وثيقة 003

Page 1

‫محمد المختار السوسي‬ ‫أعالم مغاربة من التاريخ‬

‫‪http://www.maghress.com/almassae/161618‬‬ ‫المساء‬ ‫نشر في المساء يوم ‪2852 - 80 - 51‬‬

‫يوسف الحلوي‬ ‫حيي خجول ميال إلى العزلة‪ ،‬متقن للغة الضاد‬ ‫قدم محمد بن العباس القباج العالمة محمد المختار السوسي في كتابه األدب العربي في المغرب األقصى على أنه شاب ِ‬ ‫رغم أصوله السوسية‪ ،‬يأبى أن ينسب إلى الشعر ويميل إلى علوم الشرع ويقدمها‪ ،‬ولقد أصاب القباج في الكثير مما وصف به السوسي في ريعان شبابه‪ ،‬ولربما لم‬ ‫يخمن أن ذلك السوسي الحيي سيصير الحقا‬ ‫ملء السمع والبصر وأنه سيتصدر قائمة دعاة اإلصالح بالمغرب وأنه سيكون واحدا من رواد الحركة الوطنية ومبرزيها‪ ،‬فقد سعت إليه الشهرة من حيث آثر الخمول‪،‬‬ ‫وأقبل عليه ذيوع الصيت من حيث آثر العزلة فما أقرب مابين تلك المتناقضات وما أبعده‪ ،‬لقد قضى كثيرون على درب المجد كما تقضي الفراشات التي تحوم حول‬ ‫مصدر الضوء دون أن يقضوا منه أوطارهم‪ ،‬فما بال هذا المجد يسعى إلى ذلك الفتى السوسي الخجول وهو يدفعه عن نفسه دفعا؟‬ ‫ولد محمد المختار السوسي بن أحمد اإللغي عام ‪5088‬م في «إلغ» بناحية تازورالت بعيدا عن مدينة تيزنيت بحوالي ثمانين كيلومترا‪ ،‬درس بداية بالزاوية اإللغية بناء‬ ‫على توجيه والده‪ ،‬الذي كان واحدا من شيوخ الطريقة الدرقاوية ثم انتقل إلى مدرسة إيغاشن ثم المدرسة البونعمانية وتتلمذ للعالم أحمد بن مسعود البونعماني والطاهر‬ ‫بن محمد اإلفراني‪ ،‬وعبد الرحمان البوزاكارني‪ ،‬وعنهم حفظ األجرومية والمية األفعال والمقامات الحريرية ومختصر الشيخ خليل وتحفة ابن عاصم ورحل بعد ذلك‬ ‫إلى مراكش فحضر مجالس أبي شعيب الدكالي‪ ،‬وفتح هللا بناني‪ ،‬وأبي شعيب الشاوي وغيرهم‪ ،‬فتلقى على أيديهم الجامع الصحيح لإلمام البخاري وجمع الجوامع‬ ‫والخزرجية والجوهر المكنون‪ ،‬ثم انتقل إلى فاس فدرس الحساب والجغرافيا والحديث وغير ذلك من العلوم‪ ،‬ثم شد الرحال نحو الرباط فلقي العالمة محمد المدني بن‬ ‫الحسن وأخذ عنه ألفية العراقي في الحديث‪ .‬وفي كل تلك المراحل كان مثاال لطالب العلم المكافح الذي وضع المعرفة بكل أنواعها نصب عينيه‪ ،‬ويحدثنا السوسي في‬ ‫كتيب «الذكريات» عن عالقاته بأدباء وعلماء عصره فتلمس في كالمه نهما للعلم والمعرفة ال يشبعه شيء فمسامراته مع إخوانه درس أدب وشعر‪ ،‬ومراسالته بحث‬ ‫فقهي ومنافسة في البالغة والبيان‪ ،‬فال عجب أن يستوي بعد كل تلك الجهود المضنية على منبر الفقه فقيها مجتهدا مكتمل العدة‪ ،‬وعلى منبر التاريخ مؤرخا يفوق في‬ ‫دقته وتحقيقه معاصريه‪ ،‬وعلى منبر الشعر شاعرا ال يشق له غبار‪.