الرحيق المختوم

Page 1

‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الرحيق‬ ‫المختوم‬ ‫صفي الرحمن‬ ‫المباركفوري‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بين يدي الكتاب‬

‫كلـمـة معالي الدكتور عبد ال عمر نصيف‬ ‫كلـمـة معالي الشيخ محمد بن على الحركان‬

‫كلمة المؤلف‬

‫بين يدي الكتاب‬ ‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬والصل ة والسل م على عبده ورسوله محمد أفضل الرسل وخاتم النبيين‪ ،‬وعلى‬ ‫آله وصحبه ومن اهتدي بهديه إلى يو م الدين‪.‬‬ ‫وبع ــد‪:‬‬ ‫فهذا الكتاب هو الذي أسهمت به في مسابقة السير ة النبوية العالمية التي نظمتها رابطة العالم‬

‫السلمي‪ ،‬وأعلنت عنها عقب أول مؤتمر للسير ة النبوية الذي عقدته دولة باكستان في شهر ربيع الول‬

‫عا م ‪1396‬هـ‪.‬‬ ‫وقد قدر ال لهذا الكتاب من القبول ما لم أكن أرجوه وقت الكتابة‪ ،‬فقد نال المركز الول في‬ ‫المسابقة‪ ،‬وأقبل عليه الخاصة والعامة إقبال يغتبط عليه‪.‬‬ ‫وكان من حديث هذا الكتاب أني لم أطلع على إعلن الرابطة عن المسابقة في وقته‪ ،‬ولما أخبرت به‬ ‫ض اـ كلًيا إل أن القدر ساقني إلى ذلك‪.‬‬ ‫بعد حين لم أِم ْلـ إلى السها م فيها‪ ،‬بل رفضت هذا القتراح رف ً‬ ‫وكان آخر موعد لتلقي بحوث المسابقة واستقبالها عند الرابطة أول شهر محر م من العا م القاد م‬ ‫‪1397‬هـ‪ ،‬أي نحو تسعة أشهر من وقت العلن‪ ،‬وقد ضاعت مني من ذلك عد ة أشهر‪ ،‬والمد ة الباقية‬

‫لم تكن تكفي لعداد مثل هذا الكتاب‪ ،‬ولكن لما عزمت على ذلك استعنت ال سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫وشمرت عن ساق الجد‪ ،‬حتى تم إنجازه وإرساله في الموعد‪.‬‬

‫وكنت أعاني ـ مع ضيق الوقت والشتغال بأعمال أخري ـ قلة المصادر‪ ،‬وعد م القدر ة على مراجعة كل‬ ‫ما هو موجود‪ ،‬وكانت الدقة مطلوبة عندي بصفة خاصة مع تجنب الحشو والزوائد‪ ،‬والحاطة بالموضوع‬ ‫بقدر المكان‪ ،‬وقد مررت بأماكن شعرت فيها بشيء من الفجو ة والفراغ‪ ،‬وبحاجة إلى إضافات لم تكن‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫في مستطاعي في ذلك الحين‪ .‬فكل ما كان بالمكان هو التسويد السريع لما هو موجود‪ ،‬ثم نسخه أو‬ ‫استنساخه بغير مراجعة أو تنقيح‪.‬‬

‫وقد بقيت في النفس رغبة إلى ملء تلك الفجو ة والفراغ وإضافة بعض الزيادات فيما بعد‪ ،‬ولكن مضت‬

‫اليا م والعوا م ولم يقدر لي ذلك‪ ،‬حتى َتقاد م الَعْه ُدـ وانفلت الزماُ م‪ ،‬وكنت أحياًنا أثبت في الكتاب‬ ‫أشياء‪ ،‬وربما أقد م أو أؤخر‪ ،‬أو أضـيف أو أعدل أشياء‪ ،‬وهي وإن لم تكن عين ما كانت تتحدث به‬

‫النفس عند التأليف‪ ،‬لكنها مهمة ومفيد ة في السير ة إن شاء ال ‪ ،‬وكذلك اطلعت على مصادر قديمـة‬ ‫ت إليه من المراجع الحديثة‪ ،‬فأدخلت كل ذلك في هذه الطبعة‬ ‫أغنتـني إلى حــد كبير عـما كـنت أَح ْلـ ُ‬ ‫بتوفيـق ال ‪.‬‬ ‫وقد كنت أرجو ظهور بعض الملحوظات العلمية القيمة‪ ،‬أستفيد بها في صلب بعض الموضوعات‪ ،‬لكن‬

‫الذي وصلني منها ل يمس الجوهر‪ ،‬وإنما يمس بعض المور الجانبية التي ل تقد م ول تؤخر‪ ،‬يضاف‬

‫ط غريب لم يكن يـُْرَج يـ مثله من عامة الدارسين‪ ،‬فضًل عن‬ ‫إلى ذلك أن معظمها خطأ واضح‪ ،‬بل تَ​َخ بّـ ٌ‬ ‫أصحاب التخصص‪.‬‬ ‫وهذه الطبعة التي تتضمن هذه الضافات والتغييرات تكون أفضل وأكثر فائد ة من الطبعات السابقة إن‬

‫شاء ال ‪ ،‬وهي الطبعة الشرعية الوحيد ة مع تلك الضافات والتعديلت‪ .‬وقد طبع الكتاب قبل ذلك من‬ ‫جهة الرابطة عد ة طبعات‪ ،‬كما طبعه بعض الخوان بإذن من المؤلف‪ ،‬ولكن هناك عشرات الطبعات‬

‫كلها غير شرعية قا م بها الناشرون بغير إذن من المؤلف ول إشعار له‪ ،‬مستغلين سمعة الكتاب‪ .‬وقد‬ ‫بلغت الجرأ ة ببعضهم إلى أنه احتفظ بجميع حقوق الكتاب لنفسه‪ ،‬فهداهم ال للحق‪ ،‬وليصال‬ ‫الحقوق إلى أهلها قبل أن يأتي يو م ل بيع فيه ول خلل‪.‬‬

‫وصلى ال على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلم‪.‬‬ ‫‪ 18‬ربيع الول ‪1415‬هـ‬ ‫‪ 26‬أغسطس ‪ 1994‬م‬ ‫صفي الرحمن المباركفوري‬ ‫الجامعة السلمية‪ ،‬المدينة المنور ة‬


GAMAL SUHIM


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كلـمـة معالي الدكتور عبد ال عمر نصيف‬ ‫الحمد ل الذي بنعمته تتم الصالحات‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمًد اـ‬ ‫عبده ورسوله وصفيه وخليله‪ ،‬أدي الرسالة وبلغ المانة ونصح المة وتركها على المحجة البيضاء ليلها‬

‫كنهارها‪ ،‬صلى ال عليه وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬ورضي ال عن كل من تبع سنته وعمل بها إلى يو م‬

‫الدين‪ ،‬وعنا معهم بعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فإن السنة النبوية المطهر ة ـ وهي العطاء المتجدد والزاد الباقي إلى يو م الدين‪ ،‬والتي يتسابق المتسابقون‪،‬‬ ‫ويتنافس المتنافسون إلى الحديث عنها وكتابة الكتب والسفار في مواضيعها منذ بعث صلى ال عليه‬ ‫وسلم حتى تقو م الساعة ـ تضع للمسلمين النموذج العملي والبرنامج الواقعي لما ينبغي أن يكون عليه‬ ‫سلوكهم وأفعالهم وأقوالهم وعلقاتهم بربهم‪ ،‬ثم بأهلهم وعشيرتهم وإخوانهم وأمتهم والناس أجمعين‪.‬‬

‫وقد قال ال عز وجل‪ :‬‏}لَ​َقْدـ َك اـَن لَُك ْمـ ِفي َرُس وـِل ال ِ أُْس َوـ ةٌـ َح َسـنَـةٌ لَّم نـ َك اـَن يـَْرُج وـ ال َ َواـْليـَْو َ مـ اْل ِخ ــَر ـ‬ ‫َو ذـَ​َك َرـ ال َ َك ثِـيًرا{ ‏]الحزاب‪.[21 :‬‬ ‫وقالت السيد عائشة ـ رضوان ال عليها ـ عندما سئلت عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)كان‬ ‫خلقه القرآن(‪.‬‬

‫فل ريب إذن أنه لبد لمن أراد النجا ة من هذه الدنيا باتباع المنهج الرباني في جميع شئون آخرته‬

‫ودنياه وأن يتأسي بالرسول العظم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويأخذ بالسير ة النبوية تفكًرا وتدبًرا على أنها‬

‫هذا المنهج الرباني القويم عاشه سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم واقًعا عملّيا في جميع شئون‬ ‫الحيا ة‪ ،‬ففيها الهدي والرشاد للقاد ة والمقودين والحكا م والمحكومين والمرشدين والموجهين‬ ‫والمجاهدين‪ ،‬وفيها السو ة الحسنة في جميع المجالت‪ :‬في السياسة والحكم والقتصاد والمال‬

‫والجتماع والعلقات النسانية والخلق الفاضلة والعلقات الدولية‪ ،‬فما أحرى المسلمين اليو م ـ وقد‬

‫انحدروا في مهاوي الجهالة والتخلف لبتعادهم عن هذه المنهج ـ أن يعودوا إلى صوابهم وأن يقدموا‬

‫السير ة النبوية في مناهجهم الدراسية ومنتدياتهم المختلفة على أنها ليست للمتعة الفكرية وحسب‪ ،‬بل‬ ‫فيها طريق العود ة إلى ال ‪ ،‬وفيها إصلح الناس وفلحهم‪ ،‬فهي السلوب العلمي لترجمة كتاب ال عّز‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وجّل سلوًك اـ وأخلًقا‪ ،‬حتى يصبح المؤمن محتكًم اـ إلى شريعة ال سبحانه وتعالي ومحكًم اـ لها في جميع‬ ‫شئون الناس‪.‬‬ ‫وهذا الكتاب ‏]الرحيق المختو م[ جهد رائع وعمل مشكور لمؤلفه فضيلة الشيخ صفي الرحمن‬

‫المباركفوري الذي استجاب لدعو ة رابطة العالم السلمي في مسابقة السير ة النبوية التي نظمتها عا م‬ ‫‪1396‬هـ‪ ،‬ففاز بالجائز ة الولى كما هو مذكور في مقدمة الطبعة الولى لفضيلة الشيخ محمد على‬

‫الحركان ـ رحمه ال ـ المين العا م السابق لرابطة العالم السلمي تغمده ال برحمته وجزاه عنا خير‬ ‫الجزاء‪.‬‬

‫وقد كان إقبال الناس عظيًم اـ وثناؤهم عطًرا على هذا الكتاب‪ ،‬وقد نفدت نسخ الطبعة الولى بالكامل‪،‬‬ ‫وطلب مني التقديم للطبعة الثالثة فاستجبت له بهذه المقدمة الوجيز ة‪ ،‬سائًل المولي عز وجل أن يجعل‬

‫ص اـ لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفع به المسلمين نفًعا يؤدي إلى تغيير واقعهم إلى الفضل‪ ،‬وأن‬ ‫هذا العمل خال ً‬ ‫يعيد للمة السلمية مجدها المفقود ومكانتها في قياد ة المم عمًل بقوله عز وجل‪ :‬‏}ُكنـتُْم َخ يـَْر أُّمٍةـ‬ ‫س تَأْمروَن ِبالْم عـرـو ِ‬ ‫أُْخ ِرـج ْ ِ‬ ‫ف َو تـَـنـَْه ْوـَنـ َعِن الُْم نـَك ِرـ َو تـُْؤ ِمـنُـوَن ِبال ِ{ ‏]آل عمران‪.[110 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫تـ للّنا ِ ُ ُ‬ ‫وصلى ال على المبعوث رحمة للعالمين‪ ،‬رسول الهدى ومرشد النسانية إلى طريق النجا ة والفلح‪،‬‬

‫وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬ ‫د‪ .‬عبد ال عمر نصيف‬ ‫المين العالم لرابطة العالم السلمي ‏]سابًق اـ[‬ ‫نائب الرئيس لمجلس الشوري‬ ‫المملكة العربية السعودية‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كلـمـة معالي الشيخ محمد بن على الحركان‬ ‫ـ رحمه ال ـ المين العا م لرابطة العالم السلمي‬ ‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬خالق السموات والرض‪ ،‬وجاعل الظلمات والنور‪ ،‬وصلي ال على سيدنا‬

‫ش رـ وأنذر‪ ،‬ووعد وأوعد‪ ،‬أنقذ ال به البشر من الضللة‪ ،‬وهدي‬ ‫محمد خاتم النبياء والرسل أجمعين‪ ،‬ب ّ‬

‫الناس إلى صراط مستقيم‪ ،‬صراط ال الذي له ما في السموات وما في الرض أل إلى ال تصير المور‪.‬‬ ‫وبعــد‪:‬‬

‫فلما أعطى ال سبحانه وتعالي لرسوله الشفاعة والدرجة الرفيعة‪ ،‬وهدي المسلمين إلى محبته‪ ،‬وجعل‬ ‫اتباعه من محبته تعالى فقال تعالى‪ :‬‏}قُْل ِإن ُك نـتُْم تُِح بّــوَن ال َ َفاتّبُِعوِني يُْح بِـْبُك ُمـ ال ُ َو يـَْغِف ْرـ لَُك ْمـ‬ ‫ذُ​ُنوبَُك ْمـ { ‏]آل عمران‪ ،[31 :‬فكان هذا من السباب التي صيرت القلوب تهفو إلى محبته صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وتتلمس السباب التي توثق الصلة فيما بينها وبينه صلى ال عليه وسلم‪ .‬فمنذ فجر‬

‫السل م والمسلمون يتسابقون إلى إبراز محاسنه‪ ،‬ونشر سيرته العطر ة صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسيرته صلى‬

‫ال عليه وسلم هي أقواله وأفعاله وأخلقه الكريمة‪ ،‬فقد قالت السيد ة عائشة زوج النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم رضي ال عنها‪ :‬‏)كان خلقه القرآن(‪ ،‬والقرآن كتاب ال وكلماته التامة‪ ،‬ومن كان كذلك كان‬

‫أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بمحبة خلق ال جميًعا‪.‬‬

‫ولم يـَزِل المسلمون متمسكين بهذه المحبة الغالية التي انبثق عنها المؤتمر السلمي الول للسير ة‬ ‫النبوية الشريفة الذي عقد بباكستان سنة ‪1396‬هـ‪ ،‬حيث أعلنت الرابطة في هذا المؤتمر عن جوائز‬ ‫مالية مقدارها مائة وخمسون ألف ر سعودي توزع على أحسن خمسة بحوث في السير ة النبوية‬ ‫بالشروط التية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أن يكون البحث متكامًل مع ترتيب الحوادث التاريخية حسب وقوعها‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ أن يكون جيًد اـ ولم يسبق نشره من قبل‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ أن يذكر الباحث جميع المخطوطات والمصادر العلمية التي اعتمد عليها في كتابة البحث‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ أن يكتب الباحث ترجمة كاملة ومفصلة عن حياته مع ذكر مؤهلته العلمية ومؤلفاته إن وجدت‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ أن يكتب البحث بخط واضح‪ ،‬ويستحسن نسخه على اللة الكاتبة‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ تقبل البحوث باللغة العربية واللغات الحية الخري‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 7‬ـ يبدأ قبول البحوث من غر ة ربيع الثاني ‪1396‬هـ‪ ،‬وينتهي موعد القبول بغر ة محر م ‪1397‬هـ‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ تسلم البحوث إلى المانة العامة لرابطة العالم السلمي بمكة المكرمة في ظرف مختو م‪ ،‬وتضع‬ ‫ص اـ‪.‬‬ ‫المانة عليه رقًم اـ تسلسلًيا خا ً‬ ‫‪ 9‬ـ تقو م بفحص البحوث لجنة عليا من كبار العلماء في هذ الشأن‪.‬‬ ‫فكان هذا العلن حافًزا لتسابق العلماء الذين وهبهم ال حب رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واستعدت‬ ‫رابطة العالم السلمي لستقبال هذه البحوث باللغات العربية والنجليزية والردية وأية لغة أخري‪.‬‬ ‫وبدأ الخوان الكرا م في إرسال بحوثهم بهذه اللغات‪ ،‬وقد بلغ عددها واحًد اـ وسبعين ومائة بحث منها‪:‬‬ ‫‪ 84‬بحًثا باللغة العربية‪ 64 ،‬بحًثا باللغة الردية‪ 21 ،‬بحًثا باللغة النجليزية‪ ،‬وبحث واحد فقط باللغة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬وبحث واحد فقط باللغة الهوساوية‪.‬‬ ‫وقد كونت الرابطة لجنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائز ة‪،‬‬ ‫وقد كان الفائزون بالجوائز حسب الترتيب التي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الفائز بالجائز ة الولى الشيخ صفي الرحمن المباركفوري من الجامعة السلفية بالهند‪ ،‬ومقدار جائزته‬

‫خمسون ألف ر سعودي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الفائز بالجائز ة الثانية الدكتور ماجد على خان من الجامعة الملية السلمية نيودلهي‪ ،‬الهند‪ ،‬ومقدار‬

‫جائزته أربعون ألف ر سعودي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الفائز بالجائز ة الثالثة الدكتور نصير أحمد ناصر رئيس الجامعة السلمية بباكستان‪ ،‬ومقدار جائزته‬

‫ثلثون ألف ر سعودي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الفائز بالجائز ة الرابعة الستاذ حامد محمود محمد منصور ليمود من جمهورية مصر العربية‪ ،‬ومقدار‬

‫جائزته عشرون ألف ر سعودي‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ الفائز بالجائز ة الخامسة الستاذ عبد السل م هاشم حافظ من المدينة المنور ة‪ ،‬المملكة العربية‬

‫السعودية‪ ،‬ومقدار جائزته عشر ة آلف ر سعودي‪.‬‬ ‫وقد أعلنت الرابطة أسماء الفائزين في المؤتمر السلمي السيوي الول الذي عقد في كراتشي في‬ ‫شهر شعبان سنة ‪1398‬هـ‪ .‬كما أعلن عن ذلك في جميع الصحف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبهذه المناسبة أقامت المانة العامة للرابطة بمقرها بمكة المكرمة حفًل كبيًرا تحت إشراف صاحب‬

‫السمو الملكي المير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز وكيل إمار ة منطقة مكة المكرمة‪ ،‬نيابة عن‬ ‫صاحب السمو الملكي المير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة‪ ،‬حيث تفضل سموه بتوزيع‬

‫الجوائز على أصحابها‪ ،‬وذلك صباح يو م السبت الموافق ‪ 12‬ربيع الول سنة ‪1399‬هـ‪ .‬وفي هذا‬

‫الحفل أعلنت المانة العامة أنها ستقو م بطبع البحوث الفائز ة ونشرها بعد ة لغات‪ ،‬وتنفيًذ اـ لذلك ها هي‬ ‫ذي تضع بين يدي القارئ الكريم باكور ة طبعات تلك البحوث‪ ،‬وهو بحث الشيخ‪ /‬صفي الرحمن‬

‫المباركفوري‪ ،‬من الجامعة السلفية بالهند؛ لنه الفائز بالجائز ة الولي‪ ،‬وستوالي طبع بقية البحوث الفائز ة‬

‫حسب ترتيبها‪ ،‬سائلين ال سبحانه وتعالي أن يتقبل منا جميًعا أعمالنا خالصة لوجهه الكريم‪ ،‬إنه نعم‬ ‫المولي ونعم النصير‪.‬‬ ‫وصلى ال على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫محمد بن على الحركان‬

‫المين العا م لرابطة العالم السلمي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كلمة المؤلف‬ ‫الحمد ل الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله‪ ،‬فجعله شاهًد اـ ومبشًرا ونذيًرا‪،‬‬ ‫وداعًيا إلى ال بإذنه وسراًج اـ منيًرا‪ ،‬وجعل فيه أسو ة حسنة لمن كان يرجو ال واليو م الخر وذكر ال‬ ‫كثيًرا‪ .‬ال م صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يو م الدين‪ ،‬وفّج رـ لهم‬

‫ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا‪.‬‬

‫وبعـد‪:‬‬ ‫فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العالم السلمي أعلنت عقب مؤتمر السير ة النبوية الذي عقد‬ ‫في باكستان في شهر ربيع الول من سنة ‪1396‬هـ عن تنظيم مسابقة علمية عالمية؛ لتقديم أحسن‬

‫بحث في موضوع السير ة النبوية ـ على صاحبها ألف ألف صل ة وسل م وتحية ـ وذلك تنشيًطا للكاتبين‪،‬‬ ‫وتنسيقا لجهودهم الفكرية‪ .‬وإني أري أن هذا العمل له قيمة كبير ة ربما ل يحيط بوصفه البيان‪ .‬فإن‬ ‫السير ة النبوية والسو ة المحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصل ة والسل م ـ إذا لحظناها بعين‬

‫الدقة والعتبار هي المنبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حيا ة العالم السلمي وسعاد ة المجتمع‬ ‫البشري‪.‬‬

‫وإن من سعادتي وحسن حظي أن أقد م بحًثا أسهم به في تلك المسابقة المباركة‪ ،‬ولكن أين أنا حتى‬ ‫ألقي ضوًءا على حيا ة سيد الولين والخرين صلى ال عليه وسلم‪ .‬وإنما أنا رجل يري لنفسه كل‬ ‫السعاد ة والفلح أن يقتبس من نوره‪ ،‬حتى ل يتهالك في دياجير الظلمات‪ ،‬بل يحيا وهو من أمته‪،‬‬ ‫ويموت وهو من أمته‪ ،‬ويغفر ال له ذنوبه بشفاعته‪.‬‬

‫ومن منهجي في هذا الكتاب ـ عدا ما جاء في إعلن الرابطة ـ أني قررت سلوك سبيل العتدال‪ ،‬متجنًبا‬ ‫التطويل الممل واليجاز المخل‪ ،‬وقد وجدت المصادر تختلف فيما بينها حول كثير مما يتعلق‬ ‫بالحداث اختلًفا ل يحتمل الجمع والتوفيق‪ ،‬فاخترت سبيل الترجيح‪ ،‬وأثبت في الكتاب ما ترجح لدي‬ ‫بعد التدقيق في الدراسة والنقد‪ ،‬إل أني طويت ذكر الدلئل والوجوه؛ لن ذلك يفضي إلى طول غير‬ ‫مطلوب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أما بالنسبة لقبول الروايات وردها فقد استفدت في ذلك مما كتبه الئمة المتقنون‪ ،‬واعتمدت عليهم‬ ‫فيما حكموا به من الصحة والحسن والضعف؛ إذ لم أجد وقًتا يكفي للخوض في هذا المجال‪.‬‬

‫تـ الستغراب ممن‬ ‫وقد أشرت في بعض المواضع إلى بعض الدلئل ووجوه الترجيح‪ ،‬وذلك حينما ِخ ْف ـ ُ‬

‫يقرأ الكتاب‪ ،‬أو رأيت شبه التفاق فيما بين الولين والخرين على خلف ما هو الصواب‪ .‬وال ولي‬ ‫التوفيق‪.‬‬ ‫ال م قدر لي الخير في الدنيا والخر ة‪ ،‬إنك أنت الغفور الودود‪ ،‬ذو العرش المجيد‪.‬‬

‫صفي الرحمن المباركفوري‬ ‫بنارس ـ الهند‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫العرب‪ ،‬الرض والشعب‪ ،‬الحكم والقتصاد‪ ،‬الديانة‬ ‫موقع العرب وأقوامها‬ ‫إن السير ة النبوية ـ على صاحبها الصل ة والسل م ـ هي في الحقيقة عبار ة عن الرسالة التي حملها رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم إلى المجتمع البشرى قوًل وفعًل ‪ ،‬ـ ـوتوجيها وسلوًك اـ‪ ،‬وقلب بها موازين الحيا ة‪،‬‬ ‫فبدل مكان السيئة الحسنة‪ ،‬وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬ومن عباد ة العباد إلى عباد ة ال‬ ‫‪ ،‬حتى عدل خط التاريخ َو غـّير مجرى الحيا ة في العالم النساني‪ ،‬ول يتم إحضار هذه الصور ة الرائعة‬ ‫إل بعد المقارنة بين البيئة التي سبقت هذه الرسالة وبين ما آلت إليه بعدها‪.‬‬

‫وهذا يقتضي تقديم فصول موجز ة عن أقوا م العرب وتطوراتها قبل السل م‪ ،‬وعن تاريخ الحكومات‬ ‫والمارات والنظم القبلية التي كانت سائد ة في ذلك الزمان‪ ،‬مع صور من الديانات والِم لَـل والنَّح لـ‬ ‫والعادات والتقاليد‪ ،‬والوضاع السياسية والجتماعية والقتصادية‪.‬‬ ‫وقد خصصنا لكل من ذلك هذا الباب‪ ،‬وإليكم تلك الفصول‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫موقع العرب‬ ‫كلمة العرب تنبيء عن الصحارى والِق َفـاـر‪ ،‬والرض الُم ْجـِدـبـة التي ل ماء فيها ول نبات‪ .‬وقد أطلق هذا‬

‫اللفظ منذ أقد م العصور على جزير ة العرب‪ ،‬كما أطلق على قو م قَطَُنوا تلك الرض واتخذوها موطنا‬ ‫لهم‪.‬‬

‫وجزير ة العرب يحدها غرًبا البحر الحمر وشبه جزير ة سيناء‪ ،‬وشرًقا الخليج العربى وجزء من بلد العراق‬ ‫الجنوبية‪ ،‬وجنوًبا بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند‪ ،‬وشماًل بلد الشا م وجزء من بلد العراق‪،‬‬ ‫على اختلف في بعض هذه الحدود‪ ،‬وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلثمائة ألف‬

‫ميل مربع‪.‬‬ ‫ولجزير ة العرب أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي؛ فإنها في وضعها الداخلي محاطة‬ ‫بالصحاري والرمال من كل جانب؛ ولجل هذا الوضع صارت الجزير ة حصًنا منيًعا لم يستطع الجانب‬ ‫أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم‪ .‬ولذلك نرى سكان الجزير ة أحراًرا في جميع الشئون منذ‬

‫أقد م العصور‪ ،‬مع أنهم كانوا مجاورين لمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لول‬ ‫هذا السد المنيع‪.‬‬

‫وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم‪ ،‬وتلتقى به بًرا وبحًرا‪ ،‬فإن‬ ‫ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قار ة إفريقية‪ ،‬وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقار ة أوربا‪،‬‬

‫والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم؛ ومن ثم آسيا الوسطى وجنوبها والشرق البعيد‪ ،‬وكذلك تلتقي كل‬

‫قار ة بالجزير ة بحًرا‪ ،‬وترسى سفنها وبواخرها على ميناء الجزير ة رأًس اـ‪.‬‬

‫ولجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزير ة وجنوبها موئًل للمم‪ ،‬ومركًزا لتبادل التجار ة‪ ،‬والثقافة‪،‬‬ ‫والديانة‪ ،‬والفنون‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أقوا م العرب‬ ‫وأما أقوا م العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلثة أقسا م؛ بحسب السللت التي ينحدرون منها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ العرب البائد ة‪ :‬وهم العرب القدامى الذين انقرضوا تماًماـ ولم يمكن الحصول على تفاصيل كافية‬ ‫ضـور‪ ،‬وَو بـَـار‪ ،‬وَعِبيل‪،‬‬ ‫عن تاريخهم‪ ،‬مثل‪ :‬عاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وطَْس مــ‪ ،‬وَج ِدـيـس‪ ،‬وِع ْمـلــق‪ ،‬وأَُم ْيـم‪ ،‬وُج ْرـُه مـ‪ ،‬وَح ُ‬ ‫ضـَرـَم وـت‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وجاسم‪ ،‬وَح ْ‬

‫‪ 2‬ـ العرب العاربة‪ :‬وهم العرب المنحدر ة من صلب يَْش ُجـبـ بن يـَْع ُرـب بن قَْح طــان‪ ،‬وتسمى بالعرب‬

‫القحطانية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ العرب المستعربة‪ :‬وهي العرب المنحدر ة من صلب إسماعيل عليه السل م‪ ،‬وتسمى بالعرب العدنانية‪.‬‬ ‫أما العرب العاربة ـ وهي شعب قحطان ـ فَم ْهـُدـهـا بلد اليمن‪ ،‬وقد تشعبت قبائلها وبطونها من ولد سبأ‬ ‫بن يشجب بن يعرب بن قحطان‪ .‬فاشتهرت منها قبيلتان‪ِ :‬ح ْم ـيَــر بن سبأ‪ ،‬وَك ْهـلــن بن سبأ‪ ،‬وأما بقية بنى‬ ‫سبأ ـ وهـم أحـد عشـر أو أربعة عشـر بطًنا ـ فيقال لهم‪ :‬السبئيون‪ ،‬وليست لهم قبائل دون سبأ‪.‬‬ ‫أ ـ فأما حمير فأشهر بطونها‪:‬‬ ‫ض اـعة‪ :‬ومنها بـَْه رـاء َو بِـلّى والَق ْيـن وَك ْلـب وُعْذ َرـ ة وَو بـَر ة‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ قُ َ‬ ‫س كـاِس ك‪:‬ـ وهـم بنو زيـد بـن وائلة بن حمير‪ ،‬ولقب زيد‪ :‬السكاسك‪ ،‬وهي غير سكاسك كِْند ة‬ ‫‪ 2‬ـ ال ّ‬ ‫التية في بنى َك ْهـلــن‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ زيــد الجمهــور‪ :‬ومنها حمير الصغر‪ ،‬وسبأ الصغر‪ ،‬وحضور‪ ،‬وذو أصبح‪.‬‬ ‫ب ـ وأما َك ْهـلــن فأشهر بطونها‪:‬‬ ‫َه ْمـدـان‪ ،‬وألَْه اـن‪ ،‬والْش َعــر‪ ،‬وطيئ‪ ،‬وَمْذـ ِحـ ج ـ‏]ومن مذحج‪َ :‬عْنس والنّْخ عـ[‪ ،‬ولَْخ مـ ‏]ومن لخم‪ :‬كند ة‪ ،‬ومن‬ ‫س ُكـوـن والسكاسك[‪ ،‬وُج َذـاـ م‪ ،‬وعاملة‪ ،‬وَخ ْوـلـن‪ ،‬وَمَعـاِفر‪ ،‬وأنمار ‏]ومن أنمار‪َ :‬خ ثـَْعم‬ ‫كند ة‪ :‬بنو معاوية وال ّ‬ ‫وبَِج ي ـلَ​َة‪ ،‬ومن بجيلة‪ :‬أْح َمـسـ[ والْزد‪ ،‬‏]ومن الزد‪ :‬الوس‪ ،‬والخزرج‪ ،‬وُخ َزـاعة‪ ،‬وأولد َج ْفـنَـة ملوك الشا م‬ ‫المعروفون بآل غسان[‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهاجرت بنو كهلن عن اليمن‪ ،‬وانتشرت في أنحاء الجزير ة‪ ،‬يقال‪ :‬كانت هجر ة معظمهم قبيل َس ْيـل‬ ‫الَعِر م حين فشلت تجارتهم لضغط الرومان وسيطرتهم على طريق التجار ة البحرية‪ ،‬وإفسادهم طريق البر‬

‫بعد احتللهم بلد مصر والشا م‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬بل إنهم هاجروا بعد السيل حين هلك الحرث والنسل بعد أن كانت التجار ة قد فشلت‪ ،‬وكانوا‬ ‫قد فقدوا كل وسائل العيش‪ ،‬ويؤيده سياق القرآن ‏}لَ​َقْدـ َك اـَن لَِس بَـٍإ ِفي َمْسـ َكـنِـِه ْمـآيَةٌ َج نّـَتاِن َعن يَِم يـٍن‬ ‫ضوـا فَأَْرَس ْلـَنا َعلَْيِه ْمـ َس ْيـَل الَْعِرِ م‬ ‫َو ِشـ َم ـاـٍلُك لُـوا ِم نـ ّرْزِق َربُّك ْمـ َواـْش ُكـُرـوالَهُ بـَْلَد ةٌـ طَيّبَةٌ َوَرـ ّ‬ ‫ب غَُفوـٌر فَأَْع َرـ ُ‬ ‫ك َج َزـيـَْناُه مـ بَِم اـ َك َفـُرـوا َو َهـْلـ‬ ‫َو بَـّد لْـَناُه مـ بَِج نّـتـَْيِه ْمـ َج نّـتـَْيِن َذَواـَتى أُ​ُك ٍلـ َخ ْمـٍطـ َوأَـثٍْل َو َشـْيـ ٍءـّمنـ ِس ْد ـٍرـقَِليٍل َذلِ َ‬ ‫س يـَْر ِس يـُروا ِفيَه اـ‬ ‫نَُج اـِزي إِّل الَْك ُفـوـَر َوَج َعـْلَنا بَـيْـنـَُه ْمـ َو بـَْيَن الُْقَرى الِّتي َباَرْك نَــا ِفيَه اـ قـًُرى َظاِه َرـً ة َو قَـّد ْرـَنا ِفيَه اـ ال ّ‬ ‫ث َو َمـّزـقـَْناُه ْمـ ُك ّلـ ُمَم ّزـٍق‬ ‫لَ​َيالَِي َوأَـّياًماـ آِم نِـيَن فـَق اـُلوا َربـَّنا َباِع ْدـ بـَْيَن أَْس َفـاـِرَنا َو ظَـلَُم وـا َأنُف َسـُهـْمـ فَ​َج َعـْلَناُه ْمـ أَ​َح اـِد يـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ص بّـاٍر َش ُكـوـٍر{ ‏]سور ة سبأ‪[19 :15:‬‬ ‫إِّن ِفي َذلِ َ‬ ‫ك َل يَـاـت لُّك ّلـ َ‬ ‫ول غرو إن كانت هناك ـ عدا ما تقد م ـ منافسة بين بطون كهلن وبطون حمير أدت إلى جلء كهلن‪،‬‬

‫فقد يشير إلى هذا بقاء حمير مع جلء كهلن‪.‬‬

‫ويمكن تقسيم المهاجرين من بطون كهلن إلى أربعة أقسا م‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ الْزد‪:‬‬ ‫وكانت هجرتهم على رأى سيدهم وكبيرهم عمران بن عمرو ُمَزيِْق يـاء‪ ،‬فساروا يتنقلون في بلد اليمن‬

‫ويرسلون الرواد‪ ،‬ثم ساروا بعد ذلك إلى الشمال والشرق‪ .‬وهاك تفصيل الماكن التي سكنوا فيها بعد‬

‫الرحلة نهائًيا‪:‬‬ ‫نزل عمران بن عمرو في عَُم اـن‪ ،‬واستوطنها هو وبنوه‪ ،‬وهم أْزد عَُم اـن‪.‬‬ ‫واستوطنت بنو نصر بن الزد ُتهامة‪ ،‬وهم أزد َش نُـوء ة‪.‬‬ ‫وَعَطف ثـَْع لَـبة بن عمرو مزيقياء نحو الحجاز‪ ،‬فأقا م بين الثعلبية وذى قار‪ ،‬ولما كبر ولده وقوى ركنه‬ ‫سار نحو المدينة‪ ،‬فأقا م بها واستوطنها‪ ،‬ومن أبناء ثعلبة هذا‪ :‬الوس والخزرج‪ ،‬ابنا حارثة بن ثعلبة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وتنقل منهم حارثة بن عمرو ـ وهو خزاعة ـ وبنوه في ربوع الحجاز‪ ،‬حتى نزلوا بمر الظهران‪ ،‬ثم افتتحوا‬

‫الحر م فقطنوا مكة وأجلوا سكانها الجراهمة‪.‬‬

‫وسار َج ْفـنَـة بن عمرو إلى الشا م فأقا م بها هو وبنوه‪ ،‬وهو أبو الملوك الغساسنة؛ نسبة إلى ماء في‬

‫الحجاز يعرف بغسان‪ ،‬كانوا قد نزلوا بها أوًل قبل انتقالهم إلى الشا م‪.‬‬

‫وانضمت البطون الصغير ة إلى هذه القبائل في الهجر ة إلى الحجاز والشا م‪ ،‬مثل كعب بن عمرو‪،‬‬

‫والحارث بن عمرو‪ ،‬وعوف بن عمرو‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ لَْخ مـ وُج َذـاـ م‪:‬‬

‫انتقلوا إلى الشرق والشمال‪ ،‬وكان في اللخميين نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذر ة بالحير ة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ بنو طَّيئ ‪:‬‬ ‫ساروا بعد مسير الزد نحو الشمال حتى نزلوا بالجبلين أجأ وسلمى‪ ،‬وأقاموا هناك‪ ،‬حتى عرف الجبلن‬ ‫بجبلى طيئ‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ كِْند ة‪:‬‬ ‫نزلوا بالبحرين‪ ،‬ثم اضطروا إلى مغادرتها فنزلوا بـ‏]حضرموت[‪ ،‬ولقـوا هنـاك ما لقوا بالبحرين‪ ،‬ثم نزلوا‬

‫نجًد اـ‪ ،‬وكونوا هناك دولة كبير ة الشأن‪ ،‬ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها‪.‬‬

‫وهناك قبيلة من حمير مع اختلف في نسبتها إليه ـ وهي قضاعة ـ هجرت اليمن واستوطنت بادية‬

‫السماو ة من مشارف العراق‪ ،‬واستوطن بعض بطونها مشارف الشا م وشمالي الحجاز‪.‬‬

‫وأما العرب المستعربة‪ ،‬فأصل جدهم العلى ـ وهو سيدنا إبراهيم عليه السل م ـ من بلد العراق‪ ،‬من‬

‫مدينة يقال لها‪ :‬‏]أر[ على الشاطئ الغربي من نهر الفرات‪ ،‬بالقرب من الكوفة‪ ،‬وقد جاءت الحفريات‬ ‫والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه المدينة‪ ،‬وعن أسر ة إبراهيم عليه السل م‪ ،‬وعن الحوال الدينية‬ ‫والجتماعية في تلك البلد‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ومعلو م أن إبراهيم عليه السل م هاجر منها إلى حاران أو َح ّرـان‪ ،‬ومنها إلى فلسطين‪ ،‬فاتخذها قاعد ة‬

‫لدعوته‪ ،‬وكانت له جولت في أرجائها وأرجاء غيرها من البلد‪ ،‬وفي إحدى هذه الجولت أتى إبراهيم‬ ‫عليه السل م على جبار من الجبابر ة‪ ،‬ومعه زوجته سار ة‪ ،‬وكانت من أحسن النساء‪ ،‬فأراد ذلك الجبار أن‬

‫يكيد بها‪ ،‬ولكن سار ة دعت ال تعالى عليه فرد ال كيده في نحره‪ ،‬وعرف الظالم أن سار ة امرأ ة‬

‫صالحة ذات مرتبة عالية عند ال ‪ ،‬فأخدمها هاجر اعتراًفا بفضلها‪ ،‬أو خوًفا من عذاب ال ‪ ،‬ووهبتها‬ ‫سار ة لبراهيم عليه السل م‪.‬‬ ‫ورجع إبراهيم عليه السل م إلى قاعدته في فلسطين‪ ،‬ثم رزقه ال تعالى من هاجر ابنه إسماعيل‪ ،‬وصار‬

‫سبًبا لغير ة سار ة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدهـا الرضيـع ـ إسماعيل ـ فقد م بهما إبراهيم‬ ‫عليه السل م إلى الحجاز‪ ،‬وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت ال المحر م الذي لم يكن إذ ذاك إل‬

‫مرتفًعا من الرض كالرابية‪ ،‬تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله‪ ،‬فوضعهما عند دوحة فوق زمز م في‬

‫أعلى المسجد‪ ،‬وليس بمكة يومئذ أحد‪ ،‬وليس بها ماء‪ ،‬فوضع عندهما جرابا فيه تمر‪ ،‬وسقاء فيه ماء‪،‬‬

‫ورجع إلى فلسطين‪ ،‬ولم تمض أيا م حتى نفد الزاد والماء‪ ،‬وهناك تفجرت بئر زمز م بفضل ال ‪ ،‬فصارت‬ ‫لهما قوتا وبلًغا إلى حين‪ .‬والقصة معروفة بطولها‪.‬‬ ‫وجاءت قبيلة يمانية ـ وهي ُج ْرـُه مـالثانية ـ فقطنت مكة بإذن من أ م إسماعيل‪ .‬يقال‪ :‬إنهم كانوا قبل ذلك‬ ‫في الودية التي بأطراف مكة‪ ،‬وقد صرحت رواية البخاري أنهم نزلوا مكة بعد إسماعيل‪ ،‬وقبل أن‬

‫يشب‪ ،‬وأنهم كانوا يمرون بهذا الوادى قبل ذلك‪.‬‬

‫وكان إبراهيم عليه السل م يرتحل إلى مكة ليطالع تركته بها‪ ،‬ول يعلم بالضبط عدد هذه الرحلت‪ ،‬إل‬

‫أن المصادر المعتمد ة حفظت لنا أربعة منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ فقد ذكر ال تعالى في القرآن الكريم أنه أرى إبراهيم في المنا م أنه يذبح إسماعيل‪ ،‬فقا م بامتثال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك نَْج ِزــي‬ ‫ت الّرْؤ يَـا إِّنا َك َذـلِـ َ‬ ‫صّدـقْـ َ‬ ‫هذا المر‪ :‬‏}فـَلَّماـ أَْس لَـَم اـ َو تـَلّهُ لْلَج بِـيِن َو نَـاَديـَْناهُ أَْن َيا ِإبـَْراه يـُم قَْد َ‬ ‫الُْم ْحـِسـ نِـيَن إِّن َه َذـاـ لَُه َوـ الْبَ​َل ء ـاـلُْم بِـيُن َو فَـَد يـَْناهُ بِ​ِذ بْـٍح َعِظ يـٍم{ ‏]الصافات‪[107 :103:‬‬ ‫وقد ذكر في ِس ْف ـرـ التكوين أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلث عشر ة سنة‪ ،‬وسياق القصة يدل‬ ‫على أنها وقعت قبل ميلد إسحاق؛ لن البشار ة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهذه القصة تتضمن رحلة واحد ة ـ على القل ـ قبل أن يشب إسماعيل‪ ،‬أما الرحلت الثلث الخر فقد‬ ‫رواها البخاري بطولها عن ابن عباس مرفوًعا‪ ،‬وملخصها‪:‬‬

‫‪2‬ـ أن إسماعيل عليه السل م لما شب وتعلم العربية من ُج ْرـُه مـ‪ ،‬وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأ ة منهم‪،‬‬ ‫وماتت أمـه‪ ،‬وبدا لبراهيم أن يطالع تركته‪ ،‬فجاء بعد هذا الزواج‪ ،‬فلم يجد إسماعيل‪ ،‬فسأل امرأته عنه‬ ‫وعن أحوالهما‪ ،‬فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لسماعيل أن يغير عتبة بابه‪ ،‬وفهم إسماعيل‬

‫ض اـض بن عمرو‪ ،‬كبير جرهم وسيدهم‬ ‫ما أراد أبوه‪ ،‬فطلق امرأته تلك وتزوج امرأ ة أخرى ‏]وهي ابنة ُم َ‬ ‫على قول الكثر[‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وجاء إبراهيم عليه السل م مر ة أخرى بعد أن تزوج إسماعيل هذه الزوجة الثانية‪ ،‬فلم يجده فرجع إلى‬ ‫ت‬ ‫فلسطين بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالهما‪ ،‬فأثنت على ال بخير‪ ،‬فأوصى إلى إسماعيل أن يـثَُبّ َ‬ ‫َعتَ​َبة بابه‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ ثم جاء إبراهيم عليه السل م بعد ذلك فلقى إسماعيل‪ ،‬وهو يـَْبِرى نـَْبل له تحت دوحة قريًبا من‬ ‫زمز م‪ ،‬فلما رآه قا م إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد‪ ،‬وكان لقاؤهما بعد فتر ة طويلة من‬ ‫الزمن‪ ،‬قلما يصبر فيها الب الكبير الواه العطوف عن ولده‪ ،‬والوالد البار الصالح الرشيد عن أبيه‪ ،‬وفي‬ ‫هذه المر ة بنيا الكعبة‪ ،‬ورفعا قواعدها‪ ،‬وأّذن إبراهيم في الناس بالحج كما أمره ال ‪.‬‬ ‫ض اـض اثنى عشر ولًد اـ ذكًرا‪،‬وهم‪ :‬نابت أو نبايوط‪،‬وقـَْيدار‪ ،‬وأدبائيل‪،‬‬ ‫وقد رزق ال إسماعيل من ابنة ُم َ‬ ‫وِم ْبـشا م‪ ،‬وِم ْشـمــاع‪ ،‬ودوما‪ ،‬وِم يـشا‪ ،‬وحدد‪ ،‬وتيما‪ ،‬ويَُطور‪ ،‬وَنفيس‪ ،‬وقـَْيُد مـان ‪.‬‬ ‫وتشعبت من هؤلء اثنتا عشر ة قبيلة‪ ،‬سكنت كلها في مكة مد ة من الزمان‪ ،‬وكانت جل معيشتهم إذ‬

‫ذاك التجار ة من بلد اليمن إلى بلد الشا م ومصر‪ ،‬ثم انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزير ة بل وإلى‬ ‫خارجها‪ ،‬ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان‪ ،‬إل أولد نابت وقيدار‪.‬‬

‫وقد ازدهرت حضار ة النباط ـ أْبناء نابت ـ في شمال الحجاز‪ ،‬وكونوا دولة قوية عاصمتها البتراء ـ‬ ‫المدينة الثرية القديمة المعروفة في جنوب الردن‪ ،‬وقد دان لهذه الدولة النبطية من بأطرافها‪ ،‬ولم‬

‫يستطع أحد أن يناوئها حتى جاء الرومان وقضوا عليها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد جنحت طائفة من المحققين من أهل العلم بالنساب إلى أن ملوك آل غسان وكذا النصار من‬

‫الوس والخزرج إنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل‪ ،‬وبقاياهم في تلك الديار‪.‬‬

‫وإليه مال الما م البخاري ـ رحمه ال ـ في صحيحه‪ ،‬فقد عقد باًبا عنوانه‪ :‬‏]نسبة اليمن إلى إسماعيل‬ ‫عليه السل م[‪ ،‬واستدل عليه ببعض الحاديث‪ ،‬ورجح الحافظ ابن حجر في شرحه أن قحطان من آل‬ ‫نابت بن إسماعيل عليه السل م‪.‬‬ ‫وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة‪ ،‬يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده َمَعـّد ‪،‬ـ ومنه‬

‫حفظت العرب العدنانية أنسابها‪ .‬وعدنان هو الجد الحادى والعشرون في سلسة النسب النبوى‪ ،‬وقد‬

‫ورد أنه صلى ال عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول‪ :‬‏)كذب النسابون(‪ ،‬فل‬

‫يتجاوزه‪ ،‬وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان؛ مضعفين للحديث المشار إليه‪،‬‬ ‫ولكنهم اختلفوا في هذا الجزء من النسب اختلفا ل يمكن الجمع بين أقوالهم‪ ،‬وقد مال المحقق‬

‫الكبير العلمة القاضى محمد سليمان المنصورفورى ـ رحمه ال ـ إلى ترجيح ما ذكره ابن سعد ـ والذي‬ ‫ذكره الطبرى والمسعودى وغيرهما في جملة القوال ـ وهو أن بين عدنان وبين إبراهيم عليه السل م‬

‫أربعين أبا بالتحقيق الدقيق‪ .‬وسيأتى‪.‬‬ ‫وقد تفرقت بطون َمَعـّد من ولده نـَزار ـ قيل‪ :‬لم يكن لمعد ولد غيره ـ فكان لنزار أربعة أولد‪ ،‬تشعبت‬

‫ض رـ‪ ،‬وهذان الخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت‬ ‫منهم أربعة قبائل عظيمة‪ :‬إياد وأنمار وربيعة وُم َ‬ ‫ضبَـيـَْعة وأسد‪ ،‬ومن أسد‪َ :‬عنـَْز ة وَج ِدـيـلة‪ ،‬ومن جديلة‪ :‬القبائل الكثير ة‬ ‫أفخاذهما‪ ،‬فكان من ربيعة‪ُ :‬‬ ‫المشهور ة مثل‪ :‬عبد القيس‪ ،‬والنِّم رـ‪ ،‬وبنو وائل الذين منهم بكر وتـَْغِلب‪ ،‬ومن بنى بكر‪ :‬بنو قيس وبنو‬ ‫شيبان وبنو حنيفة وغيرها‪ .‬أما عنز ة فمنها آل سعود ملوك المملكة العربية السعودية في هذا الزمان‪.‬‬

‫وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين‪ :‬قـَْيس َعْيلن بن مضر‪ ،‬وبطون إلياس ابن مضر‪ ،‬فمن قيس‬ ‫صـَعـة‪ ،‬وبنو غَ​َطفان ‪ .‬ومن غطفان‪َ :‬عْبس‪ ،‬وذُْبيان‪،‬‬ ‫صْعـ َ‬ ‫عيلن‪ :‬بنو سليم‪ ،‬وبنو هوازن‪ ،‬وبنو ثقيف‪ ،‬وبنو َ‬ ‫صـرـ‪.‬‬ ‫وأْش َجـعـ‪،‬وأْع ُ‬ ‫ض رـ‪ :‬تميم بن مر ة‪ ،‬وُه َذـيْـل بن ُمدِركة‪ ،‬وبنو أسد بن خزيمة‪ ،‬وبطون كنانة بن خزيمة‪،‬‬ ‫ومن إلياس بن ُم َ‬ ‫ومن كنانة قريش‪ ،‬وهم أولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ِ‬ ‫ص ّىـ بن‬ ‫ىـ ومخزو م وتـَْيم وُزْه َرـ ة‪ ،‬وبطون قُ َ‬ ‫وانقسمت قريش إلى قبائل شتى‪ ،‬من أشهرها‪ُ :‬ج َمـحـ وَس ْهـمـ وَعد ّ‬ ‫كلب‪ ،‬وهي‪ :‬عبد الدار بن قصى‪،‬وأسد بن عبد العزى بن قصى‪ ،‬وعبد مناف بن قصى‪.‬‬ ‫وكان من عبد مناف أربع فصائل‪ :‬عبد شمس‪ ،‬ونـَْو فَـل‪ ،‬والمطلب‪ ،‬وهاشم‪ ،‬وبيت هاشم هو الذي‬ ‫اصطفي ال منه سيدنا محمد بن عبد ال بن عبد المطلب بن هاشم صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن ال اصطفي من ولد إبراهيم إسماعيل‪ ،‬واصطفي من ولد إسماعيل بنى‬

‫كنانة‪ ،‬واصطفي من بنى كنانة قريًش اـ‪ ،‬واصطفي من قريش بنى هاشم‪ ،‬واصطفانى من بنى هاشم(‪.‬‬

