المتمردة المناضلة والمتفردة المبدعة زاها حديد: سردية عاطفية عقلانية نقدية

Page 1

‫‪1/1/2017‬‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫سردية عاطفية عقالنية نقدية | علي عبد الرءوف‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬ ‫سردية عاطفية عقالنية نقدية‬ ‫علي عبد الرءوف‬ ‫عن السردية‬

‫يعني هذا الفصل بصورة فاحصة بقيمة النضال في رحلة المعمارية الفقيدة‬ ‫زاها حديد منذ ميالدها وحتى وفاتها (‪ .)2016/3/31-1950/10/31‬ولذا‬ ‫يتتبع الفصل بمنهج نقدي تحليلي توثيقي‪ ،‬مراحل هذه الرحلة النضالية‬ ‫ولحظاتها الفارقة منذ سنوات التعلم االولى في مدينة والدة زاها؛ بغداد‬ ‫الخمسينيات‪ ،‬إلى سنوات تكوينها وكفاحها للتحول من معمارية امرأة وحيدة‬ ‫مرفوضة إلى قيمة خالدة على الصعيد االنساني والنسوي والمعماري‬ ‫واالبداعي‪.1‬‬

‫ص‪1‬‬

‫‪ 1‬لالستخدام المرجعي للنص واالقتباس‪ :‬عبد الرءوف‪ ،‬على‪" .2017.‬المتمردة المناضلة والمتفردة المبدعة زاها‬ ‫حديد‪ :‬سردية عاطفية عقالنية نقدية"‪ .‬في الشهابي‪ ،‬غسان (محرر) "سلسلة كتب أطياف‪ :‬قصة زاها حديد"‪ .‬المنامة‪:‬‬ ‫إصدارات هيئة البحرين للثقافة واألثار‪ ،‬مملكة البحرين‪.‬‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫بداية مفسرة‬ ‫ان هذا الفصل وبصرف النظر عن حالة الحزن العميق لفقد المُبدعة المتفردة‪ ،‬لكنه يحتفل بمسيرة‬ ‫واحدة من نخبة العالم األكثر استثنائية وابداعاً في مجاالت العمارة والتصميم والتخطيط العمراني‪ .‬في‬ ‫يوم ‪ 31‬مارس عام ‪ 2016‬توقف قلب واحدة من اكثر سيدات العالم تفردا‪ ،‬ماتت زاها حديد التي‬ ‫ولدت يوم ‪ 31‬اكتوبر عام ‪ .1950‬لم أكن اعتقد ابدا عندما بدأت التعرف على المعمارية الفقيدة‪،‬‬ ‫أعماال وقراءة ثم حواراً‪ ،‬ان صفات التمرد والكفاح والنضال بمستوياتها العميقة واألصيلة يمكن ان‬ ‫ترتبط بمعماري معني بالتصميم والبناء‪ .‬ماتت الفضولية مدمنة التمرد‪ ،‬دائمة التفكير‪ ،‬عاشقة التغيير‪.‬‬ ‫تميزت زاها حديد بما يمكن ان نطلق عليه استدامة الشخصية النضالية‪ .‬حقا‪ ،‬فمشروعها النضالي لم‬ ‫ينحصر في فترة تعلمها او سنوات ممارستها االولى‪ ،‬ولكنها حولت حياتها إلى مشروع نضالي جدلي‬ ‫مستمر يحفزها ويحفز كل من حولها وكل من يتعامل مع اعمالها وفراغاتها ومشروعاتها‪ .‬يعني هذا‬ ‫الفصل بصورة فاحصة بقيمة النضال في رحلة زاها منذ ميالدها وحتى وفاتها‪ .‬ولذا يتتبع الفصل‬ ‫بمنهج نقدي تحليلي توثيقي مراحل هذه الرحلة النضالية ولحظاتها الفارقة منذ سنوات التعلم االولى‬ ‫في مدينة والدة زاها؛ بغداد الخمسينيات‪ ،‬إلى سنوات تكوينها وكفاحها للتحول من معمارية امرأة‬ ‫وحيدة مرفوضة إلى قيمة خالدة على الصعيد االنساني والنسوي والمعماري واالبداعي‪.‬‬

‫الطفلة المتوثبة لالستكشاف والوالدين الراعيين لميولها الفنية واالبداعية أل حديد‪.‬‬

‫ومضات فارقة يف طفولة متمايزة‬ ‫في كتابي النقد المعماري ودوره في تطوير العمارة العربية المعاصرة‪ 2‬ناقشت تأثير سنوات الطفولة‬ ‫على مجموعة من المعماريين العالميين‪ ،‬وكيف أثرت احداث وتجارب يبدو بعضها شديد البساطة‪،‬‬

‫ص‪2‬‬

‫‪2‬علي عبد الرءوف‪ .‬النقد المعماري ودوره في تطوير العمارة المعاصرة ‪2014‬‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫على اختيارات وشخصية هؤالء المبدعين‪ .‬ولذا اتوقف متأمال هذه الومضات الخاطفة التي أثرت جليا‬ ‫في تكوين عقل وخيال ووجدان الطفلة زاها حديد‪ .‬ففي سياق رغبة تكوين صورة عصرية وحضارية‬ ‫عن بغداد‪ ،‬وبفعل الوفرة من اموال النفط واالغراء باحتمال استضافة االلعاب االولمبية‪ ،‬طلب الملك‬ ‫فيصل الثاني في خمسينيات القرن العشرين من قائمة منتقاة من المعماريين العالميين اهمهم فرانك‬ ‫لويد رايت ووولتر غروبيس ولوكوربوزييه والفار آلتو‪ ،‬اعادة صياغة مدينة بغداد لتصبح مدينة‬ ‫عالمية جاذبة‪ .‬كان نصيب فرانك لويد رايت تصميم اوبرا بغداد وعلى هامش وجوده في العاصمة‬ ‫نظم معرض لتصميماته عام ‪.1956‬‬

‫فرانك لويد رايت تصميم اوبرا بغداد‬

‫كانت زاها طفلة ال يتعدى عمرها السادسة ولكن والديها‪ ،‬المحبين للعمارة دون ان تكون مهنتهم‪،‬‬ ‫اصطحباها إلى هذا المعرض الخاص بأهم معماريين القرن العشرين‪ .‬انبهرت زاها بالرسومات‬ ‫واأللوان والتكوينات واألشكال‪ ،‬وكان هذا أول لقاء في وعيها وال وعيها مع العمارة والمعماري‪.‬‬ ‫ومضة اخرى فارقة في طفولة زاها ترتبط بعالقتها الفريدة بالسياق الطبيعي لواحدة من أجمل‬ ‫المناطق العراقية وهي االهوار في جنوب البالد التي اعتادت السفر اليها مع عائلتها‪ .‬فالمنطقة بها‬ ‫خاصية التفتت اليها زاها في سنوات طفولتها ومراهقتها وهي التفاعل بين الطبيعي واالنساني‪ .‬فهذه‬ ‫المنطقة مبهرة بطبيعتها‪ ،‬وخصوصا بانسياب الرمل والماء والحياة البرية التي تمتد على مرمى‬ ‫العين‪ ،‬فتضم كل شيء حتى البنايات والناس‪ .‬وقد اعترفت زاها حديد في حواراتها وكتاباتها ان هذا‬ ‫دائما تكثيف تلك االنسيابية في سياق حضري عصري‪.‬‬

‫ص‪3‬‬

‫العنصر المستوحى من الطبيعة وتمازجها مع العالم الحضري‪ ،‬ينسحب على اعمالها‪ ،‬حيث تحاول‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫االهوار في جنوب العراق‪ :‬الطبيعي واالنساني‪ ،‬البيئي والحضري‪.‬‬

‫نضال سنوات التعليم‬ ‫ظلت زاها تدرس في بغداد حتى انتهائها من دراستها الثانوية حيث تلقت الدراسة في مدرسة‬ ‫الراهبات األهلية وكان لها تجربة في مدرسة خاصة في سويسرا‪ .‬هذا المستوى من التعليم اتاح لها‬ ‫انفتاحا مبكرا على الفكر والعالم واآلخر‪ .‬الموثق انها بعد اتمامها الدراسة لم تتمكن من االلتحاق‬ ‫بمدرسة العمارة في بغداد فلم تتنازل وقررت التعمق في فهم منطق الظواهر‪ ،‬ولذا توجهت عام‬ ‫‪ 1968‬إلى الجامعة األميركية ببيروت‪ ،)1971-1968( 3‬حيث تعلمت الرياضيات وتخرجت عام‬ ‫‪ .1971‬وحين درست الرياضيات في بيروت‪ ،‬أدركت أن ثمة عالقة تربط بين المنطق الرياضي‬ ‫والمعمار والفكر التجريدي‪ .‬ولذا توجهت لدراسة العمارة في مدرسة الجمعية المعمارية المرموقة‬ ‫في لندن (‪ ،)1977-1972‬حيث تخرجت عام ‪.«Architectural Association (AA)» 1977‬‬ ‫وعن تجربتها في التعليم الجامعي‪ ،‬تقول زاها أن أول من اكتشف االرتباط بين الخلفية الشرقية‬ ‫وسهولة الخروج من قولبة الجيومترية االقليدية والجرأة في التشكيل هو ريم كولهاس‪ ،‬حين الحظ أن‬ ‫طلبة المعمار العرب واإليرانيين قادرون على عمل تعبيرات منحنية أكثر من غيرهم‪ ،‬مما جعله يفكر‬

