Naqsh Magazine

Page 1

‫لوحة الغالف للفنانة سحر اللوذعي‬


‫‪39‬‬

‫عامًا‬ ‫على رحيل الشاعر‪ /‬أمل دنقل‬


‫‪33‬‬

‫«تكـ ري مات»‬ ‫أو‬ ‫ْ‬ ‫«كريمات تهريج «!‬

‫وداد أبوشنب‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫عاملنـا الـذي يتكـ ّور كقريـة صغيـرة تنتقـل فيهـا األحـداث كالنـار يف الهشـيم‪ ،‬يحمـل الكثيـر‬ ‫السـريع يف طياتـه‪ ،‬فتتزاحـم املواضيـع املسـتجدة يف ذهنـي املرهـق مـن تراكـم األشـياء اليوميـة‬ ‫التـي ال أسـتطيع تنضيدهـا وغربلتهـا نظـرا لضيـق الوقـت‪ ،‬فيرسـو القـدمي ويطفـو اجلديـد وإن‬ ‫كان مزعجـا‪.‬‬ ‫تراكمـت كالعـادة مواضي ُـع مؤ ِّرق ٌـة‪ ،‬منهـا موضـوع التكرميـات وذلـك الطفيلـي املصـاب بجنـون‬ ‫أن ال شـاعر يسـتحق اللقـب مـا لـم ميـر مـن بين يديـه املتسـ ِّولتني باسـم‬ ‫يدعـي ْ‬ ‫العظمـة الـذي ّ‬ ‫فلسـطني!! وهـو إن حاولـت االسـتماع إليـه لشـممت رائحـة العفـن األخالقـي!! كائـن هـو‬ ‫وأمثالـه الكثـر يتهافتـون علـى تكـرمي املثقفين والشـعراء واملسـتثقفني واحلداديـن والصياديـن‬ ‫واخلبازيـن وبائعـي الـكالم وبائعـي األحلام واملتشـدقني واملتلعثمين بـكل حـروف اللغـات التـي‬ ‫ال يدركـون معانيهـا‪ ،‬فيلقـون لهـم بفتـات شـهادات تقديـر أو تكـرمي‪ ،‬وببقايـا مـا يسـمى جهلا‬ ‫دكتـوراه فخريـة والتـي ال فخـر يطـال مـن ورائهـا‪ ،‬فهـي «كامـب ديفـد» العصـر‪ :‬إعطـاء مـن ال‬ ‫ميلـك ملـن ال يسـتحق!!‬ ‫هنـا وجـب علـي التنويـه بـأن اخملطـئ ليـس هـؤالء املرضـى الذيـن يوزعون الشـهادات الوهمية‬ ‫تعويضـا عـن نقـص يف شـخصياتهم وتعطشـا للمنصـات اخملروقـة واملناصـب الوهميـة‪ّ ،‬إنـا‬ ‫اخملطـئ احلقيقـي هـم املثقفـون الذيـن يتكالبـون علـى منصات هذه التكرميات الوهمية‪ ،‬والتي‬ ‫ترسـل عـن طريـق الفيسـبوك للمضحـوك عليهـم‪،‬‬ ‫ال تكلّـف صاحبهـا أكثـر مـن رتـوش إلكترونيـة َ‬ ‫أو ورقـة مـن النـوع املقـوى والتـي تبـاع باجلملـة وبسـعر رخيـص جـدا جـدا جـدا يف املكتبـات‬ ‫واملطابـع‪ ..‬وواهلل لـو كان فيهـا خيـرا مـا خرجـت مـن ذمـة املكـ ِّرم املبتـذل!!‬ ‫املكرم مئتي دوالر (من طرف اجليبة) مثال‪ ،‬هل ستستمر يف‬ ‫ماذا لو‪-‬عزيزي املك ِّرم‪ -‬أعطيت َّ‬ ‫التكـرمي؟ مـاذا لـو فـرض عليـك التكـرمي إضافـة هبـة ماليـة لصاحـب التكـرمي؟ أكنـت سـتك ِّرمه؟‬ ‫أم أن «أبـو بلاش كتـر منه”!!‬ ‫يـا معشـر املثقفين وصنـاع القـرار‪ ،‬طالبـوا مك ِّرميكـم مبكافـأة مادية تعزِّز مصداقية التكرمي‪،‬‬ ‫املكر ِمين‪ ،‬فيحصـل التم ّيـز والـذي يعتبـر أسـاس التكـرمي‪ ،‬إذ ال جـدوى مـن تكـرمي‬ ‫وتقلـل عـدد َّ‬ ‫أربعين أو خمسين أو مئـة أو مئتـي شـاعر أو كاتـب بعامـة‪ ،‬أيـن التم ّيـز‪ ،‬عندمـا ي َك َّـرم األغلبيـة‬ ‫نكايـة بفلان أو علان؟؟‬ ‫للتكـرمي أصـول‪ ،‬فلنبـدأ بتأطيـر اسـتحقاقاتنا التكرمييـة‪ ،‬فلنبـدأ بالتحـري أوال عـن اجلهـة‬ ‫املانحـة لهـذه الشـهادات‪ ،‬فلا يعقـل أن يكـون املانـح خريـج محـو أميـة وأنـت دكتـور علـى سـبيل‬ ‫ـيكرم معنا! ولنختر ألنفسـنا‬ ‫املثال ال احلصر طبعا!! ولنعرف سـبب التكرمي! ولنسـأل عمن س َّ‬ ‫منصـات راقيـة تكرمنـا‪ ،‬ألن أكثرهـم يقتاتـون عليكـم أيهـا املثقفـون ليضخمـوا منصاتهـم‬ ‫العجفـاء‪ ،‬بأعدادكـم‪ ،‬وليروجـوا ملؤسسـاتهم العقيمـة علـى ظهوركـم‪ ،‬فأنتـم مجـرد رقـم عندهـم‬ ‫بـل كمالـة عـدد كمـا يقـال!!‬ ‫التكـرمي مـن الكـرم فلا ينبغـي للزيـف أن يشـوبه! وعلـى املكـ ِّرم أن يتمتـع باألخلاق ال سـيما‬ ‫نزاهـة اللسـان والتواضـع!!‬


‫في هذا العدد‪:‬‬ ‫أول النقش‬ ‫مجلــة ثقافيــة تصدر كل شهرين‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022 -‬م‬

‫اللوحات الداخلية للفنانة‬

‫سحر اللوذعي‬

‫‪3‬‬

‫«تكـ ري مات» أو «كْ ريمات تهريج»!‬

‫قصيــدة النثر العربية‪ ..‬دهشــة غيــم في أفق مفتوح‬ ‫شفافية الرؤية النثرية‪ :‬الرمزي والتأويلي‬ ‫هوية الذات ورؤية العالم في قصيدة النثر المصرية‬ ‫التمثالت الكونكريتية في قصيدة النثر الليب ّية‬ ‫قصيدة النثر اليمنية‪ :‬بين تضمينات الواقع وصعقة الفضاء االفتراضي‬ ‫«تراتيل على مائدة اللون»‪ ..‬أو الطريق الثالث لقصيدة النثر التونسية‬ ‫تلقي قصيدة النثر في النقد المغربي الحديث‬

‫‪8‬‬

‫‪11‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪39‬‬

‫نقوش متنوعة‬ ‫الوعي المديني في شعرية أمل دنقل‪:‬‬ ‫من المعادل الموضوعي إلى األبعاد الوجودية‬

‫‪44‬‬ ‫رئيس التحرير‬

‫وداد أبوشنب‬

‫‪naqshinfo2021@gmail.com‬‬ ‫مدير التحرير‬

‫سليم المسجد‬

‫‪almsjds@gmail.com‬‬ ‫اإلشراف العام‬

‫صدام فاضل‬ ‫التصميم واإلخراج الفني‬

‫حسام الدين عبداهلل‬

‫هل تحتاج النسوية أن تكون إسالمية؟‬ ‫عيد األضحى في فلسطين‬

‫‪51‬‬ ‫‪54‬‬

‫لغة وأدب‬ ‫النسق التاريخي العراقي الحديث المضمر‬ ‫في رواية (الحفيدة األمريكية)‬

‫‪61‬‬

‫بين أخالق الماضي وهموم الحاضر‬ ‫قراءة في المجموعة القصصية «مدينة األسئلة» لـ خالد ماضي‬

‫‪64‬‬

‫األديب األردني هارون الصبيحي‪:‬‬ ‫«النخب األدبية والثقافية ال تتحرك بجدية وال بشكل جماعي»‬

‫‪66‬‬


‫في هذا العدد‪:‬‬ ‫نقوش إبداعية‬

‫نقوش فنية‬ ‫سيناريو محتمل لوقائع رحلة‪:‬‬ ‫مواييت»‬ ‫«بول كلي» و «أوغست ماكّ ه» و «لويس‬ ‫ْ‬ ‫إلى تونس‪ ،‬سنة ‪1914‬‬ ‫عن الحتمية السينمائية‪:‬‬ ‫الواقع الفيلمي وسببية العمل السينمائي‬ ‫سيد درويش‪ :‬باعث النهضة الموسيقية العربية‬

‫أب نموذجي‬

‫‪72‬‬ ‫‪76‬‬ ‫‪80‬‬

‫أفالم لن تغادر الذاكرة‪« :‬التاريخ األمريكي المجهول»‬

‫‪82‬‬

‫قصيدة النثر‬ ‫ثالث قصائد شاردة‬ ‫وصفة قديمة‬ ‫تمرين على الموت‬ ‫في الصباح‬ ‫قصيدتان‬ ‫أزرق شاسع‬ ‫مفتاح الخالص‬ ‫عزيز‬ ‫القادم من الزرقة‬

‫‪94‬‬

‫‪95‬‬ ‫‪96‬‬ ‫‪97‬‬ ‫‪98‬‬ ‫‪99‬‬

‫‪100‬‬ ‫‪102‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪105‬‬ ‫‪107‬‬

‫استفهام نقش‬ ‫ما الجدوى التي تحققها المواقع الثقافية‬ ‫والمنتديات اإللكترونية اليوم؟‬

‫ا ستطالع‬

‫نقوش ثابتة‬

‫مجتمع يغ ّيره الصحفيون‪:‬‬ ‫مغامرات (تان تان) في مؤتمر الصحفيين العالمي!‬

‫نقش كافيه‪ :‬اللوامع‪!...‬‬ ‫فضفضة‪ :‬دنيا دن ّية‬

‫‪87‬‬ ‫‪87‬‬

‫خيوط‪ :‬خيط الوحدة‬ ‫زخة عطر‪ :‬أفكر بالكتابة‪!...‬‬ ‫سوناتات‪ :‬اتحاد‬ ‫قداس الرغبة‬ ‫ضوء‪ّ :‬‬ ‫«ح ّ‬ ‫بالخ ُرج‪»..‬‬ ‫ط ُ‬ ‫مرافئ‪ُ :‬‬

‫آخر النقش‬ ‫ولكن‪...‬‬

‫‪109‬‬

‫‪42‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪85‬‬ ‫‪91‬‬

‫‪108‬‬ ‫‪125‬‬

‫‪128‬‬


‫‪6‬‬

‫قصيدة النثر العربية‬ ‫دهشة غيم في أفق مفتوح‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫شفافية الرؤية النثرية‪:‬‬ ‫الرمزي والتأويلي‬ ‫أ‪.‬د رائدة العامري‬

‫هوية الذات ورؤية العالم‬ ‫في قصيدة النثر المصرية‬ ‫د‪ .‬رضا عطية‬

‫التمثالت الكونكريتية‬ ‫في قصيدة النثر الليب ّية‬

‫عبد الحفيظ العابد‬

‫قصيدة النثر اليمنية‬ ‫بين تضمينات الواقع‬ ‫وصعقة الفضاء االفتراضي‬ ‫علوان الجيالين‬

‫“تراتيل على مائدة اللون”‬ ‫أو الطريق الثالث لقصيدة‬ ‫النثر التونسية‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املهدي عثامن‬

‫تلقي قصيدة النثر‬ ‫في النقد المغربي الحديث‬ ‫د‪ .‬سعيد بوعيطة‬


‫‪7‬‬

‫(عتبة أولى)‬ ‫“لقـــد تميزت قصيدة النثر العربية بالبســـالة‪ ،‬ال ألنها خرجت عن‬ ‫مألوف النظم الشـــعري‪ ،‬أو بدحرها تهم المعترضين وتمترســـهم‬ ‫فـــي وجههـــا‪ ،‬بـــل جوهريـــاً بكونهـــا تجـــاوزت قرونً ـــا مـــن التقليـــد‬ ‫الشـــعري المســـتقر والمحكـــم فـــي متطلبـــات الكتابة الشـــعرية‬ ‫واشـــتراطاتها‪ ..‬والرهـــان عليها يأتي من اســـترجاع تلـــك الكفاحية‬ ‫والثبات فـــي جدليتها الفنيـــة والجمالية‪ ،‬وعراكهـــا المتواصل مع‬ ‫الجمـــود والتراجع الفنـــي والجمالي‪.‬‬ ‫إنها تتســـلم في لحظـــة الحداثـــة الراهنة مهمتهـــا االجتماعية‬ ‫والفنيـــة‪ ،‬لترتفـــع بالقصيدة إلى مصاف عصرهـــا‪ ،‬والتفاعل مع ما‬ ‫يدور في متنه ال في حواشـــيه وهوامشـــه‪.‬‬ ‫إنهـــا تخـــرج مـــن زمـــن االنـــزواء والعزلـــة‪ ،‬إلـــى فضـــاء الحريـــة‬ ‫المعـــوض عـــن فقدانهـــا فـــي ســـياقات المجتمـــع‪ ،‬واألنســـاق‬ ‫المتحكمـــة فـــي خطاباتـــه الســـائدة‪ .‬وهـــذه مســـؤولية ال تنهض‬ ‫الخالقة والمعبـــرة عن الحداثة فـــي أكثر أيامها‬ ‫بهـــا إال النصـــوص‬ ‫ّ‬ ‫احتدامـــاً وحرجـــاً ‪.»..‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أ‪ .‬د حاتم الصكر‬ ‫(مقتطـــف مـــن دراســـة كتبهـــا‬ ‫فـــي مقدمة كتـــاب “مختـــارات من‬ ‫قصيـــدة النثـــر” الصادر عـــن مجانين‬ ‫قصيـــدة النثـــر ‪ -‬مصـــر ‪)2021‬‬


‫‪8‬‬

‫شفافية الرؤية النثرية‪ :‬الرمزي والتأويلي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جعلـــت منهـــا نوعـــا‬ ‫النثـــر‬ ‫لقصيـــدة‬ ‫ِ‬ ‫والموضوعيـــة‬ ‫الفنيـــة‬ ‫الرؤيـــة‬ ‫ِإ َّن‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حافلـــة بإيحاء‬ ‫مترابطـــة‬ ‫ومنطلقـــات‬ ‫ٍ‬ ‫مفاهيـــم ومصطلحـــات‪،‬‬ ‫شـــعريا ذا‬ ‫َ‬ ‫الرؤية‬ ‫ِ‬ ‫رمـــزي وتأويلي‪ ،‬وأتاحت إمكانية التعبير الشـــعري بشـــفافية في‬ ‫مـــع اعتمـــاد قـــراءة المتلقي الســـتكمال التحقـــق للنص‪.‬‬

‫أ‪ .‬د‪ .‬رائدة العامري‬

‫بناء يكســـر أفـــق التوقع‬ ‫مســـتعينة بـــأدوات وبآليـــات أدائيـــة تشـــمل ً‬ ‫ليدعـــم البنـــاء اإليحائـــي‪ .‬ويضيـــف للقصيـــدة عناصـــر جديـــدة كالســـرد‬ ‫واإليقـــاع الداخلـــي‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫لــم يكــن وجــود الشــفافية يف قصيــدة النثــر‬ ‫عابــرة‪ ،‬وإمنــا وليــدة مؤثــرات شــعرية وتأثيــرات‬ ‫خارجيــة وداخليــة واجهــت الشــعراء لكســر قيــود‬ ‫املألــوف بتجربــة التعالــق مــع الرؤيــة النثريــة‬ ‫للنــص‪ ،‬فضــا عــن إثبــات الــذات والهويــة‬ ‫حتمــل دالالت عميقــة‪ ،‬عبــر شــفافية الرؤيــة‬ ‫كبــذرة لداللــة رمزيــة تكمــن يف ثنايــا النــص‬ ‫الشــعري‪ ،‬ولتحمــل أبعــادا تداوليــة يف ضــد‬ ‫الهيمنــة التقليديــة‪ ،‬واالنطــاق خــارج الــذات‬ ‫عبــر ســيرورتها يف ســبر أغــوار مكنوناتهــا‪ ،‬حتــت‬ ‫مؤثــرات كثيــرة ومتنوعــة وطروحــات نقديــة‬ ‫وتصنيفــات أدبيــة ذات رؤيــة متقدمــة‪.‬‬ ‫فالنثــر كمصطلــح أدبــي يعني نقل احلقيقة‬ ‫وانعــدام اخليــال والتصويــر إيقاعــات خاصــة‪.‬‬ ‫ـكلت قصيــدة النثــر اجلانــب النثــري بشــكل‬ ‫فشـ ْ‬ ‫مختلــف متامــا عــن مفهومــه الكالســيكي‪،‬‬ ‫البعيــد عــن االتســاع البنائــي للعمــل األدبــي‪.‬‬ ‫بــل أصبحــت قصيــدة النثــر تتنــاول‬ ‫وحــدة التأثيــر يف املتلقــي(‪ .)1‬ملــا تقــدم لــه‬ ‫مــن خصائــص فنيــة وجماليــة تنمــاز خاصــة‬ ‫بالكثافــة واإليجــاز والوحــدة واملنطــق الداخلي‪،‬‬ ‫الــذي مييزهــا يف إشــراقها الداخلــي ونزوعهــا‬ ‫الشــكلي( ‪.)2‬‬ ‫إذ ِإن التحــول الــذي حصــل للقصيــدة‬ ‫يتمثــل باألســس التــي ينطلــق منهــا مصطلــح‬ ‫قصيــدة النثـ ِـر‪ ،‬ملــا حتملــهُ مــن رؤيـ ٍـة رمزيـ ٍـة‬ ‫جتعــل منهــا نتاجــا أدبيــا ملفاهيــم ومنطلقــات‬ ‫يف إثبــات الــذات املســتقلة‪ ،‬وذلــك يف االختــاف‬ ‫عــن املألــوف أو الســائد يف النتــاج األدبــي‪.‬‬ ‫وفــق آليــات وإيقاعــات النثــر األقــل وضوحــا‪،‬‬ ‫وانتظامــا‪ ،‬وأكثــر حذقــا يف هندســة إيقاعيــة‬ ‫متميــزة(‪ .)3‬فتوصــف قصيــدة النثـ ِـر بأنهــا‪:‬‬ ‫شــعر يرفــض املقاييــس أو املعاييــر التقليديــة‪،‬‬ ‫وليســت مرتبطــة بالتقاليــد األدبيــة‬ ‫املوروثــة(‪ ،)4‬عــن طريــق تدعيــم الفكــرة والرؤيــة‬

‫اجلديــدة للشــعر والتأمــل يف البنــاء األدبــي‪.‬‬ ‫فالقــول الــذي يبنــى علــى التخييــل‪ ،‬يطلــق‬ ‫طاقــة اللغــة الشــعرية وتتنــوع إيقاعاتهــا‪.‬‬ ‫وال يصبــح مفهــوم املنثــور هــو القــول غيــر‬ ‫املتخيــل أو كل قــول خــا مــن التخييــل(‪ ،)5‬لــذا‬ ‫اختلفــت الرؤيــة للقصيــدة‪ ،‬فباتــت تغــوص يف‬ ‫ـوار اخمليلــة وجتعـ ُـل منهــا موضوعــا وهدفــا‬ ‫أغـ ِ‬ ‫وقصــدا عــن طريـ ِـق اســتخدام اإليقــاع أو الصــور‬ ‫أو االســتعارات واجملــازات‪ ،‬أو اســتخدام تقنيــة‬ ‫الصدمــة والتأثيــر‪ ،‬عاملــة بذلــك علــى إطــاق‬ ‫اخليــال مــن قيــوده(‪ ،)6‬إذ ِإن قــراءة النــص لــم‬ ‫ـن لذاتـ ِـه بــل تعدتــهُ إلــى‬ ‫ـود املـ ِ‬ ‫تعــد مرهونــة بوجـ ِ‬ ‫مــا يسـ ُ‬ ‫ـاط تأويلـ ٍّـي‬ ‫ـبغ عليـ ِـه املتلقــي مــن نشـ ٍ‬ ‫ـن دو َن أن يعيقــه أو يكبلــه أو‬ ‫ـ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـه‬ ‫ِ‬ ‫ـمح بـ ِ‬ ‫يسـ ُ‬ ‫ـيته وأيديولوجيتــه‪ ،‬وبذلــك‬ ‫يربطــه آليــا بنفسـ ِ‬ ‫غــدا نشــاط القــراءة والتأويــل جــزءا متممــا‬ ‫للتأليــف ال يطابقــه بالضــرورة وال يفــرض‬ ‫ـير‪.‬‬ ‫ـرح والفهـ ِـم والتفسـ ِ‬ ‫منوذجــا موحــدا للشـ ِ‬ ‫ـراءات‬ ‫وبذلــك تتحقــق حريــة النــص بعـ ِ‬ ‫ـدد القـ ِ‬ ‫ـات‬ ‫وتنوعهــا للقــارئ وإســنادها إلــى معطيـ ٍ‬ ‫نصيـ ٍـة ومــا تثيــر ُه علــى مســتوى التلقــي(‪.)7‬‬ ‫هــذا التحــرر يجعـ ُـل الشــاعر يســد ثغــرات‬ ‫الفــراغ ليصــل بالرؤيـ ِـة للمتلقــي بعمـ ٍـق معــر ٍّ‬ ‫يف‬ ‫إدراكــي‪ .‬ف ـ (اخلــط الفاصــل بــن الشــعر والنثــر‬ ‫الفنــي شــفافا هالميــا إلــى حــد يبــدو معــهُ‬ ‫ـان‪ ،‬وال‬ ‫وكأنــهُ خــط وهمــي يف كثيـ ٍـر مــن األحيـ ِ‬ ‫ريــب يف أَن رق ـ َة اخلــط الهالمــي يصعـ ُـب مــن‬ ‫ـاعر اجلديـ ِـد)‬ ‫املهمـ ِـة امللقـ ِـاة علــى عاتـ ِـق الشـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـاعر‬ ‫(‪ .)8‬وتتوقــف علــى معرفــة وموهب ـة الشـ ِ‬ ‫وجتربتـ ِـه الذاتيـ ِـة ورؤيتـ ِـه لآلخـ ِـر‪.‬‬ ‫لقــد بــرزت مقــوالت تنظيريــة وحتليــات‬ ‫مــن شــعراء ونقــاد عاجلــا اإلشــكالية‪ ،‬ووجدتهــا‬ ‫هنــا مقتبســة مـ ْـن أَ ُد ِونيــس َو د‪َ .‬حـ ِـات الصكـ ْـر‬ ‫ـير إلــى‬ ‫َو د‪َ .‬ع ْبـ ِ‬ ‫ـداهلل الغذامــي‪ ،‬والتــي تشـ ُ‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫األج‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫الن‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫قص‬ ‫ـتقاللية‬ ‫اسـ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫أدونيس‬

‫لقد برزت مقوالت‬ ‫تنظيرية وتحليالت من‬ ‫شعراء ونقاد عالجا‬ ‫اإلشكالية‪ ،‬ووجدتها هنا‬ ‫مقتبسة ْ‬ ‫من أَ ُدونِيس‬ ‫الصكر‬ ‫َو د‪َ .‬حاتِم‬ ‫ْ‬ ‫هلل الغذامي‪،‬‬ ‫َو د‪َ .‬ع ْبدا ِ‬ ‫والتي تشي ُر إلى‬ ‫استقالليةِ قصيدةِ النث ِر‬ ‫ْ‬ ‫واألشكال‬ ‫األجناس‬ ‫عن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األدبيةِ‬


‫‪9‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حاتم الصكر‬

‫يتجلى رأي الدكتور‬ ‫حاتم الصكر حول‬ ‫قصيدة النثر في‬ ‫بيان عالقة المتلقي‬ ‫بالنص وفق رؤية ذات‬ ‫شفافية تأويلية‪،‬‬ ‫بقراءةٍ تخاطب عبر‬ ‫الجسد الورقي عيني‬ ‫القارئ ال أذنيه‪ :‬وهي‬ ‫تخاطب معرفته‬ ‫الكتابية ال الشفاهية‪..‬‬ ‫اإليقــاع اخلــاص بقصيــدة النثــر‪ ..‬واسترســال‬ ‫الســرد بعناصــره املعروفــة‪ ،‬ومــا يبـ ّـث يف املتلقــي‬ ‫مــن مشــاركة جماليــة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫(م َح َّمــد‬ ‫ـاعر‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫ـص‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ســوف منثــل هنــا‬ ‫ِ ُ‬ ‫املاغـ ْ‬ ‫ـوط) يف قصيدتــه‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫لباب توما‬ ‫أغنية‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫حلوة عيون النساء يف باب توما‬ ‫حلوة ٌ حلوة‬ ‫وهي ترنو حزينة إلى الليل واخلبز‬ ‫والسكارى‪.‬‬ ‫وجميلة تلك األكتاف الغجرية على‬ ‫األسرة‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ـكال األدبيـ ِـة‪ ،‬حيـ ُـث ِ(إنَّ قصيــد َة النثـ ِـر‬ ‫واألشـ ِ‬ ‫هـ َـي توجــه نح ـ َو كتابــة شــعرية تتجــاو ُز ثنائيــة‬ ‫ـراث العربــي)(‪ ،)9‬فالنــص‬ ‫ـعر والنثـ ِـر يف التـ ِ‬ ‫الشـ ِ‬ ‫ـعرية‪،‬‬ ‫هنــا ذو رؤيـ ِـة حتمـ ِـل امليــزة اللغويــة الشـ ِ‬ ‫واإليقــاع اخلــاص وإثــار ُة الداللــة عــن طريــق‬ ‫ن مــا‬ ‫الدهشـ ِـة‪ ،‬واملفارقــة والغرابــة‪ ،‬واجلمــع ب ـ َ‬ ‫ـير بذائقــة‬ ‫يوحــي بالتنافـ ِـر والتضــاد التــي تشـ ُ‬ ‫فنيــة للمتلقــي ال ســيما وأن الشــاعر بع ـ َد ْأن‬ ‫ـاس‬ ‫ظــل محاطــا بهواجـ ِـس التهميـ ِـش واإلحسـ ِ‬ ‫ـان‪.‬‬ ‫بالقهـ ِـر واحلرمـ ِ‬ ‫ـات الشــعراءِ يف الوعـ ِـي‬ ‫للتعبيـ ِـر عــن تطلعـ ِ‬ ‫واإلدراك‪ ،‬واملعرفــة‪ ،‬والعاطفــة‪ ،‬التــي تتحقــق‬ ‫ِ‬ ‫موضوعاتهــا انطالقــا ممــا هــو فــوق الواقــع‪.‬‬ ‫وذلــك لتجســيد رمزيــة الواقعــي والتخييلــي‬ ‫يف آن واحــد‪ ،‬فـ(املعنــى الذاتــي يف التجربـ ِـة‬ ‫ـرة‪ ،‬ينــزع نح ـ َو صياغـ ِـة واقـ ٍـع‬ ‫ـعرية املعاصـ ِ‬ ‫الشـ ِ‬ ‫ـاعر فيـ ِـه منتجــا معنــا ُه‬ ‫فنــي جديــد‪ ،‬يكــون الشـ ُ‬ ‫مــن لدنــهُ ‪ ،‬مغيبــا إيــا ُه عــن صورتـ ِـه الواقعيـ ِـة‬ ‫املألوفـ ِـة‪ ،‬للمتلقــي الباحـ ِـث عـ ْـن املعنــى‬ ‫املوضوعــي)(‪ ،)10‬وذلـ َ‬ ‫ـذات‪،‬‬ ‫ـك لبيـ ِ‬ ‫ـان كوامــن الـ ِ‬ ‫ـعرية‪ ،‬إذ‬ ‫وإرهاصــات التجربـ ِـة‪ ،‬و متثالتهــا الشـ ِ‬ ‫ـاب اجلمالــي للنــص‬ ‫يعبـ ُـر عـ ْـن حركـ ِـة اخلطـ ِ‬ ‫ـارج‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫خل‬ ‫ا‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫اخل‬ ‫مــن الداخـ ِـل إلــى حركـ ِـة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وذلـ َ‬ ‫ـفافة تكتنــز‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫برؤ‬ ‫ـات ذاتـ ِـه‬ ‫ـك يف إثبـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بالقــدرة التأويليــة‪ ،‬ووظيفتــهُ الدالليـ ُـة التــي‬ ‫ينتجهــا النــص‪ .‬ولفــك الشــفرة الداخليــة‬ ‫ـرة‬ ‫للنــص‪ .‬فالــدو ُر يلعبــهُ املتلقــي علــى الفكـ ِ‬ ‫التــي تدخــل النــص الفعلــي ال علــى النــص‬ ‫ـص حقيقـ ٌـة افتراضيـ ٌـة ال تتحقــقُ إال‬ ‫ذاتـ ِـه‪ .‬فالنـ ّ‬ ‫ـراءة أو رؤيـ ٍـة مقابلــة لقــوة النــص ومتثــات‬ ‫بقـ ٍ‬ ‫صــوره وإيقاعــه مــن قبــل املتلقــي‪ .‬والعمـ ُـل‬ ‫األدبــي ال تكتمـ ُـل حياتــهُ وحركتــهُ اإلبداعيـ َة إال‬ ‫ـاج مــن جديـ ٍـد؛‬ ‫ـراءة وإعـ ِ‬ ‫عـ ْـن طريـ ِـق القـ ِ‬ ‫ـادة اإلنتـ ِ‬ ‫ِلأَنَّ املؤ َلــف مــا ه ـ َو إال مشــكل للعمــل‪ ،‬والنــص‬ ‫ال يحقــق اإلبــداع إال عــن طريـ ِـق قــراءة فاحصــة‬ ‫ـاج مــن جديــد‪،‬‬ ‫ورؤيـ ِـة املتلقــي وإعــادة اإلنتـ ِ‬ ‫ـرة‬ ‫فضــا عــن أَنَّ املتلقــي لــهُ دور فاعــل علــى الفكـ ِ‬ ‫التــي تدخـ ُـل للنــص ال علــى النــص ذاتـ ِـه‪ .‬لعــل‬ ‫ـود‬ ‫اإلشــكالي َة األولــى التــي تواجــهُ قضي ـ َة الوجـ ِ‬ ‫ـدة‪،‬‬ ‫ـعر خــار َج القصيـ ِ‬ ‫الشــعري يف النثـ ِـر أو الشـ ِ‬ ‫ـراز مهيمنــات جديــدة‬ ‫واســتثما َر إيقـ ِـاع النثـ ِـر إلبـ ِ‬ ‫ـاب الشــعري لــم يكــن لــه حضــور فاعــل‬ ‫يف اخلطـ ِ‬ ‫بــن عناصــر النــص مــن قبــل(‪ ،)11‬ملــا يحملــه‬ ‫مــن داللــة نصيــة ورمزيــة غيــر متناهيــة ذات‬ ‫أبعــاد تخييليــة‪ ،‬والــذي يرمــز إليــه اخلطــاب‬ ‫التاويلــي للنــص مــن اخلــارج والداخــل بتركيــز‬ ‫عــال‪ ،‬ليكــون نصــا يحمــل رؤيــة شــفافة تأمليــة‬ ‫بخيــال شــعري ليفتــح النــص علــى داللــة‬ ‫تخلقهــا األلفــاظ والتراكيــب يف مــن النــص‪.‬‬ ‫ـوده النصــي‬ ‫وليشــكل خطابــا مكمــا لوجـ ِ‬ ‫ـفافية رمزيـ ٍـة‪ .‬يقويهــا‬ ‫ِبـ ُـكل مــا يحتويــه مــن شـ‬ ‫ٍ‬

‫لتمنحيني البكاء والشهوة يا أمي‪.‬‬ ‫ليتني حصاة ملونة على الرصيف‪.‬‬ ‫أو أغنية طويلة يف الزقاق‬ ‫هناك يف جتويف من الوحل األملس‬ ‫يذكرني باجلوع والشفاه املشردة‬ ‫حيث األطفال الصغار‬ ‫يتدفقون كاملالريا‬ ‫ليتني وردة جورية يف حديقة ما‬ ‫يقطفني شاعر كئيب يف أواخر النهار‬ ‫أو حانة من اخلشب األحمر‬ ‫يرتادها املطر والغرباء‬ ‫ومن شبابيكي امللطخة باخلمر والذباب‬ ‫تخرج الضوضاء الكسولة‬ ‫إلى زقاقنا الذي ينتج الكآبة والعيون اخلضر‬ ‫حيث األقدام الهزيلة‬ ‫ترتع دومنا غاية يف الظالم‬ ‫أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة‬ ‫أو صليب ًا من الذهب على صدر عذراء‬ ‫تقلي السمك حلبيبها العائد من املقهي‬ ‫ويف عينيها اجلميلتني‬ ‫ترفرف حمامتان من بنفسج‬ ‫(‪)...‬‬ ‫فأنا ما زلت قاسي ًا‬ ‫أنا غريب يا أمي(‪.)12‬‬ ‫يعطــي النــص للقــراءة حشــد ًا مــن الصــور‬ ‫املتطابقــة بالتضــاد‪ ،‬وهــو يف ســياق متن ـ ِّوع‬ ‫الداللــة‪ .‬ولــه القــدرة علــى إحــداث التغ ّيــر‬ ‫يف التّلقــي‪ .‬بينمــا هنــاك تبديــل يف التكويــن‬ ‫الداللــي‪ ،‬ومتـ ّـدده مــن الك ّلــي إلــى اجلزئــي‬ ‫والعكــس‪.‬‬ ‫ـاب يف ال ّنــص إلــى‬ ‫إذ تتغ ّيــر حركــة اخلطـ ِ‬ ‫حالــة مــن التّغييــر عمــا يختلــج يف نفــس‬ ‫الشــاعر‪ .‬فقــد حت ّولــت الصــور لتعكــس كثافــة‬ ‫احلضــور بأبعــاد تســهم يف بيــان انفعــاالت‬ ‫النفــس ِّ‬ ‫املتألــة‪ ،‬ولــو بطريــق الســخرية املؤملــة‪.‬‬ ‫التــي تع ّبــر عــن الوجــع واحلســرة بصراحــة‬ ‫وصــدق‪ .‬إذ إ ّنهــا معادلــة يجيدهــا الشــاعر مبــا‬ ‫ميتلــك مــن عاطفــة وإحســاس ولغــة ومخيلــة‪،‬‬ ‫ليعبــر عــن ألــم الــذات وأحزانهــا الــذي يقــام‬ ‫عليــه احلضــور والــدور الفاعــل يف ال ّنــص‪.‬‬ ‫إنّ الــذي ال ميكــن احلديــث عنــه ظاهري ـ ًا‬ ‫يكــون جــزء ًا مــن البنيــة الشــعرية‪ ،‬وإنّ ســياق‬ ‫خلــق ذلــك العامــل اخلفــي هــو جــزء من عناصر‬ ‫اإلبــداع(‪ .)13‬مبجــاورة ملوضــوع القصيــدة التــي‬ ‫ينطلــق منهــا لتصــل إلــى املتلقــي عــن بطريــق‬ ‫التأويــل داخــل النــص‪ ،‬لــذا حتتــاج إلــى اإلدراك‬


‫‪10‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املعــريف والوعــي النقــدي‪ .‬وكذلــك تهيئــة‬ ‫وحتضيــر مــن القــارئ لينهــض إلــى مســتويات‬ ‫القصيــدة‪.‬‬ ‫ويتجلــى ذلــك يف مقاربــة توجســات الــذات‬ ‫يف رغبتهــا املكبوتــة ذات األبعــاد اجلماليــة‪.‬‬ ‫حيــث تتميــز ببعــد تخييلــي تأملــي منفتــح‬ ‫مبوجــات تتكـ ّرر دون الركــون إلــى قوانــن ثابتــة‪.‬‬ ‫إذ خرجـ ْـت مــن حــدود انغــاق املــكان والهويــة‬ ‫لتكــون اإلبــداع احلــر‪.‬‬ ‫ونلمــح يف النــص الشــعري كســر املقومــات‬ ‫والقيــود وقوقعتهــا وانغالقهــا لتكــون وحــدة‬ ‫ـرة‬ ‫متكاملــة ذا أنســاق جماليــة إبداعيــة مضمـ ٍ‬ ‫كامنــة بــن الســطور‪ .‬والتــي تتمثــل مبضامــن‬ ‫القصيــدة لتبــوح بنضــج فكــري ثقــايف متنــوع‬ ‫األســاليب واألدوات‪ ،‬وبرمــوز ارتبطــت مبزايــا‬ ‫متعــددة علــى املســتويني الشــكلي واملوضوعــي‪،‬‬ ‫برؤيــة ذات مفهــوم يرتقــي ملكانــة وهويــة قصيــدة‬ ‫النثــر‪.‬‬ ‫إذ يبــدأ الشــاعر قصيدتــه مبقدمــة ميهــد‬ ‫بهــا إلــى حــوار (حلــوة عيــون النســاء يف بــاب‬ ‫تومــا‪ /‬حلــوة حلــوة)‪ .‬ويجســد عــن طريقهــا‬ ‫األحــداث بشــكل مؤثــر إلــى املتلقــي‪ ،‬كــي يكثــف‬ ‫الشــاعر كالمــه وركَّ ــز علــى بدايــة طــرح الفكــرة‪،‬‬ ‫يرســل الشــاعر صــور ًا ُأخــر يبدؤهــا بتمنــي‬ ‫(لتمنحينــي البــكاء والشــهوة يــا أمــي‪ /‬ليتنــي‬ ‫حصــاة ملونــة علــى الرصيــف)‪ .‬وينتهــي بنقطــة‬ ‫التوتــر (‪ ،).‬وركــز الشــاعر يف مقاطــع كثيــرة‬ ‫علــى حــوار بإيحــاء االســتفهام‪.‬‬ ‫تشــكل يف النــص حــوا ٌر متعــدد هدفــه اإلثــارة‬ ‫والتأثيــر إلــى جانــب البعــد اإلقناعــي يف ذهــن‬ ‫املتلقــي‪ ،‬فينتقـ ُـل يف ســعة خيالــه؛ ويعبــر عــن‬ ‫احتبــاس الكلمــة‪ ،‬إذ كان هنــاك خلــط للواقــع‬ ‫باحللــم‪ ،‬والرمــز برؤيــة شــفافية بالغــة الذاتيــة‬ ‫يف رســم أبعــاد الشــخصية ومــا فيهــا مــن‬ ‫صراعــات وانفعــاالت داخليــة‪ ،‬ورؤيــاه التخيليــة‬ ‫ـص أبعــاد ًا‬ ‫للتأثيـ ِـر باملتلقــي‪ ،‬بنســق أكســب ال َّنـ ّ‬ ‫ـوار‪،‬‬ ‫دالليـ ًـة جتلـ ْـت يف مســار حركــة تلويـ ِـن احلـ ِ‬ ‫الــذي يتســم باحلركــة واإلبــداع واخليــال‪،‬‬ ‫ويتجــاوز التم ـ ّرد بعمــق داللــي‪.‬‬ ‫إن الشــاعر يجــد يف العمــل اإلبداعــي حريــة‬ ‫أكثــر يف التعبيــر عــن االنفعــاالت واألحاســيس‬ ‫واملعانــاة املكنونــة يف أعماقــه‪ ،‬واســتطاع أن‬ ‫ُيدخـ َـل أجناس ـ ًا أدبيــة متنوعــة تصــل إلــى‬ ‫املتلقــي‪ ،‬عــن طريــق رؤيتــه املعمقــة ليجعــل‬ ‫النــص أداة للتعبيــر عــن أدق هواجــس األخــر‪.‬‬ ‫فقــد كســرت مركزيــة النــص بحريــة مطلقــة‪،‬‬ ‫كــي يثبــت الشــاعر تفــرده واســتقالله‪ ،‬وليعبــر‬ ‫عــن ذاتــه وفــق رؤيتــه اخلاصــة مبعنــاه اجلمالــي‪،‬‬ ‫ويتوسـ َ‬ ‫ـيولوجية‬ ‫الذاتية والسوسـ‬ ‫الهوية‬ ‫ني‬ ‫ـط ب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كنســق حضــاري وثقــايف ثابــت‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبدالله الغذامي‬

‫ٌ‬ ‫حقيقة‬ ‫فالنص‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تتحقق إال‬ ‫افتراضية ال‬ ‫بقراءةٍ أو رؤيةٍ مقابلة‬ ‫لقوة النص وتمثالت‬ ‫صوره وإيقاعه من‬ ‫ُ‬ ‫والعمل‬ ‫قبل المتلقي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حياته‬ ‫تكتمل‬ ‫األدبي ال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اإلبداعية‬ ‫وحركته‬ ‫إال ْ‬ ‫عن‬ ‫طريق القراءةِ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنتاج من‬ ‫وإعادةِ‬ ‫ِ‬ ‫جديد‬ ‫ٍ‬ ‫يتجلــى رأي الدكتــور حــامت الصكــر حــول‬ ‫قصيــدة النثــر يف بيــان عالقــة املتلقــي بالنــص‬ ‫ـراءة‬ ‫وفــق رؤيــة ذات شــفافية تأويليــة‪ ،‬بقـ ٍ‬ ‫((تخاطــب عبــر اجلســد الورقــي عينــي القــارئ‬ ‫ال أذنيــه‪ :‬وهــي تخاطــب معرفتــه الكتابيــة ال‬ ‫الشــفاهية‪ ،‬وهــذا يرتــب مزايــا كثيــرة منهــا‬ ‫اســتثمار الورقــة للتوصيــل دون اإلحلــاح علــى‬ ‫الوســائل الشــفاهية بقافيــة ووزن‪ ،‬أو الصيــغ‬ ‫والقوالــب اللغويــة الشــفاهية‪ ،‬لــذا فهــي‬ ‫تســتغل البيــاض مث ـ ً‬ ‫ا لتوصيــل اإلحســاس‬ ‫بالزمــن‪ ،‬وعالمــات الترقيــم لغــرض توصيــل‬ ‫االنفعــال ‪ ..‬وهــذا مــا ال ميكــن لنــص آخــر‬ ‫أن يســتثمره وهــو واقــع حتــت هيمنــة الــوزن‬ ‫والقافيــة واللغــة الشــعرية النمطيــة))(‪.)14‬‬

‫كونهــا حتمــل القــراءات املتعــددة والتأويــل‬ ‫برؤيــة ذات مفاهيــم ومنطلقــات ميلؤهــا‬ ‫املتلقــي يف ثنايــا البنيــة النصيــة‪ ،‬لتــؤدي‬ ‫وظيفتهــا الرمزيــة بشــفافية‪ ،‬دون التقيــد‬ ‫بنســق محـ ّـدد‪ ،‬وأ ّنهــا حاملــة لــرؤى وتشــكيالت‬ ‫ودالالت وتأويــات جماليــة تتأثّ ــر مبؤثــرات‬ ‫الثقافيــة اخلارجيــة‪.‬‬ ‫فتتج ّلــى ثقافتــه وســننه اجلماليــة اخلاصــة‬ ‫بإنتــاج النصــوص الشــعرية وقراءتهــا حيــث‬ ‫يتوقّ ــف تأويــل قصيــدة النثــر علــى فضــاء ســن‬ ‫الثقافــة اخلــاص بالقصيــدة وســياق إنتاجهــا‬ ‫علــى شــاكلة مــا‪ ،‬فتمنحنــا العالمــات واإلشــارات‬ ‫املعرفيــة اإلدراكيــة‪ ،‬ولتدخــل املتلقــي لفهــم‬ ‫النــص وإكمــال فجواتــه‪ ،‬فضــا عــن معرفــة‬ ‫وفهــم أجــزاء املعنــى الظاهــرة يف بنيــة النــص‪،‬‬ ‫ليســهم يف توجيــه مســار القــراءة والتأويــل لــدى‬ ‫وجــه قرائــي‪.‬‬ ‫وكم ِّ‬ ‫القــارئ‪ ،‬كنظــام ثقــايف ُ‬ ‫الهوامش‪:‬‬

‫(‪ )1‬ينظــر‪ :‬جماليــة قصيــدة النثــر ـ ســوزان بيرنــار ـ‬ ‫ترجمــة د‪ .‬زهيــر مجيــد مغامــس ـ كليــة اللغــات ـ جامعــة‬ ‫بغــداد ـ بحــوث مترجمــة‪14 ،‬ــــ ‪.15‬‬ ‫(‪ )2‬ينظــر‪ :‬حلــم الفراشــة اإليقــاع الداخلــي‬ ‫واخلصائــص النصيــة يف قصيــدة النثــر‪ :‬د‪ .‬حــامت‬ ‫الصكــر‪ ،‬دار أزمنــة للنشــر والتوزيــع‪.18 ،2010 ،‬‬ ‫(‪ )3‬ينظــر‪ :‬القصيــدة النثريــة ـ جولــي ســكوت ـ‬ ‫ترجمــة عبــد الواحــد محمــد ـ مجلــة األديــب املعاصــر‬ ‫ــــ العــدد‪ 41‬ـ كانــون الثانــي ‪.27 :1990‬‬ ‫(‪ )4‬اليونيكــورن يف موطــن اخليــول‪ ،‬دراســة يف‬ ‫قصيــدة النثــر العربيــة‪ :‬بحــث يف مجلــة األديــب املعاصــر‪،‬‬ ‫عــدد خــاص بقصيــدة النثــر‪ ،‬ع‪ ،41‬العــراق‪.58 ،1993 ،‬‬ ‫(‪ )5‬قصيــدة النثــر بــن الذائقــة الفنيــة والرؤيــة‬ ‫األيدلوجيــة ـ د‪ .‬صالــح هويــدي ـ مقــال (شــبكة‬ ‫املعلومــات) موقــع قصيــدة النثــر العربيــة‪.‬‬ ‫(‪ )6‬أســاليب الشــعرية املعاصــرة ـ د‪.‬صــاح فضــل ـ‬ ‫دار اآلداب ـ بيــروت ــــ ط‪.104-105 :1995 ،1‬‬ ‫(‪ )7‬ينظــر‪ :‬حلــم الفراشــة اإليقــاع الداخلــي‬ ‫واخلصائــص النصيــة يف قصيــدة النثــر‪ :‬د‪ .‬حــامت‬ ‫الصكــر‪.43 ،‬‬ ‫(‪ )8‬قصيــدة النثــر بــن الذائقــة الفنيــة والرؤيــة‬ ‫األيدلوجيــة (شــبكة املعلومــات)‪.‬‬ ‫(‪ )9‬ســلطة النــص ـ مشــري بــن خليفــة ـ منشــورات‬ ‫االختــاف ـ اجلزائــر ـ نشــر رابطــة كتــاب االختــاف ـ‬ ‫جويليــة ــــ ط‪ 1‬ـ ‪.65 ،2000‬‬ ‫(‪ )10‬ينظــر‪ :‬رمــاد العنقــاء ــــ شــعراء اللحظــة‬ ‫احلرجــة مــن الهامــش إلــى املركــز ــــ عبــاس عبــد جاســم‬ ‫ـ مطبعــة الرفــاه ــــ بغــداد ـ ط‪1‬ـ‪.8 ،2000‬‬ ‫(‪ )11‬ينظــر‪ :‬حلــم الفراشــة اإليقــاع الداخلــي‬ ‫واخلصائــص النصيــة يف قصيــدة النثــر‪ :‬د‪ .‬حــامت‬ ‫الصكــر‪.16 ،‬‬ ‫(‪ )12‬اآلثــار الكاملــة‪ :‬محمــد املاغــوط‪ ،‬دار العــودة‪،‬‬ ‫بيــروت‪.37 ،1973 ،‬‬ ‫(‪ )13‬ينظــر‪ :‬عالــم املعنــى ـ الــذات ـ التجربــة‪،‬‬ ‫القــراءة‪ :‬رحمــن غــركان‪ ،‬دار الرائــي للنشــر والتوزيــع‪،‬‬ ‫‪.283 ،2008‬‬ ‫(‪ )14‬مــا ال تؤديــه الصفــة‪ :‬املقتربــات اللســانية‬ ‫واألســلوبية والشــعرية‪ ،‬حــامت الصكــر‪ ،‬دار كتابــات‪،‬‬


‫‪11‬‬

‫هوية الذات ورؤية العالم‬ ‫في قصيدة النثر المصرية‬ ‫مـــن الموضوعـــات الحاضـــرة والتيمـــات الرئيســـية فـــي قصيـــدة النثـــر المصريـــة‪،‬‬ ‫مســـألة ًّ‬ ‫وأيضـــا رؤيتها للعالـــم‪ ،‬ثنائية‬ ‫ً‬ ‫تمثـــات الذات لنفســـها وبحثها فـــي هويتها‬ ‫األنا واآلخر‪ ،‬وكذلك ُّ‬ ‫تمثل الذات لنفســـها ســـواء في حضورها الفـــردي أو الجماعي‪،‬‬ ‫أي مـــن حيـــث انتماؤها إلى جماعـــة‪ ،‬وكذلك رؤية العالم الـــذي تعيش فيه وتتفاعل‬ ‫اغترابـــا فيـــه‪ .‬وما بيـــن ُّ‬ ‫تمثل الـــذات ألناهـــا وفهمهـــا لعالمها‬ ‫معـــه انتمـــاء إليـــه أو‬ ‫ً‬ ‫تكـــون رؤيتهـــا للشـــعر الذي هو وســـيلتها للتعبيـــر عن نفســـها والعالم‪.‬‬ ‫د‪ .‬رضا عطية‬

‫عددا من النصوص من شـــعراء قصيـــدة النثر المصرية‬ ‫ونتناول في هذه الدراســـة ً‬ ‫كنمـــاذج دالـــة على موضوعـــة الـــذات والعالم في خطابـــات قصيدة النثـــر المصرية‪،‬‬ ‫شـــعراء ينتمـــون إلى مراحل زمنيـــة مختلفة وكذلـــك رؤى جمالية متعددة‪.‬‬

‫جرجس شكري‪ :‬توترات الذات‬ ‫وانقسامها‬

‫جرجس شكري‬ ‫والتحـ ّرر مــن القيــود والتابوهــات‪ .‬لليــد عالقــة‬ ‫رمزيــة بالكتابــة‪ ،‬فالكتابــة مبــا هــي أفــكار‬ ‫تتح ـ ّول إلــى وجــود مــادي أو تقييــد يف نــص‪-‬‬ ‫بقطــع النظــر عــن إمكانيــة تعديلــه‪ -‬بواســطة‬ ‫اليــد‪ ،‬كمــا أنّ اليــد رمــز للتمايــز الشــخصي‬ ‫والتفــرد واالختــاف بالنســبة للــذات‪.‬‬ ‫أمــا العالقــة بــن اليديــن‪ ،‬أي عالقــة اليــد‬ ‫باليــد األخــرى‪ ،‬فترمــز ملــدى التــوازن الذاتــي‬ ‫بــن قــوى النفــس؛ التوافــق النفســي أو‬ ‫االنقســام واالنشــقاق‪ ،‬الســام أو االضطــراب‪،‬‬ ‫وقــد ترمــز‪ -‬ملــدى أبعــد‪ -‬للــذات يف مقابــل‬ ‫قرينهــا اآلخــر‪ ،‬الشــبحي‪ ،‬أو الــذات يف مقابــل‬ ‫«الــذات‪ -‬الضــد»‪ .‬وكمــا هــو بـ ٍـاد ‪ -‬هنــا‪ -‬فــإنَّ‬ ‫الــذات تريــد أن تنفــي تكراريتهــا بتخليهــا‬ ‫عــن يدهــا األخــرى‪ ،‬وكأنَّ الــذات تقســو علــى‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫تبــدو عالقــة الــذات بنفســها كموضــوع‬ ‫تعاينــه مح ـ ًا لتســاؤل الــذات وإشــكالية‬ ‫وجوديــة منثــورة علــى امتــداد اخلطــاب‬ ‫الشــعري كمــا يف فضــاءات ديوانــه‪ ،‬تفاحــة‬ ‫ال تفهــم شــيئًا (‪ ،)1‬لتبــدو الــذات يف حالــة‬ ‫تفحــص مســتمر لنفســها‪:‬‬ ‫عزيزي‬ ‫هذه يدي خذها‬ ‫عندي أخرى‬ ‫التكرار‪.‬‬ ‫سئمت‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هذا رأسي‬ ‫سويا‬ ‫فلنتقاسمه‬ ‫ً‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫نصف‬ ‫أتخلص من‬ ‫أريد أن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تدخــل الــذات التــي ُت ـ ِّرد مــن نفســها ذا ًتــا‬ ‫أخــرى يف حــوار‪ -‬فيمــا يبــدو‪ -‬مــع قرينهــا‬ ‫الشــبحي‪ ،‬الــذات الظليــة‪ ،‬كمــا أنّ عالقــة الــذات‬ ‫بظلهــا‪ ،‬أو الــذات الفائضــة يشــوبها نــوع مــن‬ ‫التوتــر واالنقســام‪ ،‬لــذا تختــار الــذات الشــاعرة‬ ‫«ضميــر اخملاطــب» يف إحالــة الــذات لظلهــا‬ ‫إبــرازًا لرغبــة الــذات يف مواجهــة أناهــا األخــرى‪،‬‬ ‫فترمــز الــذات النقســامها بثنائيــة اليــد‪ .‬اليــد‬ ‫«عالمــة» تشــير إلــى رمــوز كثيــرة؛ إذ ترمــز‬ ‫اليـ ُّـد لقــوة الــذات‪ ،‬ووســيلة حتقيــق األهــداف‬ ‫وتنفيــذ األفــكار وتلبيــة الرغبــات للــذات‪ ،‬كمــا‬ ‫أ ّنهــا ‪ -‬بالنســبة للــذات‪ -‬وســيلة االتصــال‬ ‫باآلخــر والعالــم‪ ،‬أو ســبب القطيعــة‪ .‬كذلــك‬ ‫فــإنَّ «إطــاق اليـ ّـد» تعبيــر قــد يشــي بالطيش أو‬ ‫البطــش والعــدوان‪ ،‬أو قــد يرمــز إلــى االنطــاق‬

‫نفســها‪ُ ،‬‬ ‫وت ـ ِّرض ذاتهــا األخــرى للتمـ ُّـرد علــى‬ ‫دائمــا للثــورة حتــى‬ ‫تكراريتهــا‪ ،‬الــذات تســعي ً‬ ‫علــى نفســها‪ .‬فيقــول الصــوت الشــعري لــدى‬ ‫جرجــس شــكري‪:‬‬ ‫لست أنا الذي كان هنا‬ ‫ال أدخل بيتي مرتني‬ ‫ال ألبس قميصي مرتني‬ ‫ال أرى وجهي يف املرآة‬ ‫دائما‪.‬‬ ‫وأتألم‬ ‫ً‬ ‫تبــدو الــذات الشــاعرة يف إقرارهــا دميومتهــا‬ ‫وجتددهــا متلبســة بوعــي هيراقليطســي‬ ‫يؤمــن بصيــرورة الوجــود كهيراقليطــس الــذي‬ ‫قــال ب ـ «إ َّنــك ال تنــزل النهــر مرتــن»‪ ،‬فالــذات‬ ‫تشــعر بتحديــث مســتدام لكينونتهــا‪ ،‬وإذا كان‬ ‫«البيــت» قــد يرمــز لعالــم الداخــل‪ ،‬وقــد يرمــز‬ ‫إلــى الــذات نفســها‪ ،‬أمــا القميــص‪ ،‬الــرداء‪،‬‬ ‫فقــد يرمــز ألقنعــة الــذات أو وســائط الــذات يف‬ ‫الظهــور يف العالــم‪ ،‬وقــد يرمــز كذلــك ألفكارهــا‬ ‫وأيديولوجياتهــا التــي ُتطـ ُّـل بهــا علــى العالــم‬ ‫واآلخــر‪ .‬ولكــن هــل يكــون عــدم رؤيــة الــذات‬ ‫نابعــا مــن الوعــي األســطوري‬ ‫وجههــا يف املــرآة ً‬ ‫القائــل بــأنّ إطالــة الــذات النظــر يف املــرآة‬ ‫ً‬ ‫انطالقــا‬ ‫يســتلب العمــر ويهــدد بالفنــاء واملــوت‬ ‫مــن أســطورة نرســيس؟ فتتحاشــى الــذات‬ ‫املــوت بعــدم رؤيــة وجههــا يف املــرآة؟‬ ‫والــذات ‪-‬لــدى جرجــس شــكري‪ -‬تعايــن‬ ‫نفســها يف مســتويات مختلفــة وأحــوال‬ ‫متفاوتــة مــن الوعــي‪ ،‬بــن الصحــو والغفــو‪،‬‬ ‫اليقظــة واحللــم‪:‬‬ ‫هكذا صار يحلم‬ ‫أنّه يضع على مائدة عظيمة‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ً‬ ‫وأشجارا عارية‬ ‫بيوتا بال سكان‬ ‫ً‬ ‫يف حني اختفت األرض‬ ‫قدماه ال تذهبان‬ ‫وثمة نار تفكر برأسه‪.‬‬ ‫تتقافــز الــذات ‪-‬يف اخلطــاب الشــعري‬ ‫جلرجــس شــكري‪ -‬مــن مســتوى الوعــي حيــث‬ ‫الصحــو إلــى الالوعــي حيــث احللــم‪ .‬احللــم‬ ‫هــو ظهيــر الشــخصية‪ ،‬وثمــة لغــة خاصــة‬ ‫للالشــعور أو باألحــرى متظهــر مغايــر للغــة‬ ‫يف تعبيرهــا عــن الالشــعور‪ .‬فبمــا أنّ منطــق‬ ‫احللــم هــو الالمنطــق‪ ،‬فثمــة رمزيــة مراوغــة‬ ‫للغــة احللــم أو لنقــل إنّ لغــة احللــم مبــا يســبح‬ ‫يف ســدميه مــن عالمــات هــي مرواغــة وال‬ ‫محســومة الــدالالت‪.‬‬ ‫ويتشــكل املشــهد احللمــي مــن صــور‬ ‫ســوريالية تخلــق مــن خاللهــا الــذات عا ًملــا مــن‬ ‫الــرؤى‪ ،‬وكمــا ذهــب باشــار بــأنّ «كلمــا صغَّ ــرت‬ ‫العالــم مبهــارة أكبــر امتلكتــه بشــكل أكثــر‬ ‫كفــاءة‪ .‬ولكــن علينــا أن نعــي‪ ،‬أننــا حــن نفعــل‬ ‫ذلــك فــإنّ القيــم تتكثــف وتغتنــي مــن املتناهــي‬ ‫يف الصغر»(‪ .)2‬فإنّ الشــاعر يســتخدم منظو ًرا‬ ‫معكوســا بتصغيــر الكبيــر وذلــك بوضعــه بيو ًتــا‬ ‫ً‬ ‫وأشــجا ًرا علــى مائــدة عظيمــة؛ حيــث «تصبــح‬ ‫القيــم محتــواه يف نطــاق املتناهــي يف الصغــر‪،‬‬ ‫واملتناهــي يف الصغــر يدفــع النــاس للحلــم»(‪،)3‬‬ ‫ولكــن هــل تنبثــق عمليــة تصغيــر العالــم‬ ‫وأشــيائه (البيــوت واألشــجار) يف احللــم مــن‬ ‫روح طفولــي تتلبــس الشــاعر؟ ذلــك باعتبــار أنّ‬ ‫«البيــت الصغيــر جـ ًـدا يذكرنــا ببيــوت األطفــال‬ ‫املصنوعــة مــن الــورق املقــوى‪ .‬وبكلمــة أخــرى‪،‬‬ ‫فــإنّ األشــياء الصغيــرة التــي نتخيلها ببســاطة‬ ‫تقودنــا إلــى أيــام الطفولــة‪ ،‬إلــى األلفــة مــع‬ ‫الدمــى وإلــى حقيقــة الدمــى»(‪ .)4‬ولكـ ّـن‬ ‫احللــم الــذي تعاينــه الــذات يبــدو مســكونًا‬ ‫بالفقــد‪ ،‬فالبيــوت بــا ســكان واألشــجار عاريــة‬ ‫بــا أوراق‪ ،‬واألرض قــد اختفــت‪ ،‬يف إشــارة‬ ‫الفتقــاد الــذات اإلحســاس بالرســوخ وهــو مــا‬ ‫يــؤدي لفقدهــا احلركــة (قدمــاه ال تذهبــان)‪،‬‬ ‫مبــا يعنــي اجلمــود‪ ،‬ويف املقابــل الفقــد الــذي‬ ‫تعاينــه الــذات يف اخلــارج‪ ،‬فإ ّنــه ‪-‬علــى املقابــل‪-‬‬ ‫يف الداخــل فـ»ثمــة نــار تفكــر برأســه»‪ ،‬النــار‬ ‫تعكــس شــعو ًرا باالشــتعال‪ ،‬كمــا ترمــز للتنامــي‬ ‫والتكاثــر والتزايــد‪ ،‬فهــل تكــون تلــك النــار أثـ ًـرا‬ ‫ملــا تعاينــه الــذات مــن فقــد بالعالــم؟‬ ‫إبراهيم السيد‪ :‬الذات والجماعة‪ ،‬بين‬ ‫االنتماء والالانتماء‬

‫يعايــن الشــاعر إبراهيــم الســيد يف ديوانــه‬ ‫«أحــد عشــر كل ًبــا»(‪ )5‬تقلبــات الــذات وتردداتهــا‬ ‫بــن االنتمــاء والالانتمــاء‪ ،‬االنتمــاء مبعنــى‬ ‫االنتســاب جليــل شــاب ُت ِّثلــه الــذات‪ ،‬والانتماء‬

‫يعاين الشاعر إبراهيم‬ ‫السيد في ديوانه “أحد‬ ‫عشر كل ًبا” تقلبات‬ ‫الذات وتردداتها بين‬ ‫االنتماء والالانتماء‬

‫إبراهيم السيد‬ ‫إلــى اجلماعــة التــي تفككــت‪ ،‬كمــا يحمــل‬ ‫الديــوان روح التمــرد وصــوت االحتجــاج الــذي‬ ‫تالقــي بــه الــذات عاملهــا إذ تســترجع تاريخهــا‬ ‫مــع اجلماعــة‪ ،‬أكثــر مــن جماعــة‪ ،‬جماعــة‬ ‫األســرة والبيــت‪ ،‬جماعــة األصدقــاء والرفــاق‪،‬‬ ‫جهضــت‪ ،‬واألمانــي‬ ‫جماعــة األحــام التــي ُأ ِ‬ ‫الضائعــة‪ ،‬التــي تفـ َّـرق بتبددهــا الــذوات‪.‬‬ ‫تتســاوق مــع ثنائيــة الــذات‪ /‬اجلماعــة‪،‬‬ ‫ثنائيــة أخــرى لصيقــة‪ ،‬احللــم‪ /‬الواقــع‪ِّ ،‬‬ ‫تؤثــر‬ ‫يف وعــي الــذات واجلماعــة بالعالــم‪:‬‬ ‫جلوسنا يف البار لم يكف ملعرفة البحر‪،‬‬ ‫كاف‬ ‫السجائر اخلفيفة أتت بال نيكوتني ٍ‬ ‫بعيدا‬ ‫لركل أوهامنا امللونة‬ ‫ً‬ ‫كتبنا مسرحية من فصل واحد عن‬ ‫بحارة عالقني بجزيرة‬ ‫سريعا على كيفية توزيع‬ ‫اختلفنا‬ ‫ً‬ ‫الكنز‪ .‬والبيجو ‪ 504‬موديل‪79‬‬ ‫تتأرجح على الطريق كقارب صيد‬ ‫قدمي‪.‬‬ ‫إنّ متوقــع الــذوات‪ /‬اجلماعــة مبــكان شــبه‬ ‫مغلــق (البــار) كمــا أ ّنــه مــكان تنــاول اخلمــور‬ ‫الــذي يكــون ‪-‬أحيا ًنــا‪ -‬كمــاذ للــذوات ُ‬ ‫امل َبطــة‬

‫قــد أبعــد هــؤالء الــذوات‪ /‬اجلماعــة عــن معرفــة‬ ‫كاف للكتابــة عنــه‪،‬‬ ‫الواقــع‪ /‬البحــر بشــكل ٍ‬ ‫كذلــك لــم جتــد أوهــام الــذوات‪ /‬اجلماعــة‬ ‫مــن‪ /‬مــا يق ِّومهــا أو يصححهــا‪ ،‬فهــل يكــون‬ ‫الــذوات‪ /‬اجلماعــة كبحــارة عالقــن يف جزيــرة‪،‬‬ ‫يف إشــارة للوقــوع حتــت احلصــار ورهــن العزلــة‬ ‫واالنقطــاع عــن العالــم؟ إذن‪ ،‬احللــم بــا واقــع‬ ‫يتصــل بــه ويقــف علــى أرضيتــه هــو محــض‬ ‫أوهــام‪ ،‬فاخلــاف الســريع علــى توزيــع األربــاح‬ ‫هــو الــذي شــقّ صفــوف اجلماعــة‪ ،‬أمــا عودتهــم‬ ‫بعــد التف ـ ّرق والتشــتت يف (البيجــو ‪504‬‬ ‫موديــل‪ )79‬الــذي يبــدو يف تأرجحــه بالــذوات‪/‬‬ ‫اجلماعــة علــى الطريــق ك ـ (قــارب صيــد قــدمي)‬ ‫فيبــرز تذبــذب الــذوات الوجــودي‪ ،‬فيمــا مي ِّثــل‬ ‫ملمحــا‬ ‫كوالجــا تصوير ًّيــا مينــح الصــورة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ســوريال ًّيا بعــد مــزج مفــردات الب ـ ّري بالبحــر‪.‬‬ ‫وعنــد انتقــال الصــوت الشــعري للحديــث‬ ‫عــن احلاضــر اآلنــي تتبـ ّـدى نبــرات الفجيعــة‬ ‫تبطــن خطابــه عــن واقعــه املوجــع‪:‬‬ ‫يبدو ربيع ‪ 2012‬مؤملا بزهوره الصفراء‬ ‫الصغيرة التي‬ ‫متأل حديقة املستشفى‬ ‫أشجار الكريسماس املتربة تبدو أصغر‬ ‫حجما‬ ‫و‪Made In China‬‬ ‫للزينة احلمراء‬ ‫رائحة ثمار فراولة‬ ‫تغطيها طبقة بيضاء لزجة من العفن‪.‬‬ ‫الربيــع فصــل احليــاة الزاهيــة والبهجــة‬ ‫الناجمــة عــن جتــدد احليــاة وتغييــر الطبيعــة‬ ‫جلدهــا‪ ،‬كيــف تســتحيل زهــوره مصــد ًرا‬ ‫لأللــم؟ وملــاذا يســتحضر الشــاعر ربيــع ‪2012‬‬ ‫حتديـ ًـدا؟ هــل يريــد الشــاعر أن يعقــد قرا ًنــا‬ ‫مجاز ًيــا بــن الربيــع الذابــل وربيــع الثــوارات‬ ‫واقعــا كابوس ـ ًّيا‬ ‫العربيــة الــذي اســتحال‬ ‫ً‬ ‫بعــد أن أخفقــت الثــورات العربيــة يف تلبيــة‬ ‫طموحــات الشــعوب يف نيــل حريتهــا؟ األتربــة‬ ‫تكســو أشــجار الكريســماس والعفــن يغطــي‬ ‫الثمــار يف حديقــة املستشــفى يف حيــاة مريضــة‬ ‫ترشــح باملــوت‪ .‬وقــد حلــت األشــجار املصنوعــة‬ ‫محــل نظيراتهــا الطبيعيــة يف إشــارة لطغيــان‬ ‫املكونــات الصناعيــة اجلامــدة علــى حياتنــا‪.‬‬ ‫أمــا عبــارة (‪ )Made In China‬فتبــدو صادمــة‬ ‫للسياق اللغوي مبا يعكس هذا الغزو الثقايف‬ ‫واالقتصــادي ألمنــاط ووســائل معيشــية وافــدة‬ ‫تخلخــل ركائــز حياتيــة وتنســخ هويــة ثقافيــة‪.‬‬ ‫إيمان مرسال‪ :‬قلق الهوية وشتات‬ ‫الذات في استعاداتها لزمكانها األول‬

‫مــن املوضوعــات املهمــة يف قصيــدة النثــر‬


‫‪13‬‬

‫إيمان مرسال‬ ‫املفســرة واملسـ ِّيجة لعناصــر الصــورة‬ ‫وتعليقاتــه‬ ‫ِّ‬ ‫وظاللهــا مــن خــال الهامــش الداخلــي‪ ،‬كمــا‬ ‫تلتقــط الصــورة أبــرز مالمــح التحــول الفارقــة‬ ‫التــي حلقــت باجملتمــع املصــري‪« :‬فســتان‬ ‫ـري (عبــد‬ ‫البنــت ليــس مــن القطــن املصـ ّ‬ ‫الناصــر‪ -‬الــذي كان يصنــع كل شــيء‪ -‬مــات‬ ‫منــذ ســنني)»‪ ،‬حيــث أفــول املشــروع الناصــري‬ ‫بطموحــه العظيــم لتأســيس دولــة مصريــة‬ ‫قويــة‪ ،‬ناهضــة‪ ،‬تعتمــد علــى الــذات يف توفيــر‬ ‫احتياجاتهــا‪.‬‬ ‫وإذا كان لكاتــب مثــل جنيــب محفــوظ‬ ‫أن يعقــد مقارنــة بــن عهــدي عبــد الناصــر‬ ‫والســادات يف روايتــه «يــوم قتــل الزعيــم» مــن‬ ‫خــال شــهادة أحــد أصــوات الروايــة «علــوان‬ ‫فــواز محتشــمي» الــذي مثَّ ــل فيهــا جيــل‬ ‫الشــباب املنكســر وا ُمل َبـ َّـددة آمالــه‪:‬‬ ‫ الرئيــس الراحــل يف هزميتــه أعظــم مــن‬‫هــذا يف نصــره‪.‬‬ ‫‪ ...‬جمــال شــهيد ‪ 5‬يونيــة‪ ،‬أمــا هــذا املنتصــر‬ ‫املعجبانــي فقــد شــذّ عــن القاعــدة‪ ،‬حتدانــا‬ ‫بنصــره‪ ،‬ألقــى يف قلوبنــا أحاســيس وعواطــف‬ ‫جديــدة لــم نتهيــأ لهــا‪ ،‬وطالبنــا بتغييــر النغمة‬ ‫التــي ألفناهــا جيــا بعــد جيــل‪ ،‬فاســتحق‬ ‫منــا اللعنــة واحلقــد‪ ،‬ثــم غالــى بالنصــر‬ ‫لنفســه تــاركً ا لنــا بانفتاحــه الفقــر والفســاد‪،‬‬ ‫هــذه هــي العقــدة‪ -‬فــإن للصــوت الشــعري يف‬ ‫خطــاب إميــان مرســال أن يحمــل إدانــة للعهــد‬ ‫الســاداتي‪ ،‬رغــم عــدم اإلشــارة املباشــرة لــه‪،‬‬ ‫وجتاهــل التصريــح بــه‪ ،‬فهــو غائــب‪ ،‬حضــوره‬ ‫ســلبي‪ ،‬لكــن اإلحالــة الزمنيــة‪« :‬ســاعة املــرأة‬ ‫ال تعمــل ولهــا حــزام عريــض (هــل يتماشــى‬ ‫ذلــك مــع موضــة ‪1974‬؟)» تختــار نقطــة‬ ‫زمنيــة فارقــة‪ ،‬بعــد أن حققــت مصــر انتصــا ًرا‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املصريــة والعربيــة متثُّ ــل الــذات لتاريخهــا‬ ‫بعــد رحيلهــا عــن مكانهــا األول‪ ،‬املوطــن‬ ‫واملنشــأ‪ ،‬إلــى املــكان اآلخــر‪ ،‬املهاجــر واملنــايف‪،‬‬ ‫ومــن التجــارب املهمــة يف هــذا املوضــوع جتربــة‬ ‫الشــاعرة إميــان مرســال‪ ،‬حيــث تســترجع تاريــخ‬ ‫الــذات واجلماعــة «العائلــة» يف ديوانهــا‪« ،‬حتــى‬ ‫أتخلــى عــن فكــرة البيــوت»(‪ ،)6‬إذ يســتعمل‬ ‫الصــوت الشــعري يف قصيــدة «لعنــة الكائنــات‬ ‫الصغيــرة» تقنيــة التصويــر الفوتوغــرايف‬ ‫بعــد الفــراغ مــن تــداول حكايــات األســاف‬ ‫وخطاباتهــم واحلكــي عنهــم‪:‬‬ ‫امــرأة وطفلــة‪ ،‬شــاحبتان ألن الصــورة لــم‬ ‫تكــن خاليــة مــن األحمــاض‪ ،‬املــرأة ال تبتســم‬ ‫(رغــم أنهــا لــم تكــن تعــرف أنهــا ســتموت بعــد‬ ‫يومــا بالضبــط)‪ ،‬البنــت‬ ‫ذلــك بســبعة وأربعــن ً‬ ‫ال تبتســم (رغــم أنهــا لــم تكــن تعــرف مــا هــو‬ ‫املــوت)‪ ،‬للمــرأة شــفتا البنــت وجبينهــا (للبنــت‬ ‫دائمــا خــارج‬ ‫أنــف الرجــل الــذي ســيظل‬ ‫ً‬ ‫الصــورة)‪ ،‬يـ ُـد املــرأة علــى كتــف الطفلــة‪ ،‬كــف‬ ‫الطفلــة منقبــض (ليــس ذلــك بفعــل الغضــب‬ ‫بــل لوجــود نصــف حبــة مــن الكراميــل)‪ ،‬فســتان‬ ‫ـري (عبــد‬ ‫البنــت ليــس مــن القطــن املصـ ّ‬ ‫الناصــر‪ -‬الــذي كان يصنــع كل شــيء‪ -‬مــات‬ ‫منــذ ســنني) واحلــذاء وارد غ ـزّة (غ ـزّة كمــا‬ ‫تعــرف لــم تعــد منطقــة حــرة علــى اإلطــاق)‪.‬‬ ‫ســاعة املــرأة ال تعمــل ولهــا حــزام عريــض (هــل‬ ‫يتماشــى ذلــك مــع موضــة ‪1974‬؟)‬ ‫بعــد أن يحكــي الصــوت الشــعري عــن‬ ‫اجلماعــة واألســاف ينتقــل للحديــث‬ ‫ـادا علــى تقنيــة التصويــر‬ ‫عــن الــذات اعتمـ ً‬ ‫الفوتوغــرايف‪ .‬احلكــي يع ِّبــر عــن وضعيــة‬ ‫حركيــة وســيرورة دائــرة‪ ،‬أمــا الفوتوغرافيــا‬ ‫فتع ِّبــر عــن حالــة ثبــات ووضعيــة جتميــد‬ ‫ممتد‬ ‫للحركــة وتوقيــف للفعــل‪ .‬للحكــي فضاء‬ ‫ٌّ‬ ‫ومكانيــا‪ ،‬أمــا الصــورة الفوتوغرافيــة‬ ‫زمانيــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وم َق َيــدة اللحظــة‪ .‬احلكــي‬ ‫فمحــدودة الفضــاء ُ‬ ‫ُم َتنَا َقــل‪ ،‬فيــه شــراكة مــع الغيــر وأخــذٌ عنهــم‪،‬‬ ‫الفوتوغرافيــا ذاتيــة‪ .‬احلكــي أقــرب للدراميــة‬ ‫أمــا الفوتوغرافيــا فهــي أقــرب للغنائيــة وروح‬ ‫الشــعر وذاتيــة منزعــه‪.‬‬ ‫تقــوم الــذات بتجريــد ذات أخــرى يف‬ ‫الصــورة‪ ،‬فالــذات تتحـ ّـدث عــن نفســها كأخــرى‪،‬‬ ‫فتقــف الــذات الشــاعرة علــى َمبعــدة مــن ذاتهــا‬ ‫األخــرى‪ ،‬تلــك الــذات الطفوليــة‪ ،‬وقــد كســا‬ ‫الشــحوب الطفلــة وأمهــا‪ ،‬وغــاب االبتســام‬ ‫عنهمــا‪ ،‬بينمــا يرفــرف طائــر املــوت تأه ًبــا‬ ‫لقنــص ضحيتــه القادمــة «األم»‪.‬‬ ‫تقــوم تقنيــة الفوتوغرافيــا علــى كتابــة‬ ‫مزدوجــة بــن مــن رئيســي وهامــش متضمــن‬ ‫يف الهيــكل الكلــي للنــص الشــعري‪ ،‬حيــث يقــوم‬ ‫الصــوت الشــعري ببــث مالحظاتــه الشــارحة‬

‫يف حــرب أكتوبــر‪ ،1973‬واســتغالل النظــام‬ ‫الســاداتي هــذا االنتصــار النســبي الــذي لــم‬ ‫تكتمــل نتائجــه املرجــوة إال بإبــرام معاهــدة‬ ‫ســام مــع إســرائيل‪ -‬لتمريــر سياســاته‬ ‫االقتصاديــة‪ ،‬فيمــا ُعــرف مبشــروع االنفتــاح‬ ‫االقتصــادي‪ ،‬يف حــن أضمــر النظــام الســاداتي‬ ‫تنكـ ًـرا للمشــروع الناصــري الــذي قــام علــى‬ ‫ـاء‬ ‫إقامــة صناعــة وطنيــة قويــة حتقــق اكتفـ ً‬ ‫ذات ًّيــا مــن الســلع‪ ،‬فاســتبدل ً‬ ‫ـتهالكيا‬ ‫منطــا اسـ‬ ‫ً‬ ‫يقــوم علــى اســتيراد الســلع مــن اخلــارج بنمــط‬ ‫إنتــاج اقتصــاد وطنــي‪ ،‬فــكال النصــن حملفــوظ‬ ‫ومرســال قــد مثَّ ـ َـل صوتاهمــا جيــل الشــباب‬ ‫موجعــة‬ ‫الــذي تفتــح وعيــه علــى انكســارات ِ‬ ‫وهزائــم كبــرى‪ ،‬حتــى االنتصــار الوحيــد الكبيــر‬ ‫الــذي حققتــه مصــر قــد انطفــأ بريقــه وفقــد‬ ‫معنــاه بســلطوية النظــام واســتبداده وتخليــه‬ ‫عــن الفقــراء ومحــدودي الدخــل‪ ،‬املهمشــن‬ ‫مــن أبنــاء الوطــن‪.‬‬ ‫ولكــن مــا داللــة ســاعة املــرأة ا ُمل َع َّطلــة‬ ‫بحزامهــا العريــض ومــدى متاشــي ذلــك مــع‬ ‫موضــة ‪1974‬؟ هــل الســاعة‪ ،‬وهــي رمــز الزمــن‬ ‫ومجلــى دورتــه‪ ،‬التــي ال تعمــل‪ ،‬رمــز للزمــن‬ ‫الــذي توقــف أو املشــروع الوطنــي الناصــري‬ ‫الــذي وأده النظــام الســاداتي؟ هــل تكــون‬ ‫الســاعة ا ُمل َع َّطلــة رمــزً ا دا ًلا علــى محاولــة‬ ‫الريفيــن وا ُمل َه َّمشــن التحايــل علــى مظاهــر‬ ‫حيــاة لــم يعــودوا قادريــن علــى مواجهــة دورتهــا‬ ‫نهكــة؟ عالمــة علــى‬ ‫الطاحنــة ومتطلباتهــا ا ُمل ِ‬ ‫فقــد هــؤالء الريفيــن والبســطاء للزمــن الــذي‬ ‫لــم يعــد لهــم؟‬ ‫وتأتــي اســترجاعات مرســال للزمــن املاضــي‬ ‫يف مقابــل صدمــة الوجــود يف مــكان آخــر مغايــر‬ ‫عــن املــكان األول‪ ،‬الوطــن‪ ،‬كمــا يف قصيــدة‬ ‫بعنــوان «مقالــة عــن ألعــاب الطفولــة»‪:‬‬ ‫كثيـ ٌـر مــن ألعــاب الطفولــة يقــوم علــى فقــد‬ ‫حاسـ ٍـة مــن احلــواس األساســية‪ ،‬فمثــا ُلعبــة‬ ‫احلجلــة تتطلــب مــن الالعــب املاهــر أن ينـ ّ‬ ‫ـط‬ ‫ـدم واحــدة بينمــا األخــرى‬ ‫مــن مربــع آلخــر بقـ ٍ‬ ‫ُمعطلــة يف الهــواء‪ ،‬كأنهــا ُقطعــت منــذ زمــن‬ ‫كاف ليتــدرب علــى القفــز بدونهــا‪.‬‬ ‫رمبــا أنــا يف هــذه القــارة كــي أمشــي وحــدي‬ ‫لعــدة أيــام أو ســنوات وكأن ال أحــد هنــاك‬ ‫يحتاجنــي‪ ،‬ينتظرنــي‪ ،‬يطالبنــي‪ ،‬يحبنــي‪،‬‬ ‫يستوحشــني‪ ،‬يخــاف علـ ّـي‪.‬‬ ‫احلجلــة ليســت إال مجــازًا فاشـ ًلا ألننــي يف‬ ‫احلقيقــة وأنــا هنــا أحتــاج كل هــؤالء الذيــن‬ ‫أصحــو وأنــام بدونهــم وأعــرف أن البعــد لــم‬ ‫يقلــل مــن وطــأة الذنــب‪« .‬الذنــب»‪ ،‬الكلمــة التــي‬ ‫تــرنُّ بداخلــي كلمــا تذكـ ُ‬ ‫ـرت أننــي «مــن هنــاك»‪،‬‬ ‫لقــد أصبحـ ُـت حتــى أكثــر وأكثــر «مــن هنــاك»‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫منــذ غـ ُ‬ ‫ـادرت ُهنــاك‪ .‬الذنــب «يأكلنــي» حتديـ ًـدا‬ ‫منــذُ وصلـ ُـت باألمــس فقــط ملدينــة تطـ ُّـل علــى‬ ‫محيــط مــا ألقــرأ قصائــد مــا علــى مســرح كبيــر‬ ‫مــا‪ ،‬وألشــرب نبيــذً ا جيـ ًـدا مــع ُكتــاب موهوبــن‬ ‫وليســوا مــن هنــاك‪.‬‬ ‫ـخص جــاء إلــى هنــا ليقــرأ‬ ‫مــاذا يفعــل شـ ٌ‬ ‫قصائــد عــن ُهنــاك ألنــاس ليســوا مــن ُهنــاك‬ ‫حــن يأكلــه الذنــب ســوى أن يقــف مثلــي اآلن‬ ‫ويشــعل ســيجارة‬ ‫يف شــرفة فنــدق خمــس جنــوم ُ‬ ‫ثــم يلعــن العالــم بالصــراخ والهمهمــة علــى‬ ‫أمــل أن يأخــذه البوليــس إلــى الســجن‪ ،‬علــى‬ ‫أمــل أن يحــدث شــيء مينعــه مــن إلقــاء نفســه‬ ‫مــن الطابــق الســابع ثــم عندمــا يــدق بــاب‬ ‫الغرفــة يختفــي خلــف أغطيــة الســرير كأنــه يف‬ ‫ـتغماية‪.‬‬ ‫ُلعبــة اسـ ّ‬ ‫تواصــل الــذات الشــاعرة ممارســة الوهــم‬ ‫تصدرهــا للمتلقــي‬ ‫بحيلهــا الكتابيــة التــي‬ ‫ِّ‬ ‫إربــاكً ا حلســاباته ومخاتلــة ألشــكال الكتابــة‬ ‫التقليديــة؛ فتحــاول هــذه املــرة أن تُلبــس‬ ‫القصيــدة رداء املقالــة أو لنقــل إنهــا تُطلــق‬ ‫أيضــا‪ ،‬املقالــة‬ ‫القصيــدة مــن قالــب مقاالتــي‪ً .‬‬ ‫لــون نثــري‪ ،‬أي خــارج الشــعر‪ ،‬هــي فــن كتابــي‬ ‫أقــرب إلــى املوضوعيــة وأبعــد عــن اجملــاز‬ ‫والفعــل التخييلــي‪ .‬إذن‪ ،‬هــي محاولــة أخــرى‬ ‫إلضفــاء الــذات الشــاعرة ِمســحة موضوعيــة‬ ‫علــى مقوالتهــا‪.‬‬ ‫أيضــا‪ -‬كمعظــم‬ ‫يبــدو مــن هــذه القصيــدة‪ً -‬‬ ‫كتابيــا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫مصفو‬ ‫قصائــد الديــوان أن كلماتهــا‬ ‫ً‬ ‫يف تتابــع خطــي تســتغرق فيــه الكلمــات‬ ‫األســطر الكتابيــة كاملــة دون قطــع للتدفــق‬ ‫اخلطــي الكتابــي أو توزيــع للكلمــات علــى‬ ‫الســطح الكتابــي مبــا ُيتيــح مســاحة للفــراغ‬ ‫والبيــاض‪ ،‬وهــو مــا يتنافــى مــع الشــكل الكتابي‬ ‫املألــوف للشــعر ســواء لقصيدتــه التفعيليــة أو‬ ‫قصيــدة النثــر‪ .‬إذن‪ ،‬فالــذات الشــاعرة متــارس‬ ‫لعبــة الشــكل الكتابــي لإليهــام بالالشــعر‪،‬‬ ‫أو لنقــل إنهــا حتــاول كســر اإليهــام الشــعري‬ ‫بتصديــر شــكل كتابــي واتخــاذ قالــب خطابــي‬ ‫ينتمــي إلــى النثــر ال إلــى الشــعر‪.‬‬ ‫ُت ِّثــل الــذات الشــاعرة حملاولتهــا العيــش‬ ‫يف املــكان اآلخــر بعــد الرحيــل عــن املــكان األول‪،‬‬ ‫املوطــن‪ ،‬وعــدم شــعورها بحاجــة اآلخر من أهل‬ ‫هــذا املــكان اآلخــر لهــا‪ ،‬بلعبــة «احلجلــة»‪ ،‬التــي‬ ‫تقــوم علــى «التظاهــر» و»االدعــاء» باالســتغناء‬ ‫عمــا يكــون اجلســد بحاجــة إليــه‪ ،‬ومواصلــة‬ ‫«احليــاة»‪ -‬ولــو لفتــرة أو برهــة زمنيــة‪-‬‬ ‫ـتغنيا عمــا ينقصــه‪ .‬تعتمــد الصــورة‬ ‫مسـ ً‬ ‫اجملازيــة علــى تشــبيه متثيلــي‪ ،‬ولكــن بتقــدمي‬ ‫املشــبه بــه «لعبــة احلجلــة» علــى ا ُملش ـ َّبه‪ ،‬فقــد‬ ‫عمومــا يف هــذا املــكان‬ ‫«اآلخــر» أو فقــد «النــاس»‬ ‫ً‬ ‫اآلخــر‪ .‬فيبــدو أن مــن جماليــات قصيــدة النثــر‬

‫وهمــا فعــان صوتيــان متباينــان بــن حـ ّـدة‬ ‫الصــوت وارتفاعــه يف مقابــل انخفاضــه ما يدل‬ ‫علــى اضطــراب الــذات وتوترهــا الشــديد‪ ،‬ثــم‬ ‫تكــون الرغبــة يف اللــوذ بـ(الســجن) واالحتمــاء‬ ‫رفضــا للحيــاة‬ ‫بــه مــن (االنتحــار) الــذي يعكــس ً‬ ‫ويأســا منها يف هذا املكان اآلخر‪ ،‬حيث اســتبد‬ ‫ً‬ ‫اخلــوف مــن اآلخــر بالــذات التــي تختفــي مــن‬ ‫هــذا اآلخــر‪.‬‬ ‫عزمي عبد الوهاب‪ :‬إحباط الذات في‬ ‫عالم يتداعى‬

‫عزمي عبدالوهاب‬ ‫التصويريــة هــو متــدد صورهــا ومتثيلهــا ملــا‬ ‫مبركَّ ــب مشــهدي‪.‬‬ ‫هــو نفســي ومتثــل داخلــي ُ‬ ‫وتصــدر املش ـ َّبه بــه قبــل املشــبه يف خــروج علــى‬ ‫املألــوف يف البالغــة التقليديــة‪.‬‬ ‫يبــدو مــن الصــورة التــي تســوقها الصياغــة‬ ‫الفنيــة أن ثمــة اضطرا ًبــا نفسـ ًـيا وتوتـ ًـرا‬ ‫تواجهــه الــذات يف مكانهــا اآلخــر‪ ،‬بــن‬ ‫محاولــة «التعايــش» يف هــذا املــكان اآلخــر‬ ‫الــذي الذت بــه مــن مكانهــا األول الــذي صــار‬ ‫الـ»هنــاك» بالنســبة لهــا‪ ،‬والشــعور بـ»الذنــب»‬ ‫ألنهــا يف مكانهــا اآلخــر ترفــد مــن مكانهــا‬ ‫األول لتكويــن عاملهــا الشــعري‪ .‬فلــم تــزل‬ ‫الــذات عالقــة مبكانهــا األول‪ ،‬ومــا زادهــا املــكان‬ ‫ً‬ ‫ارتباطــا باملــكان األول‪ ،‬الــذي غابــت‬ ‫اآلخــر إال‬ ‫جغرافيــا وحضــر هــذا املــكان يف شــعرها‬ ‫عنــه‬ ‫ً‬ ‫موضوعــا وشــاغ ًلا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـخص جــاء‬ ‫يبــدو التســاؤل‪( :‬مــاذا يفعــل شـ ٌ‬ ‫إلــى ُهنــا ليقــرأ قصائــد عــن ُهنــاك ألنــاس‬ ‫ليســوا مــن ُهنــاك) معبـ ًـرا عــن عجــز عــن‬ ‫الفعــل أو افتقــاد املبــرر للقيــام بــه‪ ،‬ثــم تأخــذ‬ ‫الــذات التــي تواجــه شــعو ًرا باالنفصــام الثقــايف‬ ‫عبثيــا و ُتغــرق يف عدميتهــا‬ ‫يف أن ت ّتخــذ منحــى‬ ‫ً‬ ‫بــأن تقــف يف (شــرفة فنــدق خمــس جنــوم)‪،‬‬ ‫ثــم تلعــن (العالــم بالصــراخ والهمهمــة)‬ ‫علــى أمــل الذهــاب إلــى (الســجن) علــى أمــل‬ ‫النجــاة مــن (االنتحــار)‪ ،‬فقــد حــل الفنــدق يف‬ ‫املــكان اآلخــر محــل البيــت مســكنًا‪ ،‬إذ فقــدت‬ ‫الــذات بيتيتهــا‪ ،‬ورغــم ارتفــاع مســتوى املعيشــة‬ ‫والرفاهيــة‪ ،‬واإلقامــة يف (فنــدق خمــس جنــوم)‬ ‫غيــر أن الــذات تقــف بالشــرفة‪ ،‬فهــي ال متكــث‬ ‫وال تســتقر‪ ،‬والوقــوف بالشــرفة قــد يعنــي‬ ‫عــدم االرتيــاح للداخــل (الفنــدق) والشــعور‬ ‫باالختنــاق مــن أجوائــه‪ ،‬ثــم متيــل الــذات نحــو‬ ‫العدميــة بلعــن العالــم (بالصــراخ والهمهمــة)‬

‫ينتمــي عزمــي عبــد الوهــاب إلــى جيــل‬ ‫التســعينيات مــن شــعراء قصيــدة النثــر‬ ‫املصريــة‪ ،‬كأحــد األصــوات البــارزة واملهمــة يف‬ ‫هــذا اجليــل الــذي واجــه أســئلة كبــرى ســواء‬ ‫علــى صعيــد عــام يف فتــرة حتــوالت مفصليــة‬ ‫كانتهــاء احلــرب البــاردة‪ ،‬والتحــوالت السياســة‬ ‫يف مصــر بأثــر مرحلــة مــا بعــد كامــب ديفيــد‬ ‫ومحاولــة امليــل أكثــر نحــو املعســكر الغربــي‬ ‫الرأســمالي وحتديـ ًـدا األمريكــي مــا مثَّ ــل‬ ‫خصوصــا ملثقفــي اليســار‬ ‫صدمــة حقيقيــة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومبدعيــه مــع تداعــي االحتــاد الســوفيتي‬ ‫عامل ًّيــا‪ ،‬أو علــى صعيــد الشــعر واإلبــداع‪.‬‬ ‫يحمــل شــعر عزمــي عبــد الوهــاب طابــع‬ ‫الرثــاء للواقــع وأحــوال الــذات التــي تبــدو‬ ‫مســتلبة يف عاملهــا‪ ،‬ثمــة شــعور بنقــص حــاد‬ ‫تواجهــه الــذات وتواجــه طواحــن األقــدار‬ ‫املمانعــة إلرادتهــا كســيرفانتس‪ ،‬أو كأ َّنهــا‬ ‫تدافــع صخــرة الالمواتــات الثقيلــة املدافعــة‬ ‫لهــا كســيزيف‪ ،‬فــكأنَّ ثمــة تعسـ ًـرا يف التوافــق‬ ‫الوجــودي تعانيــه الــذات يف هــذا العالــم‪.‬‬ ‫ثمــة حــس رومانســي لــدى عزمــي عبــد‬ ‫الوهــاب تبــدو عالقــة الــذات مــع آخرهــا‪ /‬املــرأة‬ ‫هــي مبثابــة متثيــل أحيا ًنــا أو نتيجــة أحيا ًنــا‬ ‫أخــرى لضيــق الواقــع علــى الــذات وإجهاضــه‬ ‫ألحــام التحقــق أو التوافــق مــع اآلخــر لعــدم‬ ‫التكيــف مــع هــذا الواقــع‪ ،‬كمــا‬ ‫اســتطاعتها‬ ‫ُّ‬ ‫يف قصيــدة بعنــوان «كان الفيلــم رديئــا فعــا!»‬ ‫مــن مختــارات شــعرية بعنــوان ذئــب وحيــد يف‬ ‫اخلــاء(‪:)7‬‬ ‫يف الشارع‬ ‫كانا وحيدين كإشارة املرور‬ ‫كاحلزن‪..‬‬ ‫وكأن غريبني التقيا صدفة‬ ‫أمام بار قدمي‬ ‫يف وسط املدينة‬ ‫بينما مذياع شرطي فقير‬ ‫كان يغني‪:‬‬ ‫(ملا الشتا يدق البيبان)‬


‫‪15‬‬

‫اجلديــدة التــي بــدأت تغيــر مالمــح املدينــة‪،‬‬ ‫املركــز‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬ويبــدو أنَّ التمركَّ ــز أمــام بــار‬ ‫قــدمي‪ ،‬كأحــد معالــم املدينــة القدميــة ُيع ِّبــر عن‬ ‫انتمــاء الــذوات إلــى املدينــة القدميــة يف وســط‬ ‫املدينــة ال إلــى املدينــة اجلديــدة‪ ،‬التــي شــملتها‬ ‫مظاهــر «األمركــة» والرأســمالية اجلديــدة‬ ‫التــي واكبــت مشــروع اخلصخصــة‪ ،‬فيكشــف‬ ‫الصــوت الشــعري عــن أنَّ احليــاة التــي مبعنــى‬ ‫رفاهيــة العيــش «هنــاك» أي بعيــدة عــن متنــاول‬ ‫الرفيقــن احلبيبــن‪ ،‬حيــث جتمعــات األثريــاء‬ ‫وقتهــا‪« ،‬جنــب كورنيــش املقطــم»‪ ،‬فيبــدو هــذا‬ ‫النــص متثي ـ ًا لقاهــرة التســعينيات التــي‬ ‫يرثــي الصــوت الشــعري انفصاميتهــا التــي‬ ‫وتراكمــا للتحــوالت الســبعيناتية‬ ‫تعــد نتيجــة‬ ‫ً‬ ‫التــي غ َّيــرت هويــة املدينــة‪.‬‬ ‫ومــن آليــات األداء الشــعري االلتفــات‬ ‫الضمائــري‪ ،‬بإشــارة الصــوت الشــعري‬ ‫للرفيقــن بضميــر املثنــى الغائــب‪ ،‬ثــم اإلشــارة‬ ‫إليهمــا بضميــر اخملاطــب املؤنــث للحبيبــة‬ ‫والغائــب املفــرد كاســتعارة عــن الــذات ويبــدو أن‬ ‫هــذا االنتقــال والفصــل الضمائــري مــن املثنــى‬ ‫إلــى املفــرد عالمــة نحويــة دالــة علــى انفصــال‬ ‫احلبيبــن وافتراقهمــا أو الشــروع يف ذلــك‪.‬‬ ‫مــن اآلليــات الشــعرية األساســية يف نــص‬ ‫عزمــي عبــد الوهــاب التنــاص بالتضمــن‪،‬‬ ‫حيــث يضــم نســيج النــص مقاطــع مــن‬ ‫أغنيــة املطــرب علــي احلجــار التســعينية‬ ‫«ملــا الشــتا يــدق البيبــان» للشــاعر إبراهيــم‬ ‫عبــد الفتــاح‪ ،‬املبثوثــة عبــر مذيــاع شــرطي‬ ‫فقيــر‪ ،‬يف توظيــف ســينمائي للشــخصيات‬ ‫الثانويــة‪ ،‬كهــذا الشــرطي الفقيــر‪ ،‬الــذي رمبــا‬ ‫حارســا برتبــة بســيطة مــن العســكر‪ ،‬يف‬ ‫يكــون‬ ‫ً‬ ‫فضــاء الســرد الشــعري‪ ،‬كعالمــة مــن عالمــات‬ ‫املهمشــن أو الكادحــن يف املدينــة‪ ،‬فتبــدو‬ ‫َّ‬ ‫املقطتعــات املبثوثــة مــن نــص األغنيــة مبثابــة‬ ‫خلفيــة موســيقية للنــص الشــعري أو لنقــل‬ ‫متازجــا دالل ًّيــا وتوظيفً ــا لألغنيــة‬ ‫إنَّ ثمــة‬ ‫ً‬ ‫يف الســياق الداللــي للقصيــدة‪ ،‬فــإذا كانــت‬ ‫األغنيــة حتكــي عــن اســتعادة الصــوت املغنــي‬ ‫املعــادل للصــوت الشــعري يف القصيــدة لقصــة‬ ‫رغمــا عــن‬ ‫حــب آلــت بافتراقــه عــن حبيبتــه ً‬ ‫إرادتهمــا‪ ،‬فالقصيــدة تلـ ِّوح بافتــراق احلبيبــن‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫كنت تبحثني عن حذاء األميرة‬ ‫يف األسطورة القدمية‬ ‫وهو ِّ‬ ‫يضيع وجهه يف «نيون» اإلعالنات‬ ‫يف املطاعم‬ ‫وهي تكنس خطوته األخيرة‬ ‫كان يغني‪:‬‬ ‫(ملا املطر يغسل شوارعنا القدمية‬ ‫واحلارات)‬ ‫احلياة هناك إذن‬ ‫جنب كورنيش املقطم‬ ‫والنافورة العاطلة عن الكالم‬ ‫والسنترال وهو يغلق بابه‬ ‫على آخر برقيات العزاء والبهجة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رديئا كان‪:‬‬ ‫والفيلم‬ ‫يدك دافئة‪ ..‬باردة‪ ..‬دافئة‬ ‫تبتسمني‬ ‫وحيدا كالفجيعة‬ ‫فيمضي‬ ‫ً‬ ‫وتغيبني يف البرد والظالم‪..‬‬ ‫ثمــة قــوة أكبــر مــن الرفيقــن‪ /‬احلبيبــن‬ ‫تشــعرهما بالوحــدة‪ ،‬فالواقــع املأســاوي قــد‬ ‫بــدا أقــوى مــن أيــة روابــط قــد جمعــت الشــاعر‬ ‫بآخــره‪ ،‬ويســفر إعــان الصــوت الشــعري عــن‬ ‫الشــعور بالوحــدة علــى الرغــم مــن صحبــة‬ ‫رفيقتــه فقــدان العالقــة العاطفيــة التــي‬ ‫جتمعهمــا القــدرة علــى تبديــد الشــعور‬ ‫باالغتــراب يف املدينــة القاســية‪ ،‬ويبــدو مــن‬ ‫تشــبيه الشــاعر للرفيقــن يف شــعورهما‬ ‫بالوحــدة بـ»إشــارة املــرور» التمثُّ ــل التش ـ ّيؤي‬ ‫للــذوات‪ ،‬وتشــبيهما كذلــك باحلــزن يف جتريــد‬ ‫للمش ـ َّبه‪ ،‬فقــد بــات الرفيقــان عالمــة علــى‬ ‫احلــزن‪ ،‬فقــد بــدا الرفيقــن كـ»غريبــن التقيــا‬ ‫صدفــة أمــام بــار قــدمي»‪ ،‬فإحســاس الــذات‬ ‫بصدفويــة عالقتهــا بآخرهــا يعكــس تخبطهــا‬ ‫الوجدانــي وتذبذبهــا النفســي واهتزازهــا‬ ‫الشــعوري‪ ،‬فيتبــدى أنَّ الشــعور بالغربــة عــن‬ ‫اآلخــر والفتــور العاطفــي معــاد ًال مجاز ًيــا عــن‬ ‫انفصــام الــذات والانتمائهــا إلــى عاملهــا‪ ،‬أمــا‬ ‫متثُّ ــل اللقــاء باآلخــر أمــام بــار قــدمي فيعكــس‬ ‫عشــوائية التوافــق ووهميــة االرتبــاط الــذي‬ ‫جمــع الــذات بآخرهــا‪ ،‬مبعنــى كأنَّ الرفيقــن‬ ‫كان اقترانهمــا املزيــف بأثــر تالقيهمــا أمــام‬ ‫البــار القــدمي‪ ،‬وســواء كان اللقــاء بعــد اخلــروج‬ ‫مــن البــار أو قبــل الشــروع يف ارتيــاده‪ ،‬فالوقــوف‬ ‫أمــام البــار يعنــي رغبــة الــذوات يف الشــراب‬ ‫والســعي لتغييــب الوعــي‪ُ ،‬رمبــا فــرا ًرا مــن‬ ‫ـاس لــم تعــد ثمــة قــدرة‬ ‫واقــع أليــم وعالــم قـ ٍ‬ ‫أو احتمــال علــى مواجهتــه‪ ،‬كمــا أنَّ البــار‬ ‫القــدمي قــد مي ِّثــل مظهـ ًـرا تناقض ًّيــا للمظاهــر‬

‫يحمل شعر عزمي‬ ‫عبد الوهاب طابع‬ ‫الرثاء للواقع وأحوال‬ ‫الذات التي تبدو‬ ‫مستلبة في عالمها‬

‫وبانفصالهمــا العاطفــي يف حت ـ ّول عــن عالقــة‬ ‫احلـ ّـب التــي جمعتهمــا‪ ،‬فتكشــف اســتعارة‬ ‫مثــل‪( :‬كنــت تبحثــن عــن حــذاء األميــرة‪ /‬يف‬ ‫األســطورة القدميــة) عــن التح ـ ّول يف العالقــة‬ ‫العاطفيــة بــن احلبيبــن‪ ،‬فــإذا كانــت األميــرة‬ ‫ســندريال هــي رمــز للفتــاة الفقيــرة التــي أفضى‬ ‫عثورهــا علــى احلــذاء يف األســطورة القدميــة‬ ‫إلــى زواجهــا مــن األميــر وانتقالهــا مــن بــؤس‬ ‫العيــش إلــى الرفاهيــة والثــراء‪ ،‬فــإنَّ اســتعمال‬ ‫هــذا التمثيــل األســطوري يف التشــكيل‬ ‫االســتعاري هنــا‪ ،‬رمبــا تأكيـ ًـدا‪ ،‬مــن وعــي الــذات‬ ‫الشــاعرة‪ ،‬بــأنَّ هــذا هــو مصيــر قصــص احلــب‬ ‫منــذ قــدمي األزل‪ ،‬بــأن تفقــد احلبيبــة قدرتهــا‬ ‫علــى احتمــال عســر العيــش مــع حبيبهــا‬ ‫ً‬ ‫بحثــا عــن الثــراء مــع رجــل آخــر‪« ،‬أميــر»‪،‬‬ ‫مينحهــا رخــاء العيــش ويرتفــع مبكانتهــا يف‬ ‫ســلم التقديــر االجتماعــي‪ .‬ولنــا أن نالحــظ‬ ‫اقتــران االنهزاميــة يف قصــص احلــب التــي‬ ‫تنتهــي بافتــراق احلبيبــن لعــدم قدرتهمــا‬ ‫علــى مواجهــة الواقــع االقتصــادي الــذي هــو‬ ‫أقــوى مــن عالقــات احلــب يف األدب املصــري‬ ‫مبجتمــع مــا بعــد االنفتــاح االقتصــادي‪،‬‬ ‫مثلمــا كان يف روايــة يــوم قتــل الزعيــم لنجيــب‬ ‫محفــوظ مــن اضطــرار الشــاب احلبيــب علــوان‬ ‫فــواز محتشــمي زايــد إلــى فســخ خطوبتــه‬ ‫وتــرك حبيبتــه «رنــدة ســليمان مبــارك» تتــزوج‬ ‫مــن مديــره يف الشــركة‪ ،‬ذلــك الكهــل الثــري‪.‬‬ ‫كمــا تكشــف سلســلة مــن االســتعارات مثــل‬ ‫يضيــع وجهــه يف «نيــون» اإلعالنــات‪/‬‬ ‫(وهــو ِّ‬ ‫يف املطاعــم‪ /‬وهــي تكنــس خطوتــه األخيــرة)‬ ‫عــن ســحق املدينــة مبظاهرهــا املترفــة املع ِّبــرة‬ ‫عــن اجتاهــات اســتهالكية يف أعقــاب مشــاريع‬ ‫االنفتــاح االقتصــادي واخلصخصــة لفئــات‬ ‫مــن املهمشــن وحتــى الطبقــة الوســطى التــي‬ ‫أخــذت يف التــآكل‪ .‬ويف شــعر احلداثــة تبــدو‬ ‫اســتعارة املــرأة أو األنثــى الرفيقــة التــي أمســت‬ ‫غريبــة متثي ـ ًا رمز ًّيــا مقتر ًنــا بشــعور الــذات‬ ‫باالنفصــال عــن املدينــة‪ ،‬كمــا كان عنــد أحمــد‬ ‫عبــد املعطــي حجــازي يف قصيــدة «لقطــة‬ ‫تذكاريــة للقــاء عابــر»‪:‬‬ ‫قطار‬ ‫كراك َب ْي‬ ‫ُكنَّ ا ِ‬ ‫ْ‬ ‫يلفح ٌّ‬ ‫بصمت ِه‬ ‫كل منهما رفيقَ ه‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫القصار‬ ‫ونظراته‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫عالمة‬ ‫مؤتنسي دومنا‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫الفرار!‬ ‫وراغبي يف‬ ‫ِْ‬ ‫ْ‬ ‫املساء‬ ‫خرجت أول‬ ‫حني‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫رجل غيري‬ ‫مسلوبا كأني‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫علي‬ ‫وهذه مدينة غريبة َّ‬ ‫فــكأنَّ فقــدان الــذات انتماءهــا للمدينــة‬ ‫يفقدهــا الشــعور باأللفــة والتوافــق مــع اآلخر‪/‬‬


‫‪16‬‬ ‫املرأة أو احلبيبة‪ .‬كذلك تكشــف اســتعارة مثل‪:‬‬ ‫(النافــورة العاطلــة عــن الــكالم) عــن حالــة‬ ‫اخلــرس التــي تتمثلهــا الــذات يف األشــياء بأثــر‬ ‫إســقاطها حالتهــا اخلاصــة وشــعورها بالعجــز‬ ‫عــن الــكالم‪ُ ،‬ر َّبــا لإلحســاس بعــدم جــدواه‬ ‫علــى أشــياء العالــم‪.‬‬ ‫وكــم هــو الفــت التوافــق اللغــوي بــن نــص‬ ‫أغنيــة بالعاميــة لكنهــا تبــدو ذات أجروميــة‬ ‫فصيحــة‪ ،‬إذ ُيكــن نطــق جمــل نــص إبراهيــم‬ ‫عبــد الفتــاح املغ َّنــى بالفصحــى‪ ،‬دومنــا تغييــر‬ ‫يف حــروف كلماتــه‪ ،‬وكذلــك تبــدو كلمــات‬ ‫النــص اإلطــار لعزمــي عبــد الوهــاب بســيطة‬ ‫يف فصاحتهــا مثلمــا الظــرف املكانــي (جنــب)‬ ‫املشــترك بــن الفصحــى والعاميــة‪ ،‬لــذا فقــد‬ ‫جنــح نــص القصيــدة اإلطــاري بالفصحــى‬ ‫يف اســتيعاب نــص أغنيــة بالعاميــة الراقيــة‬ ‫يف توافــق مســتوياتي يف اللغــة الشــعرية التــي‬ ‫أذابــت النــص العامــي يف النــص الفصحــى‪.‬‬ ‫جورج ضرغام‪ :‬الشعر كمرثية‬ ‫للعالم والشعر‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫تتشــابك لــدى الشــاعر جــورج ضرغــام يف‬ ‫ديوانــه‪ ،‬هيســتريا شــتاء قاهــري(‪ ،)8‬ألــوانٌ عــدة‬ ‫للفقــد‪ ،‬فقــد الــذات ملدينتهــا القاهــرة مبعاملهــا‬ ‫األثيــرة كالنيــل الــذي تشــعر الــذات بجفافــه‪،‬‬ ‫ـس الــذات فقـ ًـدا حلقوقهــا املشــروعة‬ ‫كمــا حتـ ّ‬ ‫يف االختــاف ســواء لكونهــا متثــل «أقليــة» مــا‬ ‫أيديولوجيــة أو سياســية أو دينيــة أو فنيــة‪.‬‬ ‫يحفــل خطــاب ضرغــام بالرثــاء ملــا اســتبد‬ ‫بالعالــم مــن مــوات ومــا غشــاه مــن خــواء‪،‬‬ ‫فيطلــق اخلطــاب الشــعري صيحاتــه املبطنــة‬ ‫بنبــرات األلــم علــى حــال هــذا العالــم وحــال‬ ‫«القاهــرة»‪:‬‬ ‫وقت ثلجي‬ ‫العالم خلفي تصـحبه زوبعة‬ ‫كأنفاس امرأة بال نهدين‬ ‫فلم أعد اشتهيه‪.‬‬ ‫املالئكة غادرت مبكرا‬ ‫لتخلو حكايا القاهرة‬ ‫من ثرثرة العجوز األبيض الساهر‬ ‫حتت نافذتي‪،‬‬ ‫وتُستبدل بحكايا انتهاكات حقوق‬ ‫اإلنسان‪.‬‬ ‫يرثــي اخلطــاب الشــعري حالــة مــن اجلمــود‬ ‫واالحتضــار أملــت بالعالــم الــذي يســوده حالــة‬ ‫مــن االضطــراب املــازم حلالــة مــن الشــحوب‪،‬‬ ‫ممــا يفقــد الــذات شــهوتها بالعالــم فتزهــد‬ ‫فيــه‪ ،‬واملالحــظ أن وضعيــة الــذات يف احتكاكهــا‬ ‫بالعالــم لــم تكــن املواجهــة بــل كان موقــع‬

‫جورج ضرغام‬ ‫الــذات مــن العالــم هــو االنبتــات عنــه زهـ ًـدا‬ ‫فيــه لفقــد ذلــك العالــم قيمتــه‪ ،‬فالعالــم‬ ‫وراء الــذات وليــس أمامهــا ممــا يؤكــد علــى‬ ‫تركهــا لذلــك العالــم والتحــول عنــه‪ ،‬كمــا‬ ‫يرثــي اخلطــاب الشــعري انتفــاء النقــاء األمــر‬ ‫الــذي أدى لغيــاب الرجــل العجــوز مــن حكايــا‬ ‫القاهــرة ورمبــا يكنــي هــذا العجــوز إلــى صــوت‬ ‫الضميــر أو صــوت الوعــي التاريــخ نتيجــة‬ ‫انتهــاك حقــوق اإلنســان‪ ،‬فيحتــوي اخلطــاب‬ ‫الشــعري مقوالتــه األيديولوجيــة يف سالســة‬ ‫ودون تعســف‪ ،‬حيــث يقــوم األداء االســتعاري‬ ‫بتقــدمي الصــورة اجملازيــة ثــم مــا يلبــث أن‬ ‫يقرنهــا مبشــبهها األيديولوجــي‪.‬‬ ‫يبــدو ضرغــام مســكونًا بــروح ســوريالي‬ ‫ي ِّثــل لــه بوصلتــه الفنيــة ويخــط لــه طريقــه‬ ‫ُ َ‬ ‫اجلمالــي ليــس فحســب ألنّ الصــوت الشــعري‬ ‫يف نصــه ينعــى غيــاب الســوريالية مــن العالــم‪،‬‬ ‫بــل ألنّ الغالــب علــى التكويــن الفنــي لشــعرية‬ ‫جــورج ضرغــام ال ســيما يف بنائــه التصويــري‬

‫يحفل خطاب جورج‬ ‫ضرغام بالرثاء لما استبد‬ ‫بالعالم من موات وما‬ ‫غشاه من خواء‪ ،‬فيطلق‬ ‫الخطاب الشعري‬ ‫صيحاته المبطنة بنبرات‬ ‫األلم على حال هذا‬ ‫العالم وحال “القاهرة‬

‫يجســد ال منطقيــة العالــم‬ ‫ـوريالي‬ ‫روح سـ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫وذهــول الــذات إزاء ذلــك‪.‬‬ ‫مهمومــا مبــا يعاينــه يف‬ ‫ولئــن كان الشــاعر‬ ‫ً‬ ‫الواقــع املــادي مــن حالــة جمــاد ومــوات‪ ،‬فهــو‬ ‫يبــدو بحاجــة إلــى «فــن» بحجــم مأســاوية‬ ‫الواقــع وقتامتــه‪ ،‬لتكــون «الســوريالية» هــي‬ ‫النمــوذج الفنــي واخليــار اجلماليــة الــذي‬ ‫يلتمــس الشــاعر وجــوده وينشــده تعبيـ ًـرا عــن‬ ‫فســاد الوجــود واختــال منطــق العالــم‪ ،‬وهــو‬ ‫مــا ال يجــده الشــاعر بالفعــل‪ ،‬فنافــذة الشــعر‬ ‫املفتوحــة علــى العالــم ترصــد حالــة مــن‬ ‫اخلــواء قــد أتــت علــى هــذا العالــم‪:‬‬ ‫ال أثر لرينيه شار‪ ،‬وال إيلوار‬ ‫يف هذه احلانات الضيقة‬ ‫ال أثر للبرق املطرز بالالزورد‬ ‫فوق شرفة على النيل‬ ‫ال أثر لسـراب صيفي يحـفز‬ ‫حكايـتنا‬ ‫ملاء رومانتيكي يف نهاية الطريق‬ ‫ينعــي اخلطــاب الشــعري الــذي يقــوم‬ ‫باســتدعاء كثيــف لألعــام ســواء علــى‬ ‫مســتوى اإلبــداع اجلمالــي أو علــى مســتوى‬ ‫الفكــر األيديولوجــي حالــة مــن الفقــد‬ ‫أفرغــت العالــم مــن آثــار هــؤالء املبدعــن‬ ‫ممــا أثــر علــى تعاطــي الــذات لعاملهــا؛ فغيــاب‬ ‫أثــر (رينيــه شــار وإيلــوار) باعتبارهمــا مــن‬ ‫رمــوز الشــعر الســوريالي أحــد أبنــاء احلركــة‬ ‫الســوريالية يف الفــن التــي تتعالــى علــى‬ ‫الواقــع وتتجــاوز قولبــة اإلبــداع ومحاولــة‬ ‫تقنــن الصنعــة اجلماليــة‪ -‬قــد أدى النعــدام‬ ‫رؤيــة العالــم جميــا‪ ،‬فانتفــى (أثــر البــرق‬ ‫املطــرز بالــازورد فــوق شــرفة نيليــة) ممــا أدى‬ ‫بالتبعيــة النتفــاء أثــر الســراب (األمــل حتــى‬ ‫واهمــا) بحضــور الرومانتيكيــة ممــا‬ ‫لــو كان‬ ‫ً‬ ‫ينــزع الدافــع عــن احلكــي أي يقضــي علــى‬ ‫احلافــز املوجــه للخلــق اجلمالــي‪ ،‬فحركــة‬ ‫البــث الشــعري تقــوم بإطــاق ومضــات‬ ‫متالحقــة يجمــع بينهــا خيــوط مــن العليــة‪.‬‬ ‫والالفــت يف الصــورة الســابقة هــو أن الصياغــة‬ ‫اجملازيــة قــد جعلــت البــرق وهــو األوســع مــدى‬ ‫واألرحــب حيــزً ا يتطــرز بالــازورد وهــو األقــل‬ ‫مــدى‪ ،‬فحركــة الصــورة‪ -‬علــى عكــس املألــوف‬ ‫– تنتقــل مــن األرضيــة (البــرق) إلــى الشــكل‬ ‫(الــازورد)‪ ،‬وكأن الرؤيــة املشــكلة للخطــاب‬ ‫الشــعري التــي تنــادي بالســوريالية والفــن‬ ‫اخلــارق للقواعــد واخلــارج عــن التقليديــة‬ ‫تتبــع كذلــك يف تشــكيل صورهــا منهــج اخلــرق‬ ‫العتياديــة الثوابــت الفنيــة التــي تعمــل علــى‬ ‫خلخلتهــا ‪.‬‬


‫‪17‬‬ ‫أحمد الشهاوي‪ :‬إشكالية االغتراب في‬ ‫العالم وأزمة الشعر‬

‫أحمد الشهاوي‬ ‫صــورة «ســقوط جنــم منتحـ ًـرا يف العزلــة»‪،‬‬ ‫وكذلــك صــورة «خنــق القمــر نفســه»‪ ،‬كأنَّ ثمــة‬ ‫تنويعــا تصوير ًّيــا لنفــس اجلملــة الدالليــة مــع‬ ‫ًّ‬ ‫تغيــر النغمــة (عنصــر الصــورة)‪ ،‬تأكيـ ًـدا للطــرح‬ ‫ُّ‬ ‫املقوالتــي للداللــة املتوخــاة بأكثــر مــن طريقــة‬ ‫وعبــر تنــوع صــوري يتأســس علــى نســق تكــراري‪.‬‬ ‫ومــن تبعــات األزمــة الوجوديــة التــي يحــس‬ ‫بهــا الشــاعر أزمــة أخــرى تخــص ممارســته‬ ‫للشــعر‪:‬‬ ‫كتابة‬ ‫مرا بال‬ ‫ٍ‬ ‫شهران َّ‬ ‫أغلقت ُ‬ ‫وجهي‬ ‫تب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الك ُ‬ ‫صفحاتها يف ْ‬ ‫نف َد ُ‬ ‫املال‬ ‫ِ‬ ‫عام يف املكان‬ ‫ال َط َ‬ ‫ٌ‬ ‫ت ِربة يف َّ‬ ‫حاذة‬ ‫الش‬ ‫وليس لي َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫امة‬ ‫أو‬ ‫الق َم ِ‬ ‫الل ِ‬ ‫النبش يف ِس ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ألبيع ذاتي‬ ‫ال مجال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أكثر‬ ‫أؤجر العقل ملن‬ ‫أو‬ ‫ُ‬ ‫سيدفع َ‬ ‫َ‬ ‫لتجارب األشرار‬ ‫فأرا‬ ‫ُ‬ ‫فلست ً‬ ‫ِ‬ ‫ور يف أفْ ٍق أمامي‬ ‫ال نُ َ‬ ‫العزّ ‪.‬‬ ‫رب ْي ُت أحالمي على ِ‬ ‫أنا الذي َّ‬ ‫أعمى‬ ‫ِص ْر ُت َ‬ ‫يد َّي‬ ‫ال من‬ ‫بصير ٍة يف َ‬ ‫َ‬ ‫بصران‬ ‫ويداي ال ُت َ‬ ‫مات َّ‬ ‫اعر َ‬ ‫جسد َّ‬ ‫يف‬ ‫كأن‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الش ِ‬ ‫وح ُتقَ ُ‬ ‫اتل َع ُد ًّوا يف اخليال‪.‬‬ ‫والر ُ‬ ‫ُّ‬ ‫هــل أفضــى جمــود العالــم إلى عجز الشــاعر‬ ‫عــن الكتابــة؟ هــل فقــد الشــاعر الرجــاء يف‬ ‫العالــم فأجــدب معــن الكتابــة لديــه؟ كــذا‬ ‫فثمــة أزمــة كذلــك يف االســتزادة املعرفيــة‪:‬‬ ‫(أغلقـ ِـت ُ‬ ‫وجهــي) يف‬ ‫الكتـ ُـب‬ ‫ِ‬ ‫صفحاتهــا يف ْ‬

‫املراجع‪:‬‬

‫(‪ )1‬جرجــس شــكري‪ ،‬تفاحــة ال تفهــم شــي ًئا‪،‬‬ ‫(القاهــرة‪ ،‬الهيئــة املصريــة العامــة للكتــاب‪.)2012 ،‬‬ ‫(‪ )2‬غاســتون باشــار‪ ،‬جماليــات املــكان‪ ،‬ترجمــة‬ ‫غالــب هلســا‪( ،‬املؤسســة اجلامعيــة للدراســات والنشــر‬ ‫والتوزيــع‪ ،‬بيــروت‪ ،‬الطبعــة الثانيــة‪ ،)1984 ،‬ص‬ ‫ص‪.145-146‬‬ ‫(‪ )3‬غاستون باشالر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.147‬‬ ‫(‪ )4‬املرجع السابق‪ ،‬نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )5‬إبراهيــم الســيد‪ ،‬أحــد عشــر كلبــا‪( ،‬القاهــرة‪،‬‬ ‫دار ميريــت‪.)2014 ،‬‬ ‫(‪ )6‬إميــان مرســال‪ ،‬حتــى أتخلــى عــن فكــرة البيــوت‪،‬‬ ‫(القاهرة‪ ،‬دار شــرقيات‪ -‬ودار التنوير‪.)2013 ،‬‬ ‫(‪ )7‬عزمــي عبــد الوهــاب‪ ،‬ذئــب وحيــد يف اخلــاء‪،‬‬ ‫(القاهــرة‪ ،‬الهيئــة املصريــة العامــة للكتــاب‪.)2019 ،‬‬ ‫(‪ )8‬جــورج ضرغــام‪ ،‬هيســتريا شــتاء قاهــري‪،‬‬ ‫(القاهــرة‪ ،‬دار األدهــم‪.)2012 ،‬‬ ‫(‪ )9‬أحمــد الشــهاوي‪ ،‬مــا أنــا فيــه‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬الــدار‬ ‫املصريــة اللبنانيــة‪.)2020 ،‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يف خطــاب الشــاعر أحمــد الشــهاوي‪ ،‬كمــا‬ ‫يف ديوانــه‪ ،‬مــا أنــا فيــه(‪ ،)9‬ترتبــط إشــكالية‬ ‫هــذا العالــم‪ ،‬الــذي ُي ِّثــل مغتر ًبــا وجود ًّيــا‬ ‫للــذات بأزمــة أخــرى للشــاعر يف تعاطيــه‬ ‫لهــذا الوجــود بأزمــة الشــاعر يف الكتابــة‪ :‬كيــف‬ ‫َسـ ُـيع ِّبر الشــاعر عــن هــذا العالــم الــذي بــات‬ ‫يرفضــه؟ ومــا جــدوى الكتابــة أو نفــع الشــعر‬ ‫يف عالــم لــم يعــد صديقً ــا للشــاعر؟‬ ‫يســتحيل موقــف الشــاعر مــن هــذا العالــم‬ ‫بعــد إخفاقــه يف التكييــف معــه إلــى مــا يشــبه‬ ‫االنســحاب منــه‪ ،‬كمــا يف قصيــدة «أربــي‬ ‫التَّ نا ســي»‪:‬‬ ‫مير‬ ‫ُك ُّل يوم ُّ‬ ‫شمسا‬ ‫ماء‬ ‫ً‬ ‫الس ُ‬ ‫ُ‬ ‫تخسر َّ‬ ‫دماغي خاليا كثيرة‬ ‫تت َل ُف يف‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫لة‬ ‫العزْ ِ‬ ‫يسقط جنْ ٌم ُم ِ‬ ‫نتح ٌر يف ُ‬ ‫نفسه‬ ‫يخنُ ُق‬ ‫القمر َ‬ ‫ُ‬ ‫دين أهم ُلوا‬ ‫نش َ‬ ‫َّ‬ ‫ألن ا ُمل ِ‬ ‫تشابهوا يف َ‬ ‫ُّ‬ ‫الغزَ ل‪.‬‬ ‫عراء‬ ‫ُ‬ ‫والش َ‬ ‫مــن عنــوان القصيــدة‪« ،‬أربــي التَّ ناســي»‪،‬‬ ‫يتبــدى موقــف الــذات الالنتمائــي إزاء العالــم‪،‬‬ ‫تخلصــا مــن‬ ‫واجلهــد الكبيــر الــذي تبذلــه‬ ‫ً‬ ‫تعالقهــا بــه‪ .‬هنــاك إحســاس بالتداعــي‬ ‫الوجــودي‪ ،‬مــع حركــة الزمــن‪ ،‬مــا ينعكــس‬ ‫علــى شــعور الــذات بكفاءتهــا كعقــل يواجــه‬ ‫هــذا العالــم ويحيــا فيــه‪ ،‬فيبــدو هــذا التــردي‬ ‫انعكاســا إلســقاطات الــذات‬ ‫الوجــودي‬ ‫ً‬ ‫النفســية‪ ،‬ويتــوازى مــع هــذا شــعور بعــدم‬ ‫تقديــر العالــم ملنشــديه‪ ،‬اإلنشــاد ممارســة فنيــة‬ ‫وروحيــة وطقــس صــويف‪ ،‬مــع نقــد الشــاعر‬ ‫الشــعراء لتشــابههم يف الغــزل‪ ،‬أي لتكراريــة‬ ‫خطاباتهــم يف العشــق‪ ،‬فثمــة حــس ســاخط‬ ‫ضــدي يف مرثيــة الشــاعر لذاتــه والعالــم‬ ‫والشــعر الــذي هــو اجلســر بــن الــذات والعالــم‪،‬‬ ‫فيعلــن الشــاعر عــن ســعيه ألن يتبنــى خطا ًبــا‬ ‫ـادا للخطــاب اجلمالــي الســائد والقائــم‬ ‫مضـ ً‬ ‫علــى االستنســاخ اجملانــي‪.‬‬ ‫يعتمــد أحمــد الشــهاوي يف منظومتــه‬ ‫التصويريــة هنــا بنيــة التناظــر والتــوازي‬ ‫الصــوري‪ ،‬فالتناظــر بــن مــا يحــدث مــن العالــم‬ ‫ـداع لعناصــر الوجــود كالشــمس التــي‬ ‫مــن تـ ٍ‬ ‫تســقط وحــدة تلــوى األخــرى يوم ًّيــا وبــن مــا‬ ‫يحــدث للــذات مــن تلــف داخلــي‪ ،‬وكأنّ الــذات‬ ‫تفقــد شموســها الداخليــة التــي ميكــن أن‬ ‫تنيــر لهــا العالــم‪ .‬أمــا التــوازي يف تكراريــة آليــة‬ ‫تغيــر وتبـ ُّـدل عناصرهــا الرئيســية‪،‬‬ ‫الصــورة مــع ُّ‬ ‫شمســا» تتــوازى مــع‬ ‫ـماء‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ـارة‬ ‫فصــورة كـ»خسـ‬ ‫ً‬

