القص ــة‪.‬‬

‫§ مــا طبيعــة التعــاون مــع المخــرج‬ ‫الكنــدي بــاول كاون فــي إخــراج الفيلــم؟‬ ‫ حين بدأنا العمل على إنتاج هذا الفليم‬‫خاف المنتجون من المغامرة مع مخرج بال‬ ‫خبرة‪ ،‬تحديدًا في الفيلم الوثائقي‪ ،‬فقاموا‬ ‫بترشـيح بـاول‪ ،‬وهـو مخـرج كنـدي أخرج‬ ‫أكثـر مـن ‪ 50‬فيلمـاً‪ .‬أنـا وباول مـن عالمين‬ ‫مختلفين‪ ،‬هو من عالم الحقيقة والوثائقي‬ ‫تحركة‬ ‫الم ِّ‬ ‫الواضح‪ ،‬وأنا من عالم الرسوم ُ‬ ‫والخيـال‪ ،‬وكان هـذا التعـاون صعبـ ًا فـي‬ ‫البدايـة‪ .‬أنـا أبحث عـن الفانتازيا وهو يريد‬ ‫الخالصة‪ .‬أعتقد أننا في النهاية وصلنا إلى‬ ‫منطقـة من الفنتازيـا التي تخدم القصة وال‬ ‫تستبدلها بغيرها‪.‬‬

‫§ لم ــاذا لجأت ــم إل ــى ع ـّدة أس ــاليب‬ ‫ضمـــن الفيلـــم‪ ،‬الكرتـــون والدمـــى‬ ‫والمقابـــات والتمثيـــل واألرشـــيف؟‬

‫عامر شوملي‬ ‫ لـم تتوافـر لدينـا مـواد أرشـيفية لهكذا‬‫قصة‪ ،‬فهي ليسـت من اهتمامات الصحافة‪.‬‬ ‫جاءت فكرة الدمى لسـببين‪ :‬األول لتغطية‬ ‫النقـص فـي المـواد األرشـيفية‪ ،‬والثانـي‬ ‫لسـرد القصـة مـن خلال األبقـار كوجهـة‬ ‫نظـر «محايـدة» وغريبـة‪ .‬اسـتطعنا مـن‬ ‫خلال دمـج عـدة مسـتويات مـن الواقعيـة‬ ‫البصريـة الحصـول علـى عالـم غريـب غيـر‬ ‫محـدود بأفكار مسـبقة‪ ،‬عالـم جديد‪ ،‬أليس‬ ‫فـي بلـد العجائـب‪.‬‬

‫§ ه ــل كان إيج ــاد الجه ــة المنتج ــة‬ ‫للفيل ــم صعب ـاً؟‬ ‫ ســـأكتفي بالقـــول إن إنتـــاج فيلـــم‬‫سياســي عــن االنتفاضــة األولــى ونهايتهــا‬ ‫ل ــم يك ــن س ــهالً‪ .‬ه ــي منطق ــة وع ــرة‪.‬‬ ‫أســـاس موضـــوع الفيلـــم هـــو إنتـــاج‬ ‫الحليـــب فلســـطيني ًا ومقاطعـــة الحليـــب‬ ‫اإلســرائيلي‪ ،‬وقد ُكِتَب ْت عبارة على جدران‬ ‫أح ــد البي ــوت تدع ــو لمقاطع ــة المنتج ــات‬ ‫اإلســرائيلية‪ ،‬اليوم مسألة المقاطعة تلقى‬ ‫اســـتجابة عاليـــة فـــي الضفـــة الغربيـــة‪،‬‬ ‫وعالمي ـاً‪ ،‬س ــؤالي ه ــو‪ :‬كي ــف ت ــرى ه ــذا‬

‫األسلوب لمناهضة االحتالل‪ ،‬من خالل‬ ‫تجرب ــة أهال ــي بي ــت س ــاحور؟‬

‫ أعتقد أن هذا التوجه قادر على إحداث‬‫تغييــر حقيقــي‪ ،‬خصوصـ ًا إن تطــور إلــى‬ ‫المقاطعة واإلنتاج‪ .‬كل احتالل هو مشروع‬ ‫اســتعماري وربحي‪ ،‬المقاطعة هي ضربة‬ ‫فــي الصميم‪ ،‬في الهدف‪ .‬تجارب المقاطعة‬ ‫نجحت في الهند وجنوب إفريقيا وستنجح‬ ‫في فلســطين‪ .‬أما إن كان الســؤال‪ :‬مقاومة‬ ‫س ــلمية أم مس ــلحة‪ ،‬فأق ــول بأنهم ــا ليس ــا‬ ‫ســمك ولبن‪.‬‬

‫§ هنالـــك ممثلـــون عـــن الجيـــش‬

‫اإلسرائيلي في الفيلم شاركوا بشهادات‬ ‫القصــة‪ ،‬مــا الــذي جعلكــم تقحمــون‬ ‫عــن ّ‬

‫أطراف ـ ًا ممثل ــة ع ــن االحت ــال ف ــي فيل ــم‬ ‫قصـــة مقاومـــة وانتفاضـــة‬ ‫يحكـــي ّ‬ ‫ومقاطع ــة؟‬

‫ نادرًا ما نشـاهد وجه الفلسـطيني في‬‫األفالم اإلسرائيلية (فيلم «فالس مع بشير»‬ ‫مثالً)‪ .‬اإلسرائيليون يخافون حضورنا‪ .‬أما‬ ‫نحـن فلا داعـي للخـوف‪ ،‬أنـا كفلسـطيني‬ ‫قصتـي حقيقيـة وأنـا صاحـب حـق‪ .‬كان‬ ‫الشعور لدى البعض أن حضور اإلسرائيلي‬ ‫يؤكـد القصـة‪ ،‬لكـن بالنسـبة لـي كان األمـر‬ ‫األكثـر أهميـة هو إظهار الغرور والعنجهية‬ ‫اإلسرائيلية في رواية القصة بعد ‪ 25‬عام ًا‬ ‫قصـة البقـرات‬ ‫علـى حدوثهـا‪ .‬مـا زال يـرى ّ‬ ‫ومطاردتها أمـرًا عادياً‪.‬‬

‫§ ه ــل م ــن راب ــط يمك ــن أن يجم ــع‬ ‫بيــن الفيلــم وبيــن الوضــع الفلســطيني‬ ‫الحالــي؟‬ ‫ أكيد‪ .‬خصوص ًا في هذه األيام‪ ،‬هنالك‬‫توجه شـعبي السـتعادة زمام المبادرة من‬ ‫األحـزاب واسـترجاع قدرتهـا علـى صنـع‬ ‫مستقبلها بدل الحالة المهزومة التي فرضت‬ ‫عليهـا‪ .‬الفيلـم سـيطرح نموذجـ ًا صنعـه‬ ‫الفلسـطينيون قبل خمسـة وعشرين عاماً‪،‬‬ ‫وُأجهض‪ ،‬نموذجاً؛ كل فرد قادر على صنع‬ ‫شـيء منـه والمسـاهمة فيـه بـدل االنتظار‪.‬‬ ‫ثماني عشرة بقرة باليد وال رباعية (اللجنة‬ ‫الدولية الراعية للسلام) على الشـجرة‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫«مارسيليا»‬

‫طريق األمومة‬ ‫مروة رزق‬

‫فيلـم ‪« MARSELLA‬مارسـيليا»‬ ‫(‪ ،)2014‬هـو تجسـيد بمعنـى الكلمـة لما‬ ‫ُيعرف باسـم «سـينما المرأة»‪ .‬الفيلم من‬ ‫إخراج المخرجة اإلسبانية الواعدة بيلين‬ ‫تخصصت في مثل هذه‬ ‫ماسـياس والتي ّ‬ ‫النوعيـة مـن األفالم التي تدور عن حياة‬ ‫المـرأة ونفسـيتها ومشـاعرها‪ ،‬فهـي مـن‬ ‫مثـال المخرجـات اللواتـي يقدمـن أفالمـ ًا‬ ‫عـن المـرأة‪ ،‬ولكنها مصنوعة لكي يراها‬ ‫الجميـع‪ .‬ومـن أبـرز األمثلة علـى إتقانها‬ ‫لهـذا وإصرارهـا علـى التعبير عـن المرأة‬ ‫في مسـارها السـينمائي كمخرجة فيلمها‬ ‫(سـاحة سـجني) عام ‪ .2009‬يدور فيلم‬ ‫مارسـيليا حـول مفهـوم األمومـة ومـا قد‬ ‫يطـرأ علينـا مـن تغييـر بسـبب كائنـات‬ ‫صغيـرة ظهـرت فـي حياتنـا ومـا تثيـره‬ ‫تأج َجة بداخلنا‪ ،‬لكي نصبح‬ ‫مـن رغبـة ُم ِ‬ ‫أفضـل مـن أجلهم‪.‬‬ ‫تلعب بطولة الفيلم نجمتان إسبانيتان‬ ‫المعتـان‪ :‬ماريـا ليـون (سـارة) وجويـا‬ ‫توليدو (بيرخينيا)‪ ،‬لعبتا دورهما باقتدار‬ ‫جعـل أداءهمـا المتميـز أكثر مـا َيعلق في‬ ‫ذهـن مشـاهد هـذا الفيلـم‪ .‬ال تسـتطيع‬ ‫أمامهمـا سـوى أن تقتنـع بـأن كال منهمـا‬ ‫هـي األم األصليـة لفتـاة صغيـرة تدعـى‬ ‫‪124‬‬

‫(كليـر) وأن كلتـا االثنتين تسـتحق الفوز‬ ‫بحضانـة الصغيـرة‪ .‬تنشـد المرأتـان مـا‬ ‫تراه كل واحدة حق ًا لها‪ .‬فاألم البيولوجية‬ ‫(سارة) فقدت حقها في رعاية ابنتها منذ‬ ‫خمس سـنوات نتيجـة إدمانها للكحول‪،‬‬ ‫ولذا فقد قامت (بيرخينيا) برعاية الطفلة‬ ‫طيلـة هـذه المـدة واعتبرتها ابنتهـا‪ .‬إزاء‬ ‫المعقَّد والرغبة الجامحة في‬ ‫هذا الموقف ُ‬ ‫قـررت السـيدتان بدء‬ ‫حـل هـذه المعضلـة ّ‬ ‫رحلة إلى مدينة مارسيليا الفرنسية من‬ ‫أجل البحث عن والد الطفلة‪ ،‬ولعب دوره‬

‫ممثـل صاحـب مكانـة رفيعـة أيضـ ًا فـي‬ ‫السـينما اإلسبانية المعاصرة ( إدواردو‬ ‫فيرنانـدث)‪ ،‬والـذي لـم َيِقـل عنهمـا فـي‬ ‫األداء‪ ،‬معتبرتين أن هذا قد ينهي الموقف‬ ‫سـريعاً‪ .‬تتبـدى طـوال طريـق الرحلـة‬ ‫والجياشـة لهاتيـن‬ ‫المشـاعر المتدفقـة‬ ‫ّ‬ ‫السـيدتين الراغبتيـن فـي تحقيق ذاتيهما‬ ‫عن طريق الفوز بحب الطفلة الصغيرة‪.‬‬ ‫وهنـا ال يمكن إغفـال أداء الطفلة ناوا‬ ‫فونتانالـز (كليـر)‪ ،‬التـي حفـرت طريقها‬ ‫في عالم السينما بدور الطفلة التي تبحث‬ ‫عن والدها الحقيقي‪ ،‬بنظراتها الناضجة‬ ‫عبـرة عـن الظروف الصعبة‬ ‫الم ِّ‬ ‫والبالغـة ُ‬ ‫مـرت بها في حياتها‪.‬‬ ‫التـي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـح ْت لجائـزة‬ ‫ش‬ ‫ر‬ ‫التـي‬ ‫ليـون‬ ‫ماريـا‬ ‫ُ َ‬ ‫«جويـا» أفضـل ممثلـة عـام ‪ 2011‬عـن‬ ‫دورهـا في فيلم «الصوت النائم» تشـدك‬ ‫المتمكن الذي‬ ‫بأدائهـا الهادئ والطبيعـي‬ ‫ِّ‬ ‫ّل العفوية والواقعية‪ ،‬وأيض ًا التفاؤل‬ ‫َمث َ‬ ‫لمرأة تحاول التغلب على ماضيها السيئ‬ ‫والكفـاح مـن أجل مسـتقبل أفضل‪ .‬لعبت‬ ‫طيلـة خمسـة أعـوام دور األم التي كانت‬ ‫تفتقده عندما احتضنت (كلير) الصغيرة‪.‬‬ ‫ويمكـن أن نصنـف الفيلم كذلك ضمن‬ ‫أفلام الطريـق (‪ ،)road movie‬حيـث‬


‫نسـافر نحـو مدينـة مارسـيليا وندخـل‬ ‫مراكـز خدمـة السـيارات والفنـادق‬ ‫الموجـودة علـى الطريق وعربـات النقل‬ ‫عبـر شـخصيتي سـارة وبيرخينيـا‬ ‫المختلفتيـن والمتواجهتيـن طوال الوقت‬ ‫ليس على المسـتوى الجسـدي وحسـب‪،‬‬ ‫وإنمـا أيضـ ًا علـى المسـتويين العاطفـي‬ ‫والنفسـي‪.‬‬ ‫هذه المواجهة بين البطلتين الوالدتين‬ ‫تـؤدي إلـى صقل شـخصيتهما وتدفعهما‬ ‫إلـى تأمـل ذواتيهما ودوافعهما الحقيقية‬ ‫تدريجيـ ًا طـوال الرحلـة‪ ،‬حتـى تكتشـفا‬ ‫أنهمـا ال ترغبـان فيما هو األفضل للطفلة‬ ‫وحسـب‪ ،‬وإنما في الواقع تريدان ما هو‬ ‫أفضل لهما شـخصياً‪ .‬تقرران في النهاية‬ ‫أن تتوقفا وأن تنظرا بداخليهما وأن تفهم‬ ‫كال منهمـا رغبـات ودوافـع األخـرى‪..‬‬ ‫وعلـى الرغـم مـن أن هـذا كان يبـدو لهمـا‬ ‫صعبـ ًا فـي أول الرحلـة‪ ،‬وكانـت ثمـة‬ ‫فجـوة عميقـة بينهمـا إال أن هـذه الفجوة‬ ‫أخـذت تضيـق مـع الطريـق‪ .‬مـن خلال‬ ‫حـوار مكتـوب جيـدًا ال يبعـث علـى الملل‬ ‫تـم التحكـم فـي االنفعـاالت والتعامل مع‬ ‫هذا الموقف المأساوي من جهة بدون أن‬ ‫تنغمس المخرجة في مأساوية ومشاعر‬

‫جياشـة مبالـغ فيهـا‪ .‬وإنمـا‪ ،‬عبـرت عـن‬ ‫الموقـف بصـورة طبيعية‪.‬‬ ‫اسـتطاع السـيناريو‪ ،‬الـذي كتبتـه‬ ‫المخرجـة باالشـتراك مـع فيرونيـكا‬ ‫فرنانديـز وإيتـو غابيلونـدو‪ ،‬أن ينقـل‬ ‫لنـا جيـدًا إحسـاس رحلـة طويلـة بطيئة‬ ‫على الصعيدين العاطفي والجسدي أيض ًا‬ ‫(مثـال‪ :‬ال تجـدان مـن يقلهمـا في جو حار‬ ‫خانق‪ ،‬وحين تسـتخدمان سـيارة تكون‬ ‫عن طريق االستعارة بال مقابل)‪ .‬كل هذا‬ ‫يـدور فـي مشـاهد نهاريـة خانقـة جديرة‬

‫بمنـاخ متوسـطي ُيشـعرك باإلجهـاد‬ ‫والتعـب اللذيـن تشـعران بهمـا‪.‬‬ ‫ولكـن يؤخـذ علـى الفيلـم حيـاده عـن‬ ‫الحبكة الرئيسية في حكايات عن (تهريب‬ ‫المخـدرات‪ ،‬كمثـال)‪ ،‬والتـي كانـت غيـر‬ ‫ضروريـة لسـرد القصـة‪ ،‬وإنمـا أدخلـت‬ ‫بشـكل قسـري بـدون أن تضيـف جديـدًا‬ ‫على خط الحكاية‪ .‬وفي النهاية مارسيليا‬ ‫فيلم حساس ينتصر للفرص الثانية التي‬ ‫يجـب أن نسـتغلها ‪-‬إن أتـت‪ -‬لنحقـق مـا‬ ‫نريده‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫األرض وحدودها‬

‫صمت عىل نهر أنغوري!‬ ‫حسن بن محمد‬ ‫«كارلوفي فاري» (‪)Karlovy Vary‬‬ ‫المهرجـان السـينمائي الدولـي‪ ،‬الـذي‬ ‫ُيقـام فـي جمهوريـة التشـيك‪ ،‬واحد من‬ ‫أعرق المهرجانات السينمائية العالمية‪.‬‬ ‫إذ ُيقـام سـنوي ًا منـذ سـنة ‪ 1946‬بهـذه‬ ‫المدينـة العريقـة كارلوفـي (‪)Karlovy‬‬ ‫ِ‬ ‫والشـاهدة‬ ‫حاضنـة ميـاه نهـر أوهـري‪،‬‬ ‫على ميالدها منذ تشييدها في عهد ملك‬ ‫بوهيميـا عـام ‪ ،1370‬ومثلمـا تشـتهر‬ ‫بحماماتهـا الطبيعيـة اشـتهرت كذلـك‬ ‫بانضمام مهرجانها السينمائي إلى قائمة‬ ‫أربعـة عشـر مهرجانـ ًا ُمصنف ًا ضمن فئة‬ ‫‪126‬‬

‫«أ»‪ ،‬فمهرجـان «كارلوفـي فـاري» ال يقل‬ ‫جودة وأهمية عن مهرجان كان وبرلين‬ ‫وفينيسـيا وطوكيـو وموسـكو وسـان‬ ‫سباستيان‪.‬‬ ‫برنامـج « كارلوفـي فـاري» بـدوره‬ ‫يتـوزع علـى عدة أقسـام منها المسـابقة‬ ‫َّ‬ ‫الدولية ومسابقة لألفالم األولى والثانية‬ ‫مـن دول وسـط وشـرق أوروبـا ودول‬ ‫البلقان وتركيا وما يعرف بالجمهوريات‬ ‫السـوفياتية السـابقة‪ ،‬ويشـمل كذلـك‬ ‫مسـابقة دوليـة لألفلام التسـجيلية‪،‬‬ ‫باإلضافـة إلـى مسـابقة منتـدى األفلام‬

‫المسـتقلّة‪ .‬وفـي كل سـنة يقـوم هـذا‬ ‫المحفـل السـينمائي باختيـار شـخصية‬ ‫سينمائية عالمية مرموقة لمنحها جائزة‬ ‫خاصة‪ ،‬وهي جائزة «كرة الكريستال»‪،‬‬ ‫وذلـك تقديـرًا للمسـاهمة المتميـزة لهذه‬ ‫الشـخصية فـي عالـم السـينما‪ ،‬ودورة‬ ‫هذه السنة‪ ،‬وهي التاسعة واألربعون‪،‬‬ ‫ـت فـي أواخـر يوليـو الماضـي‪،‬‬ ‫وج ْ‬ ‫َت َ‬ ‫المجـري غيوركـي بالفـي بالكريسـتال‬ ‫غلـوب عـن فيلمه «السـقوط الحر»‪ ،‬كما‬ ‫بجائـزة لجنـة التحكيـم‪ ،‬لكـن الحـدث‬ ‫األهم كان في تتويج المخرج الجيورجي‬


‫جـورج أوفاشـفيلي (‪ )1963‬بالجائـزة‬ ‫الكبـرى للمهرجـان كأحسـن مخـرج عـن‬ ‫فيلمه الدرامي «جزيرة الذرة»( (�‪Corn Is‬‬ ‫‪ ،)land‬الذي كتبه باالشتراك مع رفيق‬ ‫دربـه السيناريسـت نيغزار شـاتيدز‪.‬‬ ‫تـروي قصـة فيلـم «جزيـرة الـذرة»‬ ‫حكاية مزارع عجوز يعيش مع حفيدته‬ ‫في جزيرة على نهر «انغوري» الفاصل‬ ‫بيـن حـدود جورجيـا وأبخازيـا‪ .‬ويـرى‬ ‫توجـه لجنـة التحكيم لتتويج‬ ‫النقّـاد أن ّ‬ ‫هـذا الفيلـم هـو فـي الحقيقـة انحيـاز‬ ‫منهـا إلـى فئـة األعمال السـينمائية التي‬ ‫تشتغل على مسائل ذات مضامين رمزية‬ ‫هـز المسـلمات عند‬ ‫وفكريـة تعمـل علـى ّ‬ ‫المتلقـي وتزعـزع بعـض القناعـات‪،‬‬ ‫خصوصـ ًا أن هـذا الفيلـم هـو مـن نـوع‬ ‫الدرامـا البسـيكولوجية التـي تطـرح‬ ‫عبـرة‬ ‫الم ِّ‬ ‫األسـئلة الوجوديـة والفكريـة ُ‬ ‫عن دواخل الشخصيات وتكشف سلوكها‬ ‫وتصرفاتها‪.‬‬ ‫وفي فيلم «جزيرة الذرة» ثمة أسئلة‬ ‫عديدة وعميقة ُتطرح حول معنى الحياة‬ ‫والموت من دون أن تتحدث شخصيات‬ ‫الفيلـم عـن ذلـك‪ ،‬إذ تنـوب الصـورة‬ ‫وحدهـا عـن الـكالم لتنقـل االنفعـاالت‬ ‫وتلتقـط الذبذبـات وتقلبـات الطبيعـة‪،‬‬ ‫مثلمـا ترصـد كفـاح عجـوز وحفيدتـه‬ ‫للبقـاء علـى قيـد الحيـاة وسـط أخطـار‬ ‫تربصـة بهما‪.‬‬ ‫ُم ِّ‬ ‫يكتنـف قصـة الفيلـم الكثيـر مـن‬ ‫الغمـوض‪ ،‬فهـي ال تكشـف عـن كل‬ ‫تفاصيلهـا وإنما تبطـن صراع ًا تاريخي ًا‬ ‫وسياسـي ًا وقوميـ ًا بيـن جمهوريتـي‬ ‫أبخازيـا وجورجيـا‪ ،‬وقـد تـرك المخرج‬ ‫ِ‬ ‫للمشـاهد للدخـول فـي‬ ‫البـاب ُمشـرع ًا‬ ‫قـراءة مـا وراء الحكايـة‪ ،‬خاصـة فـي‬ ‫غيـاب نـص ُم ِ‬ ‫ِ‬ ‫سترسـل‪ ،‬ويبدو‬ ‫وم‬ ‫كتمـل ُ‬ ‫أن كاتـب السـيناريو تجنّب الخوض في‬ ‫عـرض صـراع قائـم لم يحسـم بعد على‬ ‫المستويين السياسي والعسكري‪ ،‬ومن‬ ‫ثم اكتفى‪ ‬بتسجيل موقفه منه عبر خلق‬ ‫نمـاذج قابلـة للتجسـيد سـينمائي ًا بأكبر‬ ‫قـدر مـن االقتصـاد في التعبيـر اللغوي‪،‬‬ ‫ال خالق ًا‬ ‫شـكلت اللغة البصرية بدي ً‬ ‫الذي ّ‬ ‫له ‪.‬‬ ‫لكننـا أمـام تناول عبثـي يصوره هذا‬ ‫الفيلـم‪ ،‬عبثيتـه تنطلق من قصة صراع‬

‫غيـر محسـوم حـول حـدود ال تخرج عن‬ ‫خنـدق السياسـة ونزاعاتها على خلفية‬ ‫األحداث الواقعة والصراع التاريخي على‬ ‫إقليـم أبخازيا‪ .‬لكـن‪ ،‬وفي هذه الحالة‪،‬‬ ‫خيـم علـى أحـداث الفيلم أجـواء النزاع‬ ‫ُت ِّ‬ ‫التاريخي الجورجي‪ -‬األبخازي من دون‬ ‫أن يغرق المخرج في سرد أدق التفاصيل‬ ‫حـول ذلك‪ ،‬بل يكتفي بعرض المشـاهد‬ ‫المتضمنة لرشـقات مـن الرصاص تارة‬ ‫وتـارة أخـرى يعرض مشـاهد جنود من‬ ‫الجانبيـن بلباسـهم الرسـمي يجوبـون‬ ‫النهـر ويلقـون التحيـة علـى العجـوز‬ ‫المزارع‪ ،‬ومن ثم فهو فيلم صامت يقول‬ ‫الكثيـر عـن عالقة اإلنسـان بـاألرض من‬ ‫خالل ثالثة أبطال تدور حولهم القصة؛‬ ‫جـد وحفيدتـه ونهـر «أنغـوري»‪ .‬لكنـه‪،‬‬

‫قدم‬ ‫رغـم مرجعيتـه التاريخية‪ ،‬فيلم ال ُي ِّ‬ ‫دروسـ ًا في التاريخ وال مواعظ رنانة‪،‬‬ ‫وإنمـا إشـارات رمزية عـن عبثية النزاع‬ ‫الحـدودي‪ ،‬وكأن المخـرج أراد مـن هـذا‬ ‫الخيـار تمرير سـؤال وجـودي‪ :‬ما دامت‬ ‫الطبيعة أقوى من كل الصراعات فلماذا‬ ‫االقتتال؟!‬ ‫استغرق هذا الفيلم سبعين يوم ًا من‬ ‫التصوير ‪ ،‬وقد ُكِل َل جهد فريق العمل بما‬ ‫فيـه بنـاء جزيـرة التصويـر وهدمهـا في‬ ‫النهاية‪ ،‬بالنجاح فني ًا وجماهيرياً؛ حيث‬ ‫أسر هذا الفيلم مشاهديه بمتعة بصرية‬ ‫الفتـة مـن دون أن تنطق شـخصياته إال‬ ‫بأربـع أو خمـس عبـارات فقـط طـوال‬ ‫دقائقه المئة‪.‬‬ ‫وجـاءت نهايـة الفيلـم لتالئـم بيـن‬ ‫منطقيـن مختلفيـن وتؤسـس لمنطـق‬ ‫سـينمائي عبثـي جديـد وغيـر مفهـوم‬ ‫فـي ظاهـره مع أنه مثل الحكاية نفسـها‬ ‫يضمـر فهمـ ًا رائعـ ًا للعالقـة األزليـة بين‬ ‫البشـر واألرض مـن جهـة والصـراع مـع‬ ‫الطبيعة من جهة أخرى‪ ،‬ومن ثم فنحن‬ ‫أمـام (نـص) آخـاذ عرف كيـف يفلت من‬ ‫سـلطة األيديولوجيا والسياسـة ليذهب‬ ‫إلـى نقـاط هـي بالنسـبة لصانعـه أهـم‬ ‫بكثيـر‪ ،‬ألنهـا تؤسـس لفهـم العالقـات‬ ‫الوجوديـة والتباسـاتها التـي تجلّت في‬ ‫فيلم «جزيرة الذرة»‪ ،‬مما جعله ُم ِ‬ ‫ستحق ًا‬ ‫للتتويـج فـي مهرجان كارلوفـي فاري‪،‬‬ ‫وكذلـك وضـع السـينما الجورجيـة فـي‬ ‫مسـارها الصحيـح كسـينما صاعـدة‬ ‫تفو قة‪.‬‬ ‫وم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫‪127‬‬


‫«لوسي» للوك بيسون ‪:‬‬

‫حصة فرنسية من الكعكة‬ ‫الهوليوودية‬ ‫صالح هاشم‬

‫يتصدر فيلم «‪ - Lucy‬لوسي» ‪2014‬‬ ‫للمخرج الفرنسـي لوك بيسـون المشـهد‬ ‫السـينمائي الفرنسـي علـى مسـتوى‬ ‫إيرادات شباك التذاكر‪ ،‬وهو عمل أقرب‬ ‫إلى أفالم إعالنات التليفزيون الدعائية‪،‬‬ ‫منه إلى السـينما‪ ،‬لكن أجمل ما فيه هو‬ ‫فـن الكتابـة بالضـوء‪ ،‬بطلتـه الممثلـة‬ ‫األميركية سـكارليت جوهانسون‪ ،‬التي‬ ‫‪128‬‬

‫تتحول إلى «أيقونة» و«فام فاتال‪-‬‬ ‫بدأت ّ‬ ‫‪ »FEMME FATALE‬هوليوود‪ ..‬على‬ ‫غرار السـويدية جريتا جاربو وشـارون‬ ‫سـتون‪ ،‬وكيـم نوفـاك‪ ،‬وجريـس كيلي‬ ‫مـن أميـركا‪ ،‬وقد خصـص لهذه الظاهرة‬ ‫أحـد النقـاد السـينمائيين الفرنسـيين‬ ‫كتابـ ًا ليبرهـن فيه على أنهن شـقراوات‬ ‫هوليوود جعلن السينما األميركية تغزو‬

‫العالـم وتسـتولي على قلـوب الناس‪.‬‬ ‫تبـرز سـكارليت جوهانسـون فـي‬ ‫الفيلـم ال بتمثيلهـا‪ ،‬بـل بجمالها‪ ،‬وقدها‬ ‫الممش�وق‪ ،‬وتلع�ب دور «المدم�ر » �‪DE‬‬ ‫‪ STROYER‬مثل شفارنيزجير في أفالم‬ ‫الحركة‪ ،‬ويشاركها بطولة الفيلم الممثل‬ ‫األميركـي القدير مورجان فريمان‪ ،‬الذي‬ ‫يلعـب دور أسـتاذ جامعـي‪ ،‬وصاحـب‬