‫‪ 3‬في عام ‪ 2006‬منحتها الجامعة االميركية في بيروت درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لمجهوداتها‪.‬‬

‫ص‪4‬‬

‫أن ذلك ناجم عن خط الكتابة العربية نفسه تمكن هؤالء من خاصية االنسيابية في األعمال الحديثة‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫الطالبة زاها حديد مع استاذها ريم كولهاس الذي تعلمت على يديه ثم عملت معه لثالث سنوات قبل ان تتمرد وتستقل‬ ‫بعملها الخاص‬

‫نضال اهلوية العربية‬ ‫" نعم اشتاق إلى بغداد" زاها حديد (جريدة الشرق االوسط‪)2008 ،‬‬ ‫جانب فارق في نضال زاها حديد يرتبط بتخلصها المتعمد من فخ "انا عربية" وبالتالي انا منغمسة في‬ ‫التاريخ وملتحفة بالتراث ومقيدة بالتقاليد وعاجزة عن االستكشاف والتجريب‪ .‬نعم أحبت بغداد‬ ‫واحترمت السياق ولكنها تذكرنا دائما بأنها عربية لكنها لم تتربى وتنشأ بالمفهوم العربي التقليدي‬ ‫وتلقيت تربية عصرية في العراق‪ .‬كما أنها منذ خروجها من بغداد للدراسة الجامعية‪ ،‬لم تقيم مطلقا‬ ‫في العالم العربي وانما اقامت في لندن بينما اكتسبت مواجهات ثقافية من تحركها الدائم حول العالم‪.4‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬وصفت نفسها قائلة "أنا لست النمط العربي المتعارف عليه‪ .‬أنا عراقية‪ .‬أعيش في‬ ‫لندن‪ ..‬وليس لدي مكان واحد ‪ ،‬لهذا اعتقد أن أي واحد في موقفي أو مكاني عليه ان يعيد صياغة نفسه‬

‫ص‪5‬‬

‫‪4‬السياق الفكري االبداعي المعماري في لندن‪ :‬تقدم الكثير من االدبيات الفاحصة لظاهرة االبداع ونظرياته ثقال خاصا‬ ‫للسياق الحاضن للظاهرة االبداعية وهو يأتي احيانا في اهمية موازية للقدرات الخاصة للمبدع‪ .‬ومن هنا يأتي سياق‬ ‫مدينة لندن الفارق مؤهال ومحفزا الستقبال زاها حديد وافكارها وخطاب تغييرها المفعم بالتمرد واالنتفاض على‬ ‫التقليدي والمباشر والمكرر‪ .‬فال يمكن ان نتغاضى عن السياق المكاني واللحظة التاريخية لفهم اكثر عمقا لمساهمة‬ ‫زاها حديد الفارقة في العمارة والعمران‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫أو صياغة عالم خاص به"‪ .‬كما انها لم ترفض ابدا سنوات تكوينها وانتمائها المكاني للعالم العربي‬ ‫وللعراق خاصة‪ .‬فقد كانت تعبر دائما عن افتقادها جانب مهم من ثقافة هذا الجزء من العالم وهو اللغة‬ ‫العربية‪ .‬كما كانت تهتم بهذه العالقة الفريدة بين المدينة والنهر كما ادركتها في حالة مدينتي بغداد‬ ‫والقاهرة‪ .‬حيث كانت تؤمن ان في هذه المدن مع األنهار الكبيرة يتكون مستوى فريد من الصفاء‬ ‫والسالم والتأمل‪ .‬تقول كنت اجلس هناك وكنت أعتقد‪ ،‬هذا النهر قد يتهادى هنا منذ آالف السنين‪ .‬حقا‬ ‫هناك لحظات السحرية في هذه األماكن‪.‬‬

‫نضال سنوات التكوين‬ ‫بدأت زاها حديد رحلتها المهنية عام ‪ 1977‬بانضمامها إلى مكتب متروبوليتان للعمارة الذي كان‬ ‫يقوده واحد من اهم التفكيكيين‪ 5‬ريم كولهاس‪ ،‬ولكنها استقلت عام ‪ 1980‬لتبدأ مكتبها الخاص من‬ ‫خالل استوديو صغير في لندن‪ .‬حتى وهي صغيرة السن حديثة التخرج فحوارها شديد الندية مع‬ ‫أستاذها ومعلمها االول ريم كولهاس عندما عرض عليها العمل في مكتبه بعد تخرجها‪ ،‬يكشف الكثير‬ ‫عن اعتدادها بنفسها وغرورها االيجابي‪ .‬في عام ‪ ،1977‬تقول زاها‪:‬‬

‫"الديبلوماسية ليست افضل مواهبي‪ ،‬انا ال اتالعب بالناس‪ .‬اتذكر ريم‬ ‫كولهاس يسألني ان انضم للمكتب‪ ،‬قلت فقط كشريكة واعني كالمي‬ ‫تماما‪ .‬اجابوني قائلين‪ :‬ممكن اذا كنتي شريكة مطيعة !! فقلت‪ :‬ال يمكن‬ ‫ان اكون شريكة مطيعة ابدا‪ ،‬وانهيت الشراكة وتركت المكان"‪.‬‬

‫زاها حديد عام ‪ 1983‬عندما استقلت وبدأت تنتج بكثافة مشروعاتها التجريبية في لوحات ونماذج غير مسبوقة في‬ ‫لغتها التشكيلية والفراغية كما في لوحة العالم الشكل إلى اليسار‪.‬‬

‫ص‪6‬‬

‫‪ 5‬نسبة الى المدرسة التفكيكية المتأثرة بكتابات الفيلسوف جاك دريدا والتي سيتم تفصيل تأثيرها على العمارة في‬ ‫االجزاء التالية من الفصل‪.‬‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫وإلى جانب تفاعلها االكاديمي الفكري مع معلميها في منظمة العمارة في لندن‪ ،‬فان زاها حديد تأثرت‬ ‫تأثرا كبيرا بأعمال أوسكار نيماير‪ ،‬وخاصة احساسه بالمساحة‪ .‬ابداعه وإحساسه هذا بالمساحة فضال‬ ‫عن موهبته الفذة كلها عناصر تجعله متميزا وال يعلى عليه‪ ،‬فأعماله هي التي الهمتني وشجعتني على‬ ‫ان أبدع اسلوبي الخاص مقتدية ببحثه على االنسيابية في كل األشكال‪ .‬وكان فوزها في مسابقة‬ ‫مشروع نادي القمة الخاص على تالل كولون المطلة على هونغ كونغ عام ‪ ،1982‬البوابة التي فتحت‬ ‫امامها مجاال ليتساءل العالم ونقاد العمارة واألكاديميين عن هذه المبدعة المتمردة الرافضة ولكنها‬ ‫ايضا الفائزة‪ .‬وهو المشروع الذي اصبغ عليها لقب المعمارية التفكيكية ‪ .Deconstructivist‬لقد‬ ‫توقف نقاد العمارة امام لوحاتها المرسومة للمشروع التي تتفاعل فيها الطبوغرافية التي اعادت‬ ‫صياغتها مع العناصر المتعددة المنشقة من التكوين والتي خضعت لقوة من الال اتزان انتج شظايا‬ ‫وقشور وفراغات وتجاب ثالثية االبعاد غير مسبوقة‪.‬‬

‫مشروع نادي القمة الخاص على تالل كولون المطلة على هونغ كونغ عام ‪1982‬‬

‫أما اول مبنى بني بالفعل وحمل افكارها من المرسوم المتخيل إلى الحقيقي الواقعي فهو "محطة إطفاء‬ ‫فيترا" في ويل أم راين‪ ،‬ألمانيا ‪ .‘Vitra Fire Station’ in Weil am Rhein‬واستمر المشروع‬