‫شــعور برفــض العالــم للشــاعر‪ ،‬فض ـ ًا عــن‬ ‫فزاعــة اجملهــول‪ ،‬مــا ينتــج عنــه قطيعــة مــا مــع‬ ‫الكتابــة‪ ،‬حـ ّـد اإلحســاس مبــوات الشــاعر الــذي‬ ‫يف داخلــه يف تخـ ٍّـل الانتمائــي عــن دوره ُر َبــا‬ ‫لإلحســاس بالعجــز عــن القيــام بــه وتأديتــه‬ ‫مبــا يرضــي طموحاتــه وأحالمــه‪ ،‬فقــد انتهــى‬ ‫عهــد الشــاعر ا ُملخ ِّلــص الــذي ُيكــن أن يحمــل‬ ‫اخلــاص للعالــم أو حتــى ينجــو بنفســه‪.‬‬ ‫يتملــك الشــاعر إحســاس بإفــاس العالــم‪،‬‬ ‫لــم يعــد هنــاك جديــد يقدمــه هــذا العالــم‬ ‫للشــاعر واإلنســان‪ ،‬حالــة مــن العقــم الوجــودي‬ ‫مــا أفضــى إلــى فقــدان البصيــرة والشــعور‬ ‫بتربــص اجملهــول بالــذات التــي مــا زالــت تقــاوم‬ ‫وترفــض التخلــي عــن مبادئهــا وإبائهــا أو‬ ‫اخلنــوع يف أزمتهــا‪.‬‬ ‫ولنــا أن نالحــظ اجلــدل املقوالتــي أو‬ ‫التضايــف املقوالتــي بــن بعــض مقــوالت‬ ‫املــن النصــي وعنــوان النــص‪ ،‬كمــا هــو بــن‪:‬‬ ‫الع ـزّ) و»أربــي‬ ‫(أنــا الــذي ر َّب ْيـ ُـت أحالمــي علــى ِ‬ ‫التناســي»‪ ،‬وكأنَّ الــذات قــد اتخــذت قــرا ًرا‬ ‫بالتناســي‪ ،‬مبــا يشــي ببــذل اجلهــد الكبيــر مــن‬ ‫أجــل النســيان أو أدعائــه‪ ،‬نتيجــة فشــلها يف‬ ‫حتقيــق تلــك األحــام العزيــزة‪.‬‬ ‫واخلالصــة‪ ،‬فــإنّ خطــاب الشــهاوي الشــعري‬ ‫سفر عن إحساس الشاعر‬ ‫يف ديوان ما أنا فيه‪ُ ،‬ي ِ‬ ‫بأزمــة وجوديــة يف عالــم موســوم باإلقفــار املــادي‬ ‫والروحــي‪ ،‬مــا يفضــي إلــى ارتبــاك الشــاعر يف‬ ‫اســتيعاب هــذا العالــم واعتزالــه بعــد تداعــي‬ ‫جتســد احليــرة‬ ‫التســاؤالت الوجــودي التــي‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ؤجــج‬ ‫مل‬ ‫وا‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫لغ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ـود‬ ‫املتفاقمــة إزاء هــذا الوجـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الغترابــات الــذات اإلنســانية فيــه‪.‬‬


‫‪18‬‬

‫التمثالت الكونكريتية‬ ‫في قصيدة النثر الليب ّية‬ ‫عبد الحفيظ العابد‬ ‫‪ - 1‬عتبة‪:‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫تشــي تســمية (القصيــدة الكونكريتيــة)‬ ‫بعالقــة جتمــع بــن نوعــن مختلفــن همــا‪:‬‬ ‫الشــعر والرســم‪ ،‬فــإذا كانــت مفــردة (القصيــدة)‬ ‫حتيــل علــى فـ ّـن لغــوي‪ ،‬ظــلّ زمن ـ ًا يص ّنــف‬ ‫علــى أ ّنــه فـ ّـن زمانـ ّـي عبــر عصــور اإلنشــاد‬ ‫الطويلــة‪ ،‬فــإنّ مفــردة (الكونكريتيــة) تســتدعي‬ ‫ف ّن ـ ًا مكان ّي ـ ًا بامتيــاز‪ ،‬ينهــض علــى توظيــف‬ ‫األلــوان األساســية‪ ،‬لــذا ميكــن القــول‪ :‬إنّ‬ ‫الشــعر الكونكريتــي جــاء محاولــة للجمــع بــن‬ ‫العناصــر البصريــة والصوتيــة‪ ،‬حيــث ُأدخلـ ْـت‬ ‫الرمــوز واألشــكال عالــم القصيــدة إلــى جانــب‬ ‫ـري‬ ‫ـعري بصـ ّ‬ ‫الكلمــات(‪ ،)1‬فصرنــا إزاء نــص شـ ّ‬ ‫يفعــل العــن ال األذن‪ ،‬ال ينحصــر يف الــدوال‬ ‫ّ‬ ‫الشــفهية‪ ،‬وإمنــا ينمــاز بدوا ّلــه اخلط ّيــة التــي‬ ‫حتفّ ــز العــن علــى مشــاهدتها‪ ،‬فتهــب العــنُ‬ ‫عــن طريــق تنقّ لهــا بــن الوحــدات الزخرفيــة‬ ‫ـكيلي الــذي‬ ‫واخلط ّيــة النــص إيقاعــه التشـ ّ‬ ‫يبتنــي مــع إيقاعــات أخــرى داخليــة ومعنويــة‬ ‫إيقــاع النــص‪.‬‬ ‫إنّ ذلــك التح ـ ّول مــن اإلنشــاد إلــى القــراءة‬ ‫الــذي مــر ّده إلــى الطباعــة بوصفهــا وســيط ًا‬ ‫جديــداً‪ ،‬كان البــد أن يوجــد بدائــل بنائيــة‬ ‫وإيقاعيــة‪ ،‬وهــو مــا جت ّلــى يف تبئيــر الفضــاء‬ ‫الطباعــي‪ ،‬وإشــباع احلــروف باحلبــر‪ ،‬وترتيــب‬ ‫عالمــات الترقيــم‪ ،‬ويف البيــاض األفقــي‬ ‫والعمــودي‪ ،‬كلّ ذلــك شــكّ ل دوالّ جديــدة حـ ّررت‬ ‫النــص مــن هيمنــة البيــت الصوتــي‪ ،‬وأعــادت‬ ‫االعتبــار للبيــاض بوصفــه شــريك ًا فاع ـ ًا يف‬ ‫ابتنــاء النــص‪ ،‬وإنتــاج داللتــه‪.‬‬ ‫ينمــاز الشــعر بوصفــه ف ّن ـ ًا إبداعي ـ ًا بنزوعــه‬ ‫املســتم ّر نحــو التغييــر‪ ،‬وبأنــه ال ينضبــط‬ ‫حتــت قالــب معـ ّـن‪ ،‬إنــه رحلــة دائمــة‪ ،‬وســفر‬ ‫متجـ ّـدد نحــو أرض بكْ ــر لــم يحرثهــا قلــم‪ ،‬ولــم‬ ‫تنـ ُـم فيهــا قصائــد الشــعراء مــن قبــل‪ ،‬لذلــك‬ ‫سـ ّـجل الشــعر عبــر التاريــخ خصومتــه مــع‬ ‫التقعيديــن واللغويــن الذيــن حاولــوا كبــح‬ ‫جماحــه‪ ،‬وتقييــده إلــى وتــد النمــوذج القــدمي‪،‬‬ ‫لك ّنــه انتصــر عليهــم كمــا انتصــر مح ـ َدث أبــي‬

‫متّ ــام علــى معارضيــه فحظــي باهتمــام القــارئ‬ ‫علــى امتــداد هــذه القــرون‪.‬‬ ‫بالعــودة إلــى موضــوع هــذه القــراءة ميكــن‬ ‫القــول‪ :‬إنّ الشــعر العربــي شــهد محــاوالت‬ ‫متعـ ّـددة للتجديــد يف شــكل النــص الشــعري‪،‬‬ ‫انطالق ـ ًا مــن القواديســي‪ ،‬ومــرور ًا باملسـ ّـمط‬ ‫واملــد ّور والقلــب والتفصيــل والتختيم‪ ،‬ووصو ًال‬ ‫للموشــح الــذي ُيعـ ّـد «نقلــة بصريــة بالقيــاس‬ ‫ّ‬ ‫تفعــل العــن‬ ‫إلــى التنويعــات األخــرى التــي لــم ّ‬ ‫بشــكل مؤثــر علــى هــذا املســتوى»(‪ ،)2‬لكـ ّـن‬ ‫تلــك احملــاوالت علــى أهم ّيتهــا لــم تفلــح يف‬ ‫خلخلــة البيــت الصوتــي املك ـ ّون مــن الصــدر‬ ‫والعجــز الــذي يهيمــن فيــه ســواد الكلمــات علــى‬ ‫بيــاض الصفحــة‪ ،‬ممتــد ًا أفقي ـ ًا يف مســاحتني‬ ‫متوازيتــن‪ ،‬ذلــك أنّ «التنويعــات اخملتلفــة‬ ‫واملوشــح‬ ‫علــى النمــوذج القــدمي‪ -‬كالقواديســي‬ ‫ّ‬ ‫واملسـ ّـمط والتختيــم‪ -‬لــم تكــن ُتطــرح كبدائــل‬ ‫قبــل‬ ‫نهائيــة للنمــوذج األصلــي؛ بــل كتنويعــات ِ‬ ‫املنــاخ الثقــايف ببقائهــا إلــى جــواره يف تعايــش‬ ‫وتســاكن»(‪ ،)3‬باإلضافــة إلــى ذلــك لقــد انتفــت‬ ‫الشــروط املاديــة النتشــار النمــاذج اجلديــدة يف‬ ‫فضــاءات أوســع‪ ،‬علــى عكــس مــا نعايــن اليــوم‬ ‫مــن شــيوع وســائل االتصــال‪ ،‬ودور النشــر واملــط‬ ‫ابــع(‪.)4‬‬ ‫تســتدعي قــراءة القصيــدة الكونكريت ّيــة‬ ‫يف صيرورتهــا الوقــوف علــى ذلــك التحــولّ‬ ‫ـس جوهــر الشــعر عندمــا تراجــع دور‬ ‫الــذي مـ ّ‬ ‫اإلنشــاد لصالــح القــراءة التــي أعــادت االعتبــار‬ ‫للمــكان‪ ،‬حيــث إ ّنهــا ح ـ ّررت الشــعر مــن هيمنــة‬

‫ينماز الشعر بوصفه‬ ‫ف ّنًا إبداعيًا بنزوعه‬ ‫المستم ّر نحو التغيير‪،‬‬ ‫وبأنه ال ينضبط تحت‬ ‫قالب مع ّين‬

‫البيــت الصوتــي الــذي مــا فتــىء ميــارس رقابــة‬ ‫صارمــة علــى الكلمــات‪ ،‬معمق ـ ًا إحساســنا‬ ‫بزمانيــة اللغــة التــي كادت أن تتخ ّلــى عــن‬ ‫بعدهــا املكانــي‪« ،‬فانتقــال القصيــدة مــن‬ ‫وســيط شــفوي إلــى وســيط يــدوي‪ ،‬واجتاههــا‬ ‫إلــى العــن ال األذن لــم يكــن يعنــي تغ ّيــر األداة‬ ‫وظيفي ـ ًا؛ بــل يشــمل كذلــك ميــزة التخ ّيــل‬ ‫التــي يقــوم عليهــا الشــعر»(‪ ،)5‬ذلــك أنّ حضــور‬ ‫الوســيط اجلديــد (العــن) دفــع الشــعر إلــى‬ ‫االنحيــاز للفنــون املكانيــة ليقتــرض منهــا‬ ‫تقنيــات الصــورة احلائــزة اهتمــام الشــعراء‬ ‫والنقــاد مع ـ ًا‪ ،‬لــذا ســتكون الورقــة مشــارك ًا‬ ‫أساســي ًا يف النــص ببياضهــا وانفتــاح ســطحها‪،‬‬ ‫كمــا كان الصــوت‪ ،‬بوصفــه وســيط ًا ناقـ ًا‪ ،‬ذا دور‬ ‫يف تكويــن بنيــة القصيــدة الشــفوية(‪.)6‬‬ ‫هكــذا يف ضــوء مــا تقـ ّـدم ميكــن أن نقــرأ‬ ‫القصيــدة الكونكريت ّيــة التــي اعتنــت بالشــكل‪،‬‬ ‫فأوجبــت بذلــك علــى القــارئ أن يتلقّ اهــا‬ ‫بعينــه‪ ،‬وأن ينصــت بعينيــه ال أذنيــه إلــى‬ ‫خطابهــا الــذي تبنيــه الــدوالّ اخلط ّيــة يف‬ ‫قصيــدة بصريــة تســتوجب تغييــر ًا يف جهــات‬ ‫التلقــي‪ ،‬وتتط ّلــب مــن القــارئ أن يتــز ّود بــزاد‬ ‫ّ‬ ‫يتخطــى حــدود اللغــة إلــى االطــاع‬ ‫معــريف‬ ‫ً‬ ‫علــى الفنــون التشــكيل ّية لكــي يكــون قــادرا علــى‬ ‫مواجهــة النــص‪ ،‬والوقــوف علــى داللتــه‪.‬‬ ‫‪ - 2‬عالمات الترقيم‪:‬‬

‫ّ‬ ‫وطــدت قصيــدة النثــر عالقتهــا بفــن الرســم‬ ‫كاشــفة عــن حت ـ ّول كبيــر يف طبيعــة الشــعر‬ ‫الــذي لــم يبــق منقــاد ًا لهيمنــة الــوزن؛ إذ إنــه‬ ‫بوســاطة الطباعــة متكّ ــن مــن جتــاوز شــكله‬ ‫القــدمي‪ ،‬وأنشــأ عالقــة حميميــة مــع النثــر‪،‬‬ ‫ومبــا أنــه أصبــح مد ّون ـ ًا علــى الــورق طباعي ـ ًا‪،‬‬ ‫ـاء يحــاول الشــاعر توظيفــه‬ ‫فإنــه ميتلــك فضـ ً‬ ‫يف إدهــاش القــارئ عبــر ترتيــب عناصــر‬ ‫القصيــدة علــى الصفحــة(‪ ،)7‬لــذا ميكــن‬ ‫القــول‪ :‬إنّ النــص لــم يعــد ســجين ًا يف عتمــة‬ ‫احلبــر الــذي ُي ّثــل الـ َّ‬ ‫ـدوال اللســاني َة ألنــه‬ ‫أضحــى ميــوج يف فضــاءٍ أرحــب هــو الورقــة التــي‬


‫‪19‬‬

‫يطــول ذلــك األعشــى تفّ احــة األمــل‪ ،‬لك ّنــه‬ ‫ســؤال خــال مــن عالمــة االســتفهام نفســها‪،‬‬ ‫وهــو مــا يزحــزح حقيقــة الســؤال قلي ـ ً‬ ‫ا؛ إذ‬ ‫إنــه ســؤال ال يســتدعي إجابــة بالضــرورة‪،‬‬ ‫وإمنــا ينهــض بــدور مهـ ّـم يف توتيــر العالقــة‬ ‫بــن ذلــك األعشــى وتفاحــة األمــل ضمــن‬ ‫هــذه البنيــة الســردية‪ ،‬يتج ّلــى ذلــك يف جعــل‬ ‫األعشــى ضريــر اليديــن ال العينــن‪ ،‬ومبــا أنّ‬ ‫الشــعر غيــر معنـ ّـي بتقــدمي إجابــات بقــدر‬ ‫مــا يطمــح إلــى بــذر األســئلة‪ ،‬فإننــا نسـ ّـجل‬ ‫حضــور عالمــات احلــذف املوضوعــة بــن‬ ‫قوســن لتفتــح النــص علــى إجابــات وليــس‬ ‫إجابــة واحــدة محذوفــة‪ ،‬لك ّنهــا إجابــات‬ ‫يقدمهــا القــارئ‪ ،‬ال النــص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يفيــد النــص مــن داللــة (‪ )-‬لينجــز حــوار ًا‬ ‫بــن صوتــن‪ ،‬منتق ـ ًا مــن الســرد إلــى احلــوار‪،‬‬ ‫حيــث نشــهد حضــور الســؤال م ـ ّرة أخــرى يف‬ ‫هــذا املقطــع‪ ،‬لك ّنــه ســؤال يحظــى بإجابــة‪،‬‬ ‫غيــر أنهــا إجابــة غيــر اعتياديــة تنتهــي بعالمــة‬ ‫التعجــب (غمســت يف إحــدى عينيــه أصبعــي!)‪،‬‬ ‫إذ تعــود بنــا هــذه اإلجابــة إلــى املقطــع األول‬ ‫ويســرى‬ ‫الــذي قـ ّـدم األعشــى بيــد ُينــى مبتــورة‪ُ ،‬‬ ‫مجســد ًا عجزهمــا عــن أن‬ ‫قصيــرة النظــر‬ ‫ّ‬ ‫تطــوال تفاحــة األمــل يف غيبــة البصــر‪ ،‬حيــث‬ ‫جعــل مــن غمــس األصبــع يف إحــدى العينــن‬ ‫دلي ـ ًا علــى املــوت مفيــد ًا مــن عالمــة التعجــب‬ ‫التــي تشــي بأنــه مــوت غيــر اعتيــادي‪.‬‬ ‫‪ - 3‬االنزياح الطباعي‪:‬‬

‫يصبــح الفــراغ دا ّل ًا يســهم يف إنتــاج داللــة‬ ‫النــص‪ ،‬إنــه الفضــاء املفتــوح الــذي يحضــر مــن‬ ‫خاللــه القــارئ الناهــض بفعــل املــلء‪ ،‬إذ «ال‬ ‫يتبـ ّـدى ســحر املــلء إ ّال بوســاطة الفــراغ»(‪،)11‬‬ ‫ومبــا أنّ البيــاض لــم يعــد بريئ ـ ًا‪ ،‬فإنــه يقــوم‬ ‫مجســد ًا دوره الفاعــل يف بنــاء‬ ‫بتوجيــه القــراءة‬ ‫ّ‬ ‫النــص‪.‬‬ ‫ح ـ ّررت قصيــدة النثــر املعنــى الــذي ظــلّ‬ ‫ســجني البيــت الصوتــي الواضــع نهايـ ًـة محـ ّـددة‬ ‫المتــداد الكلمــات‪ ،‬مؤكــد ًا أولويــة الــوزن يف‬ ‫ثم شــكّ لت البياضات‬ ‫ضوء وســاطة األذن‪ ،‬ومن ّ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫خلعــت حيادهــا‪ ،‬ونطقــت أخيــر ًا لتشــارك يف‬ ‫مجســد ًة عالقــة جديــدة‬ ‫ابتنــاء صــرح النــص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بــن الســواد والبيــاض‪ ،‬ال يلغــي أحدهمــا فيهــا‬ ‫اآلخــر‪ ،‬ومــن ثــم ُتعـ ّـد قــراءة قصيــدة النثــر مــن‬ ‫خــال دوا ّلهــا اللســانية قــراءة منقوصــة‪ ،‬ألنهــا‬ ‫تنحــاز إلــى الكلمــات‪ ،‬وتقصــي الــدوالّ اللغويــة‬ ‫األخــرى التــي تتم ّثــل يف الفراغــات وعالمــات‬ ‫الترقيــم التــي تشــكّ ل لغــة ثانيــة يف النــص‬ ‫تناشــد القــارئ اإلصغــاء إليهــا‪ ،‬هكــذا ال يتعلــق‬ ‫األمــر باملكتــوب بوصفــه موضوع ـ ًا للقــراءة؛‬ ‫ولكــن ببعــض مك ّونــات الفضــاء النصــي مــن‬ ‫عالمــات غيــر لســانية‪ ،‬ال تقــوم بتوجيــه القــراءة‬ ‫بحيــاد‪ ،‬ألنهــا تختــزن طاقــات إيحائيــة ودالليــة‬ ‫مأخــوذة مــن كونهــا عالمــات(‪ ،)8‬لــذا لــم يعــد‬ ‫النــص قابعـ ًا يف الكلمــات‪ ،‬حيــث إنــه ُيشـ َّيد مــن‬ ‫دوالّ أخــرى أهمهــا‪ :‬عالمــات الترقيــم التــي‬ ‫غالب ـ ًا مــا يكــون حضورهــا ســبب ًا يف توجيــه‬ ‫القــراءة نحــو داللــة مع ّينــة‪ ،‬حيــث نقــرأ‪:‬‬ ‫تفاحة األمل(‪)9‬‬ ‫يده اليمنى‬ ‫مبتورة‬ ‫اليسرى‬ ‫تعاني قصر نظر‬ ‫كيف يطول‬ ‫ذلك األعشى‬ ‫تفاحة األمل‬ ‫(‪).........‬‬ ‫_ مات جوادي‬ ‫_ هل تأكدت‬ ‫من موته؟‬ ‫_ غمست‬ ‫يف إحدى عينيه‬ ‫أصبعي!‬ ‫ينطــوي النــص علــى بنيــة ســردية‪ ،‬وينمــاز‬ ‫بامتــداده العمــودي‪ ،‬كمــا يلعــب االنزيــاح دور ًا‬ ‫مهم ـ ًا يف إنتــاج داللتــه‪ ،‬واالنزيــاح هنــا يأتــي‬ ‫ّ‬ ‫ـوي ينشــأ مــن التح ـ ّول‬ ‫علــى نوعــن‪ :‬انزيــاح لغـ ّ‬ ‫عــن عالقــة لغويــة اعتياديــة إلــى أخــرى غيــر‬ ‫اعتياديــة‪ ،‬وانزيــاح ّ‬ ‫خطــي مــر ّده إلــى قطــع‬ ‫ّ‬ ‫التدفــق األفقــي للكتابــة‪« ،‬ويف هــذه احلالــة‬ ‫تتك ـ ّون الوحــدات اخلط ّيــة مــن عــدد قليــل مــن‬ ‫العناصــر‪ ،‬وتكــون الفضــاءات البيضــاء أكثــر‬ ‫أهميــة مــن الســواد‪ ،‬بحيــث ينمحــي احملــور‬ ‫األفقــي التالصقــي لصالــح محــور عمــودي‬ ‫يبــرز الالحرك ّيــة النســب ّية للكتابــة‪ ،‬ويف بنيــة‬ ‫ّ‬ ‫خطيــة مــن هــذا النــوع نتحــدث عــن محــور‬ ‫انفصا لــي»(‪.)10‬‬ ‫ينبنــي النــص علــى ســؤال رئيــس هــو‪ :‬كيف‬

‫ّ‬ ‫وطدت قصيدة النثر‬ ‫عالقتها بفن الرسم‬ ‫تحول‬ ‫كاشفة عن‬ ‫ّ‬ ‫كبير في طبيعة‬ ‫الشعر الذي لم يبق‬ ‫منقادًا لهيمنة الوزن‬

‫ـاحات‬ ‫املتروكــة ميــن الصفحــة ويســارها مسـ ٍ‬ ‫يتحــرك فيهــا املعنــى احملتفــي بحريتــه‪ ،‬لهــذا‬ ‫ميكــن القــول‪ :‬إن البيــاض يســمح بانتظــام‬ ‫الكلمــات يف أبيــات خط ّيــة متــر ّدت علــى ســلطة‬ ‫البيــت الصوتــي‪ ،‬وآمنــت بأولويــة املعنــى الــذي‬ ‫أصبــح مح ّلق ـ ًا يف فضــاء الورقــة ك ّلهــا‪ ،‬ذلــك‬ ‫أ ّننــا أمــام عالقــة جديــدة بــن البيــاض والســواد‬ ‫التخضــع لنظــام ســابق تهيمــن فيــه الكلمــات‬ ‫علــى البيــاض؛ إذ إنّ األبيــات اخلطيــة تتبايــن‬ ‫يف النــص ذاتــه فيســتعيد مــن خاللهــا فرادتــه‪،‬‬ ‫ويكتســب داللتــه‪ ،‬فتغــدو الكتابــة يف ضــوء هــذا‬ ‫الوعــي اجلديــد بالنــص نوع ـ ًا مــن التعايــش‬ ‫واملشــاركة بــن البيــاض والســواد‪ ،‬إنهــا «ليســت‬ ‫تنظيم ـ ًا لألدلــة علــى أســطر أفقيــة ومتوازيــة‬ ‫فقــط‪ ،‬إنهــا قبــل كلّ شــيء توزيــع لبيــاض‬ ‫وســواد علــى مســند هــو يف عمــوم احلــاالت‬ ‫ـيقدم النــص مــن‬ ‫الورقــة البيضــاء»(‪ ،)12‬لــذا سـ ّ‬ ‫خــال شــكله خطاب ـ ًا‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يصبــح تلقّ ــي‬ ‫النــص مرتهن ـ ًا بحضــور العــن املد َّربــة القــادرة‬ ‫ـكيلي للنــص‪ ،‬إذ‬ ‫علــى اكتشــاف البعــد التشـ ّ‬ ‫«مبجــرد مــا يباشــر القــارئ اتصالــه بالنــص‬ ‫املكتــوب‪ ،‬حتتــوي عينــه النــص يف هيئتــه‬ ‫البصريــة تلــك‪ ،‬ويف كلّيتــه التــي يضبطهــا‬ ‫تو ّزعــه الفضائــي»(‪.)13‬‬ ‫يشــكّ ل توزيــع الكلمــات علــى األســطر أكثــر‬ ‫ـدواع‬ ‫مــن عنصــر تزيينـ ّـي؛ إذ إنــه يســتجيب لـ ٍ‬ ‫دالليــة‪ ،‬تفيــد مــن البعــد املكانــي للغــة لينتــج‬ ‫نص ـ ًا‬ ‫النــص خطابــه املتف ـ ّرد‪ ،‬حيــث نطالــع ّ‬ ‫لســالم العوكلــي‪:‬‬ ‫بياض(‪)14‬‬ ‫املناشف‬ ‫املعلَّقة‬ ‫يف الزوايا‬ ‫املانحة بياضها لكآبتنا‬ ‫مقرورةً‬ ‫ّ‬ ‫حتط ّ‬ ‫كل يوم على ُع ْرينا‬ ‫املناشف الضاحكة‪..‬‬ ‫قرب ارجتافنا‬ ‫املنحلّة برذاذنا اليومي‬ ‫مصلوبة على حبال الليل‬ ‫ُملغّ مة بوجوهنا‬ ‫يتك ـ ّون النــص مــن جملتــن أساســيتني‬ ‫تتمحــوران حــول مفــردة (املناشــف) التــي ُتعـ ّـد‬ ‫مســند ًا إليــه تبــدأ بــه اجلملــة وتنتهــي بخبــر‬ ‫هــو‪( :‬حتـ ّ‬ ‫ـط كلّ يــوم علــى ُعرينــا)‪ ،‬وتبــدأ‬ ‫اجلملــة الثانيــة باملناشــف وتنتهــي بخبريــن‬ ‫همــا‪( :‬مصلوبــة‪ُ ،...‬ملغّ مــة‪.)...‬‬ ‫يتضــح ممــا ســبق أنّ النــص يعبــث بنســق‬


‫‪20‬‬ ‫اجلملــة املتعاقــب‪ ،‬ليمنحهــا شــك ًال عمودي ـ ًا‪،‬‬ ‫تعيــش اجلملــة فيــه نوع ـ ًا مــن التشـ ّـظي‬ ‫الكرافيكــي؛ إذ «تتم ّيــز بعــض القصائــد‬ ‫الكونكريتيــة بالتقطيــع الكرافيكــي الــذي‬ ‫ـس وحــدة الصــوت والكلمــة واجلملــة‬ ‫ميـ ّ‬ ‫والنــص»(‪ ،)15‬وبالعــودة إلــى نــص (بيــاض)‬ ‫يبــدو لنــا هــذا احلضــور املتعالــي للمناشــف‪،‬‬ ‫حيــث إنّ شــكل النــص يجعــل منهــا مفــردة‬ ‫محوريــة‪ ،‬متعاليــة عــن باقــي املفــردات‪ ،‬إنهــا‬ ‫مع ّلقــة حقّ ـ ًا؛ ذلــك أنهــا أفــادت مــن هــذا‬ ‫التقطيــع اجلملــي لتكتســب وجودهــا املتف ـ ّرد‪،‬‬ ‫وزمــن قراءتهــا اخلــاص ال تنازعهــا فيــه مفــردة‬ ‫أخــرى؛ إذ يتيــح لهــا وجودهــا يف ســطر مفــرد‬ ‫بعــض االســتقاللية‪ ،‬وهــو مــا يســتدعي مــن‬ ‫أن يباشــر فعــل‬ ‫أن يقــف عندهــا قبــل ْ‬ ‫القــارئ ْ‬ ‫القــراءة مــن جديــد‪ ،‬إ ّننــا نطــلّ علــى النــص مــن‬ ‫خاللهــا‪ ،‬ذلــك أنّ هــذا التعالــي الــذي تنتجــه‬ ‫الــدوالّ اللســانية نحــو (املع ّلقــة‪ ،‬علــى حبــال‬ ‫ّ‬ ‫الليــل)‪ ،‬والــدوالّ‬ ‫اخلطيــة يقــود القــراءة نحــو‬ ‫داللة املناشــف يف النص التي تعيش حالة من‬ ‫التســامي‪ ،‬إنهــا تهــب بياضهــا ِودفْ أها ألجســادنا‬ ‫العاريــة‪ ،‬حتـ ّ‬ ‫ـط عــن الزوايــا ك ّلمــا أمطــرت هــذه‬ ‫محملــة‬ ‫األجســاد لتعــود إليهــا يف الليــل‬ ‫ّ‬ ‫بذكرياتهــا عــن وجوهنــا‪ ،‬تعيــش صلْبهــا الليلـ ّـي‬ ‫املتجـ ّـدد لتُ بعــث مــن شــهوة جســد عـ ٍـار؛ إذ إنهــا‬ ‫تظــل ميتــة حتــى تســتدعيها تلــك األجســاد‬ ‫فتبــدو مقــرورة‪ ،‬تعيــش ارجتافــات اجلســد‬ ‫نفســه‪ ،‬هكــذا تعيــش املناشــف حالــة مــوت‬ ‫جنسـ ّـي؛ إذ حتييهــا األجســاد العاريــة قبــل أن‬ ‫تُصلــب علــى حبــال الليــل‪ ،‬لك ّنهــا تظــلّ منــذورة‬ ‫(ملغّ مــة بوجوهنــا)‬ ‫للحيــاة؛ إذ يشــي قولــه‪ُ :‬‬ ‫بذلــك‪ ،‬حيــث تبــدو متحفّ ــزة لالنبعــاث مــن‬ ‫جد يــد‪.‬‬ ‫‪ - 4‬اإليقاع التشكيلي‪:‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫لقــد أبــدع الشــاعر املعاصــر يف مت ّكنــه مــن‬ ‫نقــل لــون اللوحــة إلــى القصيــدة‪ ،‬ويف املقابــل‬ ‫أبــدع الرســام وهــو ينقــل إيقــاع القصيــدة إلــى‬ ‫اللوحــة‪ ،‬لكــن اإلبــداع األكبــر يف املمارســة‬ ‫الشــعرية مت َّثــل يف متكّ ــن الشــاعر مــن ترحيــل‬ ‫إيقــاع اللوحــة إلــى القصيــدة‪ ،‬حيــث إنّ يف الفــن‬ ‫متجســد ًا يف حركــة عــن‬ ‫التشــكيلي إيقاع ـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ويتم‬ ‫ـمته‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫الع‬ ‫ـح‬ ‫املشــاهد التــي متنـ‬ ‫ّ‬ ‫هــذا يف حركــة العــن بــن الوحــدات الزخرفيــة‬ ‫املتكــررة أو بــن العناصــر اخملتلفــة للعمــل‬ ‫الفنــي‪ ،‬وهــذا يعنــي أن نقلــة نوعيــة قــد ُأجنــزت‬ ‫يف بنــاء القصيــدة الســيما قصيــدة النثــر‪ ،‬وقــد‬ ‫متثلــت هــذه النقلــة يف العالقــة الفاعلــة بــن‬ ‫املبــدع واملتلقــي‪ ،‬وكأن فعــل الكتابــة ال ُينجــز‬ ‫بعيــد ًا عــن فعــل القــراءة‪.‬‬ ‫يتحقّ ــق اإليقــاع يف النــص عبــر تفاعــل دوالّ‬

‫ّ‬ ‫يتحقق اإليقاع في‬ ‫ّ‬ ‫دوال‬ ‫النص عبر تفاعل‬ ‫عدة صوتية ومعنوية‬ ‫ثم تشكيل ّية‬ ‫ومن ّ‬ ‫تكون بك ّليتها‬ ‫ّ‬ ‫موسيقى الشعر‬ ‫عــدة صوتيــة ومعنويــة ومــن ثـ ّـم تشــكيل ّية تكـ ّون‬ ‫بكلّيتهــا موســيقى الشــعر؛ إذ تفيــد قصيــدة‬ ‫النثــر مــن البيــاض واحلبــر يف بنــاء إيقــاع‬ ‫بصــري‪ ،‬إذن «هــي لعبــة الســواد والبيــاض مبــا‬ ‫تختزنــه مــن إيقــاع جســدي ُيح ـ ّرك النــص‪،‬‬ ‫ينقلــه مــن جمــوده إلــى حيويتــه‪ ،‬مــن جســد‬ ‫ميــت جلســد حــي»(‪ ،)16‬هــذه العناصــر هــي‬ ‫التــي تســتوقفنا هنــا يف دراســة اإليقــاع يف‬ ‫القصيــدة الكونكريتيــة؛ إذ إنّ لقصيــدة النثــر‬ ‫نظامهــا اإليقاعـ ّـي الــذي تتميــز بــه عــن ســواها‬ ‫مــن األســماء األخــرى للقصيــدة الشــعرية‪،‬‬ ‫وهــي تســتثمر يف اآلن ذاتــه القــدرات اللغويــة‬ ‫والــدوالّ الصوتيــة وحركيــة الرمــوز يف ابتنــاء‬ ‫وجودهــا املنــذور للقــراءة التــي تفصــح عــن هــذه‬ ‫اخلصوصيــة التــي نعاينهــا إيقاعي ـ ًا يف اآلتــي‪:‬‬ ‫‪ - 1.4‬اإليقاع المتتالي‪:‬‬

‫يتغ ّيــر شــكل الصفحــة بنائي ـ ًا‪ ،‬ومــن ثـ ّـم‬ ‫إيقاعي ـ ًا‪ ،‬حيــث إن الشــكل يتكّ ــرر مــع تغ ّيــر‬ ‫ّ‬ ‫منظــم ليعطــي شــعور ًا بنمــط متتابــع‪ ،‬حيــث‬ ‫مت ّثــل الفراغــات البيضــاء العموديــة حلظــات‬ ‫أن‬ ‫توقّ ــف شــبه منتظمــة‪ ،‬تتيــح للقــارئ ْ‬ ‫أن يكــون مضطــر ًا أمــام‬ ‫يســتعيد أنفاســه قبــل ْ‬ ‫ســلطة الســواد ملتابعــة القــراءة مــن جديــد‪،‬‬ ‫كمــا أنّ البيــاض املتــروك ليــس محايــداً‪ ،‬فهــو‬ ‫يســتف ّز القــارئ‪ ،‬ويحفّ ــزه علــى النهــوض بفعــل‬ ‫إيجابــي متمثــل يف املــلء‪ ،‬هــذا مايبــدو يف‪:‬‬ ‫ألوان منزاحة (‪)17‬‬ ‫يفصح اللون‬ ‫عن وقته‬ ‫نفض البحر زرقته‬ ‫ملسها‬ ‫فارتخت‬ ‫ّ‬ ‫متلذذة بانزياح‬ ‫األلوان‬ ‫ميكّ ننــا البيــاض مــن معاينــة ثــاث حلظــات‬ ‫يف النــص‪ ،‬كمــا أ ّنــه يعمــل مــع الــدوالّ األخــرى‬

‫علــى بنــاء صــورة متحركــة لأللــوان‪ ،‬تنشــأ مــن‬ ‫هــذا التحــول الــذي يشــي بــه عنــوان النــص‪،‬‬ ‫حيــث إنّ األلــوان الكامنــة يف املــكان تنطــوي‬ ‫علــى بعـ ٍـد زمنــي خفـ ّـي‪ ،‬يتج ّلــى حــن تنــزاح‬ ‫األلــوانُ كاشـ ً‬ ‫ـفة عــن حت ـ ّوالت الزمــن‪ ،‬هــذا مــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـورة‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫بتخ‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫مؤذ‬ ‫األول‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫يلمــح إليــه املق‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تتشــكّ ل يف بياضات النص التي متكّ ن األشــياء‬ ‫مــن اكتســاب ألــوان جديــدة‪ ،‬كاســرة بذلــك حالة‬ ‫الســكون‪ ،‬ومبــا أنّ البيــاض يقبــل االنصبــاغ‬ ‫بألــوان أخــرى‪ ،‬فإنــه يبــرز بوصفــه املــكان الــذي‬ ‫يحتضــن األلــوان‪ ،‬فتتح ـ ّرر فيــه بعــد أن كانــت‬ ‫ســجينة الكلمــات املنشــادة بالســواد الــذي يعـ ّـد‬ ‫اللــون األقــوى‪.‬‬ ‫يســهم البيــاض أيض ـ ًا يف ضبــط إيقــاع‬ ‫النــص‪ ،‬إذ إنــه مي ّثــل الصمــت الــذي يعتــرض‬ ‫طريــق القــراءة‪ ،‬وهــذا الصمــت هــو الــذي‬ ‫يخلــق إيقاعــات القصيــدة‪ ،‬ويشــير إلــي هيكلهــا‬ ‫الروحــي‪ ،‬ويتيــح عــزل مختلــف حلظاتهــا(‪،)18‬‬ ‫املقســم‬ ‫جتســد يف النــص الســابق‬ ‫هــذا مــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بفعــل البيــاض إلــى ثــاث حلظــات‪ ،‬تتوســطها‬ ‫فراغــات تســتوقف القــارئ‪ ،‬موحيـ ًـة بالبعــد‬ ‫الزمنــي للبيــاض الــذي ينهــض بــدور مــزدوج؛‬ ‫إذ ال يكتفــي بــدوره يف تشــكيل املــكان‪ ،‬ليضحــي‬ ‫فاع ـ ًا أيض ـ ًا يف تشــكيل إيقــاع النــص‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫نعاينــه يف نــص آخــر لفــرج أبوشــينة بعنــوان‪:‬‬ ‫إىل اآلخرين(‪)19‬‬ ‫افسحوا اجملال‬ ‫جلياد الضوء‬ ‫دعوها تركض‬ ‫فوق أيامنا‪.‬‬ ‫ودعوا‬ ‫صهيلها املرمري‬ ‫يعتمر النفوس‬ ‫يجعلنــا البيــاض مــر ًة أخــرى أمــام ثــاث‬ ‫حلظــات يف النــص‪ ،‬ويدعونــا إلــى اإلنصــات‬ ‫إليقاعاتــه‪ ،‬و»يســمح لنــا بالتطابــق مــع‬ ‫انطالقــة الفكــرة اخللّاقــة التــي تعمــل‬ ‫بطلقــات متتاليــة‪ ،‬وبذلــك يتم ّيــز الشــعر عــن‬ ‫النثــر»( ‪.)20‬‬ ‫ينبنــي النــص مــن ثالثــة مقاطــع مت ّثــل‬ ‫الضــوء واحلركــة والصــوت‪ ،‬تتخلّلهــا وقفــات‬ ‫متوســطة قــدر ســطرين‪ ،‬وهــي التــي متكّ ــن‬ ‫القــارئ مــن مجــاراة النــص الــذي يفــرض عليــه‬ ‫أن ينهــض بوظيفتــن همــا‪ :‬القــراءة والتأمــل‪،‬‬ ‫ذلــك أنّ قصيــدة النثــر التــي خاصمت اخلطاب‬ ‫تفعل أكثر من حاســة واحدة‪،‬‬ ‫املباشــر أصبحت ّ‬ ‫وهــو مــا كان متعــذر ًا مــن قبــل‪ ،‬إذ «إنّ أيــة‬ ‫اســتجابة تأمليــة ال تتــم يف حالــة القصيــدة‬ ‫الشــفوية‪ ،‬ألنّ ذلــك يرتــب جهــد ًا مزدوج ـ ًا ال‬


‫‪21‬‬ ‫تؤديــه احلــواس بســبب طبيعتهــا»(‪ ،)21‬لــذا‬ ‫تغــدو هــذه الفراغــات ضروريــة الكتمــال فعــل‬ ‫القــراءة التــي عليهــا أن تســتظلّ بالبيــاض قبــل‬ ‫أن تعــاود العــدو مــن جديــد خلــف خيــال حالــم‪،‬‬ ‫يرســم جيــاد ًا مــن ضــوء‪ ،‬ثـ ّـم يدعونــا أن نتركهــا‬ ‫تركــض وتصهــل‪.‬‬ ‫هكــذا تخ ّلــت الورقــة البيضــاء عــن حيادهــا‪،‬‬ ‫وخلعــت براءتهــا‪ ،‬فلــم تعــد خرســاء تكتفــي‬ ‫مبشــاهدة احلبــر وهــو يد ّنــس جســدها‪ ،‬ألنهــا‬ ‫اســتعادت حريتهــا‪ ،‬وشــاركت بــكل إرادتهــا يف‬ ‫إنتــاج النــص‪.‬‬ ‫‪ - 2.4‬اإليقاع المتناوب‪:‬‬

‫‪ - 5‬شعرية المحو‪:‬‬

‫يديــن النــص بكثيــر مــن الــوالء للطباعــة‬ ‫حســي ًا يف املــكان‪ ،‬فأصبــح‬ ‫التــي منحتــه حضــور ًا ّ‬ ‫ميــارس مــن خــال جســده تأثيــر ًا بصري ـ ًا علــى‬ ‫القــارئ‪ ،‬مفيــد ًا مــن عالقــة البيــاض والســواد‬ ‫يف تقــدمي شــكله اخلــاص‪ ،‬وبالرغــم مــن أنّ‬ ‫البيــاض لــم يعــد بريئـ ًا وال محايــداً‪ ،‬بــل شــريك ًا‬ ‫يف ابتنــاء النــص‪ ،‬غيــر أنّ الكتابــة ظ ّلـ ْـت يف‬ ‫فعــل مــلء‪ ،‬تكــون‬ ‫الغالــب تتحـ ّـدد بوصفهــا ْ‬ ‫حــن تغــزو جيــوش احلبــر بــراح الــورق‪ ،‬عندئـ ٍـذ‬ ‫يتعـ ّرف النــص علــى بنائــه خارجـ ًا علــى املفهــوم‬ ‫ـص ُيفيــد مــن‬ ‫املتــداول للبيــت(‪)26‬؛ إذ إنّ النـ ّ‬ ‫الــدوالّ اللســانية والبصريــة التــي تعمــل مع ـاً‬ ‫علــى فتــق دهشــة القــارئ الــذي ُيضحــي مطالب ًا‬ ‫مبعاينــة البيــاض بوصفــه دا ّل ًا مــن دوالّ النص‪،‬‬ ‫بــل إنــه يغــدو يف بعــض التجــارب الــدالّ األكبــر‬ ‫لنكــون إزاء شــعرية احملــو حينمــا تنحســر‬ ‫ســلطة احلبــر أمــام دفــق البيــاض‪ ،‬فالكتابــة‬ ‫أن متحــو كلّ مرجع ّيــة وكلّ معنــى‪ ،‬نعــم‬ ‫«هــي ْ‬ ‫كل معنــى‪ ،‬إنهــا حلظــة تكويــن فــراغ مجيــد‪،‬‬ ‫حفــرة ال قــرار لهــا»(‪ )27‬مــن هنــا وبنــاء علــى‬ ‫مــا تقـ ّـدم ميكــن أن نقــرأ غيــاب الكلمــات علــى‬ ‫نحــو جزئــي أو ك ّلــي يف بعــض النصــوص‪ ،‬لكــن‬ ‫ذلــك ال مينــع حضــور دوالّ أخــرى تومــئ إلــى‬ ‫ـص‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫الداللــة الكامنــة يف جســد النـ ّ‬ ‫يبــدو يف النــص اآلتــي(‪:)28‬‬ ‫تمهيد‪( :‬كالم ريح غائبة)‬

‫?‬ ‫ُقســم الصفحــة يف هــذا الفضــاء الصــوري‬ ‫ت ّ‬ ‫إلى منت وحاشــية‪ ،‬حيث لم ُيكتب يف احلاشــية‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يحــدث عنــد مشــاهدة خطــوط ومســاحات‬ ‫متجــاورة ومختلفــة يف قوتهــا أو درجــات‬ ‫توزيعهــا علــى الصفحــة‪ ،‬ففــي حــن متتـ ّـد‬ ‫بعــض املفــردات أفق ّيـ ًا‪ ،‬حتظــى مفــردات أخــرى‬ ‫بامتــداد عمــودي ناشــئ عــن تقطيعهــا إلــى‬ ‫أصوات‪ ،‬فعيش حالة من التشـ ّـظي الكرافيكي‪،‬‬ ‫يف ضوء ذلك نقرأ النص التالي‪:‬‬ ‫إىل الحاملني (‪)22‬‬ ‫اصعدوا جميعكم‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ً‬ ‫قليال‪.‬‬ ‫أو انزاحوا‬ ‫ـداد عمــودي‪ ،‬ناشــئ‬ ‫يتميـ ّز هــذا النــص بامتـ ٍ‬ ‫عــن كتابــة مفــردة الســالم كتابــة عموديــة‬ ‫مج ـزّأة بوصفهــا كلمــة محوريــة يف النــص‪ ،‬إذ‬ ‫إنّ احللــم مرتبــط بالصعــود والعلــو‪ ،‬إنــه حركــة‬ ‫تفلــت مــن ضيــق الواقــع ومحدوديــة الزمــن‬ ‫لتجــوب أمكنــة وأزمنــة متباعــدة‪ ،‬لــذا تبــر ُز‬ ‫الســالم الرتباطهــا بالصعــود وباحللــم‪.‬‬ ‫يتحــول الســطر يف هــذا الفضــاء الصــوري‬ ‫إلــى عنصــر تشــكيل‪ ،‬إذ ك ّلمــا تق ـ ّوت خاصيــة‬ ‫الســطر التشــكيل ّية اســتدعى ذلــك زمن ـ ًا‬ ‫أطــول لــإدراك(‪ ،)23‬وهــو مــا تبـ ّـدى يف مفــردة‬ ‫الســالم التــي عملــت علــى متطيــط زمــن‬ ‫القــراءة‪ ،‬وتبطــيء إيقــاع النــص‪ ،‬مانحـ ًـة بذلــك‬ ‫ـص طابع ـ ًا تشــكيل ّي ًا يحفّ ــز العــن التــي‬ ‫النـ ّ‬ ‫أصبــح عليهــا أن تكــون قــادرة علــى تلقّ ــي النــص‬ ‫ال عبــر كلماتــه فحســب؛ وإمنــا أيضـ ًا باإلنصــات‬ ‫إلــى إيقــاع جســده‪ ،‬حيــث إن شــكل النــص‬ ‫يعاضــد الكلمــات يف إنتــاج الداللــة‪ ،‬فالســالم‬ ‫املكتوبــة عموديـ ًا متاثــل الســالم املمــدودة إلــى‬ ‫أعلــى وهــو مــا ال يتحقّ ــق يف الكتابــة األفقيــة‪،‬‬

‫فتقطيــع مفــردة (الســالم) املكتوبــة عمودي ـ ًا‬ ‫منــح النــص هــذا اإليقــاع التشــكيلي املتنــاوب‬ ‫الناهــض علــى تــرك مســاحات بيضــاء متباينــة‪.‬‬ ‫تشــكّ ل املســاحات املتجــاورة اخملتلفــة‬ ‫املتخ ّلقــة مــن البيــاض والســواد إيقاع ـ ًا‬ ‫تشــكيل ّي ًا متناوب ـ ًا‪ ،‬ال يســير علــى نســق واحــد‪،‬‬ ‫وهــو مــا نعاينــه يف نــص‪:‬‬ ‫عفريت الرسم(‪)24‬‬ ‫ينفرد‬ ‫بليل القماشة‬ ‫يسكب أقمار ًا‬ ‫على طريقته‬ ‫حني ّ‬ ‫يغطي‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ض‬ ‫سماء الدهشة‬ ‫يطوي فرشاته ال‬ ‫مستحيلة‬ ‫تقبــض عــن القــارئ يف حركتهــا بــن‬ ‫ـكيلي‬ ‫البيــاض والســواد علــى اإليقــاع التشـ ّ‬ ‫املتنــاوب لهــذا النــص الــذي ميكــن قراءتــه مــن‬ ‫ســلطة العنــوان (عفريــت الرســم)؛ إذ حتيــل‬ ‫املفــردة األولــى علــى كائــن خفـ ّـي ينجــز فعــل‬ ‫الرســم الــذي هــو فعــل مــلء يســتدعي حضــور‬ ‫البيــاض الــذي يشــكّ ل الفــراغ احملفّ ــز علــى‬ ‫االمتــاء‪ ،‬لك ّننــا إزاء نــص مخاتــل‪ ،‬يفلــق بعــض‬ ‫املنجــز هــذه املــرة يف‬ ‫األســئلة عــن فعــل الرســم َ‬ ‫ً‬ ‫ليــل القماشــة ال يف بياضهــا‪ ،‬ســالبا بذلــك‬ ‫الســواد ســلطته بوصفــه اللــون األقــوى‪ ،‬كمــا‬ ‫ّ‬ ‫متقطــع‬ ‫تبــرز مفــردة الوميــض املكتوبــة بشــكل‬ ‫بوصفهــا مفــردة محوريــة يف ابتنــاء إيقــاع‬ ‫النــص وإنتــاج داللتــه‪ ،‬حيــث نعايــن مســتويني‬ ‫مــن اإليقــاع‪ ،‬إيقــاع الســواد البطــيء‪ ،‬وإيقــاع‬ ‫الوميــض املتســم باحلركيــة والســرعة‪ ،‬لكــن‬ ‫ّ‬ ‫املتقطــع‬ ‫بالعــودة إلــى النــص نــدرك أنّ الســواد‬ ‫الناشــئ عــن كتابــة مفــردة (الوميــض) كتابــة‬ ‫مج ـزّأة يعمــل يف اجتاهــن مختلفــن‪ :‬األول‬ ‫أنــه يعمــل علــى متطيــط زمــن القــراءة‪ ،‬والثانــي‬ ‫أنــه يبـ ّـدد كثافــة الســواد؛ إذ إنّ كلّ حــرف‬ ‫منفــرد ًا مي ّثــل الوميــض املتك ـ ّرر الــذي يخــرق‬ ‫ســلطة الســواد عبــر البياضــات العموديــة‬ ‫املتروكــة بــن احلــروف‪ ،‬فاللوحــة التــي ينجزهــا‬ ‫عفريــت الرســم علــى ليــل القماشــة حتـ ّول فعــل‬ ‫الرســم مــن فعــل مــلء إلــى فعــل تفريــغ وكشــط‪،‬‬

‫وخــرق لســلطة الســواد مــن خــال حضــور‬ ‫النــور الســريع واملتك ـ ّرر‪ ،‬حيــث ميكــن القــول‬ ‫إ ّننــا «نــدرك اللوحــة مــن خــال النــور»(‪)25‬‬ ‫الــذي يلعــب دور ًا رئيسـ ًا يف إدراك األلــوان التــي‬ ‫تقصيهــا ســلطة الظــام‪ ،‬مــن هنــا وبنــاء علــى‬ ‫مــا تقـ ّـدم نــدرك أنّ إيقــاع الوميــض يف النــص‬ ‫النــاجت عــن تقطيــع املفــردة مغايــر إليقاعــه‬ ‫يف الواقــع‪ ،‬إنــه عامــل مهــم يف تبطــيء إيقــاع‬ ‫النــص‪ ،‬وخلــق اإليقــاع التشــكيلي املتنــاوب‬ ‫الناشــئ مــن قطــع ّ‬ ‫تدفــق الســواد‪.‬‬


‫‪22‬‬ ‫إال أربـ ُـع كلمــات‪ ،‬يف حــن خــا املــن إ ّال مــن‬ ‫عالمــة االســتفهام التــي توحــي باألســئلة‬ ‫املغ ّيبــة‪ ،‬ومبــا أنّ عالمــة االســتفهام تتجــه إلــى‬ ‫يســار الصفحــة‪ ،‬فإنهــا تــدلّ علــى حركــة الكتابة‬ ‫التــي تســير مــن اليســار إلــى اليمــن‪ ،‬إ ّنهــا كتابــة‬ ‫متمــردة عبــر شــكلها وحركتهــا‪ ،‬ترفــض الواقــع‪،‬‬ ‫أن أصبــح‬ ‫وتقــدم أســئلة عــن املــن الفــارغ بعــد ْ‬ ‫الــكالم غيــر ممكــن إال يف احلاشــية‪.‬‬ ‫ُيضحــي البيــاض نفســه يف بعــض‬ ‫النصــوص لغــة‪ ،‬ونكــون عندئـ ٍـذ إزاء نــص‬ ‫البيــاض‪ ،‬أو النــص الفــارغ‪ ،‬حيــث تغيــب‬ ‫الكلمــات‪ ،‬ويحضــر البيــاض كثيف ـ ًا وفاع ـ ًا‪،‬‬ ‫حيــث إنــه هنــا ال مي ّثــل فراغ ـ ًا باملعنــى‬ ‫يجســد انتصــار البيــاض‪،‬‬ ‫احلقيقــي‪ ،‬وإمنــا‬ ‫ّ‬ ‫احلبــر‪ ،‬وتراجــع الكتابــة‪ ،‬ذلــك أنّ‬ ‫وانحســار ِ‬ ‫ـلطوي؛ إذ لطاملــا‬ ‫ـاني ُسـ‬ ‫ّ‬ ‫الكتابــة فعــل إنسـ ّ‬ ‫ُعـ ّـدت الكتابــة أحــد رمــوز الســلطة الثالثــة‪،‬‬ ‫لذلــك كان مــن يحتكــر الســلطة يحتكــر القلــم‬ ‫واحلبــر مع ـ ًا‪ ،‬ومــن ثـ ّـم كان تفريــغ الورقــة مــن‬ ‫ِ‬ ‫احلبــر نوعـ ًا مــن مناهضــة الســلطة مبفهومهــا‬ ‫ِ‬ ‫الواســع؛ بــل إنــه نــوع مــن مناهضــة الكتابــة‬ ‫نفســها بوصفهــا فعـ ًا ســلطوي ًا ميــارس تأثيــر ًا‬ ‫يف املتلقّ ــي‪ ،‬يف ضــوء ذلــك نقــرأ النــص التالــي‬ ‫حملمــد زيــدان(‪:)29‬‬

‫ال ُيعـ ّـد البيــاض هنــا محايــداً‪ ،‬و ال محفّ ــز ًا‬ ‫لفعــل املــلء؛ بــل علــى العكــس إنــه الصمــت‬ ‫الــذي مي ّثــل لغــة تقــف يف وجــه الــكالم نفســه‪،‬‬ ‫وتعــارض الســلطة التــي تصــادر الــكالم‪ ،‬حيــث‬ ‫ُ«يعتبــر الشــكل الفــارغ الصامــت ميســم ًا دا ّل ًا‬ ‫علــى البــوح والتصريــح والثــورة والتم ـ ّرد‬ ‫ورفــض الواقــع الكائــن واستشــراف الواقــع‬ ‫املمكــن»(‪ ،)30‬مــن هنــا كان دفْ ــق البيــاض‬ ‫غزيــراً‪ ،‬يناســب العــودة إلــى مــا قبــل الكتابــة‪،‬‬ ‫أن‬ ‫إلــى مــا قبــل اللغــة نفســها‪ ،‬هنــاك قبــل ْ‬ ‫ُيج ّيــش القلــم الكلمــات بأمــر الســلطان‬ ‫ليغــزو ذاكــرة الورقــة‪ ،‬حيــث إ ّننــا نكــون يف‬ ‫هــذا النــص إزاء أيقونــة البيــاض‪ ،‬وعذريــة‬ ‫الورقــة‪ ،‬وال زمنيــة النــص الــذي دحــر الكلمــات‬ ‫ليؤســس‬ ‫فتموضعــت يف العنــوان والهامــش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خطابــه اخلــاص‪ ،‬خطــاب الرفــض‪.‬‬ ‫‪ - 6‬خاتمة‪:‬‬

‫أفــادت قصيــدة النثــر الليبيــة مــن بعــض‬ ‫الوســائط اجلديــدة التــي انتقلــت بالشــعر مــن‬ ‫مرحلــة اإلنشــاد إلــى مرحلــة القــراءة‪ ،‬ذلــك‬ ‫التح ـ ّول الكبيــر الــذي أبــرز مكانيــة اللغــة‪،‬‬ ‫ـص الــذي‬ ‫ودعــا إلــى تب ّنــي مفهــوم جديــد للنـ ّ‬ ‫لــم يعــد ســجني الكلمــات الســوداء‪ ،‬فالبيــاض‬ ‫ـص‬ ‫الفاعــل‪ ،‬وعالمــات الترقيــم‪ ،‬وشــكل النـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫دوال ال ميكــن إقصاؤهــا يف رحلــة تع ّ َقــب‬ ‫الداللــة؛ إذ الكلمــات وحدهــا ال تقـ ّـدم معرفــة‬ ‫ـص الــذي يخاتــل القــارئ‪ ،‬لــذا‬ ‫حقيقيــة عــن النـ ّ‬ ‫أن يتح ـ ّرر مــن ســلطة الكلمــات‬ ‫كان البـ ّـد لــه ْ‬ ‫ليكــون قــادر ًا علــى اإلنصــات إلــى لغــة اجلســد‪،‬‬ ‫وأن يتلقّ ــى النــص يف ُبعــده‬ ‫وخطــاب الشــكل‪ْ ،‬‬ ‫أن القصيــدة الكونكريتيــة‬ ‫ـكيلي؛ ذلــك ْ‬ ‫التشـ ّ‬ ‫الليب ّيــة أفــادت مــن هــذا التداخــل بــن الشــعر‬ ‫والتشــكيل لتخلــق شــكلها اخلــاص الــذي ال‬ ‫يســير وفــق منــط معــن‪ ،‬وال يخضــع ملبــدأ‬ ‫التشــطير؛ بــل علــى العكــس ّ‬ ‫يوظــف عالمــات‬ ‫يفعل العني التي تهب‬ ‫الترقيم والبياض لكي ّ‬ ‫ـكيلي‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫الت‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫إيقا‬ ‫عــن طريــق حركتهــا النــص‬ ‫ّ‬ ‫الــذي ينشــأ مــن االنزياحــات الطباعيــة التــي‬ ‫تقطــع الدفــق الكتابــي فيكتســب النــص شــك ًال‬ ‫عمودي ـ ًا‪ ،‬يغــدو البيــاض فيــه أكثــر أهميــة مــن‬ ‫الكلمــات‪.‬‬ ‫الهوامش‪:‬‬

‫يحيــل العنــوان علــى الهامــش‪ ،‬وال شــيء‬ ‫بينهمــا غيــر شــعرية البيــاض الــذي يســتعيد‬ ‫يؤســس‬ ‫حريتــه مقص ّي ـ ًا فعــل الكتابــة‪ ،‬إنــه ّ‬ ‫هنــا لشــعرية احملــو وخطابــه‪ ،‬ويطــرح البيــاض‬ ‫نفســه بدي ـ ً‬ ‫ا للنــص املكتــوب‪ ،‬إذ يشــي‬ ‫الهامــش بحالــة كــره لذلــك النــص‪ ،‬لذلــك‬

‫(‪ )1‬انظــر‪ ،‬الكبيســي‪ ،‬طـ ّراد‪ ،‬القصيــدة الكونكريتية‪،‬‬ ‫مجلــة األقــام‪ ،‬العــدد‪ ،1‬الســنة‪ ،22‬كانــون الثانــي‪،‬‬ ‫‪1987‬م ص‪.7:‬‬ ‫(‪ )2‬املاكــري‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــكل واخلطــاب‪ :‬مدخــل‬ ‫لتحليــل ظاهرتــي‪ ،‬املركــز الثقــايف العربــي‪ ،‬الــدار‬ ‫البيضــاء ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬ص‪.152 :‬‬ ‫(‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.176 :‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫(‪ )5‬الصكــر‪ ،‬حــامت‪ ،‬حلــم الفراشــة‪ ،‬اإليقــاع‬ ‫الداخلــي واخلصائــص الفنيــة‪ ،‬أزمنــة‪ ،‬عمــان‪ ،‬ط‪،1.‬‬ ‫‪2010‬م‪ ،‬ص‪.141 :‬‬ ‫(‪ )6‬انظر املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.122 :‬‬ ‫(‪ )7‬انظــر‪ ،‬برنــار‪ ،‬ســوزان‪ ،‬قصيــدة النثــر مــن‬ ‫بودليــر إلــى أيامنــا‪ ،‬تــر‪ :‬زهيــر مجيــد مغامــس‪ ،‬آفــاق‬ ‫للترجمــة‪ ،‬دار املأمــون‪ ،‬بغــداد‪ ،‬ط‪1993 ،1‬م‪ ،‬ص‪.192 :‬‬ ‫(‪ )8‬انظــر‪ ،‬املاكــري‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــكل واخلطــاب‪،‬‬ ‫مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪.266 :‬‬ ‫(‪ )9‬أبــو شــينة‪ ،‬فــرج‪ ،‬العالــم يســتبدل ثيابــه‪ ،‬مركــز‬ ‫احلضــارة العرب ّيــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬ط‪2000 ،1.‬م‪ ،‬ص‪،74 :‬‬ ‫‪.75‬‬ ‫(‪ )10‬املاكــري‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــكل واخلطــاب‪ ،‬مرجــع‬ ‫ســابق‪ ،‬ص‪.95 :‬‬ ‫(‪ )11‬شــينغ‪ ،‬فرانســوا‪ ،‬الفــراغ واملــلء‪ :‬اللغــة‬ ‫التصويريــة الصينيــة‪ ،‬تــر‪ :‬عدنــان محمــد محمــود‪،‬‬ ‫صــاح صالــح‪ ،‬آفــاق ثقافيــة‪ ،‬الكتــاب الشــهري‪،‬‬ ‫العــدد‪ ،28‬نيســان‪ ،2007‬منشــورات وزارة الثقافــة‬ ‫الســورية‪ ،‬ص‪.106 :‬‬ ‫(‪ )12‬املاكــري‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــكل واخلطــاب‪ ،‬مرجــع‬ ‫ســابق‪ ،‬ص‪.103 :‬‬ ‫(‪ )13‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.179 :‬‬ ‫(‪ )14‬العوكلــي‪ ،‬ســالم‪ ،‬آللــي‪ ،‬منشــورات مجلــس‬ ‫تنميــة اإلبــداع الثقــايف‪ ،‬ليبيــا‪ ،‬ط‪2004 ،1.‬م‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫‪.111-113‬‬ ‫(‪ )15‬حمــداوي‪ ،‬جميــل‪ ،‬القصيــدة الكونكريتيــة يف‬ ‫الشــعر املغربــي املعاصــر‪ ،‬صحيفــة املثقــف اإللكترونيــة‪،‬‬ ‫تاريــخ االطــاع (‪.)9-3-2016‬‬ ‫(‪ )16‬بنّيــس‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــعر العربــي احلديــث‪:‬‬ ‫بنياتــه وإبداالتهــا‪ ،‬ج‪ ،3‬دار توبقــال‪ ،‬الــدار البيضــاء‪،‬‬ ‫ط‪2001 ،3‬م‪ ،‬ص‪.114:‬‬ ‫(‪ )17‬محجــوب‪ ،‬محيــي الديــن‪ ،‬الواثقــة بعصافيرها‪،‬‬ ‫الــدار العامليــة‪ ،‬طباعــة‪ ،‬نشــر‪ ،‬توزيــع‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬ ‫ص‪.26:‬‬ ‫(‪ )18‬انظــر‪ ،‬برنــار‪ ،‬ســوزان‪ ،‬قصيــدة النثــر مــن‬ ‫بودليــر إلــى أيامنــا‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪.222:‬‬ ‫(‪ )19‬أبــو شــينة‪ ،‬فــرج‪ ،‬العالــم يســتبدل ثيابــه‪ ،‬مرجــع‬ ‫سابق‪ ،‬ص‪.117:‬‬ ‫(‪ )20‬برنــار‪ ،‬ســوزان‪ ،‬قصيــدة النثــر مــن بودليــر إلــى‬ ‫أيامنــا‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ، ،‬ص‪.181:‬‬ ‫(‪ )21‬الصكــر‪ ،‬حــامت‪ ،‬حلــم الفراشــة‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬ ‫ص‪.143:‬‬ ‫(‪ )22‬أبــو شــينة‪ ،‬فــرج‪ ،‬العالــم يســتبدل ثيابــه‪،‬‬ ‫مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪.121:‬‬ ‫(‪ )23‬انظــر‪ ،‬املاكــري‪ ،‬محمــد‪ ،‬الشــكل واخلطــاب‪،‬‬ ‫مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪.266:‬‬ ‫(‪ )24‬أبــو شــينة‪ ،‬فــرج‪ ،‬مرافعــة ضـ ّد النوم‪ ،‬منشــورات‬ ‫مجلة املؤمتر‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪ ،‬ص‪.16 ،15:‬‬ ‫(‪ )25‬الكوســت‪ ،‬جــان‪ ،‬فلســفة الفــن‪ ،‬تــر‪ :‬رمي‬ ‫األمــن‪ ،‬سلســلة زدنــي علم ـاً‪ ،)236( ،‬عويــدات للنشــر‬ ‫والطباعــة‪ ،‬بيــروت‪ ،‬ط‪2001 ،1‬م‪ ،‬ص‪.113:‬‬ ‫(‪ )26‬انظــر‪ ،‬بنّيــس‪ ،‬محمــد‪ ،‬كتابــة احملــو‪ ،‬دار‬ ‫توبقــال للنشــر‪ ،‬الــدار البيضــاء‪ ،‬ط‪1994 ،1‬م‪ ،‬ص‪.21:‬‬ ‫(‪ )27‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.34 :‬‬ ‫(‪ )28‬عــون‪ ،‬الكيالنــي‪ ،‬هســيس الظــل‪ ،‬منشــورات‬ ‫اللجنــة الشــعبية العامــة للثقافــة واإلعــام‪ ،‬ليبيــا‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪2008‬م‪ ،‬الصفحــات غيــر مرقمــة‪.‬‬ ‫(‪ )29‬زيــدان‪ ،‬محمــد‪ ،‬املــاء ليــس أكيــداً‪ ،‬منشــورات‬ ‫املؤمتــر‪ ،‬بنغــازي‪ ،‬ليبيــا‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪ ،‬ص‪.60:‬‬ ‫(‪ )30‬حمــداوي‪ ،‬جميــل‪ ،‬القصيــدة الكونكريتيــة يف‬ ‫الشــعر املغربــي املعاصــر‪ ،‬مرجــع ســابق‪.‬‬


‫‪23‬‬

‫قصيد النثر اليمنية‬ ‫بين تضمينات الواقع وصعقة الفضاء االفتراضي‬

‫علوان الجيالين‬ ‫تســـيدت‬ ‫عنـــد مطلع األلفية الجديدة‬ ‫ّ‬ ‫قصيدة النثر المشـــهد الشـــعري اليمني‬ ‫بشـــكل تـــام‪ ،‬وشـــعر المتحمســـون لهـــا‬ ‫بذلـــك فكفوا عـــن الضجيج حولهـــا‪ ،‬ومن‬ ‫ثم صـــار المجـــال مفتوحاً لها‪ ،‬تســـتضيف‬ ‫بأنـــاة واطمئنـــان الوافديـــن الجـــدد إلـــى‬ ‫ســـاحتها‪ ،‬ســـواء كان أولئـــك الوافـــدون‬ ‫مواهـــب جديدة لـــم تمر في ممارســـتها‬ ‫للشـــعر بأشـــكال أخرى غير قصيـــدة النثر‪،‬‬ ‫أو كانـــوا من الشـــعراء الذيـــن لهم تجارب‬ ‫في كتابة أشـــكال أخـــرى‪ ،‬ولكنهم صاروا‬ ‫ألســـباب مختلفـــة ‪ -‬يجـــدون ســـاحة‬‫قصيـــدة النثـــر أفضـــل لهم مـــن غيرها‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫وجنـــا إلـــى عشـــرينيات القرن‬ ‫وعنـــد ُولُ ِ‬ ‫الواحـــد والعشـــرين‪ ،‬صار مشـــهد قصيدة‬ ‫النثـــر فـــي اليمـــن‪ ،‬يحفـــل بعـــدد كبير من‬ ‫الشـــعراء المنفتحيـــن علـــى اســـتقبال‬ ‫خطـــاب الحداثـــة الشـــعرية انفتاحـــاً ال‬ ‫نهايـــة لـــه‪ ،‬حيـــث ستســـتفيد قصيـــدة‬ ‫النثـــر فـــي هـــذا الحيـــز الجغرافي شـــأنها‬ ‫شـــأن مثيلتهـــا التـــي تكتـــب فـــي أنحـــاء‬ ‫البـــاد العربيـــة؛ مـــن التقنيـــات الجديدة‪،‬‬ ‫ومـــن التنـــوع الكتابـــي اللذيـــن يتيحهمـــا‬ ‫بالمتغيـــرات الهائلة‬ ‫هذا الشـــكل معـــزَّ زاً‬ ‫ِّ‬ ‫التـــي يفرضهـــا التعامـــل مـــع العوالـــم‬ ‫االفتراضيـــة‪ ،‬حيـــث تحظـــى الرمـــوز‬ ‫التعبيريـــة «اإليموجـــي» بأهميـــة تتجاوز‬ ‫كثيـــراً أهميـــة عالمـــات الترقيـــم‬

‫ومينــح اســتثمار فضــاء الصفحــة علــى‬ ‫موقـ ٍـع الكترونـ ٍّـي أو مدونــة الكترونيــة‪ ،‬أو‬ ‫علــى موقــع التواصــل االجتماعــي فيســبوك‬ ‫–مث ـ ًا‪ -‬إمكانيــات أفضــل كثيــر ًا مــن فضــاء‬ ‫الورقــة‪ ،‬وقــد ترتــب علــى كل ذلــك تغييــر‬ ‫واســع يف املفهــوم البالغــي للشــعر‪ ،‬اســتضافت‬ ‫اللغــة الفاظ ـ ًا جديــدة‪ ،‬و َتز ََّخمــت إشــاريتها‬ ‫مبدلــوالت لــم تكــن موجــودة مــن قبــل‪ ،‬إلــى‬ ‫ذلــك فقــد ا ّتســع حضــور الســرد يف القصيــدة‪،‬‬ ‫وتع ـ ّززت مواردهــا الكنائيــة‪ ،‬ولــم يعــد الشــاعر‬ ‫يبحــث عــن ممكنــات لالنزيــاح إذ تــكاد‬ ‫اشــتغاالته كلهــا تكــون انزياحــات حتــى علــى‬ ‫املســتوى البســيط‪.‬‬ ‫وصــار الشــعراء يف اشــتغاالتهم «علــى‬ ‫األقــل اجلــزء األكبــر منهــم» ال يتغ ّيــون كمــا‬ ‫كانــوا يف تســعينيات القــرن العشــرين‪ ،‬متزيــق‬ ‫احلواجــز وجتــاوز املــوروث‪ ،‬أو يحاولــون‬ ‫االختــاف واملغايــرة‪ ،‬أو يهاجمــون عائق ـ ًا‬ ‫ثقافيـ ًا ســلطوي ًا حقيقيـ ًا أو مفترضـ ًا يقــف يف‬ ‫وجــه اجتراحاتهــم؛ بــل يعبــرون عــن أنفســهم‬ ‫وذواتهــم واختياراتهــم الفنيــة واجلماليــة‬ ‫مبنتهــى البســاطة‪ .‬وبحريــة كاملــة يعــود‬ ‫الفضــل فيهــا للفضــاء االفتراضــي الــذي‬ ‫أوقــف كل متســلط عنــد حــده‪.‬‬ ‫لذلــك حت ّولــت اشــتغاالت شــعراء قصيــدة‬ ‫النثــر يف العقديــن األخيريــن إلــى محــاوالت‬ ‫دائبــة للتحقــق شــعري ًا‪ ،‬وألن االنفتــاح كان‬ ‫كبيــر ًا علــى التجــارب اجملــاورة التــي تنتجهــا‬ ‫اجلغرافيــات العربيــة األخــرى يف نفــس‬ ‫اللحظــة‪ ،‬فقــد سـ ّـهل ذلــك علــى الشــعراء‬ ‫تعميــق جتاربهــم نوعي ـ ًا‪ ،‬فكانــت اشــتغاالتهم‬ ‫يف معظمهــا تتحــرك علــى محوريــن؛ محــور‬ ‫املنافســة الغيــر معلنــة مــع نظرائهــم لصالــح‬ ‫إجنــاز كتابــة متجــاوزة‪ ،‬تغــادر مواضعــات‬ ‫التبعيــة التــي كانــت ت َِسـ ُـم أو ت َِصـ ُـم شــعراء‬ ‫الهوامــش اجلغرافيــة العربيــة بوصفهــم طــوال‬ ‫الوقــت رجــع صــدى للمركــز املتمثــل يف مصــر‬ ‫والشــام والعــراق‪ ،‬ومحــور اجلنــوح املتواصــل‬ ‫إلــى تطويــع هــذا الشــكل الشــعري للتضمينــات‬ ‫التــي تفرضهــا اخلصوصيــة الثقافيــة‬ ‫واالجتماعيــة للمــكان‪ ،‬ومــا يشــتجر فيــه‪.‬‬

‫وإذا كان االشــتغال علــى احملــور الثانــي قــد‬ ‫وجــدت مؤسســاته يف جتــارب عــدد كبيــر مــن‬ ‫شــعراء التســعينيات مثــل‪« :‬أحمــد الزراعــي‪،‬‬ ‫محمــد املنصــور‪ ،‬محمــد القعــود‪ ،‬علــي املقــري‪،‬‬ ‫أحمــد الســامي‪ ،‬عبــد الناصــر مجلــي‪ ،‬محمد‬ ‫الشــيباني‪ ،‬نبيلــة الزبيــر‪ ،‬هــدى أبــان‪ ،‬ابتســام‬ ‫املتــوكل‪ ،‬محمــد عبيــد‪ ،‬محيــي الديــن جرمــة‪،‬‬ ‫محمــد العدينــي‪ ،‬جميــل مفــرح‪ ،‬عمــار النجار‪،‬‬ ‫نبيــل ســبيع‪ ،‬هانــي الصلــوي‪ ،‬إيــاد احلــاج‪،‬‬ ‫محمــد اللــوزي‪ ،‬علــي جاحــز‪ ،‬جميــل حاجــب‪،‬‬ ‫عبــد اجمليــد التركــي‪ ،‬فتحــي أبــو النصــر‪ ،‬طــه‬ ‫اجلنــد‪ ،‬وضــاح اليمــن احلريــري‪ ،‬ناديــة مرعــي‪،‬‬ ‫وغيرهــم»‪.‬‬ ‫تناولت اشتغاالتها‬ ‫وهي مؤسسات سبق أن‬ ‫ُ‬ ‫علــى التضمينــات التــي تفرضهــا اخلصوصيــة‬ ‫الثقافيــة واالجتماعيــة للمــكان ومــا يشــتجر‬ ‫فيــه‪ .‬يف كتابــي «أصــوات متجــاورة» الصــادر‬ ‫عــام ‪2010‬م‪ .‬كمــا تناولتهــا يف مقاربــات أخــرى‬ ‫نشــرت بعــد صــدور الكتــاب املشــار إليــه‪.‬‬ ‫لكنــي الحظــت وجــود متغيــر كبيــر بعــد‬ ‫ذلــك؛ فعــدد قليــل مــن تلــك األســماء تطــورت‬ ‫جتاربهــم إمــا بتوطيــد منجزهــا الشــعري‪،‬‬ ‫مــن خــال إنضــاج التجربــة نفســها وتوســيع‬ ‫مدياتهــا‪ ،‬وتفعيــل قدراتهــا علــى التقطيــر‪.‬‬ ‫علــى نحــو مــا فعــل الشــعراء « جميــل مفــرح‪،‬‬ ‫عمــار النجــار‪ ،‬محمــد العدينــي‪ ،‬أحمــد‬ ‫الزراعــي‪ ،‬ابتســام املتــوكل‪ ،‬هــدى أبــان‪ ،‬محمــد‬ ‫الشــيباني‪ ،‬أحمــد الســامي» –علــى ســبيل‬ ‫املثــال ‪ -‬وإمــا مبغــادرة التجــارب الســابقة‬ ‫نفســها واجتــراح جتليــات أكثــر إصــرار ًا علــى‬ ‫َ َ‬ ‫ـاوز نفســها‪ ،‬يشــمل هــذا املنحــى الشــعراء‬ ‫تـ ِ‬ ‫«محمــد اللــوزي‪ ،‬علــى جاحــز‪ ،‬هانــي الصلــوي‪،‬‬ ‫طــه اجلنــد‪ ،‬محمــد العقــود‪ ،‬عبــد اجمليــد‬ ‫التركــي‪ ،‬محمــد عبيــد‪ ،‬محيــي الديــن جرمــة‪،‬‬ ‫ومؤخــر ًا جميــل حاجــب»‪ ،‬وهــذا أيض ـ ًا علــى‬ ‫ســبيل املثــال ال احلصــر‪.‬‬ ‫وهــذه اجملموعــة األخيــرة ســتنضم‬ ‫بفاعليــة كبيــرة إلــى مجموعــة األســماء التــي‬ ‫ظهــرت بعــد بــزوغ فجــر األلفيــة علــى شــكل‬ ‫موجــات متالحقــة تلتحــم موجــة بعــد موجــة‬ ‫بالفضــاء االفتراضــي‪ ،‬وتقــدم قصيــدة نثــر‬


‫‪24‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫مختلفــة إلــى حــد كبيــر‪ ،‬ومــن أكثــر التجــارب‬ ‫وضوحـ ًا يف هــذه اجملموعــة « جــال األحمــدي‪،‬‬ ‫عمــرو االريانــي‪ ،‬نبيــل القانــص‪ ،‬قيــس عبــد‬ ‫املغنــي‪ ،‬محمــد الســندي‪ ،‬عمــار الشــامي‪ ،‬ليلــى‬ ‫الهــان‪ ،‬ميســون االريانــي‪ ،‬بشــير املصقــري‪،‬‬ ‫ضيــاف البــراق‪ ،‬مزنــة األحمــدي‪ ،‬صابريــن‬ ‫احلســني‪ ،‬معــاذ الســمعي»‪ .‬وهــؤالء مجــرد‬ ‫عينــة مــن أســماء كثيــرة تضــج بهــا الســاحة‪.‬‬ ‫لذلــك فــإن هــذه املعاينــة لتجليــات‬ ‫قصيــدة النثــر يف اليمــن خــال العقديــن‬ ‫األخيريــن‪ ،‬ســتكون مبنــأى عــن التصنيــف‬ ‫املتع ِّلــق بالتجييــل‪ ،‬لــن يكــون محــدد‬ ‫التجييــل دقيق ـ ًا بــأي شــكل مــن األشــكال‪،‬‬ ‫طبيعــة التجــارب ســتكون هــي احملــدد هنــا‪.‬‬ ‫إذ يلتقــي شــاعر مــن الشــعراء الذيــن مثلــوا‬ ‫أولــى موجــات التســعينيني «محمــد القعــود‬ ‫مث ـ ًا» يف اجتراحــات تتشــابه كثيــر ًا مــع ليلــى‬ ‫الهــان التــي ظهــرت بعــد مطلــع األلفيــة‪،‬‬ ‫وكالهمــا تتشــابه اجتراحاتهمــا مــع شــاعر‬ ‫ظهــر بعــد القعــود بأكثــر مــن عشــرين عام ـ ًا‬ ‫«معــاذ الســمعي» مث ـ ًا‪ ،‬يف اســتجابات معينــة‬ ‫تفرضهــا طبيعــة اللحظــة الزمنيــة‪ ،‬وهــي‬ ‫حلظــة تلعــب فيهــا ظــروف احلــرب والتم ـزّق‬ ‫التــي يعيشــها اليمــن دور ًا فاع ـ ًا‪ ،‬إذ متيــل‬ ‫التجــارب إلــى الغــرق يف التضمينــات املتعلقــة‬ ‫بهــذا الظــرف‪ ،‬إلــى جانــب الغــرق بشــكل‬ ‫واســع يف الــذات وشــجونها‪ ،‬بقــدر مــا يلعــب‬ ‫الفضــاء االفتراضــي دور ًا ال ميكــن جتاهلــه‪،‬‬ ‫وهــو دور يدفــع الشــعراء بقــوة إلــى التح ّيــز‬ ‫لتمظهــرات بعينهــا مــن مجمــل التمظهــرات‬ ‫التــي تنكتــب بهــا قصيــدة النثــر‪ .‬مثــل نــص‬ ‫الســخرية‪ ،‬ونــص تبــادل الهــزء مــع األشــياء‪،‬‬ ‫ونــص تكســير الرمــوز‪ ،‬ونــص اخلــوف‪ ،‬ونــص‬ ‫ســرد اخلســارات‪ ،‬ونــص مجادلــة احلــب‪،‬‬ ‫كمــا اتســم جــزء كبيــر ممــا ُيكتــب بالعفويــة‬ ‫والتلقائيــة والصــدق والغنائيــة‪ ،‬وهــذا املنحــى‬ ‫األخيــر ميكــن اعتبــاره قفــزة كبيــرة يف كتابــة‬ ‫قصيــدة النثــر‪ ،‬وهــو يف الوقــت عينــه معبــر عــن‬ ‫فاعليــة موقــع التواصــل االجتماعــي فيســبوك‬ ‫ـوي للكتابــة‪.‬‬ ‫كموجـ ٍـه قـ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫وتدلنــا معاينــة هــذه التجــارب علــى‬ ‫تَأ ِّبــي معظــم مــا ُيكتــب اآلن مــن قبــل هــذا‬ ‫الطيــف العمــري الــذي يتــراوح بــن الســتني‬ ‫واخلامســة والعشــرين علــى التأطيــر‪ ،‬فهــم‬ ‫ال يشــكلون جماعــات شــعرية كمــا كان األمــر‬ ‫يف التســعينيات‪ ،‬كمــا أنهــم ال يؤمنــون برمــوز‬ ‫ملهمــة‪ ،‬وال يكتبــون شــعرهم حتــت عنــوان‬ ‫فنــي محــدد‪ .‬مــن جهــة أخــرى تنتفــي يف‬ ‫غالــب مــا ُيكتــب الســمات الدالــة علــى العمــر‪،‬‬ ‫وتبــدو األســاليب يف معظمهــا أكثــر تعبيــر ًا‬ ‫عــن االســتجابات الذاتيــة‪ ،‬بوصــف هــذه‬

‫محمد اللوزي‬

‫طه الجند‬

‫االســتجابات ســمة مــن ســمات هــذه املرحلــة‬ ‫كلهــا‪.‬‬ ‫وباســتثناء مجموعــة مــن التســعينيني‬ ‫أشــرت ســابق ًا إلــى تطــور جتاربهــم بتوطيدهــا‬ ‫عبــر العمــل علــى إنضــاج التجربــة نفســها‬ ‫وتوســيع مدياتهــا‪ ،‬وتفعيــل قدراتهــا علــى‬ ‫التقطير‪ ،‬فإن بقية الفاعلني اآلن يف املشــهد‬ ‫الشــعري وهــم أكثــر بكثيــر ممــن ذكرتهــم‪ ،‬ال‬ ‫يكتبــون يف مناطــق مطروقــة قب ـ ً‬ ‫ا‪ ،‬املنتمــون‬ ‫إلــى التســعينيات ممــن ذكــرت التحاقهــم‬ ‫باملوجــات اجلديــدة غــادروا جتاربهــم الســابقة‬ ‫بشــكل كلــي تقريب ـ ًا‪ ،‬أمــا املوجــات اجلديــدة‬ ‫مــن شــعراء مــا بعــد ‪2000‬م‪ ،‬فهــم بطبيعتهــم‬ ‫أبعــد مــا يكونــون عــن فكــرة االســتجابة‬ ‫للتجــارب التــي اجترحهــا مــن قبلهــم‪،‬‬ ‫أقصــد هنــا فكــرة أن يكونــوا امتــداد ًا ملــن‬ ‫قبلهــم‪ ،‬فهــذا ال يحــدث اآلن إال يف نطاقــات‬ ‫وحـ ٍـة‪ ،‬وال عالقــة‬ ‫محــدودة جــد ًا وغيــر َمل ُْم َ‬ ‫لهــذا مبوقــف ثقــايف أو فنــي مقصــود‪ ،‬مبعنــى‬ ‫أنهــم ال يتعمــدون هــذه القطيعــة‪ ،‬وهــم‬ ‫ليســوا مشــغولني مبوقــف ضــدي مــن أي نــوع؛‬ ‫ـاب‬ ‫بــل يعيشــون حالــة تصالــح حتــى مــع ُكتَّ ـ ِ‬ ‫األشــكال األخــرى‪.‬‬ ‫هنــا ميكــن أن نلمــح تأثيــر الفضــاء املفتــوح‬ ‫الــذي وفــره اإلنترنــت مبواقعــه ومنتدياتــه‬ ‫ومدوناتــه‪ ،‬إلــى جانــب وســائل التواصــل‬ ‫االجتماعــي وعلــى رأســها فيــس بــوك‪.‬‬ ‫لقــد ســاهمت الوســائط يف جعــل التجــارب‬ ‫التــي ميكــن التالقــح معهــا يومي ـ ًا تبــدو ال‬ ‫نهائيــة‪ ،‬وهــذا وضــع أدى بالضــرورة إلــى‬ ‫ســيولة واســعة يف النمــوذج املتعالــي‪ ،‬صــار‬ ‫بوســع كل جتربــة أن تكــون منوذج ـ ًا‪ ،‬ال يهــم‬ ‫مــدى اتســاقها مــع التجــارب األخــرى‪ ،‬ال يهــم‬

‫احتكامهــا إلــى مفهــوم أو مفاهيــم تشــير إلــى‬ ‫أطــر ومحــددات معينــة لكتابــة القصيــدة‪ ،‬كل‬ ‫شــيء تتســع لــه قصيــدة النثــر‪ ،‬مبقــدار مــا أن‬ ‫كل نــص ميكــن أن ينشــر‪.‬‬ ‫يف هــذا الســياق ميكــن أن نرصــد مجموعــة‬ ‫مــن املظاهــر صــارت تتســم بهــا قصيــدة النثــر‬ ‫اليمنيــة – وهــذا التوصيــف لــن يكــون إال‬ ‫محــدد ًا نســبي ًا‪ ،‬إذ يصعــب أن يكــون قولنــا‬ ‫بوجــود قصيــدة نثــر مينيــة قــو ًال مقبــو ًال علــى‬ ‫إطالقــة‪ ،‬فهــي يف النهايــة جــزء مــن جتربــة‬ ‫ـاء علــى‬ ‫عربيــة كبــرى‪ -‬مــع ذلــك يجــوز لنــا بنـ ً‬ ‫مــا ســبق أن نؤكــد علــى وجــود مظاهــر خاصــة‬ ‫إلــى حــد ّمــا تتصــل بإمــاءات أو إكراهــات‬ ‫اجلغرافيــا اليمنيــة‪ ،‬كمــا تتصــل بأوضــاع‬ ‫اليمــن السياســية واالجتماعيــة والثقافيــة‪،‬‬ ‫وتتصــل يف نفــس الوقــت بالفضــاء املفتوح‪ ،‬مع‬ ‫ذلــك فلــن نزعــم أنــه ميكــن رصدهــا مفصولــة‬ ‫عــن مظاهــر التجربــة العربيــة الكبــرى التــي‬ ‫تعيشــها قصيــدة النثــر اليــوم‪ ،‬ومنهــا‪:‬‬ ‫ أن مشهد قصيدة النثر من حيث الشكل‬‫صــار أكثــر تعــدد ًا فمشــهدها ميتلــىء بقصائــد‬ ‫الومضــة‪ ،‬والهايكــو‪ ،‬ونصــوص التوقيعــات‪،‬‬ ‫ونصــوص القطعــة املركــزة جــداً‪ ،‬كل ذلــك‬ ‫إلــى جانــب النصــوص املتوســطة والطويلــة‬ ‫طبع ـ ًا‪ ،‬وهــي جميعهــا صــارت تنــزاح عــن‬ ‫معهودهــا وتبتكــر لنفســها مقاييــس شــكلية‬ ‫جديــدة‪ ،‬ناهيــك عــن انغماســها احملمــوم يف‬ ‫التضمينــات احملليــة‪.‬‬ ‫ أن ســرعة النشــر وســهولته حرمــت‬‫نصــوص بعــض الشــعراء مــن ميــزات املراجعــة‬ ‫والتجويــد والتشــطيب اجليــد‪ ،‬لذلــك تشــعر‬ ‫أن النــص ليــس مصقــو ًال‪ ،‬وأن الشــاعر يبــدو‬ ‫مثــل خيــاط ال يســتطيع إخفــاء أثــر املقــص أو‬


‫‪25‬‬

‫بــروز اخليــوط يف قميــص أو فســتان أجنــزه –‬ ‫علــى حــد تعبيــر أحــد الشــعراء‪.-‬‬ ‫ إن كميــة التالقــح واملقابســات مــع إبداعات‬‫اآلخريــن تتحــول عنــد بعــض الشــعراء إلــى‬ ‫وقــود خــارق لقدراتهــم اإلبداعيــة‪ ،‬وهــذا ليــس‬ ‫عيب ـ ًا‪ ،‬وهــو ال يعنــي التناســخ والتكــرار إال‬ ‫عنــد ذوي املواهــب املتوســطة‪ ،‬كمــا أنــه ال يعنــي‬ ‫التقليــد إال عنــد املبتدئــن وضعــاف املوهبــة‪،‬‬ ‫أمــا عنــد ذوي املواهــب الكبــرى القادريــن علــى‬ ‫التعامــل مــع فيــض اإلبداعــات العاملية املنشــورة‬ ‫علــى هــذا الفضــاء فاألمــر يختلــف‪ ،‬إنــه يتحــول‬ ‫إلــى نــوع مــن التحــدي؛ بــل يتحــول إلــى مضمــار‬ ‫ســباق لإلبــداع ولإلجــادة يف نفــس الوقــت‪.‬‬ ‫ أنــه يف خضــم الفيــض الشــعري الكبيــر‬‫الــذي يعيشــه مشــهد قصيــدة النثــر اليمنيــة‬ ‫اليــوم‪ ،‬هنــاك أســماء محــدودة تكتــب شــعر ًا‬ ‫حقيقي ـ ًا‪ ،‬عميق ـ ًا ومميــزً ا‪ ،‬والالفــت أن معظــم‬ ‫هــذه األســماء جتمعهــا فوضــى الفضــاء‬ ‫األزرق‪ ،‬وزخمــه املثيــر واملقلــق يف آن‪ ،‬تتصالــب‬ ‫جتاربهــم لكنهــا ال تتشــابه‪ ،‬إذ ال تبــدو تلــك‬ ‫التجــارب يف مجملهــا عقــدة‪ ،‬إنهــا كــورة‬ ‫خيــوط كبيــرة ومتعــددة األلــوان‪ ،‬نصــوص ال‬ ‫تبــدو كمتتاليــة أوركســترالية‪ ،‬ولكنهــا نصــوص‬ ‫تنكتــب وتتالقــح يف عالــم مشــترك هــو عالــم‬ ‫الفضــاء األزرق‪ ،‬لكنهــا يف نفــس الوقــت‬ ‫حيــوات مســتقلة؛ لــكل شــاعر ظرفــه احلياتــي‬ ‫واالجتماعــي‪ ،‬وثمــة حاكميــة جغرافية تفرض‬ ‫مواضعاتهــا شــاء الشــاعر أم أبــى‪.‬‬ ‫ســيحضر يف هــذه النصــوص نــص البنــاء‬ ‫املشــهدي كواحــد مــن أهــم وأجمــل ســمات‬ ‫قصيــدة النثــر‪ ،‬وســيبدو عنــد بعــض الشــعراء‬ ‫ُم ْح َكم ـ ًا ينــم عــن ذكاء شــعري وخبــرة كبيــرة‬

‫كمــا يف نــص الشــاعر محمــد اللــوزي «حبــة‬ ‫خــال يف ســاق حبيبتــي»‪:‬‬ ‫بإصبعي‬ ‫حبة اخلال‬ ‫أن‬ ‫أستطيع ْ‬ ‫َ‬ ‫أسحب َّ‬ ‫يف ساقك األمين‬ ‫إلى مكان آخر‬ ‫حبة اخلال‬ ‫َّ‬ ‫ساقك‬ ‫على‬ ‫هبطت‬ ‫َّتي‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫مثل مظل َّّي‬ ‫أرهقت خيالي‬ ‫وسارت بي‬ ‫الوردي‬ ‫إلى سوادها‬ ‫ّ‬ ‫وســتحضر نصــوص تتســم باحلــس‬ ‫الشــفاهي أو االرتــكاز علــى خطــاب تداولــي‬ ‫كثيــر ًا مــا كان يقــع خــارج الشــعر‪ ،‬لكــن قصيــدة‬ ‫النثــر اســتطاعت التقــاط ممكنــات الشــعر فيــه‬ ‫وقدمتهــا كأجمــل مــا يكــون‪ .‬نقــرأ ذلــك مث ـ ًا‬ ‫يف نــص طــه اجلنــد «ســأتكلم ولــن يوقفنــي‬ ‫أحــد»‪:‬‬ ‫ها أنا أعود إلى املقهى‬ ‫ملواصلة الكالم‬ ‫سأتكلم ولن يوقفني أحد‬ ‫سأتكلم عن البالد التي نهبت‬ ‫عن اجلبل الذي سد األفق‬ ‫وما يزال‬ ‫سأتكلم عن الربيع العربي‬ ‫عن املرارات واألحالم‬ ‫لكن اجلميع يخوضون يف هذا الشأن‬ ‫وليس هناك ما يضاف‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫محمد عبيد‬

‫محمد القعود‬

‫سأتكلم إذ ًا عن طه اجلند‬ ‫وهنــاك واحــدة مــن أكثــر ســمات قصيــدة‬ ‫النثــر اليمنيــة خصوصيــة تتمثــل يف غنائيــة‬ ‫األداء مقابــل حياديتــه يف جتــارب عربيــة‬ ‫مجــاورة‪ ،‬وهــي غنائيــة تدلنــا معايناتهــا إلــى‬ ‫صعوبــة الربــط بينهــا وبــن إرث القصيــدة‬ ‫العربيــة التقليديــة‪ ،‬كمــا أنهــا غنائيــة تختلــف‬ ‫عــن غنائيــة منــاذج قصيــدة النثــر التــي كتبهــا‬ ‫ســبعينون مثــل عبــد الرحمــن فخــري –مثـ ًا‪-‬‬ ‫‪ ،‬غنائيــة قصيــدة النثــر اليمنيــة يف مشــهدها‬ ‫اجلديــد لهــا عالقــة بطبيعــة االنســان اليمنــي‪،‬‬ ‫ـات ومتاعـ َـب غائــرة يف‬ ‫بوجـ ٍـع وحـ ٍ‬ ‫ـزن وارتكاسـ ٍ‬ ‫احليــاة ويف النفــوس؛ ال تســتطيع روح املبــدع‬ ‫اليمنــي مغادرتهــا أو جتاهلهــا‪ ،‬فهــي تتســرب‬ ‫إلــى النــص بكيفيــات مختلفــة‪ ،‬وتتعاشــق مــع‬ ‫التجليــات الكليــة لــه‪ .‬جنــد هــذا املنحــى قويـ ًا‬ ‫عنــد الشــاعر طــه اجلنــد وهــو يقــول‪:‬‬ ‫الريح التي تهب على احلديقة تعيد‬ ‫دفقة احلياة‬ ‫هنا حيث تغوص وتغرق‬ ‫كتلة من الذكريات امليتة‬ ‫لم تكن هناك حديقة‪ ،‬بل فقط‬ ‫وعاء للذخائر املقدسة‬ ‫اخلفق الذي تسمعينه ليس حتليق ًا‬ ‫بل مجرد اضطراب يف رحم األبدية‬ ‫كمــا جنــده قويـ ًا عنــد الشــاعر محمــد عبيــد‬ ‫الــذي تقــدم جتربتــه تنويعـ ًا آخــر فيــه‪:‬‬ ‫ليس يف بالدي جبال‬ ‫يكسوها الثلج‬ ‫ألكتب حلبيبتي‬ ‫ ما زلت أتزلج وسأعود‬‫عشية عيد امليالد‬ ‫ليس يف بالدي أعياد ميالد‬ ‫ألزين الشجرة‬ ‫ليس يف بالدي أشجار‬ ‫حتتفي بالعصافير‬ ‫ليس يف بالدي عصافير‬ ‫ال يقتلها الصياد‬ ‫ورمبــا تكــون جتربــة الشــاعر محمــد القعــود‬ ‫أكثــر اتصــا ًال بهــذا املنحــى‪ ،‬لكــن اخملتلــف عنــد‬ ‫القعــود هــو وضــوح احلــس الرومانســي يف‬ ‫نصــه‪ ،‬وهــو حــس ال تعبــر عنــه أجــواء النــص‬ ‫فحســب؛ بــل يتع ـزّز أحيانــا مبفــردات مــن‬ ‫املعجــم الرومانســي‪:‬‬ ‫األول يف القصيدة‬ ‫يذهب إلى السطر َّ‬ ‫عاري ًا من اللغة الذابلة‬


‫‪26‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫السيئة‬ ‫ومن النوايا‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫حشمة للضوء‬ ‫قلبه‬ ‫ٌ‬ ‫ملعان تأبى احلضور‬ ‫وجالل ٍ‬ ‫غرور‬ ‫يجتهد دون‬ ‫ٍ‬ ‫كي ينتزع بطولة البوح‬ ‫التبرج ا ُمل ّ‬ ‫نحازة إلى‬ ‫لغة ُم‬ ‫مل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بال ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫هنــاك أيض ـ ًا مكــر النــص الكابوســي‬ ‫واحتياالتــه كمــا تتجلــى عنــد عديــد الشــعراء‬ ‫وهــي أكثــر وضوح ـ ًا يف جتربــة الشــاعر جــال‬ ‫األحمــدي كمــا يف قصيدتــه «هــذا العــدم‬ ‫جلبتــه بيــدي» حيــث يبــدو النــص مشــهد ًا‬ ‫مركب ـ ًا مــن التذمــرات العنيفــة الســاخطة‬ ‫علــى كل مــا تتمــرأى فيــه ذاتنــا‪ ،‬ويتالمــح فيــه‬ ‫تشــاركنا يف وجــود يبــدو ليــس وجــود ًا مبقــدار‬ ‫مــا هــو ورطــة ســخيفة‪:‬‬ ‫الشريرة‬ ‫مساء اخلير ّأيتها األرواح‬ ‫ّ‬ ‫مساء اخلير ّأيتها األشباح البشعة‬ ‫مساء اخلير ّأيتها األشياء التي ال‬ ‫أحد‬ ‫ُ‬ ‫يلتفت إليها ٌ‬ ‫ما الذي تفعلونُ ه خارج ذاكرتي؟!‬ ‫تعالوا معي‬ ‫كثير يف خزانتي‬ ‫شتاء‬ ‫لدي‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫موحش ستشعرون فيه‬ ‫منزل‬ ‫لدي‬ ‫ّ‬ ‫بامللل‬ ‫لدي الكثير منه‬ ‫ّ‬ ‫ستحبونه‬ ‫بارد‬ ‫وشاي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫قمل‪ ،‬عناكب‪ ،‬وجرذان جربة‬ ‫عقارب‬ ‫لدي‬ ‫ال أعرف إن َ‬ ‫كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫مما أملكُ‬ ‫ُأراهن أنّكم ستندهشون ّ‬ ‫وجوه عديدة نتنة سنأكلها مع ًا‬ ‫لدي‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫على العشاء‬ ‫ٌ‬ ‫حماقات جمعتُ ها يف‬ ‫الذع ِمن‬ ‫ونبيذ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫خسرتها‬ ‫سابقة‬ ‫حياة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وعيون‬ ‫أيد‬ ‫لدي‬ ‫ٌ‬ ‫ّ ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫أرجل أكثر من حاجتي على املشي‬ ‫أو األلم‬ ‫تركها آخرون تذبل يف دمي وذهبوا‬ ‫للحرب‬ ‫للحب‬ ‫ذهبوا‬ ‫ّ‬ ‫ذهبوا إلى األمس‬ ‫احلطب‬ ‫ذهبوا ليحضروا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الغابة خلفهم‪.‬‬ ‫ولم يغلقوا‬ ‫ال تخافوا‬ ‫أنا َم ٌ‬ ‫يت مثلكم متام ًا‬

‫ليلى إلهان‬

‫جالل األحمدي‬

‫مالعبــة الكابــوس يف قصيــدة النثــر‬ ‫ـوي احلضــور‪،‬‬ ‫اليمنيــة صــارت ملمح ـ ًا قـ ّ‬ ‫وصــار لبعــض الشــعراء نصــوص حت ّولــت إلــى‬ ‫بصمــات فنيــة‪ ،‬بســبب مهــارة وإتقــان اللعبــة‪،‬‬ ‫وعــدم انفصالهــا يف نفــس الوقــت عــن فائــض‬ ‫الشــجن جــراء عبثيــة الوجــود التــي يعيشــها‬ ‫الشــاعر‪ ،‬ذلــك مــا نشــعر بــه ونحــن نقــرأ قــول‬ ‫طــه اجلنــد‪:‬‬ ‫أنا خائف يا أمي‬ ‫من وشوشات الليل‬ ‫من رجل يف اخلارج يقول إنه أنا‬ ‫وهنــاك جســدانية الــذات الفرديــة جنــد‬ ‫أكثــر جتلياتهــا يف نصــوص ميســون اإلريانــي‬ ‫وليلــى إلهــان‪ ،‬وهــي نصــوص غالب ـ ًا مــا‬ ‫تتخ ّلــق مــن ضديــن؛ اجلــرأة والهشاشــة‪ ،‬هــذه‬ ‫النصــوص يف الغالــب شــذرية‪ ،‬يه ّيــأ لنــا أنهــا‬ ‫تســتدعي أســلوب اليوميــات التقليديــة‪ ،‬لكــن‬ ‫احلقيقــة أنهــا تســتجيب ملواضعــات النشــر‬ ‫علــى فيــس بــوك «مب تفكــر»‪ ،‬فحــن تقــول‬ ‫ليلــى إلهــان‪:‬‬ ‫اليوم يحبني أكثر مني‬ ‫وأنا أعشقه أكثر من نفسه‬ ‫فهــي تنشــر حالــة جديــدة فحســب‪.‬‬ ‫ومثلهــا يفعــل عشــرات الشــعراء كل يــوم‪ .‬لكــن‬ ‫اجلســدانية الفرديــة تتمثــل بقــوة يف قولهــا‪:‬‬ ‫خنت جسدي عندما أذابني حبه‬ ‫ومارست الغواية‬ ‫يا له من جسد مسكني‬ ‫يرتكب اخلطيئة مع نفسه‬ ‫أمــا قصيــدة مجادلــة احلــب فهــي مــن أكثــر‬ ‫املظاهــر حضــور ًا يف قصيــدة النثــر اليمنيــة‪،‬‬

‫ولعــل أكثــر مــا يدفــع الشــعراء إليهــا هــو‬ ‫رواجهــا الواســع عنــد املتلقــي علــى مواقــع‬ ‫التواصــل االجتماعــي‪ ،‬لذلــك فكتابتهــا‬ ‫ليســت مقصــورة علــى قصيــدة النثــر اليمنيــة؛‬ ‫بــل إن حضورهــا يف جتــارب عربيــة يعــد أوســع‬ ‫كثيــر ًا ممــا هــو هنــا‪ ،‬ورمبــا تكــون قصيــدة «أيهــا‬ ‫احلــب» للشــاعرة الفلســطينية فاتنـ ُـة الغ ـ ّرة‬ ‫مــن النصــوص األكثــر شــهرة وحتقق ـ ًا بــن‬ ‫نصــوص مجادلــة احلــب يف قصيــدة النثــر‬ ‫العربيــة كلهــا‪ ،‬أمــا قصيــدة النثــر اليمنيــة‬ ‫فتمثــل هــذا اجلانــب فيهــا جتــارب عديــدة‬ ‫علــى رأســها جتــارب الشــعراء جــال األحمــدي‬ ‫ومحمــد القعــود وصبــا احلســني ومعــاذ‬ ‫الســمعي وميســون اإلرياني‪ .‬يف قصيدة «حب»‬ ‫يقــول جــال األحمــدي‪:‬‬ ‫الرقيقة إلى احلائط‬ ‫نظرته ّ‬ ‫وكلماته القاسية لقلبي‬ ‫يده املرتعشة متسح على التّ مثال‬ ‫وقدمه الواثقة تخترق ظلّي‬ ‫رائحته املريضة تتعافى على وسادتي‬ ‫باب غيري‬ ‫واسمه الثالثي ّ‬ ‫يرن على ٍ‬ ‫الصيف‬ ‫لم ِ‬ ‫يأت يف ّ‬ ‫الصيف‬ ‫ولم يأت ّ‬ ‫انتظرته بال أمل يف الشتاء‬ ‫وكانت ّ‬ ‫كل الفصول ّ‬ ‫تدل على الشتاء‬ ‫ُ‬ ‫وجدت رائحته بني‬ ‫وبعد كل حرب‬ ‫اجلثث‬ ‫نظرته الرقيقة مغمضة‬ ‫كلماته دون أن ينطق قاسية‬ ‫ويده أخير ًا ال ترتعش‪.‬‬


‫‪27‬‬

‫وال ميكــن لهــذه املعاينــات أن تؤثــل مقاربــة‬ ‫لقصيــدة النثــر اليمنيــة؛ خالل العشــرين عام ًا‬ ‫املاضية دون أن تتوقف عند خطابها الســيري‪،‬‬ ‫وهــو خطــاب يجــد أبــرز جتلياتــه يف جتــارب طــه‬ ‫اجلنــد‪ ،‬عبــد اجمليــد التركــي‪ ،‬علــي جاحــز‪،‬‬ ‫هانــي الصلــوي‪ ،‬محمــد الســندي‪ ،‬محمــد‬ ‫عبيــد‪ ،‬جميــل حاجــب‪ ،‬ومــا يلفــت نظرنــا هــو‬ ‫اختــاف أســاليب الكتابــة وتعددهــا‪ ،‬مــن النص‬ ‫التلقائــي العفــوي البســيط املعبــأ بالشــعر‬ ‫عنــد عبــد اجمليــد التركــي وطــه اجلنــد ومحمــد‬ ‫القعــود وجميــل حاجــب ومحمــد عبيــد‪.‬‬ ‫إلــى النــص القصــدي املنــدرج يف مصفوفــة‬ ‫مــن االجتراحــات التراتبيــة املتسلســلة علــى‬ ‫طريقــة الشــعراء محمــد اللــوزي‪ ،‬جــال‬ ‫األحمــدي‪ ،‬جميــل مفــرح‪ ،‬ميســون االريانــي‬ ‫وصبــا احلســني‪ .‬إلــى التجــارب املوغلــة يف‬ ‫التجريــب كمــا عنــد الشــاعر هانــي الصلــوي‪ ،‬أو‬ ‫التجــارب التــي جتعــل مــن اللغــة أداة تشــغيل‬ ‫هائلــة لتفجيــر رمزيــة التجربــة وداللتهــا علــى‬ ‫طريقــة الشــاعر علــي جاحــز‪ ،‬أو التجــارب‬ ‫التــي تتســع للغرضيــة وتتجــادل معهــا‪ ،‬كمــا يف‬ ‫نصــوص الشــاعر معــاذ الســمعي‪.‬‬ ‫التوصيفــات الســابقة قــد تعنــي تعالــقَ‬ ‫التجــارب أحيان ـ ًا‪ ،‬لكنهــا ال تعنــي تناســخها‬ ‫أو حتــى تشــابهها‪ ،‬فذلــك يحــدث عنــد ذوي‬ ‫املواهــب احملــدودة‪ ،‬أمــا مــن اخترتهــم هنــا فهــم‬ ‫منــاذج مــن شــعراء يتمتعــون مبواهــب حقيقــة‪،‬‬ ‫وبعضهــم يتمتــع بنضــج يتجــاوز أحيان ـ ًا‬ ‫حذرنــا إزاء تقديــر منجزهــم‪ .‬وإذا كان ضيــق‬ ‫احليــز هنــا يحرمنــا مــن ضــرورة التدليــل علــى‬ ‫تلــك الســمات بأمثلــة متعــددة ممــا أجنــزه‬ ‫هــؤالء الشــعراء‪ ،‬فــا أقــل مــن اســتحضار مــا‬ ‫يشــير إلــى صــواب املعاينــة ووجــود متحقــق‬

‫يعبــر عنهــا‪ ،‬وهــذا مــا ســأفعله هنــا‪ .‬فالنــص‬ ‫التلقائــي العفــوي البســيط املعبــأ بالشــعر‬ ‫جنــده أفضــل متثيــل لــه عنــد عبــد اجمليــد‬ ‫التركــي يف قولــه‪:‬‬ ‫قبل أن أنام‬ ‫أدخل قائمة األصدقاء‪ ،‬أتأمل صورهم‪،‬‬ ‫أحذف عشرة أسماء ألنام قرير العني‪.‬‬ ‫ما حاجتي خلمسة آالف صديق؟‬ ‫لدي وقت لقراءة خمسة آالف‬ ‫ليس َّ‬ ‫اسم كل يوم‬ ‫ولست بحاجة إلى إعجاباتهم على‬ ‫منشوراتي‬ ‫ألن صفحتي ليست مرتبطة بحساب‬ ‫بنكي‪.‬‬ ‫حذفت ثالثة شعراء عرب‪ ،‬يقال إنهم‬ ‫من كبار الشعراء‬ ‫صورهم تبدو مترفعة عن الواقع‪،‬‬ ‫وأنا لست مغرما باجلدية والرزانة‬ ‫أحب البسطاء‬ ‫بإمكاني أن أحذف شاعرا كبيرا‬ ‫وأضع مكانه بائعا متجوال‪،‬‬ ‫أحب الباعة املتجولني‬ ‫الذين يالحقون أرغفة اخلبز يف متاهة‬ ‫كبيرة من الشوارع واألزقة‪.‬‬ ‫ال أحب الذين يلتقطون الصور بجانب‬ ‫سياراتهم الفخمة‬ ‫أو بجانب منزل أنيق ال يخصهم‪،‬‬ ‫الذين ينشرون صور وجباتهم الثالث‬ ‫كل يوم‪،‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫صابرين الحسني‬

‫معاذ السمعي‬

‫الذين يضعون صور الرؤساء واحليوانات‬ ‫املفترسة‪،‬‬ ‫الذين يضعون صور األسلحة واجلثث‬ ‫وأخبار املعارك‪،‬‬ ‫لست بحاجة إلى إضافة كل هذا إلى‬ ‫روحي املتعبة‪.‬‬ ‫لم يعد يهمني أن أكون شاعر ًا‬ ‫أحتاج أن أعيش كبائع السمك الذي ال‬ ‫يتأمل يف عيون األسماك وهي تتقافز‬ ‫يف بركة الزيت‪،‬‬ ‫أن أعيش كعامل نظافة يتعامل مع‬ ‫األشياء على أنها قمامة‬ ‫أن أعيش كنجار ال يتعامل مع األشجار‬ ‫بذاكرة مليئة باحلطب‪.‬‬ ‫والن ــص الس ــيري القص ــدي املن ــدرج‬ ‫يف مصفوف ــة م ــن االجتراح ــات التراتبي ــة‬ ‫املتسلس ــلة ميك ــن التمثي ــل له بن ــص «البيعة»‬ ‫للش ــاعر محم ــد الل ــوزي‪:‬‬ ‫بايعتني اخليبة نبي ًا لها‬ ‫بايعني املتكدسون يف ظنونهم‬ ‫بايعني املارة بأشباههم األربعني‬ ‫فصار لي حق عليهم جميع ًا‬ ‫صار لي كرسي‬ ‫وخيل سرجها الريح‬ ‫بايعني الزيغ ونكث بيعته‬ ‫فطوقته جيوشي من كل حدب‬ ‫بايعني الزمان وقال لي‪:‬‬ ‫أنت صاحب هذا الزمان‬ ‫والهواء من حولك حشد ورايات‬ ‫بايعني سكارى البلدة إال أكبرهم سن ًا‬ ‫فر الى بالد بعيدة‬ ‫بايعني اخلاطر‬ ‫وقال انهض بنا الى أي حرب‬ ‫كي تكون النهاية‬ ‫وتكون الدماء زكية يف وصولك‬ ‫بايعوني كلهم‬ ‫وقالوا سننتظرك ريثما جتيء‬ ‫لو أنك تريد ُفسحة‬ ‫أو غياب ًا‬ ‫فما كان لي إال أن ألبي الشرود‬ ‫وأهيأ له طاوالت‬ ‫أسير بالليالي الى جدبها‬ ‫وأزعم أني للكواكب أقمار ًا‬


‫‪28‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫كمــا ميكــن التمثيــل لهــذه الســمة بأكثــر‬ ‫مــن نــص عنــد الشــاعر جميــل مفــرح منهــا‬ ‫قولــه يف «ربطــة عنــق أنيقــة»‪:‬‬ ‫تتحول احلياة‬ ‫حني‬ ‫ّ‬ ‫إلى أزقة متناهية الضيق واحللكة‬ ‫على اللغة أن تتناثر شقوق ًا‬ ‫على امتداد االختناق‬ ‫لتغدو نوافذ يعبرها األوكسجني‬ ‫وأيض ًا قوله يف «أحالم الكمثرى»‪:‬‬ ‫ثمرة الكمثرى‬ ‫تستوطن مساحة ال بأس بها يف ذاكرتي‬ ‫ُترى ما الذي جعلها من املسميات‬ ‫احملفوظة يف رأسي حتّ ى اآلن؟!‬ ‫أهمية عنها‬ ‫ال أتذكّ ر شيئ ًا ذا‬ ‫ّ‬ ‫أمــا النــص الســيري املوغــل يف جتريــب‬ ‫يتخالــج بــن وقائــع حياتيــة ذاتيــة‪ ،‬ومتاهيــات‬ ‫واســعة يف عوالــم النــص اجلديــد املشــتبك‬ ‫بعوالــم الشــبكة العنكبوتيــة‪ ،‬فأكثــر جتلياتــه‬ ‫تقــع يف جتربــة الشــاعر هانــي الصلــوي‪ ،‬حيــث‬ ‫يتجلــى اإلفصــاح عــن التداخــل القصــدي مــع‬ ‫جتــارب شــعرية مــن مختلــف أصقــاع العالــم‪،‬‬ ‫وحيــث تبــرز التمثــات والتضمينــات العابــرة‬ ‫للثقافــات‪ ،‬وحيــث قصديــة االســتفادة مــن‬ ‫معطيــات النــص اجلديــد الــذي تعـ ّـد الريــادة‬ ‫فيــه والتنظيــر لــه بصمــة مميــزة للصلــوي‬ ‫يف مشــهد مــا بعــد مطلــع األلفيــة‪ ،‬وكل‬ ‫ذلــك يرتبــط باجتــراح لغــة هادمــة لألنســاق‬ ‫الســائدة‪ ،‬لغــة تتــآزر مــع أفــكار جديــدة ومبتكــرة‬ ‫جندهــا يف نصــوص مثــل «كان احلــزن إلهــا‬ ‫قدمي ـ ًا» و»بــرق ملعــون الطلعــة» و»الهامــش‬ ‫علــى املفاتيــح» و»فصــل يضــرب يف اللغــة»‪.‬‬ ‫اللغــة يف هــذه النصــوص تتح ـ ّول إلــى لعبــة‬ ‫تعبيريــة‪ ،‬بوصــف اللغــة نفســها شــريك ًا يتواطــأ‬ ‫بخفاءاتــه وجتلياتــه‪ ،‬يف تشــييد جماليــات‬ ‫النــص القائمــة علــى التشــذير وتعمــد اإلربــاك‪،‬‬ ‫إذ ســيكون اإلربــاك هنــا معــاد ًال أو موازيـ ًا حلالة‬ ‫احلــرب التــي نعيشــها‪ ،‬كمــا نقــرأ ذلــك يف هــذه‬ ‫املقتطفــات مــن نــص «املوعــد»‪:‬‬ ‫‪ ++‬ال متت يف الصباح الباكر‬ ‫سيتهمونك باملثابرة واإلخالص‬ ‫الظهيرة‬ ‫‪ ++‬ال متت يف‬ ‫ِ‬ ‫سيقولون إنك مغرم بالوضوح‬ ‫والفضيحة‬ ‫ِ‬ ‫‪++‬ال متت ساعة الغروب الذهبية ِ‬ ‫سيدعون أنك مصاب باملراوغة‬ ‫والرومانسية‪.‬‬

‫ميسون اإلرياني‬

‫علي جاحز‬

‫‪++‬ال متت يف الليل‬ ‫بالدسيسة‬ ‫سيشيعون أنك مغرم‬ ‫ِ‬ ‫واخلفاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وهــي كلهــا تتكــئ علــى الســخرية مــن‬ ‫النتيجــة املترتبــة علــى فعــل املــوت‪ ،‬تلــك‬ ‫النتيجــة التــي تبــرر النهــي عنــه‪ ،‬والصلــوي‬ ‫يســتثمر تقنيــات حاســوبية دالــة علــى التنامي؛‬ ‫مثــل عالمــة ‪++‬‬ ‫بعــد ذلــك ســيلجأ الشــاعر إلــى مزيــج مــن‬ ‫األســاليب البالغيــة‪ ،‬يتــآزر فيهــا إيهــام التضــاد‬ ‫واملقابلــة والتكــرار واملفارقــة‪ ،‬حيــث تتــم إعــادة‬ ‫إنتاج السطر األول من كل فقرة من الفقرات‬ ‫األربــع الســابقة؛ عبــر متواليــات مــن األوامــر‬ ‫والنواهــي‪ ،‬مضيف ـ ًا يف نفــس الوقــت تقنيــة‬ ‫حاســوبية أخــرى هــي عالمــة = التــي تتضاعــف‬ ‫مــع تنامــي النــص كداللــة علــى املرواحــة‪ ،‬أو‬ ‫لإليهــام بــأن الــكالم يقــال مــرة أخــرى وإن جــاء‬ ‫مثبت ـ ًا ومضاف ـ ًا إليــه بعــد أن كان منفي ـ ًا‪ ،‬أو‬ ‫منفي ـ ًا ومضافــا إليــه بعــد أن كان مثبت ـ ًا‪:‬‬ ‫= مت يف الصباح الباكر‬ ‫حيث تشبه الشمس نفسها متاما‬ ‫الباكر‬ ‫= =ال متت يف الصبح‬ ‫ِ‬ ‫حيث تشبه الشمس نفسها متام ًا‬ ‫فال مجال للعبث مع املسؤولية‬ ‫والترتيب‪.‬‬ ‫= مت يف الظهيرة والظل واقف‬ ‫يف احلر مببراته وأسئلته ووحدته‪.‬‬ ‫== ال متت يف الظهيرة والظل واقف‬ ‫يف احلر مببراته وأسئلته ووحدته‬ ‫سوف يتبخر املستحيل يف كفنك‬

‫ولن يجد املشيعون كتلة يسيرون بها‬ ‫إلى حفرتك القبر‪.‬‬ ‫لن جتد حبيبتك جبين ًا ترسم عليه‬ ‫أحمر شفاهها قبل األخير‪.‬‬ ‫= مت وقت الغروب الثمني والعالي‬ ‫وأنت تتأمل إقالع الذهب من البوتقة ِ‬ ‫للمزارع‬ ‫اعتذار احملرقة ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحافظة الدوام املدرسي للفشل ِ‬ ‫مت حلظة الغروب وأنت ترى الدموع‬ ‫تهطل من مزاريبها‪ ،‬والعشاق يحتمون‬ ‫بأرواحهم‬ ‫من األجساد‪ .‬يتمنون املوت قبل أن‬ ‫يكونوا فراق ًا‬ ‫والفناء قبل أن يكونوا نهر ًا‬ ‫يكذبون على ضلوعهم عنوة وال‬ ‫يتوقفون عن النحيب‬ ‫== ال متت ساعة الغروب العالية‬ ‫واملقدسة‬ ‫بخدوده املستطيلة ِ‬ ‫األلم‬ ‫يتباهى‬ ‫حيث‬ ‫ِ‬ ‫واحلية بنعومتها واملنكسرون بأحزانهم‬ ‫تأت لهذا أبد ًا‬ ‫ال تفعل فأنت لم ِ‬ ‫= مت يف الليل ِ «يف الليل!!» كي ال يراك َ‬ ‫أحــد وأنــت تعبــر التلــة َ وال يفكــر‬ ‫الدائنــون مبــا عليــك‬ ‫مــن القــروض وال البنــوك مبــا تخبــئ يف‬ ‫معطفــك‬ ‫من احللوى والوالئم والسراق‬ ‫== ال متت يف الليل والغربان تنشر‬ ‫خيامها‬


‫‪29‬‬

‫على الهضاب والسواد يرش فاغيته يف‬ ‫العيون‬ ‫‪ ،‬ال تفعل وأنت تعول على الغفلة ِ‬ ‫والسبات‬ ‫ال متت يف الليل «يف الليل!»‬ ‫فليس املستيقظ كالنائم وال االنتباه‬ ‫كالتغاضي‬ ‫ال تقم بذلك أرجوك‪ .‬ال متت يف اخلفاء‬ ‫إن التضمينــات اخلاصــة أو الغرضيــة‬ ‫اليمنيــة التــي وطنهــا الشــعراء اليمنيــون يف‬ ‫قصيــدة النثــر أكثــر مــن أن حتصــر؛ بــل إن‬ ‫كثرتهــا تــكاد ُتســقط متام ـ ًا شــرط اجملانيــة‬ ‫الــذي طاملــا تباهــت بــه هــذه القصيــدة‪،‬‬ ‫الغرضيــة صــارت تتموضــع يف قلــب التجربــة‬ ‫الشــعرية‪ ،‬وهــي اخمل ّلــق احلقيقــي للتضمينــات‬ ‫احملليــة يف النصــوص‪ ،‬وحيثيــات حضورهــا‬ ‫تختلــف قــوة وخفوت ـ ًا تبع ـ ًا للموقــع الــذي‬ ‫تتخــذه ذات الشــاعر يف النــص‪ .‬ويف قصيــدة‬ ‫الشــاعر علــي جاحــز «ألـ ٌـف يتمــرد علــى‬ ‫األبجديــة» التــي نكتفــي مبقاطــع منهــا‪ ،‬تصبح‬ ‫اللغــة والتكــرارات املتواليــة فاع ـ ًا رئيس ـ ًا يف‬ ‫بنــاء قصيــدة نثــر تتمــرد علــى اجملانيــة متامـ ًا‪،‬‬ ‫وتنحــاز كثيــر ًا للمعنــى‪ ،‬وال تخفــى الغرضيــة‬ ‫فيهــا‪ ،‬كمــا يبــدو ذلــك مــن أول ســطر‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ألف أستهل به قصيدة نثر ملغومة‬ ‫ٌ‬ ‫ألف أغلق به أغاني مستهلكة‬ ‫ٌ‬ ‫ألف أشده فينكسر‬ ‫ٌ‬ ‫ألف أغرسه يف صخرة فيورق‬ ‫ٌ‬ ‫ألف أطلقه يف سماء موحشة‬ ‫فيتشظى أقمارا‬ ‫ٌ‬ ‫وألف أحتفظ به لزمن لن يسمح‬

‫ألي ألف أن ينتصب‬ ‫***‬ ‫أل ُ‬ ‫ْــف مــأمت ال تقــوى علــى إرغــام دمعــة‬ ‫أن تســقط‬ ‫أل ُ‬ ‫ْــف وجــه ال تشــترك يف ارتــداء قنــاع‬ ‫وحيــد‬ ‫أقنعة كثيرة‬ ‫ً‬ ‫قد حتمي وجها واحد ًا من السقوط‬ ‫****‬ ‫ٌ‬ ‫ألف ال يرغب يف ممارسة اجلنس‬ ‫ٌ‬ ‫ألــف يتعــرى يف منتصــف قصيــدة‬ ‫مخمــو ر ة‬ ‫ٌ‬ ‫ألف يستقيل من لغة الشعر املهملة‬ ‫ٌ‬ ‫ألف يتحاشى وقوفه‬ ‫على السطر فيختبئ يف «لكن»‬ ‫ٌ‬ ‫ألف يترنح يف لهاة عاشق يبكي‬ ‫فيتكوم «ياء مهملة»‬ ‫ٌ‬ ‫ألف ال معنى له‪ ..‬يتناسل‬ ‫ليكمل فراغات يف خطابات مملة‬ ‫الناس يتكومون لبرهة‬ ‫قد تنثرهم صيحات مرجفة‬ ‫فينبتون هنا وهناك ثورات خضراء‬ ‫وسجون ًا غبية تقتل اخلوف‬ ‫هذه معادلة ذات متغير مضمر ووحيد‬ ‫إن حــل «معادلــة ذات متغيــر مضمــر‬ ‫ووحيــد» يف النــص ليــس بالضــرورة أن يكــون‬ ‫هــو نفســه‪ ،‬إيجــاد قيمــة املتغيــرات التــي حتقــق‬ ‫املعادلــة‪ ،‬و ُتعطــي النتيجــة الصحيحــة؛ ذلــك‬ ‫أن أقــواس وجــود النــص تشــتبك بقــوة مــع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫عبدالمجيد التركي‬

‫هاني الصلوي‬

‫متواليــات مــن املتغيــرات يف حياتنــا السياســية‬ ‫والثقافيــة واالجتماعيــة ال حصــر لهــا‪ ،‬كمــا‬ ‫أن محاولــة إعــادة ترتيــب احلــدود؛ بوضــع‬ ‫متغيــرات ال حصــر لهــا علــى طــرف واحــد مــن‬ ‫املعادلــة‪ ،‬يغــدو صعبـ ًا‪ ،‬بــل مســتحي ًال اســتحالة‬ ‫وضــع جميــع الثوابــت علــى الطــرف اآلخــر‪ ،‬يف‬ ‫وضــع وجــودي كالوضــع الــذي يخاتلــه النــص‬ ‫ويــداوره‪ ،‬ال حــدود ميكــن تبســيطها‪ ،‬وال تــوازن‬ ‫يف معادلــة كهــذه يعــوض القيــم الســاقطة منــا‪.‬‬ ‫فاأللــف يتناســل ويتناســل‪ ،‬فيمــا تختلــط‬ ‫احلــدود بــن الثوابــت واملتغيــرات‪.‬‬ ‫غيــر أن حضــور الغرضيــة بتضميناتهــا‬ ‫الواســعة صــارت متثــل قــوة ضغــط علــى‬ ‫الشــعراء إلــى درجــة تبــرم النصــوص بهــا‪ ،‬كمــا‬ ‫يعبــر نــص الشــاعر معــاذ الســمعي‪:‬‬ ‫أود أن أكتب‬ ‫نصا‬ ‫يفلتنــي مــن أمعــاء احلــرب مبلــوال بــكل‬ ‫قذارتهــا‬ ‫الكريهة‬ ‫ويرمي بي يف غسالة‬ ‫أمي‪،‬‬ ‫غسالة أمي‪!!.‬‬ ‫يا اهلل‪!...‬‬ ‫إنها ال تعمل منذ ربع قرن‬ ‫فهل ستسألني‬ ‫ملاذا؟!‬ ‫وأنت تعلم أنها ال تدور يف العتمة‪،‬‬ ‫ونحن هناك‬ ‫يف إبط‬ ‫شارع كسول‬ ‫وفم دبابة جائعة‪،‬‬ ‫نلعق عتمة‬ ‫النهار‬ ‫وعتمة احلي‬ ‫وعتمة النص‬ ‫سئمت قراءة‬ ‫القذائف‬ ‫وتصفح األشالء‪.‬‬ ‫مللت الكتابة بالدم والدمع‬ ‫ومللت هزائمي‬ ‫‬‫أود أن أكتب نصا حلبيبتي‬ ‫وميثــل نــص تعديــد اخلســارات ملمح ـ ًا‬ ‫مهم ـ ًا مــن مالمــح قصيــدة النثــر اليمنيــة‪،‬‬


