المجموعة القصصية رقم 2

Page 1



‫قصة قصيرة‪:‬‬ ‫شهرزاد لم تنتصر !‬ ‫لذلك‪،‬قررت الطفلة سهام أن تشاكس الملك شهريار‪.‬هي تعرفه‪،‬ألنه ملك‪.‬أما الملك فال يعرفها ألنها‬ ‫من (الرعايا)‪.‬‬ ‫ومتى كان ملكٌ في الدنيا يعرف (رعاياه)وصبايا ( رعاياه)؟ !‬‫قالت سهام بصوت هامس‪ ،‬وهي ترسم بالفحم مربعاتها الستة على اإلسفلت أمام باب القصر‪ .‬وبعد‬ ‫تهيئة ملعبها الصغير‪ ،‬رمت حجرها المصقول ليستقر في المربع األول‪،‬ثم قالت بصوت هامس‪:‬‬ ‫«‪ِ -‬و ّحيد ‪».‬‬ ‫وعلى الفور‪ ،‬شرعت في إنجاز الجولة األولى من اللعب‪ ،‬طبقا لقانونها المتعارف عليه دوليا‪ ،‬من‬ ‫طرف أطفال العالم‪.‬ولما أنجزت هذه الجولة بإتقان‪،‬صارمن حقها أن تمر للدور الثاني‪،‬لذلك قالت‬ ‫بصوت هامس‪:‬‬ ‫«‪ِ -‬ج ّويج ‪».‬‬ ‫ألجل سهام‪،‬كان طقس هذا الصباح صحوا‪،‬وخاليا من كدر الغيوم‪،‬ومن مؤشرات احتمال‬ ‫وجودها‪.‬ولما تربعت الشمس على عرش الزرقة‪ ،‬بعثت بسخاء أشعتها الدافئة‪،‬لتمنح جسد الطفلة‪،‬‬ ‫ما يلزم من الحيوية‪ ،‬لتنضاف إلى مؤهالتها على مستوى الرشاقة‪ .‬فاليوم‪ ،‬يوم ليس كباقي األيام‪.‬‬ ‫فيه يستقبل شهريار رقاع المظالم‪ ،‬من طرف (رعاياه)‪ ،‬جريا على العادة‪،‬في كل أول جمعة‪ ،‬من‬ ‫أول شهر‪،‬من كل سنة هجرية‪ .‬واإلستقبال‪ ،‬يكون عصرا‪.‬ألن السهر ليال مع حكايات شهرزاد‪،‬‬ ‫ظهر ك ِ ّل يوم‪ .‬ولقد ألف الناس ذلك‪ ،‬لما علموا بذلك‪.‬‬ ‫عودت الملك‪ ،‬على النوم إلى ما بعد ِ‬ ‫«‪-‬ثِلّيث‪».‬‬ ‫تأملت سهام ملعبها الصغير‪،‬وهي مولية ظهرها لباب القصر ووجهها قبالة الشروق؛ فبدا لها‬ ‫المربع األول‪ ،‬كما لو يجر خلفه المربعين الثاني والثالث‪ .‬بينما يجاور السادس األول ! وخلف‬ ‫السادس‪،‬المربع الخامس‪،‬الذي يسنده الرابع‪.‬ولما غيرت وضع تأملها للملعب من الجهة المقابلة‬ ‫لباب القصر‪ ،‬بدا لها الشكل الهندسي المرسوم على اإلسفلت‪ ،‬مخالفا في ترتيبه ! فصاغت لنفسها‬ ‫هذه الفكرة‪ ،‬التي قالتها بصوت هامس‪ ،‬كي ترسخها في خزان الذاكرة‪،‬تحسبا لدوائر‬ ‫الزمن‪،‬وصروف الدهر‪:‬‬ ‫ما أروع أن ينظر المرء إلى قضايا الحياة‪ ،‬من مختلف زوايا الرؤية الممكنة على األقل !‬‫ثم أردفت‪:‬‬ ‫«‪ِ -‬ربّيع‪».‬‬ ‫سهام أصغر أخوات شهرزاد‪ ،‬التي تعرف بأن أمها كانت حامال عندما غادرت بيت األسرة‪،‬لتخوض‬ ‫مغامرة الزواج بشهريار‪.‬وهي ال تعرف أن أمها وضعت بعد رحيلها صبية‪.‬ألنهاانشغلت عن الناس‬ ‫واألسرة والحياة‪،‬بتدبيج الحكايات وحبكها وسردها‪.‬وسهام لم تظهر قط لشهرزاد في التوليف‬ ‫تحكّم‬ ‫الحكائي ‪ .‬كان الحكي وسيلة‪ ،‬غايتُه أن يبقى سيف شهريار في غمده‪ ،‬يطاله الصدأ‪.‬ومثلما ٓ‬ ‫الهدف في مسارات ومسارب الحكي‪ ،‬تحكم أيضا في اهتمام وانشغال شهرزاد‪.‬وصار ه ُّمها‬ ‫الوجودي‪ ،‬أن تربح رجال في ملك‪،‬وأن يبقى سيف الملك معطال‪.‬وهو ما حمل سهاما‪ ،‬على الخروج‬ ‫من سهوها وشرودها‪،‬لتعلن بصوت شبيه بالهمس‪:‬‬ ‫«‪ِ -‬خ ّميس‪».‬‬ ‫فُتِح باب القصر‪.‬وخرج الحاجب‪،‬ثم أعلن بصوت عال‪:‬‬


‫جاللة الملك شهريار‪،‬مستعد الستقبال الرعايا‪،‬الحاملين إلى جاللته‪،‬رقاع المظالم‪،‬التي يودون‬‫عرضها عليه‪.‬وذلك طبقا لألصول واألعراف‪،‬التي جرت بها العادة‪،‬في مثل هذا اليوم من كل سنة‪.‬‬ ‫بعد ذلك‪،‬التفت يمنة ويسرة‪،‬فلم ير غير سهام‪،‬ت ُ َر ّوض حجرها المقدود‪،‬وهي تنقله بقدمها من مربع‬ ‫إلى آخر! استغرب الحاجب‪،‬غياب الناس! على عكس العادة‪.‬فتقدم إلى سهام‪،‬وسألها‪:‬‬ ‫أين راح الناس يا بنيتي؟!‬‫أجابت سهام‪:‬‬ ‫لم يكن هنا غيري‪.‬وأنا من سيقابل الملك‪،‬نيابة عنهم‪.‬‬‫عاد الحاجب يحمل استغرابه إلى الملك‪.‬فيم همست سهام‪:‬‬ ‫سدّيس‪».‬‬ ‫«‪ِ -‬‬ ‫عزف‪،‬وسهام تواصل القفز برشاقة وإتقان‪.‬لقد تحكمت‬ ‫الموكب‬ ‫خرج الملك‪،‬يتقدمه موكبه‪.‬ويتقدم‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫اآلن في العالقة الفزيائية‪،‬التي تربط وزن الحجر المقدود وقوة دفعه‪،‬كي تنقله من مربع إلى آخر‪،‬‬ ‫دون أن يلمس الخطوط الفاصلة بين المربعات‪.‬‬ ‫قال الملك‪:‬‬ ‫من أنت ياصبية؟! ‪-‬أنا سهام يا موالنا الملك‪.‬‬‫َر ٓب ٓت بيده على كتفها‪،‬وهو يسأل‪:‬‬ ‫ولماذا تريدين مقابلتي؟!‬‫حملت سهام الحجر المقدود‪،‬وأشارت بسبابة يدها إلى الرسم الهندسي على اإلسفلت‪،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫جئت لمنازلتك‪.‬‬‫ثم أضافت بصوت حازم‪:‬‬ ‫أن تلعب معي لعبة القفز على المربعات‪،‬والرهان حياتي مقابل سيفك هذا‪.‬‬‫صاح الملك في وجهها‪:‬‬ ‫ويحك‪.‬أيلعب الملك شهريار لعبة القفز على المربعات مع صبية من رعيته؟!هل جننت؟!‬‫أجابت سهام بهدوء واتزان‪:‬‬ ‫قل أيها الملك السعيد بأنك خفت‪،‬وسأرحل‪.‬‬‫ازداد غضب الملك‪،‬وهو يصيح وينظر إلى حاشيته‪:‬‬ ‫س ّجل على الملك شهريار الذي تهابه الملوك‪،‬أنه خاف من صبية أتته لتنازله في لعبة القفز‬ ‫وهل يُ َ‬‫على المربعات؟!‬ ‫ثم أضاف‪،‬لكن بصوت فيه رنة التواضع‪:‬‬ ‫ومن هي أسرتك يا صغيرتي؟! ‪-‬أنا األخت الصغرى لشهرزاد ‪.‬‬‫لم يخف تعجبه‪،‬وهو يواصل السؤال‪:‬‬ ‫لكن شهرزاد لم تقل لي أن لها أختا في مثل سنك؟! ‪-‬ولدتُ بعد الحكاية الخامسة عشر‪،‬وعمري‬‫اآلن خمس سنوات ‪،‬وخمسة أشهر‪ ،‬وخمسة أيام‪.‬‬ ‫قال الملك‪:‬‬ ‫ألعب معك‪،‬لكن بشرط‪.‬‬‫قالت سهام‪:‬‬ ‫شرط موالنا في العين وفوق الرأس‪.‬‬‫قال الملك‪:‬‬ ‫إذا ربحتك ستمكتين معي في القصر‪.‬‬‫ثم أضاف‪:‬‬ ‫فأبناء أختك في حاجة إلى خالة في مثل سنهم‪.‬‬‫وبعد صمت قصير‪،‬أضاف‪:‬‬ ‫‪-‬وأذكى منهم‪،‬وأكثر جرأة!‬