‫ص‪7‬‬

‫من عام ‪ 1989‬إلى عام ‪ .1993‬وقد تحول المبنى إلى متحف‪ .‬اما المبنى الفارق الذي حقق لها الشهرة‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫فكان دار اوبرا خليج كارديف في ويلز ‪ Cardiff Bay Opera House in Wales‬الذي قدمته‬ ‫عام ‪ ،1994‬والذي لم يبنى لعدم قدرة المدينة على تنسيق الموارد المالية‪ .‬من خالل التصاميم المبتكرة‬ ‫واألساليب التجريبية اكتسبت الكثير من الشهرة الدولية وخالل سنوات كانت قد اسست نفسها‬ ‫كمهندسة معمارية مؤثرة وفاعلة عالمياً‪.‬‬ ‫"عملي كان دائما خارج الصندوق المقبول‪ ،‬ممكن ألنني امرأة او ألنني‬ ‫عربية‪ .‬كان هناك تحيزا معينا تجاه هذه العوامل"‪" .‬يقولون كامرأة في‬ ‫العمارة‪ ،‬كنت دائماً دخيلة‪ ،‬وانا اقول‪ ،‬حسنا ‪ ،‬أنا أحب دائما ان اكون‬ ‫على الحافة"‪.‬‬ ‫زاها حديد في حوار جريدة الفاينانشيال تايمز في عام ‪.2015‬‬ ‫ولكن الواقع ان جزء كبير من مشروع زاها النضالي كان في مواجهة االتهام المتكرر بانها معمارية‬ ‫ورقية اعمالها تنشر وال تبنى ‪ .Paper Architect‬هذا االتهام الذي يسبب االلم العميق لكل مبدع في‬ ‫مجال البيئة المبنية ألنه يلمح إلى عدم جدواه ومحدودية ابداعه وتأثيره‪ .‬ولكن زاها تحدت كل‬ ‫المنتمين إلى حقبات معرفية وتقنية متقادمة‪ ،‬وجعلت افكارها تتجسد شيئا فشيئا‪ .‬كما أخضعت تقنيات‬ ‫العصر في صالح مشروعها االبداعي‪ ،‬فأنتجت مباني توقف الجميع يتأمل المنطق المتجاوز لفكرها‬ ‫االنشائي والبنائي والمادي الفيزيقي‪ .‬نستدعي هنا علي سبيل المثال تشييد متحف العلوم في فولفسبيوج‬ ‫شمال ألمانيا‪ ،‬الذي اُفتتح في نوفمبر ‪.2005‬‬

‫نضال املساهمة الفارقة النوعية‬ ‫كانت زا ها حديد عبقرية خالقة بدون مثيل معاصر‪ ،‬كما أنها أسرت مخيلة محترفي التصميم‬ ‫والجمهور على حد سواء بتحدي كل الحدود في العمارة والعمران والتصميم والبناء والتشييد‪ .‬في‬ ‫وقت وفاتها الغير متوقع‪ ،‬كانت حديد قد رسخت نفسها بين النخبة من معماريين العالم‪ ،‬واصبحت أول‬ ‫امرأة تفوز بجائزة بريتزكر للعمارة والميدالية الذهبية للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين‪ .‬لقد‬ ‫تحولت زاها حديد من أعمالها األولى المتأثرة بالمدرسة التفكيكية وما أنتجته من مباني ذات زاويا‬

‫ص‪8‬‬

‫حادة إلى بنية أكثر مرونة ‪ fluid architecture‬فيما بعد‪ .‬بل أن األرضيات واألسقف والجدران‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫واألثاث اصبحت تتألف وتتالقى لتكون أجزاء متداخلة بعضوية فريدة في التصميم العام‪ .‬إن زاها‬ ‫حديد حالة نموذجية لكفاح ونضال المبدع من أجل كسر القواعد القديمة وصياغة كونها المعماري‬ ‫الخاص ‪.‬‬ ‫"زاها حديد‪ ....‬أنها كوكب يدور في مداره الخاص"‬ ‫أستاذها االول ومعلمها ريم كولهاس‬ ‫لسنوات طويلة بعد تخرجها من كلية العمارة المرموقة منظمة العمارة في لندن وهي تقدم اطروحات‬ ‫تجريبية مرسومة عرض اكثرها في معارض فنية‪ .6‬استمر اصرارها على طرح حقبة جديدة في‬ ‫التشكيل الفراغي المعماري عائقا امام حصولها على فرصة حقيقية لتجسيد افكارها حتى واتتها‬ ‫الفرصة من قناعة المعماري فرانك جيري بقدراتها‪ .‬كان جيري مكلفا بتصميم متحف فيترا لألثاث‬ ‫في المانيا فقرر دعوتها لتصميم مبنى متواضع بسيط وهو محطة االطفاء الملحقة بمتحف االثاث‪.‬‬

‫محطة االطفاء الملحقة بمتحف االثاث‬

‫ص‪9‬‬

‫‪ 6‬لقرابة عقد كامل كانت رسومات زاها حديد تعرض كأعمال فنية في المعارض على انها افكار تجريبية غير قابلة‬ ‫للتطبيق ثم بعد شهرتها وتمكنها من تطبيق افكارها في الواقع المعماري والعمراني استمرت المعارض المرموقة‬ ‫والمتاحف الكبرى تستضيف اعمالها وتنسق لتحليل ابداعها وكشفه للمثقفين والعامة على السواء‪ .‬ففي عام ‪،1995‬‬ ‫نظم معرض لها في مدرسة الدراسات العليا للتصميم في جامعة هارفارد االمريكية‪ ،‬وفي سنة ‪ 1997‬افتتح معرضها‬ ‫في متحف الفن الحديث في سان فرنسيسكو‪ ،‬وأفرد لها حيزاً خاصا في جناح بريطانيا في بينالي فينيسيا عام ‪،2000‬‬ ‫ونظم متحف الفن التطبيقي الحديث في فيينا معرضاً خاصاً لها عام ‪ ،2003‬وقبلها في عام ‪ ،2002‬كانت أعمالها‬ ‫موضوعاً لمعرض أقيم في المركز الوطني للفن الحديث في روما‪ .‬ونظم معرضاً شامالً استعادياً لها وألعمالها في‬ ‫متحف “غوغنيهايم” في نيويورك عام ‪ ،2006‬وفي السنة التالية (‪ ،)2007‬نظم “متحف التصميم” بلندن معرضاً‬ ‫ألعمالها‪ .‬كما تشكل أعمالها جزءاً من المعارض الدائمة في متحف الفن الحديث بنيويورك ومتحف العمارة األلمانية‬ ‫في فرانكفورت‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫وتستمر رحلة النضال لتتوج عام ‪ 2004‬بالتقدير العالمي حيث حصلت على "جائزة بريتزكير في‬ ‫العمارة" ’‪ ‘Pritzker Prize‬لتكون اول امرأة ومن اصغر من حصل عليها على مدار تاريخ‬ ‫الجائزة‪ .‬واقيم االحتفال بمنحها الجائزة في متحف التراث في "سان بطرسبرج" في روسيا‪ .‬ولكن‬ ‫الجملة الدالة كانت في تقرير لجنة تحكيم الجائزة حيث أقرت "أن الطريق الذي خاضته "زاها"‬ ‫للحصول على االعتراف الدولي‪ ،‬كان "كفاحا بطوليا"‪ .‬تحولت زاها حديد بنضالها وتفانيها‬ ‫واخالصها لمشروعها االبداعي إلى المعمارية االولى في العالم بعد ان كان نقادها يتهمونها بانها‬ ‫معمارية ورقية تجريبية‪ .‬وانتشرت بصمتها االبداعية ‪ Signature Architect‬عبر كل قارات وبالد‬ ‫العالم ومدنه الكبرى من الصين مروراً بأوروبا وبلدان الشرق األوسط‪ ،‬والعديد من المدن األمريكية‪.‬‬ ‫بل واصبحت مبانيها وحتى بصرف النظر عن وظيفتها هي العالمة االيقونية التي تفتخر كل مدينة‬ ‫بأن نسيجها اتسع ليشمل احدى مساهمات زاها حديد الفارقة‪.‬‬

‫عالقة زاها باألطروحات الفلسفية التفكيكية‬ ‫تميزت أعمال زاها حديد باتجاه معماري يقع في إطار المدرسة التفكيكية‪ ،‬وهو اتجاه ينطوي على‬ ‫تعقيد عال وهندسة غير منتظمة‪ .‬وقد ظهر هذا االتجاه في عام ‪ ،1971‬ويُعد من أهم الحركات‬ ‫المعمارية التي ظهرت في القرن العشرين‪ .‬ويدعو هذا االتجاه بصفة عامة إلى هدم كل أسس الهندسة‬ ‫اإلقليديسية‪ ،‬المنسوبة إلى عالم الرياضيات اليوناني إقليدس‪ ،‬من خالل تفكيك المنشآت إلى أجزاء‪.‬‬ ‫ورغم االختالف والتناقض القائم بين رواد هذا االتجاه‪ ،‬إال أنهم يتفقون في أمر جوهري وهو‬ ‫االختالف عن كل ما هو مألوف وتقليدي‪ .‬وفقاً لتصنيف جينكز لعمارة التفكيك‪ ،‬فإن أعمال زاها حديد‬ ‫تق ع ضمن االتجاه البنائي الحديث وقد ارتبط هذا االتجاه أيضا بأعمال ريم كوالس؛ وتتلخص رؤيتهم‬ ‫للتفكيك في التأكيد على ديناميكية التشكيل‪ ،‬حتى إنه أُطلق على أعمال زاها حديد اسم التجريد‬ ‫الديناميكي‪.‬‬