‫‪30‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫وارتفــاع نســبة هــذه النصــوص‪ ،‬ميكــن فهمــه‬ ‫يف واقــع ال صــوت يعلــو فيــه علــى صــوت‬ ‫اخلســارات والفقــد‪ ،‬ومــا يتصــل بهمــا مــن‬ ‫أوجــاع علــى املســتوى الفــردي وعلــى املســتوى‬ ‫اجلماعــي‪ ،‬أمــا نــص الفقــد عنــد الشــاعرة‬ ‫صابريــن احلســني‪ ،‬فليــس ســوى قطــرة مــن‬ ‫خضــم هائــل انكتــب خــال الســنوات املاضيــة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الفقد‬ ‫ثقافة‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫كتبــت‬ ‫الكتابــة‬ ‫بارعــة يف‬ ‫ألن أختــي‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫يف رحـ ِـم أمــي ألّا آتــي‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫نفســك‪،‬‬ ‫انتظــار‬ ‫مرهــق ـ جــدا ـ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫املوحشــة التــي‬ ‫جتاعيــدك‬ ‫تســتبدل‬ ‫ُ‬ ‫ـام مــن العزلـ ِـة غيـ َـر‬ ‫ستعيشــها يف مائـ ِـة عـ ٍ‬ ‫كتبهــا (غارســيا ماركيــز)‪.‬‬ ‫التــي َ‬ ‫َ‬ ‫خياالتـ َ‬ ‫الدلو‬ ‫ـك كلمــا امتــأ‬ ‫ـب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أن ترقـ َ‬ ‫الطغاة‪.‬‬ ‫ـوع‬ ‫ِ‬ ‫بدمـ ِ‬ ‫َ‬ ‫وطيــدة ـ‬ ‫عالقــة‬ ‫تقــول أنــا علــى‬ ‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫باســتطاعتكَ‬ ‫يكــون‬ ‫تشــاء ـ حتــى‬ ‫كمــا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫(قــدس َ‬ ‫ــداس)‬ ‫األق‬ ‫باملعقــول يف‬ ‫الــزج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫البركــة‬ ‫بحفــظ‬ ‫أنــك‬ ‫وأنــت تدعــي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األرضيــة ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عــبء‬ ‫مــن‬ ‫اإلحســاس‬ ‫يتحــرر‬ ‫كيــف‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫التحشــم؟!‬ ‫ِ‬ ‫االنتقــال‬ ‫االمتــزاج إلــى‬ ‫شــعور‬ ‫مــن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفــذ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وأقودهــا أحيا ًنــا‬ ‫الغبطــة‬ ‫تقودنــي‬ ‫ُ‬ ‫إلــى الالجــدوى مــن مراقبـ ِـة نفســي وأنــا‬ ‫القصيـ ِـة ــــ حقً ــا ــــ‬ ‫أصعـ ُـد يف هواجســي‬ ‫ّ‬ ‫هــو كمــا قـ َ‬ ‫ـال (بيســوا)‪« :‬امليتافيزيقيــا‬ ‫أحــدا»‪.‬‬ ‫تكــون ال‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫بــكل‬ ‫اللحظــة‬ ‫تتأملنــي‬ ‫وحــدي‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َفَ‬ ‫الشــبقة‪ ..‬أخــدش ن ســي‬ ‫مســاميرها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أثقــب اســتثنائي مــن‬ ‫الهــزل‪،‬‬ ‫مــن هــذا‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫خلبيئــة ‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫ينتظــر‪...‬‬ ‫ألن رجــ ًلا‬ ‫علــي‬ ‫القــدوم؛ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫امــرأةً‬ ‫َ‬ ‫عــر‬ ‫ق‬ ‫تســلق‬ ‫تخشــى‬ ‫ال‬ ‫ينتظــر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أخبرهــا بأنَّ هــا لــن‬ ‫االحتمــال الــذي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تســقط مــرةً ُأخــرى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تنطلــق‬ ‫الفقــد‪،‬‬ ‫ثقافــة‬ ‫امــرأة ُتلغــي‬ ‫ِ‬ ‫ـود التــي نســيها (ماركــس)‬ ‫مــن بــنَ القيـ ِ‬ ‫ثــورة (الراديكاليــن)‪.‬‬ ‫عنــد‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫غوايتــه‬ ‫للقصيــدة‬ ‫لكيــا يتســنَّ ى‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫باملتعــة وهــو يعــري‬ ‫الشــعور‬ ‫عنــد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقظتَ‬ ‫العــري‬ ‫األحــام‪،‬‬ ‫لصريــر‬ ‫ــه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫إليــه‬ ‫احلاجــة‬ ‫تكــن‬ ‫لــم‬ ‫إن‬ ‫ضــروري‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وعبثية‪.‬‬ ‫بذيئة‬ ‫ـون معشـ ً‬ ‫ـوقا‪،‬‬ ‫ـوع مــن الفعاليـ ِـة أن تكـ َ‬ ‫نـ ٌ‬ ‫َ‬ ‫القلــب‪ ،‬تلــك‬ ‫دورة‬ ‫بفائــدة‬ ‫حتتفــظ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫محمد السندي‬

‫جميل حاجب‬

‫شر َحها (ابن النفيس)‪...‬‬ ‫التي ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫لينهــال‬ ‫معشــوقا؛‬ ‫تكــون‬ ‫جــرب أن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عليــك َّ‬ ‫اإلباحيــة‪.‬‬ ‫ــه‬ ‫كل نبــي‬ ‫ِ‬ ‫مبعجزت ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهنــاك قصيــدة تبــادل الهــزؤ مــع األشــياء‬ ‫والرمــوز وأكثــر الشــعراء بــروز ًا فيهــا محمــد‬ ‫اللــوزي‪ ،‬لكــن النــص الــذي ســيحضر هنــا هــو‬ ‫نــص للشــاعر محمــد الســندي‪ ،‬وهــو نــص‬ ‫يتميــز بكونــه‪ ،‬ال ميــارس الهــزء ليضحكنــا‪،‬‬ ‫لكنــه ميارســه ليقــول إن مــا يســتحق الهــزء‬ ‫ميكننــا أن نتغنــى بــه‪ ،‬لقــد فعــل ذلــك يف نصــه‬ ‫«مــا لــم يقلــه تولســتوي»‪:‬‬ ‫السالم على احلرب‬ ‫السالم على قذيفة‬ ‫تصلي الفجر‬ ‫قبل الفجر بدقائق‬ ‫السالم على سالح‬ ‫ينتظر جلولة أخرى‬ ‫السالم على آلهة النار‬ ‫بعد السالم‪:‬‬ ‫ً‬ ‫قليال‬ ‫اخفضوا أصواتكم‬ ‫لنصدح بالنشيج‬ ‫وننام‬ ‫الشــاعر قيــس عبــد املغنــى ميــارس تبــادل‬ ‫الهــزء مــع األشــياء والوقائــع‪ ،‬لكنــه يفعــل‬ ‫ذلــك بأســلوب مختلــف عــن أســلوب الســندي‪،‬‬ ‫هــو يفعــل ذلــك بوضــوح تــام‪:‬‬ ‫وحني تصل إلى قبرك بسالم‬ ‫سيسألك كبار املوت عن سر مجيئك‬ ‫الباكر‬ ‫قل لهم‪:‬‬

‫ ثرنا مع الثائرين‬‫هدمنا السجن فدسوا لنا السم يف‬ ‫احلرية‬ ‫أو قل‪:‬‬ ‫ خراف كسرنا سياج الظلم يف عقر‬‫غابة‬ ‫قل‪:‬‬ ‫ أصبت بفتوى كامتة للصوت وأنا أؤدي‬‫يف سبيل احلب صالة» وأغنية‬ ‫قل‪:‬‬ ‫ محض موت ليس إال‬‫أو قل‪:‬‬ ‫ أنا ميني‬‫إن خانتك اإلجابة‪.‬‬ ‫ويعبــر نــص التشــظي عــن صعوبــة احليــاة‬ ‫التــي صــار يعيشــها اليمنيــون يف زمــن احلــرب‪،‬‬ ‫نــص التشــظي يتــوزع بــن أكثــر مــن وجــود‪ ،‬بيــد‬ ‫أن املتعــن األعمــق فيــه بشــاعة الصــورة التــي‬ ‫يقدمهــا النــص قويــة واضحــة‪ ،‬لكنــه يف نفــس‬ ‫الوقــت يوحــي مبــا هــو أكثــر عنف ـ ًا فيهــا هكــذا‬ ‫يختلــج الواقــع يف نــص ميســون االريانــي‬ ‫«روبابيكيــا املعركــة»‪:‬‬ ‫ماذا يحدث حني تقتل زهرة‬ ‫ألنك لم جتد من يعطيك عينني؟‬ ‫ثمة جنود صدئون‬ ‫هزمتهم املعارك‬ ‫ّ‬ ‫وقلم قادتهم أناشيدهم‬ ‫طفل يف املقهى‪ :‬يا عم‬ ‫امنحني خوذتك‬


‫‪31‬‬

‫جميل مفرح‬

‫*‬ ‫املاء تسلل من فمي‬ ‫قد يحدث أننا نهر‬ ‫يتسلل إلى احلياة‬ ‫عبر شفاه أسماكه‬ ‫مثل الناس‬ ‫حني تتسلل إلى نحيبها باللهب‬ ‫أريد أن أحبك‬ ‫كما لو أنك شجرة‬ ‫تنفث احلطب وال تختفي‬ ‫يتفــرع عــن نــص التشــظي نــص القــرف‬ ‫والرفــض وهــذا نــص ال يأبــه لغيــر حتققــه‬ ‫الشــعري‪ ،‬فهــو يقلــب شــفتيه يف وجــه احليــاة‬ ‫بــكل مفرداتهــا ثــم يلعنهــا‪ ،‬يقــول الشــاعر‬ ‫محمــد الســندي‪:‬‬ ‫مبزاج ال يقبل التدليك‬ ‫وهزائم طازجة‬ ‫صرخ يف وجه مرآته‬ ‫اآلخرون‪ ..‬هم اجلحيم‬ ‫وإلميانه‬ ‫أن البكاء‬ ‫ماركة نسائية مسجلة‬ ‫اكتفى بالتحديق يف خيباته‬ ‫ويبقــى نــص الومضــة مجبــر ًا على التشــبث‬ ‫بإجنــاز أكثــر الصــور كثافــة وجماليــة‪ ،‬ومــن‬ ‫بــن مئــات النصــوص عليــك أن تظفــر بعــدد‬ ‫محــدود ممــا ميكــن أن يثيــر دهشــتك‪ ،‬كقــول‬ ‫الشــاعر محيــي الديــن جرمــة‪:‬‬ ‫اتسخت ظاللي‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ورصاصة‪.‬‬ ‫ال»بعبع» وضع دجاجتي يف احلوض‬ ‫غسلني من اللعب‬ ‫أمي بكت‬ ‫وأخواتي‬ ‫حني لم أبك‬ ‫ولم تعد لي يدان‬ ‫ثمة جنود ُ خرق وشرهون‬ ‫ال يعرفون عدوهم‬ ‫يالحقون الوقت‬ ‫ويشترون األقنعة‪.‬‬ ‫يحدث أن يستيقظ طفل يف الفجر‪..‬‬ ‫يخرج ليشتري املوسيقى‬ ‫يا عم‬ ‫هال أمسكت لي عصفورا‬ ‫نصف املوسيقى يف القلب‬ ‫النصف اآلخر من القلب يف السماء‪.‬‬ ‫*‬ ‫احلياة ليست سيئة‬ ‫بالنسبة جلندي صغير‬ ‫فشل يف أن يصبح طبيبا‬ ‫ساقه والده إلى التل وقال له‬ ‫فشلنا يف أن نعطي امرأتك حذاء‬ ‫جديدا‬ ‫ً‬ ‫السيوف تفتح األحالم املقفلة‬ ‫تقفلها بال اهلل وحده يعلم‬ ‫أي وحشة يف احلرب تغري القبور‬ ‫بالنصر‪.‬‬

‫قيس عبدالمغني‬

‫لفرط ما مشيت‪.‬‬ ‫أو قوله‪:‬‬ ‫األطفال الذين من‪ .‬فرط جوعهم‬ ‫أكلوا الزهور‪:‬‬ ‫صاروا حديقة‬ ‫ويتصــل بنــص الومضــة‪ ،‬نــص الكثافــة‬ ‫ِّ‬ ‫املتكــئ علــى قــوة الصــورة ودهشــة املفارقــة‪ ،‬كمــا‬ ‫نقــرأ الشــاعر جميــل حاجــب وهــو يقــول‪:‬‬ ‫حضرت الشاي بالنعناع‬ ‫ألحظى بليلة مميزة‬ ‫وها هي الفراشة الغبية تسقط فيه‬ ‫ماذا أفعل؟‬ ‫شربت الشاي بطعم الفراشة‬ ‫وهــو حتليــق مميــز يتحقــق أيض ـ ًا عنــد‬ ‫الشــاعرين عمــار النجــار ومحمــد العدينــي‪،‬‬ ‫وهمــا ممــن توقفــت عندهمــا يف مقاربــات‬ ‫ســا بقة ‪.‬‬ ‫مــا أســميتها بـ»قصيــدة النثــر الفيســبوكية»‬ ‫تعــد ســمة مــن ســمات قصيــدة النثــر التــي‬ ‫تكتــب يف هــذه املرحلــة‪ ،‬وهــي عنــد شــاعر‬ ‫مثــل عبــد اجمليــد التركــي تتم ّيــز بحــس‬ ‫التهكــم والســخرية كعنصريــن تقــوم عليهمــا‬ ‫شــعريتها‪ ،‬إذ هــي قصيــدة تتكــرس يف املقــام‬ ‫األول بقــوة القبــول عنــد جمهــور الفيســبوك‪:‬‬ ‫حذفت ثالثة شعراء عرب‪ ،‬يقال إنهم‬ ‫من كبار الشعراء‬ ‫صورهم تبدو مترفعة عن الواقع‬ ‫وأنا لست مغرما باجلدية والرزانة‬ ‫وتقودنــا املعاينــات إلــى أن قصيــدة النثــر‬ ‫الفيســبوكية بطبيعتهــا تلعــب علــى أكثــر مــن‬ ‫وتــر‪ ،‬فهــي غرضيــة‪ ،‬ســيرية‪ ،‬متذمــرة‪ ،‬الذعــة‬ ‫النقــد‪ ،‬ســاخرة‪ ،‬نوســتاجلية‪ ،‬ورافضــة‪ ،‬وهــي‬ ‫بســيطة وغيــر متعاليــة يف نفــس الوقــت‪ ،‬وهــذا‬ ‫مــا تصــل بنــا إليــه معاينــة نــص آخــر للتركــي‪:‬‬ ‫«أفسدتني املدينة‬ ‫أردد اسم (العاقل) عشرات املرات كل‬ ‫يوم‬ ‫أحتفظ برقمه يف قائمة الهاتف‬ ‫ليس بيني وبينه أي معرفة‪،‬‬ ‫يقرأ اسمي مكتوب ًا بخط عريض على‬ ‫اسطوانة الغاز فقط‬ ‫لم يصادف وجهي يف أي صحيفة‬ ‫يؤملني أن أحتفظ برقمه لهذا الغرض‬ ‫صاحب الـ(وايت) أيض ًا وضعت رقمه يف‬ ‫قائمة املفضلة‬ ‫أتصل به كل أسبوع‬


‫‪32‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ويتصل به ابني وجميع إخوتي‪،‬‬ ‫يأتي فأتذكر ذلك املقطع الترحيبي يف‬ ‫فيلم الرسالة‬ ‫وأتذكر ماء القرية اجملاني الذي‬ ‫ال يضطرك إلى االحتفاظ بأرقام‬ ‫الغرباء‪.‬‬ ‫بائع البترول يف السوق السوداء‬ ‫ال أنسى أن أرسل له بانتظام‪ :‬جمعة‬ ‫مباركة يا غالي‪.‬‬ ‫يف القرية‬ ‫لن أحتدث عن الكوليرا‬ ‫لن أنشغل بقراءة أخبار الرئيس العالق‬ ‫يف برزخ الرياض‪،‬‬ ‫ولن أضطر إلى مشاهدة القتلى وقراءة‬ ‫التعازي كل يوم‪،‬‬ ‫سأخفي عنهم أنني كنت صحفياً‬ ‫وأعيش بدون مرتب منذ سبع سنوات‪.‬‬ ‫للمدينة قدرة على تدجني اجلبال‬ ‫وحتويلها إلى مخازن للصواريخ‬ ‫على تعبيد طريقك بالسواد‬ ‫كل شيء يف املدينة معلب‬ ‫يختصرون الرجولة يف حبة زرقاء‬ ‫والشفاء يف حبة سوداء‪.‬‬ ‫سأعود إلى القرية‪،‬‬ ‫ما زال اسمي محفور ًا على أحجارها‬ ‫التي اختبأت من شراهة الديناميت‬ ‫ما زالت مكحلة اجلامع الكبير تعرف‬ ‫عيوني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وما زال وجهي مرسوما على زجاج‬ ‫النوافذ‬ ‫وأنا أبتسم لنفسي كل صباح‬ ‫كوكتيــل احملمــوالت هــذا‪ ،‬هــو مــا يجعــل‬ ‫قصيــدة النثــر الفيســبوكية أكثــر أمنــاط‬ ‫قصيــدة النثــر قبــو ًال؛ بــل هــو مــا جعلهــا تنجــح‬ ‫يف احلصــول علــى الشــعبية وحتظــى بتلقيــات‬ ‫واســعة طاملــا حلمــت بهــا قصيــدة النثــر‪.‬‬ ‫وإذا كانــت قصيــدة النثــر الفيســبوكية عنــد‬ ‫عبــد اجمليــد التركــي‪ ،‬تتصــف بهــذه الوضعيــة‬ ‫دون أن تصفهــا‪ ،‬فــإن شــاعر ًا آخــر هــو صــدام‬ ‫الزيــدي ســيهتم بالوصــف علــى أمت وجــه‪:‬‬ ‫«أبــدأ يف أن أكــون واقعيـ ًا وأنتهــي إلــى‬ ‫أدمــر قوانــن‬ ‫أن أصيــر فايســبوكي ًا‪ِّ ...‬‬ ‫الكتابــة‪ ،‬ممزّ قــ ًا أســاكها احملتشــدة‬ ‫يف وريــدي‪ ،‬حلســاب كتابــة بســيطة‬ ‫كنزهــة جدتــي الصباحيــة علــى مــروج‬ ‫البــاد ُ‬ ‫ــعب احمــادي»‪.‬‬ ‫و«ش ْ‬

‫محيي الدين جرمة‬

‫صدام الزيدي‬

‫أكتــب مــا ســبق‪ ،‬وأرمــي بــه إلــى‬ ‫صفحتــي‪ ،‬ضاربــ ًا بــكل شــيء يف‬ ‫غياهبــه‪ ،‬ومســتعين ًا مبراوغاتــي حــن‬ ‫جبلــي إلــى مجــرة‬ ‫أنفــذ مــن كوكــب‬ ‫ّ‬ ‫رقميــة يف املنــايف البكــر ألصابعــي»‬ ‫هكــذا تفــاردت قصيــدة النثــر اليمنيــة يف‬ ‫العقديــن املاضيــن بــن تضمينــات أجبرتهــا‬ ‫عليهــا إكراهــات الواقــع وضروراتــه‪ ،‬وبــن صعقــة‬ ‫الفضــاء االفتراضــي الــذي منحها فرصة واســعة‬ ‫للتالقــح مــع اآلخــر‪ ،‬بقــدر مــا فــرض عليهــا‬ ‫االســتجابة ملصفوفــة واســعة مــن االنزياحــات‬ ‫واالجتراحــات األســلوبية‪ .‬املبشــر يف احملصلــة‬ ‫النهائيــة هــو أن مــا أجنــزه الشــعراء يعــد مــرآة‬ ‫صادقــة لطموحاتهــم‪ ،‬وعرض ـ ًا بانورامي ـ ًا هائ ـ ًا‬ ‫لــكل مــا اشــتجر يف أيامهــم مــن هواجس وأســئلة‪،‬‬ ‫ومــا تعرضــت لــه حياتهــم مــن صدمــات ومعانــات‬ ‫وارتكاســات‪ ،‬ورغــم أن املؤثــر احمللــي النابــع مــن‬ ‫اخلصوصيــة اجلغرافيــة والتاريخيــة والثقافيــة‬ ‫واالجتماعيــة لليمــن‪ ،‬ظــل يفــرض نفســه‬ ‫كمهيمــن فاعــل علــى قصيــدة النثــر اليمنيــة‬ ‫منــذ تســعينيات القــرن املاضــي‪ ،‬إال أن هيجانــات‬ ‫الشــوارع عــام ‪2011‬م‪ ،‬ومــا تالهــا مــن فوضــى‬ ‫توجتهــا حــرب تتقــد منــذ ســبع ســنوات‪ ،‬تركــت‬ ‫بصمــة علــى هــذه القصيــدة ال تخفــى‪ ،‬فقــد‬ ‫عمقــت خصوصيتهــا‪ ،‬ورمبــا أن منــاخ التمــزق‬ ‫ومعــه االنفتــاح الواســع الــذي أتاحــه الفضــاء‬ ‫األزرق‪ ،‬قــد أبعــدا عــن مبدعــي هــذه القصيــدة‬ ‫أي ظــل أبــوي‪ ،‬فنمــت بــن أنقــاض الواقــع‬ ‫حــرة ال تســتجيب إال لواجباتهــا كرغبــة كتابــة‬ ‫صافيــة‪ .‬فعلــت ذلــك وهــي تفــارق مواضعــات‬ ‫متتثــل لهــا جاراتهــا يف جغرافيــات عربيــة أخــرى‬ ‫ أعنــي مجانفــة جاراتهــا للقضايــا الكبــرى‪،‬‬‫واالســترخاء علــى أريكــة اجملانيــة ‪ -‬فجمعــت‬

‫بــن مرتــادات الشــكل وااللتحــام باحليــاة التــي‬ ‫صعــب فيهــا العيــش‪ ،‬وانتعــش الشــعر‪.‬‬ ‫وتؤ ّكــد املعاينــات تنوع ـ ًا هائ ـ ًا يف أســاليب‬ ‫انكتــاب قصيــدة النثــر يف التجربــة اليمنيــة‬ ‫فهــي تســتثمر مكانــات انفتــاح هــذا الشــكل إلــى‬ ‫أقصــى درجــة‪ ،‬ليــس لهــا منــط ثابــت‪ ،‬وال حتفــل‬ ‫بــأي شــروط شــكلية‪ ،‬تنـ ّوع أمناطهــا ومناخاتهــا‬ ‫املرتبطــة أصـ ًا بــذوات شــعرائها‪ ،‬يفــرض أيضـ ًا‬ ‫تنوع ـ ًا يف إيقاعهــا حتــى ليمكــن القــول إن‬ ‫لــكل شــاعر إيقاع ـ ًا خاص ـ ًا بــه‪ .‬وذلــك يتــآزر مــع‬ ‫طبيعــة قصيــدة النثــر نفســها فهــي تقــوم علــى‬ ‫إيقــاع داخلــي خفــي تشــكله هارمونيتهــا الكليــة‪.‬‬ ‫لقــد كان بــودي أن أســتحضر عشــرات‬ ‫النمــاذج ممــا أجنــزه شــعراء قصيــدة النثــر‬ ‫يف اليمــن خــال العقديــن املاضيــن‪ ،‬لكنــي‬ ‫جتــاوزت نصــوص عديــد األســماء‪ ،‬بعضهــا لــم‬ ‫أســتدع نصوصهــا ألنــي عاينتهــا يف مقتربــات‬ ‫ســابقة‪ ،‬وبعــض آخــر ضــاق احليــز عــن حضــور‬ ‫نصوصهــا‪ ،‬ولعلهــا علــى موعــد مــع احلضــور‬ ‫يف مقاربــة قادمــة‪.‬‬ ‫أخيــر ًا يلزمنــي التأكيــد علــى أنــه مــن‬ ‫املســتحيل اســتقصاء كل التجــارب‪ ،‬والتأشــير‬ ‫علــى جميــع اخلصائــص التــي ت ّتســم بهــا‬ ‫قصيــدة النثــر اليمنيــة‪ ،‬يف ظــلّ االنفجــار‬ ‫الكتابــي الكبيــر الــذي تشــهده‪ ،‬وهــو انفجــار‬ ‫يختلــط فيــه الغــث بالســمني‪ ،‬وحتتــاج‬ ‫معاينتــه إلــى وقــت أطــول ومســاحات أوســع‪.‬‬ ‫غيــر أن بوســعي القــول إن قصيــدة النثــر‬ ‫اليمنيــة تقــف اليــوم علــى مســاحة واســعة إلــى‬ ‫جانــب مثيالتهــا األهــم يف البلــدان العربيــة‪،‬‬ ‫وأنهــا حتظــى بتلقيــات واســعة لــم حتــظ بهــا‬ ‫القصيــدة اليمنيــة يف كل أشــكالها خــال‬ ‫القــرن املاضــي كلــه‪.‬‬


‫‪33‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫«تراتيل على مائدة اللون»‬

‫أو الطريق الثالث لقصيدة النثر التونسية‬

‫املهدي عثامن‬

‫منـــذ الجدل الذي صاحب مجلة «شـــعر» وإلى اآلن خاض الشـــعراء والنقاد‬ ‫وعددوا عشـــرات األســـماء التي‬ ‫فيمـــا اصطلح على تســـميته بقصيدة النثر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مرت ســـنوات مـــن الجدل حول‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫يمكـــن أن نســـم بها هـــذا الجنس من‬ ‫ّ‬ ‫عربي ظل‬ ‫التســـمية وحـــول شـــرعية الوجود مـــن عدمه‪ .‬في فضـــاء ثقافـــي‬ ‫ّ‬ ‫يعـــول علـــى الســـمع كمصـــدر رئيـــس للمعرفـــة‪ .‬وخاصة لما‬ ‫لقـــرون عديـــدة‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق األمر بالشـــعر‪.‬‬ ‫رســـمي «بقصيدة‬ ‫حيـــن ركـــدت مياه النقـــد المالحة‪ ،‬تم االعتراف بشـــكل‬ ‫ّ‬ ‫النثـــر» كنـــص مختلـــف ومغاير‪ .‬وتم تثبيت هذا االســـم بشـــكل رســـمي في‬ ‫وشـــرعي‪ .‬وما خالف ذلك من‬ ‫دفاتر الحالة المدنية الشـــعرية‪ ،‬كاســـم رسمي‬ ‫ّ‬ ‫معدة للجـــدل واالختالف‪.‬‬ ‫مغامرة‬ ‫األســـماء فهو مجـــرد لعب أو تجريـــب أو‬ ‫ّ‬

‫‪ - 1‬جدل البدايات‬

‫ككل جتربــة فنيــة مســتحدثة ـ ويف كل‬ ‫اجملــاالت اإلبداعيــة ـ يحــدث أن يواكبهــا جــدل‬ ‫نقــدي «وانتقــادي» يف عالقــة باملشــروعية‬ ‫وبالتأســيس‪ .‬يحــدث أيضــا أن يتبــع ظهــور تلــك‬ ‫التجربــة تــوادد وســجال بــن القبــول والرفــض‪،‬‬ ‫يتداخــل فيــه أهــل االختصــاص وغيرهــم ممــن‬ ‫ال عالقــة لهــم بالشــعر‪ ،‬ملــا يتع ّلــق األمــر بالقــارئ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يجــب القــول إن اجلهــد الكثيــر الــذي بذلــه‬ ‫النقــاد ذهــب أدراج الريــاح‪ ،‬بســبب اجلــدل‬ ‫العقيــم حــول شــرعية «قصيــدة النثــر» مــن‬ ‫عدمهــا‪ .‬وظــل اجلــدل لســنوات يطــوف حــول‬ ‫محــراب املناصريــن تــارة‪ ،‬ومحــراب الرافضــن‬ ‫طــورا آخــر‪ .‬وســاهم يف هــذا اجلــدل عــدد ال بــأس‬ ‫بــه مــن شــعراء العمــود والشــعر احلــر‪ .‬الذيــن‬ ‫ظلــوا يصارعــون البقــاء حفاظــا علــى الراهــن‬ ‫واآلنــي‪.‬‬ ‫قصيــدة النثــر التــي انتصــرت للتح ـ ّوالت‬ ‫الكونيــة التــي شــهدها العالــم سياســيا‬ ‫واجتماعيــا وثقافيــا‪ ،‬أربكــت النــص العمــودي‬ ‫الــذي ظــل يــراوح مكانــه «يلــوك» نفــس‬ ‫األغــراض الشــعرية القدميــة‪ ،‬بآليــات وأدوات‬ ‫هــي نفســها حتتــاج إلــى مراجعــة وحتيــن‪ .‬وهــذا‬ ‫قــول ليــس مــن عندياتــي‪ ،‬ولكنــه مــا يص ـ ّرح بــه‬ ‫كتــاب قصيــدة النثــر أو البعــض منهــم‪.‬‬ ‫ملــا يتع ّلــق األمــر بقصيــدة النثــر التونســية‪،‬‬ ‫فــإن جــدال واســعا أثيــر ومــا زال إلــى اآلن‬ ‫حــول خصوصياتهــا وأغراضهــا ومــدى شــرعية‬ ‫وجودهــا يف املشــهد الشــعري التونســي‪ .‬ومــا زال‬ ‫احلديــث عــن اخلصوصيــة يحتــاج الكثيــر مــن‬ ‫النصــي هنــا وهنــاك يف كل بلــد حتــى‬ ‫التراكــم ّ‬ ‫يســتطيع الناقــد احلصيــف أن يشـ ّرح الفروقــات‬ ‫واالختالفــات بــن قصيــدة النثــر التونســية‬ ‫وغيرهــا مــن قصائــد النثــر يف دول عربية أخرى‪.‬‬ ‫رمبــا ـ باملثــل ـ مــا زالــت قصيــدة النثــر التونســية‬ ‫تبحــث عــن مشــيتها اخلاصــة وعطرهــا اخلــاص‬ ‫يف فضــاء احتفالـ ّـي بــاذخ‪ .‬وهــذا مــا دفعنــا إلــى‬ ‫الشــك يف خصوصيــة كل جتربــة و»مغايرتهــا»‬ ‫عــن األخــرى‪ .‬عــدا بعــض الفروقــات التــي ال‬

‫تــكاد تظهــر إال يف عالقــة ببعــض األغــراض‬ ‫(املواضيــع) التــي مت ّيــز دولــة عــن أخــرى‪ .‬ذلــك‬ ‫أن خصوصيــة مــا حــدث يف تونــس ـ مثــا ـ ومصــر‬ ‫واليمــن وليبيــا أثنــاء مــا اصطلــح عليــه «الربيــع‬ ‫العربــي» جعــل قصيــدة النثــر يف تلــك األقطــار‬ ‫أقــرب إلــى بعضهــا يف مســتوى املوضــوع‪ .‬فيمــا‬ ‫اختلفــت جتــارب شــعرية أخــرى يف كل مــن‬ ‫العــراق وســوريا‪ .‬وظلــت جتربــة قصيــدة النثــر‬ ‫املغربيــة واخلليجيــة محافظــة بعــض الشــيء يف‬ ‫عالقــة بالتابــو السياســي والدينــي واجلنســي‪.‬‬ ‫مــع ذلــك ســنحاول ـ وهــذا شــرف ـ أن نضــع‬ ‫قصيــدة النثــر التونســية علــى طاولــة التشــريح‬ ‫لتبيــان البعــض مــن خصوصياتهــا وتقاطــع‬ ‫التجــارب الشــعرية فيهــا‪ ،‬ع ّلنــا نســتطيع أن‬ ‫نزيــل البعــض مــن الغبــار عــن مرايــا هــذا النــص‪.‬‬ ‫علــى أنــه وجــب التأكيــد أن محــاوالت عديــدة‬ ‫مهــد لهــا كل مــن‬ ‫أخــرى ســبقت هــذه احملاولــة ّ‬ ‫الشــعراء والنقــاد املنصــف الوهايبــي ومحمــد‬ ‫الغــزي وعبــد الفتــاح بــن حمــودة وســامي‬ ‫املســلماني وعبــد القــادر عليمــي ومصطفــى‬ ‫الكيالنــي وفتحــي النصــري‪ ..‬وعديــد األســماء‬ ‫األخــرى‪.‬‬

‫مثــا أو املتلقــي بصفــة عامــة‪.‬‬ ‫ومثلمــا حــدث لقصيــدة النثــر أثنــاء ظهورهــا‬ ‫مــع مجلــة شــعر (‪ ،)1957‬ومــا صاحــب ذلــك مــن‬ ‫صخــب وجــدل ورفــض وقبــول‪ ،‬حــدث أيضــا‬ ‫مــع «قصيــدة النثــر التونســية»‪ .‬غيــر أن الفــرق‬ ‫أن مجلــة شــعر حاولــت التعويــل نظريــا علــى‬ ‫مقالــة أدونيــس (‪ )1960‬التــي جــاءت بعــد صــدور‬ ‫كتــاب ســوزان برنــار «قصيــدة النثــر مــن بودليــر‬ ‫إلــى أيامنــا»(‪ .)1959‬رغــم أن رواد مجلــة شــعر‬ ‫ســبق وأن كتبــوا قصيــدة النثــر وانطلقــوا منهــا‬ ‫تأسيســا وتنظيــرا‪ .‬علــى غــرار كتــاب «لــن» (‪)1961‬‬ ‫ألنســي احلــاج و»النشــيد التائــه» (‪ )1948‬لثريــا‬ ‫ملحــس‪ ،‬وتوفيــق صايــغ «ثالثــون قصيــدة»‬ ‫(‪ )1954‬وســليمان عــواد «أغانــي بوهيميــة»‬ ‫(‪ )1956‬وحتــى كتــاب «هتــاف األوديــة» (‪)1910‬‬ ‫ألمــن الريحانــي‪.‬‬ ‫مــع ذلــك أغلــب هــؤالء لــم يدافعــوا عمــا‬ ‫يســمى «قصيــدة نثــر» قبــل الشــروع نقديــا‬ ‫ونظريــا يف حتبيــر املقــاالت التــي جــاءت بهــا‬ ‫مجلــة شــعر‪ .‬حتــى أن أنســي احلــاج يف أحــد‬ ‫حواراتــه يقــر أن مــا كان يكتبــه ليــس شــعرا‪.‬‬ ‫«لــم أكــن أظــن نفســي شــاعرا ومــا كنــت أظــن‬ ‫أن مــا أكتبــه هــو شــعر»(‪ .)2‬ولــم تتأكــد قيمــة‬ ‫تلــك النصــوص إال بعــد حصــول ذلــك التراكــم‬ ‫الكمــي النقــدي عربيــا علــى األقــل‪.‬‬ ‫أمــا تونســيا فاألمــر مغايــر متامــا إلــى حــد‬ ‫التناقــض‪ .‬حيــث عــاد عديــد النقــاد إلــى مــا‬ ‫كتبــه األوائــل يف ثالثينــات القــرن الفــارط‪.‬‬ ‫واســتخرجوا مــن نصــوص الشــابي مــا بــه‬ ‫يؤكــدون أســبقية ظهــور قصيــدة النثــر عربيــا‪.‬‬


‫‪34‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫دون أن ننســى مــا اعتبــره النقــاد أســبقية وجــب‬ ‫االنتبــاه إليهــا يف عالقــة بكتابــة قصيــدة النثــر‬ ‫علــى ٌ‬ ‫األقــل يف كتــاب «شــوق وذوق» ملصطفــى‬ ‫خريــف الصــادر ســنة ‪ 1965‬وكتــاب محســن بــن‬ ‫حميــدة «قافلــة العبيــد» وكتــاب «ســنابل احلريــة»‬ ‫ألحمــد القديــدي‪ .‬مــع إضافــة بعــض الشــذرات‬ ‫الشــعرية ألبــي القاســم الشــابي(‪.)3‬‬ ‫وقــد دافــع عــن هــذا املوقــف كل مــن محســن‬ ‫بــن حميــدة وأحمــد القديــدي ومحمــد‬ ‫البشــروش وأبــو القاســم محمــد كــرو ومصطفــى‬ ‫خر يــف‪.‬‬ ‫وكتــب الناقــد لزهــر النفطــي مــا يدعــم هــذا‬ ‫الــرأي بقولــه‪ ..« :‬ويف مرحلــة الســتينات نشــر‬ ‫محســن بــن حميــدة مجموعتــه الشــعرية قافلــة‬ ‫العبيــد وأحمــد القديــدي ديوانــه ســنابل احلرية‬ ‫يف هــذا النمــط مــن الكتابــة الشــعرية»(‪)4‬‬ ‫ويقصــد قصيــدة النثــر‪.‬‬ ‫إذن مــا مــدى «شــرعية» قصيــدة النثــر التــي‬ ‫كتابهــا هــؤالء؟ وهــل اســتجابت تلــك النصــوص‬ ‫إلــى احلــد األدنــى ممــا يســم قصيــدة النثــر كمــا‬ ‫نعرفهــا اآلن؟‬ ‫أمــا الســؤال األهــم‪ ،‬فهــو مــا مــدى «قصديــة»‬ ‫فعــل الكتابــة ذاك؟ مبعنــى هــل قصــد أولئــك‬ ‫الشــعراء كتابــة «قصيــدة النثــر»؟‬ ‫يبــدو أن خلطــا مــا كثيــرا مــا يحــدث ملــا‬ ‫يتعلــق األمــر بكتابــة قصيــدة النثــر‪ .‬وهــذا‬ ‫اخللــط يحــدث يف عالقــة «بالقصديــة»‪ .‬فهــل‬ ‫نذهــب مــع محمــد لطفــي اليوســفي بالقــول‬ ‫إن الشــابي يف عالقــة بقصيــدة النثــر «لــم يكــن‬ ‫واعيــا بهــا إطالقــا»؟ إذا س ـلّمنا بذلــك القــول‬ ‫يعنــي ســحب ذلــك احلكــم علــى بقيــة الشــعراء‬ ‫الذيــن ُص ّنفــوا كك ّتــاب قصيــدة نثــر‪.‬‬ ‫فقصيــدة النثــر‪ ،‬ليــس أن تتخلــى عــن الــوزن‬ ‫والقافيــة واجلــرس الصوتــي‪ .‬وليــس ـ أيضــا ـ أن‬ ‫تكتــب النــص مــن اليمــن إلــى أخــر نقطــة يف‬ ‫الصفحــة‪ .‬وليــس أيضــا أن تتــدرج باألســطر مــن‬ ‫األعلــى إلــى األســفل‪.‬‬ ‫وإذا انطلقنــا مــن األســس التنظيريــة‬ ‫لقصيــدة النثــر مــع ســوزان برنــار‪ ،‬فــإن قصيــدة‬ ‫النثر تع ّول على العناصر األربعة التالية‪ ،‬وهي‬ ‫اإليجــاز والتوهــج واجملانيــة والوحــدة العضوية‪.‬‬ ‫وإن كانــت تلــك الثوابــت قــد وقــع جتاوزهــا‬ ‫أحيانــا كثيــرة‪ ،‬بســبب التراكــم النقــدي حــول‬ ‫قصيــدة النثــر‪ .‬لكــن يبقــى شــرط «القصديــة»‬ ‫هــو األهــم يف عالقــة بكتابــة تلــك القصيــدة‪.‬‬ ‫فمــن خــال اللغــة والصياغــات والشــكل الفنــي‬ ‫للنــص األدبــي‪ ،‬يكــون العمــل األدبــي عبــارة عــن‬ ‫جتســيد جمالــي لوعــي مــا لــدى الكاتــب‪ .‬وهــو‬ ‫مــا ينتــج عنــه معنــى «الوحــدة املوضوعيــة» التــي‬ ‫تعطــي للنــص انســجاما وترابطــا وعالقــات‬

‫مثلما حدث لقصيدة‬ ‫النثر أثناء ظهورها‬ ‫مع مجلة شعر وما‬ ‫صاحب ذلك من‬ ‫صخب وجدل ورفض‬ ‫وقبول‪ ،‬حدث أيضا‬ ‫مع “قصيدة النثر‬ ‫التونسية”‪..‬‬ ‫منطقيــة بــن أجزائــه‪ .‬فالكاتــب قبــل الشــروع يف‬ ‫كتابــة نصــه‪ ،‬يحتــاج أن يقصــد جنــس الكتابــة‬ ‫وشــروطها وأدواتهــا‪ .‬بذلــك يكــون قــد قصــد‬ ‫كتابــة هــذا اجلنــس األدبــي أو ذاك‪ .‬مبعنــى أن‬ ‫يكــون واعيــا بــه‪.‬‬ ‫وباطالعنــا علــى مدونــة الشــعر التونســي‪،‬‬ ‫الحظنــا أن مــا ُص ّنــف علــى أنــه قصيــدة نثــر مــع‬ ‫الشــابي ومحســن بــن حميــدة وأحمــد القديــدي‬ ‫ومصطفــى خريــف ال عالقــة لــه بقصيــدة‬ ‫النثــر‪ .‬مــن ذلــك أن محمــد البشــروش يف حــوار‬ ‫لــه مبجلــة املســار التونســية (‪ )1993‬أنكــر نســبة‬ ‫قصيــدة النثــر إليــه بقولــه ُ«يكننــا أن جنــد يف‬ ‫اللغــة العربيــة نثــرا شــعريا أي ُمح ّلــى صــورا‬ ‫ومشــبعا أحاســيس رقيقــة لطيفــة لكــن‬ ‫شــعرية ُ‬ ‫ال ُيتصور أن يكون يف اللغة العربية شعر نثري‪،‬‬ ‫ألن الشــعر إذا ُنثــر َفق ـ َد صفــة ِّ‬ ‫الشــعر»(‪.)5‬‬ ‫هــذا مــا يدعــم قولنــا إن مــا كتبــه الشــابي‬ ‫وغيــره بدايــات القــرن الفــارط ال ُيعـ ّـد قصيــدة‬ ‫نثــر‪ ،‬بــل هــو شــذرات خاليــة مــن الــوزن والقافيــة‪.‬‬ ‫بــل هــي أقــرب إلــى الغنائيــة يف بنائهــا منهــا إلــى‬ ‫النثــر‪.‬‬ ‫لهــذا ال نذهــب مــع ســوف عبيــد يف أن «أبــا‬ ‫القاســم الشــابي كان يف تونــس وبــاد املغــرب‬ ‫رائــد قصيــدة النثــر»(‪ )6‬إال إذا اعتبرنــا أن كل‬ ‫نــص خــال مــن الــوزن واملوســيقى هــو «قصيــدة‬ ‫نثــر»‪ .‬وهــذا أبعــد مــا يكــون عــن احلقيقــة‪.‬‬ ‫فقصيــدة النثر»تخ ّلــت عــن كلّ مــا كانــت‬ ‫توحــي بــه القصيــدة التقليديــة القدميــة‪.‬‬ ‫فتخ ّلــت عــن الشــكل ّية والنموذجيــة املســبقة‪،‬‬ ‫لترســم معاملهــا اجلديــدة مــن الداخــل قبــل‬ ‫اخلــارج‪ ،‬يف هيكلتهــا الالمحــدودة‪ ،‬الالمق ّيــدة‪،‬‬ ‫املغايــرة لــكل األشــكال الســالفة»(‪.)7‬‬ ‫وهــو تعريــف مــن ضمــن مئــات التعريفــات‬ ‫التــي َع ّرفــت ذلــك النمــط مــن الكتابــة‪ ،‬وجعلتــه‬ ‫أبعــد مــا يكــون عــن التعريفــات الكالســيكية‬ ‫للشــعر التــي أريــد أن تُوســم بهــا قصيــدة النثــر‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ حركة الطليعة‪ ..‬صدمة المشهد‪:‬‬

‫ال ميكــن بــأي حــال مــن األحــوال احلديــث‬ ‫عــن الشــعر التونســي دون املــرور علــى «حركــة‬ ‫الطليعــة» وهــي واحــدة مــن أهــم احلــركات‬ ‫األدبيــة التــي شــهدتنا الســاحة الشــعرية‬ ‫التونســية‪ .‬إن لــم يكــن أهمهــا علــى اإلطــاق‪.‬‬ ‫حركــة الطليعــة التــي دام وجودهــا علــى‬ ‫الســاحة الثقافيــة أربــع ســنوات (‪ 1968‬ـ ‪)1972‬‬ ‫وأنتجــت مــا يناهــز سـ ّـت مائــة نــص حســب مــا‬ ‫ذكــره الشــاعر محمــد مصمولــي‪ .‬خلقــت جــدال‬ ‫واســعا كأي حــراك جديــد يظهــر يف املشــهد‬ ‫ويحــاول جتــاوز اآلنــي والراهــن‪.‬‬ ‫سنة ‪ 1968‬حني نشر عز الدين املدني مقاله‬ ‫«اإلنســان الصفــر» يف مجلــة الفكــر التونســية‬ ‫التــي تصدرهــا وزارة الثقافــة‪ ،‬لــم يكــن متوقعــا‬ ‫أن ينتفــض رجــال الديــن وحــراس الســلطة‬ ‫ضــد هــذا املقــال الــذي «رصــد فيــه التحــوالت‬ ‫اللغويــة واالجتماعيــة واألخالقيــة يف اجملتمــع‬ ‫التونســي يف فتــرة مــا بعــد االســتقالل»(‪)8‬‬ ‫ورغــم أن مجلــة الفكــر يديرهــا محمــد مزالــي‬ ‫أحــد رجــاالت النظــام‪ .‬إال أن عــز الديــن املدنــي‬ ‫ر ّد علــى خصومــه التقليديــن مبقــال آخــر حتــت‬ ‫عنــوان «األدب التجريبــي»‪ ،‬ليصبــح ذلــك املقــال‬ ‫البيــان الرئيــس حلركــة الطليعــة‪.‬‬ ‫تبعــا لذلــك اجلــدل صــدرت قصائــد حتــت‬ ‫ُمسـ ّـمى «يف غيــر العمــودي واحلــر»‪ ،‬خالفــت مــا‬ ‫كان ســائدا مــن شــعر عمــودي وح ـ ّر‪ .‬وحاولــت‬ ‫تلــك القصائــد أن تنقــد النظــام االجتماعــي‬ ‫والسياســي والثقــايف يف تونســي‪ ،‬مع ّولــة علــى‬ ‫جملــة مــن التقنيــات التــي بــدت للشــعراء‬ ‫وللنقــاد علــى الســواء هجينــة وخارجــة عــن‬ ‫العــادة‪ .‬حيــث حتــررت تلــك القصائــد مــن‬ ‫الــوزن والقافيــة‪ .‬بــل عمــدت وبشــكل صــدم‬ ‫القــارئ التونســي‪ ،‬إلــى التعويــل علــى اللهجــة‬ ‫التونســية‪ ،‬بــل اللهجــة األكثــر «بــذاءة»‪ .‬إميانــا‬ ‫مــن أصحابهــا أن الشــعر العروضــي هــو ســلطة‬ ‫كغيــره مــن الســلط التــي يجــب التحــرر منهــا‪.‬‬ ‫فإضافــة إلــى فريــد غــازي (أهــم املنظريــن)‬ ‫ومحمــود التونســي والطاهــر الهمامــي وســمير‬ ‫العيــادي وعــز الديــن املدنــي وفضيلــة الشــابي‪،‬‬ ‫التحــق بهــم عديــد الشــعراء‪ ،‬لعــل أهمهــم‬ ‫محمــد أحمــد القابســي وخالــد النجــار ومحمــد‬ ‫رضــا الــكايف وعــزوز اجلملــي ونــور الديــن‬ ‫بوجلبــان ومحمــد علــي اليوســفي و بشــير‬ ‫القهواجــي وعزيــز الوســاتي‪ .‬بــل أن أســماء‬ ‫أخــرى اعتبرهــا محمــد مصمولــي مــن كتــاب «يف‬ ‫غيــر العمــودي واحلــر» وإن تنكــروا لذلــك «فهــل‬ ‫ألي واحــد مــن هــؤالء الشــعراء الذيــن‬ ‫ميكــن ّ‬ ‫حــلّ ركبهــم يف منتصــف الســبعينيات مــن القــرن‬ ‫املاضــي أو يف الثمانينيــات أو التســعينيات أن‬


‫‪35‬‬

‫ولعــلّ مــا م ّيــز هــذه احلركــة أنهــا وضعــت‬ ‫أسســها النقدية ليس يف مجال الشــعر فحســب‪،‬‬ ‫بــل يف مجــال الفنــون األخــرى كاملســرح والفــن‬ ‫التشــكيلي‪ .‬وبذلــك صــارت بديــا ثقافيــا عــن‬ ‫الثقافــة الســائدة التــي كانــت ثقافــة الســلطة يف‬ ‫كلّ أبعادهــا‪ .‬أو علــى األقــل هــذا مــا كان ّ‬ ‫ينظــر لــه‬ ‫كتــاب هــذه احلركــة‪.‬‬ ‫وحســب محمــد مصمولــي تف ّرعــت حركــة‬ ‫الطليعــة إلــى ثــاث جبهــات متداخلــة‬ ‫ومتكاملــة‪ ،‬ميكــن حتديدهــا كالتالــي‪:‬‬ ‫ـ جبهــة التنظيــر‪ ،‬التــي مثّلهــا كل مــن عــز‬ ‫الديــن املدنــي والبشــير بــن ســامة ومحمــد‬ ‫مصمولــي ومحمــد صالــح بــن عمــر والطاهــر‬ ‫الهمامــي وأحمــد حــاذق العــرف وتوفيــق‬ ‫الزيــدي ونــور الديــن عزيــزة وإبراهيــم بــن مــراد‬ ‫وأحمــد ممــو وحســن الــواد وســالم ون ّيــس‪..‬‬ ‫ـ جبهــة الشــعر‪ ،‬ومثلهــا محمــد مصمولــي‬ ‫واحلبيــب الزنــاد وفضيلــة الشــابي والطاهــر‬ ‫الهمامــي وصالــح القرمــادي ومحمــود التونســي‬ ‫وســمير العيــادي ونــور الديــن عزيــزة‪.‬‬ ‫ـ جبهــة التجريــب يف القصــة واملســرح‪ ،‬مثلهــا‬ ‫كل مــن عــز الديــن املدنــي وســمير العيــادي‪.‬‬ ‫ولعــلّ أخطــر مــا دعــت إليــه هــذه احلركــة‪،‬‬ ‫يف ســتينات وســبعينات القــرن الفــارط‪ ،‬هــو‬ ‫االســتعاضة عــن اللغــة العربيــة باللهجــة‬ ‫التونســية‪ .‬وهــي دعــوة صادمــة ملثقفــي تونــس‬ ‫يف تلــك الفتــرة‪ .‬فتــرة حتــاول النخبــة التونســية‬ ‫اســتعادة اللغــة العربيــة األم بعــد تهميشــها مــن‬ ‫املســتعمر الفرنســي‪ .‬ورمبــا مثــل هــذه الدعــوة‬ ‫هــي التــي أســرعت بســقوط تلــك التجربــة رغــم‬ ‫نبــل «األغــراض» التــي كتبــت فيهــا‪.‬‬ ‫وال نعــرف بالضبــط هــل أن ديــوان صالــح‬ ‫القرمــادي (‪ 1933‬ـ ‪« )1982‬اللحمــة احليــة»‬ ‫الصــادر ســنة ‪ 1970‬عــن دار ســيراس للنشــر‪،‬‬ ‫أعتُ بــر تكملــة لتجربــة «يف غيــر العمــودي‬ ‫واحلــر»‪ ،‬أم هــو جتربــة منفصلــة وتأســيس‬ ‫لتجربــة مغايــرة‪ .‬وقــد عرفنــا الرجــل مثقفــا‬ ‫ناقــدا منشــغال بعلــم اللســانيات‪ .‬علــم مــا زال‬

‫‪ 3‬ـ الطريق الثالث لقصيدة النثر‬ ‫التونسية‬

‫الطريــق الثالــث لقصيــدة النثــر التونســية‪،‬‬ ‫أو تراتيــل علــى مائــدة اللــون‪ ،‬هــي أفضــل‬ ‫توصيــف للحركــة الشــعرية التونســية يف عالقــة‬ ‫بكتابــة قصيــدة النثــر‪.‬‬ ‫احلركــة الشــعرية التــي انطلقــت كغيرهــا‬ ‫مــن احلــركات الشــعرية العربيــة بشــعر العــروض‬ ‫ثــم الشــعر احلـ ّر‪ ،‬فتحــت شــرفتها علــى قصيــدة‬ ‫النثــر أو مــا ســمي «بالقصيــدة اخلنثــى» أو‬ ‫«كتابــة الشــعر بالنثــر» أو غيرهــا مــن األســماء‪.‬‬ ‫ففــي كل األحــوال انتصــر الشــعر للنثــر وتخلّص‬ ‫مــن العــروض واإليقــاع والبنــاء الكالســيكي‬ ‫للقصيــدة العموديــة‪.‬‬ ‫ففــي بدايــة الســبعينات مــن القــرن الفــارط‬ ‫بــدأت تظهــر أســماء شــعرية جتــاوزت حركــة‬ ‫الطليعــة التــي شــابتها العديــد مــن الهنــات‪.‬‬ ‫واقتربــت أكثــر مــن الشــعر األوروبــي املترجــم‬ ‫وتنظيــرات مجلــة «شــعر»‪ .‬وبــرزت أســماء شــعرية‬ ‫تكتــب قصيــدة النثــر علــى غــرار محمــد أحمــد‬ ‫القابســي وخالــد النجــار ومحمــد رضــا الــكايف‬ ‫وعــزوز اجلملــي ونــور الديــن بــو جلبــان ومحمــد‬ ‫علــي اليوســفي وبشــير القهواجــي وعزيــز‬ ‫الو ســاتي‪.‬‬ ‫قدمهــا ســوف عبيــد عــن‬ ‫ففــي شــهادة ّ‬ ‫الشــاعر عــزوز اجلملــي يقــول‪« :‬فقصائــد ع ـزّوز‬ ‫اجلملــي ذات ترتيــب دقيــق كل كلمــة تــؤ ّدي‬ ‫معنــى وكلّ نقطــة أو فاصلــة لهــا داللتهــا بــل‬ ‫عنــوان القصيــدة يلعــب دورا يف حتديــد مجــال‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يقولــوا بأ ّنهــم ليســوا جــزءا مــن الطليعــة أمثــال‬ ‫حميــدة الصولــي ويوســف رزوقــة ومحمــد معالي‬ ‫وســميرة الكســراوي ومحمــد بــن صالــح وآدم‬ ‫فتحــي وعلــي دب ومختــار اللغمانــي ومحمــد‬ ‫أوالد أحمــد ومحمــد العونــي وعبــد اهلل مالــك‬ ‫القاســمي وغيرهــم‪ .‬شــخصيا ال أعتقــد ذلــك‬ ‫فلــو تنكــروا حلركــة الطليعــة األدبيــة التونســية‬ ‫جلافــوا احلقيقــة كثيــرا»(‪.)9‬‬ ‫الحظــوا مثــل هــذا النــص للشــاعر الطاهــر‬ ‫الهمامــي‪ ،‬كيــف كســر بــه التقليــد العــام للشــعر‬ ‫زمنئــذ‪ ،‬وأربــك كل نظريــات الشــعر املتعــارف‬ ‫عليهــا‪ .‬كســر الــوزن والقافيــة‪ ،‬مــع أنــه أوجــد‬ ‫بعــض اإليقــاع الــذي مــا زال عالقــا بذائقــة‬ ‫الشــاعر التقليديــة‪.‬‬ ‫قصائــدي‪ /‬ال حتمــل طعــم قــدمي الشــعر‪/‬‬ ‫وكثيــرا مــا تع ّبــر عــن شــكل هــذا العصــر‪/‬‬ ‫عــن مشــاكل هــذا العصــر‪ /‬فهــي إذن قصائــد‬ ‫شــكل ّية‪ /‬قصائــد عصر ّيــة‪ /‬قصائــدي ال قصــد‬ ‫لهــا ‪ /‬فهـ َـي مقْ صــودة لذاتهــا‪ /‬وليســت جنــودا‬ ‫مج ّنــد ْه‪ /‬وال أعالمــا ُمفْ ــرد ْه‪ /‬وال نصوصــا‬ ‫صحيحــة ُم ْعتمــد ْه‪ /‬وال أعمــاال باقيــة ُمخ ّلــد ْه‪/‬‬ ‫وال تقصدكــم علــى خيــول ُم ْجهــد ْه‪ /‬قصائــدي‬ ‫تعيــش يومهــا يف يومهــا ليومهــا‪ /‬قصائــدي‬ ‫عاركــم‪ )..( /‬قصائــدي ُمسـ ِّود ْه‪/‬‬ ‫ُمجـ ِّـدد ْه‪ُ /‬تنـ ّـدد ِب ٍ‬ ‫كالبدعـ ِـة‪/‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫‪/‬‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫اإلي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫قصائــدي خاليــة‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـداع‪ /‬وال أبعــاد يف‬ ‫ت ْنقُ صهــا ّ‬ ‫الدعايــة واإلبـ ْ‬ ‫ـماع‪/‬‬ ‫األسـ ْ‬ ‫قصائــدي‪ /‬وهــي كالبــداءة‪ /‬متُ ّجهــا ْ‬ ‫الصــداع‪/‬‬ ‫وهــي كــرأس امــرأة ُح ْبلــى‪ْ /‬‬ ‫تشــكو ُّ‬ ‫ضدهــا بطاقــةُ‬ ‫ـتصد ُر ّ‬ ‫وهـ َـي خائنــة للمبــدإ‪ /‬سـ ْ‬ ‫ـداع(‪.)10‬‬ ‫إيـ ْ‬ ‫الطاهــر الهمامــي كغيــره كتــب هــذا النــص يف‬ ‫ليعلــي مــن قيمــة خصائــص‬ ‫شــكل بيــان شـ ّ‬ ‫ـعري ُ‬ ‫النــص الشــعري اجلديــد (يف غيــر العمــودي‬ ‫يف احلــر)‪ .‬فهــو نــص «ال يحمــل طعــم قــدمي‬ ‫الشــعر»‪ .‬أي هــو نــص حداثــي مهــووس بقضايــا‬ ‫عصــره التــي هــي حتمــا ليســت قضايــا القــرون‬ ‫الغابــرة‪ .‬وهــي ـ أيضــا ـ قصائــد «خاليــة مــن‬ ‫اإليقــاع» ال تأتينــا «علــى خيــول مجهــدة»‪.‬‬ ‫أي بــا طويــل وال متــدارك وال خبــب وال أي‬ ‫مطيــة أخــرى إليصــال الشــعر إلــى القــارئ‪ .‬هــي‬ ‫نصــوص «خائنــة» ملــا تعــارف عليــه مــن قواعــد‬ ‫صارمــة للشــعر‪.‬‬ ‫بهــذه املقاربــة املغايــرة لكتابــة الشــعر أعتبــر‬ ‫عديــد النقــاد جتربــة «يف غيــر العمــودي واحلــر»‬ ‫بدايــة التأســيس لقصيــدة النثــر‪ .‬وإن كان ذاك‬ ‫التأســيس ال يتقاطــع كثيــرا مــع رواد مجلــة‬ ‫شــعر‪ .‬إال أنــه وضــع اللبنــة األولــى لقصيــدة‬ ‫النثــر يف املشــهد الشــعري التونســي‪ .‬وصــارت‬ ‫حركــة الطليعــة ملهمــة لعديــد األصــوات‬ ‫الشــعرية التــي انخرطــت فيهــا بوعــي أو بدونــه‪.‬‬

‫النثر قوام “قصيدة‬ ‫النثر” وعمودها‬ ‫الفقري‪ ،‬بما يعني‬ ‫أنها ضد الوزن‪ ،‬أي ضد‬ ‫القوانين التي تجعل‬ ‫من الوزن هو المحدد‬ ‫الرئيس للشعر‬

‫عــدد مــن األكادمييــن العــرب يعترفــون بأبــوة‬ ‫صالــح القرمــادي لــه‪.‬‬ ‫علــى أن الثابــت أن ديــوان «اللحمــة احل ّيــة»‬ ‫يعد فارقة يف الشــعر التونســي‪ .‬من حيث خروج‬ ‫ّ‬ ‫بنصــه «عــن ذلــك التقليــد للشــعر‬ ‫القرمــادي ّ‬ ‫املشــرقي‪ ،‬مبــا يف ذلــك جتربــة أبــي القاســم‬ ‫الشــابي‪ ،‬يف احتفائهــا بالتيــارات التقليديــة أو‬ ‫الطليعيــة علــى حــد الســواء‪ .‬منتصــرا لنــوع مــن‬ ‫الكتابــة ينهــل مــن املفــردات التــي حتيــل إلــى‬ ‫أشــياء ملموســة يف الواقــع حتــى اســتهجنتها‬ ‫الذائقــة األدبيــة املد ّربــة»(‪.)11‬‬ ‫بهــذا ُعـ ّـد شــعراء قصيــدة النثــر يف تونــس‬ ‫الشــاعر صالــح القرمــادي أحــد اآلبــاء‬ ‫املؤسســن لقصيــدة النثــر التونســية‪ .‬بــل لعــل‬ ‫ديــوان «اللحمــة احل ّيــة» هــو البيــان التأسيســي‬ ‫احلقيقــي لقصيــدة النثــر‪ .‬مــن حيــث التــزام‬ ‫قصائــده بأهــم مــا يدعــو إليــه شــعراء النثــر علــى‬ ‫مســتوى الصياغــة والوحــدة العضويــة والكثافــة‬ ‫واجملانيــة‪ .‬علــى أن هــذه املفاهيــم وقــع جتاوزهــا‪،‬‬ ‫أو جتــاوز البعــض منهــا يف أغلــب النصــوص‬ ‫الشــعرية املعاصــرة‪.‬‬


‫‪36‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫القصيــدة ألنّ ّ‬ ‫الشــعر اجلديــد ال مــكان فيــه‬ ‫للحشــو وال لضــرورة الــوزن أو القافيــة بــل إنّ‬ ‫الــكالم الــذي يصــل إليــه القــارئ بالتضمــن‬ ‫واإليحــاء رمبــا يكــون هــو األصــل وهــو‬ ‫تعمــد ســوف عبيــد عــدم‬ ‫املقصــود‪ ،)12(»...‬وقــد ّ‬ ‫اإلشــارة إلــى مصطلــح «قصيــدة النثــر»‪ ،‬بــل‬ ‫قــال «الشــعر اجلديــد» ألن كتــاب عــزوز اجلملــي‬ ‫«ألعــاب اجملــروح» صــدر ســنة ‪ 1985‬حيــث مــا زال‬ ‫مفهــوم «قصيــدة النثــر» يشــهد جــدال واســعا‬ ‫يف الســاحة الثقافيــة العربيــة‪ .‬علــى مســتوى‬ ‫الشــرعية واختــاف التســمية‪.‬‬ ‫علــى أنــه بــدأ الوعــي بشــروط قصيــدة النثــر‬ ‫مــن حيــث القطــع مــع العــروض واإليقــاع‬ ‫اخلارجــي والقافيــة وضــرورات احلشــو واجملازات‬ ‫وغيرهــا‪ .‬وصــارت قصيــدة النثــر تع ـ ّول علــى‬ ‫«التضمــن واإليحــاء» والســرد‪ .‬وإن كان مفهــوم‬ ‫الســرد مــا زال لــم يتبلــور بعــد‪ ،‬ولــم ُيعـ ّول عليهــا‬ ‫كثيــرا يف نصــوص الشــعر التونســية‪.‬‬ ‫باملثــل ميكــن أن ُنصــدر نفــس احلكــم علــى‬ ‫نصــوص كل مــن محمــد أحمــد القابســي‬ ‫وخالــد النجــار ومحمــد رضــا الــكايف ونــور الديــن‬ ‫بــو جلبــان ومحمــد علــي اليوســفي وبشــير‬ ‫القهواجــي وعزيــز الوســاتي‪.‬‬ ‫فمثــل هــذا النــص حملمــد علــي اليوســفي‬ ‫يعطينــا ذلــك االنطبــاع الــذي يجعلنــا نؤمــن‬ ‫بانزيــاح قصيــدة النثــر عــن قواعــد الشــعر‬ ‫ا لكال ســيكية ‪:‬‬ ‫ـحاب‪/‬‬ ‫ْ‬ ‫يشـ ّ‬ ‫السـ ِ‬ ‫ـتد نيســانُ مم ّزقــا غالل ـ َة ّ‬ ‫خادعــا ُألْف َتنــا بآخــر األمطــار‪ /‬مــاذا؟ ‪ /‬لـ ْـم نكـ ْـد‬ ‫نألفُ ــهُ ح ّتــى نســيناه‪ /‬إذن‪ ،‬هــا هــو ذا أ ّيــار‪ /‬زيــزُ‬ ‫محاصيـ ٍـل علــى بابــي‪..‬‬ ‫«فالكتابــة الشــعرية التــي تســمو بالنثــري‬ ‫إلــى مقــام تخييلــي يح ـ ّول التفاصيــل املرئيــة‬ ‫إلــى صــورة ك ّليــة هــي بالضــرورة صــورة تشــكيلية‬ ‫ومشــهدية يف آن»(‪.)13‬‬ ‫فالنثــر قــوام «قصيــدة النثــر» وعمودهــا‬ ‫الفقــري‪ .‬مبــا يعنــي أنهــا ضــد الــوزن‪ .‬أي ضــد‬ ‫القوانــن التــي جتعــل مــن الــوزن هــو احملــدد‬ ‫الرئيــس للشــعر‪.‬‬ ‫يف مرحلــة متقدمــة مــن احلــراك الــذي‬ ‫شــهدته الســاحة الشــعرية التونســية‪ ،‬انضافــت‬ ‫عديــد األســماء الشــعرية األخــرى التــي ظلــت‬ ‫تتخلــى عــن الــوزن شــيئا فشــيئا إلــى أن تركتــه‬ ‫متامــا أو عــادت إليــه ملامــا‪ .‬ومــن أهــم تلــك‬ ‫األســماء رجــاء بــن حليمــة وآمــال موســى‬ ‫وحســن القهواجــي وســالم الل ّبــان وشــمس‬ ‫الديــن العونــي وريــاض الشــرايطي ونــور الديــن‬ ‫بالطيــب والطيــب شــلبي وعبــد الوهــاب املل ـ ّوح‬ ‫وهــادي الدبابــي وباســط بــن حســن‪ ..‬وغيرهــم‪.‬‬ ‫وبظهــور مصطلــح مــا يســمى بـ»شــعراء‬

‫لم تمر تجربة قصيدة‬ ‫النثر في تونس دون‬ ‫اعتراضات وانتقاد‬ ‫ورفض تواصل إلى‬ ‫أيامنا هذه‪ ،‬رغم‬ ‫االنتشار الواسع لها‪..‬‬ ‫ـعري مختلــف‬ ‫التســعينات» انبثــق حــراك شـ ّ‬ ‫ومغاير‪ .‬وإن لم تظهر هذه احلركة كتيار شعري‬ ‫لــه بياناتــه وأهدافــه‪ ،‬إال أن مــا ُكتــب خــال فتــرة‬ ‫التســعينات مــن القــرن الفــارط خلــق حــراكا‬ ‫ثقافيــا يف الســاحة الشــعرية التونســية وصــدرت‬ ‫عشــرات اجملموعــات الشــعرية علــى نفقــة‬ ‫أصحابهــا‪ .‬ومت ّيــزت نصــوص أولئــك الشــعراء‬ ‫بأ ّنهــا تشــترك يف ســمة غالبــة هــي طابعهــا‬ ‫اإلشــكالي‪ .‬فهــي نصــوص حتكمهــا األســئلة مــن‬ ‫جهــات املعانــي واألغــراض والقيــم اجلماليــة‬ ‫والصياغــة الفنيــة‪ ،‬كمــا أشــار إلــى ذلــك الناقــد‬ ‫التونســي محمــد صالــح بــن عمــر‪.‬‬ ‫وإن كانــت بعــض األســماء الشــعرية واصلــت‬ ‫التعويــل علــى الــوزن يف شــعرها‪ ،‬إال أن أســماء‬ ‫أخــرى اختــارت قصيــدة النثــر لتعبــر عــن واقعهــا‬ ‫اإلشــكالي‪ .‬علــى غــرار عبــد الفتــاح بــن حمــودة‬ ‫وآمــال موســى والطيــب شــلبي وشــمس الديــن‬ ‫العونــي وعــادل معيــزي يف بعــض نصوصــه‪.‬‬ ‫وقــد ُعـ ّـد الشــاعر عبــد الفتــاح بــن حمــودة أحــد‬ ‫أهــم الشــعراء املدافعــن عــن قصيــدة النثــر‪ .‬ولــم‬ ‫ينقطــع تعويلــه عليهــا منــذ كتابــه األول وإلــى‬ ‫اآلن‪.‬‬ ‫ـص الشــعري‬ ‫كان يقــول دائمــا «لقــد آن للنـ ّ‬ ‫أن يبــدأ حركتــه‪ ،‬فقــد انتهــى عصــر «القصيــدة»‬ ‫حتــى لــو منحوهــا جميــع دروع بيــوت الشــعر‬ ‫وخصصــوا عشــرات امللتقيــات واجلوائــز»(‪.)14‬‬ ‫طبعــا لــم متــر جتربــة قصيــدة النثــر يف‬ ‫تونــس دون اعتراضــات وانتقــاد ورفــض‪ .‬تواصــل‬ ‫إلــى أيامنــا هــذه‪ ،‬رغــم االنتشــار الواســع لهــا‬ ‫تونســيا وعربيــا‪ .‬بعــض النقــاد راجعــوا مواقفهــم‬ ‫منهــا‪ ،‬وتبنوهــا عنــوة‪ .‬فيمــا واصــل آخــرون‬ ‫رفضهــا وانتقادهــا‪.‬‬ ‫مــن ذلــك مــا ذهــب إليــه الشــاعر محمــد‬ ‫الغــزي الــذي ظــل وفيــا للعــروض‪ .‬حيــث اعتبــر‬ ‫قصيــدة النثــر «مجـ ّرد لعبــة لغويــة»‪ .‬ففــي حــوار‬ ‫معــه بجريــدة اجلوهــرة الفنيــة بتاريــخ أفريــل‬ ‫‪ 1996‬اعتبــر «أن الطاقــة الروح ّيــة التــي ينطــوي‬ ‫عليهــا شــعرنا القــدمي لــم يتمثلهــا شــعرنا‬ ‫احلديــث‪ .‬لهــذا ظــل هــذا الشــعر احلديــث يف‬ ‫أكثــر مناذجــه مجـ ّرد لعبــة لغو ّيــة ال ُتيــل علــى‬

‫أســئلة الوجــود الكبــرى»(‪. )15‬‬ ‫مــع أن قصيــدة النثــر أكثــر النمــاذج الشــعرية‬ ‫شــرحا وحتليــا وطرحــا ألســئلة الوجــود‬ ‫الكبــرى‪ .‬ويبــدو أن مــر ّد اخلــاف يعــود أساســا‬ ‫إلــى مســألة اخلــروج عــن العــروض ال غيــر‪ .‬أمــا‬ ‫مــن جهــة املواضيــع واألغــراض‪ ،‬فــإن قصيــدة‬ ‫النثــر ش ـ ّرحت أكثــر القضايــا عمقــا وإنســانية‪.‬‬ ‫بــل حتــى أكثــر األشــياء تناهيــا يف الصغــر‬ ‫كمــا يقــول باشــار‪ .‬م ـ ّرت قصيــدة النثــر علــى‬ ‫واملهمــش وا ُملقصــى‪ ..‬وصــارت‬ ‫الغريــب والبســيط‬ ‫ّ‬ ‫أكثــر قربــا مــن اإلنســان يف بعــده الشــمولي‬ ‫مــن قصيــدة العــروض‪ .‬أمــا الــوزن والقافيــة‬ ‫واملوســيقى‪ ،‬فتلــك مســألة أخــرى‪.‬‬ ‫مــع هــذا اجلــدل ظهــرت أســماء شــعرية‬ ‫أخــرى حاولــت أن تؤســس لعاملهــا الشــعري‬ ‫اخلــاص‪ ،‬علــى غــرار نصــر ســامي ويوســف خدمي‬ ‫اهلل وأشــرف القرقنــي والســيد التــوي وخالــد‬ ‫الهداجــي ورضــا عبيــدي وســعيف علــي وســفيان‬ ‫رجــب وصابــر العبســي وجميــل عمامــي ومنصف‬ ‫اخلــادي وخالــد الهداجــي ونــزار احلميــدي‬ ‫وأمامــة الزايــر وســامية ساســي وصــاح بــن عيــاد‬ ‫وعــادل جــراد وفاطمــة كرومــة وعبــد الواحــد‬ ‫الســويح وعبــد اهلل القاســمي‪ ..‬دون أن ننســى‬ ‫منصــف الوهايبــي وآدم فتحــي‪ .‬وأســماء عديــدة‬ ‫أخــرى تختلــف جتربتهــا باختــاف املواضيــع‬ ‫والتقنيــات الفنيــة‪.‬‬ ‫يف كثيــر مــن األحيــان ُتطــرح مســألة‬ ‫اخلصوصيــة أو االختــاف أو «التم ّيــز»‪ُ .‬تطــرح‬ ‫ملــا نخضــع تلــك التجــارب الشــعرية إلــى املقارنــة‬ ‫بينهــا وبــن غيرهــا وطنيــا وعربيــا‪.‬‬ ‫فمــا هــي أهــم خصوصيــات قصيــدة النثــر‬ ‫التونســية؟ أو مــا الــذي يجعلهــا مختلفــة‬ ‫ومغايــرة؟ ميكــن أن نســأل أيضــا‪ ،‬مــا الــذي‬ ‫يجعــل خصوصيــة مــا منتشــرة أكثــر مــن غيرهــا‬ ‫يف الشــعر التونســي؟‬ ‫هــي أســئلة ميكــن أن ُتطــرح يف عالقــة بــأي‬ ‫جتربــة أخــرى يف أي قطــر عربـ ّـي‪ .‬هــي أيضــا‬ ‫نفــس اإلشــكاليات التــي مــا زلنــا نحــاول إيجــاد‬ ‫إجابــات عنهــا دون أن نقــع يف اخللــط والتكــرار‪.‬‬ ‫مــع أن جتــارب شــعرية عديــدة متشــابهة ومكــررة‬ ‫هنــا وهنــاك‪ .‬بســبب أن قصيــدة النثــر مــا زالــت‬ ‫لــم حتقــق التراكــم الكمــي الضــروري لتنتهــي‬ ‫إلــى شــكلها النهائــي‪ ،‬مــع أنهــا عصيــة عــن‬ ‫الشــكل‪ .‬فالشــعر لــدى شــعراء قصيــدة النثــر‬ ‫«رؤيــا قبــل أن يكــون شــكال» كمــا أشــار إلــى ذلــك‬ ‫الشــاعر عبــد الفتــاح بــن حمــودة‪.‬‬ ‫ميكــن تبعــا لذلــك أن جنــد ثالثــة أنــواع‬ ‫لقصيــدة النثــر التونســية‪ .‬هــي قصيــدة النثــر‬ ‫احلكائيــة والتســجيلية وقصيــدة التجربــة‬ ‫ا لشــخصية ‪.‬‬


‫‪37‬‬ ‫أ ـ قصيدة النثر الحكائية‪:‬‬

‫سكســفونَه‪ ،‬وهــي كانــت مريضــة ويائســة كشــمس‬ ‫ّ‬ ‫تتدفــأ ملاضيهــا الشــتاء‪،‬‬ ‫أفريــل‪ ،‬ال تعــرف هــل‬ ‫الصيــف‪ .‬و ّملــا أدركــت‬ ‫أم تتك ّيــف ملســتقبلها ّ‬ ‫مــن خــال ثقــوب ال ّريــح وال ّرجــاء يف قميصــه‬ ‫األخضــر‪ ،‬أ ّنــه كان ي ْبحـ ُـث عــن امــرأة تقــوم بــدور‬ ‫سكســفون يف حياتــه‪ ،‬فقــد مــأت رئتيهــا بهــواء‬ ‫ُ‬ ‫تســلمت لل ّنعــاس بــن‬ ‫واس ْ‬ ‫اجلــزر البعيــدة‪ْ ،‬‬ ‫أصابعــه وشــفتيه»(‪.)17‬‬ ‫نصــان جلميــل عمامــي وســفيان رجــب‪،‬‬ ‫ينخرطــان يف ســياق مــا صنّفنــاه علــى أنــه‬ ‫قصيــدة نثــر حكائيــة‪ .‬علــى أنهمــا نصــان‬ ‫مختلفــان يف طريقــة احلكــي‪ .‬مبــا يعنــي أن‬ ‫النصــوص الشــعرية التونســية التــي تنخــرط‬ ‫ضمــن هــذا التصنيــف هــي نصــوص مختلفــة‬ ‫وال تلتقــي إال يف احلكــي‪ .‬ومــا خالــف ذلــك‬ ‫فهــو صنعــة الشــاعر وأســلوبه‪ .‬وهمــا نصــان‬ ‫باملثــل يخضعــان لشــكل الفقــرة يف بنــاء النــص‪.‬‬ ‫خــاف «الشــكل الســطري» الــذي يشــبه إلــى‬ ‫حـ ّـد مــا بنــاء القصيــدة احلــرة املوزونــة‪ .‬علــى‬ ‫أن مــا يجمــع بــن هــذه التجــارب‪ ،‬هــو التصاقهــا‬ ‫بالواقــع املعيــش بــكل خصوصياتــه وتفاصيلــه‪،‬‬ ‫علــى نحــو يتخطــى جتربــة الشــعر الرومنســي‬ ‫وقصيــدة العمــود الغنائيــة احلماســية‪.‬‬ ‫ب ـ قصيدة النثر التسجيلية‪:‬‬

‫«التســجيلية» يف قصيــدة النثــر‪ ،‬هــي بانوراما‬ ‫الكاميــرا التــي ترصــد كل كبيــرة وصغيــرة يف‬ ‫املشــهد احلياتــي اليومــي سياســيا وثقافيــا‬ ‫واجتماعيــا‪ .‬وهــي نزعــة عكــس «التجربــة‬ ‫الشــخصية»‪.‬‬ ‫فقصيــدة النثــر التســجيلية لوحــظ‬ ‫حضورهــا بشــكل مكثــف بعــد أحــداث ‪ 14‬جانفــي‬ ‫‪ ،2011‬حيــث صــار النــص الشــعري ســيناريو‬ ‫مصــورا لألحــداث‪ ،‬يســجلها ويوقّ عهــا ويرصــد‬ ‫حراكهــا وحتوالتهــا‪ .‬فالنزعــة التســجيلية يف‬ ‫قصيــدة النثــر التونســية ال ّ‬ ‫تتوفــر علــى جتــارب‬ ‫فرد ّيــة خصوصيــة إال نــادرا‪ ،‬وبارتبــاط األحــداث‬ ‫بشــخصية الشــاعر‪ .‬ولكــن هــذه القصيــدة‬ ‫يف عموميتهــا تسـ ّـجل احلــدث التاريخــي‬ ‫واالجتماعــي والسياســي رمبــا الرتبــاط تلــك‬ ‫األحــداث بقضايــا الوجــود الكبــرى‪ .‬ورمبــا ـ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫هــي قصيــدة تنهــض علــى احلكــي بالدرجــة‬ ‫األولــى‪ .‬فهــي قصيــدة تقــوم علــى الكتلــة‬ ‫الســردية‪ .‬فهــي ترتبــط باحلكايــة عبــر شــخوص‬ ‫وأحــداث وســرد ووصــف يجعــل النــص الشــعري‬ ‫خطابــا حكائيــا‪.‬‬ ‫فالســرد هــو املق ـ ّوم الرئيــس يف قصيــدة‬ ‫الســرد بأنــه احلكــي القائــم علــى‬ ‫النثــر‪« .‬ويعــرف ّ‬ ‫دعامتــن أساســيتني‪ :‬األولــى أنــه يحتــوي علــى‬ ‫قصــة مــا تضـ ّـم أحداثــا مع ّينــة‪ .‬والثانيــة أنــه‬ ‫ّ‬ ‫القصــة‪،‬‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫حت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫الطري‬ ‫ـن‬ ‫يعـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و ُتسـ ّـمى هــذه الطريقــة ســردا»(‪.)16‬‬ ‫وقــد ظهــرت هــذه التقنيــة بشــكل الفــت يف‬ ‫نصــوص ســفيان رجــب وجميــل عمامــي وخالــد‬ ‫الهداجــي وصابــر العبســي وأنــور اليازيــدي‬ ‫وهيثــم األمــن وتوفيــق مقطــوف‪.‬‬ ‫كأنــك ـ وأنــت تقــرأ نصــوص هــؤالء ـ تعيــش‬ ‫القصــة بتفاصيلهــا وجزئياتهــا ومشــاعر‬ ‫الشــخوص التــي فيهــا‪.‬‬ ‫مــن هــذه النصــوص قصيــدة «طفولــة»‬ ‫للشــاعر جميــل عمامــي‪:‬‬ ‫«وأنــا أقــف علــى حافــة الثالثــن‪ ،‬فكّ ـ ُ‬ ‫ـرت‬ ‫بالقرويــات وهـ ّـن يغســلن صــوف اخلــراف فجــرا‬ ‫علــى حافــة النبــع‪ ،‬وأمــي التــي ّ‬ ‫ـرت برائحــة‬ ‫تعطـ ْ‬ ‫جدتــي لــي يــوم‬ ‫الســاخن‪ ،‬وبرشــوات ّ‬ ‫اخلبــز ّ‬ ‫األحــد حــن أجلــب لهــا ج ـ ّرة مــاء مــن احلقــل‬ ‫اجملــاور ملنزلنــا»‪.‬‬ ‫يحيلنــا مثــل هــذا النــص إلــى تقنيــة‬ ‫االسترجاع‪ ،‬حيث حتتاج مثل هذه التقنية إلى‬ ‫التكثيــف مــن أفعــال املاضــي‪ .‬إال أنــه يف قصيــدة‬ ‫النثــر ال ُيعـ ّول إال علــى ُ‬ ‫اجلمــل االســمية‪ ،‬حتــى‬ ‫يأخــذ الســرد طريقــه إلــى الشــعر وليــس إلــى‬ ‫الغنائيــة واإليقــاع‪.‬‬ ‫مــن خصوصيــة القصيــدة احلكائيــة أنهــا‬ ‫النص عبر شــاعر‪ /‬ســارد يتحكّ م‬ ‫حتقق حكائية‬ ‫ّ‬ ‫يف زمنيــة الوقائــع واألحــداث بشــكل واع وبآليــات‬ ‫ســردية يدركهــا هــو فقــط‪ ،‬ليصــل بالنــص إلــى‬ ‫«موضوعــه» النهائــي‪ ،‬عبــر إدارتــه لزمــن احلكايــة‬ ‫وشــخوصها وتفاصيــل املشــهد يف النــص‪.‬‬ ‫علــى أن احلكائيــة يف النــص تختلــف مــن‬ ‫شــاعر إلــى آخــر‪ .‬بعــض تلــك النصــوص تعطينــا‬ ‫نصــا حكائيــا أقــرب إلــى الســرد القصصــي‪ .‬كمــا‬ ‫جــاء يف نــص جميــل عمامــي‪ .‬غيــر أن نصوصــا‬ ‫أخــرى تأتينــا مراوغــة ومتم ـ ّردة جعلــك تقــرأ‬ ‫النــص مــن جهاتــه اخملتلفــة‪ ،‬املعانــي متعـ ّـددة‪.‬‬ ‫هــذا مــا ال يجعلنــا نســبح يف نفــس املعنــى‬ ‫مرتــن‪.‬‬ ‫خذ هذا النص لسفيان رجب مثال‪:‬‬ ‫ـوص‬ ‫«كان حزينــا وموحشــا‪ ،‬حــن ســرق اللصـ ُ‬

‫التسجيلية” في‬ ‫قصيدة النثر‪ ،‬هي‬ ‫بانوراما الكاميرا التي‬ ‫ترصد كل كبيرة‬ ‫وصغيرة في المشهد‬ ‫الحياتي اليومي‪..‬‬

‫أيضــا ـ الشــاعر التونســي ظــل لســنوات ينشــد‬ ‫حريتــه التــي كان يدافــع عنهــا خلســة ومواربــة‬ ‫يف نصوصــه دون أن تكــون لــه القــدرة علــى أن‬ ‫يقــول مــا يريــد‪ .‬لهــذا فاحلــدث العظيــم الــذي‬ ‫شــهدته تونــس يف ‪ 14‬جانفــي كان حدثــا شــعريا‬ ‫أيضــا‪ .‬حيــث أمكــن للشــاعر أن يقــول مــا لــم‬ ‫يكــن باســتطاعته أن يقولــه قبــل ذلــك احلــدث‪.‬‬ ‫ومــن أهــم األســماء الشــعرية التــي حضــر‬ ‫نصهــا بكثافــة يف تســجيل األحــداث والوقائــع‬ ‫والتواريــخ عبــد الواحــد الســويح ويوســف‬ ‫خــدمي اهلل وأمامــة الزايــر وآدم فتحــي ومنصــف‬ ‫الوهايبــي ومحمــد العربــي‪..‬‬ ‫كتــب محمــد العربــي عــن حالــة احلصــار‬ ‫والتعليمــات مــن كل اجلهــات للتضييــق علــى‬ ‫احلريــات وتكميــم األفــواه‪ .‬رصــد تلــك احلــاالت‬ ‫بعــد الثــورة التونســية حيــث مــن املفــروض أن‬ ‫يكــون ذلــك التوصيــف يهــم احلالــة التونســية‬ ‫زمــن االســتبداد ال بعــد انقشــاع الغمــام‪:‬‬ ‫التعليمــات بالداخــل‪ /‬التعليمــات باخلــارج‪/‬‬ ‫أن تبقــى أرواحنــا مســجونة خلــف قضبانهــم‬ ‫التــي ال تنْتهــي(‪.)18‬‬ ‫أمكــن حملمــد العربــي ـ كغيــره مــن الشــعراء‬ ‫ـ أن يرصــد حــاالت القمــع السياســي واحلصــار‬ ‫يسجل تلك الوقائع واألحداث‬ ‫والسجون‪ .‬هو‬ ‫ّ‬ ‫بعــن الشــاعر الراصــد‪ .‬وهــي عــن ليســت ككل‬ ‫العيــون األخــرى التــي ترصــد اخلــارج دون‬ ‫الداخــل‪ .‬الشــاعر محمــد العربــي غــاص يف‬ ‫عذابــات الــروح املســجونة بــن قضبانهــم‪.‬‬ ‫وذلــك أخطــر وأشـ ّـد وقعــا مــن ســجن اجلســد‪.‬‬ ‫هــذا مــا رصتــه أيضــا أمامــة الزايــر خاصــة‬ ‫يف مجموعتهــا «العالــم حزمــة خيــاالت» حيــث‬ ‫احتفــت بالتفاصيــل واألشــياء واملهمــش‬ ‫واملقصــى‪ ..‬وهــي كلهــا تلــك األشــياء التــي تصنــع‬ ‫احلــدث التســجيلي‪.‬‬ ‫إن القصيــدة التســجيلية التــي تع ـ ّرف علــى‬ ‫أنهــا وثيقــة تاريخيــة عبرهــا نســتطيع احلفــر‬ ‫يف األحــداث والوقائــع‪ .‬هــي وثيقــة كأي وثيقــة‬ ‫أدبيــة أخــرى‪ ،‬غيــر أن وثيقــة الشــعر مختلفــة‬ ‫ومغايــرة‪ .‬وال ميكــن اعتبارهــا بــأي حــال مــن‬ ‫األحــوال وثيقــة «حقيقيــة»‪ .‬ألن الشــعر يتداخــل‬ ‫فيــه الذاتــي باملوضوعــي‪ ..‬يحضــر املــادي‬ ‫واملعنــوي‪ ..‬النفســي والســلوكي‪.‬‬ ‫الشــاعر يرصــد بعــن املبــدع حدثــا مــا‪.‬‬ ‫يضعــه علــى طاولــة التشــريح الشــعرية‪.‬‬ ‫ُيعمــل فيــه أدوات الشــعر ُمســتنجدا بتجاربــه‬ ‫وخبراتــه املعرفيــة والعلميــة‪ .‬فيفــكّ ك احلــدث‬ ‫ثــم يعيــد تركيبــه يف شــكل «كــوالج» متداخــل‪،‬‬ ‫يبــدو للقــارئ أن مــا يربــط بــن عناصــره ليــس‬ ‫إال اللغــة‪ .‬غيــر أن أشــياء أخــرى كثيــرة تربــط‬ ‫بــن تلــك العناصــر مثــل الوحــدة العضويــة‬


‫‪38‬‬ ‫والبنــاء والتركيــب والســياقات وتــزاوج الكلمــات‬ ‫وتنافرهــا‪ ..‬وكلهــا أدوات الشــاعر التــي تختلــف‬ ‫حتمــا عــن أدوات شــاعر آخــر‪.‬‬ ‫بدايــة ســنة ‪ 2011‬كانــت النصــوص ـ التــي‬ ‫تراكمــت بشــكل أربــك الســاحة الشــعرية‬ ‫التونســية ـ تغلــب عليهــا العفويــة واالنطباعيــة‬ ‫والتلقائيــة بســبب تلــك احلماســة التــي رافقــت‬ ‫أحــداث ‪ 14‬جانفــي‪ .‬غيــر أن تــرك مســافة عــن‬ ‫احلــدث جعــل الشــعراء يعيــدون صياغــة تلــك‬ ‫األفــكار ويرتبــون الوقائــع بشــكل مغايــر‪ .‬وذلــك‬ ‫بعــد التخ ّلــص مــن الضغــوط النفســية التــي‬ ‫صاحبــت احلــدث السياســي‪.‬‬ ‫علــى أنــه وجــب التنويــه‪ ،‬أن شــعراء قصيــدة‬ ‫النثــر التونســية كانــوا أكثــر قــدرة علــى مســك‬ ‫اللحظــة التاريخيــة مــن شــعراء قصيــدة‬ ‫العمــود‪ .‬هــؤالء الذيــن ظلــوا أوفيــاء لعروضهــم‬ ‫ومخلصــن حلماســة الشــعر عندهــم‪ .‬ممــا‬ ‫جعلنــا نتوفــر علــى نصــوص مكــررة ورديئــة‪.‬‬ ‫ج ـ قصيدة التجربة الشخصية‪:‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫قصيــدة التجربــة الشــخصية‪ ،‬ليســت حكــرا‬ ‫علــى شــاعر دون آخــر‪ .‬غيــر أن بعــض الشــعراء‬ ‫أفرطــوا يف التعويــل علــى الــذات كعنصــر فاعــل‬ ‫وأساســي يف بنــاء النــص الشــعري‪ .‬الشــاعر هنــا‬ ‫يحاكــي مــا يحيــط بــه مــن أشــياء ويجعلهــا‬ ‫مكملــة لتجربتــه احلياتيــة‪.‬‬ ‫عناصــر ضــروري ّ‬ ‫غيــر أنــه مــن الواجــب التأكيــد أن شــاعر قصيــدة‬ ‫النثــر ال يعـ ّـد جتربتــه الشــخصية أمنوذجــا علــى‬ ‫غــرار كاتــب الشــعر العمــودي الــذي يع ـ ّول علــى‬ ‫الفخــر لإلعــاء مــن جتربتــه الذاتيــة‪.‬‬ ‫التجربــة الشــخصية جتــارب‪ .‬يف عالقــة‬ ‫باألشــياء املتناهيــة يف الصغــر‪ .‬ويف أغلبهــا‬ ‫هــي تصويــر احلــاالت واملشــاعر واألحاســيس‬ ‫واملواقــف مــن األحــداث والوقائــع‪.‬‬ ‫لهــذا فالشــاعر يعتبــر نفســه عنصــرا مــن بــن‬ ‫العناصــر التــي تك ـ ّون التجربــة الشــخصية‪ .‬وال‬ ‫ينتصــر للتمحــور حــول الــذات‪.‬‬ ‫ميكــن أن جنــد تلــك اخلصوصيــة يف شــعر‬ ‫صبــري الرحمونــي وأشــرف القرقنــي وســامية‬ ‫ساســي ونــزار احلميــدي‪ .‬ففــي نــص «بنايــة»‬ ‫للشــاعر صبــري الرحمونــي‪ ،‬ثمــة اقتــراب مــن‬ ‫التجربــة الشــخصية يف عالقــة باآلخــر‪ .‬اآلخــر‬ ‫«ليــس اجلحيــم» كمــا ذهــب إلــى ذلــك ســارتر‪،‬‬ ‫املكملــة ملــا ينقــص الشــاعر‪:‬‬ ‫ولكنــه الصــورة ّ‬ ‫الصغيرتي‪ /‬ماذا تفعالن يف‬ ‫أفكّ ر يف يد ْي ِك‬ ‫ْ‬ ‫هــذا الليــل‪ُ /‬تســكان كــوب شــاي دافــئ‪ /‬تفْ تحــان‬ ‫ُخربشــان أذن ْيــك‬ ‫اخلزانــة‪ /‬أو ّ‬ ‫ربــا تُغلقانهــا‪ /‬ت ْ‬ ‫قبــل النــوم‪ /‬تضعــان ٌ‬ ‫األقــراط علــى امل ْنضــدة‪/‬‬ ‫مــن املمكــن أيضــا مــن فـ ْـرط الوحــدة وامللــل‪/‬‬ ‫أنّهمــا تُق ّلــدان‪ /‬جناحـ ْـي بجعــة تائهــة‪.‬‬

‫قصيدة التجربة‬ ‫الشخصية‪ ،‬ليست‬ ‫حكرا على شاعر دون‬ ‫آخر‪ ،‬غير أن بعض‬ ‫الشعراء أفرطوا في‬ ‫التعويل على الذات‪..‬‬ ‫الحظــوا كيــف أن الشــاعر يحاكــي جتربــة‬ ‫تهمــه إال هــو‪ .‬جتربــة ح ّولهــا‬ ‫ذاتيــة خاصــة‪ ،‬ال ّ‬ ‫إلــى لوحــة ســريالية متحركــة‪ .‬شــخوصها‬ ‫الشــاعر و»املــرأة» التــي يســرد تفاصيــل حركاتهــا‬ ‫لتُ كمــل املشــهد‪.‬‬ ‫أمــا نــزار احلميــدي يف قصيدتــه «لعبــة»‬ ‫يعــود إلــى طفولتــه حيــث الركــض يف مهـ ّـب‬ ‫الريــح كالنواعيــر‪ .‬جتربتــه شــخصية عــاد بهــا‬ ‫الشــاعر بتقنيــة «االســتعادة» إلــى الطفولــة‬ ‫بدايــة التأســيس‪:‬‬ ‫بعــد ْأن ك ُبرنــا‪ /‬وتعلّمنــا املشــي وحدنــا‪/‬‬ ‫صنعنــا نواعيــر مــن مع ّلبــات احلليــب‪ /‬وركضنــا‬ ‫بهــا يف مهـ ّـب الريــح‪ /‬دارت نواعيرنــا‪ ..‬ثــم طــارت‬ ‫مــن بــن أصابعنــا‪ /‬صنعنــا نواعيــر أخــرى‪/‬‬ ‫وكانــت تطيــر مــن بــن أصابعنــا دائمــا‪ /‬ك ُبرنــا‬ ‫ُن ْتلــف النواعيــر ونصنــع غيرهــا‪.‬‬ ‫كلهــا جتــارب حياتيــة شــخصية حــاول كل‬ ‫شــاعر أن يعـ ّول علــى جتربتــه الشــعرية ليصقــل‬ ‫نصــه ويرتبــه كـ»بورتريــه» لــه ســماته وتفاصيلــه‬ ‫اخلاصــة التــي تختلــف عــن ســمات وتفاصيــل‬ ‫أي «بورتريــه» آخــر لشــاعر آخــر‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ الريح الشعرية المتحرّكة‪:‬‬

‫جتربــة قصيــدة النثــر التونســية كغيرهــا مــن‬ ‫التجــارب العربيــة مـ ّرت بتحـ ّوالت ومــا زالــت‪ .‬مــا‬ ‫زلنــا نعايــش ذلــك الصــراع بــن اإليقــاع والــوزن‬ ‫واملوســيقى‪ .‬بــن «الشــكر الســطري» و»شــكل‬ ‫الفقــرة الشــعرية»‪ ..‬بــن شــعراء قصيــدة النثــر‬ ‫األوائــل وشــعراء يحفــرون يف الصخــر لقتــل‬ ‫األب الشــعري‪.‬‬ ‫وألن الســاحة الشــعرية التونســية مليئــة‬ ‫باألصــوات اخملتلفــة‪ ،‬فإنــه مــن غيــر الواقعـ ّـي أن‬ ‫نأتــي عليهــا كلهــا يف مثــل هــذا العمــل‪.‬‬ ‫وهــي أصــوات شــعرية وجدنــا نصوصهــا‬ ‫تــراوح بــن «احلكائيــة» و»التســجيلية» و»قصيــدة‬ ‫التجربــة الذاتيــة»‪ .‬هــي أســماء يصعــب‬ ‫تصنيفهــا يف خانــة دون أخــرى‪ .‬علــى غــرار‬ ‫جتربــة عبــد الفتــاح بــن حمــودة ونــزار شــقرون‬ ‫وحــامت النقاطــي وخالــد النجــار وميــاد فايــزة‬ ‫والهــادي الدبابــي وفتحــي قمــري وســامي‬

‫املســلماني وعبــد الوهــاب املل ـ ّوح ومحمــد علــي‬ ‫اليوســفي ورضــا عبيــدي وفتحــي مهــذّ ب‪ .‬وقــد‬ ‫أتينــا علــى مقاربــة هــذه التجــارب يف كتابنــا‬ ‫«قصيــدة النثــر التونســية ـ الطيــران بأجنحــة‬ ‫مســتعارة»‪.‬‬ ‫ميكــن أن نختــم بالقــول‪ ،‬إن جتربــة قصيــدة‬ ‫النثــر التونســية‪ ،‬تشــهد حــراكا يجعلهــا ضمــن‬ ‫أهــم التجــارب الشــعرية العربيــة‪ .‬وخاصــة ّملــا‬ ‫نلتفــت إلــى نصــوص شــعرية أخــرى مــا زالــت‬ ‫تخطــو خطواتهــا األولــى‪ ،‬ولكنهــا بثبــات‬ ‫وإدهــاش‪.‬‬ ‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ اســم امللــف الثانــي مــن كتــاب الناقــد حــامت الصكر‬ ‫«مجانني قصيــدة النثر‪.»2‬‬ ‫‪ - 2‬جريدة احلياة اللندنية ‪.2001‬‬ ‫‪3‬ـ أنظــر كتــاب قصيــدة النثــر التونســية‪ ،‬الطيــران‬ ‫بأجنحــة مســتعارة للمهــدي عثمــان‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪4‬ـ ســوف عبيــد‪ :‬حــركات الشــعر اجلديــد بتونــس‪،‬‬ ‫جريــدة احلريــة‪ ،‬ســبتمبر ‪ ،2008‬ط‪ ،1‬ص ‪.32‬‬ ‫‪ 5‬ـ عــز الديــن املناصــرة‪ :‬اشــكاليات قصيــدة النثــر ـ‬ ‫نــص مفتــوح عابــر لالنواعــن املؤسســة العربية للدراســات‬ ‫والنشــر‪ ،‬ط‪ ،1‬األٍ دن ‪ ،2002‬ص ‪.263‬‬ ‫‪ 6‬ـ أنظــر كتــاب ســوف عبيــد «صفحــات مــن كتــاب‬ ‫الوجــود»‪ ،‬اجملمــع التونســي للعلــوم واآلداب بيــت احلكمة‪،‬‬ ‫تونــس ‪.2009‬‬ ‫‪ 7‬ـ فــارس الرحــاوي‪ :‬مجلــة املوقــف األدبــي‪ ،‬مقــال‬ ‫إشــكالية قصيــدة النثــر بــن املفهومــن الغربــي والعربــي‪،‬‬ ‫احتــاد الكتــاب العــرب‪ ،‬العــدد ‪ ،457‬مــاي ‪ ،2009‬ص‪.9‬‬ ‫‪ 8‬ـ حســونة املصباحــي‪ :‬حركــة الطليعــة التونســية‬ ‫هــل كانــت طليعيــة فعــا؟ مجلــة ايــاف االلكترونيــة‪5 ،‬‬ ‫أفريــل ‪.2015‬‬ ‫‪ 9‬ـ محمــد مصمولــي‪ :‬خمســينية حركــة الطليعــة‬ ‫األدبيــة التونســية‪ ،‬جريــدة الصحافــة التونســية‪ ،‬فيفــري‬ ‫‪.2020‬‬ ‫‪ 10‬ـ املقاطــع مــن قصيــدة «دعايــة مغرضــة» نشــرت‬ ‫مبجلــة الفكــر‪ ،‬العــدد ‪ ،9‬ســنة ‪ ،15‬جــوان ‪ ،1970‬ص ‪.71‬‬ ‫‪ 11‬ـ ليلــى بــن صالــح‪ :‬صالــح القرمــادي هالــة مــن‬ ‫الغمــوض يف الهامــش‪ ،‬جريــدة اليــوم الثامــن‪ ،‬األحــد ‪12‬‬ ‫أفريــل ‪.2020‬‬ ‫‪ 12‬ـ ســوف عبيــد‪ :‬النــص الشــعري اجلديــد مــن‬ ‫خــال ألعــاب اجملــدروح‪ ،‬جريــدة الصبــاح‪ 24 ،‬ديســمبر‬ ‫‪. 1985‬‬ ‫‪ 13‬ـ خالــد الغريبــي‪ :‬محمــد علــي اليوســفي الســرد‬ ‫يتكلــم شــعرا‪ ،‬مجلــة نــزوى‪ ،‬العــدد ‪ ،60‬أكتوبــر ‪،2009‬‬ ‫ص ‪.49‬‬ ‫‪ 14‬ـ عمــاد الديــن موســى‪ :‬قصيــدة املنبــر‪ ..‬نقــاد‬ ‫يطلقــون رصاصــة الرحمــة‪ ،‬مجلــة الدوحــة‪ ،‬العــدد ‪،152‬‬ ‫يونيــو ‪ ،2020‬ص ‪.58‬‬ ‫‪ 15‬ـ حــوار مــع محمــد الغــزي‪ :‬جريــدة اجلوهــرة‬ ‫الفنيــة‪ ،‬تونــس العــدد ‪ ،25‬أفريــل ‪.1996‬‬ ‫‪ 16‬ـ ســعيد يقطــن‪ :‬الســرد العربــي مفاهيــم‬ ‫وجتليــات‪ ،‬الــدار العربيــة للعلــوم‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬ط‪،2011 ،1‬‬ ‫ص ‪.12‬‬ ‫‪ 17‬ـ ســفيان رجــب‪ :‬ســاعي بريــد الهــواء‪ ،‬تونــس‬ ‫‪.2019‬‬ ‫‪ 18‬ـ محمــد العربــي‪ :‬حــن منــت حت ّدثيننــي عــن‬ ‫احلــب‪ ،‬دار ميــارة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬ط‪ ،1‬تونــس ‪.2018‬‬


‫‪39‬‬

‫تلقي قصيدة النثر‬ ‫في النقد المغربي الحديث‬

‫د‪ .‬سعيد بوعيطة‬

‫شـــكل القـــرن التاســـع عشـــر الميـــادي (‪19‬م)‪ ،‬منعطفا بـــارزا فـــي الشـــعرية الغربية‪.‬‬ ‫عرفـــت على إثـــره محاوالت عديـــدة‪ ،‬برزت المبـــادئ األساســـية لقصيدة النثـــر‪ .‬والتجلية‬ ‫فـــي الحصـــر واإليجاز‪ ،‬شـــدة التأثيـــر‪ ،‬والوحـــدة العضوية(‪.)1‬‬ ‫كمـــا ُيجمـــع جـــل الباحثيـــن أن بودليـــر يعـــد رائـــد قصيـــدة النثـــر الغربيـــة‪ ،‬وأول قصائـــده‬ ‫النثرية نشـــرت عـــام ‪ 9589‬بعنوان ‹›قصائد الليـــل››‪ .‬فقد تبنى بودليـــر ومعه مجموعة من‬ ‫الشـــعراء الرمزيين الذين ســـاروا علـــى خطاه‪ ،‬نموذج قصيـــدة النثر وثورتهـــم على النمطية‬ ‫التقليديـــة التـــي ظلّ ـــت مهيمنة علـــى الحركة الشـــعرية منـــذ العهـــد القديم‪ .‬لكـــن التعبير‬ ‫عـــن واقع فكـــري واجتماعي جديدين‪ ،‬جعل الشـــاعر ينطلق مـــن ذاته المبدعـــة الراغبة إلى‬ ‫التحديـــث نفـــورا مـــن الوزن والبحـــر التي تكره الشـــاعر على تضخيـــم عاطفتـــه أو إضعافها‪..‬‬

‫تلقي قصيدة النثر في النقد‬ ‫المغربي الحديث‬

‫رشيد يحياوي‬ ‫قصيــدة النثــر إلــى الشــعرية العربيــة؛ أثــار‬ ‫الكثيــر مــن اجلــدل والنقــاش يف األوســاط‬ ‫الفكريــة العربيــة‪ .‬نظــرا للتناقــض بــن‬ ‫طــريف املصطلــح‪ .‬ألنــه يف حــد ذاتــه يثيــر‬ ‫مفارقــة واضحــة بــن طــريف القصيــدة والنثــر‪.‬‬ ‫لهــذا‪ ،‬البــد مــن اإلشــارة إلــى أن الدراســات‬ ‫النقديــة املغربيــة التــي تناولــت املصطلــح‬ ‫باعتبــاره ظاهــرة وإشــكالية يف الوقــت ذاتــه‪،‬‬ ‫جــاءت كتابــات نقديــة أخــذت طابــع الــرأي‬ ‫املؤيــد لهــذه التجربــة مــن جهــة؛ واملناهــض‬ ‫لهــا مــن جهــة أخــرى‪ .‬لكــن علــى الرغــم مــن‬ ‫هــذا التضــارب يف املواقــف واآلراء‪ ،‬فــإن هــذا‬ ‫املصطلــح أصبــح أكثــر انتشــارا يف النقــد‬ ‫املغربــي املعاصــر‪ .‬خاصــة مــع بــروز قصيــدة‬ ‫النثــر يف األدب العربــي عامــة‪ .‬وارتبــاط هــذا‬ ‫النقد باآلداب األوربية بشــكل عام والفرنســية‬

‫إن النقــاش الــذي أثارتــه قصيــدة النثــر‪،‬‬ ‫يف النقــد األدبــي العربــي عامــة واملغربــي علــى‬ ‫وجــه اخلصــوص‪ ،‬يثيــر العديــد مــن القضايــا‬ ‫واإلشــكاالت املرتبطــة باألســاس الوجــودي‪/‬‬ ‫املعــريف لهــذه القصيــدة‪ .‬ممــا كشــف عــن‬ ‫موقفــن متباينــن‪ .‬جتلــى املوقــف األ ّول‬ ‫يف القبــول املطلــق لهــذه القصيــدة‪ .‬ارتبــط‬ ‫باألوفيــاء مــن الشــعراء والدارســن الذيــن‬ ‫يؤمنــون بقيــم التجريــب ومــا يالزمــه مــن‬ ‫حتــوالت يف التجربــة الشــعرية‪ .‬أمــا املوقــف‬ ‫الثانــي‪ ،‬فيتميــز برفــض تــام‪ .‬ينحــدر مــن‬ ‫نــوع مــن األصوليــة الثقافيــة التــي ال متلــك‬ ‫(يف النظــر األخيريــن) رؤيــة نقديــة بإمكانهــا‬ ‫االســتجابة جملمــل التبــدالت التــي مســت‬ ‫أشــكال اإلدراك ومقــوالت التفكيــر يف العالــم‬ ‫ككل‪ .‬هــذا باإلضافــة إلــى مــا ميكــن نعتــه‬ ‫بـ»املوقــف الوســطي» لنقــاد لهــم حضــور بــارز‬ ‫يف خريطــة النقــد املغربــي‪ .‬إنــه موقــف كثيــرا‬ ‫ّ‬ ‫يتكشــف عنــه‪ ،‬وعلــى مســتوى األذهــان ال‬ ‫مــا‬ ‫األســماع إذا جــازت عبــارة الفقهــاء واملناطقــة‪،‬‬ ‫نــوع مــن التحيــز لغيــر هــذه القصيــدة‪.‬‬ ‫انطالقــا مــن هــذا ال ّتص ـ ّور‪ ،‬ســنتناول يف‬ ‫التجربــة النقديــة الشــعرية املغربيــة‪ ،‬ثــاث‬ ‫منــاذج نقديــة‪ :‬رشــيد يحيــاوي‪ ،‬صــاح‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫لقــد ظهــرت هــذه الرغبــة اجلامحــة يف‬ ‫الهــدم والتأســيس عنــد بودليــر الــذي أضفــى‬ ‫علــى قصيــدة النثــر خصوصيــات‪ .‬ســتصبح‬ ‫حســب رشــيد يحيــاوي أكثــر شــيوعا واســتقرارا‬ ‫وخاصــة بتنبيــه ملبــدأ «التقطــع» أو «االنقطــاع››‬ ‫باعتبــاره مــن التصــورات املعتمــدة كذلــك‬ ‫مــن قبــل معجــم اللغــة الفرنســية أساســا‬ ‫لتمييــز قصيــدة النثــر(‪ .)2‬حيــث ارتبــط هــذا‬ ‫املبــدأ مبصطلحــات مثــل‪ :‬القصــد واإليجــاز‬ ‫والوحــدة‪ .‬إنهــا املقــوالت التــي طورتهــا ســوزان‬ ‫فيمــا بعــد‪.‬‬ ‫إذا كان املوقــف النقــدي املعاصــر مــن‬ ‫ثنائيــة الشــعر والنثــر يف البــاد املغربيــة ال‬ ‫يختلــف عــن املوقــف املتــداول يف املشــرق‪،‬‬ ‫ويلتقــي معــه يف تعيــن احلــدود ومواضــع‬ ‫االتصــال واالنفصــال بــن النوعــن األدبيــن‬ ‫داخــل النــص وخارجــه؛ فــإنّ هــذا املوقــف درس‬ ‫انبثــاق الشــعرية مــن النثــر بعــد أن حت ـ ّول‬ ‫كثيــر مــن الشــعراء عــن األشــكال الكالســيكية‪،‬‬ ‫إلــى أشــكال حداثيــة مختلفــة‪ .‬إال أن مرحلــة‬ ‫التجريــب والتحديــث يف منتصــف العقــد‬ ‫الســابع‪ ،‬وحتــى نهايــة العقــد الثامــن مــن‬ ‫القــرن املاضــي؛ كانــت ســببا يف اجتيــاز املســافة‬ ‫بــن الشــعري والنثــري‪ .‬ممــا ســاهم معــه علــى‬ ‫ظهــور قصيــدة النثــر ومــا يف حكمهــا مــن أنــواع‬ ‫وألــوان نثريــة أخــرى يف العالــم العربــي عامــة‬ ‫ويف املغــرب علــى وجــه اخلصــوص‪ .‬حيــث‬ ‫اجتــه العديــد مــن الباحثــن إلــى محاولــة‬ ‫وضــع تعريــف ملصطلــح القصيــدة يف قصيــدة‬ ‫النثــر مــن خــال تقاطعهــا أو تباعدهــا عــن‬ ‫القصيــدة يف األعمــال األخــرى‪ .‬كمــا م ّيــزت‬ ‫أيضــا بــن القصيــدة يف قصيــدة النثــر احملــددة‬ ‫واملدققــة‪ .‬لهــذا‪ ،‬فمنــذ أن اجتلــب مصطلــح‬

‫بشــكل خــاص‪ .‬حيــث موطــن الــوالدة احلقيقــة‬ ‫لهــا‪ ،‬حســب ســوزان برنــار يف كتابهــا (قصيــدة‬ ‫النثــر مــن شــارل بودليــر إلــى يومنــا هــذا)‪.‬‬ ‫حيــث ذهبــت إلــى أن قصيــدة النثــر احتاجــت‬ ‫إلــى تهيئــة مســبقة وقــام النثــر الشــعري بهــذا‬ ‫الــدور‪ ،‬باعتبــاره أ ّول طابــع للتمــرد علــى‬ ‫القوانــن القائمــة والطغيــان الشــكلي(‪.)3‬‬


‫‪40‬‬ ‫بوســريف‪ ،‬جنيــب العــويف‪.‬‬ ‫‪ .1‬رشيد يحياوي والضرورة الفنية‬ ‫للقصيدة‬

‫ركــز الباحــث رشــيد يحيــاوي يف نقــده‬ ‫لقصيــدة النثــر علــى ضــرورة فنيــة لتفســير‬ ‫الشــعرية يف النثــر‪ ،‬وبيــان مالمحهــا يف‬ ‫النصــوص املنجــزة لتقييــم القصيــدة اجلديــدة‬ ‫املنبثقــة عــن النثــر‪ .‬كمــا أكــد علــى أهميــة‬ ‫اإليقــاع يف كل تغييــر يطــرأ علــى البنــاء‬ ‫الشــعري‪ .‬يقــول يف هــذا الصــدد‪( :‬الــوزن‬ ‫والقافيــة حتديــدا كانــت وال زالــت ســبب‬ ‫اخلصومــة‪ ،‬رغــم الهــوة اآلخــذة يف التضاعــف‬ ‫بــن فقرهــا الداللــي وهيمنــة بعدهــا الصوتــي‬ ‫نتيجــة حركــة كونيــة مغايــرة ال حتكــم إيقــاع‬ ‫النــص وحســب بــل وإيقــاع اإلنســان أيضــا)‬ ‫(‪ .)4‬ينبثــق هــذا التصــور النقــدي عــن ممارســة‬ ‫نقديــة متأخــرة‪ .‬يتصــادم مــع رؤيــة الناقــد‬ ‫مشــري بــن خليفــة (الــذي يتــراءى موقفــه‬ ‫فيهــا بقولــه‪( :‬إنّ خلـ ّو قصيــدة النثــر مــن الــوزن‬ ‫ال يخرجهــا مــن مجــال الشــعر إذا افتقــدت‬ ‫لهــذا العنصــر)(‪.)5‬‬ ‫‪ .2‬صالح بوسريف‪ ،‬وغواية التحول‬ ‫الشعري‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫شــكلت قصيــدة النثــر‪ ،‬يف نظــر الشــاعر‬ ‫والناقــد صــاح بوســريف‪ ،‬منعطفــا جديــدا‬ ‫يف الكتابــة الشــعرية الراهنــة‪ .‬و ّلــدت إحساســا‬ ‫كبيــرا لــدى القــارئ العربــي‪ .‬وذلــك مــن‬ ‫خــال جماليــة كالم يتموقــع بــن الشــعر‬ ‫والنثــر‪ ،‬جيئــة وذهابــا؛ تواصــا وتفاصــا‪.‬‬ ‫لهــذا‪ ،‬فــإن الشــاعر يف هــذا الوضــع‪ ،‬أصبــح‬ ‫ال يــكاد ينــام علــى لغــة أو شــكل محدديــن‬ ‫أمــام هــذا املنحنــى الصعــب‪ .‬يقــول صــاح‬ ‫بوســريف‪( :‬تبــدو حــدود اخلطــر واضحــة‪،‬‬ ‫ألنّ حتويــل النثــر إلــى شــعر‪ ،‬هــو غوايــة‪،‬‬ ‫منعطفاتهــا خطــرة‪ .‬وهــو غوايــة أيضــا‪ ،‬ألنّ‬ ‫كاتــب الشــعر نثــرا قــد ال ينتبــه المتصــاص‬ ‫النثــر للشــعر‪ ،‬فيصبــح بذلــك النثــر هــو حـ ّـد‬ ‫الشــعر‪ ،‬ومنتهــاه وقــد فطــن إلــى هــذا األمــر‬ ‫مبكــرا‪ ،‬أحـ ُـد مؤسســي قصيــدة النثــر يف‬ ‫الوطــن العربــي‪ ،‬هــو الشــاعر اللبنانــي أنســي‬ ‫احلــاج‪ ،‬إذ أشــار يف مقدمــة ديوانــه «لــن»‪ ،‬إلــى‬ ‫أن قصيــدة النثــر‪ ،‬تتأســس علــى رؤيــة صــادرة‬ ‫عــن جتربــة عميقــة‪ ،‬ومرتهنــة بثالثــة شــروط‬ ‫هــي‪ :‬اإليجــاز‪ ،‬والتوهــج واجملانيــة‪ ،‬وإال فقــدت‬ ‫جماليتهــا‪ .‬إن قصيــدة النثــر‪ ،‬عنــد أنســي‬ ‫احلــاج‪ ،‬هــي أكثــر مــن قصيــدة الــوزن حاجــة‬ ‫تعرضــت للرجــوع إلــى‬ ‫إلــى التماســك‪ ،‬وإال ّ‬ ‫مصدرهــا النثــر‪ ،‬والدخــول يف أبوابــه مــن‬ ‫مقالــة وقصــة وروايــة وخاطــرة)(‪ .)6‬وصــاح‬ ‫بوســريف‪ ،‬حــن راهــن‪ ،‬يف بدايتــه‪ ،‬علــى‬ ‫قصيــدة النثــر‪ ،‬كاختيــار جمالــي صعــب‪ ،‬فألنه‬

‫صالح بوسريف‬ ‫رأى فيهــا انســيابا (يحتــاج إلــى يــد ماكــرة‬ ‫حلصــره‪ ،‬للحفــاظ علــى شــعرية النــص‪ .‬وهــي‬ ‫اليــد التــي تقصــد يف كالمهــا‪ ،‬كمــا تقصــد‬ ‫يف انســيابية هــذا الــكالم‪ ،‬وال تتركــه يتشــتت‬ ‫يف اجتاهــات منعطفاتهــا غيــر محســوبة‬ ‫علــى النــص الشــعري املــزدان بانشــراحه‬ ‫اليــوم)(‪ .)7‬أمــا حــن لــم يعــد الناقــد صــاح‬ ‫بوســريف مشــغوال ســوى بالكتابــة باعتبارهــا‬ ‫شــرطا حضاريــا علــى حــد تعبيــر الشــاعر‬ ‫نفســه‪ ،‬والكتابــة هــي وعــي بالصفحــة‪،‬‬ ‫ووعــي بحركــة الكــر والفــر‪ ،‬فلــم يعــد صــاح‬ ‫بوســريف البتــة‪ ،‬معنيــا مبفهــوم «قصيــدة‬ ‫النثــر»‪ ،‬علــى أســاس أنهــا مفهــوم لــم يجــاوز‪،‬‬ ‫مــن حيــث التســمية علــى األقــل‪ ،‬كليشــيهات‬ ‫«القصيــدة»‪ .‬القصيــدة باعتبارهــا ممارســة‬ ‫شــعرية منحــدرة مــن املاضــي‪ ،‬وقــد اختزلــت‬ ‫الشــعر كلــه‪ ،‬يف أفــق مغلــق‪ .‬أفــق ال ينظــر إال‬ ‫إلــى نفســه‪ ،‬وال يلتفــت إلــى األفــق املغايــر‪.‬‬ ‫بهــذا‪ ،‬ظــل الناقــد صــاح بوســريف طيلــة‬ ‫مســاره الكتابــي‪ ،‬شــغوفا بالشــعر‪ ،‬ومشــغوال‬ ‫مبقترحاتــه ال غيــر‪ .‬وملــا كانــت قصيــدة النثــر‪،‬‬ ‫مبــا تتيحــه مــن انشــراح وانفتــاح علــى أفــق‬ ‫مغايــر‪ ،‬أي مبــا هــي مقتــرح شــعري جديــد‪،‬‬ ‫مــن ضمــن مقترحــات أخــرى‪ ،‬فإ ّنــه لــم يتــوانَ‬ ‫البتــة يف الدفــاع عنهــا‪ ،‬بالهمــز واللمــز تــارة‪،‬‬ ‫وباإلفصــاح والتشــريح تــارة أخــرى‪ .‬لكــن دفــاع‬ ‫صــاح بوســريف عــن قصيــدة النثــر‪ ،‬كان مــن‬ ‫حيــث املبــدأ فقــط‪ .‬مبعنــى كونهــا اختيــارا‬ ‫شــعريا جديــدا‪ ،‬وأفقــا مغايــرا يف أرض الشــعر‬ ‫اجملهولــة ليــس إال‪ .‬إال أنــه يؤكــد مــن جهــة‬ ‫أخــرى علــى وجــود كثيــر مــن الشــعراء (يف‬ ‫نظــره) ممــن يستســهلون قصيــدة النثــر‪.‬‬ ‫وثمــة‪ ،‬باملقابــل‪ ،‬الكثيــر مــن عســس الشــعرية‬ ‫املعياريــة ممــن ينظــرون إليهــا‪ ،‬علــى أنهــا‬ ‫بــا قدمــن‪ ،‬أو ناقصــة فنيــا‪ ،‬جملــرد ُكفرهــا‬

‫بالــوزن العروضــي اخلليلــي باعتبــاره محــددا‬ ‫للشــعرية‪ .‬وبــن هــذا وذاك‪ ،‬تكمــن محنــة‬ ‫قصيــدة النثــر حســب صــاح بوســريف‪ .‬لهــذا‪،‬‬ ‫فإنــه مــا لبــث ينظــر إلــى «قصيــدة النثــر»‪ ،‬على‬ ‫أنهــا مقتــرح شــعري منــح الكتابــة فرصتهــا‬ ‫الذهبيــة‪ ،‬وأنهــا ليســت يســيرة املنــال‪ ،‬أو‬ ‫متاحــة ألي كان‪ ،‬كمــا يتوهــم البعــض‪ .‬ألن‬ ‫الكتابــة‪ ،‬أوال وأخيــرا‪ ،‬حرقــة ومســؤولية‪،‬‬ ‫وليســت نــزوة طارئــة‪ .‬بحيــث لــم يعــد النــص‬ ‫الشــعري املــزدان بانشــراحه اليــوم‪ ،‬مشــغوال‬ ‫ســوى بالكتابــة‪ ،‬كشــرط حضــاري‪ ،‬علــى‬ ‫ِّ‬ ‫ليؤكــد أنّ الكتابــة هــي وعــي‬ ‫حـ ّـد تعبيــره‪.‬‬ ‫بالصفحــة‪ ..‬وعــي بحركــة الكــر والفــر‪ ..‬ووعــي‬ ‫بحــرب بــاردة بــن الســواد والبيــاض‪ ..‬بــن‬ ‫الصمــت والــكالم‪ .‬وبذلــك يكــون الشــعر قــد‬ ‫حـ ّـرر مجالــه‪ ،‬ووعــى جيــدا شــعريته‪ ،‬وأصبــح‬ ‫أكثــر عمقــا ممــا كانــت عليــه القصيــدة‪ .‬حتــى‬ ‫ذلــك الفصــل العجيــب‪ ،‬بــن لغــة للنثــر‪ ،‬ولغــة‬ ‫للشــعر‪ ،‬لــم يعــد قائمــا بهــذه البســاطة‪ .‬لغــة‬ ‫واحــدة‪ ،‬يــد الشــاعر تعمــل علــى تذويبهــا‬ ‫يف ســياق شــعري‪ .‬دوال كثيــرة تناهــز مــاءه‪،‬‬ ‫وحتيــل النــص إلــى احتفــال شــعري‪ ،‬ال حـ ّـد‬ ‫الحتماالتــه‪ .‬ليســت الكتابــة تســلية‪ .‬لذلــك‬ ‫فهــي دائمــا‪ ،‬يف حاجــة إلــى يــد محمومــة‪.‬‬ ‫يــد ت ـ ـ ــدفع الشــعر إلــى مضايقــه بتعبيــر أبــي‬ ‫نــواس‪ .‬أليــس هــو القائـ ـ ــل‪( :‬يعــرف الشــعر‬ ‫مــن دفــع إلــى مضايقــه)‪ .‬اليــد احملمومــة‪،‬‬ ‫يـ ٌـد مرتعشــة‪ ..‬يـ ٌـد تخــط كلماتهــا‪ ،‬مســتجيبة‬ ‫حلفــاوة النــداء‪ ،‬للجســد امللقــى يف تخــوم‬ ‫ا شــتعاله(‪.)8‬‬ ‫يتمثــل رأي الشــاعر والناقــد صــاح‬ ‫بوســريف الــذي تعمــق يف دراســته للقصيــدة‬ ‫النثريــة وإشــكاالتها‪ ،‬يف ضــوء تضــارب اآلراء‬ ‫حولهــا يف كل بيئــة أدبيــة (فليــس ثمــة وزن‬ ‫ونثــر وهنــاك إذن شــعر فقــط)(‪ .)9‬مبعنــى‪ ،‬أن‬ ‫القــول يتضــح مــن خــال وصفــه للممارســة‬ ‫اإلبداعيــة‪ .‬حيــث إنّ هنــاك كثــرة لــم تــدرك‬ ‫خطــر غوايــة النثــر للشــعر‪ ،‬أو امتصــاص‬ ‫النثــر للشــعر‪ .‬كمــا يعيــب علــى أهــم الشــعراء‬ ‫الداعــن إليهــا بأنهــم قــراء جيــدون للروايــة‪،‬‬ ‫وقــراء مــن الدرجــة الصفــر للشــعر‪ .‬وهــذا‬ ‫ـأت مــن دراســته النقديــة الطويلــة‬ ‫الــرأي ُمتـ ٍ‬ ‫للمنجــز املغربــي علــى غــرار ممارســته‬ ‫لكتابــات إبداعيــة أخــرى للمشــرق العربــي‬ ‫رغــم هــذا يــرى أنهــا نتيجــة محتملــة لفعــل‬ ‫التجريــب ومواجهــة القــدمي‪ .‬يقــول‪( :‬إننــي‬ ‫لســت ضــد قصيــدة النثــر‪ ،‬كمــا ال ميكننــي‬ ‫أن أعتبــر قصيــدة النثــر هــي املــآل الــذي بــه‬ ‫يجــب أن نحتمــي بــه كــي نكــون حداثيــن أو‬ ‫مــا بعــد احلداثيــن (‪ .)10‬ممــا يعنــي أنــه‬ ‫يرفــض صــدارة هــذا الشــكل األدبــي يف مجــال‬


‫‪41‬‬

‫‪ .3‬نجيب العوفي‪ ،‬وازدواجية الرؤيا‬ ‫الشعرية‬

‫يجمــل الناقــد املغربــي جنيــب العــويف‬ ‫موقفــه يف غيــاب الشــعر والرســالة الشــعرية‬ ‫مــن الكتابــة الشــعرية الثمانينيــة‪ -‬التســعينية‬ ‫(علــى حــد تعبيــره)‪ .‬علــى الرغــم مــن أنــه ليــس‬ ‫مــن الســهل أن يقنــع خطــاب كهــذا الشــعراء‬ ‫املعنيــن وأن يتقبلــوه‪ .‬فالناقــد يتحـ ّـدث مــن‬ ‫خــارج دائــرة احلساســية التــي تشــبع بهــا‬