‬‬ ‫بخو ْيصَ ة نفسه لكن لقاءه بأبي شعيب الدكالي‪ ،‬والشيخ‬ ‫نشأ السوسي صوفيا مغرقا في البحث عن سعادة الباطن ولوعا بتزكية النفس منصرفا عن شؤون الخلق ملتزما َ‬ ‫محمد السائح‪ ،‬والمدني بن الحسني‪ ،‬غير مجرى حياته فتحول عن المنهج الصوفي إلى المنهج السلفي‪ ،‬ومع ذلك فأثر النشأة القديمة ظل ماثال في شخصيته ولنقل أن‬ ‫صوفيته شذبت اندفاعه السلفي وزينته برقائقها‪ ،‬فكان منهجه وسطا بين منهجين على الحقيقة‪ ،‬يقول السوسي في «الذكريات» متحدثا عن أحد أصفيائه ‪« :‬وهناك جامع‬ ‫آخر بيني وبينه‪ ،‬وهو عدم إنكارنا كل جهود الصوفية‪ ،‬بل نقبل منها ما يرده سوانا‪ ،‬وما يحملنا على ذلك إال أننا عرفنا من القوم ما جهلوا‪».‬‬ ‫كانت بداية عالقة السوسي بالتدريس في زاوية والده‪ ،‬حيث انطلق في تدريس اللغة وعلوم القرآن والسيرة لجيرانه‪ ،‬وما لبث خبره أن ذاع بين الناس فتقاطر عليه طلبة‬ ‫العلم من كل حدب وصوب ولفت ذلك انتباه أعين الباشا الكالوي فساومه في البداية وعرض عليه بعض المناصب فلما يئس منه نفاه إلى مسقط رأسه وحال بينه وبين‬ ‫طلبته وتكررت مصادماته مع المستعمر وأعوانه واشتدت بعد إصدار الظهير البربري‪ ،‬لم يقف السوسي بمعزل عن األحداث السياسية التي كانت تعصف بالبالد‬ ‫فانخرط في مسلسل اإلصالح الذي أرسى قواعده علماء المغرب األفاضل بكليته‪ ،‬بالخطابة تارة‪ ،‬وبالتدريس أخرى وبتنوير العقول عبر القصائد والمقاالت وتأسيس‬ ‫المنتديات األدبية تارة أخرى‪ ،‬وكان فضال عن كل ذلك واحدا من أقطاب الحركة الوطنية التي استوعبت كل أطياف المجتمع المغربي في مدافعتها للمستعمر حتى إنك‬ ‫لتقف مشدوها أمام قصيدة يحيي بها نضال الممثلين في زمن كان غالبية الفقهاء يستنكرون التمثيل‪ ،‬ولكن السوسي غير أولئك فهو يبحث عن كل ما يوحد جهود إخوانه‬ ‫بصرف النظر عن مشاربهم السياسية وانتمائهم ومذهبهم في التغيير وال يقصي أحدا مهما بلغت حدة االختالف معه‪ ،‬يرى في كل الوسائل المباحة عمال مشروعا في‬ ‫سياق مدافعة الغزاة ويرى تنوع أساليب المدافعة أمرا ال غنى عنه‪ ،‬فهو يعذر إخوانه الذين لم ينخرطوا في المظاهرات ضد االحتالل ويلتمس من الذين يلمزونهم في‬ ‫ذلك الرفق بهم‪.‬‬ ‫كان السوسي ظاهرة فريدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى‪ ،‬منكرا لذاته مقدما المصلحة العامة على المصالح الذاتية‪ ،‬ساعيا في تذويب الخالفات بين الوطنيين‪ ،‬فال‬ ‫عجب أن تتوحد حوله القيادات الوطنية من مختلف التوجهات وأن يحافظ على حبال الود مع كل التيارات‪ ،‬تعرض السوسي لالعتقال بسبب مواقفه الوطنية وألقي به في‬ ‫اغبالوا نكردوس رفقة ثلة أخرى من رجال الحركة الوطنية‪ ،‬وقد أفرد تجربته في المعتقل بكتاب خاص سماه «معتقل الصحراء» تعرض فيه لوضعية االعتقال وسِ يَر‬ ‫المعتقلين‪ ،‬وبعد مضي خمس سنوات من األسر نقل من السجن إلى اإلقامة الجبرية دون أن يفت ذلك في عضده أو بتعبيره هو «ولكنني وأنا أعرف ما أصنع ماض في‬ ‫شأني‪ ،‬عازم على أداء المهمة التي استطعت أن أنفع بها شعبي منذ أن ملكت أمر نفسي‪».‬‬