‫عن الفلسفة التفكيكية‬ ‫من التتبع التاريخي لتطور الفلسفة المعاصرة نرصد التوجهات اآلتية‪ :‬حركة الحداثة ثم ما بعد الحداثة‬

‫ص ‪10‬‬

‫يليها الظاهرية ثم البنيوية ثم ما بعد البنيوية التي نبعت منها الفلسفة التفكيكية‪ .‬وكان لجهود جاك دريدا‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫(‪ )2004-1930‬ومعاصره روالند بارثيس (‪ )1980-1915‬األثر األكبر في صياغة فلسفة ما بعد‬ ‫البنيوية فقد كان األخير هو المسئول عن فكرة موت المؤلف التي أطلقها عام ‪ 1964‬وعنى بها اطالق‬ ‫الحدود لفهم وتفسير النص األدبي من جانب المتلقي ثم الحقا أعلن ان موت المؤلف يعني أيضا ميالد‬ ‫القارئ الذي له الحق الكامل في تعددية المعاني والتفسيرات التي يتلقى بها العمل اإلبداعي‪ .‬اال ان‬ ‫البعض األخر من نقاد الحركة األدبية يعتقدون ان اللحظة الفارقة هي محاضرة دريدا الشهيرة‬ ‫المعنونة "البنية‪ ،‬العالمة واللعب في مفهوم العلم اإلنساني" حيث طرح فكرة الخروج عن المركز في‬ ‫عوالمنا الثقافية بدال من التطور او االنحراف عن نفس المركز المعلن والمعروف واكد على أهمية‬ ‫اللعب واالختالف كبديلين من اجل التفكيك‪ .‬وكما يطرح البنكي(‪ )2003‬فان جاك دريدا هو الذي‬ ‫أعلن موت الكتاب وبداية الكتابة كتعبير عن الحقبة الجديدة‪ .‬ان المجال الرئيسي الذي تتعامل معه‬ ‫أطروحة الفيلسوف الفرنسي هو المجال الفلسفي والنقد األدبي ولكنها امتدت سريعا في تأثيرها لتشمل‬ ‫مجاالت إبداعية أخرى مثل الفنون التشكيلية والعمارة‪.‬‬ ‫أستخدم دريدا لفظ التفكيكية من صياغات سابقة للفيلسوف مارتين هيدجر طرح فيها أن البناء يتداخل‬ ‫مع الهدم التي فسرت بانها التفكيك‪ ،‬فالواقع ان فحص الخلفية التاريخية يوضح ان دريدا تأثر‬ ‫بالظاهرية والبنيوية ثم أنتج التفكيكية من مظلة ما بعد البنيوية وقد اثرت التفكيكية على كل جوانب‬ ‫الحياة وغيرت مفاهيم العديد من المفكرين والمنظرين واالكاديميين كما اثرت بعمق على الحركة‬ ‫االبداعية وخاصة الرواية والنقد االدبي والموسيقى والعمارة‪ .‬دريدا الذي ولد عام ‪ 1930‬ونضج‬ ‫كشاب مع دقات طبول الحرب العالمية الثانية‪ ،‬له تأثيرات ملموسة على العمارة بل أنه ساهم مباشرة‬ ‫في العملية التصميمية مع المعماري الشهير بيتر ايزنمان في مشروع حديقة الفييت بدعم وتحريض‬ ‫من المعماري برنارد تشومي‪ .‬لقد رأى دريدا العمارة كنوع من الكتابة اإلبداعية بالتالي فهي طريقة‬ ‫لممارسة الحياة ودعا إلى ما عرف الفروقات او االختالفات المعمارية حيث تتمكن العمارة من خلق‬ ‫اماكن حيث يمكن للرغبة ان تتواجد وان تعيش‪ .7‬ودريدا في اعماله المبكرة كرر ان التفكيكية هى هز‬ ‫الصرح أو ارتجاجه ككيان كلي وبالتالي يحدث ما أسماه إرتعاد وإرتعاش الخلود‪ .8‬وكما يطرح‬ ‫‪7‬‬

‫ص ‪11‬‬

‫‪Neil Leach, Rethinking Architecture a reader in cultural theory, Rutledge, London,‬‬ ‫‪1997.‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪Mark Wigley, The Architecture of Deconstruction, Derrida’s Haunt, MIT press, USA,‬‬ ‫‪1993.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫ويجلي (‪ )1993‬ان التفكيكية هي اطار او نوع من االستجوابات الفكرية التي تهز البناء بصورة‬ ‫تكشف ضعفه‪ ،‬انها تضع البناء تحت وطأة الضغط‪ .‬من وجهة نظر دريدا فان التفكيك ليس التدمير‬ ‫ولكنه القدرة على كشف وفك الطبقات المكونة للبناء وهو هنا يتبنى فكرة مارتين هيدجر ان التدمير‬ ‫التفكيكي او الالبنائية تشوش وتبعثر وتزعج التقاليد‪ .‬لقد سمى دريدا التفكيكية قاصدا العمليات التي‬ ‫اتبعها ليكتشف مداخل جديدة للفكر الفلسفي خاصة والفكر االنساني عامة ولكنه أكد انه ال يوجد‬ ‫تفكيكية بدون ذكرى التقاليد‪ ،‬وقد بدأ من التاريخ الفلسفي التقليدي الموثق بحقباته المختلفة ثم بدأ‬ ‫التساؤل والنقد محدثا سلسلة من الهزات المتتالية للطبقات التي تكونت عبر التاريخ عن طريق‬ ‫استجواب كل الفرضيات التي اعتبرت في زمن سابق غير قابلة للتساؤل وليست محل أي شك‪.‬‬

‫زاها حديد مع عمالقة المدرسة التفكيكية في العمارة ريم كولهاس وبرنارد تشومي ودانييل ليبسكند ومارك ويجلي‬ ‫(المصدر‪ :‬روبين هوالند)‪.‬‬

‫التفكيكية والعمارة‪ :‬على هامش موت املؤلف وموت املعماري‬ ‫ان ما اقترحه دريدا هو إطارا نقديا منفتحا ومرنا اسماه "استراتيجية التفكيك" التي عرفها بانها ليست‬ ‫هدماً‪ ،‬وانما هي إعادة بناء وتركيب وتشريح لجميع المعاني والمفاهيم وهذا هو المطلوب إدراكه في‬ ‫أي محاولة الختبار او تقييم او حتى مجرد محاولة فهم العالقة بين التفكيكية والعمارة‪ .‬فقد تبلور‬ ‫عن مجموعة من التوجهات والتجارب التصميمية التي ظهرت في الممارسة المعمارية العالمية‬

‫ص ‪12‬‬

‫مصطلح" العمارة التفكيكية" في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين‪ ،‬كتعبير رمزي ونظري في آن‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫وارتكزت جميعها على الطرح الفلسفي لجاك دريدا‪(.‬تشومي‪ .)1996 ،‬وكما يؤكد دريدا فان التفكيكية‬ ‫ليست "طرازا" معماريا‪ ،‬وانما هي "وسيلة او استراتيجية او رؤية" يتبناها المعماري بغرض خلق‬ ‫"تضارب وتصادم" بين ما بات امرا عاديا ومألوفا لدى المرء في ادراك اللغة والمعنى‪ ،‬وبين ما يراه‬ ‫او يشاهده‪ .‬والتفكيكية المعمارية‪ ،‬في هذا المعنى‪ ،‬ووفقا إلى "دريدا" فانها بمثابة سؤال المعماريين‬ ‫ألنفسهم‪ :‬هل بمقدور العمارة ان تتخلى عن هيمنة علم الجمال الكالسيكي‪ ،‬هل بإمكانها ان تتنصل عن‬ ‫النفعية‪ ،‬من الوظيفية‪ ،‬وهل ثمة مفاهيم راسخة تحدد النظام‪ ،‬وهل باإلمكان تشييد مبنى بالتخلي عن‬ ‫تلك المبادئ االساسية المتعارف عليها والمألوفة لخلق عمارة‪ ،‬بضمنها مبادئ ‪ :‬االيقاع ‪ ،‬التوازن‪،‬‬ ‫الخطوط االفقية والعمودية؛ ام ان ثمة عمارة اخرى تنشد بالضرورة تهشيم القيم القديمة من اجل‬ ‫ابداع شيء ما جديد (السلطاني ‪. )2005 ،‬‬ ‫ان المعماري الذي يهتم باإلجابة على هذه التساؤالت يتعين عليه اوال التخلص من المفاهيم‬ ‫والمعتقدات القديمة لصياغة العمل والفراغ المعماري‪ ،‬ويتعين عليه ايضا ان يجهد نفسه ويكثف جهده‬ ‫االبداعي من اجل خلق اشكال جديدة‪ ،‬وفضاءات جديدة‪ ،‬بل و انواع جديدة من المبان‪ .‬وبمعنى اخر‬ ‫فان التفكيكية تعني برؤية كلية العمارة وشموليتها في تفتيتها وتشريحها واعادة بنائها وليس برؤية‬ ‫الحداثة التي تتعامل مع نقاء الشكل وصراحة الكتلة المعمارية وانتظامها البصري‪ ،‬والواقع ان‬ ‫التفكيكية قد تظهر المبنى مفتقدا للمنطق البصري ولكن المدقق يجد ان المنطق البصري موجود ولكنه‬ ‫منطق متمرد على القواعد القديمة ليقدم تشكيال فراغياً وبصرياً غير مسبوق (عبد الرءوف‪.)2009 ،‬‬ ‫ان فريق المعماريين الذين يبدعون وفق مفهوم التفكيكية بالعمارة ‪ ،‬خالقين عمارة جديدة ال تشبه‬ ‫بالمرة منطلقات العمارة المعتادة وال تعتمد على مرجعياتها المألوفة‪ ،‬انها نتاج خاص يثري الخطاب‬ ‫المعماري العالمي بتشكيالت وتجارب فراغية جديدة وبمفاهيم مختلفة‪ .‬ويعد بيتر ايزنمان‪ ،‬فرانك‬ ‫جيري‪ ،‬برنارد تشومي‪ ،‬زاها حديد وريم كوولهاس وغيرهم من اهم المعماريين المتبنيين لمنهجية‬ ‫العمارة التفكيكية‪ .‬وهم جميعا الجيل الذي يمكن وصفه بانهم الرافضين البتذال ما بعد الحداثة في‬ ‫العمارة وخاصة من حيث االستخدام الساذج والسطحي للطرز التاريخية الكالسيكية‪.‬‬ ‫ومن خالل توظيف االشكال االنسيابية الملتوية والمائلة والتأكيد على استخدام حيوية التعارض بين‬ ‫دوما‪ .‬وبالتالي يمكن لنا ان نحصر اساسيات او مبادئ للعمارة التفكيكية ولكنها تجتمع في انها تطرح‬

