السائر في الدرب

Page 1

‫ُ‬ ‫السائر يف الدرب‬ ‫د‪.‬بديع القشاعلة‬

‫ٌ‬ ‫حلن رتيب يقرع مسمعي‬

‫وأصوات آتية من جلج الصمت‬

‫وعمق السكون ‪...‬‬


‫ُ‬ ‫السائر يف الدرب‬

‫تأليف دكتور بديع عبد العزيز القشاعلة‬ ‫(خواطر وذكريات)‬ ‫تدقيق لغوي‪:‬‬

‫دكتور موسى ابو شارب‬

‫حقوق الطبع حمفوظة للمؤلف‬ ‫مطبعة الرابطة اخلليل‬ ‫نسخة أولية‬

‫عنوان املؤلف‪:‬‬

‫فلسطني‪ -‬رهط ‪)60-19( 85357 -‬‬ ‫هاتف‪0509316282:‬‬ ‫‪badeea75@gmail.com‬‬ ‫‪2013‬‬ ‫السائر في الدرب‬

‫‪2‬‬


‫انَّ العُيُونَ اليت يف َطرْفِها حَوَرٌ‬

‫قتلننا ثمَّ مل حيينيَ قتالنا‬ ‫جرير‬

‫السائر في الدرب‬

‫‪3‬‬


‫صوت احلناجر يعلو على صوت الرصاص وأزيز الطائرات‪...‬‬

‫بديع القشاعلة‬

‫السائر في الدرب‬

‫‪4‬‬


‫أهداء ‪:‬‬ ‫اىل مجيع الذين احببتهم واحبوني‬ ‫اىل مجيع الذين احرتمتهم واحرتموني‬ ‫اىل كل السائرين يف الدرب‬

‫السائر في الدرب‬

‫‪5‬‬


‫الفهرست‬

‫املوضوع‬ ‫تقدمي‬ ‫ذكريات امي‬ ‫سنة كشهر‬ ‫حلظة عزاء‬ ‫حلظات‬ ‫تسونامي‬ ‫سقط امللوك‬ ‫كيف ال نبكي‬ ‫وطين‬ ‫فرح وترح‬ ‫قنينيت‬ ‫كش ملك‬ ‫شر البلية ما يضحك‬ ‫املوت يف امليدان طن‬ ‫الدراكوال‬ ‫اسد البحر‬ ‫الصامتون‬ ‫كوخنا‬

‫الصفحة‬ ‫‪10‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪34‬‬ ‫السائر في الدرب‬

‫‪6‬‬


‫امري املؤمنني‬

‫‪35‬‬

‫حلظات تصرعين‬

‫‪37‬‬

‫ايها املعلم‬

‫‪39‬‬

‫عرب على عرب‬

‫‪41‬‬

‫زمن الغفلة‬

‫‪42‬‬

‫كلمات ليست كالكلمات‬

‫‪44‬‬

‫احذري‬

‫‪45‬‬

‫الثأر‬

‫‪46‬‬

‫الليربالية‬

‫‪47‬‬

‫تنقلب االمور‬

‫‪49‬‬

‫القيامة‬

‫‪51‬‬

‫صوت الرصاص‬

‫‪53‬‬

‫النفس‬

‫‪55‬‬

‫الفراق‬

‫‪56‬‬

‫الغدر‬

‫‪57‬‬

‫الشيزوفرينيا‬

‫‪58‬‬

‫حنني‬

‫‪60‬‬

‫اجلنيه‬

‫‪61‬‬

‫شجرة الغولة‬

‫‪62‬‬

‫عذب كلمات‬

‫‪64‬‬

‫السائر في الدرب‬

‫‪7‬‬


‫كان يا مكان‬

‫‪65‬‬

‫ابتسامة‬

‫‪66‬‬

‫اكتب برأس الصفحة‬

‫‪67‬‬

‫امي‬

‫‪68‬‬

‫عاشقة املطر‬

‫‪69‬‬

‫مدرسيت‬

‫‪70‬‬

‫فرحة تلميذ‬

‫‪71‬‬

‫موقف يف سوق‬

‫‪73‬‬

‫آمنت باهلل العظيم‬

‫‪75‬‬

‫سويلم‬

‫‪76‬‬

‫وظيفة احلساب‬

‫‪78‬‬

‫اللحظات املهمة‬

‫‪81‬‬

‫الدرويش‬

‫‪83‬‬

‫يا له من حنس‬

‫‪85‬‬

‫سداد دين‬

‫‪88‬‬

‫حكاية من الشارع‬

‫‪90‬‬

‫املعلم وديك احلبش‬

‫‪92‬‬

‫عندما يهرب العقل‬

‫‪93‬‬

‫موقف انساين‬

‫‪94‬‬

‫عرب احلدود‬

‫‪95‬‬

‫جنون كلمات‬

‫‪96‬‬

‫غزل‬

‫‪98‬‬ ‫السائر في الدرب‬

‫‪8‬‬


‫غريب شأنك‬ ‫ماذا اكتب؟‬ ‫اهلجر‬ ‫بني اهلشيم‬ ‫املطر‬ ‫ان اعيش‬ ‫لو اين اعلم‬ ‫توقف اللسان‬ ‫طفلة‬ ‫تشتعل الذكريات‬ ‫اهلروب‬ ‫اكذيب‬ ‫عشر من االعوام‬ ‫مترد‬ ‫املعاق‬ ‫بودابست‬ ‫احللم‬ ‫صلصلة‬ ‫افق الزمان‬ ‫رنده‬

‫‪99‬‬ ‫‪101‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪104‬‬ ‫‪105‬‬ ‫‪107‬‬ ‫‪109‬‬ ‫‪110‬‬ ‫‪111‬‬ ‫‪113‬‬ ‫‪114‬‬ ‫‪115‬‬ ‫‪116‬‬ ‫‪117‬‬ ‫‪118‬‬ ‫‪119‬‬ ‫‪121‬‬ ‫‪122‬‬ ‫‪123‬‬ ‫‪124‬‬ ‫السائر في الدرب‬

‫‪9‬‬


‫تقديم‬ ‫اطر حتمل يف طيّاهتا‬ ‫حينما خيتلج الوجدان ويعتمل الفكر تنساب على الورق خو ُ‬ ‫معاين تنبعث اشعا ًعا ينري للسائرين يف دروب احلياة‪ .‬إ ّن عنوان هذه اجملموعة من‬ ‫مستوحى ‪ -‬كما يبدو ‪ -‬من طالسم ايليا ايب ماضي‪ ،‬اليت يقول فيها‪ :‬أأنا‬ ‫اخلواطر‬ ‫ً‬

‫السائر يف الدرب أم الدرب يسري أم كالنا واقف والدرب يسري؟ لست ادري‪.‬‬

‫متسلحا بإميانه‬ ‫بيد أن كاتبنا ‪ -‬خبالف أيب ماضي ‪ -‬يسري يف دربه واثقًا ال يتيه‬ ‫ً‬

‫ثائرا على مواقف اجتماعية هت ّدد نسيج اجملتمع وتعصف‬ ‫وعلمه‪ ،‬متأ ّملاً ناق ًدا‪ً ،‬‬ ‫عما يدور يف فكره ووجدانه حيال‬ ‫ينم ّ‬ ‫بكيانه‪ .‬لقد انبثقت خواطره سيلاً عرًما ّ‬ ‫مواقف من احلياة وفلسفة الوجود وحركة اجملتمع‪.‬‬ ‫درس كاتبَنا الواعد بديع القشاعلة يف ميعة ِصباه تلميذًا جنيبًا نبيلاً‬ ‫لقد ُ�قيّض يل أن أُ ّ‬

‫ويكب على مطالعة عيون‬ ‫جادًّا يف مدرسة رهط الثانوية‪ُ ،‬‬ ‫يعشق العربية أيمّ ا عشق‪ّ ،‬‬

‫يب واستمتاعه بدروس الشعر‬ ‫الشعر والنثر بشغف شديد‪ ،‬من خالل تعبريه الكتا ّ‬ ‫يب احلديث يف تسعينات القرن الفائت‪ ،‬لدرجة أ ّن أبياتاً بل قصائد كاملة ما‬ ‫العر ّ‬

‫زال يرّدد صداها ويستشهد هبا يف مقامات خمتلفة‪ ،‬يف حديثه وكتاباته‪ .‬وش ّد بديع‬

‫الر َ‬ ‫حال إىل روسيا ليطلب العلم وي ْدرس علم النفس‪ ،‬فينكشف على أسرار النفس‬ ‫ِّ‬ ‫البشري علميًّا‪.‬‬ ‫البشرية وخباياها‪ ،‬فيُضيف بع ًدا آخر يف إدراك األمور وحتليل السلوك‬ ‫ّ‬

‫ويف غربته يف سانت بطرس بورغ‪ ،‬مل ّ‬ ‫فن اخلاطرة‬ ‫ينفك بديع عن القراءة والكتابة يف ّ‬

‫والشعر‪ .‬ومن املفارقات الطريفة أن أجده يوًما زميلاً‬ ‫حماضرا يف كليّة «كي» للرتبية‬ ‫ً‬ ‫السائر في الدرب ‪10‬‬


‫سائرا على ال ّدرب‪ ،‬بل وأن‬ ‫إىل جانيب‪ ،‬فصدق حدسي وظنيّ بأن بديع ما زال ً‬ ‫توسعت بفعل تطوافه يف بالد الغرب‪ ،‬وا ّطالعه على اآلداب‬ ‫قرحيته تفتّحت وآفاقه ّ‬ ‫األجنبية‪ ،‬ال سيّما الروسية‪ ،‬فنهل من روافدها‪ ،‬ليغدو معني األدب لديه أش ّد تدفّقا‬

‫الصحف ومواقع‬ ‫من ذي قبل‪ .‬لقد ُ‬ ‫تابعت خواطر بديع املنشورة على صفحات ّ‬ ‫اإلنرتنت‪ ،‬فاجتذبيت بعضها ال سيّما تلك اليت صيغت بأسلوب أديب رصني ومؤثّر‪.‬‬

‫التقيت به يف أروقة كلية «كي» قبل شهر ونيف‪ ،‬فاستوقفته وعرضت‬ ‫وكان أن‬ ‫ُ‬ ‫كما من اخلواطر‪ ،‬بل‬ ‫عليه أن ينشر ما جاد به يرا ُعه يف كتاب‪ ،‬ففاجأين بأن لديه ًّ‬

‫أيضا‪ ،‬فكان عرضي عليه مبثابة مفاجأ ًة ترّدد عندها يف البدء‪.‬‬ ‫وأنه يقرض الشعر ً‬

‫فاقرتحت عليه أن يبعث يل ّ‬ ‫كل ما كتب ألقرأه وأبدي عليه مالحظايت‪ .‬وبالفعل بعد‬ ‫أيام محل إ ّ‬ ‫تتضمن خواطر كثرية ومتنوعة‪ .‬ومن قراءة أولية‬ ‫يل الربيد اإللكرتو ّ‬ ‫ين رسالة ّ‬

‫ّ‬ ‫مصاف القطع األدبيّة اجلميلة‪.‬‬ ‫لبعضها ال أخفى على القارئ أن كثريًا منها يرقى إىل‬

‫متعنًا مليًّا يف خواطر كاتبنا لَيج ُد أنه يكتب اخلاطرة عندما يتعرض ملواقف‬ ‫إ ّن ُّ‬ ‫وجدانية فتتحرك أحاسيسه‪ ،‬ويبقى هاجس املوقف يُلهِب خياله‪ ،‬فيكتب أحاسيسه‬ ‫جتاه املوقف‪ .‬إن خواطره تعتمد على االنفعال الوجداين والتدفق العاطفي والتحليل‬

‫ينم عن قوة مالحظة ويقظة وجدان‪.‬‬ ‫الذي ال خيلو من توظيف علم النفس أحيانًا‪ّ ،‬‬ ‫خواطره الوجدانية تعىن بوصف نفسية الكاتب ونظرته الفلسفية والنقدية للحياة أو‬

‫ملظاهر اجتماعية ال تروق له‪ ،‬وقد تشطح يف اخليال أحيانًا إىل سرياليّة ما‪ .‬ويف‬ ‫خواطره اإلجتماعية يصف ما مير من مواقف مستقاة من حميطه االجتماعي املرّكب‬ ‫بآماله وآالمه‪ ،‬بأحالمه ومتاهاته‪ .‬ان استخدم العبارات البليغة السهلة اجلامعة‪،‬‬ ‫السائر في الدرب ‪11‬‬


‫واحملسنات البديعية والصور البيانية‪ ،‬وتضمني تعابري من القرآن الكرمي والشعر‪،‬‬ ‫جوا من الرصانة يف األسلوب‪ ،‬ويعكس بالتايل تأثر الكاتب‬ ‫يضفي على اخلواطر ًّ‬ ‫بالرتاث العريب قدميه وحديثه‪ .‬مثة أشعار متفرقة جيدها القارئ يف هناية اجملموعة‪ ،‬وهي‬ ‫تندرج يف الشعر املنثور الذي ال يلتزم بالوزن‪ .‬وأترك للقارئ أن يستجلي يف القصائد‬ ‫ما يوّد الكاتب أن يعبرّ عنه‪ ،‬ذلك اهنا سهلة اللغة واملعاين وتنأى عن الغموض‪.‬‬ ‫وإنين إذ أق ّدم هذه الباكورة من اخلواطر واألشعار إىل القراء‪ ،‬آمل أن تكون فاحتة‬ ‫اهرا وغ ًدا مشرقًا‪ .‬وأهيب بالقراء‬ ‫لنتاجات أدبية قادمة‪ ،‬راجيًا لبديع مستقبلاً أدبيًا ز ً‬

‫أن يشجعوا كاتبًا ناشئًا ولد من أعماق الصحراء ومن رحم املعاناة يف خماض عسري‪،‬‬

‫يف ظروف ع ّزت فيها األسباب ّ‬ ‫وتقطعت فيها السبل‪ ،‬وألاّ يقسوا عليه وأن يغضوا‬

‫يصوبوا سهام نقد تقتل كاتبًا‬ ‫عن هفوات قلم عاديّة قد تبدر يف اجملموعة‪ ،‬ال أن ّ‬ ‫واع ًدا يف طور الوالدة‪ .‬واهلل و ّ‬ ‫يل التوفيق‪.‬‬ ‫د‪.‬موسى أبو شارب ‪ -‬القدس‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪12‬‬


‫ذكريات مع أمي‬ ‫وهتت يف سراديب‬ ‫علي األمور ودارت يب الدنيا ُ‬ ‫عندما ُ‬ ‫رأيت أمي مريضة‪ ،‬اختلطت ّ‬

‫أصبحت ال اعلم ما جيري وما حدث‪ ،‬بثت العقول كل‬ ‫تشاهبت علي خمارجها‪..‬‬ ‫ُ‬

‫وصرت ال افهم ما جيري من حويل‪ ..‬خليط من األفكار‬ ‫الرتهات وتسربلت خطاي‬ ‫ُ‬

‫وتصطف اهلموم‬ ‫واهلواجس يصرعين ويصارعين الزمان‪ ،‬ترتاكم األحزان كاجلبال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف اآلص��ال وت��أىب ال��دم��وع إال أن تبقى عصيًّة حيث الظالم واألس����رار‪ ..‬وتبقى‬

‫العيون الباكيات شاخصات‪ ،‬خت��اف الضاحكات ال��س��اخ��رات وخت��ج ُ��ل م��ن كل‬ ‫ال��ق��اص��رات‪ ..‬ه��ل يبكي ال��رج��ال‪ ،‬وه��ل ين ُف ُضون ع��ن أجسادهم ك��ل األحزان‪،‬‬ ‫وينثرون من عقوهلم األوهام وهل تُعتصر القلوب وحتن األكباد‪ ،‬وهل يشكوا من‬ ‫وتصمت الشفاه‪ ،‬ترى!‬ ‫الوجع واآلالم‪ ،‬وتطرف العيون اجلمر الساكنات‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ويهبط ال��س��ك��ون على امل��ك��ان فتخمد األن��ف��اس وت��رق��د الكائنات وتتلبد الغيوم‬ ‫املاطرات ويسقط املطر فوق الرمال وتقصف الرعود اآلم��ال‪ ،‬وتلك اللحظات‬ ‫اليت كانت فيها أمي ختبز العجني وتغلي احلليب‪ ،‬وكنا جنلس من حوهلا وهي تغين‬ ‫أغنيتها اجلميلة “أمطري يا مطره على عروق ألشجره‪ ،‬أمطري يا مطره”‪ ..‬وكنا‬ ‫نبتسم‪ ،‬وكانت قلوبنا تضحك وعيوننا مبتهجة ووجوهنا منرية‪ ..‬ولكن الزمان‬ ‫يغتالنا ويتخطانا ويطأ علينا وال يبايل وت��دور ال��دوائ��ر وتتوه األف��ك��ار واألحالم‬ ‫والذكريات‪ ،‬إال تلك الذكرى اجلميلة‪ ،‬اليت كنا فيها جنلس حول أمي‪ ،‬واملطر‬ ‫السائر في الدرب ‪13‬‬


‫يشطف ش��وارع حارتنا‪ ،‬وهي تغين بصوهتا اجلميل أغنيتها القدمية “أمطري يا‬ ‫مطره على عروق ألشجره‪ ،‬أمطري يا مطره”‪.‬‬ ‫واذك��ر حني كنت استسلم بني يديها وهي حتركين ذات اليمني وذات الشمال‬ ‫��س ببنت ش��ف��ه‪ ،‬س��وى إين اجته‬ ‫وأن���ا ب��اس ٌ��ط ذراع���ي ال ال���وي على ش��يء وال ان��ب ُ‬ ‫حيث حتركين وأح��اول اهلروب فال اقدر على شيء‪“ ..‬تستور اسم اهلل الرمحن‬ ‫تتمتم هبذه‬ ‫الرحيم‪ ،‬تستور يا صحاب املطرح‪ ،‬تستور يا مباركني”‪ ،‬كانت أمي ُ‬ ‫الكلمات وهي تسكب املاء الدافئ على رأسي ومتسكين بقبضتها املتينة وباألخرى‬

‫تدعكين‪ ..‬وكان املاء الساخن يتناثر على جسدي ومع كلماهتا تعروين قشعريرة‬ ‫مجيلة‪ ،‬وهي ال تزال تتمتم‪ ،‬تستور اسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬تستور يا صحاب‬ ‫املطرح‪ ،‬تستور يا مباركني‪ ،‬كان ذلك محام يوم اجلمعة‪.‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪14‬‬


‫سنة كشهر‬ ‫خافت ومتوانٍ‪..‬‬ ‫صرخات تدوي يف األفق وبكاء حزين يشق السكون‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وصمت ٌ‬ ‫ٌ‬

‫الساق بالساق وظن انه الفراق‪ ..‬يف مثل‬ ‫مات فالن‪ ..‬توقفت األنفاس‪ ..‬التفت ُ‬ ‫َ‬

‫مشاعر‬ ‫القطر‪ ..‬وتعروين‬ ‫هذه اللحظات ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ينتفض جسدي مرتعشاً‪ ،‬كعصفو ٍر بلّله ُ‬ ‫ومهسات رتيب ٌة تطرق مسامعي توزعين أشالء حيث ال ادري‪ ،‬حيث ال‬ ‫متزامح ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫مكان وال زمان‪ ..‬والدنيا تسري بال هوادة وتنقضي األيام‪ ..‬تسريُ كجلمود صخ ٍر‬

‫حطه ُ‬ ‫السيل من ع ٍ��ل‪ ..‬وم��ا ن��زال نرتبص هبا ونتمسك بتالبيبها وال ن��دري مىت‬ ‫ترتكنا ونرتكها‪.‬‬ ‫كلمات ختتلج يف‬ ‫الروح‪..‬‬ ‫كلمات خترج من عمق الصواب‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الروح من ِ‬ ‫وتعتصر َ‬ ‫ُ‬

‫فأصبحت يف دوامة‬ ‫نفسي وت��ض ُ��ج ب��ص��دري‪ .‬كيف ال وق��د اختلط اآلن وامل��ك��ان‬ ‫ُ‬ ‫ال متناهية‪ ..‬وعبثًا أح��اول الصمود وأتشبث ٍ‬ ‫حببال بالية اهرتت منذ زمن‪ ،‬زمن‬

‫تسارع إىل حد اجلنون‪ ،‬سنة كشهر وشهر كيوم ويوم كساعة‪ ،‬زمن اجلنون‪ ،‬كل‬ ‫شيء فيه يسري إىل النهاية‪ ..‬إىل احملتوم‪ ..‬والناس يأكلون ويشربون ويضحكون‪،‬‬ ‫يسريون ويبتسمون والزمان يهوي إىل حيث هو يعلم إىل أين‪ ،‬وحنن نعلم إىل أين‪،‬‬ ‫ولكننا ال نبايل‪ ..‬فهل من معترب؟ الزمن يدور والسنوات ُ‬ ‫هترول واأليام تتواىل‪..‬‬ ‫وشهر كيوم ويو ٌم كساعة‪..‬‬ ‫سن ٌة كشهر ٌ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪15‬‬


‫حلظة عزاء‬ ‫ضباب‬ ‫رتيب يقرع مسامعي‬ ‫ٌ‬ ‫وأصوات آتي ٌة من ِ‬ ‫جلج الصمت وعمق السكون‪ٌ ..‬‬ ‫حل ٌن ٌ‬ ‫ورش��ات مطر تطرق الشباك ومن خلف الستار‬ ‫يف ضباب وجو ميلؤه السحاب ّ‬ ‫ارقب الضياء والطريق‪ ،‬وارقب بيتًا قدميًا كان قد دب فيه احلريق ومل يعد سوى‬ ‫ذكريات‪ ..‬ذكريات من ماض غابر‪ ..‬ترى! من كان هناك! ومن كان ضحية‬ ‫ضباب يف ضباب‪ ،‬خطأ أم صواب أن دب احلريق يف البيت القدمي‪ ..‬عيو ٌن‬ ‫احلريق؟ ٌ‬ ‫ودموع جاري ٌة وعيو ٌن كاجلمر‪ ..‬ترقب الناس وترقب الطريق‪..‬‬ ‫باكي ٌة خلف الستار‬ ‫ٌ‬ ‫ترقب الزائرين‪ ،‬املصافحني الرائحني والغادين‪ ..‬مجوع شىت‪ ..‬معزين‪ ..‬وما تزال‬ ‫رشات مطر تطرق الشباك‪ ..‬خطأ أم صواب أن تندثر الذكريات‪ ..‬ترى ما الذي‬ ‫حدث؟ ما اخلطب؟ من ذا الذي ميوت قلبه؟ فيتحجر كالصوان؟‬ ‫وينقلب وحشاً‬ ‫ُ‬ ‫حيطم كل القلوب ويأىب إال أن ينشر احلزن فوق كل البالد‪ ..‬تتجمد الروح ويأىب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫العقل إال أن ينام ومتتد يد الشؤم لتقطف الورود وتنزع من الصدور كل القلوب‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وتشعل فيما تبقى‬ ‫غريزةٌ مهجي ٌة حترق االبتسامات وتلك الناصعات األسنان البيض‬ ‫رتيب يقرع‬ ‫من الليل كل الزهور‪ ..‬وما تزال رشات مطر تطرق الشباك‪ ..‬وحل ٌن ٌ‬ ‫مسمعي‪ ..‬يلحن معزوفة مجيلة مفعمة باحلزن والشجون‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪16‬‬


‫حلظات‬

‫لعمرك ما الدنيا إال حلظات عابرة وليل ينازع‪ ..‬من أحب فيها فاز ومن أحسن‬ ‫فيها فاز ومن اعترب فيها فاز‪ ..‬وويل مث الويل ملن يقوده احلسد وتغتاله األحقاد‪..‬‬ ‫ترى! ما احلقيقة؟ احبث عنها يف عيون الناس يف مآقيهم‪ ..‬فال أجد سوى احلرية‬ ‫خضم هذا الضجيج أشم رائحة فواحة وعبقًا ميأل األفق‪ ..‬وردة‬ ‫والتساؤل‪ ..‬ويف ّ‬ ‫برجوازية‪ ..‬دفء وحنني‪ ..‬بصيص من األمل‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪17‬‬


‫تسونامي‬ ‫وترجتف هلا املشاعر‬ ‫ترعب القلوب‬ ‫إذا زلزلت األرض زلزاهلا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫واهتزت‪ ..‬زلزل ٌة ُ‬ ‫يفر من أمامه الناس‬ ‫رأسا على عقب‪ُّ ..‬‬ ‫وتطريُ هلا األلباب‪ ..‬زلزا ٌل ُ‬ ‫يقلب املكان ً‬ ‫وانشقت‬ ‫وتشخص فيه األب��ص��ار‪ ..‬قامت الساع ُة وصرخت األرض وانفطرت‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫��ات للنفوس يف ب�لا ٍد ليس‬ ‫ظلم وظ��ل��م ٌ‬ ‫وارت��ع ْ‬ ‫��دت م��ن كثرة ال��ذن��وب واخل��ط��اي��ا‪ٌ ..‬‬ ‫ذكر فيها األصنام واألزالم وُ�ت ْعبد فيه الشمس‬ ‫فيها لذكر اهلل‬ ‫ْ‬ ‫نصيب‪ ..‬يف بال ٍد يُ ُ‬ ‫سج ُد فيها للصم البكم الذين ال يفقهون‪ ..‬مل حتتمل األرض كل‬ ‫والكواكب و يُ َ‬ ‫وأبت إال أن ترجتف لتبتلع الرتهات والشعوذات وكل ما تشعه‬ ‫هذه السخرية‪ْ ..‬‬ ‫النفوس من فساد يف األرض‪ ..‬عاد ومثود‪ ..‬قوم تبع وقوم لوط‪ ..‬وقوم صاحل‪..‬‬ ‫قدر واهلل أجراه‪..‬‬ ‫عَِ�ب ٌر جيري هبا ٌ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪18‬‬


‫سقط امللوك‬ ‫زلزال خيلف الشهداء‪ ،‬خيلف األرامل واليتامى‪ ..‬يوم حيشر فيه الزعماء الذين ظنوا‬ ‫تسو ّد فيه وج��وه امللوك‪ ..‬ملوك األرض‪ ..‬ال خيلد عليها احد‬ ‫أهنم زعماء‪ ،‬يوم َ‬ ‫يعز من يشاء ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويأمر فيطاع‪،‬‬ ‫يصول‬ ‫ويذل من يشاء‪ ..‬اليوم ملك‬ ‫إال اهلل‪ُّ ..‬‬ ‫وجيول ُ‬ ‫وغداً هارب وطريد‪ ..‬حمكوم ومسجون‪ ..‬ذ ٌل وهوان‪ ..‬سبحان اهلل‪ ..‬قدر اهلل يف‬ ‫األرض‪ ..‬ميكرون وميكر اهلل واهلل خريُ املاكرين‪ ..‬ترى! ما الذي ينتظرنا يف الغد؟‬ ‫هل هو تسونامي؟ أم زلزلة؟ أم ماذا؟‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪19‬‬