‫التطور‪ ،‬تؤسس للفكرة التي‬ ‫نظرية في‬ ‫ّ‬ ‫بنى عليها بيسون فيلمه‪ ،‬والقائلة بأن‬ ‫البشـر اليسـتغلون إال ‪ 20‬في المئة فقط‬ ‫مـن قدراتهـم‪ ..‬فمـاذا لـو أنهم اسـتثمروا‬ ‫قدراتهـم الذهنيـة والجسـمانية مئـة فـي‬ ‫المئة؟‬ ‫يقـول بيسـون‪ :‬إنـه اختـار مورجـان‬ ‫لمصداقيتـه‪ ،‬فهـو يجعلنـا نصـدق كل‬ ‫مايقول في الفيلم‪ ،‬وفي أي فيلم‪ ،‬ولهذا‬ ‫اختـار بيسـون مورجان للـدور إلقناعنا‬ ‫بنظريتـه التـي هـي نظريـة مخرجنـا‬ ‫بيسون باألساس‪ ،‬وقد أراد الترويج لها‬ ‫واستخدمها كـ «شماعة» – بسبب خيال‬ ‫قاصـر‪ -‬لتعليـق فيلـم مـن نـوع األكشـن‬ ‫عليهـا‪ .‬مـاذا يمكـن أن يحـدث لبطلتنـا‬ ‫«لوسي»‪ ،‬والتطورات والتحوالت التي‬ ‫تطـرأ عليها‪ ،‬وتجعلهـا قادرة هكذا على‬ ‫اإلتيـان بالمعجزات؟‪.‬‬ ‫يشـارك «سـكارليت» فـي البطولـة‬ ‫رجل شرطة فرنسي ‪ -‬لعب دوره الممثل‬ ‫المصري عمرو واكد في المشاهد األخيرة‬ ‫في الفيلم – وقد وجدت «لوسي» نفسها‬ ‫فجـأة‪ُ ،‬مكلّفـة بإنقـاذ العالم من عصابة‬ ‫كورية شـريرة‪ ،‬تسـتخدم «لوسـي» في‬ ‫تهريـب سلاح خطيـر يـزرع فـي بطنهـا‬ ‫بعمليـة جراحيـة‪ ،‬وهـذا السلاح هـو‬ ‫عبـارة عـن عبـوات مـن عقـار يمنـح‬ ‫البشـر توظيـف كل قدراتهـم‪ ،‬وبإمـكان‬ ‫تجـرع منـه أن يصبـح قـادرًا‬ ‫المـرء إذا ّ‬ ‫علـى اإلتيـان بالمعجزات!‪ ،‬وبه تتحقق‬ ‫مثلا‬ ‫نظريـة األسـتاذ الجامعـي‪ ،‬فهـو‬ ‫ً‬ ‫يسـتطيع كما تفعل «لوسـي» في الفيلم‬ ‫أن يسـتخدم الجـدران‪ ،‬ويجعلهـا درعـ ًا‬ ‫يقيه من رصاص األشـرار اآلسـيويين‪،‬‬

‫وزعيمهم الكوري (الخطر األصفر والعدو‬ ‫الشـيوعي‪ ،‬كمـا فـي بعـض أفلام فتـرة‬ ‫الحرب البـاردة)‪.‬‬ ‫يمكنها من العودة إلى الوراء‬ ‫كما أنه ّ‬ ‫في الزمن‪ ،‬لكي تلتقي بـ «لوسي» التي‬ ‫تعود إلى زمن العصر الحجري‪ ،‬وتكاد‬ ‫لوسـي تمسـك بالنجـوم التي تـدور في‬ ‫الفلـك السـائر فـي الفيلـم‪ ،‬وتتواجد في‬ ‫كل مـكان فـي وقت واحد‪.‬‬ ‫تتطور األحداث وإذا بالفتاة األميركية‬ ‫«لوسي» وبقدرة العقار السحري‪ ،‬تدخل‬ ‫في نزال مع مئات من األشرار‪ ،‬وتغلبهم‬ ‫وتقهرهـم‪ ،‬وينتهـي الفيلم كما في أفالم‬ ‫الوسـترن بمواجهة بين لوسـي وزعيم‬ ‫العصابـة «األصفـر»‪ ،‬تذكـر على طريقة‬ ‫أفلام الوسـترن اإلسـباجيتي لإليطالي‬ ‫سـرجيو ليوني‪ ،‬كما في فيلم «من أجل‬ ‫حفنة من الدوالرات»‪.‬‬ ‫تبرز سكارليت جوهانسون بجمالها‬ ‫األيقوني فقط‪ .‬في فيلم من نوع األكشن‬ ‫‪ ACTION‬يعتمد على اإلثارة والحركة‪،‬‬ ‫والعنـف الصـارخ‪ ،‬والمطـاردات‬ ‫بالسـيارات‪ ،‬ويضيـف إليهـا بيسـون‬ ‫بضـع صـور ومشـاهد مـن الطبيعـة‪،‬‬ ‫ونشـأة وتطـور الكـون مـن عنـده‪ ،‬لكـن‬ ‫باسـتخدام جـد سـاذج‪ .‬وكمثـال‪ :‬عندمـا‬ ‫تظهـر سـكارليت فـي المشـاهد األولـى‬ ‫للفيلـم كضحيـة‪ ،‬يقطـع بيسـون فـي‬ ‫مونتاج الفيلم على غزال شارد ومسكين‬ ‫في حضن الطبيعة‪ ،‬وكذلك عندما ينتقل‬ ‫إلـى زعيـم العصابـة الكـوري الشـرير‬ ‫«الخطـر األصفـر»‪..‬‬ ‫يقطـع بيسـون بسـذاجة علـى فهـد‬ ‫يتسـلل بخفـة لكـي ينقـض علـى الغزال‬

‫الشـارد‪ ،‬لكـن – ومـا الـذي يمنع‪ ،‬أليس‬ ‫الفيلم من إنتاجه؟ ‪ -‬ويضيف بيسون إلى‬ ‫«الطبخـة» عـددًا البـأس بـه مـن بهـارات‬ ‫أفالم األكشن المعروفة التي حفظناها‪،‬‬ ‫لكنه يعتمد أساس ًا على حضور النجمة‬ ‫سـكارليت جوهانسون‪.‬‬ ‫ويكشـف الفيلـم عـن براعـة المخـرج‬ ‫فـي أفلام األكشـن‪ ،‬ودأبـه علـى إنتـاج‬ ‫هـذا النـوع المطلـوب فـي سـوق الفيلـم‬ ‫األميركي‪ ،‬وذكائه كمنتج في فهم عقلية‬ ‫الجمهور األميركي وبخاصة من الشباب‬ ‫المراهـق الـذي يسـيل لعابـه أمـام أفلام‬ ‫وتعـود علـى ثقافـة العنف‪.‬‬ ‫الحركـة‬ ‫َّ‬ ‫ويقـول الفيلم بالطبع‪ -‬ضمن القليل‬ ‫الهـش الـذي يقولـه‪ ،‬إن الفرنسـيين فـي‬ ‫أفلام األكشـن مـن خلال أفلام بيسـون‬ ‫باسـتطاعتهم المنافسـة‪ ،‬ليكـون لهـم‬ ‫ال جدًا في كعكة أسواق‬ ‫نصيب ولو ضئي ً‬ ‫الفيلـم األميركـي‪ ،‬ولذلـك حقـق الفيلـم‬ ‫ض‬ ‫إيرادات شـباك عاليـة جدًا عندما ُعِر َ‬ ‫فـي أميـركا‪ ،‬وقبـل أن يخـرج للعـرض‬ ‫التجـاري فـي فرنسـا‪ ،‬وجلـب مالييـن‬ ‫الـدوالرات لمخرجـه ومنتجـه‪.‬‬ ‫فيلـم بيسـون – كمـا تمثلتـه ‪ -‬هـو‬ ‫ومطـرز‬ ‫ومفصـل‬ ‫«بضاعـة» اسـتهالكية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علـى مقـاس عشـاق هذا النـوع من أفالم‬ ‫الحركة واألكشن‪ ،‬وللمراهقين الكثر في‬ ‫فرنسا الذين يصنع لهم بيسون أفالمه‪،‬‬ ‫ويمكـن ‪ -‬فـي تقديرنا ‪ -‬مشـاهدته‪ ،‬رغم‬ ‫الفجـة‪ ،‬وخيـال مخرجـه‬ ‫«نمطيتـه»‬ ‫ّ‬ ‫القاصـر‪ ،‬فالمـرء كمـا يقـول المخـرج‬ ‫اإلسباني العظيم بونويل‪ :‬في الظالم‪،‬‬ ‫وداخل قاعة العرض‪ ،‬يستطيع أن يغفر‬ ‫ملا‪.‬‬ ‫للفيلـم كل شـيء‪ ،‬إال أن يكـون ُم ً‬ ‫‪129‬‬


‫فينيسيا «‪»71‬‬

‫السينما العربية خارج املضمار‬

‫فينيسيا‪ :‬د‪ .‬أمل الجمل‬

‫المتوجة بجوائز‬ ‫وإلـى جانب األفالم‬ ‫َّ‬ ‫المهرجان لمعت في دورة هذا العام أفالم‬ ‫مثل «إنها مضحكة بهذا الشكل» للمخرج‬ ‫بيتر بوجدانوفيتش‪ ،‬وهو فيلم كوميدي‬ ‫‪130‬‬

‫نجــح مهرجان موســترا فينيســيا الســينمائي الدولــي في دورتــه الحادية‬ ‫والســبعين‪ ،‬في جلب عدد كبير من المخرجين المميزين مثل السويدي روي‬ ‫أندرسون الذي ُت ِو َج بـــجائزة «األســد الذهبي» عن فيلم «حمامة فوق غصن‬ ‫تتأمل الوجود»‪ ،‬والروســي أندريه كونتشالوفســكي بـ «األسد الفضي» عن‬ ‫فيلــم «الليالي البيضاء لســاعي البريد»‪ ،‬وجوشــوا أوبنهايمر من الواليات‬ ‫المتحدة بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلم «نظرة الصمت»‪ .‬فيما ذهبت‬ ‫جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى المخرج التركي كان موجديسي عن فيلمه‬ ‫شكلت أسماء آخرين كفاتح أكين وأبيل فيرارا‪ ،‬اكتشافات‬ ‫«ســيفاس»‪ .‬كما ّ‬ ‫قوية على مستوى السيناريو واألداء التمثيلي‪.‬‬ ‫جمـع بيـن القيمـة الفنيـة والمواصفـات‬ ‫التجاريـة‪ ،‬وقـد َش ّـك َل أحـد ثالثـة أفلام‬ ‫الفتة تدور حول عالم التمثيل والممثلين‬ ‫على خشبة المسرح بعد رائعة «بيردمان‬

‫أو الفضيلـة غيـر المتوقعـة للجهـل»‬ ‫للمخرج أليخاندرو جونزاليز إيناريتو‪،‬‬ ‫والـذي أعـاد بـه الممثـل مايـكل كيتـون‬ ‫لألضواء ثانية بقوة في واحد من أفضل‬


‫أدواره‪ .‬ولمع كذلك فيلم «الهزيمة»‪The‬‬ ‫‪ Humbling‬للمخـرج بـاري ليفنسـون‬ ‫وبطولـة آل باتشـينو فـي أداء رائـع‬ ‫اسـتعاد بـه تألقـه من جديـد رغم بلوغه‬ ‫سـن الرابعة والسـبعين‪ .‬هذا إلى جانب‬ ‫مجموعـة كبيـرة مـن األفلام اإليطالية‪،‬‬ ‫ثالثـة منهـا تناولت قضية بيرلسـكوني‬ ‫ومفاوضاتـه مـع المافيـا أثنـاء توليـه‬ ‫رئاسة الوزراء‪ ،‬ودور مطربي الشوارع‬ ‫في مدينة باليرمو‪ .‬والظريف في األعمال‬ ‫الثالثة أنها على أهميتها الكبيرة ال تخلو‬ ‫من الكوميديا الصاخبة‪ ،‬وعلى األخص‬ ‫فيلم «بيرلسكوني‪ ،‬قصة صقلية»‪ ،‬الذي‬ ‫أثـار قلقـ ًا ُقبيـل عرضـه‪ ،‬وطالـب بعض‬ ‫كبـار السياسـيين بضرورة منعه‪.‬‬ ‫ووسط العدد الكبير من أفالم العنف‬ ‫ّق‬ ‫برزت أفالم الرومانسية كذلك‪ ،‬إذ َحق َ‬ ‫فيلـم «ثالثـة قلـوب» للفرنسـي بينـواه‬ ‫جاكـو ما يمكن وصفه تحفة سـينمائية‬ ‫فـي مجـال قصـص العشـق المكلـوم‬ ‫والحـب الـذي ال يمـوت حتـى وإن قتـل‬ ‫أصحابه‪ .‬وبنفس القيمة الفنية برز فيلم‬ ‫«فقـدان ذاكرة أحمر»– ‪Red amnesia‬‬ ‫ للمخ�رج الصين�ي �‪Wang Xiaosh‬‬‫‪ ،uai‬وهو فيلم استحقت بطلته جائزة‬ ‫التمثيـل األولـى لوال المنافسـة الضارية‬ ‫التـي حرمتهـا إياهـا‪ .‬وفيـه تعانـي‬ ‫البطلـة مـن أزمـة الضميـر ألنهـا وشـت‬ ‫بزميلهـا اليسـاري حتـى تحصـل علـى‬ ‫فرصـة العـودة إلـى بكيـن تاركـة حيـاة‬ ‫الفقـر والعـوز فـي الجبال وحتـى ُتربي‬ ‫نتظـر فـي وضع جيـد‪ ،‬كانت‬ ‫الم َ‬ ‫جنينهـا ُ‬ ‫هـي وزميلهـا فقـط المؤهليـن للعـودة‪،‬‬ ‫لكـن البـد مـن اختيار عائلـة واحدة فقط‬ ‫لذا خانت ضميرها‪ ،‬وظلّت تلك المسألة‬ ‫تؤرقهـا وهـو مـا ُيفسـر الحقـ ًا العالقـة‬ ‫المتوتـرة والمرتبكـة مـع ابنهـا األصغر‬ ‫الذي كلما رأته تذكرت خيانتها المريعة‬ ‫والتـي نتـج عنها تدهور أحوال وصحة‬ ‫زميلهـا ومعانـاة أسـرته وحفيـده الـذي‬ ‫تحول إلى مجرم‪ .‬التواجد اإليراني كان‬ ‫ّ‬ ‫بارزًا ومكثف ًا ولم يخرج من دون جوائز‪،‬‬ ‫فرغـم أن فيلـم «الرئيـس» لمخملباف لم‬ ‫يرق لتوقعات النقاد‪ ،‬لكن فيلم اإليرانية‬ ‫َ‬ ‫راخشان بني اعتماد «حكايات» ‪،Tales‬‬ ‫الـذي يسـرد قصصـ ًا متباينـة وجريئـة‬

‫تعيشـها نسـاء مـن شـرائح اجتماعيـة‬ ‫مختلفـة‪ ،‬حصلت مخرجتـه على جائزة‬ ‫أحسـن سيناريو في المسابقة الرسمية‬ ‫باالشتراك مع الكاتب فريد مصطفاوي‪.‬‬ ‫وبتوقيع إيراني وإنتاج أجنبي شـارك‬ ‫فيلـم «‪ 99‬منـزل» للمخـرج األميركي من‬ ‫أصـل إيرانـي راميـن بهراني‪ ،‬وشـاركه‬ ‫كتابة السـيناريو المخـرج اإليراني أمير‬ ‫نادري‪ ،‬واألخير ُعرض له فيلم وثائقي‬ ‫عن فن السينما وهو عبارة عن محادثة‬ ‫مـع المخـرج األميركـي أرثـر بـن‪ ،‬حـول‬ ‫المخرج ونشـأته وحياته‪ .‬أما سيناريو‬ ‫«‪ 99‬منـزل» فيتنـاول بأسـلوب إيقاعـي‬ ‫متوتـر الهـث أزمـة العقارات فـي أميركا‬ ‫يتحـول‬ ‫وفسـاد رجـال البنـوك وكيـف‬ ‫ّ‬ ‫الضحيـة إلـى جلاد جديد إلنقـاذ عائلته‬ ‫بعد أن يتم طرده من مسـكنه ألنه عجز‬ ‫عن تسديد األقساط في مشهد مؤلم جداً‪،‬‬ ‫يتـردد في أن‬ ‫لكنـه تحـت إغـواء المال ال ّ‬ ‫يتحول إلى كرباج للجالد إلى أن تلمس‬ ‫ّ‬ ‫روحـه صحـوة الضمير تحـت تأثير أمه‬ ‫وابنـه فيقـرر أن يتوقـف‪ .‬كذلـك شـارك‬ ‫راميـن بهرانـي بفيلـم – ‪lift you up -‬‬ ‫‪ 8‬ق بمسـابقة الفيلـم القصيـر دون أن‬ ‫يحصـل علـى جوائز‪.‬‬ ‫وباستثناء وجود المخرج الفلسطيني‬ ‫إيليا سليمان بلجنة التحكيم الرسمية‪،‬‬ ‫اقتصـر حضـور السـينما العربيـة علـى‬ ‫البرامـج الموازيـة‪ ،‬ففـي تظاهـرة‬ ‫آفـاق جديـدة التـي تضمنـت عـرض ‪17‬‬

‫فيلمـ ًا شـارك ضمنهـا المخـرج األردنـي‬ ‫الواعـد نـوار أبـو ناجي بفيلمـه الروائي‬ ‫األول الطويـل «ذيـب» أي (ذئـب) إنتـاج‬ ‫مشـترك بيـن األردن وقطـر واإلمـارات‬ ‫وبريطانيـا‪ .‬وتـدور وقائـع الفيلـم الذي‬ ‫ـو َج بجائـزة أفضـل مخـرج فـي (آفـاق‬ ‫ُت ِ‬ ‫جديـدة) علـى طريقـة أفالم الويسـترن‪،‬‬ ‫لكن في صحراء األردن‪ ،‬ويتناول قصة‬ ‫الفتـى البـدوي ذيـب وشـقيقه حسـين‬ ‫اللذيـن يتـركان قبيلتهمـا فـي رحلـة مـع‬ ‫أجنبـي يبحـث فـي الصحـراء عـن بئـر‬ ‫ميـاه صالحـة للشـرب أثنـاء مطلـع‬ ‫الثـورة العربيـة الكبـرى ضـد األتـراك‪،‬‬ ‫لكنهمـا يتعرضـان إلى مذبحة يقتل فيها‬ ‫الجميع باستثناء الطفل ذيب الذي ينجو‬ ‫بإلقاء نفسـه في البئر‪ ،‬ثم يسـعى للثأر‬ ‫واالنتقـام مـن الخائـن‪ .‬ورغـم أن أغلـب‬ ‫فريـق العمـل مـن األجانـب‪ ،‬وموضـوع‬ ‫السيناريو ال ينطوي على قضية مهمة‪،‬‬ ‫إال أن الفيلم يكشـف عن موهبة متمكنة‬ ‫وصاعـدة فـي عالـم اإلخـراج‪.‬‬ ‫السـينما الفلسـطينية شاركت بثالثة‬ ‫أفلام‪ ،‬منهـا الفيلـم التسـجيلي الطويـل‬ ‫«أنا مع العروس»‪ ،‬اشترك في إخراجه‬ ‫الفلسـطيني خالـد سـليمان الناصـري‬ ‫مـع اإليطالييـن أنطونيـو أوجوجليارو‬ ‫وجابريللـي ديـل جرانـدي‪ .‬والفيلـم‬ ‫يتنـاول محاولـة تهريـب خمسـة أفـراد‬ ‫سـوريين‪ ،‬مـن بينهـم اثنـان يحتفلان‬ ‫بعرسـهما بـدءًا مـن األراضـي اإليطاليـة‬ ‫مرورًا باألراضي الفرنسية إلى الدنمارك‬ ‫وصـو ًال إلـى السـويد‪ .‬إلى جانـب الفيلم‬ ‫القصيـر «فـي الوقـت الضائـع» إخـراج‬ ‫رامـي ياسـين الـذي يشـاركه البطولـة‬ ‫مكـرم خـوري‪ .‬ثـم فيلـم «فيلا تومـا»‬ ‫للمخرجـة سـهي عـراف‪ ،‬والـذي أثـار‬ ‫الكثير من المشـاكل في إسـرائيل منذ أن‬ ‫تـم اإلعلان عـن مشـاركته فـي عـروض‬ ‫فينيسـيا‪ ،‬لكـون مخرجتـه تلقـت دعمـ ًا‬ ‫مـن أكثـر مـن جهـة إسـرائيلية دون أن‬ ‫تنسـب الفيلـم إلـى إسـرائيل‪ ،‬لكـن رغـم‬ ‫الضجة التي خلفها الفيلم فإنه لم يحظ‬ ‫بترحيـب النقـاد‪ ،‬خاصـة إذا أخذنـا فـي‬ ‫عين االعتبار رتابته وسـقوطه المغرق‬ ‫فـي الذاتيـة‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫تورونتو‬

‫الطريق إىل األوسكار‬

‫تورونتو ‪ -‬سوزان سامي جميل‬ ‫اختتمت الدورة الـ ‪ 39‬لمهرجان األفالم‬ ‫العالمية «‪ 14 - 4‬أيلول‪/‬سـبتمبر» الذي‬ ‫تقيمـه مدينـة تورونتـو العظمـى ‪-‬كمـا‬ ‫يسـميها الكنديـون‪ -‬عاصمـة مقاطعـة‬ ‫أونتاريـو فـي كنـدا‪ .‬وكانـت دورة هـذا‬ ‫العـام قـد عرفـت مشـاركة ‪ 393‬فيلمـ ًا‬ ‫سـينمائي ًا من شـتى دول العالم‪ ،‬تباينت‬ ‫مواضيعهـا بيـن درامـا طويلـة وقصيـرة‬ ‫وأفلام كارتونيـة ووثائقية‪ ،‬إال أن ‪143‬‬ ‫فيلمـ ًا مـن مجمـوع األفلام المشـاركة تـم‬ ‫عرضها ألول مرة‪ُ .‬افتتح المهرجان بفيلم‬ ‫«القاضي»‪ ،‬وهو من إخراج ديفيد ويبكنز‬ ‫وبطولـة روبـرت داوي االبـن وروبـرت‬ ‫‪132‬‬

‫دوفيـل‪ ،‬فيمـا ُاختيـر الفيلـم البريطانـي‬ ‫«فوضـى قليلة» الختتـام المهرجان وهو‬ ‫مـن إخـراج آليـن ريكمـان وبطولـة بطلة‬ ‫فيلـم «تايتانـك» كيـت وينسـلت‪.‬‬ ‫تـوزع برنامـج العـرض علـى صاالت‬ ‫ّ‬ ‫السـينما فـي تورونتـو وضواحيهـا‪ ،‬وقد‬ ‫كاملا‬ ‫خصـص منظمـو المهرجـان يومـ ًا‬ ‫ً‬ ‫لـكل ممثل مشـارك ُتعرض فيه مختارات‬ ‫مـن أفالمـه‪ ،‬وكان اليـوم األول ُمخصص ًا‬ ‫للممثل بيل موراي‪ .‬الحضور العربي كان‬ ‫واضحـ ًا فـي المهرجـان‪ ،‬حيـث اشـتركت‬ ‫عدة دول عربية بإنتاج منفرد أو مشترك‬ ‫مـع دول غربيـة‪ ،‬ومـن هذه األفالم‪ :‬فيلم‬ ‫«نوم عميق» للمخرجة الفلسطينية بسمة‬ ‫الشـريف‪« .،‬عيـن وحورية بحـر» إخراج‬

‫شـهد أميـن‪« .‬ملحمـة أوديسـا العراقيـة»‬ ‫إخـراج سـمير‪ .‬والفيلـم الكارتونـي‬ ‫«النبي» لجبران خليل لمحمد سعيد حرب‬ ‫وآخرين‪« .‬ضوء» إخراج ياسمين كراجا‪.‬‬ ‫«اإلطـار الضيـق لمنتصـف الليـل» إخراج‬ ‫تاال حداد‪« .‬عاصفة أكتوبر» إخراج ربى‬ ‫نـّدا‪« .‬كلمـة واحـدة» إخـراج مريـم سـيلال‬ ‫خـادي سـيلال‪« .‬ذيـب» إخـراج ناجي أبو‬ ‫نـوار‪« .‬الـوادي» إخـراج غسـان سـلهب‪.‬‬ ‫«فيللا تومـا» إخـراج السـورية سـهى‬ ‫عـراف‪« .‬المطلوبـون الثمانـي عشـر»‬ ‫إخـراج أميـر شـوميلي‪ ،‬وفيلـم «الدبلـوم‬ ‫الوطنـي» إخـراج داوود حمـادي‪.‬‬ ‫وقـد توجـت األفلام العربيـة بجوائـز‬ ‫المهرجـان؛ منهـا جائـزة أفضـل فيلـم‬ ‫سـينمائي معاصـر لفيلـم «الـوادي»‬ ‫لغسـان سـلهب‪ ،‬وهو من إنتاج لبناني‪/‬‬ ‫فرنسي‪ /‬ألماني‪ /‬قطري‪ /‬إماراتي‪ ،‬أما‬ ‫جائـزة أفضـل لقطـات خارجيـة فقـد فـاز‬ ‫بها فيلما «ليبارك اهلل فرنسا» إخراج عبد‬ ‫المالـك‪ ،‬بإنتـاج فرنسـي‪ ،‬وفيلـم «فيلا‬ ‫تومـا» للسـورية سـهى عـراف‪ ،‬وهو من‬ ‫إنتـاج فلسـطيني‪ ،‬وأيضـ ًا جائـزة أفضل‬ ‫صناعـة للمغامـرة لفيلم «ذيـب» للمخرج‬ ‫اللبناني ناجي أبو نوار‪ ،‬إنتاج أردني‪/‬‬ ‫قطـري‪ /‬إماراتـي‪ /‬إنجليزي‪ .‬كما حصل‬ ‫الفيلم الوثائقي العراقي «ملحمة أوديسا‬ ‫العراقيـة» وفيلـم «الدبلـوم الوطنـي»‬ ‫لداوود حمادي على جائزة أفضل فيلمين‬ ‫وثائقيين‪.‬‬ ‫ومـن األفلام التـي لفتـت األنظـار في‬ ‫هـذه الـدورة؛ فيلـم «نظريـة الكل شـيء»‬


‫مـن إخـراج جيمس مـارش وبطولة ايدي‬ ‫ويدمـان‪ ،‬وتحكـي قصـة الفيلـم السـيرة‬ ‫الذاتية للعالم البريطاني الشهير ستيقن‬ ‫هاوكينـغ الـذي أصيـب بمـرض التصلـب‬ ‫الشـديد لضمـور العضلات وهـو طالـب‬ ‫فـي الجامعـة والقصة ُطرحت من منظور‬ ‫عالقتـه بحبـه األول جين وايلد‪ .‬كما حاز‬ ‫كل من الفيلمين «الزاحف ليالً» من إخراج‬ ‫جيك كيلينهال وفيلم «طائر الفينيق» من‬ ‫إخـراج كريسـتيان بيتزولـد علـى إعجاب‬ ‫النقـاد‪ .‬وكذلـك فيلـم «أليس التـزال هنا»‬ ‫الـذي تألقـت فيـه جوليانـا مـور فـي دور‬ ‫أستاذة جامعية تصاب بمرض الزهايمر‬ ‫‪.‬‬ ‫وقـد أسـفرت نتائـج مسـابقة األفلام‬ ‫األجنبيـة بفـوز فيلـم «لعبـة المحـاكاة»‬ ‫مـن إخـراج مورتيـن تايلـدم بجائـزة‬

‫أفضـل اختيـار للجمهـور‪ ،‬مناصفـة مـع‬ ‫فيلـم «تعلـم السـياقة» للمخرجـة ايزابيـل‬ ‫كويكسـت وفيلـم «القديـس فنسـنت»‬ ‫للمخـرج ثيـودور ميلفـي‪ ،‬فيما نـال فيلم‬ ‫«دقـات انتونوف» للمخرج هاجوج كوكا‬ ‫بجائـزة الجمهـور فـي صنـف األفلام‬ ‫الوثائقيـة‪ .‬مناصفـة أيضـ ًا مـع فيلـم‬ ‫«تقديم» للمخرج إيثان هاوك‪ .‬كما حصل‬ ‫فيلـم «مانفعلـه فـي الظل» للمخـرج تايكا‬ ‫ويتيتـي وجيميـن كليمنت حسـب اختيار‬ ‫الجمهـور بجائـزة جنـون منتصف الليل‪،‬‬ ‫مناصفـة مـع فيلـم «الناب» إخـراج كيفن‬ ‫سـميث‪ ،‬وفيلـم «اللعبـة الكبيـرة» إخراج‬ ‫جلمـاري هيلينـدر ‪.‬‬ ‫وذهبـت جائـزة أفضـل فيلـم كنـدي‬ ‫طويـل إلـى مكسـيم غيروكس عـن فيلمه‬ ‫«فيليكس وميرا» مناصفة مع فيلم «بانغ‬

‫بانـغ بيبـي» لمخرجـه جيفيـري سـانت‬ ‫يوليـوس‪ .‬بينمـا كانـت جائـزة أفضـل‬ ‫فيلـم كنـدي قصير من نصيب فيلم «مذيع‬ ‫األخبـار الجويـة ومالكـم الظـل» إخـراج‬ ‫راندال أوكيتا‪ .‬في حين ُت ِو َج فيلم «جسد‬ ‫منفرد» للمخرج سـوتيريس داونوكوس‬ ‫كأفضـل فيلـم عالمـي قصيـر‪ .‬أمـا جائـزة‬ ‫العـرض الخـاص فكانـت مـن نصيب فيلم‬ ‫«خـارج الذهن» للمخـرج أورن موفرمان‪.‬‬ ‫وأخيـرًا فيلـم «مارغريتـا‪ ،‬مـع القصبـة»‬ ‫للمخـرج شـونالي بـوس فـاز بجائـزة‬ ‫أفضـل فيلـم آسـيوي عالمـي‪.‬‬ ‫الجديـر بالذكـر أن األفلام التـي تتـوج‬ ‫في مسابقات تورونتو السينمائي ترشح‬ ‫غالبـ ًا لجوائـز األوسـكار‪ ،‬لذلـك يحـرص‬ ‫المخرجـون والمنتجـون علـى المشـاركة‬ ‫فـي هـذا المهرجان‪.‬‬ ‫‪133‬‬


‫مسرح‬

‫مشهد من مسرحية «خميس في باريس» ‪ - 1976‬تأليف‪ :‬سامي المناعي ‪ -‬إخراج‪ :‬بدر الدين حسنين‬

‫تأصيل المسرح العربي‬ ‫(الحالة َ‬ ‫الق َ‬ ‫طريّة)‬

‫د‪ .‬مرزوق بن بشري بن مرزوق‬ ‫باحث وكاتب قطري‬

‫‪134‬‬

‫باهتمام‬ ‫ال ومضمون ًا‬ ‫حظيت مسألة تأصيل المسرح العربي بصفة عامة شك ً‬ ‫ٍ‬ ‫وحرص شــديٍد من القائمين على الشــأن المســرحي‪ ،‬ونتج عن هذا‬ ‫كبير‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫االهتمام والحرص إشكال حول الجذور التاريخية للمسرح عند العرب؛ هل‬ ‫عرف العرب المسرح؟ وانقسم الرأي في ذلك‪ ،‬بأن هناك فرق ًا بين األصالة‬ ‫والتأصيــل‪ ،‬حيث يــرى األصالة تعني الثبات‪ ،‬وجــودة الرأي‪ ،‬والقاعدة‬ ‫تفرع‬ ‫واألســاس الــذي يقوم عليه الشــيء‪ ،‬فإذا غاب األصل ينعــدم كل ما َّ‬ ‫ــس عليه‪ ،‬أما التأصيل من (وجهة نظره) فهو أقل درجة من‬ ‫منه أو ما ُأ ِس َ‬ ‫األصالــة‪ ،‬حيث ضرورات التغيير االجتماعي الملحة عادة ما تفرض على‬ ‫المجتمــع التخلّي عن كثيــر مما فيه من أعراف وتقاليــد‪ ،‬ولكنها ال تفرض‬ ‫إلغــاء التــراث أو اســتئصال الثقافــة والهويــة‪ ،‬وإنما تؤدي االســتجابة‬ ‫بالضرورة إلى ابتداع صيغ مالئمة‪.‬‬