‫ص ‪13‬‬

‫الفضاء والكتلة بنظام يشي باإلحساس "بالالنظام"‪ ،‬الذي يطيب لرائد التفكيكية‪" :‬دريدا" تذكيرنا به‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫للمبدع سيناريوهات النهائية وتفسيرات متنوعة ونهايات يصعب التنبوء بها ومن أهمها‪ :‬البحث‬ ‫والتفتيت في الالوعي بدال من البحث في التاريخ والديناميكية الفراغية والتشكيلية والحرص على‬ ‫خلق مباني متحركة تمتاز بتغيير الصورة البصرية بدال عن سكونها وجمودها وتفضيل االتزان‬ ‫الديناميكي للمبنى عن االتزان الكالسيكي احادي التعبير وكذلك ال مركزية و ال محورية التشكيل‬ ‫تأكيدا لفكر دريدا في رفض المركز‪ .‬ومن الناحية التشكيلية نالحظ مالمح جوهرية مثل وضع‬ ‫األعمدة علي زوايا مثيرة للتعقيد التشكيلي والبصري وتكون ملتوية والواجهات ذات الحواف الحادة‬ ‫والمساقط المتداول و استخدام الكابالت في عمل الخطوط المتعددة والزاويا الحادة والتأكيد على البنية‬ ‫الهندسية الديناميكية من خالل التصميم علي شبكات هندسية في جميع االتجاهات االبعاد الثالثية‬ ‫يؤكدها الممرات المتقاطعة في الفراغ و الحوائط المتداخلة وغير منتظمة االيقاع‪.‬‬

‫الوعي بدورها االكادميي‬ ‫تفهمت زاها حديد تماما ان تأثيرها الفارق في المشهد المعماري والعمراني العالمي ال يجب ان‬ ‫يقتصر فقط على نتاجها المهني ولكنها يجب ان تساهم في تشكيل العقول الجديدة‪ .‬ومن هنا جاء‬ ‫التزامها بتدريس التصميم المعماري والفكر االبداعي في مجاالت التصميم واالنتاج في عدة مدارس‬ ‫اوربية وامريكية مرموقة‪ .‬وكانت تعي ان التعليم الجيد مهم جداً‪ ،‬ولكنها نبهت مرارا إلى اهمية تقييم‬ ‫الطريقة التي يتم تعليم الناس‪ .‬فقد رفضت التعليم الذي يتحول إلى فقط مؤهالت للحصول على وظيفة‪.‬‬ ‫ولكنها كانت دائما تركز على كيفية وفلسفة التعلم وقدرته على االلهام واثارة الفكر والتساؤالت‪ .‬تأمل‬

‫تعليقها على قبولها مهمة تدريسية جديدة في معهد العمارة في فيينا‪ ،‬النمسا‪" :‬ال أعتقد أن يمكنك تعليم‬ ‫الهندسة المعمارية‪ .‬يمكنك فقط أن تلهم الناس"‪.‬‬ ‫ومنذ بداية حياتها العملية تميزت زاها حديد بنشاط أكاديمي واضح‪ ،‬فقد بدأت التدريس في الجمعية‬ ‫المعمارية ‪ .Architectural Association‬وفي عام ‪ 1994‬عينت أستاذة في كرسي كينزو تانجيه‪،‬‬ ‫في قسم التصميم (ما بعد التخرج) بجامعة هارفارد‪ ،‬وأستاذة كرسي سوليفان في جامعة شيكاغو‪ .‬كما‬ ‫انتظمت أستاذة زائرة أو أستاذة كرسي في عدة جامعات في أوروبا وأميركا منها هامبورغ وأوهايو‬ ‫أستاذة زائرة لدى أشهر المؤسسات األكاديمية العالمية‪ ،‬فقد عملت في برينستون وفي جامعة فيينا‬

‫ص ‪14‬‬

‫وكولومبيا ونيويورك وييل‪ .‬وهي باإلضافة إلى عملها التدريسي في مدرسة ‪ AA‬بلندن‪ ،‬فهي أيضاً‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫وألمانيا واليابان وحصلت على أعلى الشهادات التقديرية من مؤسسات أكاديمية رصينة‪ .‬اما في‬ ‫االكاديميات الشرق اوسطية فقد كان الموقف مغايرا حتى منتصف العقد االول من االلفية الجديدة‪.‬‬ ‫كان اساتذة العمارة البارزين في العالم العربي عاجزين عن الفهم الكامل واالدراك للطرح االبداعي‬ ‫الغير مسبوق تشكيلياً وفراغياً الذي تقدمه زاها حديد فعوضوه بنقد غير علمي شديد القسوة‪ .‬يشير‬ ‫االكاديمي د‪ .‬خالد السلطاني (‪ )2016‬في مقاله عمارة زاها حديد‪ :‬واقعية الفضاء االفتراضي‪ ،‬إلى ان‬ ‫احد مؤسسي العمارة الحديثة في العراق وهو المعماري الراحل عبد اهلل احسان كامل اعترف لكاتب‬ ‫المقال بعجزه عن ادراك وفهم رسومات زاها التي اعطيت له من قبل والدها إلبداء الرأي‪ .‬وعن‬ ‫تجربتي الشخصية في مدارس العمارة المصرية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات وبدايات االلفية‬ ‫الثالثة‪ ،‬فقد تباري االكاديميين المصريين في مهاجمتها والتقليل من شأن من يجد في مشروعها‬ ‫االبداعي‪ ،‬قيمة تستحق التحليل او النقد العلمي المنهجي‪ .‬وهذه الظاهرة كانت مرصودة في معظم‬ ‫مدارس العمارة بالعالم العربي خاصة مع ضغط كبير من الطالب الشباب الذين وجدوا في اطروحات‬ ‫زاها حديد مدخال ابداعيا مخالفا لما هو مكرر ومطروح برتابة في مدارس العمارة‪.‬‬

‫عصر زاها حديد واستثنائية اللغة املعمارية املميزة‬ ‫أنتجت زاها حديد عصرا معماريا غير مسبوقاً‪ ،‬واألكثر اثارة انه عصرا شاهدناه وهو يولد ويتبلور‬ ‫ثم يتحول إلى حقبة كاملة وفارقة في العمارة والعمران‪ .‬أو كما طرح البعض؛ «عصرا» معماريا‬ ‫كان من الممتع معاصرته‪ .9‬ان حقبة جديدة لعمارة غير مسبوقة بدأت ارهاصاتها تظهر مجسدة في‬ ‫نسيج مدن العالم لتعلن عن ما لم يكن دارجا بل ولم يكن مدركاً‪.‬‬

‫"ال أعتقد أن العمارة فقط هي المأوى‪ ،‬أو انها فقط فراغ محدود بسيط‪.‬‬ ‫العمارة ينبغي أن تثيرك‪ ،‬تسعدك‪ ،‬وتجعلك تفكر"‪.‬‬

‫زاها حديد‬

‫قدمت زاها حديد مقاييس مغايرة للجمال‪ ،‬كما طرحت حقبة جديدة في مجال التشكيل والتصميم‬ ‫اعتمدت على االيمان بقيمة الطبيعي المنساب المتداخل‪ .‬استخدمت العلم ليقدم له فهما مغايرا‬