‫قالت سهام‪:‬‬ ‫موافقة يا موالنا‪.‬‬‫َ‬ ‫وعمن سيبدأ اللعب‪ ،‬أخرج الملك من جيبة قطعة نقدية معدنية‪ ،‬وخيّر سهاما‪،‬فاختارت الكتابة‪ ،‬فيم‬ ‫علَت‬ ‫قبل بوجهه على عملته‪.‬رمى الملك القطعة النقدية في الهواء‪،‬ولما سقطت على األرض‪َ ،‬‬ ‫الكتابة على الوجه‪.‬فتقدمت سهام إلى الملعب‪،‬وأعلنت بداية الجولة‪،‬بقولها‪:‬‬ ‫«‪ِ -‬و ّحي ٓد)…(»‬ ‫دمحم الجاليدي ‪ -‬القنيطرة ‪ -‬المغرب‬



‫لقاء‪..‬‬‫‪-١‬‬‫جلس قرب المنارة المنبتة على رأس اللسان الصخري الذي يفصل النهر عن البحر‪ ،‬وعيناه‬ ‫منشدتان إلى خط التماس الذي يفصل الزرقتين!العمامة والعقال والكوفية والجلسة‪:‬عالمات‬ ‫سيميائية أمطرت مخيلتي باإلستغراب !! لذلك لم أقاوم خطوات الفضول وهي تقودني إليه ‪.‬عن بعد‬ ‫بدا لي وكأنه نورس غطاس‪،‬يحلق بخياله الخصب ‪،‬قبل أن يعود إلى كتابه الذي تلوح منه صفرة‬ ‫فاقعة ‪ ،‬مفتوحة دفتاه على فخديه‪ .‬ولما اقتربت منه‪،‬عرفته‪.‬وهل يخفى عني أبو عثمان عمرو بن‬ ‫بحر البصري؟ لقد جمعتني به رحالت البحث عن «المعنى»التاوي خلف حقيقة «الفكرة»و وعاء‬ ‫إلي‬ ‫اللغة‪ .‬و كم كانت الرحالت تلك ممتعة في عشرتها ومعاشرة شخوصها!!ألقيت التحية‪ ،‬فعاد َّ‬ ‫من اإلنتشاراألزرق‪.‬مسحني بنظرة‪،‬ورماني بابتسامة‪،‬ثم أشار لي بسبابة يده أن أجلس‬ ‫سقت‬ ‫بجانبه‪.‬حدثني وحدثه‪،‬وكان حديثا ذَا شجون‪.‬تكلم عن عصره وحكام عصره وناس عصره‪.‬و ُ‬ ‫له أهم الخصائص التي تميز هذا العصر فوجدته على دراية واسعة بها وبما آلت إليه تكنلوجيا‬ ‫اإلتصال و التواصل وأدواتها‪ ،‬وتطور حياة الناس في غمرتها‪.‬ومثلما لم تفارق وجهه التسعيني‬ ‫سمرته الغامقة حافظ أيضا على خفة ظله ومرحه ورهافة سمعة‪ .‬وعندما حل الغروب‪،‬سكت عن‬ ‫الكالم ‪ ،‬و راح معاودا التحليق بنظره في األفق ‪ .‬شاركته صمته و اندماجه الجميل في جمال‬ ‫التفاعل الضوئي ‪ ،‬و هو يرسم لوحة هذا اليوم ‪ .‬كان منشدا إلى المشهد أمامنا بعقل الفالسفة‬ ‫َّ‬ ‫الشفق‪،‬عز علي أن أترك أبا عثمان يقضي ليلته في‬ ‫ووجدان الشعراء‪ ،‬إلى أن اكتمل ‪ .‬ولما ارتسم‬ ‫هذا المكان رفقة عشاق الصيد بالقصبة ليال‪.‬ولكي ال يرى ِف َّي بعض صفات«أبي الحارث»‬ ‫أو«الهيثم»أو«أبي القماقم»‪..‬دعوته إلى العشاء والمبيت‪،‬فوافق ‪.‬‬ ‫‪-٢‬‬‫بالبيت استأذنت أبا عثمان لتهيئ الشاي‪ ،‬فشكرني بلطف‪.‬تركته مع التلفاز ودلفت إلى المطبخ‪.‬ولما‬ ‫عدت ب« الصينية » عليها لوازم الشاي ‪ ،‬عاد إلي أبو عثمان من اإلبحار في عالم القنوات‬ ‫التلفزية الفضائية‪.‬اعتذرت له عن التأخير فقال‪«-:‬ال عليك‪،‬لقد مارست في غيابك ( الكسل الرقمي‬ ‫)»! ولما بدا له بأني لم أفهم قصد كالمه‪،‬أضاف‪«-:‬إن اإلبحار على غير هدى عبر هذه األدوات‪،‬‬ ‫تجعل المبحر يخرج من إبحاره ال يلوي على شيء ‪ ،‬وال يدرك بأنه أضاع وقتا ثمينا من‬ ‫حياته‪.‬أوليس هذا(كسال رقميا)؟»أجبت وعالمات اإلعجاب بادية على مالمحي‪«-:‬بلى‪،‬هو كذلك‬ ‫بالدقة والتمام»!‬ ‫‪-٣‬‬‫ولما طاب لنا السمر الليلي بعد طعام العشاء‪،‬سألته سؤال قياس‪:‬‬ ‫«‪-‬كيف وجدت عصرنا يا أبا عثمان ؟»‬ ‫لحظتها انطلق في الكالم بتلقائية في القول وبدون أدنى صعوبة في اختيار األلفاظ كدوال‪،‬فقال‪:‬‬ ‫«‪-‬عمرت طويال‪ .‬وعايشت إثني عشر خليفة‪ .‬بعضهم كان ظالما‪ ،‬وبعضهم كان عادال‪ .‬والقاسم‬ ‫المشترك بينهم جميعا ‪،‬أنهم حكموا إلى خراسان‪ .‬ومن ظلم منهم وصل ظلمه إلى هناك‪ ،‬ومن عدل‬ ‫منهم وصل عدله إلى هناك‪.‬أما أنتم‪ ،‬فلم ترثوا من ماضيكم إال الدم‪،‬حتى صار الدم في أعينكم‬ ‫ماء‪.‬تقتلون األئمة وتغتالون الشعراء‪ .‬وتستبيحون وأد األطفال والبنات‪ .‬وتنحرون الشيوخ‬ ‫والنساء‪ .‬و تسمون ذلك جهادا ضد الكفر‪.‬والكفر من حولكم يذكي نار الفتنة بينكم‪.‬لذلك فأنتم من‬ ‫ساللة المماليك في صورة السالجقة‪.‬ولذلك فأنتم أبشع أمة أخرجت للناس ‪ .‬ندمت على الوقت‬ ‫الثمين و الطويل والشاق ‪ ،‬الذي صرفته في كتابة « البيان والتبيين»كي ال يضيع بيانكم‬ ‫‪،‬فضاع!كتبت في «التوحيد» فتعددت آلهتكم!أما ما كتبته عن «الحيوان» فإنني لم أندم عليه‪.‬ألنه‬ ‫ينطبق برؤيته الفلسفية عليكم‪.‬وها أنذا بينكم‪،‬أبحث فيكم عني‪،‬فوجدت نفسي في غابة كتابي عن‬


