الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 27شوال 1436هـ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
4 ملحق أسبوعي
شغف
مهدي مبروك
ليس مطلوبًا من المثقف االنسجام بل تأدية دوره
2
تحقيق
ثالثة عروض عربية في مهرجان أفينيون، بقلم د.صبري حافظ
6
أدب صرف
7
عين الديك
8
آخر الغيث
قصة على حافة المزيّف، ّ الغرائبية والسريالية للكاتب اليمني وجدي األهدل
صباح النور يا روبيرت، يوميات حلب وسيرة طبيب العيون يكتبها عزيز تبسي
ّ حافة بين الشعر والنثر مخاتلة في نص أدخن مع قاتلي لـ قصي اللبدي
عمل للفنان التونسي خالد مقديش
أول الغيث ّ
ديمة الشكر
الكرم في الكتابة في حال العميد، يكفل اإلعجاب بنتاجه ،الغرف من مناهل معرفية شتّى
«األدب فــي أث ـنــاء ال ـثــورة حــن تضطرب نفوس الناس باألمل والطموح ،ونفوس فـ ــريـ ــق مـ ـنـ ـه ــم بـ ــال ـ ـخـ ــوف واملـ ـح ــافـ ـظ ــة، ٌ متواضع مقتصد يمشي على استحياء، إن ً أمكن وصف األدب باملشي وبالحياء أيضا ،ألن الناس مشغولون عنه بأحداث ال ـ ـثـ ــورة م ـ ّـم ــا ي ـق ــع وم ـ ــا ُي ـن ـت ـظ ــر ،وب ـمــا ت ــدف ــع إل ـي ــه ه ــذه األح ـ ـ ــداث ،وألن األدب، ال سيما فــي هــذا العصر الـحــديــث ،إنما ّ يستمد حوله وطوله ّ وقوته ّوروعته من ال ـحــريــة الـكــامـلــة ال ـتــي ال مـعــقــب عليها. وهــذه الحرية موقوفة بطبيعة األشياء أثـنــاء ال ـثــورة ،س ــواء أراد الـنــاس ذلــك أم ل ــم ي ــري ــدوه .واألدب ي ـجــاهــد ف ــي سبيل الحرية ويحتمل فــي هــذا الجهاد ألــوان امل ـك ــروه عـلــى اخـتــافـهــا قـبــل أن تصبح ً الثورة السياسية ً واقعا». أمرا ت ـ ـبـ ــدو كـ ـلـ ـم ــات عـ ـمـ ـي ــد األدب الـ ـع ــرب ــي الدكتور طه حسني هذه ،وكأنها لم تفقد ً ش ـيــئــا م ــن بــري ـق ـهــا وإشـ ـع ــاع مـعــانـيـهــا، ّ ّ وقوتها في بــث النقاش حــول استجابة األدب للحدث السياسي .فالناقد الفريد بـبـصـيــرتــه ،ج ـنــح ك ـمــا دأبـ ــه إل ــى تـبــريــد ّ املسبقة» و«األق ــوال الجاهزة» «األحـكــام ّ املتشعبة ،منتصراً حيال شؤون الثقافة بــذلــك وع ـلــى الـ ـ ــدوام إل ــى الـعـقــانـيــة في ً ومستندا إلــى التحليل الكريم التفكير، باألمثلة والتمثيل .والكرم إحدى صفات
ّ األديب الحق ،فهي التي تمنع الزمن من نسيانه ،وتحفظ له مكانته في التاريخ. إذ ال م ـن ــاس ـب ــة خ ـ ّ ـاص ــة السـ ـتـ ـع ــادة طــه ّ حـســن ،حــتــى وإن كــان املجتمع العربي ّ يمر بظروفه التي نعرفها عن ظهر قلب، فالعميد حاضر لكل املبصرين ،وغائب ّ لدى املستسلمني للخرافات واملسلمات، ً سبيل وحـيــداً املتكئني على الـسـخــريــة، ً لــوصــف حــالـتـنـ ّـا ،ف ـضــا عــن املتربصني ّ باملستقبل ،ال ـبــاثــن لـتـشــاؤمـهــم فــي كــل حني. وإن جــرت الـعــادة على ربــط صفة الكرم ب ـمــال أو بــديــل عـيـنــي م ـنــه ،إال أن ـهــا في حــال الكتابة ،ترتبط بشكل وثيق ّ بقوة اإلنتاج الثقافي لكاتب ما على ّ جر القارئ صوب مساحات أوسع وأبعد .ففي حال العميد ،يكفل اإلعجاب بنتاجه ،الغرف ّ م ــن م ـنــاهــل مـعــرفـيــة ش ــت ــى؛ م ــن ال ـت ــراث ال ـعــربــي ال ـش ـعــري ال ـقــديــم ،إل ــى الـيــونــان ً إلــى مصر إلــى التعليم بمراتبه وصــول إل ــى أك ـثــرهــا رق ـ ًـي ــا ،أي الـبـحــث الـعـلـمــي، ً ف ـض ــا ع ــن ذاك ال ـ ــزاد امل ـك ــن ف ــي مـعــرفــة ً اإلس ــام ورجــالــه الطيبني .كـتــابــا فآخر، ويجد الـقــارئ نفسه أمــام بحر مــن كتب ّ ّ أخرى لكتاب آخرين ،دلته إليها واهتدى كلمات طه حسني وحدها. إلــى سبيلها ّ ـف ك ـتــب أخ ـ ــرى م ــن وراء وب ـق ــدر م ــا ت ـش ـ ّ كتب العميد ،تشف روحه من خالل لغته
اآلس ــرة الـنــاصـعــة ،ال «األن ــا» النرجسية الـتــي يتقن «بـخــاء» ال ــروح ّفــي الكتابة، ٌ ّ والتعبير جائز ويجوز ،في بثها عند كل كلمة ،محتفني بأنفسهم وبـ«تصنيعها» ّ و«اص ـط ـن ــاع ـه ــا» .ث ـ ّـم ــة ك ــت ــاب يـضـيـئــون ّ الثقافة ،وآخرون يعتمون عليها. ّ ومثلما ات ـصــف طــه حـســن بـهــذا الـكــرم، ّ اتصف به كذلك الشاعر محمود درويش، ّ فـ ـف ــي «سـ ـب ــع ال ـ ـغ ـ ـيـ ــاب» ال ـ ـ ــذي طـ ـ ــل قـبــل يومني ،قد يجنح قارئ ما إلى استعادة شـ ـع ــره ،ق ـص ـي ــدة فـ ــأخـ ــرى ،وإذ بــال ـبــاب يـنـفـتـ ُـح ال أم ــام الـشـعــر فــي أبـهــى صــوره العربية فحسب ،بل أمام تراثنا الشعري ً ال ـغ ـنــي ،ف ـضــا عــن الـشـعــر ال ـعــاملــي .وقــد ي ـش ـغــف الـ ـق ــارئ ب ــاإلي ـق ــاع امل ـن ـس ــاب في ق ـص ــائ ــد درويـ ـ ـ ـ ــش ،فـ ـيـ ـح ــدوه ال ـف ـض ــول صوب الــوزن ،فما هو الــوزن؟ وإذ بكتب الـ ـت ــراث وال ـ ـعـ ــروض ت ـجــد سـبـيـلـهــا إلــى ّ ّ إلى القارئ .وإذ تعمق أكثر ،انتبه ربما ً الشكل الشعري ،فطاف في أنواعه شرقا وغـ ً ـربــا ،وع ــاد إلــى الفلسطيني األجـمــل، ّ ل ـي ـج ــد ل ــدي ــه األش ـ ـكـ ــال ك ــلـ ـه ــا ،وق ـ ــد زاد ّ عندياته ابتكارات وإبداعات، عليها من محكمة البناء ،واثقة السحر والصدى. ّ ولو مل القارئ من متابعة ذلك ،والتفت إلــى املعاني ،لشهد صيد الخيال وأســر ّ املتخيل ،ولـعــرف كيف تتبادل الحكاية ّ ّ ال ـش ـخ ـصــيــة وال ـح ـك ــاي ــة ال ـع ــام ــة مــراتــب
ّ ّ الكالم ،لتتحدا ً ثم تحلقان في سماء معا، الـ ــوجـ ــدان ،ف ـي ـغــدو ال ـت ـع ـب ـيــر الـ ًسـيــاسـ ًـي «الـقـضـيــة الفلسطينية» ع ـنــوانــا بليغا القارئ اللـتــزام أخــاقــي ،ال يقتصر على ّ العربي وحده ،بل على أي قارئ أو مثقف من أي جنسية يكون. هـ ـك ــذا ت ـت ـس ــع الـ ـقـ ـصـ ـي ــدة ال ــدرويـ ـشـ ـي ــة، شجاعة غير ّ هيابة وغير مغلقة ،ليجد ّ ال ـ ـقـ ــارئ ن ـف ـســه أب ـع ــد م ــن حـ ــب درويـ ــش حب الشعر ّ وحده ،وفي حضرة ّ برمته. ّ ّ ـرق ك ــل ــه ،إذ ث ــم ــة ش ـع ــراء، وهـ ــا ه ـنــا الـ ـف ـ ً ّ وغير شعراء أيضا ،يتصفون ببخل في الــروح ،صورته تلك؛ النرجسية املطلقة. م ـت ـن ــزه ــن حـ ـ ــول «أنـ ـ ــاهـ ـ ــم» وأح ـك ــام ـه ــا الجاهزة ،عن عبقريتهم املنقطعة النظير. يأت مفتونون بأمر وحيد :اإلتيان بما لم ِ ٍ به ً األوائل .لذا يحتفون بانعدام الجذور، املصطنع في ظنا منهم أن في االنقطاع ّ ً قـصـيــدة ،سـبـيــا لـتـجــديـ ٍـد ال يـعــشــش إال ّ في أذهانهم .وتراهم صارخني ضاجني ناقمني عدائيني ،يمضون أوقاتًا طويلة في نبش ّكل ما هو ّ وعلى صورتهم شر، ّ بالطبع ،كي ينتشوا وهم يبثون اليأس ويـطـلـقــون ال ـكــراه ـيــة ،مـطـ ّـبـلــن مـ ّ ـزمــريــن ّ لخراب من كل نوع :طارف وتليد. ٍ ّ ثـ ّـمــة كــتــاب يـضـيـئــون الـثـقــافــة ،وآخ ــرون ّ يعتمون عليها .وثمة في رام الله مقام، يرقد فيه محمود درويش :أمير التالل.
الثقافة 2
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
3الثقافة
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
ثالث مسرحيات عربية في مهرجــان أفينيون ناد ًرا ما استطاع المسرح العربي ،رغم عراقته ،فهو وليد فترة االستقالل في القرن الماضي عامة ،الوصول إلى خشبات المسارح العالمية ،إال أن دورة هذا العام لمهرجان أفينيون المسرحي العالمي حفلت بثالث أمسيات عربية .أكثر هذه
األعمال أهمية واستثارة للتفكير كانت مسرحية «مورسو :استقصاء مضاد» المأخوذة عن رواية الكاتب الجزائري كامل داوود ،ثم مسرحية «العشاء األخير» المصرية ،قبل أن يختتم الحضور العربي بحفل موسيقي جمع بين الشرق والغرب
«مورسو» الجزائري :أدب ما بعد االستعمار
«العشاء األخير» :مصر بعد الثورة
صبري حافظ
إذا ما انتقلنا إلى العرض املصري سنجد أنـنــا ب ــإزاء عـمــل مـغــايــر كـلـيــة ،ينتمي إلــى م ـس ــرح شــري ـحــة ال ـح ـي ــاة ال ـت ـه ـك ـم ـيــة ،وإن كـ ــان ب ــه شـ ــيء م ــن إش ـك ــال ـي ــات م ـس ــرح مــا ب ـع ــد االسـ ـتـ ـعـ ـم ــار .وق ـ ــد دار الـ ـع ــرض فــي مسرح ضاحية «فيردن» على بعد خمسة التاريخية كيلومترات من مدينة أفينيون ً ّ املسورة ،ومع ذلك كان املسرح مليئا آلخره بــالـجـمـهــور ،فثمة شـغــف فــرنـســي حقيقي بكل مــا هــو مـصــري ،بــل عشق لــه .ويشبع عــرض «الـعـشــاء األخـيــر» هــذا الشغف إلى حد ما ألنه يعتمد على تقديم شريحة حية مــن ال ــواق ــع امل ـصــري امل ـعــاصــر ،وتقديمها لـلـمـشــاهــديــن ب ـصــورة تحتفي بأسلوبية ال ـ ـعـ ــرض املـ ـس ــرح ــي ،وت ـه ـت ــم ب ــإي ـق ــاع ــات ــه وج ـم ــال ـي ــات ــه ال ـب ـص ــري ــة وال ـح ــرك ـي ــة عـلــى السواء .وهي الجماليات التي تتغيا ،وقد قدمت لنا شريحة واقعية حية من الواقع املـ ـص ــري ،اإلجـ ـه ــاز ع ـلــى ال ـتــوه ـيــم وكـســر أي مـيــل للتماهي مـعـهــا ،فـهــي شــريـحــة ال تستحق ب ــأي ح ــال مــن األحـ ــوال التماهي مـعـهــا ،أو مــع مــا يـعـشــش فــي داخـلـهــا من عناكب وخواء. ً جماليا تسعى إلــى إره ــاف وعــي املشاهد بـ ـ ـض ـ ــرورة ال ـت ـف ـك ـي ــر فـ ــي دالالت مـ ــا يـ ــراه بـطــريـقــة عـقـلـيــة ون ـق ــدي ــة ،وال ــوق ــوف على مسافة منه تمكنه مــن ذل ــك .ألن تفاصيل ّ حياة تلك الشريحة التي تتجلى لنا على مائدة العشاء تفاصيل مترعة باملفارقات ً مزيجا التهكمية؛ تثير بتناقضاتها الفجة مــن الـسـخــريــة وال ــرث ــاء .وتـكـشــف عــن عزلة هذه األسرة الغريبة والحقيقية ً معا ،ليس فقط عــن الــواقــع ال ــذي تعيش فـيــه ،ويمور بالتناقضات االجتماعية والفكرية على السواء ،فثمة إشارات واهنة ًإلى ما دار في مصر عقب ال ـثــورة ،ولـكــن أيــضــا عــن عزلة أفرادها عن بعضهم البعض. وك ـ ـ ــأن ال ـ ـحـ ــرص ع ـل ــى أواصـ ـ ـ ــر ال ـع ــاق ــات العائلية ،الذي يصر عليه األب في ضرورة أن يتجمع كــل أف ــراد أســرتــه الكبيرة على ال ـع ـش ــاء ،شـ ــارة ع ـلــى خـ ــواء ت ـلــك األواصـ ــر وفراغها من أي معنى. ف ـظ ــال الـ ـعـ ـن ــوان ال ــدي ـن ـي ــة ،ب ــإح ــال ـت ــه إل ــى «ال ـع ـشــاء األخ ـي ــر» فــي قـصــة ح ـيــاة السيد امل ـس ـي ــح وخ ـي ــان ــة أحـ ــد ح ــواريـ ـي ــه ل ــه قـبــل تلق صـيــاح الــديــك ،تلقي بثقلها على أي ٍ لـلـعـمــل .وتـطـلــب مــن املـشــاهــد التفكير في الـ ـ ـ ــدالالت ال ـك ــام ـن ــة خ ـل ــف امل ـظ ـه ــر ال ـب ــادي أمــامــه ،وفـيـمــن سـيـخــون صــاحــب الـعـشــاء، أو باألحرى فيمن لن يخونه .وهي الظالل
قليلة ،بــل ن ــادرة هــي األع ـمــال الـعــربـيــة التي تـ ـع ــرض ف ــي م ـه ــرج ــان أف ـي ـن ـي ــون امل ـســرحــي الــرس ـمــي ،Festival D’Avignonألن أغـلــب األعمال العربية ،وخاصة من املسرح املغاربي ً وأحيانا اللبناني تعرض عادة في مهرجان ّ أفينيون الـهــامـشــي ، Avignon Offوقلة هذه األعمال تعكس بشكل من األشكال ّ تردي حال املسرح العربي الراهن ،وعــدم صمود الكثير مــن إنـجــازاتــه ملعايير املـســرح الفنية الـجـ ّـادة ال ـتــي تــؤهــل جـمــالـيــاتـهــا أي عـمــل السـتـقــدام ً استثناء املهرجان لــه .لكن هــذا الـعــام يشكل مـحـمـ ً ـودا ،فليس فيه عمل عربي واح ــد ،كما حــدث في مــرات قليلة -كــان آخرها في العام املــاضــي ( )2014حينما وف ــد إل ــى املـهــرجــان الرسمي عرض «طيور الفيوم» لفرقة الورشة امل ـص ــري ــة ب ـق ـي ــادة ح ـســن ال ـجــري ـت ـلــي ،وعـمــل تونسي آخر قبله ( )2011هو «يحيى يعيش» لـفــرقــة فاميليا لـفــاضــل الـجـعــايـبــي وجليلة ّ بكار -وإنما كانت هناك إسهامات عربية في ثالثة أعمال :هي «العشاء األخير» للمصري أح ـم ــد ال ـع ـطــار وف ــرق ــة «امل ـع ـب ــد» املـســرحـيــة، و«مــورســو :استقصاء مـضــاد» (Meursault, )Contre-Enquêteعــن نــص للجزائري كامل داوود ،وإن قــدمـتـهــا ف ــرق ــة م ـس ــرح الـحــريــة فــي تــولــون Theatre Liberte de Toulonمن إخراج فيليب برلينج ،وعرض غنائي لبناني تونسي فرنسي مشترك هو «بــاربــارا فيروز « Barbara-Fairouzل ـل ـتــون ـس ـيــة درص ـ ــاف حمداني تمزج فيه عاملي املوسيقى الفرنسية وأغنيات باربرا وموسيقى األخوين رحباني وأغنيات فيروز. «مورسو» الجزائري على خشبة أفينيون
