قصة قصيرة: شهرزاد لم تنتصر ! لذلك،قررت الطفلة سهام أن تشاكس الملك شهريار.هي تعرفه،ألنه ملك.أما الملك فال يعرفها ألنها من (الرعايا). ومتى كان ملكٌ في الدنيا يعرف (رعاياه)وصبايا ( رعاياه)؟ !قالت سهام بصوت هامس ،وهي ترسم بالفحم مربعاتها الستة على اإلسفلت أمام باب القصر .وبعد تهيئة ملعبها الصغير ،رمت حجرها المصقول ليستقر في المربع األول،ثم قالت بصوت هامس: «ِ -و ّحيد ». وعلى الفور ،شرعت في إنجاز الجولة األولى من اللعب ،طبقا لقانونها المتعارف عليه دوليا ،من طرف أطفال العالم.ولما أنجزت هذه الجولة بإتقان،صارمن حقها أن تمر للدور الثاني،لذلك قالت بصوت هامس: «ِ -ج ّويج ». ألجل سهام،كان طقس هذا الصباح صحوا،وخاليا من كدر الغيوم،ومن مؤشرات احتمال وجودها.ولما تربعت الشمس على عرش الزرقة ،بعثت بسخاء أشعتها الدافئة،لتمنح جسد الطفلة، ما يلزم من الحيوية ،لتنضاف إلى مؤهالتها على مستوى الرشاقة .فاليوم ،يوم ليس كباقي األيام. فيه يستقبل شهريار رقاع المظالم ،من طرف (رعاياه) ،جريا على العادة،في كل أول جمعة ،من أول شهر،من كل سنة هجرية .واإلستقبال ،يكون عصرا.ألن السهر ليال مع حكايات شهرزاد، ظهر ك ِ ّل يوم .ولقد ألف الناس ذلك ،لما علموا بذلك. عودت الملك ،على النوم إلى ما بعد ِ «-ثِلّيث». تأملت سهام ملعبها الصغير،وهي مولية ظهرها لباب القصر ووجهها قبالة الشروق؛ فبدا لها المربع األول ،كما لو يجر خلفه المربعين الثاني والثالث .بينما يجاور السادس األول ! وخلف السادس،المربع الخامس،الذي يسنده الرابع.ولما غيرت وضع تأملها للملعب من الجهة المقابلة لباب القصر ،بدا لها الشكل الهندسي المرسوم على اإلسفلت ،مخالفا في ترتيبه ! فصاغت لنفسها هذه الفكرة ،التي قالتها بصوت هامس ،كي ترسخها في خزان الذاكرة،تحسبا لدوائر الزمن،وصروف الدهر: ما أروع أن ينظر المرء إلى قضايا الحياة ،من مختلف زوايا الرؤية الممكنة على األقل !ثم أردفت: «ِ -ربّيع». سهام أصغر أخوات شهرزاد ،التي تعرف بأن أمها كانت حامال عندما غادرت بيت األسرة،لتخوض مغامرة الزواج بشهريار.وهي ال تعرف أن أمها وضعت بعد رحيلها صبية.ألنهاانشغلت عن الناس واألسرة والحياة،بتدبيج الحكايات وحبكها وسردها.وسهام لم تظهر قط لشهرزاد في التوليف تحكّم الحكائي .كان الحكي وسيلة ،غايتُه أن يبقى سيف شهريار في غمده ،يطاله الصدأ.ومثلما ٓ الهدف في مسارات ومسارب الحكي ،تحكم أيضا في اهتمام وانشغال شهرزاد.وصار ه ُّمها الوجودي ،أن تربح رجال في ملك،وأن يبقى سيف الملك معطال.وهو ما حمل سهاما ،على الخروج من سهوها وشرودها،لتعلن بصوت شبيه بالهمس: «ِ -خ ّميس». فُتِح باب القصر.وخرج الحاجب،ثم أعلن بصوت عال:
جاللة الملك شهريار،مستعد الستقبال الرعايا،الحاملين إلى جاللته،رقاع المظالم،التي يودونعرضها عليه.وذلك طبقا لألصول واألعراف،التي جرت بها العادة،في مثل هذا اليوم من كل سنة. بعد ذلك،التفت يمنة ويسرة،فلم ير غير سهام،ت ُ َر ّوض حجرها المقدود،وهي تنقله بقدمها من مربع إلى آخر! استغرب الحاجب،غياب الناس! على عكس العادة.فتقدم إلى سهام،وسألها: أين راح الناس يا بنيتي؟!أجابت سهام: لم يكن هنا غيري.وأنا من سيقابل الملك،نيابة عنهم.عاد الحاجب يحمل استغرابه إلى الملك.فيم همست سهام: سدّيس». «ِ - عزف،وسهام تواصل القفز برشاقة وإتقان.لقد تحكمت الموكب خرج الملك،يتقدمه موكبه.ويتقدم ٌ َ اآلن في العالقة الفزيائية،التي تربط وزن الحجر المقدود وقوة دفعه،كي تنقله من مربع إلى آخر، دون أن يلمس الخطوط الفاصلة بين المربعات. قال الملك: من أنت ياصبية؟! -أنا سهام يا موالنا الملك.َر ٓب ٓت بيده على كتفها،وهو يسأل: ولماذا تريدين مقابلتي؟!حملت سهام الحجر المقدود،وأشارت بسبابة يدها إلى الرسم الهندسي على اإلسفلت،ثم قالت: جئت لمنازلتك.ثم أضافت بصوت حازم: أن تلعب معي لعبة القفز على المربعات،والرهان حياتي مقابل سيفك هذا.صاح الملك في وجهها: ويحك.أيلعب الملك شهريار لعبة القفز على المربعات مع صبية من رعيته؟!هل جننت؟!أجابت سهام بهدوء واتزان: قل أيها الملك السعيد بأنك خفت،وسأرحل.ازداد غضب الملك،وهو يصيح وينظر إلى حاشيته: س ّجل على الملك شهريار الذي تهابه الملوك،أنه خاف من صبية أتته لتنازله في لعبة القفز وهل يُ َعلى المربعات؟! ثم أضاف،لكن بصوت فيه رنة التواضع: ومن هي أسرتك يا صغيرتي؟! -أنا األخت الصغرى لشهرزاد .لم يخف تعجبه،وهو يواصل السؤال: لكن شهرزاد لم تقل لي أن لها أختا في مثل سنك؟! -ولدتُ بعد الحكاية الخامسة عشر،وعمرياآلن خمس سنوات ،وخمسة أشهر ،وخمسة أيام. قال الملك: ألعب معك،لكن بشرط.قالت سهام: شرط موالنا في العين وفوق الرأس.قال الملك: إذا ربحتك ستمكتين معي في القصر.ثم أضاف: فأبناء أختك في حاجة إلى خالة في مثل سنهم.وبعد صمت قصير،أضاف: -وأذكى منهم،وأكثر جرأة!