‫نجيب العوفي‬ ‫شــعراء قصيــدة النثــر خاصــة‪ .‬كمــا يفهــم‬ ‫تع ّلــق الشــعر بالتــراث فهمــا كميــا‪ .‬يقــدر‬ ‫عــدد التضمينــات واالقتباســات واملفــردات‬ ‫والعبــارات التــي حتيــل إحالــة مباشــرة علــى‬ ‫التــراث وهــذه حــاالت ال نعدمهــا يف قصيــدة‬ ‫النثــر‪ .‬لكــن جنيــب العــويف ال يفضــل الظهــور‬ ‫باعتبــاره رافضــا لقصيــدة النثــر بدليــل قولــه‪:‬‬ ‫(هــذا ال يعنــي بالضــرورة موقفــا مضــادا أو‬ ‫متوجســا مــن قصيــدة النثــر‪ ،‬فاإلبــداع حريــة‬ ‫ّ‬ ‫وجتــاوز بقــدر مــا يعنــي حرصــا علــى شــعرية‬ ‫الشــعر أينمــا ح ّلــت وارحتلــت‪ ،‬فهــو ليــس‬ ‫ضدهــا إذا ح ّلــت فيهــا تلــك الشــعرية املرحتلــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمــا إذا أغلقــت مدارهــا يف وجههــا فــا يبقــى‬ ‫للناقــد ســوى إعــان موقــف التحفــظ علــى‬ ‫حــد مــا نســجله يف صريــح عبارتــه حــن حتــدث‬ ‫التح ـ ّول عــن اجلملــة الشــعرية إلــى اجلملــة‬ ‫النثريــة‪ .‬إنــه حت ـ ّول يطــرح حتفظــا مشــروعا‬ ‫بصــدد مصيــر القصيــدة املغربيــة)(‪ .)12‬لهــذا‪،‬‬ ‫ال يــرى جنيــب العــويف يف قصيــدة النثــر‪ ،‬ســوى‬ ‫عالــم مختنــق وســوداوية مقــززة وتهافــت يف‬ ‫ـدن‬ ‫التركيــب والــدالالت وغمــوض يف الرؤيــة وتـ ٍ‬ ‫يف فصاحــة اللغــة‪ ،‬وكلهــا مالمــح يســكت عنهــا‬ ‫الناقــد إذا حلقــت شــعر التفعيلــة‪ .‬وال يجــب‬ ‫زج قصيــدة النثــر يف تلــك املالمــح وتعكيــر أفــق‬ ‫تلقيهــا وحتميلهــا وحدهــا مســؤولية أزمــة‬ ‫الشــعر احلديــث‪ .‬أمــا جنيــب العــويف‪ ،‬فيــرى أن‬ ‫مصطلــح «قصيــدة النثــر» هــو األنســب لهــذه‬ ‫الظاهــرة الشــعرية‪ ،‬فهــو يجمــع يف صيغتــه‬ ‫اإلضافية (قصيدة النثر) بني أهم خاصيتني‬ ‫لهــذه الظاهــرة‪ ،‬اخلاصيــة األولــى أنهــا ضــرب‬ ‫مــن الشــعر (قصيــدة)‪ ،‬والثانيــة أنهــا مصبوغــة‬ ‫بلغــة شــعرية متحــررة يف اآلن نفســه (نثــر)‪،‬‬ ‫ومــا دامــت قصيــدة النثــر جامعــة بــن (وهــج‬ ‫الشــعر وســيولة النثــر فــإن تســميتها املتداولــة‬ ‫تبقــى األدل عليهــا واألنســب لهــا)(‪.)13‬‬

‫اإلحاالت‪:‬‬

‫(‪ )1‬برنار(ســوزان) قصيــدة النثــر‪ ،‬ترجمــة‪ :‬زهيــر‬ ‫مجيــد مغامــس‪ ،‬ط‪ ،2‬مؤسســة األهــرام للنشــر‪،‬‬ ‫القاهــرة‪ ،1999 ،‬ص‪.52 :‬‬ ‫(‪ )2‬يحيــاوي (رشــيد) الشــعري والنثــري‪ ،‬ط‪ ،1‬دار‬ ‫األمــان‪ ،‬الرباط‪/‬املغــرب‪ ،2001 ،‬ص‪.76 :‬‬ ‫(‪Bernard (Suzanne) Le poème en prose, )3‬‬ ‫�‪de Baudelaire jusqu’à nos jours, nizet, Par‬‬ ‫‪ )is, 1958, P : 121. (4‬يحيــاوي (رشــيد) الشــعري‬ ‫والنثــري (املرجــع نفســه)‪ ،‬ص‪.110 :‬‬ ‫(‪ )5‬بنيــس (محمــد) حداثــة الســؤال‪ ،‬ط‪ ،1‬املركــز‬ ‫الثقــايف العربــي‪ ،‬الــدار البيضــاء‪ ،1985 ،‬ص‪.28 :‬‬ ‫(‪ )6‬بوســريف (صــاح) حداثــة الكتابــة يف الشــعر‬ ‫العربــي املعاصــر‪ ،‬ط‪ ،1‬إفريقيــا الشــرق‪ ،‬الــدار البيضــاء‪،‬‬ ‫‪ ،2012‬ص‪.87 :‬‬ ‫(‪ )7‬بوســريف (صــاح) حداثــة الكتابــة يف الشــعر‬ ‫العربــي املعاصر(املرجــع نفســه)‪ ،‬ص‪.112 :‬‬ ‫(‪ )8‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.123 :‬‬ ‫(‪ )9‬نفسه‪ ،‬ص‪.132 :‬‬ ‫(‪ )10‬نفسه‪ ،‬ص‪.143 :‬‬ ‫(‪ )11‬نفسه‪ ،‬ص‪.152 :‬‬ ‫(‪ )12‬العــويف (جنيــب)‪ ،‬ظواهــر نصيــة‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫منشــورات عيــون املقــاالت‪ ،‬الــدار البيضــاء‪ ،1992 ،‬ص‪:‬‬ ‫‪.4 3‬‬ ‫(‪ )13‬العــويف (جنيــب)‪ ،‬ظواهــر نصيــة (مرجــع‬ ‫ســابق)‪ ،‬ص‪.53 :‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أمــا املؤيــدون لهــا الذيــن يــرون‬ ‫احلداثــة ّ‬ ‫أنهــا القصيــدة العصريــة املتميــزة عــن كل‬ ‫األشــكال األخــرى ولهــا حــق الصــدارة عليهــا‪.‬‬ ‫يقــول يف هــذا الصــدد‪( :‬إن نقطــة اخلــاف‬ ‫بيننــا وبــن هــؤالء الذيــن يدعــون إلــى‬ ‫قصيــدة النثــر‪ ،‬ويروجــون لهــا دون غيرهــا‪،‬‬ ‫هــو أنهــم يف دعوتهــم هــذه يقصــون باقــي‬ ‫األشــكال الشــعرية ويســعون جاهديــن حملــو‬ ‫أثرهــا يف مقابــل الترويــج لقصيــدة واحــدة‬ ‫هــي القصيــدة النثريــة)(‪ .)11‬لقــد تب ّنــى‬ ‫الــرأي نفســه الناقــد عزيــز احلســن باعتبــاره‬ ‫معارضــا للقصيــدة اجلديــدة بحجة أنّه يجب‬ ‫لفــت النظــر إلــى أنّ القصيــدة النثريــة زمنيــا‬ ‫لــم تســتطع فــرض نفســها إال بعــد قصيــدة‬ ‫التفعيلــة بكثيــر‪ .‬لكونهــا حســب تصـ ُّـو ِره ال‬ ‫متلــك أثــرا كبيــرا علــى مســتوى التجربــة‬ ‫اإلبداعيــة فضــا علــى أنهــا ا ّتســمت بالتعقيــد‬ ‫تعســر فهمهــا فامتنــع‬ ‫وااللتبــاس حتــى‬ ‫ّ‬ ‫تأثيرهــا يف املتلقــي والقــارئ‪ .‬حيــث يقــول‪:‬‬ ‫يدعــون‬ ‫(إذا كان أنصــار القصيــدة النثريــة ّ‬ ‫أنهــم يف حاجــة إلــى اإليقــاع والقافيــة‪ ،‬فــا‬ ‫ميكنهــم اال ّدعــاء أ ّنهــم يســتطيعون حتقيــق‬ ‫الشــعر باختبــار بســيط ملوضــوع أو فكــرة‪،‬‬ ‫فتحليــل نتائجهــم يــدلّ علــى أ ّنهــم يف الواقــع‬ ‫يتصرفــون يف األلفــاظ واختيارهــا وترتيبهــا‪.‬‬ ‫ومــن ثــم يف مدلوالتهــا وهــو أمــر جعــل‬ ‫بعضهــم يشــيرون إلــى القصيــدة عمومــا علــى‬ ‫أنهــا عالمــة معقــدة لهــا قوانينهــا اخلاصــة)‪.‬‬ ‫تعــد قصيــدة النثــر يف رأي الناقــد املغربــي‬ ‫عزيــز احلســن‪ ،‬مــن األشــكال املنجــزة بفعــل‬ ‫التجريــب والتحـ ّـول املتأخــر للبنيــة القدميــة‬ ‫يف العقــود األخيــرة مــن القــرن املاضــي‪ .‬فهــي‬ ‫تبــدو كمرحلــة متطــورة لقصيــدة التفعيلــة‬ ‫انطالقــا مــن فكــرة كــون هــذا األخيــر مــن‬ ‫جهتهــا تعــد جتــاوزا للقصيــدة املتشــبثة‬ ‫بقواعــد اخلليــل‪ .‬ممــا يؤكــد إجمــاع أغلــب‬ ‫النقــاد علــى اســتمرار التجريــب يف مجــال‬ ‫الشــعر املغربي‪ .‬ذلك أنّ قصيدة النثر‪ ،‬ليســت‬ ‫الشــكل النهائــي‪ .‬نظــرا لوجــود أشــكال أخــرى‬ ‫أجنزهــا املبدعــون‪ .‬ومــا زال مســعى البعــض‬ ‫منهــم نحــو التجديــد مســتمرا عبــر الزمــن‬ ‫وإمكانــات التجربــة اإلبداعيــة احلديثــة‪.‬‬

‫تركيب واستنتاج‬

‫ي ّتضــح لنــا بعــد اســتعراض هــذه اآلراء‬ ‫النقديــة املغربيــة أنّ قصيــدة النثــر لــم تنجــح‬ ‫يف تثبيــت اال ّتصــال بــن الشــعر والنثــر فهــي‬ ‫محاولــة مــن محــاوالت التجديــد األخيــرة يف‬ ‫ساحة الشعر احلديث وشكل من أشكال الشعر‬ ‫املؤلــف مــن النثــر‪ ،‬وبنيتــه الفنيــة اخلاصــة لكــن‬ ‫هــذه القصيــدة لــم تصــل إلــى املســتوى املطلــوب‬ ‫مــن الذيــوع والتلقــي واالنتشــار‪.‬‬ ‫تعـ ّـددت مواقــف وأراء النقــد املغربــي احلديــث‬ ‫مــن قصيــدة النثــر‪ ،‬حيــث إنــه لــم يناصرهــا‬ ‫متامــا ولــم يعارضهــا كليــا‪ .‬بقــدر مــا ســعى‬ ‫إلــى أن يؤكــد علــى كونهــا جنســا هجينــا بــن‬ ‫الشــعر والنثــر‪ .‬هنــاك مــن يوافــق علــى هــذه‬ ‫القصيــدة وهنــاك مــن يعارضهــا لكــن يف األخيــر‬ ‫ال يوجــد جــواب نهائــي لألســئلة النقديــة‪.‬‬ ‫أل ّنهــا تظــلّ ضمــن جــدال ونقــاش دائــم‪ ،‬وهــذا‬ ‫هــو واقــع النقــد العربــي املعاصــر أل ّنــه يعتمــد‬ ‫علــى املفاهيــم الغربيــة‪ .‬وإذا جتاوزنــا اجلــدل‬ ‫احلــاد‪ ،‬فــإنّ املصطلــح ال يعــزى إلــى مجــرد‬ ‫اختــاف يف األذواق النقديــة لكنــه نابــع‪ ،‬يف‬ ‫رأينــا‪ ،‬مــن االختــاف احلــاد يف املواقــف الفكريــة‬ ‫واملرجعيــات الثقافيــة التــي يســتند إليهــا النقــاد‬ ‫واألدبــاء‪ .‬بيــد أن األمــر الــذي ننبــه إليــه هــو أن‬ ‫مصطلــح قصيــدة النثــر قــد صــار مصطلحــا‬ ‫متمكنــا يف الســاحة األدبيــة‪ ،‬بغــض النظــر عــن‬ ‫صوابيتــه وعدمهــا‪.‬‬


‫‪42‬‬

‫ال ّل ْو َم َعة!‬

‫نقش‬ ‫كافيه‬ ‫طه العزعزي‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫طبعـا قلّـة قليلـة ممـن لـم ترقهـم بعـد ُمـزح املداحين‪ ،‬وال تعجبهـم‬ ‫مـن ِمنّـا ال تروقـه أوصـاف املـدح!‪ً ،‬‬ ‫كلمـات اإلطـراء‪ ،‬ثـم ال ينتفخـون مـن غـزارة الاليـكات إذا سـقطت علـى منشـوراتهم الفيسـبوكية! مـن منـا‬ ‫ال يتصالـح مـع ذوات وأوصـاف ونصـوص وسـرديات مادحيـه! بلا شـك قلـة قليلـة هـم كذلـك‪ ،‬أمـا األكثريـة‬ ‫لمعني‪ ،‬يف اإلنسان ذات منجذبة ومثيرة تتشبع‬ ‫فهم أكثر اجنذا ًبا إلى لغة املدح‪ ،‬وأكثر قر ًبا من ناسها ا ُمل ِّ‬ ‫أناتهـا وتتألـق بلغـة اإلطـراء‪ ،‬ومبـن سـيكتب عنهـا‪ ،‬أو مبـن سـيكتبها‪ ،‬هـذه حقيقـة‪ ،‬يلخصهـا ابـن اخليـاط‬ ‫ً‬ ‫قائلا‪:‬‬ ‫يف ب ٍيـت شـعري‬ ‫يهوى الثناء مبرز ومقصر حب الثناء طبيعة اإلنسان‪.‬‬ ‫مـا ميكـن لنـا انتقـاده‪ ،‬هنـا‪ ،‬وقبـل كل شـيء‪ ،‬هـي لغـة املثقـف أو الكاتـب التـي ميكـن لنـا مـن خاللهـا أن‬ ‫نتعـرف ولـو علـى جـزء بسـيط مـن شـخصيته هـو‪ ،‬علـى األقـل‪ ،‬هـي لغـة تكشـف لنـا مـن هـو املثقـف؟ أي‬ ‫ـكل أو بآخـر ‪ -‬قـد حتافـظ علـى سـمعة املثقـف‪ ،‬أو حتـط منهـا‪ ،‬قـد‬ ‫تقـوم بتعريفـه‪ ،‬وهـي حلظـة فـرز ‪ -‬بش ٍ‬ ‫حتفـظ لـه مكانتـه‪ ،‬أو تزحزحهـا‪ ،‬تعطيـه حقـه‪ ،‬أو تغبطـه‪ .‬وككتابـة شـعورية ال ّل ْو َمعـة لغـة أكثـ َر اخصا ًبـا‪،‬‬ ‫أمـا ككتابـة احترازيـة‪ ،‬اللّومعـة علـى غيـر فعلهـا القصـدي تظهـر بقـدر ماهـي انزياحيـة أو مواربـة‪ ،‬وبين‬ ‫ذلـك كلـه تظهـر كتابـات الغـزل واحلـب وهـي كثيـرة ج ًـدا فيهـا مـن اإلغـراق يف املـدح مـا ال ميكـن إيقافـه‬ ‫أو احلـد منـه‪ ،‬كتابـات نابعـة مـن الشـعور البحـت‪ ،‬وإذ هـي كذلـك‪ ،‬فإنهـا ُتقـال وتُنقـل كوسـيط عاطفـي ال‬ ‫منذجـة أو كتابـة يعتـد بهـا مثـل مشـروع لـه أبعـاد فكريـة أو استشـرافات مسـتقبلية‪.‬‬ ‫نقد الذع‪ ،‬وتهمة‬ ‫لطاملا عرفنا أن فالنًا‬ ‫طبعا‪ ،‬وقد صار التوصيف هنا مأخ َذ ٍ‬ ‫ً‬ ‫«مداحا»‪ ،‬يف األمر عيب ً‬ ‫أي مثقـف‬ ‫أيضـا‪ ،‬إنَّ أي مثقـف ثـوري ال ميكـن لـه أن يكـون‬ ‫ال مـرد لهـا ً‬ ‫مادحـا‪ ،‬دعونـا نؤمـن بذلـك أو ًال‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ثـوري ال ميكـن للغت ِـه أن تشـذ أو جت ُبن‪ .‬إن مصطلـح املثقـف الثـوري الـذي يروقنـي هـو نقيـض ملصطلـح‬ ‫لمـع سـلطو ًيا وال يقتـرف لغـة اخلـوف أو ِّ‬ ‫يبطـن تناوالتـه الكتابيـة نتيجـة‬ ‫مثقـف السـلطة‪ ،‬واألول ال ُي ِّ‬ ‫لمـع ماهـر للسـلطة ولوجـوه القتلـة واللصـوص‪ ،‬وبغيتـه يف‬ ‫اخلشـية‪ ،‬أمـا اآلخـر النقيـض فإنـه بلا شـك ُم ِّ‬ ‫ذلـك املـال واملكانـة الوظيفيـة‪ ،‬ولهـذه الفعلـة أضرارهـا‪ ،‬الرائـس منهـا إمسـاك الفعـل اإلبداعـي يف مجالـه‬ ‫العـام‪ ،‬وجعـل املبـدع أشـبه بديكـور‪.‬‬ ‫اليـوم‪ ،‬كيـف ميكـن لنـا أن نعـرف اللوامـع بحقيقتهـم؟! اللوامـع مـن الكتـاب الشـباب‪ ،‬هـذا مـا أقصـده‪،‬‬ ‫أي مـن يسـعون بضجـة ألن يصيـروا مادحين أو ممدوحين أو االثنين يف آن‪ .‬قـد جندهـم يف ظـل هـذا‬ ‫متامـا‪ ،‬الوضـع يختلـف اآلن‪،‬‬ ‫الوضـع الثقـايف غيـر املريـح‪ ،‬ليسـوا علـى مقربـة مـن السـلطة أو يف حضنهـا ً‬ ‫بعـض اللوامـع مـن ُ‬ ‫الكتّـاب الشـباب هـم الوجـه املتكـ ِّرر يف صـور السـيلفي‪ ،‬أغلـب صورهـم مأخـوذة مـع‬ ‫ُ‬ ‫يلمعـون أنفسـهم وينشـدون الشـهرة‪ .‬وهـؤالء مـن مدمنـي‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ث‬ ‫ك‬ ‫ـاء‬ ‫ي‬ ‫وأدع‬ ‫ـيني‬ ‫س‬ ‫سيا‬ ‫مشـاهير وإلـى جانـب‬ ‫ِّ‬ ‫توزيـع واسـتقبال الاليـكات الفيسـبوكية الزرقـاء واحلمـراء‪ ،‬الاليـك األزرق يف نظرهـم متـروك ألنصـاف‬ ‫أمـا األحمـر فللمشـاهير‪ ،‬يوزعونهـا بلا حسـاب‪ ،‬هـم غزليـون بذلـك‪ ،‬وسـلطويون يف يـوم مـن‬ ‫املشـاهير ّ‬ ‫األيـام‪ ،‬ال شـك‪ ،‬منبرهـم ومكانهـم لقـول مدائحهـم املغرضـة واملوجهـة يف الفيسـبوك‪ ،‬وغ ًـدا الصحـف‬ ‫واجمللات وشاشـات التلفـاز‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قـد ال يكتـب الكاتـب لنفسـه إال نـاد ًرا‪ ،‬ويكتـب للجمهـور‪ ،‬أعـرف ذلـك‪ ،‬ولكـن هـل اجلمهـور هـم مـن تغـزو‬ ‫طبعـا‪ ،‬يـكاد احلديـث عـن الراهـن الثقـايف املزدحـم كأضراس الفم له‬ ‫صفحاتهـم وسـائل التواصـل االجتماعـي! ال ً‬ ‫تفرعاتـه اليوميـة‪ ،‬وقـد نفـرد لهـا مقـاالت أخـرى‪ ،‬مـا أري ُـد قولـه مـن عمـق اللحظـة املغايـرة هـذه‪ ،‬يف دوامـة الشـعور‬ ‫إنّ التصفيقـات اجلماهيريـة لـن حتـل محلهـا الاليـكات كأثـر مـا ُيبـرز ويؤكـد فعـل تلقيهـا وكذلـك‬ ‫الهتافـات نفسـها لـن حتـلّ محلهـا التعليقـات‪.‬‬ ‫يف السـابق كان للمثقـف اجلماهيـري دور كبيـر ومثلـه الفيلسـوف كخطـاب تثويـر‪ ،‬ومـع هـذه البلبلـة‬ ‫مقدما خطابه التحريضي وراكنًا دونه األدوار الثورية التي ميكن للمثقف أو الفيلسـوف‬ ‫حل السياسـي‬ ‫ً‬ ‫أن يضطلعا بها‪ ،‬وال تنزل الكارثة عند ذلك فقط‪ ،‬ولنضحك أن أصبح يف النقد األدبي حتى شـيء من‬ ‫التبـادل التلميعـي يتـم حتـت عنوان‬ ‫“ رد اجلميل”‪.‬‬ ‫أخي ًـرا‪ ،‬اللومعـة هـي توليـد فعلـي لظاهـرة مـا ميكـن تسـميته هنـا باملثقـف احملتمـل‪ ،‬وظيفتـه اليـوم‬ ‫أيضـا‬ ‫لومعـة أي شـيء يـؤدي يف األول إلـى لومعتـه هـو‪ ،‬فاللومعـة باختصـار لغـة متنقلـة موجهـة وهـي ً‬ ‫ارتداديـة‪ ،‬مـن وإلـى‪ ،‬إلـى‪.‬‬


‫نقوش متنوعة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫الوعي المديني في‬ ‫شعرية أمل دنقل‪:‬‬ ‫من المعادل‬ ‫الموضوعي إلى‬ ‫األبعاد الوجودية‬ ‫د‪ .‬نصرية عالك‬

‫هل تحتاج‬ ‫النسوية أن‬ ‫تكون إسالمية؟‬ ‫د‪ .‬نادية هناوي‬

‫عيد األضحى‬ ‫في فلسطين‬ ‫د‪ .‬ماهر كيوان‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫‪44‬‬

‫قامة‬

‫المديني في ِشعرية َأمل ُدنقَ ل‬ ‫الو ُ‬ ‫َ‬ ‫عي َ‬

‫الم ُ‬ ‫الوجودية‬ ‫وضوعي إلى‬ ‫األبعاد ُ‬ ‫َ‬ ‫ِمن ُ‬ ‫المعادل َ‬ ‫نشأ االهتمام بالمكان‬ ‫الفني نتيجة لظهور بعض‬ ‫األفكار والتصورات التي‬ ‫تنظر إلى العمل الفني‬ ‫حدد‬ ‫على أنه مكان تُ َّ‬ ‫معيناً (‪.)1‬‬ ‫أبعاده تحديداً‬ ‫ّ‬ ‫لقد اكتسبت المدينة في‬ ‫األعمال الشعرية ألمل‬ ‫دنقل (‪ 1940‬ـ ‪)1983‬‬ ‫أهمية كبيرة واحتفى‬ ‫مثال‬ ‫بها بشكل واضح بدا‬ ‫ً‬ ‫من خالل تصديره لديوانه‬ ‫«مقتل القمر» (‪)1974‬‬ ‫خصها به‪ ،‬حيث‬ ‫بإهداء ّ‬ ‫نقرأ «إلى االسكندرية ‪...‬‬ ‫عالوة‬ ‫ً‬ ‫(سنوات الصبا)»‬ ‫ضمنه من آيات‬ ‫على ما َّ‬ ‫اإلكبار لهذه المدينة‬ ‫واآلسرة في‬ ‫ِ‬ ‫الملهمة‬ ‫ِ‬ ‫عينيه‪ .‬فأخذت مالمح‬ ‫تتبدى من‬ ‫الوعي المديني ّ‬ ‫زاوية اإلسداء ذاته‪..‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫د‪ .‬نصرية عالك‬


‫قامة‬

‫الوعــي عبــر محطتــن كمــا يســلم بذلــك جابــر‬ ‫عصفــور همــا محطــة القريــة الصغيــرة ومحطــة‬ ‫املدينــة الكبيــرة‪.‬‬ ‫‪ - 1‬استعراض مفهوم «الوعي‬ ‫المديني»‬

‫يعــد جابــر عصفــور مــن النقــاد األوائــل‬ ‫الذيــن تفطنــوا إلــى أهميــة املدينــة يف شــعرية‬ ‫أمــل دنقــل‪ .‬وظهــر ذلــك جليــا يف كتابــه «قصيــدة‬ ‫الرفــض‪ :‬قــراءة يف شــعر أمــل دنقــل» (‪ .)4‬وقــد‬ ‫ســبق لــه أن صــاغ مفهــوم «الوعــي املدينــي»‪،‬‬ ‫لكنــه اكتفــى بتطبيقــه علــى الروايــة‪ ،‬بــل لــه‬ ‫مقــوالت نقديــة تنصـ ّـب يف هــذا املفهــوم بحثهــا‬ ‫يف كتابــن مســتقلني همــا‪ ،‬أوال‪( :‬زمــن الروايــة)‬ ‫(‪ ،)5‬ثانيــا‪( :‬الروايــة واالســتنارة) حيــث ربطــه‬ ‫مبفهــوم آخــر هــو «غوايــة التحديــث» (‪ .)6‬يــرى‬ ‫الناقــد أنّ الوعــي املدينــي ال يتو ّلــد إال يف‬ ‫ِ‬ ‫ســياق ال يخلــو مــن أجهــزة ومؤسســات حتديــث‬ ‫مــادي‪ ،‬فالعالقــة بــن الوعــي احملــدث َمديني ـ ًا‬ ‫وعمليــات التحديــث املــادي عالقــة وثيقــة‪،‬‬ ‫يتبــادل طرفاهــا التأ ّثــر والتأثيــر‪ ،‬ويــؤدي كل‬ ‫واحــد منهمــا إلــى غيــره يف املدينــة التــي جتـ ِّـدد‬ ‫أفكارهــا يف الوقــت الــذي جتـ ّـدد فيــه أســاليب‬ ‫حياتهــا املعنويــة واملاديــة‪ .‬ومهمــا كانــت أجهــزة‬ ‫التحديــث املــادي أو مؤسســاته بســيطة أو‬ ‫ســاذجة‪ ،‬مــن منظــور العصــور الالحقــة‪ ،‬فــإن‬ ‫دور الصدمــة‪ ،‬الــذي تقــوم بــه زمنهــا اخلــاص‪،‬‬ ‫هــو اللحــن االســتهاللي يف تصاعــد الوعــي‬ ‫احملــدث‪ ،‬ذلــك الوعــي الــذي يدعــو إلــى عمليــات‬ ‫التحديــث املــادي كــي يتعمــد بهــا يف رحلــة‬ ‫حضــوره الصاعــد‪ .‬وبالقــدر الــذي يســبق بــه‬ ‫الوعــي احملــدث عمليــات التحديــث املــادي التــي‬ ‫يدعــو إليهــا‪ ،‬يف دعوتــه إلــى االنتقــال مبجتمعــه‬ ‫مــن مســتوى التخلــف إلــى مســتوى التقــدم‪ ،‬فــإن‬

‫هــذا الوعــي يتفاعــل وهــذه العمليــات مبــا يتســع‬ ‫بدوائــر تأثيــره مــن ناحيــة‪ ،‬ويــؤدي إلــى اتســاع‬ ‫مــا يترتــب عليهــا مــن اســتجابات متعارضــة مــن‬ ‫ناحيــة موازيــة‪.‬‬ ‫هــذا التــازم بــن الوعــي احملــدث وعمليــات‬ ‫التحديــث املــادي يجعــل منــه وعيــا مدينيــا‬ ‫يف كل األحــوال‪ ،‬نعنــي وعيــا يبــدأ مــن اآللــة‬ ‫وعالقــات إنتاجهــا‪ ،‬وال يفــارق أنســاقها املعرفيــة‬ ‫أو منظومــات املعلومــات املرتبطــة بهــا (‪ .)7‬نقــل‬ ‫جابــر عصفــور كالمـ ًا لنجيــب محفوظ مؤ ّداه أنّ‬ ‫الشعر ((قد ساد يف عصور الفطرة واألساطير‪،‬‬ ‫أمــا هــذا العصــر؛ عصــر العلــم والصناعــة‬ ‫واحلقائــق‪ ،‬فيحتــاج حتم ـ ًا لفـ ّـن جديــد‪ ،‬يوفــق‬ ‫علــى قــدر الطاقــة بــن شــغف اإلنســان احلديــث‬ ‫باحلقائــق وحنانــه القــدمي إلــى اخليــال‪ .‬وقــد‬ ‫القصــة)) (‪)8‬؛ ثـ ّـم يع ِّلــق‬ ‫وجــد العصـ ُـر بغيتــه يف‬ ‫ّ‬ ‫عصفــور عليــه بقولــه‪(( :‬نشــرت هــذه الكلمــات‬ ‫مج ّلــة «الرســالة» القاهريــة يف إحــدى مقــاالت‬ ‫عددهــا الصــادر يف الثالــث مــن ســبتمبر ‪1945‬‬ ‫مــع انتهــاء احلــرب العامليــة الثانيــة‪ .‬وكان كاتــب‬ ‫هــذه الكلمــات شــابا يف الرابعــة والثالثــن مــن‬ ‫ســني عمــره اســمه جنيــب محفــوظ‪ .‬ولــم ينتبــه‬ ‫الكثيــرون‪ ،‬يف ذلــك الوقــت‪ ،‬إلــى أن املقالــة التــي‬ ‫وردت فيهــا هــذه الكلمــات‪ ،‬اســتأنفت وعي ـ ًا‬ ‫القصــة‪ ،‬وأرهصــت بحركــة الزمــن‬ ‫جديــد ًا بفـ ّـن‬ ‫ّ‬ ‫اآلتــي لإلبــداع الروائــي)) (‪.)9‬‬ ‫ترجــم ذلــك التح ـ ّول مــن الباديــة إلــى‬ ‫ُي ِ‬ ‫املدينــة‪ ،‬ومــن الشــعر إلــى النثــر‪ ،‬انتقــال‬ ‫االهتمــام بالشــعر إلــى االهتمــام بالروايــة‪.‬‬ ‫يفســر كيــف‬ ‫فكذلــك حينمــا أخــذ جابــر عصفــور ِّ‬ ‫أنّ ابتــداء زمــن الروايــة الــذي قرنــه بالنصــف‬ ‫التاســع عشــر للميــاد‪ ،‬يــوازي‬ ‫الثانــي مــن القــرن ِ‬ ‫املواعيــد‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫بدايــات فـ ّـن املســرح‪،‬‬ ‫ِ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫رغــم أن دنقــل لــم يكــن مــن هــواة العتبــات‬ ‫وال مــن رواد النصــوص املوازيــة‪ :‬ســنرى أن‬ ‫لهــذا النفــور انعكاســات وجيهــة علــى قــراءة‬ ‫شــعره ـ كمــا يص ـ ِّرح بذلــك كثيـ ٌـر مــن الدارســن‬ ‫ُنقــص الظاهــرة مــن شــعبيته‬ ‫والنقــاد‪ ،‬ولكــن ال ت ِ‬ ‫وشــعريته إطالق ـ ًا ـ إن لــم نقــل إمنــا أســبغت‬ ‫عليــه املزيــد مــن االعتبــار الفنــي املنظــور إليــه يف‬ ‫ذاتــه‪ ،‬وهــو مــا يــدلّ عليــه ســفر أعمالــه الشــعرية‬ ‫الكاملــة (‪.)2‬‬ ‫ولطاملــا كان كيــان املدينــة عالمــة وعام ـ ًا‬ ‫يف تكويــن أمــل الشــخصي‪ ،‬الفكــري منــه‬ ‫والوجدانــي والوطنــي والقومــي والكونــي مع ـ ًا؛‬ ‫ولكــن عالقــة الشــاعر بكينونــة « املدينــة « لــم‬ ‫َي ُسـ ْـدها االجنــذاب الغــاوي دائم ـ ًا‪ .‬ومهمــا يكــن‬ ‫مــن أمـ ٍـر‪ ،‬فالشــيء األكيــد هــو أن املدينــة صاغــت‬ ‫يف ذاته وعي ًا وجوديا عميق ًا تفجرت من خالله‬ ‫َجــة باملعــادل املوضوعــي‪.‬‬ ‫شــعريته الذاتيــة ا ُملن َْمذ َ‬ ‫توســلنا هنــا مبصطلــح (الشــعرية) مــن‬ ‫لقــد ُّ‬ ‫بــاب توســيع نطــاق املمارســة الشــعرية ـ علم ـاً‬ ‫أنّ الســمات التــي تضفــي علــى مفهــوم الشــاعر‬ ‫مــا ال ميكــن معــه أن يســتقر أبــدا نظــر ًا لتطــور‬ ‫جتربتــه الشــعرية ونضجهــا‪.‬‬ ‫ومــع وضــوح احلقيقــة األخيــرة‪ ،‬فقــد‬ ‫اصطدمنــا مبقــوالت «نق َدويــة» أمعنــت يف‬ ‫تصنيــف أمــل دنقــل يف قالــب شــاعر املقاومــة‬ ‫أو الرفــض (املصــري)‪ .‬لذلــك يجــوز ـ تصويب ـ ًا‬ ‫ـؤال مــن تزفيتــان‬ ‫لهــذا االختــزال ـ اســتعارة سـ ٍ‬ ‫تــودوروف ينــدرج يف مجــال نقــد النقــد‪ ،‬وإعــادة‬ ‫طرحـ�ه‪ :‬أهنـ�اك «شـ�عر ّية» عبـ�ر ثقاف ّيـ�ة( (�‪Trans‬‬ ‫‪ )culturelle‬وعبــر تاريخ ّيــة‪ ،‬أو هــل نحــن‬ ‫ـات محل ّيــة محـ ّـددة‬ ‫ملتزمــون بالبحــث عــن إجابـ ٍ‬ ‫يف الزمــن والفضــاء (‪)Espace‬؟ (‪ .)3‬ســيج ّرنا‬ ‫هــذا الســؤال الهامشــي نحــو طــرح اإلشــكالية‬ ‫اجلوهريــة التــي تنهــض ألجلهــا هــذه املعاجلــة‬ ‫كاآلتــي‪ :‬كيــف حت ّولــت شــعرية أمــل دنقــل علــى‬ ‫وقــع ظهــور عنصــر املدينــة وعاملهــا يف حياتــه‬ ‫ووجــوده حضــورا وغيابــا واغترابــا وتعايشــا؟‬ ‫والتكيــف أم هــو‬ ‫ـبل إلــى التم ّثــل‬ ‫وهــل ِمــن ُسـ ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫مبثابــة مقاومــة ورفــض؟ ومــا هــي انعكاســاتها‬ ‫اإلبداعيــة يف نهايــة املطــاف؟‬ ‫حلســم شــأن الســؤال الهامشــي املطــروح‬ ‫علينــا مســبق ًا‪ ،‬ســنعمل وفــق مقولــة اختباريــة‬ ‫مؤداهــا أن تكريــس احملليــة بصــدق والتــزام‬ ‫نزيــه وبســحر الكلمــة يخــدم اإلنســانية جمعــاء‪.‬‬ ‫وتظــل مســائل املدينــة املطروحــة ضمــن‬ ‫اإلشــكالية اجلوهريــة فضــاء مكانيــا وزماني ـ ًا‬ ‫مولــدا للــدالالت والقيــم اإلنســانية‪ .‬إن البحــث‬ ‫عــن القيــم النقديــة أو عــن املبــدأ التصنيفــي‬ ‫الــذي يصيــر مقياســا لــكل شــيء‪ ،‬قــد َه َجــس‬ ‫شــعرية أمــل دنقــل وكان ســببا يف ا ّتســاع رقعــة‬ ‫وعيــه اإلبداعــي والنقــدي معــا‪ .‬وقــد تشــكّ ل هــذا‬

‫‪45‬‬


‫‪46‬‬

‫قامة‬

‫املتزامنــة مــن حيــث كونهمــا ـ الروايــة واملســرح‬ ‫ِ‬ ‫ـ تعبيــر ًا عــن صعــود املدينــة العرب ّيــة التــي‬ ‫ـوع‬ ‫أخــذت تعــرف معنــى احلوار ّيــة‪ ،‬وت ّتســع لنـ ٍ‬ ‫أو أنــواع مــن اجملادلــة بــن الفئــات اخملتلفــة‬ ‫الواســع للنهضــة‪ .‬وخالصــة الفكــرة‬ ‫يف األفــق‬ ‫ِ‬ ‫هــي أن املدينــة أفــرزت فــن الروايــة كناقــل لنــوع‬ ‫مــن وعــي خــاص وإيديولوجيــا ومنــط عيــش‪.‬‬ ‫فاقتصــر مفهــوم «الوعــي املدينــي» يف جتلياتــه‬ ‫وتطبيقاتــه علــى جنــس الروايــة الفنيــة دون‬ ‫غيرهـ�ا‪ .‬ثـ�م تطـ�ور هـ�ذا البـ�رادامي( (�‪Para‬‬ ‫‪ )digm‬وعــرف ضرب ـ ًا مــن التصاقــب الفكــري‬ ‫والنظــري (‪ )Transposition‬علــى اجلنــس‬ ‫الشــعري احلديــث خاصــة‪ ،‬نظــرا ملــا يحملــه مــن‬ ‫جينــات احلداثــة وجتــذُّ ره فيهــا‪ .‬وقــد اكتســب‬ ‫هــذا الوعــي املدينــي عنــد أمــل دنقــل ُبعــدا فنيــا‬ ‫عــرف كيــف ُيدرجــه يف رؤيتــه للعالــم اســتحال‬ ‫إلــى بعــد نقــدي اشــتغل عليــه جابــر عصفــور‬ ‫كمــا أســلفنا‪ .‬ذلــك أنّ يف التحديــد العــام‪،‬‬ ‫الشــاعر لــم يكــن يختلــف عــن ســائر الشــباب‬ ‫العربــي مــن حيــث انتمــاؤه االجتماعــي الــذي‬ ‫يشــكل الريــف مصــدر عالقاتــه ونظمــه وأعرافــه‬ ‫وتقاليــه‪(( ،‬واجملتمــع العربــي الريفــي يســتند يف‬ ‫كل تفاصيلــه إلــى الشــرعية الســماوية وقيــاس‬ ‫جــدارة الفــرد وعائلتــه مبســتوى االلتــزام بهــذه‬ ‫الشــرعية [‪ ]..‬ولــم تكــن األربعينــات حكــم املدينــة‬ ‫املعاصــرة بــل إن املدينــة تعتمــد يف إرســاء بنيتهــا‬ ‫اجلديــدة علــى الوافديــن مــن األريــاف كطاقــات‬ ‫عضليــة للعمــل يف مختلــف املياديــن‪ ،‬أو‬ ‫كطاقــات ذهنيــة تســاهم يف إرســاء برامــج النمــو‬ ‫التــي حتددهــا ســلطة املدينــة وفــق الطبيعــة‬ ‫التاريخيــة لعمليــة التطــور والبنــاء‪ ،‬فظــل ريــف‬ ‫مصــر هــو مصــدر االعتــزاز املعنــوي لألفنديــة [‬ ‫شــباب الريــف الذاهبــن إلــى املدينــة ] الذيــن‬ ‫غــادروه اســتجابة لنظــام التــوازن احلديــث الــذي‬ ‫فيــه املدينــة تلبــي طموحــات يفتقــر الريــف‬ ‫حتــى إلــى التســليم بهــا كحالــة إنســانية)) (‪.)10‬‬ ‫ومــن هنــا نشــأ هــذا املــزج الــذي يبــدو وللوهلــة‬ ‫األولــى غرائبيــا يف بنــاء شــخصية «األفنديــة»‬ ‫اجلــدد وال ســيما اجلنوبيــن‪.‬‬ ‫‪ 2‬الوعي المديني وعيًا وجوديا‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫‪ 1.2‬وعي املكان من خالل االغتراب‬ ‫لقــد ُم ِنــح مقــام املــكان يف شــعرية أمــل دنقــل‬ ‫منزلــة فريــدة تظهــر يف جماليــات التعبيــر عــن‬ ‫فمــن‬ ‫املتناقضــات البليغــة والالنهائيــة‪ .‬وعليــه‪ِ ،‬‬ ‫اخلطــأ النظــر إليــه علــى أنــه مجــرد خلفيــة‬ ‫فراغ ما‪ ،‬أو لتوقيع أحداث‬ ‫لالستئناس‪ ،‬أو ِّ‬ ‫لسد ٍ‬ ‫دراميــة مــن خاللهــا‪ .‬وليــس مــن قبيــل الصدفــة‬ ‫أن يشــتقّ الشــاعر وينحــت مــن بنيــات األمكنــة‬ ‫الوجوديــة اخملتلفــة ـ وال ســيما املدينــة العريقــة‬ ‫(القــدس) أو املعاصــرة ـ حقــو ًال دالليــة علــى‬ ‫مقــاس مقــوالت األســماء واألفعــال والصفــات‬

‫والظــروف الدائــرة جميعهــا ومبختلــف الصيــغ‬ ‫حــول تيمــة املدينــة املســتف َرغة مــن احلمــوالت‬ ‫الداللية اإليجابية لفسح اجملال أمام تراكمات‬ ‫املاضــي التــي جتاوزتهــا املدينــة قفــز ًا إلــى غايــة‬ ‫يتوهــم‬ ‫ال ُتــد َرك أبــداً‪ .‬وليــس مــن الغريــب أن‬ ‫ّ‬ ‫الشــاعر أبعــاد ًا مكانيــة أخــرى مرتبطــة بأزمنــة‬ ‫ـتحضرة عبــر صــات تقابليــة‬ ‫غائبــة لكنهــا مسـ َ‬ ‫(مــع الريــف)‪ ،‬هــي األخــرى مــن وحــي مخيلتــه‬ ‫الشــعرية املش ـ َبعة بصــور احليــاة املاضيــة ـ أو‬ ‫باألحــرى الغابــرة‪ .‬إن تعليــل جلــوء الشــاعر إلــى‬ ‫اإلطــار امل َ ِدينــي وجيــهٌ مــن هــذا املنظــور‪ .‬ميكــن‬ ‫إليحــاءات املــكان أن تطلــق شــرارة مــن دالالت‬ ‫تذهــب بعيــد ًا جــد ًا عبــر التاريــخ ومــا يكفلــه‬ ‫مــن اســتحضار البطــوالت اخلالــدة‪ ،‬كمــا تشــهد‬ ‫لوحــات قصيــدة «قالــت امــرأة يف املدينــة» التــي‬ ‫مطلعهــا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫جــدي ‪ /‬علــى حائــط‬ ‫ســيف‬ ‫(((‪)1‬‬ ‫ّ‬ ‫وص ُ‬ ‫ـاب الركــوب‬ ‫البيــت يبكــي ‪ُ /‬‬ ‫ورتــه يف ثيـ ِ‬ ‫‪.)11( ))]..[ /‬‬ ‫ـاعر يريــد أن يخــرج مــن اغترابــه‬ ‫كأ ّنــا بشـ ِ‬ ‫املدينــي نحــو عا َلـ ٍـم آخــر‪ ،‬فلجــأ إلــى مــكان‬ ‫ِّ‬ ‫واملمكنــة‬ ‫خــاص مشــحون بالطاقــة الالزمــة‬ ‫مــن التكثيــف الداللــي املتعالــي يف الوجــود‪،‬‬ ‫ملعايشــة الهمــوم إيجابيــا‪ ،‬علــى شـ ِـاكلة بعــض‬ ‫الكتــاب الذيــن يرتــادون أمكنــة خاصــة يجــدون‬ ‫ـري باالســتلهام‪،‬‬ ‫فيهــا ضالتهــم ممــا هــو حـ ٌّ‬ ‫فيعتكفــون فيهــا ويتّصلــون بهــا‬ ‫ا ّتصــاال روحانيــا ـ و ُيص ّلــون فيهــا ـ‬ ‫حتــى يضحــون كأنهــم عاجــزون‬ ‫عــن االنفصــال عنهــا إال بإخــراج‬ ‫العبــارة التــي ســيكون لهــا‬ ‫مفعــول إحالــة الفــرد إلــى‬ ‫وعيــه التاريخــي والفكــري‬ ‫مســتغرب ًا علــى غــرار هــذه‬ ‫املــرأة املســتنكرة‪:‬‬ ‫(((‪ )2‬قالــت امــرأة‬ ‫يف املدينــة‪َ / :‬مــن ذلــك‬ ‫األمــوي الــذي يتباكــى‬ ‫ّ‬ ‫علــى دم عثمــان؟! مــن‬ ‫قــال إن اخليانــة تنجــب‬ ‫غيــر اخليانــة؟! ‪ /‬كونــوا لــه‬ ‫يــا رجــال! ‪ /‬أم حتبــون أن‬ ‫يتفيــأ أطفالكــم ‪ /‬حتــت ســيف‬ ‫ّ‬ ‫الريــح‬ ‫ابــن هنــد؟! ‪ /‬رمبــا ردت‬ ‫ُ‬ ‫رد‪ / :‬ضــاع‬ ‫ـ ســيدتي ـ نصــف ّ‬ ‫َوابتلعتــه الرمــال! ‪ /‬نحــن جيــل‬ ‫احلــروب ‪ /‬نحــن جيــل الســباحة يف‬ ‫ُ‬ ‫الورقيــة ‪/‬‬ ‫الســفن‬ ‫ألقــت بنــا‬ ‫الــدم ‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ـوب ‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫القل‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫قبض‬ ‫‪/‬‬ ‫ـدم‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـوج‬ ‫ـ‬ ‫ثل‬ ‫ـوق‬ ‫فـ‬ ‫ْ‬ ‫وحدهــا حطمتهــا ‪ /‬ومــازال فيهــا األســى‬ ‫ُ‬ ‫نــر‬ ‫والنــدوب‪ /‬نحــن‬ ‫جيــل األلــم ‪ /‬لــم َ‬ ‫ْ‬

‫نتكلــم ســوى‬ ‫القــدس إال تصاويــر ‪ /‬لــم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫لغــة العــرب الفاحتــن ‪ /‬لــم نتســلم ســوى‬ ‫‪ /‬رايــة العــرب النازحــن ‪ /‬ولــم نتعلــم‬ ‫ســوى ‪ /‬أن هــذا الرصــاص ‪ /‬مفاتيــح بــاب‬ ‫فلســطني [‪.)12( ))]..‬‬ ‫ههنــا االســتفهامات والنــداءات تتكــرر‬ ‫كمقدمــة لسلســلة مــن حتفيــزات وتعليــات‬ ‫وتوصيــات اجتــرأت بهــا امــرأة اعتلــت منبــر‬ ‫التحســيس والتكريــس الرمــزي بــكل مــا‬ ‫لالســتخدام التراثــي املع ـزِّز ِمــن أبعـ ٍـاد تاريخيــة‬ ‫واجتماعيــة وقوميــة ووجوديــة‪ .‬ذلك أن ((الفكر‬ ‫الرمــزي يهــدف إلــى إعــادة الوحــدة إلــى عالــم‬ ‫جــرى التمييــز بينــه بواســطة الذهــن)) (‪.)13‬‬ ‫وال ريـ َـب أنّ اســتدعاء املدينــة التــي انطلــق منهــا‬ ‫صـ ُ‬ ‫ـوت املــرأة املســتغيثة واملتأملــة والنادبــة‪ ،‬هــو‬ ‫أعظــم مــن أن يكــون مــن قبيــل التأثيــث‪ ،‬وإمنــا‬ ‫هــو مــن صميــم تأنيــب أهــل املدينــة املســرفة‬ ‫وحتميلهــم مســؤولية التفريــط يف أداء واجبــات‬ ‫الوطــن‪ .‬فــكل مــا جــاء بعــد هــذا املطلــع املَنبــري‬ ‫مــن أوجــه التثويــر والتهويــل‪ ،‬كمــا يبــدو مــن‬ ‫هــذا التسلســل النصــي‪:‬‬ ‫((‪ /‬فاشــهد لنــا يــا قلـ ْـم ‪ /‬أننــا لــم ننـ ْـم‬ ‫‪ /‬أننــا لــم نقــف ‪ /‬بــن «ال» و»نعــم» ‪ /‬مــا‬ ‫أقــل احلـ َ‬ ‫ـروف ‪ /‬التــي‬ ‫لــف‬ ‫يتأ‬ ‫منهــا‬ ‫‪/‬‬


‫قامة‬

‫ـص علــى التعبيــر‬ ‫يجمــع شــملها‪ ،‬ال ألنــه حريـ ٌ‬ ‫وحســب عــن نفســية قلقــة متأملــة كثيــرا حتــت‬ ‫معانــاة الطــوق النفســي مــن مثــل «قهــر الفهــم»‬ ‫و»احلرمــان» و»العصــاب» مثــا (‪ ،)20‬وإلــى حــد‬ ‫مــا‪ ،‬كأنــه يف حاجــة إلــى التنفيــس والتخفيــف‬ ‫عــن آالم مــا؛ بــل ألنــه تتنازعــه عواطــف معقــدة‬ ‫التركيبــة ممــا هــو عــادة مــن قبيــل الباتــوس يف‬ ‫منحــاه املوضوعــي (اخلطابــي) الــذي هدفــه‬ ‫أعــذاري ومبرراتــي؛ إذ مهمــا تكــن حياتــه بائســة‬ ‫وتعيســة وميؤوس ـ ًا منهــا‪ ،‬فهــو كشــاعر ملتــزم‬ ‫يحتــاج إلــى أن ُيحـ ِّول انتبــاه القــارئ إلــى أشــياء‬ ‫أخــرى غيــر ذاتــه وفرديتــه البؤريــة التــي ـ كشــاعر‬ ‫وجــودي ـ ال تعنــي أكثــر مــن كونهــا مصــدر إلهـ ٍـام‬ ‫ـعاع وجدانــي وفكــري‪(( .‬فالعثــور علــى‬ ‫وإشـ ٍ‬ ‫(املعــادل املوضوعــي) ـ كمــا يــرى إليــوت ـ هــو ســر‬ ‫بقــاء القصيــدة وخلودهــا‪ ،‬وليســت العبــرة يف‬ ‫ســكب وتكثيــف العواطــف الذاتيــة فيهــا)) (‪.)21‬‬ ‫وجــاء يف قــراءة ســامح الرواشــدة أنّ‬ ‫((اجلــدار يف النــص رمــز القهــر والقــوة التــي‬ ‫تعمــل علــى حرمــان اإلنســان مــن رؤيــة النــور‬ ‫واخليــر‪ ،‬ألنــه ينهــض يف وجــه الشــروق‪ ،‬فيحــول‬ ‫بــن النــاس ورؤيــة الشــمس‪ ،‬ويحجــب عنهــم‬ ‫الصبــاح اجلديــد‪ ،‬وألنّ اإلنســان مفطــور علــى‬ ‫حـ ّـب احلريــة يبــذل قصــارى جهــده إلزالــة هــذا‬ ‫اجلــدار‪ ،‬أو يثقــب ثغــرة صغيــرة تســمح لألجيــال‬ ‫القادمــة أن تــرى النــور‪ ،‬إنّ الداللــة الســابقة‬ ‫حتمــل ُبعــد ًا ســلبي ًا لكنهــا تتح ـ ّول إلــى بعــد‬ ‫إيجابــي بعــد أن تكتمــل الصــورة‪ ،‬فلــو لــم يكــن‬ ‫هــذا اجلــدار‪ ،‬مــا عــرف اإلنســان قيمــة احلريــة))‬ ‫(‪.)22‬‬ ‫‪ 3.2‬وعي املتجانس واملتغاير‬ ‫‪ 1.3.2‬التجاذب مع تيار الذكريات‬ ‫اجلميلة‬

‫إنّ املدينــة التــي يــراد أن تكــون متجانســة‬ ‫ألنهــا أصبحــت موضوعــا فنيــا بامتيــاز‪ ،‬ال‬ ‫يصفهــا الشــاعر كمــا يصــف الريــف وعناصــره‪.‬‬ ‫ـال‪ ،‬مــن‬ ‫ولكــن هــذه املقارنــة ال تعنــي شــيئ ًا ذا بـ ٍ‬ ‫غيــر االهتــداء إلــى األســباب والنتائــج عبــر‬ ‫قــراءة املــكان الفنــي‪ .‬ففــي املدينــة يصارع أشــواق ًا‬ ‫تأخــذه إلــى أحــام الريــف كمــا يف قصيدة “أيدوم‬ ‫النهر” (‪ )1980‬التي يســتوقف الشــاعر نفســه يف‬ ‫خيبــة أمــل ضمــن مقطعهــا األول املنســكب تيــار ًا‬ ‫جارف ـ ًا مــن أســئلة وجوديــة‪ ،‬تتجــه مضامينهــا‬ ‫اإلدراكيــة وأبعادهــا االجتماعيــة وخلجاتهــا‬ ‫النفســية مــن األحســن أحــوا ًال نحــو أســوئها‬ ‫بحيــث ننصــت إلــى صــوت حزيــن يتباكــى‪:‬‬ ‫((أيــدوم لنــا بســتان الزهــر ‪ /‬والبيــت‬ ‫الهــادئ عنــد النهــر ‪ /‬أم يســقط خامتنــا‬ ‫يف املــاء ‪ /‬ويضيــع‪ ..‬يضيــع مــع التيــار ‪/‬‬ ‫وتفرقنــا األيــدي الســوداء‪ / ..‬ونســير‬ ‫علــى طرقــات النــار‪ / ..‬ال جنــرؤ حتــت‬ ‫ســياط القهــر ‪ /‬أن نلقــي النظــرة خلــف‬ ‫الظهــر ‪ /‬ويغيــب النهــر [‪.)23( ))]..‬‬ ‫إن بنيــة املــكان الفنــي متجانســة الوحــدات‬ ‫والعالقــات‪ ،‬يوازيهــا بنــاء درامــي ســرعان مــا‬ ‫يــؤول إلــى بــروز املدينــة كعنصــر يزعــزع تكوينــه‬ ‫النفســي (الفطري)‪ ،‬ويكســر أفق انتظار القارئ‬ ‫الــذي ســينطبع بتحــول النغمــة النســتاجلية‬ ‫(القرويــة) إلــى النزعــة التشــاؤمية التــي تومــئ‬ ‫املعالــم‬ ‫إليهــا «األيــدي الســوداء»‪ .‬فاملســار واضــح ِ‬ ‫عبــر االنتقــال مــن بســتان الزهــر إلــى ســياط‬ ‫القهــر‪ ،‬ومــن البيــت الهــادئ علــى شـ ّ‬ ‫ـط النهــر‬ ‫نحــو املســير علــى طرقــات النــار (ويغيــب النهــر‬ ‫خلــف الظهــر)‪ ،‬كل ذلــك ليــس ســوى نتيجــة‬ ‫تفاعــل أحــوال احلاضــر مــع ذكريــات املاضــي‪.‬‬ ‫والبنيــة ذاتهــا تتكــرر ضمــن أســطر املقطــع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫اسـ ُـم مــا ضــاع مــن وطـ ٍـن ‪ /‬واسـ ُـم مــن مــات‬ ‫ـب ! ‪ /‬هــل عرفنــا‬ ‫مــن أجلــه ‪ /‬مــن ٍأخ وحبيـ ْ‬ ‫َ‬ ‫كتــب‬ ‫علــى‬ ‫‪/‬‬ ‫كتابــة أســمائنا باملــداد‬ ‫ِ‬ ‫تغيــب ‪ /‬قالــت‬ ‫الــدرس؟! ‪ / ].. [ /‬إلــى أن‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫امــرأة يف املدينــة‪ / :‬مــن يجــرؤ اآلن ‪ /‬أن‬ ‫َ‬ ‫القرمــزي ‪ /‬الــذي رفعتــه‬ ‫الع َلــم‬ ‫يخفــض‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ـاخن‬ ‫اجلماجـ ْـم ‪ /‬أو يبيــع رغيــف الدم السـ ِ‬ ‫ميــد يــد ًا ‪/‬‬ ‫املتخثــر فــوق الرمــال ‪ /‬أو‬ ‫‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫للعظــام التــي مــا اسـ‬ ‫ـتكانت ‪ /‬وكانــت رجــالْ‬ ‫ْ‬ ‫مائــدة للتواقيــع ‪ /‬أو‬ ‫قوائــم‬ ‫‪ /‬كــي تكــون‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫قلم ـ ًا ‪ /‬أو عص ـ ًا يف املراسـ ْـم؟! ‪ /‬لــم يجبهــا‬ ‫ـورة َجد! ‪/‬‬ ‫ـدمي ‪ /‬وصـ ِ‬ ‫ـد ‪ /‬غيـ ُـر سـ ٍ‬ ‫أحـ ْ‬ ‫ـيف قـ ٍ‬ ‫ـراع! ‪ /‬آه لــو أملــك‬ ‫آه لــو أملــك ســيف ًا ‪ /‬للصـ ْ‬ ‫ذراع!)) (‪.)14‬‬ ‫خمســن‬ ‫ْ‬ ‫تنــم هــذه العبــارات كلهــا ـ وغيرهــا احملــذوف‬ ‫ـ عــن شــدة االغتــراب الــذي يعبــر عنــه الشــاعر‬ ‫علــى لســان املــرأة توحــي بافتقارهــا إلــى أشــكال‬ ‫احليــاة الروحيــة التــي مــن شــأنها أن تصنــع‬ ‫اإلرادة الفوالذيــة‪.‬‬ ‫‪ 2.2‬وعي املكان من خالل اآلفاق‬ ‫الالمتناهية‬ ‫إنّ رغبــة دنقــل يف تكثيــف احلســي مــع اجملــرد‬ ‫جعلتــه ال يســرف يف التأمــات والتداعيــات‬ ‫امليتافيزيقيــة‪ ،‬بــل يلتــزم بإخــراج املشــاهد‬ ‫الصوريــة وحتميلهــا مســؤولية التعبيــر الفنــي‪،‬‬ ‫فالصــورة هــي التــي ينبغــي أن تتكلــم عنــه (‪،)15‬‬ ‫لذلــك نلفيــه يســتعني بأهــم مــا تتشــكل منــه‬ ‫الصــورة الفنيــة التــي يقتبســها ويســتعيرها‬ ‫مــن الواقــع املدينيــة انطالق ـ ًا مــن الوعــي الــذي‬ ‫تك ـ ّون عنــده أثنــاء اختمــار جتربتــه الشــعرية‬ ‫كمــا يشــهد املقطــع اآلتــي‪:‬‬ ‫((آه‪ ..‬مــا أقســى اجلــدار ‪ /‬عندمــا‬ ‫ينهــض يف وجــه الشــروق ‪ / ... ... /‬رمبــا‬ ‫ننفــق كل العمــر‪ ..‬كــي ننقــب ثغــره ‪ /‬ليمــر‬ ‫النــور لألجيــال‪ ..‬مــرة! ‪ /‬رمبــا لــو لــم يكــن‬ ‫هــذا اجلــدار‪ / ..‬مــا عرفنــا قيمــة الضــوء‬ ‫الطليــق!!)) (‪.)16‬‬ ‫لنتأمــل كيــف اعتبــر الشــاعر اجلــدار كمــا‬ ‫ّ‬ ‫لــو أنــه يقــف عائقــا أمــام النــور املســدود يف وجــه‬ ‫األجيــال ومــع ذلــك البــد أن يكــون ـ أي تكــون لــه‬ ‫كينونــة ـ ألنــه مصــد ٌر عاكـ ٌـس للضــوء (رمبــا األمر‬ ‫كذلــك‪َ ..‬مــن يعلــم !؟)‪ .‬علــى هــذا النحــو‪ ،‬حيــث‬ ‫القــوى اجلذبيــة التــي جتــذب يف كل اجتــاه‪،‬‬ ‫يكــون النــص دومــا بدعــة وخروجـ ًا عــن الدوكســا‬ ‫(‪(( .)La doxa‬إنــه قــدرة علــى خلــق املفارقــات‬ ‫‪ .)Para-doxes)) (17‬هــذا النــص الــذي ليــس‬ ‫لــه ســوى قواعــد التركيــب الضمنــي لعناصــره‬ ‫الداخليــة احملســومة بلغــة النمذجــة املكانيــة‬ ‫(‪ ،)18‬نكتشــف الشــاعر ـ مــن خاللــه ـ مر ِّكــز ًا‬ ‫علــى وحدتــه وفرديتــه وحياتــه املش ـتّتة املع ِّولــة‬ ‫علــى إمكانــات املعــادل املوضوعــي (‪ )19‬بــأن‬

‫‪47‬‬


‫‪48‬‬

‫قامة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫الثانــي‪:‬‬ ‫(([‪ ]..‬أيــدوم لنــا البيــت املــرح ‪/‬‬ ‫نتخاصــم فيــه ونصطلــح ‪ /‬دقــات الســاعة‬ ‫أراك ‪/‬‬ ‫واجملهــول ‪ /‬تتباعــد عنــي حــن ِ‬ ‫وأقــول لزهــر الصيــف‪ ..‬أقــول ‪ /‬لــو ينمــو‬ ‫ـواك ‪ /‬ويظــل البــدر طــوال‬ ‫الــورد بــا أشـ ِ‬ ‫الدهــر ‪ /‬ال يكبــر عــن منتصــف الشـ ِـهر ‪ /‬آه‬ ‫يــا زهــر‪ / ..‬لــو دمــت لنــا‪ / ..‬أو دام النهــر))‬ ‫(‪.)24‬‬ ‫هكــذا يتشــكّ ل نظــام مم َّيــز لتنظيــم عالــم‬ ‫الريــف الــذي كان نســق وحداتــه احلصيفــة‬ ‫وعالقاتــه الوظيفيــة (البيــت املــرح‪ ،‬زهــر‬ ‫الصيــف‪ ،‬التخاصــم والتصالــح) مي ِّيــزه التناغــم‬ ‫واجملانســة يف مقابــل العالــم الفوضــوي ـ عا َلــم‬ ‫ـورد بأشــواكه‬ ‫املدينـةـ الــذي انتقــل إليــه (ف َنمــا الـ ُ‬ ‫وانحســر البــد ُر بعدمــا كبــر يف منتصــف‬ ‫الشــهر)‪ .‬ولكــن هــذه املــرة ُيدخــل عنصــر ًا آخــر‬ ‫هــو شــريك معــه يف املعانــاة الداخليــة نتيجــة‬ ‫ارتــكاس األوضــاع فيناجيــه بضميــر املؤنــث‬ ‫للمخاطبــة استســام ًا أمــام الواقــع اجلديــد‪.‬‬ ‫وكذلــك‪ ،‬فــإنّ دقــات الســاعة واجملهــول‪ ،‬هــي‬ ‫العناصــر الوجوديــة التــي تقــرر املصيــر‪ :‬مصيــر‬ ‫تالشــي الزهــور وانعــدام النهــر ـ وليــس جفافــه‬ ‫ـ بــل هــو عــدم الدميومــة حتــت وطــأة املدينــة‬ ‫التــي لــم يذكــر اســمها لكــن ظاللهــا حتــوم مــن‬ ‫(سـنَّة الكــون)‬ ‫حــول سلســلة األحــداث الدراميــة ُ‬ ‫التــي تضمنهــا املقطعــان‪ .‬ذلــك أنّ هــذا املــكان‬ ‫(املــكان الفنــي) ((مــن صفاتــه أنــه متنــاه‪ ،‬غيــر‬ ‫أ ّنــه ُيحاكــي موضوع ـ ًا غيــر متناهي ـ ًا هــو العا َلــم‬ ‫اخلارجــي‪ ،‬الــذي يتجــاوز حــدود العمــل الفنــي))‬ ‫(‪ .)25‬وكمــا أنّ املدينــة صــارت أيض ـ ًا قابلــة‬ ‫للتشــخيص والتأويــل‪ ،‬ومفعمــة بالرمزيــة‪،‬‬ ‫ومشــحونة باالســتعارات واجملــازات‪ ،‬فهــي أيضــا‬ ‫ـدد ِمــن التوريــات‪،‬‬ ‫خاضعــة ِّ‬ ‫لإلمحــاء ومجــا ًال لعـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ومدلــو ًال عليهــا ومشــارا إليهــا باإلســقاطات‪ .‬بــل‬ ‫غالبــا مــا أخــذ الشــاعر يقاربهــا مبجموعــة مــن‬ ‫مفارقــات‪.‬‬ ‫‪ 2.3.2‬التنافر يف وجه تيار الذكريات‬ ‫السيئة‬ ‫ولكــن الشــوق إلــى املاضــي ال يعنــي دائمــا‬ ‫الشــوق إلى اجلميل‪ ،‬نالحظ أنه يتبرأ وتعتريه‬ ‫حساســية ضــد كل مــا يؤســس لكلمــات تذكاريــة‪.‬‬ ‫يذهــب يف هــذا إلــى حـ ّـد اتخــاذ موقــف جتــاه‬ ‫عــادة «األوتوجــراف» أو اإلمضــاء الشــخصي‬ ‫التــذكاري التشــريفي‪ .‬ويجنــح بهــذا التصــرف‬ ‫إلــى بنــاء موقــف فكــري جتــاه الظاهــرة‪ .‬وال‬ ‫ننســى أنّ الصــورة الفنيــة التــي نحصــل عليهــا‬ ‫وفــق معيــار املعــادل املوضوعــي هــي التفاعــل بــن‬ ‫احلــس والفكــر (‪.)26‬‬ ‫((لــن أكتــب حرفــا فيــه ‪ /‬فالكلمــة ـ إن‬ ‫تكتــب ـ ال تكتــب ‪ /‬مــن أجــل الترفيــه))‬

‫(‪.)27‬‬ ‫تأمــل يف هــذا املقطــع كيــف يصــرف الشــاعر‬ ‫بواعــث النشــوة إلــى التعبيــر عــن فلســفة‬ ‫معتمــد ًا أوال ذلــك املعــادل املوضوعــي ا ُملن َِّمــط‬ ‫لتلــك الغبطــة التــي مــن املفــروض أن تثيرهــا‬ ‫يف الــذات كل دعــوة إلــى كتابــة أوتوجــراف‬ ‫ويتحمــس لهــا ُّ‬ ‫ـان معت ـ ّز ًا بنجوميتــه‪.‬‬ ‫كل ف ّنـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وعلــى الرغــم ممــا قــد يجــول يف خاطــر املــرء‬ ‫مــن ابتعــاد املشــهد عــن احلقيقــة أو الواقــع‬ ‫املعيــش‪ ،‬فــإن ارجتــال املناســبات الــذي يشــير إلــى‬ ‫املظهــر النثــري لألشــياء مــن شــأنه أن يســجل‬ ‫التفاصيــل بصــدق (‪ ،)28‬حتــى حينمــا يكــون‬ ‫املشــهد عبــارة عــن ســيناريو منســوج مــن بنــات‬ ‫مخيلة الشــاعر‪ .‬وهنا نســتحضر مقولة شــعبية‬ ‫ونقديــة يف آن مؤداهــا أنّ «أعــذب الشــعر أكذبــه”‬ ‫والتــي يفهــم منهــا النــاس أن الشــعر والدجــل‬ ‫شــيء واحــد كمــا ع ّلــق عليهــا ســيد قطــب مف ِّنــد ًا‬ ‫الزعــم األخيــر‪ ]..[(( :‬ال‪ .‬ال نريــد ذلــك‪ .‬بــل‬ ‫نحــن نعتقــد أن الشــاعر أعــرف باحلقيقــة مــن‬ ‫الفيلســوف‪ .‬ولكنــه يختلــف عنــه يف التعبيــر‬ ‫ألنهمــا يختلفــان يف إدراك هــذه احلقيقــة‪ ،‬ويف‬ ‫طريقــة إدراكهــا)) (‪.)29‬‬ ‫ـاء علــى مــا تقـ ّـدم‪ ،‬ميكــن اخللــود إلــى أنّ مــا‬ ‫بنـ ً‬ ‫انتهــى إليــه بعـ ُ‬ ‫ـض املهتمــن بســيرة أمــل دنقــل‬ ‫مــن أن بنيــة املــكان الصعيــدي ((اســتطاعت‬

‫أن تخلــق شــخصية حديــة ذات طابــع خــاص‬ ‫يف معتقداتهــا الفكريــة وممارســاتها وأمنــاط‬ ‫حياتهــا علــى نحــو مغايــر لشــخصيات أقاليــم‬ ‫تنبئنــا شــعرية هــذه‬ ‫أخــرى)) (‪ ،)30‬يفارقــه مــا ِ‬ ‫األســطر مــن اإلنعــام بحيــاة الريــف الســعيدة‪.‬‬ ‫‪ 4.2‬الوعي املديني وااللتزام‬ ‫الوجودي‬ ‫جتــدر اإلشــارة هنــا إلــى أنّ موضــوع االلتــزام‬ ‫واحــد مــن القضايــا التــي عنــي بهــا النقــاد‬ ‫والدارســون يف ســجل التناقضــات واملفارقــات‬ ‫التــي اكتنفــت شــعر أمــل دنقــل‪ ،‬بــل عمــت جوانب‬ ‫حياتــه‪ .‬فأمــل دنقــل حتــدوه مواقــف جوهريــة‬ ‫((يــرى [مــن خاللهــا] التناقــض واالختــاف‬ ‫يف كل مــا يحيــط بــه‪ ،‬فــإن ذهنــه قــد بنــي علــى‬ ‫قناعــة تؤكــد وجــود التنافــر يف كل شــيء‪ ،‬ويؤكــد‬ ‫ذلــك صراحــة قولــه‪« :‬نشــأت يف الصعيــد‪ ،‬مــن‬ ‫الصحــراء اجلــادة الغربيــة والــوادي الضيــق‬ ‫والقبائــل العربيــة التــي اســتوطنت هنــاك منــذ‬ ‫أيــام الفتــح العربــي‪ ،‬كل هــذا أكســبني حـ ّـد ًة‬ ‫يف التعبيــر‪ ،‬وحـ ّـد ًة يف اإلحســاس بالصــورة‪،‬‬ ‫والتناقــض بــن األشــياء»)) (‪ .)31‬مــن تلــك‬ ‫املفارقــات التــي غالبــا مــا تأتــي ضمــن قصيــدة‬ ‫واحــدة‪ ،‬اجلمــع بــن االنشــغال بقضايــا الوطــن‬ ‫(االلتــزام) والتعبيــر عــن العاطفــة مــن احلــب‬ ‫خاصــة وغيــر ذلــك مــن االنفعــاالت التــي مــن‬


‫قامة‬

‫أملــك إ ّال [‪ »]..‬ثــم يتضــح أن مــا ميلكــه ليــس إ ّال‬ ‫ـ أو هــو بقــدر ومكانــة قمــر ســيدنا يوســف عليــه‬ ‫الســام ينبــئ عــن دائريــة مســار التحــول عنــده)‪.‬‬ ‫وهــذا القمــر الــذي كان هــذا األخيــر يتملكــه ـ‬ ‫ُطلعنــا جميــع الكتــب الســماوية ـ ويعنــي‬ ‫كمــا ت ِ‬ ‫بــه فطنتــه وموهبتــه علــى تأويــل الرؤيــا‪ ،‬كان‬ ‫دائمــا معــه وضحــى مــن أجــل أن يحتفــظ بــه‬ ‫وكان ســبب كل احملــن التــي تخطاهــا‪ .‬بــن تلكــم‬ ‫الرحلــة النبويــة وهــذه املســيرة الشــخصية‪،‬‬ ‫ســتكون مالمــح املالقــاة قــد ارتســمت عبــر انبثاق‬ ‫قصيــدة االلتــزام التــي اســتطاعت أن تتأ ّلــق يف‬ ‫ضــوء هــذا الوعــي املتحــول مــن فضــاء القريــة‬ ‫نحــو فضــاءات املدينــة‪ ،‬وذلــك مبــا أضفــى عليهــا‬ ‫أمــل دنقــل مــن اجلديــة والعمــق واإلحســاس‪.‬‬ ‫بيــد أ ّنــه‪ ،‬وإذا كان االلتــزام الــذي كان أمــل يؤمــن‬ ‫بــه مبثابــة تقديــر مبدئــي لرســالة مــا‪ ،‬فــإنّ أي‬ ‫محاولــة ـ دعنــا نقــول «مجازفــة» ـ تــروم حتويــل‬ ‫األداء الشــعري الــذي أصبــح جــزءا مــن حياتــه‬ ‫إلــى مهمــة اجتماعيــة أو أخالقيــة قــد تق ِّلــل ِمــن‬ ‫قيمتــه الفنيــة إن لــم نقــل تســيء إليــه بطريقــة‬ ‫أو بأخــرى‪ .‬ذلــك أنّ التعبيــر عــن االلتــزام‬ ‫بوصفــه خطابــا اســتثنائيا يســوده كثيــر مــن‬ ‫املنطــق العقلــي‪ ،‬قــد يجعــل املنظــور الشــعري‬ ‫يف القــول هزي ـ ًا‪ ،‬وذلــك مبــا تـ ِـرد اإلحساســات‬ ‫فيــه فاتــرة ال حــرارة فيهــا‪ ،‬واإليقاعــات مفتعلــة‪،‬‬ ‫واللغــة مزيفــة واملعانــي ملفقــة‪ :‬فيصبــح لذلــك‬ ‫عائقــا أمــام اإلبــداع‪ .‬وكمــا ســبق حملمــود قرنــي‬ ‫أن سـ ّـجله علــى بعــض التصنيفــات (‪.)37‬‬ ‫إذا ســايرنا هــذا الضــرب مــن التفكيــر‬ ‫الشــكوكي‪ ،‬فلــن نُفلــح يف العثــور علــى أثـ ٍـر‬

‫لاللتــزام يف الســطور الشــعرية التــي ّ‬ ‫خطهــا أمــل‬ ‫دنقــل أوعيـ ًـة كاشـ ً‬ ‫ـفة عــن فكــره ومــا تضطــرب بــه‬ ‫نفســه مــن همــوم احليــاة‪ ،‬وكتبهــا بألــم وفــرح‬ ‫متعاي َشـ ْـن طيلــة جتربتــه الشــعرية الثقيلــة‬ ‫ِ‬ ‫والثريــة مبثــل هــذه التناقضــات واملفارقــات! يف‬ ‫هــذا الســياق‪ ،‬وإذا جــاز وصــف أمــل بالفوضــوي‬ ‫فمــع ذلــك يحكمــه منطــق مــا‪ ،‬يبــدو بســيطا‬ ‫لكنــه يف تركيبيــة شــديدة‪ ،‬هــو ((صريــح وخفــي‬ ‫يف آن واحــد‪ ،‬انفعالــي متطــرف يف جــرأة‬ ‫ووضــوح‪ ،‬وكتــوم ال تــدرك مــا يف داخلــه أبــدا))‬ ‫حســاس‬ ‫(‪ .)38‬فهــل ميكــن أن نحـ ِّرم علــى شــاعر ّ‬ ‫وخبيــر كدنقــل اشــتغاله ضمــن ثنائيــة (التمــازج‬ ‫الفكــري مــع الوجدانــي) الــذي ســمح لــه بــأن‬ ‫يع ِّبــر عــن الشــيء وضــده؟ بيــد أنّ مــا ميكــن‬ ‫أن يصنعــه أي دارس معجــب ومنصــف يف آن‬ ‫ـ تدرجــا علــى االســتفهام املطــروح واملثيــر‪ ،‬هــو‬ ‫َجــة هــذا االلتــزام املشــوب بالتصنــع ضمــن‬ ‫َْ‬ ‫نذ َ‬ ‫مفهــوم املعــادل املوضوعــي لتأســيس الصــورة‬ ‫ـ أو باألحــرى إعادتهــا إلــى وضعهــا الطبيعــي‪،‬‬ ‫أي الصــورة املــزودة بإطارهــا الصحيــح‪ ،‬حيــث‬ ‫اســتطاع شــعر دنقــل أن يربــط بشــكل خــاص‬ ‫بــن االلتــزام الوجــودي وشــعره الــذي ينفــر عــن‬ ‫«االلتــزام» يف حـ ِّـد ذاتــه‪.‬‬ ‫ولغلــق أبــواب هــذه القــراءة املشـ َّـرعة‪،‬‬ ‫مقاوم ـ ًا‬ ‫نخلــص إلــى أن أمــل دنقــل طاملــا كان‬ ‫ِ‬ ‫يف تشــبثه مبواقفــه‪ ،‬فهــو ال يعلــق كثيــر اآلمــال‬ ‫علــى التم ـ ّرد الصريــح أو الضمنــي الــذي وقــف‬ ‫عنــده أغلــب الدارســن والنقــاد‪ ،‬بــل غالبــا مــا‬ ‫ينتابــه إحســاس بــأن ذلــك ال فائــدة منــه‪ .‬لذلــك‬ ‫ـرب‬ ‫فــإنّ وعيــه املدينــي الــذي تط ـ ّور إلــى ضـ ٍ‬ ‫ـزام‪ ،‬إمنــا يرقــى بــا شــك إلــى ال ّنمــط‬ ‫مــن التـ ٍ‬ ‫الوجــودي الــذي غالبــا مــا يغلفــه بالتعبيــر‬ ‫عــن العواطــف مثــل‪ :‬احلــب واألســى والتشــاؤم‬ ‫‪...‬الــخ؛ وال ســيما بعــد يقينــه بــأنّ مصيــر كل‬ ‫املتمرديــن أمثالــه إمــا لعنــة اإلقصــاء مــن نعيــم‬ ‫امللــوك كمــا حصــل لشــيطان ســبارتاكوس‪ ،‬أو‬ ‫الفشــل واملــوت كمــا يف وضــع ابــن نــوح‪ .‬ومــع مــا‬ ‫ميكــن أن يقــال مــن كــون االلتــزام الوجــودي مــن‬ ‫شــأنه أن يقـزِّم مــن شــاعرية أمــل دنقــل‪ ،‬فــإنّ هــذا‬ ‫ـوص مــن الواضــح‬ ‫االلتــزام ينصهــر ضمــن نصـ ٍ‬ ‫أنهــا تســتدعي إســهام املتلقــي بقــراءة متعـ ِّـددة‪،‬‬ ‫عــاو ًة علــى مــا قــد ُيص ـ َرف إليــه مــع ُصنافــات‬ ‫الدنقَليــة مــن األغــراض الشــعرية‬ ‫القصيــدة ُّ‬ ‫املتنوعــة التــي اســتطاعت أن تؤ ِّكــد بــأنّ قــرارة‬ ‫نفس ـ ّيته ال ُتــد َرك إال بالتعويــل علــى مــا ميكــن‬ ‫أن يتيــح الغــوص الداخلــي بعيــدا عــن الســطوح‬ ‫املتأمــل يف تلــك النصــوص‬ ‫املتعثــرة‪ .‬كمــا أنّ‬ ‫ِّ‬ ‫ســيجد أن االلتــزام صــار بداخــل العاطفــة‬ ‫وجتربتــه الشــعرية مبثابــة املعــادل املوضوعــي‬ ‫الــذي يدلنــا علــى أنــه ال توجــد قطيعــة بــن‬ ‫املاضــي واحلاضــر وبــن الريــف واملدينــة بــل‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫شــأنها أن تعيــد احليويــة إلــى اجملــال الضيــق‬ ‫لاللتــزام املدحــور‪ .‬بالفتــور‪.‬‬ ‫تبــرز وحــدة هــذه الثنائيــة يف أبعــاد االلتــزام‬ ‫الوجوديــة‪ ،‬بحيــث متضــي رمزيــة «زرقــاء‬ ‫اليمامــة» ـ مث ـ ًا ـ يف التشــكيك املــزدوج‪ :‬دحــض‬ ‫املقدســن وبــأس اجلاحديــن‬ ‫أقــوال الع ّرافــن‬ ‫َّ‬ ‫وبؤســهم‪ .‬وهــذا املوقــف يتماشــى وتيــارات‬ ‫التنــاص التــي تنتمــي إلــى التقليــد احلداثــي‬ ‫الســائد يف اخلطــاب الشــعري العربــي والتــي‬ ‫كانــت تعتمــد منط ـ ًا مركزي ـ ًا هــو األســطورة‬ ‫املســتعملة يف هــذه القصيــدة كمــا كان إليــوت‬ ‫يســتخدمها وفق نظريته يف املعادل املوضوعي‪.‬‬ ‫وذلــك باعتبــار الشــاعر املعاصــر‪ ،‬الســائر علــى‬ ‫النمــط اإلليوتــي‪ ،‬والواقــع حتــت تأثيــر املنــاخ‬ ‫اإلليوتي ـ عــن وعــي أو عــن غيــر وعي ـ يرمــي‬ ‫إلــى ســد الثغــرة التــي تفصــل بــن عالــم اخلراب‪،‬‬ ‫كمــا يــراه‪ ،‬وبــن العالــم كمــا يريــده ويتمنــاه‬ ‫أن يكــون وكمــا يتصــوره؛ إذ تســوده القيــم‬ ‫والتقاليــد التــي يدعــو إليهــا ويعتقــد بأنهــا‬ ‫طريــق اخلــاص‪ .‬أي أن الشــاعر يصــور لنــا‬ ‫العالــم األرذل‪ ،‬ويغنــي العالــم األفضــل‪ ،‬عابــر ًا‬ ‫مــن التصويــر إلــى الغنــاء علــى جســر األســطورة‬ ‫والرمــز (‪.)32‬‬ ‫لوحــظ‬ ‫واألرجــح أنّ هنــاك مســار ًا واضح ـ ًا ِ‬ ‫فيــه حت ـ ّول شــعرية دنقــل مــن الوعــي القــروي‬ ‫نحــو الوعــي املدينــي بشــكل أوضــح إلــى حـ ِّـد أن‬ ‫هــذا األخيــر كـ ّـدر صفــو االهتمــام بالديباجــة‬ ‫املصقولــة والبراعــة التــي كان يتســم بهــا شــعر‬ ‫شــبابه (‪ .)33‬ولكــن مــن القصــور أن يقــرأ هــذا‬ ‫التح ـ ّول علــى أنــه حت ـ ّول مــن املســتوى األدنــى‬ ‫نحــو الوضــع األحســن أو العكــس‪ .‬ننتقــي‬ ‫مــن املفارقــات التــي اســتخدمها الشــاعر يف‬ ‫وصفــه لهــذا املســار املعقَّ ــد‪ ،‬مــا اســتدعاه مــن‬ ‫رمـ ٍـز تراثـ ٍّـي متمثـ ٍـل يف شــخصية النبــي يوســف‬ ‫عليــه الســام وقيــاس مصيــره بتح ـ ّوالت هــذا‬ ‫األخيــر االختباريــة واملصيريــة؛ ويعبــر عــن‬ ‫جتربتــه العميقــة املليئــة باإليحــاء واإليعــاز يف‬ ‫ضــوء األســطورة التــي تظــل عصــارة التجــارب‬ ‫اإلنســانية ((شــريطة أن يوحــي الشــاعر‬ ‫ـاء ســريع ًا وال‬ ‫بالعناصــر األســطورية إيحـ ً‬ ‫ـكل قصصــي فـ ٍّـج)) (‪.)34‬‬ ‫يعرضهــا عرضــا يف شـ ٍ‬ ‫فقــد التــزم الشــاعر حــدود هــذا الشــرط بإيجــازه‬ ‫اإلملاعــي اآلتــي‪:‬‬ ‫(([‪ ]..‬وأنــا «يوسـ ُ‬ ‫ـوب «زليخــا»‬ ‫ـف» محبـ ُ‬ ‫‪ /‬عندمــا جئــت إلــى قصــر العزيــز ‪ /‬لــم‬ ‫أكــن أملــك إال‪ ..‬قمـ ًـرا ‪( /‬قمـ ًـرا كان لقلبــي‬ ‫مدفــأة) [‪.)35( ))]..‬‬ ‫بهــذه األســطر الوجيــزة واحلصيفــة اســتطاع‬ ‫الشــاعر أن يحــدس كنــه األشــياء ويدفــع الغــرور‪،‬‬ ‫تــاركا اجملــال ـ مــع ذلــك ـ لشــيء مــن االلتبــاس‬ ‫التــي تعكســها مفارقــة التحــول (‪ «( )36‬لــم‬

‫‪49‬‬


‫‪50‬‬

‫قامة‬

‫هنــاك تواصــل دميومــة بــن هــذه األطــراف‪،‬‬ ‫ذلــك أن أهــل املدينــة متشــوقون إلــى احلداثــة‬ ‫التــي ال ينبئهــم عــن بلوغهــم لهــا ســوى الوعــي‬ ‫املدينــي الشــاعري كمــا حاولنــا أن نرســم لــه‬ ‫بعــض املالمــح مــن خــال شــعرية أمــل دنقــل‬ ‫رحمــة اهلل عليــه‪.‬‬ ‫هومش ومراجع‪:‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫(‪ )1‬ينظــر‪ :‬يــوري لومتــان‪ ،‬مشــكلة املــكان الفنــي‪ ،‬تقــدمي‬ ‫وترجمــة ســيزا قاســم‪ ،‬عيــون املقــاالت‪ ،‬ع‪ ،08.‬املغــرب‪،1987 ،‬‬ ‫(ص‪ 59.‬ـ ‪ ،)86‬ص‪.68.‬‬ ‫(‪ )2‬ينظــر‪ :‬أمــل دنقــل‪ ،‬األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،‬تقــدمي‬ ‫عبــد العزيــز املقالــح‪ ،‬ط‪ ،3.‬مكتبــة مدبولــي‪ ،‬القاهــرة‪.1987 ،‬‬ ‫ونعتــذر علــى طريقــة اقتبــاس الســطور الشــعرية املســتهدَفة‬ ‫توشــك أن تتس ـ ّبب فيــه مــن‬ ‫بالتأمــل والتحليــل‪ ،‬وذلــك ملــا ِ‬ ‫تعكيــر صفــاء التشــكيل الصــوري والداللــي يف صفحــات‬ ‫الدواويــن األصليــة‪ .‬ينظــر أهميــة هــذا األخيــر‪ :‬حــازم شــحاتة‪،‬‬ ‫التشــكيل املكانــي وإنتــاج املعنــى‪ :‬الصفحــة الشــعرية عنــد أمــل‬ ‫دنقــل‪ ،‬ضمــن جماليــات املــكان (يــوري لومتــان وآخــرون)‪ ،‬ط‪،2.‬‬ ‫عيــون املقــاالت ـ دار قرطبــة (الــدار البيضــاء)‪( ،1988 ،‬ص‪39.‬‬ ‫ـ ‪.)58‬‬ ‫ـعر دون بيــت شــعر‪ ،‬ترجمــة أحمــد‬ ‫(‪ )3‬تزفيتــان تــودوروف‪ِ ،‬شـ ٌ‬ ‫القاهــرة‪ ،‬ع‪ ،161.‬الهيئــة املصر ّيــة‬ ‫عثمــان‪ ،‬مقالــة يف مج ّلــة‬ ‫ِ‬ ‫القاهــرة‪( ،1996 ،‬ص‪ 187.‬ـ ‪ ،)193‬ص‪.187.‬‬ ‫العامــة للكتــاب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫املقــال مأخــوذ عــن‪La poésie sans le vers, in La notion :‬‬ ‫‪de la littérature (Tzvetan Todorov) , Coll. Point, Ed.‬‬ ‫‪.Seuil, Paris, 1987‬‬ ‫(‪ )4‬ينظــر‪ :‬جابــر عصفــور‪ ،‬قصيــدة الرفــض‪ :‬قــراءة يف شــعر‬ ‫أمــل دنقــل‪ ،‬الهيئــة املصريــة العامــة للكتــاب‪ ،‬القاهــرة‪.2017 ،‬‬ ‫(‪ )5‬ينظــر‪ :‬جابــر عصفــور‪ ،‬زمــن الروايــة‪ ،‬دار املــدى للثقافــة‬ ‫والنشــر‪ ،‬دمشــق‪.1999 ،‬‬

‫(‪ )6‬ينظــر‪ :‬جابــر عصفــور‪ ،‬الروايــة واالســتنارة‪ ،‬دار الصــدى‬ ‫للصحافــة والنشــر والتوزيــع (سلســلة كتــاب دبــي الثقافيــة‬ ‫‪ ،)55‬دبــي‪ ،2011 ،‬ص‪ 103.‬ـ ‪.145‬‬ ‫(‪ )7‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬الرواية واالستنارة‪ ،..‬ص‪.105.‬‬ ‫(‪ )8‬جابر عصفور‪ ،‬زمن ال ّرواية‪ ،..‬ص‪.09.‬‬ ‫(‪ )9‬جابر عصفور‪ ،‬زمن ال ّرواية‪ ،..‬ص‪ 09.‬ـ ‪.10‬‬ ‫(‪ )10‬أحمــد دوســري‪ ،‬أمــل دنقــل‪ :‬شــاعر علــى خطــوط النــار‪،‬‬ ‫املؤسســة العربيــة للدراســات والنشــر‪ ،‬بيــروت‪ ،2004 ،‬ص‪148.‬‬ ‫ـ ‪.149‬‬ ‫(‪ِ )11‬مــن قصيــدة “ قالــت امــرأة يف املدينــة “ ‪ /‬ديــوان “ أوراق‬ ‫الغرفــة ‪ ،“ 8‬ضمــن األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،..‬ص‪.404.‬‬ ‫(‪ )12‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪ 404.‬ـ ‪.405‬‬ ‫(‪ )13‬ســيمون كالرك‪ ،‬التحليــل البنيــوي لألســطورة‪ ،‬ترجمــة‬ ‫القاهــرة‪ ،‬ع‪(ِ 161.‬نهايــة الفلســفة)‪ ،‬الهيئــة‬ ‫ســعيد العليمــي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫القاهــرة‪ ،‬أبريــل ‪( ،1996‬ص‪ 100.‬ـ ـ‬ ‫العامــة للكتــاب‪،‬‬ ‫املصر ّيــة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،)110‬ص‪.107.‬‬ ‫(‪ِ )14‬من قصيدة “ قالت امرأة يف املدينة “‪ ،..‬ص‪ 405.‬ـ ‪.407‬‬ ‫(‪ )15‬حلســن عــزوز‪ ،‬امليتــا لغــة يف شــعر أمــل دنقــل‪ :‬ديــوان “‬ ‫أوراق الغرفــة ‪ “ 8‬منوذجــا (دراســة ســيميائية حتليليــة)‪ ،‬عالــم‬ ‫الكتــب احلديــث‪ ،‬إربــد (األردن)‪ ،2017 ،‬ص‪.239.‬‬ ‫(‪ِ )16‬مــن قصيــدة “ ديباجــة “ ‪ /‬ديــوان “البــكاء بــن يــدي زرقــاء‬ ‫اليمامــة “‪ ،‬ضمــن األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،..‬ص‪.107.‬‬ ‫(‪ )17‬عبــد الســام بنعبــد العالــي‪ ،‬مــا هــو النــص ؟‪ ،‬ضمــن‬ ‫الواقــع‪ ،‬دار توبقــال للنشــر (سلســلة املعرفــة‬ ‫ميتولوجيــا‬ ‫ِ‬ ‫الفلســفية)‪ ،‬الــدار البيضــاء‪( ،1999 ،‬ص‪ 59.‬ـ ‪ ،)60‬ص‪.59.‬‬ ‫(‪ )18‬ينظــر‪ :‬يــوري لومتــان‪ ،‬مشــكلة املــكان الفنــي‪ ،‬تقــدمي‬ ‫وترجمــة ســيزا قاســم‪ ،‬عيــون املقــاالت‪ ،‬ع‪ ،08.‬الــدار البيضــاء‪،‬‬ ‫‪( ،1987‬ص‪ 59.‬ـ ‪ ،)86‬ص‪.69.‬‬ ‫(‪ )19‬مــن بــن العديــد مــن املصطلحــات النقــد األدبــي‬ ‫األجنبيــة‪ ،‬يف مطلــع القــرن العشــرين‪ ،‬ولــد مصطلــح نقــدي‬ ‫جديــد هــو ال ـ (‪ )Objective Correlative‬الــذي ابتكــره ت‪.‬‬ ‫س‪ .‬إليــوت حــن نشــر مقالتــه املشــهورة ب ـ “ هملــت ومشــكالته‬ ‫“ يف عــام ‪ 1919‬وقــد اســتق ّرت ترجمتــه إلــى العربيــة ب ـ املعــادل‬

‫ـميات عرب ّيــة أخــرى‪ ،‬فصــار نظريــة‬ ‫املوضوعــي “ مــع وجــود تسـ ٍ‬ ‫الفكــر األدبــي‬ ‫نقد ّيــة لهــا تأثيرهــا ومداهــا‬ ‫ِ‬ ‫الواســعان يف ِ‬ ‫األوربــي علــى وجــه اخلصــوص‪ .‬ينظــر‪ :‬عنــاد غــزوان‪ ،‬املعــادل‬ ‫املوضوعــي مصطلح ـ ًا نقد ّي ـ ًا‪ ،‬األقــام‪ ،‬ع‪ ،09.‬وزارة الثقافــة‬ ‫اجلاحــظ‪ ،‬بغــداد‪ ،‬ينايــر ســبتمبر ‪( ،1984‬ص‪34.‬‬ ‫واإلعــام‪ ،‬دار‬ ‫ِ‬ ‫ـ ـ ‪ ،)51‬ص‪ 34.‬ـ ـ ‪.35‬‬ ‫(‪ )20‬ينظــر أمثلــة أخــرى عــن العقــد النفســية‪ :‬ســجموند‬ ‫فرويــد‪ ،‬خمــس حــاالت مــن التحليــل النفســي‪ ،‬ترجمــة صــاح‬ ‫مخيمــر وعبــده ميخائيــل رزف وتقــدمي مصطفــى زيــور‪ ،‬مكتبــة‬ ‫األجنلــو املصريــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،2007 ،‬ص‪.466.‬‬ ‫(‪ )21‬عنــاد غــزوان‪ ،‬املعــادل املوضوعــي مصطلح ـ ًا نقد ّي ـ ًا‪،‬‬ ‫اجلاحــظ‪ ،‬بغــداد‪،‬‬ ‫األقــام‪ ،‬ع‪ ،09.‬وزارة الثقافــة واإلعــام‪ ،‬دار‬ ‫ِ‬ ‫ينايــر ســبتمبر ‪( ،1984‬ص‪ 34.‬ـ ـ ‪ ،)51‬ص‪.42.‬‬ ‫(‪ )22‬ســامح الرواشــدة‪ ،‬فضــاءات الشــعرية‪ :‬دراســة نقديــة يف‬ ‫ديــوان أمــل دنقــل‪ ،‬املركــز القومــي للنشــر‪ ،‬إربــد (األردن)‪،1999 ،‬‬ ‫ص‪.23.‬‬ ‫(‪ِ )23‬مــن قصيــدة “ أيــدوم النهــر “ ‪ /‬ديــوان “ قصائــد متفرقــة “‬ ‫ضمــن األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،..‬ص‪.438.‬‬ ‫(‪ )24‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.439.‬‬ ‫(‪ )25‬يــوري لومتــان‪ ،‬مشــكلة املــكان الفنــي‪ ،‬تقــدمي وترجمــة‬ ‫ســيزا قاســم‪ ،‬عيــون املقــاالت‪ ،‬ع‪ ،08.‬املغــرب‪( ،1987 ،‬ص‪ 59.‬ـ‬ ‫‪ ،)86‬ص‪.68.‬‬ ‫(‪ )26‬عنــاد غــزوان‪ ،‬املعــادل املوضوعــي مصطلح ـ ًا نقد ّي ـ ًا‪،‬‬ ‫اجلاحــظ‪ ،‬بغــداد‪،‬‬ ‫األقــام‪ ،‬ع‪ ،09.‬وزارة الثقافــة واإلعــام‪ ،‬دار‬ ‫ِ‬ ‫ينايــر ســبتمبر ‪( ،1984‬ص‪ 34.‬ـ ـ ‪ ،)51‬ص‪.43.‬‬ ‫(‪ِ )27‬مــن قصيــدة “ أوتوجــراف “ ‪ /‬ديــوان “ مقتــل القمــر “‪،‬‬ ‫ضمــن األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،..‬ص‪.92.‬‬ ‫(‪ )28‬ينظــر‪ :‬غيوغــي غاتشــف‪ ،‬الوعــي والفــن‪ ،‬ترجمــة نوفــل‬ ‫نيــوف ومراجعــة ســعد مصلــوح‪ ،‬اجمللــس الوطنــي للثقافــة‬ ‫املعرفــة ‪ ،)146‬الكويــت‪،1990 ،‬‬ ‫والفنــون واآلداب (سلســلة عا َلــم ِ‬ ‫ص‪.73.‬‬ ‫مهمــة الشــاعر يف احليــاة وشــعر اجليــل‬ ‫(‪ )29‬ســيد قطــب‪ّ ،‬‬ ‫احلاضــر‪ ،‬منشــورات اجلمــل‪ ،‬كلولونيــا (أملانيــا)‪ ،1996 ،‬ص‪.13.‬‬ ‫(‪ )30‬عبــد الناصــر هــال‪ ،‬االنفصــال واالتصــال‪ :‬ثنائيــة‬ ‫املدينــة والثــأر يف شــعر أمــل دنقــل‪ ،‬الهيئــة العامــة لقصــور‬ ‫الثقافــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،2002 ،‬ص‪.91.‬‬ ‫(‪ )31‬نق ـ ًا عــن‪ :‬ســامح الرواشــدة‪ ،‬فضــاءات الشــعرية‪ :‬دراســة‬ ‫نقديــة يف ديــوان أمــل دنقــل‪ ،‬املركــز القومــي للنشــر‪ ،‬إربــد‬ ‫(األردن)‪ ،1999 ،‬ص‪.15.‬‬ ‫(‪ )32‬ينظــر‪ :‬خلــدون الشــمعة‪ ،‬املثاقفــة اإلليوتيــة‪ ،‬فصــول‪ ،‬ع‪.‬‬ ‫‪ ،03‬الهيئــة املصريــة العامــة للكتــاب‪ ،‬القاهــرة‪( ،1996 ،‬ص‪62.‬‬ ‫ـ ـ ‪ ،)73‬ص‪ .69.‬أحــال علــى‪ :‬أســعد رزوق‪ :‬األســطورة يف الشــعر‬ ‫املعاصــر‪ ،‬بيــروت‪ ،1959 ،‬ص‪.12‬‬ ‫(‪ )33‬ينظــر مثــاال تطبيقيــا يف‪ :‬جابــر عصفــور‪ ،‬شــاعر ال ّرفــض‬ ‫والشــاعر املتضــا ّد‪« :‬األفعــى» قصيــدة مجهولــة ألمــل دقــل‪ُ ،‬د َبـ ْـي‬ ‫الثَّقافيــة‪ ،‬ع‪ ،77.‬دار الصــدى للصحافــة والنشــر والتوزيــع‪ ،‬دبــي‬ ‫(دول اإلمــارات امل ّتحــدة)‪ ،‬أكتوبــر ‪ ،2011‬ص‪.115.‬‬ ‫وتعدد ّيــة‬ ‫(‪ )34‬نق ـ ًا عــن‪ :‬بوجمــة بوبعيــو‪ ،‬آليــات التّأويــل‬ ‫ُّ‬ ‫القــراءة‪ :‬مقاربــة نظر ّيــة نقد ّيــة‪ ،‬منشــورات ّاتــاد الك ّتــاب‬ ‫ِ‬ ‫الدراســات ‪ ،)8‬دمشــق‪ ،2009 ،‬ص‪.26.‬‬ ‫ال َعــرب (سلســلة ّ‬ ‫(‪ِ )35‬مــن قصيــدة “ العشــاء األخيــر “ ‪ /‬ديــوان “ مقتــل القمــر “‪،‬‬ ‫ضمــن األعمــال الشــعرية الكاملــة‪ ،‬ص‪.177.‬‬ ‫(‪ )36‬ينظــر‪ :‬ســامح الرواشــدة‪ ،‬فضــاءات الشــعرية‪ :‬دراســة‬ ‫نقديــة يف ديــوان أمــل دنقــل‪ ،‬املركــز القومــي للنشــر‪ ،‬إربــد‬ ‫(األردن)‪ ،1999 ،‬ص‪ .22.‬حيــث يقــول عــن هــذه املفارقــة‪« :‬هــو‬ ‫منــط واســع يف شــعر دنقــل‪ ،‬غــذ تبــدو الصــورة بــدالالت معينــة‪،‬‬ ‫مغايــرة ملــا بــدأت بــه‪ ،‬كأن‬ ‫لكنهــا تتحــول إلــى دالالت جديــدة ِ‬ ‫تكــون الداللــة إيجابيــة فتتحــول ســلبية‪ ،‬أو تكــون ســلبية ثــم‬ ‫تتحــول إيجابيــة»‪.‬‬ ‫(‪ )37‬ينظــر‪ :‬محمــود قرنــي‪ ،‬اختــزال أمــل دنقــل يف قصيــدة‬ ‫الرفــض ينتقــص مــن جتربتــه‪ ،‬الفيصــل‪ ،‬ع‪،494 / 493.‬‬ ‫مؤسســة امللــك فيصــل اخليريــة‪ ،‬نوفمبــر ‪.2017‬‬ ‫(‪ )38‬عبلــة الروينــي‪ ،‬ســيرة أمــل دنقــل اجلنوبــي‪ ،‬دار ســعاد‬ ‫الصبــاح‪ ،‬الكويــت ـ القاهــرة‪ ،1992 ،‬ص‪.09.‬‬


‫فكـر‬

‫‪51‬‬

‫هل تحتاج النسوية أن تكون إسالمية؟‬ ‫(النســـوية اإلســـامية) حركـــة سياســـية ظهـــرت مطلـــع تســـعينيات القـــرن‬ ‫المتشـــدد واختُ لف حـــول ماهية مـــا تكونه وما‬ ‫العشـــرين مـــع المـــد اإلســـامي‬ ‫ِّ‬ ‫التوجه وانتمين إلى النســـوية‬ ‫تريـــده‪ .‬وكثير من الباحثات الالئي انجررن وراء هذا‬ ‫ّ‬ ‫اإلســـامية لـــم يحققـــن على المســـتوى الثقافي ســـوى مزيـــد من تبـــرم الرأي‬ ‫العام من إســـاميتهن التـــي هي أقرب إلى اإليديولوجية منهـــا إلى الدين‪ ،‬ومن‬ ‫هن عـــززن الصورة اإلســـامية للمرأة‪.‬‬ ‫ثـــم ال‬ ‫هـــن أفـــدن النظرية النســـوية وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫د‪ .‬نادية هناوي‬

‫لو أن النسوية‬ ‫اإلسالمية انطلقت من‬ ‫ُبعد نفسي ال سياسي‬ ‫واعتمدت منهجا‬ ‫معتدال لربما حققت ما‬ ‫أرادت تحقيقه‬ ‫وأخالقيــا واجتماعيــا فليســت محظــورة؛ بــل‬ ‫هــي معتــادة ومطروقــة ومــن يطالــع الصفحــات‬ ‫الثقافيــة للصحــف اليوميــة أو األســبوعية يف‬ ‫البلــدان العربيــة واإلســامية فســيجد بــن‬ ‫الفينــة واألخــرى أكثــر مــن مقــال أو دراســة‬ ‫تصـ ّـب يف هــذا البــاب‪.‬‬ ‫ومثلها مواطنتها رفعت حسن التي احتلت‬ ‫مكانــا يف النســوية اإلســامية وهــي أكادمييــة‬ ‫ولهــا أبحــاث يف فكــر محمــد إقبــال والنســاء‬ ‫يف اإلســام واإلســام املعاصــر‪ .‬وكذلــك إيــان‬ ‫حرســي الصوماليــة ونســوة أخريــات أســقطن‬ ‫ســيرهن احلياتيــة وجتاربهــن اخلاصــة علــى‬ ‫اجملمــوع النســوي اإلســامي‪ ،‬وهــن يتحدثــن‬ ‫عــن الفقــر واضطهــاد األقليــة والكبت اجلنســي‬ ‫والعنــف املنزلــي والــزواج القســري‪ ..‬لكــن الــذي‬ ‫يؤاخــذن عليــه هــو التطــرف يف بعــض اآلراء‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ومــن يصــف هــؤالء باملفكــرات والفيلســوفات‬ ‫فمتوهــم كل الوهــم‪ ،‬فليــس القــول بنســوية‬ ‫إســامية والدعــوة إلــى حتريــر النســاء مــن‬ ‫املظالــم والقيــود تعنــي أن هنــاك تفلســفا؛‬ ‫بــل هــي آراء تطرحهــا الكاتبــة وقــد عايشــت‬ ‫جتربــة مجتمعيــة فيهــا تضييــق ورضــوخ أو هــي‬ ‫مواقــف تتبناهــا مــن عانــت الظلــم ورفضــت‬ ‫االنقيــاد أو انكــوت بنــار االضطهــاد واحلبــس‬ ‫واإلهمــال واملراقبــة‪.‬‬ ‫وعــادة مــا يكــون املبتغــى مــن وراء طــرح‬ ‫تلــك اآلراء وا ّتخــاذ تلــك املواقــف هــو اإلصــاح‬ ‫تتحســن‬ ‫والتعايــش واالحتــرام الــذي بــه‬ ‫ّ‬ ‫احليــاة‪ .‬بيــد أن أغلــب الالئــي ينادين بالنســوية‬ ‫قدمــن‬ ‫اإلســامية هــن مهاجــرات ومغتربــات ِ‬ ‫مــن بلــدان فقيــرة أو محتربــة أو متشـ ّـددة‪،‬‬ ‫منفيــات أو هاربــات ثـ ّـم ا ّتخــذن مــن بعــض‬ ‫بلــدان الهجــرة منصــات لطــرح رؤاهــن الفقهيــة‬ ‫بنوعيهــا الســلفية واإلصالحيــة ومبنهجيــات‬ ‫تأويلية ونفســانية أو بدون منهجيات مع كثير‬ ‫مــن التمـ ّرد والعصيــان آلبائهــن ومجتمعاتهــن‬ ‫مع ّبــرات عــن مظالــم وكاشــفات عــن ممارســات‬ ‫تعبــر عــن تعاســتهن وجتاربهــن التــي فيهــا‬ ‫ذواتهــن متضــادة مــع اآلخــر اخملتلــف‪ ،‬مفــردا‬ ‫كان هــذا اآلخــر أو جمعــا ذكــورا أو إناثــا معرفني‬ ‫أو مجهولــن‪.‬‬ ‫ومــن هــؤالء أمينــة ودود التــي جذبــت‬ ‫االنتبــاه إليهــا وهــي تــؤدي دور اإلمــام يف جمــع‬ ‫مــن املصلــن بأحــد مســاجد نيويــورك‪ .‬وهــو‬ ‫مــا أثــار يف حينهــا جــدال وألنّ لهــا مبرراتهــا‬ ‫أ ّلفــت كتابــا ِمحــوره هــذا اجلــدل‪ .‬وحظيــت‬ ‫أســماء بــرالس الباكســتانية بدعــم إعالمــي‬ ‫وهــي تــدرس اإلســام والتأويــل القرآنــي واملــرأة‬ ‫واجلنوســة يف كتابهــا (املؤمنــات يف اإلســام)‬ ‫فجــذت إليهــا األضــواء التــي مــا كانــت‬ ‫لتجذبهــا لــو أنهــا كانــت يف بلدهــا‪ .‬أمــا املســائل‬ ‫التــي ناقشــتها كاألبويــة والســلطوية والتمييــز‬ ‫بــن اجلنســن وأفضليــة الرجــل انطولوجيــا‬

‫إن المرأة التي تدعو‬ ‫ّ‬ ‫إلى إصالح واقع‬ ‫تعايشه وتتحمل‬ ‫أتونه غير التي‬ ‫تنادي وهي محتمية‬ ‫بالغرب‬

‫إلــى درجــة املغــاالة واإلحلــاد أو رمبــا االرتــداد‬ ‫بالعصيــان وإشــاعة اإلســاموفوبيا‪ ،‬ومــا لذلــك‬ ‫مــن مــردودات ســلبية علــى املــرأة املســلمة كونــه‬ ‫ال يعالــج شــرخا‪ ،‬وإمنــا يزيــد يف تعميــق الشــرخ‬ ‫والتداعــي‪ ،‬فتتعالــى املعــاداة للنســوية وقــد‬ ‫ُتســفِّ ه أهدافهــا وتهضــم حقوقهــا ويتهــاون‬ ‫يف االســتجابة ملطالبهــا ويشـ ِّـكك فيمــا تدعــو‬ ‫إليــه مــن مســائل لهــا عالقــة شــرعية وحقوقيــة‬ ‫بــاإلرث والشــهادة والــزواج والطــاق واحلجــاب‪.‬‬ ‫وبالطبــع فــإنّ املــرأة التــي تدعــو إلــى إصــاح‬ ‫واقــع تعايشــه وتتحمــل أتونــه غيــر التــي تنــادي‬ ‫وهــي محتميــة بالغــرب‪ .‬ليــس مــن بــاب أن‬ ‫األولــى تكافــح مناضلــة وال غايــة نفعيــة‬ ‫ترجتيهــا مــن واقعهــا املريــر؛ بــل ألن الثانيــة‬ ‫تنــادي بإصــاح ولهــا وراء ذلــك مــآرب أخــرى‬ ‫تدلــل عليهــا املواقــع التــي حتتلهــا وفــرص‬ ‫التوظيــف والعمــل والقبــول يف مراكــز بحثيــة‬ ‫أو علــى األقــل الظفــر بالشــهرة التــي بهــا‬ ‫حتقــق مــآالت كانــت ترجتيهــا‪.‬‬ ‫وهــذا مــا يثيــر األســئلة حــول مــدى صــدق‬ ‫نوايــا الباحثــات يف النســوية اإلســامية‬ ‫كمــا يجعــل االرتيــاب يتســرب إلــى األذهــان‬ ‫حــول حقيقــة مــا ينشــدنه مــن وراء مت ّردهــن‬ ‫ونقمتهــن‪ ،‬أهــو اإلصــاح والتغييــر أم هــو شــيء‬ ‫آخر؟ ال سيما إذا علمنا أن أغلب املنضويات يف‬ ‫النســوية اإلســامية يعملــن اآلن يف مؤسســات‬ ‫أكادمييــة مرموقــة يف أوربــا وأمريــكا ناهيــك‬ ‫عــن حقيقــة مــا مــرت بــه بعــض الداعيــات إلــى‬ ‫هــذه النســوية مــن ظــروف تعيســة أدت بهــن‬ ‫إلــى أن يكــن ناقمــات علــى املبــادئ ومتمــردات‬ ‫علــى آبائهــن ومجتمعاتهــن‪ .‬وإجمــاال لــم جتـ ِـن‬ ‫النســوية شــيئا مــن هــذا كلــه؛ بــل ظ ّلــت املنفعــة‬ ‫مقصــورة يف إطــار ذاتــي‪ ،‬ســعيا وراء الشــهرة‬ ‫وجذبــا لألضــواء ورمبــا اخلضــوع لدوائــر‬ ‫معينــة تــر ِّوج لهــن وتدعمهــن يف اخلفــاء‪.‬‬ ‫ولــو أن النســوية اإلســامية انطلقــت مــن‬ ‫ُبعــد نفســي ال سياســي واعتمــدت منهجــا‬


‫‪52‬‬

‫فكـر‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أمينة ودود‬

‫أسماء برالس‬

‫إيان هرسي‬

‫معتــدال لرمبــا حققــت مــا أرادت حتقيقــه‪،‬‬ ‫مفيــدة مــن الــرؤى والنظريــات االجتماعيــة‬ ‫والنفســية‪ ،‬منتقــدة الســلطة الذكوريــة‬ ‫املهيمنــة علــى مختلــف مجــاالت احليــاة بنظــم‬ ‫رمزيــة لهــا صلــة بالثقافــة واللغــة والعقــل كمــا‬ ‫أن فيهــا كثيــرا مــن التحريــف والتشــويه‪.‬‬ ‫وبعــض اللواتــي أردن أن يظهــرن مبظهــر‬ ‫املتحــررات لــم يكـ َّـن مــن اإلســام يف شــيء؛ بــل‬ ‫كـ ّـن ضــده‪ ،‬وبعضهــن اآلخــر كان تبعـ ًا للذكوريــة‬ ‫يف النظــر للمــرأة‪ ،‬موطــدات بقصــد أو مــن دون‬ ‫قصــد مــآرب التمركــز الذكــوري‪ ،‬لكنهــن أيضــا‬ ‫حققــن ألنفســهن يف ظــرف وجيــز شــهرة مــا كــن‬ ‫يحلمــن بتحقيقهــا‪ .‬وعلــى الرغــم ممــا أخذتــه‬ ‫(النســوية اإلســامية) مــن صــدى إعالمــي ومــا‬ ‫القتــه مــن دعــم؛ فإنهــا لــم ت ُِفــد النســاء ولــم‬ ‫يكــن لهــا أي أثــر يف واقــع املــرأة االجتماعــي‬ ‫والثقــايف الراهــن‪ ،‬والســبب التضخيــم املقصــود‬ ‫واملتح ِّيــز الــذي يتظاهــر بالوقــوف إلــى جانــب‬ ‫املــرأة بينمــا هــو يعاديهــا يف الصميــم‪.‬‬ ‫هكــذا غــدت النســوية اإلســامية صــورة‬ ‫مفبركــة ومكذوبــة ألمريــن‪ :‬األول‪ /‬أنهــا ليســت‬ ‫مــن النســوية يف شــيء‪ .‬والثانــي‪ /‬أنهــا ليســت‬ ‫مــن اإلســامية يف شــيء‪ .‬إذ ليــس املقصــود‬ ‫مــن مجــئ الباحثــة النســوية إلــى ميــدان‬ ‫الــدرس اإلســامي تعميــق تفقههــا الــذي فيــه‬ ‫إعــاء لقيمــة املــرأة يف مجتمعهــا؛ بــل هــو يف‬ ‫الغالــب التمــرد خرقــا وانتهــاكا وجتــاوزا علــى‬ ‫املواضعــات اإلســامية وأعرافهــا اجملتمعيــة‬ ‫واإلعــان عــن عــدم االحتــرام والتظاهــر‬ ‫بالشــجاعة بينمــا احلقيقــة هــي البحــث عــن‬ ‫الشــهرة الســريعة وجــذب األضــواء الســاطعة‪.‬‬ ‫وكلمــا كان متــردت املــرأة املنتميــة إلــى النســوية‬ ‫اإلســامية قويا وجريئا وســاخنا كانت الشــهرة‬ ‫أســرع إليهــا‪ .‬والصدمــة األشــد أن الكاتبــات‬ ‫اللواتــي انتمــن للنســوية اإلســامية أغلبهــن‬

‫مهاجــرات وجــدن يف الغــرب مــاذا وانتمــن لــه‬ ‫الجئــات ومنفيــات مفيــدات مــن حيــز احلريــة‬ ‫الشــخصية والليبراليــة الفكريــة‪ ،‬مــن أمثــال‬ ‫افصانــه جنــم ابــادي ونيــره توحيــدي وزيباميــر‬ ‫حســني‪.‬‬ ‫والســؤال هنــا هــل اســتطاعت النســوية‬ ‫أن تتحــرر مــن كونهــا حركــة سياســية؟ وهــل‬ ‫يرســخن ـ بتمردهــن‬ ‫متكنــت الداعيــات لهــا أن ِّ‬ ‫وشــطح أفكارهــن ـ موضعــا لهــن يف تاريــخ‬ ‫النســوية\؟ ومــا الفائــدة التــي جنتهــا املــرأة‬ ‫املســلمة والنســوية العربيــة؟ وكيــف جتنــي‬ ‫املــرأة الفائــدة والنســوية توجــه لنفســها ضربــة‬ ‫تطعــن فيهــا لــب توجهاتهــا‪ ،‬منفِّ ــرة منهــا‬ ‫العمــوم ومض ِّيقــة مجالهــا بالتضليــل واخلــداع‬ ‫واالتهــام والنبــذ‪ ..‬وليــس بالتفكــر واالســتدالل‬ ‫واالنفتــاح والتشــارك؟‬ ‫رغــم محــاوالت (النســوية اإلســامية) نشــر‬ ‫مســائل العقيــدة التــي بــدت مريبــة يف تزامــن‬ ‫أبحاثهــا‪ ،‬فــإن مــا حملتــه مــن انحــراف ومت ـ ّرد‬ ‫جعــل جهودهــا تذهــب أدراج الريــاح‪ .‬هــذا إن‬ ‫لــم تكــن قــد أســاءت إلــى النســوية وعزلتهــا يف‬ ‫زاويــة ضيقــة‪ ،‬تتقلــص فيهــا قيمتهــا االعتبارية‬ ‫البحثيــة والفكريــة مفتقــدة بعض ـ ًا مــن‬ ‫احترامهــا‪ ،‬وخاســرة املــواالة العاطفيــة والدعــم‬ ‫املعنــوي اللذيــن هــي بأمــس احلاجــة إليهمــا‬ ‫مــن أجــل القيــام مبهامهــا علــى أحســن وجــه‪.‬‬ ‫ونظــرة متفحصــة يف الغايــات التــي بهــا‬ ‫يتــم اســتكتاب باحثــن وفــق اعتبــارات إســامية‬ ‫نســوية ســيتضح لنــا أنّ املــرأة يف هكــذا نــوع‬ ‫مــن األبحــاث األكادمييــة ليســت هــي الغايــة‬ ‫لوحدهــا كمــا أن النســوية قــد تضيــع أحيانــا‬ ‫يف خضــم متاهــات أيديولوجيــة وتوجهــات‬ ‫عقائديــة تض ـ ّر بكينونتهــا أكثــر ممــا تنفعهــا‪.‬‬ ‫وهــو مــا قــد يفيــد بعــض التيــارات واحلــركات‬ ‫التــي تبغــي بهــذا التقييــد للنســوية بالســمة‬

‫اإلســامية ضــرب حــركات وتيــارات أخــرى‬ ‫تختلــف يف أفكارهــا معهــا وتتعــارض معهــا يف‬ ‫رؤاهــا‪.‬‬ ‫وقــد ال جنانــب جــادة الصــواب إذا قلنــا إن‬ ‫الديــن يف منظــور النســوية اإلســامية أكثــر‬ ‫مركزيــة مــن ســواه‪ ،‬وهــو مــا يجعــل اإلســام‬ ‫يبــدو بحســب توجهاتهــا ورؤاهــا كأنــه ديــن‬ ‫قهــر واضطهــاد للمــرأة وليــس الديــن الــذي‬ ‫رفــع احليــف عنهــا وأعطاهــا مكانتهــا وح ّررهــا‬ ‫وأعــاد لهــا اعتبارهــا‪.‬‬ ‫ولقــد أ ّدت بعــض الباحثــات العربيــات دورا‬ ‫اعتداليــا وهــن يدرســن النســوية مــن منظــور‬ ‫إســامي‪ ،‬ومنهــن أميمــة أبــو بكــر التــي تت ّبعــت‬ ‫بدايــات الوعــي النســوي األنثــوي يف التاريــخ‬ ‫اإلســامي مؤشــرة علــى بعــض الوقائــع التــي‬ ‫لهــا داللتهــا النســوية‪ ،‬ومنهــا واقعــة أم ســلمة‬ ‫وأســماء بنــت عميــس التــي تدلــل علــى أن‬ ‫للمــرأة مكانتهــا يف شــؤون احليــاة‪ .‬واقترحــت‬ ‫دراســة الفقــه وســياقاته االجتماعيــة ومراجعــة‬ ‫اآلراء الفقهيــة التــي غلبــت فيهــا الثقافــة‬ ‫احملليــة علــى صريــح النــص أو مقاصــده‪،‬‬ ‫وقدمــت ألهليــة املــرأة العقليــة والقانونيــة‬ ‫صــورة دونيــة تتعــارض مــع صريــح النــص‬ ‫القرآنــي وســنة الرســول القوليــة والفعليــة‬ ‫(‪ ،)1‬مؤكــدة أنّ األجنــدة النســوية هــي يف‬ ‫عمومهــا ليســت متوحــدة‪ ،‬فهنــاك النســوية‬ ‫الليبراليــة والراديكاليــة واملاركســية وهنــاك‬ ‫نســوية محافظــة وأخــرى دينيــة كمــا أن‬ ‫هنــاك تخصصــات ومناهــج متعــددة تعتمــد‬ ‫يف دراســة النســوية مثــل املناهــج التاريخيــة‬ ‫واالنثربولوجيــة والسياســية واألدبيــة النقديــة‬ ‫وغير هــا‪.‬‬ ‫وتتحفّ ــظ أميمــة علــى توصيــف النســوية‬ ‫باإلســامية أو تســمية النسويات باإلسالميات‪،‬‬ ‫والســبب برأيهــا أنهــا قــد تعطــي انطباعــا بوجود‬


‫فكـر‬

‫نســوية غيــر إســامية ونســويات غيــر إســاميات‬ ‫فضــا عمــا قــد حتدثــه مثــل هــذه األوصــاف‬ ‫واألســماء مــن الفرقــة‪ .‬ومثلــت بأوائــل النســاء‬ ‫املتعلمــات مثــل زينــب فــواز وعائشــة التيموريــة‬ ‫وملــك حفنــي ناصــف الالئــي كــن معتــدالت‬ ‫غيــر متصادمــات مــع النهــج اإلســامي (‪.)2‬‬ ‫وال نــرى فرقــا بــن توصيــف النســوية‬ ‫باإلســامية أو توصيفهــا باملســلمة ألنهمــا يف‬ ‫العمــوم يصبــان يف بــاب التماشــي مــع مــا ُعـ ِـرف‬ ‫يف بعــض البلــدان مــن ظهــور نســوية يهوديــة‬ ‫ونســوية مســيحية وبغــض النظــر عــن اختــاف‬ ‫املنظــور والرؤيــة وطبيعــة الســياق الثقــايف‬ ‫واحلضــاري الــذي تنتمــي إليــه كل نســوية مــن‬ ‫هــذه النســويات‪.‬‬ ‫ومــا ينبغــي علــى املــرأة أن تطرحــه ـ كفــرد يف‬ ‫جماعة توصف بأنها نســوية إســامية ـ هو أين‬ ‫هــي تلــك النســوية التــي متثلهــا وهــي متقــت‬ ‫اإلســام واملنظومــة اإلســامية؟ وملــاذا تتاجــر‬ ‫باســمها نســوية باحثة عن أهداف مشــبوهة يف‬ ‫مقدمتهــا االشــتهار؟ وملــاذا تتناقــض األهــداف‬ ‫مــع الوســائل عنــد مــن تتحــدث باســم اإلســام؟‬ ‫ومــا نصيــب املــرأة يف نســوية هــي يف األســاس‬ ‫محـ ّـددة بخصوصيــة مصلحيــة ونفعيــة؟ أليس‬ ‫التكميــم واإلدانــة همــا النصيــب الــذي بــه‬ ‫تهــدر مظلوميتهــا؟ وأيــن هــي النســوية اليــوم‬ ‫مــن املــرأة العربيــة التــي تعيــش يف الهامــش‬ ‫عاملــة وفالحــة ومعاقــة ومتوحــدة ومريضــة‬ ‫نفســيا ومســجونة وفاقــدة عقــل إلــى آخــره‬ ‫مــن الهوامــش النســوية؟ هــل متكنــت بعــض‬ ‫النســويات العربيــات مــن النــزول ميدانيــا إلــى‬ ‫الواقــع املــزري الــذي تكابــد النســاء ويالتــه‬ ‫يوميــا وحياتيــا؟ هــل عملــن علــى تعميــم الــدور‬ ‫الثقــايف واجملتمعــي والعملــي علــى اجملمــوع‬ ‫النســوي بــدل االقتصــار علــى نفــر مــن النســوة‬ ‫أو علــى امــرأة واحــدة فيهــا تتمثــل كل النســاء؟‬

‫إن اإلجابــة قــد ال تكــون دقيقــة إال يف صــورة‬ ‫باحثــات نســويات يجمعــن النظــر بالعمــل‪..‬‬ ‫كمــا أن هنــاك باحثــات هــن لســن نســويات‪،‬‬ ‫لكنهــن يف عملهــن كــن أقــرب إلــى النســوية‬ ‫فوقفــن بعموميــة ـ ال تخصيــص فيهــا وال والء ـ‬ ‫مــع مــن هــي مهمشــة ومهملــة‪ .‬ومــن ذلــك مثــا‬ ‫مــا أدتــه املــرأة املتعلمــة يف عصــر النهضــة أواخــر‬ ‫القــرن التاســع مــن دور تنويــري يف مواجهــة‬ ‫الســلطة الفحوليــة‪ ،‬ممتلكــة وعي ـ ًا إســامي ًا‪،‬‬ ‫أم ـ ًا‬ ‫بــه ضمنــت فيمــا بعــد بعض ـ ًا مــن حقوقهــا ّ‬ ‫وزوجــة وبنت ـ ًا وعاملــة‪.‬‬ ‫وهنــاك باحثــات دفعتهــن موضوعــات‬ ‫دراســتهن إلــى أن يكــن نســويات مــن دون‬ ‫أن يقصــدن ذلــك‪ .‬ويف هــذا دليــل قــوي مــن‬ ‫دالئــل العموميــة التــي ينبغــي أن تكــون عليهــا‬ ‫النســوية العربيــة‪ .‬نذكــر يف هــذ الصــدد دراســة‬ ‫الواقــع التحتــي للمســجونني واملســجونات ممــا‬ ‫قامــت بــه منــى فيــاض يف دراســتها التــي ابتغــت‬ ‫منهــا نيــل شــهادة عليــا‪ ،‬مؤكــدة مقصديتهــا‬ ‫اإلنســانية التــي دعمتهــا بإشــاراتها إلــى فوكــو‬ ‫وكتابــه «املراقبــة» مد ِّللــة علــى وعــي نســوي‬ ‫باملــرأة التــي هــي نزيلــة الســجن‪ .‬فالتفتــت إلــى‬ ‫هــذه الفئــة النســوية ودرســت وظيفــة العقــاب‬ ‫وبــروز احلساســية اجلديــدة ضــد العنــف وإرادة‬ ‫العدالــة املنزهــة مــن العنــف وارتبــاط ذلــك‬ ‫بتغييــر النظــرة إلــى اجلســد وإلــى النفــس‪..‬‬ ‫الــخ (‪.)3‬‬ ‫وال شــك يف أنّ النظــرة العلميــة تكســب‬ ‫النســوية عموميتهــا‪ ،‬ونعنــي بالعموميــة فرديــة‬ ‫املــرأة يف اســتقالل كيانهــا أوال ويف اندماجــه‬ ‫بالــكل النســوي الــذي ال مياهــي فرديــة‬ ‫املــرأة داخلــه؛ بــل يفرزهــا كيان ـ ًا تتالقــي يف‬ ‫خصوصيتــه عموميــة النســوية باجملمــوع آخراً‪.‬‬ ‫ومــن الوســائل التــي بهــا تتمكــن النســوية مــن‬ ‫تأكيــد هــذه العموميــة رفضهــا التخصيــص يف‬