إذا بدأنا بأكثر هذه األعمال أهمية واستثارة ل ـل ـت ـف ـك ـي ــر ،أال وه ـ ــو م ـس ــرح ـي ــة «م ـ ــورس ـ ــو: استقصاء مضاد» املأخوذة عن رواية الكاتب ال ـج ــزائ ــري كــامــل داوود ،سـنـجــد أن ـنــا ب ــإزاء عـمــل يمكن اعـتـبــاره مــن أع ـمــال أدب مــا بعد االس ـت ـع ـمــار بــاملـعـنــى الـحـقـيـقــي للمصطلح الذي صاغه إدوارد سعيد ،وأصبح من بعده ً ح ـق ــا م ـعــرفـ ًـيــا ب ــال ــغ األه ـم ـيــة وال ـخ ـصــوبــة. ألن الــروايــة واملسرحية مـ ًـعــا مــن أعـمــال الــرد بالكتابة Writing Backباملعنى الحقيقي لهذا املصطلح ،ألنها ترد وباللغة الفرنسية نـفـسـهــا ال ـت ــي كـتـبــت ب ـهــا الـ ــروايـ ــة األصـلـيــة على روايــة «الغريب» الشهيرة أللبير كامو، َ املستعمر هذه املــرة ،وليس ولكن من منظور املستعمر ال ــذي كتبت بــه روايــة مــن منظور ِ كامو .فمارسو الــذي يشير إليه العنوان هو بطل روايــة «الغريب» التي جسد فيها كامو مفهومه الفلسفي ّ عــن ال ـســأم /الـعـبــث ،وعن ع ــبء الـحـيــاة وخفتها غير املحتملة حسب تعبير مـيــان كــونــديــرا مــن بـعــده .فقد كانت «ال ـغــريــب» رواي ــة كــامــو األول ــى الـتــي نشرها عـ ــام ،1942ون ـش ــر م ـع ـهــا ف ــي الـ ـع ــام نفسه دراسته الالمعة عن «أسطورة سيزيف» التي أرسى فيها قواعد فلسفته التي يمتزج فيها العبث بالوجودية ،هي التي وضعت اسمه بقوة على خريطة األدب الفرنسي .وبلورت فكرته عن العبث والتمرد ً معا .لكنها كانت فــي الــوقــت نفسه رواي ــة فرنسية استعمارية بــاملـعـنــى ال ــذي ب ـل ــوره إدوارد سـعـيــد ف ــي ما بعد في كتابه «الثقافة واإلمبريالية» ،بالرغم من أن كاتبها ولد في قرية جزائرية بالقرب من مدينة عنابة الحالية ،ألب فرنسي ،مات ً جنديا في أحد معارك الحرب العاملية األولى. وكما كانت «الغريب» رواية كامو األولى التي لفتت لــه األن ـظ ــار ،ف ــإن «م ــورس ــو :استقصاء مـضــاد» الـتــي نـشــرت عــام 2013فــي الجزائر ثــم أعـيــد طبعها ع ــام 2014فــي فــرنـســا ،هي األخرى رواية ًكامل داوود األولى ،التي لفتت لــه األن ـظ ــار أي ــض ــا ،بـعــدمــا ف ــازت مجموعته القصصية األول ــى بـجــائــزة مـحـ ّـمــد دي ــب في الجزائر .فقد ترجمت هذه الرواية حتى اآلن،
من العرض (موقع مهرجان أفينيون)
كـمــا يـقــول بــرنــامــج املـســرحـيــة فــي املـهــرجــان ألكـثــر مــن عـشــريــن لـغــة .وق ــد اعـتـمــدت رواي ــة كامل داوود على الطبيعة املونولوجية التي تتسم بها رواي ــة كــامــو ،مما يـ ّـســر تحويلها إلــى مسرحية ،توشك أن تكون مسرحية من أعمال املمثل الواحد .وكما ّ غيبت رواية كامو «العربي» ،ضحية سأم مورسو غير املحتمل، والـ ــذي اغ ـتــالــه م ــورس ــو عـلــى شــاطــئ البحر من ًدون سبب ظاهر أو خفي ،ولم تذكر عنه شيئا سوى أنه «عربي» في استهانة بقدره وقيمته ،غيبت رواية كامل داوود هي األخرى
اعتمدت رواية كامل داوود على الطبيعة المونولوجية التي تتسم بها رواية كامو
المخرج درس فيليب بيرلينغ في المعهد العالي الوطني للفنون المسرحية في بلجيكا .وأنشأ مجموعة «المسرح اإلجباري» .بدأ مسيرته كمخرج وتابع في الوقت نفسه تأهيله العلمي مع طائفة من المخرجين المسرحيين ومخرجي األوبرا ،مثل جان بيير فانسان وآالن فرانسون .ورافق بين عامي 1990و 1994جان ماري فيليجييه في المسرح الوطني في ستراسبورغ، وسرعان ما غدا مسؤولًا عن برامجه .وفي عام 1995أصبح مدي ًرا لمسرح الشعب في بوسانغ ،وتابع عمله كمخرج مسرحي في مسارح عديدة .أنجز فيليب حوالى خمسين مسرحية تنم كلها عن شغفه بالنصوص الدرامية الكالسيكية والمعاصرة مثل نصوص هنريك إبسن، نصا لفيرناندو بيسوا. هايتريش فون كليست وغيرهما .كما مسرح ً
مــورســو مــن ساحتها كلية ،بعد أن انطلقت منه فــي عـنــوانـهــا ،وإن ع ــزز غيابه شعورنا بعبء جريمته املبهظة .ألن العمل ّكله ّ مكرس لتجسيد وقع فعله العبثي الغريب ذاك على الـضـحـيــة ،وك ـيــف ّ دمـ ــر أســرت ـهــا ال ـجــزائــريــة. وتنطلق املسرحية من مشهد جزائري عربي خ ــال ــص؛ ف ـل ـس ـنــا ه ـن ــا أمـ ـ ــام ش ــاط ــئ الـبـحــر ّ األب ـي ــض امل ـتــوســط الـ ــذي ت ـطــل فــرن ـســا على شاطئه املقابل ،كما هو الحال في رواية ألبير كــامــو ،ولكننا فــي باحة دار تقليدية عربية. دار تتسم بجماليات املعمار العربي التقليدي ال ـ ـ ــذي ي ـن ـف ـتــح ً ع ـل ــى الـ ــداخـ ــل ويـ ــديـ ــر ظ ـهــره لـلـخــارج مــؤذنــا بمنطق العمل فــي التعامل مع موضوعه .وفي باحة الدار الداخلية التي تتوسطها ش ـجــرة لـيـمــون مـث ـمــرة ،وينفتح ّ عليها بابان؛ يدور العمل كله ،الذي اضطلع ببطولته املمثل الـجــزائــري املـخـضــرم :أحمد بـنـعـيـســى ف ــي نـ ــوع م ــن الـتـجـسـيــد ال ــدرام ــي الذي يتسم بالتركيز والشاعرية ً معا .وتبدأ املسرحية ،بإيقاع صامت محسوب ،حينما تدخل مــن أحــد البابني األم فتفرش سجادة ال ـصــاة فــي الـبــاحــة املـفـتــوحــة عـلــى الـسـمــاء، وتصلي في نوع من تأكيد هويتها الثقافية املغايرة منذ اللحظة األول ــى .بينما تعرض لـنــا املـســرحـيــة عـلــى ج ـ ــدران ال ـبــاحــة خلفها بعض املشاهد الدالة ملا كان يدور في الجزائر وق ـت ـهــا ،أي زم ــن أح ـ ــداث رواي ـ ــة ألـبـيــر كــامــو فــي مطالع أربعينيات الـقــرن املــاضــي ،وهي مـشــاهــد يـتـصــدرهــا بــورتــريــه اإلب ــن املـقـتــول. وحينما يفد االبن اآلخر ،هارون ،يمنح حكيه مع األم ،هــذا العربي النكرة غير املسمى في رواية كامو ً ً ً ملموسا رغم أنه وحضورا اسما قد مات في شرخ الشباب ضحية لسأم بطله «الغريب» الذي يحقق غربته ،كغربة املشروع االستعماري نفسه ،على حساب األبرياء من أبناء املستعمرات .فنعرف ّكل شيء عنهً ، بدء ا مــن اس ـمــه ال ـكــامــل :مــوســى ول ــد الـعـســاســي ، مـ ً ـرورا بواقعه ّوما كان يتمتع به من مواهب ف ــي الـ ـع ــزف ال ــش ـج ــي ع ـلــى الـ ـن ــاي ،ومـ ــا كــان يحلم به من مشاريع أجهضها قتله العبثي، ً وصول إلى أمه التي فقدت بعد صدمة موته الـقــدرة على الـكــام ،أو الرغبة فـيــه .ولــم يعد بإمكانها غير البكاء أو الصراخ والعويل أو ً تعبيرا عما تشعر به من قهر التعديد /الغناء وغيظ كظيم.
أم ــا األخ ه ـ ــارون فـهــو الـ ــذي يـنـهــض بـعــبء الـ ـح ــدي ــث ط ـ ــوال امل ـس ــرح ـي ــة .ونـ ــاحـ ــظ مــن البداية أن املسرحية تدخل في ّ تناص مضمر مــع األس ـطــورة الدينية حينما تختار اسم م ــوس ــى وأخـ ـي ــه ه ـ ــارون ا ُس ـم ــن لـبـطـلـيـهــا، وت ـج ـعــل اس ــم األخ الـ ــذي ق ـت ــل ه ــو مــوســى، ولـيــس ه ـ ــارون .وك ــأن املـسـتـعـ ِـمــر ،بــوعــي أو بـ ــدون وعـ ــي ،يـقـتــل أص ـح ــاب ال ــرس ــاالت في ً نموذجا املستعمرات .بل وتجعل من هارون ملــا بلورته كتابات فــرانــز فــانــون مــن األدواء النفسية والجسدية ً معا التي يعاني منها املستعمر .فقد ّ َ دمــر قتل موسى الــذي جلب عبثية العنف والقهر االستعماري إلى قلب تلك األس ــرة الـجــزائــريــة حـيــاة أخـيــه ه ــارون، لـيــس فـقــط ألن ــه سـعــى إل ــى االن ـت ـقــام ألخـيــه، وانتهى به األمــر إلى قضاء قسم ال بأس ً به املستعمر ،ولكن أيضا من شبابه في سجون ِ ألنه لم يعد ً قادرا ،وقد تسلل عبء االستعمار وأدوائــه إلى قلب حياته األسرية والنفسية، على ممارسة حياة عادية بعد اإلفــراج عنه. بــل يكشف عــن أن عجزه عــن ممارسة حياة عــاديــة سـبــق تـجــربــة الـسـجــن ،ولـكـنــه أعقب ّ ق ـتــل أخـ ـي ــه؛ ألنـ ــه حـيـنـمــا ت ـخــل ـقــت ب ــداي ــات عــاقــة حميمية بينه وبــن الصحفية التي جاءت للتحقيق في مقتل أخيه ،لم يستطع االسـتـمــرار فيها أو تحقيقها .حتى حينما وكأنها تريد أقلبت ّ عليه مغدقة مشاعرها، ّ أن تكفر عــن خطئية مــورســو فـ ّـي ح ــق هذه األسرة البريئة ،شعر معها بالعنة الجسدية والروحية ً معا. ّ وقد مكن حضور األم على املسرح ،وقد فقدت لغة الـكــام ،فلم تدخل فــي أي حــوار منطوق مع ابنها هــارون الــذي وقع عليه وحــده عبء تـجـسـيــد ك ــل م ــا يـ ــدور ف ــي ال ــرواي ــة م ــن رؤى وأفـكــار ،العمل من التخلص من العدو األول مل ـســرح املـمـثــل ال ــواح ــد ،وه ــو الــرتــابــة واملـلــل الـ ــذي يـصـيــب امل ـشــاهــديــن الس ـت ـمــرار العمل على وتيرة واحدة .فقد منح حضورها العمل حــواري ـتــه الــدرام ـيــة ال ـفــريــدة ،ال ـتــي عــززتـهــا ب ـل ـغــات م ـس ـمــوعــة أخـ ـ ــرى غ ـيــر ل ـغــة ال ـك ــام، وبـنــوع مــن الـتــواصــل الحميمي ال ــذي ّ جسد التفاهم املشترك بني األم وابنها ،وانطالقهما من موقف واحد ،هو مرارة الفقد .كما أتاح لها أن تكون في مستوى من مستويات املعنى في العمل استعارة ّ حية للجزائر املكلومة.
الكاتب ع ـمــل ك ـم ــال داوود رئ ـيـ ًـســا ل ـت ـحــريــر صـحـيـفــة وه ـ ــران. ّ وغـ ـ ـ ــدا مـ ــن أشـ ـهـ ــر الـ ـك ــت ــاب ً خصوصا الفرانكوفونيني، فـ ـ ـ ــي ع ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــوده الـ ـصـ ـحـ ـف ــي الشهير «رأينا ،رأيكم» ،الذي يكتبه ً ً تقريبا. يوميا نـشــر داوود رواي ـت ــه األول ــى «م ـ ـ ـ ـ ــورس ـ ـ ـ ـ ــو :اس ـ ـت ـ ـق ـ ـصـ ــاء م ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ــاد» ،وسـ ـ ـ ــرعـ ـ ـ ــان م ــا تــرجـمــت إلــى أزي ــد مــن اثنني وعـشــريــن لـغــة ،خـ ّ ـاصــة بعد ف ــوزه ــا بـجــائــزتــي فــرانـســوا مـ ــوريـ ــاك وجـ ــائـ ــزة الـ ـق ــارات الـ ـخـ ـم ــس ال ـف ــران ـك ــوف ــون ـي ــة. ً فـضــا عــن جــائــزة غونكور ل ـلــروايــة األول ـ ــى .وق ــد أث ــارت ً الـ ـ ــروايـ ـ ــة ج ـ ـ ــدل كـ ـبـ ـي ـ ًـرا فــي
ال ـج ــزائ ــر وخ ــارج ـه ــا ،ن ـظـ ًـرا إلى تناولها أحد املحظورات العربية الشهيرة ،أي الدين.
صورة من العرض المسرحي (موقع مهرجان أفينيون العالمي)
ال ـتــي ي ـعــززهــا اس ـت ـخ ــدام امل ـخ ــرج لعملية تجميد املـشـهــد Freezeوتغيير اإلض ــاءة عند لحظات مفصلية في الحديث الدائر ع ـلــى ال ـع ـش ــاء .ف ـع ـلــى ال ـع ـكــس ت ـم ـ ً ـام ــا من
عشاء السيد املسيح األخير املترع بالقيم الروحية والوصايا األخالقية ،الذي واجه بعده مصيره على الصليب ،نجد أنفسنا بإزاء عشاء مشغول كلية باملكاسب املادية،
المخرج أحمد العطار أدرك أحمد العطار منذ مراهقته إلى أي حد اللغة مخاتلة في والمعلمين في المدرسة يقولون مصر ،إذ إن األهل ووسائل اإلعالم ّ ّ تكذبه التجربة اليومية .ال يكف أحمد عن االقتراب من المزالق واقعا ً واألفــخــاخ ،ليستخرج منها احتماالت الكالم المقال ،ويستعمله كبؤرة مركزية في أعماله .ويستلهم العطار كثي ًرا من نصوص األدب الكالسيكية والثقافة الشعبية ،وأحاديث المقاهي .وتبدو عروضه المسرحية على مسافة مع تقاليد المسرح الكالسيكية ،لكن من دون نصوصا من تأليفه منها« :اللجنة» ()1998 أن تتجاوزها .أخرج للمسرح ً «الحياة جميلة أو في انتظار عمي القادم من أميركا» (.)2000 وابتكر أعمالًا مركبة من الكتب المدرسية ،والخطابات السياسية ،كمثل الخطاب الذي ألقاه الرئيس جمال عبد الناصر عند تأميم قناة السويس عام .1956أحمد العطار حاضر في الحياة الثقافية المصرية وهو مدير مهرجان الداون تاون للفنون المعاصرة.
