-العدد - 16ربيع 1428هـ 2007 -م
من �إ�صدارات م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية
سيف بن أعطى لفيصل أكرم
دراسة عن املهيمن السايكلوجي في قصيدة النثر
عالء األسواني :قسوة
النقد تؤدي إلى الوعي ديوان محمد احلربي
األخير «زمان العرب» جبير املليحان :يتحدث عن القاص روائيا ً
قصص قصيرة:
ليلى األحيدب ..بدرية البشر ..عصام أبو زيد ..عبدالله املتقي
16
16
فندق النزل في مدينة سكاكا مبنطقة اجلوف مزيج من التراث احمللي واإلسالمي
وثيقة من األرشيف العثماني تخص منطقة اجلوف
السمح :نبات بري تتميز به براري منطقة اجلوف
تستخرج من نبات السمح حبوب تطحن وتخلط مع التمر فينتج منها (البكيل) اجلوبة -ربيع 1428هـ
1
العدد 16 ربيع 1428هـ 2007 -م
ملف ثقافي ربع سنوي يصدر عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية
المشرف العام إبراهيم الحميد المراسالت توجه باسم المشرف العام ّ هاتف)966+( )4( 6245992 : فاكس)966+( )4( 6247780 : ص .ب 458سكاكا اجلـ ــوف -اململكة العربية السعودية aljoubah@yahoo. com ردمد ISSN 1319 - 2566
سعر النسخة 8رياالت تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع
قواعد النشر
1أن تكون المادة أصيلة. 2لم يسبق نشرها. 3تراعي الجدية والموضوعية. 4تخضع المواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. 5ترتيب المواد في العدد يخضع العتبارات فنية. 6ت��رح��ب ال��ج��وب��ة ب��إس��ه��ام��ات المبدعين والباحثينوالكتّاب ،على أن تكون المادة باللغة العربية. الجوبة من األسماء التي كانت تطلق على منطقة الجوف سابق ًا
الناش ـ ـ ـ ــر :مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية أسسها األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري (أمير منطقة اجلوف من 1362/9/5هـ 1410/7/1هـ املوافق 1943/9/4م 1990/1/27 -م) بهدف إدارة ومتويل املكتبة العامةالتي أنشأها عام 1383هـ املعروفة باسم دار اجلوف للعلوم .وتتضمن برامج املؤسسة نشر الدراسات واإلبداعات األدبية ،ودعم البحوث والرسائل العلمية ،وإصدار مجلة دورية ،وجائزة األمير عبدالرحمن السديري للتفوق العلمي ،كما أنشأت روضة ومدارس الرحمانية األهلية للبنني والبنات ،وكذلك أنشأت جامع الرحمانية. 2
اجلوبة -ربيع 1428هـ
احملتويــــات
>6......................... الجوف في وثائق األرشيف العثماني
>55...................... صاحب «عمارة يعقوبيان»
>92...................... قراءة في ديوان «زمان العرب» لوحة الغالف:
صورة فوتوغرافية لبيوت طينية من سكاكا. تصوير الفنان عبدالله بن محمد العتيق - أحد فناني الجوف.
االفتتاحية 4........................................................ دراسات :الجوف في وثائق األرشيف العثماني -د .سهيل صابان6......... قصائد :أغنية الريح -حمدي هاشم حسانين 16.................. إلحاقاً بطفولتي األولى -ماجد البلداوي 18..................... السندباد -عشم الشيمي 19..................................... إلى الفنان والصديق عواد فالح -مؤيد الغنام 20................ المحاط بالعويل -شوقي مسلماني 20........................... في شَ تات -وداد بن موسى 21................................... قصص :صورة عائلية -ليلى األحيدب 22........................... حكاية النهاية -عصام أبوزيد 23................................. السحّ ارة -بدرية البشر 24....................................... حواجز األلوان لفالمون فرانسيس -ياسمينة صالح 27......... وجع الحلم -أشرف الخريبي 28................................. قصص قصيرة جداً -عبدالله المتقي 30........................ معركة مع فرغل -محمد إبراهيم قشقوش31................... المفتاح -منى الشيمي 33........................................ فصل من رواية :سيف بن أعطى -فيصل أكرم 36................. نقد :قصيدة النثر -صفاء عبدالعظيم خلف 42.................... نجيب محفوظ :أصوات اإلثم والبراءة -محمد جميل46........ ديوان محمد الحربي «زمان العرب» -د .خالد فهمي 48....... علوم :المشروبات الغازية والصحة -د .بشير جرار54............. مواجهات :مع القاص جبير المليحان -عبدالعزيز النبط56........ عالء األسواني صاحب عمارة يعقوبيان -سهى رجب 61........ مع القاص المغربي محمد شويكة -نور الدين بازين 65......... مع الشاعر محمد حسيب القاضي -علي أبو خطاب 70........ نشاطات ثقافية :مرض االلتهاب الكبدي -تيسير العيد76....... مشاهدات علمية في صحراء الربع الخالي 77................... الزراعة وانضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية77............ مركز البابطين واسترداد المخطوطات العربية من تركيا 78..... نوافذ :صورة المرأة في السردات العربية -هويدا صالح80....... عالمات الترقيم وأثرها في النص -محمد صوانة84........... قراءة في «رسـالة» لشريفة العلوي -زياد جيوسي 88............ هذا النحو ال نحتاجه -عبدالبر علواني 89...................... رحيل الشاعرة غابرييال مسترال -عبدالرحيم الخصار 91..... كاتبات مغربيات يغادرن «األنثى» -عبدالعزيز الراشدي93...... اإلشعاع الذري ودراسة غاز الرادون -محمد الجارالله96....... األوسمة العثمانية والحاصلين عليها -د .سهيل صابان97...... قراءات :ديوان محمد الحرز -مليحة الشهاب98.................. «غوغل» تواصل رقمنتها للمكتبات100............................
اجلوبة -ربيع 1428هـ
3
> إبراهيم احلميد تهيء الجوبة اعتباراً من عددها هذا ،وامتداداً ألعدادها السابقة ،النطولوجيا متعددة األطياف إلبداعات الشباب ،من مختلف مناطق المملكة العربية السعودية والعالم العربي؛ ضمن مشروع مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية ،التي دأبت على رعاية كل فكر إنساني، من شأنه أن يؤدي إلى رفعة االنسان وارتقائه؛ من خالل مختلف المناشط الثقافية التي ترعاها ومنها دورية الجوبة الثقافية ،التي تسعى المؤسسة من خاللها إلى استكتاب أصحاب األقالم الشابة والمبدعة من أبناء منطقة الجوف لإلسهام بالكتابة فيها ،ورفد الحركة المعرفية أدبياً وثقافياً ،إلى جانب الكتّاب والمبدعين من المملكة والعالم العربي. وإذا كان كثير من الكتاب والفنانين قد اشتكوا مراراً من قلة المنافذ اإلبداعية المطبوعة ،التي يستطيعون اإلطاللة منها على قرّائهم ومجتمعهم؛ فإننا نؤكد أن هذا الزمن قد ولى مع إنطالق دورية الجوبة التي تعنى بالمبدعين الشباب مثلما تعنى بالمبدعين األخرين؛ وهي تولي التجريب اإلبداعي كل اهتمامها ،امتداداً لرعاية هذه المؤسسة الثقافية العريقة لكل نشاط ثقافي. كما أن الجوبة وهي تولي هذه الجوانب ج ّل عنايتها ،ال يسعها إال أن تؤكد على استمرارية دوره��ا الثقافي في استقطاب مختلف األق�لام الثقافية واإلبداعية من كل مكان ،وهي بهذا تحاول تقديم تشكيلة ثقافية ،تتلمس حاجة القراء إلى نهم المعرفة واالبداع.
معرض الرياض الدولي للكتاب 2007م
ا فتتا حيــــة 4
لم يكن مفاجئاً ذلك النجاح الذي حققه معرض الرياض الدولي للكتاب في دورت��ه التي عقدت في شهر صفر 1428هـ (فبراير 2007م) في مدينة الرياض ،إذ ال يمكن لنا أن نتصور أن تكون النتائج على غير ما آلت اليه؛ بجهود نخبة من القيادات الثقافية التي تقود العمل الثقافي في المملكة ،وعلى رأسها األستاذ إياد مدني والدكتور عبدالعزيز السبيل. تولد لديَّ هذا االنطباع بعد التغطية الجيدة وغير المسبوقة للمعرض عبر وسائل اإلعالم المختلفة ،ومن خالل المقاالت والتحقيقات الصحفية والتقارير المتلفزة ،التي أبرزت أهمية المعرض ،ونوعية الكتب المعروضة فيه ،وأبرزت هامش الحرية التي تمتع بها الجمهور ،والتي وصلت أصداؤها إلى مختلف أقطار العالم العربي .وعلى الرغم من عدم حضوري المعرض ،إال
اجلوبة -ربيع 1428هـ
أن اًصداءه اإليجابية كانت محفزة للمهتمين بالشأن مشيداً باألول الحتفائه بالكتاب الحقيقي بعد تحوّل الثقافي ومحبي الكتب من مختلف مناطق المملكة ،الثاني إلى الحفاوة بالكتاب االلكتروني. لشد الرحال إلى الرياض ،طوال فترته التي امتدت عيون عربية عشرة أيام. تشكّل استضافة منطقة الجوف ممثلة بالنادي ل��ق��د م��ض��ت دورات س��اب��ق��ة ع��دي��دة م��ن معرض األدب����ي لملتقى ال��ج��وف ل��ل��ف��ن التشكيلي العربي ال��ري��اض ال��دول��ي دون أن تحقق ذل��ك النجاح الذي ال���م���ع���اص���ر2007م (ع���ي���ون ع���رب���ي���ة) ،وللفعاليات كان الكثيرون يطمحون اليه ،ربما كان لكل مرحلة ال تزدان به المنطقة ،وتتكرس المصاحبة له حدثاً جمي ً ظروفها التاريخية؛ إال أنه بالتأكيد كان للمسؤولين من خالله الصورة التي تشكلت على مدى سنوات عن عن تلك المعارض دور كبير في تحقيقها لنجاحاتها قدرة منطقة الجوف وأبنائها على احتضان مختلف منتم للثقافة أو إخفاقاتها ف��ي زم��ن��ه��ا .وح��ل��م ك��ل ٍ الفعاليات الوطنية ،والثقافية على وجه التحديد، ومحب لها أن تتكرس تلك الظروف والخبرات التي أنجحت معرض الرياض لهذا العام لتصبح أسلوب على الرغم من الصعوبات التي تواجهها المنطقة عمل في السنوات المقبلة ،ال يتغيّر بتغيّر المسؤولين نتيجة لقلة الموارد. والمهتمين بالشأن الثقافي؛ إذ نلحظ أن كثيراً من النجاحات التي يحققها المسؤولون النشيطون في فترة وجودهم في السلطة أو على رأس العمل ،تندثر مع انتهاء تكليفهم أو انتقالهم إلى أعمال أخرى! ل��ذا ،فإننا نأمل أن تتعزز تلك األس��ال��ي��ب التي تحفظ للعمل الثقافي ديمومته ،وللحرية الثقافية - التي أشاعها جو معرض الرياض الدولي -أن تتقد جذوتها على ال��دوام ،وأال تقتصر هذه الحرية على معرض ال��ري��اض ،بل تتواصل إل��ى معارض الكتاب في جميع مدن المملكة؛ وأن تكون هذه المعارض مهرجانات ثقافية بحق كما كان معرض الرياض. وإن مما يحسب ل����وزارة الثقافة بعد تنظيمها لمعرض هذا العام محاولتها الدؤوبة في أن يكون لها خطّ ها الخاص المميّز .وإن بدا المعرض متأثراً بهذا المعرض أو ذاك ،فذلك أم ٌر ال مناص منه ،طالما أن المعرض حقق الهدف المنشود ،ولكن ما يشفع له أنه بدا أنه يسير بثقة وزهو نحو النضج واالكتمال. وتستوقفني هنا مقولة للدكتور غسان سالمة قارن فيها بين م��ع��رض ال��ري��اض وم��ع��رض فرانكفورت،
فعلى ال��رغ��م م��ن ك��ون المنطقة إح���دى مناطق األطراف في المملكة البعيدة عن المدن الكبرى إال أن تواصلها مع حواضر المملكة والعالم لم ينقطع مطلقاً ،وكانت للمنطقة ريادتها الثقافية والتي أدت إلى بروز عدد من أبنائها في مختلف جوانب الفكر اإلن��س��ان��ي والعلمي ،ال��ذي��ن أث���روا ب��دوره��م مختلف المواقع التي شغلوها في وطننا الغالي.
وم��ا إقامة ملتقى الفنون التشكيلية إال امتداداً للملتقيات واألسابيع الثقافية التي دأب��ت المنطقة على رعايتها ب���دءاً م��ن م��ع��رض ال��س��ج��اد والنسيج األول ،الذي بدأه معالي األمير الراحل عبدالرحمن السديري رحمه الله قبل أكثر من 35عاماً ،لتشجيع صناعة النسيج والحرف واليدوية ،م��روراً بأسابيع الجوف الثقافية التي شهدتها المنطقة في حقبة التسعينات الميالدية برعاية مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية وك��ان لها أثرها البالغ في إثراء المنطقة وصورتها الثقافية ،ووصوال إلى مهرجانات الجوف الصيفية التي يتخللها عدد من النشاطات الثقافية. اجلوبة -ربيع 1428هـ
5
اجلوف في وثائق األرشيف العثماني
<
> د .سهيل صابان
<<
التعريف بدور األرشيف في تركيا: يعد أرشيف رئاسة الوزراء المعروف باألرشيف العثماني ،أهم أرشيف في تركيا. ويتواجد هذا األرشيف في عدة مواقع هي: أرشيف قصر طوب قابي ،وهو األرشيف الموجود في متحف قصر طوب قابي بإستانبول ،وهو القصر الذي اتخذ مقراً للحكم في الدولة العثمانية بعد فتح مدينة إستانبول (عام 857هـ1453/م) .وفيه وثائق كثيرة ومهمة عن مختلف حقب التاريخ العثماني ،ومنها ما يتعلق بالجزيرة العربية. أرشيف البحرية ،وه��و أرشيف المتحف البحري ،ال��ذي يوجد في مدينةإستانبول أيضاً .ويضم 25مليون وثيقة ،تتعلق بشؤون البحرية العثمانية في مختلف العهود العثمانية .وفيها معلومات عن بعض موانئ الخليج وموانئ البحر األحمر. أرشيف الجمهورية ،وهو األرشيف الذي يضم وثائق الجمهورية التركية ،التيقامت على جزء صغير من أراضي الدولة العثمانية .ومقر هذا األرشيف العاصمة أنقره .وفيه وثائق من العهد العثماني ،تضم معلومات عن بعض العالقات العربية التركية في فترة الجمهورية التركية على وجه الخصوص.
دراس��������ات 6
أرشيف صكوك تمليك األراض��ي المعروض بأرشيف Tapo-Kadastroومقره في أنقره .وفيه سجالت كثيرة عن األراض��ي وأصحابها ،ليس في عهد الجمهورية التركية فحسب؛ بل والعهد العثماني كذلك. أرشيف السجالت الشرعية وهو تابع لدائرة اإلفتاء بمدينة إستانبول .ويضمهذا األرشيف عشرة آالف سجل من سجالت سبع وعشرين محكمة شرعية في إستانبول .وأهمية هذا األرشيف تكمن في توضيحه لكثير من القضايا االجتماعية
اجلوبة -ربيع 1428هـ
في مختلف العهود التاريخية.
التعريف باألرشيف العثماني اص��ط��ل��ح ال��ب��اح��ث��ون ال��م��ه��ت��م��ون ب���دور األرشيف وال��وث��ائ��ق العثمانية ال��م��وج��ودة بتركيا على إطالق مصطلح األرش��ي��ف العثماني على أرش��ي��ف رئاسة ال����وزراء ،ال��م��وج��ود بحي سلطان أح��م��د ف��ي مدينة إستانبول؛ أما غيره من دور األرشيف التركية فتذكر م��ركّ��ب��ة ،بإضافة المقر ال���ذي تحفظ فيه الوثائق المتعلقة بالدولة العثمانية ،مثل :أرشيف طوب قابي، ال��ذي يقصد به الوثائق المحفوظة بمتحف طوب قابي ،في مدينة إستانبول؛ وأرشيف البحرية الذي يشكل قسماً من المتحف البحري ،الذي يضم خمسة وعشرين مليون وثيقة من الوثائق الخاصة بالبحرية العثمانية ،ويوجد في مدينة إستانبول كذلك. أم��ا األرش��ي��ف العثماني ال��ت��اب��ع ل��رئ��اس��ة مجلس ()1 الوزراء ،فهو األرشيف العالمي الذي يتناول تاريخ الدولة العثمانية من نشأتها عام 699هـ (1299م) إلى انقراضها عام 1342هـ (1924م) .ويعد من كبريات دور األرشيف العالمية من حيث كمية الوثائق التي يضمها ،وق��د تم تصنيف % 50من مجموع وثائقه التي تبلغ مائة وخمسين مليون وثيقة ،حتى تاريخ إعداد هذا البحث .وهذه الوثائق التي تتناول مختلف مناحي الحياة الثقافية والسياسية واالقتصادية والصحية واالجتماعية ،تعد مصدراً تاريخياً مهماً، ال مندوحة للباحثين ف��ي ت��اري��خ ال��دول��ة العثمانية – وكذلك في تاريخ أكثر من ست وثالثين دولة قامت على أنقاض الدولة العثمانية -عن الرجوع إليه، ()2 واالستفادة من مقتنياته .
ال إ َّي��اه الباحثون من مختلف أنحاء العالم ،يعد دلي ً ()4
على أهميته ،وال��دور المهم الذي يضطلع به في
توفير ال��م��ادة العلمية للحقبة التي يدرسها أولئك الباحثون.
وق��ب��ل ع���رض م��ج��م��وع��ة ال��وث��ائ��ق العثمانية من
األرشيف العثماني بإستانبول المتعلقة بالجوف ،ال
بد من توضيح أمرين أساسيين:
األول :من خالل استقراء الوثائق الموجودة بين يدي
الباحث تبين أن حكم الدولة العثمانية على أواسط
نجد – بما فيما شمال الجزيرة العربية عدا المناطق
الواقعة على طريق الحج – كان صورياً ،وكانت تلك
المناطق شبه مستقلة في حكمها المحلي ،ولم يكن للدولة العثمانية سيطرة فعلية عليها؛ ألسباب عديدة
يمكن البحث فيها فيما بعد .إال في أوقات استثنائية ولفترات مؤقتة.
الثاني :إذا لم تقع مشكلة في المنطقة تتطلب
ال مباشراً من الدولة ،فال يكن لتلك المنطقة أي تدخ ًَ اهتمام في الحكومة المركزية؛ وبنا ًء على ذلك فإن المناطق التي لم يكن للعثمانيين احتكاك مباشر بها،
كانت غائبة عن أنظار الحكومة العثمانية ،حتى لو
إضافة إلى كمية الوثائق التي يحويها األرشيف كانت تلك المناطق موجودة على الخارطة الجغرافية ()3 العثماني وتنوعها ،من حيث ارتباطها بتاريخ البالد لها؛ ومن هنا ،يصعب الحصول على وثائق كثيرة عن التي دخلت تحت حوزتها ،فإن االهتمام الذي يوليه تلك المناطق في األرشيف العثماني .ولهذا السبب اجلوبة -ربيع 1428هـ
7
فإن الحصول على المعلومات الخاصة عن منطقة الجوف في األرشيف العثماني ،يحتاج إلى التحلي بالصبر ،والبحث فيه بشكل مستمر ،للوصول إليها بين مائة وخمسين مليون وثيقة ،يضمها األرشيف العثماني .وبنا ًء على عدم وجود فهرسة دقيقة لتلك الوثائق -وحتى مع وجود الفهارس القديمة واآللية الجديدة لوثائق األرشيف -فإنه بالنظر لكون أسماء األعالم والمناطق والقبائل في تلك الفهارس جاءت على نحو مصحَّ ف على األغلب ،فال يستطيع الباحث ال��وص��ول إل��ى المعلومات التي يريدها إال بصعوبة بالغة.
الوثائق من معلومات عرضية ،تُكمِ ل -نوعاً ما -ذلك النقص ،وتعطي معلومات ال بأس بها عن المنطقة. وم��ن ه��ن��ا ،ف��س��وف ن��ح��اول ت��ف��ادي ذل��ك النقص من خالل ما دوّنه بعض الرحالة العثمانيين الذين مروا بالجوف ،ومنهم سليمان شفيق كمالي باشا ،الذي زار المنطقة مع والده في عام (1310هـ1892/م) ،أثناء توجههما إلى الحجاز بأمر من السلطان عبدالحميد الثاني؛ حيث انتُدب والده ألمانة الصرة من إستانبول إلى الحرمين الشريفين؛ إذ أورد معلومات مقتضبة ()5 عن الجوف في كتابه الرحلة الحجازية على النحو اآلتي:
ول��ذل��ك ،ل��مّ��ا نشب خ�لاف بين آل رش��ي��د وبين بعض أهالي الجوف ،وتفاقمت المشكلة ،ووصلت شكاوى األهالي إلى والية سوريا ،فقد جرت العديد من المراسالت بين الباب العالي وبين والية سوريا ومحافظة المدينة ال��م��ن��ورة .لكن قبل نشوب هذه المشكلة ل��م يكن للجوف ذك��ر كثير ف��ي مراسالت ال��دول��ة العثمانية ،س��واء ال��ص��ادرة منها أو الواردة إليها.
تقدر مساحة الجوف بنحو عشرين إلى ثالثين ساعة طوالً ،وما بين أربع إلى خمس ساعات عرضاً. وه���ي أرض م��ن��ب��ت��ة .وت��ش��م��ل ال��ع��دي��د م��ن البلدات والقرى .وعدد سكانها يقدر بنحو ستين إلى سبعين ألف نسمة .وبما أنها تقع في وادي السرحان فهي قلعة (أي قلعة الجوف) مهمة للغاية؛ نظراً لوقوعها على الطريق التجاري أو العسكري للجيش المساق إل��ى ال��ج��زي��رة ال��ع��رب��ي��ة .وي��وج��د ف��ي ح��وال��ي القلعة أربعمائة إلى خمسمائة منزل عربي .وبها الكثير من م��زارع النخيل ،كما أن جوها معتدل نسبياً ،وتزرع فيها كافة أنواع الفواكه واألشجار ،وفيها الكثير من العيون الجارية ،إضافة إلى الكثير من اآلبار القديمة والحديثة .وكما أظ��ن – والمتكلم سليمان شفيق كمالي – فإن وادي السرحان كانت موقعاً استراتيجياً تجارياً ،منذ قديم الزمان ،بين البصرة وبحر سفيد (أي البحر األبيض المتوسط) .كما يدل على ذلك اكتشاف العديد من اآلثار والبلدات والمباني القديمة ()6 الخربة في ذلك الوادي .أ.هـ
وإذا نظرنا إلى كمية الوثائق المتعلقة بالجوف في األرشيف العثماني – حسب علم الباحث – نجدها تكثر في فترة نشوب المشكلة ،التي كانت تتطلب ال من الدولة .ولهذا بدأ االهتمام بتوفير سلطة ح ً موالية للدولة فيها ،مع توفير األمن ال�لازم لها ،أو بتعبير أدق القضاء على ما يعكر صفو البلد ،وفي الوقت ذاته استمالة شيوخ المنطقة نحو الدولة .وهي سياسة عامة للدولة العثمانية ،وال سيما في المناطق التي لم تكن وارداتها كثيرة ،ولم يكن لها تأثير مباشر على المناطق األخرى وبالتالي على السياسية العامة للدولة في المنطقة.
وم��ن التقارير المقتضبة ال��ت��ي وج���دت وثائقها وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن ع���دم ال��ح��ص��ول ع��ل��ى تقارير في األرشيف العثماني ،التقرير ال��ذي كتبه النقيب عثمانية موسّ عة عن منطقة الجوف ،فإن ما يرد في محمد أمين أفندي ،ال��ذي ابتعث إل��ى نجد؛ لجمع
8
اجلوبة -ربيع 1428هـ
اجلوبة -ربيع 1428هـ
9
بعض المعلومات عن المصادمات التي وقعت بين اإلم��ام عبدالرحمن بن فيصل وبين األمير محمد بن عبدالله بن رشيد .وتاريخ هذا التقرير بعد (20 شعبان 1309هـ1892/3/19/م) .وعلى الرغم من أن التقرير ال يتعلق بالجوف بشكل مباشر ،فإنه أورد معلومات عن موقف قبائل المنطقة من ابن سعود وابن رشيد من جهة ،وموقفها من بعضها بعضاً من ()7 جهة أخرى .
الدولة إرسال بعض اإلداريين العثمانيين إليها .لكنه أشار إلى أنه بالنظر لعدم وجود إداريين عثمانيين فيها سابقاً فال بد من إج��راء كشف على المنطقة قبل ذلك .وذكر أنه قرر مع مشيرية الجيش العثماني في الشام ،تكليف الضابط في األركان الحربية سهيل بك بالتوجّ ه إلى مقر الشيخ هزاع ،وتنفيذ كشف معه على المنطقة ،وإخراج خريطتها وكتابة تقرير موسع ()8 عنها .
وهناك تقرير في التصنيف ذات��ه من األرشيف العثماني ،كتبه الحاج محمد آغ��ا ،ال��ذي توجّ ه إلى ن��ج��د ل��ش��راء اإلب���ل ف��ي ال��ف��ت��رة ذات��ه��ا ،ع��ل��ى شاكلة التقرير األول .غير أن��ه يزيد عليه بالحديث عن األسلحة الموجودة في المنطقة في حوزة القبائل، واألعمال التي تقوم بها.
واألم����ر ال��م��ه��م ف��ي ه���ذه ال��وث��ي��ق��ة -ح��س��ب رأي الباحث -هو سعي والي سوريا الحثيث إلى إلحاق الجوف بوالية سوريا ،ومحاولة إقناع الباب العالي بذلك ،من خالل عرض معلومات عن الضرائب التي سوف تَجنيها الحكومة من منطقة الجوف .كما أن إش��ارت��ه إل��ى ع��دم وج��ود اإلداري��ي��ن العثمانيين في الجوف وعدم إجراء كشف على المنطقة حتى حينه، يفيد أن المنطقة كانت في حالها من االستقالل عن الحكم العثماني المباشر.
أم��ا غير تلك التقارير ال��ت��ي حصلنا عليها من األرشيف العثماني ،التي تتحدث عن الجوف بشكل مقتضب ،أو على وج��ه ال��دق��ة ،التي ورد فيها ذكر للجوف ،فهي حسب تسلسلها التاريخي كما يأتي: ف���ي وث��ي��ق��ة م���ؤرخ���ة ف���ي ( 8ك���ان���ون الثاني1287رومي 10/ذي القعدة 1288هـ1872/1/20/م)، ذكر والي سوريا صبحي باشا في البرقية التي بعثها إلى الصدر األعظم ،أنه استلم خطاباً من شيخ الرولة ه��زاع ،ال��ذي تحدث عن تمكّنه من تخليص منطقة الجوف من يد ابن رشيد .وأشار في هذا الخطاب إلى أن طول هذه المنطقة سبعون ساعة ،وعَ رضها ست وثالثون ساعة.
وفي وثيقة أخرى في التصنيف ذاته ،البرقيةالتي بعثت بها والية سوريا إلى الصدر األعظم في ( 8نيسان/أبريل 1288روم��ي 12/صفر 1289ه��ـ/ 1872/4/19م) ،التي تشير إلى المكافأة التي تُقدَّ م لشيخ الرولة هزاع الشعالن؛ بسبب قيامه بتخليص منطقة الجوف من يد ابن رشيد ،وتسخيرها للدولة العلية .وه��ذه المكافأة هي قبضة سيف مع قطعة من الوسام العثماني من الدرجة الثالثة .وك��ان قد حصل قبل ذلك على الدرجة الرابعة .وقد حوت هذه البرقية إشارة في غاية األهمية ،وهي أن شيخ الرولة ذكر في الخطاب الذي بعثه مع أحد رجاله من حوران أنه تمكّن من القبض على ابن رشيد واالستيالء على مواقعه( ،هكذا).
وذكر الوالي أنه لم يكتف بما ورد في ذلك الخطاب من معلومات عن الجوف ،وإنما سأل بعض العرب القادمين من المنطقة ،فأفادوا أن منطقة الجوف تتميز بأراضيها الخصبة ،وأنها تحوي العديد من أم��ا ال���رد ال���ذي ص��در م��ن ال��ص��در األع��ظ��م على القرى ،كما تضم مواقع قديمة مستحكمة ،طالباً من برقيتي وال���ي ال��ش��ام صبحي ب��اش��ا ،فقد ك��ان غير
10
اجلوبة -ربيع 1428هـ
– 3إق�����رار ال��ح��ك��وم��ة ب��ح��ك��م اب���ن رش��ي��د على إيجابي؛ حيث ذكر أن توجيه الرتبة الثالثة من الوسام العثماني مع قبضة من سيف من الدولة إلى الشيخ المنطقة. هزاع غير مناسب ،وأن ذلك متوّقف على ما يقدمه – 4عدم ج��واز استمرار ابن رشيد في التعدي الشيخ فيما بعد م��ن أع��م��ال ،وال سيما أن��ه حصل ( )9على بعض العشائر ،وه��ي الحرض ورحيبي ،ورفع على الرتبة الرابعة من الوسام المذكور قبل ذلك ذلك الظلم عنهم كلياً. ()13 .وقد منح فيما بعد ( 6ذو القعدة 1334هـ 5/أيلول وهناك وثيقة أخرى هي في الحقيقة ترجمة1916م) ابنه نوري الشعالن الدرجة الثالثة من الوسام لخطاب بعث به األعيان من أهالي الجوف إلى والي ()10 العثماني ،وكان قائم مقاماً على قضاء الجوف . سوريا صبحي باشا في ( 10رمضان 1290ه��ـ/1/ وم���ع اس��ت��م��رار ال��م��راس�لات ب��ي��ن ال��ب��اب العالي 1873/11م) ،أظهرت عدم رغبة األهالي في البقاء ووالي���ة س��وري��ا ،فقد رف��ض مجلس خ��اص الوكالء تحت حكم ابن رشيد .وبعد سرد أسباب رغبتهم في في القرار الذي اتخذه في ( 14رجب 1290ه��ـ /7/االلتحاق بوالية سوريا ،أشارت الوثيقة إلى أمر مهم، ()11 اقتراحات وال��ي سوريا ،وق��رر ربط وهو وجود أكثر من ثالثمائة ألف شجرة نخيل في كل 1873/9م) منطقة الجوف بالمدينة المنورة ب��دالً من سوريا؛ من سكاكا والقارة والطوير بما فيها الجوف ذاتها. بسبب أن اإلصالحات التي سوف تتخذ في المنطقة ،وذك��ر األعيان في خطابهم الترغيبي لوالية سوريا ستكون أسهل ،تحت أنظار محافظة المدينة المنورة .بالعمل على ضم الجوف إليها من خالل عرضهم أن وأهم ما يلفت النظر في قرار مجلس الوكالء هو كون الحكومة إذا فرضت رسماً بمقدار قرشين ونصف الواردات المحلية البالغة مائة وخمسين ألف قرش ،على كل شجرة – على غرار ما هو جار في المدينة تصرف على المنطقة نفسها ،من خالل اإلصالحات المنورة -فإن ذلك سوف يرفع واردات الدولة إلى مبلغ اإلداري��ة التي تجرى فيها .كما أن القرار أقر بحكم ضخم ،إضافة إلى وجود زكاة العشر الشرعي البالغ اب��ن رشيد على المنطقة بشرط تقديم تعهد قوي في السنة خمسين ألف قروش ،وكذلك وجود مبلغ يحصلها ابن رشيد في ِّ للحكومة بعدم القيام بظلم أو تع ّد على األهالي ،عشرين ألف مجيدي أبيض، السنة الواحدة من قبيلتي شرارات وحوازم .يضاف ما يشير ضمناً إل��ى ع��دم رض��ا األه��ال��ي من حكمه إلى كل ذلك أيضاً كون أهالي الجوف تابعين للدولة على المنطقة .وقد بعث الباب العالي بإشعارين إلى ( )12العلية ،وال يرغبون في حكم ابن رشيد عليهم. والي��ة سوريا ومحافظة المدينة المنورة بذلك . وق��د ج��اء التأكيد وال��رج��اء م��ن أول��ئ��ك األعيان وجاء فيهما توضيح أكثر؛ حيث أشير إلى تفصيالت – حسب إف���ادة الوثيقة العثمانية – أنهم يريدون الموضوع .وهي: االنضمام إلى حماية اإلدارة العثمانية ،كما كانوا في - 1عدم رغبة أهالي الجوف في حكم ابن رشيد كنف تلك الحماية سابقاً .وهذا اإلصرار من األهالي عليهم ،على الرغم من أن الحكم فيها البن رشيد، على االلتحاق بوالية سوريا التي يبعد مركزها عن منذ أكثر من عشرين سنة. الجوف حوالي 700كلم – حسب ما اتضح للباحث – 2كون القلعة الموجودة في الجوف كانت قد – ي���دل ع��ل��ى رغ��ب��ت��ه��م ف��ي ال��ح��ص��ول ع��ل��ى ن���وع من بنيت من قبل ابن رشيد. االستقالل عن حكم ابن رشيد القريب منهم؛ ألن بُعد
اجلوبة -ربيع 1428هـ 11
الوالية عن الجوف ،وقلة المواصالت في ذلك العهد يجعل حكم ال��دول��ة العثمانية في المنطقة صورياً وغير مباشر. وبنا ًء على المعروض ال��ذي بعث به وال��ي سوريا ف��ي ( 9ج��م��ادى اآلخ���رة 1297ه��������ـ1880/5/18/م) إلى الباب العالي المتضمن قيام محمد بن عبدالله الرشيد باالستيالء على الجوف ،وإخضاع القبائل المقيمة ف��ي المنطقة تحت ن��ف��وذه ،فقد استفسر الباب العالي عن رأي الوالي في التدابير التي يجب اتخاذها إزاء توسع نفوذ اب��ن رشيد في المنطقة، مشيراً إلى أنه ال يجوز للحكومة أن تبقى دون قيد ()14 إزاء تلك األعمال .وأهم قيد في هذه المراسلة أن منطقة الجوف غير خاضعة البن الرشيد قبل التاريخ المذكور .أو بعبارة أخرى دخول المنطقة تحت نفوذه ف��ي ه��ذا ال��ت��اري��خ .وه��ذا األم��ر يخالف م��ا ورد في ()15 الوثيقة السابقة من أن الجوف كانت تابعة البن رشيد (عام 1290ه���ـ1873/م) ،ولمدة عشرين سنة قبل ذلك.
الثاني عن تحركات البارون نولده الروسي األلماني األصل ،أشير إلى أن الجوف تحت حكم ابن رشيد. وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن أن الملف ال���ذي يضم تحركات البارون نولده في األرشيف العثماني كبير ،إال أنه بسبب ك��ون ك��ل ال��م��راس�لات ال��م��وج��ودة فيه باللغة ()17 الفرنسية ،سوى صفحة واح��دة بالعثمانية ،فلم يستطع الباحث أن يعرف مضمونها ،وما دوّن فيه من معلومات عن أوضاع الجوف في تلك الفترة( .وقد استطعت الحصول على ص��ورة من الملف ،قدّ متها إلى مؤسسة عبدالرحمن السديري ،لعلها تجد فيها معلومات مفيدة عن المنطقة ،ومن ثم تتولى ترجمتها ونشرها. وفيما يلي نص التقرير العثماني الذي دوِّن في (4
شوال 1310ه��ـ 21/أبريل 1893م) عن رحلة نولده،
بعد ترجمته إلى اللغة العربية ،علماً أن هناك وثيقة أخرى هي برقية من والية سوريا إلى الصدر األعظم
في ( 29صفر 1310هـ 21/سبتمبر 1892م) ،ذكرت
فيه بتوجه نولده إلى بغداد قبل ذلك التاريخ بثالثة
وق��د أرس���ل مجلس خ��اص ال��وك�لاء بطلب إبداء أشهر ،وعودته إلى سوريا متوجهاً إلى لندن عن طريق ()18 ال��رأي من والي��ة سوريا (في 9رجب 1297ه��ـ/17/ إستانبول ،وأشارت وثيقة ثانية عن مرافقي نولده 1880/6م) فيما يجب اتخاذه من تدابير إزاء أعمال الذين ينتظرونه في الشام ،ويُعدّ ون العدّ ة لتوجهه إلى ()19 اب��ن رشيد غير المسؤولة في المنطقة ،وم��ا يجب ( )16الجوف : عمله تجاه تقوية نفوذ الحكومة العثمانية فيها . في اليوم الرابع عشر من ديسمبر وصل البارون إال أن الذي جعل الباب العالي يقر بحكم ابن رشيد على المنطقة – حسب رأي الباحث -عدم تقديم نولده إلى بيروت .ووصل في مساء اليوم السادس ()20 تدابير حكيمة من والي��ة سوريا إزاء هذا الموضوع ع��ش��ر م��ن��ه إل���ى ال����ش����ام .وب��أم��ر م��ن السلطان من جهة ،والعالقات الطيبة التي كانت تربط بين ابن عبدالحميد (الثاني) أع ّد عُدته؛ للتوجه إلى (محمد رشيد وبين السلطان العثماني من جهة ثانية .غير اب��ن عبدالله) اب��ن رشيد .وك��ان بمعية نولده خادم أنه على الرغم من ذلك فقد قرر الباب العالي إبالغ إنجليزي ،ومترجمان اثنان ،وثمانية من الجمَّ الين، ابن رشيد بضرورة التوقف عن تلك األعمال وتقديم وطباخ ،ومربي خيل ،وناصب خيام .ومجموع هؤالء تعهد بذلك. الخدم أحد عشر شخصاً .كما كانت القافلة المرافقة وف���ي ت��ق��ري��ر رف���ع إل���ى ال��س��ل��ط��ان عبدالحميد ل��ه تتكون م��ن خمسة خ��ي��ول وب��غ��ل واح���د وأربعين
12
اجلوبة -ربيع 1428هـ
إب�ل�اً .وب��ن��ا ًء على التوصية ال��ت��ي كتبها ال��ب��اب العالي ل��وال��ي والي����ة ال���ش���ام ،فقد
راف���ق���ه خ��م��س��ة وعشرون ()21
رج��ل أم����ن ()22
تحت قيادة
ضابط ؛ من أجل توفير ()23
األمن له .
وخ���رج���ت ال��ق��اف��ل��ة من
الشام في األول من يناير ج���م���ادى
(1893م12/
اآلخ��رة 1310ه���ـ) ،ووصلت
ف��ي الثالث عشر منه إلى الجوف .وهذا المكان تحت حكم ابن رشيد .وحاكم هذا ال��م��ك��ان (ال��م��كّ��ل��ف م��ن ابن ()24
شك من رشيد :جوهر ) َّ
وج��ود العساكر المرافقين
ل��ن��ول��ده (أن ي��ق��وم��وا بعمل ما ضده) .وفي نهاية األمر الجوف في َ غ��ادر العساكر
اليوم السابع والعشرين من ()25
يناير ،أما البارون نولده فقد استمر في طريقه تاركاً الجوف وراءه.
وف��ي 24أب��ري��ل وص��ل (أي ن��ول��ده) إل��ى مقر ابن
رشيد ،ال��ذي حقق انتصاراً مهماً قبل ذلك التاريخ
بفترة وجيزة (هنا إش��ارة إلى معركة المليداء التي وقعت عام 1308هـ1890/م).
وف��ي األح��ادي��ث التي دارت بينهما ،تحدث ابن
ال رش��ي��د ع��ن إخ�لاص��ه للسلطان (ال��ع��ث��م��ان��ي) ،آم ً
من السلطان أن تنتهي المسألة اليمنية على نحو
حسن .مشيراً في ذلك إلى أن التضحيات الكبيرة التي يقدمها عساكر الترك في اليمن ،سببها تلك الظروف اإلقليمية الصعبة التي لم يتعوّدوا عليها. وف��ي الوقت نفسه ذك��ر أن��ه ال يمكن االعتماد على اإلنجليز .وفي اليوم الخامس من مارس غادر البارون ()26 نولده مقر ابن رشيد متوجهاً إلى بغداد .ومما يجدر ذك��ره هنا أن وثيقة عثمانية هي في األصل مراسلة من والية بغداد إلى الباب العالي ،أفادت (في 15أيلول 13/1325رمضان 1327ه���ـ 28/سبتمبر 1909م) بتوجه إنجليزيين إل��ى الجوف بعد تبديل مالبسهما ،وأن الهدف من رحلتهما لم يتضح بعد،
اجلوبة -ربيع 1428هـ 13
()29
وأن التحقيقات جارية في الحصول على معرفة سبب المنورة ولم تشكل بعد .وتنقل مخصصاتها إلى ()27
توجههما إل��ى منطقة ال��ج��وف .غير أن الوثائق قضاء الجوف على أن يعين فيه شيخ الرولة نوري األخرى في التصنيف ذاته لم تتطرق إلى الموضوع .ال��ش��ع�لان .وق��د ص��در ق���رار ن��اظ��ر الداخلية بذلك
ولعل معلومات جديدة تظهر في المستقبل عن هذا (ف���ي 23ذي ال��ق��ع��دة 1333ه����������ـ1915/10/4/م) ، ومرسوم السلطان محمد رشاد (في 26ذي القعدة الموضوع. ()30 1333ه�������������ـ1915/10/7/م) .وأ ْن تُ���وجَّ ��� َه قيادة وقبل إي��راد موقع الجوف في التشكيلة اإلدارية الجيش الذي يتم تشكيله من العرب إلى ابن المشار ()31 العثمانية األخ��ي��رة ،ت��ج��در اإلش���ارة إل��ى أن القرار إليه الشيخ نواف .وقد صدر المرسوم السلطاني ال��ص��ادر في ( 11شعبان 1328ه�����ـ1910/8/16/م) للسلطان محمد رشاد بذلك في ( 6جمادى األولى قضى بتحويل تبوك إلى قضاء ،ومدائن صالح إلى 1334هـ1916/3/11/م) على أن يلحق هذا القضاء ناحية (أي بلدة) ،وفصلهما مع قضاء العقبة – التي بوالية سوريا ،وأن يتم تحويل مخصصات السويرقية ()32 شُ كّلت مجدداً -من والية سوريا وربطهما وإلحاقهما بالكامل إلى قضاء الجوف .والنقطة الجديرة في ()28 بمحافظة المدينة المنورة . هذه الوثيقة هي إلحاق الجوف بوالية سوريا.
وف���ي محضر س���ري ص���ادر ف��ي ( 3ذي الحجة
وقد جاء في خطاب لوالي البصرة سليمان شفيق
1333ه��ـ1915/10/13/م) ،أشير إلى أهمية منطقة كمالي باشا أنه (في 9مارس 1330رومي 15/جمادى الجوف بوصفها ملتقى الطرق بين الحجاز والعراق األولى 1335هـ1917/3/9/م) أن ابن رشيد كتب إليه وسوريا ،وأن��ه بنا ًء على تلك األهمية االستراتيجية باستيالئه على الجوف الواقع في وادي السرحان ()33 يتم تشكيل ق��ض��اء ف��ي ال��ج��وف ،بعد إل��غ��اء قضاء والتابع لوالية سوريا .فيتضح من ذلك أن الجوف السويرقية التي تقرر تشكيلها قضاءاً تابعاً للمدينة بقيت تابعة لوالية سوريا حتى ذلك التاريخ.