‫وشيخهم‬ ‫الحيوان ‪ .‬ولما بحثت عن التفاعل النصي مع كتبي ‪ ،‬وجدت ضالتي لدى« الكفرة »!‬ ‫ِ‬ ‫السيد«غوغل»جازاه هللا خيرا ! ألنه وفر علي جهد التجوال وتعب الترحال‪.‬وعثرت لديه على من‬ ‫تعاطى‪ ،‬منكم ومن غيركم‪،‬مع كتبي قراءة وتأويال‪.‬فشكَّلتُ بذلك صورة على التناص الذي فاضت به‬ ‫كتبي في عالمكم اإلفتراضي‪.‬ولما بحثت عن التفاعل النصي مع كتبي في األرض‪ ،‬التي هي‬ ‫أرضي‪،‬وجدت نفسي في منفى ببلدي ‪ .‬فالأحد ممن القيت عرفني‪ .‬وهذا ما حز في قلبي ‪ ،‬وحملني‬ ‫على استعجال الرحيل إلى قبري‪ ،‬لوال الصدفة الجميلة التي قادتك إلى اللقاء بي‪ ،‬فوجدت فيك‬ ‫واحدا على األقل ممن أحبني وأحب كتبي»!‬ ‫‪-٤‬‬‫تذكر أبو عثمان‪،‬ما أبدعه من نصوص عن البخالء‪،‬فسألني بعد أن َم َّهد لسؤاله بتوطئة‪:‬‬ ‫«‪-‬أقدر بأنك تعلم أن لكل عصر بخله‪.‬يبقى الجوهر ويتنوع التجلي‪.‬وأقدر أيضا بأنك تعلم أن أخطر‬ ‫من يهدد الدورة اإلقتصادية ‪ ،‬كما تسمونها بلغة عصركم‪،‬هم البخالء‪.‬ولما سألت الشيخ« غوغل‬ ‫»عما تم تأليفه من إبداع سردي عن هؤالء‪،‬أجابني بأن ما أطلبه غير موجود!باستثناء بعض‬ ‫األخبار العادية التي نقلها لي عن أشهر بخالء العالم‪ - .‬فماذا حصل لمبدعيكم في تعاطيهم مع هذه‬ ‫التيمة ؟ !هل طالهم بخل البخالء هم أيضا؟! أم في األمر شيء آخر ال أعرفه‪ ،‬وال يعرفه‬ ‫الشيخ(غوغل)؟»!‬ ‫أجبت بما أعرف وأقدر‪:‬‬ ‫«‪-‬أظن بأ ن السرديات في عصرنا‪،‬انجذبت إلى فن القصة والرواية‪،‬وحافظت إلى حد ما على‬ ‫عالقتها بفن السيرة ‪ .‬فيما أنصرفت عن فنون األخبار والنوادر‪.‬وإذا كان الشعر«ديوان العرب»في‬ ‫عصركم وقبله‪،‬فإن القصة و الرواية ‪ ،‬يعتبرهما بعض النقاد«ديوان العرب الجديد»‪.‬لكن الفراغ في‬ ‫األخبار والنوادر‪،‬تكفلت به المخيلة الشعبية‪ ،‬فأبدعت فيه واستفاضت‪ .‬وفن النكتة الشعبية‪،‬يسوق‬ ‫بدون توقف‪،‬نصوصا التقل جماال في الصياغة المضمونية والبنائية ‪ ،‬عن تيمة البخل والبخالء ‪،‬‬ ‫مثلما اقتحمت بجرأة المحظورالسياسي والجنسي»‪.‬‬ ‫سألني‪:‬‬ ‫«‪-‬وهل تعرف نموذجا لنكت عن البخل والبخالء ؟»‬ ‫أجبت ‪:‬‬ ‫« ‪-‬نعم‪،‬أعرف»‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫«‪-‬إحك»‪..‬‬ ‫فحكيت‪:‬‬ ‫‪-« -٥‬‬‫مات والد ميسور خرج بالتحايل من براثين الفقر‪،‬فرفض دفنه‪.‬ولما تجمهرالناس‬ ‫أمام«خربة»سكنه‪،‬للمشاركة في تشييع جنازة أبيه‪،‬خرج لهم‪،‬وطلب منهم أن يعودوا لما تموت‬ ‫أمه! استغربوا رفضه‪،‬فقال‪:‬سأحتفظ بأبي في براد الثالجة إلى أن تلتحق به أمي‪،‬وأُقيم لهما معا‬ ‫جنازة واحدة»‪.‬‬ ‫‪.. -٦‬ضحك أبو عثمان حتى اغرورقت عيناه الجاحظتان بالدموع‪،‬وهو يقول‪-« :‬أين هو باب‬‫الكرة االرضية ‪ ،‬فإنني أريد الخروج من كوكبكم!»‬ ‫‪-٧-‬‬


‫قمت من نومتي‪،‬ألغسل وجهي وأسترد صحوي بقهوتي الصباحية‪،‬وسيجارتي األولى‪..‬وطيلة‬ ‫اليوم وأنا أردد بغير صوت‪:‬‬ ‫«‪-‬ما أروع الحق في الحلم » !!! وبعد كل ترديد أبتسم‪..‬‬ ‫دمحم الجاليدي ‪-‬القنيطرة ‪ -‬المغرب‬



‫رحلة بحث عن جنة عدن والوعد المنتظر ‪..‬‬ ‫شمس هذا الصباح الفضاء مشرعا لتمأل‬ ‫كانت السماء متحررة من كدر السحاب‪.‬فَ َو َجدَت‬ ‫ُ‬ ‫هذه النقطة من الكون باإلشعاع والدفء ‪ .‬أخذ البحر ما يكفيه من اإلضاءة ‪ ،‬ليبعث بأجمل مرتبة‬ ‫من مراتب اللون األزرق ! تلك الزرقة التي يسبح في انبساطها البياض ! األمواج تتكسر على‬ ‫ع ِلقت‬ ‫ناصية الشاطئ ‪ ،‬فبدا البحر كالشيخ الوقور وقد اشتعل شعر رأسه شيبا ووقارا ! صياد َ‬ ‫صنارته بالصخور المتربصة به وهي في القعر!!حاول فَكّها بلطف‪،‬ولما أعيته المحاولة‪،‬قطع‬ ‫الخيط‪،‬ومشى شرق الشاطئ ليغير المكان‪.‬علق صديقي حامد على مشهد الصياد قائال‪:‬‬ ‫«‪-‬ال أريد أن أخوض غمار تجربة زواج تنتهي بقطع الخيط‪».‬‬ ‫انتظرت أن يواصل الكالم لكنه توقف! حدست أن في مشروع زواجه أمرا ً ما‪،‬يريد الحديث‬ ‫عنه‪.‬في الجلسةالسابقة‪،‬كان حديثه عن سهام متحمسا‪.‬وكان كالمه عن المؤشرات األولية للتالقي‬ ‫مطمئنا‪.‬متعلمة‪.‬مدرسة‪.‬فأن تكون أم أوالده متعلمة ليس كأن التكون‪.‬وأن تكون مدرسة‪،‬سيجعلها‬ ‫أ ُ ًّمـا محنكة‪.‬هكذا فكر في المؤشرين وبنى عليهما حوافزه لمواصلة بلورة المشروع‪.‬لم أشجعه على‬ ‫الكالم في الموضوع‪،‬بل تركت له حرية ذلك ‪.‬فأنا أعرف بعمق‪،‬من خالل عشرتنا الطويلة‪،‬فهمه‬ ‫للتواصل الحميمي‪،‬وفهمه العميق لإلغتراب العالئقي‪.‬ولطالما كان نقاشنا في هذه التيمة‬ ‫خصبا‪،‬ونحن نستعرض التجارب العالئقية من حولنا‪ ،‬وتنوع امتداد روابطنا بها‪.‬وكل تجربة ناجحة‬ ‫أو فاشلة‪،‬كانت تصل ِبنَا إلى خالصة تنظيرية واحدة ‪،‬بخصوص مفهوم«التواصل»في‬ ‫العالقات‪،‬فركبنا للمفهوم قاعدة‪،‬تكاد تكون شبيهة بمعادلة رياضية‪.‬وعندما وثقنا معا بكنه وصواب‬ ‫هذه القاعدة ‪ ،‬صاغها حامد لغة‪ ،‬وأكسبها بُعدا إطالقيا تنظيريا‪ ،‬يكاد ينطبق على مجمل العالقات‬ ‫بين الناس ! أذكر جيدا بأننا كنّا معا في هذا الشاطئ الجميل‪،‬الذي يتحول خالل الشتاء إلى شاطئ‬ ‫وحشي مهجور‪ ،‬مما يزيده جماال‪-‬كما هو اآلن ! كنا في المكان نفسه‪ ،‬ووضع جلستنا مماثال كما‬ ‫اآلن ‪ ،‬حين ساق قوله كإشراقة شمس هذا الصباح ‪،‬بما معناه‪:‬‬ ‫التواصل حالة دائمة من الجهاد المتواصل بين طرفي عالقة ما‪ ،‬ضد اإلغتراب بكل‬‫أبعاده الفكرية والوجدانية والسلوكية‪.‬فأن أرتبط بك في إطار عالقة صداقة‪-‬مثال‪-‬يعني أنك‬ ‫بشخصيتك تشكل دائرة‪،‬وأنا أيضا أشكل دائرة‪،‬وعالقتنا هي القاسم المشترك بين الدائرتين‪.‬هذا‬ ‫القاسم المشترك‪،‬ال يقف ساكنا‪،‬بل يتسع مدّا ويضيق جزرا‪.‬ومتى اتسع صار التواصل عميقا‪،‬وصار‬ ‫اإلغتراب محاصرا؛ والعكس‪.‬ومتى تسرب اإلغتراب إلى هذاالحيّز العالئقي‪،‬شرع في التهام‬ ‫التواصل‪،‬إلى أن يقضي عليه تماما‪.‬‬ ‫ولرده إلى سياق تخوفه من احتمال انقطاع خيط الزواج‪،‬وربط ذلك ِبما خلصنا إليه في‬ ‫الجلسة السابقة قلت‪:‬‬ ‫الزواج خيار صعب‪.‬فاللقمة سجن‪.‬واليومي مجرم قاتل‪.‬يقتل بدم بارد‪.‬ومتى سقطت‬‫العالقة بين الزوجين‪،‬في ساحة معركة الحياة‪،‬ومات الحب‪،‬تصير العالقة مجرد تسويات‬ ‫يومية‪،‬تواكبها انفعاالت وتوثرات‪،‬إذا ما طالت تصير بنيوية‪.‬ومع األيام تنتقل عالقة الزواج من‬ ‫حرارة الحب‪،‬إلى برودة اإلغتراب ‪،‬يؤطرها(الواجب المؤسسي)؛إن لم تنته إلى قطع الخيط‪.‬‬ ‫وكما غير الصياد مكان الصيد بعيدا عن الصخور‪،‬غير حامد مسار الكالم‪،‬وطلب مني أن‬ ‫أحكي له نكتة عن الزواج‪،‬وهو يعرف أنني مغرم بهذا السجل الشعبي النقدي‪،‬الذي ال يعرف‬ ‫المحظور‪.‬أشعلت محرك الذاكرة كي أحفزه على اإلستحضار‪.‬لذلك صمتُّ قليال‪،‬ثم قلت‬ ‫«وجدتها»وحكيت‪:‬‬ ‫اختار رجل الزواج بامرأة‪،‬فوافقت‪.‬وألن كال منهما له عمله ودخله ‪،‬اشترط عليها‬‫التعاون في تدبير مصاريف الحياة‪،‬فوافقت‪.‬وخيَّرها بين اإللتزام بالمصاريف اليومية أو اإلكتفاء‬ ‫بمصاريف الكراء‪.‬فكرت في اليومي‪،‬وتهيبت منه‪.‬ألن المصاريف اليومية غير مستقرة‪،‬فالطوارئ‬