والفجاجات الحسية ،واللهاث وراء الفتات ال ــذي قــد تتركه الــرأسـمــالـيــة العاملية على م ــوائ ــده ــا ل ـع ـمــائ ـهــا ف ــي الـ ـه ــوام ــش .ألن املسرحية وقــد ّ تعمدت أن تخلي الخشبة ّ املـســرحـيــة الــواس ـعــة مــن ك ــل ش ــيء ،إال من مــائــدة ع ـشــاء طــويـلــة يـحـيــط بـهــا ال ـفــراغ/ ال ـخ ــواء ،ويتجمع حــولـهــا أف ــراد أس ــرة أب ال اسـ ــم لـ ــه ،ي ـش ــار ل ــه ً دوم ـ ـ ــا ب ــ«ال ـب ــاش ــا»، ً ج ـع ـلــت امل ـش ـهــد امل ـس ــرح ــي ن ـف ـســه م ـع ــادل بـصـ ً ـريــا ل ـخــواء الـعــالــم ّال ــذي تعيشه هــذه األســرة في عزلتها املعقمة .وهــو التعقيم ّ الــذي ينعكس على كــل شــيء ،بما في ذلك ال ـع ـشــاء ال ـت ـجــريــدي نـفـســه الـ ــذي تـجـســده م ـفــردات رمــزيــة أو اسـتـعــاريــة :رأس عجل على صينية وقــد أخــرج لسانه للجمهور، أو ديك معلق في مشبك وكأنه يستعرض ريشه املنتوف ،أو جلده املسلوخ .وتتكون األســرة إلــى جانب األب غير املسمى واألم ال ـغ ــائ ـب ــة عـ ـم ـ ًـدا والـ ـت ــي ي ـش ــار ل ـه ــا ً دوم ـ ــا، ولكنها ال تظهر على املسرح ً أبدا ،ليصبح لغيابها دالالت الحضور املقلوب ،من إبن وبـنــت .أمــا اإلبــن فهو «حسن» الــذي يقال إنه فنان ،برغم افتقاره ألي حساسية فنية أو أي كياسة اجتماعية ،وزوجته «فيفي» وابنهما «سيكا» وابنتهما «زوكــي» .وأما اإلب ـنــة األص ـغــر فـهــي «م ــاي ــوش» وزوج ـهــا «م ـ ـيـ ــدو» الـ ـح ــري ــص ع ـل ــى أن يـ ـب ــدو أمـ ــام أســرة زوجته ،وكأنه في طريقه إلى الثراء القريب .وعالوة على األسرة هناك صديق ل ــأب ي ـش ــار ل ــه ً دوم ـ ــا بــوظـيـفـتــه الـســابـقــة
ً أيضا خادمان ّ يقدمان «الجنرال»؛ وهناك بإيقاع محسوب مــا يفترض أنــه العشاء. لكن املهم في املسرحية ليس وليمة العشاء ـورا رم ـ ً ال ـغــائ ـبــة ،أو ال ـح ــاض ــرة حـ ـض ـ ً ـزي ــا، وإنما هي تلك الوليمة األكثر غرابة من أي وليمة حقيقية والتي تتكون من األحاديث الكاشفة عن طبيعة العالقات بني أفراد تلك األس ــرة مــن نــاحـيــة ،وعــن طريقة تفكيرها ورؤيتها الغريبة للعالم من ناحية أخرى. فــاإلبــن مـهـمــوم بــاسـتـعــراض م ـهــاراتــه في اسـتـخــدام موتوسيكله الـغــالــي مــن ماركة «هارلي ديفيدسون» وما يحققه عليه من سرعات ومغامرات ،وتاريخه ًمع اغتصاب ال ـخــادمــات حينما ك ــان مــراهــقــا ،مــن دون أي مــراعــاة ملشاعر زوجـتــه الـحــاضــرة .أما زوجة اإلبن ومعها اإلبنة فهما مشغولتان بــالـتـسـ ّـوق ،وه ــل هــو أفـضــل فــي نـيــويــورك ـاري ــس؟ وإن اسـتـعــرضــت لنا أم لـنــدن أم ب ـ ً زوجة االبن أيضا مشاكلها مع الخادمات: األثّـيــوب ـيــات مـنـهــن ثــم امل ـصــريــات ،بعدما تعذر الحصول على الفيلبينياتً . وإذا كان اإلبــن «حسن أبوعلي» غارقا في فجاجاته ،فإن زوج االبنة «ميدو» مشغول ب ـت ـح ـســن ص ــورت ــه ل ـ ــدى ع ــائ ـل ــة زوجـ ـت ــه، وتحقيق سالمه االجتماعي مــع أفــرادهــا، ً أمــا في أن يحقق لنفسه مؤطئ قدم على خــري ـطــة ع ــاق ــات الـ ـق ــوى ب ـه ــا ،وبــال ـتــالــي على خريطة الثراء الــذي يتوق ّ بشدة إلى تحقيقه ،ولكنه توق يتسم بالتشتت ألنه يـضــرب خـبــط ع ـشــواء فــي كــل ات ـجــاه .وإذا كــان حديث األبـنــاء يثير الــرثــاء النفصاله الـغــريــب عــن الــواقــع عـلــى ع ــدة مستويات، فإن حديث الكبار ،أي األب والجنرال ،يثير السخرية هو اآلخر. فاألب مشغول وقد اشترى سيارة جديدة ببيع سـيــارتــه املــرسـيــدس الـقــديـمــة بأكثر ّ م ــن رب ــع م ـل ـيــون ج ـن ـيــه؛ وال ـج ـن ــرال يــؤكــد مـ ـك ــانـ ـت ــه ف ـ ــي ع ـ ــاق ـ ــات الـ ـ ـق ـ ــوى بـ ــاألسـ ــرة بـتـسـهـيــل عـمـلـيــة ال ـب ـيــع ت ـلــك ،وبــالـحــديــث مــع األب عــن الصراصير ،وهــم عنده بقية الشعب املصري ،وخاصة من شــارك منهم في الثورة ،وعن املؤامرات التي تستهدف مصر من جميع الجهات. وه ـ ــو ح ــدي ــث ع ــن الـ ــواقـ ــع ال ـس ـي ــاس ــي مــن منظور ن ــدرك مــدى مـعــاداتــه لـلـثــورة التي ان ــدل ـع ــت ف ــي مـ ـص ــر ،ومـ ـ ــدى ك ــراه ـي ـت ــه ملــا ّ شــكـلـتــه مــن تـهــديــد لــوضــع تـلــك الشريحة الطفيلية مــن أثــريــاء الـفـســاد الـتــي يسعى هو اآلخر لالنتماء إليها. ص .ح.
باربارا وفيروز بصوت التونسية درصاف العربي الجديد
أرادت التونسية درص ــاف حـمــدانــي املــزج ب ــن قــام ـتــن غـنــائـيـتــن؛ واح ـ ــدة مـشــرقـيــة ّ واألخ ـ ـ ـ ــرى غ ــربـ ـي ــة .ول ـع ــل ـه ــا أصـ ــابـ ــت فــي االختيار ،فمن غير السيدة فيروز يستطيع التعبير عن هوية مشرقية ِقوامها تضافر الطبيعة الخالبة ونقاء اإلنسان البسيط؟ ّ وم ـ ـ ــن غـ ـي ــر األخـ ـ ــويـ ـ ــن ال ــرحـ ـب ــان ــي تـ ـغ ــزل بنحو غير مسبوق بأسماء الشهور وفق ّ مــوسـيـقــى لـعــلـهــا ل ــم تــوضــع إال لتناسب ص ـ ــوت ال ــديـ ـف ــا ال ـل ـب ـن ــان ـي ــة ال ـ ـ ــذي ي ـنــوس بــن أن ـغــام الـبـيــانــو ورج ـف ــات أوتـ ــار كمان مالئكي؟ ها هي درصــاف تصدح بصوت ّ ّ ومعبر بـ«طل وسألني إذا نيسان». جميل وحيال صوت فيروز وأغانيها وحضورها نحفظه عن ظهر قلب ،اختارت اآلسر الذي ّ درص ــاف مــن الضفة الفرنسية ،فاألبيض املـتــوســط يجمع ال ـشــرق وال ـغ ــرب ،بــاربــارا امل ـغ ـن ـيــة وامل ــؤل ـف ــة املــوس ـي ـق ـيــة وال ـش ــاع ــرة الـفــرنـسـيــة واملـم ـثـلــة ( ،)1997- 1930ذات
ً ً التي الصوت املتدفق عاطفة ورقة، باربارا ً ً ّأم ـن ــت لـنـفـسـهــا ج ـم ـهـ ً ـورا ط ــوي ــا عــريــضــا أغان أضحت من كالسيكيات األغنية عبر ٍ ال ـف ــرن ـس ـي ــة م ـ ـثـ ــل« :قـ ـ ــل مـ ـت ــى سـ ـت ــرج ــع؟» و«الصقر األسود» و«أجمل قصص حبي». كــان الهدف املعلن من مشروع الجمع بني نوع من املغنيتني املشرقية والغربية إقامة ٍ ّ الحوار بني الصوتني القادمني من ضفتي املـ ـت ــوس ــط؛ ال ـش ـمــال ـيــة أله ـ ــل ب ـ ــاد الـ ـغ ــال، والجنوبية ألهل املشرق. ول ــم يـكــن إن ـجــاز امل ـشــروع أم ـ ًـرا ي ـس ـيـ ًـرا ،إذ إن فكرة الجمع التي بــدت بـ ّـراقــة للجميع، ّ حملت عند التنفيذ مصاعب شتى ،فكيف تتم املــواء مــة بينهما؟ لجأت درصــاف إلى الفرنسي دانييل ميل Daniel Milleمن أجل اإلدارة املوسيقية للعرض ،وقد نجح ميل بإقامة تقارب شاعري وحساس ومرهف وصادق بني فيروز وباربارا. ْ ْ تونسيي وآخر موسيقيني اعتمد ميل على فــرن ـســي عـ ــارف بــاملــوس ـي ـقــى املـتــوسـطـيــة. واستند إلى التشويق ،ذلك أن املستمع لن
أردنا الوصول إلى رهافة ال يمكن عندها أن تنتهك واحدة األخرى
يـكــون قـ ـ ً ـادرا عـنــد ب ــدء انـسـيــاب املوسيقى أن يعرف أهي أغنية فيروزية مشرقية ،أم فرنسية غربية؟ لجأ دانييل إلى «تفكيك» القطع املوسيقية واختيار آالت موسيقية بعينها؛ فالوتريات حاضرةً ، عودا وكمان، واألكـ ــورديـ ــون وآالت اإلي ـق ــاع تــاعــب تلك املـســافــة الـعــربـيــة فــي الـنـغــم امل ـس ـمــاة :ربــع الصوت. نجح العرض في ّ مد جسور رقيقة ودقيقة
نحو ورهـيـفــة بــن ف ـيــروز وب ــارب ــارا ،عـلــى ٍ ب ـق ـ ّيــت امل ـس ــاف ــة م ــوج ــودة بـيـنـهـمــا وعـلــى حافة االندماج واالمتزاج .فلم يكن في بال الـقــائـمــن عـلــى ال ـعــرض ال ــوق ــوع فــي شــرك ّ وتعبر جاهز يقول بانتهاك صــوت آلخــر. درصــاف عن ذلك بقولها« :أردنــا الوصول إلى رهافة ال يمكن عندها أن تنتهك واحدة األخرى». ف ـب ــارب ــارا تـكـشــف ف ــي أغـنـيـتـهــا الـشـهـيــرة «الـسـيــدة الــداك ـنــة» جــروحـهــا فــي انسياب ك ــريـ ـسـ ـت ــال ــيّ ،أم ـ ـ ــا ف ـ ـيـ ــروز ف ـت ـن ـس ـكــب فــي «أعطني الناي وغني» بجرأة فنية آســرة. وبرغم اختالف مرجعيتي الصوتني (شرق وغــرب) ورجعهما ،إال أن القرابة الروحية ّ ـان بينهما تـتـبــدى فــي كــل أغنية لهما .أغـ ٍ اخ ـت ـي ــرت ب ـع ـنــايــة لـلـتـعـبـيــر ع ــن ثـقــافـتــن مختلفتني ملغنيتني غامضتني وآســرتــن. ف ـم ـث ـل ـم ــا ب ـ ـ ــدت ب ـ ـ ــارب ـ ـ ــارا «غـ ــري ـ ـبـ ــة» ل ــدى الـجـمـهــور ال ـفــرن ـســي ،بـسـبــب اخـتـيــاراتـهــا الفنية غير املتوقعة أو املألوفة ،كــذا بدت فـ ـي ــروز ف ــي أح ــاي ــن ك ـث ـي ــرة ،خ ـ ّ ـاص ــة حني
أغان على إيقاعات الجاز واملوسيقى ّأدت ٍ ال ــات ـي ـن ـي ــة .اخ ـ ـتـ ــارت امل ـغ ـن ـيــة الـتــون ـسـيــة درصــاف من «ريبيرتوار» السيدتني ،أكثر األغ ــان ــي حـمـيـمـيــة وت ـع ـب ـيـ ًـرا ع ــن نـبـضــات القلب ،وقلق الروح. ّ وتعد درصــاف واحــدة من أعظم املطربات الـ ـت ــونـ ـسـ ـي ــات ،وتـ ـمـ ـي ــل بـ ــاس ـ ـت ـ ـمـ ــرار إل ــى تــوس ـيــع عــامل ـهــا ف ــي ال ــزم ــان واملـ ـك ــان ،فقد درســت املوسيقى األندلسية ،واملوسيقى املشرقية ،خاصة في فترة القرن العشرين. ّ تعلمت الصولفيج الغربي ،ولها محاوالت في صهر املوسيقى الشرقية مع الغربية، ّ ـان ألم ك ـل ـثــوم وأس ـم ـهــان إذ ًإن ـهــا أدت أغ ـ ـ ٍ وفقا ملفهومها في ذلــك .كما حصلت على شهادة عالية في علم املوسيقى من جامعة السوربون. ّ غـ ــنـ ــت درص ـ ـ ـ ــاف أهـ ـ ــم امل ـ ـس ـ ــارح ال ـغ ــرب ـي ــة والـعــربـيــة كـمــا غـنــت فــي األوبـ ــرا املـصــريــة، وت ـع ــاون ــت م ــع أهـ ــم املــوس ـي ـق ـيــن ال ـع ــرب، ّ ـان مــن شعر عمر كسليم ســحــاب ،ولها أغ ـ ٍ الخيام.
ما تقوله درصاف عن فيروز وباربارا جدا لم يكن عملي محدودا بـ«الريبيرتوار» أو الموسيقى .بل إني متأثرة ً ً بشخصيتي هاتين السيدتين .عمق روحيهما ،والتزامهما .وحتى لو أنهما لم تلتقيا البتة ،فقد أردت ذاك اللقاء بينهما من خالل صوتي، ومن خاللي أنا ،ألنني في ذهني وتفكيري ،حاولت عقد اللقاء بينهما، من أجل إقامة حوار بين عالمين يبدوان مختلفين .فلكال السيدتين مرجعية واحــدة .أتحدث هنا عن لغة أخــرى ،لغة إنسانية وكونية. هما سيدتان عرفتا األلم والكثير من الجمال ً أيضا ،وكذلك االنفعاالت الفياضة .النقطة المشتركة بينهما هي ً أيضا مظهريهما الخارجيين، وحضورهما ،وكيف تقفان على خشبة المسرح .تلك الهيئة المنضبطة لكن الحساسة والهشة.
درصاف حمداني خالل الحفل (موقع مهرجان أفينيون العالمي)
الثقافة 4
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
يجمع مهدي مبروك بين الباحث العلمي واألستاذ الجامعي في علم االجتماع والعمل في أرفع المناصب الحكومية الثقافية ،إذ ول وزير ثقافة في تونس بعد الثورة .وهو ،باإلضافة تبوأ منصب أ ّ ّ ومفكر سياسي ،وله مؤلفات عديدة. إلى ذلك ،ناشط حقوقي ومنذ بداية العام الحالي ،أصبح مبروك مدي ًرا لفرع تونس للمركز العربي لألبحاث والدراسات السياسة
شغف حوار أجرته حياة السايب
مهدي مبروك ليس مطلوبًا من المثقف االنسجام بل تأدية دوره النقدي
■ م ـ ّـر ع ــام تـقــريـ ًـبــا عـلــى افـتـتــاح ال ـفــرع التونسي للمركز الـعــربــي لــأبـحــاث وال ــدراس ــات السياسية ؛ (فــرع تونس) .هل من املمكن إعطاء فكرة حول طبيعة هذا املركز؟ وما هي أهدافه وبرامجه؟ ت ــأس ــس (فـ ـ ـ ــرع تـ ــونـ ــس) ل ـل ـم ــرك ــز ال ـع ــرب ــي ل ــأب ـح ــاث ودراسـ ـ ـ ــة ال ـس ـي ــاس ــات ف ــي شـهــر يــولـيــو /تـمــوز مــن ع ــام ،2014لكنه انطلق فـعـلـ ًـيــا ف ــي ال ـع ـمــل ف ــي ب ــداي ــة ش ـهــر يـنــايــر/ كانون الثاني ّ ،2015 وتم ذلك بعد استكمال ّ ج ـ ـ ــل اإلجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءات اإلداريـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة وال ـت ــرت ـي ـب ـي ــة ّ واللوجستية .وكلفت بإدارته ملدة سنة قابلة ً للتجديد وفقا ملا يقتضيه التشريع الثنائي بــن البلدين .إال أن التفكير فــي إنـشــاء فرع ً موجودا منذ الثورة التونسية، تونس ،كان إذ إن ال ـظــروف السياسية فــي الـبـلــد ،أعني االنـفـتــاح السياسي وحــريــة التنظيم كانت مؤاتية ومناسبة. وأشير في هــذا الصدد ،إلــى أن املدير العام لـلـمــركــز ّ األم ف ــي ال ــدوح ــة ،ال ــدك ـت ــور عــزمــي بشارة ،أقام عدة نقاشات حول األمر وتبادل ف ــي وج ـه ــات ال ـن ـظــر ب ـي ـنــه وبـ ــن ج ـم ـلــة من املثقفني والباحثني التونسيني ،حــول هذا ال ـفــرع ال ــذي يـنـضــم إل ــى الـفــرعــن اآلخــريــن، أعني فرع بيروت وفرع واشنطن. ً ووفقا لقانونه األساسي ،فإن املركز العربي لألبحاث ودراس ــة السياسات هــو مؤسسة خـ ّ ـاص ــة ذات ن ـفــع ع ـ ــام ،وي ـن ـس ـحــب قــانـ ّـون الجمعيات الـتــونـســي عـلــى املــركــز املصنف ك ـج ـم ـع ـيــة وكـ ـف ــرع مل ـن ـظ ـمــة غ ـي ــر ح ـكــوم ـيــة. تتمتع فروع املركز ،ومن بينها فرع تونس، باستقاللية إداري ــة ومــالـيــة وعلمية ضمن تحقيق أه ــداف املــركــز كما ورد فــي وثائقه ال ـتــأس ـي ـس ـيــة ،أي خ ــدم ــة ال ـب ـحــث وامل ـعــرفــة ً خصوصا وتشجيع حركة اإلنتاج العلمي ،
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
في مجال اإلنسانيات والعلوم االجتماعية ودراس ـ ـ ـ ــات اإلع ـ ـ ــام ع ـل ــى م ـس ـت ــوى ال ــوط ــن ال ـعــربــي ،وبــالـطـبــع دع ــم ج ـهــود الـبــاحـثــن. ّأم ــا فــي مــا يـخـ ّـص بــرنــامــج عملنا ،فيتمثل في إنجاز دراســات وبحوث علمية وتنظيم نــدوات ونشاطات فكرية ،وإعــداد مؤتمرات علمية ،إلــى جانب تنظيم دورات تكوينية ل ـ ـتـ ــدريـ ــب الـ ـ ـط ـ ــاب عـ ـل ــى مـ ـن ــاه ــج ال ـب ـح ــث وتطوير أدواتهم ًوأبحاثهم ،وكذلك فإن في بــرنــامــج عملنا أيــضــا ت ـبــادل ال ـخ ـبــرات مع املــراكــز األخ ــرى ،سـ ٌ ـواء أكــانــت مــراكــز وطنية أو أجنبية. ■ ومــا هــي اآللـيــة الـتــي تـ ّـم وفقها اخـتـيــارك مــديـ ًـرا لفرع تونس؟ كــان املركز األم في الدوحة قد عقد مؤتمره الثالث للعلوم االجتماعية في مارس /آذار 2014ب ـتــونــس ،وك ـنــت حـيـنـهــا ق ــد غ ــادرت الحكومة منذ يناير /كانون الثاني السنة ّ نفسها ،وأصبحت في حــل من املسؤوليات ً مرشحا من بني مجموعة الحكومية .وكنت م ــرش ـح ــن آخ ــري ــن ،وقـ ــد ات ـص ــل ب ــي املــدي ــر ال ـع ــام ،الــدك ـتــور عــزمــي ب ـش ــارة ،وتناقشنا فـ ــي ع ـ ـ ـ ّـدة م ـس ــائ ــل مـ ــن ق ـب ـي ــل مـ ـه ــام امل ــرك ــز وأهدافه وإنتاجاته وخططه االستراتيجية وخطه البحثي ،الذي ّ نسميه في الصحافة التونسية الخط التحريري .وقد أكد الدكتور ً حــرصــه قـبــل غ ـيــره عـلــى أن ي ـكــون مستقل ّ وفي ما وموضوعيًا ،وهكذا تـ ّـم ترشيحي. ُ ّ ّ بعد ،وعندما تم إنشاء هيكلية املركز ،ثبت ّ الناحية اإلداري ــة ،فقد هــذا املقترح .أمــا مــن ً آلليته التوظيفية بدأت العمل في املركز وفقا ً ً أيضا ترتيبات وبحسب ووفقا لتشريعاته، ّ الــوكــالــة الــوطـنـيــة لـلـتـعــاون الـفــنــي .وأتــوقــع
محطات ولد مهدي مبروك في ديسمبر/ كانون ّ األول عام .1963
▼
درس في كلية اآلداب بمنوبة وحاز على إجازة في العلوم اإلنسانية واالجتماعية. حصل على درجة املاجستير في العلوم االجتماعية عام .1986 حصل على درجة الدكتوراه في العلوم االجتماعية عام .1991
▼
عضو في وحدة األبحاث حول الهجرة املنبثقة عن مركز الدراسات واألبحاث االقتصادية واالجتماعية .أنجز دراسات علمية للجنة العليا في األمم املتحدة لشؤون الالجئني وكذلك للمنظمة الدولية للصليب األحمر.