‫‪ 9‬محمد سبيل‪.2016 ،‬‬

‫ص ‪15‬‬

‫للمكونات الطبيعية فاستلهمت من تكوينات الكائنات حتى عندما تفحص بالميكروسكوب الدقيق‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫وتكشف عن بنية جيومترية هندسية بديعة‪ .‬كما تأثرت بالخط العربي بعد ان انتبهت لمالحظات ريم‬ ‫كولهاس في مدرسة العمارة كما اسلفنا‪ .‬واستفادت من دراستها المعمقة للرياضيات لفتح افاق جديدة‬ ‫لفهم العالقات والبنيات الهندسية‪ .‬لقد ساعدت كل هذه العوامل مع العمق الفلسفي على ان تنتج زاها‬ ‫حديد اللغة الفنية الخاصة بها والتي حولتها بجهدها ونضالها إلى لغة عالمية معاصرة متفردة‪ .‬لغة‬ ‫ترتكز على بالغة متقنة لصياغات معمارية شعرية تواجه وتصدم وتستقبل وتحتوي ودائما تتميز‬ ‫وتختلف‪ .‬لقد ميزت هذه اللغة مجموعة من المفردات والتركيبات المتمايزة والمميزة ومنها انسياب‬ ‫الفضاءات بصورة معبرة وجريئة والتقاء البيئة الطبيعية بالعمارة الهاما وتشكيال‪ .‬تأمل مشروعات‬ ‫مثل مركز الفنون الحديثة بروما أو محطة قطارات ستراسبورغ أو المركز الثقافي حيدر علييف في‬ ‫باكو أو غيرها من أعمال هذه المعمارية الفذة وتكتشف تشكيالت خارجية ساحرة تنساب بك إلى‬ ‫فراغات داخلية أكثر سحراً واثارة‪ .‬بل يكفي زاها حديد ان عمارتها هي العمارة المثيرة لنقاشات‬ ‫وحوارات وتفاعالت ألنها عمارة متوثبة متحفزة‪ .‬وعندما فاز مبنى المركز الثقافي حيدر علييف في‬ ‫باكو بجائزة التصميم عام ‪ 2014‬فإننا نتوقف امام التعليق المحمل بالمعاني من قبل رئيس لجنة‬ ‫التحكيم‪" :‬انه جميل‪ ،‬انه ملهم‪ ،‬انه رؤية واضحة للعبقرية المتفردة (زاها حديد)‪ ،‬انه عمل عظيم"‬ ‫ايكو ايشن‪ ،‬رئيس لجنة تحكيم جائزة متحف التصميم‪ ،‬لندن ‪.2014‬‬

‫مبنى المركز الثقافي حيدر علييف في باكو‬

‫وحيوية الحياة المعاصرة ال يمكن التعبير التصميمي الفراغي عنها فقط بتلك الشبكات الهندسية‬

‫ص ‪16‬‬

‫كانت زاها ايضا مدركة لتغير ايقاع العصر وتحوالت مواطن القرن الواحد والعشرين وان تعقيدات‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫التقليدية ‪ ،‬فاآلن ومع بداية القرن الواحد والعشرين أصبحت حياة الناس أكثر مرونة ومتعولمة‪ ،‬وهذا‬ ‫ما يجعلنا ملزمين بالتعامل مع مجتمعات أكثر تعقيدا من سابقاتها‪ .‬وهذا يتطلب معمارا جديدا ذا‬ ‫انسيابية وتجانس كبيرين‪ .‬وعندما اجابت زاها عن سؤال ما هو أحب أعمالك (حوار حلفيشي‪،‬‬ ‫‪ )2008‬اختارت مركز فاينو العلمي وولفسبورغ ‪، Phaeno Science Centre Wolfsburg‬‬ ‫وبررت اختيارها ألنه كان اكثر المشاريع التي أنجزتها طموحا‪ ،‬وهو مثال حي على بحثنا الدائم عن‬ ‫ديناميكية معقدة وفضاءات منسابة‪ .‬فهذا المشروع جمع بين الكالسيكي والتعقيد الهندسي وفي الوقت‬ ‫ذاته التصميم الجريء‪.‬‬

‫مركز فاينو العلمي وولفسبورغ‬

‫حتوالت البنية اجليومرتية إلبداعات زاها‬ ‫تتعدد مستويات التمرد لدى هذه المعمارية الفارقة‪ ،‬بل انها تتمرد على مدخلها ومفاهيمها لصياغة‬ ‫المكان‪ .‬نتأمل هنا تحولها التدريجي من البنية الجيومترية التفكيكية التي ارتكزت فيها على انبهارها‬ ‫بالفلسفة التفكيكية واطروحات جاك دريدا وتفاعل معماريون من امثال برنارد تشومي وبيتر ايزنمان‬ ‫وريم كولهاس كما اوضحنا سابقا‪ .‬وهذه المرحلة من اعمالها اتسمت بتأثر واضح بإبداعات مدرسة‬ ‫البنائية الروسية ‪ Russian Constructivism‬وكان لها تأثير خاص على استخدامها للبنية‬ ‫الجيومترية الحادة والزوايا المتقاطعة (بيتسكاي‪2016 ،‬؛ هينجر‪ .)2011 ،‬تجاوزت زاها حديد هذه‬ ‫البنية وتقدمت إلى فهم جديد للعالقة بي الطبيعة وبين الصياغة الفراغية المعمارية والعمرانية تعتمد‬ ‫على صياغة جيومترية طبيعية ديناميكية عفوية بحرية نباتية موجية نابضة بالحياة‪ .‬من خالل تعقيد‬ ‫الثقافية واالدارية والسكنية‪ .‬والتزمت هذه المؤسسة التصميمية الفريدة بمبادئ وقيم مستمرة مثل‬

‫ص ‪17‬‬

‫فريد وإبداع رائع‪ ،‬قادت زاها حديد مكتبها التصميمي لخلق تحوالت جذرية وعميقة في المشروعات‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

‫السيولة الفراغية واالبتكار واألصالة والتطور العضوي‪ .‬هذ الممارسة تحركها تطوير عالقات معقدة‬ ‫بين الطوبوغرافيات الطبيعية واالصطناعية والنظم والتكنولوجيات المبتكرة‪ .‬او كما يقول السلطاني‬ ‫(‪ )2016‬إنها بالتالي‪ ،‬تدعونا إلى نسيان وحتى هجر ما وسم العمارة السابقة من قيم ومبادئ‪ ،‬واحالل‬ ‫بدال عنها قيماً جديدة تكون متسقة مع متطلبات العصر‪ ،‬عصر المعرفة المتجددة‪ ،‬والبيئة المعلوماتية‪.‬‬ ‫انها باختصار تدفع في اتجاه إلغاء قوانين الهندسة التقليدية المألوفة‪ ،‬والتوجه نحو صياغات تكوينية‬ ‫تتحدى قوانين الجاذبية‪ ،‬وتكون متخمة بااللتواءات واالنحرافات والهشاشة والتنافر والتشظي وعدم‬ ‫التناغم بين عناصرها التصميمة‪.‬‬

‫مجمع الرياضات المائية في حديقة الملكة اليزابيث االوليمبية ‪.2012‬‬

‫يف حضور ومعية زاها حديد‬ ‫كانت واحدة من مناسبات لقائي مع المبدعة الفقيدة هي حضور محاضرتها الرئيسية اثناء فعاليات‬ ‫مؤتمر االتحاد الدولي للمعماريين في اسطنبول عام ‪ ،2005‬كانت القاعة ترتج بتصفيق وصياح‬ ‫األجيال الجديدة من الطالب‪ .‬مئات بل االلف من الطلبة يجلسون ويقفون ويملؤون المقاعد والممرات‬ ‫وامام االبواب وعلى ارض القاعة‪ ،‬ينظرون اليها بشغف وهي تتحدث عن مشروعاتها وفلسفتها‬ ‫وافكارها‪ .‬وعندما التقيت بها بعد المحاضرة في الملتقى المعماري المطل على مدينة اسطنبول‬ ‫االكثر تقديرا لي وفهما ألفكاري ومشروعاتي اما الكبار فهم دائما رافضين قلقين مشوشين‪ .‬وفي‬

‫ص ‪18‬‬

‫وعبرت لها عن انبهاري بحضور هذا الكم من الشباب‪ ،‬ابهرني ردها حين قالت‪ :‬الشباب دائما هم‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫مقابلتي لها في الدوحة في مارس عام ‪ 2015‬حيث كانت تقدم محاضرة رئيسية في مؤتمر "الفن‬ ‫للغد" الذي تنظمه هيئة متاحف قطر مشاركة مع جريدة نيويورك تايمز العريقة‪ ،‬تحدثت عن‬ ‫مشروعية تحوالتها الفكرية‪ .‬كانت تفسر انتقالها من مرحلة التفكيكية والبنائية الروسية إلى مرحلة‬ ‫التشكيالت المنسابة بأنها تتحرك نحو فهم اكثر عمقا لما تقدمه الطبيعة والبيئة‪ .‬وقالت لي بوضوح ان‬ ‫فكرة التأثر بالطبيعة والتأمل الملهم في بنيتها التشكيلية المعقدة يجب ان يتحول إلى رافد ابداعي ال‬ ‫نهائي لمعماري يدرك قيمة العلم في تقديم ابعادا بصرية كان من المستحيل رؤيتها سابقا خاصة على‬ ‫مستوى الخاليا والذرات وحركة الهواء والتكوينات الجيولوجية‪.‬‬