‫كيف ال نبكي‬ ‫يقولون يل ال ِ‬ ‫تبك ويلومون دمعي‪ ،‬فالرجال ال يبكون‪ ،‬وكيف يبكون؟ وهم‬ ‫ُ‬ ‫الرجال‬ ‫الشاخمون املتصلبون‪ ،‬الذين يقفون يف وجه القهر ويتجرعون مرارة احلياة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرجال ينزفون وال يبكون وليس‬ ‫ال يبكون‪ ،‬فالدموع يف أجفاهنم جفت وحتجرت‪،‬‬ ‫أصوات األنني‬ ‫من حقهم البكاء‪ ..‬بكاء يريح‪ ..‬كم هم الباكون يف هذا الوجود‪،‬‬ ‫ُ‬

‫والكامتني الدموع‪ ..‬كم من ابتسامة ختفي خلفها سيلاً من الدموع‪ ..‬متتلئ األرض‬ ‫بالنائحني املنتظرين منذ زمن بعيد‪ ،‬منذ ذلك العيد‪ ..‬الذي مل يأيت والذي غاب‬ ‫غبارا حيوم يف‬ ‫حلما وسرابًا‪ ،‬ضاع يف األفق العميق وأصبح ً‬ ‫عن الوجود وصار ً‬ ‫السماء‪ ..‬بني األقمار‪ ..‬أما آن للعيد ان يأيت وان تبتسم الفراشات وتعلو الزغاريد‬ ‫واألهازيج اجلميلة العتيقة‪ ،‬اليت ما مسعناها وما رددناها منذ أيام وليايل طوال‪ ..‬كم‬ ‫هم الباكون على الذكريات اجلميلة وعلى األحالم السعيدة اليت ضاعت وصارت‬ ‫خل سبيل ال��دم��وع املكبلة يف‬ ‫غ��م��ام يتلفعه ال���س���واد‪ ..‬مل ال نبكي؟ مل ال؟ فلنُ ِ‬ ‫أغالهلا واملكبوتة حد القهر‪ ،‬فالدمع يريح وخيفف من وطأة احلزن الشديد‪ ..‬لوال‬ ‫شاعر يقول‪ ،‬وإذا الليل اضواين بسطت يد اهلوى وأذللت‬ ‫احلياء لعادين استعبار‪ٌ ،‬‬ ‫الدموع‪ ،‬وها هو ابن الرومي يبكي ابنه ويقول خماطباً عينيه‪ :‬بكاؤكما يشفي وان‬ ‫كان ال جيدي‪ ،‬فجودا فقد أودى نظريكما عندي‪ ..‬فلنطلق العنان للدمع ليجري‬ ‫سيلاً يتدفق من نبع احلقيقة والصواب‪ ..‬كيف ال نبكي والبكاء يريح‪..‬كيف ال‬ ‫نبكي والبكاء يساعدنا على احلياة‪ ..‬كيف ال نبكي والبكاء رمحة‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪20‬‬


‫وطني‬ ‫يفرح الناس بأوطاهنم‪ ..‬يفخرون هبويتهم وينشدون أناشيد متأل الوجدان آمالاً‬ ‫ُ‬ ‫وتبعث يف الروح السعادة واحلياة‪ ..‬وأنا احبث عن وطين‪ ..‬فمن ذا الذي يقول يل‬ ‫ُ‬ ‫من أنا‪ ..‬من أي بلد أنا‪ ..‬ما اسم قرييت أو مدينيت أو دوليت‪ ..‬أين حدودها‪ ،‬وما‬ ‫هي قراها وما هي مدهنا‪ ..‬شوارعها وحاراهتا‪ ..‬سهوهلا وودياهنا‪ ..‬هل فعلاً هي‬ ‫كما يقول درويش شوارعها بال أمساء ؟ أذًا من أين أنا وما هو جواز سفري؟ يا‬ ‫حلرييت ويا للوعيت‪ ..‬أنا رقم من منزلتني‪ ،‬مثانية وأربعون‪ ..‬عجبًا! عندما يسألوين‬ ‫من أين أنا‪ ..‬من أي بالد جئت‪ ..‬يف أي ارض أعيش‪ ..‬أقول هلم أنا من الثمانية‬

‫وأربعني‪ ،‬ويعرتيين حز ٌن غريب‪ ..‬فكيف يل ان افرح وان افخر وان أنادي وأقول‬ ‫أين من دولة كذا وك��ذا؟ كيف اغين باسم بالدي وليس يل بالد؟ كيف يل ان‬ ‫انشد أشعار وطين وليس يل وطن؟ حىت هوييت ليست هوييت‪ ..‬حىت صوريت ال‬ ‫تشبهين‪ ..‬فانا من بلد ال يعلمها إال اهلل‪ ..‬وال يفهمها إال اهلل والذين آمنوا‪ ..‬كيف‬ ‫يل ان اشرح لصديقي من وراء البحار أين اسكن يف رقمني جمموعهما يساوي‬ ‫أثىن عشر؟ مثانية وأربعني‪ ..‬وكيف لعددين ان يتسعا آلم��ايل وتطلعايت؟ فرحيت‬ ‫وأحالمي؟ أحزاين وآهايت؟ كيف يكون ذلك؟ فهل أنا فعلاً من قرية عزالء منسية‬ ‫كما يقول دروي���ش؟ هل حكم القدر علي أن أعيش يف ال وط��ن؟ ال قرية وال‬ ‫مدينة‪ ..‬ان أكون بال هوية اشعر هبا وافخر هبا؟ أعيشها وأحياها؟ ترى!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪21‬‬


‫فرح وترح‬ ‫علي بأنواع‬ ‫��وت حط‬ ‫امل ُ‬ ‫ْ‬ ‫كالكفن‪ ..‬حز ٌن خيم على املكان ولي ٌل أرخى سدوله ّ‬ ‫��ب حطت رحاهلا وأبت‬ ‫اهلموم ليبتلي‪ ..‬لعمرك إن نوائب الدهر ع��ظ��ا ُم‪ ..‬ن��وائ ٌ‬ ‫الرحيل‪ ..‬تعجز القلوب الكواسر عن حتملها‪ ..‬فترتنح وختطو خبطوات تتمايل‬ ‫حلظات من الفرح املغموس باحلزن‬ ‫���رح‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫حىت يلصق اجلبني ب��ال�تراب‪ ..‬ف ٌ‬ ‫��رح وت ْ‬ ‫ابتسامات تنتشر يف كل مكان‬ ‫والرتقب‪ ..‬وصوت األغاين خيفت شيئًا فشيئا‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫بيت رفرفت فوقه الرايات‪..‬‬ ‫ومن خلفها خوف وانتظار‪ ..‬غص ٌة متأل األحشاء‪ٌ ..‬‬ ‫ال��راي��ات البيض‪ ..‬فوقع اخل�بر‪ ..‬وسقطت ورق�� ٌة من شجرة يف ساعات الفجر‪..‬‬ ‫ورق�� ٌة يافعة مجيلة ه��وت‪ ،‬فهوت معها القلوب واحتبست هلا األن��ف��اس‪ ..‬وبزغ‬ ‫الفجر على بيت سقطت منه الرايات وجتمع الباكون من كل حدب وصوب‪..‬‬ ‫رهيب‪ ..‬اختفت كل تلك االبتسامات‪ ..‬سقطت مع سقوط الرايات‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫صمت ْ‬ ‫الرايات البيض‪ ..‬عظم اهلل أجركم‪ ..‬عظم اهلل أجركم‪ ..‬علت هذه الكلمات‪..‬‬ ‫ومن بعيد‪ ..‬من ذلك املكان الذي اشتعل بكل النريان‪ ..‬من ذلك املكان الذي‬ ‫وطأته كل األحزان‪ ..‬ترتدد كلمات تكاد ال تسمع‪ ،‬ختنقها العربات‪ ..‬شكر اهلل‬ ‫سعيكم‪ ..‬شكر اهلل سعيكم‪ ..‬إن��ا هلل وإن��ا إليه راج��ع��ون‪ ..‬هلل م��ا أعطى وهلل ما‬ ‫اخ��ذ‪ ..‬إمي��ا ٌن عميق‪ ..‬إمي��ا ٌن بأن اهلل يرقب املكان ويرقب تلك العيون والقلوب‬

‫السائر في الدرب ‪22‬‬


‫الباكية‪ ..‬إميان بان اهلل ال بد أن يعوض املبتورين‪ ،‬املصابني‪ ..‬إميا ٌن بأنه االمتحان‬ ‫تبيض فيه ال��وج��وه ي��وم تسود‬ ‫احلقيقي ال��ذي يُ��ك َ��ر ُم فيه امل��رء أو ي��ه��ان‪ ..‬وال���ذي ُ‬ ‫الوجوه‪ ..‬فال نقوى إال أن نقول‪ ،‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪ ..‬ومتت ُد األبصار إىل‬ ‫ُ‬ ‫يرفرف جبناحيه وفراش ٌة مجيل ٌة‬ ‫األفق البعيد فتلمح ألوان قوس املطر اجلميلة وطريٌ‬ ‫حتوم حول وردة اجل��وري العطرة‪ ..‬فرتتسم ابتسام ٌة خفيف ٌة على الشفاه ونسم ٌة‬ ‫باردةٌ تداعب األجفان‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪23‬‬


‫قنينتي‬ ‫��ت يف رح��ل�� ٍة إىل مدينة ب���راغ يف تشيكيا‪ ،‬ب���راغ مدينة مجيلة ج��� ًدا‪ ..‬تنطبق‬ ‫ذه��ب ُ‬ ‫عليها مقولة “جنة اهلل على األرض” فهي مدينة قدمية وقد أبدع أُناسها يف بناء‬ ‫زدت يف وصفها فلن‬ ‫القصور املذهلة واجلسور الرائعة والساحات البديعة‪ ،‬ومهما ُ‬ ‫أعطيها حقها ولن تعرفها إال إذا زرهتا‪ ..‬كان يل فيها بعض املواقف الطريفة واليت‬

‫متفكرا فيها‪ ..‬من هذه املواقف‪ ،‬موقف قنينة املاء‬ ‫وأذعنت بعض الوقت‬ ‫استوقفتين‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫وبراميل النفاية‪ ..‬كنت ُ‬ ‫أجول خالل النهار يف شوارع براغ الضيقة واملرصوفة‬ ‫ترسم مالمح الزمن القدمي وكانت قنينة املاء يف يدي واملاء‬ ‫حبجارة هندسية بديعة ُ‬

‫قليل وح��رارة الشمس الالذعة يف تلك البالد تسرع من عملية امتصاص اجلسم‬

‫فشربت ما‬ ‫عطشا‬ ‫للماء فتحتاج خ�لال جتوالك إىل الكثري منه‪ ..‬كنت حينها ً‬ ‫ُ‬ ‫وبقيت قنينة املاء يف يدي فارغة‪..‬‬ ‫ومتنيت لو كان فيها املزيد‪،‬‬ ‫تبقى يف قعر القنينة‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫فوجدت أربع براميل مصطفة يف‬ ‫فبحثت عن برميل النفاية حىت أختلص منها‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫فتعجبت قليلاً ولكين مل اعر لشعوري‬ ‫سطر واحد بديع وذات ألوان خمتلفة ومجيلة‬ ‫ُ‬ ‫فرميت القنينة يف احدها وسرت يف طريقي ولكن األفكار سارت‬ ‫هذا اهتما ًما‬ ‫ُ‬ ‫تأكلين واألسئلة تدور يف ذهين‪ ،‬أربع براميل! ألوان خمتلفة! ملاذا؟ يا هلذا الوسواس‬ ‫القهري الذي يطاردين ويؤرقين‪ ..‬اللعنه! جيب أن أعود ألتفحص األمر‪ ..‬وفعلاً‬ ‫نظرت إىل الرباميل بتمعن وكان مكتوب‬ ‫قطعت شو ًطا من املسري‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫عدت بعد أن ُ‬

‫عليها باللغة التشيكية كلمات‪ ،‬كل برميل مكتوب عليه كلمة‪ ،‬فقرأهتا وكنت‬

‫السائر في الدرب ‪24‬‬


‫مكتوب عليه‬ ‫فعلمت أن الربميل األول‬ ‫اعرف اللغة الروسية‪ ..‬وهي قريبة منها‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫فابتسمت‬ ‫“ورق” والثاين “بالستيك” والثالث “حديد” واألخري “زجاج”‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أتلفت‬ ‫وحبثت عن قنينيت فوجدت أين رميتها يف خانة ال��ورق‪ ..‬فأخرجتُها وأنا ُ‬ ‫ُ‬

‫وسرت‬ ‫حويل‪ ،‬فقد حيسبوين من جامعي القناين‪ ..‬ووضعتها يف مكاهنا الصحيح‬ ‫ُ‬ ‫مبتسما‪..‬‬ ‫يف دريب‬ ‫ً‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪25‬‬


‫كش ملك‬ ‫صوت الدبابات يف كل مكان‪ ،‬وفوهات املدافع تقذف الشر يف كل الساحات‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وبشار‬ ‫ترعب النساء واألطفال وتبث اجل��زع والفزع بني املؤمنني‪ ..‬اهلل سوريا ّ‬ ‫ُ‬ ‫وب��س! اهلل سوريا وب ّ��ش��ار وب��س! هب��ذا ال��ن��داء هتتف احلناجر الظاملة واخلائفة وال‬ ‫صوت يعلو على صوت األسد‪ ..‬هه! هذا ما نسمعه من التابعني وتابعي التابعني‪..‬‬ ‫اخلائفني املهزومني منذ عقود‪ ..‬ويأىب الشرفاء إال أن يرددوا اهلتافات ضد النظام‪..‬‬ ‫ضد الظلم واالستبداد‪ ،‬ضد ال��ذل واملهانة‪ ،‬سيسقط األس��د ال حمالة كما سقط‬ ‫شني العابدين والبقرة الضاحكة وذلك الذي يصيح زنقة! زنقة! ويتعثر يف ثوبه‬ ‫الطويل وسيسقط عما قريب أو أك��اد أق��ول سقط‪ ..‬واليمين ال��ذي ي��أىب إال أن‬ ‫جيلس على الكرسي رغم احلروق اليت التهمت مؤخرته‪ ..‬كش ملك كش ملك‪..‬‬ ‫سقط امللوك ومل يبق إال ملك امللوك‪ ..‬اختفت الزعامات واكتسحها سي ٌل َعرِم‬ ‫من صيحات الشعوب‪ ..‬فصوت احلناجر يعلو على ص��وت ال��رص��اص وصوت‬

‫مهسا أو اقل من اهلمس‪ ..‬فصوت العقول‬ ‫املدافع وأزيز الطائرات‪ ..‬حىت وان كان ً‬

‫ال يهزم أب ًدا وان طال الزمان‪ ..‬كش ملك! سقط حاكم تونس الذي تنوء العصبة‬ ‫عن محل مفاتيح خزنته‪ ..‬كش ملك! سقط حاكم مصر فرعون العصر‪ ..‬كش‬ ‫ملك! اح�ترق حاكم اليمن وق��وم تبع‪ ..‬كش ملك! سيسقط صاحب الزنقات‬ ‫والكتاب األخضر‪ ..‬كش ملك! سيهوي مجل سوريا وفيلسوفها‪ ..‬كش ملك!‬ ‫ال حمال‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪26‬‬


‫شر البلية ما يضحك‬ ‫اذك��ر يوم كنت يف احلج وقد أدهشين أن أرى أممً��ا كثرية وقبائل شىت ومتنوعة‬ ‫عجيب‬ ‫وثقافات عديدة‪ ..‬تفاهم عجيب وتفاعل بينهم رغم اختالف لغاهتم‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫أمر احلج‪ ..‬يف زيارة واحده تستطيع أن تزور العامل بأسره وترى احلضارات كلها‬ ‫جمتمعة يف مكان واحد‪ ..‬يف تلك اللحظات اهلادئة اجلميلة‪ ،‬كنت أصلي يف زاوية‬ ‫من زوايا املسجد احلرام والناس من حويل مبختلف أجناسهم‪ ..‬توجه إ ّ‬ ‫يل فىت اعتقد‬ ‫مصري؟ فابتسمت بدوري وقلت‬ ‫مبتسما‪ :‬أنت‬ ‫انه يف العشرين من عمره وسألين‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫له كثري من الناس يعتقدون ذلك‪ ..‬وأنا لست مصريًا بل فلسطينيًا‪ ..‬فتابع الشاب‬

‫ابتسامته تلك وقال‪ ،‬أنا ميين‪ ،‬تشرفنا‪ ..‬يف تلك اللحظة‪ ..‬أصدقكم القول‪ ،‬انتابين‬ ‫شعور غريب‪ ..‬ذلك الشعور الدفني يف داخلي وتلك املعضلة‪ ..‬معضلة االنتماء‪..‬‬ ‫من األمور احملزنة يف حيايت كوين ال اعلم إىل من انتمي شعوريًا‪ ..‬أو ال اشعر هبذا‬

‫املعىن يف أعماقي البعيدة‪ ..‬أعاين من مشكلة يف اهلوية وقد أصل أحيانًا إىل حد‬ ‫الشيزوفرينيا واالنفصام يف الشخصية‪ ..‬بصراحة مل اشعر بشيء عندما قلت له إين‬ ‫فلسطيين‪ ،‬مل تنتَبْين تلك القشعريرة املعهودة‪ ..‬عندما أقول أنا فلسطيين اذكر غزة‬

‫والضفة‪ ..‬ال ادري إن كنت انتمي إىل هذه الكلمة شعوريًا أم فقط عقليًا‪ ،‬ينتابين‬

‫يب‬ ‫طبعا أنا لست إسرائيليًا‪ ..‬شر البلية ما يضحك‪ ..‬عر ٌ‬ ‫أحيانًا شعور بالذنب‪ً ..‬‬ ‫إسرائيلي‪ ..‬هه! يعين من بين إسرائيل‪ ..‬هه! عجيب! من أكون؟ وملن انتمي؟ يا‬ ‫ٌ‬ ‫السائر في الدرب ‪27‬‬


‫هلا من اسئله صعبة‪ ..‬لن أجد هلا جواب‪ ،‬فقط اشعر باحلزن العميق‪ ..‬ورغم هذا‬ ‫حيضرين أمً��را طري ًفا يف احل��ج‪ ..‬يف ذل��ك الوقت‪،‬كنت أس�ير يف ش��ارع من الشوارع‬ ‫الناس بعد الصالة عائدين إىل‬ ‫ِر ُ‬ ‫املتفرعة يف مكة املكرمة‪ ،‬شارع أم القُرى‪ ..‬يَنف ُ‬

‫أجناس شىت وألوا ٌن شىت‪ ..‬من كل حدب ينسلون‪ ،‬سي ٌل‬ ‫مساكنهم‪ٌ ،‬‬ ‫مجوع ومجوع ٌ‬

‫ٌ‬ ‫جارف من البشر ال ميكنك مقاومته‪ ،‬إال أن تسري معه وتتجه إىل حيث يتجه‪..‬‬ ‫منهم من يذكر اهلل ومنهم من يذكر احلياة الدنيا‪ ،‬ومنهم من تشده روعة املكان‬ ‫فيفغر فاه ويشخص يف البنايات والناس‪ ،‬هذه األمم والقبائل حتمل معها ثقافاهتا‬ ‫وسلوكها وقيمها وع��اداهت��ا‪ ..‬كل منهم حيمل بيته ف��وق ظهره‪ ..‬وه��م يسريون‬ ‫الورى‬ ‫مجاعات وفرادى‪ ،‬منهم املبتسم ومنهم املتجهم‪ ،‬ويف وسط هذا السيل من َ‬

‫ّبات وغري منقّبات‪ ،‬يبعن‬ ‫ُ‬ ‫فتيات منق ٌ‬ ‫تقف البائعات السود‪ ..‬املتّشحات السواد‪ٌ ..‬‬

‫اجلالبيب واملناديل وك��ل ما تشتهي أن تشرتيه برياالتك أو دن��ان�يرك‪ ..‬تعال يا‬ ‫حاج! تعال يا حاج! اشرتِ يا حاج! بريال! خبمسة لاير! وهكذا‪ ..‬وفجأة ُ‬ ‫ختاف‬

‫وتنطلق السيقان كالريح املرسلة‬ ‫وحتتبس األنفاس‬ ‫وتربق العيون‬ ‫الفتيات البائعات ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫وتلملم بضاعتها بسرعة ال�برق‪ ،‬البلدية! البلدية! وك��أن البلدية غول‬ ‫أو أس��رع‬ ‫ُ‬ ‫رأيت الرعب يف عيوهنن‪ ..‬أدهشين هذا‬ ‫مرعب‪ ،‬وحش خميف‪ ..‬هه! اقسم إين ُ‬ ‫األمر‪ ..‬شر البلية ما يضحك‪ ..‬هه!‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪28‬‬


‫املوت يف امليدان ْ‬ ‫طن‬ ‫رددت ه��ذه األبيات‬ ‫كالكفن‪ ..‬ما أحلى ه��ذه الكلمات‪ ،‬لطاملا‬ ‫مت حط‬ ‫ُ‬ ‫الص ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫تداعب املشاعر العميقة‪ ،‬املشاعر اإلنسانية‪،‬‬ ‫اجلميلة للشاعر أمحد حجازي‪ ..‬إهنا‬ ‫ُ‬ ‫الصمت حط‬ ‫��وت يف امليدان ْط��ن‪..‬‬ ‫تغربت واليت‬ ‫تلك اليت‬ ‫عاشت الوحدة‪ ..‬امل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫صمت مدهش يتخلخل يف جوانب حياتنا‪ ..‬يوزعنا رذاذًا كرذاذ اليَ ّم‪،‬‬ ‫كالكفن‪ٌ ..‬‬ ‫ْ‬ ‫لست اقصد عدم الكالم‪ ،‬فالكالم يف كل مقام والضجيج‬ ‫ٌ‬ ‫صمت يف كل مكان‪ُ ،‬‬ ‫ميأل األرض‪ ..‬بل ذلك الصمت املقيت‪ ..‬يف بالدي الناس مشبعون بالالمباالة‪..‬‬ ‫يف بالدي القافلة تسري ببطء وال احد يكرتث‪ ،‬إال القليل والذين هم ال يكفون‪،‬‬ ‫وتعتورهم بني احلني واآلخر مشاعر اليأس واهلزمية‪ ..‬يف بالدي الناس قاعدون‪،‬‬ ‫تكثر ال��ش��ع��ارات واخل��ط��اب��ات‪ ،‬يف ب�ل�ادي امل��ن��ت��ق��دون ُكثُر‬ ‫ي��ش�يرون‪ ..‬يف ب�ل�ادي ُ‬ ‫واملراقبون ُكثُر واملشككون ُكثُر‪ ..‬بالدي فيها املهرولون إىل العيوب واهلارعون‬ ‫إىل األخطاء الذين يصبون املاء يف الرمال ويغطون الشمس بالغربال‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪29‬‬


‫الدراكوال‬ ‫مصاص الدماء مل يرحل بعد‪ ،‬وال يريد الرحيل‪ ..‬مشواره مل ينته بعد‪ ..‬يعيش‬ ‫ُ‬ ‫منذ عقود متشبث حىت املوت أو الالموت‪ ،‬دم ُه ثقيل ال يطاق وال يكرتث لتلك‬ ‫الصيحات وكل الصراخ‪ ..‬ارحل‪ ..‬ارحل‪ ..‬ارحل‪ ..‬مل يشبع بعد ومل تَ ْكفِه كل‬ ‫ال��دم��اء‪ ..‬فهو يشرب حىت متتلئ ال��ع��روق وينام كل الليل مث يفيق ويبحث عن‬ ‫طعم آخر من الدماء‪ ..‬لقد جفت كل الدماء وما تبقى سوى الدموع وما زال‬ ‫الدراكوال يصول وجيول ومن حوله كثريٌ من الدراكوالت‪ ،‬انتشر املوت يف كل‬

‫مكان ويف كل البالد‪ ،‬حىت األطفال ماتوا‪ ،‬يُقتلون ويُقطعون ويُسلخون‪ ،‬وقبور‬

‫مجاعية‪ ..‬فهم ال يريدونه ويكرهونه ح��د امل��وت وميقتونه ويطالبونه بالرحيل‪،‬‬ ‫وم��ا زال ال��دراك��وال يصول وجي��ول وم��ن حوله كثري من ال��دراك��والت‪ ..‬يسقط‬

‫ال���دراك���وال‪ ...‬الشعب يريد إس��ق��اط ال��دراك��وال‪ ..‬كفى ش��ربً��ا للدماء‪ ،‬فما بقي‬ ‫يف العروق سوى الدموع‪ ..‬ولكنه ال يفهم‪ ..‬ال يفقه شيئًا‪ ..‬يتمسك يف البقاء‬ ‫ويكشر عن أنيابه البيضاء‪ ..‬ويقتل كل يوم عشرات وال تردعه كل الصرخات‬ ‫وكل اآلهات‪ ..‬ال يكرتث لتلك الكلمات‪ ..‬ويبقى يصول وجيول‪ ،‬ويأىب الرحيل‪،‬‬ ‫تبق‬ ‫يأىب السقوط‪ ،‬وامل��وت يف كل الساحات‪ ..‬والدماء يف العروق جفت‪ ،‬ومل َ‬ ‫سوى الدموع‪ ،‬وتلك الصيحات املدوية يف األفق‪ ..‬اليت تأىب أن هتجع أو تنام‪..‬‬ ‫ارحل! ارحل! ارحل!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪30‬‬