▼
ً ▼ ً مساعدا في كلية عمل أستاذا العلوم اإلنسانية في جامعة تونس بني عامي 1999و.2000 ▼
ً وزيرا للثقافة في حكومة عمل حمادي الجبالي بعد الثورة التونسية بني عامي 2011و.2014 من أهم كتبه :أشرعة وملح :ثقافة ومأوى وتنظيم الهجرة غير الشرعية في تونس.2010 ،
أن ّ يتم تجديد فترة اإللـحــاق فــي أكتوبر/ ّ تشرين األول من العام الجاري. ّ ■ أرغ ــب ف ــي مـعــرفــة كـيــف تـعــامــل امل ـثــق ـفــون في تونس مع املركزّ ، خاصة وأنه ذو تمويل أجنبي؟ أفـهــم حـســاسـيــة بـعــض «ال ـص ــور» املضللة فــي كـثـيــر مــن األح ـي ــان .لـكــن لـيــس مـطـلـ ً ـوبــا ـرد عليها ،وال ال ـ ّ فــي مجال عملي ال ـ ّ ـرد على ّ املسبقة ،بل إن املطلوب مني تبديد األحكام هــذه الصور النمطية التي تتضمن الكثير مـ ــن األحـ ـ ـك ـ ــام ال ـ ـجـ ــاهـ ــزة ،وذل ـ ـ ــك مـ ــن خ ــال العمل ومنهجه .فالسؤال كيف يتم ذلك؟ له إجــابــة وح ـيــدة :مــن خ ــال الـعـمــل وال شــيء سواه ،لكن ضمن قناعة راسخة بأننا ّ نقدم ـورا ومساهمات ّ أم ـ ً مهمة فــي مجال البحث ال ـع ـل ـمــي ،وذلـ ــك ض ـمــن ً اس ـت ـقــال ـيــة املـعــرفــة ومــوضــوعـيـتـهــا ،ووف ــق ــا ل ــأه ــداف النبيلة الـتــي يسعى املــركــز إل ــى إن ـجــازهــا بطبيعة ّ ً ال ـح ــال ،إذ إن امل ــرك ــز مـنـفـتــح أول ع ـلــى كــل ال ـك ـفــاءات وال ـخ ـبــرات العلمية ،وثــانـ ًـيــا فــإن نوعية العمل وقيمة األبحاث هي ما تحدد ّ نــوع ـيــة ال ـعــاقــة م ــع ال ـبــاح ـثــن وامل ـفــكــريــن. ّ وأسـتـطـيــع ال ـق ــول إن ـنــا تـمــكـنــا خ ــال ظــرف وج ـيــز مــن ال ـح ـصــول عـلــى ثـقــة طـيــف كبير من الزمالء واالباحثني ،وأكثر من ذلك ،فقد أصـبــح لدينا شــراكــات علمية ،إن كــان على املستوى الوطني أو على املستوى الدولي. ف ـق ــد أن ـج ــزن ــا ن ـ ـ ــدوات ب ــال ـت ـع ــاون م ــع كـلـيــة الـعـلــوم اإلنـســانـيــة فــي الـتــاســع مــن أبــر ّيــل / نيسان املنصرم ،ومع كلية اآلداب بمنوبة، ّ الكليات في تونس ،إلى وهما من بني أكبر جــانــب مــؤس ـســات بـحـثـيــة أجـنـبـيــة .ونـحــن ً اليوم ،مثل ،بصدد وضع اللمسات األخيرة مــع «مـخـبــر الـنـخــب وامل ـع ــارف واملــؤسـســات الثقافية بــاملـتــوســط» فــي كلية مـنــوبــة ،من أجــل تنظيم ن ــدوة علمية حــول «السياسي ف ــي اإلس ـ ــام ف ــي ال ـق ــرون الــوس ـطــى» خــال شـهــر أك ـتــوبــر /تـشــريــن ّ األول ال ـق ــادم .وقــد تلقينا حوالى مائة طلب للمشاركة من عدة بلدان عربية ،انتخبنا منها أربعة وخمسني بلدًا .وتلقينا كذلك ما يقارب مائة وثمانني طـلـ ًـبــا لـتـقــديــم م ــداخ ــات وأوراق بـحــث في الـنــدوة العلمية التي يعتزم املــركــز بمفرده تنظيمها حــول «الفقر والـفـقــراء فــي املغرب الـ ـع ــرب ــي» خ ـ ــال ش ـه ــر ن ــوف ـم ـب ــر /ت ـشــريــن الثاني الــذي يليه ،إلــى جانب تنظيم نــدوة مــع كـلـيــة ال ـع ـلــوم اإلنـســانـيــة واالجـتـمــاعـيــة حــول «الــذاكــرة والـهــويــة» فــي الشهر نفسه. ولــدي ـنــا ع ــدة م ـشــاريــع أخ ــرى لـلـتـعــاون مع الـكـلـيــات نـفـسـهــا وم ــع الـجــامـعــة الـعــربـيــة - مركز تونس ،ومراكز بحوث أخرى.
■ ك ـيــف يـمـكــن أن يـسـتـفـيــد امل ــواط ــن عـمـلـ ًـيــا من امل ـج ـهــود الـعـلـمــي واألبـ ـح ــاث ال ـتــي ت ـقــومــون بـهــا؟ وهل تضعون في االعتبار الجدوى والنجاعة في سياستكم كمدير للمركز؟ ليست العالقة بني مراكز األبحاث واملواطن ب ـصــورة عـ ّ ـامــة عــاقــة م ـبــاشــرة .فـفــي مجال اإلنـ ـس ــانـ ـي ــات عـ ـل ــى س ـب ـي ــل امل ـ ـث ـ ــال ،ت ـك ــون الـجــدوى واملــردوديــة غير مباشرة ،وهــي ال
مهدي مبروك (رسم :أنس عوض)
أول إصالح للتعليم كان ّ شهدته تونس سنة 1958 على يد وزير التربية آنذاك األديب التونسي محمود حدا المسعدي ليضع ً لتعدد النظم التعليمية ويوحدها في في البالد، ّ تعليم عمومي إلزامي
اإلصرار على أن يكون المثقف في موقع القيادة ،فيه نوع من النرجسية ،التي تريد احتكار الثقافة
وهل من املمكن الحديث عن مصادر التمويل؟ ■ ّ ن ـت ـلــقــى ت ـمــوي ـل ـنــا م ــن مـ ـص ــدر وحـ ـي ــد هــو املــر ًكــز األم فــي الــدوحــة .ونخضع للمراقبة وف ــق ــا لـلـتــرتـيـبــات ال ـقــانــون ـيــة امل ـع ـمــول بها في تونس .وكـ ّـل التحويالت إلى املركز ّ تمر عـبــر امل ـصــرف امل ــرك ــزي .وأرغ ــب فــي التأكيد ّ على أن التمويل وامليزانية هما أقــل بكثير مما قــد يـتـصـ ّـوره بعض الـنــاس .وبــاملــوازاة م ــع ه ــذا ال ـت ـمــويــل ،فــإنـنــا نـخـضــع لتدقيق محاسبي ومراقبة دقيقتني من املركز األم، ّ ّ املسبقة ،وذلك التصورات على عكس بعض وف ــق ق ــواع ــد مـحــاسـبـيــة ش ــدي ــدة ال ـصــرامــة، ً األخالقي أو الـ Ethicsأي فضل عن الجانب ّ التصرف النزيه والشفاف والقيم التي نحن ملتزمون بها ً أدبيا.
عمل في وزارة الثقافة التونسية في دار الثقافة ودار الكتب الوطنية.
مقتطف
إصالحات التعليم وثقافة اإلرهاب مهدي مبروك
تـ ـ ّـم الـ ـح ــرص ع ـلــى أن ي ـك ــون هـ ــذا الـتـعـلـيــم ً منفتحا على املـعــارف الكونية مــن تقنيات ّ ـص تدريجي وع ـلــوم وآداب وذل ــك فــي تـخــلـ ٍ مــن هيمنة املـعــارف الشرعية القديمة التي كــانــت الـسـمــة ال ـبــارزة ألنـظـمــة التعليم قبل االسـ ـتـ ـق ــال .وب ـق ـط ــع ال ـن ـظ ــر ع ــن امل ـح ـتــوى الضمني لإلصالح واستراتيجياته الثقافية واملعرفية التي كانت لها تبعات خطيرة في ما بعد على قيم أجيال كاملة وتصوراتها، ف ــإن أه ــم مــا يـمـكــن اإلش ـ ــارة إل ـيــه ح ــول هــذا ّ اإلص ـ ــاح ه ــو م ــا ُسـ ــن م ــن م ـب ــادئ ال زال ــت تـحـكــم الـتـعـلـيــم والـتــربـيــة فــي تــونــس ،على ّ الرغم من نصف قرن مضى ،ولعل أهم تلك املبادئ واألسس هي اآلتية:
التعليم إلزامي وخاصة بالنسبة للبناتوللبنني الــذيــن بلغوا مــن العمر 6سنوات، بحيث ّ تعهدت الــدولــة بتوفير االعـتـمــادات املــالـيــة والـفـنـيــة وال ـب ـشــريــة ،لــذلــك احـتـكــرت الدولة الشأن التربوي مما حال دون ّ تطور مواز ً إال في السنوات األخيرة، خاص تعليم ٍ ٍ ً ولم تترك لها هامشا ضئيل والزالت تبعات هذا إلى حد اآلن قائمة. ً التعليم العالي بشكل عــام مجاني أيضالحاملي شهادة البكالوريا أي ختم املرحلة الـ ـث ــان ــوي ــة .ولـ ـق ــد دع ـم ــت الـ ــدولـ ــة تـ ُـوسـيــع ال ـ ـخـ ــارطـ ــة الـ ـج ــامـ ـعـ ـي ــة وت ـ ـنـ ــويـ ــع ال ــش ـع ــب ً خصوصا فــي الثمانينيات والتسعينيات مـ ـ ــن ال ـ ـ ـقـ ـ ــرن املـ ـ ــاضـ ـ ــي فـ ـ ــي مـ ــواك ـ ـبـ ــة م ـن ـهــا ّ ً نسبا للتحوالت الديموغرافية ،كما مكنت م ـه ـم ــة م ـن ـه ــم مـ ــن مـ ـن ـ ٍـح وخـ ــدمـ ــات ال ـس ـكــن
التعليم العالي بشكل عام مجاني ً أيضا لحاملي شهادة البكالوريا
ً وخصوصا للمنحدرين من أوساط واألكلّ ، جامعية هشة أو متوسطة. ّ مكن هــذا اإلص ــاح التأسيسي التعليم من نشر املدرسة في املناطق الداخلية بالبالد الـتــونـسـيــة ،مـمــا أتـ ــاح ف ــي م ــا بـعــد تحقيق
ّ حـ ــراك اج ـت ـمــاعــي ص ــاع ــد ،تـمــكـنــت بفضله ال ـط ـب ـقــات ال ــدن ـي ــا م ــن ال ـص ـع ــود ف ــي الـسـلــم ّ االجـ ـتـ ـم ــاع ــي وت ـ ــول ـ ــي وظـ ــائـ ــف وم ـك ــان ــات ّ ظلت لقرون ً حكرا على أبناء فئات اجتماعية نـبــاء امل ــدن وعــائــات املــديـنــة الـعــريـقــة .كما ســاهــم خريجو الجامعة القالئل آن ــذاك من بـنــاء أجـهــزة الــدولــة الوطنية ومؤسساتها األهم، وتسييرها .أما اإلصالح الثاني وهو ُ فقد حدث سنة 1991بموجب قانون نعت بـقــانــون مـحـمـ ّـد الـشــرفــي نـسـبــة إل ــى السيد وزير التربية آنذاك .وقد اعتمد هذا اإلصالح ُبعيد التغيير السياسي الذي عرفته البالد آنــذاك .وحمل ّ توجهات فكرية ورؤى تدور حــول قيم املواطنة ،ولكنه انغرس في رؤى ً إيــديــولـ ّـوجـيــة حـ ــادة ،ان ـخــراطــا فــي الحملة التي شنها النظام ّ ضد اإلسالميني .فكانت
5الثقافة
امل ــدرس ــة ً ذراع ـ ـ ــا س ـيــاسـ ًـيــا وإي ــدي ــول ــوج ـ ًـي ــا ً للنظام في معركته تلك .وبعيدا من تقييم ت ـلــك االصـ ــاحـ ــات ،والـ ـب ــاد تـعـيــش حــالـ ًـيــا ً ً مماثل هو ّ األول بعد الثورة ،فإنه مشروعا ح ــري بـنــا أن ن ـطــرح جـمـلــة م ــن ال ـت ـســاؤالت س ـت ـك ــون اإلجـ ــابـ ــة ع ـن ـهــا ب ــواب ــة الـ ـب ــدء فــي املشروع القادم : ما الذي قاد هذا التدحرج الرهيب للمدرسةالـتــونـسـيــة ّ وأدى إل ــى تــراجـعـهــا امل ــريــع في الترتيب ضمن االختبارات الدولية املعروفة رغــم تلك اإلصــاحــات الـتــي تـبــدو منخرطة في زمانها؟ النص الكامل على الموقع األلكتروني
تعني الجمهور العريض ،إذ إن العديد من القضايا الفكرية قد ال ّ تهم هذه الجماهير ف ــي الـلـحـظــة اآلنـ ـي ــة .ل ـكــن لــدي ـنــا نـشــاطــات أخ ـ ــرى ت ـه ـ ّـم امل ــواط ــن ب ـش ـكــل م ـب ــاش ــر ،ومــن بينها الــدراســات التي أنجزها املركز حول التعبئة االنـتـخــابـيــة ،وسـتـصــدر قــريـ ًـبــا في منشوراتنا .ومــن األمــور االخــرى التي ّ تهم امل ــواط ــن م ـبــاشــرة ،ورشـ ــات الـعـمــل ،وق ــد تـ ّـم ال ـتــرك ـيــز ف ـي ـهــا ع ـلــى م ــواض ـي ــع ت ـه ـ ّـم الـ ــرأي العام الواسع ،على غــرار اإلصــاح التربوي وال ـع ــدال ــة ال ـج ـبــائ ـيــة واالن ـت ـح ــار وغ ـيــرهــا. ّ نظمنا كذلك مجموعة من املوائد املستديرة ح ــول قـضــايــا تـهـ ّـم املــواطــن مـبــاشــرة ،ونـعــدّ لـتـنـظـيــم مـ ّجـمــوعــة أخـ ــرى مـنـهــا سـتـتـنــاول مهمة ً قضايا نظنها ّ جدا ،مثل قضية املياه وقضية الجباية ،وكذلك مسائل اجتماعية كـ ـم ــوض ــوع ال ـط ـف ــول ــة امل ـ ـه ـ ـ ّـددة والـ ـتـ ـس ـ ّـرب امل ــدرس ــي وغ ـي ــره ــا .ال ن ـج ــزم بــأن ـنــا نعمل بطريقة مــراكــز «الثينك تــانــك» Think tank املــوجــودة فــي الــواليــات املتحدة األميركية، أو غـيــرهــا مــن ال ـب ـلــدان ،لـكــن فــي مــا لــو أراد أص ـ ـحـ ــاب الـ ـ ـق ـ ــرار حـ ـض ــور ن ـش ــاط ــات ـن ــا أو االستفادة من بحوثنا فنحن نرحب به. وال ّ بد من اإلشارة إلى أننا ما زلنا في بداية ان ـطــاق ـت ـنــا ،إذ إن س ـنــة 2015ك ــان ــت سنة تجريبية ونعمل كــي تكون السنة القادمة 2016سنة تأسيسية للمركز. ■ مــا الــذي ّ يميز هــذا املــركــز عــن غيره مــن مراكز ّ األبحاث األخــرى ،وبشكل خــاص مراكز األبحاث الجامعية؟ ما نقاط االختالف عنها؟ ً ً أول نحن ال ننجز دارساتنا وأبحاثنا وفقا لطلب م ــا ،أي إنـهــا ليست «تـحــت الـطـلــب». ّ ً وثانيا ،نحن في حل من القوانني التي تلتزم بها الجامعات ،التي تجعلها ال تخرج عن اإلطــار التقليدي واملفهوم املـتــوارث للبحث ال ـع ـل ـم ــي .ك ـم ــا أنـ ـن ــا ن ـت ـج ـنــب األطـ ــروحـ ــات ال ـن ـم ـط ـيــة وال ـس ـط ـح ـي ــة ،ون ـس ـع ــى لـتـقــديــم مساهمات علمية تعتمد على أرقــام دقيقة وعلى ورشات عمل ،ونتواصل مع الفاعلني األساسيني ومع املجتمع املدني. ■ تـبــوأت منصب وزيــر الثقافة ،وكنت ّأول وزيــر ثقافة في تونس بعد الثورة .وأنت من الشخصيات القليلة الـتــي صـ ّـرحــت بــارتـكــاب أخـطــاء حــن كنت تعمل في الحكومة ،فكيف تبدو لك أمــور الثقافة في تونس اليوم ،بعد فترة من مغادرتك منصب وزير الثقافة في حكومة الترويكا؟ أعـتـقــد أن الـتــاريــخ وح ــده يمكنه أن ّ يقيم ب ـمــوضــوع ـيــة ت ـجــرب ـتــي ع ـل ــى رأس وزارة ال ـث ـقــافــة ف ــي ع ـهــد ح ـكــومــة ال ـتــروي ـكــا ،الـتــي انبثقت عن انتخابات 23أكتوبر /تشرين ّ األول ،2011وال ـ ـت ـ ــي ه ـ ــي االنـ ـتـ ـخ ــاب ــات ال ــدي ـم ـق ــراط ـي ــة األول ـ ـ ــى ف ــي ت ــاري ــخ ال ــدول ــة ّ الـتــونـسـيــة املـسـتـقــلــة وال ـحــدي ـثــة ،كـمــا أنـهــا ّ كــانــت االس ـت ـح ـقــاق االن ـت ـخــابــي األول بعد ال ـث ــورة .فــي مــا يـخــص «ارت ـك ــاب األخ ـطــاء»، ّ فأظنني قمت بأخطاء تظل مرتبطة بوجه خاص بـ «اإلخراج اللفظي لبعض املواقف». إذ إن بعض املصطلحات التي استعملتها، لربما كانت «قوية» بعض الشيء ،أو أنها لم تعبر ً ّ جيدا عن موقفي .إال أن هــذا ال يعني أنني لم أشتغل بشكل جيد ،بل إنني قمتُ بعمل ّ مهم خاصة على مستوى التشريعات وتطوير املوارد البشرية وترشيد املال العام ومكافحة الفساد. ■ ّلكننا نالحظ أن القطاع الثقافي يعاني اليوم من مخلفات «تصفية « اللجان الثقافية بعد الـثــورة، الـتــي ساهمت فــي تعطيل العمل الثقافي ّ خاصة فــي املـنــاطــق التونسية ،ويـتـ ّـم تحميلك باستمرار ّ مسؤولية حل هذه اللجان .فماذا تقول؟ ّ ل ــم أحـ ــل ال ـل ـجــان الـثـقــافـيــة .وأق ـ ــول ذل ــك من دون ال ـت ـه ــرب م ــن املـ ـس ــؤولـ ـي ــة ،وأؤك ـ ـ ــد أن القرار اتخذ في فترة زميلي الــذي سبقني، ّ ّ عــز الــديــن بــاش ش ــاوش .وأذك ــر أن قــرار حل اللجان الثقافية ،اتـخــذ بعد معاينة دائــرة املـحــاسـبــات واكتشافها لــوجــود إخ ــال في التصرف املالي يصل إلى املاليني .مع العلم ّ بأن دائرة املحاسبات كانت قد أوصت بحل اللجان الثقافية قبل الثورة .وحني استلمت ال ــوزارة ،وجــدت الجثة فلم أحييها ،إن جاز ّ التعبير ،ه ــذا ك ــل مــا فــي األم ــر .ولعلنا في حاجة إلــى تنشيط الــذاكــرة في هــذا املجال، ً منبعا للفساد إذ إن اللجان الثقافية كانت ّ ً مطلبا للنخب الثورية حينذاك. وكان حلها النص الكامل على الموقع األلكتروني