‫عالقتهــا الروحيــة باألديــان‪ .‬هــذا التخصيــص‬ ‫ـرأي‬ ‫الــذي كثيــر ًا مــا يؤ ِّلــب علــى النســوية الـ َ‬ ‫العــام ويجعلهــا موضــع مقــت‪ ،‬وبســببه ُتــزدرى‬ ‫توجهاتهــا البحثيــة‪.‬‬ ‫إن العموميــة مصــدر قــوة للمــرأة وبهــا‬ ‫تضمــن االرتقــاء وحتــول دون أن تكــون نســويتها‬ ‫أداة مــن أدوات الوقــوع يف غلــواء التطــرف‬ ‫واالنحيــاز وفخــاخ االستشــراق والكولونياليــة‬ ‫وســلبيات التفســير لألصــول واملرجعيــات‬ ‫منمقــة‬ ‫وذرائعيــة األهــداف املبيتــة بشــعارات ّ‬ ‫مــن قبيــل (متكــن املــرأة ‪ /‬التغييــر اجملتمعــي‬ ‫‪ /‬رفــض التمييــز اجلنــدري ‪ /‬محاربــة العنــف‬ ‫األســري ‪ /‬منــاوأة التعنيــف اجلســدي ‪/‬‬ ‫مناصــرة املــرأة املع ّنفــة‪ )..‬ومــا شــاكل ذلــك‬ ‫كثيــر‪.‬‬ ‫بعبــارة أخــرى نقــول إن الــذي يعطــي للمــرأة‬ ‫شــخصيتها ويجعلهــا بعيــدة عــن أن تكــون‬ ‫أداة ِبيــد غيرهــا ومينحهــا ســمة النســوية هــي‬ ‫(العموميــة) التــي فيهــا تتجــاوز كلّ تخصيــص‬ ‫أو تقوقــع وانعــزال ومــن خاللهــا تقتــرب مــن‬ ‫منظومــة النمــاذج االجتماعيــة التقليديــة‬ ‫التــي تريــد نقدهــا وتصحيحهــا‪ ،‬عاملــة‬ ‫لصاحلهــا وصالــح بنــات جنســها‪.‬‬ ‫ومــا رفــض النســوية لفكــرة تسييســها ســوى‬ ‫توكيــد حلقيقــة أنهــا لــن تتخصــص يف مســائل‬ ‫ضيقــة ومطلبيــة‪ ،‬قــد تبعــد عنهــا ســمة التفكــر‬ ‫يف مختلــف صعــد احليــاة وجتعلهــا موســومة‬ ‫وربــا التط ـ ّرف والنبــذ‬ ‫بالتقوقــع واالنعــزال ّ‬ ‫أو التعصــب أو التشــويه وغيرهــا مــن الصفــات‬ ‫الســلبية التــي جتـ ّرد املــرأة مــن أحقيــة احلريــة‬ ‫وترهنهــا بالضيــق الفكــري‪ .‬وهــو مــا ينبغــي‬ ‫للنســوية أن تقاومــه بالعموميــة عاملــة علــى‬ ‫دعــم صورتهــا وتؤكيــد جــدوى فاعليتهــا‪ ،‬فلقــد‬ ‫تقلصــت املســافات وبانــت الســلبيات وحت ـ ّول‬ ‫العالــم مــن قريــة صغيــرة إلــى بيــت‪ .‬وال بــد مــن‬ ‫التكاتــف والتقــارب مبقاييــس كوزموبولتيــة‬ ‫حتســب علــى وفقهــا املســافات والعالقــات‬ ‫حيــث كل فــرد يف مجموعــة مــا‪ ،‬هــو جماعــي‬ ‫يف وحدتــه بالشــراكة والتحصــن واملراقبــة‬ ‫والتعايــش والتجــاوز والعمــل والتواصــل ضمــن‬ ‫مجتمــع كثيــر التعقيــد وبأشــكال جديــدة‬ ‫ومبتكــرة‪.‬‬ ‫اإلحاالت‪:‬‬ ‫(‪ )1‬املــرأة واجلنــدر إلغــاء التميــز الثقــايف‬ ‫واالجتماعــي بــن اجلنســن‪ ،‬د‪ .‬اميمــة أبــو‬ ‫بكــر ود‪ .‬شــيرين شــكري‪ ،‬دار الفكــر املعاصــر‪،‬‬ ‫بيــروت‪ ،‬ط‪ ، 2002 ، 1‬ص‪.32‬‬ ‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪ 47‬ـ‪50‬ـ‪.51‬‬ ‫(‪ )3‬الســجن مجتمــع بــري‪ ،‬منــى فيــاض‪،‬‬ ‫دار النهــار‪ ،‬بيــروت‪ ،‬ط‪ ،1999 ، 1‬ص‪.37‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أميمة أبوبكر‬

‫منى فياض‬

‫‪53‬‬


‫‪54‬‬

‫إطاللة‬

‫األعياد في فلسطين تمضي أيامها تحت وقع التكبيرات واالشتباكات بين‬ ‫المدافعين عن المسجد األقصى وجيش االحتالل وقطعان المستوطنين‬ ‫فلسطين البلد اإلسالمي الوحيد الذي يؤخر نحر األضاحي في‬ ‫عيد األضحى لليوم الثاني؟ إذا عرف السبب بطل العجب!‬ ‫فلسطين تتنوع فيها المأكوالت التقليدية في أيام عيد األضحى!!‬ ‫يختلـــف عيـــد األضحـــى فـــي فلســـطين عـــن البلـــدان العربيـــة والمســـلمة‬ ‫األخـــرى‪ ،‬كونهـــا تـــرزح تحـــت االحتـــال االســـتيطاني العنصـــري الصهيونـــي‬ ‫واضطهاداتـــه الكثيـــرة وما ينتج عنه مـــن أزمات اقتصادية ومعيشـــية يعاني‬ ‫منها أهل فلســـطين‪ ،‬بســـبب الحصار المفـــروض عليهم‪ .‬فال يوجـــد منزل في‬ ‫فلســـطين المحتلـــة إال وفيـــه شـــهيد أو جريـــح أو معتقـــل‪ ،‬أو أكثر‪.‬‬ ‫د‪ .‬ماهر كيوان‬

‫إال أنــه ورغــم كل هــذه املآســي‪ ،‬إال أن شــعب‬ ‫فلســطني‪ ،‬شــعب قــوي محــب للحيــاة‪ ،‬فهــو شــعب‬ ‫اجلباريــن املرابــط إلــى يــوم الديــن‪ ،‬شــعب كلفــه‬ ‫خالقــه بحراســة بوابــة الســماء‪ ،‬ومســرى رســولنا‬ ‫الكــرمي ومصلــى األنبيــاء‪ ،‬ورغــم كل هــذه املهمــات‬ ‫اجلســام امللقــاة علــى عاتقــه إال أنهــا لــم متنعــه‬ ‫مــن االحتفــال بعيــد األضحــى وإقامــة الشــعائر‬ ‫الدينيــة اخملتلفــة‪.‬‬ ‫أسباب تأخير النحر لليوم الثاني‬ ‫لعيد األضحى‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يف أول يــوم مــن أيــام عيــد األضحــى تســعى‬ ‫جماعــات الهيــكل لتنفيــذ اقتحــام ضخــم‬ ‫للمســجد األقصــى‪ ،‬إحيــاء ملــا يســمى ذكــرى‬ ‫«خــراب الهيــكل»‪ ،‬ويعتبــر املســتوطنون خــراب‬ ‫الهيــكل املزعــوم يــوم حــزن وحــداد علــى تدميــر‬ ‫«هيــكل ســليمان» علــى يــد البابليــن‪ ،‬بينمــا‬ ‫تعكــف منظمــات الهيــكل ســنويا قبيــل هــذه‬ ‫الذكــرى علــى حشــد الــرأي العــام االســتيطاني‬ ‫مــن أجــل املشــاركة يف االقتحــام اجلماعــي الكبير‬ ‫لألقصــى‪ ،‬الــذي تنفــذه املنظمــات االســتيطانية‪.‬‬ ‫لهــذا الســبب وقبيــل حلــول عيــد األضحــى‬ ‫بأيــام تتصاعــد دعــوات الناشــطني الفلســطينيني‬ ‫إلــى ضــرورة شــد الرحــال للمســجد األقصــى‬ ‫بأعــداد كبيــرة يف أول أيــام عيــد األضحــى‪،‬‬ ‫واملكوث فيه لســاعات طويلة إلفشــال مخططات‬ ‫املســتوطنني املتطرفــن‪ .‬وحــث الناشــطون‬ ‫الفلســطينيون األهالــي علــى تأجيــل نحــر‬ ‫األضاحــي لليــوم الثانــي مــن أيــام عيــد األضحــى‪،‬‬ ‫لتســهيل حشــد أكبــر عــدد مــن املقدســيني يف‬

‫املســجد األقصــى‪.‬‬ ‫ويف تعقيبــه علــى ذلــك‪ ،‬قــال مفتــي القــدس‬ ‫والديــار الفلســطينية الشــيخ محمــد حســن إنــه‬ ‫ال مانــع مــن تأجيــل ذبــح األضاحــي أول أيــام عيــد‬ ‫األضحــى لأليــام الثالثــة التــي تليــه‪ ،‬ذبــح األضاحــي‬ ‫يجــوز طيلــة أيــام العيــد ليــا ونهــارا وال بــأس مــن‬ ‫تأجيلــه يف ســبيل احلضــور الكثيــف يف املســجد‬ ‫األقصــى تنفيــذ ًا لألمــر الربانــي املنــاط بهــم دون‬ ‫غيرهــم مــن البشــر‪ :‬الــذود عــن حيــاض مســرى‬ ‫رســولنا األعظــم ومصلــى األنبيــاء‪ ،‬وبوابــة الســماء‪،‬‬ ‫والتصــدي القتحامــات قطعــان املســتوطنني‪ .‬ويف‬ ‫الســياق تصــدر الهيئــة اإلســامية العليــا يف كل‬ ‫عيــد بيانــا تعلــن فيــه إغــاق جميــع املســاجد يف‬ ‫القــدس‪ ،‬وأن صــاة عيــد األضحــى ســتكون جامعــة‬

‫يف املســجد األقصــى املبــارك‪.‬‬ ‫عيد األضحى بين الحاضر والماضي‪..‬‬ ‫ما الذي تغيّر؟‬

‫بــن عبــق املاضــي وحداثــة العصــر وحيــاة‬ ‫التشــتت واللجــوء‪ ،‬والقهــر‪ ،‬تاهــت عــادات كثيــرة‬ ‫ـود‬ ‫مارســها اجملتمــع الفلســطيني علــى مــدار عقـ ٍ‬ ‫مضــت‪ ،‬ســاهمت بتشــكيل مالمحــه اخلاصــة‬ ‫يف املناســبات االجتماعيــة وغيرها‪...‬فمــا الــذي‬ ‫تغيــر؟‬ ‫فقدان البهجة‬

‫يقــول مفتــي بيــت حلــم الشــيخ عبــد اجمليــد‬ ‫العمارنــة عــن تغيــر العــادات والســلوك فيمــا‬ ‫يتعلــق باألضحيــة‪ ،‬واعتمادهــا يف الســابق علــى‬


‫إطاللة‬ ‫التربيــة الذاتيــة لألضحيــة يف بيــت املضحــي‪.‬‬ ‫ويســتذكر أيــام الطفولــة عندمــا كانــت األســرة‬ ‫جتتمــع علــى األضحيــة أمــام املنــازل حيــث‬ ‫تنتشــر البهجــة يف احلــي والقريــة‪ ،‬وكانــت‬ ‫ظاهــرة األضاحــي ميســرة ومنتشــرة‪ ،‬وثقافــة‬ ‫العيــب علــى مــن ال يضحــي وتبــادل حلــوم‬ ‫األضاحــي كهدايــا بــن فئــات اجملتمــع‪ ،‬ولكــن‬ ‫حاليـ ًا هنــاك انكفــاء واضــح لصالــح عــدم الذبــح‬ ‫لتشــابك تفاصيــل احليــاة وحداثتهــا‪.‬‬ ‫النوم برفقة الخروف‬

‫ويشــير الســبعيني احلــاج أســعد لولــح مــن‬ ‫بلــدة عورتــا جنــوب شــرق نابلــس‪ ،‬إلــى فرحــة‬ ‫الصغــار قبيــل مواعيــد ذبــح األضاحــي قائ ـ ًلا‪:‬‬ ‫كنــا ننــام مــع اخلــروف يف مهجعــه وكانــت‬ ‫البهجــة منبعثــة يف كل تفاصيــل العيــد‪ ،‬خاصــة‬ ‫عنــد توزيــع اللحــم امللفــوف بــورق أكيــاس‬ ‫األســمنت‪ .‬ويقــارن أبــو الرائــد كنعــان مــن بلــدة‬ ‫زيتــا جماعــن جنــوب نابلــس بــن أضاحــي‬ ‫الســنوات املاضيــة‪ ،‬وهــذه األيــام‪ :‬اخلــروف كان‬ ‫يكفــي العائلــة الواحــدة يف القريــة‪ .‬حالي ـ ًا‬ ‫تكاثــرت األعــداد ولــم تعــد يكفيهــا العجــل‪.‬‬ ‫تزيين األضحية‬

‫وال ينســى رئيــس جلنــة زكاة نابلــس األســبق‬ ‫عبــد الرحيــم احلنبلــي مظهــر األضاحــي قدميــا‬ ‫وتزيينهــا بأكاليــل الزهــور كعالمــة للبهجــة‬ ‫والفــرح مــع التكبيــر والتهليــل يف األحيــاء خــال‬ ‫أيــام عيــد األضحــى‪ .‬ويشــير «احلنبلــي» إلــى‬ ‫تراجــع دعــم األضاحــي والتبــرع بأثمانهــا مــن‬ ‫مؤسســات خيريــة تدعــم الشــعب الفلســطيني‬ ‫ألســباب عديــدة‪ .‬فيمــا يعــزو إبراهيــم الراشــد‬ ‫تراجــع أعــداد األضاحــي يف الضفــة الغربيــة‬ ‫لتحكــم االحتــال باالقتصــاد الفلســطيني‬ ‫وارتفــاع أســعار األعــاف واحتكارهــا مــن‬

‫الشــركات االحتالليــة وقلــة البدائــل الوطنيــة‪.‬‬ ‫وتــروي الســيدة فتحيــة مقــاري خطيــب‪ ،‬أم‬ ‫مبــارك (‪ 57‬عام ـ ًا)‪ ،‬مــن قريــة كفركنــا اجلليــل‪،‬‬ ‫وهــي باحثــة يف املــوروث الثقــايف‪ ،‬بــن اســتقبال‬ ‫العيــد بــن املاضــي واحلاضــر‪ :‬عــادات اســتقبال‬ ‫العيــد واالحتفــال بــه «يف الســابق‪ ،‬قبــل قــرن‬ ‫مضــى‪ ،‬كان األطفــال يرتــدون املالبــس اجلديــدة‬ ‫فقــط يف العيــد‪ ،‬وذلــك طبع ـ ًا نتيجــة الق ّلــة‬ ‫يف تلــك األيــام والظــروف الصعبــة‪ ،‬لكــن ذلــك‬ ‫كان مصــدر بهجــة وفرحــة أكثــر لــأوالد‪ .‬أمــا‬ ‫اليــوم‪ ،‬فــاألوالد دوم ـ ًا يرتــدون مالبــس جديــدة‬ ‫دون ارتبــاط ذلــك بالعيــد‪ ،‬أمــا األمــر اآلخــر‪ ،‬أن‬ ‫األطفــال يف املاضــي كانــوا يأخــذون عيديــة‪ ،‬وقــد‬ ‫تصــل قيمتهــا إلــى ليــرة فلســطينية يف ذلــك‬ ‫الوقــت‪ ،‬كانــت العيديــة تفرحهــم كثيــراً‪ ،‬يف حــن‬ ‫أن األوالد اليــوم جتــد معهــم نقــود ًا بشــكل دائــم‪،‬‬ ‫والعيديــة لــم تعــد مصــدر فــرح كالســابق!‬ ‫وتتطــرق الباحثــة اخلطيــب إلــى تفاصيــل‬ ‫أخــرى‪ ،‬كان األطفــال وهــم يطفــون يف شــوارع‬ ‫القريــة‪ ،‬أو احلــي‪ ،‬يــرددون أغانــي العيــد‪ ،‬ومنهــا‬ ‫«بكــرا العيــد ومنعيــد منذبــح جاجــات ســع ّيد‪،‬‬ ‫وســع ّيد مــا لــه جاجــة منذبــح بنتــه النغاشــة»‪،‬‬ ‫والبعــض يرددهــا بشــكل آخــر وهــو «بكــرا العيــد‬ ‫وبنعيــد وبندبــح بقــرة الســيد‪ ،‬والســيد مالــو‬ ‫بقــرة بندبــح بنتــو هالشــقرة»‪ ،‬أو «بكــرا العيــد‬ ‫وبنعيــد وبندبــح بقــرة الســيد والســيد مالــو‬ ‫بقــرة والبقــرة مــا فيهــا دم‪ ،‬بندبــح بنتــو وبنــت‬ ‫العــم»‪ ..‬كمــا تشــير إلــى «صنــدوق العجــب» أو‬ ‫«صنــدوق الدنيــا»‪ ،‬الــذي كان يجــول يف القــرى‪،‬‬ ‫وهــو مــا كان يشــبه الســينما اليــوم‪ ،‬ويلــف‬ ‫بشــريط صــور‪ ،‬ويتجمــع األطفــال مــن حولــه‬ ‫ويشــاهدونه‪ ،‬ويســتمعون إلــى حكايــات الزيــر‬ ‫ســالم وبطــوالت علــي بــن أبــي طالــب وســيرة بنــي‬ ‫هــال‪ ،‬ومغامــرات ســيف بنــي ذي يــزن‪ .‬وتشــير‬

‫‪55‬‬

‫إلــى مــا يســمى «أيــام البيــادر» يف الســابق‪ ،‬التــي‬ ‫تشــهد عروضـ ًا وســباق ًا للخيــل والفروســية‪ ،‬كمــا‬ ‫ويتجمــع حولــه أهــل القريــة‬ ‫يحضــر احلكواتــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لالســتماع إلــى حكايتــه‪ ،‬وكانــت ســاحة اجلامــع‬ ‫املــكان الــذي يجتمعــون فيــه‪.‬‬ ‫وقارنــت كذلــك صناعــة الكعــك واملعمــول‬ ‫بــن املاضــي واحلاضــر‪ ،‬قالــت اخلطيــب‪ :‬كانــت‬ ‫النســاء يصنعــن الكعــك واملعمــول الــزرد‪ ،‬وزنــود‬ ‫الســت‪ ،‬وأصابــع زينــب‪ ،‬وكانــت النســوة تنــادي‬ ‫جيرانهــا وعائلتهــا ملســاعدتها‪ ،‬ويخبــزن الكعــك‬ ‫يف مخبــز القريــة‪ ،‬وكان اخل ّبــاز يأخــذ حصتــه‬ ‫مــن الكعــك واملعمــول كأجــرة خبــزه يف الفــرن‪.‬‬ ‫األمــر اليــوم مختلــف‪ ،‬بعــض األســر تشــتري‬ ‫الكعــك واملعمــول جاهــزاً‪ ،‬أمــا األســر التــي‬ ‫حتضــر الكعــك واملعمــول يف البيــت فتخبــزه‬ ‫ّ‬ ‫يف الفــرن الكهربائــي الــذي بــات متوفــر ًا يف كل‬ ‫منــزل»‪ .‬وعــن عــادة زيــارة املقابــر‪ ،‬يف أول أيــام‬ ‫العيــد بعــد الصــاة‪ ،‬تقــول‪ :‬إنّ األهالــي كانــوا‬ ‫يوزعــون الكعــك علــى جميــع زائــري املقبــرة‪،‬‬ ‫أمــا اليــوم تالشــت هــذه العــادة‪ ،‬وصــاروا يوزعــون‬ ‫الكعــك أو التمــر إذا كان الفقيــد تــويف حديث ـ ًا‪.‬‬ ‫مصاريف العيد تثقل جيوب‬ ‫الفلسطينيين‬

‫مــع اقتــراب العيــد ودخــول الفــرح والســرور‬ ‫ولقــاء وجمــع األحبــة‪ ،‬تباشــر العوائــل‬ ‫حتضيراتهــا الســتقبال العيــد‪ ،‬فتكتــظ األســواق‪،‬‬ ‫وتــزداد املشــتريات مــن ألبســة جديــدة للصغــار‬ ‫وحلويــات وشــكوالتة وكعــك وحلــوم‪ ،‬وحتضيــر‬ ‫املعايــدات لألطفــال وصلــة الرحــم‪ ،‬إن كانــت‬ ‫هدايــا أو نقــودا‪.‬‬ ‫يف هــذا الصــدد قــال قيصــر اغباريــة‪« :‬أعيادنــا‬ ‫تتجلــى فيهــا الكثيــر مــن املعانــي االجتماعيــة‬ ‫واإلنســانية‪ ،‬ففــي العيــد تبــذل الصدقــات‬ ‫ملســاعدة الفقــراء والضعفــاء واحملتاجــن‪،‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫صور لصندوق العجب أو صندوق الدنيا‪ ..‬السينما الفلسطينية سابقاً‬


‫‪56‬‬

‫إطاللة‬

‫والتوســع يف أعمــال اخليــر‪ ،‬وصلــة األرحــام‬ ‫والتراحــم والتعــاون والتكافــل‪ ،‬وتتقــارب القلــوب‬ ‫علــى الــود‪ ،‬ويجتمــع النــاس بعــد افتــراق‪».‬‬ ‫وتابــع حديثــه بالقــول‪« :‬األعيــاد يف أيامنــا هــذه‬ ‫أصبحــت لألســف الشــديد مظهــر ًا مــن مظاهــر‬ ‫التنافــس والتفاخــر بــن النــاس يف الطعــام‬ ‫واللبــاس والســفر والرحــات»‪.‬‬ ‫مراجيح وقرش العيد‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ويســتعيد املربي ســعد إبراهيم أيام الطفولة‬ ‫يف العيــد‪ ،‬ويقــول‪« :‬كان العيــد يتركــز علــى اللهــو‬ ‫باملراجيــح‪ ،‬حيــث كان يغنــي األطفــال «طيــره‬ ‫وهــدى يــا وزة ع بــاد غــزة يــا وزة‪ ،»..‬يف أطــراف‬ ‫املدينــة وركــوب اخليــول املزينــة بينمــا ينــال‬ ‫الطفــل قــروش العيديــة كأنهــا خزينــة الدنيــا»‪.‬‬ ‫ويضيــف‪« :‬لقــد ذهبــت البركــة والبهجــة‪ ،‬واليــوم‬ ‫تبقــى محــات احلالقــة والتزيــن حتــى ســاعات‬ ‫الفجــر بينمــا كانــت احلالقــة عالقرعــة أفضــل‬ ‫قدميــا كان‬ ‫أنــواع احلالقــة لنــا جميعــا يف العيــد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الصغــار يشــترون الباللــن امللونــة وغيرهــا مــن‬ ‫األلعــاب بثمـ ٍـن زهيــد‪ ،‬ويقضــون أيــام العيــد يف‬ ‫شــوارع احلـ ّـي كمــا لــو أنهــم حــازوا الدنيــا‪ ،‬بينمــا‬ ‫تتوفــر اليــوم األلعــاب الثمينــة والتقليديــة‪ ،‬لكـ ّـن‬ ‫دون الشــعور ب ـ «الفــرح احلقيقــي» خــال العيــد‪.‬‬ ‫إبراهيــم مخلــوف‪ ،‬مــد ّرس فلســطيني (‪58‬‬ ‫عام ـ ًا)‪ ،‬أدلــى بدلــوه‪« :‬رغــم بســاطة النــاس‬ ‫وعفويتهــم يف الســابق‪ ،‬إال أنّ األعيــاد كانــت‬ ‫لهــا بهجتهــا اخلاصــة مــن خــال ّملــة العائلــة‬ ‫كلهــا والتنقّ ــل بــن بيــوت األقــارب ملشــاركتهم‬ ‫وتهنئتهــم بالعيــد»‪ .‬ويضيــف‪« :‬األمــر اختلــف يف‬ ‫لكن ذلك ال يعني أنّ الناس توقّ فوا‬ ‫أيامنا هذه‪ّ ،‬‬ ‫عــن زيــارة أقاربهــم يف األعيــاد‪ .‬مــا زالــوا يفعلــون‬ ‫ّإنــا ليــس بالعفويــة والبســاطة الســابقتَني»‪.‬‬ ‫ويتذ ّكــر مخلــوف عيــد األضحــى بقولــه‪« :‬عندمــا‬ ‫كنــت صغيــر ًا أرافــق وإخوتــي والدنــا إلــى املســجد‬ ‫لصــاة العيــد‪ ،‬وبعــد الصــاة‪ ،‬ك ّنــا نخــرج إلــى‬ ‫املقبــرة ونقــرأ الفاحتــة عــن أرواح موتانــا‪ ،‬ثـ ّـم‬ ‫نلقــي التحيــة علــى النــاس يف طريقنــا‪ ،‬قبــل أن‬ ‫نــزور خاالتنــا وعماتنــا وأقاربنــا وجنتمــع أخيــر ًا‬ ‫يف بيــت واحــد وســط أجــواء جميلــة ال ميكــن‬ ‫نســيانها»‪.‬‬

‫حلوى األموات‬

‫وكانــت تنتشــر ظاهــرة التكبيــر انطالقــا‬ ‫مــن املســجد نحــو املقبــرة التــي تنتظــر توزيــع‬ ‫احللــوى يف املقابــر صدقــة عــن أرواح األمــوات‬ ‫خاصــة الذيــن ميــر علــى رحيلهــم العيــد األول‪.‬‬ ‫ويقــوم باملهمــة الصغــار بفــرح غامـ ٍـر وهــم يرتــدون‬ ‫مالبــس زاهيــة وتعلوهــم الســعادة فيمــا كانــت‬ ‫حلويــات البيــوت متواضعــة ودون تبذيــر عكــس‬ ‫مــا يحــدث اليــوم مــن تفاخــر وتباهــي‪ ،‬وفــق مــا‬ ‫قالــه داوود أبــو ســير‪.‬‬ ‫زيارات قبور الشهداء في العيد‪...‬‬ ‫تعزيز ووفاء أصبح تقليدا وطنيا‬

‫يف مطلــع انتفاضــة األقصــى الفلســطينية‬ ‫الثانيــة عــام ‪ ،2000‬تعــززت لــدى الفلســطينيني‬ ‫فكــرة زيــارة قبــور الشــهداء‪ ،‬فمــع صبــاح كل عيــد‬ ‫تقــوم كل عائلــة شــهيد بتزيــن قبــر ابنهــا‪ ،‬وتــوزع‬ ‫صــوره‪ ،‬إلــى أن أصبحــت يف هــذه األيــام مــن‬ ‫الطقوس الوطنية الرســمية والشــعبية‪ ،‬فتوضع‬ ‫أكاليــل الزهــور علــى القبــور‪ ،‬ويقــف أهالــي كل‬ ‫شــهيد بعــد أداء صــاة العيــد بجانــب قبــر ابنهــم‬ ‫ويصافحهــم النــاس‪ .‬قبيــل صــاة العيــد‪ ،‬تأتــي‬ ‫قريبــات الشــهيد لزيــارة قبــره‪ ،‬يقــرأن مــا تيســر‬ ‫مــن القــرآن‪ ،‬ويوزعــن احللــوى أو التمــور علــى‬ ‫املتواجديــن‪ ،‬خاصــة الصغــار‪.‬‬ ‫ويف هــذا الصــدد يؤكــد الكاتــب ســري ســمور‪،‬‬ ‫علــى أهميــة تلــك الزيــارات مــن بــاب التفاعــل‬ ‫مــع قضيــة الشــهداء‪ ،‬إذ إن النــاس ال يــرون‬ ‫أهالــي الشــهداء كثيــرا وإن زيــارة قبــور الشــهداء‬ ‫يف العيــد فرصــة لرؤيتهــم والتأكيــد علــى الوفــاء‬ ‫لهــم‪ .‬ويلفــت ســمور إلــى أن تلــك الزيــارات أخــذت‬ ‫طابعــا شــعبيا وفصائليــا خــال االنتفاضتــن‬ ‫األولــى والثانيــة‪ ،‬وامتــدت لتصبــح رســمية حاليا‬ ‫مــن خــال بعــض املؤسســات الفلســطينية‪.‬‬ ‫العيد‪ :‬عيديّة وثياب جديدة ولعب‬ ‫في فلسطين‬

‫والعيديــة هــي الهبــة‪ ،‬مينحهــا األهــل‬ ‫وتترجــم مببلــغ مالــي‬ ‫واألقــارب يف العيــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يعطيــه كبــار العائلــة لــأوالد بــدل الهديــة‬ ‫العينيــة‪ .‬والعيديــة عــادة قدميــة تضفــي فرحــا‬

‫علــى العيــد‪ ،‬وتعـ ّـد مــن أهــم مظاهــره‪ ،‬وتعتبــر‬ ‫عــادة إســامية امتــدت علــى مــدى القــرون‪ ،‬ولــم‬ ‫تفقــد بريقهــا حتــى اليــوم‪.‬‬ ‫جمــع الفلســطينيون علــى أنّ العيــد‬ ‫و ُي ِ‬ ‫هــو عيــد لألطفــال وهــم أحــقّ بالفرحــة مــن‬ ‫ســواهم‪ ،‬ففيــه ينتظــرون عيديتهــم ويحصلــون‬ ‫علــى مــا يتم ّنــون ويرتــدون ثيابهــم اجلديــدة‬ ‫تأجــل موعــد شــرائها حتــى أ ّول‬ ‫ويلهــون بألعــاب ّ‬ ‫أيــام العيــد‪ .‬لكـ ّـن بهجــة العيــد تبقــى للجميــع‪،‬‬ ‫وضمانتهــا عــادات وطقــوس مختلفــة‪ .‬ويبــدو‬ ‫أنّ منــط احليــاة اليــوم‪ ،‬ال س ـ ّيما النشــاط علــى‬ ‫مواقــع التواصــل االجتماعــي‪ ،‬كان لــه أثــره علــى‬ ‫تلــك الطقــوس وقــد ســاهم يف تدهــور التواصــل‬ ‫احلقيقــي بــن النــاس‪.‬‬ ‫وتقــول‪ :‬الطفلــة ســيدرا عبيــدات (‪12‬‬ ‫عام ـ ًا)‪ ،‬نحــن ننتظــر العيــد «ألنــه يشــعرني‬ ‫بالفــرح» لك ّنهــا ال متــارس طقوســه القدميــة‪،‬‬ ‫بــل تكتفــي بجمــع عيدياتهــا مــن أجــل شــراء‬ ‫بعــض احلاجيــات واأللعــاب التــي حتلــم عــادة‬ ‫باقتنائهــا‪ .‬ففــي يــوم العيــد‪ ،‬تســتيقظ ســيدرا‬ ‫باكــر ًا وترتــدي مالبســها اجلديــدة كبقيــة أطفــال‬ ‫بلدتهــا الســواحرة الشــرقية‪ ،‬جنــوب القــدس‬ ‫احملتلــة‪ ،‬وترافــق وال َديهــا يف زياراتهمــا لألقــارب‪.‬‬ ‫وتوضــح ســيدرا أنّ «العيديــة أحصــل عليهــا مــن‬ ‫أخوالــي وأعمامــي ومــن وال ـ َدي‪ ،‬وبعدهــا أبــدأ‬ ‫بالتخطيــط ملــا أريــد شــراءه»‪ّ .‬أمــا لــن تيــم‬ ‫(ثمانيــة أعــوام)‪ ،‬مــن بلــدة بيــت ســاحور‪ ،‬شــرق‬ ‫مدينــة بيــت حلــم‪ ،‬فتشــعر بــأنّ العيــد لعــب‬ ‫ومــرح‪ .‬وتع ّبــر عــن ســعادتها بلباســها اجلديــد‪،‬‬ ‫ومــا حتصــل عليــه مــن عيديــات لتشــتري‬ ‫األلعــاب واحللويــات‪.‬‬ ‫العيد‪ :‬فرحة ينقصها األحبة‪!...‬‬

‫املواطــن أبــو محمــد يوســف بــدوره يصــف‬ ‫مواســم األعيــاد بأنهــا فتــح للجــراح التــي لــم‬ ‫تندمــل‪ ،‬ويع ّبــر والدمــوع لــم تفــارق عينيــه هــذا‬ ‫العيــد ســيمر كأ ّول األعيــاد وفارقــت ولــدي الــذي‬ ‫اغتالتــه قــوات االحتــال اإلســرائيلي‪ .‬ويتابــع‬ ‫واحلــزن يلــف أجــواء منزلــه‪ ،‬كنــت أخطــط‬ ‫لقضــاء إجــازة العيــد مــع ابنــي لكــن الطيــران‬ ‫اإلســرائيلي اغتالــه وأخــذ بهجــة العيــد معــه‪.‬‬


‫إطاللة‬

‫ويختــم حديثــه أبــرز مــا مييــز أعيــاد فلســطني‬ ‫هــي اجلراحــات التــي حتيــط بالفلســطينيني وال‬ ‫تغادرهــم فقــوات االحتــال اإلســرائيلي ال بــد‬ ‫وأن تســرق الفرحــة بطريقتهــا املعتــادة‪.‬‬ ‫القدس‪ :‬فرحة مسلوبة في العيد‬ ‫على وقع انتهاكات االحتالل‪..‬‬

‫يسد رمق فقراء‬ ‫موسم األضاحي‬ ‫ّ‬ ‫القدس‬

‫إحيــاء لشــعيرة مــن شــعائر اهلل ارتــأت جلنــة‬ ‫زكاة القــدس ضــرورة إطــاق مشــروع األضاحــي‬ ‫الســنوي للتوســعة علــى الفقــراء واملســاكني يف‬ ‫العيــد يف كل مــن القــدس والضفــة الغربيــة‪،‬‬ ‫ولتســهيل هــذه الشــعيرة علــى مــن يريــد القيــام‬ ‫بهــا خاصــة ملــن يشــقّ عليــه أداؤهــا بنفســه‪.‬‬ ‫وتســتقبل جلنــة زكاة القــدس مــا بــن ‪40%‬‬ ‫و‪ 50%‬مــن نســبة األضاحــي الســنوية مــن‬

‫احملســنني مبدينــة القــدس‪ ،‬وتذبــح بدورهــا‬ ‫األضاحــي يف املســالخ وتــوزع ثلثــي األضحيــة‬ ‫علــى الفقــراء وتعطــي الثلــث لصاحبهــا‪.‬‬ ‫وأوضــح أمــن صنــدوق جلنــة زكاة القــدس‬ ‫أشــرف ســلهب أن عــدد العائــات احملتاجــة التــي‬ ‫تســتفيد مــن مشــروع األضاحــي نحــو لــ‪ 13‬ألــف‬ ‫أســرة فلســطينية فقيــرة مســجلة يف قوائمهــا يف‬ ‫كل مــن القــدس ومحافظــات الضفــة الغربيــة‪،‬‬ ‫باإلضافــة إلــى صــرف مســاعدات شــهرية لــ‪1500‬‬ ‫أســرة مــن بينهــا ‪ 600‬أســرة مقدســية‪ ،‬وكفالــة‬ ‫‪ 8500‬يتيــم‪.‬‬ ‫وتنتظــر «أم محمــد» كآالف العائــات‬ ‫احملتاجــة موســم عيــد األضحــى املبــارك‬ ‫للحصــول علــى حصتهــا مــن األضاحــي‪ ،‬وقالــت‪:‬‬ ‫«أرى اللحــوم وال أتذوقهــا ألنهــا باهظــة الثمــن‬ ‫وليــس بوســعنا شــراؤها‪ ،‬فمنــذ عيــد األضحــى‬ ‫العــام املاضــي لــم نشــتر اللحــوم‪ ،‬ألننــا ننفــق مــا‬ ‫نحصــل عليــه مــن مســاعدات شــهرية علــى شــراء‬ ‫األدويــة»‪.‬‬ ‫مظاهر عيد األضحي في غزة‬ ‫غائبة في ظل االوضاع االقتصادية‬ ‫والسياسية الحرجة‬

‫أبــت فرحــة عيــد األضحــى إ ّال أن تغيــب عــن‬ ‫ســكان قطــاع غــزة‪ ،‬يف ظــلّ األوضــاع االقتصاديــة‬ ‫والسياســية احلرجــة التــي يشــهدها وعزلتــه عــن‬ ‫باقــي العالــم‪ ،‬حيــث يتواصــل احلصــار املفــروض‬ ‫مــن قبــل االحتــال اإلســرائيلي منــذ أكثر من ‪10‬‬ ‫ســنوات‪ ،‬واســتمرار حالــة االنقســام يف الســاحة‬ ‫الفلســطينية‪ ،‬زادت حــاالت الفقــر والبطالــة‪ ،‬يف‬ ‫قطــاع غــزة‪.‬‬ ‫املهندســة إميــان حجــاج‪ ،‬قالــت‪« :‬إن أجــواء‬ ‫العيــد معدومــة يف قطــاع غــزة‪ ،‬وأنّ األوضــاع‬ ‫االقتصاديــة واالجتماعيــة والنفســية لــدى‬ ‫املواطنــن يرثــى لهــا»‪ .‬وقالــت‪« :‬إن احلــزن‬ ‫واأللــم ميــآن البيــوت الغزيــة‪ ،‬ملــا تــراه مــن‬ ‫ظلــم وقهــر‪ ،‬وعلــى الرغــم مــن أنهــم يحاولــون‬ ‫أن يصنعــوا الفــرح‪ ،‬إال أن احلــزن يأبــى إال أن‬ ‫يطغــى علــى أفراحهــم مــن جديــد»‪ .‬وأضافــت‪:‬‬ ‫«إن الشــوارع الغزيــة حزينــة‪ ،‬وال يوجــد أجــواء‬ ‫وال مظاهــر للعيــد‪ ،‬وأن حركــة األســواق باهتــة‬ ‫جــداً‪ ،‬وأن املواطــن الغــزي يعيــش هــذه األيــام‬ ‫املباركــة مثلهــا كســابقاتها‪ ،‬دون تغيــر ُيذكــر»‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املشــهد يف مدينــة القــدس احملتلــة‪ ،‬خصوصـ ًا‬ ‫يف بلدتهــا القدميــة‪ ،‬ال يوحــي بالعيــد‪ ،‬ال‬ ‫س ـ ّيما مــع غيــاب املظاهــر التــي اعتــاد عليهــا‬ ‫املقدســيون‪ ،‬كمــا أشــار الكثيــرون منهــم إلــى‬ ‫أنّ البهجــة التــي اعتــادوا عليهــا غابــت‪ .‬فقــد‬ ‫فرضــت مقاومتهــم يف بــاب العامــود وه ّبتهم ضد‬ ‫ممارســات االحتــال ومــا أعقبهــا مــن اقتحامــات‬ ‫يوميــة للمســجد األقصــى‪ ،‬مشــهد ًا آخــر يخطــف‬ ‫البهجــة التــي ألفوهــا وهــم يتهيــؤون للعيــد‬ ‫مــن خــال التســوق‪ ،‬ال س ـ ّيما شــراء املالبــس‬ ‫اجلديــدة لألطفــال‪ .‬ويبــدو األمــر واضحـ ًا ســواء‬ ‫يف البلــدة القدميــة‪ .‬ويقــول محمــد الصاحــب‪،‬‬ ‫وهــو ناشــط مقدســي إنّ «القلــق ال يخفــي فخــر‬ ‫املقدســيني مبقاومتهــم والتحامهــا مــع ه ّبــة‬ ‫فلســطينيي األراضــي احملتلــة يف عــام ‪،»1948‬‬ ‫علمـ ًا أ ّنــه قــرر مــع أصدقائــه هــذا العــام التخلــي‬ ‫عــن طقــوس العيــد واســتبدالها مبالزمــة‬ ‫ســاحة الشــهداء عنــد بــاب العامــود لينالــوا مــن‬ ‫هــذه الســاحة التــي قاومــت االحتــال «شــرف ًا‬ ‫وكرامــة»‪ .‬ويضيــف الصاحــب أ ّنــه «مــا مــن شــرف‬ ‫نســعى إليــه أفضــل مــن كرامتنــا يف ســاحتنا‬ ‫هنــا‪ ،‬حيــث ارتقــى قبــل أعــوام شــهداء مــن هبــة‬ ‫القــدس واألقصــى‪ .‬العيــد بالنســبة إلينــا فرحــة‬ ‫انتصــار وصــاة يف املســجد األقصــى الــذي‬ ‫د ّنســته بســاطير جنــود االحتــال»‪..‬‬ ‫ويف حـ ّـي الشــيخ جــراح حيــث مــا زال‬ ‫صــوت املقاومــة يعلــو وكذلــك صمــود األهالــي‪،‬‬ ‫فــإنّ العيــد بالنســبة إلــى قاطنيــه‪ ،‬وحتديــد ًا‬ ‫للعائــات املهــددة بإخــاء منازلهــا‪ ،‬هــو «البقــاء‬ ‫ورفــض اإلخــاء واالنتصــار علــى مــن أتــى‬ ‫ليغتصــب بيتــك ويعيــدك إلــى هجــرة أخــرى»‪.‬‬ ‫ويتســاءل أهالــي احلــي‪« :‬كيــف نحتفــل ونحــن‬ ‫مــا زلنــا نقاتــل مــن أجــل مصيرنــا وبقائنــا يف‬ ‫منزلنــا؟»‪.‬‬ ‫وبحســب رئيــس جلنــة التجــار املقدســيني‬ ‫حجــازي الرشــق‪ ،‬إنّ «املواجهــات األخيــرة يف‬

‫ســاحة بــاب العامــود انعكســت ســلب ًا علــى هــذه‬ ‫احلركــة وعلــى النشــاط التجــاري‪ ،‬دفــع بالكثيــر‬ ‫مــن أصحــاب احملــال إلــى إغالقهــا»‪ .‬يضيــف‬ ‫الرشــق‪ ،‬متحدث ـ ًا‪ :‬إنّ «التجــار كانــوا يع ّولــون‬ ‫علــى العيــد إلنعــاش حركــة التجــارة املشــلولة»‪.‬‬ ‫لك ّنــه يشــير إلــى أ ّنــه «ليــس أمــام النــاس هنــا‬ ‫ســوى الصمــود والربــاط‪ .‬ونحــن نســتل ِْهم ذلــك‬ ‫مــن وحــي العيــد الــذي نحييــه بالصــاة يف‬ ‫األقصــى»‪ ،‬مؤكــد ًا أنّ «للصــاة يف مســجدنا معنـ ًا‬ ‫وذوق ـ ًا خاص ـ ًا»‪.‬‬ ‫وعلــى الرغــم مــن املعانــاة الناجمــة عــن‬ ‫االحتــال وممارســاته‪ ،‬جتــد عائــات عـ ّـدة‬ ‫فرصــة جتعــل مــن خاللهــا أطفالهــا يعيشــون‬ ‫فرحــة العيــد ولــو بشــكل محــدود‪ .‬ويشــير علــي‬ ‫العناتــي إلــى أنّ «هــذه الفرحــة قــد تُختصــر‬ ‫واملكســرات‪،‬‬ ‫بشــراء املالبــس وحلــوى املعمــول‬ ‫ّ‬ ‫مــع االحتفــاظ بصلــة الرحــم ومعايــدة األهــل‬ ‫واألقــارب واألصدقــاء وبالعبــارة التــي اعتــاد‬ ‫كثيــرون تردادهــا»‪ ،‬يقــول عمــاد أبــو خديجــة‪،‬‬ ‫مــن حـ ّـي بــاب السلســلة يف البلــدة القدميــة‬ ‫ـأي حــال عــدت يــا عيــد!»‪ .‬هــذه‬ ‫مــن القــدس‪« :‬بـ ّ‬ ‫«تلخــص حــال كل املقدســيني الذيــن‬ ‫العبــارة‬ ‫ّ‬ ‫ميضــون أيامهــم ولياليهــم يف مقارعــة االحتــال‬ ‫والصمــود أمــام مــا تع ّرضــوا لــه مــن عــدوان ومــن‬ ‫ـس باملســجد األقصــى»‪ .‬ورغــم‬ ‫محــاوالت للمـ ّ‬ ‫اآلألم فقــد حــرص املقدســيون علــى صنــع‬ ‫حلوياتهــم التقليديــة مــن معمــول وكعــك‬ ‫وبــرازق‪ ..‬وخالفــه‪ ،‬وتوفيرهــا يف احملــات‪.‬‬ ‫فمشــهد أطبــاق حلــوى املعمــول التــي يشــتهر‬ ‫بهــا املقدســيون‪ ،‬وهــي حلــوى العيــد املفضلــة‬ ‫بالنســبة إليهــم‪ ،‬كان حاضــر ًا يف محــات عديــدة‪،‬‬ ‫املكســرات‪.‬‬ ‫كذلــك مشــهد‬ ‫ّ‬

‫‪57‬‬


‫‪58‬‬

‫إطاللة‬

‫إحصائيــة رســمية أشــارت إلــى أن احلصــار‬ ‫الــذي تفرضــه «إســرائيل» علــى قطــاع غــزة للعــام‬ ‫العاشــر علــى التوالــي رفــع نســبة الفقــر بــن‬ ‫ســكانه إلــى ‪ ،65%‬وفق ـ ًا إلحصائيــة رســمية‪.‬‬ ‫وذكــرت االحصائيــة بــأن نســبة البطالــة يف غــزة‬ ‫ارتفعــت يف اآلونــة األخيــرة إلــى ‪ ،47%‬وأن‬ ‫‪ 80%‬مــن ســكان القطــاع باتــوا يعتمــدون علــى‬ ‫املســاعدات اخلارجيــة لتأمــن احلــد األدنــى‬ ‫مــن متطلبــات املعيشــة اليوميــة‪ .‬وكان البنــك‬ ‫الدولــي أصــدر تقريــرا يف ســبتمبر‪/‬أيلول ‪2016‬‬ ‫أفــاد بــأن نســبة البطالــة يف غــزة بلغــت ‪ 43%‬وأن‬ ‫نســبة الفقــر بلغــت ‪.60%‬‬ ‫أكالت تقليدية فلسطينية البد من‬ ‫توافرها أيام األعياد‪:‬‬

‫األصيلــة‬ ‫ا ُملدهــش يف األكالت الفلســطينية ِ‬ ‫أن لهــا جــذورا تاريخيــة ممتــدة؛ ومــع ذلــك‪ ،‬فهــي‬ ‫لــم تــزل حاضــرة بقــوة‪ ،‬وشــائعة حتــى يومنــا‬ ‫هــذا‪ ،‬تقــول املرابطــة املقدســية هنــادي احللوانــي‬ ‫عــن املقلوبــة الفلســطينية‪« :‬هــذه أكلــة فتــح‬ ‫بيــت املقــدس‪ُ ،‬ع ِرفــت علــى زمــن صــاح الديــن‬ ‫األيوبــي باســم الباذجنيــة‪ ،‬فالباذجنــان مــن‬ ‫مكوناتهــا األساســية‪ ،‬وفيمــا بعــد أضافــوا لهــا‬ ‫وســميت مبقلوبــة النصــر»‪.‬‬ ‫اللحــوم ُ‬ ‫إن كنت ُمصرًا على اتباع أسس االتيكيت‪،‬‬ ‫فإن المسخن ال يؤكل إال بأصابع اليد‪:‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املســخن‬ ‫ولكــن َهــل هنــاك أَ ْشــهى ِمــن رائحــة َ‬ ‫غمــوس بزيـ ِـت الزيتــون‪،‬‬ ‫ـطيني‬ ‫الفلسـ‬ ‫ِ‬ ‫ودجاجــه امل َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫األصالــة الفلســطينية‪،‬‬ ‫«زيــت طفــاح» َعالمــة‬ ‫َ‬ ‫والســماق‪،‬‬ ‫ـوح منــه رائحــة الزيــت والبصـ ِـل‬ ‫تفـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـدي‬ ‫وتُزينــه حبــات ال ّلــوز املقــاة باللــون القرميـ ّ‬ ‫ـطيني بامتيــاز‪ ،‬وهــو‬ ‫األخــاذ؟ املســخن‪ ،‬فلسـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القــدم‪ ،‬وال يختلــف اثنــن علــى مذاقــه‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫غ‬ ‫مو‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫شــي ًبا أو شــبانًا‪ ،‬وإلعــداده‪ ،‬يلــزم بــا شــك الزيــت‬ ‫والكثيــر مــن البصــل األحمــر الــذي ُيعــد عامــود‬ ‫األكلــة‪ ،‬وكذلــك الوفيــر مــن الســماق املطحــون‪،‬‬ ‫وكمــا تقــول احلاجــة فاطمــة زيــادة‪« :‬اســخي‬ ‫علــى الســماق‪ ،‬كل مــا زدت منــه كل مــا كان‬

‫أشــهى»‪ ،‬وعــدد مــن أرغفــة خبــز الطابــون ُيغمــس‬ ‫بالزيــت اخمللــوط مبــرق الدجــاج وا ُملت ّبــل بالبصــل‬ ‫حمــر الطبــق كام ـ ًلا يف الفــرن‪ .‬وإن‬ ‫واملســاق‪ ،‬و ُي ّ‬ ‫كنــت ُمصـ ًـرا علــى اتبــاع أســس االتيكيــت‪ ،‬فــإن‬ ‫املســخن ال يــؤكل إال بأصابــع اليــد‪ ،‬وقــد حتتــاج‬ ‫إلــى جانبــه شــيئا مــن اللــن الــذي ُيضفــي علــى‬ ‫املــذاق احلامــض الــاذع مــن الســماق والبصــل‬ ‫ـاما ويزيــده شــه ّية‪ .‬وقــد ال تنســى زيــادة‬ ‫بــر ًدا وسـ ً‬ ‫املشــهد القــدمي يف حتضيــر املســخن الفلســطيني‬ ‫عندمــا تخبــز خبــز طابونــه ا ُمل ّدخــن على احلطب‪،‬‬ ‫ثــم تغمــره يديهــا اجملعــدة يف إنــاء البصــل املتبــل‬ ‫بالســماق والزيــت وشــيء مــن املــرق‪ُ ،‬يــرص يف‬ ‫صينيــة الشــواء‪ ،‬يعلــوه طبقــات مــن اخلليــط‪،‬‬ ‫وفوقــه الدجــاج والصيصــان البلديــة‪ ،‬الــذي أخــذ‬ ‫قسـ ًـطا مــن مــذاق املزيــج آنفً ــا بالطبــع‪ ،‬ثــم ُيزيــن‬ ‫حمــر يف فــرن الطــن‪،‬‬ ‫بحبــات الصنوبــر أو اللــوز و ُي ّ‬ ‫فتجــوب رائحتــه األرجــاء وتــزور ســبع حــارات‪.‬‬ ‫بينمــا مــا زالــت خلــود شــفيق‪ ،‬وهــي ربــة منــزل‬ ‫مــن مدينــة نابلــس‪ ،‬إلــى الشــمال مــن الضفــة‬ ‫الغربيــة احملتلــة‪ ،‬تتمســك بهــذه العــادة‪ ،‬إذ ت ُِعـ ّـد‬ ‫يف عيــد األضحــى أكلــة «الكرناســة»‪ ،‬مشــيرة إلــى‬ ‫أن هــذه األكلــة تكــون وجبــة غــداء‪ ،‬بينمــا فطــور‬ ‫صبيحــة العيــد يتكــون مــن صوانــي اللحــم‬ ‫ومعــاق اخلــروف وتوابــع أخــرى تزيــن مائــدة‬ ‫اإلفطــار‪.‬‬

‫ومــاذا عــن طبــق مــن الســماقية الغزاويــة‬ ‫ا ُملس ـ ّبكة‪ ،‬يزيدهــا حلــم الضــأن والفلفــل احلــار‬ ‫لــذّ ة ال توصــف‪ ،‬فهــي تعتبــر محبوبــة اجلماهيــر‪،‬‬ ‫يف غــزة‪ ،‬هــذه األكلــة فلســطينية أص ـ ًلا وفص ـ ًلا‬ ‫يزيــد عمرهــا عــن مئــات الســنني‪ ،‬ويف حقيقــة‬ ‫األمــر ليــس كل طـ ٍـاه ميكنــه صنــع الســماقية‪،‬‬ ‫وإن كانــت املكونــات واحــدة‪ ،‬واملقاديــر متشــابهة‪،‬‬ ‫إال أنَّ املــذاق ســيختلف‪ .‬ثـ َّـم مــاذا عــن احملاشــي‬ ‫العنــب «الدوالــي»‬ ‫بأصنافهــا‬ ‫وأنواعهــا‪ ،‬منهــا ورق ِ‬ ‫ِ‬ ‫احملشــو بــاألرز ذي «التتبيلــة» الســر ّية الســاحرة‬ ‫ومذاقــه اخلــرا ّ‬ ‫يف‪.‬‬ ‫حقيقــة هنــاك أكالت تقليديــة فلســطينية‬ ‫ال تعــد وال حتصــى مثــل‪ :‬املفتــول والقــدرة‬ ‫والطباخة وشرائح اللحم والرمانية والفقاعية‬ ‫واحلمصيــص والبيصــارة واجملــدرة‪ ،‬والرقائــق‬ ‫ـكل أو‬ ‫مــع العــدس‪ ...‬والكثيــر ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ســاهمت بشـ ٍ‬ ‫بآخــر يف صنــع الهويــة الفلســطينية‪ ،‬وتشــكيل‬ ‫ُبنيــة أساســية لــإرث املطبخــي الفلســطيني‬ ‫الــذي يتن ـ ّوع بحسـ ِـب جغرافيــة فلســطينية‬ ‫الســاحلية واجلبليــة‪ ،‬وطبيعــة املزروعــات‬ ‫والنباتــات التــي تشــتهر بهــا كل منطقــة عــن‬ ‫أخــرى‪ ،‬لكنهــا تشــترك يف النهايــة برســم‬ ‫صــورة فلســطينية مكتملــة تضــرب بأصالتهــا‬ ‫جــذور األرض‪ُ ،‬‬ ‫وتــدد معالــم التــراث الشــعبي‬ ‫ا لفلســطيني ‪.‬‬


‫‪59‬‬

‫دنيا دن ّية‬ ‫كجعجعـة الرحـى صـار حالنـا‪ ،‬نشـعر كأمنـا تضيـق بنـا األرض مبـا رحبـت‪ ،‬تـكاد صدورنـا‬ ‫تنفجـر قهـرا وكمـدا‪ ،‬ننظـر إلـى السـماء وقـد بلـغ بنـا البـؤس مبلغـا عظيمـا‪ ،‬رويـدا رويـدا‪ ،‬نلمـس‬ ‫عنايـة اهلل كنسـمة تعانـق قلوبنـا‪ ،‬متنحهـا كبسـوالت الطمأنينـة‪ ،‬تهمـس ألرواحنـا بـأن كل مـا مـ ّر‬ ‫كان حقـا ُمـ ّرا لكـن سـيم ّر ككلّ املـرارات التـي تذوقنـا غصصهـا سـابقا حتـى عافتنـا وعفناهـا ثـم‬ ‫مـا لبثـت أن تركتنـا وشـأننا‪.‬‬ ‫مـا كان اهلل ليضعنـا علـى احملـك‪ ،‬ثـم يتركنـا وهـو الركـن الشـديد‪ ،‬كل فـرد منـا لديـه ظروفـه‬ ‫وأحزانـه وهمومـه وتقلبـات حياتـه التـي جتعـل منـه جسـدا بلا روح‪...‬يلعـن أحدهـم األيـام‪ ،‬وآخـر‬ ‫يس ّـب الدهـر‪ ،‬وتلـك تلطـم حظهـا يف احليـاة‪ ،‬وذلـك عاقـد احلاجبين علـى كلّ مـن يك ِّلمـه حتـى‬ ‫بـكالم عابـر‪..‬‬

‫صفاء الهمداين‬

‫يـا رفيـق احليـاة (لقـد خلقنـا اإلنسـان يف كبـد) ثـق بـأن اهلل أعلـم بنـا منـا‪ ،‬هـو يعلـم بـأن مـا‬ ‫تعانيـه مـن هـم وغـم مرحلـة مؤقتـة البـد أن تعيشـها حتـى تعـي معنـى الوجـه اآلخـر لأليـام‪...‬‬ ‫ليـس صعبـا عليـه وهـو القـادر املقتـدر أن يجعلنـا يف دعـة وسـرور‪ ،‬إمنـا ونحـن علـى هذه البسـيطة‬ ‫بعـد أن آل أمـر أبينـا آدم ووالدتنـا حـواء إلـى جت ُّـرع مـرارة العصيـان وتك ُّبـد معانـاة ا ِّتبـاع غوايـة‬ ‫إبليـس اللعين؛ كان لزامـا علينـا أن نرضـى بـل ونكـون مـن الشـاكرين احلامديـن‪ .‬كل قهـر وظلـم‬ ‫وش ّـدة ونكسـة ونكبـة إلـى زوال طاملـا أننـا يف دوحـة االسـتغفار وبهـو التوبـة والتعلّـق بحبـل اهلل‬ ‫املتين‪.‬‬ ‫الدهـر والسـنوات والشـهور واأليـام بلياليهـا وسـاعاتها وحلظاتهـا‪ ،‬كلهـا مـن خلـق اهلل املأمـور‬ ‫ُحمـل أنفسـنا فـوق طاقتهـا ونظـن بـاهلل سـوء وهـو‬ ‫بامتثـال أوامـره بـكل رضـى وحـب‪ .‬إذن ملـاذا ن ِّ‬ ‫الـذي خلقنـا بنفخـة مباركـة مـن روحـه اإللهيـة النقيـة‪ ،‬هـو الـذي يعلـم مـا ينفعنـا فيزيدنـا مـن‬ ‫ذلـك‪ ،‬ويعلـم مـا يض ّرنـا فيرفـع عنـا ذلـك الضـرر يف الوقـت املناسـب‪.‬‬ ‫هناك فئة حني يزورها الهم والغم بغتة حتمل املسؤولية غيرها وترد اللوم عليهم‪ ،‬متناسني‬ ‫بـأن كل نفـس مبـا كسـبت رهينـة‪ ،‬وبلا شـك بقـدر إمياننـا بالقضـاء والقـدر‪ ،‬إذن ال بـد أن نعـي بـأن‬ ‫معظـم مـا يحـدث لنـا هـو ممـا قدمنـاه مـن تفكيـر وقـول وعمـل‪ ،‬الذنـوب جتـ ّر بعضهـا بعضـا إن‬ ‫لـم يـردع اإلنسـان نفسـه وتـرك هواهـا ومضـى يف درب التقـى ورضـا اهلل‪ ،‬واحلسـنات جتـر بعضهـا‬ ‫بعضـا حينمـا يتذكـر اإلنسـان أن ليـس لـه إال مـا سـعى (وسـيجزاه اجلـزاء األوفـى)‪.‬‬ ‫نحـن بحاجـة ماسـة إلـى عقـد صلـح مـع ذواتنـا‪ ،‬والقبـول مبنطـق اإلنسـان الـذي خلقـه اهلل‬ ‫يف كبـد‪ ،‬ومنطـق بـأن مـع العسـر يسـرا وبعـد كل شـدة رخـاء‪ ،‬فلنجـرب الرضـا ونـأوي مـع كل نازلـة‬ ‫متـر بنـا إلـى الركـن الشـديد‪ ،‬ولنصبـر ولنثـق بـأن لـن ينفعنـا أو يضرنـا أحـد إال مبـا قـد كتـب لنـا‬ ‫ّ‬ ‫أو علينـا يف اللـوح احملفـوظ‪.‬‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ولكـن هنـا ال بـد أن نفـرق بين األقـدار التـي تصيبنـا بسـبب ذنوبنـا وبين األقـدار احلتميـة‬ ‫املقـدرة منـذ األزل‪ ،‬حينهـا لـن نظلـم الدهـر ولـن نكـره وجودنـا يف الدنيـا‪ ،‬وبقـدر احلـب الـذي‬ ‫سـيعانق أرواحنـا حين نرضـى بقـدر مـا نكـون قـد وصلنـا إلـى مرحلـة الوعـي بـأنّ الدنيـا بـكل مـا‬ ‫فيهـا كمـا يف املثـل الشـعبي الـدارج (دنيـا دنيـة)‪ ،‬حينهـا فقـط سـنرتفع‪.‬‬


‫‪60‬‬

‫أدب ونقد‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫النسق التاريخي‬ ‫العراقي الحديث‬ ‫المضمر في رواية‬ ‫(الحفيدة األمريكية)‬ ‫للروائية العراقية‬ ‫أنعام كجه جي‬ ‫أسيد الحوتري‬

‫بين أخالق الماضي‬ ‫وهموم الحاضر ‪..‬‬ ‫قراءة في المجموعة‬ ‫القصصية «مدينة‬ ‫األسئلة» لـ خالد ماضي‬ ‫د‪ .‬عبد الله عبد الرحمن محمود‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫الكاتب والمفكر األردني‬ ‫هارون الصبيحي‪:‬‬ ‫“النخب األدبية‬ ‫والثقافية التتحرك‬ ‫بجدية وجماعية”‬ ‫حاورتهُ‪ :‬وداد أبوشنب‬


‫أدب‬

‫‪61‬‬

‫النسق التاريخي العراقي الحديث المضمر‬ ‫في رواية (الحفيدة األمريكية)‬ ‫للروائية العراقية أنعام كجه جي‬

‫أسيد الحوتري‬

‫«التاريخ يكتبه المنتصرون»‪ ،‬جملة‬ ‫مشـــهورة تتـــردد كثيـــرا‪ ،‬جملـــة أخرى‬ ‫تُ نســـب إلى رئيـــس الـــوزراء البريطاني‬ ‫الســـابق (ونســـتون تشرتشـــل) تقول‪:‬‬ ‫«التاريـــخ هـــو كـــذب المنتصـــر»؛ ومن‬ ‫لـــف لفهما‬ ‫هذيـــن المضمونيـــن ومـــا ّ‬ ‫قامـــت التاريخانيـــة الحديثـــة (‪New‬‬ ‫‪ )Historicism‬لتأخـــذ موقعهـــا بيـــن‬ ‫مناهـــج النقـــد األدبـــي الحديث‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫للمنتصريــن تاريــخ يكتبونــه قــد يكــون‬ ‫كذبــا‪ ،‬وللمهزومــن أيضــا تاريــخ قــد يكــون‬ ‫حــق اليقــن‪ .‬للســلطة تاريــخ رســمي تسـ ِّـطره‬ ‫وتر ِّوجــه وتع ِّلمــه للشــعب‪ ،‬وللشــعب بكافــة‬ ‫أعراقــه وطوائفــه ومذاهبــه تواريــخ أخــرى‬ ‫يكتبهــا هنــا وهنــاك‪ ،‬يفــكّ ك مــن خاللهــا تاريــخ‬ ‫الســلطة الرســمي ويقــوض بهــا املقــوالت‬ ‫املركزيــة‪ .‬وهــذا يعنــي أن «ثمــة تاريخــن‬ ‫متناقضــن‪ :‬تاريــخ الســلطة وتاريــخ الشــعب‪،‬‬ ‫أو تاريــخ الســيادة وتاريــخ املهمش»(جميــل‬ ‫حمــداوي ‪ .)192‬ويف الغالــب مــا يكــون التاريــخ‬ ‫الشعبي مضمرا يف رواية‪ ،‬أو قصة‪ ،‬أو قصيدة‪،‬‬ ‫أو أي نتــاج ثقــايف آخــر‪ .‬وهــذا التاريــخ املضمــر‬ ‫هــو موضــوع حديــث هــذه املقالــة التــي ســتنبش‬ ‫يف روايــة (احلفيــدة األمريكيــة) للروائيــة‬ ‫العراقيــة إنعــام كجــه جــي لتميــط اللثــام عــن‬ ‫النســق املضمــر للتاريــخ العراقــي احلديــث‪.‬‬ ‫ال تعالــج روايــة (احلفيــدة األمريكيــة)‬ ‫تاريــخ العــراق احلديــث أبــدا‪ ،‬بــل تســرد قصــة‬

‫معانــاة إحــدى األســر العراقيــة التــي تع ـ ّرض‬ ‫ر ّبهــا للتعذيــب‪ ،‬فاضطــرت األســرة للهجــرة‬ ‫إلــى الواليــات املتحــدة األمريكيــة‪« ،‬فالعــراق‬ ‫يف الروايــة ليــس جغرافيــا أو مدينــة‪ ،‬وليــس‬ ‫تاريــخ‪(« ...‬رائــد احلــواري‪ ،‬العــراق والعراقيــة‬ ‫يف روايــة –احلفيــدة األمريكيــة) ومــع ذلــك‪،‬‬ ‫وعنــد النظــر بعمــق يف الروايــة‪ ،‬ســنجد تاريــخ‬ ‫العــراق احلديــث كمــا رأتــه الكاتبــة مضمــرا‬ ‫بــن الســطور‪.‬‬ ‫تقســم الروايــة تاريــخ العــراق احلديــث إلــى‬ ‫ّ‬ ‫أربــع مراحــل‪ ،‬املرحلــة األولــى‪ :‬مرحلــة اململكــة‬ ‫العراقيــة الهاشــمية؛ مــع العلــم بــأن الروائيــة‬ ‫ـأت‬ ‫لــم تذكــر لفــظ «اململكــة العراقيــة» ولــم تـ ِ‬ ‫علــى ســيرة الهاشــميني‪ ،‬ولكــن أشــارت إلــى‬ ‫هــذه املرحلــة شــخصية يوســف جــد شــخصية‬ ‫الروايــة الرئيســة‪ :‬زينــة‪ ،‬والــذي كان يعمــل يف‬ ‫اجليــش العراقــي يف تلــك الفتــرة‪ .‬كان يوســف‬ ‫محبــا لعملــه وفخــورا بــه ّأيــا فخــر‪ .‬صــورت‬ ‫الكاتبــة هــذه الفتــرة وكأ ّنهــا عصــر العــراق‬

‫الذهبــي‪ ،‬فلقــد كان اجلــد يوســف أســعد مــا‬ ‫يكــون يف هــذه الفتــرة‪ ،‬وكانــت مرحلــة خاليــة‬ ‫مــن أي منغصــات تذكــر‪ .‬ألقــت هــذه الفتــرة‬ ‫الزمنيــة بظلهــا علــى طــول الروايــة‪ ،‬حتــى بعــد‬ ‫أن متّ إخــراج يوســف مــن اجليــش يف العهــد‬ ‫الــذي تــا عهــد الهاشــميني‪ .‬كان يوســف يخــرج‬ ‫بزتــه العســكرية يف عيــد اجليــش ليتذكــر ذلــك‬ ‫الزمــن اجلميــل الــذي عاشــه وعاشــه العــراق‬ ‫معــه‪ .‬اســتمرت هــذه الب ـزّة بالظهــور حتــى‬ ‫بعــد مــوت يوســف‪ ،‬فكانــت تخرجهــا أرملتــه‬ ‫رحمــة لتتذكــر ذلــك العصــر الذهبــي الــذي‬ ‫يأبــى أن يفــارق الذاكــرة‪ .‬لقــد كانــت رحمــة‬ ‫«تعيــد مــا كان زوجهــا يفعلــه عامــا بعــد عــام‬ ‫يف مثــل هــذا اليــوم مــن الســنة»(إنعام كجــه‬ ‫جــي ‪ .)90‬حتــى إن زينــة حفيــدة اجلــد كانــت‬ ‫علــى علــم بهــذا الطقــس الــذي كان يقــوم بــه‬ ‫دخــل الســرور علــى نفســه‬ ‫جدهــا والــذي كان ُي ِ‬ ‫عندمــا يتذكــر تلــك األيــام اخلوالــي‪ ،‬ذلــك‬ ‫الزمــن اجلميــل التــي كانــت تنعــم فيــه العــراق‪،‬‬


‫‪62‬‬

‫أدب‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫وتأكــد زينــة ذلــك حيــث تقــول‪[« :‬واصــل] جــدي‬ ‫يوســف االحتفــال بهــذا العيــد علــى طريقتــه‬ ‫بعــد طــرده مــن اجليــش»(‪ .)90‬وتشــاء األقــدار‬ ‫أيضــا أن تعــود زينــة إلــى العــراق بعــد غيــاب‬ ‫طويــل لتــرى تلــك البــزة مــرة أخــرى معلقــة يف‬ ‫جدتهــا‪ ،‬تلــك البــزة التــي هــي الشــاهد‬ ‫غرفــة ّ‬ ‫األبــرز علــى حقبــة تاريخيــة كانــت األفضــل يف‬ ‫تاريــخ العــراق احلديــث‪ .‬وتؤكــد الكاتبــة بــأن‬ ‫جيــل هــذه الفتــرة قــد تربــى علــى الفضيلــة‪،‬‬ ‫«كان ال يصــدق أن عجــوزا يف ســن رحمــة مــا‬ ‫زالــت حتتفــظ يف طيــات جلدهــا بــكل تركــة‬ ‫األجيــال التــي تربــت علــى الصــح»(‪ .)77‬كمــا‬ ‫شــاركت العــراق يف العهــد امللكــي الهاشــمي‬ ‫يف حــرب فلســطني حيــث أبلــى اجليــش‬ ‫العراقــي بــاء حســنا وقـ ّـدم مــن البطــوالت‬ ‫الكثيــر‪ .‬وكان العقيــد يوســف فتوحــي‪ ،‬اجلــد‪،‬‬ ‫قــد بعــث برســالة لزوجتــه «مــن جنــن أثنــاء‬ ‫حــرب فلســطني‪ ،‬كان قــد ذهــب مــع فرقــة لفــك‬ ‫احلصــار عــن قــوة عراقيــة حوصــرت يف قلعــة‬ ‫املدينــة» (‪ .)91‬ولقــد متّ هــذا الهجــوم بقيــادة‬ ‫العقيــد عمــر علــي البيرقــدار‪ ،‬ومتّ علــى إثــره‬ ‫حتريــر مدينــة جنــن مــن قبضــة الصهاينــة‪.‬‬ ‫هــذه احلــرب تؤكــد علــى الدور القومي الريادي‬ ‫للعــراق‪ ،‬حيــث شــارك جيشــها املغــوار يف نصــرة‬ ‫أشــقائهم العــرب يف فلســطني وتصــدوا للعــدو‬ ‫الصهيونــي بــكل مــا أوتــوا مــن قــوة‪ .‬يجــب أن‬ ‫نتوقــف أكثــر عنــد حــرب فلســطني‪ ،‬فهــذه‬ ‫احلــرب لــم تذكــر يف الروايــة عبثــا‪ ،‬بــل ِذكــرت‬ ‫لتؤكــد علــى أن العــراق يف عصــره الذهبــي كان‬ ‫قــد خــاض حربــا ال غبــار عليهــا‪ ،‬حربــا ضــد‬ ‫معتـ ٍـد صهيونــي أثيــم جــاء ليقتطــع فلســطني‬ ‫مــن الوطــن العربــي الكبيــر‪ .‬مــن جانــب آخــر‪،‬‬ ‫وبعــد هــذا العصــر امللكــي‪ ،‬ســيدخل العــراق‬ ‫يف حــروب ســتثار حولهــا عالمــات كثيــرة مــن‬ ‫االســتفهام والتعجــب! وألنّ فلســطني هــي‬ ‫قضيــة كلّ العــرب وكل املســلمني وكلّ الشــعوب‬ ‫العامليــة املؤمنــة باحلريــة والتح ـ ّرر مــن‬ ‫االســتعمار‪ ،‬كان خــوض حــرب بهــذه الســمات‬ ‫يصـ ّـب يف صالــح العهــد امللكــي العراقــي‬ ‫الها شــمي‪.‬‬ ‫تنتقــل الروايــة إلــى املرحلــة الثانيــة مــن‬ ‫تاريــخ العــراق احلديــث وهــي مرحلــة االنقــاب‬ ‫العســكري الــذي تعرضــت لــه امللكيــة والتــي‬ ‫رفــض جــد زينــة يوســف أن يشــارك املنقلبــن‬ ‫أو الضبــاط األحــرار فيمــا أقدمــوا عليــه‪،‬‬ ‫ولهــذا الســبب يتــم عــزل يوســف مــن منصبــه‬ ‫العســكري لينقــل إلــى وظيفــة مدنيــة‪ ،‬وظيفــة‬ ‫مستشــار قانونــي ملصلحــة الســكك احلديديــة‪،‬‬ ‫وكان هــذا يف فتــرة إعــان اجلمهوريــة العراقيــة‬ ‫وتــرأس عبــد الكــرمي قاســم لهــا‪ .‬لــم تكــن هــذه‬ ‫املرحلــة مــن تاريــخ العــراق باملرحلــة الســيئة‬

‫بالنســبة للعقيــد املتقاعــد يوســف فتوحــي‬ ‫خصوصــا‪ ،‬وللعــراق عمومــا‪ ،‬ولكــن يوســف كان‬ ‫يتحســر علــى فتــرة اململكــة العراقيــة حــن كان‬ ‫فيهــا عســكريا‪.‬‬ ‫تنتقــل الروايــة بعــد ذلــك إلــى عصــر جديد‪،‬‬ ‫إلــى ذلــك اليــوم الــذي مت فيــه إعــدام الرئيــس‬ ‫العراقــي عبــد الكــرمي قاســم يف مبنــى اإلذاعــة‬ ‫والتلفزيــون علــى أيــدي البعثيــن العراقيــن‪.‬‬ ‫ليســتلم بعــد ذلــك حــزب البعــث العربــي‬ ‫االشــتراكي الســلطة يف العــراق‪ ،‬وليدخــل‬ ‫العراق بعد االنقالب بسنوات قليلة حربه مع‬ ‫اجلمهوريــة اإليرانيــة (حــرب اخلليــج األولــى)‬ ‫والتــي اســتمرت ثمانــي ســنوات عجــاف‪ .‬ميثــل‬ ‫هــذه الفتــرة العصيبــة يف الروايــة شــخصية‬ ‫صبــاح بهنــام والــد زينــة‪ .‬كان صبــاح يعمــل‬ ‫مذيعــا يف عهــد البعــث‪ ،‬وذات يــوم‪ ،‬اعتــرض‬ ‫صبــاح علــى طــول نشــرة األخبــار‪ ،‬ودفــع ثمــن‬ ‫هــذا االعتــراض غاليــا‪ ،‬ف ُأ ِخــذ‪ُ ،‬‬ ‫وعــذب‬ ‫وغــل‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وك ّســرت أســنانه‪ ،‬حتــى إنــه «عــاد غيــر قــادر‬ ‫علــى الــكالم‪ ،‬محطــم األســنان‪ ،‬تســيل دموعــه‬ ‫بــدون توقــف‪ ،‬كأنهــم ركبــوا خزانــات منهــا حتــت‬ ‫أجفانــه»(‪ .)٧٩‬شــعر صبــاح بعــد مــا تعــرض لــه‬ ‫مــن تعذيــب بخطــر كبيــر علــى نفســه وعلــى‬ ‫أســرته‪ ،‬ففــر مــع أســرته إلــى الواليــات املتحــدة‬ ‫األمريكيــة‪ .‬احلــرب العراقيــة اإليرانيــة‪،‬‬ ‫وحادثــة التعذيــب هــذه‪ ،‬وحادثــة الفــرار‪ ،‬ومــا‬ ‫تبــع الفــرار مــن إدمــان يــزن‪ ،‬شــقيق زينــة‪ ،‬علــى‬ ‫اخملــدرات‪ ،‬والســعلة التــي الزمــت بتــول‪ ،‬أم‬ ‫زينــة‪ ،‬وتــرك صبــاح لزوجتــه وهجــره إياهــا‪ ،‬كل‬ ‫هــذه األحــداث املأســاوية تعكــس حــال املواطــن‬ ‫العراقــي يف مرحلــة حكــم البعــث‪ِّ ،‬‬ ‫وتؤكــد علــى‬ ‫أن العراق قد دخل يف نفق مظلم‪ ،‬نفق سلطة‬ ‫احلــزب الواحــد الــذي ال شــريك لــه‪ ،‬والــذي‬

‫يقمــع كلّ مــن يعتــرض حتــى لــو كان اعتراضــه‬ ‫علــى نشــرة األخبــار! هــذا‪ ،‬وتقســم الروايــة‬ ‫فتــرة حكــم البعثــن إلــى مرحلتــن رئيســتني‪:‬‬ ‫املرحلــة األولــى‪ ،‬فتــرة اخليــر الكثيــر الــذي‬ ‫عــم العــراق و»مصانــع‪ ،‬مقــاوالت‪ ،‬ومــدارس‪،‬‬ ‫وفــود وبعثــات‪ ،‬ومستشــفيات‪ ،‬ومهرجانــات‪،‬‬ ‫ومجــات‪ ،‬وبحيــرات وأنهــار صناعيــة وقــرى‬ ‫ســياحية ومراكــز أبحــاث»(‪.)70‬‬ ‫أمــا الفتــرة الثانيــة فهــي فتــرة احلــروب‪،‬‬ ‫«ثــم اشــتعلت طاحونــة احلــروب وشــفطت‬ ‫النفط حتى آخر قطرة‪ .‬راح الرجال وجلســت‬ ‫النســاء يلطمــن الصــدر»(‪ )77‬وتؤكــد الكاتبــة‬ ‫علــى أنّ فتــرة حكــم البعثيــن هــي إجمــاال فتــرة‬ ‫ســيئة وأنّ اجليــل العراقــي فيهــا «تربــى علــى‬ ‫اخلطــأ‪ :‬نفــاق ورشــوة‪ ،‬وخــوف وكالم مبطــن‬ ‫ولعبــة اخلتيلــة‪ .‬أرادونــا بعثيــن جميعــا»(‪.)77‬‬ ‫وباإلضافــة إلــى احلــرب العراقيــة اإليرانيــة‪،‬‬ ‫فقــد اجتاحــت القــوات العراقيــة يف الثانــي‬ ‫مــن آب عــام ألــف وتســعمائة وتســعني احلــدود‬ ‫الكويتيــة ليتــم احتــال الكويــت وضمهــا إلــى‬ ‫العــراق حتــت عنــوان «احملافظــة التاســعة‬ ‫عشــر»! وقــد أدى هــذا االجتيــاح إلــى حــرب‬ ‫أخــرى وهــي حــرب حتريــر الكويــت والتــي أطلق‬ ‫عليهــا‪ :‬حــرب اخلليــج الثانيــة‪ ،‬والتــي مت علــى‬ ‫إثرهــا إخــراج العــراق مــن الكويــت‪.‬‬ ‫تنتقــل الروايــة بعــد ذلــك إلــى مرحلــة مــا‬ ‫بعــد البعــث‪ ،‬إلــى فتــرة االحتــال األمريكــي‬ ‫للعــراق‪ ،‬حيــث دخلــت املعارضــة العراقيــة‬ ‫علــى الدبابــة األمريكيــة كمــا دخلــت زينــة‬ ‫العــراق علــى الدبابــة نفســها! تــدور معظــم‬ ‫أحــداث الروايــة الرئيســة يف فتــرة االحتــال‬ ‫هــذه‪ ،‬وجتــدر اإلشــارة أن الواليــات املتحــدة‬ ‫األمريكيــة أطلقــت شــائعتني بعــد تفجيــرات‬


‫أدب‬

‫ومت ّيــزت الفتــرة األولــى مــن االحتــال‬ ‫األمريكــي للعــراق بعــدم الوضــوح والغمــوض‬ ‫فلــم يــزل األهالــي «حتــت وطــأة الزلــزال‪ ،‬ال‬ ‫يــدرون هــل يرحبــون بالقادمــن علــى الدبابــات‬ ‫أم يبصقــون عليهــم»(‪ .)72‬فيمــا بعــد‪ ،‬تبــن‬ ‫بــأن أيــام االحتــال األمريكــي هــي أيــام‬ ‫ســود‪ .‬تخبــر زينــة جدتهــا بأنهــا جــاءت إلــى‬ ‫العــراق مــع شــركة مقــاوالت أمريكيــة فتــرد‬ ‫اجلــدة متعجبــة‪« :‬يــا مقــاوالت بهــذي األيــام‬ ‫الســود؟»(‪.)70‬‬ ‫قبــل أن تأتــي زينــة إلــى العــراق كانــت تعانــي‬ ‫وأســرتها مــن ضيــق اليــد يف الواليــات املتحــدة‬ ‫األمريكيــة‪ ،‬وعندمــا ســمعت بــأن راتــب مــن‬ ‫ســيلتحق بالقــوات األمريكيــة كمترجــم يف‬ ‫العــراق ســيصل إلــى مئــة ألــف دوالر يف الســنة‬ ‫تقريبــا‪ ،‬أقنعــت زينــة نفســها‪ ،‬بقدســية عملهــا‪،‬‬ ‫وأنهــا ذاهبــة للمســاهمة يف حتريــر العــراق مــن‬ ‫النظــام البعثــي الظالــم‪ ،‬ولكــن بعــد قضــاء‬ ‫ســنة كاملــة يف العــراق ومــع نهايــة عقدهــا‬ ‫مــع اجليــش األمريكــي‪ ،‬اكتشــفت زينــة أن‬ ‫أيــام االحتــال هــذه هــي حقــا أيامــا ســوداء‪،‬‬ ‫فرفضــت جتديــد العقــد‪ ،‬وعــادت إلــى الواليــات‬ ‫املتحــدة األمريكيــة أكثــر عراقيــة ووطنيــة‪.‬‬ ‫هــذا هــو ا ُملضمــر مــن التاريــخ العراقــي‬ ‫احلديــث يف روايــة (احلفيــدة األمريكيــة)‪:‬‬ ‫فتــرة امللكيــة والتــي صــورت بأنهــا فتــرة ذهبيــة‪،‬‬ ‫وفتــرة اجلمهوريــة بقيــادة عبــد الكــرمي قاســم‬ ‫والتــي كانــت أقــل ألقــا مــن ســابقتها‪ ،‬وفتــرة‬ ‫البعــث األولــى والتــي كانــت فتــرة متم ِّيــزة علــى‬ ‫كل األصعــدة‪ ،‬ولكــن فتــرة البعــث الثانيــة كانــت‬ ‫فتــرة احلــروب‪ :‬حــرب اخلليــج األولــى (احلــرب‬ ‫العراقيــة اإليرانيــة)‪ ،‬حــرب اخلليــج الثانيــة‬ ‫(غــزو وحتريــر الكويــت)‪ ،‬حــرب اخلليــج الثالثة‬ ‫(إســقاط نظــام البعــث العراقــي) كلّ هــذه‬ ‫احلــروب أحرقــت األخضــر واليابــس‪ ،‬وأخيــرا‬ ‫فتــرة االحتــال األمريكــي للعــراق والتــي كانــت‬ ‫أيامــا ســوداء‪ .‬هكــذا رأت الكاتبــة العراقيــة‬ ‫إنعــام كجــه جــي تاريــخ العــراق احلديــث‬ ‫والــذي كان مضمــرا يف روايتهــا ومتخفيــا بــن‬ ‫الســطور وبعيــدا جــدا عــن النســخ الرســمية‬ ‫واملقــوالت املركزيــة‪.‬‬ ‫املراجع‬ ‫ إنعــام كجــه جــي‪ ،‬احلفيــدة األمريكيــة‪،‬‬‫دار اجلديــد‪ ،‬الطبعــة الثالثــة ‪2010‬‬ ‫ د‪ .‬جميــل حمــداوي‪ ،‬نظريــات النقــد‬‫األدبــي ومناهجــه يف فتــرة مــا بعــد احلداثــة‪.‬‬ ‫‪www.alukah.net‬‬ ‫ رائــد احلــواري‪ ،‬مقــال‪ :‬العــراق والعراقية‬‫يف روايــة احلفيــدة األمريكيــة‪ -‬أنعــام كجــه‬ ‫جــي‪ .‬موقــع احلــوار املتمــدن‪27/09/2019 .‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫احلادي عشــر من ســبتمبر لعام ألفني وواحد‪،‬‬ ‫مفادهمــا أن النظــام البعثــي مرتبــط بتنظيــم‬ ‫القاعــدة الــذي تبنــى تفجيــرات احلــادي عشــر‬ ‫مــن ســبتمبر والتــي ُد ِّمــر فيهمــا برجــي مركــز‬ ‫التجــارة العاملــي وأصيــب فيهمــا البنتاغــون‪،‬‬ ‫كمــا ا ّدعــت الواليــات املتحــدة أن النظــام‬ ‫البعثــي العراقــي مــا زال ميتلــك أســلحة‬ ‫دمــار شــامل رغــم مــرور عشــر ســنوات علــى‬ ‫حملــة التفتيــش عــن أســلحة الدمــار الشــامل‪،‬‬ ‫لذلــك قــررت الواليــات املتحــدة غــزو العــراق‬ ‫بهاتــن الذريعتــن والتــي تبـ َّـن الحقــا أنهمــا‬ ‫محــض افتــراء‪ .‬بالطبــع لــم تؤ ِّيــد هيئــة األمم‬ ‫املتحــدة الغــزو األمريكــي للعــراق الــذي شــارك‬ ‫فيــه ثمانيــة دول فقــط علــى رأســها الواليــات‬ ‫املتحــدة‪ ،‬إســبانيا‪ ،‬أســتراليا وبولنــدا‪ .‬صــورت‬ ‫كجــه جــي فتــرة غــزو العــراق (حــرب اخلليــج‬ ‫الثالثــة) بفتــرة مــن املداهمــات واالعتقــاالت‪،‬‬ ‫وإحلــاق األضــرار باملمتلكات‪ ،‬والســلب والنهب‪،‬‬ ‫والقتــل‪ ،‬ومقاومــة الغــزو‪ ،‬كمــا ســلطت الكاتبــة‬ ‫الضــوء علــى املقاومــة الشــيعية املنطلقــة مــن‬ ‫مدينــة الصــدر وكان مــن أبــرز شــخصيات‬ ‫املقاومــة يف الروايــة مهيمــن ابــن طــاووس‪:‬‬ ‫أم حيــدر‪ ،‬والــذي هامــت زينــة بــه ومت ّنــت لــو‬ ‫يبادلهــا احلـ ّـب علــى رغــم كونــه أخوهــا يف‬ ‫الرضاعــة‪ .‬وهنــا يختلــف تأريــخ للمقاومــة‬ ‫العراقيــة عمــا هــو معتــاد‪ ،‬فلقــد مت تصويــر‬ ‫املقاومــة العراقيــة يف الغالــب علــى أســاس أنهــا‬ ‫تــدار مــن قبــل البعثيــن والعراقيــن الســنة‪،‬‬ ‫كمــا ركــزت الروايــات الرســمية الغربيــة علــى‬ ‫دور تنظيــم القاعــدة يف مهاجمــة القــوات‬ ‫األمريكيــة لشــيطنة املقاومــة العراقيــة أمــام‬

‫الــرأي العــام الدولــي‪ ،‬ولكــن كان إلنعــام كــج‬ ‫جــي طــرح آخــر‪ ،‬فقامــت بتســليط الضــوء علــى‬ ‫املقاومــة الشــيعية للمحتــل األمريكــي‪ .‬كمــا‬ ‫ذكــرت الكاتبــة حادثــة ســجن أبــو غريــب حيــث‬ ‫مت تعذيــب املعتقلــن وإهــدار كرامتهــم‪.‬‬ ‫وغــادر كثيــر مــن العراقيــن بلدهــم يف فتــرة‬ ‫االحتــال األمريكــي وتفرقــوا يف بقــاع األرض‬ ‫بســبب الفوضــى وانعــدام األمــن واألمــان‪.‬‬ ‫وهــذه رحمــة تؤكــد هــذا الشــتات العراقــي‪،‬‬ ‫فتدعــوا وتقــول‪« :‬ارحمــي يــا حنونــة موتــاي‬ ‫وباركــي أوالدي وأحفــادي ومــن بقــي مــن‬ ‫أحبتــي‪ :‬كامــل وســهام وأبنائهمــا يف نيوزلنــدا‪:‬‬ ‫وجمولــي وسنســن ومتــارة والصغيــر الــذي ال‬ ‫أعــرف كيــف ألفــظ اســمه‪ ،‬وبتــول وزوجهــا‬ ‫يف أمريــكا وولديهــا يــزن وزينــة‪ ،‬وأبنــاء‬ ‫أخــي املرحــوم داوود‪ :‬لقــاء وســعد يف ســوريا‪،‬‬ ‫وســامر يف دبــي‪ ،‬ويوســف وصبــاح ورويــدة يف‬ ‫كنــدا‪ ،‬واحفظــي لــي أختــي غزالــة يف األردن‬ ‫وأبنائهــا وأحفادهمــا يف الســويد ولنــدن وال‬ ‫أدري أيــن‪ .)63(»...‬كمــا كانــت رحمــة يف فتــرة‬ ‫االحتــال األمريكــي «تشــتاق إلــى أبنائهــا‬ ‫املهاجريــن وال تغفــر للزمــان الــذي جعلهــا‬ ‫تنتهــي وحيــدة يف بيــت كبيــر»(‪ .)64‬هــذا مــا‬ ‫ســببه الغــزو األمريكــي للعــراق‪ ،‬فلقــد هــدم‬ ‫اللــذات وفــرق اجلماعــات‪.‬‬ ‫هــذا‪ ،‬ورغــم أن نفــط العــراق كان يحــرك‬ ‫ويضــيء العالــم إال أنّ انقطــاع الكهربــاء قــد‬ ‫أصبــح أمــرا مألوفــا يف العــراق بعــد االحتــال‬ ‫دمــر البنيــة التحتيــة العراقية‪،‬‬ ‫األمريكــي الــذي ّ‬ ‫وهنــا تقــول رحمــة‪« :‬ليــش يــا عــذرا؟ كثــر عليــك‬ ‫أن تبقــي الكهربــاء خمــس دقائــق زيــادة؟»(‪.)63‬‬

‫‪63‬‬


‫‪64‬‬

‫قراءات‬

‫بين أخالق الماضي وهموم الحاضر‬

‫قراءة في المجموعة القصصية «مدينة األسئلة» لـ خالد ماضي‬

‫د‪ .‬عبد الله عبد الرحمن محمود‬

‫يقـــول الدكتـــور أحمـــد أميـــن فـــي‬ ‫أدب‬ ‫مقـــال لـــه بعنـــوان «أدبنـــا الحديـــث ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫بمجلـــة الهالل‬ ‫ِ‬ ‫ديموقراطـــي» المنشـــور‬ ‫القص َة‬ ‫بأن‬ ‫عدد ديســـمبر ‪ ،1937‬ص ‪َّ ،127‬‬ ‫َّ‬ ‫الديموقراطية‪،‬‬ ‫مظاهر‬ ‫أكبر‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫القصيرة ِمـــن ِ‬ ‫ألنهـــا تعنـــي «العنايـــة الكبـــرى بتحليـــل‬ ‫حيـــاة الجماهيـــر‪ ،‬وقلَّ مـــا تعنـــي بحيـــاة‬ ‫البـــاط واألمـــراء»‪.‬‬ ‫فـــإن المجموعة‬ ‫المنطلـــق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ومـــن هـــذا ُ‬ ‫الق َص ِص َّيـــة التـــي بيـــن أيدينـــا «مدينـــة‬ ‫َ‬ ‫الصـــادرة عـــن دار ميتـــا بـــوك‬ ‫األســـئلة»‪َّ ،‬‬ ‫تمثل حياة‬ ‫ُ‬ ‫للطباعة والنشـــر‪ ،‬ط‪2021 ،1‬م‪،‬‬ ‫أطياف ِهـــم‪ ،‬فكاتِ ُبها‬ ‫ِ‬ ‫بكافـــة‬ ‫ِ‬ ‫عامـــة النـــاس‬ ‫ّ‬ ‫الواقـــع الـــذي يعيشـــه إنســـان هذا‬ ‫صـــو َر‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫العصر‪ ،‬مـــع االحتفاظ بقيـــم الماضي التي‬ ‫أن تبقـــى متأصلـــة فـــي جيله‪.‬‬ ‫يأمـــل ْ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫مبتغيراتهــا السياس ـ ّية‬ ‫إنَّ وتيــر َة احليـ ِـاة ُ‬ ‫األدب‪ ،‬األمــر‬ ‫يف‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫تؤ‬ ‫واالجتماع ّيــة والثقاف ّيــة ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـاس أدبيــة جديــدة‪.‬‬ ‫الــذي يــؤدي إلــى ابتـ ِ‬ ‫ـكار أجنـ ٍ‬ ‫وهــذا اجلديـ ُـد يبــدأ بخطــى ُمتأرجحـ ٍـة بــن‬ ‫ن‬ ‫ـاق‪ ،‬حتــى ُيثبــتَ َمكا َن َتــه ب ـ َ‬ ‫ـوع واالنطـ ِ‬ ‫الرجـ ِ‬ ‫ـارات النقـ ِـد‬ ‫ـاس األدب ّيــة‪ُ ،‬مواجه ـ ًا تيـ ِ‬ ‫األجنـ ِ‬ ‫ً‬ ‫ومتغيراتهــا‪.‬‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫باحل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ملوق‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بصالبـ ٍـة ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫القصــة‬ ‫وا ُملبــدع «خالــد ماضــي» أحــد ُك ّتــاب‬ ‫َّ‬ ‫ـاع فيهــا‬ ‫يف محافظــة ســوهاج‪ /‬مصــر‪ ،‬ولــه بـ ٌ‬ ‫ليــس بالقليــل‪ ،‬إضافـ ًـة إلــى كتا َب ِاتــه لألطفــال‬ ‫ـات العرب َّيــة‪ ،‬جمعـ ْـت مجموعتــه‬ ‫ـض اجملـ ِ‬ ‫يف بعـ ِ‬ ‫القصص َّيــة «مدينــة األســئلة»‪ ،‬بــن جنســن‬ ‫أدبيــن‪ ،‬أحدهمــا يقبــل التطويــل واالســتطراد‪،‬‬

‫وهــو مــا يســمى بـ ـ «القصــة القصيــرة»‪ ،‬واآلخــر‬ ‫ـدار للكلمــات‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫َي ِصـ ُـل إلــى ِ‬ ‫هدفـ ِـه ُدونَ إهـ ٍ‬ ‫ُيطلــق عليــه «القصــة القصيــرة جــداً»‪ ،‬وقــد‬ ‫ـواز مــن‬ ‫أخــرج هذيــن اجلنســن يف ن َ​َسـ ٍـق ُمتـ ٍ‬ ‫حيـ ُـث ال َكــم؛ فالقصــص القصيــرة عددهــا سـ َّـت‬ ‫عشــرة قصـ ًـة‪ ،‬بينمــا القصــص القصيــرة جــد ًا‬ ‫عددهــا ســب َع عشــرة قصـ ًـة‪.‬‬ ‫ـض األخطــاء‬ ‫الرغـ ِـم ِمــن وجـ ِ‬ ‫ـود بعـ ِ‬ ‫وعلــى َّ‬ ‫اللغو ّيــة واإلمالئ ّيــة‪ ،‬مثــل‪ :‬إغفــال همــزات‬ ‫وضــع الهمــزة علــى ألـ ِـف الوصـ ِـل‬ ‫القطــع‪ ،‬أو ْ‬ ‫متيــز قصصــه‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬فــإنّ هــذا ال مينــع مــن ُّ‬ ‫ـوح الفكــرة‪،‬‬ ‫القصيــرة بال ُبعــد اإلنســاني‪ ،‬ووضـ ِ‬ ‫والســرد ا ُملباشــر دون اللجــوءِ إلــى الغمــوض؛‬ ‫َّ‬

‫ـدث يف ن َ​َسـ ٍـق واضـ ٍـح‪ ،‬تأتــي‬ ‫ف َبع ـ َد سـ ِ‬ ‫ـرد احلـ ِ‬ ‫ـيابية‬ ‫ـال بانسـ ٍ‬ ‫اخلامتــة ُمبينــة لنتائـ ِـج األفعـ ِ‬ ‫سلسـ ٍـة؛ فلــم يتــرك ا ُملتلقــي يف َحي َرتــه‪ ،‬حيــث‬ ‫بعضهــا ِق َي ًمــا مــا أحوجنــا إليهــا يف‬ ‫أظه ـ َر يف ِ‬ ‫احليــاة‪ ،‬ومنهــا‪ :‬أنّ اجلــزا َء مــن جنـ ِـس العمــل‪،‬‬ ‫(«الســر»‪ ،‬و»ســيدة‬ ‫وهــذا مــا جنــده يف قصــص‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫تبحــث عــن احليــاة‪ ..‬وغزالــة تداعــب نبتــة»)‬ ‫ـض آخ ـ َر أظه ـ َر أنَّ احليــاة ال حتيــا‬ ‫‪ ...‬ويف بعـ ٍ‬ ‫ـاب‪ُ ..‬‬ ‫قاتلـ ٌـة للملـ ِـل‪ُ ،‬مغذيـ ٌـة‬ ‫فالكتـ ُـب ِ‬ ‫مــن غيـ ِـر كتـ ٍ‬ ‫وجتس ـ َد هــذا املعنــى يف قصــص‪:‬‬ ‫للعقـ ِـل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫(«فرحتــان»‪ ،‬و»حــدثَ بع ـ َد ألـ ِـف ليلــة وليلــة»‪،‬‬ ‫و»نــداء»‪ ،‬و»ريــاح الشــاطئ اآلخــر»‪ ،‬و»العثــور‬ ‫ُصدفــة علــى بائـ ِـع الســعادة»‪« ،‬الــراوي جوعــان‪..‬‬


‫قراءات‬

‫خالد ماضي‬ ‫«مشــكلة البطالــة» وأثرهــا‬ ‫ـس ُ‬ ‫ا ُملبــدع؛ فلــم ينـ َ‬ ‫علــى األســرة يف قصــة «حالــة انتظــار»‪ ،‬حيــث‬ ‫صـ َّـو َر حال ـ َة القلــق ا ُملتواصــل لــدى شــباب‬ ‫ـيد‬ ‫اخلرجــن نحــو اجملهــول‪ ،‬وجنـ َـح يف جتسـ ِ‬ ‫ـس‬ ‫تلــك ا ُملعانـ ِـاة مــن خــال «ا ُملفارقــة»؛ فيلتمـ ُ‬ ‫ـتخدام‬ ‫«ا ُملتلقّ ــي» ميـ َـل الكاتــب إلــى اسـ‬ ‫ِ‬ ‫األضــداد برسـ ِـم لوحـ ٍـة تعبيريـ ٍـة جتمـ ُـع بــن‬ ‫«اليــأس واألمــل»‪ ،‬ولكنــه لــم يســتخدم أدواتَ‬ ‫تضليـ ٍـل للفكــرة ُتهــد «ا ُملتلقّ ــي» يف البحــث‬ ‫عــن كيفيـ ِـة حـ ِّـل ا ُملشــكلة‪ ،‬ألنَّ اخلامت ـ َة جــاءت‬ ‫ســريعة‪ ،‬فقــال فيهــا‪(( :‬لقــد عــدتَ اليــوم للبيــت‬ ‫ـال لقــد اســتل َم والـ ُـد َك‬ ‫ُمتأخـ ًـرا‪ ..‬علــى أ ّيـ ِـة حـ ٍ‬ ‫مــن ســاعي البريــد خطــاب تعيينــك‪ )).‬ص‪34‬‬ ‫ـاص إلــى «التنــاص» أو مــا يعــرف ب ـ‬ ‫جلــأ القـ ُّ‬ ‫(التشــظي)؛ ومــن ذلــك يف قصــة «ح ـ َدثَ بع ـ َد‬ ‫ـراء ُضـ ِـر َب‬ ‫ألـ ِـف ليلـ ٍـة وليلــة»‪ ،‬يقــول‪(( :‬والفقـ ُ‬ ‫ـاس مــن‬ ‫ـ‬ ‫بينهــم وبينــه ُ‬ ‫ـور لــه بــاب))‪ ،‬وهــو اقتب ٌ‬ ‫بسـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـاب)‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـور‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫َه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫قولــه تعالــى ﴿ ِ َ َ ْ ُ ْ ِ ُ ٍ ـهُ َ ٌ‬ ‫ســورة احلديــد اآليــة ‪ ،13‬ويف القصــة ذاتهــا‬ ‫«الرمــز» عندمــا اســتله َم شــخصيتني‬ ‫اســتخد َم َّ‬ ‫مــن التــراث الشــعبي‪ ،‬همــا «شــهرزاد» التــي رمـ َز‬ ‫املقهــور‪ ،‬و»شــه َر َيار» الــذي َرم ـ َز بــه‬ ‫بهــا للشــعب ُ‬ ‫قصص‬ ‫أن كانت «شه َرزَاد» يف‬ ‫لالستبداد‪ ،‬فبعد ْ‬ ‫ِ‬ ‫ألـ ِـف ليلــة وليلــة راويـ ًـة‪ ،‬صــارت عنــد «خالــد‬ ‫الرمــز التــي متثـ ُـل صــوت‬ ‫ماضــي» هــي البطلــة َّ‬ ‫الضميــر‪ .‬إنَّ «شــه َرزاد» و»شــه َريار» كليهمــا‬ ‫ميثــان ا ُملتناقــض‪ ،‬وميثــان أيضـ ًا ثيمـ ًـة رمز َّيـ ًـة‬ ‫ـياقات‬ ‫تخـ ُ‬ ‫ـدم الفكــرة‪ ،‬وطاملــا َق َرأنــا عنهمــا يف سـ ٍ‬ ‫رمزيـ ٍـة لــدى األدبــاء‪ ،‬أمثــال‪ :‬طــه حســن‪،‬‬ ‫وتوفيــق احلكيــم‪ ،‬وعلــي أحمــد باكثيــر‪ ،‬وجنيــب‬ ‫محفــوظ‪ ،‬يف إبداعهــم املســرحي والروائــي‪.‬‬ ‫ومــن جميـ ِـع مــا تقـ َّـدم‪ ،‬يجــد «املُتلقِّ ــي» أنَّ‬ ‫ـوم‬ ‫القـ َّ‬ ‫ـاص يف «قصصــه القصيــرة» ُمعانـ ٌـق لهمـ ِ‬ ‫ـلوب أقــرب إلــى الهمــس‪ ،‬تــاركاً‬ ‫ُمجتمعــه‪ ،‬بأسـ ٍ‬ ‫الصرخــات املدويــة جان ًبــا‪ ،‬فــا مجـ َ‬ ‫ـال يف‬

‫الزاعقــة‪ ،‬وميكــن القــول‪:‬‬ ‫القصــة للخطاب ّيــة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫إنَّ ُلغ َتــه حاملــة‪ ،‬جمعـ ْـت بــن توثيــق األحــداث‬ ‫والتأمــل‪ ،‬ابتع ـ َد فيهــا عــن عناصــر اجلــذب‬ ‫ُّ‬ ‫واإلدهــاش وا ُملفارقــة‪ ،‬تلــك العناصــر التــي مت ِّيــز‬ ‫القصــة القصيــرة عــن غيرهــا مــن الفنــون‪،‬‬ ‫الرغــم مــن قصــوره يف تلــك العناصــر‪،‬‬ ‫وعلــى َّ‬ ‫برسـ ٍـام اســتخد َم‬ ‫فإنــه يف تلــك القصــص أشــبه َّ‬ ‫ـددا‬ ‫القل ـ َم الرصــاص يف َر ْسـ ِـم لوحاتــه‪ُ ،‬محـ ً‬ ‫ـود‬ ‫أماكــنَ الظـ ِّـل وأماكــنَ النــور‪،‬‬ ‫مازجــا بـ َ‬ ‫ن األسـ ِ‬ ‫ً‬ ‫ـواز‪ُ ،‬متطل ًّعــا فيــه نحــو طغيــان‬ ‫واألبيــض يف تـ ٍ‬ ‫ـراف ِه‪.‬‬ ‫األبيــض واستشـ ِ‬ ‫الرغـ ِـم‬ ‫أمــا القصــص القصيــرة جـ ًـدا‪ ،‬فعلــى َّ‬ ‫«القصــة القصيــرة‬ ‫ياتها مــا بــن‬ ‫مــن تعــدد ُمسـ َّـم ِ‬ ‫ّ‬ ‫«القصة القصيرة‬ ‫و‬ ‫الومضة»‪،‬‬ ‫«القصة‬ ‫جدا»‪ ،‬و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللوحــة»‪ ،‬فــإنَّ ُلغ َتهــا ا ُملعتمــدة علــى اإليجــاز‬ ‫أبــر ُز مــا مي ّيزهــا‪ ،‬وهــي تكسـ ُـر أفــقَ التوقُّ ـ ِـع لــدى‬ ‫أوجــه النقــد‪،‬‬ ‫ويكــنُ ْ‬ ‫املُتلقِّ ــي‪ُ ،‬‬ ‫أن ُتـ ْـد َر َج ضمــنَ ُ‬ ‫أن‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫الكا‬ ‫ـتطيع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ـخر‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـن‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ملــا فيهــا مـ ُ‬ ‫يص ـ ِّر َح بهــا‪ ،‬قائمــة علــى التضــاد بــن ِف ْعلــن‪،‬‬ ‫ففــي قصــة «مدينــة األســئلة» التــي يبــدو أنَّ‬ ‫«وبضدهــا‬ ‫ـاص اعتم ـ َد فيهــا علــى فكــرة‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫القـ ّ‬ ‫تتميــزُ األشــياء»‪ ،‬نــرى شــخص َّية الرجــل‬ ‫العجــوز وبعــض الشــباب‪ ،‬فكالهمــا يبحــث‬ ‫ُ‬ ‫الســعادتني‪،‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫َّان‬ ‫ت‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ول‬ ‫ـعادة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫َّ‬ ‫عــن َّ‬ ‫ـمس‪،‬‬ ‫فالعجــوز ســعادته يسـ ُّ‬ ‫ـتمدها مــن الشـ ِ‬ ‫ـوب ا ُملخــدرة‬ ‫بينمــا الشــباب يتعاطــون احلبـ َ‬ ‫ـعادة‪.‬‬ ‫طل ًبــا للسـ ِ‬ ‫أن‬ ‫أمــا قصــة «وبــاء»‪ ،‬فقــد رأى كات ُبهــا ْ‬ ‫يســتخد َم التلميــح ال التصريــح‪ ،‬إلــى (املعــاش‬ ‫ـرة‬ ‫التقاعــدي) الــذي ال يفــي ُ‬ ‫ـات األسـ ِ‬ ‫مبتطلبـ ِ‬ ‫يف ظـ ِّـل موجـ ِـة الغــاءِ ‪.‬‬ ‫ـياق نفســه‪ ،‬جنــد قصــة «رائحــة‬ ‫ويف السـ ِ‬ ‫الشــواء»‪ ،‬التــي ص ـ ّو َر فيهــا الفجــوة بــن الغنــي‬ ‫والفقيــر‪ ،‬يف ظـ ِّـل الغــاءِ ‪ ،‬ولع َّلهــا إشــارة إلــى‬ ‫ُ‬ ‫«التكافــل»‪.‬‬ ‫غفلـ ِـة األغنيــاءِ عــن قيمــة‬ ‫الصدمــة‬ ‫ويف قصــة «حــوارات» التــي متثـ ُـل َّ‬ ‫القيــم وتنقلــب املوازيــن‪ ،‬مــن‬ ‫عندمــا تنهــار ِ‬ ‫علمــه أل َّنــه ز َر َع فيــه ُحـ ِّـب‬ ‫خـ ِ‬ ‫ـال طالـ ٍـب أحـ َّـب ُم َ‬ ‫فيصـ َدم حينمــا يكــونُ البائــع يف محـ ِّـل‬ ‫العلــوم‪ُ ،‬‬ ‫نفســه‪.‬‬ ‫البقالــة‪ ،‬هــو ا ُملعلـ ُـم ُ‬ ‫َر َسـ َـم ْت تلـ َ‬ ‫ـك القصــص «القصيــرة جـ ًّـدا»‬ ‫ـض املآســي االجتماع ّيــة‪ ،‬التــي‬ ‫ُصــو ًرا شــتَّ ى لبعـ ِ‬ ‫لــو َغ ِف ْل َنــا عنهــا أو َتغَا َف ْل َنــا‪ ،‬النهــا َر ا ُملجتمـ ُـع‪،‬‬ ‫وسـ َ‬ ‫ـقط يف براثـ ِـن اجلاهل ّيــة‪.‬‬ ‫ـاص لتلـ َ‬ ‫ـك األمــراض التي ال تزال‬ ‫َر َصـ َد القـ ُّ‬ ‫تفـ ُ‬ ‫ـرض ســيطرتها علــى الواقــع‪ِ ،‬وبـ َد ْو ِر ِه األدبــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـرة دونَ إيجـ ِـاد حـ ٍـل لهــا‪ ،‬ألنَّ‬ ‫فإ َّنــه يرصـ ُـد للظاهـ ِ‬ ‫همتُ ــه إعمــال اخليــال الف ّنــي فقــط‪ .‬ومــن‬ ‫َم َّ‬ ‫َثـ َّـم‪ ،‬فــإنَّ القصــص القصيــرة جــداً‪ ،‬لــو أعطيـ ْـت‬ ‫لكاتـ ِـب الســيناريو‪ ،‬ألخــر َج منهــا روائـ َع درام ّيــة‪،‬‬ ‫ـاء مفتــوح يحتمـ ُـل التأويـ َـل‪.‬‬ ‫ـص فضـ ٌ‬ ‫ألنّ النـ ّ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫والبطــل يحلــقُ مــع النــورس جوناثــان»‪).‬‬ ‫ومــن القيــم التــي تبــر ُز بوضــوح‪« :‬مكانــة‬ ‫ا ُملعلــم يف ا ُملجتمــع»‪ ،‬حيــث ص ـ ّو َر الكاتـ ُـب أث ـ َر‬ ‫ا ُملعلــم يف بنــاءِ شــخصية التلميــذ أو الطالــب‪،‬‬ ‫وأرج ـ َع الذاكــرة للماضــي القريــب‪ ،‬عندمــا كان‬ ‫ُمعلـ ُـم اللغــة العربيــة هــو ا ُملربــي‪ ،‬وهــو َمــن يــزرع‬ ‫قصــة «طريـ ٌـق‪..‬‬ ‫الفضائــل يف النفــوس‪ ،‬ففــي ّ‬ ‫وذكريـ ٌ‬ ‫ـارة أســتاذ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫بز‬ ‫األب‬ ‫يسـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـعد ُ‬ ‫ـات ُم ّ‬ ‫لحــة»‪ْ ،‬‬ ‫ـاح ولـ ِـده يف‬ ‫اللغــة العربيــة لــه للتهنئـ ِـة بنجـ ِ‬ ‫قصــة «محضــر لورقــة‬ ‫املرحلـ ِـة الثانويــة‪ ..‬أمــا ّ‬ ‫جســد ُخ ُلــق ا ُملعلــم وأمانتــه مــع‬ ‫بيضــاء»‪ ،‬فتُ ِّ‬ ‫ـاخ‬ ‫ُطـ ِ‬ ‫ـاب الشــهادة الثانو َّيــة‪ ،‬يف توفيــر منـ ٍ‬ ‫أمانتـ ِـه يف حتريـ ِـر‬ ‫ُيالئــم جــو االمتحــان‪ ،‬مــع‬ ‫ِ‬ ‫ـيرا إلــى‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫محضـ ٍـر يحفـ ُـظ للطالبـ ِـة‬ ‫حقَّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أنّ إجابا َت َهــا تبعـ ُـث علــى األمـ ِـل‪ ،‬إلّا ورقـ ًـة واحــد ًة‬ ‫مــا تـ ُ‬ ‫ـزال بيضــاء‪.‬‬ ‫وتتجلــى قيمــة ُ‬ ‫قصــة «وعــد»‪،‬‬ ‫«احلر َّيــة» يف ّ‬ ‫التــي اختـ َ‬ ‫ولعلهــا‬ ‫ـزل فيهــا كتلـ ًـة مــن الهمــوم‪ّ ،‬‬ ‫رسـ ً‬ ‫ـئول‪ ،‬وتنبيه ـ ًا لألخـ ِـذ بقولــه‬ ‫ـالة لـ ُـك ِّل مسـ ٍ‬ ‫وهــم إ َّنهــم مس ـئُو ُلون﴾ ســورة‬ ‫﴿وقفُ ُ‬ ‫تعالــى ِ‬ ‫((إن أصبحـ ِـت‬ ‫الصافــات‪ ،24 :‬إذ يقــول‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫أنـ ِـت األميــرة وأنــا الســلطان؛ جنبـ ُـر كســرى‬ ‫القلــوب‪ ،‬نر ّبــت علــى األحــزان‪ ،‬نلهـ ُـم احليــارى‬ ‫الطريــق ومنسـ ُـح ُي ْت ـ َم األطفــال‪ ،‬جنمـ ُـع شــتاتَ‬ ‫همنــا‬ ‫الطيــور ا ُملهاجــرة علــى احمل َّبــة‪ ،‬وأن يكــو َن َّ‬ ‫اإلنســان)) ص ‪ُ ،37‬ثــم يقــول يف اخلامتــة‪:‬‬ ‫((عـ ُ‬ ‫ـدت لدراجتــي الهوائ ّيــة‪ ،‬لكنــي لــم أجــد‬ ‫الطريــق‪ ،‬بحثـ ُـت يف ذاكرتــي عنــه‪ ،‬فلــم أجــد إلّا‬ ‫النســيان‪ )).‬ص ‪.38‬‬ ‫ـداع الف ِّنــي مــن قصائ ـ َد‬ ‫ورمبــا ســيط َر اإلبـ ُ‬ ‫ـال ا ُملبــدع؛ فقــد اســتخد َم‬ ‫وروايـ ٍ‬ ‫ـات علــى خيـ ِ‬ ‫ـاص بعـ َ‬ ‫ـض الكلمــات ا ُملتجانســة‪ ،‬مثــل‬ ‫القـ ُّ‬ ‫[الســلطان‪ -‬اإلنســان‪ -‬النســيان]‪ ،‬وهــذه‬ ‫ُّ‬ ‫ـياق البحـ ِـث عــن احلر ّيـ ِـة‬ ‫الكلمــات َو َر َدت يف سـ ِ‬ ‫أو العدالــة‪ ،‬لــدى اثنــن مــن األدبــاء‪ ،‬أحدهمــا‪:‬‬ ‫الشــاعر «نــزار قبانــي» يف قصيدتــه «هوامــش‬ ‫علــى دفتــر النكســة» والتــي يقـ ُ‬ ‫ـول فيهــا‪:‬‬ ‫ـرب‬ ‫«يــا ســيدي الســلطان‪ ..‬لقــد خســرتَ احلـ َ‬ ‫م ّرتــن‪ ..‬ألنَّ نصـ َ‬ ‫ـس لــه لســان‪ ..‬لــو‬ ‫ـف شــعبنا‪ ..‬ليـ َ‬ ‫الســلطان‪..‬‬ ‫ـكر‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـان‪..‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫أحـ ٌـد مينحنــي األ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫مرتــن‪..‬‬ ‫قلـ ُـت لــه‪ :‬لقــد خســرتَ احلـ َ‬ ‫ـرب َّ‬ ‫أل َ​َّنــك انفصلــتَ عــن قض ّيـ ِـة اإلنســان»‪.‬‬ ‫أمــا اآلخــر فهــو الروائــي «جنيــب محفــوظ»‪،‬‬ ‫الــذي أور َد يف روايتــه «أوالد حارتنــا»‪ ،‬عبــارة‪:‬‬ ‫«آفـ ُـة حارتنــا ال ِّنســيانُ »‪.‬‬ ‫قصــة «الــراوي جوعــان‪ ..‬والبطــل يحلــق‬ ‫أمــا ّ‬ ‫للحر ّيــة‬ ‫مــع البطــل جوناثــان»‪ ،‬فهــي دعــوة ُ‬ ‫وحــب املعرفــة والتنميــة البشــر ّية‪ ،‬مــن خــال‬ ‫ُ‬ ‫ـدود ُمجتمعــه وطبيعتــه‪،‬‬ ‫طائـ ٍـر تغ ّلـ َـب علــى حـ ِ‬ ‫ُمتطلع ـ ًا للمعرفـ ِـة يف أعلــى مراتبهــا‪.‬‬ ‫ومــا زالــت تلــك الهمــوم تُخ ِّيـ ُـم علــى قلـ ِـم‬

‫‪65‬‬


‫‪66‬‬

‫حوار‬

‫األديب هارون الصبيحي لـ (نقش الثقافية)‪:‬‬ ‫أنا ال أحب المناصب !‬ ‫النخب األدبية والثقافية التتحرك بجدية وجماعية‬ ‫«ه ــارون الصبيح ــي» أدي ــب م ــن‬ ‫رب ــوع األردن يهت ــم ب ــاألدب ف ــي‬ ‫عمومـــه وبتأثيـــر األدب علـــى‬ ‫المجتمـــع‪ ،‬يحـــاول فقـــأ دمامـــل‬ ‫المجتمـــع وتطبيبـــه مـــن أجـــل‬ ‫حـــد‬ ‫غـــد أفضـــل‪ ،‬رؤاه واقعيـــة‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫األلـــم الـــذي يســـكنه فـــي ّ‬ ‫يخطــه علــى ورقــه أو علــى‬ ‫حــرف ّ‬ ‫حائطـــه الفيســـبوكي‪ .‬وظيفـــة‬ ‫األدب لديــه ليســت فنــا مــن أجــل‬ ‫الفـــن! ليســـت للرفاهيـــة‪.‬‬ ‫مـــن أجـــل وضـــع األصبـــع علـــى‬ ‫وج ــع الثقاف ــة والمجتم ــع تح ــاور‬ ‫«نقـــش الثقافيـــة» األديـــب‬ ‫هـــارون الصبيحـــي‪.‬‬ ‫حاورته‪/‬‬

‫وداد أبوشنب‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫سأبدأ من حيث يفترض أن أنتهي‪:‬‬ ‫((وصيتي‬ ‫عندما أموت‬ ‫أرجوكم‬ ‫ال تدفنوا قضيتي معي‬ ‫عندما أموت‬ ‫أرجوكم‬ ‫ال تتكلموا عني‬ ‫ال تذكروا محاسني‬ ‫فقط‬ ‫افعلوا شيئ ًا من أجل قضيتي‪..‬‬ ‫من قال لكم إنكم على قيد احلياة؟‬ ‫عندما يقتلون قضيتكم فأنتم أموات‪..‬‬

‫قضيتي ال أنا‬ ‫أنا ال قضيتي‬ ‫أنا وقضيتي‬ ‫قضيتي ال أنا‪..‬‬ ‫أحبكم‬ ‫أريد أن أكون معكم‬ ‫أفرح معكم وأحزن معكم‬ ‫وأموت بينكم‬ ‫وأدفن يف قلب القضية‪))..‬‬ ‫هــا حدثتنــا عــن نصــك أعــاه؟ مــا‬ ‫هــي قضيــة هــارون الصبيحــي؟ وملــاذا‬ ‫يحمــل وزر قضيتــه األجيـ َ‬ ‫ـال القادمــة؟‬ ‫ِّ‬

‫هــل يرنــو إلــى حلهــا؟ وكيــف؟‬ ‫يف البدايــة شــكر ًا جزي ـ ًا لــك أســتاذة وداد‬ ‫علــى جهــودك وعطائــك القّ يــم مــن أجــل‬ ‫األدب والثقافــة‪ ،‬يســعدني هــذا اللقــاء علــى‬ ‫صفحــات مجلــة نقــش الثقافيــة‪ ،‬هــذه اجمللــة‬ ‫اجلــادة واملفيــدة واملمتعــة‪.‬‬ ‫ثانيــا‪ ،‬النصــوص القصيــرة جد ًا التي ســألتي‬ ‫عنهــا تتحــدث عــن القضيــة الفلســطينية‪ ،‬يف‬ ‫النــص األول املتحــدث هــو املناضــل الفلســطيني‬ ‫الــذي وهــب حياتــه للنضــال مــن أجــل قضيتــه‪،‬‬ ‫هــو يطلــب أال نتكلــم عنــه شــخصيا بعــد‬ ‫استشــهاده‪ ،‬أال نذكــر صفاتــه ومحاســنه ونترحــم‬ ‫عليــه‪ ،...‬هــو ال يريــد م ّنــا أن نفعــل ذلــك‪ ،‬يطلــب‬ ‫أن نفعــل شــيئ ًا مــن أجــل قضيتــه‪ ،‬أال ندفــن‬


‫حوار‬ ‫األدب حرية وقوة‬ ‫فكرية‪ ،‬اإلنسان الذي‬ ‫يقرأ األدب الج ّيد‬ ‫بتمعن ستتغير نظرته‬ ‫إلى الحياة‪ ،‬ستصبح‬ ‫نظرته عميقة‪..‬‬

‫المشهد األدبي‬ ‫والثقافي معظم‬ ‫ما فيه استعراضي‪،‬‬ ‫ولألسف هو صور‬ ‫وابتسامات وشللية‬ ‫ومصالح وعالقات وحبر‬ ‫على ورق‪..‬‬

‫قضيتــه التــي مــات مــن أجلهــا معــه‪ ،‬هــو يريــد أن‬ ‫تبقــى القضيــة علــى قيــد احليــاة‪ ،‬أن تتوارثهــا‬ ‫األجيــال وتناضــل‪ ،‬يف احملصلــة القضيــة‬ ‫الفلســطينية قضيتنــا جميع ـ ًا‪ ،‬بــل هــي قضيــة‬ ‫كل إنســان شــريف وحــر علــى وجــه األرض‪.‬‬ ‫النــص الثانــي واضــح‪ ،‬قتــل القضيــة‬ ‫الفلســطينية قتــل لنــا‪ ،‬ال حيــاة بــدون‬ ‫فلســطني‪ ،‬حياتنــا فلســطني والصمــود بوجــه‬ ‫االحتــال حتــى يــوم التحريــر‪ ،‬النــص الثالــث‪،‬‬ ‫إنســان حائــر يحــدث نفســه‪ ،‬قضيتــي ال أنــا‪،...‬‬ ‫يف النهايــة يقــرر قضيتــي ال أنــا‪ ،‬ميــوت مــن‬ ‫أجــل قضيتــه‪ ،‬أمــا النــص الرابــع‪ ،‬فهــو رســالة‬ ‫إلــى األهــل يف فلســطني احلبيبــة‪.‬‬

‫وتقــرأ أو تســتمع ملــا يقــول‪ ،‬النــاس مشــغولة‬ ‫بهمومهــا ورزقهــا‪ ،‬ضغوطــات احليــاة كثيــرة‪،‬‬ ‫هــل فكــر األديــب واملثقــف بالذهــاب إلــى‬ ‫النــاس يف أماكــن جتمعاتهــم ومحاورتهــم‪،‬‬ ‫النــدوات األدبيــة والثقافيــة مــن يتابعهــا‪ ،‬عــدد‬ ‫محــدود جــداً‪ ،‬ملــاذا؟ أل ّنهــا يف أماكــن مغلقــة‬ ‫ولــم تدخلهــا النــاس مــن قبــل‪ ،‬ملــاذا ال تنظــم‬ ‫النــدوات األدبيــة والثقافيــة يف الســاحات‬ ‫واحلدائــق العامــة؟ ســيبقى احلــال علــى‬ ‫مــا هــو عليــه إذا لــم نفكــر ونبتكــر وجنتهــد‪،‬‬ ‫ســيبقى النــاس يف وادي واألدب والثقافــة يف‬ ‫وادي آخــر‪.‬‬

‫لكل كاتب أسلوبه‬ ‫الخاص وقواعد الكتابة‬ ‫ليست مقدسة‬ ‫فالتمرد عليها مطلوب‬ ‫ّ‬ ‫للتجديد ولكن‬ ‫تمرد‬ ‫المطلوب هو ّ‬ ‫جميل دون فوضى‬ ‫قــرأ معظــم النــاس األدب اجليــد ســنصل‬ ‫إلــى اجملتمــع والوطــن القــوي فكري ـ ًا‪ ،‬والقــوة‬ ‫الفكريــة تصنــع املعجــزات‪.‬‬ ‫هــل أنــت راض عــن املشــهد الثقــايف‪،‬‬ ‫وكيــف تــراه بعــد أعــوام؟‬ ‫املشــهد األدبــي والثقــايف معظــم مــا فيــه‬ ‫اســتعراضي‪ ،‬ولألســف هــو صــور وابتســامات‬ ‫وشــللية ومصالــح وعالقــات وحبــر علــى ورق‪،‬‬ ‫وكالم ال يســمن وال يغنــي مــن جــوع‪ ،‬النــاس‬ ‫تريــد حلــو ًال‪ ،‬تريــد فع ـ ًا‪ ،‬األدب والثقافــة‬ ‫ال يصــان إلــى النــاس‪ ،‬ملــاذا؟ ألن األديــب‬ ‫أو املثقــف ينتظــر أن حتضــر إليــه النــاس‬

‫يقــال ّإنــا الرهــان علــى احلــذف‪،‬‬ ‫وهــذا يعنــي أن يجيــد املبــدع كتابــة‬ ‫النــص الطويــل أو املســتطرد‪ ،‬ثــم‬ ‫ميــارس تقنيــة احلــذف التــي تالزمهــا‬ ‫تقنيــة التكثيــف املفعمــة بالرمزيــة‬ ‫والتــي تثــري النــص القصصــي القصيــر‬ ‫جــدا‪ ،‬أنــت مــن كتــاب القصــة القصيــرة‬ ‫جــدا‪ ،‬ملــاذا اجتهــت إلــى هــذا اجلنــس‬ ‫األدبــي؟ ومــن هــي الشــريحة التــي‬ ‫ترســل إليهــا نصوصــك؟ وهــل يصلهــا‬ ‫معنــى النــص؟‬ ‫التكثيــف ال يعنــي املبالغــة بالرمزيــة‪ ،‬هــو‬ ‫حــذف مــا ال لــزوم لــه وهــذا فــن صعــب‪ ،‬يعنــي‬ ‫أنـ ِـت يف بضعــة أســطر ســتختصرين عشــرات‬ ‫الصفحــات‪ ،‬لكــن بشــرط أال يتح ـ ّول النــص‬ ‫إلــى لغــز أو أحجيــة‪ ،‬هــذا صعــب جــد ًا وال‬ ‫يتقنــه إال الكاتــب املتمكــن‪ ،‬التكثيــف عنصــر‬ ‫رئيــس مــن عناصــر القصــة القصيــرة جــداً‪،‬‬ ‫وهــو يســتعمل يف القصــة القصيــرة وأحيانــا‬ ‫يف الرواية ولكن بشــكل أقل بكثير‪ ،‬أنا أحببت‬ ‫القصــة القصيــرة والقصيــرة جــد ًا وأكتبهمــا‬ ‫وحاليــا أكتــب روايــة وفيهــا تكثيــف وقــد يبــدو‬ ‫هــذا غريب ـ ًا للبعــض‪ ،‬روايــة وتكثيــف؟ لكــن‬ ‫لــكل كاتــب أســلوبه اخلــاص وقواعــد الكتابــة‬ ‫فالتمــرد عليهــا مطلــوب‬ ‫ليســت مقدســة‬ ‫ّ‬ ‫للتجديــد ولكــن املطلــوب هــو مت ـ ّرد جميــل‬ ‫دون فوضــى‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫رؤاك التشــاؤمية حســبما الحظــت‬ ‫قائمــة وفــق خــط أفقــي حتــاول أن تغير‬ ‫اجتاهــه بغيــة إلغائــه‪ ،‬ورؤاك التفاؤليــة‬ ‫تصاعديــة‪ ،‬هــل لديــك مشــروع بنــاء‬ ‫صــرح مجتمعــي ســليم ال جائــع فيــه وال‬ ‫جاهــل وال متألــم؟ وهــل تــرى أن األدب‬ ‫وســيلة ناجعــة مــن أجــل بــث األمــل‬ ‫يف اجملتمــع والنجــاح يف القضــاء علــى‬ ‫آفاتــه؟؟ كيــف؟‬ ‫ً‬ ‫هــو ليــس تشــاؤما بــل قــراءة للواقــع املؤلــم‬ ‫ونظــرة للمســتقبل وحتذيــر ممــا هــو قــادم‪،‬‬ ‫أعتقــد هــي ليســت خطوطــا ولكــن مهمــا كان‬ ‫احلــال ال بــد مــن التمســك بخيــط األمــل‪،‬‬ ‫اليــأس واإلحبــاط استســام وعــار ننقلــه‬ ‫للنــاس وللجيــل القــادم‪ ،‬علينــا أن نفكــر‬ ‫ونخطــط ونعمــل ونقــاوم ونتمســك باملقاومــة‬ ‫مهمــا كنــا ضعفــاء‪ ،‬ال يوجــد مجتمــع مثالــي‬ ‫ال جائــع فيــه وال جاهــل ومتألــم‪ ،‬لكننــا‬ ‫نســتطيع أن جنعــل اجلــوع واجلهــل واأللــم‬ ‫حــاالت فرديــة وليــس ظواهــر‪ ،‬وأمــراض‬ ‫مزمنــة كمــا هــو احلــال اليــوم‪ ،‬األدب حريــة‬ ‫وقــوة فكريــة‪ ،‬اإلنســان الــذي يقــرأ األدب‬ ‫اجل ّيــد بتمعــن ســتتغير نظرتــه إلــى احليــاة‪،‬‬ ‫ســتصبح نظرتــه عميقــه‪ ،‬سيســتحيل أو‬ ‫ســيصعب جــد ًا ِاســتعباده‪ ،‬لــن ميشــي مــع‬ ‫القطيــع‪ ،‬لــن تتالعــب بــه وســائل اإلعــام‪،‬‬ ‫لــن يلجــأ إلــى العنــف‪ ،‬ســيحب احلــوار‪ ،‬لــو‬