‫أكثر كلفة ولو قَلَّت‪.‬فطارئ واحد قد يعصف بادخار سنة‪.‬لذلك اختارت مواجهة الكراء‪،‬ألن السومة‬ ‫الكرائية معروفة ومستقرة‪.‬فتوكال على هللا‪،‬وعاشا حياة زوجية هادئة في األغلب األعم من‬ ‫مسارها‪.‬ولوال ذلك لما عمرت عالقتهما عشرين سنة‪.‬وكانت مضرب المثل في وسطهما العائلي‬ ‫بين األزواج‪.‬ولمــا قضى الزوج أجله‪،‬جاء الورثة يطالبون بحقهم‪.‬فاكتشفت الزوجة أن المنزل‬ ‫الذي كانت تؤدي ثمن السكن فيه‪،‬ملك صاف للزوج‪.‬فأقامت له جنازتين‪:‬األولى له أمام‬ ‫األعين‪،‬والثانية لها على انخداعها‪.‬‬ ‫ضحك حامد قبل أن يعلق على النكتة ويربطها بمشروع زواجه وما حل بخصوصه‪.‬ثم قال‪:‬‬ ‫ارتباط هذه المرأة بهذا الرجل‪،‬لم يكن زواجا‪.‬كان صفقة انطلقت بمساومة‪.‬والقمار ال‬‫يحصد نتيجة ثالثة‪.‬إما رابح وإما خاسر‪.‬ومن قبل الصفقة والمساومة عليه بقبول النتيجة‪.‬أما عن‬ ‫مشروع زواجي فاألمر مختلف مع النكتة في التفاصيل‪،‬ومطابق لها في الجوهر‪،‬وقد اختلفت مع‬ ‫سهام فيه‪.‬‬ ‫قلت له ‪:‬‬ ‫احك لي الوقائع ودع تحليلك جانبا‪.‬‬‫وحكى‪:‬‬ ‫في الخروج األول ‪ ،‬انطلقنا في النقاش المرتبط‬‫بترتيبات حياتنا المشتركة مستقبال‪ ،‬وبطلب منها‪ .‬دار الكالم شرقا وسافر غربا‪،‬وختمته‬ ‫بطلبها أن أقلع عن التدخين‪ .‬لم أرفض ولم أعد‪ .‬وفي الخروج الثاني كان ختمها للكالم بطلبها أن‬ ‫أشتري منزال باالقتراض البنكي طويل األمد‪ .‬لم أرفض ولم أعد‪ .‬وفي الخروج الثالث كان ختمها‬ ‫بطلبها أن أقترض منك ! وأشتري سيارة‪.‬لم أرفض ولم أعد‪.‬‬ ‫لكنني سألتها هذه المرة عن الحصيلة المطلبية‪،‬قائال‪:‬‬ ‫سهام ؟! ‪-‬نعم ؟! ‪-‬هل السيجارة وجود أم موجود ؟‬‫استغربت‪.‬فكرت‪.‬وأجابت‪:‬‬ ‫السيجارة موجود‪- .‬والمنزل وجود أم موجود ؟ ‪-‬موجود‪.‬‬‫والسيارة وجود أم موجود ؟‬ ‫موجود‪- .‬وأنا الذي أحمل اسم حامد وجود أم موجود ؟ ‪-‬أنت أيضا موجود‪.‬‬‫قلت خاتما الجولة قبل أن أودعها وأدعو لها بابن الحالل الذي يناسبها‪:‬‬ ‫لم أكن أعلم بأن وجود حامد شيئا‪.‬فأنت أعدل امرأة في الوجود! )‪(...‬‬‫قلت لحامد ‪:‬‬ ‫أنت تبحث عن أجمل الصفات المتفرقة على نساء في كيانك‪،‬وتريد جمع هذه الصفات في‬‫امرأة واحدة‪.‬أال ترى معي بأن هذا التصور حالم ؟‬ ‫قال‪:‬‬ ‫أنا وجود ولست شيئا‪.‬وألنني كذلك أمتلك الحق في الحلم بامرأة‪/‬وجود‪.‬ولست‬‫دوغمائيا‪.‬فالرسم كحلم يحدد المبتغى في كل مرتكزاته‪،‬وعندما أجد في هذه المرتكزات حدًّا أدنى‬ ‫سأنطلق‪.‬أما أن يغيب الحد األدنى كمنطلق‪،‬سينقطع الخيط بكل تآكيد‪.‬‬ ‫والزواج ليس تجريبا‪،‬إنه رؤية ورؤيا واختيار‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫وما هي مرتكزات حدك األدنى ؟!‬‫قال وبروعة في القول‪:‬‬ ‫أن أبصر في عيني حبيبتي جنة عدن والوعد المنتظر! )…(‬‫دمحم الجاليدي‪-‬القنيطرة ‪ -‬المغرب‬