‫وعن العباس بن عبد المطلب قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن ال خلق الخلق فجعلني‬

‫من خير فرقهم وخير الفريقين‪ ،‬ثم تخير القبائل‪ ،‬فجعلني من خير القبيلة‪ ،‬ثم تخير البيوت‪ ،‬فجعلني من‬ ‫خير بيوتهم‪ ،‬فأنا خيرهم نفًس اـ وخيرهم بيًتا(‪ .‬وفي لفظ عنه‪ :‬‏)إن ال خلق الخلق فجعلني في خيرهم‬ ‫فرقة‪ ،‬ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة‪ ،‬ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة‪ ،‬ثم جعلهم‬ ‫بيوًتا فجعلني في خيرهم بيًتا وخيرهم نفًس اـ(‪.‬‬ ‫ولما تكاثر أولد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلد العرب متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب‪.‬‬ ‫فهاجرت عبد القيس‪ ،‬وبطون من بكر بن وائل‪ ،‬وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها‪.‬‬ ‫ص بـة اليمامة‪ ،‬وأقامت سائر بكر بن وائل‬ ‫وخرجت بنو حنيفة بن على بن بكر إلى اليمامة فنزلوا بُح ْجـرــ‪ ،‬قَ َ‬ ‫في طول الرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر‪ ،‬فأطراف سواد العراق فا ُ‬ ‫لبـُلّةُ‬ ‫فَِه يـت‪.‬‬ ‫وأقامت تغلب بالجزير ة الفراتية‪ ،‬ومنها بطون كانت تساكن بَْك ًرــا‪.‬وسكنت بنو تميم ببادية البصر ة‪.‬‬ ‫وأقامت بنو سليم بالقرب من المدينة‪ ،‬من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين‪،‬‬ ‫إلى ما ينتهي إلى الحر ة‪.‬‬ ‫وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة‪ ،‬بينهم وبين تيماء ديار بُْح تُـٍر من طيئ‪ ،‬وبينهم وبين الكوفة‬ ‫خمس ليال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران‪ ،‬وبقى بتهامة بطون كنانة‪ ،‬وأقا م بمكة وضواحيها بطون‬

‫قريش‪ ،‬وكانوا متفرقين ل تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصّي ابن كلب‪ ،‬فجمعهم‪ ،‬وكون لهم وحد ة‬ ‫شرفتهم ورفعت من أقدارهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الحكـم والمـار ة فـي العـرب‬ ‫الملك باليمن‬ ‫الملك بالحير ة‬ ‫الملك بالشا م‬

‫المار ة بالحجاز‬

‫الحكم في سائر العرب‬ ‫الحالة السياسية‬ ‫كان حكا م جزير ة العرب عند ظهور دعو ة النبي صلى ال عليه وسلم على قسمين‪:‬‬ ‫‪1‬ـ ملوك ُمتـَّوُج وـن ـ إل أنهم في الحقيقة كانوا غير مستقلين‪.‬‬ ‫‪2‬ـ رؤسـاء القبائـل والعشائر ـ وكـان لهم مـن الحكم والمتـياز مـا كـان للملـوك المتوجين‪ ،‬ومعظم هـؤلء‬

‫كانـوا على تمـا م الستقـلل‪ ،‬وربمـا كانت لبعضـهم تبعية لملك متـوج‪.‬‬

‫والملوك المتوجون هم‪ :‬ملوك اليمن‪ ،‬وملوك مشارف الشا م ‏]وهم آل غسان[ وملوك الحير ة‪ ،‬وما عدا‬

‫هؤلء من حكا م الجزير ة لم تكن لهم تيجان‪ .‬وفيما يلى موجز عن هؤلء الملوك والرؤساء‪.‬‬ ‫الملك باليمن‬

‫من أقد م الشعوب التي عرفت باليمن من العرب العاربة قو م سبأ‪ ،‬وقد عثر على ذكرهم في حفريات‬ ‫‏]أور[ بخمس وعشرين قرنا قبل الميلد‪ ،‬ويبدأ ازدهار حضارتهم ونفوذ سلطانهم وبسط سيطرتهم بأحد‬ ‫عشر قرنا قبل الميلد‪.‬‬

‫ويمكن تقسيم أدوارهم حسب التقدير التى‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ ما بين ‪ 1300‬إلى ‪ 620‬ق‪ .‬م‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عرفت دولتهم في هذه الفتر ة بالدولة المعينية‪ ،‬ظهرت في الَج ْوـفـ؛ أى السهل الواقع بين نجران‬

‫وحضرموت‪ ،‬ثم أخذت تنمو وتتسع وتسيطر وتزدهر حتى بلغ نفوذها السياسى إلى الُعل وَمَعـان من‬ ‫شمالي الحجاز‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬إن مستعمراتها وصلت إلى خارج بلد العرب‪ ،‬وكانت التجار ة هي صلب معيشتهم‪ ،‬ثم إنهم بنوا‬ ‫س وـا‬ ‫سد مأرب الذي له شأن كبير في تاريخ اليمن‪ ،‬والذي وفر لهم معظم خيرات الرض‪ ،‬‏} َحتّـى نَ ُ‬ ‫الّذْك َرـ َوَك اـُنوا قـَْو ًمـاـ ُبوًرا { ‏] الفرقان‪[18:‬‬ ‫وكان ملوكهم في هذه الفتر ة يلقبون بـ ‏]مكرب سبأ[ وكانت عاصمتهم مدينة ‏] ِ‬ ‫ص ْرـَوـاـح[ التي توجد‬

‫أنقاضها على بعد ‪ 50‬كيلو متًرا إلى الشمال الغربي من مدينة ‏]مأرب[‪ ،‬وعلى بعد ‪ 142‬كيلو متًرا‬ ‫شرقى صنعاء‪ ،‬وتعرف باسم ‏]ُخ َرـْيبة[‪ .‬ويقدر عدد هؤلء الملوك ما بين ‪ 22‬و ‪ 26‬ملًك اـ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ ما بين ‪ 620‬ق‪ .‬م إلى سنة ‪ 115‬ق‪ .‬م‬ ‫وعرفت دولتهم في هذه الفتر ة بدولة سبأ‪ ،‬وقد تركوا لقب ‏]مكرب[ وعرفوا بـ‏]ملوك سبأ[‪ ،‬واتخذوا‬

‫‏]مأرب[ عاصمة لهم بدل ‏]صرواح[ وتوجد أنقاض مأرب على بعد ‪ 192‬كيلو متًرا شرقي صنعاء‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ منذ سنة ‪ 115‬ق‪ .‬م إلى سنة ‪ 300‬م‬

‫وعرفت الدولة في هذه الفتر ة بالدولة الحميرية الولى؛ لن قبيلة حمير غلبت واستقلت بمملكة سبأ‪،‬‬ ‫وقد عرف ملوكها بـ‏]ملوك سبأ وذى ريدان[‪ ،‬وهؤلء الملوك اتخذوا مدينة ‏]ريدان[ عاصمة لهم بدل‬

‫مدينة ‏]مأرب[‪ ،‬و تعرف ‏]ريدان[ باسم ظفار‪ ،‬وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من ‏]يريم[‪ .‬وفي‬ ‫هذا العهد بدأ فيهم السقوط والنحطاط‪ ،‬فقد فشلت تجارتهم إلى حد كبير لبسط النباط سيطرتهم‬ ‫على شمال الحجاز أوًل ‪ ،‬ـ ـثم لغلبة الرومان على طريق التجار ة البحرية بعد نفوذ سلطانهم على مصر‬

‫وسوريا وشمالى الحجاز ثانًيا‪ ،‬ولتنافس القبائل فيما بينها ثالًثا ‪ .‬وهذه العناصر هي التي سببت في تفرق‬ ‫آل قحطان وهجرتهم إلى البلد الشاسعة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ منذ سنة ‪ 300‬م إلى أن دخل السل م في اليمن‬ ‫عرفت الدولة في هذه الفتر ة بالدولة الحميرية الثانية‪ ،‬وعرف ملوكها بـ‏]ملوك سبأ وذى ريدان وحضرمـوت‬ ‫ويمـنت[‪ ،‬وقد توالت على هذه الدولة الضطرابات والحوادث‪ ،‬وتتابعت النقلبات والحروب الهلية‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫التي جعلتها عرضة للجانب حتى قضى على استقللها‪ .‬ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن‪،‬‬

‫وبمعونتهم احتلت الحباش اليمن لول مر ة سنة ‪ 340‬م؛ مستغلين التنافس بين قبيلتى همدان وحمير‪،‬‬ ‫واستمر احتللهم إلى سنة ‪ 378‬م‪ .‬ثم نالت اليمن استقللها‪ ،‬ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب‪،‬‬

‫حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العر م في سنة ‪ 450‬م‪ ،‬أو ‪ 451‬م‪.‬وكانت حادثة كبرى‬ ‫أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب‪.‬‬ ‫وفي سنة ‪ 523‬م قاد ذو نـَُو اـس اليهودى حملة منكر ة على المسيحيين من أهل نجران‪ ،‬وحاول صرفهم‬ ‫عن المسيحية قسًرا‪ ،‬ولما أبوا خّد لهم الخدود وألقاهم في النيران‪ ،‬وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن في‬ ‫ب اْلُْخ ُدـوـِد{ اليات ‏] البروج‪.[4:‬‬ ‫سـور ة الـبروج بقـوله‪ :‬‏}قُتَِل أَ ْ‬ ‫ص َحـاـ ُ‬

‫وكان هذا الحادث هو السبب في نقمة النصرانية الناشطة إلى الفتح والتوسع تحت قياد ة أباطر ة الرومان‬

‫من بلد العرب‪ ،‬فقد حرضوا الحباش‪ ،‬وهيأوا لهم السطول البحرى‪ ،‬فنزل سبعون ألف جندى من‬

‫الحبشة‪ ،‬واحتلوا اليمن مر ة ثانية‪ ،‬بقياد ة أرياط سنة ‪ 525‬م‪ ،‬وظل أرياط حاكًم اـ من قبل ملك الحبشة‬ ‫حتى اغتاله أبرهة بن الصباح الشر م ـ أحد قواد جيشه ـ سنة ‪ 549‬م‪ ،‬ونصب نفسه حاكًم اـ على اليمن‬

‫بعد أن استرضى ملك الحبشة وأرضاه‪ ،‬وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهد م الكعبة‪ ،‬وعرف هو‬

‫وجنوده بأصحاب الفيل‪.‬وقد أهلكه ال بعد عودته إلى صنعاء عقب وقعة الفيل‪ ،‬فخلفه على اليمن ابنه‬

‫سـوـ م‪ ،‬ثم البن الثانى مسروق‪ ،‬وكانا ـ فيما يقال ـ شرا من أبيهما‪ ،‬وأخبث سير ة منه في اضطهاد أهل‬ ‫يَْك ُ‬ ‫اليمن وقهرهم وإذللهم‪.‬‬

‫أما أهل اليمن فإنهم بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس‪ ،‬وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البلد‪،‬‬ ‫ونالوا الستقلل في سنة ‪ 575‬م بقياد ة معديكرب سيف بن ذى يزن الحميرى‪ ،‬واتخذوه ملًك اـ لهم‪،‬‬

‫وكان معديكرب أبقى معه جمًعا من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه‪ ،‬فاغتالوه ذات يو م‪ ،‬وبموته‬

‫انقطع الملك عن بيت ذى يزن‪ ،‬وصارت اليمن مستعمر ة فارسية تتعاقب عليها ول ة من الفرس‪ ،‬وكان‬ ‫أولهم وهرز‪ ،‬ثم المرزبان بن وهرز‪ ،‬ثم ابنه التينجان‪ ،‬ثم خسرو بن التينجان‪ ،‬ثم باذان‪ ،‬وكان آخر ول ة‬ ‫الفرس‪ ،‬فإنه اعتنق السل م سنة ‪ 628‬م‪ ،‬وبإسلمه انتهي نفوذ فارس على بلد اليمن‪.‬‬

‫الملك بالحير ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كانت الفرس تحكم بلد العراق وما جاورها منذ أن جمع شملهم قوروش الكبير ‏)‪ 557‬ـ ‪ 529‬ق‪ .‬م (‬

‫ولم يكن أحد يناوئهم‪ ،‬حتى قا م السكندر المقدونى سنة ‪ 326‬ق‪ .‬م فهز م ملكهم دارا وبددهم وخضد‬ ‫شوكتهم‪ ،‬حتى تجزأت بلدهم‪ ،‬وتولها ملوك عرفوا بملوك الطوائف‪ ،‬وقد ظل هؤلء الملوك يحكمون‬

‫البلد مجزأ ة إلى سنة ‪ 230‬م‪ .‬وفي عهد هؤلء الملوك هاجر القحطانيون‪ ،‬واحتلوا جزًءا من ريف‬ ‫العراق‪ ،‬ثم لحقهم من هاجر من العدنانيين فزاحموهم حتى سكنوا جزًءا من الجزير ة الفراتية‪.‬‬

‫وأول من ملك من هؤلء المهاجرين هو مالك بن فـَْه مـ التـُّنوخى من آل قحطان‪ ،‬وكان منزله النبار‪ ،‬أو‬ ‫مما يلى النبار‪ ،‬وخلفه أخوه عمرو بن فهم في رواية‪ .‬وَج ِذـيـمة بن مالك بن فهم ـ الملقب بالْبرش‬ ‫والَو ّ‬ ‫ضـاـح ـ في رواية أخرى‪.‬‬ ‫وعادت القو ة مر ة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة ‪ 226‬م ـ‬

‫فإنه جمع شمل الفرس‪ ،‬واستولى على العرب المقيمين على تخو م ملكه‪ ،‬وكان هذا سببا في رحيل‬ ‫قضاعة إلى الشا م‪ ،‬ولكن دان له أهل الحير ة والنبار‪.‬‬

‫وفي عهد أردشير كانت ولية جذيمة الوضاح على الحير ة وسائر َمْنـ ببادية العراق والجزير ة من ربيعة‬

‫ومضر‪ ،‬وكأن أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحكم العرب مباشر ة‪ ،‬ويمنعهم من الغار ة على تخو م‬

‫ملكه‪ ،‬إل أن يملك عليهم رجًل منهم له عصبية تؤيده وتمنعه‪ ،‬ومن جهة أخرى يمكنه الستعانة بهم‬

‫على ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم‪ ،‬وليكون عرب العراق أما م عرب الشا م الذين اصطنعهم ملوك‬

‫الرومان‪ ،‬وكان يبقى عند ملك الحير ة كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعين بها على الخارجين على سلطانه‬ ‫من عرب البادية‪ ،‬وكان موت جذيمة حوالى سنة ‪ 268‬م‪.‬‬ ‫وبعد موت جذيمة ولى الحير ة والنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى ‏] ‪268‬ـ ‪ 288‬م[ وهو أول‬ ‫ملوك اللخميين‪ ،‬وأول من اتخذ الحير ة مقًرا له‪ ،‬وكان في عهد كسرى سابور بن أردشير‪ ،‬ثم لم يزل‬ ‫الملوك من اللخميين من بعده يتولون الحير ة حتى ولى الفرس قـَُباذ بن فيروز ‏]‪448‬ـ ‪ 531‬م[ وفي عهده‬ ‫ظهر َمْزـَدـكـ‪ ،‬وقا م بالدعو ة إلى الباحية‪ ،‬فتبعه قباذ كما تبعه كثير من رعيته‪ ،‬ثم أرسل قباذ إلى ملك‬ ‫الحير ة ـ وهو المنذر بن ماء السماء ‏]‪512‬ـ ‪ 554‬م[ ـ يدعوه إلى اختيار هذا المذهب الخبيث‪ ،‬فأبي‬

‫عليه ذلك حمية وأنفة‪ ،‬فعزله قباذ‪ ،‬وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته‬

‫إلى المذهب المزدكى‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وخلف قباذ كسرى أنوشروان ‏]‪531‬ـ ‪ 578‬م[ وكان يكره هذا المذهب جًد اـ‪ ،‬فقتل المزدك وكثيًرا ممن‬

‫دان بمذهبه‪ ،‬وأعاد المنذر إلى ولية الحير ة‪ ،‬وطلب الحارث بن عمرو‪ ،‬لكنه أفلت إلى دار كلب‪ ،‬فلم‬

‫يزل فيهم حتى مات‪.‬‬ ‫واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبه حتى كان النعمان بن المنذر ‏]‪ 583‬ـ ‪ 605‬م[ فإنه‬ ‫غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى‪ ،‬فأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه‪ ،‬فخرج‬

‫النعمان حتى نـزل سـرا عـلى هانئ بن مسعود سـيد آل شيبان‪ ،‬وأودعه أهله وماله‪ ،‬ثم توجه إلى كسرى‪،‬‬ ‫فحبسه كسرى حتى مات‪ .‬وولى على الحير ة بدله إياس بن قَِبيصة الطائى‪ ،‬وأمره أن يرسل إلى هانئ بن‬ ‫مسعود يطلب منه تسليم ما عنده‪ ،‬فأبي ذلك هانئ حمية‪ ،‬وآذن الملك بالحرب‪ ،‬ولم يلبث أن جاءته‬

‫مرازبة كسرى وكتائبه في موكب إياس‪ ،‬ودارت بين الفريقين معركة هائلة عند ذى قار‪ ،‬انتصر فيها بنو‬ ‫شيبان وانهزمت الفرس هزيمة نكراء‪ .‬وهذا أول يو م انتصرت فيه العرب على العجم‪ ،‬وهو بعد ميلد‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫واختلف المؤرخون في تحديد زمن هذه المعركة‪ ،‬فقيل‪ :‬هو بعد ميلد الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫بقليل‪ ،‬وأنه صلى ال عليه وسلم ولد لثمانية أشهر من ولية إياس بن قبيصة على الحير ة‪ .‬وقيل‪ :‬قبل‬

‫النبو ة بقليل ـ وهو القرب‪ .‬وقيل‪ :‬بعد النبو ة بقليل‪ .‬وقيل‪ :‬بعد الهجر ة‪ .‬وقيل‪ :‬بعد بدر‪ .‬وقيل غير ذلك‪.‬‬ ‫وولى كسرى على الحير ة بعد إياس حاكًم اـ فارسًيا اسمه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد‪ ،‬وظل يحكم‬ ‫‪ 17‬عاما‏]‪614‬ـ ‪ 631‬م[ ثم عاد الملك إلى آل لخم سنة ‪ 632‬م‪ ،‬فتولى منهم المنذر بن النعمان‬ ‫الملقب بالمعرور‪ ،‬ولكن لم تزد وليته على ثمانية أشهر حتى قد م عليه خالد بن الوليد بعساكر‬ ‫المسلمين ‪.‬‬

‫الملك بالشا م‬ ‫في العهد الذي ماجت فيه العرب بهجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشا م وسكنت‬ ‫ضْجـَعــم ابن سليح المعروفون باسم الضجاعمة‪،‬‬ ‫بها‪ ،‬وكانوا من بنى ُس لَـْيح بن ُح ْلـوان الذين منهم بنو َ‬

‫فاصطنعهم الرومان؛ ليمنعوا عرب البرية من العبث‪ ،‬وليكونوا عد ة ضد الفرس‪ ،‬وولوا منهم ملًك اـ‪ ،‬ثم‬

‫تعاقب الملك فيهم سنين‪ ،‬ومن أشهر ملوكهم زياد بن الَه بُـولة‪ ،‬ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثانى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الميلدى إلى نهايته تقريًبا‪ ،‬وانتهت وليتهم بعد قدو م آل غسان‪ ،‬الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم‬ ‫وانتصروا عليهم‪ ،‬فولتهم الرو م ملوًك اـ على عرب الشا م‪ ،‬وكانت قاعدتهم مدينة بصرى‪ ،‬ولم تزل تتوالى‬ ‫الغساسنة على الشا م بصفتهم عماًل لملوك الرو م حتى كانت وقعة اليرموك سنة ‪13‬هـ‪ ،‬وانقاد للسل م‬ ‫آخر ملوكهم َج بـَ​َلة بن اليهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪.‬‬

‫المار ة بالحجاز‬ ‫ولي إسماعيل عليه السل م زعامة مكة وولية البيت طول حياته‪ ،‬وتوفي وله ‪ 137‬سنة‪ ،‬ثم ولى واحد‪،‬‬ ‫ض اـض بن‬ ‫وقيل‪ :‬اثنان من أبنائه‪ :‬نابت ثم قـَْيدار‪ ،‬ويقال العكس‪ ،‬ثم ولى أمر مكة بعدهما جدهما ُم َ‬ ‫عمرو الُج ْرـُه ِمـّىـ‪،‬ـفانتقلت زعامة مكة إلى جرهم‪ ،‬وظلت في أيديهم‪ ،‬وكان لولد إسماعيل مركز محتر م؛‬ ‫لما لبيهم من بناء البيت‪ ،‬ولم يكن لهم من الحكم شيء‪.‬‬ ‫ومضت الدهور واليا م ولم يزل أمر أولد إسماعيل عليه السل م ضئيًل ل يذكر‪ ،‬حتى ضعف أمر جرهم‬ ‫صرـ‪ ،‬وأخذ نجم عدنان السياسى يتألق في أفق سماء مكة منذ ذلك العصر‪ ،‬بدليل ما‬ ‫قبيل ظهور بُْخ تـنَُ ّ‬ ‫جاء بمناسبة غزو بختنصر للعرب في ذات ِع ْرـقـ‪ ،‬فإن قائد العرب في الموقعة لم يكن جرهمًيا‪ ،‬بل كان‬ ‫عدنان نفسه‪.‬‬ ‫وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزو ة بختنصر الثانية ‏]سنة ‪ 587‬ق‪ .‬م[ وذهب برخيا ـ صاحب‬ ‫يرمياه النبي السرائيلى بَ​َم َعـّد ـ إلى حران من الشا م‪ ،‬فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فلم‬ ‫يجد من جرهم إل َج ْوـَشـمـبن ُج ْلـُه مـة‪ ،‬فتزوج بابنته ُمَعانة فولدت له نزاًرا‪.‬‬ ‫وساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك‪ ،‬وضاقت أحوالهم‪ ،‬فظلموا الوافدين إليها‪ ،‬واستحلوا مال الكعبة‪ ،‬المر‬ ‫الذي كان يغيظ العدنانيين ويثير حفيظتهم‪ ،‬ولما نزلت خزاعة بَِم ّرـ الظّْه رـان‪ ،‬ورأت نفور العدنانيين من‬ ‫الجراهمة استغلت ذلك‪ ،‬فقامت بمعونة من بطون عدنان ـ وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ‬

‫بمحاربة جرهم‪ ،‬حتى أجلتهم عن مكة‪ ،‬واستولت على حكمها في أواسط القرن الثانى للميلد‪.‬‬

‫ولما لجأت جرهم إلى الجلء سدوا بئر زمز م‪ ،‬ودرسوا موضعها‪ ،‬ودفنوا فيها عد ة أشياء‪ ،‬قال ابن‬

‫إسحاق‪ :‬فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة‪ ،‬وبحجر الركن السود فدفنهما‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫في بئر زمز م‪ ،‬وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن‪ ،‬فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها‬ ‫حزًنا شديًد اـ‪ ،‬وفي ذلك قال عمرو‪:‬‬

‫صَفـاـ ** أنيـس ولـم يَْس ُم ــر بمك ــة سام ــر‬ ‫كأن لم يكن بين الَح ُجـوـن إلى ال ّ‬ ‫صُروف الليالى والُج ُدـوـد الَعَو اـِثر‬ ‫بلــى نحــن كــنا أهـلــها فأبـادنـا ** ُ‬ ‫ويقدر زمن إسماعيل عليه السل م بعشرين قرًنا قبل الميلد‪ ،‬فتكون إقامة جرهم في مكة واحًد اـ وعشرين‬ ‫قرًنا تقريًبا‪ ،‬وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرًنا ‪.‬‬ ‫واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بنى بكر‪ ،‬إل أنه كان إلى قبائل مضر ثلث خلل‪:‬‬ ‫الولى‪ :‬الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة‪ ،‬والجاز ة بهم يو م النفر من منى‪ ،‬وكان يلى ذلك بنو‬ ‫صوَفة‪ ،‬ومعنى هذه الجاز ة أن الناس كانوا ل‬ ‫الغَْو ثـ بن مر ة من بطون إلياس بن مضر‪ ،‬وكانوا يسمون ُ‬ ‫يرمون يو م النفر حتى يرمى رجل من صوفة‪ ،‬ثم إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من منى أخذت‬ ‫صوفة بجانبى العقبة‪ ،‬فلم يجز أحد حتى يمروا‪ ،‬ثم يخلون سبيل الناس‪ ،‬فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو‬

‫سعد بن زيد منا ة من تميم‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬الفاضة من جمع غدا ة النحر إلى منى‪ ،‬وكان ذلك في بنى عدوان‪.‬‬ ‫الثالثة‪:‬إنساء الشهر الحر م‪ ،‬وكان ذلك إلى بنى فـَُق ْيـم بن عدى من بنى كنانة‪.‬‬ ‫واستمرت ‏]ولية[ خزاعة على مكة ثلثمائة سنة‪ .‬وفي وقت حكمهم انتشر العدنانيون في نجد وأطراف‬ ‫العراق والبحرين‪ ،‬وبقى بأطراق مكة بطون من قريش وهم ح لُـول و ِ‬ ‫ص ْرـ مـ متقطعون‪ ،‬وبيوتات متفرقون في‬ ‫ُ‬ ‫قومهم من بنى كنانة‪ ،‬وليس لهم من أمر مكة ول البيت الحرا م شيء حتى جاء قصى بن كلب‪.‬‬ ‫ويذكر من أمر قصى‪ :‬أن أباه مات وهو في حضن أمه‪ ،‬ونكح أمه رجل من بنى ُعْذ َرـ ة ـ وهو ربيعة بن‬

‫حرا م ـ فاحتملها إلى بلده بأطراف الشا م‪ ،‬فلما شب قصى رجع إلى مكة‪ ،‬وكان واليها إذ ذاك ُح لَـْيل بن‬ ‫َح ْبـِش يّــة من خزاعة‪ ،‬فخطب قصى إلى حليل ابنته ُح بّـى‪ ،‬فرغب فيه حليل وزوجه إياها‪ ،‬فلما مات حليل‬ ‫قامت حرب بين خزاعة وقريش‪ ،‬أدت أخيًرا إلى تغلب قصى على أمر مكة والبيت‪.‬‬ ‫وهناك ثلث روايات في بيان سبب هذه الحرب‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الولى‪ :‬أن قصًيا لما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة‬ ‫من خزاعة وبنى بكر‪ ،‬وإن قريًش اـ رءوس آل إسماعيل وصريحهم‪ ،‬فكلم رجاًل من قريش وبنى كنانة في‬ ‫إخراج خزاعة وبنى بكر عن مكة فأجابوه‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن حليًل ـ فيما تزعم خزاعة ـ أوصى قصًيا بالقيا م على الكعبة وبأمر مكة‪ ،‬ولكن أبت خزاعة أن‬ ‫تمضى ذلك لقصى فهاجت الحرب بينهما‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬أن حليًل أعطى ابنته حبى ولية البيت‪ ،‬واتخذ أبا غُْبشان ‪ .‬الخزاعي وكيل لها‪ ،‬فقا م أبو غبشان‬

‫بسدانة الكعبة نيابة عن حبى‪ ،‬وكان في عقله شيء‪ ،‬فلما مات حليل خدعه قصى‪ ،‬واشترى منه ولية‬

‫البيت بأذواد من البل أو بزق من الخمر‪ ،‬ولم ترض خزاعة بهذا البيع‪ ،‬وحاولوا منع قصى عن البيت‪،‬‬ ‫فجمع قصى رجاًل من قريش وبنى كنانة لخراج خزاعة من مكة‪ ،‬فأجابوه‪.‬‬

‫وأيا ما كان‪ ،‬فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصى بمن معه من قريش وكنانة عند‬ ‫العقبة‪ ،‬فقال‪ :‬نحن أولى بهذا منكم‪ ،‬فقاتلوه فغلبهم قصى على ما كان بأيديهم‪ ،‬وانحازت عند ذلك‬ ‫خزاعة وبنو بكر عن قصى‪ ،‬فبادأهم قصى وأجمع لحربهم‪ ،‬فالتقوا واقتتلوا قتاًل شديًد اـ حتى كثرت‬ ‫القتلى في الفريقين جميعا‪ ،‬ثم تداعوا إلى الصلح فحّك مـوا يـَْع ُمـرـ بن عوف أحد بنى بكر‪ ،‬فقضى بأن‬

‫قصًيا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة‪ ،‬وكل د م أصابه قصى منهم موضوع يشدخه تحت قدميه‪ ،‬وما‬ ‫أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية‪ ،‬وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة‪ ،‬فسمى يعمر يومئذ‪ :‬الشداخ‪.‬‬ ‫وكانت فتر ة تولى خزاعة أمر البيت ثلثمائة سنة‪ ،‬واستولى قصى على أمر مكة والبيت في أواسط القرن‬ ‫الخامس للميلد سنة ‪ 440‬م‪،‬وبذلك صارت لقصى ثم لقريش السياد ة التامة والمر النافذ في مكة‪،‬‬ ‫وصار قصى هو الرئيس الديني لهذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزير ة‪.‬‬

‫ومما فعله قصى بمكة أنه جمع قومه من منازلهم إلى مكة‪ ،‬وقطعها رباًعا بين قومه‪ ،‬وأنزل كل قو م من‬

‫قريش منازلهم التي أصبحوا عليها‪ ،‬وأقر النسأ ة وآل صفوان وعدوان ومر ة بن عوف على ما كانوا عليه‬ ‫من المناصب؛ لنه كان يراه ديًنا في نفسه ل ينبغى تغييره‪.‬‬ ‫ومن مآثر قصى‪ :‬أنه أسس دار الندو ة بالجانب الشمالى من مسجد الكعبة‪ ،‬وجعل بابها إلى المسجد‪،‬‬ ‫وكانت مجمع قريش‪ ،‬وفيها تفصيل مها م أمورها‪ ،‬ولهذه الدار فضل على قريش؛ لنها ضمنت اجتماع‬ ‫الكلمة وفض المشاكل بالحسنى‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان لقصى من مظاهر الرياسة والتشريف‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ رياسة دار الندو ة‪ :‬ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسا م المور‪ ،‬وفيها كانوا يزوجون بناتهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ اللواء‪ :‬فكانت ل تعقد راية ول لواء لحرب قو م من غيرهم إل بيده أو بيد أحد أولده‪ ،‬وفي هذه‬

‫الدار‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ القياد ة‪ :‬وهي إمار ة الركب‪ ،‬فكانت ل تخرج ركب لهل مكة في تجار ة أو غيرها إل تحت إمارته أو‬

‫إمار ة أولده‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الحجابـة‪ :‬وهي حجابة الكعبة‪،‬ل يفتح بابها إل هو‪ ،‬وهو الذي يلى أمر خدمتها وسدانتها‪.‬‬ ‫ض اـ من الماء‪ ،‬يحلونها بشيء من التمر والزبيب‪،‬‬ ‫‪ 5‬ـ سقاية الحاج‪ :‬وهي أنهم كانوا يملون للحجاج حيا ً‬

‫فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ رفاد ة الحاج‪ :‬وهي طعا م كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة‪ ،‬وكان قصى فرض على قريش خرًج اـ‬

‫تخرجه في الموسم من أموالها إلى قصى‪ ،‬فيصنع به طعاًماـ للحاج‪ ،‬يأكله من لم يكن له سعة ول زاد‪.‬‬ ‫كان كل ذلك لقصى‪ ،‬وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته‪ ،‬وكان عبد الدار بكره‪ .‬فقال له‬

‫قصى فيما يقال‪ :‬للحقنك بالقو م وإن شرفوا عليك‪ ،‬فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش‪ ،‬فأعطاه‬

‫دار الندو ة واللواء والقياد ة والحجابة والسقاية والرفاد ة‪ ،‬وكان قصى ل يخالف ول يرد عليه شيء صنعه‪،‬‬

‫وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع‪ ،‬فلما هلك أقا م بنوه أمره ل نزاع بينهم‪ ،‬ولكن لما هلك‬ ‫عبد مناف نافس أبناؤه بنى عمهم عبد الدار في هذه المناصب‪ ،‬وافترقت قريش فرقتين‪ ،‬وكاد يكون‬

‫بينهم قتال‪ ،‬إل أنهم تداعوا إلى الصلح‪ ،‬واقتسموا هذه المناصب‪ ،‬فصارت السقاية والرفاد ة والقياد ة‬

‫إلى بنى عبد مناف‪ ،‬وبقيت دار الندو ة واللواء والحجابة بيد بنى عبد الدار‪ .‬وقيل‪ :‬كانت دار الندو ة‬

‫بالشتراك بين الفريقين‪ ،‬ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم‪ ،‬فصارت السقاية والرفاد ة لهاشم‬

‫والقياد ة لعبد شمس‪ ،‬فكان هاشم بن عبد مناف هو الذي يلى السقاية والرفاد ة طول حياته‪ ،‬فلما مات‬

‫خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف‪ ،‬وولى بعده عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبعـده أبنـاؤه حتى جـاء السل م والولية إلى العبـاس‪ .‬ويقـال‪ :‬إن قصًيا هـو الذي‬ ‫قسم المناصب على أولده‪ ،‬ثـم توارثـها أبناؤهـم حسـب التفصيل المذكور‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وكانت لقريش‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مناصب أخرى سوى ما ذكرنا وزعوها فيما بينهم‪ ،‬وكونوا بها دويلة ـ بل بتعبير أصح‪ :‬شبه دويلة‬

‫ديمقراطية ـ وكانت لهم من الدوائر والتشكيلت الحكومية مـا يشبه في عصرنـا هـذا دوائـر البرلمـان‬

‫ومجالسها‪ ،‬وهاك لوحة من تلك المناصب‪:‬‬ ‫‪1‬ـ اليسار‪ :‬أي تولية قداح الصنا م للستقسا م‪ ،‬وكان ذلك في بني ُج َمـحـ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تحجير الموال‪ :‬أي تنظيم القربات والنذور التي كانت تهدى إلى الصنا م‪ ،‬وكذلك فصل‬

‫الخصومات والمرافعات‪.‬وكان ذلك في بني سهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الشورى‪ :‬وكانت في بني أسد‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الشناق‪ :‬أي تنظيم الديات والغرامات‪ ،‬وكان ذلك في بني تـَْيم ‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ العقاب‪ :‬أي حمل اللواء القومى‪ ،‬وكان ذلك في بني أمية‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ القبة‪ :‬أي تنظيم المعسكر‪ ،‬وكذلك قياد ة الخيل‪ ،‬وكان في بني مخزو م‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ السفار ة‪ :‬وكانت في بني عدي‪.‬‬

‫الحكم في سائر العرب‬ ‫قد تقد م ذكر هجرات القبائل القحطانية والعدنانية‪ ،‬وأنها اقتسمت البلد العربية فيما بينها‪ ،‬فما كان من‬ ‫هذه القبائل بالقرب من الحير ة كانت تبًعا لملك العرب بالحير ة‪ ،‬وما كان منها في بادية الشا م كانت‬

‫تبًعا للغساسنة‪ ،‬إل أن هذه التبعية كانت اسمية ل فعلية‪ ،‬وأما ما كان منها في البوادى في داخل‬ ‫الجزير ة فكانت حر ة مطلقة‪.‬‬

‫والحقيقة أن هذه القبائل كانت تختار لنفسها رؤساء يسودونها‪ ،‬وأن القبيلة كانت حكومة مصغر ة‪،‬‬

‫أساس كيانها السياسى الوحد ة العصبية‪ ،‬والمنافع المتبادلة في حماية الرض ودفع العدوان عنها‪.‬‬

‫وكانت درجة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك‪ ،‬فكانت القبيلة تبًعا لرأي سيدها في السلم‬ ‫والحرب‪ ،‬ل تتأخر عنه بحال‪ ،‬وكان له من الحكم والستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوى؛ حتى كان‬ ‫بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف ل تسأله‪ :‬فيم غضب‪ ،‬إل أن المنافسة في السياد ة بين‬

‫أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس من بذل الندى وإكرا م الضيف والكر م والحلم‪ ،‬وإظهار‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الشجاعة والدفاع عن الغير ة‪ ،‬حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس‪ ،‬ولسيما الشعراء الذين كانوا لسان‬ ‫القبيلة في ذلك الزمان‪ ،‬وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين‪.‬‬

‫ضـول‪،‬‬ ‫وكان للساد ة والرؤساء حقوق خاصة‪ ،‬فكانوا يأخذون من الغنيمة الِم ْرـبـاع وال ّ‬ ‫صفـي والّنشيطة والُف ُ‬

‫يقول الشاعر‪:‬‬

‫ضـول‬ ‫لك الِم ْرـبـَاع فينـا وال ّ‬ ‫صَفـاـيا ** وُح ْكـُمـكـ والنِّش يــطة والُف ُ‬ ‫والمرباع‪ :‬ربع الغنيمة‪ ،‬والصفي‪ :‬ما كان يصطفيه الرئيس‪ ،‬أي يختاره لنفسه قبل القسمة‪ ،‬والنشيطة‪ :‬ما‬ ‫أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى بيضة القو م‪.‬والفضول‪:‬ما فضل من القسمة مما ل تصح‬ ‫قسمته على عدد الغزا ة‪ ،‬كالبعير والفرس ونحوهما‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الحالة السياسية‬ ‫بعد أن ذكرنا حكا م العرب يجمل بنا أن نذكر جملة من أحوالهم السياسية حتى يتضح الوضع‪ ،‬فالقطار‬ ‫الثلثة التي كانت مجاور ة للجانب كانت حالتها السياسية في تضعضع وانحطاط ل مزيد عليه‪.‬فقد‬

‫كان الناس بين ساد ة وعبيد‪ ،‬أو حكا م ومحكومين‪ ،‬فالساد ة ـ ولسيما الجانب ـ كان لهم كل الغُْنم‪،‬‬ ‫والعبيد عليهم كل الغُْر مـ‪ ،‬وبعبار ة أوضح‪:‬إن الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولت إلى‬

‫الحكومات‪ ،‬والحكومات كانت تستخدمها في ملذاتها وشهواتها‪ ،‬ورغائبها‪ ،‬وجورها‪ ،‬وعدوانها‪.‬أما الناس‬ ‫فكانوا في عمايتهم يتخبطون‪ ،‬والظلم ينحط عليهم من كل جانب‪ ،‬وما في استطاعتهم التذمر‬

‫والشكوى‪ ،‬بل كانوا يسامون الخسف والجور والعذاب ألواًنا ساكتين‪ ،‬فقد كان الحكم استبداديا‪،‬‬ ‫والحقوق ضائعة مهدور ة‪.‬‬ ‫وأما القبائل المجاور ة لهذه القطار فكانوا مذبذبين تتقاذفهم الهواء والغراض‪ ،‬مر ة يدخلون في أهل‬ ‫العراق‪ ،‬ومر ة يدخلون في أهل الشا م‪.‬‬ ‫وكانت أحوال القبائل داخل الجزير ة مفككة الوصال‪ ،‬تغلب عليها المنازعات القبلية والختلفات‬ ‫العنصرية والدينية‪ ،‬حتى قال ناطقهم‪:‬‬ ‫تـ ** غويت‪ ،‬وإن ترشد غزية أرشد‬ ‫وما أنا إل من غَ​َّزية إن غَ​َو ْ‬ ‫ولم يكن لهم ملك يدعم استقللهم‪ ،‬أو مرجع يرجعون إليه‪ ،‬ويعتمدون عليه وقت الشدائد‪.‬‬ ‫وأما حكومة الحجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظر ة تقدير واحترا م‪ ،‬ويرونها قاد ة وَس َدـنـة المركز‬

‫الدينى‪ ،‬وكانت تلك الحكومة في الحقيقة خليًطا من الصدار ة الدنيوية والحكومية والزعامة الدينية‪،‬‬ ‫حكمت بين العرب باسم الزعامة الدينية‪ ،‬وحكمت في الحر م وما واله بصفتها حكومة تشرف على‬

‫مصالح الوافدين إلى البيت‪ ،‬وتنفذ حكم شريعة إبراهيم‪ ،‬وكانت لها من الدوائر والتشكيلت ما يشابه‬

‫دوائر البرلمان ـ كما أسلفنا ـ ولكن هذه الحكومة كانت ضعيفة ل تقدر على حمل العبء كما وضح‬

‫يو م غزو الحباش‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ديانات العـرب‬ ‫كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم عليه السل م منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزير ة‬ ‫العرب‪ ،‬فكانوا يعبدون ال ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف‪ ،‬حتى طال عليهم المد ونسوا حًظا‬ ‫مما ذكروا به‪ ،‬إل أنهم بقى فيهم التوحيد وعد ة شعائر من هذا الدين‪ ،‬حتى جاء عمرو بن لَُح ّيـ رئيس‬ ‫خزاعة‪ ،‬وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين‪ ،‬فأحبه الناس‬

‫ودانوا له‪ ،‬ظًنا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الوليـاء‪.‬‬

‫ثم إنه سافر إلى الشا م‪ ،‬فرآهم يعبدون الوثان‪ ،‬فاستحسن ذلك وظنه حًق اـ؛ لن الشا م محل الرسل‬

‫والكتب‪ ،‬فقد م معه بُه بَـل وجعله في جوف الكعبة‪ ،‬ودعا أهل مكة إلى الشرك بال فأجابوه‪ ،‬ثم لم يلبث‬ ‫أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لنهم ول ة البيت وأهل الحر م‪.‬‬ ‫وكان هبل من العقيق الحمر على صور ة إنسان‪ ،‬مكسور اليد اليمنى‪ ،‬أدركته قريش كذلك‪ ،‬فجعلوا له‬

‫يًد اـ من ذهب‪ ،‬وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم‪.‬‬ ‫ومن أقد م أصنامهم َمنـا ة‪ ،‬كانت لُه َذـيْـل وخزاعة‪ ،‬وكانت بالُم َشـلّـل على ساحل البحر الحمر حذو قَُد يْـد‪،‬‬ ‫والمشلل‪ :‬ثنية جبل يهبط منها إلى قديد‪ .‬ثم اتخذوا اللت في الطائف‪ ،‬وكانت لثقيف‪ ،‬وكانت في‬ ‫موضع منار ة مسجد الطائف اليسرى‪ ،‬ثم اتخذوا الُعّزى بوادى نخلة الشامية فوق ذات ِع ْرـقـ‪ ،‬وكانت‬ ‫لقريش وبني كنانة مع كثير من القبائل الخرى‪.‬‬ ‫وكانت هذه الصنا م الثلثة أكبر أوثان العرب‪ ،‬ثم كثر فيهم الشرك‪ ،‬وكثرت الوثان في كل ُبقعة ‪.‬‬ ‫ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن‪ ،‬فأخبره أن أصنا م قو م نوح ـ وًداـ وسواًعا ويغوث ويعوق‬ ‫ونسًرا ـ مدفونة بجد ة‪ ،‬فأتاها فاستثارها‪ ،‬ثم أوردها إلى تهامة‪ ،‬فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل‪،‬‬ ‫فذهبت بها إلى أوطانها‪.‬‬

‫فأما ود‪ :‬فكانت لكلب‪ ،‬بَج َرـشـ بَد ْوـَمـةـالجندل من أرض الشا م مما يلى العراق‪ ،‬وأما سواع‪ :‬فكانت‬ ‫لهذيل بن ُمْد ِرـكة بمكان يقال له‪ُ:‬رَه اـط من أرض الحجاز‪ ،‬من جهة الساحل بقرب مكة‪ ،‬وأما يغوث‪:‬‬

‫فكانت لبني غَُطيف من بني مراد‪ ،‬بالُج ْرـفـ عند سبأ‪ ،‬وأما يعوق‪:‬فكانت لهمدان في قرية َخ ْيـوان من‬ ‫أرض اليمن‪ ،‬وخيوان‪ :‬بطن من همدان‪ ،‬وأما نسر‪:‬فكانت لحمير لل ذى الكلع في أرض حمير‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد اتخذوا لهذه الطواغيت بيوًتا كانوا يعظمونها كتعظيم الكعبة‪ ،‬وكانت لها سدنة وحجاب‪ ،‬وكانت‬ ‫تهدى لها كما يهدى للكعبة‪ ،‬مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها‪.‬‬ ‫وقد سارت قبائل أخرى على نفس الطريق‪ ،‬فاتخذت لها أصناًماـ آلهة وبنت لها بيوًتا مثلها‪ ،‬فكان منها‬ ‫ص ةـ لَد ْوـسـوَخ ثـَْعم وبَُج يـَْلة‪ ،‬ببلدهم من أرض اليمن‪ ،‬بتَ​َبالة بين مكة واليمن‪ ،‬وكانت فِْلس لبني‬ ‫ذو الَخ لَـ َ‬ ‫طيئ ومن يليها بين جبلى طيئ سلمى وأجأ‪.‬وكان منها ريا م‪ ،‬بيت بصنعاء لهل اليمن وحمير‪ ،‬وكانت‬ ‫منها رضاء‪ ،‬بيت لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد‪ ،‬منا ة بن تميم‪ ،‬وكان منها الَك َعـَبات لبكر وتغلب‬ ‫ابني وائل‪ ،‬ولياد بَِس ْنـَد اـد‪.‬‬

‫ض اـ صنم يقال له‪:‬ذو الكفين‪ ،‬ولبني بكر ومالك وملكان أبناء كنانة صنم يقال له‪:‬سعد‪،‬‬ ‫وكان لَد ْوـسـأي ً‬ ‫وكان لقو م من عذر ة صنم يقال له‪:‬شمس‪ ،‬وكان لخولن صنم يقال له‪:‬عُْم يــاِنس‪.‬‬ ‫وهكذا انتشرت الصنا م ودور الصنا م في جزير ة العرب‪ ،‬حتى صار لكل قبيلة ثم في كل بيت منها‬ ‫صنم‪ ،‬أما المسجد الحرا م فكانوا قد ملوه بالصنا م‪ ،‬ولما فتح رسول ال صلىال عليه وسلم مكة وجد‬

‫حول البيت ثلثمائة وستين صنًم اـ‪ ،‬فجعل يطعنها بعود في يده حتى تساقطت‪ ،‬ثم أمر بها فأخرجت من‬

‫ض اـ أصنا م وصور‪ ،‬منها صنم على صور ة إبراهيم‪ ،‬وصنم على‬ ‫المسجد وحرقت‪ ،‬وكان في جوف الكعبة أي ً‬ ‫صور ة إسماعيل ـ عليهما الصل ة والسل م ـ وبيدهما الزل م‪ ،‬وقد أزيلت هذه الصنا م ومحيت هذه‬ ‫ض اـ يو م الفتح‪.‬‬ ‫الصور أي ً‬ ‫وقد تمادى الناس في غيهم هذا حتى يقول أبو رجاء الُعطاردى رضي ال عنه‪ :‬كنا نعبد الحجر‪ ،‬فإذا‬ ‫وجدنا حجًرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الخر‪ ،‬فإذا لم نجد حجًرا جمعنا ُج ثـَْو ةًـ من تراب‪ ،‬ثم جئنا‬

‫بالشا ة فحلبناه عليه‪ ،‬ثم طفنا به‪.‬‬

‫وجملة القول‪:‬إن الشرك وعباد ة الصنا م كانا أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية الذين كانوا‬

‫يزعمون أنهم على دين إبراهيم عليه والسل م‪.‬‬

‫أما فكر ة الشرك وعباد ة الصنا م فقد نشأت فيهم على أساس أنهم لما رأوا الملئكة والرسل والنبيين‬

‫وعباد ال الصالحين من الولياء والتقياء والقائمين بأعمال الخير ـ لما رأوهم أنهم أقرب خلق ال إليه‪،‬‬ ‫وأكرمهم درجة وأعظمهم منزلة عنده‪ ،‬وأنهم قد ظهرت على أيديهم بعض الخوارق والكرامات‪ ،‬ظنوا أن‬

‫ال أعطاهم شيًئا من القدر ة والتصرف في بعض المور التي تختص بال سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنهم لجل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫تصرفهم هذا ولجل جاههم ومنزلتهم عند ال يستحقون أن يكونوا وسطاء بين ال سبحانه وتعالى وبين‬ ‫عامة عباده‪ ،‬فل ينبغى لحد أن يعرض حاجته على ال إل بواسطة هؤلء؛ لنهم يشفعون له عند ال ‪،‬‬

‫وأن ال ل يرد شفاعتهم لجل جاههم‪ ،‬كذلك ل ينبغى القيا م بعباد ة ال إل بواسطة هؤلء؛ لنهم‬ ‫بفضل مرتبتهم سوف يقربونه إلى ال زلفي‪.‬‬

‫ولما تمكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا العتقاد اتخذوهم أولياء‪ ،‬وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبين‬

‫ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمهم صوًرا‬ ‫وتماثيل‪ ،‬إما حقيقية تطابق صورهم التي كانوا عليها‪ ،‬وإما خيالية تطابق ما تخيلوا لهم من الصور في‬ ‫أذهانهم ـ وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالصنا م‪.‬‬

‫وربما لم ينحتوا لهم صوًرا ول تماثيل‪ ،‬بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتهم ومواضع نزولهم‬ ‫واستراحتهم أماكن مقدسة‪ ،‬وقدموا إليها النذور والقرابين‪ ،‬وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات‪ ،‬وهذه‬ ‫الضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالوثان‪.‬‬ ‫أما عبادتهم لهذه الصنا م والوثان فكانت لهم فيها تقاليد وأعمال ابتدع أكثرها عمرو بن لحى‪ ،‬وكانوا‬ ‫يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لحى فهو بدعة حسنة‪ ،‬وليس بتغيير لدين إبراهيم \‪ ،‬فكان من جملة‬ ‫عبادتهم للصنا م والوثان أنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها‪ ..‬ويهتفون بها‪ ،‬ويستغيثونها في الشدائد‪ ،‬ويدعونها لحاجاتهم‪،‬‬

