ُ السائر يف الدرب د.بديع القشاعلة
ٌ حلن رتيب يقرع مسمعي
وأصوات آتية من جلج الصمت
وعمق السكون ...
ُ السائر يف الدرب
تأليف دكتور بديع عبد العزيز القشاعلة (خواطر وذكريات) تدقيق لغوي:
دكتور موسى ابو شارب
حقوق الطبع حمفوظة للمؤلف مطبعة الرابطة اخلليل نسخة أولية
عنوان املؤلف:
فلسطني -رهط )60-19( 85357 - هاتف0509316282: badeea75@gmail.com 2013 السائر في الدرب
2
انَّ العُيُونَ اليت يف َطرْفِها حَوَرٌ
قتلننا ثمَّ مل حيينيَ قتالنا جرير
السائر في الدرب
3
صوت احلناجر يعلو على صوت الرصاص وأزيز الطائرات...
بديع القشاعلة
السائر في الدرب
4
أهداء : اىل مجيع الذين احببتهم واحبوني اىل مجيع الذين احرتمتهم واحرتموني اىل كل السائرين يف الدرب
السائر في الدرب
5
الفهرست
املوضوع تقدمي ذكريات امي سنة كشهر حلظة عزاء حلظات تسونامي سقط امللوك كيف ال نبكي وطين فرح وترح قنينيت كش ملك شر البلية ما يضحك املوت يف امليدان طن الدراكوال اسد البحر الصامتون كوخنا
الصفحة 10 13 15 16 17 18 19 20 21 22 24 26 27 29 30 31 33 34 السائر في الدرب
6
امري املؤمنني
35
حلظات تصرعين
37
ايها املعلم
39
عرب على عرب
41
زمن الغفلة
42
كلمات ليست كالكلمات
44
احذري
45
الثأر
46
الليربالية
47
تنقلب االمور
49
القيامة
51
صوت الرصاص
53
النفس
55
الفراق
56
الغدر
57
الشيزوفرينيا
58
حنني
60
اجلنيه
61
شجرة الغولة
62
عذب كلمات
64
السائر في الدرب
7
كان يا مكان
65
ابتسامة
66
اكتب برأس الصفحة
67
امي
68
عاشقة املطر
69
مدرسيت
70
فرحة تلميذ
71
موقف يف سوق
73
آمنت باهلل العظيم
75
سويلم
76
وظيفة احلساب
78
اللحظات املهمة
81
الدرويش
83
يا له من حنس
85
سداد دين
88
حكاية من الشارع
90
املعلم وديك احلبش
92
عندما يهرب العقل
93
موقف انساين
94
عرب احلدود
95
جنون كلمات
96
غزل
98 السائر في الدرب
8
غريب شأنك ماذا اكتب؟ اهلجر بني اهلشيم املطر ان اعيش لو اين اعلم توقف اللسان طفلة تشتعل الذكريات اهلروب اكذيب عشر من االعوام مترد املعاق بودابست احللم صلصلة افق الزمان رنده
99 101 103 104 105 107 109 110 111 113 114 115 116 117 118 119 121 122 123 124 السائر في الدرب
9
تقديم اطر حتمل يف طيّاهتا حينما خيتلج الوجدان ويعتمل الفكر تنساب على الورق خو ُ معاين تنبعث اشعا ًعا ينري للسائرين يف دروب احلياة .إ ّن عنوان هذه اجملموعة من مستوحى -كما يبدو -من طالسم ايليا ايب ماضي ،اليت يقول فيها :أأنا اخلواطر ً
السائر يف الدرب أم الدرب يسري أم كالنا واقف والدرب يسري؟ لست ادري.
متسلحا بإميانه بيد أن كاتبنا -خبالف أيب ماضي -يسري يف دربه واثقًا ال يتيه ً
ثائرا على مواقف اجتماعية هت ّدد نسيج اجملتمع وتعصف وعلمه ،متأ ّملاً ناق ًداً ، عما يدور يف فكره ووجدانه حيال ينم ّ بكيانه .لقد انبثقت خواطره سيلاً عرًما ّ مواقف من احلياة وفلسفة الوجود وحركة اجملتمع. درس كاتبَنا الواعد بديع القشاعلة يف ميعة ِصباه تلميذًا جنيبًا نبيلاً لقد ُ�قيّض يل أن أُ ّ
ويكب على مطالعة عيون جادًّا يف مدرسة رهط الثانويةُ ، يعشق العربية أيمّ ا عشقّ ،
يب واستمتاعه بدروس الشعر الشعر والنثر بشغف شديد ،من خالل تعبريه الكتا ّ يب احلديث يف تسعينات القرن الفائت ،لدرجة أ ّن أبياتاً بل قصائد كاملة ما العر ّ
زال يرّدد صداها ويستشهد هبا يف مقامات خمتلفة ،يف حديثه وكتاباته .وش ّد بديع
الر َ حال إىل روسيا ليطلب العلم وي ْدرس علم النفس ،فينكشف على أسرار النفس ِّ البشري علميًّا. البشرية وخباياها ،فيُضيف بع ًدا آخر يف إدراك األمور وحتليل السلوك ّ
ويف غربته يف سانت بطرس بورغ ،مل ّ فن اخلاطرة ينفك بديع عن القراءة والكتابة يف ّ
والشعر .ومن املفارقات الطريفة أن أجده يوًما زميلاً حماضرا يف كليّة «كي» للرتبية ً السائر في الدرب 10
سائرا على ال ّدرب ،بل وأن إىل جانيب ،فصدق حدسي وظنيّ بأن بديع ما زال ً توسعت بفعل تطوافه يف بالد الغرب ،وا ّطالعه على اآلداب قرحيته تفتّحت وآفاقه ّ األجنبية ،ال سيّما الروسية ،فنهل من روافدها ،ليغدو معني األدب لديه أش ّد تدفّقا
الصحف ومواقع من ذي قبل .لقد ُ تابعت خواطر بديع املنشورة على صفحات ّ اإلنرتنت ،فاجتذبيت بعضها ال سيّما تلك اليت صيغت بأسلوب أديب رصني ومؤثّر.
التقيت به يف أروقة كلية «كي» قبل شهر ونيف ،فاستوقفته وعرضت وكان أن ُ كما من اخلواطر ،بل عليه أن ينشر ما جاد به يرا ُعه يف كتاب ،ففاجأين بأن لديه ًّ
أيضا ،فكان عرضي عليه مبثابة مفاجأ ًة ترّدد عندها يف البدء. وأنه يقرض الشعر ً
فاقرتحت عليه أن يبعث يل ّ كل ما كتب ألقرأه وأبدي عليه مالحظايت .وبالفعل بعد أيام محل إ ّ تتضمن خواطر كثرية ومتنوعة .ومن قراءة أولية يل الربيد اإللكرتو ّ ين رسالة ّ
ّ مصاف القطع األدبيّة اجلميلة. لبعضها ال أخفى على القارئ أن كثريًا منها يرقى إىل
متعنًا مليًّا يف خواطر كاتبنا لَيج ُد أنه يكتب اخلاطرة عندما يتعرض ملواقف إ ّن ُّ وجدانية فتتحرك أحاسيسه ،ويبقى هاجس املوقف يُلهِب خياله ،فيكتب أحاسيسه جتاه املوقف .إن خواطره تعتمد على االنفعال الوجداين والتدفق العاطفي والتحليل
ينم عن قوة مالحظة ويقظة وجدان. الذي ال خيلو من توظيف علم النفس أحيانًاّ ، خواطره الوجدانية تعىن بوصف نفسية الكاتب ونظرته الفلسفية والنقدية للحياة أو
ملظاهر اجتماعية ال تروق له ،وقد تشطح يف اخليال أحيانًا إىل سرياليّة ما .ويف خواطره اإلجتماعية يصف ما مير من مواقف مستقاة من حميطه االجتماعي املرّكب بآماله وآالمه ،بأحالمه ومتاهاته .ان استخدم العبارات البليغة السهلة اجلامعة، السائر في الدرب 11
واحملسنات البديعية والصور البيانية ،وتضمني تعابري من القرآن الكرمي والشعر، جوا من الرصانة يف األسلوب ،ويعكس بالتايل تأثر الكاتب يضفي على اخلواطر ًّ بالرتاث العريب قدميه وحديثه .مثة أشعار متفرقة جيدها القارئ يف هناية اجملموعة ،وهي تندرج يف الشعر املنثور الذي ال يلتزم بالوزن .وأترك للقارئ أن يستجلي يف القصائد ما يوّد الكاتب أن يعبرّ عنه ،ذلك اهنا سهلة اللغة واملعاين وتنأى عن الغموض. وإنين إذ أق ّدم هذه الباكورة من اخلواطر واألشعار إىل القراء ،آمل أن تكون فاحتة اهرا وغ ًدا مشرقًا .وأهيب بالقراء لنتاجات أدبية قادمة ،راجيًا لبديع مستقبلاً أدبيًا ز ً
أن يشجعوا كاتبًا ناشئًا ولد من أعماق الصحراء ومن رحم املعاناة يف خماض عسري،
يف ظروف ع ّزت فيها األسباب ّ وتقطعت فيها السبل ،وألاّ يقسوا عليه وأن يغضوا
يصوبوا سهام نقد تقتل كاتبًا عن هفوات قلم عاديّة قد تبدر يف اجملموعة ،ال أن ّ واع ًدا يف طور الوالدة .واهلل و ّ يل التوفيق. د.موسى أبو شارب -القدس
***
السائر في الدرب 12
ذكريات مع أمي وهتت يف سراديب علي األمور ودارت يب الدنيا ُ عندما ُ رأيت أمي مريضة ،اختلطت ّ
أصبحت ال اعلم ما جيري وما حدث ،بثت العقول كل تشاهبت علي خمارجها.. ُ
وصرت ال افهم ما جيري من حويل ..خليط من األفكار الرتهات وتسربلت خطاي ُ
وتصطف اهلموم واهلواجس يصرعين ويصارعين الزمان ،ترتاكم األحزان كاجلبال، ُ يف اآلص��ال وت��أىب ال��دم��وع إال أن تبقى عصيًّة حيث الظالم واألس����رار ..وتبقى
العيون الباكيات شاخصات ،خت��اف الضاحكات ال��س��اخ��رات وخت��ج ُ��ل م��ن كل ال��ق��اص��رات ..ه��ل يبكي ال��رج��ال ،وه��ل ين ُف ُضون ع��ن أجسادهم ك��ل األحزان، وينثرون من عقوهلم األوهام وهل تُعتصر القلوب وحتن األكباد ،وهل يشكوا من وتصمت الشفاه ،ترى! الوجع واآلالم ،وتطرف العيون اجلمر الساكنات، ُ
ويهبط ال��س��ك��ون على امل��ك��ان فتخمد األن��ف��اس وت��رق��د الكائنات وتتلبد الغيوم املاطرات ويسقط املطر فوق الرمال وتقصف الرعود اآلم��ال ،وتلك اللحظات اليت كانت فيها أمي ختبز العجني وتغلي احلليب ،وكنا جنلس من حوهلا وهي تغين أغنيتها اجلميلة “أمطري يا مطره على عروق ألشجره ،أمطري يا مطره” ..وكنا نبتسم ،وكانت قلوبنا تضحك وعيوننا مبتهجة ووجوهنا منرية ..ولكن الزمان يغتالنا ويتخطانا ويطأ علينا وال يبايل وت��دور ال��دوائ��ر وتتوه األف��ك��ار واألحالم والذكريات ،إال تلك الذكرى اجلميلة ،اليت كنا فيها جنلس حول أمي ،واملطر السائر في الدرب 13
يشطف ش��وارع حارتنا ،وهي تغين بصوهتا اجلميل أغنيتها القدمية “أمطري يا مطره على عروق ألشجره ،أمطري يا مطره”. واذك��ر حني كنت استسلم بني يديها وهي حتركين ذات اليمني وذات الشمال ��س ببنت ش��ف��ه ،س��وى إين اجته وأن���ا ب��اس ٌ��ط ذراع���ي ال ال���وي على ش��يء وال ان��ب ُ حيث حتركين وأح��اول اهلروب فال اقدر على شيء“ ..تستور اسم اهلل الرمحن تتمتم هبذه الرحيم ،تستور يا صحاب املطرح ،تستور يا مباركني” ،كانت أمي ُ الكلمات وهي تسكب املاء الدافئ على رأسي ومتسكين بقبضتها املتينة وباألخرى
تدعكين ..وكان املاء الساخن يتناثر على جسدي ومع كلماهتا تعروين قشعريرة مجيلة ،وهي ال تزال تتمتم ،تستور اسم اهلل الرمحن الرحيم ،تستور يا صحاب املطرح ،تستور يا مباركني ،كان ذلك محام يوم اجلمعة.
***
السائر في الدرب 14
سنة كشهر خافت ومتوانٍ.. صرخات تدوي يف األفق وبكاء حزين يشق السكون، ٌ وصمت ٌ ٌ
الساق بالساق وظن انه الفراق ..يف مثل مات فالن ..توقفت األنفاس ..التفت ُ َ
مشاعر القطر ..وتعروين هذه اللحظات ُ ٌ ينتفض جسدي مرتعشاً ،كعصفو ٍر بلّله ُ ومهسات رتيب ٌة تطرق مسامعي توزعين أشالء حيث ال ادري ،حيث ال متزامح ٌة ٌ مكان وال زمان ..والدنيا تسري بال هوادة وتنقضي األيام ..تسريُ كجلمود صخ ٍر
حطه ُ السيل من ع ٍ��ل ..وم��ا ن��زال نرتبص هبا ونتمسك بتالبيبها وال ن��دري مىت ترتكنا ونرتكها. كلمات ختتلج يف الروح.. كلمات خترج من عمق الصواب ٌ ٌ الروح من ِ وتعتصر َ ُ
فأصبحت يف دوامة نفسي وت��ض ُ��ج ب��ص��دري .كيف ال وق��د اختلط اآلن وامل��ك��ان ُ ال متناهية ..وعبثًا أح��اول الصمود وأتشبث ٍ حببال بالية اهرتت منذ زمن ،زمن
تسارع إىل حد اجلنون ،سنة كشهر وشهر كيوم ويوم كساعة ،زمن اجلنون ،كل شيء فيه يسري إىل النهاية ..إىل احملتوم ..والناس يأكلون ويشربون ويضحكون، يسريون ويبتسمون والزمان يهوي إىل حيث هو يعلم إىل أين ،وحنن نعلم إىل أين، ولكننا ال نبايل ..فهل من معترب؟ الزمن يدور والسنوات ُ هترول واأليام تتواىل.. وشهر كيوم ويو ٌم كساعة.. سن ٌة كشهر ٌ
***
السائر في الدرب 15
حلظة عزاء ضباب رتيب يقرع مسامعي ٌ وأصوات آتي ٌة من ِ جلج الصمت وعمق السكونٌ .. حل ٌن ٌ ورش��ات مطر تطرق الشباك ومن خلف الستار يف ضباب وجو ميلؤه السحاب ّ ارقب الضياء والطريق ،وارقب بيتًا قدميًا كان قد دب فيه احلريق ومل يعد سوى ذكريات ..ذكريات من ماض غابر ..ترى! من كان هناك! ومن كان ضحية ضباب يف ضباب ،خطأ أم صواب أن دب احلريق يف البيت القدمي ..عيو ٌن احلريق؟ ٌ ودموع جاري ٌة وعيو ٌن كاجلمر ..ترقب الناس وترقب الطريق.. باكي ٌة خلف الستار ٌ ترقب الزائرين ،املصافحني الرائحني والغادين ..مجوع شىت ..معزين ..وما تزال رشات مطر تطرق الشباك ..خطأ أم صواب أن تندثر الذكريات ..ترى ما الذي حدث؟ ما اخلطب؟ من ذا الذي ميوت قلبه؟ فيتحجر كالصوان؟ وينقلب وحشاً ُ حيطم كل القلوب ويأىب إال أن ينشر احلزن فوق كل البالد ..تتجمد الروح ويأىب ُ ُ العقل إال أن ينام ومتتد يد الشؤم لتقطف الورود وتنزع من الصدور كل القلوب.. ُ وتشعل فيما تبقى غريزةٌ مهجي ٌة حترق االبتسامات وتلك الناصعات األسنان البيض رتيب يقرع من الليل كل الزهور ..وما تزال رشات مطر تطرق الشباك ..وحل ٌن ٌ مسمعي ..يلحن معزوفة مجيلة مفعمة باحلزن والشجون..
***
السائر في الدرب 16
حلظات
لعمرك ما الدنيا إال حلظات عابرة وليل ينازع ..من أحب فيها فاز ومن أحسن فيها فاز ومن اعترب فيها فاز ..وويل مث الويل ملن يقوده احلسد وتغتاله األحقاد.. ترى! ما احلقيقة؟ احبث عنها يف عيون الناس يف مآقيهم ..فال أجد سوى احلرية خضم هذا الضجيج أشم رائحة فواحة وعبقًا ميأل األفق ..وردة والتساؤل ..ويف ّ برجوازية ..دفء وحنني ..بصيص من األمل..
***
السائر في الدرب 17
تسونامي وترجتف هلا املشاعر ترعب القلوب إذا زلزلت األرض زلزاهلا ُ ْ واهتزت ..زلزل ٌة ُ يفر من أمامه الناس رأسا على عقبُّ .. وتطريُ هلا األلباب ..زلزا ٌل ُ يقلب املكان ً وانشقت وتشخص فيه األب��ص��ار ..قامت الساع ُة وصرخت األرض وانفطرت ْ ُ ��ات للنفوس يف ب�لا ٍد ليس ظلم وظ��ل��م ٌ وارت��ع ْ ��دت م��ن كثرة ال��ذن��وب واخل��ط��اي��اٌ .. ذكر فيها األصنام واألزالم وُ�ت ْعبد فيه الشمس فيها لذكر اهلل ْ نصيب ..يف بال ٍد يُ ُ سج ُد فيها للصم البكم الذين ال يفقهون ..مل حتتمل األرض كل والكواكب و يُ َ وأبت إال أن ترجتف لتبتلع الرتهات والشعوذات وكل ما تشعه هذه السخريةْ .. النفوس من فساد يف األرض ..عاد ومثود ..قوم تبع وقوم لوط ..وقوم صاحل.. قدر واهلل أجراه.. عَِ�ب ٌر جيري هبا ٌ
***
السائر في الدرب 18
سقط امللوك زلزال خيلف الشهداء ،خيلف األرامل واليتامى ..يوم حيشر فيه الزعماء الذين ظنوا تسو ّد فيه وج��وه امللوك ..ملوك األرض ..ال خيلد عليها احد أهنم زعماء ،يوم َ يعز من يشاء ُّ ُ ُ ويأمر فيطاع، يصول ويذل من يشاء ..اليوم ملك إال اهللُّ .. وجيول ُ وغداً هارب وطريد ..حمكوم ومسجون ..ذ ٌل وهوان ..سبحان اهلل ..قدر اهلل يف األرض ..ميكرون وميكر اهلل واهلل خريُ املاكرين ..ترى! ما الذي ينتظرنا يف الغد؟ هل هو تسونامي؟ أم زلزلة؟ أم ماذا؟..
