ترشيد االستهالك فـي اإلســـالم
حقوق الطبع حمفوظة الطبعة األوىل
1429هـ 2008 -م
التدقيق اللغوي شروق حممد سلمان
اإلخـراج الفين حسـن عبد القادر العـزاني
دائرة الشؤون اإلسالمية والعمل اخليري بدبي إدارة البحوث
هاتف+971 4 6087777 : اإلم��ارات العربية املتحدة mail@iacad.gov.ae
فاكس+971 4 6087555 : ص .ب - 3135 :دب��ي www.iacad.gov.ae
ترشـيــد االسـتـهـــالك يف اإلســـالم AXtGihaneLight
تأليف د .كامل صكر القيسي باحـث أول بإدارة البحــوث
افتتاحـية احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل سيدنا حممد وعىل
آله وصحبه و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين..
وبعـــ�د :فيسر « دائ��رة الش��ؤون اإلس�لامية والعم��ل
إصداره�ا اجلدي�د الخي��ري بدب��ي -إدارة البح��وث » أن تق�دِّ م َ
« ترشيد االستهالك في اإلسالم » جلمهور القراء من السادة الباحثني واملثقفني واملتطلعني إىل املعرفة.
وي�أيت ه�ذا الكت�اب كاش�ف ًا ع�ن املنه�ج اإلسلامي املتمث�ل يف
الوس�طية واالعت�دال يف أم�ور احلي�اة ومنه�ا اإلنفاق حي�ث يقول اهلل
س�بحانه وتع�اىل﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﴾ [االس�راء ،]29 :وحي�ن نتح�دث
عن ترش�يد االس�تهالك ،فإن توجيه األنماط والعادات االس�تهالكية
ضرورة ملحة ،بحيث يتس�م الس�لوك االس�تهالكي للفرد أو األسرة
بالتعق�ل ،واالت�زان ،والحكمة ،والرش�ادة الموضوعي�ة والمنطقية،
وم�ن ثم يكون اس�تغالل الف�رد لما يملك اس�تغالال متزنا وس�لوكه س�لوكا معتدال ،يتناس�ب مع تصوره االعتق�ادي واألخالقي وواجبه تجاه األمة والمجتمع.
وهذا اإلنجاز العلمي جيعلنا نقدم عظيم الش�كر والدعاء ألرسة
آل مكت�وم حفظه�ا اهلل تعاىل التي حت�ب العلم وأهله ،وت�ؤازر قضايا
اإلسلام والعروبة ب�كل متيز وإق�دام ،ويف مقدمتها صاحب الس�مو الشيخ حممد بن راشد بن سعيد آل مكتوم ،نائب رئيس الدولة ،رئيس
جملس الوزراء ،حاكم ديب الذي يش�يد جمتمع املعرفة ،ويرعى البحث
العلمي ويشجع أصحابه و ُطالبه .
راجين من العيل القدير أن ينفع هبذا العمل ،وأن يرزقنا التوفيق
والسداد ،وأن يوفق إىل مزيد من العطاء عىل درب التميز املنشود.
وآخ�ر دعوان�ا أن احلم�د هلل رب العاملني ،وصَّل�ىَّ اهلل عىل النَّبي
األمي اخلاتم س ّيدنا حممد وعىل آله وصحبـه أمجعني.
مدير إدارة البحوث الدكتور سيف بن راشد اجلابري
املقدمة احلم�د هلل رب العاملين والصلاة والسلام على الرس�ول
الكريم حممد وعىل آله وأصحابه أمجعني ،وبعد:
فكام هو معلوم أن الدورة االقتصادية متر بأربع مراحل هي:
اإلنتاج والتبادل والتوزيع واالستهالك.
واالس�تهالك :ه�و آخ�ر مرحل�ة م�ن مراح�ل العملي�ة
االقتصادية ،ألنه جيس�د الطلب النهائي عىل الس�لع واخلدمات، وال ش�ك أن حاج�ات اإلنس�ان ورغبات�ه ه�ي املح�رك جلمي�ع
األنشطة االقتصادية .
ولق�د من�ح اهلل اإلنس�ان نعم�ة التمت�ع بنع�م اهلل والطيبات
م�ن ال�رزق فق�ال تع�اىل﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ﴾ . االس�تهالك وضوابط�ه يف االقتصاد اإلسلامي الدكتور عبد الس�تار رحيم .12 سورة األعراف اآلية .32
وقال عليه الصالة والسالم« :إن اهلل حيب أن يرى أثر نعمته
على عبده» أي حي�ب أن يتنعم عبده بنعمت�ه ويتمتع بالطيبات
من الرزق ،فاألصل أن يس�د اإلنس�ان حاجته بنعمة اهلل مادامت تل�ك النعم�ة أباحها اهلل تعاىل أو أمر هبا ،كث�رت أو قلت ،وليس يف ذل�ك حمظور ،ما دامت الضوابط الرشعية تتحكم فيها ،إال أن
املطلوب يف اس�تخدام هذه اإلباحة يف االس�تهالك وس�د احلاجة
فيها هو القصد واالعتدال ،فإذا جتاوز احلدود الرشعية كان ذلك إرسافا ،قد ينمو ويكرب فيكون تبذيرا ،وقد يتعدى األمر إىل البطر
فيتح�ول إىل الرتف املهلك ،ولذلك تدخل اإلسلام يف مس�توى
اإلنفاق ورس�م له س�بيال س�ويا وطريقا سليام ،يف س�ياق منهجه
الوس�طي املعتدل يف كل يشء ،حتى ال ينحرف اإلنس�ان فيقع يف مزال�ق الرتف واهلالك قال تع�اىل﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ﴾ .
الرتمذي ،123/5املعجم الكبري للطرباين ،135/18السنن الكربى للبيهقي .271/3 سورة الفرقان اآلية .67
وق�ال﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧﭨﭩﭪ﴾
وهن�ى ع�ن اإلرساف فقال﴿ :ﭛ
ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ .
وآخى بني الش�يطان واملبذرين فق�ال تعاىل﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ
*ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾
ووع�د أه�ل الترف والغطرس�ة والكربياء باخليب�ة واملصري
البائس والسموم واحلميم ،وقد وصفهم بالفسق والظلم والكفر،
قال تعاىل﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ* ﯝ ﯞ ﯟ * ﯡ
ﯢ ﯣ * ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ * ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ .
وقال أيضا﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ .
وق�ال﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ﴾ .
سورة اإلرساء اآلية .29 سورة األعراف اآلية ،31واألنعام اآلية .141 سورة اإلرساء اآلية .27- 26 سورة الواقعة اآلية .45 -41 سورة املؤمنون اآلية .64 سورة سبأ اآلية .34
وق�ال﴿ :ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾ وق�ال:
﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾ .
ومل�ا كان�ت األم�ة الي�وم تعاين م�ن أزم�ات كثيرة -فكرية
واقتصادي�ة وحضاري�ة -ف�إن املتأم�ل جي�د أن اإلرساف يف كل
االجتاه�ات م�ن أهم أس�باب ضعفه�ا وتراجعها ،ولع�ل إنفاق �ن اهلل تع�اىل عليها هبا قد مقدراهت�ا املالي�ة وتبذي�ر ثرواهتا التي َم َّ
ّ ورقيها. شكل عائقا أمام تقدمها ّ
وال شك أن األمة متر بمرحلة اندفاع نحو تقليد املجتمعات
األخ�رى جللب الس�عادة املوهوم�ة ،ولذلك تب�ذل كل ما جيلب
هل�ا اللذة اآلني�ة ويمتعها ولو ألمد قصري ،متناس�ية مس�ؤولية ما
كلفه�ا اهلل ب�ه م�ن إقام�ة رشيعته وحتقي�ق العدال�ة والوصول إىل
الرفاهي�ة املبني�ة عىل أس�س رصين�ة ،تس�تنبط تطلعاهت�ا يف ذلك م�ن القرآن والس�نة املطه�رة اللذين يقيمان التوازن واالس�تقرار
يف املجتمع.
سورة هود اآلية .116 سورة اإلرساء اآلية .16
10
نشرت جري�دة «الري�اض» الس�عودية يف الع�دد الص�ادر
يف 1423/4/17ه�ـ أن «عشرة ماليين ومخسمائة أل�ف ريال
ينفقها الشباب والش�ابات بمكة املكرمة شهري ًا عىل رشاء أجهزة اجلوال احلديثة».
ونشر يف موق�ع «إسلام أون الي�ن» عبر اإلنرتن�ت يف
2001/4/17م أن رشكة «آي .يب .كيه انرتناشيونال» املتخصصة
يف أبحاث الس�ياحة والسفر ومراقبة حركة السفر العاملي كشفت
يف تقريرها الس�نوي الذي صدر االثنين (2001/4/16م) أن اخلليجيين أنفقوا 27 مليار دوالر العام املايض عىل الس�ياحة يف اخل�ارج ،فيام أنفق األوروبيون 25ملي�ار دوالر يف اخلليج خالل
نف�س الفترة .وج�اء الس�عوديون يف املقدمة يف ع�دد الرحالت
حي�ث وصلت عدد رحالهتم إىل 46مليون رحلة و 160مليون
ليل�ة ،ويف دراس�ة قام هبا الدكتور «حس�ن أبو ركبة» عن س�لوك املس�تهلك الس�عودي خلص إىل أن %60 -40من دخل األرسة
السنوي ينفق عىل الغذاء ،و %20 -15عىل الكساء ،ومثلها عىل الرتفيه والعالج والس�ياحة ،و %10 -5عىل التأثيث ومثلها عىل 11
األجهزة الكهربائية و %15 -5عىل التعليم ومثلها عىل الس�كن ومثلها كمدخرات .
ف�إذا كنا بالفع�ل نتصدر الش�عوب يف اإلنف�اق فكيف نبني
إذن؟ ال سيام ونحن نعلم أن حضارات الشعوب تقام عىل اإلنتاج وليس االس�تهالك ،لكن من املؤسف أن إحصاءات االستهالك تشير إىل أن معظمنا مص�اب بمرض االس�تهالك الرتيف ،فنحن
ننف�ق املال عىل س�لع كاملي�ة ويف مناس�بات غري رضوري�ة إنفاقا يص�ل إىل ح�د اإلرساف والتبذير بقصد التباه�ي وحب الظهور
وتعويض نقص اجتامعي معني.
فهناك أنواع من الس�لع نحن ال نقدره�ا لصفاهتا الذاتية ،أو
الحتياجنا الفعيل هلا ولكن وفق ًا ملا متثله من مكانة اجتامعية.
فاحلقيقة أن الس�لوكيات االستهالكية بدأت تتغري اليوم ،إما
بس�بب ثورة املتغيرات اإلنتاجية الكبرية ،أو ألننا ننتهج مس�لك ًا متى نشفى من مرض االستهالك الرتفيهي ناهد باشطح (مقال منشور يف جريدة الرياض يف العدد 21609الس�نة 38بتاريخ األحد /25 شوال1423/هـ /29ديسمرب2002/م .
12
استهالكي ًا إلخفاء يشء يف نفوسنا ،كمستوانا املايل أو الثقايف مث ً ال، ولذلك كان خيارنا عش�وائي ًا ،حس�ب ما يملي�ه ذوق املصمم أو
حس�ب النص اإلعالين يف التلفزيون ،واالستهالك هبذا املستوى
يعد مرض ًا اقتصادي ًا اجتامعي ًا ملخاطره وآثاره.
إنن�ا يف الغال�ب متلق�ون مل�ا يتلى علين�ا ،ومل�ا متثله س�يطرة
اإلعالن�ات التجاري�ة ،تل�ك الس�يطرة التي تصرف عليها دول عاملية أموا ً ال باهظة.
ففي دراس�ة أعدهتا صحيفة «الصنداي تايمز» عام 1989م
أثبت�ت أن األم�وال املخصص�ة لدراس�ة اإلعلان واألس�واق
تقدر بنحو مخس�ة ملي�ارات دوالر يف العامل كل�ه ،وأن هناك أربع جمموع�ات عاملي�ة تس�يطر على س�وق اإلعلان ه�ي األمريكية
والربيطانية والفرنسية واليابانية ،وأن العناوين اإلعالنية الكبرية
هي :البنوك ،السيارات ،العطور.
م�ا ال�ذي تبقى لنا م�ن وعين�ا إذا كنا ن�ؤذي أنفس�نا والبيئة
م�ن حولن�ا باالس�تهالك التريف إذ إن اإلحصاءات تشير إىل أن م�ن العوام�ل الت�ي متث�ل نمط� ًا يف احلياة -ي�ؤذي البيئ�ة -هي: 13
«الس�يارات ،والبي�وت الفخم�ة ،ومراك�ز التس�وق الكبرى،
والسلع االس�تهالكية ،ونوع الطعام املرتكز عىل اإلفراط يف أكل
اللح�وم ،والغ�ذاء غري الصح�ي» .وأظن تل�ك العوامل جمتمعة تش�كل نمط احلياة لدى معظمنا ،فالناس يشترون الس�لع وهم
ال يعرفوهن�ا متبعين الدعاية واإلعالن س�واء من الن�اس أو من
وس�ائل اإلعلام ،إنن�ا بحاج�ة إىل إعالم ي�درك أمهي�ة أن يكون املتلقي خاضع ًا لالستهالك دون وعي!!
ولذلك فإن اإلنفاق االستهالكي :يأيت نتيجة طبيعية لضعف
االلت�زام بقواعد النظ�ام االقتصادي اإلسلامي ،وقد أدى ذلك إىل ارتف�اع امليل احلدي لالس�تهالك وزي�ادة االتكالية واالعتامد
على اخلدمات احلكومي�ة والزيادة املفرطة يف االس�ترياد للس�لع واخلدمات للرتفيه واإلنفاق البذخي ،وكان من نتيجة هذا املسار
اإلنفاقي املغلوط يف املسار التنموي يف البالد اإلسالمية أن جلأت الدول اإلسلامية إىل حماولة سد العجز باالعتامد عىل االحتياطي
العام وعىل االستثامر اخلارجي .وحني نتمعن يف الظواهر السابق
ذكرها فأي منها ال يعاين منه جمتمعنا؟ 14
ومل�ا كانت جمتمعاتنا غارقة يف س�وق الترف تتقاذفها أمواج
م�ن العواص�ف اخل�ارسة م�ن الف�وىض يف اإلنف�اق وتس�تنزفها
أه�واء احلض�ارة الزائف�ة ،فقد جاء ه�ذا البح�ث املتواضع ليبني صورة النمط االس�تهالكي عىل ضوء اجلمع بني املفهوم الرشعي وتنمي واالقتصادي ،عسى أن تستدرك األمة ما بقي من ثرواهتاّ ،
قدراهتا اإلنتاجية عن طريق املحافظة عليها ،وهي يف الوقت ذاته تقيم العدالة االجتامعية وحتقق التكافل بني أبنائها.
وقد تش�كل البحث من مقدمة ومتهي�د وأربعة مباحث عىل
النحو اآليت:
متهيد :يف تعريف ترشيد االستهالك وحاجة األمة إليه. املبح�ث األول :املهم�ة االس�تخالفية ودوره�ا يف توجي�ه
االستهالك.
املبحث الثاين :ضوابط االستهالك. املبح�ث الثال�ث :سمات املجتم�ع اإلسلامي وأثره�ا يف
االستهالك.
15
املبحث الرابع :االستهالك الرشيد وسيلة جللب الربكة. اخلامتة. أس�أل اهلل تع�اىل الرش�د والص�واب ،وأن يمنحن�ا القص�د
واالعتدال والرضا ،وأستغفر اهلل العظيم. ***
16
متهيد ترشيد االستهالك وحاجة األمة إليه الرتش�يد لغ�ة :مص�در ّ رش�د :س�عى إىل ترش�يده وهدي�ه،
وه�و االس�تقامة عىل طريق اخلري مع تصلب في�ه ،وضده البغي، واسرتش�د الرج�ل :اهت�دى وطلب الرش�د .ورش�د الرجل إذا
أص�اب وجه األم�ر والصواب والطريق واهلدى واالس�تقامة يف األم�ر الواض�ح واهلداي�ة والدالل�ة ومنه قول�ه تعاىل﴿ :ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ .
واالس�تهالك :مصدر اس�تهلك ،يقال اس�تهلك املال :أنفقه
وأنف�ده .وأهل�ك املال :باعه .واس�تهلك الرجل يف ك�ذا :أجهد
نفسه فهو يعني النفاد واإلنفاق وبذل اجلهد والبيع.
ً واصطالح�ا :االس�تخدام املب�ارش للس�لع واخلدم�ات التي
تشبع رغبات اإلنسان وحاجاته .
لسان العرب .176/3 سورة غافر اآلية .38 لسان العرب . 505/10 النظام االقتصادي اإلسالمي حممد عبد املنعم عبد القادر /دار املجمع العلمي – جدة 1399هـ 1979 -م ص. 157
17
وترش�يد االس�تهالك يعنى :االس�تخدام األمثل للامل وسد
احلاج�ات والتوازن واالعتدال يف اإلنفاق واالس�تقامة يف حتقيق مصلحة اإلنس�ان وعدم البغي أو الش�طط يف البذل ،واالستقامة عىل احلق ،واهلداية إىل طريق الرشد واخلري والصالح. ترشيد االستهالك حاجة لنهضة األمة: إن من أوىل وأهم األس�باب التي أضعفت األمة اإلسلامية
والعربية ومكنت الدول الغربية من إحكام س�يطرهتا عليها حتى غدت تابعة ال حول هلا وال قوة ،هو كوهنا أمة تستهلك بال ضابط
وتأكل أكثر مما تنتج ،وهي يف الغالب تستهلك املواد املستوردة من الدول الغربية ،مما سمح لتلك الدول أن تفرض عليها رشوطها،
وتلوح من وقت آلخر بسلاح العقوب�ات االقتصادية ،من أجل إذالل تلك الدول وإخضاعها لتنفيذ سياساهتا وأهدافها.
وحني نتحدث عن ترش�يد االس�تهالك ،فإن توجيه األنامط
والع�ادات االس�تهالكية رضورة ملحة ،بحيث يتس�م الس�لوك
االس�تهالكي للف�رد أو األرسة بالتعق�ل ،واالت�زان ،واحلكم�ة، 18
والرش�ادة املوضوعي�ة واملنطقية ،ومن ثم يكون اس�تغالل الفرد مل�ا يمل�ك اس�تغالال متزن�ا وس�لوكه س�لوكا معتدال ،يتناس�ب م�ع تص�وره االعتقادي واألخالق�ي وواجبه جت�اه األمة ،وذلك
يزي�ده نش�اطا وحيوية ،بحي�ث ينعكس عىل اإلنتاجي�ة ويؤثر يف استهالك األرسة ،واستهالك املجتمع وحيويته عموما ،ومن بعد ذلك تبدو آثاره عىل مس�توى حتسين نمط حياة الس�كان ،ورفع
مس�توى معيشتهم ،وسد حاجاهتم ،وتطوير االقتصاد من خالل تنمية خمتلف القطاعات ،التي تش�ارك فيها احلكومة والس�لطات
املحلي�ة ،وه�ذه الرتبية املنس�جمة م�ع القيم األخالقي�ة جيب أن
تنسكب يف عامل الطفولة من خالل الرتبية امليدانية للطفل وحاجة األرسة إىل حتم�ل املس�ؤولية يف ه�ذه التنش�ئة ،وذل�ك ألن نمط
الس�لوك االس�تهالكي يتأصل لدى الطفل من�ذ الصغر ،وعملية التنش�ئة االستهالكية هي عملية مستمرة يتعلم الطفل من خالهلا
املع�ارف وامله�ارات واالجتاهات التي تتناس�ب مع حصوله عىل املنتجات.