< نص محاضرة ألقيت في مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية بمكتبة دار الجوف للعلوم بسكاكا يوم الثالثاء 16صفر 1428هـ الموافق 6مارس 2007م. < < د .سهيل صابان -قسم التاريخ – كلية اآلداب -جامعة الملك سعود ( )1أرشيف رئاسة الوزراء يتكون من األرشيف العثماني الذي نحن بصدد الحديث عنه ،وأرشيف الجمهورية في مدينة أنقرة ،ويضم الوثائق الخاصة بتركيا منذ نشوء الجمهورية عام 1923م.. ( )2لمعلومات تفصيلية عن محتوى األرشيف العثماني وتقسيماته ،وأعمال التصنيف التي جرت فيه ،انظر :األرشيف العثماني/ نجاتي آقطاش وعصمت بينارق ؛ ترجمة صالح سعداوي ،إستانبول :مركز األبحاث للتاريخ والفنون والثقافة اإلسالمية1406 ،هـ. ص .34-3وكذلك: .Başbakanlık Osmanlı Arşivi Rehberi.-Ankara: Başbakanlık Devlet Arşivleri Genel Müdürlüğü, 1992. pp. 5-30 ( )3لمعلومات تفصيلية عن تصنيفات األرشيف العثماني وكيفية االستفادة منه ،وأهميته في دراسة تاريخ الجزيرة العربية انظر: األرشيف العثماني مصدراً من مصادر تاريخ الجزيرة العربية/سهيل صابان -.مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية -.مج ،3ع 1 (المحرم – جمادى اآلخرة 1418هـ/مايو – أكتوبر 1997م) .ص ص .76-54 ( )4حول األهمية الموضوعية والتاريخية لألرشيف العثماني ،وما يتضمنه من السجالت والدفاتر ،انظر :أوراق عتيقة ووثائق تاريخيه مز (األوراق العتيقة ووثائقنا التاريخية) /عبدالرحمن شرف ,تاريخ عثماني أنجمني مجموعه سي -.ع .)1326( 1ص ص .19-9
14
اجلوبة -ربيع 1428هـ
................................................................................................................................... ( )5وقد نشر سليمان شفيق مذكراته في صحيفة األهرام المصرية( ،بدءاً من 6ربيع الثاني 1343هـ 6/نوفمبر 1924م) في ست وثالثين حلقة (حتى 28جمادى اآلخرة 1343هـ 23 /يناير 1925م) ،رحلة سوله مز أوغلي إلى بالد الشام1307 :هـ1890/م، دراسة وترجمة وتحقيق فاضل مهدي بيات -.األردن؛ المفرق :جامعة آل البيت1420 ،هـ2000/م. ( )6حجاز سياحتنامه سي/سليمان شفيق كمالي باشا .ص .375 ( )7األرشيف العثماني ،تصنيف .Y.MTV.50/72 ( )8األرشيف العثماني ،تصنيف I.DH.45202 ( )9األرشيف العثماني ،تصنيف (.)I.DH.45202 ( )10األرشيف العثماني ،تصنيف (.)DH.KMS.41/43 ( )11األرشيف العثماني ،تصنيف (.)A.MKT.MHM.463/30 ( )12األرشيف العثماني ،تصنيف .A.MKT.MHM.463/30وهذه المراسلة مدرجة أيضاً في دفتر العينيات رقم ،871ص 251 وتاريخها أيضاًَ 14رجب 1290هـ. ( )13األرشيف العثماني ،تصنيف .HR.TO.457/23 ( )14األرشيف العثماني ،تصنيف .Ayniyat.no.1517.p.27 ( )15األرشيف العثماني ،تصنيف .A.MKT.MHM.463/30 ( )16األرشيف العثماني ،تصنيف .Ayniyat.no.1517.sy.27 ( )17يتكون هذا التقرير المدون بخط اليد من ثالث وأربعين صفحة من القطع الكبير .ويفصل بدقة تحركات نولده ،الذي كتب أوضاع المنطقة السياسية في تلك الفترة إلى السلطان عبدالحميد الثاني. ( )18األرشيف العثماني ،تصنيف I.HUS.1310/Ra-11 ( )19األرشيف العثماني ،تصنيف Y.A.HUS.265/18 ( )20وهذا التاريخ هو الوارد أيضاً في رحلته التي نشرت في ألمانيا بعد انتحاره في لندن عام 1895م .الرحالة األوربيون في شمال الجزيرة العربية :منطقة الجوف ووادي السرحان/عوض البادي -.ط -.2بيروت :الدار العربية للموسوعات1423 ،هـ2002/م. ص 259-258 ( )21أفادت وثيقة عثمانية أن نولده هو الذي طلب من الباب العالي تخصيص خمسة وعشرين شخصاً من الجندرمة؛ لمرافقته إلى منطقة الجوف التي تبعد عن الشام مسافة اثني عشر يوماً .األرشيف العثماني ،تصنيف .I.HUS.7.1310/C-11 ( )22مصروفات هؤالء العساكر دفعت من ميزانية الدولة العثمانية بعد عرض الموضوع من لدن الصدر األعظم على السلطان. األرشيف العثماني ،تصنيف .I.ASK.1310/Za-13, DH.MKT.39/20 ( )23بشأن األمر الصادر بتخصيص تلك السرية األمنية للبارون نولده انظر :األرشيف العثماني ،تصنيف .I.ASK.3.1310/Za-13 ( )24انظر تفصيالت ذلك :الرحالة األوربيون في شمال الجزيرة العربية :منطقة الجوف ووادي السرحان /عوض البادي .مرجع سابق .ص 267-266 ( )25هذه الجملة توحي بأن ابن رشيد لم يقبل بقدوم العساكر مع نولده إلى حائل .ولذلك فقد أبلغهم بأن يتركوا نولده تحت حماية رجاله ،وأن يرجعوا إلى الشام. ( )26األرشيف العثماني ،تصنيف.PRK.TKM.27/33. ( )27األرشيف العثماني ،تصنيف .DH.MUI.17-5/1 ( )28األرشيف العثماني ،تصنيف .DH.MUI.61-2/24 ( )29األرشيف العثماني ،تصنيف .I.MLU.1334/Ca-12 ( )30األرشيف العثماني ،تصنيف .I.DH.1333/Za-39 ( )31األرشيف العثماني ،تصنيف .MV.241/116 ( )32األرشيف العثماني ،تصنيف .I.MLU.1334.Ca.6/12 29األرشيف العثماني ،تصنيف DH.KMS. 2-2/2
اجلوبة -ربيع 1428هـ 15
أغنية الريح
ق���ص���ائ���ـ���د 16
فتىً بعد يَخرج.. من شَ جر ِ الرِّيح ِ يُوقظ ُمزموره المُصطفى. يوِّزع منشو َر بهجتهِ للرُّبى للعصافير ِ.. َتحمِ له في مناقيرها مُصحَ فا. يطير على َدرَج ِ الوقت ِ.. تنزف أحالمه.. باليواقيت ِ.. كبريتُ أشواقه ما انطفى. فرس الماء ِ.. َ يمتطى الصبابة.. يجمع جُ ن َد َ مِ ن حانةِ الوجد ِ.. يُوقظ صبا ً غَ فا. إلى جُ زُر ِ العشق ِ.. يسعى الم ُِحبونَ.. يغترفو َن شظايا الحنين.. رصاص َ التوحُّ د باألرض ِ.. مَال َ الفتّى حينما مست الوردةُ /اللهفةُ.. العاش َق المُغرمَا.. فارتمَى في بنفسج ِ زَهوته ِ.. لم ي َِخر.. ولكن سَ ما.. عندما اشتع َل الماءُ في مشهد ٍ عاطفي ٍ وتبَقى فلسطين فو َق عُروش ِ الهوى كُلمَّا اجلوبة -ربيع 1428هـ
> حمدي هاشم حسانني
بزغ َ الفج ُر تبقى فلسطين فوق خَ ريطة ِ قلبي عروسا ً يطاردها العاشقو َن بأحالمهم َصعوا جيدها ر َّ بالحكايا وماء الزفاف ِ الذي نزفته السماءُ وحنَّاؤها الوقت والتوتياء لماذا فررنا من الشَ مس ِ نحو متون الغياب ِ؟ وهذا المُخَ يّم يحفظ عن ظهر قلب ٍ ـ مواجعنا الطيّبات ِ ويعرف أسما َء َم ْن قتـ ـَّـلونا ويوقن أن ـ َّا ُشرفات هوانا ِ على ُنناجى الحنينا وننظر من ُكوة ِ الغيم ِ للحلم ِ نرتاد ُ مقهىَ الـ ُبكاء ِ ونرشف تاريخنا والغُبار هناك بقـ ُرب ِ الرصيف ِ العتيق ِ تـ َمدَّ د لي ٌل مُوش ـ َّى برائحة ِ الدَّ م ِ والت ـ َّبغ ِ هاتوا شجونكم المُستفيضة. أرضنا يستحم الهالك ُ.. ففي ِ ويرعَ ى الظمأ. على قاب قوس ٍ تطل ُ الغزالة ُ..
<
في مقلتيها ينام ابتهاجي وأصحو خضبتنى دماءُ القبائل ِ وقد َّ قد شي ـ َّعتني خناجرهم نحو قبري وحبري الذي كم تسلل راود َ عُصفورة ً في الخليل ِ الضحى مرتين ونادم َ غزة قبل َ ُ بأنشودة ٍ من عبير القـ َرنفـ ُل ِ نا َم بحـ ُضن ِ الجليل ِ وسَ ط ـ َّر فوق الغـ ُيوم مراثيه ِ فانبهر القاعدون َ المُحبون َ خلفي ي َُصل ـ ُّون فوق مياه الهـ ُيام ِ فيرتعد العُشب ُ هلل ـ َّت السوسنات ُ المُقيمة في الجُ رح ِ والفـ َر ُح كالطفل يحبو بأهدابنا والبنات ُ تـَط ـ َّيبن بالياسمين ِ ال ُمغ ـَطـ ّى بأتراحهن َ تعمّدن بالورق ِ األخضر ِ النابت ِ اآلن َ من دمعه َن و َِسر َن وراء قطار األسى ينتحبن َ وتبقى فلسطين في حـ َدق ِ العـ َين ِ في مُفردات ِ اليقين وفى الظـ َّن ِ تـ َسكب فوق مواجعنا حقل َ حُ ب ٍ وشوقا. وتفتح مزمو َر لهفتنا يبدأ البو ُح
أوَّاه يا مجدلية هذى الضفائر بعد ترفرف كالطير ِ ذكراك ِ تحفر ما قد تبقى من السَ د ِّ والمَد ُّ يأبى مُالقاتنا في العشيةِ جُ نْ ُد الخطيئةِ يعتقلون هوانا ويستنشقون هواء الصغار ِ عيانا ً عيانا.. وفى ليلة العيد ِ تأبى المواعي ُد رجم َ سوانا وكم راقهم رقصنا فوق جمر ِ الظنون ِ؟ الدرس ُ وحين انتهى مالوا وهم يجرعون كؤوس الجماجمْ. ويدعون راشيل الزيت ِ صبّي قليال من ُ حتى تفو َر المالحمْ. وراشيل تضحك مالت كعود ٍ من البان ِ قد هادنته المواسم. وتبقى فلسطين فى هسهسات الشجرْ. وفى شفة الرّيح ِ تكبر الصبابةِ .. في رشقة ٍ من رصاص َ أماه.. أدعو وأدعو وأدعو وتبقى السماء ُ بغير قمرْ.
< شاعر مصري.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 17
إحلاقا بطفولتي األولى ()1
قد أخلع هذي الليلة قلبي، وأجوب األرض، القمر الميساني يخبئ وجه طفولته، والنهر الحلمان يكفكف دمع الذكرى، بي رغبة.. أن أصرخ في الفلوات، عن زمن مات، عن طفل ضل طريقه، عن كلمات جوفاء، عن وطن ضاع، في طرق الصحراء.
()2
ما بال الغيمة تبكي حجراً؟ ما بال األرض تنز دمًا، وتميد بأكواخ الفقراء؟ ثمة غصة صوت في حنجرتي، آه.. ما أعذب أن نتطهر بالذكرى، أن نسلخ جلد األيام، إلحاقا بطفولتنا األولى.. بعذوبة دجلة وهي تسرّح شعر القرويات.
()3
قد أخلع هذي الليلة قلبي، وأمرّغ وجهي في الطين،
18
اجلوبة -ربيع 1428هـ
> ماجد البلداوي
و أصرخ، يا وجعاً يتورم في جسدي، يا نزفاً لأليام الثكلى، يا شجن الناي، وهو يترجم حزن الماء، سأجوب األرض.. الخارطة العمياء، شواطئ ليل العشاق، أتدفأ بالماء وباآلالم وباألمطار.
()4
أعصر جرحي، وبنادق صيادي غابات الموت، تحدق بي، باألشجار، وباألطيار، لتوزع كل الطلقات، بال استثناء، وعصافير الحب.. ما عادت تأوي لألعشاش، والشمس احتجبت خجالً، والقمر الميساني يودع آخر نجم.
()5
هذي الليلة.. مسكوناً بالوحشة، مطعوناً بالخوف.. من اآلتي. آه يا حزن صالتي.. الليلة .......آه، وينهمر الدمع بكل غزارته.
السندبــاد شئ فو َق وجهِ البحرِ رأيتُ كلَّ كلَّ ٍ
واضحاً..
هذا الذى أتعبني وكلما قلتُ أعــو ْد
أخط رحل ًة وأخطو للبعي ْد ُّ
تحط بي ُّ حكاي ٌة
حكاي ٌة تأخـذنـي
وكلما تأخذني حكاي ٌة وراء أخرى أستزي ْد ينوءُ قلبي بالذي أَسَ َّرهُ للبحرِ
والذي رأى..
(هل تؤم ُن اآل َن بما كنتَ ترى
وما ارتأيتْ ؟)
ك ُّل الوجو ِه قابلتني بالسؤا ْل
ألف س ّْد وامتدَّ نحوي ُ أقولُ:
ربما تَحنُّ شرفتي
لوقفتي
وربما تشتا ُق مرآتي لوجهي ..ربما والليل لي،
لمن يقو ُل لي :اتَّئ ْد
أو..
ربما سوف أقولُ :إنني أخطأتُ ،
حينما حلمتُ مث َل قطر ِة المط ْر
بأنني قد أستطي ُع أن أكو َن جدوالً! أقولُ:
ربما أ ُ َورِّثُ الحكايـا
> عشم الشيمي
للصبايـا (ثم ما أدراكَ ال أنَّ ما تظ ُّن ُه جزير ًة – هنا – وموئ ً حوت ينتظرْ؟) ٍ يكون غي َر ظهرِ يخر ُج من رأسي برو ٌق ورعو ْد ودهشتي ال تنتهي إن تسخروا مني فإني مستجي ْر سفينتي تقودُها أيامُكم (وفى دمـائهم تسيرْ) ..تركتُ خلفي كلَّ شيء لم أع ّد صحبتي أراو ُغ السؤالَ: ُحس بالفؤادِ لحظ َة الشرو ْد من ي ُّ أهرمُ ،يذوي ضوءُ عيني وتُ َدوِّي الري ُح في جنب ََّـي، هل أقول ُ: ليتني احترقتْ وما بـدأْتْ ؟ (قد توَّجتْكَ الري ُح بالخسارهْ وما اهتديتْ !) اآلن.. من يشبهـني في حزني؟ ومن سيبكي رحلتي؟!
< شاعر من مصر.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 19
إلى الفنان والصديق عواد فالح
> شعر :مؤيد الغنام
احملاط بالعويل <
> شعر :شوقي مسلماني
ها أنت..
لم يب َق منهم غير صورة
تُخبيءُ العمر
وهو يكذب ويكذب
بكاميرا الروح!.. تهدي صحراءك قناديل حزنك بعشق الحياة وعشق التنفس وبهجة البقاء!.. تفتش في هذا المدد األصفر عن منابت أرواحنا فيزهر نخيل جوفك وأجوافنا عطشى!.. لماذا تفتش في سرايا العيون عن غيمة ..تهديها.. في روض حنظل..؟ من ينبض في نقوش القلب..؟؟ من يرقص فوق عتبات التاريخ بليل ..وذكريات..؟
وهو ينفي ك ّل شيء يتسلّل ويأخذ بيدِ رأسي إلى أمكنة أخرى تقول البو ُم أنّ صديقَها الغراب يؤكِّد لها أنّ ك ّل شيء لونه أبيض المُحاط بالعويل اآلن أين هو؟ بر ُج الهاوية المجدوع األنف الذي قلبه يخفق بانتظام كذلك ،أين هو؟ الذين رحلوا بطقوس صمت مطلق
تعالَ..
وال زالوا صامتين يعتذرون
نتقاسم هذا الشتاء
أنّي ليستْ لديّ ولو اآلن صورة واضحة لهم
وبعضاً من حزنك
في الساعة المتأخِّ رة هذه
بنفجال قهوة
من الليل.
ومرارات. < فنان وشاعر -الجوف .
20
العنوان الذي يؤكِّد ك ّل شيء
اجلوبة -ربيع 1428هـ
< سيدني -أستراليا.
<
ِفـي َ شـتَــات ال وطن لك أيتها النافذة مثلما ال حبَّ لي كالنا نضيع في شتَات ال يُحتمل صباح أنت بال َ ِ وأنا بال عازف..
العارِ فَ ةُ
أيتها النافذة الودود في بيتنا القديم في حيّنا القديم في المدينة القديمة قولي لي من أنا؟ ومن يكون حزني؟
الحيْ رَ ة مَ َطرُ َ
بياضا ً كيف يزداد العمر كلما أغمضتُ عيني؟ كيف يهطل الحزن على سقيفتي كلما فكرت؟ كيف تذبل رهافتي كلما مددت يدي.. كلما ناديتُ ؟ كيف يحط هذا الليل على النوافذ وعلى قلبي بنفس أنفاسه القلقة؟ ال شيء سوى السؤال..
> وداد بن موسى
جارتي
جارتي في الحب قالت لي: ما كل هذه النوافذ المضيئة في جسدك؟ ما كل تلك األزهار حولها؟ ما كل تلك األقمار؟ من أين لك هذه السماء؟ جارتي في الحب جاهلة بالحب
نوافذ القَ ل ِْب
...وتَضحكين يا نوافذ ال َقل ِْب وتَسْ خَ رين... الحَ بيبُ الذي كا َن هنا صا َر هناك يجَ ر ِْج ُر غيابَ ُه وخساراتي معاً يا نوافذ القلب صلي ألَجلي قاس هذا الغيابُ ؟ كم هو ٍ وكم أنا وَحيدَة؟
قديم ًا
كانت النوَافذ ِ تَشْ تَكي م ْن جَ ساَرات ال َقمَر ال َي ْو َم ضجَ رَها من َفر ِْط َ تَشْ تَهِ ي «غَ ْم َزةً» ِل َمو ِْعدِ ال َق َم ْر خريف1428هـ اجلوبة -ربيع 21 1428
صورة عائلية! > ليلى األحيدب
ق�����ص�����ص 22
صورة عائلية قديمة ..تجمع األخوة واألخوات .أخوة وأخوات ليس لهم فروع وال امتدادت ..وجوه بريئة وخالية من الهموم ..مقبلة ..ليس لديها نوايا مسبقة!! هي بالزي األصفر تجلس متقرفصة في الطرف ،وعلي يجلس خلفها بوجهه الطويل ،وناصر يجلس قربها راكزا ركبته ..موضي والعنود يحيطان بعلي ..موضي ترتدي التايير األخضر الذي أحضره أبي من لبنان ،والعنود ترتدي فصلته أمي لها. ثوبها األحمر الطبقات الذي ّ يا لجمال الصورة ..أخوة وأخوات فقط!! أنظر إلى الصورة اآلن ..وجوه محملة بالتأويل ..بردود األفعال ..بالفروع واالمتدادت!! والفرع يطرد األصل دائماً؟! علي ..تهمّه زوجته ،وال يريد ألي أحد أن يُعكّر مزاجها؛ فبكلمتين منها تجعل منه بالونه حمراء مهيأة لإلنفجار! وموضي ..أوالدها وبناتها فوق الجميع ..تغضب من أمي إذا وجهتهم بكلمة!! العنود ..تسير خلف رأي زوجها مهما كان ..إن رضي علينا رضيت ،وإن غضب منا غضبت!! ناصر سافر إلى كندا ،وتزوج بكندية من أصل عراقي ..يزورنا كل ثالث أو أربع سنوات مرة!! هي تنتقدهم دائماً ..وهم يهاجمونها ألنها العانس المعقّدة ،التي تريد أن تربي الكل!! يريدون أن يحوّلوا البيت إلى متنزه ألطفالهم! وهي تريد أن ال يعبث أطفالهم بالبيت! يريدون أن تتحمل لؤم زوجات اإلخوة وكبرياء أزواج البنات!! قصروا في شيء! وأن ال تغضب إذا ّ بينما الويل والثبور لها إذا بدر منها تقصير ،ولو كان غير مقصود!! تصرفاتها متعمدة خبيثة! بينما تصرفاتهم ردود أفعال فقط!! تفاصي ٌل كثيرة تحدث ..كلها تجتث الجذور ..وتُعلي من الفروع!! وجوهٌ كثيرة تحيط بالصورة اآلن ..وجوه مختلفة ال يجمعها شيء واحد! وجوهٌ تنتمي إلى أسر مختلفة!! لكنها تحيط بالصورة القديمة ،وتتطفل على تفاصليها الجميلة!! شَ َعرَتْ أنها كفٌ معلق ٌة في الهواء !!..مجتثة من جذورها ..مبتورة!! وو ..حـ ..يـ ..دة!! كفٌ وحيدة ..مثبتة في إسمنت صلب ..إسمنت ..ينمو في مسام الجلد ..ويسد منافذ القلب األربعة. كفٌ وحيدة معلقة في الفراغ ..ال جذور ..ال انتماء ..ال عاطفة ..وال دم!!! كفٌ مذنبة! وغريبة ..ومعلقة في فراغ مظلم! لكنها في داخلها ..في ذلك العمق الندي ..ما تزال تشعر أنها تلك الطفلة الصغيرة بالثوب األصفر. طفلة تريد لمّة اإلخوة واألخوات تماماً كما في الصورة القديمة! ..هذا كل ما تريد!! اجلوبة -ربيع 1428هـ
حكاية النهاية.. > عصام أبوزيد ..وذاتَ يوم ،انفتح بابُ غرفتي ،ودخ َل أسدٌ ،ال على أفرادها؛ فيكون نصيب الفرد عو َد جرجير واحد أدري من أين جاء؟ وهج َم على طوبة من رمل كنتُ في اليوم .ويقال إن الحزمة اشتراها األزرق األكبر ،ثم أعلقها على الحائط ،وكما يحدثُ في األحالم انفجرت توارثتها األجيال من بعده. الطوبة إلى ماليين وماليين الحبات من رمل عنيف، لكنني قلت :يا رزَّاق يا كريم ،ورميت صنارتي في يهاجمني من النواحي كلها؛ ورأي��ت األس��د الشجاع الماء ،وانتظرت صابراً ،أدندن بعضاً من كالم األغاني. يموءُ ويبكي ،وأنا بيدي الحنون أضمه إلى صدري ،وكان األسد يدور حولي وي��دور ،ثم يقف ويرقص ،ثم تبك يا أسد ،ال ِ قائالً :ال ِ تبك .ال أعلم عدد اللحظات يمشي ويركض؛ فقلت هذا ليس بأسد ،هذا كلبٌ أو التي مرت حتى توقّف الرمل عن مهاجمتي ،وعندما قرد دخل حياتي متنكراً في ص��ورة أس��د! وال بد من استقر الرمل على األرض في أمواج عالية ومدهشة طريقة الكتشاف الحقيقة. ذكَّرتني بالبحر ،قلت :يا أس��د أن��ا جائع ،وأري��د أن وج��اء االنتظار وراح ،واص��ط��دت سمكتين؛ واحدة أصطاد سمكة أو سمكتين ،فهل يمكنك أن تذهب من البلطي ،وأخرى من البياض ،وسمكة ثالثة غريبة، إلى البلكونة وتحضر لي الصنارة المسنودة هناك؟ اح��ت��رت ف��ي أم��ره��ا؛ فأسميتها «غ��ري��ب��ة» .ث��م وضعت وكما فعل العفريت مع النبي سليمان ،أحضر األسد «غريبة» والسمكتين في حقيبتي البالستيك ،التي كتبتُ الصنارة قبل أن ترتد رموشي إلى أعاليها مطمئنة؛ عليها بالخط األح��م��ر العريض« :أن��ا بحب السمك». فقلت :منذ اليوم أن��ت صديقي يا أس��د؛ تقاسمني وحملت الحقيبة على ظهري ،وك��ان وجهها ال��ذي عليه ًّ أيامي السوداء والبيضاء ،فتطلع األس��د إلى عيني الكتابة واض��ح��اً تحت الشمس ،وك��ان األس��د يتبعني، حائراً؛ فضحكت ،وقلت في نفسي :كم أنت عبيط يا فعبرنا ميدان البريد ،ثم دخلنا درب المنصور ،وهو دربٌ أسد؟ وكم تصبح الحياة جميلة ،عندما تمر عليها األم ضي ٌق وطويل ،خرجنا منه إلى سوق الطيور .كان الزحا ُم ��اس غ��ارق��ون في البيع المشمسة بأصابعها اللذيذة؛ فتحلم الكالب بعظمة ش��دي��داً ،والطيور تتصايح ،وال��ن ُ الجزار التي تزن خمسة أطنان على األقل؟! أما بائع والشراء ،وأنا أفكر :هل آكل السمك مشوياً أم مقلياً؟ يا البطاطا فتفوّق على الجميع بصيحة أبدية ،يرددها ليتني أحضرتُ نقوداً معي الشتري زجاجة مياه غازية. في جميع الشوارع :يا عسل يا عسل يا عسل. وكان أن غامت السماء وأرعدت ،ونزلت األمطار وك��ان األس��د يمشي خلفي ،مثل التلميذ الشاطر، إذا توقفتُ وقف ،وإذا نظرتُ إلى السماء نظ َر إليها؛ فاعتقدتُ أنه من فصيلة األسود المرحة ،وقلتُ :هيا نلعب يا أسد ،وأخرجتُ لساني فأخر َج األسد لساناً أكثر ط��والً؛ وكنا نمشي في طريقنا إل��ى بحر النيل، ولما وصلنا إليك يا نيل وجدناك تمي ُل إلى األزرق، وأن��ا أتشاءم يا أزرق ،متذكراً أن الجد األكبر لعائلة البخالء في شارعنا كان اسمه األزرق ،انحدرت منه ساللة زرقاء ،تشتري حزمة الجرجير وتوزعها بعدالة
الوافرة فوقنا؛ فتكونت هنا وهناك بحيرات متعرجة الشواطئ ،تطفو على مياهها عيدان بوص ،وخيوط، وق���ش ،وخ��ن��اف��س .وظ��ه�� َر ف��ي ب��ح��ي��رة ب��ع��ي��دة هيكل حديدي ،يرتف ُع من المياه ،عالياً صدئاً ،يخر ُج من رأس���ه قضيب أف��ق��ي دوار ،ينتهي ط��رف��اه بعجلتين تدوران؛ فتنطل ُق منهما النا ُر والشرار ،فقلتُ ماهذا ياربي؟ هل نحن في يوم القيامة؟ أم هذه عالمة من عالماتها؟! وتلفّتُ حولي أبحثُ عن األسد؛ لكنه كان قد اختفى ،واختفى معه كل شئ!
اجلوبة -ربيع 1428هـ 23
السحارة ّ > بدرية البشر
<
زوج��ة أب��ي ام��رأة قاسية ،تشبه زوج��ات األب في الحكايات المعروفة ،يكفي لوصفها تلك النظرة الملتاعة ،التي تطفر من عيون نساء عائلتي ،المشفقة عليّ من وجودي بين يدي زوجة أب غير رحيمة .زوجة أبي ال تداري قساوتها ،مثل زوجات األب الحاذقات ،بل كانت ترد على جارتها وهي تتهددني أمامهن: ماذا سينفعني ،إن أحسنت أم لم أحسن؟ آخرتها سيقولون (مرةْ أبو)..ثم تعود لتبرر ،أن القسوة هي التي تربّي النساء ،مثلما ربّتها هي ،وتجعل منهن نساء حقيقيات. تزوجها أبي لتربيني ،وتنجب لي إخ��وة ،يرعونني عند الكبر .لكن زوج��ة أبي كانت امرأة عاقراً ،وظن أبي أنها ستغمرني بالحنان؛ تعويضاً لحرمانها من نعمة األمومة. لكنني أدركت حين كبرت ،وصرت أ ّماً ،أنَّ األمومة شيء ال نتعلمه. ال أعلم لماذا عجز أبي عن حمايتي ،وهو يرى زوجته تثقل كتفيّ الصغيرين، بحموله تنوء بها طفولتي وصبري؟ ربما ألن زوجته تغلق على من يقف أمامها منافذ الهواء ،فال يطلب منها سوى الستر ،واتقاء الفضيحة ،وأبي رجل مسالم ال يحب الشجار ،ويخشى الفضائح أمام الناس ،واألقاويل التي تنسج خيوطها حوله ،ويصير أبي وزوجته خميرتها. صرت أهرب من بيت أبي إلى بيت عمتي المجاور لبيتنا ،وآنس بحكايتها ،وهي تمشط شعري ،عن رقصات البنادق المشتعلة بأقدام الرجال ،وغنائهم في أعراس البنات الجميالت ،لذا صرت أحب شعري ،وصار مظلتي ،التي تمطر بحكايات عمتي في أماسي الوحدة ،وتحميني وأنا نائمة من الغول الذي يشبه زوجة أبي.
24
اجلوبة -ربيع 1428هـ
كان لعمتي صندوق كبير ،من خشب السنديان، ��رص��ع ب��ق��ط��ع ن��ح��اس م�����دورة ،وم���زالج���ه الذهبي م ّ الصغير ،يصر في يدها ،ويدغدغ فرحي ،كلما همت بفتحه .كنت وأنا طفلة ،ال أم ّل التنقيب فيه ،وال أعثر على قطع الحلوى فيه ،حتى تمدها لي عمتي من مخبئها ال��س��ري .ك��ان لحلواها رائ��ح��ة غريبة ،تمر اآلن من تحت أنفي ،عبقة برائحة العنبر ،والمسك، والزعفران« .لبانها» المر يتفتت بين أسناني ،ويذوب في حلقي ،وتظل رائحته تنبعث مع أنفاسي ،حتى صباح اليوم التالي. في صندوقها كذلك ،أكياس من قماش أبيض، أفواهها مضمومة بخيوط من القيطان الملون ،تنبعث منها رائحة سدر ،وحناء .وفي الصندوق عقود ملونة، في كل مرة أجد عقداً ال يشبه اآلخر ،بخرزات من أل��وان مختلفة :برتقاليه ،وزرق��اء ..منظومة كحبات السبحة ،تتوسطها قطعة مدورة من الذهب ،عليها زخارف فارسية ،وهندية .تتركني عمتي طوال الوقت أتفحص صندوقها ،وهي تعرف أنني ال أمِ ُّل منه ،تقوم لتصلي صالة الضحى النافلة ،تجلس على سجادتها، ثم تحاول شدي نحوها ،وهي تفتح مصحفها الكبير، ذا األحرف الكبيرة .تناديني« :نوري» ،ال أحد يدلعني بهذا االسم غيرها! ما هذه الكلمة؟
لزوجة أب��ي ،التي تتوعدني ،وتحرِّض أبي ليمنعني من البقاء مع عمتي ،وحين لم ير ّد أبي عليها بغير لطمات الباب وهو يقفله خارجاً ،تركته بال غداء، عقابا له ،فصار يأتي ليتغدى معنا في بيت عمتي، وتجلس زوجته وحيدة ،تقضم فراغها وحسرتها؛ بل صار أبي أحيانا يمضي قيلولته معنا ،وبد ّال من أن يُهيء لي طريق الخالص ،راح يتبعني نحوه!
<<< ك��ب��رت عمتي ،ول��م أص���دق أن��ه��ا تكبر ،ل��م أشعر ب��ال��ف��رق ،ألنها ال ت���زداد غير حنو وشفافية! كانت تطلب مني أن أصبغ شعرها بالحناء ،فأرى بياضه يكثر ،حتى غطى شعرها ك��ل��ه ،وأص���دّ ق م��ا ترويه عمتي ،عن نساء عائالتنا وشعورهن اللواتي يشبن مبكراً وهن صغيرات .وعندما تطلب مني وأنا فتاة فارعة الطول ،أن أمد يدي لتتكىء عليها ،لتنهض وساقاها ترتجفان ضعفاً ،أعتقدت أنها تشكو من ألم بسيط ،لو أخذت له دواء .وحتى عندما صارت عمتي تدخل في سجة النوم وهي جالسة ،رحت وأبي نعايرها بالكبر مزاحاً: عمتي يالله قومي نامي وخلي السهر للشباب!كانت تنهض وهي تردد :يا الله حسن الختام.
أنظر في المصحف ،وأتهجأ لها كلمتها الصعبة، عمتي الزم���ت ال��ف��راش أي��ام��اً ط��وي��ل��ة ،وصوتها ثم أتمدد تحت جذعها ال��داف��ىء وع��ذوب��ة قراءتها، ال��واه��ن ،يختصر ال��ع��ب��ارات إل��ى إش����ارات ،إذا لزم وأدخل في لجّ ة األخيلة حتى أنام. األمر؛ فاستيقظ في نفسي خوف ،ال يريد أن يصدق تحملني شراسة الوقت إلى بيتنا ألكنس الحوش، أن عمتي تشيخ وتهرم مثل كل ال��ن��اس .لم أتمالك وأغ��س��ل ال��ص��ح��ون ،وأك��ت��ب ف��ي ك��راري��س المدرسة، نفسي وأنا أبكي عند قدميها ،وألومها بأنانية طفلة واجبات كثيرة ،يتناصفها النوم وبياض الورق. تحاول التشبث بأمها لكي ال ترحل: تعلّمت حين كبرت ،أن أقاوم شراسة زوجة أبي. عمتي هل ستتركيني أنت أيضاً؟وعمتي تدفعني بنظرات مطمئنة ،ألكون امرأة قوية، يا بنتي كل نفس ولها أجل مكتوب.ولكن عاقلة .ص��رت أقضي النهار في بيت عمتي؛ أكتب واجباتي المدرسية ،وأمأل جفوني بنوم طويل، أش��ارت نحو السحّ ارة ،وقلبي يتهشم ببكاء مر، ومعدتي بخبز عمتي الحار ،تاركه عمل البيت وخدمته أنظر الى الصندوق ،ثم إلى عمتي ،ألدرك ما تقول:
اجلوبة -ربيع 1428هـ 25
يا بنتي هذه السحّ ارة لك ،لقد كانت سلواكوأنت طفلة ،ومخبأك ،من زوجة أبيك ،عندما كنت صغيرة .كانت دموعك تجف وهي تبرق حين تنظرين إلى حلواها ،تدخلين فيها ضاحكة من أوجاع األطفال التي تنسى.
ربما ه��يء ألب��ي أنني سأصاب بلوثة في عقلي، بسبب فقدي لعمتي التي يعرف مدى تعلقي بها؛ لذا فإنه كان حريصا على تزويجي قبل أ ْن أ ُجَ ��نَّ ،وربما ظن كذلك أنني أداري خجلي ،وفرحي ،بالركض إلى غرفتها .لكنني بالفعل كنت أهفو ،إلى سحاّرة عمتي، ألفتحها .رأيت وجه عمتي يضيء ،وأسنانها الصغيرة المتسقة بإنتظام ،تلمـع ،عرفت ساعتها أن عمتي تباركني ،وتحثني أن أقبل؛ لذا تزوجت.
فَ��قْ�� ُد عمتي ك��ان أم���راً ب��ال��غ الصعوبة ،أسلمني لصحراء شاسعة من الوحدة ،وشمس تحرق جبهتي كلما رفعت رأس��ي بحثاً عنها .وتعلمت أن التحزم بالصبر ،قد حان وقته دون خيار!
صاح عبدالله :والله أنه هو ،هو الذي كسرها.
ثم أضافت وهي تخفض صوتها:
هذه السحّ ارة فيها سر عجيب ،ستظل تحملنيداخلها ،سأنصت لك ،وأراقبك منها بعناية ،وحين تريدينني ،ستجدينني قريبة منك ،وسأهتم بك عند حملت صندوق عمتي معي إلى بيت زوجي سالم، الحاجة فال تخافي ،إن ضاقت بك الدنيا ،افتحيها ،وتركته قابعاً في قلب مخزن البيت ،فصفحة حياتي لكن في ظ�لام الليل ،سيظهر وجهي ل��ك؛ ف��إن كان مع سالم ،كانت رائقة كوجه نهر ،وأغرف كل يوم من يضحك ،فهو الرضا بما تسألين عنه ،وإن كان غير النهر ،حكمة ال تنضب ،حتى جاء ذات يوم ،عال صراخ ذلك ،فهو كما رأيته. الصغيرين ،ويتسابقان نحوي ،كل منهما يحرص على <<< سبق اآلخر ،ليبرىء نفسه.
اعتدت الوقوف على سحّ ارة عمتي ،دون أن يتهشم صدري بالبكاء ،رحت أسلّي نفسي بأشياء عمتي في ظالم الليل كما أشترطت ،ورحت أتنشق زعفرانها وحنّاءها وعنبرها المخلوط بالمسك .وإذا ما أردت ِ إختبار أمر ما ،نازعتني فيه حيرتي ،ألوذ بوجه عمتي، كما حدث معي ذات يوم .جاء أبي ليخبرني بخطبة (سالم) ابن جارنا لي ،وعلى الرغم من أن سالم هو الرجل الوحيد الذي ال يعكّر صفوي البوح باسمه في أمسيات الوحدة ،كنت أدرك أن عمتي وحدها من سيشير علي بأي طريق يعدني بالخالص؛ لذا فإنني قلت ألبي حينها: سأستشير عمتي .وركضت إلى غرفتها.< كاتبة وقاصة سعودية.
26
اجلوبة -ربيع 1428هـ
راح اآلخر يقسم .بل هو يا أمي هو!.. أتجهت نحو غ��رف��ة ال��م��خ��زن ،ال��ت��ي خ��رج��ا منها ركضاً ،كان صندوق عمتي منكبا على وجهه ،وحناءها منتشراً على األرض ،وال تزال رائحته عبقة ندية كما كانت .وعقودها ،تتكوم في جانب آخر .رفعته ،وقلبي ينكسر ،في ضوء النهار السخي ،سمعت صوت مرآة تنشطر ،وه��ي تسقط م��ن وج��ه غ��ط��اء الصندوق، تحول غطاء الصندوق من الداخل ،إلى لوح أسود ،ال يضيء ،بوجه عمتي ،وال بعينيها؛ رفعت المرآة بحذر، أضحك على طفولتي ،كانت عمتي تحملني في كل م��رة أفتح الصندوق للنظر إل��ى وجهي ،ك��ان وجهي يظهر في المرآة ،وظالم الليل يخدعني ،فأعتقد أن وجه عمتي هو الذي يظهر لي ،وضحكت أكثر ،حين أدركت إلى أي حد كنت أشبه عمتي!!
حواجز األلوان للكاتب «فالمون فرانسيس» -جنوب أفريقيا. > ترجمة :ياسمينة صالح تعريف بالكاتب :ولد «فالمون فرانسيس» في مقاطعة «كيت» بجنوب أفريقيا سنة 1942م .عاش حياة البؤس في مجتمع تحكمه األقليات البيضاء .درس األدب في جامعة «جوهانسبورغ» ،ثم هاجر إلى كندا .يكتب القصة القصيرة والرواية ،ومن إصداراته :كيت لوف ،األبيض الميت ،نداء الروح ،في القلب بقايا رجل .القصة التي نقدمها للقارئ الكريم ،اخترتها من مجموعته «نداء الروح» الصادرة في باريس سنة 1980م.
حواجـ ــز األلـ ـ ـ ــوان يمشيان معاً ..جنباً إلى جنب؛ فيبدو شكلهما في غاية الفرح ..الحب حالة مثيرة للدهشة في هذه المدينة ،التي قست عليها الحياة ،فصار الفرح فيها خدعة جميلة ..ولكنهما معاً اآلن ..يدركان جيداً ،أن القلب وحده يقود الروح إلى مقاصد أخرى ،مدهشة ومثيرة؛ ولهذا السبب يبدو شكلهما منطقياً.. هو «نجوما» ،مهندس معماري ش��اب ..تخرج منذ ثالثة أع��وام من الجامعة، ليكتشف أنه ال يملك ما يصممه ..فالمباني الشاهقة والمنازل الفخمة والدافئة من الداخل ،ملك اإلنسان األبيض ،و«نجوما» مخلوق أسود ،هذا قدره ..وألن هذا قدره ،فقد اقتنع أخيراً أن الهندسة المعمارية اتجاه خاطئ ،فالتحق بعدئذ بشركة عادية موظفاً بال أدنى تخصص.. أما هي ،فاسمها «زاديما» -وزاديما في لغتهم تعني ذات العيون الناعسة، تعمل في متجر يبيع الزهور ..متجر يبدو على حافة اإلف�لاس؛ فمن ذا الذي يشتري الورود في مدينة تبعث على الضغينة والحرب؟ ها هما يمشيان بخطوات متناغمة ،يقودهما الحب ،والحلم البسيط بأن يتزوجا قريباً ..يمشيان ويتحدثان عن المستقبل واألبناء ..ها هما ،دونما وعي منهما ،قد تجاوزا منطقتهما ودخال إلى منطقة البيض ..منطقة ال يدخلها الزنوج؛ ففي مدخل هذه األحياء الفتة كتب عليها باللون األحمر :الموت للسود. العنوان األصلي للقصة ،)Les limites( :القصة منقولة من مجلة «فيغارو األدبية» الفرنسية ترجمة ياسمينة صالح -الجزائر.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 27
وجع احللم > أشرف اخلريبى
<
علي... ذهبت إليك كل النهار ,وكل الليل ,وكل ساعة ,وما لقيتك .والقرية كانت تقف على أصابعها وتغط في نوم عميق .لما يتسرب هواء الغيطان إلى المخادع في الليل األسر ,تطير النسمات حيث األجساد الشقيانة ,تبقى هامدة حتى الصباح ,وأنا أقف .كنت أنتظرك.. أنتظرك دون معنى سوى انتظاري لوهمك ,سألت عن وج��ودك ال��ذي يستفز وج��ودي ،وعرفت أن لك بيتاً وأوالداً .سألت عنك ،المراسي والشطأن ،والبحر الغريب ،واألرض التي كانت تعفر جبينك .نعم أعرف مالمحك ,من قديم تقفز في ذاكرتي ،وترن ضحكة عسلية في أذني .وناديت على كل شيء فيك دون رجاء من وقوفي هكذا ،أمام أعتاب بيتك ,وصمتك الذي فتت نظرتي وتبرمي بكل شيء حولي. وحيداً كنت يا عليّ ،وأن��ت تنام في زم��ن القياصرة ,وتسألني عن األساطير القديمة ,وعن غاب البالد وزاده��ا ،وأسألك عن القطار ،الذي يحمل الناس في ب�لادي وه��م يقفون علي األرص��ف��ة .وتقول ها هم الناس يسيرون يحملون على أكتافهم أعناقاً ,وعلى أعناقهم رؤوساً ,وفي رؤوسهم عيون ،وفي عيونهم وجع وحلم يؤرجح الليل. أي حلم يا عليّ قلت لي عنه؟ وأنت القادم قبل وقتك ،والمحال الذي عرفت. كنت تذبح الوهم عند أعناق المدينة ،وتوغل في الكالم ،ترفع عيونك إلى أعلى وتصمت .عرفتك منذ عشرين عاماً ,نائماً في قش الغيطان ،أو في ساعة العصرية، عند أشجار الزيزفون ،والساقية التي رفعت الماء ..ترفع .يجرها ثور عتيد مغمض
28
اجلوبة -ربيع 1428هـ
العينين. لماذا أغمضت أعينهم يا عليّ ؟ -حتى ال يدوخوا!!
مجعوصاً ،تقعد على أريكة من قماش حرير ،مفترشاً كل شيء أمامك ،واضعاً يدك على «الريموت» وخدك األحمر وجبهتك الناصعة .وأح��زن ألني ال أجدك، وال أستطيع استخراجك من ذاك��رت��ي ,من عنفوان صداقتي لك ،وحزني الذي أل َّم بك ،وأصابعي التي مرت على تقاطيع وجهك المبلول .وأنا انتشلتك من المدار ،الذي سقطت فيه ,أستخرج تعاريج األرض من قدميك ومن يديك .أتعّرف كل شيء فيك شيئاً فشيئاً ،وأبكي وأسألك :أنت سليم يا علي؟
ح��ي��ن ن��ادي��ت��ك ،خ��ف��ت وت��راج��ع��ت ،وش��ب��ح وجهك أمامي ،يرج أنحائي رجاً ,يخضني خضاً .لم تكن هو أنت ،وال أعرف متى بدأت مأساتي معك؟ أعرف أنك كنت معي ..داعبتني ،وسرقت الحلم مني عند شجر الزيزفون ,وذهبت أنا للمدينة التي سرقت النار من عبادها .سرقت اآلهات من الحيارى والمسكونين, ومن يومها ،تقول أنك مدين بحياتك لي .أنا ال وأنت تسرق الفاكهة من الغيطان ,تعطيني أنا الخائب أذكر فيك غير أمك ،واألوالد ،والترعة ،وشجر التوت، ابن المدارس ،كما قلت ،واحدة وتقول :ذقها! والبنت .البنت التي كانت نحيفة وتحبك ,كنت تقول أنها «رفع القشاية» ،معك اآلن امرأة ثمينة ،وفاكهة عليّ ..جئتك. ال بأريج بكر ،غير التي كنت تسرقها زمان .اشتريتها من فلوسك، عليّ ..جريت إليك ملهوفاً ،ومحم ً برائحة السنابل ،وتصاوير الحقول في عيني ،والطرق وشعرك األسود الفاحم شاب ،ووجهك األسمر أبيّض بحمرة العز. المتعرجة في فدادين القمح.
وك����ان ال��ق��ط��ار ي��ح��م��ل ال��ن��اس ف��ي ب��ل�ادي ،حين سألت عنك. سرقتني المدينة بما ق��ال��ت عنك ي��ا ع��ل��ي .جئتك في الريف البعيد هناك ،عند أعلى قمة للصمت ،عند مدار الساقية الذي تعرف ,فوق تلك المساحة ولتوحّ دنا ,أعلى مدار للساقية ،وأبنية تتراص ببطءٍ المستطيلة م��ن ح��زن ال ي��ج��يء ،وش���وق يخبط في شديد ,وتصنع أرجوحة للغناء ،غنا ًء بدائياً له طعم جوانحي ،يلم آثار لهفتي عليك ،ويرميها للمدى وأنت الثريد( .طلعت يا محال نورها شمس الشموسة .)...ما جئت .أبداً إلي: كنت أنظر في جباه الخارجين ،واألرض تنظر ماذا تقول يا علي؟ إليهم وال تعرفهم ،وال أن��ا أعرفهم ،وال أن��ت فيهم. ه��ا ق��د ع��رف��ت��ك .ع��ش��رون ع��ام��اً ن��ائ��م��اً ف��ي قش وأصرخ من فرط وجعي النتظارك ،وحدي أجلس.. نعم وحدي ..يقول النهار أنك لم تعد آخر النهار ،كما ال��غ��ي��ط��ان ,وح��ي��ن رف��ع��ت ي��دي وأن��زل��ت��ه��ا على بابك أصر الباب صريره الفاحم .ونظرت في ع��ادوا ،وال حتى أخر الليل .وجئتك كل النهار وكل الحديديّ .. وجهي مستغرباً .وسألتني :من أنت؟ رحبت بي ،كأي الليل ,وكل ساعة وما لقيتك.. زائر ال تعرفه ،وفي عينيك سؤال لئيم؛ فردت يدك يقول المساء :إنك هنا متوحّ د هناك. على آخرها ،وأنت تنظر في دهشة ،وكان الناس في أحضرت الفيديو ،وأشرطة من كل نوع ،وجلست ب�لادي عارفين مواعيد ال��ق��ط��ارات ،التي تأتي من في صحن دارك ال تخرج للناس ،وال ترى األرض .أقاصي الدنيا .ولم تكن تعرفني يا علي!! < روائي وناقد -مصر.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 29
قصص قصيرة جدا ً قبعتان -1-
> عبدالله املتقي
<
وح��ي��ن ان��ت��ب��ه ،ك��ان��ت ع��ي��ن��ه األخ����رى ت��ح��ت كعب حذائه.
ُعمى األلوان
قبع ٌة رمادي ٌة تتدلى من المشجب ..حفنة ذكريات خطر للرجل األع��م��ى ،ال��رج��ل ال���ذي ل��ه عينان صاخبة ف��ي زاوي���ة م��ه��ت��رئ��ة ..أح����زا ٌن ت��ل��وث فضاء جاحظتان ،أن يتفحص وجهه في المرآة. الغرفة ..ورج ٌل يستمع لضجيجه.
-2قبع ٌة بنيّة تتدلى من المشجب ..حفن ُة ذكريات في زاوية مهترئة ..زف��راتٌ تدثر أرض الغرفة ..وامرأةٌ تطل على ضجيجها من نوافذ موجعة.
-3القبعتان سقطتا من المشجب.. والنعاس اغتال المرأة والرجل.
شغب جميل -1خلع قبعته أمام المرآة.
-2في المرآة رجل بعين واحدة.
-3في قاع القبعة امرأة تكور بكفيها عينه األخرى.
عينان مشى وئيداً في الظالم ،سقطت عيناه ،وتدحرجتا إلى مكان ما.. فجأة داس حذاؤه ما يشبه شيئا طرياً..
< قاص وشاعر من المغرب.
30
اجلوبة -ربيع 1428هـ
تسلل إلى غرفة نومه ،أشعل الضوء ،وقف أمام المرآة ،ثم انقطع التيار الكهربائي.
قمر وحكاية محطة البنزين أنيقة ه��ذا الصباح ،ألن المطر ت��وق��ف غ���زي���راً ع��ل��ى ع��ت��ب��ات ال��ف��ج��ر ،وب��ع��د ساعة سيتسلل رجل بال ضوضاء .تحت معطفه الشتوي، حكاية صفراء ،وعلبة سجائر ،وقلم أزرق. بعد السيجارة األولى ،التي تنفض عن عينيه قصة الليل الطويل ،ينثر الرجل ضجيج صمته فوق المائدة، بين الفناجين ،ويعود لقمره المنسي ،ثم أصبح ثاني ًة وحدي.
رصاصة فارغة في اليوم األول ،تعرضت سيارة شرطة لوابل من الرصاص. ف��ي ال��ي��وم ال��ث��ان��ي ،أط��ل��ق ش��رط��ي رص��اص��ة على جبينه. في اليوم الثالث ،حسمت نتيجة التشريح الطبي. وفي اليوم األخير جاء الشرطي نفسه إلى مسرح الجريمة على دراجة هوائية، تفوح من يده اليمنى رائحة رصاص مغشوش.