‫التماهي (لوجيا)‪..‬‬ ‫خرج الطفل ماجد من الرسوم المتحركة‪،‬واكتسب مقومات وجوده البشرية‪،‬ليبدأ رحلة‬ ‫حياة‪.‬وفي اليوم األول من حياته‪،‬علمته المدرسة مهارة استعمال المقص‪.‬وذلك بالتدريب على قطع‬ ‫وريدات ورقية‪،‬بإتقان ودقة‪.‬ولمــّا كان ماجد ماهرا في القص‪،‬أثنت عليه المعلمة أحسن الثناء‪.‬عاد‬ ‫فرحا مزهوا‪،‬ونقل الخبر إلى أمه‪.‬فرحت به وهيأت له الطعام الذي يشتهيه‪:‬سلطة في المقدمة‬ ‫وقطعة دجاج محمر وتفاحة‪.‬أكل بشهية‪.‬وعندما وصل إلى التفاحة‪،‬تذكر رسمها الجميل على الورق‬ ‫الذي قصه‪،‬فحاول قصها كما فعل في القسم‪.‬لم يتوفق‪،‬فتذكر التفاحات الجميلة المرسومة على‬ ‫األلحفة في غرفة الضيوف بالبيت‪.‬فقام إليها وقصها بإتقان ودقة‪.‬ولما انتهى صاح بأعلى صوته‬ ‫إعجابا‪.‬نادى أمه التي كانت منشدة إلى نشرات األخبار التي تذيع نبأ ً عاجال‪.‬هالها ما فعله‬ ‫ماجد ‪،‬فقررت معاقبته بسجنه في غرفة التلفاز بجانبها‪،‬وأخبرته أن هذه العقوبة ستستمر إلى نهاية‬ ‫األسبوع‪.‬قضى الليلة يتابع األخبار العاجلة واألخرى المعادة‪.‬إلى أن نام‪.‬‬ ‫(الليلة الثانية من حياة ماجد‪):‬‬ ‫نسي عقاب أمه له‪،‬ونسي القص بالمقص‪،‬واستلذ اإلبحار في القنوات الفضائية‪.‬ورغبة من‬ ‫األم بدافع الحنان على ابنها‪،‬انشغلت في المطبخ تهيء له الطعام الذي يشتهيه‪،‬لتجعل عقوبته‬ ‫ألطف‪.‬كانت شاشةالتلفاز تفيض بأخبار الدم‪.‬والقنوات الفضائية تتنافس بقتالية وحرفية مهنية‬ ‫عالية‪،‬لتحظى بالسبق‪،‬وتنفرد بالتميز‪،‬في َحب ِك األخبار وصناعتها‪،‬لشد المتلقي إليها‪.‬صوت‬ ‫وصورة ومراسلين من عين المكان‪.‬وكل قناة تبث األخبار الدامية وتعيدها على مدار الساعة‪.‬وبين‬ ‫اإلعادة واإلعادة‪،‬استحضار ألحداث كانت في الماضي القريب‪،‬وأخرى في الماضي البعيد‪،‬مرفوقة‬ ‫بالتحاليل والتعاليق ألمهر المدبجين‪.‬فهذا مختص في السالح‪،‬وذاك مختص في التكتيك‬ ‫الحربي‪،‬وآخرون مولعون باألبحاث والدراسات اإلستراتيجية‪..‬وبكثرة استحمام ماجد بالدم‪،‬صار‬ ‫يقلب كل قناة تقدم إشهارا انتقاليا لبضاعة‪،‬لينتقل إلى ربط اإلتصال بأخبار الدم‪،‬كي ال يتشتت‬ ‫انتباهه بالوصالت اإلشهارية‪.‬ومتى أفلح في ذلك كان يصفق‪،‬ويصيح بأعلى صوته‪«:‬وجدتها»‪.‬ثم‬ ‫ينخرط في الضحك كاألبله‪.‬ولمــا أتته أمه باألكل الذي يشتهيه‪،‬رأى الطماطم بلون الدم فأكلها‬ ‫بشهية‪ .‬ونظر إلى المرق ‪،‬فبدا له الدجاج المحمر‪،‬كما لو كان يسبح في بركة دم‪،‬فأكل‬ ‫بشهية‪.‬ولماوصل إلى التفاحة‪،‬طلب من أمه تغييرها بأخرى حمراء‪،‬ففعلت‪،‬فأكلها بتريث ولذة‪.‬‬ ‫(الليلة ما قبل األلف من حياة ماجد‪):‬‬ ‫شاهد ماجد شريطا استثنائيا في مسيرة الدم الكبرى‪.‬ويتعلق األمر بالذبح‪.‬بشر يذبح‬ ‫بشرا‪.‬فانشد بقوة أكبر إلى الحدث وتداعياته اإلعالمية‪.‬كان الذبح بطريقة استعراضية‬ ‫هوليودية‪.‬فأكل طعامه المفضل بشهية استثنائية‪.‬ونام أيضا بطريقة متفردة‪،‬حملت أمه على تقطيع‬ ‫اإلسترسال في نومها‪،‬لتطبطب على رأسه وصدره‪،‬كي يسافر به النوم على بساطه‪.‬‬ ‫(الليلة األلف من حياة ماجد‪):‬‬ ‫قرر العالم اإلنخراط في هدنة لمدة ثالثة أيام‪.‬وكان الشعار المؤطر لهذه الهدنة‪«:‬األيام‬ ‫العالمية بدون دم»‪.‬وعلى امتدادها تنافست القنوات التلفزية الفضائية‪،‬في توليف المشاهد البعيدة‬ ‫عن الدم‪.‬واستبدلتهابالطرب والرقص والكليبات المصورة في رحاب الجمال الطبيعي‪.‬توثر‬ ‫ماجد‪،‬وهو يبحر في القنوات مقلبا دون جدوى!ولـما أتته أمه بأكله المفضل‪،‬طلب منها إحضار‬ ‫شوكة وسكين‪.‬لبت طلبه‪.‬ترك الشوكة وحمل السكين‪.‬وباغتها فأحدث جرحا خفيفا على يدها‪.‬صاحت‬ ‫وراحت مهرولة تبحث عن ضماد‪.‬وحين عادت إليه‪،‬وجدته يأكل بشهية‪.‬لم تفهم‪.‬فقررت معاقبته‬ ‫بإخالء غرفة التلفاز‪،‬وأغلقتها بمفتاح كي ال يدخلها في غيابها عنه إذا دعتها الضرورة لذلك‪.‬‬ ‫(الليلة األلف وليلة من حياة ماجد‪):‬‬


‫لم تكن األم‪،‬وكانت غرفة التلفاز موصدة‪.‬لكن أكله المفضل‪،‬كان ينتظره على مائدة الطعام‬ ‫بالمطبخ‪.‬عافه في البدء‪.‬وبعد أن استبد به ألم الجوع‪،‬حمل السكين وأحدث جرحا في يده‪،‬ثم شرع‬ ‫يأكل بشره‪..‬‬ ‫ولما عادت أمه صرخت وولولت‪،‬وحملته إلى المستشفى على وجه السرعة‪.‬خاط الطبيب‬ ‫الجرح ولفّه بضماد‪.‬حكت األم للطبيب ما حصل ‪،‬فأشار عليها بحمل ماجد إلى طبيب نفسي‪.‬‬ ‫(اليوم األخير من الهدنة العالمية‪):‬‬ ‫حكت األم للطبيب النفسي ‪،‬حيرتها في أمر ابنها ماجد‪.‬فقام بفحصه السلوكي ‪،‬كمعبر لفهم‬ ‫العالم الباطني للطفل‪.‬قدم له في البدء نوعين من الشوكوال‪:‬واحد غالفه أزرق‪،‬والثاني غالفه‬ ‫أحمر‪.‬وطلب من ماجد أن يختار‪،‬فاختار الشوكوال ذات الغالف األحمر‪.‬طلب منه إزالة الغالف وأكل‬ ‫الشوكوال‪.‬وبما أن الشوكوال لونها بني‪،‬فإن ماجد رفض أكلها‪.‬غير الطبيب الشوكوال بأخرى لونها‬ ‫أحمر‪،‬فأخذها ماجد وهم بقضمها‪،‬لكنه تذكر التلفاز‪،‬فتوقف‪.‬أشعل الطبيب التلفاز المرتبط بشريط‬ ‫الفيديو‪،‬‬ ‫وانطلق ملخص الليالي الدامية صوتا وصورة‪.‬لحظتها أكل ماجد الشوكوال الحمراء بلذة‬ ‫وانتشاء‪.‬‬ ‫قال الطبيب لألم‪:‬‬ ‫ابنك يعاني من مرض التماهي(لوجيا‪).‬‬‫قالت األم سائلة‪:‬‬ ‫وما هو عالج هذا المرض؟!‬‫قال الطبيب حاسما‪:‬‬ ‫العالج يكون مجديا عندما يكون المرض في بدايته‪.‬‬‫سألت األم أمال في إيجاد حل‪:‬‬ ‫وكيف السبيل ألنقذ ابني؟!‬‫قال الطبيب مذكرا األم‪:‬‬ ‫اليوم آخر األيام العالمية بدون دم‪.‬‬‫صاحت األم في وجه الطبيب‪:‬‬ ‫سأكسر التلفاز وأدمر كل الوسائل التي تعوضه‪.‬‬‫قال الطبيب بهدوء‪:‬‬ ‫كان ذلك ممكنا قبل أن يصير المرض مزمنا‪.‬‬‫سألت األم متوسلة‪:‬‬ ‫وهل هناك طريق آخر لحل ؟!‬‫قال الطبيب بوثوقية علمية‪:‬‬ ‫أن يعود ماجد إلى لعب دور البطولة في رسومه المتحركة‪.‬‬‫دمحم الجاليدي ‪-‬القنيطرة ‪ -‬المغرب‬