‫معتقدين أنها تشفع عند ال ‪ ،‬وتحقق لهم ما يريدون‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها‪ ،‬ويتذللون عندها‪ ،‬ويسجدون لها‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابين‪ ،‬فكانوا يذبحون وينحرون لها على أنصابها‪ ،‬كما كانوا‬ ‫يذبحون بأسمائها في أي مكان‪.‬‬ ‫صِ‬ ‫بـ{ ‏]المائد ة‪ ،[3 :‬وفي قوله‪:‬‬ ‫وهذان النوعان من الذبح ذكرهما ال تعالى في قوله‪ :‬‏} َوَمـاـ ذُبَِح َعَلى النّ ُ‬ ‫‏} َولَ تَأُْك لُـواْ ِم ّمـاـ لَْم يُْذَك ِرـ اْس ُمـ ال ِ َعلَْيِه{ ‏]النعا م‪[121:‬‬ ‫‪ 4‬ـ وكان من أنواع التقرب إلى هذه الصنا م والوثان أنهم كانوا يخصون لها شيئا من مآكلهم ومشاربهم‬ ‫حسبما يبدو لهم‪ ،‬وكذلك كانوا يخصون لها نصيبا من حرثهم وأنعامهم‪ ،‬ومن الطرائف‪:‬أنهم كانوا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ض اـ‪.‬وكانت عندهم عد ة أسباب ينقلون لجلها إلى الصنا م ما كان ل‪،‬‬ ‫يخصون من ذلك جزًءا ل أي ً‬ ‫ولكن لم يكونوا ينقلون إلى ال ما كان لصنامهم بحال‪ ،‬قال تعالى‪:‬‏} وجعـُلواْ لِلِّه ِم ّمـاـ َذرأَ ِم نـ الْح رـ ِ‬ ‫ثـ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ِ‬ ‫ش رـَك آـئِ​ِه مـ فَلَ ي ِ‬ ‫ص يـبا فـَق اـُلواْ َه ـَذ اـ لِلِّه بَِزْع ِمـِهـمـو َهـ ـَذ اـلِ ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َواـ َ‬ ‫ص ُلـ إَِلى ال ِ َو َمـاـ َك اـَن‬ ‫ش َرـَك آـئَنا فَ​َم اـ َك اـَن ل ُ َ ْ َ‬ ‫لنـَْعاِ م نَ ً‬ ‫َْ‬ ‫لِلِّه فـُه وـ ي ِ‬ ‫ص ُلـ إَِلى ُش َرـَك آـئِ​ِه ْمـَس اـء َماـ يَْح ُكـُمـوـَن{ ‏]النعا م‪.[136:‬‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ثـِح ْج ـٌرـ‬ ‫‪ 5‬ـ وكان من أنواع التقرب إليها النذر في الحرث والنعا م قال تعالى‪ :‬‏}َوقَـاُلواْ َه ـِذ ِهـ َأنـَْعاٌ م َوَح ْرـ ٌ‬ ‫تـ ظُ​ُه وـُرَه اـ َوأَـنـَْعاٌ م لّ يَْذُك ُرـوَن اْس َمـ ال ِ َعَليـَْه اـ افْتَِراء َعلَْيِه‬ ‫لّ يَطَْعُم َهـاـ إِلّ َمنـ نَّش اـء بَِزْع ِمـِهـْمـَوأَـنـَْعاٌ م ُح ّرـَم ْ‬ ‫َس يَـْج ِزـيِه مـبَِم اـ َك اـُنواْ يـَْف تـَُروَن { ‏] النعا م‪.[138:‬‬ ‫‪ 6‬ـ وكانت منها البحير ة والسائبة والوصيلة والحامى‪.‬‬ ‫قال سعيد بن المسيب‪ :‬البحير ة‪ :‬التي يمنع درها للطواغيت‪ ،‬فل يحلبها أحد من الناس‪.‬والسائبة‪ :‬كانوا‬

‫يسيبونها للهتهم‪ ،‬فل يحمل عليها شىء‪.‬والوصيلة‪ :‬الناقة البكر تبكر في أول نتاج البل بأنثى‪ ،‬ثم تثنى‬

‫بعد بأنثى‪ ،‬وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالخرى‪ ،‬ليس بينهما ذكر‪ .‬والحامى‪ :‬فحل‬ ‫البل يضرب الضراب المعدود ‏]العشر من البل[ فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت‪ ،‬وأعفوه من‬ ‫الحمل‪ ،‬فلم يحمل عليه شىء وسموه الحامى‪.‬‬ ‫وقال ابن إسحاق‪ :‬البحير ة بنت السائبة‪ ،‬هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهم ذكر‪ ،‬سيبت‬ ‫فلم يركب ظهرها‪ ،‬ولم يجز وبرها‪ ،‬ولم يشرب لبنها إل ضيف‪ ،‬فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت‬

‫أذنها‪ ،‬ثم خلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها‪ ،‬ولم يجز وبرها‪ ،‬ولم يشرب لبنها إل ضيف‪ ،‬كما فعل‬

‫بأمها‪ ،‬فهي البحير ة بنت السائبة‪ .‬والوصيلة‪ :‬الشا ة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس‬ ‫بينهم ذكر جعلت وصيلة‪ .‬قالوا‪ :‬قد وصلت‪ ،‬فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم إل أن‬

‫يموت شىء فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم‪ .‬والحامى‪ :‬الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس‬

‫بينهن ذكر حمى ظهره‪ ،‬فلم يركب‪ ،‬ولم يجز وبره‪ ،‬وخلى في إبله يضرب فيها‪ ،‬ل ينتفع منه بغير ذلك‪،‬‬ ‫وفي ذلك أنزل ال تعالى‪:‬‏} ماـ ج عـل ال ُ ِم نـ بِح ي ـرٍ ة ولَ س آـئِبٍة ولَ و ِ‬ ‫صـيـلٍَة َولَ َح اـٍ م َو لَـِكّن الِّذ يـَن َك َفـُرـواْ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ​َ َ‬ ‫ِ‬ ‫بـ َوأَـْك ثـَُرُه ْمـ لَ يـَْع ِقـلُـوَن { ‏]المائد ة‪ ،[103:‬وأنزل‪:‬‏} َوقَـاُلواْ َماـ ِفي بُ​ُطوِن َه ـِذ ِهـ‬ ‫يـَْف تـَُروَن َعَلى ال ِ الَْك ذـ َ‬ ‫ِ‬ ‫اَ‬ ‫ص ةٌـ لُّذُك وـِرَنا َو ُمـَح ّرـٌ م َعَلى أَْزَواـِج نَـا َو إِـن يَُك نـ ّمْيتًَة فـَُه ْمـ ِفيِه ُش َرـَك اـء{ ‏] النعا م‪ ،[139:‬وقيل في‬ ‫لنـَْعاِ م َخ اـل َ‬ ‫تفسير هذه النعا م غير ذلك‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد مر عن سعيد بن المسيب أن هذه النعا م كانت لطواغيتهم‪.‬وفي الصحيحين أن النبي صلىال عليه‬ ‫ص بَـه ‏]أي أمعاءه [ في النار(؛ لنه أول من‬ ‫وسلم قال‪ :‬‏)رأيت عمرو بن عامر بن لحى الخزاعى يجر قَ َ‬ ‫غير دين إبراهيم‪ ،‬فنصب الوثان وسيب السائبة‪ ،‬وبحر البحير ة‪ ،‬ووصل الوصيلة‪ ،‬وحمى الحامى‪.‬‬

‫كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم معتقدين أنها تقربهم إلى ال وتوصلهم إليه‪،‬وتشفع لديه‪ ،‬كما في‬ ‫ضّرُه ْمـ َولَ‬ ‫القرآن‪ :‬‏}َماـ نـَْع بُـُد ُهـْمـ إِّل ِليـَُق ّرـُبوَنا إَِلى ال ِ ُزلَْف ىـ{ ‏]الزمر‪ [3 :‬‏} َويـَْعبُـُدوـَن ِم نـ ُدوِن ال ِ َماـ لَ يَ ُ‬ ‫َينَف عُـُه ْمـ َو يـَُقوـُلوَن َه ـُؤلء ُش َفـَعـاُؤنَـا ِع نـَد ال ِ{ ‏]يونس‪[81:‬‬ ‫وكانت العرب تستقسم بالزل م‪ ،‬والّزَلم‪:‬القدح الذي ل ريش له‪ ،‬وكانت الزل م ثلثة أنواع‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ نوع فيه ثلثة أسهم‪ ،‬أحدها‪:‬‏]نعم[‪ ،‬وثانيها‪ :‬‏]ل[‪ ،‬وثالثها‪:‬‏]غُْف لـ[‪ ،‬كانوا يستقسمون بها فيما‬

‫يريدون من العمل؛ من نحو السفر والنكاح وأمثالهما‪.‬فإن خرج ‏]نعم[ عملوا به‪ ،‬وإن خرج ‏]ل[أخروه‬ ‫عامه ذلك حتى يأتوه مر ة أخرى‪ ،‬وإن طلع ‏]غفل[ أعادوا الضرب حتى يخرج واحد من الولين‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ ونوع فيه المياه والعقول والديات‪.‬‬ ‫‪3‬ـ ونوع فيه ‏]منكم[ أو ‏]من غيركم[ أو ‏]ملصق[‪ ،‬فكانوا إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى‬ ‫هبل‪ ،‬وبمائة درهم وجزور‪ ،‬فأعطوها صاحب القداح‪ ،‬فإن خرج ‏]منكم[ كان منهم وسيًطا‪ ،‬وإن خرج‬ ‫عليه ‏]من غيركم[ كان حليًف اـ‪ ،‬وإن خرج عليه ‏]ملصق[ كان على منزلته فيهم‪ ،‬ل نَ​َس بـ ول ِح ْلــف‪.‬‬ ‫ويقرب من هذا الميسر والقداح‪ ،‬وهو ضرب من القمار‪ ،‬كانوا يقتسمون به لحم الجزور التي كانوا‬

‫يتقامرون عليها؛ وذلك أنهم كانوا يشترون الجزور نسيئة فينحرونها ويقسمونها ثمانية وعشرين قسًم اـ‪ ،‬أو‬ ‫عشر ة أقسا م‪ ،‬ثم يضربون عليها بالقداح‪ ،‬وفيها ‏]الرابح[ و‏]الغفل[‪ ،‬فمن خرج له قدح ‏]الرابح[ فاز‪،‬‬

‫وأخذ نصيبه من الجزور‪ ،‬ومن خرج له ‏]الغفل[ خاب وغر م ثمنها‪.‬‬

‫وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجمين‪ ،‬والكاهن‪ :‬هو من يتعاطى الخبار عن الكوائن في‬

‫المستقبل‪ ،‬ويدعى معرفة السرار ومن الكهنة من يزعم أن له تابًعا من الجن‪ ،‬ومنهم من يدعى إدراك‬

‫الغيب بفهم أعطيه‪ ،‬ومنهم من يدعى معرفة المور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كل م‬

‫من يسأله أو فعله أو حاله‪ ،‬وهذا القسم يسمى عراًفا‪ ،‬كمن يدعى معرفة المسروق ومكان السرقة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والضالة ونحوهما‪.‬والمنجم‪:‬من ينظر في النجو م أي الكواكب‪ ،‬ويحسب سيرها ومواقيتها‪ ،‬ليعلم بها‬

‫أحوال العالم وحوادثه التي تقع في المستقبل‪.‬‬

‫والتصديق بأخبار المنجمين هو في الحقيقة إيمان بالنجو م‪ ،‬وكان من إيمانهم بالنجو م اليمان بالنواء‪،‬‬

‫فكانوا يقولون‪:‬مطرنا بنوء كذا وكذا‪.‬‬

‫وكانت فيهم الطير ة ‏]بكسر ففتح[ وهي التشاؤ م بالشىء‪ ،‬وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبى‬

‫فينفرونه‪ ،‬فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسًنا‪ ،‬وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن‬ ‫ذلك وتشاءموا‪ ،‬وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطير أو الحيوان في طريقهم‪.‬‬

‫ويقرب من هذا تعليقهم كعب الرنب‪ ،‬والتشاؤ م ببعض اليا م والشهور والحيوانات والدور والنساء‪،‬‬ ‫والعتقاد بالعدوى والهامة‪ ،‬فكانوا يعتقدون أن المقتول ل يسكن جأشه ما لم يؤخذ بثأره‪ ،‬وتصير روحه‬

‫هامة أي بومة تطير في الفلوات‪ ،‬وتقول‪:‬صدى صدى أو اسقونى اسقونى‪ ،‬فإذا أخذ بثأره سكن‬ ‫واستراح‪.‬‬

‫كان أهل الجاهلية على ذلك وفيهم بقايا مـن ديــن إبراهيم‪ ،‬لم يكونوا قد تركوه كلـه ـ مثـل تعظيم‬ ‫البيت‪ ،‬والطـواف بـه‪ ،‬والحـج‪ ،‬والعمـر ة‪ ،‬والـوقوف بعرفة والمزدلفة‪ ،‬وإهداء البدن ـ وإنما كانوا قد ابتدعوا‬ ‫في ذلك بدًعا‪:‬‬

‫منها‪:‬أن قريًش اـ كانوا يقولون‪:‬نحن بنو إبراهيم وأهل الحر م‪ ،‬وول ة البيت وقاطنو مكة‪ ،‬وليس لحد من‬

‫العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الُح ْمـسـ ـ فل ينبغى لنا أن نخرج من الحر م إلى الحل‪،‬‬

‫فكانوا ل يقفون بعرفة‪ ،‬ول يفيضون منها‪ ،‬وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل ال تعالى‪ :‬‏}ثُّم‬ ‫س { ‏]البقر ة‪.[199:‬‬ ‫ضواْ ِم ْنـ َح ْيـ ُ‬ ‫أَِفي ُ‬ ‫ث أَ​َفا َ‬ ‫ض الّنا ُ‬

‫ومنها‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬ل ينبغى للحمس أن يأِقطوا الِقط ول يسلوا السمن وهم حر م‪ ،‬ول يدخلوا بيًتا من‬ ‫شعر‪ ،‬ول يستظلوا إن استظلوا إل في بيوت الد م ما داموا حرًماـ‪.‬‬ ‫ومنها‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬ل ينبغى لهل الِح ّل ـأن يأكلوا من طعا م جاءوا به من الحل إلى الحر م‪ ،‬إذا جاءوا‬ ‫حجاجا أو عماًرا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ومنها‪:‬أنهم أمروا أهل الحل أل يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إل في ثياب الحمس‪ ،‬وكانت‬

‫الحمس يحتسبون على الناس‪ ،‬يعطـى الرجـل الرجـل الثياب يطـوف فيها‪ ،‬وتعطى المرأ ة المرأ ة الثياب‪،‬‬ ‫تطوف فيها‪ ،‬فإن لم يجدوا شيًئا فكان الرجال يطوفون عرا ة‪ ،‬وكانت المرأ ة تضع ثيابها كلها إل درًعا‬ ‫مفرًج اـ ثم تطوف فيه‪ ،‬وتقول‪:‬‬ ‫اليو م يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فل أحله‬ ‫وأنزل ال في ذلك‪ :‬‏}َيا بَِني آَدَ مـ ُخ ُذـوـاْ ِزينَتَُك ْمـ ِع نـَد ُك ّلـ َمْسـِجـ ٍد ـ{ ‏]العراف‪ [31:‬فإن تكر م أحد من‬ ‫الرجل والمرأ ة فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها بعد الطواف ول ينتفع بها هو ول أحد‬ ‫غيره‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنهم كانوا ل يأتون بيوتهم من أبوابها في حال الحرا م‪ ،‬بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقًبا‬ ‫س‬ ‫يدخلون ويخرجون منه‪ ،‬وكانوا يحسبون ذلك الجفاء بّرا‪ ،‬وقد نهي عنه القرآن‪ ،‬قال ال تعالى‪ :‬‏} َولَـْي َ‬ ‫ت ِم ْنـ َأبـَْو اـبَِه اـ َواـتـُّقوـاْ ال َ لَ​َعلُّك ْمـ‬ ‫ت ِم نـ ظُ​ُه وـِرَه اـ َو لَـِكّن الْبِّر َمِنـ اتـَّق ىـ َوأْـُتواْ اْلبـُيو َ‬ ‫الْبِّر بِأَْن تَْأتـُْو اْـ اْلبـُيو َ‬ ‫تـُْف لِـُح وـَن{ ‏]البقر ة‪. [189:‬‬ ‫كانت هذه الديانة ـ ديانة الشرك وعباد ة الوثان‪ ،‬والعتقاد بالوها م والخرافات ـ هي الديانة السائد ة في‬ ‫جزير ة العرب‪ ،‬وقد وجدت اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئية سبًل للدخول في ربوعها‪.‬‬ ‫ولليهود دوران ـ على القل ـ مثلوهما في جزير ة العرب‪:‬‬ ‫الول‪ :‬هجرتهم في عهد الفتوح البابلية والشورية في فلسطين‪ ،‬فقد نشأ عن الضغط على اليهود‪ ،‬وعن‬ ‫تخريب بلدهم وتدمير هيكلهم على يد الملك بُْخ تـَُنصر سنة ‪ 587‬ق‪ .‬م‪ ،‬وسبى أكثرهم إلى بابل أن‬ ‫قسًم اـ منهم هجر البلد الفلسطينية إلى الحجاز‪َ ،‬و تَـوّطن في ربوعها الشمالية‪.‬‬ ‫الدور الثاني‪ :‬يبدأ من احتلل الرومان لفلسطين بقياد ة تيطس الرومانى سنة ‪ 70‬م‪ ،‬فقد نشأ عن ضغط‬ ‫الرومان على اليهود وعن تخريب الهيكل وتدميره أن قبائل عديد ة من اليهود رحلت إلى الحجاز‪،‬‬

‫واستقرت في يثرب وخيبر وتيماء‪ ،‬وأنشأت فيها القرى والطا م والقلع‪ ،‬وانتشرت الديانة اليهودية بين‬

‫قسم من العرب عن طريق هؤلء المهاجرين‪ ،‬وأصبح لها شأن يذكر في الحوادث السياسية التي سبقت‬ ‫ظهور السل م‪ ،‬والتي حدثت في صدره‪ .‬وحينما جاء السل م كانت القبائل اليهودية المشهور ة هي‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صـطَـَلق وقريظة وقينقاع‪ ،‬وذكر السمهودي أن عدد القبائل اليهودية التي نزلت بيثرب‬ ‫خيبر والنضير والُم ْ‬

‫بين حين وآخر‪ :‬يزيد على عشرين‪.‬‬

‫ودخلت اليهودية في اليمن من قبل تـُّبان أسعد أبي َك َرـب‪ ،‬فإنه ذهب مقاتًل إلى يثرب واعتنق هناك‬ ‫اليهودية وجاء بحبرين من بني قريظة إلى اليمن‪ ،‬فأخذت اليهودية إلى التوسع والنتشار فيها‪ ،‬ولما ولى‬ ‫اليمن بعده ابنه يوسف ذو نـَُو اـس هجم على النصارى من أهل نجران ودعاهم إلى اعتناق اليهودية‪ ،‬فلما‬

‫أبوا خّد لهم الخدود وأحرقهم بالنار‪ ،‬ولم يفرق بين الرجل والمرأ ة والطفال الصغار والشيوخ الكبار‪،‬‬

‫ويقال‪ :‬إن عدد المقتولين ما بين عشرين ألًف اـ إلى أربعين ألًف اـ‪ .‬وقع ذلك في شهر أكتوبر سنة ‪ 523‬م‪.‬‬ ‫ص حـاـب اْلُْخ ُدـوـِد الّناِر َذا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫وقد ذكرهم ال تعالى في القرآن الكريم في سور ة البروج؛ إذ يقول‪ :‬‏}قُتَل أَ ْ َ ُ‬ ‫الَْو قُـوِد إِْذ ُه ْمـ َعَليـَْه اـ قـُعوٌد َو ُهـْمـ َعَلى َماـ يـَْف َعـُلوَن ِبالُْم ْؤـِمـنِـيَن ُش ُهـوـٌد{ ‏]البروج‪.[7 :4 :‬‬ ‫أما الديانة النصرانية‪ ،‬فقد جاءت إلى بلد العرب عن طريق احتلل الحبشة وبعض البعثات الرومانية‪،‬‬ ‫وكان أول احتلل الحباش لليمن سنة ‪ 340‬م‪ ،‬ولكن لم يطل أمد هذا الحتلل‪ ،‬فقد طردوا منها ما‬

‫بين عامي ‪370‬ـ ‪ 378‬م‪ ،‬إل أنهم شجعوا على نشر النصرانية وتشجعوا لها‪ ،‬وقد وصل أثناء هذا‬

‫الحتلل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات ـ اسمه فيميون ـ إلى نجران‪ ،‬ودعاهم إلى‬ ‫دين النصرانية فلبوا دعوته واعتنقوا النصرانية؛ لما رأوا من آيات صدقه وصدق دينه‪.‬‬

‫ولما احتلت الحباش اليمن مر ة أخرى عا م ‪ 525‬م ـ كرد فعل على ما أتاه ذو نواس من تحريق نصارى‬

‫نجران في الخدود‪ ،‬وتمكن أبرهة الشر م من حكومة اليمن ـ أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط‬

‫وأوسع نطاق‪ ،‬حتى بلغ من نشاطه أنه بني كعبة باليمن‪ ،‬وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهد م بيت‬

‫ال الذي بمكة‪ ،‬فأخذه ال نكال الخر ة والولى‪.‬‬

‫وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيئ وغيرهما لمجاور ة الرومان‪ ،‬بل قد اعتنقها‬

‫ض اـ‪.‬‬ ‫بعض ملوك الحير ة أي ً‬

‫أما المجوسية‪ ،‬فكان ما كان منها في العرب المجاورين للفرس‪ ،‬فكانت في عراق العرب وفي البحرين ـ‬ ‫الحسا ـ وَه َجـرـ وما جاورها من منطقة سواحل الخليج العربي‪ ،‬ودان لها رجال من اليمن في زمن‬ ‫الحتلل الفارسي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أما الصابئية ـ وهي ديانة تمتاز بعباد ة الكواكب وبالعتقاد في أنواء المنازل وتأثير النجو م وأنها هي‬

‫المدبر ة للكون ـ فقد دلت الحفريات والتنقيبات في بلد العراق وغيرها أنها كانت ديانة قو م إبراهيم‬ ‫الكلدانيين‪ ،‬وقد دان بها كثير من أهل الشا م وأهل اليمن في غابر الزمان‪ ،‬وبعد تتابع الديانات الجديد ة‬

‫من اليهودية والنصرانية‪ ،‬تضعضع بنيان الصابئية وخمد نشاطها‪ ،‬ولكن لم يزل في الناس بقايا من أهل‬

‫هذه الديانة مختلطين مع المجوس أو مجاورين لهم في عراق العرب وعلى شواطئ الخليج العربي‪ .‬وقد‬

‫وجد شيء من الزندقة في بعض العرب‪ ،‬وكانت وصلت إليهم عن طريق الحير ة‪ ،‬كما وجدت في بعض‬ ‫قريش لحتكاكهم بالفرس عن طريق التجار ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الحالة الدينية‬ ‫كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حين جاء السل م‪ ،‬وقد أصاب هذه الديانات النحلل والبوار‪،‬‬ ‫فالمشركون الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم‪،‬‬

‫مهملين ما أتت به من مكار م الخلق‪ .‬وكثرت فيهم المعاصي‪ ،‬ونشأ فيهم على توالى الزمان ما ينشأ في‬ ‫الوثنيين من عادات وتقاليد تجرى مجرى الخرافات الدينية‪ ،‬وأثرت في الحيا ة الجتماعية والسياسية‬ ‫والدينية تأثيًرا بالًغا جًد اـ‪.‬‬

‫أما اليهودية‪ ،‬فقد انقلبت رياء وتحكًم اـ‪ ،‬وصار رؤساؤها أرباًبا من دون ال ‪ ،‬يتحكمون في الناس‬ ‫ويحاسبونهم حتى على خطرات النفس وهمسات الشفاه‪ ،‬وجعلوا همهم الحظو ة بالمال والرياسة وإن‬ ‫ضاع الدين وانتشر اللحاد والكفر‪ ،‬والتهاون بالتعاليم التي حض ال عليها وأمر كل فرد بتقديسها‪.‬‬ ‫وأما النصرانية‪ ،‬فقد عادت وثنية عسر ة الفهم‪ ،‬وأوجدت خلًطا عجيًبا بين ال والنسان‪ ،‬ولم يكن لها‬ ‫في نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقي؛ لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها‪ ،‬ولم‬ ‫يكونوا يستطيعون البتعاد عنها‪.‬‬

‫وأما سائر أديان العرب‪ :‬فكانت أحوال أهلها كأحوال المشركين‪ ،‬فقد تشابهت قلوبهم‪ ،‬وتواردت‬ ‫عقائدهم‪ ،‬وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صور من المجتمع العربي الجاهلي‬ ‫الحالة الجتماعية‬ ‫الحالة القتصادية‬ ‫الخلق‬ ‫بعد البحث عن سياسة الجزير ة وأديانها يجمل بنا أن نلقى شيًئا من الضوء على أحوالها الجتماعية‬ ‫والقتصادية والخلقية‪ ،‬وفيما يلي بيانها بإيجاز‪:‬‬ ‫الحالة الجتماعية‬ ‫كانت في العرب أوساط متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض‪ ،‬فكانت علقة الرجل مع أهله في‬ ‫الشراف على درجة كبير ة من الرقى والتقد م‪ ،‬وكان لها من حرية الراد ة ونفاذ القول القسط الوفر‪،‬‬

‫وكانت محترمة مصونة تَُس ّلـ دونها السيوف‪ ،‬وتراق الدماء‪ ،‬وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في‬ ‫نظر العرب المقا م السامي من الكر م والشجاعة لم يكن يخاطب في معظم أوقاته إل المرأ ة‪ ،‬وربما‬

‫كانت المرأ ة إذا شاءت جمعت القبائل للسل م‪ ،‬وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال‪ ،‬ومع هذا‬ ‫كله فقد كان الرجل يعتبر بل نزاع رئيس السر ة وصاحب الكلمة فيها‪ ،‬وكان ارتباط الرجل بالمرأ ة بعقد‬

‫الزواج تحت إشراف أوليائها‪ ،‬ولم يكن من حقها أن تفتات عليهم‪.‬‬

‫بينما هذه حال الشراف‪ ،‬كان هناك في الوساط الخرى أنواع من الختلط بين الرجل والمرأ ة‪ ،‬ل‬

‫نستطيع أن نعبر عنه إل بالدعار ة والمجون والسفاح والفاحشة‪ .‬روى البخاري وغيره عن عائشة رضي ال‬ ‫عنها‪.‬‬ ‫إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء‪ :‬فنكاح منها نكاح الناس اليو م؛ يخطب الرجل إلى الرجل‬ ‫وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها‪ ،‬ونكاح آخر‪ :‬كان الرجل يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها‪ :‬أرسلي‬

‫إلى فلن فاستبضعي منه‪ ،‬ويعتزلها زوجها ول يمسها أبًد اـ حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي‬

‫تستبضع منه‪ ،‬فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب‪ ،‬وإنما يفعل ذلك رغبة في نَ​َج اـبة الـولد‪ ،‬فكان‬

‫هـذا النكاح ‏]يسمى[ نكاح الستبضاع‪ ،‬ونكاح آخر‪ :‬يجتمع الرهط دون العشر ة‪ ،‬فيدخلون على المرأ ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كلهم يصيبها‪ ،‬فإذا حملت‪ ،‬ووضعت ومر‏]ت[ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم‪ ،‬فلم يستطع‬

‫رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها‪ ،‬‏]فـ[ تقول لهم‪ :‬قد عرفتم الذي كان من أمركم‪ ،‬وقد ولدت‪،‬‬

‫فهو ابنك يا فلن‪ ،‬‏]فـ[ تسمى من أحبت ‏]منهم[ باسمه‪ ،‬فيلحق به ولدها‪ .‬ل يستطيع أن يمتنع منه‬ ‫الرجل‪،‬ونكاح رابع‪:‬يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأ ة ل تمتنع ممن جاءها‪،‬وهن البغايا‪،‬كن‬

‫ينصبن على أبوابهن رايات تكون علًم اـ‪ ،‬فمن أرادهن دخل عليهن‪ ،‬فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها‬

‫جمعوا لها‪ ،‬ودعوا لهم القافة‪ ،‬ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون‪ ،‬فالتاطته به‪ ،‬ودعى ابنه‪ ،‬ل يمتنع من ذلك‪،‬‬

‫فلما بعث ‏]ال [ محمًد اـ صلى ال عليه وسلم بالحق هد م نكاح ‏]أهل[ الجاهلية كله إل نكاح السل م‬

‫اليو م‪.‬‬

‫وكانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأ ة تعقدها شفار السيوف‪ ،‬وأسنة الرماح‪ ،‬فكان المتغلب في‬

‫حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها‪ ،‬ولكن الولد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مد ة‬ ‫حياتهم‪.‬‬

‫وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه‪،‬‬ ‫حتى حددها القرآن في أربع‪ .‬وكانوا يجمعون بين الختين‪ ،‬وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو‬ ‫ف إِنّهُ َك اـَن‬ ‫ماتوا عنها حتى نهى عنهما القرآن ‏} َولَ َتنِكُح وـاْ َماـ نَ​َك َحـ آَباُؤُك مـ ّمَنـ النَّس اـء إِلّ َماـ قَْد َس لَـ َ‬ ‫ت الَِخ‬ ‫َفاِح َش ـةًـ َو َمـْقـتًـا َو َسـاـء َس بِـيلً ُح ّرـَم ْ‬ ‫تـ َعلَْيُك ْمـ أُّمَهـاـتُ​ُك ْمـ َو بـَناتُ​ُك ْمـ َوأَـَخ َوـاـتُ​ُك ْمـَو َعـّم اـتُ​ُك ْمـ َوَخ اـلَتُ​ُك ْمـ َو بـَنا ُ‬ ‫ت الُْخ ِ‬ ‫ت نَِس آـئُِك ْمـ َوَرـَبائِبُ​ُك ُمـ اللِّتي ِفي‬ ‫ض اـَعِة َوأُـّمَه اـ ُ‬ ‫َو بـَنا ُ‬ ‫ض ْعـنَـُك ْمـ َوأَـَخ َوـاـتُ​ُك مـّمَنـ الّر َ‬ ‫تـ َوأُـّمَهـاـتُ​ُك ُمـ اللِّتي أَْر َ‬ ‫ُح ُجـوـِرُك مـ ّمنـ نَّس آـئُِك ُمـ اللِّتي َدَخـْلـُتم بِ​ِه ّنـ فَِإ نـ لّْم تَُك وـُنواْ َدَخـْلـُتم بِ​ِه ّنـ فَلَ ُج نَـاَح َعلَْيُك ْمـ َوَح لَـئُِل َأبـَْنائُِك ُمـ‬ ‫ِ‬ ‫ف إِّن ال َ َك اـَن غَُفوـًرا ّرِح يـًم اـ{ ‏]سور ة‬ ‫ص لَـبُِك ْمـ َوأَـن تَْج َمـعُـواْ بـَْيَن الُْخ تـَْيِن إَلّ َماـ قَْد َس لَـ َ‬ ‫الِّذ يـَن م ْنـ أَ ْ‬ ‫النساء‪ [23 ،22 :‬وكان الطلق والرجعة بيد الرجال‪ ،‬ولم يكن لهما حد معين حتى حددهما السل م‪.‬‬ ‫وكانت فاحشة الزنا سائد ة في جميع الوساط‪ ،‬ل نستطيع أن نخص منها وسًطا دون وسط‪ ،‬أو صنًف اـ‬ ‫دون صنف إل أفراًداـ من الرجال والنساء ممن كان تعاظم نفوسهم يأبى الوقوع في هذه الرذيلة‪ ،‬وكانت‬ ‫الحرائر أحسن حاًل من الماء‪ ،‬والطامة الكبرى هي الماء‪ ،‬ويبدو أن الغلبية الساحقة من أهل‬

‫الجاهلية لم تكن تحس بعار في النتساب إلى هذه الفاحشة‪ ،‬روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن‬

‫أبيه عن جده قال‪ :‬قا م رجل فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن فلًنا ابني‪ ،‬عاهرت بأمه في الجاهلية‪ ،‬فقال رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ل دعو ة في السل م‪ ،‬ذهب أمر الجاهلية‪ ،‬الولد للفراش وللعاهر الَح َجـرـ(‪،‬‬

‫وقصة اختصا م سعد بن أبي وقاص وعبد بن َزْم َعـةـ في ابن أمة زمعة ـ وهو عبد الرحمن بن زمعة ـ معروفة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانت علقة الرجل مع أولده على أنواع شتى‪ ،‬فمنهم من يقول‪:‬‬ ‫إنم ــا أولدن ــا بيننــا ** أكبادنا تمشى على الرض‬ ‫ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والنفاق‪ ،‬ويقتل الولد خشية الفقر والملق‪:‬‏}قُْل تـَعالَْو اْـ أَتُْل َماـ‬ ‫َح ّرـَ م َربُّك ْمـ َعلَْيُك ْمـ أَلّ تُْش ِرـُك وـاْ بِ​ِه َش ْيـًئا َو بِـالَْو اـلَِد يْـِن إِْح َسـاـًنا َولَ تـَْق تـُ​ُلواْ أَْو لَـَدُك مـ ّمْنـ إْم لَـٍق نّْح ُنـ نـَْر ُزـقُ​ُك ْمـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سـ الِّتي َح ّرـَ م ال ُ إِلّ ِبالَْح ّقـ َذلُِك ْمـ‬ ‫َو إِـّياُه ْمـ َولَ تـَْق َرـُبواْ الَْف َوـاـح َ‬ ‫ش ـَماـ ظَ​َه َرـ م نـَْه اـ َو َمـاـ بَطَ​َن َولَ تـَْق تـُ​ُلواْ النـّْف َ‬ ‫صـاـُك ْمـ بِ​ِه لَ​َعلُّك ْمـ تـَْعِقـلُـوَن { ‏]النعا م‪ [151 :‬ولكن ل يمكن لنا أن نعد هذا من الخلق المنتشر ة‬ ‫َو ّ‬ ‫السائد ة‪ ،‬فقد كانوا أشد الناس احتياًج اـ إلى البنين ليتقوا بهم العدو‪.‬‬ ‫أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطد ة قوية‪ ،‬فقد كانوا يحيون للعصبية‬ ‫القبلية ويموتون لها‪ ،‬وكانت روح الجتماع سائد ة بين القبيلة الواحد ة تزيدها العصبية‪ ،‬وكان أساس النظا م‬ ‫الجتماعي هو العصبية الجنسية والرحم‪ ،‬وكانوا يسيرون على المثل السائر‪ :‬‏)انصر أخاك ظالًم اـ أو‬

‫مظلوًماـ( على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به السل م؛ من أن نصر الظالم كفه عن‬

‫ظلمه‪ ،‬إل أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيًرا ما كان يفضى إلى الحروب بين القبائل التي كان‬ ‫يجمعها أب واحد‪ ،‬كما نرى ذلك بين الوس والخزرج‪ ،‬وَعْبس وذُْبيان‪ ،‬وبَْك رـ وتـَْغِلب وغيرها‪.‬‬ ‫أما العلقة بين القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الوصال تماًماـ‪ ،‬وكانت قواهم متفانية في الحروب‪،‬‬ ‫إل أن الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات المشتركة بين الدين والخرافة ربما كان يخفف من‬

‫حدتها وصرامتها‪ .‬وأحياًنا كانت الموال ة والحلف والتبعية تفضى إلى اجتماع القبائل المتغاير ة‪ .‬وكانت‬ ‫الشهر الحر م رحمة وعوًنا لهم على حياتهم وحصول معايشهم‪ .‬فقد كانوا يأمنون فيها تما م المن؛ لشد ة‬ ‫ص ُلـ الِس نّــة؛ فل ندع رمًح اـ فيه‬ ‫التزامهم بحرمتها‪ ،‬يقول أبو رجاء الُعطاردي‪ :‬إذا دخل شهر رجب قلنا‪ُ :‬منَ ّ‬ ‫حديد ة ول سهًم اـ فيه حديد ة إل نزعناه‪ ،‬وألقيناه شهر رجب‪ .‬وكذلك في بقية الشهر الحر م‪.‬‬ ‫وقصارى الكل م أن الحالة الجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية‪ ،‬فالجهل ضارب‬

‫أطنابه‪ ،‬والخرافات لها جولة وصولة‪ ،‬والناس يعيشون كالنعا م‪ ،‬والمرأ ة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات‬

‫أحيانا‪ ،‬والعلقة بين المة واهية مبتوتة‪ ،‬وما كان من الحكومات فُج ّلـ همتها ملء الخزائن من رعيتها أو‬ ‫جر الحروب على مناوئيها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الحالة القتصادية‬ ‫أما الحالة القتصادية‪ ،‬فتبعت الحالة الجتماعية‪ ،‬ويتضح ذلك إذا نظرنا في طرق معايش العرب‪.‬‬ ‫فالتجار ة كانت أكبر وسيلة للحصول على حوائج الحيا ة‪ ،‬والجولة التجارية ل تتيسر إل إذا ساد المن‬

‫والسل م‪ ،‬وكان ذلك مفقوًداـ في جزير ة العرب إل في الشهر الحر م‪ ،‬وهذه هي الشهور التي كانت تعقد‬

‫فيها أسواق العرب الشهير ة من ُعكاظ وذي المَج اـز وَمَجـنّـة وغيرها‪.‬‬

‫وأما الصناعات فكانوا أبعد المم عنها‪ ،‬ومعظم الصناعات التي كانت توجد في العرب من الحياكة‬ ‫والدباغة وغيرها كانت في أهل اليمن والحير ة ومشارف الشا م‪ ،‬نعم‪ ،‬كان في داخل الجزير ة شيء من‬

‫الزراعة والحرث واقتناء النعا م‪ ،‬وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل‪ ،‬لكن كانت المتعة عرضة‬ ‫للحروب‪ ،‬وكان الفقر والجوع والعرى عاًماـ في المجتمع‪.‬‬ ‫الخلق‬

‫ل شك أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان‪ ،‬ولكن‬ ‫كانت فيهم من الخلق الفاضلة المحمود ة ما يروع النسان ويفضى به إلى الدهشة والعجب‪ ،‬فمن‬

‫تلك الخلق‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الكر م‪ :‬وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به‪ ،‬وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بين ممتدح به وُمثٍْن‬ ‫على غيره‪ ،‬كان الرجل يأتيه الضيف في شد ة البرد والجوع وليس عنده من المال إل ناقته التي هي‬ ‫حياته وحيا ة أسرته‪ ،‬فتأخذه هز ة الكر م فيقو م إليها‪ ،‬فيذبحها لضيفه‪ .‬ومن آثار كرمهم أنهم كانوا‬

‫يتحملون الديات الهائلة والحمالت المدهشة‪ ،‬يكفون بذلك سفك الدماء‪ ،‬وضياع النسان‪ ،‬ويمتدحون‬ ‫بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات‪.‬‬ ‫وكان من نتائج كرمهم أنهم كانوا يتمدحون بشرب الخمور‪ ،‬ل لنها مفخر ة في ذاتها؛ بل لنها سبيل‬ ‫س َرـف على النفس‪ ،‬ولجل ذلك كانوا يسمون َش َجـَرـ العنب بالَك ْرـ مـ‪،‬‬ ‫من سبل الكر م‪ ،‬ومما يسهل ال ّ‬ ‫وَخ مـرــه بِبِْن ِ‬ ‫ت الكر م‪ .‬وإذا نظرت إلى دواوين أشعارالجاهلية تجد ذلك باًبا من أبواب المديح والفخر‪،‬‬ ‫َْ‬ ‫يقول عنتر ة بن شداد العبسي في معلقته‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ت من الم َدـاـمةـ بـعَدـ ما ** رَك ــد اله وـاجـِر بالم شــو ِ‬ ‫ف الُم ْعـلـِـم‬ ‫ولقد َش ِرـبْ ُ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت بأزه ـَر بال ّ‬ ‫ش مـال ُمفـَّد ِ مـ‬ ‫بُزَج اـَج ٍةـ صـَْف رـاء ذات أسـِّر ة ** ُقرنـَ ْ‬ ‫ت فإننى مس تـْه لـِـك ** مالى وِع رـ ِ‬ ‫ضـ ىـوافِـٌر لم يُْك لـَِم‬ ‫فــإذا شـَِرب ُ‬ ‫َُْ‬ ‫ْ‬ ‫ص ُرـ عن نَ​َد ىـ ** وكمــا َعلمـت شمائلــى َو تَـَك ّرـمِـى‬ ‫تـفما أُقَ ّ‬ ‫ص َحـْوـ ُ‬ ‫وإذا َ‬ ‫ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر‪ ،‬فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكر م؛ لنهم كانوا يطعمون‬ ‫المساكين ما ربحوه أو ما كان يفضل عن سها م الرابحين؛ ولذلك ترى القرآن ل ينكر نفع الخمر‬ ‫والميسر وإنما يقول‪ :‬‏} َوإِـثُْمُهـَمـآـأَْك بـَُر ِم نـ نـّْف ِعـِه َمـاـ{ ‏]البقر ة‪[219:‬‬

‫‪ 2‬ـ الوفاء بالعهد‪ :‬فقد كان العهد عندهم ديًنا يتمسكون به‪ ،‬ويستهينون في سبيله قتل أولدهم‪،‬‬ ‫س َمـْوـأـل بن عاديا‪ ،‬وحاجب‬ ‫وتخريب ديارهم‪ ،‬وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني‪ ،‬وال ّ‬

‫بن زرار ة التميمي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ عز ة النفس والباء عن قبول الخسف والضيم‪ :‬وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشد ة الغير ة‪،‬‬

‫وسرعة النفعال‪ ،‬فكانوا ل يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إل قاموا إلى السيف‬ ‫والسنان‪ ،‬وأثاروا الحروب العوان‪ ،‬وكانوا ل يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ المضي في العزائم‪ :‬فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد والفتخار‪ ،‬ل يصرفهم عنه صارف‪ ،‬بل‬ ‫كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ الحلم‪ ،‬والنا ة‪ ،‬والتؤد ة‪ :‬كانوا يتمدحون بها إل أنها كانت فيهم عزيز ة الوجود؛ لفرط شجاعتهم‬ ‫وسرعة إقدامهم على القتال‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ السذاجة البدوية‪ ،‬وعد م التلوث بلوثات الحضار ة ومكائدها‪ :‬وكان من نتائجها الصدق والمانة‪،‬‬ ‫والنفور عن الخداع والغدر‪.‬‬ ‫نرى أن هذه الخلق الثمينة ـ مع ما كان لجزير ة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم ـ كانت‬ ‫سبًبا في اختيار ال عز وجل إياهم لحمل عبء الرسالة العامة‪ ،‬وقياد ة المة النسانية‪ ،‬وإصلح‬ ‫المجتمع البشرى؛ لن هذه الخلق وإن كان بعضها يفضى إلى الشر‪ ،‬ويجلب الحوادث المؤلمة إل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أنها كانت في نفسها أخلًقا ثمينة‪ ،‬تدر بالمنافع العامة للمجتمع البشرى بعد شيء من الصلح‪ ،‬وهذا‬ ‫الذي فعله السل م‪.‬‬ ‫ولعل أغلى ما عندهم من هذه الخلق وأعظمها نفًعا ـ بعد الوفاء بالعهد ـ هو عز ة النفس والمضي في‬

‫العزائم؛ إذ ل يمكن قمع الشر والفساد وإقامة نظا م العدل والخير إل بهذه القو ة القاهر ة وبهذا العز م‬ ‫الصميم‪ .‬ولهم أخلق فاضلة أخرى دون هذه التي ذكرناها‪ ،‬وليس قصدنا استقصاءها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النسب والمولد والنشأ ة‬ ‫نسب النبي صلى ال عليه وسلم وأسرته‬ ‫السر ة النبوية‬ ‫المول ــد‬

‫السير ة الجمالية قبل النبو ة‬ ‫نسب النبي صلى ال عليه وسلم وأسرته‬ ‫نسب النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫نسب نبينا محمد صلى ال عليه وسلم ينقسم إلى ثلثة أجزاء‪ :‬جزء اتفق عليه كافة أهل السير‬ ‫والنساب‪ ،‬وهو الجزء الذي يبدأ منه صلى ال عليه وسلم وينتهي إلى عدنان‪.‬‬

‫وجزء آخر كثر فيه الختلف‪ ،‬حتى جاوز حد الجمع والئتلف‪ ،‬وهو الجزء الذي يبدأ بعد عدنان‬

‫وينتهي إلى إبراهيم عليه السل م فقد توقف فيه قو م‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل يجوز سرده‪ ،‬بينما جوزه آخرون وساقوه‪.‬‬

‫ثم اختلف هؤل المجوزون في عدد الباء وأسمائهم‪ ،‬فاشتد اختلفهم وكثرت أقوالهم حتى جاوزت‬ ‫ثلثين قوًل ‪ ،‬ـ ـإل أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السل م‪.‬‬

‫أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السل م وينتهي إلى آد م عليه السل م‪ ،‬وجل العتماد فيه‬ ‫على نقل أهل الكتاب‪ ،‬وعندهم فيه من بعض تفاصـيل العمـار وغيرهـا ما ل نشك في بطلنه‪ ،‬بينما‬

‫نتوقف في البقية الباقية‪.‬‬ ‫وفيما يلى الجزاء الثلثة من نسبه الزكى صلى ال عليه وسلم بالترتيب ‪:‬‬ ‫الجزء الول ‪ :‬محمد بن عبد ال بن عبد المطلب ـ واسمه َش ْيـَبة ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد‬ ‫ص ّىـ ـ واسمه زيد ـ بن ِكلب بن ُمّر ة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِْه رـ ـ‬ ‫مناف ـ واسمه المغير ة ـ بن قُ َ‬ ‫ض رـ ـ واسمه قيس ـ بن كَِنانة بن ُخ َزـيَْم ةـ بن‬ ‫وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النّ ْ‬ ‫ض رـ بن نَِزار بن َمَعـّد بن عدنان‪.‬‬ ‫ُمْد ِرـكة ـ واسمه عامـر ـ بن إلياس بن ُم َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الجزء الثانى ‪ :‬ما فوق عدنان‪ ،‬وعدنان هو ابن أَُددـ بن الَه َمـْيـَس عـ بن سلمان بن َعْو ص ـ بن بوز بن قموال‬

‫بن أبي بن عوا م بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن‬

‫عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن َح ْمـدـان بن سنبر بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض‬

‫بن ديشان بن عيصر بن أفناد ابن أيها م بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن‬ ‫عرا م بن قيدار ابن إسماعيل بن إيراهيم عليهما السل م‪.‬‬ ‫الجزء الثالث ‪ :‬ما فوق إبراهيم عليه السل م‪ ،‬وهو ابن تاَرح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو‬

‫ساروغ ـ بن َراُعو بن َفاَلخ بن عابر بن َش اـَلخ بن أْرفَْخ َشـدـ بن سا م بن نوح عليه السل م بن لمك بن‬ ‫َمتـوَش لـَخ بن أَْخ نُــوخ ـ يقال ‪ :‬هو إدريس النبي عليه السل م ـ بن يـَْردـ بن َمْهـ لــئيل بن قينان بن أُنوش بن‬ ‫ِش يــث بن آد م ـ عليهما السل م‪.‬‬

‫السر ة النبوية‬ ‫تعرف أسرته صلى ال عليه وسلم بالسر ة الهاشمية ـ نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر‬ ‫شيًئا من أحوال هاشم ومن بعده ‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ هاشم ‪:‬‬ ‫قد أسلفنا أن هاشًم اـ هو الذي تولى السقاية والرفاد ة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو‬ ‫عبد الدار على اقتسا م المناصب فيما بينهما‪ ،‬وكان هاشم موسًرا ذا شرف كبير‪ ،‬وهو أول من أطعم‬

‫الثريد للحجاج بمكة‪ ،‬وكان اسمه عمرو فما سمى هاشًم اـ إل لهشمه الخبز‪ ،‬وهو أول من سن الرحلتين‬

‫لقريش‪ ،‬رحلة الشتاء والصيف‪ ،‬وفيه يقول الشاعر ‪:‬‬

‫عمرو الذي ه َشـمـ الثريَد لقومه ** َقوٍ م بمكة مِس نـِتين ِع جـاـ ِ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫ت إليه الرحلتان كلهما ** َس َفـُرـ الشتاء ورحلة الصياف‬ ‫ُس نّـ ْ‬ ‫ومن حديثه أنه خرج إلى الشا م تاجًرا‪ ،‬فلما قد م المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدى بن‬

‫النجار وأقا م عندها‪ ،‬ثم خرج إلى الشا م ـ وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب ـ فمات هاشم بغز ة‬

‫من أرض فلسطين‪ ،‬وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة ‪ 497‬م‪ ،‬وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫رأسه‪ ،‬وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب‪ ،‬ولم يشعر به أحد من أسرتـه بمكـة‪ ،‬وكان لهاشم أربعة بنين‬

‫وهم‪ :‬أسد وأبو صيفي ونضلة وعبد المطلب‪ .‬وخمس بنات وهن‪ :‬الشفاء‪ ،‬وخالد ة‪ ،‬وضعيفة‪ ،‬ورقية‪،‬‬ ‫وجنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ عبـد المطلب ‪:‬‬

‫قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفاد ة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف ‏]وكان شريًف اـ‬

‫مطاًعا ذا فضل في قومه‪ ،‬كانت قريش تسميه الفياض لسخائه[ لما صار شيبة ـ عبد المطلب ـ وصيًف اـ‬ ‫أو فوق ذلك ابن سبع سنين أو ثماني سنين سمع به المطلب‪ .‬فرحل في طلبه‪ ،‬فلما رآه فاضت عيناه‪،‬‬ ‫وضمه‪ ،‬وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه‪ ،‬فسألها المطلب أن ترسله معه‪ ،‬فامتنعت‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫إنما يمضى إلى ملك أبيه وإلى حر م ال فأذنت له‪ ،‬فقد م به مكة مردفه على بعيره‪ ،‬فقال الناس‪ :‬هذا‬

‫عبد المطلب‪ ،‬فقال‪ :‬ويحكم‪ ،‬إنما هو ابن أخى هاشم‪ ،‬فأقا م عنده حتى ترعرع‪ ،‬ثم إن المطلب هلك بـ‬

‫‏]دمان[ من أرض اليمن‪ ،‬فولى بعده عبد المطلب‪ ،‬فأقا م لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم‪،‬وشرف في‬

‫قومه شرًفا لم يبلغه أحد من آبائه‪ ،‬وأحبه قومه وعظم خطره فيهم‪.‬‬

‫ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب فغصبه إياها‪ ،‬فسأل رجاًل من قريش النصر ة على‬

‫عمه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل ندخل بينك وبين عمك‪ ،‬فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياًتا يستنجدهم‪ ،‬فسار خاله‬ ‫أبو سعد بن عدى في ثمانين راكًبا‪ ،‬حتى نزل بالبطح من مكة‪ ،‬فتلقاه عبد المطلب‪ ،‬فقال‪ :‬المنزل يا‬ ‫خال‪ ،‬فقال‪ :‬ل وال حتى ألقى نوفًل ‪ ،‬ـ ـثم أقبل فوقف على نوفل‪ ،‬وهو جالس في الحجر مع مشايخ‬