منمنمات عن «الحقيقة الحقيقيّة» أنطوان شلحت
بعد عدة أشهر ّ يمر عقد من السنوات على خطاب الكاتب ّ اإلنكليزي هارولد بنتر الذي كتبه في مناسبة تسلمه جائزة نوبل لآلداب لسنة ( 2005قبل ثالث سنوات من وفاته سنة .)2008وقد ّتم إلقاء الخطاب نيابة عنه أمام األكاديمية السويدية يوم 7ديسمبر /كانون ّ األول ،2005 ّ لتعذر سفره بسبب املرض .في ذلك الخطاب الطويل الذي ّ ّ فكري، يمكن إدراجه في إطار ما خلفه هذا الكاتب من إرث ّ حدد بنتر مهمة املبدع أكثر من أي غاية أخرى في السعي لتعريف ما ّ سماه «الحقيقة الحقيقية» للواقع الذي يعيش ُ يحكم في كنفه ،بل اعتبر أن هذا السعي هو تمامًا ما الجهد الذي يبذله الكاتب لالستكشاف واإلملاح إلى عوامل التجاوز .وبرغم أنه أكد بشكل جازم عدم إمكان بلوغ الحقيقة في املسرح على اإلطالق ،إلى جانب استحالة العثور عليها كاملة فيه ،فإنه أشار إلى أن «إصرارنا فقط على تعريف الحقيقة سيعيد لنا ما فقدناه من حياتنا :الكرامة اإلنسانية» .كان بنتر في حياته (ولد سنة 1930وتوفي عن 78عامًا) ،كاتبًا مسرحيًا وشاعرًا .واشتهر باستخدام الكلمات ألغراض غير تلك املألوفة إلى ناحية جعل إيقاعها ّ يولد إحساسًا بالخوف والتهديد .من هنا وصف بعض النقد أعماله بأنها عنيفة وأطلقت على مسرحياته تسمية «كوميديا التهديد» .كما اعتمد كثيرًا على تكرار الكلمات واأللفاظ وعلى تجريدها من معناها املصطلح عليه بحيث ً مستقال عن املعنى الذي ّ يحددها لها . تكتسب كيانًا أطلق على بنتر أيضًا لقب «شاعر الصمت» ألنه أكثر من استخدام فترات الصمت في الحوار وكان يهدف من وراء ّ يتصور االضطرابات النفسية أو ذلك إلى جعل املتفرج ّ املخاوف واألحاسيس املتعددة التي تعتمل في نفسية الشخصيات .عندما ُسئل بنتر في أحد الحوارات معه: ما هو املسرح بالنسبة إليك؟ أجاب« :إنه ملعبي .فيه أطلق ّ العنان لكل ما أوتيت من جنون وهلوسة ،ولذا غالبًا ما تكون شخصياتي غريبة على نفسها وعلى العالم ،مثلي .وهذا ما يدفعني أيضًا إلى التمثيل في مسرحياتي .إنها عاملي البديل سئل بنتر في عندما ُ الذي أصنعه على مزاجي ،وبه أحد الحوارات :ما هو حدود العالم الفعلي من أنتقم المسرح بالنسبة إليك ُ ّ الضيق الذي أعطي لي .إن الكاتب أجاب« :إنه ملعبي» املسرحي إله ،يعيد اختراع الكون مع كل مسرحية جديدة .إنه إله ّ يجلس وحيدًا مع نفسه ويفكر :من سأخلق اليوم وماذا سأفعل بتلك املخلوقات؟» .ثمة مسألتان أخريان ملفتتان ّ السياسي في هذا الخطاب :األولى ،تنويه بنتر أن الكالم على النحو الذي يتم استخدامه من جانب معظم الساسة ُ خوض مسار تعريف الحقيقة ،ألن يغامر مطلقًا في ال ِ غالبية الساسة ال يهتمون بالحقيقة بل بالسلطة وبالحفاظ عليها .ولكي ُيحافظ هؤالء على هذه السلطة ينبغي للناس ـ الجمهور العريض ـ أن يبقوا أسرى الجهل ،وأن يحيوا في ّ ّ الخاصة، ظل جهل الحقيقة ،بما في ذلك حقيقة حياتهم وبالتالي فإن ما يحيط بنا إنما هو نسيج رحب من ّ األكاذيب التي نتغذى منها. الثانية ،كشفه مخادعة املرآة .برأي بنتر عندما ننظر إلى املرآة نعتقد أن الصورة التي تواجهنا دقيقة ،لكن ابتعد مليمترًا واحدًا والصورة ّ تتغير .فنحن في الحقيقة ننظر إلى انعكاسات النهائية .بيد أنه في بعض األحيان ّ يتعي على الكاتب أن يحطم املرآة ألن الحقيقة التي في الجانب اآلخر ّ تحدق بنا .في املقطع األخير من الخطاب ذكر بنتر أنه أتى مرارًا على ذكر املوت في الخطاب ،ولذا أبدى رغبته في أن يقرأ إحدى قصائده وعنوانها «املوت» ،والتي يقول فيها: أين وجدت الجثة؟ من وجد الجثة؟ هل كانت الجثة جثة عندما وجدت؟ كيف وجدوها ،الجثة؟ من كانت الجثة؟ من كان والد الجثة املهجورة أو ابنها أو شقيقها أو ّ عمها أو أختها أو والدها أو ابنها؟ هل كانت الجثة جثة عندما هجروها؟ هل ُهجرت الجثة؟ من هجرها؟ ثياب الرحلة؟ هل كانت الجثة عارية أم ترتدي ً ما الذي دفعكم إلى إعالن الجثة جثة؟ هل أعلنتموها جثة؟ إلى أي مدى كنتم تعرفون الجثة؟ كيف عرفتم أنها جثة؟ هل غسلتم الجثة؟ هل أغمضتم عينيها االثنتني هل دفنتم الجثة هل هجرتموها؟ هل ّقبلتم الجثة؟ ً (الترجمة العربية نقال عن موقع «جهة الشعر» اإللكتروني)
الثقافة 6
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
7الثقافة
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ ¶ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
أصوات ¶ شعر
طه عدنان
عين الديك
ب الح ّ ُ قصائد في ُ
صباح النور يا روبيرت
ب الح ّ في ُ في ُ الح ِّب َُ ِّ آناء الحب - َ أكر ُه املوسيقى التسجيل آلة على ُ ٌ ُ ينبض َقلب ِك ُقيثارة ُحني ِ وأنفاس ِك أنني ناي في ُ الح ِّب نرقص السامبا ُقعوداً َ ُ نوبنا وعلى ج ِ
ُ ُ كرنفال ّ الروح الح ُّب في ُ الح ِّب َ َ ْ َ أكر ُه شعر ِك الطويل ُ ُ ُُ ََْ خصالته تعلق بأنفاسي
في ُ الح ِّب َُ ِّ آناء الحب - ُ َ ِّ أكر ُه ُِ عبارات الحب ً َّ ُّ الضم أصدق أشواقا ْ ِمن َوجيب الكالم
في ُ الح ِّب َ أكر ُه املالءات غطاؤك أنا ِ
ل َم ال نكتفي ُ بالح ِّب ِ يا حبيبتي قبل أن ننام؟
رائع ّ ُ بال ِك ملاذا ُكلما أزهرت في ِ َ ْ َ كرز مثل ش ْجير ِة ٍ َ ْ َ و ل ت و ِدد ُ ِ ّ العشق َجف ْت عيون ِ قلبك غاض ِت األنساغ؟ وفي ِ َّ اكفهر ْت َو ِد ْد ِت لو ُ سماء الغرام التي بيننا ً ُ ِلتمطر خطايا صغيرة خيانات َو ٍ َْ َ َ ْ غيوم كأداء ت ْرعينها مثل ٍ في فضاء الهجر أو مثل ماشيةٍ في براري القسوة
َ َو ِد ْد ِت ل ْو ّ ُ َ فتحت ذراع َّي كلماُ َ ألحضن ِك ُ لك تراءيت ّ ِ لقلبك النافر ِ منبوذ صليب مثل ٍ ٍ وسط حقل خشخاش كي ُتشيحي ِّ بحب ِك وتطيري َمثل ّقبر ٍة ّ الجو خال لها َود ْدت َل ْو ّ كلما ِْ َ ِ عيناك بدمع الشوق تألأل ْت ِ ّ تجمد
ْ العزيز وذرف ِت َب َدل الدمع ِ َ الغزير من الحصى َ َو ِد ْد ِت ل ْو ّ َ َ ْ كلما ـ في الحلم ـ زار ِك طيفي حارس مالك على هيئة ٍ ٍ ُ نار من قرنان ينبت لي ٍ مارد أو شيطان مثل ٍ ُ ْ ً َ كنت ِجلفا َو ِد ْد ِت ً ل ْو سخيفا ،تافهاً كي تهجريني دونما عقد ِة ٍّ حب ٍّ ّ فتكوني في ِحل مني ألم َوال ندم. ِبال ٍ
ك في الرّاديو َ س ِم ْ عتُ ِ َس ِم ْع ُت ِك في ّ الراديو ً ُ َع َرضا َ َس ِم ْعت ِك ِّ َ املؤش ِر بسب ِب خ ُ ٍ َ لل ُ َ في َّ ً َ َب َرق ً صوتك مشوشا َ ِّ ّ هاد ًرا فبينا ،ثم ِ َف ُم َد َّج ًجا ب َ الهزيمْ ِ
أنت ُ ك ِ أريد ِ َ ُ ً ريدينني ِّ طي ًبا وبسيطا ت مثل ماريو في فيلم ساعي البريد َ ُ ريدينني ّ طي ًعا ت َ ّ ِّ األرمني تك كزوج ابن عم ِ ً حازما كأبيك ًّ ًّ َ ُ بك بشا تريدينني هشا ِ ّ ً عابسا أمام بنات حواء َ ُ نبيل لورد تريدينني مثل ٍ ٍ ّ تمرس باإلتيكيت ٌ ُ فمي مقفل حني آكل ِّ الحب أفتح قلبي وفي لكي يحتويك َ ُ ً واضحا تريدينني
بدر مثل طلعةِ ٍ ً َ غامضا ك ُعيون الجوكاندا ً َ بارعا ك ِرجال السياسة ُ حا ِلـ ًما مثلما يحلم الشعراء ً َ ً ُ تريدينني َم ِرنا ورفيقا مثل راقص باليه ْ صل ًبا َك ُم ِصارعي ُّ الرومان ِ ً َ ُ ريدينني عاشقا في الحياة ت ً فاسقا في السرير ّ متقل ًبا حسب ما يقتضيه الهوى َوال َـمقام ُ أنت َو أنا أريد ِك ِ ْ فقط أنت. مثلما ِ
ّ ْ ُ ّ َ ً توقع َت ْالنداوة َْ ّ قاحلة جات كانت ِ لكن ال َـمو ِ ُ َ َ ْ َ ْ ذلك س ِهرت مع ِك مع ِ ْ َ َ َبعد األغنيةِ ق ْبل َ موجز األخبارْ ِ َ ْ ْأس َه ْب ِت في الحكي ِ ْ َعن تأثير أدونيس في ِ قصيدت َ ِك ْ َ ْ داده َع ْن بيسوا وأن ِْ َ رابه ريتسوس ّ وأت ِ َع ْن ّ بنيس َوالل ِّ عبي عن ْ َْ ْ َوأغفل ِت ِذكري ُم َع ّل ُمك ّ األول أنا َ ِ َ ُ حودة يا ج شاع ُر ِك األثير ِ َ ْ َ السجائ َر كنت تخ ِطفني ِ َ ِ َ ْ واألشعار ِمن فمي
َْ َتك َرعني كأسي فتدور ُ رأس ِك َ ُ ْ ُ ُ ف ْيض ِك َيغمرني ْ املك ُسوِّ َ َ حار ِك ألغوص ّفي م ِ بريش الرغبة ُ ِ اللؤلؤ حيث ُّ َ ٌ كامن وسط اللدونة ِ َ س ِه ْر ُت َم َع ِك ْ ُ َ ِّ هام َتنظْرين لإلل ِ هام في ِش ْع ِر الحداثة َواإلب ِ تفيضني ً كالما و ُ ّ ثم ْل ُت ّأي َ ام الهوى ُكنت كلما ِ َ ُ ُ عليك َأع ْر ِبدْه ُ ِ َ ْ ِّ َ عارات ق ْبل أن نجرب االس ِت ِ على ّ الس ْ رير ّ ُ َ َ ثير الشوق كنت ل ُم ْست ْسل ًما ْ ُ ُ َِ َ َ َِ ُ ِ ْ ألق ُّف الكرز ُيتناثر َ ِمن ْ ِ فيك َ َ كنت أصن ُع ِب َحل َمت ْي ن ْه َد ْي ِك ُأمز ُه كما ُ ُ َ القلوب الحمراء َونحن نرسم ْ على ِ َ األزرق فراشي َ ً ُ ْ حالة حينما كن ِت ِ مثل قصيدة رومانسيةٍّ ُْ ٍ َ ّ ق ْبَل أن ت ّف ِس َد ِك «الليكات» َ َُ وغزل النقاد على الفيسبوك
َ ُ َو ِد ْد ُت ل ْو َس َح ْبت ِك من ِش ْع ِر ِك إلى سرير َي ّ الد ِاعر ُ َِ ٌ نشيد َونشيجْ للو ْصل حيث َ ْ ُ َ ْ َ َ ِْ ُ ْ ْ َ َ دائ ِل بو ِح ِك و ِددت لُو جررت ِك ِمن ج ِ الشائك قلب َي َو َح َب ْست ِك ِ في ِ َكزهرة ّ صبارْ َ َود ْد ُت ل ْو... ْ ُ َ ِْ َ ْ َ َّ َ َ العش ٌق لوال أ َ ِن استبد ِبي ِ ْ ْ َ القلب ُبروق َفأو َّم ْضت ِفي ُ ِ وهبت أعاصير َّ َأوفك ْر ِت بي ُ َ َ أنت ْ تم ِّرغني قلبي و َِ َ ْ في َنق ِع َّ ُ الحنني َ؟ ُ قلبي الن ِزق ْ،الخ ُفيف ُ ُ حرف الفاج َر ،الـمن ِ ُ ِ أق ُّر اآلن ُ ِ ْ ُ َ ْ ُ ًّ ْ َ َ ْ ُ كن ْت مزه َوا إذ هجرت ِك ً ُ تال َوغ ْي َ َر ِآبهٍ ّمخ َ َ ُ ْ ْ ْ َ َأما وق ُد اختليت ِبصو ِت ِك ْ َ أعت ِرف ف ُ ُ َّ لت حب ِك أشكو ز ما ْ َِ ُ َوأقت ِرف. (شاعر مغربي مقيم في بروكسل)
ـاز ،ليسرق أهلها ويــدوس على رقابهم ،ويذل قدر مستطاعها ،وقد آوت في بيتها سرًا ،العديد من األسر املنكوبة. لم يدخل املدينة كـغـ كرامتهم ...دخلها مع ٍ عائلته ّ املمزقة على عربة تتعثر بالحجارة كانت اللغة التركية هي اللغة السائدة في البيت ،حتى بلوغ الفتى والوهدات املمتلئة بمياه األمطار .مطرودون من بالدهم ومطاردين روبيرت سن العاشرة ،وبها حكت جدته «منوش خانم» له قصصها ََ الجميلة ،التي أحب منها «الرجل األعمى» ،وبقي السؤال الذي راوده من كتائب القتلة. ولــد «روب ـيــرت جبه جـيــان» فــي 2أغـسـطــس /آب 1909فــي مدينة طيلة فترة صباه «كيف يستطيع األعمى الحركة ،وكيف يستدل «عينتاب» ،والده الطبيب «أفيديس جبه جيان» ،الذي درس الطب في على طريقه». ّ وتخرج التحق بــروضــة األطـفــال األملــانـيــة التي كانت تديرها الــراهـبــات في الكلية اإلنجيلية السورية في بيروت ـ الجامعة األميركية ـ ّ منها ،1902عمل بعدها في املشفى األميركي في عينتاب من عام حي «الجميلية» ،وبقي فيها طيلة عامي .1917 -1916سرح والده 1902ـ ،1906ثم سافر إلى سويسرا وأملانيا للتخصص بالجراحة من خدمة الجيش العثماني في ،1918وعــاد إلى حلب ،وفي العام العامة ،1908-1907وعــاد بعدها ليستقر نهائيًا فــي حلب ،بعد نفسه ول ــدت أخـتــه الـصـغــرى أنــاه ـيــد .انـتـقــل فــي ال ـعــام 1919إلــى زواجــه من ابنة القس اإلنجيلي اآلنسة «يفنيكيه قنداقجيان» من مدرسة «هيكازيان» التي افتتحت أبوابها في «قصر غزالة» ،وبقي فيها حتى ،1924وانتقل بعدها إلى مقر املدرسة الجديد في حي قرية «حسن بيلي» في كيليكيا. وعندما حبلت أمه به ،أرسلها والده إلى «عينتاب» لتلد بني أسرتها .العزيزية في منطقة جبل النهر الذي كان مقرًا للقنصلية البريطانية. هناك رأى روبـيــرت الـنــور ،فــي الــوقــت عينه ،أنطفأ الـنــور مــن حياة غادر حلب في 1926متوجهًا إلى برمانا في لبنان ،ليتابع دراسته جده مع ثالثة وعشرين من الرؤساء الروحيني للطائفة اإلنجيلية فــي الثانوية األميركية بـبـيــروت ،حيث أمـضــى سنة كاملة التحق األرمنية في منطقة قريبة من بلدة «عثمانية» ،وهم متوجهون إلى بعدها بالجامعة األميركية ببيروت ليدخل الصف التحضيري في مدينة «أضنة» لحضور مؤتمر الكنائس اإلنجيلية ،كما اغتيل خاله 1927وبقي حتى 1929وهو تاريخ قبوله في كلية الطب ،التي تخرج «أغسطني» ووجــدت جثته طافية فوق مياه نهر جيحان ،أما خاله منها عام ّ .1934بدلت العائلة املقيمة في حلب العديد من البيوت األصـغــر «روب ـيــرت» الـ ًـذي يبلغ الرابعة عشرة مــن عـمــره ،فقد قتل وانتقلت من «العبارة» إلى «العزيزية» الى «العبارة» مرة أخرى حتى عندما عثر عليه مختبأ داخل طاحونة مائيةّ ، سماه والده روبيرت استقرت في «جادة الخندق» في املنعطف املؤدي إلى منزل الطبيب والرجل الوطني عبد الرحمن كيالي ،أمام املشفى الخاص بوالده في على اسم خاله القتيل. قررت والدته بعد هذه املآسي العودة مع طفلها إلى حلب .