معركة مع فرغل > محمد إبراهيم قشقوش
<
على الطريق الترابي الممهّد في مدخل القرية ،بجوار الترعة ،تجمّعوا ككل ي��وم وقت العصرية .أطراف ثيابهم المتسخة ،والمزركشة بلون الطين ،علّقوها على أسنانهم .تفرقوا يميناً وشماالً ،اختبؤوا فوق األشجار وخلف عشش القش ،المنتصبة المتهاوية بأطراف الحقول وأسفل ضفة الترعة الطينية ،حيث الروائح النتنة ،يمرحون ويلعبون «عسكر وحرامي وكهرب» و»ال ُغمّيضة وسمكة في الوسط» ،يلتقطون السمك من الترعة ،والعصافير من أعلى األشجار.. قال لهم رافعاً صوته ليسمعوه« :أريد اللعب معكم» .رد أحدهم عليه« :إن سبقت فرغل تلعب معنا». تحوّل بصره نحو فرغل ،ثيابه الرثّة ..شعره األغبر ..قدميه الحافيتين ..تفحصه فرغل هو اآلخر ،بدا في نظراته شيء من االحتقار ،سرعان ما أخفاه؛ صوته رجولي قليالً ،يبدو أكبرهم، قال« :ال نُدخل معنا غرباء ..ولكن هيا سابقني إ ْن فُزت تلعب معنا».. فاجأه بالجري ،انطلق بأقصى عزمه؛ بدا األمر كسباق على حياة أو موت ،سيقانه كسيقان (فرس النبي)؛ تتخذ زوايا حادة كلما ارتفعت الركبتان إلى أعلى تعود وتنفرج ،وتخلّف وراءها قفزة خارقة( .فرغل ..فرغل ..فرغل) يشجعونه ،حاول اللحاق به ،خذلته قدماه ،تخطّ اه بمسافات، عاد مفتخراً بنفسه ،هلّلوا له (فرغل ..فرغل ..فرغل) .انتفخ كالديك الرومي ،رمقه بنظرات متعالية ،قال له (لقد خسرت) .انطلق ..انطلقوا خلفه ،واصلوا اللعب ،راقبهم أثناء جلوسه على جذع الشجرة المقطوع المحاذي لشط الترعة ،ضم ركبتيه لذقنه ،بدا كغصن نبت فجأة في الجذع الميت ،دفع بيده حجرة صغيرة في الماء ،كوّنت دوائر من قـاذورات. جلسوا على مقربة منه ،كانوا يلهثون من التعب ،وجوههم حمراء المعة كسرب سمك مرجان ض ّل طريقه واستقر جواره ،لم يعيروه اهتماماً ،نظر لفرغل ،اعتبره المشكلة ،لو أثار اهتمامه للفت انتباههم ،كلّمه أحدهم ،كأنه لم يكن موجوداً وفجـأة تراءى لهم( ،سنشركك معنا في اللعب إن تمكّنت أن تّصيب بالنبلة إح��دى تلك العصافير على الغصن) ..أض��اف (فرغل يفعل ذلك دائماً) ..تأمل أغصان شجرة التين البنغالي بأغصانها المرتفعـة ،اختبار آخر من اختباراتهم، تناول النبلة منهم ،أطلقها ..ارتفعت الحصوة عالياً لتطول األغصان ،تحركت عيونهم معها، سقطت بعيدة ،العصـافير ما تزال واقفـة ،ضحك فرغل ،ضحكوا وراءه التقط حصـوة أخرى من األرض ،ثبتها بها ،جرب مرة أخرى ،لم تفلـح محاولته ،التقطهـا فرغل منه بخفة ،نظر إليه ساخـراً ،ثبّت الحصوة في النبلـة ،باعد بين يديه أفلتهـا من بين أصابعه ،انطلقت صوب الهدف، سقط العصفور بينهم ،عـاود النظر إليه متباهياً ردّد كلمته له (لقد خسرت) هللوا له (فرغل.. فرغل ..فرغل) خبّطوا بأيديهـم داللة الفرحـة ،يتمنى أن يُخ ّبـط رأس فرغل بصخـرة. الوقت ما زال عصراً ،غير أنه في طريقه إلى الغروب ،حرارة الجو تزداد كلما اقترب المساء، لفحات حارة تصفح الوجوه ،خليط من تراب وعرق غلَّف األجساد ،رائحة أجسامهم عفنة من اللعب ،ما زال يريد اللعب معهم ،لن يلعب معهم إال إذا رضي عنه فرغل ،يدرك ذلك ..يوجّ ه كالمه
اجلوبة -ربيع 1428هـ 31
إل��ى فرغل ،يعرض عليه إحضار قطع من الثلج من ثالجة خالـه البقال ليلعبوا بها ،ستلطّ ف الجو قليالً ،نظر إليه محدقاً دون أن يعلّق ،تحولت نظرته إلى نظـرة استهزاء .خلع ثيابه، فعلوا مثله ،قفز في الترعة ،فقفزوا خلفه ،سراويلهم المترهلة التصقت على أف��خ��اذه��م ،أصبحت شفافة عند ابتاللهـا، مؤخراتهم أكثر وضوحاً من وجوههم ،ال يعيرون هذا اهتماماً، تعودوا على فعل ذلك ،يناديه فرغل (تريد اللعب معنا ،هيا اخلع تلك المالبس الفاخرة واسبح معنا في الترعة) ..تردد في اإلج��اب��ة عليه ،يصرخون فرحاً بالماء ،يضربون سطح الماء بأيديهم ،تتحرك القذارة الراكدة من حولهم ،نهاه خاله عن نزول الترعة ،قال له« :مليئة بالديدان». عاود فرغل مخاطبته ،رفع صوته ليسمعه« :اسمع يا.. اذهب واحضر ذلك الثلج من بقالة خالك ..هيا أسرع»!..
تسلقوا الضفة الترابية للترعة خارجين منها بدوا كجرذان مبللة خرجت م��ن مخابئها ،تباطأت خطواته توقف أمام فرغل ،مسح بظهر يده ذلك العرق الكثيف المتسـاقط منه. سأله فرغل ،ب��دا عليه أن��ه غير مصدق أ ّن��ه فعل ذل��ك (هل أتيت بالثلج فعالً؟) ..أجابه بتباهي أم��ام الجميع« :نعم ها هو الثلج» ..م��دّوا أيديهم داخ��ل الكيس ،لم يم ّد فرغل يده معهـم ،لم يجدوا في الكيس غير ماء ،ضحك فرغل ،ضحكوا معه ،غمز لهم ،علق (ألم أقل لكم أنه سيفعلها) خاطبه فرغل باستعالء (أيها الغبي إن الثلج لن يصمد طيلة هذه المسافة وف��ي ه��ذا ال��ح��ر ال��ش��دي��د ،أل��م يعلموك ه��ذا ف��ي مدرستك بالقاهرة؟ وعموماً لقد انتهينا من اللعب اليوم ..سالم).
انصرف فرغل ،انصرفوا وراءه ،تفرقوا في جهات متعددة يكلم نفسه ،ها هي الفرصة ليشترك معهم في المرح ،في طريقهم إلى بيوتهم تركوه وراءهم ككيس من القاذورات. يشعر أنه ما زال في السباق مع فرغل ،سيسبقه هذه المرة، كانت الشمس في طريقها إلى الغروب ،لون ضيائها اتخذ ل��ن يستسلم أم��ام��ه .ان��ط��ل��ق ص���وب ال��ق��ري��ة ،س��م��ع أصوات ال أكثر حُ مرة .صمت رهيب أح��اط ب��ه ،نسمات الهواء ضحكاتهم ،تخافتت كلما ازداد اب��ت��ع��اداً ،ال ي��ع��رف عمّا شك ً يضحكون ،فاتته إحدى فكاهاتهم. النادرة توقفت تماماً ،ازداد الجو حرارة ،عشرات من الذباب
صندوق صغير رباعي الجدران ،مكدّس بالمواد الغذائية ،والبعوض هاجمته ،حوطت وجهه وجسده ،شعر بالرغبة في وأح��ذي��ة ،وع��دد من فساتين البنات الصغيرة؛ هكذا محل الصراخ. خاله ،يبدو كصندوق الدنيا ،وسط الصندوق يجلس خاله.. في اليوم التالي كان يسلك وخاله طريق القرية ،يشقانها بجوار البقالة تقف في وه��ن ثالجة اآلي��س كريم الصدِ ئة، تُصدر ضجيجاً مزعجاً ،تبدو كسيارة تفقد عزمها كل قليل ثم إل��ى شطرين متساويين ،حقيبته معه ،اتخذا معاً الطريق تعاود الحركة ببطء ،يدعو الله أن يكون بها ثلجاً ..يضحك ..المؤدّي إلى موقف السيارات ،إجازته عند خاله قد انتهت، جدرانها أق ّل سمكاً من قوالب الثلج المتراكمة ،عندما وضعها ووقت عودته إلى بيته في القاهرة قد آن ،يواصالن المشي في الكيس بدت كغزل البنات. بخطى متزنة ،والقرية تتحرك من وراءهما مبتعدة ..من بعيد
انطلق عائداً إلى مدخل القرية حيث الطريق الزراعي ،بدت أشجارها كسور حصن منيع ال يستطيع أحد اجتيازه. تسارعت خطاه ،تساقط عرقه بغزارة ،تركه خلفه ،منّى نفسه فرغل وصحبته تحوّلوا إلى أطياف في الذاكرة ،يتذكر بإرضاء فرغل ،بدا له فرغل ك��أرذل من عرفهم من البشر، معاركه الخاسرة مع فرغل ،فكرة غريبة تبادرت إلى ذهنه، عبر جسوراً ترابية ضيقة بين مزارع الذرة الصفراء ،قميصه أدرك أنه لم يلعب باألمس سوى مع فرغل ،سباق الجري، ال��ح��ري��ري التصق بجسده ،ص��ار ق���ذراً ،شعر بحاجته إلى الغطس في مياه الترعة ،زاد من سرعته ،خشي أن ينصهر صيد العصافير ،مخاطبته ل��ه ل��ن��زول الترعة ،وتكليفه له الثلج؛ إن ابتسم فرغل أشركوه في اللعب ،يخوض معركتين بإحضار الثلج ،إن فرغل فقط من لعب معه ،يضحك ..تنطلق في وقت واحد ،إحداهما مع الثلج واألخرى مع فرغل ،عندما السيارة في طريقها إلى القاهرة. < قاص من جيزان
32
اجلوبة -ربيع 1428هـ
املـفــتاح > منى الشيمي
<
اتخذ جسدي وضعاً جنينياً ،خرجت منه مئات اإلبر ،كقنفذ يشهر خوفه في وجه الخوف ،وتقاطر دمعي ليبلل الوسادة .كانت عادتي المسائية ،حينما يزورني سيدي الحزن ،تهب اإلبر من أعماقي ،وأفقد الثــقة بكل البشر .تهب أحزاني القديمة ،لم يحدث أن شعرت بوخز حزن واحد ،بل كــل حزن جديد ،كان إضافة لجــبل أحزاني، الذي كتب عليّ أن أصعــده الهثة كل ليلة ،وأتدحرج من فوقه كل صباح. قابلتها في طريقي ،عند اجتياز الممر الواصل بين مدخل البناية والشارع ،ألقيت عليها تحية الصباح فلم تجب ،تساءلت « :هل كان فكرها مشغوال إلى هذه الدرجة؟ «. لم تنظر ناحيتي أبدا وهي التي تبادر دوماً بالتحية ،وددت لو أسألها ،لكن موعد العمل جعلني أرجئ سؤالها إلى وقت آخر. هى صديقتي المفضلة ،تسكن فى الطابق العلوي ،تسمع صوتي وأنا أصرخ بأوالدي كي يكفوا عن العراك ،وصوت المالعق حينما أضعها فى حوض المطبخ ،وصوت مياه الدش وهي تمحو إرهاقي اليوميّ آخر الليل؛ وأسمع صوت باب شقتها حينما تغلقه للذهاب إلى النوم ،بعد أن تزوج أبناؤها وأمست وحيدة. كانت دوم��اً ت��دق الجرس ،تطلب مني ن��زع المفتاح بعد أن نسيته بالباب ،تسأل المحصل بمشربية الباب ،وعن آخر ّ عن أخبار األوالد ،وعن فاتورة النور التي تركها أخباري ..عن السيد الحزن!! طلبتها بالهاتف بعد عودتي من العمل ،ما إن سمعت صـوتي حتى أصابها الصمت، لم تجب على حديثي بكلمة وتركتني أتحدث ،لذا قررت أن أعيد السماعة إلى مكانها ودوائر الدهشة تلفني! لجأت إلى جارتي األخرى ،تسكن في الشقة المواجهة ،تحسدنا على تقاربنا ،كنا نضحك عليها في الماضي ،نعيب عليها صوتها العالي ،كلما عبرت صديقتي ببابها سمعتها تتحدث في الهاتف ،تبث شخصاً ما شوقها ،ولهفتها لعودته،
اجلوبة -ربيع 1428هـ 33
قالت صديقتي:
لي عن سبب غضبها وتريحني؟؟
لم أفلح في الوصول إلى سبب غضبها مني أبداًً. » ال أسمع لها صـوتاً وزوجـها بالبيت ،وال يـدق لهارب��م��ا ه��ي مكتئبة كما ق��ال��ت ج��ارت��ي؟؟ لكن م��ا سبب هاتف!! كنت أضحك ،أنهرها برقة كي ال تتسمع صوت هذه تجاهلها لي؟! في المساء سمعت صوتها ينبعث من عند جارتي، الجارة ،لكن فضولي لم يكن يمنعني من االستماع إلى اكتشافاتها اليومية .طلبت من جارتي لو سألتها عن وص��وت موسيقى البرنامج يبدو عالياً ،ظللت طيلة سبب صمتها ،عن سبب انزوائها في حضوري ،وتجاهلها ال��وق��ت أت��رب��ص بهما ،تخيلت أن��ه��ا رب��م��ا ذه��ب��ت عند عبوري في محاذاتها ،وابتالع عبارة صباح الخير التي ج��ارت��ي ك��ي تضايقني ،آه ص��وت أوالدي يجلجل في أذني ،يعوقني عن وصل حلقات أفكاري بعضها ببعض، كانت تبادر بها ،فتعللت لها بسبب لم يقنعني ،قالت: كنا نلتقي للحديث عن أخبارنا وأخبار الجيران ،ترى » إنها تشعر باكتئاب بعد فراق األبناء «.هل تتحدث مع جارتنا عن أخباري ،سخونة تنبعث من لكن هذا السبب لم يقنعني ،تزوج أوالدها منذ زمن ،وجنتي ،وتساؤل حائر يتردد في داخلي :ل ِـ َم تتعامل معي شاركتها حاالت اكتئابها األولى ،فلم تقصني عن حاالت بهذه الطريقة وتتعمد أن تشعرني بالتجاهل؟؟ اكتئابها األخيرة؟ ثم تساءلت بداخلي: صعدت إلى السطح ،تتبعت سلك الهاتف الخاص كانت جارتي تجهز إجابة ،هل تحدثتا معا؟؟بي ،تزحلقت عليه إلى أن دخل شقتي ،تأكدت تماما أنه حينما سمعت موسيقى البرنامج الذي تحبه رفعت غير مقطوع ،ال يمر على أحد قبل وصوله ،ال تتسرب ص��وت ال���رادي���و ،ك��ان��ت ت��أت��ي لتسمع ال��ب��رن��ام��ج معي ،منه أس��راري .شعرت بألم ،في كل جزء من جسدي، وأحيانا كنت أذهب إليها .ربما اتصل بها أحد أبنائها يتحول قلقي إل��ى أل��م جسديّ إذا تزايد ،إذا استمر، في غيابها .تقص عليّ أخبار الجيران ،جارتنا التي تمنيت ل��و أض��ع ل��ه ح���دا ،ل��و أب��ت��ره بسيف المعـرفة، تسكن الطابق األخير وهي تتشاجر مع زوجها ،وهي صرخت فى أوالدي: -التزموا الصمت!
تسبه ،بل قالت لي مرة إنها سمعت صوت الصفعة التي رنت على وجه زوجها .ارتفعت الموسيقى ،تعالى صوت انتظرتها على عتبة السلم بعد خروجها من عند المذيعة ،خبايا وأس���رار ليلية ،ص��وت مألوف طالما جارتنا ،ألقيت قنبلة تساؤالتي في وجهها ،فلم تعرني استمعنا إليه معا ،وضعت الراديو قرب النافذة علها انتباها وصعدت السلم ،لكنها التفتت مجددا وقالت تأتي ،وانتظرت!! لكنها لم تأت. لي:
كان صمتها حقال واسعا تنمو فيه أفكاري ،هل فعلت شيئا يضايقها؟ هل وصل إلى سمعها شيء عني يجعل من عالقتي بها أمراً شائكاً؟ جالت أفكاري في دروب األيام السابقة بكل لحظاتها ،حاولت جاهدة استعادة ك��ل لقاء جمعني بها ،الموضوعات التي ناقشناها، األصدقاء الذين علكنا سيرتهم ،الخبايا التي كشفناها بعضنا لبعض؛ لم جعلتني ألجأ إلى جارتنا كي تكون بيننا همزة وصل وهي أقرب إليَّ منها؟؟ ،لماذا لم تقل
34
اجلوبة -ربيع 1428هـ
لست غاضبة.تحيّرت ،وخزتني شكوكي ،ربما عرفت ما يشين؛ حقاً صديقتي ،لكن هناك دوما موضوعات ال أطلعها عليها ،صديقتي ..لكني لم أستطع أبدا أن أتعرى أمامها كلية؛ لم أعرف أبداً هل طبع شخصيتي هي ما جعلني أخفي عنها موضوعات بعينها؟ أم إن الموضوعات نفسها هي التي فرضت على ذلك؛ لكني حدثتها عن
ليال عديدة ،وفي السيد الحزن ،ذلك الذي يزورني في ٍ الصباح يتركني منهكة كثوب لم يتم كيّه .عند عودتي من العمل ،تعمدت ترك المفتاح بالباب من الخارج، تجربة أخيرة ..لو فشلت هذه المحاولة ،سوف أكف تماما عن استعادة عالقتنا .كنت أعرف ميعاد عودتها، ربع ساعة وسيدق الجرس ،أو ربما ستفاجئني بدخولها المطبخ ،ملوحة بالمفتاح قائلة: سوف يقتلك يوما أحد اللصوص.انهمكت في إعداد الطعام ،وأعمال المنزل وترتيب مالبس أوالدي ،واالتصال بزوجي في بلده البعيدة ،التي يعمل بها منذ سنوات .عند الجلوس للراحة تذكرت المفتاح ،أصابتني غصة ،لقد مرت بالباب ولم تدق الجرس؛ فقررت أن أسقطها من فكري وأستريح.
ك��ره��ت��ه��ا ،تمنيت ل��و ل��م أره����ا .جلست أت��ذك��ر كل المواقف السابقة ،التي وردت على ذاكرتي دون ترتيب، حاولت الربط بين توقيت أح��داث جديدة ج��رت في حياتي وأخفيتها عنها وتجاهلها لي ،استعدت عالقتي بالجيران .هل بدأ أحد منهم يحذو حذوها؟ هل تجاهل أحدهم تحية الصباح؟ هل تناجى اثنان منهم أثناء عبوري؟ هل بدأت تقول عني ما عرفته؟؟ أمسكت رأسي ،شعرت بحدوث انفجارات متتالية فيها ..تالشى ص��وت أوالدي ،وع�لا ص��وت أفكاري؛ فلم أستطع ال��وق��وف ،أدع��ي��ت التعب وظللت نائمة، ربما أستطيع ترتيب أفكاري ،وإزالة الغبار عن مناطق تبدو لي مظلمة .غزتني أفكار داكنة؛ ربما عرفت عني أمراً جاهدت فى الماضي كي ال أقوله لها ،كنت أجد بي رغبة في الحكي لها كلما امتدت جلساتنا الليلية، لكن لساني ينعقد في النهاية وال أبوح .ها هي األفكار القاتمة كعتمة الليل ت��ت��رى ،والسيد ال��ح��زن وجدها فرصة كي ينتظر ببابي متلهفاً للدخول.
قابلتها في السوق ،اصطحبت جارتنا التي صفعت زوجها ،اندهشت ج��داً ،وقعت نظراتها عليّ ،فمالت وتناجت معها ،ثم أطلقت ضحكة طويلة ،سقط الكيس ال��ذي كنت أحمله ،تراخت ي��داي عنه دون أن أدري، كان نور غرفتها في الطابق العلوي منعكسً ا تولى عاب ٌر جمع الثمار المتناثرة ،بينما وقوفي صامتة، على الشجرة المنتصبة أم��ام المنزل ،لمحت ظلها، شاخصة ببصري بعيداً يدهشه. وهي تقف بشباكها في األعلى ،تمددت على سريري عدت إلى المنزل ،وقفت في منحنى الدرج ،أتسـمع وضيق ما يعتريني ،دق الهاتف ج��واري ،فرأيت ظلها صوت أوالدي ،أحاول قياس مدى الصوت ،إلى أيّ مدى يتسلق الشجرة ليستقر على قمتها تماماً ،أصابتني يستطيع المتطفل السماع لو كان واقفاً هنا ،لو اقترب ،الدهشة .لم أرفع سماعة الهاتف ،تخيلت أن اهتماما أو لو وجد المفتاح في الباب من الخارج وفتح ثم دخل ما أل�� َّم بها ،واك��ب حركة الهاتف تماما ،تحرك ظلها بهدوء دون أن يشعر به المتحدثون في الداخل!! أمامي بسرعة ،أسقطت جسدها خ��ارج النافذة في هذا المساء اعترفت لنفسي أن ما يستنفرني اآلن حركة تلصص واضحة،كصقر التزم الصمت ،السكون.. هو رغبتي في معرفة سبب ابتعادها ،والوسيلة التي ترقباً لفريسته على األرض .ه��ذا ما ب��دا ل��ي ،ما لم ربما عرفت بها معلوماتي الخاصة ،وليس رغبتي في أستطع التحقق منه .ظل الهاتف يدق ،السيد الحزن استعادتها .شعرت بقهر ما ،لماذا ربطتُ بين ما تفعله ق��رع الباب ،واإلب��ر تتراشق من داخ��ل جسدي ،يسيل معي وما قد تكون عرفته عني؟ ربما لم تعرف شيئا ،خوفي ،أتحول إلى قنفذ صغير يتكوم على ذاته ،وأفقد ثقتي في كل البشر ،قلبي يتسارع نبضه ،قبعت ساكنة وماذا لو عرفت؟ ال يهم ..عدت إلى القلق وتساءلت: أتابع ظلها المنعكس على الشجرة أمامي. كيف ال يهم؟؟< قاصة من مصر.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 35
سيف بن أعطى
()1
(مداخل إلى الفصل األول) إرهاص
()2
> فيـصل أكـرم
<
يا سيف.. أو يا ابن مَن أعطى :تص ّبرْ ..إنهم باعوا يديك إلى يديكَ ،وأشعلوا نيرانهم في إصبعيكَ ، وفتتوكَ ..وفتتوا الريح التي ،في يومكَ المنسيّ قد حنّتْ إليكَ ..ألنهم تركوك وحدك، كلّهم ..تركوا الهوى يأتي عليكَ فال تضعْ ..ما دمتَ علّقتَ السالم على جبينكَ ،ال تبع طفل الكالمِ ؛ هي الحياة اآلن أمُّكَ ،والزمان أبوك؛ فاصرخ ..قل :وجدتُ اآلن أهلي... <<<
الصفعة األولى: سقف الغرفةِ قد سقط على الصغير وهو نائم ..ي ُد أبيه ثقيل ٌة جداً ..لم يسبق َ كأ ّن كف أبيه؛ أن ضربه أبوه بهذه الصورة ..وهو نائم ..تلقى سيفُ الصفعة على وجهه من ّ فصحا مفزوعاً مفجوعاً ..هل يجرؤ على االستفسار عن سبب الصفعة؟ ال ..إ ّن الله قد أعطاه عقالً ،فليعمل عقله حتى يستكشف السبب بنفسه ..هكذا أدّبه أبوه مذ أن ال في الرابعة من العمر ..آه يا سيف ..نعم أنت تستحقّ كان جنيناً حتى أصبح طف ً الصفعة ..لقد أسرفتَ في اللعب ،طيلة الليل ،وجميع من في البيت كان نائماً ..لماذا لم تنم؟ لماذا تجهل كيف ينام الناس؟( ..لن أستصغر شأنك وأقول :األطفال) بل الناس.. ألستَ واحداً من الناس يا سيف؟! أنتَ لم تقض ليلتك ساهراً وحسب ،بل تماديت في اللعب حتى رحتَ تعبث بأشياء الكبار ..كيف سوّلت لك نفسك أن تتجرّأ على مكتب أبيك وتخرج (األختام الرسمية) ،وتغمسها في (المحبرة) ،وتطبع على األوراق ،تختمها زوراً وتزييفاً؟!
فصل من رواية 36
من أين أتتك ك ّل هذه الجرأة يا سيف؟! أ َو لستَ أنتَ ،لمّا تزل بعد ،الطفل الخجول.. فرد في العائلة ،وأضعفهم شخصي ًة وحضوراً؟! كيف فعلتَ ما فعلتَ بمفردك؟ أصغر ٍ آهٍ ..هذه عادتك! ال تتملكك الجرأة والشجاعة ،وشهوة المغامرة والتجريب ..إال عندما كف أبيك الثقيلة؟ صفعة أخرى على وجهك ،من ّ ٍ تكون وحيداً! فمن سينقذك اآلن من هل ستهرب يا سيف؟ ال؛ فأنت تحترم أباك ..ك ّل َم ْن في البيت يعرف أنك تحترمه.. تحترم ال ُك َّل أنتَ ،وأ ّو ُل ال ُك ِّل أبوك ..فهل ستصمد في مكانك وتتلقى العقاب كامالً؟ كانت جريمتك كبيرة جداً يا سيف ..أنت لم تعبث بآلة (الختم الرسميّ ) الخاص بأبيك، عبثاً عادياً ..أنت رحتَ تطبع الختم على أوراق بيضاء ،هي في أصلها (أوراق رسمية).. اجلوبة -ربيع 1428هـ
وم��ا ي��دري��ك أن��ت أيها الطفل الضئيل بقيمة األوراق واألختام واألحبار؟ لماذا فعلت هذا يا سيف؟ تفتح عينيك بحذر شديد اآلن ،لتبصر وجه أبيك عريضاً ع��اب��س��اً ..بشعره األب��ي��ض ،وش��ارب��ه األبيض، بعتب ولحيته ال��ب��ي��ض��اء ..ه��ا ه��و أب���وك ،ينظر إل��ي��ك ٍ مخيف ،ويسألك« :ه��ل ت��دري كيف ع��رف��تُ أن��ك أنت ٍ من أخرج األوراق واألختام والمحبرة من مكتبي ليلعب بها؟» ،بماذا ستجيب؟ تلعثمتَ يا سيف ،وكدتَ أن تقول: (سبحانك ال علم لي إ ّال ما علمتني) .ولكنك خفتَ أن تشرك بالله ,فاستغفرت .أن��ت تخاف من أبيك جداً ياسيف ..ربما ال تحبه كثيراً ،ولكنك تخافه يا سيف.. على عكس عالقتك بأمك؛ فأنت تحبّ أمك كثيراً ،وال تخاف منها أبداً .أمك علّمتك أ ّال تخاف أحداً إ ّال الله، ولكنّ أب��اك يجبرك على أن تخافه ..وتخاف إخوتك الكبار.. بماذا ستجيب يا سيف؟ كأنك لمحت حركة من أبيك، تهيّأ لك أنها صفعة أخ��رى ..فرفعتَ يدك الصغيرة، بعفوية؛ لتحمي وجهك؛ فانتبهت إلى الحبر الذي كان عالقاً بلونه األزرق على راحتيْ يديك ابتسمتَ في وجه أبيك؛ فابتسم أبوك في وجهك( :برافو عليك ،كشفتُ فِ علتكَ من أثر الجريمة على يديك)! <<<
الركعة األولى: انقضت لحظة الصفعة األولى على خير؛ فكانت أول مرة يشاهد فيها سيفٌ أباه مبتسماً في وجهه ..ابتسامة أبيه أنسته ألم الصفعة األولى .أصبح الصبح ..أشقاء سيف ،وشقيقاته (وكلهم أكبر منه) ب��دأوا في الخروج من المنزل ،واحداً تلو اآلخر ..األختان الكبيرتان إلى المدرسة ..ال كطالبات إنما كمدرّسات! واألخ الكبير أي��ض��اً إل��ى ال��م��درس��ة ..ول��ك��ن ..ه��و م��دي��ر المدرسة! وبقية األشقاء والشقيقات إلى المدارس لطلب العلم، واألب غادر أيضاً إلى عمله ..كان األب قد أحيل إلى التقاعد من وظيفته الحكومية ،ولكن ..كانت له أعماله الخاصة ،التي تجعله في خروج يوميّ إلى حيث يخرج
رج��ال األع��م��ال ..وأك��ث��ر خ��روج��ه ك��ان إل��ى المحكمة.. كانت المحاكم جزءاً من عالقته بالناس! خرج الجميع، كالعادة ،من المنزل ..ولم يبق في المنزل إ ّال سيف وأمّه. ويا الله ما أجم َل أمه !..كانت تقضي الساعات األولى من الصباح في عملين ال ثالث لهما( :الصالة ،وقراءة بإعجاب كبير ..كان ٍ القرآن) ..وكان سيف يتأمل عمل أمه منظرها عظيماً جداً في عينيه ،وهي داخل (المسفع) األبيض ..حتى ال يُرى منها إ ّال وجهها النورانيّ األبيض وكفاها الحنونتان ..كانت تضع المصحف الكبير على منظر ٍ (رحل) خشبيّ ،وتتربّع خلفه على السجّ ادة ،في روحانيّ يدخل القلب وال يفارقه أبداً ..كان سيف ،في هذه األثناء ،يخترع ألعاباً يتسلى بها ..يفتش في زوايا البيت عن أحجار الكشّ اف (البطاريات) الفارغة ..وعن كل األنابيب والمعادن واألش��ك��ال الفارغة ..ليتخيلها ّات كانت عظيمة بالنسبة إل��ي��ه( :سوبرمان، شخصي ٍ ال��وط��واط) وم��ن قصص( :ال��م��غ��ام��رون الخمسة) كان يجسّ د أرب��ع شخصيات مقر ٍّبة ج��داً إلى وعيه( :لوزه، ونوسه ،وعاطف ،وتختخ) ،وك��أ ّن خامس المغامرين ال يعنيه! ينهمك سيف في اللعب والخيال ..هذا يضرب ذا ،وذاك يساعد تلك! وبينما هو كذلك ،وخديجة أمّه ال تزال تصلّي وتقرأ القرآن. ي����ر ّن ج���رس ال��ه��ات��ف! ف��زع��ت خ��دي��ج��ة م��ن جرس الهاتف ،إذ لم يكن الهاتف ي��رن في مثل ه��ذا الوقت م��ط��ل��ق��اً ..ارت��ع��ب��ت األ ّم ال��ع��ظ��ي��م��ة ..ل��م يسبق ل��ه��ا أن رفعت سماعة الهاتف ،ول��م يسبق لها أن تكلمت فيه أو استمعت إلى شيء منه ..كأ ّن سيفاً كان يستمع إلى ضربات قلب أمه الخائفة وهي تحدّث نفسها( :ماذا تفعلين يا خديجة؟ هل تخوضين التجربة ،وتستخدمين هذا الشيء العجيب الذي يسمونه الهاتف؟ هل تتركينه ير ّن كأنك لم تسمعيه؟ ربما يكون علي ..أبو األوالد.. ولكنه لم يفعلها قط ويتصل من خارج البيت)؟! ك��ان��ت خ��دي��ج��ة ف��ي ح��ي��رة ش��دي��دة م��ن ه���ذا األمر الطارئ على نهارها المعتاد ،فأشفق صغيرها عليها وصاح بصوته الطفوليّ (أرد أنا يا أمّي؟) ..فزعت األم خوفاً على صغيرها ،صرخت بعلو صوتها (ال يا ولدي) ��وف عليه ..قررت حنان وخ ٍ ٍ وجذبته إليها تعانقه في
اجلوبة -ربيع 1428هـ 37
خديجة أن تحمي ابنها الصغير من هذا الجهاز الغريب (الهاتف) ،وبقرارها هذا تولّدت فيها الشجاعة ..ليس لشيء آخر ،إنما لحماية صغيرها سيف ..واقتربت من جهاز الهاتف ..رفعت السمّاعة وصرخت« :مين بيدق التلفون؟»؛ يبدو أن شخصاً رد عليها مخبراً أنه من إدارة الهاتف ..وأنه يستفسر عن رقم الهاتف هذا ،الخاص بالسيّد علي بن أعطى ..قالت له خديجة( :والله أنا ال أعرف األرقام يا ولدي ،بعد الظهر يجي أبو األوالد ،دق عليه وكلّمه( .هنا صاح سيف (أنا أعرف رقم الهاتف يا أمي) ،ويبدو أن موظف الهاتف سمع صوت سيف ،فقال ألمه دعيه يملي عليّ رقم الهاتف! قالت األم لصغيرها: ال تعرف رقم الهاتف؟ قال سيف :نعم يا هل أنت فع ً أمي ،دائماً أسمع أبي وإخواني :حسن وحسين وخالد يذكرون رقم الهاتف( :تمنيه وعشرين ألف وأربعميه وإطنعش)! فقالت خديجة( :طيب ..خذ كلم الرجّ ال وأعطه الرقم) ..وبينما سيف يمسك سماعة الهاتف، تلف يديها على خصره وص��دره ..كأنما هي كانت أمه ّ ��ش مخيف! أخ��ذ الطف ُل سماعة خائفة عليه م��ن وح ٍ الهاتف ،وقال للموظف :الرقم هو (تمنيه وعشرين ألف وأربعميه وإطنعش)! فقال له الموظف :ما اسمك؟ قال: سيف .قال الموظف :اسمع يا سيف ،من اآلن أصبح رقم هاتفكم يبدأ بالرقم (ثالثة) يعني أول شيء (تالته) وبعدين (تمنيه وعشرين أل��ف وأربعميه وإطنعش).. فهمت؟ قال سيف :فهمت! قال الموظف :أخبر أباك ف��ور ع��ودت��ه إل��ى البيت .ق��ال سيف :ح��اض��ر .وانتهت المكالمة. بكت خديجة من فرحتها بابنها الصغير ..عانقته ال ب��ش��دّة ..قبّلته على خديه وه��ي ت��ق��ول :ه��ل أن��ت فع ً حفظت رقم الهاتف كامالً؟! قال لها وهو يكاد يطير فرحاً :نعم يا أمي ،والله العظيم ،وحفظت عليه الرقم الجديد (تالته) ،يعني صار الرقم (تالته وبعدين تمنيه وعشرين ألف وأربعميه وإطنعش)! قالت األم :اسمع يا سيف ،أنا سأعلمك أه ّم شيء ممكن أن تتعلمه في حياتك ..سأعلمك ال��ص�لاة ..إخوانك الكبار علمتهم الصالة في سن السادسة ،مع دخولهم إلى المدرسة، ولكن أنت ..سأعلمك اآلن وأنت لم تكمل الرابعة بعد!
38
اجلوبة -ربيع 1428هـ
ابتهج سيف من كالم أم��ه ..السعادة غمرته ..بكى من السعادة ..ما أسعدك هذا النهار يا سيف ..أخيراً استطعت أن تلفت انتباه أمك الحبيبة وتثير إعجابها! ذهب سيف مع أمه العظيمة إلى حيث صنبور (بزبوز) ال��م��اء ،وتعلّم منها ال��وض��وء ..وج��اء معها إل��ى سجّ ادة الصالة ..أوقفته أمه إلى جوارها على سجّ ادة الصالة.. وبدأتْ تعلّمه الركعة األولى. <<<
الخروج األول: ما الذي ستفعله غداً يا سيف؟! كيف سيكون خروجك األول إلى ذلك المكان الذي يسمونه (المدرسة)؟ أخوك محمد ،ال��ذي سبقك بسنتين إل��ى هناك ،يخبرك أن المكان كله أوال ٌد يجلسون على الكراسي ،رجل يصيح بهم وي��ض��رب��ه��م ..ه��ا أن��ت ت��دخ��ل ال��م��درس��ة ..ه��ا أنت تُحرَم ،للمرة األولى ،من الجلوس إلى جوار أمك على سجادة الصالة ،طيلة الساعات األول��ى من الصباح.. المدرسة شيء مخيف ..ولكنه عاديّ ! انتهى يومك األول ،وانتهى األسبوع األول ،وبدأت إج����ازة ن��ه��اي��ة األس���ب���وع ..أول م���رة تشعر بمعنى يوم (ال��ج��م��ع��ة) ،وأن���ه (ع��ط��ل��ة) ال��م��درس��ة! ت��ري��د أن تفرح بعطلتك األول���ى ،صباح الجمعة األول���ى ،ف��ي البيت.. تتخيل نفسك (سوبر م���ان) ..فتلف «شرشفاً» أبيض حول رقبتك ،وتتركه مسدوالً على ظهرك ..تصعد إلى السور الفاصل بين غرفة (المبيت) وساحة (السطوح).. أنت لم تكن قد سمعت بعد عن (عباس بن فرناس) حتى أق��ول إنك كنت تقلده ،فلماذا قذفتَ بنفسك من فوق السور؟! هل تقمصت شخصية (سوبر م��ان) ،إلى حد أن ترمي جسدك الضئيل من فوق سور يرتفع أكثر من مترين عن األرض؟! ها أنت تسقط وتصيح ..ها أنت تفجع أمك الحنونة عليك يا سيف ،لماذا فعلتَ هذا؟ هرعت أمك ملهوفة عليك إليك ،تفقّدت أعضاءك وهي تظن أنك كنت تلعب فسقطتَ على األرض ،ولم يخطر في بالها أنك سقطتَ من فوق السور المرتفع ..دهنت رأس��ك بالـ (فيكس) ،وق��رأت عليك آي��ات من القرآن،
واحتضنتك لتنام ..غابت الشمس وأنت نائم ،وغاب معها أبوك وإخوتك الكبار عن البيت ..فإذا بالورم يتضح في يدك اليسرى ..تالحظه أمك فتشهق مفزوعة عليك.. تصحو أن��ت وتصيح (أمّ���ي ..ي���دّي ..أمّ���ي ..ي��دّي) كان الكسر في يدك اليسرى قد بدا واضحاً .كانت عظمة ذراعك مكسورة تماماً ..تبكي أنت وتصيح (أمّي ..يدّي) وتبكي أمك معك ..ولكنها تتوقف عن الصياح ،وتتخذ قراراً جريئاً في حياتها :أن تخرج بك إلى المستشفى.. حملتك أمك يا سيف ..خرجت بك ..وحيد ًة خرجت بك من باب البيت. كانت خديجة تجهل حتى شكل الشارع ،من قلة – أو انعدام -خروجها من البيت ،ولكنها خرجت بك فعالً.. تحملك على صدرها الحنون ..وهي تلتحف بأكثر من عباءةٍ سوداء ،فلم تعد قادرة على الرؤية أبداً ..أضف إلى ذلك أنها ال تعرف طريق المستشفى ،فكيف ستتصرف المسكينة في يومك المشؤوم هذا يا سيف؟ ها أنت تفاجئ أمك مرة أخرى ،وتدلّها على طريق المستشفى (من هنا يمين ..آخر الشارع كمان يمين.. ه��ن��ا المستشفى ف��ي ال��ي��س��ار) .دخ��ل��ت ب��ك أم���ك إلى المستشفى ..الحمد لله ..األطباء هالهم منظر يدك المتورمة ،فهرعوا بك إل��ى غرفة األشعة والفحص.. دخلت معك أم��ك ..تسمع بأذنيك الطبيب يقول لها: (ال��ذراع مكسورة تماماً ،توجهي لله بالدعاء أن يلتئم العظم ،فإن لم يجبر الكسر لن يفلح معه وال حتى سيخ معدني ،سنضطر إلى بتر اليد حتى يتوقف النزيف من العظم) ..أم��ك تسأل الطبيب بخوف( :م��ا معنى بتر اليد) يجيبها الطبيب( :يعني تقطع ويركّب مكانها يد اصطناعية) ..تصيح أم��ك (ليش؟ هو ول��دي حرامي حتى تنقطع يده؟) يا الله ..حرقة قلب خديجة أسالت دموع الطبيب ،ودموعك قبله يا سيف ..بعد ذلك لم يعد سيف يدرك ما يدور ..غاب عن الوعي تماماً.
اسمها (فدوة) وكانت قدمها مكسورة ،فتنشأ بينك وبينها صداقة طفولية ..أمك تحفّظكما آية (الكرسي) وأمها تنشغل بأكل (الفصفص)! خمسة عشر يوماً كاملة ،حتى أتى الطبيب بالبشارة( :الحمد لله ،العظم التأم تماماً، الكسر قد جبر ،كأنها معجزة ،سبحان الله) ..تسجد أم��ك على األرض ،شكراً لله عز وج��ل؛ ويجيء أبوك ليأخذك أنت وأمك إلى البيت ..ولكنك تبكي ..ال تريد العودة إل��ى البيت! ظنت أم��ك أن بكاءك بسبب فراق صديقتك (فدوة) ،ولكنك كنت تعرف السبب الحقيقيّ : هنا فقط ،في المستشفى ،أتيح لك أن تكون في خلوة مع أمك ..ال أحد من إخوتك يشاركك فيها ..تنام في حضنها ..تتنفس رائحتها ..أم��ا هناك ..في البيت.. فحضن أمك هو الحلم الذي تطمح إليه ،ودائماً يسبقك إليه أحد إخوتك الكبار .جاء أب��وك ،وأخذ أمك وأنت تبكي على صدرها – والجبس في يدك اليسرى -وعاد بكما إلى البيت. تبقى لمدة شهرين في البيت ،منع الطبيب ذهابك إلى المدرسة ،حتى إزالة الجبس ،والتأكد أن الكسر قد جبر ..شهران مرّا ثقيلين ..تمت إزالة الجبس ..عدت إل��ى المدرسة لتلحق م��ا فاتك م��ن دروس ..ه��ل كنت بحاجة إلى دروس (ألف ب��اء)؟! كانت أمك قد علمتك ٍ الصالة ،وق��راءة ح��روف ال��ق��رآن ،وحفّظتك غيباً جزء (ع��مّ) وآية (الكرسيّ ) ،فهل سيتعبك اللحاق بزمالئك الذين لم يتجاوزوا (ألف باء)؟!
انتهت السنة ال��دراس��ي��ة ،وظ��ه��رت النتائج :سيف ب��ن أعطى ينجح ،ويحصل على الترتيب (األول) في الصف (األول) بالمدرسة النموذجية االبتدائية في مكة المكرمة سنة 1974ميالدية 1394هجرية .فماذا بعد يا سيف؟! لم يفرح بنجاحك (األول) س��وى أمك فقط ..وأنت لم تكن تهتم بفرحة أحد غير أمك ..أنت لم تحقق هذه النتيجة إ ّال من أجلها ..فهل كنت تعلم أنها ستفارقك عما قريب..؟! هل كان في قلبك من اإليمان عظيم ٍ سواد ها أنت تصحو يا سيف ،بعد أربعة أيام من الغياب ما يكفي ليكون دليلك إلى المجهول..؟! إلى ٍ عظيم ٍ ��روج عن الوعي ،لتجد نفسك نائماً على سرير أبيض ..وأمك سيغلّف حياتك كلها عما قريب..؟! إلى خ ٍ إلى جوارك تقرأ آية (الكرسي) ..والغرفة كبيرة ،وفيها عما قريب..؟! سرير آخر ترقد عليه طفلة ومعها أمها ..كانت الطفلة <<<
اجلوبة -ربيع 1428هـ 39
(الضياع األول):
أتت من أمه. وه��ن��اك ..في رم��ال عرفات خ��ارج المخيم ..عمد سيف إلى دفن تلك السيارات ،حتى ال يسرقها منه أحد وهو نائم ،فقد كان يسمع التحذيرات من السرقات، التي كانت تتم في مخيمات الحجيج.
في التسعينيات الهجرية – السبعينيات الميالدية، كانت السنة الدراسية تنتهي بنهاية شهر شعبان ،وتبدأ ببداية م��ح��رم ..وحين انتهى سيف من السنة األولى االبتدائية ،محققاً في نجاحه الترتيب األول ..كان العام الهجريّ 1394يمضي سريعاً نحو نهايته ..فهذا شهر الوقت اآلن صباحاً ،وسيف يلعب مع شقيقه األكبر ٍ رمضان، بخاصة في مكة المكرمة ،يمر كالومضة ما منه بثالث سنين ..راحا يلعبان لعبة اسمها (مكشوف)، بين سهر ،وتالوة القرآن الكريم ،والتجمعات الشللية ،وطريقتها أن يختبئ واحد ،ومن ثم يبحث عنه اآلخر.. ف��ي ك��ل ح���ارة م��ن ح���واري م��ك��ة ،ال��م��ع��روف��ة بالصخب فأغمض سيف عينيه حتى يتيح ألخيه أن يختبئ جيداً.. والحيوية والتجدد. وعندما بدأ سيف البحث عن أخيه ..راح يتجول بين ثم ما يلبث أن يأتي العيد ..عيد الفطر ..الذي يعتاد الخيام ..يبتعد شيئاً فشيئاً عن الخيام ..يستمرئ المشي فيه الكبار على تقديم العيديات (وه��ي نقود ،عشرة على الرمال ..الشمس بدأت تشتد عليه وحرارتها تقسو رياالت في الغالب) على كل األطفال والصبية ،الذين لم بالضرب على رأسه المكشوف وهو يسير ..توقف سيف ونظر خلفه فلم يجد إال الرمال ..يميناً رمال ويساراً يصلوا إلى مرحلة االعتماد على النفس بعد. رمال ..بدأ العطش يشق حنجرته جفافاً ..لم يعد قادراً غير أن هذا الطفل (سيف) كان شاذاً في مثل هذه حتى على الصياح أو المناداة ..لم يجد بداً من المشي.. المواقف ،إذ كان يرفض ويبكي ،ويهرب من أم��ام كل لم يعد يدري في أي اتجاه سيكمل المشي. شخص يحاول أن يقدم له (العيدية) على الرغم من مشى الصغير والشمس عمودية فوقه حتى أسقطته أن شقيقه األكبر منه بثالث سنين ك��ان ال يتورع عن اختطاف العيدية م��ن ك��ل ضيف وزائ���ر ..ب��ل إن��ه كان بأشعتها الملتهبة؛ فغاب عن الوعي ..لم يص ُح سيف يختطف عيدية سيف أيضاً ،عندما كان سيف يرميها من إغماءته إال بعد أن غابت الشمس تماماً ..أفاق مقربة منه.. ٍ على صوت الكالب التي كانت تنبح على على األرض ويهرب! ألول م��رة يشعر سيف أن��ه وح���ده م��ع ال��ك�لاب ..كان أتى موسم الحج صوت الكالب مألوفاً لديه ،فشوارع مكة كانت ال تخلو مع أن عائلة سيف تمتهن (الطوافة) ،وهو ما يجعل من الكالب السائبة ،وأصواتها كانت تمأل ليالي مكة جميع أفراد األسرة مشغولين بموسم الحج كل عام ..باألنس! غير أن هذا العام كان مختلفاً ..ذلك ألن األسرة كلها ق��ررت أن ت��ؤدي فريضة الحج ..وبالطبع لم تكن هذه المرة األولى لألسرة ،ولكنها كانت المرة األولى بالنسبة لسيف ،الذي يخطو اآلن نحو السادسة من عمره.