‫ولما حصل المغرب على استقالله عين السوسي وزيرا لألوقاف في الوزارة األولى التي شكلها المغاربة وبعدها وزيرا للتاج إلى أن أدركته الوفاة‪.‬‬ ‫خلف السوسي مؤلفات نفيسة فاق عددها السبعين تقع في حوالي مائة وعشرين جزءا‪ ،‬ومعظم إنتاجه موزع بين الكتابة األدبية والتاريخية‪ ،‬فقد ألف في التاريخ «سوس‬ ‫العالمة» و«إيليغ قديما وحديثا» و «أدوار سوس التاريخية» و«مراكش في عصرها الذهبي» وغيرها‪ ،‬وفي األدب خلف «الرسالة الشوقية» و«نضائد الديباج في‬ ‫المراسالت بين المختار والقباج» ورواية بعنوان «رسالة الشباب» ومئات القصائد في مختلف األغراض الشعرية جمعت في ديوان «قصائد» و»الزهر البليل فيما‬ ‫نفث به الفكر العليل» وله إنتاجات أخرى تدخل في خانة السيرة الذاتية كاإللغيات ومعتقل الصحراء و«مواقف مخجلة» غير أن كتابة التاريخ عند السوسي ال تخلو من‬ ‫فرائ ِد األدب ونوادِره‪ ،‬وكتاباته األدبية ال تخلو من أحداث التاريخ وسرد تفاصيله‪ ،‬ولعلهما ال ينفصالن عنده‪ ،‬فاألدب منذ كان هو مادة التاريخ ومرجعه فكم من‬


‫القصص اندثرت وخلدتها قصائد الشعر ولوالها لم يصلنا منها شيء‪ ،‬و ال يصار إلى كتابة التاريخ بغير بيان وامتالك لنواصي األدب في التعبير يقول السوسي ‪:‬‬ ‫«أولعت منذ عرفت قبيلي من دبيري وميزت يميني عن شمالي بالتاريخ واألدب وبمطالعة كتبهما»‪ ،‬فهما عنده صنوان والسوسي ينبذ التعصب العرقي والمذهبي معا‬ ‫ولكنه مرتبط بسوس تلك المنطقة الجميلة التي أنجبت أجياال من العلماء األفذاذ‪ ،‬فال غرابة أن تنال الحظ األوفر من مجموع اهتماماته وقد جاء في األثر ‪« :‬إذا أردت‬ ‫اختبار الرجل فانظر تشوقه إلى خالنه وحنينه إلى أوطانه‪».‬‬ ‫والسوسي يضرب في االختبارين معا بسهم مصيب فهو ال يفتأ يذكر أصحابه ومجالسهم في الكثير من كتبه‪ ،‬يقول ‪« :‬أعرف كثيرين من الحواضر التي هي وطني‬ ‫الحقيقي وهم عندي طبقات كما تقتضيه المصاحبة ثم هاأنذا قد حيل بيني وبينهم مرغما وقد مضى عامان ولكن ما في الفؤاد ال يزال نحوهم رطبا جنيا‪ ،‬وزهرا غضا‬ ‫يهمش صدري كلما يمثل أحدهم بالذكرى»‪ .‬وأما حب الوطن والحنين إليه فحسبه أن ما خطت يداه صار مصدرا ال غنى عنه لمن يريد البحث في تاريخ سوس وما ذاك‬ ‫إال لشدة تعلقه بها وتتبعه ألحداثها دقيقها وجليلها حتى ألف من كل ذلك مرجعا ضخما ليس في تاريخ سوس كله مؤلف يضاهيه‪ ،‬وأما شغفه بوطنه الكبير (المغرب)‬ ‫فكابد في سبيله ما كابد‪ ،‬يقول السوسي متحدثا عن أسباب محاصرة المستعمر له ‪« :‬وما السبب إال وطنية هادئة علمية نشأت عن إيمان صادق وضمير حي وعزوف‬ ‫عن االستخذاء‪ ،‬وتعال عن اإلهطاع لالستعمار وعن البصبصة بالذنب بين أقدام المحتلين الجبابرة‪».‬‬

‫أصيب السوسي في آخر أيام حياته بالسكري وكان أن تعرض لحادثة سير كانت فيها وفاته‪ ،‬وذلك يوم ‪ 51‬نوفمبر من عام ‪5091‬م بالرباط‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.