‫‪67‬‬


‫‪68‬‬

‫حوار‬

‫نحن نعلم أن معظم‬ ‫أصحاب المجالت‬ ‫األدبية والثقافية‬ ‫يدفعون من جيوبهم‬ ‫ومن وقتهم الخاص‪،‬‬ ‫العمل األدبي‬ ‫والثقافي بمعظمه‬ ‫عمل تطوعي‪..‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫قبــل شــهر أثــار صديــق لــي علــى‬ ‫صفحتــه الفيســبوكية موضــوع املطالبــة‬ ‫بأجــر مقابــل النشــر يف اجملــات‪ ،‬فــكان‬ ‫علــى التعليقــات املعتــرض واملــؤازر‪ ،‬مــا‬ ‫رأيــك يف اســتكتاب النقــاد واملبدعــن‬ ‫مبقابــل؟ هــذا مــن جهــة ومن جهــة أخرى‬ ‫كيــف تــرى اســتراتيجية املســابقات‬ ‫اإلبداعيــة يف املشــهد الثقايف‪ ،‬مســابقات‬ ‫محليــة وعربيــة وعامليــة؟‬ ‫نعــم يف حالــة أن تكــون اجمللــة قــادرة علــى‬ ‫الدفــع‪ ،‬ونحــن نعلــم أن معظــم أصحــاب‬ ‫اجملــات األدبيــة والثقافيــة يدفعــون مــن‬ ‫جيوبهــم ومــن وقتهــم اخلــاص‪ ،‬العمــل‬ ‫األدبــي والثقــايف مبعظمــه عمــل تطوعــي‪،‬‬ ‫ولكــن األديــب واملثقــف إنســان عليــه التزامــات‬ ‫ومســؤوليات‪ ،‬بصراحــة‪ ،‬مــن واجــب الدولــة‬ ‫أن تدعــم املشــاريع األدبيــة والثقافيــة دعم ـ ًا‬ ‫كافي ـ ًا وعــاد ًال وللجميــع وليــس لــ‪...‬‬ ‫بروباجنــدا النــص املفتــوح‪ ،‬إذابــة‬

‫احلــدود بــن األجنــاس األدبيــة ومعضلة‬ ‫التجنيــس‪ ،‬مــاذا تقــول يف ذلــك؟‬ ‫بعــض النصــوص األدبيــة يحتــار النقــاد‬ ‫يف جتنيســها وتكــون موضــع جــدال‪ ،‬برأيــي ال‬ ‫مشــكلة يف ذلــك‪ ،‬النــص األدبــي اإلبداعــي ال‬ ‫يقلــل مــن قيمتــه عــدم جتنيســه أو التزامــه‬ ‫بعناصــر جنــس أدبــي معــن‪.‬‬ ‫أعلــم أن لديــك كتابــا يف النقــد‬ ‫حــول القصــة القصيــرة‪ ،‬كيــف كانــت‬ ‫اســتراتيجية إجنــازه؟ ومــا الــذي‬ ‫دفعــك إلــى الكتابــة يف اجلانــب النظــري‬ ‫للقصــة القصيــرة ونحــن نعــرف أنــك‬ ‫قــاص بالدرجــة األولــى؟‬ ‫(القصــة القصيــرة جــد ًا مــن‬ ‫هــو كتــاب‬ ‫ّ‬ ‫األلــف إلــى اليــاء) هــو كتــاب مــن إعــدادي‪،‬‬ ‫كتــاب أكادميــي‪ ،‬جمعــت فيــه عناصــر القصــة‬ ‫القصيــرة جــد ًا وعناصــر الكتابــة بشــكل عــام‪،‬‬ ‫كتــاب فيــه آراء وحتليــات نخبــة مــن كبــار‬ ‫النقــاد يف الوطــن العربــي‪.‬‬ ‫مفيــد جــد ًا لقــارئ وكاتــب القصــة‬ ‫القصيــرة جــداً‪ ،‬وللك ّتــاب بشــكل عــام مبــا فيــه‬ ‫واف لعناصــر‬ ‫مــن شــرح تفصيلــي وحتليــل ٍ‬ ‫القصــة والكتابــة بشــكل عــام‪.‬‬ ‫يف الكتــاب منــاذج مــن قصصــي وقصــص‬ ‫املبدعــن واملبدعــات مــن الزمــاء والزميــات‬ ‫يف األردن والوطــن العربــي‪.‬‬ ‫وظيفــة األدب بعيــدا عــن حرفيــة‬ ‫الفــن للفــن‪ ،‬وهــل تــرى أن األدب جســر‬ ‫لعبــور الكاتــب أو األديــب مبتلقيــه‬ ‫جســر النجــاة؟‬ ‫هنــاك نظريــة تقــول (الفــن للفــن واألدب‬ ‫لــأدب) هــذه النظريــة ارتبطــت باملذهــب‬

‫على النخب الفكرية‬ ‫تج َّد‬ ‫والثقافية أن ِ‬ ‫وتجتهد وتفكر‬ ‫وتخطط وتعمل‪،‬‬ ‫المشكلة أو الكارثة‬ ‫التي نعاني منها‬ ‫هي أن العمل في‬ ‫مجتمعاتنا العربية‬ ‫فردي وعشوائي‬ ‫البرناســي‪ ،‬هــي تفســر الفــن واألدب تفســير ًا‬ ‫جمالي ـ ًا فقــط‪ ،‬وهــذا يعنــي أنّ الهــدف مــن‬ ‫األدب هــو إظهــار اجلمــال والتمتــع بــه حتــى‬ ‫ينســى اإلنســان أو يســتريح مــن متاعــب‬ ‫احليــاة‪ ،‬طبعــا أنــا أ ّتفــق مــع النظريــة بالتمتــع‬ ‫بجمــال األدب‪ ،‬ولكــن ليــس عزلــه‪ ،‬ففــي األدب‬ ‫فائــدة وجمــال وقــوة فكريــة وحضــارة وتقـ ُّـدم‪،‬‬ ‫هــو ليــس تســلية أو ترويح ـ ًا عــن النفــس‬ ‫فقــط‪ ،‬األدب مفيــد لالقتصــاد والسياســة‬ ‫والقيــادة وكل مناحــي احليــاة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتوقعــه املواطــن العربــي‬ ‫مــا الــذي‬ ‫بعامــة واألردنــي بخاصــة مــن الكاتــب‬ ‫ومــن املفكــر؟ وهــل يرفــع ســقف‬ ‫ـص السياســي‬ ‫التوقعــات ذاتــه فيمــا يخـ ّ‬ ‫ورجــل الديــن؟‬ ‫املواطــن العربــي ولألســف يائــس‬ ‫ومحبــط ويعانــي‪ ،‬املشــهد مؤلــم جــداً‪،‬‬ ‫املواطــن العربــي ال يتوقــع خيــر ًا مــن أحــد‪،‬‬


‫حوار‬ ‫جتـ َّـد‬ ‫علــى النخــب الفكريــة والثقافيــة أن ِ‬ ‫وجتتهــد وتفكــر وتخطــط وتعمــل‪ ،‬املشــكلة‬ ‫أو الكارثــة التــي نعانــي منهــا هــي أن العمــل‬ ‫يف مجتمعاتنــا العربيــة فــردي وعشــوائي‪،‬‬ ‫وال عمــل دائــم‪ ،‬يتحمســون لعمــل أو ملشــروع‬ ‫أدبــي وثقــايف كبيــر وبعــد زمــن يتراجعــون‬ ‫وتطغــى الفرديــة واألنانيــة‪ ،‬نحــن بحاجــة‬ ‫إلــى العمــل اجلماعــي الصــادق النابــع مــن‬ ‫احملبــة والرغبــة احلقيقيــة يف خدمــة األمــة‪،‬‬ ‫هــذا يحتــاج للجهــد والتضحيــة وال ننســى أنّ‬ ‫هنــاك قــوى فســاد حتــارب وتهمــش‪...‬‬ ‫شــهدت األردن مؤخــرا أزمــة ارتفــاع‬ ‫األســعار ال ســيما الدواجــن واحملروقــات‪،‬‬ ‫فاتّ خــذ املواطــن نهــج اإلضــراب‬ ‫واالمتنــاع عــن مــادة الدواجــن وقــد‬ ‫جنــح يف ذلــك نســبيا‪ ،‬هــل تــرى يف‬ ‫ذلــك بدايــة جديــدة حليــاة أفضــل‪،‬‬ ‫حيــث ارتفــاع الوعــي عنــد املواطــن‬ ‫واســتطاعته التخلــي عــن بعــض املــواد‬ ‫ا ال ســتهال كية ؟‬ ‫املقاطعــة ســاح جيــد جــد ًا ملقاومــة ارتفــاع‬ ‫األســعار‪ ،‬املقاطعــة ســلوك ليــس جديــد ًا يف‬ ‫األردن والوطــن العربــي‪ ،‬الكثيــر مــن النــاس‬ ‫تلتــزم بــه وهــو مؤثــر‪ ،‬أَقتــرح أن يتــم اســتغالل‬ ‫مواقــع التواصــل لنشــر ثقافــة املقاطعــة لــكل‬ ‫ســلعة يرتفــع ســعرها بشــكل مبالــغ فيــه‪،‬‬ ‫وينبغــي أن تكــون املقاطعــة شــاملة‪ ،‬هــي‬ ‫ليســت للســلع فقــط‪ ،‬بــل يجــب مقاطعــة‬ ‫بعــض وســائل اإلعــام والشــخصيات الفاســدة‬ ‫والشــركات واملؤسســات املطبعــة مــع االحتــال‬ ‫الصهيو نــي‪.‬‬

‫هــل تفضــل أن تكــون أديبــا فاعــا‬ ‫يف اجملتمــع أم تكــون ذا منصــب ميكنــك‬ ‫ّ‬ ‫احلــل والربــط مــن خاللــه؟‬ ‫األديــب وصاحــب املنصــب شــريكان‬ ‫يف البنــاء وقــد يكونــا أحيان ـ ًا شــريكان يف‬ ‫اخلــراب‪ ،‬إذا لــم يكــن األدب صادق ـ ًا وجريئ ـ ًا‬ ‫فهــو شــريك يف اخلــراب‪ ،‬أنــا ال أحــب‬ ‫املناصــب أبــداً‪ ،‬أنــا كاتــب ومفكــر يحــاول أن‬ ‫يقـ ّـدم خيــر ًا للنــاس‪.‬‬

‫األديــب هــارون الصبيحــي مســؤوال عن‬ ‫املنظومــة الثقافيــة عربيــا‪ ،‬بروتوكوالتك‬ ‫ومشــاريعك وآمالــك وإجنازاتك؟‬ ‫أســتطيع أن أقــول يف هــذا‪ ،‬األدب لــن‬ ‫يكــون تأثيــره ج ِّيــد ًا يف الوطــن العربــي إال‬ ‫بنشــره بــن النــاس بطــرق مبتكــرة ومشــوقة‪،‬‬ ‫األنظمــة والقيــادات واحلكومــات مشــغولة‬ ‫ولــن تفعــل ذلــك‪ ،‬علــى النخــب الفكريــة‬ ‫األدبيــة والثقافيــة أن تتَّ ح ـ َد وتعمــل‬ ‫بشــكل جماعــي‪ ،‬هــذا يحتــاج إلــى احلــوار‬ ‫والتخطيــط واجلهــد والتضحيــة‪ .‬املشــكلة‬ ‫أن كبــار األدبــاء يف الوطــن العربــي يعتقــدون‬ ‫أن دورهــم هــو الكتابــة وتأليــف الكتــب فقــط‪،‬‬ ‫عليهــم أن يع ِّبــروا عــن مواقفهــم بشــكل‬ ‫مباشــر وبشــجاعة‪ ،‬أن يخصصــوا وقت ـ ًا‬

‫المشكلة أن كبار‬ ‫األدباء في الوطن‬ ‫العربي يعتقدون أن‬ ‫دورهم هو الكتابة‬ ‫وتأليف الكتب فقط‪،‬‬ ‫عليهم أن يع ِّبروا‬ ‫عن مواقفهم بشكل‬ ‫مباشر وبشجاعة‬

‫حملــاورة النــاس‪ ،‬أن يعترضــوا ويحتجــوا علــى‬ ‫هــذا اخلــراب‪ ،‬أن يقولــوا كلمتهــم لألنظمــة‬ ‫واحلكومــات‪ ،‬لألســف معظمهــم يعــزل نفســه‬ ‫وال يتدخــل إال مــن خــال كتبــه ومــا فيهــا‬ ‫مــن تلميحــات‪ ،‬والبعــض يفــرح للجوائــز‬ ‫مدجــن‪...‬‬ ‫واألوســمة‪ ،‬والبعــض‬ ‫ّ‬

‫تطرقــت ‪-‬أعــاه‪ -‬إلــى روايتــك‪،‬‬ ‫لقــد‬ ‫َ‬ ‫وهــي قيــد اإلجنــاز‪ ،‬هــا أخبــرت‬ ‫قارئــك عــن فكــرة الروايــة‪ ،‬وكيــف كانــت‬ ‫جتربتــك معهــا ال ســيما اعتمــادك‬ ‫التكثيــف‪ ،‬ومــا الفــرق بــن مغامــرة‬ ‫الكتابــة الروائيــة ومغامــرة الكتابــة‬ ‫القصصيــة جــدا؟‬ ‫شــكر ًا علــى الســؤال‪ ،‬روايتــي القادمــة‬ ‫(ألســنة النــار) فكرتهــا مــن الواقــع املؤلــم‬ ‫يف كثيــر مــن الــدول‪ ،‬حيــث تفاقمــت مشــاكل‬ ‫الفقــر والبطالــة والفســاد بأنواعــه‪ ،‬وغابــت‬ ‫العدالــة وتباعــد احلاكــم واحملكــوم عــن‬ ‫بعضهمــا‪ ،‬الفقــر هــو وقــود النــار وألســنتها‬ ‫اجلــوع والظلــم واإلقصــاء والتهميــش وتطبيق‬ ‫القانــون علــى الفقــراء فقــط‪...‬‬ ‫لــكل جنــس أدبــي عناصــره اخلاصــة‪،‬‬ ‫التكثيــف الــذي يف القصــة القصيــرة يتشــابه‬ ‫قلي ًال مع التكثيف الذي يف القصة القصيرة‬ ‫جــداً‪ ،‬لكــن يف الروايــة األمــر مختلــف‪ ،‬يف‬ ‫الروايــة ســرد للتفاصيــل وشــخصيات كثيــرة‬ ‫وأحــداث‪ ،‬كمــا تعلمــن القصــة القصيــرة‬ ‫جــد ًا تكتــب يف أســطر لتختصــر عشــرات‬ ‫الصفحــات أحيانـ ًا‪ ،‬ولذلــك حتتــاج إلــى براعــة‬ ‫يف التكثيــف حتــى ال تصبــح أحجيــة أو لغــزاً‪،‬‬ ‫التكثيــف يف الروايــة برأيــي هــو أال يشــعر‬ ‫القــارئ بامللــل مــن احلشــو وإضاعــة بوصلــة‬ ‫الســرد وغيــاب التشــويق‪.‬‬ ‫القصــة القصيــرة جــد ًا تختلــف عــن‬ ‫القصــة القصيــرة والروايــة كثيــراً‪ ،‬لــو جمعنــا‬ ‫عشــرين قصــة قصيــرة جــد ًا أو أكثــر متشــابهة‬ ‫يف الفكــرة والشــخصية فــا نســتطيع أن‬ ‫نقــول إن هــذه روايــة‪ ،‬لكــن لــو جمعنــا عشــرين‬ ‫قصــة قصيــرة وربطنــا بينهــا برابــط مثــل أن‬ ‫تلتقــي الشــخصيات يف القصــة األخيــرة‪،‬‬ ‫هنــا نســتطيع أن جننــس املنتــج بأنــه روايــة‪،‬‬ ‫ملــاذا؟ ألن الروايــة أحيان ـ ًا هــي مجموعــة مــن‬ ‫القصــص القصيــرة‪ ،‬لكنهــا ليســت مجموعــة‬ ‫مــن القصــص القصيــرة جــد ًا التــي ال تفاصيل‬ ‫فيهــا أبــداً‪.‬‬ ‫كلمة أخيرة لنقش ولقارئك‪.‬‬ ‫لــك جزيــل الشــكر وفائــق االحتــرام أســتاذة‬ ‫وداد‪ ،‬أرجــو مزيــدا مــن النجــاح والتقــدم جمللــة‬ ‫نقــش‪ ،‬كل احملبــة والتقديــر واالحتــرام ملــن‬ ‫يقــرأ كتاباتــي‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫انتقــدت بنــدا ثقافيــا يف أحــد‬ ‫منشــوراتي علــى الفيســبوك‪ ،‬فثــار‬ ‫أحدهــم معلقــا‪ :‬ال ميكننــا التفكيــر يف‬ ‫الثقافــة ونحــن ال جنــد خبزا يشــبعنا!!‬ ‫ردي لكننــي أريــد‬ ‫لــن أخبــرك عــن ِّ‬ ‫رأيــك يف املوضــوع‪ ،‬هــل يفكــر شــعب‬ ‫جائــع؟ وهــل الثقافــة تقضــي علــى‬ ‫اجلــوع؟ (اجلــوع مجــرد مثــال وســنقيس‬ ‫علــى إجابتــك يف كل اجملــاالت التعليــم‪،‬‬ ‫الصحــة‪ ،‬املواصــات‪ ،‬ســوق العمــل‪.)..‬‬ ‫األدب والثقافــة يســاعدان املواطــن علــى‬ ‫القيــام بواجباتــه واحلصــول علــى حقوقــه‪،‬‬ ‫األديــب أواملثقــف لــن يرضــى بالظلــم واجلــوع‪،‬‬ ‫ســيقاوم وبطريقــة ذكيــة تضمــن لــه النجــاح‪،‬‬ ‫غيــر املثقــف قــد يلجــأ إلــى العنــف وبالتالــي‬ ‫ســيتورط وتضيــع حقوقــه‪ ،‬لكــن وكمــا ســبق‬ ‫وذكــرت مشــكلتنا أنّ العمــل فــردي والفرديــة‬ ‫لــم ولــن تنجــح‪ ،‬النخــب األدبيــة والثقافيــة ال‬ ‫تتحــرك بجديــة وجماعيــة!‬

‫األديب وصاحب‬ ‫المنصب شريكان‬ ‫في البناء وقد يكونا‬ ‫أحيانًا شريكان في‬ ‫الخراب‪ ،‬إذا لم يكن‬ ‫األدب صادقًا وجريئًا‬ ‫فهو شريك في‬ ‫الخراب‬

‫‪69‬‬


‫‪70‬‬

‫خيط الوحدة‬

‫اعتامد رسسك‬

‫خيـط أحـرص عليـه‪ ،‬عكـس كثي ٍـر مـن النـاس اللذيـن يخافونـه‪،‬‬ ‫هـو خيـط يشـحن قلبـي وعقلـي وجسـدي‪ ،‬أحتاجـه كثيـرا ألشـعر‬ ‫أننـي مـا زلـت أنـا تلـك اإلنسـانة التـي تعشـق روحهـا املمتـدة منـذ‬ ‫الطفولـة إلـى اآلن بخيـط رفيـع لكنـه قـوي‪ ،‬كان يدفعنـي دومـا‬ ‫إلـى الهـروب إلـى القـراءة بنهـم عاشـقة أبحـث عـن مـكان بعيـد‬ ‫ألنـزوي بنفسـي بعيـدا عـن ضجيـج البيـت واحلـارة واجليـران هـي‬ ‫حلظـات سـعادتي الكبيـرة ألسـمو بروحـي وأرتقـي وأعيـش أجمـل‬ ‫األوقـات‪ ..‬أغمـض عين ّـي كثيـرا‪ ،‬هـي حلظـات اسـترخاء أحـرص‬ ‫والتأمـل‬ ‫عليهـا سـاعة بعـد العصـر ألعيـد شـحن طاقتـي بالراحـة‬ ‫ّ‬ ‫واملصاحلـة مـع الـذات وتقييـم بعـض األمـور العالقـة‪ ،‬وكأ ّننـي‬ ‫أمتلـك كاميـرا خفيـة تصـ ِّور لـي احلقائـق عن قـرب وأقوم بالغربلة‬ ‫والتصفيـة ألعـود بـكل مـا أملـك مـن ح ّـب إل ّـي! إلـى نفسـي التـي‬ ‫ال تعـرف للكـره مكانـا‪ ،‬لكنهـا بـدأت تسـتجمع قواهـا لتختـار مـن‬ ‫يكـون بالقـرب ومـن سـيخرج دون رجـوع ودون أسـف! لـم أعـد أؤمـن‬ ‫باألبـواب املواربـة‪ ،‬إمـا أن أشـرعها أو أغلقهـا‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫سـاعدني هـذا اخليـط كثيـرا حيـث وجـدت فيه راحتي النفسـية‬ ‫واجلسـدية‪ ،‬هـو خيـط املوسـيقى الهادئـة الـذي يدفعنـي للمضـي‬ ‫قدمـا دون خـوف‪ ،‬هـو خيـط األصالـة والقـوة وامتـداد الـروح لـكل‬ ‫شـيء جميـل وارى كل شـيء مختلـف وحقيقـي دون رتـوش‪ ،‬خيـط‬ ‫الوحـدة خيـط متين صلـب قـوي يخلـق منـك إنسـانا سـويا متتلك‬ ‫زمـام نفسـك تأخـذ القـرارات احلاسـمة دون تـر ّدد‪ ،‬تـرى العالـم‬ ‫بألـوان الطيـف كبيـرا ممتـدا إلـى أعلـى مـكان وأبعـد مـن امتـداد‬ ‫يعمـق فينـا الفكـر والنظر إلى من‬ ‫نظـرك اخلارجـي‪ .‬هـو نـور إلهـي ِّ‬ ‫حولنـا بثقـة العـارف‪ ..‬خيـط الوحـدة هـو خيـط حبيـب إلـى قلبـي‬ ‫أسـرع اليـه كثيـرا كـي أتصالـح مـع نفسـي وأقربهـا إل ّـي إن حاصرني‬ ‫ـذب هـو خيطـي اجلميـل الـذي أعشـق ّه‬ ‫مـن حولـي بالنميمـة والك ّ‬ ‫ّ‬ ‫نعـم أعتـرف وأدعوكـم أيهـا األحبـة أال تقطعـوه هـو خيـط احل ّـب‬ ‫دون ش ّـك‪.‬‬


‫نقوش فنية‬

‫‪71‬‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫سيناريو محتمل‬ ‫لوقائع رحلة‪:‬‬ ‫“بول كلي” و “أوغست‬ ‫ّ‬ ‫مواييت”‬ ‫ماكه” و “لويس‬ ‫ْ‬ ‫إلى تونس‪ ،‬سنة ‪1914‬‬ ‫كامل الع ّيادي الكينغ‬

‫عن الحتمية السينمائية‪:‬‬ ‫الواقع الفيلمي‬ ‫وسببية العمل‬ ‫السينمائي‬ ‫فارس خدوج‬

‫سيد درويش‪:‬‬ ‫باعث النهضة‬ ‫الموسيقية العربية‬ ‫عمر إبراهيم محمد‬

‫أسعد الهاليل‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أفالم لن تغادر الذاكرة‪:‬‬ ‫“التاريخ األمريكي‬ ‫المجهول”‬


‫‪72‬‬

‫تشكيل‬

‫سيناريو محتمل لوقائع رحلة‪:‬‬ ‫(بول كلي) و(أوغست ّ‬ ‫مواييت)‬ ‫ماكه) و(لويس‬ ‫ْ‬ ‫إلى تونس‪ ،‬سنة ‪1914‬‬

‫كامل الع ّيادي الكينغ‬

‫األول مـــن شـــهر مـــارس ‪ .1914‬أوروبـــا تغلـــي مثـــل المرجـــل‪.‬‬ ‫نحـــن اآلن فـــي النّ صـــف ّ‬ ‫المناضلـــة (روزا ليكســـمبورغ) (‪ )1871-1919‬تنتظـــر تنفيـــذ قـــرار اعتقالهـــا وإيداعهـــا‬ ‫أحـــد ســـجون برليـــن‪ ،‬بعـــد أن حكـــم عليها منـــذ أربعة أســـابيع بتهمة التّ شـــهير وشـــتم‬ ‫تتجمع بيـــن حدود النّ مســـا‬ ‫الســـلطات العليـــا‪ .‬غيـــوم حمـــراء مـــن غبـــار الحديـــد الخـــام‬ ‫ّ‬ ‫وألمانيـــا‪( .‬جيوفانـــي غيوليتـــي) زعيـــم اللّ يبرالييـــن األحرار ورئيـــس الوزراء فـــي إيطاليا‬ ‫يعلن هزيمته وانســـحابه‪ ،‬ليخلّ فه (انطونيو ســـاندرا) زعيم اليمين الليبرالي المنشـــق‪.‬‬ ‫يحل البرلمـــان فجأة بقرار فـــوري‪ .‬العالم‬ ‫األول) ّ‬ ‫القيصـــر النمســـاوي (جوزيـــف فرانـــس ّ‬ ‫الفيزيائي (ألبيرت آينشـــتاين) يجابه حملة شرســـة من أغلب الصحف ووســـائل اإلعالم‬ ‫ناحية وبسبب‬ ‫الر‬ ‫غير‬ ‫ســـمية‪ ،‬بســـبب أصله اليهودي من ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرســـمية‪ ،‬بتأليب من األجهزة ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهمة عميد معهـــد القيصر ويلهام‬ ‫يتول‬ ‫َ‬ ‫ناحية أخرى‪ .‬رغم أنّ ه لـــم‬ ‫ّ‬ ‫بحوثـــه الجريئة مـــن ّ‬ ‫إال منذ شـــهر ونصف‪.‬‬ ‫للفيزيـــاء ّ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫النّمســا وهنغاريــا ّ‬ ‫تنظمــان حملــة مدروســة‬ ‫لل ّتحـ ّرش بصربيــا قبــل إعــان احلــرب عليهــا‪.‬‬ ‫بريطانيــا وروســا واليابــان وبلغاريــا‬ ‫ـتعد‬ ‫ورومانيــا واليونــان وأمريــكا‪ .‬كلّ يسـ ّ‬ ‫للحــرب ويســعى إلــى إبــرام اتّفاق ّيــات ســر ّية‬ ‫وعلنيــة ال تنــذر بخيــر علــى اإلطــاق‪.‬‬ ‫الســنة‬ ‫خــال شــهر أفريــل مــن تلــك ّ‬ ‫رســامني‬ ‫الســوداء املشــؤومة ‪ .1914‬ق ـ ّرر ثالثــة ّ‬ ‫ش ـ ّبان (ســيكون لهــم شــأن خطيــر فيمــا بعــد)‬ ‫القيــام برحلــة عجيبــة وغريبــة إلــى شــمال‬ ‫إفريقيــا‪ ،‬واختــاروا أن تكــون تونــس ال ّرازحــة‬ ‫آنــذاك منــذ ‪ 33‬ســنة حتــت نيــر االحتــال‬ ‫ّ‬ ‫محطتهــم املنشــودة‪.‬‬ ‫الفرنســي‪،‬‬ ‫أما أكبرهم سـنّا‪ ،‬فكان شــا ّبا منســاو ّيا أنيقا‬ ‫ّ‬ ‫يف بدايــة اخلامســة والثّالثــن مــن العمــر‪.‬‬ ‫طويــل القامــة‪ .‬متد ّلــق الوجــه‪ ،‬بشــكل الفــت‬ ‫لالنتبــاه‪ .‬حــا ّد املالمــح‪ .‬تبــدو عليــه آثــار حــزن‬ ‫دفــن مــازم‪ ،‬تفضحــه تقاســيم وجهــه الــذي ال‬ ‫يخلــو مــن ســمات آر ّيــة بعيــدة‪ .‬ولكـ ّـن نظراتــه‬ ‫احلاملــة‪ ،‬تلــك ال ّنظــرات التــي مت ّيــز عــادة أولئــك‬ ‫املســكونني واملهوســن بالبحــث عــن مجاهــل‬ ‫أخــرى وأجوبــة مغايــرة ملــا اعتــاد ال ّنــاس عليــه‪،‬‬ ‫نظراتــه تلــك كانــت ّ‬ ‫تلطــف حقيقــة‪ ،‬كثيــرا مــن‬ ‫حـ ّـدة االنطبــاع األ ّول الــذي يتركــه يف ذاكــرة مــن‬ ‫يقابله للم ّرة األولى‪ .‬إنّ هذا ّ‬ ‫الشــاب هو نفســه‬ ‫ـري‪ ،‬الــذي سيشــغل ال ّنــاس‬ ‫الرســام العبقـ ّ‬ ‫ذلــك ّ‬ ‫ألكثــر مــن نصــف قــرن فيمــا بعــد وســيعيد‬ ‫الســابقة لل ّرســم ونســق‬ ‫ترتيــب كلّ القناعــات ّ‬

‫بول كلي‬ ‫توزيــع الضــوء يف عالقتــه اجلدل ّيــة مــع ال ّلــون‬ ‫وارتباطهمــا معــا بالتّكوينــات البدائ ّيــة للخـ ّ‬ ‫ـط‪.‬‬ ‫الرســام الشــهير بــول كلــي (‪.)1879-1940‬‬ ‫إ ّنــه ّ‬ ‫الــذي لــم يكــن ميلــك يف ذلــك الوقــت غيــر‬ ‫مبلــغ ‪ 500‬فرنــك‪ ،‬كانــت حصيلــة بيعــه لثمانية‬ ‫لوحــات مائ ّيــة للصيدلــي السويســري الس ـ ّيد‬ ‫شــارلز بورنــارد املعــروف بح ّبــه لألكواريــل‪( .‬يف‬ ‫ســنة ‪ 1982‬ســيعرض أحــد رجــال األعمــال‬ ‫اليابانيــن مبلــغ ‪18‬مليــون دوالر لشــراء‬ ‫اللّوحــات الثمانيــة املوجــودة إلــى اليــوم يف فيــا‬ ‫أحــد اخلــواص بسويســرا)‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الشــاب الثّانــي‪ ،‬كان أقصــر قامــة مــن رفيقــه‬ ‫بــول كلــي‪ .‬ومــع أ ّنــه كان ضخــم اجل ّثــة‪ ،‬كبيــر‬ ‫الــرأس وعريــض ال ّرقبــة‪ ،‬فإ ّنــه لــم يكــن ليخلــو‬ ‫مــن وســامة تزيدهــا تقاســيم وجهــه اآلر ّيــة‬ ‫خديــه املشــوبة ببعــض‬ ‫الواضحــة وحمــرة ّ‬ ‫الســمرة نبــا ورقّ ــة تتعــارض بشــكل طريــف مــع‬ ‫بق ّيــة أعضــاء جســده الــذي يوحــي أكثــر بأصــول‬ ‫بدو ّيــة‪.‬‬ ‫ومــع أ ّنــه لــم يكــن يصغــر رفيقــه بأكثــر مــن‬ ‫ســنة واحــدة‪ ،‬فقــد كانــت طريقتــه يف املشــي‪،‬‬ ‫الضحــك‪ ،‬وتفضــح جانبــا‬ ‫تبعــث فعــا علــى ّ‬ ‫طفول ّيــا ضاربــا يف عمــق شــخص ّيته كمــا أ ّنهــا‬ ‫تخــدع مــن ال يعرفــه‪ .‬حتــى ليظــن أ ّنــه أصغــر مــن‬ ‫س ـنّه احلقيقــي بعشــر ســنوات علــى األقــلّ ‪ .‬فهــو‬ ‫محدثــه مــن األمــام‬ ‫ينــط كامــل الوقــت‪ ،‬يعتــرض‬ ‫ّ‬ ‫م ـ ّرة ومــن اليمــن واليســار م ـ ّرة أخــرى‪ ،‬مل ّوحــا‬ ‫محدثــه‬ ‫ـتعد لضــرب‬ ‫ّ‬ ‫بكلتــا يديــه وكأ ّنــه مسـ ّ‬ ‫يصدقــه فــورا‪ .‬بــل إ ّنــه قــد‬ ‫لــو أ ّنــه جت ـ ّرأ ولــم‬ ‫ّ‬ ‫محدثــه أحيانــا‬ ‫يبكــي مــن القهــر حــن يرفــض‬ ‫ّ‬ ‫موافقتــه فيمــا يــراه أو يشــعر بعــدم حماســه ملــا‬ ‫يفكّ ــر بــه‪ .‬ه ـ ّو يتك ّلــم أغلــب الوقــت بحماســة‬ ‫ف ّياضــة ال متلــك معهــا يف آخــر األمــر غيــر‬ ‫االنتبــاه إليــه ومجاراتــه فيمــا يؤمــن بــه ويــراه‪.‬‬ ‫إ ّنــه ال ّر ّســام النمســاوي الشــهير‪ ،‬وثانــي‬ ‫الثالثــة الذيــن ارحتلــوا إلــى تونــس والوحيــد‬ ‫الــذي عــاش مــن بينهــم إلــى مــا بعــد فتــرة‬ ‫املدمرتــن‪ .‬إ ّنــه‬ ‫نهايــة احلربــن العامليتــن‬ ‫ّ‬ ‫لويــس مواييــت (‪ .)1880-1962‬والواقــع‪،‬‬


‫تشكيل‬

‫‪73‬‬

‫من أعمال الفنان بول كلي (‪)1940 - 1879‬‬

‫مرسيليا‪ ،‬صباح يوم االثنين ‪ 6‬أ فريل ‪1914 -‬‬

‫ـرقي‪ ،‬مقهــى صغيــر‬ ‫عنــد اجلانــب الشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫محطــة‬ ‫ال يفصلــه عــن رصيــف املينــاء غيــر‬ ‫جتمعــت عندهــا عربــات ج ـ ّر خشــب ّية‬ ‫صغيــرة‪ّ ،‬‬ ‫وحديد ّيــة‪ ،‬كان أصحابهــا مــن العتّالــن‬ ‫واحلمالــن قــد تركوهــا مهملــة ليجلســوا إلــى‬ ‫ّ‬ ‫حافــة ال ّرصيــف‪ ،‬أو ليقرفصــوا إلــى األرض‬ ‫مك ّونــن حلقــات صغيــرة بالقــرب مــن ســاحة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أ ّنــه كان الســبب الرئيــس يف عزمهمــا القيــام‬ ‫بهــذه ال ّرحلــة العجيبــة‪ .‬ليــس فقــط أل ّنــه‬ ‫كان الوحيــد الــذي ســبق لــه زيــارة البــاد‬ ‫التّونسـ ّية م ّرتــن قبــل ذلــك‪ :‬األولــى ســنة‪،1908‬‬ ‫والثانيــة ســنة ‪ .1910‬ولكـ ّـن أيضــا؛ ألنّ طبيعــة‬ ‫لويــس مواييــت نفســها‪ ،‬امللحاحــة‪ ،‬اجملادلــة‪،‬‬ ‫اللّجوجــة املغامــرة الباحثــة عــن اجملهــول‪،‬‬ ‫وارتيــاد الصعــاب والتجريــب كانــت مــن‬ ‫العناصــر املؤثــرة يف قــرار وموافقــة رفيقيــه‪.‬‬ ‫إضافــة طبعــا إلــى أنّ هــذه ال ّرحلــة جــاءت يف‬ ‫وقــت مناســب متامــا‪ .‬فــكلّ تلــك اخليــول كانــت‬ ‫لتقمــص الضــوء الــذي ينحــو‬ ‫تصهــل وتناديهــم‬ ‫ّ‬ ‫مــن بعيــد‪ .‬مــن هنــاك حيــث األلــوان منيمــة‪،‬‬ ‫والعناصــر املائعــة تفيــض بــن املــاء حينــا‬ ‫واحلجــارة حينــا آخــر‪ .‬وكيــف كان لهــم علــى أ ّيــة‬ ‫حــال مقاومــة أنوثــة كلّ تلــك األلــوان أو جتاهــل‬ ‫املتوســط ّية‪ .‬فتنــة ال‬ ‫ُغنــج خيــوط الشــمس‬ ‫ّ‬ ‫ســبيل ملقاومــة نزقهــا وجبروتهــا‪ .‬يف وقــت كانــت‬ ‫تتجمــع يف ســماء أوروبــا‬ ‫كلّ الســحب الســوداء‬ ‫ّ‬ ‫منــذرة بســنوات طويلــة قاســية مــن اإلحبــاط‬ ‫واملــرارة وألــوان املــوت الكامــن يف رائحــة احلروب‬ ‫حــن تقتــرب‪.‬‬ ‫ّأمــا ثالــث الثالثــة‪ ،‬وأصغرهــم س ـنّا فهــو‬ ‫أوغســت ما ّكــه (‪ .)1914 1887-‬ولــم يكــن قــد‬ ‫الســابعة والعشــرين بعــد‪ ،‬آنــذاك‪،‬‬ ‫جتــاوز ســنته ّ‬ ‫رغــم أ ّنــه لــن يتجاوزهــا لألســف بعــد ذلــك علــى‬ ‫اإلطــاق‪ .‬فقــد كان قــدره أن يســقط صريعــا يف‬ ‫الســنة التــي قــدم فيهــا تونــس ‪ 1914‬بعــد‬ ‫نفــس ّ‬ ‫أن أجنــز يف بضعــة أشــهر أكثــر ممــا كان قــد‬ ‫الســابقة‪،‬‬ ‫أجنــزه طيلــة كامــل حياتــه القصيــرة ّ‬ ‫وكأ ّنــه كان يستشــعر مخالــب املــوت املتر ّبــص بــه‬ ‫حــال خروجــه ثانيــة مــن بلــد األلــوان كمــا كان‬ ‫يسـ ّـميه‪ .‬البلــد الــذي يدفعــك دفعــا لل ّرســم وقــد‬ ‫يأخــذ بتالبيبــك لترســم تفاصيلــه‪ .‬وإن لــم‬ ‫تفعــل فقــد تصبــح شــاعرا بائســا يجــوب اآلفــاق‪.‬‬ ‫لــم يكــن أوغســت ماكــه مندفعــا وحيويــا مثل‬ ‫أقــرب أصدقائــه لويــس مواييــت الــذي كان قــد‬ ‫تع ـ ّرف عليــه قبــل أربــع ســنوات بنــادي الفــارس‬ ‫األزرق‪ ،‬إثــر عــودة هــذا األخيــر مــن تونــس بعــد‬

‫زيارتــه الثّانيــة لهــا ســنة ‪ .1910‬ولك ّنــه لــم يكــن‬ ‫أيضــا كئيبــا وحزينــا كامــل الوقــت مثــل رفيقــه‬ ‫بــول كلــي الــذي تعـ ّرف عليــه منــذ ســنتني فقــط‬ ‫وكان ذلــك طبعــا عــن طريــق صديقــه الكثيــر‬ ‫املعــارف واخل ـاّن – لويــس مواييــت‪.‬‬ ‫ولك ّنــه كان بــن هــذا وذاك‪ .‬كان يضحــك‬ ‫بصخــب أحيانــا‪ ،‬ولك ّنــه كان ســرعان مــا يقطــع‬ ‫ضحكتــه فجــأة وكأ ّنــه تذ ّكــر حادثــة ال يليــق‬ ‫معهــا الضحــك‪ .‬رغــم أ ّنــه‪ ،‬يف الوقــت نفســه‪،‬‬ ‫لــم يكــن ليمنــع نفســه مــن تبــادل بعــض‬ ‫عبــارات الغــزل اللّطيفــة مــع بنــات مرســيليا‬ ‫وهــو يصعــد مــع رفيقيــه الباخــرة الفرنس ـ ّية‬ ‫قرطــاج التــي ســتأخذهم يــوم ‪ 6‬أفريــل ليصلــوا‬ ‫إلــى مينــاء حلــق الــواد و يبــدؤون فــورا رحلــة‬ ‫استكشــاف وعمــل بــدأت مبنطقــة ســانت‬ ‫جرمــان حيــث التقــوا مبض ّيفهــم األملانــي‪،‬‬ ‫الدكتــور آرنســت ياغــي قبــل أن يغــادروه لزيــارة‬ ‫ســيدي بوســعيد يــوم ‪ 13‬أفريــل ثـ ّـم إلــى منطقــة‬ ‫احلمامــات يــوم ‪ 14‬أفريــل ثـ ّـم قضــاء يومــن يف‬ ‫ّ‬ ‫مدينــة القيــروان مــن يــوم ‪ 15‬إلــى حـ ّـد يــوم ‪17‬‬ ‫أفريــل ليعــودوا يــوم ‪ 17‬أفريــل مســاء ويض ّلــون‬ ‫بتونــس العاصمــة يومــن آخريــن‪ .‬بعــد ذلــك‬ ‫ســيغادرون البــاد التّونسـ ّية‪ .‬ليخرجــوا للعالــم‬ ‫بلوحــات مذهلــة عــن تونــس‪ .‬كان ذلــك ك ّلــه‬ ‫قبــل أن ينــادى ّ‬ ‫الســابق واملــدرج‬ ‫الشــاب اجمل ّنــد ّ‬ ‫بقائمــة جنــد االحتيــاط املدعــو أوغســت ما ّكــه‬ ‫يــوم ‪ 3‬أوت (أغســطس) لاللتحــاق بالكتيبــة‬ ‫‪ 16‬جلنــود االحتيــاط لتم ـزّق صــدره ثــاث‬ ‫الســادس والعشــرين‬ ‫رصاصات عشــوائ ّية صباح ّ‬ ‫الســنة الســوداء‬ ‫مــن شــهر ســبتمبر مــن تلــك ّ‬ ‫املشــؤومة ‪.1914‬‬

‫اخملــزن املقابــل‪ .‬صاحــب املقهــى يعـ ّـدل تثبيــت‬ ‫الدخــول متامــا‪ ،‬كتــب‬ ‫لوحــة خشــب ّية فــوق بــاب ّ‬ ‫عليهــا بالطــاء األحمــر وبشــكل غيــر متناســق‪:‬‬ ‫مقهــى ال ّرصيــف‪ ،‬أكل ســخن وبــارد‪ ،‬والواقــع أن‬ ‫املقهــى لــم يكــن يقـ ّـدم غيــر فطائــر محش ـ ّوة‬ ‫بال ّلحــم املفــروم أو شــرائح عجــن مطبــوخ‬ ‫أو كعــكا ّ‬ ‫مطليــا بطبقــة ســميكة مــن عســل‬ ‫الســكّ ر‪ .‬كمــا أنــه كان ميكنــك كذلــك أن تطلــب‬ ‫مــن زوجــة صاحــب املقهــى البديــن‪ ،‬كأســا مــن‬ ‫ّ‬ ‫الســاخن وبســكويتا‪.‬‬ ‫الشــاي ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان الطقــس بــاردا‪ .‬لذلــك فقــد بقيــت‬ ‫الكراســي امللتفّ ــة حــول الطــاوالت اخلشــبية‬ ‫الثــاث‪ ،‬التــي انتصبــت خــارج املقهــى خال ّيــة‬ ‫كمــا كان صاحــب املقهــى البديــن نفســه‬ ‫تتجمــع‬ ‫يحــرص علــى مســح ح ّبــات املطــر التــي‬ ‫ّ‬ ‫بشــكل لــم يفهمــه‪ ،‬بقطعــة مــن القمــاش كلّ‬ ‫ربــع ســاعة‪ ،‬وكان ال ينفـ ّـك يــر ّدد ّ‬ ‫ماطــا شــفتيه‬ ‫موجهــا الــكالم‬ ‫كلّ مـ ّرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محدثــا نفســه مـ ّرة‪ ،‬أو ّ‬ ‫إلــى زوجتــه النّحاس ـ ّية البشــرة‪ ،‬والتــي كانــت‬ ‫تنفــث دخــان التبــغ وهــي تتــكأ علــى عتبــة‬ ‫البــاب‪ ،‬م ـ ّرة أخــرى‪ ،‬بأ ّنــه ال يفهــم إطالقــا مــن‬ ‫والســماء لــم‬ ‫أيــن تأتــي ح ّبــات املطــر اللّعينــة ّ‬ ‫متطــر منــذ يومــن!‬ ‫عنــد الطاولــة األولــى املقابلــة للبــاب‪ ،‬جلــس‬ ‫شــاب بديــن ال توحــي مالمــح وجهــه األحمــر‬ ‫املســتدير بأ ّنــه يعيــش منــذ مــدة بهــذه املدينــة‬ ‫الســاحل ّية‪ .‬وكان يحـ ّـدث رفيقــه الــذي يشــاركه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطاولــة بحمــاس‪ ،‬مل ّوحــا بيديــه بــن احلــن‬ ‫واحلــن‪ ،‬ممــا كان يثيــر فضــول بق ّيــة الزبائــن‬ ‫أحيانــا‪ ،‬الذيــن كانــوا ســرعان مــا يعــودون إلــى‬ ‫حديثهــم‪ ،‬مطمئنــن إلــى أن األمــر ال يدعــو‬ ‫للريبــة بأ ّيــة حــال‪ .‬وبأ ّنــه ال يعــدو أن يكــون‬ ‫ثرثــرة ّ أجنبـ ّـي يتك ّلــم األملان ّيــة بصــوت عــال‪،‬‬ ‫ككلّ األملــان العاطلــن الذيــن متتلــئ بهــم‬ ‫مرســيليا هــذه األ ّيــام‪ .‬ويف حــن كان األ ّول‬ ‫يتك ّلــم كامــل الوقــت‪ ،‬فــإنّ جليســه كان صامتــا‪،‬‬ ‫ال يقطــع صمتــه إ ّال ليهمهــم بكلمــات مقتضبة‬ ‫وهــو يه ـ ّز رأســه عالمــة املوافقــة‪.‬‬ ‫لــم يكــن ّ‬ ‫الصامــت جــلّ الوقــت هــذا‪،‬‬ ‫الشــاب ّ‬


‫‪74‬‬

‫تشكيل‬

‫الرســام – بــول كلــي – ولــم‬ ‫غيــر صديقنــا‬ ‫ّ‬ ‫يكــن جليســه البديــن غيــر صديقــه احلميــم‪،‬‬ ‫أمــا ســبب حماســته‪،‬‬ ‫الرســام لويــس مواييــت‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫فأل ّنــه كان يؤ ّكــد بــل ويقســم بشــرفه لصديقــه‪،‬‬ ‫بأ ّنــه متأ ّكــد مــن أنّ صديقهمــا الثّالــث أوغســت‬ ‫ما ّكــه ســيصل يف الوقــت املناســب قبــل إقــاع‬ ‫الباخــرة الفرنس ـ ّية قرطــاج‪ ،‬تلــك التــي لــم‬ ‫يكــن قــد بقــي علــى موعــد مغادرتهــا مينــاء‬ ‫باتــاه مينــاء حلــق الــواد التونســي‬ ‫مرســيليا ّ‬ ‫غيــر ثــاث ســاعات ونصــف‪ .‬كان بــول كلــي‬ ‫يعــرف جيــدا‪ ،‬بــل إ ّنــه كان شــبه متأ ّكــد أنّ‬ ‫وربــا لــن‬ ‫ما ّكــه لــن يصــل يف الوقــت املناســب‪ّ ،‬‬ ‫يلتحــق بهمــا إطالقــا‪ .‬ذلــك أ ّنــه كان ص ـ ّرح لــه‬ ‫منــذ أ ّيــام بأ ّنــه يعانــي مــن صعوبــات مال ّيــة‪،‬‬ ‫وبأ ّنــه ال يع ـ ّول كثيــرا يف احلقيقــة علــى وعــود‬ ‫الس ـ ّيد برنــارد كولــه الــذي ســبق وأن وعــد‬ ‫مبـ ّـده مببلــغ ‪ 400‬مــارك لتغطيــة مصاريــف‬ ‫ال ّرحلــة إلــى تونــس‪ .‬كان بــول كلــي ال يشــاطر‬ ‫صديقــه تفاؤلــه‪ ،‬وحماســته إذن‪ ،‬ولك ّنــه لــم‬ ‫يكــن يشــعر بأيــة رغبــة يف اجملادلــة‪ .‬وحتــى‬ ‫لــو فعــل‪ ،‬فلــن تؤثّ ــر ق ـ ّوة يف الكــون يف إميــان‬ ‫وقناعــة صديقــه الط ّيــب البديــن‪ .‬ثـ ّـم أ ّنــه كان‬ ‫يتمنــى مــن كلّ قلبــه أيضــا أن يتحقّ ــق كالم‬ ‫صديقــه وأن يلتحــق بهمــا ذلــك ّ‬ ‫الشــاب املبــدع‬ ‫الســاعة الواحــدة‬ ‫ال ّرائــع – أوغســت ما ّكــه قبــل ّ‬ ‫وال ّنصــف موعــد اإلقــاع‪ .‬رغــم أنّ الســاعة‬ ‫قاربــت احلاديــة عشــر‪ .‬واملســافة بينهــا أكثــر‬ ‫مــن ســبعمائة ميــل‪ .‬وال أمــل أن يصــل قطــار‬ ‫مــن هنــاك إلــى مرســيليا قبــل يــوم األربعــاء‪.‬‬ ‫لــم يفتــه البارحــة طبعــا أن يتصفــح بســرعة‬ ‫جــدول مواعيــد القطــارات اآلتيــة مــن ميونيــخ‬ ‫حــن كان صديقــه لويــس مواييــت يغــازل‬ ‫كعادتــه إحــدى بائعــات البيــض املســلوق‬ ‫ّ‬ ‫مبحطــة القطــارات‪.‬‬ ‫والفطائــر امللفوفــة‪،‬‬ ‫حــن عــاد – بــول كلــي – إلــى مكانــه بعــد أن‬ ‫عــرج علــى الد ّكــة ودفــع احلســاب‪ ،‬صعــق وضــل‬ ‫متسـ ّـمرا يف مكانــه ألكثــر مــن دقيقتــن‪ .‬هــل‬

‫أوغست ماكة ‪1914‬‬ ‫هذا ممكن؟‬ ‫كان صديقــه البديــن يجلــس مــع أوغســت‬ ‫ما ّكــه‪ .‬فارمتــى عليــه معانقــا وهــو ال يــكاد‬ ‫يصـ ّـدق عينيــه‪ .‬يف حــن كان لويــس مواييــت‬ ‫يطبطــب بق ـ ّوة علــى كتفيهمــا بال ّتنــاوب وهــو‬ ‫يصــرخ‪ :‬ألــم أقــل لــك‪ ،‬ألــم أقــل لــك كامــل‬ ‫الوقــت‪ ،‬هيــه‪ ،‬ألــم أقــل لــك يــا بــول إ ّنــه ســيأتي‪،‬‬ ‫تصدقنــي اآلن؟ هــا هــو‬ ‫ألــم أقــل ذلــك‪ ،‬هــل‬ ‫ّ‬ ‫أمامــك‪ ،‬شــيطان ّ‬ ‫يقشــر جلدكمــا مع ـا‍!‬ ‫تونس‪ ،‬سانت جرمان‪ ،‬األربعاء ‪ 8‬أ‬ ‫فريل ‪1914 -‬‬

‫يتك ـ ّون بيــت الدكتــور آرنســت ياغــي‬ ‫مض ّيفهــم وهــو طبيــب سويســري شــاب مــن‬ ‫معــارف مواييــت‪ ،‬مــن طابقــن‪ .‬ويقــع مبنطقــة‬ ‫ســانت جرمــان (احلـ ّـي األملانــي)‪.‬‬

‫ولــم يكــن هــذا البيــت الــذي دخــل مئــات‬ ‫املاليــن مــن البيــوت فيمــا بعــد مختلفــا كثيــرا‬ ‫عــن بق ّيــة البيــوت املبن ّيــة علــى الطــراز األملانــي‬ ‫يف منطقــة الســانت جرمــان‪ .‬فقــد كان ككل‬ ‫منــازل اجليــران هنــاك‪ ،‬مط ـ ّ‬ ‫ا علــى البحــر‬ ‫ومحاطــا بســياج مــن احلديــد متشــابك مــن‬ ‫ال ّنــوع الــذي يسـ ّـمى بتونــس البرمقلــي‪ .‬ســقفه‬ ‫شــبه مث ّلــث‪ ،‬بــل هــو أقــرب إلــى شــكل ظهــر ثــور‪،‬‬ ‫مب ّلــط بالقرميــد األحمــر القانــي وعنــد اجلهة‬ ‫اليمنــى منــه تنتصــب مدخنــة مســتطيلة‬ ‫وربــا كانــت اخلاص ّيــة‬ ‫مــن اآلجــر األملــس‪ّ .‬‬ ‫الوحيــدة التــي مت ّيــزه فعــا‪ ،‬هــي أن جميــع‬ ‫نوافــذه اخلشــب ّية محاطــة بأقــواس مطل ّيــة‬ ‫بال ّلــون األزرق واألبيــض بطريقــة التنــاوب‬ ‫أمــا‬ ‫كمــا ه ـ ّو الشــأن بســيدي بوســعيد اليــوم‪ّ .‬‬ ‫يف احلديقــة فقــد كانــت شــجرة ضخمــة‪،‬‬ ‫لع ّلهــا شــجرة كالبتــوس‪ ،‬متتـ ّـد مــن بدايــة‬ ‫الســور األميــن لتحــاذي شــرفة ّ‬ ‫الطابــق األ ّول‬ ‫مــن جهــة اليســار‪ .‬فهــي تــكاد بالتّالــي حتجــب‬ ‫ثلــث الرؤيــة مــن اجلانــب الشــمالي املطــلّ علــى‬ ‫البحــر‪ .‬وميكــن فهــم كلّ تلــك الشــرائط الب ّنيــة‬ ‫التــي تلتـ ّـف أحيانــا مثــل خيــوط العنكبــوت يف‬ ‫وخاصــة يف‬ ‫أغلــب لوحــات كلّ مــن بــول كلــي‬ ‫ّ‬ ‫لوحــات أوغســت ما ّكــه لبيــت وحديقــة الدكتــور‬ ‫آرنســت ياغــي إلــى أ ّنهــا مــا تركتــه أغصــان‬ ‫تلــك ّ‬ ‫الشــجرة التــي حتجــب البحــر مــن جهــة‬ ‫الرســامني الثــاث‪ .‬وللتّأكــد‬ ‫اليســار يف ذاكــرة ّ‬ ‫مــن ذلــك ميكــن مراجعــة كلّ اللّوحــات التــي‬ ‫رســمت مبنطقــة ســانت جرمــان مــن منظــر‬ ‫فوقــي مثــل لوحــة منظــر داخلــي للبيــت بســان‬ ‫جرمــان ألوغســت ما ّكــه أو لوحتــه أيضــا عنــد‬ ‫مدخــل البهــو أو لوحــة طريــق وبيــت أصفــر‬ ‫لبــول كلــي أو لوحتــه أيضــا ش ـ ّباك وإطــار…‬ ‫أو لوحــة‪ :‬منتصــف ال ّنهــار ونخــات فت ّيــة يف‬ ‫عمــق املشــهد‪ .‬وغيرهــا مــن اللّوحــات العديــدة‬ ‫التــي رســمها املبدعــون الثالثــة والتــي ال ّلــون‬ ‫عنــد اجلانــب األيســر مك ّثــف جـ ّـدا ح ّتــي أ ّنــه‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫من أعمال الفنان أوغست ماكة (‪)1940 - 1879‬‬


‫تشكيل‬ ‫ليبــدو يف بعــض اللّوحــات مثــل لطخــة ثابتــة‬ ‫يف عالــم مائــع مــن األلــوان (لوحــة حديقتنــا‬ ‫علــى البحــر ملا ّكــه‪ ،‬كمثــال)‪ .‬وهــذا التكثيــف‬ ‫اجملانــي ال نــكاد جنــده يف بق ّيــة اللّوحــات التــي‬ ‫باحلمامــات أو بســيدي بوســعيد أو‬ ‫ص ـ ّورت‬ ‫ّ‬ ‫بالقيــروان خــال األســبوع الالحــق‪ ،‬ثـ ّـم جنــده‬ ‫م ـ ّرة أخــري يف اللّوحــات املائ ّيــة التــي ُرســمت‬ ‫بعــد عودتهــم وجتوالهــم وزيارتهــم للمناطــق‬ ‫الســابقة الذّ كــر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املوجهــة إلــى زوجتــه إليزابيــث‪،‬‬ ‫يف رســائله‬ ‫ّ‬ ‫يكتــب أوغســت ما ّكــه‪ ..« :‬منــزل الدكتــور ياغــي‬ ‫بالضاحيــة‪ ،‬قطعــة مــن الفــردوس املفتــوح علــى‬ ‫ّ‬ ‫عمــق البحــر‪ .‬نحــن نســتلقى موالــن وجوهنــا‬ ‫وجهــت بوجهــك فأنــك‬ ‫صــوب الشــمس‪ .‬أينمــا ّ‬ ‫واقــع علــى موضــوع عظيــم للوحــة‪ .‬آالف مــن‬ ‫قدامنــا‪ ،‬حولنــا‪ ،‬خلفنــا‪،‬‬ ‫اللّوحــات العظيمــة ّ‬ ‫وليــس بيننــا وبينهــا غيــر أن ننهــي طبــق الفواكــه‬ ‫الــذي أمامنــا هــذا‪ ،‬لنرســم…‪ .‬خــال يومــن‬ ‫أمتمــت أكثــر مــن خمســن تخطيطــا‪ .‬وخــال‬ ‫الصبــاح فقــط أجنــزت أكثــر مــن ‪ .25‬األمــور‬ ‫هــذا ّ‬ ‫متضي وكأنّ الشــيطان ميســك بأصابعي‪ .‬أشــعر‬ ‫ب ّرغبــة جامحــة للعمــل‪ .‬إحســاس ال أذكــر أ ّننــي‬ ‫أحسســت بــه يف يــوم مــن األ ّيــام علــى اإلطــاق‪.‬‬ ‫الضواحــي اإلفريق ّيــة أجمــل بكثيــر مــن ال ّريــف‬ ‫نفســه‪ .‬لــم أكــن أتص ـ ّور ذلــك علــى اإلطــاق‪.‬‬ ‫‪ 200‬خطــوة بعيــد ع ّنــا‪ ،‬ال غيــر‪ ،‬انتصــب مخ ّيــم‬ ‫للبــدو‪ .‬خيــام ســوداء‪ .‬قطيــع مــن احلميــر أيضــا‪.‬‬ ‫وجمــال كثيــرة‪ .‬ميـ ّرون ببســاطة حولنــا‪ .‬ســأبقى‬ ‫ِ‬ ‫اللّيلــة هنــا‪ .‬أنــا أســكن بنــزل اســمه نــزل فرنســا‬ ‫الكبيــر‪ .‬لويــس وكلــي يســكنان عنــد ياغــي‪ .‬يف‬ ‫إنهــا‬ ‫املســاء أتنــاول العشــاء عنــد عائلــة ياغــي ّ‬ ‫عائلــة يف منتهــى ال ّلطــف‪ .‬البارحــة جت ّولنــا‬ ‫يف‪ -‬املنطقــة العربــي (املقصــود هنــا األحيــاء‬ ‫العتيقــة)‪ .‬حتــت أشـ ّـعة الشــمس‪ ،‬جتلــس‬ ‫أو تقــف النســاء قـ ّـدام عتبــات األبــواب‪ .‬إ ّنــه‬ ‫منظــر رائــع‪ ..‬أعتقــد بأ ّننــي ســأرجع إلــى بــون‬ ‫ثمــة سأشــتغل عليهــا»‪.‬‬ ‫بتخطيطــات رائعــة ومــن ّ‬ ‫(كتــاب رســائل ما ّكــه إلــى أليزابيــث صفحــة ‪294‬‬ ‫رســالة مــن ضاح ّيــة ســانت جرمــان‪ ،‬بتاريــخ ‪10‬‬ ‫أفريــل‪.)1914‬‬ ‫القيروان‪ ،‬مساء األربعاء ‪ 15‬أفريل ‪1914‬‬

‫الرسامني الش ّبان الثالثة‪ ،‬ليخرجوا‬ ‫القيروان ّ‬ ‫للعالــم بعــد أقــلّ مــن مــرور شــهر واحــد فقــط‪،‬‬ ‫بأجمــل لوحــات رســمت معالــم املدينــة العجــوز‬ ‫يف كلّ األزمنــة والعصــور‪ ،‬وســتدخل أبــواب‬ ‫القيــروان كلّ اجلــدران‪ .‬فهــي يف جميــع بلــدان‬ ‫العالــم‪ ،‬بعــد ذلــك‪ ،‬نســخا مق ّلــدة ال يتعــدى‬ ‫ســعرها املالليــم‪ ،‬وهــي أنســجة مــن الصــوف‬ ‫والك ّتــان والوبــر ّ‬ ‫والشــعر‪ .‬وهــي لوحــات مائ ّيــة‬ ‫يفــوق ســعرها مئــات األالف‪ .‬وك ّلهــا تغــرف مــن‬ ‫بعــض تلــك الدهشــة‪ ،‬وذلــك احلـ ّـب الصــويف‪،‬‬ ‫الــذي نفثتــه القيــروان العجــوز يف وجــدان‬ ‫رســامني‪ .‬دخلــوا القيــروان مــن بابهــا‬ ‫ثالثــة ّ‬ ‫الغربـ ّـي مســاء أربعــاء لــم متطــر فيــه الســماء‬ ‫رغــم كلّ ذلــك البلــل الــذي غســل غبارهــا‬ ‫وأخفــاه عــن عيــون العاملــن‪.‬‬ ‫ميناء حلق الواد‪ ،‬االثنين ‪ 20‬أفريل‬ ‫‪ 1914-‬اليوم األخير‬

‫لويس مواييت في القيروان‬ ‫سنة ‪1914‬‬ ‫يتسـلّح الزّائــر ّ‬ ‫الظمــآن ببعــض أشـ ّـعة الشــمس‬ ‫الســماء‪.‬‬ ‫املنتصبــة بجــذل يف كبــد ّ‬ ‫ال ميكــن أن تدخــل القيــروان م ـ ّرة واحــدة‬ ‫كمــا تفعــل مــع بق ّيــة املــدن املل ّوثــة مبلــح البحــر‪.‬‬ ‫ال ميكــن ذلــك بأ ّيــة حــال مــن األحــوال ملــن جــاء‬ ‫حاجــا إلــى قدسـ ّية األلــوان واألضــواء املســكونة‬ ‫ّ‬ ‫باألســرار واحلكايــات‪ .‬ذلــك أنّ القيــروان‬ ‫تطلــب‪ ،‬إذا ســكنت أصــوات باعتهــا‪.‬‬ ‫قباب… قباب‪ ..‬قباب‬

‫أينمــا رميــت ببصــرك‪ ،‬فلــن تقابلــك غيــر‬ ‫البطــون املســتديرة إلــى ال ّنصــف‪ ،‬ترتفــع فــوق‬ ‫مســاطر احلجــارة املســتطيلة‪ .‬رائحــة ال ّلحــم‬ ‫احلــال‪ ،‬والعــرق اآلدمـ ّـي‪ ،‬تفــوح مــن كلّ شــقوق‬ ‫الســور العتيــق‪ .‬كـ ّوة عنــد اجلــدار‪ّ .‬‬ ‫وقطــة تتابــع‬ ‫ال ـ ّز ّوار الثالثــة بريبــة ثـ ّـم بالمبــاالة‪.‬‬ ‫ق ّبــة ذاك املقــام‪ .‬تشـ ّـد إليهــا حائــط املقــام‬ ‫الــذي يليــه‪ .‬والقيــروان العجــوز فتنــة مــن‬ ‫الداكنــة‪ .‬القيــروان تفتــح‬ ‫القبــاب واأللــوان ّ‬ ‫أبوابهــا وتضــرب أوتــاد خيمتهــا يف قلــوب‬ ‫القاد مــن‪.‬‬ ‫بــول كلــي‪ ،‬ال يســتطيع التوغّ ــل أكثــر‪ .‬يقــف‬ ‫مشــيرا بســبابته صــوب اجلهــات األربعــة‪.‬‬ ‫– انتظــروا يــا رفــاق‪ .‬هــذه األلــوان الفاتــرة‬ ‫تخ ّبــأ شــرائط أضواءهــا مبكــر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫– انتظــروا يــا رفــاق‪ .‬أحــدس فجــور اللــون‬ ‫الب ّنــي خلــف هــذا الســور وتلــك الق ّبــة البيضــاء‪،‬‬ ‫أهــي حبلــى بالبخــور؟ ال غيــم هنــا‪ ،‬غيــر بنــات‬ ‫ّ‬ ‫الشــمس‪ ،‬وأوعيــة احل ّنــاء والبخــور‪.‬‬ ‫خــال ثالثــة أ ّيــام كاملــة‪ ،‬ســتغري أقبيــة‬

‫اليــوم يغــادر بــول كلــي تونــس عائــدا عبــر‬ ‫باليرمــو فنابولــي ثـ ّـم رومــا‪ .‬قبــل أن يصــل‬ ‫مدينــة بــارن يــوم األربعــاء مســاء ليعــرض بعــد‬ ‫ذلــك‪ ،‬أ ّول ثمانــي لوحــات مســتوحاة مــن رحلتــه‬ ‫إلــى تونــس‪ ،‬خــال معــرض مشــترك مبيونيــخ‬ ‫يــوم ‪ 30‬مــاي ‪ .1914‬ويســتحوذ علــى دهشــة‬ ‫وإعجــاب اجلميــع‪ ،‬مبــرزا خصوص ّيــات أخــرى‬ ‫إلمكانيــة توزيــع الضــوء وجتانســه مــع ال ّلــون‪،‬‬ ‫فجــة تلــج عمــق األصــل وال تتو ّرط‬ ‫عبــر خطــوط ّ‬ ‫يف ظاللــه‪ .‬كلّ ذلــك مــن خــال تشــكيل بســيط‪،‬‬ ‫أخــاذ لألشــكال وانفتاحهــا املذهــل‪.‬‬ ‫عميــق ّ‬ ‫ثالثة أسابيع ال غير‪.‬‬

‫ثالثــة أســابيع عابــرة‪ ،‬هـ ّـي كلّ الفتــرة التــي‬ ‫الرســامون ّ‬ ‫الش ـ ّبان الثالثــة يف‬ ‫ســيقضيها‬ ‫ّ‬ ‫تونــس‪ .‬ثالثــة أســابيع‪ ،‬ســيكون لهــا مــا بعدهــا‪.‬‬ ‫وســتخلّد رحلــة مــن أكثــر ال ّرحــات ثــراء‪.‬‬ ‫يفضــل البقــاء بعــض األ ّيــام‬ ‫أوغســت ما ّكــه‪ّ ،‬‬ ‫األخــرى مــع صديقــه لويــس مواييــت قبــل أن‬ ‫يعــود ليمــوت بعــد أربعــة أشــهر ونصــف‪ ،‬تــاركا‬ ‫عشــرات مــن اللّوحــات والتخطيطــات ملناظــر‬ ‫مســتوحاة ممــا ال نــراه ونحــن نــراه مبنطقــة‬ ‫واحلمامــات والقيــروان‬ ‫ســيدي بوســعيد‬ ‫ّ‬ ‫وضاح ّيــة ســانت جرمــان وليعلــن قبــل موتــه‬ ‫بأ ّنــه مديــن لتونــس لألبــد‪ .‬وســيص ّرح ابنــه‬ ‫فالتــر ما ّكــه املولــود ســنة ‪ 1910‬بــأن والــده عــاش‬ ‫يف تونــس خــال أســبوعني مــا ســيكفيه لكيــا‬ ‫ميــوت أبــدا‪.‬‬ ‫وســيكتب لويــس مواييــت الــذي عــاش‬ ‫بعــده قرابــة نصــف القــرن (تــويف ســنة ‪ )62‬بــأنّ‬ ‫أوغســت ما ّكــه كان ميســح دموعــه وهمــا يغــادران‬ ‫تونــس‪ ،‬وحــن ســأله عــن الســبب‪ ،‬قــال ما ّكــه‪:‬‬ ‫لقــد أحببــت هــذا البلــد‪ ،‬وأخشــى أ ّال أعــود إليــه‪.‬‬ ‫لــم يعــد أوغســت ما ّكــه إلــى تونــس بعــد ذلــك‬ ‫فعــا‪ .‬ولك ّنــه لــم يخــرج منهــا إلــى األبــد‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫يدخلونهــا مــن بــاب تونــس‪ ،‬بعــد أن كانــوا‬ ‫تعمــدوا املــرور بعجالــة مــن قـ ّـدام فســق ّية‬ ‫قــد ّ‬ ‫األغالبــة ومقــام ســيدي أبــي زمعــة البلــوي‪.‬‬ ‫(ســيدي الصحبــي ح ـاّق الرســول)‪ .‬خ ّلفــوا‬ ‫ســوق املاشــية والنخــات الفت ّيــة تلــك التــي‬ ‫تفصــل بالعــدل بــن شــرايني املدينــة وقلبهــا‬ ‫خمنــوا‪ .‬ال‬ ‫الغربــي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لنؤجــل كلّ ذلــك للغــد‪ّ ،‬‬ ‫حتســس كلّ هــذا األصفــر‬ ‫ـب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫للغر‬ ‫ميكــن‬ ‫ّ‬ ‫الســاعة ال ّرابعــة مســاء‪ .‬ال‬ ‫العتيــق بعــد ّ‬ ‫ميكــن محاصــرة كبريــاء ال ّلــون الب ّنــي إذا لــم‬

‫‪75‬‬


‫‪76‬‬

‫سينما‬

‫عن الحتمية السينمائية‪:‬‬ ‫الواقع الفيلمي وسببية العمل السينمائي‬ ‫في كتابه «المعنى األســـمى لأليديولوجيا» يقول عالم النفس والفيلســـوف‬ ‫«ســـافوي جيجيـــك” أن “التقليـــد هـــو أيديولوجيـــا‪ ،‬يصـــدق أصحابهـــا بـــأن‬ ‫لوجودهـــا ســـببا ومعنـــى»‪ ،‬يناقـــش جيجيـــك فكـــرة المعنـــى من وجهـــة نظر‬ ‫هيغيلية يســـميها هو «بالهيغيلية التشـــاؤمية»‪ ،‬المعنـــى عند جيجيك مرتبط‬ ‫بوجوديـــة اإلنســـان وال يمكـــن فصلـــه عـــن التاريخ‪ ،‬فهـــو حتمياً نتيجة ســـببية‪،‬‬ ‫هو أثـــر يتركـــه الماضي مثبتـــاً وجوده‪.‬‬ ‫فارس خدوج‬

‫كاتب سوري مقيم يف موسكو‬ ‫الماضي السينمائي سبب للحاضر‬

‫“الســينما كذبــة صنعهــا الواقــع” هكــذا كتــب‬ ‫اخملــرج ورائــد الواقعيــة الروســي دزيغــا فيرتــوف‬ ‫يف كتابــه “عــن الســينما”‪ ،‬عــاش فيرتــوف يف‬ ‫حالــة مــن التخبــط األخالقــي خــال بحثــه‬ ‫يف واقعيــة الفيلــم الســينمائي‪ ،‬وكانــت أفــكاره‬ ‫عمــود ًا قامــت عليــه الســينما احلديثــة‪ .‬عنــد‬ ‫الواقعيــن‪ ،‬الســينما ابنــة «احلــدث»‪ ،‬واحلــدث‬ ‫يحمــل يف داخلــه أصغــر عنصـ ٍـر ســينمائي‪ ،‬وهــو‬ ‫احلركــة‪ ،‬فتتالــي احلــركات يصنع حدث ًا وتتالي‬ ‫األحــداث يصنــع واقع ـ ًا‪ ،‬ماضي ـ ًا وحاضــراً‪،‬‬ ‫ـال‬ ‫ومســتقب ًال‪ .‬فالســينما كالواقــع‪ ،‬تبنــى بتتـ ٍ‬ ‫مــن األســباب‪ ،‬وإن لــم تكــن ســردية الكيــان‪ ،‬فهــي‬ ‫رمزيــة‪ .‬تقــوم الســينما يف أساســها علــى عــدة‬ ‫مــن «العيــوب» يف أدمغتنــا‪ ،‬أولهــا عيــب الرؤيــة‪،‬‬

‫فتتــال الصــور بســرعة معينــة يجعلهــا تبــدو‬ ‫متحركــة‪ ،‬وكمــا العيــب البصــري‪ ،‬هنالــك أيضـ ًا‬ ‫العيب الســردي‪ ،‬وهو معضلة الســبب‪ ،‬فالكائن‬ ‫احلــي يبنــى علــى فهــم «األمنــاط» وجمعهــا‪ .‬يف‬ ‫كتابــه «عــن الســلوكية» يقــول عالــم النفــس بــي‬ ‫إف ســكينر إن «اإلدراك البشــري هــو نتيجــة‬ ‫لربــط أمنــاط الذاكــرة مــع األحــداث التــي‬ ‫يســتقبلها اإلنســان مــن العالــم اخلارجــي‪،‬‬ ‫إن مشــيت حتــت املطــر فســتبتل‪ ،‬ذلــك‬ ‫القانــون يأتــي مــن التجربــة وتكــرار التجربــة‪،‬‬ ‫فهــو حجــة اســتنتاجية»‪ .‬تســتغل الســينما‬ ‫معضلــة الســبب البشــرية لصاحلهــا‪ ،‬فتخلــق‬ ‫باســتخدامها عاملـ ًا يســتطيع املشــاهد املشــاركة‬ ‫يف صناعتــه‪ .‬مــا مييــز الســينما‪ ،‬ومــا يجعلهــا‬ ‫فنـ ًا يســتحق االهتمــام‪ ،‬هــو توفيرهــا للمشــاهد‬

‫بيئــة ميكنــه فيهــا أن يكــون «متفرج ـ ًا حــراً»‬ ‫ليــس كمشــاهد ضمــن البيئــة “‪ ،”Observer‬فــا‬ ‫ميكــن لســلوكيات املشــاهد الســينمائي أن تؤثــر‬ ‫فيمــا يــراه‪« .‬رأي املشــاهد ال يغ ِّيــر مــن حقيقــة‬ ‫النهايــة الفيلميــة»‪ .‬يقــول الناقــد والباحــث‬ ‫التاريخــي «ديفيــد ثورنبــرن” يف سلســلة مــن‬ ‫احملاضــرات التــي نشــرت مــن قبــل جامعــة‬ ‫“ماساتشوســتس للعلــوم والتكنولوجيــا»‬ ‫أن مشــاهدة الفيلــم الســينمائي تشــبه إلــى‬ ‫حــد كبيــر‪ ،‬عمليــة يقــوم بهــا املؤرخــون‪ ،‬وهــي‬ ‫«االســتقراء التاريخــي»‪ ،‬فاملشــاهد كاملــؤرخ‬ ‫يشــاهد عم ـ ًا‪ ،‬حــدث وانتهــى يف املاضــي‪،‬‬ ‫فيك ـ ِّون الباحــث الــذي يحــاول حتليــل الفيلــم‬ ‫وتفكيكــه‪ ،‬اســتعراض نتائــج الفيلــم وأســبابه‪،‬‬ ‫أي «اســتخالص املعنــى الفيلمــي”‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫فيلم “مرتفع ومنخفض” للمخرج أكيرا كوروساوا ‪ 1963‬و بدايات الكتابة المشهدية السببية البصرية‬


‫سينما‬

‫‪77‬‬

‫الحتمية السينمائية‪ :‬استقراء ما ال‬ ‫يمكن تغييره‬

‫ال ميكننــا تغييــر املاضــي‪ ،‬ألنّ املاضــي قــد‬ ‫حــدث‪ ،‬مــا ميكننــا فعلــه هــو النظــر إلــى املاضــي‬ ‫مــن وجهــات نظــر مختلفــة‪ ،‬وجهــات النظــر‬ ‫تلــك متكننــا مــن تغييــر نتائجهــا يف احلاضــر‪.‬‬ ‫يقــول عالــم اإلنســانيات «يوفــال نــوح هــراري»‬ ‫يف كتابــه «هوموديــوس» أن الكثيــر مــن احلركات‬ ‫السياســية واالجتماعيــة كثــورات األقليــات‪،‬‬ ‫والتطــور العلمــي‪ ،‬واالجتــاه نحــو احلكــم‬ ‫الدميقراطــي‪ ،‬لــم تكــن ســوى نتيجــة لدراســة‬ ‫املاضــي غيــر القابــل للتغيــر مــن وجهــات نظــر‬ ‫مختلفــة‪ ،‬فدراســة التاريــخ تهــدف الستكشــافه‪،‬‬ ‫ال الجتــراره‪ .‬التاريــخ ال يتغ ّيــر‪ ،‬وكذلــك‬ ‫الفيلــم الســينمائي‪ ،‬يقــول كريــس ماركــر إن‬ ‫الفيلــم الســينمائي يولــد يف صالــة الســينما‪،‬‬ ‫وإن أخذنــا مرحلــة العــرض‪ ،‬لتكــون املرحلــة‬ ‫النهائيــة يف صناعــة الفيلــم‪ ،‬كمــا أي مشــروع‬ ‫جتــاري «مرحلــة التغذيــة الراجعــة»‪ ،‬فالفيلــم‬ ‫الســينمائي حتمــي غيــر قابــل للتغييــر‪ ،‬مهمــا‬ ‫اســتقرأ املشــاهد‪ ،‬واستكشــف وح ّلــل‪ ،‬ال ميكــن‬ ‫تغييــر الفيلــم الســينمائي‪ ،‬الفيلــم كالتاريــخ‪،‬‬ ‫سلســلة أحــداث ســببية اســتمرت يف خــط‬ ‫زمانــي ومكانــي ثابــت يف املاضــي‪ .‬يحــاول‬ ‫املشــاهد جاهــداً‪ ،‬اســتخالص مــا يســمى ب ـ‬ ‫«املعنــى الفيلمــي» مــن الفيلــم الســينمائي‪،‬‬ ‫يكمــن هــدف املشــاهد باســتخالص املعنــى‬ ‫بحســب «أمــوس فوغــل» يف كتابــه «الســينما‬ ‫التدميريــة» إمــا مبــلء فــراغ «عاطفــي» يف‬ ‫املشــاهد‪ ،‬أي أن الفيلــم يكمــل التجربــة‬ ‫العاطفيــة للمشــاهد‪ ،‬او باستكشــاف املشــاهد‬ ‫للفيلــم كتجربــة ميكنــه أن يط ِّبــق أفكارهــا‬ ‫يف حياتــه‪ ،‬أمــا جيجيــك فيزيــد علــى هــدف‬ ‫الفيلــم الســينمائي بأنــه جتربــة استكشــافيه‬ ‫لطبيعــة الواقــع اإلبيســتمولوجية‪ ،‬فالفيلــم‬ ‫عنــد جيجيــك هــو رؤيــا بصريــة وســمعية تخلــق‬ ‫عامل ـ ًا موازي ـ ًا‪ ،‬يكمــل املشــاهد فيــه رحلتــه بعــد‬ ‫نهايــة الفيلــم‪ .‬يتَّ فــق املؤرخــون الســينمائيون‬ ‫علــى أنّ للفيلــم الســينمائي هــدف أســمى وهــو‬ ‫«الســؤال»‪ ،‬الفيلــم يف طبيعتــه ال يجيــب‪ ،‬بــل‬ ‫يســأل‪ ،‬أمــا اجلــواب فهــو متــروك للباحــث أي‬ ‫املشــاهد‪.‬‬

‫أفيشات أفالم ‪ 1950 - 1930‬تقع جميعها ضمن نوع “سينما نوار”‬ ‫جامعــة أمســتردام للعلــوم‪ ،‬أن «النســبية»‬ ‫حتــدث بشــكل طبيعــي يف الســينما‪ ،‬ال يســير‬ ‫الســرد الســينمائي أســرع مــن الســببية‪ .‬مهمــا‬ ‫اختلفــت طــرق اســتعراض الواقــع الفيلمــي‬ ‫وأزمنتــه‪ ،‬فعلــى احلــدث الســينمائي أن يتبــع‬ ‫أحداث ـ ًا ســبقته‪ ،‬وأن يشــكل أحداث ـ ًا ســتلحقه‪.‬‬ ‫يســمي لوكنبيــل هــذه الظاهــرة ب ـ “املوضوعيــة‬ ‫الســينمائية»‪ .‬بحســب لوكينبيــل فــإنّ توافــق‬ ‫الســينما «مهمــا فاقــت اخليــال» مــع الفلســفة‪،‬‬ ‫يدلنــا علــى أنّ «كل فيلـ ٍـم ســينمائي نصنعــه‪ ،‬هــو‬ ‫ـواز لكوننــا‪ ،‬وأن تخ ّيــل املشــاهد‬ ‫والدة لكــون مـ ٍ‬ ‫لذلــك الكــون هــو مــا يربــط املشــاهد بــه‪،‬‬ ‫وخصوص ـ ًا‪ ،‬إدراك املشــاهد أن نهايــة الفيلــم‬ ‫ال تــدل علــى نهايــة ذلــك الكــون‪ ،‬فالواقــع‬ ‫الفيلمــي ال يعتمــد علــى املشــاهد أو علــى‬

‫يف النظريــة النســبية احلديثــة‪ ،‬يحـ ِّـدد‬ ‫العالــم ألبــرت آينشــتاين ســرعة الضــوء‬ ‫بالرمــز «‪ ،”C‬أمــا الرمــز “‪ ”C‬فهــو اختصــار‬ ‫لكلمــة الســببية“‪ ”Causality‬أي أن ال شــيء‬ ‫ـرعة أكبــر مــن ســرعة‬ ‫يف الكــون يتح ـ ّرك بسـ ٍ‬ ‫«الســببية»‪ .‬يقــول األكادميــي «كريــس لوكنبيــل»‬ ‫يف ورقــة بحثيــة منشــورة ســنة ‪ 2008‬مــن‬

‫“حينها فقط استطاع أن يدرك بأنه ال‬ ‫مهرب من الوقت” اقتباس من فيلم‬ ‫“الرصيف” ‪ 1962‬للمخرج كريس ماركر‬

‫المعنى الفيلمي‪ :‬الذاتية السينمائية‪،‬‬ ‫ومبدأ الشك في المعنى‪.‬‬

‫أثبتــت نظريــة النســبية ق ّوتهــا وثباتهــا عبــر‬ ‫التجربــة‪ ،‬كمــا أثبتــت صديقتهــا وعدوتهــا‬ ‫«ميكانيــكا الكــم» ثباتهــا‪ ،‬تبنــى نظريــة الكــم‬ ‫يف أساســها علــى مبــدأ هايزنبــرغ للشــك‪،‬‬ ‫ومبــدأ شــرودينغر وبحســب قطــة شــرودينغر‬ ‫امليتــة احليــة‪ .‬قــد يكــون الفيلــم الســينمائي‬ ‫سلســلة مــن االحتمــاالت الهالميــة التــي‬ ‫تتالشــى حلتميــة واحــدة عنــد قياســها كمــا‬ ‫تقتــرح نظريــة الكــم‪ .‬هــذا مــا يعتقــد بــه‬ ‫األكادميــي الســينمائي «فيتوريــو غاليــس»‪،‬‬ ‫يقتــرح «غاليــس» أن الســينما ليــس ســوى‬ ‫صنيعــة “ألفــة ذهنيــة” أو كمــا يعــرف بشــكل‬ ‫رسمي “‪ ”Brain Familiarity‬وبحسب املعجم‬ ‫الروســي للعلــوم الســينمائية «إنســايكلوبيديا‬ ‫الســينما» «‪.»Знакомство с мозгом‬‬ ‫األلفــة الذهنيــة تتجســد بشــكل واضــح يف‬ ‫الســينما بحســب «غاليــس» عبــر نظريــة «اللغة‬ ‫اجملســدة» أو “‪ ”Embeded Language‬فاللغــة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫المعنى الفيلمي‪ :‬الحتمية‬ ‫الموضوعية السينمائية‬

‫شــخصياته‪ ،‬بــل وجــوده مســتقل‪ ،‬لــه زمنــه‪،‬‬ ‫ومكانــه‪ ،‬وأحداثــه‪ ،‬وأســبابه وأمــا املشــاهد‬ ‫فهــو دخيــل لعالــم الفيلــم ال ميكنــه التأثيــر‬ ‫عليــه»‪ .‬يف جدليــة النظريــات الفيزيائيــة‬ ‫احلديثــة تختلــف مدرســة آينشــتاين احلتميــة‬ ‫مــع مدرســة هايزنبــرغ التشــكيكية فعنــد‬ ‫آينشــتاين الواقــع حتمــي ومســتقل‪ ،‬واملتفــرج‬ ‫“‪ ”The Observer‬ليــس ســوى حالــة قياســية‬ ‫يف الواقــع تؤثــر نقطتــه الزمكانيــة يف كيفيــة‬ ‫تلقيــه للكــون‪ ،‬أي أنّ «الكــون ال يختفــي عندمــا‬ ‫تغمــض أعينــك»‪ .‬عنــد لوكنبيــل ال يختفــي‬ ‫الفيلــم عندمــا ينتهــي بــل يكمــل الواقــع‬ ‫الفيلمــي رحلتــه يف دمــاغ املتفــرج‪.‬‬


‫‪78‬‬

‫سينما‬

‫فيلم “ساتريكون” للمخرج فيديريكو فيلليني (‪ )1969‬في رثاء حضارة روما القديمة بعين فيلليني‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫اجملســدة هــي نظريــة ســلوكية نشــأت عنــد‬ ‫ـص علــى أنّ اإلنســان‬ ‫ثورندايــك‪ ،‬وســكينر تنـ ّ‬ ‫ال يشــعر إال باملعنــى التجريبــي‪ ،‬فالدمــاغ‬ ‫ال يسـ ِّـجل احلــاالت العاطفيــة إال إن كانــت‬ ‫ً‬ ‫ـتجابة حلــدث مــا أمامــه‪ ،‬ويربــط الدمــاغ‬ ‫اسـ‬ ‫تلــك العواطــف مــع الوعــي‪ ،‬عبــر ربطهــا‬ ‫«بالذكريــات» والذكــرى مــا هــي إال حــدث أدى‬ ‫الســتجابة عاطفيــة‪ .‬عنــد غاليــس‪ ،‬الســينما‬ ‫هــي نتيجــة خلبــرات بشــرية‪ ،‬فارتبــاط‬ ‫املشــاهدين بأفــام «أندريــه تاركوفســكي” مــا‬ ‫هــو إال إحســاس باأللفــة جتــاه تلــك األفــام‪.‬‬ ‫يتكلــم تاركوفســكي يف كتابــه «النحــت يف‬ ‫الزمــن» عــن جتربــة فيلــم «املــرآة» ســنة ‪،1975‬‬ ‫حيــث أنّ معظــم مشــاهدي الفيلــم يف تلــك‬ ‫احلقبــة لــم يعجــب بالفيلــم إطالق ـ ًا‪ ،‬بــل‬ ‫وكان املشــاهدون يرســلون خطابــات شــخصية‬ ‫لتاركوفســكي ناصحــن إيــاه بتــرك «الســينما»‪.‬‬ ‫تاركوفســكي يف اجلهــة املقابلــة تلقــى ‪ 5‬رســائل‬ ‫احتــوت جميعهــا علــى نــص مشــابه‪« ،‬الفيلــم‬ ‫يشــبهني»‪« ،‬أشــعر بأنــك قــد صنعــت فيلمـ ًا عــن‬ ‫حياتــي»‪ ،‬وإلــخ‪ ..‬جميعنــا نرتبــط باألفــام مــن‬ ‫وجهــة نظــر شــخصية‪ ،‬وهــي حالــة معروفــة‬ ‫«الشــخصنة الفيلميــة»‪ .‬تتــرك الســينما عنــد‬

‫مشــاهديها حالـ ًـة مــن األلفــة‪ ،‬ففــي نهايــة‬ ‫املطــاف‪ ،‬الســينما صنيعــة البشــر‪ ،‬تتحـ ّـدث يف‬ ‫معظــم األوقــات عــن البشــر‪ ،‬صنّاعهــا بشــر‪،‬‬ ‫وأبطالهــا بشــر‪ .‬يف كتابــه “‪Cinema2: The‬‬ ‫‪ ”Title Image‬يقــول الفيلســوف الفرنســي‬ ‫غيلــي ديلــوزي «ال ميكــن اعتبــار الســينما فن ـ ًا‬ ‫روائي ًا‪ ،‬إال عبر تقبل واقع الفيلم السينمائي‪،‬‬ ‫ورفــض جميــع االحتمــاالت واألحــداث التــي‬ ‫قــد حتــدث يف هــذا الواقــع» ذلــك القــول يعنــي‬ ‫بشــكل واضــح‪ ،‬أن الفيلــم الســينمائي هــو‬ ‫مجموعــة احتمــاالت تنهــار حلتميــة واحــدة‬ ‫إذا وفقــط إذا قــام املشــاهد بقياســها‪ .‬كل مــن‬ ‫غاليــس وديلــوزي يؤكــدان ســيادة «املشــاهد»‬ ‫يف عمليــة الرصــد الســينمائية علــى الفيلــم‬ ‫الســينمائي‪ ،‬فالفيلــم الســينمائي يف مرحلتــه‬ ‫األخيــرة «التغذيــة الراجعــة» ال يكتمــل فقــط‪،‬‬ ‫بــل تتالشــى كل احتمــاالت واقعــه املوازيــة إلــى‬ ‫واقــع واحــد‪ ،‬يتوقــف عــن الوجــود عنــد نهايــة‬ ‫مدتــه ســاعاتان‪ ،‬مـ ّـدة‬ ‫الفيلــم‪ ،‬الفيلــم الــذي ّ‬ ‫واقعــه ســاعتان‪ ،‬واملشــاهد يرتبــط بالفيلــم‬ ‫ذاكري ـ ًا‪ ،‬عبــر حتليــل دماغــي‪ ،‬لذكريــات‬ ‫املشــاهد‪ ،‬وربطهــا بشــكل وثيــق بأحــداث‬ ‫الفيلــم‪ ،‬عندهــا فقــط يفهــم املشــاهد الفيلــم‬

‫«ذاتيـ ًا»‪ ،‬مبــا توفــر لــه جتربتــه الشــخصية مــن‬ ‫مســاحة‪.‬‬ ‫هل السينما تشكيكية أم حتمية؟‬

‫مــا تــزال دراســة الســينما كفــن إبداعــي‬ ‫وتصنيفهــا كفــن روائــي مبهمــة‪ ،‬مبنيــة علــى‬ ‫نظريــات اســتنتاجية تاريخيــة‪ ،‬وعنــد دراســة‬ ‫كل مــن هيغــل ونيتشــه‪ ،‬ميكننــا إدراك أن‬ ‫التاريــخ يف بعــض األحيــان‪ ،‬ال يخبرنــا القصــة‬ ‫الكاملــة‪ ،‬يف بعــض األحيــان علينــا رفــض‬ ‫الواقــع‪ ،‬وتقبــل احلاضــر‪ ،‬كحــدث اعتباطــي‬ ‫غيــر مبنــي علــى أيــة سالســل ســببية عقالنيــة‪.‬‬ ‫يف نظريــة ثالثــة يذكرهــا الناقــد «ثورنبــرن»‬ ‫عــن الســينما يقــول «الســينما ليســت فقــط‬ ‫ذاتيــة أو موضوعيــة» بــل قــد تكــون أيض ـ ًا‬ ‫«عالئقيــة»‪ ،‬كاملــال‪ ،‬يتفــق النــاس علــى وجودهــا‬ ‫بشــكل حتمــي‪ ،‬لكنهــا تفنــى حلظــة فقــدان‬ ‫اإلميــان بهــا‪ .‬يف دراســة فلســفية يف «علــوم‬ ‫املنطــق» يقــول ديفيــد فينزمــان بروفيســور‬ ‫مــن جامعــة فرايــر يف هولنــدا‪ ،‬أن الواقــع‬ ‫ك ـ «الطقــس» صحيــح أنــه مبنــي علــى عــدد‬ ‫مــن األحــداث الســببية‪ ،‬التــي لــو اســتطعنا‬ ‫اللحــاق بهــا خطــوة بعــد خطــوة لكنــا قــادرون‬


‫سينما‬

‫‪79‬‬

‫فيلم “مطاط” للمخرج كوينتن دوبييه ‪ ،2010‬كادر متوسط لبطل الفيلم‪ ،‬الدوالب المطاطي‪ ،‬أحد‬ ‫التجارب القاسية في تطبيق نظرية “اللغة المجسدة”‬ ‫علــى اســتنباط الطقــس بدقــة ‪ ،100%‬لكــن‬ ‫وبســبب كثــرة اجملاهيــل التــي تدخــل عمليــة‬ ‫توقــع الطقــس‪ ،‬علينــا التكهــن‪ ،‬والتكهــن‬ ‫يف معظــم األحيــان خاطــئ‪ .‬انتهــت احلــرب‬ ‫العامليــة الثانيــة بحــدث مؤســف‪ ،‬وهــو قنبل َتـ ْـي‬ ‫«هيروشــيما» وناكازاكــي»‪ ،‬يف كتابــه «البــارد‬ ‫واملظلــم» يقــول بــول إيرليــش إن القنبلــة‬ ‫الثانيــة «الرجــل الســمني» لــم يكــن مقــدر ًا لهــا‬ ‫أن تســقط علــى «ناكازاكــي» بــل علــى مدينــة‬ ‫«كويوتــو» لكــن بســبب ســوء األحــوال اجلويــة‪،‬‬ ‫غيــر الطيــار وجهتــه لناكازاكــي‪ .‬اســتطعنا‬

‫يف األربعينيــات اختــراع أســلحة قــادرة علــى‬ ‫تدميــر الكــرة األرضيــة يف غضــون أيــام‪ ،‬لكننــا‬ ‫غيــر قادريــن علــى توقــع الطقــس ألكثــر مــن‬ ‫ســاعة يف املســتقبل‪ .‬الواقــع كالطقــس‪ ،‬تكثــر‬ ‫مجاهيلــه‪ ،‬واجملهــول األكثــر حتدي ـ ًا لنــا‪،‬‬ ‫هــو نحــن‪ .‬الســينما صنيعــة بشــرية حاولنــا‬ ‫فيهــا كســر قوانــن الفيزيــاء‪ ،‬فصنعنــا رجــا ًال‬ ‫خارقــن‪ ،‬أشــخاص ًا يســافرون عبــر الزمــن‪،‬‬ ‫دمرنــا األرض وأعدناهــا‪ ،‬ومحونــا البشــرية‬ ‫بأكملهــا‪ ،‬وجعلناهــا تغــادر األرض‪ ،‬قمنــا‬ ‫بتغييــر الواقــع‪ ،‬وتقلبنــا هــذا التغييــر‪ ،‬حتــى‬

‫فيلم “الصعود” للمخرجة الريسا شيبتكو (‪،)1977‬‬ ‫أحد المشاهد التي تجسد فردانية الموت‪ ،‬وشكله‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫فيلم “حمامة جلست على غصن تتأمل بالوجود” للمخرج‬ ‫روي أندرسن‪ ،‬واختزال الوقت والتاريخ في كادر‬

‫أصبحــت كلمــة «القانــون» تخضــع للكثيــر‬ ‫مــن املعطيــات والنظريــات‪ .‬حتــى إ ّننــا‬ ‫اختلقنــا نظريــات أخالقيــة وســرنا فيهــا‪ .‬هنــا‬ ‫تكمــن أهميــة جملــة الفيلســوف «ســافوي‬ ‫جيجــك» بقولــه «الســينما علــم يــدرس الواقــع‬ ‫ويختبــره»‪ .‬الســينما حقــل جتــارب علميــة‪،‬‬ ‫ومنطقيــة‪ ،‬لكنهــا يف الوقــت ذاتــه‪ ،‬عجلــة‬ ‫إنتاجيــة واقتصاديــة‪ ،‬ربحهــا األساســي‪ ،‬يف‬ ‫إمتــاع املشــاهدين‪ ،‬الفلســفة ال جتلــب املــال‪،‬‬ ‫لكــن اســتخدام الفلســفة إلمتــاع البشــر‪ ،‬هــو‬ ‫اســتثمار مربــح‪ ،‬وذكــي‪.‬‬


‫‪80‬‬

‫بورترية‬

‫استلهم موسيقاه من هوية التُ راث الشعبي المصري‬

‫سيـد درويـش‪ ..‬باعث النهضة الموسيقية العربية‬

‫عمر إبراهيم محمد‬ ‫أنا المصري كريم العنصرين‬ ‫بنيت المجد بين األهرامين‬ ‫جدودي أنشأوا العلم العجيب‬ ‫ومجرى النيل في الوادي الخصيب‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫العمر القصير هو قـــدر العباقرة‬ ‫ّربمـــا كان ُ‬ ‫االســـتثنائيين‪ ،‬حيث يعيشون حياة قصيرة‬ ‫ُ‬ ‫كالشـــهب العابـــرة‪ ..‬ولكنهـــم‬ ‫خاطفـــة‬ ‫يتركـــون إرثاً خالـــداً لألجيـــال الالحقة‪.‬‬ ‫مـــن بيـــن هـــؤالء الموســـيقار المصـــري‬ ‫النابغـــة ســـيد درويـــش (‪1892‬ـ‪ 1923‬م)‪،‬‬ ‫المجدديـــن والثائريـــن‬ ‫أحـــد أهـــم الـــرواد ُ‬ ‫والـــذي أحـــدث انقالبـــا فـــي عالـــم‬ ‫الموســـيقى والكلمـــة في مصـــر والعالم‬ ‫العربـــي آنـــذاك‪ ،‬ورائـــداً مـــن رواد نهضـــة‬ ‫األغنيـــة الوطنيـــة المصريـــة الحديثـــة‬ ‫بالقـــرن العشـــرين‪ ،‬لذلـــك نـــال واســـتحق‬ ‫لقـــب “فنـــان الشـــعب”‪.‬‬ ‫عـــاش (ســـيد درويـــش) ُمتيمـــاً بالهويـــة‬ ‫المصرية‪ ،‬وانشـــغل بالقضايـــا االجتماعية‬ ‫والسياســـية‪ ،‬ومـــن ثـــم جعـــل الفـــن فـــي‬ ‫خدمتهمـــا‪ ،‬فقـــد خاطـــب عامـــة الشـــعب‬ ‫المصـــري بالموســـيقى والكلمـــة ُمعبـــراً‬ ‫عـــن آمالـــه وآالمه فـــي مرحلـــة حرجة من‬ ‫تاريخـــه الوطنـــي‪.‬‬ ‫ولقـــد أجمـــع عليـــه النُ قـــاد باعتبـــاره رائـــد‬ ‫التجديـــد‪ ،‬وباعـــث النهضـــة الموســـيقية‬ ‫ككُ ل‪ ،‬وخصوصـــاً موســـيقى المســـرح‬ ‫الغنائـــي فهو أحـــد رواده األوائـــل‪ ،‬وأيضاً‬ ‫صاحـــب مدرســـة جديـــدة فـــي التطويـــر‬ ‫واالرتقـــاء بالفـــن‪ ،‬فقـــد جعـــل منـــه روحـــاً‬ ‫ورســـالة ســـامية‪ ،‬ونقـــل الموســـيقى من‬ ‫التطريـــب إلى التعبيـــر والغناء من القصور‬ ‫إلـــى عامة الشـــعب‪.‬‬

‫ولد السيد درويش البحر بحي (كوم الدكة)‬ ‫باإلســكندرية يف (‪17‬مارس ‪ )1892‬مبنزل والده‬ ‫املعلــم درويــش البحــر‪ ،‬وكان لنشــأته الشــعبية‬ ‫تأثيــر كبيــر يف تشــكيل وجدانــه‪ ،‬بــدأ بحفــظ‬ ‫القُ ــرآن الكــرمي ُ‬ ‫بالكتــاب‪ ،‬ويف ســن الســابعة‬ ‫التحــق باملعهــد الدينــي باإلســكندرية‪ ،‬ولكنــه‬ ‫فاتــه‬ ‫لــم يســتكمل دراســته بســبب وفــاة والــده ّ‬

‫إلــى العمــل يف املقاهــي‪ ،‬ومــع ُعمــال البنــاء‪ ،‬وبدأ‬ ‫يف ترديــد األغانــي واألناشــيد اخلاصــة بهــم‪.‬‬ ‫ليلقــي “الســامات واألناشــيد” يف‬ ‫كمــا ذهــب ُ‬ ‫األفــراح واملوالــد خاصــة أحلــان الشــيخ ســامة‬ ‫حجــازي‪ ،‬ومــن ُهنــا تفجــرت أســرار نبوغــه‬ ‫وعبقريتــه اخلالــدة‪.‬‬ ‫وكان الرتدائــه (اجلبــة والقُ فطــان) الــزي‬


‫بورترية‬

‫عزيــز عيــد‪ ،‬متثيــل ُكل مــن (ســيد درويــش‬ ‫وعمــر وصفــي وحيــاة صبــري وحســن ريــاض)‬ ‫وغيرهــم والقــت‪ ،‬جناح ـ ًا كبيــراً‪ ..‬وأتبعهــا‬ ‫مســرحية “العشــرة الطيبــة” حملمــود تيمــور‬ ‫وأزجــال بديــع خيــري‪ ،‬وأنهــت الفرقــة موســمها‬ ‫األول بنجــاح‪.‬‬ ‫ويف موســمها الثاني قدمت الفرقة مســرحية‬ ‫“البروكــة” ترجمــة محمــود ُمــراد‪ ،‬وتلحــن ســيد‬ ‫درويش‪ ،‬وأتبعها مســرحية “العبرة”‪ ،‬ثم مســرحية‬ ‫“حــاق إشــبيلية” تعريــب حامــد الصعيــدي‪،‬‬ ‫واســتمرت الفرقــة يف تقــدمي عروضهــا حتــى‬ ‫رحيــل مؤسســها‪.‬‬ ‫ويف تلــك ُ‬ ‫احلقبــة أيض ـ ًا قــدم أحلان ـ ًا كثيــرة‬ ‫منهــا‪( :‬زرونــي ُكل ســنة مــرة‪ ،‬وطلعــت يــا محــا‬ ‫نورهــا‪ ،‬واحللــوة دي قامــت تعجــن يف الفجريــة‪،‬‬ ‫وبــادي بــادي‪ ،‬واليــوم يومــك يــا جنــود)‬ ‫وغيرهــا مــن األعمــال اخلالــدة مــا بــن أحلــان‬ ‫وطقاطيــق وموشــحات‪.‬‬ ‫ويف (‪10‬ســبتمبر ‪ )1923‬رحــل ســيد درويــش‬ ‫عــن عاملنــا وهــو يف ريعــان الشــباب ‪ 31‬عام ـ ًا‬ ‫وشــهور‪ ،‬ولكنــه تــرك مالحــم وطنيــة مــن املــوروث‬ ‫الغنائــي واملوســيقي‪ ،‬مــا زاال ُيدرســان لألجيــال‬ ‫عبــر العصــور‪.‬‬ ‫وأجمــل مــا قيــل عــن ســيد درويــش بعــد رحيلــه‪،‬‬ ‫قصيــدة نشــرها الكاتــب الكبيــر (عبــاس محمــود‬ ‫العقــاد) يف ديوانــه “عابــر ســبيل” جــاء فيهــا‪:‬‬ ‫اذكروا اليوم سيدا‬ ‫واحفظوا الذكر سرمدا‬ ‫وتغنوا بحمد من‬ ‫قد تغنى فأسعدا‬ ‫كان للصوت مالك ًا‬ ‫كيف ال ميلك الصدى؟‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫األزهــري لفتــرة كبيــرة قبــل أن ينزعهمــا‪،‬‬ ‫الفضــل يف منحــه لقــب (الشــيخ)‪.‬‬ ‫ذاع صوت وصيت سيد درويش باإلسكندرية‬ ‫وســمعه املمثــل (أمــن عطــاهلل) ف ُأعجــب بــه‬ ‫وضمــه لفرقتــه‪ ،‬وذهــب مــع الفرقــة عــام ‪1909‬‬ ‫وهنــاك ســمع لون ـ ًا‬ ‫يف رحلــة إلــى بــاد الشــام‪ُ ،‬‬ ‫جديــد ًا مــن املوســيقى العربيــة‪ ،‬وأتتــه الفرصــة‬ ‫(عثمــان املوصلــي) أحــد‬ ‫للتعلــم علــى يــد ُ‬ ‫مشــاهير الفــن يف تلــك ُ‬ ‫احلقبــة‪ ،‬وعــاد إلــى‬ ‫اإلســكندرية بعــد عشــرة أشــهر‪.‬‬ ‫ويف تلــك الفتــرة تع ـ ّرف س ـ ّيد علــى (جــورج‬ ‫أبيــض) حامــل لــواء مســرح ال ُلغــة الفُ صحــى‪،‬‬ ‫والــذي كان عائــد ًا مــن فرنســا وطلــب منــه‬ ‫ســيد درويــش التوســط لــه لــدى اخلديــوي‬ ‫عبــاس حلمــي الثانــي للســفر إلــى فرنســا‬ ‫ـال‬ ‫لدراســة املوســيقى‪ ،‬ولكــن اخلديــوي لــم ُيبـ ِ‬ ‫بطلبــه‪ ،‬فق ـ ّرر ســيد الســفر للمــرة الثانيــة إلــى‬ ‫وهنــاك كانــت مرحلــة التحصيــل‬ ‫الشــام ‪ُ ،1912‬‬ ‫احلقيقــي للدراســة العلميــة والفنيــة الســليمة‪،‬‬ ‫فقــد زار األديــرة املســيحية واســتمع ملوســيقى‬ ‫الكنيســة التــي تأثــر بهــا وقــال عنهــا إنهــا أحلــان‬ ‫تُعبــر عــن األشــواق إلــى الــذات اإللهيــة‪.‬‬ ‫ويف عــام ‪ 1914‬عــاد ســيد درويــش مــن رحلــة‬ ‫الشــام الثانيــة إلــى اإلســكندرية‪ ،‬وكانــت احلــرب‬ ‫العامليــة األولــى قــد بــدأت نيرانهــا‪ ،‬وفــرض‬ ‫ُ‬ ‫العرفيــة علــى‬ ‫املتــل اإلجنليــزي األحــكام ُ‬ ‫مصــر‪ ،‬ومــن ُهنــا دخــل ســيد مرحلــة املواقــف‬ ‫السيا ســية‪.‬‬ ‫ففــي ‪ 1917‬شــد ســيد الرحــال للقاهــرة فقــد‬ ‫بــدأ اســمه يحتــل مكانــة عاليــة‪ ،‬وبــدأ يتبلــور‬ ‫منهجــه الفنــي وتوجهــه االجتماعــي وموقفــه‬ ‫السياســي‪ ،‬وتواصــل مــع (جــورج أبيــض وجنيــب‬

‫الريحانــي وســامة حجــازي وبديــع خيــري)‬ ‫وغيرهــم‪ .‬وبــدأ العمــل مــع املمثــل عمــر وصفــي‬ ‫ُمديــر “اجلــوق الكوميــدي املصــري”‪ ،‬وكانــت‬ ‫باكــورة التعــاون بينهمــا عندمــا حلــن مســرحية‬ ‫“الشــيخ وبنــات الكهربــا” للمؤلــف فــرح أنطــون‪،‬‬ ‫وقــام أيض ـ ًا بتلحــن مســرحية “فيــروز شــاه”‬ ‫لفرقــة جــورج أبيــض‪ ،‬وعــدة مســرحيات لفرقــة‬ ‫جنيــب الريحانــي‪ ،‬وتوالــت األعمــال‪.‬‬ ‫ومــع انــدالع شــرارة ثــورة ‪ 1919‬ســجلت‬ ‫ُ‬ ‫األغنيــة الوطنيــة املصريــة أول حضــور لهــا عبــر‬ ‫حنجــرة ســيد درويــش‪ ،‬وحققــت الهــدف املرجــو‬ ‫منهــا يف بــث اإلحســاس لــدى األغلبيــة مــن‬ ‫الشــعب املصــري بالوطنيــة‪ ،‬وبضــرورة النضــال‬ ‫مــن أجــل االســتقالل التــام‪ .‬وأخــذ ســيد علــى‬ ‫عاتقــه مســؤولية احلشــد للثــورة‪ ،‬وجســد‬ ‫مطالبهــا عبــر صوتــه وأحلانــه مــن خــال‬ ‫بعــض أغانيــه منهــا‪ :‬قــوم يــا مصــري‪ ،‬وأنــا‬ ‫العنصريــن‪ ،‬و”يــا بلــح زغلــول”‬ ‫املصــري كــرمي ُ‬ ‫ألســنة الباعــة‬ ‫وهــي التــي ذاع صيتُ هــا علــى ِ‬ ‫يف شــوارع القاهــر وا ُملــدن إ ّبــان نفــي الزعيــم‬ ‫(ســعد باشــا زغلــول)‪ ،‬وكانــت تعبيــر ًا صادقـ ًا عــن‬ ‫الصــدى املكبــوت يف صــدور املاليــن مــن الشــعب‬ ‫املصــري‪ ،‬وهــي أيضـ ًا حتايــل رمــزي علــى قــرارات‬ ‫املنــع مــن جانــب ُ‬ ‫املتــل‪ ،‬ويقــول مطلعهــا‪:‬‬ ‫يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح‬ ‫يا زرع بلدي عليك يا وعدي‬ ‫يا بخت سعدي زغلول يا بلح‬ ‫عليك أنادي يف ُكل وادي قصدي ومرادي‬ ‫ويف أحضــان ثــورة ‪1919‬أيض ـ ًا صدحــت‬ ‫جتربــة ســيد درويــش وبديــع خيــري مع ـ ًا‪،‬‬ ‫حيــث انبعثــت املوســيقى والكلمــة خللــق فــن‬ ‫قومــي شــعبي ذي طابــع مصــري‪ ،‬وجتلــت‬ ‫الشــخصيات املصريــة يف املســرح الغنائــي مــن‬ ‫الفالحــن والصنايعيــة واألفنديــة‪ ،‬وبرعــت‬ ‫ُ‬ ‫واجلمــل املوســيقية املصريــة بعيــد ًا‬ ‫النغمــات‬ ‫العثمانيــة الســائدة آنــذاك‪.‬‬ ‫عــن التركيبــات ُ‬ ‫وأبدع سيد يف (طقطوقة)‪:‬‬ ‫أهو ده إللي صار وادي إللي كان‬ ‫ملكش حق تلوم عليا‬ ‫تلوم عليا إزاي يا سيدنا‬ ‫وخير بلدنا ما هوش يف إيدنا‬ ‫ويف كتابــه “ذكريــات ووجــوه” ذكــر الفنــان‬ ‫(زكــي ُطليمــات) أن ســيد درويــش قــال لــه ذات‬ ‫يــوم‪“ :‬زي مــا خلعــت اجلبــة والقُ فطــان ولبســت‬ ‫البذلــة‪ ،‬فقــد تركــت الغنــاء واجتهــت للتلحــن‬ ‫املســرحي ألنــه يفتــح أمــام ا ُمللحــن دنيــوات ال‬ ‫حصــر لهــا يف التعبيــر عــن ألــوان احليــاة”‪.‬‬ ‫ويف ‪ 1921‬كــون ســيد فرقتــه اخلاصــة مــع‬ ‫الفنــان عمــر وصفــي وأطلقــا عليهــا اســم‬ ‫“جــوق ســيد درويــش”‪ ،‬وبــدأت موســمها الصيفــي‬ ‫بعــرض مســرحية “شــهرزاد” مــن متصيــر الفنــان‬

‫‪81‬‬


‫‪82‬‬

‫أفالم لن تغادر الذاكرة‬

‫التاريخ األمريكي المجهول‪..‬‬ ‫األسئلة الصحيحة فقط تؤدي‬ ‫إلى إجابات صحيحة‬

‫قراءة تحليلية‪:‬‬

‫أسعد الهاليل‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أمريــكان هســتوري أكــس‪ ،‬أو التاريــخ‬ ‫فل ـ َم ال ينبغــي أن يغــادر‬ ‫األمريكــي اجملهــول‪ِ ،‬‬ ‫الذاكــرة لعــدة أســباب ســنأتي علــى ذكرهــا يف‬ ‫طــي هــذه القــراءة الســريعة‪ ،‬الفلــم مــن تأليــف‬ ‫دافيــد مكينــا وإخــراج تونــي كاي‪.‬‬ ‫وهــو مــن األفــام التــي ال نســتطيع أن‬ ‫نحددهــا ضمــن إطــارات زمنيــة أو مكانيــة فقــد‬ ‫طــرح موضوعــة التعصــب والتمييــز العنصــري‪،‬‬ ‫وإن كانــت ســاحة الدرامــا هــي أمريــكا‪ ،‬فالقضية‬ ‫ممكنــة يف أماكــن شــتى‪ ،‬دعانــا الفلــم إلــى أن‬ ‫نتذكــر أن املوجــات الصغيــرة تك ـ ّون موجــة‬ ‫كبيــرة عــادة‪ ،‬فتعطــي االنطبــاع بهيــاج البحــر‬ ‫ورمبــا يكتــب التاريــخ األحــداث الكبيــرة فقــط‬ ‫دون أن ميــر علــى أفــكار وموجــات صغيــرة‪،‬‬ ‫لطاملــا كانــت ُم َو ِّلــدا ألحــداث كبيــرة ولعــل فلــم‬ ‫(أمريــكان هســتوري أكــس) أراد أن يجذبنــا‬

‫إلــى هــذه املســاحة املهمــة مــن التفكيــر الــذي‬ ‫يبــدأ منــذ قــراءة عنوانــه؛ فالتاريــخ األمريكــي‬ ‫اجملهــول اســم يضــع عالمــات اســتفهام ملعرفــة‬ ‫مــا وراءه ثــم يجذبنــا بعتبتــه األولــى مــع ظهــور‬ ‫أســماء التايتــل مــن خــال لقطــات عامــة‬ ‫مختلفــة باألســود واألبيــض لســاحل بحــر‬ ‫تعمــد مخــرج الفلــم ومصــوره‬ ‫وبعــض النــوارس ّ‬ ‫تونــي كاي إلــى أن تكــون ضعيفــة اجلــودة متيــل‬ ‫إلــى الدكونــة مبــا يعطــي إيحــاء بأنهــا ُصــورت‬ ‫بكاميــرا منزليــة‪.‬‬ ‫ويتواصــل األســود واألبيــض يف اللقطــات‬ ‫التاليــة حــن يجعلنــا نتســاءل إن كانــت‬ ‫األحــداث تــدور يف الســتينات مــن القــرن‬ ‫العشــرين‪ ،‬خاصــة أنــه اختــار موديــات مــن‬ ‫الســيارات توحــي بذلــك‪.‬‬ ‫ينبــه دانــي (املمثــل إدوارد فورلونــغ) أخــاه‬ ‫ديريــك (املمثــل إدوارد نورتــن) بــأن لصـ ْـن‬ ‫مــن الزنــوج يحــاوالن ســرقة ســيارته‪ ،‬فينهــض‬ ‫مســرع ًا ليظهــر وشــم الصليــب املعقــوف مزين ـ ًا‬ ‫صــدره‪ ،‬وشــعارات النازيــة متــأ غرفتــه‪ ،‬يأخــذ‬ ‫مسدســه بســرعة مظهــر ًا شــجاعة عاليــة ويقتــل‬ ‫الرجلــن‪ ،‬وقــد اســتغل اخملــرج إمكانياتــه‬ ‫التقنيــة املتاحــة ليظهــر أهميــة هــذا احلــدث‬ ‫يف مســار الفلــم‪ ،‬فقــد كانــت موســيقى (آنــي‬

‫دودلــي) هادئــة خــال الفعــل العنيــف لتقــدم‬ ‫ديريــك باملســدس‪ ،‬تصاعــدت مــع مباغتتــه‬ ‫للصــوص‪ ،‬لكنهــا صمتــت لتــدع اجملــال ملؤثــر‬ ‫إطــاق الرصــاص‪ ،‬ثــم عــادت للتناغــم مــع‬ ‫احلــركات البطيئــة ـ سلوموشــن ـ لدانــي وهــو‬ ‫يشــاهد مقتــل الرجلــن بفــزع‪ ،‬والتفاتــة ديريــك‬ ‫نحــو أخيــه باعتــداد ظاهــر‪ ،‬بينمــا ينظــر‬ ‫الزجنــي املصــاب إلــى دانــي ببــطء وخــوف مبــا‬ ‫يوحــي بــأن ديريــك ســيجهز عليــه‪.‬‬ ‫لقــد كان اخملــرج ذكي ـ ًا يف توجيــه مدركاتنــا‬ ‫نحــو احلــدس مبــا ســيحدث‪ ،‬رغــم أنــه يضمــر‬ ‫لنــا مفاجــأة صادمــة ســتظهر يف اجلــزء األخيــر‬ ‫مــن الفلــم‪ ،‬إنــه يعمــل علــى شــحذ آليــة التفكيــر‬ ‫لدينــا بعــد تلقينــا ملــا يقدمــه مــن صــورة‪ ،‬تؤكــد‬ ‫ذلــك عالمــة االســتفهام التــي فرضــت نفســها‬ ‫بعــد حت ـ ّول الصــورة مــن األســود ـ أبيــض إلــى‬ ‫املل ـ ّون خــال حديــث املــدرس مــوراي‪( ،‬املمثــل‬ ‫اليــوت جولــد) مــع دانــي‪ ،‬رمبــا كان ذاك حدث ـ ًا‬ ‫ماضويـ ًا ـ فــاش بــاك ـ لك ّنــه أخــذ مســاحة كبيرة‬ ‫مــن زمــن الفلــم مقدمـ ًا متهيــد ًا ال حياديـ ًا قادنــا‬ ‫بالتأكيــد إلــى متابعــة ديريــك ودانــي وجرميــة‬ ‫القتــل‪ ،‬أنــه ليــس حدثــا بــاردا علــى أيــة حــال‪،‬‬ ‫وتعطــي الصــورة امللونــة حملــاورة دانــي ومدرســه‬ ‫مــوراي اإلطــار النظــري ملــا حــدث‪ ،‬فهنــاك أفــكار‬


‫أفالم لن تغادر الذاكرة‬

‫ليوحــي باســتمراريتها‪ ،‬ومــن املؤكــد أن األزمــة‬ ‫العنصريــة قائمــة بأشــكال وأوجــه مختلفــة‬ ‫قبــل إبراهــام لنكولــن‪ ،‬ورمبــا ستســتمر ملــا بعــد‬ ‫هــذه الســنوات‪ ،‬ويعــد الفلــم بحــل املعضلــة مــن‬ ‫خــال الوعــي بحيثياتهــا‪ ،‬فديريــك يحــاول‬ ‫أن يبعــد أخــاه دانــي عــن كاميــرون ومجموعــة‬ ‫النازيــن‪ ،‬لقــد تعــرض ديريــك لدفقــة الوعــي‬ ‫هــذه وغيرتــه‪ ،‬وهــو يعمــل اآلن علــى أن يغ ِّيــر‬ ‫أخــاه دانــي الــذي يبــدأ عبــر مقالتــه (التاريــخ‬ ‫األمريكــي اجملهــول) بتحليــل ذاتــه وأخيــه‬ ‫وأســرته‪ ،‬وخــال ذلــك يظهــر ديريــك وكاميــرون‬ ‫(املمثــل ستاســي كتــش) باألســود ـ أبيــض وهمــا‬ ‫ينظــران إلــى مجموعــة مــن الشــباب الصلــع‬ ‫احلاقديــن علــى الســود وغيرهــم‪ ،‬وتختــرق‬ ‫اضطرابــات ديريــك العنصريــة أســرته حــن‬ ‫يخــوض حــوارا قاســيا مــع مــوراي ذي امليــول‬ ‫اليهوديــة‪ ،‬ويطــرده مــن منزلــه آخــر األمــر‬ ‫ألمــه التــي تعشــقه‪ .‬ديريــك‬ ‫مســببا جرحــا بالغــا ِّ‬ ‫الــذي يضــع العلــم األمريكــي علــى بــاب منزلــه‬ ‫يبلــور شــكال آخــر مــن أشــكال النازيــة‪ ،‬إنــه يف‬ ‫الواقــع شــوفيني أمريكــي‪.‬‬ ‫يواصــل دانــي اكتشــافاته عبــر الغــوص يف‬ ‫ذاكرتــه التــي َوضعــت األحــداث يف سلســلة‬ ‫مترابطــة منطقيــة‪ ،‬بعــد أن عمــل الفلــم‬ ‫علــى تقدميهــا مبعثــرة‪ ،‬فاجللســة العائليــة‬ ‫انتهــت بطــرد ديريــك ملــوراي‪ ،‬ومحاولتــه إيــذاء‬ ‫شــقيقته‪ ،‬ثــم ســرقة الزجنيــن للســيارة‪ ،‬وقتــل‬ ‫ديريــك لهمــا‪ ،‬وتقــدم لنــا ذاكــرة دانــي تكملــة‬ ‫يجبــر ديريــك‬ ‫مفاجــأة لنهايــة احلــدث حــن ِ‬ ‫الزجنــي اجلريــح علــى فتــح فمــه علــى حافــة‬ ‫الرصيــف ليقــوم بركلــه علــى رأســه ركلــة أودت‬ ‫بحياتــه بطريقــة قاســية وشــريرة‪ ،‬ويعـزِّز اخملــرج‬ ‫التأثيــر املــؤذي للمشــهد حــن نــرى دانــي يهــوي‬ ‫علــى األرض بالســرعة البطيئــة التــي بهــا‬ ‫يســتدير ديريــك ليواجــه الشــرطة وهــو يشــعر‬ ‫باخليــاء‪ ،‬فنــدرك بــأن مــا يتنــازع دانــي مزيــج‬ ‫مــن االنفعــال والغضــب العنصــري حتــت تأثيــر‬ ‫ديريــك وكاميــرون والتحفيــزات اإلنســانية التي‬ ‫جتعلــه يتأثــر بشــدة ملقتــل الزجنــي‪ ،‬ويــدرك‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫َ‬ ‫دماغـ ْـي األخويــن‬ ‫عنصريــة ســيطرت علــى‬ ‫ديريــك ودانــي‪ ،‬وإذا كان الصليــب املعقــوف‬ ‫إشــارة لوجودهــا لــدى ديريــك‪ ،‬فــإن ســحب دانــي‬ ‫للعلــم األمريكــي الصغيــر مــن وســط مجموعــة‬ ‫مــن األشــياء الصغيــرة املوضوعــة علــى‬ ‫منضــدة مــوراي‪ ،‬إشــارة إلــى شــوفينية‪ ،‬يؤكــد‬ ‫احلــوار التالــي ربطهــا بــن العنصــر األبيــض‬ ‫وأمريــكا‪ ،‬ويــدرك الدكتــور ســويني‪( ،‬املمثــل‬ ‫أفيــري بروكــس) ـ مديــر مدرســة شــواطئ‬ ‫البندقيــة ـ بــأن الشــارع ســيقتل دانــي وديريــك‬ ‫بســبب أفكارهمــا النازيــة‪ ،‬ويف نيــة لتوجيــه‬ ‫مســاره الفكــري إلــى ّاتــاه آخــر‪ ،‬يقتــرح عليــه‬ ‫بــأن يكــون ُمد ِّر َســه ملــادة التاريــخ‪ ،‬وســيدعو‬ ‫هــذا الفصــل ـ التاريــخ األمريكــي اجملهــول ـ‬ ‫ويتعمــد اخملــرج ـ املص ـ ِّور أن يزجنــا يف فضــاء‬ ‫ّ‬ ‫يؤســس لــه عبــر مجموعــة مــن اللقطــات‬ ‫ـي‬ ‫نفسـ‬ ‫ِّ‬ ‫الكبيــرة جــد ًا خــال حــوار ســويني ودانــي‬ ‫ُمظهــر ًا ردود الفعــل النفســية لشــخصياته‪،‬‬ ‫خــال احملادثــة واإلنصــات‪ ،‬ويبــدو أنّ ُســعار‬ ‫العنصريــة غيــر مرتبــط بالبيــض فقــط‪ ،‬فقــد‬ ‫ضــرب بعــض الطلبــة الزنــوج طالبــا أبيــض يف‬ ‫احلمــام‪ ،‬بينمــا اســتفزهم دانــي بنفــث دخــان‬ ‫ســيجارته يف وجوههــم يف حتـ ٍ ّـد أخــرق‪ ،‬خلــط‬ ‫بــن فكر َتـ ْـي البطولــة والعبــث يف مواجهتــه لهــم‪،‬‬ ‫املشوشــة يف أذهــان املراهقــن وهــم‬ ‫وهــي املســافة‬ ‫َّ‬ ‫يتلقّ ـ ْون خطابــات مح ِّرضــة رمبــا تدفــع بهــم‬ ‫إلــى تلقــي أفــكار تدفــع إلــى مواقــف هادمــة‪،‬‬ ‫وهــذا مــا يشـ ِّـخصه الدكتــور ســويني حــن يذكــر‬ ‫بــأنّ ديريــك كان حتــت تأثيــر الكاتــب كاميــرون‬ ‫ألكســاندر‪ ،‬الذي كان مد ِّرســا يف مدرســة شــاطئ‬ ‫البندقيــة‪ ،‬ويكتــب أعمــدة احلقــد علــى حــد‬ ‫قــول مــوراي‪ ،‬وكاميــرون هــذا اســتغل ديريــك‬ ‫ليج ِّنــد لــه عــددا كبيــرا مــن الشــباب احمل َبطــن‬ ‫والضائعــن وغيــر اآلمنــن‪ ،‬ولكــي يقـ ِّـدم لنــا‬ ‫اخملــرج حتليـًـا لعنــف ديريــك وحقــده‪ ،‬يدفــع‬ ‫الدكتــور ســويني إلــى عــرض مقابلــة لقنــاة «ســي‬ ‫أن» أن مــع ديريــك بعــد مقتــل أبيــه اإلطفائــي‬ ‫متعمــد‪ ،‬وإذا كانــت‬ ‫يف حريــق يعتقــد بأنــه‬ ‫َّ‬ ‫اإلشــارة الســابقة قــد أوحــت بــأن األحــداث‬

‫ســتينية وهــذا مب ـ ّرر‪ ،‬فتلــك احلقبــة كانــت‬ ‫فتــرة اضطرابــات عنصريــة معروفــة‪ ،‬لكن ّنــا‬ ‫نتلقّ ــى إشــارة توحــي بــأنّ األحــداث رمبــا دارت‬ ‫يف الثمانينيــات أو التســعينيات‪ ،‬مــن خــال‬ ‫احلديــث عــن مــرض اإليــدز الــذي ينتشــر بــن‬ ‫امللونــن‪ ،‬والــذي جــاء معهــم إلــى أمريــكا يف‬ ‫مغالطــة واضحــة‪ ،‬فاجلميــع يعــرف بــأن أمريــكا‬ ‫هــي مصــدر اإليــدز‪ ،‬هنــاك مــا يوحــي باســتمرار‬ ‫األزمــة العنصريــة إذن‪ ،‬وتوحــي باحلقــد الكبيــر‬ ‫تلــك اللقطــات العامــة واملتوســطة بــن الزنــوج‬ ‫والبيــض خــال لعــب كــرة الســلة‪ ،‬والكبيــرة‬ ‫منهــا خاصــة لدانــي وبعــض الزنــوج‪ ،‬تعــزز‬ ‫ذلــك املوســيقى التــي تتناســب مــع حماســة‬ ‫اللعــب‪ ،‬إضافــة إلــى حيويــة التقطيــع بــن‬ ‫اللقطــات العامــة مــع حركــة الكريــن‪ ،‬واللقطــات‬ ‫املتو ســطة‪..‬‬ ‫لقــد منحنــا اخملــرج إحساســا بتفاقــم‬ ‫الصــراع بــن اجملموعتــن‪ ،‬وزاد األســود‬ ‫واألبيــض مــن تأكيــد واقعيــة مــا يحــدث‪ ،‬فهــي‬ ‫جــزء مــن أحــداث ماضويــة حتقّ قــت بالفعــل‬ ‫وليســت افتراضيــة قابلــة لتغييــر اجتاهاتهــا‬ ‫ونهاياتهــا‪ ،‬وإذا كان األســود واألبيــض قرينــا‬ ‫جلميــع لقطــات ديريــك مب ـ ّررة انطالقهــا مــن‬ ‫مخيلــة دانــي الــذي يعيــش زمنــا واقعيـ ًا تتخ ّللــه‬ ‫ذكرياتــه مــع ديريــك‪ ،‬فإ ّنــه أي ديريــك ســيظهر‬ ‫ملونــا حــال خروجــه مــن الســجن‪ ،‬وقــد أطلــق‬ ‫شــعره بإيحــاء تغيــره خــال فتــرة وجــوده يف‬ ‫الســجن‪ ،‬لكنــه ســيضطر إلــى مواجهــة نتائــج‬ ‫خطابــه النــازي القــدمي‪ ،‬فهنــاك رفاقــه ومنهــم‬ ‫البديــن ســيث‪( ،‬املمثــل إيثــان ســوبليس)‪،‬‬ ‫وصديقتــه ستاســي (املمثلــة فيــروزا بالــك)‬ ‫وامللونــن‪،‬‬ ‫متزمــت يف رفضــه للزنــوج‬ ‫وكالهمــا‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وقبلهمــا دانــي املتشــبع بأفــكار أخيــه ديريــك‪،‬‬ ‫إنــه يقــول‪ :‬أكــره احلقيقــة التــي تقــول‪ :‬مــن‬ ‫الرائــع أن تصبــح أســود هــذه األيــام‪ .‬وتأتــي‬ ‫إشــارة أخيــرة عــن زمــن األحــداث‪ ،‬إذ يتحـ ّـدث‬ ‫الهـ ْـب هــوب‪ ،‬وهــذا يعنــي‬ ‫ســيث عــن رقصــة ِ‬ ‫بــأن األحــداث تــدور يف أيامنــا الراهنــة‪،‬‬ ‫فهــل تعمــد اخملــرج تشــويش زمــن األحــداث‬