قالت سهام: موافقة يا موالنا.َ وعمن سيبدأ اللعب ،أخرج الملك من جيبة قطعة نقدية معدنية ،وخيّر سهاما،فاختارت الكتابة ،فيم علَت قبل بوجهه على عملته.رمى الملك القطعة النقدية في الهواء،ولما سقطت على األرضَ ، الكتابة على الوجه.فتقدمت سهام إلى الملعب،وأعلنت بداية الجولة،بقولها: «ِ -و ّحي ٓد)…(» دمحم الجاليدي -القنيطرة -المغرب
لقاء..-١جلس قرب المنارة المنبتة على رأس اللسان الصخري الذي يفصل النهر عن البحر ،وعيناه منشدتان إلى خط التماس الذي يفصل الزرقتين!العمامة والعقال والكوفية والجلسة:عالمات سيميائية أمطرت مخيلتي باإلستغراب !! لذلك لم أقاوم خطوات الفضول وهي تقودني إليه .عن بعد بدا لي وكأنه نورس غطاس،يحلق بخياله الخصب ،قبل أن يعود إلى كتابه الذي تلوح منه صفرة فاقعة ،مفتوحة دفتاه على فخديه .ولما اقتربت منه،عرفته.وهل يخفى عني أبو عثمان عمرو بن بحر البصري؟ لقد جمعتني به رحالت البحث عن «المعنى»التاوي خلف حقيقة «الفكرة»و وعاء إلي اللغة .و كم كانت الرحالت تلك ممتعة في عشرتها ومعاشرة شخوصها!!ألقيت التحية ،فعاد َّ من اإلنتشاراألزرق.مسحني بنظرة،ورماني بابتسامة،ثم أشار لي بسبابة يده أن أجلس سقت بجانبه.حدثني وحدثه،وكان حديثا ذَا شجون.تكلم عن عصره وحكام عصره وناس عصره.و ُ له أهم الخصائص التي تميز هذا العصر فوجدته على دراية واسعة بها وبما آلت إليه تكنلوجيا اإلتصال و التواصل وأدواتها ،وتطور حياة الناس في غمرتها.ومثلما لم تفارق وجهه التسعيني سمرته الغامقة حافظ أيضا على خفة ظله ومرحه ورهافة سمعة .وعندما حل الغروب،سكت عن الكالم ،و راح معاودا التحليق بنظره في األفق .شاركته صمته و اندماجه الجميل في جمال التفاعل الضوئي ،و هو يرسم لوحة هذا اليوم .كان منشدا إلى المشهد أمامنا بعقل الفالسفة َّ الشفق،عز علي أن أترك أبا عثمان يقضي ليلته في ووجدان الشعراء ،إلى أن اكتمل .ولما ارتسم هذا المكان رفقة عشاق الصيد بالقصبة ليال.ولكي ال يرى ِف َّي بعض صفات«أبي الحارث» أو«الهيثم»أو«أبي القماقم»..دعوته إلى العشاء والمبيت،فوافق . -٢بالبيت استأذنت أبا عثمان لتهيئ الشاي ،فشكرني بلطف.تركته مع التلفاز ودلفت إلى المطبخ.ولما عدت ب« الصينية » عليها لوازم الشاي ،عاد إلي أبو عثمان من اإلبحار في عالم القنوات التلفزية الفضائية.اعتذرت له عن التأخير فقال«-:ال عليك،لقد مارست في غيابك ( الكسل الرقمي )»! ولما بدا له بأني لم أفهم قصد كالمه،أضاف«-:إن اإلبحار على غير هدى عبر هذه األدوات، تجعل المبحر يخرج من إبحاره ال يلوي على شيء ،وال يدرك بأنه أضاع وقتا ثمينا من حياته.أوليس هذا(كسال رقميا)؟»أجبت وعالمات اإلعجاب بادية على مالمحي«-:بلى،هو كذلك بالدقة والتمام»! -٣ولما طاب لنا السمر الليلي بعد طعام العشاء،سألته سؤال قياس: «-كيف وجدت عصرنا يا أبا عثمان ؟» لحظتها انطلق في الكالم بتلقائية في القول وبدون أدنى صعوبة في اختيار األلفاظ كدوال،فقال: «-عمرت طويال .وعايشت إثني عشر خليفة .بعضهم كان ظالما ،وبعضهم كان عادال .والقاسم المشترك بينهم جميعا ،أنهم حكموا إلى خراسان .ومن ظلم منهم وصل ظلمه إلى هناك ،ومن عدل منهم وصل عدله إلى هناك.أما أنتم ،فلم ترثوا من ماضيكم إال الدم،حتى صار الدم في أعينكم ماء.تقتلون األئمة وتغتالون الشعراء .وتستبيحون وأد األطفال والبنات .وتنحرون الشيوخ والنساء .و تسمون ذلك جهادا ضد الكفر.والكفر من حولكم يذكي نار الفتنة بينكم.لذلك فأنتم من ساللة المماليك في صورة السالجقة.ولذلك فأنتم أبشع أمة أخرجت للناس .ندمت على الوقت الثمين و الطويل والشاق ،الذي صرفته في كتابة « البيان والتبيين»كي ال يضيع بيانكم ،فضاع!كتبت في «التوحيد» فتعددت آلهتكم!أما ما كتبته عن «الحيوان» فإنني لم أندم عليه.ألنه ينطبق برؤيته الفلسفية عليكم.وها أنذا بينكم،أبحث فيكم عني،فوجدت نفسي في غابة كتابي عن