‫أسد البحر‬ ‫حلما سعي ًدا‪ ،‬وقد زاره‬ ‫نائما مطمئنًّا‪ ،‬كان حيلم ً‬ ‫انقضوا عليه يف ليل ٍة سوداء‪ ،‬كان ً‬ ‫فضفاضا ابيض منريًا‪ ..‬بشره باجلنة‪ ..‬قال له آن أوان اجلنة‬ ‫لباسا‬ ‫ً‬ ‫رج ٌل مجي ٌل يلبس ً‬ ‫أيها املرحتل‪.‬‬ ‫لقد مجعوا له من كل قبيل ٍة رجلاً ‪ ،‬دامهوه وهو يصلي يف جوف الليل‪ ..‬أطلقوا عليه‬ ‫وابلاً من الرصاص والصواريخ‪ ..‬أطلقوا عليه كل ما ميلكون من نريان‪ ..‬كانوا‬ ‫خائفني‪ ،‬يرجتفون ويرتعدون‪ ..‬فاألسد يرقد يف ال��دار‪ ..‬تعاونوا عليه وتكاثروا‪،‬‬ ‫فقتلوه ومحلوه وألقوه يف البحر العميق‪ ..‬حىت ال يفيق‪..‬‬ ‫أيها ال��راق��د يف عمق البحار عليك ال��س�لام‪ ..‬ارق��د بسالم حيثما كنت‪ ،‬حيث‬ ‫الطمأنينة واهلدوء‪ ،‬حيث يسرتيح الفارس اجلميل‪ ،‬ذو العينني الطفوليتني اليت تأىب‬ ‫إال ان تتسرب إىل أعماق النفس وتسرح حيثما تشاء‪ ..‬فال يضرنّك يف أي حب ٍر‬ ‫ألقوك‪ ..‬ال جتزع‪ ..‬احلر ال جيزع وال خياف أين ميوت ومىت ميوت‪ ،‬فمهما فعل‬ ‫احلاقدون‪ ..‬دعهم يفعلون ما يريدون‪ ..‬فليحرقوا اجلسد وليمزقوه‪ ،‬ليقطعوه أشالء‬ ‫وليذروه مع الرياح‪ ..‬فالروح ال متوت وال تنتهي‪ ،‬بل تبقى إىل أبد اآلبدين‪..‬‬ ‫وحيهم! وويح كل اجلبناء! فقد ُشنق عمر املختار من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬شيخ اجملاهدين وأسد‬ ‫السائر في الدرب ‪31‬‬


‫الشيوخ‪ ،‬يقتلون كل من يكره الظلم ويأىب االهانة واخلنوع‪ ..‬ففي عقيدهتم هم‬ ‫األعلون‪ ،‬يف عقيدهتم كل اخلانعني املستسلمني واملنبطحني هم الرجال الصاحلون‪..‬‬ ‫أما الذين ميقتون الظلم ويرفضون االهانة فهم ال يستحقون احلياة‪.‬‬ ‫أيها الراقد يف مكان بعيد عليك السالم‪ ..‬أيها املتوسد رمل البحار عليك السالم‪..‬‬ ‫فأنت حر اآلن‪.‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪32‬‬


‫الصامتون‬ ‫ويأسر بقايا الذكرى وحلظات من الصمت املقيت‪..‬‬ ‫سكو ٌن خييم على األنفاس‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وارقب الطريق واألضواء‪،‬‬ ‫فأنتفض واق ًفا‬ ‫أمواج من الليل تعرتيين‪ ،‬تتلفعين وهتزين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ارقب السائرين املرتحنني ومجوع املهرولني‪ ..‬الوان‬ ‫وجنوم خلف أستار الغمام‪ُ ..‬‬ ‫ش�تى م��ن البشر حي��دق��ون يف األف��ق البعيد‪ ..‬أن��اس وأن���اس ال ي��ل��وون على شيء‪..‬‬

‫إال أن يسريوا مع السائرين‪ ..‬منهم املبتسمون‪ ،‬الصامتون والباكون‪ ..‬حيملون‬ ‫فهمهم للحياة‪..‬‬ ‫بيوهتم فوق ظهورهم‪ ،‬مشاعرهم‪ ،‬أحواهلم‪ ،‬أحالمهم وأحزاهنم‪ّ ،‬‬ ‫يفكرون آناء الليل وأط��راف النهار‪ ..‬مىت سيكون أفضل‪ ،‬وتنبعث من أفواههم‬

‫ع��ب��ارات‪ ..‬غ��دا إن ش��اء اهلل أف��ض��ل‪ ..‬آم��ن��ت ب��اهلل العظيم‪ ..‬احل��م��د هلل على كل‬ ‫شيء‪..‬‬ ‫يعود السكو ُن ليخيم على املكان‪ ،‬وختتفي النجوم خلف الغمام‪ ،‬وتنطفئ األضواء‬ ‫يف الطريق‪ ،‬ويهدأ الليل وهتجع األص��وات وخيتفي الناس‪ ..‬املرتحنون احلاملون‪..‬‬ ‫احلاملون على أكتافهم الزمان واحلاملون بغد مشرق‪ ..‬الصامتون‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪33‬‬


‫كوخنا‬ ‫يف كوخنا البعيد‪ ..‬تقامسنا االبتسامة والكلمة واللقمة‪ ،‬حىت انفاسنا تقامسناها‪..‬‬ ‫يف كوخنا البعيد‪ ..‬حيث اخليال‪ ،‬وازهار النرجس تعانق شقائق النعمان‪ ،‬حيث‬ ‫تبتسم النجوم وترقص على نغمات العصافري اخلضر املتمايله وال��ف��راش��ات‪ ..‬يف‬ ‫ترقب العيون الرائعات كل‬ ‫تعانقت ارواحنا‬ ‫كوخنا الصغري‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وامتزجت القلوب‪ُ ..‬‬ ‫القلب وترتع ُد املشاعر ويتسامى الفؤاد‪..‬‬ ‫ال��دروب‬ ‫ويبتسم الثغر اجلميل فيخفق ُ‬ ‫ُ‬

‫��ض ام��ام��ي وصدى‬ ‫واف��ق�� ُد اجل��اذب��ي��ة واط�ي�ر‪ ،‬اح��ل ُ��ق ف��وق ال��غ��ي��وم ال��ع��ال��ي��ات‪ ..‬ف�ترك ُ‬ ‫ونركض نتمايل ونرتنح‬ ‫انفاسها حيضنين‪ ..‬احاول ان امسكها فتتملص كاهلواء‪،‬‬ ‫ُ‬

‫كالثماىل‪ ..‬يف كوخنا البعيد‪ ،‬خلف االستار وخلف الضياء‪ ..‬كوخنا‪ ،‬ال تدركه‬ ‫وتنسكب االحاسيس يف كل‬ ‫العواطف‬ ‫متتزج‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫االبصار وال تلمسه احلواس‪ ،‬حيث ُ‬ ‫مكان‪ ..‬كوخنا البعيد‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪34‬‬


‫أمري املؤمنني‬ ‫ي��ه��دأُ ُ‬ ‫��اء ث��وهب��ا األرج�����واين‪ ..‬تلم ُع النجو ُم‬ ‫الشمس‬ ‫وتنطفئ‬ ‫الليل‬ ‫ُ‬ ‫وتلبس ال��س��م ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الكائنات‪ ،‬وأمس��ع نباح كلب بعيد وأضواء‬ ‫الطيور وهتج ُع‬ ‫يف السماء وتسكن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يداعب البيوت‪.‬‬ ‫نسيم مجي ٌل‬ ‫ُ‬ ‫الشوارع اخلافتة‪ٌ ..‬‬ ‫َ‬ ‫احبث عن الزوايا الدافئة‪..‬‬ ‫وانكمش يف‬ ‫اللحاف‬ ‫وأتلحف‬ ‫أخل ُد إىل النوم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الفراش ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويفرض سيطرته علي‪..‬‬ ‫واستسلم للنعاس‬ ‫النو ُم يداعب جفوين اشعر باإلرهاق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫احلم إين يف دولة‬ ‫حلم يالحقين‪ٌ ،‬‬ ‫حلم يراودين‪ٌ ،‬‬ ‫فأنام ملء جفوين‪ٌ ..‬‬ ‫حلم وردي‪ُ ..‬‬ ‫يلبس ديباجة بنفسجية ويشار إليه بالبنان‪ُ ،‬‬ ‫يقول فيسمع له‬ ‫فيها أمري املؤمنني‪ُ ،‬‬ ‫وتنتفض له األبدان‪،‬‬ ‫فرتتعش له القلوب‬ ‫جيلس يف اجملالس الكربى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويأمر فيُطاع‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫وتشخص إليه األبصار‪ ..‬أمريُ املؤمنني‬ ‫يتحدث فتصغي له اآلذان‬ ‫انه أمري املؤمنني‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ ..‬أمريُ املؤمنني أشار‪ ..‬غضب وتوعد‪ ..‬مثل هارون الرشيد‪ ..‬انه أمري دوليت‪..‬‬ ‫متطر الغيمة فيها‬ ‫دوليت ليس فيها عواصم وليس فيها حدود‪ ،‬دوليت ليس هلا أمساء‪ُ ،‬‬ ‫حيثما تشاء‪.‬‬ ‫حلم يظهر وأن��ا يف ٍ‬ ‫سبات عميق ويف ن��و ٍم هادئ‪..‬‬ ‫حلم مجي ٌل ُ‬ ‫يشرح ص��دري‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حلم ُ‬ ‫يشعل فيما تبقى من الليل كل الضياء‬ ‫وقت السحر‬ ‫ونسيم الفجر يداعبين‪ٌ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫أفيق فانظر حويل‬ ‫والشموع‪ ..‬ويسط ُع الضوء‬ ‫ُ‬ ‫وتنكشف الشمس ويضي ُع احللم‪ُ ..‬‬

‫السائر في الدرب ‪35‬‬


‫أفتش عن أمري املؤمنني وعن دوليت‪ ،‬فال أجد سوى وساديت وبقايا فنجان قهويت‬ ‫ُ‬ ‫وقنينة ماء فارغة‪ ،‬فيتجعد جبيين وتنكمش وجنيت‪ ..‬فتكشف نواجذي عن ابتسامة‬ ‫ال معىن هلا‪ ..‬فأقول انه حلم‪ ،‬ذلك احللم الذي يراودين‪ ..‬كثريا ما يراودين‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪36‬‬


‫حلظات تصرعني‬ ‫سم ُع‬ ‫ما أصعب االنتظار‪ ،‬وما اشد وقع اللحظات البطيئة‪ ..‬اليت ُ�ت َع ُد فيها األنفاس وتُ َ‬ ‫فيها خفقات القلوب والزفرات‪ ..‬ثقيل ٌة هي اللحظات اليت ننتظر فيها املصري‪..‬‬ ‫بئس املصائر ال�تي ترتبط بلحظات من ال��زم��ان‪ ..‬كم أن��ت قاسية يا ساعيت‪ ،‬ويا‬ ‫حائطي الذي احتضنتها‪ ..‬مل ال تسريين‪ ..‬هل أصابك العطب؟ أم اكتأبت؟ أم أن‬ ‫الكون توقف ومهد؟ حىت ساعة يدي مل تعد كما كانت‪ ..‬صمت الكون وسكن‪،‬‬ ‫توقفت‪ ..‬ومل تعد‬ ‫صمت شديد حىت االنزعاج‪ ..‬مل اعد امسع شيئًا‪ ..‬حىت األنفاس‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬

‫خفقات القلب‪ ،‬تربصي أيتها الساعات‪ ..‬افعلي ما تشائني‪ ،‬فأنا ال أخافك حىت‬

‫وان آملتين مبخالبك‪ ،‬حىت تلك األوق��ات اليت تغدريين فيها‪ ..‬امتطي كل اخليول‬ ‫وسلي كل السيوف‪ ،‬فلن اجزع ولن استكني‪ ،‬ال بد لليل أن ينجلي وتلك السيوف‬ ‫َ‬

‫البوارق ان تُغمد‪ ..‬حىت اللحظات اهلادئة اليت انتظر فيها وتساورين الشكوك‪ ،‬ال‬ ‫ختيفين‪ ،‬فانا اشعر باألمل رغم الكدر‪ ..‬احلياة ستبتسم‪ ،‬ال حمالة! كلمات اسطرها‬ ‫واحلزن الشديد يعرتيين‪ ،‬وال أقوى على البكاء وتأىب الدموع أن ترحيين فيعتصر‬ ‫قليب وختتنق أنفاسي‪ ،‬ال استطيع أن اصف مشاعري وأحاسيسي وتنتهي الكلمات‬ ‫وتقف احلروف وتتوارى األفكار‪ ..‬يا هلذه األعاصري اليت ختتلج يف نفسي‪ ،‬دوامة‬ ‫من الالوعي والتخبط‪ ،‬ترى ما الذي خيبئه لنا املستقبل؟ تعبت من التفكري وحريتين‬ ‫التساؤالت‪ ..‬كيف يل أن ارتاح وكيف للناس أن ينسوين؟ وان ال يتحدثوا عين‬ ‫السائر في الدرب ‪37‬‬


‫يف لياليهم الطويلة‪ ..‬يا هلذا العبث! اتركوا الناس أيها الساكنون حيث الظالم‬ ‫الدامس وحيث ال ترى العني وال تسمع األذن وال يتكلم البشر‪ ..‬أيها القاطنون‬ ‫فوق الرمال املتحركة‪ ..‬اتركوا الناس وشأهنم‪ ..‬اتركوهم يرمحكم اهلل‪...‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪38‬‬


‫أيها املعلم !‬ ‫َ‬ ‫العقول باحثًا عن جواب‬ ‫أيها املعلم! مل��اذا تضرب الطالب؟ س��ؤال طاملا خ��اجل‬ ‫مرض‪ ..‬أنا ال اشكك ولو للحظة بان اجلواب ليس باألمر البسيط ولو بدا ألول‬ ‫ٍ‬ ‫وهلة انه هني‪ ،‬فاإلجابة على هذا السؤال حتتاج اىل الوقوف كثريًا والتمعن مليًا‬ ‫فيما يفعله املعلم ب��ص��ورة ع��ام��ة يف امل��درس��ة‪ ،‬وع��ن��دم��ا ي��ط��رح ه��ذا ال��س��ؤال تعلو‬ ‫وبصورة ال إرادية أفكار ومصطلحات كثرية وتتضارب األطروحات والتساؤالت‬ ‫يف خميلة املعلم‪ ،‬من هو املعلم القوي؟ من هو املعلم الصارم؟ من هو املعلم اجليد؟‬ ‫ما املقصود باالحرتام؟ وما الفرق بينه وبني اخلوف؟ فاملعلم أولاً حيتاج أن جييب‬ ‫على هذه التساؤالت حىت يتمكن من اإلجابة على السؤال األول‪..‬‬ ‫فعلاً أيها املعلم! مل��اذا تضرب الطالب؟ واملعلم دائما على استعداد أن يربهن‬ ‫للجميع انه على حق‪ ،‬وان الضرب وسيلة هامة تساعد املعلم على التعامل مع‬ ‫الطالب يف الظروف القائمة‪ ،‬وهو يضع الفرضيات واملسلمات اليت تقود تفكريه‬ ‫وسلوكه كأن يقول‪ ،‬هم تعودوا على الضرب‪ ،‬ال يسمعون الكالم إال بالضرب‪،‬‬ ‫مسعت مربيًا فاضلاً يقول‪“:‬هذه امة ال ينفع معها إال العصا‪ ..‬والعصا‬ ‫حىت اين ُ‬

‫ملن عصى”‪..‬‬

‫طبعا أنا ال أحاول أنا اعطي احللول‪ ،‬واعلم أن من يده يف املاء ليس كمن يده يف‬ ‫ً‬ ‫طبعا ال أتفلسف! ولكين أضع التساؤالت أمامك أيها املعلم الفاضل‪ ،‬أضع‬ ‫النار‪ً ..‬‬

‫السائر في الدرب ‪39‬‬


‫حرييت بني يديك‪ ،‬فما الذي يفعله الضرب بعقول الطالب؟ ما الفائدة املرجوة من‬ ‫الضرب؟ هل هناك بديل؟ ما هو شعورك وأنت تفعل ذلك؟ وما شعورك وأنت‬ ‫ترى ابنك يُضرب أمامك؟‬ ‫مرة أخرى انا ال أُذنب أح ًدا ولكين حمتار واحبث عن جواب‪ ..‬فأيها املعلم! ملاذا‬ ‫تضرب الطالب؟‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪40‬‬


‫عرب على عرب‬ ‫أح��ج��م عقلي ع��ن ال��ت��ف��ك�ير‪ ،‬و أص��اب��ت�ني رج��ف��ة خلطت ك��ل أع��م��اق��ي‪ ،‬ك��ي��ف ال‬ ‫استغرب وكيف ال اهلع أو افزع أو ارتعب؟ عرب على ع��رب‪ ..‬جنود أقوياء‬ ‫أش���داء ي��ط��أون بأقدامهم الكبرية رؤوس ال��ن��اس‪ ..‬مقيدون ومكبلون‪ ..‬واجلنود‬ ‫يقفزون على ظ��ه��وره��م‪ ،‬يستجمعون ك��ل م��ا أوت���وا م��ن ق��وه وي��ض��رب��ون البطون‬ ‫وال��ظ��ه��ور وال����رؤوس‪ ..‬ع��رب على ع���رب‪ ..‬بئس م��ا يفعلون‪ ..‬ي��ا هل��ؤالء اجلنود‬ ‫غبارا‪ ..‬حرية! حرية! هذا‬ ‫“البواسل” إهنم يدقون األرض بأقدامهم ميلئون الدنيا ً‬ ‫ما تريد؟ يقولوهنا للثائر املكبل بالقيود‪ ،‬مث يطعنوه “بالبساطري”‪ ..‬فال يقوى على‬

‫ش��يء‪ ،‬إال أن يتأوه ويتأمل وي��ق��ول‪“ :‬حسيب اهلل ونعم ال��وك��ي��ل”‪ ..‬أبكتين تلك‬ ‫املشاهد‪ ،‬لمَِ كل هذا اجلنون؟ مل كل هذه “الساديّة”؟ الن الثائر قرر التمرد على‬ ‫املفسدين يف األرض وعلى ذلك املخبون‪ ،‬إمرباطور دمشق‪ ،‬ذلك املتسربل ثوب‬ ‫البغضاء‪ ..‬عرب على عرب‪ ..‬دوامة من األفكار جالت يف خاطري‪ ..‬ما كل هذا‬ ‫الزخم‪ ..‬اشعر بشيء غريب‪ ،‬حصار يكتم األنفاس فأحاول االبتعاد عن التفكري‬ ‫يف هذا األمر فيعرقل الدجى خطاي واملكان احلالك بالسواد يربض على صدري‪،‬‬ ‫ضجيج يعتصر ال��روح من‬ ‫التمس الطريق عرب األفكار فيختلط اآلن وامل��ك��ان‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫الروح‪ ..‬فما الذي أوقد كل هذا احلقد البغيض؟ وما الذي افرغ يف الكون كل‬ ‫هذا الظلم املميت؟ رغبة عمياء توزعت بقايا كدر ورماد‪ ..‬عرب على عرب‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪41‬‬


‫زمن الغفلة‬ ‫زمن فيه الغافلون النائمون يسريون يف طريق يكتنفه الضباب من كل صوب‪،‬‬ ‫وتدور َرحى األيام وتتسارع خطى الزمان ويصعب‬ ‫كثيف حد العمى‪..‬‬ ‫ضباب ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫حلظات ممتلئ ٌة حد الثقل املقيت‪ ..‬يكاد املرء جيزم فيه أن‬ ‫على املرء متابعة اللحظات‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫األمس هو اليوم وأن الغد آت دومنا استئذان‪ ..‬زم ٌن زالت منه الربكات‪ ،‬ويتساءل‬ ‫فيه املرء عن تلك اللحظات الطويلة اجلميلة‪ ،‬حلظات من السمر واألصدقاء سواء‪،‬‬ ‫واالنتظار الذي غاب منذ أمد بعيد‪ ..‬انتظار اللحظات تلو اللحظات والدندنة‬ ‫على أوتار الزمان‪ ،‬زمان كان يلحن سيمفونية ترتنح أحلاهنا دون انقطاع‪ ،‬وتدور‬ ‫األيام ومتر السنون دومنا فتور‪ ..‬وال ندري كم هي أعمارنا‪ ..‬عشر من السنوات ال‬ ‫تسري‪ ..‬عشر من السنوات دون تغيري‪ ..‬عشر من السنوات جتمدت يف أرواحنا‪..‬‬ ‫ومضات سريعة من الوعي حىت تدوي سنوات‬ ‫والزمان أسري ويسري‪ ..‬وما هي إال‬ ‫ٌ‬ ‫األرب��ع�ين‪ ..‬يف األرب��ع�ين م��ن العمر! واألح��اس��ي��س وامل��ش��اع��ر م��ا زال���ت يف العشر‬ ‫سنني‪ ..‬زمن االج�ترار‪ ،‬زمن جيرت األيام واللحظات‪ ،‬يكفكف غيلة إحدى يديه‬ ‫ويبسط للوثوب علينا أخرى‪ ..‬زمن الالشعور وساعات من الالوعي‪ ..‬اليوم أمس‬ ‫حني‪ ،‬منوت وكأننا مل نذق‬ ‫وأمس غد‪ ..‬وامل��وت آت ال حمالة‪ ،‬منوت وكأننا مل َ‬ ‫السائر في الدرب ‪42‬‬


‫طعم احلياة‪ ..‬وتبكي العيون تلك الذكريات وتلك اللحظات اليت كانت تلتقي‬ ‫فيها األنفاس وتصطف األكتاف على األكتاف‪ ..‬تسارع الزمان يقتلنا ويشتتنا‬ ‫أش�لاء حيث ال ن���دري‪ ،‬حيث خيتلط اآلن وامل��ك��ان‪ ..‬زم��ن الغفلة‪ ..‬والغافلون‬ ‫النائمون يف زمن االجرتار وزمن الالشعور‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪43‬‬


‫كلمات ليست كالكلمات‬ ‫ٍ‬ ‫فيصبح الواقع خيال‪،‬‬ ‫قطرات من املاء‪..‬‬ ‫رشق‬ ‫تقرع‬ ‫األمطار الطبول‪ ،‬وعلى الشباك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ترقب الطريق والكلمات‪ ..‬كلمات‬ ‫تراه عرب النافذة سراب‪ ..‬وعيون شاخصات ُ‬ ‫وترفض العيون أن تبوح وختفي‬ ‫تضج باحلنني واآله���ات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ليست كالكلمات‪ُ ..‬‬ ‫األسرار‪ ،‬وحتمل ما ال حتتمل من أثقال‪ ،‬وتستحي أن تذرف ما تبقى من العربات‬ ‫ُ‬ ‫وختجل من كل الصبايا والفاتنات‪ ..‬فالبكاء ليس من شيم الرجال ‪ ‬والضعف‬ ‫ليس من صفة الرجال‪ ،‬وعلى الشباك رشات مطرٍ‪ ..‬فرتى احلقيقة عربه خيال‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪44‬‬


‫احذري‬ ‫اح����ذري! أيتها اللحظات اجمل��ن��ون��ة ك��ل اجل��ن��ون‪ ،‬وامل��ت��أب��ط��ة ك ً��م��ا م��ن الالمعقول‬ ‫واملستحيل‪ ،‬وأنت تسريين خبطواتك السريعة هترولني‪ ،‬احذري! متهلي وال ختتايل‪،‬‬ ‫فال احد حيب اخليالء وال احد حيب املتكربين السائرين يف الطريق دون التفات‪..‬‬ ‫اح��ذري! من كل الغرور‪ ،‬فالسماء بعيدة والنجوم لن تزيين هبا شعرك األسود‬ ‫الطويل‪ ..‬متادي وتسلقي كل احلبال للوصول إىل الشهب العاليات‪ ..‬فلن تلمسيها‬ ‫ولن تأخذي منها لوهنا الذهيب‪ ،‬توقفي أيتها اللحظات! وكفي عن العويل! اصميت‬ ‫فالصمت أمجل األفعال‪ ،‬وأه��دأي‪ ،‬وهدئي من روع��ك‪ ،‬فاحلياة أمجل من ان منر‬ ‫عليها مر الكرام‪ ..‬احذري! أيتها اللحظات‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪45‬‬


‫الثأر‬ ‫زم ٌن كجلمود صخ ٍر ّ‬ ‫حطه ُ‬ ‫عل‪ ..‬يا لتلك الرائحة النتنة وتلك الغيمة‬ ‫السيل من ٍ‬ ‫السوداء املتلفعة ثوب من غمام اسود حىت احلداد‪ ..‬شر يتطاير يف أنفاس الناس‪،‬‬ ‫الروح املعتصرة من احلزن الشديد والكره الشديد واحلقد الشديد‪ ..‬موت‬ ‫ُ‬ ‫تنبعث ُ‬ ‫وقتل وتشرد‪ ..‬آهات من بعيد‪ ..‬اللعنة على زمن يتحول من فرح إىل ترح يف اقل‬ ‫من جزء من الثانية‪ ،‬قبل ان يرتد إليك طرفك‪ ..‬ما الذي حدث؟ ملاذا كل هذا‬ ‫وآهات التشرد تأن يف كل مكان‪..‬‬ ‫صرخات تدوي يف كل آن‪،‬‬ ‫املرج واهلرج؟‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الرأس على العقب‪ ،‬ومل يبق اال التحمل‪ ،‬مل يبق سوى البكاء‪ ،‬حىت جتف‬ ‫انقلب ُ‬ ‫العيون‪ ،‬حىت تتشقق الوجوه‪ ..‬يا لصيحات التشرد‪ ،‬ويا لصيحات الثأر‪ ..‬يا لَعبث‬ ‫العابثني!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪46‬‬


‫الليربالية‬ ‫��ات متنوع ٌة وخمتلف ٌة ت��دور رحاها بال ه��وادة وال رمح��ة‪ ..‬الكل يصيح من‬ ‫ص��راع ٌ‬ ‫عنده ويتش ّدق مبا ميتلك من كلمات ومصطلحات‪ ..‬واجلميع يشد بطرف الثوب‬ ‫علّه حيصل على احلصة األكرب‪ ..‬قد يكون صراعاً طبيعيًا لكون الدميقراطية تعين‬ ‫االختالف والتنوع‪ ،‬فاخلالف ال يفسد للود قضية‪ ..‬هذه لعبة الدميقراطية‪ ..‬إرادة‬ ‫الشعوب‪ ..‬اقصد تلك الشعوب اليت تفهم قوانني هذه اللعبة‪ ،‬فالدميقراطية ليست‬ ‫اختيار ما تريد‪ ..‬بل اختيار ما يتماشى مع روح العصر‪ ،‬يعين ال تكن غبيًا وختتار‬

‫م��ن ت��ري��د أن���ت‪ ،‬ب��ل اخ�تر م��ا ي��ري��دون منك أن خت��ت��ار‪ ..‬ألن��ك حينها ل��ن تكون‬ ‫دميقراطيًا‪ ..‬بل ستكون قندهاريًا أو بنالدينيًا‪ ..‬عجيب!‬

‫ُكشف الغطاء‪ ،‬فبصرك اليوم حديد‪ ..‬أمور قد ال نكون نتصورها أو ال نريد أن‬ ‫طبعا أن كنت تشمئز من‬ ‫نتصورها على االقل‪ ..‬صراع بني الليربالية واإلسالمية‪ً ..‬‬