19
ومما الش�ك فيه أن دور األرسة مهم ،فالطفل يتعلم السلوك
االس�تهالكي داخ�ل أروقتها قب�ل أن خيرج إىل الع�امل اخلارجي، وتس�تطيع األرسة الواعي�ة أن ت�درب الطف�ل على التعام�ل مع
املواقف االس�تهالكية كعملية الرشاء ومفهوم امليزانية مث ً ال ،وإذا
كان�ت محى االس�تهالك الرتيف طالت أصح�اب الدخل املحدود يف جم�اراة للنمط العام فإنه ال يمنع أن يعرف�وا عددا من العوامل
يشير اخلبراء إىل تأثريه�ا يف عملي�ة اكتس�اب الطف�ل مه�ارات
االستهالك وهي:
-1التقليد واملحاكاة وأمهية وجود القدوة السليمة وبخاصة
«س�لوك األم االستهالكي» يف فرتة الطفولة إذ يساعد عىل رسعة التعل�م وغ�رس الع�ادات والقي�م واالجتاه�ات الصحيحة نحو االستهالك والرتكيز عىل املفاهيم اخلاصة برتشيده. -2مستوى الدخل النقدي. -3وسائل اإلعالم وفنون الدعاية واإلعالن. -4تعلي�م األم للطف�ل ،وتفاع�ل األمهات م�ع األطفال يف
أثناء اختاذ القرارات االستهالكية. 20
-5عامل الدين. -6املوقع اجلغرايف والبيئة االجتامعية. -7العوامل النفسية. -8العوام�ل االقتصادي�ة ..ف�إن الطبق�ة االجتامعية تلعب
دور ًا أكرب من مجيع العوامل يف حتديد نمط اإلنفاق االس�تهالكي
والتعامل بالنقود.
-9تدريب األرسة للطفل للمش�اركة يف عمليات االختيار
والشراء ،مع تعويد الطفل عىل االقتصاد والتوفري وتقليل الفاقد يف كل نواحي احلياة االستهالكية.
والس�ؤال املتبق�ي ه�ل يمك�ن أن تع�رف األرسة دوره�ا
ومس�ؤوليتها يف تنمية شخصية املستهلك الصغري ،الذي سيغدو
يوم ًا كبري ًا ؟
إن غي�اب الضابط االجتامعي يف عملية االس�تهالك الرتيف،
ي�ؤدي إىل ه�در اإلمكان�ات االقتصادي�ة وذه�اب الكثير م�ن اإلمكانات التي ال يس�تفاد منها بش�كل صحيح ،والتي بإمكاهنا 21
أن تش�ارك يف عملية التكافل االجتامع�ي ،فالثروات االقتصادية
ينبغ�ي يف الدرج�ة األوىل ،أن تتوج�ه إىل تقوي�ة البني�ة التحتي�ة للمجتمع ،وإن االس�تهالك التريف ،هو رضب من رضوب هدر
اإلمكان�ات والق�درات االقتصادي�ة يف غري موضعه�ا الطبيعي، فاحلض�ارات واملدني�ات ل�دى املجتمع�ات اإلنس�انية قاطبة ،ال
تقوم عىل االستهالك وتداعياته االقتصادية واالجتامعية ،بل عىل املزيد من توجيه الثروات إىل عمليات اإلنتاج يف إطار مؤسسات
ومجعيات ترجع بالنفع عىل اجلميع.
إن القضية ليس�ت س�لع ًا نشترهيا وبضائع نس�تهلكها لكن
املوض�وع أعمق من ذل�ك بكثري ،حيكي أحد الكتاب التونس�يني
جترب�ة غربته فيقول« :عندم�ا ذهبنا نحن أبن�اء املغرب العريب إىل فرنس�ا للدراسة كان لدينا يقني بأن فرنس�ا تفتح لنا كل فضاءاهتا
لنتعل�م ونس�تفيد م�ن نتاجه�ا احلض�اري الرفيع ،لك�ن الرئيس (ج�ورج بومبي�دو) ألق�ى يوم ًا كلمة ق�ال فيها لكل الفرنس�يني: «علم�وا ه�ؤالء القادمين من الشرق اللغ�ة والثقافة الفرنس�ية 22
ليشتروا كل يشء فرنسي بع�د ذل�ك!» يومها كت�ب الكاتب إىل والدت�ه يف ري�ف تون�س طالب ًا منها كتب� ًا عربي�ة يتحصن هبا ضد
اختراق (بومبيدو) لوجدانه ،قال هل�ا« :ال أريد أغطية أو بقالوة أو مصاري�ف زي�ادة ،أري�د القبض عىل ذايت ،ألهن�م يصادرونني
جهار ًا يف فرنسا».
لق�د ختلصت الش�عوب العربي�ة من االس�تعامر ،لكننا اليوم
نعاين اس�تعامر ًا من نوع آخ�ر ..فالعوملة أدت إىل حدوث اخرتاق
ل�كل ش�عوب العامل ،ومن أهم م�ا جنته املجتمع�ات العربية أهنا أصبحت جمتمعات استهالكية .
إذن فالقضية ليست أن ندعو إىل ترشيد االستهالك ،فنبدأ يف
الضغط عىل األبناء يف مرصوفاهتم ،وإنام الرتشيد سياسة للتعامل
مع املال الذي هو من الرضورات اخلمس لديمومة احلياة ،ترشيد االس�تهالك هو نمط يتوجه إىل إنامء النعم والثروات ،عن طريق
متى نشفى من مرض االستهالك الرتفيهي ناهد باشطح (مقال منشور يف جريدة الرياض يف العدد 21609الس�نة 38بتاريخ األحد /25 شوال1423/هـ /29ديسمرب2002/م.
23
العم�ل على حتوي�ل هذه النع�م إىل مص�ادر دخل دائم�ة لصالح املواطن املس�تهلك ،إن�ه نقل هذه الثروات من دائرة االس�تهالك إىل دائرة اإلنتاج.
إن الدع�وة إىل ترش�يد االس�تهالك ال يقص�د هب�ا احلرم�ان
م�ن التمت�ع بملذات الدنيا ،بق�در ما يقصد هبا العم�ل عىل تربية النفس حتى يتمكن املس�لم من القيام بدوره يف النهوض بواجبه
االس�تخاليف يف األرض وفق ًا لق�ول اهلل عز وجل﴿ :ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ .كام يقصد منها الدعوة إىل التوسط وعدم اإلرساف يف االستفادة من نعم اهلل عز وجل ،لذا فإن هذه
الدع�وة إىل ترش�يد االس�تهالك ال تنطل�ق من فراغ وإنما ترتبط بحس�ن عبادة املؤمن لربه وتفعي�ل دوره يف محاية األرض والبيئة وتأمني احلياة الس�ليمة لألجيال التي تأيت بع�ده ،ذلك أن العبادة
بمعناه�ا الش�امل ال تقترص عىل أداء الش�عائر الدينية فقط ،إذ إن حسن اس�تغالل البيئة عبادة ،واملحافظة عليها وصيانتها لتستمر
سورة الذاريات اآلية .56
24
إىل ما ش�اء اهلل تنتفع هبا البرشية كافة حتى يرث اهلل األرض ومن
عليه�ا عب�ادة ،وإماطة األذى ع�ن الطريق عب�ادة ،وعدم تلويث املاء واهلواء عبادة ،وحس�ن اس�تعامل املرافق العامة واخلاصة من
طرق ومياه وكهرباء ومؤسس�ات خمتلفة (مدارس -مستشفيات مصانع وغريها) بأسلوب راشد عاقل عبادة ،هذه السلوكياتاإلسالمية البناءة ىف التعامل مع مكونات البيئة الطبيعية واملشيدة، أمر اهلل س�بحانه وتعاىل عب�اده هبا بقوله﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾ .
وليس ثمة ش�ك أن حسن استغالل مكونات البيئة الطبيعية
واملشيدة وصيانتها فيه نفع كبري للبرشية كافة ،وأن سوء استغالهلا
والعمل عىل رسعة اس�تنزاف مواردها أمر فيه رضر بالغ للبرشية
مجع�اء ،وه�و ىف نف�س الوق�ت كف�ر والعي�اذ ب�اهلل بأنع�م اهلل،
وال ري�ب أن الكف�ر بأنع�م اهلل مدع�اة إىل امل�آيس والك�وارث
واجلوع واخلوف.
سورة القصص اآلية .77
25
قـ�ال تع�اىل﴿ :ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ
ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ﴾ .
وم�ن نامذج س�وء االس�تهالك يف البيئ�ة ،الكثاف�ة العالية يف
اس�تخدام األس�مدة الكياموي�ة واملبي�دات احلرشية ،مم�ا أدى إىل ترسب كميات كبرية منها إىل اهلواء ومصادر املياه وإفسادمها.
أما عن نامذج س�وء االس�تهالك عىل الصعي�د اخلاص فمنها
اإلرساف يف اس�تخدام املي�اه يف االس�تعامالت اليومي�ة ،ويف
استخدام الكهرباء وغريها من وسائل الطاقة.
ومن األمور الالفتة لالهتامم حدوث كثري من هذه الترصفات
االستهالكية يف أوساط إسالمية ،حيث يستخدم اإلسالم كحجة للإرساف ،مث�ل إهدار املياه على تنظيف البي�ت ،حتت حجة أن
اإلسالم حيث عىل النظافة والطهارة .
إن دور املس�لم يف تطبي�ق منه�ج اهلل يف الوس�طية وع�دم
اإلرساف يعبر ع�ن طبيعة هذه األم�ة وأصالتها ،قال س�بحانه: ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾ .
سورة الروم اآلية .41 سورة البقرة اآلية .143
26
واملس�لم بحاجة إىل الرجوع إىل هذا األصل ،وس�يادة منهج
الوسط عىل املستوى الفردي ،فإن سوء اإلدارة واهلدر يف األموال واألرزاق الت�ي تبدو عىل ترصفات كثري من املس�لمني تؤكد هذه
احلاج�ة ،فعلى عك�س اإلنس�ان الغ�ريب ال�ذي يشتري الفاكهة
بالقطعة ،يعرف املس�لم بكرمه وس�خائه داخل أرسته وخارجها -وهذا حس�ن ،لك�ن املطلوب أن يكون بق�در معقول -لذا ال
يكتف�ي الرج�ل بشراء كيلو واحد م�ن طعام معين ،وال يرىض بشراء نوع واحد م�ن الفاكهة ،كام ال تطبخ املرأة نوع ًا واحد ًا من
الطع�ام ،وال تقب�ل برشاء ث�وب واحد يف الس�نة ،والنتيجة ماذا؟
طعام يرمى يف س�لة النفايات ،وأثواب تلبس س�نة واحدة أو مرة واحدة ثم تنتهي موضتها فتزين اخلزائن بدل أن تزين األجس�اد،
فإىل متى س�يبقى املسلمون عاجزين عن حتديد الكميات املشرتاة
من األغذية واحلوائج حس�ب حاجة األفراد واألرسة الرضورية
والفعلية؟ وإىل متى س�يبقون عاجزين ع�ن إدراك أن الزيادة عن احلاج�ة ق�د تتلف أثن�اء التخزين الطوي�ل وتقل قيمته�ا الغذائية
وبالتايل تسبب خسائر مادية .
27
فاحلاج�ة إىل تربي�ة النف�س للمس�لم وصياغتها وف�ق منهج
اإلسلام وطبيعة هذه األمة حيييها من رقاد طال ،وس�بات عميق أمات القلوب ،ولن حتيا إال بالرجوع إىل الكتاب والسنة النبوية، وق�د قيل :من قل طعمه ص�ح بطنه ،وصفا قلبه ،ومن كثر طعمه
سقم بطنه ،وقسا قلبه .
وورد يِف احلكم�ة :أن البطن�ة تذهب الفطن�ة ،وقال لقامن
البنه :إذا امتألت املعدة نامت الفكرة وخرست احلكمة وقعدت
األعضاء عن العبادة .
وإذا كان�ت احلاج�ة إىل ترش�يد االس�تهالك رضورية يف كل
حين ،فهي أش�د رضورة يف أيامنا هذه ،الس�يام يف ه�ذه املرحلة
التارخيية اهلامة ،التي متر هبا األمة اإلسالمية ،وحتتاج من املسلم أن يس�تعد ملواجهة احلياة والتحسب لألزمات يف أية حلظة ،واملسلم
عمدة القاري ،27/21املستطرف .39/1 فيض القدير ،293/1البيان والتبيني ،253/1مجهرة خطب العرب .139/1 التحري�ر والتنوير البن عاش�ور ،3279/1س�بل السلام ،234/1 الشفا .72/1
28
إذا مل ينجح يف جهاد نفس�ه وكبح ش�هواهتا ومل يتغلب عليها ،فهو س�يعجز ع�ن حتمل جه�اد األع�داء ،ذل�ك أن الدني�ا ال تقر عىل
ح�ال ،وعلى املؤمن أن يس�تعد يف أوق�ات الرخاء على مواجهة
أوق�ات البالء ،قال س�يدنا عم�ر ريض اهلل عنه« :إياك�م والتنعم وزي العج�م وعليكم بالش�مس فإهنا محام العرب واخشوش�نوا واخلولقوا وارموا األغراض وانزوا نزوا» .
وق�ال ابن خلدون يف مقدمت�ه« :فاهلالكون يف املجاعات إنام
قتلهم الشبع املعتاد السابق ال اجلوع احلادث الالحق» .
فاملس�لم حريص عىل النهوض بمجتمعه وحتويله من جمتمع
اس�تهالكي إىل جمتمع منتج ،ذلك أن الزيادة الكبرية يف اس�تهالك األف�راد ،تؤدي إىل إنف�اق كل الدخل الف�ردي والقومي لتمويل
رشاء الس�لع االس�تهالكية ،والت�ي يف معظمه�ا ق�د ال تكون من اب�ن حب�ان ،268/2عب�د ال�رزاق ،85/11اخلول�ق الث�وب :بيل، والن�زو الوثب�ان ومن�ه الوثب�ان عىل اخليل /لس�ان الع�رب 88 /10 و.319/15 تاريخ ابن خلدون .109/1
29
الس�لع املهم�ة ،وهذا التوجه لن يكون إال إذا اس�تند إىل أس�اس اعتقادي صحيح.
***
30
املبحث األول املهمة االستخالفية ودورها يف توجيه االستهـالك إن اهل�دف م�ن وج�ود اإلنس�ان على األرض يف االقتص�اد
اإلسلامي ه�و عامرهت�ا ،الت�ي تقتضي العم�ل واحلرك�ة فيه�ا، واس�تثامرها عىل أس�اس الضواب�ط العقائدية والقي�م األخالقية
املرتبط�ة بالتص�ور اإلسلامي ،ألن التزكي�ة الروحي�ة والبن�اء
األخالق�ي تزك�و بآمال اإلنس�ان فتجع�ل منها مرشوع� ًا للتنمية
ليتحم�ل مس�ؤولية االس�تجابة لكل طلب متتد إليه يده حلس�اب االس�تهالك وفق ًا لتلك الضوابط ،ألن العملية االستهالكية ذاهتا
طاع�ة ينبغي أن تتوفر فيها الفضيل�ة والطهارة والصفاء ،ولذلك فرق االقتصاد اإلسلامي بني السلع الطيبة والسلع اخلبيثة ،ألنه
ال يدخل يف العملية االس�تهالكية إال الس�لع الطيبة التي توفرت فيه�ا الضوابط الرشعية وه�ذا ما يميز االقتصاد اإلسلامي عن
االقتص�اد الوضع�ي ،حيث إن هذا األخري يس�تهلك أي س�لعة 31
تتمش�ى م�ع رغبات األفراد بش�كل مطل�ق ،ولذلك ف�إن عملية
االس�تهالك ال يمك�ن أن تعم�ل م�ن دون االعتامد على العقيدة التي حتكم النظرية االقتصادية ،ال س�يام وأن نظرية االستخالف، الت�ي تعني يف املفهوم الفقهي :النياب�ة والقوامة يف حدود املأذون
به واملخول فيه) (1تتحكم يف توجهات املسلم وتصوراته وتضبط
كل س�لوكياته ،وف�ق نظام أق�ره اهلل تعاىل لعب�اده يف احلدود التي س�خرها هل�م ،وما س�لطهم علي�ه من ملك�ه ،وذلك م�ن خالل
قوانينه�ا العاملة،وه�ي) :(2أن املل�ك هلل وأن الك�ون س�خره اهلل
لإلنس�ان وس�لطه عليه بام وهبه من عقل وإدراك وسمع وبرص، الس�تثامره ملصلحت�ه) (3ولذل�ك فه�و مكل�ف بعمارة األرض امل�ال واحلك�م يف اإلسلام /عب�د الق�ادر ع�ودة 28الطبع�ة الثاني�ة 1383هـ 1964 -م دار النذير – بغداد . نظرية االس�تخالف يف الفكر اإلسلامي وأثرها يف بناء الش�خصية / الدكت�ور عبد اللطيف مهي�م 11وما بعدها الطبع�ة األوىل 1411هـ 1990م مطبعة النواعري – العراق – الرمادي . املال واحلكم يف اإلسلام ،9الس�وق اإلسلامية املشتركة /الدكتور حمم�ود حممد بابليل 40الطبع�ة األوىل 1975م – دار الكتاب اللبناين – بريوت.
32
واالنتفاع بخرياهتا وفق منهج اهلل الذي وضعه للعمل به ،وبذلك
يكون صاحلا لوراثتها .