وشيخهم الحيوان .ولما بحثت عن التفاعل النصي مع كتبي ،وجدت ضالتي لدى« الكفرة »! ِ السيد«غوغل»جازاه هللا خيرا ! ألنه وفر علي جهد التجوال وتعب الترحال.وعثرت لديه على من تعاطى ،منكم ومن غيركم،مع كتبي قراءة وتأويال.فشكَّلتُ بذلك صورة على التناص الذي فاضت به كتبي في عالمكم اإلفتراضي.ولما بحثت عن التفاعل النصي مع كتبي في األرض ،التي هي أرضي،وجدت نفسي في منفى ببلدي .فالأحد ممن القيت عرفني .وهذا ما حز في قلبي ،وحملني على استعجال الرحيل إلى قبري ،لوال الصدفة الجميلة التي قادتك إلى اللقاء بي ،فوجدت فيك واحدا على األقل ممن أحبني وأحب كتبي»! -٤تذكر أبو عثمان،ما أبدعه من نصوص عن البخالء،فسألني بعد أن َم َّهد لسؤاله بتوطئة: «-أقدر بأنك تعلم أن لكل عصر بخله.يبقى الجوهر ويتنوع التجلي.وأقدر أيضا بأنك تعلم أن أخطر من يهدد الدورة اإلقتصادية ،كما تسمونها بلغة عصركم،هم البخالء.ولما سألت الشيخ« غوغل »عما تم تأليفه من إبداع سردي عن هؤالء،أجابني بأن ما أطلبه غير موجود!باستثناء بعض األخبار العادية التي نقلها لي عن أشهر بخالء العالم - .فماذا حصل لمبدعيكم في تعاطيهم مع هذه التيمة ؟ !هل طالهم بخل البخالء هم أيضا؟! أم في األمر شيء آخر ال أعرفه ،وال يعرفه الشيخ(غوغل)؟»! أجبت بما أعرف وأقدر: «-أظن بأ ن السرديات في عصرنا،انجذبت إلى فن القصة والرواية،وحافظت إلى حد ما على عالقتها بفن السيرة .فيما أنصرفت عن فنون األخبار والنوادر.وإذا كان الشعر«ديوان العرب»في عصركم وقبله،فإن القصة و الرواية ،يعتبرهما بعض النقاد«ديوان العرب الجديد».لكن الفراغ في األخبار والنوادر،تكفلت به المخيلة الشعبية ،فأبدعت فيه واستفاضت .وفن النكتة الشعبية،يسوق بدون توقف،نصوصا التقل جماال في الصياغة المضمونية والبنائية ،عن تيمة البخل والبخالء ، مثلما اقتحمت بجرأة المحظورالسياسي والجنسي». سألني: «-وهل تعرف نموذجا لنكت عن البخل والبخالء ؟» أجبت : « -نعم،أعرف». قال: «-إحك».. فحكيت: -« -٥مات والد ميسور خرج بالتحايل من براثين الفقر،فرفض دفنه.ولما تجمهرالناس أمام«خربة»سكنه،للمشاركة في تشييع جنازة أبيه،خرج لهم،وطلب منهم أن يعودوا لما تموت أمه! استغربوا رفضه،فقال:سأحتفظ بأبي في براد الثالجة إلى أن تلتحق به أمي،وأُقيم لهما معا جنازة واحدة». .. -٦ضحك أبو عثمان حتى اغرورقت عيناه الجاحظتان بالدموع،وهو يقول-« :أين هو بابالكرة االرضية ،فإنني أريد الخروج من كوكبكم!» -٧-
قمت من نومتي،ألغسل وجهي وأسترد صحوي بقهوتي الصباحية،وسيجارتي األولى..وطيلة اليوم وأنا أردد بغير صوت: «-ما أروع الحق في الحلم » !!! وبعد كل ترديد أبتسم.. دمحم الجاليدي -القنيطرة -المغرب
رحلة بحث عن جنة عدن والوعد المنتظر .. شمس هذا الصباح الفضاء مشرعا لتمأل كانت السماء متحررة من كدر السحاب.فَ َو َجدَت ُ هذه النقطة من الكون باإلشعاع والدفء .أخذ البحر ما يكفيه من اإلضاءة ،ليبعث بأجمل مرتبة من مراتب اللون األزرق ! تلك الزرقة التي يسبح في انبساطها البياض ! األمواج تتكسر على ع ِلقت ناصية الشاطئ ،فبدا البحر كالشيخ الوقور وقد اشتعل شعر رأسه شيبا ووقارا ! صياد َ صنارته بالصخور المتربصة به وهي في القعر!!حاول فَكّها بلطف،ولما أعيته المحاولة،قطع الخيط،ومشى شرق الشاطئ ليغير المكان.علق صديقي حامد على مشهد الصياد قائال: «-ال أريد أن أخوض غمار تجربة زواج تنتهي بقطع الخيط». انتظرت أن يواصل الكالم لكنه توقف! حدست أن في مشروع زواجه أمرا ً ما،يريد الحديث عنه.في الجلسةالسابقة،كان حديثه عن سهام متحمسا.وكان كالمه عن المؤشرات األولية للتالقي مطمئنا.متعلمة.مدرسة.فأن تكون أم أوالده متعلمة ليس كأن التكون.وأن تكون مدرسة،سيجعلها أ ُ ًّمـا محنكة.هكذا فكر في المؤشرين وبنى عليهما حوافزه لمواصلة بلورة المشروع.لم أشجعه على الكالم في الموضوع،بل تركت له حرية ذلك .فأنا أعرف بعمق،من خالل عشرتنا الطويلة،فهمه للتواصل الحميمي،وفهمه العميق لإلغتراب العالئقي.ولطالما كان نقاشنا في هذه التيمة خصبا،ونحن نستعرض التجارب العالئقية من حولنا ،وتنوع امتداد روابطنا بها.وكل تجربة ناجحة أو فاشلة،كانت تصل ِبنَا إلى خالصة تنظيرية واحدة ،بخصوص مفهوم«التواصل»في العالقات،فركبنا للمفهوم قاعدة،تكاد تكون شبيهة بمعادلة رياضية.وعندما وثقنا معا بكنه وصواب هذه القاعدة ،صاغها حامد لغة ،وأكسبها بُعدا إطالقيا تنظيريا ،يكاد ينطبق على مجمل العالقات بين الناس ! أذكر جيدا بأننا كنّا معا في هذا الشاطئ الجميل،الذي يتحول خالل الشتاء إلى شاطئ وحشي مهجور ،مما يزيده جماال-كما هو اآلن ! كنا في المكان نفسه ،ووضع جلستنا مماثال كما اآلن ،حين ساق قوله كإشراقة شمس هذا الصباح ،بما معناه: التواصل حالة دائمة من الجهاد المتواصل بين طرفي عالقة ما ،ضد اإلغتراب بكلأبعاده الفكرية والوجدانية والسلوكية.