‫قريش‪ ،‬فسل أبو سعد سيفه وقال‪ :‬ورب البيت‪ ،‬لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لمكنن منك هذا‬

‫السيف‪ ،‬فقال‪ :‬رددتها عليه‪ ،‬فأشهد عليه مشايخ قريش‪ ،‬ثم نزل على عبد المطلب‪ ،‬فأقا م عنده ثلًثا‪،‬‬ ‫ثم اعتمر ورجع إلى المدينة‪ .‬فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني‬ ‫هاشم‪ .‬ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا‪ :‬نحن ولدناه كما ولدتموه‪ ،‬فنحن أحق‬

‫بنصره ـ وذلك أن أ م عبد مناف منهم ـ فدخلوا دار الندو ة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس‬ ‫ونوفل‪ ،‬وهذا الحلف هو الذي صار سبًبا لفتح مكة كما سيأتى‪.‬‬

‫ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان‪:‬‬ ‫حفر بئر زمز م ووقعة الفيل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وخلصة الول‪ :‬أنه أمر في المنا م بحفر زمز م ووصف له موضعها‪ ،‬فقا م يحفر‪ ،‬فوجد فيه الشياء التي‬ ‫دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلء‪ ،‬أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب‪ ،‬فضرب السياف‬

‫باًبا للكعبة‪ ،‬وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب‪ ،‬وأقا م سقاية زمز م للحجاج‪.‬‬ ‫ولما بدت بئر زمز م نازعت قريش عبد المطلب‪ ،‬وقالوا له ‪ :‬أشركنا‪.‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ ،‬هذا أمر خصصت‬ ‫به‪ ،‬فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد ُه َذـيْـم‪ ،‬وكانت بأشراف الشا م‪ ،‬فلما كانوا‬ ‫في الطريق‪ ،‬ونفد الماء سقى ال عبد المطلب مطًرا‪ ،‬م ينزل عليهم قطر ة‪ ،‬فعرفوا تخصيص عبد المطلب‬ ‫بزمز م ورجعـوا‪ ،‬وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه ال عشر ة أبناء‪ ،‬وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند‬ ‫الكعبة‪.‬‬

‫وخلصة الثانى‪ :‬أن أبرهة بن الصباح الحبشى‪ ،‬النائب العا م عن النجاشى على اليمن‪ ،‬لما رأي العرب‬

‫يحجون الكعبة بني كنيسة كبير ة بصنعاء‪ ،‬وأراد أن يصرف حج العرب إليها‪ ،‬وسمع بذلك رجل من بني‬ ‫كنانة‪ ،‬فدخلها ليًل فلطخ قبلتها بالعذر ة‪ .‬ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه‪ ،‬وسار بجيش عرمر م ـ عدده‬ ‫ستون ألف جندى ـ إلى الكعبة ليهدمها‪ ،‬واختار لنفسه فيل من أكبر الفيلة‪ ،‬وكان في الجيش ‪ 9‬فيلة أو‬ ‫‪ 13‬فيل‪ ،‬وواصل سيره حتى بلغ الُم غَـّم سـ‪ ،‬وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله‪ ،‬وتهيأ لدخول مكة‪ ،‬فلما كان‬

‫سـرـ بين المزدلفة ومنى برك الفيل‪ ،‬ولم يقم ليقد م إلى الكعبة‪ ،‬وكانوا كلما وجهوه إلى‬ ‫في وادى ُمَح ّ‬

‫الجنوب أو الشمال أو الشرق يقو م يهرول‪ ،‬وإذا صرفوه إلى الكعبة برك‪ ،‬فبيناهم كذلك إذ أرسل ال‬

‫عليهم طيًرا أبابيل‪ ،‬ترميهم بحجار ة من سجيل‪ ،‬فجعلهم كعصف مأكول‪ .‬وكانت الطير أمثال الخطاطيف‬ ‫والبلسان‪ ،‬مع كل طائر ثلثة أحجار؛ حجر في منقاره‪ ،‬وحجران في رجليه أمثال الحمص‪ ،‬ل تصيب‬

‫منهم أحًد اـ إل صارت تتقطع أعضاؤه وهلك‪ ،‬وليس كلهم أصابت‪ ،‬وخرجوا هاربين يموج بعضهم في‬

‫بعض‪ ،‬فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل‪ ،‬وأما أبرهة فبعث ال عليه داء تساقطت بسببه‬ ‫أنامله‪ ،‬ولم يصل إلى صنعاء إل وهو مثل الفرخ‪ ،‬وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك‪.‬‬

‫وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب‪ ،‬وتحرزوا في رءوس الجبال خوًفا على أنفسهم من معر ة‬ ‫الجيش‪ ،‬فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين‪.‬‬ ‫وكانت هذه الوقعة في شهر المحر م قبل مولد النبي صلى ال عليه وسلم بخمسين يوًماـ أو بخمسة‬

‫وخمسين يوًماـ ـ عند الكثر ـ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة ‪ 571‬م‪ ،‬وكانت تقدمة قدمها‬

‫ال لنبيه وبيته؛ لّنا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء ال استولوا على هذه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صرـ سنة ‪ 587‬ق‪ .‬م‪ ،‬والرومان سنة ‪ 70‬م‪ ،‬ولكن‬ ‫القبلة مرتين بينما كان أهلها مسلمين‪ ،‬كما وقع لبُْخ تـنَُ ّ‬

‫لم يتم استيلء نصارى الحبشة على الكعبة وهم المسلمون إذ ذاك‪ ،‬وأهل الكعبة كانوا مشركين‪.‬‬

‫وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظم المعمور ة المتحضر ة إذ ذاك‪ .‬فالحبشة‬

‫كانت لها صلة قوية بالرومان‪ ،‬والفرس ل يزالون لهم بالمرصاد‪ ،‬يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛‬ ‫ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة‪ ،‬وهاتان الدولتان كانتا تمثلن العالم‬

‫المتحضر في ذلك الوقت‪ .‬فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت ال ‪ ،‬وأنه هو الذي‬

‫اصطفاه ال للتقديس‪ ،‬فإذن لو قا م أحد من أهله بدعوى النبو ة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه‬

‫الوقعة‪ ،‬وكان تفسيًرا للحكمة الخفية التي كانت في نصر ة ال للمشركين ضد أهل اليمان بطريق يفوق‬ ‫عالم السباب‪.‬‬

‫وكان لعبد المطلب عشر ة بنين‪ ،‬وهم‪ :‬الحارث‪ ،‬والزبير‪ ،‬وأبو طالب‪ ،‬وعبد ال ‪ ،‬وحمز ة‪ ،‬وأبو لهب‪،‬‬ ‫والغَْيَد اـق‪ ،‬والم َقـّوـ مـ‪ ،‬و ِ‬ ‫ض َرــار‪ ،‬والعباس‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا أحد عشر‪ ،‬فزادوا ولًد اـ اسمه‪ :‬قـَُثم‪ ،‬وقيل ‪ :‬كانوا‬ ‫ُ‬ ‫ثلثة عشر‪ ،‬فزادوا‪ :‬عبد الكعبة وَح ْجـًلـ ‪ ،‬ـ ـوقيل‪ :‬إن عبد الكعبة هو المقو م‪ ،‬وحجل هو الغيداق‪ ،‬ولم‬ ‫يكن من أولده رجل اسمه قثم‪ ،‬وأما البنات فست وهن ‪ :‬أ م الحكيم ـ وهي البيضاء ـ وبـَّر ة‪ ،‬وعاتكة‪،‬‬ ‫وصفية‪ ،‬وأْرَوىـ‪ ،‬وأميمة‪.‬‬

‫‪3‬ـ عبد ال والد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزو م بن يـَق ظَـة بـن مـر ة‪ ،‬وكـان عبد ال أحسن أولد عبد‬ ‫المطلب وأعفهم وأحبهم إليه‪ ،‬وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد المطلب لمـا تم أبناؤه عشر ة‪ ،‬وعرف أنهم‬ ‫يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على عـبد ال ‪،‬‬

‫وكــان أحـب النـاس إليه‪.‬فقال‪:‬ال م هو أو مائة من البل‪.‬ثم أقرع بينه وبين البل فطارت القرعة على‬

‫المائة من البل‪ ،‬وقيل‪:‬إنه كتب أسماءهم في القداح‪،‬وأعطاها قيم هبل‪ ،‬فضرب القداح فخرج القدح‬ ‫على عبد ال ‪ ،‬فأخذه عبد المطلب‪ ،‬وأخذ الشفر ة‪،‬ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه‪،‬فمنعته قريش‪،‬ولسيما‬

‫أخواله من بني مخزو م وأخوه أبو طالب‪ .‬فقال عبد المطلب ‪ :‬فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن‬ ‫يأتى عرافة فيستأمرها‪ ،‬فأتاها‪ ،‬فأمرت أن يضرب القداح على عبد ال وعلى عشر من البل‪ ،‬فإن‬

‫خرجت على عبد ال يزيد عشًرا من البل حتى يرضى ربه‪ ،‬فإن خرجت على البل نحرها‪ ،‬فرجع وأقرع‬

‫بين عبد ال وبين عشر من البل‪ ،‬فوقعت القرعة على عبد ال ‪ ،‬فلم يزل يزيد من البل عشًرا عشًرا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ول تقع القرعة إل عليه إلى أن بلغت البل مائة فوقعت القرعة عليها‪ ،‬فنحرت ثم تركت‪ ،‬ل يرد عنها‬

‫إنسان ول سبع‪ ،‬وكانت الدية في قريش وفي العرب عشًرا من البل‪ ،‬فجرت بعد هذه الوقعة مائة من‬ ‫البل‪ ،‬وأقرها السل م‪ ،‬وروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ :‬‏]أنا ابن الذبيحين[ يعنى‬ ‫إسماعيل‪ ،‬وأباه عبد ال ‪.‬‬

‫واختار عبد المطلب لولده عبد ال آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهر ة بن كلب‪ ،‬وهي يومئذ تعد‬

‫أفضل امرأ ة في قريش نسًبا وموضًعا‪ ،‬وأبوها سيد بني زهر ة نسًبا وشرًفا‪ ،‬فزوجه بها‪ ،‬فبني بها عبد ال‬ ‫في مكة‪ ،‬وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمًرا‪ ،‬فمات بها‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل خرج تاجًرا‬

‫إلى الشا م‪ ،‬فأقبل في عير قريش‪ ،‬فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها‪ ،‬ودفن في دار النابغة الجعدى‪،‬‬ ‫وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة‪ ،‬وكانت وفاته قبل أن يولد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبه يقول‬

‫أكثر المؤرخين‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل توفي بعد مولده بشهرين أو أكثر‪ .‬ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع‬ ‫المراثى‪ ،‬قالت ‪:‬‬ ‫ب البطحاِء من ابن هاشم ** وجاور لَْح ًدـاـ خارجًـا في الغَـَم اـِغ ــم‬ ‫َعَف اـ جان ُ‬ ‫ت في الناس مثل ابن هاشـم‬ ‫َدَعـْتـه المنــايا دع ـو ة فأجـابـ ـهـا ** وما ترك ْ‬ ‫عشيـة راحـوا يحملــون سريـره ** تـَعاَوَرـهُ أصـحـابــه في التزاحـ ــم‬ ‫فإن تـك غـالتـه المنـايا وَريـْبَه ــا ** فقـد كـان ِم ْعـطــاًء كـثير التراحم‬

‫وجميع ما خلفه عبد ال خمسة أجمال‪ ،‬وقطعة غنم‪ ،‬وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أ م أيمن‪ ،‬وهي‬ ‫حاضنـة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫المولد وأربعون عاًماـ قبل النبو ة‬ ‫المول ــد‬ ‫ولـد سيـد المرسلـين صلى ال عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة ي ـو م الثنين التاسع مـن‬ ‫شـهر ربيـع الول‪ ،‬لول عـا م مـن حادثـة الفيـل‪ ،‬ولربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان‪ ،‬ويوافق‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة ‪ 571‬م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ‬ ‫المنصورفورى ـ رحمه ال ‪.‬‬

‫وروى ابــن سعــد أن أ م رســول ال صلى ال عليه وسلم قالــت ‪ :‬لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور‬

‫أضــاءت لـه قصـور الشا م‪ .‬وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبًـا مـن ذلك‪.‬‬

‫وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلد‪ ،‬فسقطت أربع عشر ة شرفة من إيوان كسرى‪،‬‬

‫وخمدت النار التي يعبدها المجوس‪ ،‬وانهدمت الكنائس حول بحير ة ساو ة بعد أن غاضت‪ ،‬روى ذلك‬

‫الطبرى والبيهقى وغيرهما‪ .‬وليس له إسناد ثابت‪ ،‬ولم يشهد له تاريخ تلك المم مع قو ة دواعى‬ ‫التسجيل‪.‬‬

‫ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده‪،‬فجاء مستبشًرا ودخل به الكعبة‪ ،‬ودعا ال‬

‫وشكر له‪ .‬واختار له اسم محمد ـ وهذا السم لم يكن معروًفا في العرب ـ وَخ تـَنه يو م سابعه كما كان‬ ‫العرب يفعلون‪.‬‬

‫وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى ال عليه وسلم بأسبوع ـ ثـَُو يـَْبة مول ة أبي لهب بلبن‬ ‫ابن لها يقال له‪َ :‬مْسـ ُرــوح‪ ،‬وكانت قد أرضعت قبله حمز ة بن عبد المطلب‪ ،‬وأرضعت بعده أبا سلمة بن‬ ‫عبد السد المخزومي‪.‬‬

‫في بني سعد‬ ‫وكانت العاد ة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لولدهم ابتعاًداـ لهم عن أمراض‬

‫الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم‪ ،‬وتشتد أعصابهم‪ ،‬ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم‪ ،‬فالتمس عبد المطلب‬

‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم المراضع‪ ،‬واسترضع له امرأ ة من بني سعد بن بكر‪ ،‬وهي حليمة بنت‬

‫أبي ذؤيب عبد ال بن الحارث‪ ،‬وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة‪.‬‬ ‫وإخوته صلى ال عليه وسلم هناك من الرضاعة ‪ :‬عبد ال بن الحارث‪ ،‬وأنيسة بنت الحارث‪ ،‬وحذافة أو‬ ‫جذامة بنت الحارث ‏]وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها[ وكانت تحضن رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان عمه‬

‫حمز ة بن عبد المطلب مسترضًعا في بني سعد بن بكر‪ ،‬فأرضعت أمه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يوًماـ وهو عند أمه حليمة‪،‬فكان حمز ة رضيع رسول ال صلى ال عليه وسلم من جهتين‪ ،‬من جهة ثويبة‬ ‫ومن جهة السعدية‪.‬‬ ‫ورأت حليمة من بركته صلى ال عليه وسلم ما قضت منه العجب‪ ،‬ولنتركها تروى ذلك مفصًل ‪:‬‬ ‫قال ابن إسحاق ‪ :‬كانت حليمة تحدث ‪ :‬أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في‬ ‫نسو ة من بني سعد بن بكر‪ ،‬تلتمس الرضعاء‪ .‬قالت ‪ :‬وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيًئا‪ ،‬قالت ‪:‬‬ ‫ض ُبقطر ة‪ ،‬وما ننا م ليلنا أجمع من صبينا الذي‬ ‫فخرجت على أتان لى قمراء‪ ،‬ومعنا شارف لنا‪ ،‬وال ما تَبِ ّ‬ ‫معنا‪ ،‬من بكائه من الجوع‪ ،‬ما في ثديى ما يغنيه‪ ،‬وما في شارفنا ما يغذيه‪ ،‬ولكن كنا نرجو الغيث‬

‫تـ بالركب حتى شق ذلك عليهم‪ ،‬ضعًف اـ وعجًف اـ‪ ،‬حتى قدمنا‬ ‫والفرج‪ ،‬فخرجت على أتانى تلك‪ ،‬فلقد أَذّم ْ‬

‫مكة نلتمس الرضعاء‪ ،‬فما منا امرأ ة إل وقد عرض عليها رسول ال صلى ال عليه وسلم فتأباه‪ ،‬إذا قيل‬

‫لها‪ :‬إنه يتيم‪ ،‬وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي‪ ،‬فكنا نقول‪ :‬يتيم! وما عسى أن تصنع أمه‬

‫وجده‪ ،‬فكنا نكرهه لذلك‪ ،‬فما بقيت امرأ ة قدمت معي إل أخذت رضيًعا غيرى‪ ،‬فلما أجمعنا النطلق‬ ‫قلت لصاحبى‪ :‬وال ‪ ،‬إنى لكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيًعا‪ ،‬وال لذهبن إلى ذلك‬

‫اليتيم فلخذنه‪ .‬قال ‪ :‬ل عليك أن تفعلى‪ ،‬عسى ال أن يجعل لنا فيه بركة‪ .‬قالت‪ :‬فذهبت إليه‬

‫وأخذته‪،‬وما حملنى على أخذه إل أنى لم أجد غيره‪ ،‬قالت‪ :‬فلما أخذته رجعت به إلى رحلى‪ ،‬فلما‬

‫وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي بما شاء من لبن‪ ،‬فشرب حتى روى‪ ،‬وشرب معه أخوه حتى روى‪،‬‬

‫ثم ناما‪ ،‬وما كنا ننا م معه قبل ذلك‪ ،‬وقا م زوجي إلى شارفنا تلك‪ ،‬فإذا هي حافل‪ ،‬فحلب منها ما شرب‬ ‫وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا‪ ،‬فبتنا بخير ليلة‪ ،‬قالت‪ :‬يقول صاحبى حين أصبحنا‪ :‬تعلمي وال يا‬ ‫حليمة‪ ،‬لقد أخذت نسمة مباركة‪ ،‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬وال إنى لرجو ذلك‪ .‬قالت‪ :‬ثم خرجنا وركبت أنا‬

‫أتانى‪ ،‬وحملته عليها معى‪ ،‬فوال لقطعت بالركب ما ل يقدر عليه شىء من حمرهم‪ ،‬حتى إن صواحبى‬ ‫ليقلن لى‪ :‬يا ابنة أبي ذؤيب‪ ،‬ويحك! أْرِبعى علينا‪ ،‬أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول‬

‫لهن‪ :‬بلى وال ‪ ،‬إنها لهي هي‪ ،‬فيقلن‪ :‬وال إن لها شأًنا‪ ،‬قالت‪ :‬ثم قدمنا منازلنا من بلد بني سعد‪ ،‬وما‬ ‫ض اـ من أرض ال أجدب منها‪ ،‬فكانت غنمى تروح علّى حين قدمنا به معنا شباًعا لُّبنًـا‪ ،‬فنحلب‬ ‫أعلم أر ً‬ ‫ونشرب‪ ،‬وما يحلب إنسان قطر ة لبن‪ ،‬ول يجدها في ضرع‪ ،‬حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون‬ ‫لرعيانهم‪ :‬ويلكم‪ ،‬اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب‪ ،‬فتروح أغنامهم جياًعا ما تبض بقطر ة لبن‪،‬‬ ‫وتروح غنمى شباًعا لبًنا‪ .‬فلم نزل نتعرف من ال الزياد ة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته‪ ،‬وكان يشب‬ ‫شباًبا ل يشبه الغلمان‪ ،‬فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلًماـ جفًرا‪ .‬قالت‪ :‬فقدمنا به على أمه ونحن أحرص‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫على مكثه فينا‪ ،‬لما كنا نرى من بركته‪ ،‬فكلمنا أمه‪ ،‬وقلت لها‪ :‬لو تركت ابني عندي حتى يغلظ‪ ،‬فإني‬

‫أخشى عليه وباء مكة‪ ،‬قالت‪ :‬فلم نزل بها حتى ردته معنا‪.‬‬ ‫شق الصدر‬

‫وهكذا رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى بني سعد‪ ،‬حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن‬ ‫إسحاق‪ ،‬وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره‪ ،‬روى مسلم عن‬

‫أنس‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أتاه جبريل‪ ،‬وهو يلعب مع الغلمان‪ ،‬فأخذه فصرعه‪ ،‬فشق عن‬ ‫قلبه‪ ،‬فاستخرج القلب‪ ،‬فاستخرج منه علقة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا حظ الشيطان منك‪ ،‬ثم غسله في طَْس تـ من‬

‫ذهب بماء زمز م‪ ،‬ثم لَ​َمهـ ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه‪ ،‬وجاء الغلمان يسعون‬ ‫إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا‪ :‬إن محمًد اـ قد قتل‪ ،‬فاستقبلوه وهو ُمْنتَِق ُعـ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال‬ ‫أنس‪ :‬وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‪.‬‬ ‫إلى أمه الحنون‬ ‫وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه‪ ،‬فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين‪.‬‬ ‫ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب‪ ،‬فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو‬ ‫خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى ال عليه وسلم ـ وخادمتها أ م أيمن‪ ،‬وقيمها عبد‬

‫المطلب‪ ،‬فمكثت شهًرا ثم قفلت‪ ،‬وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق‪ ،‬ثم اشتد حتى‬ ‫ماتت بالبـَْو اـء بين مكة والمدينة‪.‬‬ ‫إلى جده العطوف‬ ‫وعاد به عبد المطلب إلى مكة‪ ،‬وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب‬ ‫بمصاب جديد نَ​َك أـ الجروح القديمة‪ ،‬فـَرّق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولده‪ ،‬فكان ل يدعه‬

‫لوحدته المفروضة‪ ،‬بل يؤثره على أولده‪ ،‬قال ابن هشا م‪ :‬كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل‬

‫الكعبة‪ ،‬فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه‪ ،‬ل يجلس عليه أحد من بنيه إجلًل له‪،‬‬ ‫فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يأتى وهو غل م جفر حتى يجلس عليه‪ ،‬فيأخذه أعمامه ليؤخروه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عنه‪ ،‬فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم‪ :‬دعوا ابني هذا‪ ،‬فوال إن له لشأًنا‪ ،‬ثم يجلس معه على‬ ‫فراشه‪ ،‬ويمسح ظهره بيده‪ ،‬ويسره ما يراه يصنع‪.‬‬ ‫ولثمانى سنوات وشهرين وعشر ة أيا م من عمره صلى ال عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة‪،‬‬

‫ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه‪.‬‬ ‫إلى عمه الشفيق‬

‫ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه‪ ،‬وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترا م‬ ‫وتقدير‪ ،‬وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه‪ ،‬ويبسط عليه حمايته‪ ،‬ويصادق ويخاصم من أجله‪ ،‬وستأتي نبذ‬

‫من ذلك في مواضعها‪.‬‬ ‫يستسقى الغما م بوجهه‬

‫أخرج ابن عساكر عن َج ْلـُه َمـةـ بن عُْرفـَُطة قال‪ :‬قدمت مكة وهم في قحط‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬يا أبا طالب‪،‬‬

‫أقحط الوادي‪ ،‬وأجدب العيال‪ ،‬فَه لُـّم فاستسق‪ ،‬فخرج أبو طالب ومعه غل م‪ ،‬كأنه شمس ُدُج نّـة‪ ،‬تجلت‬ ‫عنه سحابة قـَْتَم اـء‪ ،‬حوله أُغَْيلمة‪ ،‬فأخذه أبو طالب‪ ،‬فألصق ظهره بالكعبة‪،‬ولذ بأضبعه الغل م‪ ،‬وما في‬ ‫السماء قـَزَعة‪ ،‬فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واْغَد ْوـَدـقـ‪ ،‬وانفجر الوادي‪ ،‬وأخصب النادي‬ ‫والبادي‪ ،‬وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫صـَمـةٌـ للرامل‬ ‫ض ُيستسقى الغَ​َم اـ م بوجهه ** ِثماُل اليتامى ع ْ‬ ‫وأبي َ‬ ‫بَِح يـَرى الراهب‬ ‫ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم اثنتى عشر ة سنة ـ قيل‪ :‬وشهرين وعشر ة أيا م ـ ارتحل به أبو‬

‫ص بَـة لُح وـَران‪ ،‬وكانت في‬ ‫طالب تاجًرا إلى الشا م‪ ،‬حتى وصل إلى بُ ْ‬ ‫ص َرـى ـ وهي معدود ة من الشا م‪ ،‬وقَ َ‬ ‫ذلك الوقت قصبة للبلد العربية التي كانت تحت حكم الرومان‪ .‬وكان في هذا البلد راهب عرف‬ ‫َببِح يـَرى‪ ،‬واسمه ـ فيما يقال‪ :‬جرجيس‪ ،‬فلما نزل الركب خرج إليهم‪ ،‬وكان ل يخرج إليهم قبل ذلك‪،‬‬ ‫فجعل يتخّللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬هذا سيد العالمين‪ ،‬هذا‬

‫رسول رب العالمين‪ ،‬هذا يبعثه ال رحمة للعالمين‪ .‬فقال له ‏]أبو طالب و[ أشياخ قريش‪ :‬‏]و[ ما علمك‬

‫‏]بذلك[؟ فقال‪ :‬إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ول شجر إل خر ساجًد اـ‪ ،‬ول يسجدان إل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لنبى‪ ،‬وإنى أعرفه بخاتم النبو ة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة‪ ،‬‏]وإنا نجده في كتبنا[‪ ،‬ثم أكرمهم‬

‫بالضيافة‪ ،‬وسأل أبا طالب أن يرده‪ ،‬ول يقد م به إلى الشا م؛ خوًفا عليه من الرو م واليهود‪ ،‬فبعثه عمه مع‬ ‫بعض غلمانه إلى مكة‪.‬‬ ‫حرب الِف َجـاـر‬

‫وفي السنة العشرين من عمره صلى ال عليه وسلم وقعت في سوق ُعكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم‬ ‫كنانة ـ وبين قـَْيس َعْيلن‪ ،‬تعرف بحرب الِف َجـاـر وسببها‪ :‬أن أحد بني كنانة‪ ،‬واسمه البـَّراض‪ ،‬اغتال ثلثة‬ ‫رجال من قيس عيلن‪ ،‬ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان‪ ،‬وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن‬

‫أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرًفا‪ ،‬وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة‪ ،‬حتى إذا كان في وسط‬ ‫النهار كادت الدائر ة تدور على قيس‪ .‬ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين‪،‬‬

‫فمن وجد قتله أكثر أخذ دية الزائد‪ .‬فاصطلحوا على ذلك‪ ،‬ووضعوا الحرب‪ ،‬وهدموا ما كان بينهم من‬

‫العداو ة والشر‪ .‬وسميت بحرب الفجار؛ لنتهاك حرمة الشهر الحرا م فيها‪ ،‬وقد حضر هذه الحرب‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‪.‬‬

‫حلف الفضول‬ ‫وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعد ة في شهر حرا م تداعت إليه قبائل من قريش‪:‬‬ ‫بنو هاشم‪ ،‬وبنو المطلب‪،‬وأسد بن عبد العزى‪ ،‬وزهر ة بن كلب‪ ،‬وتيم بن مر ة‪ ،‬فاجتمعوا في دار عبد‬

‫ال بن ُج ْدـعــان التيمى؛ لسّنه وشرفه‪ ،‬فتعاقدوا وتعاهدوا على أل يجدوا بمكة مظلوًماـ من أهلها وغيرهم‬ ‫من سائر الناس إل قاموا معه‪ ،‬وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته‪ ،‬وشهد هذا الحلف رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقال بعد أن أكرمه ال بالرسالة‪ :‬‏)لقد شهدت في دار عبد ال بن جدعان‬ ‫حلًف اـ ما أحب أن لى به حمر النعم‪ ،‬ولو أدعى به في السل م لجبت(‪.‬‬

‫وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها‪ ،‬ويقال في سبب هذا الحلف‪ :‬إن‬ ‫رجًل من ُزبـَْيد قد م مكة ببضاعة‪ ،‬واشتراها منه العاص بن وائل السهمى‪ ،‬وحبس عنه حقه‪ ،‬فاستعدى‬ ‫عليه الحلف عبد الدار ومخزوًماـ‪ ،‬وُج َمـًحـاـ وَس ْهـًمـاـ وَعِد يّـا فلم يكترثوا له‪ ،‬فعل جبل أبي قـبُـَْيس‪ ،‬ونادى‬ ‫بأشعار يصف فيها ظلمته رافًعا صوته‪ ،‬فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب‪ ،‬وقال‪ :‬ما لهذا مترك؟‬ ‫حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول‪ ،‬فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل‬

‫فانتزعوا منه حق الزبيدي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حيا ة الكدح‬ ‫ولم يكن له صلى ال عليه وسلم عمل معين في أول شبابه‪ ،‬إل أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنًم اـ‪،‬‬ ‫رعاها في بني سعد‪ ،‬وفي مكة لهلها على قراريط‪ ،‬ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجار ة حين شب‪،‬فقد ورد‬

‫أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له‪ ،‬ل يدارى ول يمارى‪ ،‬وجاءه‬ ‫يو م الفتح فرحب به‪ ،‬وقال‪ :‬مرحًبا بأخي وشريكي‪.‬‬ ‫وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجًرا إلى الشا م في مال خديجة رضي ال عنها قال ابن‬

‫إسحاق‪ :‬كانت خديجة بنت خويلد امرأ ة تاجر ة ذات شرف ومال‪ ،‬تستأجر الرجال في مالها‪ ،‬وتضاربهم‬

‫إياه بشيء تجعله لهم‪ ،‬وكانت قريش قوًماـ تجاًرا‪ ،‬فلما بلغها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما‬

‫بلغها من صدق حديثه‪ ،‬وعظم أمانته وكر م أخلقه بعثت إليه‪ ،‬فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى‬

‫الشا م تاجًرا‪ ،‬وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار‪ ،‬مع غل م لها يقال له‪ :‬ميسر ة‪ ،‬فقبله رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم منها‪ ،‬وخرج في مالها ذلك‪ ،‬وخرج معه غلمها ميسر ة حتى قد م الشا م‪.‬‬ ‫زواجه بخديجة‬ ‫ولما رجع إلى مكة‪ ،‬ورأت خديجة في مالها من المانة والبركة ما لم تر قبل هذا‪ ،‬وأخبرها غلمها‬

‫ميسر ة بما رأي فيه صلى ال عليه وسلم من خلل عذبة‪ ،‬وشمائل كريمة‪ ،‬وفكر راجح‪ ،‬ومنطق صادق‪،‬‬ ‫ونهج أمين‪ ،‬وجدت ضالتها المنشود ة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم‬

‫ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه‪ ،‬وهذه ذهبت إليه صلى ال عليه وسلم‬

‫تفاتحه أن يتزوج خديجة‪ ،‬فرضى بذلك‪ ،‬وكلم أعمامه‪ ،‬فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه‪ ،‬وعلى إثر‬ ‫ذلك تم الزواج‪ ،‬وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر‪ ،‬وذلك بعد رجوعه من الشا م بشهرين‪ ،‬وأصدقها‬

‫عشرين بَْك رـ ة‪ .‬وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة‪ ،‬وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسًبا وثرو ة وعقًل ‪ ،‬ـ ـوهي‬ ‫أول امرأ ة تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‪.‬‬ ‫وكل أولده صلى ال عليه وسلم منها سوى إبراهيم‪،‬ولدت له‪ :‬أوًل القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب‪،‬‬ ‫ورقية‪ ،‬وأ م كلثو م‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬وعبد ال ‪ .‬وكان عبد ال يلقب بالطيب والطاهر‪ ،‬ومات بنوه كلهم في‬

‫صغرهم‪ ،‬أما البنات فكلهن أدركن السل م فأسلمن وهاجرن‪،‬إل أنهن أدركتهن الوفا ة في حياته صلى ال‬

‫عليه وسلم سوى فاطمة رضي ال عنها‪ ،‬فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بناء الكعبة وقضية التحكيم‬ ‫ولخمس وثلثين سنة من مولده صلى ال عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لن الكعبة‬ ‫ض ًمـاـ فوق القامة‪ ،‬ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السل م‪ ،‬ولم يكن لها سقف‪،‬‬ ‫كانت َر ْ‬

‫فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها‪ ،‬وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثًرا قديما‬

‫ـ للعوادى التي أدهت بنيانها‪ ،‬وصدعت جدرانها‪ ،‬وقبل بعثته صلى ال عليه وسلم بخمس سنين جرف‬

‫مكة سيل عر م انحدر إلى البيت الحرا م‪ ،‬فأوشكت الكعبة منه على النهيار‪ ،‬فاضطرت قريش إلى‬

‫ص اـ على مكانتها‪ ،‬واتفقوا على أل يدخلوا في بنائها إل طيًبا‪ ،‬فل يدخلون فيها مهر بغى‬ ‫تجديد بنائها حر ً‬ ‫ول بيع رًبا ول مظلمة أحد من الناس‪ ،‬وكانوا يهابون هدمها‪ ،‬فابتدأ بها الوليد بن المغير ة المخزومى‪،‬‬ ‫فأخذ المعول وقال‪ :‬ال م ل نريد إل الخير‪ ،‬ثم هد م ناحية الركنين‪ ،‬ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في‬

‫الهد م في اليو م الثاني‪ ،‬ولم يزالوا في الهد م حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم‪ ،‬ثم أرادوا الخذ في البناء‬

‫فجزأوا الكعبة‪ ،‬وخصصوا لكل قبيلة جزًءا منها‪ .‬فجمعت كل قبيلة حجار ة على حد ة‪ ،‬وأخذوا يبنونها‪،‬‬ ‫وتولى البناء بناء رومي اسمه‪ :‬باقو م‪ .‬ولما بلغ البنيان موضع الحجر السود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف‬

‫وضعه في مكانه‪ ،‬واستمر النزاع أربع ليال أو خمًس اـ‪ ،‬واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في‬

‫أرض الحر م‪ ،‬إل أن أبا أمية بن المغير ة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل‬ ‫عليهم من باب المسجد فارتضوه‪ ،‬وشاء ال أن يكون ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رأوه‬

‫هتفوا‪ :‬هذا المين‪ ،‬رضيناه‪ ،‬هذا محمد‪ ،‬فلما انتهى إليهم‪ ،‬وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر‬

‫وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميًعا بأطراف الرداء‪ ،‬وأمرهم أن يرفعوه‪ ،‬حتى‬

‫إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه‪ ،‬وهذا حل حصيف رضى به القو م‪.‬‬

‫وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع‪ ،‬وهي التي تسمى بالحجر‬ ‫والحطيم‪ ،‬ورفعوا بابها من الرض؛ لئل يدخلها إل من أرادوا‪ ،‬ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراًعا سقفوه‬ ‫على ستة أعمد ة‪.‬‬

‫وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريًبا‪ ،‬يبلغ ارتفاعه ‪ 15‬متًرا‪ ،‬وطول ضلعه الذي فيه‬ ‫الحجر السود والمقابل له ‪ 10‬أمتار‪ ،‬والحجر موضوع على ارتفاع ‪50.1‬متر من أرضية المطاف‪.‬‬

‫والضلع الذي فيه الباب والمقابل له ‪12‬متًرا‪ ،‬وبابها على ارتفاع مترين من الرض‪ ،‬ويحيط بها من‬ ‫الخارج قصبة من البناء أسفلها‪ ،‬متوسط ارتفاعها ‪25.0‬متًرا ومتوسط عرضها ‪ 30.0‬متًرا وتسمى‬ ‫بالشاذروان‪ ،‬وهي من أصل البيت لكن قريًش اـ تركتها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫السير ة الجمالية قبل النبو ة‬ ‫كان النبي صلى ال عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات‪ ،‬وكان طراًزا‬ ‫رفيًعا من الفكر الصائب‪ ،‬والنظر السديد‪ ،‬ونال حًظا وافًرا من حسن الفطنة وأصالة الفكر ة وسداد‬

‫الوسيلة والهدف‪ ،‬وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكر ة واستكناه الحق‪ ،‬وطالع‬

‫بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحيا ة وشئون الناس وأحوال الجماعات‪ ،‬فعاف ما سواها من‬

‫خرافة‪ ،‬ونأي عنها‪ ،‬ثم عاشر الناس على بصير ة من أمره وأمرهم‪ ،‬فما وجد حسًنا شارك فيه وإل عاد إلى‬ ‫عزلته العتيد ة‪ ،‬فكان ل يشرب الخمر‪ ،‬ول يأكل مما ذبح على النصب‪ ،‬ول يحضر للوثان عيًد اـ ول‬

‫احتفاًل ‪ ،‬ـ ـبل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة‪ ،‬حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها‪،‬‬ ‫وحتى كان ل يصبر على سماع الحلف باللت والعزى‪.‬‬

‫ول شك أن القدر حاطه بالحفظ‪ ،‬فعندما تتحرك نوازع النفس لستطلع بعض متع الدنيا‪ ،‬وعندما‬ ‫يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمود ة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها‪ ،‬قال رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين‪ ،‬كل ذلك يحول ال‬

‫بيني وبينه‪ ،‬ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته‪ ،‬قلت ليلة للغل م الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‪:‬‬

‫لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب‪ ،‬فقال‪ :‬أفعل‪ ،‬فخرجت حتى إذا‬ ‫كنت عند أول دار بمكة سمعت عزًفا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا؟ فقالوا‪ :‬عرس فلن بفلنة‪ ،‬فجلست أسمع‪،‬‬ ‫فضرب ال على أذنـى فنمت‪ ،‬فما أيقظني إل حر الشمس‪ .‬فعدت إلى صاحبي فسألني‪ ،‬فأخبرته‪ ،‬ثم‬ ‫قلت ليلة أخرى مثل ذلك‪ ،‬ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة‪ ...‬ثم ما هممت بسوء(‪.‬‬ ‫وروى البخاري عن جابر بن عبد ال قال‪ :‬لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى ال عليه وسلم وعباس‬

‫ينقلن الحجار ة‪ ،‬فقال عباس للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجار ة‪،‬‬

‫فخر إلى الرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق‪ ،‬فقال‪ :‬‏)إزاري‪ ،‬إزاري( فشد عليه إزاره‪ .‬وفي رواية‪:‬‬

‫فما رؤيت له عور ة بعد ذلك‪.‬‬ ‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم يمتاز في قومه بخلل عذبة وأخلق فاضلة‪ ،‬وشمائل كريمة‪ ،‬فكان‬ ‫أفضل قومه مروء ة‪ ،‬وأحسنهم خلًق اـ‪ ،‬وأعزهم جواًرا‪ ،‬وأعظمهم حلًم اـ‪ ،‬وأصدقهم حديًثا‪ ،‬وألينهم َعِريكة‪،‬‬

‫وأعفهم نفًس اـ وأكرمهم خيًرا‪ ،‬وأبرهم عمًل ‪ ،‬ـ ـوأوفاهم عهًد اـ‪ ،‬وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‪ :‬‏]المين[ لما‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫جمع فيه من الحوال الصالحة والخصال المرضية‪ ،‬وكان كما قالت أ م المؤمنين خديجة رضي ال عنها‬

‫يحمل الكل‪ ،‬ويكسب المعدو م‪ ،‬ويقرى الضيف‪ ،‬ويعين على نوائب الحق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حيا ة النبـو ة و الرسـالة والدعـو ة‬ ‫النب ـو ة والدع ـو ة ‪ -‬العهـد المكـي‬ ‫في ظلل النبو ة والرسالة‬

‫المرحلة الولى‪ :‬من جهاد الدعو ة إلي ال‬ ‫النب ـو ة والدع ـو ة ‪ -‬العهـد المكـي‬ ‫تنقسم حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أن شرفه ال بالنبو ة والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما‬ ‫عن الخـر تمـا م المتياز‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ العهد المكي‪ ،‬ثلث عشر ة سنة تقريًبا‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ العهد المدني‪ ،‬عشر سنوات كاملة‪.‬‬ ‫ثم يشتمل كل من العهدين على عد ة مراحل‪ ،‬لكل مرحلة منها خصائص تمتاز بها عن غيرها‪ ،‬يظهر‬ ‫ذلك جلًيا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعو ة خلل العهدين‪.‬‬ ‫ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلث مراحل‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ مرحلة الدعو ة السرية‪ ،‬ثلث سنوات‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ مرحلة إعلن الدعو ة في أهل مكة‪ ،‬من بداية السنة الرابعة من النبو ة إلى هجرته صلى ال عليه‬

‫وسلم إلى المدينة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مرحلة الدعو ة خارج مكة وفشوها فيهم‪ ،‬من أواخر السنة العاشر ة من النبو ة‪ .‬وقد شملت العهد‬

‫المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫في ظلل النبو ة والرسالة‬ ‫في غار حراء‬ ‫لما تقاربت سنه صلى ال عليه وسلم الربعين‪ ،‬وكانت تأملته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه‬ ‫س ِوـيق والماء‪ ،‬ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على‬ ‫وبين قومه‪ ،‬حبب إليه الخلء‪ ،‬فكان يأخذ ال ّ‬

‫مبعد ة نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع‪ ،‬وعرضه ذراع وثلثة أرباع ذراع من ذراع‬

‫الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان‪ ،‬ويقضي وقته في العباد ة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما‬ ‫وراءها من قدر ة مبدعة‪ ،‬وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية‪،‬‬ ‫ولكن ليس بين يديه طريق واضح‪ ،‬ول منهج محدد‪ ،‬ول طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه‪.‬‬

‫وكان اختياره صلى ال عليه وسلم لهذه العزلة طرًفا من تدبير ال له‪ ،‬وليكون انقطاعه عن شواغل‬ ‫ض ّجـةـ الحيا ة وهمو م الناس الصغير ة التي تشغل الحيا ة نقطة تحول لستعداده لما ينتظره من‬ ‫الرض و َ‬

‫المر العظيم‪ ،‬فيستعد لحمل المانة الكبرى وتغيير وجه الرض‪ ،‬وتعديل خط التاريخ‪ ...‬دبر ال له هذه‬

‫العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلث سنوات‪ ،‬ينطلق في هذه العزلة شهًرا من الزمان‪ ،‬مع روح الوجود‬

‫الطليقة‪ ،‬ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون‪ ،‬حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن‬

‫ال ‪.‬‬

‫جبريل ينزل بالوحي‬ ‫ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال‪ ،‬وقيل‪ :‬ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلئع النبو ة تلوح‬ ‫وتلمع‪ ،‬فمن ذلك أن حجًرا بمكة كان يسلم عليه‪ ،‬ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان ل يرى‬

‫رؤيا إل جاءت مثل فلق الصبح‪ ،‬حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومد ة النبو ة ثلث وعشرون سنة‪،‬‬

‫فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزًءا من النبو ة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى‬

‫ال عليه وسلم بحراء شاء ال أن يفيض من رحمته على أهل الرض‪ ،‬فأكرمه بالنبو ة‪ ،‬وأنزل إليه جبريل‬ ‫بآيات من القرآن‪.‬‬ ‫وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلئل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليو م بأنه كان يو م الثنين لحدى‬ ‫وعشرين مضت من شهر رمضان ليًل ‪ ،‬ـ ـوقد وافق ‪ 10‬أغسطس سنة ‪ 610‬م‪ ،‬وكان عمره صلى ال عليه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية‪ ،‬وستة أشهر‪ ،‬و ‪ 12‬يوًماـ‪ ،‬وذلك نحو ‪ 39‬سنة شمسية وثلثة‬

‫أشهر وعشرين يوًماـ‪.‬‬

‫ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي ال عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبو ة‪،‬‬

‫وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلل حتى غيرت مجرى الحيا ة‪ ،‬وعدلت خط التاريخ‪ ،‬قالت‬ ‫عائشة رضي ال عنها‪.‬‬ ‫أول ما بديء به رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النو م‪ ،‬فكان ل يرى رؤيا‬ ‫ب إليه الخلء‪ ،‬وكان يخلو بغار حراء‪ ،‬فيَتَ​َح نّـث فيه ـ وهو التعبد ـ‬ ‫إل جاءت مثل فـَ​َلق الصبح‪ ،‬ثم ُح بّـ َ‬ ‫الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله‪ ،‬ويتزود لذلك‪ ،‬ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها‪ ،‬حتى‬ ‫جاءه الحق وهو في غار حراء‪ ،‬فجاءه الملك فقال‪ :‬اقرأ‪ :‬قال‪ :‬‏)ما أنا بقارئ(‪ ،‬قال‪ :‬‏)فأخذنى فغطنى‬ ‫حتى بلغ منى الجهد‪ ،‬ثم أرسلنى‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬مـا أنـا بقـارئ‪ ،‬قـال‪ :‬فأخذنى فغطنى الثانية حتى‬

‫بلـغ منـى الجهد‪ ،‬ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬فأخذني فغطني الثالثة‪ ،‬ثـم أرسلـني فـقـال‪:‬‬ ‫ك اْلَْك َرـُ م{‏]العلق‪ ،([3 :1:‬فرجع بها رسول‬ ‫ك الِّذ يـ َخ لَـَق َخ لَـَق ا ِْل نـَس اـَن ِم ْنـ َعلٍَق اقـَْرْأ َوَرـبّ َ‬ ‫‏}اقـَْرْأ ِباْس ِمـ َربّ َ‬

‫ال صلى ال عليه وسلم يرجف فؤاده‪ ،‬فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‪ :‬‏) َزّملُـونى زملونى(‪ ،‬فزملوه‬ ‫حتى ذهب عنه الروع‪ ،‬فقال لخديجة‪ :‬‏)ما لي؟( فأخبرها الخبر‪ ،‬‏)لقد خشيت على نفسي(‪ ،‬فقالت‬

‫خديجة‪ :‬كل‪ ،‬وال ما يخزيك ال أبًد اـ‪ ،‬إنك لتصل الرحم‪ ،‬وتحمل الكل‪ ،‬وتكسب المعدو م‪ ،‬وتقرى‬

‫الضيف‪ ،‬وتعين على نوائب الحق‪ ،‬فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد‬ ‫العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية‪ ،‬وكان يكتب الكتاب العبرانى‪ ،‬فيكتب من‬

‫النجيل بالعبرانية ما شاء ال أن يكتب‪ ،‬وكان شيًخ اـ كبيًرا قد عمي ـ فقالت له خديجة‪ :‬يابن عم‪ ،‬اسمع‬

‫من ابن أخيك‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬يابن أخي‪ ،‬ماذا ترى؟ فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسلم خبر ما‬

‫رأي‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬هذا الناموس الذي نزله ال على موسى‪ ،‬يا ليتني فيها َج َذـعـا‪ ،‬ليتنى أكون حًيا إذ‬ ‫يخرجك قومك‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أو مخرجّي هم؟( قال‪:‬نعم‪ ،‬لم يأت رجل قط‬ ‫ِ‬ ‫بـ ورقة أن توفي‪ ،‬وفـَتر‬ ‫ىـ‪،‬ـ وإن يدركنى يومك أنصرك نصًرا مؤزًرا‪ ،‬ثم لم يـَْنَش ْ‬ ‫بمثل ما جئت به إل ُعود َ‬ ‫الوحى‪.‬‬ ‫فَـتـَْر ة الوحى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أما مد ة فتر ة الوحى فاختلفوا فيها على عد ة أقوال‪ .‬والصحيح أنها كانت أياًماـ‪ ،‬وقد روى ابن سعد عن‬ ‫ابن عباس ما يفيد ذلك‪ .‬وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلث سنوات أو سنتين ونصًف اـ فليس بصحيح‪.‬‬ ‫وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدار ة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم‪ .‬ولم أر من تعرض له‬

‫منهم‪ ،‬وهو أن هذه القوال والروايات تفيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يجاور بحراء شهًرا‬ ‫واحًد اـ‪ ،‬وهو شهر رمضان من كل سنة‪ ،‬وذلك من ثلث سنوات قبل النبو ة‪،‬وأن سنة النبو ة كانت هي‬

‫آخر تلك السنوات الثلث‪ ،‬وأنه كان يتم جواره بتما م شهر رمضان‪ ،‬فكان ينزل بعده من حراء صباًح اـ ـ‬

‫أي لول يو م من شهر شوال ـ ويعود إلى البيت‪.‬‬

‫وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفتر ة‬ ‫إنما نزل وهو صلى ال عليه وسلم راجع إلى بيته بعد إتما م جواره بتما م الشهر‪.‬‬ ‫أقول‪ :‬فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسلم بعد الفتر ة إنما نزل في أول يو م من‬ ‫شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبو ة والوحى؛ لنه كان آخر مجاور ة له بحراء‪،‬‬

‫وإذا ثبت أن أول نزول الوحى كان في ليلة الثنين الحادية عشر ة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن‬

‫فتر ة الوحى كانت لعشر ة أيا م فقط‪ .‬وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يو م الخميس لول شوال من السنة‬

‫الولى من النبو ة‪ .‬ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الواخر من رمضان بالمجاور ة والعتكاف‪،‬‬ ‫وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫وقد بقى رسول ال صلى ال عليه وسلم في أيا م الفتر ة كئيًبا محزوًنا تعتريه الحير ة والدهشة‪ ،‬فقد روى‬ ‫البخاري في كتاب التعبير ما نصه‪:‬‬ ‫وفتر الوحي فتر ة حزن النبي صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا حزًنا عدا منه مراًرا كى يتردى من رءوس‬ ‫شواهق الجبال‪ ،‬فكلما أْو فـي بِذ ْرـَو ةـجبل لكى يلقى نفسه منه َتبّد ىـ له جبريل فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬إنك‬

‫رسول ال حًق اـ‪ ،‬فيسكن لذلك جأشه‪ ،‬وتـَق ّرـ نفسه‪ ،‬فيرجع‪ ،‬فإذا طالت عليه فتر ة الوحى غدا لمثل ذلك‪،‬‬ ‫فإذا أوفي بذرو ة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك‪.‬‬ ‫جبريل ينزل بالوحي مر ة ثانية‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال ابن حجر‪ :‬وكان ذلك ‏]أي انقطاع الوحي أياًماـ[؛ ليذهب ما كان صلى ال عليه وسلم وجده من‬