سكنت في بيت واسع جمعها مع أسرة خاله. عـ ــاد م ــن ب ـي ــروت ف ــي ال ـع ــام 1934وب ــدأ محلة «بوابة القصب» .قبل أن ينتقل مع ال ـع ـمــل ف ــي امل ـش ـفــى ال ـ ــذي أس ـس ــه والـ ــده أسرته إلى محطة «قطمة» للقطار القريبة وخ ــال ــه ،ثــم ســافــر إل ــى فــرنـســا فــي الـعــام مــن بلدة أعــزاز بعدما عـ ّـن والــده فــي عام 1938ل ــاخ ـت ـص ــاص ف ــي ط ــب ال ـع ـيــون 1910طبيبًا للشركة األملــانـيــة للخطوط واألذن واألن ــف والـحـنـجــرة ،ولــاس ـتــزادة الحديدية. من العلم واملعرفة .تعرف هناك في منزل فــي بــدايــة الـعــام 1913ع ــادت العائلة إلى الـقــس «زكــريــا بــرصــومـيــان» على اآلنسة حلب من جديد ،لتقيم في «جادة الخندق»، «فيوليت مانيساجيان» ابـنــة الكيميائي وات ـخ ــذ والـ ـ ــده ع ـي ــادة م ــن ال ـب ـيــت املـقــابــل «هايكازون مانيساجيان» الذي هاجر من لدارهم .وفي هذا البيت ولد أخوه «فاهيه». عينتاب وسكن مدينة بــال السويسرية. اس ـتــدعــي وال ــده ـم ــا ل ـتــأديــة خ ــدم ــة الـعـلــم أعجب باآلنسة فيوليت التي تمكنت رغم اإلل ــزامـ ـي ــة ف ــي ال ـج ـيــش ال ـع ـث ـمــانــي ف ــي 3 ظروفها الصعبة بعد وفاة والدها املبكرة، أكتوبر /تشرين األول ،1914بينما كان من نيل الشهادة الثانوية وسبع شهادات روب ـي ــرت وأخـ ــوه م ــع والــدت ـه ـمــا ف ــي قــريــة أخ ــرى مــن بينها ش ـهــادة فــي التمريض «حـســن بـيـلــي» مسقط رأسـهـمــا لقضاء عزيز تبسي والقبالة .وتمت خطبتهما في باريس في عطلة الصيف ،فغادرت األم والطفلني إلى مــايــو /أي ــار .1938عــاد بعدها إلــى حلب حلب ،ليمكثوا فيها القليل من الوقت ،قبل جازف عام 1947بإجراء أول ليرتب أمــوره ويعودا ليتزوجا في أبريل/ أن يـعــودوا إلــى «عينتاب» .لكن لــم يلبثوا عملية زرع قرنية في العالم نيسان ،1939وعادا بعدها معًا إلى حلب. أن غادروها مجددًا إلى حلب ،بعد املذابح العربي ،وعمل بعدها على رزق ــا بثالثة أوالد ،طـفــان وطـفـلــة .وكــان والـتــرحـيــل الـقـســري لــأرمــن فــي .1915 فتح العيون المغمضة لزوجته نشاطات كثيرة ،فقد ّ درست اللغة وس ـمــح ل ـجــده وج ــدت ــه ألب ـيــه بـمــرافـقـتـهــم، للكثيرين .ربما ألنه كان الفرنسية فــي معهد «الــايـيــك» فــي حلب كون والــده ضابطًا في الجيش العثماني، على قناعة أن البصر كاف مل ــدة ث ــاث س ـنــوات وأس ـســت مــع الـسـيــدة أم ــا ب ــاق ــي ال ـعــائ ـلــة ف ـقــد شـ ـ ــردت ،فـعــائـلــة لرؤية العالم وإدراكه ،غير «أوديت جاكيمو» روضة أطفال نموذجية عمته وعمه اقتيدتا إلى الجنوب السوري، ّ من متربصة بسالالت مبال فـ ــي ال ـ ـعـ ــام ،1942س ــم ـت ــاه ــا «ال ـط ـف ــول ــة واسـتـطــاعـتــا م ــن ه ـنــاك ال ـف ــرار إل ــى بـلــدة الذين بنوا «أمجادهم»على السعيدة» ،واستمرتا بالعمل حتى 1946 «سلمية» ،شرق مدينة حماه ،حيث القت حيث سافر الدكتور روبيرت إلى فرنسا الترحيب من أهلها كما العديد من األسر سمل العيون ،واعتماد وســويـســرا مــع زوج ـتــه وول ــدي ــه ،ليمضي األرمنية النازحة التي وصلتها .أما خالته «الطماشات» الجلدية ً عامًا كامال في التخصص. «ن ــوي ـم ــي» وأب ـن ــاؤه ــا الـخـمـســة فــاقـتـيــدوا السوداء ،أسوة بحيوانات وك ــان قــد صمم فــي عــام 1937م ــع رفاقه إلى بادية الخفسة قرب مدينة دير الزور كمتمم للزي الرسمي الجر، ٍ األطـبــاء ،ليون أسـمــر ،نهاد أمـيــري ،كامل وهلكوا جميعهم هناك. للمغلوبين ،الذين يحرمون كـ ــرمـ ــان ،أحـ ـم ــد ذهـ ـب ــي ،ح ـس ــن ب ـصــري سكنت العائلة بعد عودتها إلى حلب في ً مرضى السكري من املصري ،الذين قاموا ،بعد دراسة 42000 1915م ـن ــزال ف ــي مـنـطـقــة «الـ ـعـ ـب ــارة» ،ثم االستطباب ليروا انطفاء ألف حالة مرضية ،على دحر «التراخوما»، انتقلت إلى مبنى من ثالث طبقات خلف البصر في عيونهم، وإعـ ــادة الـبـصــر إل ــى الـعـيــون امل ـط ـفــأة ،في ف ـنــدق «ب ـ ـ ــارون» وب ـق ـيــت ف ـيــه طـيـلــة فـتــرة ويسخروا بعد ذلك من الــزمــن ال ــذي ي ـجــري الـتـعــامــل مــع الـعـيــون الحرب العاملية األولــى .أيامها كــان يرافق تعثرهم وسقوطهم وهم كحاسة فائضة عن الحاجة ،ليحرر منها وال ــدت ــه إل ــى «الـهـيـكـيــدون ـ خ ــان ال ـقــدس»، عـيــون الـشـعــب إل ــى األب ــد .وتـبـنــت أبحاثه حيث تحط قوافل املهجرين والفارين من يجتازون الطرقات التي منظمة الصحة العاملية. القتل .وعملت والدته على مساعدتهم على حفرتها جنازير دباباتهم.
كلمات أمنياتي لين يوه تانغ
أتطلع إلــى حجرة مكتب خاصة بي تساعدني على العمل بتركيز .ال تكون غاية في النظافة والنظام ،ففي رأيي أن حجرة املكتب يجب أن يشوبها بعض ّ الـفــوضــى ،أشـعــر بــالــراحــة فــي الـتــآلــف معها .أعــلــق فــي السقف مصباحًا دائــم ّ االشتعال ،كالذي ُيعلق في املعابد البوذية ،وعندما أدخل إلى الحجرة ،تتسلل إلى أنفي رائحة سخام الدخان املنبعث منهّ . أشم رحيق الكتب ،وروائــح أخرى للحجرة أعجز عن تمييزها بوضوح. ّ ً وأرص عليه كتباً صغيرا للكتبّ ، ً سيكون من األفضل أن أعلق فوق األريكة ،رفا مختلفةّ . أمد يدي ألخذ ما أريد منها وأتصفحه كما يحلو لي .لن أضع على ّ ـرف ً كتبا من مجاالت كثيرة مختلفة ومعقدة ،بل سأضع عليه كتبًا ممتعة، الـ وبضعة كتب سبق لي قراءتها من قبل. لن أكترث إذا انتقد الناس هذه الكتب أو قالوا عنها إنها مملة .لن تكون صعبة الـفـهــم ،مـثــل كـتــب الـنـظــريــات ،سـتـكــون كـتـ ًـبــا أحـ ّـبـهــا وتـمـتـعـنــي .ســأضــع الكتب األوروبـيــة الحديثة مع الــروايــات الصينية القديمة كرواية «صــدق شيخ ريفي»، وكتب مونتسكيو وسلسلة روايات هوملز. أريــد زوجــن مــن األحــذيــة و مــابــس .ولكن أريــد مالبس تختلف عــن تلك التى يرتديها املثقفون ،ال أريد عباءة صينية حديثة الطراز .أريد مالبس تجعلني، عندما أرتديها وأنا في منزلي ،أشعر بالراحة والحرية .على الرغم من أنني لن أقرأ الكتب ً عاريا مثلما كان يفعل جو تشيان لي ،ولكن على األقل في مثل هذه األيام الحارة ،يمكنني ارتداء مالبس خفيفة قصيرة. ً أريــد أن يـكــون خــدمــي على سجيتهم مثلي .أريــد مــوقـ ًـدا وحـمـ ًـامــا ساخنا في الصيف. أتطلع إلى تحقيق ذاتي ،وال أريد عائلة متحفظة .عندما أكون خارج املنزل من أجل العمل ،أصغي إلى صوت زوجتي وهي تتحدث ضاحكة مبتهجة .وعندما أعمل في املـنــزل ،أستمع إلــى صوتها الــذي يغمره الـســرورً ، آتيا من الخارج. ويكون كل منا على طبيعته وحريته. أتمنى أن يكون لدي أبناء صافية قلوبهم ،يصطحبونني للجري وسط املطر، ّ ويحبون مثلي ّ حمام املاء الساخن. ّ أت ـطــلــع إل ــى حــديـقــة صـغـيــرة طـيـنـيــة ال ـتــربــة ،خــالـيــة مــن األع ـش ــاب والـحـشــائــش الخضراء ،مترامية األطراف .يستطيع أطفالي أن يفعلوا ما يحلوا لهم ،ينقلون ال ـطــوب ،يلعبون بــالـقــرمـيــد ،ي ــروون الــزهــور ،يــزرعــون ال ـخ ـضــروات ،ويطعمون الطيور املنزلية. ّ أتطلع إلى االستماع بصياح الديك عند بزوغ الفجر. ّ أتطلع إلى رؤية أشجار خضراء شاهقة االرتفاع بالقرب من بيتي. ّ ّ أتطلع إلى أن يكون عندى بضعة أصدقاء ّ يصرحون مقربني وعلى سجيتهم، لي ّ عما يجول في قلوبهم من آالم وأح ــزان ،أتناقش معهم بعمق ،ويحترمون هوايتي املفضلة ووجهات نظري. ّ أتطلع إلى طهو حساء بالخضروات ،لذيذ وخفيف. ّ مسن ّ ّ يقدرني ً كثيرا ،ولكنه ال يعرف الكثير عن أتطلع إلى أن يكون عندي خادم املقاالت التى أكتبها. ّ ّ أتطلع إلى امتالك مختارات مميزة من الكتب ،وأعمال لكبار الكتاب ،أعلق على الحائط لوحة لوجه للي شيانغ توين ،تساعدني على التركيز. ّ أتطلع ألن يكون على طاولتي علبة سيجار ،وأن يكون لدي زوجة تفهمني ً جيدا، وتتركني أعمل بحرية. أتطلع إلــى أن ُيزين فناء منزلي بأشجار البامبو وزهــور البرقوق .وأتمنى أن ً ممطرا ،والشتاء ً ً نقيا منعشا أستمتع فيه بالسماء زرقاء اللون، يكون الصيف والجو الصحو. أتمنى أن يكون عندي القدرة على صنع حريتي ،والجرأة على خلق شجاعتي. ■ «صدق شيخ ريفي» :رواية قديمة مشهورة ترجع إلى عصر أسرة تشينغ. ■ ■ للي شيانغ توين :امرأة عرفت ّ بشدة جمالها ً قديما في الصني. (الترجمة عن الصينية مي عاشور) ّ لــن يــوه تــانــغ :أكـبــر الـكــتــاب الصينيني فــي العصر الـحــديــث .ولــد عــام ،1895 ُرشــح ملرتني لجائزة نوبل ،في عــام 1940و .1950تولى منصب نائب رئيس ً نادي القلم الدولي ،كما تولى أيضا منصب نائب رئيس شعبة الفنون واألدب في منظمة اليونسكو .من أشهر مؤلفاته « :فن الحياة» و«حكمة الوزية» .توفي عام .1976
¶ أدب صرف وجدي األهدل
الم َزيّف ُ
منذ سبع سنوات وأنا أتلقى التعازي ..لقد مات أنفي .لست حزينًا ُ فقدت متعة اآلن ،ربما تشمم نهود النساء، لكن ال بأس ،فالماليين أيضًا ال تزال أنوفهم على قيد الحياة ،إال أنهم ال يتذكرون شيئًا عن ألوهية تلك الرائحة ُ ُ نظرت اكتشفت وجودها.. منذ سبع سنوات ُ ف ــي مـ ــرآة امل ـغ ـس ـلــة ،فــاح ـظــت نـقـطــة س ــوداء فــي تجويف أذنــي اليمنى بحجم رأس القلم. ظننتها شامة عادية ظهرت بمناسبة الحرب، ُ الحظت أن النقطة السوداء فلما انتهت الحرب تفاقمت وغدت بحجم محيط رأس القلم .لست قـلـقــا ،وال أرغ ــب فــي رؤي ــة األط ـب ــاء ،لـيـكــن ما يكون ،سأعيش ما يكفيني من الوقت. كـنــت أفـكــر فــي ش ــراء م ــرآة ج ــدي ــدة ،تهيأ لي أن م ــرآة املـغـسـلــة م ـشــروخــة .أت ـقــدم بالشكر إلى محبوبتي قمر ،ألنها جعلتني أوفــر ثمن
املرآة عندما صارحتني همسًا بأن في وجهي شرخًا يمتد مــن صــوان أذنــي اليمنى وحتى امل ـكــان ال ــذي ك ــان يشغله امل ــرح ــوم أن ـفــي .إنــه أخدود بال قعر ،ال نهائي ،ابتلع أنفي الطيب في غفلة مني وأنا نائم .شيء مرعب أن تستيقظ في الصباح وال تجد أنفك األليف في مكانه، ً األسوأ أن تنتابك الهواجس بأن قتيال مجدوع األنف قد سرقه منك. بــن زل ــزال وآخــر كانت شظايا دقيقة الحجم ُّ جدًا تهل من وجهي ذي االصفرار الخريفي. ال أحد يتفهم مقدار الذهول املروع الذي ينهش إنسانًا ما بدأ يفقد مالمح وجهه تدريجيًا. ُ تسكعت بـشــارع «ح ــدة» كانت قبل آخــر مــرة سبع سنوات ،أذكر أنه ترك في نفسي انطباعًا مشوشًا عن نوعية الجلد الذي يرتديه سكانه. مــا زاد فــي اضـطــرابــي أن الـهــواء كــان ُمشبعًا بالرغوة ،واملاليني من الفقاقيع امللونة تنهمر من النوافذ املفتوحة .كانت املحالت التجارية تلعب في الهزيع األخير من الليل «القفز فوق ً ال ـح ـبــل» وتـسـتـخــدم ال ـخــط اإلسـفـلـتــي حـبــا. ك ــان ــت امل ـســاكــن س ــاح ــة شـطــرنـجـيــة عظيمة األبعاد ،والبيادق تتقدم لتأمني امللك ،والخيول تناور بحسب احتياجات الوزير .كنت أتفرج على املباراة وأنــا جالس في استديو تصوير منخفض عن سطح األرض كجحر فأر. أتـ ــى واحـ ـ ــد م ــن املـ ـش ــارك ــن ف ــي ت ـل ــك الـلـعـبــة ليستضيفني في دارهّ .أم ُ لت أن أشاهد وجه
ً ام ــرأة حسناء لكي تهبني ف ــأال حسنًا قبيل ولــوجــي إل ــى بـيــت سـيــدي ال ــذي أن ــا بصحبته اآلن .لـكــن حــاسـتــي ال ـســادســة ت ـهــاوت فــاقــدة الــوعــي عـنــدمــا رأيـ ـ ُـت سـبــع ن ـســاء لـهــن جمال صارخ ،يجعل القلب ُ يشب بني الضلوع لوعة، ً إال أن نصفهن السفلي كــان هيكال عظميًا، ً جعل قلبي يشب فعال من بني ضلوعي ،ويفر إلى أحد األزقة الخلفية ،ولم أعرف بعد ذلك إلى أين ألقت به املقادير. س ــرت قـشـعــريــرة فــي بــدنــي حــن فـكــرت بــأن ُ عــرائــس الـبـحــر امل ـغــويــات قــد نقلن نشاطهن ّ وتسيست إلى البر ،وأن اللذة املبذولة تأدلجت منذ َّ أتقن اللعب بذالقة األفيال ،وصار اسمهن الحركي «عرائس القبر». حــاولـ ُـت التملص مــن دع ــوة صــاحـبــي ،يــا الله كان في تلك الليلة املعتمة أشبه بقفل اختفى مفتاحه فــي جــوف كلب بوليسي اصطادته إحدى األرامل لتفتش عنه في سريرها. كــان يسكن فــي فيال فخمة بحديقة واسعة ّ ُمعشبة .أدخلني إلى الديوان العربي ،ثم غادر ُ بعد تلقيه مكاملة هاتفية مقتضبة وتركني وح ـي ـدًا .كــانــت الـ ـج ــدران ُم ـلـ ّـبـســة بـطـبـقــة من الذهب ،ومحفور عليها عالمات وأرقام أوراق الشدة االثنتني والخمسني .وخلب لبي منظر السقف املرصع بعدد ال يحصى من فصوص العقيق. ً ملقى بإهمال عند أرجل كــان دفتر مذكراته
«امل ــداع ــة» (الـنــارجـيـلــة) املتأنقة ذات الفتحات ال ـس ـبــع ال ـت ــي ت ـب ــدو كـلـعـبــة ّدوارة ف ــي مــديـنــة املالهي .فكرت بمقدار املتعة التي سأجنيها ُ مــن ق ــراءة صفحات صاحبي املـحــدث النعمة حـ ــول م ـغ ــام ــرات ــه ال ـن ـس ــائ ـي ــة .ب ـت ـل ـهــف قـ ّـل ـبــتُ صفحات الــدفـتــر ،ولفتت انتباهي صفحات ُ ُ فصممت فحزرت أنها األثيرة لديه، مدعوكة، على قراءتها: ّ «حــلــت نـهــايـتــي ..ه ــذه الـسـطــور وصـيـتــي ملن سيأتي من بعدي ..لقد استنفدت كل وسائل امل ـقــاومــة ول ــم يـبــق ل ــدي س ــوى الـكـتــابــة ،ربما ألتسلى ،ربما ألقلل رعبي من انطفاء حياتي..