‫‪"» ..‬متعب الهذال"من ساللة خماسية«مدن الملح‬ ‫حين كان الصباح داميا في نشرات األخبار‪،‬خرج«متعب الهذال»من خماسية«مدن‬ ‫الملح»‪،‬وبالضبط من الجزء الذي عنوانه«التيه»‪،‬فأُلقي عليه القبض‪.‬وبعد فترة التحقيق غير‬ ‫المقيدة بزمن محدد‪،‬أخلي سبيله‪.‬التقيته بشاطئ البحر‪،‬ممددا على رمال الشاطئ وأفق الصحراء‬ ‫منتشر إلى َح ِ ّد البصر ما بين محيط وخليج‪ .‬كان يعالج جلده المدبوغ وقد عمته الندوب‪.‬نعرف‬ ‫بَع َ‬ ‫ضنَا من أيام التجاور بأهرام الخماسية ؛ فحدثني‪،‬وقال‪:‬‬ ‫بغرفة أُح ِكم إغالقها‪،‬وجدتني أئِنُّ من ألم في الضلوع لصالبة األرض‪.‬لم أدر كيف حصل‬ ‫ذلك‪.‬ولم أدر كم من الوقت َم ّر علي وأنا في هذا الوضع‪.‬سمعت طقطقات كعبي حذاء‬ ‫نسائي‪،‬فصحت‪:‬‬ ‫لم أنا هنا ؟!‬‫صوت نسائي‪:‬‬ ‫ألن بعض الظن من حسن ال ِف َطن‪.‬‬‫قلت‪:‬‬ ‫ما أعرفه أن بعض الظن إثم ؟!‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫كان ذلك في سالف العهد واألوان‪.‬‬‫قلت‪:‬‬ ‫لم أرتكب فعال من شأنه أن يُحدث إخالال بالنظام العام للعالم ؟!‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫كان ذلك في قريب األزمان‪.‬‬‫قلت‪:‬‬ ‫واآلن ؟!‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫نستبق الفعل قبل حصوله‪،‬لضبطه متلبسا في الدماغ‪.‬‬‫قلت‪:‬‬ ‫لم أفهم ؟!‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫نحن نفهم‪.‬‬‫صوت رجالي هذه المرة‪:‬‬ ‫إسمك الكامل ؟‬‫أجبت‪:‬‬ ‫دمحم بن مسلمة‪.‬‬‫صوت رجالي آخر‪:‬‬ ‫تضحك علينا ؟‬‫قلت‪:‬‬ ‫ال أبدا‪ ،‬وأنا الذي قتل كعبا بن األشرف‪.‬‬‫الصوت الرجالي األول‪:‬‬ ‫ومن هو كعب بن األشرف هذا ؟!‬‫أجبت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫من ط ّيِء نسبة لألم ومن بني النضير نسبة لألم‪.‬‬‫الصوت نفسه‪:‬‬


‫ولماذا قتلته ؟!‬‫أجبت‪:‬‬ ‫ألنه حرض قريش على الثأر لقتالها في معركة بدر‪.‬‬‫صوت رجالي آخر‪:‬‬ ‫آه ‪ ،‬فهمت ‪ ،‬اضربوا ابن الكلب‪.‬‬‫)…(‬ ‫اختلط علي حابل «األمن اإلستباقي»بنابل«األمن اإلستباقي»‪،‬فدخلت إلى دماغي ألنظفه‬ ‫َاو َد» على نفسي ألرفعها إلى سطح الوعي‪ ،‬كي أتأكد‬ ‫قبل فوات األوان ! ثم شرعت أردد «مزامير د ُ‬ ‫قبل الضغط على زر المسح الرقمي‪:‬‬ ‫)…(‬ ‫لست لصا‪.‬فأنا لم أسرق من أهالي أرضي حواسهم الخمس‪.‬لم أسرق منهم حقهم في‬ ‫الضوء والماء والهواء‪.‬لم أسرق من عيونهم لون السماء‪.‬لم أسرق منهم ولعهم بالشعر والرقص‬ ‫والغناء‪.‬لم أسرق منهم ميزان الكيل ‪،‬ألردهم إلى زمن المقايضة‪.‬لم أسرق منهم عزةالنفس ‪،‬ألترك‬ ‫لهم جمر الذل ولظى التبخيس‪.‬لم أسرق منهم األمل الوردي‪،‬وهم بين الوقفة السوية والسقطة‪،‬لكي‬ ‫ال يبقى لهم إال اليأس األسود‪.‬لم أسرق منهم شهامتهم وشجاعتهم ‪،‬ليلتحفوا باإلنزواء والجبن‪.‬لم‬ ‫أسرق منهم روعة اإلعتراف ‪،‬ألبعث فيهم التنكر والجحود‪.‬لم أسرق منهم نكران الذات ‪،‬ألذكي‬ ‫فيهم األنانية المريضة‪.‬لم أسرق منهم اإلندفاع في السخاء ‪،‬ليغمرهم البخل والشح‪.‬فهم للضوء‬ ‫والماء والهواء‬ ‫وجدوا‪.‬ولألزهار البرية وجدواوللشعر والرقص والغناء وجدوا‪.‬وللميزان وجدوا‪.‬ولألمل‬ ‫الوردي وجدوا‪.‬ولعزة النفس وجدوا‪.‬وللشهامة والشجاعة وجدوا‪.‬وفي نكران الذات وجدوا‪.‬وفي‬ ‫السخاء وجدوا‪.‬وأنا في وجودهم وجدت‪.‬ألن حليب أمي األصيل تفوح منه رائحة التربة السمراء‬ ‫التي تبعث الخصب األخضر من العدم‪،‬وتبعث الواحة في رمال الصحراء‪.‬لذلك لم أعرف في حياتي‬ ‫قط مشاعر اللص‪،‬وهو يقتنص هدفه في مستهدفيه‪.‬‬ ‫فلم أنا هنا ؟!‬‫)…(‬ ‫الصوت النسائي األول‪:‬‬ ‫واآلن ما اسمك الكامل ؟‬‫أجبت بصوت يشبه األنين‪:‬‬ ‫عبد هللا بن عتيك‪.‬‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫من ؟! (برنة فيها غضب)‬‫أجبت بصوت أوضح‪:‬‬ ‫عبد هللا بن عتيك‪.‬‬‫الصوت الرجالي األول‪:‬‬ ‫أما زلت تسخر منا ؟!‬‫قلت بعد صمت‪:‬‬ ‫ال وهللا‪ ،‬وأنا الذي تزعم الجماعة‪.‬‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫أية جماعة ؟!‬‫أجبت بصعوبة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الجماعة التي قتلت سالما ً‪.‬‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫‪-‬ومن هو سالم هذا ؟!‬