***
السائر في الدرب 19
كيف ال نبكي يقولون يل ال ِ تبك ويلومون دمعي ،فالرجال ال يبكون ،وكيف يبكون؟ وهم ُ الرجال الشاخمون املتصلبون ،الذين يقفون يف وجه القهر ويتجرعون مرارة احلياة، ُ الرجال ينزفون وال يبكون وليس ال يبكون ،فالدموع يف أجفاهنم جفت وحتجرت، أصوات األنني من حقهم البكاء ..بكاء يريح ..كم هم الباكون يف هذا الوجود، ُ
والكامتني الدموع ..كم من ابتسامة ختفي خلفها سيلاً من الدموع ..متتلئ األرض بالنائحني املنتظرين منذ زمن بعيد ،منذ ذلك العيد ..الذي مل يأيت والذي غاب غبارا حيوم يف حلما وسرابًا ،ضاع يف األفق العميق وأصبح ً عن الوجود وصار ً السماء ..بني األقمار ..أما آن للعيد ان يأيت وان تبتسم الفراشات وتعلو الزغاريد واألهازيج اجلميلة العتيقة ،اليت ما مسعناها وما رددناها منذ أيام وليايل طوال ..كم هم الباكون على الذكريات اجلميلة وعلى األحالم السعيدة اليت ضاعت وصارت خل سبيل ال��دم��وع املكبلة يف غ��م��ام يتلفعه ال���س���واد ..مل ال نبكي؟ مل ال؟ فلنُ ِ أغالهلا واملكبوتة حد القهر ،فالدمع يريح وخيفف من وطأة احلزن الشديد ..لوال شاعر يقول ،وإذا الليل اضواين بسطت يد اهلوى وأذللت احلياء لعادين استعبارٌ ، الدموع ،وها هو ابن الرومي يبكي ابنه ويقول خماطباً عينيه :بكاؤكما يشفي وان كان ال جيدي ،فجودا فقد أودى نظريكما عندي ..فلنطلق العنان للدمع ليجري سيلاً يتدفق من نبع احلقيقة والصواب ..كيف ال نبكي والبكاء يريح..كيف ال نبكي والبكاء يساعدنا على احلياة ..كيف ال نبكي والبكاء رمحة..
***
السائر في الدرب 20
وطني يفرح الناس بأوطاهنم ..يفخرون هبويتهم وينشدون أناشيد متأل الوجدان آمالاً ُ وتبعث يف الروح السعادة واحلياة ..وأنا احبث عن وطين ..فمن ذا الذي يقول يل ُ من أنا ..من أي بلد أنا ..ما اسم قرييت أو مدينيت أو دوليت ..أين حدودها ،وما هي قراها وما هي مدهنا ..شوارعها وحاراهتا ..سهوهلا وودياهنا ..هل فعلاً هي كما يقول درويش شوارعها بال أمساء ؟ أذًا من أين أنا وما هو جواز سفري؟ يا حلرييت ويا للوعيت ..أنا رقم من منزلتني ،مثانية وأربعون ..عجبًا! عندما يسألوين من أين أنا ..من أي بالد جئت ..يف أي ارض أعيش ..أقول هلم أنا من الثمانية
وأربعني ،ويعرتيين حز ٌن غريب ..فكيف يل ان افرح وان افخر وان أنادي وأقول أين من دولة كذا وك��ذا؟ كيف اغين باسم بالدي وليس يل بالد؟ كيف يل ان انشد أشعار وطين وليس يل وطن؟ حىت هوييت ليست هوييت ..حىت صوريت ال تشبهين ..فانا من بلد ال يعلمها إال اهلل ..وال يفهمها إال اهلل والذين آمنوا ..كيف يل ان اشرح لصديقي من وراء البحار أين اسكن يف رقمني جمموعهما يساوي أثىن عشر؟ مثانية وأربعني ..وكيف لعددين ان يتسعا آلم��ايل وتطلعايت؟ فرحيت وأحالمي؟ أحزاين وآهايت؟ كيف يكون ذلك؟ فهل أنا فعلاً من قرية عزالء منسية كما يقول دروي���ش؟ هل حكم القدر علي أن أعيش يف ال وط��ن؟ ال قرية وال مدينة ..ان أكون بال هوية اشعر هبا وافخر هبا؟ أعيشها وأحياها؟ ترى!
***
السائر في الدرب 21
فرح وترح علي بأنواع ��وت حط امل ُ ْ كالكفن ..حز ٌن خيم على املكان ولي ٌل أرخى سدوله ّ ��ب حطت رحاهلا وأبت اهلموم ليبتلي ..لعمرك إن نوائب الدهر ع��ظ��ا ُم ..ن��وائ ٌ الرحيل ..تعجز القلوب الكواسر عن حتملها ..فترتنح وختطو خبطوات تتمايل حلظات من الفرح املغموس باحلزن ���رح.. ٌ حىت يلصق اجلبني ب��ال�تراب ..ف ٌ ��رح وت ْ ابتسامات تنتشر يف كل مكان والرتقب ..وصوت األغاين خيفت شيئًا فشيئا.. ٌ بيت رفرفت فوقه الرايات.. ومن خلفها خوف وانتظار ..غص ٌة متأل األحشاءٌ .. ال��راي��ات البيض ..فوقع اخل�بر ..وسقطت ورق�� ٌة من شجرة يف ساعات الفجر.. ورق�� ٌة يافعة مجيلة ه��وت ،فهوت معها القلوب واحتبست هلا األن��ف��اس ..وبزغ الفجر على بيت سقطت منه الرايات وجتمع الباكون من كل حدب وصوب.. رهيب ..اختفت كل تلك االبتسامات ..سقطت مع سقوط الرايات.. ٌ صمت ْ الرايات البيض ..عظم اهلل أجركم ..عظم اهلل أجركم ..علت هذه الكلمات.. ومن بعيد ..من ذلك املكان الذي اشتعل بكل النريان ..من ذلك املكان الذي وطأته كل األحزان ..ترتدد كلمات تكاد ال تسمع ،ختنقها العربات ..شكر اهلل سعيكم ..شكر اهلل سعيكم ..إن��ا هلل وإن��ا إليه راج��ع��ون ..هلل م��ا أعطى وهلل ما اخ��ذ ..إمي��ا ٌن عميق ..إمي��ا ٌن بأن اهلل يرقب املكان ويرقب تلك العيون والقلوب
السائر في الدرب 22
الباكية ..إميان بان اهلل ال بد أن يعوض املبتورين ،املصابني ..إميا ٌن بأنه االمتحان تبيض فيه ال��وج��وه ي��وم تسود احلقيقي ال��ذي يُ��ك َ��ر ُم فيه امل��رء أو ي��ه��ان ..وال���ذي ُ الوجوه ..فال نقوى إال أن نقول ،إنا هلل وإنا إليه راجعون ..ومتت ُد األبصار إىل ُ يرفرف جبناحيه وفراش ٌة مجيل ٌة األفق البعيد فتلمح ألوان قوس املطر اجلميلة وطريٌ حتوم حول وردة اجل��وري العطرة ..فرتتسم ابتسام ٌة خفيف ٌة على الشفاه ونسم ٌة باردةٌ تداعب األجفان..
***
السائر في الدرب 23
قنينتي ��ت يف رح��ل�� ٍة إىل مدينة ب���راغ يف تشيكيا ،ب���راغ مدينة مجيلة ج��� ًدا ..تنطبق ذه��ب ُ عليها مقولة “جنة اهلل على األرض” فهي مدينة قدمية وقد أبدع أُناسها يف بناء زدت يف وصفها فلن القصور املذهلة واجلسور الرائعة والساحات البديعة ،ومهما ُ أعطيها حقها ولن تعرفها إال إذا زرهتا ..كان يل فيها بعض املواقف الطريفة واليت
متفكرا فيها ..من هذه املواقف ،موقف قنينة املاء وأذعنت بعض الوقت استوقفتين ُ ً
وبراميل النفاية ..كنت ُ أجول خالل النهار يف شوارع براغ الضيقة واملرصوفة ترسم مالمح الزمن القدمي وكانت قنينة املاء يف يدي واملاء حبجارة هندسية بديعة ُ
قليل وح��رارة الشمس الالذعة يف تلك البالد تسرع من عملية امتصاص اجلسم
فشربت ما عطشا للماء فتحتاج خ�لال جتوالك إىل الكثري منه ..كنت حينها ً ُ وبقيت قنينة املاء يف يدي فارغة.. ومتنيت لو كان فيها املزيد، تبقى يف قعر القنينة ْ ُ فوجدت أربع براميل مصطفة يف فبحثت عن برميل النفاية حىت أختلص منها.. ُ ُ
فتعجبت قليلاً ولكين مل اعر لشعوري سطر واحد بديع وذات ألوان خمتلفة ومجيلة ُ فرميت القنينة يف احدها وسرت يف طريقي ولكن األفكار سارت هذا اهتما ًما ُ تأكلين واألسئلة تدور يف ذهين ،أربع براميل! ألوان خمتلفة! ملاذا؟ يا هلذا الوسواس القهري الذي يطاردين ويؤرقين ..اللعنه! جيب أن أعود ألتفحص األمر ..وفعلاً نظرت إىل الرباميل بتمعن وكان مكتوب قطعت شو ًطا من املسريُ .. ُ عدت بعد أن ُ
عليها باللغة التشيكية كلمات ،كل برميل مكتوب عليه كلمة ،فقرأهتا وكنت
السائر في الدرب 24
مكتوب عليه فعلمت أن الربميل األول اعرف اللغة الروسية ..وهي قريبة منها.. ُ ٌ فابتسمت “ورق” والثاين “بالستيك” والثالث “حديد” واألخري “زجاج”، ُ أتلفت وحبثت عن قنينيت فوجدت أين رميتها يف خانة ال��ورق ..فأخرجتُها وأنا ُ ُ
وسرت حويل ،فقد حيسبوين من جامعي القناين ..ووضعتها يف مكاهنا الصحيح ُ مبتسما.. يف دريب ً
***
السائر في الدرب 25
كش ملك صوت الدبابات يف كل مكان ،وفوهات املدافع تقذف الشر يف كل الساحات، ُ
وبشار ترعب النساء واألطفال وتبث اجل��زع والفزع بني املؤمنني ..اهلل سوريا ّ ُ وب��س! اهلل سوريا وب ّ��ش��ار وب��س! هب��ذا ال��ن��داء هتتف احلناجر الظاملة واخلائفة وال صوت يعلو على صوت األسد ..هه! هذا ما نسمعه من التابعني وتابعي التابعني.. اخلائفني املهزومني منذ عقود ..ويأىب الشرفاء إال أن يرددوا اهلتافات ضد النظام.. ضد الظلم واالستبداد ،ضد ال��ذل واملهانة ،سيسقط األس��د ال حمالة كما سقط شني العابدين والبقرة الضاحكة وذلك الذي يصيح زنقة! زنقة! ويتعثر يف ثوبه الطويل وسيسقط عما قريب أو أك��اد أق��ول سقط ..واليمين ال��ذي ي��أىب إال أن جيلس على الكرسي رغم احلروق اليت التهمت مؤخرته ..كش ملك كش ملك.. سقط امللوك ومل يبق إال ملك امللوك ..اختفت الزعامات واكتسحها سي ٌل َعرِم من صيحات الشعوب ..فصوت احلناجر يعلو على ص��وت ال��رص��اص وصوت
مهسا أو اقل من اهلمس ..فصوت العقول املدافع وأزيز الطائرات ..حىت وان كان ً
ال يهزم أب ًدا وان طال الزمان ..كش ملك! سقط حاكم تونس الذي تنوء العصبة عن محل مفاتيح خزنته ..كش ملك! سقط حاكم مصر فرعون العصر ..كش ملك! اح�ترق حاكم اليمن وق��وم تبع ..كش ملك! سيسقط صاحب الزنقات والكتاب األخضر ..كش ملك! سيهوي مجل سوريا وفيلسوفها ..كش ملك! ال حمال..
***
السائر في الدرب 26
شر البلية ما يضحك اذك��ر يوم كنت يف احلج وقد أدهشين أن أرى أممً��ا كثرية وقبائل شىت ومتنوعة عجيب وثقافات عديدة ..تفاهم عجيب وتفاعل بينهم رغم اختالف لغاهتم.. ٌ أمر احلج ..يف زيارة واحده تستطيع أن تزور العامل بأسره وترى احلضارات كلها جمتمعة يف مكان واحد ..يف تلك اللحظات اهلادئة اجلميلة ،كنت أصلي يف زاوية من زوايا املسجد احلرام والناس من حويل مبختلف أجناسهم ..توجه إ ّ يل فىت اعتقد مصري؟ فابتسمت بدوري وقلت مبتسما :أنت انه يف العشرين من عمره وسألين ّ ً
له كثري من الناس يعتقدون ذلك ..وأنا لست مصريًا بل فلسطينيًا ..فتابع الشاب
ابتسامته تلك وقال ،أنا ميين ،تشرفنا ..يف تلك اللحظة ..أصدقكم القول ،انتابين شعور غريب ..ذلك الشعور الدفني يف داخلي وتلك املعضلة ..معضلة االنتماء.. من األمور احملزنة يف حيايت كوين ال اعلم إىل من انتمي شعوريًا ..أو ال اشعر هبذا
املعىن يف أعماقي البعيدة ..أعاين من مشكلة يف اهلوية وقد أصل أحيانًا إىل حد الشيزوفرينيا واالنفصام يف الشخصية ..بصراحة مل اشعر بشيء عندما قلت له إين فلسطيين ،مل تنتَبْين تلك القشعريرة املعهودة ..عندما أقول أنا فلسطيين اذكر غزة
والضفة ..ال ادري إن كنت انتمي إىل هذه الكلمة شعوريًا أم فقط عقليًا ،ينتابين
يب طبعا أنا لست إسرائيليًا ..شر البلية ما يضحك ..عر ٌ أحيانًا شعور بالذنبً .. إسرائيلي ..هه! يعين من بين إسرائيل ..هه! عجيب! من أكون؟ وملن انتمي؟ يا ٌ السائر في الدرب 27
هلا من اسئله صعبة ..لن أجد هلا جواب ،فقط اشعر باحلزن العميق ..ورغم هذا حيضرين أمً��را طري ًفا يف احل��ج ..يف ذل��ك الوقت،كنت أس�ير يف ش��ارع من الشوارع الناس بعد الصالة عائدين إىل ِر ُ املتفرعة يف مكة املكرمة ،شارع أم القُرى ..يَنف ُ
أجناس شىت وألوا ٌن شىت ..من كل حدب ينسلون ،سي ٌل مساكنهمٌ ، مجوع ومجوع ٌ
ٌ جارف من البشر ال ميكنك مقاومته ،إال أن تسري معه وتتجه إىل حيث يتجه.. منهم من يذكر اهلل ومنهم من يذكر احلياة الدنيا ،ومنهم من تشده روعة املكان فيفغر فاه ويشخص يف البنايات والناس ،هذه األمم والقبائل حتمل معها ثقافاهتا وسلوكها وقيمها وع��اداهت��ا ..كل منهم حيمل بيته ف��وق ظهره ..وه��م يسريون الورى مجاعات وفرادى ،منهم املبتسم ومنهم املتجهم ،ويف وسط هذا السيل من َ
ّبات وغري منقّبات ،يبعن ُ فتيات منق ٌ تقف البائعات السود ..املتّشحات السوادٌ ..
اجلالبيب واملناديل وك��ل ما تشتهي أن تشرتيه برياالتك أو دن��ان�يرك ..تعال يا حاج! تعال يا حاج! اشرتِ يا حاج! بريال! خبمسة لاير! وهكذا ..وفجأة ُ ختاف
وتنطلق السيقان كالريح املرسلة وحتتبس األنفاس وتربق العيون الفتيات البائعات ُ ُ ُ
وتلملم بضاعتها بسرعة ال�برق ،البلدية! البلدية! وك��أن البلدية غول أو أس��رع ُ رأيت الرعب يف عيوهنن ..أدهشين هذا مرعب ،وحش خميف ..هه! اقسم إين ُ األمر ..شر البلية ما يضحك ..هه!
*** السائر في الدرب 28
املوت يف امليدان ْ طن رددت ه��ذه األبيات كالكفن ..ما أحلى ه��ذه الكلمات ،لطاملا مت حط ُ الص ُ ّ ْ تداعب املشاعر العميقة ،املشاعر اإلنسانية، اجلميلة للشاعر أمحد حجازي ..إهنا ُ الصمت حط ��وت يف امليدان ْط��ن.. تغربت واليت تلك اليت عاشت الوحدة ..امل ُ ُ ْ ْ صمت مدهش يتخلخل يف جوانب حياتنا ..يوزعنا رذاذًا كرذاذ اليَ ّم، كالكفنٌ .. ْ لست اقصد عدم الكالم ،فالكالم يف كل مقام والضجيج ٌ صمت يف كل مكانُ ، ميأل األرض ..بل ذلك الصمت املقيت ..يف بالدي الناس مشبعون بالالمباالة.. يف بالدي القافلة تسري ببطء وال احد يكرتث ،إال القليل والذين هم ال يكفون، وتعتورهم بني احلني واآلخر مشاعر اليأس واهلزمية ..يف بالدي الناس قاعدون، تكثر ال��ش��ع��ارات واخل��ط��اب��ات ،يف ب�ل�ادي امل��ن��ت��ق��دون ُكثُر ي��ش�يرون ..يف ب�ل�ادي ُ واملراقبون ُكثُر واملشككون ُكثُر ..بالدي فيها املهرولون إىل العيوب واهلارعون إىل األخطاء الذين يصبون املاء يف الرمال ويغطون الشمس بالغربال..
*** السائر في الدرب 29
الدراكوال مصاص الدماء مل يرحل بعد ،وال يريد الرحيل ..مشواره مل ينته بعد ..يعيش ُ منذ عقود متشبث حىت املوت أو الالموت ،دم ُه ثقيل ال يطاق وال يكرتث لتلك الصيحات وكل الصراخ ..ارحل ..ارحل ..ارحل ..مل يشبع بعد ومل تَ ْكفِه كل ال��دم��اء ..فهو يشرب حىت متتلئ ال��ع��روق وينام كل الليل مث يفيق ويبحث عن طعم آخر من الدماء ..لقد جفت كل الدماء وما تبقى سوى الدموع وما زال الدراكوال يصول وجيول ومن حوله كثريٌ من الدراكوالت ،انتشر املوت يف كل
مكان ويف كل البالد ،حىت األطفال ماتوا ،يُقتلون ويُقطعون ويُسلخون ،وقبور
مجاعية ..فهم ال يريدونه ويكرهونه ح��د امل��وت وميقتونه ويطالبونه بالرحيل، وم��ا زال ال��دراك��وال يصول وجي��ول وم��ن حوله كثري من ال��دراك��والت ..يسقط
ال���دراك���وال ...الشعب يريد إس��ق��اط ال��دراك��وال ..كفى ش��ربً��ا للدماء ،فما بقي يف العروق سوى الدموع ..ولكنه ال يفهم ..ال يفقه شيئًا ..يتمسك يف البقاء ويكشر عن أنيابه البيضاء ..ويقتل كل يوم عشرات وال تردعه كل الصرخات وكل اآلهات ..ال يكرتث لتلك الكلمات ..ويبقى يصول وجيول ،ويأىب الرحيل، تبق يأىب السقوط ،وامل��وت يف كل الساحات ..والدماء يف العروق جفت ،ومل َ سوى الدموع ،وتلك الصيحات املدوية يف األفق ..اليت تأىب أن هتجع أو تنام.. ارحل! ارحل! ارحل!