‫الكاتب مع الفقيدة في خالل فعاليات مؤتمر "الفن للغد" في مدينة الدوحة قطر‪ ،‬مارس ‪.2015‬‬

‫جتربة الوجود يف مبنى من ابداع زاها حديد‬ ‫زرت العديد من مباني زاها حديد في مدن مختلفة حول العالم‪ ،‬ولكني اتوقف دائما امام تجربتي في‬ ‫مشروعها مركز التصميم واالبداع في قلب العاصمة الكورية الجنوبية‪ ،‬مدينة سيول‪ .‬ساحة تصميم‬ ‫سيول‪ .‬صممته زاها حديد بصورة تكثفت فيها مجموعة من انحناءات المستمدة من مرجعيات طبيعية‬

‫ص ‪19‬‬

‫دونجدامون ‪ ،Dongdaemun Design Plaza‬الذي يشكل معلم تنمية حضرية فريد في مدينة‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫تتقاطع مع سياق عمراني لتنتج تجربة انسيابية عضوية ديناميكية مبهرة‪ .‬المشروع هو بؤرة االهتمام‬ ‫في مركز التصميم والموضة والتدفق السياحي في المدينة‪ .‬يضم منتزه المشاة السقوف ومساحات‬ ‫كبيرة للعروض الفنية‪ ،‬ومتاجر التجزئة واألجزاء المرممة من قلعة سول بكوريا الجنوبية‪ .‬لم يكن هذا‬ ‫المشروع فقط اداة لتسويق المدينة ولكنه كان واحداً من األسباب الرئيسية لقبول ترشيح سول لتكون‬ ‫عاصمة التصميم العالمي في عام ‪ .2010‬بدأ البناء في عام ‪ ،2009‬وتم افتتاحه رسميا في ‪ 21‬مارس‬ ‫‪ .2014‬ولمزيد من التواصل االنسيابي مع المدينة فان المشروع متصل فعلياً مع شبكة مترو اإلنفاق"‬ ‫عن طريق محطة دونجدامون المسماة حديقة التاريخ والثقافة‪.‬‬ ‫إن قيمة التجارب الحقيقية الفراغية في اعمال زاها حديد التي تخلق فراغات مثيرة ومربكة بصورة‬ ‫ايجابية حسية حيث يكون من العسير المقارنة مع اي تجربة فراغية خاضها المتلقي سابقا‪.‬يختبر‬ ‫االنسان العادي أو المتخصص شعوراً فريداً‪ ،‬عندما تتاح له فرصه التفاعل الواقعي مع فراغات‬ ‫وتشكيالت مشروع قرأ عنه وشاهد صوره‪ .‬كما ان ال نهائية الفراغات وتماهي حدودها بديع‪ .‬االكثر‬ ‫درامية هو حالة االندماج ما بين المدينة والمبنى فالمتلقي حرفيا ينساب من المدينة إلى الفراغات شبه‬ ‫المفتوحة إلى الفراغات المغلقة دون أن يشعر بحدود فاصلة والعكس أيضا صحيح تماما‪ .‬تحدث‬ ‫فراغات المشروع وتجربة التحرك خاللها طرحا مغايرا لكل تصوراته المسبقة عن الفراغات التي‬ ‫اختبرها في حياته‪ .‬فال يعرف على وجه الدقة حدود وابعاد الفضاء الذي يتحرك فيه‪ .‬وكما هو الحال‬ ‫مع كل تجارب تلقي االعمال اإلبداعية العميقة‪ ،‬فان المتلقي المختبر لفراغات وتشكيالت مباني زاها‬ ‫حديد يشعر برغبة في خوض تجربة معرفية ادراكية ليتفهم هذا التشكيل المعقد وأن يحلل األحاسيس‬ ‫التي انتابته خالل حركته‪ .‬إن المبنى يجعلك تتسأل ويستفز عقلك ويحفز حواسك وينبهك إلى فجواتك‬ ‫المعرفية التي ستساعدك على فهم أعمق للمكان‪ .‬ان حقيقة ان المبنى يمكن ان يعلم وينقل المعرفة‬ ‫تتجسد بصورة جلية في مشروع ساحة تصميم دونجدامون‪.‬‬

‫ص ‪20‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫مركز التصميم واالبداع في قلب العاصمة الكورية الجنوبية‪ ،‬مدينة سيول‪ .‬ساحة تصميم دونجدامون ‪Dongdaemun‬‬ ‫‪Design Plaza‬‬

‫خلود املعمارية احلديدية الزاهية‬ ‫ماتت زاها حديد ولذلك يجب ان تطفأ االنوار الن وجودها على الساحة المعمارية واالكاديمية‬ ‫والفكرية كان نورا وتنويرا‪ .‬حتى في الشرق االوسط اطفئت االنوار‪ ،‬فقد أطفأت دولة اإلمارات انوار‬ ‫جسر الشيخ زايد الذي صممته الفقيدة في أبوظبي احتراماً لما حققته من إبداع‪ .‬من يشك في خلود‬

‫ص ‪21‬‬

‫زاها حديد يصبح مطالبا بفحص خارطة العالم‪ ،‬وسيدهشه بصماتها االبداعية المبهرة‪ ،‬من هونغ كونغ‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫ومروراً بألمانيا‪ ،‬روما‪ ،‬سول‪ ،‬طوكيو‪ ،‬لندن ووصوالً إلى أبوظبي ودبي‪ .10‬جزء من الحرص على‬ ‫خلود زاها حديد‪ ،‬يمكن ان يُفعل ارتباطها بالشرق والعرب والعراق من خالل احياء بيت عائلتها‬ ‫القديم‪" 11‬بيت عائلة حديد"‪ ،‬يقع في منطقة البتاويين‪ ،‬وتم تشييده في منتصف الثالثينات‪ .‬من تصميم‬ ‫مهندس سوري بدري قدح‪ ،‬المنتسب لمديرية األشغال العمومية‪ ،‬الذي صمم أيضاً دوراً سكنية للنخبة‬ ‫العراقية‪ 12‬منها بيت عائلة الجادرجي وبيت عائلة القصاب‪ .‬وكما اقترح السلطاني فان البيت يمكن‬ ‫تحويله إلى منتدى معمارياً‪ ،‬تقام به المعارض الفنية وتناقش به مشروعات العمارة والعمران‪ ،‬وتعقد‬ ‫به الندوات والمحاضرات‪ .‬والواقع ان هذا الطرح يحوله إلى مركز ثقافي معماري عمراني يخلد‬ ‫الفقيدة لالبد تخليدا ايجابيا‪ .‬ونتيجة لهذه الحمالت من السلطاني وإحسان فتحي وغيرهم من‬ ‫المعماريين العراقيين‪ ،‬فقد تبنت أمانة بغداد مؤخرا مبادرة تحويل بيت والد المعمارية العراقية‬ ‫العالمية زاها حديد إلى متحف يوثق فصول من حياتها ونماذج من تصاميمها‪ .‬كذلك فأن تخليد الفقيدة‬ ‫زاها حديد قد يعوض عن إهمالها بل ومهاجمتها لسنوات طويلة في السياق العربي الشرق اوسطي‪،‬‬ ‫والتوجه نحو إحياء قيمتها من خالل برامج أكاديمية نوعية وجوائز تصميمية وبحثية أقليمية توثق‬ ‫بإسمها في مدارس العمارة والعمران في العالم العربي‪ .‬رحم اهلل المبدعة ال نهائية التمرد بنت‬ ‫العراق وبنت العالم‪.‬‬