‫قلت بصعوبة أكثر‪:‬‬ ‫واحد‪..‬واحد‪..‬من كبار المحرضين‪.‬‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫حرض ؟!‬ ‫على ماذا ّ‬‫قلت قبل أن أغيب‪:‬‬ ‫حرض قبيلة قريش‪.‬‬‫سمعت ثم غبت‪:‬‬ ‫آه ‪،‬فهمت ‪،‬اضربوا هذا المجرم ابن المجرم‪،‬حتى الموت‪.‬‬‫)…(‬ ‫لست مجرما يسفك دماء األبرياء‪.‬وال يمكن أن أكون‪.‬ألني‪-‬منذ البدء‪-‬ال أمتلك قلبا عاشقا‬ ‫للدم‪.‬فأنا حينماكنت طفال‪،‬كنت أعدو خلف الفراشات في أزمنة الربيع‪،‬ألحقق رغبتي الطفولية في‬ ‫اإلمساك بفراشة ملونة‪،‬كي أتأملها ثم أحررها دون أن أكدر صفو تناسق األلوان فيها‪.‬وبقدر ما‬ ‫أحرص على ذلك‪،‬كنت أخاف أشدالخوف أن أقتلها بحركة طائشة غير محسوبة أمام حيرتها وهي‬ ‫تطير وتحط‪،‬ثم تطير وتحط‪.‬ومتى وقع ذلك‪،‬كنت أحزن حزنا عميقا‪،‬فأعود إلى منزلنا مثقال بالكآبة‬ ‫ومنهكا باألسى‪،‬ألنني ارتكبت إثما عظيما‪-.‬فلم أنا هنا ؟!‬ ‫)…(‬ ‫سؤال‪،‬بدا لي بسيطا‪،‬خالل لحظاتي األولى‪،‬وإنا في تلك الغرفة الضيقة‪،‬التي يبلغ طولها‬ ‫خطوتين ‪،‬وعرضها كذلك‪،‬بمقاس خطوي‪.‬لكن سرعان ما شرع السؤال يكبر‪،‬ليصير سؤاال وجوديا‬ ‫شامخا شموخ جبل في أعظم سلسلة جبلية على هذه األرض؛وألحمله على كتفي كي أضعه على‬ ‫قوس قزح !!!‬ ‫)…(‬ ‫الصوت النسائي‪:‬‬ ‫نعرف من أنت‪.‬‬‫سألت‪:‬‬ ‫ومن أنا ؟!‬‫الصوت نفسه‪:‬‬ ‫أنت «متعب الهذال‪».‬‬‫الصوت نفسه يضيف‪:‬‬ ‫ونعرف من خلقك ومن سواك‪.‬ونعرف أنك في خماسية«مدن الملح»‪،‬رفضت وجودنا‬‫ونحن نحفر في الصحراء ننقب‪.‬وحرضت علينا األهالي‪،‬ولم يهتموا بتحريضك‪.‬فتُهتَ في البيداء‬ ‫تحمل رفضك معك‪.‬وقلنا إننا انتهينا منك‪.‬‬ ‫سألت‪:‬‬ ‫ولم أنا هنا إذن ؟!‬‫الصوت الرجالي الثاني‪:‬‬ ‫نريد أن نعرف لماذا غادرت كتاب«التيه»في الخماسية‪،‬وعدت‪.‬‬‫أجبت بصدق‪:‬‬ ‫عدت ألشهد على زمن جفاف النفط وذوبان «مدن الملح‪».‬‬‫)…(‬ ‫قلت ل«متعب»‪:‬‬ ‫اعتقلوك ألن مجيئك صادف صباحا داميا في نشرات األخبار)…( !!!‬‫دمحم الجاليدي ‪ -‬القنيطرة ‪ -‬المغرب‬



‫سمر على طريقة الغجر‪-‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫قال لي صاحبي وهو يحاورني ‪:‬‬ ‫ما الذي يشد اإلنسان إلى الحياة ؟‬‫كنَّا على أهـبة اإلنطـالق من اإلنـتشار األخـضر بـفضاء الشاوية إلى الحصار اإلسمنتي‬ ‫ضباب مسته ِ ّل ذاك الصباح‪،‬يغشى الرؤية‪ .‬ولكي أفكر في‬ ‫بالـبيـضاء‪.‬كـان الوقت غبشا‪.‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫شعاب التشخيص إلى قمة التجريد‬ ‫اإلجابة‪،‬كــان علــي أن أرحل بفكري على بساط الريح‪،‬من ِ‬ ‫بجبل(مگارطو)‪.‬قلت في نفسي‪:‬‬ ‫لكل إنسان دواعيه الخاصة التي تـشده إلى الحياة ‪ .‬ومن المحـتـمل أن تــكون لــهذه‬‫الدواعــي المخــتلفة والخالفية‪،‬قاعدة وجودية مشتركة‪.‬‬ ‫تركني أبو إلهام غارقا في دواخلي طيلة مسافة الرحلة‪.‬احترم صمتي‪.‬ألنه التقط بحسه‬ ‫المرهف‪،‬أنني أفكر في السؤال بجدية‪،‬وأنني وقعت في المصيدة‪.‬وهو المقتنع بالقول‪:‬‬ ‫السؤال مشنقة‪.‬‬‫في البيضاء انشغـلنا ‪ .‬وبقي الحبل بالتواءته المحايدة ‪،‬كملمحٍ ثلجي منتصبا ! وأثـناء‬ ‫عودتنا ونحن نطوي المسافات ‪ ،‬سافر ِبنَا الحديث إلى قضايا البلد ومتاهاتها التي ال تنتهي ‪ .‬ومع‬ ‫ذلك توقعت أن السؤال الذي طرحه أبوإلهام صباحا سيكون موضوع سمرنا الليلي‪.‬فهو الينسى‬ ‫أبدا‪،‬لكـنه يمتـلك قـدرة قويـة على التناسي بوعي إرادي في انتظار السياق الذي يُ َو َّهج التعاطي ‪.‬‬ ‫وذلك ما حصل!‬ ‫سوينا جلسة السمر كما يحلو لنا عندما نكون معا وحدنا‪.‬كانت النار تلتهم الحطب ‪،‬وتنشر‬ ‫الدفء في أرجاء المكان‪.‬ولمـّا اجتازت أم كلثوم المقدمـة الموسـيقـية لمطولتها‪،‬ابـتسم أبوإلهام‬ ‫ابتسامته الطفلية‪،‬التي اعتادها عندما يكون مبتهجا‪،‬وركز بصره في وجهي ثم قال جملته المعهودة‬ ‫حين يريد العودة إلى موضوع سابق‪:‬‬ ‫(‪-‬الشاهد عندنا إيه) ؟‬ ‫ثم أضاف بصيغة استفهامية‪:‬‬ ‫سر ارتباط اإلنسان بالحياة؟‬ ‫طرحنا السؤال صباحا‪ ،‬عن ِ‬‫قلت ‪:‬‬ ‫نعم‪.‬‬‫قال ‪:‬‬ ‫وإلى أين وصلت بك خاليا الدماغ؟‬‫قلت مباشرة وبتلقائية وبدون مقدمات ‪:‬‬ ‫ينشد اإلنسان إلى الحياة طالما يلتذ بحاجياته الضرورية للعيش‪،‬تعلق األمر بما هو‬‫فزيولوجي أو نفسي أو عالئقي‪.‬‬ ‫َ‬ ‫صاح أبو إلهام صيحته المعهودة عندما يحصل التالقي الفكري‪ ،‬فيما فكّر فيه ‪،‬مع من يُفكر‬ ‫معه‪:‬‬ ‫صحيح‪ ،‬وغـدا سننزل بالسؤال من العام اإلنساني‪ ،‬إلينا‪ ،‬وسيكون كاآلتي ‪:‬‬‫*ماهي العناصر التي تجعلك تلتذ وتشدك إلى هذه الحياة؟‬ ‫قالها وضحك حتى أدمعت عيناه!‬ ‫أدركت لحظتها أني أمام سؤال‪ -‬مشنقة جديد ! كادت أم كلثوم تخت ُم مطولتها التنـظيرية‪:‬‬ ‫ودارت األيـام‪..‬وفـي انتظار ختمها الصدّاح‪،‬هـيأت فراشي للنوم‪.‬ولمـا خت َ َمت نِمـت‪.‬لكن حـبل‬ ‫المشنقة بالتـواءته المحايـدة‪ ،‬كملـمحٍ ثـلجي ٍ بقي منتصبا ينتظر رأسي إلى ليلة السمر الموالية !‬