***
السائر في الدرب 30
أسد البحر حلما سعي ًدا ،وقد زاره نائما مطمئنًّا ،كان حيلم ً انقضوا عليه يف ليل ٍة سوداء ،كان ً فضفاضا ابيض منريًا ..بشره باجلنة ..قال له آن أوان اجلنة لباسا ً رج ٌل مجي ٌل يلبس ً أيها املرحتل. لقد مجعوا له من كل قبيل ٍة رجلاً ،دامهوه وهو يصلي يف جوف الليل ..أطلقوا عليه وابلاً من الرصاص والصواريخ ..أطلقوا عليه كل ما ميلكون من نريان ..كانوا خائفني ،يرجتفون ويرتعدون ..فاألسد يرقد يف ال��دار ..تعاونوا عليه وتكاثروا، فقتلوه ومحلوه وألقوه يف البحر العميق ..حىت ال يفيق.. أيها ال��راق��د يف عمق البحار عليك ال��س�لام ..ارق��د بسالم حيثما كنت ،حيث الطمأنينة واهلدوء ،حيث يسرتيح الفارس اجلميل ،ذو العينني الطفوليتني اليت تأىب إال ان تتسرب إىل أعماق النفس وتسرح حيثما تشاء ..فال يضرنّك يف أي حب ٍر ألقوك ..ال جتزع ..احلر ال جيزع وال خياف أين ميوت ومىت ميوت ،فمهما فعل احلاقدون ..دعهم يفعلون ما يريدون ..فليحرقوا اجلسد وليمزقوه ،ليقطعوه أشالء وليذروه مع الرياح ..فالروح ال متوت وال تنتهي ،بل تبقى إىل أبد اآلبدين.. وحيهم! وويح كل اجلبناء! فقد ُشنق عمر املختار من ُ قبل ،شيخ اجملاهدين وأسد السائر في الدرب 31
الشيوخ ،يقتلون كل من يكره الظلم ويأىب االهانة واخلنوع ..ففي عقيدهتم هم األعلون ،يف عقيدهتم كل اخلانعني املستسلمني واملنبطحني هم الرجال الصاحلون.. أما الذين ميقتون الظلم ويرفضون االهانة فهم ال يستحقون احلياة. أيها الراقد يف مكان بعيد عليك السالم ..أيها املتوسد رمل البحار عليك السالم.. فأنت حر اآلن.
***
السائر في الدرب 32
الصامتون ويأسر بقايا الذكرى وحلظات من الصمت املقيت.. سكو ٌن خييم على األنفاس، ُ
وارقب الطريق واألضواء، فأنتفض واق ًفا أمواج من الليل تعرتيين ،تتلفعين وهتزين ُ ُ ٌ ارقب السائرين املرتحنني ومجوع املهرولني ..الوان وجنوم خلف أستار الغمامُ .. ش�تى م��ن البشر حي��دق��ون يف األف��ق البعيد ..أن��اس وأن���اس ال ي��ل��وون على شيء..
إال أن يسريوا مع السائرين ..منهم املبتسمون ،الصامتون والباكون ..حيملون فهمهم للحياة.. بيوهتم فوق ظهورهم ،مشاعرهم ،أحواهلم ،أحالمهم وأحزاهنمّ ، يفكرون آناء الليل وأط��راف النهار ..مىت سيكون أفضل ،وتنبعث من أفواههم
ع��ب��ارات ..غ��دا إن ش��اء اهلل أف��ض��ل ..آم��ن��ت ب��اهلل العظيم ..احل��م��د هلل على كل شيء.. يعود السكو ُن ليخيم على املكان ،وختتفي النجوم خلف الغمام ،وتنطفئ األضواء يف الطريق ،ويهدأ الليل وهتجع األص��وات وخيتفي الناس ..املرتحنون احلاملون.. احلاملون على أكتافهم الزمان واحلاملون بغد مشرق ..الصامتون..
***
السائر في الدرب 33
كوخنا يف كوخنا البعيد ..تقامسنا االبتسامة والكلمة واللقمة ،حىت انفاسنا تقامسناها.. يف كوخنا البعيد ..حيث اخليال ،وازهار النرجس تعانق شقائق النعمان ،حيث تبتسم النجوم وترقص على نغمات العصافري اخلضر املتمايله وال��ف��راش��ات ..يف ترقب العيون الرائعات كل تعانقت ارواحنا كوخنا الصغري ْ ْ وامتزجت القلوبُ .. القلب وترتع ُد املشاعر ويتسامى الفؤاد.. ال��دروب ويبتسم الثغر اجلميل فيخفق ُ ُ
��ض ام��ام��ي وصدى واف��ق�� ُد اجل��اذب��ي��ة واط�ي�ر ،اح��ل ُ��ق ف��وق ال��غ��ي��وم ال��ع��ال��ي��ات ..ف�ترك ُ ونركض نتمايل ونرتنح انفاسها حيضنين ..احاول ان امسكها فتتملص كاهلواء، ُ
كالثماىل ..يف كوخنا البعيد ،خلف االستار وخلف الضياء ..كوخنا ،ال تدركه وتنسكب االحاسيس يف كل العواطف متتزج ُ ُ االبصار وال تلمسه احلواس ،حيث ُ مكان ..كوخنا البعيد..
***
السائر في الدرب 34
أمري املؤمنني ي��ه��دأُ ُ ��اء ث��وهب��ا األرج�����واين ..تلم ُع النجو ُم الشمس وتنطفئ الليل ُ وتلبس ال��س��م ُ ُ ُ الكائنات ،وأمس��ع نباح كلب بعيد وأضواء الطيور وهتج ُع يف السماء وتسكن ُ ُ يداعب البيوت. نسيم مجي ٌل ُ الشوارع اخلافتةٌ .. َ احبث عن الزوايا الدافئة.. وانكمش يف اللحاف وأتلحف أخل ُد إىل النوم، ِ ُ الفراش ُ ُ ويفرض سيطرته علي.. واستسلم للنعاس النو ُم يداعب جفوين اشعر باإلرهاق، ُ ُ احلم إين يف دولة حلم يالحقينٌ ، حلم يراودينٌ ، فأنام ملء جفوينٌ .. حلم ورديُ .. يلبس ديباجة بنفسجية ويشار إليه بالبنانُ ، يقول فيسمع له فيها أمري املؤمننيُ ، وتنتفض له األبدان، فرتتعش له القلوب جيلس يف اجملالس الكربى ُ ُ ويأمر فيُطاعُ .. ُ وتشخص إليه األبصار ..أمريُ املؤمنني يتحدث فتصغي له اآلذان انه أمري املؤمنني.. ُ ُ قال ..أمريُ املؤمنني أشار ..غضب وتوعد ..مثل هارون الرشيد ..انه أمري دوليت.. متطر الغيمة فيها دوليت ليس فيها عواصم وليس فيها حدود ،دوليت ليس هلا أمساءُ ، حيثما تشاء. حلم يظهر وأن��ا يف ٍ سبات عميق ويف ن��و ٍم هادئ.. حلم مجي ٌل ُ يشرح ص��دريٌ ، ٌ حلم ُ يشعل فيما تبقى من الليل كل الضياء وقت السحر ونسيم الفجر يداعبينٌ .. ُ أفيق فانظر حويل والشموع ..ويسط ُع الضوء ُ وتنكشف الشمس ويضي ُع احللمُ ..
السائر في الدرب 35
أفتش عن أمري املؤمنني وعن دوليت ،فال أجد سوى وساديت وبقايا فنجان قهويت ُ وقنينة ماء فارغة ،فيتجعد جبيين وتنكمش وجنيت ..فتكشف نواجذي عن ابتسامة ال معىن هلا ..فأقول انه حلم ،ذلك احللم الذي يراودين ..كثريا ما يراودين..
***
السائر في الدرب 36
حلظات تصرعني سم ُع ما أصعب االنتظار ،وما اشد وقع اللحظات البطيئة ..اليت ُ�ت َع ُد فيها األنفاس وتُ َ فيها خفقات القلوب والزفرات ..ثقيل ٌة هي اللحظات اليت ننتظر فيها املصري.. بئس املصائر ال�تي ترتبط بلحظات من ال��زم��ان ..كم أن��ت قاسية يا ساعيت ،ويا حائطي الذي احتضنتها ..مل ال تسريين ..هل أصابك العطب؟ أم اكتأبت؟ أم أن الكون توقف ومهد؟ حىت ساعة يدي مل تعد كما كانت ..صمت الكون وسكن، توقفت ..ومل تعد صمت شديد حىت االنزعاج ..مل اعد امسع شيئًا ..حىت األنفاس ٌ ْ
خفقات القلب ،تربصي أيتها الساعات ..افعلي ما تشائني ،فأنا ال أخافك حىت
وان آملتين مبخالبك ،حىت تلك األوق��ات اليت تغدريين فيها ..امتطي كل اخليول وسلي كل السيوف ،فلن اجزع ولن استكني ،ال بد لليل أن ينجلي وتلك السيوف َ
البوارق ان تُغمد ..حىت اللحظات اهلادئة اليت انتظر فيها وتساورين الشكوك ،ال ختيفين ،فانا اشعر باألمل رغم الكدر ..احلياة ستبتسم ،ال حمالة! كلمات اسطرها واحلزن الشديد يعرتيين ،وال أقوى على البكاء وتأىب الدموع أن ترحيين فيعتصر قليب وختتنق أنفاسي ،ال استطيع أن اصف مشاعري وأحاسيسي وتنتهي الكلمات وتقف احلروف وتتوارى األفكار ..يا هلذه األعاصري اليت ختتلج يف نفسي ،دوامة من الالوعي والتخبط ،ترى ما الذي خيبئه لنا املستقبل؟ تعبت من التفكري وحريتين التساؤالت ..كيف يل أن ارتاح وكيف للناس أن ينسوين؟ وان ال يتحدثوا عين السائر في الدرب 37
يف لياليهم الطويلة ..يا هلذا العبث! اتركوا الناس أيها الساكنون حيث الظالم الدامس وحيث ال ترى العني وال تسمع األذن وال يتكلم البشر ..أيها القاطنون فوق الرمال املتحركة ..اتركوا الناس وشأهنم ..اتركوهم يرمحكم اهلل...
***
السائر في الدرب 38
أيها املعلم ! َ العقول باحثًا عن جواب أيها املعلم! مل��اذا تضرب الطالب؟ س��ؤال طاملا خ��اجل مرض ..أنا ال اشكك ولو للحظة بان اجلواب ليس باألمر البسيط ولو بدا ألول ٍ وهلة انه هني ،فاإلجابة على هذا السؤال حتتاج اىل الوقوف كثريًا والتمعن مليًا فيما يفعله املعلم ب��ص��ورة ع��ام��ة يف امل��درس��ة ،وع��ن��دم��ا ي��ط��رح ه��ذا ال��س��ؤال تعلو وبصورة ال إرادية أفكار ومصطلحات كثرية وتتضارب األطروحات والتساؤالت يف خميلة املعلم ،من هو املعلم القوي؟ من هو املعلم الصارم؟ من هو املعلم اجليد؟ ما املقصود باالحرتام؟ وما الفرق بينه وبني اخلوف؟ فاملعلم أولاً حيتاج أن جييب على هذه التساؤالت حىت يتمكن من اإلجابة على السؤال األول.. فعلاً أيها املعلم! مل��اذا تضرب الطالب؟ واملعلم دائما على استعداد أن يربهن للجميع انه على حق ،وان الضرب وسيلة هامة تساعد املعلم على التعامل مع الطالب يف الظروف القائمة ،وهو يضع الفرضيات واملسلمات اليت تقود تفكريه وسلوكه كأن يقول ،هم تعودوا على الضرب ،ال يسمعون الكالم إال بالضرب، مسعت مربيًا فاضلاً يقول“:هذه امة ال ينفع معها إال العصا ..والعصا حىت اين ُ
ملن عصى”..
طبعا أنا ال أحاول أنا اعطي احللول ،واعلم أن من يده يف املاء ليس كمن يده يف ً طبعا ال أتفلسف! ولكين أضع التساؤالت أمامك أيها املعلم الفاضل ،أضع النارً ..
السائر في الدرب 39
حرييت بني يديك ،فما الذي يفعله الضرب بعقول الطالب؟ ما الفائدة املرجوة من الضرب؟ هل هناك بديل؟ ما هو شعورك وأنت تفعل ذلك؟ وما شعورك وأنت ترى ابنك يُضرب أمامك؟ مرة أخرى انا ال أُذنب أح ًدا ولكين حمتار واحبث عن جواب ..فأيها املعلم! ملاذا تضرب الطالب؟
***
السائر في الدرب 40
عرب على عرب أح��ج��م عقلي ع��ن ال��ت��ف��ك�ير ،و أص��اب��ت�ني رج��ف��ة خلطت ك��ل أع��م��اق��ي ،ك��ي��ف ال استغرب وكيف ال اهلع أو افزع أو ارتعب؟ عرب على ع��رب ..جنود أقوياء أش���داء ي��ط��أون بأقدامهم الكبرية رؤوس ال��ن��اس ..مقيدون ومكبلون ..واجلنود يقفزون على ظ��ه��وره��م ،يستجمعون ك��ل م��ا أوت���وا م��ن ق��وه وي��ض��رب��ون البطون وال��ظ��ه��ور وال����رؤوس ..ع��رب على ع���رب ..بئس م��ا يفعلون ..ي��ا هل��ؤالء اجلنود غبارا ..حرية! حرية! هذا “البواسل” إهنم يدقون األرض بأقدامهم ميلئون الدنيا ً ما تريد؟ يقولوهنا للثائر املكبل بالقيود ،مث يطعنوه “بالبساطري” ..فال يقوى على
ش��يء ،إال أن يتأوه ويتأمل وي��ق��ول“ :حسيب اهلل ونعم ال��وك��ي��ل” ..أبكتين تلك املشاهد ،لمَِ كل هذا اجلنون؟ مل كل هذه “الساديّة”؟ الن الثائر قرر التمرد على املفسدين يف األرض وعلى ذلك املخبون ،إمرباطور دمشق ،ذلك املتسربل ثوب البغضاء ..عرب على عرب ..دوامة من األفكار جالت يف خاطري ..ما كل هذا الزخم ..اشعر بشيء غريب ،حصار يكتم األنفاس فأحاول االبتعاد عن التفكري يف هذا األمر فيعرقل الدجى خطاي واملكان احلالك بالسواد يربض على صدري، ضجيج يعتصر ال��روح من التمس الطريق عرب األفكار فيختلط اآلن وامل��ك��ان.. ٌ الروح ..فما الذي أوقد كل هذا احلقد البغيض؟ وما الذي افرغ يف الكون كل هذا الظلم املميت؟ رغبة عمياء توزعت بقايا كدر ورماد ..عرب على عرب..
***
السائر في الدرب 41
زمن الغفلة زمن فيه الغافلون النائمون يسريون يف طريق يكتنفه الضباب من كل صوب، وتدور َرحى األيام وتتسارع خطى الزمان ويصعب كثيف حد العمى.. ضباب ٌ ٌ ُ حلظات ممتلئ ٌة حد الثقل املقيت ..يكاد املرء جيزم فيه أن على املرء متابعة اللحظات، ٌ األمس هو اليوم وأن الغد آت دومنا استئذان ..زم ٌن زالت منه الربكات ،ويتساءل فيه املرء عن تلك اللحظات الطويلة اجلميلة ،حلظات من السمر واألصدقاء سواء، واالنتظار الذي غاب منذ أمد بعيد ..انتظار اللحظات تلو اللحظات والدندنة على أوتار الزمان ،زمان كان يلحن سيمفونية ترتنح أحلاهنا دون انقطاع ،وتدور األيام ومتر السنون دومنا فتور ..وال ندري كم هي أعمارنا ..عشر من السنوات ال تسري ..عشر من السنوات دون تغيري ..عشر من السنوات جتمدت يف أرواحنا.. ومضات سريعة من الوعي حىت تدوي سنوات والزمان أسري ويسري ..وما هي إال ٌ األرب��ع�ين ..يف األرب��ع�ين م��ن العمر! واألح��اس��ي��س وامل��ش��اع��ر م��ا زال���ت يف العشر سنني ..زمن االج�ترار ،زمن جيرت األيام واللحظات ،يكفكف غيلة إحدى يديه ويبسط للوثوب علينا أخرى ..زمن الالشعور وساعات من الالوعي ..اليوم أمس حني ،منوت وكأننا مل نذق وأمس غد ..وامل��وت آت ال حمالة ،منوت وكأننا مل َ السائر في الدرب 42
طعم احلياة ..وتبكي العيون تلك الذكريات وتلك اللحظات اليت كانت تلتقي فيها األنفاس وتصطف األكتاف على األكتاف ..تسارع الزمان يقتلنا ويشتتنا أش�لاء حيث ال ن���دري ،حيث خيتلط اآلن وامل��ك��ان ..زم��ن الغفلة ..والغافلون النائمون يف زمن االجرتار وزمن الالشعور..
***
السائر في الدرب 43
كلمات ليست كالكلمات ٍ فيصبح الواقع خيال، قطرات من املاء.. رشق تقرع األمطار الطبول ،وعلى الشباك ُ ُ ُ ُ ترقب الطريق والكلمات ..كلمات تراه عرب النافذة سراب ..وعيون شاخصات ُ وترفض العيون أن تبوح وختفي تضج باحلنني واآله���ات، ُ ليست كالكلماتُ .. األسرار ،وحتمل ما ال حتتمل من أثقال ،وتستحي أن تذرف ما تبقى من العربات ُ وختجل من كل الصبايا والفاتنات ..فالبكاء ليس من شيم الرجال والضعف ليس من صفة الرجال ،وعلى الشباك رشات مطرٍ ..فرتى احلقيقة عربه خيال..
***
السائر في الدرب 44
احذري اح����ذري! أيتها اللحظات اجمل��ن��ون��ة ك��ل اجل��ن��ون ،وامل��ت��أب��ط��ة ك ً��م��ا م��ن الالمعقول واملستحيل ،وأنت تسريين خبطواتك السريعة هترولني ،احذري! متهلي وال ختتايل، فال احد حيب اخليالء وال احد حيب املتكربين السائرين يف الطريق دون التفات.. اح��ذري! من كل الغرور ،فالسماء بعيدة والنجوم لن تزيين هبا شعرك األسود الطويل ..متادي وتسلقي كل احلبال للوصول إىل الشهب العاليات ..فلن تلمسيها ولن تأخذي منها لوهنا الذهيب ،توقفي أيتها اللحظات! وكفي عن العويل! اصميت فالصمت أمجل األفعال ،وأه��دأي ،وهدئي من روع��ك ،فاحلياة أمجل من ان منر عليها مر الكرام ..احذري! أيتها اللحظات..
***
السائر في الدرب 45
الثأر زم ٌن كجلمود صخ ٍر ّ حطه ُ عل ..يا لتلك الرائحة النتنة وتلك الغيمة السيل من ٍ السوداء املتلفعة ثوب من غمام اسود حىت احلداد ..شر يتطاير يف أنفاس الناس، الروح املعتصرة من احلزن الشديد والكره الشديد واحلقد الشديد ..موت ُ تنبعث ُ وقتل وتشرد ..آهات من بعيد ..اللعنة على زمن يتحول من فرح إىل ترح يف اقل من جزء من الثانية ،قبل ان يرتد إليك طرفك ..ما الذي حدث؟ ملاذا كل هذا وآهات التشرد تأن يف كل مكان.. صرخات تدوي يف كل آن، املرج واهلرج؟ ٌ ُ الرأس على العقب ،ومل يبق اال التحمل ،مل يبق سوى البكاء ،حىت جتف انقلب ُ العيون ،حىت تتشقق الوجوه ..يا لصيحات التشرد ،ويا لصيحات الثأر ..يا لَعبث العابثني!
***
السائر في الدرب 46
الليربالية ��ات متنوع ٌة وخمتلف ٌة ت��دور رحاها بال ه��وادة وال رمح��ة ..الكل يصيح من ص��راع ٌ عنده ويتش ّدق مبا ميتلك من كلمات ومصطلحات ..واجلميع يشد بطرف الثوب علّه حيصل على احلصة األكرب ..قد يكون صراعاً طبيعيًا لكون الدميقراطية تعين االختالف والتنوع ،فاخلالف ال يفسد للود قضية ..هذه لعبة الدميقراطية ..إرادة الشعوب ..اقصد تلك الشعوب اليت تفهم قوانني هذه اللعبة ،فالدميقراطية ليست اختيار ما تريد ..بل اختيار ما يتماشى مع روح العصر ،يعين ال تكن غبيًا وختتار
م��ن ت��ري��د أن���ت ،ب��ل اخ�تر م��ا ي��ري��دون منك أن خت��ت��ار ..ألن��ك حينها ل��ن تكون دميقراطيًا ..بل ستكون قندهاريًا أو بنالدينيًا ..عجيب!