‫مصطلح “ليربالية”‪ ،‬فيمكنك استخدام مصطلح “ َعلمانية” أو “مدنية”‪ ،‬ورغم‬ ‫إن اإلس�لام ليربايل بطبعه ومدين‪ ‬بكل ما تعنيه الكلمة من معىن‪ ،‬إال أن اللعب‬

‫باملصطلحات وما حتتويه من معىن هو املصيبة الكربى‪ ..‬فكيف ال يكون اإلسالم‬ ‫مدنيًا وهو الذي أسس القوانني وشرع أسس احلياة واملعامالت‪ ..‬وكيف ال يكون‬

‫اإلس�لام ليربالياً وهو ال��ذي يعطي احلرية واحل��ق للجميع ويدعو إىل املساواة بني‬ ‫اجلميع وعدم اإلكراه أو الغصب‪ ..‬أن كل ما يف األمر هو أن الليربالية أو املدنية‬ ‫السائر في الدرب ‪47‬‬


‫أو العلمانية اليت يدعون إليها ويتفوهون هبا‪ ،‬واليت هي حلوة يف معناها إال أهنا مرة‬ ‫يف استخدامها‪ ،‬كلمة حق يراد هبا باطل‪ ..‬هي ترك الدين‪ ..‬ليس هذا فقط بل‬ ‫وخلعه من القلوب واألبصار‪ ،‬فما هلل‪ ،‬هلل وما لقيصر‪ ،‬لقيصر‪ ..‬ال دين يف الدولة‬ ‫وال دولة يف الدين‪ ..‬هم يريدون مطاردة اإلسالم حيثما يكون‪ ..‬عجيب!‬ ‫‪ ‬تتعرى إحدى الناشطات السياسيات كما يدعوهنا وتقول أنا حرة‪ ..‬فهو زمن‬ ‫الليربالية‪ ،‬احلياة بال قيود‪ ..‬كل إنسان يفعل ما حيلو له‪“ ..‬التعري” هو الليربالية‪..‬‬ ‫عجيب!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪48‬‬


‫تنقلب االمور‬ ‫كانوا يعانون اشد أنواع الظلم يف عهد الطغاة‪ ،‬وكانوا رمو ًزا للنضال والكفاح‬ ‫ومعارضة السلطان‪ ،‬ومل يكن جيرؤ احد من السياسيني ورموز السياسة وكل من‬ ‫يكتنفهم من إعالميني وصحافة على أن يقولوا كلمة حق يف وجه السلطان‪ ..‬كان‬ ‫هؤالء يتخافتون يف الزوايا املظلمة وميارسون كل أنواع النفاق وكان يُسمح هلم‬ ‫أحيانًا بان يُظهروا شيئًا من املعارضة املتصنعة للحاكم حىت ال يبدوا كأهنم صور‬ ‫متحركة‪ ..‬يف تلك الفرتة حيث كان يكثر الفساد والنفاق واغتصاب احلقوق‬ ‫وال��ك��ل��م��ات‪ ،‬ك��ان��وا يقبعون يف غياهب اجل��ب وال��س��ج��ون‪ ،‬ومي���ارس عليهم شىت‬ ‫أنواع التنكيل‪ ،‬وكانت حقوق اإلنسان ال تتكلم أو تتكلم على استحياء‪ ،‬وكان‬ ‫اإلعالم يصيح‪ :‬عاش! عاش! امللك! وكانت الرموز السياسية املتشدقة بكلمات‬ ‫احلرية والوطنية تنام على سرير من ريش نعام‪ ،‬وتسجد للسلطان وتكلمه حبياء‪،‬‬ ‫وش��اء اهلل العلي القدير أن يتسلموا مقاليد احلكم رغ��م كل امل��ن��اورات واخلدع‬ ‫املصورة والغري مصورة‪ ..‬فاجتهدوا وأصابوا واخطئوا‪ ،‬وظهر الفساد يف األرض‬ ‫ليقاوم احل��ق وتكلم ك��ل متكلم وفصيح‪ ،‬بكلمات ال تنم إال على حقد دفني‬ ‫وك��ره مقيت‪ ،‬وب��ذل��وا الغايل والرخيص كي يتمكنوا من إفشاهلم‪ ،‬وحت��ول��وا من‬ ‫السائر في الدرب ‪49‬‬


‫أبطال املرحلة إىل اجلالس يف قفص االهتام‪ ،‬وأصابع اإلعالم تلكزه يف كل حني‪،‬‬ ‫والسياسيون املنافقون ال يتوقفون عن بث السموم يف كل مكان‪ ..‬حىت صاح‬ ‫الذين ال يفقهون‪ ،‬ال ل�لإس�لام‪ ..‬ال ألسلمه ال��دول��ة و النظام وال��رج��وع بالدولة‬ ‫املدنية اىل عصور غابرة كان جيلس فيها حممد ابن عبد اهلل صلى اهلل عليه وآله‬ ‫وسلم مع أصحابه يديرون العامل من حوهلم بكل أرحيية ونظام‪ ..‬وهم ميلئون الدنيا‬ ‫عدل ومساواة‪ ..‬فعجيب!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪50‬‬


‫القيامة‬ ‫انتفض اجلس ُد امليت منذ زمان‪ ،‬وانتصب املار ُد بعد رقاد طويل وانكسار وابتسمت‬ ‫احلسون فوق احلقول‬ ‫الشفاه واشرأبّت األعناق وج��اءت نسائم احلرية ورف��رف ّ‬ ‫اخلضراء‪ ،‬وزغردت النساء وركض الصغار واكتحلت الصبايا‪ ..‬ما أمجل نسيم‬ ‫احلرية وما أحسن أنشودة بالدي‪ ،‬أنشوديت اليت ما غنيتها منذ مولدي‪ ،‬وكنت‬ ‫امسعها من جدي وجديت وكان جدي يرفع ذراعيه إىل السماء وهو يغين‪ ،‬وكان‬ ‫يبكي‪ ،‬وتستمر اللحظات السعيدة وحلظات األم��ل وال�ترق��ب‪ ،‬ترقب الطريق‪..‬‬ ‫وحل��ظ��ة ت��غ��رب فيها الشمس وت��غ��رق يف م��ك��ان ن��اء بعيد‪ ،‬حيث يقطن يأجوج‬ ‫ومأجوج‪ ،‬وحيث يرقد ذو القرنني‪ ..‬فيلبس الليل النهار وينفض عنه كل األحزان‬ ‫وك��ل م��ا اق�ترف م��ن خطايا وذن���وب‪ ،‬يف تلك اللحظة ال�تي مت��وت فيها الشمس‬ ‫وروح��ا ساكنة يف جوف الظالم احلزين‬ ‫وحييا الليل‪ ..‬أناجي نسمة مجيلة عليلة‬ ‫ً‬ ‫ال��ذي ي��رزح حتت هضاب من مجاجم وض��ل��وع‪ ..‬أناجيك أيتها النفس املطمئنة‬ ‫اليت غادرت أجسا ًدا تكدست وحتطمت من شظايا احلروب‪ ..‬أيتها الروح الطيبة‬ ‫الربيئة اليت مل تلوثها يد الزمان‪ ،‬أما آن لك أن تتجلي وتظهري وحتطي‪ ،‬أما آن أن‬ ‫تأيت‪ ..‬ها أنذا ارقب الطريق الطويل وارقب اللحظات اليت تسري ببطئ مقيت‪..‬‬ ‫ومل ت��أيت بعد‪ ،‬ومل تظهري بعد‪ ..‬فكم من السنوات جيب أن ابكي وك��م من‬ ‫السائر في الدرب ‪51‬‬


‫ال��س��ن��وات علي أن أص��ي��ح‪ ..‬لقد بكت العيون ح�تى جفت وتعبت احلناجر من‬ ‫الكالم‪ ،‬وتشققت األقدام من الوقوف‪ ،‬فهل صحيح ما يقال‪ ،‬أنك لن تأيت أبداًّ؟‬ ‫ولن تبعثي األمل يف كل النفوس؟ وان احلروب وجحافل اخليول الغريبة ستبقى؟‬ ‫وسيبقى اهلرج واملرج؟ وتدق ساعة النهاية؟ وتقوم القيامة؟‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪52‬‬


‫صوت الرصاص‬ ‫حىت الصوت اخلافت املتواين‪ ..‬حىت اهلمس‪ ،‬يعلو فوق صوت الرصاص واملدافع‪،‬‬ ‫ويعلو احل��ق ول��و بعد ح�ين ويبقى ص��وت اإلن��س��ان ي���دوي يف األرج����اء‪ ..‬ي��ا نار‬ ‫كوين بر ًدا وسال ًما على محص ومحاه وسائر بالد الشام‪ ..‬تتمزق األبدان وهتمد‬

‫األن��ف��اس وتصعد األرواح يف ك��ل م��ك��ان‪ ،‬وتتبعثر ال��دم��اء يف ال��ش��وارع واألزقة‬ ‫وتلطخ اجل����دران‪ ،‬وتبقى ال��ع��زة ف��وق ك��ل ش��يء‪ ،‬احلرية م��ن العبودية‪ ‬وتكسري‬ ‫األصنام بفأس إبراهيم‪ ..‬ويتحدث كبريهم ويشري إىل املذنبني عابدي الع ّزى و ُهبل‬

‫ومناة‪ ..‬حىت اهلمس يعلو فوق أزيز الطائرات‪ ،‬حيطم املراوح الكبرية والدبابات‬ ‫خراطيمها الطويلة‪ ،‬تلفظ الشر واملوت‪ ،‬ويطري عزرائيل يف السماء وتبكي املدن‬ ‫واحل��ن��اي��ا‪ ،‬وتبقى ال��ع��زة ف��وق ك��ل ش���يء‪ ..‬ختتفي ال��ف��راش��ات ومت�لأ طيور الغراب‬ ‫السماء‪ ،‬ويهرب الناس واألطفال والنساء‪ ..‬ويسمع الصياح يف وسط الضوضاء‪..‬‬ ‫املدافع وغبار الدبابات ودخان احلرائق‪ ،‬وقهقهة اجملرمني ودق الطبول‪ ..‬يهللون‬ ‫ويتبولون يف كل شارع‪ ..‬املفسدون يف األرض‪ ..‬وصوت مهسات املظلومني يعلو‬ ‫فوق صفري الرصاص‪ ،‬وتبقى صرخة الثكلى تزف الشهداء كل يوم‪ ،‬ومل يبقى من‬ ‫األكفان ما يكفي‪ ،‬ويدفن الشهداء بال أكفان ومل يبق متسع من مكان‪ ،‬وتبكي‬ ‫القبور من شدة الزحام‪ ،‬ومل يبق من حيفر القبور‪ ..‬وما أكثر النساء الباكيات يف‬ ‫دنيا العرب‪ ..‬وتبقى العزة فوق كل شيء‪ ..‬مهما طال الزمان ومهما تكدست‬

‫السائر في الدرب ‪53‬‬


‫األحداث يبقى صوت اهلمس أعلى من صوت الرصاص املرتامي يف كل صوب‬ ‫وتبقى الكلمة احل��ق ف��وق ك��ل ال���راي���ات‪ ..‬ي���زول الظلم وتتحطم األص��ن��ام‪ ..‬إذا‬ ‫جاء نصر اهلل والفتح‪ ..‬وتتفتح شقائق النعمان لتبقى دليلاً على الشهداء وتبقى‬ ‫الكلمات حىت اهلمسات تعلو هدير احلروب وأزيز الطائرات‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪54‬‬


‫النفس‬ ‫م��رت م ّ��ر ال��ك��رام‪ ..‬ع��زي��زةٌ ت��أىب ال��رك��وع ف��وق ك��وم��ة م��ن الضغينة واالحتقار‪..‬‬ ‫تكفكف‬ ‫نفس ترفعت‪ ..‬أعاصري من األي��ام واللحظات‪ ..‬الساعات ال��ط��وال‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫نفس بريئ ٌة وجريئ ٌة تعيش يف‬ ‫غيلة أحدى يديها‬ ‫وتبسط للوثوب عليها أخرى‪ٌ ..‬‬ ‫وتنشر احلقائق فوق‬ ‫دوام��ة من االلتفاف وال�ترب��ص‪ ..‬تول ُد النفس‪ ..‬تشع بياضاً‬ ‫ُ‬ ‫كل شيء‪ ..‬متر اللحظات والساعات فتهوي يف خندق األكاذيب وتتسربل ثوب‬ ‫البغضاء‪ ..‬تدافع عن نفسها عن كياهنا وعن سيف مسلول يف وجهها‪ ..‬كيف ال!‬ ‫وحلظات الزمان متر مر الكرام ال هتتم وال تلتفت ألي شيء‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪55‬‬


‫الفراق‬ ‫يف كثري من األوقات تسري األمور ليس وفقاً ملا نشتهي‪ ..‬أحيانًا حنب كثريًا وأحيانًا‬ ‫الدهر ذو دول‪..‬‬ ‫أخ��رى نكره كثريًا‪ ،‬ويبقى القلب خيفق وخيفق حىت امل��وت‪ُ ..‬‬ ‫واأليام تسري وتتخطى كل العقبات وكل اآلهات‪ ،‬مهما كانت صعبة‪ ..‬و لو كان‬ ‫األمر بيدينا‪ ،‬ال ادري أيكون األمر سهل أم صعب‪ ..‬فال تكرهوا شيئًا عسى أن‬ ‫يكون خ�يرًا‪ ..‬كثريًا ما كنت أق��ول أن احلياة تشبه نظرية يف الرياضيات وتشبه‬ ‫التموجات امللتقية واملتباعدة‪ ..‬احلياة فيها كثري من االلتقاء وفيها أيضا ما يعادله‬ ‫من الفراق‪ ..‬التقاء مث ف��راق‪ ،‬وهكذا‪ ..‬سنة اهلل يف خلقه‪ ..‬وحنن نكره وحنب‪،‬‬ ‫وخيفق قلبنا حيث ال جيب أن خيفق‪ ،‬وحتن أكبادنا حيث ال جيب أن حتن‪ ،‬وكأن‬ ‫لنا يد يف هذا أو ذاك‪ ..‬أعجب من حالنا !‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪56‬‬


‫الغدر‬ ‫أي��ه��ا ال��زائ��ف��ون‪ ،‬امل��ت��خ��ب��ط��ون يف ك��ل م��ك��ان‪ ،‬امل�ترحن��ون خب��ط��وات يقتلها الشعور‬ ‫بالدونيّة‪ ..‬ما الذي أوقد فيكم كل هذا البغض الشديد‪ ..‬أيتها اخلفافيش بلون‬ ‫سواد الليل واليت تسعى من خلف الستار‪ ،‬حتك مبخالبها كل ج��دار‪ ،‬وليس هلا‬ ‫سوى العبث بكل األق��دار‪ ..‬ال هتدف إىل شيء سوى اخلراب والدمار‪ ..‬عيون‬ ‫ميألها احلقد البغيض وترسل بريق خداع وبغضاء‪ ..‬أيتها اخلفافيش السوداء أو‬ ‫احلمراء أو الصفراء‪ ،‬أي لون أنت‪ ،‬ال يهم‪ ..‬فأنت مثل احلرباء‪ ،‬كل يوم أنت يف‬ ‫لون‪ ..‬اظهري حىت أعرفك‪ ،‬حىت ال تكوين من اجلبناء‪ ،‬أفصحي عن تلك الرغبة‬ ‫العمياء يف حقن السموم يف كل األجساد‪ ،‬أيتها الشخصيات الزائفة الورقية‪ ..‬ما‬ ‫كل هذا اهلراء‪ ..‬انك تتمرغني يف الطني ويشطفك رذاذ من الكراهية والالمباالة‪..‬‬ ‫وحي��ك! أحتسبني ان��ك تفعلني ال��ص��واب؟ وأن��ت ترمني احلجارة يف كل صوب‪..‬‬ ‫وأنت تتشبثني حببال بالية‪ ،‬حبال احلقد واحلسد‪ ..‬كيف ال؟ وأنت تتهمني كل‬ ‫األبرياء ويف ساعات الليل املتأخرة تبعثرين كل األوراق‪ ،‬وتدسني الرسائل وتكتبني‬ ‫وتشتكني‪ ..‬أيها الزائفون‪ ،‬املتغطرسون‪ ،‬املتشدقون‪ ،‬املهلوسون! انتم كما قال‬ ‫دروي���ش‪ ،‬أيها ال��ع��اب��رون ب�ين الكلمات ال��ع��اب��رة‪ ..‬فانتم ع��اب��رون وستمر السنون‬ ‫عليكم مر الكرام ولن ترتكوا آثاركم يف رمل احلياة‪ ..‬كل صيحاتكم تدوي يف‬ ‫الفراغ‪ ،‬صداها يعود عليكم باللعنة والدونية‪ ،‬أيها الزائفون اعلموا أنكم زائفون‪،‬‬ ‫ستبقون زائفني ولن تظهروا‪ ،‬كخفافيش الليل تعمل يف الظالم‪ ،‬فهذا ما تستحقون‪.‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪57‬‬


‫الشيزوفرينيا‬ ‫يف كثري من اللحظات تتهاوى فيها العقول وتنساب فيها املشاعر لتستسلم اجلوارح‬ ‫وتنقاد النفس إىل ما ال تفهمه وما ال تعيه‪ ،‬إىل حيث تكثر األشباح بال صورة‬ ‫ُ‬ ‫وتغرس فيها كل الشحنات‬ ‫طعم‪ ..‬حترك يف النفس كل الطاقات‬ ‫وال صوت وال‬ ‫ُ‬ ‫وتدور وال تقف حىت تستكني‪ ..‬تتحرك الساكنات من‬ ‫تدور وتصع ُد يف السماء‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫حوهلا وتضحك اجلمادات وهتمس إليها بكلمات وتكلمها الكائنات‪ ..‬ومضات‬ ‫من مالمح غريبة تشعها يف النفس فال تعلم ما تفعل وما تقول‪ُ ..‬‬ ‫خيتلط كل شيء‬ ‫غلق الدوائر‪ ،‬فيتهامس من حوهلا ويضحك‬ ‫فيصبح اخلطأ صواب والصواب خطأ وتُ ُ‬ ‫الضاحكون ويغمز الغمازون‪ ،‬فتنكمش وتستحي وختجل من نفسها‪ ،‬فال تعلم‬ ‫أي الفريقني ترى وأي منهم واقع وأيهم اخليال‪ ،‬فتنطلق لتنزوي يف مكان مظلم‬ ‫الشيخ سورة الفاحتة والبقرة‬ ‫انس وال جان‪ ..‬ويقرأُ ُ‬ ‫حالك السواد‪ ،‬ال يراها فيه ٌ‬

‫ويبتسم‬ ‫مس من اجلن‪ ،‬سحر ُة موسى‪..‬‬ ‫وآل عمران‪ ..‬وبسم اهلل الرمحن الرحيم‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وص ّفد يف األغ�لال ول��ن يعود‪ ،‬وم��ا زال احل��ال هو‬ ‫ُ‬ ‫الشيخ‪ ..‬الب��د ان��ه قد اختفى ُ‬

‫احلال‪ ..‬الواقع خيال واخليال واقع وما زالت األنفاس تلهث وتبكي العيون وتنهمر‬ ‫العربات‪ ..‬جنون‪ ..‬وهم أم خيال‪ ،‬ال عقل وال إحساس‪ ..‬ويضحك الضاحكون‬

‫وتنحصر وتتقوق ُع يف مكان مظلم حىت ال يراها‬ ‫النفس‬ ‫ويغم ُز الغمازون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتنكمش ُ‬ ‫ُ‬ ‫فيسيطر اخل��ي ُ‬ ‫��ال على‬ ‫اح��د ح�تى ال يُ��ق��ال أُصيبت ب��اجل��ن��ون‪ ..‬وت���دوي الصرخات‬ ‫ُ‬ ‫الواقع فتضيع ويضيع من حوهلا‪ ،‬وهتوي يف مكان عميق خميف‪ ،‬ويبكي الباكون‬

‫السائر في الدرب ‪58‬‬


‫ويندهش املستهزئون ويعاقب املعاقبون‪ ..‬اقتلوا الشيطان واقتلوا الشر يف العيون‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وتكثر التساؤالت وتتوقف الضحكات‪ ..‬جنون وترهات تشعها النفوس يف كل‬ ‫مكان‪ ..‬فيختلط اآلن‪ ‬واملكان وتكثر التساؤالت‪ ..‬حلظة من جنون النفس‪ ..‬حلظة‬ ‫من جنون‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪59‬‬


‫حنني‬ ‫وأصوات األهازيج تعلو‬ ‫تدنو الشمس من املغيب وخيتلط اللون األرجواين بالسواد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف كل مكان‪ ..‬عن نفسها وعن حياهتا حدثتين‪ ..‬وعن علقم الدهر وغدر الزمان‪،‬‬ ‫وعن سيف مسلول يف وجهها‪ ،‬ترهات تشعها النفوس‪ ،‬فكيف ال ابغض الناس؟‬ ‫وكيف ال اكره الكائنات؟ دوي خيلخل العظم وحيبس األنفاس‪ ..‬أيتها الساكن ُة‬ ‫يف كل مكان واملتأبط ُة كل زم��ان وأيتها الزهرة املتلفعة لون البياض‪ ،‬هتمسني‬ ‫ويف مهساتك حل��ن ح��زي��ن‪ ،‬فيطرق ال��ف��ؤاد لتلك امل��ع��اين املتناثرة وتلك احلروف‬ ‫الراقصة ‪ ‬ويصغي لعزف أنفاسك ووقع حلظاتك‪ ،‬صفعات من احلياة تلطم الكيان‬ ‫فتدوي عرب مسامعي‪ ..‬ترتحنني يف كل مكان وتطردي كل القلوب ‪ ‬وتكشرين‬ ‫عن أسنانك اجلميلة وتشيحني بأظافرك‪ ‬ويف عينيك اجلميلتني شهب وضياء‪ ،‬ويف‬ ‫ني يعتصر القلب‪ ،‬آيت‬ ‫طواياك خيفق قلب مجيل وشفاه هتمس بلحن أصيل‪ ،‬حن ٌ‬ ‫من بعيد‪ ،‬من عمق احلكايات وأساطري األولني‪ ،‬أيتها الزهرة البيضاء امهسي لكل‬ ‫الكائنات فشفاهك اجلميلة تصدر أحلى الكلمات‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪60‬‬


‫اجلنية‬ ‫كنت حينها انظر إىل فنجاين القهوة‪ ،‬يف ساعات الصباح‪ ،‬احتسي منه رشفة مث‬ ‫أمتعن يف نفسي وبعد حلظات احتسي رشفة أخري‪ ..‬بصراحة أنا مغرم بالقهوة‬ ‫انظر إليه‬ ‫وخاصة يف ساعات الصباح الباكر‪ُ ،‬‬ ‫أحب أن انفخ يف الفنجان أوالً مث ُ‬

‫وأمتعن فيه ويف لون القهوة وهي تتموج وتلم ُع كما يلمع النحاس‪ ..‬هذه‬ ‫بره ًة‬ ‫ُ‬

‫وسواس‬ ‫اشعر بتوتر شديد‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫عاديت ال بد أن انفخ يف الفنجان أولاً ‪ ،‬وان مل افعل ُ‬ ‫��ري‪ ..‬ه��ه! وبينما أن��ا على تلك احل��ال��ة وإذ بعفريته تتنطط ف��وق رأس���ي‪ ،‬مل‬ ‫ق��ه ٌ‬ ‫َأره��ا ولكنها كانت تقفز يف كل مكان‪ ،‬جنية! وكانت تضحك وهي تداعبين‬ ‫بأصابعها اليت مل أره��ا‪ ،‬وكأين امسعها واشعر هبا وهي تلمسين‪ ،‬تستور اسم اهلل‬

‫الرمحن الرحيم‪ ..‬قل أعوذ برب الفلق‪ ..‬جنية! ‪ ‬عفريتة! ‪ ‬فقالت يل‪ ،‬أريد رشفة‬ ‫م��ن القهوة‪ ،‬أري��د ق��ه��وة! هكذا أخ��ذت تصيح وه��ي تضحك وتقهقه‪ ،‬فخبأت‬ ‫قمت ان ُفضها من على جسدي ومن رأسي‪ ..‬قل أعوذ‬ ‫فنجاين وانكمشت‪ ،‬مث‪ُ ‬‬

‫برب الفلق‪ ..‬قل أع��وذ برب الفلق‪ ..‬وهي ما زال��ت تضحك وتضحك‪ ،‬وتارة‬ ‫وخلت نفسي‬ ‫تغمزين وتارة أخرى هتمس يف أذين‪ ..‬قشعريرة أصابت جسدي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫احدث نفسي‪ ..‬الغريب أن صوهتا مجيل‪ ..‬ولكنها جنية! عفريتة! يا ساتر يا رب!‬

‫وصرخت بأعلى صويت من‬ ‫فانسكب فنجاين على قميصي‬ ‫قفزت من مكاين واق ًفا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫فحلمت ومل أفق إال على لسع‬ ‫غفيت للحظة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سخونة القهوة‪ ..‬وإذ يب كنت قد ُ‬ ‫القهوة احلارة‪ ..‬أوف! لسع القهوة وال اجلنية!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪61‬‬


‫شجرة الغولة‬ ‫ق��ص�تي مج��ي��ل�� ٌة‪ ،‬ق��ص�� ٌة خ��ي��ال��ي�� ٌة‪ ،‬ق��د أك���ون نسجتُها م��ن خ��ي��وط أف���ك���اري‪ ..‬أو قد‬ ‫مسعتُها وأنا يف بطن أمي‪ ،‬واذ ُك��ر كلماهتا وأحلاهنا وكل ما حتتويها من عواطف‬ ‫نركض يف اخل�لاء وكانت البيوت قليلة وكانت األمس��اء غري‬ ‫وان��ف��ع��االت‪ ..‬كنا‬ ‫ُ‬ ‫األمساء وكانت األماكن مهجورة والتالل كثرية‪ ،‬والشوارع ضيقة وكانت قرييت‬ ‫صغرية ولكنها مجيلة‪ ..‬نعدو ونتسابق فنسبق الرياح يف السهول ونسبق الفراشات‬ ‫يف احلقول الصفراء اليابسة من القمح العتيق‪ ،‬ميألها الرتاب‪ ..‬وأقدامنا حافية ومل‬ ‫نكن نشعر حبرارة األرض وال بوخز األشواك‪ ..‬كنا نطري مسرعني وحنلق يف اهلواء‬ ‫تكنس‬ ‫جنلس يف ساعة الغروب وكانت أمي ُ‬ ‫فال تالمس أقدامنا ال�تراب‪ ،‬وكنا ُ‬ ‫ساحة البيت وأيب يأيت ساعة الغروب‪ ..‬كنا نستم ُع حلديث الكبار ومهس الصبايا‬ ‫والنساء‪ ،‬وكانت قريتنا صغرية قليلة البيوت ضيقة ال��ش��وارع‪ ،‬فنسمع من بعيد‬ ‫نباح الكالب وصياح الديوك وثغاء اخلراف‪ ،‬وابتسامة أمي مجيلة وشاهلا األبيض‬ ‫تقرتب من‬ ‫اجلميل وسنها الذهيب ينري امل��ك��ان‪ ..‬ويف ساعات الغروب والسماء‬ ‫ُ‬ ‫مات من مات فدفنوه‬ ‫األرض والنجوم ضياء‪ ..‬نسم ُع حكاية شجرة “الغولة”‪َ ..‬‬ ‫وهتب النسمات الباردة ومهسات آتية من جلج الصمت‪،‬‬ ‫حتتها‪ ..‬فرتتع ُد أوصالنا ُ‬ ‫السائر في الدرب ‪62‬‬