تلك الحياة التي ليتها لم تكن! أليس لديك شيء ما تندم عليه مثلي؟ أليس يؤرقك سر صغير تتمنى لو تدفنه في ركن قصي من ذاكرتك؟ ذلك السر الذي في يوم من األيام قلب حياتك رأسًا على عقب وجعلك ُت ّ غير نظرتك للحياة بــرمـتـهــا؟ أن ــا أي ـضــا ع ـنــدي ســر صـغـيــر جـدًا يخصني وحــدي ،سر يبدد طمأنينة حياتي، وأش ـعــر بــالـتــوجــس مــن الـبــوح ب ــه ..إنـنــي أكتم سري بداخلي وكأنه مارد بداخل قمقم رأسي، ولـكـنـنــي إذا سـمـحــت ل ــه ب ــال ـخ ــروج فـلـســوف يحتويني هــو بــداخ ـلــه ،وأص ـبــح أن ــا الحبيس في قمقمه الذي كان له ..إن أثقل شيء حمله
اإلنسان هو السر ،وأنــا صـ ُ ـرت طريح الفراش محمومًا أعــانــي مــن انهيار صحتي .األطباء ّ الح ـظــوا األع ـ ــراض الـغــريـبــة ال ـتــي تـفــشــت في جسدي ،وباألخص البقعة السوداء في الجزء األيمن من وجهي ،ونصحوني بالتخلص من س ــري ب ــأس ُــرع م ــا يـمـكــن قـلــب أن ُيـسـبــب لي الــوفــاة .ملــن أفـشــي هــذا الـســر وأضـمــن أنــه لن يـنـتـشــر؟! إن هــذا الـســر إذا مــا ذاع و عـلــم به ( )...فإنهم لن يغمض لهم جفن حتى يقبضوا ّ علي ويمزقوني إلى أشــاء ..قررت آخر األمر أن أج ــرب عــاجــا مـشـكــوكــا ف ــي ق ــدرت ــه على إيـقــاف زحــف البقعة ال ـســوداء على جسدي، وع ــزم ـ ُـت عـلــى كـتــابــة س ــري ف ــي ه ــذا الــدفـتــر، رغــم املخاطر من عثور أحدهم عليه .ومــا إن ُ وضعت رأس القلم ألفضح سري على الورق، ُّ وبالكاد أثبت نقطة سوداء تكاد ال ترى ،حتى ُ تنهدت فرت النقطة السوداء إلى ركن غرفتي! ُ أخرجت جنيًا من جسدي ،ثم بارتياح وكأنما ُ ُ فكرت فيما لو أنني واصلت فضح سري على الورق فإنها – أي النقطة السوداء -ستتضاءل حتى تختفي تمامًا بالتزامن مع انتهائي من ُ كتبت كلمة «أعـتــرف» الـكـتــابــة .لكنني مــا إن حتى شــاخ القلم فــي يــدي وانحنى ظـهــره ،ثم توكأ على سبابتي بعد فقدانه البصرُ . ظللت مشدوهًا دقائق عديدة ُأ ُ راقب ما يحدث لقلمي مــن ظــواهــر مرعبة بــذهــول عميق .ثــم مــا لبث بعدها أن أطــق حشرجاته األخ ـيــرة مختنقًا
ب ـســري ،وص ــار فــي ي ــدي جـثــة هــامــدة .كانت يدي ترتعش ،وعروقها ترسل نبضات غريبة، ووجهي محتقن ينز عرقًا ،وأنا حينئذ أشعر بدوار رهيب جعلني أهذي ،وأفقد القدرة ُ على تمييز الـجـهــات واالت ـج ــاه ــات ،فـلــم أع ــد أمـ ّـيــز يدي اليمني عن اليسرى ،وكــأن قوة غامضة حطمت بوصلتي الــداخـلـيــة .كنت على وشك فـقــدان عقلي ،ويــا ليت ذاك حــدث ،ألنني قبل فضي ُ ّ عت الجنون بلحظة حانت مني التفاتة، آخ ــر أم ــل ل ــي ف ــي ال ـن ـج ــاة ..رحـ ـ ُـت أبـحـلــق في شــيء انتصب أمــامــي ،ليس له اســم ،ولــو كان لــه اس ــم البـتـلـعــه ،ول ــم يخطر بـبــال بـشــر ،ولــو خطر ببالهم النتهى الـحــال بهم إلــى الـعــدم.. إنها النقطة السوداء وقد تضخمت وتوحشت حتى ص ــارت فــي حجمي تـمــامــا ،وقــد بــرزت منها سبعة أذرع مخيفة ال تكف عن الــدوران الـبـطــيء .تبخر ال ــدوار ،وغــاض الجنون تحت ـدت مــذعــورًا حينما أبـصـ ُ الـجـفــون ،واب ـت ـعـ ُ ـرت البقعة ال ـســوداء تــزحــف نـحــوي لالنقضاض ع ـل ـ ّـي .قــذفـتـهــا بــال ـكــرســي ،ف ـغ ــاب الـكــرســي ُ شعرت بالرعب الشديد في املجهول .عندئذ مــن تـلــك الـبـقـعــة ال ـس ــوداء املـسـطـحــة ك ــامل ــرآة.. فأين اختفى الكرسي وليس ثمة جوف لهذه املصيبة املــريـعــة؟! رحـ ُـت أقذفها بكل مــا تقع عليه يــدي مــن أث ــاث الـغــرفــة ،رميتها بأشياء ح ــادة ،وأش ـيــاء ثقيلة ،غــابــت كلها فــي ســواد سحيق ،ولم أكن أسمع أي صوت ارتدادي لها.
ُ فتمكنت مــن مراوغتها كانت تتحرك بـبــطء، واإلف ـ ــات مـنـهــا .وب ـعــد فـشــل ك ــل مـحــاوالتــي لــردعـهــا ان ـهــارت شـجــاعـتــي ،ف ـقــررت أن ألــوذ ُ أحسست وكأن خازوقًا بطول وادي بالفرار. حضرموت يخترق أحشائي عندما لــم أجد ُ هرولت إلى النافذة ،هي األخرى لم باب الغرفة، تكن موجودة .سالت الدموع من عيني وأيقنتُ أنني مسجون وال مخرج لي مطلقًاّ . كرت سبع ساعات وأنا ُ أهرب من ركن آلخر في مطاردة مضنية ،أصــابـتـنــي بــاإلنـهــاك الـبــالــغ ،وأتلفت أع ـصــابــي ،وأوش ـك ـ ُـت أن أص ــاب بــالـعـمــى من طول التحديق في تلك البقعة السوداء الشرهة. هاأنذا أستسلم وأتكوم في إحدى الزوايا ،وأنا أبذل جهدًا ألستنشق الهواء الذي يكاد ينفد، ً وقــد صـ ُ ـرت مبلال بالعرق كغريق في البحر. حـمـلـ ُـت مـعــي الــدف ـتــر وال ـق ـلــم ،ألن آخ ــر شــيء ُ قررت أن فعله هو تدوين تفاصيل اختفائي ،أو موتي ،هذه النهاية التي لم يسبقني إليها أحد.. رويدًا رويدًا أخذت البقعة السوداء تبتلعني من أصــابــع قــدمــي بـهــدوء صــامــت ،اقـشـعــرت منه ُ راقبت روحي ووقفت له كل شعرة في جلدي.. بخضوع االختفاء البطيء لجسدي الغالي في شيء مظلم يصعد من تحتي إلى أعلى ..أعلى. ُ رفعت يـ ّ ـدي إلــى فــوق رأســي لتواصال الكتابة وال ـح ـيــاة ..هــا هــي ذي البقعة ال ـســوداء تــوالــي غــزوهــا وتلتهم عنقيّ .. عما قريب سأمسي محبوسًا في القمقم املظلم الــذي كان لسري،
وسوف يحتويني بداخله ،ويحرص جدًا على أن ُيبقيني س ـرًا خــاصــا بــه ،ال يمكن أب ـدًا أن يبوح به ُألي كائن من كان. لــذلــك أن ــا أحـ ــذرك مـنــه عـنــدمــا تـقــابـلــه ،لـكــي ال تـبـتـلــى ب ــذات امل ـص ـيــر ،ويـنـجــح ف ــي تحريض ّ ويتسيدك! ُمتيقن أنا من سرك فينقلب عليك أنه سينتحل شخصيتي ،وسيعاشر زوجتي ً ُ وسيعبث بأموالي وذكرياتي ُمتخذًا بدال عني، بالطبع ليس أنا ..صدقني اسمي ولقبي ،ولكنه ُ أنا لست أكذب عندما أخبرك بأنني سأتحول إلى سر صغير مدفون تحت حراسة مشددة ف ــي ذاكـ ــرة الـشـخــص ال ــذي ق ــد ت ــراه يــومــا ما يـمـشــي أم ــام ــك ،فـمــا ذل ــك املـخـلــوق املــزيــف إن هــو إال س ــري الـصـغـيــر ال ــذي حــرصـ ُـت دومــا على مواراته عن األنظار ،وحتى عن ذاكرتي. لم أعــد أرى اآلن ..أكتب هــذه الكلمات معتمدًا على إحساسي ،لقد اكتسحت البقعة السوداء ُم ـق ـل ـتـ ّـي ..رب ـمــا أن ــت ال ت ـصــدق ه ــذه الــواق ـعــة الـحـقـيـقـيــة ،مــع أن الـكـثـيــريــن ُم ـصــابــون بهذا االلتباس ..ولعلك أحدهم وأنــت ال تــدري ..لقد اخـتــرعـنــا آالت تـمـيــز بــن الـعـمـلــة الصحيحة وال ـع ـم ـلــة امل ــزي ـف ــة ،أف ـل ـيــس ب ــاإلم ـك ــان اخ ـت ــراع آل ــة تـمـيــز ب ــن اإلن ـس ــان الـحـقـيـقــي واإلن ـس ــان املـ ــزيـ ــف؟! أش ـع ــر ب ـخ ــدر خ ـف ـي ــف ..تـجــذبـنــي دوامة للدوران معها ..أشعر بأنني أتحول إلى ذبذبات ..تسطع فجأة أكوان ال نهائية ..وداعًا أيها ا..ل..ع..ا.»..