ُكشف الغطاء ،فبصرك اليوم حديد ..أمور قد ال نكون نتصورها أو ال نريد أن طبعا أن كنت تشمئز من نتصورها على االقل ..صراع بني الليربالية واإلسالميةً ..
مصطلح “ليربالية” ،فيمكنك استخدام مصطلح “ َعلمانية” أو “مدنية” ،ورغم إن اإلس�لام ليربايل بطبعه ومدين بكل ما تعنيه الكلمة من معىن ،إال أن اللعب
باملصطلحات وما حتتويه من معىن هو املصيبة الكربى ..فكيف ال يكون اإلسالم مدنيًا وهو الذي أسس القوانني وشرع أسس احلياة واملعامالت ..وكيف ال يكون
اإلس�لام ليربالياً وهو ال��ذي يعطي احلرية واحل��ق للجميع ويدعو إىل املساواة بني اجلميع وعدم اإلكراه أو الغصب ..أن كل ما يف األمر هو أن الليربالية أو املدنية السائر في الدرب 47
أو العلمانية اليت يدعون إليها ويتفوهون هبا ،واليت هي حلوة يف معناها إال أهنا مرة يف استخدامها ،كلمة حق يراد هبا باطل ..هي ترك الدين ..ليس هذا فقط بل وخلعه من القلوب واألبصار ،فما هلل ،هلل وما لقيصر ،لقيصر ..ال دين يف الدولة وال دولة يف الدين ..هم يريدون مطاردة اإلسالم حيثما يكون ..عجيب! تتعرى إحدى الناشطات السياسيات كما يدعوهنا وتقول أنا حرة ..فهو زمن الليربالية ،احلياة بال قيود ..كل إنسان يفعل ما حيلو له“ ..التعري” هو الليربالية.. عجيب!
***
السائر في الدرب 48
تنقلب االمور كانوا يعانون اشد أنواع الظلم يف عهد الطغاة ،وكانوا رمو ًزا للنضال والكفاح ومعارضة السلطان ،ومل يكن جيرؤ احد من السياسيني ورموز السياسة وكل من يكتنفهم من إعالميني وصحافة على أن يقولوا كلمة حق يف وجه السلطان ..كان هؤالء يتخافتون يف الزوايا املظلمة وميارسون كل أنواع النفاق وكان يُسمح هلم أحيانًا بان يُظهروا شيئًا من املعارضة املتصنعة للحاكم حىت ال يبدوا كأهنم صور متحركة ..يف تلك الفرتة حيث كان يكثر الفساد والنفاق واغتصاب احلقوق وال��ك��ل��م��ات ،ك��ان��وا يقبعون يف غياهب اجل��ب وال��س��ج��ون ،ومي���ارس عليهم شىت أنواع التنكيل ،وكانت حقوق اإلنسان ال تتكلم أو تتكلم على استحياء ،وكان اإلعالم يصيح :عاش! عاش! امللك! وكانت الرموز السياسية املتشدقة بكلمات احلرية والوطنية تنام على سرير من ريش نعام ،وتسجد للسلطان وتكلمه حبياء، وش��اء اهلل العلي القدير أن يتسلموا مقاليد احلكم رغ��م كل امل��ن��اورات واخلدع املصورة والغري مصورة ..فاجتهدوا وأصابوا واخطئوا ،وظهر الفساد يف األرض ليقاوم احل��ق وتكلم ك��ل متكلم وفصيح ،بكلمات ال تنم إال على حقد دفني وك��ره مقيت ،وب��ذل��وا الغايل والرخيص كي يتمكنوا من إفشاهلم ،وحت��ول��وا من السائر في الدرب 49
أبطال املرحلة إىل اجلالس يف قفص االهتام ،وأصابع اإلعالم تلكزه يف كل حني، والسياسيون املنافقون ال يتوقفون عن بث السموم يف كل مكان ..حىت صاح الذين ال يفقهون ،ال ل�لإس�لام ..ال ألسلمه ال��دول��ة و النظام وال��رج��وع بالدولة املدنية اىل عصور غابرة كان جيلس فيها حممد ابن عبد اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم مع أصحابه يديرون العامل من حوهلم بكل أرحيية ونظام ..وهم ميلئون الدنيا عدل ومساواة ..فعجيب!
***
السائر في الدرب 50
القيامة انتفض اجلس ُد امليت منذ زمان ،وانتصب املار ُد بعد رقاد طويل وانكسار وابتسمت احلسون فوق احلقول الشفاه واشرأبّت األعناق وج��اءت نسائم احلرية ورف��رف ّ اخلضراء ،وزغردت النساء وركض الصغار واكتحلت الصبايا ..ما أمجل نسيم احلرية وما أحسن أنشودة بالدي ،أنشوديت اليت ما غنيتها منذ مولدي ،وكنت امسعها من جدي وجديت وكان جدي يرفع ذراعيه إىل السماء وهو يغين ،وكان يبكي ،وتستمر اللحظات السعيدة وحلظات األم��ل وال�ترق��ب ،ترقب الطريق.. وحل��ظ��ة ت��غ��رب فيها الشمس وت��غ��رق يف م��ك��ان ن��اء بعيد ،حيث يقطن يأجوج ومأجوج ،وحيث يرقد ذو القرنني ..فيلبس الليل النهار وينفض عنه كل األحزان وك��ل م��ا اق�ترف م��ن خطايا وذن���وب ،يف تلك اللحظة ال�تي مت��وت فيها الشمس وروح��ا ساكنة يف جوف الظالم احلزين وحييا الليل ..أناجي نسمة مجيلة عليلة ً ال��ذي ي��رزح حتت هضاب من مجاجم وض��ل��وع ..أناجيك أيتها النفس املطمئنة اليت غادرت أجسا ًدا تكدست وحتطمت من شظايا احلروب ..أيتها الروح الطيبة الربيئة اليت مل تلوثها يد الزمان ،أما آن لك أن تتجلي وتظهري وحتطي ،أما آن أن تأيت ..ها أنذا ارقب الطريق الطويل وارقب اللحظات اليت تسري ببطئ مقيت.. ومل ت��أيت بعد ،ومل تظهري بعد ..فكم من السنوات جيب أن ابكي وك��م من السائر في الدرب 51
ال��س��ن��وات علي أن أص��ي��ح ..لقد بكت العيون ح�تى جفت وتعبت احلناجر من الكالم ،وتشققت األقدام من الوقوف ،فهل صحيح ما يقال ،أنك لن تأيت أبداًّ؟ ولن تبعثي األمل يف كل النفوس؟ وان احلروب وجحافل اخليول الغريبة ستبقى؟ وسيبقى اهلرج واملرج؟ وتدق ساعة النهاية؟ وتقوم القيامة؟
***
السائر في الدرب 52
صوت الرصاص حىت الصوت اخلافت املتواين ..حىت اهلمس ،يعلو فوق صوت الرصاص واملدافع، ويعلو احل��ق ول��و بعد ح�ين ويبقى ص��وت اإلن��س��ان ي���دوي يف األرج����اء ..ي��ا نار كوين بر ًدا وسال ًما على محص ومحاه وسائر بالد الشام ..تتمزق األبدان وهتمد
األن��ف��اس وتصعد األرواح يف ك��ل م��ك��ان ،وتتبعثر ال��دم��اء يف ال��ش��وارع واألزقة وتلطخ اجل����دران ،وتبقى ال��ع��زة ف��وق ك��ل ش��يء ،احلرية م��ن العبودية وتكسري األصنام بفأس إبراهيم ..ويتحدث كبريهم ويشري إىل املذنبني عابدي الع ّزى و ُهبل
ومناة ..حىت اهلمس يعلو فوق أزيز الطائرات ،حيطم املراوح الكبرية والدبابات خراطيمها الطويلة ،تلفظ الشر واملوت ،ويطري عزرائيل يف السماء وتبكي املدن واحل��ن��اي��ا ،وتبقى ال��ع��زة ف��وق ك��ل ش���يء ..ختتفي ال��ف��راش��ات ومت�لأ طيور الغراب السماء ،ويهرب الناس واألطفال والنساء ..ويسمع الصياح يف وسط الضوضاء.. املدافع وغبار الدبابات ودخان احلرائق ،وقهقهة اجملرمني ودق الطبول ..يهللون ويتبولون يف كل شارع ..املفسدون يف األرض ..وصوت مهسات املظلومني يعلو فوق صفري الرصاص ،وتبقى صرخة الثكلى تزف الشهداء كل يوم ،ومل يبقى من األكفان ما يكفي ،ويدفن الشهداء بال أكفان ومل يبق متسع من مكان ،وتبكي القبور من شدة الزحام ،ومل يبق من حيفر القبور ..وما أكثر النساء الباكيات يف دنيا العرب ..وتبقى العزة فوق كل شيء ..مهما طال الزمان ومهما تكدست
السائر في الدرب 53
األحداث يبقى صوت اهلمس أعلى من صوت الرصاص املرتامي يف كل صوب وتبقى الكلمة احل��ق ف��وق ك��ل ال���راي���ات ..ي���زول الظلم وتتحطم األص��ن��ام ..إذا جاء نصر اهلل والفتح ..وتتفتح شقائق النعمان لتبقى دليلاً على الشهداء وتبقى الكلمات حىت اهلمسات تعلو هدير احلروب وأزيز الطائرات..
***
السائر في الدرب 54
النفس م��رت م ّ��ر ال��ك��رام ..ع��زي��زةٌ ت��أىب ال��رك��وع ف��وق ك��وم��ة م��ن الضغينة واالحتقار.. تكفكف نفس ترفعت ..أعاصري من األي��ام واللحظات ..الساعات ال��ط��وال.. ُ ٌ ُ نفس بريئ ٌة وجريئ ٌة تعيش يف غيلة أحدى يديها وتبسط للوثوب عليها أخرىٌ .. وتنشر احلقائق فوق دوام��ة من االلتفاف وال�ترب��ص ..تول ُد النفس ..تشع بياضاً ُ كل شيء ..متر اللحظات والساعات فتهوي يف خندق األكاذيب وتتسربل ثوب البغضاء ..تدافع عن نفسها عن كياهنا وعن سيف مسلول يف وجهها ..كيف ال! وحلظات الزمان متر مر الكرام ال هتتم وال تلتفت ألي شيء..
***
السائر في الدرب 55
الفراق يف كثري من األوقات تسري األمور ليس وفقاً ملا نشتهي ..أحيانًا حنب كثريًا وأحيانًا الدهر ذو دول.. أخ��رى نكره كثريًا ،ويبقى القلب خيفق وخيفق حىت امل��وتُ .. واأليام تسري وتتخطى كل العقبات وكل اآلهات ،مهما كانت صعبة ..و لو كان األمر بيدينا ،ال ادري أيكون األمر سهل أم صعب ..فال تكرهوا شيئًا عسى أن يكون خ�يرًا ..كثريًا ما كنت أق��ول أن احلياة تشبه نظرية يف الرياضيات وتشبه التموجات امللتقية واملتباعدة ..احلياة فيها كثري من االلتقاء وفيها أيضا ما يعادله من الفراق ..التقاء مث ف��راق ،وهكذا ..سنة اهلل يف خلقه ..وحنن نكره وحنب، وخيفق قلبنا حيث ال جيب أن خيفق ،وحتن أكبادنا حيث ال جيب أن حتن ،وكأن لنا يد يف هذا أو ذاك ..أعجب من حالنا !
***
السائر في الدرب 56
الغدر أي��ه��ا ال��زائ��ف��ون ،امل��ت��خ��ب��ط��ون يف ك��ل م��ك��ان ،امل�ترحن��ون خب��ط��وات يقتلها الشعور بالدونيّة ..ما الذي أوقد فيكم كل هذا البغض الشديد ..أيتها اخلفافيش بلون سواد الليل واليت تسعى من خلف الستار ،حتك مبخالبها كل ج��دار ،وليس هلا سوى العبث بكل األق��دار ..ال هتدف إىل شيء سوى اخلراب والدمار ..عيون ميألها احلقد البغيض وترسل بريق خداع وبغضاء ..أيتها اخلفافيش السوداء أو احلمراء أو الصفراء ،أي لون أنت ،ال يهم ..فأنت مثل احلرباء ،كل يوم أنت يف لون ..اظهري حىت أعرفك ،حىت ال تكوين من اجلبناء ،أفصحي عن تلك الرغبة العمياء يف حقن السموم يف كل األجساد ،أيتها الشخصيات الزائفة الورقية ..ما كل هذا اهلراء ..انك تتمرغني يف الطني ويشطفك رذاذ من الكراهية والالمباالة.. وحي��ك! أحتسبني ان��ك تفعلني ال��ص��واب؟ وأن��ت ترمني احلجارة يف كل صوب.. وأنت تتشبثني حببال بالية ،حبال احلقد واحلسد ..كيف ال؟ وأنت تتهمني كل األبرياء ويف ساعات الليل املتأخرة تبعثرين كل األوراق ،وتدسني الرسائل وتكتبني وتشتكني ..أيها الزائفون ،املتغطرسون ،املتشدقون ،املهلوسون! انتم كما قال دروي���ش ،أيها ال��ع��اب��رون ب�ين الكلمات ال��ع��اب��رة ..فانتم ع��اب��رون وستمر السنون عليكم مر الكرام ولن ترتكوا آثاركم يف رمل احلياة ..كل صيحاتكم تدوي يف الفراغ ،صداها يعود عليكم باللعنة والدونية ،أيها الزائفون اعلموا أنكم زائفون، ستبقون زائفني ولن تظهروا ،كخفافيش الليل تعمل يف الظالم ،فهذا ما تستحقون.
***
السائر في الدرب 57
الشيزوفرينيا يف كثري من اللحظات تتهاوى فيها العقول وتنساب فيها املشاعر لتستسلم اجلوارح وتنقاد النفس إىل ما ال تفهمه وما ال تعيه ،إىل حيث تكثر األشباح بال صورة ُ وتغرس فيها كل الشحنات طعم ..حترك يف النفس كل الطاقات وال صوت وال ُ وتدور وال تقف حىت تستكني ..تتحرك الساكنات من تدور وتصع ُد يف السماء ُ ُ
حوهلا وتضحك اجلمادات وهتمس إليها بكلمات وتكلمها الكائنات ..ومضات من مالمح غريبة تشعها يف النفس فال تعلم ما تفعل وما تقولُ .. خيتلط كل شيء غلق الدوائر ،فيتهامس من حوهلا ويضحك فيصبح اخلطأ صواب والصواب خطأ وتُ ُ الضاحكون ويغمز الغمازون ،فتنكمش وتستحي وختجل من نفسها ،فال تعلم أي الفريقني ترى وأي منهم واقع وأيهم اخليال ،فتنطلق لتنزوي يف مكان مظلم الشيخ سورة الفاحتة والبقرة انس وال جان ..ويقرأُ ُ حالك السواد ،ال يراها فيه ٌ
ويبتسم مس من اجلن ،سحر ُة موسى.. وآل عمران ..وبسم اهلل الرمحن الرحيمٌ ، ُ وص ّفد يف األغ�لال ول��ن يعود ،وم��ا زال احل��ال هو ُ الشيخ ..الب��د ان��ه قد اختفى ُ
احلال ..الواقع خيال واخليال واقع وما زالت األنفاس تلهث وتبكي العيون وتنهمر العربات ..جنون ..وهم أم خيال ،ال عقل وال إحساس ..ويضحك الضاحكون
وتنحصر وتتقوق ُع يف مكان مظلم حىت ال يراها النفس ويغم ُز الغمازون، ُ فتنكمش ُ ُ فيسيطر اخل��ي ُ ��ال على اح��د ح�تى ال يُ��ق��ال أُصيبت ب��اجل��ن��ون ..وت���دوي الصرخات ُ الواقع فتضيع ويضيع من حوهلا ،وهتوي يف مكان عميق خميف ،ويبكي الباكون
السائر في الدرب 58
ويندهش املستهزئون ويعاقب املعاقبون ..اقتلوا الشيطان واقتلوا الشر يف العيون.. ُ وتكثر التساؤالت وتتوقف الضحكات ..جنون وترهات تشعها النفوس يف كل مكان ..فيختلط اآلن واملكان وتكثر التساؤالت ..حلظة من جنون النفس ..حلظة من جنون..
***
السائر في الدرب 59
حنني وأصوات األهازيج تعلو تدنو الشمس من املغيب وخيتلط اللون األرجواين بالسواد، ُ يف كل مكان ..عن نفسها وعن حياهتا حدثتين ..وعن علقم الدهر وغدر الزمان، وعن سيف مسلول يف وجهها ،ترهات تشعها النفوس ،فكيف ال ابغض الناس؟ وكيف ال اكره الكائنات؟ دوي خيلخل العظم وحيبس األنفاس ..أيتها الساكن ُة يف كل مكان واملتأبط ُة كل زم��ان وأيتها الزهرة املتلفعة لون البياض ،هتمسني ويف مهساتك حل��ن ح��زي��ن ،فيطرق ال��ف��ؤاد لتلك امل��ع��اين املتناثرة وتلك احلروف الراقصة ويصغي لعزف أنفاسك ووقع حلظاتك ،صفعات من احلياة تلطم الكيان فتدوي عرب مسامعي ..ترتحنني يف كل مكان وتطردي كل القلوب وتكشرين عن أسنانك اجلميلة وتشيحني بأظافرك ويف عينيك اجلميلتني شهب وضياء ،ويف ني يعتصر القلب ،آيت طواياك خيفق قلب مجيل وشفاه هتمس بلحن أصيل ،حن ٌ من بعيد ،من عمق احلكايات وأساطري األولني ،أيتها الزهرة البيضاء امهسي لكل الكائنات فشفاهك اجلميلة تصدر أحلى الكلمات..
*** السائر في الدرب 60
اجلنية كنت حينها انظر إىل فنجاين القهوة ،يف ساعات الصباح ،احتسي منه رشفة مث أمتعن يف نفسي وبعد حلظات احتسي رشفة أخري ..بصراحة أنا مغرم بالقهوة انظر إليه وخاصة يف ساعات الصباح الباكرُ ، أحب أن انفخ يف الفنجان أوالً مث ُ
وأمتعن فيه ويف لون القهوة وهي تتموج وتلم ُع كما يلمع النحاس ..هذه بره ًة ُ
وسواس اشعر بتوتر شديد.. ٌ عاديت ال بد أن انفخ يف الفنجان أولاً ،وان مل افعل ُ ��ري ..ه��ه! وبينما أن��ا على تلك احل��ال��ة وإذ بعفريته تتنطط ف��وق رأس���ي ،مل ق��ه ٌ َأره��ا ولكنها كانت تقفز يف كل مكان ،جنية! وكانت تضحك وهي تداعبين بأصابعها اليت مل أره��ا ،وكأين امسعها واشعر هبا وهي تلمسين ،تستور اسم اهلل
الرمحن الرحيم ..قل أعوذ برب الفلق ..جنية! عفريتة! فقالت يل ،أريد رشفة م��ن القهوة ،أري��د ق��ه��وة! هكذا أخ��ذت تصيح وه��ي تضحك وتقهقه ،فخبأت قمت ان ُفضها من على جسدي ومن رأسي ..قل أعوذ فنجاين وانكمشت ،مثُ
برب الفلق ..قل أع��وذ برب الفلق ..وهي ما زال��ت تضحك وتضحك ،وتارة وخلت نفسي تغمزين وتارة أخرى هتمس يف أذين ..قشعريرة أصابت جسدي، ُ احدث نفسي ..الغريب أن صوهتا مجيل ..ولكنها جنية! عفريتة! يا ساتر يا رب!
وصرخت بأعلى صويت من فانسكب فنجاين على قميصي قفزت من مكاين واق ًفا ُ ُ َ
فحلمت ومل أفق إال على لسع غفيت للحظة، ُ سخونة القهوة ..وإذ يب كنت قد ُ القهوة احلارة ..أوف! لسع القهوة وال اجلنية!