فأن أرتبط بك في إطار عالقة صداقة-مثال-يعني أنك بشخصيتك تشكل دائرة،وأنا أيضا أشكل دائرة،وعالقتنا هي القاسم المشترك بين الدائرتين.هذا القاسم المشترك،ال يقف ساكنا،بل يتسع مدّا ويضيق جزرا.ومتى اتسع صار التواصل عميقا،وصار اإلغتراب محاصرا؛ والعكس.ومتى تسرب اإلغتراب إلى هذاالحيّز العالئقي،شرع في التهام التواصل،إلى أن يقضي عليه تماما. ولرده إلى سياق تخوفه من احتمال انقطاع خيط الزواج،وربط ذلك ِبما خلصنا إليه في الجلسة السابقة قلت: الزواج خيار صعب.فاللقمة سجن.واليومي مجرم قاتل.يقتل بدم بارد.ومتى سقطتالعالقة بين الزوجين،في ساحة معركة الحياة،ومات الحب،تصير العالقة مجرد تسويات يومية،تواكبها انفعاالت وتوثرات،إذا ما طالت تصير بنيوية.ومع األيام تنتقل عالقة الزواج من حرارة الحب،إلى برودة اإلغتراب ،يؤطرها(الواجب المؤسسي)؛إن لم تنته إلى قطع الخيط. وكما غير الصياد مكان الصيد بعيدا عن الصخور،غير حامد مسار الكالم،وطلب مني أن أحكي له نكتة عن الزواج،وهو يعرف أنني مغرم بهذا السجل الشعبي النقدي،الذي ال يعرف المحظور.أشعلت محرك الذاكرة كي أحفزه على اإلستحضار.لذلك صمتُّ قليال،ثم قلت «وجدتها»وحكيت: اختار رجل الزواج بامرأة،فوافقت.وألن كال منهما له عمله ودخله ،اشترط عليهاالتعاون في تدبير مصاريف الحياة،فوافقت.وخيَّرها بين اإللتزام بالمصاريف اليومية أو اإلكتفاء بمصاريف الكراء.فكرت في اليومي،وتهيبت منه.ألن المصاريف اليومية غير مستقرة،فالطوارئ
أكثر كلفة ولو قَلَّت.فطارئ واحد قد يعصف بادخار سنة.لذلك اختارت مواجهة الكراء،ألن السومة الكرائية معروفة ومستقرة.فتوكال على هللا،وعاشا حياة زوجية هادئة في األغلب األعم من مسارها.ولوال ذلك لما عمرت عالقتهما عشرين سنة.وكانت مضرب المثل في وسطهما العائلي بين األزواج.ولمــا قضى الزوج أجله،جاء الورثة يطالبون بحقهم.فاكتشفت الزوجة أن المنزل الذي كانت تؤدي ثمن السكن فيه،ملك صاف للزوج.فأقامت له جنازتين:األولى له أمام األعين،والثانية لها على انخداعها. ضحك حامد قبل أن يعلق على النكتة ويربطها بمشروع زواجه وما حل بخصوصه.ثم قال: ارتباط هذه المرأة بهذا الرجل،لم يكن زواجا.كان صفقة انطلقت بمساومة.والقمار اليحصد نتيجة ثالثة.إما رابح وإما خاسر.ومن قبل الصفقة والمساومة عليه بقبول النتيجة.أما عن مشروع زواجي فاألمر مختلف مع النكتة في التفاصيل،ومطابق لها في الجوهر،وقد اختلفت مع سهام فيه. قلت له : احك لي الوقائع ودع تحليلك جانبا.وحكى: في الخروج األول ،انطلقنا في النقاش المرتبطبترتيبات حياتنا المشتركة مستقبال ،وبطلب منها .دار الكالم شرقا وسافر غربا،وختمته بطلبها أن أقلع عن التدخين .لم أرفض ولم أعد .وفي الخروج الثاني كان ختمها للكالم بطلبها أن أشتري منزال باالقتراض البنكي طويل األمد .لم أرفض ولم أعد .وفي الخروج الثالث كان ختمها بطلبها أن أقترض منك ! وأشتري سيارة.لم أرفض ولم أعد. لكنني سألتها هذه المرة عن الحصيلة المطلبية،قائال: سهام ؟! -نعم ؟! -هل السيجارة وجود أم موجود ؟استغربت.فكرت.وأجابت: السيجارة موجود- .والمنزل وجود أم موجود ؟ -موجود.والسيارة وجود أم موجود ؟ موجود- .وأنا الذي أحمل اسم حامد وجود أم موجود ؟ -أنت أيضا موجود.قلت خاتما الجولة قبل أن أودعها وأدعو لها بابن الحالل الذي يناسبها: لم أكن أعلم بأن وجود حامد شيئا.فأنت أعدل امرأة في الوجود! )(...قلت لحامد : أنت تبحث عن أجمل الصفات المتفرقة على نساء في كيانك،وتريد جمع هذه الصفات فيامرأة واحدة.أال ترى معي بأن هذا التصور حالم ؟ قال: أنا وجود ولست شيئا.وألنني كذلك أمتلك الحق في الحلم بامرأة/وجود.ولستدوغمائيا.فالرسم كحلم يحدد المبتغى في كل مرتكزاته،وعندما أجد في هذه المرتكزات حدًّا أدنى سأنطلق.أما أن يغيب الحد األدنى كمنطلق،سينقطع الخيط بكل تآكيد. والزواج ليس تجريبا،إنه رؤية ورؤيا واختيار. قلت: وما هي مرتكزات حدك األدنى ؟!قال وبروعة في القول: أن أبصر في عيني حبيبتي جنة عدن والوعد المنتظر! )…(دمحم الجاليدي-القنيطرة -المغرب