‫من مسرحية «على جناح التبريزي»‬

‫ويعـرف الدكتـور محمـد غنيمـي هلال‬ ‫ِّ‬ ‫األصالـة بأنها ليسـت بقـاء المرء في حدود‬ ‫ذاته‪ ،‬وليست هي إباء التجاوب مع العالم‬ ‫الخارجـي‪ ،‬لكـي يبقـى المـرء كما هـو دون‬ ‫تغيير أو تحوير‪ ،‬ولكن األصالة الحق هي‬ ‫مظـان خارجة عن‬ ‫القـدرة علـى اإلفـادة من‬ ‫ٍ‬ ‫نطـاق الـذات حتى يتسـنى االرتقاء بالذات‬ ‫عـن طريـق تنميـة إمكانياتهـا(‪ ،)2‬ويتبين‬ ‫مـن هـذا التعريـف لألصالـة بأنهـا دعـوة‬ ‫للتجـاوب مـع الثقافـات األخـرى فـي إطـار‬ ‫األصالـة‪ ،‬وبهـذا يتحقّـق مفهـوم التأصيـل‬ ‫فـي الثقافـة العربية‪.‬‬ ‫األصالـة إذن تعنـي الثبـات‪ ،‬وأصـل‬ ‫األشـياء ومرجعيتها‪ ،‬أما التأصيل فيعني‬ ‫المرونة والبناء على ما مضى واالستفادة‬ ‫مـن المبـادئ والتقاليـد األصيلـة فـي ثقافة‬ ‫األمة‪.‬‬ ‫ومحاوالت تأصيل المسرح العربي‪ ،‬هي‬ ‫إحدى الطرق التي تعامل بها المسـرحيون‬ ‫العـرب مـع المسـرح حيـث كان االقتبـاس‬ ‫والترجمـة مـن المسـرح الغربـي الوسـيلة‬ ‫األخرى في ذلك التعامل‪ ،‬وكان الغرض من‬ ‫تأصيل المسرح‪ ،‬هو التأكيد على األصالة‬ ‫والهويـة العربيـة‪ ،‬وكذلـك االختلاف عـن‬ ‫اآلخـر‪ ،‬وربـط المسـرح بالثقافـة والبيئـة‬ ‫االجتماعيـة العربيـة‪ ،‬وهمومهـا الماديـة‬ ‫والمعنويـة‪ ،‬وكانت تهـدف في النهاية إلى‬

‫الجمع بين األصالة والمعاصرة‪ ،‬والتوفيق‬ ‫بيـن التـراث العربـي واإلسلامي واإلطـار‬ ‫الغربـي للمسـرح‪ .‬يشـير الباحـث جميـل‬ ‫حمداوي عمر في بحثه المنشور على شبكة‬ ‫اإلنترنـت إلـى أن تأصيـل المسـرح يتـم من‬ ‫خلال أشـكال مختلفة هي‪:‬‬ ‫تأصيـل المسـرح العربـي اعتمـادًا علـى‬ ‫المضمـون التراثـي‪.‬‬ ‫تأصيـل المسـرح العربـي ارتـكازًا علـى‬ ‫الشـكل أو القالـب التراثـي‪.‬‬ ‫التأصيـل النظـري (بيانـات وتصورات‬ ‫وورقـات نظريـة حـول أصالة المسـرح)‪.‬‬ ‫التأصيل التطبيقي (نصوص وعروض‬ ‫مسرحية تأصيلية مضمون ًا وقالباً)‪.‬‬

‫المسرح العربي والتراث‪:‬‬

‫من المعلوم أن بدايات المسرح اإلنساني‬ ‫ـت مـن خلال الممارسـات‬ ‫وعِرَف ْ‬ ‫انطلقـت ُ‬ ‫الطقوسـية‪ ،‬وارتبـاط حكاياتهـا بقصـص‬ ‫اآللهة وصراعاتها (الميتافيزيقية)‪ ،‬وكانت‬ ‫تلك الصراعات هي المادة الخام التي بنى‬ ‫عليها المسرحيون األوائل أعمالهم الفنية‪،‬‬ ‫خصوصـ ًا مسـرحيين مثـل يوروبيـدس‬ ‫وأرسـتوفاينس وسـوفوكليبس الذيـن‬ ‫شكلوا جيل الرواد للمسرح اإلغريقي‪ .‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫ذلـك المنطلـق دعـا الكثير من المسـرحيين‬ ‫العـرب إلـى ربـط تأصيل المسـرح العربي‬

‫ال ومضمونـاً‪ ،‬ومنهـا الدعـوة‬ ‫بتراثـه شـك ً‬ ‫التـي أطلقهـا الدكتـور يوسـف إدريـس فـي‬ ‫عام ‪1963‬م بضرورة خلق مشروع عربي‬ ‫نصاً‪ ،‬وروحاً‪ ،‬وشكالً‪ ،‬ومضموناً‪ ،‬والذي‬ ‫أطلق عليه (مسـرحة المسرح)‪ ،‬ولقد نحى‬ ‫عـدد كبيـر مـن المسـرحيين العـرب نفـس‬ ‫المنحـى فـي الدعـوة إلـى مسـرحية عربية‬ ‫ذات شخصية خاصة بها‪ ،‬مسرحية تجمع‬ ‫بيـن األصالة والمعاصرة‪ ،‬ولقد كان لتلك‬ ‫الدعـوات مسـتجيبيها‪ ،‬حيـث عمـل عدد من‬ ‫المسـرحيين علـى العـودة إلـى التـراث‬ ‫العربـي واإلسلامي السـتلهامه‪ ،‬آمليـن‬ ‫تحقيـق مسـرح عربـي مسـتقل ومعبـر عـن‬ ‫الثقافـة العربيـة األصيلة‪.‬‬ ‫أعمـال‬ ‫وعلـى ضـوء ذلـك انطلقـت‬ ‫ٌ‬ ‫مسـرحية‪ ،‬آخـذة في اعتبارهـا ذلك النهج‬ ‫مـن اسـتلهام التـراث فجـاءت مسـرحيات‬ ‫الكاتـب ألفريـد فرج‪ ،‬مثل مسـرحية (حالق‬ ‫بغـداد) عـام ‪1963‬م‪ ،‬ومسـرحية (علـي‬ ‫جناح التبريزي وتابعه قفة) عام ‪1969‬م‪،‬‬ ‫ومسـرحية (رسـائل قاضي إشـبيلية) عام‬ ‫‪1975‬م‪ ،‬ومسرحية (سليمان الحلبي) عام‬ ‫‪1965‬م‪ ،‬التي استمدها من حادثة تاريخية‬ ‫واقعيـة تحكـي عـن شـاب عربـي مـن حلب‬ ‫ذهـب ليتعلّـم فـي األزهـر الشـريف بمصـر‬ ‫وتمكن هناك من قتل قائد الجيش الفرنسي‬ ‫ّ‬ ‫وتمكن ألفريد فرج‬ ‫(كليبر)‪،‬‬ ‫واسـمه‬ ‫حينها‬ ‫ّ‬ ‫فـي هـذا العمـل مـن تقديـم تراجيديـا عربية‬ ‫يتصـف فيهـا سـليمان الحلبـي بمواصفات‬ ‫البطـل التراجيدي األرسـطي‪.‬‬ ‫واسـتمرت محـاوالت اسـتلهام التـراث‬ ‫العربي والتاريخ والحكايات الشـعبية مع‬ ‫كّتاب آخرين مثل‪ :‬سعد اهلل ونوس‪ ،‬الذي‬ ‫قـّدم لنـا (مغامـرة رأس المملوك جابر) في‬ ‫قالب حكواتي جذاب‪ ،‬ومسرحية (الملك هو‬ ‫الملك)‪ ،‬وكذلك الطيب الصديقي الذي عمل‬ ‫علـى تطويـر ما يسـمى بمسـرح الحلقة في‬ ‫(ديوان سـيدي عبد الرحمن)‪ ،‬واستفاد من‬ ‫مقامـات بديـع الزمـان الهمذانـي في تطوير‬ ‫ذلك النوع من المسرح‪ ،‬وكذلك عبد الكريم‬ ‫رشـيد فـي أعمالـه االحتفاليـة‪ ،‬ومحاوالت‬ ‫قاسم محمد في توظيف الموروث الشعبي‬ ‫في أعماله‪ ،‬وغيرها من المحاوالت العربية‬ ‫الجـادة التـي أدت إلـى اإلسـراع فـي عملية‬ ‫تأصيـل الفـن المسـرحي العربـي‪ ،‬وإيجاد‬ ‫سـمة وصيغـة خاصـة بـه (‪ ،)3‬ويالحـظ‬ ‫المتابعـون لمحـاوالت تأصيـل المسـرح‬ ‫العربـي بـأن المسـرحيين العـرب اعتمـدوا‬ ‫‪135‬‬


‫علـى ثالثـة مصـادر أساسـية اسـتلهموا‬ ‫منها أعمالهم المسـرحية‪ ،‬وذلك كما يشـير‬ ‫أحمـد سـعيد الديـن في مداخلة على شـبكة‬ ‫اإلنترنـت وهي‪:‬‬ ‫‪ -1‬المصـدر التاريخـي‪ :‬حيـث يعتمـد‬ ‫المسرحيون على حوادث التاريخ ووقائعه‬ ‫واالستفادة منه زماني ًا أو مكاني ًا أو كليهما‪،‬‬ ‫ويعمدون على تفكيك الوقائع التاريخية‪،‬‬ ‫ومـن ثـم يعيـدون تركيبهـا مـن جديـد فـي‬ ‫عمليـة انتقائيـة‪ ،‬لدعـم فكـرة أو قضيـة‬ ‫معاصرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬المصـدر التراثـي‪ :‬حيـث يتوجـه‬ ‫المسـرحي العربـي إلـى الحكايـات‬ ‫األسـطورية والخرافيـة أو القصـص‬ ‫الشـعبية مثـل (عنتـرة بن شـداد) و(سـيرة‬ ‫بنـي هلال) و(مقامات الهمذاني) و(قصص‬ ‫البخلاء) وقصـص ألـف ليلة وليلـة‪ ،‬وهنا‬ ‫أيض ًا يلجأ المسرحي العربي ليعيد تركيب‬ ‫تلك الحكايات واألساطير ويوظفها للوقت‬ ‫الراهن‪ ،‬والوصول من خاللها إلى رسائل‬ ‫معاصـرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬المصـدر الشـعري‪ :‬اعتمـد عـدد مـن‬ ‫كتـاب المسـرح العربـي منـذ انطالقته على‬ ‫التراث الشـعري العالمي‪ ،‬وكان من أوائل‬ ‫مـن كتبـوا ومـن نظمـوا المسـرحية شـعرًا‬ ‫الشـاعر أحمد شـوقي وعزيز أباظة‪ ،‬حيث‬ ‫كتبـوا أعمالهـم المسـرحية بطريقة الشـعر‬ ‫العمودي‪ ،‬ولربما كانت االنطالقات األولى‬ ‫للكتابـة المسـرحية شـعراً‪ ،‬جـاءت تقليـدًا‬ ‫للتراجيديـا اليونانية‪ ،‬وقد نضجت الكتابة‬ ‫للمسـرح بلغـة الشـعر علـى يـد كتـاب مثـل‬ ‫الشاعر صالح عبد الصبور‪ ،‬الذي استلهم‬ ‫المسـرح الدرامـي‪ ،‬واقتـرب من لغة الحوار‬ ‫الشـعري‪ ،‬ويطلـق النقـاد علـى المرحلـة‬ ‫األولـى مـن اسـتخدام الشـعر فـي المسـرح‬ ‫اسـم (المسـرح الشـعري)‪ ،‬حيث كانت لغة‬ ‫الشـعر هـي البـارزة علـى حسـاب الدراما‪،‬‬ ‫أما المرحلة الثانية فأطلقوا عليها (الشـعر‬ ‫المسـرحي)‪ ،‬حيـث وظـف الشـعر للدرامـا‪،‬‬ ‫وتطور األحداث‪ ،‬وأصبح جزءًا من النص‬ ‫ال أو مفروض ًا عليه‪،‬‬ ‫المسرحي وليس دخي ً‬ ‫ويعتبر الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي من‬ ‫أهـم رواد هـذه المرحلـة‪ ،‬ويتضح ذلك في‬ ‫مسرحياته (الفتى مهران) و(الحسين ثائراً)‬ ‫و(الحسـين شهيداً)‪.‬‬ ‫نالحظ مما سبق‪ ،‬أن محاوالت تأصيل‬ ‫المسرح العربي سواء أكانت التي اعتمدت‬ ‫علـى وقائـع التاريخ ومصـادره المتنوعة‬ ‫‪136‬‬

‫ألفريد فرج‬

‫سعد اهلل ونوس‬

‫إلى ما نطلق عليه تأصيل المسرح العربي‬ ‫أي االستفادة من تراث الماضي والتاريخ‬ ‫فـي ُأطـر وقوالـب المسـرح الحديـث‪ ،‬وهذه‬ ‫االسـتفادة ال تقلل من شـأن األمة وثقافتها‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬بل تؤكد انفتاح الثقافة العربية‬ ‫علـى اآلخـر‪ ،‬واسـتيعابها لكافـة المظاهـر‬ ‫اإلنسـانية وتوظيفها للثقافة األم‪.‬‬

‫(الحالة القطرية)‬

‫عبدالكريم برشيد‬

‫وشـخوصه‪ ،‬أم تلـك التـي اعتمـدت علـى‬ ‫التراث من حكايات وأساطير وخرافات‪ ،‬أم‬ ‫التي استلهمت التراث الشعري ووظفت لغة‬ ‫الشـعر في بناء الحدث المسرحي‪ ،‬نالحظ‬ ‫أن جميعهـا بقيـت ملتصقـة ومسـتفيدة من‬ ‫تقدم‬ ‫اإلطار الغربي لشكل المسرحية‪ ،‬ولم ِّ‬ ‫لنـا تلـك المحاوالت رغم جديتها‪ ،‬أسـاليب‬ ‫تفردة عن ذلك المسـرح‪،‬‬ ‫فنية ُم ِّ‬ ‫تميزة أو ُم ِّ‬ ‫وكل مـا تـم القيـام بـه هـو توظيـف شـكل‬ ‫المسـرح العالمـي وأطـره فـي مضاميـن‬ ‫مرتبطـة بواقـع اإلنسـان العربـي وهمومه‬ ‫وتطلعاته‪ ،‬وهذا ما يؤكد لنا بأن محاوالت‬ ‫البحـث عـن أصـل للمسـرح العربـي‪ ،‬أدت‬

‫الراصد لظاهرة تطور المسرح القطري‬ ‫ونشـوئه التـي بـدأت مـن منتصـف القـرن‬ ‫العشـرين‪ ،‬ربمـا ينتهـي بـه األمـر‪ ،‬بـأن‬ ‫المسـرح فـي قطـر ومنـذ بداياتـه األولـى لم‬ ‫تعنه ظاهرة تأصيل المسرح بشكل مباشر‪،‬‬ ‫وال يبدو أن هناك تأثرًا مباشرًا بالمحاوالت‬ ‫التي قام بها بعض الكّتاب والمثقفين العرب‬ ‫في دول عربية مثل سورية ومصر وبعض‬ ‫أقطـار المغـرب العربي‪ ،‬ولقـد توجهت ُجّل‬ ‫مواضيـع المحـاوالت المسـرحية فـي قطـر‬ ‫وحتـى بدايـة سـبعينيات القـرن الماضـي‬ ‫إلـى القضايـا المحليـة الراهنـة‪ ،‬والتـي‬ ‫كان معظمهـا يتنـاول المشـاكل الحياتيـة‬ ‫االجتماعيـة المباشـرة‪ ،‬مـن غلاء المهور‪،‬‬ ‫وغلاء األسـعار‪ ،‬وقضايـا اإلرث‪ ،‬أمـا مـن‬ ‫الناحيـة الشـكلية أو اإلطاريـة؛ فلقـد كانت‬ ‫قدم بشـكل اسكتشات‬ ‫معظم المسـرحيات ُت َّ‬ ‫هزليـة علـى منصـات األنديـة الرياضيـة‬ ‫واالجتماعية أو على منصات المعسـكرات‬ ‫الكشـفية‪ ،‬وذلـك قبـل انتقالهـا إلـى منصة‬ ‫مسـرحية مسـتقلة فـي أوائـل سـبعينيات‬


‫الطيب الصديقي‬

‫قاسم محمد‬

‫محاوالت تأصيل المسرح العربي التصقت‬ ‫واستفادت من اإلطار الغربي لشكل المسرحية‪،‬‬ ‫لكنها لم تق ِّدم رغم جديتها‪ ،‬أساليب فنية ُمتفرِّدة‬ ‫ومكتملة‪.‬‬ ‫القـرن الماضي‪.‬‬ ‫وربمـا يعـود عـدم االهتمـام بالتأصيـل‬ ‫المسـرحي إلـى أسـباب عـدة مـن بينهـا‪،‬‬ ‫انشـغاالت المؤسسين األوائل للمسرح في‬ ‫تقديم أعمال جماهيرية جاذبة‪ ،‬تتعامل مع‬ ‫قضايـا الواقع ومشـاكله وفي إطار فكاهي‬ ‫هزلي‪ ،‬ومن خالل نصوص مرتجلة وغير‬ ‫مكتوبـة وتؤَلـف فـي حينهـا‪ ،‬منطلقـة مـن‬ ‫الواقـع اليومـي المعاشـي‪ ،‬وكان معظمهـا‬ ‫يعتمـد علـى أفـكار منقولـة مـن مسـرحيات‬ ‫عربيـة أو حكايـات وليـدة اللحظـة‪ .‬ومـن‬ ‫الطبيعـي أن مثـل هـذا المنـاخ المسـرحي‪،‬‬ ‫ال يتيـح فرصـة للتوقـف والتفكيـر لمسـار‬ ‫مسـرحي يقـوم علـى محـاوالت التأصيـل‪.‬‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬أن القائمين على المسرح‬ ‫فـي ذلـك الوقت‪ ،‬معظمهـم من الهواة الذين‬ ‫تعاملوا مع المسرح كهواية‪ ،‬وشغل أوقات‬ ‫الفـراغ‪ .‬وقـد أدى عدم وجود كتابات نقدية‬ ‫صاحبـت بدايـات قيـام المسـرح فـي قطـر‪،‬‬ ‫إلـى غيـاب الدعـوة إلـى تأصيـل المسـرح‬ ‫القطـري أسـوة بالدعـوات التـي قامـت فـي‬ ‫عـدد مـن الـدول الغربيـة‪ ،‬لكن هـذا ال يعني‬

‫بأن المسرح القطري منذ بداياته األولى قد‬ ‫أغفـل األعمـال ذات المضاميـن التاريخيـة‪،‬‬ ‫فلقـد اعتمـد فـي مصـادره‪ ،‬وخصوصـ ًا في‬ ‫مطلع الستينيات الماضية‪ ،‬على المسرحية‬ ‫التاريخيـة مثـل مسـرحية «بالل بـن رباح»‬ ‫التي قدمتها مدرسـة الدوحـة عام ‪1959‬م‪،‬‬ ‫ومسـرحية «عالـم وطاغيـة» مـن تأليـف‬ ‫الدكتور يوسـف القرضـاوي‪ ،‬والتي قدمها‬ ‫المعهـد الدينـي عـام ‪1969‬م‪ ،‬ومسـرحية‬ ‫«صقـر قريـش»‪ ،‬التـي قدمتهـا فرقـة‬ ‫المسـرح القطـري فـي أوائل السـبعينيات‪،‬‬ ‫ولقـد نهـل المسـرح القطـري‪ ،‬حتـى فـي‬ ‫بداياتـه االرتجاليـة مـن التـراث البحـري‪،‬‬ ‫الـذي اسـتلهم مـن حكاياتـه وأسـاطيره‪.‬‬ ‫شـكلت العـودة إلـى التـراث البحـري‬ ‫ولقـد َّ‬ ‫واستلهامه من أهم المصادر التي كان يعود‬ ‫لهـا مسـرحيون مثـل عبـد الرحمـن المناعي‬ ‫وحمـد الرميحي‪.‬‬ ‫كان عـام ‪1972‬م‪ ،‬هـو بدايـة االعتـراف‬ ‫الرسـمي لقيام أول فرقة مسرحية‪ ،‬تمتلك‬ ‫معظم أدوات العمل المسرحي من نصوص‬ ‫مكتوبـة‪ ،‬وخشـبة مسـرح‪ ،‬وتقنيـات فنية‬

‫التي تصاحب العرض المسرحي‪ ،‬وال يمكن‬ ‫تجاهـل قيـام اجتهادات مسـرحية سـابقة‪،‬‬ ‫خصوصـ ًا تلك التـي كانت تقوم بها «فرقة‬ ‫األضـواء الموسـيقية»‪ ،‬والتـي جمعت بين‬ ‫الفن الموسيقي والفن المسرحي‪ ،‬لكنها لم‬ ‫ترتـق‪ ،‬خصوصـ ًا فـي الجانب المسـرحي‪،‬‬ ‫إلـى المسـتوى الـذي وصلـت إليـه الفـرق‬ ‫التـي نشـأت بعدهـا‪( ،‬وعمومـ ًا هـذا البحث‬ ‫غير معني بتاريخ نشـأة قيام المسـرح في‬ ‫قطـر)‪ ،‬وإنمـا ما يعنينا هـو األعمال الفنية‬ ‫التـي قدمـت بـدءًا مـن بدايـة السـبعينيات‬ ‫والمرتبطـة باالقتـراب مـن ظاهـرة تأصيل‬ ‫المسرح‪ .‬ويمكن القول بأن المسرح القطري‬ ‫بدايـة مـن تلـك الحقبـة اعتمـد فـي محاولـة‬ ‫اقترابـه مـن تأصيل المسـرح «قصـدًا أو من‬ ‫غير قصد» إلى مصدرين أساسـيين وهما‪:‬‬ ‫المصـدر التراثـي‪ .‬والمصدر التاريخي‪.‬‬ ‫تأثـرت الثقافـة القطريـة سـلب ًا وإيجاب ًا‬ ‫ببيئـة البحر وبيئـة البر‪ ،‬وهاتان البيئتان‬ ‫وإن بدتا متباينتين إال إنهما عند القطريين‬ ‫تمثلان بيئـة واحـدة تنفتـح األولـى علـى‬ ‫الثانية‪ ،‬وتنفتح الثانية على األولى‪ ،‬فلقد‬ ‫آن‬ ‫عـرف القطريـون بيئـة البر والبحـر في ٍ‬ ‫واحٍد‪ ،‬فثقافة البحر وثقافة البر حاضرتان‬ ‫دائمـ ًا عنـد القطرييـن سـواء أكانـت فـي‬ ‫السـلوك‪ ،‬أم التصرف‪ ،‬أم اإلبداع‪ ،‬فعندما‬ ‫تنتهـي مواسـم البحـر يتوجـه القطريـون‬ ‫إلـى مواسـم البـر‪ ،‬وقـد سـاعدت سياسـة‬ ‫حـكام قطـر منـذ القـدم علـى تعزيـز ودعـم‬ ‫هـذا التداخـل واالندمـاج بيـن البيئتيـن‪،‬‬ ‫فـكان حكامهـا رجـال بحـر ورجـال بـر‪،‬‬ ‫وقـد سـاعدت مسـاحة قطـر الصغيـرة على‬ ‫تقصير المسـافات بين أطرافها‪ ،‬مما سـاعد‬ ‫على انتقال مواطنيها بيسـر وسـهولة بين‬ ‫مناطقهـا‪ ،‬علـى الرغـم مـن صعوبـة توافر‬ ‫وسـائل المواصلات فـي ذلـك الوقـت‪.‬‬ ‫وقـد سـاهم االندمـاج بيـن سـكان قطـر‬ ‫فـي تداخـل الثقافتيـن البحريـة والبريـة‪،‬‬ ‫ونتـج عـن ذلـك رافـد ثقافـي مشـترك‪ .‬كما‬ ‫تـوارث القطريـون هـذه الثقافـة المشـتركة‬ ‫أبـ ًا عـن جـد‪ ،‬واسـتمدوا منهـا رموزهـا‬ ‫ومضامينهـا وحكاياتهـا وأسـاطيرها‪،‬‬ ‫وتناقلتهـا األجيـال فيمـا بينهـا‪ ،‬ولقـد ظهر‬ ‫ذلـك فـي أشـعارهم وأغانيهـم ورقصاتهـم‬ ‫ومالبسهم ومسمياتهم‪ ،‬وتصرفهم اليومي‪،‬‬ ‫ومكونـات منازلهـم‪ ،‬وفـي كافـة جوانـب‬ ‫حياتهـم المعيشـية‪.‬‬ ‫ولقد أفرزت الثقافة أنماط ًا من الفنون‪،‬‬ ‫‪137‬‬


‫مثل فنون البحر‪ ،‬التي تبدأ بأغاني الوداع‬ ‫علـى السـواحل‪ ،‬واألغانـي علـى ظهـر‬ ‫السـفينة وأغانـي العـودة واالسـتقبال‪،‬‬ ‫كمـا منحـت الصحـراء ثقافـة مثـل فنـون‬ ‫العرضـة ومسـابقات الشـعر‪ ،‬وسـباقات‬ ‫الخيـل والجمـال‪ ،‬وصناعة بيوت الشـعر‪.‬‬ ‫ويبـدو أن التـراث الثقافـي سـواء أكان‬ ‫البحـري أم البـري‪ ،‬لـم ينقطع عند األجيال‬ ‫ـف فـي كثيـر مـن األعمـال‬ ‫الحديثـة فقـد ُو ِظ َ‬ ‫أغـان وشـعر وفنـون تشـكيلية‬ ‫الفنيـة مـن ٍ‬ ‫ومنحوتـات‪ ،‬وأخيـرًا وليـس آخـرًا الفـن‬ ‫المسـرحي‪ ،‬فلجـأ حمـد الرميحـي وعبـد‬ ‫الرحمـن المناعـي‪ ،‬وهمـا أكثـر مـن يشـكل‬ ‫ظاهـرة اللجـوء واالقتـراب مـن تأصيـل‬ ‫المسـرح فـي قطـر فـي العديـد مـن أعمالهما‬ ‫المسـرحية إلـى التـراث كمصـدر مهـم‬ ‫اسـتلهما منـه أفكارهمـا‪ ،‬واسـتعارا منـه‬ ‫حكايـات الماضـي وأسـاطيره ليسـقطاها‬ ‫علـى الواقـع‪ ،‬وتبـدو هـذه الظاهـرة أكثـر‬ ‫وضوحـ ًا عنـد حمـد الرميحـي‪ ،‬الـذي كان‬ ‫يحاول أن يوظف تراث الماضي ليسـقطه‬ ‫علـى القضايـا المعاصـرة‪ .‬ولجـأ الكاتبـان‬ ‫إلـى االسـتفادة مـن شـخصيات كالنوخـذة‬ ‫والنهـام‪ ،‬واألسـاطير مثـل بودريـاه‪،‬‬ ‫وحمـارة القايلـة‪ ،‬وغيرهـا مـن مفـردات‬ ‫التـراث ليوظفاها في أعمالهما المعاصرة‪.‬‬ ‫في عام ‪1975‬م َقّد َم عبد الرحمن المناعي‬ ‫أهم أعماله وهي مسرحية «أم الزين» التي‬ ‫وشـكل‬ ‫أخرجهـا المرحـوم هانـي صنوبر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هـذا العمـل الفنـي نقلة نوعية للمسـرح في‬ ‫قطـر‪ ،‬وفـي هذا العمل اسـتفاد المناعي من‬ ‫التحـوالت االجتماعية التي حدثت في قطر‬ ‫مـا بيـن االنتقـال من مرحلة اقتصـاد البحر‬ ‫إلى الطفرة االقتصادية التي أحدثها النفط‪،‬‬ ‫عملا حاول فيه االسـتفادة من إرث‬ ‫ليقـدم ً‬ ‫ِّ‬ ‫تلـك المرحلـة االنتقالية‪ ،‬ويعـود المناعي‬ ‫عملا‬ ‫ليقـدم ً‬ ‫مـرة أخـرى فـي عـام‪1982 ،‬م ِّ‬ ‫مسـرحي ًا يعتمـد هـذه المـرة علـى حكايـة‬ ‫شـعبية‪ ،‬باسـم «هالشـكل يـا زعفـران»‪،‬‬ ‫يعـرض مـن خاللها قصة رحلة فالح داخل‬ ‫إحدى الممالك‪ ،‬والتي يكتشـف فيها الملك‬ ‫فيمـا بعـد مـا يـدور في الخفاء فـي مملكته‪،‬‬ ‫وفـي هـذا العمل حاول المناعـي أن يوظف‬ ‫حكاية شـعبية ليلبسها بقضايا معاصرة‪.‬‬ ‫في عام ‪2001‬م َقّد َم المناعي مسـرحية‬ ‫«مغـرم هـل الشـوق»‪ ،‬التـي يقـول عنهـا‬ ‫مؤلفهـا بأنهـا حكايـة تعتمـد علـى أحـداث‬ ‫تاريخيـة واجتماعيـة وحكايـات شـعبية‬ ‫‪138‬‬

‫حمد الرميحي‬

‫تـدور حـول شـخصيات خليجيـة‪.‬‬ ‫ويعـّد عبـد الرحمـن المناعـي‪ ،‬مـن أكثـر‬ ‫ُ‬ ‫المسـرحيين القطرييـن الذيـن نهلـوا مـن‬ ‫التـراث البحـري‪ ،‬ووظفـه فـي أعمالـه‬ ‫المسـرحية‪ ،‬كمـا كان يسـعى أحيانـ ًا إلـى‬ ‫تأليـف أعمـال فنيـة مباشـرة‪ ،‬لكنهـا تبقـى‬ ‫تـدور فـي إطـار قضايـا البحـر والبـر‪ ،‬مثـل‬ ‫مسـرحية «شـدوا الظعايـن» التـي قدمهـا‬ ‫عـام ‪2008‬م‪ ،‬وتعرض المسـرحية بشـكل‬ ‫واضـح العالقـة بيـن البـر والبحـر‪ ،‬عندمـا‬ ‫ينقضي موسـم الغوص مع بداية الشـتاء‪.‬‬ ‫ويرحـل أهـل البحـر إلى منازلهم الشـتوية‬ ‫فـي البـر‪َ .‬وَقـّد َم المناعـي فـي عـام ‪1980‬م‬ ‫عملا لألطفـال باسـم «الحـذاء الذهبـي»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫والـذي اسـتمده مـن حكايـة في التـراث عن‬ ‫سمكة صغيرة ُيطَلق عليها العوام (فسكرة)‬ ‫وتصغيرها «فسيجرة»‪ ،‬ويشابه هذا العمل‬ ‫قصـة «سـندريال» فـي األدب العالمي إال أن‬ ‫السـاحرة هنـا تتحـول إلـى سـمكة‪ ،‬وهـو‬ ‫توظيـف مناسـب للبيئـة المحليـة‪.‬‬ ‫توجه المسرحيون القطريون إلى‬ ‫وكما َّ‬ ‫التـراث السـتلهامه وتوظيفـه فـي أعمالهم‬ ‫توجه كاتب‬ ‫المسـرحية المعاصـرة‪ ،‬أيضـا َّ‬ ‫مثل حمد الرميحي إلى التاريخ وشخصياته‬ ‫السـتلهامه وتوظيفـه فـي أعمالـه‪ ،‬ومنهـا‬ ‫مسـرحية «أبـو حيـان التوحيـدي»‪ ،‬التـي‬ ‫عرضهـا الرميحي في عام ‪2007‬م‪ ،‬والتي‬ ‫يقـول عنهـا (فـي مقابلة مع إحدى الصحف‬ ‫القطريـة) بـأن فكرتهـا جـاءت بعـد الغـزو‬