‫ص ‪22‬‬

‫‪ 10‬تتوزع مباني صممت من قبل زاها حديد على ‪ 44‬دولة في العالم‪.‬‬ ‫‪ 11‬قاد االكاديمي العراقي البارز خالد السلطاني حملة للحفاظ على بيت عائلة حديد البغدادي الذي ولدت وتربت فيه‬ ‫زاها حديد‪ .‬ووثق جهده في مقاله المعروف مقال ‪ :‬أعيدوا لنا دارة زاها‬ ‫‪ 12‬د‪ .‬خالد السلطاني‪ .‬مقال ‪ :‬أعيدوا لنا دارة زاها‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫املراجع والقراءات املقرتحة‬ ‫فتحي‪ ،‬إحسان‪ .‬زاها حديد‬ ‫البنكي ‪ ،‬محمد احمد‪ .‬التفكيك ‪ .‬مجلة اوان عدد ‪ 2‬عام ‪ 2003‬ص‪.143 -134 :‬‬ ‫عبد الرءوف‪ ،‬علي‪ .2014 .‬النقد المعماري ودوره في تطوير العمارة المعاصرة‪ .‬القاهرة‪ :‬طبعة خاصة‪.‬‬ ‫عبد الرءوف‪ ،‬علي‪. 2009 .‬التفكيكية والعمارة‪ :‬التفسيرات الفلسفية واألطروحات اإلبداعية‪ .‬فصل في كتاب اطياف‬ ‫دريدا بأثر رجعي‪ .‬تحرير محمد البنكي‪ ..‬إصدار وزارة الثقافة بمملكة البحرين‪.‬‬ ‫المرتجي ‪ ،‬أنور‪ .‬جاك دريدا‪ :‬فيلسوف نظرية الكتابة والتفكيك‪ .‬مجلة ثقافات ‪ ،‬إصدارات صيف ‪ 2003‬ص‪-162 :‬‬ ‫‪.168‬‬ ‫دريدا ‪ ،‬جاك‪ .‬الكتابة واالختالف ‪ ،‬ترجمة كاظم جهاد‪( .‬دار توبقال للنشر والتوزيع‪ ،‬الدار البيضاء المغرب ‪1988‬‬ ‫حمودة ‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك‪ .‬سلسلة عالم المعرفة ‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة والفنون‬ ‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪.1998 .‬‬ ‫رافيندرن‪ ،‬س‪ .‬البنيوية والتفكيك‪ ،‬تطورات النقد األدبي‪ .‬ترجمة خالدة حامد دار الشئون الثقافية العامة ‪ ،‬بغداد ‪.2002‬‬ ‫د‪ .‬خالد السلطاني ‪ :‬عمارة (زاها حديد)‪ ..‬واقعية الفضاء االفتراضي‪ .‬من موقع الناقد العراقي المنشور بتاريخ‬ ‫‪ 2016/05/06‬على الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.alnaked-aliraqi.net/article/33284.php‬‬ ‫د‪ .‬خالد السلطاني ‪ :‬أعيدوا لنا‪ :‬دارة زهاء‪ .‬من موقع الناقد العراقي المنشور بتاريخ ‪ 2016/07/26‬على الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.alnaked-aliraqi.net/article/34747.php‬‬ ‫سبيل‪ ،‬محمد‪" .2016 .‬خرجت على مألوف األبنية وخرقت تنميط الشرق والغرب زاها حديد"‪ .‬اعداد جريدة البيان‬ ‫االماراتية عدد ‪ 6‬ابريل ‪ 2016‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.albayan.ae/five-senses/culture/2016-04-06-1.2611693‬‬ ‫جميلة حلفيشي‪ .‬حوار مع زاها حديد‪ .‬جريدة الشرق االوسط‪ .‬الخميـس ‪ 17‬ربيـع الثانـى ‪ 1429‬هـ ‪ 24‬ابريل ‪ 2008‬العدد‬ ‫‪10740‬‬ ‫‪http://archive.aawsat.com/details.asp?section=54&issueno=10740‬الرابط‪:‬‬ ‫المراجع اإلنجليزية‬

‫ص ‪23‬‬

‫‪Bernard Tschumi, Architecture and Disjunction, the MIT Press, London, 1996.‬‬ ‫‪Betsky, Aaron. 2016. The Complete Zaha Hadid. London: Thames & Hudson‬‬ ‫‪Hadid, Zaha and Betsky, Aaron. 2009. Zaha Hadid: Complete Works.. N.Y.: Rizzoli.‬‬ ‫‪Hiesinger, Kathryn B. 2011. Zaha Hadid: Form in Motion (Philadelphia Museum of‬‬ ‫‪Art) Yale University Press.‬‬ ‫‪Kate Nesbitt, Theorizing a New Agenda for Architecture, An Antology of Architectural‬‬ ‫‪Theory 1965-1995, Princeton Architectural Press, New York, 1996.‬‬ ‫‪Jeffrey Kipnis and Thomas Leeser, Choral L Works, Jacques Derrida and Peter‬‬ ‫‪Eisenman, The Monacelli Press, Inc., New York, 1997.‬‬ ‫‪Jodidio, Philip. 2013. "Hadid: Complete Works. N.Y.: Taschen.‬‬ ‫& ‪Jonathan A Hale, Building Ideas an Introduction to Architectural Theory, John Wiley‬‬ ‫‪Sons Ltd, Chichester,England,2000.‬‬ ‫‪Jonathan Culler, On Deconstruction, Theory and Criticism after Structuralism, Cornell‬‬ ‫‪University Press, USA, 1983.‬‬ ‫‪Jonathan Loesberg, Aestheticism and Deconstruction, Pater, Derrida, and de Man,‬‬ ‫‪Princeton University Press, USA, 1991.‬‬


‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫علي عبد الرءوف‬

24 ‫ص‬

Mark Wigley, The Architecture of Deconstruction, Derrida’s Haunt, MIT press, USA, 1993. Neil Leach, Rethinking Architecture a Reader in Cultural Theory, Routledge, London, 1997. Peter Eisenman, Peter Eisenman, Diagram, Diaries, Thames and Hudson Ltd., UK, 1999. Peter Noever, Architecture in Transition, Between Deconstruction and New Modernism, Prestel, Munich, 1991.


‫علي عبد الرءوف‬

‫املتمردة املناضلة واملتفردة املبدعة زاها حديد‬

‫التعريف بالكاتب‬

‫األستاذ الدكتور علي عبد الرءوف معماري ومصمم عمراني وخمطط وناقد وكاتب وأستاذ جامعي‪ ،‬حصل على‬ ‫الدكتوراه يف دراسة اإلبداع املعماري والعمراني من جامعيت القاهرة وكاليفورنيا – بريكلي بالواليات املتحدة عام‬ ‫‪ ،1996‬وعلى درجة املاجستري يف النقد املعماري والعمراني‪ ،‬وبكالوريوس العمارة من جامعة القاهرة‪ .‬ميلك د‪.‬‬ ‫عبد الرءوف اكثر من ثالثني عاما من اخلربة االكادميية والبحثية واالستشارية‪ ،‬وقد شغل منصب رئيس قسم‬ ‫العمارة يف جامعة العلوم والفنون‪ ،‬كما عمل منسقا لربنامج التخطيط العمراني جبامعة قطر‪ .‬وقام د‪ .‬عبد الرءوف‬ ‫بتدريس التصميم والنقد املعماري العمراني ونظريات العمران وختطيط املدن يف عدة جامعات أهمها القاهرة‪،‬‬ ‫البحرين‪ ،‬قطر‪ ،‬العلوم احلديثة والفنون‪ .‬وتتعدد االهتمامات البحثية له لتشمل اجملاالت التالية‪ :‬مدن اخلليج املعاصرة‪،‬‬ ‫الفراغات العامة يف مدن الربيع العربي‪ ،‬العوملة وتأثريها على ختطيط املدينة العربية‪ ،‬ظاهرة العنف يف الفضاء‬ ‫العمراني العربي‪ ،‬القيمة االبداعية للرتاث املعماري والعمراني يف املدن العربية واخلليجية‪ .‬وقد حصل د‪ .‬عبد‬ ‫الرءوف على عدة جوائز حملية وإقليمية يف العمارة والتخطيط والنقد والبحث العلمي‪ ،‬ونشر أكثر من ‪ 95‬ورقة‬ ‫حبثية ومقاالت وتقارير فنية منشورة يف املؤمترات الدولية والدوريات العاملية‪ .‬كما مت دعوته إللقاء حماضرات يف‬ ‫جامعات اكرت من ‪ 25‬دولة اهمها كمربدج بإجنلرتا ومعهد التقنية يف شيكاجو‪ ،‬وبريكلي واورجيون وبورتالند‬ ‫ودروري بأمريكا وليبزج بأملانيا وماليزيا وسيول بكوريا ولوفن يف بلجيكا واجلامعة التقنية يف تركيا واجلامعات‬ ‫االمريكية يف الشارقة والكويت ولبنان‪ .‬كما انه مؤلف مشارك يف عدة كتب باللغة العربية واالجنليزية اهمها كتاب‬ ‫النقد املعماري ودوره يف تطوير العمارة املعاصرة (‪ ،)2014‬وكتاب من مكة اىل الس فيجاس‪ :‬اطروحات يف‬ ‫العمارة والقداسة (‪ ،)2014‬وكتاب املدينة والعمارة والرواية (‪ ،)2016‬وكتاب ميدان وثورة وشعب‪ :‬القصة‬ ‫املعمارية والعمرانية مليدان التحرير (حتت الطبع)‪ .‬باإلضافة إىل مساهماته املنتظمة يف العديد من اجملالت املعمارية‬ ‫والثقافية‪ .‬للتواصل ‪alialraouf@gmail.com‬‬

‫ص ‪25‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.