التماهي (لوجيا).. خرج الطفل ماجد من الرسوم المتحركة،واكتسب مقومات وجوده البشرية،ليبدأ رحلة حياة.وفي اليوم األول من حياته،علمته المدرسة مهارة استعمال المقص.وذلك بالتدريب على قطع وريدات ورقية،بإتقان ودقة.ولمــّا كان ماجد ماهرا في القص،أثنت عليه المعلمة أحسن الثناء.عاد فرحا مزهوا،ونقل الخبر إلى أمه.فرحت به وهيأت له الطعام الذي يشتهيه:سلطة في المقدمة وقطعة دجاج محمر وتفاحة.أكل بشهية.وعندما وصل إلى التفاحة،تذكر رسمها الجميل على الورق الذي قصه،فحاول قصها كما فعل في القسم.لم يتوفق،فتذكر التفاحات الجميلة المرسومة على األلحفة في غرفة الضيوف بالبيت.فقام إليها وقصها بإتقان ودقة.ولما انتهى صاح بأعلى صوته إعجابا.نادى أمه التي كانت منشدة إلى نشرات األخبار التي تذيع نبأ ً عاجال.هالها ما فعله ماجد ،فقررت معاقبته بسجنه في غرفة التلفاز بجانبها،وأخبرته أن هذه العقوبة ستستمر إلى نهاية األسبوع.قضى الليلة يتابع األخبار العاجلة واألخرى المعادة.إلى أن نام. (الليلة الثانية من حياة ماجد): نسي عقاب أمه له،ونسي القص بالمقص،واستلذ اإلبحار في القنوات الفضائية.ورغبة من األم بدافع الحنان على ابنها،انشغلت في المطبخ تهيء له الطعام الذي يشتهيه،لتجعل عقوبته ألطف.كانت شاشةالتلفاز تفيض بأخبار الدم.والقنوات الفضائية تتنافس بقتالية وحرفية مهنية عالية،لتحظى بالسبق،وتنفرد بالتميز،في َحب ِك األخبار وصناعتها،لشد المتلقي إليها.صوت وصورة ومراسلين من عين المكان.وكل قناة تبث األخبار الدامية وتعيدها على مدار الساعة.وبين اإلعادة واإلعادة،استحضار ألحداث كانت في الماضي القريب،وأخرى في الماضي البعيد،مرفوقة بالتحاليل والتعاليق ألمهر المدبجين.فهذا مختص في السالح،وذاك مختص في التكتيك الحربي،وآخرون مولعون باألبحاث والدراسات اإلستراتيجية..وبكثرة استحمام ماجد بالدم،صار يقلب كل قناة تقدم إشهارا انتقاليا لبضاعة،لينتقل إلى ربط اإلتصال بأخبار الدم،كي ال يتشتت انتباهه بالوصالت اإلشهارية.ومتى أفلح في ذلك كان يصفق،ويصيح بأعلى صوته«:وجدتها».ثم ينخرط في الضحك كاألبله.ولمــا أتته أمه باألكل الذي يشتهيه،رأى الطماطم بلون الدم فأكلها بشهية .ونظر إلى المرق ،فبدا له الدجاج المحمر،كما لو كان يسبح في بركة دم،فأكل بشهية.ولماوصل إلى التفاحة،طلب من أمه تغييرها بأخرى حمراء،ففعلت،فأكلها بتريث ولذة. (الليلة ما قبل األلف من حياة ماجد): شاهد ماجد شريطا استثنائيا في مسيرة الدم الكبرى.ويتعلق األمر بالذبح.بشر يذبح بشرا.فانشد بقوة أكبر إلى الحدث وتداعياته اإلعالمية.كان الذبح بطريقة استعراضية هوليودية.فأكل طعامه المفضل بشهية استثنائية.ونام أيضا بطريقة متفردة،حملت أمه على تقطيع اإلسترسال في نومها،لتطبطب على رأسه وصدره،كي يسافر به النوم على بساطه. (الليلة األلف من حياة ماجد): قرر العالم اإلنخراط في هدنة لمدة ثالثة أيام.وكان الشعار المؤطر لهذه الهدنة«:األيام العالمية بدون دم».وعلى امتدادها تنافست القنوات التلفزية الفضائية،في توليف المشاهد البعيدة عن الدم.واستبدلتهابالطرب والرقص والكليبات المصورة في رحاب الجمال الطبيعي.توثر ماجد،وهو يبحر في القنوات مقلبا دون جدوى!ولـما أتته أمه بأكله المفضل،طلب منها إحضار شوكة وسكين.لبت طلبه.ترك الشوكة وحمل السكين.وباغتها فأحدث جرحا خفيفا على يدها.صاحت وراحت مهرولة تبحث عن ضماد.وحين عادت إليه،وجدته يأكل بشهية.لم تفهم.فقررت معاقبته بإخالء غرفة التلفاز،وأغلقتها بمفتاح كي ال يدخلها في غيابها عنه إذا دعتها الضرورة لذلك. (الليلة األلف وليلة من حياة ماجد):
لم تكن األم،وكانت غرفة التلفاز موصدة.لكن أكله المفضل،كان ينتظره على مائدة الطعام بالمطبخ.عافه في البدء.وبعد أن استبد به ألم الجوع،حمل السكين وأحدث جرحا في يده،ثم شرع يأكل بشره.. ولما عادت أمه صرخت وولولت،وحملته إلى المستشفى على وجه السرعة.خاط الطبيب الجرح ولفّه بضماد.حكت األم للطبيب ما حصل ،فأشار عليها بحمل ماجد إلى طبيب نفسي. (اليوم األخير من الهدنة العالمية): حكت األم للطبيب النفسي ،حيرتها في أمر ابنها ماجد.فقام بفحصه السلوكي ،كمعبر لفهم العالم الباطني للطفل.قدم له في البدء نوعين من الشوكوال:واحد غالفه أزرق،والثاني غالفه أحمر.وطلب من ماجد أن يختار،فاختار الشوكوال ذات الغالف األحمر.طلب منه إزالة الغالف وأكل الشوكوال.وبما أن الشوكوال لونها بني،فإن ماجد رفض أكلها.