‫‪83‬‬


‫‪84‬‬

‫أفالم لن تغادر الذاكرة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫كاميــرون بــأن مديــر املدرســة ســويني‪ ،‬يحــاول‬ ‫الفصــل بــن أفــكار ومشــاعر دانــي لتوجيهــه‬ ‫اجتاهـ ًا آخــر‪ ،‬فينبهــه إلــى أنــه يحــاول أن يلغــي‬ ‫أفــكاره عــن هتلــر‪ ،‬كاميــرون يحــاول أن يقــاوم‬ ‫خطــر الوعــي بحقيقــة خطاباتــه املســمومة‬ ‫ولــم يعلــم بعــد بــأن ديريــك‪ ،‬بدفــع مــن أفــكاره‬ ‫اجلديــدة املناوئــة للنازيــة والتعصــب‪ ،‬يطلــب‬ ‫مــن ستاســي أن ترافقــه ليبتعــدا عــن هــذا‬ ‫املــكان لكنهــا تســتغرب‪ ،‬ويواصــل كاميــرون بنــاء‬ ‫نظريتــه التــي بدأهــا بجــذب املراهقــن عبــر‬ ‫ديريــك ثــم تطويــر منظمتــه والبحــث عــن قيادة‬ ‫مؤهلــة يراهــا يف ديريــك الــذي يرفــض‪ ،‬يراهــن‬ ‫كاميــرون علــى عــودة دانــي إليــه‪ ،‬إنــه يعمــل علــى‬ ‫العبــث بعقــول املراهقــن الــذي يحتاجــون إلــى‬ ‫اإلميــان بقضيــة‪.‬‬ ‫يقـ ِّـدم الفلــم مســاحة نفســية جيــدة‪ ،‬فتحـ ِّول‬ ‫اآلخريــن مــن تأليــه ديريــك إلــى اتّهامــه‬ ‫باخليانــة يدفــع دانــي إلــى االنفعــال‪ ،‬ويحــاول‬ ‫أن يضــرب ديريــك الــذي يحــاول امتصــاص‬ ‫غضــب أخيــه بهــدوء‪ ،‬هــذه ذروة ملواجهــة ديريــك‬ ‫ودانــي‪ ،‬مبشــاعرهما وأفكارهمــا وعالقتيهمــا‬ ‫كأخويــن‪ ،‬ولكــي تنحــدر هــذه الــذروة البــد مــن‬ ‫تكشــف معطيــات جديــدة‪ ،‬يبــدأ دانــي بســؤاله‬ ‫لديريــك‪ :‬مــا الــذي حــدث لتتغ ّيــر أفــكارك بهــذه‬ ‫الطريقــة؟‬ ‫كانــت الصــورة مل ّونــة لك ّنهــا ســرعان مــا‬ ‫تغ ّيــرت إلــى األســود واألبيــض‪ ،‬لتقــدم لنــا‬ ‫ـ فــاش بــاك ـ يظهــر فيــه ديريــك خلــف‬ ‫القضبــان‪ ،‬ويعمــل إلــى جانــب زجنــي يضــرب‬ ‫الشراشــف بقــوة كــرد فعــل لوجــوده مــع مــن‬ ‫يرفضــه‪ ،‬يقــول الزجنــي أنــا أكــره الشراشــف‬ ‫كذلــك‪ ،‬ثــم يضــع أحدهــا علــى رأســه كالقمــع‬ ‫مذكــرا مبنظمــة الكــوكالن كالكــس العنصريــة‬ ‫ويتحــدث عــن واقــع قتــل البيــض للزنــوج‪.‬‬ ‫هنــاك معادلــة ذات طرفــن إذن‪ ،‬فقــد‬ ‫تع ـ ّرض الزنــوج لالضطهــاد علــى يــد البيــض‬ ‫الذيــن يــرون الزنــوج طارئــن ومحتلــن‬ ‫لوجودهــم األمريكــي‪ ،‬متناســن بــأن أمريــكا‬ ‫أرض ـ ًا مباحــة للجميــع‪ ،‬بعــد أن ُسـ ِـلبت مــن‬ ‫مواطنيهــا األصليــن‪ ،‬ويفــرض امليــل النــازي‬ ‫علــى ديريــك أن يقتــرب مــن بعــض البيــض‬ ‫ذوي األجســاد املوشــومة بالصليــب املعقــوف‪،‬‬ ‫ثــم يكتشــف بأنهــم يؤمنــون مبصاحلهــم‬ ‫فحســب‪ ،‬فزعيمهــم كان يتاجــر باخملــدرات‬ ‫بــن املكســيكيني واآلخريــن‪ ،‬ولــم يحـ ِـم ديريــك‬ ‫وشــم الصليــب املعقــوف وال عبــارة وايــت َبـ َور أي‬ ‫تعرضــه للضــرب واالعتــداء‬ ‫قــوة األبيــض‪ ،‬مــن ُّ‬ ‫علــى يــد رفاقــه النازيــن‪ ،‬ألنــه رفــض تعاملهــم‬ ‫مــع غيــر البيــض‪ ،‬وكانــت املفارقــة أن الزجنــي‬ ‫هــو مــن ســاعده وجعــل فتــرة الســجن محتملــة‬ ‫بالنســبة لــه‪..‬‬

‫يشــعر ديريــك باملــرارة التــي نضحــت حــن‬ ‫زاره الدكتــور ســويني الــذي ين ِّبهــه بــأن غضبــه‬ ‫كان يوقــف كل مــا بداخــل دماغــه مــن طاقــات‬ ‫للتفكيــر اإليجابــي‪ ،‬وعليــه أن يســأل األســئلة‬ ‫الصحيحــة ليحصــل بالتالــي علــى إجابــات‬ ‫صحيحــة‪ ،‬ولكــي يحقــق اخملــرج تأكيــدا‬ ‫أكبــر ملــا يطرحــه مــن أفــكار وانعكاســاتها‬ ‫الوجدانيــة‪ ،‬نــراه يلجــأ أحيان ـ ًا إلــى اعتمــاد‬ ‫اللقطــات الكبيــرة جــدا‪ ،‬مــع صــوت خارجــي‪،‬‬ ‫كحــوارات ديريــك املوجهــة إلــى أخيــه دانــي‬ ‫الــذي رأينــاه مطرقــا بلقطــة جانبيــة ـ بروفيــل‬ ‫ـ كبيــرة جــدا وإضــاءة مواجهــة للكاميــرا‬ ‫وضعــت جــزء كبيــرا مــن وجهــه يف منطقــة‬ ‫الســلويت أي العتمــة‪ ،‬والبــد لالنحــدار مــن‬ ‫ذروة املواجهــة بــن دانــي وديريــك مــن نتيجــة‪،‬‬ ‫لــذا كان رفــع األخويــن للشــعارات والصــور‬ ‫النازيــة عــن جــدران غرفتهمــا هــي النتيجــة‪،‬‬ ‫وحــن يواصــل دانــي كتابــة مقالــه يكتشــف‬ ‫محلــا بــأن املقــت للزنــوج بــدأ قبــل مقتــل‬ ‫أبيــه‪ ،‬إذ كان والدهمــا ينفــث فيهمــا هــذا‬ ‫املقــت بشــكل بســيط‪ ،‬وتــدرج طــرح املعلومــات‬ ‫قدمهــا لنــا الفلــم يدعونــا إلــى‬ ‫بالصيغــة التــي ّ‬ ‫التســاؤل إن كان يــود أن يرينــا آليــة تشــكّ ل‬ ‫الفكــرة وتط ّورهــا وإمكانيــات تغ ّيرهــا‪ ،‬إذ ال‬ ‫مطلــق يف الفكــرة‪.‬‬ ‫يقـ ِّـدم لنــا الفلــم عرضــا وجدانيــا شــفيف ًا ملــا‬ ‫هــو عليــه ديريــك ودانــي‪ ،‬فعبــر لقطــات بطيئــة‬ ‫الســرعة بالغــة الروعــة‪ ،‬لــرذاذ مــاء الــدوش‬ ‫يف احلمــام حيــث يغتســل ديريــك‪ ،‬يتخ ّلــل‬ ‫ملونــة هــذه املــرة‪،‬‬ ‫ذلــك فــاش بــاك بلقطــات َّ‬ ‫ُأ ِخــذت بكاميــرا منزليــة ذات جــودة عاديــة‪،‬‬ ‫توحــي باألرشــيفية‪ ،‬طفــان يلهــوان قــرب‬

‫ســاحل البحــر ويدهشــان لرؤيــة النــوارس‪،‬‬ ‫وحتيلنــا اللقطــات إلــى تلــك التــي رأيناهــا يف‬ ‫بدايــة الفلــم باألســود واألبيــض‪ ،‬ولــم تظهــر‬ ‫لهــا أيــة عالقــة بأحــداث الفلــم حتــى هــذه‬ ‫اللحظــة‪ ،‬ديريــك يفكــر بأخيــه إذن‪ ،‬ويعــرض‬ ‫روحــه وجســده للتطهيــر بواســطة املــاء‬ ‫والتحــرر عبــر فكــرة التحليــق مــع النــوارس‪،‬‬ ‫ويــدرك بــأنّ وشــم الصليــب املعقــوف بــدا‬ ‫مرفوضــا بالنســبة لــه‪ ،‬وهنــا توحــي األحــداث‬ ‫بالنهايــة‪ ،‬لكــن الفلــم يضــع يف طريقنــا‬ ‫موضع ـ ًا للحبكــة‪ ،‬يغ ِّيــر مســار األحــداث حــن‬ ‫يتعـ ّرض دانــي للقتــل علــى يــد أحــد الزنــوج يف‬ ‫حمــام املدرســة‪ ،‬وكأنــه يرينــا حصــاد ديريــك‬ ‫عمــا زرعــت يــداه‪ ،‬إذ كان ثمــن احلقــد الــذي‬ ‫زرعــه مقتــل أخيــه الصغيــر‪ ،‬ويســتمر شــريط‬ ‫الصــوت يف عــرض آخــر مــا كتبــه دانــي يف‬ ‫مقالــه (التاريــخ األمريكــي اجملهــول)‪ ،‬إذ‬ ‫يقــول‪ :‬خامتتــي مــا هــي إال متــاع مــن احلقــد‪،‬‬ ‫واحليــاة قصيــرة لنضيــع وقتنــا فيهــا‪ ،‬علينــا‬ ‫أ ّال نكــون أعــداء‪ ،‬وال نكســر روابــط املــودة‪.‬‬ ‫لقــد وصــل دانــي إلــى نتيجــة إيجابيــة كان قــد‬ ‫ســبقه إليهــا ديريــك‪ ،‬لكــن الفلــم وضعنــا يف‬ ‫دائــرة مغلقــة مــن األحقــاد التــي حتتــاج إلــى‬ ‫جهــود متواصلــة كــي حتقــق تطهيــر ًا كالــذي‬ ‫حتقّ ــق لديريــك ودانــي‪ ،‬وكأنّ اللقطــات التــي‬ ‫ظهــرت يف نهايــة الفلــم لســواحل هــي ذاتهــا‬ ‫التــي ظهــرت باألســود واألبيــض يف بدايــة‬ ‫الفلــم‪ ،‬لكنهــا هــذه املــرة ملونــة متيــل لألحمــر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫تؤكــد حقيقــة هــذه الدائــرة املغلقــة الدمويــة‪،‬‬ ‫وربــا أراد اخملــرج عبــر وضــع نســبة كبيــرة مــن‬ ‫َّ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫يو‬ ‫أن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫العا‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫ّق‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫الف‬ ‫ـأنّ‬ ‫ثمــة قدريــة مهيمنــة‪.‬‬ ‫ّ‬


‫‪85‬‬

‫أفكر بالكتابة‪!...‬‬

‫زخة‬ ‫عطر‬ ‫زكريا الغندري‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ال أدري مـن أيـن أبـدأ الكتابـة‪ ،‬هكـذا أجدنـي كلّ مسـاء‪ ،‬مـع أن هنـاك رغبـة ملحـة‬ ‫تراودنـي بين الفينـة واألخـرى ألبـدأ بكتابـة مـا يجـول بخاطـري‪ ،‬إال أنّ ذلـك قـد‬ ‫يشـعرني أحيانـا بأنّـه شـيء ال يسـتحق نشـره‪ ،‬كهـذه اخلربشـة التـي أراهـا ال تسـتحق‬ ‫أن تُنشـر‪ ،‬رمبـا هـذا مـا يجعلنـي أراه غيـر مناسـب‪ ،‬مـا أقصـد هنـا مـا ينشـر عـن احليـاة‬ ‫اليوميـة‪ ،‬فهنـاك مـن ينقلـون كل أحـداث الواقـع لالفتـراض حتـى التفاهـات التـي‬ ‫حتـدث‪ ،‬هـذا مـا يجعلنـي أكتفـي مبنشـورات األخبـار واألحـداث وإن حـدث كمنشـور‬ ‫فكاهـي وقصيـدة أحيانـا قـد أختـم بهـا مسـائي‪!...‬‬ ‫أفكـر بالكتابـة عـن تلـك البسـاطة التـي تأخذنـي‪ ،‬عـن ذلـك الزمـن اجلميـل حيـث‬ ‫القرية‪ ،‬عن األشجار التي حتتها قرأت أ ّول كلمة‪ ،‬عن أولئك الذين كنت معهم حيث‬ ‫ال أجدني‪ ،‬عن أصدقاء املواقف وزمالء الدراسـة‪ ،‬عن احلب الذي يكتبه اجلميع وال‬ ‫يجدونـه‪ ،‬عـن فاتنـة صادفتهـا يف طريقـي إلـى اجلامعـة‪ ،‬عـن تلـك الصديقـة التـي‬ ‫يشـدني انتباههـا إل ّـي‪ ،‬وأنـا اخلائـف القـروي الـذي ال يفهـم يف العالقـات الالمباشـرة‪،‬‬ ‫عن تلك الزميلة التي ال تبخل أن تعطيني كل شيء‪ ،‬عن تلك األخت التي اتّخذتني‬ ‫لهـا مق ّربـا لتتركنـي عنـد خطوبتهـا بعـد أن اعترفـت أ ّننـي كنـت يف قلبهـا الـذي لـم‬ ‫أشـعر بـه فتحظرنـي مـن كل احلسـابات وتذهـب مـن غيـر عـودة فأبقـى بحسـرة أكتمهـا‬ ‫حتـى ال يشـعر مـن هـم بجـواري‪ ،‬عـن تلـك الفتـاة التـي أهدتنـي بعيـد ميلادي هديـة‬ ‫ألهديهـا لزوجتـي‪ ،‬لهـذا أود أن أكتـب عـن كل شـيء أصادفـه بالصدفـة‪ ،‬عـن ابتسـامات‬ ‫األطفال وهم يذودون بنقائهم‪ ،‬عن مأساة (تهامة) وهي تعاني حرارة الصيف‪ ،‬وعن‬ ‫أولئـك الذيـن يأكلـون خيراتهـا ليذهبـوا فيمـا بعـد يطلقـون حملـة إلغاثتهـا‪.‬‬ ‫أفكر بالكتابة عن كل شيء حتى ولو كان تافها‪ ،‬عن طريقتي يف املقيل‪ ،‬والطقوس‬ ‫التـي أؤديهـا مـع كل بدايتـه‪ ،‬عـن أغنياتـي املفضلـة التـي أدشـن بهـا مقيلـي كل مسـاء‪،‬‬ ‫ألذهب فيما بعد برقصة عناق آحادية األداء‪ ،‬عن كل أغنية جميلة وعطر يستوقفني‬ ‫ربـا يف بعـض‬ ‫وأنـا يف زحمـة العبـور‪ ،‬عـن قاتـي املفضـل الـذي قـد ال أجـده إال حلمـا‪ّ ،‬‬ ‫األحيـان أجـده بالصدفة‪!...‬‬ ‫أفكر بالكتابة عن القرية واجلبل‪ ،‬عن أطفال اجلبال وسكان القرى البعيدة الذين‬ ‫يبـدون خـارج كوننـا ال يعرفـون إلـى أيـن ينتمـون‪ ،‬فقـط كل مـا يعرفونـه هـو قريتهـم‬ ‫واجلبـل الـذي صـار وطنهـم فيـه‪ ،‬يقيمـون طقوسـهم كل صبـاح ليعـودوا قبل كل مسـاء‬ ‫إلـى حوانيتهـم الغارقـة يف الظلام‪ ،‬أود أن أكتـب عـن رحلتـي بين اجلبـال والشـعوب‪،‬‬ ‫عـن مناطـق مـا زالـت حتـى اآلن يف العصـور اجلاهليـة تؤمـن باخلرافـات لكنهـا مليئـة‬ ‫بالنقـاء‪ ،‬أود أن أبـوح لكـم برحلتـي مـع اإلبـل وأنـا أرعاهـا فأجدنـي بدايـة ِّ‬ ‫كل مسـاء يف‬ ‫أطلال قريـة بعيـدة‪ ،‬عـن طقـوس القبيلـة وعادتهـا‪ ،‬وبلاد مـن زمـن اإلغريـق مشـيتها‬ ‫ألد ِّون األسـى يف مواقـف وحلظـات تبـدو أشـبه مبسلسـل لبطـل لـم يـد ّون حتـى ممـا‬ ‫عاشه‪.‬‬ ‫ويبقـى كثيـرا مـا أود أن أكتبـه بطريقتـي املضحكـة عـن مغامراتـي الفاشـلة وأنـا‬ ‫أحـاول أن أكـون قاسـيا‪ ،‬بعـد أن فشـلت بتأجيـل ُقبلـة افتراضيـة لـن أحدثكـم عـن‬ ‫اغتيالهـا وكيـف صـارت لعنـة جعلتنـي أخسـر ثقتـي يف كل شـيء‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفكـر بالكتابـة عـن أصدقـاء املصلحـة والشـهرة‪ ،‬عـن املغروريـن الذيـن يقلـدون‬ ‫أمامـك وهـم يف صفحـات اجلميلات مداومين علـى مـدار اللحظـة‪ ،‬فتجدهـم قمـة‬ ‫يف تواضعهـم‪ ،‬مـع أنـي سـبقت وأن كتبـت يف ذلـك فرأيـت أنـه ال يسـتحق التذكيـر بهـم‪،‬‬ ‫أجلـه يف محفظتـي ألنّه‬ ‫لهـذا ألغيـت كل شـيء حتـى الـذي سـبق كتابتـه‪ ،‬واكتفيـت أن ُأ ِّ‬ ‫قـد ال يسـتحق نشـره‪!...‬‬


‫‪86‬‬

‫استطالع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫‪87‬‬

‫مجتمع يغ ّيره الصحفيون‪:‬‬

‫مغامرات (تان تان) في مؤتمر الصحفيين العالمي !‬ ‫فـــي صباي‪ ،‬بـــدأت حياتي المهنيـــة كصحفي حالم‪ .‬لـــم يكن يخطر ببالي حينها ســـوى‬ ‫صـــورة ذلـــك الصحفـــي الشـــاب (تان تـــان) فـــي مغامراتـــه؛ عاشـــق الســـفر والكتابة‬ ‫والتصويـــر ومطـــاردة األشـــرار وكشـــف الحقيقة‪ ،‬الذي يســـتخدم العلـــم ويضع يديه‬ ‫في أيـــدي مؤسســـات مجتمعيـــة صالحة ويفضح الفســـاد‪.‬‬ ‫متعـــدد المواهب والوســـائل واألهـــداف هي ما‬ ‫هـــذه الصـــورة المثاليـــة للصحفـــي‬ ‫ِّ‬ ‫جميعـــا‪ ،‬نحـــن مجتمـــع الصحفييـــن حـــول العالـــم‪ ،‬وهـــي الصـــورة التي‬ ‫نســـعى إليهـــا‬ ‫ً‬ ‫نســـعى مـــن خاللهـــا إلى بنـــاء مجتمـــع أفضل‪.‬‬ ‫أرشف ابو اليزيد‬

‫العدد (‪ )5‬مارس أبريل ‪ 2022‬م‬

‫وجــه اخلصــوص‪ ،‬منــذ عــام ‪ ،2013‬ودعونــا‬ ‫الصحفيــن مــن جميــع أنحــاء العالــم إلــى‬ ‫كوريــا ســنويا للمشــاركة يف العالــم مؤمتــر‬ ‫الصحفيــن‪ ،‬الــذي يحتفــل بالفعــل بالذكــرى‬ ‫العاشــرة لتأسيســه هــذا العــام‪ .‬ونحــن‬ ‫جميعــا قواســم مشــتركة حتــى لــو‬ ‫لدينــا‬ ‫ً‬ ‫اختلفــت بالدنــا وأجناســنا وألــوان بشــرتنا‬ ‫وأيديولوجياتنــا‪ ،‬فاحلقيقــة أن جميــع‬ ‫الصحفيــن يعملــون بجــد مــن أجــل احلريــة‬ ‫والســام ونشــر احلقيقــة‪».‬‬ ‫كلمــة التهنئــة ألقاهــا بــو كيــوم كيــم‪،‬‬ ‫رئيــس وزراء جمهوريــة كوريــا‪ ،‬وجــاء فيهــا‬ ‫حتــت عنــوان «التحــول العظيــم للحضــارة‪،‬‬

‫ودور الصحافــة» قــال فيهــا إن العالــم يواجــه‬ ‫اآلن التحـ ّول العظيــم للحضــارة‪ ،‬لــذا حتتــاج‬ ‫الصحافــة إلــى الوقــوف وإلقــاء الضــوء علــى‬ ‫ســبل التغلــب علــى جميــع التحديــات التــي‬ ‫قــد تأتــي يف ظــل التحــول‪ ،‬واستشــهدا بعبــارة‬ ‫تومــاس فريدمــان‪« ،‬التحــدي األكبــر الــذي‬ ‫قــد نواجهــه ســوف يأتــي مــن األخبــار املزيفــة‬ ‫مــن خــال وســائل التواصــل االجتماعــي‪،‬‬ ‫واجملتمعــات الصحيــة هــي التــي يتواصــل‬ ‫فيهــا النــاس ليحمــوا ويحترمــوا بعضهــم‬ ‫البعــض خــال مــا يحــدث مــن تغييــرات يف‬ ‫ظــل التحــول»‪ ،‬داعيــا الصحفيــن يف هــذا‬ ‫املؤمتــر إلنشــاء «مجتمــع صحــي» جتمعــه روح‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫كنــت أحتـ ّـدث إلــى مؤمتــر الصحفيــن‬ ‫العاملــي الــذي تســتضيفه جمعيــة الصحفيــن‬ ‫يف كوريــا كل عــام‪ ،‬ويحتفــل بدورتــه العاشــرة‬ ‫بشــكل هجــن؛ يجمــع بــن احلاضريــن يف‬ ‫العاصمــة ســيول‪ ،‬وهــؤالء املنضمــن عبــر‬ ‫اإلنترنت يف ‪ 34‬دولة‪ ،‬فبعد دوراته االعتيادية‬ ‫الســبع التــي اســتضافت فيهــا كوريــا ضيــوف‬ ‫املؤمتــر‪ ،‬هــا هــي الــدورة الثالثــة علــى التوالــي‪،‬‬ ‫وبســبب مــا جــرى للعالــم جــراء اجلائحــة‪،‬‬ ‫تقــام افتراضيــا‪ ،‬علــى أمــل أن تكــون الــدورة‬ ‫القادمــة عــودة حميــدة للمنــوال الــذي ســارت‬ ‫عليــه الفعاليــات حــن نشــأتها‪ ،‬وجمعــت بــن‬ ‫احملاضــرات والنقاشــات والزيــارات امليدانيــة‪.‬‬ ‫كان ســؤاال املؤمتــر األســاس همــا‪ :‬أهميــة‬ ‫محاربــة املعلومــات املضللــة واحلاجــة إلــى‬ ‫تعزيــز الدعــم للتحقــق مــن احلقائــق‪ ،‬ودور‬ ‫الصحفيــن وتأثيــر عملهــم على مجتمعاتهم‬ ‫وتغييــر ســلوكياته‪ .‬وتــوزع خمســون صحافيــا‬ ‫علــى يومــي املؤمتــر للحديــث عــن هذيــن‬ ‫املوضوعــن‪ .‬املؤمتــر افتتحــه كيــم دونــغ هــون‬ ‫رئيــس جمعيــة الصحفيــن يف كوريــا‪ ،‬بكلمــة‬ ‫عنوانهــا «حــان الوقــت الســتعادة الثقــة يف‬ ‫الصحافــة»‪ ،‬الــذي رحــب باملشــاركني يف مؤمتــر‬ ‫الصحفيــن العاملــي ‪« :2022‬تأسســت جمعيــة‬ ‫الصحفيــن يف كوريــا عــام ‪ 1964‬كأكبــر رابطــة‬ ‫للصحفيــن يف كوريــا‪ ،‬مــع حوالــي ‪ 11‬ألــف‬ ‫عضــو مــن ‪ 199‬شــركة إعالميــة يشــاركون‬ ‫يف أنشــطتها‪ .‬إن أحــد املبــادئ اخلمســة‬ ‫للجمعيــة هــو «مســاعدة بعضنــا البعــض‬ ‫وتعزيــز الروابــط مــع الصحفيــن اآلخريــن‬ ‫علــى مســتوى العالــم»‪ .‬تبعــا لذلــك‪ ،‬انضمــت‬ ‫جمعيتنــا الدوليــة إلــى احتــاد الصحفيــن‬ ‫يف عــام ‪ 1966‬ومنــذ ذلــك احلــن شــارك‬ ‫بنشــاط يف مجتمــع الصحافــة الدولــي‪ .‬علــى‬


‫‪88‬‬

‫ً‬ ‫تاريخــا‬ ‫التضامــن والتعــاون‪ ،‬لكــي يصنعــوا‬ ‫جديـ ًـدا للصحافــة والبشــرية‪.‬‬ ‫الشفافية أوال‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫مــن أوراق املؤمتــر كتبــت نــور اهلل داود‪،‬‬ ‫ماليزيــا‪ ،‬عــن التحــول يف مصــادر األخبــار‪،‬‬ ‫ـادا علــى‬ ‫وتأثيــر ذلــك علــى شــفافيتها اعتمـ ً‬ ‫الوســيلة التــي يســتخدمها الصحفــي‬ ‫ســواء كانــت صحيفــة أو بوابــة إخباريــة عبــر‬ ‫اإلنترنــت‪ ،‬وظهــور تيــار املؤثريــن الذيــن‬ ‫اعتمــدوا طرقهــم اخلاصــة لتغييــر اجملتمع يف‬ ‫عــدة جوانــب مثــل األيديولوجيــة السياســية‪،‬‬ ‫والثقافــة‪ ،‬والديــن‪ ،‬واالقتصــاد‪ ،‬والعالقــات‬ ‫الدوليــة‪ ،‬وأمنــاط احليــاة واجتاهــات املوضــة‪،‬‬ ‫وقد أصبحوا ً‬ ‫هدفا للسياســيني والشــخصيات‬ ‫العامــة لنشــر رســائلهم للجمهــور واملؤيديــن‪،‬‬ ‫بعــد إغــاق العديــد مــن الصحــف الســائدة‬ ‫اململوكــة للحكومــة احلاكمــة الســابقة وتقلص‬ ‫يف عــدد القــراء بعــد ظهــور عــدد كبيــر جـ ًـدا مــن‬ ‫بوابــات األخبــار املســتقلة ووســائل التواصــل‬ ‫االجتماعــي واملدونــن الذيــن ترعاهــم الدولــة‬ ‫يف البــاد‪.‬‬ ‫وكتبــت إلــن فيريــر‪ ،‬الفلبــن عــن ثالثــة‬ ‫أســباب تدفــع للتحقــق مــن األخبــار؛ «فنحــن‬ ‫دائمــا احلقائــق الكاملــة‬ ‫كبشــر‪ ،‬ليســت لدينــا ً‬ ‫أو الصــورة الكاملــة‪ .‬ولدينــا قيــود بشــرية‬ ‫طبيعيــة‪ .‬ال متكننــا مــن رؤيــة أو ســماع كل‬ ‫شــيء‪ .‬بغــض النظــر عــن مــدى اجتهادنــا‬ ‫يف البحــث والتحقــق‪ ،‬كمــا أننــا بصفتنــا‬ ‫صحفيــن ومراســلني أفــرادا‪ ،‬غال ًبــا مــا يتــم‬ ‫وصمنــا بالتح ّيــز‪ .‬لقــد تشــكلت عقولنــا مــن‬ ‫خــال مــا تعلمنــاه يف املدرســة‪ ،‬وتفاعلنــا‬ ‫ـاء‬ ‫مــع األســرة واجملتمــع‪ ،‬وأنشــأنا آراء بنـ ً‬ ‫علــى مــا قرأنــاه ومــا اختبرنــاه بأنفســنا‪ .‬ال‬ ‫دائمــا أن نكــون منفصلــن بشــكل‬ ‫ميكننــا‬ ‫ً‬ ‫موضوعــي عمــا نكتــب عنــه‪ .‬أخيـ ًـرا‪ ،‬وهــذا هــو‬ ‫الســبب األكثــر خطــورة بالنســبة لــي‪ ،‬محاولــة‬ ‫أصحــاب الشــركات التأثيــر علــى عملنــا»‪.‬‬

‫خطر الصحافة المجانية‬

‫ليســت املشــكلة احلقيقيــة يف بقــاء أو‬ ‫نهايــة الصحافــة الورقيــة‪ ،‬ولكــن يف فقــدان‬ ‫مصداقيــة املعلومــات الصحفيــة‪ ،‬والتــي ميكن‬ ‫أن تصبــح‪ ،‬أو أصبحــت إلــى حـ ّـد مــا بالفعــل‪،‬‬ ‫حقيقيــا ميكــن أن يغيــر اجملتمــع‬ ‫خطـ ًـرا‬ ‫ً‬ ‫بأكملــه‪ .‬هــذا مــا حتــدث بــه الفنــان اللبنانــي‬ ‫الفرنســي بالل بصل‪ ،‬الذي أشــار إلى دراســات‬ ‫أثبتــت اآلثــار الضــارة للصحافــة اإللكترونيــة‬ ‫علــى الصحــة اجلســدية والنفســية‪ ،‬وهــي ال‬ ‫تنعكــس يف مجتمعــات مع ّينــة بــل يف اجملتمــع‬ ‫العاملــي‪« :‬خــال إعصــار التغييــر اإللكترونــي‪،‬‬ ‫مــرت مهنــة الصحافــة باختبــار صعــب‪،‬‬ ‫خاصــة عندمــا أصبحــت متاحــة للجميــع‪،‬‬ ‫دون مســاءلة أو رقابــة‪ .‬يتطلــب مشــروع‬ ‫إنشــاء صحيفــة دراســات وميزانيــة ماليــة‬ ‫كبيــرة‪ .‬كمــا أن مــن أهــم أهدافهــا تأمــن دخــل‬ ‫الئــق للصحفيــن لتكريــس أنفســهم لكتابــة‬ ‫مقــاالت جــادة ومتعمقــة‪ .‬كيــف ميكــن لهــذا‬ ‫ـروعا آخــر يســعى إلــى‬ ‫املشــروع أن ينافــس مشـ ً‬ ‫إنشــاء صحيفــة إلكترونيــة ميكــن إصدارهــا‬ ‫مجا ًنــا؟ تأثــر اجملتمــع بظهــور آالف الصحــف‬ ‫اإللكترونيــة‪ .‬أصبــح «احملتــوى اجملانــي» هــو‬ ‫ـيوعا‪ ،‬ال ســيما بــن اجملموعــات‬ ‫األكثــر شـ ً‬ ‫املتوســطة والفقيــرة‪ ،‬والتــي متثــل املكــون‬ ‫الرئيســي يف معظــم اجملتمعــات‪ ،‬إن لــم يكــن‬ ‫كلهــا‪ .‬هنــا بــدأ اخلطــر احلقيقــي‪ ،‬ليــس ألن‬ ‫الصحافــة األصيلــة أو امللتزمــة لــم تعــد‬ ‫متاحــة للجميــع‪ ،‬بــل ألنهــا انصهــرت يف‬ ‫بحــر مــن الصحافــة اإللكترونيــة املشــبعة‬ ‫باألكاذيــب واملعلومــات املضللــة‪ .‬كان األمــر‬ ‫مروعــا‪ ،‬ولكنــه ســرعان مــا أصبــح أســوأ بكثيــر‬ ‫ً‬ ‫مــع ظهــور وســائل التواصــل االجتماعــي‪،‬‬ ‫والتــي ميكــن تســميتها بالتدمير االجتماعي‪،‬‬ ‫علــى الرغــم مــن كل مزاياهــا‪ .‬أصبــح معظــم‬ ‫مســتخدميها‪ ،‬عــن قصــد أو عــن غيــر قصــد‪،‬‬ ‫صحفيــن «رغم ـ ًا عنهــم»‪ ،‬يقومــون بتــداول‬ ‫األخبــار واملعلومــات والترويــج لهــا‪ ،‬متم ّنــن‬

‫أن يكونــوا بــا مصــدر‪ ،‬أو مســروقني أو‬ ‫مزيفــن‪ .‬املوضــوع األكثــر أهميــة للمناقشــة‬ ‫هنــا هــو أن الصحافــة اجلــادة كانــت ومــا تــزال‬ ‫مهنــة مرموقــة ومحترمــة مــن قبــل اجلميــع‪.‬‬ ‫ومــا يــزال بإمــكان الصحفيــن احلقيقيــن‬ ‫التغييــر والتأثيــر يف اجملتمعــات كمــا كان‬ ‫احلــال يف املاضــي‪ .‬لكــن الســؤال‪ :‬هــل مــا زالــوا‬ ‫قادريــن علــى تغييــر اجملتمــع أم أن اجملتمــع‬ ‫نفســه هــو الــذي يغيرهــم؟»‬ ‫قدرة الصحافة التحريضية‬

‫ورصــدت الفيتناميــة الن بــوجن قــدرة‬ ‫الصحافــة التحريضيــة علــى التغييــر‬ ‫االجتماعــي مــن خــال تقــدمي تقاريــر عــن‬ ‫موضوعــات متجــذرة بعمــق يف أذهــان النــاس‪:‬‬ ‫«علــى ســبيل املثــال‪ ،‬يف فيتنــام‪ ،‬يعــد عــدم‬ ‫املســاواة بــن اجلنســن مشــكلة طويلــة تأثــرت‬ ‫بالكونفوشيوســية والنظــرة اإلقطاعيــة‬ ‫لتفضيــل الذكــور‪ .‬يف املاضــي‪ ،‬كان الرجــال‬ ‫يلعبــون أهــم األدوار يف األســرة ولهــم القــول‬ ‫دائمــا‪ُ .‬ســمح للرجــال بالذهــاب إلــى‬ ‫الفصــل ً‬ ‫املــدارس بينمــا لــم ُيســمح للفتيــات بذلــك‪ .‬إن‬ ‫العامــل األســاس الــذي يدفــع تفضيــل األبنــاء‬ ‫بــن العديــد مــن األزواج متجــذر بعمــق يف‬ ‫الثقافــة التقليديــة‪ ،‬وقــد أدى ذلــك إلــى اختيــار‬ ‫ـائعا يف‬ ‫جنــس املولــود‪ ،‬وهــو أمــر مــا يــزال شـ ً‬ ‫اجملتمــع الفيتنامــي حتــى اآلن‪ .‬بأصواتهــم‪،‬‬ ‫شــارك الصحفيــون يف فيتنــام بنشــاط يف‬ ‫مكافحــة التمييــز بــن اجلنســن للدفــاع عــن‬ ‫حقــوق النســاء والفتيــات‪ .‬لقــد نظمــوا أو‬ ‫روجــوا خملتلــف األحــداث والدعايــة حــول عــدم‬ ‫املســاواة بــن اجلنســن مــن أجــل زيــادة الوعــي‬ ‫العــام لتغييــر ســلوكيات النــاس والدعــوة إلــى‬ ‫تعديل القوانني والسياســات ذات الصلة بشــأن‬ ‫هــذه القضيــة‪ .‬وتولــي جريدتــي (دانتــري)‪،‬‬ ‫وهــي صــوت وزارة العمــل واملعاقــن والشــؤون‬ ‫اهتمامــا كبيـ ًـرا‬ ‫االجتماعيــة الفيتناميــة‬ ‫ً‬ ‫حلمايــة حقــوق األشــخاص املســتضعفني مبــا‬


‫‪89‬‬

‫يف ذلــك النســاء والفتيــات‪ .‬يف العــام املاضــي‪،‬‬ ‫أطلقنــا مــع وكاالت األمم املتحــدة يف فيتنــام‬ ‫شــهر العمــل الوطنــي للمســاواة بــن اجلنســن‬ ‫ومنــع العنــف القائــم علــى النــوع االجتماعــي‬ ‫واالســتجابة لــه‪ .‬مت عقــد هــذا احلــدث يف‬ ‫الوقــت الــذي كشــفت فيــه التقاريــر أن جائحــة‬ ‫‪ COVID-19‬تســبب يف ارتفــاع يف عــدم املســاواة‪،‬‬ ‫حيــث عانــت النســاء والفتيــات أكثــر مــن عيــوب‬ ‫يف العامــن املاضيــن»‪ .‬كمــا عـ ّـددت اإلعالميــة‬ ‫الفيتناميــة قضايــا عملــت فيهــا الصحافــة‬ ‫كجهــة رقيــب عامــة للمســاعدة يف مكافحــة‬ ‫الفســاد واملطالبــة باملســاءلة مــن الســلطات‬ ‫احملليــة والكشــف عــن الكثيــر مــن قضايــا‬ ‫الفســاد يف فيتنــام مــن قبــل الصحفيــن‬ ‫االســتقصائيني احملليــن الذيــن ســاعدوا يف‬ ‫تزويــد اجلمهــور العــام باملعلومــات‪ ،‬ممــا يســمح‬ ‫مبطالبــة احلكومــات مبزيــد مــن الشــفافية‪.‬‬ ‫تغييب الصحافة الثقافية‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫الكاتــب واخملــرج الباكســتاني راهــول إعجاز‪،‬‬ ‫ر ّكــز علــى مجــال مــن مجــاالت الصحافــة التــي‬ ‫ال تؤخــذ علــى محمــل اجلــد يف باكســتان‪،‬‬ ‫وهــي الصحافــة الثقافيــة‪« :‬معظــم مــا يحــدث‬ ‫هنــا باســم الثقافــة‪ ،‬وخاصــة الصحافــة‬ ‫الســينمائية‪ ،‬ال ميكــن تســميته بالصحافــة‬ ‫علــى اإلطــاق‪ .‬ليــس مــن املســتغرب أنــه حتــى‬ ‫يف جميــع أنحــاء العالــم‪ ،‬تتعــرض الكتابــة‬ ‫عــن الثقافــة والســينما والفــن للقلــق أو شــيء‬ ‫ال يقــل أهميــة عــن السياســة أو الرياضــة‪.‬‬ ‫والكثيــر مــن ذلــك‪ ،‬صحفيــو الثقافــة ومنــط‬ ‫احليــاة جلبــوا علــى أنفســنا باختيــار نشــر‬ ‫قصــص حــول مــا ارتــداه هــؤالء املشــاهير علــى‬ ‫الســجادة احلمــراء أو مــن يواعــد مــن أجــل‬ ‫النقــرات والنجاحــات‪ .‬وهــذا هــو بيت القصيد‪.‬‬ ‫أنــت تطعــم النــاس القمامــة وســيبدأون يف‬ ‫النهايــة باإلعجــاب بالطعــم وســيريدون املزيــد‬ ‫منهــا‪ .‬ولكــن إذا قمــت بذلــك بشــكل صحيــح‪،‬‬ ‫وقــدم لهــم األطبــاق الشــهية يف وعــاء فضــي‪،‬‬

‫أو أعطهــم شــيئًا للتفكيــر فيــه أو حتديهــم‪،‬‬ ‫فإنهــم يطــورون طعمــه ببــطء وينمــوون‪».‬‬ ‫مــن أوزبكســتان حتــدث ديلمــورود‬ ‫جومابايــف عــن دور الصحافــة يف بــاده‪،‬‬ ‫الــذي تغيــر منــذ ‪ ،2016‬لضمــان حريــة‬ ‫التعبيــر والصحافــة هنــاك‪ ،‬لــذا اعتمــد ومــن‬ ‫أجــل تعزيــز اإلطــار التنظيمــي والقانونــي‬ ‫ـريعيا‪،‬‬ ‫ذي الصلــة‪ ،‬مت اعتمــاد ‪ 12‬قانو ًنــا تشـ ً‬ ‫ويجــري حتديــث مجــال اإلعــام ونظــام‬ ‫خدمــات املعلومــات بشــكل جــذري‪ ،‬وارتفــع‬ ‫عــدد وســائل اإلعــام املســجلة مــن ‪ 1514‬يف‬ ‫عــام ‪ 2016‬إلــى ‪ 1893‬يف عــام ‪ .2022‬شــاملة‬ ‫الصحــف (‪ ،)642‬واجملــات (‪ ،)482‬والقنــوات‬ ‫التلفزيونيــة (‪ ،)72‬ووكاالت األنبــاء (‪ ،)5‬كمــا‬ ‫أصبحــت صحافــة اإلنترنــت بشــكل متزايــد‬ ‫ـزءا مــن اجملتمــع يف أوزبكســتان‪ .‬وهكــذا‪،‬‬ ‫جـ ً‬ ‫فــإن ‪ 638‬مــن وســائل اإلعــام املســجلة‪ ،‬أو‬ ‫‪ ،33.7٪‬هــي مواقــع منشــورات علــى اإلنترنــت‪.‬‬ ‫يف أعقــاب سياســة الشــفافية واالنفتــاح‪،‬‬ ‫قامــت أوزبكســتان بتبســيط إجــراءات اعتمــاد‬ ‫الصحفيــن األجانــب بشــكل كبيــر‪ .‬هنــاك‬ ‫مــا يقــرب مــن ‪ 60‬مراس ـ ًلا معتمـ ًـدا لوســائل‬ ‫اإلعــام األجنبيــة يف البــاد‪ ،‬لتصبــح وســائل‬ ‫اإلعــام اليــوم يف أوزبكســتان هــي الصــوت‬ ‫احلقيقــي للشــعب‪ ،‬والتحـ ّوالت التــي ال ميكــن‬ ‫إنكارهــا‪ .‬ال ميكــن إخفــاء املعلومــات اليــوم‪،‬‬ ‫فهــي تنتشــر بحريــة وهــذا مرتبــط بشــكل‬ ‫مباشــر بحريــة التعبيــر‪.‬‬ ‫اخلبيــر اإلعالمــي البحرينــي حبيــب‬ ‫التومــي وصــف التحقــق مــن صحــة املعلومــات‬ ‫بأنهــا لعبــة قــط وفــأر تتغيــر باســتمرار بيئــة‬ ‫اخلــداع‪ ،‬بعــد ظهــور مجــرة جديــدة مــن‬ ‫االتصــاالت‪ ،‬والتطــورات التكنولوجيــة التــي‬ ‫تدمــج الصــور ومقاطــع الفيديو والتســجيالت‬ ‫الصوتيــة والنصــوص يف الرســائل ومــن خــال‬ ‫التقارير املقنعة املقدمة كحقائق يتم نشــرها‬ ‫بســهولة يف جميــع أنحــاء العالــم‪ ،‬لتعيــد‬ ‫تشــكيل وجهــات النظــر وتتحــدى التوقعــات‬

‫وتشــوش اجملتمعــات لســنوات عديــدة‪ ،‬كانــت‬ ‫الصحــف تعمــل بنفــس الطريقــة‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬ ‫هــذا الطريقــة التقليديــة إلنتــاج التقاريــر‬ ‫والصحــف تغيــرت بشــكل كبيــر مــع ظهــور‬ ‫مــا أصبــح يعــرف بصحافــة املواطــن؛ حيــث‬ ‫تتيــح الهواتــف الذكيــة للنــاس العاديــن‬ ‫إمكانيــة تســجيل التجمعــات العائليــة‪،‬‬ ‫واحلفــات الشــخصية واللقــاءات املمتعــة ثــم‬ ‫مشــاركتها‪ .‬وعندمــا جتــاوز النــاس مناســبة‬ ‫العائلــة واألصدقــاء‪ ،‬بــدأوا يف تســجيل‬ ‫احلــوادث واخلطــب العامــة وحــوادث الطــرق‬ ‫والظــروف اجلويــة غيــر العاديــة واألحــداث‬ ‫يف مدنهــم ومشــاركتها معهــم‪ .‬ليظهــر مفهــوم‬ ‫احملتــوى الــذي ينشــئه املســتخدم ويف النهايــة‬ ‫صحافــة املواطــن‪ ،‬التــي اكتســبت أهميــة‬ ‫جديــدة لفتــت انتبــاه الصحفيــن والعاملــن‬ ‫يف وســائل اإلعــام‪ .‬فبــدأت يف االعتمــاد أكثــر‬ ‫فأكثــر علــى اجلمهــور واحملتــوى الــذي ينشــئه‬ ‫املســتخدمون مــن أجــل محتــوى املوقــع‪ .‬ويف‬ ‫عصــر املنصــات اإلعالميــة احلزبيــة للغايــة‪،‬‬ ‫وكمــا شــهدنا خــال تفشــي املــرض مــن جائحــة‬ ‫‪ COVID-19‬وحاليــا احلــرب يف أوكرانيــا‪،‬‬ ‫اشــتعلت املنافســة علــى األخبــار العاجلــة‬ ‫وألعــداد أكبــر مــن املتابعــن واإلثــارة واملقــاالت‬ ‫اإلخباريــة الفاضحــة يف مخاطــرة باالندفــاع‬ ‫يف نشــر املعلومــات اخلاطئــة‪ ،‬واملعلومــات‬ ‫املضللــة‪ .‬وقــد اســتوجب ذلــك كلــه عــددا‬ ‫مــن التحد ِّيــات منهــا إيجــاد طــرق مناســبة‬ ‫للترويــج ألخالقيــات التحقــق مــن احلقائــق‬ ‫بــن الصحفيــن وتثقيــف املراســلني الشــباب‬ ‫حــول أهميــة التحقــق مــن احملتــوى قبــل‬ ‫النشــر‪ .‬ففــي مكافحــة املعلومــات املضللــة‪،‬‬ ‫يحتــاج مدققــو احلقائــق إلــى التأكــد مــن‬ ‫أن مشــاركة اجملتمــع النشــطة مــع ممثليــه‬ ‫اخلبــراء ‪ -‬األكادمييــن واملتخصصــن‬ ‫واألطبــاء‪ ،‬والعلمــاء والباحثــن مــن أجــل‬ ‫تعزيــز مصداقيتهــم‪ ،‬ويف النهايــة الفعاليــة‬ ‫يف تأكيــد اخلطابــات واحملتــوى‪ .‬اليــوم‪ ،‬تزدهــر‬


‫‪90‬‬

‫ملشــاكل اجملتمــع‪ .‬هــذا يحتــاج إلــى معرفــة‬ ‫أفضــل مكتســبة مــن خــال القــراءة املكثفــة‬ ‫والبحــث املســتمر‪ .‬وأن يكــون منفتــح الذهــن‪،‬‬ ‫يحتــرم أم اآلراء األخــرى دون قبــول املمارســات‬ ‫اخلاطئــة‪ ،‬وأن يســاعد ويتلقــى املســاعدة مــن‬ ‫العلــم أيضــا‪ ،‬فــا ينشــر حقائــق كاذبــة أو آراء‬ ‫مضللــة ضــد العلــم‪ ،‬وهــو خيــر مثــال علــى‬ ‫الثقــة والصــدق والرعايــة‪ .‬إذا وثقــت املصــادر‬ ‫بــك فإنهــا ســتقودك بالتأكيــد إلــى احلقيقــة‪.‬‬ ‫الصحفــي النزيــه ميكــن االعتمــاد عليــه‪.‬‬ ‫وسيشــعر الصحفــي املهتــم بالقــوة النابضــة‬ ‫للنــاس‪ .‬وال أظــن أن بــؤس بعــض األمم أكثــر‬ ‫مــن كونــه نتيجــة لبــؤس إعالمهــا وتبعيتهــا‬ ‫وفشــلها يف أداء الــدور املنــوط بهــا‪.‬‬ ‫الجدية هي الحل؟‬

‫رئيس جمعية الصحفيين في كوريا‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫مواقــع التحقــق مــن احلقائــق يف العديــد‬ ‫مــن البلــدان‪ ،‬وال ســيما يف الشــمال بأمريــكا‬ ‫وأوروبــا‪ ،‬وميكــن للمجتمــع واملؤسســات‬ ‫مســاعدة املواقــع علــى االزدهــار هنــاك وميكــن‬ ‫أن تســاعدهم علــى أن يكونــوا مســتقلني‬ ‫ويظلــوا مســتقلني مــن خــال جمــع األمــوال‬ ‫الكافيــة لدعمهــم وقيــام البرملانــات بســن‬ ‫القوانــن التــي تضمــن الشــفافية والتعــاون‬ ‫فيمــا بــن وســائل اإلعــام ووحــدات التحقــق‬ ‫مــن صحــة األخبــار واملنصــات الرائــدة‪.‬‬

‫أعــود إلــى (تــان تــان)‪ ،‬الــذي أرى أن تلــك‬ ‫الصــورة املثاليــة للصحفــي بأنــه رجــل العــدل‪.‬‬ ‫صــوت احلــق ويــد اجملتمــع‪ ،‬الــذي يجــب أن‬ ‫يكــون علــى درايــة بأنــواع االتصــاالت التقليدية‬ ‫واحلديثــة‪ .‬اجملتمــع قــد يقبــل فقــط أيــا‬ ‫منهــم‪ .‬وأن يذهــب إلــى مــا هــو أبعــد مــن إعــداد‬ ‫التقاريــر واألرقــام والرســوم البيانيــة‪ .‬ســيفهم‬ ‫اجملتمــع بشــكل أفضــل املعانــي وليــس تلــك‬ ‫األرقــام اجملــردة‪ .‬إنــه الباحــث اجليــد الــذي‬ ‫يســعى إلــى تغييــر مــن أجــل حلــول أفضــل‬

‫يجــب أن نكــون أكثــر جديــة‪ .‬أنــا لســت‬ ‫ضــد الصحافــة الترفيهيــة‪ ،‬لكننــي ال أشــجع‬ ‫الصحافــة اإللهائيــة أو التــي تشــتت االنتبــاه‪.‬‬ ‫لــم تعــد قضايــا تغيــر املنــاخ مصــدر قلــق فقــط‬ ‫حرفيــا تهــم‬ ‫للــدول الغنيــة أو املتقدمــة‪ ،‬لكنهــا‬ ‫ً‬ ‫اجلميــع‪.‬‬ ‫هــذه القضايــا هــي جــزء أســاس مــن حياتنــا‬ ‫اليوميــة‪ ،‬والتــي تخضــع بالكامــل لقضيــة‬ ‫املناخ‪ .‬يف الصحة والتعليم واالقتصاد‪ .‬لذلك‬ ‫مــن املهــم أن يشــارك اجلميــع يف االهتمــام‬ ‫مبنــاخ األرض والعمــل علــى حمايتــه‪ .‬يتمثــل‬ ‫دور الصحفــي اجل ّيــد يف تضمــن هــذا املوضــوع‬ ‫يف أدبياتــه املكتوبــة بطريقــة علميــة ومفهومــة‬ ‫للجميــع‪.‬‬ ‫اجلديــة هــي املفتــاح لزيــادة الوعــي بتغيــر‬ ‫املنــاخ‪ ،‬مــن بــن القضايــا األخــرى التــي لــم‬ ‫تأخذهــا الصحافــة علــى محمــل اجلــد‪ .‬إنــه‬ ‫جميعــا‪ ،‬الــذي‬ ‫املوضــوع األساســي بالنســبة لنــا‬ ‫ً‬ ‫يجــب تناولــه بعــدم اإلهمــال أو االســتخفاف؛‬ ‫ميكننــا أن نضيــف بصراحــة العنصريــة‬ ‫والبلطجــة واالحتــرار وغيرهــا مــن القضايــا‬ ‫احليو يــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فارقــا‪ ،‬حيــث‬ ‫ُي ْحـ ِـدث الصحفــي اجليــد‬ ‫ومهمــا لتغييــر حيــاة النــاس‬ ‫ـادا‬ ‫يفعــل شــيئًا جـ ً‬ ‫ً‬ ‫لألفضــل‪ ،‬وقيــادة التغييــر االجتماعــي خللــق‬ ‫تفاعــل متسلســل‪ ،‬ميكــن النــاس مــن خــال‬ ‫تثقيفهــم ‪.‬‬


‫‪91‬‬

‫ا ّتحــاد‬

‫سوناتات‬ ‫ميساء املومني‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ـاض وال‬ ‫أخـوض معـك اليـوم جترب ًـة خـارج تخـوم الوقـت‪ ،‬فلا م ٍ‬ ‫قمـة تدفقـه‪ ،‬أعلـى ذبذباتـه‪ ،‬أسـمى معانيـه‪..‬‬ ‫مسـتقبل‪ .‬حيـث احل ّـب يف ّ‬ ‫هنا حتديدا ال انفصال‪ ،‬ال انفراد وال نقصان‪.‬‬ ‫أنا وأنت والكون روح واحدة‪ ،‬نحقق الوجود الكامل!!‬ ‫اتاد احلال‪ ،‬اكتمال اجلمال‪ ،‬حتقّ ق ُ‬ ‫املال‪ ،‬تسامي اخليال‬ ‫باحلب ّ‬ ‫وانصهار التص ّور لتحيا جوهرة البصيرة اخلالدة‪.‬‬ ‫إذن‪..‬‬ ‫تكسر من ظاللك‪.‬‬ ‫كن أنت الشمس‪ُ ،‬أكن احتفاء ال ّربى‪ ،‬أمللم ما ّ‬ ‫كـن سـكون الدجـى‪ ،‬أتسـلل إلـى قلبـك هاجسـا ممتلـئ الوفـاض؛‬ ‫يتشـكّ ل طينـي قصيـدة ليلكيـة باقترابـك‪.‬‬ ‫كن فسيح البحر أكن موجه اجملنون أسعى بني حلاظك‪..‬‬ ‫دميتـك‪ ،‬وسـماء حتتضـن‬ ‫كـن الصحـراء والفيحـاء ُأكـن القطـر مـن ِ‬ ‫غمامـك‪..‬‬ ‫الصيف وأجراس‬ ‫كن بذر ًة شتوية اختبأت يف القلب جنينا‪ ،‬أكن غمار ّ‬ ‫السنابل‪.‬‬ ‫كـن الريـح والـراح واألقـاح‪ ،‬أكـن املـدى والنـدى وصدى كل ما يف روحك‬ ‫ماثل‪...‬‬ ‫اآلن‪..‬‬ ‫أد ّر ُب هـذا الفائـض مـن الوقـت كيـف ميتلـئ بـك يف غيابـك‪ ،‬ألقّ ـن‬ ‫املسـاحات اخملصصـة لـك كيـف تظـلّ مشـغولة بتلميـع النوافـذ‪ ،‬لتبـدو‬ ‫زهـور القرانيـا أكثـر متايلا يف ضـوء أقمـارك‪.‬‬ ‫يااا لتباشير الفجر التي تهلّ بـ مع ّيتك‪!!...‬‬ ‫يـاا الحتادنـا معـا‪ ،‬إذ نض ّيـع أنفُ َسـنا لنلتقـي يف حلـم ُتشـرق عليـه‬ ‫أنفاسـك‪!!...‬‬ ‫طلعتُ ـك‪ ،‬تكسـوه‬ ‫ُ‬


‫‪92‬‬

‫نقوش إبداعية‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أب نموذجي‬

‫فاطمة إحسان‬

‫قصيدة النثر‬

‫سامل الهاشمي‬

‫ثالث قصائد شاردة‬

‫أحمد الرمضاين‬

‫وصفة قديمة‬

‫عائشة سليامن‬

‫تمرين على الموت‬

‫سارة عيل‬

‫في الصباح‬

‫عالء الدين الدغييش‬

‫قصيدتان‬

‫عبدالرحمن سيد‬

‫أزرق شاسع‬

‫أحمد العلوي‬

‫مفتاح الخالص‬

‫محمد الحرايص‬

‫عزيز‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫غنية الشبيبي‬

‫القادم من الزرقة‬

‫لبيد العامري‬


‫‪93‬‬

‫ُع َمـــان‪ ،‬ومنـــذ قرون ســـحيقة‪ ،‬حتى اليوم وهـــي تلد التجـــارب اإلبداعية التي‬ ‫تســـتحق االلتفات إليهـــا‪ ،‬رغم نأي العديد مـــن التجارب الجادة عـــن األضواء‪ ،‬إال‬ ‫وأحقيتها في البقـــاء والخلود‪.‬‬ ‫أن التاريـــخ‪ ،‬المغربـــل األكبـــر‪ ،‬لم يبخس أهميتهـــا‬ ‫َّ‬ ‫ومـــن هنـــا ســـعينا في هـــذا الملف إلـــى أن نحشـــد التجـــارب اإلبداعيـــة األدبية‬ ‫العمانيـــة الجديـــدة‪ ،‬محاوليـــن أن نمـــزج بيـــن الجديـــة والحداثـــة (أي االشـــتغال‬ ‫الجـــدي علـــى األســـاليب الحديثة فـــي الكتابـــة التي تتناســـب مع هـــذا العصر)‪.‬‬ ‫مـــع اإلشـــارة إلـــى أن هـــذه الباقة من األســـماء والتجـــارب اختيرت على ســـبيل‬ ‫المثـــال ال الحصـــر‪ .‬والجديـــر بالذكـــر أن بعـــض األســـماء اعتذرت عن المشـــاركة‬ ‫لعدم توافر لديهم‪ ،‬حاليا‪ ،‬نص للمشـــاركة‪ ،‬كبشـــائر الســـليمي‪ ،‬عهود األشخري‪،‬‬ ‫أســـماء الشامسي‪ ،‬ســـالم الرحبي‪.‬‬ ‫حيـــن أخبرنـــي الشـــاعر الصحفي صدام فاضـــل برغبة هيئة تحريـــر مجلة “نقش‬ ‫الثقافيـــة” وقرارهـــا بتخصيـــص هـــذا الملـــف للتجـــارب اإلبداعيـــة الجديـــدة من‬ ‫ســـلطنة عمـــان خاصـــة التجـــارب التي لـــم تحصل على فرصـــة للظهـــور‪ ،‬ومن ثم‬ ‫اقتـــرح إلـــي مهمـــة العمـــل عليه‪ ،‬كنـــت أقول فـــي نفســـي أن أغلـــب المبدعين‬ ‫العمانييـــن لـــم يحصلـــوا علـــى حقهـــم فـــي الظهـــور‪ ،‬ال أعلـــم إن كان الموقـــع‬ ‫الجغرافـــي أو البيئـــة االجتماعيـــة والسياســـية التـــي ال تعطـــي المبـــدع ذلـــك‬ ‫تقيده وتصارعـــه‪ ،‬أو قد يعـــود إلى تكوين‬ ‫االهتمـــام الـــازم‪ ،‬بـــل على العكـــس ِّ‬ ‫المبـــدع العمانـــي نفســـه‪ ،‬أو أمـــور أخـــرى أغفلت عنها هـــي ما تؤثـــر في ظهور‬ ‫وانتشـــار الكاتـــب العماني عربيا على األقـــل‪ ،‬على عكس المبدعيـــن في البلدان‬ ‫العربيـــة األخـــرى‪ ،‬مـــا يجعلنا نعـــود ونشـــغل أذهاننا فـــي فرضية جديـــدة وهي‬ ‫تأثيـــر المركـــز والهامش على بـــروز وانتشـــار اإلبـــداع المبدعين‪.‬‬

‫ُمفتتح‬ ‫لبيد العامري‬

‫فـــي حين نســـتهل نصـــوص هـــذا الملف في قســـم “نصـــوص شـــعرية” بنص‬ ‫“أب نموذجي” لفاطمة إحســـان بتجربتها األســـبق‪ ،‬أضف أيضا في هذا القســـم‬ ‫ٌ‬ ‫بنص بعنوان “قصيدة النثر” لســـالم الهاشـــمي‪ ،‬و “ثالث قصائد شـــاردة” ألحمد‬ ‫ٌ‬ ‫“تمرين على الموت” لسارة‬ ‫“وصفة قديمة” لعائشـــة ســـليمان‪ ،‬و‬ ‫الرمضاني‪ ،‬و‬ ‫ٌ‬ ‫علـــي‪ ،‬و “فـــي الصبـــاح” لعـــاء الدين الدغيشـــي‪ ،‬ثـــم “قصيدتان” لعبـــد الرحمن‬ ‫سيد ‪.‬‬ ‫نصـــا بعنوان “أزرق‬ ‫بينما في قســـم النصوص الســـردية يكتب أحمـــد العلوي ً‬ ‫شاســـع”‪ ،‬يليه “مفتـــاح الخالص” لمحمـــد الحراصـــي‪ ،‬و “عزيز” لغنية الشـــبيبي‪،‬‬ ‫ثـــم “القادم مـــن الزرقة” لكاتب هذه المقدمة (أكتب الشـــعر بشـــكل رئيســـي‪،‬‬ ‫إال أننـــي أكتـــب القصـــة القصيـــرة فـــي بعض األحيـــان‪ ،‬وهـــو ما تطلـــب على أن‬ ‫أكتبهـــا فـــي هـــذا الملف لمحاولـــة الموازنة بيـــن عدد نصوص القســـمين)‪.‬‬

‫آمـــا أن تســـتمتعوا وتحلقـــوا معها إلى‬ ‫ً‬ ‫ندعكـــم اآلن مـــع نصـــوص الملـــف‪،‬‬ ‫عوالمهـــا المختلفة‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫وهنـــا أعتـــذر إذا لـــم أذكـــر أحد األســـماء األخرى مـــن الجيل الجديد‪ ،‬األســـماء‬ ‫التـــي تســـتحق الحضـــور‪ ،‬أعتـــذر منهـــا شـــخصيا‪ ،‬فذاكـــرة اإلنســـان محـــدودة‬ ‫واألســـماء والتجـــارب كثيـــرة وتتكاثر‪ .‬وهـــذا ال يعني أنهـــا ال تســـتحق التواجد‪.‬‬


‫نصوص‬ ‫‪ 94‬شعرية‬

‫أب نموذجي‬ ‫ٌ‬ ‫ألسباب تبدو جليةً‬ ‫كثبات عينيك في خضم أيامي‬ ‫أختار نبتة داكنة الخضرة‬ ‫ُ‬ ‫شح الماء والضوء‬ ‫من عائلة‬ ‫تحتمل ّ‬ ‫لتدلّني على جهة الريح‬ ‫في الحجرة المكتومة‬ ‫ربما ليس ذنبي هذه المرة‬ ‫أقول للموجة التي تنشطر بداخلي‬ ‫ُ‬ ‫ينهش النبات الساكن‬ ‫بينما االصفرار‬ ‫كطفولة تتآكل في العتمة‬ ‫ٍ‬ ‫رغم أنِّي لم أخطئ جرعة الماء‬ ‫وحصة الضوء‪.‬‬ ‫ّ‬

‫فاطمة إحسان‬

‫أشبه بذلك ّ‬ ‫كل اآلباء‬ ‫ُ‬ ‫يأس يحرق شموعًا‬ ‫ٌ‬ ‫ال يعرف فتي ُلها رائحةَ الضوء‬ ‫ٌ‬ ‫ظمأ يوغل في ظلمة البئر‬ ‫سراب‬ ‫الماء‬ ‫فيما‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫سحابة تتوه‬ ‫واألفق‬ ‫تجري نحو الماضي‬ ‫كحصان أعمى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عيناي تتبعان االستدارة المثالية ألظافرك‬ ‫وأنت تقول‪:‬‬

‫سنرميها خارجًا‬ ‫لست مقتنعة‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬ ‫بأن هذا هو الخيار الوحيد‪.‬‬ ‫ثمة ما هو مقنعٌ‬ ‫بأن برعم ِا غير مرئي‬ ‫سيعيد للجذع روحه المعطوبة منذ البدء‪.‬‬ ‫بأن صانع تحف ماهر سأتعرف عليه يومًا ما‬ ‫سيعيد البرواز المكسور‬ ‫إلى وجهه القديم؛‬ ‫وجهي في صورة يتيمة‬ ‫تبتسم باعتدال‪.‬‬ ‫لعله مقنعٌ‬ ‫أن جهاز الذاكرة الذي قرر بغتةً‬ ‫أن يمحو صوري كلها‬ ‫قبل عشر أعوام‬ ‫الدرج‬ ‫سيستعيد ذاكرته إذا ما بقي في ُ‬ ‫لعشر أعوام أخرى‪.‬‬ ‫ما الذي يبقى لو لم ُأصدق‬ ‫بسر ّية مثيرة للضحك‪-‬‬‫أن هذا الجري المحموم‬ ‫باتجاه المنحدر‬ ‫لن يصادف قمةً واحدة؟‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫نصوص‬ ‫شعرية‬

‫‪95‬‬

‫قصيدة النثر‬ ‫قصيدة النثر‪،‬‬ ‫جرس األقمار‪،‬‬ ‫خفقة الصدر‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫جرس الزمان‪،‬‬ ‫خفقة الروح‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫تغنج‬ ‫خفقة الكلمات‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كيف أكتبها؟!‬ ‫ٌ‬ ‫بياض كثيف‪،‬‬ ‫ثلج الكون‪،‬‬ ‫في ِ‬ ‫كيف يكتبها؟!‬

‫سامل الهاشمي‬

‫الصحراء‬ ‫تركض في‬ ‫ِ‬ ‫اإليقاع خافت‪،‬‬ ‫مثل ضحكة األطفال‬ ‫قصيدة النثر‬

‫يدمنها ُعشاق الليل‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫هادئة هادئة‪،‬‬ ‫مثل الرذاذ الذي‬ ‫يسقط‬ ‫على زجاج النافذة‪.‬‬


‫نصوص‬ ‫‪ 96‬شعرية‬

‫ثالث قصائد شاردة‬ ‫‪ - 1‬قلق بارد‬

‫كانت تثقب الروح‬

‫ظن أنه ض ّيع البوصلة‬ ‫أنا الذي َّ‬

‫وتصيب الليل بالدوار‬

‫وجدت الوجهة في التيه‬ ‫ُ‬

‫عباءات الرأس السوداء تم ّر كل ليلة تضم‬

‫أحرقت كتبا وقصائد‬

‫كنت بينهم ‪ -‬إلى رؤوس الجبال‬ ‫أطفاال ‪ -‬ربما‬ ‫ُ‬

‫شمس على حائط‬ ‫وبجوار بقع‬ ‫ٍ‬

‫يظل النواح يهيم على وجهه‬

‫ترجلت للمرة األخيرة‬ ‫ُ‬

‫ّ‬ ‫كل م ّرة حينما يبزغ الفجر‬

‫دسست قصاصة‬ ‫الحائط الذي في ثقبه‬ ‫ُ‬

‫وريقي اليابس‬ ‫أتحسس األرض الرطبة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫المتنبي‪( :‬على قلق كأن الريح تحتي)‬

‫وعلى أغصان السمرة‬

‫وألني أمشي حافي القلب منذ دفنت أمي‬

‫ثياب أطفال ممزقة‬

‫لم ألتفت ولم أتلفت‬

‫أحمد الرمضاين‬

‫كلبي الذي ال ينبح‬ ‫القلق‬ ‫أصبح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫ريح باكية‬ ‫‪ٌ -3‬‬

‫والزمن‬

‫‏في الليل‬

‫ً‬ ‫ديكا يصيح في الظهيرة‬

‫يعيد الكون ترتيب فوضاه‬

‫فلتعو الريح‬ ‫ِ‬

‫المجرات تكنس الفضاء‬

‫ولتقم الحروب‬ ‫ِ‬

‫العطر المنسي يعود إلى حضن الوردة‬

‫مت بندقيتي المحشوة بأظافر قضمتها‬ ‫س ّل ُ‬

‫والكلمات الشاردة إلى القصيدة المؤجلة‬

‫في طفولتي‬

‫الندى إلى خدود الزهر‬

‫وكتبت قصيد ًة في جبل‬

‫وقطط شقية تنهي شجارات عالقة‬

‫ال ينحسر الثلج عن قمته‬ ‫وحدهم جنراالت الحرب ال يستطيعون العودة‬ ‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫‪ - 2‬مقبرة شخصية‬

‫إلى أنفسهم‬

‫أنا وأشجار السمر في المقبرة‬

‫يتوسدون أشباح قتالهم‬

‫طالما أرهفنا السمع‬

‫جماجمهم طواحين‬

‫لشواهد القبور واألغاني الحزينة آخر الليل‬

‫والريح بكاء يتامى‬

‫قطرات الضوء التي نسيها القمر مفتوحة على‬

‫في ليل حارق‬

‫البرزخ‬


‫نصوص‬ ‫شعرية‬

‫‪97‬‬

‫ٌ‬ ‫وصفة قديمة‬

‫سليامن‬ ‫عائِشة ُ‬

‫تشدك‬ ‫أشياؤك العالقة فيك‬ ‫ّ‬

‫عينيك‬ ‫يطير بجناحين ِل‬ ‫أو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫لألسفل‪ ،‬للقاع‪ ،‬للسقوط دائما‪.‬‬

‫يحرقهما‬

‫َ‬ ‫فمك‬ ‫البكاء العالق ِفي‬ ‫ُ‬

‫له طعم الملح‬ ‫ُ‬

‫المتكدس في بلعومك‬ ‫ّ‬

‫الحب‪.‬‬ ‫وطعم‬ ‫ّ‬

‫ْامضغه‪ ،‬كما تمضغ ُلقمتك‪.‬‬

‫لون له‬ ‫ال َ‬

‫ق ّلبه بلسانك‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وجهك‬ ‫يعرف كيف‬ ‫لكنه‬ ‫ُ‬ ‫يترك ْ‬

‫س ُه إن استطعت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تحس ْ‬

‫ممتقعا‬ ‫ً‬

‫ارسم له صورة‪ ،‬وع ّلقها بمسما ٍر على جدار‬

‫ُم َج ّعدا‬

‫غرفتك‪:‬‬

‫ضام ًرا‬ ‫ِ‬

‫كتلة سوداء مترهلة دبقة‬

‫ُ‬ ‫اآلخرين َ‬ ‫عنك‪:‬‬ ‫يعرف كيف ُيخبر َ‬

‫بمخالب طويلة شفافة‬

‫تق ْطه قبل‬ ‫ٌ‬ ‫يد ِلت ْل ِ‬ ‫يسقط‪َ ،‬ف ْل َت ْم َت ْد ٌ‬ ‫حزين‪ ،‬يكاد ْ‬

‫ُ‬ ‫يسبح‬ ‫يزحف‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬

‫االرتطام‪.‬‬

‫يتمدد ويغور‬ ‫يلتصق بالجلد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫البكاء العالق والمنغرس في فمك‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ُيسبب ّ‬ ‫حكة عواء في أغلب األوقات‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لسانك‬ ‫يلوكه‬ ‫يعرف كيف‬ ‫ُ‬

‫نبت بثرة قبيحة في جبينك العريض‬ ‫أو ُي ُ‬

‫بالقوة‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫ال تنتزعه‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫شفتك العليا‬ ‫أو يغرسها_تلك البثرة_ في‬

‫َ‬ ‫كتفك‬ ‫احمله للشاطئ فوق‬ ‫ُ‬

‫ويترك بابك‪ ،‬نافذتك‪ ،‬كوبك‪ ،‬مرآتك‪ ،‬وأثوابك‬

‫سر به الهوينا‪،‬‬ ‫ْ‬

‫َ‬ ‫معك وهي تمضي لحتفها‪،‬‬ ‫يراقبونها‬

‫ثقيل بالكاد تحمله‬

‫يوم آخر‪.‬‬ ‫قبل العودة من جديد في ٍ‬

‫اتركه فوق موجة‪،‬‬

‫يجلس في فمك‬ ‫ُ‬

‫مبتعدا َ‬ ‫عنك‪.‬‬ ‫وراقبه كيف ُيبحر‬ ‫ً‬

‫العدد ‪ - 4‬يناير فبراير ‪ 2022‬م‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ينزلق بعض المرات لبلعومك‬ ‫ُ‬


‫نصوص‬ ‫‪ 98‬شعرية‬

‫تمرين على الموت‬ ‫ٌ‬

‫سارة عيل‬

‫لم تكن تلك محاولتك األولى‬

‫وإذا ما هممت بإغالق بقية األزرار‬

‫الرتداء ارتجافة البحر‪.‬‬

‫ينسدل الغروب‬

‫البحر‪ ،‬هندامك األزرق‬ ‫ُ‬

‫فتطغى على صدرك رغبة متوحشة للبكاء‬

‫الواسع‪ ،‬الغاصب‪ ،‬والسخي‬

‫هذه المرة‪ ،‬أنت ال تناجي البحر‬

‫تشعر بملوحة أيام حياكته على جسدك‬

‫البحر يناجيك‬

‫ثم تتحسس على صدرك زرا مفقودا‬

‫لكنك تقرر أن تكون فظا‬

‫ثقبا أسود‬

‫جرح موارب‬ ‫تهم بتعليقه على مشجب‬ ‫ٍ‬

‫سفن من حنين‬

‫فتنتبه لشرخ عند الكتف األيمن‬

‫تسمع أنين مساميرها الصدئة بعيدا‬

‫ثقبا أسودا آخر‬

‫أناشيد قديمة لبحارة عاشقين‪ ،‬وموتى‪.‬‬

‫وإذ كان الثقب كبيرا جدا‬

‫وحين تهب ريح شمالية باردة‬

‫يسقط القميص‬

‫تلحظ فجأة عند معصمك‬

‫فيتدفق البحر من كل جهات أحالمك‬

‫خيوطا متهدلة تئن‬

‫وتهوي غرقا‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫نصوص‬ ‫شعرية‬

‫‪99‬‬

‫الصباح‬ ‫في ّ‬

‫عالء الدين الدغييش‬

‫كنت وحيدا‬

‫بئر سحيقة‬

‫حين هبط الفجر بغتة‬

‫ال يصلها الضوء‬

‫يصرع ضوؤه الحلكة الجاثمة‬

‫*‬

‫في روحي‬

‫سألت اهلل‪..‬‬

‫*‬

‫وفي الصباح‬

‫كان الهـواء يراقـص موسـيقى جداجـد القفر‬

‫كان أصدقائي‬

‫الدؤوبة‬

‫يعبرون بوابة القلب المشرعة‬

‫لكن نسمةً واحدة‬

‫*‬

‫لم تعبر هذا القلب‬

‫الضوء‬

‫*‬

‫األرواح المائية‬

‫ثلج كثيف‬

‫األصدقاء‬

‫يهرش صدري‬

‫*‬

‫*‬

‫كم ضوءا يعبر القلب‬

‫األيام التي تلت اخضرار الروح‬

‫لتنقشع قشعريرة الوحدة؟‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫نصوص‬ ‫‪ 100‬شعرية‬

‫قصيدتان‬ ‫‪ - 1‬سمفونية الضفادع‬

‫القمر االستالبي الذي‬ ‫بينما‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫ناعم‪ ،‬ناصع الصوت‬ ‫جوف الماء‬ ‫ٌ‬

‫يشبه مشاعر تتالشى‬ ‫ُ‬

‫فائض الصمت‪..‬‬

‫شخص ما‬ ‫من جوف‬ ‫ٍ‬

‫موجزٌ في البياض‬ ‫سه ٌب في السواد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُم ِ‬

‫يتثاءب من بين السحاب الطفيف‬

‫أصوات الفتة للسمع‬

‫تضاؤل ملحوظ‬ ‫في‬ ‫ٍ‬

‫خارجة من صدر الماء‬

‫مزاج الطبيعة‬ ‫وفق‬ ‫ويهادن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬

‫نقيق نقيق نقيق‪..‬‬

‫جيوش الظالم‪...‬‬

‫كأنّها تحاول أن تبلغ روضة المعنى‬

‫عبد الرحمن سيد‬

‫غدا‬ ‫وتقول‪ :‬إن هذا العالم‪ ،‬سوف‬ ‫ُ‬ ‫يموت ً‬

‫حزمة الضوء النائمة فوق وجه الماء‬ ‫إلى‬ ‫ِ‬

‫إن هذا العالم سوف يموت اليوم‬

‫أمل‬ ‫أَ ِج ُر يدي على حذ ٍر‪ ،‬على مهل‪ ،‬على ٍ‬

‫أو تب ِّلغ األشياء بأن ثمة خطرا ما‬

‫ألمسك بها…‬

‫قادم من بعيد‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫على أمل أن تصنعني األشياء من جديد‬ ‫قيثارة‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫محكوم‬ ‫تناغم ملتهب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫زورق‬

‫صعب التفكك‬ ‫وصلب‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ُأفق‬

‫تصنعه الضفادع الخضراء‬ ‫ُ‬

‫راية‬

‫بأنها عالقة‬ ‫فق المكان‪ ،‬يوحي للروح‬ ‫ّ‬ ‫في ُأ ِ‬

‫فوضى‬

‫مخارج الطبيعة ومداخلها‬ ‫في‬ ‫ِ‬

‫قصيدة‬

‫وألن الساعة هي الثانية عشر‬ ‫ّ‬

‫ٌ‬ ‫ُرم ُم ُـه وتُدميـه‪ .‬أو‬ ‫بعشـر‬ ‫أبـدي‪،‬‬ ‫عاشـق‬ ‫أغـان ت ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬

‫تجر جسدها البرتقالي‬ ‫فاألضواء ُ‬

‫شـعب وأناشـيد‬ ‫ثـورة‬ ‫ٍ‬

‫بشكل مائل الى اليسار‬ ‫تسحبه‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أحشاء عواميد ضوء الشارع‬ ‫من‬ ‫ِ‬

‫أنصت‪ ،‬ثم أنصت‬ ‫تُحيلني إلى‪ ..‬وأنا‬ ‫ُ‬

‫َ‬ ‫شكل الماء‬ ‫بحيوية ملساء‪،‬‬ ‫وتخط بها‬ ‫ٍ‬

‫له من إيقاع‪..‬‬ ‫يا ُ‬


‫نصوص‬ ‫شعرية ‪101‬‬

‫جـف نهـري أيتهـا األحصنـة البيضـاء الراكضة في‬ ‫آه يا صيحة الوقت‪..‬‬ ‫ٍ‬

‫صدري‬

‫آه من عمري الفارغ المآلن‬ ‫ٍ‬

‫َ‬ ‫قبل جسده‬ ‫الحرية بروحه‬ ‫كمن‬ ‫ُ‬ ‫يركض نحو ُ‬

‫االوهام‬ ‫يقايض‬ ‫الذي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫دخل النبعُ إلى الجوف ثانيةً‬

‫أم ً‬ ‫قارضا عتيقً ا‬ ‫ال في أن يكون‬ ‫ً‬

‫مثلما يدخل المرء لسانه في فمه‬

‫للكلمات األبدية‬

‫البراعم نوافذها‬ ‫أغلقت‬ ‫ُ‬

‫‪ - 2‬األحصنة البيضاء‬

‫وهاجرت العصافير دفعةً واحدة‬

‫أيتهـا األحصنـة البيضـاء الراكضـة فـي صـدري‬

‫فاألملوج الطري‪ ،‬ما عاد طر ًيا‬

‫صبـاح مسـاء‬ ‫زلـت تعتقديـن‬ ‫زلـت طامحـةً فـي المرعـى‪ ،‬أمـا ِ‬ ‫أمـا ِ‬

‫ليس ثمة خيارات أرحب للموت أو الحياة‬

‫ثمـة منبـعٌ للضـوء‬ ‫بـأن ّ‬

‫ثمة فؤوس تقتطع االشجار‬

‫مكان ما‬ ‫مخبأ هناك في‬ ‫ٍ‬

‫جرافات ومزارعون‬ ‫عمال مناجم‬

‫رغم أن الحقول هناك‬

‫أبخرة مصانع‬

‫سحقتها الحشرات‬

‫وأحصنة سوداء مقتولة‬

‫بمناشيرها الصغيرة والرفيعة‬

‫ُ‬ ‫تعبث باألحشاء كيفما شاءت‬ ‫وأنامل شيطانية‬

‫أنك لن تبصري الضوء ما حييت‬ ‫رغم ِ‬ ‫َ‬

‫فال تقولي لي بعد اآلن‬

‫ولن تتنفسي هواء طيبا ما حييت‬

‫عابر‪..‬‬ ‫لم‬ ‫ولو في ُح ٍ‬ ‫ٍ‬

‫رغم أن الغيوم في قطيعة دائمة‬

‫زلت حالمة في المرعى‬ ‫بأنك ما ِ‬

‫بالخوف والغياب‬ ‫مع سمائي المضرجة‬ ‫ِ‬

‫بالبنادق‬ ‫ندي‬ ‫كما‬ ‫الج ُّ‬ ‫يحلم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬

‫بعيدا‬ ‫والفراشات تنأى بألوانها وأجنحتها‬ ‫ً‬

‫الموت‪..‬‬ ‫أو بعناقيد‬ ‫ِ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ال تفارقين صدري‬

‫شر‬ ‫أزها ُر ٍ‬


‫نصوص‬ ‫‪ 102‬سردية‬

‫أزرق شاسع‬

‫أحمد العلوي‬

‫حتلـق النـوارس فـوق األزرق الشاسـع املمتـد بلا نهايـة‪ ،‬لكنـهُ انتظـار يعبـأ‬ ‫مـن زرقتـه قلقـي‪ ،‬يعيـد كل صـور املسـاملة قبـل أن يصبـح نـدا يأجـج اضطرابـه‬ ‫داخلـي‪ ،‬صغـارا لعبنـا علـى شـاطئه وغطسـنا أمـام امتـداده ال نرنـو إلـى اخلـط‬ ‫الذي يندمج معه باألفق‪ ،‬ركضنا خلف النوارس التي تعيد سيرة فزعها إلينا‬ ‫يف خوفنـا أال نتقـن الطيـران مثلهـا‪ ،‬حلظـة ثورتـه ومت ّـدد لونـه إلـى أجسـامنا‪،‬‬ ‫نحـن مـن ينتظـر كل األمانـي التـي تسـبح يف لونـه‪ ،‬أنـا مـن يقلـق كلمـا ركب ُـت‬ ‫مـاءه مقامـرا بنجاتـي‪ ،‬محـاوال ربـح كنـزه‪.‬‬ ‫يعيـد عل ّـي األزرق الشاسـع حكايـا األولين ممـن تـواروا خلـف أفقـه ولـم‬ ‫يعـودوا‪ ،‬يعيـد سـيرة امللـوك واملغاويـر الذيـن صعـدوا إلـى أفقـه وعـادوا محملين‬ ‫بـكل األحلام التـي حتققـت وبقصـص يتلونهـا كلمـا غابت شـمس شـطآنه‪ ،‬هذا‬ ‫البحـر املسـكون بوجـع االنتظـار كلمـا تيقن ُـت سـبيل العبـور إلـى شـطه اآلخـر‪،‬‬ ‫يعبـر احليـاة مـن مهدهـا األول إلـى حلدهـا اآلخـر‪ ،‬مـاء حمـل البدايـة حين ثـار‬ ‫الطوفـان العظيـم‪ ،‬ونهايـة حلظـة العبـور إلـى سـيناء‪ ،‬وكالهمـا انتظـار‪.‬‬ ‫انتظـا ٌر شاسـع بين زرقتـه الوليـدة وعم ٌـر حاف ٌـل قبـل انطفـاء ألق ِـه وت َو َّشـي‬ ‫الشـيب يف الـرأس‪ ،‬تهـدر أمـواج األزرق كلمـا ضـاق باحللـم أفـق‪ ،‬حين يصبـح‬ ‫العمـر؛ أبي َ‬ ‫ـض حلـق فوقـه وغـاب‪ ،‬كأننـا لـم نقتسـم يومـا ملحـه الصاعـد مـن‬ ‫ثنايـا البـاب‪ ،‬ولـم نقشـر مـن اجلـدران صوتـه االخـاذ‪ ،‬لـم يكـن للصغـار سـوى‬ ‫مـاء وزرقـة تتلأأل يخـرج منهـا السـندباد‪ ،‬أزرق حضـي باتسـاع؛ يف جلتـه انتظـار‬ ‫حين غـدى الطفـل شـاب‪ ،‬وقلـق طويـل طـوق أفقـه‪ِ ،‬لـ َم أنفلـت العمـر وأصبـح‬ ‫كومـة مـن بيـاض؟‬ ‫نورسـا فتغيـب وال حا ًملـا ُيشـقيه البحـر‪ ،‬كـن‬ ‫أسـمع وصايـا اجل ّـدات «ال تكـن ً‬ ‫ـارب إلـى الشـطآن» هـي خرافـة التمكـن‬ ‫ـوج ه ٍ‬ ‫األزرق فقـط واح ِـم العمـر مـن م ٍ‬ ‫التـي جنحـت نحـو األزرق داخلـي‪ ..‬حلقـت‪ ..‬سـقطت‪ ..‬قذفـت‪ ..‬سـافرت إلـى‬ ‫كل البحـار‪ ،‬وعـادت معـي الوصايـا كاالنتظـار املبهـم أمـام كل شـيء أزرق‪ ،‬حلق ُـت‬ ‫توهـج األبيـض‬ ‫فوقـه حاملا كل املرويـات‪ ،‬منشـدا كلّ املرثيـات‪ ،‬فس ُ‬ ‫ـقطت مـع ّ‬ ‫اخملـادع داخلـي‪ ،‬وقذف ُـت بلا رحمـة إلـى شـاطئ ال يغـادره املتجاسـرون الذيـن‬ ‫خسـروا العمـر واللحظـة التـي كانـت تصعـد بهـم إلـى غيمـة حتمـل أحالمهـم‬ ‫املوشـحة بالهـروب مـن األزرق الشاسـع إلـى األبيـض الناصـع‪.‬‬ ‫البحـر أزرق ش ّـب علـى لـون السـماء وراح يغـدق العطايـا قبـل االبتلاء!‬ ‫العمـر رحلـة زرقـاء لـكل الذيـن كلـل ميالدهـم البحـر مـن موجـة الرحـم إلـى‬ ‫مـوج األزرق‪ ،‬محاولين بعدهـا الولـوج إلـى صفـاء األبيـض واحليـاة‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫نصوص‬ ‫سردية ‪103‬‬

‫مفتاح الخالص‬

‫محمد الحرايص‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫استفاق فجأة فاصطدم بصره بالسواد احلالك احمليط به‪.‬‬ ‫«أين أنا؟»‬ ‫‏تساءل يف داخله وهو يقوم جالس ًا على السرير الذي ضاعت معامله وسط الظالم‪.‬‬ ‫أصبت بالعمى؟»‬ ‫‏»هل‬ ‫ُ‬ ‫‏أغمـض عينيـه ثـم فتحهمـا‪ ،‬انتظـر قليلا حتـى تعـودت عينـاه علـى الظلام بينمـا تشـمم‬ ‫بأنفـه رائحـة املـكان‪ ،‬بـدأ يالحـظ تفاصيـل الغرفـة الضيقـة التـي كان بداخلهـا‪ ،‬هنالـك فتحـة‬ ‫ضيقـة يتسـلل منهـا بصيـص نـور خافـت مـن ضـوء القمـر‪.‬‬ ‫على الضوء الشـحيح رأى الغرفة الصغيرة فارغة متاما من األثاث وال يوجد بها سـوى باب‬ ‫واحـد بالقـرب مـن فتحـة التهويـة الصغيـرة‪ ،‬بينمـا رائحـة طين جـاف تغمـر املـكان‪ ،‬اقتـرب مـن‬ ‫البـاب وحـاول فتحـه فوجـده مقفـوال‪ ،‬كيـف وصـل إلـى هنـا؟ آخـر مـا يذكـره أنـه كان يقضـي الليـل‬ ‫مـع رفيقيـه عـادل ويحيـى‪ ،‬يشـاهدون الفيلـم اجلديـد (حديقـة الديناصـورات) الـذي اسـتأجروا‬ ‫شـريطه الكاسـيت مـن محـل قريـب لتأجيـر األفلام‪ ،‬ثـم ينقطـع حبـل ذكرياتـه يف وسـط أحـداث‬ ‫الفيلـم بشـقة عـادل‪.‬‬ ‫ذرع الغرفـة باحثـ ًا عـن طريـق للخلاص مـن هـذا املـكان الـذي يبـدو أشـبه بسـجن مظلـم‬ ‫حا لـك‪.‬‬ ‫توعد ود ّبر لي مكيدة لينتقم من املقلب الذي وضعته له؟»‬ ‫«هل فعلها يحيى كما ّ‬ ‫مـا زالـت ذكـرى املقلـب الـذي قـام بتدبيـره لزميلـه حاضـرة يف أحاديثهـم الدائمة‪ ،‬يتذكّر اليوم‬ ‫الـذي ا ّتصـل فيـه بورشـة النجـارة التـي يعمـل فيهـا يحيـى والتـي ميلكهـا والـده‪ ،‬انتحـل شـخصية‬ ‫وصوت ابنة أحد األثرياء املعروفني وزعم ليحيى أنها ترغب بعقد صفقة كبيرة لشراء األبواب‬ ‫مـن الورشـة‪ ،‬إنّـه ميلـك حنجـرة ذهبيـة اسـتخدمها يف السـخرية مـن صديقـه وإيهامـه باحلـب‬ ‫الزائـف لفتـرة مـن الزمـن‪.‬‬ ‫«أو رمبا فقدت الوعي كالعادة بسبب نقص سكر الدم»‪.‬‬ ‫ولكـن هـذا ال يفسـر كيـف وصـل إلـى هـذه الغرفـة املوصـدة التـي تبـدو بعيـدة عـن احلضـارة‬ ‫بجدرانهـا الطينيـة العتيقـة‪ ،‬رائحـة الغرفـة تشـير إلـى أ ّنهـا مبنيـة مـن الطين واجلـص أي أنهـا‬ ‫قدميـة جـدا تعـود إلـى مـا قبـل عصـر اإلسـمنت‪.‬‬ ‫بعـد ع ّـدة دورات حـول الغرفـة تيقّ ـن مـن أ ّنهـا فارغـة متامـا وال يوجـد بهـا مـا يصلـح لتحطيـم‬ ‫البـاب‪ ،‬قـام مبحـاوالت يائسـة خللـع البـاب بكتفـه ثـم جلـس يلهـث وهـو يحـس بـأنّ كتفـه هـو‬ ‫الـذي سـينخلع عوضـ ًا عـن البـاب‪ ،‬التقـط أنفاسـه ثـم خطـر لـه أن يبحـث يف جيـوب مالبسـه عما‬ ‫يصلـح للنجـاة‪ ،‬لـم يجـد سـوى مفاتيحـه األربعـة التـي حتتضنهـا ميداليـة *اليوبيـل الفضـي*‬ ‫الشـهيرة التـي وزعـت عليهـم يف اجلامعـة‪ ،‬اجلامعـة التـي تـرك الدراسـة فيهـا بعـد وفـاة والـده‪ ،‬مـا‬ ‫هو احتمال أن يكون أحد املفاتيح مطابقا لقفل الباب؟ االحتماالت قريبة من الصفر‪ ..‬ولكن‬ ‫ال حيلـة لليائـس إال األمـل‪.‬‬ ‫بخطـوات يائسـة اقتـرب مـن البـاب وبتوتـر بالـغ وذهـن مشـتت حـاول أن يدخـل أحـد املفاتيـح‬ ‫حتسـس املفتـاح فاكتشـف أنـه يعـود لسـيارة األجـرة التـي ميلكهـا‬ ‫يف القفـل ولكنـه لـم يتسـع لـه‪ّ ،‬‬ ‫والتـي ورثهـا مـن أبيـه‪ ،‬هـذه السـيارة هـي وسـيلة رزقـه الوحيـدة لإلنفـاق على أمـه وإخوته الصغار‬ ‫فبعـد وفـاة والـده لـم يكـن لـه مـن خيـار سـوى أن يتـرك الدراسـة يف اجلامعـة ويعمـل كسـائق‬


‫نصوص‬ ‫‪ 104‬سردية‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫لسـيارة األجـرة ليعيـل أسـرته املتواضعـة‪ ،‬يبـدو أن مفتـاح الـرزق لـن يكـون مفتـاح خالصـه مـن هذا‬ ‫السـجن‪.‬‬ ‫قـرب املفاتيـح مـن عينيـه وتفحصهـا جيـدا‪ ،‬كـم مـ ّر الوقـت بسـرعة منـذ أن لـم يكـن ميلك سـوى‬ ‫مفتـاح واحـد هـو مفتـاح البيـت‪ ،‬نعـم البيـت الـذي هـو ملاذه اآلمـن وفيـه يجـد الراحة واالسـتقرار‬ ‫والطمأنينـة‪ ،‬حـاول بعـث األمـل يف نفسـه مـن جديـد وقـال لنفسـه إن النجـاة والراحـة والفـرج‬ ‫سـتأتي علـى يـد مفتـاح البيـت‪ ..‬قـرب املفتـاح مـن البـاب فاسـتقر بداخله ولكـن حني حاول تدويره‬ ‫لـم يسـتجب فاجتاحـه إحسـاس كبيـر باخليبـة‪.‬‬ ‫ولكنـه لـم يفقـد األمـل بعـد‪ ..‬فمـا زال ميلـك محاولتين‪ ،‬هـا هـو ذا املفتـاح األحـدث الـذي‬ ‫اقتنـاه‪ ،‬إنـه يعـود لصنـدوق البريـد الـذي فتحـه مؤخـرا باسـمه ليمـارس هوايتـه اجلديـدة علـى‬ ‫اسـتحياء كمعظـم الشـباب (املراسـلة البريديـة)‪ ،‬صحيـح أن القـراءة كانـت ومـا زالـت هوايتـه‬ ‫األولـى ولكنـه قـ ّرر جتربـة هـذه الهوايـة اجلديـدة التـي تزايـد اإلقبـال عليهـا بين الشـباب هـذه‬ ‫األيـام وأصبـح لهواتهـا مسـاحات مخصصـة لهـم وإلعالناتهـم يف الصحـف واجمللات‪ ،‬تذكـر كيـف‬ ‫تعـرف باملراسـلة علـى فتـاة سـرعان مـا تعلـق بهـا‪( ،‬خولـة) هـذا هـو اسـمها‪ ،‬مـا زال قلبـه يخفـق‬ ‫بقـوة كلمـا تذكـر رسـائلها ّ‬ ‫وخطهـا الرشـيق وهـي تـروي لـه تفاصيـل حياتهـا الصغيـرة‪ ،‬كـم متتلـك‬ ‫روحـا مفعمـة بحـب احليـاة‪ ،‬أحـس بالشـوق إليهـا فـازداد تصميمـه علـى اخلـروج‪ ،‬أمسـك مبفتـاح‬ ‫الصنـدوق البريـدي‪.‬‬ ‫«احلب ال شك سيكون هو مفتاح خالصي الليلة»‪.‬‬ ‫أدخـل املفتـاح يف القفـل وأداره بـكل قوتـه ولكنـه رفـض االسـتجابة‪ ..‬لقـد كانـت فكـرة رومانسـية‬ ‫أكثـر مـن الالزم‪.‬‬ ‫لـم يبـقّ لـه سـوى مفتـاح واحـد‪ ،‬إنـه املفتـاح الثانـي الـذي أتـى إلـى حوزتـه بعد مفتـاح البيت‪ ،‬ما‬ ‫زال يذكـر كيـف ائتمنـه والـده علـى مفتـاح مكتبتـه العامـرة‪ ،‬املكتبـة التـي كانـت دائمـا ملاذه اآلمـن‬ ‫مـن احليـاة ومتاعبهـا وواحتـه الغنـاء وسـط صحـراء اجلهـل املدقـع احمليطـة بـه‪ ،‬أعطـاه أبـوه هـذا‬ ‫املفتـاح فـور وصـول بـاب املكتبـة اجلديـد مـن ورشـة النجـارة التـي ميلكهـا والـد صديقه يحيى ومن‬ ‫يومهـا زاد حرصـه علـى القـراءة واملطالعـة‪.‬‬ ‫«مفتاح املعرفة‪ ..‬إن لم يشقّ لي طريقا إلى اخلالص فأنا هالك ال محالة»‪.‬‬ ‫أحـس بنبضـات قلبـه تتسـارع وهـو يقـرب املفتـاح مـن القفـل بحـذر شـديد‪ ،‬راودتـه التسـاؤالت‬ ‫مـن جديـد‪ ،‬كيـف وصـل إلـى هنـا؟ ومـن يقـف خلـف ذلـك؟ وهـل هـو مقلـب سـينتهي قريبـا؟‬ ‫األمـر املؤكـد أنـه لـن ينتظـر وسـط كل هـذا الغمـوض الـذي يشـعر بـه بأنـه غـارق يف جهـل أشـد‬ ‫حلكـة مـن الظلام احمليـط بـه‪ ،‬أدخـل مفتـاح املكتبـة يف البـاب ومسـح قطـرات العرق من جبينه ثم‬ ‫اسـتنفر عضلات يـده ليديـر املفتـاح بـكل قوتـه‪.‬‬ ‫يف تلـك اللحظـة وعلـى بعـد أمتـار قليلـة تعـاون يحيـى مـع حـارس القلعـة القدميـة علـى حمـل‬ ‫السـلم الكبيـر‪ ،‬لقـد عـادا مـن جديـد إلـى الغرفـة العاليـة املنعزلـة يف الركـن الغربـي مـن القلعـة‬ ‫والتـي كانـت تسـتخدم فيمـا مضـى كسـجن تأديبـي مـن قبـل حـكام البلاد‪ ،‬وألجـل منـع محـاوالت‬ ‫الهـرب فقـد مت تصميـم السـجن ‪-‬الـذي يرتفـع عشـرة أمتـار عـن األرض‪ -‬ليكـون بلا نوافـذ و ال‬ ‫أبواب ما عدا باب واحد ال ميكن الوصول إليه إال باسـتخدام سـلم طويل خاص‪ ،‬ويف وقت سـابق‬ ‫مـن تلـك الليلـة وصـل يحيـى حاملا صديقـه بعـد أن وضـع لـه املنـوم يف شـرابه‪ ،‬وسـاعده احلـارس‬ ‫علـى إكمـال املقلـب االنتقامـي مـن زميلـه‪ ،‬كان احلـارس علـى معرفـة بيحيى منذ فترة بعيدة تعود‬ ‫إلـى الوقـت الـذي مت فيـه ترميـم القلعـة وحصـل والـد يحيـى علـى صفقـة رابحـة لتزويـد القلعـة‬ ‫بجميـع أبوابهـا‪.‬‬ ‫قبل أن يصال بالسلم إلى أسفل السجن الشاهق‪ ،‬انفتح الباب بقوة على يد السجني املتلهف‬ ‫إلـى الفـرار بجلـده وإلـى النجـاة بحياتـه‪ ،‬واندفـع بجسـمه مخترقـا الهـواء احمليـط بالسـجن نحـو‬ ‫السـماء املظلمة على ارتفاع عشـرة أمتار وهو يتوق بشـدة إلى النجاة واخلالص‪.‬‬


‫نصوص‬ ‫سردية ‪105‬‬

‫عزيز‬

‫غنية الشبيبي‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫لـم يكـن أحـد مـن التجـار يف سـوق اخلضـروات يف الواليـة العريقـة يسـتطيع اجلـزم مـن أيـن أتـى‬ ‫عزيـز‪ ،‬ذلـك الصبـي الـذي وصـل فجـرا إلـى هنـاك‪ ،‬دلـف إلـى السـوق القدميـة قبـل اجلميـع‪ ،‬حتـى كبـار‬ ‫وعمالهـم ّملـا يصلـوا‪ ،‬لقـد مضـى مـا يقـارب الشـهرين اآلن‪ ،‬ومـا زالـت تفاصيـل حياتـه الدقيقـة‬ ‫التجـار ّ‬ ‫مبهمـة لديهـم‪ ،‬تتناوشـها ضبابيـة متأرجحـة بين الشـك واليقني‪.‬‬ ‫عزيـز طفـل بين التاسـعة والعاشـرة مـن عمـره‪ ،‬ينـال قسـماته شـيء مـن وسـامة مخبـوءة حتـت‬ ‫سـحنة سـمراء‪ ،‬ع ّراهـا اإلعيـاء‪ ،‬شـعره املنسـاب علـى جبهتـه بإهمـال‪ ،‬عينـاه السـوداوان امللتمعتـان‬ ‫دائمـا‪ ،‬رمبـا ترقبـا‪ ،‬ورمبـا خوفـا مـن حـدث مجهـول‪ ،‬ورمبـا تفتيشـا عـن مفقـود مـا‪ ،‬يـداه الصغيرتـان‬ ‫هجرتهمـا طـراوة الطفولـة‪ ،‬وغـزت ظهريهمـا تشـقّ قات بيضـاء جافـة‪ ،‬تبينـان حين تأخـذان يف ترتيـب‬ ‫بضاعتـه‪ ،‬وصفّ هـا علـى قطعـة قمـاش باليـة‪ ،‬يضـع أكـوام «البيـذام» جهـة اليمين‪ ،‬وأكـوام «النبـق‬ ‫البحـري» جهـة اليسـار‪ ،‬ثـم يلقـي بجسـده الهزيـل علـى كرسـي مهتـرئ‪ ،‬سـحبه مـن مـكان مـا يف السـوق‬ ‫الكبيـرة‪ ،‬ويف األيـام التـي يسـتعيد فيهـا صاحـب الكرسـي كرسـيه‪ ،‬يفتـرش عزيـز خرقـة باهتـة‪ ،‬حتميـه‬ ‫مـن صهيـد األرض‪ ،‬ثـم يجـول ببصـره يف السـوق‪ ،‬األفـواج البشـرية املارقـة علـى بسـطته دون التفـات‪،‬‬ ‫جمـوع النسـاء والرجـال‪ ،‬يجولـون ويصولـون بين ردهـات السـوق كدوامـة ال تتوقـف‪ ،‬مشـاهد الصبيـة‬ ‫يف أيام اإلجازة‪ ،‬وهم ميتطون دراجاتهم الهوائية‪ ،‬ترافقهم ضحكات متتابعة‪ ،‬يحفظها عزيز جيدا‪،‬‬ ‫مـن فـرط مراقبتـه لهـم يف مـن اللحظـة التـي ميـر فيهـا فـوج الدراجـات مـن أمـام بسـطته‪ ،‬حتى حلظة‬ ‫اختفائهـم بين تعرجـات السـوق‪.‬‬ ‫ال تفوت عزيز غمزات التجار وملزاتهم‪ ،‬يف البدء كان يتجاهل أسئلتهم املكرورة‪:‬‬ ‫• ما اسمك يا ولد؟‬ ‫• ‪............................‬‬ ‫• من أي قرية من قرى الوالية؟‬ ‫• ‪.....................................‬‬ ‫• من أبوك؟ وكيف سمح لك أن تبيع «البيذام» و»النبق» لوحدك يف هذا اجلو احلار؟‬ ‫• ‪.............................................................‬‬ ‫لكنه ذات ضيق رد عليهم ردا يتيما‪ ،‬ولم يزد عليه‪:‬‬ ‫• أنا عزيز‪ ،‬من قرية بعيدة‪.‬‬ ‫اعتاد عزيز أال يبيع من بضاعته إال قليال‪ ،‬وحني تتوسـط الشـمس كبد السـماء‪ ،‬وتقذف أشـعتها‬ ‫علـى الـرؤوس القابعـة ق ّـدام بضاعتهـا بشـكل ال يحتملـه بشـر‪ ،‬يلملـم فاكهتـه‪ ،‬ويعـود‪ ،‬لكنـه ذات عـودة‪،‬‬ ‫ملـح أحدهـم يتبعـه بسـيارة فارهـة‪ ،‬وحين صـار مبـوازاة عزيـز‪ ،‬فتـح نافـذة سـيارته‪ ،‬واشـترى منـه الفواكه‬ ‫كلهـا‪ ،‬ثـم غـادره‪ ،‬حـدث ذلـك بسـرعة‪ ،‬لكنـه لـم يغـادر ذاكـرة عزيـز الـذي ظـل يترقـب إطاللتـه عنـد كل‬ ‫صبـاح‪ ،‬وعنـد كل أوبـة‪ ،‬ذلـك الرجـل‪ ،‬ذو الشـامة السـوداء علـى رقبتـه‪ ،‬واألنـف املعقـوف‪ ،‬والشـفتني‬ ‫النحيفتين‪ ،‬والعمامـة األنيقـة املزركشـة بنقـوش جميلـة‪ ،‬والثـوب ناصـع البيـاض‪ ،‬تلـك التفاصيـل‬ ‫أحبهـا عزيـز‪ ،‬وأخـذت تغـازل مخيلتـه كلمـا بسـط فاكهتـه‪ ،‬وقرفـص قدميـه‪ ،‬ينقّ ـل نظراتـه يف ردهـات‬ ‫السـوق‪ ،‬علّـه يـراه ثانيـة‪ ،‬فيريحـه مـن هـم بضاعتـه املكدسـة قبالتـه‪ ،‬لكـن دون جـدوى‪ ،‬ال أثـر لـه‪.‬‬ ‫ذات صبـاح حين اشـتعلت احليـاة يف السـوق‪ ،‬أخـذ عزيـز حفنـات مـن «البيـذام» و»النبـق البحـري»‬ ‫وأخـذ يطـرق نوافـذ السـيارات‪ ،‬عسـى أن يبتـاع أحدهـم شـيئا منهـا‪ ،‬أو رمبـا ثمـة مسـوغ آخـر‪ ،‬هـل كان‬ ‫يفتـش عـن الرجـل ذي الشـامة السـوداء واألنـف املعقـوف والعمامـة املزركشـة؟‬ ‫حين أنهـك اإلعيـاء قدميـه الصغيرتين‪ ،‬عـاد إلـى بسـطته‪ ،‬يح ِّـدق يف الزحـام‪ ،‬متـارس عينـاه التيـه؛‬


‫‪106‬‬

‫نصوص‬ ‫سردية‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫عمـا يهمـس بـه بعضهـم‪:‬‬ ‫حتـى تنخـرط يف الالشـيء‪ ،‬يصـم أذنيـه كعادتـه ّ‬ ‫«عزيز‪ ،‬سمعنا أنك تسرق «البيذام» و»النبق» من بيوت قريتك‪ ،‬وتبيعها هنا»‪.‬‬ ‫«عزيز هل تبيع للناس فاكهة مسروقة؟»‬ ‫« عزيز ملاذا تركت املدرسة؟»‬ ‫ينصـت لكلماتهـم دون اكثـراث‪ ،‬ثـم ميـد يديـه ويتنـاول حبـة مـن «البيـذام» ويقضمها بشـراهة‪ ،‬يسـيل‬ ‫رحيقها من فمه‪ ،‬فيمسحه بطرف كمه‪ ،‬ثم يزيح عن جبهته ح ّبات العرق املنسلة من رطوبة الهواء‪.‬‬ ‫كان السـوق يضـج بأفـواج متتابعـة مـن املـارة حين ملـح عزيـز أحدهـم‪ ،‬بـدا كشـبح مـرق مـن بين تلـك‬ ‫التكدسـات البشـرية‪ ،‬ثـم اختفـى‪ ،‬قـذف عزيـز بحبـة «البيـذام» وهـب مـن مكانـه‪ ،‬يفتـش عـن ذلـك الكائـن‬ ‫الـذي ظهـر ذات بغتـة‪ ،‬ثـم التهمـه الزحـام‪ ،‬أطلـق لقدميـه العنـان‪ ،‬وأخـذ يختـرق الصفـوف‪ ،‬ال يبالـي‬ ‫باصطدام كتفيه الصغيرين باألجساد‪ ،‬كاد أن يقع مرارا‪ ،‬لكنه حافظ على ثباته رغم سرعته‪ ،‬حتى رآه‪،‬‬ ‫ر ّدد يف نفسـه‪ :‬نعـم إنـه هـو‪ ،‬الرجـل األنيـق ذو الشـامة السـوداء والعمامـة املزركشـة‪ ،‬واالبتسـامة احلانيـة‪.‬‬ ‫أخـذ يدنـو منـه شـيئا فشـيئا‪ ،‬لكنـه توقـف فجـأة‪ ،‬واحتشـدت يف عينيـه مشـاعر متضاربـة‪ ،‬إنـه هـو‪،‬‬ ‫الرجـل نفسـه‪ ،‬لكنـه ليـس وحيـدا هـذه املـرة‪ ،‬ثمـة طفلان يتشـبثان بيديـه‪ ،‬أحدهمـا ابـن سـنتني أو رمبـا‬ ‫ثلاث‪ ،‬واآلخـر أصغـر مـن عزيـز بسـنتني أو أكثـر قليلا‪ ،‬يبـدو أنهمـا ولـداه‪ ،‬أحدهمـا يحمـل يف يـده «غـزل‬ ‫البنـات» واآلخـر ميسـك بكـرة قـدم صغيـرة تـكاد تنفلـت مـن بين يديـه‪ ،‬وتتدحـرج يف السـوق الصاخبـة‪،‬‬ ‫رمقهـم عزيـز برهـة‪ ،‬ثـم انحـدرت مـن بين جفنيـه دمعـة حارقـة‪ ،‬فكـر أن يعـود مجرجـرا جسـده إلـى‬ ‫بسـطته‪ ،‬هنـاك بين جتـار الفاكهـة‪ ،‬ينـادي علـى «البيـذام» و»النبـق البحـري» ويقـاوم احتقـان ا َ‬ ‫حل ُـرور‬ ‫ويحدق يف املارة‪ ،‬علّ أحدهم مين عليه بشـراء شـيء من فاكهته‪ ،‬فكّ ر أن يفعل‬ ‫حتت جسـده املتغضن‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ذلـك لـوال شـعور مـا دفعـه ملواصلـة السـير‪ ،‬اقتـرب مـن الرجـل ذي الشـامة السـوداء‪ ،‬أخذتـه تلـك الشـامة‬ ‫إلـى ذكـرى بعيـدة‪ ،‬حين كان والـده يحملـه وهـو صغيـر علـى ظهـره‪ ،‬وميشـي بـه يف باحـة بيتهـم‪ ،‬ويظـلّ‬ ‫هـو يرقـب تلـك الشـامة‪ ،‬ويف كل مـ ّرة يطـرح السـؤال ذاتـه‪:‬‬ ‫أبي ما هذه البقعة السوداء يف رقبتك؟‬‫إنها شامة يا عزيز‬‫لكني ال أملك مثلها يف رقبتي‬‫إنها متيزني أنا‪ ،‬والدك؛ حتى ال تفقدني‬‫لـن أفقـدك يـا أبـي‪ ،‬إذا فقدتـك فمـن سـيحملني علـى ظهـره كمـا تفعـل‪ ،‬ومـن سـيحضر لنـا أنـا‬‫وإخوتـي حلـوى النارجيـل اللذيـذة‪ ،‬وغـزل البنـات‪ ،‬ويأخذنـي إلـى الروضـة كل يـوم‪.‬‬ ‫أفـاق عزيـز مـن شـروده‪ ،‬واقتـرب مـن الرجـل‪ ،‬كان طويلا جـدا‪ ،‬هكـذا رآه عزيـز‪ ،‬وضـع يـده علـى ظهـر‬ ‫الرجـل‪ ،‬وأخـذ يضـرب بخفـة عليـه‪ ،‬حتـى التفـت إليـه‪ ،‬فابتسـم عزيـز‪ ،‬وهـو ينظـر إليـه‪ ،‬ألقـى الرجـل‬ ‫نظـرة عابـرة علـى جسـد عزيـز‪ ،‬ثـم أمسـك طفليـه علـى عجالـة‪ ،‬وغـادر حتـى ابتلعهـم الزحـام‪،‬‬ ‫ظل عزيز واجما يف مكانه برهة‪ ،‬ال يقوى على شـيء سـوى الصمت‪ ،‬الصمت فقط‪ ،‬تذكر بسـطته‪،‬‬ ‫وقفـل عائـدا إليهـا‪ ،‬لكنـه حين دنـا مـن موضعهـا كانـت ثلـة مـن الصبية قد حتلقـوا بدراجاتهم الهوائية‬ ‫حولها‪ ،‬وهم يتقاذفون حبات «البيذام» ويقضمون «النبق» بنهم شديد‪ ،‬هرول عزيز جتاههم‪ ،‬وعالمات‬ ‫الغضـب تتقاطـر مـن وجهـه‪ ،‬حتـى اشـتبك يف صـراع معهـم‪ ،‬محـاوال إنقـاذ فاكهتـه‪ ،‬وحين لكمه أحدهم‬ ‫بقوة على وجهه سـقط على األرض وقد تفرقت دماؤه‪ ،‬بعدها تدخل بعض التجار لفك االشـتباك‪.‬‬ ‫بعـد أسـبوع اختفـى عزيـز‪ ،‬وظـل لغـزه الغامـض يناجـي فضـول التجـار‪ ،‬وأخـذت التكهنـات حـول‬ ‫اختفائـه تتناسـل‪ ،‬بعضهـم ا ّدعـى أنـه تـرك البيـع‪ ،‬وعـاد إلـى مدرسـته‪ ،‬وزعـم آخـرون أنّ الشـرطة ألقـت‬ ‫القبـض عليـه؛ ألنـه يسـرق الفواكـه مـن املـزارع ويبيعهـا لصاحلـه‪ ،‬بينمـا أشـاع بعضهـم أنّ سـائق سـيارة‬ ‫مسـرعة دهسـته‪ ،‬وهـو يحمـل فاكهتـه قادمـا إلـى السـوق‪ ،‬وكلهـا ال تتجـاوز سـقف التكهنـات‪ ،‬واألمـر‬ ‫املتفـق عليـه هـو أنـه اختفـى‪.‬‬


‫نصوص‬ ‫سردية‬

‫‪107‬‬

‫القادم من الزرقة‬

‫لبيد العامري‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫وصلـت ت ًـوا إلـى بلاد احلجـر واألرض امللتهبـة‪،‬‬ ‫كنـت أنـا القـادم إليهـا مـن البعيـد‪ ،‬وحـدي‪ ،‬نقطـة‬ ‫صغيرة مرسـومة على لوحة املدى تكبر وتكبر‪ .‬على‬ ‫رأسـي قبعـة أمريكيـة ويف فمـي سـيجارة ‪.davidoff‬‬ ‫مـن سـاحل البحـر طلعـت‪ ،‬انسـللت مـن أغنياتـه‬ ‫الصادحـة‪ ،‬ورقصاتـه التـي تتمايـل مـع هبـوب الريـح‪.‬‬ ‫رطوبة األيام غسـلت جسـدي ّ‬ ‫ونظفت روحي بالعرق‬ ‫وامللـح‪.‬‬ ‫الصخـور هنـا صلبـة والفـراغ موحـش مترامـي‬ ‫األطـراف‪ ،‬ال تقـف يف وجهـه سـوى اجلبـال التـي‬ ‫حتـاول أن تسـ ِّيجه وتوقـف جموحـه‪ ،‬وكان ثمـة أيضـا‬ ‫القليـل جـدا مـن البيـوت املتناثـرة‪ .‬فيمـا الشـمس‬ ‫هنـا حارقـة‪ ،‬إال أنـه رغـم قوتهـا الشـديدة لـم تسـتطع‬ ‫أن تذيـب هـذه التضاريـس أو تقلـل مـن حدتهـا‪ ،‬بـل‬ ‫زادتهـا وحشـية واسـتعارا‪.‬‬ ‫كان يرمقنـي الواقفـون لـدى وصولـي بنظـرات‬ ‫مريبـة‪ ،‬ينضـح مـن مائهـا احلنـق املضمـر‪ .‬يحركـون‬ ‫أنفهـم إذا مـا رأونـي بحركـة عجيبـة‪ ،‬وكأنهـم اشـتموا‬ ‫رائحـة كريهـة‪ ،‬يف حين يشـيحون بوجوههـم بقـوة‪.‬‬ ‫اسـتعجبت ممـا يحصـل ورحـت أتفحـص هيئتـي‬ ‫إذا كان بهـا مـا يثيـر ويدعـو لـكل هـذا‪ .‬لـم يكـن ثمـة‬ ‫خطأ‪ ،‬فأنا أنا وهيئتي هي هي‪ .‬تأملت برهة مالمح‬ ‫وجوههـم‪ ،‬كانـت حـادة وجامـدة «عـلّ مـن يعيـش يف‬ ‫ـاس‪ ،‬ومالمـح‬ ‫بيئـة قاسـية‪ ،‬يصبـح هـو نفسـه بقلـب ق ٍ‬ ‫صلـدة!» تسـاءلت‪.‬‬ ‫كنـت أنـا النشـاز‪ ،‬الضيـف اجلديـد‪ ،‬الـذي لـم‬ ‫أتلـقَ مـا كنـت أتوقعـه مـن عـادات إكـرام الضيـف التـي‬ ‫كثيـرا مـا متضغهـا ألسـنتهم‪ .‬لـم أكـن أطمـع ألن‬ ‫يض ّيفوننـي‪ ،‬بـل علـى أقـل تقديـر أن يكـون تعاملهـم‬ ‫ودودا ولطيفـا جتاهـي‪ ،‬ال أن يسـتقبلوني بنظـرات‬ ‫االحتقـار هـذه‪« .‬رمبـا ألننـي منهـم وفيهـم» قلـت يف‬ ‫نفسـي‪ ،‬فأنـا مـن يشـاهد سـحنة وجهـي وطبيعـة‬ ‫جسـدي‪ ،‬سـيدرك دون أدنـى شـك أننـي مـن هـؤالء‬ ‫القوم تك ّونت‪ ،‬فدمهم هو دمي نفسـه‪ ،‬ولسـت بغريب‬ ‫عنهـم أو أجنبـي‪.‬‬ ‫وقفـت قـرب شـجرة مغبـرة‪ ،‬جسـدها ّ‬ ‫مطعـن‬ ‫بالشـوك احلـاد‪ .‬كان ثمـة بعـض الزهـور تزينهـا‪،‬‬ ‫التـي تبـدو أنهـا تفتحـت قريبـا‪ .‬دفعتنـي هـذه الزهـور‬ ‫أتأملهـا‬ ‫للرأفـة بهـا‪ .‬قطفـت واحـدة صغيـرة‪ .‬وعـدت ّ‬

‫وعلـى ثغـري تطفـو ابتسـامة‪ ،‬لكـن مـا لبثـت‪ ،‬حتـى‬ ‫تعكـر صفـو اللحظـة اجلميلـة‪ ،‬حين اصطدمـت‬ ‫برجـل يف وجهـي ينظـر إل ّـي وشـفتاه تفتـران عـن‬ ‫ابتسـامة سـاخرة‪ .‬اقتـرب‪ .‬دشداشـته قصيـرة‬ ‫وحليتـه كثـة‪ ،‬قـال لـي‪« :‬مـا بـك هكـذا؟ ملـاذا تعتمـر‬ ‫هـذه القبعـة الغربيـة‪ ،‬إنهـا للكفـار‪ .‬وتقطـف وردة!»‬ ‫ضحـك واسـتطرد‪« :‬مـا هـؤالء الشـباب الذيـن رباهـم‬ ‫آباؤنـا‪ ،‬هـم يقطفـون الـورد اليـوم أشـبه بالنسـاء‪».‬‬ ‫جملتـه األخيـرة دق صداهـا يف رأسـي كمـا جـرس‬ ‫كنيسـة‪ .‬اقتربـت منـه‪ .‬أعتـرف أننـي سـريع الغضـب‬ ‫والفـوران‪ .‬تفرسـت يف وجهـه‪ .‬نظرتـي أصبحـت‬ ‫مخيفـة‪ ،‬تتفتـح العينـان بوسـعهما وتصبـح احلدقـة‬ ‫صغيـرة حـادة‪ .‬دنـوت منـه أكثـر‪ ،‬تراجـع للـوراء‪ ،‬قـال‬ ‫لـي بصـوت يخنقـه اخلـوف‪« :‬لـم أقصـد مضايقتـك»‬ ‫وكـر عائ ًـدا إلـى الـوراء سـاح ًبا خطواتـه العريضـة‪.‬‬ ‫أشـعلت سـيجارتي‪ .‬لفافـة بعـد لفافـة‪ .‬وقـت‬ ‫الغضـب أدخـن بشـراهة‪ ،‬وأدهسـها بشـدة عنـد‬ ‫إطفائهـا‪ .‬شـرعت أتذكـر موطنـي البعيـد‪ ،‬اشـتقت‬ ‫إليـه وإلـى أناسـه الطيبين‪ .‬لـم يتدخلـوا يومـا يف‬ ‫كل مـا يخصنـي‪ ،‬يعيشـون حياتهـم كمـا يشـتهون‬ ‫وتعيشـها أنـت كمـا تشـتهي‪ ،‬ال أضـرك وال تضرنـي‪،‬‬ ‫هكـذا كان منـوال حكمتهـا وجوهرهـا‪« .‬صـار عل ّـي‬ ‫العـودة؟» قلـت يف نفسـي‪.‬‬ ‫وأنـا أحـث اخلطـى قافلا هـاج الهـواء علـى حين‬ ‫فجـأة‪ ،‬غـدا يصفـع وجهـي بقـوة‪ ،‬إ ّنهـا الريـح تعصـف‬ ‫يف األرج�اء‪ .‬احتمي�ت بالس�يارة‪ ،‬س�يارتي ا ل �‪toyo‬‬ ‫‪ ،ta yaris‬ركبتهـا وكسـرت اجتـاه الريـح‪ .‬السـيارة‬ ‫تتمايـل‪ .‬تخيلتنـي لوهلـة قاربـا يشـقّ األمواج‪ ،‬أمواج‬ ‫الريـاح‪ .‬كنـت مضطـرب الفكـر‪ ،‬والفضـاء مضطـرب‬ ‫تأملـت الريـاح التـي أخالنـي أشـاهدها‬ ‫يف اخلـارج‪ّ .‬‬ ‫مـن طيـران األوراق املبعثـرة وتعفـر التـراب‪ .‬تأملتهـا‬ ‫وقلـت يف نفسـي‪« :‬كـم تشـبهني أعماقـي العاصفـة‬ ‫أيتهـا الريـح!»‪.‬‬ ‫بـدأت الريـح تهـدأ‪ ،‬قليلا قليلا‪ .‬الرؤيـة بـدأت‬ ‫ت ّتضـح‪ ،‬والفضـاء يصفـو‪ .‬أعماقـي هـي األخـرى تهدأ‬ ‫رويـدا رويـدا‪ .‬هـي ذي السـماء زرقـاء‪« .‬آه أنـا ذاهـب‬ ‫إلـى صنوهـا ومرادفهـا ألرضـي الـذي أحـب» قلـت يف‬ ‫داخلـي‪ ،‬إنـه البحـر‪ ،‬البحـر الـذي منه طلعت كسـمكة‬ ‫قافـزة‪ ،‬سـتعود إليـه ولـو بعـد حين‪.‬‬


‫‪108‬‬

‫ُق ّداس الرغبة‬

‫دينا العزة‬

‫إلي؟!!‬ ‫قولي لي كيف ستعيدني املسافة َّ‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫بين كف ّـي القصيـدة فواصـل كحاجـز يحتـلّ الوقـت فتنمـو عوائـق االكتمـال‪ ،‬ألن ِـك‬ ‫طفـرة مثيـرة للجـدل علـى ضفـاف احلـرف‪ ،‬فـاه الدهشـة الـذي ال تلقمـهُ غفـوة‬ ‫التحديـق بعينيـك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫زج ألعانـق كآبـة غيابـك‬ ‫أ‬ ‫ـة‬ ‫ي‬ ‫انفراد‬ ‫ـة‬ ‫ن‬ ‫زنزا‬ ‫يف‬ ‫ـري‪،‬‬ ‫س‬ ‫أل‬ ‫ـودك‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫مـا زل ِـت حترضين‬ ‫ّ‬ ‫أمـام تلـك اجلـدران الباكيـة حرقـة الوجـد‪.‬‬ ‫لكن بقعة الضوء غزل الذاكرة يا سيدتي‪.‬‬ ‫‪،‬ذاكرتـي مفخخـة بصـورك‪ ،‬بعـض ابتسـامة وكثيـر مـن أنثـى علـى جسـدها نقـش‬ ‫روايـة‪ ،‬عيناهـا زأرة تعيـد ترتيـب قواعـدي إلـى االلتـزام‪ ،‬أمـا ذاك احلـدق سـنابل‬ ‫متحدبـة ال تطؤهـا نسـاء اخلليقـة‪ ،‬وتبقـى غنـج اجلوعـى يتهافتـون اللتقـاط‬ ‫نضوجهـا علـى نيـران قلوبهـم‪ ،‬وتبقـي الغرميـة‪.‬‬ ‫هتافات مرصوفة بهديل‪.‬‬ ‫‪،‬ثـم يأتـي شـغف الصـور ليطبـع ِثقـل جنونـه علـى قضبـان السـجن عنـوةً‪ ،‬فتبـزغ‬ ‫ابتسـامتها شمسـ ًا ال تسـجد للغـروب إال وبـان ثغرهـا علـى ضفـة أخـرى‪ :‬روح‪..‬‬ ‫ويتسـرب صـوت احلمائـم‪ ،‬هديـل ُيج ُّـن اهتـزازه لنغمـة الصـوت حين تغنـي (وحـدن‬ ‫بيبقـوا متـل زهـر البيلسـان) وتـذوب فيـروز بسـكاكر حبالهـا الصوتيـة‪ ،‬ليبـدأ رقـص‬ ‫احلمائـم يف فضـاء عينيهـا ‪ -‬سـمائي الثامنـة ‪ -‬جنونـ ًا هسـتيري ًا يتخبـط عـزف‬ ‫كمنجاتـي حين تنبـض بذكرهـا‪ ،‬آال تبـت يـد البعـد وتـب‪.‬‬ ‫تواريخ عارية من ثوب الوصال‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫يأتـي التقـومي علـى عجـل تعاقـب ملزامنـة الذاكـرة‪ ،‬رحيـل متـرف بأرقـام عشـوائية‬ ‫إلي ع ّرافة هناك يف ساحة الغيب‪ ،‬كشفت خطوط كفي أيقنت أن ُمعذبتي‬ ‫حملتها َّ‬ ‫ستس ِـقط ورقـة قلبـي حتـت شـجرة التـوت حيـث طلـت شـفاهها بحمرتـه والتهمتهـا‬ ‫بغمـرة غيـاب‪.‬‬ ‫ـات صدقـي‪ ،‬لـم ينصـف غيث محبتي حني جعل طينها‬ ‫فـكان التاريـخ مـزور ًا حلماق ِ‬ ‫العاقر منجب ًا حقول الياسمني‪ ،‬فاح عطرها وتبخرت أنا يف ثنايا روحها‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ثم تأتي احلضارة ما بني عينيها‪،،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫مـا بين حضارتـي وحضارتهـا مضيـق كالبوسـفور‪ ،‬يفصـل بسـاطتي وفطـرة ترائبـي‬ ‫املنتشـية برائحـة عطرهـا لتنمـو محاصيـل النشـ ّوة بحرفين سـماد جلفـاف الشـعور‪،‬‬ ‫حيـث وحدتـي وتقاليـد عشـيرتي‪ ،‬حيـث ُعـرف أوقـف حواسـي بشـواخص قسـوته‪،‬‬ ‫أمـا عيناهـا حضـارة اإلغريـق بنكهـة آلهـة احلـب (أفروديـت) ال سـواهما آتيهمـا‬ ‫سـع ّيا ألقيـم قداسـ ًا ليليـ ًا يف جنبـات الرغبـة‪.‬‬