***
السائر في الدرب 61
شجرة الغولة ق��ص�تي مج��ي��ل�� ٌة ،ق��ص�� ٌة خ��ي��ال��ي�� ٌة ،ق��د أك���ون نسجتُها م��ن خ��ي��وط أف���ك���اري ..أو قد مسعتُها وأنا يف بطن أمي ،واذ ُك��ر كلماهتا وأحلاهنا وكل ما حتتويها من عواطف نركض يف اخل�لاء وكانت البيوت قليلة وكانت األمس��اء غري وان��ف��ع��االت ..كنا ُ األمساء وكانت األماكن مهجورة والتالل كثرية ،والشوارع ضيقة وكانت قرييت صغرية ولكنها مجيلة ..نعدو ونتسابق فنسبق الرياح يف السهول ونسبق الفراشات يف احلقول الصفراء اليابسة من القمح العتيق ،ميألها الرتاب ..وأقدامنا حافية ومل نكن نشعر حبرارة األرض وال بوخز األشواك ..كنا نطري مسرعني وحنلق يف اهلواء تكنس جنلس يف ساعة الغروب وكانت أمي ُ فال تالمس أقدامنا ال�تراب ،وكنا ُ ساحة البيت وأيب يأيت ساعة الغروب ..كنا نستم ُع حلديث الكبار ومهس الصبايا والنساء ،وكانت قريتنا صغرية قليلة البيوت ضيقة ال��ش��وارع ،فنسمع من بعيد نباح الكالب وصياح الديوك وثغاء اخلراف ،وابتسامة أمي مجيلة وشاهلا األبيض تقرتب من اجلميل وسنها الذهيب ينري امل��ك��ان ..ويف ساعات الغروب والسماء ُ مات من مات فدفنوه األرض والنجوم ضياء ..نسم ُع حكاية شجرة “الغولة”َ .. وهتب النسمات الباردة ومهسات آتية من جلج الصمت، حتتها ..فرتتع ُد أوصالنا ُ السائر في الدرب 62
نرقب شجرة القلب وترتعش العيونُ .. وهدوء ثقيل يربض على األنفاس ويدق ُ فتعانق النجوم ونرى “الغولة” يف املساء فنراها متت ُد إىل السماء وت�بر ُز اذرعها ُ ُ ونأكل أظفارنا بأسناننا.. خرطومها يتدىل إىل األرض ،فننكمش إىل حد االختفاء وتقشعر األبدان ..فتونسنا ضحكة أيب ومهسة أمي ،فننام إىل الصباح ..وعندما ُ كربنا وك�برت شجرة “الغولة” يف عقولنا ،وإذ هبا شجرة “س��در” مجيلة متتد جذورها يف باطن األرض وأغصاهنا يف السماء ..يستظل هبا الناس وتأكل منها العصافري ..شجرة “الغولة”..
***
السائر في الدرب 63
عذب كلمات ايتها اجلميلة الوديعة ،ذات االنف الصغري اجلميل والعينني الرائعتني ،اليت متألها ال��ب�راءة ،م�لام ُ��ح الطفولة يف وجهك تقتلين ،ومج ُ ���ال امل���رأة يف وجنتيك يشدين، القمر السماء، يطريُ يب اىل حيث ال ادري ،اىل حيث تتعانق النجوم ُ ويعشق ُ وضحكتك جتعلين افقد اجلاذبية وأط�ير ،فامشي ف��وق السحاب ،حنانك مجيل وهلفتك تقطع االنفاس ..تأخذيين اىل الالمكان ،حيث الالحدود واخليال ..نطريُ ُ هنيم .. ونضحك ضحك طفلني ً معا ،ون��ع��دوا وتسبقيين ،وعلى شاطئ البحر ُ فتداعيب نسماته وتداعبك االم��واج بلطف ..وترقص امواج البحر طربًا ،وأسنانك البيض اجلميله ،وهلثات انفاسك ،وتناثر قطرات املاء على خدك احملمر خجلاً ، يرسم ص��ورة وردي���ة ،حيسدها غ��روب الشمس ،وحتسدها العصافري ..ابتسمي ُ واضحكي وداعيب الكواكب البعيدة ،فقلبك ُخلق ليكون سعي ًدا ..ايتها اجلميلة الوديعة..
***
السائر في الدرب 64
كان يا مكان يف ذلك الزمان ..منذ زمان ،كانت البيوت غري البيوت والوجوه غري الوجوه.. وكانت الضحكات غري الضحكات ،ضحكات من اعماق القلوب ،تكاد تتناثر االسنان من الضحكات القدمية ،حيث البيت القدمي وال��ش��ارع ال��ق��دمي ..عندما كانت امي حتمل على ظهرها كوم الغسيل ،ويف يدها حتملين ،ويف بطنها اخي كنت املك كل ال��وج��ود ،ويف ي��دي مفاتيح احلياة، يتحرك متشوقًا للخروجُ ، وبعصاي السحرية اخليالية افعل ما اريد ..أشق أي حبر أريد ..حينما كنت صغريًا كانت الفرحه تطول وتطول ،كنت ارقص كثريًا واركض حافيًا وقهقهايت تدوي
يف الفضاء ..واليوم ال استطيع ان اركض حافيًا او ارقص ..فهذا عيب! وممنوع!
وابتساميت قليله ..كم اح��ب ان اع��ود اىل تلك االودي���ة وتلك االراض���ي اخلالية املمتدة حد االفق الالمتناهي ..يا لتلك الرائحة العبقة ،رائحة الرتاب والطني.. ُ واسقط على االرض ويتمرغ متسخا والرتاب ميأل راسي ووجهي، اركض وانا ً تركض اشعث اغرب ..وامي انفي يف الرتاب وابدو كالشيطان فيضحكوا عليٌ ، ُ خلفي ودلوها معها ،وهي متسك ثوهبا باسناهنا ،يا هلا من حلظات! ويا هلا من ساعات! زمان !
*** السائر في الدرب 65
ابتسامة ما ال��ذي أوق��د كل ه��ذا اجلموح من اإلح��س��اس؟ مشاعر كموج البحر أرخت علي ..تساؤالت حريتين ودارت يب الدنيا واختلط األمر ،تبتسمي ومن سدوهلا ّ ث��غ��رك ي��ض��وع الطيب ف�يرجت��ف ال��ف��ؤاد وي��س�تري��ب وت��ت��ه��اوى اللحظات فتتسارع الساعاتُ ، فيهبط السحاب وتفرتشه اخلضر العصافري الصغار ،وامشي اهلوينة كما ميشي الوجي الوحل ..يا لتلك اهلنيهات اليت حتتبس فيها األنفاس وتلهث فيها القلوب ،فتختفي األحزان وتتالشى اهلموم ..وعلى ضفة هنر مجيل اركض بأقصى سرعيت ..أسابق الريح والعصافري ،وطائرات الورقَّ ، واحتد األمواج والرمال.. وما زالت تبتسم ،وما زال يضوع الطيب ،فريجتف الفؤاد ويسرتيب..
***
السائر في الدرب 66
اكتب يف راس الصفحة علي بلحظ من حلاظه اجلميلة ..أن اكتب يف رأس الصفحة األوىل، رميٌ فات ٌن أشار ّ امسي وكل ما جيول يف خاطري ..اكتب بكلماتك جسدي وعقلي ،اكتب اين وعلت اكره أن يشاركين احد سواي يف فاليت ،فانا وحدي ال سواي.. تغطرست ْ ْ علي بإصبعها اجلميل ،احذف كل األلوان وكل الزهور ،فال ومتكنت.. ْ ْ أشارت ّ
رمادي وال بنفسجي وال وردي ،فقط لوين أنا ..يا لتلك االبتسامة! من خلف
الستار ،من خلف اجلدران ..جرءة وقوة ..اكتب يف رأس الصفحة األوىل أين ال أحب وال أعشق ،أين ال اكره وال امقت ..اكتب يف السطر األول من صفحتك رغما البيضاء ،أين ال اهتم ملشاعري وال حي��ق ألح��د أن يهتم هب��ا ..وستكتب ً احن إىل احد ،وامللم مشاعري وخفقات قليب عن انفك ،أين ال أهوى احد وال ُ وهلثات فؤادي بني أناملي ،واضعها حتت وساديت ،فال تراها سوى عيين ..اكتب يف رأس الصفحة األوىل انك لن تراين ،ولن تلمسين ..إال يف أحالمك ..أبت إال أن تشرئب هلا العيون ..أبت إال أن جتلس يف حجري وترفس كل من يقرتب..
*** السائر في الدرب 67
أمي أيها الصوت الالئج يف أرجائي واآليت من كنف السكون ..منذ التقيتك والتقيتين ٌ أطياف مشبع ٌة بالسرور وأيقظتين من نومي ابتسامتك الساحرة وراودتين لولبتين جيلب رائح ًة طيب ًة فواح ًة.. ٌ شذرات من املاضي توزعت رذا ًذ كرذا ِذ اليَم ُ وعرب الوقت والزمان تتمازجين ليايل السهر وتطويين يف جنباهتا كطي السجل ويعلو القمر املتباعد يوم بيوم ً يعج بذكريات من املاضي ورفرفة طري تاركا مكانًا ُ يعوج على الدار يسائلها ..فهل للشمس ان تظهر لنلتقي من جديد؟ وهل ستعود احلياة لذلك الوجه اجلميل؟ وهل يعود احللم؟ هل للماء ان ينقطع عن اخلرير يف أذين ،ألمسع صوت األنفاس الدافئة املتقطعة ..احن إىل العيد وقبلة العيد ،وبسمة العيد وسالم العيد ..سالم َ لك أمي من بعيد..
***
السائر في الدرب 68
عاشقة املطر يو ٌم من ايام الشتاء ..واجلو ساكن ،اال من صوت عواء كلب بعيد وصياح ديك..
والشمس تنحين حنو املغيب ،تطرز صور ًة هبي ًة ..واجلس يف غرفيت اكتب قصيد ًة ارقب الضياء اخلافتة ،اليت ارمتت على شعري ًة ،ومن خلف زجاج شباكي الرثُ ، ارصفة الشارع ،فانعكست ملعتها على املطر ..وكان الظالم يغطي املكان واعمدة
الضياء ترتعش من الربد وتتمايل ذات اليمني وذات الشمال وورقة من تني تتطاير وتتقلب بني انامل النسمات ،تنقلها اىل حيث ال تريد ،ومصابيح الشارع القدمية تضيء على استحياء ،وتبعث الضياء جاهدة فال تستطيع اال ان تضيء نفسها ورشات املطر ،وحتضرين يف تلك اللحظات اهلادئة البطيئة عاشقة املطر ..كانت تقف حتت زخ��ات املطر وال ختشى البلل ..تعانق القطرات وحتتضن الغيوم يف السماء ،وترقص ضاربة بقدميها كل املياه ..متوشحة ردائها االس��ود الطويل، وحبات املطر ترتاقص على وجنتيها ،ويداعب اهلواء رداء رأسها ،فيخفي خلفه ابتسامة مجيلة ..تقف مبعطفها االنيق وتداعب املطر باناملها الرشيقة ،وال تزال االبتسامة ترتسم على شفتيها ..عاشقة املطر تقطن خلف اجلبال البعيدة ،حيث تنحين الشمس ،ويسكن ال��ن��ه��ار ..يف مكان بعيد ..وعلى ص��وت وق��ع املطر، اصحو من ذاكريت ،فانظر اىل ورقة التني ،تتقلب مع تقلب النسمات وهتدأ مع هدوء الليل الساكن ،اال من عواء كلب بعيد وصياح ديك ..وال تزال اعمدة الشارع تتمايل ذات اليمني وذات الشمال.
***
السائر في الدرب 69
مدرستي كان يوم مجيل ،والطقس لطيف والسماء صافية ،والربيع يغطي مالمح االرض.. وكنت أسري اىل مدرسيت بقميصي االزرق الذي مييل اىل البياض ،وفوق ظهري امح��ل حقيبيت ..وك��ان االطفال مجيعهم يسريون اىل حيث أس�ير ،وكنت انتظر اصدقائي عند الوادي الصغري الذي اختفى منذ أم ٍد بعيد ،اال اين اراه يف خميليت حىت هذه الساعة ..كنا جنتم ُع ونسريُ مهرولني اىل املدرسة ..وابو العال ،ذلك العجوز الذي افتقدته منذ زمان ،يقوم ومعه اجلرس احلديدي ويدق به معلناً ساعة االنتظام يف الساحة الكبرية ..وكنا نقف مصطفني كاسراب الطيور املهاجره، نؤدي حركات رياضيه غريبة ..انتظم ،اسبل ،استعد ،اسرتح ،وهكذا ..يقولون ان ه��ذه التمارين تساعدنا على فهم ال��دروس بصورة افضل ..ال اعلم كيف؟ ولكن قد يكون! مث بعد ذلك نسريُ بسروب منتظمة اىل الصفوف ..وجنلس يف الصف ويدخل املعلم..
*** السائر في الدرب 70
فرحة تلميذ نلعب ُ كنت يف أح��د األي��ام مع أيب وأم��ي وإخ��ويت يف رحل ٍة عائليةٍ ،وبينما حن ُ��ن ُ فجرحت كتفي ..كان فسقطت على ح��ج�� ٍر ك��ب�يرٍ، ��ض تعثرت ق��دم��اي ون��رك ُ ُ ُ
جرحي عميقًا وكبريًا ..هذا ما رأيته يف مالمح أيب وهو يتفحصين ،لقد ارتعب عندما رأى اجلرح وكذلك أمي ..قال المي ال بد من املستشفى ،فأمسكت أمي
جبرحي واحتضنتين وساق أيب مسر ًعا إىل املستشفى ..لقد أرعبين خوفهم ..ويف
شعرت وصلت املستشفى احلقيقة ،يف حينها مل اشعر باألمل بعد ،ولكين عندما ُ ُ بأملٍ شدي ٍد يف كتفي ورأسي وعنقي ..وقد خاط الطبيب جرحي وأطلقوا سراحي ��دت إىل البيت ويا للمفاجأة ..لقد ج��اءوا مجيعا بعد كثري من الفحوصات ..ع ُ
علي ،كلهم كانوا يقولون يل احلمد هلل على سالمتك ..مسكني كيف ليطمئنوا ّ ح��دث ه��ذا ..وميسحون بأيديهم على رأس���ي ..كم كنت سعيداً هب��ذا األمر.. أصدقائي يف احلارة جتمعوا من حويل ..جاءت نساء احلارة لتطمئن علي ،واشرتى يل أيب كل ما أريد وكانت أمي تبدل مالبسي ..كنت سعي ًدا ًّ جدا ..يا لسعاديت! وأفضل ما يف األمر أين معفى من الذهاب إىل املدرسة ،كلهم يذهبون إليها إال خضم سعاديت هذه تذكرت أبناء صفي، أنا ،فأنا مصاب وجرحي خميط ..ويف ّ
اشتقت اليهم ..مل��اذا مل يأتون ل��زي��اريت؟ لعلهم مشغولون حبل الوظائف.. لقد ُ اشتقت وسارت األي��ام ،وشفي اجلرح وآن أوان العودة إىل املدرسة ..بصراحة ُ السائر في الدرب 71
وهتيأت للذهاب لبست مالبسي إليها، ُ واشتقت إىل كل من فيها ..ويف الصباح ُ ُ
وانتظرت قلت يف نفسي سيستقبلونين بسعادة وسأحكي هلم حكاييت، ُ إليها ،و ُ فقلت هذه اللحظة ،وج��اءت معلمة الدين ..كانت متجهمة على غري عادهتاُ ، شعرت بسعادة كبرية يف نفسي ستسألين عن حكاييت وسأسردها هلا كلها ،وقد ُ وانتظرت السؤال ..ومل تسألين ..توجهت إيل دومنا ابتسام وقالت يل: ُ أين الوظيفة؟فقلت هلا: كنت غائبًا.. أي وظيفة؟ ُفاستشاطت غضبًا ..وأمسكت مبسطرهتا ..وأشاحت هبا يف وجهي ..وضربتين دومنا سؤال..
وهبطت سكين ٌة على املكان.. وجلست دومنا حراك.. فسقطت دمع ٌة من عيين ْ ُ
***
السائر في الدرب 72
موقف يف سوق ��ب إىل ال��س ِ رأيت ��وق ي��و ًم��ا ،وق��ال يل ،بينما أن��ا ه��ن��اكُ ، حدثين اح��ده��م ،ان��ه ذه َ عابسا يف زاوي�� ٍة من زوايا السوقُ ، حيث احلمري والبغال ومجوع الناس ،عجوز ً
ويسارا ،وكثريٌ من احلمري والبغال متجهما من احلياة ومح��اره خلفه ينظر ميينًا ً ً تقف خلف أصحاهبا ال تفعل س��وى أهن��ا تقف مشدوهة تنظر إىل امل���ارة وهم يروحون ويغدون مطأطئي الرؤوس ..كان العجوز واق ًفا حيك بيده قفاه ،يستمع يلوح بيديه يف الفضاء وكأنه يغرق ويطلب النجدة.. إىل صوت بائع اجلزر ،وهو ّ يصيح بال هوادة وصوته يرتفع يف وسط ضوضاء السوق:
جزر! جزر! تعالوا على اجلزر! يا بالش! بس بقروش بتعبيّ كرشك ..تسعدهنارك ..جزر! جزر! يا سالم ..تعال ذوق ببالش! هاي! أنت! نعم أنت ..يا بركه! اشرتِ ..تعال.. وكان يشري بإصبعه إىل ذاك العجوز ..عندما مسع العجوز هذا النداء ابتسم ورفع ٍ بصوت خافت: يده من قفاه وقام متج ًها إليه وقال له
-بكم الكيلو؟
فرد البائع بصوت غليظ: خليك م��ن السعر وت��ع��ال ذوق ..خ��ذ ه��ذه اجل���زرة ل���ك ..ح��ل��وة! خ��ذ! كلببالش! السائر في الدرب 73
فمد العجوز يده املرتعشة إىل اجلزرة وأخذها وهو يتمتم: شكرا ..اواه ..ممم ..حلوه ..طيبة ..ممم.. نعم ..نعمً ..وأكمل البائع يقول:
ها! يا بركه! ..يا ج��زر! يا ج��زر! تعالوا اش�تروا!! ببالش ..ها! أمأل لكهذا الكيس.. فتنحنح العجوز وقال: طيب ..طيب ..بس بكم الكيلو؟ بعشرة دراهم يا طيب ..فقط.. بعشرة دراهم! ايش! بعدين ..تأخرت سأشرتي بعدين ..تأخرت ..واختفىالعجوز.. هاي! أنت! أين ذهبت؟ يالك من وقح! يالك من لعني! ادفع حق ما أكلت!هاي! هاي! أين ذهبت أيها الشيطان؟! اللعنة لقد اختفى.. األجش خيتلط بصوت باعة اللحم يصرخ بائع اجلزر مرة أخرى ،وصوته وراح ّ ُ وال��س��م��ك واخل��ض��ار وال��ف��اك��ه��ة وال��ب��خ��ور ..ويف ال��س��وق ت��ف��وح خمتلف الروائح، فتختلط رائحة اللحم والسمك برائحة البخور والعطور وروائح العرق وازدحام الناس ،والكل يف حركة وجلبة ترى فيهم الفرح والتعيس والساخط والصبور والفائق والنائمٌ .. خليط من البشر ي��روح ويغدو ويسمع صهيل اخليول وهنيق احلمري وأزيز الزحام..