‫عبدالرحمن المناعي‬

‫األميركي للعراق‪ ،‬وتخيل فيها (أي المؤلف)‬ ‫أزمـة المثقـف مـع السـلطة‪ ،‬مشـيرًا إلى أن‬ ‫أحـداث هـذا النـص تـدور بعـد وفـاة البطـل‬ ‫أبـو حيـان التوحيدي‪ ،‬حيث يحمل جثته ‪،‬‬ ‫ويـدور بهـا حـول الوطـن العربي رغبة في‬ ‫الحصول على إذن لدفنها‪ ،‬ويذهب أو ًال إلى‬ ‫أميـر بغـداد طالبـ ًا منـه اإلذن لدفـن الجثـة‪،‬‬ ‫ولكـن األميـر يرفـض طلبـه‪ ،‬فيغضـب أبـو‬ ‫حيـان التوحيـدي مـن جـراء عـدم االهتمـام‬ ‫بالمثقفيـن أمثالـه‪ ،‬ويذهـب بجثتـه إلـى‬ ‫أميـر مصـر الذي يرفض بدوره ذلك‪ ،‬ويمر‬ ‫أبـو حيـان التوحيـدي بجثتـه علـى جميـع‬ ‫الـدول العربيـة‪ ،‬التـي يرفـض حكامها دفن‬ ‫جثتـه‪ ،‬باعتبارهـا رمزًا للثقافة على أرض‬ ‫الوطـن‪ ،‬وبنـاء علـى ذلك يقـوم أبو حيان‬ ‫التوحيـدي بحـرق كل كتبـه ومراجعه التي‬ ‫كتبهـا أثنـاء حياتـه‪ ،‬نظـرًا ألنهـا ال تليـق‬ ‫بهذه األمة العربية غير المثقفة وال تسـاند‬ ‫الثقافة والمثقفين بأي شيء‪ ،‬وال تهتم إال‬ ‫باألمـور الماديـة البحتـة‪ ،‬وقـام أبـو حيان‬ ‫التوحيـدي بحـرق جثتـه وأهـدى رمادهـا‬ ‫للنسـور والطيـور الجارحـة‪ ،‬وتـرك مـا‬ ‫تبقـى منهـا للذكـرى‪ .‬فـي هـذا العمـل يذهب‬ ‫الرميحـي إلـى التاريـخ‪ ،‬لكـي يسـتعير‬ ‫منـه شـخصية تاريخيـة ويلبسـها ثيـاب‬ ‫المعاصـرة‪َ ،‬وَي ْعُبـر مـن خاللها إلى قضايا‬ ‫ستعصى عليه طرحها بشكل مباشر‪،‬‬ ‫ربما ُي‬ ‫َ‬ ‫ولقـد وجـد الرميحي في شـخصية علي بن‬ ‫محمد العباس المولود في شيراز عام ‪312‬‬


‫من مسرحية «منصور قاهر‬ ‫العمالقين» ‪1980-‬‬ ‫إخراج‪ :‬سالم ماجد‬

‫هجريـة‪ ،‬إبـان العصـر العباسـي ضالتـه‪،‬‬ ‫فلقـد عـاش فـي عصـر «البويهييـن»‪ ،‬الذين‬ ‫أحدثـوا فـي العـراق الخـراب والفسـاد‪،‬‬ ‫وانتقـل إلـى بغـداد طلبـ ًا للعلـم‪ ،‬والنفوذ‪،‬‬ ‫وحظي بداية بالجاه والشهرة والمال‪ ،‬لكن‬ ‫بسـبب جرأتـه وخطبـه االنتقاديـة‪ ،‬التـي‬ ‫ـب مـن خاللهـا جام غضبـه على عصره‬ ‫ص َّ‬ ‫َ‬ ‫والحاكميـن والمجتمع‪ ،‬وقـد اتهم بالزندقة‬ ‫والكفـر‪ ،‬وقـد أدى به ذلك إلى حرق كتبه‪،‬‬ ‫ـع النـاس عليهـا‪ .‬ربمـا كان ذلك‬ ‫كـي ال َي ّطِل َ‬ ‫نموذج ًا مناسباً‪ ،‬سعى الرميحي إلى جلبه‬ ‫من التاريخ ويقدمه كنموذج مماثل للمثقف‬ ‫المعاصر‪.‬‬ ‫ومـرة أخـرى يعـود الرميحـي فـي عـام‬ ‫‪1990‬م‪ ،‬إلى التاريخ ليسـتدعي شـخصية‬ ‫تاريخيـة‪ ،‬وهـي شـخصية أحمـد بـن ماجد‬ ‫فـي مسـرحية باسـم «أسـد البحـار‪ ..‬أحمـد‬ ‫بـن ماجـد» أعدهـا برؤيـة دراميـة الدكتـور‬ ‫إبراهيـم غلـوم عـن ديـوان «عذابـات أحمـد‬ ‫بـن ماجـد»‪ ،‬للشـاعر البحرينـي يعقـوب‬ ‫المحرقي‪ ،‬ويصف إبراهيم غلوم‪ ،‬أحمد بن‬ ‫يتحول من كونه‬ ‫ماجـد فـي هـذا العمل بأنه ّ‬ ‫شـخصية بحريـة كتبـت بعـض (األراجيـز)‬ ‫وبعض مؤلفات في علم البحار‪ ،‬ليتجاوز‬ ‫هذا الوضع حتى يكون نموذج ًا لشخصية‬ ‫المثقـف الـذي يواجه أزمة حـادة جدًا تصل‬ ‫إلـى درجـة المأسـاة وهـذه المأسـاة يشـير‬

‫إليهـا بعـض أشـعاره‪ ،‬حيـث يقـول مـن‬ ‫خاللها إنه سيأتي يوم لن يعرفه فيه أحد‪،‬‬ ‫ولـن يذكـره فيه أحد‪ ،‬ولن يجد من يعترف‬ ‫بخصالـه وفضائلـه وعلمه في البحر والبر‬ ‫(صحيفـة العـرب القطريـة يناير‪/‬كانـون‬ ‫الثانـي ‪1990‬م)‪.‬‬ ‫وبالفعـل تـم اتهـام ابـن ماجـد بالرذيلـة‬ ‫ِم في علمه‪ ،‬ويقول إبراهيم‬ ‫والسـكر‪ُ ،‬‬ ‫واته َ‬ ‫غلـوم مـرة أخـرى «إنـه يركـز علـى همـوم‬ ‫وأحـزان هـذه الشـخصية‪ ،‬التـي هي هموم‬ ‫واجـه بالجهل‬ ‫وأحـزان كل مثقـف عربـي‪ُ ،‬ي َ‬ ‫واإلنـكار لـكل مـا قدمـه لوطنـه وأمتـه‪.‬‬ ‫ومـن ذلـك المنطلق اسـتعار الرميحي هذه‬ ‫لي ْعُبَر بها إلى الواقع‬ ‫الشخصية التاريخية َ‬ ‫المعـاش‪ ،‬ويبـرز عذابـات أحمد بـن ماجد‪،‬‬ ‫وكأنهـا عذابات المثقـف العربي المعاصر‪.‬‬ ‫إذا كان عبـد الرحمـن المناعـي وحمـد‬ ‫الرميحـي توجهـا إلـى اسـتدعاء التاريـخ‬ ‫أحيان ًا والتراث أحياناً‪ ،‬ال يعني ذلك أنهما‬ ‫انطلقـا إلـى محاولـة مباشـرة إلـى تأصيل‬ ‫المسـرح العربـي‪ ،‬بـل ربمـا قصـدا مـن ذلك‬ ‫توظيف وسـائل تواصـل مع جماهيرهما‪،‬‬ ‫وتمريـر رسـائل ومضاميـن عصريـة لـم‬ ‫يتمكنا من إيصالها بشـكل مباشـر‪ ،‬سـواء‬ ‫أكانـت ألسـباب رقابيـة صرفـة أم عوائـق‬ ‫اجتماعيـة‪ ،‬ويصـف الدكتور إبراهيم غلوم‬ ‫فـي بحـث له بعنـوان «الحضور التشـاكلي‬

‫للتراث» بأن هناك تشابه ًا بين التراث الذي‬ ‫يصطنعـه المؤلـف مـع التـراث المعـروف‬ ‫فـي التـراث العربـي وتشـابه ًا مـع الحيـاة‬ ‫الراهنـة‪ ،‬ومـا يتيـح ذلـك مـن قـدرة علـى‬ ‫التخفـي بنعومـة الحمام سلسـلة الرقابات‬ ‫السياسـية واالجتماعية‪.‬‬ ‫ولـم يكتـف كل مـن المناعـي والرميحي‬ ‫باسـتدعاء مضامين التاريخ والتراث‪ ،‬بل‬ ‫عرضـاه مـن خلال اسـتخدام أدوات قريبة‬ ‫مـن البيئـة المحلية مثل النهـام‪ ،‬والراوي‪،‬‬ ‫والكورال الجماعي‪ ،‬وأغاني البر والبحر‪،‬‬ ‫وربـط كل ذلـك بمضمون النـص وأهدافه‪.‬‬ ‫علـى وجـه العمـوم‪ ،‬يمكـن القـول إن‬ ‫المسـرح القطـري لـم يشـغل نفسـه بجدلية‬ ‫البحـث عـن تأصيل المسـرح العربي‪ ،‬وإن‬ ‫َقـّد َم أعمـا ًال مـن أشـكال المسـرح الشـعبي‬ ‫ال ومضمونـاً‪ ،‬ويبقـى سـؤال مهم‪ :‬هل‬ ‫شـك ً‬ ‫دعـوة المسـرحيين العـرب والتـي ارتفعت‬ ‫أصواتهـم بهـا فـي مطلـع السـتينيات مـن‬ ‫القـرن الماضـي لتأصيل المسـرح العربي‪،‬‬ ‫هي دعوة ثقافية؟ أم دعوة سياسية؟ وهذا‬ ‫مـا يحتـاج إلـى بحـث آخـر في المسـتقبل‪.‬‬ ‫هامش‪:‬‬ ‫(‪ )1‬د‪ .‬محمد عزيزة – اإلسالم والمسرح – الدار البيضاء‪1988 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )2‬محمد غنيمي هالل ‪ -‬األدب المقارن – بيروت‪.‬‬ ‫(‪ )3‬فاضل خليل – بحث على اإلنترنت – موقع الحوار المتمدن‬ ‫‪.2007/1/31‬‬

‫‪139‬‬


‫«هو يف كده»‬

‫عن اللص الفاضل لداريفو‬ ‫رضا عطية‬

‫عـن نـص «اللـص الفاضـل» للكاتـب‬ ‫قـدم‬ ‫اإليطالـي «داريفـو» صاحـب نوبـل ُي ِّ‬ ‫المخرج المصري عز الدين بدوي مسرحيته‬ ‫لهـذا العـام «هـو في كـده»‪ .‬وإذا كان النص‬ ‫األصلـي يحمـل بالتقـاء دفتيـه (اللـص‬ ‫الفاضـل) نوعـ ًا مـن الجـدل الناجـم عـن‬ ‫جدليـة اإلسـناد الوصفـي‪ ،‬فكيـف ُتنعـت‬ ‫اللصوصيـة بالفضيلـة؟ غيـر أن الرؤيـة‬ ‫التـي قدمهـا عـز الديـن بـدوي قـد اسـتبدلت‬ ‫المعطـى اإلنشـائي بالخبـري‪ ،‬لتحـل‬ ‫المضمـون التعييني للعنـوان لينطلق في‬ ‫مـدى التسـاؤل (هـو فـي كـده؟)‪ ،‬كمـا أن‬ ‫السـؤال نفسـه الـذي يحمـل طابع الدهشـة‬ ‫‪140‬‬

‫والتشكك‪ُ ،‬يحقق في حدوث أمر يبدو أن‬ ‫ُّ‬ ‫مـن الغرابـة تحقّقـه‪.‬‬ ‫تتخـذ الرؤيـة الفنيـة لمسـرحية «هـو‬ ‫فـي كـده» (كوميديـا الفارس) قالبـ ًا درامي ًا‬ ‫للحكاية المسرحية‪ ،‬والكوميديا تقوم فيها‬ ‫بمـا تنشـده مـن إضحـاك علـى المفارقـات‬ ‫المفصليـة التـي تسـهم فـي تحويل مجرى‬ ‫األحـداث عـن منطقيتهـا لما يشـهده البناء‬ ‫الدرامـي مـن مفاجـآت غيـر متوقعة‪.‬‬ ‫من البداية تلعب المفاجآت والمفارقات‬ ‫دورهـا فـي تحريـك أحـداث المسـرحية‪،‬‬ ‫فاللـص الـذي يقوم بـدوره الممثل (مجدي‬ ‫عبيـد) أثنـاء قيامـه بعملـه بسـرقة أحـد‬

‫المنازل في غياب أهل البيت يواجه مأزق ًا‬ ‫باصطحـاب صاحـب المنـزل الـذي يـؤدي‬ ‫دوره الفنـان (محمـود البنـا) المرأة أخرى‬ ‫(نيفيـن رفعـت) اسـتغال ًال لفرصـة وجـود‬ ‫زوجتـه عنـد أسـرتها‪ ،‬فتكشـف المفارقـة‬ ‫للـص عـن كنـه العالقـة بيـن هـذا الثـري‬ ‫والمرأة التي ترافقه وتواعده من وراء ظهر‬ ‫زوجهـا‪ ،‬وفـي الوقت نفسـه تتصل زوجة‬ ‫اللـص لالطمئنـان علـى زوجهـا والتحقُّـق‬ ‫مـن وجـوده بالمـكان إلنجـاز مهـام عمله‪،‬‬ ‫فتكـون المفارقـة بـأن تخبـر زوجـة اللص‬ ‫صاحـب المنـزل الـذي تظنـه زوجهـا بـأن‬ ‫ال كلفته‬ ‫ال غريب ًا بالمنزل‪ ،‬فيظنانه رج ً‬ ‫رج ً‬


‫زوجـة صاحـب المنـزل بمراقبتـه‪ ،‬فيكون‬ ‫االرتبـاك والتوجـس بين كال الطرفين في‬ ‫مواجهـة اللـص‪ ،‬ومـا أن يفصـح اللـص‬ ‫فكـر الرجـل الثـري في‬ ‫عـن هويتـه حتـى ُي ِّ‬ ‫اسـتغالله للخروج من الموقف‪ ،‬كما تبدو‬ ‫نظرة صاحب المنزل الثري عضو مجلس‬ ‫الشـعب االستعالئية إزاء اللص باعتباره‬ ‫«حرامـي صغيـر»‪ ،‬وهـو مـا يسـتدعي في‬ ‫خلفيـة الفضـاء الدرامـي المقارنـة بيـن‬ ‫جرائـم أصحـاب الياقـات الزرقـاء مـن‬ ‫لصـوص تكـون أسـمى أمانيهـم السـطو‬ ‫قـدرات المنـازل‪ ،‬وجرائـم أصحاب‬ ‫علـى ُم َّ‬ ‫الياقات البيضاء من األثرياء وذوي النفوذ‬ ‫والسلطة‪.‬‬ ‫ثـم تتوالـى المفارقـات بوصول زوجة‬ ‫صاحـب البيت التي تقـوم بدورها الممثلة‬ ‫الشـابة (خلـود) للبيـت حتـى تجـد فيـه‬ ‫زوجهـا‪ ،‬فيخبرها بأنه يحاول المصالحة‬ ‫بيـن صديـق وزوجتـه (اللـص وعشـيقة‬ ‫صاحـب المنـزل)‪ ،‬وفـي هـذه األثنـاء‬ ‫يقاوم‪ -‬ولو لبعض الوقت‪ -‬اللص الشريف‬ ‫المخلـص فقـط لمهام عمله وهو السـرقة‪-‬‬ ‫رغبـة صاحـب البيـت بالكـذب‪ ،‬فتكمـن‬ ‫المفارقـة فـي أن اللـص ينفر مـن الكذب أو‬ ‫الخـداع‪ ،‬حتـى تصـل المفارقـات لذروتهـا‬ ‫بوصـول زوجـة اللـص للمنـزل لرؤيـة‬ ‫زوجهـا‪ ،‬ووصـول صديق زوجة صاحب‬ ‫المنـزل الـذي يقـوم بـدوره الممثـل الشـاب‬ ‫(مصطفى حمزة)‪ ،‬فيحاول صاحب البيت‬ ‫إقناع زوجته بأن صديقه (اللص) متزوج‬ ‫من امرأتين‪ ،‬غير أن األحداث تتشابك إلى‬ ‫ذروة المفارقـة لفقـدان الشـخوص القـدرة‬ ‫سـواء أكانـت علـى التبريـر أم التفسـير‪.‬‬ ‫تعمـل الرؤيـة الفنيـة علـى صياغـة‬ ‫سلسـلة حلقية من المفاجآت والمفارقات‬ ‫التـي مـا تلبـث أن ُت َح َـل إحداهـا حتـى‬ ‫تطفـو ُمفارقـة أخـرى أشـّد تعقييـدًا علـى‬ ‫سـطح األحـداث‪ ،‬كما يعمـل قالب الفارس‬ ‫علـى اسـتغالل هـذه المفارقـات فـي توليد‬ ‫الم ِ‬ ‫عتمدة على مفاجآت المواقف‬ ‫الكوميديا ُ‬ ‫ال ما يطلقه الممثلون من إفيهات وقفشات‬ ‫تسـتدر اإلضحـاك‪.‬‬ ‫بدا كذلك‪ -‬رغم تشابك المواقف‪ -‬رؤية‬ ‫المخـرج فـي تخطيط حركة الممثلين على‬ ‫خشبة العرض المسرحي‪ ،‬إذ غلبت عليها‬ ‫المواجهة األفقية للجمهور حتى في معظم‬ ‫حـركات النقلات العرضية‪ ،‬وكأن الممثل‬ ‫ِ‬ ‫المشاهد‬ ‫يوجه رسالة للجمهور أو يستدرج‬ ‫ِّ‬

‫للتماهـي أو االرتبـاط السـيكودرامي مـع‬ ‫العـرض ولـو بالتفكيـر فـي مـآل تلـك‬ ‫المعلّقة‬ ‫المفارقـات‪ ،‬كمـا عملـت اللوحـات ُ‬ ‫بصالـة العرض على جعل الصالة وكأنها‬ ‫امتداد لخشـبة العرض‪.‬‬ ‫وقـد أجاد الفعل السـينوغرافي مواكبة‬ ‫أغراض الدراما المنشودة من المسرحية‪،‬‬ ‫إذ أحسـن التوظيـف الديكـوري اسـتغالل‬ ‫المسـاحة الصغيـرة‪ -‬نسـبياً‪ -‬للركـح‬ ‫المسرحي‪ ،‬بحسن توزيع مفردات الديكور‬ ‫التـي اتسـمت بالدقـة والصغـر كاللوحـات‬ ‫والتفاصيـل المعمارية للمـكان‪ ،‬كاألبواب‬ ‫والشـباك مـع تمركـز قطعة األثـاث األبرز‬ ‫(الكنبة) في مركز الخشـبة ووسـطها‪ ،‬مما‬ ‫إيحـاء باتسـاع المـكان ورحابته‪.‬‬ ‫أعطـى‬ ‫ً‬ ‫أمـا الدفع بالشـخصيات في مدار الخط‬ ‫الدرامـي‪ ،‬فقـد أسـهم ظهـور شـخصيات‬ ‫جديـدة علـى امتـداد العـرض ودخولهـا‬ ‫فـي الخـط الدرامـي‪ -‬فـي تنشـيط الميكنـة‬

‫الدراميـة وتأكيـد حراكية األحداث وتجديد‬ ‫المفارقـات‪ ،‬وإذا كانـت سـقطة اللـص‬ ‫بانكشـاف أمـره أشـبه بسـقطة البطـل‬ ‫التراجيـدي‪ -‬إذ يمثل اللص محور التفاعل‬ ‫بين شخصيات المسرحية‪ ،‬فسقطته هذه‬ ‫تمثـل انفـراط عقـد بقيـة الشـخوص الذين‬ ‫يوالون السقوط بانكشاف أمرهم وتعرية‬ ‫مـا يمارسـونه مـن خـداع‪.‬‬ ‫يخـل التنامـي الدرامـي للمسـرحية‬ ‫لـم ُ‬ ‫من الكشـف عن العلل النفسـية وراء إقدام‬ ‫الشـخوص علـى مـا تقوم به مـن األفعال‪،‬‬ ‫فالعشـيقة (نيفيـن رفعت) تقاوم عشـيقها‬ ‫(محمود البنا) الختبار مدى صالبة إرادته‬ ‫وقوة رغبتها فيها‪ ،‬فتكشف سبب خيانتها‬ ‫لزوجهـا وهـو تسـليمه إلرادتهـا فـي حالة‬ ‫إعراضـه عنهـا أو مراودتها له‪ ،‬مما ُيبطن‬ ‫الفعـل الدرامـي بدوافعـه النفسـية التـي‬ ‫تظلله‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫«قبرصيل بوك»‬ ‫ستاند آب‪ ..‬عوالم افرتاضية‬ ‫بريوت‪ :‬محمد غندور‬ ‫«قبرصلي بوك»‪ ..‬عمل انتقادي ساخر‪،‬‬ ‫شـرح المجتمـع اللبنانـي ويغـوص فيـه‬ ‫ُي ِّ‬ ‫المخـرج والممثـل اللبنانـي الشـاب هشـام‬ ‫جابـر فـي مشـاكل الحيـاة االفتراضية‪.‬‬ ‫علـى مـدى سـاعتين‪ ،‬يتحـّدث روبرتـو‬ ‫قبرصلـي‪ ،‬وهـي الشـخصية التـي ابتكرها‬ ‫جابر ويعتمدها في عروضه‪ ،‬عن كل شيء‬ ‫عـن التعلُّـق بالحيـاة االفتراضيـة‪ ،‬ومـدى‬ ‫تأثيرهـا علـى تصرفاتنـا الفعليـة‪ ،‬وتغيـر‬ ‫سـلوك البشـر فيمـا بينهـم‪ ،‬واإليمـان بـأن‬ ‫مـا يفعلونـه علـى الموقـع األزرق واقعـي‪،‬‬ ‫وتبـّدل هـذا الموقـع االجتماعـي مـن موقـع‬ ‫والتعـرف‪ ،‬إلـى منبـر‬ ‫للتسـلية والمعرفـة‬ ‫ُّ‬ ‫للثـورات العربيـة والحـركات األصوليـة‪،‬‬ ‫ومساحة للسياسيين للحاق بنا إلى العالم‬ ‫االفتراضي‪.‬‬ ‫وتتميز شخصية قبرصلي بلكنة غريبة‬ ‫ّ‬ ‫وأزياء مزركشة‪ ،‬وهي شخصية ال تنتمي‬ ‫ألي طائفـة‪ ،‬ممـا يجعلهـا ال تضـع حـدودًا‬ ‫ويعـرف هشـام جابر شـخصيته‬ ‫لالنتقـاد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كاآلتي‪ :‬اسمه الحقيقي روبرتو قبرصلي‪،‬‬ ‫ُوِلَد في زاروب الصيداني في منطقة زقاق‬ ‫أمه عند‬ ‫البلاط (حـي في بيـروت)‪ ،‬توفيت ّ‬ ‫تـم عامـه األول‪ ،‬توفـي‬ ‫والدتـه‪ ،‬وبعدمـا َأ ّ‬ ‫عمه خوليـو قبرصلي‪،‬‬ ‫والـده ليعيـش مـع ّ‬ ‫الـذي علّمـه «أصـول» الهبـل والشـتائم‪..‬‬ ‫فـي صبـاه‪ ،‬التحـق بالمدرسـة الحربيـة‬ ‫تخصصـة فـي‬ ‫الم ِّ‬ ‫التابعـة لعصابـة شـبقلو ُ‬ ‫نشـل الفتيـات على الموتوسـيكل (الدراجة‬ ‫النارية)‪ ،‬لكنه سرعان ما ُطِرَد منها بسبب‬ ‫صوتـه المزعـج ومزاجـه ِ‬ ‫العِكـر‪ ...‬مـا لبث‬ ‫تعرف إلى الكوميديان العالمي ألبيرتو‬ ‫أن ّ‬ ‫عيتاني‪ ،‬الذي قّدمه إلى الجمهور المولديفي‬ ‫قبـل أن ينطلـق إلـى العالميـة ومنهـا إلـى‬ ‫لبنـان البلـد الذي اختاره القبرصلي ليكون‬ ‫حمامـه الخاص واألخيـر‪ .‬أجرى حتى اآلن‬ ‫ّ‬ ‫‪142‬‬

‫هشام جابر‬

‫‪ 346‬عمليـة جراحيـة لتجميل فكه السـفلي‬ ‫مـن دون الوصـول إلـى نتيجة‪.‬‬ ‫يرصـد فنـان الــ «سـتاند آب كوميدي»‪،‬‬ ‫ظواهر عّدة تجتاح «فيسبوك»‪ ،‬كـ «داعش»‬ ‫والتفنُّـن فـي طـرق القتـل‪ ،‬وعرضهـا علـى‬ ‫مواقـع التواصـل االجتماعـي‪ ،‬والثـورات‬ ‫العربيـة التـي نجحـت افتراضيـاً‪ ،‬لكنها لم‬ ‫لـق النجـاح ذاتـه فـي الواقـع‪ ،‬وصفحات‬ ‫َت َ‬ ‫األحزاب اللبنانية والسياسيين في لبنان‪،‬‬ ‫إضافـة إلـى العـودة إلـى أول أيـام ظهـور‬ ‫«فيسـبوك» فـي بيـروت‪ ،‬والروايـات التي‬ ‫رافقت انتشاره‪ ،‬وعرض بعض النماذج التي‬ ‫طـورت حضورهـا االفتراضـي‪ ،‬كجمعيات‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع المدني‪ ،‬والممانعين ومن ضدهم‬ ‫ومؤيدي الثورات‪ ،‬والعروبيين‪ ،‬والشعراء‬ ‫االفتراضييـن‪ .‬يتوقـف جابـر ‪ -‬قبرصلـي‬ ‫طويلا عنـد الفئـة األخيـرة‪ .‬يتحـّدث كيـف‬ ‫ً‬ ‫سـمح الموقـع ألن يكـون الجميـع شـعراء‬ ‫افتراضييـن‪ ،‬ومـدى ركاكـة مـا ُيكتـب‪ .‬هذه‬ ‫تحولـت إلى‬ ‫المسـاحة المجانيـة للتعبيـر‪ّ ،‬‬ ‫عاصفة شعرية تهب من كل حدب وصوب‪.‬‬ ‫يتميـز العـرض بجرأتـه وواقعيتـه‪،‬‬ ‫وانتقـاده لشـخصيات سياسـية جدليـة‬

‫فـي البلـد‪ .‬ثمـة إصـرار علـى السـخرية مـن‬ ‫الواقع السياسـي واالجتماعي الذي أنتجه‬ ‫المجتمـع اللبنانـي‪ .‬والصرخـة الكبرى في‬ ‫«قبرصلـي بـوك»‪ ،‬تكمن فـي التخفيف من‬ ‫النشـاط االفتراضـي‪ ،‬واللقـاء فـي العالـم‬ ‫الحقيقي لتنفيذ ما نريده‪ ،‬واالسـتفادة من‬ ‫الخطـوات فـي السياسـة والثقافـة وغيرها‬ ‫مـن المواضيـع‪.‬‬ ‫ُيحـاول قبرصلـي فـي عرضـه تقديـم‬ ‫ويتعمـق فـي‬ ‫النقـد الذاتـي قبـل الجماعـي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مشـاكل مجتمعـه قبـل الغوص في مشـاكل‬ ‫المجتمعات العربية‪ ،‬ويعتمد في ذلك على‬ ‫نـص سـهل ومعبـر‪ ،‬تتوافـر فيـه مقومـات‬ ‫إضحـاك الجمهـور عبـر جمـل قصيـرة‪.‬‬ ‫ويترافـق ذلـك مع حركات وتعابير طريفة‬ ‫يؤديهـا جابـر ‪ -‬قبرصلـي‪ ،‬بتفاعـل مـع‬ ‫الجمهـور وبـردود فعـل سـريعة ومرتجلـة‬ ‫علـى تعليقـات صـادرة عـن الجمهـور‪.‬‬ ‫بهذا العمل يؤكد هشام جابر بأن الحاجة‬ ‫إلـى النقـد الصريح والسـخرية مـن أخطاء‬ ‫السياسـيين فـي البلـد‪ ،‬والـكالم عـن كل ما‬ ‫هو ممنوع تبقى على رأس أولويات العمل‬ ‫الفنـي في الوقت الراهن‪.‬‬