ول��ك��نّ س��ي��ف��اً اآلن وح����ده ،ي��ك��اد ال��ظ��م��أ أن يقتله، وأص��وات الكالب مخيفة ج��داً ،والليلة كانت ظلماء ال قمر فيها ..وربما لحسن حظه أنها كانت ليلة ظلماء.. فمن شدة الظالم استطاع أن يلمح بصيص ضوء عن بعد ،فقفز يركض إليه وهو يردد بينه وبين نفسه« :أنا كالب فاشلة»! الناجح بترتيب األول ،لن أخاف من ٍ
ذهبت العائلة كلها ألداء شعائر الحج ،في (منى) أوالً، مبيت ليلة واحدة ،ثم الصعود إلى عرفات ..وكان سيف سعيداً بهذه األج��واء ،التي كان يسمع بها ولم يعشها اقترب سيف من مصدر الضوء ..فانتبه أنه مكان من قبل ..وك��ان قد اصطحب معه مجسمات صغيرة يضم مجموعة من (العسكر) ..وكان سيف يسمع عن لسيارات ملونة ،كان قد اشتراها بجزء من (العيدية) العسكر ول��م يرهم م��ن ق��ب��ل ..ك��ان يسمع عنهم أنهم التي تلقاها من أم��ه ..إذ ك��ان ال يفرح بعيدية إال إذا أناس قساة ..ال يقع بين أيديهم إال المجرمون ..فشعر
40
اجلوبة -ربيع 1428هـ
سيف بمزيد من الخوف منهم ..ولكنه ظمآن ..كيف سيتصرف؟ لم يفعل سيف شيئاً ،وقف حائراً ..فانتبه لوجوده أحد العسكر ،وصاح به :من أنت وأين أهلك؟
عليّ من الطول امرؤ متط ّولُ.».. ول��ذل��ك أي��ض��اً ،ظ��ل يشعر طيلة حياته بالتعايش الحقيقيّ مع المية العرب للشنفرى)!
ف��ي ه��ذه األث��ن��اء ،ك��ان��ت ه��ن��اك ..ف��ي مخيم عائلة س��ي��ف ..م��ن��اح��ة م��ا ب��ع��ده��ا م��ن��اح��ة ..إذ ك��ان��ت والدة هرب سيف.. سيف تبكي حتى ك��ادت أن تفقد بصرها ..وك��ان والد ونظر خلفه ،فلم يجد أحداً يركض وراءه! سيف يرسل كل موظفيه بكل االتجاهات بحثاً عن ابنه فعاد ثانية ..وعاد العسكريّ يسأله :من أنت وأين الصغير.. أهلك؟ لم يكد سيف أن يرتوي من قطعة الثلج التي ذابت أج��اب��ه سيف بصوت مختنق( :أن��ا عطشان ،أبغى سريعاً م��ن سخونة ال��ج��و ،حتى لمح السيد (محمد أشرب مويه). حسين) الذي كان يعمل موظفاً لدى والده ،وقد جاء إلى مقر العسكر هذا ،يسألهم عن الطفل الضائع.. قال له العسكري :تعال اشرب! قال سيف :ال!
صاح سيف بأعلى صوته( :أنا هنا أنا هنا) ..ركض إليه محمد حسين وأخ��ذه من ي��ده ،وأركبه خلفه على الدراجة النارية (الدباب) ،وطار به إلى مخيم العائلة الذي كان قد اقتلعت منه الخيام تماماً ..وكانت سيارة العائلة وحدها الواقفة تنتظر االبن التائه..
استغرب منه العسكريّ ،ويبدو أن قلب العسكري كان حنوناً ومتعاطفاً مع موقف سيف ..فراح يبحث عن شيء يضع به بعض الماء للطفل البائس ،ولكنه عاد وقال( :اسمع يا ولد ..ال توجد عندنا سوى كاسة واحدة مربوطة بسلك في الترمس ،كيف أرمي لك الماء وأنت ارتمى سيف على حضن أمه التي راحت تقبّله وتبكي بعيد)؟ وتحمد الله ،بينما كان أبوه يشكر السيد محمد حسين لمح سيف قوالب الثلج حول (ترمس الماء) فقال ويجزىء له المكافأة!
للعسكري( :الله يخليك ارم لي وصلة من هذا الثلج)! قبل أن تتحرك السيارة بالعائلة ،فتح سيفُ البابَ ال على م��ا ي��ب��دو ،فما كاد وخرج محاوالً البحث عن (السيارات الصغيرة الملونة) ك��ان العسكري مستعج ً يسمع طلب سيف حتى رمى له على التراب قطعة من التي دفنها ه��ن��اك ..فلم يعد يعرف مكانها ..إذ كان يحفظ موقعها بين الخيام فلم يعد للخيام وجود.. ذلك الثلج! شعر سيفٌ بالحزن فبكى ..اآلن يسأل نفسه :كيف لم اختطف سيف قطعة الثلج وهي مخضبة بالتراب، يستف منها الماء ويمتصه( ..ربما من أجل ذلك أبك وأنا ضائع ،بينما بكيت من ضياع أشياء صغيرة؟! ُّ وراح ال��م��وق��ف ،ت��أث��ر سيف عندما كبر وق���رأ الم��ي��ة العرب وجدير بالذكر أن سيفاً ،بعد ذل��ك اليوم ،ك��ان في للشنفرى ،التي جاء فيها: ك��ل زي����ارة إل���ى منطقة ع��رف��ات ي��ظ��ل يفتش ع��ن تلك األرض كي ال يُرى له ِ «وأستف تُربَ ُّ
السيارات!..
( )1من قصيدة (سيف بن أعطى) 1999م (مقدمة الكتاب األخير -النادي األدبي بمنطقة حائل). (( )2سيف بن أعطى) هي (رواية الصورة األخرى) ،ما جاء هنا مداخل إلى الفصل األول فقط! < شاعر وكاتب سعودي.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 41
املهيمن السايكلوجي في اشتغال قصيدة النثر: باسم فرات في خريف املآذن مقتربا ً
> صفاء عبدالعظيم خلف
طفولة مهربة تكشف بؤرة شعورية مقفلة في داخل مكبوت ربما تكون المبادىء الفرويدية في التأويل تسمح لمن يشتغل على فهم البنية السايكلوجية لنص النثر
الشعري ،وتعينه على الم ُِضي ُقدُماً في فهم التركيبتين الذاتية واإلبداعية ،اللتين يمكن عدهما رهاناً
حيوياً ،بوصفهما يعطيان النص وعلته جرعة إنبعاث وإتقاد مستمرة يحفزها فضاء مجهولية نقطة االستقرار.
إن عمق الصورة في قصيدة النثر ،يمكن أن يُعزى إلى تلك المهيمنات النفسية ،المتأتية من االستالبات
ذات تحاول القبض على عِ لل القلق والشك واالغتراب ،واستعداء اآلخر المتساوقة مع صراع داخلي ،في ٍ
غير المتفق مع قناعات الشخصية ،التي ترى نفسها متقزمة إزاءه.
يرى «برنار بانغو» ،في القراءة النفسية للعمل االبداعي أن هناك «لعبة كاملة من التداعيات ال نملك
مفاتيحها ،وهي تهدم باستمرار النص الذي ندّعي السيطرة عليه ،وفي ذات الوقت تقوم بتنظيمه دون علمنا».
إنها بؤرة توتر إيجابية؛ فهدم أي نص ،هو اعتراف باآلخر وتأثيره .فالكتابة اعتراف ضمني باالنتماء
للحلم ،وعلني لليقظة؛ أي لها فضاءان لالشتغال :باطني «الالوعي» ،وظاهري «الوعي» .ويرى فرويد أن
الكتابة كفعل ،هي إفراغ لكبت الالوعي ،ومن ثَ َّم فإن اشتغالها يرجع في النتيجة إلى وعي حُ فز بقدحة إتقاد مكمنها رغبة تتشكل في ما قبل ذلك.
فمسكوتات الذات المشرنقة بالسرية ،تندلق متخطية كل الحواجز ،التي بناها الكائن ،حفاظاً على
صورته «المشرقة» أمام العالم الذي يتقنع الرضا ويبطن ذات السوء ،وهي تدفعه الى إخفاء مواطن تلف متجذرة فيه ،ومؤلمة ،وال تتملكه أدنى رغبة «واعية» في إطالق سراحها.
ن������ق������د 42
الوعي يقود جبهة مقاومة عنيفة ،ضد رغبات الالوعي الالجئ ،إلى محاوالت خداع تنتهز فرصة
الكتابة االنفعالية ،التي يمثل الشعر إحدى دعاماتها األساسية ،وقصيدة النثر أهم مقترباتها الجلية ،في إفراغ نفسها وكشف خصوماتها وأحالمها وتهويماتها؛ منتج ًة التكوين السايكلوجي للقصيدة.
فضاء االشتغال السايكلوجي في خريف المآذن :ذاكرة الهوية تتراسل فضاءات «ال��ذاك��رة» ،صانع ًة أفقاً تتبدى التعبيرية فيه عن جغرافيا مشاهد ،تتحكم فيها
اجلوبة -ربيع 1428هـ
نزعة البحث ع��ن «ه��وي��ة» معلنة ف��ي كشف األلفاظ
م���واط���ن ال��ت��ع��رّف واالس��ت��ك��ن��اه وال���غ���وص عنده،
عنها ،ومبهمة ف��ي اس��ت��ب��اق ال��ص��ور المحتجة على «م��ؤف��ل��م��ة» ،مشهدياً ،عبر التلقّي ال عبر الصراع. ال ف��ي استنتاجي ،لكن قسرية االنتماء لها .فمنجز الشاعر (باسم فرات) ،ورب��م��ا أك��ون مخطئاً ومتعج ً «تُ��م��سّ ��رح��ه» زم��ان��ات مركبة م��ن صمت «تاريخاني» األث��ر السايكولوجي بائن في اشتغال النص النثري؛
وترسيخ جمود لألمكنة ،في تعارض فيزيولوجي مع فهو محصلة إفراغات لوعي خضع الى سلطة الوعيه، المنطق الرياضي -الزمان له بُعد واحد ،وربما يتعدى فحضور الشخصنة كان جلياً ،فهو «لم يخبئ طفولته الى آخر حسب النسبية والمكان ،ذو أبعاد متفاوتة -في قميصه». والبعد الذي يحكم العالقة بين االثنين صيرورة تقادم ف��أن��ت��ج األث���ر ال��س��اي��ك��ول��وج��ي ن��س��ق��يّ خ��ط��اب في المكان المفتوحة مع زمان مقفل باتجاه واحد. المجموعة: وبثقل ،تلقي ظاللها على ٍ زمانات ف��رات أميبية؛ 1االنزياح نحو التقريرية والمباشرة ،وإسقاطاتالمنجز برمته ،لتكوّن في النهاية نصاً ال ينتمي إال إلى ذاتية محضة. ذات مفرطة االفتتان بطفولتها ،المنزاحة من طقس البهجة الى عقدة توحّ د الزم��ت الشاعر (اإلنسان) 2- ،سطوع ومضات لالوعي ،نتاج استجابة ألنا منزاحة ف���أ ّث���رت ،بشكل واض����ح ،ع��ل��ى رؤي��ت��ه للعالم وكشفه
لمنطقة الشعر فيه.
أتذكّر أنني بال وطن وأن الحروب ما زالت تالحقني وتغيّرُ أشكالها. والشظايا.. بساطيل مسخت ذاكرتي أين سأحفظ قبالت النهر؟
نحو الداخل قسراً أم��ام أنا الوعي المتعملقة نحو الخارج قسراَ أيضاً.
أنا لم أُخبِ ئ طفولتي في قميصي ..سرقتني الحرب فأعددت لها قلبي فراش ًا وصحوت
ثان السرد معبر ٍ م��ا ال���ذي يميز أي م��وق��ف درام����ي؟ إن��ه��ا العالقة ال��م��أزوم��ة بين الشخصيات وعالقتها م��ع بعضها؛
تنساب «قيمومة» ذات الطفل على ذات الشاعر ،اس��ت��ج��اب��ة ورف���ض���اً؛ وال��ت��م��اه��ي وال��ت��ق��وق��ع ،وك���ل تلك إلى حد تخليه عن لغته الشعرية ،المتعقلنة إلى لغة الخيوط المتنافسة على سلطة مادية أو معنوية. طيفية مبعثرة؛ تشهد ازدحاما صورياً ،كمخيّلة طفل لكن ،ما االتجاه الذي ستؤشره بوصلة سرد تتحكم حفزتها إشارات ،وارتحاالت ،واغتراب مبكر ،وعملقة به نزعة «التماهي» و«اإلسقاط» و«التقمص»؟ وأعني كاذبة لشخصية لم تكتمل بنيتها الصبيانية .فالضفة السرد هنا في قصيدة النثر ،حصراً. التي أوجدت األقدار الشاعر بها ،ضفة ممسوخة ال دالل��ة لها عنده ،إذ لم يبلغها عبر ت��درج طبيعي ،بل
متى اشتغل السرد في نص النثر الشعري ،كانت
قفزة ،أحرقت التمرحل لديه ،من طفولة مهرّبة إلى بواباته ،البحث عن ب��ؤرة تاريخية منزوية ،وإسقاط
ذات ناضجة «متعملقة» في اآلن ذاته.
تجربة اإلنسان المعاصر عليها ،بشكل تتناغم فيه
اجلوبة -ربيع 1428هـ 43
ال��ص��ورت��ان إل���ى «ال��ت��م��اه��ي» ،ح��س��ب دق���ة التوظيف الذات وحلم اليقضة» في تفسير كهذا ،ظاهرة تفصح واالشتغال ،والتي كثيراً ما تجعل الشاعر المشتغل عنها الكتابة« :إن الخيط الرابط ،ترك الذات تسرح
على هذه االوال��ة« ،يتقمص» الحكاية ويجعلها سرداً دون كبح ،واالسترخاء الذي يعقب الشرود؛ فباإلفالت ذاتياً ،يُطلق من خاللها شراراته النثرية. من أطر المنطق نتغّرب ونتّبدل ونستلب ،وقد يصادفنا ومع ذلك ،ليست الحكاوي التاريخية وحدها التي الحظ ونلتقي بذاتنا ،أو ندخل في ذات أخرى».
تهيمن على س��رد القصيدة النثرية الحديثة ،لكنها
سمة اشتغال متداول.
وتنسحب بؤرة الفقدان الشعورية إلى كل النسوة الالتي ساق القدر أبطالهن إلى سجن السندي ،حيث
هناك من يحاول أن يفعّل س��رداً كونياً حداثياً ،تبدأ حكاية الفقد لدى الطفل .فرمزية عشتروت هنا ال ج��ذر ل��ه ،ف��ي محاولة لصناعة رم��ز وثيمة بالغة كانت جلية في البحث عن النماء ،المقدم من الرمز االق��ت��راب م��ن ال��ت��ش��وّه ،ال���ذي أص���اب روح الكائنات ال��ذك��وري ل��ه��ا ،فأسلوبية االش��ت��غ��ال ،ك��ان��ت معشقة األرضية ،في عالم تقوده التكنلوجيا ونظم االتصال ،باالقتراب من نصوص المناجاة في أسطورة الخلق
وتعليب المشاعر ،وإنتاج أحاسيس رقمية جاهزة.
يلجأ «فرات» إلى آلية السرد في إشتغال القصيدة،
معتمداً على حكاوي تاريخية ،أنعشتها الذاكرة الشعبية، في بناءات تخَ يلية ،منحتهم منطقة خادعة /مخدوعة
لرفض السلطة ،وإلشباع رغبة في االقتصاص منها. إذ إن توظيف الرمز المستلب قهراً يشير إلى ذلك.
تتجه بنية االش��ت��غ��ال ال��س��ردي ف��ي ن��ص اب��ن آوى
البابلية ،يقول «فرات» في نص (أرسم بغداد):
أسمعتك نشيدي فما أسمعتتني غير احتراقي ق���دت ال��م��ط��ر ال���ى ب��اب��ك ف��ان��زل��ق��ت أن��ام��ل��ه فوق جبيني أرخ���ي���ت ت��س��ه��ي��دي ل��ل��ح��رائ��ق ،ألن����ي أم�����ام أت���ون الفراشات ودون خرابي الماثل للوردة والعصافير
أيقونات مهربة
ال��ن��ث��ري ،إل��ى ن��وع م��ن الغنائية وم��داع��ب��ة الوجدان، ال لو إنه وتهييج األحاسيس ،وكادت أن تكون فخاً قات ً
اجتر الواقعة في نوع من العودة إلى الماضي المصاب بالحنين ،إال إنه قدم طرفاً هامشياً ومحدود المالمح،
تساوق معه ،أنتج رمزاً ،له اشكالياته النفسية الذاتية. (األم) محور النص ،تكشف عن وجه جديد للمعاناة،
وعقد سايكلوجية مؤثرة.
مجمل المجموعة تجوس في فضاء سايكلوجي،
م�لام��ح��ه األب����رز ه���ي :ال��س��ع��ادة ال��ض��ائ��ع��ة ،وهاجس الحنين ،والمعصية ،واالستالب.
ي��ق��ول «م��ارس��ي��ل ري��م��ون» ف��ي كتابه« :البحث عن
44
اجلوبة -ربيع 1428هـ
خريف المآذن ،كان لصلتها الحميمة بالذاكرة أث ٌر بالغ في تكوينها الشعري ،الذي هيمنت على أجوائه نصوص طقوسية باشتغال إشاراتي ،نجد صداها في تراتيل المعابد واألل��واح المقدسة العراقية القديمة، كأغاني كهنة ،وخشوعات مستلبين؛ ففي نص (أرسم بغداد) األجواء خاشعة ومنطوية ،في مناجاةٍ ،يقول: ي��ت��أس��س ال��م��اء كلما ت��ن��ح��در ال��ش��م��س م��ن رحم ياقوته االنتظار كلملة تصل اليقين بي يتلوى العمر على ورقة,
أو يتبختر – يا لرعونته – تحت نزيف الطائرات.
أبتلعك المنفى
ت��س��ري�� ٌل ش��ف��ي��ف ،ب��ي��ن مبتنيات خ��ري��ف المآذن،
وتخشى على بهائك من االندثار
إنه ال يكشف عن سر ما ،بل يطلق صيحة استنفار
متوقدة الدهشة لما حولها .عين الكشف لدى فرات بالغة البراءة ،تعطيه حرية التجوال في معابر قاتلة، وأخرى فسيحة الحزن ،فيما كل المرح باتجاه السماء،
الشاهد الوحيد المتزامن مع كل العذابات المتخطية
��ف�لا ل��دج��ل��ة ف��ي أق��ص��ى أقصى ك��ل ليلة تقيم ح ٍ ً الجنوب ال جنوب أمامي ..هنا بالدي ..ال جنوب ورائي.. أنا جنوب مطلق. نص (خريف المآذن) المنعكس في مرآة عنوانية
للحدود في نصه (جنوب مطلق) ،وال��ذي يمكن عده أحد أهم اشتغاالت فرات في المجموعة؛ فالتقطيع أخرى( :ربيع السواد ..دمنا) ،يغري اشتغاله المتلقي ال��ص��وري واألس��ل��وب��ي تحيلنا إل��ى النصوص الدينية السير على خيط رفيع ،إلى أرض فردوسية مقفلة، والشعرية العراقية البابلية والسومرية الطينية التي ككاهن طين يطلق احتجاجاته ضد كل المهيمنات محا ال��م��اء رسمها؛ فنستشف ق��درة شعرية حالمة السلطوية المتفيزقية واألرضية ،التي لم تكلف نفسها
بالغة الهدوء والسكينة على الرغم من كل الرصاصات يوماً عناء النزول إلى عذابات عبيدها ،لتكشف عن المتنافرة ،والجراحات المفتوحة ،واألماني المتخندقة سمو انتماءاتهم إلى حياة دون ركوع. في حجابات العزلة.
جنوب مطلق أدق االشتغاالت ،إال إن نص «خريف
المآذن» تكمن قيمته في الداللة الرمزية ومسكوتاته
النبوئية؛ ف��أي ق���راءة تناصية بين النصين ،تكشف آص��رة تحتفي بالبحث في أرض متغضنة بالحروب
وال��م��آس��ي واالح��ت�لاالت واالس��ت�لاب .ع��ق��دة الحرب طبعت ببصمتها على جلد الشاعر واألرض ،ففجرت
لهم العزة كلما توغلوا في الرفض أطعموا الحالج َصبرَهموا وأفاضوا على المأل حلم ًا بطراوتهم بلّلوا الندى وفلقوا الصخر بالرقة. (خ��ري��ف ال��م��آذن) المجموعة ،ن��ب��وءة خ�لاص من
خزيناً شعرياً هادئ الطبع ،نعزو هدوءه إلى اطمئنان صنمية كل المهيمنات على ذواتنا المحترقة عطشاً
لذات «التوجع» ،وانزياح إلى ذاك��رة ثقبتها رصاصة ،وجوعاً واغتراباً ،يشفع لها على الرغم من هفواتها التي لم ترعوي خدش طفولة نهر وحلم وردة؛ فأحالت كل نتجت عن اإلسهاب في تصوير المعاناة واالعترافات، مشاهد االغتصاب العسكرية لديه ،إلى اغتراب حاد ،بوحها البريء. ونشوة بحث عن جنوب يشبه جنوبه المحترق؛ فأرخى إن أعمق إشتغال لفرات في خريف المآذن الصادرة العنان لتماهيه المفرط مع أسى البردي ،معلناً عن ذات��ه جنوباً مطلقاً ،ال يحده سوى البحر من جهاته عن (دار أزمنة) في عمان 2001م ،كان اكتشافه بؤرة شعور ،منزوية في داخله المكبوت ،فاستنطقها ،فكان كلها« ،كمرموزية» للبقاء الحي. يا لهاث الجنوب..
المنجز نتاج تحفيز للوعي والالوعي.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 45
جنـيب محفوظ
أصــوات اإلثـــم والبــراءة
> محمد جميل أحمد
<
رحيل محفوظ عن (القاهرة) لم يكن مجرد لحظة قدرية ،واقعت تخلعا ً لحياة آذنت بانسحاب مأساوي لعالمه ،الذي وازى إيقاع تلك المدينة ،عبر تحوّالتها المفصلية طوال القرن العشرين .ليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا الرحيل كان يفيض بفراق ويُتم ،لم تعرفه القاهرة عن محفوظ طول حياته. و لهذا المعنى العضوي لعالقة محفوظ بالقاهرة ،يصبح الفراق على هذا النحو يُتماً حقيقياً؛ ينزاح على النيل والهرم والقاهرة القديمة ،أو هذا ،على األقل ،ما شعرت به وأنا أتأمل ،عبر الشاشة ،شبح الحزن والغبار يخيمان على القاهرة القديمة من صورة علوية ،صباح اليوم الذي رحل فيه نجيب محفوظ. ثمة قدر غالب ،انخرط فيه ذلك المتفلسف العشريني في نهاية الثالثينيات ،لتأسيس حكايات على هامش األحداث القاهرية ،تخلص باستمرار جمالياتها من «التاريخانية» ،وتتأمل فيها وجوه القاهرة عبر سرديات مقنـ َّعة ،تصغي إلى وجودها من القاع؛ لتضخ فيه أسئلة الوجود والعدم ،وفسيفساء الهواجس اإلنسانية مشغولة ً في نسيج يختبر حاالت متذررة في (دنيا الله). انخرط محفوظ مبكرا في رهان (خاسر) ،يشف من الحداثة وتجلياتها في سرديات الثقافة الغربية ،أقنعة وحكايا تنحاز إلى حياة قاهرية بامتياز .واتخذ محفوظ مجازاً روائيا ً للحياة العربية القاهرية ،على نحو يحيل سؤال التنظير للرواية العربية سؤاال مقلوباً ،لشدة رهانه البارع بصورة شخصية في تضييق الهوة بين الشرط التاريخي للرواية؛ أي تلك البنى المعقدة للحياة الصناعية ،وتعددها ،وسؤالها «األنطلوجي» العابر لألفكار والفلسفات ،وبين االنبثاق الطبيعي لعالمه الروائي من قلب الحارة القاهرية. كان محفوظ يتأمل باستمرار حياة المصريين برؤيا الفيلسوف وخيال الروائي ،ولذلك لم يقع في موجات كتابية جرفها الزمن إلى الفراغ .فمحفوظ أمسك من الفلسفة ما سمح له باالشتغال على تدوير أسئلتها الكلية والمحايثة للزمن في قصصه ورواياته بمهارة ،وبصبر لم يشغاله عما يراه هو ،وما ال يراه اآلخرون :ذلك أن ال عن األضواء والشهرة بمتعة حقيقية ،لفت انتباه ناقد حائر كان يبحث اليقين الذي جعله يعزف عزوفاً كام ً عن صور قصصية ضائعة للحياة المصرية في اإلبداع ،ويتوق إلى أدب قومي مواز للحكايات الدنيوية األوربية، دون أن يكون ذلك اإلبداع نسخة منها ؛ لهذا كانت فرحة (سيد قطب) بـ (خان الخليلي) و(القاهرة الجديدة)، ال معكوساً إليمانه العميق الذي دفع حياته ثمناً له .وكثيراً ما صرح محفوظ ،في حوارات و(كفاح طيبة) ،تأوي ً مبكرة ،أن «قطب» هو أول من لفت األنظار إليه مع (أنور المعداوي) (صديق سيد قطب الحميم). ولعل الغريب أن محفوظاً كان يفصل تماماً بين عالمه الروائي ،وبين ما يصدر عنه من التزامات بيروقراطية، فيما كان ينحاز إلى أصواته الروائية ،عندما ينشأ تناقض يوحي بالتراجع عنها. انتبه محفوظ مبكراً إلى الحيثيات الجمالية التي تفصل بين زمنين :زمن السرد الروائي ،وزمن التحوالت السائلة في الواقع ،وكثيراً ما كان يقع الخلط بين الزمنين ،بضغط التاريخانية ،في التجارب الروائية التي صاحبت
46
اجلوبة -ربيع 1428هـ
بعض عمره ال��س��ردي المديد (إح��س��ان عبدالقدوس أيقونة ضائعة في هذا العالم ،بل لعجز المبدع ووقوفه يوسف السباعي ...ألخ) ،فلم تسلم من النسيان. حائراً حين يبصر كثافة األلغاز في هذه الحياة. استسلم محفوظ منذ ال��ب��داي��ة ل��غ��واي��ة المكان (القاهرة القديمة) ،مقيماً فيه إقامة فيزيائة نادرة. وكان هذا الخضوع لسلطة المكان يحرره من كثافة ال��م��ع��ط��ي��ات الفنية وال��ف��ل��س��ف��ي��ة ،ل��م��ص��ادر الرواية ومرجعيتها األوربية ،حين يكتب نصه السردي ،فيأتي شفافاً وملتصقاً بمصائر الناس ،وشؤونهم الدنيوية.
تردد محفوظ أمام اللحظات الدينية ومعطياتها الملتبسة ،في التصوف والتدين الشعبي ،دون أن يقع على ص��ورة المؤمن ال��راس��خ حيال دنيوية الحداثة وكثافتها ،التي تقتلع كل يقين .لكن الهوامش الفلكلورية لحاالت التدين الخام ،سجلت في متنه السردي حنيناً غنائياً مكبوتاً لبراءة مفتقدة ،ليست من هذا العالم.
ك��ان��ت م��رج��ع��ي��ات الفلسفة ال��س��ردي��ة لحكايات محفوظ هي فقط في الخالصات النقدية الحاذقة، أما معطيات النص ولعبته الفنية الماكرة فهي غواية جميلة للقارئ ومن عالمه المعروض في الحواري، واألسواق ،والوكاالت ،والتاريخ ،واألطياف ،واألحالم، واألساطير .فلقد ب��رع محفوظ في توظيف مقولة (نوفاليس) عن اإلب��داع ،بوصفه( :كتابة غير عادية عن حياة عادية).
لقد هجر محفوظ الفلسفة ربما خوفاً من أسئلتها العارية ،لكنه أع��اد إنتاج ه��ذه األسئلة في السرد. وه��ذا التماهي بين جماليات «السرد المحفوظي»، وتأويالته المطمورة في عصب األسئلة الفلسفية، هو الذي جعل من (حارة) محفوظ صورة من العالم، وجعل من شخصياته أصواتاً عابرة في الوجود.
وف���ي م����وازاة لحظة تأسيسية ل��ل��س��رد العربي، كان محفوظ يمسك بخيوط بهلوانية بارعة تتوافر على ذلك التمزق ،بين االنخراط في لحظة سردية ع��رب��ي��ة ت��ب��دأ ص��ي��رورت��ه��ا ال��م��ت��أخ��رة ،وب��ي��ن اإلدراك الواعي لمرجعيات عتيدة وراسخة للرواية ،وشروطها التاريخية المتحققة في لحظة سردية أوربية متقدمة! واإلم��س��اك على ه��ذا النحو بين الحداثة السردية، وتأويلها على نحو مخصوص ،في حياة عربية راكدة، هو عبقرية تفتح على صاحبها وجوه التأويل المتعددة. ال عن المعاناة ،تنطوي هذه المغامرة على حنين ففض ً لبراءة ضائعة ،ظل البحث عنها هو مغزى السرد. ك���ان التعبير ع��ن ال��ت��ن��اق��ض��ات ه��و ج��وه��ر إبداع محفوظ .كانت األسئلة تعود مرة أخ��رى عبر أقنعة السرد في( :كفاح طيبة؛ القاهرة الجديدة؛ ميرامار؛ أوالد حارتنا؛ ثرثرة فوق النيل؛ اللص والكالب؛ حديث الصباح والمساء)؛ دون أن تتوقف يوماً ،ال ألن اليقين
ج��سّ ��د م��ح��ف��وظ ف��ي م��ش��روع��ه ال���س���ردي صيغة تستقطب االنهمام بأسئلة الحداثة ومرجعيتها الغربية، وكتابة سردية تقع على مثالها في الحياة الشعبية في آن؛ أي لقد كان محفوظ يخل ـ ِّص باستمرار تمثالته العميقة لمرجعيات السرد الغربي .كان محفوظ من القالئل الذين قرأوا رواية مارسيل بروست الطويلة ج��داً« :البحث عن الزمن المفقود»( ،باإلنجليزية) من حكاياته القاهرية دون أن يقطع معها ؛ لذا يجد المتأمل في حياة محفوظ وس��رده ص��ورة من صور المثقف (العضوي) بالمعنيين الشعبي واالجتماعي المنذور ألمانة السرد الحميم ،والمسكون بأنفاس الحياة الشعبية ،فقدرة محفوظ على إدارة الحياد السردي في رواياته بمهارة عالية ،هي جزء من ذلك التمثل العميق لصيرورة الحياة القاهرية عبر الزمن. فليس عجيباً أن ينعته أت��راب صباه البسطاء حتى بعد أن حاز جائزة نوبل بالـ (واد نجيب) ألنهم وجدوا فيه حالة عادية بامتياز ،ووجد فيهم كتابة غير عادية رصدت مصائرهم ومثاالتهم في رواياته.
< شاعر وكاتب سوداني مقيم بالسعودية .
اجلوبة -ربيع 1428هـ 47
شمس ال تعرف املغيب ..ومجد ال يعرف الصمت
ديوان الشاعر السعودي :محمد احلربي «زمان العرب» > د .خالد فهمي رائعٌ هو الشرقُ خلف الحوض المتوسط! َ القائمُ ال ربما كان هذان السطران الشعريان اللذان أبدعهما جوته في ديوانه الشرقي مدخ ً صالحاً من كثير من الوجوه لدراسة الديوان ،الذي أبدعه الشاعر السعودي محمد جبر الحربي ,وجعل عنوانه« :زمان العرب» وصدرت طبعته األولى عام 1427هـ. وربما صح كذلك أن نقرر أن هذه القصيدة /الديوان ترغب في أن تفي العرب حقاً يهضمه الكثيرون في هذا الزمان تحت االنهزام ,والديوان راغب كذلك في أن يعيد قراءة الحال ،من زاوية المنجز الحضاري ،معروضاً على ميزان الجوهر والعرض ,وعلى ميزان الثوابت والمتغيرات ,وقد تحقق له من خالل ما رصده مما يمثل جوهر عطاء العرب – أن يقرر أن هذا الزمان هو زمان العرب ,على الرغم من معاكسات الشاغبين؛ ألنها معاكسات مغالطين خدعتهم خوادع ،لفتتهم عن الجوهر األصيل الكامن في العطاء العربي ,يقول الشاعر: تقول لي الوردة اآلن هذا زمان العرب حط وإن حط من ّ أو طار من طار أو غار من غار فاكتب هنا بالدم العربي وماء الذهب وفي أول السطر ,في الصدر هذا زمان العرب والتوقف أمام اسم الزمان( :اآلن) الذي جاء معترضاً بنية السطر األول ،بين القول والمقول ،تظهر حرص الشاعر على بيان التوقيت؛ لتدفع توهم حمل الكالم على أي مجد قائم لم يغب؛ ألن أصوله التي ٍ زمن مضى .القصيدة ترد النفس العربية الى أقامته وشيدته لم تزل قائمة ماثلة. وتأمل الداللة الكامنة وراء تنكير اسم ال َعل َم :بوش مع أنه استجمع شروط المنع من التنوين – دال على هذه اإلرادة الجادة التي ترى بوش وتابعه نكرات ،ال يصح أن تعيق
48
اجلوبة -ربيع 1428هـ
إع�لان تلك الحقيقة التي طمرتها شواغل الزمان، وه��و م��أخ��وذ م��ن ق��ول��ه ت��ع��ال��ى« :وأع����دوا لهم ما التي طرأت أخيراً. استطعتم من قوة ومن رباط الخيل» (سورة األنفال وقد استثمر الشاعر تقنية يعرفها التنظير البالغي .)60 /8 باسم براعة االستهالل ،فأحسن عندما افتتح ديوانه وق��د حشد الشاعر المسوّغات التي قادته الى بذكر أجل مواريث العرب ،وأجل ما يفخرون به ،وأع ّز إعالن حقيقة إن زماننا هو زمان العرب ،ونثرها في ما بنى مجدهم ،وهو ما لم يغب مع مدارات الزمان ،طول الديوان بعد هذه المباغتة التي افتح بها عمله، يقول محمد الحربي: في شكل من أشكال براعات االستهالل التي تحسب على األرض منه السالم ل��ه ،ح��رص الشاعر على اإلع�ل�اء م��ن قيمة البيان وللعُ رْب طيّبهم والتقي ،وفيهم رسالته ،والنبيّ بحسبانه منحة ربانية ال يُ ْر َزقُّها أي أحد ،وقد ظهر وأعلى صروح ه���ذا اإلع��ل��اء منذ البيان. مفتتح الديوان: ول����ل����ع����رب ..أعلى وه������������������������ذه صروح البيان ال��م��ب��اغ��ت��ة التي
س�����م�����ي�����ت ف���ي التراث البالغي ب���اس���م (براعة االستهالل) تعلن ع������ن خطرها وقيمتها في أنها ب���ح��� ُّر المتلقي ج ّراً إلى التسليم بما هو مفتتح به ،إن مفتح القصيدة /الديوان يعلن أن���ه ال ث��م��ة م��ع��ارض ف��ي أن م��ج��د ال��ع��رب ك���ان في الرسالة الخاتمة ،وفي صاحبها صلى الله عليه وسلم وص��روح البيان السامية ،فلم تزل الكلمة هي أعلى مواريث الحضارات. وقد تترست القصيدة عن طريق تقنية التناص ،أو تداخل النصوص وراء الحقيقة المفضية إلى اإلقرار بقيمة أع��ل��ى ن��ص مبين ف��ي ال��وج��ود ،وه��و القرآن ال��ك��ري��م ،فتسربت ع��ن س��ط��وره��ا ن��ف��ث��ات م��ن��ه على مستوى المعجم الشعري ،وعلى مستوى التراكيب، يقول محمد الحربي: أعدّ وا لهم ما استطعتم من الكبرياء.
واستمر منسوباً ف���ي ك���ل ال����دي����وان، ي��ط��ل علينا وكأنه ������اض في س��ل��اح م ٍ وج������ه ك�����ل ال���ذي���ن خ���������ارت ق�����واه�����م، ون�������س�������و أم�����ج�����اد العرب؛ يقول: و أما البيان فهذا بياني لكم فاحفظوه ويقول: رجه للعدو ،وخالص فهذا البيان من الشعر ما ُ للعرب
وقد تعانق مع هذه القيمة التي أعطيت للبيان، بوصفه من المسوّغات التي قادت إلى النتيجة التي حمل الديوان عنوانها -قيمة من توابعها هي اإلعالء من اللغة العربية ،ومما صدر عنها من علوم وحكمة؛ يقول الشاعر: مسجل هنا مرة تلو أخرى َّ بأني أنا اليعربي..
اجلوبة -ربيع 1428هـ 49
انشد قافية الليل مبصرة كالنهار. تنتج ف��رع��ون وه��ام��ان ،أو ب��وش وبلير ه��ي حضارة وت��زداد قيمة البيان واللسان ،عندما ن��راه يدعو االنهيار ،حتماً ستغيب عنها الشمس ،وسيخرس يوماً لهما في سياق إكبار المفردات التي تلخص طريق مجدها إن وجد! استعادة المجد العربي ،وهي مفردات بعضها مألوف وق��د أح��س��ن محمد ال��ح��رب��ي ف��ي استثمار هذه ف��ي س��ي��اق ال��م��ق��اوم��ة ،وبعضها غير دائ���ر ف��ي ذلك التقنية ،فأظهر من خالل المقارنة الصامتة الماثلة، المعجم ،يقول: ف��ي بنية ال��دي��وان أن الحكم ال��م��وص��ول إل��ي��ه حكم فبوركت يا حجر ًا ال ينام مشفوع ب��أدل��ت��ه ،فقد احتشد ف��ي ال��دي��وان فجمع وبوركت يا لغتي العربية م��ا اشتهر م��ن رم��وز ال��ع��دوان ،وال��خ��راب ،والظالم وهذا التذكير بثوابت ما تمتلكه النفس العربية ،في الثقافة العربية ،س��واء كانت هذه الشخصيات لم يقف عند حدود دوائر الرسالة الخاتمة ،والنبوة التراثية ،تاريخية أو أسطورية أو دينية ،أو غير ذلك الزاكية المشرفة ،وما تراكم على مدار القرون من من التصنيفات المختلفة كما يلي:
تراث حنا على الوجود اإلنساني ،ولكنه يمتد فيذكر بقوائم طويلة جداً من ميزات العرب التي تجسدت ف��أم��ا ال��ح��روب فمن صنع ف��رع��ون ه��ذا الزمان في البناء ،واإلعمار ،ورعاية اإلنسان ،يقول: وهامانه وكونوا به الرمح والصولجان ب) المغول /الروم /الفرس: وكونوا الخالئف في جنة الله ،أرض الرساالت لم أقف خائب ًا مهد ال��ح��ض��ارات ،مفروشة بالغمام ،ومفروشةً حين عاد المغول إلى غرّةِ األرض بالعنب واستنجد الروم بالفرس وفي الوقت نفسه يدخلنا الشاعر في مقارنة دالة، بالقس َّ واللص ُّ شديدة اإليحاء ،ليثبّت نتائجه المرصودة سلفاً ،التي ج) أبو جهل /أبو لهب حكمت بأن هذا الزمان هو زمان العرب ،تتجلى هذه صار لفارس في النسب العربي أبو جهل واللهب المقارنة الصامتة من خلف ما جمعه للعدد المحتل د) قارون :من جرائر قارون من صفات تصب في قائمة الخراب ،وتظهر حيثيات حكمة النهائي ،الذي أعلنه م ْن عنوان الديوان ،يقول ولم يكتف الشاعر محمد الحربي أن يرصد هذه في العدو: الشخصيات التراثية ،تاركاً للمتلقي أمر التوصل الى ف��أم��ا ال��ح��روب ف��م��ن ص��ن��ع ف��رع��ون ه���ذا الزمان معادالتها الموضوعية ،أو ما تشير إليه في الواقع وهامانه الذي تصوره القصيدة؛ ولكنه صرح مع التقدم في أ) فرعون /هامان:
وب��ع��ي��داً ع��ن التخفي وراء ال��رم��زي��ن التراثيين؛ فرعون وهامان اللذين سينكشف أمرهما مع التقدم في بناء القصيدة /ال��دي��وان ،فإن ما يهمنا هنا هو رؤية الديوان ألقوياء هذا الزمان من زاوية حضارية، هي المعيار الحقيقي للحكم على األمور ،إن حضارة
50
اجلوبة -ربيع 1428هـ
ب��ن��اء ال��دي��وان بأسماء عصابة ال��ش��ر ،ال��ذي��ن قادوا جحافل العداوة نحو بالد العرب ،ليصبح شارون، وبوش ،وبريمر ،وبلير ،هي المعادل الموضوعي لرمز الشر القديمة ،وقد أكدت ذلك تصريحاته التي يقول فيها:
من جرائر قارون حتى جرائم شارون حتى بغال العراق األليفة في سرّة الحكم ف���ي رح��ل��ة ال��ب��ح��ث ع���ن ع��ل��ف ف���ي ب��ق��اي��ا بريمر Bremer أو في بقايا :مستر بلير Mr. Blair وكتابة أسماء هذين العلمين باألحرف الالتنبية وإن يكن من رواسب القصيدة الحداثية (المرفوضة من جانبنا) يمكن أن تفسر جماليًا بشيء من الرفض واالحتقار؛ ألن يحمل الحرف العربي صورة رسمهما اللفظي! وه��ذا تفسير متعاطف مع بنية الديوان، البعيد حقيقة عن روح الحداثيين وأفاعيلهم. لقد ص َوّرت أمريكا بالتتار ،والمغول ،وهما اختيار دالّ في هذا السياق المخَ رِّب ،ال��ذي تمارسه هذه الشيطانة الرقطاء في عالم العرب. على أن الحكم الموثَّق من قبل محمد الحربي بتقدّم العرب ،وسبق زمانهم ،لم يهمل رسم الطريق الى نقص التراب ،الذي علق بهذه الحقيقة فأخفى الوضاء ،يقول: ّ وجهها المشرق لم أقف صامت ًا حين دكت جيوش التتار الجدار لم أقف خائن ًا حين عاد المغول الى غرة األرض واستنجد الروم بالفرس واللص بالقس لم أقف خائب ًا كاألوز!
التحلي بها .ولعل أبرز ما ورد في بناء هذا الديوان هو استثمار (اإلوزّ) و(البغل )؛ فاألول معروف عنه عدم القدرة على فعل شيء ،حتى أن األمثال القديمة في األوساط الشعبية تقول« :للبط تهددين الشط»، وه��و مثل يضرب في السخرية لمن يه َّدد وه��و في ضعف البط ،وخوره ،واإلوز في مدونة الحيوان عند العرب ،هو البط الكبير؛ كما أن البغل معروف عنه التبلد في الوعي الثقافي العربي ،ومعروف عنه رداءة األخالق ،كما روى الدميري في حياة الحيوان ،ومن أجل ذلك وجدنا الشاعر هنا ينفي عن نفسه ،وعن العربي ،إمكان أن يكون أحد هذين الرمزين يقول: لم أقف هائم ًا كالبغال أفتش في لغتي عن معان تخفف وطأتها أو تشير الى رحمة داخل النار ويقول: حتى بغال العراق األليفة في سرة الحكم كما استثمر الشاعر ما علق بالفرس أو الخيل ال كذلك من خصائص القوة ،والنبل والعراقة ،مستغ ً ما أستقر في الوعي الثقافي العربي من الخيرية الكامنة خلف هذا الحيوان ،ربما بتأثير ممتد لألثر النبوي الشريف :الخيل معقود بنواصيها الخير ،وما ج��اء على شاكلته ،فقد ج��اءت السياقات التي ذكر فيها الخيل دالة على ما نقول ونقرر. يقول الشاعر: وكونو الثوابت والعاديات
والتوقف أمام استثمار الحيوان في الديوان ملمح وال يخفى أن ثمة قسماً تناولته بعض اآليات جيد بالقراءة ،وهي تقنية عرفتها اآلداب العالمية ،ال��ق��رآن��ي��ة الكريمة منذ اف��ت��ت��اح ال��وح��ي وت��ن��زل��ه في من زم��ان قديم ،ربما بتأثير من األدب العربي في مكة المكرمة ،كانت مادته هي العاديات وضبحها عصر سيادة العربية. وجريها. وقد وظف محمد الحربي ع��دداً من الحيوانات ف��ي ب��اب دف��ع تهمة ال��ت��خ��اذل ال��واج��ب على العربي
ويقول: وال تهلكوا ،وتوخوا ما أمرتم به من عتاد
اجلوبة -ربيع 1428هـ 51
ومن زاد عزتكم من أياد ،ومن صافنات الجياد
عندما دنسها األمريكان.
إن الشاعر مستكف أن يسدّ د خائن ،ويرقى إلى وال���دع���وة إل���ى أن ي��ك��ون ال��ع��رب��ي م��ث��ل صافنات الجياد ،دا ٌل على قائمة طويلة من استثمار القوة سدّة الحكم ،في مكان ما عاله إال األكابر ،يقول: وأضحى األمين الشريف العفيف بمحرا بها مَ نْ والنبل والعراقة. َذب ك ْ ويقول: وأضحى السفيه اللئيم حكيم ًا وال تستعيد ال��ل��غ��ات مهابتها وال��ك��واك��ب دريّها، وساد الخؤون على رأس بيت الخالفة والجبال غرابيبها ،والجيا ُد الصهيل لتبهج إال إذا وتتمثل فكرة االرت��ق��اء برمزية الخالفة متعانقة اشتعل الليل في حدقات النواجل. ب��واح��دة م��ن أش��ه��ر األف��ك��ار ال��م��ت��داول��ة ف��ي مدونة لعذبات صهيل الجياد عالمة بهجة ،وعالمة على النقد الحديث ،التي تولي اهتماماً خاصاً لما يسمى استعادة ال��ذات العربية كينونته ،ألن صهيل الجياد بجماليات المكان؛ وهو ما برز جلياً في التكثيف الذي إعالن عن قوة ،واستجماع طاقة ،وإقباالً على الحياة ،صنعه الشاعر ،من خالل استثمار مجموعة كبيرة من وتحركاً من أجلها. أعالم البلدان والمدن ،التي علق في الذاكرة العربية وتستمر القصيدة مذكرة بشيء آخر جليل ،على أن ذا الزمان هو زمان العرب ،فتعلي من شأن الرابط الذي ظل يربط العرب جميعاً ،وتأمر عليه األراذل؛ فنالوا منه وأسقطوه ،وهو رمز الخالفة ،عنوان وصف األمة وترابطها ،وهي أمر له تأصيالته الشرعية التي حرص الشاعر منذ البدء على بيانها؛ يقول: وكونوا الخالئف في جنة الله ،أرض الرساالت مهد الحضارات
ما لها من تاريخ ماجد نبيل؛ فأشاع بهذا التكثيف ال جواً قائماً من الشعور بالمجد والعراقة التي تم ً الصدر نزوعاً نحو استعادته ،والتعلق به ،والحرص عليه ،يقول: من عيون الرصافة والجسر حتى كروم الجليل ويقول: وأن ال طيرة ال عصر إال بأفياء دجلتهم والنخيل
ول��م تترابط ه��ذي األم��اك��ن إال في ظل ما تأمر في ربط دال ٍ وموح بما خلفته فكرة االرتباط بكون عليه األراذل فأسقطوه ،وأزالوه بعد ما غيرنا زماناً اإلنسان مخلوقاً لإلعجاز ،مستخلفاً في األرض ،مستظلين بأفياء الخالفة ،وهو ما دعا الشاعر إلى ويقول: أن يقول: تبحر لم أقل إنها حالة ستمر ،سحابة صيف ّ تقول لي األرض إن البالد بالد العرب بل قلت هذا احتالل وفيهم بدايتها بالخالفة حتى تعود كما شاء يبيح دمي في العراق ولم تأت الصورة الشعرية متنافرة مع هذا الطرح ويدمر دار الخالفة الذي قدّمه الشاعر ،بل بدت الصورة الشعرية خادمة ��ج��رت��ه ال��ع��ق��ول الجميلة ف��ي بيت ي��ح��رق م��ا ش ّ لموضوع النص ،متسمة في غير قليل من المواضع حكمتها بالحدة واالبتكار ،وإن قلت بشكل ع��ام ،لكن قلتها وه��ذا التدمير ال��ذي فعله المغول قديماً عندما م��ب��ررة بسبب م��ن م��وض��وع ال��ق��ص��ي��دة ،وبسبب من داسها رجس التتار ،هو ما فعله مغول الزمان الحديث األفكار المطروحة فيها ،فعلى حين نرى في القصيدة
52
اجلوبة -ربيع 1428هـ
تمجيداً لما أنتجته العربية من علوم وحكمة ،وما قدمه العرب زم��ان خالفتهم من خير وب�� ّر بالعالم، رأينا ذلك طاّالً من وراء الصور التي أبدعها الشاعر، يقول: إلي وتشكو قلت هذي هي العربية تسعى ّ فقبلت مهجتها ،وأخذت برفق يديها وأجلستها فوق روحي فسالت جروحي وفاض المداد بأنبل ما يصطفيه الفؤاد
واستنجد الروم بالفرس واللص بالقس وه��ذه استثمار جيد للتقارب ال��ذي بين السين والصاد ،في الخصائص والسمات ويقول: وأجلستها فوق روحي فسالت جروحي ويقول: من جرائر قارون حتى جرائم شارون
في هذه الصورة الممتدة التي كان محورها هذه النبيلة ،وقد أوشكت حادثات الزمان أن تكسرها، ولم يغب عن الشاعر أن يستثمر أخيراً التشكيل وج���دت م��ن ي��ت��رف��ق ب��ه��ا ،وي��ح��ن��و عليها ،وي��ق��ب��ل في الطباعي؛ إدراك��اً منه ألثر ذلك التشكيل الطباعي تشخيص تاريخ مهجتها ،ويتخذ من الروح متكأ لها! ف��ي إث����راء دالل���ة ال��ن��ص؛ ف��ق��د أخ���رج ال���دي���وان في ويقول في بيان عدوان المحتل وهمجيته البادية ،صورة عَ رْضية ال طولية ،في هيئة كتالوج كما يصنع التي نزلت بمكانته ورشحته ألن يكون خ�لاف ما الفنانون الرسامون في إشارة واضحة إلى آثار العرب يعتقد الناس ويظنون: ال تدل عليها األوراق واألحبار وإنما تدل عليها لوحة بل قلت هذا احتالل أو لوحات سطروها على األرض ،وحملوا بها وجه ��ج��رت��ه ال��ع��ق��ول الجميلة ف��ي بيت ي��ح��رق م��ا ش ّ الحياة ،وهو المعنى الذي لم يخف أو يغب التصريح حكمتها به في ذكر مآثر العرب ،يقول الشاعر: وه���و ي��س��رق أس�����رار ف��ت��ن��ت��ه��ا ،وم���ن���ازل أسيادها والسواد ي��ق��ول ل��ي ال��ب��رع��م ال��ص��ب�� َح ه���ذا ال��ج��م��ال جمال
وم��ن ناحية أخ���رى ،استطاع الشاعر م��ن خالل العرب مما ساد قبح على األرض البنى الداخلية في النص أن يشيع جواً من اإليقاع إال وأسقطه الحسن ،والحسن باب كباب عدن الجليل ال��ذي يوحي بالنبل والعراقة ،وكأننا وسط عالم ملكي جليل القدر ،ارتقت به منجزاته وآثاره والحسن هنا هو حسن العرب القادر على إسقاط وت��ف��ال��ي��ده األص��ي��ل��ة العريقة ال��ث��اب��ت��ة ،معتمداً على مقابح الغرب الغازي األثيم. ما زرع��ه الشاعر من وسائل بديعية ،تضافرت مع ك��م��ا ج���اء ال��خ��ط ق��ري��ب��اً ج����داً م��ن خ��ط النسخ تفعيلة (فعولن) الشائعة في الشعر الحرّ ،التي راوح بينهما وبادل في بناء النص ،من مثل :حسن التقسيم ،بوضوحه ،وبيان تفصيالت الحروف في إشارة إلى والتشجيع الداخلي ،واستثمار حروف الم َّد ليحقق ما تتمتع به النفس العربية ،وما يتمتع به عطاؤها رثياً وهدوءاً مشعراً بالجالل ،يقول الشاعر: الحضاري.