***
السائر في الدرب 74
آمنت باهلل العظيم كان الطقس شديد احلرارة والصخور تكاد تنفجر من شدة اجلفاف ،رغم اقرتاب الشمس من املغيب ..ويف جانب من وادي شاسع يلتوي بني هضاب الصحراء يقبع شيخ بدوي وزوجته يف خيمة صغرية ..ومع سكون الصحراء القاتل يسمع صدى صوت الشيخ وهو يكلم زوجته: -عايشة! عايشة! يا عايشة! أين أنت؟ ملاذا ال تردين؟ فرتد عليه زوجته بصوت أبح مكتوم صادر ال من حلقها بل من أعماق بطنها: -آه ..آه ..ايوه ..ماذا تريد؟ أال تنتظر بعض الوقت يا أبا عمر! أال تراين اغسل سروالك اللعني هذا ..ها! فاستطرد أبو عمر وهو يرتعش كاحملموم: -اتركي ما بيدك وت��ع��ايل ..احبثي معي عن املقص! اهلل يلعن الشيطان! اهلل يلعن الشيطان! لقد وضعته اليوم يف الصباح حتت الوسادة اللعينة ..أوف! اهلل يلعن إبليس! فدمدمت الزوجة وهي تنهض من مكاهنا تتمتم بصوت خافت وكأهنا تكلم نفسها: -يا لك من أمحق! لعني! ال أكسب من ورائك سوى اهلم والتعب ..ها هو! ها هو! مقصك املشئوم! أال ترى؟ فصمت أبو عمر مث تنحنح وحترك من مكانه وقال: -آه ..نعم ..ها هو املقص ..آمنت باهلل العظيم ..آمنت باهلل العظيم.. وغابت الشمس ،واكتست الصحراء بلون السواد ،وسكن الكون وهدأت الصخور وسكنت الطيور ورقد أبو عمر وزوجته عائشة حتت حلافهما يف خيمتهما ينتظران بزوغ الفجر..
***
السائر في الدرب 75
سويلم ساعة الظهر ..يوم شديد اجلفاف ،وسويلم جيلس وبني أنامله املتجعدة اخلشنة حبل طويل جيدله بقوة والعرق يندس من جبينه ،وعيناه حممرتان من شدة احلرارة وفوق رأسه منديل كان ابيض اللون ..سويلم ،هو رجل يف الستني من عمره، شديد النشاط ،يعمل بكد وحيتمل ما ال حيتمله ال��رج��ال ال��ش��داد ..ال ميلك يف هذا الكون سوى زوجته فضية ومحاره “عنرت” وبعض الدجاجات ،ومل ينجب أطفاالً ،وكان ذا وجه عبوس شديد البؤس ،قليل االبتسام ..جيمع احلطب ويبيعه يف ال��س��وق ،حيمله على ظهر مح���اره “ع��ن�تر” ويبيعه ويقبض مث��نً��ا خب ً��س��ا دراهم م��ع��دودة ..فضية زوجته يف اخلامسة واخلمسني من عمرها ،وهي عجوز صعبة امل���راس قليلة االب��ت��س��ام ك��ث�يرة التجاعيد يف وج��ه��ه��ا ..ال تسكن إال إذا سكنت الشمس ،كثرية احلركة ،تغسل وتكنس وتطبخ وتشعل النار ..وتنتظر زوجها كل مساء ليحضر ومعه ما كسب من مال قليل فينفقونه على أكلهم ..هكذا هي حياهتم ال حتيد عن هذا املسار ،منذ أكثر من ثالثة عقود ..يقطنون يف الوادي النائي هذا ،الذي يبعد عن اي جتمع بشري أكثر من عدة أميال.. انتهى سويلم من جدل حبله وربط احلمار وأوثق رباطه ،وقال لزوجته بصوت خافت: أصبحت -ادعي يل يا مستورة ..عسى اهلل أن يرزقين رزقاً طيبًا مبارك فيه ..لقد ْ احلال صعبة ..ال تطاق..
السائر في الدرب 76
فتأوهت فضية: -ال تقلق ..توكل على اهلل.. فتمتم سويلم: -يا شديد! يا قوي! اهلل والنيب واصحابه.. وس��ار متجها إىل القرية ..ورأس��ه بني كتفيه وقد بانت احنناءة ظهره وخطواته املائلة ..وكانت فضية تنظر إليه ويف مقلتيها املرتهلتني جتمع دمع كثري..
***
السائر في الدرب 77
وظيفة احلساب ُ أهرول يف كنت حينها يف الثامنة من عمري وكنت اذهب إىل املدرسة مع أقراين.. ساعات الصبح الباكرة أسابق الفراشة اجلميلة ..كانت الفراشة ترفرف جبناحيها من حويل حرة طليقة ..سعيدة كل السعادة ..فهي مل تذهب يف حياهتا إىل املدرسة ومل تكن جتلس الساعات الطوال حلل الوظائف البيتيه ...وليس هلا معلم يعاقبها، إن هي مل حتل الوظيفة ..ال اح��د يقول هلا افعلي ه��ذا أو ذاك ،بل هلا أن تفعل ما تشاء ..مث نفرتق واذهب يف سبيلي ،وأصل إىل املدرسة فادخل الصف ويبدأ ��رس معلنًا هناية الدرس ال��درس األول فالثاين فالثالث وهكذا ..وما أن يدق اجل ُ ��رح��ا ..وك��ان قليب يرقص متهللاً وتعلو وجهي االشراقة.. أط�ير ف ً األخ�ير ،حىت ُ وعندما أصل إىل البيت ،كانت أمي تتلقاين بصوهتا احل��ازم ..الوظائف البيتيه.. اللعنة على الوظائف البيتيه! فلتخطف الشياطني كل الوظائف البيتيه! اذكر ذلك معلم احلساب وظيفة بيتيه طويلة ومعقدة ..بصراحة مل اليوم الذي أعطاين فيه ُ هو يفهمها ..ولكن ال مفر ..إىل معلم احلساب املستقر.. افهمها وال ادري كيف َ مربحا ..أو على األقل يصرخ فيه صرخة ختلخل من ال حيل الوظيفة يضربه ضربًا ً
وكنت أداوم على حل الوظائف كلها ..كيف كنت أخاف منه كثريًا ُ العظمُ .. ال وأنا أراه كل يوم يسخط من ال حيل ..ويف ذلك اليوم أخذت كتاب احلساب وتوجهت إىل أيب علّه ينجدين من هذه الورطة ..فتمعن أيب يف الكتاب مث نظر مث السائر في الدرب 78
عرفت انه عبس وبسر ..وتغري لون وجهه وتنحنح مث حترك من مكانه مرتنيُ ..
جيد صعوبة بالغة يف فهم املسألة ..فقال يل وهو حيرك حاجبيه:
-م��ا ه��ذا ال��ك��ت��اب؟ كيف تتعلمون ه��ذه األش��ي��اء؟ أن��ا ال اف��ه��م شيئًا منه على
اإلطالق..
مث أعطاين إياه وقال: اذهب إىل أمك ستشرح لك املسألة أفضل مين..ومنت من فعرفت حينها أين لن أجد حلاً ..ومل استطع حل الوظيفة املعقدةُ ..
وحلمت يف ليلتها خائ ًفا مرتع ًدا م��ن ذل��ك املعلم ..غ��داً سيسخطين ال حم���ال.. ُ ��ض خلفي ���ض يف وا ٍد طويل وملتوي وك��ان معلم احل��س��اب ي��رك ُ نومي أين ارك ُ ويف يده عصاة غليظة يلوح هب��ا ..والغريب يف األم��ر انه كان على ص��ورة محار أفقت من ضخم ..له أذنان طويلتان وانف مدبب ..كاد أن يفتك يب لوال أين ُ
ودخلت الصف ال اكلم أح ًدا ..كل ما جيول يف وذهبت إىل املدرسة.. نومي.. ُ ُ معلم خاطري تلك الوظيفة البيتيه اليت مل أحلها ..فانا اليوم هالك ال حمال! ودخل ُ احلساب ..ذلك املعلم الضخم ذو الفكني الكبريين ..عيناه جاحظتان وانفه طويل معقوف وكرشه م��دلاّ ة ف��وق ح��زام��ه ..دخ��ل إىل الصف وص��وت هدير أنفاسه يسمع من بعيد ..جلس على الكرسي واخذ ينظر يف يوميات الصف ..مث عطس فتطاير رذاذ عطاسه يف أرجاء الغرفة ..ومسح بكم قميصه ما تتطاير على شفتيه من سوائل ..ونظر إلينا وتنحنح وقال: توكلت على اهلل! وقام من مكانه بعنف واستطرد ..الوظيفة! تفتيش! يا اهلل!ُ
وانتظرت مصريي احملتوم ..وبينما أنا على فارتعدت حينها ..وأصابين الذهول ُ ُ
السائر في الدرب 79
احبس أنفاسي بصعوبة ..وإذا مبدير املدرسة ُ يدخل إىل الصف دون هذه احلال ُ
مبتسما وبرفقة شخص آخرُ .. حيمل حقيبة سوداء كبرية ..صامتًا استئذان ..كان ً ال يتكلم ..قال املدير بصوت هادئ: السالم عليكم يا شطار!فرددنا عليه بصوت واحد: وعليكم السالم ورمحة اهلل وبركاته!متسم ًرا دون ح���راك وق��د ارتسمت على شفتيه مث نظر إىل املعلم ال���ذي وق��ف ّ املنتفختني ابتسامة صفراء.. فأكمل املدير: أقدم لكم املفتش ..سوف حيضر عندكم الدرس..مث عاود ينظر إىل املعلم وكأنه يقول له: ال حول وال قوة إال باهلل..وج��ل��س امل��ف��ت��ش يف ال��ص��ف وذه���ب امل���دي���ر ..وتنحنح م��ع��ل ُ��م احل��س��اب ودب فيه النشاط ..وبكلمات ميلؤها اللطف واحلنان قال لنا:
واآلن يا شطار! تعالوا بنا نتعلم درس القسمة على اثنني..مبتسما واملرح ميأل روحه ..والغريب يف األمر وراح يشرح الدرس وهو سعي ًدا ً أننا تعلمنا ه��ذا ال��درس قبل ي��وم�ين ..ه��ذا ال يهم! ما يهمين أن��ه لن يفتش على
الوظيفة ..وامل��ه��م أين جن��وت واحل��م��د هلل ..احلمد هلل ال��ذي استجاب لدعائي.. وأخذت ارد ُد مع الصف ما يقوله معلم احلساب.. وعادت ابتساميت ُ
***
السائر في الدرب 80
اللحظات املهمة أدهشين أن امسع هذه املقولة“:كثريٌ هم السائرون على الدرب ،ولكن قلي ٌل هم
آثارهم عليها” ..ترى! ما هي اللحظات املؤثرة يف حياتنا؟ واليت قد ال التاركون َ
نلقي هلا بالاً ...هل هذه اللحظات موجودة فعلاً ؟
لكل منا حلظات مجيلة ..حلظات م��ؤث��رة ..حلظات من السعادة ..وأحياناً نعم ٍ ��ت ق��ص��ة مجيلة ت��ك��ون حل��ظ��ات م��ن احل����زن ..تبقى خ��ال��دة يف ذاك��رت��ن��ا ..ل��ق��د مس��ع ُ
تتحدث عن تلك اللحظات اليت منر هبا دون أن نتمعن فيها ..واليت قد يكون هلا اثر كبري يف شخصيتنا وحياتنا ..ها كم هذه القصة: حيكى أن اح��د اجل��وال��ة ك��ان يسري يف دول���ة م��ا م��ن دول ال��ع��امل ..وك���ان يتمتع مبشاهدة الطبيعة اخلالقة ،والشوارع الواسعة والبنايات املرتفعة ..وبينما هو على ه��ذه احل��ال��ة وص��ل إىل منقطة غ��ري��ب��ة ..مقربة ك��ب�يرة ..قبورها بيضاء وأسوارها خضراء ..يا اهلي! انه مشهد مجيل رغم احلزن الذي يكتنف املكان ..الغريب يف األمر أهنا مقربة أطفال ..كل القبور مكتوب عليها أعمار قصرية ج��داً ..مخس أعوام ..ثالث أعوام ..عام ..أشهر ..أيام ..أمر غريب! كثريٌ هم األطفال الذين ميوتون يف ه��ذه القرية ..وس��ار اجل��وال يف أرج��اء املنطقة ..مث رأى مشهدا آخر شديد الغرابة ..الناس يف هذه القرية حيملون يف أعناقهم دفاتر صغرية ..وكانوا يقفون بني احلني واآلخر ليدونوا شيء ما يف هذه الدفاتر ..هكذا كانت أحواهلم السائر في الدرب 81
مجيعا ..واستمر اجلوال يسري ويسري وهو مندهش مما يراه ،حىت وصل إىل مقهى ً صغري فجلس لريتاح ..ورآه صاحب املقهى وعلم ما به من دهشة ..فتوجه إليه
وسأله عن حاله ..فأجاب اجلوال: لقد أدهشتين هذه املنطقة ..مقربهتا مليئة باألطفال الصغار ..ال ادري ملاذاميوت الناس يف هذا املكان صغار؟ وما يدهشين أيضا تلك الدفاتر املعلقة يف أعناق الناس ..ماذا يدونون فيها؟ ..فابتسم صاحب املقهى وقال: ام��ا بالنسبة للدفاتر ،فتلك دفاتر ن��دون فيها اللحظات اهلامة يف حياتنا..كلما مرت بنا حلظة مهمة ندوهنا ..وهكذا حىت إذا ما مات الشخص ..مجعنا اللحظات اهلامة اليت دوهنا يف دفرته ..فكانت سنوات أو أشهر أو ساعات ..ألننا نعتقد أن عمر اإلنسان يقاس بلحظاته اهلامة واليت أثرت يف نفسه ويف غريه ويف حياته ..فابتسم اجلوال وطأطأ رأسه يفكر.. نعم ..هذه القصة معربة ومجيلة ..تُرى هل منلك حنن تلك الدفاتر؟
***
السائر في الدرب 82
الدرويش والناس نيام ..جنو ٌم تودع السماء وظلم ٌة دامسة كأهنا يف ساعات الليل املتأخرة ُ ضباب كثيف هبط على الطرقات واألزق���ة ..وبيت سرمدية حتيط باملكان.. ٌ يكتنفه ال��ظ�لام م��ن ك��ل ص��وب يسطع م��ن��ه ض��وء خ��اف��ت يعكس ظ��ل امرأتني جتلسان حوله ..ظلاّ يرجتف مع ارجتاف الضوء ..ومن بعيد يسمع يف الفضاء ال��واس��ع ص��دى ص��وت إح��داه��ن تشكو ل�لأخ��رى وت��ب��وح هب��م��ه��ا ..ص��دى ميأله احلزن واألسى: وفعلت حبثت عن كل ش��يء ُ م��اذا افعل؟ م��اذا عساين أن افعل؟ ت��رى! لقد ُوجترعت كل ما وصفوه يل من م ٍر شربت كل أصناف األدوي��ة كل ش��يء.. ُ ُ وعلق ٍم ..ولكين عبثًا ح��اول��ت ..مل ينفع ش��يء ..ال ح��ول وال ق��وة إال باهلل.. ماذا افعل؟ فريتد إليها صدى صوت آخر خافت ومتواين: ال تيأسي ..ال حياة مع اليأس ..ال بد من العالج ..لكل داء دواء ..أنتلست األوىل ولست األخرية يف هذا العامل ..نساء كثريات مل ينجنب فرزقهن اهلل يف آخر املطاف ..اهلل أعطاهن ..اهلل هو الذي يرزق.. نعم صحيح ..صدقت ..اهلل هو الرزاق..وحلظة من الصمت الرهيب تكتنف املكان ..يصمت الكون حلظة ..مث يعود السائر في الدرب 83
صدى الصوت: نفعا ..مل اترك دواء إال وشربته ..يا رب ولكين فعلت كل شيء ومل جيدي ًصربين ..ماذا عساي أن افعل.. قلت لك ال تيأسي ..لقد مسعت أن امرأة مل تنجب أكثر من عشرين سنة..مث رزقها اهلل بعد ذلك بذرية كثرية.. يا سبحان اهلل ..ولكن كيف هذا؟ هل تعرفني كيف؟طبعا ك��ل ش��يء ب����إرادة اهلل ..ي��ق��ول��ون أن ه��ن��اك رج��ل صاحل نعم اع����رفً ..ذهبت إليه تلك امل��رأة فأعطاها ورقة كتب عليها ادعيه وأشياء ..مث وم�بروكْ .. اغتسلت مبائها ..فأجنبت.. سبحان اهلل ..معقول! ولكن! يعين هذا درويش! بس الدراويش! حرام! كفرواهلل اعلم.. كيف حرام؟ ليس حرام ..أب ًدا ..أي حرام.. معقول مش حرام! احلرام حرام واحلالل حالل.. يعين ..صحيح هنالك الصاحلون املباركون ..آه ..ملا ال أجرب؟ يف النهاية كلهبيد اهلل ..ال بد يل أن أجرب ..أتعرفني أين يسكن؟ غ ًدا سأعرف وسنذهب سويًا ..قويل إنشاء اهلل.. إنشاء اهلل..الصمت مرة أخ��رىُ .. وهتبط السكين ُة على املكان ..ويبقى ذلك الضوء ويعود ُ ينبعث بعيد..
***
السائر في الدرب 84
يا له من حنس! اشعث جويعد يف اخلمسني من عمره ،طوي ٌل وحنيف ،وقد بانت احننائته ..شعره ٌ توزعت يف احناء وجهه دومنا انتظام ..يسري وخلفه متطاير كأنه يف ع��راك ..وحليته ْ ٌ مح��اره خبطوات سريعة وق��د ب��دت مس��ات الرضا على وجهه وه��و يتمتم بصوت خافت ..احلمد هلل ..احلمد هلل ..ها هو الباب يفتح من جديد ..سيكون رزقًا طيبًا إن شاء اهلل ..فهذا الرجل غين بال ريب ..نعم ،انظر إىل سرواله وحذائه إهنما جديدان ..انظر إىل ذلك الربَّاط ..ربَّ��اط حذائه اجلميل ،انه من النوع األصيل الغايل ..انه رجل من علية القوم دون شك ..تفوح منه رائحة مجيلة وشعره يلمع من الدهون الثمينة اليت يضعها عليه ..ال بد انه ميتلك املال الكثري وسيعطيين اجري كاملاً ..احلمد هلل ..احلمد هلل ..لقد استجاب اهلل دعائك يا صبحة ..صحيح إهنا امرأة طيبة ..وكيف ال وقد استجاب اهلل دعائها ..اهلل جيازيك باخلري يا صبحة.. اذكر حني تزوجتها مل أكن امتلك إال القليل ..كنت اعمل ح��دا ًدا لدى احلاج حرب ..ذلك الرجل اللعني! أذاقين الكثري من العذاب وكان خبيلاً ..يعطيين خبس دراهم معدودة ..أتذكر جي ًدا حينما طلبته املزيد من القروش ..يا له من لعني! لكنه مات رمحه اهلل ..ال جيوز عليه سوى الرمحة ..عندما تزوجت من صبحة تلك املرأة البيضاء اجلميلة احلسنة ..صحيح أهنا اليوم مل تعد كذلك وقد افسد الدهر مالحمها ..إال أهنا ما زالت طيبة ..منذ تزوجتها وجدت عملاً آخر وكسبت مالاً واشرتيت محاري الذي أمسيته “نبيه” ..يساعدين يف عملي ويف حيايت ..وها هو اهلل يستجيب لدعاء صبحة ويرزقين بابن احلالل هذا ..وبينما كان جويعد يعيش السائر في الدرب 85
يف أحالمه وهو شارد الذهن وإذ بالرجل يهتف به: أنت! أيها الرجل! انتبه إىل الطريق! انظر إىل الشوالني! امحلهما إىل بييت ..هيابسرعة! لنصل قبل الغروب.. ابتسم جويعد وحترك بسرعة ليحمل الشوالني ...وكان يتمتم: إن شاء اهلل ...يا قوي ..آمنت باهلل العظيم..ومحل الشوالني على ظهر محاره “نبيه” وسار الرجل األنيق وخلفه جويعد يقود محاره وراءه ..وكان الرجل يكلم نفسه ويقول: آه ..جيب أن أصل قبل الغروب ..ترى هل ستصدقين؟ هل ستغضب مين؟ترى! ووصل جويعد ومحاره إىل العنوان ..وكان بيت وسط سرب من البيوت اجلميلة.. بيت فخم كبري من احلجر األبيض ..اقرتب الرجل األنيق من البيت وقد بدت عليه مالمح القلق ..دق الباب بقبضة مرتعشة ثالث مرات ..ومن أعماق البيت رد صوت أجش: من الطارق؟ من بالباب؟متنحنحا: فرد الرجل ً أنا ..هذا أنا ..لقد أتيت..صمت عميق ..وفجأة سمُ ع أزُي��ز الباب.. ونزلت السكينة على املكان ..وخيم ٌ تراجع الرجل خطوتني إىل الوراء ..وجويعد ومحاره واقفان ال يدريان ما حيدث.. وفتح الباب وإذ به ام��رأة غريبة الشكل ،قصرية الطول عريضة وبدينة ،حتملق بعينيها البارزتني حنو الرجل وكأهنا رأت شيطانًا يقف أمامها ..وبعد دقيقة من السائر في الدرب 86
الصمت صاحت بصوهتا األجش: أنت مرة أخرى! أيها الشيطان! ملاذا أتيت؟! امل أطردك من البيت؟! امل اقلأين ال أريد أن أراك! ها! فرد الرجل األنيق وهو يرتعش: عزيزيت! ماذا دهاك؟! أنت زوجيت وأم عيايل!فصاحت املرأة بسخط: ال أريد أن أراك! اغرب عن وجهي أيها احلقري! انصرف فاين اشعر بالدوارحينما أراك ..هيا أيها الشيطان ..تفوووه! وأوصدت الباب بقوة ..طراخ!! ووق��ف ال��رج��ل األن��ي��ق بصمت ش��دي��د ..وك��ان جويعد ومح���اره ينظران إىل هذا املشهد الغريب دون ح��راك ..وطأطأ الرجل رأسه وانكمش مث نظر إىل جويعد ويف عينيه نظرة باكية ..ومل ينبس ببنت شفه وبقي صامتًا لبعض الوقت مث قال بصوت يكاد ال يسمع: أنا آسف..فتنحنح جويعد وحترك من مكانه وقد بدا عليه احلرج وقال: هئ..هئ ..ال عليك! ال عليك! هذه األم��ور حتدث كثريًا ..ستتغري األحوالإن ش��اء اهلل ..ال عليك! مث رب��ت على ظهر مح��اره وأك��م��ل ..حت��دث يف أحسن العائالت ..مث اقرتب الرجل األنيق من جويعد وقال له: يف احلقيقة أنا ال املك نقو ًدا ..وقد كنت انوي أن اخذ من زوجيت ألعطيك..فوقعت هذه الكلمات على جويعد كالصاعقة ..لقد أهندم رأيت ما حدث.. ْ وقد َ احللم ..لقد متلص الرجل األنيق منه ولن يدفع األجرة.. يا له من حنس!