فحين ينس�اب املس�تهلك يف ظلال ه�ذا التص�ور وخيضع
عز َّ وج�ل فهو يعرب عن دوره يف إقام�ة اخلالفة وحتقيق ملنه�ج اهلل َّ
العبودية هلل تعاىل عىل هذه األرض،وقد جاء هذا املعنى واضح ًا يف
العديد من النصوص القرآنية التي بلغت عرشين نص ًا أو يزيد.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ﴾).(1
وقوله تع�اىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ﴾).(2
وقول�ه تع�اىل﴿ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ﴾
)(3
إىل غير ذلك من النص�وص التي تدل عىل أن مركز اإلنس�ان يف
األرض بمثابة النائب والقائم. سورة فاطر اآلية .39 سورة البقرة اآلية . 30 سورة األنعام اآلية .165
33
ويف ظ�ل ه�ذا التصور اإلسلامي للحي�اة اإلنس�انية ودور
اإلنس�ان يف احلي�اة ترتس�خ القي�م اإليامني�ة ،فالدني�ا دار امتحان
وليس�ت هي دار مقامة ،ومس�تقبل اإلنس�ان يف اآلخ�رة مرهون بترصف�ه يف الدنيا وما قدم فيها من عمل‘ ومن كانت هذه عقيدته
فإن االستهالك ال يشكل عنده هدفا لوجوده وال غاية من غاياته،
كما احلال عن�د من ال يفهم األم�ر هكذا من الذين اخت�ذوا الدنيا متاعا وهلوا ولعبا.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ﴾) ،(1ب�ل إن م�ن رمح�ة اهلل ع�ز وج�ل بالناس أن
رشع هل�م دين�ا قيام وس�طا ،ال جن�وح فيه وال مغ�االة ،ولذلك مل
يرتك املس�لم يتهالك عىل االس�تهالك ،ومل يدع�ه يعزف عنه ،بل إن حسبه من الدنيا ما يقيم به نفسه ويتقوى به عىل معاده ،يطلب
الفلاح يف اآلخ�رة ،ويف ه�ذه الس�احة من الوس�طية واالعتدال يتحرك املسلم بكل طمأنينة وأمان).(2
سورة حممد اآلية .12 األس�عار وختصيص املوارد يف اإلسلام الدكتور عبد اجلبار محد عبيد السبهاين .464
34
فإذا ترسخت العقيدة واستبانت القيم اإليامنية يأيت بعد ذلك
دور املنهج يف تفعيل القيم وترسيخ املبادئ.
وعىل هذا األس�اس حدد القرآن الكريم يف بداية األمر املواد
التي نستهلكها ،فجاء التعبري (بالطيبات) بمعنى املواد املستهلكة
يف ثامنية عرش موضع ًا) (1التي يقابلها لفظ (اخلبائث) التي تش�مل امل�واد الت�ي ال تصل�ح لالس�تهالك) (2ألهن�ا ت�ؤدي إىل إضعاف
طاق�ات البرش وفاعليته�م يف عامرة األرض -الت�ي هي تكليف
رشعي ،-حيث إن االس�تهالك هدف اإلنتاج ،وبه يقيم اإلنسان صلبه ،وبه يس�تطيع مواصلة العمل ،فهو املحصلة النهائية لتأدية
اإلنسان أهدافه التعبدية.
قال تعاىل﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ﴾).(3
االقتص�اد اإلسلامي /حمم�د منذر القح�ف ،38انظر مث ً ال :س�ورة البق�رة اآلي�ة ،57س�ورة النس�اء اآلية ،160س�ورة املائ�دة اآلية ،6 سورة األعراف اآلية ،32سورة يونس اآلية .93 س�ورة النس�اء اآلية ،2س�ورة املائدة اآلية ،103س�ورة األنفال اآلية . 37 سورة البقرة اآلية . 172
35
وقال﴿ :ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾).(1
وق�ال﴿ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢﯣ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾).(2
وقال عليه الصالة والسلام« :إن اهلل حيب أن يرى أثر نعمته
عىل عبده»).(3
ولذل�ك قال�وا عن االس�تهالك :هو م�ا يتوصل ب�ه إىل أداء
الفرائض) (4لقوله عليه الصالة والسالم« :وإنك مهام أنفقت من نفقة فإهنا صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إىل يف امرأتك»).(5
ويق�ول الش�اطبي عن�ه« :إنام ه�و خادم لألص�ل الرضوري
ومؤن�س به وحمس�ن لصورته اخلاصة ،إما مقدمة ل�ه أو مقارن ًا أو سورة املؤمنون اآلية . 51 سورة النحل اآلية .14 أمح�د ،438/4الرتم�ذي ،123/5والطبراين يف الكبري ،135/18 سنن البيهقي الكربى .271/3 االكتساب يف الرزق املستطاب ملحمد الشيباين . 62 أمح�د 172/1و ،173البخ�اري ،2591س�نن البيهق�ي الكبرى .467/7
36
تابع ًا ،وعىل كل تقدير فهو يدور باخلدمة حواليه ،فهو أحرى بأن يتأدى به الرضوري عىل أحسن حاالته»).(1
ولي�س من املعقول أن يكلف اإلنس�ان بمهمة اخلالفة وهي
أداء عبادة ،ثم حيال بينه وبني مقومات قيامه هبا.
يقول العز بن عبد السلام« :اإلنس�ان مكلف بعبادة الديان
باكتس�اب يف القلوب واحل�واس واألركان ما دام�ت حياته ،ومل
تت�م حيات�ه إال بدف�ع رضوراته وحاجات�ه من املآكل واملش�ارب
واملالبس واملناكح وغري ذلك من املنافع»).(2 ويق�ول« :فل�و فقد أحدن�ا بيت ًا يأوي�ه أو ثوب ًا يواري�ه ومدفئ ًا
يدفئه ملا أطاق الصرب عليه»).(3
ولذلك يويص عمر بن اخلطاب عامله بسد حاجات الرعية،
ألن اجل�وع مقدم�ة للكف�ر ،فق�ال هل�م« :وال متنعوه�م حقوقهم فتكفروهم»).(4
املوافقات .24/2 قواعد األحكام .80/2 املصدر السابق . 70/2 أمحد ،41/1سنن البيهقي الكربى ،29/9تاريخ الطربي ،567/2 تاري�خ دمش�ق ،278/44كنز العمال ،191/16مناقب عمر البن اجلوزي . 95
37
السلعة الطيبة والسلعة اخلبيثة:
إن الس�لعة االقتصادي�ة يف املفه�وم اإلسلامي هي الس�لعة الطيبة ،التي أنتجت يف دائرة احلالل وحتمل كافة السامت اخلاضعة للضواب�ط الرشعية ،فهي إذن س�لعة طيبة حيل اس�تهالكها ،وأما السلعة اخلبيثة :فهي التي مل تتوفر فيها الضوابط الرشعية فال حيل استهالكها. قال تعاىل﴿:ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾).(1 وقــ�ال أيـضــ�ا﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾).(2 وقـ�ال﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾).(3
ق�ال القرطب�ي« :إن اللف�ظ ع�ام يف مجيع األم�ور يتصور يف املكاس�ب واألعمال والن�اس واملع�ارف م�ن العل�وم وغريه�ا، فاخلبيث من هذا كله ال يفلح وال ينجب وال حتسن له عاقبة وإن كثر ،والطيب -وإن قل -نافع مجيل العاقبة»).(4 سورة املائدة اآلية . 4 سورة األعراف اآلية . 157 سورة املائدة اآلية .100 اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .327/6
38
وكما س�بق :ف�إن مم�ا ال ش�ك في�ه أن االرتب�اط العميق بني
االقتصاد والعقيدة هو املؤثر يف حتديد النش�اط اإلنساين وحاالته ونتائجه).(1
فكما أن العم�ل يف إنتاج اخلم�ر وامليتة وال�دم وحلم اخلنزير
ويف كل م�ا ي�ؤدي إىل هدم األخلاق واإلرضار بالغير حرام يف
اإلسلام ،ألنه من اخلبائث ،فكذلك اس�تهالك هذه حرام ،ألهنا
تعد س�لع ًا خبيثة ،فال جيوز رشب اخلمر وال أكل امليتة وال بيعها، وكذلك الدم وحلم اخلنزير ،ألن ما حيرم إنتاجه حيرم استهالكه.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾).(2
وق�ال﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ
ﭮ ﭯ﴾).(3
االستهالك وضوابطه .45 سورة املائدة اآلية .90 سورة املائدة اآلية . 3
39
وق�ال﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾).(1 وين�درج يف ه�ذا اجلان�ب كل عم�ل أو حاجة ت�ؤول إىل أن
يس�تخدم منافعه�ا املس�لم ،وحي�ث إن إحي�اء امل�وات واملعادن واإلجارة واملش�اركة واملضاربة واملس�اقاة واملزارعة وغريها من
أش�كال العق�ود ،حتتوي عىل منافع ،وهذه املنافع تعمل عىل س�د حاج�ات متع�ددة ومتنوعة ولذل�ك تعرض الفقه�اء ألحكامها
وبينوا الصحيح والفاس�د منها ،تبع ًا ملا تؤديه من أغراض ،فقالوا
يف اإلجارة مثال بعدم جواز إجارة ما منفعته حمرمة كالزنا والنوح والغن�اء ،وعدم إجارة الرجل داره ملن يتخذها كنيس�ة أو بيعة أو يتخذها لبيع اخلمر أو للعب القامر) (2ونحو ذلك ،وكذلك احلال
يف منافع باقي العقود.
*** سورة األعراف اآلية . 33 املغني البن قدامة . 150 -149/6
40
املبحث الثاني ضـوابط االسـتهـالك إن االس�تثامر يف الرشيعة اإلسلامية الب�د أن حيقق املقاصد
الرشعية التي تنقس�م إىل رضورية وحاجية وحتس�ينية ،ولتحقيق هذه املقاصد جيب االهتامم بكل األنشطة التي تلبي هذا الغرض، بعي�دا عن االس�تثامر ال�ذي هيدم الفك�ر اإلنس�اين ،وقد حددت
الرشيعة اإلسلامية احلاجات الرضورية بام يتامش�ى مع التعاليم الدينية واألخالقية والقيم اإلسالمية ،خمالفة األنظمة االقتصادية املعارصة التي ترى حتقيق احلاجات اإلنسانية ،سواء أكانت تلك احلاجات مرشوعة أم غري مرشوعة ،حقيقية أم ومهية ،استنادا عىل
أن علم االقتصاد علم حمايد ال دخل له بالقيم وال يقيد باحلاجة إال إذا توفرت القدرة املالية التي تشبع تلك احلاجة يف نظر االقتصاد
الرأساميل ،ومل تكتف الرشيعة اإلسالمية بتحديد احلاجة فقط،بل
حرصت عىل املحافظة عىل املال وإحسان استغالله.
قال رسول اهلل ﷺ« :إن اهلل كره لكم ثالثا :قيل وقال ،وكثرة
السؤال ،وإضاعة املال»).(1
البخاري ،2277مسلم . 593
41
ولذلك فإن حتصيله برفق ،واس�تثامره بحكمة وروية ،سبيل
إىل إصالحه واملحافظة عليه.
يق�ول عمر بن اخلط�اب ريض اهلل عنه« :أصلح�وا أموالكم
الت�ي رزقكم اهلل ع�ز وجل ،فإن إقالال يف رفق خير من إكثار يف
خ�رق») (1ألن اإلفراط يف طلب الفائدة من غري توازن يف الطلب
ربام كان سبب احلرمان وربام تكون شدة االجتهاد يف طلب الربح طريق ًا إىل اخلرسان).(2
وإذا كان الرفق يف االستثامر والتوازن يف طلبه يمنع ضياعه،
ف�إن الت�وازن يف اس�تهالكه وإنفاقه حياف�ظ عليه ويس�هم يف مجع
الث�روة وعدم ضي�اع اإلنتاج ،حي�ث ال قيمة لإلنت�اج إن مل يكن
استهالك متوازن حيميه.
ولتحقي�ق هذا الغرض جعل اإلسلام االس�تهالك املتوازن
وترش�يد اإلنفاق وعدم التخلص من السلع واآلالت واألدوات تاريخ الطربي ،573/2إصالح املال . 54 أعالم االقتصاد اإلسلامي دكتور ش�وقي دني�ا 196مكتبة اخلرجيي الرياض .1404
42
واخلدمات قبل أن تستهلك بقدر معقول وسيلة للتنمية وديمومة
لإلنت�اج ،وم�ن ثم ع�دَّ اإلرساف والتبذير أمرين مفس�دين لكل رشوط إصالح املال ،ونقيضني لتنمية املال ،أو مجع الثروة). (1 قال تعاىل﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾).(2 وق�ال﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﴾) (3وق�ال علي�ه الصلاة والسلام:
«كل�وا وارشب�وا والبس�وا وتصدق�وا يف غري خميل�ة وال رسف»
)(4
وقال« :ما عال من اقتصد»).(5
وقال« :من اقتصد أغناه اهلل ومن بذر أفقره اهلل»).(6 االقتصاد اإلسالمي ،مفاهيم ومرتكزات /حممد أمحد صقر . 55 سورة األعراف اآلية . 31 سورة اإلرساء اآلية .29 أمحد 181/2و ،182البخاري ،182/7ابن ماجه (.)3605 أمحد ،447/1الطرباين يف الكبري 109 – 108/10حديث ،10118 جممع الزوائد للهيثمي .252/10 قال اهليثمي يف املجمع :253 – 252/10رواه البزاز ،ختريج اإلحياء .1904/4
43
ف�اإلرساف والتبذي�ر مدع�اة إىل الترف ،ال�ذي هو س�بب
للهالك ونزول العذاب ،كام صوره القرآن الكريم.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾).(1
وبن�ا ًء على ذل�ك ،ف�إن العناي�ة باإلنت�اج ال تكف�ي للتنمية
االقتصادية ،بل البد لتحقيق هذا اهلدف من االهتامم باالستهالك
وترش�يده ،ألنه احللق�ة األخيرة يف العملية االقتصادي�ة ،كام أن
العم�ل أيضا ال يمكن أن حيافظ عىل اإلنتاج وزيادته إال إذا حتقق
جان�ب الوفرة في�ه وتوجيهه إىل الطرق املرشوع�ة واملعقولة التي حتقق املصلحة للفرد واملجتمع عىل حد سواء .
فاإلسلام وإن كان يبيح االستهالك ويأمر به ،إال أنه وضع
ل�ه ح�دود ًا وضوابط ال جي�وز أن يتخطاه�ا املس�تهلك ،وبذلك
تلتقي ضوابط العمل بضوابط االستهالك لتصب يف معني واحد هو سد حاجة الفرد لتحقيق اخلالفة يف األرض).(2
سورة اإلرساء اآلية .16 االستهالك وضوابطه .202
44
ومفهوم االعتدال والرتش�يد يف االس�تهالك مفهوم متوازن
وهو :استخدام املقدار املناسب دون إرساف أو تقتري.
وقد بني اإلم�ام الغزايل ذلك بقوله« :واملقدار الذي يكس�به
ينبغي أن ال يستكثر منه وال يستقل ،بل القدر الواجب ،ومعياره احلاجة :واحلاجة ملبس ومسكن ومطعم»).(1
ولع�ل مفه�وم الكفاية الذي يق�ره نظام التوزيع اإلسلامي
يمكن أن حيدد لنا االعتدال والرتشيد يف االستهالك وهذا خيتلف
من عرص آلخر
ويمك�ن حتقيق ذلك من خالل اس�تخدام س�لم األولويات
وفق املنهج اآليت:
-1يبدأ املسلم بسد حاجات نفسه أو ً ال ،ثم أهله ،ثم أقربائه،
ثم املحتاجني.
قال رس�ول اهلل ﷺ« :ابدأ بنفسك فتصدق عليها ،فإن فضل
يشء فألهل�ك ،ف�إن فضل عن أهل�ك يشء فل�ذي قرابتك ،فإن إحياء علوم الدين للغزايل .262/3
45
فض�ل عن ذي قرابت�ك يشء ،فهكذا وهكذا ،يق�ول :بني يديك،
وعن يمينك ،وعن شاملك»).(1
-2يق�وم املس�تهلك املس�لم بتلبي�ة رضوريات�ه أو ً ال ،ث�م
حاجيات�ه ،ث�م حتس�يناته ،وه�ذه ه�ي رت�ب املصالح عن�د علامء
األص�ول ،حي�ث تعرض هلا اجلوين�ي (ت 478ه�ـ) ،(2والغزايل
(ت 505هـ)) (3والعز بن عبد السلام (ت660هـ)) (4وثالثتهم
ش�افعية ،والش�اطبي املالك�ي (ت 790ه�ـ)) ،(5واب�ن خل�دون (ت808هـ)).(6
فالرضوري :ما يرتتب عىل فواته رضر ال يطاق عادة كاملوت
واملرض الشديد «كاملآكل واملشارب واملساكن واملناكح واملراكب
اجلالبة لألقوات»).(7
النس�ائي ،304/7س�نن البيهق�ي الكبرى ،178/4اب�ن حب�ان .124/1 الربهان يف أصول الفقه للجويني 923/2و .939 املستصفى للغزايل .286/1 قواعد األحكام يف مصالح األنام للعز بن عبد السالم . 71/2 املوافقات للشاطبي .8/2 مقدمة ابن خلدون .875/2 قواعد األحكام يف مصالح األنام للعز بن عبد السالم .71/2
46
واحلاجي :ما يرفع احلرج عن الناس ويدفع املشقة. والتحسيني( :الكاميل) هو ما يتجاوز احلاجي إىل ما من شأنه
رغد العيش ،دون أن يدخل يف نطاق الرسف أو الرتف أو التبذير، وذل�ك «كاملآكل الطيبات واملالب�س الناعامت والغرف العاليات والقصور الواس�عات واملراكب النفيسات ،ونكاح احلسناوات، والرساري الفائقات»).(1
قال ﷺ« :من س�عادة املرء املسكن الواسع ،واجلار الصالح،
واملركب اهلنيء»).(2
و«مفهوم احلوائج األصلية» يرتاوح بني الرضوري واحلاجي
بحسب املوارد املتوفرة ،وقد تكلم الفقهاء عنها عند كالمهم عن الزكاة أو التوظيف املايل أو نفقات األقارب أو اإلفالس.
-3يتحدد مستوى االستهالك واإلنفاق عىل النفس والعيال
ً نفس�ا إال واملحتاجين بالق�درة املالية للش�خص ،فال يكلف اهلل
وسعها .
املصدر السابق. أمحد ،407/3ابن حبان ،340/9األدب املفرد .54/1
47
-4ال جيوز أن يش�تمل االستهالك ،س�واء كان رضوري ًا أو
حاجي� ًا أو كاملي ًا ،عىل حمرم ،كاحلري�ر أو الذهب للرجال ،أو آنية الذهب والفضة ،أو اخلمر ،أو اخلنزير .