< كاتب وناقد -كلية التربية للبنات -الجوف.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 53
املشروبات الغازية والصحة > د .بشير محمود جرار
ع������ل������وم 54
أصبحت المشروبات الغازية جزءاً من موائد معظم المحليات الصناعية في المشروبات الغازية ،التياألسر ،والوجبات التي تقدمها المطاعم ،خاصة تلك التي تعرف بالدايت أو الاليت. تقدم الوجبات السريعة .وأخذت المشروبات الغازية -مع تسبب مضاعفات خطيرة األسف -مكان الحليب والعصائر ،الغنية بالفيتامينات وال شك أن المبالغة في تناول المشروبات الغازية واألم�لاح المعدنية ومضادات األكسدة ،التي تحمي من ولفترات طويلة ،يُدخل إلى جسم اإلنسان جميع المواد اإلصابة بأمراض القلب والسرطان .وتشير الدراسات سابقة الذكر ،والتي ليس لها قيمة غذائية .وق��د دلت إلى انخفاض تناول الحليب والعصائر بنحو 30%لمصلحة ال��دراس��ات والبحوث على أن لهذه ال��م��واد مضاعفات المشروبات الغازية ،عند أطفال بعمر خمس إلى تسع خطيرة على الصحة. سنوات في الواليات المتحدة األمريكية ،خالل الفترة تلحق المواد الكيميائية التي تدخل جسم اإلنسان 1988إلى 2003م. مع المشروبات الغازية الضرر الكبير بالصحة .وتجمع وتقدّر مبيعات المشروبات الغازية سنوياً في أميركا األوس��اط الطبية على أنها المسبب األساسي للسمنة بنحو 50بليون دوالر ،ويتناول األمريكيون 14بليون جالون وتسوس األسنان ،إضافة إلى أن الكميات الكبيرة منها م��ن المشروبات ال��غ��ازي��ة؛ بينما يصل نصيب المملكة لها تأثيرات ض��ارة على الكلى والكبد ،وتعرقل مقدرة العربية السعودية إلى نحو 500ألف طن في العام من كريات الدم البيضاء الدفاعية ضد البكتيريا. تلك المشروبات .وتصرف الشركات المنتجة للمشروبات وي��ق��در أن 21%م��ن ال��س��ك��ر ال����ذي ي��دخ��ل أجسام الغازية ،ماليين ال��دوالرات من أجل البحث عن أسواق األمريكيين مصدره المشروبات الغازية .ويعد السماح جديدة ،وتستهدف في األساس صغار السن. ل��ش��رك��ات ال��م��ش��روب��ات ال��غ��ازي��ة ببيع منتجاتها داخل تخلو من المواد الغذائية المؤسسات التعليمية م��ن مسببات السمنة بين طلبة ول��و دققنا في محتويات ه��ذه المشروبات من واقع المدارس والجامعات .وتؤكد دراسة في مستشفى بوستن ما هو مدون على عبواتها ،لوجدنا أنها تخلو من المواد التابع لجامعة هارفرد عام 2001م أن اإلدمان في تناول الغذائية ،بينما تحتوي إضافة إلى الماء ,على العديد من المشروبات الغازية عند األطفال بين 10إلى 16سنة، المواد الكيميائية منها: ك��ان أح��د مسببات ع��دم تقيّدهم بتناول وجباتهم في كمية كبيرة من السكر أو بدائله.أوقاتها ،ومن ثم إصابتهم بالسمنة .واتضح من الدراسة نفسها ،أن تناول عبوة واحد يومياً من المشروبات الغازية ثاني أكسيد الكربون.يزيد من احتمالية اإلصابة بالسمنة ،بمعدل .60% الكافيين في بعضها. نكهات صناعية. -مواد حافظة.
-الفسفور أو حمض الفوسفوريك.
اجلوبة -ربيع 1428هـ
ي��ؤدي تناول كميات كبيرة من المشروبات الغازية، ال��م��ح��ت��وي��ة ع��ل��ى ت��رك��ي��ز م��رت��ف��ع م��ن ال��ف��س��ف��ور وحمض الفوسفوريك ،إل��ى إح���داث خلل ب��ال��ت��وازن بين فسفور وكالسيوم الجسم خاصة في العظام ،وبشكل أساسي عند
األطفال والنساء ،ومن ثم التسبب بهشاشة العظام ،وإعاقة عملية تكلس عظام األطفال، خالل فترات النمو الحرجة.
وتشير الدراسات إلى أن تناول المشروبات الغازية يومياً وبمعدل 150عبوة في السنة ت��ج��ع��ل ص��اح��ب��ه��ا م��ع��رض��اً ل�لإص��اب��ة بكسر ال��ع��ظ��ام ،بمعدل ث�لاث��ة إل��ى أرب��ع��ة أضعاف، مقارنة مع من ال يتعاطون هذه المشروبات. وكما أن ارتفاع نسبة الفسفور في الدم يجعل الكلية عند كبار السن غير قادرة على طرده ما يؤدي إلى إفساد التوازن الحمضي القاعدي في الكلية ،ويلحق األذى بأنسجتها.
للمشروبات
ال��غ��ازي��ة
مضا عفا ت خ��ط��ي��رة على الكبد وال��ك��ل��ى و هشا شة
الغازية ،بسبب خطورته المسرطنة للجهاز التناسلي األنثوي ،وخاصة سرطان المثانة، وتسبّبه بحساسية عند بعض األشخاص، تظهر ع��ل��ى ش��ك��ل اح��م��رار ل��ل��ب��ش��رة ,إال إن األسبارتيم ما زال يستخدم على نطاق واسع في المشروبات الغازية ،التي تصنع لمرضى السكري ومن يعانون من السمنة ,والغريب أن معظم مستهلكيها من الشبان وصغار السن. ي��ؤث��ر األس��ب��ارت��ي��م ع��ل��ى ج��م��ي��ع أعضاء الجسم ،خاصة ال��دم��اغ ،ويتحول إسبارتيم المشروبات الغازية إلى كحول الميثانول بعد ساعات من استهالكها .ويعتقد أن ارتفاع تركيز األسبارتيم مرتبط باإلصابة بالذؤيبة ال��ح��م��راء ،وبعض األم���راض الجينية وحتى أورام الدماغ.
تحتوي معظم المشروبات الغازية على الكافيين .والمشروبات الغازية هي المصدر األساس للكافيين في دم األطفال تحت سن ا لعظا م ! ! . . 12سنة .وإن تناول طفل بمعدل عبوة واحدة كما تحتوي جميع المشروبات الغازية على من الكوال يومياً تدخل إلى دمه 45ميلغرام م��واد حافظة ،أشهرها ب��ن��زوات الصوديوم، ال في توازن الصوديوم في الجسم .وإن من من الكافيين ،وهذا ليس أقل مما يدخل دم شخص بالغ والتي تسبب خل ً مدمن على شرب القهوة .وكما هو معروف فإن الكافيين تأثيراتها ظهور الطفح واإلكزيما الجلدية .وهناك مؤشرات يعد مادة منبهة ،تسبب األرق والصداع وفقدان الشهية ،على أن لمادة بولي إثلين رباعية الفثاليت ،التي يرمز لها وت��ض��ع��ف ال���م���ق���درة ع��ل��ى ال��ت��رك��ي��ز .وقد أ ظهر ت بالرمز ( ،)PETتأثيرات مسرطنة ،وهي تدخل في تصنيع دراسة قامت بها كلية الطب بجامعة جون هو بكنز العبوات المعدنية للمشروبات الغازية. أن ت��ن��اول ال��م��ش��روب��ات الغازية وت��ش��ي��ر ال��ب��ح��وث ال��ط��ب��ي��ة إل���ى إن اإلك���ث���ار م���ن تناول المحتوية على الكافيين بمعدل المشروبات الغازية يسبب نقص ال��ب��ورون ،م��ا ي��ؤدي إلى ع��ب��وة واح����دة ي��وم��ي��اً م��ن شأنه اضطراب في الدورة الشهرية لإلناث ،ويربك أيض الحديد, خفض اإلخ��ص��اب بمعدل 50% العنصر الضروري لتكوين الهيموجلوبين. عند اإلناث. وترى بعض األوساط الطبية أن
وت��ح��ت��وي ال��م��ش��روب��ات الغازية ال��م��ع��روف��ة ب��ـ (ال���داي���ت أو الاليت) على بدائل للسكر ،على هيئة محليات مصنعة ،لخفض ال��س��ع��رات ال��ح��راري��ة .وم��ن أشهر المحليات المستخدمة ف��ي ال��م��ش��روب��ات الغازية األسبارتيم والسكرين .وعلى الرغم من أن استخدام السكرين أصبح محدوداً في الصناعات الغذائية والمشروبات
حموضة المشروبات الغازية، ال��ت��ي ت��ع��ادل ح��م��وض��ة ال��خ��ل ،وال يشعر بها م��ن يتناولها ،بسبب التركيز المرتفع للسكر تتسبب في اإلمساك ،وترفع ضغط الدم ،وتتلف األسنان ،وتؤثر على فعالية األدوية ،مثل :البنسلين واألمبسلين وغيرها.
< د .بشير جرار :قسم علوم المختبرات الطبية -كلية العلوم الطبية التطبيقية -جامعة الجوف.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 55
القاص جبير املليحان :ليس ضروريا ً أن يكون القاص روائيا ً
> حاوره :عبدالعزيز النبط – اجلوف يرى األستاذ جبير المليحان ،رئيس نادي الشرقية األدبي ،أن هناك ارتفاعاً في سقف الحرية في الصحافة واإلع�لام السعودية ،مؤكداً أن الرقيب المباشر فقد الكثير من أدواته. وأشار صاحب موقع «القصة العربية» ،الذي يعد أشهر منتدى لكتاب القصة في الوطن العربي ،إلى أن الموقع ال يستهدف الكم في نشر القصص وفي مشاركات األعضاء ،ودلل على ذلك بأنهم يعتذرون في كل يوم ألعضاء عن نشر مواد ال تتوافر فيهم شروط النشر؛ ألن هدفهم في الموقع ،كما يقول المليحان ،هو جودة الكلمة. وكشف المليحان عن عشقه القديم لمسقط رأسه في حائل «قصر العشروات» ،وعن تجربة نادي الشرقية األدبي في عرض األفالم السينمائية ألول مرة على مستوى األندية األدبية ،التي أثارت العديد من ردود األفعال المتباينة .وكان هذا نص الحوار الذي تناول هذه التجربة ،وغيرها: بعد مرور نحو عام على التغييرات الجديدة في عضوية مجالس األندية األدبيةالسعودية ،ما أبرز منجزات األندية في تلك الفترة؟
م��واج��ه��ات 56
< قبل ذل��ك ،مرت الساحة الثقافية في بالدنا بانفراج كبير ،على مستويات عدة؛ متغيرات في الطرح ،وارتفاع في سقف حرية الصحافة واإلعالم ،وتجاوز بعض المسكوت عنه -اجتماعياً غالباً -واتساع مجال النشر الورقي واإللكتروني ،إضافة إلى احتضار سطوة الرقيب المباشرة ،تمهيداً لنقله إلى متحف تاريخي؛ وكما ترى اآلن فق ْد َف َق َد الرقيب الكثير من أدواته ،ولم يعد يملك قضباناً يحاصر به الفضاء المفتوح على اتساعه. وهذه نقطة تشكل تحوالً تاريخياً على مستوى سيرة اإلنسان في العالم كله؛ إذ أصبحت المعلومة في متناول أي فرد في أي وقت وأي زمن. اآلن كل السُ ل َِط التي كانت تحصي أنفاس الفكر ،وتالحق أضواء الكلمات ،تفلت األغالل من أيديها بشكل تدريجي دون انقطاع .إنه خطو جديد في مسار الحرية يتنامى.
اجلوبة -ربيع 1428هـ
م��ن ج��ان��ب األن���دي���ة األدب���ي���ة ف��ق��د اك��ت��م��ل تشكيل ما تقييمك لتجربة ن��ادي الشرقية األدب��ي فيمجالس إداراتها تقريباً ،وهي تخوض نقاشاً متواص ً ال عرض األعمال السينمائية ،وهل واجهت هذه العروض ح��ول بناء الئحة األن��دي��ة األدب��ي��ة وال��ل��وائ��ح الداخلية معارضة من المجتمع؟ وشروط العضوية ،التي مضى على إقرارها أكثر من < يتيح نظام النادي والئحته األساسية استخدام ربع ق��رن ،ولم تعد تمثل المرحلة اآلنية؛ إضافة إلى األفالم السينمائية للتوعية والتثقيف ،وطرح الحوار أن األندية بدأت -بتشكيالتها الجديدة -التوجه إلى وال��ن��ق��اش ،لكن تجهيزات ال��ن��ادي وم��ق��ره ال��ح��ال��ي ال طَ رْقِ المجاالت الثقافية الواسعة باتجاه البناء والثقافة يتيحان مكاناً للسينما كمفهوم ال��م��ع��رف��ي��ة األوس�����ع ،واألشمل مستقل .وقد استخدمنا في لألنشطة اإلبداعية اإلنسانية. العرض األجهزة المستخدمة ه��ل تتفق م��ع مَ��� ْن يناديب�����أن ي��م��ن��ح رؤس�������اء األن���دي���ة األدب��ي��ة ال��م��رأة دور ف��اع��ل في رسم سياسات وخطط األندية األدب��ي��ة ،أم تعتقد أن المرأة يجب أن تبادر بنفسها من أجل أخذ هذا الدور؟
< ف���ي رأي����ي أن المسألة ال ت��ط��رح ب��ي��ن رج����ل وام�����رأة. الطبعي أن يتم رسم السياسات والخطط األدبية والثقافية من قبل ال��ع��ق��ول ،دون النظر إلى جنس اإلنسان.
ف��ي ال��م��دارس والجامعات «البروجكتر» ،وعبر دائرة تلفزيونية مغلقة ،مفصولة للنساء.
ب����دأن����ا ك�������أول ن�����اد في اس���ت���خ���دام ه����ذه الوسيلة ال���ح���دي���ث���ة ل����ع����رض بعض األفالم السينمائية المختارة للجمهور ،وفد القت إقباالً مدهشاً.
قليلون ممن لم يعجبهم ذلك ،وقد استمعنا إليهم وإلى كل رأي ،بعقول وقلوب مفتوحة ألن النادي للجميع؛ كان ثمة مالحظات ،وقد ما م��دى تعاون ن��ادي الشرقية األدب��ي مع بقية احترمنا مشاعرهم ،وشُ ��كّ��ل��ت لجنة إلج���ازة األفالماألندية في المملكة ،خاصة نادي الجوف األدبي ،في والوثائق قبل عرضها على الجمهور. مجال إقامة األمسيات الثقافية وغيرها؟ -هل توجد نية لدى نادي الشرقية األدبي في نشر
< نحن س��ع��داء ب��وج��ود األدي���ب ال��م��ب��دع الصديق أعمال المثقفين؟ عبدالرحمن الدرعان في قيادة النادي مع زمالء آخرين تجاوزنا النية منذ بدء استالم مجلس اإلدارة مهامه، مضيئين ،في هذه المرحلة يتم التنسيق والتشاور حول وت��م تشكيل لجنة للنشر حيث أق��رت حتى اآلن أكثر كل األمور. من سبعة كتب جديدة بين الشعر والقصة ،وأغلبها ونخطط إلقامة أنشطة مشتركة مع نادي الجوف للشباب. بتشكيلته الجديدة ،وكذا األندية األخرى. -هل تتفق مع مطالبة رئيس نادي الجوف األدبي
اجلوبة -ربيع 1428هـ 57
عبدالرحمن الدرعان بان تفوق موازنة األندية األدبية تدشينه قريباً. التي تقع في مناطق إداري��ة كبيرة مثل ن��ادي الجوف ي��ش��ارك ف��ي م��وق��ع «ال��ق��ص��ة ال��ع��رب��ي��ة» اآلن كتاب األدبي ،موازنة أندية تقع في مدن قريبة من المراكز من ث�لاث وعشرين دول��ة عربية ،ويزيد عددهم عن الثقافية الكبرى ،مثل نادي الرياض األدبي؟ ألف وثالثمائة مبدعة ومبدع .ويشكل موقع «القصة
< ال أتفق مع صديقي عبدالرحمن في ذل��ك من ج��ان��ب ،وأت��ف��ق معه ف��ي ج��ان��ب آخ���ر؛ صحيح أن ما يخصص للتشغيل يجب أن يكون متساوياً ،لكن ما يخصص لألنشطة والمشاريع ،التي تغطي رقعة معينة يجب -حسب رأيي -أن يختلف .وكمثال على ذلك فإن نادي الشرقية األدبي يغطي مساحة واسعة تضم مدناً كثيرة ،وكثافة سكانية ال تقارن بما يقدمه ناد آخر تغطي خدماته جمهوراً أقل.
العربية» مرجعاً ضخماً للقصة العربية القصيرة ،إنه المرجع األول دون منافس -حتى اآلن -في القصة القصيرة؛ إذ يحتوي الموقع على أكثر من ثمانية آالف نص قصصي .وه��و مكان للتوثيق ..إذ أن نشر نص قصصي لمبدع باسمه وبتاريخ محدد يمنع انتحاله أو سرقته من قبل آخرين ،خاصة في الشبكة ،حيث تكثر السرقات.
كما يعد موقع «القصة العربية» جامعة للبحث إن ال��ع��ام��ل ال��رئ��ي��س ف��ي ذل���ك -ف��ي رأي���ي -هو والدراسة ،وورش العمل األدبية للجامعات والمدارس والمهتمين ،حيث استخدمت م���واده اإلب��داع��ي��ة في الجمهور المستفيد. في ظل وج��ود العشرات من المواقع الثقافية بلدان كثيرة -حسب علمي -للبحوث وورش العمل،العربية على اإلن��ت��رن��ت ،م��اذا أض��اف موقع «القصة والتحضير للدراسات العليا. إن��ه باختصار جامعة عربية ثقافية مفتوحة ال العربية» www.arabicstory.netال��ذي أسسه تعترف بالحدود الجغرافية ،أو األطر السياسية. جبير المليحان للمثقف العربي؟
يدخل موقع «القصة العربية» سنته السادسة،< تحول الموقع إلى شبكة «القصة العربية» ،بعد ثالث سنوات من إنشائه ،نحن اآلن على عتبة السنة وب��ال��ك��اد ت��ج��اوز ع��دد أع��ض��ائ��ه ال��ـ 500ع��ض��و ،فهل السابعة ،ولدينا الكثير مما أنجز ،والكثير مما هو تقتصر العضوية على األدباء والمثقفين؟ مخطط له ،وآمال عريضة تتوالد مع كل نجاح. < بلغ عدد كتاب موقع «القصة العربية» المتعمدين
ب��دأ تأسيس الموقع ف��ي ب��داي��ة ال��ق��رن الميالدي ال��ح��ال��ي ،بعدد قليل م��ن مبدعي ال��س��رد القصصي، وبنصوص قليلة ،ولتخصصه ،ووضوحه أهدافه ،وكون كتّابه يوقعون بأسمائهم الحقيقية ،فقد انتشر بسرعة كبيرة.
كأعضاء ( )1375عضواً ،أما منتدى «القصة العربية» فيبلغ عدد أعضائه حتى اآلن ( )561عضواً .إننا ال ن��ه��دف إل��ى ال��ك��م ..ففي ك��ل ي��وم نعتذر ألص��دق��اء ال تتوفر فيهم شروط النشر .إن هدفنا هو جودة الكلمة، وصحتها ،وتحمّل الكاتب لمسؤولية حروفه بشكل ال لبس فيه.
في السنة الثالثة تم تدشين منتدى «القصة العربية» على الرغم من أن موقع «القصة العربية» يحتويالحواري ،وفي السنة الرابعة صدر أول كتاب ورقي (قصص من السعودية) ،وت��م ه��ذا العام االنتهاء من على قصص ألدباء من مختلف الدول العربية ،إال أن بناء الموقع الثالث« :مدونات القصة العربية» وسيتم المالحظ أن الكتاب األول ال��ذي ص��در ع��ن الموقع
58
اجلوبة -ربيع 1428هـ
بعنوان (قصص من السعودية) ،اقتصر فقط على 70السلطة للقوة العضلية وليس الفكرية .إنها مرحلة بائسة يمر بها مجتمعنا المتجه إلى النمو واالنفتاح. قاصة وقاصاً من السعودية ،ما تعليقك ؟ هذا هو مشروعنا األول للنشر الورقي .وحيث أن الموقع يموّل بموارد مالية شخصية .فإننا نواجه بعض الصعوبات .لقد صدر الكتاب األول ،وقد خصصناه لكاتبات وك��ت��اب القصة ف��ي ال��س��ع��ودي��ة .أم��ا الكتاب الثاني فسيكون للكتاب العرب جميعاً ،وسيحتوي على خمسين نصاً لخمسين مبدعاً عربياً .إن ك��ل شيء جاهز( :النصوص ولجنة االختيار واآلليات الفنية)، الصعوبة تكمن في كيفية توزيعه بعد طباعته .لقد كلفنا إيصال النسخ من الكتاب األول إلى أصدقاء في مصر وسوريا والعراق ..والبلدان العربية األخرى أكثر من ضعف قيمته أجوراً للبريد ..ومن هنا فقد تمهلنا في إصدار الكتاب الثاني حتى نجد حالً. هل قصص المليحان الموجهة للطفل متواجدةفي المكتبات المدرسية؟ < أص��درت لي لجنة العالقات العامة في شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو) أول مجموعة موجهة لألطفال بعنوان (الهدية) وقد طبع من العدد 150ألف نسخة توزع مجاناً .وقد تم توزيع نسخ على مدارس المنطقة الشرقية ومدارس مملكة البحرين. لدي سلسلة من كتب األطفال المكتوبة برؤية تربوية مناسبة تستحث التفكير(قرابة أربعين كتاباً صغيراً) المشكلة ذاتها ،من يطبع؟ ومن ي��وزِّع؟ إضافة إلى أن كتب األط��ف��ال تتطلب أن تصاحب الكلمات برسوم مناسبة تتوازى مع النص ،وكل هذه غير متوافرة اآلن! كيف ترى منع األعمال الفنية بالقوة ،كما حصلذلك في مسرح اليمامة؟
أين أعمال جبير المليحان في مجال الرسم؟< معلقة في منزلي! لقد توقفت عن الرسم منذ سنوات. متى تصدر الرواية األولى للقاص جبير المليحان،وما رأيك بكثرة األعمال الروائية السعودية أخيراً ،التي تناول بعضها قضايا اجتماعية حساسة ،مثل رواية بنات الرياض لرجاء الصانع؟ < ولماذا متى؟ وهل على كل قاص أن يكتب رواية؟ إنني أجد نفسي في القصة بكل ألوانها .ومجال السرد الواسع (الرواية) يحتاج إلى وقت وشبه تفرغ ،وهذا ما ال أملكه اآلن. أم��ا ك��ث��رة األع��م��ال ال��روائ��ي��ة ف��ي ال��س��ع��ودي؛ فهي طفرة جميلة جداً .إن هذا الكم سيفرز كيفاً جميالً. وف���ي ك��ل ح���ال أن���ا م��ع أي���ة ن��اف��ذة أو وس��ي��ل��ة سلمية للتعبير يستخدمها اإلنسان .أما «بنات الرياض» فقد اخترقت ما كان يدور تحت األرض وفي الغرف المغلقة والشاشات؛ إن ذلك يحسب لها. ما سبب ابتعادك عن الصحافة ،بعد أن وصلتإلى منصب نائب رئيس تحرير صحيفة اليوم؟ < فصلوني!. من الذي فصلك ،ولماذا؟< كان الشاعر محمد العلي رئيسا للتحرير ،وكنت مدير تحرير متفرغ .و ُكلّفتُ برئاسة التحرير أثناء إجازة
< لإلرهاب ألف وجه تظهر لنا بألوان كثيرة ..يتجلى أدناها باستخدام القوة .إنه األسلوب البدائي ،الذي يرتبط مباشرة بتفكير إنسان الكهف والغابة ،حيث
اجلوبة -ربيع 1428هـ 59
رئيس التحرير .كان التعاون بين إدارة التحرير وإدارة الجريدة ضعيفاً ،وكنا نواجه الكثير من المشكالت، ونحتاج إلى الدعم .وكنا نطالب بذلك وال نجد آذانا صاغية .كانت اإلدارة تركز على اإلعالنات فقط؛ بل إنها أجلّت حقوق العاملين في صف المواد والمحررين المتعاونين ،وأل��غ��ت بعضها بشكل غير مسبوق أو مقبول .كان جهاز التحرير يعتمد على المتعاونين ،وكنا حينها في شهر رمضان ،فأخذوا إجازاتهم من أعمالهم ووظائفهم الحكومية ،وطالبوا أن تصرف لهم مكافآت إن هم بقوا يعملون في الجريدة .رأيت أن ذلك منصفاً ومن حقهم .وكتبت إلى اإلدارة فلم تستجب؛ فكتبت إل��ى وزارة اإلع�ل�ام ،فلم تجب .فما ك��ان مني إال أن أعطيهم الحق بالتمتع بإجازاتهم مع أسرهم ..وهكذا كان .حيث خلت الجريدة من المحررين المتعاونين ,ما اضطرنا إلى تقليص عدد الصفحات من 12إلى 8 ال في الصفحة ثم إلى 4صفحات .وكتبت مقاالً طوي ً األخ��ي��رة أش���رح فيه ال��وض��ع ل��ل��ق��ارئ ،وأن���دد بموقف اإلدارة والوزارة .غضبوا وجاؤوني إلى البيت بخطاب فصل وت��ه��دي��د .ك��ان معهم رج���ال رس��م��ي��ون .رفضت الذهاب معهم قائالً :إنني صائم ،وعليهم االنتظار حتى وقت ذهابي إلى المكتب .وهكذا وجدتهم مساء في انتظاري حيث سلمت إدارة التحرير إلى أحد مسؤولي وزارة اإلعالم وأخذت أوراقي وخرجت .كان هذا عام 1399هـ. ك��ي��ف ت��ق�� ّي��م تجربتك الصحافية ف��ي صحيفةاليوم؟ < أن���ا ج���زء م��ن ه���ذه ال��ج��ري��دة ب���دأت ال��ع��م��ل بها مصححاً لغوياً بعد تخرجي من الثانوية ،وتدرجت حتى رئاسة التحرير باإلنابة. بعد فصلي منها ،مُنعت من الكتابة فيها ،ليس من قبل جهة رسمية ،لكن إدارة الجريدة ومديرها العام كان يصرخ غاضباً عندما يسمع باسمي .مرت سنوات
60
اجلوبة -ربيع 1428هـ
طويلة ،سقطت فيها دول وانهارت أنظمة وتغيّر وجه العالم ..وال زالت هذه الجريدة -حتى اليوم -ال تتيح لي الكتابة فيها .لقد تلقيت في مراحل مختلفة ،من رؤساء تحرير هذه الجريدة ثالث دعوات لكتابة زاوية ثابتة (عمود) فيها ،ووافقت ،وأرسلت المادة لكنها لم تنشر .ودعوتان تلقيتهما من رئيس التحرير الحالي، لكن اسمي عندما يذهب إلى إدارتها يرفض .بل إنني عندما قدمت طلباً لضم خدماتي في الجريدة إلى خدمتي الحكومية رفضت الجريدة بحجة أنه ال يوجد لي (ملف) مع أن لدي الوثائق الرسمية الصادرة من الجريدة التي تثبت مدة عملي فيها. تعمدت وزارة الثقافة واإلع�ل�ام في ضخ دماءش��اب��ة ف��ي التشكيل ال��ج��دي��د لمجلس إدارة األندية األدبية ،هل تتفق مع رأي بعض اإلعالميين بأن الدور في هذا التوجّ ه سيكون على رؤس��اء تحرير الصحف السعودية؟ < ه��ذا مطلب ض����روري ،فقد ش��اخ البعض على كرسيه .صحيح أن للخبرة دوراً .لكن الحياة مليئة بالشباب الطموح والموهوب. م���اذا يمثل ق��ص��ر ال��ع��ش��روات بالنسبة لجبيرالمليحان؟ < كل ما يخطر على بال طفل كبير يشبهني .إنه كل ما تختزنه الذاكرة من أحالم .إن «قصر العشروات» عشب ذكرياتي الجميلة ،التي عشتها وأعيشها في حلم متواصل ال أمِ ��� ُّل م��ن��ه؛ إن��ه��ا :ال��رب��ي��ع ،والجبال، وال��م��ط��ر ،وال��س��ه��ول ،وال��ح��ق��ول ،وأص����وات الطبيعة، واللعب ،والمرح ،والبساطة ..أحقاً تريدني أن أقول كل شيء؟ ال أستطيع اآلن !..فأنت تحثني على أن أحكي لك سنوات ممتدة لحياة ممتدة .إن قلبي م��وزع بين أشجار الشيح ،والنفل ،والقحويان ،والربلة ،وبين زرقة سرقتني من الجبال!
صاحب «عمارة يعقوبيان» و «شيكاغو»
عالء األسواني :قسوة النقد تؤدي إلى الوعي > حاورته في القاهرة :سهى علي رجب كتب الشاعر الكبير شوقي بزيع عن رواية عمارة يعقوبيان« :ال أذكر على وجه التحديد اسم الصديق الذي كان أول من أشار عليّ بقراءة رواية جديدة صدرت في القاهرة تحت عنوان (عمارة يعقوبيان) ،ولكنني أذكر أن الصديق إياه نسي اسم المؤلف ،ولم يبق في ذهنه سوى عنوان الرواية التي أفتتن بها ،كما سيحدث لي شخصياً بعد ذلك .وحين تكرر الحديث عن الرواية المذكورة في مناسبات مختلفة ،أدركت أن عليّ البحث عنها خالل زيارتي األخيرة إلى القاهرة ،تماماً كما حدث لي مع رواية (العطر) لأللماني زوسكند ،ومع (مريم الحكايا) للبنانية علوية صبح .إذ ال يمكن لمثل هذه الوشايات أن تكون زائفة وأن يتواطأ هذا العدد من القراء المميزين على تقريظ عمل أدبي ،ما لم تتوافر له عناصر الجدة والفرادة واإلمتاع. األمر اآلخر الذي حرّضني على قراءة الرواية ،هو ظني أن العمارة التي تحمل الرواية اسمها هي العمارة الشهيرة نفسها الواقعة في رأس بيروت ،التي تضم عشرات الشقق السكنية، وتجثم كجبل صغير من اإلسمنت وسط إحدى أكثر مناطق بيروت عراقة وجماالً. حسبت قبل الشروع في القراءة أن عالء األسواني ،الذي كان مجهوالً لديّ حتى تلك اللحظة ،شأنه شأن العديد من المصريين قد عاش في العاصمة اللبنانية ردحاً من الزمن، وأراد أن يؤرخ بالرواية لذلك المبنى الضخم القديم ،الذي يعج بالمكاتب والشقق السكنية المتفاوتة الفخامة واالتساع .على أن دهشتي تلك لم تتبدد تماماً حين أدركت أن عمارة يعقوبيان هي واحدة من المباني القاهرية القديمة ،الواقعة في شارع سليمان باشا ،حيث يتدفق الدم األكثر حرارة لمدينة المعزّ .فالرواية على الرغم من إيغالها في المحلية ،لم تنغلق تماماً على حيزها المكاني ،بل بدت في دوائرها األوسع تجسيداً لروح المكان الكوني، الذي تتكرر نظائره في كل عاصمة أو مدينة كبرى». «اذا أردت أن تخدم قضية ما فلتكتب رواية جيدة» ،هكذا يقول الروائي الكبير جابرييل جارسيا ماركيز .وألن الرواية هى أقرب األنواع األدبية إلى قلب القارئ ،الذي يجد نفسه ال كلياً أو جزئياً في شخوصها ،طرق عالء األسواني باب الرواية مبكراً ،عندما وجد متمث ً ومحام من طراز رفيع؛ عرف كيف يعشق األدب حتى يعشقه األدب، ٍ نفسه إبناً لكاتب وإذاعي تخير لنفسه الطريق الصعب تاركاً األموال والرفاهية ،ليسير على األشواك ،رافعاً راية( :ال تراجع وال إستسالم).
اجلوبة -ربيع 1428هـ 61
< عالء األسواني في سطور عالء عباس األسواني من مواليد محافظة القاهرةعام 1957،وال��دي من محافظة أس��وان ،ووالدتي من محافظة اإلس��ك��ن��دري��ة؛ طبيب أس��ن��ان ،روائ���ي وكاتب أحاول قصارى جهدي أن أكتب شيئاً ينال رضا القراء. < أي اللقبين أحب إليك :الطبيب أم األديب؟ حقيقة لقب األديب هو األقرب إلى قلبى ،فاألدبأول إهتماماتي ،ولقد ظهر األدب في حياتى مبكرا منذ سن التاسعة والفضل يعود في ذلك إلى والدي الكاتب ع��ب��اس األس��وان��ي رح��م��ه ال��ل��ه ،فكانت أح�لام��ى أدبية خالصة ،وربما أكون قد عملت بالطب من أجل مساعدة األدب (مادياً) ،ألن األدب ليس مهنة ،واألديب العربي ال يستطيع التكسب من وراء أدبه؛ حتى إن الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ظل يعمل في وزارة األوقاف إلى أن بلغ سن المعاش؛ وذلك أكبر دليل على أن األدب ليس مهنة للكسب ،واألدي��ب الحقيقى يعي ه��ذا وال ينتظر عائداً مادياً من وراء أدبه. < أث��ي��رت ال���زواب���ع واألق���اوي���ل ب��ع��د رواي����ة (عمارة يعقوبيان) ،هل توقعت كل ما أثير حولها؟
< م��ا ال���ذي ج��ذب��ك إل��ى ع��م��ارة يعقوبيان تحديداً لتكتب عنها روايتك؟ عشقى لمنطقة وسط البلد هو السبب ،فوسطمدينة القاهرة أو ما نطلق عليه« :وس��ط البلد» ،هو جيولوجيا إجتماعية .والسر الذي ربما أبوح به للمرة األولى أن رواية عمارة يعقوبيان كتبت في ثالث سنوات، ك��ان عنوانها أثناء الكتابة« :وس��ط البلد» ،وف��ي نهاية السنة الثانية إيّرت اسمها إلى «عمارة يعقوبيان» ،حيث أني أمتلك عيادة في العمارة ،وأب��ي ،رحمة الله عليه، كان يمتلك مكتب محاماة فيها؛ فشعرت ان من الممكن ان تكون مسرحاً ألحداث روايتى على الرغم من أننى لم أصوّرها حرفياً؛ فالعمارة الحقيقية ستة أدوار وانا ذكرت انها عشرة أدوار ،كذلك اسم صاحب العمارة من وحى خيالي .لقد كانت العمارة حيلة فنية ليس أكثر.
منذ ص��دور مجموعتى األول���ى « :ال��ذي أقتربورأى» عام 1998م ،والمشكالت بدأت ،إذ سحبت من األس��واق بعد الطبعة األول��ى ،وحدثت م��ش��ادّات كثيرة مع هيئة الكتاب؛ نتيجة لفهم خاطئ ،وخلط بين بطل حققت عمارة يعقوبيان نجاحات في أوروبا ،ما مدى الرواية و مؤلفها .فال يعنى أن بطل الرواية ناقم على ذلك النجاح وهل يوازي النجاح الذي حققته في الدول بعض سلبيات المجتمع أن هذه اآلراء تخصني. العربية؟ وفى مجموعتى القصصية التالية« :جمعية منتظرى د .عالء :نعم ..الرواية نجحت بالفعل .وقد تُرجمت الزعيم» حدث خالف شخصى بينى وبين مسؤول سلسلة إل��ى أرب���ع ل��غ��ات حتى اآلن :اإلنجليزية ،والفرنسية، االصدارات ،فرفض نشرها! فحدث نو ٌع من األلفة بينى واإلي��ط��ال��ي��ة ،واإلس��ب��ان��ي��ة .وه��ي اآلن ف��ي طريقها إلى وبين المشكالت والزوابع ،فأعتد عليها ،وهذا ما حدث الترجمة بلغات أخ��رى .وحققت نجاحا جيدًا ،خاصة في عمارة يعقوبيان كذلك؛ ولكن قد يكون األمر مختلفاً ألن عمارة يعقوبيان خرجت عن إط��ار جمهور األدب في فرنسا ،حيث جاءت الرواية في المركز السابع في المحدود إلى نطاق الجمهور العادي الرحب ،ما جعلها ترتيب مبيعات الروايات. < من خالل رحلتك ماذا كسبت ؟ وماذا خسرت؟ سبب شهرتى خارج األوساط األدبية.
62
اجلوبة -ربيع 1428هـ
كسبت أشياء كثيرة ،أهمها حب الجمهور العربي فيما بعد ،لكن تجربة السنوات األولى هي األهم. ألعمالي ،وكذلك وإنتقالها إلى الغرب؛ فلقد ترجمت < مشهد زيارة الرئيس إلى أمريكا ..هل قصدت أن رواي��ت��ي عمارة يعقوبيان إل��ى 17لغة ،وأصبحتُ على يكون المشهد الرئيسي لروايتك « شيكاجو»؟ قائمة أعلى كتـ ّاب العالم مبيعاً ،وقبل ع��دة أسابيع ال لم أتعمد أن يكون المشهد الرئيسي أو (الماسترص���درت رواي��ت��ي ال��ث��ال��ث��ة« :ش��ي��ك��اج��و» فأصبحت هي سين) ،ولكنني ال أنكر أن السياق الدرامي جعله المشهد األخرى حديث الساحة األدبية ،بعدما نفدت منها ثالث الرئيسي؛ والسبب ليس كما أعتقد البعض أنني انتقدت طبعات خالل أقل من شهرين ،ما يعني نفاد حوالي 120 حالة االستنفار األمني ل��دى البعثة الدبلوماسية ،أو الف نسخة. عالقة الرئيس بشعبه ،ولكن تلك الزيارة للرئيس إلى أما عن الخسارة فأنا لم أخسر كثيراً ،بل أكاد الواليات المتحدة ،كشفت الشخصيات على حقيقتها،أك���ون ل��م أخ��س��ر ش��ي��ئ��اً ،ال��ب��داي��ات ك��ان��ت صعبة جداً سواء التي تعاطف معها القارىء منذ البداية أو التي وخصوصاً مع جهات النشر الحكومية ،وهذا ما يحدث كان ضدها. للمؤلفين والكتّاب كلهم تقريباًً .في < عمارة يعقوبيان ،منطقة وسط العالم العربي ،إذا كنت تملك المال، البلد ،وأخيرا مدينة شيكاجو ..هل تستطيع أن تطبع وتنشر أعمالك بطولة المكان تستهويك؟ دون عناء؛ أما إذا كنت ال تمتلك إال ه��ذا شكل معروف من األدب،موهبتك فلن تجد طريقك إال بشق وه��و (بطولة المكان) ،و ال��ذي بدأه األنفس!! األدي���ب اليوغسالفى الشهير إيفو < ح��د ّث��ن��ا ع��ن رواي���ت���ك األخيرة أن��دري��ت��ش ف��ي رواي��ت��ه « ج��س��ر على «شيكاجو».. نهر دري��ن��ا» وحكى من خ�لال روايته تاريخ هذا الجسر من محض خياله. فكرت فيها في اليوم األول الذيوج��اء م��ن بعده كتـّاب سلكوا النهج سافرت فيه إل��ى ال��والي��ات المتحدة نفسه ،وك��ان أول عربى يسير على األمريكية ،لدراسة الطب في جامعة هذا الدرب هو أديبنا الجميل نجيب «إلينوي» ،كانت المرة األولى التي أرى فيها عبر النافذة ،أمريكيين يبحثون في حاوية النفايات محفوظ في روائعتيه« :خان الخليلي»،و «زقاق المدق»، ع��ن ش��يء ي��أك��ل��ون��ه!! فأنزعجت وتعجبت؛ وبحاستي وغيرهما وها أنا أنتهج ،على إستحياء ،النهج نفسه، األدب��ي��ة أحسست أن ه��ذه تجربة مهمة ق��د ال تتكرر ،وإن كان هدفى الرئيسى ليس «عمارة يعقوبيان» في حد ويمكن استغاللها فيما بعد في مشروع أدبي ،فأخذت ذاتها؛ ألن العمارة ليس فيها ما يثير فضول أديب ،لكنه الفكرة تختمر في داخلي ،خاصة بعد أن قررت التجوال عشقى لمنطقة وسط البلد -كما ذكرت سابقاً -وكذلك في شوارع وأحياء أمريكا ،حتى أني أكاد أحفظها عن ما أثارني في مدينة شيكاجو من غرابة األحداث. < ن��اق��ش��ت ف��ي ال���رواي���ة نفسها ق��ض��ي��ة غ��اي��ة في ظهر قلب ،مثل القاهرة تماماً! واختلطت بالمهاجرين المصريين والعرب ،وذهبت إلى جمعيات العدميين حتي الخطورة ،هي قضية (اإلنتماء) ،ال��ذي يفتقده الكثير تكونت ل��ديّ م��ادة أدبية غنية خ�لال السنوات الثالث من أبناء الوطن العربي ،فهل نقدك القاسي لهذا األمر األولى ،التي قضيتها هناك ،صحيح أنني ذهبت كثيراً ،الشائك سيغير منه؟
اجلوبة -ربيع 1428هـ 63
لك بالشكر على مالحظتك لهذا األح��رار مجموعة من حثالة البشر فهل هذا يعنى في البداية أتوجه ِ ال األدب الكالسيكي كان ينتقد إن هذا رأيى؟ األمر في الرواية ،فمث ً العيوب ،ويجعل الجمهور يسخر منها حتى يقلع عنها. وه���ل ل��ن��ا م��ع��رف��ة ال��ع��م��ل ال��ق��ادم ل��ل��دك��ت��ور عالء لألدب خاصية جميلة فهو يستطيع أن يصل إلى الهدف األسواني؟ باستعمال عكسه ،بمعنى أن القسوة في نقد االنتماء أستعد لكتابة عمل يناقش االزدواج��ي��ة ،التي تؤدي بالقارىء إلى زيادة االنتماء أو إعادة التفكير في نحياها في حياتنا العربية ،وتدفعنا إلى عمل الشيء مسلّماته ،وهذا في النهاية يصب في مصلحة الفكرة واإلع�ل�ان عن ض��ده في السياسة ،كما في الحب الوطنية ،وه��ذا السؤال ال��ذي طرحته عجز عن فهمه والدين والعالقات االجتماعية. نقاد يفترض أنهم ق��دي��رون ،على ال��رغ��م م��ن أن��ه من < المرأة في حياتك؟ مفردات التذوق األدبي! زوج��ت��ى ال��س��ي��دة إي��م��ان ت��ي��م��ور ملكة متوجة< كيف ترى العالقة بين األديب والناقد في عالمنا ع���ل���ى ع�����رش ق���ل���ب���ي ،ف���ه���ي أهم العربي؟ أس���ب���اب ن��ج��اح��ى ..ف���أن تكونى ل��ل�أس����ف ه����ي ع��ل�اق����ة غيرزوج���ة ألدي���ب ه��ى ق��م��ة الشقاء، متكافئة ،ال ننكر وج���ود ن��ق��اد كبار فبقدر أحاسيسه المرهفة وذوقه مثل األساتذة رج��اء النقاش ،وأحمد العالي ،إال أن��ه في أحيان كثيرة الخميسي ،وعالء الديب ،ود .صالح يكون مزعجاً ،وعلى ال��رغ��م من فضل ،ولكنهم جميعا ينتمون إلى جيل ذلك فهى وفّرت لي جواً ساعدني الرواد .ولم نجد من بين جيل الشباب على االستمرار والعمل الدؤوب؛ م��ن ينقد بشكل م����دروس وحيادي، أضيفي إلى ذلك ،المزاج المتقلّب ب��ل ن��ج��ده��م إم���ا غ��ي��ر متخصصين، لدى الكاتب ،الذي أستطاعت ان أو م��ن ال���دخ�ل�اء ع��ل��ى زم����رة النقاد تمتصه بذكاء المرأة المحبة ،فكم المخضرمين؛ ول��ذل��ك ف��إن الحركة من العروض المغرية للعمل سواء األدبية تتأثر كثيرا بقلة النقاد. في الواليات المتحدة أو في دول < هل تتأثر أعمالك األدبية بآرائك السياسية؟ الخليج ،رفضتها من أجل األدب ،ولم أسمع منها لم تظهر آرائ��ى السياسية في رواي��ات��ى نهائياً ،تعليقاً واح��داً يضر بي أو بمشاعري .وقتى ضيقآرائى أكتبها في مقاالتى التى أكتبها في بعض الصحف ،ج��داً ومحدود ،وعلى الرغم من ذلك لم تشكُ من ولكن ما يصدر من آراء في رواياتى يكون على لسان ذل��ك ،بل أستطاعت أن تكون أم��اً ناجحة ج��داً مع الشخصيات وحسب تركيبة كل شخصية ،سواء النفسية أبنائها وزوجة حنونة جداً مع زوجها ،ما جعلني دائماً ال أنا أعشق جمال أحاول أن أمنحها بعض ما منحتني إياه .وللعلم فهو أو اإلقتصادية أو االجتماعية ..فمث ً عبدالناصر وم��ن أك��ث��ر ال��ن��اس إع��ج��اب��ا ب��ه على كافة الزواج الثاني لي ،ففي زواجي األول حدثت لي مع المستويات وأكتب في جريدة الحزب الناصرى ،وعلى زوجتي مشكالت كثيرة وكبيرة ،وكان السبب األول ال��رغ��م م��ن ذل��ك ج��اء على لسان أح��د شخوص رواية في اإلنفصال هو عدم تحمّلها حياة األديب ،الذي عمارة يعقوبيان (ذكي الدسوقي) أنه يرى أن الضباط يُفضل األدب عن أي شيء آخر في الحياة!