غير الطبيب الشوكوال بأخرى لونها أحمر،فأخذها ماجد وهم بقضمها،لكنه تذكر التلفاز،فتوقف.أشعل الطبيب التلفاز المرتبط بشريط الفيديو، وانطلق ملخص الليالي الدامية صوتا وصورة.لحظتها أكل ماجد الشوكوال الحمراء بلذة وانتشاء. قال الطبيب لألم: ابنك يعاني من مرض التماهي(لوجيا).قالت األم سائلة: وما هو عالج هذا المرض؟!قال الطبيب حاسما: العالج يكون مجديا عندما يكون المرض في بدايته.سألت األم أمال في إيجاد حل: وكيف السبيل ألنقذ ابني؟!قال الطبيب مذكرا األم: اليوم آخر األيام العالمية بدون دم.صاحت األم في وجه الطبيب: سأكسر التلفاز وأدمر كل الوسائل التي تعوضه.قال الطبيب بهدوء: كان ذلك ممكنا قبل أن يصير المرض مزمنا.سألت األم متوسلة: وهل هناك طريق آخر لحل ؟!قال الطبيب بوثوقية علمية: أن يعود ماجد إلى لعب دور البطولة في رسومه المتحركة.دمحم الجاليدي -القنيطرة -المغرب
"» ..متعب الهذال"من ساللة خماسية«مدن الملح حين كان الصباح داميا في نشرات األخبار،خرج«متعب الهذال»من خماسية«مدن الملح»،وبالضبط من الجزء الذي عنوانه«التيه»،فأُلقي عليه القبض.وبعد فترة التحقيق غير المقيدة بزمن محدد،أخلي سبيله.التقيته بشاطئ البحر،ممددا على رمال الشاطئ وأفق الصحراء منتشر إلى َح ِ ّد البصر ما بين محيط وخليج .كان يعالج جلده المدبوغ وقد عمته الندوب.نعرف بَع َ ضنَا من أيام التجاور بأهرام الخماسية ؛ فحدثني،وقال: بغرفة أُح ِكم إغالقها،وجدتني أئِنُّ من ألم في الضلوع لصالبة األرض.لم أدر كيف حصل ذلك.ولم أدر كم من الوقت َم ّر علي وأنا في هذا الوضع.سمعت طقطقات كعبي حذاء نسائي،فصحت: لم أنا هنا ؟!صوت نسائي: ألن بعض الظن من حسن ال ِف َطن.قلت: ما أعرفه أن بعض الظن إثم ؟!الصوت نفسه: كان ذلك في سالف العهد واألوان.قلت: لم أرتكب فعال من شأنه أن يُحدث إخالال بالنظام العام للعالم ؟!الصوت نفسه: كان ذلك في قريب األزمان.قلت: واآلن ؟!الصوت نفسه: نستبق الفعل قبل حصوله،لضبطه متلبسا في الدماغ.قلت: لم أفهم ؟!الصوت نفسه: نحن نفهم.صوت رجالي هذه المرة: إسمك الكامل ؟أجبت: دمحم بن مسلمة.صوت رجالي آخر: تضحك علينا ؟قلت: ال أبدا ،وأنا الذي قتل كعبا بن األشرف.الصوت الرجالي األول: ومن هو كعب بن األشرف هذا ؟!أجبت: َ من ط ّيِء نسبة لألم ومن بني النضير نسبة لألم.الصوت نفسه:
ولماذا قتلته ؟!أجبت: ألنه حرض قريش على الثأر لقتالها في معركة بدر.صوت رجالي آخر: آه ،فهمت ،اضربوا ابن الكلب.)…( اختلط علي حابل «األمن اإلستباقي»بنابل«األمن اإلستباقي»،فدخلت إلى دماغي ألنظفه َاو َد» على نفسي ألرفعها إلى سطح الوعي ،كي أتأكد قبل فوات األوان ! ثم شرعت أردد «مزامير د ُ قبل الضغط على زر المسح الرقمي: )…( لست لصا.فأنا لم أسرق من أهالي أرضي حواسهم الخمس.لم أسرق منهم حقهم في الضوء والماء والهواء.لم أسرق من عيونهم لون السماء.لم أسرق منهم ولعهم بالشعر والرقص والغناء.لم أسرق منهم ميزان الكيل ،ألردهم إلى زمن المقايضة.لم أسرق منهم عزةالنفس ،ألترك لهم جمر الذل ولظى التبخيس.لم أسرق منهم األمل الوردي،وهم بين الوقفة السوية والسقطة،لكي ال يبقى لهم إال اليأس األسود.لم أسرق منهم شهامتهم وشجاعتهم ،ليلتحفوا باإلنزواء والجبن.لم أسرق منهم روعة اإلعتراف ،ألبعث فيهم التنكر والجحود.لم أسرق منهم نكران الذات ،ألذكي فيهم األنانية المريضة.لم أسرق منهم اإلندفاع في السخاء ،ليغمرهم البخل والشح.فهم للضوء والماء والهواء وجدوا.ولألزهار البرية وجدواوللشعر والرقص والغناء وجدوا.وللميزان وجدوا.ولألمل الوردي وجدوا.ولعزة النفس وجدوا.وللشهامة والشجاعة وجدوا.وفي نكران الذات وجدوا.وفي السخاء وجدوا.وأنا في وجودهم وجدت.ألن حليب أمي األصيل تفوح منه رائحة التربة السمراء التي تبعث الخصب األخضر من العدم،وتبعث الواحة في رمال الصحراء.لذلك لم أعرف في حياتي قط مشاعر اللص،وهو يقتنص هدفه في مستهدفيه. فلم أنا هنا ؟!)…( الصوت النسائي األول: واآلن ما اسمك الكامل ؟أجبت بصوت يشبه األنين: عبد هللا بن عتيك.الصوت نفسه: من ؟! (برنة فيها غضب)أجبت بصوت أوضح: عبد هللا بن عتيك.الصوت الرجالي األول: أما زلت تسخر منا ؟!قلت بعد صمت: ال وهللا ،وأنا الذي تزعم الجماعة.الصوت نفسه: أية جماعة ؟!أجبت بصعوبة: ّ الجماعة التي قتلت سالما ً.الصوت نفسه: -ومن هو سالم هذا ؟!