‫مقال‬

‫بولفار األحالم المكسورة‬ ‫إميل أمني‬ ‫خيل للمرء أن صاحب «بولفار األحالم المكسورة» الفنان‬ ‫ُي َّ‬ ‫النمساوي األصل اإليرلندي الجنسية «جوتفريد هيلنوين» كان‬ ‫في حاجة إلى جدارية كبيرة‪ ،‬من عشرات األمتار حتى َت َسع‬ ‫غالبية المشاهير من فنانين‪ ،‬وأدبـــاء‪ ،‬وكــتــاب‪ ،‬ومغنّين‪،‬‬ ‫قرروا‪ -‬وألسباب تكاد تكون‬ ‫وسياسيين‪ ،‬ومبدعين‪ ...‬من الذين َّ‬ ‫متشابهة‪ -‬الرحيل مبكراً‪.‬‬ ‫هناك حــاالت انكسرت فيها األح ــام‪ ،‬رغــم أن أصحابها‬ ‫قمة التألّق‪ ،‬مثل مارلين مونورو على سبيل المثال‪،‬‬ ‫كانوا في ّ‬ ‫والبعض اآلخر كان يكفيه ما حقَّقه في رحلة حياته من مال‬ ‫وشهره يعيش بهما لعقود طوال‪.‬‬ ‫على مدى عشرين سنة قّدمت المغنية فرنسية الجنسية‬ ‫مصرية األصل روالنــدا جيحليوتي المشهورة باسم «داليدا»‬ ‫نحو ستمئة أغنية‪ ،‬وباعت نحو مئة مليون أسطوانة‪ ،‬ما حقَّق‬ ‫لها ربح ًا مالي ًا غير مسبوق‪ ،‬ولم ُيَقّدر لها التخلُّص من المصير‬ ‫متذرعة بأن «الحياة لم تعد ُتحَتمل»‪.‬‬ ‫المؤلم‪ ،‬فانتحرت ِّ‬ ‫في العام ‪ 2009‬أقدمت الممثِّلة البريطانية «لوس جوردون»‬ ‫على شنق نفسها في شقّتها الباريسية الفاخرة‪ ،‬وقبلها بنحو‬ ‫روائيي أميركا «أرنست همنجواي»‬ ‫أربعة عقود‪َ ،‬و َجد أشهر‬ ‫ّ‬ ‫صاحب العمل األدبي البديع «العجوز والبحر»‪ ،‬نفسه وحيداً‪،‬‬ ‫قرر الخالص من الحياة‬ ‫ورغم شهرته التي بلغت اآلفاق فقد َّ‬ ‫بطلقة في رأسه من بندقية قديمة كان يملكها‪.‬‬ ‫صِدم األميركيون بخبر انتحار‬ ‫قبل رحيل روبن ويليامز‪ُ ،‬‬ ‫الفنانة والمغنية السمراء «ويتني هيوستن» التي ُو ِجدت غارقة‬ ‫المهدئة‬ ‫حمامها‪ ،‬فيما كانت غرفتها مليئة باألدوية‬ ‫ِّ‬ ‫في مغطس ّ‬ ‫والمثبطة للقلق واألرق‪ .‬ما الذي يجعل روبن ويليامز‬ ‫والمنومة‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الكوميدي الضاحك الذي َس ّطر في تاريخ السينما األميركية‬ ‫أفالم ًا عديدة ستبقى محفورة في األذهان‪ ،‬يصاب باكتئاب حاد‬ ‫يجعله يشنق نفسه بحزام‪ ،‬لتمتّد جدارية األحالم المكسورة؟‬ ‫إنها ظاهرة قديمة جديدة‪ ،‬وســرد قصص مشاهير العالم‬ ‫المنتحرين يعود بنا إلى الملك يادس (‪ 63 - 132‬ق‪.‬م) مرورًا‬ ‫بـ «هانيبعل» األسطورة القرطاجي (‪ 183 - 221‬ق‪.‬م) ونيرون‬ ‫الروماني (‪68 - 27‬م) وصو ًال إلى أدولف هتلر (‪.)1945 - 1889‬‬ ‫غير أن منوال حكاياتهم واحد‪ ،‬منتظم في خيط شديد القرب‬ ‫تحدث عنها‬ ‫والشبه‪َ ،‬ج َّرهم إلى الـ «البئر العميقة السوداء» التي َّ‬ ‫طه حسين‪ ،‬والتي يقصد بها حاالت االكتئاب التي كانت تنتابه‪،‬‬ ‫كغيره من الذين ُت َسلَّط عليهم األضواء‪.‬‬ ‫ويحدثنا توفيق الحكيم في كتابه «عصا الحكيم» عن القدر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫متنكرًا يمضي إلى وسط المدينة‪ ،‬وفي جعبته ثالث‬ ‫ويصفه‬ ‫ِّ‬ ‫كرات‪ ،‬إحداها مكتوب عليها المال‪ ،‬والثانية الصحة‪ ،‬والثالثة‬ ‫راحة البال‪ ،‬وألنه القدر فقد كان قادرًا على التالعب بالكرات‬

‫الثالث دون أن تسقط إحداها‪ .‬وفيما دعا الناس لتقليده لم‬ ‫يستطع أحد من بني البشر التقاط الكرات الثالث‪ ،‬فكان أحدهم‬ ‫يلتقط كرة المال وكرة الصحة‪ ،‬وتقع منه على األرض كرة‬ ‫راحة البال‪ ،‬أو يحتفظ الثاني براحة البال والصحة ويفقد كرة‬ ‫المال‪ ،‬وهكذا تدور الدائرة‪.‬‬ ‫قديم ًا قال أحد الفالسفة إن قلب اإلنسان أقرب ما يكون لشكل‬ ‫المثلث وبما أن األرض كروية‪ ،‬فلو وضعت الكرة األرضية‬ ‫برمتها في قلب اإلنسان‪ ،‬فستظل هناك مساحات فراغ روحية ال‬ ‫ّ‬ ‫المادية‪.‬‬ ‫العالم‬ ‫حاجات‬ ‫تملؤها‬ ‫ّ‬ ‫تحدث عن إشكالية‬ ‫المعنى نفسه أشار إليه العقّاد‪ ،‬حينما َّ‬ ‫المعنى والغاية التي تستنزف المبدع‪ ،‬على نحو خاص‪ ،‬ذاك‬ ‫الذي يقلقه سعي دائم ومعاناة فكرية ونفسية للحفاظ على‬ ‫ّ‬ ‫وشك عميق قاتل»‪.‬‬ ‫توازن دقيق بين «يقين سطحي‬ ‫يحدثنا‬ ‫في كتابه «االنتحار» الذي وضعه قبل نحو مئة عام‪ِّ ،‬‬ ‫عالم االجتماع الفرنسي الشهير «إميل دوركايم» عن الدور السلبي‬ ‫تسب َب فيه تفكيك المجتمع الصناعي االستهالكي للحياة‬ ‫الذي َّ‬ ‫االجتماعية وبنيتها‪ ،‬وكيف أن تدهور الدعم االجتماعي والنفسي‬ ‫واإلنساني في المدن الكبرى الصاخبة والمزدحمة‪ ،‬يضغط نحو‬ ‫ثقافة االنتحار لتكون ظاهرة اجتماعية في المدينة الحديثة‪.‬‬ ‫انضم إلى‬ ‫رباعياته كتب صالح جاهين‪ ،‬الذي‬ ‫في إحدى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهدئات ذات‬ ‫نادي المنكسرة أحالمهم من خالل ابتالعه علبة ِّ‬ ‫ليلة حزينة‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫بيحيُره‪/‬‬ ‫تخيُره‪ /‬يكفيه ما فيه من عقل‬ ‫َّ‬ ‫«ال تجبر اإلنسان وال َّ‬ ‫يغيره»‪.‬‬ ‫هايشتهي‬ ‫بكره‬ ‫اللي‬ ‫هو‬ ‫ّاه‪/‬‬ ‫اللي النهاردة بيطلبه ويتمن‬ ‫ّ‬

‫«بولفار األحالم المكسورة» ‪ -‬جوتفريد هيلنوين‬

‫‪143‬‬


‫تشكيل‬

‫أشق النحت من رماد‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫املهدي أخريف‬

‫المصادفة َق َادْتني إلى ُمَداهمة الفنان‬ ‫َو ْحَدها ُ‬ ‫سعد الحساني في ُعْقر َبْيته اإلبداعي‪ ،‬في‬ ‫المرسم البحري الكبير الواقع على جانب‬ ‫الشارع الطويل‪َ :‬شِارع الحوريات‪ .‬حدث ذلك‬ ‫َّ‬ ‫عشية من شهر مارس‪ ،‬بعد جولة تسّكعية‬ ‫ذات ّ‬ ‫َ‬ ‫قصيرة على طرف شاطئ المون في فترة لم‬ ‫َأ ْعتد الخروج فيها من البيت‪َ .‬و َجْدُتني أطرق‬ ‫تقطعة‪.‬‬ ‫حاد ًة ُم ّ‬ ‫المغَلق طرقات ّ‬ ‫باب المرسم ُ‬ ‫لطخ ًا بمواد‬ ‫إلي «بلباس الميدان» ُم ّ‬ ‫خرج َسعد ّ‬ ‫اءتني‬ ‫«الصنعة» وألوانها‪ .‬كان يبدو ُمنهكاً‪َ .‬ج ْ‬ ‫قبو‬ ‫تحيته الخفية كما لو كانت‬ ‫ً‬ ‫صاعدة من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بادية للعيان‪ ،‬ودالّة‬ ‫المرئي‪ .‬أمارات االرتياح‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫توتر وانخطاف‪.‬‬ ‫في ذات اآلن على بقايا ُّ‬ ‫جئت في الوقت المناسب قال‪.‬‬ ‫ َ‬‫صب آخر ما تبقَّى‬ ‫انتهيت‬ ‫لقد‬ ‫ِّ‬ ‫لتوي من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫في جعبتي من طاقة في عمل جديد ِ‬ ‫أحسبه‬ ‫مفاجأة ِمنّي لنفسي‪.‬‬ ‫أما ذلك‬ ‫ َت َّ‬‫قدم‪ .‬إنه هنا هو ذا أمامك َّ‬ ‫تظر دوره‪.‬‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫عليه‬ ‫آخر‬ ‫َف َعَم ٌل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الفضاء‬ ‫الدرج األربعة ماسح ًا‬ ‫مت ناز ًال ُّ‬ ‫تقّد ُ‬ ‫َ‬ ‫الداخلي للمرسم بنظرة واحدة‪.‬‬ ‫أعمال‬ ‫في الجهة السفلى كانت هناك‬ ‫ٌ‬ ‫ولوحات كثيرة ُم ِ‬ ‫بعضها معلّق على‬ ‫تراكمة‪ُ ،‬‬ ‫بعضها مكتِمل‬ ‫إليها‪.‬‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫الجدران وبعضها ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫لوحات متعّددة‬ ‫وبعضها َل ْن يكتمل البتة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪144‬‬

‫لرسامين محلّيين شباب يبحثون عن طريقهم‪.‬‬ ‫ ِلَمن هذه المنحوتات السوداء الثالث‬‫سألت َس ْعداً‪:‬‬ ‫المرممة بالجبس –‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫شابة عرفها حكيم‬ ‫يونانية‬ ‫اتة‬ ‫لنح‬ ‫َّها‬ ‫إن‬ ‫‬‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫في مدريد فأغراها ِبعشق جماليات هذا الفضاء‪.‬‬ ‫تقطعة هنا‪.‬‬ ‫الم ِّ‬ ‫َس ْعُد بدوره اختار اإلقامة ُ‬ ‫شيد منز ًال على أنقاض بيت َقديم في قاع المدينة‬ ‫َّ‬ ‫«جنون ُه‬ ‫هرب إليه‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫له‬ ‫يحلو‬ ‫األصيلة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫التشكيلي» لفترات ُمعينة في السنة فرارًا من‬ ‫الضغط العالي للدار البيضاء‪.‬‬ ‫أجواء ّ‬ ‫أبصرت ثالث لوحات عمالقة‬ ‫اليسار‬ ‫على‬ ‫ُ‬ ‫(مقاس ‪ 250‬سم في ‪ 250‬سم) من القماش‬ ‫ُمعلّقة‪ .‬واحدة قبالتي َعَلى الجدار األمامي‬ ‫الكبير وا ُأل ْخريَا ِن على حائطين متباعدين‪.‬‬ ‫«الشغل» في اللوحة األمامية ‪-‬‬ ‫َبدا لي أن ّ‬ ‫متقدمة‪،‬‬ ‫ا‬ ‫أشواط‬ ‫قطع‬ ‫–‬ ‫»‬ ‫األم‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِلُن ِّ‬ ‫سمها «اللوحة َّ‬ ‫عد العمل على اللوحتين «الشرقية»‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫لم‬ ‫فيما َ َّ‬ ‫و«الغربية» التخطيطات البدئية األولى‪.‬‬ ‫ّق ُت ‪...-‬‬ ‫ظر ُهما عمل كبير – َعلْ‬ ‫ هاتان َيْنَت ُ‬‫ِ‬ ‫بأقل م َّما ينتظرهما‬ ‫«األم» ليس َّ‬ ‫ ما َيْنَتظر َّ‬‫– أجاب –‬ ‫ِ‬ ‫أن ما ينقصها هو بعض‬ ‫‬‫عجيب َحسْب ُت َّ‬ ‫ٌ‬ ‫اللمسات األخيرة‪.‬‬ ‫ان ذلك إحساسي باألمس‪ ،‬لكنَّني‬ ‫ َك َ‬‫التشكيل‬ ‫ْت اليوم‪ ،‬بعد سبع ساعات من َّ‬ ‫ْاكَت َشف ُ‬

‫الكثيف أنها بحاجة إلى تكِن ٍ‬ ‫يك تشكيلي مغاير‬ ‫تمام ًا لما َف َعْلُته بها حّتى اآلن‪.‬‬ ‫«األم» بقصد المزيد من‬ ‫اقتربت أكثر من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بروز ُكَتل ملبّدة هنا‬ ‫التفحص‪ .‬أثار اهتمامي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫موزعة بضربات انسيابية على‬ ‫وهناك‪ُ .‬كَتل ّ‬ ‫الفضاء البهيم‪.‬‬ ‫أن‬ ‫دقيقة‪،‬‬ ‫معاينة‬ ‫بعد‬ ‫بالفعل‪،‬‬ ‫تب َّيْن ُت‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫توهْم ُت‪ ،‬بتشكيالت‬ ‫ا َألْمَر يتعلَّق‪ ،‬خالف ًا لما َّ‬ ‫ُخ َطاطية ترويضية للفضاء الغفل للّوحة‪ .‬لم‬ ‫المركزي قد َت َخلََّق ْت بوضوح‬ ‫تكن معالم الفضاء‬ ‫ّ‬ ‫َب ْعُد‪ ،‬وال الرموز وال العالمات األساسية‪.‬‬ ‫ َهذه ُكلُّها بدايات ِإَذن‪ .‬ألم يتولّد في‬‫محدد عن الشكل النهائي‬ ‫تصور َّ‬ ‫ذهنك َب ْعُد‪ُّ ،‬‬ ‫الذي ينبغي أن تّتخذه هذه اللوحة بالذات؟‬ ‫ارَتْيَها؟‪.‬‬ ‫ثم ماذا عن َج َ‬ ‫تصورات محددة‪ :‬ال‪ .‬أبداً‪ .‬يقول سعد‪.‬‬ ‫‬‫َّ‬ ‫ربما أشكال أو مالمح هالمية تأتيني أحيان ًا‬ ‫ولتتحول‬ ‫تخيالتي‬ ‫في الليل‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫لتستحوذ على ُّ‬ ‫تصارعة يبغي ُك ٌّل‬ ‫م‬ ‫ِّطة‬ ‫تسل‬ ‫م‬ ‫وساوس‬ ‫إلى‬ ‫ُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫حل اآلخر‪.‬‬ ‫منها الحلول َم َّ‬ ‫بدا لي أن سعدًا يشتغل ُمديرًا ظهره تمام ًا‬ ‫طول الوقت للفضاءات المجاورة «لورشته»‪،‬‬ ‫شوشات» التي ُيمكن أن‬ ‫«الم ِّ‬ ‫حتى يتفادى كل ُ‬ ‫تنبعث من األشكال المرصوصة عن كثب‪.‬‬ ‫في الشعر ال ُيوجد َب ْح ٌر أزرق‪ .‬البحر َدائم ًا‬


‫بحر آخر‪ .‬كذلك ِهي السماء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫صر على «كتابة» َن ٍّ‬ ‫ وأنت ِلماذا ُت ُّ‬‫ألت سعداً‪.‬‬ ‫بحري بمفردات ُم َض ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ادة للبحر! َس ُ‬ ‫إبداعي ال يشبه‬ ‫«مالذ»‬ ‫بناء‬ ‫أبغي‬ ‫َّني‬ ‫ألن‬ ‫‬‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫مالمح هذا «المالذ» الواقعي الذي‬ ‫شيء‬ ‫في‬ ‫َ‬ ‫صت على بناء بيتي فيه على نمط ُمَماثل‬ ‫َحَر ُ‬ ‫تمام ًا للمالمح األصيلية للمكان األصيل‪.‬‬ ‫إنني مفتتن بهذا المكان‪ .‬إنصاتي لتجلّياته‬ ‫اللونية ُيغذيني بأحاسيس تتجّدد كل يوم‪.‬‬ ‫مطوق ًا باألزرق‪ .‬األزرق في كل‬ ‫ُهَنا أجدني ّ‬ ‫الجهات‪ .‬السماء دائم ًا زرقاء‪ .‬األزرق َماِث ٌل في‬ ‫ص َوري‬ ‫ُكّل شبر أبيض من بياضات البيت‪ُ .‬‬ ‫ُكلُّها زرقاء‪ .‬أصصي زرقاء‪ُ .‬ز ُهوري نفسها‬ ‫تكاد ُتصاب بعدوى األزرق‪ ،‬وهذا البحر على‬ ‫إيقاعه األزرق تنساب أحالمي‪.‬‬ ‫غطي كل الحيطان‬ ‫األزرق النيلي عندي ُي ِّ‬ ‫ُ‬ ‫المؤدية إلى البيت‪.‬‬ ‫أضح ْت زرقاء‬ ‫حتى أحالم يوسف ابني َ‬ ‫بدورها‪.‬‬ ‫مرسومة على‬ ‫ّاحة‬ ‫ته‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫س‪،‬‬ ‫َأْم‬ ‫ً‬ ‫يلون تف ً‬ ‫َ ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َو َرق برتقالي باألزرق الصريح‪ ،‬ألنه – يقول‪-‬‬ ‫لحلْم‬ ‫التفَّاحة‬ ‫يريدها أن ُت َشبه تمام ًا ُّ‬ ‫َ‬ ‫الزرقاء ُ‬ ‫ليلته السابقة‪.‬‬ ‫‪ 4‬إبريل‪:‬‬ ‫أن «األعمال» على اللوحة‬ ‫بدا لي كما لو َّ‬ ‫عادت إلى نقطة البداية أو ما يشبه‬ ‫«األم» قد ْ‬ ‫اضطر إلى إعادة‬ ‫تع َّمَد سعد أو‬ ‫ذلك‪ .‬لماذا َ‬ ‫ّ‬ ‫َعقارب تشكيالته العجيبة إلى الوراء‪ .‬الكتل‬ ‫التدرجات اللونية المتغايرة‪،‬‬ ‫ّية ذات‬ ‫البنّ‬ ‫ُّ‬ ‫صْهرًا باهت ًا في تخطيطات حالمة‪.‬‬ ‫ِرت‬ ‫صه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫توتراِتها التشكيلية العالية‬ ‫ا‬ ‫تقريب‬ ‫ت‬ ‫ً ُّ‬ ‫َم َح ْ‬ ‫لتتقبل‬ ‫أرضية مهيأة‬ ‫مجرد‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َوَأ َحاَلْتها إلى َّ‬ ‫أشكا ًال جديدة‪ .‬الغيوم العلوية‪ ،‬تلك التي‬ ‫حسبُتها غيوم ًا ُأنزلت إلى الطبقات السفلى‬ ‫عبارة عن َج َّرات‬ ‫صارت‬ ‫من اللوحة‪ .‬لقْد‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ض َّم ْت إلى‬ ‫فرشاتية ّ‬ ‫كون‪ ،‬فيما لو ُ‬ ‫هشٍة ُت ّ‬ ‫بعضها البعض‪ ،‬بلونها األصفر التجريبي‪،‬‬ ‫الهندسي للوحة‪.‬‬ ‫مقلوب في الَفراغ‬ ‫ِن ْص َف هرم‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫أن «الشغل الرئيس» انتقل‬ ‫َبَدا لي أيض ًا َّ‬ ‫نفس التكنيك‪.‬‬ ‫اآلن الى الّلوحة «الشرقية»‪ُ .‬‬ ‫الخطاطات اللونية‪.‬‬ ‫نفس الروح‪ .‬نفس ُ‬ ‫«النصي» يكتسب ُك َّل يوم‬ ‫لكن التشكل‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫سع‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫الحواشي‬ ‫تبدو‬ ‫هنا‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫غاير‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َملْمح ًا ُ‬ ‫روض ًا تمام ًا من‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫هندسي‬ ‫«المتن»‬ ‫يبدو‬ ‫فيما‬ ‫ً‬ ‫ُ َّ‬ ‫اج بفوضاه‬ ‫حيث َشْكُل ُه‬ ‫الخارجي‪ ،‬لكنه َ‬ ‫ض ٌّ‬ ‫ُّ‬

‫العارمة من حيث فيضه اإلشاري‪.‬‬ ‫صباح ‪ 28‬إبريل‪:‬‬ ‫أي شيء َب ْعُد‪ ،‬ال هنا وال هناك‪.‬‬ ‫لم َيْنَتِه ُّ‬ ‫ُك ٌّل شيء يبدأ أو يعاود البدء‪.‬‬ ‫ّف‪ ،‬لكنه‬ ‫العمل في اللوحة «الشرقية» توق َ‬ ‫ُ‬ ‫لم َيْنَتِه‪.‬‬ ‫أن تنظر إلى هذه‬ ‫قال سعد‪ :‬بإمكانك ْ‬ ‫اللوحة باعتبارها مخلوق ًا ُمكتمالً‪ .‬ال ُيوجد‬ ‫لكن االكتمال في عمل َفنّي‬ ‫ما يمنع من ذلك‪َّ .‬‬ ‫مجرد َو ْهٍم‪.‬‬ ‫من هذا النوع ّ‬ ‫يحدث في الواقع هو أنَّني أشعر‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫وبأن ا ُألمور ينبغي أن تتوقّف‬ ‫باالكتفاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هنا بالذات‪ .‬إنَّه مجرد إحساس أجده اآلن‬ ‫بعيدًا عن متناولي‪.‬‬ ‫تأبي ًا على االكتمال‪.‬‬ ‫أكثر‬ ‫«الغربية»‬ ‫اللوحة‬ ‫ّ‬ ‫األولي الخفيف‪.‬‬ ‫إنها تبدو ُمكتفية َتمام ًا بشكلها ّ‬ ‫وزعة هنا وهناك من َحفيف لوني‬ ‫موجات ُم َّ‬ ‫ٌ‬ ‫مائع قليالً‪ .‬عوالم «المتن» المستطيل‬ ‫أصفر ٍ‬ ‫معالمها بعد‪« .‬الحواشي»‬ ‫تتضح‬ ‫الشكل لم َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫خة أعاليها بأنصاف شموس ُهالمية‬ ‫تبدو ّ‬ ‫ملط ً‬ ‫ثم َة تخطيط‬ ‫الفارغة‬ ‫الحاشية‬ ‫أسفل‬ ‫تائهة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ري‪ .‬هكذا أخاله باب ًا َب ْحري ًا‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫لباب‬ ‫أولي‬ ‫َ ْ ٍّ‬ ‫ٌّ‬ ‫المطَلق التشكيلي‪.‬‬ ‫ُم ْشرع ًا على ُ‬ ‫السبت ‪ 11‬إبريل‪:‬‬ ‫لم يسافر َس ْعُد ِوْفق المتوقَّع‪َ .‬ل ْن ُيسافر‬ ‫َس ْعُد ال اليوم وال بعد غد‪.‬‬ ‫اود المحاولة‪،‬‬ ‫يحاول‬ ‫يظل هنا‬ ‫أن َّ‬ ‫وي َع ِ‬ ‫عليه ْ‬ ‫ُ‬ ‫يقتنص األمواج المواتية لسماواته الثالث‬ ‫كيما‬ ‫ُ‬ ‫المتأبية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫دته ُمنهِمك ًا في لعبته الغامضة في‬ ‫َو َج ُ‬ ‫وعتمة مما كان عليه في‬ ‫فضاء أكثر برودة‬ ‫ً‬ ‫آخر زيارة‪.‬‬ ‫يوسف موجو ٌد هنا أيضاً‪ .‬إن َُّه ُمنهِمك بدوره‬ ‫في «الثلث الخالي» من المرسم في تلوين‬ ‫َسَمكات «مخيلته» الزرقاء على هيئة مراكب‬ ‫أو طيارات تسبح في َب ْحر برتقالي مكثف‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تأنيث‬ ‫بت َندى معي ِلُتشارك في‬ ‫ص ِح ُ‬ ‫َ‬ ‫الح َّرة‪.‬‬ ‫الفضاء ِبأبجديتها ُ‬ ‫مستعملة علبة ألوان َماِئية يابانية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مساء ‪ 14‬إبريل‪:‬‬ ‫«األم» إلى ارتداء َشْكٍل‬ ‫عادت اللوحة‬ ‫ُّ‬ ‫شبيه بشكلها الكثيف األول‪ .‬لكن اللمسات‬ ‫البنية العميقة تبدو مصطبغة «بشحنات‬

‫طينية أكثر كثافة وألقاً‪ .‬منقوعة في لطخة‬ ‫سواد ُتغلِّف الطبقات العليا من «المتن»‪ .‬في‬ ‫فجوات عارية تمام ًا من‬ ‫الحاشية العليا َث َّم َة‬ ‫ٌ‬ ‫تعود‬ ‫الشطرنجية‬ ‫العالمة‬ ‫ظاللها األولى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المشع في «صدر‬ ‫إلى امتالك موقعها‬ ‫ِّ‬ ‫الرمزي ُ‬ ‫احب‬ ‫ص‬ ‫الذي‬ ‫الغامق‬ ‫األصفر‬ ‫النص»‪ .‬لكن‬ ‫َ َ‬ ‫ُك َّل هذه التحوالت التكوينيةِللَّوحة تراجع‬ ‫ٍ‬ ‫اللونية الى الهامش التحتي‪.‬‬ ‫تدرجاته‬ ‫بكل ُّ‬ ‫تحول بالكاد إلى قوس من ِظ ٍّل مائل‪.‬‬ ‫لقد َّ‬ ‫‪ 18‬إبريل صباحاً‪:‬‬ ‫تستطيع «ا ُأل ُّم» أن تستريح أخيراً‪َ .‬ليس‬ ‫باإلمكان أفضل مما كان‪َ .‬علَّق سعد‪َ ،‬م ِ‬ ‫اهرًا‬ ‫اللوحة بتوقيعه النهائي‪َ ،‬وِاضع ًا بذلك َحّدًا‬ ‫َ‬ ‫التحكم‬ ‫تضاربة ال ُيْمكن‬ ‫ُّ‬ ‫«تخلُّقات» ُم ِ‬ ‫لمسلسل َ‬ ‫في عواقبه‪:‬‬ ‫ال َش ْيء يكتمل َل َش ْي َء يبدأ‪.‬‬ ‫مساء ‪ 23‬إبريل‪:‬‬ ‫التنقيحات متواصلة على اللوحة‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫المهب‬ ‫في‬ ‫فينة‬ ‫الس‬ ‫مهبط‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ح‬ ‫اض‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫«الشرقية»‪َ .‬و ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫قد َّاتخَذ شكل ُجُثوم بارد‪ُ .‬مْنتهى السفينة‬ ‫الطيني‬ ‫غير هذا‬ ‫َمْرساها‪ .‬ما من َب ْحٍر آخر ِ‬ ‫ِّ‬ ‫أحقاب‬ ‫بحمولتها من‬ ‫ٍ‬ ‫الكامد‪ .‬السفينة ُمثْقلة َ‬ ‫السفينة حقائب‬ ‫لَّع‪.‬‬ ‫خ‬ ‫ُ‬ ‫َش َّتى مرصوصة كبناء ُم َ‬ ‫من رموز‪ .‬بل السفينة َتُنوء بصناديق أسرار‬ ‫اآللهة القدامى‪.‬‬ ‫سيغوص َحْتم ًا َب ْحُرها فيها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ظهيرة ‪ 07‬مايو‪:‬‬ ‫الصورة ا ُألولى في اللوحة‬ ‫لم تكتمل‬ ‫ُ‬ ‫تتقدم الرموز ولو خطوة‬ ‫«الغربية»‪ .‬لم‬ ‫َّ‬ ‫واحدة باتجاه َم ْجمع العالمات‪ .‬الضربات‬ ‫التشكيلية السريعة – ُك َّل صباح – بغرض‬ ‫ٍ‬ ‫للكَتل والتلوينات لم‬ ‫َحْفر‬ ‫مجريات مفاجئة ُ‬ ‫متر من المساحات‬ ‫َتنْجح في ترويض ِن ْصف ٍ‬ ‫السفلية للفضاء الواسع‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ذوب‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ا‬ ‫يد‬ ‫أن‬ ‫يبدو‬ ‫القماش‪.‬‬ ‫لة‬ ‫ز‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫يا‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫األصفر الغامق في البياض‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ من أين يأتي ُك ُّل هذا البياض؟‬‫ من األزرق يأتي دائم ًا‬‫شق النَّحت من رماد ِإْذن!‬ ‫ ما َأ ّ‬‫عود من جديد‪َ .‬م َّرة‬ ‫َأ َج ْل‪َ .‬سُأعاود ُّ‬ ‫الص َ‬ ‫وُأخرى َوَلن َأْفعل شيئ ًا ِس َوى أن َأْبَدأ ُك َّل‬ ‫مرٍة من جديد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪145‬‬


‫َط َه َس ُب ْع‬

‫اسرتاتيجية الخلط‬ ‫أنيس الرافعي‬

‫يختزل الفنان العراقي َط َه َسُب ْع (بغداد‬ ‫ُ‬ ‫‪ ،)1947‬أربعة عقود من مساره اإلبداعي‬ ‫والحياتي‪ ،‬في معرضه لهذا الموسم الذي‬ ‫احتضنه مؤخرًا رواق «إسالن» بمراكش‪ ،‬بعيد‬ ‫ُ‬ ‫أسابيع من عرضه بـ «رواق قرية األطفال»‬ ‫مسمى‪« :‬أفالك طائرة»‪.‬‬ ‫تحت ّ‬ ‫تختزنه من‬ ‫بما‬ ‫الطائرة»‪،‬‬ ‫«األفالك‬ ‫وهذه‬ ‫ُ‬ ‫ليست‬ ‫الالنهائي‪،‬‬ ‫على‬ ‫مفتوحة‬ ‫ودالالت‬ ‫شعرية‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫دوارة أو حركات دائرية عكس عقارب‬ ‫رقصة ّ‬ ‫الساعة‪ ،‬مثلما هو الشأن في طقوس الطريقة‬ ‫المولوية الصوفية‪ ،‬كما قد يتراءى للوهلة‬ ‫دعوة مفتوحة للناظر كي‬ ‫األولى‪ ،‬وإنّما هي‬ ‫ٌ‬ ‫البصرية للفنان‪،‬‬ ‫يحلق في سماوات الذاكرة‬ ‫ّ‬ ‫يسرده الشكل واللّون‬ ‫ولقراءة «الغياب» الذي‬ ‫ُ‬ ‫الصور التي‬ ‫شتات‬ ‫لجمع‬ ‫والموضوع‪ ،‬وكذا‬ ‫ّ‬ ‫تنوس كالبندول بين حسرات المكان البغدادي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قتلع منه َط َه َسُب ْع ذات منفى‪ ،‬وبين‬ ‫الذي ُا َ‬ ‫أطال المكوث‬ ‫ُمَه ِج المكان المراكشي الذي َ‬ ‫به حتى صارت المدينة الحمراء لباس ًا له‬ ‫وصار لباس ًا لها منذ ‪.1977‬‬ ‫ينتظم‬ ‫الذي‬ ‫الجمالي‬ ‫من خالل النسق‬ ‫ُ‬ ‫أن َط َه َسُب ْع‬ ‫ا‬ ‫ّي‬ ‫ل‬ ‫ج‬ ‫يبدو‬ ‫المعرض‪،‬‬ ‫لوحات هذا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫فكل‬ ‫ال يقتفي نظام ًا معين ًا حين ينبري للرسم؛ ّ‬ ‫ﺃثر له طريقته الخاصة في التنامي وسمته‬ ‫المتفرد في التسامي‪ :‬إذ ُنلفي قباب ًا وأضرحة‬ ‫ِّ‬ ‫ومراقد وصوامع وبيوتات وأجسادًا وأزياء‬ ‫ووشومات وأكف ًا وعيون ًا وآالت موسيقية‬ ‫وقناني ودوامات وخربشات طاعنة في الخيال‬ ‫الطفولي على طريقة «خوان ميرو» و«بول‬ ‫‪146‬‬