-5يدعو اإلسالم إىل احلد األمثل يف االستهالك ،فيمنع ك ً ال
من التقتري ،واإلرساف والتبذير).(1
التقتير :ويدخ�ل يف البخ�ل ال�ذي كان يس�تعيذ منه رس�ول اهلل ﷺ، فهو يضعف اجلس�م والعق�ل والروح ،ويقطع املس�لمني عن أعامهلم وأنش�طتهم ،ويوهنه�م ،وجي�رئ األع�داء عليه�م ،انظ�ر :الغياث�ي للجويني ص 477و 481و 482و .485 واإلرساف :لغة جماوزة احلد ،أو القصد ،أو االعتدال ،وهو ما انفق يف غري طاعة. ويف الفق�ه عرفه بعضهم بأنه :إنفاق الكثري يف الغرض اخلس�يس ،أو جتاوز احل�د يف النفق�ة ،أو أكل م�ا ال حي�ل ،أو األكل فوق الش�بع ،أو جتاوز املباح إىل املحظور /انظر :نيل األوطار .301/5 ويف السرف يف الطع�ام ق�ال الرسخسي يف املبس�وط ( 267/30كت�اب الكس�ب)« :ألن�ه إنما يأكل ملنفع�ة نفس�ه ،وال منفع�ة يف األكل فوق الش�بع ،بل فيه مضرة ،وألن ما يزي�د عىل مقدار حاجت�ه من الطعام في�ه حق غريه ،فإنه يس�د ب�ه جوعت�ه إذا أوصله إليه بع�وض أو بغري عوض ،وألن األكل فوق الش�بع ربام يمرضه .واألصل فيه أن رج ً ال جتش�أ يف جملس رس�ول اهلل ﷺ ،فغضب رسول اهلل ﷺ وقال :كف =
48
ق�ال تع�اىل﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ * ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾).(1
وقـ�ال أيض�ا﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ * ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾).(2
وق�ال تع�اىل﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾).(3
وقال ﷺ« :كلوا وارشبوا والبس�وا وتصدقوا يف غري إرساف
وال خميلة»).(4
= عنا جشاءك ،فإن أكثرهم شبعا يف الدنيا أطوهلم جوعا يوم القيامة» /الرتمذي .649/4 ف�اإلرساف إذن ه�و اإلنفاق يف حرام ولو قل ،أو اإلنف�اق يف مباح ،إذا زاد عىل احلد . والتبذي�ر :أش�د م�ن اإلرساف ،فه�و املغاالة يف جت�اوز احلد ،والتوس�ع يف اإلنفاق عىل املحرمات واملعايص والشهوات. سورة األعراف اآلية .32-31 سورة اإلرساء اآلية .27 سورة اإلرساء اآلية .29 البخاري .2180/5
49
قال اب�ن عباس ريض اهلل عنهام« :كل ما ش�ئت ،وارشب ما
شئت ،ما أخطأتك اثنتان :رسف وخميلة»).(1
وال ش�ك فاملبذر ملاله يعدّ يف الرشع سفيه ًا غري راشد ،حيجر
عليه عند مجهور الفقهاء).(2
ف�إذا متادى اإلنس�ان يف الرسف والتبذير ف�إن ذلك يوقعه ال
حمالة يف الرتف املهلك.
الرتف طريق اهلالك:
عندم�ا تتأك�د يف املجتم�ع اإلسلامي وح�دة االس�تهالك
ووس�طية النمط االس�تهالكي وتوازنه فإن كل القيم اإلسلامية
واألحكام الرشعية تقف صفا واح�دا لتحارب اجلنوح ومظاهر االنحراف عن هذا املنهج اإلسالمي الرشيد.
فق�د ذم القرآن الكريم الرتف واملرتفني ألن الرتف أش�د من
التبذي�ر ،وربما تك�ون حالة ي�ؤول إليها املبذر ،فيتوس�ع يف مالذ املصدر السابق ،ابن أيب شيبة .171/5 املغن�ي الب�ن قدام�ة ،550/4املبس�وط للرسخسي ،315/7بدائع الصنائع للكاس�اين ،176/6نيل األوطار ،301/5اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .30/5
50
الدنيا وشهواهتا ،وتبطره النعمة وسعة العيش ،وإذا انترش الرتف
يف األمة أودى هبا إىل الفناء).(1
واملرتف�ون دوم�ا بطان�ة الش�يطان وه�م أع�داء الدع�وات
اإلصالحي�ة ل�كل األنبياء عليه�م الصالة والسلام واملصلحني
يف كل األزمنة ،ألن توظيفهم للعقائد الفاس�دة ناتج عن خوفهم
عىل املصالح الذاتية التي يس�عون لتحقيقها يف اس�تغالل الفقراء والبس�طاء من الناس ،قال تع�اىل﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾).(2
ويف آي�ة أخ�رى ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾) (3وق�ال﴿ :ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾).(4
مقدم�ة اب�ن خلدون 501/2فص�ل يف أن من عوائ�ق امللك حصول الترف وانغماس القبيل يف النعي�م ،و 541/2فص�ل يف :أن طبيعة امللك الدعة والسكون . سورة سبأ اآلية .34 سورة الزخرف اآلية .23 سورة هود اآلية .116
51
ومل�ا كان الترف ه�و اخل�رق الفاض�ح هل�دف االس�تهالك
والتعطي�ل لوظيفته يف إدامة املوارد واملحافظ�ة عىل نامء الثروات وحف�ظ الت�وازن يف تلبية احلاج�ات للمجتمع ،فقد ع�ده القرآن الكريم سببا للهالك والتدمري.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾).(1
وقال أيضا﴿ :ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ *
ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾).(2
وق�ال﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ * ﯝ ﯞ ﯟ *
ﯡ ﯢ ﯣ * ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ * ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾).(3 فهو خلل تس�تأثر فيه حفن�ة تظلم اآلخرين حقوقهم وتس�تنزف
جهدهم.
*** سورة اإلرساء اآلية .16 سورة املؤمنون اآلية .65 -64 سورة الواقعة اآلية .45 - 40
52
املبحث الثالث مسات اجملتمع اإلسالمي وأثرها يف االستهالك -1ترك األنانية: إن اإلحس�اس باآلخري�ن والتعاي�ش مع املجتمع س�مو يف
األخالق وأصالة يف نفس املس�لم ،وذلك ألن األنانية واس�تئثار
الفرد بام فضله اهلل به يعد جحودا لنعمة اهلل عز وجل ،قال تعاىل:
﴿ﯽ ﯾ ﯿ﴾) (1وذل�ك ألن اإلسلام يري�د إقامة جمتم�ع متكافل يقوم عىل التع�اون والت�آزر والتواصل بعيدا عن
الش�ح واألنانية ،قال رس�ول اهلل ﷺ« :ما آمن يب من بات شبعان
وجاره جائع إىل جنبه وهو يعلم»).(2
وق�ال« :من كان أخوه حتت يده فليطعمه مما يأكل وليلبس�ه
مما يلبس»).(3
سورة النحل اآلية .71 املعجم الكبري للطرباين ،259/1مصنف ابن أيب شيبة .164 /6 البخاري ،30مسلم .1661
53
وق�ال« :من كان معه فض�ل ظهر فليعد به عىل من ال ظهر له
وم�ن كان له فض�ل من زاد ف ْليعد به عىل م�ن ال زاد له ،فذكر من أصناف املال ما ذكر حتى رأينا أن ال حق ألحد منا يف فضل»).(1
إن م�ن املمك�ن أن يكون النقص يف متطلبات اإلنس�ان ناجتا
ع�ن كس�له وإمهال�ه يف الس�عي اجل�اد يف حتصيلها ،ولك�ن البطر واألث�رة من قب�ل اآلخرين ،باس�تغالل املوارد والش�ح عىل أهل
احلقوق،عوامل هلا دور كبري يف ذلك.
ق�ال رس�ول اهلل ﷺ« :إن اهلل فرض عىل أغنياء املس�لمني يف
أمواهلم بقدر الذي يس�ع فقراءهم ،ولن جيه�د الفقراء إذا جاعوا وعروا إال بام يصنع أغنياؤهم ،أال وإن اهلل حياسبهم حسابا شديدا
ويعذهبم عذابا أليام»).(2
وع�ن أيب هري�رة ريض اهلل عن�ه ق�ال :ق�ال رس�ول اهلل ﷺ:
«عرض علي أول ثالثة يدخلون اجلن�ة وأول ثالثة يدخلون النار فأما أول ثالثة يدخلون اجلنة فالش�هيد وعبد مملوك أحس�ن عبادة
مسلم ،1728أبو داود ،522/1ابن حبان .238 /12 املعج�م الكبير للطبراين ، 48/4الرتغي�ب والرتهي�ب للمن�ذري ،306 /1جممع الزوائد .197/3
54
رب�ه ونص�ح لس�يده وعفي�ف متعف�ف ذو عي�ال وأم�ا أول ثالثة يدخلون النار فأمري مس�لط وذو ثروة من مال ال يؤدي حق اهلل يف
ماله وفقري فخور»).(1
ويق�ول القرطب�ي« :م�ا رأي�ت ق�ط رسف�ا إال ومع�ه ح�ق
مضيع»).(2
ولذلك فإن إحس�اس املس�لم بحاجة اآلخرين يوجب عليه
التنحي عن كل مظاهر اإلرساف والتبذير والرتف ،وإلزام الذات أن تتوطن يف دائرة الوسطية املتناغمة مع سد احلاجات للمجتمع،
والتخيل عن معامل األنانية ،التي ال حتس�ب لآلخرين حسابا ،ألن األنانية وحب الذات رش مقيت وداء مناف لإلنسانية واألخالق
اإلسلامية ،ق�ال ﷺ« :أال أنبئكم برشاركم؟ قالوا بىل إن ش�ئت ي�ا رس�ول اهلل ،ق�ال :فإن رشاركم م�ن ينزل وح�ده وجيلد عبده
ويمنع رفده»).(3
أمح�د ،425/2الرتم�ذي ،176 /4ابن حب�ان ،151/10الرتغيب والرتهيب للمنذري ،307/1املستدرك للحاكم .544/1 اجلامع ألحكام القرآن .251/10 املعج�م الكبير للطبراين ،318 /10الزه�د البن حنب�ل ،295/1 املستدرك للحاكم ،300/4جممع الزوائد . 334/8
55
-2االلتزام بالتعاليم النبوية: ولكي ينتزع اإلسالم تلك األنانية جاءت التوجيهات النبوية
أن ال يتع�اىل أحد عىل أح�د يف البنيان وال يؤذي جاره بقتار قدره
إال أن يغ�رف ل�ه منه�ا وال خيرج ول�ده بالفاكهة فيغي�ظ هبا طفل جاره إال أن يصله.
قال ﷺ« :من أغلق بابه دون جاره خمافة عىل أهله وماله فليس
ذل�ك بمؤم�ن ،وليس بمؤمن من مل يأمن ج�اره بوائقه ،أتدري ما
ح�ق اجلار؟ إذا اس�تعانك أعنته ،وإذا اس�تقرضك أقرضته ،وإذا افتقر عدت علي�ه ،وإذا مرض عدته ،وإذا أصابه خري هنأته ،وإذا أصابته مصيبة عزيته ،وإذا مات اتبعت جنازته ،وال تستطيل عليه
بالبني�ان فتحجب عنه الري�ح إال بإذنه ،وال تؤذه بقتار ريح قدرك إال أن تغ�رف له منها ،وإن اشتريت فاكهة فاه�د له ،فإن مل تفعل
فأدخلها رسا وال خيرج هبا ولدك ليغيظ هبا ولده»).(1
شعب اإليامن ،83/7الرتغيب والرتهيب للمنذري ،243/3ختريج أحاديث اإلحياء .187/2
56
وتأسيس�ا على ه�ذا تعق�ب اإلسلام مظاه�ر االس�تهالك
اجلانح�ة اخلارج�ة ع�ن منهج الوس�طية ،فق�ال رس�ول اهلل عليه الصالة والسلام« :تكون إبل للشياطني وبيوت للشياطني ،فأما
إب�ل الش�ياطني فق�د رأيتها ،خي�رج أحدك�م بجنيب�ات) (1معه قد
أس�منها ،فال يعلو بعريا منها ،ويمر بأخيه قد انقطع به فال حيمله،
وأما بيوت الش�ياطني فلم أرها» كان س�عيد يق�ول« :ال أراها إال هذه األقفاص التي يسرت الناس بالديباج»).(2
فالبيوت والس�يارات الفاخرة الزائ�دة عىل احلاجة والتباهي
هب�ا ،والبذخ يف األموال وإنفاقها على امللذات ،وإن كان األصل
يف ذلك أن يكون مباحا ما مل يستخدم يف احلرام ،لكنه يرصف عن املسؤولية جتاه اآلخرين ويذهب اإلحساس بحاجتهم ،فقد أشاع
اإلسلام مب�دأ التكافل بني املس�لمني ،وربط بين قلوهبم باملودة واإلخاءّ ، وهذب املش�اعر واألحاس�يس حتى كأن الناس جسد واح�د ،فإذا جتاهل املس�لم أخاه وانش�غل بملذات�ه أدى ذلك إىل
اجلنيبة هي الدابة التي تقاد ،انظر :عون املعبود.169/7 أبو داود ،32/2البيهقي الكربى .255/5
57
نس�يان الواجبات فامتت فيه مش�اعر التضحية واالهتامم بحقوق األخوة ،وغلبت عليه شهوة اللذة والتفرد واالستعالء.
يقول الش�اطبي« :إن فعل املباح س�بب ىف مضار كثرية منها:
أن فيه اشتغاال عام هو األهم ىف الدنيا من العمل بنوافل اخلريات وصدا عن كثري من الطاعات ،ومنها :أنه س�بب ىف االشتغال عن الواجب�ات ووس�يلة إىل املمنوعات ألن التمت�ع بالدنيا له رضاوة كضراوة اخلمر وبعضها جير إىل بع�ض إىل أن هتوي بصاحبها ىف املهلكة والعياذ باهلل ،ومنها :أن الرشع قد جاء بذم الدنيا والتمتع
بلذاهتا»).(1
ولذل�ك كان عم�ر بن اخلطاب يتخذ اخلش�ن من الطعام كام
كان يلب�س املرق�ع ىف خالفته ،فقيل له لو اخت�ذت طعاما ألني من ه�ذا ،فقال« :أخش�ى أن تعجل طيب�ايت يقول اهلل تع�اىل :أذهبتم
طيباتكم ىف حياتكم الدنيا» ).(2
املوافقات .112 / 1 جام�ع البيان للطربي ،288/11تفسير ابن كثير ،202/4اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .175/7
58
ولع�ل ما أش�ار به س�يدنا عمر ب�ن اخلطاب عىل جابر يشير
إىل الرتش�يد يف نمط االس�تهالك مما يعزز اجلانب الرتبوي يف هذا
اجلان�ب ،فقد أدرك جاب�ر بن عبد اهلل ومعه مح�ال حلم فقال« :ما
هذا؟ فقال :يا أمري املؤمنني قرمنا) (1إىل اللحم فاشتريت بدرهم
حلما ،فقال عم�ر :أما يريد أحدك�م أن يطوي بطنه ع�ن جاره أو ابن عمه؟ أين تذهب عنكم هذه اآلية ﴿ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿ﴾»).(2
قال قتادة« :ذكر لنا أن عمر ريض اهلل عنه قال :لو شئت كنت
أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيبايت لآلخرة .وملا
قدم عمر الشام صنع له طعام مل ير قط مثله قال :هذا لنا فام لفقراء املسلمني الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعري؟ فقال خالد بن
الولي�د :هلم اجلنة .فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال :لئن كان شدة الشهوة إىل اللحم ،أي اشتهاه ،لسان العرب .473/12 املوطأ ،936/2املس�تدرك ،494/2ابن أيب ش�يبة ،140/5ش�عب اإليمان للبيهق�ي ،34/5الرتغي�ب والرتهيب للمن�ذري ،103/4 إصالح املال .104/1واآلية من سورة األحقاف.
59
حظن�ا من الدني�ا هذا احلط�ام وذهبوا هم يف حظه�م باجلنة فلقد
باينونا بونا بعيدا»).(1
ودخ�ل عم�ر ريض اهلل عن�ه على النبي ﷺ وه�و يف مرشبته
حني هجر نس�اءه قال« :ثم رفعت بصري يف بيته فواهلل ما رأيت فيه ش�يئا ي�رد البرص غري أهبة ثالث�ة فقلت ادع اهلل فليوس�ع عىل أمت�ك ف�إن ف�ارس وال�روم وس�ع عليه�م وأعط�وا الدني�ا وهم
ال يعب�دون اهلل وكان متكئ�ا فق�ال« :أو يف ش�ك أن�ت ي�ا اب�ن
اخلطاب؟ أولئك قوم عجلت هلم طيباهتم يف احلياة الدنيا» .فقلت يا رسول اهلل استغفر يل»).(2
وق�ال حف�ص ب�ن أيب العاص :كن�ت أتغدى عن�د عمر بن
اخلطاب ريض اهلل عنه اخلبز والزيت واخلبز واخلل واخلبز واللبن
واخلب�ز والقدي�د وأق�ل ذل�ك اللح�م الغري�ض وكان يقول :ال
تنخل�وا الدقيق فإنه طع�ام كله فجيء بخبز متفل�ع غليظ فجعل جام�ع البي�ان للطبري ،288/11اجلامع ألحكام الق�رآن للقرطبي .171 / 16 البخاري ،2336مسلم .1479
60
ي�أكل ويقول :كل�وا فجعلنا ال ن�أكل فقال :ما لك�م ال تأكلون؟ فقلن�ا :واهلل ي�ا أمري املؤمنني نرجع إىل طعام ألني من طعامك هذا فقال :يابن أيب العاص أما ترى بأين عامل أن لو أمرت بعناق سمينة فيلق�ى عنها ش�عرها ثم خترج مصلية كأهنا كذا ك�ذا أما ترى بأين عامل أن لو أمرت بصاع أو صاعني من زبيب فأجعله يف س�قاء ثم أش�ن عليه من املاء فيصبح كأنه دم غ�زال فقلت :يا أمري املؤمنني إين ألراك عامل�ا بطيب العيش فقال :أج�ل ! واهلل الذي ال إله إال هو لوال أين أخاف أن تنقص حس�نايت يوم القيامة لش�اركناكم يف العيش ! ولكني س�معت اهلل تعاىل يقول ألقوام﴿ :ﯹ ﯺ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﴾).(1 وم�ن ه�ذا القبي�ل أيضا ك�ره بع�ض العلماء يف الرتبية أكل الطيب�ات واحتج بق�ول عمر ريض اهلل عنه« :إياك�م واللحم فإن س�ورة األحق�اف اآلية 20وانظ�ر :اجلامع ألحكام الق�رآن للقرطبي ،171 /16طبقات ابن سعد ،280/3كنز العامل .841/12
61
ل�ه رضاوة كضراوة اخلمر») (1أي عادة ينزع إليها كعادة ش�ارب اخلمر يف مالزمتها. وه�ذا من عمر قول خرج عىل من خشي منه إيثار التنعم يف الدنيا واملداومة عىل الشهوات وشفاء النفس من اللذات ونسيان اآلخرة واإلقبال عىل الدنيا»).(2 ويف هذا الس�ياق ما روي عن النبي ﷺ إذ رأى سترا موشيا على ب�اب فاطم�ة ريض اهلل عنها فق�ال« :مايل وللدني�ا» فقالت: ليأمرين بام ش�اء ،قال« :ترس�ل به إىل أهل بيت هبم حاجة ،ليست
يل حاجة بزخرف الدنيا»).(3
وقد روي أن النبي ﷺ نزع أس�تارا يف بيت عائشة ريض اهلل عنها قائال« :إن اهلل مل يأمرنا أن نكسو احلجارة والطني»).(4 املوطأ ،935/2مسلم ،1201/3كنز العامل .728/5 اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .175/ 7 البخاري .2471 مسلم .2107
62
روى س�امل ب�ن عب�د اهلل بن عمر ق�ال :أعرس�ت يف عهد أيب
فآذن أيب الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن وقد سرتوا بيتي بخباء
أخرض فأقبل أبو أيوب مرسعا فاطلع فرأى البيت مس�ترتا بخباء أخضر فق�ال يا عب�د اهلل أتسترون اجل�در؟ فقال أيب واس�تحيا: غلبتنا النس�اء يا أبا أيوب فقال :من خش�يت أن يغلبنه فلم أخش
أن يغلبن�ك ث�م ق�ال ال أطع�م لك�م طعام�ا وال أدخل لك�م بيتا
ثم خرج).(1
وع�ن حممد بن كعب ق�ال :دعي عبد اهلل ب�ن يزيد إىل طعام
فلما جاء رأى البي�ت منجدا فقعد خارجا وبكى ق�ال فقيل له ما يبكيك قال كان رس�ول اهلل ﷺ إذا ش�يع جيشا فبلغ عقبة الوداع
ق�ال أس�تودع اهلل دينكم وأماناتكم وخواتي�م أعاملكم قال فرأى رجال ذات يوم قد رقع بردة له بقطعة قال فاستقبل مطلع الشمس وقال هكذا ومد يديه ومد عفان يديه وقال تطالعت عليكم الدنيا
ثلاث مرات أي أقبلت حتى ظننا أن يقع علينا ثم قال أنتم اليوم املعجم الكبري للطرباين .118/4
63
خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخ�رى ويغدو أحدكم يف حلة ويروح يف أخرى وتسرتون بيوتكم كام تسرت الكعبة فقال عب�د اهلل بن يزيد أفال أبكي وقد بقيت حتى تسترون بيوتكم كام تسرت الكعبة»).(1 وعن ابن عباس وعيل بن احلسين عن النبي ﷺ «أنه هنى أن
تسرت اجلدر»).(2
يقول ابن قدامة« :إذا ثبت هذا فإن سرت احليطان مكروه غري حم�رم وهذا مذه�ب الش�افعي ،إذ مل يثبت يف حتريم�ه دليل ،وقد فعله ابن عمر وفعل يف زمن الصحابة ريض اهلل عنهم وإنام كره ملا فيه من الرسف ،كالزيادة يف امللبوس واملأكول وقد قيل :هو حمرم للنه�ي عنه واألول أوىل فإن النه�ي مل يثبت ،ولو ثبت حلمل عىل الكراهة ملا ذكرناه»).(3 البيهقي يف الكربى ،272/7الزهد البن حنبل .197/1 البيهقي يف الكربى ،272/7ويف شعب اإليامن .256/5 املغني .114/8
64
-3الفهم العميق ملقاصد الترشيع اإلسالمي: إن الرشيعة اإلسلامية تناغي عمق اإليامن وسمو الروح يف
اإلنس�ان ،وتنمي احلس املس�ؤول إزاء امل�وارد ،وتكرس اجلهود
لتنميته�ا وحت�ارص كل ع�ارض يعط�ل وظيفته�ا ،لك�ي ت�ؤدي
تل�ك امل�وارد دوره�ا دون احلاج�ة إىل الترف املجايف للوس�طية واحتكارها يف استخدامات ال رضورة فيها وال حاجة هلا ،وذلك
ألن قانون االس�تهالك أو االستعامل يف اإلسالم جيب أن ينسجم مع قانون التس�خري ،واس�تخدامها يف غري ما خلقت له يتناىف مع
هذا القانون.