***
السائر في الدرب 87
سداد دين طراد يف الثالثني من عمره ..تاجر يف سوق اخلضراوات ..وصل إىل احد البيوت اجلميلة يف البلدة الكبرية وطرق الباب: دق ..دق ..دق..فلم يرد احد ..فجلس ينتظر وقد جالت األفكار يف رأسه: ق��د يكون نائما أو لعلّه ليس م��وج��ود ..سأنتظر نعم سأنتظر ..لقد أتيتباكرا ..قبل الوقت ..اللعنة علّي! دائما أصل قبل الوقت ..سوف اجلس.. ً وجلس طراد بقرب الباب ومر الوقت ودارت الساعة وعلت الشمس يف كبد منتظرا ..ارتفعت حرارة الشمس وغارت عينا طراد يف رأسه السماء ..وما زال ً وانكمش جسده وازدادت مالمح اليأس على وجنته ..وق��ام من مقامه وطرق الباب مرة أخرى: دق ..دق..دق..فلم جيب احد ..مث نادى بصوت مييل إىل البكاء: يا حاج! يا حاج! لقد أتيت كما وعدتين ..يا حاج!فلم جيب احد ..ومل يسمع سوى صدى صوته يدوي بني األزقة والبيوت ..مث اطرق قليلاً وارختى جسده والتفت حوله فلم ير احد ..واخذ يكلم نفسه: ال حول وال قوة إال باهلل ..لقد وعدين اليوم ..أيكون نصاباً!؟ حمتاالً!؟ معقول!أقسمت أن ال أداي��ن احد أعود كيف ه��ذا!؟ موعدي معه اليوم ..اللعنة! كلما ُ السائر في الدرب 88
وافعل ..خلص! هذه آخر مرة ..اقسم أين لن أداين احد قط ..وهبط الصمت على املكان للحظة ..وفجأة سمُ ع اهتزاز الباب وهو يُفتح ..فانتفض طراد ملتفتًا إليه ..وإذ بالباب ام��رأة ضخمة ج��داً ..مسينة ج ًدا وعريضة ..شعرها منفوش.. وازي��ز انفاسها مرتفع ..كانت تفرك عينها احلمراء كاجلمر ..وحت��ك رأسها وتنظر إليه بتمعن ..وقالت بصوت فظ ومسج: من أنت؟فتنحنح طراد وبلع ريقه مرتني ..وأجاب: أنا ..احم ..أنا ..يف السوق..هناك ..اخلضراوات ..أريد احلاج حممود..فردت املرأة بعنف وهي حتك انفها: احلاج حممود! ..مممم ..ال يوجد هنا حجاج ..اهلل ييسر لك! وطرقت الباببعنف ..طرااخ! ووقف طراد مشدوهاً ..مصعوقاً ..لو رأيته لظننته متثال..
***
السائر في الدرب 89
حكاية من الشارع كان الليل قد ُجن وادهل��م الظالم وهبطت السكينة على املكان وه��دوء غريب غطى مالمح احل���ي ..ومل تعد صيحات النساء تُسمع وال قهقهات الرجال.. وعلت اصوات الصراصري البعيدة ..وكان الطقس شديد احل��رارة ..يوم من ايام الصيف يف ب�لادي ،وكانت الساعة قد اقرتبت من منتصف الليل وكنا جنلس حتت عامود الضوء يف حاريت ..وقليلاً ما نتأخر اىل هذا الوقت ..اعمارنا كانت متفرقة ،كنا ستة او سبعة ..وك��ان كبرينا جيلس يف وسطنا وحنن حنيطه بأعيننا فرارا ومللئت منا وأفواهنا الشاغرة وأبصارنا الشاخصة ،لو اطلعت علينا لوليت منا ً
رعبًا ،نستمع حلكاياته املخيفة ،كان حيكي لنا قصصاً عن االشباح واألموات..
يلوح بيديه وه��و ي��روي لنا تلك ال�تي تفيق يف الليل وتسري يف احل���ارات ،وك��ان ّ
متطاير يف كل اجتاه وعيناه جاحظتان براقتان ،وكان يبدو اشعث القصة وشعره ٌ ٌ
كالشياطني ،او لعله الشيطان نفسه وال نعلم ..كانت اعيننا معلقة بيديه النحيفتني ننكمش يفصل لنا اش��ك��ال االم�����وات ..وحن��ن ُ ال�تي تشري اىل ك��ل ص���وب ،وه��و ّ
وننكمش كلما حت��رك وأش��ار بيديه ..وك��ان شكله وانفه املعقوف خييل لنا يف
ال��ظ�لام كأنه ساحر او عفريت ..وك��ان يوصينا ب��ان ال نسب األم���وات ،ألهنم سببت سيقومون يف ساعات الليل املتاخره وسيجروننا من ارجلنا ..وال اذكر اين ُ تسمرنا يف مكاننا وجتمدت ابصارنا وشغرت افواهنا ميتًا منذ ذاك اليوم ..كنا قد ّ وسال لعابنا ،وهو ما يزال يردد كلماته اليت حبست انفاسنا ورجت اعماقنا..
السائر في الدرب 90
ومل��ا انتهى من كالمه ،ق��ام ورك��ض اىل بيته القريب ..وقمنا وه��رول اجلميع.. وختيلت ارتعدت اوصايل واقشعر بدين خوفًا وكان بييت يف هناية الشارع ،وقد ْ ُ وقلت يف اعمدة الشارع عفاريت ،وأشجاره شياطني ..تلفين من كل جانبُ ،
وهربت مسر ًعا اىل لساقي فأغمضت عيين هلكت ال حمال.. ُ ُ ُ نفسي ُ وأطلقت العنان ّ
ودخلت البيت فسألين أيب اين وصلت ساملًا.. بييت ..ال اعلم حىت يومي هذا كيف ُ ُ وذهبت انطق حبرف كنت؟ ملاذا مل تنم اىل االن؟ لونك اصفر كالعفاريت ..فلم ُ ُ اىل فراشي صامتًا ألنام..
***
السائر في الدرب 91
املعلم وديك احلبش يلوح بيديه الغليظتني واصابعه املدببة املكسوة بالشعر الكثيف وجبينه املعلم ُ كان ُ املنكمش يندس عرقًا ،وصوته االجش يرج املكان ،وقد انتفخت اوداجه وامحر فتذكرت حينها جرياين وديك احلبش الذي كان انفه وانغمرت عيناه يف وجنته، ُ
يقف مكان يزغرد يف الليل والنهار وهو جيول يف باحة بيتهم الواسعة ،وختيلته ُ ننظر اىل عرفه االمح��ر املتديل بتفحص واهتمام ..ال املعلم ويزغرد امامنا وحن��ن ُ اذكر حينها عن اي شيء كان يتكلم ،اال ان صوته اثار اهتمامي وذلك الصفري الذي خيرج منه ال اعلم من اين ..كان اهلدوء يغطي املكان وال يسمع لنا حركة، واملعلم ال يزال ينشد سيمفونيته العجيبه ،وال يزال ذلك الصفري يلحن حلنه الرتيب، وكانت احلروف تتناثر من فمه وختتلط برذاذ لعابه الذي ميأل املكان وبني الفينة امحرارا ويزداد والفينة ،كان ميسح انفه بقوة وكأنه يريد اقتالعه من مكانه فيزداد ً
اقرتابًا من ذلك الديك الذي ال تزال زغاريده ترن يف اذين حىت يومي هذا..
***
السائر في الدرب 92
عندما يهرب العقل اجلس يف غرفيت اكتب كلمات: الشمس تنحين حنو املغيب تطرُز ص��ورة كئيبةُ .. “عرب ميدان السوق حيث تتكدس اكوام الزبالة وبقايا اخلضار واالوراق املتناثرة يف كل صوب ..وقد لف الظالم حنايا السوق والقمر الشاحب تعاىل يف السماء املنيعة املظلمة ..سكو ٌن يطبق على كل الطرقات ..وما هي اال خطوات املارة تسمع من تبث بعض املصابيح ضيائها على البيوت ..وقد هبت ريح حني الخر ،ومن بعيد ُ خفيفة من ص��وب الشمالٌ .. خليط بشري اكتست مالحمهم بالبؤس والشقاء.. مطر يشطف صمت مريب وسكوت عميق متزقه هلثات امل��ارة وهدير االن��ف��اسٌ .. الطريق ويشطف العالقات الذكريات من زمن تآكلت فيه الساعات واللحظات.. رياح ُ وتبعث الزغاريد وأهازيج عتيقة ..واطفال يلهثون وراء تعزف يف االفق البعيد ُ الفراشات يف احل��ق��ول ،”..مث افيق من كلمايت ،وآوي اىل ف��راش��ي ..ورذاذ املطر يقرع شباكي الصغري ،فأنام ملئ جفوين على حلن القطرات ..فيعلو ذلك الوجه اجلميل وتلك االبتسامة ..فيختلط دفء املكان مع دفء االنفاس وتغمر املكان احاسيس تربك املكان والزمان فتهرب العقول وتبحث عن مكان آم��ن ..فيشتد املطر ويشطف الطريق وخطى السائرين على الطريق وال يعبأ مبالمح الزمان..
*** السائر في الدرب 93
موقف انساني جلس رج ٌل بدين ذو كرش كبرية وقامة قصرية ،خلف طاولة قدمية مصنوعة من اخلشب العتيق ،وكان يقلب كوم من امللفات القدمية اليت تكدست امامه ،وبني الفينة والفينة يسمع سعاله وهو يدوي يف ارجاء الغرفة وميأل الطاولة وامللفات برذاذ لعابه ..وعلى زاوية الطاولة الفتة مكتوب عليها خبط غري واضح “شرطي” ،كان لسانه يتمتم بكلمات ال يفهم معناها س��واه ..ويقلب بأنامله الغليظة امللفات.. ودوت سعلة قوية ،ارجتت هلا اجل��دران وتناثر اللعاب يف كل مكان ..مث التفت بنظراته الذابلة اىل رجل كان يقف امامه ..امسه جدوع ..رجل حنيف وقصري.. وق��د تدلت شفته السفلى وغ��ارت عينيه يف رأس��ه وجتعدت سحنته وب��دى عليه التعب واإلرهاق ..وتوجه احملقق البدين اليه يكلمه بصوت خيرج من احشائه ال من فمه: امسع يا هذا! رغم انك تشبه الشياطني! وشكلك كامليت احلي! إال انك التبدو مثل اللصوص ،فانا اشم رائحة اللصوص من بني ماليني الناس ،اما انت فرائحتك كريهة! عليك اللعنة ! وهبطت السكينة على املكان مرة اخرى ..فقطع السكون سعال الشرطي ..وهو يقول: هيا اخ��رج م��ن ام��ام��ي! بسرعة! قبل ان اغ�ير رأي���ي ..ايها العفريت! عليكاللعنه ..تفوو! واختفى جدوع..
***
السائر في الدرب 94
عرب احلدود اختفي ايتها احلدود! اقرتيب ايتها البلدان! كوين كما تشائني ،كوين هواء او ذهب او رصاص ..كما حيلو لك ..ولكن اغريب عين ،فاين ال احب ان ار ِ اك ..ودعي االرواح تلتقي وتتهامس ،دعيها تتجول يف شوارعك الواسعة مىت شاءت ..بدون صور او اشكال ..فال يستوقفها احد ،وال يسأهلا احد ..من اين انت؟ ومن اين اتيت؟ واي وثيقة سفر حتملني؟ اقرتيب ايتها البلدان وتعانقي ..ضميين بينك ..وخلي بيين وبني تلك الروح ،اليت جتلس هناك متوشحة ثوهبا االسود الطويل وغطاء راسها ..ذريين والفالة وحدي ،اقابل ذرات الرمل واواجه لفحات الشمس ..اختفي ايتها احلدود.. وح�ت�ى ل��و مل خت��ت��ف��ي! س��اخت��ط��اك بقليب وروح����ي ،س��اج��ت��ازك رغ���م ع��ن��ك! واس�ي�ر يف شوارعك ،ارقب املارة وكل احلاملني ..وتلك النسمة اخلليجية متشي على استحياء.. يف الشارع الطويل ،وقد اكتحلت عيناها سواد الليل ..وشعرها الليلي يسافر يف كل مكان ..اختفي ايتها احلدود! واقرتيب ايتها البلدان! حىت وان كان يف اخليال..
*** السائر في الدرب 95
جنون كلمات يف ساعات الغروب اجلميلة ،والشمس تفارق السماء بعد عناق طويل والنسمات لتكون كلمات تداوي العليلة تداعب املكان ،تداعت املعاين واشرأبت احلروف ّ هبا الروح وترحل بالنفس إىل حيث األفق البعيد ،حيث الفراشات وتناغم الورود، حيث األهازيج العتيقة اليت تنفرد فيها الروح وهتدأ فيها النفس وتطمئن فيها السرائر، كلمات ال تعرف للحدود معىن ،ومل تعرتف يوما بالقوانني ..كلمات طرزت قصة بديعة ،ليست إال يف اخليال ..يف تلك اللحظات كان لقاء الكلمات صدفة ومل يكن للعقل فيه دور ،التقت املشاعر دون ميعاد ودون التقاء العيون ،سارت ومتادت وأطلقت لنفسها العنان لتعيش يف حلم مجيل ويف عامل آخر ،خيلو من كل اهلواجس والتخبطات وتلك العراقيل ..اقتطعت من الزمان برهة وجيزة وسافرت هبا إىل اخليال.. إىل الالمعقول ..أبت املشاعر أن تتوقف فانسابت كانسياب املاء ،مل تعطي العقل فرصة ليضع املوانع واحلواجز ..مل تعطه الفرصة أن خيتار ..كان صوت املشاعر أقوى من كل شيء ..أقوى من الواقع ..فالتقت الكلمات واهلمسات دون ميعاد ومتادت إىل حيث الالحدود ..وختطت كل القواعد وحذفت كل العقول ..كانت أمجل كلمات ..ما أروع تلك اهلمسات يف ساعات الليل الطويل والناس نيام ..مهسات السائر في الدرب 96
متحو اجلاذبية فنطري فوق السحاب ونلمس الغمام ،وتلك الغيوم البيض ..ونستنشق هواءها العليل ونسمات الفجر األصيل حيث تنعدم املوانع وتتالشى احملذورات.. مهس كلمات متتزجها االبتسامات وتعلو أنشودة العشق ..ونضحك ضحك طفلني معاً ..كم كانت صادقة تلك االبتسامات اليت مل تلتق ..ومل تلتق العيون ..تدفقت رغم كل القيود ..صورة رائعة شكلتها أمجل املعاين والكلمات ..جنون كلمات ..
***
السائر في الدرب 97
غزل حلظات عابرةٌ من الغزل ..مينع فيها قول احلقيقة ومتنع فيها القلوب من التناغي.. ٌ تُقهر فيها الكلمات وتحُ بط فيها العواطف وتحُ جز املشاعر وتُكبل باألوصاد ..حلظات من الغزل اجلميل متألها الكلمات ..فنطري فيها فوق السحاب وحنلم والنجوم سواء، فال تلتقي العيون وال تتقابل األجساد ،غزل ممنوع ،مينع فيه أن ختفق القلوب وان حتن األكباد ..تعتصر الروح من الروح وخيتلط اآلن واملكان ،وتتبعثر املشاعر يف كل مكان وتتخبط األنفاس ويتوقف القلب ..تنخفض الزفرات ويهمد اجلسد.. وختتفي النجوم مع اختفاء املشاعر اجلميلة وهنبط من فوق السحاب ونتمرغ يف الرتاب ..غزل حرام ..غزل ممنوع ..فنفيق مع الصباح الباكر ..وذلك الندى الذي ميأل املكان..
***
السائر في الدرب 98
غريب شأنك! اختلس فيها احلديث اىل نفسي ..اسرتُد فيها طفل الذكرى ما اكثر اللحظات اليت ُ
ال��ذي ودع�ني حيث كنت ه��ن��اك ،وتلك العينني احلزينتني ال�تي طاملا تعلق ناظري اسافر حيث الذكريات املتباعدة هبما ..ما اكثر الليايل اليت ُ سافرت فيها مع نفسيُ ..
حيتضن التائهني ..السائلني.. يوم بيوم ،وما امجل الليل الذي ُ
ايها الطفل الساكن حيث هناك! اجبين على ما خيتلج يف نفسي ،وَدع السحاب ارغب الراكد فيك ينبعث مطراً يروي حرييت ..حنني كالصلصلة يف كنف الظالمُ .. يف ان ام��زق الثوب القدمي ،وان اه��دم البيت القدمي ،وانبعث فجراً جديداً وقلب متمرد ،يعشق الشموخ وي��رف��ض ال��س��ب��ات ..ص��وت ن��اي ح��زي��ن ،يغين العاشقون ويرقص احلاملون ،اغنية املاضي املمتد اىل حد النسيان واملشتت اىل حد ِ الص ْفر.. ُ اسافر حيث ال حلم وال خيال ،حيث احلقيقة الدامغة ،حيث ال غضب وال جزع.. ُ
ارحت ُ��ل ،وأسريُ بصوت حيتقر الصمت والتواين ويلعن التلعثم واالحنصار ..اىل تلك احلقيقة اليت اثقلتها احلمى وافقدها بصرها الرمد.. مع بزوغ الفجر وتدحرج الضباب فوق االرض ..اناجيك عرب املطر ..ايتها النفس.. بضع من الدهر يداولين ويتلفعين الضجر ،ويف كفي جتمعت ينابيع من القهر.. انتهى رحيلي بني االقمار وانتهى السفر ،وقاريب احملطم ميأل االفق غبار وكدر ..عرب السائر في الدرب 99
طول املسافات اشم رائحة حنينك اناجيك فامسحي بكفك على راسي عسى ان يزايلين الضجر ..امسع من بعيد رنني كلمات ..غريب شأنك حىت الدهشة ..حىت السخرية ..تطلب من امل��اء ان ينصب فوق الصخر ويفيض نبعا ي��روي احلاملني.. غريب شأنك!