64
اجلوبة -ربيع 1428هـ
في الترابط القصصي
عند القاص املغربي محمد شويكة > حاوره :نور الدين بازين غيروا مجرى التاريخ ،وذهبوا في صمت! محمد شويكة :كثيرون هم الذين ّ جاءت التجربة في سياق اإلبداع ،دون إغفال أن االنترنت وسيلة تواصلية محمد شويكة ،واحد من الكتّاب والمبدعين المغاربة القالئل ،الذين ال يرسون على خط إبداعي واحد .فهو يعشق التجريب ويغامر فيه ،وال يخشى الذي سيكون؛ المهم عنده هو اإلبداع ،وكفى. هو أحد مؤسسي الكوليزيوم القصصي في المغرب (حلقة دراسية مهتمة بالقصة التجريبية) ،وأحد مؤسسي نادي القصة القصيرة بالمغرب ،وعضو اتحاد كتّاب المغرب، ومسؤول سابق في فرع مراكش ،وأستاذ مادة الفلسفة. في هذا الحوار كانت لنا معه جلسة حول تجاربه في القصة والتأليف ،كان يميل دائما إلى الحكي كما هي عادته ،يسرد دون أن يعود إلى مرجع ،فكان السفر معه شيقاً. على إثر جولتنا في دروب موقعك وعند طرقنا بابه ،عثرنا على كلمتين «البصوالقص» ،وهما مفتاح الموقع ،أو لنقل العنوان الذي تتخذه لموقعك (www. chouika. ،)comما داللة الكلمتين؟ > لكل بيت رقم يدل عليه ،ولكل خطاب مرجعيته ،كما أن كل اسم يحيل على مسماه؛ وما اختياري لكلمتي البص والقص ،إال استناداً لهذه الرمزية ،التي تحيل على معنى يدمج الجانبين الحسي والذهني في عملية التفكير؛ فالسائح السابح في ثنايا البحار َص اإللكترونية ،ال يقرأ فقط ،بل يرى ،ورؤيته تبحث عن شيء له عالقة بالالوعي ،فالب ُّ إحالة نفسية أكثر إلى «التلصص البصري» أو ما نسميه بالدَّ ارجة «سارق الشويفة»؛ ولذلك إحاالت كثيرة في المتخيل الجماعي العام والعَالِم :قد نجلس في المقهى لنبص على المارة ،وقد نقف في رأس الدرب لنبص على «الغادي والجاي» ،وقد نقرأ نصوصاً كثيرة وإن كان األمر مسكوتا عنه إلى درجة المنع عن البصاصين في التاريخ ،وهو ليس
اجلوبة -ربيع 1428هـ 65
قدحياً كما قد يتوقع البعض. هو العمل ،أما من يصطنع اللغط حول عمله ،فيرميه ف��إذا أردن���ا أن ن���ؤوّل األم���ر ،يصبح لكل بصاص األدب في مزبلته بمجرد أن يفتر لغطه ..ولنا عبرة ال مما يرى ،ومما يسرق عبر النظر ،في ما نقرأ! حكاية ،تنبع أص ً لذلك فالجمع بين البص والقص ،انفتاح على عوالم إن لحظات اإلب���داع قليلة ،وغ��ال��ب��اً م��ا ت��أت��ي في القصة القصيرة والجماليات البصرية؛ م��ا يجعل لحظات متناقضة جداً :الصفاء التام أو العتمة التامة! الكتابة محكومة برؤية تمتح من المرئي على نطاق وهذا ما يمكن تأويله من خالل الصحة والمرض ،أي يسمح ب��ت��أم��ل م��ا ح��ول��ن��ا ،وك��أن��ن��ا أم���ام «ظاهراتية صفاء اللحظة أو قلق القريحة! وهنا ،ال يمكن أن قصصية» ،أو «ظاهراتية قصصية بصرية» ،بمعنى نتحدث عن التخندق ألنه إقبار للحقيقة اإلبداعية، االهتمام باليومي ،على أس��اس ال يجعل منه مادة التي يسلك السالك طريقها بتأن وحذر. نراها ونستهلكها ببساطة ،تعيقنا على النفاد إلى ما «المبدع إنسان اكتوى بنار الكلمة والواقع ،فغداوراءها. مثل طائر جريح بين يدي طفل برئ :ولم يعد يقوى
فالبص يحيل في اللغة العربية إلى البريق والتأللؤ اصة ،العين في واللمعان واإلض��اءة والتفتق .والب ََّص َ بعض اللغات ،كما يدلنا لسان العرب البن منظور. وهذا ما يهمني من دالالت البص.
على الطيران نتيجة ألمه ،والطفل لم يدرك بعد معنى األلم ..الحلم بالشفاء يتطلب تحمّل وطأة األلم بين يدي الطفل مع التشبث بقليل من أمل االنفالت.»... م��ن خ�لال ه��ذه الجملة يبدو أن��ك تصطفي مخارج كلماتك من فلسفة حديثة ،أال يستحق المبدع حياة أجمل مما صورتها؟
(أن تبدع اآلن ،معناه أن تأخذ لك موقعاً بينالحلم والواقع ..بين الصحة والمرض ..المبدع ال هو بالعليل وال هو بـ «الصحيح» .)..كيف يمكنك أن تجعل > الفلسفة ال��ح��دي��ث��ة ال ت��ص��ور ل��ل��م��ب��دع صورة المبدع بين هاتين الصفتين ،أال يمكن خندقته في ال تليق ب��ه ،بل تضعه في إط��اره اإلنساني .أظ��ن أن خانة واح��دة أو صفة واح��دة ،إما أن يكون معافاً أو المبدع إنسان يعي ما يفعل ،وهو صاحب اختيارات مريضاً؟ ال انهيارات .قد يختار الفلسفة التي تالئمه كأسلوب > تلك «مقدمة عتبة» أرح��ب بها ب��زوار الموقع ،في الحياة ،وقد يختار الطرق التعبيرية التي تالئم وهو كما ترى بسيط ،وال يكثر على زائ��ره من كثرة نفسيته .فما دام المبدع يبحث ،ال أظن أنه سيجد األل��وان أو اللجوء إلى برامج «التزويق اإللكتروني »،شيئاً قد توقع الوصول إليه قبل إتمام عملية البحث، لسبب بسيط :الموقع ليس دِ عَ ائِيا وال ادِّعَ ائِيا؛ ربما فهو كالمهندس المنقب ،ينطلق من معطيات ،وقد أتعلم األش��ي��اء م��ن أج��ل توظيفها ،وع��ن��دم��ا أعرف تفاجئه أخرى في الطريق ،فينقلب التبر في يديه إلى أس��اس��ه��ا ينتهي األم���ر بالنسبة ل��ي م��ن خ�لال ذلك ت��راب ،أو يحدث العكس .الكل مبني على المفاجأة التقديم .أحاول أن أقدم رؤية إنسان يعيش كما يقول (أقصد المفاجأة اإلبداعية).
تماماً ،ينفر من األشياء التي يكثر اللغط حولها ،وال إن لالنفالت المقصود في القولة ،عالقة بالقلق يحب أن يكون السبَّاق إلى األشياء بلغط .إذا رجعنا المعرفي واإلبداعي ،القلق الحقيقي وليس المفتَعَل، إلى تاريخ األدب ،نجد أن الذي يصنع اللغط ال َبنَّاء ك��أن تجد «المبدع» يصطنع االع��ت��زال والتفرد وما
66
اجلوبة -ربيع 1428هـ
شابه ذلك ،وهو في النهاية يعيش عكس ما يمارس! وال تلبية لحقد مضاد ،بل من أجل عَ قْلِ العابر ليتحول فالمبدع القلق ،من كانت عبارته تدل على ذلك ،و َم ْن إلى ما هو أرقى :ما يطور الخيال اإلنساني ،وما يغني ك��ان موقفه متساوقاً مع أفعاله .كثيرون هم الذين المخيال الجمعي ،وه��ذا ليس وصفة سحرية ،بل غ�� ّي��روا م��ج��رى ال��ت��اري��خ ،وذه��ب��وا ف��ي ص��م��ت! أليس مجرد أرضية أملتها ظروف السؤال. في األم��ر تواضعاً أم��ام الحقيقة التي يعد اإلنسان ف��ي مجموعتك القصصية ال��ث��ان��ي��ة «النصلمصدرها؟ فمن يدرك بعضاً من أصول البحث عن والغمد» يسيطر الحكي بالممارسة النقدية الواعية، الحقيقة ،يفطن مبكراً إلى حكمة التواضع في البحث كما ي��ق��ول ال��ن��اق��د إب��راه��ي��م ال��ح��ج��ري .ه��ل ولوجك عن المزيد منها بوصفها تُطْ ل َبُ لذاتها ،وه��ذا سر إل��ى متاهات الحرف هي نتيجة لما ترسّ ب عندك تجددها الدائم .اإلبداع حقيقة غير منتهية ،وهذا ما م��ن أف��ك��ار ،انطالقاً م��ن مجموعتك األول���ى «الحب أقتنع به حتى اآلن. الحافي»؟ تقول إن اإلب���داع عملية تواصلية ك��ب��رى ،وإذا> في الحقيقة ،ال تجد في إب��داع��ي المتواضع أردنا أن نحقق هذه العملية ،ماذا يشترط أن يكون في المبدع ،خصوصاً إذا كانت العملية متعلقة باإلبداع؟ صراعاً بين ما سبق وما سيأتي؛ بمعنى أنني أحاول أن أتحدث عن ذلك بنوع من عدم الرضا أو التحقيب، > وفقاً لما أشرت إليه فيما سبق ،أظن أن لإلبداع ال���ذي ينكر م��ا سبق وي��أس��ف ل��ه؛ ب��ل تجد صراعاً جانبه األخالقي ،أقصد (La déontologie de la ضمنياً بين معالجات متغيّرة لقضايا وجودية ومعرفية )création؛ فال أظن أن (اإلستيتيقا) تقع صدفة وأخالقية ،مرتبطة بالكائن المغربي. ضمن مبحث األخالق في النسق الفلسفي! ال أعني هنا الجانب االتفاقي في مجال األخالق ،وإنما أشير في كل قصة أنفتح على قضية محددة ،أراها من إلى التساؤل اآلتي :كيف أقدم نفسي ،وأقدم اآلخر زاوية ما ،في زمان ما ،ووفقاً لوعي أو منظور ما .كثيراً وأقدم العالم في نوع من االنسجام ،يجعلني مسؤوالً ما أعجب لمن يدافع عن أشياء ال توجد في منجزه، عما أفعل بمعنى من المعاني؟ فمسؤولية الفعل تعود وال يريد أن يتخلى عن بعض أفكاره على الرغم من إلى فاعله ،والمبدع فاعل عاقل ومريد ،يبحث في اقتناعه باطناً أنها خاطئة أو متجاوزة؛ بل هناك من تدبير النفس وال��ع��ال��م ،وه���ذا م��ا يجعل مسؤوليته يشرح خطأه ويتمادى في إكثار التبريرات. مزدوجة. إن م��ا بُ��نِ��يَ على ب��اط��ل فهو ب��اط��ل ف��ي لغة أهل أرى أن األم�������ر ال يتنافى والحرية ،التي هي شرط كل إبداع صدر له: إنساني .أتحدث عن الحرية التي «الحب الحافي» ،قصص قصيرة ،مراكش؛ 2001م.تجعلني أفكر وأضع في الحسبان «النصل والغمد» ،ورشة قصصية ،مراكش؛ 2003م.اإلنسانية في بعدها المطلق ،أي «الصورة السينمائية :التقنية والقراءة» ،دراسة؛ .2005كغاية عليا .لذلك أقول إن اإلبداع «احتماالت» (سيرة كائن من زماننا) ،قصة ترابطية2006 ،مال يأتي رداً على أي شيء عابر،
اجلوبة -ربيع 1428هـ 67
المنطق .فهل م��ن يتخلى ع��ن أف��ك��اره السابقة أو تحقيق السبق ،ال في المغرب وال في العالم العربي يراجعها أو يعدلها ليس مبدعاً؟! أظن أن ميزة العقل وال العالم برمته .كل ما في األمر أن مجال التفاعل البشري تكمن في تناقضاته ،وتجاوزاته ،ومفارقاته ،والترابط ،وما أتت به التكنولوجيات الحديثة ،خصوصاً وال��ت��ب��اس��ات��ه ،وظ��ل��م��ات��ه ،وع��ث��رات��ه ،وس��ق��ط��ات��ه .فما الرقمية منها ،مجال يعكس تطور العقل اإلنساني، أقوله اآلن ،هو مجرد وع��ي مرحلي قد أتشبث به ،ويمتلك من الجاذبية ،ما يجعل المبدع يفكر بالفعل إذا لم أكتشف ما يتجاوزه ..والزمن محك الحقائق في خوض غمار اإلب��داع داخ��ل تجاويفه؛ فاالنترنت البشرية. تتيح إمكانيات تواصلية ال حد لها ،والرقمي يمارس
في قصصي قد تتغير الحوامل والبدائل والطرق؛ سحراً خاصاً على الفرد؛ لذلك وجدتني أمام تجربة �لا أف��ك��اراً مثل :ف��ري��دة ف��ي م��س��اري ال��ش��خ��ص��ي؛اإلب��داع على حامل ألن األرض��ي��ة غير وث��وق��ي��ة .خ��ذ م��ث ً الحياة ،أو األل��م ،أو الموت ،أو الحب ،أو الكراهية ،غير ورق���ي ،وبتقنيات ج��دي��دة ،تضع أم��ام المتلقي في المجموعتين السابقتين ،وقارنهما بما سيأتي؛ أسئلة مستفزة .أنا لست من المتحمسين المنبهرين ستجد أن الذي يتحدث في الماضي ،ال يضع حدوداً المندهشين لالنترنت ،ولست م��ن المتوهمين في تعسفية قاطعة على المستوى السيكولوجي ،بين ما هذا المجال ،المفتوح على المغامرة ألي شيء؛ ألن وق��ع وم��ا ه��و ح��اض��ر؛ ول��ن يستطيع أن يكون األمر مخترعي االنترنت ،أن��ج��زوا عنه وب��ه أشياء كثيرة، لديه بالحال نفسه في المستقبل .وكأني أراك تقول وفي ظروف «سوسيو ثقافية» مخالفة لنا تماماً؛ إنني ��ص حياتك ف��ي كلمة؟! أظ��ن أنني إن قلتها أدرك أن إمكانية استعماله وفق الظروف والسياقات ل��ي :لَ��خِّ ْ اض��ط��راراً ،ستكون حاملة لبعد نفسي يقاس بسني التي أعيش فيها ممكن للغاية؛ لذلك قمت بأول تكوين وتجاربي ،وسيصبح لذلك «المونيم» معنى في الزمن .على االنترنت في أواخر الثمانينيات ،واستمر الشغف إننا نشتغل داخل اللغة ،وهي من ثم الحامل للتجربة إلى اليوم. البشرية ،فهل استطاع اإلنسان أن يدخل تجربته داخل جاءت التجربة في سياق اإلب��داع ،دون إغفال أن اللغة؟ وهل استطاعت أن تستوعب اللغة تجربته؟ هذا االنترنت وسيلة تواصلية أوالً ،وستظل كذلك ،ولن إذا تحدثنا عن التجربة بمعناها الشامل ،فما بالك ت��ع��وض ال��ك��ت��اب أو م��ا شابهه م��ن وس��ائ��ل المعرفة بالتجربة القصصية الحديثة في الزمن والتشكل؟! األخرى ،الكثير يعد ذلك تفوقا أو ذكا ًء زائداً ،في حين أرى أن ره���ان المبدع ف��ي م��ج��ال القصة القصيرة أن المسألة مسألة دُربة على لغات البرمجة والتعرف صرِ . صعب ،ألنه يشتغل داخل القِ َ على البرامج في مجاالت اإلعالميات وهندستها، من آخر إبداعاتك مجموعة قصصية تعد التجربة ومحاولتي ه��ي استثمار لمعرفتي المتواضعة فياألولى في العالم العربي على شبكة االنترنت ،حملت ال��م��ج��ال ،خ��ص��وص��اً وأن اإلع�لام��ي��ات ج���زء مكمل عنوان «احتماالت :سيرة ذهنية لكائن افتراضي من لتكويني األصلي. زماننا « ،وهي قصة ترابطية هل لك أن تقربنا من حين أستشير مهندسي معلومات ،سيما األدباء هذه التجربة؟ م��ن��ه��م ،أراه����م ال ي��ت��ح��دث��ون ف��ي أم����ور ك��ث��ي��رة ،وهم > كما قلت سابقاً ،ليس من ديدني البحث عن العارفون ،بل يتفرجون! أخلص إلى أن هناك الكثير
68
اجلوبة -ربيع 1428هـ
عندما نتأمل القصة في حد ذاتها ،وبشكل خاص
من المدَّ عين ،الذين يتحدثون عما ال يعرفون بلغة العارف المتمكن ،وتلك مصيبة «المثقف» .أظن أن لغتها ،نعثر على لغات :وهذا راجع إلى طبيعة الشبكة مناقشة غير ذوي االختصاص ال تصل إلى أفق يطور نفسها ،فهي س��وق لغوي بامتياز ،كما أن مرتاديها الفكر. يتحدثون لغات عدة :لهجات محلية ،ولغات مقعدة، ُوضعُو َن أمام حاالت تعبيرية عدة، وبشكل ع���ام ،ج���اءت التجربة ف��ي ه��ذا السياق ولغات أجنبية ،وي َ التجريبي التواصلي التعرفي االستكشافي؛ ألنني أؤمن ق��د تجعلهم يتواصلون أك��ث��ر مما يفكرون ف��ي فعل بالتعلم عن طريق إنجاز مشروع « Lapprentissageالتواصل ،أي أن حاجة المتكلم هي الموجّ ه مما يجعله ،»par projetلذلك فالتجربة أغنت بحثي اإلبداعي مجرد مُ�� َر ِّت ٍ��ق لغوي ،إذا ج��از التعبير «Bricoleur وخلقت لي آفاقاً جمالية إضافية ،وأخرى ممكنة من ،»linguistiqueوه��ذا ما حاولت أن أراه��ن عليه شأنها أن تفيدني على مستوى كتابة القصة القصيرة ،لغوياً. خاصة وأن ذل��ك يتالءم مع جوهرها ،المبني على القصة تقدم عبر خليط لغوي (دارج���ة ،عربية، التحرك داخ��ل حيز قصير .إن «اح��ت��م��االت :سيرة فرنسية ..إلخ) ،وذلك بحسب القراء المفترضين؛ ألن ذهنية لكائن من زماننا» تسير في األف��ق الرصدي نفسه ،المتعلق بمظهر الكائن المغربي عبر القصة ،ماسك الفأرة ال يعرف أين سيستقر به التنقل!؟ لذلك من خالل االنفتاح ما أمكن على مناهج وفنون وعلوم ال يجب أن نتوهم أن كل (ناقر) على النتاج األدبي المنشور عبر شبكة االنترنت مستهلك له .قد يتوهم أخرى. البعض أن ع��دد ال��ن��ق��رات ي��س��اوي ع��دد القراءات! «لحمر ف لكحل» و»اإلط���ار» قصص ت��ؤدي بناهيهات هيهات! إلى قراءات قصص أخرى عبر السهم المرسوم في األسفل ،وقصة تؤدي بنا إلى قصص أخرى وهكذا إذا سألنا محمد شويكة عن التخصص الذيدواليك ،أال ترى أن العملية الحسابية لهذه التجربة ي��ف��ض��ل أن ي��ب��ح��ث ف��ي��ه :ال��ق��ص��ة ،أم ال��ف��ل��س��ف��ة ،أم قد تبعثر فكر القارئ؟ السينما ..ماذا يقول؟ > أظن أن قارئ القصة الترابطية ،ليس هو قارئ القصة المنشورة على الورق ،ألن قارئ الكتاب يقرأ على األق��ل نصاً في حيز يمتلكه بين يديه ،بمعنى يعرف حدوده مسبقاً (بين دفتي مجموعة قصصية)، إال أن الترابط تقنية تجعل التبعثر جماالً في حد ذاته؛ فالقراءة ليست عملية مريحة دائماً ،بل هي تفاعلية وانفعالية في آن ،وما يزيد من مغامرة قراءة القصة الترابطية أن القابض على ال��ف��أرة «،»La souris ليس كالقابض على الكتاب .الفأرة منسابة ،نزقة، مسافرة ،تحب المتاهة؟
َض َع المعارف > في الحقيقة ،كلما تأملنا بعمق و ْ اليوم ،نُقِ ُّر بصعوبة الشمولية والموسوعية ،لكن ،كلما تخصصنا أكثر ،ندرك حجم الورطة المعرفية التي نضع أنفسنا فيها! أؤك��د لك أنني ال أستطيع أن أتخلى عن المتعة البصرية ،وال عن شغف الكتابة؛ لذلك تجدني أتحرك داخل سياق فلسفي ،يمدني بطاقة االستمرار ،كلما كاد محركي أن يتوقف ،ففي بعض النصوص الفلسفية ما يخفف من شدة الصراع داخل نفسي!
اجلوبة -ربيع 1428هـ 69
الشاعر محمد حسيب القاضي:
قصيدة النثر املنفلتة من أي إيقاع تواجه صعوبات
أسعى إلى املصاحلة بني أشكال التعبير الشعرية!
> حاوره :علي أبو خطاب
<
محمد حسيب القاضي ،شاعر فلسطيني من جيل السبعينات ،كتب معظم أغاني الثورة الفلسطينية ،مثل: «فدائية» ،و«طالعلك يا عدوي طالع» ،و«هز البارود» ،وغيرها الكثير .كما قدّم مسرحيات نوعية ،ومقاالت نقدية مهمة ،فيها الكثير من الجهد البحثي .اتجه أخيراً إلى كتابة النص المفتوح ،في تطور طبيعي في تجربته الشعرية والسردية ،التي مارسها في كتابته قصيدة النثر ،وأبدع فيها. تنقل حسيب ،بعد إبعاده عن قطاع غزة من قبل االحتالل ،إلى عدة منافي من بيروت إلى القاهرة ،فالجزائر، فالسودان ،فتونس ،ثم عاد عام 1994إلى أرض الوطن ،مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية؛ ومنذ ذلك الحين إلى اآلن يتنقل بين القاهرة وغزة ،في نشاط كتابي ال يتوقف ،على الرغم من صراعه مع أمراض تنتابه بين الحين واآلخ��ر .وهو ع��ادة يستقبل الكتّاب الشباب والجيل األكبر منهم ،في بيته ،بكل ترحاب وم��ودة ،وت��دور نقاشات وحوارات ثقافية؛ فيصبح مجلسه أشبه بصالون ثقافي. < حدّثنا عن تجربتك الطويلة مع المعاناة والتشرد والمنافي؟ ّف ،في كلمات سريعة؛ لكن نقول لم يكن ديواني > يصعب اختزال تجربة شعرية ،امتدت ( )25عاما وني ً «فصول الهجرة األربعة» الصادر عام 1974م عن وزارة الثقافة العراقية هو أول ديوان؛ فقد سبقه ديوان فقدته في قطاع غزة أثناء اعتقالي عام 1967م ،حين صودرت مكتبتي. فصول الهجرة األربعة ،البداية واللغة الصافية «مجموعة فصول» تمثل اختباراً للغة والمكونات الشعرية األولى ،التي يمكن أن تشكل قصيدة في نهاية األمر ،وهو صدى لحالة الغربة وال أقول االغتراب؛ فكان ذلك التمازج بين السياسي والشعري ،دون أن تطغى السياسة على لغة الشعر ...وأذكر أنني تسلمت نسخة هذا الديوان في بغداد من يد الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتى ،المدير عام في وزارة الثقافة العراقية آنذاك ،وقال لي« :لغتك صافية وال تشبه أحداً»؛ وكان لهذه الكلمات من هذا الشاعر الكبير ،أعمق األثر في نفسي ،وفي شعري كذلك. «مريم تأتي» ،بداية التفرد واالختالف في ديواني الثاني «مريم تأتي» ،أحاول البحث عن قصيدتي ،التي حرصت منذ البداية أن ال تشبه أي صوت ،مدفوعاً برأي البياتى ،الذي عزّز قناعاتي بضرورة التفرّد .في الديوان طموح إلى كتابة قصيدة ال إطار ما؛ فيه كذلك ،تنتقل الغربة إلى حالة االغتراب ،بالمعنى الوجودي واإلنساني ،من خالل «تتقولب» في ٍ التقاط جزئيات حياتي المبعثرة في المنفى ،وإعادة صياغتها ،من زوايا متعددة.
70
اجلوبة -ربيع 1428هـ
«أربعاء أيوب» ،بداية الدراما الشعرية في ديواني الثالث «أربعاء أيوب» ،رأى بعض النقاد أن��ه ب��داي��ة دخ��ول قصيدتي مجال ال��درام��ا متعددة األص��وات؛ فهو قصيدة واح��دة مطولة ،تعتمد على حكاية أيوب في التراث الشعبي ،مع اسقاطات بعيدة من التراث العالمي .والديوان لوحات تتناول حياة الفلسطيني ،من خ�لال ح��االت وم��واق��ف متداخلة، بخيط رهيف من النسج واألداء الشعري. ٍ ومتواشجة «أقبية الليل» ديوان المنفى أما الديوان الرابع «أقبية الليل»؛ فإنه يختلف من ناحية النبض والنبرة ،وهو ما أحرص عليه بين ديوان وآخر؛ إذ إن كل مجموعة عندي ،تُمثّل تجربة خاصة، تحمل ش��روط إنتاجها شعرياً ،بمعزل عن التكرار والتشابه ،الذي قد نالحظه عند بعض الشعراء .فيه شهادة شعرية عن المنفى ،تحمل مالمح االحتكاك بواقع عبثي ضاغط وجودياً ،بحثاً عن لحظة إضاءة في المسافة المثقوبة والمعتمة.
فلسفي وصوفي ،في بعض األحيان. دواوين العودة ف��ي ج��ان��ب آخ����ر ،وب��ع��د م��ا ي��س��م��ى – سياسياً بالعودة إل��ى الوطن ،أص��درت ثالثة دواوي���ن :هيعلى التوالي« :قمر للعواء» ،ثم «رمادك في رقصة»، و«السدى قطرة قطرة» .وفي هذه المجموعات يحتل الحلم المساحة األوس���ع ف��ي تشكيل رؤي��ت��ي للعالم واألشياء ،مع ميل للتجريب في اللغة ،وخاصة في ديوان «ثم رمادك في رقصة» .المهم أنني في هذا النتاج أ ُعنى بالتفاصيل والمهمش والمسكوت عنه. < كيف استطاع حسيب أن يتجاوز الشعر وشعراء المقاومة ،وأن يخرج بنصه من قيود السياسة؟ > أذكر أن «سارتر» قد أشار في كتابه «ما األدب»، ح��ي��ن ق���ال ع��ن أدب ال��م��ق��اوم��ة ال��ف��رن��س��ي��ة« :ل���م تخلق المقاومة أدب���اً ذا قيمة ،ول��ك��ن ه��ذه التجربة ،تجربة المقاومة أشعرتنا بما يمكن أن يكون عليه أدباً موضوعه عالمي ملموس».
وكما ذك��رت في أحد مقاالتي ،إن مثل هذا الكالم «إنه الصراخ وأنا فيه» والسقوط في المنفي يذكّرنا دائماً أن األعمال الروائية والمسرحية الناضجة وفي ديوان «إنه الصراخ وأنا فيه» ،ثمة نقلة نوعية ظهرت آثارها بعد تحرير باريس من النازي بفترة طويلة في اتجاه األسطوري واليومي ،مبنية على اختزال نسبياً ،مثل :رواي���ة «ال��ط��اع��ون» لكامي ،و«الشيوعية» أشد ،واختراق لمسافات من حيث التقنية والرؤية ،ألراغون ،ورواية «الحرية» لسارتر. للتعبير عن المنفى واالغتراب الداخلي ،حالة وموقفاً شعر المقاومة وحواراً مع األشياء والمدن والناس. ي��ت��ف��اوت ال��ك�� ّت��اب أو ال��ش��ع��راء ف��ي درج���ة استيعابهم للتجربة ،تجربة ال��ح��رب أو ال��م��ق��اوم��ة ،حتى وه��م في «الرماد الصباحي» ،ديوان المرأة وسطها وبين نيرانها؛ فليس كل من عاش انفعال المقاومة ثم كان ديوان «الرماد الصباحي» ،وهو آخر ديوان يتعين أن يكتب شعراً جيداً أو رواية جيدة ،وال ينبغي أن أنجزته في الخارج ،أثناء وج��ودي في تونس .وهنا تكون المقاومة الشرط الوحيد لكتابة جيدة؛ فاألمر يتعلق أعبّر عن تجارب وحاالت إنسانية عدة ،تعكس عالقة بالكيفية التي تجعل من انفعال ما أدباً أو شعراً قادراً على الشعر بالمرأة؛ فنحن نفضح أنفسنا بالشعر ..وهذه اختراق اللحظة إنسانياً وفنياً ،حتى نستطيع أن نقول بعد الفضيحة هي الوجه اآلخر للتجربة .لكن المرأة في ذلك :إن لدينا حقاً أدب مقاومة ،وليس مجرد شعارات ،ال ه��ذا ال��دي��وان تتخذ ع��دة ص��ور ،وت��ح��والت ذات بعد تلبث أن تنالشى عقب مرور فترة من الزمن.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 71
ويالحظ ،أثناء المقاومة ،أن الشعر هو أسرع أشكال الكتابة في التعبير عن انفعاالت اللحظة؛ بينما تحتاج القصة والرواية والمسرحية إلى وقت غير محدد ،لكي تنضج في ذهن الكاتب ووجدانه ،وتتحول ألدب ناضج وجيد .وأقول للشعراء الشباب :اكتبوا ..فليس من حق أحد أن يوقف أياديكم عن الكتابة ،ال سيما في خضم الحالة الراهنة ،التي تحتاج إلى كل كلمة ،وكل صرخة. ولكن ت��ذكّ��روا أن��ه من أج��ل أن تستمر كلماتنا وتعيش، يتطلب األمر أكثر من الصراخ والحماسة المؤقتة لقضية أك��ب��ر م��ن أي ك�ل�ام ،وأع��م��ق م��ن أي ص���راخ؛ ل��ذا فعلى القصيدة الفلسطينية ،وقصيدة المقاومة بشكل خاص، أن تتخلص من قيود اإلن��ش��اد والخطابة ،وأن تتخطى البالغة التقليدية على مستوى اللغة والخطاب ،وأن تفلت مما هو مكرس وشائع ومسموح به؛ ليكون للشاعر ذاته. < نتسرع ف��ي النشر أح��ي��ان��اً ،ون�لاح��ظ أن��ن��ا نكتب ونشطب ونحذف كثيراً .حدّثنا أستاذ حسيب من خالل تجربتك عن طريقتك في الكتابة ،وه��ل تشعر بوجود حركة شعرية جديدة تنمو في الوطن؟
اإلنساني بطبيعته عاجز ومحدود ،مهما بلغ أو تخيّل أنه بلغ ذروة الفعل والخلق ،ألنه سيبقى مشدوداً ومشدوهاً إزاء قوى أكبر منه ،تشكّل اللغز أو الرمز المحير ،الذي تستطيع الكلمة اجتراحه أو تفسيره .فقد وقف كثير من الشعراء والفالسفة أمام هذه اإلشكالية ،خالل بحثهم عن القي ّم واألفكار واألشكال المتعلقة بالتعبير عن رؤيا تعيد صياغة عالمهم من جديد ،لكن جهودهم لم تتجاوز اكتشاف ما هو معروف بشكل وأسلوب مختلفين. وفي حالتنا الفلسطينية ،المهم هو التجربة وليس الموضوع ،فمهما كانت أفكار الشاعر السياسية والثقافية فإنها ال تبرر رداءة الكتابة .وتبقى المشكلة الحقيقية التي تواجهه هي عملية الخلق نفسها ،ومدى نجاحه أو إخفاقه في اختبار اللغة والشكل الفني ،بعد استيعابه وهضمه للفكرة أو التجربة التي يريد أن يعبّر عنها. عندما سئل الصديق الشاعر سعدي يوسف :كيف تكتب القصيدة؟ ق��ال« :قد أق��وم بتصميمات وعمليات شطب بعد االنتهاء من القصيدة ،أو من مرحلة ما في القصيدة ،بل أنني قد ألقي بالقصيدة في سلة المهمالت غير آس��ف ،إال لشيء واح��د وه��و أن القوى المحيطة باإلنسان ما تزال أقوى منه ،وأن أدوات اإلنسان ما تزال بسيطة»!
> ليس من شك أن مطلب الكمال من بين أحالم أي شاعر أو كاتب أو فنان ،وهو أمر صعب المنال بالتأكيد، فليس هناك قصيدة كاملة ،أو لوحة كاملة ،أو رواية كاملة ،إال ويرى فيها المبدع نقصانه .يقول (بورخيس): أعتقد أن��ه م��ن المفيد أن نضع ه��ذا المثال أمام «نظل نكتب ط��ول حياتنا ،ال يبقى من قصائدنا سوى أبيات قليلة» .والشاعر دي�لان توماس ،عندما أراد أن الشعراء الشبان ،خاصة أولئك الذين يتعجلون النشر قبل يجمع أعماله الكاملة في مجلد ،تجرأ وحذف ما يقارب أن تنضج أدواتهم ومعارفهم الثقافية واللغوية .وعلينا أن 70%م��ن ق��ص��ائ��ده دون أن ي��ط��رف ل��ه ج��ف��ن؛ فالكائن ندرك أن ليس ما يكتبه الشاعر مهما بلغت قامته يمكن من أعماله الشعرية« :فصول الهجرة األربعة» (بغداد1974 ،م) ،و«مريم تأتي» (القاهرة1983 ،م)،
و«أربعاء أيوب» /قصيدة طويلة (القاهرة1983 ،م) ،و«أقبية الليل» (دار الكرمل ،عمان1985 ،م) ،و«إنه
الصراخ وأنا فيه» (بيروت1989 ،م) ،و«الرماد الصباحي» (القاهرة1989 ،م) ،و«إعادة وصفنا للتيه»
(1993م) ،و«قمر للعواء» (اتحاد الكتاب الفلسطينيين ،القدس1996 ،م) ،و«ثم رم��ادك في رقصة» (وزارة الثقافة ،غزة1997 ،م) ،و«السدى قطرة قطرة» (بيت الشعر الفلسطيني ،رام الله2000 ،م) .ومن
أعماله المسرحية« :دولة أيوب» ،ومونودراما «العنكبوت» ،و«شمهورش» .وجمعت أغانيه الثورية في
كتاب ،طبع ثالث مرات ،بعنوان« :نشيد البندقية والرجل» (بيروت1975 ،م).
72
اجلوبة -ربيع 1428هـ
أن ينشر على القارئ ،وعلينا أن نتذكر دائماً أن التواجد رؤيته الشعرية ،شأن غيره من الشعراء الذين اتخذوا يتطلب جهداً وارتقاء باللغة ،والصورة والرؤية األعمق هذا االتجاه ،ومنهم الصديق سعدي يوسف ،وكاتب هذه السطور. لألشياء والعالم. ب��ال��ن��س��ب��ة ل���ي ،ف��أن��ا م��ع��ن��ي ف���ي ش��ع��ري بالمهمش الحركة الشعرية الجديدة والتفصيلي والمسكوت عنه ،وهي «مناطق» أعمل فيها إال إن ذلك ال يمنع من رؤية حركة شعرية في بالدنا، على خلفية «ميثولوجية» ،ممزوجة بإرث تنمو وسط األشواك ،وتحاول شق طريقها إسالمي وتوراتي. بكثير من الجهد والثقافة والموهبة ،وهذا ل��ي��س كل وبمعنى آخ��ر ،أن��ا مشغول بالمرئيات ما تشي به بعض األسماء القليلة .ويجب اليومية في عالم اإلنسان ومحاولة القبض أن تكون قليلة ألن الشعر ال يحتمل الزحام والضوضاء والغبار واألص��وات ،التي تكاد م��ا يكتبه على األبدي من خالل هذه المرئيات؛ ولعل هذا هو سبب تعدد التأويالت الكامنة في تتشابه فيما بينها كما لو كانت تصدر عن ش��اع��ر واح���د .وال ش��ك أن ال��زم��ن وحده ال��ش��اع��ر قصائدي ،من حيث أنها تخفي دالالت أبعد من السطح المرئي ،وهذه سمة تدخل في كفيل بالحكم على من سيبقى ويستمر ،من بين هذا العدد الكبير من الشعراء الجدد .ي���ص���ل���ح مفصل القصيدة المركّبة ِبنَفَس درامي يقوم على حوار «األنا» مع «األنا اآلخر» ،وربما إنها معركة طويلة وشاقة يخوضها الشاعر هذا ما يميز قصيدة التفاصيل عندي .بعد مع أدواته وثقافته وموهبته الحقيقية ،من ل��ل��ن��ش��ر ذلك أعترف أنني ال أملك وصفة سحرية، أج��ل إثبات وج��وده شعرياً ،وان��ت��زاع مكان يمكن أن أضعها أمامكم كشعراء شبان، ل��ه تحت س��م��اء الشعر ال��ت��ي م��ن االتساع سوى تجربتي المتواضعة وتجارب غيري، بحيث تستوعب الكثير والكثير من النجوم ممن تقرؤون لهم على أم��ل أن تجدوا ما والشموس. يفيدكم في هذا الشأن. < حسيب شاعر السبعينات الميالدية م��ن القرن وال بد من القول إنه ال توجد معايير نقدية محددة، الماضي ،يكتب قصيدة التفاصيل واللحظة ،وقصيدة �لا حدّثت توجّ ه نسق الكتابة بشكل ع��ام ،وه��ذا ما يقوله روالن المشهد ،وغيرها من القصائد الحديثة .ه ّ ال��ش��ع��راء ال��ش��ب��اب ع��ن ال��ح��داث��ة ف��ي قصيدة القاضي بارت؛ ذلك أن لكل نسق شعري قوانينه الخاصة ،التي تحكمه منذ لحظة ال��ش��روع في الكتابة ،حتى اكتمال الشعرية؟ النص ،أو ما نتصور أنه اكتمال!!.. > م��ا يسمى قصيدة التفاصيل حسب المصطلح < حسيب ش��اع��ر السبعينات ،كيف ي��رى المشهد النقدي الشائع هي ،في األساس ،دعوة قديمة دعا إليها محمد مندور ،وسمّاها في حينه «فتات الحياة اليومية» ،الشعرى وتطوره منذ السبعينات الميالدية إلى اآلن؟ ولم يلتفت أحد إلى أن كالم مندور سيكون له تأثيره في > في عقد السبعينيات ،حدث التحوّل الدراماتيكي شعر المستقبل .ثم إننا قرأنا اليوناني «ريتسوس» بوصفه ال��ذي قلب كثيراً من المعايير والثوابت والمفهومات: أهم شاعر يعنى بلغة التفاصيل اليومية والبسيطة ،التي «أيلول ،كامب ديفيد ،وبوادر الحرب األهلية في لبنان.. تشكل معظم شعره .في المقابل نجد هذا المنحى في الخ» ،ما انعكس بدوره على السياسة ،والثقافة ،ومنحى قصيدة ص�لاح عبدالصبور الشهيرة« :وش��رب��ت شاياً الحياة العربية عامة. ورتقت نعلي» ،وإن لم يجعل منها مركز اهتمامه ،وأساس وع��ل��ى ص��ع��ي��د ال��ش��ع��ر ،ح��م��ل ج��ي��ل السبعينات
اجلوبة -ربيع 1428هـ 73
مشروعه ،المغاير للمؤسسة الشعرية الراسخة في دون حياء ،وهو بالمناسبة شاعر للسلطة بامتياز ،وأكثر ذلك الوقت ،وك��ان ال بد أن يخوض معركة قصيدته المستفيدين منها. الجديدة ،في مواجهة حالة االنكسار والتراجع ،التي التفعيلة وحداثة النص أصابت الشعر والمجتمع العربي على حد سواء .وقد < م��ا أن يُ��ذك��ر حسيب ال��ش��اع��ر حتى ت��ت��داف��ع إلى ت��ع��رّض ه��ذا الجيل السبعيني الضطهاد المؤسسة الثقافية العربية؛ فتجاهله النقاد ،وامتنعت المجالت الذهن قصيده النثر ،فقد أبدعت في كتابة النثر ،حدثنا عن نشر نتاجه الشعري .وإزاء هذا الحصار والتجاهل عن تجربتك في كتابة قصيده النثر؟ المفروض عليهم أنشأوا مجالتهم «الماستر» الخاصة > هناك مفهوم خاطئ لدى َم ْن يربط بين الحداثي بهم ،وخرج من بينهم نقاد واستمروا في دعوتهم إلى والخروج المطلق إلى النثر ،والسؤال :مَن سوف يملك قصيدة جديدة ،مختلفة عن شعر الستينيات ،وتؤرخ “فضيلة” الحداثة :قصيدة النثر أم قصيدة التفعيلة؟ لمشهد شعري ،نحت مالمحه من التمزق والمعاناة والجواب ال هذه وال تلك. وح��ال��ة اإلح��ب��اط ،التي انبثقت م��ن ال��ظ��روف العامة صحيح أن الشاعر العربي الحديث ضيّق على نفسه، السيئة التي سادت في العالم العربي آنذاك. حين ك���رّس ف��ي قصيدته وزن��ي��ن أو ث�لاث��ة ،أصبحت، نقلت قصيدة السبعينات الشعر من النبوءة إلى أرض فيما بعد ،متداولة منذ “السيّاب” إلى اآلن ،ونسي أن ال��واق��ع ،وم��ن اإلن��ش��اد إل��ى ال��رؤي��ة ،وم��ن األيديولوجي إيقاعات الشعر العربي أكثر غنى وثراء من ذلك .ومَن إلى الحياتي واليومي ،وذات الفرد كبؤرة مفتوحة على قال إ َن الوزن شرط الشعرية الحقة؟ العالم وثقافته وهمومه المشتركة .هذا عدا ما أحدثته إن المسألة في تقديري أبعد وأعمق من هذا الفهم م��ن اخ��ت��راق لألبنية ،وط��رق األداء ،التي س��ادت فترة الخاطئ لطبيعة الشعر واإليقاعات ،وربما هو ما أعطى الستينيات خصوصاً عندما اتخذ معظمهم من القصيدة بعضهم الفرصة للهجوم على قصيدة التفعيلة ،فعدوها النثرية شك ً ال مقترحاً لتجاربهم وموضوعاتهم ،أو المزج من محنطات التراث التي ال ينبغي االقتراب منها؛ وكان بين التفعيلي والنثري في بعض الحاالت. السبب وراء ذل��ك أن قصيدة التفعيلة ب��دت مرهقة، من كثرة االستخدام التقليدي لها ضمن خطاب بعض الشعراء ،الذين ما يزالون يحتفظون باإليقاع في شعرهم “ومنهم شعراء كبار كما يسَّ مون” ،وإيقاعاتهم تنحصر في وزنين أو ثالثة أوزان ،كما أش��رت ،غير أو ذلك ال يمنع أن قصيدة التفعيلة م��ا زال��ت تحتفظ بحيويتها اإليقاعية “الطازجة” ل��دى بعض الشعراء الحداثيين الذين ما زالوا يراوحون بين النثري والتفعيلي“ ،وهذا يحتاج إل��ى ناقد يتوافر على دراس��ة اإلي��ق��اع ،وعالقته بحداثة النص الشعري”؛ فأنا م��ا زل��ت أعتقد أن��ه ال تناقض بين الحداثيّ واإليقاعيّ ،وإن حداثة الشعر ال بحال من األح��وال االنصراف الكليّ نحو قصيدة تعنى ٍ النثر ،والعكس صحيح.
وفي الحالة الفلسطينية ،نرى أن ظروف االحتالل والشتات الجغرافي ،ال��ذي ت��وزع عليه ع��دد كبير من الشعراء الفلسطينيين ،قد أجهض ما يمكن أن يسمى بأجيال الشعر الفلسطيني ،ومن ثم لم يتوافر النقد على متابعة هذه األجيال وتقويم تجاربها المختلفة، وذائقتها المتنوعة ،ومن ثم وضعها في مكانها الصحيح من عملية اإلبداع .ولعل هذا ما أتاح لشاعر أو اثنين أو ثالثة ،الحيّز األوسع من الرسوخ الشعري الرسمي كمؤسسة مغلقة ،ت��ق��اوم أي ص��وت ج��دي��د وأي تيار حداثي يمكن أن يمس هيبة تلك المؤسسة الشعرية أو يهز مكانها .وال عجب إذا شاهدنا هذه “المؤسسة” ت��ح��اول التقليل م��ن ش��أن تجربة ش��ع��راء السبعينيات ع��ن��دن��ا ،وأن ت��ص��ف ال��ش��ع��راء بالمليشيات ،وتنعتهم المهم في األمر هو “الشعرية” وليس الشكل؛ إذ ال بالمخبرين للسلطة “هكذا” ،على لسان شاعر معروف خلود ألي شكل؛ كما أن دورة التاريخ والحياة أثبتت أن
74
اجلوبة -ربيع 1428هـ
الحداثيّ اليوم هو كالسيكي غداً. تسألني عن تجربتي في هذا الشأن؟ ربما ما قلته في السابق يلخص مفهومي لمسألة اإليقاع ،ويصلح جواباً على سؤالك .وأضيف أنني أحياناً أم��زج في بعض قصائدي بين النثر والتفعيلي ،وه��ذا المزج ال يتأتى بوعي مقصود ،وإنما تمليه حالة التجربة نفسها ،وهي حالة ال تتبع نسقاً معيناً ،بقدر ما تتجه لكسر الرتابة ،وتغريب الحالة ،داخل النص .وعلى أي حال أقول لم أقطع نهائياً مع إيقاعات الشعر ،مثلما فعل بعض الشعراء ،وال أفكر بذلك حالياً على األقل، وإن كنت أكتب قصيدة النثر ،مستفيداً من الفضاءات ل��ه��ذه ال��ق��ص��ي��دة ،ف��ي التعبير ع��ن ت��ج��ارب وحاالت تستدعي هذا الشكل ،وفي الوقت نفسه أجد ّد داخل بنية التفعيلة.