قال رسول اهلل ﷺ« :إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر،
فإن اهلل إنام سخرها لكم لتبلغكم إىل بلد مل تكونوا بالغيه إال بشق
األنفس ،وجعل لكم األرض ،فعليها فاقضوا حاجاتكم»).(1
ج�اء يف ع�ون املعبود« :قال القاري :واملعنى ال جتلس�وا عىل
ظهورها فتوقفوهنا وحتدثون بالبيع والرشاء وغري ذلك بل انزلوا أبو داود ،32/2سنن البيهقي الكربى .255/5
65
واقضوا حاجاتكم ثم اركبوا ،قال الطيبي :كناية عن القيام عليها
ألهن�م إذا خطب�وا على املناب�ر قاموا ...ق�ال اخلطايب :م�ا حمصله إن�ه ق�د ثبت عنه ﷺ أن�ه خطب على راحلته واقفا ف�دل عىل أن
الوق�وف على ظهورها إذا كان إلرب أو بل�وغ وطر ال يدرك مع النزول إىل األرض جائز وأن النهي انرصف إىل الوقوف عليها ال
ملعنى يوجبه بأن يس�توطنه اإلنس�ان ويتخذه مقعدا فيتعب الدابة
ويرض هبا من غري طائل»).(1
فل�كل س�لعة اس�تعامل يلي�ق بطبيعته�ا ،ف�إن انحرفت عن
وظيفته�ا أصاهب�ا اخلل�ل ،فيج�ب توفري طاق�ة الدابة مل�ا خلقت
ألجل�ه ،والوقوف عىل األرض أو اجلماد يغني عن الوقوف عىل الداب�ة ،وبذلك تتوف�ر الطاقة الكامنة فيها ،لتس�تخدم يف السير وقط�ع الطرق يف املس�افات البعيدة ،واس�تخدامها منابر وأماكن
للوق�وف على ظهره�ا واملك�وث زمنا طويلا وهي واقف�ة ٍ تعد عىل وظيفتها األصلية ،فإن هذا االس�تخدام قد هيأ اهلل عز وجل األرض بدل الدابة وسخرها هي لدور آخر يناسب خلقتها.
عون املعبود .169/7
66
وه�ذا املعن�ى يش�مل كل طاق�ة إنتاجي�ة أو ث�روة وطنية أو
مصلح�ة فردي�ة أو مجاعي�ة لكي يراع�ى فيها أس�اس اخللقة وما جبل�ت علي�ه من املناف�ع التي تؤدهيا وف�ق الضواب�ط التي حتكم
العملية االستهالكية وتراعي مصلحة اآلخرين.
وامل�واد املعدة لالس�تعامل ُأنتجت لس�د احلاجات ،تنس�اب
بش�كل طبيعي يف أصل اخللقة لتأدية دوره�ا ،وهي بذلك تكون صاحلة لديموم�ة احلياة وتوفري األمن الغذائ�ي واحلاجي للبرش،
فإن ختللها إرساف أو تبذير أو ترف تلكأ دورها وضلت طريقها.،
قال ﷺ« :ال ترسفوا»).(1
وق�ال« :ما مأل آدم�ي رشا من بطن بحس�ب ابن آدم أكالت
يقمن صلبه فإن كان ال حمالة فثلث لطعامه وثلث لنفسه»).(2
وبذلك يتبني أن نمط االس�تهالك الوس�طي والرشيد الذي
صاغت املعامل الرشعية والقيم اإليامنية حدوده هو الذي يتمش�ى -املعجم الكبري للطرباين ،69/8مصنف عبد الرزاق .145/4 سنن الرتمذي ،590/4ابن حبان ،449/2املعجم الكبري،272/20 املستدرك .367 /4
67
م�ع رشوط الواق�ع ومقتضي�ات العصر ويكف�ل سلامة الفرد واملجتم�ع وحيف�ظ امل�وارد من اهل�در ويصن�ع السلامة والثروة وينم�ي اإلنت�اج ،وذل�ك ألن االس�تهالك يعتبر أح�د مكونات الدخ�ل القوم�ي ألي بل�د ،كام أن�ه أح�د م�ؤرشات الرفاهية يف
املجتم�ع ،وتص�ب كل دراس�ات س�لوك املس�تهلك يف حماول�ة
معرفة جمددات االستهالك ،وتوازن املستهلك ،كام يعترب مفهوم ًا منافس� ًا لالدخ�ار؛ حي�ث يعترب االدخ�ار تأجي ً ال لالس�تهالك يف
الوقت احلارض إىل اس�تهالك مستقبيل ،وبمعنى آخر عىل مستوى
االقتصاد الكيل هو :تنازل اجليل احلايل عن جزء من االس�تهالك احلايل لصالح األجيال القادمة؛ وذلك ألن الدخل يمكن تقسيمه
إىل اس�تهالك إضاف�ة إىل ادخار وال بد من حتقي�ق موازنة معقولة بين االثنني ت�ؤدي إىل الوصول إىل مس�توى اإلش�باع املطلوب.
وم�ن هنا يتض�ح لنا أن الس�لوك االس�تهالكي يفترض أن يبدأ عندم�ا تعط�ي الس�لعة أو اخلدمة املس�تهلكة أعظم إش�باع ممكن ويستمر استهالكها حتى يصل هذا اإلشباع أو املنفعة إىل الصفر، 68
وهي النقطة التي يفرتض أن يتوقف االس�تهالك عندها أو قبلها بقلي�ل ،وعليه فإن القول الش�ائع «نحن قوم ال نأكل حتى نجوع
وإذا أكلنا ال نش�بع» هو قاعدة اس�تهالكية س�ليمة تعني رضورة
توفر مبدأين أساسيني:
-1أن يت�م االس�تهالك عندما تعطي الس�لعة أعظم إش�باع
ممك�ن ،وهذا ال يتحقق إال بوجود ش�عور حقيق�ي باحلاجة إليها
«حتى نجوع».
-2أن يتوق�ف االس�تهالك عن�د انتف�اء املنفعة أو اإلش�باع
ال�ذي تقدم�ه وه�ي مرحل�ة الش�بع ،وبالت�ايل تكون الس�لعة قد
حقق�ت الغ�رض الذي اشتريت من أجل�ه وانتف�ت احلاجة إىل
اس�تهالك املزيد منها ،فكل استهالك ال يبدأ عندما تعطي السلعة أعظم إش�باع ممكن يعترب تبذير ًا من أساسه؛ ألنه ال وجود حلاجة حقيقة هلذه السلعة.
وكل استهالك يتجاوز ذلك ُيعترب إرساف ًا؛ ألنه جتاوز املقدار
الكايف لتلبية احلاجة املفقودة والذي عادة ما يقع من املستهلكني؛ 69
ألهن�م ال يس�عون إىل معرفة ذل�ك املقدار من الس�لع واخلدمات ال�ذي يلب�ي حاجاهتم بالفع�ل ولو عىل وجه التقري�ب ،وهو أمر
خيتل�ف من ش�خص آلخر وال يتم معرفته إال م�ع التدريب عليه حتى يصبح جزء ًا من سلوكيات الشخص نفسه ،وعادة ما يكون
االس�تهالك الذي ال حيقق املبدأين الس�ابقني اس�تهالك ًا تفاخري ًا ألغ�راض املباه�اة وليس لتلبي�ة حاجة حقيقية وهو س�لوك ينبع م�ن التنافس يف تقليد اآلخري�ن والرغبة يف التمييز ،وهو ما حذر
من�ه ﷺ حينام ح�ذر من التناف�س يف الدنيا ،فاالس�تهالك يف حد ذات�ه ليس مذموم ًا ،ولكن املذم�وم فيه هو اإلرساف والتبذير من
الناحية الرشعية وم�ن الناحية االقتصادية ،وقد دفع ذلك معظم
البلدان إىل فرض رضائب عالية عىل استرياد وتوزيع السلع التي
تتس�م بطابع الرتف واملباهاة للحد من الس�لوكيات االستهالكية السلبية عىل الصعيد االقتصادي واالجتامعي ،كام حددت معظم
البل�دان حد ًا أدنى ملس�توى الدخل الذي جي�ب أن يتحصل عليه
أي عامل أو موظف يف الدولة ،والذي يمثل احلد األدنى ملستوى املعيش�ة يف البلد املعني ،وإذا مل يوف�ق يف احلصول عىل عمل يوفر 70
ل�ه ه�ذا الدخل؛ فيلتزم املجتم�ع بتوفريه له عىل هيئ�ة إعانة مالية ليتمكن من اقتناء السلع الرضورية.
ولضامن حتقيق العملية االستهالكية ينبغي أن تتوفر جمموعة
من األس�س املتينة ،وعىل رأس�ها القناعة بام تيرس ودام ،خري من التمسك بام ال يدوم ،أو بام ال طائل من ورائه.
ق�ال ﷺ« :لو كان البن آدم واديان من مال البتغى ثالث ًا ،وال
يمأل جوف ابن آدم إال الرتاب ،ويتوب اهلل عىل من تاب»).(1
ولي�س معن�ى ه�ذا أن اإلنس�ان يستس�لم ويرض�خ للحالة
الت�ي وج�د عليه�ا ،وإنما القناع�ة تعن�ي رض�ا اإلنس�ان بنفس�ه
وبقدراته وإمكاناته ،قال ﷺ« :قد أفلح من أسلم ،ورزق كفافا، وقنعه اهلل بام آتاه»).(2
فاملطلوب من الفقري أال يبقى مكتوف اليدين ،قائال إنه ٍ راض
بقض�اء اهلل وقدره يف فقره ،وإنام علي�ه أن يعمل جاهدا للخروج البخاري ،6072مسلم .1048 أمحد ،168/2مسلم .1054
71
م�ن بوتقة الفق�ر املدقع إىل ح�د الكفاية ،وهذا مطل�ب إهلي قبل
أن يكون مطلب الش�خص الفقري نفس�ه ،مع الوضع يف احلسبان
أن األرزاق بيد اهلل .وبني القناعة والسياس�ة الرشيدة لالستهالك عالقة وثيقة ،تتمثل يف عدم االغرتار بام تبثه الرشكات اإلعالنية، ودور التج�ارة ومراكزه�ا ،من صور إش�هارية ،مل�ا حيتاجه ،وال
حيتاجه املستهلك.
فالقناع�ة تتمث�ل يف طل�ب الضروري واالس�تغناء ع�ن
الكاملي�ات ،بالتحدي�د الواض�ح لرضوري�ات احلي�اة األرسي�ة لتوفريها قدر اإلمكان ،مع املوازنة بني الرضوريات نفسها.
ف�إذا توف�رت القناعة تعمق اإلحس�اس بالربكة م�ن اهلل عز
وج�ل ،التي يعتقدها املس�لم ويعم�ل هبا يف واق�ع األمر؛ لكوهنا
تعن�ي الزيادة والنماء واحلفظ ،فا ُمل َّس�لم به عند املس�لم ،أن ليس
كل ما يتمناه املرء يطلبه ،وإنام يسير وفق نظرية «االقتصاد» التي يتم فيه�ا املقاربة واملوازنة بني املدخالت واملخرجات قال تعاىل:
﴿ﰉ ﰊ ﰋ﴾).(1 سورة لقامن اآلية .19
72
والقصد يعني االعتدال والتوسط. وبين القناع�ة والربك�ة ارتب�اط وثي�ق يف أن يقنع املس�لم بام
عنده ويسأل اهلل تبارك وتعاىل أن يبارك له فيه ،فإن طعام الواحد يكفي االثنني ،وطعام االثنني يكفي األربعة ،وهذه قاعدة جليلة عظيمة ،جاء هبا قول املصطفى ﷺ« :طعام الواحد يكفي االثنني،
وطعام االثنني يكفي األربعة ،وطعام األربعة يكفي الثامنية»).(1
فاملس�لم ال جين�ح نح�و إش�باع رغباته ً كما وكيف� ًا ،إنام يضع
التوازن يف سلم حياته كلها قدر املستطاع ،ليأخذ بيده نحو احلياة
األزلية ،يف جنة اخللد إن شاء اهلل تعاىل.
ق�ال تع�اىل﴿ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾).(2
فحين نفق�ه ه�ذه احليثي�ات ونتش�بث بتلك األس�س ،فإن
سياسة ترشيد االس�تهالك ستعطي ثامرها ،وتعكس فقه اإلنفاق
وآلياته ،فليس كل س�لعة جيب أن ُتشترى ،وليس كل مال جيب البخاري ،5077مسلم .2059 سورة القصص اآلية .77
73
أن ينف�ق ،وليس املال الكثري هو أم�ارة الغنى ،وال قلته هي أمارة الفقر ،لكن االعتدال يف إنفاق املال من الس�جايا النبيلة التي أمر
هبا اإلسالم.
وأول آلي�ة لإلنفاق ه�ي معرفة أوجهه ومدارك�ه؛ فاإلنفاق
يف اخلير واحللال والطيبات أول أبوابه ،ب�دون إرساف يف رشاء
الكامليات ،أو التوسع بغرض التباهي. ***
74
املبحث الرابع االستهالك الرشيد وسيلة جللب الربكة إن الرتش�يد عن�د املس�لم يعن�ي الش�كر هلل عز وج�ل ،حني
أطاعه باس�تخدامه كل طاقة فيام خلق�ت له ،ويف هذا نامء للنفس وطه�ارة للقلب وبركة يف الس�لوك ،فهو حي�س أن هذه النعمة أو
تلك حمفوظة من كل سوء ،يفتح اهلل له هبا أبواب الرزق ومسالك اخلير الت�ي حيقق هب�ا كفايته ،معتقدا أن اهلل س�ينمي ل�ه ما أعطاه
اس�تجابة لوع�د اهلل ع�ز وج�ل ق�ال تع�اىل﴿ :ﭰ ﭱ
ﭲ﴾).(1
وم�ا دام الش�كر وس�يلة للزي�ادة س�واء كانت ه�ذه الزيادة
حس�ا أو معن�ى ـ كأن حتف�ظ النعم�ة وتنمو أو يدفع عنها الس�وء واهلالك والزوال ـ فإهنا يف حساب املسلم وعقيدته تسمى الربكة
الت�ي ذك�رت كثريا يف القرآن والس�نة النبوية،وجرت عىل ألس�نة
الصاحلني يف كل زمان.
فالربك�ة ه�ي ثم�رة الطاعة ،وهي م�ن األس�س املعتمدة يف
عقي�دة املس�لم وتصوره ،وق�د ال يفهمها من نظر إىل احلس�ابات سورة إبراهيم اآلية .7
75
اآللي�ة فقط وابتعد عن املش�اعر اإليامنية وحجبته قوانني األرض
ع�ن إدراك لغ�ة اإليمان الت�ي يتعام�ل هب�ا املؤم�ن يف اس�تخدام األس�باب واملس�ببات ،وذلك ألن املسلم يس�تجيب باستخدامه
العوام�ل لكنه يض�ع النتائج وفق القاع�دة اإليامنية التي حيس هبا وراء ذلك.