عندما تــركــت دفـتــر مــذكــرات صاحبي ُي ُ فلت من بني يدي داهمتني أغرب األحاسيس التي يمكن ورودهـ ــا عـلــى ال ـب ــال ..أيـمـكــن أن يكون صــاح ـبــي الـ ــذي ج ـئــت أن ــا وه ــو يـ ـدًا ب ـيــد إلــى هـنــا مــا هــو إال ُ شخصية مــزي ـفــة؟؟ يــا خفي األلطاف ،كيف أنقذ صاحبي الحقيقي ،وهل من سبيل للوصول إليه؟؟ يا رب القيامة ،كيف سأتصرف مــع ذلــك الشخص املــزيــف عندما ي ـعــود وق ــد اكـتـشـفـ ُـت حـقـيـقـتــه؟! ه ــل ُيـجــدي إبــاغ السلطات عن حالة التباس هي برمتها غير مــاديــة ،وهــو األمــر الــذي تمقته الشرطة.. ُ سمعت باب اصطكت ركـبـتــاي رعـبــا عندما ُ قررت نسيان كل شيء الفيال الضخم ُيفتح. عرفت شيئا .أعدتُ ُ والتصرف معه كأنني ما ُ وتحريت أن أبدو دفتر املذكرات إلى موضعه، ً منشغال ،فلم أجــد مــا يبعدني عــن الشبهات ســوى تأمل سبع ساعات جدارية تشير إلى الـتــوقـيــت املـحـلــي فــي سـبــع عــواصــم أجنبية. كــان أم ـرًا عجيبًا للغاية أن أجـهــل الــوقــت في بالدي وأنا أنظر إلى تلك الساعات التي لم تكن ُ تنهدت ُمفلتًا استغاثة كئيبة: مهتمة بوقتنا. «يا أول ،ملاذا ّقدرت علينا أن نعيش في أزمنة اآلخرين؟!». النص الكامل على الموقع األلكتروني
ملحق
الثالثاء 11أغسطس /آب 2015م 26شوال 1436هـ العدد 43السنة األولى Tuesday 11th August 2015
آخـر الغيث
الثقافة
قصي اللبدي
أدخن مع قاتلي األب واألم األب يتمشى في املستقبل. األم نائمة في املاضي. عيناه أنبوبان زجاجيان ،تنبثق منهما نظرة مستقيمة. عيناها ساكنتان ،لكن نظرتهما تتلوى. اليقظة أب ،والنوم أم. ■■■ آلة الزمن ما الذي أحبه في القصص القصيرة؟ ال يـقـتـصــر األم ــر عـلــى م ـه ــارة ال ـق ــاص ف ــي صـنــاعــة شخصياته، ً وطباعا ومالمح ،وال يتوقف عند حدود قدرته على ومنحها عادات استيالد مفارقة ما ،أو خلق معنى شعري؛ يمكن الوثوق فيه بعد القراءة األولى ،واالرتياب فيه ،قبل القراءة الثانية. ليس هذا ،فقط ،ما يعطي القصة وزنها عندي. تروق لي ،إلى أقصى حد ،عناية القاص بالزمن. ً بينما تتحرك شخصياته ،ثمة عقرب يدور بال كلل ،مطلقا صدى وثباته القصيرة حولي. ً القصة التي يعجز كاتبها عن إدارة زمنها ،تفقد ً جماليا ال مقوما يمكن تعويضه .كيف تهب قصتك زمنها الخاص ،أو -ألقل -ما نوع آالت الزمن التي تستخدمها في قصتك؟
أنــا -القارئ -أراقــب بطلك وهــو يشعل سيجارة .أراقــب يــده وهي ترتحل ببطء مــن فمه إلــى منفضة السجائر ،مثل قطار بخاري صامت. ً ورغما عني ،أنظر داخل الحجرة ،حيث يجلس: قطع أثــاث متراصة تحت إضــاءة النهار ،أصــوات غامضة تخترق النافذة ،فردتا حذاء ،أعقاب سجائر حمراء على البالط .لوحة مقلدة على الجدار تقطعها سفينة شراعية باتجاه الثالجة .ظالل ال حصر ّ يتشمس قرب السرير. لها ،وخليط من الروائح ً عندما ألتفت الى بطلك ،مجددا ،أراه يقلب سيجارته في املنفضة، ً فأهمس لنفسي :أليست السيجارة آلة زمن أيضا؟ ■■■ فكرة ً مستلقيا على ظهري،عيناي املشرعتان تمنحان السماء حدودها، ً عاليا ّ مانعتيها من التمددً . أحدق ،تاركا نظراتي تنزلق على األقواس الزرقاء ،مطلقة صرخاتها السعيدة. عود كبريت بني أسناني ،يضيء ما في جمجمتي. ■■■ أدخن مع قاتلي الرجل الــذي يغمز بعينه ،كأنه يحاول إخفاءها ،ألن قطرة العرق ال ـســائ ـحــة ت ــوش ــك أن تـعـلــق ب ــن رم ــوش ــه ،ي ـق ــول ل ــك وه ــو يشعل
فن العرب
لوحة تحمل أسرار مرحلة بكاملها فريد الزاهي
إنها حكاية ُل ْ ويحة تقودنا إلى شبكة مركبة مــن الـعــاقــات واألل ـغــاز ،وتكشف لنا جــزءًا من تاريخ الفن والثقافة في الخمسينيات. تـبــدأ الحكاية ،فــي ،2010حــن عثر املمثل الفرنسي ،جيرار دو ســارث ،مصادفة ،في أحد أسواق سقط املتاع ،على ْ لويحة أثارت انتباهه .كانت اللوحة بورتريه بالباستيل ً سنتمترا على ال يتجاوز مقاسها الثالثني ُ مثلها .وفي أسفلها على اليمني كتب بخط واضــح William S. Burroughs. Tanger« : ً .»54وب ـمــا أن االس ــم يـحـيــل م ـبــاشــرة إلــى كاتب أميركي كبير ،فلم يـتـ ّ ـردد املمثل في ال ـســؤال عــن ثمنها؛ « 20ي ــورو» .وم ــاذا لو كــان قد عثر على كنز؟ هكذا قــال في نفسه وهو ينقد البائع العشرين يورو وينسحب ً ساهما .تداخلت األفكار في ذهن من هناك ج ـيــرار وتـشــابـكــت األس ـئ ـلــة .أه ــو بــورتــريــه ال ـك ــات ــب ،أم لــوحــة م ـه ــداة ل ــه؟ ف ــي م ــا بعد التقى صديقته الصحافية والناقدة الفنية، ّ مــونــا تــومــاس ،فــأخـبــرهــا عــن األم ــر ،وظـ ّـا مـ ًـعــا يـحـ ّـدقــان فــي هــذه الـلــوحــة الـتــي تمثل ً وجها لشاب عربي من طنجة. هكذا انطلق البحث في جميع االتجاهات وراء «ح ـق ـي ـقــة» ال ـل ــوح ــة ،وه ــوي ــة ال ـشـ ًـاب َّ فيها .كانت توماس تملك تاريخا، املصور ً ،1954ومكانا ،طنجة .غير أن وجــود اسم الكاتب «وليام بــوروز» في اللوحة لم يكن واضح املعنى ويثير من األسئلة أكثر مما يجيب عنها. ّ األك ـي ــد ف ــي األمـ ــر أن ال ـلــوحــة ك ــان ــت تـمــثــل ً التعبيري شابا عربي املالمح ،رغم الطابع ً الــذي انتهجه صاحبهاً .واألكـيــد أيــضــا أن صاحب اللوحة كــان فنانا غير واقعي ّ مر ً وتبعا لهذه املعطيات، في طنجة في .1954 ل ــم تـلـبــث الـصـحــافـيــة أن تــوص ـلــت إل ــى أن صاحب الوجه األسمر لم يكن غير الفنان املغربي ،أحمد اليعقوبي.
ك ــان ال ـ ًي ـع ـقــوبــي ف ــي الـخـمـسـيـنـيــات شـ ًـابــا مـ ـع ــروف ــا ف ــي ط ـن ـجــة الـ ـت ــي ك ــان ــت تـتـمـتــع ً مستقرا بوضعية قانونية دولـيــة .وكانت ومـعـّبـ ًـرا للعديد مــن الشخصيات األدبـيــة والفنية العاملية ،كبول بولز وويليام بوروز وت ـن ـي ـســي وي ـل ـي ــام ــز وف ــران ـس ـي ــس بـيـكــون ّ املتحدر مــن مدينة وغيرهم .وكــان الـشـ ًـاب فــاس ،حينها ،صديقا للكاتب واملوسيقي األم ـ ـيـ ــركـ ــي ،ب ـ ــول بـ ــولـ ــز ،وأح ـ ـ ــد مـ ـص ــادره الحكائية التي منها ينهل رواياته. وألن الفنان البريطاني ،فرانسيس بيكون، كان يرتاد طنجة في تلك الفترة ،فقد اتجه ً نظر الصحافية توماس أول صوب فرضية أن يكون بيكون صاحب البورتريه .فتابعت حدسها ،لتكتشف أن الشاب املغربي صادق الفنان املعروف في الخمسينيات ،وأن هذا ً دروسـ ــا في األخ ـيــر لــم ي ـتــورع عــن إعـطــائــه الــرســم .كما أن بيكون كــان يـمــارس الرسم بالباستيل ،والدليل موجود ،إذ إنه اقتنى هذه األقالم بطنجة في تلك السنة. ال تـ ـهـ ـمـ ـن ــا امل ـ ـتـ ــاب ـ ـعـ ــة ال ـ ـت ـ ــي ق ـ ــام ـ ــت ب ـهــا ال ـص ـحــاف ـيــة ،ألن ـه ــا ل ــم ت ـصــل إلـ ــى نتيجة محددة بخصوص صاحب اللوحة ،بقدر ما ّ يهمنا أن يكون ذلك الوجه األسمر الناضح ب ــال ـغ ــراب ــة ألحـ ــد ال ـف ـنــانــن ال ـك ـب ــار ،الــذيــن ّ وسـمــوا تــاريــخ الـفــن املـغــربــي ،بــل والعربي فــي املهجر األمـيــركــي ،منذ الخمسينيات. فــأحـمــد بــن إدري ــس اليعقوبي اشـتـغــل مع بول بولز منذ وصوله إلى طنجة في أواخر
األكيد في األمر أن اللوحة كانت تمثّل شابًا عربي المالمح
ً األربعينيات كحكواتي؛ الذي كان معروفا عـنــه ولـعــه بالحكاية الشعبية واشتغاله عليها ،وتسجيله لها من أفواه أصحابها. كانت طنجة حينها مدينة حية ،معروفة ب ـل ـي ــال ـي ـه ــا وم ــوسـ ـيـ ـقـ ـيـ ـيـ ـه ّــا وح ــان ــاتـ ـه ــا ومطاعمها .وكــان كـبــار الفنانني واألدب ــاء ّ يجدون فيها ضالتهم .والحقيقة أن بولز ك ــان م ـحــور ه ــذه ال ـل ـقــاءات وال ـنــافــذة التي يرى من خاللها األميركيون والبريطانيون ً خصوصا البلد وأصحابه ،بل إن بولز كان ّ وراء والدة عــدة فنانني كانوا ي ــدورون في فلكه. ول ـ ـ ــد أح ـ ـمـ ــد الـ ـيـ ـعـ ـق ــوب ــي ف ـ ــي ف ـ ـ ــاس س ـنــة ،1928وغ ــادره ــا إل ــى طـنـجــة ول ــم يـكــن ًقد ب ـلــغ ال ـع ـشــر ًيــن .ه ـن ــاك ب ــدأ يـكـتـشــف عــاملــا آخ ـ ــر م ـخ ــال ــف ــا ل ـل ـع ــال ــم ال ـت ـق ـل ـي ــدي ملـسـقــط رأســه .وليس من الغريب أن تكون صداقة اليعقوبي وبــولــز وراء كـتــابــة ه ــذا األخـيــر إحــدى أهـ ّـم رواياته عن مدينة فــاس؛ «بيت العنكبوت». كــانــت رسـ ــوم الـيـعـقــوبــي ولــوحــاتــه (ربـمــا ك ـ ـح ـ ـكـ ــايـ ــاتـ ــه) مـ ــزيـ ـ ًـجـ ــا مـ ـ ــن ال ـت ـش ـخ ـي ــص والتجريد ،وأشبه باألحالم أو الكوابيس. ي ـم ــارس ـه ــا ك ـم ــا ل ــو أنـ ــه اك ـت ـش ــف ال ـب ــرك ــان الــرابــض فيه ،يغمس فيها حياته الغريبة في هذه املدينة ّ املدوخة العجيبة. لــم يـلـبــث الـيـعـقــوبــي أن ص ــار ف ـنــان طنجة «ال ـع ــرب ــي» بــام ـت ـيــاز .ف ـقــد ع ــرض ل ــه بــولــز رسومه برواق «غاليمار» في طنجة ،حيث ً باع ًالشاب الفنان ما يقارب الثالثني عمل، ّ مبينا بــذلــك عــن مــوهـبــة قــل نـظـيــرهــا .كما انتبهت الفنانة األميركية ،بيتي بارسونز ،ettyإل ــى أعـمــالــه بـعــد أن فتحت Parsons ّ ـط األرب ـع ـي ـن ـيــات ـ ـ س أوا ـي ـ ف ـي ـ ـن ـ ف ـ ل ا ـا رواقـ ـه ـ ً بنيويورك ،وأقامت له معرضا سنة .1952 وم ـع ـلــوم أن ه ــذا ال ـ ــرواق قــد ع ــرض أعـمــال أكبر الفنانني األميركيني في تلك املرحلة، كجاكسون بولوك وروثكو ،ما يؤكد املكانة التي تبوأها هذا الفنان اآلتي من عالم آخر، ال ـ ــذي اك ـت ـشــف س ـحــر الـتـشـكـيــل م ــن خــال م ـع ــاش ــرة ال ـف ـنــانــن ال ـك ـب ــار ال ـع ــاب ــري ــن في طـنـجــة .فــي السنة نفسها سـيــدعــوه بولز إل ــى جــزيــرتــه ب ـس ـيــان .وه ـن ــاك سيتعرف اليعقوبي على ضيفته الشهيرة «بيجي غــوغ ـن ـهــام» ()Marguerite Guggenheim ّ الجماعة الفنية األميركية الشهيرة ،التي ستقتني بعض لــوحــاتــه .وفــي سنة 1966 ً ّ نهائيا بنيويورك مع سيستقر اليعقوبي زوجته األميركية. ّ ً مغمورا في بالده حتى بعد ظل هذا الفنان وفاته سنة ،1985حيث ووري جثمانه تراب ّ قبل أميركا .ولم تفكر عائلته باسترداده إال ً خمس أو ست سنوات بعدما صار معترفا به في وطنه ،واستعاد مكانته في تاريخ ّ ال ـف ــن امل ـغــربــي بــاع ـت ـبــاره لـيــس فـقــط رائ ـ ًـدا للفن الحديث ،قبل الغرباوي والشرقاوي، ول ـك ــن ب ــاع ـت ـب ــاره ح ـل ـقــة وصـ ــل م ـهـ ّـمــة بني ّ بدايات الفن باملغرب بني عشرينيات القرن ّ العشرين وأواخر نصفه األول. رغ ــم أن أع ـمــال الـيـعـقــوبــي ال ت ــزال مشتتة بني أميريكا وأوروبــا ،إال أن ّما نعرفه عنه يـجـعـلـنــا ن ـع ـتــرف ب ــأن ــه امل ّـبــشــر بــال ـحــداثــة ال ـت ـش ـك ـي ـل ـي ــة ،ال ـ ـتـ ــي ض ــخـ ـه ــا ال ـج ـي ــال ــي الغرباوي سنوات قليلة بعد ذلك ،وبالكثير مــن العمق والغنائية .إنها قـطــرات الغيث ّ األول ـ ـ ــى الـ ـت ــي روت أرض الـ ـف ــن امل ـغ ــرب ــي، ّ وتــركــت بصمة واضـحــة على الـفــن العربي في املهجر األميركي.
سيجارتك ،إنه يكره القاتل والقتيل. لكنه يكره -أكثر مــن أي شــيء -مــا يقتتالن مــن أجـلــه؛ هــذه اليد املمدودة ً أبدا ،بينهما ،التي تسمى الحياة. يحدث املوت ،ألن الحياة ال تتوقف الحدوث. أنا مع املوت. يقول لك ،وبينما هو يلعن الطقس ،تواصل أنت النظر إليه بالطريقة نفسها. هو ذا ،ال يفصلك عنه سوى حائط من الدخان. تنظر ً مليا إلــى رموشه املبللة ،ال تريد أن ترفع بصرك عنه ،فقد حظيت بفرصة لم يحظ بها شاعر من قبل: أن تدخن مع قاتلك ،وتتحدث معه عن الطقس والسجائر.. ■■■
كائن ذبابة وحيدة تتقلب في هواء الحجرة ،تحط على أذني فأطردها ،ثم على يدي ،فأبعدها .أرجح أنها تشعر بالوحدة .أقول ذلك لنفسي حتى ال أطيل التفكير فيها .ولكنها تواصل اللعب ،ناشرة طنينها املتقطع حــول جمجمتي .طيبّ ، علي أن أنساها ،لكن ذلــك ال يبدو ً ممكنا ،ألن الذبابة ال تحب أن يتجاهلها أحد. ً عليه أن يقتلها أول.
توثيق
إليسا وعينة :والدة قرطاج العربي الجديد
لوالدة قرطاج ،تلك املدينة التونسية ذات التضاريس ّ املروسة صوب األبيض ٌ ً املـتــوســط ،حـكــايــة يختلط الـتــاريــخ فيها بــاألسـطــورة م ـجــازا .إذ كثيرة هي الدراسات التي برهنت أن «أسطورة» والدة املدينة ،حقيقة تاريخية .إال أن الجمال في «األسـطــورة» ،وذاك اإلبهار الناجم عن رحلة أميرة فينيقية من صــور الــواقـعــة فــي الــزاويــة اليمنى للبحر املتوسطي ،صــوب «أنــف املنقار» لتأسيس مدينة جديدة ،يكفالن على ما يبدو ارتفاع الحقيقة التاريخية إلى مصاف ُخ ّ لبية األساطير. ّ للمرء هنا ،تخيل األميرة إليسا ،سليلة الحضارة األرجوانية .على سفينتها تمخر عباب البحر وتبتعد عن مسكنها ّ األول في رحلة «أوديسية» العناصر. تصل األميرة إلى هضبة ،فاملدن الخالدة ،تكون عالية في الواقع وفي الخيال. تختار مسكنها الجديد وتعطيه ً اسما ،فتسمية أمر ما تعني امتالكه .قالت َ ْ األميرة بفينيقيتها« :ق ْر ْت َح َدش ْت» أي املدينة الجديدة. لتكتمل عناصر الحكاية ،ال ّبد من ّ حب .وكذا كان ،لحق األمير عينة بأليسا، ّ ليمر من دون ّ وما كان ذلك ّ فالحب يحتاج مأساة ما ،قبل أن ينمو مبرر قوي، في قلب اثنني .األمير عينة هارب من مدينته طروادة بعدما التهمها الحريق. ّ نظر األمير إلى األميرة وأطال النظر ،ريثما تكفل كيوبيد برمي سهمني في القلبني العاشقني. ثمة أميرة على سفينة من أجل عالم جديد ،وثمة أمير هارب من عالم حريق. ثمة مملكة فينيقيا وثمة طروادة ،ثمة ّ حب .وليكتمل املشهد ،ال ّبد من الشعر. ّ ّ فقد خلد الشاعر الالتيني فيرجيل في ملحمته األنيادة» في القرن األول قبل املسيحّ ، قصة ّ الحب .لكنه لم يتمم امللحمة فقد سبق املوت اإللهام الشعري .إال أن ما وصل من امللحمة املتهادية على خطى إلياذة هوميروس وأوديسيته، يكفي لرواية ّ القصة. استقبلت األميرة الفينيقية األمير الهارب من مأساته ،بوليمة على شرفه. ق ـ ّـص األم ـيــر عـلــى األم ـيــرة مــا ج ــرى فــي طـ ــروادة .لــم يغفل األم ـيــر «شـبــح» ّ هيكتور ،ابــن املــاحــم اإلغــريـقـيــة الـخــالــدة .ظهر الشبح وبــشــر األمـيــر بأنه ّ كل شيء جديد وطازج ،هو ّ الحب في ّأوله. سيبني «طروادة جديدة». تتدخل الطبيعة لتعطي ّ القصة نكهة قدر ال راد له .إنها العاصفة ،وقرطاج ّ املتضادة ،إنها العاصفة وال ّبد للعاشقني من االحتماء مسرح لتيارات الهواء في كهف. معا ،واألميرة ّ هما في الكهف ً ً زواجــا ،فكان لها ما أرادت .إال أن عدت األمر السعادة ال تــدوم في األساطير ،فكان امتحان «إلـهــي» .غضب كبير اآللهة جوبيتر على األمير الذي نسي في غمرة العشق ما قاله له «شبح» هيكتور. ال ّ راد إلرادة كبير اآللهة ،فال ّبد من السفر في البحر ثانية. إن كان املاء سيأخذ األمير ،فإن النار ستأخذ األميرة .يقال إنها أضرمت ّ النار في «املدينة الجديدة» وانتحرت بألسنتها ولهبها .وللمجاز أن يطل فيقول أحرقها الوجد.
مسؤولة ملحق الثقافة :ديمة الشكر لوحات العدد :الفنان التونسي خالد مقديش Dima.Choukr@alaraby.co.uk