‫كلي» و«بابلو بيكاسو»‪.‬‬ ‫ويتحايث‪،‬‬ ‫ويتداخل‬ ‫ويتراكم‬ ‫يحتشد‬ ‫الكل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بيد أنه ينفي أي‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫متوازن‬ ‫ا‬ ‫بنيان‬ ‫ليصوغ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫منظور‪ ،‬أو باألحرى ثمة قصدية مسلّحة بفنية‬ ‫عالية قصد التالعب به والتحايل عليه كي ال‬ ‫وتسوم‬ ‫تسقط اللوحة بين براثن «الصمت»‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مأزق «الفراغ»‪.‬‬ ‫إن لوحة َط َه َسُب ْع هي المعادل اﻷنطولوجي‬ ‫ّ‬ ‫لروحه الجرداء‪ ،‬التي تتوق على الدوام إلى‬ ‫«الملء»‪ .‬ومن هنا‪ ،‬حتمية وأهمية حدوث‬ ‫هذا التشييد الالنسقي الذي بمقدوره أن‬ ‫يوحي بشيء ّما‪ .‬وحالما يتلمس َط َه َسُب ْع‬ ‫هذا اإليحاء تكون اللّوحة قد حققت غاية‬ ‫«الصورة المعبرة»‪.‬‬ ‫صح‬ ‫إذا‬ ‫«التصعيد»‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫داخل اضطرامات‬ ‫ّ‬ ‫«اإليحاء شبح ًا‬ ‫التوصيف‪ ،‬الذي يغدو بموجبه‬ ‫ُ‬ ‫يجب اإلمساك به وجعله حقيقة»‪ ،‬كما يقول‬ ‫يخلط َط َه‬ ‫الناقد اإلنجليزي «ناثان نوبلر»‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومدوخ غالباً‪ ،‬بين المادي‬ ‫َسُب ْع على نحو متعمد ّ‬ ‫والروحي‪ ،‬بين اﻹيروسي والطهراني‪ ،‬بين‬

‫السماوي واألرضي‪ ،‬بين الكائن والشيء‪ ،‬بين‬ ‫الساكن والمتحرك‪ ،‬بين الداخلي والخارجي‪،‬‬ ‫بين التشبيهي وغير التشبيهي‪ ،‬بين العاري‬ ‫والمكتسي‪ ،‬بين المتجسد والغرائبي‪ ،‬بين‬ ‫ُ‬ ‫والمحتجب‪.‬‬ ‫المرئي‬ ‫وبين‬ ‫والبعيد‪،‬‬ ‫القريب‬ ‫ُ‬ ‫وبوسع المشاهد أن يدرك داخل‬ ‫إستراتيجية «الخلط» هاته‪ ،‬قدرة َط َه َسُب ْع‬ ‫يدمج‬ ‫على تمثيل الرؤية الحركية‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫وجهة نظر مضاعفة بوجهة نظر أخرى‪،‬‬ ‫حتى تغدو الحواشي المتراكبة من المناظر‬ ‫المنفصلة عديدة داخل اللّوحة‪ ،‬لدرجة يتعذر‬ ‫معها أحيان ًا تمييز األشياء المستقلّة وتلمس‬ ‫الموتيفات المفردة‪.‬‬ ‫أن الفارق حق ًا في هذه التجربة هو‬ ‫غير ّ‬ ‫تموقعها خارج أي أسلوب محّدد؛ فهي تجربة‬ ‫تمحو نفسها بنفسها وتقتل ذاتها بيديها‪ ،‬كما‬ ‫لو كانت حيوان ًا ميثولوجي ًا عجائبي ًا تتعّدد‬ ‫غب كل ٍ‬ ‫ميتة جديدة‪ :‬إذ يلوح َط َه َسُب ْع‬ ‫أرواحه َّ‬ ‫كالسيكي ًا وما بعد حداثي ًا في اآلن ذاته‪ ،‬بسيط ًا‬ ‫ومعقدًا في اللّوحة عينها‪ ،‬بدائي ًا وتكعيبي ًا‬

‫أحياناً‪ ،‬أو دادائي ًا وسوريالي ًا أحيان ًا أخرى‪.‬‬ ‫فهاجس َط َه َسُب ْع يتجاوز االنضواء تحت‬ ‫يمارس فحسب‬ ‫لواء مدرسة أو تيار معين‪ .‬ﺇنّه‬ ‫ُ‬ ‫ما نعته «كانط» ﺑ«اللّعب الحر للمخيلة»‪.‬‬ ‫ومن خالل هذا «اللّعب» األصيل وغير‬ ‫المكرور‪ ،‬يبحث عن «الرائع االستطيقي» الذي‬ ‫يبتلع اللّوحة‪ ،‬ثم‬ ‫يحطم هالة األثر الفني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يحقق بداخلها وثبة في الظالم في اتجاه‬ ‫صورة تنفي باستمرار أصولها‪.‬‬ ‫إن الزخم الذي ترفل به أعمال الفنان‬ ‫ّ‬ ‫العراقي المبدع َط َه َسُب ْع‪ ،‬على صعيد عناصرها‬ ‫التشكيلية ومفرداتها البصرية من تنويع‬ ‫وتشظي وحركة واستمرارية ووحدة وتقابل‬ ‫عماده الثنائيات المتوافقة أو المتصارعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نتاج حتمي لذائقة ثرية وتأمل عميق‬ ‫هو ٌ‬ ‫في الموروث والمرجعية والهوية‪ .‬غايته‬ ‫األساس هي إضعاف مناعة «المطلق» في‬ ‫المنجز الفني‪ ،‬وتحقيق البحث األبدي عن‬ ‫المفترض والمحتمل والنسبي‪ ،‬أي عن «ما‬ ‫العيون»‪.‬‬ ‫تتماله‬ ‫الظنون‪ ،‬ال عن ما‬ ‫تمثله‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪147‬‬


‫خالد تكريتي‬ ‫استنساخات الكوالج‬ ‫بريوت ‪ -‬خاص بالدوحة‬

‫تسـتضيف «غاليـري أيـام» فـي بيـروت‪ ،‬معرضـ ًا بعنـوان‬ ‫«لول» للسـوري خالد تكريتي‪ .‬المعرض الذي يسـتمر حتى ‪24‬‬ ‫أكتوبـر الجـاري‪ ،‬يضـم األعمال الفنية الجديـدة لتكريتي المقيم‬ ‫في باريس منذ عام ‪ .2004‬ويترافق المعرض مع إطالق كتاب‬ ‫حـول الفنـان‪ ،‬يضـم العديـد مـن أعمالـه الفنيـة من العـام ‪2002‬‬ ‫حتى اآلن‪.‬‬ ‫يركـز المعـرض علـى المفاهيـم االجتماعيـة والثقافيـة التـي‬ ‫عمل صاحبها سابق ًا على عرضها في لوحته «الحرية المطلقة»‬ ‫‪ ،2013‬كما يعود إلى جماليات تعود بأفكارها لما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫ففـي عمـل «ميـس إن بليس» ‪ ،2014‬تظهر فتاة تحمل مجلة في‬ ‫صالـون تجميـل‪ ،‬إال أنهـا مهمشـة المظهـر‪ ،‬خاويـة االنطبـاع‪،‬‬ ‫ومحتجبـة الشـكل‪ .‬ويشـير عنـوان اللوحـة إلـى اآلليـة السـائدة‬ ‫غيبـة‬ ‫فـي عمليـات الموضـة الرائجـة التـي ظلّـت فـي اللوحـة‪ُ ،‬م ّ‬ ‫تمام ًا لصالح تلك الشخصية بمالبسها الواضحة المالمح التي‬

‫‪148‬‬


‫تعطـي انطباعـ ًا بوجود شـخص حقيقي‪.‬‬ ‫وفـي عمـل «‪ 220‬فولـت»‪ ،‬تظهـر شـخصية فتـاة يبـدو أنهـا‬ ‫فوجئـت مـن هـول كومـة الكترونيـات عتيقـة‪ ،‬ورأسـها أصبـح‬ ‫جـزءًا مـن الصـورة ككل‪ ،‬فهـو مكبـر صـوت وحيـد‪.‬‬ ‫ترتكز الرموز والصور لدى تكريتي على العديد من الوسائط‪،‬‬ ‫ال كوالجي ًا يميز‬ ‫ُمفكك ًا الخصائص التقليدية للوحة‪ُ ،‬مبتكرًا شك ً‬ ‫الخطـوط العريضـة لتراكيبه‪ ،‬وتندمج الشـخصيات المطروحة‬ ‫بشـكل أو بآخر مع المسـاحات الملموسـة‪ ،‬ليوحي العمل أخيرًا‬ ‫بدقـة التصويـر وتداعيـه الوهمـي‪ ،‬المرتبـط نوعـ ًا مـا بأعمالـه‬ ‫السابقة‪.‬‬ ‫لكـن مـع المزيـد من االختزال‪ ،‬يهـدف الفنان إلى طرح تلميح‬ ‫حـول حيلـة اإلعلان القائـم والوسـائط االجتماعيـة الدارجـة‬ ‫والثقافـة الشـعبية‪ .‬ويخلط تكريتي (مواليـد بيروت ‪ )1964‬من‬ ‫خلال هـذه التشـكيلة‪ ،‬الخـط الفاصـل بيـن الفوضـى اإلعالمية‬ ‫ومعطيـات الحيـاة المعاصـرة باعتبارهـا لوحـ ًا واحـدًا اكتسـى‬ ‫بالعبثيـة المليئـة باالضطراب‪.‬‬ ‫ويتضمن المعرض «الساخر» العديد من اللوحات التي تعرف‬ ‫مـن عناوينهـا‪ ،‬ولعلهـا أكثرهـا قربـ ًا مـن البورتريـه الشـخصي‬ ‫«االيـس» ‪ ،2014‬الـذي يظهـر الفنـان جالسـ ًا باسـترخاء علـى‬ ‫كرسـي قديـم الطراز‪.‬‬

‫تخـرج فـي كليـة الهندسـة‬ ‫يتميـز الفنـان السـوري‪ ،‬الـذي ّ‬ ‫المعمارية في دمشق‪ ،‬وشغل منصب ًا في المديرية العامة لآلثار‬ ‫والمتاحـف فـي سـورية‪ ،‬بنهجـه المبتكـر فـي رسـم اللوحـة‪ ،‬إذ‬ ‫يدمج بين الشخصي والجماعي وتداخلهما في الحياة االجتماعية‬ ‫المعاصرة‪.‬‬ ‫تظهر جمالية الصورة لديه من خالل طرح تكوينات باألبيض‬ ‫واألسود كالمطبوعات الصحافية مثالً‪ ،‬كنوع من الطرح للتقارب‬ ‫الشعوري مع المسافات المؤقتة المتصلة في ما بينها في أعمال‬ ‫مختلفة‪ ،‬في محاولة منه للتأكيد على مقولة بريندان برينديفيل‬ ‫بأن «الواقع مجرد ورقة رقيقة»‪ ،‬استنادًا إلى الواقعية السائدة‬ ‫في عصر ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫وتظهر األعمال المعروضة تحو ًال ملحوظ ًا في اهتمامه برسم‬ ‫البورتريهات الشخصية المنحصرة بعائلته وأصدقائه‪ُ ،‬مبتكرًا‬ ‫اهتمام ًا مرتبط ًا بالحاالت النفسية العميقة اليومية‪.‬‬ ‫عاش تكريتي في نيويورك سنتين‪ ،‬وبعد عودته إلى دمشق‬ ‫وبقائـه فيهـا‪ ،‬بـدأت سـمعته الفنية تظهر‪ ،‬وتدريجيـ ًا قّدم نمط ًا‬ ‫سـباق ًا في بالده‪ .‬عـرض في العديد من المعارض‬ ‫فنيـ ًا كان فيـه ّ‬ ‫الفرديـة والجماعيـة دوليـ ًا مثـل‪ :‬بينالـي اإلسـكندرية وبينالـي‬ ‫هونـغ كونغ آرت‪.‬‬ ‫‪149‬‬


‫عمارة‬

‫عمارة «قبة الصخرة»‬ ‫في القدس‪:‬‬

‫تنويعات الحل‬ ‫التصميمي‬

‫‪150‬‬


‫د‪ .‬خالد السلطاين*‬

‫ـــم تشـــييد مبنـــى قبـــة الصخـــرة‬ ‫َت ّ‬ ‫وســط منطقــة الحــرم الشــريف الواســعة‬ ‫بالق ــدس‪ .‬الت ــي ه ــي عب ــارة ع ــن مرتف ــع‬ ‫أرضـــي ذات شـــكل هندســـي يقتـــرب‬ ‫إل ــى المس ــتطيل‪ ،‬تحي ــط به ــا األس ــوار‪،‬‬ ‫ويشـــتمل علـــى منشـــآت وأروقـــة‬ ‫وحدائـــق وســـاحات‪.‬‬ ‫ويقــدر أطــوال أضــاع منطقــة الحــرم‬ ‫الشـــريف بـــ‪ 462 :‬متـــرًا طـــول الضلـــع‬ ‫الش ــرقي‪ ،‬وط ــول الضل ــع الغرب ــي ‪492‬‬ ‫متـــراً؛ أمـــا أطـــوال الضلعيـــن الشـــمالي‬ ‫والجنوبـــي فهمـــا ‪ 310‬أمتـــار و‪281‬‬ ‫متـــرًا علـــى التوالـــي‪ .‬فـــي حيـــن تبلـــغ‬ ‫المســـاحة اإلجماليـــة لمنطقـــة الحـــرم‬ ‫كلهـــا ‪ 34‬فدانـــاً‪.‬‬ ‫وباإلضافــة إلــى تشــييد قبــة الصخــرة‬ ‫ـــم بنـــاء‬ ‫فـــي منطقـــة الحـــرم‪ ،‬فقـــد َت ّ‬ ‫منشـــآت عديـــدة ذات وظائـــف مختلفـــة‬ ‫يرجـــع تاريخهـــا إلـــى عهـــود إســـامية‬

‫ُيعــّد مبنــى «قبة الصخــرة» من أوائــل المباني اإلســامية التي‬ ‫أنشــئت في العهد األموي في مدينة «القدس» التي َتّم فتحها إبان‬ ‫الخليفة عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنه) عام (‪638‬م)‪.‬‬ ‫كمــا ُيعّد المبنــى أيضاً‪ ،‬من المبانــي المعمارية النــادرة التي حافظت على‬ ‫شــكلها األصلــي طيلة قرون عديــدة منذ إنشــائها في نهاية القرن الســابع‬ ‫الميــادي وحتــى الوقــت الحاضر‪ ،‬وهــو أمر نــادر الحدوث بيــن المباني‬ ‫األثرية المعمارية األخرى في العالم‪.‬‬

‫مختلفــة‪ :‬كالمســجد األقصــى‪ ،‬ذي الشــهرة‬ ‫المعماري ــة الواس ــعة‪ ،‬ويق ــع ف ــي أقص ــى‬ ‫الجهــة الجنوبيــة مــن الحــرم‪ ،‬الــذي ُجـ ِّـد َد‬ ‫بنــاؤه فــي العهــد األمــوي‪ ،‬وثمــة مبنيــان‬ ‫مج ــاوران لقب ــة الصخ ــرة يع ــود تاري ــخ‬ ‫بنائهمـــا إلـــى الفتـــرة األمويـــة أيضـــاً‪،‬‬ ‫ـا‬ ‫وهم ــا قبت ــا المع ــراج والسلس ــلة؛ فض ـ ً‬ ‫عـــن وجـــود منشـــآت إســـامية عديـــدة‬ ‫مثـــل المـــدارس واألســـبلة والقبـــاب‬ ‫والزوايـــا مبثوثـــة فـــي فضـــاء الحـــرم‬ ‫القدســـي الشـــريف يعـــود تاريخهـــا إلـــى‬ ‫حق ــب إس ــامية مختلف ــة‪ ،‬كم ــا أس ــلفنا‪.‬‬ ‫وللق ــدس مكان ــة خاص ــة عن ــد المس ــلمين‬ ‫فه ــي أول ــى القبلتي ــن‪ ،‬كم ــا أن مس ــجدها‬ ‫يعتبـــر ثالـــث الحرميـــن فـــي اإلســـام‪،‬‬ ‫وتعـّد الصخــرة المقدســة التــي تــم إنشــاء‬ ‫القبـــة حولهـــا‪ ،‬والتـــي ســـميت باســـمها‬ ‫ـــر َي‬ ‫«قبـــة الصخـــرة» المـــكان الـــذي ُأ ْس ِ‬

‫رسم للقصور األموية التي كانت تحيط مبسجد قبة‬ ‫الصخرة ومل يتبقَ حاليا منها سوى األساسات فقط ‪،‬كام‬ ‫يظهر رسم للمسجد األقىص‪.‬‬

‫إلي ــه الرس ــول علي ــه الص ــاة والس ــام‪.‬‬ ‫تعـــود فتـــرة قبـــة الصخـــرة إلـــى‬ ‫ع ــام ‪ 72‬هجري ــة‪296( ،‬م)‪ ،‬عندم ــا أم ــر‬ ‫الخليف ــة األم ــوي عبدالمل ــك ب ــن م ــروان‪:‬‬ ‫خام ــس خلف ــاء بن ــي أمي ــة (‪)705-685‬‬ ‫بانشـــائها‪ .‬ويذكـــر بعـــض المؤرخيـــن‬ ‫المســـلمين (اليعقوبـــي (‪897‬م) علـــى‬ ‫وجـــه الخصـــوص) أن ســـبب بنـــاء قبـــة‬ ‫الصخـــرة يرجـــع إلـــى رغبـــة الخليفـــة‬ ‫عبدالملـــك بـــن مـــروان فـــي تحويـــل‬ ‫قوافـــل الحجـــاج الســـوريين عـــن مكـــة‬ ‫التــي كانــت آنئــذ فــي حــوزة منافــس لــه‬ ‫ه ــو عب ــداهلل ب ــن الزبي ــر‪ ،‬ف ــي حي ــن يذك ــر‬ ‫المقدســـي (‪985‬م) بـــأن الخليفـــة الحـــظ‬ ‫عظم ــة المنش ــآت المس ــيحية الموج ــودة‬ ‫فـــي المدينـــة المقدســـة‪ ،‬وخشـــي أن‬ ‫تبه ــر تل ــك المنش ــآت عق ــول المس ــلمين؛‬

‫‪151‬‬


‫األمـــر الـــذي هـــداه للتفكيـــر جديـــ ًا فـــي‬ ‫مثيـــا ومكافئـــ ًا‬ ‫إنشـــاء مبنـــى يكـــون‬ ‫ً‬ ‫لروع ــة الجوان ــب المعماري ــة والجمالي ــة‬ ‫التـــي تتســـم بهـــا المبانـــي المســـيحية‬ ‫الموجـــودة فـــي المدينـــة المقدســـة‪.‬‬ ‫ويؤكـــد عبدالقـــادر الريحـــاوي بـــأن‬ ‫صخـــرة المعـــراج هـــي «المنطلـــق»‬ ‫واله ــدف األساس ــي م ــن بنائه ــا ه ــو «‪..‬‬ ‫العناي ــة به ــا (أي بالصخ ــرة) وإحاطته ــا‬ ‫باإلطـــار المعمـــاري الالئـــق‪ ،‬فكانـــت‬ ‫ْي ــق ش ــيء وأجمل ــه؛ وم ــن‬ ‫القب ــة ه ــي َألَ‬ ‫القبـــة التـــي تضـــم الصخـــرة وتظللهـــا‪،‬‬ ‫انتقلـــت الفكـــرة نحـــو التكامـــل»(‪.)1‬‬ ‫وأيــ ًا م ــا يك ــن م ــن أم ــر‪ ،‬ف ــإن عم ــارة‬ ‫مبنـــى قبـــة الصخـــرة تمثـــل نموذجـــ ًا‬ ‫فريـــدًا ومتميـــزًا فـــي أســـلوب ونوعيـــة‬ ‫الممارس ــة التصميمي ــة بالعه ــد األم ــوي‪.‬‬ ‫ومـــع أن كثيـــرًا مـــن أعمـــال الترميـــم‬ ‫والحف ــاظ والتجدي ــد الت ــي أجري ــت عل ــى‬ ‫مكون ــات المبن ــى المعماري ــة ف ــي أوق ــات‬ ‫زمنيـــة مختلفـــة (كالعهـــود العباســـية‪،‬‬ ‫واأليوبيـــة‪ ،‬والمملوكيـــة‪ ،‬والعثمانيـــة‪،‬‬

‫وأخيـــرًا فـــي العهـــد الهاشـــمي)‪ ،‬والتـــي‬ ‫قـــد أشـــار إليهـــا المؤرخـــون والرحالـــة‬ ‫المس ــلمون مث ــل‪ :‬العم ــري‪ ،‬والمقدس ــي‪،‬‬ ‫والمهلبـــي‪ ،‬وابـــن بطوطـــة وغيرهـــم‬ ‫فـــي كثيـــر مـــن كتاباتهـــم؛ مـــع ذلـــك‬ ‫ـــل محافظـــ ًا علـــى‬ ‫فـــإن الشـــكل العـــام َظ ّ‬ ‫هيئتـــه األولـــى منـــذ إنشـــاء المبنـــى‬ ‫فـــي نهايـــة القـــرن الســـابع الميـــادي‪،‬‬ ‫ذلـــك ألن أعمـــال التجديـــد‪ ،‬وكذلـــك‬ ‫أعمـــال الحفـــاظ والترميـــم التـــي كانـــت‬ ‫تجـــرى باســـتمرار اعتمـــدت باألســـاس‪،‬‬ ‫عل ــى تغيي ــر القط ــع التالف ــة والمنه ــارة‬ ‫وتبديله ــا‪ ،‬م ــع المحافظ ــة ق ــدر اإلم ــكان‬ ‫علـــى نوعيـــة وتشـــكيلة العناصـــر‬ ‫المرممـــة جـــراء تلفهـــا بســـبب الكـــوارث‬ ‫الطبيعيـــة والحرائـــق‪ ،‬وكذلـــك أعمـــال‬ ‫التهديـــم والتخريـــب إبـــان حـــوادث‬ ‫الفت ــن والح ــروب الت ــي كان موق ــع قب ــة‬ ‫الصخـــرة مســـرح ًا لهـــا وشـــاهدًا عليهـــا‬ ‫طيلـــة امتـــداد تاريخهـــا الســـحيق‪ .‬وال‬ ‫يـــزال المبنـــى حتـــى الوقـــت الحاضـــر‪،‬‬ ‫ُمحتفظــ ًا بوض ــوح حض ــوره المعم ــاري‬ ‫وج ــاء هيئت ــه الممي ــزة ف ــي خ ــط س ــماء‬ ‫‪ Solhouette‬فضـــاء المدينـــة المقدســـة‬ ‫رغ ــم قس ــاوة ض ــروب التش ــويهات الت ــي‬ ‫طالـــت المبنـــى ومجاوراتـــه‪.‬‬ ‫يتكـــون البنـــاء الهيئاتـــي ‪form‬‬ ‫ّ‬ ‫العـــام لمبنـــى قبـــة الصخـــرة مـــن‬ ‫شـــكل ُثمانـــي األضـــاع‪ ،‬مقبـــب‬ ‫بقبـــة مركزيـــة ضخمـــة‪ ،‬يضـــم‬ ‫فضاؤهـــا الصخـــرة المكرمـــة؛‬ ‫يصـــل ارتفـــاع القبـــة إلـــى‬

‫مقطع منظوري‬ ‫في قبة الصخرة‬ ‫‪152‬‬

‫خمســـة وثالثيـــن متـــراً‪ ،‬عـــدا ارتفـــاع‬ ‫الهــال عنــد رأس القبــة‪ ،‬الــذي يرتفــع إلى‬ ‫أربع ــة أمت ــار أخ ــرى‪ ،‬ويتأل ــف المس ــقط‬ ‫األفقـــي للمبنـــى‪ ،‬مـــن جـــدران خارجيـــة‬ ‫بصيغـــة مضلـــع ُثمانـــي الشـــكل‪ ،‬يليهـــا‬ ‫ص ــف م ــن األعم ــدة والدعام ــات موزع ــة‬ ‫فـــي محيـــط شـــكل ُثمانـــي األضـــاع‬ ‫أيضــاً؛ يعق ــب ذل ــك حلق ــة دائري ــة م ــن‬ ‫المســـاند الضخمـــة واألعمـــدة تحيـــط‬ ‫بالصخ ــرة الت ــي ُس ـِقَف ْت بوس ــاطة القب ــة‬ ‫المركزي ــة العالي ــة المش ــار إليه ــا س ــابقاً‪.‬‬ ‫يبل ــغ ط ــول ضل ــع كل ج ــدار م ــن الش ــكل‬ ‫الثمان ــي الخارج ــي نح ــو عش ــرين مت ــراً‪.‬‬ ‫ويبلـــغ طـــول ضلـــع المثمـــن الداخلـــي‬ ‫خمس ــة عش ــر مت ــرًا ف ــي حي ــن يق ــدر ُقط ــر‬ ‫الحلقـــة الدائريـــة المركزيـــة بعشـــرين‬ ‫متـــراً‪ .‬ويحـــدث المثمنـــان حـــول القبـــة‬ ‫رواقيـــن‪ ،‬الداخلـــي وعرضـــه عشـــرة‬ ‫أمتـــار‪ ،‬والخارجـــي أربعـــة أمتـــار‬ ‫ونصـــف المتـــر‪ .‬ويصـــل ارتفـــاع الجـــدار‬ ‫الخارجـــي للمبنـــى إلـــى اثنـــي عشـــر‬ ‫متـــراً‪ ،‬بضمنهـــا الســـتائر ‪.Parapet‬‬ ‫يتشـــكل فضـــاء المبنـــى الداخلـــي‬ ‫ّ‬ ‫المركـــزي مـــن أربـــع دعائـــم حجريـــة‬ ‫مس ــتطيلة المقط ــع تت ــوزع بينه ــا أرب ــع‬ ‫مجاميـــع مـــن األعمـــدة الرخاميـــة‪ ،‬كل‬ ‫مجموع ــة تتأل ــف م ــن ثالث ــة أعم ــدة بي ــن‬ ‫دعامتيـــن؛ ويشـــكل موضـــوع الدعائـــم‬ ‫واألعم ــدة محي ــط دائ ــرة مركزي ــة‪ ،‬توج ــد‬ ‫فـــي وســـطها الصخـــرة الكريمـــة التـــي‬ ‫يقــدر أبعادهــا بثمانيــة عشــر متــرًا طــو ًال‬ ‫وثالثـــة عشـــر متـــرًا عرضـــاً؛ وترتفـــع‬ ‫بمتـــر ونصـــف المتـــر عمـــن حولهـــا(‪.)2‬‬


‫تؤل ــف األعم ــدة والدعائ ــم رواقــ ًا م ــن‬ ‫العقـــود نصـــف الدائريـــة تحمـــل رقبـــة‬ ‫القبـــة التـــي تســـند بدورهـــا الهيـــكل‬ ‫التركيبـــي للقبـــة المركزيـــة‪ .‬ومـــن إجـــل‬ ‫اض ــاءة الفض ــاء المرك ــزي فق ــد ت ــم فت ــح‬ ‫ســـت عشـــرة نافـــذة علويـــة فـــي رقبـــة‬ ‫القبـــة‪ .‬ويوجـــد صـــف وســـطي مـــن‬ ‫األعمـــدة والدعائـــم يقـــع بيـــن الحلقـــة‬ ‫الدائريـــة وجـــدران المثمـــن الخارجـــي‬ ‫ال ُثمان ــي األض ــاع أيضــاً‪.‬‬ ‫ويؤل ــف ش ــك ً‬ ‫وهـــذا الصـــف يحمـــل رواقـــ ًا مـــن أربعـــة‬ ‫وعش ــرين عق ــدًا يرف ــع الس ــقف المس ــتوي‬ ‫ـا مــن الخــارج‪،‬‬ ‫مــن الداخــل والمائــل قليـ ً‬ ‫والواصـــل بيـــن رقبـــة القبـــة المركزيـــة‬ ‫والجـــدران الخارجيـــة لمثمـــن قبـــة‬ ‫الصخـــرة‪.‬‬ ‫تتشـّـكل عناصــر الواجهــات الخارجيــة‬ ‫مـــن معالجـــات إيقاعيـــة مكـــررة فـــي‬ ‫كل ضلـــع مـــن أضـــاع شـــكل المثمـــن‬ ‫الخارج ــي للمبن ــى؛ ال ــذي يحت ــوي عل ــى‬ ‫س ــبعة تجويف ــات ‪Niches‬قليل ــة العم ــق‬ ‫تنتهـــي فـــي أعالهـــا بنوافـــذ‪ ،‬مـــا عـــدا‬ ‫التجويفيـــن اآلخريـــن فـــي كل ضلـــع‪/‬‬ ‫تثمينـــة ‪ -‬فإنهـــا بـــدون نوافـــذ‪ .‬ووقعـــت‬ ‫أبـــواب المبنـــى الرئيســـية وعددهـــا‬ ‫أربعـــة فـــي وســـط هـــذه التثمينـــات‪،‬‬ ‫مواجه ــة إل ــى الجه ــات األصلي ــة‪ .‬ويق ــدر‬ ‫أبع ــاد ه ــذه األب ــواب بـــ ‪2.60‬م عرضــ ًا‬ ‫و‪4.30‬م ط ــوالً؛ يعل ــو س ــواكفها عق ــود‬