فالربكة هي :النامء والزيادة والس�عادة واالتساع والكثرة يف
كل خري).(1
يقول النووي« :وأصل الربكة الزيادة وثبوت اخلري واإلمتاع
ب�ه ،واملراد بربكة الطع�ام واهلل أعلم ما حيصل به التغذية وتس�لم
عاقبتة من أذى ويقوي عىل طاعة اهلل تعاىل وغري ذلك»).(2
ويف قول�ه ﷺ« :الله�م ب�ارك هل�م يف مكياهلم وب�ارك هلم يف
صاعه�م وبارك هل�م يف مدهم») (3قال الق�ايض الربكة هنا بمعنى لسان العرب ،396/10القاموس املحيط ،1204/1اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي ،5/13 ،134/4الكشاف للزخمرشي .853/1 رشح مسلم .206/13 املوطأ ،884/2البخاري ،2023مسلم .1368
76
النم�و والزي�ادة وتكون بمعنى الثبات والل�زوم قال فقيل حيتمل أن تكون هذه الربكة دينية وهي ما تتعلق هبذه املقادير من حقوق
اهلل تع�اىل يف الزكاة والكفارات فتكون بمعن�ى الثبات والبقاء هلا
كبق�اء احلكم هبا ببقاء الرشيعة وثباهت�ا ،وحيتمل أن تكون دنيوية من تكثري الكيل والقدر هبذه األكيال حتى يكفي منه ما ال يكفي م�ن غيره يف غير املدين�ة ،أو ترج�ع الربك�ة إىل التصرف هبا يف
التج�ارة وأرباحه�ا واىل كثرة ما يكال هبا م�ن غالهتا وثامرها ،أو
تكون الزيادة فيام يكال هبا التس�اع عيش�هم وكثرته بعد ضيقه ملا فتح اهلل عليهم ووس�ع من فضله هل�م وملكهم من بالد اخلصب
والري�ف بالش�ام والع�راق ومرص وغريه�ا حتى كث�ر احلمل إىل املدينة واتس�ع عيش�هم حتى صارت هذه الربكة يف الكيل نفس�ه
فزاد مدهم وصار هاشميا مثل مد النبى ﷺ مرتني أو مرة ونصفا
ويف ه�ذا كل�ه ظهور إجاب�ة دعوت�ه ﷺ وقبوهلا .ه�ذا آخر كالم الق�ايض والظاهر من هذا كله أن الربكة يف نفس املكيل يف املدينة بحيث يكفي املد فيها ملن ال يكفيه يف غريها واهلل أعلم»).(1
رشح مسلم للنووي .142/9
77
ويف رشح منته�ى اإلرادات« :الربك�ة الزيادة أو حلول اخلري
اإلهلي يف اليشء»).(1
عز وق�د بني اإلم�ام األوزاع�ي أن الربكة حينام ينتزعه�ا اهلل َّ
َّ وجل يعد ذلك حرمانا وعقوبة ،فقال« :إذا أراد اهلل أن حيرم عبده
بركة العلم ألقى عىل لسانه األغاليط»).(2
فالربك�ة ه�ي الزي�ادة التي تنتجه�ا الطاعة لتك�ون ثمرة هلا،
ولذل�ك ق�ال تع�اىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾) (3وق�ال﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾).(4
يق�ول القرطبي« :فجعل تعاىل التقى من أس�باب الرزق كام
يف ه�ذه اآليات ووعد باملزيد ملن ش�كر فقال﴿ :ﭰ ﭱ
ﭲ﴾»).(5
البهويت .235/1 املوافقات للشاطبي .317/4 سورة األعراف اآلية .96 سورة اجلن اآلية .16 سورة إبراهيم اآلية ، 7وانظر :اجلامع ألحكام القرآن .227/6
78
وكما يف قوله تعاىل خمربا عن ن�وح إذ قال لقومه﴿ :ﯽ
ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ * ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﴾).(1
وعـ�ن هـ�ود﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ﴾
)(2
«فوعدهم املطر واخلصب»).(3
وكذل�ك يف قوله تعاىل﴿:ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾).(4
قال س�عيد بن املسيب وعطاء بن أيب رباح والضحاك وقتادة
ومقات�ل وعطية وعبيد ب�ن عمري واحلس�ن« :كان واهلل أصحاب
النبي ﷺ س�امعني مطيعني ففتح�ت عليهم كنوز كرسى وقيرص واملقوقس والنجايش»).(5
واملس�تقرئ للق�رآن الكري�م جي�د أن لف�ظ الربك�ة حني تأيت
بمعن�ى العطاء الكثري الذي يتجاوز حد العد واحلس�اب إنام تأيت بصيغة اجلمع الذي يدل عىل الزيادة والكثرة.
سورة نوح اآلية .11 - 10 سورة هود اآلية .52 اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .225/7 سورة املائدة اآلية .66 اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي .19/19
79
فقد وردت يف ثالثة مواضع ،قال تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾).(1
وق�ال﴿ :ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾).(2
وقوله﴿ :ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾).(3
وألن الربك�ة بمعنى الرفع�ة والعلو وصف بيت اهلل هبا فقال
تع�اىل﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾).(4
ووصف كتابه بأنه مبارك فقال﴿ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾).(5 سورة األعراف اآلية .96 سورة هود اآلية .48 سورة هود اآلية .73 سورة آل عمران اآلية .96 سورة األنعام اآلية .92
80
وقوله﴿ :ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾).(1
ووصف عيسى نفسه فقال﴿ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾).(2
وقال﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ﴾).(3
ووجه نبيه أن ينزله منزال موصوفا بالربكة فقال﴿ :ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾).(4
ووصف ش�جرة الزيت�ون متد الكوكب ال�دري بالطاقة بأهنا
مبارك�ة فق�ال ﴿ :ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾).(5
سورة األنبياء اآلية .50 سورة مريم اآلية .31 سورة الصافات اآلية .113 سورة املؤمنون اآلية .29 سورة النور اآلية .35
81
ووص�ف أرايض وأماك�ن مقدس�ة وق�رى بالربك�ة فق�ال:
﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾).(1 وق�ال﴿:ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾) .(2وقوله﴿:ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ﴾) .(3وقول�ه﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾).(4
وقوله﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾).(5 سورة األعراف اآلية .137 سورة اإلرساء اآلية .1 سورة األنبياء اآلية .71 سورة األنبياء اآلية .81 سورة سبأ اآلية .18
82
و يف الس�نة النبوية ،كثريا م�ا ترد بصيغة التضعي�ف والتثنية
أيضا ،وتلك داللة عىل الزيادة والنامء.
ق�ال رس�ول اهلل ﷺ« :اللهم اجعل باملدين�ة ضعفي ما بمكة
م�ن الربكة») .(1وقال« :اللهم بارك لن�ا يف مدينتنا ،اللهم بارك لنا يف صاعن�ا ،الله�م اجع�ل لنا يف مدن�ا ،اللهم بارك لن�ا يف صاعنا،
اللهم بارك لنا يف مدنا ،اللهم بارك لنا يف مدينتنا ،اللهم اجعل مع الربكة بركتني»).(2
وعن أيب سعيد اخلدري أن رسول اهلل ﷺ قال« :اللهم بارك
لنا يف صاعنا ومدنا واجعل مع الربكة بركتني»).(3
ع�ن عائش�ة تق�ول كان رس�ول اهلل إذا أيت بلبن ق�ال« :بركة
أو بركتان»).(4
ويف التحي�ات «السلام علي�ك أهي�ا النب�ي ورمح�ة اهلل
وبركاته»).(5
مسلم .1369 مسلم .1374 مسلم . 1374 ابن ماجة .1103/2 البخاري ،5910مسلم .402
83
وع�ن أيب هريرة قال قال رس�ول اهلل ﷺ« :بينما أيوب عليه
السلام يغتس�ل عريانا خر علي�ه جراد من ذه�ب فجعل حيثي يف ثوب�ه ق�ال :فناداه ربه عز وجل يا أي�وب أمل أكن أغنيتك؟ قال بىل
يا رب ولكن ال غنى يب عن بركاتك»).(1
وعن أم سلمة أن رسول اهلل ﷺ قال لفاطمة« :ائتيني بزوجك
وابنيه فجاءت هبم فألقى رسول اهلل ﷺ كساء فدكيا ثم وضع يده
عليه�م ثم قال :الله�م إن هؤالء آل حمم�د ﷺ فاجعل صلواتك
وبركاتك عىل آل حممد فإنك محيد جميد» قالت أم سلمة :فرفعت الكساء ألدخل معهم فجبذه من يدي وقال :إنك عىل خري»).(2
وق�ال« :اللهم ابس�ط علين�ا من بركات�ك ورمحتك وفضلك
ورزقك»).(3
إن الربك�ة حتل يف حياتنا ي�وم أن يلتزم املرء بأمر اهلل ،ويكون
شعاره دائ ًام تقوى اهلل حيث ما حل وارحتل. النسائي .200/1 املعجم الكبري .53/3 النسائي الكربى .156/6
84
ق�ال اهلل تع�اىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ﴾).(1 قيل ألحد الصاحلنيّ : إن األسعار قد ارتفعت ،قال :أنزلوها
بالتقوى.
وملا كان االس�تثامر عبادة وطاعة يتق�رب هبا إىل اهلل عزوجل
وهو الوس�يلة لالستهالك فقد بني رس�ول اهلل ﷺ األوقات التي يتضاعف فيها اإلنتاج وينشط فيها العامل فيؤدي جهدا استثنائيا،
فه�ي حم�ط الربكة وظرفها املناس�ب ق�ال ﷺ« :باك�روا الغدو يف طلب الرزق فإن الغدو بركة ونجاح»).(2
وقال« :اللهم بارك ألمتي يف بكورها»).(3 سورة األعراف اآلية .96 الرتغي�ب والرتهي�ب 336/2وق�ال :رواه الب�زار والطبراين يف األوسط. أمح�د ،153/1أب�و داود ،41/2الرتم�ذي ،517/3اب�ن حب�ان ،62/11ابن ماجة .752/2
85
فااللت�زام بتوجيه�ات رس�ول اهلل ﷺ إنما متثل تق�وى اهلل، لتتكون حساسية يف القلب جتاه أمر اهلل ،وشفافية يف الضمري جتاه م�ا هن�ى عنه وزجر ،وكلما أنزلق القلب أو زل�ت القدم يف اخلطأ والعصي�ان مل يكن ذلك س�ببا ملحق الربكة ما دام املس�لم يس�ارع إىل التوبة واإلنابة واالس�تغفار ،فمن لزم االستغفار فتح اهلل عليه وفرج مهه ،وأزال كربته ورزقه من حيث أب�واب الرزق والربكةّ ، ال حيتسب.
ق�ال اهلل تع�اىل﴿:ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ *
ﭑ ﭒﭓﭔ*ﭖﭗﭘﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﴾).(1
ولكن اإلرصار عىل اخلطأ ،والوقوع يف مس�تنقع الفواحش، واللع�ب يف أرب�اض الرذائ�ل ،ه�و الذي ي�ردي إىل اهللاك كام قال الشاعر):(2 سورة نوح اآلية .12- 10 جممع احلكم واألمثال أليب الفضل امليداين.
86
إن كـنـت يف نعمـة فارعها فـإن املعـايص تـزيل النعم وحافظ عليها بتقوى اإلله فـإن اإللـه سـريـع النـقم
فاملعايص تضيع عىل اإلنسان حياته احلقيقية التي جيد مغبتها
يوم يقول ﴿ ﭒ ﭓ ﭔ﴾).(1
وعقوبته�ا أهنا متحق بركة العم�ر وبركة الرزق وبركة العلم
وبرك�ة العم�ل وبرك�ة الطاع�ة وباجلملة أهن�ا متحق برك�ة الدين والدني�ا ،فالجت�د أقل برك�ة يف عمره ودينه ودني�اه ممن عىص اهلل، وما حميت الربكة من األرض إال بمعايص اخللق.
قال اهلل تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾) (2وق�ال تعاىل﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ * ﭫ ﭬ﴾).(3
ق�ال علي�ه الصلاة والسلام« :إن العب�د ليح�رم ال�رزق
بالذنب يصيبه»).(4
سورة الفجر اآلية .24 سورة األعراف اآلية .96 سورة اجلن اآلية .16 أمح�د ،280/5اب�ن حب�ان ،153/3ابن ماج�ة ،1334/2املعجم الكبري للطرباين .100/2
87
وق�ال أيضا« :إن روح القدس نف�ث يف روعي أنه لن متوت
نفس حتى تستويف رزقها فاتقوا اهلل وأمجلوا يف الطلب وال حيملكم
اس�تبطاء ال�رزق عىل أن تطلبوه بمعايص اهلل فإن�ه ال ينال ما عنده
إال بطاعته»).(1
ويف األث�ر إن الرب تبارك وتعاىل ق�ال« :إذا رضيت باركت
وليس لربكتي هناية ،وإين إذا غضبت لعنت ولعنتي تدرك السابع
من الولد»).(2
إن عم�ر العبد ه�و مدة حياته وال حياة مل�ن أعرض عن اهلل
واش�تغل بغريه ،فإن حياة االنس�ان بحياة قلبه وروحه ،والحياة لقلب�ه إال بمعرف�ة فاط�ره وحمبت�ه وعبادت�ه وح�ده واإلناب�ة إليه
والطمأنينة بذكره واألن�س بقربه ،ومن فقد هذه احلياة فقد اخلري
كله ولو تعوض عنها بام تعوض به الدنيا ،بل ليست لدنيا بأمجعها ع�وض عن ه�ذه احلياة ،فمن كل يشء يف�وت العبد عوض وإذا
مصنف عبد الرزاق ،125/11ابن أيب ش�يبة ،79/7مسند الشافعي .233/1 مصن�ف عب�د ال�رزاق ،184/7الزه�د الب�ن حنب�ل ،52/1حلي�ة األولياء .41/4
88
فات�ه اهلل مل يعوض عنه يشء البتة ،وكيف يعوض الفقري والعاجز عن الغني القادر الذي له ملك السموات واألرض؟ وإنام كانت معصية اهلل س�ببا ملحق بركة الرزق واألجل ألن الش�يطان موكل
هب�ا وبأصحاهب�ا ،وكل يشء يتص�ل به الش�يطان ويقارن�ه فربكته
ممحوق�ة ،وهل�ذا رشع ذكر اس�م اهلل تع�اىل عن�د األكل والرشب واللب�س والرك�وب واجلماع ،ملا يف مقارنة اس�م اهلل م�ن الربكة،
وذك�ر اس�مه يطرد الش�يطان فتحص�ل الربكة وال مع�ارض هلا، وكل يشء ال يكون هلل فربكته منزوعة ،فإن الرب هو الذي يبارك وح�ده ،والربك�ة كلها من�ه ،وكل ما نس�ب إليه مب�ارك ،فكالمه
مب�ارك ،ورس�وله مب�ارك ،وعب�ده املؤم�ن النافع خللق�ه مبارك،
وبيته احلرام مبارك ،وكنانته من أرضه وهى الش�ام أرض الربكة، وصفها بالربكة يف ست آيات من كتابه ،فال مبارك إال هو وحده،
وال مبارك إال ما نسب إليه يف حمبته وألوهيته ورضاه.
فكل عم�ل أو قول ابتعد عن الطاعة فقد نزعت بركته ،ألنه
انحرف عن جمراه الصحيح املنضبط ،فيصيبه الش�طط وينتابه كل أسباب االنحراف وامليل.
89
فالربك�ة ترتك�ز بكل ما يدرك اإلنس�ان فيه أنه قرب�ة إىل ربه،
وكلما اتص�ل ب�ه وارتبط كان أش�د وثوق�ا ورس�وخا ،وكان منه
بس�بيل ،وقد غش�يته س�كينة الرمح�ة وأغدقت الربكة سلس�بيلها باخلير .وم�ن هن�ا كان�ت لعن�ة إبليس نك�دا علي�ه ،ف�كان أبعد
خل�ق اهلل م�ن رمحة اهلل ع�ز وجل ،فكل ما كان م�ن جهته فله من
لعنة اهلل بقدر قربه منه واتصاله به.
وم�ن هن�ا كان للمع�ايص أعظ�م تأثير يف حمق برك�ة العمر
وال�رزق والعل�م والعم�ل ،فكل وق�ت عصيت اهلل في�ه ،أو مال عصي�ت اهلل ب�ه ،أو ب�دن أو ج�اه أو عل�م أو عم�ل ،فه�و عليك
ليس لك.
فليس لإلنسان من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله
إال ما أطاع اهلل به.
وهل�ذا ف�إن من الناس م�ن يعيش يف هذه الدار مائة س�نة أو
نحوها ويبدو وكأن عمره اليبلغ عرشين س�نة أو نحوها ،كام أن
منهم من يملك القناطري املقنطرة من الذهب والفضة وحييا عمرا 90
طويلا ولكنه ما يلب�ث أن يزول وكأنه بال عم�ر أو مال ،وهكذا اجل�اه والعلم ،قال ﷺ« :الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إال ذكر اهلل
عز وجل وما وااله و عامل أو متعلم»).(1
هذا هو الذي فيه الربكة خاصة واهلل املستعان).(2 فم�ن أراد أن يكون كالغي�ث يف كبد السماء هطوله ..فعليه
أن يس�قي الن�اس ماء اخلري واملع�روف ،ويزرع ش�جرة املحبة يف
قلوهب�م ،ويقطف ثامر املودة واملحبة لقريبهم وبعيدهم ،فإذا رأى منك�ر ًا تلطف مع صاحب املعصية بالكلمة الطيبة ..واالبتس�امة
اهلادفة ..وإذا رأى أشواك الكراهية تزرع يف أرض العطاء ،أزاهلا
بحكمت�ه وفطنته ،وزرع مكاهن�ا أوراق التآل�ف وأغصان الوفاء وأزهار اإلخاء.
فربكة الرجل تنبض عندما يغمر قلبه حب اخلري ،ونرش اخلري
والتع�اون عىل الرب واخلري ،هب�ذه الومضات الطيبة يكون مبارك ًا، الرتمذي ،561/4ابن ماجة .1377/2 اجلواب الكايف .57/1
91
أي�ن م�ا وقع نف�ع ،وحيث م�ا ح�ل زرع ،فمثله كمثل الش�مس
املرشقة باخلريات ،واألرض املخرضة بالربكات ،والريح املرسلة
بالنفحات.
قال اهلل تعاىل عىل لسان املسيح عيسى عليه السالم﴿ :ﮒ
ً معلما للخير ،داعي ًا إىل اهلل ،مذكر ًا ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾) ،(1أي ب�ه ،مرغب� ًا يف طاعته ،فهذا من بركة الرج�ل ،ومن خال من هذا، فقد خال من الربكة ،وحمقت بركة لقائه واجتامعه ،بل حمقت بركة
م�ن لقيه واجتمع به ،ألنه مضيع للوق�ت واملال ،وحمرق للثياب كاجلليس السوء الذي أخرب عنه حبيبنا ﷺ.
وما هذا النكد وهذا الش�قاء الذي تعيشه البرشية إال لبعدها
عن هذه الرسالة اخلالدة.
لقد كانت بركاته ﷺ احلسية صورا معربة ونموذجا يرتاءى
فيه�ا اخلير وهي ش�اهد على عظ�م الرس�الة واهل�دى والدعوة
إلي�ه :م�ن تكثيره الطع�ام ،ونبع امل�اء من بين أصابع�ه الرشيفة سورة مريم اآلية .31
92
وإبرائ�ه امل�رىض وبركته يف إجاب�ة اهلل تعاىل لدعائ�ه صلوات ريب
وسالمه عليه).(1
إننا حين نتلمس الواقع نجد بعض الناس ،منهم من دخله
الش�هري بس�يط لكن اهلل ب�ارك له يف القليل ،فلا جتد املصاريف
الت�ي يرصفها بال فائدة وال حس�بان ،فقد رزق�ه اهلل بابنة وحيدة، لكنه�ا زهرة تفوح باخلريات ،وش�جرة أثمرت له أحفاد ًا هم قرة
عني له ،وجتد وقته معمور ًا بطاعة اهلل ونفع الناس ،وكأن ساعات
يومه أطول من ساعات وأيام اآلخرين.