‫نرقب شجرة‬ ‫القلب وترتعش العيون‪ُ ..‬‬ ‫وهدوء ثقيل يربض على األنفاس ويدق ُ‬ ‫فتعانق النجوم ونرى‬ ‫“الغولة” يف املساء فنراها متت ُد إىل السماء وت�بر ُز اذرعها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ونأكل أظفارنا بأسناننا‪..‬‬ ‫خرطومها يتدىل إىل األرض‪ ،‬فننكمش إىل حد االختفاء‬ ‫وتقشعر األبدان‪ ..‬فتونسنا ضحكة أيب ومهسة أمي‪ ،‬فننام إىل الصباح‪ ..‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫كربنا وك�برت شجرة “الغولة” يف عقولنا‪ ،‬وإذ هبا شجرة “س��در” مجيلة متتد‬ ‫جذورها يف باطن األرض وأغصاهنا يف السماء‪ ..‬يستظل هبا الناس وتأكل منها‬ ‫العصافري‪ ..‬شجرة “الغولة”‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪63‬‬


‫عذب كلمات‬ ‫ايتها اجلميلة الوديعة‪ ،‬ذات االنف الصغري اجلميل والعينني الرائعتني‪ ،‬اليت متألها‬ ‫ال��ب�راءة‪ ،‬م�لام ُ��ح الطفولة يف وجهك تقتلين‪ ،‬ومج ُ‬ ‫���ال امل���رأة يف وجنتيك يشدين‪،‬‬ ‫القمر السماء‪،‬‬ ‫يطريُ يب اىل حيث ال ادري‪ ،‬اىل حيث تتعانق النجوم‬ ‫ُ‬ ‫ويعشق ُ‬ ‫وضحكتك جتعلين افقد اجلاذبية وأط�ير‪ ،‬فامشي ف��وق السحاب‪ ،‬حنانك مجيل‬ ‫وهلفتك تقطع االنفاس‪ ..‬تأخذيين اىل الالمكان‪ ،‬حيث الالحدود واخليال‪ ..‬نطريُ‬ ‫ُ‬ ‫هنيم ‪..‬‬ ‫ونضحك ضحك طفلني ً‬ ‫معا‪ ،‬ون��ع��دوا وتسبقيين‪ ،‬وعلى شاطئ البحر ُ‬ ‫فتداعيب نسماته وتداعبك االم��واج بلطف‪ ..‬وترقص امواج البحر طربًا‪ ،‬وأسنانك‬ ‫البيض اجلميله‪ ،‬وهلثات انفاسك‪ ،‬وتناثر قطرات املاء على خدك احملمر خجلاً ‪،‬‬ ‫يرسم ص��ورة وردي���ة‪ ،‬حيسدها غ��روب الشمس‪ ،‬وحتسدها العصافري‪ ..‬ابتسمي‬ ‫ُ‬ ‫واضحكي وداعيب الكواكب البعيدة‪ ،‬فقلبك ُخلق ليكون سعي ًدا‪ ..‬ايتها اجلميلة‬ ‫الوديعة‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪64‬‬


‫كان يا مكان‬ ‫يف ذلك الزمان‪ ..‬منذ زمان‪ ،‬كانت البيوت غري البيوت والوجوه غري الوجوه‪..‬‬ ‫وكانت الضحكات غري الضحكات‪ ،‬ضحكات من اعماق القلوب‪ ،‬تكاد تتناثر‬ ‫االسنان من الضحكات القدمية‪ ،‬حيث البيت القدمي وال��ش��ارع ال��ق��دمي‪ ..‬عندما‬ ‫كانت امي حتمل على ظهرها كوم الغسيل‪ ،‬ويف يدها حتملين‪ ،‬ويف بطنها اخي‬ ‫كنت املك كل ال��وج��ود‪ ،‬ويف ي��دي مفاتيح احلياة‪،‬‬ ‫يتحرك متشوقًا للخروج‪ُ ،‬‬ ‫وبعصاي السحرية اخليالية افعل ما اريد‪ ..‬أشق أي حبر أريد‪ ..‬حينما كنت صغريًا‬ ‫كانت الفرحه تطول وتطول‪ ،‬كنت ارقص كثريًا واركض حافيًا وقهقهايت تدوي‬

‫يف الفضاء‪ ..‬واليوم ال استطيع ان اركض حافيًا او ارقص‪ ..‬فهذا عيب! وممنوع!‬

‫وابتساميت قليله‪ ..‬كم اح��ب ان اع��ود اىل تلك االودي���ة وتلك االراض���ي اخلالية‬ ‫املمتدة حد االفق الالمتناهي‪ ..‬يا لتلك الرائحة العبقة‪ ،‬رائحة الرتاب والطني‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫واسقط على االرض ويتمرغ‬ ‫متسخا والرتاب ميأل راسي ووجهي‪،‬‬ ‫اركض وانا ً‬ ‫تركض‬ ‫اشعث اغرب‪ ..‬وامي‬ ‫انفي يف الرتاب وابدو كالشيطان فيضحكوا علي‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫خلفي ودلوها معها‪ ،‬وهي متسك ثوهبا باسناهنا‪ ،‬يا هلا من حلظات! ويا هلا من‬ ‫ساعات! زمان !‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪65‬‬


‫ابتسامة‬ ‫ما ال��ذي أوق��د كل ه��ذا اجلموح من اإلح��س��اس؟ مشاعر كموج البحر أرخت‬ ‫علي‪ ..‬تساؤالت حريتين ودارت يب الدنيا واختلط األمر‪ ،‬تبتسمي ومن‬ ‫سدوهلا ّ‬ ‫ث��غ��رك ي��ض��وع الطيب ف�يرجت��ف ال��ف��ؤاد وي��س�تري��ب وت��ت��ه��اوى اللحظات فتتسارع‬ ‫الساعات‪ُ ،‬‬ ‫فيهبط السحاب وتفرتشه اخلضر العصافري الصغار‪ ،‬وامشي اهلوينة كما‬ ‫ميشي الوجي الوحل‪ ..‬يا لتلك اهلنيهات اليت حتتبس فيها األنفاس وتلهث فيها‬ ‫القلوب‪ ،‬فتختفي األحزان وتتالشى اهلموم‪ ..‬وعلى ضفة هنر مجيل اركض بأقصى‬ ‫سرعيت‪ ..‬أسابق الريح والعصافري‪ ،‬وطائرات الورق‪َّ ،‬‬ ‫واحتد األمواج والرمال‪..‬‬ ‫وما زالت تبتسم‪ ،‬وما زال يضوع الطيب‪ ،‬فريجتف الفؤاد ويسرتيب‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪66‬‬


‫اكتب يف راس الصفحة‬ ‫علي بلحظ من حلاظه اجلميلة‪ ..‬أن اكتب يف رأس الصفحة األوىل‪،‬‬ ‫رميٌ فات ٌن أشار ّ‬ ‫امسي وكل ما جيول يف خاطري‪ ..‬اكتب بكلماتك جسدي وعقلي‪ ،‬اكتب اين‬ ‫وعلت‬ ‫اكره أن يشاركين احد سواي يف فاليت‪ ،‬فانا وحدي ال سواي‪..‬‬ ‫تغطرست ْ‬ ‫ْ‬ ‫علي بإصبعها اجلميل‪ ،‬احذف كل األلوان وكل الزهور‪ ،‬فال‬ ‫ومتكنت‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أشارت ّ‬

‫رمادي وال بنفسجي وال وردي‪ ،‬فقط لوين أنا‪ ..‬يا لتلك االبتسامة! من خلف‬

‫الستار‪ ،‬من خلف اجلدران‪ ..‬جرءة وقوة‪ ..‬اكتب يف رأس الصفحة األوىل أين ال‬ ‫أحب وال أعشق‪ ،‬أين ال اكره وال امقت‪ ..‬اكتب يف السطر األول من صفحتك‬ ‫رغما‬ ‫البيضاء‪ ،‬أين ال اهتم ملشاعري وال حي��ق ألح��د أن يهتم هب��ا‪ ..‬وستكتب ً‬ ‫احن إىل احد‪ ،‬وامللم مشاعري وخفقات قليب‬ ‫عن انفك‪ ،‬أين ال أهوى احد وال ُ‬ ‫وهلثات فؤادي بني أناملي‪ ،‬واضعها حتت وساديت‪ ،‬فال تراها سوى عيين‪ ..‬اكتب‬ ‫يف رأس الصفحة األوىل انك لن تراين‪ ،‬ولن تلمسين‪ ..‬إال يف أحالمك‪ ..‬أبت إال‬ ‫أن تشرئب هلا العيون‪ ..‬أبت إال أن جتلس يف حجري وترفس كل من يقرتب‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪67‬‬


‫أمي‬ ‫أيها الصوت الالئج يف أرجائي واآليت من كنف السكون‪ ..‬منذ التقيتك والتقيتين‬ ‫ٌ‬ ‫أطياف مشبع ٌة بالسرور وأيقظتين من نومي ابتسامتك الساحرة وراودتين‬ ‫لولبتين‬ ‫جيلب رائح ًة طيب ًة فواح ًة‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫شذرات من املاضي توزعت رذا ًذ كرذا ِذ اليَم ُ‬ ‫وعرب الوقت والزمان تتمازجين ليايل السهر وتطويين يف جنباهتا كطي السجل‬ ‫ويعلو القمر املتباعد يوم بيوم ً‬ ‫يعج بذكريات من املاضي ورفرفة طري‬ ‫تاركا مكانًا ُ‬ ‫يعوج على الدار يسائلها‪ ..‬فهل للشمس ان تظهر لنلتقي من جديد؟ وهل ستعود‬ ‫احلياة لذلك الوجه اجلميل؟‪ ‬وهل يعود احللم؟ هل للماء ان ينقطع عن اخلرير يف‬ ‫أذين‪ ،‬ألمسع صوت األنفاس الدافئة املتقطعة‪ ..‬احن إىل العيد وقبلة العيد‪ ،‬وبسمة‬ ‫العيد وسالم العيد‪ ..‬سالم َ‬ ‫لك أمي من بعيد‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪68‬‬


‫عاشقة املطر‬ ‫يو ٌم من ايام الشتاء‪ ..‬واجلو ساكن‪ ،‬اال من صوت عواء كلب بعيد وصياح ديك‪..‬‬

‫والشمس تنحين حنو املغيب‪ ،‬تطرز صور ًة هبي ًة‪ ..‬واجلس يف غرفيت اكتب قصيد ًة‬ ‫ارقب الضياء اخلافتة‪ ،‬اليت ارمتت على‬ ‫شعري ًة‪ ،‬ومن خلف زجاج شباكي الرث‪ُ ،‬‬ ‫ارصفة الشارع‪ ،‬فانعكست ملعتها على املطر‪ ..‬وكان الظالم يغطي املكان واعمدة‬

‫الضياء ترتعش من الربد وتتمايل ذات اليمني وذات الشمال وورقة من تني تتطاير‬ ‫وتتقلب بني انامل النسمات‪ ،‬تنقلها اىل حيث ال تريد‪ ،‬ومصابيح الشارع القدمية‬ ‫تضيء على استحياء‪ ،‬وتبعث الضياء جاهدة فال تستطيع اال ان تضيء نفسها‬ ‫ورشات املطر‪ ،‬وحتضرين يف تلك اللحظات اهلادئة البطيئة عاشقة املطر‪ ..‬كانت‬ ‫تقف حتت زخ��ات املطر وال ختشى البلل‪ ..‬تعانق القطرات وحتتضن الغيوم يف‬ ‫السماء‪ ،‬وترقص ضاربة بقدميها كل املياه‪ ..‬متوشحة ردائها االس��ود الطويل‪،‬‬ ‫وحبات املطر ترتاقص على وجنتيها‪ ،‬ويداعب اهلواء رداء رأسها‪ ،‬فيخفي خلفه‬ ‫ابتسامة مجيلة‪ ..‬تقف مبعطفها االنيق وتداعب املطر باناملها الرشيقة‪ ،‬وال تزال‬ ‫االبتسامة ترتسم على شفتيها‪ ..‬عاشقة املطر تقطن خلف اجلبال البعيدة‪ ،‬حيث‬ ‫تنحين الشمس‪ ،‬ويسكن ال��ن��ه��ار‪ ..‬يف مكان بعيد‪ ..‬وعلى ص��وت وق��ع املطر‪،‬‬ ‫اصحو من ذاكريت‪ ،‬فانظر اىل ورقة التني‪ ،‬تتقلب مع تقلب النسمات وهتدأ مع‬ ‫هدوء الليل الساكن‪ ،‬اال من عواء كلب بعيد وصياح ديك‪ ..‬وال تزال اعمدة‬ ‫الشارع تتمايل ذات اليمني وذات الشمال‪.‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪69‬‬


‫مدرستي‬ ‫كان يوم مجيل‪ ،‬والطقس لطيف والسماء صافية‪ ،‬والربيع يغطي مالمح االرض‪..‬‬ ‫وكنت أسري اىل مدرسيت بقميصي االزرق الذي مييل اىل البياض‪ ،‬وفوق ظهري‬ ‫امح��ل حقيبيت‪ ..‬وك��ان االطفال مجيعهم يسريون اىل حيث أس�ير‪ ،‬وكنت انتظر‬ ‫اصدقائي عند الوادي الصغري الذي اختفى منذ أم ٍد بعيد‪ ،‬اال اين اراه يف خميليت‬ ‫حىت هذه الساعة‪ ..‬كنا جنتم ُع ونسريُ مهرولني اىل املدرسة‪ ..‬وابو العال‪ ،‬ذلك‬ ‫العجوز الذي افتقدته منذ زمان‪ ،‬يقوم ومعه اجلرس احلديدي ويدق به معلناً ساعة‬ ‫االنتظام يف الساحة الكبرية‪ ..‬وكنا نقف مصطفني كاسراب الطيور املهاجره‪،‬‬ ‫نؤدي حركات رياضيه غريبة‪ ..‬انتظم‪ ،‬اسبل‪ ،‬استعد‪ ،‬اسرتح‪ ،‬وهكذا‪ ..‬يقولون‬ ‫ان ه��ذه التمارين تساعدنا على فهم ال��دروس بصورة افضل‪ ..‬ال اعلم كيف؟‬ ‫ولكن قد يكون! مث بعد ذلك نسريُ بسروب منتظمة اىل الصفوف‪ ..‬وجنلس يف‬ ‫الصف ويدخل املعلم‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪70‬‬


‫فرحة تلميذ‬ ‫نلعب‬ ‫ُ‬ ‫كنت يف أح��د األي��ام مع أيب وأم��ي وإخ��ويت يف رحل ٍة عائليةٍ‪ ،‬وبينما حن ُ��ن ُ‬ ‫فجرحت كتفي‪ ..‬كان‬ ‫فسقطت على ح��ج�� ٍر ك��ب�يرٍ‪،‬‬ ‫��ض تعثرت ق��دم��اي‬ ‫ون��رك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫جرحي عميقًا وكبريًا‪ ..‬هذا ما رأيته يف مالمح أيب وهو يتفحصين‪ ،‬لقد ارتعب‬ ‫عندما رأى اجلرح وكذلك أمي‪ ..‬قال المي ال بد من املستشفى‪ ،‬فأمسكت أمي‬

‫جبرحي واحتضنتين وساق أيب مسر ًعا إىل املستشفى‪ ..‬لقد أرعبين خوفهم‪ ..‬ويف‬

‫شعرت‬ ‫وصلت املستشفى‬ ‫احلقيقة‪ ،‬يف حينها مل اشعر باألمل بعد‪ ،‬ولكين عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بأملٍ شدي ٍد يف كتفي ورأسي وعنقي‪ ..‬وقد خاط الطبيب جرحي وأطلقوا سراحي‬ ‫��دت إىل البيت ويا للمفاجأة‪ ..‬لقد ج��اءوا مجيعا‬ ‫بعد كثري من الفحوصات‪ ..‬ع ُ‬

‫علي‪ ،‬كلهم كانوا يقولون يل احلمد هلل على سالمتك‪ ..‬مسكني كيف‬ ‫ليطمئنوا ّ‬ ‫ح��دث ه��ذا‪ ..‬وميسحون بأيديهم على رأس���ي‪ ..‬كم كنت سعيداً هب��ذا األمر‪..‬‬ ‫أصدقائي يف احلارة جتمعوا من حويل‪ ..‬جاءت نساء احلارة لتطمئن علي‪ ،‬واشرتى‬ ‫يل أيب كل ما أريد وكانت أمي تبدل مالبسي‪ ..‬كنت سعي ًدا ًّ‬ ‫جدا‪ ..‬يا لسعاديت!‬ ‫وأفضل ما يف األمر أين معفى من الذهاب إىل املدرسة‪ ،‬كلهم يذهبون إليها إال‬ ‫خضم سعاديت هذه تذكرت أبناء صفي‪،‬‬ ‫أنا‪ ،‬فأنا مصاب وجرحي خميط‪ ..‬ويف ّ‬

‫اشتقت اليهم‪ ..‬مل��اذا مل يأتون ل��زي��اريت؟ لعلهم مشغولون حبل الوظائف‪..‬‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫اشتقت‬ ‫وسارت األي��ام‪ ،‬وشفي اجلرح وآن أوان العودة إىل املدرسة‪ ..‬بصراحة‬ ‫ُ‬ ‫السائر في الدرب ‪71‬‬


‫وهتيأت للذهاب‬ ‫لبست مالبسي‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫واشتقت إىل كل من فيها‪ ..‬ويف الصباح ُ‬ ‫ُ‬

‫وانتظرت‬ ‫قلت يف نفسي سيستقبلونين بسعادة وسأحكي هلم حكاييت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إليها‪ ،‬و ُ‬ ‫فقلت‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬وج��اءت معلمة الدين‪ ..‬كانت متجهمة على غري عادهتا‪ُ ،‬‬ ‫شعرت بسعادة كبرية‬ ‫يف نفسي ستسألين عن حكاييت وسأسردها هلا كلها‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫وانتظرت السؤال‪ ..‬ومل تسألين‪ ..‬توجهت إيل دومنا ابتسام وقالت يل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ أين الوظيفة؟‬‫فقلت هلا‪:‬‬ ‫كنت غائبًا‪..‬‬ ‫ أي وظيفة؟ ُ‬‫فاستشاطت غضبًا‪ ..‬وأمسكت مبسطرهتا‪ ..‬وأشاحت هبا يف وجهي‪ ..‬وضربتين‬ ‫دومنا سؤال‪..‬‬

‫وهبطت سكين ٌة على املكان‪..‬‬ ‫وجلست دومنا حراك‪..‬‬ ‫فسقطت دمع ٌة من عيين‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪72‬‬


‫موقف يف سوق‬ ‫��ب إىل ال��س ِ‬ ‫رأيت‬ ‫��وق ي��و ًم��ا‪ ،‬وق��ال يل‪ ،‬بينما أن��ا ه��ن��اك‪ُ ،‬‬ ‫حدثين اح��ده��م‪ ،‬ان��ه ذه َ‬ ‫عابسا‬ ‫يف زاوي�� ٍة من زوايا السوق‪ُ ،‬‬ ‫حيث احلمري والبغال ومجوع الناس‪ ،‬عجوز ً‬

‫ويسارا ‪ ،‬وكثريٌ من احلمري والبغال‬ ‫متجهما من احلياة ومح��اره خلفه ينظر ميينًا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقف خلف أصحاهبا ال تفعل س��وى أهن��ا تقف مشدوهة تنظر إىل امل���ارة وهم‬ ‫يروحون ويغدون مطأطئي الرؤوس‪ ..‬كان العجوز واق ًفا حيك بيده قفاه‪ ،‬يستمع‬ ‫يلوح بيديه يف الفضاء وكأنه يغرق ويطلب النجدة‪..‬‬ ‫إىل صوت بائع اجلزر‪ ،‬وهو ّ‬ ‫يصيح بال هوادة وصوته يرتفع يف وسط ضوضاء السوق‪:‬‬

‫ جزر! جزر! تعالوا على اجلزر! يا بالش! بس بقروش بتعبيّ كرشك‪ ..‬تسعد‬‫هنارك‪ ..‬جزر! جزر! يا سالم‪ ..‬تعال ذوق ببالش! هاي! أنت! نعم أنت‪ ..‬يا‬ ‫بركه! اشرتِ‪ ..‬تعال‪..‬‬ ‫وكان يشري بإصبعه إىل ذاك العجوز‪ ..‬عندما مسع العجوز هذا النداء ابتسم ورفع‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت خافت‪:‬‬ ‫يده من قفاه وقام متج ًها إليه وقال له‬

‫‪ -‬بكم الكيلو؟‬

‫فرد البائع بصوت غليظ‪:‬‬ ‫ خليك م��ن السعر وت��ع��ال ذوق‪ ..‬خ��ذ ه��ذه اجل���زرة ل���ك‪ ..‬ح��ل��وة! خ��ذ! كل‬‫ببالش!‬ ‫السائر في الدرب ‪73‬‬


‫فمد العجوز يده املرتعشة إىل اجلزرة وأخذها وهو يتمتم‪:‬‬ ‫شكرا‪ ..‬اواه‪ ..‬ممم‪ ..‬حلوه‪ ..‬طيبة‪ ..‬ممم‪..‬‬ ‫ نعم‪ ..‬نعم‪ً ..‬‬‫وأكمل البائع يقول‪:‬‬

‫ ها! يا بركه! ‪ ..‬يا ج��زر! يا ج��زر! تعالوا اش�تروا!! ببالش‪ ..‬ها! أمأل لك‬‫هذا الكيس‪..‬‬ ‫فتنحنح العجوز وقال‪:‬‬ ‫ طيب‪ ..‬طيب‪ ..‬بس بكم الكيلو؟‬‫ بعشرة دراهم يا طيب‪ ..‬فقط‪..‬‬‫ بعشرة دراهم! ايش! بعدين‪ ..‬تأخرت سأشرتي بعدين‪ ..‬تأخرت‪ ..‬واختفى‬‫العجوز‪..‬‬ ‫ هاي! أنت! أين ذهبت؟ يالك من وقح! يالك من لعني! ادفع حق ما أكلت!‬‫هاي! هاي! أين ذهبت أيها الشيطان؟! اللعنة لقد اختفى‪..‬‬ ‫األجش خيتلط بصوت باعة اللحم‬ ‫يصرخ بائع اجلزر مرة أخرى‪ ،‬وصوته‬ ‫وراح‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وال��س��م��ك واخل��ض��ار وال��ف��اك��ه��ة وال��ب��خ��ور‪ ..‬ويف ال��س��وق ت��ف��وح خمتلف الروائح‪،‬‬ ‫فتختلط رائحة اللحم والسمك برائحة البخور والعطور وروائح العرق وازدحام‬ ‫الناس‪ ،‬والكل يف حركة وجلبة ترى فيهم الفرح والتعيس والساخط والصبور‬ ‫والفائق والنائم‪ٌ ..‬‬ ‫خليط من البشر ي��روح ويغدو ويسمع صهيل اخليول وهنيق‬ ‫احلمري وأزيز الزحام‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪74‬‬


‫آمنت باهلل العظيم‬ ‫كان الطقس شديد احلرارة والصخور تكاد تنفجر من شدة اجلفاف‪ ،‬رغم اقرتاب‬ ‫الشمس من املغيب‪ ..‬ويف جانب من وادي شاسع يلتوي بني هضاب الصحراء‬ ‫يقبع شيخ بدوي وزوجته يف خيمة صغرية‪ ..‬ومع سكون الصحراء القاتل يسمع‬ ‫صدى صوت الشيخ وهو يكلم زوجته‪:‬‬ ‫ ‪-‬عايشة! عايشة! يا عايشة! أين أنت؟ ملاذا ال تردين؟‬ ‫فرتد عليه زوجته بصوت أبح مكتوم صادر ال من حلقها بل من أعماق بطنها‪:‬‬ ‫ ‪-‬آه‪ ..‬آه‪ ..‬ايوه‪ ..‬ماذا تريد؟ أال تنتظر بعض الوقت يا أبا عمر! أال تراين اغسل‬ ‫سروالك اللعني هذا‪ ..‬ها!‬ ‫فاستطرد أبو عمر وهو يرتعش كاحملموم‪:‬‬ ‫ ‪-‬اتركي ما بيدك وت��ع��ايل‪ ..‬احبثي معي عن املقص! اهلل يلعن الشيطان! اهلل يلعن‬ ‫الشيطان! لقد وضعته اليوم يف الصباح حتت الوسادة اللعينة‪ ..‬أوف! اهلل يلعن إبليس!‬ ‫فدمدمت الزوجة وهي تنهض من مكاهنا تتمتم بصوت خافت وكأهنا تكلم نفسها‪:‬‬ ‫ ‪-‬يا لك من أمحق! لعني! ال أكسب من ورائك سوى اهلم والتعب‪ ..‬ها هو! ها هو!‬ ‫مقصك املشئوم! أال ترى؟‬ ‫فصمت أبو عمر مث تنحنح وحترك من مكانه وقال‪:‬‬ ‫ ‪-‬آه‪ ..‬نعم‪ ..‬ها هو املقص‪ ..‬آمنت باهلل العظيم‪ ..‬آمنت باهلل العظيم‪..‬‬ ‫وغابت الشمس‪ ،‬واكتست الصحراء بلون السواد‪ ،‬وسكن الكون وهدأت الصخور‬ ‫وسكنت الطيور ورقد أبو عمر وزوجته عائشة حتت حلافهما يف خيمتهما ينتظران بزوغ‬ ‫الفجر‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪75‬‬