‫نصــف دائريــة‪ .‬ويتقـّدم األبــواب ســقائف‬ ‫عرضه ــا ‪2.5‬م مؤلف ــة م ــن قب ــوة نص ــف‬ ‫أســـطوانية محمولـــة علـــى أعمـــدة(‪.)3‬‬ ‫تمثـــل عمـــارة قبـــة الصخـــرة نوعـــ ًا‬ ‫مـــن الفعاليـــة التصميميـــة ذات القيـــم‬ ‫الجماليـــة الخاصـــة المتفـــردة التـــي لـــم‬ ‫ـــر نمـــاذج كثيـــرة لهـــا فـــي تطبيقـــات‬ ‫َن َ‬ ‫النشـــاط المعمـــاري‪ ،‬ضمـــن محدوديـــة‬ ‫الفت ــرة الت ــي تتكل ــم عنه ــا‪ ،‬وه ــي فت ــرة‬ ‫العهـــد األمـــوي؛ وإن ســـتلعب نوعيـــة‬ ‫الهيئـــة العامـــة لمبنـــى «قبـــة الصخـــرة»‬ ‫وصيغـــة تشـــكيالتها الكتلويـــة دورًا‬ ‫مؤثـــرًا وعميقـــ ًا فـــي مجمـــل الممارســـة‬ ‫التصميميـــة لفتـــرات زمنيـــة الحقـــة؛‬ ‫علـــى أن األمـــر المهـــم الـــذي ينبغـــي‬ ‫اســتخالصه مــن عمــارة «قبــة الصخــرة»‬ ‫هـــو إدراك ذلـــك التـــوق المثابـــر الـــذي‬ ‫يســعى دائمـ ًا إلــى إثــراء وتنويــع الطــرح‬ ‫التصميمـــي بمفاهيـــم ورؤى جديدتيـــن‪،‬‬ ‫وه ــذه ال ــرؤى ق ــد ال تعم ــل باتس ــاق م ــع‬ ‫منهجيـــة االســـتيالد التشـــكيلي‪ ،‬تلـــك‬ ‫المنهجي ــة الت ــي ش ــاهدناها تعم ــل م ــرارًا‬ ‫بفاعليـــة فـــي اســـتنباط الصياغـــات‬ ‫التكويني ــة لمبان ــي مس ــاجد ُمتعــّددة ف ــي‬ ‫مـــدن وأماكـــن مختلفـــة‪.‬‬ ‫بمعنـــى آخـــر أن المفاهيـــم الجديـــدة‬ ‫ونزعته ــا تتيح ــان المج ــال واس ــع ًا أم ــام‬ ‫الط ــرح التصميم ــي الجدي ــد ألن يتقاط ــع‬ ‫مس ــاره م ــع مس ــار االعتم ــاد الكل ــي ف ــي‬

‫الحصـــول علـــى تنويعـــات ‪Variation‬‬ ‫مختلفـــة أساســـها وحـــدة الصيغـــة‬ ‫«الثيمويـــة»‪ ،‬األمـــر الـــذي يجعلـــه (أي‬ ‫م ــن الط ــرح التصميم ــي) محتفظــ ًا دائمــ ًا‬ ‫بتميـــز اللغـــة المعماريـــة‪ ،‬ونضـــارة‬ ‫أشـــكالها‪.‬‬ ‫لق ــد ح ــرص بن ــاة قب ــة الصخ ــرة عل ــى‬ ‫تكري ــس وتأكي ــد تف ــرد الش ــكل المعم ــاري‬ ‫وعـــدم أنمذجتـــه أو تكـــراره انطالقـــ ًا‬ ‫مـــن تفـــرد أســـباب الحـــدث البنائـــي‬ ‫وحيثيات ــه‪ ،‬وبعب ــارة أخ ــرى ف ــإن ح ــدث‬ ‫الصخـــرة الكريمـــة الفريـــد وحالتهـــا‬ ‫المكانيـــة كانـــت تســـتدعي اللجـــوء‬ ‫الســـتثنائية الحـــل التصميمـــي‪.‬‬ ‫يفـــرض مبنـــى «قبـــة الصخـــرة»‬ ‫حضـــورًا واضحـــ ًا وقويـــ ًا فـــي المشـــهد‬ ‫المعمـــاري لمدينـــة القـــدس‪ .‬وهـــذا‬ ‫الحضـــور الواضـــح والمؤثـــر يتناهـــى‬ ‫(يـــدرك) مـــن خـــال قـــرارات تصميميـــة‬ ‫تعمــل علــى تأكيــد هــذا الحضــور وتبيــان‬ ‫أهميتـــه‪ .‬فتـــؤدي هندســـية الكتـــل‬ ‫المعماري ــة وانتظامه ــا الزائ ــد دورًا كبي ــرًا‬ ‫فـــي إكســـاب المبنـــى وجـــودًا فيزيائيـــ ًا‬ ‫بليغ ـ ًا ضمــن عشــوائية تراتبيــة عناصــر‬ ‫النس ــيج المدين ــي المج ــاور واختالطي ــة‬ ‫وتشـــوش أشـــكاله البنائيـــة‪.‬‬ ‫وي ــزداد الوج ــود الفيزي ــاوي للمبن ــى‬ ‫حضـــورًا جـــراء «تفريـــغ» الموقـــع‬ ‫المجـــاور و«تنظيفـــه إنشـــائياً‪ ،‬بغيـــة‬ ‫‪153‬‬


‫تفعيـــل مزايـــا الخاصيـــة التكوينيـــة‬ ‫الناجمــة عــن تقابــل امتــداد أفقيــة البيئــة‬ ‫المحيطـــة وتضادهـــا مـــع عموديـــة‬ ‫ـــل ارتفاعهـــا‬ ‫كتلـــة المبنـــى الـــذي َظ ّ‬ ‫العال ــي نس ــبي ًا (نح ــو ‪ 40‬مت ــراً) س ــائدًا‬ ‫ومســـيطرًا ومهيمنـــ ًا ‪ Dominant‬علـــى‬ ‫خـــط ســـماء ‪ Solhouette‬المدينـــة‬ ‫لق ــرون‪ ،‬من ــذ إنش ــاء «الصخ ــرة» ولحي ــن‬ ‫الوقـــت الحاضـــر‪.‬‬ ‫تبـــدو أشـــكال عناصـــر المبنـــى‬ ‫المعمـــاري؛ وكأن قـــرار اصطفـــاء‬ ‫نوعيتهـــا نابـــع مـــن وجوبيـــة الهـــدف‬ ‫الوظيفـــي؛ وهـــو باألســـاس‪ ،‬تغطيـــة‬ ‫الصخـــرة المقدســـة‪.‬‬ ‫فالدائـــرة المركزيـــة داخـــل المبنـــى‬ ‫المشـــكلة مـــن رواق العقـــود نصـــف‬ ‫الدائريـــة المســـتندة إلـــى األعمـــدة‬ ‫والمســـاند الضخمـــة التـــي تحيـــط‬ ‫بالصخـــرة الكريمـــة؛ مهمتهـــا فـــي‬ ‫الغالـــب ليـــس فقـــط تحديـــد موضـــع‬ ‫وم ــكان «الصخ ــرة»؛ بق ــدر تأكي ــد وإب ــراز‬ ‫الفضـــاء المركـــزي وانســـيابيته نحـــو‬ ‫األعلــى‪ ،‬باتجــاه الفــراغ المغطــى بالقبــة‬ ‫المركزيـــة‪ ،‬بمعنـــى آخـــر أن الفضـــاء‬ ‫الح ــاوي للصخ ــرة يتماه ــى م ــع الش ــكل‬ ‫الفيزيـــاوي المختـــار‪ ،‬بحيـــث تبـــدو كأن‬ ‫نوعيـــة تشـــكلية العناصـــر المعماريـــة‬ ‫ترغ ــب ف ــي اإليض ــاح تلقائيــ ًا ع ــن «م ــاذا‬ ‫تري ــد أن تك ــون»؛ وفقــ ًا لتعبي ــر «لوي ــس‬ ‫كان» ‪.Louis Kahn‬‬ ‫ولئـــن كانـــت هيئـــة المبنـــى المميـــزة‬ ‫ذات الشــكل الهندســي المنتظــم وارتفاعها‬ ‫العالـــي‪ ،‬وكذلـــك طبيعـــة معالجـــات‬ ‫فضـــاء الجـــوار‪ ،‬ونوعيـــة القـــرارات‬ ‫التلويني ــة إلكس ــاءات المبن ــى الخارجي ــة‬ ‫تك ــرس ل ــدى المتلق ــي ش ــعورًا بالتوجي ــه‬ ‫‪ ،Orientation‬وتمنـــح المبنـــى ذاتـــه‬ ‫تعريفــ ًا دا ًال مضافــاً؛ ف ــإن ه ــذا الش ــعور‬ ‫يظـــل مالزمـــ ًا للمـــرء عنـــد انتقالـــه إلـــى‬ ‫الحي ــز الداخل ــي ‪ Interor‬للمبن ــى؛ عل ــى‬ ‫الرغـــم مـــن تبديـــل وســـائل المعالجـــات‬ ‫التكوينيـــة وتغيرهـــا‪ .‬إذ تـــؤدي‬ ‫اســـتخدامات المعالجـــات التصميميـــة‬ ‫المتســـمة بغـــزارة العناصـــر الزخرفيـــة‬ ‫وجزالـــة المســـطحات التلوينيـــة وكثـــرة‬ ‫‪154‬‬

‫الفسيفساء على المبنى من الخارج‬

‫بريـــق المـــواد اإلنشـــائية إلـــى خلـــق‬ ‫منـــاخ تزيينـــي داخلـــي مهمتـــه تكريـــس‬ ‫اإلحســـاس بالتضـــاد بيـــن الداخـــل‬ ‫والخـــارج؛ وزيـــادة الشـــعور بأهميـــة‬ ‫المـــكان؛ وخلـــق التداعيـــات «لتهشـــيم»‬ ‫عناصـــر التركيـــب اإلنشـــائي الماديـــة‬ ‫بغي ــة اإليح ــاء برحاب ــة واتس ــاع الفض ــاء‬ ‫المحصـــور وعـــدم محدوديتـــه!‪ ..‬وتعـــد‬ ‫أســـلوبية التوزيـــع التزيينـــي داخـــل‬ ‫انتري ــر ‪ Interor‬مبن ــى «قب ــة الصخ ــرة»‬ ‫وامتداداتـــه اإلكســـائية‪ ،‬التـــي طالـــت‬ ‫جمي ــع س ــطوح ج ــدران المبن ــى الداخلي ــة‬ ‫والعناص ــر اإلنش ــائية األخ ــرى‪ ،‬وكذل ــك‬ ‫ســقوف القبــة ورقبتهــا‪ ،‬يعــد ذلــك حدث ـ ًا‬ ‫تصميميـــ ًا مهمـــ ًا ورائـــدًا وغيـــر مســـبوق‬ ‫فـــي الممارســـة المعماريـــة‪ ،‬األمـــر الـــذي‬ ‫س ــيعد الحق ـاً‪ ،‬أح ــد أه ــم معال ــم العم ــارة‬ ‫اإلســـامية وخصائصهـــا‪.‬‬ ‫وتتج ــاوز مه ــام اإلض ــاءة ف ــي مبن ــى‬ ‫الصخـــرة األهـــداف المباشـــرة إلنـــارة‬ ‫الوســـط الداخلـــي فقـــط‪ ،‬فتضحـــى‬ ‫كمي ــة الض ــوء الس ــاقطة وتحدي ــد أماك ــن‬ ‫مصادرهــا ومســار اتجاهاتهــا مــن األمــور‬ ‫التــي ينبغــي مراعاتهــا تصميميـاً‪ .‬وتتيــح‬ ‫مصـــادر اإلنـــارة الموجـــودة فـــي رقبـــة‬ ‫القبـــة‪ ،‬وكذلـــك تلـــك الفتحـــات المقننـــة‬ ‫المحفـــورة فـــي الجـــدران الخارجيـــة‬ ‫للمبنـــى‪ ،‬تتيـــح إمكانيـــة تحديـــد مقـــدار‬ ‫وكميـــة الضيـــاء (المســـكوب) إلنـــارة‬ ‫فض ــاء المبن ــى الداخل ــي وتأثي ــر نوعي ــة‬ ‫أشـــكال عناصـــره اإلنشـــائية!‬

‫تتميـــز المعالجـــات التكوينيـــة فـــي‬ ‫عمـــارة «قبـــة الصخـــرة» علـــى توظيـــف‬ ‫كفـــؤ لمنظومـــة التناســـب ‪Proportion‬‬ ‫واس ــتخدامات مزاي ــا تل ــك المنظوم ــة أداة‬ ‫فعالـــة فـــي تحقيـــق تجانـــس العناصـــر‬ ‫التصميميـــة للمبنـــى وإضفـــاء طابـــع‬ ‫الهرمونيـــة عليهـــا‪.‬‬ ‫وتجــدر اإلشــارة هنــا إلــى أن أســلوب‬ ‫اســـتخدام منظومـــة التناســـب‪ ،‬إلكســـاب‬ ‫عناصـــر المبنـــى قيمـــة تجانســـية‬ ‫عاليـــة لـــم يكـــن‪ ،‬أمـــرًا هامشـــياً‪ ،‬كمـــا‬ ‫أنـــه لـــم يكـــن محـــض مصادفـــة؛ بـــل‬ ‫ق ــرارًا تصميميــ ًا أساس ــي ًا ينط ــوي عل ــى‬ ‫قصدي ــة متعم ــدة تش ــير لمس ــتوى رفي ــع‬ ‫مـــن الثقافـــة البنائيـــة وصلتـــه طبيعـــة‬ ‫الممارس ــة المعماري ــة ف ــي العه ــد األم ــوي‬ ‫آنـــذاك!!‬ ‫تمثـــل األعمـــال التزيينيـــة المشـــغولة‬ ‫فـــي «قبـــة الصخـــرة» ‪ -‬حدثـــ ًا معماريـــ ًا‬ ‫ذا أهميـــة كبيـــرة فـــي مهـــام تكريـــس‬ ‫المفاهيــم الفنيــة الجديــدة‪ ،‬التــي ســاهمت‬ ‫فـــي بلورتهـــا الثقافـــة اإلســـامية‪.‬‬ ‫وتعـــد األعمـــال الفنيـــة فـــي «قبـــة‬ ‫الصخـــرة» بمثابـــة األســـاس والمنطلـــق‬ ‫لسلس ــلة م ــن الممارس ــات النش ــطة الت ــي‬ ‫ارتقـــت بقيمـــة الناحيـــة التزيينيـــة‪،‬‬ ‫ومماثـــا‬ ‫وجعلـــت منهـــا أمـــرًا مكافئـــ ًا‬ ‫ً‬ ‫لقيم ــة الجان ــب التركيب ــي وأهميت ــه ف ــي‬ ‫الحـــل التكوينـــي ‪ -‬المعمـــاري‪ .‬وتتمثـــل‬ ‫تلـــك األعمـــال بالدرجـــة األولـــى‪ ،‬فـــي‬ ‫المشـغـــــوالت الفسـيـفــســـــــائية؛ تلـــك‬


‫رسم للصحن الخارجي‬

‫المشـــغوالت التـــي بلغـــت شـــأن ًا مهمـــاً‪،‬‬ ‫وغيـــر معـــروف ســـابقاً‪ ،‬مـــن حيـــث‬ ‫س ــعتها‪ ،‬ومواضيعه ــا‪ ،‬ودق ــة إنجازاته ــا‬ ‫وخاماتهـــا‪.‬‬ ‫ولعـــل اللوحـــات الفسيفســـائية‬ ‫ّ‬ ‫المعمولـــة داخـــل القبـــة‪ ،‬وفـــي األقســـام‬ ‫العلي ــا م ــن الج ــدران ف ــي الداخ ــل‪ ،‬وف ــي‬ ‫الواجهـــات الخارجيـــة (والتـــي ُأزيلـــت‬ ‫فـــي وقـــت الحـــق) بمقدورهـــا أن تعطـــي‬ ‫تص ــورًا واضحــ ًا عل ــى مق ــدار المس ــاحات‬ ‫الواس ــعة الت ــي كس ــتها تل ــك التغطي ــات‬ ‫الفسيفســائية‪ ،‬والتــي قــدرت مســاحاتها‪،‬‬ ‫وفقــ ًا لبع ــض الدارس ــين بـــ(‪ )1200‬مت ــر‬ ‫مربـــع(‪.)4‬‬ ‫وعلـــى الرغـــم مـــن ارتبـــاط تقنيـــة‬ ‫األعم ــال الفسيفس ــائية بالتقالي ــد الس ــابقة‬ ‫لإلســام‪ ،‬فــإن مواضيــع «قبــة الصخــرة»‬ ‫وثماتهـــا‪ ،‬نـــأت بعيـــدًا عـــن صيـــغ‬ ‫المواضي ــع المألوف ــة الس ــابقة‪ ،‬واتس ــمت‬ ‫بم ــزاج ونف ــس جديدي ــن قوامهم ــا النزع ــة‬ ‫التجريديـــة لألشـــكال‪ ،‬وإلغـــاء مفهـــوم‬

‫المنظـــور والتحجيـــم‪ ،‬واالبتعـــاد كليـــ ًا‬ ‫عـــن التشـــخيص‪ ،‬والولـــع فـــي رســـم‬ ‫العناص ــر البنائي ــة المح ــورة والواقعي ــة‬ ‫ـا‬ ‫المشــوبة باإلســقاطات الهندســية‪ ،‬فضـ ً‬ ‫ع ــن مح ــاوالت إدخ ــال عنص ــر «الكتاب ــة»‬ ‫كموضـــوع أساســـي‪ ،‬جنبـــ ًا إلـــى جنـــب‬ ‫مـــع مواضيـــع الرســـوم والنقوشـــات‬ ‫األخـــرى‪.‬‬ ‫ولقـــد نتـــج عـــن تلـــك المشـــغوالت‬ ‫الفسيفســـائية فـــي «قبـــة الصخـــرة»‬ ‫مزي ــج م ــن النات ــج الفن ــي انط ــوى عل ــى‬ ‫أمريـــن أساســـيين‪ ،‬همـــا‪ :‬تنـــوع ذلـــك‬ ‫الناتـــج‪ ،‬حيـــث قلمـــا نجـــد صيغـــة مـــا‪،‬‬ ‫تتك ــرر ف ــي تل ــك المس ــاحات التزييني ــة‪،‬‬ ‫وفــي وحدتــه‪ ،‬حيــث إن جميــع العناصــر‬ ‫الزخرفي ــة تتداخ ــل لك ــي «تش ــكل وح ــدة‬ ‫فنيـــة منســـجمة فـــي تكوينهـــا وموحـــدة‬ ‫فـــي أســـلوبها»(‪.)5‬‬ ‫ويشـــير كثيـــر مـــن الدارســـين إلـــى‬ ‫أن األعمـــال الفسيفســـائية «لقبـــة‬ ‫الصخ ــرة» تش ــبه إل ــى ح ــد كبي ــر األعم ــال‬

‫الفسيفس ــائية الت ــي نف ــذت ف ــي المس ــجد‬ ‫األمـــوي الكبيـــر بدمشـــق‪ ،‬مـــن حيـــث‬ ‫التقني ــة‪ ،‬والس ــعة‪ ،‬والمواضي ــع؛ األم ــر‬ ‫ال ــذي ح ــدا بالكثي ــر منه ــم لالعتق ــاد ب ــأن‬ ‫األعمـــال التزيينيـــة «لقبـــة الصخـــرة»‬ ‫بالق ــدس والمس ــجد األم ــوي بدمش ــق‪ ،‬ق ــد‬ ‫تمت ــا ف ــي وق ــت واح ــد‪ ،‬وربم ــا ف ــي عه ــد‬ ‫الوليـــد األول مـــع أن الـــذي أمـــر ببنـــاء‬ ‫«قبـــة الصخـــرة»‪ ،‬كمـــا هـــو معـــروف‬ ‫ه ــو وال ــده‪ :‬عبدالمل ــك ب ــن م ــروان ول ــم‬ ‫تقتصـــر األعمـــال التزيينيـــة واإلنهائيـــة‬ ‫لمبنـــى قبـــة الصخـــرة‪ ،‬علـــى األعمـــال‬ ‫الفسيفســـائية لوحدهـــا وإنمـــا كان‬ ‫لإلكســـاءات الرخاميـــة دور مهـــم فـــي‬ ‫ه ــذه الناحي ــة‪ .‬إذ ت ــم اس ــتعمال الرخ ــام‬ ‫لألعمـــدة بألوانـــه العديـــدة وأصنافـــه‬ ‫المختلف ــة‪ ،‬كم ــا كس ــيت األقس ــام الس ــفلى‬ ‫للجـــدران والعضائـــد بألـــواح رخاميـــة‬ ‫مـــن النـــوع المعـــرق الـــذي أطلـــق عليـــه‬ ‫القدم ــاء المش ــجر أو المج ــزع‪ ،‬واس ــتخدم‬ ‫الرخـــام أيضـــاً‪ ،‬فـــي أماكـــن العقـــود‬ ‫بالقناطـــر ذات األلـــوان المتناوبـــة‪،‬‬ ‫و«ه ــذه الكس ــوة الرخامي ــة الداخلي ــة‪ ،‬م ــا‬ ‫ت ــزال تحاف ــظ عل ــى أصالته ــا من ــذ العه ــد‬ ‫األم ــوي‪ ،‬إال ف ــي أج ــزاء صغي ــرة ُج ـ ِّـد َد ْت‬ ‫ف ــي العهدي ــن المملوك ــي والعثمان ــي»(‪.)6‬‬ ‫الهوامش والمصادر‬ ‫* مـــن كتـــاب رؤى معماريـــة للدكتـــور خالـــد‬ ‫السلطاني‪/‬المؤسســـة العربيـــة للدراســـات‬ ‫والنشـــر‪.2000 /‬‬ ‫(‪ )1‬عبدالقــادر الريحــاوي‪ .‬العمــارة فــي الحضــارة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬جــدة ص‪.41‬‬ ‫(‪ )2‬ثمـــة مغـــارة تحـــت الصخـــرة‪ ،‬ينـــزل إليهـــا‬ ‫بـــدرج‪ ،‬ويقـــدر ارتفاعهـــا بنحـــو متريـــن‪،‬‬ ‫ومس ــاحتها ‪ 4.5‬مت ــر مرب ــع وف ــي داخ ــل المغ ــارة‬ ‫محـــراب أصـــم؛ أرجعـــه كريزويـــل إلـــى عهـــد‬ ‫عبدالمل ــك ب ــن م ــروان‪ ،‬فيم ــا ي ــرى آخ ــرون بأن ــه‬ ‫م ــن العه ــد العباس ــي‪ .‬وه ــذا المح ــراب المصن ــوع‬ ‫غنـــي بالتفاصيـــل التزيينيـــة‬ ‫مـــن الرخـــام‬ ‫ّ‬ ‫المنحوتـــة ذات األشـــكال النباتيـــة والخطيـــة‪.‬‬ ‫(‪ )3‬كنـــوز القـــدس (مجموعـــة مؤلفيـــن)‪ -‬رومـــا‬ ‫‪ 1983‬ص‪.72-71‬‬ ‫(‪ )4‬البهنســـي‪ ،‬الفـــن اإلســـامي‪ ،‬دمشـــق؛ ‪1986‬‬ ‫ص‪.323‬‬ ‫(‪ )5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪.324‬‬ ‫(‪ )6‬الريحاوي‪ ،‬العمارة‪ ،‬ص‪.48-47‬‬ ‫‪155‬‬


‫علوم‬

‫فريق طبي يتفحص الفيروس في ليبيريا‬

‫إيبوال‬ ‫اإلرهاب البيولوجي‬ ‫محسن العتيقي‬ ‫تش ــارلز يغب ــا (‪ 42‬س ــنة)‪ ،‬مغن ــي راب م ــن ليبيري ــا وقائ ــد‬ ‫فرقــة (أفروكــو) الموســيقية‪ ،‬قـّـرر مخاطبــة مواطنيــه وعمــوم‬ ‫غـــرب إفريقيـــا‪ ،‬معتقـــدًا أن الموســـيقى خيـــر وســـيلة فـــي‬ ‫توعيــة المجتمعــات المحليــة بخطــر اإلصابــة‪ .‬تقــول أغنيتــه‪:‬‬ ‫«نحـــوا مخاوفكـــم جانبـــاً‪ ،‬وال تخفـــوا أنفســـكم‪ .‬فمـــا زال‬ ‫ّ‬ ‫باإلم ــكان النج ــاة م ــن الم ــوت بع ــد اإلصاب ــة بإيب ــوال»‪.‬‬ ‫فـــي ‪ 30‬آب‪/‬أغســـطس ‪ ،2014‬قدمـــت وزارة الصحـــة‬ ‫العموميـــة والشـــؤون االجتماعيـــة فـــي الســـنغال‪ ،‬لمنظمـــة‬ ‫الصحـــة العالميـــة تفاصيـــل عـــن حالـــة إصابـــة بفيـــروس‬ ‫ـــم اإلعـــان عنهـــا مـــن قبـــل‪ .‬وحســـب الخبـــر‬ ‫إيبـــوال والتـــي َت َّ‬ ‫‪156‬‬

‫المنشـــور علـــى موقـــع منظمـــة الصحـــة العالميـــة فإنـــه قبـــل‬ ‫ذلـــك بثالثـــة أيـــام‪ ،‬أي فـــي ‪ 27‬مـــن الشـــهر نفســـه‪ ،‬كانـــت‬ ‫الســلطات فــي كوناكــري قــد أصــدرت إنــذارًا إلخطــار الخدمــات‬ ‫الطبي ــة ف ــي غيني ــا ودول الج ــوار‪ ،‬مف ــاده أن الش ــخص ال ــذي‬ ‫كان عل ــى اّتص ــال وثي ــق بالمري ــض ال ــذي تأك ــدت إصابت ــه ق ــد‬ ‫الترص ــد‪.‬‬ ‫أفل ــت م ــن نظ ــام‬ ‫ُّ‬ ‫إيب ــوال‪ ،‬لعّل ــه األكث ــر مك ــرًا وخداعــاً! يق ــال إن ــه اس ــتطاع‬ ‫تطويـــر خططـــه فـــي خـــداع نظـــام المقاومـــة المناعتيـــة‪،‬‬ ‫خليـــة غيـــر مصابـــة‪ .‬هـــل‬ ‫التنكـــر‬ ‫وأصبـــح بمقدرتـــه‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بـــزي ّ‬ ‫ت ــوارى ع ــن أنظ ــار المختب ــرات؟! أم أن ه ــذه األخي ــرة انش ــغلت‬


‫بســـرية تامـــة إلـــى أن تحيـــن‬ ‫عنـــه فمكـــث فـــي األنســـجة‬ ‫ّ‬ ‫فرصـــة عجزنـــا الدفاعـــي؟!‪ .‬ربمـــا طـــال انتظـــاره دون أن‬ ‫يرف ــع الجس ــم راي ــة بيض ــاء‪ ،‬فق ــرر التراج ــع خل ــف األدغ ــال‪،‬‬ ‫يتصي ــد الفرص ــة‬ ‫ويتم ــرن فـــي نســـخه المســـمومة‪ ،‬إل ــى أن‬ ‫َّ‬ ‫فيبعـــث مخترقـــ ًا ومنتصـــراً‪.‬‬ ‫بفضــل وســائل اإلعــام‪ ،‬وبســبب مــا تخلِّفــه مــن ضحايــا‪،‬‬ ‫تحّقــق أســماء الفيروســات شــهرة عالميــة؛ مــن الطيــور إلــى‬ ‫البشـــر‪ :‬فـــي عـــام ‪ 1918‬انتقـــل فيـــروس إنفلونـــزا (‪)H1N1‬‬ ‫وتخط ــاه في ــروس‬ ‫مخلّفــ ًا م ــا يزي ــد عل ــى ‪ 30‬ملي ــون قتي ــل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،VIH-1‬وأصل ــه م ــن الش ــمبانزي س ــاكن الكه ــوف‪ ،‬ليص ــل‬ ‫بع ــدد ضحاي ــاه إل ــى ‪ 43‬مليونــاً‪ .‬وف ــي أيامن ــا الس ــوداوية‪،‬‬ ‫ليتربــص‬ ‫اســتفاق القاتــل إيبــوال مــن ســباته اإلفريقــي مجـ َّـددًا‬ ‫َّ‬ ‫ـــل نهائيـــ ًا‬ ‫بالحـــدود والجغرافيـــات وتذاكـــر الســـفر‪ .‬ال َم ْص َ‬ ‫يحتـــل الخاليـــا البشـــرية‪ -‬منـــذ‬ ‫لـــه حتـــى اآلن‪ .‬و قبـــل أن‬ ‫ّ‬ ‫ـدرب عل ــى الفت ــك‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫كان‬ ‫ـي‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫الماض‬ ‫الس ــبعينيات م ــن الق ــرن‬ ‫َّ‬ ‫بصف ــوف الخفافي ــش آكل ــة الفواك ــه‪ .‬يح ـ ِّـدده المجه ــر إيب ــوال‬ ‫بخيـــط طولـــه ‪ 970‬نانومتـــر (مليـــون جـــزء مـــن المليمتـــر)‬ ‫وبعـــرض ‪ 200‬نانومتـــر‪ .‬وكحـــال الفيروســـات القليلـــة‬ ‫المكتش ــفة فإن ــه يستنس ــخ نفس ــه ف ــي نس ــخ طب ــق األص ــل‪.‬‬ ‫فــي ‪ 26‬آب‪ /‬أغســطس مــن هــذا العــام َتـّـم‪ -‬مختبري ـاً‪ -‬تأكيــد‬ ‫فاشــية منفصلــة مــن فاشــيات فيــروس إيبــوال فــي جمهوريــة‬ ‫الكونغ ــو الديموقراطي ــة‪ ،‬ال صل ــة بينه ــا وبي ــن فاش ــية غ ــرب‬ ‫إفريقي ــا‪ .‬حت ــى بداي ــة س ــبتمبر‪/‬أيلول الماض ــي بل ــغ مجم ــوع‬ ‫والمؤكـــدة فـــي إصابتها‪،‬حســـب منظمـــة‬ ‫الحـــاالت المحتملـــة‬ ‫َّ‬ ‫موزعـــة‬ ‫الصحـــة العالميـــة‪ 3069 ،‬حالـــة‪ ،‬و‪ 1552‬وفـــاة‪َّ ،‬‬ ‫بي ــن غيني ــا وليبيري ــا ونيجيري ــا وس ــيراليون‪ ،‬بحي ــث وص ــل‬ ‫معـ َّـدل اإلماتــة العــام للحــاالت إلــى ‪ .% 52‬ويتــراوح بيــن ‪42‬‬ ‫‪ %‬فــي ســيراليون و‪ % 66‬فــي غينيــا‪ .‬لكــن إيبــوال‪ -‬وإن كان‬ ‫ل ــم يقت ــل بع ــد بمق ــدار أس ــافه م ــن الفيروس ــات‪ -‬فإن ــه يفع ــل‬ ‫ـادة ووخيم ــة؛ يص ــاب الضحي ــة بالوه ــن‬ ‫ذل ــك بوحش ــية ح ـ ّ‬ ‫الشـــديد واآلالم فـــي العضـــات والصـــداع والتهـــاب الحلـــق‪،‬‬ ‫التقي ــؤ واإلس ــهال وظه ــور طف ــح جل ــدي واخت ــال‬ ‫وم ــن ث ــم‬ ‫ُّ‬ ‫ف ــي وظائ ــف الكل ــى والكب ــد‪ ،‬وف ــي بع ــض الح ــاالت اإلصاب ــة‬ ‫وتظه ــر النتائ ــج‬ ‫بنزي ــف داخل ــي وخارج ــي عل ــى َح ـّد س ــواء‪ُ .‬‬ ‫المختبريــة انخفاض ـ ًا فــي عــدد الكريــات البيضــاء والصفائــح‬ ‫الدموي ــة وارتفاعــ ًا ف ــي معــّدالت إف ــراز الكب ــد لألنزيم ــات‪.‬‬ ‫الفيروســات ليســت بــزالزل وال ببراكيــن وال بتســونامي‪..‬‬ ‫خيـــال المبـــدع يراهـــا األنســـب لمجـــاز النهايـــات الكارثيـــة‬ ‫والمخيف ــة‪ ،‬وإنه ــا ف ــي خي ــال الن ــاس تك ــون أحيانــ ًا عقابــ ًا‬ ‫ســـيئة‬ ‫علـــى خطايـــا الفقـــراء‪ .‬إنهـــا ال ترحـــم‪ ،‬وســـمعتها ّ‬ ‫الذك ــر‪ ،‬وف ــي اآلن نفس ــه أس ــماؤها جذاب ــة وأحيانــاً‪ ،‬تب ــدو‬ ‫أدبيــة‪ ،‬خليقـ ًا بهــا أن تكــون عنوانـ ًا علــى غــاف روايــة مثــل‬ ‫دل بهــا‬ ‫اســم الفيــروس اإلفريقــي «غابــة ســمليكي» التــي ُيس ـَت ّ‬ ‫ـرار واقع ــة بي ــن أوغن ــدا وإيت ــوري‪ .‬وإيب ــوال نفس ــه‪،‬‬ ‫عل ــى ب ـ ٍ‬ ‫ه ــو اس ــم نه ــر ف ــي الكونغ ــو الديموقراطي ــة‪ ،‬اّتخ ــذه الروائ ــي‬ ‫الس ــوداني أمي ــر ت ــاج الس ــر عنوانــ ًا إلح ــدى روايات ــه‪ .‬وم ــن‬ ‫الطبيع ــي أن يك ــون للعدوانيي ــن والشرس ــين ه ــذه الجاذبي ــة‬ ‫فـــي تغذيـــة خيـــال الكتـــاب‪ ،‬والفيروســـات هـــي مخلوقـــات‬