وتأم�ل يف ح�ال اآلخري�ن مم�ن ال أث�ر للربكة لدهي�م ،فهذا
يمل�ك املاليين لكنه�ا تتعب�ه وتش�قيه بالك�د والتع�ب يف النهار
وبالس�هر واحلساب يف الليل ،فبِاألمس دفع مبلغ ًا هائ ً ال يف عالج ابن�ه املريض ..وما زال يدفع ،واليوم دفع نقود ًا طائلة يف إصالح
أعطال بيته وسياراته ..وما زال يدفع ،وغد ًا تنتظره الديون املثقلة
أمحد ،437/6 ،418/3املعجم الكبري للطرباين ،87/12 ،338/8 ،151/22واألوسط ،285/4البيهقي الكربى .274/7/7
93
عىل كاهله قد دفع بعضها ..وما زال يدفع ،فتتعجب عندما ترى
اخلوف مرس�وم ًا عىل وجهه ،خياف من قدوم زائر أو دقة طالب، كثري املرض ،فقري النفس ،شقي ًا بامله ،فال هو سعيد بأمالكه ،وال ي�دري أين هنايت�ه ،له أوالد لكنهم ينتظرون بف�ارغ الصرب توزيع
الرتكة وامليراث ،جيمعهم دعاء واحد :الله�م أرحنا منه .ووراء
كل ذلك ،البنوك ومديوناهتا التي تكبل األش�قياء بالدين ،والربا
يغرقه بالوحل واهلم واحلزن.
لقد كان رسولنا ﷺ يدعو بالربكة يف األمور كلها ،فاإلنسان
وهو يسير يف هذه الدنيا يطمع أن ي�زاد يف وقته ،وعمره ،وماله، وأبنائه ،ألنه يعلم أن الربكة إذا حلت ،حلت السعادة يف القلب، والس�كينة يف النفس ،والراحة يف اجلس�د ،واالنرشاح يف الصدر،
وم�ن فتح كتب األولين وتأمل يف حياهتم جي�د الربكة ظاهرة يف أحواهلم .فتج�د بعض الناس علمه قليل ولكن اهلل جعل الربكة يف هذا القليل ،فنفع العباد وأخرج بفضل اهلل عىل يده كثري الناس م�ن وح�ل الضاللة إىل ري�اض اجلنة ،وضده من لدي�ه علم كثري
لك�ن ال أث�ر لنفع الن�اس ،والربك�ة إذا أنزهل�ا اهلل ع�ز وجل تعم 94
كل يشء :يف ال�رزق ،والوظيفة ،والس�يارة ،واملن�زل ،والزوجة، واألبن�اء والوق�ت ،والدع�وة ،واجلس�د ،والعق�ل ،واجل�وارح، وم�ن هن�ا كانت الربكة من أهم ما يطل�ب يف حياة الناس .ولكن س�ؤال يطرح نفس�ه ،كيف نس�تجلب الربكة؟ إن تق�وى اهلل عز وج�ل مفتاح كل خير ،قال تع�اىل﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ * ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾) ،(1أي م�ن جهة ال ختطر عىل باله. وع�رف العلامء التق�وى :بأن تعمل بطاعة اهلل ،على نور من اهلل، ترج�و ث�واب اهلل ،وأن ترتك معصية اهلل ،عىل ن�ور من اهلل ،ختاف عق�اب اهلل .وقد قيل :ما احتاج تقي قط ،قيل لرجل من الفقهاء: ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ * ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ ،فقال الفقي�ه :واهلل ،إنه ليجع�ل لنا املخرج ،وما بلغنا من التقوى ما هو أهل�ه ،وإنه لريزقنا وما اتقيناه ،وإنا لنرجو الثالثة﴿ :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﴾).(2 سورة الطالق اآلية .3 ،2 سورة الطالق اآلية .5
95
واألعمال الصاحل�ة جملبة للخري والربك�ة كالدعاء؛ فقد كان
النب�ي يطل�ب الربكة يف أم�ور كثيرة ،فعلمنا أن ندع�و للمتزوج فنقول« :بارك اهلل لك ،وبارك عليك ،ومجع بينكام يف خري»).(1
والدع�اء ملن أطعمن�ا« :اللهم بارك هلم فيما رزقتهم ،واغفر
هلم ،وارمحهم»).(2
وق�د دعا رس�ول اهلل ﷺ ألن�س بالربكة فق�ال« :اللهم أكثر
ماله وولده وبارك له فيام أعطيته»).(3
ق�ال أنس« :ف�و اهلل إن مايل لكثير وإن ول�دي وولد ولدي
ليتع�ادون على نحو املائة الي�وم») .(4ويف رواي�ة «فلقد دفنت من صلبي س�وى ولد ولدي مخس�ا وعرشين ومائة وإن أريض لتثمر
يف السنة مرتني وما يف البلد يشء يثمر مرتني غريها»).(5
أمح�د ،381/2أب�و داود ،647/1الرتم�ذي ،400/3اب�ن حب�ان ،359/9ابن ماجة .234/1 أمح�د ،188/4أب�و داود ،364/2اب�ن حب�ان ،109/12الرتمذي .568/5 البخاري ،5975مسلم .2480 مسلم ،2481ابن حبان .142/16 املعجم الكبري للطرباين .248/1
96
ويف مس�ند أمح�د ق�ال« :فأخربتن�ي ابنت�ي إين ق�د دفنت من
صلبي بضعا وتسعني وما أصبح يف األنصار رجل أكثر مني ماال
ثم قال أنس يا ثابت ما أملك صفراء وال بيضاء إال خامتي»).(1
وحفاظ�ا على الربكة ومتكنها يف أموالنا وحياتنا ونفوس�نا
حذرنا اإلسلام من الش�ح والشره والكذب والغ�ش واخلداع
ونحو ذلك يف أخذ املال:
قال رسول اهلل ﷺ حلكيم بن حزام ريض اهلل عنه« :يا حكيم
إن هذا املال خرضة حلوة فمن أخذه بس�خاوة نفس بورك له فيه، وم�ن أخ�ذه بإرشاف نف�س مل يبارك ل�ه فيه ،وكان كال�ذي يأكل
وال يشبع»).(2
ولذل�ك كان الص�دق يف املعامل�ة من بيع ورشاء س�ببا يف
جلب الربكة« :البيعان باخليار ما مل يتفرقا ،فإن صدقا وبينا بورك
هلام يف بيعهام ،وإن كذبا وكتام حمقت بركة بيعهام»).(3 أمحد .248/3 البخاري .1403 البخاري ،2004مسلم .1532
97
فعىل املس�لم أن يتوكل عىل اهلل يف أمور حياته وعندما يسعى
يف طل�ب رزقه فليتوكل عىل اهلل فهو حس�به ،ق�ال ﷺ« :لو أنكم توكلتم عىل اهلل حق توكله لرزقكم كام يرزق الطري ،تغدو مخاص ًا وتروح بطان ًا»).(1
ولقد كان من هدي رسولنا ﷺ أن يعلم أصحابه االستخارة،
ألهنا جتلب الربكة وتنعش التوكل واليقني يف قلب املؤمن وتوثق الصلة باهلل عز وجل.
ق�ال ﷺ« :إذا ه�م أحدك�م باألمر فلريك�ع ركعتني من غري
الفريض�ة ،ث�م ليق�ل :اللهم إين أس�تخريك بعلمك ،وأس�تقدرك بقدرت�ك ،وأس�ألك من فضل�ك العظيم ،فإنك تق�در وال أقدر، وتعل�م وال أعل�م ،وأنت عالم الغيوب ،الله�م إن كنت تعلم أن
هذا األمر خري يل يف ديني ،ودنياي ومعايش وعاقبة أمري أو قال: عاج�ل أم�ري ،وآجله فاق�دره يل ويرسه يل ،ثم ب�ارك يل فيه ،وإن كن�ت تعلم أن هذا األم�ر رش يل يف ديني ،ومعايش وعاقبة أمري،
أمحد ،30/1ابن حبان ،509/2املستدرك .354/4
98
أو ق�ال يف عاج�ل أم�ري ،وآجل�ه فارصف�ه عني وارصفن�ي عنه، واقدر يل اخلري حيث كان ،ثم أرضني به»).(1
وعلين�ا دائام أن نش�كر اهلل تعاىل عىل ه�ذه النعم التي ال تعد
وال حتىص ،والش�كر واحلم�د هلل عىل عطائه ونعمه؛ ﴿ﮎ
ﮏ ﮐ﴾)﴿ ،(2ﭰ ﭱ ﭲ﴾).(3
ولق�د كانت األرض أكثر َب َر َك ًة مم�ا هي عليه اليوم من حيث
الس�ن وه�م يقولون: الغ ّل�ة واملحص�ول ،وكثري ًا ما نس�مع كبار ّ
«كان�ت الدنيا أكثر َب َركة من اليوم ،وأكثر مطر ًا وخصب ًا ،أما اليوم
ويص ّفق�ون كف� ًا ّبكف -فقد ضاع�ت الربكة و َق َّل�ت األمطار
وكثر اجلدب واملحل» .والس�بب يف ذلك يع�ود إىل ابتعاد الناس
عن منهج اهلل الذي يعلم ما يصلح العباد.
وحين نتأمل آية اإلنفاق كوس�يلة من الوس�ائل التي جتلب
الربك�ة ونتمعن كل كلمة يف داللتها عىل عمق املعنى الذي تؤديه البخاري .1109 سورة آل عمران اآلية .144 سورة إبراهيم اآلية .7
99
والدالل�ة الت�ي توحي هبا فإنن�ا نفهم معنى الربكة وكأهنا مش�هد يتح�رك أمامن�ا وصورة نتلم�س إحياءها على أرض الواقع ،قال
تعاىل ﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾).(1 فم�ن الطبيع�ي أن تنبت احلبة الواحدة س�نبلة واحدة ولكن
الربك�ة يف اإلنفاق جعلتها س�بع س�نابل ،وم�ن الطبيعي أيضا أن
تكون يف السنبلة عرشون حبة أو أكثر بقليل ولكن الربكة جعلتها مائة .ومل تكتف اآلية بتلك الزيادة ولكن القرآن جعلها تتضاعف
أضعاف�ا كثرية ،ومع كل هذا تبقى الزيادة قليلة ما دامت معدودة باملائة ومضاعفاهتا ،فقد قال علامء اللغة :أن كل معدود قليل مهام
كث�ر ألن له حدودا ،من أجل ذلك مل يكتف القرآن بذلك وصور
الربك�ة لإلنف�اق أهنا ال حدود هل�ا فهي زيادة مطلق�ة غري مقيدة، ولذلك ختمت اآلية بقوله :واهلل واسع عليم ،فتلك زيادة ليست
سورة البقرة اآلية .261
100
هل�ا مق�دار معني ألن الباب الذي خترج منه باب واس�ع ال يعرف م�داه إال اهلل وهو ب�اب ال يغلق وليس له حدود ،وهذا الباب هو الذي يمثل الربكة يف حساب اهلل عز وجل. فإذا أردنا أن نفهم ألغاز احلياة بمفهوم القرآن ووحي النبوة، وأرق�ام األي�ام بمقاييس إسلامية ،فلنعش م�ع حبيبنا ﷺ ،وهو يعلمنا بركة املال ،فعندما ينفق املسلم ماله عىل الفقراء ،يبارك اهلل تعاىل يف رزقه ،فاملنفق يدعو له امللك كل يوم بخالف املمسك. ويف ذلك يقول رس�ول اهلل ﷺ« :ما من يوم يصبح العباد فيه
إال مل�كان ينزالن فيقول أحدمها :اللهم أعط منفق ًا خلف ًا ،ويقول
اآلخر :اللهم أعط ممسك ًا تلف ًا»).(1
كما أن صاحب الصدقة يبارك له يف ماله كام أخرب النبي ﷺ عن ذلك بقوله« :ما نقصت صدقة من مال»).(2 البخاري ،1374مسلم .1010 املوطأ ،1000/2مسلم .2588
101
وأن�ه ال يبقى لصاحب املال من مال�ه إال ما تصدق به كام يف
قوله تعاىل﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾).(1
وملا س�أل النب�ي ﷺ عائش�ة ريض اهلل عنها عن الش�اة التي
ذبحوه�ا ما بق�ى منها :قالت :ما بقى منه�ا إال كتفها .قال« :بقي
كلها غري كتفها»).(2
ويف احلديث القديس قال اهلل تبارك وتعاىل« :يا ابن آدم أنفق،
ُأنفق عليك»).(3
وكام أن اإلنفاق جيلب الربكة يف سعة الرزق فإن صلة الرحم
كذل�ك ،برك�ة يف العمر وس�عة يف الرزق ق�ال ﷺ« :من رسه أن
يبسط له يف رزقه و ينسأ له يف أثره فليصل رمحه»).(4
ويف رواي�ة« :صنائع املعروف تقي مصارع الس�وء والصدقة
خفي� ًا تطفىء غض�ب الرب وصل�ة الرحم زي�ادة يف العمر وكل ّ سورة البقرة اآلية .272 الرتم�ذي ،644/4اب�ن أيب ش�يبة ،352/2الرتغي�ب والرتهي�ب للمنذري .5/2 البخاري ،5037مسلم .993 البخاري ،1961مسلم .2557
102
مع�روف صدقة وأهل املعروف يف الدنيا أهل املعروف يف اآلخرة وأه�ل املنكر يف الدنيا أهل املنكر يف اآلخرة وأول من يدخل اجلنة
أهل املعروف»).(1
ويف رواية أخرى« :صلة الرحم وحسن اخللق وحسن اجلوار
يعمران الديار ويزيدان يف األعامر»).(2
يق�ول الن�ووي« :ينس�أ أي يؤخ�ر ،واألثر األج�ل ألنه تابع
للحياة يف أثرها ،وبس�ط الرزق توسيعه وكثرته وقيل الربكة فيه،
هذه الزيادة بالربكة يف عمره والتوفيق للطاعات وعامرة أوقاته بام ينفعه يف اآلخرة وصيانتها عن الضياع يف غري ذلك»).(3
ويف فت�ح الب�اري« :وحاصل�ه أن صل�ة الرحم تكون س�ببا
للتوفي�ق للطاعة والصيانة عن املعصية فيبقى بعده الذكر اجلميل
فكأنه مل يمت ومن مجلة ما حيصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة اجلارية عليه واخللف الصالح» .
املعجم األوسط 163/6والكبري .261/8 أمحد .159/6 رشح مسلم .114/16 فتح الباري .416/10
103
واإلنفاق املعتدل والتواصل مع األقارب واألرحام استهالك
معتدل رش�يد يؤدي إىل الزيادة يف الرزق والربكة يف العمر ال إىل نقصانه أو هالكه ،وهذا ما يدلل عىل فاعلية االس�تهالك الرشيد يف تنمي�ة امل�ال وطرح الربكة فيه وذلك فيام خيلف�ه من آثار إجيابية
حممودة ،وتلك طبيعة سنة اهلل عز وجل يف كل عمل رشيد. بركة الطعام:
ومل�ا كان االس�تهالك املنضب�ط طاعة جتلب اخلير وتزيد يف
رزق املس�لم ،حمل لالس�تهالك تظه�ر فيه آثاره املب�ارشة ولذلك علمنا اإلسلام آداب الطعام وكيفية التعامل مع القصعة ،لتحل الربكة وينمو زاد املسلم ويعم اخلري.
فالتس�مية أول اآلداب وق�د علمها رس�ول اهلل ﷺ أصحابه
وأدهب�م هب�ذا األدب الرفيع فع�ن عمر بن أيب س�لمى قال :كنت
غالم�ا يف حجر رس�ول اهلل ﷺ وكانت يدي تطيش يف الصحفة،
فق�ال يل رس�ول اهلل ﷺ« :يا غالم س�م اهلل وكل بيمينك وكل مما
يليك» .فام زالت تلك طعمتي بعد . البخاري ،5061مسلم .2022
104
عن عائش�ة ريض اهلل عنها قالت :كان رس�ول اهلل ﷺ يأكل
يب ،فأكله بلقمتني ،فقال رسول اهلل طعام ًا يف ّ س�تة نفر ،فجاء أعرا ّ سمى لكفاكم فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر ﷺ« :أ ّما أ ّنه لو كان ّ
اسم اهلل عليه فإن نيس يف أوله فليقل باسم اهلل أوله وآخره» . واالجتامع عىل الطعام مودة وألفة وبركة:
ق�ال أصحاب رس�ول اهلل ﷺ :يا رس�ول اهلل ،إنّ�ا نأكل وال نش�بع؟ قال« :فلعلكم تفرتقون» قالوا نعم .قال« :فاجتمعوا عىل طعامكم ،واذكروا اسم اهلل عليه ،يبارك لكم فيه» . يق�ول النووي« :وامل�راد بربكة الطع�ام واهلل أعلم ما حيصل ب�ه التغذي�ة وتس�لم عاقبتة م�ن أذى ويقوي عىل طاع�ة اهلل تعاىل وغري ذلك» . أمحد ،143/6ابن حبان ،13/12ابن ماجة .1086/2 أب�و داود ،373/2املعج�م الكبير ،139/22البيهق�ي الكبرى .258/5 رشح مسلم .206/13
105
وأم�ا األكل من جانب القصعة فأدب إسلامي رفيع يراعي
ال�ذوق اإلنس�اين وحيق�ق نمط�ا راقي�ا من أنماط االس�تهالك يف
املحافظة عىل الطعام واإلحساس باآلخرين يف الفاضل منه:
ع�ن ابن عب�اس ريض اهلل عنهام عن النب�ي ﷺ قال« :الربكة
تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه وال تأكلوا من وسطه» .
وم�ن اآلداب أيض�ا لع�ق األصاب�ع والصحفة ف�إن فيه من
االقتص�اد م�ا يدلل على عدم التفري�ط بيشء ،بحي�ث ال تزدري
نعمة اهلل عز وجل وإن كانت قليلة يف أطراف األصابع أو بقايا يف
الصحف�ة ،وكذلك إزالة األذى عن اللقم�ة إن وقعت ،فإنه إن مل يستفد منها اإلنسان فإهنا غذاء للحيوان ينتفع منها ويستهلكها.
عن جابر ريض اهلل عنه أن رسول اهلل ﷺ قال« :إن الشيطان
حيرض أحدكم عند كل يشء من ش�أنه ،حتى حيرضه عند طعامه،
فإذا س�قطت من أحدكم اللقمة فليأخذه�ا فليمط ما كان هبا من
أذى ،ثم ليأكلها ،وال يدعها للش�يطان ،فإذا فرغ فليلعق أصابعه،
فإنه ال يدري يف أي طعامه تكون الربكة» .
أمح�د ،364/1الرتم�ذي ،260/4اب�ن حب�ان ،50/12ابن ماجة .375/2 مسلم ،2033عبد الرزاق ،274/2ابن أيب شيبة .399/1
106
يق�ول الن�ووي« :معن�اه واهلل أعلم أن الطع�ام الذى حيرضه
اإلنس�ان فيه برك�ة واليدري أن تلك الربكة فيما أكله أو فيام بقي عىل أصابعه أو ىف ما بقي ىف أس�فل القصعة أو يف اللقمة الساقطة
فينبغ�ى أن حيافظ على هذا كل�ه لتحصل الربك�ة ،وأصل الربكة الزيادة وثبوت اخلير واإلمتاع به واملراد هنا واهلل أعلم ما حيصل
ب�ه التغذي�ة وتس�لم عاقبته م�ن أذى ويقوى عىل طاع�ة اهلل تعاىل وغري ذلك» .