***
السائر في الدرب 100
ماذا اكتب؟ ��رت اوراق�����ي ،ل��ك��ي اك��ت��ب موضوعاً ��ت قلمي ون��ش ُ ��ت خ��ل��ف مسطبيت وب��ري ُ ج��ل��س ُ االفكار الكاتب احياناً كثرية م��اذا يكتب؟ او كيف؟ تتخبط للصحيفة ..حيتار ُ ُ وتتصارع فتقبل وتدبر وتأىب ان خترج اىل حيز الوجود ..ال ادري ملاذا ختتفي االفكار وترفض ان تظهر للعيان ..هل خت��اف ان يراها ال��ن��اس؟ ورغ��م ه��ذا فال بد يل ان اكتب عن شيء م��ا ..اعتقد ان الكتابة يف السياسة ممله ،فهي وصلت اىل حد االج�ت�رار ..لقد مل الناس منها ..او اك��اد اق��ول كرهوها ،الهن��ا ال جت��دي نفعاً.. فماذا اكتب اذاً ؟ هل اكتب شيئا عن الثقافة؟ وهل حيتاج الناس اىل من يذكرهم مبعىن الثقافة او امهيتها ..تلك اليت غدت يف غياهب النسيان ..ومن اص ً ال يريد ان يفكر؟ فالناس كلهم اذكياء وكلهم يعون احتياجاهتم ومتطلبات املرحلة ..ومن انا اص ً ال ؟ حىت اكتب مقاالً او كلمات يف هذا املوضوع؟ فهل اكتب يف الرياضه؟ وماذا افهم يف ذلك؟ وهل عندنا رياضه؟ وهل لنا مالعب؟ او حىت فريق يذكر؟ اكتب ان قطيعاً من املاعز كان يسرح يف ملعبنا ..سيغضب الناس ال حمال.. او ُ اكتب يف الصحه؟ ال ..ال.. وسيقولون اين اسخر من املاعز ..اذاً فماذا اكتب؟ ُ ُ وما دخلي بالصحة ..فليفعل الناس ما يريدون بصحتهم ..اح��رار ..يا حلرييت.. السائر في الدرب 101
ان الصحيفة تنتظرين ومل اكتب شيئاً ..حرفاً او كلم ًة ..ما اصعب التفكري ..وكأن املعاين اختفت ..ذهبت ..ومل ترتك اث��راً هلا ،علّي اقتفيه ..فاكتب ما يفيد الناس ويصلح من امورهم او حىت يغذي ارواحهم ..اتدرون! لن اكتب شيئاً! وليكن ما يكون ..ويكفي ما تعرفون..
***
السائر في الدرب 102
اهلجر ال ترتكيين.. فانا ال اعرف صديق ِ سواك ال تذريين.. فاين أخاف أن مل ِ أراك ال هتجريين.. فقليب خيفق يف ِ هواك ال جتزعي.. كلنا جنول يف ِ مساك نقطع الطريق عربك ال تتوقفي عن اجمليء.. ِ خطاك اسرتسلي ..مدي سريي وانبعثي.. ورود وشذى ِ نداك نسمات يف الصباح يضيء نفسي ِ سناك ال ترتكيين أيتها الكلمات.. روحي وقلمي ِ فداك
***
السائر في الدرب 103
بني اهلشيم أس؟ واحلقيق ُة املفقودةُ؟ ُ ويزول اليأس؟ غربت الشمس ،وارتفعت النجوم ..ايشمخ الر ُ ُ تنبت النفس! يُسم ُع مهس! بكاء ميت وانني ..احلقيق ُة غدت بني اهلشيم والرماد ُ امس ..دوام ٌة من النسيان ..فهل تبزُغ الشمس؟
***
السائر في الدرب 104
املطر قصف رعد.. عزف ريح.. غيث يف بالدي ٌ مطر يشطف الطريق .. ٌ ذكريايت وآهايت مطر ميسح الواجهات ،وشباكي نسمات من السقيع.. ِ العاليات ختنق الضياء طري يرفرف ،وبلبل شادي ورقة خضراء تطري يف السماء.. تربق الرعود يف الغيوم.. ِ الضيقات تضيء الطرقات صمت ميأل املكان.. السائر في الدرب 105
يهجع كل حاكي مطر يطرق الشباك.. ويرسم الفراشات الراقصات دخاين شاي وفنجاين يف بالدي يف بالدي.. يشطف املطر السنون.. تبتسم العيون وتناغي ،واالحلان.. ِ الغانيات تنشدها يف بالدي تنام الكائنات
***
السائر في الدرب 106
ان اعيش لو كان يل أن أعيش! التفات، أن اعرب الطريق دون ْ لو كان يل أن أبوح! صيحات، أن أمأل الدنيا ْ اخلطوات! لو كان يل أن أمد ْ لو كان يل أن اطرق الباب! الذكريات، أن اترك ْ كلمات، أن الفظ كل يوم ْ وابتسامات، كلمات ْ لو كان يل أن امجع الورود! اقطف أزهار احلياة، لو كان يل أن اقبل اجلبني! السائالت، أن امسح الدموع ْ السائر في الدرب 107
لو كان يل أن ارسم الوجه اجلميل! اآلهات، أن احضن ْ أن اترك الوجع.. الباكيات، أن اشطف العيون ْ العثرات! لو كان يل أن اجتاز ْ الساهرات، أن أغمض العيون ْ لو كان يل أن أعيش! التفات أن اعرب الطريق دون ْ
***
السائر في الدرب 108
لو اني اعلم لو اين اعلم.. انك لن تبقى، هلجرتك منذ زمان.. رحلت، ولكنت ْ واختفيت وأخذت رسااليت ْ لو اين اعلم.. ما كنت أبعثر أوراقي، وريشيت ودوايت.. غادرت ولكنت ْ لو اين اعلم.. لصفعتك بقبضيت، مزقت ودفاتري يف وجهك ْ لو اين اعلم.. حلبست الدمع على ما كان، اشتكيت وملا ْ لو اين اعلم.. بقيت ما كنت ْ
***
السائر في الدرب 109
توقف اللسان
ماء بار ٌد ينساب على جسد مات ..اما آن لك تتهاوى الساعات ،والكلماتٌ .. ان تعلم! ان ما فات فات ..ويبقى التمرغ يف الوحل والرتاب ..تش ُع يف النفوس الرتهات ،وصوتك مزعج حىت املمات ..والزمان يسري والساعات واللحظات، من بني عظامي وانفاسي يف صدري ،تنساب كالنسيم ..يا زمان! كل ما فيك امسى رفات.. اهرتأت احرتقت ..جف قلمي ودوايت ،وقف عقلي ..عبارايت يف دفرتي حرويف، ْ ْ اصبحت، وتصاعدت ..كالركام وقفت االنفاس وتعاىل الدخان، ْ ْ واختنقتْ .. ْ توقفت.. تطايرت ،وفوق العقول والقلوب فهوت تلك املعاين القدميه ..من لساين ْ ْ ْ
***
السائر في الدرب 110
طفلة أنا طفل ٌة عادي ٌة.. حتدثت تبسمت ، ْ ْ كشفت.. أنا ذكرى مجيل ٌة، ْ وتكلمت عن سنها ْ أنا وجع الزمان.. الباكيات والعيون ْ أنا عبق النسيان.. الغاليات واملعاين ْ طفل ٌة نقي ٌة.. والنسمات أعانق الصباح ْ روحي ملكي ٌة.. العاليات انشد النجوم ْ السائر في الدرب 111
الصافيات والعيون ْ أنا الدهر، أنا القهر، الشائكات والورود ْ والبسمات عيوين عسلية، ْ أنا طفل ٌة عادي ٌة.. الساعات أنا اللحظة أنا ْ تناثرت وخصال شعري الليلي ْ وتبسمت تكلمت ْ ْ
***
السائر في الدرب 112
تشتعل الذكريات
��ت ق��دميٌ اصبح ذك��ري��ات ..خ��ط��أ ام صواب! ���ات مطر ت��ط ُ رش ُ ��رق ال��ش��ب��اك ..وب��ي ٌ ���ات مطر تقرع ان دب احل��ري��ق يف البيت ال��ق��دمي! وان تشتعل ال��ن��س��م��ات ..رش ُ تلهث االنفاس يف مسمعي ..ويعلو الدخان االسود كالليل وختفت االصواتُ .. ُ اشتعلت النار يف اجل��دار ..حطام ورم��اد ..كل وميتلئ البيت مهسات.. الظالم، ْ ُ ��ات مطر ��ات ..حىت لعبيت القدمية ،ال�تي بال روح، ���ات ..رش ُ اضحت رف ْ ش��يء ب ْ ْ ُ ..وتشتعل الذكريات.. تطرق الشباك ُ
***
السائر في الدرب 113
اهلروب
قالت اوصدت الكوخ ورحلت دون استئذان ..حىت االلتفاتة مل تعرين ،حىت اهنا ما ْ ْ اختفت يف الظالم وسارت.. محلت امتعتها وحقائبها.. ْ ْ سالم ..اوكالم ..فقط ْ رغم هذا كله ،مين اليها سالم..
***
السائر في الدرب 114
اكذبي
اكذيب! ادعي كل االقوال! اخدعيين ..وزعيين حروف وكلمات ،قيل وقال.. خربشي يف صفحيت ومزقي دفرتي ..حىت ذلك الفنجان ،الذي اهديتك اياه زمان.. ِ تشبهك ..حني ختتفني اكسريه ومللميه ..ان شئت ،حطيه يف شوال ..فكلماتك يف اآلصال..
***
السائر في الدرب 115
عشر من االعوام
وبقيت فيها ..ال تغادرين وال اغادرها ..عشر من االعوام.. توقفتُ ، عشر من االعوامْ .. خطت مكثت اناغيها ..تداولين واداوهلا ..عشر من االعوامْ .. اقتطعتها من عمريُ .. لت اناديها.. يف دفرتي ،حروف سنيها ..عشر من االعوام ..ما ز ُ
***
السائر في الدرب 116
مترد
اذكرك ،رغم القيود ..اريدك ،رغم احلدود ..بع ّد اوراق الشجر ،وقطرات املطر.. فانت القيود ..وانت احلدود.. ْ رفات ..ومل يتبق مين ال جتزعي! اين وهم مات ..اضحى ْ وخيال ..ظل جلسد ْ كلمات.. شيء ..سوى ْ
***
السائر في الدرب 117
املعاق وضباب يتدحرج على االرض.. سكو ٌن ميتد على املكان ..مل ٌل يعانق الروح.. ٌ روح تناثرت صوب الغبار وصوب الغمام ..وظ ٌل غريب يتأرجح ذات اليمني وذات ٌ
لظننت انه مثل خيتلع مللئت منه رعبا ..و َ ليت منه فراراً و َ الشمال ،لو اطلعت عليه لو َ
القدم تلو االخرى ويف كل مره يقبل جبينه الرتاب ..يداه هاوية على جنبيه تأىب احلراك ..او التزحزح ..يسري يف الظالم وانفاسه تشق السكون ..وهلثاته بركان ثائر.. يشهق شهقات ميألها السخط ..وبني جنباته ختتلج عواصف من املعاناة ..نظره يف االفق املمتد اىل الالهناية ..ورغم جتاعيد وجهه املرتاكمة تراكم الزمان والشقوق املزدمحة ازدحام االيام ..تعلو على شفتيه ابتسامة خفيفة ..آتية من العمق ..تأىب التكدس والركود ،وكل معاين اجلمود..
***
السائر في الدرب 118
بودابست شعب عاطفي جداً ..يقبل أي شيء ،فقط أن أعجب من حالنا حنن العربٌ .. ُ أردت أن حتصل من العريب على شيء ما ..هه! دغدغ يدغدغ العواطف ..إذا َ
عواطفه ..اشحن عواطفه وابكي أمامه وسيجيبك بال شك ..العرب مل يرتكوا شيئاً
إال ووضعوه يف مثل«:الكالم اللني يغطي احلق املبني» ..إن الشعب العريب يعاين من فقدان الذاكرة املزمن ..فهو يفقد ذاكرته كل قرن أو اقل ..ويبدأ من الصفر.. ال يتذكر إال ما هو مجيل ..فالعرب حيبون تركيا وينسون التاريخ ..وها هي اجلزائر نتذبذب لالجنليز ..امنيزيا العرب.. حتب ايطاليا ..وحنن ومصر ُ ُ تعشق فرنسا ..وليبيا ُ
فهمت اليوم ملا دائماً يبكي العرب على األطالل ..طبعاً شعب حساس جداً.. لقد ُ
وهو يبكي من أي شيء وعلى أي شيء ..مسلسل تركي يبكيه ..مسلسل هندي
يبكيه ..هه ! كلنا دموع ..النفط يف اخلليج سيجف ودموعنا لن جتف ..نبكي فرحاً أو نبكي خوفاً أو حىت حزناً وقهراً ..املهم أن نبكي ..مدمنون على البكاء.. يب أمر العرب ..اذكر أن احد األجانب يف دولة ال حنبها سألين سؤال ..قال: غر ٌ -قل يل يا صديقي العزيز ..عندي لك سؤال ،ولكنين حمرج اشد احلرج..
فقلت له: دعك من احلرج ..وال ختجل ..ال خيجل إال الشيطان هه! وال حياء يف املعرفة..فقال: أصحيح أنكم امة العرب أخوه؟ أليس كذلك؟السائر في الدرب 119
فقلت له منتفضاً وشاخماً ،منتفخ األوداج: نعم! طبعاً! حنن أخوة بال شك!فاستطرد وقال: إذاً ! ملاذا تقتلون أنفسكم هبذه الوحشية والشناعة؟كت عيين فهبط صمت مقيت على املكان.. كت من مكاين وفر ُ وتنحنحت ..وحتر ُ ُ
وقلت بصوت أجش ..خيرُج من بطين اعتدلتُ .. بت ما تبقى من قهويت ..و ُ وشر ُ
ال من حلقي:
ممم ..بصراحة سؤالك حمرج ..وال ادري ..اامممم..أكملت مازحاً: وصمت قليالً ..مث ُ ُ
-هه! أتعلم اين سأسافر اىل بودابست الشهر املقبل..
***
السائر في الدرب 120
احللم خفت الضوء ،و َ احللم ،اخرتقتين حىت النخاع ،حىت العظم ..بلواحظ َ اشتعل ْ فجرت جمرى الد ْم، مقيت، ْ كالسحر القدمي ،كاملشعوذ العظيم ..تقمصتين ببطئ ْ القلم ..تأبطتين، وباتت حيث ْ ْ أبيت..كل شئ اخذته ،خمديت ،ودفرتي العتيق ،حىت ْ جلست يف حجري كظلي ،كنفسي ،منذ القد ْم ..يتدحرج الضباب وقت السحر.. ْ احللم.. فيشتعل الضوء ُ وخيفت ْ
***
السائر في الدرب 121
صلصلة ويلعق لسا ُن شعاع الفجر البحر، ختاصم وتعانق الكواكب يف الفضاءُ .. ُ ُ ُ الشمس َ السحاب ،املتناثر يف كل مكان ..وتشعشع محرة اخلجل على صدغ السماء..
فتصور ايقونة خيفق هلا اجلنان ..واطرق اصغي للهفةٍ ،كصلصل ِة سعف النخيل وصخب جلج ٌ يف الشتاء ،تداعبها انامل نسمات باردة آتية من صوب الشمالٌ .. ويبعثر روحي قطرات ندا عبقري سناها ...اهزوجة الفرح القدمي، مضطرٌد ميتزجين ُ
ُ العظم ،يرُج الكيان ..ويف ساعات الفجر على مزمار عتيق ،وطب ٌل رتيب خيلخل َ الفاتنة ..حني يتبني اخليط االبيض من اخليط األسود ..وتتدحرج قطرات الطل على
انبعثت اينعت.. األفنان ..اتنشق رائحة عطرة فواحة ،من وردة جوري ْ تفتحت و ْ ْ شاعت طيب تناثرت مع نفحات الفجر األصيل، ويعج يف املقامْ .. ْ عبقاً ميأل االفقُ ، انطبعت يف أنفاسي.. وآمال.. ْ اوجدت حلظة من شغف ،وبرهة من وله ..تسربلتين و ْ حىت خفقات قليب مللمتها ،ورتبتها ..رغماً عين ..واعرتتين هلثات انفاسها ،وصوهتا العذب الرقيق ،كبلبل شادي ،رمن انشودة صبابة وهيام ..حلظات يضطرب فيها ونسمات باردة تالمس روحي وقت السحر.. الفؤاد ويناجي.. ٌ
*** السائر في الدرب 122
افق الزمان شخصت العيون.. اشتكت، ومن غدر الزمان ْ
منكل شيء حوهلا..
توقفت، حىت الساعات ْ وساعيت يف يدي..
تعطلت، عقارهبا القدمية ْ والعيون الباهتات..
يف وجه احلقيقة الدامغة، استسلمت، بكل احلسرات ْ والوجوه العابسات.. تشققت، والشفاه ْ
اكتست، شحبت الواهنا ،وبالسواد ْ حىت شقائق النعمان ،والورود.. منت ، مابقيت وما ْ
ان العيون الباكيات.. تسمرت يف افق الزمان ْ
***
السائر في الدرب 123
رنده اكتب هذه الكلمات ودم ٌع يف عيين سال ..جائتين ُ هترول وهي ُ ترفرف بيديها ُ تبتسم اجلميلتني االخاذتني ،واصابعها الرقيقة.. ُ وتشيح بوجهها الطفويل ،وكانت ُ وتسرق ختطف االبصار ُ ابتسامتها الساحرة املعهودة وصوهتا احلنون وضحكتها اليت ُ االلباب ..كانت ال تنظر ايل بعينيها الرائعتني ،بل تنظر ايل بروحها ووجداهنا، يف حىت العمق وحد العظم ..كانت تناغيين بعاملها وكانت روحها تتقمصين وتوجل ّ اخلاص وتلمحين بنظراهتا فيخفق قليب شخفاً هبا ..وشعرها االسود الليلي القصري، احساس رائ ٌع.. الناعم اجلميل ينساب يف كفي ،فامللمه واحتضنه وامشه ،فينتابين ٌ متسكين باناملها الصغرية وتقودين اىل حيث تشاء ..مل امسع منها قط كلمة "ايب"، اال اين ارى كل الكلمات واملعاين يف عينيها ..كم اطوق اىل مشاركتها يف عاملها، وكم اردت ان اتنفس من انفاسها ومعانيها ..طفليت اجلميلة ،رنده!
***
السائر في الدرب 124
مت حبمد اهلل وتوفيقه
السائر في الدرب 125
السائر في الدرب 126
لو اني اعلم انك لن تبقى هلجرتك منذ زمان ولكنت رحلت وأخذت رساالتي واختفيت لو اني اعلم ما كنت أبعثر أوراقي وريشتي ودواتي ولكنت غادرت لو اني اعلم لصفعتك بقبضتي ودفاتري يف وجهك مزقت لو اني اعلم حلبست الدمع على ما كان وملا اشتكيت لو اني اعلم ما كنت بقيت