‫استفهام نقش‬

‫‪109‬‬ ‫العدد ‪ - 6‬مايو يونيو ‪ 2022‬م‬

‫‪ 2022‬م‬ ‫يونيو ‪2022‬‬ ‫مايو ‪-‬فبراير‬ ‫(‪)6‬يناير‬ ‫العدد ‪- 4‬‬ ‫العدد‬

‫ما الجدوى التي‬ ‫تحققها المواقع‬ ‫الثقافية والمنتديات‬ ‫اإللكترونية اليوم؟‬ ‫يجيب عليه‪:‬‬ ‫• محمد عبدالوهاب الشيباني‬ ‫• د‪ .‬أيمن السيسي‬ ‫• أ‪.‬د مشتاق عباس معن‬ ‫• ميثم الخزرجي‬ ‫• يحيى القيسي‬ ‫• وفيق صفوت مختار‬ ‫• زينب عبدالباقي‬ ‫• نوار الشاطر‬ ‫• أ‪.‬د‪ .‬درية فرحات‬ ‫• د‪ .‬شاكر صبري‬ ‫• حفيضة اربيعة‬ ‫• د‪ .‬إيمان عبدالعال‬


‫استفهام‬ ‫‪ 110‬نقش‬

‫ما الجدوى التي‬ ‫تحققها المواقع‬ ‫الثقافية والمنتديات‬ ‫اإللكترونية اليوم‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪111‬‬

‫الفعل الثقافي‪..‬‬ ‫من الخشونة الورقية إلى السيولة اإللكترونية‬ ‫بقيت‬

‫محمد عبد الوهاب الشيباين‬ ‫شاعر وكاتب ميني‬

‫املواقــع الثقافيــة واملنتديــات اإللكترونيــة التــي‬ ‫تخاطــب املهتمــن بالشــأن الثقــايف واألدبــي‬ ‫والفكــري والتــي لــم يعــد املتحكــم بهــا حكومــات‬ ‫وجهــات‪ ،‬تســتثمر بواســطة األســماء الرائجــة‬ ‫املســتكتبني يف صحفهــا‪ ،‬بــل صــار املتحكــم بهــا‬ ‫منشــئوها مــن الك ّتــاب واجلهــات غيــر احلكوميــة‪،‬‬ ‫الذيــن ضمنــوا مــن خاللهــا إيصــال أصواتهــم‬ ‫لقطــاع كبيــر مــن املتابعــن واملهتمــن يف العالــم‬ ‫أجمــع بقليــل مــن اجلهــد وكثيــر مــن احلريــة‪.‬‬ ‫فبضغطــة زر واحــدة تســتطيع أن تقــرأ مــا تريــد‪،‬‬ ‫وتعــرض بضاعتــك كيفمــا شــئت دون كوابــح‬ ‫ومصـ َّـدات‪ ،‬وإن الكتــب املمنوعــة مــن التــداول يف‬ ‫كثيــر مــن البلــدان العربيــة ‪-‬بأوامــر مــن أجهــزة‬ ‫الرقابــة ومنظومــات األمــن‪ -‬صــارت موجــودة يف‬ ‫الفضــاء األزرق بأقــل كلفــة‪.‬‬ ‫هــذه التح ـ ّوالت التقنيــة أ ّدت إلــى تراجــع‬ ‫الصحافــة الورقيــة وصناعــة الكتــاب بالوســائل‬ ‫التقليديــة؛ وحتــى تواكــب مثــل هــذه التحــوالت‬ ‫بــدأت األخيــرة بالتح ـ ّول إلــى حالــة إلكترونيــة‬ ‫لإلبقــاء علــى صلتهــا باجلمهــور‪ ،‬وعلــى وجــه‬ ‫اخلصــوص اجلمهــور اجلديــد األكثــر ارتباط ـ ًا‬ ‫مبــا هــو إلكترونــي‪ ،‬حتــى أن موضوعاتهــا بــدأت‬ ‫باالقتــراب أكثــر مــن مــزاج القــراءة اجلديــد‬ ‫والــذي صــار ينحــاز إلــى كل مــا هــو مكثف وبســيط‬ ‫وســريع ومعبــر ًا عــن وقتــه‪ ،‬ال زمــن أســافه‪.‬‬ ‫أدوات التســويق يف الفضــاء األزرق اليــوم‬ ‫متنوعــة وجذابــة‪ ،‬وقــادرة ليــس فقــط علــى‬ ‫صناعــة األســماء‪ ،‬بــل وصناعــة املوضوعــات‬ ‫واألحــداث‪ ،‬وصــار هــذا الفضــاء مقصــد ًا لــكل‬ ‫اجلماعــات لترويــج بضاعتهــا دون محاذيــر أو‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املنابــر الثقافيــة التقليديــة (الصحف‬ ‫ودور النشــر واملهرجانــات الثقافيــة)‬ ‫لعقــود طويلــة هــي األداة املثلــى لصناعــة اخلطــاب‬ ‫الثقــايف بتفريعاتــه اخملتلفــة وعلــى راســها األدب‬ ‫املكتــوب‪ .‬كانــت العواصــم (بيــروت القاهــرة وبغــداد‬ ‫ودمشــق والــدار البيضــاء) وصحــف مثــل (النهــار‬ ‫والســفير واألهــرام وأخبــار األدب و‪ ..‬و‪ )..‬ومجــات‬ ‫مثــل (شــعر واآلداب وإبــداع والكاتــب والطليعــة‬ ‫والناقــد واألقــام ونــزوى وأدب ونقــد و‪ ..‬و‪ )..‬هــي مــن‬ ‫تصنــع األســماء وتســوقها وتــر ِّوج لكتاباتهــا‪ .‬حاولــت‬ ‫بعــض العواصــم الطرفيــة يف عقــدي الســبعينيات‬ ‫والثمانينيــات إنتــاج منابرهــا اخلاصــة يف الصحافــة‬ ‫وصناعــة الكتــاب للفــكاك مــن تأثيــر املركــز وســطوته‪،‬‬ ‫ويقفــز إلــى ذهنــي ميني ـ ًا (دار الهمدانــي للطباعــة‬ ‫والنشــر) يف عــدن‪ ،‬والــذي عمــل وبإمكانيــات صفريــة‬ ‫وأدوات بدائيــة جــد ًا مــن نشــر مئــات العناويــن مــن‬ ‫الكتــب األدبيــة والفكريــة والترجمــات‪ ،‬وقــد ســدت‬ ‫هــذه اإلصــدارات نقص ـ ًا موجــود ًا يف املكتبــة اليمنيــة‪.‬‬ ‫يف فتــرة الســبعينات صــدرت يف اليمــن أربــع‬ ‫مجــات ثقافيــة مهمــة‪ ،‬صــارت مــع الوقــت منابــر‬ ‫حقيقيــة للك ّتــاب واألدبــاء واملثقفــن اليمنيــن‬ ‫وهــذه اجملــات هــي‪( :‬احلكمــة) لســان حــال ّاتــاد‬ ‫األدبــاء‪ ،‬وصــدرت مــن عــدن مثلهــا مثــل مجلــة‬ ‫(الثقافــة اجلديــدة) التــي كانــت تتولــى إصدارهــا‬ ‫وزارة الثقافــة واإلعــام يف عــدن‪ ،‬ومجلــة (اليمــن‬ ‫اجلديــد) التــي تصدرهــا وزارة اإلعالم والثقافة يف‬ ‫صنعــاء‪ ،‬ومجلــة (الكلمــة) األهليــة التــي أصدرهــا‬ ‫يف مدينــة احلديــدة محمــد عبــد اجلبــار ســام‪.‬‬ ‫عملــت بعــض الــدول النفطيــة علــى تأســيس‬ ‫منابرهــا الثقافيــة اخلاصــة التــي تخــدم‬ ‫مشــاريعها وتوجهاتهــا يف ســعيها الــدؤوب لتكــون‬ ‫وريث ـ ًا للمراكــز التاريخيــة يف العواصــم األربــع‪،‬‬ ‫وحــده املشــروع الثقــايف الــذي تبنتــه ودعمتــه دولــة‬ ‫الكويــت مــن ســجل حضــوره العروبــي املتميــز منــذ‬ ‫إصــدار وزارة إعالمهــا (مجلــة العربــي) يف أواخــر‬ ‫العــام ‪1958‬م‪ ،‬وأعقبتهــا بإصــدارات اجمللــس‬ ‫األعلــى للثقافــة والفنــون واآلداب (عالــم املعرفــة‪،‬‬ ‫وعالــم الفكــر‪ ،‬وإبداعــات عامليــة‪ ،‬ومــن املســرح‬ ‫العاملــي)‪.‬‬ ‫ومــع بــروز الفضــاء املفتــوح وتقانــة القريــة‬ ‫الكونيــة تبـ ّـدل مفهــوم املنبــر بطابعــه املوجهــة‬ ‫لصالــح تعــدد املنابــر وتفــكك هيمنــة الرقيــب‬ ‫وتبطــل أدواتــه‪ ،‬ولــم تعــد صناعــة الرمــوز‬ ‫وتســويقها باألمر الشــاق يف هذا الفضاء املفتوح‪،‬‬ ‫والــذي بــدأ بصنــع رمــوزه مــن أكثــر الزوايــا ســيولة‪.‬‬ ‫خــال العشــرين عام ـ ًا املاضيــة ُأنشــئت مئــات‬

‫تخفــي؛ فاجلماعــات الدينيــة املتطرفــة‪ ،‬علــى‬ ‫ســبيل املثــال‪ ،‬هــي مــن أكثــر التكوينــات صلــة بهــذا‬ ‫الفضــاء‪ ،‬وبواســطته تســتقطب إلــى صفوفهــا‬ ‫مئــات املقاتلــن املؤمنــن بأفكارهــا الظالميــة‪،‬‬ ‫وهــي التــي ترفــض‪ ،‬يف األصــل‪ ،‬عالــم اليــوم بــكل‬ ‫منجزاتــه‪ ،‬وتعتبــره عالــم جاهليــة‪ ،‬لكنهــا تســتبعد‬ ‫مــن مفروزاتــه ونتاجاتــه وســائله التقنيــة التــي‬ ‫تخــدم مشــروعاتها املنغلقــة والنكوصيــة‪ ،‬وتبــرر‬ ‫ذلــك بفكــرة التســخير‪ ،‬أي أن الوســائل ُسـ ِّـخرت‬ ‫لهــا مــن أجــل إيصــال أفكارهــا‪ ،‬منطلقــة مــن رؤى‬ ‫الســلفيات اجلهاديــة التــي خرجــت منهــا والتــي‬ ‫ترفــض مشــروع احلداثــة الكونــي مبنظومتــه‬ ‫املتكاملــة‪ ،‬لكنهــا تؤمــن مبخرجــات وســائله يف‬ ‫امللبــس واملــأكل والرفاهيــة مــن بــاب التســخير‬ ‫الكلــي‪.‬‬ ‫أخلــص إلــى القــول إن فضــاء التواصــل‬ ‫الثقــايف اليــوم هــو التجلــي احلقيقــي ملفهــوم‬ ‫صناعــة الوعــي بطرائــق ال عهــد ألكثرنــا بــه‪ ،‬وإنّ‬ ‫اليقينيــات واملس ـلّمات الكبــرى التــي كانــت حتكــم‬ ‫رؤى وقناعــات رواد األمــس‪ ،‬لــم تعــد تعنــي (جنــوم)‬ ‫اليــوم مــن الشــعراء واملثقفــن والكتــاب والفنانــن‬ ‫الذيــن صنعهــم هــذا الفضــاء‪ ،‬وإنّ قضاياهــم‬ ‫ومعاركهــم الثقافيــة تختلــف كليــة عــن قضايــا‬ ‫ومعــارك رمــوز األمــس وأســمائه‪.‬‬ ‫أكثــر أبنــاء جيلــي وجيــل اآلبــاء يحـ ّـن إلــى‬ ‫األمــس بــدواع (نوســتاجلية)‪ ،‬ويــرى أن مــا‬ ‫ينتــج اليــوم هــو ســطحي وتافــه مــن الكتابــة‬ ‫إلــى املوســيقى والســينما‪ ،‬وباملقابــل يــرى أبنــاء‬ ‫جيــل اليــوم وصنــاع محتــوى أحداثــه املتســارعة‬ ‫أن قضايــا األمــس التــي ع َّبــر عنهــا صنــاع رأي‬ ‫ومثقفــون كبــار متخلفــة ورجعيــة ومحافظــة‬ ‫قياس ـ ًا مبــا ُيصنعــوه‪.‬‬ ‫عــن جتربتــي الشــخصية‪ ،‬التــي عاشــت‬ ‫وعاينــت الزمنــن مع ـ ًا‪ ،‬لــم أزل أحـ ُّـن للماضــي‬ ‫وأقــرأ كثيــر ًا مــن منجــزات رواده بوســائلهم تلــك‪.‬‬ ‫لــدي مكتبتــي الورقيــة‪ ،‬وأرشــيفي التقليــدي‬ ‫الــذي كونتــه علــى مــدى ســنوات‪ ،‬غيــر أننــي صــرت‪،‬‬ ‫وبحكــم املواكبــة الصعبــة‪ ،‬أكثــر صلــة بالفضــاء‬ ‫األزرق‪ ،‬الذي بواســطته أســتطيع الوصول إلى ما‬ ‫أريــد مــن معلومــات‪ ،‬وأقــرأ مــا لــم أســتطع قراءتــه‬ ‫يف املاضــي لصعوبــة الوصــول إليــه‪ ..‬صعوبــة‬ ‫النشــر يف املنابــر التقليديــة باألمــس صــارت اليــوم‬ ‫ســهلة‪ ،‬ومــن خــال منابــر جديــدة‪ ،‬لهــا القــدرة‬ ‫علــى توصلــي مبتلقــن أكثــر ومتنوعــي األفــكار‬ ‫والتوجهــات‪ ،‬وبأصدقــاء مــا كان لــي أن أعرفهــم‬ ‫لــوال هــذا الفضــاء املفتــوح‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫‪ 112‬نقش‬

‫استعادة الوعي العربي‬ ‫يف‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫اليمــن قــال لــي الدكتــور خالــد الرويشــان‬ ‫وزيــر الثقافــة والســياحة األســبق أن‬ ‫الصحــف املصريــة األهــرام واألخبــار وروز اليوســف‬ ‫وإصــدارات دار الهــال كانــت تأتينــا بانتظــام‪،‬‬ ‫وعليهــا ومنهــا تكونــت معارفنــا‪.‬‬ ‫ويف الصومــال قــال لــي محمــد عيــدي‬ ‫محافــظ «هرجيســا» عــام ‪ :2009‬تشــربنا‬ ‫الثقافــة العربيــة مــن صحــف ومجــات مصــر‬ ‫التــي كانــت تــرد لنــا يف مواعيــد صدورهــا فنقبــل‬ ‫عليهــا يف «املكتبــة اإلســامية املصريــة» يف‬ ‫هرجيســا نلتهمهــا‪ ،‬ومــن تأثيرهــا كنــت أغنــي‬ ‫وأنــا أرعــي القطعــان يف الباديــة عــام ‪« 1956‬يــا‬ ‫اهلل انصــر جمــال عبــد الناصــر» إبــان حــرب‬ ‫العــدوان الثالثــي‪.‬‬ ‫ويف منفــاه االختيــاري بدمشــق قــال لــي‬ ‫الشــاعر العراقــي الكبيــر عبــد الوهــاب البياتــي‪:‬‬ ‫كنــا يف العــراق ننتظــر مجلــة «الرســالة» غيرهــا‬ ‫مــن اإلصــدارات الثقافيــة املصريــة بلهفــة‪ ،‬وكانت‬ ‫وقتهــا حتتضــن مثقفــي العــراق ومبدعيهــا‬ ‫وتنشــر أعمالهــم‪.‬‬ ‫وهــو نفــس مــا قالتــه لــي الشــاعرة الكبيــرة‬ ‫نازك املالئكة مشــيرة إلى أن قصيدتها الشــهيرة‬ ‫«الكوليــرا» التــي كتبتهــا تعاطفــا مــع الشــعب‬ ‫املصــري الــذي حصــد منــه املــرض اللعــن أعــدادا‬ ‫كثيــرة عــام ‪ 1947-‬كانــت أول قصائــد الشــعر‬ ‫احلر‪ -‬حســب ما ُأ ِّر َخ ‪ -‬نشــرت ألول مرة يف مصر‬ ‫التــي عاشــت فيهــا منــذ عــام ‪ 1990‬حتــى توفيــت‬ ‫عــام ‪ 2007‬يف إحــدى مستشــفياتها‪.‬‬ ‫ويف مــدن وعواصــم إفريقيــة وعربيــة أخــرى‬ ‫ســمعت نفــس الكلمــات تقريبــا‪ ...‬أمــا يف‬ ‫الســودان عــام ‪ 2010‬فقــد عــاب املثقفــون واألدبــاء‬ ‫تأخــر وصــول الصحــف واجملــات املصريــة عــن‬ ‫ّ‬ ‫مواعيدها يوما‪ ،‬أو بعض يوم‪ ،‬وكذلك يف بيروت‬ ‫فتعجبـ ُـت أن دام التواصــل واال ّتصــال‬ ‫ودمشــق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف منتصــف القــرن العشــرين‪ ،‬ومــا قبلــه‪ ،‬إلــى أن‬ ‫انعــدم تقريبــا وصــول هــذه الصحــف‪.‬‬ ‫بعــد مــا يقــرب مــن نصــف قــرن وقــل التالقــي‬ ‫والتالقــح الثقــايف العربــي واكتســب ضعفــا‬ ‫أفقدنــا وجــود نخبــة حقيقيــة تعنــى بأمــور‬ ‫الوطــن العربــي الكبيــر ليختفــي هــذا التوصيــف‬ ‫اجلغــرايف ليســود مصطلــح «الشــرق األوســط»‬ ‫نتيجــة أمــور عــدة ومنهــا مؤخــرا أزمــات الصحــف‬ ‫عمــت‬ ‫الورقيــة وســيادة املواقــع اإللكترونيــة التــي ّ‬ ‫الســماوات العربيــة‪ ،‬فعــاد التواصــل حثيثــا‬ ‫ضعيفــا غيــر مفيــد يف اجملمــل لنقصــه التالقــح‬ ‫الــذي خلــق النخبــة يف األصــل والنشــغال‬ ‫األغلبيــة بتوافــه األخبــار وشــذوذ التعليقــات‬

‫د‪ .‬أمين السييس‬

‫نائب رئيس تحرير جريدة األهرام‬

‫يجب أن يكون لنا ‪-‬‬ ‫كمثقفين عرب ‪ -‬دور‬ ‫ورأي في صياغة هذه‬ ‫التغيرات‪ ،‬وإال داستنا‬ ‫أقدام الثقافات‬ ‫األخرى والتهمت‬ ‫عقول أجيالنا الجديدة‬ ‫ثقافة الجينز والبيتزا‬ ‫و (ميكي ماوس)‬ ‫وتطبيقات الجنس‪،‬‬ ‫والشذوذ‪ ،‬واإللحاد‬ ‫على اإلنترنت‬ ‫ومستقبح الـ «تريندات”‪.‬‬ ‫ويف ظــل هــذا الزخــم الهــدام بــزغ يف األفــق‬ ‫نــور متثــل يف بعــض املواقــع واجملــات الثقافيــة‬ ‫اإللكترونيــة‪ ،‬ومنهــا مجلــة «نقــش» الثقافيــة‬ ‫التــي حتــاول مــع غيرهــا مــن املواقــع الرصينــة‬ ‫أن تبنــي خطابــا معرفيــا هادفــا ونقيــا لصالــح‬ ‫ثقافتنــا العربيــة‪ ،‬وإيجــاد موطــئ آمــن لهــا‬ ‫وللثقافــة يف ظــل هــذا التزاحــم اإلعالمــي‬ ‫واإلعالنــي والتجــاري وبــن توافــه األخبــار‬ ‫وســطحية املوضوعــات يف الفضــاء املفتــوح‪ ،‬إال‬

‫‪ ...‬بعد ما يقرب‬ ‫من نصف قرن قل‬ ‫التالقي والتالقح‬ ‫الثقافي العربي‬ ‫واكتسب ضعفا‬ ‫أفقدنا وجود نخبة‬ ‫حقيقية تعنى بأمور‬ ‫الوطن العربي الكبير‬ ‫أن هــذه احملــاوالت مــا تــزال تئــن مــن الضعــف‬ ‫خصوصــا املــادي – واالنعــزال «اجلغــرايف»‬‫فانحصــرت أخبــار وموضوعــات أغلبهــا يف إطــار‬ ‫احليــز القطــري لهــا‪ ،‬فقــد صادفــت وقــرأت‬ ‫العديــد منهــا فوجدتهــا تنغلــق علــى مبدعــي‬ ‫قطرهــا العربــي‪.‬‬ ‫ويف رأيــي إن ذلــك يعــود إلــى حنــن هــؤالء‬ ‫املثقفــون إلــى بعضهــم ورغبتهــم يف التواصــل‬ ‫بينهــم بســبب تش ـتّتهم يف املنــايف‪ ،‬فهــذه ليبيــا‪،‬‬ ‫وهــذا العــراق‪ ،‬وهــذا الصومــال‪ ،‬وتلــك ســوريا‪،‬‬ ‫هدمتهــا كلهــا احلــروب والثــورات واالنتفاضــات‬ ‫واملؤامــرات‪ ،‬فتشــتت الشــعب وأخصهــم أهــل‬ ‫الثقافــة واألدب فجمعتهــم هــذه املواقــع‬ ‫للتواصــل الــذي افتقــدوه‪.‬‬ ‫وهــي خطــوة أولــى ج ّيــدة ولكــن علــى‬ ‫مديريهــا وأصحابهــا االنتبــاه إلــى ضــرورة إعــادة‬ ‫الوصــل والتواصــل ملــا كان عليــه آبــاء الثقافــة‬ ‫العربيــة قبــل مائــة عــام خللــق جيــل جديــد مــن‬ ‫املثقفــن العــرب ينتــج نخبــة حقيقيــة تســتطيع‬ ‫توجيــه الشــارع العربــي للحفــاظ علــى هويتــه‬ ‫التــي اغتربــت وثقافتــه التــي بهتــت وقضايــاه‬ ‫املوضوعيــة‪.‬‬ ‫يفيدنــا يف ذلــك فــرص التواصــل الســهل‬ ‫الســريع وكثــرة الهمــوم املشــتركة خصوصــا أن‬ ‫تلــك الســنوات التــي نعيشــها اآلن ســتتمخض‬ ‫عنهــا يف وطننــا العربــي الكبيــر ويف العالــم‬ ‫أجمــع تغييــرات كبيــرة جــدا ومزلزلــة وحاســمة‪.‬‬ ‫فعلينــا أن يكــون لنــا ‪ -‬كمثقفــن عــرب‪ -‬دور‬ ‫ورأي يف صياغــة هــذه التغيــرات‪ ،‬وإال داســتنا‬ ‫أقــدام الثقافــات األخــرى والتهمــت عقــول‬ ‫أجيالنــا اجلديــدة ثقافــة اجلينــز والبيتــزا‬ ‫و»ميكــي مــاوس» وتطبيقــات اجلنــس‪ ،‬والشــذوذ‪،‬‬ ‫واإلحلــاد علــى اإلنترنــت‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪113‬‬

‫العالم الرقمي‪:‬‬ ‫عالم فاعل ال مفعول‬ ‫يقرع‬

‫أ‪.‬د‪ .‬مشتاق عباس معن‬ ‫أكادميي عراقي‬

‫العالم الرقمي لم‬ ‫يعد عالمًا افتراضيًا‬ ‫ّ‬ ‫بما تحمله مفردة ‪-‬‬ ‫افتراضي ‪ -‬من قوة‬ ‫مجازية قد يتصورها‬ ‫بعضن ضعيفة‪ ،‬فهو‬ ‫عالم موا ٍز لعالمنا‬ ‫المعيش لكنه ّ‬ ‫يؤثر فيه‬ ‫بحجم يفوق معطيات‬ ‫ٍ‬ ‫المعيش‬ ‫التــي َر َســخَ َو ْســمها ب ـ (مواقــع التواصــل‬ ‫االجتماعــي)‪ ،‬فكثيــر م ّنــا يتماهــى مــع‬ ‫صداقــات وعالقــات وحــوارات مــع أنــاس لــم‬ ‫ممــا‬ ‫يلتقهــم ولــم يرهــم يف الواقــع املعيــش؛ ّ‬ ‫يعنــي أن الواقــع االفتراضــي الــذي صنعــه‬ ‫اإلنترنــت هــو واقــع مؤثــر وفاعــل ال مفعــول‬ ‫‪...‬‬ ‫ولــو تأملنــا يف تصريحــات الشــركات‬ ‫املنتجــة للتكنولوجيــا وتقنيــات التواصــل‪،‬‬ ‫فض ـ ًلا عــن استشــراف فالســفة التقانــة‪،‬‬ ‫واســتباق الباحثــن ملــا ســيكون مــن واقــع مبنــي‬

‫علــى الــذكاء الصناعــي والروبوتــات الهجينــة‪،‬‬ ‫ســنكون علــى يقــن أنّ القــادم أكثــر فاعليــة‪،‬‬ ‫غوصــا يف التحكّ ــم‬ ‫وأكثــر تشــاركية‪ ،‬وأكثــر‬ ‫ً‬ ‫يف احليــاة‪ ،‬ولســنا بصــدد الوعــد أو الوعيــد‪،‬‬ ‫تدخلت يد اخلالق‬ ‫فاآلتي ٍآت ال محالة إ ّال إذا ّ‬ ‫أمــا إذا اســتمر‬ ‫بتغييــر املعطيــات بشــكل غيبــي‪ّ ،‬‬ ‫الســمت علــى مــا هــو عليــه‪ ،‬فحتمــا ســنكون يف‬ ‫ظــل عالــم ســبراني مختلــف‪ ،‬وكائنــات ســبرانية‬ ‫هجينــة حتــلّ محــلّ مح ـ ّركات ومهــن ووظائــف‬ ‫كنــا نعتقــد لوقــت قريــب أنهــا رئيســة وال ميكــن‬ ‫تأملنــا مــا اختزلــه‬ ‫االســتغناء عنهــا‪ ،‬وإذا ّ‬ ‫الهاتــف احملمــول مــن آالت وأدوات مفصليــة‬ ‫يف حياتنــا؛ آلم ّنــا مبــا افترضنــا حدوثــه قبــل‬ ‫قليــل؛ إذ اختــزل الهاتــف احملمــول‪ :‬الهاتــف‬ ‫األرضــي‪ ،‬الراديــو‪ ،‬الكاميــرا الشــخصية‪،‬‬ ‫صنــدوق البريــد‪ ،‬الفاكــس‪ ،‬التلكــس‪ ،‬املسـ ّـجل‪،‬‬ ‫التلفــاز‪ ،‬اآللــة الكاتبــة‪ ...‬والقائمــة تطــول إن‬ ‫ســرنا علــى التعــداد‪...‬‬ ‫مــع دخولنــا يف اجليــل الثالــث للشــبكة‬ ‫الدوليــة ملعلومــات (اإلنترنــت)؛ أعنــي ال ـ (‪)3.0‬‬ ‫فإننــا ســنكون مــع واقــع افتراضــي معـزّز بشــكل‬ ‫ممــا هــي قريبــة‪ ،‬وســنكون‬ ‫يقـ ّرب املســافات أكثــر ّ‬ ‫ـبها‬ ‫يف صــدد أجهــزة أكثــر‬ ‫ذكاء‪ ،‬وأقــرب شـ ً‬ ‫ً‬ ‫باإلنســان العبقــري الــذي يقــارب العبقريــة‬ ‫مبســافات كبيــرة‪ ...‬لــذا علينــا أن نكــون علــى‬ ‫وعــي تــام مبــا ســيكون عبــر معايشــتنا عمل ًيــا ملــا‬ ‫كان ومــا هــو كائــن‪ ...‬فالعالــم الرقمــي هــو عالــم‬ ‫فاعــل بامتيــاز‪ ،‬وليــس مفعــو ًلا ومــن يظـ ّـن غيــر‬ ‫ذلــك فعليــه تصفّ ــح مــا حولــه ومــن حولــه كــي‬ ‫يغ ّيــر قناعاتــه‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫أسماعنـ ــا فيلس ـ ـ ــوف التقان ـ ــة‬ ‫املعاص ـ ـ ـ ـ ــر ستيف ـ ـ ـ ـ ـ ــان فيـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫ف ــي كتاب ــه (الكينونــة والشاشــة‪ :‬كيــف يغ ِّيــر‬ ‫الرقمــي اإلدراك) بقــول أقــلّ مــا يقــال بحقّ ــه‬ ‫إ ّنــه استشــراف ووعيــد‪ ،‬جــاء فيــه‪ :‬منــذ ظهــور‬ ‫احلواســيب األولــى يف عقــد ‪1940‬م‪ ،‬انخرطــت‬ ‫حضارتنــا يف انقــاب عميــق نــدرك اآلن أ ّنــه لــم‬ ‫تكنولوجيــا فقــط ‪ ...‬بقــدر مــا بــرز شــكل‬ ‫يكــن‬ ‫ً‬ ‫أصيــل وجديــد مــن «الثقافــة» [ص ‪... ]21-22‬‬ ‫نعــم‪ ،‬نحــن بصــدد عالــم مر ّكــب‪ ،‬يف البــدء‬ ‫احملصلــة‬ ‫هــو مــن صنيعــة اإلنســان‪ ،‬لكنــه يف‬ ‫ّ‬ ‫يقــود ثقافــة اإلنســان مــن حيــث صياغتــه‬ ‫ألنســاق ثقافيــة جديــدة لــم تكــن حاضــرة‬ ‫لــوال وجــوده يف مناخنــا االجتماعــي واملعــريف‬ ‫والعلمــي والعملــي‪ ،‬فالعالــم الرقمــي لــم يعـ ّـد‬ ‫عا ًملــا افتراض ًيــا مبــا حتملــه مفــردة – افتراضــي‬ ‫– مــن قــوة مجازيــة قــد يتص ّورهــا بعضنــا‬ ‫ـواز لعاملنــا املعيــش لكنــه‬ ‫ضعيفــة‪ ،‬فهــو عالــم مـ ٍ‬ ‫يؤثّ ــر فيــه بحجـ ٍـم يفــوق معطيــات املعيــش‪،‬‬ ‫فكثيــر مــن االنتفاضــات والثــورات التــي‬ ‫دول كبيــرة وثقيلــة‪ ،‬توصــف‬ ‫قلبــت موازيــن ٍ‬ ‫بعضهــا بالدكتاتوريــات العص ّيــة؛ بحكــم شــبكة‬ ‫اإلنترنــت ومواقعهــا التواصليــة ‪...‬‬ ‫وتأسيســا علــى مــا م ـ ّر ذكــره فحضــور‬ ‫ً‬ ‫املنتديــات الثقافيــة علــى شــبكة اإلنترنــت‬ ‫مبســتوييها الرقمــي والتفاعلــي يكــون حضــو ًرا‬ ‫مهمــا؛‬ ‫مهمــا وضرور ًيــا يف الوقــت نفســه‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ألنّ التواصــل األلكترونــي بــات أســرع وآمــن‬ ‫وأكثــر اتقا ًنــا مــن التواصــل التقليــدي‪ ،‬أمــا‬ ‫كونــه ضرور ًيــا؛ فأل ّنــه لغــة التبــادل والتفاعــل‬ ‫والتخاطــب‪ ،‬ومــن دونهــا يكــون األثــر أضعــف‪.‬‬ ‫وليــس مــن املناســب احلديــث عــن كــون‬ ‫الرقميــات باتــت مالذنــا املعاصــر ‪ ،‬إذ لــم يعــد‬ ‫ينســجم معهــا الوصــف بأنهــا املســتقبل؛‬ ‫بحكــم احتيــاج كل مــا حولنــا إلــى معطياتهــا‬ ‫ومــا يرشــح عنهــا مــن أجهــزة ذكيــة ونتاجــات‬ ‫متفاعلــة‪ ،‬فمــع مطلــع األلفيــة كانــت األرض‬ ‫علــى موعــد مــع اجليــل الثانــي مــن اإلنترنــت‬ ‫القائــم علــى ثنائيــة ال ـ (‪ ،) 2.0‬بعــد أن كان‬ ‫قائمــا علــى ثنائيــة ال ـ‬ ‫اجليــل الســابق عليــه ً‬ ‫عمليــا وليــس‬ ‫(‪ ،)1.0‬وهــذا التحـ ّـول أعلــن‬ ‫ً‬ ‫نظريــا؛ دخــول املســتخدمني نســق التفاعــل؛‬ ‫ً‬ ‫أي التواصــل اإليجابــي ذي النزعــة املشــاركة‪،‬‬ ‫ال التواصــل الســلبي ذو النزعــة احملايــدة‪،‬‬ ‫فكلنــا يقضــي أكثــر ســاعات يومــه مــع املواقــع‬

‫علينا أن نكون‬ ‫على وعي تام‬ ‫بما سيكون عبر‬ ‫معايشتنا عمل ًيا لما‬ ‫كان وما هو كائن‪...‬‬ ‫فالعالم الرقمي هو‬ ‫عالم فاعل بامتياز‪،‬‬ ‫وليس مفعو ًلا‪..‬‬


‫استفهام‬ ‫‪ 114‬نقش‬

‫األوان التكنولوجي‪ ..‬واكتراث الشباب للهم الثقافي‬ ‫أو ًال‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫علينــا أن نبــارك وندعــم‬ ‫أي فعــل ثقــايف لــه معاييــره‬ ‫ومســلماته اجلماليــة ونشــير إلــى الســبل‬ ‫التــي مــن خاللهــا أن تســهم يف الترويــج لهذه‬ ‫املشــاريع كونهــا النافــذة األكثــر ســعة واألوفــر‬ ‫حظـ ًا يف تنقيــة وتصفيــة ذهنيــة إنســان هــذا‬ ‫العالــم وتزيــل األنســاق الرجعيــة املتورمــة يف‬ ‫داخلــه لتعيــد تهيئتــه بوصفــه القيمــة العليا‬ ‫التــي يســتطيع أن يحـ ّـدد مصيــره ويفهــرس‬ ‫معنــاه دون أمــر أو شــرط‪ ،‬واقع ـ ًا وبعــد‬ ‫الثــورة املعلوماتيــة املهولــة التــي اجتاحــت‬ ‫اجملتمعــات العربيــة والتــي أزاحــت الكثيــر‬ ‫مــن الســياقات املتوارثــة التــي نشــأنا عليهــا‬ ‫تغيــرت نظــرة املثقــف الدؤوب صاحب الدربة‬ ‫واملــراس والرؤيــا املغايــرة إمعانــا للوجهــة‬ ‫عمــت احليــاة بأســرها‬ ‫اجلديــدة التــي ّ‬ ‫فمــا عــادت الذخيــرة الورقيــة املســتقرة يف‬ ‫املكتبــات لهــا وقعهــا وأثرهــا جري ـ ًا والواقــع‬ ‫الــذي فرضتــه العوملــة بجميــع اجتراحاتهــا‬ ‫اجملتمعيــة والثقافيــة لتحــل محلهــا املواقــع‬ ‫واملنتديــات التــي تعنــى بــاألدب والفنــون ومــا‬ ‫إلــى ذلــك‪ ،‬بطبيعــة احلــال علينــا أن نؤمــن‬ ‫إميان ـ ًا قطعي ـ ًا أن العالــم التكنولوجــي مبــا‬ ‫يتخللــه مــن وســائل تواصــل حديثــه ومواقــع‬ ‫وعضــدت احلــراك الثقــايف قــد أزال‬ ‫أثــرت‬ ‫ّ‬ ‫الكثيــر مــن العقبــات املمرضــة بوجــه األديــب‬ ‫الــذي كان يعانــي مــن حيــف وغــن يف إبــراز‬ ‫هويتــه وصفتــه األدبيــة فقــد ُحفــز بتســليع‬ ‫منتجــه وانتشــاره بصــورة هائلــة وأصبحــت‬ ‫املــادة التــي تكتــب بأوانهــا احلالــي تظهــر‬ ‫للعيــان ويشــار لهــا لتكــون محــط اهتمــام‪،‬‬ ‫وممــا ال شــك فيــه أن هــذا الــدور الفــذ الــذي‬ ‫نتــج عــن هــذه الثــورة املعلوماتيــة قــد رفدنــا‬ ‫مبكتبــات إلكترونيــة عظيمــة نســتعني بهــا‬ ‫حــال عــدم توفــر املــادة الورقيــة‪ ،‬وهــذه مــن‬ ‫ضمــن مجريــات عصــر الواقــع الرقمــي الــذي‬ ‫جعــل اجملتمعــات بــكل تثاقفاتهــا وأنســاقها‬ ‫املعرفيــة واجلماليــة بــل حتــى اجلدليــة علــى‬ ‫مقربــة مــن البعــض ال تعانــي مــن أغــال أو‬ ‫قيــود حتــد مــن مداهــا‪ ،‬لكنــي أجــد أن ثمــة‬ ‫مــا يســترعي التوقــف عــن حقــوق األديــب‬ ‫وجهــده األدبــي الكبيــر الــذي يقدمــه ففــي‬ ‫كل بلــدان العالــم املتحضــرة جنــد أنّ هنــاك‬ ‫بنــود ًا خالصــة يتمتــع بهــا األديــب أو الفنــان‬ ‫حــال التوجــه ألعمالــه ونشــرها مــن قبــل‬ ‫وســائل اإلعــام أي أن هنــاك شــرط ًا جزائي ـ ًا‬

‫ميثم الخزرجي‬

‫قاص وكاتب عراقي‬

‫علينا أن نؤمن إيمانًا‬ ‫قطعيًا أن العالم‬ ‫التكنولوجي بما‬ ‫يتخلله من وسائل‬ ‫تواصل حديثة ومواقع‬ ‫ّ‬ ‫وعضدت الحراك‬ ‫أثرت‬ ‫الثقافي‬ ‫أجد أن هناك فوضى‬ ‫عارمة تسببت في‬ ‫تسييب الهوية‬ ‫الثقافية لشريحة‬ ‫الشباب‬ ‫يتمتــع بــه حيــال متــادي اآلخــر علــى نتاجــه‪،‬‬ ‫أمــا مــن ناحيــة الطقــس العــام وتبعية املردود‬ ‫الثقــايف الــذي ينتــج عــن هــذه املواقــع أجــد‬ ‫أن ثقافــة اجملتمــع احلالــي ثقافــة شــفاهية‬ ‫غيــر خاضعــة للــدرس والتأمــل بــل مهــزوزة‬ ‫وغيــر مســتقرة نوع ـ ًا مــا كــون طابــع القــراءة‬ ‫الورقيــة طابــع لهــا جديتــه واســتتبابه وهــذا‬ ‫مخــاض عســير اجنــر لــه العالــم بجميــع‬

‫شــرائحه وليــس املثقــف فحســب بحكــم أن‬ ‫اخلصوصيــة أصبحــت مســتباحة مكشــوفة‬ ‫للعيــان‪ ،‬وصــار الواقــع االفتراضــي مهيمن ـ ًا‬ ‫علــى روح العالــم بــل أصبحــت احليــاة‬ ‫مبحتواهــا اإلنســاني والفكــري تداوليــة‬ ‫معتمــدة علــى الصــورة واإلشــهار والذيــوع‬ ‫لتبهــت وتكــون بــا مالمــح أو هويــة ناصعــة‬ ‫لهــا مقدرتهــا علــى اجتــراح بدائــل تفضــي‬ ‫إلــى ســعة ورخــاء بظــل هــذا التصــادم‬ ‫املعلوماتــي احملتــدم بالتالــي تكــون احليــاة‬ ‫عبــارة عــن ضغطــة زر بلحظــة مســتعارة غيــر‬ ‫خاضعــة ملشــغل وورشــه هانئــة‪.‬‬ ‫أمــا فيمــا يخــص اكتــراث الشــباب للهــم‬ ‫الثقــايف فهــذه مســألة نســبية رمبــا حتــدد مــن‬ ‫خــال الــدرس األكادميــي والفعــل اجلمالــي‬ ‫مســرح ًا كان أو موســيقى أو متونــا أدبيــة‬ ‫وهــذا مــا أشــاهده شــحيح ًا وال أريــد أن أكــون‬ ‫متشــائم ًا وأعطــي للعــدم قيمــة ماديــة لكنــي‬ ‫أجــد متــى مــا تخ ّلــص العربــي مــن الســلطة‬ ‫النســقية التــي حتكمــه سياســية كانــت أم‬ ‫الهوتيــة وأن يفكــر بعقلــه ال بقلبــه فإمكانــه‬ ‫يعمر اخلراب الذي رافقه منذ أمد بعيد‬ ‫أن ّ‬ ‫وهــذا يحتــاج إلــى حتـ ّـول ديالكتيكــي جدلــي‬ ‫لــه تأسيســه ومرجعيتــه وقاعــه الثقــايف‬ ‫اخملتلــف وذخيرتــه املعرفيــة التنويريــة‬ ‫الصادمــة‪ ،‬متــى مــا آمــن بــأن العقــل الواعــي‬ ‫هــو الــذي يقــاوم الصمــت بالســؤال والصــراخ‬ ‫بالتأمــل فبمقــدوره أن يصحــح األخطــاء‬ ‫املتوارثــة املهولــة معيــد ًا لنفســه ثقــة عظيمــة‬ ‫يســتطيع مــن خاللهــا أن يفتــح منافــذ‬ ‫مضيئــة‪ ،‬لكــن يف الوقــت احلالــي علينــا أن‬ ‫نعــي جيــد ًا بــأن هنــاك عوامـ َـل كثيــر ًة تســهم‬ ‫يف تنحيــف التواصــل املعــريف وعمليــة‬ ‫التحشــيد الثقــايف إذ إن هنــاك أســبابا كثيــرة‬ ‫لعــل مــن أهمهــا الســذاجة والــرداءة التــي‬ ‫تقدمهــا الكثيــر مــن وســائل اإلعــام اخلاليــة‬ ‫مــن املفاهيــم التربويــة والتعليميــة التــي‬ ‫تســهم يف إعطــاء مــادة باهتــة مــن خــال‬ ‫برامجهــا التلفزيونيــة كذلــك احلــال يف‬ ‫مجانيــة بعــض مــن الصحــف واجملــات ذات‬ ‫احملتــوى الفضفــاض املترهــل التــي أعطــت‬ ‫مســاحة واســعة لــكل مــن هــب ودب للترويــج‬ ‫عــن مادتــه املعــوزة‪ ،‬لــذا أجــد أن هناك فوضى‬ ‫عارمـ ًـة تســببت يف تســييب الهويــة الثقافيــة‬ ‫لشــريحة الشــباب‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪115‬‬

‫«ثقافات»‪..‬‬ ‫رؤية وتجربة‪ ..‬وآمال مرجوة‬ ‫يف‬

‫يحيى القييس‬

‫روايئ وباحث أردين مقيم يف بريطانيا‬ ‫مؤسس ورئيس تحرير موقع “ثقافات” اإللكرتوين‬

‫أفكر في كل يو‬ ‫بإغالق موقع (ثقافات)‬ ‫اإللكتروني نهائيًا بعد‬ ‫أن أخذ الكثير من‬ ‫جهدي ووقتي ولقمة‬ ‫عيشي‪ ،‬ولكننا نظل‬ ‫محكومين باألمل‪..‬‬ ‫الثقافيــة ميكــن أن تســاهم بشــكل فعــال يف‬ ‫الترويــج لإلبــداع العربــي والتعريــف بالكتــاب‪،‬‬ ‫ورفــع الذائقــة العربيــة‪ ،‬ولكــن املشــكلة األساســية‬ ‫التــي تعانيهــا برأيــي‪ ،‬ومــن خــال خبراتــي يف‬ ‫موقــع «ثقافــات» هــو عــدم وجــود التمويــل الــكايف‬ ‫إلدامتهــا‪ ،‬وبالتالــي أعــرف الكثيــر مــن املواقــع‬ ‫التــي أغلقهــا أصحابهــا لهــذا الســبب وال أخفــي‬ ‫عليــك أننــي أفكــر كل يــوم بإغــاق موقــع «ثقافــات»‬ ‫نهائيــا بعــد أن أخــذ الكثيــر مــن جهــدي ووقتــي‬ ‫ولقمــة عيشــي‪ ،‬ولكننــا نظــل محكومــن باألمــل‬ ‫فــا بــد مــن أصــوات حــرة وأشــخاص علــى قــدر‬ ‫مــن النبــل والكــرم مــن املمكــن أن ينتبهــو إلــى مثــل‬ ‫هــذه املنابــر اجلــادة بالدعــم ولــو اليســير مــن أجــل‬ ‫بقائهــا صامــدة‪ ،‬لهــذا سننســتمر يف ذلــك حتــى‬ ‫آخــر قطــرة أمــل‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫نهايــة العــام ‪ 2012‬قمــت بتأســيس‬ ‫موقــع «ثقافــات» ليكــون منبــر ًا إلكترونيــا‬ ‫للفكــر واآلداب والفنــون ضمــن رؤيــة تنويريــة‬ ‫تنتصــر للثقافــة اإليجابيــة وتســاهم بشــكل فعــال‬ ‫يف إيصــال اإلبــداع واملقــاالت والــرؤى الفكريــة إلــى‬ ‫شــتى أنحــاء العالــم عبــر اإلنترنــت‪.‬‬ ‫لقــد بــدت حينهــا الصحافــة الثقافيــة الورقيــة‬ ‫واجملــات األدبيــة والفنيــة علــى وشــك االحتضــار‬ ‫إضافــة إلــى صعوبــة وصولهــا خــارج الــدول التــي‬ ‫تصدرهــا‪ ،‬لهــذا كان ال بــد مــن مواكبــة اخلدمــة‬ ‫الكبيــرة التــي تقدمهــا شــبكة اإلنترنــت العابــرة‬ ‫للحدود واملســافات والرقابة وشــتى أنواع املعيقات‪،‬‬ ‫لكن مثل الكثير من املشــاريع اجلادة فإنها حتتاج‬ ‫إلــى اســتدامة وفريــق عمــل ومتابعــات وإجــراءات‬ ‫وقــد اســتطاع موقــع «ثقافــات» أن يصمــد إلــى اآلن‬ ‫رغــم كل احملبطــات احمليطــة بــه‪ ،‬ونــدرة التمويــل أو‬ ‫عدمــه غالب ـ ًا‪ ،‬ويف الوقــت الــذي م ـ ّرت عليــه فتــرة‬ ‫ذهبيــة حينمــا عملــت يف اإلمــارات‪ ،‬ووجــدت بعــض‬ ‫اجلهــات الثقافيــة التــي ترغــب بتمويلــه لســنة أو‬ ‫ســنتني إال أن مــا قبــل تلــك الفتــرة ومــا بعدهــا‬ ‫عبــارة عــن قحــل متواصــل‪.‬‬ ‫خــال عشــر ســنوات مــن عمــر «ثقافــات» قمــت‬ ‫بنشر نحو ‪ 24‬ألف مادة يف الفكر والفنون واآلداب‬ ‫والنقــد والفيديــوات والترجمــات واحلــوارات‬ ‫وغيرهــا وقــد حققــت ماليــن الزيــارات‪ ،‬وبالطبــع‬ ‫فــإن الثقافــة بشــكل عــام ليســت جماهيريــة بــل‬ ‫معظــم روادهــا مــن محبــي اآلداب والفنــون‪ ،‬ورغــم‬ ‫ذلــك مــا ســعيت يومــا إلــى التضحيــة بنوعيــة املــواد‬ ‫علــى حســاب الكميــة أو اجلماهيريــة‪ ،‬فهنــاك‬ ‫معاييــر صارمــة لنشــر مــا يصلنــا مــن مــواد إضافــة‬ ‫إلــى منتخبــات مــن أفضــل مــا ينشــر يف الصحــف‬ ‫واجملــات الثقافيــة العربيــة‪.‬‬ ‫كمــا حرصــت علــى االهتمــام بنشــر ثقافــة‬ ‫التنويــر‪ ،‬وال ســيما يف ظــل الظــروف العربيــة‬ ‫احمليطــة التــي ســاهمت يف خــروج جماعــات‬ ‫تكفيريــة إرهابيــة تنتصــر لثقافــة املــوت ونشــر‬ ‫الرعــب‪ ،‬لهــذا فــإن مواجهــة الفكــر بالفكــر هــو‬ ‫املهــم عنــدي‪ ،‬وإشــعال شــمعة يف وســط الظــام‬ ‫خيــر مــن لعنــه‪ ،‬ومــن أجــل ذلــك حرصــت ثقافــات‬ ‫علــى أن تكــون منبــر ًا حــر ًا للفكــر النيــر‪ ،‬وملكافحــة‬ ‫خطــاب الكراهيــة‪ ،‬ومراجعــة الفكــر الدينــي بشــكل‬ ‫واع ومتــوازن‪ ،‬ونشــر النوعيــة العاليــة مــن املــواد‬ ‫اإلبداعيــة والفكريــة خليــرة األســماء العربيــة‬ ‫والعامليــة‪.‬‬ ‫الــذي أراه أن مثــل هــذه املواقــع اإللكترونيــة‬


‫استفهام‬ ‫‪ 116‬نقش‬

‫الرواية الرقم َّية والنشر الفردي‪...‬‬ ‫وواقع عالمنا العربي‬ ‫مع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ظهــور الكتــاب اإللكترونــي ‪،E-Book‬‬ ‫الرقمــي‪ ،‬ويف‬ ‫وتط ـ ُّـور منصــات النشــر َّ‬ ‫مواجهــة حتديــات النشــر الورقــي‪ ،‬وجــد َّ‬ ‫الشــباب‬ ‫مــن اجلنســن يف منصــات النشــر اإللكترونــي‬ ‫فرصــة لعــرض إنتاجهــم والتعريــف بأعمالهــم‬ ‫خــارج الدوائــر األدب َّيــة الكالســيك َّية والتقليد َّيــة‪.‬‬ ‫وتبعــا لذلــك‪ ،‬متــت إعــادة ترســيم شــروط اإلبــداع‬ ‫ً‬ ‫األدبــي يف حقــل الروايــة مبختلــف أنواعهــا‪ ،‬مب ــا‬ ‫يتماشــى ورهانــات النشــر الف ــردي املوجــه أساس ـًـا‬ ‫نحــو القُ ـ َّـراء َّ‬ ‫الشــباب‪ ،‬والــذي يراهــن علــى ثقافــة‬ ‫مبيعــا) ‪ ،The best-selling‬وبالتالــي‬ ‫(األكثــر‬ ‫ً‬ ‫ارتفــاع املــردود املــادي‪.‬‬ ‫فــإذا أراد الكاتــب نشــر كتــاب أو روايــة‪ ،‬كان‬ ‫عليــه حتريــر اخملطوطــة وإرســالها إلــى عشــرات‬ ‫الناشــرين قب ــل أن يقبــل واحــد أو اثنــان ق ــراءة‬ ‫العمــل‪ ،‬بعدهــا ينتظــر قــرار ُ‬ ‫املكمــن‪ ،‬وموافقــة‬ ‫الناشــر‪ُ ،‬ثـ َّـم الطباعــة‪ ،‬ومــن ثـ َّـم التوزيــع‪ُ ،‬ثـ َّـم ينتظــر‬ ‫ـرة مغلقـ ٍـة‬ ‫مـ َّـرة أخــري رأي النُقَّ ــاد‪ ،‬والقُ ـ َّـراء يف دائـ ٍ‬ ‫ـنوات قبل أن يوصف بكونه «كاتب ـًـا»‪،‬‬ ‫قد تس ــتمر لس ـ ٍ‬ ‫أو «روائ ًّيــا»‪ ،‬األمــر الــذي كان معــه النش ــر والتوزيــع‬ ‫أكثــر صعوب ــة مــن فع ــل الكتابــة واإلبــداع نفس ــه!!‬ ‫ـكل كبيـ ٍـر‪ ،‬فيكفــي أن‬ ‫ال َّيــوم تغ َّيــرت الصــورة بشـ ٍ‬ ‫مدرجــا علــى «أبــل‬ ‫ميتلــك الكاتــب عم ـ ًلا روائي ـًّـا‬ ‫ً‬ ‫بوكــس» ‪ Apple Books‬و«أمــازون» ‪، Amazon‬‬ ‫و«غوغ ــل بوكــس» ‪ google books‬وينتظــر ارتفــاع‬ ‫نســبة التنزيــات والتحميــات‪ ،‬وانطباعــات القُ ـ َّـراء‬ ‫علــى مواقــع التواصــل االجتماع ــي ليصيــر روائ ًّيــا‬ ‫مشــهو ًرا ف ــي بضع ــة أشــهر‪ .‬األمــر هنــا يتع َّلــق مبــا‬ ‫سمى (النشر الفردي‪ ،‬أو الذاتي) �‪the self pub‬‬ ‫ُي َّ‬ ‫‪ ،lishing‬أو (الكتــب الفرديــة) ‪individual books‬‬ ‫التــي متثــل ـ الروايــة مبختلــف أنواعهــا ـ ركيزتهــا‬ ‫األســاس خــال الســنوات اخلمــس األخيــرة‪.‬‬ ‫يف تقريــر جمللــة «فوربــس» ‪ Forbes‬س ــبق ل ـ‬ ‫«جــاي ماكجريج ــور» ‪ Jay McGregor‬أن تنبــأ‬ ‫بث ــورة النشــر الفــردي يف عال ــم اإلبــداع الروائ ــي‪.‬‬ ‫وهــو يــري أ َّنــه ميكــن للنشــر الفــردي اإللكترونــي‬ ‫أن ُيحف ــز ثقافــة الكتابــة والقــراءة ف ــي اآلن نفســه‬ ‫انطالق ًــا مــن ثالثــة متغيــرات‪ .‬أ َّو ًلا‪ ،‬ســهولة النشــر‬ ‫والتوزيــع‪ ،‬وبســاطة ال ُّلغــة اإلبداع َّيــة‪ ،‬ومناشــدتها‬ ‫َّ‬ ‫ثانيــا‪ ،‬معرفــة نســب‬ ‫للشــباب والقُ ـ َّـراء العاديــن‪ً .‬‬ ‫املبيعــات دون املــرور عبــر قاع ــدة دور النشــر‬ ‫التقليد َّيــة‪ً .‬‬ ‫ثالثــا‪ ،‬املــردود املــادي اجليــد للمؤ ِّلفــن‬ ‫الــذي يجعلهــم يعتنق ــون الكتابــة كمهنــة‪.‬‬ ‫يف الواقــع‪ ،‬يوف ــر النشــر الذاتــي ألي شــخص‬

‫وفيق صفوت مختار‬ ‫كاتب مرصي‬

‫فرصة أن يصير كاتبـًا أو روائ ًّيا دون املرور بطقوس‬ ‫الشــرعية التقليد َّيــة (الناش ــر والناق ــد)؛ بــل إنَّ‬ ‫كثيـ ًـرا مــن األعمــال املنشــورة علــى كبريــات منصــات‬ ‫الكتــب الرقميــة ال حتكــم وال حتتــرم معايي ــر‬ ‫الكتابــة الروائ َّيــة ا ُملتعــارف حولهــا‪ ،‬لك َّنهــا مــع ذلــك‬ ‫ُتقِّ ــق نس ــب مبيع ــات وحتميالت مرتفع ــة تؤهله ــا‬ ‫ألن تصيــر «عمـ ًلا إبداع ًّيــا» مــن خــال آراء ومواقــف‬ ‫القُ ـ َّـراء التــي عوضــت صــوت النُقَّ ــاد‪ .‬وال ننســى أنَّ‬ ‫الروايــات الرقميــة‪ ،‬مبــا هــي أعمــال موجهــة نحــو‬ ‫القــارئ العــادي يف غالبهــا‪ ،‬توفــر إمكانيــة جع ــل‬ ‫حكــم القــارئ ونســب القُ ـ ّراء أس ــس احلكــم علــى‬ ‫جناح أو فشل اإلب ــداع الروائي يف العص ــر الرقمي‪.‬‬ ‫ويف تقريــر حديــث جملل ــة ‪L’Humanité‬‬ ‫الفرنسـ� َّية‪ ،‬أكَّ ـ�دت «صـ�ويف جوبي ـ�ر » �‪Joubert So‬‬ ‫‪ phie‬أنَّ تعويضــات حقــوق امللكيــة الفكر َّيــة ُ‬ ‫للكتَّ اب‬ ‫والروائيــن ال تتعــدى (‪ )10‬باملئــة مــن حجــم‬ ‫املبيعــات‪ ،‬و(‪ )90‬باملئــة مــن ُ‬ ‫الكتَّ ــاب يتقاضــون‬ ‫أقــل مــن احلــد األدنــى لألجــور وال يحصــل أغلــب‬ ‫ُ‬ ‫الكتَّ ــاب علــى تعويضــات النشــر اإللكترونــي‪.‬‬ ‫لذل ــك‪ ،‬أضحــى بع ــض ُ‬ ‫الكتَّ ــاب يفضلــون اللجــوء‬ ‫إلــى النشــر الفــردي واإللكترونــي لضمــان مزيــد‬ ‫مــن الشــهرة واحلصــول علــى حقوقهــم املاديــة‬ ‫األ س ــاس‪.‬‬ ‫قــد يحصــل الروائــي علــى تعوي ــض ال يتعــدى‬ ‫مئــات الــدوالرات عــن الطبعــة الورقيــة مــن روايتــه‪،‬‬ ‫يف حــن أنَّ بعــض ُكتَّ ــاب موجــة النشــر الفــردي‬ ‫(يربحــون) مــا بــن نصــف مليــون إلــى مليــون‬ ‫دوالر عــن كتــاب واحــد ويف بضعــة أشــهر فق ــط!‬ ‫إ َّننــا أمــام بدايــات حتـ ُّـول يف موازيــن ق ــوى ســوق‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪117‬‬

‫مازال كبار الك ّتاب‪،‬‬ ‫ودوائر الجوائز األدبية‪،‬‬ ‫ودور النشر‪ ،‬غير‬ ‫منفتحين كثيرًا على‬ ‫موجة النشر الفردي‬ ‫ويتم التعاطي معها‬ ‫بالحيطة والحذر‬ ‫اجلديــدة‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬ال يبحــث كثيــر مــن ُ‬ ‫الكتَّ ــاب‬ ‫َّ‬ ‫الش ــباب بالضــرورة عــن النجــاح مــن خــال الروايــة‬ ‫الورقيــة وال يهتمــون كثيـ ًـرا بــآراء وتقييمــات النُقَّ ــاد‪،‬‬ ‫وحتمــل الروائــي‬ ‫فلقــد عــوض اإلشــهار دور النُقَّ ــاد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الشــاب اليــوم مســؤولية كتابــة عملــه والترويــج لــه مبــا‬ ‫يتماشــى ونســق «انبث ــاق الشــهرة والنجــاح» مــن خــال‬ ‫إمكانــات الث ــورة الرقميــة اجلدي ــدة‪.‬‬ ‫يف النهايــة‪ ..‬وج ــب االعتــراف باســتمرار العالق ــة‬ ‫القويــة بــن القــارئ العربــي والروايــة الورقيــة التــي‬ ‫تعيــق انفتاحــه املعقــول علــى حتـ ُّـوالت الروايــة‬ ‫الرقميــة‪ ،‬وتنعكــس س ــل ًبا فيمــا يخــص الثقــة يف‬ ‫أصــوات املوجــة اجلديــدة للنشــر الفــردي‪ .‬هنــاك‬ ‫انتقــال يف املركزيــات الثقاف َّيــة وفض ــاءات اإلبــداع‬ ‫الروائــي العربــي (مــن محــور القاه ــرة‪ ،‬دمش ــق‪،‬‬ ‫لبنــان نحــو عواصــم دول اخلليــج العربــي)‪ ،‬وث ــورة‬ ‫كمــا وكيفً ــا‪،‬‬ ‫ف ــي اإلبــداع الروائــي باملنطقــة العرب َّيــة‪ًّ ،‬‬ ‫وصعــود أجيــال جديــدة مــن الروائيني َّ‬ ‫الشــباب‪ ،‬وحتى‬ ‫تزايــد اإلقبــال علــى الروايــات اخملتلف ــة‪ ،‬األمــر الــذي‬ ‫يفــرض دع ــم األجيــال اجلدي ــدة واحتضــان أعمالهــم‬ ‫وتشــجيعهم علــى النشــر الورق ــي والرقمــي يف إط ــار‬ ‫احتــرام الش ــروط املوضوعيــة لإلبــداع الروائــي يف‬ ‫حاجة‬ ‫تفاع ــل مباشر مع النُقَّ ــاد ودور النشر‪ .‬إ َّنن ــا يف‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫إلــى اس ــتراتيجيات ثقافيــة جديــدة تكــون منفتحــة‬ ‫علــى الثــورة اإللكترونيــة والعصــر الرقمــي للروايــة‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫النشــر‪ ،‬بحيــث أصبــح بعــض كبــار ُ‬ ‫الكتَّ ــاب ينفتحــون‬ ‫علــى موجــة النشــر الفــردي واإللكترونــي ويتقربــون‬ ‫أكثــر مــن القُ ـ َّـراء ويبحثــون عــن ضمــان احلصــول علــى‬ ‫حقوقهــم كاملــة‪ ،‬والبحــث عــن إمكانيــة العيــش مــن‬ ‫خــال الكلمــة والقلــم‪.‬‬ ‫ويعــد الروائــي اإلجنليــزي «مــارك داوســون»‬ ‫هــذا‪ُ ..‬‬ ‫‪ Mark Dawson‬مــن أبــرز ُ‬ ‫الكتَّ ــاب والروائيــن الذيــن‬ ‫ســطع بريــق شــهرتهم م ــن خــال اس ــتثمارهم يف‬ ‫النشــر اإللكترونــي والفــردي علــى منصــة «أمــازون»‬ ‫بعــد أن خ َّيــب كتابــه األ َّول اآلمــال‪ ،‬حيــث جلــأ إلــى‬ ‫الترويــج الشــخصي ألعمالــه‪ .‬واليــوم‪ُ ،‬يحقِّ ــق آالف‬ ‫التنزيــات لكتبــه يوم ًّيــا وتعتبــره «أمــازون» رمــزً ا‬ ‫للنشــر الفــردي‪.‬‬ ‫يختلــف «داوســون» عــن الروائيــن اآلخريــن‪ ،‬يف‬ ‫أ َّنــه دائــم الكتابــة مــن أجــل مواكبــة ُّ‬ ‫تعط ــش القُ ـ َّـراء‬ ‫إلــى أعمالــه‪ .‬ومــن خــال عملــه علــى سلســلة روايــات‬ ‫«جــون ميلتــون» ‪ John Milton‬التــي تنتمــي إلــى‬ ‫جنس األدب البوليســي‪ ،‬وجد يف فع ــل الكتابة جتربة‬ ‫ـكل يومــي‪،‬‬ ‫فريــدة‪ ،‬فهــو يكتــب آالف الكلمــات بشـ ٍ‬ ‫ويتحـ َّـدث ع ــن كــون الكتابــة ـ بعــد الصقــل ـ تتحـ َّـول‬ ‫إلــى حرفـ ٍـة‪ .‬ال يقــف األمــر عنــد هــذا احلـ ّـد‪ ،‬فهــو‬ ‫يقيــم ورشــات للكتابــة‪ ،‬ونــدوات أدبيــة‪ ،‬ويــرد علــى آالف‬ ‫الرســائل والتعليقــات التــي تصلــه يوم ًّيــا‪.‬‬ ‫أمنوذجــا ُ‬ ‫لكتَّ ــاب وناشــري العص ــر‬ ‫ميثــل «داوســون»‬ ‫ً‬ ‫خاصــا وعالق ــة‬ ‫مجتمعــا‬ ‫الرقمــي الذيــن يصنع ــون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فريــدة مــع القُ ـ َّـراء مــن جهـ ٍـة‪ ،‬ويعيــدون ترســيم دورة‬ ‫اإلنتــاج والنشــر األدبــي لتتركَّ ــز يف يــد الكات ــب مــن‬ ‫جهـ ٍـة ثانيـ ٍـة‪ ،‬ويركــزون علــى نســب املبيع ــات كقاعــدة‬ ‫للنجــاح مــن جهـ ٍـة ثالثــة‪.‬‬ ‫بطبيعــة احلــال‪ ،‬يتع َّلــق األمــر بجي ــل جديــد مــن‬ ‫ُ‬ ‫الكتَّ ــاب الذيــن أنزلــوا حرفــة الكتابــة مــن برجهــا‬ ‫العاجــي وحولوهــا إلــى مهنـ ٍـة تواكــب العصــر وتقتــرب‬ ‫أكثــر مــن تط ُّلع ــات وحيــاة القُ ـ َّـراء‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬ميكننــا‬ ‫أن نطــرح العديــد مــن األســئلة حــول الشــروط الفن َّيــة‬ ‫واألدب َّيــة التــي جتع ــل مــن ه ــذه املؤ َّلفــات واملنشــورات‬ ‫الفرديــة أعمــا ًلا روائيــة وأدبيــة ناجحــة‪ :‬ه ــل إقبــال‬ ‫القُ ـ َّـراء وارتفــاع نســب املبيعــات معيــار حقيقــي للحكــم‬ ‫علــى جــودة العمــل وحرفيــة الكات ــب؟‬ ‫مــا زال كبــار ُ‬ ‫الكتَّ ــاب‪ ،‬ودوائــر اجلوائ ــز األدب َّيــة‪ ،‬ودور‬ ‫النشــر‪ ،‬غيــر منفتحــن كثي ـ ًـرا علــى موجــة النشــر‬ ‫الفــردي ويتــم التعاطــي معهــا باحليطــة واحلــذر‪ .‬مــن‬ ‫اجليــد التفكيــر يف إعــادة خلــق عالق ــة جديــدة بــن‬ ‫الروائيــن ُ‬ ‫والكتَّ ــاب والقــارئ الع ــادي‪ ،‬لكــن ليــس علــى‬ ‫حســاب الشــروط الفن َّيــة واألدب َّيــة إلنتــاج النص ــوص‬ ‫وديناميــات احلكــي وأمنــاط الســرد الروائــي ا ُملتعــارف‬ ‫عليهــا‪ .‬يف احلقيقــة‪ ،‬وملواجهــة حتديــات النشــر‪،‬‬ ‫أضحــت دور النشــر الكبــرى تبحــث عــن احتضــان‬ ‫ُ‬ ‫والكتَّ ــاب َّ‬ ‫الش ــباب وإصــدار نســخ ورقيــة‬ ‫الروائيــن‬ ‫مــن مؤلَّفاتهــم الرقميــة‪ ،‬وحتــى االس ــتثمار يف‬ ‫األقــام اجلديــدة التــي يعــول عليهــا لقيــادة املرحلــة‬

‫يوفر النشر الذاتي‬ ‫ألي شخص فرصة أن‬ ‫يصير كاتبًا أو روائيًا‬ ‫دون المرور بطقوس‬ ‫الشرعية التقليد ّية‬ ‫(الناشر والناقد)‪..‬‬


‫استفهام‬ ‫‪ 118‬نقش‬

‫«فلذات أقالمنا بين الواقع والمواقع»‬ ‫من‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ذكرياتــي القدميــة أذكــر أننــي حــن‬ ‫الصحافــة‬ ‫توجهــت إلــى عالــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان أ ّول مــا فكــرت فيــه هــو اال ّتصــال بشــخص‬ ‫ُيســتأمن علــى حلــم العمــر ويعمــل علــى حتقيقــه‬ ‫فوقــع اختيــاري علــى األســتاذ جــورج ابراهيــم‬ ‫اخلــوري رئيــس حتريــر مج ّلــة ّ‬ ‫الشــبكة الــذي‬ ‫أضمــن رســائلي‬ ‫بــدأت مبراســلته علــى فتــرات وأنــا ّ‬ ‫بعضا من نتاج قلمي حتى نلت ال ّرضى ُ‬ ‫وف ِتحت‬ ‫ً‬ ‫لــي أبــواب اجمل ّلــة لتســتقبل أول مــا أبصــر ال ّنــور‬ ‫مــن حــرويف‪ ،‬ولكــن بعــد حــن! وكــم كنــت أنتظــر‬ ‫بــن رســالة ورســالة وأنــا متش ـ ّوقة لرؤيــة بنــات‬ ‫أفــكاري تختــال علــى صفحاتهــا‪.‬‬ ‫الصعــب عشــته وأبنــاء جيلــي‬ ‫هــذا الواقــع ّ‬ ‫اتهــوا إلــى نشــر إبداعاتهــم علــى‬ ‫الذيــن ّ‬ ‫والصحــف اخملتلفــة وكان‬ ‫صفحــات اجمل ـلّات‬ ‫ّ‬ ‫صــدور العــدد يــوم عيــد بال ّنســبة إلــى كلّ واحــد‬ ‫أمــا اليــوم فقــد بــات الوضــع مختلفً ــا بعــد‬ ‫منــا‪ّ .‬‬ ‫أن صــار كلّ مــا علينــا فعلــه هــو‪ :‬كتابــة مــا متليــه‬ ‫علينــا قرائحنــا باســتخدام لوحــة مفاتيــح‬ ‫قــادرة علــى ال ّتحـ ّول إلــى ســاحر ينقــل ســطورنا‬ ‫إلــى الفضــاء اإللكترونـ ّـي األزرق ليبــدأ ال ّنــاس‬ ‫بالتّفاعــل يف اللّحظــة نفســها‪.‬‬ ‫اليــوم‪ ،‬يف عصــر العوملــة تغ ّيــرت وســائل نشــر‬ ‫األفــكار وصــار لــآراء جســور مبتكــرة تعبرهــا‬ ‫لتصــل إلــى مريديهــا‪ ،‬فبعــد أن كان نشــر‬ ‫اإلبــداع يحتــاج إلــى صــوالت وجــوالت ليصــل‬ ‫إلــى ال ّنــاس‪ ،‬صــارت تكفيــه «نقــرة» ليتــوزّع علــى‬ ‫املاليــن يف حلظــات وهــذا أمــر يخــدم الكاتــب‬ ‫يهمــه أن يجــد ً‬ ‫«بوقــا» يوصــل صوتــه‬ ‫الــذي ّ‬ ‫إلــى أقصــى أقاصــي األرض‪ ،‬كمــا يهـ ّـم القــارئ‬ ‫املفضــل واحلريــص علــى‬ ‫ال ّنهــم املتت ّبــع ألديبــه‬ ‫ّ‬ ‫يقدمــه‪ .‬وهنــا يأتــي دور‬ ‫احلصــول علــى كل مــا ّ‬ ‫املهمــة‬ ‫املواقــع اإللكترون ّيــة التــي تقــوم بهــذه‬ ‫ّ‬ ‫علــى أكمــل وجــه فترضــي ّ‬ ‫وتعمــم‬ ‫الطرفــن‬ ‫ّ‬ ‫الفائــدة وتســاهم يف نقــل اآلراء واملعلومــات‬ ‫وال ّنتــاج األدبـ ّـي والفنـ ّـي وغيــر ذلــك‪.‬‬ ‫فهــل تقــف مهمــة هــذه املواقــع عنــد هــذا‬ ‫تقدمــه علــى هــذا‬ ‫احلـ ّـد؟ وهــل يقتصــر مــا ِّ‬ ‫وجوهــا أخــرى‬ ‫الوجــه املشــرق أم أنّ للحقيقــة‬ ‫ً‬ ‫ينبغــي أن نأخذهــا بعــن االعتبــار؟‬ ‫ممــا ال شـ ّـك فيــه أنّ هــذا ال ّتســهيل الــذي‬ ‫تقدمه لنا املواقع واملنتديات يقابله استسهال‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة إذا‬ ‫يف تقــدمي مــا ُيع ـ َرض مــن إنتــاج‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كان هــذا اإلنتــاج مفتقـ ًـرا للحـ ّـد األدنــى مــن‬ ‫معاييــر اجلــودة األدب ّيــة اإلبداع ّيــة كأن يكــون‬ ‫ملي ًئــا باألخطــاء اإلمالئيــة والنّحو ّيــة‪ ،‬أو أن‬ ‫يعــرض قض ّيــة تافهــة ال تســتحقّ أن ُتثــار‪ ،‬أو‬

‫زينب عبدالباقي‬ ‫كاتبة لبنانية‬

‫في عصر العولمة‬ ‫تغ ّيرت وسائل نشر‬ ‫األفكار وصار لآلراء‬ ‫جسور مبتكرة تعبرها‬ ‫لتصل إلى مريديها‪،‬‬ ‫فبعد أن كان نشر‬ ‫اإلبداع يحتاج إلى صوالت‬ ‫وجوالت ليصل إلى‬ ‫ال ّناس‪ ،‬صارت تكفيه‬ ‫«نقرة» ليتو ّزع على‬ ‫الماليين في لحظات‬ ‫يهــدم قيمــة مــن القيــم االجتماع ّيــة مــن خــال‬ ‫تقدميهــا يف قالــب أدبـ ّـي علــى طريقــة مــن يقـ ّـدم‬ ‫الدســم» وغيــر ذلــك مــن مظاهــر‬ ‫«السـ ّـم يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫االستســهال املقصــودة أو غيــر املقصــودة‪.‬‬ ‫خاصــة أنّ املنتديــات واملواقــع تعتبــر خاليــة مــن‬ ‫ّ‬ ‫عــن رقيــب إلــى حـ ّـد بعيــد‪.‬‬ ‫ـص العشــوائية يف ال ّنشــر‪،‬‬ ‫هــذا فيمــا خـ ّ‬ ‫وهــذا أمــر منتشــر إلــى حــد بعيــد إلّا عنــد‬ ‫مــن رحــم ر ّبــي‪ ،‬إذ إ ّنــي مــن خــال متابعتــي‬ ‫لعالــم اإلنترنــت أجــد الكثيــر مــن املواقــع‬ ‫التــي حتتــرم املتابعــن وتقـ ّـدم لهــم املتعــة‬ ‫والفائــدة مثــل تلــك التــي تع ّلــم أصــول ال ّنحــو‬

‫من خالل متابعتي‬ ‫لعالم اإلنترنت أجد‬ ‫الكثير من المواقع التي‬ ‫وتقدم‬ ‫تحترم المتابعين‬ ‫ّ‬ ‫لهم المتعة والفائدة‬ ‫مثل تلك التي تع ّلم‬ ‫أصول ال ّنحو أو علم‬ ‫المتخصصة‬ ‫العروض أو‬ ‫ّ‬ ‫التي تعرض األعمال‬ ‫ال ّتربو ّية وال ّلغو ّية‬ ‫واألدب ّية المم ّيزة‬ ‫املتخصصــة التــي تعــرض‬ ‫أو علــم العــروض أو‬ ‫ّ‬ ‫األعمــال التّربو ّيــة واللّغو ّيــة واألدب ّيــة املم ّيــزة‪.‬‬ ‫وهــذه املواقــع أرفــع لهــا الق ّبعــة احترامـ ًا وأشـ ّـد‬ ‫وأحتمــس لنشــرها علــى صفحاتــي‬ ‫علــى يدهــا‬ ‫ّ‬ ‫وتعريــف املتابعــن عليهــا‪.‬‬ ‫أمــا بخصــوص املنتديــات‪ ،‬فمنهــا مــا يعتمــد‬ ‫ّ‬ ‫علــى العالقــات ّ‬ ‫الشــخص ّية التــي تــر ّوج ملــا‬ ‫ال يســتحقّ التّرويــج‪ ،‬فتلعــب دو ًرا يف تغييــر‬ ‫ذائقــة الق ـ ّراء وخلطهــم بــن الغـ ّـث وال ّثمــن‪،‬‬ ‫متخصصــون يســهرون علــى‬ ‫ومنهــا مــا يرتــاده‬ ‫ّ‬ ‫متابعيهــم فيقدمــون لهــم النّصائــح ويسـ ّـددون‬ ‫أقالمهــم ويعلمونهــم التّمييــز بــن مــا ّيكتــب‬ ‫ومــا ال ُيك َتــب‪ .‬وكــم مــن املواهــب نبتــت يف تربــة‬ ‫هــذه املنتديــات اخلصبــة‪.‬‬ ‫أفضــل أن‬ ‫ولكيــا ُأطيــل علــى الق ـ ّراء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أخلــص إلــى نتيجــة مفادهــا أنّ املنتديــات‬ ‫األدب ّيــة واملواقــع اإللكترون ّيــة مــا تــزال اليــوم‬ ‫يف طــور التّجربــة التــي ســيحكم عليهــا‬ ‫ال ّزمــان وقري ًبــا ســيقول التّاريــخ كلمتــه‬ ‫ليطمــس مــا ال قيمــة لــه ويرفــع مــا يســتحقّ‬ ‫دائمــا تظــلّ ملــا تظ ّللــه األيــام‬ ‫ال ّرفــع فالعبــرة ً‬ ‫مبظ ّلــة الـ ّـدوام واإلشــراق و مــا علينــا اليــوم‬ ‫إال املتابعــة واالســتفادة مــن خيــرات هــذا‬ ‫العالــم اإللكترونـ ّـي اجلديــد واالبتعــاد عــن كل‬ ‫مــا ميكــن أن يســيء إلــى جتربتنــا اجلديــدة‬ ‫ع ّلنــا نتــرك لألجيــال القادمــة مــا يســتحق أن‬ ‫ُيح َفــظ يف كتبهــم عــن تاريخنــا‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪119‬‬

‫المنتديات والمواقع اإللكترونية‪..‬‬ ‫وسيلة للتالقح الثقافي والفكري‬ ‫مما‬

‫ال شــك فيــه أن املواقــع واملنتديــات‬ ‫اإللكترونيــة الثقافيــة أتاحــت فرصة‬ ‫كبيــرة للمثقفــن والك ّتــاب مــن كل اجلنســيات بــأن‬ ‫يتالقــوا ويتعارفــوا‪ ،‬فســاهم ذلــك يف حــدوث تالقــح‬ ‫ثقــايف وفكــري واســع الطيــف‪.‬‬ ‫اإلنترنيــت ق ـ ّرب البعيــد وخلــق بعــد ًا خــارج‬ ‫املــكان يجتمــع فيــه الــكل باختــاف البلــدان‬ ‫والقوميــات واألديــان واملذاهــب‪ ،‬ممــا أتــاح اجملــال‬ ‫للتبــادل املعــريف والثقــايف ســواء عــن طريــق‬ ‫املنتديــات االفتراضيــة أم عــن طريــق مواقــع‬ ‫التواصــل االجتماعــي املتعــددة أم عــن طريــق‬ ‫مواقــع إلكترونيــة ثقافيــة مختصــة‪.‬‬ ‫أمــا االنتشــار األكبــر مجتمعي ـ ًا لهــذه النوافــذ‬ ‫ّ‬ ‫اإللكترونيــة كان بعــد أزمــة فيــروس الكورونــا‬ ‫واحلظــر املنزلــي كحــل بديــل الســتمرار العمليــة‬ ‫الثقافيــة والتعليميــة عاملي ـ ًا‪ ،‬ممــا عــزز مكانــة‬ ‫وضــرورة وأهميــة وجــود هــذه املنتديــات وازداد عــدد‬ ‫الــرواد لهــا‪.‬‬

‫وعلــى هــذا أرى أن وجــود هــذه املواقــع هــام‬ ‫جــد ًا وفائدتهــا أكبــر مــن ضررهــا‪ ،‬والقــارئ الواعــي‬ ‫يســتطيع أن يختــار بعنايــة ملــن يقــرأ ومــن يتابــع‪،‬‬ ‫والزمــن أيض ـ ًا كفيــل بحــدوث عمليــة االصطفــاء‬ ‫الفكــري ليبقــى األفضــل واألرقــى فكري ـ ًا‪.‬‬

‫كاتبة سورية‬

‫أرى أن وجود هذه‬ ‫المواقع هام جدًا‬ ‫وفائدتها أكبر من‬ ‫ضررها‪ ،‬والقارئ الواعي‬ ‫يستطيع أن يختار‬ ‫بعناية لمن يقرأ ومن‬ ‫يتابع‪ ،‬والزمن أيضًا‬ ‫كفيل بحدوث عملية‬ ‫االصطفاء الفكري‬ ‫ليبقى األفضل واألرقى‬ ‫فكريًا‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ولكــن رغــم االنتشــار الكمــي لهــا واإلقبــال‬ ‫اجلماهيــري عليهــا إال أننــا نعانــي مــن أزمــة‬ ‫النوعيــة ونفتقــد وجــود رقابــة علــى مــا تقدمــه‬ ‫املواقــع اإللكترونيــة‪ ،‬ممــا جعلهــا موطن ـ ًا للج ِّيــد‬ ‫و الــرديء علــى حـ ّـد ســواء‪ ،‬وممكــن ألي شــخص‬ ‫مهمــا كان مســتواه الفكــري أو العلمــي أو الثقــايف‬ ‫أن يكــون رئيس ـ ًا ملنتــدى مــا ومينــح الشــهادات كمــا‬ ‫يشــاء دون تقييــم حقيقــي ملســتوى املــواد التــي‬ ‫تعــرض يف هــذه املنتديــات‪ ،‬وهنــا ال أقصــد التقليــل‬ ‫مــن قيمــة أي شــخص وحقــه يف أن يعــرض فكــره‬ ‫كمــا يشــاء‪ ،‬ولكــن هنــاك مؤهــات وضوابــط يجــب‬ ‫أن تضبــط العمليــة الثقافيــة والفكريــة واألدبيــة‬ ‫والعلميــة بأجمعهــا مــن أجــل االرتقــاء بالفكــر‬ ‫اإلنســاني‪ ،‬وحتقيــق الهــدف املرجــو مــن الثقافــة‬ ‫عموم ـ ًا أال وهــو انفتــاح الفكــر البشــري واألخــذ‬ ‫بــه نحــو آفــاق معرفيــة واســعة وطمــس اجلهــل‬ ‫والتخلــف والعــادات والتقاليــد الباليــة التــي‬ ‫تعيدنــا إلــى الــوراء‪.‬‬

‫نوار الشاطر‬


‫استفهام‬ ‫‪ 120‬نقش‬

‫العالقة بين ال ّتواصل والمواقع ال ّثقاف ّية‬ ‫والمنتد ّيات اإللكترون ّية‬ ‫التّواصل‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ســمة مت ّيــزت بهــا احليــاة‬ ‫البشــر ّية‪ ،‬وهــي تــدلّ‬ ‫لغو ًّيــا علــى وصــول فــان ّ‬ ‫للشــيء مبعنــى َب َلغــه‬ ‫وانتهــى إليــه‪ ،‬ومنــه وصــل اخلبــر‪ ،‬ويفيــد التّواصل‬ ‫والصلــة واال ّتصــال‪،‬‬ ‫يف ال ّلغــة العرب ّيــة االقتــران‬ ‫ّ‬ ‫واالتّرابــط‪ ،‬وااللتئــام‪ ،‬واجلمــع واالنتهــاء‪ .‬ويف‬ ‫البحــث عــن الكلمــة يف القواميــس األجنبيــة‬ ‫جنــد أ ّنهــا أتــت مبعنــى أ ّننــا عندمــا نخلــق ج ـ ًّوا‬ ‫مــن اإللفــة مــع اآلخريــن‪ ،‬فــإنّ ذلــك قائــم علــى‬ ‫واالتاهــات‪،‬‬ ‫مشــاركة املعلومــات واألفــكار‬ ‫ّ‬ ‫فاال ّتصــال يجمــع بــن املرســل‪/‬الباث واملرســل‬ ‫إليه‪/‬املســتقبل علــى موجــة واحــدة يف مواجهــة‬ ‫رســالة مــا‪ .‬وعليــه فــإنّ الكلمــة ُلغو ًّيــا يف اللّغتــن‬ ‫الداللــي ذاتــه‪.‬‬ ‫حتمــل البعــد ّ‬ ‫اصطالحــا فيــدلّ مفهــوم اال ّتصــال علــى‬ ‫أمــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التّفاعــل بــن طرفــن أو أكثــر بــأي موضــوع مــا‪،‬‬ ‫وذلــك مــن أجــل تبــادل املعلومــات‪ ،‬أو تبــادل‬ ‫رســائل‪ ،‬وهــذا ال ّتبــادل يهــدف إلــى إيجــاد نــوع مــن‬ ‫التّفاهــم واالنســجام‪ ،‬أو إلــى التّأثيــر يف ســلوك‬ ‫اآلخــر‪ .‬والتّواصــل يحتــاج إلــى وســيط إلمتــام‬ ‫العمليــة‪ .‬وعليــه يكــون لدينــا املرســل واملرســل إليه‬ ‫وموضــوع املرســلة وقنــاة اال ّتصــال‪.‬‬ ‫ومــن هنــا فــإن هــذا التّواصــل اختلــف مــن‬ ‫زمــن إلــى آخــر‪ ،‬ونحــن اليــوم نعيــش يف عصــر‬ ‫التّكنولوجيــا وهــو كلمــة العصــر الذّ هب ّيــة‪ ،‬فبتنــا‬ ‫نعيــش يف عصــر التّواصــل والتّالقــي املفتــوح ذي‬ ‫اجملــال الواســع‪ ،‬وقــد انتشــرت املواقــع الثّقاف ّيــة‬ ‫الســؤال الــذي‬ ‫واملنتد ّيــات االلكترونيــة‪ .‬لكـ ّـن ّ‬ ‫يفــرض نفســه علينــا‪ ،‬مــا اجلــدوى التــي حتقّ قهــا‬ ‫هذه املواقع واملنتديات‪ ،‬وهل تخدم هذا التّواصل؟‬ ‫يقســم اآلراء بــن معــارض‬ ‫ســؤال ميكــن أن ّ‬ ‫وموافــق أو مــن يتحفّ ــظ‪ .‬وقــد يتط ّلــب ا ّتخــاذ‬ ‫قدمــت لنــا هــذه‬ ‫القــرار أن نعــرض مــاذا ّ‬ ‫التّكنولوجيــا‪ .‬ال يســتطيع أحــد أن ينكــر أ ّنهــا أ ّدت‬ ‫مهمــا يف حياتنــا‪ ،‬حيــث اختصــرت املســافات‬ ‫دو ًرا ًّ‬ ‫وقدمــت‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫واختز‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫األمك‬ ‫وق ّربــت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّتســهيالت يف كثيــر مــن األعمــال‪.‬‬ ‫ومــن ّ‬ ‫الطبيعــي أنّ الباحــث يف هــذه املواقــع‬ ‫واملنتديــات ســيجد مــا يبحــث عنــه‪ ،‬فهــي أ ّوال‬ ‫عبــارة عــن صفحــات الويــب العامل ّيــة وحتتــوي عادة‬ ‫علــى ارتباطــات تشــعب ّية لبعضهــا البعــض وهــي‬ ‫متاحــة عبــر اإلنترنيــت‪ ،‬بواســطة فــرد أو شــركة‬ ‫منصــات‬ ‫مؤسســة أو منظمــة‪ ،‬وتعـ ّـد أحيانــا‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تقدمــه‬ ‫إلكترون ّيــة‪ ،‬وتتعـ ّـدد أنــواع هــذه املواقــع ومــا ّ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬دريّة فرحات‬ ‫الجامعة اللّبنانيّة‬

‫مــن خدمــات‪ ،‬فهنــاك املواقــع اإلخبار ّيــة ّ‬ ‫والطب ّيــة‬ ‫والســياح ّية‬ ‫والتّعليم ّيــة والعقار ّيــة والتّجار ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫واإلعالن ّيــة‪ ،‬وغيرهــا مــن اخلدمــات األخــرى‪.‬‬ ‫الســابقة التــي م ـ ّر‬ ‫وإذا عدنــا إلــى املرحلــة ّ‬ ‫بهــا العالــم أي مــع بــدء جائحــة كورونــا‪ ،‬جنــد أنّ‬ ‫احلجــر واالنغــاق كانــا ســمة هــذه املرحلــة‪ ،‬بحيث‬ ‫أصبحــت جــدران املنــزل هــي احلــدود املســموح بها‪،‬‬ ‫فــا تواصــل مــع اآلخريــن‪ ،‬وال خــروج ملتابعــة‬ ‫احليــاة اليوم ّيــة‪ .‬قضيــة مهمــة‪ ،‬تركــت أثـ ًـرا علــى‬ ‫املثقفــن الذيــن رأوا أ ّنهــم يف مواجهــة عــد ّو‬ ‫ّ‬ ‫عطــل أهدافهــم وأعمالهــم‪ ،‬ويف الوقــت عينــه‬ ‫جعلهــم يقفــون بــن أمريــن‪ ،‬كالهمــا مهمــان‬ ‫الصحــة‬ ‫الســتمرار احليــاة‪ ،‬األ ّول احلفــاظ علــى ّ‬ ‫الصحــة‬ ‫اجلســد ّية‪ ،‬والثّانــي احلفــاظ علــى‬ ‫ّ‬ ‫الفكر ّيــة الثّقاف ّيــة‪ ،‬ويف زمــن اجلائحــة‪ ،‬أصبــح‬ ‫الضــروري للحفــاظ علــى ســامة اجلســم‬ ‫مــن ّ‬ ‫مــن وبــاء الكورونــا وا ّتبــاع التّباعــد االجتماعـ ّـي‪،‬‬ ‫ـاءات‬ ‫واحلفــاظ علــى ســامة الفكــر يتط ّلــب لقـ ٍ‬ ‫وجتمعــات‪ ،‬فباتــت معضلـ ًـة أرقّ ــت مضجــع‬ ‫ّ‬ ‫املثقفــن واملفكّ ريــن والهيئــات التّعليميــة‪.‬‬ ‫ولــم يكــن املنجــاة إلّا بوجــود هــذه ّ‬ ‫الشــبكة‬ ‫العنكبوت ّيــة التــي حتتــوي علــى املواقــع الثقاف ّيــة‬ ‫واملنتديــات اإللكترون ّيــة‪ .‬ومــن أهــم مــا حــدث مــا‬ ‫لــه عالقــة بالتّعليــم مــن بعــد‪ ،‬فســاعدت هــذه‬ ‫املنصــات علــى اســتمرار العمل ّيــة التّعليم ّيــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأيضــا فقــد أســهمت هــذه ّ‬ ‫الشــبكة يف تفعيــل‬ ‫ً‬ ‫فتعمــق الت ّواصــل‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ّقاف‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫واحل‬ ‫ـدوات‬ ‫ال ّنـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنصــات واملنتديــات اإللكترونيــة قــادرة‬ ‫وباتــت‬ ‫ّ‬ ‫معــا مهمــا ابتعــدت‬ ‫علــى أن جتمــع النــاس ً‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪121‬‬

‫ّ‬ ‫يدل مفهوم اال ّتصال‬ ‫على ال ّتفاعل بين‬ ‫طرفين أو أكثر بأي‬ ‫موضوع ما‪ ،‬وذلك من‬ ‫أجل تبادل المعلومات‪،‬‬ ‫أو تبادل رسائل‪..‬‬ ‫تؤدي المنتديات‬ ‫ّ‬ ‫اإللكترونية ّ‬ ‫الثقاف ّية‬ ‫فعا ًلا في توثيق‬ ‫دو ًرا ّ‬ ‫الصالت‪ ،‬وفي ّ‬ ‫االطالع‬ ‫ّ‬ ‫على آراء المثقفين‬ ‫ّ‬ ‫والمفكرين‪ ،‬وقيام‬ ‫حلقات حوار ّية‬ ‫متعددة األطراف‬ ‫ّ‬ ‫لم نعد قادرين على‬ ‫إلغاء هذه المواقع‬ ‫ّ‬ ‫الثقاف ّية والمنتديات‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬فإذا رأى‬ ‫البعض ّ‬ ‫أن وجودها‬ ‫يدمر المجتمع‪ ،‬وإذا رأى‬ ‫ّ‬ ‫أحدهم ّ‬ ‫بأن توقيفها‬ ‫ضد الحر ّية‪ ،‬فهي باقية‬ ‫ّ‬ ‫وموجودة وال يمكن‬ ‫حجبها‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫املســافات‪ ،‬واختلفــت األماكــن‪.‬‬ ‫ومــن ّ‬ ‫الطبيعــي أنّ لهــذه املواقــع واملنتديــات‬ ‫الثّقاف ّيــة دو ًرا يف احلصــول علــى املعلومــات بأيســر‬ ‫طريــق‪ ،‬فمجــرد أن نســتخدم مح ـ ّركات البحــث‬ ‫نحصــل علــى املعلومــة مــن عـ ّـدة مصــادر وجهــات‪،‬‬ ‫وهــذا يسـ ّـهل العمــل‪ ،‬ورمبــا ميكننــا أن نخـ ّزن العديــد‬ ‫مــن املعلومــات مبــكان ال يســتهلك احلجــم الكبيــر‪.‬‬ ‫وتــؤ ّدي املنتديــات اإللكترونيــة الثّقاف ّيــة دو ًرا‬ ‫الصــات‪ ،‬ويف ّ‬ ‫االطــاع علــى آراء‬ ‫فعــا ًلا يف توثيــق ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثقفــن واملفكّ ريــن‪ ،‬وقيــام حلقــات حوار ّيــة متعـ ّـددة‬ ‫األطــراف‪.‬‬ ‫وإذا كان لهــذه املواقــع واملنتديــات هــذا الـ ّـدور‬ ‫اإليجابــي يف تفعيــل التّواصــل‪ ،‬فــإنّ وجهــة نظــر‬ ‫الســلبيات‪ ،‬فكــم مــن‬ ‫أخــرى تــرى يف ذلــك بعــض ّ‬ ‫شــخص وقــع ضح ّيــة بعــض املواقــع اإلعالن ّيــة‬ ‫خصوصــا مــع تيســير الدفــع‬ ‫والتّجار ّيــة والســياح ّية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مــن بعــد أو عبــر بطاقــات االئتمــان‪ ،‬وأيضــا فقــد يقــع‬ ‫اإلنســان يف شــرك خــداع العالقــات اإلنســان ّية‪.‬‬ ‫وإذا كان االنفتــاح علــى العالــم عبــر هــذه املواقــع‬ ‫ـؤدي إلــى ســيطرة أفــكار‬ ‫واملنتديــات‪ ،‬فــإنّ ذلــك قــد يـ ّ‬ ‫مشــبوهة‪ ،‬وتعميــم ثقافــة غيــر ســليمة‪ ،‬ألنّ العالــم‬ ‫بــات صفحــة مفتوحــة للجميــع مــن دون رقيــب أو‬ ‫وازع‪ ،‬وهــذا مــا ميكــن أن يــؤ ّدي إلــى عوملــة ثقاف ّيــة‬ ‫تبيــح مــا يخالــف قيــم مجتمــع مــا‪.‬‬ ‫وال ننســى مــا ميكــن أن نــراه يف املواقــع اإلخبار ّيــة‬ ‫املزيفــة‪ ،‬أو التــي تنشــر أخبــا ًرا مغرضــة‪ ،‬وتكــون‬ ‫مفتوحــة أمــام اجلميــع فيســهل وصــول ذلــك إلــى‬ ‫اجلميــع‪.‬‬ ‫إذّا مــن الواضــح أنّ لــكل أمــر وجهــن‪ ،‬الوجــه‬ ‫ـلبي‪ .‬وبغــض ال ّنظــر عــن‬ ‫اإليجابـ ّـي والوجــه السـ ّ‬ ‫اقتناعنــا بــأي وجــه هــو الغالــب‪ ،‬فإ ّننــا لــم نعــد‬ ‫قادريــن علــى إلغــاء هــذه املواقــع الثّقاف ّيــة واملنتديــات‬ ‫يدمــر‬ ‫اإللكترونيــة‪ ،‬فــإذا رأى البعــض أنّ وجودهــا ّ‬ ‫اجملتمــع‪ ،‬وإذا رأى أحدهــم بــأنّ توقيفهــا ضـ ّـد‬ ‫احلر ّيــة‪ ،‬فهــي باقيــة وموجــودة وال ميكــن حجبهــا‪.‬‬ ‫إنّ ا ّتخــاذ هــذا القــرار ليــس باألمــر الهــن‬ ‫وليــس مجد ًّيــا‪ ،‬فاحليــاة تســير إلــى األمــام‪ً .‬إذا‬ ‫والســندان‪ ،‬بــن مطلــب‬ ‫نحــن نقــف بــن املطرقــة‬ ‫ّ‬ ‫الهويــة‬ ‫الثّقافــة والتّواصــل ونطلــب احلفــاظ علــى ُ‬ ‫وعلــى األمــان‪ ،‬ولنســتطيع التوفيــق بــن املطلبــن‬ ‫علينــا حســن اســتخدام هــذه املنتديــات واملواقــع‪.‬‬ ‫وأن نتعامــل معهــا بحــذر كــي ال نقــع يف احملظــور‪،‬‬ ‫تقدمــه لنــا مــن‬ ‫وأن نحــاول التّركيــز علــى مــا ّ‬ ‫إيجاب ّيــات‪ ،‬وجت ّنــب الســلب ّيات‪ ،‬وطبعــا هــذا يتط ّلــب‬ ‫ـليما‪،‬‬ ‫نوجــه مــن يتعامــل معهــا توجيهــا سـ ً‬ ‫م ّنــا أن ّ‬ ‫الصاعــد الــذي يــرى يف‬ ‫ً‬ ‫وخصوصــا مــع اجليــل ّ‬ ‫حرمانــه منهــا كأ ّننــا نقــف يف وجــه حر ّيتــه‪ ،‬فعلينــا‬ ‫أن نعطيــه حريــة اســتخدام هــذه املواقــع مــع تعليمــه‬ ‫كيفيــة التعامــل معهــا بأمــان‪ .‬وبذلــك نحقّ ــق األمــن‬ ‫الســيبراني وللحمايــة مــن الوصــول غيــر املصـ ّرح بــه‬ ‫إلــى مراكــز البيانــات واألنظمــة احملوســبة‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫‪ 122‬نقش‬

‫االنفتاح الثقافي في عصر الشبكة العنكبوتية‬ ‫الدور‪ ..‬واألثر‬ ‫منذ‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫فتــرة وجيــزة لــم يعــرف العالــم شــبكة‬ ‫اإلنترنــت‪ ،‬فهــذه الشــبكة حديثــة‬ ‫عهـ ٍـد بركــب احلضــارة‪ ،‬ولكنهــا دخلــت بثقلهــا‪ ،‬لقــد‬ ‫غيــرت شــخصية اإلنســان املعاصــر بدرجــة ال بــأس‬ ‫بهــا‪ ،‬أوال‪ ،‬أصبحــت بديــا قويــا ومنافســا للصحافــة‬ ‫الورقيــة‪ ،‬بــل رمبــا أعدمــت الكثيــر مــن الصحــف‬ ‫الورقيــة‪ ،‬ولــم تقتصــر علــى األخبــار احملليــة بــل‬ ‫جتاوزتهــا إلــى العامليــة‪ ،‬وأيضــا األخبــار االجتماعيــة‬ ‫واملدونــات الشــخصية‪ ،‬كان لهــذ االنفتــاح الثقــايف‬ ‫دور خطيــر يف تغييــر األمنــاط الثقافيــة‪ ،‬ف ُأنشــأت‬ ‫منتديــات ثقافيــة متنوعــة علــى حســب اجتاهــات‬ ‫أصحابهــا‪ ،‬وأتاحــت فرصــة كبيــرة لــكل مــن يكتــب‬ ‫سواء كان أصيال يف الكتابة أم سطحيا يف أفكاره أن‬ ‫ينثــر كلماتــه يف شــتي املنتديــات‪ ،‬وهنــاك منهــم مــن‬ ‫يعجــب برأيــه فــا يــري لآلخريــن أهميــة‪ ،‬ويتجاهــل‬ ‫اجلميــع وينقــد هــو ويســيء لــكل مــن ينقــد باعتبــاره‬ ‫مهاجم ـ ًا لــه‪ ،‬ممــا يجعــل الكثيريــن يصفقــون لــه‬ ‫باســتمرار‪ ،‬إلــى جانــب العصبيــات والتوجهــات‬ ‫الفكريــة والسياســية‪ ،‬فأصبــح للكثيريــن محبــون‬ ‫ومشــجعون‪ ،‬ليســوا ألنهــم يحبــون الثقافــة ولكــن‬ ‫فقــط لوجهــات أخــرى شــخصية أو فكريــة‪.‬‬ ‫أتاحــت وســائل التواصــل االجتماعــي‪ ،‬ظهــور‬ ‫أشــياء ومواقــف يتــم التقاطهــا مباشــرة مــن دخــل‬ ‫احلــدث رمبــا كانــت الســبب يف إدانــة الكثيريــن‬ ‫وخســارتهم‪ ،‬إلــى جانــب أنهــا رمبــا كانــت ســببا يف‬ ‫إنقــاذ الكثيريــن أو تعاطــف اجلميــع معهــم‪ ،‬بينمــا‬ ‫كانــوا قبــل هــذا النشــر ال يعبــأ بهــم أحــد وال يبالــي‬ ‫بهــم أحــد‪.‬‬ ‫وأتاحــت منصــات وســائل التواصــل االجتماعــي‬ ‫للكثيريــن مــن ذوي املواهــب األدبيــة احلقيقيــة‬ ‫فرصــة الظهــور‪ ،‬وإن كانــت مجتمعاتنــا العربيــة‬ ‫تعانــي مــن البيروقراطيــة‪ ،‬وحــب الــذات وأحيانــا‬ ‫طمــس هويــة البعــض ثقافيــا مــن أجــل األنــا‬ ‫الداخليــة للبعــض‪ ،‬وبالتالــي فقــدان الكثيريــن‬ ‫ملواهبهــم حتــت غــرور وعجرفــة غيرهــم وطمــس‬ ‫طموحهم‪ ،‬فقد كان لوســائل التواصل االجتماعي‬ ‫وســيلة قويــة للتواصــل مــع مجــات خارجيــة بشــتي‬ ‫أنواعهــا ودور نشــر وتواصــل مــع مبدعــن مشــجعني‬ ‫وذووي خبــرة وقــدرة علــي العطــاء والتواصــل ممــا‬ ‫أتــاح لهــم فرصــا كثيــرة لالتســاع والنجــاح‪ ،‬ولكــن‬ ‫يغيــب عــن الكثيــر مــن هــؤالء أحيانــا العمــق‪ ،‬حيــث‬ ‫يفقــدون نكهــة التواصــل املباشــر مــع الطبقــة‬ ‫املثقفــة التــي تعطــي للمبــدع ثقــا وأصالــة‪ ،‬ولكــن‬ ‫كمــا يقولــون «نصــف العمــى وال العمــى كلــه» فهــي‬

‫د‪ .‬شاكر صربي‬ ‫كاتب مرصي‬

‫أتاحت منصات وسائل‬ ‫التواصل االجتماعي‬ ‫للكثيرين من ذوي‬ ‫المواهب األدبية‬ ‫الحقيقية فرصة‬ ‫الظهور‪..‬‬ ‫أفضــل بكثيــر مــن ال شــيء خاصــة ملــن يفقــدون كل‬ ‫وســائل التشــجيع واإلثــارة الفكريــة‪.‬‬ ‫صنعــت وســائل التواصــل االجتماعــي مــن‬ ‫اإلنســان املعاصــر شــخصية جديــدة‪ ،‬محبــا للجهــاز‬ ‫أكثر من البشــر‪ ،‬مقال يف الصداقة‪ ،‬مما ســاعد على‬ ‫قلــة الترابــط يف األســرة فتجــد البعــض ينهمــك مــع‬ ‫جهــاز الالبتــوب أو احملمــول أكثــر مــن أفــراد أســرته‪..‬‬ ‫وهنــاك أيضــا التأثيــر الســلبي علــى اجلســم‬ ‫بســبب طــول مــدة اتصــال الفــرد بهــذه األجهــزة‪،‬‬ ‫وأيضــا تأثيــره علــى األعصــاب والتركيــز‪ ،‬ومــا يهمنــا‬ ‫هــو علــى درجــة اإلبــداع العميقــة التــي يحتاجهــا‬ ‫املبــدع لكــي تنضــج جتربتــه اإلبداعيــة‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫نفتقــده كثيــر ًا بــن رواد مواقــع التوصــل االجتماعي‬ ‫يف هــذا العصــر‪.‬‬


‫استفهام‬ ‫نقش ‪123‬‬

‫متعدد‬ ‫مالحظات عابرة في فضاء أزرق‬ ‫ِّ‬

‫حفيضة اربيعة‬ ‫كاتبة مغربية‬

‫ال يستطيع المرء إنكار‬ ‫ما لهذه المنتديات من‬ ‫ِّ‬ ‫الحث على‬ ‫فضل في‬ ‫االطالع وتبادل األفكار‬ ‫وتشجيع الكتاب والهواة‬ ‫أيضا‪ ،‬إال أن هذا ما يبدو‬ ‫لنا في الظاهر فحسب‪..‬‬ ‫ليــل إال مــن رحــم اهلل‪ ،‬وتــراه يخــوض يف دوامــة‬ ‫عالقــات فرضــت عليــه مجاملــة كلّ مــا ينشــر‪،‬‬ ‫وإبــداء اإلعجــاب واملــدح‪ ،‬فانعكــس األمــر هنــا مــن‬ ‫حــراك ثقــايف وأدبــي كنــا نأملــه ونرجــوه‪ ،‬إلــى تزيــن‬ ‫بأســماء وألقــاب منمقــة ووهميــة‪ ،‬إلثبــات وجــود‬ ‫واه‪ ،‬حققتــه معظــم املنتديــات والتــي كثيــرا مــا‬ ‫ٍ‬ ‫حتــاول حمايــة نفســها بشــعارات فارغــة‪ ،‬ظاهرهــا‬ ‫ثقــايف إنســاني‪ ،‬لكــن باطنهــا ضبابــي يفتقــر إلــى‬ ‫منهجيــة مضبوطــة ورؤيــة دقيقــة‪ ،‬وال يهمهــا غيــر‬ ‫اســتقطاب األعضــاء دون التأكــد مــن أهليتهــم‬ ‫وأهدافهــم‪.‬‬ ‫إضافــة إلــى كــون املنتديــات ح ّلــت محــل طــوق‬ ‫يخنــق صاحبــه‪ ،‬حيــث يجــد العضــو نفســه يف‬ ‫منتــدى معــن ملزمــا بعالقــات كثيــرة‪ ،‬وبإجباريــة‬ ‫التفاعــل مــع كل مــا ينشــر حتــى وإن كان دون‬ ‫املســتوى املطلــوب‪.‬‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ال أحــد ينكــر أن التواصــل عــن بعــد‪ ،‬واعتمــاد‬ ‫املنتديــات االفتراضيــة قــد اختصــر علينــا الوقــت‬ ‫واملســافات‪ ،‬لكنهــا بهــذا قــد قتلــت روح املثابــرة‪،‬‬ ‫وقضــت علــى املنافســة يف اســتغالل الوقــت يف كل‬ ‫مــا هــو مفيــد‪.‬‬ ‫ولعــل املتتبــع للشــأن الثقــايف‪ ،‬خاصــة يف‬ ‫العالــم األزرق‪ ،‬يالحــظ كثــرة املواقــع واملنتديــات‬ ‫الثقافيــة اإللكترونيــة‪ ،‬وكلهــا تنشــط حتــت طوابــع‬ ‫ثقافيــة وأدبيــة‪ ،‬ســواء منهــا مــا يهتــم بالشــعر بــكل‬ ‫أنواعــه (العمــودي‪ ،‬واحلــر‪ )...‬أو الروايــة‪ ،‬والقصــة‬ ‫القصيــرة والقصــة القصيــرة جــدا‪ ،‬والومضــة‪،‬‬ ‫والهيكــو‪ ،‬وقصــص األطفــال‪ ،‬واملســرحيات‪،‬‬ ‫والســجاالت‪ ،‬و‪ ......‬إلــخ‪ .‬وكل واحــدة مــن هــذه‬ ‫املنتديــات اتخــذت لهــا تســميات ومصطلحــات‪،‬‬ ‫إمــا للعامليــة‪ ،‬كاملنتــدى‬ ‫تفننــت فيهــا‪ ،‬ونســبتها ّ‬ ‫العاملــي ل‪ ....‬أو قوميــة‪ :‬الرابطــة العربيــة ل‪......‬‬ ‫وال يســتطيع املــرء إنــكار مــا لهــذه املنتديــات‬ ‫مــن فضــل يف احلـ ِّـث علــى االطــاع وتبــادل األفــكار‬ ‫وتشــجيع الكتــاب والهــواة أيضــا‪ ،‬إال أن هــذا مــا‬ ‫املتمحــص‬ ‫يبــدو لنــا يف الظاهــر فحســب‪ ،‬إذ أن‬ ‫ِّ‬ ‫يكتشــف كثيــرا مــن االبتــذال‪ ،‬ويحــدث هــذا عندمــا‬ ‫يصبــح التنافــس شرســا ليــس علــى جــودة احملتوى‪،‬‬ ‫بــل علــى عــدد األعضــاء‪ ،‬ويكبــر االبتــذال عندمــا‬ ‫يصبــح كل واحــد ال يقــرأ إال مــا كتبــه هــو أو أحــد‬ ‫أصدقائــه املقربــن‪ ،‬ويقــلّ التفاعــل‪ ،‬وذلــك نتيجــة‬ ‫للمحابــاة التــي يســلكها املســؤولون علــى الصفحة‪،‬‬ ‫بحيث ينشــرون كل ما يبعث لهم من ســمني وغث‪،‬‬ ‫وذاك خوفــا مــن فقــد االعضــاء‪ ،‬واألغــرب مــن ذلــك‬ ‫نراهــم يوشــحون صــدر اجلميــع بشــهادات عليــا‪،‬‬ ‫وقــد جتــد دكتــوراه فخريــة وهبــت لهــذا الشــاعر أو‬ ‫تلك الشــاعرة! فينفخون بذلك ذوات هؤالء وهم ًا‬ ‫وزيفــا‪ ،‬بصــرف النظــر عــن أن هــذا ليــس بشــاعر أو‬ ‫تلــك ليســت بشــاعرة ال يســتحق التكــرمي‪ ،‬ألنّ مــا‬ ‫يســتحق النظــر إليــه هنــا أن املانــح لهــذا التكــرمي‬ ‫افتراضــي ومنعــدم األهليــة وليــس مخــوال لذلــك‪،‬‬ ‫فقــط مج ـ ّرد تكرميــات مضحكــة يف فضــاء بعيــد‬ ‫عــن الرقابــة‪.‬‬ ‫وبســبب هــذا الوضــع تهافــت املغفلــون‬ ‫واملتطفلــون واألدبــاء اجلــدد علــى هــذه املائــدة‬ ‫االســتعراضية‪ ،‬حتــى مــن بعــض املثقفــن ممــن ال‬ ‫يعرفــون حقيقتهــا وقــع فيهــا‪ ،‬ومــن هنــا تس ـ ّيدت‬ ‫الســلبية وقــلّ اإلقبــال علــى الثقافــة احلقــة‬ ‫وتلقيهــا مــن مصادرهــا يف فوضــى ال مثيــل‬ ‫لهــا‪ ،‬ليجــد اإلنســان نفســه كالــذي يتخبــط يف‬


‫استفهام‬ ‫‪ 124‬نقش‬

‫على المنصات الثقافية نعتصم بحبل عروبتنا‬ ‫حني‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫نتأمــل عالــم الثقافــة االفتراضي‬ ‫اليــوم ونلتفــت إلــى بداياتــه‬ ‫مــع ظهــور اإلنترنــت يف الوطــن العربــي حيــث‬ ‫التســعينات مــن القــرن املاضــي ‪-‬ومــا ذلــك ببعيد‪-‬‬ ‫نــدرك مــدى الســرعة التــي تنامــى فيهــا‪ ،‬وإن كانــت‬ ‫جتربتــي الشــخصية مــع املواقــع الثقافيــة كانــت‬ ‫بعــد دخولنــا األلفيــة الثانيــة ببضــع ســنوات‪ ،‬ولــم‬ ‫يكــن هــذا الزخــم مــن املواقــع واملنصــات موجــودا‬ ‫بــل كانــت تتمثــل يف بعــض املواقــع التــي نســتقي‬ ‫منهــا املعلومــات‪ ،‬وتوفــر لنــا بعضــا مــن الكتــب‬ ‫وكنــت أراهــا كنــوزا‪.‬‬ ‫وبالطبــع كانــت الفئــة األكثــر تفاعــا مــع تلــك‬ ‫املواقــع مــن الشــباب؛ حيــث قدرتهــم علــى التعامــل‬ ‫مــع التكنولوجيــا احلديثــة وانبهارهــم وولعهــم‬ ‫بهــا‪ ،‬ولــم تكــن جميــع الــدول العربيــة علــى نفــس‬ ‫القــدر مــن التفاعــل مــع تلــك املواقــع وهــذه‬ ‫املنصــات املســتحدثة تبعــا ملــدى توفــر اإلنترنــت‬ ‫لديهــا وتقبــل الشــعوب للتعامــل مــع تلــك الشــبكة‬ ‫العنكبوتيــة‪.‬‬ ‫أمــا اليــوم وقــد أصبحنــا نســبح يف بحــر زاخــر‬ ‫ّ‬ ‫يتدفــق بــن‬ ‫باملواقــع واملنصــات‪ ،‬وهــذا البحــر‬ ‫كفينــا حيثمــا حللنــا‪ ،‬حيــث طفــرات لــم تكــن‬ ‫تخطــر ببالنــا منــذ ســنوات ليســت ببعيــدة‪ .‬ومــا‬ ‫أجمــل الســباحة يف بحــر الثقافــة العربيــة املمتــد‬ ‫مــن اخلليــج إلــى احمليــط‪ ،‬فبضغطــة زر أكــون‬ ‫علــى شــاطئ املعرفــة بالعــراق أو اليمــن‪ ،‬تونــس‬ ‫وبــاد املغــرب‪ ،‬أو بــاد الشــام ودول اخلليــج‪ ،‬يف‬ ‫الصبــاح أقــرأ جريــدة األهــرام املصريــة‪ ،‬وعصــرا‬ ‫أطلــع علــى الــرأي الكويتيــة‪ ،‬وباملســاء معــك يــا‬ ‫لبنــان‪ ،‬وبلمســة للشاشــة أحضــر نــدوة ثقافيــة‬ ‫جتمعنــي وأدبــاء ومبدعــن مــن مختلــف أقطــار‬ ‫الوطــن العربــي العزيــز‪ ،‬جتمعنــا فكــرة فنعتصــم‬ ‫بحبــل عروبتنــا ونناقشــها ونطــرح آراءنــا وجتاربنا‬ ‫وخبراتنــا اخملتلفــة‪.‬‬ ‫ال تقتصــر املنصــات الثقافيــة علــى طــرح‬ ‫األعمــال األدبيــة واملقــاالت وطــرح اآلراء فقــط‬ ‫كمــا كان مــن قبــل‪ ،‬بــل صنعــت تضافــرا مــع وســائل‬ ‫التواصــل اإللكترونيــة وجعلــت منهــا منصــات‬ ‫ثقافيــة تقيــم مــن خاللهــا النــدوات واملؤمتــرات‪،‬‬ ‫بــل اجتهــت يف بعــض األحيــان إلــى أن تكــون‬ ‫منصــات ثقافيــة تعليميــة أيضــا‪ .‬رمبــا دفعتنــا‬ ‫إلــى ذلــك مؤخــرا جائحــة كورونــا التــي اضطرتنــا‬ ‫إلــى االعتمــاد علــى تلــك املنصــات بشــكل يــكاد‬ ‫يكــون كليــا‪ ،‬وقــد كانــت خيــر بديــل يف هــذه األزمــة‬ ‫لتلبي ــة احتياجــات املثقــف العربــي‪ ،‬ونافــذة أطــل‬ ‫منهــا علــى اآلخــر وطاقــة وصــل‪ ،‬وإن كان البعــض‬

‫د‪ .‬إميان عبدالعال حمزة‬ ‫أديبة وأكادميية مرصية‬

‫ال تقتصر المنصات‬ ‫الثقافية على طرح‬ ‫األعمال األدبية‬ ‫والمقاالت وطرح اآلراء‬ ‫فقط كما كان من‬ ‫قبل‪ ،‬بل صنعت تضافرا‬ ‫مع وسائل التواصل‬ ‫اإللكترونية وجعلت‬ ‫منها منصات ثقافية‬ ‫تقيم من خاللها‬ ‫الندوات والمؤتمرات‬ ‫يــرى أنهــا ال تتــاءم وبعــض أنــواع الفنــون كاملســرح‬ ‫وتقنياته‪.‬‬ ‫لكــن ممــا ال شــك فيــه أن تلــك املنصــات‬ ‫العربيــة خلقــت نوعــا مــن اللحمــة الثقافيــة‬ ‫وتالقــح األفــكار العربيــة العربيــة‪ ،‬والعربيــة‬ ‫األجنبيــة أيضــا عبــر انفتــاح األفــق الثقــايف‬ ‫وســهولة االرتشــاف منــه‪ ،‬ولقــد ّ‬ ‫وفــرت الكثيــر‬ ‫مــن الوقــت واجلهــد وعنــاء الســفر واالنتقــال‪،‬‬ ‫حتــى إنّ هنــاك بعضــا مــن شــعوبنا تقــع حتــت‬ ‫ـروف ُتَاصرهــا داخــل أوطانهــا؛ فتكــون‬ ‫ظـ ٍ‬ ‫تلــك املنصــات مبثابــة أجنحــة حتلــق بهــا خــارج‬ ‫حدودهــا‪ ،‬هــذا وكــم مــن أســماء ملــع جنمهــا مــن‬

‫خــال تلــك املنصــات الســاحرة التــي تســتطيع‬ ‫أن تســلط الضــوء نحــو مــن ميتلــك موهبــة‬ ‫أدبيــة وتصنــع منــه جنمــا ميتلــك جمهــورا‬ ‫عريضــا‪.‬‬ ‫ليــس فقــط األديــب أو املبــدع والناقــد هــو‬ ‫مــن وجــد مكانــه علــى املنصــات الثقافيــة‪ ،‬بــل‬ ‫دور النشــر والطباعــة أيضــا حــن واكبــت وســايرت‬ ‫تلــك الطفــرات اإللكترونيــة فوجدنــا بعــض دور‬ ‫النشــر تصنــع لنفســها منصــات تطــرح يف أناقــة‬ ‫مــا تنتجــه مــن كتــب فتكــون منصتهــا ثقاف ــية‬ ‫جتاريــة؛ أي أصبــح لدينــا متاجــر إلكترونيــة‬ ‫ثقافيــة‪ ،‬ليــس هــذا فحســب فطــرق طــرح الكتــاب‬ ‫لــم تعــد بصورتــه التقليدي ــة الورقيــة‪ ،‬فهنــاك‬ ‫الصيــغ اإللكترونيــة ‪ pdf‬فمــن كان يتخ ّيــل أنــه‬ ‫بكبســة زر يكــون لديــه نســخة مــن كتــاب أعجبــه؟!‬ ‫ولن أغفـل هنا احلديث عن منصات طرح الكتب‬ ‫املســموعة (بودكاســت) فقــد أدمنهــا البعــض‬ ‫فأصبــح يروقــه ســماع الكتــب حيــث يســتطيع‬ ‫إجنــاز ذلــك أثنــاء قيامــه ببعــض األعمــال يف ظــلّ‬ ‫ضيــق الوقــت وســرعة إيقــاع احليــاة‪.‬‬ ‫ناهيــك عــن املنصــة املرئيــة الشــهيرة‬ ‫(اليوتيــوب) التــي تعــد رافــدا مــن روافــد التلقــي‬ ‫جلميــع الثقافــات‪ ،‬ووســيلة عــرض متاحــة‬ ‫بالصوت والصورة املباشــرة أو عن طريق تســجيل‬ ‫البــث وإعــادة نشــره وإتاحــة احملاضــرات والنــدوات‬ ‫واملؤمتــرات مــن خاللهــا‪.‬‬ ‫وهنــاك كيانــات ثقافيــة أصبــح لهــا حضــور يف‬ ‫هــذا العالــم االفتراضــي فقــد أقيمــت أكادمييــات‬ ‫ثقافيــة تقــدم املعــارف اخملتلفــة إلكترونيــا‪:‬‬ ‫األدبيــة والدينيــة والفنيــة وعلــوم احلوســبة أيضــا‬ ‫وتتــاح ألفــراد العالــم العربــي كافــة غيــر قاصــرة‬ ‫علــى بلــدة بعينهــا‪.‬‬ ‫فاحلديــث عــن املواقــع واملنصــات الثقافيــة‬ ‫يطــول‪ ،‬أمــا عــن املشــاركني يف هــذا النشــاط‬ ‫اإلنســاني طرحــا وتلقــي فأغلبهــم مــن الشــباب‬ ‫حيــث يجيــد أغلبهــم التعامــل والتفاعــل مــع‬ ‫مســتحدثات التكنولوجيــا وإن كان اجليــل األكبــر‬ ‫يشــاركهم التفاعــل أيضــا بإمكانــات متكنــه مــن‬ ‫التواصــل مــع العالــم مــن حولــه‪.‬‬ ‫ووســط كل هــذه الفوائــد والثمــار العائــدة‬ ‫مــن هــذا األفــق الثقــايف املمتــد يف ال نهايــة‪ ،‬أرى‬ ‫ضــررا قــد يحــدث عنــد إســاءة االســتخدام أال وهــو‬ ‫التعــدي علــى احلقــوق الفكريــة وأراه يف ذاتــه تعــد‬ ‫أخالقي‪ ،‬أمتنى أن نسمو بثقافتنا عليه‪ ،‬ونفاخر‬ ‫بتنــوع ثقافتنــا العربيــة وأصالتهــا وعمقهــا‪،‬‬ ‫ونتيــه بجمــال وســيلتها‪ :‬لغتنــا اجلميلــة‪.‬‬


‫‪125‬‬

‫«ح ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالخ ُرج‪”..‬‬ ‫ط‬ ‫ُ‬

‫مرافئ‬ ‫دالية زرعيني‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬

‫ُح ّط‪ ..‬كلمة عامية تعني ضع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اخلــرج‪ ..‬وعــاء مــن اخليــش أو اجللــد أو الصــوف ذو جيبتــن‪ ،‬يوضــع‬ ‫علــى ظهــر الدابــة لنقــل األمتعــة فيــه‪.‬‬ ‫وقصــة املثــل‪ :‬أنّ رجــل ديــن ُاشــتُ هر بالتقــوى والفضيلــة والــورع‬ ‫الشــديد‪ ،‬وكان صاحــب طريقــة يف أعمــال اخليــر‪ ،‬فــكان يعتبــر أن إشــاعة‬ ‫اخليــر بــن النــاس‪ ،‬هــي بدايــة التقــوى‪ ،‬لذلــك كان يجمــع الصدقــات‪،‬‬ ‫مــن األغنيــاء ويوزعهــا علــى الفقــراء بطريقــة خاليــة مــن اإلحــراج‬ ‫متام ـ ًا‪.‬‬ ‫كان يطــوف رجــل الديــن التقــي الــورع‪ ،‬علــى دا ّبتــه مــن مــكان إلــى‬ ‫آخــر‪ ،‬ويضــع حتتــه ُخرجـ ًا‪ ،‬توضــع فيــه اإلعانــات‪ ،‬فــإذا تقـ ّـدم إليــه رجـ ٌـل‬ ‫مببلــغ مــن املــال‪ ،‬قــال لــه‪ُ :‬حــط ُ‬ ‫باخلــرج‪ ،‬دون أن يهتــم مبعرفــة قيمــة‬ ‫املبلــغ املالــي‪ ،‬الــذي تصــدق بــه الرجــل‪.‬‬ ‫وكان كلمــا صــادف أحــد ًا محتاج ـ ًا‪ ،‬يقــول لــه‪« :‬شــيل مــن ُ‬ ‫اخلــرج»‪،‬‬ ‫فيأخــذ غيــر ُمح ـ َرج دون خجــل‪ ،‬مبــا مـ ّـد إليــه يــده وأخــذه مــن ُ‬ ‫اخلــرج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫باخلــرج»‪ ،‬بــن النــاس‪ ،‬فصــارت مث ـ ًا‬ ‫«حــط‬ ‫وهكــذا اشــتهرت عبــارة‪ُ ،‬‬ ‫معروف ـ ًا‪ ،‬تناقلتــه األلســن‪ ،‬حتــى زماننــا احلالــي‪.‬‬ ‫عندمــا يتحــدث إليــك أحدهــم عــن شــيء ال أهميــة لــه وال يســتحق‬ ‫ـط ُ‬ ‫أن تعطيــه مــن وقتــك وطاقتــك تقــول لــه‪ُ :‬حـ ّ‬ ‫باخلــرج‪..‬‬ ‫عندمــا يشــكو لــك أحدهــم همومــه وأحزانــه حتــاول التخفيــف عنــه‬ ‫ـط ُ‬ ‫لينســى‪ ،‬فتقــول لــه ُحـ ّ‬ ‫باخلــرج‪..‬‬ ‫يف ظــل املتغيــرات واألحــداث احمليطــة بنــا وتــردي حالنــا‪ ،‬مــا عــاد يف‬ ‫ُ‬ ‫اخلــرج م ّتســع للمزيــد مــن اخليبــات والهزائــم واالنكســارات‪ ،‬لقــد امتــأ‬ ‫ُ‬ ‫اخلــرج وفــاض علــى جانبيــه‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫اخلــرج العربــي يزدحــم بهمــوم املواطــن يف كيفيــة تأمــن لقمــة عيشــه‬ ‫ومعاناتــه مــن الظلــم والقهــر الــذي يعيشــه‪.‬‬ ‫وأي ُخــرج سيتســع للخطــب والتصريحــات والوعــود واملؤمتــرات‬ ‫ّ‬ ‫والقمــم العربيــة التــي لهــا أول وليــس لهــا آخــر؟‬ ‫يف مسرحية ُ‬ ‫«غربة»‪ ..‬يصرخ املاغوط على لسان أهالي الضيعة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫حتمــل أهــل الضيعــة‬ ‫“وشــو بــدو يســع‬ ‫هاخلــرج َل َ‬ ‫يســع‪...‬؟»‪ .‬لكثــرة مــا ّ‬ ‫مــن ظلــم وقهــر‪..‬‬ ‫وما زالت املسرحية مستمرة‪..‬‬ ‫واخلــرج العربــي علــى حالــه‪ ..‬لكــن يبــدو أنــه بخــاف ُ‬ ‫ُ‬ ‫اخلــرج الــذي‬ ‫يف القصــة‪ ،‬فــإن ُخرجنــا قــد ُشــقّ مــن أســفله حتــى ي ّتســع لــكل خيباتنــا‬ ‫ومآســينا إلــى يــوم القيامــة‪.‬‬


‫‪ 126‬إصدارات‬

‫باقة جديدة من إصدارات‬ ‫دار ابن رشيق للنشر والتوزيع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫إصدارات ‪127‬‬

‫باقة جديدة من إصدارات‬ ‫دار عناوين ‪ Books‬للنشر والتوزيع‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫‪128‬‬

‫ولكن‪...‬‬ ‫بيننــا أحــاول اســتعادة حتــى (‪ 1‬ميجــا) مــن ذاكــرة العشــق يف الزمــن اجلبلــي‪،‬‬ ‫وبقايــا طاقــة أنهكتهــا املنــايف ألكتــب لكــم مــا يليــق بكــم؛ إذ بنظــام هاتفــي‬ ‫احملمــول ينبهنــي بــأن‪:‬‬ ‫“بطاقة ‪ SD‬تالفة‪ .‬عليك إعادة تنسيقها”‪.‬‬ ‫فقررت التكّ ور حول نفسي حتى إشعار آخر!‬

‫سليم املسجد‬

‫العدد (‪ )6‬مايو ‪ -‬يونيو ‪ 2022‬م‬


‫‪129‬‬

‫سحر اللوذعي‬ ‫فنانة تشكيلية ومنسقة معارض‬ ‫يمنية أمريكية مقيمة في مدينة‬ ‫نيويورك‪.‬‬ ‫ماجستير فنون جميلة‪ /‬نيويورك‪.‬‬ ‫ُاطلق عليها لقب سفيرة الفن‬ ‫التشكيلي اليمني في أمريكا‪.‬‬ ‫أول فنانة تشكيلية يمنية يتم‬ ‫تكريمها من والية نيويورك على‬ ‫إنجازاتها في المجال الفني‪.‬‬ ‫لديها العديد من المشاركات‬ ‫العالمية في معارض فنية‬ ‫وبيناليهات‪.‬‬ ‫حصدت العديد من الجوائز في‬ ‫مجال الفن التشكيلي‪.‬‬


‫لوحة للفنانة‪ /‬سحر اللوذعي‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.