‫الروع‪ ،‬وليحصل له التشوف إلى العود‪ ،‬فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه ال‬ ‫بالوحي مر ة ثانية‪ .‬قال‪ :‬صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‏)جاورت بحراء شهًرا فلما قضيت جوارى هبطت ‏]فلما استبطنت الوادي[ فنوديت‪ ،‬فنظرت عن يميني‬ ‫فلم أر شيًئا‪ ،‬ونظرت عن شمالي فلم أر شيًئا‪ ،‬ونظرت أمامي فلم أر شيئا‪ ،‬ونظرت خلفي فلم أرشيًئا‪،‬‬ ‫فرفعت رأسى فرأيت شيًئا‪ ،‬‏]فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والرض‪،‬‬ ‫ت منه رعًبا حتى هويت إلى الرض[ فأتيت خديجة فقلت‪ :‬‏]زملوني‪ ،‬زملوني[‪ ،‬دثرونى‪ ،‬وصبوا‬ ‫فَُج ئِـثْ ُ‬ ‫ك فَ​َك بـّْر‬ ‫على ماء بارًداـ(‪ ،‬قال‪ :‬‏)فدثرونى وصبوا على ماء بارًداـ‪ ،‬فنزلت‪ :‬‏}َيا َأيـَّه اـ الُْم ّدـثـُّر قُْم فَ​َأنِذ ْرـ َوَرـبّ َ‬ ‫ك فَطَّه ْرـ َواـلّرْج َزـَفاْه ُجـْرـ{ ‏]المدثر‪ ([5 :1 :‬وذلك قبل أن تفرض الصل ة‪ ،‬ثم حمى الوحى بعد‬ ‫َو ثـَِيابَ َ‬ ‫وتتابع‪.‬‬ ‫وهذه اليات هي مبدأ رسالته صلى ال عليه وسلم وهي متأخر ة عن النبو ة بمقدار فتر ة الوحى‪ .‬وتشتمل‬ ‫على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه‪:‬‬

‫النوع الول‪ :‬تكليفه صلى ال عليه وسلم بالبلغ والتحذير‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪ :‬‏}قُْم فَ​َأنِذ ْرـ{ فإن‬ ‫معناه‪ :‬حذر الناس من عذاب ال إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلل وعباد ة غير ال المتعال‪،‬‬ ‫والشراك به في الذات والصفات والحقوق و الفعال‪.‬‬ ‫النوع الثاني‪ :‬تكليفه صلى ال عليه وسلم بتطبيق أوامر ال سبحانه وتعالى على ذاته‪ ،‬واللتزا م بها في‬ ‫نفسه؛ ليحرز بذلك مرضا ة ال ‪ ،‬ويصير أسو ة حسنة لمن آمن بال وذلك في بقية اليات‪ .‬فقوله‪:‬‬ ‫ك فَطَّه ْرـ{ المقصود‬ ‫ك فَ​َك بـّْر { معناه‪ :‬خصه بالتعظيم‪ ،‬ول تشرك به في ذلك أحًد اـ‪ .‬وقوله‪ :‬‏}َو ثـَِيابَ َ‬ ‫‏}َوَرـبّ َ‬ ‫الظاهر منه‪ :‬تطهير الثياب والجسد‪ ،‬إذ ليس لمن يكبر ال ويقف بين يديه أن يكون نجًس اـ مستقذًرا‪.‬‬

‫وإذا كان هذا التطهر مطلوًبا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس العمال والخـلق أولـى بالطـلب‪،‬‬ ‫وقولــه‪ :‬‏}َواـلّرْج َزـَفاْه ُجـْرـ{ معناه‪ :‬ابتعد عن أسباب سخط ال وعذابه‪ ،‬وذلك بالتزا م طاعته وترك معصيته‪.‬‬ ‫وقوله‪ :‬‏}َوَل تَْم نُــن تَْس تَـْك ثِـُر{ أي‪ :‬ل تحسن إحساًنا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل في هذه‬ ‫الدنيا‪.‬‬ ‫أما الية الخير ة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ويقو م بدعوتهم إلى ال‬ ‫ص بِـْر{‪ ،‬ثم إن مطلع اليات تضمنت النداء‬ ‫وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه‪ ،‬فقال‪ :‬‏}َو لِـَربّ َ‬ ‫ك َفا ْ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫العلوى ـ في صوت الكبير المتعال ـ بانتداب النبي صلى ال عليه وسلم لهذا المر الجلل‪ ،‬وانتزاعه من‬ ‫النو م والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة‪ :‬‏}َيا َأيـَّه اـ الُْم ّدـثـُّر قُْم فَ​َأنِذ ْرـ{‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬إن الذي‬ ‫يعيش لنفسه قد يعيش مستريًح اـ‪ ،‬أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنو م؟ وما لك‬ ‫والراحة؟ وما لك والفراش الدافئ؟ والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح! قم للمر العظيم الذي ينتظرك‪،‬‬

‫والعبء الثقيل المهيأ لك‪ ،‬قم للجهد والنصب‪ ،‬والكد والتعب‪ ،‬قم فقد مضى وقت النو م والراحة‪ ،‬وما‬ ‫عاد منذ اليو م إل السهر المتواصل‪ ،‬والجهاد الطويل الشاق‪ ،‬قم فتهيأ لهذا المر واستعد‪.‬‬

‫إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى ال عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن‬

‫الدافئ‪ ،‬لتدفع به في الخضم‪ ،‬بين الزعازع والنواء‪ ،‬وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع‬

‫الحيا ة سواء‪.‬‬ ‫وقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فظل قائًم اـ بعدها أكثر من عشرين عاًماـ؛ لم يسترح ولم يسكن‪،‬‬ ‫ولم يعـش لنفسه ول لهله‪ .‬قا م وظل قائًم اـ على دعو ة ال ‪ ،‬يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ول‬

‫ينوء به‪ ،‬عبء المانة الكبرى في هذه الرض‪ ،‬عبء البشرية كلها‪ ،‬عبء العقيد ة كلها‪ ،‬وعبء الكفاح‬ ‫والجهاد في ميادين شتى‪ ،‬عاش في المعركة الدائبة المستمر ة أكثر من عشرين عاًماـ؛ ل يلهيه شأن عن‬

‫شأن في خلل هذا المد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل‪ ،‬وتلقى منه التكليف الرهيب‪ ...‬جزاه ال‬

‫عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء‪.‬‬ ‫وليست الوراق التية إل صور ة مصغر ة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قا م به رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم خلل هذا المد‪.‬‬ ‫أقسا م الوحى‬ ‫وقبل الدخول في موضوع هذا الجهاد أرى من الحسن أن أستطرد إلى بيان أقسا م الوحى ومراتبه‪ .‬قال‬

‫ابن القيم‪ ،‬وهو يذكر تلك المراتب‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬الرؤيا الصادقة‪ ،‬وكانت مبدأ وحيه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الثانية‪ :‬ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن‬

‫روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها‪ ،‬فاتقوا ال وأجملوا في الطلب‪ ،‬ول‬

‫يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية ال ‪ ،‬فإن ما عند ال ل ينال إل بطاعته(‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬إنه صلى ال عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجًل فيخاطبه حتى يَِعَى عنه ما يقول له‪ ،‬وفي‬ ‫هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياًنا ‪.‬‬ ‫الرابعة‪ :‬أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس‪ ،‬وكان أشده عليه‪ ،‬فيلتبس به الملك‪ ،‬حتى أن جبينه‬ ‫صـدـ عرًقا في اليو م الشديد البرد‪ ،‬وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الرض إذا كان راكبها‪ ،‬ولقد جاء‬ ‫ليتـَف ّ‬ ‫الوحى مر ة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت‪ ،‬فثقلت عليه حتى كادت ترضها‪.‬‬ ‫الخامسة‪ :‬إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها‪ ،‬فيوحى إليه ما شاء ال أن يوحيه‪ ،‬وهذا وقع له‬ ‫مرتين كما ذكر ال ذلك في سور ة النجم‪.‬‬

‫السادسة‪ :‬ما أوحاه ال إليه‪ ،‬وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصل ة وغيرها‪.‬‬ ‫السابعة‪ :‬كل م ال له منه إليه بل واسطة ملك كما كلم ال موسى بن عمران‪ ،‬وهذه المرتبة هي ثابتة‬ ‫لموسى قطًعا بنص القرآن‪ .‬وثبوتها لنبينا صلى ال عليه وسلم هو في حديث السراء‪.‬‬ ‫وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم ال له كفاًح اـ من غير حجاب‪ ،‬وهي مسألة خلف بين السلف‬ ‫والخلف‪ .‬انتهي مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الولى والثامنة‪.‬‬

‫المرحلة الولى‪ :‬من جهاد الدعو ة إلي ال‬ ‫ثلث سنوات من الدعو ة السرية‬ ‫قا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد نزول ما تقد م من آيات سور ة المدثر‪ ،‬بالدعو ة إلى ال سبحانه‬ ‫وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفا ة ل دين لهم إل عباد ة الصنا م والوثان‪ ،‬ول حجة لهم إل أنهم ألفوا‬ ‫آباءهم على ذلك‪ ،‬ول أخلق لهم إل الخذ بالعز ة والنفة‪ ،‬ول سبيل لهم في حل المشاكل إل‬

‫السيف‪ ،‬وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزير ة العرب‪ ،‬ومحتلين مركزها الرئيس‪ ،‬ضامنين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حفظ كيانها‪ ،‬فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعو ة في بدء أمرها سرية؛ لئل يفاجئ أهل‬

‫مكة بما يهيجهم‪.‬‬ ‫الرعيل الول‬

‫وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى ال عليه وسلم السل م أوًل على ألصق الناس به من أهل‬ ‫بيته‪ ،‬وأصدقائه‪ ،‬فدعاهم إلى السل م‪ ،‬ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه‪ ،‬يعرفهم‬

‫بحب الحق والخير‪ ،‬ويعرفونه بتحرى الصدق والصلح‪ ،‬فأجابه من هؤلء ـ الذين لم تخالجهم ريبة قط‬ ‫في عظمة الرسول صلى ال عليه وسلم وجللة نفسه وصدق خبره ـ َج ْمـٌعـ عُِرفوا في التاريخ السلمى‬ ‫بالسابقين الولين‪ ،‬وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى ال عليه وسلم أ م المؤمنين خديجة بنت خويلد‪،‬‬

‫وموله زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبًيا يعيش في كفالة‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم ـ وصديقه الحميم أبو بكر الصديق‪ .‬أسلم هؤلء في أول يو م الدعو ة‪.‬‬ ‫ثم نشط أبو بكر في الدعو ة إلى السل م‪ ،‬وكان رجًل مألًف اـ محبًبا سهًل ذا خلق ومعروف‪،‬وكان رجال‬ ‫قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته‪ ،‬فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه‬ ‫ويجلس إليه‪ ،‬فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الموى‪ ،‬والزبير بن العوا م السدى‪ ،‬وعبد الرحمن بن‬

‫عوف‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص الزهريان‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال التيمي‪ .‬فكان هؤلء النفر الثمانية الذين‬ ‫سبقوا الناس هم الرعيل الول وطليعة السل م‪.‬‬

‫ثم تل هؤلء أمين هذه المة أبو عبيد ة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد‬ ‫السد المخزومى‪ ،‬وامرأته أ م سلمة‪ ،‬والرقم بن أبي الرقم المخزومى‪ ،‬وعثمان بن مظعون الُج َمـِحـ ّى ـ‬ ‫وأخواه قدامة وعبد ال ‪ ،‬وعبيد ة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف‪ ،‬وسعيد بن زيد العدوى‪،‬‬ ‫وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب‪ ،‬وخباب بن الرت التميمى‪ ،‬وجعفر بن أبي‬

‫طالب‪ ،‬وامرأته أسماء بنت عَُم ْيـس‪ ،‬وخالد بن سعيد بن العاص الموى‪ ،‬وامرأته أمينة بنت خلف‪ ،‬ثم‬ ‫أخوه عمرو بن سعيد بن العاص‪ ،‬وحاطب بن الحارث الجمحي‪ ،‬وامرأته فاطمة بنت الُم َجـلّـل وأخوه‬

‫الخطاب بن الحارث‪ ،‬وامرأته فَُك يـَْه ةـ بنت يسار‪ ،‬وأخوه معمر ابن الحارث‪ ،‬والمطلب بن أزهر الزهري‪،‬‬ ‫وامرأته رملة بنت أبي عوف‪ ،‬ونعيم بن عبد ال بن النحا م العدوي‪ ،‬وهؤلء كلهم قرشيون من بطون‬

‫وأفخاذ شتى من قريش‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ومن السابقين الولين إلى السل م من غير قريش‪ :‬عبد ال بن مسعود الهذلي‪ ،‬ومسعود بن ربيعة‬

‫صَه ْيـب بن‬ ‫القاري‪ ،‬وعبد ال بن جحش السدي وأخوه أبو أحمد بن جحش‪ ،‬وبلل بن رباح الحبشي‪ُ ،‬‬ ‫ِس نـان الرومي‪ ،‬وعمار بن ياسر العنسي‪ ،‬وأبوه ياسر‪ ،‬وأمه سمية‪ ،‬وعامر بن ُفهير ة ‪.‬‬ ‫وممن سبق إلى السل م من النساء غير من تقد م ذكرهن‪ :‬أ م أيمن بركة الحبشية‪ ،‬وأ م الفضل لبابة‬ ‫الكبرى بنت الحارث الهللية زوج العباس بن عبد المطلب‪ ،‬وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي ال‬ ‫عنهما‪.‬‬

‫هؤلء معروفون بالسابقين الولين‪ ،‬ويظهر بعد التتبع والستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى السل م‬

‫وصل إلى مائة وثلثين رجًل وامرأ ة‪ ،‬ولكن ل يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعو ة أو‬

‫تأخر إسل م بعضهم إلى الجهر بها‪.‬‬ ‫الصل ة‬

‫ومن أوائل ما نزل من الحكا م المر بالصل ة‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬كان صلى ال عليه وسلم قبل السراء‬

‫يصلى قطًعا وكذلك أصحابه‪ ،‬ولكن اختلف هل فرض شىء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أ م ل؟‬ ‫فقيل‪ :‬إن الفرض كانت صل ة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‪ .‬انتهي‪ .‬وروى الحارث بن أبي أسامة من‬ ‫طريق ابن لَِه يـَعة موصوًل عن زيد ابن حارثة‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول ما أوحى إليه‬

‫أتاه جبريل‪ ،‬فعلمه الوضوء‪ ،‬فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه‪ ،‬وقد رواه ابن‬

‫ماجه بمعناه‪ ،‬وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس‪ ،‬وفي حديث ابن عباس‪ :‬وكان ذلك من أول‬ ‫الفريضة‪.‬‬ ‫وقد ذكر ابن هشا م أن النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصل ة ذهبوا في‬

‫الشعاب فاستخفوا بصلتهم من قومهم‪ ،‬وقد رأي أبو طالب النبي صلى ال عليه وسلم وعلّيا يصليان‬ ‫مر ة‪ ،‬فكلمهما في ذلك‪ ،‬ولما عرف جلية المر أمرهما بالثبات‪.‬‬ ‫تلك هي العباد ة التي أمر بها المؤمنون‪ ،‬ول تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى غير ما يتعلق‬

‫بالصل ة‪ ،‬وإنما كان الوحى يبين لهم جوانب شتى من التوحيد‪ ،‬ويرغبهم في تزكية النفوس‪ ،‬ويحثهم على‬

‫مكار م الخلق‪ ،‬ويصف لهم الجنة والنار كأنهما رأي عين‪ ،‬ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور‬

‫وتغذى الرواح‪ ،‬وتحدو بهم إلى جو آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهكذا مرت ثلثة أعوا م‪ ،‬والدعو ة لم تزل مقصور ة على الفراد‪ ،‬ولم يجهر بها النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم في المجامع والنوادى‪،‬إل أنها عرفت لدى قريش‪ ،‬وفشا ذكر السل م بمكة‪ ،‬وتحدث به الناس‪،‬‬ ‫وقد تنكر له بعضهم أحياًنا‪ ،‬واعتدوا على بعض المؤمنين‪ ،‬إل أنهم لم يهتموا به كثيًرا حيث لم يتعرض‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لدينهم‪ ،‬ولم يتكلم في آلهتهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المرحلـة الثانية‪ :‬الدع ـو ة جهــاًرا‬ ‫أول أمـر بإظهار الدعـو ة‬ ‫المجلس الستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعو ة‬ ‫أساليب شتى لمجابهة الدعو ة‬ ‫الضطهادات‬ ‫أول أمـر بإظهار الدعـو ة‬ ‫لما تكونت جماعة من المؤمنين تقو م على الخو ة والتعاون‪ ،‬وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من‬ ‫مقامها نزل الوحى يكلف رسول ال صلى ال عليه وسلم بمعالنة الدعو ة‪ ،‬ومجابهة الباطل بالحسنى‪.‬‬ ‫ك اْ َ‬ ‫لقـَْرِبيَن { ‏]الشعراء‪ ،[214:‬وقد ورد في سياق‬ ‫وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى‪ :‬‏} َوأَـنِذْرـ َعِش يـَرتَ َ‬

‫ذكرت فيه أوًل قصة موسى عليه السل م‪ ،‬من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل‪ ،‬وقصة نجاتهم من‬ ‫فرعون وقومه‪ ،‬وإغراق آل فرعون معه‪ ،‬وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى‬ ‫عليه السل م‪ ،‬خلل دعو ة فرعون وقومه إلى ال ‪.‬‬

‫وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بجهر الدعو ة إلى ال ؛ ليكون أمامه‬ ‫وأما م أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والضطهاد حينما يجهرون بالدعو ة‪ ،‬وليكونوا على بصير ة‬

‫من أمرهم منذ البداية‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السور ة على ذكر مآل المكذبين للرسل‪ ،‬من قو م نوح‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وقو م‬ ‫إبراهيم‪ ،‬وقو م لوط‪ ،‬وأصحاب اليكة ـ عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ـ ليعلم الذين سيقومون‬

‫بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذ ة ال إن استمروا عليه‪ ،‬وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة‬

‫لهم وليس للمكذبين‪.‬‬ ‫الدعـو ة في القربين‬

‫ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الية‪ ،‬فجاءوا ومعهم نفر من بني‬ ‫المطلب بن عبد مناف‪ ،‬فكانوا نحو خمسة وأربعين رجًل‪ .‬فلما أراد أن يتكلم رسول ال صلى ال عليه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وسلم بادره أبو لهب وقال‪ :‬هؤلء عمومتك وبنو عمك فتكلم‪ ،‬ودع الصبا ة‪ ،‬واعلم أنه ليس لقومك‬

‫بالعرب قاطبة طاقة‪ ،‬وأنا أحق من أخذك‪ ،‬فحسبك بنو أبيك‪ ،‬وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر‬ ‫عليهم من أن يثب بك بطون قريش‪ ،‬وتمدهم العرب‪ ،‬فما رأيت أحًد اـ جاء على بني أبيه بشر مما جئت‬

‫به‪ ،‬فسكت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يتكلم في ذلك المجلس‪.‬‬

‫ثم دعاهم ثانية وقال‪ :‬‏)الحمد ل‪ ،‬أحمده وأستعينه‪ ،‬وأومن به‪ ،‬وأتوكل عليه‪ .‬وأشهد أن ل إله إل ال‬

‫وحده ل شريك له(‪ .‬ثم قال‪ :‬‏)إن الرائد ل يكذب أهله‪ ،‬وال الذي ل إله إل هو‪ ،‬إنى رسول ال إليكم‬ ‫خاصة وإلى الناس عامة‪ ،‬وال لتموتن كما تنامون‪ ،‬ولتبعثن كما تستيقظون‪ ،‬ولتحاسبن بما تعملون‪ ،‬وإنها‬

‫الجنة أبًد اـ أو النار أبًد اـ(‪.‬‬

‫فقال أبو طالب‪ :‬ما أحب إلينا معاونتك‪ ،‬وأقبلنا لنصيحتك‪ ،‬وأشد تصديًق اـ لحديثك‪ .‬وهؤلء بنو أبيك‬ ‫مجتمعون‪ ،‬وإنما أنا أحدهم‪ ،‬غير أني أسرعهم إلى ما تحب‪ ،‬فامض لما أمرت به‪ .‬فوال ‪ ،‬ل أزال‬

‫أحوطك وأمنعك‪ ،‬غير أن نفسى ل تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب‪.‬‬ ‫فقال أبو لهب‪ :‬هذه وال السوأ ة‪ ،‬خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم‪ ،‬فقال أبو طالب‪ :‬وال لنمنعه ما‬ ‫بقينا‪.‬‬ ‫على جبل الصفا‬ ‫وبعد تأكد النبي صلى ال عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه‪ ،‬صعد النبي صلى‬

‫ال عليه وسلم ذات يو م على الصفا‪ ،‬فعل أعلها حجًرا‪ ،‬ثم هتف‪ :‬‏)يا صباحاه(‬ ‫وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجو م جيش أو وقوع أمر عظيم‪.‬‬

‫ثم جعل ينادى بطون قريش‪ ،‬ويدعوهم قبائل قبائل‪ :‬‏)يا بني فهر‪ ،‬يا بني عدى‪ ،‬يا بني فلن‪ ،‬يا بني‬ ‫فلن‪ ،‬يا بني عبد مناف‪ ،‬يا بني عبد المطلب(‪.‬‬ ‫فلما سمعوا قالوا‪ :‬من هذا الذي يهتف؟ قالوا‪ :‬محمد‪ .‬فأسرع الناس إليه‪ ،‬حتى إن الرجل إذا لم يستطع‬ ‫أن يخرج إليه أرسل رسوًل لينظر ما هو‪ ،‬فجاء أبو لهب وقريش‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فلما اجتمعوا قال‪ :‬‏)أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيًل بالوادى بَس ْفـحـ هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم‬ ‫ص ّدـقِـّى؟(‪.‬‬ ‫ُم َ‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ما جربنا عليك كذًبا‪ ،‬ما جربنا عليك إل صدًقا ‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏)إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد‪ ،‬إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي الَعُد ّوـ فانطلق يـَْربَـأ أهله(‬ ‫‏) أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئل يدهمهم العدو( ‏)خشى أن يسبقوه فجعل ينادى‪ :‬يا‬ ‫صباحاه(‬

‫ثم دعاهم إلى الحق‪ ،‬وأنذرهم من عذاب ال ‪ ،‬فخص وعم فقال‪:‬‬ ‫‏)يا معشر قريش‪ ،‬اشتروا أنفسكم من ال ‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإنى ل أملك لكم من ال ضًرا‬ ‫ول نفًعا‪ ،‬ول أغنى عنكم من ال شيًئا‪.‬‬ ‫يا بني كعب بن لؤى‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإني ل أملك لكم ضًرا ول نفًعا‪.‬‬ ‫يا بني مر ة بن كعب‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬ ‫يا معشر بني قصى‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإنى ل أملك لكم ضًرا ول نفًعا‪.‬‬ ‫يا معشر بني عبد مناف‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإنى ل أملك لكم من ال ضًرا ول نفًعا‪ ،‬ول أغنى‬ ‫عنكم من ال شيًئا‪.‬‬

‫يا بني عبد شمس‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬ ‫يا بني هاشم‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪.‬‬ ‫يا معشر بني عبد المطلب‪ ،‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ ،‬فإنى ل أملك لكم ضًرا ول نفًعا‪ ،‬ول أغنى عنكم‬ ‫من ال شيًئا‪ ،‬سلونى من مالى ماشئتم‪ ،‬ل أملك لكم من ال شيًئا‪.‬‬ ‫يا عباس بن عبد المطلب‪ ،‬ل أغنى عنك من ال شيًئا‪.‬‬ ‫يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول ال ‪ ،‬ل أغنى عنك من ال شيًئا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يا فاطمة بنت محمد رسول ال ‪ ،‬سلينى ما شئت من مالى‪ ،‬أنقذى نفسك من النار‪ ،‬فإنى ل أملك لك‬ ‫ضًرا ول نفًعا‪ ،‬ول أغنى عنك من ال شيًئا‪.‬‬

‫للها ( أي أصلها حسب حقها‪.‬‬ ‫غير أن لكم رحًم اـ سأبـُّلها ِبب َ‬ ‫ولما تم هذا النذار انفض الناس وتفرقوا‪ ،‬ول يذكر عنهم أي رد ة فعل‪ ،‬سوى أن أبا لهب واجه النبي‬ ‫ت يَ​َد اـ أَِبي لَ​َه ٍ‬ ‫بـ‬ ‫صلى ال عليه وسلم بالسوء‪ ،‬وقال‪ :‬تبا لك سائر اليو م‪ ،‬ألهذا جمعتنا؟ فنزلت‪ :‬‏}تـَبّ ْ‬

‫ب{ ‏]سور ة المسد‪.[1:‬‬ ‫َو تَـ ّ‬

‫كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلغ‪ ،‬فقد أوضح الرسول صلى ال عليه وسلم لقرب الناس إليه‬

‫أن التصديق بهذه الرسالة هو حيا ة الصلت بينه وبينهم‪ ،‬وأن عصبة القرابة التي يقو م عليها العرب ذابت‬ ‫في حرار ة هذا النذار التى من عند ال ‪.‬‬ ‫ض َعِن‬ ‫صَدـ ْ‬ ‫ع بَِم اـ تـُْؤ َمـُرـ َوأَـْع ِرـ ْ‬ ‫ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى‪ :‬‏} َفا ْ‬ ‫الُْم ْشـِرـِكيَن{ ‏]الحجر‪ ،[94:‬فقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم يجهر بالدعو ة إلى السل م في مجامع‬ ‫المشركين ونواديهم‪ ،‬يتلو عليهم كتاب ال ‪ ،‬ويقول لهم ما قالته الرسل لقوامهم‪ :‬‏}َيا قـَْو ِ مـ اْع بُـُد وـاْ ال َ‬ ‫َماـ لَُك مـ ّمْنـ إِلـٍَه َغيـُْرهُ{ ‏]العراف‪،[59:‬وبدء يعبد ال تعالى أما م أعينهم‪ ،‬فكان يصلى بفناء الكعبة نهاًرا‬ ‫جهاًرا وعلى رءوس الشهاد‪.‬‬ ‫وقد نالت دعوته مزيًد اـ من القبول‪ ،‬ودخل الناس في دين ال واحًد اـ بعد واحد‪ .‬وحصل بينهم وبين من‬ ‫لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك‪ ،‬وساءهم ما كانوا يبصرون‪.‬‬ ‫المجلس الستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعو ة‬ ‫وخلل هذه اليا م أهم قريًش اـ أمر آخر‪،‬وذلك أن الجهر بالدعو ة لم يمض عليه إل أيا م أو أشهر معدود ة‬ ‫حتى قرب موسم الحج‪ ،‬وعرفت قريش أن وفود العرب ستقد م عليهم‪ ،‬فرأت أنه لبد من كلمة يقولونها‬

‫للعرب‪ ،‬في شأن محمد صلى ال عليه وسلم حتى ل يكون لدعوته أثر في نفوس العرب‪ ،‬فاجتمعوا إلى‬ ‫الوليد بن المغير ة يتداولون في تلك الكلمة‪ ،‬فقال لهم الوليد‪ :‬أجمعوا فيه رأيًـا واحًد اـ‪،‬ول تختلفوا‬ ‫ض اـ‪ ،‬قالوا‪ :‬فأنت فقل‪ ،‬وأقم لنا رأًيا نقول به‪ .‬قال‪ :‬بل أنتم‬ ‫ض اـ‪ ،‬ويرد قولكم بعضه بع ً‬ ‫فيكذب بعضكم بع ً‬ ‫فقولوا أسمع‪ .‬قالوا‪ :‬نقول‪ :‬كاهن‪ .‬قال‪ :‬ل وال ما هو بكاهن‪ ،‬لقد رأينا الكهان فما هو بَزْم َزـَمةـالكاهن‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ول سجعه‪ .‬قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬مجنون‪ ،‬قال‪ :‬ما هو بمجنون‪ ،‬لقد رأينا الجنون وعرفناه‪ ،‬ما هو بَخ ْنـِق هـ ول‬ ‫تَ​َخ اـلُِج ه ـ ول وسوسته‪ .‬قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬شاعر‪ .‬قال‪ :‬ما هو بشاعر‪ ،‬لقد عرفنا الشعر كله َرَج َزـه وَه َزـَج هـ‬ ‫س وـطه‪ ،‬فما هو بالشعر‪ ،‬قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬ساحر‪ .‬قال‪ :‬ما هو بساحر‪ ،‬لقد رأينا‬ ‫وقَِري َ‬ ‫ض هـ وَمْقـبُـوضه وَم ْبـ ُ‬ ‫السحار وسحرهم‪ ،‬فما هو بنـَْف ثِـِه مـ ول عْق ِدـِهـمـ‪ .‬قالوا‪ :‬فما نقول؟ قال‪ :‬وال إن لقوله لحلو ة‪ ،‬‏]وإن عليه‬ ‫لطلو ة[ وإن أصله لَعَذ قـ‪ ،‬وإن فـَْرَعه لَج نَـا ة‪ ،‬وما أنتم بقائلين من هذا شيًئا إل عرف أنه باطل‪ ،‬وإن‬ ‫أقرب القول فيه لن تقولوا‪ :‬ساحر‪ .‬جاء بقول هو سحر‪ ،‬يفرق به بين المرء وأبيه‪ ،‬وبين المرء وأخيه‪،‬‬ ‫وبين المرء وزوجته‪ ،‬وبين المرء وعشيرته‪ ،‬فتفرقوا عنه بذلك‪.‬‬ ‫وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له‪ ،‬قالوا‪ :‬أرنا رأيك الذي ل غضاضة فيه‪،‬‬ ‫فقال لهم‪ :‬أمهلونى حتى أفكر في ذلك‪ ،‬فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنًف اـ‪.‬‬ ‫ت لَهُ َماـًل‬ ‫تـ َوِح يـًد اـَوَج َعـْل ُ‬ ‫وفي الوليد أنزل ال تعالى ست عشر ة آية من سور ة المدثر‏}َذْرِني َو َمـْنـ َخ لَـْق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ّمْم ُدـوـًداـ َو بَـِنيَن ُش ُهـوـًداـ َو َمـّهـدـ ّ‬ ‫ص عُـوًداـ إِنّهُ‬ ‫ت لَهُ تَْم ِهـيـًد اـ ثُّم يَطَْم ُعـ أَْن أَِزيَد َك ّلـ إِنّهُ َك اـَن ل يَـاـتَنا َعنيًد اـ َس أُـْره ُقـهُـ َ‬ ‫س َو بَـَس َرـ ثُّم أَْد بـَر َواـْس تَـْك بـَرفـَق اـَل إِْن َه َذـاـ إِّل‬ ‫ف قَّد َرـ ثُّم قُتَِل َك ْيـ َ‬ ‫فَّك َرـ َو قَـّد َرـ فـَُقتَِل َك ْيـ َ‬ ‫ف قَّد َرـ ثُّم نَظَ​َر ثُّم َعبَ َ‬ ‫ص لِـيِه َس َقـَرـ{ ‏]من ‪ 11‬إلى ‪ [26‬وفي خللها صور كيفية تفكيره‪،‬‬ ‫ِس ْح ـٌرـيـُْؤ ثـَُر إِْن َه َذـاـ إِّل قـَْو ُلـ الْبَ​َش ِرـَس أُـ ْ‬ ‫س َو بَـَس َرـ ثُّم أَْد بـَر َواـْس تَـْك بـَر‬ ‫ف قَّد َرـ ثُّم قُتَِل َك ْيـ َ‬ ‫فقال‪ :‬‏}إِنّهُ فَّك َرـ َو قَـّد َرـ فـَُقتَِل َك ْيـ َ‬ ‫ف قَّد َرـ ثُّم نَظَ​َر ثُّم َعبَ َ‬ ‫فـَق اـَل إِْن َه َذـاـ إِّل ِس ْح ـٌرـيـُْؤ ثـَُر إِْن َه َذـاـ إِّل قـَْو ُلـ الْبَ​َش ِرـ{ ‏]المدثر‪[25 :18:‬‬ ‫وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه‪ ،‬فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم‪ ،‬ل‬ ‫يمر بهم أحد إل حذروه إياه وذكروا لهم أمره‪.‬‬ ‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عَُك اـظ وَمَجـنّـة وذى الَم َجـاـز‪،‬‬ ‫يدعوهم إلى ال ‪ ،‬وأبو لهب وراءه يقول‪ :‬ل تطيعوه فإنه صابئ كذاب‪.‬‬

‫وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتشر ذكره‬ ‫في بلد العرب كلها‪.‬‬

‫أساليب شتى لمجابهة الدعو ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعو ة في مهدها‪ .‬وتتلخص هذه‬ ‫الساليب فيما يلي‪:‬‬

‫‪1‬ـ السخرية والتحقير‪ ،‬والستهزاء والتكذيب والتضحيك‪:‬‬ ‫قصدوا بها تخذيل المسلمين‪ ،‬وتوهين قواهم المعنوية‪ ،‬فرموا النبي صلى ال عليه وسلم بتهم هازلة‪،‬‬ ‫ك لَ​َم ْجـنُــوٌن{ ‏]الحجر‪:‬‬ ‫وشتائم سفيهة‪ ،‬فكانوا ينادونه بالمجنون ‏} َوقَـاُلواْ َيا َأيـَّه اـ الِّذ يـ نـُّزَل َعلَْيِه الّذْك ُرـ إِنّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب{‬ ‫‪ ،[6‬ويصمونه بالسحر والكذب ‏} َوَعـِجبُــوا َأن َج اـءُه مـ ّمنذ ٌرـ ّمنـُْه ْمـ َو قَـاَل الَْك اـفُروَن َه َذـاـ َس اـح ٌر ـَك ّذـاـ ٌ‬ ‫‏]ص‪،[4:‬وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة‪ ،‬وعواطف منفعلة هائجة ‏} َوإِـن يَ​َك اـُد الِّذ يـَن‬ ‫ِ‬ ‫ص اـِرِه ْمـ لَّم اـ َس ِمـعُـوا الّذْك َرـ َو يـَُقوُلوَن إِنّهُ لَ​َم ْجـنُــوٌن{ ‏]القلم‪،[51:‬وكان إذا جلس وحوله‬ ‫َك َفـُرـوا َليـُْز لـُقونَ َ‬ ‫ك بِأَبْ َ‬ ‫المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا‪ :‬هؤلء جلساؤه ‏} َمّنـ ال ُ َعلَْيِه مـ ّمنـ بـَْينَِنا { ‏]النعا م‪:‬‬ ‫س ال ُ بِأَْع لَـَم ِبال ّ‬ ‫ش اـكِ​ِريَن{ ‏]النعا م‪،[53:‬وكانوا كما قص ال علينا ‏}إِّن الِّذ يـَن‬ ‫‪ ،[53‬قال تعالى‪ :‬‏}أَلَْي َ‬ ‫ض َحـُكـوـَن َو إِـَذا َمّرـواْ بِ​ِه ْمـ يَـتـَ​َغاَم ُزـوَن َو إِـَذا انَق لَـُبواْ إَِلى أَْه لِـِه ُمـ انَق لَـُبواْ فَِكِه يـَن‬ ‫أَْج َرـُموا َك اـُنواْ ِم َنـ الِّذ يـَن آَمنُـوا يَ ْ‬ ‫ض اـّلوَن َو َمـاـ أُْرِس لُـوا َعلَْيِه ْمـ َح اـفِ​ِظ يـَن{ ‏]المطففين‪.[33 :29 :‬‬ ‫َو إِـَذا َرأَْو ُهـْمـ َقاُلوا إِّن َه ُؤـَل ءلَـ ـ َ‬ ‫وقد أكثروا من السخرية والستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيًئا فشيًئا حتى أثر ذلك في نفس‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما قال ال تعالى‪ :‬‏} ولَـَقْدـ نـْع لَـم أَنّ َ ِ‬ ‫صْدـ ُرـَك بَِم اـ يـَُقوُلوَن {‬ ‫ك يَض يـُق َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫س اـِج ِد ـيـَن‬ ‫ك َوُك نـ ّمَنـ ال ّ‬ ‫‏]الحجر‪ ،[97:‬ثم ثبته ال وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال‪ :‬‏}فَ​َسبّـْح بَِح ْمـِدـ َربّ َ‬ ‫ك الْيَِق يـُن{‏]الحجر‪ ،[99 ،98:‬وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلء المستهزئين‬ ‫ك َح تّـى يَأْتِيَ َ‬ ‫َواـْع بُـْد َربّ َ‬ ‫فـ يـَْع َمـلُـوَن { ‏]الحجر‪،95 :‬‬ ‫حيث قال‪ :‬‏}إِّنا َك َفـيـَْناَك الُْم ْسـتـَْه ِزـِئيَن الِّذ يـَن يَْج َعـُلوَن َمَعـ ال ِ إِلـًه اـ آَخ َرـ فَ​َس ْوـ َ‬ ‫ك فَ​َح اـَق‬ ‫‪ ،[96‬وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وباًل عليهم فقال‪ :‬‏} َولَـَقِدـ اْس تـُْه ِزــىَء بُِرُس ٍلـ ّمنـ قـَْبلِ َ‬ ‫ِبالِّذ يـَن َس ِخـ ُرــواِْم نـُْه مـ ّماـ َك اـُنواْ بِ​ِه يَْس تـَْه ِزـُؤوَن{ ‏]النعا م‪.[10:‬‬ ‫‪2‬ـ إثار ة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‪:‬‬ ‫وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث ل يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها‪،‬‬ ‫ث أَْح لَـٍ م{ ‏]النبياء‪ [5:‬يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار‪ ،‬ويقولون‪:‬‬ ‫ضغَـا ُ‬ ‫فكانوا يقولون عن القرآن‪ :‬‏}أَ ْ‬ ‫ك افْـتـَراهُ َوأَـَعانَهُ َعلَْيِه‬ ‫‏}بَِل افْـتـَراهُ { من عند نفسه ويقولون‪ :‬‏}إِنَّماـ يـَُعلُّم هُـ بَ​َش ٌرـ{ وقالوا‪ :‬‏}إِْن َه َذـاـ إِّل إِفْ ٌ‬ ‫قـَْو ٌ مـ آَخ ُرـوَن{ ‏]الفرقان‪ [4 :‬أي اشترك هو وزملؤه في اختلقه‪ .‬‏}َوقَـاُلوا أَ​َس اـِط يـُر اْلَّولِـيَن اْك تَـَتبـَ​َه اـ فَِه َيـ‬ ‫تُم لَــى َعلَْيِه بْك رـً ة وأَـ ِ‬ ‫ص يـًل{ ‏]الفرقان‪[5:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأحيانا قالوا‪ :‬إن له جًنا أو شيطاًنا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان‪ .‬قال تعالى رًداـ‬ ‫عليهم‪ :‬‏} َهْلـ ُأنـَبّئُ​ُك ْمـ َعَلى َمنـ تَـنـَّزُل ال ّ‬ ‫ش يَـاِط يـُن تَـنـَّزُل َعَلى ُك ّلـ أَّفاٍك أَِثيٍم { ‏]الشعراء‪ ،[222 ،221:‬أي‬

‫إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب‪ ،‬وما جّربتم علّى كذًبا‪ ،‬وما وجدتم في فسًق اـ‪ ،‬فكيف‬ ‫تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان؟‬ ‫وأحياًنا قالوا عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه مصاب بنوع من الجنون‪ ،‬فهو يتخيل المعانى‪ ،‬ثم‬ ‫يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء‪ ،‬فهو شاعر وكلمه شعر‪ .‬قال تعالى رًداـ عليهم‪:‬‬ ‫‏} َواـل ّ‬ ‫شَعـَراءيـَتّبِعُ​ُه ُمـ الَْغاُووَن أَلَْم تـَر َأنـُّه ْمـ ِفي ُك ّلـ َواـٍد يَِه يـُم وـَن َوأَـنـُّه ْمـ يـَُقوـُلوَن َماـ َل يـَْف َعـُلوَن { ‏]الشعراء‪:‬‬

‫‪ [226 :225‬فهذه ثلث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحد ة منها في النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فالذين اتبعوه هدا ة مهتدون‪ ،‬متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم‪ ،‬وليست‬ ‫عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم‪ ،‬ثم النبي صلى ال عليه وسلم ل يهيم في كل واد‬

‫كما يهيم الشعراء‪ ،‬بل هو يدعو إلى رب واحد‪ ،‬ودين واحد‪ ،‬وصراط واحد‪ ،‬وهو ل يقول إل ما يفعل‪،‬‬ ‫ول يفعل إل ما يقول‪ ،‬فأين هو من الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه‪.‬‬

‫هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫والقرآن والسل م‪.‬‬

‫ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد‪ ،‬ثم رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم بعث الموات‬

‫ونشرهم وحشرهم يو م القيامة‪ ،‬وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد‪ ،‬بل زاد عليها‬ ‫زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية‪ ،‬وبين عجز آلهتهم عجًزا ل مزيد عليه‪ ،‬ولعل هذا كان‬

‫مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه‪.‬‬

‫أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى ال عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأمانته وغاية صلحه وتقواه‪ ،‬كانوا يعتقدون أن منصب النبو ة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر‪،‬‬

‫فالبشر ل يكون رسوًل ‪ ،‬ـ ـوالرسول ل يكون بشًرا حسب عقيدتهم‪ .‬فلما أعلن رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عن نبوته‪ ،‬ودعا إلى اليمان به تحيروا وقالوا‪ :‬‏} َماـِل َه َذـاـ الّرُس وـِل يَأُْك ُلـ الطَّعاَ م َو يَـْم ِشـ ي ـِفي‬ ‫اْلَْس َوـاـِق{ ‏]الفرقان‪ ،[7 :‬وقالوا‪ :‬إن محمًد اـ صلى ال عليه وسلم بشر‪،‬و ‏}َماـ َأنَزَل ال ُ َعَلى بَ​َش ٍرـ ّمنـ‬ ‫ِ‬ ‫ب الِّذ يـ َج اـء بِ​ِه ُموَس ىـ ُنوًرا َو ُهـًدـىـ‬ ‫َش ْيـ ٍء ـ{ ‏]النعا م‪ ،[19 :‬فقال تعالى رًداـ عليهم‪:‬‏}قُْل َمْنـ َأنَزَل الْكَتا َ‬ ‫ّللّنا ِ‬ ‫ض اـ بأن كل قو م قالوا لرسلهم إنكاًرا على‬ ‫س {‪ ،‬وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‪ .‬ورد عليهم أي ً‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ت لَُه ْمـ ُرُس لُـُه ْمـ ِإن نّْح ُنـ إِلّ بَ​َش ٌرـ ّمثـْلُ​ُك ْمـ َو لَـِكّن‬ ‫رسالتهم‪ :‬‏}إِْن َأنتُْم إِلّ بَ​َش ٌرـ ّمثـْلَُنا { ‏]إبراهيم‪ ،[10:‬فـ ‏}َقالَ ْ‬ ‫ال َ يَُم ّنـ َعَلى َمنـ يَ​َش اـء ِم ْنـ ِع بَـاِد ِهـ{ ‏]إبراهيم‪ .[11 :‬فالنبياء والرسل ل يكونون إل بشًرا‪ ،‬ول منافا ة بين‬ ‫البشرية والرسالة‪.‬‬

‫وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى ـ عليهم السل م ـ كانوا رسًل وكانوا بشًرا‪،‬‬ ‫فإنهم لم يجدوا مجاًل للصرار على شبهتهم هذه‪،‬فقالوا‪:‬ألم يجد ال لحمل رسالته إل هذا اليتيم‬

‫المسكين‪،‬ما كـان ال ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسوًل‏} َوقَـاُلوا لَْو َلـ نـُّزَل َه َذـاـ‬ ‫ك{‬ ‫الُْقْر آـُن َعَلى َرُج ٍلـ ّمَنـ الَْق ْرـيـَـتـَْيِن َعِظ يـٍم{ ‏]الزخرف‪ ،[31:‬قال تعالى رًداـ عليهم‪:‬‏}أَُهْمـ يـَْق ِسـ ُم ـوـَن َرْح َمـةَـ َربّ َ‬ ‫ث يَْج َعـُل ِرَس اـلَتَهُ{ ‏]النعا م‪:‬‬ ‫‏]الزخرف‪ ،[32:‬يعنى أن الوحى والرسالة رحمة من ال و‏}ال ُ أَْع لَـُم َح ْيـ ُ‬ ‫‪.[124‬‬

‫وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى‪ ،‬قالوا‪ :‬إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخد م والحشم‪،‬‬ ‫ويتمتعون بالبهة والجلل‪ ،‬ويوفر لهم كل أسباب الحيا ة‪ ،‬فما بال محمد يدفع في السواق للقمة عيش‬ ‫وهو يدعى أنه رسول ال ؟ ‏} َوقَـاُلوا َماـِل َه َذـاـ الّرُس وـِل يَأُْك ُلـ الطَّعاَ م َو يَـْم ِشـ ي ـِفي اْلَْس َوـاـِق لَْو َلـ ُأنِزَل إِلَْيِه‬ ‫ك فـيَُك وـَن َمَعـهُ نَِذ يـًرا أَْو يـُْلَق ىـ إِلَْيِه َك نـٌز أَْو تَُك وـُن لَهُ َج نّـةٌ يَأُْك ُلـ ِم نـَْه اـ َو قَـاَل الّظالُِم وـَن ِإن تـَتّبُِعوَن إِّل َرُج ًلـ‬ ‫َملَـ ٌ‬ ‫ّمْس ُحـوـًرا{ ‏]الفرقان‪ ،[8 :7:‬ورد على شبهتهم هذه بأن محمًد اـ رسول‪ ،‬يعنى أن مهمته هو إبلغ رسالة‬

‫ال إلى كل صغير وكبير‪ ،‬وضعيف وقوى‪ ،‬وشريف ووضيع‪ ،‬وحر وعبد‪ ،‬فلو لبث في البهة والجلل‬

‫والخد م والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك‪ ،‬لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى‬

‫يستفيدوا به‪ ،‬وهم جمهور البشر‪ ،‬وإذن فاتت مصلحة الرسالة‪ ،‬ولم تعد لها فائد ة تذكر‪.‬‬ ‫أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إل التعجب والستغراب والستبعاد العقلي‪،‬‬ ‫فكانوا يقولون‪ :‬‏}أَئَِذاـ ِم تـَْنا َوُك نّـا تـَُراًبا َو ِعـظَـاًماـ أَئِّنا لَ​َم بـُْعوُثوَن أَ​َوآـَباُؤنَـا اْلَّولُـوَن{ ‏]الصافات‪،[17 ،16:‬وكانوا‬ ‫ك َرْج ٌعـ بَِعيٌد { ‏]ق‪ [3 :‬وكانوا يقولون على سبيل الستغراب‪ :‬‏} َهْلـ نَُد لّـُك ْمـ َعَلى َرُج ٍلـ يـنَُبّئُ​ُك ْمـ‬ ‫يقولون‪ :‬‏}َذلِ َ‬ ‫إَِذا ُمّزقـْتُْم ُك ّلـ ُمَم ّزـٍق إِنُّك ْمـ لَِف يـ َخ ْلـٍق َج ِدـيـٍد َأفْـتـَرى َعَلى ال ِ َك ِذـبًـا َأ م بِ​ِه ِج نّ ـةٌ{ ‏]سبأ‪.[8 ،7 :‬‬ ‫وقال قائلهم‪:‬‬ ‫ث ُخ َرـافة يا أ م عمرو‬ ‫تـ ثم بـَْع ٌ‬ ‫ثـ ثم َح ْشـٌرـ ** حِد يـ ُ‬ ‫َأمْو ٌ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا‪ ،‬فالـظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه‪ ،‬والمظلو م يموت‬ ‫دون أن يأخذ حقه من ظالمه‪ ،‬والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلحه‪ ،‬والفاجر‬

‫المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله‪ ،‬فإن لم يكن بعث ول حيا ة ول جزاء بعد الموت‬

‫لستوى الفريقان‪ ،‬بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلو م والصالح‪ ،‬وهذا غير معقول إطلقا‪ .‬ول‬ ‫يتصور من ال أن يبني نظا م خلقه على مثل هذا الفساد‪ .‬قال تعالى‪ :‬‏}َأفـَنَْجَعـُل الُْم ْسـلِـِم يـَن َك اـلُْم ْجـِرـِم يـَنَماـ‬ ‫ف‬ ‫ف تَْح ُكـُمـوـَن{ ‏]القلم‪ ،[36 ،35:‬وقال‪ :‬‏}َأفـَنَْجَعـُل الُْم ْسـلِـِم يـَن َك اـلُْم ْجـِرـِم يـَنَماـ لَُك ْمـ َك ْيـ َ‬ ‫لَُك ْمـ َك ْيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫س يّـَئا ِ‬ ‫ت ّأن نّْج َعـلَُه ْمـ َك اـلِّذ يـَن آَمنُـوا َو َعـِم لُـوا‬ ‫ب ـالِّذ يـَن اْج تـَرُح وـا ال ّ‬ ‫تَْح ُكـُمـوـَن{ ‏]ص‪ ،[28 :‬وقال‪ :‬‏}أًْ م َح سـ َ‬ ‫صاـلِح اـ ِ‬ ‫ت َس َوـاـء ّمْح يَــاُه مـ َو َمـَمـاـتـُه ْمـ َس اـء َماـ يَْح ُكـُمـوـَن{ ‏]الجاثية‪.[21:‬‬ ‫ال ّ َ‬ ‫س َمـاـء بـَناَه اـ{ ‏]النازعات‪ ،[27:‬وقال‪:‬‬ ‫وأما الستبعاد العقلى فقال تعالى رًداـ عليه‪ :‬‏}أَ​َأنتُْم أَ​َش ّدـ َخ ْلـًق اـ أَِ م ال ّ‬ ‫ِّ‬ ‫س مـاـواـ ِ‬ ‫ض َو لَـْم يـَْع َيـ بَِخ ْلـِق ِهـّنـ بَِق اـِد ٍرـ َعَلى أَْن يُْح يِـَي الَْم ْوـتَــى بـَ​َلى‬ ‫ت َواـْلَْر َ‬ ‫‏} أَ​َولَـْم يـَرْو اـ أَّن ال َ الذ يـ َخ لَـَق ال ّ َ َ‬ ‫إِنّهُ َعَلى ُك ّلـ َش ْيـ ٍء ـ قَِد يـٌر{ ‏]الحقاف‪ ،[33 :‬وقال‪ :‬‏} َولَـَقْدـ َعلِْم تُـُم النّْش أَـَ ة ا ْ ُ‬ ‫لوَلى فـَلَْو َلـ َتذّك ُرـوَن{ ‏]الواقعة‪:‬‬ ‫‪ ،[62‬وبين ما هو معروف عقًل وعرًفا‪ ،‬وهو أن العاد ة ‏} أَْهَوـُنـ َعلَْيِه{ ‏]الرو م‪،[27 :‬وقال‪ :‬‏} َكَمـاـ بَ​َد أْـَنا‬ ‫أَّوَلـ َخ ْلـٍق نِّعيُد هُـ{ ‏]النبياء‪ ،[104:‬وقال‪ :‬‏}َأفـَ​َعِييَنا ِبالَْخ ْلـِق اْلَّوِلـ{ ‏]ق‪.[15 :‬‬ ‫وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات رًداـ مفحًم اـ يقنع كل ذى عقل ولب‪ ،‬ولكنهم كانوا مشاغبين‬ ‫مستكبرين يريدون ُعلوا في الرض وفرض رأيهم على الخلق‪ ،‬فبقوا في طغيانهم يعمهون‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن‪ ،‬ومعارضته بأساطير الولين‪:‬‬ ‫كان المشركون بجنب إثار ة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعو ة السل م بكل‬