قلت بصعوبة أكثر: واحد..واحد..من كبار المحرضين.الصوت نفسه: حرض ؟! على ماذا ّقلت قبل أن أغيب: حرض قبيلة قريش.سمعت ثم غبت: آه ،فهمت ،اضربوا هذا المجرم ابن المجرم،حتى الموت.)…( لست مجرما يسفك دماء األبرياء.وال يمكن أن أكون.ألني-منذ البدء-ال أمتلك قلبا عاشقا للدم.فأنا حينماكنت طفال،كنت أعدو خلف الفراشات في أزمنة الربيع،ألحقق رغبتي الطفولية في اإلمساك بفراشة ملونة،كي أتأملها ثم أحررها دون أن أكدر صفو تناسق األلوان فيها.وبقدر ما أحرص على ذلك،كنت أخاف أشدالخوف أن أقتلها بحركة طائشة غير محسوبة أمام حيرتها وهي تطير وتحط،ثم تطير وتحط.ومتى وقع ذلك،كنت أحزن حزنا عميقا،فأعود إلى منزلنا مثقال بالكآبة ومنهكا باألسى،ألنني ارتكبت إثما عظيما-.فلم أنا هنا ؟! )…( سؤال،بدا لي بسيطا،خالل لحظاتي األولى،وإنا في تلك الغرفة الضيقة،التي يبلغ طولها خطوتين ،وعرضها كذلك،بمقاس خطوي.لكن سرعان ما شرع السؤال يكبر،ليصير سؤاال وجوديا شامخا شموخ جبل في أعظم سلسلة جبلية على هذه األرض؛وألحمله على كتفي كي أضعه على قوس قزح !!! )…( الصوت النسائي: نعرف من أنت.سألت: ومن أنا ؟!الصوت نفسه: أنت «متعب الهذال».الصوت نفسه يضيف: ونعرف من خلقك ومن سواك.ونعرف أنك في خماسية«مدن الملح»،رفضت وجودناونحن نحفر في الصحراء ننقب.وحرضت علينا األهالي،ولم يهتموا بتحريضك.فتُهتَ في البيداء تحمل رفضك معك.وقلنا إننا انتهينا منك. سألت: ولم أنا هنا إذن ؟!الصوت الرجالي الثاني: نريد أن نعرف لماذا غادرت كتاب«التيه»في الخماسية،وعدت.أجبت بصدق: عدت ألشهد على زمن جفاف النفط وذوبان «مدن الملح».)…( قلت ل«متعب»: اعتقلوك ألن مجيئك صادف صباحا داميا في نشرات األخبار)…( !!!دمحم الجاليدي -القنيطرة -المغرب
سمر على طريقة الغجر- .. ٌ قال لي صاحبي وهو يحاورني : ما الذي يشد اإلنسان إلى الحياة ؟كنَّا على أهـبة اإلنطـالق من اإلنـتشار األخـضر بـفضاء الشاوية إلى الحصار اإلسمنتي ضباب مسته ِ ّل ذاك الصباح،يغشى الرؤية .ولكي أفكر في بالـبيـضاء.كـان الوقت غبشا.وكان ُ شعاب التشخيص إلى قمة التجريد اإلجابة،كــان علــي أن أرحل بفكري على بساط الريح،من ِ بجبل(مگارطو).قلت في نفسي: لكل إنسان دواعيه الخاصة التي تـشده إلى الحياة .ومن المحـتـمل أن تــكون لــهذهالدواعــي المخــتلفة والخالفية،قاعدة وجودية مشتركة. تركني أبو إلهام غارقا في دواخلي طيلة مسافة الرحلة.احترم صمتي.ألنه التقط بحسه المرهف،أنني أفكر في السؤال بجدية،وأنني وقعت في المصيدة.وهو المقتنع بالقول: السؤال مشنقة.في البيضاء انشغـلنا .وبقي الحبل بالتواءته المحايدة ،كملمحٍ ثلجي منتصبا ! وأثـناء عودتنا ونحن نطوي المسافات ،سافر ِبنَا الحديث إلى قضايا البلد ومتاهاتها التي ال تنتهي .ومع ذلك توقعت أن السؤال الذي طرحه أبوإلهام صباحا سيكون موضوع سمرنا الليلي.فهو الينسى أبدا،لكـنه يمتـلك قـدرة قويـة على التناسي بوعي إرادي في انتظار السياق الذي يُ َو َّهج التعاطي . وذلك ما حصل! سوينا جلسة السمر كما يحلو لنا عندما نكون معا وحدنا.كانت النار تلتهم الحطب ،وتنشر الدفء في أرجاء المكان.ولمـّا اجتازت أم كلثوم المقدمـة الموسـيقـية لمطولتها،ابـتسم أبوإلهام ابتسامته الطفلية،التي اعتادها عندما يكون مبتهجا،وركز بصره في وجهي ثم قال جملته المعهودة حين يريد العودة إلى موضوع سابق: (-الشاهد عندنا إيه) ؟ ثم أضاف بصيغة استفهامية: سر ارتباط اإلنسان بالحياة؟ طرحنا السؤال صباحا ،عن ِقلت : نعم.قال : وإلى أين وصلت بك خاليا الدماغ؟قلت مباشرة وبتلقائية وبدون مقدمات : ينشد اإلنسان إلى الحياة طالما يلتذ بحاجياته الضرورية للعيش،تعلق األمر بما هوفزيولوجي أو نفسي أو عالئقي. َ صاح أبو إلهام صيحته المعهودة عندما يحصل التالقي الفكري ،فيما فكّر فيه ،مع من يُفكر معه: صحيح ،وغـدا سننزل بالسؤال من العام اإلنساني ،إلينا ،وسيكون كاآلتي :*ماهي العناصر التي تجعلك تلتذ وتشدك إلى هذه الحياة؟ قالها وضحك حتى أدمعت عيناه! أدركت لحظتها أني أمام سؤال -مشنقة جديد ! كادت أم كلثوم تخت ُم مطولتها التنـظيرية: ودارت األيـام..وفـي انتظار ختمها الصدّاح،هـيأت فراشي للنوم.ولمـا خت َ َمت نِمـت.لكن حـبل المشنقة بالتـواءته المحايـدة ،كملـمحٍ ثـلجي ٍ بقي منتصبا ينتظر رأسي إلى ليلة السمر الموالية !