‫سويلم‬ ‫ساعة الظهر‪ ..‬يوم شديد اجلفاف‪ ،‬وسويلم جيلس وبني أنامله املتجعدة اخلشنة‬ ‫حبل طويل جيدله بقوة والعرق يندس من جبينه‪ ،‬وعيناه حممرتان من شدة احلرارة‬ ‫وفوق رأسه منديل كان ابيض اللون‪ ..‬سويلم‪ ،‬هو رجل يف الستني من عمره‪،‬‬ ‫شديد النشاط‪ ،‬يعمل بكد وحيتمل ما ال حيتمله ال��رج��ال ال��ش��داد‪ ..‬ال ميلك يف‬ ‫هذا الكون سوى زوجته فضية ومحاره “عنرت” وبعض الدجاجات‪ ،‬ومل ينجب‬ ‫أطفاالً‪ ،‬وكان ذا وجه عبوس شديد البؤس‪ ،‬قليل االبتسام‪ ..‬جيمع احلطب ويبيعه‬ ‫يف ال��س��وق‪ ،‬حيمله على ظهر مح���اره “ع��ن�تر” ويبيعه ويقبض مث��نً��ا خب ً��س��ا دراهم‬ ‫م��ع��دودة‪ ..‬فضية زوجته يف اخلامسة واخلمسني من عمرها‪ ،‬وهي عجوز صعبة‬ ‫امل���راس قليلة االب��ت��س��ام ك��ث�يرة التجاعيد يف وج��ه��ه��ا‪ ..‬ال تسكن إال إذا سكنت‬ ‫الشمس‪ ،‬كثرية احلركة‪ ،‬تغسل وتكنس وتطبخ وتشعل النار‪ ..‬وتنتظر زوجها‬ ‫كل مساء ليحضر ومعه ما كسب من مال قليل فينفقونه على أكلهم‪ ..‬هكذا‬ ‫هي حياهتم ال حتيد عن هذا املسار‪ ،‬منذ أكثر من ثالثة عقود‪ ..‬يقطنون يف الوادي‬ ‫النائي هذا‪ ،‬الذي يبعد عن اي جتمع بشري أكثر من عدة أميال‪..‬‬ ‫انتهى سويلم من جدل حبله وربط احلمار وأوثق رباطه‪ ،‬وقال لزوجته بصوت خافت‪:‬‬ ‫أصبحت‬ ‫ ‪-‬ادعي يل يا مستورة‪ ..‬عسى اهلل أن يرزقين رزقاً طيبًا مبارك فيه‪ ..‬لقد‬ ‫ْ‬ ‫احلال صعبة‪ ..‬ال تطاق‪..‬‬

‫السائر في الدرب ‪76‬‬


‫فتأوهت فضية‪:‬‬ ‫ ‪-‬ال تقلق‪ ..‬توكل على اهلل‪..‬‬ ‫فتمتم سويلم‪:‬‬ ‫ ‪-‬يا شديد! يا قوي! اهلل والنيب واصحابه‪..‬‬ ‫وس��ار متجها إىل القرية‪ ..‬ورأس��ه بني كتفيه وقد بانت احنناءة ظهره وخطواته‬ ‫املائلة‪ ..‬وكانت فضية تنظر إليه ويف مقلتيها املرتهلتني جتمع دمع كثري‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪77‬‬


‫وظيفة احلساب‬ ‫ُ‬ ‫أهرول يف‬ ‫كنت حينها يف الثامنة من عمري وكنت اذهب إىل املدرسة مع أقراين‪..‬‬ ‫ساعات الصبح الباكرة أسابق الفراشة اجلميلة‪ ..‬كانت الفراشة ترفرف جبناحيها‬ ‫من حويل حرة طليقة‪ ..‬سعيدة كل السعادة‪ ..‬فهي مل تذهب يف حياهتا إىل املدرسة‬ ‫ومل تكن جتلس الساعات الطوال حلل الوظائف البيتيه‪ ...‬وليس هلا معلم يعاقبها‪،‬‬ ‫إن هي مل حتل الوظيفة‪ ..‬ال اح��د يقول هلا افعلي ه��ذا أو ذاك‪ ،‬بل هلا أن تفعل‬ ‫ما تشاء‪ ..‬مث نفرتق واذهب يف سبيلي‪ ،‬وأصل إىل املدرسة فادخل الصف ويبدأ‬ ‫��رس معلنًا هناية الدرس‬ ‫ال��درس األول فالثاين فالثالث وهكذا‪ ..‬وما أن يدق اجل ُ‬ ‫��رح��ا‪ ..‬وك��ان قليب يرقص متهللاً وتعلو وجهي االشراقة‪..‬‬ ‫أط�ير ف ً‬ ‫األخ�ير‪ ،‬حىت ُ‬ ‫وعندما أصل إىل البيت‪ ،‬كانت أمي تتلقاين بصوهتا احل��ازم‪ ..‬الوظائف البيتيه‪..‬‬ ‫اللعنة على الوظائف البيتيه! فلتخطف الشياطني كل الوظائف البيتيه! اذكر ذلك‬ ‫معلم احلساب وظيفة بيتيه طويلة ومعقدة‪ ..‬بصراحة مل‬ ‫اليوم الذي أعطاين فيه ُ‬ ‫هو يفهمها‪ ..‬ولكن ال مفر‪ ..‬إىل معلم احلساب املستقر‪..‬‬ ‫افهمها وال ادري كيف َ‬ ‫مربحا‪ ..‬أو على األقل يصرخ فيه صرخة ختلخل‬ ‫من ال حيل الوظيفة يضربه ضربًا ً‬

‫وكنت أداوم على حل الوظائف كلها‪ ..‬كيف‬ ‫كنت أخاف منه كثريًا‬ ‫ُ‬ ‫العظم‪ُ ..‬‬ ‫ال وأنا أراه كل يوم يسخط من ال حيل‪ ..‬ويف ذلك اليوم أخذت كتاب احلساب‬ ‫وتوجهت إىل أيب علّه ينجدين من هذه الورطة‪ ..‬فتمعن أيب يف الكتاب مث نظر مث‬ ‫السائر في الدرب ‪78‬‬


‫عرفت انه‬ ‫عبس وبسر‪ ..‬وتغري لون وجهه وتنحنح مث حترك من مكانه مرتني‪ُ ..‬‬

‫جيد صعوبة بالغة يف فهم املسألة‪ ..‬فقال يل وهو حيرك حاجبيه‪:‬‬

‫‪ -‬م��ا ه��ذا ال��ك��ت��اب؟ كيف تتعلمون ه��ذه األش��ي��اء؟ أن��ا ال اف��ه��م شيئًا منه على‬

‫اإلطالق‪..‬‬

‫مث أعطاين إياه وقال‪:‬‬ ‫ اذهب إىل أمك ستشرح لك املسألة أفضل مين‪..‬‬‫ومنت من‬ ‫فعرفت حينها أين لن أجد حلاً ‪ ..‬ومل استطع حل الوظيفة املعقدة‪ُ ..‬‬

‫وحلمت يف‬ ‫ليلتها خائ ًفا مرتع ًدا م��ن ذل��ك املعلم‪ ..‬غ��داً سيسخطين ال حم���ال‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫��ض خلفي‬ ‫���ض يف وا ٍد طويل وملتوي وك��ان معلم احل��س��اب ي��رك ُ‬ ‫نومي أين ارك ُ‬ ‫ويف يده عصاة غليظة يلوح هب��ا‪ ..‬والغريب يف األم��ر انه كان على ص��ورة محار‬ ‫أفقت من‬ ‫ضخم‪ ..‬له أذنان طويلتان وانف مدبب‪ ..‬كاد أن يفتك يب لوال أين ُ‬

‫ودخلت الصف ال اكلم أح ًدا‪ ..‬كل ما جيول يف‬ ‫وذهبت إىل املدرسة‪..‬‬ ‫نومي‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫معلم‬ ‫خاطري تلك الوظيفة البيتيه اليت مل أحلها‪ ..‬فانا اليوم هالك ال حمال! ودخل ُ‬ ‫احلساب‪ ..‬ذلك املعلم الضخم ذو الفكني الكبريين‪ ..‬عيناه جاحظتان وانفه طويل‬ ‫معقوف وكرشه م��دلاّ ة ف��وق ح��زام��ه‪ ..‬دخ��ل إىل الصف وص��وت هدير أنفاسه‬ ‫يسمع من بعيد‪ ..‬جلس على الكرسي واخذ ينظر يف يوميات الصف‪ ..‬مث عطس‬ ‫فتطاير رذاذ عطاسه يف أرجاء الغرفة‪ ..‬ومسح بكم قميصه ما تتطاير على شفتيه‬ ‫من سوائل‪ ..‬ونظر إلينا وتنحنح وقال‪:‬‬ ‫توكلت على اهلل! وقام من مكانه بعنف واستطرد‪ ..‬الوظيفة! تفتيش!‬ ‫ يا اهلل!‬‫ُ‬

‫وانتظرت مصريي احملتوم‪ ..‬وبينما أنا على‬ ‫فارتعدت حينها‪ ..‬وأصابين الذهول‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫السائر في الدرب ‪79‬‬


‫احبس أنفاسي بصعوبة‪ ..‬وإذا مبدير املدرسة ُ‬ ‫يدخل إىل الصف دون‬ ‫هذه احلال ُ‬

‫مبتسما وبرفقة شخص آخر‪ُ ..‬‬ ‫حيمل حقيبة سوداء كبرية‪ ..‬صامتًا‬ ‫استئذان‪ ..‬كان‬ ‫ً‬ ‫ال يتكلم‪ ..‬قال املدير بصوت هادئ‪:‬‬ ‫ السالم عليكم يا شطار!‬‫فرددنا عليه بصوت واحد‪:‬‬ ‫ وعليكم السالم ورمحة اهلل وبركاته!‬‫متسم ًرا دون ح���راك وق��د ارتسمت على شفتيه‬ ‫مث نظر إىل املعلم ال���ذي وق��ف ّ‬ ‫املنتفختني ابتسامة صفراء‪..‬‬ ‫فأكمل املدير‪:‬‬ ‫ أقدم لكم املفتش‪ ..‬سوف حيضر عندكم الدرس‪..‬‬‫مث عاود ينظر إىل املعلم وكأنه يقول له‪:‬‬ ‫ ال حول وال قوة إال باهلل‪..‬‬‫وج��ل��س امل��ف��ت��ش يف ال��ص��ف وذه���ب امل���دي���ر‪ ..‬وتنحنح م��ع��ل ُ��م احل��س��اب ودب فيه‬ ‫النشاط‪ ..‬وبكلمات ميلؤها اللطف واحلنان قال لنا‪:‬‬

‫ واآلن يا شطار! تعالوا بنا نتعلم درس القسمة على اثنني‪..‬‬‫مبتسما واملرح ميأل روحه‪ ..‬والغريب يف األمر‬ ‫وراح يشرح الدرس وهو سعي ًدا‬ ‫ً‬ ‫أننا تعلمنا ه��ذا ال��درس قبل ي��وم�ين‪ ..‬ه��ذا ال يهم! ما يهمين أن��ه لن يفتش على‬

‫الوظيفة‪ ..‬وامل��ه��م أين جن��وت واحل��م��د هلل‪ ..‬احلمد هلل ال��ذي استجاب لدعائي‪..‬‬ ‫وأخذت ارد ُد مع الصف ما يقوله معلم احلساب‪..‬‬ ‫وعادت ابتساميت‬ ‫ُ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪80‬‬


‫اللحظات املهمة‬ ‫أدهشين أن امسع هذه املقولة‪“:‬كثريٌ هم السائرون على الدرب‪ ،‬ولكن قلي ٌل هم‬

‫آثارهم عليها”‪ ..‬ترى! ما هي اللحظات املؤثرة يف حياتنا؟ واليت قد ال‬ ‫التاركون َ‬

‫نلقي هلا بالاً ‪ ...‬هل هذه اللحظات موجودة فعلاً ؟‬

‫لكل منا حلظات مجيلة‪ ..‬حلظات م��ؤث��رة‪ ..‬حلظات من السعادة‪ ..‬وأحياناً‬ ‫نعم ٍ‬ ‫��ت ق��ص��ة مجيلة‬ ‫ت��ك��ون حل��ظ��ات م��ن احل����زن‪ ..‬تبقى خ��ال��دة يف ذاك��رت��ن��ا‪ ..‬ل��ق��د مس��ع ُ‬

‫تتحدث عن تلك اللحظات اليت منر هبا دون أن نتمعن فيها‪ ..‬واليت قد يكون هلا‬ ‫اثر كبري يف شخصيتنا وحياتنا‪ ..‬ها كم هذه القصة‪:‬‬ ‫حيكى أن اح��د اجل��وال��ة ك��ان يسري يف دول���ة م��ا م��ن دول ال��ع��امل‪ ..‬وك���ان يتمتع‬ ‫مبشاهدة الطبيعة اخلالقة‪ ،‬والشوارع الواسعة والبنايات املرتفعة‪ ..‬وبينما هو على‬ ‫ه��ذه احل��ال��ة وص��ل إىل منقطة غ��ري��ب��ة‪ ..‬مقربة ك��ب�يرة‪ ..‬قبورها بيضاء وأسوارها‬ ‫خضراء‪ ..‬يا اهلي! انه مشهد مجيل رغم احلزن الذي يكتنف املكان‪ ..‬الغريب يف‬ ‫األمر أهنا مقربة أطفال‪ ..‬كل القبور مكتوب عليها أعمار قصرية ج��داً‪ ..‬مخس‬ ‫أعوام‪ ..‬ثالث أعوام‪ ..‬عام‪ ..‬أشهر‪ ..‬أيام‪ ..‬أمر غريب! كثريٌ هم األطفال الذين‬ ‫ميوتون يف ه��ذه القرية‪ ..‬وس��ار اجل��وال يف أرج��اء املنطقة‪ ..‬مث رأى مشهدا آخر‬ ‫شديد الغرابة‪ ..‬الناس يف هذه القرية حيملون يف أعناقهم دفاتر صغرية‪ ..‬وكانوا‬ ‫يقفون بني احلني واآلخر ليدونوا شيء ما يف هذه الدفاتر‪ ..‬هكذا كانت أحواهلم‬ ‫السائر في الدرب ‪81‬‬


‫مجيعا‪ ..‬واستمر اجلوال يسري ويسري وهو مندهش مما يراه‪ ،‬حىت وصل إىل مقهى‬ ‫ً‬ ‫صغري فجلس لريتاح‪ ..‬ورآه صاحب املقهى وعلم ما به من دهشة‪ ..‬فتوجه إليه‬

‫وسأله عن حاله‪ ..‬فأجاب اجلوال‪:‬‬ ‫ لقد أدهشتين هذه املنطقة‪ ..‬مقربهتا مليئة باألطفال الصغار‪ ..‬ال ادري ملاذا‬‫ميوت الناس يف هذا املكان صغار؟ وما يدهشين أيضا تلك الدفاتر املعلقة يف‬ ‫أعناق الناس‪ ..‬ماذا يدونون فيها؟‪ ..‬فابتسم صاحب املقهى وقال‪:‬‬ ‫ ام��ا بالنسبة للدفاتر‪ ،‬فتلك دفاتر ن��دون فيها اللحظات اهلامة يف حياتنا‪..‬‬‫كلما مرت بنا حلظة مهمة ندوهنا‪ ..‬وهكذا حىت إذا ما مات الشخص‪ ..‬مجعنا‬ ‫اللحظات اهلامة اليت دوهنا يف دفرته‪ ..‬فكانت سنوات أو أشهر أو ساعات‪ ..‬ألننا‬ ‫نعتقد أن عمر اإلنسان يقاس بلحظاته اهلامة واليت أثرت يف نفسه ويف غريه ويف‬ ‫حياته‪ ..‬فابتسم اجلوال وطأطأ رأسه يفكر‪..‬‬ ‫نعم‪ ..‬هذه القصة معربة ومجيلة‪ ..‬تُرى هل منلك حنن تلك الدفاتر؟‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪82‬‬


‫الدرويش‬ ‫والناس نيام‪ ..‬جنو ٌم تودع السماء وظلم ٌة دامسة كأهنا‬ ‫يف ساعات الليل املتأخرة‬ ‫ُ‬ ‫ضباب كثيف هبط على الطرقات واألزق���ة‪ ..‬وبيت‬ ‫سرمدية حتيط باملكان‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫يكتنفه ال��ظ�لام م��ن ك��ل ص��وب يسطع م��ن��ه ض��وء خ��اف��ت يعكس ظ��ل امرأتني‬ ‫جتلسان حوله‪ ..‬ظلاّ يرجتف مع ارجتاف الضوء‪ ..‬ومن بعيد يسمع يف الفضاء‬ ‫ال��واس��ع ص��دى ص��وت إح��داه��ن تشكو ل�لأخ��رى وت��ب��وح هب��م��ه��ا‪ ..‬ص��دى ميأله‬ ‫احلزن واألسى‪:‬‬ ‫وفعلت‬ ‫حبثت عن كل ش��يء‬ ‫ُ‬ ‫ م��اذا افعل؟ م��اذا عساين أن افعل؟ ت��رى! لقد ُ‬‫وجترعت كل ما وصفوه يل من م ٍر‬ ‫شربت كل أصناف األدوي��ة‬ ‫كل ش��يء‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وعلق ٍم‪ ..‬ولكين عبثًا ح��اول��ت‪ ..‬مل ينفع ش��يء‪ ..‬ال ح��ول وال ق��وة إال باهلل‪..‬‬ ‫ماذا افعل؟‬ ‫فريتد إليها صدى صوت آخر خافت ومتواين‪:‬‬ ‫ ال تيأسي‪ ..‬ال حياة مع اليأس‪ ..‬ال بد من العالج‪ ..‬لكل داء دواء‪ ..‬أنت‬‫لست األوىل ولست األخرية يف هذا العامل‪ ..‬نساء كثريات مل ينجنب فرزقهن‬ ‫اهلل يف آخر املطاف‪ ..‬اهلل أعطاهن‪ ..‬اهلل هو الذي يرزق‪..‬‬ ‫ نعم صحيح‪ ..‬صدقت‪ ..‬اهلل هو الرزاق‪..‬‬‫وحلظة من الصمت الرهيب تكتنف املكان‪ ..‬يصمت الكون حلظة‪ ..‬مث يعود‬ ‫السائر في الدرب ‪83‬‬


‫صدى الصوت‪:‬‬ ‫نفعا‪ ..‬مل اترك دواء إال وشربته‪ ..‬يا رب‬ ‫ ولكين فعلت كل شيء ومل جيدي ً‬‫صربين‪ ..‬ماذا عساي أن افعل‪..‬‬ ‫ قلت لك ال تيأسي‪ ..‬لقد مسعت أن امرأة مل تنجب أكثر من عشرين سنة‪..‬‬‫مث رزقها اهلل بعد ذلك بذرية كثرية‪..‬‬ ‫ يا سبحان اهلل‪ ..‬ولكن كيف هذا؟ هل تعرفني كيف؟‬‫طبعا ك��ل ش��يء ب����إرادة اهلل‪ ..‬ي��ق��ول��ون أن ه��ن��اك رج��ل صاحل‬ ‫ نعم اع����رف‪ً ..‬‬‫ذهبت إليه تلك امل��رأة فأعطاها ورقة كتب عليها ادعيه وأشياء‪ ..‬مث‬ ‫وم�بروك‪ْ ..‬‬ ‫اغتسلت مبائها‪ ..‬فأجنبت‪..‬‬ ‫ سبحان اهلل‪ ..‬معقول! ولكن! يعين هذا درويش! بس الدراويش! حرام! كفر‬‫واهلل اعلم‪..‬‬ ‫ كيف حرام؟ ليس حرام‪ ..‬أب ًدا‪ ..‬أي حرام‪..‬‬‫ معقول مش حرام!‬‫ احلرام حرام واحلالل حالل‪..‬‬‫ يعين‪ ..‬صحيح هنالك الصاحلون املباركون‪ ..‬آه‪ ..‬ملا ال أجرب؟ يف النهاية كله‬‫بيد اهلل‪ ..‬ال بد يل أن أجرب‪ ..‬أتعرفني أين يسكن؟‬ ‫ غ ًدا سأعرف وسنذهب سويًا‪ ..‬قويل إنشاء اهلل‪..‬‬‫ إنشاء اهلل‪..‬‬‫الصمت مرة أخ��رى‪ُ ..‬‬ ‫وهتبط السكين ُة على املكان‪ ..‬ويبقى ذلك الضوء‬ ‫ويعود‬ ‫ُ‬ ‫ينبعث بعيد‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪84‬‬


‫يا له من حنس!‬ ‫اشعث‬ ‫جويعد يف اخلمسني من عمره‪ ،‬طوي ٌل وحنيف‪ ،‬وقد بانت احننائته‪ ..‬شعره ٌ‬ ‫توزعت يف احناء وجهه دومنا انتظام‪ ..‬يسري وخلفه‬ ‫متطاير كأنه يف ع��راك‪ ..‬وحليته‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫مح��اره خبطوات سريعة وق��د ب��دت مس��ات الرضا على وجهه وه��و يتمتم بصوت‬ ‫خافت‪ ..‬احلمد هلل‪ ..‬احلمد هلل‪ ..‬ها هو الباب يفتح من جديد‪ ..‬سيكون رزقًا‬ ‫طيبًا إن شاء اهلل‪ ..‬فهذا الرجل غين بال ريب‪ ..‬نعم‪ ،‬انظر إىل سرواله وحذائه إهنما‬ ‫جديدان‪ ..‬انظر إىل ذلك الربَّاط‪ ..‬ربَّ��اط حذائه اجلميل‪ ،‬انه من النوع األصيل‬ ‫الغايل‪ ..‬انه رجل من علية القوم دون شك‪ ..‬تفوح منه رائحة مجيلة وشعره يلمع‬ ‫من الدهون الثمينة اليت يضعها عليه‪ ..‬ال بد انه ميتلك املال الكثري وسيعطيين اجري‬ ‫كاملاً ‪ ..‬احلمد هلل‪ ..‬احلمد هلل‪ ..‬لقد استجاب اهلل دعائك يا صبحة‪ ..‬صحيح إهنا‬ ‫امرأة طيبة‪ ..‬وكيف ال وقد استجاب اهلل دعائها‪ ..‬اهلل جيازيك باخلري يا صبحة‪..‬‬ ‫اذكر حني تزوجتها مل أكن امتلك إال القليل‪ ..‬كنت اعمل ح��دا ًدا لدى احلاج‬ ‫حرب‪ ..‬ذلك الرجل اللعني! أذاقين الكثري من العذاب وكان خبيلاً ‪ ..‬يعطيين خبس‬ ‫دراهم معدودة‪ ..‬أتذكر جي ًدا حينما طلبته املزيد من القروش‪ ..‬يا له من لعني!‬ ‫لكنه مات رمحه اهلل‪ ..‬ال جيوز عليه سوى الرمحة‪ ..‬عندما تزوجت من صبحة تلك‬ ‫املرأة البيضاء اجلميلة احلسنة‪ ..‬صحيح أهنا اليوم مل تعد كذلك وقد افسد الدهر‬ ‫مالحمها‪ ..‬إال أهنا ما زالت طيبة‪ ..‬منذ تزوجتها وجدت عملاً آخر وكسبت مالاً‬ ‫واشرتيت محاري الذي أمسيته “نبيه”‪ ..‬يساعدين يف عملي ويف حيايت‪ ..‬وها هو‬ ‫اهلل يستجيب لدعاء صبحة ويرزقين بابن احلالل هذا‪ ..‬وبينما كان جويعد يعيش‬ ‫السائر في الدرب ‪85‬‬


‫يف أحالمه وهو شارد الذهن وإذ بالرجل يهتف به‪:‬‬ ‫ أنت! أيها الرجل! انتبه إىل الطريق! انظر إىل الشوالني! امحلهما إىل بييت‪ ..‬هيا‬‫بسرعة! لنصل قبل الغروب‪..‬‬ ‫ابتسم جويعد وحترك بسرعة ليحمل الشوالني‪ ...‬وكان يتمتم‪:‬‬ ‫ إن شاء اهلل‪ ...‬يا قوي‪ ..‬آمنت باهلل العظيم‪..‬‬‫ومحل الشوالني على ظهر محاره “نبيه” وسار الرجل األنيق وخلفه جويعد يقود‬ ‫محاره وراءه‪ ..‬وكان الرجل يكلم نفسه ويقول‪:‬‬ ‫ آه‪ ..‬جيب أن أصل قبل الغروب‪ ..‬ترى هل ستصدقين؟ هل ستغضب مين؟‬‫ترى!‬ ‫ووصل جويعد ومحاره إىل العنوان‪ ..‬وكان بيت وسط سرب من البيوت اجلميلة‪..‬‬ ‫بيت فخم كبري من احلجر األبيض‪ ..‬اقرتب الرجل األنيق من البيت وقد بدت‬ ‫عليه مالمح القلق‪ ..‬دق الباب بقبضة مرتعشة ثالث مرات‪ ..‬ومن أعماق البيت‬ ‫رد صوت أجش‪:‬‬ ‫ من الطارق؟ من بالباب؟‬‫متنحنحا‪:‬‬ ‫فرد الرجل‬ ‫ً‬ ‫ أنا‪ ..‬هذا أنا‪ ..‬لقد أتيت‪..‬‬‫صمت عميق‪ ..‬وفجأة سمُ ع أزُي��ز الباب‪..‬‬ ‫ونزلت السكينة على املكان‪ ..‬وخيم‬ ‫ٌ‬ ‫تراجع الرجل خطوتني إىل الوراء‪ ..‬وجويعد ومحاره واقفان ال يدريان ما حيدث‪..‬‬ ‫وفتح الباب وإذ به ام��رأة غريبة الشكل‪ ،‬قصرية الطول عريضة وبدينة‪ ،‬حتملق‬ ‫بعينيها البارزتني حنو الرجل وكأهنا رأت شيطانًا يقف أمامها‪ ..‬وبعد دقيقة من‬ ‫السائر في الدرب ‪86‬‬