وهن�اك بعض األطعمة مباركة كام ذكرت يف هدي املصطفى
ﷺ ،كامء زمزم خري ماء عىل وجه األرض قال ﷺ« :إهنا مباركة،
إهنا طعام ُطعم وشفاء سقم» .
وزيت الزيتون وشجرة الزيتون قال تعاىل ﴿ :ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ . رشح مسلم .206 /13 أمح�د ،174/5اب�ن حب�ان ،77/16املعج�م الكبير ،153/2عبد الرزاق ،115/5البيهقي الكربى .147/5 سورة النور اآلية .35
107
وكذل�ك متر النخلة ،قال ﷺ« :إن من الش�جر بركته كربكة املسلم» واملراد هبا النخلة. ع�ن جابر بن عب�د اهلل ريض اهلل عنهام« :أن أباه قتل يوم أحد ش�هيدا وعليه دين فاش�تد الغرماء يف حقوقه�م فأتيت النبي ﷺ فس�أهلم أن يقبلوا متر حائطي وحيلل�وا أيب فأبوا فلم يعطهم النبي ﷺ حائط�ي وق�ال« :س�نغدو عليك» .فغ�دا علينا حين أصبح فطاف يف النخل ودعا يف ثمرها بالربكة فجددهتا فقضيتهم وبقي لنا من مترها» . وقال جابر« :اش�تد الغرماء يف حقوقهم يف دين أيب فس�أهلم النب�ي ﷺ أن يقبل�وا ثم�ر حائط�ي فأب�وا فلم يعطه�م احلائط ومل يكسره هلم قال« :س�أغدو عليك غدا» .فغ�دا علينا حني أصبح فدعا يف ثمرها بالربكة فقضيتهم» . البخاري .5129 البخاري .2461 ،2265 البخاري .846/2
108
وقال ﷺ« :إذا أفطر أحدكم فليفطر عىل متر،فإنه بركة» . كما جع�ل اهلل يف طع�ام الس�حور برك�ة؛ «تس�حروا ف�إن يف السحور بركة» . ق�ال ويف اخلي�ل برك�ة ،ق�ال رس�ول اهلل ﷺ« :الربك�ة يف نوايص اخليل» . وأخريا فالربكة سعة يف الطعام القليل ،وزيادة يف املاء الزالل، وصحة يف أجساد الرجال ،وحمبة يف قلوب الناس ،وبيوت حيفها االس�تقرار واألمان ،وذرية بررة مصلحون ،وأيام غانمة باحلكم والدروس ،فلا تقاس كثرة النعم وفيض األيام وقوة األجس�ام بمقايي�س البشر الق�ارصة ،ألن الربك�ة هبة إهلية اخت�ص اهلل هبا بعض خلقه. أمح�د ،الرتمذي ،46/3ابن حب�ان ،281/8املعجم الكبري للطرباين .272/6 البخاري ،1823مسلم .1095 البخاري ،2696مسلم .1871
109
والربك�ة ال تلم�س باألي�ادي ،وال ُت�وزن باملوازي�ن ،وال
تق�اس باملقاييس ،وال يراها اإلنس�ان بعينه ،وال يتنس�مها بأنفه.
وكلما كانت أعاملن�ا حتفها التوبة واالس�تغفار والتقوى والتوكل
على اهلل تع�اىل ،كان�ت األي�ام املنتظ�رة روض�ة خضراء تتلأأل باخلريات والربكات.
***
110
اخلامتة من خالل ما تقدم نخلص إىل اآليت: -1االس�تهالك ه�و التمت�ع بالطيبات وهو اهل�دف النهائي
للعملي�ة االقتصادية وهو حيتل أمهية كبرية يف النظرية االقتصادية
لكونه يمثل ش�ك ً ال من أش�كال الطلب الكيل ،وإن الطلب الكيل هو املحدد حلجم االستخدام واإلنتاج .
والطل�ب االس�تهالكي هو دال�ة حلجم الدخ�ل ،ويعد أهم
املس�امهات النظري�ة التي جاء هب�ا كينز يف الثالثيني�ات من القرن
امل�ايض ،وألمهيت�ه يف دف�ع الفعالي�ة االقتصادية نج�د كينز يؤكد
إع�ادة التوزي�ع لصال�ح الطبق�ات الفقيرة ليزداد الطل�ب الكيل ويرتفع مستوى النشاط االقتصادي.
-2إن االس�تهالك يف االقتصاد اإلسلامي حمكوم بضوابط
معين�ة كتحري�م اإلرساف ،وه�و اس�تعامل الشيء ف�وق احلاجة
املرشوعة وحتريم التبذير ،الذي هو جتاوز احلد املعقول يف اإلنفاق
واجلهل بمواقع احلقوق .
أدب الدنيا والدين للاموردي . 276
111
-4إن مس�توى االس�تهالك يف االقتص�اد اإلسلامي يتميز
بالوس�طية التي متيز طبيعة هذا الدين عموم ًا ،األمر الذي يؤدي إىل مستوى من االستهالك املتوازن مع مستوى الدخل والتوزيع
لعموم أفراد املجتمع ،مما يعكس آثاره اإلجيابية عىل قوة العمل يف حتقيق احلاجات األساس�ية التي يتألف منها حد الكفاية يف ضوء
ما يقره االقتصاد اإلسلامي حتى تتوفر فرص املسامهة اإلجيابية يف زيادة اإلنتاج واإلنتاجية .
-5تت�م معاجل�ة االس�تهالك الرتيف كما أك�د االقتصاديون
واالجتامعيون عن طريق:
-1زي�ادة الوع�ي االقتص�ادي :حي�ث يتض�ح لألف�راد
اآلث�ار الس�يئة لالس�تهالك التريف ،لي�س ع�ن طري�ق توضي�ح
مضار وس�لبيات االس�تهالك الرتيف وحس�ب ..وإنام عن طريق
بي�ان حس�نات اس�تثامر الث�روات أيض�ا ،بما يرج�ع باخلير عىل الفرد واملجتمع.
-2التخلص من القيم االستهالكية السلبية ،وهتذيب إشباع
احلاجات والرغبات.
112
-3تش�جيع األف�راد على االدخ�ار وفت�ح قن�وات فعال�ة الستثامر مدخراهتم. -4تقديم الكميات املطلوبة واالهتامم باجلودة والنوعية. -5اس�تحضار العام�ل الدين�ي ،ال�ذي يؤكد على رضورة ترشيد االستهالك ،وينبذ اإلرساف والرتف بكل أشكاله. -6توجيه جزء من الثروة إىل عملية اإلنتاج ،بام خيدم حارض اإلنسان ومستقبله. وللتعام�ل مع أطفالنا علينا أن نعرتف أن زمن الطفرة انتهى وزماهن�م خمتلف عن زمننا ،وقد قي�ل« :ال تكرهوا أوالدكم عىل آثاركم ،فإهنم خملوقون لزمان غري زمانكم» . وال يمكنن�ا إمهال ظاهرة االس�تهالك الرتيف لدى األطفال، فهم جيل املستقبل ،ومن اجلناية عليهم أال نعلمهم معنى الرتشيد االستهالكي. امللل والنحل للشهرستاين ،82/2إغاثة اللهفان .265/2
113
إن نم�ط الس�لوك االس�تهالكي يتأص�ل ل�دى الطف�ل منذ
الصغر ،وعملية التنش�ئة االس�تهالكية هي عملية مستمرة يتعلم
الطفل من خالهلا املعارف واملهارات واالجتاهات التي تتناس�ب مع حصوله عىل املنتجات.
ومما الش�ك فيه أن دور األرسة مهم فالطفل يتعلم الس�لوك
االس�تهالكي داخ�ل أروقتها قب�ل أن خيرج إىل الع�امل اخلارجي. وتس�تطيع األرسة الواعي�ة أن ت�درب الطف�ل على التعام�ل مع
املواق�ف االس�تهالكية كعملي�ة الشراء ومفه�وم امليزاني�ة ً مثلا
لك�ن ذلك حيدث ن�ادر ًا لدى أرسنا فقد طالت محى االس�تهالك التريف أصح�اب الدخ�ل املح�دود يف جم�اراة النم�ط الع�ام.
وهن�اك ع�دد م�ن العوام�ل يشير اخلبراء إىل تأثريه�ا يف عملية
اكتساب الطفل مهارات االستهالك وهي:
-1التقليد واملحاكاة وأمهية وجود القدوة السليمة وبخاصة
«سلوك األم االستهالكي» يف فرتة الطفولة إذ يساعد عىل رسعة
التعل�م وغ�رس الع�ادات والقي�م واالجتاه�ات الصحيحة نحو االستهالك والرتكيز عىل املفاهيم اخلاصة برتشيده. 114
-2مستوى الدخل النقدي. -3وسائل اإلعالم وفنون الدعاية واإلعالم. -4تعلي�م األم للطف�ل ،وتفاعل األمهات م�ع األطفال يف أثناء اختاذ القرارات االستهالكية. -5عامل الدين. -6املوقع اجلغرايف والبيئة االجتامعية. -7العوامل النفسية. -8العوام�ل االقتصادي�ة ..إن الطبق�ة االجتامعي�ة تلع�ب
دور ًا أكرب من مجيع العوامل يف حتديد نمط اإلنفاق االس�تهالكي والتعامل بالنقود. -9تدريب األرسة للطفل للمش�اركة يف عمليات االختيار والشراء ،مع تعويد الطفل عىل االقتصاد والتوفري وتقليل الفاقد يف كل نواحي احلياة االستهالكية. 115
والس�ؤال هل تعرف األرسة املسلمة دورها ومسؤوليتها يف
تنمية شخصية املستهلك الصغري الذي سيغدو يوم ًا كبري ًا؟ عسى
أن تك�ون مهمته�ا يف التنش�ئة أكرب من االس�تهالك غير املعتدل
ولتسعى للبلوغ به إىل مراتب الرقي املنشودة. ***
116
املصادر -إحي�اء عل�وم الدي�ن لإلمام أيب حام�د حممد بن حمم�د الغزايل
505هـ دار املعرفة -بريوت -لبنان.
-أعلام االقتص�اد اإلسلامي للدكت�ور ش�وقي دني�ا -مكتبة
اخلرجيي ـ الرياض.
-االس�تهالك وضوابط�ه يف االقتص�اد اإلسلامي للدكت�ور
عبدالس�تار إبراهي�م رحي�م اهليتي (رس�الة دكت�وراه مقدم�ة إىل كلية
العلوم اإلسالمية -جامعة بغداد 1414هـ 1994 -م).
-األسعار وختصيص املوارد يف اإلسالم الدكتور عبد اجلبار محد
عبيد الس�بهاين -دار البحوث والدراس�ات اإلسلامية ديب -الطبعة األوىل 1426هـ 2005-م.
-اإلسلام وخط�ط الت�وازن االقتص�ادي بني أف�راد املجتمع -
حممد ش�وقي الفنجري (بحث منش�ور يف جملة منرب اإلسلام عدد ،2 1393هـ).
-اإلسلام وعدالة التوزيع -حممد ش�وقي الفنجري ( -بحث
منش�ور يف ندوة االقتصاد اإلسلامي) -معهد البحوث والدراسات العربية -بغداد 1403هـ 1983 -م. 117
-االقتصاد اإلسالمي -دراسة حتليلية للدكتور حممد منذر قحف
-دار القلم -الطبعة األوىل -الكويت 1399هـ 1979 -م.
-االكتس�اب يف الرزق املس�تطاب -حممد بن احلس�ن الش�يباين
-مطبعة األنوار -الطبعة األوىل 1357هـ 1938 -م.
-الربه�ان يف أصول الفقه إلمام احلرمين اجلويني -دار الوفاء
-الطبعة الثالثة 1412هـ 1992م املنصورة -مرص.
-اجلام�ع الصغري لإلمام جالل الدين عبد الرمحن الس�يوطي -
دار الكتب العلمية -الطبعة الرابعة.
-اجلامع ألح�كام القرآن أليب عبد اهلل حممد بن أمحد األنصاري
القرطبي -دار الفكر -الطبعة الثانية 1372هـ 1952 -م.
-الس�وق اإلسلامية املشتركة للدكت�ور حممود حمم�د بابليل -
الطبعة األوىل 1975م -دار الكتاب اللبناين -بريوت.
-الغياثي غياث األمم يف التياث الظلم إلمام احلرمني أيب املعايل
عب�د امللك بن عب�د اهلل اجلويني ،حتقيق :الدكت�ور عبد العظيم الديب -الطبعة األوىل -قطر 1400هـ .
-املال واحلكم يف اإلسلام -عبد الق�ادر عودة -الطبعة الثانية
1383هـ 1964 -م دار النذير -بغداد. 118
-املبس�وط لش�مس الدي�ن الرسخسي -دار املعرف�ة للطباع�ة
والنرش -الطبعة الثالثة -بريوت لبنان.
-املستدرك عىل الصحيحني للحاكم حممد بن عبداهلل أيب عبداهلل
النيسابوري -دار الكتب العلمية -بريوت الطبعة -األوىل 1411هـ 1990 -م.
-املستصفى لإلمام أيب حامد الغزايل -املطبعة األمريية -الطبعة
األوىل بوالق -مرص 1322هـ .
-املغني يف فقه اإلمام أمحد بن حنبل لإلمام موفق الدين أيب حممد
عبد اهلل بن أمحد بن قدامة املتوىف س�نة 344هـ -دار الفكر -الطبعة
األوىل 1404هـ 1984 -م.
-املوافقات يف أصول الرشيعة أليب إس�حاق الش�اطبي إبراهيم
بن موس�ى اللخمي الغرناطي املالكي املتوىف سنة 790هـ دار املعرفة
-بريوت -لبنان.
-النظ�ام االقتصادي اإلسلامي حممد عبد املنع�م عبد القادر -
دار املجمع العلمي -جدة 1399هـ 1979 -م ص.157
-بدائع الصنائع يف ترتيب الرشائع لإلمام عالء الدين أيب بكر بن
مسعود الكاس�اين احلنفي امللقب بملك العلامء املتوىف سنة 587هـ - دار الكتب العلمية -الطبعة الثانية -بريوت 1406هـ 1986 -م. 119
-تاري�خ األم�م وامللوك حممد ب�ن جرير الطبري -دار الكتب
العلمية -بريوت -الطبعة األوىل 1407هـ.
-جام�ع البي�ان ع�ن تأوي�ل الق�رآن أليب جعفر حممد ب�ن جرير
الطربي املتوىف سنة 310هـ -دار الفكر 1408هـ 1988 -م.
-مجه�رة خطب العرب يف العص�ور العربية الزاه�رة أمحد زكي
صفوت -املكتبة العلمية -بريوت.
-س�نن اب�ن ماجه -حممد بن يزي�د أبو عب�داهلل القزويني -دار
الفكر -بريوت.
-س�نن أيب داود -س�ليامن بن األش�عث أبو داود السجس�تاين
األزدي -دار الفكر.
-سنن البيهقي الكربى -أمحد بن احلسني بن عيل بن موسى أبو
بكر البيهقي -مكتبة دار الباز -مكة املكرمة1414 ،هـ 1994 -م.
-س�نن الرتمذي :اجلامع الصحيح -حممد بن عيسى أبو عيسى
الرتمذي السلمي -دار إحياء الرتاث العريب -بريوت.
-س�نن الدارقطن�ي لعلي بن عم�ر الدارقطني -دار املحاس�ن
للطباعة -القاهرة.
120
-س�نن النس�ائي الكبرى -أمح�د بن ش�عيب أبو عب�د الرمحن
النس�ائي -دار الكت�ب العلمي�ة -بريوت الطبع�ة األوىل1411 ،هـ 1991 -م.
-شعب اإليامن -أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي -دار الكتب
العلمية -بريوت -الطبعة األوىل1410 ،هـ.
-صحي�ح ابن حبان برتتيب ابن بلبان -حممد بن حبان بن أمحد
أب�و حاتم التميمي البس�تي -مؤسس�ة الرس�الة -بيروت -الطبعة الثانية1414 ،هـ 1993 -م.
-صحي�ح اب�ن خزيم�ة حممد بن إس�حاق ب�ن خزيم�ة أيب بكر
الس�لمي النيس�ابوري -املكتب اإلسلامي -بيروت1390 ،هـ -
1997م.
-صحي�ح البخ�اري :اجلام�ع الصحي�ح املختصر -حمم�د بن
إسامعيل أبو عبداهلل البخاري اجلعفي -دار ابن كثري ،الياممة -بريوت
الطبعة الثالثة1407 ،هـ 1987 -م.
-صحيح مسلم بن احلجاج أيب احلسني القشريي النيسابوري -
دار إحياء الرتاث العريب -بريوت -حتقيق :حممد فؤاد عبد الباقي. 121
-في�ض القدي�ر رشح اجلامع الصغير -عبد ال�رؤوف املناوي
املكتبة التجارية الكربى -الطبعة األوىل 1356هـ مرص.
-قواع�د األح�كام يف مصالح األنام لإلم�ام أيب حممد عز الدين
عب�د العزي�ز بن عبد السلام الس�لمي -دار اجلي�ل -الطبع�ة الثانية 1400هـ 1980 -م.
-لسان العرب أليب الفضل مجال الدين حممد بن مكرم بن منظور
األفريقي املرصي -دار صادر ودار بريوت 1375هـ 1956 -م.
-مس�ند اإلم�ام أمحد بن حنبل أيب عبد اهلل الش�يباين -مؤسس�ة
قرطبة -القاهرة.
مقدمة ابن خلدون -دار الكشاف -بريوت . -مناقب عمر بن اخلطاب أليب الفرج عيل بن اجلارود النيسابوري
-مطبعة الفجالة اجلديدة -القاهرة 1382هـ.
-نظري�ة االس�تخالف يف الفك�ر اإلسلامي وأثره�ا يف بن�اء
الش�خصية -الدكت�ور عب�د اللطيف مهي�م 11وما بعده�ا -الطبعة
األوىل 1411هـ 1990 -م مطبعة النواعري -العراق -الرمادي.
-ني�ل األوط�ار رشح منتق�ى األخبار للش�يخ حممد ب�ن عيل بن
حممد الشوكاين -دار احلديث -القاهرة . 122
فهرس املوضوعات افتتاحية
مقدمة
.....................................................................................
........................................................................................ .........................
...............................................................................
31
املبحث األول :املهمة االستخالفية ودورها يف توجيه ........................................
41
...............................................................................
53
املبحث الثاين :ضوابط االستهالك
املبحث الثالث :سامت املجتمع اإلسالمي وأثرها يف االستهالك
-1ترك األنانية
.............................................................
-2االلتـزام بالتعاليم النبوية
......................................
-3الفهم العميق ملقاصد الترشيع اإلسالمي
...........
املبحث الرابع :االستهالك الرشيد وسيلة جللب الربكة
اخلامتة
....
........................................................................................
املصادر
7
17
متهيد :ترشيد االستهالك وحاجة األمة إليه االستهالك
5
.....................................................................................
فهرس املوضوعات
................................................................
123
53 56 65 75
111 117 123