‫قادم ــة م ــن الفض ــاء لك ــي تغ ــزو بن ــي البش ــر‪ ،‬وتقض ــي عل ــى‬ ‫وتحتـــل كوكبهـــم الفريـــد!‪ .‬لقـــد كتـــب‪ ،‬فـــي هـــذا‬ ‫ســـالتهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصـــدد‪ ،‬صاحـــب «الحيـــاة الغامضـــة لألشـــجار العمالقـــة»‪،‬‬ ‫الكاتــب العلمــي ريتشــارد بريســتون‪ ،‬وذلــك فــي عــام ‪،1995‬‬ ‫روايتـــه « ‪THE HOT ZONE: A TERRIFYING TRUE‬‬ ‫‪ -STORY‬المنطقــة الســاخنة‪ :‬قصــة حقيقيــة مرعبــة» والتــي‬ ‫كان ــت ق ــد تص ـ َّـدرت ف ــي وقته ــا قائم ــة كت ــب الرع ــب العلمي ــة‪.‬‬ ‫تأمـــل بريســـتون أحـــداث ظهـــور الفيـــروس إيبـــوال‪،‬‬ ‫وفيهـــا َّ‬ ‫ليكت ــب روايت ــه ع ــن قات ــل يتس ــلَّل م ــن إفريقي ــا إل ــى الق ــارة‬ ‫األميركي ــة ف ــي عملي ــة اس ــتيراد ق ــرد صغي ــر‪ ،‬والكت ــاب ُأخ ـِـرج‬ ‫ف ــي فيل ــم بع ــد ذل ــك بنف ــس العن ــوان واإلث ــارة والرع ــب‪.‬‬ ‫التنب ــؤ بالمس ــتقبل ف ــي مج ــال‬ ‫يق ــول العلم ــاء إن ــه ال يمك ــن ُّ‬ ‫تطـــور‬ ‫الحّيـــة‪ ،‬وعلـــى هـــذا األســـاس فإنهـــم‪ ،‬أمـــام‬ ‫ُّ‬ ‫المـــادة َ‬ ‫الفيروس ــات واختفائه ــا وظهوره ــا‪ ،‬ال يمتلك ــون زم ــام األم ــور‬ ‫دائمــاً‪ ،‬وإن كان ــت مطاردته ــم له ــا تص ــل إل ــى حال ــة اس ــتنفار‬ ‫دولي ــة تنص ــح الحكوم ــات واألف ــراد بالت ــزام الحيط ــة والح ــذر‬ ‫تجنُّبــ ًا لتق ـ ُّـدم الفي ــروس‪.‬‬ ‫المعركـــة زمنيـــة‪ ،‬وقياســـ ًا بأمـــد الحيـــاة البشـــرية تـــكاد‬ ‫تســـتمر دون َنَفـــس طويـــل تتعاقـــب‬ ‫تكـــون أبديـــة‪ ،‬لكنهـــا ال‬ ‫ّ‬ ‫عليـــه األجيـــال‪ ،‬شـــأنها فـــي ذلـــك شـــأن معـــارك انتهـــت‪،‬‬ ‫وأخــرى فــي طريقهــا إلــى االنتهــاء أو االســتئناف‪ .‬فيروســات‬ ‫انتهـــى بهـــا الحـــال إلـــى فقـــدان عدوانيتهـــا وعجزهـــا عـــن‬ ‫إلحـــاق الضـــرر بنـــا‪ .‬لقـــد بـــات فيـــروس «‪ »H1N1‬ذكـــرى‬ ‫س ــيئة‪ ،‬وربم ــا س ــينتهي في ــروس فق ــدان المناع ــة المكتس ــبة‬ ‫بمـــا انتهـــى إليـــه حليفـــه فيـــروس «‪ »SIV‬الـــذي لـــم نســـمع‬ ‫مجـــدداً‪.‬‬ ‫بإصابـــة قـــرد الشـــمبانزي بـــه‬ ‫َّ‬ ‫انتش ــار الفي ــروس عالميــ ًا ه ــو الي ــوم أس ــرع م ــن أي وق ــت‬ ‫مض ــى؛ ينتق ــل بس ــرعة الري ــح‪ .‬وف ــي زمنن ــا العلم ــي‪ ،‬ال ــذي‬ ‫ل ــم تس ــلم في ــه الحواس ــيب نفس ــها م ــن الفيروس ــات‪ ،‬وال ــذي‬ ‫يبـــدو مـــن الصعـــب وقـــف هجرتهـــا‪ ،‬تعلِّـــق أخصائيـــة علـــم‬ ‫الفيروس ــات الفرنس ــية أس ــتريد فاب ــري س ــاخرة عل ــى س ــرعة‬ ‫ـــن لنـــا كيـــف تجعلنـــا‬ ‫االنتقـــال هاتـــه بقولهـــا‪« :‬وهـــو مـــا َب َّي َ‬ ‫وس ــائل االّتص ــال الحديث ــة عرض ــة للع ــدوى أكث ــر مم ــا كن ــا‬ ‫فــي مــا قبــل‪ ،‬وكيــف أن الفيروســات تســتفيد مثلنــا تمام ـ ًا مــن‬ ‫خدم ــات ش ــركات الطي ــران العالمي ــة!»‪.‬‬ ‫أن يرعبن ــا في ــروس م ــا أم ـ ٌـر يمك ــن للبش ــرية التأقل ــم مع ــه‪،‬‬ ‫لك ــن‪ ،‬أن يصب ــح الفي ــروس نفس ــه تح ــت تص ـ ُّـرف البش ــر فه ــذا‬ ‫أخط ــر فاش ــية يمك ــن أن تصي ــب الفك ــر البش ــري؛ فف ــي ع ــام‬ ‫‪ُ 1992‬و ِّجهـــت تهـــم إلـــى أعضـــاء جماعـــة «أوم شـــنريكيو»‬ ‫بالتفكيـــر باســـتخدام إيبـــوال كســـاح إرهابـــي؛ حيـــث قـــام‬ ‫رئيـــس الجماعـــة «شـــوكو أســـاهارا» باصطحـــاب ‪ 40‬مـــن‬ ‫بحجـــة مســـاعدة الجهـــود فـــي محاربـــة‬ ‫أتباعـــه إلـــى زائيـــر ّ‬ ‫المـــرض للحصـــول علـــى عينـــات مـــن الفيـــروس‪ .‬وبســـبب‬ ‫ـــمّيته الكبيـــرة ُي َعـــّد فيـــروس إيبـــوال ســـاح ًا بيولوجيـــاً‪.‬‬ ‫ُس ّ‬ ‫‪157‬‬


‫صفحات مطوية‬

‫ظالل العصا‬ ‫عبدالهادي عباس‬

‫المفـــردة اللفظيـــة فـــي لغِتنـــا العربيـــة بمعـــزل‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫تعيـــش ُ‬ ‫كـــر األيـــام‬ ‫مـــع‬ ‫ها‬ ‫اســـتخدام‬ ‫طـــال‬ ‫كلمـــا‬ ‫إذ‬ ‫الحيـــاة‪،‬‬ ‫عـــن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫والدهـــور كلمـــا أصبحـــت ُحبلـــى بمعـــان جديـــدة ودالالت‬ ‫ـا ورم ــوزًا وإيح ــاءات ُتناس ــب المس ــتخدم‬ ‫طريف ــة ُتكس ــبها ثق ـ ً‬ ‫طيع ــة‬ ‫الجدي ــد والعص ــر ال ــذي يعي ــش في ــه؛ وبق ــدر م ــا تك ــون ّ‬ ‫لين ــة بي ــن يدي ــه يتحــّدد م ــدى قدرته ــا عل ــى البق ــاء والخل ــود‬ ‫ّ‬ ‫فـــي مواجهـــة اشـــتقاقات أخـــرى تنافســـها فـــي االســـتخدام‪،‬‬ ‫وتعمـــل علـــى ســـّد مكانهـــا إن أصابهـــا الوهـــن فـــي تلبيـــة‬ ‫الحاجـــات اللســـانية لعصرهـــا‪.‬‬ ‫ومـــن األلفـــاظ التـــي اســـتطاعت الصمـــود والمحافظـــة‬ ‫علـــى جانـــب كبيـــر مـــن حيويتهـــا وقدرتهـــا علـــى التعبيـــر‬ ‫ع ــن مدل ــوالت اإلنس ــان العرب ــي ال ــذي يلوكه ــا كثي ــراً‪ ،‬لفظ ــة‬ ‫(العصـــا)‪ ..‬حتـــى أصبحنـــا نســـتخدم اللفظـــة اآلن فـــي‬ ‫اإلع ــام‪ ،‬ونق ــول إن الرئي ــس الجدي ــد ال يمل ــك عص ــا س ــحرية‬ ‫ـل المش ــاكل‪ ،‬للتدلي ــل عل ــى حج ــم المش ــاكل االقتصادي ــة‬ ‫لح ـ ّ‬ ‫واالجتماعيـــة التـــي تواجهـــه وقصـــر ذراعـــه عـــن عالجهـــا‪،‬‬ ‫وللبح ــث ع ــن دفاع ــات مض ــادة مس ــبقة الّتهام ــات منتظ ــرة‪..‬‬ ‫وفــي األدب وجدنــا روايــة «هــاري بوتــر» بأعدادهــا المتتابعــة‬ ‫تســـتخدم العصـــا الســـحرية للترميـــز إلـــى قـــوة الســـاحر‬ ‫حيـــث ُيصبـــح مـــن غيرهـــا بـــا َحـــول وال طـــول‪ ،‬إذ ُتقـــاس‬ ‫بقـــوة الســـحر المنضغـــط فـــي عصـــاه؛ وهـــو مدلـــول‬ ‫قوتـــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫نج ــده ‪-‬أيضــاً‪ -‬ف ــي عال ــم الس ــيرك حي ــن يس ــتخدم الس ــاحر‬ ‫البس ــيط العص ــا لص ــرف أنظ ــار األطف ــال ع ــن ألع ــاب الخّف ــة‬ ‫مدبج ـ ًا ذل ــك بع ــدد م ــن التمتم ــات الت ــي يس ــتعين به ــا إلثب ــات‬ ‫ِّ‬ ‫قدرات ــه اإلمتاعي ــة الت ــي عل ــى أساس ــها يتح ـ َّـدد حج ــم النق ــود‬ ‫الموضوعـــة فـــي طاقيـــة الـــرأس الطويلـــة‪.‬‬ ‫وألن الطبيع ــة فرض ــت عل ــى اإلنس ــان االّت ــكاء عل ــى نفس ــه‬ ‫‪158‬‬

‫فـــي تأميـــن وســـائل الدفـــاع ووســـائل الصيـــد كذلـــك‪ ،‬فقـــد‬ ‫كان لزامــ ًا علي ــه تذلي ــل المت ــاح أمام ــه وتطويع ــه لالس ــتفادة‬ ‫القصـــوى منـــه‪ ،‬فبعـــد أن عـــرف أنـــواع األشـــجار ودرجـــات‬ ‫وأيه ــا يصل ــح أعم ــدة لبيت ــه‬ ‫وأيه ــا يصل ــح للتدفئ ــة ّ‬ ‫صالدته ــا ّ‬ ‫وس ــقفاً‪ ،‬اس ــتقر ‪-‬أيضــاً‪ -‬عل ــى أن ــواع متين ــة خفيف ــة تصل ــح‬ ‫ســـاح ًا باتـــرًا فـــي مواجهـــة غوائـــل الدخـــاء مـــن الحيـــوان‬ ‫واإلنســـان‪ ،‬كمـــا اســـتخدمها فـــي االعتـــداء إن كان مـــن ذوي‬ ‫ـاء ف ــي الق ــرى‬ ‫النزع ــات اآلثم ــة‪ ..‬وإل ــى عه ــد قري ــب كان األبن ـ ُ‬ ‫ّيـــة كل منهـــم فـــي الحصـــول‬ ‫يتناوشـــون علـــى مـــدى أحقّ‬ ‫«نبـــوت» الوالـــد الـــذي كان يعتنـــي بـــه‪ ،‬ويطليـــه‬ ‫علـــى ّ‬ ‫ويزين ــه بأن ــواع‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫صالدت‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـظ‬ ‫ـ‬ ‫ليحاف‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫فت‬ ‫كل‬ ‫بالزي ــت‬ ‫ِّ‬ ‫ـــم رأســـه بالقـــار‪ ،‬ويضـــع حديـــدة‬ ‫مـــن الدبابيـــس‪ ،‬أو ُي ّ‬ ‫عم ُ‬ ‫صف ــراء ف ــي نهايت ــه؛ وف ــي بع ــض األحي ــان إن كان ــت العص ــا‬ ‫«ســـودانية» أصيلـــة وقـــد ســـاعدته فـــي بعـــض معاركـــه‪،‬‬ ‫يضعه ــا معلق ــة ف ــي «منظ ــرة» العائل ــة‪ ،‬افتخ ــارًا بانتصارات ــه‬ ‫واس ــتعادتها ف ــي أذه ــان المش ــاهدين؛ وإرهابــ ًا ‪-‬أيضــاً‪ -‬لم ــن‬ ‫فك ــر ف ــي معادات ــه‪.‬‬ ‫ُي ِّ‬ ‫النصيـــب األوفـــر مـــن اســـتخدام‬ ‫ومصـــر ‪-‬تحديـــداً‪ -‬نالـــت‬ ‫َ‬ ‫العص ــا‪ ،‬عل ــى ط ــول تاريخه ــا‪ ،‬ب ــدءًا م ــن عص ــا الصولج ــان‬ ‫عنـــد الفراعيـــن إلـــى «العوجايـــة» التـــي يّتكـــىء عليهـــا كبـــار‬ ‫والمعوقــون‪ ،‬أو طلبـ ًا لألناقــة الشــاعرة كمــا كان يفعــل‬ ‫الســن‬ ‫ّ‬ ‫الفْت َون ــة‬ ‫ش ــيخنا العّق ــاد‪ ،‬ويفع ــل تلمي ــذه ‪ ،‬إضاف ــة إل ــى رم ــز َ‬ ‫عمنــا نجيــب محفــوظ ســواء فــي «أوالد‬ ‫الــذي نــراه ّ‬ ‫جلي ـ ًا عنــد ّ‬ ‫حارتنـــا» أو «زقـــاق المـــدق» أو «الحرافيـــش» أو «الشـــيطان‬ ‫الخي ــر‬ ‫ـوة‪ِّ ،‬‬ ‫يعــظ»‪ ..‬وغيرهــا‪ ،‬حيــث أوجــد وصف ـ ًا دقيق ـ ًا للفتـّ‬ ‫النب ــوت؛‬ ‫أو الش ـ ّـرير‪ ،‬وم ــدى مهارت ــه ف ــي اس ــتخدام العص ــا ّ‬ ‫إذ يتوّق ــف عل ــى ذل ــك غن ــاه م ــن فق ــره‪ ،‬ب ــل حيات ــه نفس ــها‬


‫مـرهـــونـــــة بــهـــــــذه‬ ‫المهـــارة فـــي زمـــن‬ ‫لـــم يكـــن يعتـــرف بغيـــر‬ ‫الق ــوة الجس ــدية وامتداده ــا‬ ‫ف ــي العص ــا طريق ـ ًا للعي ــش‪..‬‬ ‫ورأينـــا ‪-‬أيضـــاً‪ -‬فـــي روايـــة‬ ‫«األرض» لعبـــد الرحمـــن الشـــرقاوي‬ ‫النب ــوت ‪ -‬وإن كان ــت ه ــذه الم ــرة‬ ‫أهمّي ــة العص ــا ّ‬ ‫طرفــ ًا م ــن ّ‬ ‫ف ــي أي ــدى الفق ــراء ي ــذودون به ــا ع ــن أرضه ــم وأعراضه ــم‬ ‫دفاعـــ ًا ال َفْت َونـــة‪.‬‬ ‫ألهمّيـــة العصـــا‬ ‫إدراك‬ ‫مـــن‬ ‫العربـــي‬ ‫األدب‬ ‫يخـــل‬ ‫ولـــم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫من ــذ أن عص ــا بن ــو أس ــد س ـ ِّـيدهم ُحج ــراً‪ ،‬آكل الم ــرار‪ ،‬وال ــد‬ ‫الشــاعر امــرئ القيــس حتــى أغــار عليهــم‪ ،‬وقتــل منهــم عــددًا‬ ‫كبيـــرًا بالعصـــا‪.‬‬ ‫والمتنب ــي نفس ــه غض ــب عل ــى كاف ــور اإلخش ــيدي وهج ــاه‬ ‫بعيديت ــه الش ــهيرة الت ــي ق ــرن فيه ــا العب ــد والعص ــا وكأنهم ــا‬ ‫العّل ــة والمعل ــول‪:‬‬

‫العبد إ ّلا والعصا معه‬ ‫ال تشترِ‬ ‫َ‬ ‫مناكيد‬ ‫ألنجاس‬ ‫العبيد‬ ‫إن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫ـل ف ــي «البي ــان والتبيي ــن» للجاح ــظ‬ ‫ويطالعن ــا ب ــاب كام ـ ٌ‬ ‫األهمّي ــة‬ ‫وأهمّيته ــا عن ــد خطب ــاء الع ــرب‪ ،‬بتل ــك ّ‬ ‫ع ــن العص ــا ّ‬ ‫التــى وصلــت إلــى أن يقــول الخليفــة عبــد الملــك بــن مــروان‬ ‫إن الخيزران ــة ل ــو س ــقطت من ــه لذه ــب ش ــطر كالم ــه‪ ،‬أو أن‬ ‫يهتـــر ســـحبان وائـــل أمـــام معاويـــة ألنـــه ال يملـــك عصـــاه‬ ‫التـــي تـــدور معـــه فـــي مجالـــس الخطابـــة‪ ،‬وكأنهـــا امتـــداد‬ ‫للســـانه خـــارج جســـده‪ ..‬إلـــى أن يّتخـــذ الجاحـــظ منحـــى‬

‫نجيب محفوظ‬

‫اّخ ــر حي ــن يجع ــل «غني ــة» تل ــك‬ ‫الم ِ‬ ‫عســـرة تمـــدح‬ ‫المـــرأة الفقيـــرة ُ‬ ‫ابنه ــا الهزي ــل ال ــذي يضرب ــه الن ــاس‬ ‫الديـــات تقتـــات‬ ‫وتحصـــد هـــي منهـــم ّ‬ ‫عليه ــا إل ــى أن تصب ــح «غني ــة» بالفع ــل‪:‬‬

‫ُ‬ ‫أحلف بالمرو ِة يوم ًا والصفا‬

‫أنك خي ٌر من تفاريق العصا‬

‫وم ــن قب ــل ه ــذا اس ــتخدم الق ــرآن الكري ــم العص ــا ف ــي قص ــة‬ ‫ســـيدنا موســـى عليـــه الســـام بمدلـــوالت مختلفـــة إلثبـــات‬ ‫الق ــدرة اإللهي ــة والتدلي ــل عل ــى رس ــالة النب ــي موس ــى علي ــه‬ ‫ـش‬ ‫الس ــام حي ــن أصبح ــت «العص ــا» الت ــي يت ــوكأ عليه ــا ويه ـ ّ‬ ‫به ــا عل ــى غنم ــه معج ــزة كب ــرى‪ ،‬فه ــي ه ــي العص ــا نفس ــها‬ ‫ـــحرة‬ ‫تحولـــت إلـــى َحّيـــة تســـعى أكلـــت‬ ‫التـــي َّ‬ ‫عصـــي َّ‬ ‫الس َ‬ ‫ّ‬ ‫فأدركــوا أن موســى ليــس ســاحراً‪ ،‬وهــي هــي العصــا نفســها‬ ‫وح َّولتـــه‬ ‫التـــي فلقـــت البحـــر لموســـى وأتباعـــه المؤمنيـــن َ‬ ‫نجاه ــم م ــن الغ ــرق‪.‬‬ ‫إل ــى طري ــق َّ‬ ‫الم َكْهرب ــة ف ــي أي ــدي الش ــرطة اآلن‪،‬‬ ‫وبعي ــدًا ع ــن العص ــا ُ‬ ‫يحف ــل الت ــراث الش ــعبي المص ــري بع ــدد واف ــر م ــن حكاي ــات‬ ‫العصـــا مـــن خـــال لعبـــة التحطيـــب التـــي لـــم يكـــن ليخلـــو‬ ‫منهـــا فـــرح فـــي القـــرى والنجـــوع المصريـــة؛ والتـــي كانـــت‬ ‫أهـــم أدوات المعـــارك بيـــن الفالحيـــن‪.‬‬ ‫كذلـــك‪ّ -‬‬‫وهك ــذا ت ــدور العص ــا ف ــي تراثن ــا األدب ــي م ــا بي ــن انتص ــاب‬ ‫اللســـان وإعجـــاز النبـــوة‪ ،‬إلـــى رمـــز للبلطجـــة والجبـــروت‬ ‫أي الجانبي ــن تمي ــل العص ــا ف ــي األي ــام‬ ‫والف ــرح أيضــاً‪ .‬فإل ــى ّ‬ ‫المقبل ــة؟!‬ ‫‪159‬‬


‫سالمة صالح‬

‫لدي ما أرويه‬ ‫كان‬ ‫ّ‬

‫شــعرت بالحســد إزاء طبيبــي الشــاب وأنــا أغــادر عيادتــه‬ ‫فكــرت أنــه ســيعمل حتــى الخامســة بعــد الظهــر‪ ،‬أربعــة‬ ‫حيــن َّ‬ ‫أيــام فــي األســبوع‪ ،‬وسينســى كل مــا لــه عالقــة بالعمــل فــي‬ ‫مــا يتبقــى لــه مــن الوقــت‪ .‬عمــل الكاتــب يشــبه عمــل األمهــات‪،‬‬ ‫عمــل غيــر منظــور‪ ،‬يســتغرق النهــار كلــه وجانبـ ًا مــن الليــل‪ ،‬ال‬ ‫أعنــي أننــي أجلــس وراء منضــدة الكتابــة طول الوقــت بالطبع‪،‬‬ ‫فذلــك ال يشـّـكل إال الجانــب التنفيــذي مــن العمــل‪ ،‬وال يســتغرق‬ ‫إال وقتـ ًا قليـاً‪ .‬ومنضــدة الكتابــة هــي مــكان عقيــم ال يخطــر لــي‬ ‫فيــه شــيء ذو بــال‪ .‬الجانــب األساســي مــن العمــل هــو انبثــاق‬ ‫الفكــرة وتطويرهــا‪ .‬أفضــل األفــكار تولــد وأنــا فــي الطريــق‪.‬‬ ‫كثيــرًا مــا كتبــت مــا يخطــر لــي علــى ظهــر تذكــرة الحافلــة أو أي‬ ‫قصاصــة ورق وجدتهــا فــي متنــاول يــدي‪ .‬كيــف ومتــى بــدأ هــذا‬ ‫الشــغف بــاألدب؟ هــذا ســؤال تصعــب اإلجابــة عنــه‪.‬‬ ‫كان كتابــي األول ‪ -‬مجموعــة قصــص‪ -‬ال يــزال فــي المطبعــة‬ ‫ـي أن أغــادر مدينتــي إلــى بغداد أللتحــق بالجامعة‬ ‫حيــن كان علـ ّ‬ ‫وبعمــل مســائي فــي اإلذاعــة العراقيــة‪ ،‬فلــم تتهيــأ لــي مراجعــة‬ ‫مســودات الطبــع‪ ،‬وكان ال بــد مــن تخصيــص صفحتيــن فــي‬ ‫آخــر الكتــاب لتصويــب األخطــاء‪ .‬لــم يكــن كتابــي الثانــي أوفــر‬ ‫حظــاً‪ ،‬لــم يكــن قــد خــرج مــن المطبعــة حيــن حــدث انقــاب‬ ‫‪ ،1963‬وفقــدت جــزءًا مــن دخلــي كان يتأتــى من كتابــة البرامج‬ ‫اإلذاعيــة‪ ،‬كمــا لــم يعــد المنــاخ العــام مواتيــ ًا فتأخــر توزيــع‬ ‫الكتــاب بضعــة شــهور‪ ،‬وحيــن صــدرت مجموعــة «التحــوالت»‬ ‫عــام ‪ 1974‬عــن اتحــاد الكّتاب العرب في دمشــق كانت العالقات‬ ‫الرســمية بيــن العــراق وســورية متوترة فمنع دخــول الكتب من‬ ‫ســورية بوجــه عــام‪ .‬اشــتريت النســخ العشــر مــن الكتــاب التــي‬ ‫أتــى بهــا صاحــب إحــدى المكتبــات ولــم يســتطع عرضهــا فــي‬ ‫ـتقرت في المخــزن‪« .‬زهرة‬ ‫مكتبتــه بســبب المنــع‪ ،‬وكانــت قد اسـ ّ‬ ‫األنبيــاء» رغــم تأخــر صــدوره عاميــن‪ ،‬ألن الناشــر اللبنانــي‬ ‫‪160‬‬

‫الــذي كان قــد وافــق علــى نشــره احتفــظ بــه كل هــذه الفتــرة ثــم‬ ‫اعتــذر عــن عــدم النشــر‪ ،‬وضــع نهايــة لســوء الطالــع‪ ،‬وحظــي‬ ‫باهتمــام النقــد األدبــي والقـّـراء علــى الســواء لــدى صــدوره عــام‬ ‫‪ 1994‬فــي دمشــق‪ .‬تلتــه مجموعــة «شــجرة المغفــرة» وصــدرت‬ ‫طبعــة جديــدة مــن روايــة «النهــوض»‪.‬‬ ‫لــم يكــن األدب قــد أصبــح فــي العالــم العربــي مهنــة – وربمــا‬ ‫هــو كذلــك اليــوم أيضـ ًا ‪ .-‬كان الكاتــب يكســب لقمــة خبــزه مــن‬ ‫عمــل آخــر‪ ،‬وكان أغلبنــا يكتــب ألنــه يجــد فــي الكتابــة متعــة‪،‬‬ ‫هنــاك أيضــ ًا مــن كان يعتقــد أنــه يســتطيع بــاألدب أن يغيــر‬ ‫العالــم‪ .‬ليــس الحــال كذلــك بالنســبة لــي‪ ،‬فأنــا أعــرف أن ألفــي‬ ‫نســخة مــن كتــاب ألمــة يزيــد عــدد نفوســها علــى ‪ 300‬مليــون‬ ‫هــي عــدد أقــل مــن القليــل‪ .‬أصبحــت أنظر إلــى األدب نظــرة أكثر‬ ‫تواضعـ ًا وأضــع المعلــم فــي موضع أعلــى من موضــع الكاتب‪.‬‬ ‫كتبــت خــال كل تلك الســنوات مزيدًا مــن القصص‪ ،‬وقصص ًا‬ ‫وبقي ْت ســاعات الصباح األولى‬ ‫لألطفــال‪ ،‬وعملــت في الصحافة َ‬ ‫هــي الســاعات األكثــر عطــاء في الكتابــة‪ ،‬فأنجزت الجــزء األكبر‬ ‫مــن «زهــرة األنبيــاء» فــي الصباحــات الباكــرة‪ .‬كنــت أنهــض في‬ ‫الخامســة وأكتــب فقــرة ممــا يقــارب الخمســمئة كلمــة قبــل أن‬ ‫أغــادر المنــزل للذهــاب إلــى عملي الــذي يبدأ فــي الثامنة‪ .‬وكانت‬ ‫الحالــة االنفعاليــة دائمـ ًا هــي مــا أحتــاج إليــه للكتابة‪ .‬فــي فترة‬ ‫مبكــرة كانــت هــذه الحالــة وحدهــا كافيــة للبــدء بالكتابــة‪ .‬حتــى‬ ‫بــدا لــي أن القصــة تكتــب نفســها‪ .‬حــدث هــذا مع بعــض القصص‬ ‫مثــل قصــة «إســراء أرضــي»‪ ،‬التــي لــم تســتغرق كتابتهــا أكثــر‬ ‫مــن ربــع ســاعة‪ .‬مــع الزمــن تغير هــذا‪ .‬بقيــت الحالــة االنفعالية‬ ‫ضروريــة‪ ،‬ولكــن أصبــح اســتدعاؤها أكثــر صعوبــة وقــد ال‬ ‫يتحقّق إال بقراءة نص جيد أو االستماع إلى الموسيقى‪ ،‬وظلّت‬ ‫الملتِبســة‪ ،‬ســوء التفاهم وإخفاق اللغة الموضوعات‬ ‫العالقات ُ‬ ‫األهــم فــي نصوصي‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.