(-الشاهد عندنا إيه) ؟ سألني أبو إلهام،ليردني من شجون األحاديث،إلى السؤال-المشنقة.وألشاكسه قلت وكأني ال أتذكر: بخصوص إيه آبويا؟!ً ابتسم في وجهي ابتسامة جمعت الرقة الطفلية والحنان األبوي.ثم قال: طرحنا السؤال عن العناصرالتي تجعلك تلتذ وتشدك إلى الحياة.فهل نسيت؟!قلت وأنا أمنع نفسي من الضحك كي ال أفسد المشاكسة ألمنحها طابع العذوبة: أتذكر السؤال،وزمانه ومكانه.كنتُ جالسا هنا.وكـنتَ قبالتي هـنا.وكانت أم كلثوم تطربنابمطولتها:ودارت األيام .وهاهي اآلن تطربنا بمطولتها:رباعيات الخيام .وسؤالك كان فرعـا اسخرجتَه من أصل.وقـد مضى على تفتقه في ذهنك المتقد عشرون ساعة بالتمام.. أوقفني بإشـارة من يـده ،بعد أن فـهم مشاكستي لـه،ثـم ضحك حتى أدمعـت عيناه .والدمـع لديه سخي ،ينهمر من عينيه مع كل انفالت وجداني ،سواء أكان باعثه أمرا مفرحا أم محزنا! وتلك داللة ،تنم عن عالمة على وجدان دفـّاق بالمشاعر اإلنسانية النبيلة،التي تميز هذا الرجل!وهي صفة جوهرية مالزمة لشخصه ال يعرفها الكثير من الناس الذين ال يرون فيه إال الصالبة المرفوقة بالعناد..قال وهو يكفكف دمعه،ويحاول أن يوقف ضحكَه،وضحكُـه يغالبه: ادخل إلى الموضوع (آولد جبل مگارطو) ،وادخل إليه (ديريكَت).قلت قبل أن أبسط جوابي على السؤال المطروح : لقد نلتُ منك آبويا ؟ضحكنا معا،ثم شرعت في التعاطي مع الموضوع وسؤاله .أذكر بأني عندما بدأت الحديث عما ألتذ به في هذه الحياة،انساب مني الكالم كماء شالل!وكنت عند كل محور حياتي،أسوق العناصر باعتماد منهجية التـعبـير بالجزء عن الكـل.ألني أعـرف جـيدا ،أن أبـا إلهام يمـتلك تـجربة خـصبة وعـميـقة،تـمكنه من ربط العناصر الجزئية بسيـاقها من العناصر التي تستدعيها والتي لم تُذكَر،مادام ذكرها تحصيل حاصل.وكان دوما يرمز إلى ذلك إذا كان محاوره يروم اإلطناب ،بقوله: إذا ظهر المعنى فال فائدة من التكرار.وألوذ بالصمت إذا قدرت بأن جليسي ال يمتلك حس السماع،ألني أخاف على كلماتي أن تموت على شفتي.وأتـكلم بانسياب حـين،وحـين فقط ،يجـمع سيـاق اللحظة التـواصلية بين الحميمية وروعة التـعاطي مع قضايا الحديث،إذا كانت القضايا تلك ،تمتلك جماليتها التي تشدالتفكير وتسحره.وفي مثل هذاالسياق يصنع الصدق ألق التعاطي.ألن الصـدق يعلو دوما وال يعلى عليه.وللصدق رائحة كرائحة جبل (مگارطو) بالشاوية،عندما يأتيها مطر مفاجئ في ِع ّز الصيف ،أو كرائحة البحر عندما يتنفس!كنت أتكلم وأحرص أشد الحرص على أن يكتسب كالمي رائحة أرض أجدادي وهي تمتزج بعمق بحري.وكان أبو إلهام ينصت بكل جوارحه.أعرف بتجربتنا العالئقية أنه إذا لم يرغب في السماع ،يُش ِت ّت انتباه المتكلم .. قلت: ألتذ بقهوتي الصباحية وبسجارتي األولى .ألتذ باألكلة المغربية األصيلة،ال ألنها فقط عنصر من العناصر المشكلة لهويتي كمغربي،بل ألنها تمتلك طعما ال أستطيع مقاومته!ألتذ عندما تحضرني وصايا عمتي-رحمهاهللا -ألن هذه المـرأة الرائـعة في وجـودي ووجداني ،بصمتني بحنكتها الوجودية ،وسكنتني بتنظيرها الحياتي ،وبســندها التربـوي مـنذ وعـيـي الطـفلـي بـها،وبـوشمتها الـباهتة التي تـتوسط حاجبيها،ولمعان أسنانها المصقولة،وابتسامتها الماسية! ألتذ عندما يحكي لي كبار أهل( جبل مگارطو )وقبيلة أوالد ادمحم و( فَخدَة لَخلُط ) بالشاوية،عن سيرة جدي-رحمه هللا-أيام السيبة والمجاعة والتيه اإلجتماعي..وما ُح ِك َي لي عنه من
بطوالته،حملني على رسمه تشكيليا في وعيي الباطني،وأصبحت سيرته نبراسي الوجودي.ألتذ بانتشار تربة التيرس الحمراء بفضاء الشاوية،وهي تتهيأ الرتداء اللون األخضراستعدادا للعطاء الخصيب.ألن لونها ورائحتها بلون دمـي.ألتذبالنظر إلى التواءة خـصلة من شـعر كسـتنائي المرأة،واهتزاز صدرها خلف قميص ليلكي،أوانحصارالتوب على فخديهاالمرمريين.ألني أعشق المرأة بالمطلق ،والمرأة بالتحديد.ألتذ عندما تطلب ابنتي رأيي في تسريحة شعرها،أو تناسق سـها على ألوان لباسها،أو عندما تهتف لـي لتسـأل عن أحوالي ،أو عندما تتـمدد على اللـحاف ورأ ُ ركبتي،ونحن نتابع الدراما التلفزيونية العربية ،في الليالي الرمضانية.ألتذ وأنا أبصر طفال في مرحلة طفولته األولى،يقف ثم يحبو،يسقط ثم يقف ليحبو،أو بنطقه أول كلمةفـي حياته.ألتذ بلحظة تفتق الفكرة في الذهن بعد رحي ِل بح ٍ مضن.ألتذ بالبحر ونهر سبو،وبالشعر والرواية والكتابة ث ٍ والطرب العربي والمغربي األصيل،وبالتشكيل،والتواصل بال لغة أوصوت،وبربط حريتي الشخصية مع حرية المواطنين في بلدي،ألجسد مفهوم الحرية في أرقى وأبهى شكل فلسفي ووجودي .وكل ما في هذا المنحى وما يستدعيه من سلوك ومسلك.. قال أبو إلهام،بعد أن أنهيت الكالم: أغبطك!قلت ألفهم قصده بالتحديد: ولماذا تغبطني يا أبا إلهام ؟!قال: لقد نجوتَ بجلدك وعقلك من مشنقة السؤال!ثم تاه في األجواء لحظات..ليستجلب نجاته من مشنقة السؤال نفسه.أذكربأن أبا إلهام ،انطلق من الضد إلى الضد مستحضرا بعض تجارب الناس الذين عرفهم،وعنهم قال: ماتوا قبل أن يموتوا.ماتوا ب(القوة)قبل أن يموتوا ب(بالفعل)،طبقا للمقولة األرسطية!والموت ب(القوة)يحصل في اللحظة التي يموت فيها الشعور ب(اللذة الوجودية)في الكيان)…(!! كان صوت ُه يتناغم وصدى صوت أم كلثوم الذي يترنح جماال مع المقطع: ال تشغل البال بماضي الزمانوال بـآت الــعـيــش قــبـل األوان واغـنـم مـن الـحاضر لـــذّاتـــــه فليس في طبع الليالي األمــان )(...
دمحم الجاليدي-القنيطرة -المغرب