‫(‪-‬الشاهد عندنا إيه) ؟‬ ‫سألني أبو إلهام‪،‬ليردني من شجون األحاديث‪،‬إلى السؤال‪-‬المشنقة‪.‬وألشاكسه قلت وكأني‬ ‫ال أتذكر‪:‬‬ ‫بخصوص إيه آبويا؟!‬‫ً‬ ‫ابتسم في وجهي ابتسامة جمعت الرقة الطفلية والحنان األبوي‪.‬ثم قال‪:‬‬ ‫طرحنا السؤال عن العناصرالتي تجعلك تلتذ وتشدك إلى الحياة‪.‬فهل نسيت؟!‬‫قلت وأنا أمنع نفسي من الضحك كي ال أفسد المشاكسة ألمنحها طابع العذوبة‪:‬‬ ‫أتذكر السؤال‪،‬وزمانه ومكانه‪.‬كنتُ جالسا هنا‪.‬وكـنتَ قبالتي هـنا‪.‬وكانت أم كلثوم تطربنا‬‫بمطولتها‪:‬ودارت األيام‪ .‬وهاهي اآلن تطربنا بمطولتها‪:‬رباعيات الخيام ‪ .‬وسؤالك كان فرعـا‬ ‫اسخرجتَه من أصل‪.‬وقـد مضى على تفتقه في ذهنك المتقد عشرون ساعة بالتمام‪..‬‬ ‫أوقفني بإشـارة من يـده‪ ،‬بعد أن فـهم مشاكستي لـه‪،‬ثـم ضحك حتى أدمعـت عيناه‪ .‬والدمـع‬ ‫لديه سخي‪ ،‬ينهمر من عينيه مع كل انفالت وجداني‪ ،‬سواء أكان باعثه أمرا مفرحا أم محزنا!‬ ‫وتلك داللة ‪،‬تنم عن عالمة على وجدان دفـّاق بالمشاعر اإلنسانية النبيلة‪،‬التي تميز هذا‬ ‫الرجل!وهي صفة جوهرية مالزمة لشخصه ال يعرفها الكثير من الناس الذين ال يرون فيه إال‬ ‫الصالبة المرفوقة بالعناد‪..‬قال وهو يكفكف دمعه‪،‬ويحاول أن يوقف ضحكَه‪،‬وضحكُـه يغالبه‪:‬‬ ‫ادخل إلى الموضوع (آولد جبل مگارطو)‪ ،‬وادخل إليه (ديريكَت‪).‬‬‫قلت قبل أن أبسط جوابي على السؤال المطروح ‪:‬‬ ‫لقد نلتُ منك آبويا ؟‬‫ضحكنا معا‪،‬ثم شرعت في التعاطي مع الموضوع وسؤاله‪ .‬أذكر بأني عندما بدأت الحديث‬ ‫عما ألتذ به في هذه الحياة‪،‬انساب مني الكالم كماء شالل!وكنت عند كل محور حياتي‪،‬أسوق‬ ‫العناصر باعتماد منهجية التـعبـير بالجزء عن الكـل‪.‬ألني أعـرف جـيدا‪ ،‬أن أبـا إلهام يمـتلك تـجربة‬ ‫خـصبة وعـميـقة‪،‬تـمكنه من ربط العناصر الجزئية بسيـاقها من العناصر التي تستدعيها والتي لم‬ ‫تُذكَر‪،‬مادام ذكرها تحصيل حاصل‪.‬وكان دوما يرمز إلى ذلك إذا كان محاوره يروم اإلطناب‪ ،‬بقوله‪:‬‬ ‫إذا ظهر المعنى فال فائدة من التكرار‪.‬‬‫وألوذ بالصمت إذا قدرت بأن جليسي ال يمتلك حس السماع‪،‬ألني أخاف على كلماتي أن‬ ‫تموت على شفتي‪.‬وأتـكلم بانسياب حـين‪،‬وحـين فقط ‪ ،‬يجـمع سيـاق اللحظة التـواصلية بين‬ ‫الحميمية وروعة التـعاطي مع قضايا الحديث‪،‬إذا كانت القضايا تلك‪ ،‬تمتلك جماليتها التي‬ ‫تشدالتفكير وتسحره‪.‬وفي مثل هذاالسياق يصنع الصدق ألق التعاطي‪.‬ألن الصـدق يعلو دوما وال‬ ‫يعلى عليه‪.‬وللصدق رائحة كرائحة جبل (مگارطو) بالشاوية‪،‬عندما يأتيها مطر مفاجئ في ِع ّز‬ ‫الصيف‪ ،‬أو كرائحة البحر عندما يتنفس!كنت أتكلم وأحرص أشد الحرص على أن يكتسب كالمي‬ ‫رائحة أرض أجدادي وهي تمتزج بعمق بحري‪.‬وكان أبو إلهام ينصت بكل جوارحه‪.‬أعرف بتجربتنا‬ ‫العالئقية أنه إذا لم يرغب في السماع ‪ ،‬يُش ِت ّت انتباه المتكلم ‪..‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ألتذ بقهوتي الصباحية وبسجارتي األولى‪ .‬ألتذ باألكلة المغربية األصيلة‪،‬ال ألنها فقط‬ ‫عنصر من العناصر المشكلة لهويتي كمغربي‪،‬بل ألنها تمتلك طعما ال أستطيع مقاومته!ألتذ عندما‬ ‫تحضرني وصايا عمتي‪-‬رحمهاهللا‪ -‬ألن هذه المـرأة الرائـعة في وجـودي ووجداني‪ ،‬بصمتني‬ ‫بحنكتها الوجودية‪ ،‬وسكنتني بتنظيرها الحياتي ‪ ،‬وبســندها التربـوي مـنذ وعـيـي الطـفلـي‬ ‫بـها‪،‬وبـوشمتها الـباهتة التي تـتوسط حاجبيها‪،‬ولمعان أسنانها المصقولة‪،‬وابتسامتها الماسية!‬ ‫ألتذ عندما يحكي لي كبار أهل( جبل مگارطو )وقبيلة أوالد ادمحم و( فَخدَة لَخلُط ) بالشاوية‪،‬عن‬ ‫سيرة جدي‪-‬رحمه هللا‪-‬أيام السيبة والمجاعة والتيه اإلجتماعي‪..‬وما ُح ِك َي لي عنه من‬


‫بطوالته‪،‬حملني على رسمه تشكيليا في وعيي الباطني‪،‬وأصبحت سيرته نبراسي الوجودي‪.‬ألتذ‬ ‫بانتشار تربة التيرس الحمراء بفضاء الشاوية‪،‬وهي تتهيأ الرتداء اللون األخضراستعدادا للعطاء‬ ‫الخصيب‪.‬ألن لونها ورائحتها بلون دمـي‪.‬ألتذبالنظر إلى التواءة خـصلة من شـعر كسـتنائي‬ ‫المرأة‪،‬واهتزاز صدرها خلف قميص ليلكي‪،‬أوانحصارالتوب على فخديهاالمرمريين‪.‬ألني أعشق‬ ‫المرأة بالمطلق‪ ،‬والمرأة بالتحديد‪.‬ألتذ عندما تطلب ابنتي رأيي في تسريحة شعرها‪،‬أو تناسق‬ ‫سـها على‬ ‫ألوان لباسها‪،‬أو عندما تهتف لـي لتسـأل عن أحوالي‪ ،‬أو عندما تتـمدد على اللـحاف ورأ ُ‬ ‫ركبتي‪،‬ونحن نتابع الدراما التلفزيونية العربية‪ ،‬في الليالي الرمضانية‪.‬ألتذ وأنا أبصر طفال في‬ ‫مرحلة طفولته األولى‪،‬يقف ثم يحبو‪،‬يسقط ثم يقف ليحبو‪،‬أو بنطقه أول كلمةفـي حياته‪.‬ألتذ بلحظة‬ ‫تفتق الفكرة في الذهن بعد رحي ِل بح ٍ‬ ‫مضن‪.‬ألتذ بالبحر ونهر سبو‪،‬وبالشعر والرواية والكتابة‬ ‫ث‬ ‫ٍ‬ ‫والطرب العربي والمغربي األصيل‪،‬وبالتشكيل‪،‬والتواصل بال لغة أوصوت‪،‬وبربط حريتي الشخصية‬ ‫مع حرية المواطنين في بلدي‪،‬ألجسد مفهوم الحرية في أرقى وأبهى شكل فلسفي ووجودي‪ .‬وكل‬ ‫ما في هذا المنحى وما يستدعيه من سلوك ومسلك‪..‬‬ ‫قال أبو إلهام‪،‬بعد أن أنهيت الكالم‪:‬‬ ‫أغبطك!‬‫قلت ألفهم قصده بالتحديد‪:‬‬ ‫ولماذا تغبطني يا أبا إلهام ؟!‬‫قال‪:‬‬ ‫لقد نجوتَ بجلدك وعقلك من مشنقة السؤال!‬‫ثم تاه في األجواء لحظات‪..‬ليستجلب نجاته من مشنقة السؤال نفسه‪.‬أذكربأن أبا إلهام‬ ‫‪،‬انطلق من الضد إلى الضد مستحضرا بعض تجارب الناس الذين عرفهم‪،‬وعنهم قال‪:‬‬ ‫ماتوا قبل أن يموتوا‪.‬ماتوا ب(القوة)قبل أن يموتوا ب(بالفعل)‪،‬طبقا للمقولة األرسطية!‬‫والموت ب(القوة)يحصل في اللحظة التي يموت فيها الشعور ب(اللذة الوجودية)في الكيان)…(!!‬ ‫كان صوت ُه يتناغم وصدى صوت أم كلثوم الذي يترنح جماال مع المقطع‪:‬‬ ‫ال تشغل البال بماضي الزمان‬‫وال بـآت الــعـيــش قــبـل األوان‬ ‫واغـنـم مـن الـحاضر لـــذّاتـــــه‬ ‫فليس في طبع الليالي األمــان‬ ‫)‪(...‬‬

‫دمحم الجاليدي‪-‬القنيطرة‪ -‬المغرب‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.