‫الصمت صاحت بصوهتا األجش‪:‬‬ ‫ أنت مرة أخرى! أيها الشيطان! ملاذا أتيت؟! امل أطردك من البيت؟! امل اقل‬‫أين ال أريد أن أراك! ها!‬ ‫فرد الرجل األنيق وهو يرتعش‪:‬‬ ‫ عزيزيت! ماذا دهاك؟! أنت زوجيت وأم عيايل!‬‫فصاحت املرأة بسخط‪:‬‬ ‫ ال أريد أن أراك! اغرب عن وجهي أيها احلقري! انصرف فاين اشعر بالدوار‬‫حينما أراك‪ ..‬هيا أيها الشيطان‪ ..‬تفوووه!‬ ‫وأوصدت الباب بقوة‪ ..‬طراخ!!‬ ‫ووق��ف ال��رج��ل األن��ي��ق بصمت ش��دي��د‪ ..‬وك��ان جويعد ومح���اره ينظران إىل هذا‬ ‫املشهد الغريب دون ح��راك‪ ..‬وطأطأ الرجل رأسه وانكمش مث نظر إىل جويعد‬ ‫ويف عينيه نظرة باكية‪ ..‬ومل ينبس ببنت شفه وبقي صامتًا لبعض الوقت مث قال‬ ‫بصوت يكاد ال يسمع‪:‬‬ ‫ أنا آسف‪..‬‬‫فتنحنح جويعد وحترك من مكانه وقد بدا عليه احلرج وقال‪:‬‬ ‫ هئ‪..‬هئ‪ ..‬ال عليك! ال عليك! هذه األم��ور حتدث كثريًا‪ ..‬ستتغري األحوال‬‫إن ش��اء اهلل‪ ..‬ال عليك! مث رب��ت على ظهر مح��اره وأك��م��ل‪ ..‬حت��دث يف أحسن‬ ‫العائالت‪ ..‬مث اقرتب الرجل األنيق من جويعد وقال له‪:‬‬ ‫ يف احلقيقة أنا ال املك نقو ًدا‪ ..‬وقد كنت انوي أن اخذ من زوجيت ألعطيك‪..‬‬‫فوقعت هذه الكلمات على جويعد كالصاعقة‪ ..‬لقد أهندم‬ ‫رأيت ما حدث‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫وقد َ‬ ‫احللم‪ ..‬لقد متلص الرجل األنيق منه ولن يدفع األجرة‪..‬‬ ‫يا له من حنس!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪87‬‬


‫سداد دين‬ ‫طراد يف الثالثني من عمره‪ ..‬تاجر يف سوق اخلضراوات‪ ..‬وصل إىل احد البيوت‬ ‫اجلميلة يف البلدة الكبرية وطرق الباب‪:‬‬ ‫ دق‪ ..‬دق‪ ..‬دق‪..‬‬‫فلم يرد احد‪ ..‬فجلس ينتظر وقد جالت األفكار يف رأسه‪:‬‬ ‫ ق��د يكون نائما أو لعلّه ليس م��وج��ود‪ ..‬سأنتظر نعم سأنتظر‪ ..‬لقد أتيت‬‫باكرا‪ ..‬قبل الوقت‪ ..‬اللعنة علّي! دائما أصل قبل الوقت‪ ..‬سوف اجلس‪..‬‬ ‫ً‬ ‫وجلس طراد بقرب الباب ومر الوقت ودارت الساعة وعلت الشمس يف كبد‬ ‫منتظرا‪ ..‬ارتفعت حرارة الشمس وغارت عينا طراد يف رأسه‬ ‫السماء‪ ..‬وما زال ً‬ ‫وانكمش جسده وازدادت مالمح اليأس على وجنته‪ ..‬وق��ام من مقامه وطرق‬ ‫الباب مرة أخرى‪:‬‬ ‫ دق‪ ..‬دق‪..‬دق‪..‬‬‫فلم جيب احد‪ ..‬مث نادى بصوت مييل إىل البكاء‪:‬‬ ‫ يا حاج! يا حاج! لقد أتيت كما وعدتين‪ ..‬يا حاج!‬‫فلم جيب احد‪ ..‬ومل يسمع سوى صدى صوته يدوي بني األزقة والبيوت‪ ..‬مث‬ ‫اطرق قليلاً وارختى جسده والتفت حوله فلم ير احد‪ ..‬واخذ يكلم نفسه‪:‬‬ ‫ ال حول وال قوة إال باهلل‪ ..‬لقد وعدين اليوم‪ ..‬أيكون نصاباً!؟ حمتاالً!؟ معقول!‬‫أقسمت أن ال أداي��ن احد أعود‬ ‫كيف ه��ذا!؟ موعدي معه اليوم‪ ..‬اللعنة! كلما‬ ‫ُ‬ ‫السائر في الدرب ‪88‬‬


‫وافعل‪ ..‬خلص! هذه آخر مرة‪ ..‬اقسم أين لن أداين احد قط‪ ..‬وهبط الصمت‬ ‫على املكان للحظة‪ ..‬وفجأة سمُ ع اهتزاز الباب وهو يُفتح‪ ..‬فانتفض طراد ملتفتًا‬ ‫إليه‪ ..‬وإذ بالباب ام��رأة ضخمة ج��داً‪ ..‬مسينة ج ًدا وعريضة‪ ..‬شعرها منفوش‪..‬‬ ‫وازي��ز انفاسها مرتفع‪ ..‬كانت تفرك عينها احلمراء كاجلمر‪ ..‬وحت��ك رأسها وتنظر‬ ‫إليه بتمعن‪ ..‬وقالت بصوت فظ ومسج‪:‬‬ ‫ من أنت؟‬‫فتنحنح طراد وبلع ريقه مرتني‪ ..‬وأجاب‪:‬‬ ‫ أنا‪ ..‬احم‪ ..‬أنا‪ ..‬يف السوق‪..‬هناك‪ ..‬اخلضراوات‪ ..‬أريد احلاج حممود‪..‬‬‫فردت املرأة بعنف وهي حتك انفها‪:‬‬ ‫ احلاج حممود!‪ ..‬مممم‪ ..‬ال يوجد هنا حجاج‪ ..‬اهلل ييسر لك! وطرقت الباب‬‫بعنف‪ ..‬طرااخ!‬ ‫ووقف طراد مشدوهاً‪ ..‬مصعوقاً ‪ ..‬لو رأيته لظننته متثال‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪89‬‬


‫حكاية من الشارع‬ ‫كان الليل قد ُجن وادهل��م الظالم وهبطت السكينة على املكان وه��دوء غريب‬ ‫غطى مالمح احل���ي‪ ..‬ومل تعد صيحات النساء تُسمع وال قهقهات الرجال‪..‬‬ ‫وعلت اصوات الصراصري البعيدة‪ ..‬وكان الطقس شديد احل��رارة‪ ..‬يوم من ايام‬ ‫الصيف يف ب�لادي‪ ،‬وكانت الساعة قد اقرتبت من منتصف الليل وكنا جنلس‬ ‫حتت عامود الضوء يف حاريت‪ ..‬وقليلاً ما نتأخر اىل هذا الوقت‪ ..‬اعمارنا كانت‬ ‫متفرقة‪ ،‬كنا ستة او سبعة‪ ..‬وك��ان كبرينا جيلس يف وسطنا وحنن حنيطه بأعيننا‬ ‫فرارا ومللئت منا‬ ‫وأفواهنا الشاغرة وأبصارنا الشاخصة‪ ،‬لو اطلعت علينا لوليت منا ً‬

‫رعبًا‪ ،‬نستمع حلكاياته املخيفة‪ ،‬كان حيكي لنا قصصاً عن االشباح واألموات‪..‬‬

‫يلوح بيديه وه��و ي��روي لنا‬ ‫تلك ال�تي تفيق يف الليل وتسري يف احل���ارات‪ ،‬وك��ان ّ‬

‫متطاير يف كل اجتاه وعيناه جاحظتان براقتان‪ ،‬وكان يبدو‬ ‫اشعث‬ ‫القصة وشعره ٌ‬ ‫ٌ‬

‫كالشياطني‪ ،‬او لعله الشيطان نفسه وال نعلم‪ ..‬كانت اعيننا معلقة بيديه النحيفتني‬ ‫ننكمش‬ ‫يفصل لنا اش��ك��ال االم�����وات‪ ..‬وحن��ن‬ ‫ُ‬ ‫ال�تي تشري اىل ك��ل ص���وب‪ ،‬وه��و ّ‬

‫وننكمش كلما حت��رك وأش��ار بيديه‪ ..‬وك��ان شكله وانفه املعقوف خييل لنا يف‬

‫ال��ظ�لام كأنه ساحر او عفريت‪ ..‬وك��ان يوصينا ب��ان ال نسب األم���وات‪ ،‬ألهنم‬ ‫سببت‬ ‫سيقومون يف ساعات الليل املتاخره وسيجروننا من ارجلنا‪ ..‬وال اذكر اين ُ‬ ‫تسمرنا يف مكاننا وجتمدت ابصارنا وشغرت افواهنا‬ ‫ميتًا منذ ذاك اليوم‪ ..‬كنا قد ّ‬ ‫وسال لعابنا‪ ،‬وهو ما يزال يردد كلماته اليت حبست انفاسنا ورجت اعماقنا‪..‬‬

‫السائر في الدرب ‪90‬‬


‫ومل��ا انتهى من كالمه‪ ،‬ق��ام ورك��ض اىل بيته القريب‪ ..‬وقمنا وه��رول اجلميع‪..‬‬ ‫وختيلت‬ ‫ارتعدت اوصايل واقشعر بدين خوفًا‬ ‫وكان بييت يف هناية الشارع‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وقلت يف‬ ‫اعمدة الشارع عفاريت‪ ،‬وأشجاره شياطني‪ ..‬تلفين من كل جانب‪ُ ،‬‬

‫وهربت مسر ًعا اىل‬ ‫لساقي‬ ‫فأغمضت عيين‬ ‫هلكت ال حمال‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نفسي ُ‬ ‫وأطلقت العنان ّ‬

‫ودخلت البيت فسألين أيب اين‬ ‫وصلت ساملًا‪..‬‬ ‫بييت‪ ..‬ال اعلم حىت يومي هذا كيف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وذهبت‬ ‫انطق حبرف‬ ‫كنت؟ ملاذا مل تنم اىل االن؟ لونك اصفر كالعفاريت‪ ..‬فلم ُ‬ ‫ُ‬ ‫اىل فراشي صامتًا ألنام‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪91‬‬


‫املعلم وديك احلبش‬ ‫يلوح بيديه الغليظتني واصابعه املدببة املكسوة بالشعر الكثيف وجبينه‬ ‫املعلم ُ‬ ‫كان ُ‬ ‫املنكمش يندس عرقًا‪ ،‬وصوته االجش يرج املكان‪ ،‬وقد انتفخت اوداجه وامحر‬ ‫فتذكرت حينها جرياين وديك احلبش الذي كان‬ ‫انفه وانغمرت عيناه يف وجنته‪،‬‬ ‫ُ‬

‫يقف مكان‬ ‫يزغرد يف الليل والنهار وهو جيول يف باحة بيتهم الواسعة‪ ،‬وختيلته ُ‬ ‫ننظر اىل عرفه االمح��ر املتديل بتفحص واهتمام‪ ..‬ال‬ ‫املعلم ويزغرد امامنا وحن��ن ُ‬ ‫اذكر حينها عن اي شيء كان يتكلم‪ ،‬اال ان صوته اثار اهتمامي وذلك الصفري‬ ‫الذي خيرج منه ال اعلم من اين‪ ..‬كان اهلدوء يغطي املكان وال يسمع لنا حركة‪،‬‬ ‫واملعلم ال يزال ينشد سيمفونيته العجيبه‪ ،‬وال يزال ذلك الصفري يلحن حلنه الرتيب‪،‬‬ ‫وكانت احلروف تتناثر من فمه وختتلط برذاذ لعابه الذي ميأل املكان وبني الفينة‬ ‫امحرارا ويزداد‬ ‫والفينة‪ ،‬كان ميسح انفه بقوة وكأنه يريد اقتالعه من مكانه فيزداد ً‬

‫اقرتابًا من ذلك الديك الذي ال تزال زغاريده ترن يف اذين حىت يومي هذا‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪92‬‬


‫عندما يهرب العقل‬ ‫اجلس يف غرفيت اكتب كلمات‪:‬‬ ‫الشمس تنحين حنو املغيب تطرُز ص��ورة كئيبة‪ُ ..‬‬ ‫“عرب ميدان السوق حيث تتكدس اكوام الزبالة وبقايا اخلضار واالوراق املتناثرة يف‬ ‫كل صوب‪ ..‬وقد لف الظالم حنايا السوق والقمر الشاحب تعاىل يف السماء املنيعة‬ ‫املظلمة‪ ..‬سكو ٌن يطبق على كل الطرقات‪ ..‬وما هي اال خطوات املارة تسمع من‬ ‫تبث بعض املصابيح ضيائها على البيوت‪ ..‬وقد هبت ريح‬ ‫حني الخر‪ ،‬ومن بعيد ُ‬ ‫خفيفة من ص��وب الشمال‪ٌ ..‬‬ ‫خليط بشري اكتست مالحمهم بالبؤس والشقاء‪..‬‬ ‫مطر يشطف‬ ‫صمت مريب وسكوت عميق متزقه هلثات امل��ارة وهدير االن��ف��اس‪ٌ ..‬‬ ‫الطريق ويشطف العالقات الذكريات من زمن تآكلت فيه الساعات واللحظات‪..‬‬ ‫رياح ُ‬ ‫وتبعث الزغاريد وأهازيج عتيقة‪ ..‬واطفال يلهثون وراء‬ ‫تعزف يف االفق البعيد ُ‬ ‫الفراشات يف احل��ق��ول‪ ،”..‬مث افيق من كلمايت‪ ،‬وآوي اىل ف��راش��ي‪ ..‬ورذاذ املطر‬ ‫يقرع شباكي الصغري‪ ،‬فأنام ملئ جفوين على حلن القطرات‪ ..‬فيعلو ذلك الوجه‬ ‫اجلميل وتلك االبتسامة‪ ..‬فيختلط دفء املكان مع دفء االنفاس وتغمر املكان‬ ‫احاسيس تربك املكان والزمان فتهرب العقول وتبحث عن مكان آم��ن‪ ..‬فيشتد‬ ‫املطر ويشطف الطريق وخطى السائرين على الطريق وال يعبأ مبالمح الزمان‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪93‬‬


‫موقف انساني‬ ‫جلس رج ٌل بدين ذو كرش كبرية وقامة قصرية‪ ،‬خلف طاولة قدمية مصنوعة من‬ ‫اخلشب العتيق‪ ،‬وكان يقلب كوم من امللفات القدمية اليت تكدست امامه‪ ،‬وبني‬ ‫الفينة والفينة يسمع سعاله وهو يدوي يف ارجاء الغرفة وميأل الطاولة وامللفات برذاذ‬ ‫لعابه‪ ..‬وعلى زاوية الطاولة الفتة مكتوب عليها خبط غري واضح “شرطي”‪ ،‬كان‬ ‫لسانه يتمتم بكلمات ال يفهم معناها س��واه‪ ..‬ويقلب بأنامله الغليظة امللفات‪..‬‬ ‫ودوت سعلة قوية‪ ،‬ارجتت هلا اجل��دران وتناثر اللعاب يف كل مكان‪ ..‬مث التفت‬ ‫بنظراته الذابلة اىل رجل كان يقف امامه‪ ..‬امسه جدوع‪ ..‬رجل حنيف وقصري‪..‬‬ ‫وق��د تدلت شفته السفلى وغ��ارت عينيه يف رأس��ه وجتعدت سحنته وب��دى عليه‬ ‫التعب واإلرهاق‪ ..‬وتوجه احملقق البدين اليه يكلمه بصوت خيرج من احشائه ال‬ ‫من فمه‪:‬‬ ‫ امسع يا هذا! رغم انك تشبه الشياطني! وشكلك كامليت احلي! إال انك ال‬‫تبدو مثل اللصوص‪ ،‬فانا اشم رائحة اللصوص من بني ماليني الناس‪ ،‬اما انت‬ ‫فرائحتك كريهة! عليك اللعنة !‬ ‫وهبطت السكينة على املكان مرة اخرى‪ ..‬فقطع السكون سعال الشرطي‪ ..‬وهو‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫ هيا اخ��رج م��ن ام��ام��ي! بسرعة! قبل ان اغ�ير رأي���ي‪ ..‬ايها العفريت! عليك‬‫اللعنه‪ ..‬تفوو!‬ ‫واختفى جدوع‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪94‬‬


‫عرب احلدود‬ ‫اختفي ايتها احلدود! اقرتيب ايتها البلدان! كوين كما تشائني‪ ،‬كوين هواء او ذهب او‬ ‫رصاص‪ ..‬كما حيلو لك‪ ..‬ولكن اغريب عين‪ ،‬فاين ال احب ان ار ِ‬ ‫اك‪ ..‬ودعي االرواح‬ ‫تلتقي وتتهامس‪ ،‬دعيها تتجول يف شوارعك الواسعة مىت شاءت‪ ..‬بدون صور او‬ ‫اشكال‪ ..‬فال يستوقفها احد‪ ،‬وال يسأهلا احد‪ ..‬من اين انت؟ ومن اين اتيت؟ واي‬ ‫وثيقة سفر حتملني؟ اقرتيب ايتها البلدان وتعانقي‪ ..‬ضميين بينك‪ ..‬وخلي بيين وبني‬ ‫تلك الروح‪ ،‬اليت جتلس هناك متوشحة ثوهبا االسود الطويل وغطاء راسها‪ ..‬ذريين‬ ‫والفالة وحدي‪ ،‬اقابل ذرات الرمل واواجه لفحات الشمس‪ ..‬اختفي ايتها احلدود‪..‬‬ ‫وح�ت�ى ل��و مل خت��ت��ف��ي! س��اخت��ط��اك بقليب وروح����ي‪ ،‬س��اج��ت��ازك رغ���م ع��ن��ك! واس�ي�ر يف‬ ‫شوارعك‪ ،‬ارقب املارة وكل احلاملني‪ ..‬وتلك النسمة اخلليجية متشي على استحياء‪..‬‬ ‫يف الشارع الطويل‪ ،‬وقد اكتحلت عيناها سواد الليل‪ ..‬وشعرها الليلي يسافر يف كل‬ ‫مكان‪ ..‬اختفي ايتها احلدود! واقرتيب ايتها البلدان! حىت وان كان يف اخليال‪..‬‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪95‬‬


‫جنون كلمات‬ ‫يف ساعات الغروب اجلميلة‪ ،‬والشمس تفارق السماء بعد عناق طويل والنسمات‬ ‫لتكون كلمات تداوي‬ ‫العليلة تداعب املكان‪ ،‬تداعت املعاين واشرأبت احلروف ّ‬ ‫هبا الروح وترحل بالنفس إىل حيث األفق البعيد‪ ،‬حيث الفراشات وتناغم الورود‪،‬‬ ‫حيث األهازيج العتيقة اليت تنفرد فيها الروح وهتدأ فيها النفس وتطمئن فيها السرائر‪،‬‬ ‫كلمات ال تعرف للحدود معىن‪ ،‬ومل تعرتف يوما بالقوانني‪ ..‬كلمات طرزت قصة‬ ‫بديعة‪ ،‬ليست إال يف اخليال‪ ..‬يف تلك اللحظات كان لقاء الكلمات صدفة ومل‬ ‫يكن للعقل فيه دور‪ ،‬التقت املشاعر دون ميعاد ودون التقاء العيون‪ ،‬سارت ومتادت‬ ‫وأطلقت لنفسها العنان لتعيش يف حلم مجيل ويف عامل آخر‪ ،‬خيلو من كل اهلواجس‬ ‫والتخبطات وتلك العراقيل‪ ..‬اقتطعت من الزمان برهة وجيزة وسافرت هبا إىل اخليال‪..‬‬ ‫إىل الالمعقول‪ ..‬أبت املشاعر أن تتوقف فانسابت كانسياب املاء‪ ،‬مل تعطي العقل‬ ‫فرصة ليضع املوانع واحلواجز‪ ..‬مل تعطه الفرصة أن خيتار‪ ..‬كان صوت املشاعر أقوى‬ ‫من كل شيء‪ ..‬أقوى من الواقع‪ ..‬فالتقت الكلمات واهلمسات دون ميعاد ومتادت‬ ‫إىل حيث الالحدود‪ ..‬وختطت كل القواعد وحذفت كل العقول‪ ..‬كانت أمجل‬ ‫كلمات‪ ..‬ما أروع تلك اهلمسات يف ساعات الليل الطويل والناس نيام‪ ..‬مهسات‬ ‫السائر في الدرب ‪96‬‬


‫متحو اجلاذبية فنطري فوق السحاب ونلمس الغمام‪ ،‬وتلك الغيوم البيض‪ ..‬ونستنشق‬ ‫هواءها العليل ونسمات الفجر األصيل حيث تنعدم املوانع وتتالشى احملذورات‪..‬‬ ‫مهس كلمات متتزجها االبتسامات وتعلو أنشودة العشق‪ ..‬ونضحك ضحك طفلني‬ ‫معاً‪ ..‬كم كانت صادقة تلك االبتسامات اليت مل تلتق‪ ..‬ومل تلتق العيون‪ ..‬تدفقت‬ ‫رغم كل القيود‪ ..‬صورة رائعة شكلتها أمجل املعاين والكلمات‪ ..‬جنون كلمات ‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪97‬‬


‫غزل‬ ‫حلظات عابرةٌ من الغزل‪ ..‬مينع فيها قول احلقيقة ومتنع فيها القلوب من التناغي‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫تُقهر فيها الكلمات وتحُ بط فيها العواطف وتحُ جز املشاعر وتُكبل باألوصاد‪ ..‬حلظات‬ ‫من الغزل اجلميل متألها الكلمات‪ ..‬فنطري فيها فوق السحاب وحنلم والنجوم سواء‪،‬‬ ‫فال تلتقي العيون وال تتقابل األجساد‪ ،‬غزل ممنوع‪ ،‬مينع فيه أن ختفق القلوب وان‬ ‫حتن األكباد‪ ..‬تعتصر الروح من الروح وخيتلط اآلن واملكان‪ ،‬وتتبعثر املشاعر يف‬ ‫كل مكان وتتخبط األنفاس ويتوقف القلب‪ ..‬تنخفض الزفرات ويهمد اجلسد‪..‬‬ ‫وختتفي النجوم مع اختفاء املشاعر اجلميلة وهنبط من فوق السحاب ونتمرغ يف‬ ‫الرتاب‪ ..‬غزل حرام‪ ..‬غزل ممنوع‪ ..‬فنفيق مع الصباح الباكر‪ ..‬وذلك الندى الذي‬ ‫ميأل املكان‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪98‬‬


‫غريب شأنك!‬ ‫اختلس فيها احلديث اىل نفسي‪ ..‬اسرتُد فيها طفل الذكرى‬ ‫ما اكثر اللحظات اليت‬ ‫ُ‬

‫ال��ذي ودع�ني حيث كنت ه��ن��اك‪ ،‬وتلك العينني احلزينتني ال�تي طاملا تعلق ناظري‬ ‫اسافر حيث الذكريات املتباعدة‬ ‫هبما‪ ..‬ما اكثر الليايل اليت‬ ‫ُ‬ ‫سافرت فيها مع نفسي‪ُ ..‬‬

‫حيتضن التائهني‪ ..‬السائلني‪..‬‬ ‫يوم بيوم‪ ،‬وما امجل الليل الذي‬ ‫ُ‬

‫ايها الطفل الساكن حيث هناك! اجبين على ما خيتلج يف نفسي‪ ،‬وَدع السحاب‬ ‫ارغب‬ ‫الراكد فيك ينبعث مطراً يروي حرييت‪ ..‬حنني كالصلصلة يف كنف الظالم‪ُ ..‬‬ ‫يف ان ام��زق الثوب القدمي‪ ،‬وان اه��دم البيت القدمي‪ ،‬وانبعث فجراً جديداً وقلب‬ ‫متمرد‪ ،‬يعشق الشموخ وي��رف��ض ال��س��ب��ات‪ ..‬ص��وت ن��اي ح��زي��ن‪ ،‬يغين العاشقون‬ ‫ويرقص احلاملون‪ ،‬اغنية املاضي املمتد اىل حد النسيان واملشتت اىل حد ِ‬ ‫الص ْفر‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫اسافر حيث ال حلم وال خيال‪ ،‬حيث احلقيقة الدامغة‪ ،‬حيث ال غضب وال جزع‪..‬‬ ‫ُ‬

‫ارحت ُ��ل‪ ،‬وأسريُ بصوت حيتقر الصمت والتواين ويلعن التلعثم واالحنصار‪ ..‬اىل تلك‬ ‫احلقيقة اليت اثقلتها احلمى وافقدها بصرها الرمد‪..‬‬ ‫مع بزوغ الفجر وتدحرج الضباب فوق االرض‪ ..‬اناجيك عرب املطر‪ ..‬ايتها النفس‪..‬‬ ‫بضع من الدهر يداولين ويتلفعين الضجر‪ ،‬ويف كفي جتمعت ينابيع من القهر‪..‬‬ ‫انتهى رحيلي بني االقمار وانتهى السفر‪ ،‬وقاريب احملطم ميأل االفق غبار وكدر‪ ..‬عرب‬ ‫السائر في الدرب ‪99‬‬


‫طول املسافات اشم رائحة حنينك اناجيك فامسحي بكفك على راسي عسى ان‬ ‫يزايلين الضجر‪ ..‬امسع من بعيد رنني كلمات‪ ..‬غريب شأنك حىت الدهشة‪ ..‬حىت‬ ‫السخرية‪ ..‬تطلب من امل��اء ان ينصب فوق الصخر ويفيض نبعا ي��روي احلاملني‪..‬‬ ‫غريب شأنك!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪100‬‬


‫ماذا اكتب؟‬ ‫��رت اوراق�����ي‪ ،‬ل��ك��ي اك��ت��ب موضوعاً‬ ‫��ت قلمي ون��ش ُ‬ ‫��ت خ��ل��ف مسطبيت وب��ري ُ‬ ‫ج��ل��س ُ‬ ‫االفكار‬ ‫الكاتب احياناً كثرية م��اذا يكتب؟ او كيف؟ تتخبط‬ ‫للصحيفة‪ ..‬حيتار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتتصارع فتقبل وتدبر وتأىب ان خترج اىل حيز الوجود‪ ..‬ال ادري ملاذا ختتفي االفكار‬ ‫وترفض ان تظهر للعيان‪ ..‬هل خت��اف ان يراها ال��ن��اس؟ ورغ��م ه��ذا فال بد يل ان‬ ‫اكتب عن شيء م��ا‪ ..‬اعتقد ان الكتابة يف السياسة ممله‪ ،‬فهي وصلت اىل حد‬ ‫االج�ت�رار‪ ..‬لقد مل الناس منها‪ ..‬او اك��اد اق��ول كرهوها‪ ،‬الهن��ا ال جت��دي نفعاً‪..‬‬ ‫فماذا اكتب اذاً ؟ هل اكتب شيئا عن الثقافة؟ وهل حيتاج الناس اىل من يذكرهم‬ ‫مبعىن الثقافة او امهيتها‪ ..‬تلك اليت غدت يف غياهب النسيان‪ ..‬ومن اص ً‬ ‫ال يريد ان‬ ‫يفكر؟ فالناس كلهم اذكياء وكلهم يعون احتياجاهتم ومتطلبات املرحلة‪ ..‬ومن انا‬ ‫اص ً‬ ‫ال ؟ حىت اكتب مقاالً او كلمات يف هذا املوضوع؟ فهل اكتب يف الرياضه؟‬ ‫وماذا افهم يف ذلك؟ وهل عندنا رياضه؟ وهل لنا مالعب؟ او حىت فريق يذكر؟‬ ‫اكتب ان قطيعاً من املاعز كان يسرح يف ملعبنا‪ ..‬سيغضب الناس ال حمال‪..‬‬ ‫او ُ‬ ‫اكتب يف الصحه؟ ال‪ ..‬ال‪..‬‬ ‫وسيقولون اين‬ ‫اسخر من املاعز‪ ..‬اذاً فماذا اكتب؟ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وما دخلي بالصحة‪ ..‬فليفعل الناس ما يريدون بصحتهم‪ ..‬اح��رار‪ ..‬يا حلرييت‪..‬‬ ‫السائر في الدرب ‪101‬‬