وطلقة من هناك ،توجه إلى ظهر هذه القصيدة ،دون أن تسقط على مدرج ينحني تحت سماء المتعاليات.. أربعين سنة ما ت��زال ..ومن هنا ..وهنا تثور األسئلة، كغبار في محاولة للبحث عن إجابة ،وال ش��يء يقينياً سوى اإلبداع ذاته والسفر ذاته. في دراستي المعنونة“ :قصيدة النثر إلى أين؟” (لم تنشر بعد) ،محاولة ،أزعم أنها جادة ومرهِ قة ،استغرقتني ال الكتشاف عوالم هذه القصيدة ،التي تحتل وقتاً طوي ً اآلن ص��دارة الصفحات األدب��ي��ة ،ومنابر الشعر ،على الرغم من أنها قصيدة يُفترض أنها غير منبرية .في دراستي أقول: 1قصيدة النثر :ال تقبل التقليد وال المحاكاة. 2ضرورة الكتابة خارج نسق اللغة الرائجة إلى درجةاالستهالك.
وثمة نقطة أخرى ،وهي تتمثل في منحى تجريبي في اإليقاع أو ما يشبه ذلك ،أحاول أن أكسر به رتابة 3-قصيدة ال��ن��ث��ر :ال تنحصر ف��ي ال��ش��ك��ل ،ول��ك��ن في الكيفية التي يكتب بها الشاعر ،وزواي��ا النظر إلى التفعيلة؛ بحيث أقترب من قصيدة النثر ،عبر بناء العالم. الجملة الشعرية المفارقة للتقليدي والجاهز الذي طغى على شعر التفعيلة ،بمعنى آخ��ر أن يتماهى 4-الرتابة والتكرار هما أخطر ما يواجه قصيدة النثر. الشعري بالنثري ،ضمن اإلي��ق��اع دون ح��دود فارقة، 5أتساءل :هل هي قصيدة بدون إيقاع؟إل��ى درج��ة جعلت بعض الشعراء المصريين يلتفتون باهتمام إلى هذه الطريقة ،ويعد الشبان منهم ما أكتبه 6-يُحكم على قصيدة النثر من خالل النماذج الجيدة. ضمن اإليقاع قصيدة نثر تستخدم السرد والمشهد 7-شعراء هذه القصيدة الجيّدون هم قلة في العالم واللقطة ...إلخ ،وفي الوقت نفسه تنطوي على طواعية العربي ،مقارنة بشعراء التفعيلة. وك��ث��اف��ة ،ال ت��خ��ل��وان م��ن ال��ب��س��اط��ة وال���وض���وح ،وهي في هذه الدراسة (البحث) أعلن إنحيازي إلى كافة المعادلة األصعب. أشكال التعبير الشعري ،وأسعى جاهداً أو مجتهداً لعقد نوع من المصالحة بين هذه األشكال ،وخصوصاً بين قصيدة النثر ..إلى أين؟ < في الختام ،أود أن أسأل سؤاالً ،ربما صار تقليدياً التفعيلي والنثري؛ لقناعة لديّ أن قصيدة التفعيلة لم تنتهِ بعد ،على الرغم من ما اعتراها من أمراض الشيخوخة وهو :لمن المستقبل :للتفعيلة أم لقصيدة النثر؟ على يد كثير من الشعراء ،وخاصة المعروفين منهم. > قصيدة النثر هل هي قصيدة نقصان أم أنها تكتمل وأعتقد أنها سوف تبقى مجاورة لقصيدة النثر من بهذا النقصان وتمتلئ؟ أنا أخفي الحيرة في اليقين ،أو أستدرج اليقين كطائر إلى فخاخ السؤال ،طلقة من هنا ناحية ،وأداة للمسرح الشعري على وجه الخصوص. < ناص وشاعر فلسطيني.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 75
املؤسسة تقيم محاضرة عن مرض
االلتهاب الكبدي للدكتور فالح الفالح > كتب :تيسير العيد وذك��ر المحاضر أن��ه أج��ري��ت دراس���ة اخرى في العام نفسه لمعرفة نسبة اإلصابة بمنطقة ال��ج��وف ،م��ن خ�لال عينات عشوائية ،أخذت لمجموعة من الموطنين ،سجلت انخفاض معدل اإلصابة بفيروس االلتهاب الكبدي (أ) ،بنسبة ت��راوح��ت بين 64%إل��ى 47%؛ كما انخفضت ضمن برنامج المجلس الثقافي في مؤسسة نسبة اإلصابة بالفيروس االلتهاب الكبدي (ب) عبدالرحمن السديري الخيرية ،ألقى الدكتور من 9.4%إل��ى 0%وانخفضت نسبة اإلصابة فالح بن زيد الفالح أستاذ األمراض الباطنية بالفيروس (ج) إلى . % 1.1 والكبد بجامعة الملك سعود محاضرة عن كما ذك��ر أن تغيرات نسبة اإلص��اب��ة عند مرض االلتهاب الكبدي ،في قاعة دار الجوف متبرعين بالدم منذ عام 1994إلى عام ،2006 للعلوم ،وحضرها جمع غفير من المهتمين. انخفضت م��ن 4.4%إل��ى , 0.5%وأوضح
نشاطات ثقافية 76
وقد تناول المحاضر دراسته التي أجريت الفالح أن هنالك قانون ب��وزارة الصحة ينص على 90شخصاً ،وأثبتت أن نسبة 60%من على إلزام العاملين بالمهن الصحية بالتطعيم اإلصابة بالمملكة بفيروس االلتهاب الكبدي ضد فيروس االلتهاب الكبدي(ب). (ب) هي من النوع السلبي ,مؤكدا أن نسبة وتحدث الدكتور الفالح عن تطور عالج 50%م���ن س��ك��ان ال��م��م��ل��ك��ة م��ح ّ ��ص��ن��ي��ن ضد فيروسات االلتهاب الكبدي مشيراً إلى أن الفيروس (ب). علماء العالم لم يوفقوا إل��ى إكتشاف لقاح وأشار الدكتور الفالح إلى برنامج التحصين الوطني للفيروس االلتهاب الكبدي (ب) ،الذي انطلق ع��ام 1409ه����ـ ،وق���ارن نسبة اإلصابة بالفيروس منذ ان��ط�لاق الحملة وحتى عام 1417ه��ـ لألطفال ،إذ بلغت نسبة اإلنخفاض من 7%إلى % 0,3في جميع مناطق المملكة ع��دا منطقة جيزان ،التي لم تنخفض نسبة األصابه فيها.
اجلوبة -ربيع 1428هـ
تحصيني ضد فيروس االلتهاب الكبدي(ج)؛ وأع����اد ذل���ك ل��ق��درة ال��ف��ي��روس ع��ل��ى تغيير ج��ل��دة .وأوض���ح أن اخ��ت�لاط المياه العذبة بمياه الصرف الصحي يساعد على انتشار الفيروسات ،كما أن بعض المبيدات الزراعية المستخدمة تؤدي إلى إلتهاب الكبد .ودعا د. الفالح إلى عدم القلق من اإلصابة بفيروسات االلتهاب الكبدي ما داموا محصنين.
مشاهدات علمية في صحراء الربع اخلالي ض���م���ن خ���ط���ة النشاط ال������ث������ق������اف������ي ب����م����ؤس����س����ة ع���ب���دال���رح���م���ن السديري ال���خ���ي���ري���ة أق���ي���م���ت ن����دوة بعنوان( :مشاهدات علمية في صحراء الربع الخالي). وق���د ش���ارك ف��ي الندوة الدكتور زهير عبدالحفيظ نواب ،رئيس هيئة المساحة الجيولوجية ،والدكتور اللواء ع��ب��دال��ع��زي��ز ب���ن إبراهيم العبيداء ،نائب مدير إدارة المساحة العسكرية ،والدكتور عبدالعزيز بن عبدالله اللعبون أستاذ الجيولوجيا بجامعة الملك سعود، والدكتور عبدالله بن محمد الشارخ أستاذ اآلثار بجامعة الملك سعود وعضو هيئة تحرير مجلة أدوماتو؛ وحضر الندوة جمهور غفير من المهتمين بمنطقة الجوف.
القطاع الزراعي في ظل إنضمام اململكة ملنظمة التجارة العاملية
أقيمت في قاعة المحاضرات في دار الجوف من المهتمين بالزراعة في منطقة الجوف.
للعلوم محاضرة بعنوان( :القطاع الزراعي في ظل إنضمام المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة العالمية :ال���رؤى وال��ت��ح��دي��ات) ،أل��ق��اه��ا الدكتور
عبدالله بن عبدالله بن سليمان العبيد ،وكيل وزارة الزراعة.
وق���دم للمحاضر المهندس ص�لال ب��ن عيسى
الصالل ،مدير مركز أبحاث تنمية المراعي والثروة
الحيوانية بالجوف ،واستمع إلى المحاضرة جمع
وتحدث الدكتور العبيد عن العديد من القضايا التي تهم القطاع الزراعي ،ووسائل تطويره وتنميته، األسس العلمية والعملية لتحسين اإلنتاج الزراعي بنوعيه النباتي والحيواني. وف��ي نهاية المحاضرة ج��رى ح���وار مثمر بين المحاضر والجمهور ،أج��اب فيه المحاضر عن العديد من أسئلة واستفسارات الحضور.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 77
دار اجلوف للعلوم استضافت معرض املخطوطات واملسكوكات والوثائق التاريخية:
مركز البابطني يسعى السترداد املخطوطات العربية من تركيا
أقيم في قاعة دار الجوف للعلوم م��ع��رض المخطوطات وال����م����س����ك����وك����ات وال����وث����ائ����ق ال���ت���اري���خ���ي���ة ،ن���ظ���م���ه مركز البابطين الثقافي ،بالتعاون مع مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية ،ضمن برنامج النشاط الثقافي بالمؤسسة .وحضر حفل االفتتاح ،الذي رعاه وكيل إمارة منطقة الجوف األستاذ أحمد بن عبدالله آل الشيخ ،جمهور كبير من أبناء الجوف والمهتمين بالتراث والمخطوطات العربية. وقد شاهد زوار المعرض العديد من المخطوطات العربية النادرة والقيّمة ،التي شملت مخطوطات ابتداء من القرن الرابع الهجري إلى بداية العصر الحديث ،حين ظهرت اآللة الطابعة .ومن المخطوطات التي عرضت :مصاحف نادرة ،من العصور المملوكية والفاطمية واأليوبية. واشتمل المعرض كذلك على مؤلفات ن��ادرة وقيّمة نسخت بأيدي مؤلفيها؛ منها مخطوطة لشيخ اإلس�لام ابن تيمية كتبها بخط يده وهو في سجن القلعة بدمشق. كما شاهد زوار المعرض مخطوطات متنوعة في مجاالت :الطب ،والهندسة ،والفلك، والرياضيات ،والكيمياء ،والفيزياء ،والزراعة ،ونظم الري ،وغيرها.
78
اجلوبة -ربيع 1428هـ
وق��د أك��د األم��ي��ن ال��ع��ام لمركز س��ع��ود البابطين
للتراث والثقافة د .ناصر بن عبداللطيف البابطين
خ�لال اف��ت��ت��اح ال��م��ع��رض أن المخطوطات العربية
الموجودة في المتاحف والمراكز الثقافية في تركيا أصلها عربية وليست تركية.
وأضاف البابطين أن «هناك نظام دولي متبع ينص
على أن ك��ل مخطوط أو أث��ر مسجل ل��دى الجهات الثقافية الدولية منذ 100عام ،ينبغي أن يُعاد إلى
موطنه ،في حال المطالبة فيه .أما قبل هذا التاريخ فال توجد هناك ضوابط تحكم هذه اآلث��ار؛ فهناك م��س�لاّت ف��رع��ون��ي��ة م��وج��ودة ف��ي م��ت��اح��ف إيطاليا،
وتطالب بها مصر ولم يبت في األمر إلى اآلن».
وك��ش��ف ال��ب��اب��ط��ي��ن ع���ن ت���وجّ ���ه ال��م��رك��ز إله���داء
آالت تصوير إل��ى المتاحف التركية التي تحتفظ
بالمخطوطات والوثائق العربية األصلية« ،من أجل تصوير تلك الوثائق والمخطوطات األصلية».
وأوضح أن المركز يقدم خدماته لكل من يمتلك
مخطوطات قديمة ،ويرغب بالمحافظة عليها من
التلف .وق��ال« :يقدم المركز خدماته مجانية ،لكل ال��ج��ه��ات س���وا ًء حكومية أو خ��اص��ة ،مثل التعقيم،
وتصوير المخطوطات ،والتعاون الثقافي ،إضافة إلى
إمكانية ترميم الوثائق التي يمتلكها أفراد».
اجلوبة -ربيع 1428هـ 79
صورة املرأة وسؤال الكتابة في السردات العربية
> هويدا صالح تُعد الكتابة بالنسبة للمرأة فعل التوازن بين الداخل والخارج؛ بين الصوت الداخلي ال��ذي يحاول أن يفتح ذلك الداخل ال��ذي ظنته المرأة مفقوداً ،نتيجة لعالم القسوة والخوف .وجدت المرأة من خالل الكتابة أضواء صغيرة؛ تضيء داخلها ،وشعلة في قلبها تشع ،فتحلّت بالشجاعة ،وغاصت في الداخل؛ لتخرج لنا اللؤلؤ المخبوء ،ذلك المسكوت عنه منذ قرون طويلة .تسرّب النور من داخلها ،فصار الداخل خارجاً ،تحولت وتجلت ،وقالت ال داعي للخوف ،فقط علَّي أن أتحلى بالصمود والجلد ،فربما ال نعلم أبداً من أين تأتي القوة. إذاً ،حاولت المرأة أن تُمازج بين ما هو ذاتي وأنثوي في بُنىً سردية متباينة ،ومشهدية مختلفة ،تعبّر عن قسوة التجربة التي تعيشها المرأة ،وعن معنى اختراق السائد في القيم االجتماعية ،الذي يُبقي وضع المرأة المستلبة على حاله. وإن كانت المرأة ،في تجربة الوجود األول��ي ،هي التي قادت إلى المعرفة ،عندما أكلت من الشجرة المحّ رمة ،شجرة الخلود ،شجرة التفاح في الجنة ،فإن الرجل مجرد تابع لها؛ وهل يتساوي ألم الكشف المعرفي ببهائه وجماله بالتلقي دون ألم أو معاناة؟ هيهات بين لذة المرأة ،تلك اللذة التي تنبثق من تعب ،وبين لذة الرجل التي تنثال عليه دونما جهد أو معاناة! لنلق نظرة سريعة على واقع المرأة العربية كمبدعة ،قبل أن نرصد الخصائص التي يمكن أن تميز أدب المرأة عن أدب الرجل.
ن�����واف�����ذ 80
في ظل ثقافة ذكورية تؤسس لكل ما هو ذك��وري ،تحاول المرأة أن تكتب ،وتبدع، وتعبّر عن ذات واقعة طوال الوقت تحت نير العيب والحرام .خالل قرون طويلة ،كانت المرأة العربية بصفة عامة هي اآلخر المهمش .وصارت ثقافة ذلك اآلخر مثل ثقافة معظم المهمشين في المجتمع الذكوري المركزي ،ربما يتعاطف معها قليال ،ولكن في النهاية يظل ينظر إليها بوصفها اآلخر المحتقر الذي يمنّ عليه ببعض من أجله ،وهو تربية األبناء والخضوع ألوامر الرجل .وال يتاح لها إال فيما ندر حرية اإلبداع؛ فالرجل من حقه أن يرسم وجه المرأة بحرية ،وأن يكتب جسدها ،وأن يصور آالم مخاضها،
اجلوبة -ربيع 1428هـ
تلك التجربة شديدة الخصوصية بالنسبة للمرأة .كان الزيات؛ و«ذاكرة الجسد» ألحالم مستغانمي؛ و«السيقان من حقه أن صور انفعاالتها ،ورغباتها ،وكثيراً ما حجب الرفيعة ل��ل��ك��ذب» لعفاف ال��س��ي��د ،إل��ى غير ذل��ك من حقيقة ذلك اآلخر /المرأة. النصوص. ولذلك ،فإن البحث عن نظرية نقدية تتناول إبداع المرأة ،يجاوز الواقع؛ فإبداع المرأة ال يتطور بمعزل عن السياقات الثقافية المختلفة ،وكأن أدب المرأة يتطور ل��وح��ده بمعزل ع��ن السياقات الثقافية األخ���رى التي أنتجته ،وبمعزل عن تطور النظرية النقدية.
فالمرأة حين تكتب فن السيرة الذاتية ،تكتب حقيقة كونها ذات أنثوية تقص وتحكي وتراوغ ،حتى ال تصبح هي الذات الساردة .فتتعرض دوماً لتساؤل ساذج :هل م��ا تكتبه حقيقة؟ ه��ل عاشت ه��ذه األح���داث؟ فتقف موقف المتهم أحياناً ،وتمزج منتجها اإلبداعي بالتخييل كنوع من المخاتلة أحياناً أخرى .والخطاب في السيرة الذاتية النسائية يشكل معضلة كبرى ،فهل يحيل هذا الضمير على الكاتبة ،أم أنه بناء سردي اتخذته الكاتبة كتيمة للسيرة الذاتية؟
وبدالً من النظريات الكبرى التي تدور حول االضطهاد الواقع على النساء ،ب��دأت ال��دراس��ات التاريخية حول التكوين األنثوي في سياق وفترة محددين ،تهيمن على مجال دراسات المرأة.
نفس األعماق ،حول بنية المرأة العقلية والنفسية؛ األمر الذي يكشف عن الفضاء الثقافي الذي تتحرك من خالله كاتبات مثل :لطيفة الزيات دون تجييل وغ��ادة السمان، ون��وال ال��س��ع��داوي ،وأليفة رفعت ،وه��دى ج��اد ،وفتحية العسال ،ورضوي عاشور ،وسلوى بكر ،واعتدال عثمان، ونعمات البحيري ،وغيرهن كثيرات.
ويستمر ه��ذا التغييب والتهميش ألدب النساء، حتى إن بعض الدراسات التنظيرية لألدب تغفل سيّر النساء وشهاداتهن ،كمبدعات ومثقفات؛ فنجد كتاباً مثل م��ؤل��ف د .ج��اب��ر عصفور ال��ص��ادر ع��ن المجلس األعلى للثـقافة بمصر المعنون« :زمن الرواية» ،يغفل وبما إن اآلراء متباينة ومعقّدة فيما يُسمي بالكتابة الشاهدات النسائية؛ باستثناء المحاوالت التي قامت النسوية ،فيمكن لنا أن نحصر ات��ج��اه��ات الكاتبات بها د .هدى الصدة ود .سمية رمضان ،في كتاب« :زمن العربيات بصفة عامة والمصريات بصفة خاصة في النساء والذاكرة الجدلية» ،وكذلك في عدد من مجلة اتجاهين اثنين: «ألف» ،بعنوان « :الجنوسة والمعرفة ،صياغة المعارف األول ،هو اشتغال الكاتبات بقضية المرأة ،وتجربتها بين التذكير والتأنيث «. الوجودية ،التي تعكس وضعاً اجتماعياً وتاريخياً وإنسانياً لقد شغلت إشكالية المرأة /الكتابة وفكرة األدب مختالً؛ نتيجة للقهر والتسلط اللذين يمارسهما عليها النسوي الفكر منذ فترة طويلة .لقد انكبت الحركة المجتمع الذكوري ،بصورة تجعلها تشعر بالضعف والدونية النسوية في العالم على مشكلة وضع المرأة الرسمي واالستالب؛ فحاولن عبر مستويات السرد الروائي ،أو وال��م��ادي ،الرسمية والمادية واالضطهاد الواقع على السيرذاتي أن يظهرن المعنى الخاص الذي تمثله المرأة النساء ،وحاجتهن إلى التحرر ،والمساواة ،مع التأكيد على المستوى الوجودي ،إذ يستحضرن على مستوى البنى على الحاجة إلى تغيير بنية المجتمع وتوجهاته. السردية حكايات وأساطير وأفكاراً ومفاهيم قدمها علم
وهناك إشكالية الوضع االجتماعي للمرأة ،والعيب، والحرام ،الذي يقيّد رصد المرأة لسيرتها الذاتية ،من االت��ج��اه الثاني ،هو اشتغال الكاتبات على قضايا خ�لال أدب االع��ت��راف؛ ف��ص��ارت ال��م��رأة متذبذبة بين الرواية وأدب االعترافات .ومن أهم الكتابات في هذا ذات��ي��ة ش��دي��دة الخصوصية ،خصوصية عالم المرأة، السياق ،التي وقعت في منطقة ليست محددة تماماً وفتح كوىً صغيرة نطّ لع من خاللها على أعماق النفس / بين الرواية وأدب االعتراف« ،أوراق شخصية» للطيفة األنثى المنسية التي تسميها الكاتبة الالتينية «كالريسا
اجلوبة -ربيع 1428هـ 81
إن الوعي بدور المرأة المبدعة .وقيمتها ،ال يعود بنكوال» في كتابها «نساء يركضن مع الذئاب» ،المرأة الوحشية ،المرأة األولى ،التي ترفض أشكال القهر التي القهقرى ،والحركة النسائية العامة التي بدأت تسري تُمارس على جسدها. من مكان إل��ى مكان ،وتمأل الجو حولنا ،ال يمكن أن إن فعل الكتابة لدى المرأة ،سواء كانت معنية بقضايا تتراجع ،أو تتحول إلى هباء منثور. وجودية نضالية ،أو منغمسة في كتابة ذاتها ،هذا الفعل ح��اول��ت ال���م���رأة ،س���واء كتبت ق��ض��اي��ا ق��وم��ي��ة كلية هو تحقيق لرؤية إداورد سعيد لحال المثقف ،إذ يرى ومزجتها بالذاتية ،مثلما فعلت لطيفة الزيات في «أوراق أن المثقف رج ً ال كان أم امرأة إنسان مستقل عن مركز شخصية» ،أو قضايا الذات كموضوع ،مثلما فعلت نبيلة السلطة ،ومعارض لها ،يريد تحطيم األفكار التي تختزل الزبير في« :إن��ه جسدي» ،حاولت المرأة إب��داع كتابة اإلنسان في صفة واحدة؛ فللمثقف القدرة على تمثيل نسوية خالصة ،في مقابل الكتابة الذكورية. ذاته ،والعالم ،في خطابه وكتاباته ،فهو ملتزم ومخاطر ربما صارت الذات وتشظيها ،والجسد وما يمارس عليه في الوقت نفسه .وهكذا فعلت الكاتبة العربية؛ فهي من طقوس ،هو الموضوع األثير في اآلون��ة األخيرة من التزمت بقضايا جنسها ووضعيها االجتماعي والتاريخي ،إبداع المرأة ،على نحو ما رأينا في كتابات بسمة النسور وخ��اط��رت بتوصيل م��ا ي���دور ف��ي داخلها م��ن أصوات في« :مزيداً من الوحشة» ،وأحالم مستغانمي في« :فوضي تطالبها بالخروج والثورة ضد أشكال القهر اإلنساني الحواس» ،وحنان الشيخ في« :حكاية زهرة» ،ونبيلة الزبير واالجتماعي ،وضد ما يمارس على جسدها من طقوس في« :إنه جسدي» ،وهالة كوثراني في « :األسبوع األخير»، وعادات وتقاليد ،ضد كونها أنثى. وقبلهن هدي بركات في« :درب الهوى». وعلينا أن نرصد بعض السمات والخصائص التي تميز إبداع المرأة ،عن إبداع الرجل ،ثم نخلص لبعض النصوص الدالة على تلك الخصائص ،والمتمثلة فيها:
1ـ على مستوى ال��م��وض��وع��ات ال��ت��ي تعالجها الكتابة النسوية. .2على مستوى اللغة المستخدمة في البنى السردية. .3على مستوى آليات السرد.
ك��ذل��ك ،ق��د تلجأ الكاتبات العربيات إل��ى سردات غنائية تحتفي بخصوصيات ال��ذات األن��ث��ى ،ومقاربة ال��س��ي��رة ال��ذات��ي��ة ،وت��ل��مّ��س أش��ي��اء ك��ان��ت م��ح��ظ��ورة في الكتابة النسوية قبالً ..سردات تحتفي بالجسد ،وتقيم طقوسها على أعتابه ..ال تخجل من االعتراف بضعف األنثى وحاجتها إلى الرجل .وغني عن الذكر أن المشهد السردي اتسع وتنّوع ،وحقق مقوالت ما بعد الحداثة التي رسخت للعادي واليومي ،وخاضت في موضوعات شديدة الخصوصية ،حتى إنها لتشبه االعترافات والبوح والثرثرة الفنية.
إن ال��ق��رن ال��ح��ادي والعشرين ه��و ق��رن ال��م��رأة بال منازع .هو قرن الثورة ضد التهميش واالستالب ،ولكنها كما عمدت الرواية الجديدة إلى التفكيكية (تفكيك ثورة بيضاء ،هادئة ،بال دماء ،وبال أصوات جهورية؛ ثورة شمولية سوف تستمر ،ألنها تضم نساء العالم ،ضد كل السرد) واالستفادة من الخبرات المعلوماتية ،وتشظي أشكال القهر والسلطوية الذكورية .وللمرأة العربية نصيب ال��ذات ،وغربتها النفسية ،والقفز بالسرد بين الحكي كبير من تلك الثورة؛ فهي حين تمسك القلم لتكتب ،تسهم والوصف في اللحظة اآلنية ،إلى االسترجاع والفالش في والدة المستقبل بطريقتين إيجابيتين :األولى الوالدة باك ،ثم السرد اآلني ،وهكذا ،فال توجد هناك حكاية الطبيعية ،ودورها البيولوجي في اإلنجاب .والثانية ،وهي محبوكة م��ب��ررة .ص���ارت ال��رواي��ة ال��ج��دي��دة تجعل من ال تقل أهمية عن الوالدة األولى ،توسيع نطاق الحاضر ،الواقع الحياتي المعاش م��ادة للسرد ،تصور انسحاق الذات في مفردات الحياة اليومية ،وتشكيل هذه الحياة حتى يظل نافذة مفتوحة على المستقبل.
82
اجلوبة -ربيع 1428هـ
ال للواقع؛ كي يتحدث من وإعطائها مصداقية الوجود داخل نسق سردي ،تخرج النصوص ،وال��ذي يأتي بدي ً من الشخصانية إلى براح أكثر اتساعاً ،هو براح اإلبداع خالل التخييل عن الذات. األدبي . وق���د ت��أت��ي ال��ل��غ��ة ف��ي ك��ت��اب��ات أخ���رى ص��ادم��ة حد
لغة في الكتابة النسوية:
الفجيعة ،وموغلة في التصريح ب��دالً عن التلميح ،في الكشف بدالً عن الكناية واالستعارات .صارت الذات في هذا المستوى من اللغة منشغلة بكشف المسكوت عنه ،والبحث عن تشظي ال��ذات أم��ام اآلخ��ر ،وعملت على تحطيم الثوابت والمطلقات ،واحتفت بالحواس، واستهانت بالمحظورات؛ فهي لغة ال تنافق الذائقة التقليدية للمتلقي ،بقدر ما تهزها بعنف وبشكل صادم!
تراوحت اللغة في الكتابة النسوية بين اللغة الغنائية، واللغة التي ال تتخذ م��ن المجاز رداء ،ب��ل تميل إلى صدم المتلقي ،وتحدي وعيه ،وتستهين بمحظوراته، حتى تصل إلى االبتذال والحوشية ،على نحو ما نجد في كتابات :عفاف السيد ،وه��دي حسين؛ ولغة تقف في مرحلة وسط بين اللغتين السابقتين ،فتأخذ من ثم يأتي المستوى الثالث من اللغة ،في منطقة وسط الوصف والمجاز والشعرانية بحظ ،وتأخذ من اللغة بين الغنائية الوجدانية االستعارية ،واللغة الصادمة التي الصادمة المبتذلة بحظ مثلما نجد في كتابات :صفاء تصل إلى حد االبتذال. عبدالمنعم ،ونعمات البحيري ،وهالة البدري. ف��ي نهاية المقال ،ال أج��د وسيلة أختم بها سوى وأب��رز ما يميز السرد النسوي يتجلى واضحاً على مقاطع م��ن إب���داع بعض الكاتبات المتميزات ،مثل: مستوي الشكل والداللة .وألن اللغة وعاء الشكل الذي الكاتبة الالتينية كالريسا بنكوال :في «نساء يركضن مع يقدم ال��دالل��ة ،فالالوعي النصي يتجلى على مستوى الذئاب» ،إذ تقول: اللغة واألس��ال��ي��ب التي تستخدمها الكاتبة وتصوغها ل��غ��ة ال���رواي���ة وال��ش��ع��ر ه��ي الشقيقة األق����وى للغة الساردة؛ فهناك بجانب التعدد والتجاور الذي أشرنا إليه سابقاً ،توجد جدلية وثنائية تصبغ لغة الكتابة األحالم ،ومن خالل تحليل الكثير من األحالم (القديمة األنثوية ،وهذه الثنائية هي األنا واألنا العليا؛ فنظرتها والمعاصرة المسجلة على مر السنين ،وكذلك النصوص للمحرم والمسكوت عنه مختلفة عن ال��رج��ل .وبعض المقدسة واألعمال األسطورية). كما تقول «فرجينيا وول��ف» ،في مقال لها بعنوان: الكاتبات يُلبِسن المسكوت عنه والتعبير عن الجنس ثوب اللغة الوجدانية الموحية ،التي تكني وال تصرح ،ولكنها «المرأة والكتابة الروائية «: تعج بالدالالت الجنسية ،فتأتي رهيفة وغير صادمة كتابة ال��م��رأة في الوقت الحالي وبشكل مختصر، بالمحرم ،عالقة مختلفة .ولذلك ،ال يمكن قراءتها إال تتسم بالشجاعة والصدق ،وإنها تبقى على اتصال دائم من خالل سيميائية الدوال والتفسير النفسي لألدب ،بمشاعر المرأة .لم يعد في هذه الكتابة طعم المرارة، فعالقة ال��ذات ال��س��اردة األنثوية بميكانزمات الدفاع إنها نوع من الكتابة ال يصر على األنوثة ،ولكن في الوقت ال للذي يكتبه تختلف؛ فهي تبحث ع��ن توازنها م��ن خ�لال إل��غ��اء أي نفسه فإن كتاباً تكتبه امرأة لن يكون مماث ً تمظهر يجعلها ت��ب��دو واض��ح��ة .ول���ذا ،نجد التحوير ،الرجل .لقد أصبحت ه��ذه السمات في كتابة المرأة والقلب ،واالس��ت��ع��ارات ،والكثافة اللغوية ،التي تتكرر أكثر انتشاراً مما كانت عليه ،وهي السمات نفسها التي في النص ،وتصنع المسافة بين األنا والرغبة؛ بل إنها تعطي األعمال -حتى من الدرجة الثانية والثالثة - تذهب إلى إنجاز محكي الحلم ،الذي يهيمن على هذه قيمة ،تجعلها حقيقية وصادقة مع نفسها». < كاتبة وروائية -مصر.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 83
أدوات الكتابة:
عالمات الترقيم وأثرها في النص
،؛!.= ..)( »...« /- :؟
> محمد صوانه
<
مرت الكتابة على مدار التاريخ بمراحل عدة ،بدءاً بالتعبير من خالل الرسوم
والرموز التصويرية ومروراً بالحروف التي تشكلت منها الكلمات؛ فتكونت الجمل والنصوص ،وظهرت الكتابة بشكلها النهائي المتطور ،بعد مراحل طويلة من التطوير والتحسين ،وتعامل الكتّاب مع أدواتها ،وتفاعل القراء معهم في ما يكتبون .وتشكلت عالقة بين كتّاب النصوص وقرائهم .ومن الطبعي أن يكون هدف كتّاب النصوص أن
يصل القارئ (المتلقي) إلى المضمون نفسه ،الذي كان في ذهن الكاتب عند إعداد
النص .وإن العالقة بين مستوى الفهم ،الذي يتحقق لدى القارئ عند قراءته النص، وبين ما كان يختلج في ذهن كاتب النص ذات��ه ،عالقة نسبية يتدخل النص ذاته،
ال عن مضمونه ،في تحديدها والتحكّم بها! وطريقة إعداده وتقديمه ،فض ً
وإن من بدهيات إعداد النص ،أن يمتلك الكاتب القدرة الفنية على استخدام
عالمات الترقيم ،تلك التي من شأنها أن تسهم في إيصال الرسالة (المضمون) إلى
القارئ (المتلقي) في يسر وسهولة؛ ليتحقق الهدف من النص ابتداءً! ويالحظ على كثير من الكتابات والنصوص ضعف االهتمام بتلك العالمات .ويهدف هذا المقال
إلى التعريف بعنصر مهم من عناصر الكتابة وأدواتها ،هو عالمات الترقيم.
84
اجلوبة -ربيع 1428هـ
ع�لام��ات الترقيم ج��زء مهم م��ن أدوات الكتابة،
الكتابة ليست كلمات ت َُصف وتطرح أمام القارئ ,
خريطة النص وتشكيله ,وتبعث الحياة فيه ,وتمده
داخل النص ,لينقل القارئ إلى حالة ذهنية صافية،
وهي تؤثر في منهجيتها ،كما تؤثر في مستوى الفهم فال بد للكاتب من امتالك أدواتها الفنية ,التي ال غنى الذي يتحقق لدى قارئ النص؛ فهي تسهم في رسم له عنها؛ إذ يستطيع توظيف تلك األدوات (العالمات) بطاقة متّقدة .تأمّل نصاً دون عالمات الترقيم ،كيف سيكون؟ ستجده ،دون ش��ك ،نصاً جامداً ال حراك
تساعده على استقبال المعلومة بيسر وسهولة؛ فيدرك المضامين التي حرص الكاتب على إيصالها إليه.
فيه! أو سيكون نصاً تزدحم فيه المعاني ،كأنما
إذاً عالمات الترقيم هي رم��وز توضع
ضيق ،تزدحم فيه وتضطرب؛ فيتعسر عليها
من إعمال الفكر في استيعاب المضامين
تتدافع المعاني والكلمات فيه من خالل عنق
داخ��ل النص ,لتوفّر على القارئ الكثير
المرور!
والمعاني ،التي يهدف إليها الكاتب؛ كما
إن ازدح������ام ال��ك��ل��م��ات وال��ج��م��ل ،دون فواصل
وإش��ارات ،من شأنه أن يعيق الحركة داخ��ل النص؛ فهو يقلل مستوى االستيعاب والفهم لدى القارئ، ويربكه ،أو ق��د يجعل النص يتيه ف��ي ف��راغ كبير
يصعب على المتلقي لملمة أجزائه المبعثرة؛ فتضيع المعاني ال��ت��ي ي��ح��رص ال��ك��ات��ب على إيصالها إلى
القارئ ،فيضل قبل آن يتمكن من اإللمام بها ،وقد
يضجر ويترك النص!
وفي الداللة على ذلك ,تأمّل مدينة من المدن
الكبرى التي تكتظ بالسيارات ,وه��ي تسير في
ش��وارع متقاطعة ومتعرجة دون أن يكون في تلك
الشوارع والطرق أية إشارات مرور أو لوحات إرشادية تنظّ م السير ,وترشد مستخدمي الطرق إلى ضوابط
ولوحات تحدد لهم مسارات الطرق يمينا أو يساراً,
ترشد تلك العالمات إلى أماكن تغيّر نبرات
الصوت عند ال��ق��راءة ،ليصل إل��ى المعنى الذي قصده الكاتب ،ويتفاعل معه؛ فيتحقق الهدف
من النص.
لقد تهاون كثير من الكتّاب بعالمات الترقيم؛ إذ ت��ج��د ن���ص���وص��� ًا ع���دي���دة ف���ق���دت روحها ال��ح��ق��ي��ق��ي��ة ،ب��س��ب��ب إه��م��ال أو ع���دم ضبط عالمات الترقيم ،بشكل مناسب؛ كما تجد نصوص ًا أخ��رى تنبض بالحيوية والحكمة، ألن كاتب النص ح��رص على ضبط عالمات ال��ت��رق��ي��م ،ف��ب��دت ك��أن��ه��ا أع��م��دة وأس���س تدعم النص المكتوب وت��س��ن��ده .وه��ي حقا تدعم النص, وتحسنه ,وتجمله؛ وتجعل م��ن السهل على ّ القارئ استيعابه ,بل واالستمتاع بقراءته.
وتنظّ م عبور تقاطعات الطريق والجسور واألنفاق؛
ولعلي أ ُشَ �� ِّب��ه النصوص بالطعام؛ بعضه
ي��ؤدي إلى تداخل في صفوف السيارات القادمة
وكذلك النصوص ،فالكتابة التي تحتوي على
فإنك ستدرك أن غياب اللوحات اإلرشادية سوف
سهل الهضم ،وبعضه اآلخر يتعسر هضمه.
م��ن مختلف االت��ج��اه��ات ،وس���وف ت��زدح��م مسارات عالمات الترقيم يسهل على القارئ أن يستوعبها، الطرق؛ فيكون السير عسيراً ،والحركة غير منضبطة دون عناء ،والتي ال تحتوي على عالمات الترقيم ،أو
وسلسة!
أسيء استخدامها؛ فإن القارئ سيشعر بعسر أثناء
اجلوبة -ربيع 1428هـ 85
القراءة! ( )4الشرطة األفقية مع السطر ( :)-توضع في المحاورات ،وبين أجزاء العنوان المكون من ولعالمات الترقيم أماكن بين الكلمات والجمل جُ زءين ،وبعد أعداد الترقيم. داخ��ل النص ،ينبغي للكاتب أن يعرفها ،فيضع كل عالمة منها في مكانها الصحيح ،بين أجزاء النص، ( )5الشرطة المائلة ( :)/ف��ي التواريخ لتمييزه عن بعضه .وتعد تلك العالمات محطات والفصل بين التقويمين الهجري والميالدي، تساعد ال��ق��ارئ في التوقف عندها أثناء القراءة، وف��ي الرياضيات تكون ب��دالً م��ن كلمة لكل، ليلتقط أنفاسه ويتمكن من االستمرار في القراءة، وكذلك للداللة على الكسر العادي. مع الفهم السلس والمتسلسل في الوقت نفسه؛ وعلى ( )6القوسان () :يستخدمان لتمييز الجمل اإلج��م��ال ف��إن ع�لام��ات الترقيم تعمل على تجميل االعتراضية أو التوضيحية ،كما توضع األرقام النص كما تصقله وتبسطه. داخل النص إذا زادت عن عشرة بين قوسين. وألن ل��ك��ل ع�لام��ة م��ن ع�لام��ات ال��ت��رق��ي��م مكان ( )7القوسان المربعان :يستخدمان بعينه ،ينبغي أن توضع فيه دون غيره ،وخدمة للقراء في وض��ع االض��اف��ات التي ال تكون من النص األع��زاء ،نجد من المناسب أن نعرض بإيجاز لهذه ذاته ،وعندما يلجأ كاتب نص منقول إلى العالمات: التدخل فيضع عبارة أو تفسيرا ليس ( )1الفاصلة (( )،وتسمى أيضاً الفصلة من النص نفسه. والشولة) :تستخدم للفصل بين الجمل ( )8ع�ل�ام���ت���ا االق����ت����ب����اس «»: المتصلة المعنى ،وبين الجمل المعطوفة تستخدمان في النص المنقول عن مرجع على بعضها ،وبين التواريخ .وال تستخدم بين آخر بالنص الحرفي ،أو لتمييز األسماء والصفات الفعل والفاعل ،وال بين الصفة والموصوف ،وال أو المصطلحات ،أو وضع النصوص غير بين الجار والمجرور ،وال بين المضاف العربية داخل نص عربي. والمضاف إليه. ( )9ع�لام��ة ال��ح��ذف ( :)...ثالث ( )2الفاصلة المنقوطة (؛) :توضع بين نقاط متتالية أفقية ،تستخدم عند حذف جزء الجملتين ال��ل��ت��ي��ن ت��ك��ون ال��ث��ان��ي��ة منهما سبباً من نص منقول؛ ألن الكاتب ال يحتاج أو ال يرغب لحدوث األولى أو مسببة عنها .كما توضع بين في إيراده. أجزاء الجمل متساوية الدرجات .وفي إحاالت ال��ه��وام��ش ت��وض��ع ب��ي��ن ال��م��راج��ع ال��م��ت��ك��ررة في ( )10النقطة ( :).تستخدم عند نهايات الجملة المكتملة المعنى ونهايات الفقرات .وبعد األلقاب اإلحالة نفسها. المختصرة ،مثل( :د ).دكتور ،و(م ).مهندس. ( )3النقطتان الرأسيتان ( :):توضعان قبل القول المنقول ،أو قبل الشرح والتفسير لجملة )11( ،عالمة التعجب (!) :تستخدم في نهاية النص الذي يدل على التعجب ،أو للتعبير عن االنفعال أو مصطلح ما.
[]
86
اجلوبة -ربيع 1428هـ
النفسي للكاتب ،أو للتعبير عن الفرح أو ال��ح��زن .واألف��ض��ل ع��دم االكثار منها ف��ي ال��ن��ص .ويكتفى بالنقطة
تحتها بدالً عن نقطة نهاية الجملة. ()12
عالمة السؤال
(؟) :وتستخدم
عند االستفهام وفي نهاية السؤال
ال���ن���ق���ط���ت���ان األف���ق���ي���ت���ان :ع�ل�ام���ة ج����دي����دة من ع�لام��ات ال��ت��رق��ي��م ش���اع اس��ت��خ��دام��ه��ا ف��ي الشعر وال�����رواي�����ة وال���ن���ص���وص ال���ح���دي���ث���ة ،وه�����ذه دع���وة لفقهاء ال��ل��غ��ة ل��دراس��ة ه���ذه ال��ع�لام��ة ،وم���ن حق ال��ل��غ��ة أن ت��ت��ط��ور ك��م��ا ف��ع��ل��ت ع��ل��ى م���ر التاريخ
المكتمل المباشر ،وأحياناً تستخدم
( )14النقطتان األفقيتان
ل��ل��دالل��ة ع��ل��ى ال���ش���كّ ف���ي معلومة
أو نص أو نتيجة ،وتوضع في ه��ذه الحالة بين
قوسين (؟) ،لنقل شعور الكاتب في التشكيك في المعلومة إلى القارئ في مثل هذه الحاالت.
ويكتفى بالنقطة تحتها ب���دالً ع��ن نقطة نهاية
( :)..رأيت كثيراً من
كتاب القصة الحديثة والرواية والشعر الحديث يستخدمونها بين الجمل المترابطة المتصلة؛ للداللة على وقفات خفيفة أثناء القراءة .وهم بذلك يضعونها أحياناً بدل الفاصلة ،وأحيانا
الجملة.
أخ��رى ليس ب��دالً عنها .وي��ل��ج��أؤون لمثل هذه
وق����د ي��ج��م��ع ال���ك���ات���ب ب��ي��ن ع�لام��ت��ي التعجب
ال��ع�لام��ة الع��ط��اء ال���ق���ارئ ف��رص��ة االستمتاع
واالستفهام معاً (؟!) ،إذا ك��ان النص يحتمل
المعنيين معاً ،أي فيه استفهام وتعجب ،وتقدم
ع�لام��ة االستفهام على التعجب ف��ي مثل هذه الحالة.
( )13عالمة الهامش داخل النص
()1
(هكذا ):
وتكون في نهاية النص المنقول أو المراد شرحه في الهامش السفلي أو في نهاية النص ،ويكون ال عن نهاية الجملة المراد الهامش مرتفعاً قلي ً شرحها ليتنبه ال��ق��ارئ إليها .وي��وض��ع الشرح
في أسفل الصفحة في حالة الكتب .وفي هذه الحالة يكون الترقيم لكل صفحة لوحدها ،وفي نهاية ال��ن��ص ف��ي ال��م��ج�لات وال��ص��ح��ف ،يكون
ترقيم الهوامش – عادة -متسلسالً.
والتمعن بالنص أثناء القراءة .وال أرى في ذلك م��ا يعيب ،وه��ي ف��رص��ة لفقهاء اللغة العربية أن يتناولوا ه��ذه العالمة بالبحث والمناقشة، وأعتقد ان اللغة ليست جامدة وم��ن حقها أن تتطور ،كما فعلت على مر التاريخ اإلنساني. علماً ب��أن هاتين النقطتين ليس لهما أصل في عالمات الترقيم المعتمدة في االستخدام األدبي الحالي؛ ولكن ذلك ال يمنع استخدامهما إن ك��ان ثمة ما يستوجب إع��ادة النظر في أي من العالمات الموجودة ،أو استحداث عالمات جديدة ،أن نبدأ بهاتين النقطتين األفقيتين على السطر ،في ضوء استخدامهما من قبل كتّاب القصة والرواية والشعر في النصوص الحديثة.
< كاتب وإعالمي. ( )1يوضع نص الهامش هنا -يفصله خط متصل عن نص المتن -باستخدام الخط نفسة ،ولكن بحجم أصغر منه لتمميزه عن متن المقال.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 87
قراءة في «رسـالة» لشريفة العلوي
> زياد جيوسي
ن��ص إم��ت��از ب��روم��ان��س��ي��ة ف��ائ��ق��ة ،اع��ت��م��د السرد والمفاجأة ،ووضع صوراً جذابة تشد القارئ ،وتجعله ينتظر ال��ن��ه��اي��ة .ح��ال��ة م��ن االن��ت��ظ��ار ،وضعتنا فيها الشاعرة ،وهي تصور انتظار الرسالة؛ حتى إن ذاكرتها ترنحّ ت بين التوهم والسؤال ،ووصلت إلى مرحلة من الغياب ،بين غياب القمر وغياب نجم الشاعرة .هذه الصور ،صوّرت لحظات كأنها شهور أو أع��وام ،وفي لحظة صوّرتها بتفتيتها إل��ى أج���زاء ،مثل قصاصة مهترئة ،تعبث بها العواصف والرياح! تأتي الرسالة: من أجلها ظللت أرصد البريد ترنحت ذاكرتي توهمّ اً ..تساؤ ًال غاب الهالل ،أم غاب نجمي في الفضاء في زمن يمتد للشهور والسنين في لحظة مرت كأنها قرون تشتت أجزائي كالقصاصة المهترئة تعبث بها عواصف الرياح تنتقل الشاعرة ،مباشرة بعد وصول القارئ إلى تشوّق كبير ،إلى الرسالة المنتظرة؛ فهي رسالة ترتقبها الشاعرة، بشوق وشغف ،وجعلت القارئ ينتظر معها ،ربما بشوق أكبر .تبدأ الشاعرة بوصف الرسالة ،مستخدمة مجموعة كبيرة من لوحات تثير التشوق والجمال /تعلن القدر /بلسم حياة /هدية من السماء /زهرة قرنفل /مروج خضراء.. رسالة جاءت تبّلغ الخبر لتحسم األمر وتعلن القدر مدادها في ثغري بلسم الحياة كأنها هدية جاءت من السماء تزينت بلمسة الطيف المضيء كلماتها من زهرة القرنفل بل اكتست ستارة الربيع وفي مروج خضرة القلوب ك���ل ه���ذه األوص�����اف ن��ج��ده��ا ب��وت��ق��ة م���ن اإلب����داع والجمال ،تجمّعت وانتظمت؛ لتعطي النتظار القارئ دفعة جديدة من الشوق والتشوق ،والرغبة في الوصول إلى ما تحمله هذه الرسالة .فنجد الوصف هنا لما في
88
اجلوبة -ربيع 1428هـ
داخل هذه الرسالة من صياغة إبداع ،وجمال وبيان/ سحابة شموع /آللئ الندى /أس��رار /ترنيمة /شالل شجن /وغير ذل��ك ،م��ن وص��ف يشد أن��ف��اس القارئ ويكتمها للوصول إلى النهاية ومحتوى الرسالة. تنسقت ،إنتظمت وتدرجت صياغة اإلبداع في المعاني والدالل في عمقها سحابة الشموع تذرف الرذاذ من آلليء الندى تردد الصدى براعة الجمال سرد يبوح أسرار المقال وقع البيان ساحر ًا على مسامعي حروفها ترنيمة مختومة من ماء السماء تفوح عنبر ًا يثير غيرة األنوف يزيد رغبة العيون في نهم بال حدود ويستحيل أن يقابل السدود و وجبة تغري ،تدر لوعة العيون ينساب منها شالل يواصل الشجون وف��ي قمة اإلنتظار وال��ش��وق وكتم األن��ف��اس؛ تفاجئنا الشاعرة بأمر ،لم يكن في الحسبان ،ولم يكن متوقعاً أبداً، بعد تلك اللوحات المثيرة كلها ،ما بين إنتظار ورغبة.. في أوج لحظة الولع قررت دفنها في عمق أسفل التراب فتدفنها في أسفل ال��ت��راب!! نهاية غير متوقعة أب��داً وتثير ال��س��ؤال ،هل ق��ررت الشاعرة دف��ن هذا الحلم المنتظر واإلعالن عن موته؟! فالدفن ال يكون لرسالة أبداً ،بمقدار ما هو تعبير عن دفن حلم ورغبة بال عودة .فلو كانت مسألة رسالة ،لخبأتها في مكان ما ،بين أوراق أو كتب ،أو في خزانة ،أو ملف أوراق؛ لكن الشاعرة استطاعت أن تضعنا في جو من التوتر النفسي ،القائم على االنتظار ،والتشوق إلى النهاية؛ لتفاجئنا بنهاية غير متوقعة أب���داً ،تجعل القارئ يفاجأ ،ويعود إلى البدء ،في محاولة إكتشاف السر.