‫طريق يمكن‪ ،‬فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون‪ ،‬إذا رأوا أن النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم يتهيأ للدعو ة‪ ،‬أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن‪ .‬قال تعالى‪ :‬‏} َوقَـاَل الِّذ يـَن َك َفـُرـوا َل تَْس َمـعُـوا‬ ‫لَِه َذـاـ الُْقْر آـِن َواـلْغَْو اـِفيِه لَ​َعلُّك ْمـ تـَْغلُِبوَن { ‏]فصلت‪ [26:‬حتى إن النبي صلى ال عليه وسلم لم يتمكن من‬ ‫ض اـ عن‬ ‫تلو ة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إل في أواخر السنة الخامسة من النبو ة‪ ،‬وذلك أي ً‬ ‫طريق المفاجأ ة‪ ،‬دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلو ة‪.‬‬

‫وكان النضر بن الحارث‪ ،‬أحد شياطين قريش قد قد م الحير ة‪ ،‬وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس‪ ،‬وأحاديث‬ ‫رستم واسفنديار‪ ،‬فكان إذا جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم مجلًس اـ للتذكير بال والتحذير من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نقمته خلفه النضر ويقول‪ :‬أنا و ال يا معشر قريش أحسن حديًثا منه‪ ،‬ثم يحدثهم عن ملوك فارس‬ ‫ورستم واسفنديار‪ ،‬ثم يقول‪ :‬بماذا محمد أحسن حديًثا مني‪.‬‬ ‫وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَـيـْنًَة‪ ،‬فكان ل يسمع بأحد يريد السل م إل انطلق‬ ‫به إلى قينته‪ ،‬فيقول‪ :‬أطعميه واسقيه وغنيه‪ ،‬هذا خير مما يدعوك إليه محمد‪ ،‬وفيه نزل قوله تعالى‪:‬‬ ‫ث لِي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫‏} َوِمـَنـ الّنا ِ‬ ‫ض ّلـ َعن َس بِـيِل ال ِ{ ‏]لقمان‪.[6 :‬‬ ‫س َمنـ يَْش تَـِري لَْه َوـ الَْح دـيـ ُ‬

‫الضطهادات‬ ‫أعمل المشركون الساليب التي ذكرناها شيًئا فشيًئا لحباط الدعو ة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة‬ ‫من النبو ة‪ ،‬ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الساليب ل يتجاوزونها إلى طريق‬ ‫الضطهاد والتعذيب‪ ،‬ولكنهم لما رأوا أن هذه الساليب لم تجد نفًعا في إحباط الدعو ة السلمية‬ ‫استشاروا فيما بينهم‪ ،‬فقرروا القيا م بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم‪ ،‬فأخذ كل رئيس يعذب من‬ ‫دان من قبيلته بالسل م‪ ،‬وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق اليمان‪.‬‬ ‫وكان من الطبيعي أن يهرول الذناب والوباش خلف ساداتهم وكبرائهم‪ ،‬ويتحركوا حسب مرضاتهم‬ ‫وأهوائهم‪ ،‬فجروا على المسلمين ـ ولسيما الضعفاء منهم ـ ويلت تقشعر منها الجلود‪ ،‬وأخذوهم‬

‫بنقمات تتفطر لسماعها القلوب‪.‬‬

‫كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه‪ ،‬وأوعده بإبلغ الخسار ة الفادحة في‬ ‫المال‪ ،‬والجاه‪ ،‬وإن كان ضعيًف اـ ضربه وأغرى به‪.‬‬

‫وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته‪.‬‬ ‫ولما علمت أ م مصعب بن عمير بإسلمه منعته الطعا م والشراب‪ ،‬وأخرجته من بيته‪ ،‬وكان من أنعم الناس‬ ‫عيًش اـ‪ ،‬فتَ​َخ ّ‬ ‫فـ جلده تخشف الحية‪.‬‬ ‫شـ َ‬ ‫وكان صهيب بن سنان الرومي ُيعّذ بـ حتى يفقد وعيه ول يدرى ما يقول‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان بلل مولى أمية بن خلف الجمحي‪ ،‬فكان أمية يضع في عنقه حبًل ‪ ،‬ـ ـثم يسلمه إلى الصبيان‪،‬‬

‫يطوفون به في جبال مكة‪ ،‬ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أَح ٌدـ أَح ٌدـ‪،‬ـ وكان أمية‬

‫يـشده شـًد اـ ثم يضربه بالعصا‪ ،‬و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس‪ ،‬كما كان يكرهه على الجوع‪.‬‬ ‫وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهير ة‪ ،‬فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء‬

‫مكة‪ ،‬ثم يأمر بالصخر ة العظيمة فتوضع على صدره‪ ،‬ثم يقول‪ :‬ل وال ل تـزال هكـذا حتى تموت أو‬

‫تكفر بمحمد‪ ،‬وتعبد اللت والعزى‪ ،‬فيقول وهو في ذلك‪ :‬أحد‪،‬أحد‪ ،‬ويقـول‪ :‬لو أعلم كلمة هي أغيظ‬ ‫لكم منها لقلتها‪ .‬ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغل م أسود‪ ،‬وقيل‪ :‬بسبع أواق أو‬

‫بخمس من الفضة‪ ،‬وأعتقه‪.‬‬

‫وكان عمار بن ياسر رضي ال عنه مولى لبني مخزو م‪ ،‬أسلم هو وأبوه وأمه‪ ،‬فكان المشركون ـ وعلى‬

‫رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى البطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها‪ .‬ومر بهم النبي صلى ال‬

‫عليه وسلم وهم يعذبون فقال‪ :‬‏) صبًرا آل ياسر‪ ،‬فإن موعدكم الجنة(‪ ،‬فمات ياسر في العذاب‪ ،‬وطعن‬

‫أبو جهل سمية ـ أ م عمار ـ في قبلها بحربة فماتت‪ ،‬وهي أول شهيد ة في السل م‪ ،‬وهي سمية بنت‬

‫خياط مول ة أبي حذيفة بن المغير ة بن عبد ال بن عمر بن مخزو م‪ ،‬وكانت عجوًزا كبير ة ضعيفة‪ .‬وشددوا‬

‫العذاب على عمار بالحر تار ة‪ ،‬وبوضع الصخر الحمر على صدره أخرى‪ ،‬وبغطه في الماء حتى كان‬ ‫يفقد وعيه‪ .‬وقالوا له‪ :‬ل نتركك حتى تسب محمًد اـ‪ ،‬أو تقول في اللت والعزى خيًرا‪ ،‬فوافقهم على‬ ‫ذلك مكرًه اـ‪ ،‬وجاء باكًيا معتذًرا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فأنزل ال ‪ :‬‏}َمنـ َك َفـَرـ ِبال ِ ِم نـ بـَْع ِدـ‬ ‫إيَم اـنِ​ِه إِلّ َمْنـ أُْك ِرـَه َو قـَْلبُهُ ُمطَْم ئِـّن ِباِل يـَم اـِن{الية ‏] النحل‪.[ 106 :‬‬

‫وكان أبو فَُك يـَْه ةَـ ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار‪ ،‬وكان من الزد‪ .‬فكانوا يخرجونه في نصف النهار‬

‫في حر شديد‪ ،‬وفي رجليه قيد من حديد‪ ،‬فيجردونه من الثياب‪ ،‬ويبطحونه في الرمضاء‪ ،‬ثم يضعون على‬

‫ظهره صخر ة حتى ل يتحرك‪ ،‬فكان يبقى كذلك حتى ل يعقل‪ ،‬فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى‬

‫الحبشة الهجر ة الثانية‪ ،‬وكانوا مر ة قد ربطوا رجله بحبل‪ ،‬ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا‬

‫أنه قد مات‪ ،‬فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه ل‪.‬‬

‫وكان خباب بن الرت مولى ل م أنمار بنت ِس بـاع الخزاعية‪ ،‬وكان حداًداـ‪ ،‬فلما أسلم عذبته مولته بالنار‪،‬‬

‫كانت تأتى بالحديد ة المحما ة فتجعلها على ظهره أو رأسه‪ ،‬ليكفر بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم‬ ‫ض اـ يعذبونه فيلوون عنقه‪ ،‬ويجذبون شعره‪ ،‬وقد‬ ‫يكن يزيده ذلك إل إيماًنا وتسليًم اـ‪ ،‬وكان المشركون أي ً‬ ‫ألقوه على النار‪ ،‬ثم سحبوه عليها‪ ،‬فما أطفأها إل َو َدـَكـ ظهره‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانت ِزّنيَر ةُ أَمةًـ رومية قد أسلمت فعذبت في ال ‪ ،‬وأصيبت في بصرها حتى عميت‪ ،‬فقيل لها‪:‬‬

‫أصابتك اللت والعزى‪ ،‬فقالت‪ :‬ل وال ما أصابتني‪ ،‬وهذا من ال ‪ ،‬وإن شاء كشفه‪ ،‬فأصبحت من‬ ‫الغد وقد رد ال بصرها‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬هذا بعض سحر محمد‪.‬‬ ‫وأسلمت أ م ُعبـَْيس‪ ،‬جارية لبني زهر ة‪ ،‬فكان يعذبها المشركون‪ ،‬وبخاصة مولها السود بن عبد يغوث‪،‬‬ ‫وكان من أشد أعداء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن المستهزئين به‪.‬‬ ‫وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى‪ ،‬فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ‬ ‫فكان يضربها حتى يفتر‪ ،‬ثم يدعها ويقول‪ :‬وال ما أدعك إل سآمة‪ ،‬فتقول‪ :‬كذلك يفعل بك ربك‪.‬‬ ‫وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى‪ :‬النهدية وابنتها‪ ،‬وكانتا لمـرأ ة من بني عبد الدار‪.‬‬ ‫وممن عذب من العبيد‪ :‬عامر بن فـَُه يـَْر ة‪ ،‬كان يعذب حتى يفقد وعيه ول يدرى ما يقول‪.‬‬ ‫واشترى أبوبكر رضي ال عنه هؤلء الماء والعبيد رضي ال عنهم وعنهن أجمعين‪ ،‬فأعتقهم جميًعا‪ .‬وقد‬

‫عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‪ :‬أراك تعتق رقاًبا ضعاًفا‪ ،‬فلو أعتقت رجاًل جلًد اـ لمنعوك‪ .‬قال‪ :‬إني‬ ‫أريد وجه ال ‪ .‬فأنزل ال قرآًنا مدح فيه أبا بكر‪ ،‬وذ م أعداءه‪ .‬قال تعالى‪ :‬‏} فَ​َأنَذْرـتُ​ُكْمـ َناًرا تـَلَّظى َل‬ ‫ِ‬ ‫بـ َو تـَو لّـى{ ‏]الليل‪ [16 :14:‬وهو أمية بن خلف‪ ،‬ومن كان على شاكلته‬ ‫يَ ْ‬ ‫ص َلـ َهـ ـاـإِّل اْلَْش َقـىـ الّذ يـ َك ّذـ َ‬ ‫‏} َوَسـيُـَجنّـبـَُهاـ ا ْ َ‬ ‫لتـَْق ىـ الِّذ يـ يـُْؤ تِــي َماـلَهُ يَـتـَ​َزّك ىـ َو َمـاـ ِلَ​َح ٍدـ ِع نـَد هُـ ِم نـ نـّْع َمـٍةـ تُْج َزــى إِّل ابْتَِغاء َوْج ِهـَربِّه اْلَْع لَـى‬ ‫ضـىـ{ ‏]الليـل‪ [21 :17:‬وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي ال عنه‪.‬‬ ‫َو لَـَس ْوـ َ‬ ‫فـيـَْر َ‬ ‫ض اـ‪ .‬فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى‪ ،‬وأخذ معه طلحة بن‬ ‫وأوذى أبو بكر الصديق رضي ال عنه أي ً‬ ‫عبيد ال فشدهما في حبل واحد‪ ،‬ليمنعهما عن الصل ة وعن الدين فلم يجيباه‪ ،‬فلم يروعاه إل وهما‬

‫مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين‪ ،‬وقيل‪ :‬إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد ال أخو طلحة بن عبيد‬ ‫ال رضي ال عنه‪.‬‬ ‫والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في السل م إل وتصدوا له بالذى والنكال‪ ،‬وكان ذلك سهًل‬ ‫ميسوًرا بالنسبة لضعفاء المسلمين‪ ،‬ول سيما العبيد والماء منهم‪ ،‬فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم‪،‬‬

‫بل كانت الساد ة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الوباش‪ ،‬ولكن بالنسبة لمن أسلم من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الكبار والشراف كان ذلك صعًبا جًد اـ؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم‪ ،‬ولذلك قلما كان يجتريء‬ ‫عليهم إل أشراف قومهم‪ ،‬مع شيء كبير من الحيطة والحذر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ايذاء المشركين المسلمين‬ ‫موقف المشركين من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وفد قريش إلى أبي طالب‬ ‫قريش يهددون أبا طالب‬

‫قريش بين يدى أبي طالب مر ة أخرى‬

‫اعتداءات على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫دار الرقم‬

‫الهجر ة الولى إلى الحبشة‬ ‫سجود المشركين مع المسلمين وعود ة المهاجرين‬

‫الهجر ة الثانية إلى الحبشة‬

‫مكيد ة قريش بمهاجري الحبشة‬

‫الشد ة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫موقف المشركين من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأما بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فإنه صلى ال عليه وسلم كان رجًل شهًم اـ وقوًرا ذا‬

‫شخصية فذ ة‪ ،‬تتعاظمه نفوس العداء والصدقاء بحيث ل يقابل مثله إل بالجلل والتشريف‪ ،‬ول‬

‫يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إل أراذل الناس وسفهاؤهم‪ ،‬ومع ذلك كان في منعة أبي‬ ‫طالب‪ ،‬وأبو طالب من رجال مكة المعدودين‪ ،‬كان معظًم اـ في أصله‪ ،‬معظًم اـ بين الناس‪ ،‬فكان من‬

‫الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته‪ ،‬إن هذا الوضع أقلق قريًش اـ وأقامهم وأقعدهم‪،‬‬ ‫ودعاهم إلى تفكير سليم يخرجهم من المأزق دون أن يقعوا في محذور ل يحمد عقباه‪ ،‬وقد هداهم‬ ‫ذلك إلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الكبر‪ :‬أبي طالب‪ ،‬ولكن مع شيء كبير من‬

‫الحكمة والجدية‪ ،‬ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفد قريش إلى أبي طالب‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن ابن أخيك قد‬ ‫سب آلهتنا‪ ،‬وعاب ديننا‪ ،‬وَس ّفـهـ أحلمنا‪ ،‬وضلل آباءنا‪ ،‬فإما أن تكفه عنا‪ ،‬وإما أن تخلى بيننا وبينه‪،‬‬

‫فإنك على مثل ما نحن عليه من خلفه‪ ،‬فنكفيكه‪ ،‬فقال لهم أبو طالب قوًل رقيًق اـ وردهم رًداـ جميًل ‪ ،‬ـ ـ‬ ‫فانصرفوا عنه‪ ،‬ومضى رسول ال صلى ال عليه وسلم على ما هو عليه‪ ،‬يظهر دين ال ويدعو إليه‪.‬‬

‫ولكن لم تصبر قريش طويًل حين رأته صلى ال عليه وسلم ماضًيا في عمله ودعوته إلى ال ‪ ،‬بل‬ ‫أكثرت ذكره وتذامرت فيه‪ ،‬حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق‪.‬‬

‫قريش يهددون أبا طالب‬ ‫وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن لك سًنا وشرًفا ومنزلة فينا‪ ،‬وإنا قد‬ ‫استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا‪ ،‬وإنا وال ل نصبر على هذا من شتم آبائنا‪ ،‬وتسفيه أحلمنا‪،‬‬ ‫وعيب آلهتنا‪ ،‬حتى تكفه عنا‪ ،‬أو ننازله وإياك في ذلك‪ ،‬حتى يهلك أحد الفريقين‪.‬‬ ‫َعُظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد‪ ،‬فبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له‪:‬‬ ‫يا بن أخي‪ ،‬إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا‪ ،‬فأبق علّي وعلى نفسك‪ ،‬ول تحملنى من المر‬

‫ما ل أطيق‪ ،‬فظن رسول ال صلى ال عليه وسلم أن عمه خاذله‪ ،‬وأنه ضُعف عن نصرته‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا عم‪،‬‬ ‫وال لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا المر ـ حتى يظهره ال أو أهلك‬

‫فيه ـ ما تركته(‪ ،‬ثم استعبر وبكى‪ ،‬وقا م‪ ،‬فلما ولى ناداه أبو طالب‪ ،‬فلما أقبل قال له‪ :‬اذهب يا بن أخي‪،‬‬ ‫فقل ما أحببت‪ ،‬فو ال ل أُْس لِـُم كـ لشىء أبًد اـ وأنشد‪:‬‬ ‫وال لن يصلوا إليك بَج ْمـعـِه مـ ** حتى أَُو ّسـَدـ في الت ـراب دفي ـًنا‬ ‫ض ةـ ** وابِْش ْر ـ وقـَّر بذاك منك عيوًنا‬ ‫فاصدع بأمرك ما عليك غَ َ‬ ‫ض اـ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وذلك في أبيات‪.‬‬

‫قريش بين يدى أبي طالب مر ة أخرى‬ ‫ولما رأت قريش أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبي خذلن‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك‪ ،‬فذهبوا إليه بعمار ة ابن الوليد‬

‫بن المغير ة وقالوا له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن هذا الفتى أنـَْه َدـ فتى في قريش وأجمله‪ ،‬فخذه فلك عقله ونصره‪،‬‬ ‫واتخذه ولًد اـ فهو لك‪ ،‬وأْس لِـْم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك‪ ،‬وفرق جماعة‬ ‫قومك‪ ،‬وسفه أحلمهم‪ ،‬فنقتله‪ ،‬فإنما هو رجل برجل‪ ،‬فقال‪ :‬وال لبئس ما تسومونني‪ ،‬أتعطوني ابنكم‬

‫أغذوه لكم‪ ،‬وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا وال ما ل يكون أبًد اـ‪ .‬فقال المطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد‬ ‫مناف‪ :‬وال يا أبا طالب لقد أنصفك قومك‪ ،‬وجهدوا على التخلص مما تكره‪ ،‬فما أراك تريد أن تقبل‬

‫منهم شيًئا‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما أنصفتموني‪ ،‬ولكنك قد أجمعت خذلني ومظاهر ة القو م علّى ‪،‬ـ فاصنع ما بدا‬ ‫لك‪.‬‬ ‫ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات‪ ،‬ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم وكفه عن الدعو ة إلى ال ‪ ،‬قررت أن يختار سبيل قد حاولت تجنبه والبتعاد منه مخافة مغبته وما‬

‫يؤول إليه‪ ،‬وهو سبيل العتداء على ذات الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫اعتداءات على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعو ة على الساحة‪ ،‬فقد صعب على غطرستها‬ ‫وكبريائها أن تصبر طويًل ‪ ،‬ـ ـفمدت يد العتداء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع ما كانت تأتيه‬

‫من السخرية والستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك‪ .‬وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهب‬ ‫في مقدمتهم وعلى رأسهم‪ ،‬فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم‪ ،‬فلم يكن يخشى ما يخشاه الخرون‪ ،‬وكان‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عدًواـ لدوًداـ للسل م وأهله‪ ،‬وقد وقف موقف العداء من رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ اليو م‬ ‫الول‪ ،‬واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش‪ ،‬وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى ال عليه وسلم في‬ ‫مجلس بني هاشم‪ ،‬وما فعل على الصفا‪.‬‬ ‫وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول ال صلى ال عليه وسلم رقية وأ م كلثو م قبل‬ ‫البعثة‪ ،‬فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشد ة حتى طلقاهما‪.‬‬

‫ولما مات عبد ال ـ البن الثاني لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ استبشر أبو لهب وذهب إلى‬ ‫المشركين يبشرهم بأن محمًد اـ صار أبتر‪.‬‬ ‫وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى ال عليه وسلم في موسم الحج والسواق‬

‫لتكذيبه‪ ،‬وقد روى طارق بن عبد ال المحاربى ما يفيد أنه كان ل يقتصر على التكذيب بل كان يضربه‬

‫بالحجر حتى يدمى عقباه‪.‬‬ ‫وكانت امرأ ة أبي لهب ـ أ م جميل أروى بنت حرب بن أمية‪ ،‬أخت أبي سفيان ـ ل تقل عن زوجها في‬ ‫عداو ة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد كانت تحمل الشوك‪ ،‬وتضعه في طريق النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم وعلى بابه ليًل ‪ ،‬ـ ـوكانت امرأ ة سليطة تبسط فيه لسانها‪ ،‬وتطيل عليه الفتراء والدس‪ ،‬وتؤجج نار‬

‫الفتنة‪ ،‬وتثير حرًبا شعواء على النبي صلى ال عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب‪.‬‬

‫ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو جالس في‬ ‫المسجد عند الكعبة‪ ،‬ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِْه ٌرـ ‏]أي بمقدار ملء الكف[ من حجار ة‪ ،‬فلما‬ ‫وقفت عليهما أخذ ال ببصرها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فل ترى إل أبا بكر‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أبا‬ ‫بكر‪ ،‬أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى‪ ،‬وال لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه‪ ،‬أما وال إني‬ ‫لشاعر ة‪ .‬ثم قالت‪:‬‬

‫ُمَذ ّمـما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قـَلَْينا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم انصرفت‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أما تراها رأتك؟ فقال‪ :‬‏)ما رأتنى‪ ،‬لقد أخذ ال ببصرها‬ ‫عني(‪.‬‬

‫وروى أبو بكر البزار هذه القصة‪ ،‬وفيها‪ :‬أنها لما وقفت على أبي بكر قالت‪ :‬أبا بكر‪ ،‬هجانا صاحبك‪،‬‬ ‫فقال أبو بكر‪ :‬ل ورب هذه البنية‪ ،‬ما ينطق بالشعر ول يتفوه به‪ ،‬فقالت‪ :‬إنك لُم صـّد قـ‪.‬‬

‫كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول ال صلى ال عليه وسلم وجاره‪ ،‬كان بيته ملصقا ببيته‪،‬‬ ‫كما كان غيره من جيران رسول ال صلى ال عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬كان النفر الذين يؤذون رسول ال صلى ال عليه وسلم في بيته أبا لهب‪ ،‬والحكم بن‬ ‫أبي العاص بن أمية‪ ،‬وعقبة بن أبي معيط‪ ،‬وعدى بن حمراء الثقفي‪ ،‬وابن الصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه‬ ‫ـ لم يسلم منهم أحد إل الحكم بن أبي العاص‪ ،‬فكان أحدهم يطرح عليه صلى ال عليه وسلم رحم‬

‫الشا ة وهو يصلى‪ ،‬وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له‪ ،‬حتى اتخذ رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم حجًرا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك‬

‫الذى يخرج به على العود‪ ،‬فيقف به على بابه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬‏)يا بني عبد مناف‪ ،‬أي جوار هذا؟( ثم يلقيه‬ ‫في الطريق‪.‬‬

‫وازداد عقبة بن أبي ُمَعْيط في شقاوته وخبثه‪ ،‬فقد روى البخاري عن عبد ال بن مسعود رضي ال‬

‫عنه‪:‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يصلى عند البيت‪ ،‬وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال‬

‫بعضهم لبعض‪ :‬أيكم يجىء بَس لَـ َج ُزـور بني فلن فيضعه على ظهر محمد إذا سجد‪ ،‬فانبعث أشقى‬

‫القو م ‏]وهو عقبة بن أبي معيط[ فجاء به فنظر‪ ،‬حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه‪ ،‬وأنا‬

‫أنظر‪ ،‬ل أغنى شيًئا‪ ،‬لو كانت لي منعة‪ ،‬قال‪ :‬فجعلوا يضحكون‪ ،‬ويحيل بعضهم على بعضهم ‏]أي‬ ‫يتمايل بعضهم على بعض مرًح اـ وبطًرا[ ورسول ال صلى ال عليه وسلم ساجد‪ ،‬ل يرفع رأسه‪ ،‬حتى‬

‫جاءته فاطمة‪ ،‬فطرحته عن ظهره‪ ،‬فرفع رأسه‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏]ال م عليك بقريش[ ثلث مرات‪ ،‬فشق ذلك‬ ‫عليهم إذ دعا عليهم‪ ،‬قال‪ :‬وكانوا يرون أن الدعو ة في ذلك البلد مستجابة‪ ،‬ثم سمى‪ :‬‏)ال م عليك‬

‫بأبي جهل‪ ،‬وعليك بعتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬وعقبة بن أبي‬

‫معيط( ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسى بيده لقد رأيت الذين عّد رسول ال صلى ال عليه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وسلم صرعى في الَق ِلـيب‪ ،‬قليب بدر‪.‬‬ ‫وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم همزه ولمزه‪ .‬وفيه نزل‪ :‬‏} َويْـٌل لُّك ّلـ ُه َمـَزـٍ ة‬ ‫لَّم َزـٍ ة{ ‏]سور ة الهمز ة‪ [1:‬قال ابن هشا م‪ :‬الهمز ة‪ :‬الذي يشتم الرجل علنية‪ ،‬ويكسر عينيه‪ ،‬ويغمز به‪.‬‬ ‫واللمز ة‪ :‬الذي يعيب الناس سًرا‪ ،‬ويؤذيهم‪.‬‬

‫أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين‪ .‬وجلس عقبة مر ة إلى النبي صلى ال‬

‫عليه وسلم وسمع منه‪ ،‬فلما بلغ ذلك أبًيا أنبه وعاتبه‪ ،‬وطلب منه أن يتفل في وجه رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم ففعل‪ ،‬وأبي بن خلف نفسه فت عظًم اـ رميًم اـ ثم نفخه في الريح نحو رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬

‫وكان الخنس بن َش ِرـيق الثقفي ممن ينال من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع‬ ‫صفات تدل على ما كان عليه‪ ،‬وهي في قوله تعالى‪:‬‏} وَل تُِط عـ ُك ّلـ ح ّلـ ٍ‬ ‫ف ـ ـّمِه يـٍن َه ّمـاـٍز ّم ّ‬ ‫ش اـء بِنَِم يـٍم َمنّـاٍع‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ك َزِنيٍم{ ‏]القلم‪.[13 :10:‬‬ ‫لّْلَخ ْيـِر ُمْع تَـٍد أَِثيٍم عُتُّل بـَْعَدـ َذلِ َ‬ ‫وكان أبو جهل يجىء أحياًنا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يسمع منه القرآن‪ ،‬ثم يذهب عنه فل‬ ‫يؤمن ول يطيع‪ ،‬ول يتأدب ول يخشى‪ ،‬ويؤذى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالقول‪ ،‬ويصد عن سبيل‬

‫ال ‪ ،‬ثم يذهب مختاًل بما فعل‪ ،‬فخوًرا بما ارتكب من الشر‪ ،‬كأن ما فعل شيًئا يذكر‪ ،‬وفيه نزل‪ :‬‏}فَ​َل‬ ‫ص لّـى{ ‏]القيامة‪ ،[31:‬وكان يمنع النبي صلى ال عليه وسلم عن الصل ة منذ أول يو م رآه‬ ‫صّدـَقـ َوَل َ‬ ‫َ‬ ‫يصلى في الحر م‪ ،‬ومر ة مر به وهو يصلى عند المقا م فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬ألم أنهك عن هذا‪ ،‬وتوعده‪،‬‬

‫فأغلظ لــه رسـول ال صلى ال عليه وسلم وانتـهره‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬بأي شىء تهددنى؟ أما وال إني‬ ‫ع الّزَبانِيَ​َة { ‏]العلق‪ .[18 ،17:‬وفي رواية أن النبي‬ ‫ع َناِد يَـه َس نَـْد ُ‬ ‫لكثر هذا الوادى نادًيا ‪ .‬فأنزل ال ‏}فـَْليَْد ُ‬ ‫ك فَأَْو لَـى{ ‏]القيامة‪:‬‬ ‫ك فَأَْو لَـى ثُّم أَْو لَـى لَ َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه‪ ،‬وهو يقول له‪:‬‏} أَْولَـى لَ َ‬ ‫‪ [35 ،34‬فقال عدو ال ‪ :‬أتوعدنى يا محمد؟ وال ل تستطيع أنت ول ربك شيًئا‪ ،‬وإني لعز من‬

‫مشى بين جبليها‪.‬‬

‫ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا النتهار‪ ،‬بل ازداد شقاو ة فيما بعد‪ .‬أخرج مسلم عن أبي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هرير ة قال‪ :‬قال أبو جهل‪ :‬يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬واللت والعزى‪ ،‬لئن رأيته‬

‫لطأن على رقبته‪ ،‬ولعفرن وجهه‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلى‪ ،‬زعم ليطأ رقبته‪،‬‬

‫فما فجأهم إل وهو ينكص على عقبيه‪ ،‬ويتقى بيديه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما لك يا أبا الحكم؟ قال‪ :‬إن بينى وبينه‬

‫لخندًقا من نار وهوًل وأجنحًة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لو دنا منى لختطفته الملئكة‬ ‫عضًو اـ عضًو اـ(‪.‬‬

‫هذه صور ة مصغر ة جًد اـ لما كان يتلقاه رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون من الظلم والخسف‬

‫والجور على أيدى طغا ة المشركين‪ ،‬الذين كانوا يزعمون أنهم أهل ال وسكان حرمه‪.‬‬

‫وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن يختار رسول ال صلى ال عليه وسلم موقًف اـ حازًماـ ينقذ به‬ ‫المسلمين عما دهمهم من البلء‪ ،‬ويخفف وطأته بقدر المستطاع‪ ،‬وقد اتخذ رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم خطوتين حكيمتين كان لهما أثرهما في تسيير الدعو ة وتحقيق الهدف‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ اختيار دار الرقم بن أبي الرقم المخزومى مركزا للدعو ة ومقًرا للتربية‪.‬‬ ‫‪2‬ـ أمر المسلمين بالهجر ة إلى الحبشة‪.‬‬ ‫دار الرقم‬

‫كانت هذه الدار في أصل الصفا‪ ،‬بعيد ة عن أعين الطغا ة ومجالسهم‪ ،‬فاختارها رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سًرا‪ ،‬فيتلو عليهم آيات ال ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى‬ ‫المسلمون عبادتهم وأعمالهم‪ ،‬ويتلقوا ما أنزل ال على رسوله وهم في أمن وسل م‪ ،‬وليدخل من يدخل‬

‫في السل م ول يعلم به الطغا ة من أصحاب السطو ة والنقمة‪.‬‬ ‫ومما لم يكن يشك فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لو اجتمع بالمسلمين علنا لحاول المشركون‬

‫بكل ما عندهم من القسو ة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب‬

‫والحكمة‪ ،‬وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين‪ ،‬بل قد وقع ذلك فعًل‪ .‬فقد ذكر ابن إسحاق أن‬ ‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب‪ ،‬فيصلون فيها سًرا‪ ،‬فرآهم نفر من‬ ‫كفار قريش‪ ،‬فسبوهم وقاتلوهم‪ ،‬فضرب سعد بن أبي وقاص رجًل فسال دمه‪ ،‬وكان أول د م هريق في‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫السل م‪.‬‬ ‫ومعلو م أن المصادمة لو تعددت وطالت لفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم‪ ،‬فكان من الحكمة‬

‫السريةُ والختفاء‪ ،‬فكان عامة الصحابة يُْخ ُفـوـن إسلمهم وعبادتهم واجتماعهم‪ ،‬أما رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم فكان يجهر بالدعو ة والعباد ة بين ظهرإني المشركين‪ ،‬ل يصرفه عن ذلك شىء‪ ،‬ولكن كان‬

‫يجتمع مع المسلمين سًرا؛ نظًرا لصالحهم وصالح السل م‪.‬‬ ‫الهجر ة الولى إلى الحبشة‬

‫كانت بداية العتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبو ة‪ ،‬بدأت ضعيفة‪ ،‬ثم لم تزل تشتد‬

‫يوًماـ فيوًماـ وشهًرا فشهرا‪ ،‬حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة‪ ،‬ونبا بهم المقا م في مكة‪ ،‬وأخذوا‬

‫يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الليم‪ ،‬وفي هذه الظروف نزلت سور ة الزمر تشير إلى اتخاذ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِّ ِ‬ ‫ض ال ِ‬ ‫سـنُـوا في َه ذـهـ الّد نـَْيا َح َسـنَـةٌ َوأَـْر ُ‬ ‫سبيل الهجر ة‪ ،‬وتعلن بأن أرض ال ليست بضيقة ‏}للذيـَن أَْح َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫صاـبِروَن أَْج رـُه مـ بِغَْيِر ِح س ـاـ ٍ‬ ‫ب{ ‏]الزمر‪.[10:‬‬ ‫َ‬ ‫َواـس َع ـةٌ إنَّم اـ يـَُو فّـى ال ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ص َحـَمـةـ النجاشى ملك الحبشة ملك عادل‪ ،‬ل يظلم‬ ‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد علم أن أ ْ‬ ‫عنده أحد‪ ،‬فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراًرا بدينهم من الم‪ ،‬لكن لما بلغت إلى الشاطئ‬

‫كانوا قد انطلقوا آمنين‪ ،‬وأقا م المسلمون في الحبشة في أحسن جوار‪.‬‬ ‫سجود المشركين مع المسلمين وعود ة المهاجرين‬

‫وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى ال عليه وسلم إلى الحر م‪ ،‬وفيه جمع كبير من قريش‪،‬‬ ‫فيهم ساداتهم وكبراؤهم‪ ،‬فقا م فيهم‪ ،‬وفاجأهم بتلو ة سور ة النجم‪ ،‬ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كل م‬ ‫ض اـ‪،‬من قولهم‪ :‬‏}َل تَْس َمـعُـوا لَِه َذـاـ الُْقْر آـِن‬ ‫ال من قبل؛ لنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بع ً‬ ‫َواـلْغَْو اـِفيِه لَ​َعلُّك ْمـ تـَْغلُِبوَن { ‏]فصلت‪ [26:‬فلما باغتهم بتلو ة هذه السور ة‪ ،‬وقرع آذانهم كل م إلهي‬ ‫خلب‪ ،‬وكان أروع كل م سمعوه قط‪ ،‬أخذ مشاعرهم‪ ،‬ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إل وهو مصغ‬

‫إليه‪ ،‬ل يخطر بباله شىء سواه‪ ،‬حتى إذا تل في خواتيم هذه السور ة قوارع تطير لها القلوب‪ ،‬ثم قرأ‪:‬‬ ‫‏} َفاْسُجـُدـوـا لِلِّه َواـْع بُـُد وـا{ ‏]النجم‪ [62:‬ثم سجد‪ ،‬لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجًد اـ‪ .‬وفي الحقيقة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين‪ ،‬فما تمالكوا أن يخروا ل‬ ‫ساجدين‪.‬‬

‫طـ في أيديهم لما أحسوا أن جلل كل م ال لَّو ىـ زمامهم‪ ،‬فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى‬ ‫وَس َقـ َ‬ ‫جهدهم في محوه وإفنائه‪ ،‬وقد توالى عليهم اللو م والعتاب من كل جانب‪ ،‬ممن لم يحضر هذا المشهد‬

‫من المشركين‪ ،‬وعند ذلك كذبوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على‬

‫أصنامهم بكلمة تقدير‪ ،‬وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم‪ :‬‏)تلك الغرانيـق العلى‪ ،‬وإن‬ ‫شفاعتهم لترتجى(‪ ،‬جاءوا بهذا الفك المبـين ليعـتذروا عـن سجودهم مع النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫وليس يستغ ــرب هـذا مـن قـو م كانوا يألفون الكذب‪ ،‬ويطيلون الدس والفتراء‪.‬‬ ‫وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة‪ ،‬ولكن في صور ة تختلف تماًماـ عن صورته الحقيقية‪ ،‬بلغهم أن‬ ‫قريًش اـ أسلمت‪ ،‬فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة‪ ،‬فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا‬ ‫جلية المر رجع منهم من رجع إلى الحبشة‪ ،‬ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إل مستخفًيا‪ ،‬أو في‬ ‫جوار رجل من قريش‪.‬‬

‫ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلء والعذاب من قريش‪ ،‬وسطت بهم عشائرهم‪ ،‬فقد كان صعب‬ ‫على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار‪ ،‬ولم ير رسول ال صلى ال عليه وسلم بدا من أن‬

‫يشير على أصحابه بالهجر ة إلى الحبشة مر ة أخرى‪.‬‬

‫الهجر ة الثانية إلى الحبشة‬

‫واستعد المسلمون للهجر ة مر ة أخرى‪ ،‬وعلى نطاق أوسع‪ ،‬ولكن كانت هذه الهجر ة الثانية أشق من‬ ‫سابقتها‪ ،‬فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها‪ ،‬بيد أن المسلمين كانوا أسرع‪ ،‬ويسر ال لهم السفر‪،‬‬

‫فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا‪.‬‬

‫وفي هذه المر ة هاجر من الرجال ثلثة وثمانون رجًل إن كان فيهم عمار‪ ،‬فإنه يشك فيه‪ ،‬وثماني عشر ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أوتسع عشر ة امرأ ة‪.‬‬ ‫مكيد ة قريش بمهاجري الحبشة‬ ‫عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لنفسهم ودينهم‪ ،‬فاختاروا رجلين جلدين لبيبين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫عمرو بن العاص‪ ،‬وعبد ال بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي‬ ‫ولبطارقته‪ ،‬وبعد أن ساق الرجلن تلك الهدايا إلى البطارقة‪ ،‬وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك‬

‫المسلمون‪ ،‬وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم‪ ،‬حضرا إلى النجاشي‪ ،‬وقدما له‬ ‫الهديا ثم كلماه فقال له‪:‬‬ ‫ض َوـىـ إلى بلدك غلمان سفهاء‪ ،‬فارقوا دين قومهم‪ ،‬ولم يدخلوا في دينك‪ ،‬وجاءوا‬ ‫أيها الملك‪ ،‬إنه قد َ‬

‫بدين ابتدعوه‪ ،‬ل نعرفه نحن ول أنت‪ ،‬وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم‬ ‫وعشائرهم؛ لتردهم إليهم‪ ،‬فهم أعلى بهم عيًنا‪ ،‬وأعلم بما عابوا عليهم‪ ،‬وعاتبوهم فيه‪.‬‬ ‫وقالت البطارقة‪ :‬صدقا أيها الملك‪ ،‬فأسلمهم إليهما‪ ،‬فليرداهم إلى قومهم وبلدهم‪.‬‬

‫ولكن رأي النجاشي أنه ل بد من تمحيص القضية‪ ،‬وسماع أطرافها جميًعا‪ .‬فأرسل إلى المسلمين‪،‬‬

‫ودعاهم‪ ،‬فحضروا‪ ،‬وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائًنا ما كان‪ .‬فقال لهم النجاشي‪ :‬ما هذا الدين‬ ‫الذي فارقتم فيه قومكم‪ ،‬ولم تدخلوا به في دينى ول دين أحد من هذه الملل ؟‬ ‫قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين‪ :‬أيها الملك كنا قوًماـ أهل جاهلية؛ نعبد‬

‫الصنا م ونأكل الميتة‪ ،‬ونأتى الفواحش‪ ،‬ونقطع الرحا م‪ ،‬ونسىء الجوار‪ ،‬ويأكل منا القوى الضعيف‪،‬‬ ‫فكنا على ذلك حتى بعث ال إلينا رسوًل منا‪ ،‬نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه‪ ،‬فدعانا إلى ال‬

‫لنوحده ونعبده‪ ،‬ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجار ة والوثان‪ ،‬وأمرنا بصدق الحديث‪،‬‬ ‫وأداء المانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪ ،‬والكف عن المحار م والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفواحش‪ ،‬وقول‬

‫الزور‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪،‬وقذف المحصنات‪،‬وأمرنا أن نعبد ال وحده‪،‬ل نشرك به شيًئا‪،‬وأمرنا بالصل ة‬

‫والزكا ة والصيا م ـ فعدد عليه أمور السل م ـ فصدقناه‪ ،‬وآمنا به‪ ،‬واتبعناه على ما جاءنا به من دين ال ‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فعبدنا ال وحده‪ ،‬فلم نشرك به شيًئا‪ ،‬وحرمنا ما حر م علينا‪ ،‬وأحللنا ما أحل لنا‪ ،‬فعدا علينا قومنا‪،‬‬ ‫فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عباد ة الوثان من عباد ة ال تعالى‪ ،‬وأن نستحل ما كنا نستحل من‬ ‫الخبائث‪ ،‬فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك‪ ،‬واخترناك على‬

‫من سواك‪ ،‬ورغبنا في جوارك‪ ،‬ورجونا أل نظلم عندك أيها الملك‪.‬‬

‫فقال له النجاشي‪ :‬هل معك مما جاء به عن ال من شيء؟ فقال له جعفر‪ :‬نعم‪ .‬فقال له النجاشي‪:‬‬ ‫فاقرأه على‪ ،‬فقرأ عليه صدًرا من‪ :‬‏}كهيعص{ فبكى وال النجاشي حتى اخضلت لحيته‪ ،‬وبكت أساقفته‬

‫ضـلُـوا مصاحفهم حين سمعوا ما تل عليهم‪ ،‬ثم قال لهم النجاشي‪ :‬إن هذا والذي جاء به عيسى‬ ‫حتى أْخ َ‬

‫ليخرج من مشكا ة واحد ة‪ ،‬انطلقا‪ ،‬فل وال ل أسلمهم إليكما‪ ،‬ول يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص‬ ‫وصاحبه ـ فخرجا‪ ،‬فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد ال بن أبي ربيعة‪ :‬وال لتينه غًد اـ عنهم بما‬

‫أستأصل به خضراءهم‪ .‬فقال له عبد ال بن أبي ربيعة‪ :‬ل تفعل‪ ،‬فإن لهم أرحاًماـ وإن كانوا قد خالفونا‪،‬‬ ‫ولكن أصر عمرو على رأيه‪.‬‬ ‫فلما كان الغد قال للنجاشي‪ :‬أيها الملك‪ ،‬إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قوًل عظيًم اـ‪ ،‬فأرسل إليهم‬

‫النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا‪ ،‬ولكن أجمعوا على الصدق‪ ،‬كائًنا ما كان‪ ،‬فلما دخلوا‬ ‫عليه وسألهم‪ ،‬قال له جعفر‪ :‬نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى ال عليه وسلم‪ :‬هو عبد ال ورسوله‬

‫وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَُتول ‪.‬‬ ‫فأخذ النجاشي عوًداـ من الرض ثم قال‪ :‬وال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود‪ ،‬فتناخرت‬

‫بطارقته‪ ،‬فقال‪ :‬وإن نَ​َخ ْرـتُـم وال ‪.‬‬

‫ثم قال للمسلمين‪ :‬اذهبوا فأنتم ُش يُـوٌ م بأرضي ـ والشيو م‪ :‬المنون بلسان الحبشة ـ من َس بّـكم غَِر م‪ ،‬من‬ ‫سبكم غر م‪ ،‬من سبكم غر م‪ ،‬ما أحب أن لى َدبـًْرا من ذهب وإني آذيت رجًل منكم ـ والدبر‪ :‬الجبل‬

‫بلسان الحبشة‪.‬‬

‫ثم قال لحاشيته‪ :‬رّدوا عليهما هداياهما فل حاجة لى بها‪ ،‬فوال ما أخذ ال منـي الرشـو ة حين رد علي‬ ‫ملكي‪ ،‬فآخذ الرشـو ة فيــه‪ ،‬وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قالت أ م سلمة التي تروى هذه القصة‪ :‬فخرجا من عنده مقبوحين مردوًداـ عليهما ما جاءا به‪ ،‬وأقمنا‬ ‫عنده بخير دار مع خير جار‪.‬‬

‫هذه رواية ابن إسحاق‪ ،‬وذكر غيره أن وفاد ة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر‪ ،‬وجمع‬

‫بعضهم بأن الوفاد ة كانت مرتين‪ .‬ولكن السئلة والجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر‬ ‫بن أبي طالب في الوفاد ة الثانية هي نفس السئلة والجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا‪ ،‬ثم إن تلك‬ ‫السئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي‪.‬‬

‫الشد ة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ولما أخفق المشركون في مكيدتهم‪ ،‬وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضًبا‪ ،‬وكادوا يتميزون‬ ‫غيًظا‪ ،‬فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين‪ ،‬ومدوا أيديهم إلى رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم بالسوء‪ ،‬وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم‪ ،‬حسب زعمهم‪.‬‬

‫أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جًد اـ‪ ،‬وكانوا إما ذوى شرف ومنعة‪ ،‬أو‬ ‫محتمين بجوار أحد‪ ،‬ومع ذلك كانوا يخفون إسلمهم ويبتعدون عن أعين الطغا ة بقدر المكان‪ ،‬ولكنهم‬ ‫مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلمة من الذى والخسف والجور‪.‬‬

‫وأما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد كان يصلى ويعبد ال أما م أعين الطغا ة‪ ،‬ويدعو إلى ال سًرا‬ ‫وجهًرا ل يمنعه عن ذلك مانع‪ ،‬ول يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة ال منذ أمره‬ ‫ض َعِن الُْم ْشـِرـِكيَن{ ‏]الحجر‪ ،[94:‬وبذلك كان يمكن‬ ‫صَدـ ْ‬ ‫ع بَِم اـ تـُْؤ َمـُرـ َوأَـْع ِرـ ْ‬ ‫ال سبحانه وتعالى بقوله‪ :‬‏} َفا ْ‬ ‫للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا‪ ،‬ولم يكن في الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون إل ما كان له‬ ‫صلى ال عليه وسلم من الحشمة والوقار‪ ،‬وما كان لبي طالب من الذمة والحترا م‪ ،‬وما كانوا يخافونه‬

‫من مغبة سوء تصرفاتهم‪ ،‬ومن اجتماع بني هاشم عليهم‪ ،‬إل أن كل ذلك لم يعد له أثره المطلوب في‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نفوسهم؛ إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانهيار كيانهم الوثنى وزعامتهم الدينية أما م دعوته صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬

‫ومما روت لنا كتب السنة والسير ة من الحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت في هذه الفتر ة‪ :‬أن‬ ‫عتيبة بن أبي لهب أتى يوًماـ رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أنا أكفر بـ ‏} َواـلنّْجِمـ إَِذا َه َوـىـ{‬ ‫‏]النجم‪ [1:‬وبالذي ‏}ثُّم َدنـَا فـتَ​َد لّـى { ‏]النجم‪ [8:‬ثم تسلط عليه بالذى‪ ،‬وشق قميصه‪ ،‬وتفل في وجهه‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إل أن البزاق لم يقع عليه‪ ،‬وحينئذ دعا عليه النبي صلى ال عليه وسلم وقال‪:‬‬

‫‏)ال م سلط عليه كلًبا من كلبك(‪ ،‬وقد استجيب دعاؤه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد خرج عتيبة إثر‬ ‫ذلك في نفر من قريش‪ ،‬فلما نزلوا بالزرقاء من الشا م طاف بهم السد تلك الليلة‪ ،‬فجعل عتيبة يقول‪:‬‬

‫يا ويل أخي هو وال آكلى كما دعا محمد علّى ‪،‬ـ قتلنى وهو بمكة‪ ،‬وأنا بالشا م‪ ،‬ثم جعلوه بينهم‪،‬‬ ‫وناموا من حوله‪ ،‬ولكن جاء السد وتخطاهم إليه‪ ،‬فضغم رأسه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما ذكر أن عقبة بن أبي ُمَعْيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان‪.‬‬ ‫ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى ال عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق عن عبد ال ابن‬ ‫عمرو بن العاص قال‪ :‬حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر‪ ،‬فذكروا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫فقالوا‪ :‬ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل‪ ،‬لقد صبرنا منه على أمر عظيم‪ ،‬فبينا هم كذلك‬

‫إذ طلع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل يمشى حتى استلم الركن‪ ،‬ثم مر بهم طائًف اـ بالبيت‬

‫فغمزوه ببعض القول‪ ،‬فعرفت ذلك في وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما مر بهم الثانية غمزوه‬

‫بمثلها‪ ،‬فعرفت ذلك في وجهه‪ ،‬ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها‪ .‬فوقف ثم قال‪ :‬‏)أتسمعون يا معشر‬

‫قريش‪ ،‬أما والذي نفسى بيده‪ ،‬لقد جئتكم بالذبح(‪ ،‬فأخذت القو م كلمته‪ ،‬حتى ما منهم رجل إل كأنما‬

‫على رأسه طائر واقع‪ ،‬حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد‪ ،‬ويقول‪ :‬انصرف يا أبا القاسم‪ ،‬فو ال‬

‫ما كنت جهوًل‪.‬‬ ‫فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم‪ ،‬فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به‪،‬‬

‫فلقد رأيت رجًل منهم أخذ بمجمع ردائه‪ ،‬وقا م أبو بكر دونه‪ ،‬وهو يبكى ويقول‪ :‬أتقتلون رجًل أن يقول‬

‫ص اـ‪.‬‬ ‫ربي ال ؟ ثم انصرفوا عنه‪ ،‬قال ابن عمرو‪ :‬فإن ذلك لشد ما رأيت قريًش اـ نالوا منه قط‪ .‬انتهي ملخ ً‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي رواية البخاري عن عرو ة بن الزبير قال‪ :‬سألت ابن عمرو بن العاص‪ :‬أخبرني بأشد شيء صنعه‬

‫المشركون بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬بينا النبي صلى ال عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ‬

‫أقبل عقبة بن أبي معيط‪ ،‬فوضع ثوبه في عنقه‪ ،‬فخنقه خنًق اـ شديًد اـ؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه‪،‬‬ ‫ودفعه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أتقتلون رجًل أن يقول ربي ال ؟‪.‬‬