‫ان الصحيفة تنتظرين ومل اكتب شيئاً‪ ..‬حرفاً او كلم ًة‪ ..‬ما اصعب التفكري‪ ..‬وكأن‬ ‫املعاين اختفت‪ ..‬ذهبت‪ ..‬ومل ترتك اث��راً هلا‪ ،‬علّي اقتفيه‪ ..‬فاكتب ما يفيد الناس‬ ‫ويصلح من امورهم او حىت يغذي ارواحهم‪ ..‬اتدرون! لن اكتب شيئاً! وليكن ما‬ ‫يكون‪ ..‬ويكفي ما تعرفون‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪102‬‬


‫اهلجر‬ ‫ال ترتكيين‪..‬‬ ‫فانا ال اعرف صديق ِ‬ ‫سواك‬ ‫ال تذريين‪..‬‬ ‫فاين أخاف أن مل ِ‬ ‫أراك‬ ‫ال هتجريين‪..‬‬ ‫فقليب خيفق يف ِ‬ ‫هواك‬ ‫ال جتزعي‪..‬‬ ‫كلنا جنول يف ِ‬ ‫مساك‬ ‫نقطع الطريق عربك‬ ‫ال تتوقفي عن اجمليء‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫خطاك‬ ‫اسرتسلي‪ ..‬مدي‬ ‫سريي وانبعثي‪..‬‬ ‫ورود وشذى ِ‬ ‫نداك‬ ‫نسمات يف الصباح‬ ‫يضيء نفسي ِ‬ ‫سناك‬ ‫ال ترتكيين أيتها الكلمات‪..‬‬ ‫روحي وقلمي ِ‬ ‫فداك‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪103‬‬


‫بني اهلشيم‬ ‫أس؟ واحلقيق ُة املفقودةُ؟ ُ‬ ‫ويزول اليأس؟‬ ‫غربت‬ ‫الشمس‪ ،‬وارتفعت النجوم‪ ..‬ايشمخ الر ُ‬ ‫ُ‬ ‫تنبت النفس! يُسم ُع مهس! بكاء ميت وانني‪ ..‬احلقيق ُة غدت‬ ‫بني اهلشيم والرماد ُ‬ ‫امس‪ ..‬دوام ٌة من النسيان‪ ..‬فهل تبزُغ الشمس؟‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪104‬‬


‫املطر‬ ‫قصف رعد‪..‬‬ ‫عزف ريح‪..‬‬ ‫غيث يف بالدي‬ ‫ٌ‬ ‫مطر يشطف الطريق‪ ..‬‬ ‫ٌ‬ ‫ذكريايت وآهايت‪ ‬‬ ‫مطر ميسح الواجهات‪ ،‬وشباكي‬ ‫نسمات من السقيع‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫العاليات‬ ‫ختنق الضياء‬ ‫طري يرفرف‪ ،‬وبلبل شادي‬ ‫ورقة خضراء تطري يف السماء‪..‬‬ ‫تربق الرعود يف الغيوم‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫الضيقات‬ ‫تضيء الطرقات‬ ‫صمت ميأل املكان‪..‬‬ ‫السائر في الدرب ‪105‬‬


‫يهجع كل حاكي‬ ‫مطر يطرق الشباك‪..‬‬ ‫ويرسم الفراشات الراقصات دخاين‬ ‫شاي وفنجاين‬ ‫يف بالدي يف بالدي‪..‬‬ ‫يشطف املطر السنون‪..‬‬ ‫تبتسم العيون وتناغي‪ ،‬واالحلان‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫الغانيات‬ ‫تنشدها‬ ‫يف بالدي تنام الكائنات‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪106‬‬


‫ان اعيش‬ ‫لو كان يل أن أعيش!‬ ‫التفات‪،‬‬ ‫أن اعرب الطريق دون ْ‬ ‫لو كان يل أن أبوح!‬ ‫صيحات‪،‬‬ ‫أن أمأل الدنيا‬ ‫ْ‬ ‫اخلطوات!‬ ‫لو كان يل أن أمد‬ ‫ْ‬ ‫‪ ‬لو كان يل أن اطرق الباب!‬ ‫الذكريات‪،‬‬ ‫أن اترك‬ ‫ْ‬ ‫كلمات‪،‬‬ ‫أن الفظ كل يوم‬ ‫ْ‬ ‫وابتسامات‪،‬‬ ‫كلمات‬ ‫ْ‬ ‫‪ ‬لو كان يل أن امجع الورود!‬ ‫اقطف أزهار احلياة‪،‬‬ ‫‪ ‬لو كان يل أن اقبل اجلبني!‬ ‫السائالت‪،‬‬ ‫أن امسح الدموع‬ ‫ْ‬ ‫السائر في الدرب ‪107‬‬


‫لو كان يل أن ارسم الوجه اجلميل!‬ ‫اآلهات‪،‬‬ ‫أن احضن‬ ‫ْ‬ ‫‪ ‬أن اترك الوجع‪..‬‬ ‫الباكيات‪،‬‬ ‫أن اشطف العيون‬ ‫ْ‬ ‫العثرات!‬ ‫‪ ‬لو كان يل أن اجتاز‬ ‫ْ‬ ‫الساهرات‪،‬‬ ‫أن أغمض العيون‬ ‫ْ‬ ‫لو كان يل‪ ‬أن أعيش!‬ ‫التفات‬ ‫أن اعرب الطريق دون‬ ‫ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪108‬‬


‫لو اني اعلم‬ ‫لو اين اعلم‪..‬‬ ‫انك لن تبقى‪،‬‬ ‫هلجرتك منذ زمان‪..‬‬ ‫رحلت‪،‬‬ ‫ولكنت‬ ‫ْ‬ ‫واختفيت‬ ‫وأخذت رسااليت‬ ‫ْ‬ ‫لو اين اعلم‪..‬‬ ‫ما كنت أبعثر أوراقي‪،‬‬ ‫وريشيت ودوايت‪..‬‬ ‫غادرت‬ ‫ولكنت‬ ‫ْ‬ ‫لو اين اعلم‪..‬‬ ‫لصفعتك بقبضيت‪،‬‬ ‫مزقت‬ ‫ودفاتري يف وجهك ْ‬ ‫لو اين اعلم‪..‬‬ ‫حلبست الدمع على ما كان‪،‬‬ ‫اشتكيت‬ ‫وملا‬ ‫ْ‬ ‫لو اين اعلم‪..‬‬ ‫بقيت‬ ‫ما كنت ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪109‬‬


‫توقف اللسان‬

‫ماء بار ٌد ينساب على جسد مات‪ ..‬اما آن لك‬ ‫تتهاوى الساعات‪ ،‬والكلمات‪ٌ ..‬‬ ‫ان تعلم! ان ما فات فات‪ ..‬ويبقى التمرغ يف الوحل والرتاب‪ ..‬تش ُع يف النفوس‬ ‫الرتهات‪ ،‬وصوتك مزعج حىت املمات‪ ..‬والزمان يسري والساعات واللحظات‪،‬‬ ‫من بني عظامي وانفاسي يف صدري‪ ،‬تنساب كالنسيم‪ ..‬يا زمان! كل ما فيك‬ ‫امسى رفات‪..‬‬ ‫اهرتأت‬ ‫احرتقت‪ ..‬جف قلمي ودوايت‪ ،‬وقف عقلي‪ ..‬عبارايت‬ ‫يف دفرتي حرويف‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اصبحت‪،‬‬ ‫وتصاعدت‪ ..‬كالركام‬ ‫وقفت االنفاس‬ ‫وتعاىل الدخان‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫واختنقت‪ْ ..‬‬ ‫ْ‬ ‫توقفت‪..‬‬ ‫تطايرت‪ ،‬وفوق العقول والقلوب‬ ‫فهوت تلك املعاين القدميه‪ ..‬من لساين‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪110‬‬


‫طفلة‬ ‫أنا طفل ٌة عادي ٌة‪..‬‬ ‫حتدثت‬ ‫تبسمت ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫كشفت‪..‬‬ ‫أنا ذكرى مجيل ٌة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وتكلمت‬ ‫عن سنها‬ ‫ْ‬ ‫أنا وجع الزمان‪..‬‬ ‫الباكيات‬ ‫والعيون‬ ‫ْ‬ ‫أنا عبق النسيان‪..‬‬ ‫الغاليات‬ ‫واملعاين‬ ‫ْ‬ ‫طفل ٌة نقي ٌة‪..‬‬ ‫والنسمات‬ ‫أعانق الصباح‬ ‫ْ‬ ‫روحي ملكي ٌة‪..‬‬ ‫العاليات‬ ‫انشد النجوم‬ ‫ْ‬ ‫السائر في الدرب ‪111‬‬


‫الصافيات‬ ‫والعيون‬ ‫ْ‬ ‫أنا الدهر‪،‬‬ ‫أنا القهر‪،‬‬ ‫الشائكات‬ ‫والورود‬ ‫ْ‬ ‫والبسمات‬ ‫عيوين عسلية‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أنا طفل ٌة عادي ٌة‪..‬‬ ‫الساعات‬ ‫أنا اللحظة أنا‬ ‫ْ‬ ‫تناثرت‬ ‫وخصال شعري الليلي‬ ‫ْ‬ ‫وتبسمت‬ ‫تكلمت‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪112‬‬


‫تشتعل الذكريات‬

‫��ت ق��دميٌ اصبح ذك��ري��ات‪ ..‬خ��ط��أ ام صواب!‬ ‫���ات مطر ت��ط ُ‬ ‫رش ُ‬ ‫��رق ال��ش��ب��اك‪ ..‬وب��ي ٌ‬ ‫���ات مطر تقرع‬ ‫ان دب احل��ري��ق يف البيت ال��ق��دمي! وان تشتعل ال��ن��س��م��ات‪ ..‬رش ُ‬ ‫تلهث االنفاس يف‬ ‫مسمعي‪ ..‬ويعلو الدخان االسود كالليل‬ ‫وختفت االصوات‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫اشتعلت النار يف اجل��دار‪ ..‬حطام ورم��اد‪ ..‬كل‬ ‫وميتلئ البيت مهسات‪..‬‬ ‫الظالم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫��ات مطر‬ ‫��ات‪ ..‬حىت لعبيت القدمية‪ ،‬ال�تي بال روح‪،‬‬ ‫���ات‪ ..‬رش ُ‬ ‫اضحت رف ْ‬ ‫ش��يء ب ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫‪..‬وتشتعل الذكريات‪..‬‬ ‫تطرق الشباك‬ ‫ُ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪113‬‬


‫اهلروب‬

‫قالت‬ ‫اوصدت الكوخ‬ ‫ورحلت دون استئذان‪ ..‬حىت االلتفاتة مل تعرين‪ ،‬حىت اهنا ما ْ‬ ‫ْ‬ ‫اختفت يف الظالم‬ ‫وسارت‪..‬‬ ‫محلت امتعتها وحقائبها‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫سالم‪ ..‬اوكالم‪ ..‬فقط ْ‬ ‫رغم هذا كله‪ ،‬مين اليها سالم‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪114‬‬


‫اكذبي‬

‫اكذيب! ادعي كل االقوال! اخدعيين‪ ..‬وزعيين حروف وكلمات‪ ،‬قيل وقال‪..‬‬ ‫خربشي يف صفحيت ومزقي دفرتي‪ ..‬حىت ذلك الفنجان‪ ،‬الذي اهديتك اياه زمان‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫تشبهك‪ ..‬حني ختتفني‬ ‫اكسريه ومللميه‪ ..‬ان شئت‪ ،‬حطيه يف شوال‪ ..‬فكلماتك‬ ‫يف اآلصال‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪115‬‬


‫عشر من االعوام‬

‫وبقيت فيها‪ ..‬ال تغادرين وال اغادرها‪ ..‬عشر من االعوام‪..‬‬ ‫توقفت‪ُ ،‬‬ ‫عشر من االعوام‪ْ ..‬‬ ‫خطت‬ ‫مكثت اناغيها‪ ..‬تداولين واداوهلا‪ ..‬عشر من االعوام‪ْ ..‬‬ ‫اقتطعتها من عمري‪ُ ..‬‬ ‫لت اناديها‪..‬‬ ‫يف دفرتي‪ ،‬حروف سنيها‪ ..‬عشر من االعوام ‪ ..‬ما ز ُ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪116‬‬


‫مترد‬

‫اذكرك‪ ،‬رغم القيود‪ ..‬اريدك‪ ،‬رغم احلدود‪ ..‬بع ّد اوراق الشجر‪ ،‬وقطرات املطر‪..‬‬ ‫فانت القيود‪ ..‬وانت احلدود‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫رفات‪ ..‬ومل يتبق مين‬ ‫ال جتزعي! اين وهم‬ ‫مات‪ ..‬اضحى ْ‬ ‫وخيال‪ ..‬ظل جلسد ْ‬ ‫كلمات‪..‬‬ ‫شيء‪ ..‬سوى‬ ‫ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪117‬‬


‫املعاق‬ ‫وضباب يتدحرج على االرض‪..‬‬ ‫سكو ٌن ميتد على املكان‪ ..‬مل ٌل يعانق الروح‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫روح تناثرت صوب الغبار وصوب الغمام‪ ..‬وظ ٌل غريب يتأرجح ذات اليمني وذات‬ ‫ٌ‬

‫لظننت انه مثل خيتلع‬ ‫مللئت منه رعبا‪ ..‬و َ‬ ‫ليت منه فراراً و َ‬ ‫الشمال‪ ،‬لو اطلعت عليه لو َ‬

‫القدم تلو االخرى ويف كل مره يقبل جبينه الرتاب‪ ..‬يداه هاوية على جنبيه تأىب‬ ‫احلراك‪ ..‬او التزحزح‪ ..‬يسري يف الظالم وانفاسه تشق السكون‪ ..‬وهلثاته بركان ثائر‪..‬‬ ‫يشهق شهقات ميألها السخط‪ ..‬وبني جنباته ختتلج عواصف من املعاناة‪ ..‬نظره‬ ‫يف االفق املمتد اىل الالهناية‪ ..‬ورغم جتاعيد وجهه املرتاكمة تراكم الزمان والشقوق‬ ‫املزدمحة ازدحام االيام‪ ..‬تعلو على شفتيه ابتسامة خفيفة‪ ..‬آتية من العمق ‪ ..‬تأىب‬ ‫التكدس والركود‪ ،‬وكل معاين اجلمود‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪118‬‬


‫بودابست‬ ‫شعب عاطفي جداً‪ ..‬يقبل أي شيء‪ ،‬فقط أن‬ ‫أعجب من حالنا حنن العرب‪ٌ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫أردت أن حتصل من العريب على شيء ما‪ ..‬هه! دغدغ‬ ‫يدغدغ العواطف‪ ..‬إذا َ‬

‫عواطفه‪ ..‬اشحن عواطفه وابكي أمامه وسيجيبك بال شك‪ ..‬العرب مل يرتكوا شيئاً‬

‫إال ووضعوه يف مثل‪«:‬الكالم اللني يغطي احلق املبني»‪ ..‬إن الشعب العريب يعاين‬ ‫من فقدان الذاكرة املزمن‪ ..‬فهو يفقد ذاكرته كل قرن أو اقل‪ ..‬ويبدأ من الصفر‪..‬‬ ‫ال يتذكر إال ما هو مجيل‪ ..‬فالعرب حيبون تركيا وينسون التاريخ‪ ..‬وها هي اجلزائر‬ ‫نتذبذب لالجنليز‪ ..‬امنيزيا العرب‪..‬‬ ‫حتب ايطاليا‪ ..‬وحنن ومصر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تعشق فرنسا‪ ..‬وليبيا ُ‬

‫فهمت اليوم ملا دائماً يبكي العرب على األطالل‪ ..‬طبعاً شعب حساس جداً‪..‬‬ ‫لقد ُ‬

‫وهو يبكي من أي شيء وعلى أي شيء‪ ..‬مسلسل تركي يبكيه‪ ..‬مسلسل هندي‬

‫يبكيه ‪ ..‬هه ! كلنا دموع‪ ..‬النفط يف اخلليج سيجف ودموعنا لن جتف‪ ..‬نبكي‬ ‫فرحاً أو نبكي خوفاً أو حىت حزناً وقهراً‪ ..‬املهم أن نبكي‪ ..‬مدمنون على البكاء‪..‬‬ ‫يب أمر العرب‪ ..‬اذكر أن احد األجانب يف دولة ال حنبها سألين سؤال‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫غر ٌ‬ ‫‪ -‬قل يل يا صديقي العزيز‪ ..‬عندي لك سؤال‪ ،‬ولكنين حمرج اشد احلرج‪..‬‬

‫فقلت له‪:‬‬ ‫ دعك من احلرج‪ ..‬وال ختجل‪ ..‬ال خيجل إال الشيطان هه! وال حياء يف املعرفة‪..‬‬‫فقال‪:‬‬ ‫ أصحيح أنكم امة العرب أخوه؟ أليس كذلك؟‬‫السائر في الدرب ‪119‬‬


‫فقلت له منتفضاً وشاخماً‪ ،‬منتفخ األوداج‪:‬‬ ‫ نعم! طبعاً! حنن أخوة بال شك!‬‫فاستطرد وقال‪:‬‬ ‫ إذاً ! ملاذا تقتلون أنفسكم هبذه الوحشية والشناعة؟‬‫كت عيين‬ ‫فهبط صمت مقيت على املكان‪..‬‬ ‫كت من مكاين وفر ُ‬ ‫وتنحنحت‪ ..‬وحتر ُ‬ ‫ُ‬

‫وقلت بصوت أجش‪ ..‬خيرُج من بطين‬ ‫اعتدلت‪ُ ..‬‬ ‫بت ما تبقى من قهويت‪ ..‬و ُ‬ ‫وشر ُ‬

‫ال من حلقي‪:‬‬

‫ ممم‪ ..‬بصراحة سؤالك حمرج‪ ..‬وال ادري‪ ..‬اامممم‪..‬‬‫أكملت مازحاً‪:‬‬ ‫وصمت قليالً‪ ..‬مث‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪ -‬هه! أتعلم اين سأسافر اىل بودابست الشهر املقبل‪..‬‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪120‬‬


‫احللم‬ ‫خفت الضوء‪ ،‬و َ‬ ‫احللم‪ ،‬اخرتقتين حىت النخاع‪ ،‬حىت العظم‪ ..‬بلواحظ‬ ‫َ‬ ‫اشتعل ْ‬ ‫فجرت جمرى الد ْم‪،‬‬ ‫مقيت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كالسحر القدمي‪ ،‬كاملشعوذ العظيم‪ ..‬تقمصتين ببطئ ْ‬ ‫القلم‪ ..‬تأبطتين‪،‬‬ ‫وباتت حيث ْ‬ ‫ْ‬ ‫أبيت‪..‬كل شئ اخذته‪ ،‬خمديت‪ ،‬ودفرتي العتيق‪ ،‬حىت ْ‬ ‫جلست يف حجري كظلي‪ ،‬كنفسي‪ ،‬منذ القد ْم‪ ..‬يتدحرج الضباب وقت السحر‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫احللم‪..‬‬ ‫فيشتعل الضوء‬ ‫ُ‬ ‫وخيفت ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪121‬‬


‫صلصلة‬ ‫ويلعق لسا ُن شعاع الفجر‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫ختاصم‬ ‫وتعانق الكواكب يف الفضاء‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشمس َ‬ ‫السحاب‪ ،‬املتناثر يف كل مكان‪ ..‬وتشعشع محرة اخلجل على صدغ السماء‪..‬‬

‫فتصور ايقونة خيفق هلا اجلنان‪ ..‬واطرق اصغي للهفةٍ‪ ،‬كصلصل ِة سعف النخيل‬ ‫وصخب‬ ‫جلج‬ ‫ٌ‬ ‫يف الشتاء‪ ،‬تداعبها انامل نسمات باردة آتية من صوب الشمال‪ٌ ..‬‬ ‫ويبعثر روحي قطرات ندا عبقري سناها‪ ...‬اهزوجة الفرح القدمي‪،‬‬ ‫مضطرٌد ميتزجين ُ‬

‫ُ‬ ‫العظم‪ ،‬يرُج الكيان‪ ..‬ويف ساعات الفجر‬ ‫على مزمار عتيق‪ ،‬وطب ٌل رتيب‬ ‫خيلخل َ‬ ‫الفاتنة‪ ..‬حني يتبني اخليط االبيض من اخليط األسود‪ ..‬وتتدحرج قطرات الطل على‬

‫انبعثت‬ ‫اينعت‪..‬‬ ‫األفنان‪ ..‬اتنشق رائحة عطرة فواحة‪ ،‬من وردة جوري‬ ‫ْ‬ ‫تفتحت و ْ‬ ‫ْ‬ ‫شاعت طيب‬ ‫تناثرت مع نفحات الفجر األصيل‪،‬‬ ‫ويعج يف املقام‪ْ ..‬‬ ‫ْ‬ ‫عبقاً ميأل االفق‪ُ ،‬‬ ‫انطبعت يف أنفاسي‪..‬‬ ‫وآمال‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫اوجدت حلظة من شغف‪ ،‬وبرهة من وله‪ ..‬تسربلتين و ْ‬ ‫حىت خفقات قليب مللمتها‪ ،‬ورتبتها‪ ..‬رغماً عين‪ ..‬واعرتتين هلثات انفاسها‪ ،‬وصوهتا‬ ‫العذب الرقيق‪ ،‬كبلبل شادي‪ ،‬رمن انشودة صبابة وهيام ‪ ..‬حلظات يضطرب فيها‬ ‫ونسمات باردة تالمس روحي وقت السحر‪..‬‬ ‫الفؤاد ويناجي‪..‬‬ ‫ٌ‬

‫***‬ ‫السائر في الدرب ‪122‬‬


‫افق الزمان‬ ‫شخصت العيون‪..‬‬ ‫اشتكت‪،‬‬ ‫ومن غدر الزمان‬ ‫ْ‬

‫منكل شيء حوهلا‪..‬‬

‫توقفت‪،‬‬ ‫حىت الساعات ْ‬ ‫وساعيت يف يدي‪..‬‬

‫تعطلت‪،‬‬ ‫عقارهبا القدمية‬ ‫ْ‬ ‫والعيون الباهتات‪..‬‬

‫يف وجه احلقيقة الدامغة‪،‬‬ ‫استسلمت‪،‬‬ ‫بكل احلسرات‬ ‫ْ‬ ‫والوجوه العابسات‪..‬‬ ‫تشققت‪،‬‬ ‫والشفاه‬ ‫ْ‬

‫اكتست‪،‬‬ ‫شحبت الواهنا‪ ،‬وبالسواد‬ ‫ْ‬ ‫حىت شقائق النعمان‪ ،‬والورود‪..‬‬ ‫منت ‪،‬‬ ‫مابقيت وما ْ‬

‫ان العيون الباكيات‪..‬‬ ‫تسمرت‬ ‫يف افق الزمان‬ ‫ْ‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪123‬‬


‫رنده‬ ‫اكتب هذه الكلمات ودم ٌع يف عيين سال‪ ..‬جائتين ُ‬ ‫هترول وهي ُ‬ ‫ترفرف بيديها‬ ‫ُ‬ ‫تبتسم‬ ‫اجلميلتني االخاذتني‪ ،‬واصابعها الرقيقة‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وتشيح بوجهها الطفويل‪ ،‬وكانت ُ‬ ‫وتسرق‬ ‫ختطف االبصار‬ ‫ُ‬ ‫ابتسامتها الساحرة املعهودة وصوهتا احلنون وضحكتها اليت ُ‬ ‫االلباب‪ ..‬كانت ال تنظر ايل بعينيها الرائعتني‪ ،‬بل تنظر ايل بروحها ووجداهنا‪،‬‬ ‫يف حىت العمق وحد العظم‪ ..‬كانت تناغيين بعاملها‬ ‫وكانت روحها تتقمصين وتوجل ّ‬ ‫اخلاص وتلمحين بنظراهتا فيخفق قليب شخفاً هبا‪ ..‬وشعرها االسود الليلي القصري‪،‬‬ ‫احساس رائ ٌع‪..‬‬ ‫الناعم اجلميل ينساب يف كفي‪ ،‬فامللمه واحتضنه وامشه‪ ،‬فينتابين‬ ‫ٌ‬ ‫متسكين باناملها الصغرية وتقودين اىل حيث تشاء‪ ..‬مل امسع منها قط كلمة "ايب"‪،‬‬ ‫اال اين ارى كل الكلمات واملعاين يف عينيها‪ ..‬كم اطوق اىل مشاركتها يف عاملها‪،‬‬ ‫وكم اردت ان اتنفس من انفاسها ومعانيها‪ ..‬طفليت اجلميلة‪ ،‬رنده!‬

‫***‬

‫السائر في الدرب ‪124‬‬


‫مت حبمد اهلل وتوفيقه‬

‫السائر في الدرب ‪125‬‬


‫السائر في الدرب ‪126‬‬


‫لو اني اعلم‬ ‫انك لن تبقى‬ ‫هلجرتك منذ زمان‬ ‫ولكنت رحلت‬ ‫وأخذت رساالتي واختفيت‬ ‫لو اني اعلم‬ ‫ما كنت أبعثر أوراقي‬ ‫وريشتي ودواتي‬ ‫ولكنت غادرت‬ ‫لو اني اعلم‬ ‫لصفعتك بقبضتي‬ ‫ودفاتري يف وجهك مزقت‬ ‫لو اني اعلم‬ ‫حلبست الدمع على ما كان‬ ‫وملا اشتكيت‬ ‫لو اني اعلم‬ ‫ما كنت بقيت‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.