هذا النحو ال نحتاجه > عبدالبر علواني
<
«النحو في الكالم كالملح في الطعام» ،مقولة قديمة 4-أن عويص النحو ليست له فائدة عملية في الحياة، أدرك��ه��ا أص��ح��اب الفطرة السليمة ،أي��ام ك��ان اللحن في فأولى به أن يتفرغ له المتخصصون. الكالم فحشاً ،وي��وم ك��ان الخطأ جرماً ،حتى ج��اء اليوم يدلنا ذلك على أن النحو ،كان وما زال ،يمثل مشكلة الذي عجز فيه اللسان عن البيان ،وسيطرت فيه العجمة لدى المتعلمين ،حتى أصبحت مادة القواعد من أبغض على اللسان ،كل ذلك ونحن ندرّس أبنائنا النحو العربي المواد الدراسية لدى تالميذ المرحلة االبتدائية ،وليس نحو تسعة أعوام ،وما استقام لهم لسان (؟!). لها نصيب من حب بين تالميذ المرحلة الثانوية ،حتى إن
والمتتبع لمخرجات التعليم في بالدنا العربية ،ال ينكر المربين اإلنجليز تنبهوا إلى ذلك ،وانتهوا من دراساتهم ما آل إليه حال التعليم؛ فالطالب عاجزون عن مهارات إلى وصف قواعد النحو بأنها: اللغة على مستوى المكتوب والمنطوق .ولم نفكر في علة 1ال تحقق نجاحاً في تدريب عقول التالميذ تدريباًهذا التدني ،حتى وقع تحت يديَّ نص للجاحظ «رسالة عاماً. إلى المعلمين» ،جاء فيه« :أما النحو فال نُشغل قلب الصبي 2ال تساعد التالميذ في القدرة على التعبير.منه إال بقدر ما يؤديه إلى السالمة من فاحش اللحن ،ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه ،وفي شعر إن أنشده 3- ،تستغرق وق��ت��اً ،ك��ان من الخير أن يخصص لدراسة األدب؛ فتكون الفائدة أعم. وشيء إن وصفه ،وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو ولهذا ألغوا تدريس النحو في ال��م��دارس االبتدائية أولى به من رواية المثل الشاهد ،والخير الصادق ،والتعبير البارع ،وإنما يرغب في بلوغ غايته ،ومجاوزة القصد فيه ،اإلنجليزية منذ عهد بعيد ،أما في المدارس الثانوية فقد ومن ال يحتاج إلى تعرّف جسيمات األم��ور ،ومن ليس له اقتصروا على تدريس ما يسمى بالنحو الوظيفي ،ويقصد حظ غيره ،وال معاش سواه .وعويص النحو ال يجدي في به القواعد التي تحقق وظيفة من حيث دقة الفهم عند المعامالت ،وال يضطر إليه في شيء»! االستقبال ،وسالمة التعبير عند اإلرسال؛ وكأني بالمربين وبتحليل هذا النص ،يتبين أن منهج الجاحظ يقضي اإلنجليز قد قرأوا الجاحظ في مقولته التي أشرنا إليها آنفا. باآلتي: 1أال يدرّس الصبي من النحو إال ما له وظيفة في سالمةإذا كان هذا هو الحال في التراثين العربي والغربي التعبير والقراءة والفهم. منذ القدم ،فما لنا ال نفكر في آلية نزيل بها هذه الغربة 2أن يقتصر فيما ي��درس منه على الحد األدن���ى من بين الطالب العربي ولغته؟ فالنحو الذي ندرسه نحوان:نحو ندرسه وال نحتاجه ،ونحو ال ندرسه ونحتاجه. األساسيات ،التي تؤدي هذه الوظائف. وقد يعترض علينا بعض الناس ممن يهمهم أمر هذه 3إن دراس��ة األدب أول��ى أن ينفق فيها ما يدخره منوق��ت ،ك��ان ينفق من قبل في دراس��ة حواشي النحو اللغة ،ويتهمنا أننا نحول بدعوتنا هذه بين اللغة وأهلها، فمعاذ ال��ل��ه أن ن��ك��ون ك��ذل��ك؛ لكننا فقط م��ن معايشتنا وتفريعاته.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 89
لطالب المدارس والجامعات نرى أن النحو الذي نقدمه لطالبنا في قاعات الدرس ال يقيّم لساناً .فالمرء يكون قد أتقن لغة ما إذا كان يتكلم ويقرأ ويكتب بهذه اللغة، جارياً على قواعدها ،مراعياً قوانينها ،ال يلحن فيها أو يخطىء .وإن المدرسة تكون قد نجحت في تعليم اللغة إذا كان الذين تخرجوا فيها جميعهم أو أكثرهم على هذه الصفة ،فهل من تخرجوا في مدارسنا كذلك؟ فالطالب يتخرج في المدرسة أو الجامعة ولسانه ال يكاد يصوغ وق���د علمتني ال��ت��ج��رب��ة أي���ض���اً ،أن م��ا ي��ؤخ��ذ من جملة صحيحة! أو يُعرب كالماً ،وال يستطيع أن يعبر عن المطالعة في العام ال��دراس��ي أم��ام ال��م��درس ال يغني خلجات نفسه بأسلوب صحيح ولسان مستقيم! فإذا لم التالميذ شيئاً ،فمن الواجب أن يكلفوا بكتب يطالعونها أثناء العام الدراسي ،ثم يكتبون آراءهم فيها ويلخصون يكن هذا إخفاقاً ،فماذا يكون؟ يا معشر السادة ،إن النحو ليس هو اللغة ذاتها ،ولكنه محتوياتها ،ويكون لهذا شأن في التقويم. ما يؤخذ من المحفوظات في المدارس ال يغني التالميذ شيئاً؛ فمن الواجب أن يكلف التالميذ بأن يعكفوا على بعض دواوين الشعر فيقرؤوها ويختاروا منها ،ويجمعوا ما يختارون في كراسة ويحفظوه ويفهموا معناه ،وتكون هذه الكراسة بيد التلميذ عند االمتحان شاهدة على جده واجتهاده ،ثم يمتحن فيها من أولها ووسطها ومن آخرها ليعلم هل حفظ ما اختار بنفسه؟
القواعد التي تسير عليها هذه اللغة؛ هو حديث عن اللغة وليس اللغة ذاتها ،وال توجد عالقة بين إتقان قواعد اللغة والدراية بقوانينها ،وبين القدرة على استخدام هذه اللغة أداة للتواصل والتفاهم .وتاريخ التراث العربي يشهد أن الكثيرين ممن كانوا في قمة الفصاحة لم تكن لهم دراية بالنحو ومسائله.
وأخيراً ،إذا أردنا أن تزول الغربة القائمة اآلن بين الطالب واللغة العربية ،فال بد أن يتضمن المنهج وسيلة فاعلة ،ليتمكن التلميذ من ق��راءة ما ال يقل عن كتاب واحد في األسبوع ،دون إعنات عليه بالتفاصيل واألسئلة المتقعرة؛ وذل��ك ألن الطالب العربي يسمع كثيراً عن األدب��اء المشهورين ويراهم في التلفاز ،ولكنه ال يجد ال أو استصعاباً ،للتعرف على إبداعهم سبيالً ،إما كس ً بنفسه ،وإتاحة الفرصة له ،لسد هذا النقص ،من خالل منهج منظم في المدارس والمرحلة الجامعية ،يقرّبه من لغته ومن حضارته ،ويرقى بإحساسه باألدب وباللغة.
لقد أثبت التركيز على النحو فشله في تحقيق المهمة المزعومة له ،وهي رفع كفاءة المتعلم في اللغة ذاتها .إن ما نقدمه للناشئة يمثل دوراً مخجالً ،فنحن كمن يطرق الحديد وهو بارد ،فيشقى ثم يشقى ،والحديد ال ينطرق معه وال يلين؛ فيهزأ منه مَن يراه ،ويضحك ملء شدقيه ،المراجع: ويرى كيف يُشقي الجهل بطبائع األشياء صاحبه ،ثم ال 1-ع��م��رو ب��ن بحر ب��ن عثمان ال��ج��اح��ظ ،رس��ال��ة إلى المعلمين. يحظى بطائل وال كبير فائدة. م��ا قدمته ف��ي ه��ذا ال��س��ط��ور ،دع���وة إل��ى التفكير 2-محمد عرفة ،مشكلة اللغة العربية ،القاهرة .1936
والمناقشة ،ح��ول إمكانية غربلة المناهج والمباحث 3-د .السعيد محمد ب��دوي ،تعليم اللغة العربية في المستوى الجامعي. النحوية المُقدَّ مة لطالب ال��م��دارس ،لنرى م��اذا نضع وماذا ندع؟ ونوازن بين من هو وظيفي وغير وظيفي .وال 4-د .محمد محمود رض���وان ،معايير اختيار منهج أجد في النهاية إال أن أعلن براءتي من كل ما يقدم في النحو في التعليم قبل الجامعي ،مؤتمر تعليم اللغة العربية ،اإلمارات العربية المتحدة1992 ،م. المدرسة من نصوص وقراءات ،فقد علمتني التجربة أن < معلم في مدارس الرحمانية – الجوف.
90
اجلوبة -ربيع 1428هـ
تأمــالت.. خمسون عاما على رحيل الشاعرة التشيلية غابرييال مسترال: أنا يقظى وقلبي نائم
> عبدالرحيم اخلصار
<
الذين يعشقون األدب ،ويستلذون بالحياة في األرياف مثلي ،يعرفون بالضرورة ما معنى أن تستلقي في ظهيرة غشت تحت شجرة التين ،على مقربة من كأس شاي كثيف الرغوة ،وفي يدك مجموعة من قصائد غابرييال مسترال .تكمن اللذة األولى في كون هذه الشاعرة التشيلية كتبت أروع القصائد ،وغ��ادرت هذا العالم قبل أن تصل إلينا مفاهيم الحداثة وتكمن اللذة الثانية في كونها كانت معلمة في األرياف، اعتذرت عن حضور حفل تتويجها في سانتياغو عام 1914؛ ألنها لم تكن تملك سوى بدلة واحدة ال تليق بالحفالت العامة. سنحس حتماً باللذة الثالثة ،حين نعلم أن الذي ترجم لها هذه القصائد الخمس واألربعين هو شاعر كبير من عيار حسب الشيخ جعفر ،العراقي الذي أقرأ قصائده كما لو أن أنني أقرأ لمحفوظ مصيص الشاعر التشيلي األعظم؛ حيث ماهو إنساني يعلو فوق كل شيء ،وحيث الصنعة تصير مجرد زبد يسبق الموج.يسوق المترجم في مقدمته القصيرة قصة الحب اليتيمة التي عاشتها الشاعرة في بداية شبابها ،والتي اكملتها وحيدة بقية العمر ،فالرجل الذي أحبته غابرييال قطع ليلة الحب بكابوس االنتحار ،فكتبت من أجله مجموعتها الشعرية «قصائد حب في ذكرى الميت» ،بينما ستنفذ رائحته بالضرورة إلى عدد من قصائدها الالحقة. ويكفي أن نصغي إلى رنين الحب والخوف والرهافة والضعف والتوسل والحزن والحرمان في نصها المؤثر «شجن»: أنت أبصرت بي وقد انطرحت على حافة الطريق غير متحسرة على شيء أنت سمعت ينبوعي وقد جرت سيوله أجراس ًا ذات رنين وتعرف أنت أن خوفي أمام الرؤيا المرعبة لم يكن نزوة جامحة و تعرف أنت كيف ارتعبت وظللت متطلعة إلى معجزة ال توصف و اآلن مازلت ،يتيمة ،أتلمس أي شيء حيث بيتك ،وحيث طريقك فال تحجب وجهك عني ،ال تحرمني نعمة الضوء ال تصمت بحق اإلله أن تقفل بابك ،فلن أنسى أبدا تعبي ومرارتي، فالعالم في شتاء ،والليل يتطلع إليَّ من كل جهة
اجلوبة -ربيع 1428هـ 91
بعيون مجنونة في قصيدتها «االنتظار عبثاً ،ترسم ص��ورة تلك أنظر :من العيون كلها ،العيون التي رنت معي المرأة التي تنسى أن محبوبها قد مات فتخرج للقائه، إلى الدروب والطرقات تجتاز ال���وادي وتقف في المكان ال��ذي تعودت على لم يبق معي غير عينيك لكن – وا حسرتاه – قد مالقاته فيه وتناديه لكن صوت الصدى يعيدها إلى ال أنه قد مات ،تركض في حالة الوعي ،وحين تعي فع ً أغلقتهما الثلوج. الحب عند غابرييال مسترال – كما عند أمثالها كل الطرق المقفرة على أمل أن تلقاه: ومثيالتها – هو الحياة ،وهو السالح الذي يجدر بنا أن ناسية أن قدميك الخفيفتين نحمله في وجه كل غيم يريد أن يكدر علينا صفوها، قد تحولتا إلى غبار ألم يقل محفوظ مصيص« :فلينظروا إليَّ عاريا خرجت كما في األيام الرائعة سالحي الوحيد القبلة ألستقبلك في الطريق و في يدي بالكاد متسع لميتة شاعر» تتساقط بذور الخشخاش ق��ص��ة ال��ح��ب ع��ن��د غ��اب��ري��ي�لا م��س��ت��رال ت��ب��دو لي محترقة بالقيظ تفاصيلها الطويلة ،في مقطع شعري موجز ألدريان و فوق الحقول أهداب ضباب ميتشل» الحب هو تلك النافذة المفتوحة ،ذلك النسيم و أنا وحيدة ..وحيدة كل يوم. الذي نتنفسه في غرفة النوم عبر النافذة ،الحب هو هذه الشاعرة التي بدأت حياتها طفلة يتيمة تعمل شجرة دموع شاهقة» من أجل طعامها ،ثم معلمة في قرية نائية ستشغل فيما إن إغ�ل�اق ه��ذه ال��ن��اف��ذة ،معناه ال��ك��ف ع��ن تنسم بعد منصب قنصل للتشيلي في اسبانيا والبرتغال، الهواء ،معناه بصورة أوضح الموت. وس��ت��ق��وم ب��ت��دري��س األدب االس��ب��ان��ي ف��ي الجامعات إذا ك��ان صعباً على ام��رأة أن تتخلص من صورة األمريكية ،وستحصل على جائزة نوبل عام 1945م؛من حبيبها المنتحر ،فكيف سيكون ذلك بالنسبة لشاعرة أج��ل شعرها الغنائي ال��ذي ألهمته العواطف القوية يبدو قلبها في القصائد أهش من جناح فراشة: فجعل اسمها رمزاً للطموحات المثالية للعالم الالتيني حين التقيت به في درب ريفي األمريكي بأكمله» ،وف��ق ما أورده تقرير األكاديمية لم تكن المياه قد افترقت عن أحالمها بعد السويدية .إن قراءة أعمال غابرييال مسترال تقود إلى لم تكن الورود قد تفتحت في يد ما خالصة مفادها أن الشعر العظيم يتولد بالضرورة غير أن اللهب قد أيقظ روحي مما هو إنساني ،من تلك االصطدامات الناجمة عن و هاهو وجه امرأة مسكينة يتغطى بالدموع .ستعيش غابرييال طوال حياتهاعلى احتكاك الجسد البشري باألعمدة والحواجز النابتة ذك��رى الرجل ال��راح��ل ال��ذي أحبته في أول شبابها ،ف��ي رواق الحياة ،م��ن ابتسامة طفل رض��ي��ع ،أو من والذي أغلقت بعده غرفة الحب دونها ،وجلست فيها بكاء كهل على زوجته الراحلة ،من رقصة باليه ،أو من وحيدة مصرة على أال تفتح ب��اب القلب لرجل آخر لحظة قاتمة في جنازة ،من إحساس باكتمال الوجود، أو إحساس جارف بالتيه والضياع. مهما احتدت الطرقات« :أنا يقظى وقلبي نائم» < شاعر من المغرب.
92
اجلوبة -ربيع 1428هـ
في أعمالهن اجلديدة
كاتبات مغربيات يغادرن
«األنثى» للدخول إلى «النص» > عبدالعزيز الراشدي
<
أطلقت ثالث كاتبات مغربيات مجاميعاً قصصية خالل الفترة األخيرة ،إذ صدر لمليكة نجيب مجموعة جديدة سمتها «السماوي» ،عن منشورات القلم المغربي؛ وأطلقت فاطمة بوزيان مجموعة جديدة سمتها «هذه ليلتي» ،عن مجموعة البحث في القصة القصيرة؛ بينما فضلت منى وفيق أن تصدر مجموعتها األولى «شمع ،نعناع ،وموت» ،عن دار شرقيات بمصر. ما يميز المجموعات الثالث ،على المستوى العام ،هو أن هؤالء النسوة ،غادرن األنثى إلى حد بعيد ودخلن في النص؛ إذ اختارت مليكة موضوعات تتصل بالخرافة واالجتماعي والرقمي؛ بينما اختارت فاطمة بوزيان التكنولوجيا واألمومة والطفولة ،أما منى وفيق فرصدت من خالل عنوانها المركّب شمع نعناع وموت عناصراً مركّبة في الحياة ،تراوح بين قسوة الفقد ورؤية اآلخر للذات. فاطمة بوزيان ،ومنى وفيق ،قاصتان شابتان ،وعلى الرغم من الفارق الزمني بينهما، إذ تسبق فاطمة بانتمائها إل��ى جيل التسعينات ،ال��ذي يهتم بشعرية اللغة والتفاصيل الصغيرة وينغمس في التجريب بمستويات عدة قد تصل إلى حدود قصوى كما لدى بعض القصاصين ،وقد تظل في الحدود المعقولة ،التي تحافظ على هوية النص دون تخريب كما لدى بعضهم اآلخر. وقد احتفت مجموعة بوزيان األولى باللغة واشتغلت عليها ال بها فقط ،واتخدت موضوعاً
اجلوبة -ربيع 1428هـ 93
لها قضايا األنثى لتحكي همومها وانكساراتها مع الحب والزواج والعالقة ،كما مارست تجريباً محتشما ل��م ي��خ��رج ب��ال��ن��ص ع��ن ال��ح��دود ال��م��رس��وم��ة للقصة
األساسية التي هي تلك المسافة البرزخ. وتوزعت موضوعات مجموعة منى بين شمع المرأة
التي يطمح اآلخرون إلى إيقاده ليذوب بينما تحترق،
الكالسيكية؛ لكنها انزاحت في مجموعتها الثانية نحو ونعناع الحياة التي تتلون بين الصداقة والحب والغيرة، قضايا «أكثر نضجاً» ،إذ أصبحت مهمومة بالتطرق والموت القاسي الذي اتخذ أشكاالً عدة ،بعضها مادي
إلى االشكاالت التي تطرحها التكنولوجيا ،والتخبط وآخر معنوي ورمزي. الذي تلقي فيه الكائن ،حيث «الصور تمر من المحمول ويعتري شخوص قصصها قلق وتردد وتمرد كذلك، إلى المحمول» ،كما المست في نصوص أخرى هموم تعكسه الحياة التي تعيشها تلك الشخوص المصابة األم المسكونة بالحفاظ على ابنتها من العالم والناس، ب��ال��واق��ع ال��م��ري��ض م��ن ج��ه��ة ،لكن أي��ض��ا الطموحة. «لم أعد أهتم به وال بي ،بها فقط أهتم ،هي قطبي، النعناع يرمز إلى الحياة وخضرة الشباب الذي تعيشه هاجسي» ،و«م��اذا بوسعي أن أفعل؟ الهاتف الصغير أغلب شخوص المجموعة ،حيث األن��وث��ة الطازجة يظل لصق كفها ،وحين تنام يحرس الكود خفاياه، واالنطالق ،بينما الموت يعشش قريباً من الوجود ،أما علبها االلكترونية أيضا محروسة بكلمة السر». لطف واحتراق.. ٌ الشمع فبرزخ بينهما، لقد تحولت الساردة التي كانت تشكو من تلصص ذلك البرزخ الذي يتشكل من خالل إحساس أغلب اآلخرين على عالقتها بحبيبها في المجموعة األولى ،شخوصها ،حيث تتجاوز األمكنة ذاتها لتسقط على إلى متلصصة على أسرار ابنتها في المجموعة الثانية. كما تلمح فاطمة في غير نص إلى البيئة التي تنتمي
الحياة بشكل ع��ام ..وتؤكد ال��س��اردة على أن «أغلب الناس رماديين» ،وأن��ه قد «تعدّدت أسباب البكاء..
إليها (شمالي المغرب) ،حيث تتجاور الثقافة المغربية وما عدت ق��ادرة على أن أبكي ..اختفت ك ّل أسباب مع االسبانية ،مع اختالفهما وتالحمهما العسير. الـدّهشـة وأجدني ال زلت أندهش ،وعياً مني بجهلي في نصوص فاطمة بوزيان الجديدة كذلك ابتعاد
عن البوح العاطفي ،وما يستتبعه من لغة شعرية ،إذ
الدّائم ،ربّما».
وهذا ما تقوله كذلك إحدى شخوصها« :ال يحتاج
تبدو النصوص مهمومة أكثر بالتفلسف وتأمل الواقع،
المرء لكثير إدراك ليعرف أنّ هكذا فراشات دائما
أما منى وفيق ،فهي واحدة ممن يمكن أن نسميهن
أح��ي��ان��ا يخالجنا أن ش��خ��وص م��ن��ى ه��ي الكاتبة
مع لغة عارية ومشدبة كالنار.
قاصات األلفية الجديدة .وهي صحفية شابة استطاعت
تحترق»..
ذات��ه��ا ،ون��زي��د ف��ي ه��ذا االع��ت��ق��اد حين تضع اسمها
رغم حداثة سنها أن ترسم لنفسها مساراً واضحاً في الشخصي «م��ن��ى» ف��ي أغلب النصوص ،وتستحضر خريطة السرد المغربي ،كما أن لها حضوراً واضحاً األدب كممارسة ،حتى إنها كتبت قصة واقعية فعالً،
في المواقع االلكترونية والمنتديات ،وتراسل صحفاً بشخوصها وعالماتها ونزقها وخيبتها أيضاً :سمتها عدة .تكتب منى بلغة لزجة لعوب ،تخلق تلك المسافة «مطر على ورق» .لكن ذلك ال يعفي أبداً من اعتبار بين البساطة واالستشكال؛ وبذلك تحقق قاعدة النثر المسافة بين واق��ع الكتابة والواقع الموضوعي ،ألم
94
اجلوبة -ربيع 1428هـ
يقل ماريو فارغاس يوصا باستحالة مطابقة الواقع المادي مع واقع الكتابة، ألن األول أغنى أما الثاني فمحنط؟
كتبن نصوصهن بمزاج الكاتبة الضاجة بهمّ ها وهمّ اآلخر ،ما يؤشر على أن الكاتبة في المغرب كفت عن أن تضع كل ما بجعبتها في سلة األنوثة
وف��ي حضرة الموت ،تكون الجمل المتسائلة التي تطلقها الكاتبة بسيطة وتشي بالسذاجة ،لكنها على عكس ذلك ،تحفل بالكثير مجموعتها« :اعترافات رجل وق��ح» ،ولطيفة لبصير من عناصر تأمل الحياة والوجود. في مجموعتها« :ضفائر» ،أن يكتبن عن األنثى دون
تكتب مليكة نجيب نصوصها بحرفية ،وتالمس ه��وادة ،وعن الجسد والطبيعة والعالقة؛ بينما تنحو العديد من المجاالت الحساسة في المجتمع المغربي ،المجموعات الثالث – موضوع ه��ذه المقالة -إلى وق��د راه��ن��ت ف��ي ه��ذه المجموعة على ال��دخ��ول في االل��ح��اح على ال��خ��روج م��ن ال��ص��ورة النمطية لكتابة مناطق متوترة ،بدءاً من عنوان المجموعة» السماوي» ،المرأة التي تحصرها في لونين ال ثالث لهما :اإلغراء الذي يحيل في الثقافة المغربية إلى مرجعية روحية أو الصراخ ضد التمييز ال��ذي يطالها .وقد تطرقن خ��اص��ة ،إل���ى ن��ص��وص أخ���رى ول��غ��ة تمتح م��ن عالم إلى اإلنساني األكثر عمقاً ألن شخوص مجموعاتهن، الشعوذة والخرافة ،والحكي الشعبي المتواتر ،الذي على األرجح ،ال يحتجن إلى بكاء على وضعيتهن ،ما يغري بالقراءة والرصد. دامت المرأة قد قطعت األشواط الضرورية وهن لسن
وشخوص مليكة نساء في األغلب ،لكن قضاياهن في حاجة إل��ى إغ��راء الرجل لتضمن كتابتهن صك عامة ،ومعاناتهن إنسانية مشتركة؛ كما هو األمر في المرور ،وما دام اإلغ��راء ال��ذي يفيض به في الواقع فوبيا األعالي في القصة األول��ى ،وهي فوبيا تصيب أكثر .وبذلك ،تكتب هذه النساء نصوصاً مجردة من الرجال والنساء على السواء؛ وكما هو األمر في عالم أي مضايقات أو خلفيات أو أذرع أمنية ،على حد النت ال��ذي يخلق المفاجآت ل��دى الجميع؛ وأحيانا تعبير أحمد بوزفور. يكون ال��س��ارد البطل رج�لاً ،وحين تحضر ال��م��رأة ال م��ا يميّز نصوصهن ك��ذل��ك ،ويعطيها ال��ق��وة هو تحضر كأنثى مترعة بالخصوبة والغنج ،بل ككائن اتجاههن نحو أقاليم لم تتورع األنثى الكاتبة الجديدة يواجه الحياة بأفراحها وأحزانها؛ إنها أرملة مث ً ال عن دخولها ،لكنهن مع ذلك لم ينسقن نحو إدعاء ،أو تتفلسف أو عانس تضج باألنا .وتراوح لغة مجموعتها يبحثن عن احتماء بالبوح؛ ليخلقن صور الكاتبة .لنقل الجديدة بين الدارج والفصيح ،عنواناً للتجديد ،كما أن كل واحدة منهن تكتب نصوصها بمزاج الكاتب(ة) إن هناك تجديداً على مستوى جسد النص ،حيث الضاجة بهمّها وه�� ّم اآلخ��ر ،ما يؤشر على أن كتابة تتقطع أوصاله ،وتدخل السرد مقاطع شعرية تؤثته المرأة في المغرب كفت عن أن تضع كل بيضها في وتكسر رتابة الخطية. سلة واحدة هي سلة األنوثة ،وستهجس في القادم من تفضل القاصات المغربيات كوفاء مليح مث ً ال في األيام بموضوعات وقضايا أخرى. < ناقد من المغرب.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 95
اإلشعاع الذري ودراسة غاز الرادون مبساكن منطقة اجلوف
المؤلف :أ .د .محمد بن إبراهيم الجارالله. أستاذ الفيزياء بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن -الظهران.الناشر :مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية.
أص���ب���ح اإلش���ع���اع ال������ذري أح����د األم����ور المهمة التي ال غنى للمجتمعات المعاصرة عنها ،الستخدامها ف��ي مختلف مناشط الحياة التكنولوجية والطبية والصناعية وغيرها الكثير؛ بل ت��زاي��دت الحاجة إليه مع نمو المجتمعات المعاصرة وتطورها، نتيجة التطبيقات المهمة التي يستخدم ف��ي��ه��ا اإلش���ع���اع ال������ذري؛ ف���أخ���ذت أجهزة اإلشعاع الذري تحتل مكاناً بارزاً في معظم لذا ،يأتي هذا الكتاب ،للتعريف باإلشعاع المستشفيات والجامعات وم��راك��ز البحث ال���ذري واس��ت��خ��دم��ات��ه ،وه��و مهم لكل قارىء العلمي على تنوعها. ومهتم بزيادة معرفته عن اإلشعاع الذري وغاز وعلى ال��رغ��م م��ن ف��وائ��ده ال��ع��دي��دة ،فإن الرادون. لإلشعاع الذري مضار واضحة على الصحة وم��ن الجدير بالذكر أن الكتاب الصادر والبيئة والسالالت البشرية .وألن اإلستغناء ع��ن استخدمامه أص��ب��ح مستحيالً ،فقد بداية ه��ذا العام 1428ه���ـ 2007م ،هو ثمرة أصبح من الضروري دراسة وسائل الحماية دراس���ة علمية ميدانية أج��راه��ا الباحث في منه وتطوير تقنياتها ،وزيادة فاعلية التثقيف منطقة الجوف ،بتمويل ودع��م مشكورين من ال عن م��ؤس��س��ة ع��ب��دال��رح��م��ن ال��س��دي��ري الخيرية، حول سبل الوقاية من اإلشعاع ،فض ً السيطرة على آث���اره وتحجيمها إل��ى أقل ضمن برنامج دعم األبحاث الذي تشرف عليه هيئة النشر بالمؤسسة. قدر ممكن. يتعرّض اإلنسان إل��ى إشعاع بيئته التي ي��ع��ي��ش ف��ي��ه��ا ،وي���أت���ي اإلش���ع���اع الطبيعي األس��اس��ي م��ن ث�لاث��ة م��ص��ادر رئيسة هي: اإلش���ع���اع ال��ك��ون��ي ،وال��م��ص��ادر األرضية، وال��م��واد اإلشعاعية داخ���ل الجسم .وأهم مصدر لإلشعاع الطبيعي هو غاز الرادون، الذي يتولّد من التحلل اإلشعاعي الطبيعي لليورانيوم.
ق���������راءات 96
اجلوبة -ربيع 1428هـ
األوسمة العثمانية واحلاصلني عليها من اجلزيرة العربية
في وثائق األرشيف العثماني المؤلـف :د .سهيل صابان الناشـ ــر :مركز حمد الجاسر الثقافي 1427هـ. > عرض :د .علي محمد هنداوي المرصع ،ثم َّ األوسمة على أربع درجات ،إضافة إلى الوسام كانت الميداليات الذهبية ،ثم الوسام المجيدي ،والوسام العثماني ،ووسام آل عثمان في عهد السلطان عبدالحميد، وق���د تميز ال��ع��ه��د ال���ذي ت�ل�اه بمنح ال��م��زي��د م��ن األوسمة للشخصيات العربية.
ترجع أهمية هذا الكتاب –بدايةً -إلى شح المعلومات الوثائقية المنشورة عن عالقة الدولة العثمانية بالجزيرة العربية ،كما يشير د .أحمد الضبيب في تقديمه للكتاب؛ ويسلط المؤلف ض��وءًا -يحتاج إليه الباحثون في تاريخ الجزيرة العربية -على شخصيات منها برَّزت في عصرها، وأدت للدولة ومواطنيها ،في هذا الجزء ذي الخصوصية من ث��م يعرض الكتاب ص���وراً لوثائق تتعلق بمنح أوسمة، ال لهذا األوسمة. أرض الخالفة خدمات جعلتها أه ً منها م��ذك��رة ن��ظ��ارة ال��داخ��ل��ي��ة ب��إع��داد ثالثين قطعة من ويؤكد المؤلف أن معرفة الحاصلين على هذه األوسمة الوسام المجيديّ من الدرجات الثالثة والرابعة والخامسة، وم��ا يحيط بأمر منحهم إياها ،تساعد في كشف النقاب لمنحها ل��ش��ي��وخ ال��ع��رب��ان .وأش����ار ال��م��ؤل��ف إل���ى أن تآلف عن جوانب غير معروفة من سياسة الدولة العثمانية في بعض الشخصيات هو من أسباب منح الوسام ،وقد تبين المنطقة ،والعالقات الثنائية بين الدولة وهؤالء الحاصلين األثر الكبير الذي تركته األوسمة في استمالة شخصيات على األوسمة؛ من خالل تبيّن أسباب المنح ،والعمل الذي المنطقة .وم��ن أه��م م��ن حصلوا على تلك األوس��م��ة من كان يزاوله صاحب الوسام ،وهو أمر يستبعد المؤلف إمكان الجزيرة العربية: حصره في هذا العمل؛ إذ قد تكون هناك شخصيات أخرى -حمود :شيخ مشايخ السبوت من بني عطية. لم يطلع على الوثائق الخاصة بها في ذلك األرشيف. مطر بن هرماس :شيخ مشايخ العقيالت ،من بني عطية.وقد بدأ المؤلف كتابه بإشارة تجمع بين اللغة والتاريخ، ووضح أ ّن الوسام الذي عُرِ ف فذكر المعنى اللغوي للوسامَّ ، في أورب��ا جرى تحديثه في عهد السلطان محمود الثاني، وك���ان العثمانيون قبل ذل��ك يستخدمون ذؤاب���ات م��ن وبر الخيل ،تعلق على العمائم بحسب درجات أصحابها ،وكانت
بنية :من شيوخ عشيرة عبدة. رايس :من شيوخ الحويطات. مفلح :من شيوخ عشيرة الفقير (من عنزة). محمد الحسن :من شيوخ عشيرة الفقير (من عنزة). -جويعد :من شيوخ الحويطات.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 97
> مليحة الشهاب
ألم يبدع
فوانيسه؟
ديوان
الشاعر
محمد احلرز:
«أخف
من الريش أعمق من األلم»
<
نستطيع أن نراهن على وعي محمد الحرز بقصيدة النثر ،ونراهن على رؤيته األكثر وضوحا كشاعر .الحرز يعمل على استكشاف الطاقات اإلبداعية لقصيدة النثر ،كمقترح ال للعصر ،وهو يدفع بها إلى أقصاها ،بما شعري أكثر موائمة وانسجاماً وتعبيراً وتمثي ً يتيح للقصيدة إظهار إمكانياتها الهائلة ،في التعبير واإليحاء والتمثيل. جاء ديوانه «أخف من الريش أعمق من األلم» ،في قسمين منفصلين تماماً وبمسميين مختلفين :القسم األول موسوم ب ـ «ألم بحجم دب��وس» ،وهو نصوص نثرية مكتوبة بلغة شعرية متقنة .وحينما سئل عنها الشاعر أجاب :إنها هنات تعبّر عن ثغرات الكائن ،وهي جزء حقيقي من عالقته بالحياة ،ال يجوز إخفاؤها ..ولقد جانب الصواب حينما أسماها «هنات»؛ فهو في نثريته يذهب عميقاً ح ّد الغياب ،ببوح يتشظى أسئلة وإض��اءات ،نتاج تأمالت في العمق ،تتالحق كفيض الحكمة»..لقد كتبتنا األيام كتجربة ولم نكتبها كإيقاع، وأعطتنا الحياة طرف الخيط لكننا لم نحسن االستماع ،أليس وهماً أن أظن بعد ذلك أننا نكتب شعراً ؟!». القسم الثاني بمسمى «لن أرفع حياتي كفانوس» ،مجموعة نصوص تنتمي إلى قصيدة النثر برهانها على اإليقاع ،في اللحظة التي تتمرد على الشكل المتوارث للقصيدة .وهو في قسمه الثاني كأنه يؤكد أن القصيدة هي الوصف األعلى للشعر بوصفه شعوراً مرهفاً يدخل في األلوان األدبية كلها. وهو ال يتكئ على الشكل الحداثي للقصيدة ،بل يتجاوز إلى تقديم مضامين جديدة، وكأنه بتجاوزه األطر الشكلية للقصيدة العربية يكتشف أطراً تعبّر عن حاالت مختلفة، تصب في محاولة التيار الحداثي لترسيخ رؤية مغايرة لألشياء ،أو الذهاب إلى العميق منها واستجالئه.. التجربة الحقيقية تستوقف حتى العابرين ،والحرز يقدم مقترحه على المشهد الثقافي بقصيدة لها حضور ،ال تؤطره بيئة أو مكان ،ليعبر بها عن الذات اإلنسانية بحموالتها وهواجسها وخيباتها وآمالها؛ على نحو ال تجد لها أفقاً خارج قصيدة النثر ،وكأنها خيار وج��ودي ،وذل��ك دون اإلنشغال الفلسفي أو التحليق في أفق صوفي ،بل تناوال لليومي والحياتي ،بعين لها رؤيتها الخاصة التي صنعتها مشارب ثقافية متعددة ،دون أن تلغي شاعريتها؛ وهو يتوغل في هذا المسار وكأنه يراهن على ما سيكتشفه أو سيقدمه. ما الغواية عند الحرز؟ ربما هي الفلسفة؛ فلسفة ليست بالمعنى الميتافيزيقي ،أو االتكاء على الرموز األسطورية وإعادة إنتاجها ..بل الخروج من الذاتية الرومنطيقية إلى الذات اإلنسانية ،بأزماتها النفسية والروحية وآالم اإلنسان وحيرته وعذاباته وغربته. هنا الذات وال شيء سواها ،القصيدة مرآة الذات ،بكثافة إيحاءات تعيد ترتيب األشياء بنرجسية شغوفة بالتجريد بجمالية الدهشة لحظة االكتشاف ،دونما الولوج في فلسفة تثقل المتلقي والقصيدة في آن واحد.
98
اجلوبة -ربيع 1428هـ
وال يعيب القصيدة أنها ترسم مالمح ،ال يتلمس القارئ مالمحه فيها ،بقدر ما تخرجه من ذاتيته إلى تباين آخر، وك��أن القصيدة لم تعد معنية بالتعبير الجمعي ،بقدر ما تهتم بالتعبير عن الفرد وذاته بفرادتها واختالفاتها عن اآلخرين ،ألنها ليست مهتمة بتجميع أكبر عدد من الجماهير من حولها؛ فليس التصفيق ما يغريها ،بل متعة إضاءة لون كان في العتمة .ربما هذا ما يجعل لقصائد الحرز تمايزاً وإن كانت تخلو من الجاذبية المستهلكة، لتبدع لها جاذبيتها الخاصة ،التي تبقيك ممسكاً بالديوان إلى آخر دفقة فيه ،بمتعة مغايرة! فهو كما أسماه «أخف من الريش ،أعمق من األلم». وال��ح��رز يقدم قصيدة تقوم على مشهد مسرحي، كأنه يسعى إلى تقديم قصيدة بصرية بطقوس شعرية، ممسرحة بمشاهد تتوالد وتتوالى وتتعاقب بسرعة، وتمتد على مساحة مكانية ،دون أن يشغلنا عن الداللة، بل هو توظيف لداللة واح��دة ،هي الغاية من القصيدة. ف��ف��ي ق��ص��ي��دة «ح��ك��اي��ة ع���ن ج���ن���ازة»؛ ص���ور مسرحية تتعاقب من اللحظة األول��ى للوصول إل��ى المقبرة ..ما الذي يفعله األحياء في حضرة القبور؟ األم��وات أشياء انتهت صالحيتها! لذا ،لم تكن منازلهم فسحة للتأمل، ووج��وده��م (األح��ي��اء) في اللحظات األخيرة ك��ان مجرد روت��ي��ن ال يرتقي إل��ى الطقوس ل��ذا ك��ان��ت األدع��ي��ة بال أجنحة تصعدّها إلى أبواب الجنة.. «حينما أردنا أن نترحم على أسالفنا الموتى /أكتفينا بالشفاه فقط /وعندما خطا الدعاء خطوات /باتجاه الخارج /تجمد هو أيضا».
بل عقلية متحفزة ..فالقصيدة تطرح ال��واق��ع بطريقة إشكالية؛ ألن منظورها مختلف وبزاوية منفرجة تدعو القارئ أن يكون شريكا في النص لو أراد ..ال قوالب جاهزة ،تستريح على عتباتها الذائقة ،دون الشعور بملل؛ فهو يقدم مقترحاً جديداً دون صخب لغوي أو تقعر في الصورة بمنعرجات تفضي إلى فوضى أشبه بالال جدوى، كمن أراد أن يزيح الغبار لكنه ق��ام ببعثرته ..فجاءت القصيدة بإيقاعات خفية ه��ادئ��ة ،أشبه بمن يتداعى همساً على الرغم من سعار األفكار ومغامرة البوح. ال بأنسي وهو (الديوان) في اللحظة التي يذكرك شك ً الحاج في ديوانه»:الوليمة»( ،من حيث الشكل المتمثل في القسم النثري واآلخر الشعري) ..إال إنه ظل محتفظا بصوته المتفرد بتمايز ،من حيث األسلوب والمضمون، فهو يشق طريقاً خاصاً له وبه ،وبمحاذاة من سبقه دون أن يكون م��رآة تعكس صورهم ،أو يستعير أصواتهم.. فأنت أمام نص ال يذكّرك بنص آخر لغة ومجازاً ،وإن بدت القصيدة في اتجاهها الفكري واإلنفعالي متأثرة بالتيار الحداثي الذي يتلبس اللبوس الغربية ..فشبيه الحرز ،ما هو إال زوج إليثا في رواية «ابنة الحظ» ،وال يسأل عنه إال إيزابيل( ..وهذا شبيهي الذي تتكئ عليه/ عربة حياتي..غاب من الحانة /../أظنه أقفل راجعا/ إلى زوجته إليثا /في رواية (ابنة الحظ) /ال بدَّ لي أن أسأل عنه /إيزابيل ألليندي يوما ما!)..
وهذا يشكل -في رأيي -حاجزاً نفسياً بين القصيدة ال والمتلقي العام الذي غالباً يجهل الرموز الغربية فض ً لكن األحياء بتوالي األح���داث ،ال يخرجون باليقين على بطل في رواية ما!.. نفسه؛ بل يسترجعون ما قاله ريتسوس: ما الذي يضطر الحرز إلى التشبه برمز غربي على ((وح��اال تذكرنا ما قاله ريتسوس :علينا أن نحرس كثرة رم��وزن��ا ال��ع��رب��ي��ة..؟ ربما ألن م��ا ي��ح��اول ترسيخه قبور موتانا ...كيف لنا أن نحيا دون بيوتنا؟)). ليس نتاج حركة تاريخية ثقافية عربية تماماً ،بل كتأثير وأنت تقرأ الديوان ،هناك سؤال يلوب في الداخل ؛ أو باألحرى تأثر بالغرب؛ ما أظهر الرمز الغربي على ماذا يريد أن يقول الشاعر؟ فأنت ال تعيش حالة وجدانية حساب الرمز العربي. < كاتبة سعودية – الظهران.
اجلوبة -ربيع 1428هـ 99
«غوغل» حتت مجهر الفلسفة الفرنسية وتواصل رقمنتها للمكتبات
صدر أخيراً في فرنسا كتابان يتناوالن محرك أو التشكيك بادعائه العالمية ،كما لو أن األمريكية البحث األشهر في العالم« :غوغل» .الكتاب األول هي العالمية». لدانيال إيشبياه ،صدر لدى منشورات «الرشيبيل»، من جهة أخرى ،يحظى مشروع «غوغل» لرقمنة وعنوانه« :كيف سيأكل غوغل العالم»؟ وعلى الرغم المكتبات بمزيد من النجاح واإلنتشار .فبعد رقمنة م��ن عنوانه ال��ذي ق��د يشير إل��ى محتوى جدلي أو مكتبتَي جامعة «كومبلوتونس» في إسبانيا وجامعة إشكالي ،يتناول الكتاب في نبرة إخبارية موضوعية أوكسفورد في بريطانيا ،وقّع المسؤول عن تقنيات «قصة غوغل» منذ تأسيسه إلى اليوم. المعلومات في الشركة عقداً مع المكتبة الوطنية
أما الكتاب الثاني الصادر عن منشورات «ألبان في كاتالونيا وأربع مكتبات كاتالونية أخرى .وكانت ال��ش��رك��ة أع��ل��ن��ت ف��ي وقت م������ي������ش������ال» ،ب�����ع�����ن�����وان: سابق عن نيّتها التعامل مع «غَ و ِْغل ْني .الرسالة الثانية مكتبات إسبانية ،ليتأكّد ألميركا» ،فهو للفيلسوفة ال��خ��ب��ر أخ���ي���راً م��ن طريق باربرا كاسين. هذا التوقيع. وف�������ي ن�����ب�����رة نقدية وذك��������رت ال���ش���رك���ة أن وه����ج����ائ����ي����ة واض�����ح�����ة، «غ�����وغ�����ل» س�����وف ترقمن ت���ط���رح ال���ك���ات���ب���ة مسائل تتخطى قضية «غ��وغ��ل» لتصل إل��ى البعد الثقافي «مئات األلوف من الكتب المملوكة من القطاع العام. للديمقراطية .ويستند تحليلها إل��ى تفكيك دقيق ويهدف هذا المشروع الضخم إلى إتاحة المجال للعبارتين اللتين تشكالن ما يشبه القاعدة األخالقية للقرّاء في مختلف أنحاء العالم االطّ الع على أمهات المهنية لمؤسسَ ي محرّك البحث« :تنظيم كل معلومات الكتب اإلسبانية ،والقيام بأبحاث ،أو نقل مقاطع العالم لجعلها في متناول الجميع وفائدتهم» ،و«ال تكن من هذه الكتب .وقالت مديرة المكتبة الوطنية في سيئاً» .ومن خالل هذا التفكيك تحاول رصد البعد برشلونة دول��ورس الم��ارك��ا« :ف��ي الماضي ،وحدهم األيديولوجي ال��ذي يجعل م��ش��روع «غ��وغ��ل» الوجه زوّار المكتبة كان يمكنهم اإلفادة من الكتب الموجودة األكثر «لطافة» من مشروع جورج بوش ،لتنتهي إلى فيها .من اآلن فصاعداً كل من يهمّه االط�لاع على القول« :إذا أردنا أن نقولها في شكل مباشر ،فغوغل ألوف الكتب الموجودة لدينا .يمكنه ذلك من خالل بطل الديمقراطية الثقافية ،لكن من دون ثقافة أو بحث بسيط على «غوغل خدمة الكتب» .ويعود اختيار ديمقراطية .يمكن القول أن غوغل غير ديمقراطي «غوغل» للمكتبات اإلسبانية إلى كون اللغة اإلسبانية ألنه أمريكي حتى العظم وال يسمح لنا بمعرفة ذلك هي اللغة الثانية األكثر استخداماً خارج األطلسي. 100اجلوبة -ربيع 1428هـ