‫وفي حديث أسماء‪ :‬فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال‪ :‬أدرك صاحبك‪ ،‬فخرج من عندنا وعليه غدائر‬ ‫أربـع‪ ،‬فـخرج وهــو يـقول‪ :‬أتقتلون رجًل أن يقول ربي ال ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر‪ ،‬فرجع إلينا‬ ‫ل نمس شيًئا من غدائره إل رجع معنــا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫دخول كبار الصحابة فى السل م‬ ‫إسل م حمز ة رضي ال عنه‬ ‫خلل هذا الجو الملبد بغيو م الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق‪ ،‬وهو إسل م حمز ة بن عبد‬ ‫المطلب رضي ال عنه أسلم في أواخر السنة السادسة من النبو ة‪ ،‬والغلب أنه أسلم في شهر ذى‬

‫الحجة‪.‬‬

‫وسبب إسلمه‪ :‬أن أبا جهل مر برسول ال صلى ال عليه وسلم يوًماـ عند الصفا فآذاه ونال منه‪ ،‬ورسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم ساكت ل يكلمه‪ ،‬ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَ​َش ّجـهُـ حتى نزف منه‬

‫الد م‪ ،‬ثم انصرف عنه إلى نادى قريش عند الكعبة‪ ،‬فجلس معهم‪ ،‬وكانت مول ة لعبد ال بن ُج ْدـَعــان في‬ ‫مسكن لها على الصفا ترى ذلك‪ ،‬وأقبل حمز ة من الَق نَـص ُمتـَو ّشـًحـاـ قوسه‪ ،‬فأخبرته المول ة بما رأت من‬

‫أبي جهل‪ ،‬فغضب حمز ة ـ وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى‪ ،‬لم يقف لحد؛ معًد اـ‬ ‫ص ّفـَرـ اْس تَــه‪ ،‬تشتم ابن‬ ‫لبي جهل إذا لقيه أن يوقع به‪ ،‬فلما دخل المسجد قا م على رأسه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا ُم َ‬ ‫أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكر ة‪ ،‬فثار رجال من بني مخزو م ـ حى أبي جهل ـ‬ ‫وثار بنو هاشم ـ حي حمز ة ـ فقال أبو جهل‪ :‬دعوا أبا عمار ة‪ ،‬فإني سببت ابن أخيه سًبا قبيًح اـ‪.‬‬ ‫وكان إسل م حمز ة أول المر أنفة رجل‪ ،‬أبي أن يهان موله‪ ،‬ثم شرح ال صدره فاستمسك بالعرو ة‬ ‫الوثقى‪ ،‬واعتز به المسلمون أيما اعتزاز‪.‬‬

‫إسل م عمر بن الخطاب رضي ال عنه‬ ‫وخلل هذا الجو الملبد بغيو م الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريًق اـ وإضاء ة من الول‪ ،‬أل وهو‬

‫إسل م عمر بن الخطاب‪ ،‬أسلم في ذى الحجـة سـنة سـت مـن النبـو ة‪ .‬بعد ثلثة أيا م من إسل م حمز ة‬

‫رضي ال عنه وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد دعا ال تعالى لسلمه‪ .‬فقد أخرج الترمذى عن ابن‬

‫عمر‪ ،‬وصححه‪ ،‬وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)ال م أعز‬

‫السل م بأحب الرجلين إليك‪ :‬بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشا م( فكان أحبهما إلى ال عمر‬ ‫رضي ال عنه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبعد إدار ة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلمه يبدو أن نزول السل م في قلبه كان‬ ‫تدريجًيا‪ ،‬ولكن قبل أن نسوق خلصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي ال عنه من العواطف‬ ‫والمشاعر‪.‬‬ ‫كان رضي ال عنه معروًفا بحد ة الطبع وقو ة الشكيمة‪ ،‬وطالما لقى المسلمون منه ألوان الذى‪ ،‬والظاهر‬ ‫أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد التي سنها الباء والجداد وتحمسه لها‪،‬‬

‫ثم إعجابه بصلبة المسلمين‪ ،‬وباحتمالهم البلء في سبيل العقيد ة‪ ،‬ثم الشكوك التي كانت تساوره ـ‬

‫كأي عاقل ـ في أن ما يدعو إليه السل م قد يكون أجل وأزكى من غيره‪ ،‬ولهذا ما إن يـَُثور حتى يَُخ وـر‪.‬‬ ‫وخلصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلمه رضي ال عنه‪ :‬أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته‪،‬‬

‫فجاء إلى الحر م‪ ،‬ودخل في ستر الكعبة‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قائم يصلي‪ ،‬وقد استفتح سور ة‬ ‫‏}الَْحاـقّةُ{‪،‬فجعل عمر يستمع إلى القرآن‪ ،‬ويعجب من تأليفه‪ ،‬قال‪ :‬فقلت ـ أي في نفسي‪ :‬هذا وال‬ ‫شاعر‪ ،‬كما قالت قريش‪ ،‬قال‪ :‬فقرأ ‏}إِنّهُ لَ​َق ْوـُلـ َرُس وـٍل َك ِرـيٍم َو َمـاـ ُه َوـ بَِق ْوـِلـ َش اـِع ٍرـ قَِليًل َماـ تـُْؤ ِمـنُـوَن{‬ ‫ب الَْعالَِم يـَن{‬ ‫‏]الحاقة‪ [41 ،40:‬قال‪ :‬قلت‪ :‬كاهن‪ .‬قال‪:‬‏} َوَل بَِق ْوـِلـ َك اـِه ٍنـ قَِليًل َماـ تَ​َذّك ُرـوَن َتنِزيٌل ّمنـ ّر ّ‬ ‫إلى آخر السور ة ‏]الحاقة‪ . [43 ،42:‬قال‪ :‬فوقع السل م في قلبي‪.‬‬ ‫كان هذا أول وقوع نوا ة السل م في قلبه‪ ،‬لكن كانت قشر ة النزعات الجاهلية‪ ،‬وعصبية التقليد‪،‬‬ ‫والتعاظم بدين الباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه‪ ،‬فبقى مجًد اـ في عمله ضد‬

‫السل م غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشر ة‪.‬‬

‫وكان من حد ة طبعه وفرط عداوته لرسول ال صلى ال عليه وسلم أنه خرج يوًماـ متوشًح اـ سيفه يريد‬

‫القضاء على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلقيه نعيم بن عبد ال النحا م العدوي‪ ،‬أو رجل من بني زهر ة‪،‬‬

‫أو رجل من بني مخزو م فقال‪ :‬أين تعمد يا عمر؟ قال‪ :‬أريد أن أقتل محمًد اـ‪ .‬قال‪ :‬كيف تأمن من بني‬ ‫هاشم ومن بني زهر ة وقد قتلت محمًد اـ؟ فقال له عمر‪ :‬ما أراك إل قد صبوت‪ ،‬وتركت دينك الذي‬

‫ك قد صبوا‪ ،‬وتركا دينك الذي أنت‬ ‫كنت عليه‪ ،‬قال‪ :‬أفل أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وَخ تـنَ َ‬ ‫عليه‪ ،‬فمشى عمر دامًرا حتى أتاهما‪ ،‬وعندهما خباب بن الرت‪ ،‬معه صحيفة فيها‪ :‬‏]طه[ يقرئهما إياها ـ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت‪ ،‬وسترت فاطمة ـ‬

‫أخت عمر ـ الصحيفة‪ .‬وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراء ة خباب إليهما‪ ،‬فلما دخل عليهما‬ ‫قال‪ :‬ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقال‪ :‬ما عدا حديًثا تحدثناه بيننا‪ .‬قال‪ :‬فلعلكما قد صبوتما‪.‬‬ ‫فقال له ختنه‪ :‬يا عمر‪ ،‬أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديًد اـ‪.‬‬

‫فجاءت أخته فرفعته عن زوجها‪ ،‬فنفحها نفحة بيده‪ ،‬فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها‬

‫فشجها ـ فقالت‪ ،‬وهي غضبى‪ :‬يا عمر‪ ،‬إن كان الحق في غير دينك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأشهد‬

‫أن محمًد اـ رسول ال ‪.‬‬ ‫فلما يئس عمر‪ ،‬ورأي ما بأخته من الد م ند م واستحيا‪ ،‬وقال‪ :‬أعطونى هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه‪،‬‬

‫فقالت أخته‪ :‬إنك رجس‪ ،‬ول يمسه إل المطهرون‪ ،‬فقم فاغتسل‪ ،‬فقا م فاغتسل‪ ،‬ثم أخذ الكتاب‪ ،‬فقرأ‪:‬‬ ‫‏}بسم ال الرحمن الرحيم{ فقال‪ :‬أسماء طيبة طاهر ة‪ .‬ثم قرأ ‏]طه[ حتى انتهي إلى قوله‪ :‬‏}إِنِّني أَ​َنا ال ُ‬ ‫صَلـ ةَ ـلِـِذْك ِرــي{ ‏]طه‪ [14:‬فقال‪ :‬ما أحسن هذا الكل م وأكرمه؟ دلوني على‬ ‫َل إِلَ​َه إِّل أَ​َنا َفاْع بُـْد نِــي َوأَـقِ​ِم ال ّ‬ ‫محمد‪.‬‬

‫فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت‪ ،‬فقال‪ :‬أبشر يا عمر‪ ،‬فإني أرجو أن تكون دعو ة الرسول‬

‫صلى ال عليه وسلم لك ليلة الخميس‪ :‬‏)ال م أعز السل م بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشا م(‪،‬‬

‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا‪.‬‬ ‫فأخذ عمر سيفه‪ ،‬فتوشحه‪ ،‬ثم انطلق حتى أتى الدار‪ ،‬فضرب الباب‪ ،‬فقا م رجل ينظر من خلل الباب‪،‬‬

‫فرآه متوشًح اـ السيف‪ ،‬فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واستجمع القو م‪ ،‬فقال لهم حمز ة‪ :‬ما لكم‬ ‫؟ قالوا‪ :‬عمر؟ فقال‪ :‬وعمر؟ افتحوا له الباب‪ ،‬فإن كان جاء يريد خيًرا بذلناه له‪ ،‬وإن كان جاء يريد‬ ‫شًرا قتلناه بسيفه‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم داخل يوحى إليه‪ ،‬فخرج إلى عمر حتى لقيه في‬

‫الحجر ة‪ ،‬فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف‪ ،‬ثم جبذه جبذ ة شديد ة فقال‪ :‬‏)أما أنت منتهًيا يا عمر حتى‬ ‫ينزل ال بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغير ة؟ ال م‪ ،‬هذا عمر بن الخطاب‪ ،‬ال م أعز‬ ‫السل م بعمر بن الخطاب(‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وأنك رسول ال ‪ .‬وأسلم‪ ،‬فكبر أهل‬

‫الدار تكبير ة سمعها أهل المسجد‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كان عمر رضي ال عنه ذا شكيمة ل يرا م‪ ،‬وقد أثار إسلمه ضجة بين المشركين‪ ،‬وشعورا لهم بالذلة‬ ‫والهوان‪ ،‬وكسا المسلمين عز ة وشرًفا وسروًرا‪.‬‬

‫روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال‪ :‬لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عداو ة‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬أبو جهل‪ ،‬فأتيت حتى ضربت عليه بابه‪ ،‬فخرج إلّى ‪،‬ـ وقال‪ :‬أهًل وسهًل ‪ ،‬ـ ـما‬ ‫جاء بك؟ قال‪ :‬جئت لخبرك إني قد آمنت بال وبرسوله محمد‪ ،‬وصدقت بما جاء به‪ .‬قال‪ :‬فضرب‬ ‫الباب في وجهي‪ ،‬وقال‪ :‬قبحك ال ‪ ،‬وقبح ما جئت به‪.‬‬ ‫وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي ال عنه قال‪ :‬كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال‪ ،‬فيضربونه‬

‫ويضربهم‪ ،‬فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت‪ ،‬قال‪:‬‬

‫وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت‪.‬‬ ‫وفي رواية لبن إسحاق‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش‬

‫بإسلمه‪ ،‬فقال‪ :‬أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا‪ :‬جميل بن معمر الجمحى‪ .‬فخرج إليه وأنا معه‪،‬‬ ‫أعقل ما أرى وأسمع‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فقال‪ :‬ياجميل‪ ،‬إني قد أسلمت‪ ،‬قال‪ :‬فو ال ما رد عليه كلمة حتى قا م‬ ‫عامًد اـ إلى المسجد فنادى ‏]بأعلى صوته[ أن‪ :‬يا قريش‪ ،‬إن ابن الخطاب قد صبأ‪ .‬فقال عمر ـ وهو‬

‫خلفه‪ :‬كذب‪ ،‬ولكنى قد أسلمت ‏]وآمنت بال وصدقت رسوله[‪ ،‬فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه‬

‫حتى قامت الشمس على رءوسهم‪ ،‬وطَ​َلح ـ أي أعيا ـ عمر‪ ،‬فقعد‪ ،‬وقاموا على رأسه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬افعلوا‬ ‫ما بدا لكم‪ ،‬فأحلف بال أن لو كنا ثلثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا‪.‬‬ ‫وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله‪.‬روى البخاري عن عبد ال بن عمر قال‪:‬بينما هو ـ أي‬

‫عمر ـ في الدار خائًف اـ إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو‪،‬وعليه حلة حبر ة وقميص مكفوف‬ ‫بحرير ـ وهو من بني سهم‪ ،‬وهم حلفاؤنا في الجاهلية ـ فقال له‪ :‬ما لك؟ قال‪ :‬زعم قومك أنهم‬

‫سيقتلوني إن أسلمت‪ ،‬قال‪ :‬ل سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص‪ ،‬فلقى الناس قد سال‬

‫بهم الوادي‪ ،‬فقال‪ :‬أين تريدون؟ فقالوا‪ :‬هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ‪ ،‬قال‪ :‬ل سبيل إليه‪ ،‬فَ​َك ّرـ‬ ‫ط ـعنه‪.‬‬ ‫الناس‪ .‬وفي لفظ في رواية ابن إسحاق‪ :‬وال ‪ ،‬لكأنما كانوا ثوًبا ُك ِشـ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هذا بالنسبة إلى المشركين‪ ،‬أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال‪ :‬سألت عمر بن‬

‫الخطاب‪ :‬لي شيء سميت الفاروق؟ قال‪ :‬أسلم حمز ة قبلى بثلثة أيا م ـ ثم قص عليه قصة إسلمه‪.‬‬ ‫وقال في آخره‪ :‬قلت ـ أي حين أسلمت‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال‪:‬‬

‫‏)بلى‪ ،‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم(‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ففيم الختفاء؟ والذي‬ ‫بعثك بالحق لنخرجن‪ ،‬فأخرجناه في صفين‪ ،‬حمز ة في أحدهما‪ ،‬وأنا في الخر‪ ،‬له كديد ككديد‬

‫الطحين‪ ،‬حتى دخلنا المسجد‪ ،‬قال‪ :‬فنظرت إلّى قريش وإلى حمز ة‪ ،‬فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها‪،‬‬ ‫فسماني رسول ال صلى ال عليه وسلم ‏)الفاروق( يومئذ‪.‬‬

‫وكان ابن مسعود رضي ال عنه يقول‪ :‬ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر‪.‬‬ ‫وعن صهيب بن سنان الرومى رضي ال عنه قال‪ :‬لما أسلم عمر ظهر السل م‪ ،‬ودعى إليه علنية‪،‬‬

‫وجلسنا حول البيت حلًق اـ‪ ،‬وطفنا بالبيت‪ ،‬وانتصفنا ممن غلظ علينا‪ ،‬ورددنا عليه بعض ما يأتى به‪.‬‬

‫وعن عبد ال بن مسعود قال‪ :‬ما زلنا أعز ة منذ أسلم عمر‪.‬‬

‫ممثل قريش بين يدي الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫وبعد إسل م هذين البطلين الجليلين ـ حمز ة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب رضي ال عنهما أخذت‬

‫السحائب تتقشع‪ ،‬وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهم بالمسلمين‪ ،‬وغيروا تفكيرهم في معاملتهم‬

‫مع النبي صلى ال عليه وسلم والمؤمنين‪ ،‬واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات‪ ،‬ولم‬ ‫يدر هؤلء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس ل يساوي جناح بعوضة أما م دين ال والدعو ة إليه‪،‬‬ ‫فخابوا وفشلوا فيما أرادوا‪.‬‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال‪ :‬حدثت أن عتبة بن ربيعة‪ ،‬وكان‬ ‫سيًد اـ‪ ،‬قال يوًماـ ـ وهو في نادى قريش‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم جالس في المسجد وحده‪ :‬يا‬

‫معشر قريش‪ ،‬أل أقو م إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموًرا لعله يقبل بعضها‪ ،‬فنعطيه أيها شاء ويكف‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عنا؟ وذلك حين أسلم حمز ة رضي ال عنه ورأوا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثرون‬

‫ويزيدون‪ ،‬فقالوا‪ :‬بلى‪ ،‬يا أبا الوليد‪ ،‬قم إليه‪ ،‬فكلمه‪ ،‬فقا م إليه عتبة‪،‬حتى جلس إلى رسول ال صلى ال‬ ‫س طَـِة في العشير ة‪ ،‬والمكان في النسب‪،‬‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬إنك منا حيث قد علمت من ال ّ‬

‫وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم‪ ،‬فرقت به جماعتهم‪ ،‬وسفهت به أحلمهم‪ ،‬وعبت به آلهتهم ودينهم‪،‬‬ ‫وكفرت به من مضى من آبائهم‪ ،‬فاسمع منى أعرض عليك أموًرا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فقال رسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)قل يا أبا الوليد أسمع(‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا المر ماًل جمعنا لك من أموالنا حتى تكون‬

‫أكثرنا ماًل ‪ ،‬ـ ـوإن كنت تريد به شرًفا سودناك علينا حتى ل نقطع أمًرا دونك‪ ،‬وإن كنت تريد به ملًك اـ‬ ‫ملكناك علينا‪ ،‬وإن كان هذا الذي يأتيك رئًيا تراه ل تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب‪ ،‬وبذلنا‬ ‫فيه أموالنا حتى نبرئك منه‪ ،‬فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى‬

‫إذا فرغ عتبة ورسول ال صلى ال عليه وسلم يستمع منه قال‪ :‬‏)أقد فرغت يا أبا الوليد؟( قال‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫قال‪ :‬‏)فاسمع منى(‪ ،‬قال‪:‬أفعل‪ ،‬فقال‪ :‬‏} بسم ال الرحمن الرحيم حم َتنِزيٌل ّمَنـ الّرْح َمـِنـالّرح يـِم كَتا ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضـ أَْك ثـَُرُه ْمـ فـَُه ْمـ َل يَْس َمـعُـوَن َو قَـاُلوا قـُ​ُلوبـَُنا ِفي‬ ‫فُ ّ‬ ‫ص لَـ ْ‬ ‫ت آَياتُهُ قـُْر آـًنا َعَربِّيا لَّق ْوـ مـ يـَْع لَـُم وـَن بَش يـًرا َو نَـذ يـًرا فَأَْع َرـ َ‬ ‫أَكِنٍّة ّمّمـاـ تَْد عُــوَنا إِلَْيِه { ‏]فصلت‪ .[5 :1:‬ثم مضى رسول ال فيها‪ ،‬يقرؤها عليه‪ .‬فلما سمعها منه عتبة‬ ‫أنصت له‪ ،‬وألقى يديه خلف ظهره معتمًد اـ عليهما‪ ،‬يسمع منه‪ ،‬ثم انتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫إلى السجد ة منها فسجد ثم قال‪ :‬‏)قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت‪ ،‬فأنت وذاك(‪.‬‬

‫فقا م عتبة إلى أصحابه‪ ،‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬نحلف بال لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب‬

‫به‪ .‬فلما جلس إليهم قالوا‪ :‬ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال‪ :‬ورائي أني سمعت قوًل وال ما سمعت مثله‬

‫قط‪ ،‬وال ما هو بالشعر ول بالسحر‪ ،‬ول بالكهانة‪ ،‬يا معشر قريش‪ ،‬أطيعونى واجعلوها بي‪ ،‬وخلوا بين‬

‫هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه‪ ،‬فوال ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم‪ ،‬فإن تصبه العرب‬

‫فقد كفيتموه بغيركم‪ ،‬وإن يظهر على العرب فملكه ملككم‪ ،‬وعزه عزكم‪ ،‬وكنتم أسعد الناس به‪ ،‬قالوا‪:‬‬ ‫سحرك وال يا أبا الوليد بلسانه‪ ،‬قال‪ :‬هذا رأيي فيه‪ ،‬فاصنعوا ما بدا لكم‪.‬‬

‫وفي روايات أخرى‪ :‬أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى ال عليه وسلم قوله تعالى‪ :‬‏}فَِإْنـ‬ ‫ضوا فـُقلـ َأنَذ رـتُ​ُك مـ ِ‬ ‫ص اـِع َقـِةـ َعاٍد َو ثـَُم وـَد{ ‏]فصلت‪ [13:‬قال‪ :‬حسبك‪ ،‬حسبك‪ ،‬ووضع يده‬ ‫صاـع َقـةًـ ّمثْـَل َ‬ ‫أَْع َرـ ُ َ ْ ْ ْ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫على فم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وناشده بالرحم أن يكف‪ ،‬وذلك مخافة أن يقع النذير‪ ،‬ثم قا م‬

‫إلى القو م فقال ما قال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫عز م أبي جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫مساومات وتنازلت‬

‫حير ة قريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود‬

‫موقف أبي طالب وعشيرته‬

‫رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى ال عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لنه لم يكن‬ ‫صريًح اـ في الرفض أو القبول‪ ،‬بل تل عليه النبي صلى ال عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة‪ ،‬ورجع من‬

‫حيث جاء‪ ،‬فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية‪ ،‬ودرسوا كل المواقف بروية‬ ‫وتريث‪ ،‬ثم اجتمعوا يوًماـ عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس‪ ،‬وأرسلوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫يدعونه‪ ،‬فجاء مسرًعا يرجو خيًرا‪ ،‬فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة‪ ،‬وعرضوا عليه نفس‬ ‫المطالب التي عرضها عتبة‪ .‬وكأنهم ظنوا أنه لم يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة وحده‪ ،‬فإذا‬

‫عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل‪ ،‬ولكن قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما بي ما تـَُقوُلون‪ ،‬ما‬ ‫ِج ْئ ـتُ​ُك مـ بما ِج ْئ ـتُ​ُك مـ ِبه أَطُْلب أَْم َوـاـلُك مـ ول ال ّ‬ ‫ك عليكم‪ ،‬ولكّن ال بـَعثَِنى إلَْيُك مـ‬ ‫ش رـف فيكم‪ ،‬ول الُم ْلـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تـ لَُك ْمـ‪،‬ـ‬ ‫ص ْحـ ُ‬ ‫َرُس وـًل ‪ ،‬ـَـو َأنـَْزَل علّى كتاًبا‪ ،‬وأَ​َم َرـنى أْن أَُك وـَن لَُك مـ بَش يـًرا َو نَـذ يـًرا‪ ،‬فَـبـَلّْغتُ​ُك مـ ِرَس اـلت ربي‪َ ،‬و نَـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ص بِـر لْم ِرـ ال ِ حّتى‬ ‫فِإ ْنـ تـَْق بـَلُوا م نّـى ما ِج ْئ ـتُ​ُك مـ ِبه فـَُه َوـ َح ظّـُك مـ في الُد نـيا والخر ة‪ ،‬وإْن تـَُرّدوا علّى أَ ْ‬ ‫يَْح ُكـمـ ال ُ بـَْيِنى َو بـَْيـنَُك مـ(‪ .‬أو كما قال‪.‬‬ ‫فانتقلوا إلى نقطة أخرى‪ ،‬وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال‪ ،‬ويبسط لهم البلد‪ ،‬ويفجر‬ ‫فيها النهار‪ ،‬ويحيى لهم الموتى ـ ول سيما قصى بن كلب ـ فإن صدقوه يؤمنون به‪ .‬فأجاب بنفس ما‬ ‫سبق من الجواب‪.‬‬

‫فانتقلوا إلى نقطة ثالثة‪ ،‬وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملًك اـ يصدقه‪ ،‬ويراجعونه فيه‪ ،‬وأن يجعل له‬ ‫جنات وكنوًزا وقصوًرا من ذهب وفضة‪ ،‬فأجابهم بنفس الجواب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فانتقلوا إلى نقطة رابعة‪ ،‬وطلبوا منه العذاب‪ :‬أن يسقط عليهم السماء كسًف اـ‪ ،‬كما يقول ويتوعد‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏)ذلك إلى ال ‪ ،‬إن شاء فعل(‪ .‬فقالوا‪ :‬أما علم ربك أنا سنجلس معك‪ ،‬ونسألك ونطلب منك‪ ،‬حتى‬ ‫يعلمك ما تراجعنا به‪ ،‬وما هو صانع بنا إذا لم نقبل‪.‬‬

‫وأخيًرا هددوه أشد التهديد‪ ،‬وقالوا‪:‬أما وال ل نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا‪ ،‬فقا م رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم عنهم‪ ،‬وانصرف إلى أهله حزيًنا أسفا لما فاته ما طمع من قومه‪.‬‬

‫عز م أبي جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ولما انصرف رسول ال صلى ال عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل في كبريائه وقال‪ :‬يا معشر قريش‪،‬‬

‫إن محمًد اـ قد أبي إل ما ترون من عيب ديننا‪ ،‬وشتم آبائنا‪ ،‬وتسفيه أحلمنا‪ ،‬وشتم آلهتنا‪ ،‬وأني أعاهد‬

‫ال لجلسن له بحجر ما أطيق حمله‪ ،‬فإذا سجد في صلته فضخت به رأسه‪ ،‬فأسلمونى عند ذلك أو‬ ‫امنعونى‪ ،‬فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم‪ ،‬قالوا‪ :‬وال ل نسلمك لشيء أبًد اـ‪ ،‬فامض لما‬ ‫تريد‪.‬‬

‫فلما أصبح أبو جهل‪ ،‬أخذ حجًرا كما وصف‪ ،‬ثم جلس لرسول ال صلى ال عليه وسلم ينتظره‪ ،‬وغدا‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم كما كان يغدو‪ ،‬فقا م يصلي‪ ،‬وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم‬

‫ينتظرون ما أبو جهل فاعل‪ ،‬فلما سجد رسول ال صلى ال عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر‪ ،‬ثم‬

‫أقبل نحوه‪ ،‬حتى إذا دنا منه رجع منهزًماـ ممتقًعا لونه‪ ،‬مرعوًبا قد يبست يداه على حجره‪ ،‬حتى قذف‬ ‫الحجر من يده‪ ،‬وقامت إليه رجال قريش فقالوا له‪ :‬ما لك يا أبا الحكم؟ قال‪ :‬قمت إليه لفعل به ما‬ ‫قلت لكم البارحة‪ ،‬فلما دنوت منه عرض لى دونه فَْح ٌلـ من البل‪ ،‬ل وال ما رأيت مثل َه اـَمتِـه‪ ،‬ول مثل‬ ‫ص َرـِته ول أنيابه لفحل قط‪ ،‬فـَ​َه ّمـ بى أن يأكلنى‪.‬‬ ‫قَ َ‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬فذكر لى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)ذلك جبريل عليه السل م لو دنا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لخذه(‬ ‫مساومات وتنازلت‬ ‫ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الغراء والترغيب‪ ،‬والتهديد والترهيب‪ ،‬وخاب أبو جهل‬

‫فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك‪ ،‬تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه‪،‬‬ ‫ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى ال عليه وسلم على باطل‪ ،‬بل كانوا ـ كما قال ال تعالى ‏}لَِفيـ َش ّ‬ ‫كـ‬

‫ّمْنـهُ ُمِري ٍ‬ ‫ب{ ‏]الشورى‪ .[14:‬فرأوا أن يساوموه صلى ال عليه وسلم في أمور الدين‪ ،‬ويلتقوا به في‬

‫منتصف الطريق‪ ،‬فيتركوا بعض ما هم عليه‪ ،‬ويطالبوا النبي صلى ال عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه‪،‬‬ ‫وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق‪ ،‬إن كان ما يدعو إليه النبي صلى ال عليه وسلم حًق اـ‪.‬‬

‫روى ابن إسحاق بسنده‪ ،‬قال‪ :‬اعترض رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ السود بن‬ ‫المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغير ة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا‬

‫ذوى أسنان في قومهم ـ فقالوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬هلم فلنعبد ما تعبد‪ ،‬وتعبد ما نعبد‪ ،‬فنشترك نحن وأنت في‬

‫المر‪ ،‬فإن كان الذي تعبد خيًرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه‪ ،‬وإن كان ما نعبد خيًرا مما تعبد‬ ‫كنت قد أخذت بحظك منه‪ ،‬فأنزل ال تعالى فيهم‪ :‬‏}قُْل َيا َأيـَّه اـ الَْك اـفُِروَن َل أَْع بُـُد َماـ تـَْع بُـُد وـَن { السور ة‬ ‫كلها‪.‬‬ ‫وأخرج َعْبُد بن ُح َمـ ـْيد وغيره عن ابن عباس أن قريًش اـ قالت‪ :‬لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك‪ .‬فأنزل ال‬ ‫‪ :‬‏}قُْل َيا َأيـَّه اـ الَْك اـفُِروَن{ السور ة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريًش اـ قالوا لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ :‬تعبد آلهتنا سنة‪ ،‬ونعبد إلهك سنة‪،‬فأنزل ال ‪:‬‏}قُْل َأفـَ​َغيـَْر ال ِ تَأُْمُروّني أَْع بُـُد َأيـَّه اـ الَْج اـِه لُـوَن{‬ ‫‏]الزمر‪[64:‬‬ ‫ولما حسم ال تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس‪ ،‬بل‬ ‫أبدوا مزيًد اـ من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى ال عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من‬ ‫التعليمات‪ ،‬فقالوا‪ :‬‏}ائْ ِ‬ ‫ض اـ بإنزال ما يرد به النبي‬ ‫ت بُِقْر آـٍن غَْيِر َه ـَذ اـ أَْو بَّد لْـهُ{‪ ،‬فقطع ال هذا السبيل أي ً‬ ‫صلى ال عليه وسلم عليهم فقال‪ :‬‏}قُْل َماـ يَُك وـُن ِلي أَْن أُبَّد لَـهُ ِم نـ تِْلَق اـء نـَْف ِسـ ي ـ إِْن أَتّبُِع إِلّ َماـ ُيوَح ىـ إِلَّي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ب يـَْو ٍ مـ َعِظ يـٍم{ ‏]يونس‪ [15:‬ونبه على عظم خطور ة هذا العمل بقوله‪:‬‬ ‫إِّني أَ​َخ اـ ُ‬ ‫ص ْيـ ُ‬ ‫ف إِْن َع َ‬ ‫ت َرّبي َعَذ اـ َ‬ ‫ك َعِن الِّذ يـ أَو حـيـَنا إِلَي َ ِ‬ ‫ي َعَليـَْنا َغيـَْرهُ َو إِـًذا لّتَّخ ُذـوـَك َخ لِـيلً َو لَـْو لَـ َأن ثـَّبتـَْناَك‬ ‫‏} َوإِـن َك اـُدواْ َليـَْف تِـُنونَ َ‬ ‫َْْ ْ‬ ‫ك لتْف تَـِر َ‬ ‫ِ‬ ‫فـالْم مـاـ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت تـرَك نـ إِلَْيِه مـ َش ْيـًئا قَِليلً ِإذاً ّلَ​َذقـَْناَك ِ‬ ‫ك َعَليـَْنا‬ ‫ض ْعـ َ‬ ‫ت ثُّم لَ تَِج ُد ـ لَ َ‬ ‫لَ​َق ْدـ كد ّ َْ ُ ْ‬ ‫فـ الَْح يَـا ة َو ضـْعـ َ َ َ‬ ‫نَ ِ‬ ‫ص يـًرا{ ‏]السراء‪.[75 :73:‬‬ ‫حير ة قريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود‬ ‫أظلمت أما م المشركين السبل بعد فشلهم في هذه المفاوضات والمساومات والتنازلت‪ ،‬واحتاروا فيما‬ ‫يفعلون‪ ،‬حتى قا م أحد شياطينهم‪ :‬النضر بن الحارث‪ ،‬فنصحهم قائًل‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬وال لقد نزل‬

‫بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد‪ ،‬قد كان محمد فيكم غلًماـ حدًثا أرضاكم فيكم‪ ،‬وأصدقكم حديًثا‪،‬‬ ‫وأعظمكم أمانة‪ ،‬حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب‪ ،‬و جاءكم بما جاءكم به‪ ،‬قلتم‪ :‬ساحر‪ ،‬ل وال ما‬ ‫هو بساحر‪ ،‬لقد رأينا السحر ة ونـَْف ثَـهم وَعْق َدـهـم‪ ،‬وقلتم‪ :‬كاهن‪ ،‬ل وال ما هو بكاهن‪ ،‬قد رأينا الكهنة‬ ‫وتَ​َخ اـلَُج هـم وسمعنا َس َجـَعـُه مـ‪ ،‬وقلتم‪ :‬شاعر‪ ،‬ل وال ما هو بشاعر‪ ،‬قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها‬ ‫َه َزـَج هـوَرَج َزـه‪ ،‬وقلتم‪ :‬مجنون‪ ،‬ل وال ما هو بمجنون‪ ،‬لقد رأينا الجنون‪ ،‬فما هو بخنقه‪ ،‬ول وسوسته‪،‬‬

‫ول تخليطه‪ ،‬يا معشر قريش‪ ،‬فانظروا في شأنكم‪ ،‬فإنه وال لقد نزل بكم أمر عظيم‪.‬‬

‫وكأنهم لما رأوا صموده صلى ال عليه وسلم في وجه كل التحديات‪ ،‬ورفضه كل المغريات‪ ،‬وصلبته‬ ‫في كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكار م الخلق ـ قويت شبهتهم في كونه‬

‫رسوًل حًق اـ‪ ،‬فقرروا أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما نصحهم النضر‬ ‫بن الحارث بما سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إلى يهود المدينة‪ ،‬فأتاهم فقال أحبارهم‪ :‬سلوه‬ ‫عن ثلث‪ ،‬فإن أخبر فهو نبى مرسل‪ ،‬وإل فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الول‪،‬ما كان‬

‫أمرهم؟ فإن لهم حديًثا عجًبا ‪ ،‬وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬ما كان نبؤه؟‬ ‫وسلوه عن الروح‪ ،‬ما هي؟‬

‫فلما قد م مكة قال‪ :‬جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد‪ ،‬وأخبرهم بما قاله اليهود‪ ،‬فسألت قريش رسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم عن المور الثلثة‪ ،‬فنزلت بعد أيا م سور ة الكهف‪ ،‬فيها قصة أولئك الفتية‪ ،‬وهم‬

‫أصحاب الكهف‪ ،‬وقصة الرجل الطواف‪ ،‬وهو ذو القرنين‪ ،‬ونزل الجواب عن الروح في سور ة السراء‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وتبين لقريش أنه صلى ال عليه وسلم على حق وصدق‪ ،‬ولكن أبي الظالمون إل كفوًرا‪.‬‬ ‫هذه نبذ ة خفيفة مما واجه به المشركون دعو ة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد مارسوا كل ذلك‬

‫جنبا إلى جنب‪ ،‬متنقلين من طور إلى طور‪ ،‬ومن دور إلى دور‪ .‬فمن شد ة إلى لين‪ ،‬ومن لين إلى شد ة‪،‬‬

‫ومن جدال إلى مساومة‪ ،‬ومن مساومة إلى جدال‪ ،‬ومن تهديد إلى ترغيب‪ ،‬ومن ترغيب إلى تهديد‪،‬‬

‫كانوا يثورون ثم يخورون‪ ،‬ويجادلون ثم يجاملون‪ ،‬وينازلون ثم يتنازلون‪ ،‬ويوعدون ثم يرغبون‪ ،‬كأنهم‬ ‫كانوا يتقدمون ويتأخرون‪ ،‬ل يقر لهم قرار‪ ،‬ول يعجبهم الفرار‪ ،‬وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط‬ ‫الدعو ة السلمية‪ ،‬ولَّم َش ْعـ ِ‬ ‫ثـ الكفر‪ ،‬ولكنهم بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين‪،‬‬

‫ولم يبق أمامهم إل السيف‪ ،‬والسيف ل يزيد الفرقة إل شد ة‪ ،‬ول ينتج إل عن تناحر يستأصل الشأفة‪،‬‬ ‫فاحتاروا ماذا يفعلون‪.‬‬

‫موقف أبي طالب وعشيرته‬ ‫أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى ال عليه وسلم لهم ليقتلوه‪ ،‬ثم رأي في‬ ‫تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أبي معيط‪ ،‬وأبو‬

‫جهل بن هشا م وعمر بن الخطاب ـ جمع بني هاشم وبني المطلب‪ ،‬ودعاهم إلى القيا م بحفظ النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأجابوه إلى ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ َح ِمـيّـًة للجوار العربي‪ ،‬وتعاقدوا‬ ‫وتعاهدوا عليه عند الكعبة‪ .‬إل ما كان من أخيه أبي لهب‪ ،‬فإنه فارقهم‪ ،‬وكان مع قريش‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المقاطعة العامة‬ ‫ميثاق الظلم والعدوان‬

‫ثلثة أعوا م في شعب أبي طالب‬ ‫نقض صحيفة الميثاق‬

‫آخر وفد قريش إلي أبي طالب‬

‫ميثاق الظلم والعدوان‬ ‫زادت حير ة المشركين إذ نفدت بهم الحيل‪ ،‬ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ نبى‬

‫صـ ِ‬ ‫بـ‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم والقيا م دونه‪ ،‬كائًنا ما كان‪ ،‬فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادى الُم َحـ ّ‬ ‫فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أل يناكحوهم‪ ،‬ول يبايعوهم‪ ،‬ول يجالسوهم‪ ،‬ول يخالطوهم‪ ،‬ول‬ ‫يدخلوا بيوتهم‪ ،‬ول يكلموهم‪ ،‬حتى يسلموا إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم للقـتل‪ ،‬وكتـبوا بذلك‬ ‫صحيـفـة فيها عهود ومواثيق ‏)أل يقبلوا من بني هاشم صلًح اـ أبًد اـ‪ ،‬ول تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه‬

‫للقتل(‪ .‬قال ابن القيم‪ :‬يقال‪ :‬كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم‪ ،‬ويقال‪ :‬نضر بن الحارث‪،‬‬ ‫ت يده‪.‬‬ ‫والصحيح أنه بَِغيض بن عامر بن هاشم‪ ،‬فدعا عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم فَ ُ‬ ‫ش لّـ ْ‬

‫تم هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة‪ ،‬فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم ـ‬ ‫إل أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب‪ ،‬وذلك فيما يقال‪ :‬ليلة هلل المحر م سنة سبع من البعثة‪.‬‬ ‫وقد قيل غير ذلك‪.‬‬ ‫ثلثة أعوا م في شعب أبي طالب‬ ‫واشتد الحصار‪ ،‬وقطعت عنهم المير ة والماد ة‪ ،‬فلم يكن المشركون يتركون طعاًماـ يدخل مكة ول بيًعا إل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بادروه فاشتروه‪ ،‬حتى بلغهم الجهد‪ ،‬والتجأوا إلى أكل الوراق والجلود‪ ،‬وحتى كان يسمع من وراء‬

‫الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع‪ ،‬وكان ل يصل إليهم شيء إل سًرا‪ ،‬وكانوا ل‬ ‫يخرجون من الشعب لشتراء الحوائج إل في الشهر الحر م‪ ،‬وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من‬ ‫خارجها‪ ،‬ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى ل يستطيعون شراءها‪.‬‬

‫وكان حكيم بن حزا م ربما يحمل قمًح اـ إلى عمته خديجة رضي ال عنها وقـد تعـرض لـه مر ة أبو جهل‬ ‫فتعلق به ليمنعه‪ ،‬فتدخل بينهما أبو البخترى‪ ،‬ومكنه من حمل القمح إلى عمته‪.‬‬ ‫وكان أبو طالب يخاف على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يضطجع على فراشه‪ ،‬حتى يرى ذلك من أراد اغتياله‪ ،‬فإذا نا م الناس‬

‫أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمره أن يأتى‬

‫بعض فرشهم‪.‬‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيا م الموسم‪ ،‬فيلقون الناس‪ ،‬ويدعونهم‬ ‫إلى السل م‪ ،‬وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لهب‪.‬‬ ‫نقض صحيفة الميثاق‬

‫مر عامان أو ثلثة أعوا م والمر على ذلك‪ ،‬وفي المحر م سنة عشر من النبو ة نقضت الصحيفة وفك‬ ‫الحصار؛ وذلك أن قريًش اـ كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له‪ ،‬فسعى في نقض الصحيفة من كان‬

‫كارًه اـ لها‪.‬‬

‫وكان القائم بذلك هشا م بن عمرو من بني عامر بن لؤى ـ وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفًيا‬ ‫بالليل بالطعا م ـ فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومى ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ‬ ‫وقال‪ :‬يا زهير‪ ،‬أرضيت أن تأكل الطعا م‪ ،‬وتشرب الشراب‪ ،‬وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال‪ :‬ويحك‪ ،‬فما‬

‫أصنع وأنا رجل واحد؟ أما وال لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها‪ ،‬قال‪ :‬قد وجدت رجًل‪ .‬قال‪:‬‬ ‫فمن هو؟ قال‪ :‬أنا‪ .‬قال له زهير‪ :‬ابغنا رجًل ثالًثا ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فذهب إلى المطعم بن عدى‪ ،‬فذكره أرحا م بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف‪ ،‬ولمه على موافقته‬

‫لقريش على هذا الظلم‪ ،‬فقال المطعم‪ :‬ويحك‪ ،‬ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد‪ ،‬قال‪ :‬قد وجدت ثانًيا‪،‬‬ ‫قال‪ :‬من هو؟ قال‪ :‬أنا‪ .‬قال‪ :‬ابغنا ثالًثا ‪ .‬قال‪ :‬قد فعلت‪ .‬قال‪ :‬من هو؟ قال‪ :‬زهير بن أبي أمية‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ابغنا رابًعا‪.‬‬

‫فذهب إلى أبي البخترى بن هشا م‪ ،‬فقال له نحًو اـ مما قال للمطعم‪ ،‬فقال‪ :‬وهل من أحد يعين على‬ ‫هذا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬من هو؟ قال زهير بن أبي أمية‪ ،‬والمطعم بن عدى‪ ،‬وأنا معك‪ ،‬قال‪ :‬ابغنا خامًس اـ‪.‬‬ ‫فذهب إلى زمعة بن السود بن المطلب بن أسد‪ ،‬فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم‪ ،‬فقال له‪ :‬وهل على‬ ‫هذا المر الذي تدعونى إليه من أحد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم سمى له القو م‪ ،‬فاجتمعوا عند الَح ُجـوـن‪ ،‬وتعاقدوا‬ ‫على القيا م بنقض الصحيفة‪ ،‬وقال زهير‪ :‬أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم‪.‬‬

‫فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم‪ ،‬وغدا زهير عليه حلة‪ ،‬فطاف بالبيت سبًعا‪ ،‬ثم أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫يا أهل مكة‪ ،‬أنأكل الطعا م ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى‪ ،‬ل يباع ول يبتاع منهم؟ وال ل أقعد حتى‬ ‫تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‪.‬‬ ‫قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد‪ :‬كذبت‪ ،‬وال ل تشق‪.‬‬ ‫فقال زمعة بن السود‪ :‬أنت وال أكذب‪ ،‬مارضينا كتابتها حيث كتبت‪.‬‬ ‫قال أبو البخترى‪ :‬صدق زمعة‪ ،‬ل نرضى ما كتب فيها‪ ،‬ول نقر به‪.‬‬ ‫قال المطعم بن عدى‪ :‬صدقتما‪ ،‬وكذب من قال غير ذلك‪ ،‬نبرأ إلى ال منها ومما كتب فيها‪.‬‬ ‫وقال هشا م بن عمرو نحًو اـ من ذلك‪.‬‬ ‫ش وـِور فيه بغير هذا المكان‪.‬‬ ‫فقال أبو جهل‪ :‬هذا أمر قضى بليل‪ ،‬وتُ ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأبو طالب جالس في ناحية المسجد‪ ،‬إنما جاءهم لن ال كان قد أطلع رسوله صلى ال عليه وسلم‬ ‫على أمر الصحيفة‪ ،‬وأنه أرسل عليها الرضة‪ ،‬فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إل ذكر ال‬

‫عز وجل‪ ،‬فأخبر بذلك عمه‪ ،‬فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا‪ ،‬فإن كان كاذًبا‬ ‫خلينا بينكم وبينه‪ ،‬وإن كان صادًقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد أنصفت‪.‬‬ ‫وبعد أن دار الكل م بين القو م وبين أبي جهل‪ ،‬قا م المطعم إلى الصحيفة ليشقها‪ ،‬فوجد الرضة قد‬ ‫أكلتها إل ‏)باسمك ال م(‪ ،‬وما كان فيها من اسم ال فإنها لم تأكله‪.‬‬

‫ثم نقض الصحيفة وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ومن معه من الشعب‪ ،‬وقد رأي المشركون آية‬ ‫ضوـا َو يـَُقوـُلوا ِس ْح ـٌرـّمْس تَـِم ّرـ{‬ ‫عظيمة من آيات نبوته‪ ،‬ولكنهم ـ كما أخبر ال عنهم ‏} َوإِـن يـَرْوـاـ آيًَة يـُْع ِرـ ُ‬ ‫‏]القمر‪ [2:‬ـ أعرضوا عن هذه الية وازدادوا كفًرا إلى كفرهم ‪.‬‬ ‫آخر وفد قريش إلي أبي طالب‬ ‫خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من الشعب‪ ،‬وجعل يعمل على شاكلته‪ ،‬وقريش وإن كانوا قد تركوا‬ ‫القطيعة‪ ،‬لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين والصد عن سبيل ال ‪ ،‬وأما‬

‫أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه‪ ،‬لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه‪ ،‬وكانت الل م والحوادث‬ ‫الضخمة المتوالية منذ سنوات ـ لسيما حصار الشعب ـ قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه‪ ،‬فلم‬

‫يمض على خروجه من الشعب إل أشهر معدودات‪ ،‬وإذا هو يلحقه المرض ويلح به‪ ،‬وحينئذ خاف‬ ‫المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه‪ ،‬فحاولوا مر ة أخرى أن‬

‫يفاوضوا النبي صلى ال عليه وسلم بين يديه‪ ،‬ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك‪ .‬فقاموا بوفاد ة‬ ‫هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب‪.‬‬ ‫قال ابن إسحاق وغيره‪ :‬لما اشتكى أبو طالب‪ ،‬وبلغ قريًش اـ ثقله‪ ،‬قالت قريش بعضها لبعض‪ :‬إن حمز ة‬ ‫وعمر قد أسلما‪ ،‬وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها‪ ،‬فانطلقوا بنا إلى أبي طالب‪ ،‬فليأخذ على‬ ‫ابن أخيه‪ ،‬وليعطه منا‪ ،‬وال ما نأمن أن يبتزونا أمرنا‪ ،‬وفي لفظ‪ :‬فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إليه شيء فتعيرنا به العرب‪ ،‬يقولون‪ :‬تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه‪.‬‬ ‫مشوا إلى أبي طالب فكلموه‪ ،‬وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬وأبو جهل بن هشا م‪،‬‬

‫وأمية بن خلف‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬في رجال من أشرافهم ـ وهم خمسة وعشرون تقريًبا ـ فقالوا‪ :‬يا‬ ‫أبا طالب‪ ،‬إنك منا حيث قد علمت‪ ،‬وقد حضرك ما ترى‪ ،‬وتخوفنا عليك‪ ،‬وقد علمت الذي بيننا وبين‬

‫ابن أخيك‪ ،‬فادعه فخذ له منا‪ ،‬وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه‪ ،‬وليدعـنا وديننا وندعه ودينه‪ ،‬فبعث‬ ‫أبو طالب‪ ،‬فجاءه فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬هؤلء أشراف قومك‪ ،‬قد اجتمعوا لك ليعطوك‪ ،‬وليأخذوا منك‪ ،‬ثم‬

‫أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عد م تعرض كل فريق للخر‪ .‬فقال لهم رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ :‬‏)أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها‪ ،‬ملكتم بها العرب‪ ،‬ودانت لكم بها العجم( ‪ ،‬وفي لفظ‬

‫أنه قال مخاطًبا لبي طالب‪ :‬‏)إني أريدهم على كلمة واحد ة يقولونها تدين لهم بها العرب‪ ،‬وتؤدى إليهم‬ ‫بها العجم الجزية(‪ ،‬وفي لفظ آخر قال‪ :‬‏)أي عم‪ ،‬أفل أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟( قال‪ :‬وإل م‬ ‫تدعوهم؟ قال‪ :‬‏)أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب‪ ،‬ويملكون بها العجم(‪ ،‬ولفظ رواية‬

‫ابن إسحاق‪ :‬‏)كلمة واحد ة تعطونها تملكون بها العرب‪ ،‬وتدين لكم بها العجم(‪ ،‬فلما قال هذه المقالة‬

‫توقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحد ة النافعة إلى هذه الغاية والحد‪ .‬ثم قال أبو‬ ‫جهل‪ :‬ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها‪ ،‬قال‪ :‬تقولون‪ :‬‏)ل إله إل ال ‪ ،‬وتخلعون ما تعبدون من‬

‫دونه(‪ .‬فصفقوا بأيديهم‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬أتريد يا محمد أن تجعل اللهة إلًه اـ واحًد اـ؟ إن أمرك لعجب‪.‬‬

‫ثم قال بعضهم لبعض‪ :‬إنه وال ما هذا الرجل بمعطيكم شيًئا مما تريدون‪ ،‬فانطلقوا وامضوا على دين‬ ‫آبائكم‪ ،‬حتى يحكم ال بينكم وبينه‪ ،‬ثم تفرقوا‪.‬‬ ‫وفي هؤلء نزل قوله تعالى‪ :‬‏}ص َواـلُْقْر آـِن ِذ يـ الّذْك ِرـ بَِل الِّذ يـَن َك َفـُرـوا ِفي ِع ّزـٍ ة َو ِشـ َق ـاـٍقَك ْمـ أَْه لَـْك نَــا ِم نـ‬ ‫ت ـ ـِح يـَن َمنَـا ٍ‬ ‫ص َو َعـِج بُــوا َأن َج اـءُه مـ ّمنِذ ٌرـ ّمنـُْه ْمـ َو قَـاَل الَْك اـفُِروَن َه َذـاـ َس اـِح ٌر ـ‬ ‫قـَْبلِ​ِه مـ ّمنـ قـَْرٍنـ فـَناَدْوـاـ َوَل َ‬ ‫ص بِـُروا َعَلى‬ ‫ب َواـنطَلَ​َق الَْم َلُـ ِم نـُْه ْمـ أَِن اْم ُ‬ ‫ب أَ​َج َعـَل اْل لِـَـه ةَـإِلًَه اـ َواـِح ًد ـاـإِّن َه َذـاـ لَ َ‬ ‫شـوـا َواـ ْ‬ ‫ش ْيـ ٌءـ عَُج اـ ٌ‬ ‫َك ّذـاـ ٌ‬ ‫ش ْيـ ٌءـ يـَُراُد َماـ َس ِمـْعـنَـا بَِه َذـاـ ِفي الِْم لّـِة اْل ِخ ــَر ـإِ ةْن َه َذـاـ إِّل اْخ تِـَل ٌق{ـ ـ ‏]ص‪.[7 :1:‬‬ ‫آلَِه تِـُك ْمـ إِّن َه َذـاـ لَ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عــا م الح ــزن‬ ‫وفا ة أبي طالب‬

‫خديجة إلى رحمة ال‬

‫تراكم الحزان‬

‫الزواج بسود ة رضي ال عنها‬ ‫عوامل الصبر والثبات‬ ‫وفا ة أبي طالب‬

‫ألح المرض بأبي طالب‪ ،‬فلم يلبث أن وافته المنية‪ ،‬وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبو ة‪ ،‬بعد‬ ‫الخروج من الشعب بستة أشهر‪ .‬وقيل‪ :‬توفي في رمضان قبل وفا ة خديجة رضي ال عنها بثلثة أيا م‪.‬‬ ‫وفي الصحيح عن المسيب‪ :‬أن أبا طالب لما حضرته الوفا ة دخل عليه النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وعنده أبو جهل‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أي عم‪ ،‬قل‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬كلمة أحاج لك بها عند ال ( فقال أبو جهل‬

‫وعبد ال بن أبي أمية‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزال يكلماه حتى قال آخر شيء‬ ‫كلمهم به‪ :‬على ملة عبد المطلب‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لستغفرن لك ما لم أنه عنـه(‪،‬‬ ‫فـنزلت‪:‬‏} َماـ َك اـَن ِللنّبِّي َواـلِّذ يـَن آَمنُـواْ َأن يَْس تـَْغِف ُرـواْ لِْلُم ْشـِرـِكيَن َو لَـْو َك اـُنواْ أُْو لِـي قـُْربَـى ِم نـ بـَْعِدـ َماـ تَـبـَيَّن لَُه ْمـ‬ ‫ت{ ‏]القصص‪.[56 :‬‬ ‫ب الَْج ِحـ يـِم{ ‏]التوبة‪ [113:‬ونزلت‪ :‬‏}إِنّ َ‬ ‫ك َل تـَْه ِدـيـ َمْنـ أَْح بَـْب َ‬ ‫َأنـُّه ْمـ أَ ْ‬ ‫ص َحـاـ ُ‬ ‫ول حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع‪ ،‬فقد كان الحصن الذي احتمت به‬

‫الدعو ة السلمية من هجمات الكبراء والسفهاء‪ ،‬ولكنه بقى على ملة الشياخ من أجداده‪ ،‬فلم يفلح‬ ‫كل الفلح‪.‬‬ ‫ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب‪ ،‬قال للنبى صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما أغنيت عن عمك‪ ،‬فإنه‬

‫ضـاـح من نار‪ ،‬ولول أنا لكان في الدرك السفل من النار(‬ ‫ضْحـ َ‬ ‫كان يحوطك ويغضب لك؟ قال‪ :‬‏)هو في َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى ال عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال‪ :‬‏)لعله تنفعه‬ ‫شفاعتى يو م القيامة‪ ،‬فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه(‬

‫خديجة إلى رحمة ال‬ ‫وبعد وفا ة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلثة أيا م ـ على اختلف القولين ـ توفيت أ م المؤمنين خديجة‬ ‫الكبرى رضي ال عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشر ة من النبو ة‪ ،‬ولها خمس وستون‬ ‫سنة على أشهر القوال‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره‪.‬‬

‫إن خديجة كانت من نعم ال الجليلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بقيت معه ربع قرن تحن‬ ‫عليه ساعة قلقه‪ ،‬وتؤازره في أحرج أوقاته‪ ،‬وتعينه على إبلغ رسالته‪ ،‬وتشاركه في مغار م الجهاد‬

‫المر‪،‬وتواسيه بنفسها ومالها‪ ،‬يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)آمنت بى حين كفر بى الناس‪،‬‬

‫وصدقتنى حين كذبني الناس‪ ،‬وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس‪ ،‬ورزقنى ال ولدها وحر م ولد‬

‫غيرها(‬

‫وفي الصحيح عن أبي هرير ة قال‪ :‬أتى جبريل النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هـذه‬ ‫خديجة قـد أتت‪ ،‬معها إناء فيه إدا م أو طعا م أو شراب‪ ،‬فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السل م من ربها‪،‬‬ ‫صٍ‬ ‫بـ‪.‬‬ ‫بـ فيه ول نَ َ‬ ‫وبشرها ببيت في الجنة من قَ َ‬ ‫بـ ل َ‬ ‫ص َ‬ ‫ص َخـ َ‬ ‫تراكم الحزان‬ ‫وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلل أيا م معدود ة‪ ،‬فاهتزت مشاعر الحزن واللم في قلب رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه‪ .‬فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والذى بعد موت أبي طالب‪ ،‬فازداد غًم اـ على غم‪ ،‬حتى يئس منهم‪ ،‬وخرج إلى الطائف رجـاء أن‬

‫يستجيبوا لدعوتـه‪ ،‬أو يؤووه وينصـروه على قومــه‪ ،‬فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر ناصًرا‪ ،‬بل آذوه أشد الذى‪،‬‬ ‫ونالوا منه ما لم ينله قومـه‪.‬‬

‫وكما اشتدت وطأ ة أهل مكة على النبي صلى ال عليه وسلم اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو‬ ‫بكر الصديق رضي ال عنه إلى الهجر ة عن مكة‪ ،‬فخرج حتى بلغ بـَْركـ الِغَم اـد‪ ،‬يريد الحبشة‪ ،‬فأرجعه‬ ‫ابن الّد غُـّنة في جواره‪.‬‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول ال صلى ال عليه وسلم من الذى ما لم‬

‫تطمع به في حيا ة أبي طالب‪ ،‬حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراًبا‪ ،‬ودخل بيته‬ ‫والتراب على رأسه‪ ،‬فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى‪ ،‬ورسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم يقول لها‪ :‬‏)ل تبكى يابنية‪ ،‬فإن ال مانع أباك(‪ .‬قال‪ :‬ويقول بين ذلك‪ :‬‏)ما نالت منى‬ ‫قريش شيًئا أكرهه حتى مات أبو طالب(‪.‬‬ ‫ولجل توالى مثل هذه الل م في هذا العا م سمى بعا م الحزن‪ ،‬وعرف به في السير ة والتاريخ‪.‬‬ ‫الزواج بسود ة رضي ال عنها‬

‫وفي شوال من هذه السنة ـ سنة ‪ 10‬من النبو ة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم سود ة بنت زمعة‪،‬‬

‫كانت ممن أسلم قديًم اـ وهاجرت الهجر ة الثانية إلى الحبشة‪ ،‬وكان زوجها السكران بن عمرو‪ ،‬وكان قد‬ ‫أسلم وهاجر معها‪ ،‬فمات بأرض الحبشة‪ ،‬أو بعد الرجوع إلى مكة‪ ،‬فلما حلت خطبها رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم وتزوجها‪ ،‬وكانت أول امرأ ة تزوجها بعد وفا ة خديجة‪ ،‬وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة‬ ‫رضي ال عنها أخيًرا‪.‬‬ ‫عوامل الصبر والثبات‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهنا يقف الحليم حيران‪ ،‬ويتساءل عقلء الرجال فيما بينهم‪ :‬ما هي السباب والعوامل التي بلغت‬

‫بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى‪ ،‬والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الضطهادات‬

‫التي تقشعر لسماعها الجلود‪ ،‬وترجف لها الفئد ة؟ ونظًرا إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير‬

‫إلى بعض هذه العوامل والسباب إشار ة عابر ة بسيطة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ اليمــان بال ‪:‬‬

‫إن السبب الرئيسي في ذلك أوًل وبالذات هو اليمان بال وحده ومعرفته حق المعرفة‪ ،‬فاليمان الجاز م‬ ‫إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ول يطيش‪ ،‬وإن صاحب هذا اليمان المحكم وهذا اليقين‬

‫الجاز م يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت ـ يراها في جنب إيمانه ـ طحالب عائمة‬ ‫فوق َس ْيـل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلع الحصينة‪ ،‬فل يبالى بشيء من تلك المتاعب أما م‬

‫س‬ ‫ما يجده من حلو ة إيمانه‪ ،‬وطراو ة إذعانه‪ ،‬وبشاشة يقينه ‏} فَأَّما الّزبَُد فـيَْذ َهـ ُ‬ ‫بـ ُج َفـاـء َوأَـّماـ َماـ َينَف ُعـ الّنا َ‬ ‫ثـ ِفي الَْر ِ‬ ‫ض{ ‏]الرعد‪.[17:‬‬ ‫فـيَْم ُكـ ُ‬ ‫ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابر ة وهي‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ قياد ة تهوى إليها الفئد ة‪:‬‬

‫فقد كان النبي صلى ال عليه وسلم ـ وهو القائد العلى للمة السلمية‪ ،‬بل وللبشرية جمعاء ـ يتمتع‬ ‫من جمال الخلق‪ ،‬وكمال النفس‪ ،‬ومكار م الخلق‪ ،‬والشيم النبيلة‪ ،‬والشمائل الكريمة‪ ،‬بما تتجاذب إليه‬ ‫ب لم يرزق بمثلها بشر‪ .‬وكان على‬ ‫القلوب وتتفإني دونه النفوس‪ ،‬وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبّ ُ‬ ‫أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل‪ .‬وكان من العفة والمانة والصدق‪ ،‬ومن جميع سبل الخير‬ ‫على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضًل عن محبيه ورفقائه‪ ،‬ل تصدر منه كلمة إل ويستيقنون‬ ‫صدقها‪.‬‬

‫اجتمع ثلثة نفر من قريش‪ ،‬وكان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سًرا عن صاحبيه‪ ،‬ثم انكشف‬ ‫سرهم‪ ،‬فسأل أحدهم أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلثة‪ :‬ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال‪ :‬ماذا‬

‫سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا‪ ،‬وحملوا فحملنا‪ ،‬وأعطوا فأعطينا‪ ،‬حتى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إذا تحاذينا على الركب‪ ،‬وكنا َك َفـَرـسْى ِرَه اـن قالوا‪ :‬لنا نبى يأتيه الوحى من السماء‪ ،‬فمتى ندرك هذه؟‬ ‫وال ل نؤمن به أبًد اـ‪ ،‬ول نصدقه‪.‬‬

‫وكان أبو جهل يقول‪ :‬يا محمد‪ ،‬إنا ل نكذبك ولكن نكذب بما جئت به‪ ،‬فأنزل ال ‪:‬‏} فَِإنـُّهْمـ لَ‬ ‫ك و لَـِكّن الّظالِ​ِم يـن ِبآيا ِ‬ ‫ت ال ِ يَْج َحـُدـوـَن{ ‏]النعا م‪.[33:‬‬ ‫َ َ‬ ‫يَُك ّذـبُـونَ َ َ‬ ‫وغمزه صلى ال عليه وسلم الكفار يوًماـ ثلث مرات فقال في الثالثة‪ :‬‏)يا معشر قريش‪ ،‬جئتكم بالذبح(‪،‬‬ ‫فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداو ة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده‪.‬‬

‫ولما ألقوا عليه َس لَـ َج ُزـوٍر وهو ساجد‪ ،‬دعا عليهم‪ ،‬فذهب عنهم الضحك‪ ،‬وساورهم الهم والقلق‪،‬‬ ‫وأيقنوا أنهم هالكون‪.‬‬

‫ودعا على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأي السد قال‪:‬‬ ‫قتلنى وال ـ محمد ـ وهو بمكة‪.‬‬

‫وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل‪ .‬فقال‪ :‬‏)بل أنا أقتلك إن شاء ال (‪ ،‬فلما طعن أبًيا في عنقه يو م أحد‬ ‫ـ وكان خدًش اـ غير كبير ـ كان أبي يقول‪ :‬إنه قد كان قال لى بمكة‪ :‬أنا أقتلك‪ ،‬فو ال لو بصق على‬ ‫لقتلني ـ وسيأتي‪.‬‬

‫وقال سعد بن معاذ ـ وهو بمكة ـ لمية بن خلف‪ :‬لقد سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫‏)إنهم ـ أي المسلمين ـ قاتلوك( ففزع فزًعا شديًد اـ‪ ،‬وعهد أل يخرج عن مكة‪ ،‬ولما ألجأه أبو جهل‬

‫للخروج يو م بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار‪ ،‬وقالت له امرأته‪ :‬يا أبا صفوان‪ ،‬وقد نسيت‬

‫ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال‪ :‬ل وال ما أريد أن أجوز معهم إل قريًبا‪.‬‬ ‫هكذا كان حال أعدائه صلى ال عليه وسلم‪،‬أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس‪،‬‬

‫وشغل منهم مكان القلب والعين‪ ،‬فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الُح دـور‪ ،‬وكانت‬

‫النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فصورته هيولى كل جسم ** ومغناطيس أفئـد ة الرجــال‬ ‫وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ول يخدش له ظفر أو يشاك‬ ‫شوكة‪.‬‬ ‫وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يوًماـ بمكة‪ ،‬وضرب ضرًبا شديًد اـ‪ ،‬دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه‬ ‫بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه‪ ،‬ونزا على بطن أبي بكر‪ ،‬حتى ما يعرف وجهه من أنفه‪ ،‬وحملت بنو‬ ‫تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله‪ ،‬ول يشكون في موته‪ ،‬فتكلم آخر النهار فقال‪ :‬ما فعل رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه‪ ،‬ثم قاموا وقالوا لمه أ م الخير‪ :‬انظرى أن‬

‫تطعميه شيًئا أو تسقيه إياه‪ ،‬فلما خلت به ألحت عليه‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم؟ فقالت‪ :‬وال ل علم لى بصاحبك‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبى إلى أ م جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه‪،‬‬ ‫فخرجت حتى جاءت أ م جميل فقالت‪ :‬إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد ال ‪ ،‬قالت‪ :‬ما أعرف أبا‬

‫بكر ول محمد بن عبد ال ‪ ،‬وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فمضت‬ ‫معها حتى وجدت أبا بكر صريًعا دنًف اـ‪ ،‬فدنت أ م جميل وأعلنت بالصياح‪ ،‬وقالت‪ :‬وال إن قوًماـ نالوا‬

‫هذا منك لهل فسق وكفر‪ ،‬وإني لرجو أن ينتقم ال لك منهم‪ ،‬قال‪ :‬فما فعل رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم؟ قالت‪ :‬هذه أمك تسمع‪ ،‬قال‪ :‬فل شيء علىك منها‪ ،‬قالت‪ :‬سالم صالح‪ ،‬فقال‪ :‬أين هو؟ قالت‪:‬‬

‫في دار ابن الرقم‪ ،‬قال‪ :‬فإن ل على أل أذوق طعاًماـ ول أشرب شراًبا أو آتى رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فأمهلتا حتى إذا هدأت الّرْج لــ‪ ،‬وسكن الناس خرجتا به‪ ،‬يتكئ عليهما‪ ،‬حتى أدخلتـاه على رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وسننقل نوادر الحب والتفإني في مواضع شتى من هذا الكتاب‪ ،‬ول سيما ما وقع في يو م أحد‪ ،‬وما وقع‬ ‫من خبيب وأمثاله‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الشعور بالمسئولية‪:‬‬

‫فكان الصحابة يشعرون شعوًرا تاًماـ ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمة الضخمة‪ ،‬وأن هذه‬

‫المسئولية ل يمكن عنها الحياد والنحراف بحال‪ ،‬فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد‬

‫وخامة وأكبر ضرًرا عما هم فيه من الضطهاد‪ ،‬وأن الخسار ة التي تلحقهم ـ وتلحق البشرية جمعاء ـ بعد‬ ‫هذا الفرار ل يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 4‬ـ اليمـان بالخـر ة‪:‬‬ ‫وهو مما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالمسئولية ـ فقد كانوا على يقين جاز م بأنهم يقومون لرب‬

‫العالمين‪ ،‬ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬فإما إلى النعيم المقيم‪ ،‬وإما إلى عذاب‬

‫خالد في سواء الجحيم‪ ،‬فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء‪ ،‬يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه‪،‬‬ ‫وكانوا ‏}يـُْؤتُـوَن َماـ آتَوا ّوقـُ​ُلوبـُه ْمـ َوِج لَ ـةٌ َأنـُّه ْمـ إَِلى َربِّه ْمـ َراِج عُــوَن{ ‏]المؤمنون‪ ،[60:‬وكانوا يعرفون أن الدنيا‬ ‫بعذابها ونعيمها ل تساوى جناح بعوضة في جنب الخر ة‪ ،‬وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب‬

‫الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها باًل‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ الق ــرآن‪:‬‬

‫وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور واليات تقيم الحجج والبراهين على‬

‫صدق مبادئ السل م ـ التي كانت الدعو ة تدور حولها ـ بأساليب منيعة خلبة‪ ،‬وترشد المسلمين إلى‬

‫أسس قدر ال أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشرى في العالم ـ وهو المجتمع السلمى ـ وتثير‬

‫مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد‪ ،‬تضرب لذلك المثال‪ ،‬وتبين لهم ما فيه من الحكم‬ ‫س تـُْه ُمـ الْبَأَْس اـء َواـل ّ‬ ‫ض ّرـاء َوُزـلِْزُلواْ‬ ‫‏}أَْ م َح ِسـ ْب ـتُْم َأن تَْد ُخـلُـواْ الَْج نّـَة َو لَـّم اـ يَأْتُِك مـ ّمثَُل الِّذ يـَن َخ لَـْو اْـ ِم نـ قـَْبلُِك مـ ّم ّ‬ ‫ب{ ‏]البقر ة‪ [ 214:‬‏}الم‬ ‫ص ُرـ ال ِ َأل إِّن نَ ْ‬ ‫َح تّـى يـَُقوـَل الّرُس وـُل َواـلِّذ يـَن آَمنُـواْ َمَعـهُ َمتَـى نَ ْ‬ ‫ص َرـ ال ِ قَِري ٌ‬ ‫ِ‬ ‫س َأن يـتُـَْرُك وـا َأن يـَُقوـلُوا آَمنّـا َو ُهـْمـ َل يـُْف تـَُنوَن َو لَـَق ْدـ فَـتـَّنا الِّذ يـَن ِم نـ قـَْبلِ​ِه ْمـ فـَ​َليـَْع لَـَم ّنـ ال ُ الِّذ يـَن‬ ‫أَ​َح سـ َ‬ ‫ب ـالّنا ُ‬ ‫صَدـقُـوا َو لَـيـَْع لَـَم ّنـ الَْك اـِذ بِـيَن{ ‏]العنكبوت‪.[3 :1:‬‬ ‫َ‬ ‫كما كانت تلك اليات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين رًداـ مفحًم اـ‪ ،‬ول تبقى لهم حيلة‪ ،‬ثم‬ ‫تحذرهم مر ة عن عواقب َوِخ يـَم ةـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ في جلء ووضوح‪ ،‬مستدلة بأيا م ال ‪،‬‬ ‫والشواهد التاريخية التي تدل على سنة ال في أوليائه وأعدائه‪ ،‬وتلطفهم مر ة‪ ،‬وتؤدى حق التفهيم‬ ‫والرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلل المبين‪.‬‬ ‫وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر‪ ،‬ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية‪ ،‬وكمال‬ ‫اللوهية‪ ،‬وآثار الرحمة والرأفة‪ ،‬وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنيًنا ل يقو م له أي عقبة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ٍ‬ ‫ض وـاـٍنوج نّـا ٍ‬ ‫ت لُّه ْمـ‬ ‫وكانت في طى هذه اليات خطابات للمسلمين‪ ،‬فيها ‏} يـُبَّشُرـُهْمـ َربـُّه مـ بَِرْح َمـةـّمْنـهُ َوِرـ ْ َ َ َ‬ ‫ِفيَه اـ نَِعيٌم ّمِق يـٌم{ ‏] التوبة‪ ،[ 21:‬وتصور لهم صور ة أعدائهم من الكفر ة الطغا ة الظالمين يحاكمون‬ ‫سـ َس َقـَرـ{ ‏]القمر‪.[48:‬‬ ‫ويصادرون‪ ،‬ثم ‏} يـَْوَ مـ يُْس َحـبُـوَن ِفي الّناِر َعَلى ُوُج وـِه ِهـْمـُذوُقوا َم ّ‬ ‫‪ 6‬ـ البشارات بالنجاح‪:‬‬

‫ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يو م لقوا فيه الشد ة والضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن‬ ‫الدخول في السل م ليس معناه جر المصائب والحتوف‪ ،‬بل إن الدعو ة السلمية تهدف ـ منذ أول‬

‫يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلء ونظامها الغاشم‪ ،‬وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على‬ ‫الرض‪ ،‬والسيطر ة على الموقف السياسي في العالم لتقود المة النسانية والجمعية البشرية إلى مرضا ة‬

‫ال ‪ ،‬وتخرجهم من عباد ة العباد إلى عباد ة ال ‪.‬‬

‫وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مر ة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي‬ ‫ضيقت الرض على المسلمين‪ ،‬وكادت تخنقهم وتقضى على حياتهم كانت تنزل اليات بما جرى بين‬

‫النبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم‪ ،‬وكانت تشتمل هذه اليات على ذكر‬ ‫الحوال التي تطابق تماًماـ أحوال مسلمى مكة وكفارها‪ ،‬ثم تذكر هذه اليات بما تمخضت عنه تلك‬ ‫الحوال من إهلك الكفر ة والظالمين‪ ،‬وإيراث عباد ال الصالحين الرض والديار‪ .‬فكانت في هذه‬ ‫القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل‪ ،‬ونجاح المسلمين مع نجاح الدعو ة‬ ‫السلمية‪.‬‬

‫تـ َك لِـَم تـَُنا لِ​ِعَباِد نَـا‬ ‫وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشار ة غلبة المؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪ :‬‏} َولَـَقْدـ َس بـَق ْ‬ ‫الْم رـسـلِـين ِإنـُّه مـ لَُه مـ الْم نـصوروَن و إِـّن ج نـَد نَـا لَُه مـ الَْغالِبوَن فـتـو ّلـ َعنـُْه مـ ح تّـى ِح يـٍن وأَـبْ ِ‬ ‫فـ‬ ‫ص ْرـُه ْمـفَ​َس ْوـ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُْ َ َ ْ ُ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ​َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ح الُْم نـَذ ِرـيَن{ ‏]الصافات‪[177 :171:‬‬ ‫يـْبُص ُرــوَن أَفَبَِعَذ اـبَِنا يَْس تـَْعجـ لُــوَن فَِإ ذَـا نـَزَل بَِس اـَح تـِه ْمـ فَ​َس اـء َ‬ ‫ص بَـا ُ‬ ‫ك َمْهـ ُزــوٌ م ّمَنـ اْلَْح َزــا ِ‬ ‫ب{ ‏]ص‪:‬‬ ‫‪،‬وقال‪ :‬‏} َسيـُْهَزـُ م الَْج ْمـُعـ َو يـَُو لّـوَن الّد بـَُر { ‏]القمر‪ ،[45:‬وقال‪ :‬‏} ُجنـٌد ّماـ ُه نَـالِ َ‬ ‫‪ .[11‬ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة‪ :‬‏} َواـلِّذيـَن َه اـَج ُرـواْ ِفي ال ِ ِم نـ بـَْع ِدـ َماـ ظُلُِم وـاْ لَُنبـَّو ئـَـنـُّه ْمـ ِفي‬ ‫الّد نـَْيا َح َسـنَـًة َوَلَْج ُرـ الِخ َرـِ ة أَْك بـَُر لَْو َك اـُنواْ يـَْع لَـُم وـَن { ‏]النحل‪ .[41:‬وسألوه عن قصة يوسف فأنزل ال‬ ‫س اـئِ​ِليَن { ‏]يوسف‪ .[7:‬أي فأهل مكة السائلون يلقون‬ ‫ت ّلل ّ‬ ‫فـ َو إِـْخ َوـتِـِه آَيا ٌ‬ ‫في طيها‪ :‬‏}لَّقْدـ َك اـَن ِفي ُيوُس َ‬ ‫ما لقى إخوانه من الفشل‪ ،‬ويستسلمون كاستسلمهم‪ ،‬وقال وهو يذكر الرسل‪ :‬‏} َوقَـاَل الِّذ يـَن َك َفـُرـواْ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لِرس لِـِه مـ لَنُْخ ِرـج نّـُك مـ ّمنـ أَر ِ‬ ‫ض نَــآ أَْو َلتـَُعوُدّن ِفي ِم لّـتَِنا فَأَْو َحـىـ إِلَْيِه ْمـ َربـُّه ْمـ َلنـُْه لِـَك ّنـ الّظالِ​ِم يـَن َو لَـنُْس ِكــنـَنّـُك ُمـ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ​ُ ْ‬ ‫ف َو ِعـيـِد{ ‏]إبراهيم‪.[14 ،13:‬وحينما كانت الحرب‬ ‫ف َمَقـاـِم يـ َوَخ اـ َ‬ ‫ك لَِم ْنـ َخ اـ َ‬ ‫ض ِم نـ بـَْع ِدـِهـْمـ َذلِ َ‬ ‫الَْر َ‬ ‫مشتعلة بين الفرس والرومان‪ ،‬وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين‪ ،‬والمسلمون يحبون غلبة‬ ‫الرومان لكونهم مؤمنين بال والرسل والوحى والكتب واليو م الخر‪ ،‬وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون‪،‬‬

‫أنزل ال بشار ة بغلبة الرو م في بضع سنين‪ ،‬ولكنه لم يقتصر على هذه البشار ة الواحد ة‪ ،‬بل صرح ببشار ة‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ص ِرـ ال { ‏]الرو م‪.[5 ،4 :‬‬ ‫حـ الُْم ْؤـمـنُـوَن بِنَ ْ‬ ‫أخرى‪ ،‬وهي نصر ال للمؤمنين حيث قال‪ :‬‏} َويـَْوَمـئـذ يـَْف َرـ ُ‬ ‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم نفسه يقـو م بمـثل هذه البشارات بين آونـة وأخـرى‪ ،‬فكـان إذا وافي‬ ‫الموسم‪ ،‬وقـا م بـين الناس في ُعكاظ‪ ،‬وَمَجـنّـة‪ ،‬وذى الَم َجـاـز لتبليغ الرسالة‪ ،‬لـم يكـن يبشرهم بالجـنة‬

‫فحسب‪ ،‬بل يقول لهم بكل صراحة‪ :‬‏)يأيها الناس‪ ،‬قولوا‪ :‬ل إله إل ال تفلحوا‪ ،‬وتملكوا بها العرب‪،‬‬ ‫وتدين لكم بها العجم‪ ،‬فإذا متم كنتم ملوًك اـ في الجنة(‪.‬‬

‫وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى ال عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا‪،‬‬

‫وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصل ة والسل م‪.‬‬

‫وكذلك ما أجاب به النبي صلى ال عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب‪ ،‬فقد صرح لهم أنه يطلب‬ ‫منهم كلمة واحد ة يعطونها تدين لهم بها العرب‪ ،‬ويملكون العجم‪.‬‬ ‫وقال خباب بن الرت‪ :‬أتيت النبي صلى ال عليه وسلم وهو متوسد برده وهو في ظل الكعبة‪ ،‬وقد‬

‫لقينا من المشركين شد ة‪ ،‬فقلت‪ :‬أل تدعو ال ‪ ،‬فقعد‪ ،‬وهو محمر وجهه‪ ،‬فقال‪ :‬‏)لقد كان من قبلكم‬ ‫ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه‪ ،‬وليتمن ال هذا المر‬ ‫حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إل ال ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه(‬

‫وفي رواية‪ :‬‏)ولكنكم تستعجلون(‬ ‫ولم تكن هذه البشارات مخفية مستور ة‪ ،‬بل كانت فاشية مكشوفة‪ ،‬يعلمها الكفر ة‪ ،‬كما كان يعلمها‬

‫المسلمون‪ ،‬حتى كان السود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم تغامزوا‬

‫بهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد جاءكم ملوك الرض الذين يرثون كسرى وقيصر‪ ،‬ثم يصفرون ويصفقون‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأما م هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا‪ ،‬مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ‬ ‫إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب‪،‬‬ ‫والمصائب التي تحيط بهم من كل الرجاء ليست إل‪ :‬‏)سحابة صيف عن قليل تقشع(‪.‬‬

‫هذا ولم يزل الرسول صلى ال عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب اليمان‪ ،‬ويزكى نفوسهم بتعليم‬ ‫الحكمة والقرآن‪ ،‬ويربيهم تربية دقيقة عميقة‪ ،‬يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح‪ ،‬ونقاء القلب‪،‬‬

‫ونظافة الخلق‪ ،‬والتحرر من سلطان الماديات‪ ،‬والمقاومة للشهوات‪ ،‬والنزوع إلى رب الرض والسموات‪،‬‬ ‫ويذكى جمر ة قلوبهم‪ ،‬ويخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬ويأخذهم بالصبر على الذى‪ ،‬والصفح‬

‫الجميل‪ ،‬وقهر النفس‪ .‬فازدادوا رسوًخ اـ في الدين‪،‬وعزوفا عن الشهوات‪ ،‬وتفانًيا في سبيل المرضا ة‪،‬‬ ‫ص اـ على العلم‪ ،‬وفقًه اـ في الدين‪ ،‬ومحاسبة للنفس‪ ،‬وقهًرا للنزعات وغلبة على‬ ‫وحنيًنا إلى الجنة‪ ،‬وحر ً‬ ‫العواطف‪ ،‬وتسيطًرا على الثائرات والهائجات‪ ،‬وتقيًد اـ بالصبر والهدوء والوقار‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المرحلة الثالثة‪ :‬دعـو ة السـل م خـارج مكـة‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم في الطائف‬ ‫في شوال سنة عشر من النبو ة ‏]في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة ‪ 619‬م[ خرج النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم إلى الطائف‪ ،‬وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميًل ‪ ،‬ـ ـسارها ماشًيا على قدميه جيئة وذهوًبا‪ ،‬ومعه‬ ‫موله زيد بن حارثة‪ ،‬وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى السل م‪ ،‬فلم تجب إليه واحد ة‬

‫منها‪.‬‬

‫فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلثة إخو ة من رؤساء ثقيف‪ ،‬وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو‬ ‫بن عمير الثقفي‪ ،‬فجلس إليهم ودعاهم إلى ال ‪ ،‬وإلى نصر ة السل م‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬هو يَْم ُرــط ثياب‬

‫الكعبة ‏]أي يمزقها[ إن كان ال أرسلك‪ .‬وقال الخر‪ :‬أما َوَج َدـ ال أحًد اـ غيرك‪ ،‬وقال الثالث‪:‬وال ل‬ ‫أكلمك أبًد اـ‪ ،‬إن كنت رسوًل لنت أعظم خطًرا من أن أرد عليك الكل م‪ ،‬ولئن كنت تكذب على ال‬

‫ما ينبغى أن أكلمك‪ .‬فقا م عنهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال لهم‪ :‬‏]إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا‬ ‫عني[‪.‬‬ ‫وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بين أهل الطائف عشر ة أيا م‪ ،‬ل يدع أحًد اـ من أشرافهم إل جاءه‬

‫وكلمه‪ ،‬فقالوا‪ :‬اخرج من بلدنا‪ .‬وأغروا به سفهاءهم‪ ،‬فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه‬ ‫ويصيحون به‪ ،‬حتى اجتمع عليه الناس‪ ،‬فوقفوا له ِس َم ـاـطَْين ‏]أي صفين[ وجعلوا يرمونه بالحجار ة‪،‬‬ ‫وبكلمات من السفه‪ ،‬ورجموا عراقيبه‪ ،‬حتى اختضب نعله بالدماء‪ .‬وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى‬ ‫أصابه ِش َج ـاـج في رأسه‪ ،‬ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على‬ ‫ثلثة أميال من الطائف‪ ،‬فلما التجأ إليه رجعوا عنه‪ ،‬وأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى ُح بـَْلة من‬ ‫عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار‪ .‬فلما جلس إليه واطمأن‪ ،‬دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على‬ ‫امتلء قلبه كآبة وحزًنا مما لقى من الشد ة‪ ،‬وأسًف اـ على أنه لم يؤمن به أحد‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ض ْعـفـ قـُّو تِـى‪ ،‬وقلة حيلتى‪ ،‬وهوإني على الناس‪ ،‬يا أرحم الراحمين‪ ،‬أنت رب‬ ‫‏)ال م إليك أشكو َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المستضعفين‪ ،‬وأنت ربي‪ ،‬إلى من تَِكُلنى ؟ إلى بعيد يـتَ​َج ّهـُمـنِـى؟ أ م إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن‬

‫بك علّي غضب فل أبالي‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪،‬‬

‫وصلح عليه أمر الدنيا والخر ة من أن تنزل بي غضبك‪ ،‬أو يحل علي َس َخـطُـك‪ ،‬لك العُْتَبى حتى ترضى‪،‬‬ ‫ول حول ول قو ة إل بك(‪.‬‬

‫فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما‪ ،‬فدعوا غلًماـ لهما نصرانًيا يقال له‪َ :‬عّد اـس‪ ،‬وقال له‪:‬خذ قطًف اـ‬ ‫من هذا العنب‪ ،‬واذهب به إلى هذا الرجل‪ .‬فلما وضعه بين يدى رسول ال صلى ال عليه وسلم مد يده‬

‫إليه قائًل‪ :‬‏)باسم ال ( ثم أكل‪.‬‬

‫فقال عداس‪ :‬إن هذا الكل م ما يقوله أهل هذه البلد‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)من أي‬ ‫البلد أنت؟ وما دينك؟ قال‪ :‬أنا نصراني من أهل ِنينـَو ىـ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬من قرية‬ ‫الرجل الصالح يونس بن َمتّـى(‪ .‬قال له‪ :‬وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏)ذاك أخي‪ ،‬كان نبًيا وأنا نبي(‪ ،‬فأكب عداس على رأس رسول ال صلى ال عليه وسلم ويديه‬ ‫ورجليه يقبلها‪.‬‬

‫فقال ابنا ربيعة أحدهما للخر‪ :‬أما غلمك فقد أفسده عليك‪ .‬فلما جاء عداس قال له‪ :‬ويحك ما هذا؟‬ ‫قال‪ :‬يا سيدى‪ ،‬ما في الرض شيء خير من هذا الرجل‪ ،‬لقد أخبرني بأمر ل يعلمه إل نبى‪ ،‬قال له‪:‬‬

‫ويحك يا عداس ‪ ،‬ل يصرفنك عن دينك‪ ،‬فإن دينك خير من دينه‪.‬‬

‫ورجع رسول ال صلى ال عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيًبا محزوًنا كسير‬ ‫القلب‪ ،‬فلما بلغ قرن المنازل بعث ال إليه جبريل ومعه ملك الجبال‪ ،‬يستأمره أن يطبق الخشبين على‬ ‫أهل مكة‪.‬‬

‫وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عرو ة بن الزبير‪ ،‬أن عائشة رضي ال عنها حدثته أنها‬ ‫قالت للنبى صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل أتى عليك يو م كان أشد عليك من يو م أحد؟ قال‪ :‬‏)لقيت من‬ ‫قوم ِ‬ ‫ك ما لقيت‪ ،‬وكان أشد ما لقيت منهم يو م العقبة‪ ،‬إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياِليل بن عبد‬

‫ُك لَـل‪ ،‬فلم يجبني إلى ما أردت‪ ،‬فانطلقت ـ وأنا مهمو م ـ على وجهي‪ ،‬فلم أستفق إل وأنا بَق ْرـِنـ الثعالب‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ـ وهو المسمى بَق ْرـِنـ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني‪ ،‬فنظرت فإذا فيها جبريل‪،‬‬

‫فناداني‪ ،‬فقال‪ :‬إن ال قد سمع قول قومك لك‪ ،‬وما ردوا عليك‪ ،‬وقد بعث ال إليك ملك الجبال‬

‫لتأمره بما شئت فيهم‪ .‬فناداني ملك الجبال‪ ،‬فسلم علّي ثم قال‪ :‬يا محمد‪ ،‬ذلك‪ ،‬فما شئت‪ ،‬إن شئت‬ ‫أن أطبق عليهم الخشبين ـ أي لفعلت‪ ،‬والخشبان‪ :‬هما جبل مكة‪ :‬أبو قـبُـَْيس والذي يقابله‪ ،‬وهو‬ ‫قـَُعْيِق َعـان ـ قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬بل أرجو أن يخرج ال عز وجل من أصلبهم من يعبد ال‬ ‫عز وجل وحده ل يشرك به شيئا(‪.‬‬

‫وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى ال عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذ ة‪ ،‬وما كان عليه من‬ ‫الخلق العظيم ل يدرك غوره‪.‬‬ ‫وأفاق رسول ال صلى ال عليه وسلم واطمأن قلبه لجل هذا النصر الغيبى الذي أمده ال عليه من‬ ‫فوق سبع سموات‪ ،‬ثم تقد م في طريق مكة حتى بلغ وادى نخلة‪ ،‬وأقا م فيه أياًماـ‪ .‬وفي وادى نخلة‬

‫س ْيـل الكبير والّزيَْم ةـ ـ لما بهما من الماء والخصب‪ ،‬ولم نقف على مصدر‬ ‫موضعان يصلحان للقامة ـ ال ّ‬

‫يعين موضع إقامته صلى ال عليه وسلم فيه‪.‬‬

‫وخلل إقامته صلى ال عليه وسلم هناك بعث ال إليه نفًرا من الجن ذكرهم ال في موضعين من‬ ‫ضـُرـوهُ َقاُلوا‬ ‫ك نـَف ًرـا ّمَنـ الِْج ّن ـ يَْس تَـِم عُـوَن الُْقْر آـَن فـَلَّم اـ َح َ‬ ‫ص َرـفـَْنا إِلَْي َ‬ ‫القرآن‪ :‬في سور ة الحقاف‪ :‬‏} َوإِـْذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ّدـقًـا لَّم اـ‬ ‫َأنص تُــوا فـَلَّم اـ قُض َيـ َو لّـْو اـإَِلى قـَْو مـِهـمـ ّمنذ ِرـيَن َقاُلوا َيا قـَْو َمـنَـا إِّنا َس ِمـْعـنَـا كَتاًبا ُأنِزَل م نـ بـَْعدـ ُموَس ىـ ُم َ‬ ‫بـَْيَن يَ​َد يْـِه يـَْه ِدـيـ إَِلى الَْح ّقـ َو إِـَلى طَِريٍق ّمْس تَـِق يـٍم َيا قـَْو َمـنَـا أَِج ي ـبُوا َداـِع َيـ ال ِ َوآـِم نُـوا بِ​ِه يـَْغِف ْرـ لَُك مـ ّمنـ‬ ‫ذُ​ُنوبُِك ْمـ َو يـُِج رـُك مـّمْنـ َعَذ اـ ٍ‬ ‫ب أَِليٍم { ‏]الحقاف‪.[31 :29:‬‬ ‫ْ‬ ‫وفي سور ة الجن‪ :‬‏}قُْل ُأوِح َي ـ إِلَّي أَنّهُ اْس تَـَم َعـ نـَف ٌرـ ّمَنـ الِْج ّن ـ فـَق اـُلوا إِّنا َس ِمـْعـنَـا قـُْر آـًنا َعَج بًـا يـَْه ِدـيـ إَِلى‬ ‫الّرْش ِدـ َفآَمنّـا بِ​ِه َو لَـن نّْش ِرـَك بَِربـَّنا أَ​َح ًدـاـ{ إلـى تمـا م اليــة الخامـسة عشـر ‏] الجن‪.[15 :1 :‬‬ ‫ومن سياق هذه اليات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا‪ ،‬وإنما علم بعد ذلك‬

‫حين أطلعه ال عليه بهذه اليات‪ ،‬وأن حضورهم هذا كان لول مر ة‪ ،‬ويقتضى سياق الروايات أنهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفدوا بعد ذلك مراًرا‪.‬‬ ‫وحًق اـ كان هذا الحادث نصًرا آخر أمده ال من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي ل يعلمها إل هو‪ ،‬ثم‬

‫إن اليات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعو ة النبي صلى ال عليه‬ ‫ِ‬ ‫ب ـ َداـِع َيـ ال‬ ‫وسلم‪ ،‬وأن أي قو ة من قوات الكون ل تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها‪ :‬‏} َوَمـنـ ّل يُج ْ‬ ‫س بُِم ْعـِجـ ٍز ـِفي اْلَْر ِ‬ ‫ض َلـ ٍل ـ ـّمِبيٍن{ ‏]الحقاف‪ ،[32:‬‏}َوأَـّنا‬ ‫س لَهُ ِم نـ ُدونِ​ِه َأولَِياء أُْو لَـئِ َ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫ض َو لَـْي َ‬ ‫ِ فـَلَْي َ‬ ‫َظنـَّنا َأن ّلن ّنعِج َز ـ ال َ ِفي اْلَْر ِ‬ ‫ض َو لَـن نـّْعِجـ َز ـهُ َه َرـًبا{ ‏]الجن‪.[12:‬‬ ‫أما م هذه النصر ة‪ ،‬وأما م هذه البشارات‪ ،‬أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مطبقة عليه‬

‫منذ أن خرج من الطائف مطروًداـ مدحوًرا‪ ،‬حتى صمم على العود إلى مكة‪ ،‬وعلى القيا م باستئناف خطته‬ ‫الولى في عرض السل م وإبلغ رسالة ال الخالد ة بنشاط جديد وبجد وحماس‪.‬‬

‫وحينئذ قال له زيد بن حارثة‪ :‬كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعنى قريًش اـ‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا زيد‪ ،‬إن ال‬

‫جاعل لما ترى فرًج اـ ومخرًج اـ‪ ،‬وإن ال ناصر دينه‪ ،‬ومظهر نبيه(‪ .‬وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫حتى إذا دنا من مكة مكث بِح َرـاء‪ ،‬وبعث رجًل من خزاعة إلى الخنس بن َش ِرـيق ليجيره‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‬ ‫حليف‪ ،‬والحليف ل يجير ‪ ،‬فبعث إلى سهيل بن عمرو‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬إن بني عامر ل تجير على بني‬

‫كعب‪ ،‬فبعث إلى المطعم بن عدى‪ ،‬فقال المطعم‪ :‬نعم ‪ ،‬ثم تسلح ودعا بنيه وقومه ‪ ،‬فقال‪ :‬البسوا‬

‫السلح‪ ،‬وكونوا عند أركان البيت‪ ،‬فإني قد أجرت محمًد اـ‪ ،‬ثم بعث إلى رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ :‬أن ادخل‪ ،‬فدخل رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد‬

‫الحرا م‪ ،‬فقا م المطعم بن عدى على راحلته فنادى‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إني قد أجرت محمًد اـ فل يهجه‬

‫أحد منكم‪ ،‬وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الركن فاستلمه‪ ،‬وطاف بالبيت‪ ،‬وصلى ركعتين‪،‬‬ ‫وانصرف إلى بيته‪ ،‬ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلح حتى دخل بيته‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن أبا جهل سأل مطعًم اـ‪ :‬أمجير أنت أ م متابع ـ مسلم؟‪ .‬قال‪ :‬بل مجير‪ .‬قال‪ :‬قد أجرنا من‬

‫أجرت‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد حفظ رسول ال صلى ال عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع‪ ،‬فقال في أسارى بدر‪ :‬‏)لو كان المطعم‬

‫بن عدى حًيا ثم كلمنى في هؤلء النتنى لتركتهم له(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عرض السل م علي القبائل والفراد‬

‫القبائل التي عرض عليها السل م‬ ‫المؤمنون من غير أهل مكة‬

‫ست نسمات طيبة من أهل يثرب‬

‫استطراد‬

‫عرض السل م علي القبائل والفراد‬ ‫في ذى القعد ة سنة عشر من النبو ة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة ‪ 619‬م ـ عاد رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض السل م على القبائل والفراد‪ ،‬ولقتراب الموسم كان الناس‬ ‫يأتون إلى مكة رجال‪ ،‬وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لداء فريضة الحج‪ ،‬وليشهدوا منافع‬

‫لهم‪ ،‬ويذكروا اسم ال في أيا م معلومات‪ ،‬فانتهز رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الفرصة‪ ،‬فأتاهم‬

‫قبيلة قبيلة يعرض عليهم السل م ويدعوهم إليه ‪ ،‬كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبو ة ‪ ،‬وقد‬

‫بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشر ة ـ أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه ال به‪.‬‬ ‫القبائل التي عرض عليها السل م‬ ‫قال الزهرى‪ :‬وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودعاهم‬ ‫صـَفـةـ‪ ،‬وفزار ة‪ ،‬وغسان‪ ،‬ومر ة‪ ،‬وحنيفة‪،‬‬ ‫صـَعـة‪ ،‬وُمَح اـِرب بن َخ َ‬ ‫صْعـ َ‬ ‫وعرض نفسه عليهم‪ :‬بنو عامر بن َ‬ ‫وسليم‪ ،‬وَعْبس‪ ،‬وبنو نصر‪ ،‬وبنو البَّك اـء‪ ،‬وكند ة‪ ،‬وكلب‪ ،‬والحارث بن كعب‪ ،‬وُعْذ َرـ ة‪ ،‬والحضارمة‪ ،‬فلم‬

‫يستجب منهم أحد‪.‬‬

‫وهذه القبائل التي سماها الزهرى لم يكن عرض السل م عليها في سنة واحد ة ول في موسم واحد‪ ،‬بل‬ ‫إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبو ة إلى آخر موسم قبل الهجر ة‪ .‬ول يمكن تسمية سنة معينة لعرض‬ ‫السل م على قبيلة معينة‪ ،‬ولكن الكثر كان في السنة العاشر ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أما كيفية عرض السل م على هذه القبائل‪ ،‬وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن‬ ‫إسحاق‪ ،‬ونلخصها فيما يلي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ بنو كلب‪ :‬أتى النبي صلى ال عليه وسلم إلى بطن منهم يقال لهم‪ :‬بنو عبد ال ‪ ،‬فدعاهم إلى ال‬

‫وعرض عليهم نفسه‪ ،‬حتى إنه ليقول لهم‪ :‬‏)يا بني عبد ال ‪ ،‬إن ال قد أحسن اسم أبيكم(‪ ،‬فلم يقبلوا‬ ‫منه ما عرض عليهم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ بنو حنيفة‪ :‬أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى ال ‪ ،‬وعرض عليهم نفسه‪ ،‬فلم يكن أحد من العرب أقبح‬

‫عليه رًداـ منهم‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وأتى إلى بني عامر بن صعصعة‪ :‬فدعاهم إلى ال ‪ ،‬وعرض عليهم نفسه‪ ،‬فقال بـَْيَح َرـ ة بن فَِراس‬ ‫‏]رجل منهم[‪ :‬وال ‪ ،‬لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لكلت به العرب‪ ،‬ثم قال‪ :‬أرأيت إن نحن‬ ‫بايعناك على أمرك‪ ،‬ثم أظهرك ال على من خالفك أيكون لنا المر من بعدك؟ قال‪ :‬‏)المر إلى ال ‪،‬‬

‫فـ نحورنا للعرب دونك‪ ،‬فإذا أظهرك ال كان المر لغيرنا‪ ،‬ل حاجة‬ ‫يضعه حيث يشاء(‪ ،‬فقال له‪ :‬أفَـتـُْه َدـ ُ‬

‫لنا بأمرك‪ ،‬فأبوا عليه‪.‬‬

‫ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبر سنه‪ ،‬وقالوا له‪ :‬جاءنا فتى من قريش‬ ‫من بني عبد المطلب يزعم أنه نبى‪ ،‬يدعونا إلى أن نمنعه ونقو م معه‪ ،‬ونخرج به إلى بلدنا‪ ،‬فوضع‬

‫لف ؟ هل لُذ نَـاَباها من َمطْـَلب؟ والذي نفس‬ ‫الشيخ يديه على رأسه ثم قال‪ :‬يا بني عامر وهل لها من تَ َ‬ ‫فلن بيده ما تـَق ّوـلَـها إسماعيلى قط‪ ،‬وإنها لحق‪ ،‬فأين رأيكم كان عنكم؟‪.‬‬ ‫المؤمنون من غير أهل مكة‬ ‫وكما عرض رسول ال صلى ال عليه وسلم السل م على القبائل والوفود‪ ،‬عرض على الفراد‬

‫والشخاص‪ ،‬وحصل من بعضهم على ردود صالحة‪ ،‬وآمن به عد ة رجال بعد هذا الموسم بقليل‪ ،‬وهاك‬

‫نبذ ة منهم‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ سويد بن الصامت‪:‬‬

‫كان شاعًرا لبيًبا‪ ،‬من سكان يثرب‪ ،‬يسميه قومه ‏]الكامل[ لجلده وشعره وشرفه ونسبه‪ ،‬جاء مكة حاًج اـ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أو معتمًرا‪ ،‬فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى السل م‪ ،‬فقال‪ :‬لعل الذي معك مثل الذي معى‪.‬‬ ‫فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)وما الذي معك؟( قال‪ :‬حكمة لقمان‪ .‬قال‪ :‬‏)اعرضها علّي(‪.‬‬ ‫فعرضها‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن هذا لكل م حسن‪ ،‬والذي معى أفضل من هذا؛‬ ‫قرآن أنزله ال تعالى علّي ‪،‬ـ هو هدى ونور(‪ ،‬فتل عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم القرآن‪ ،‬ودعاه‬

‫إلى السل م‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا لقول حسن‪ .‬فلما قد م المدينة لم يلبث أن قتل في وقعة بين‬ ‫الوس والخزرج قبل يو م بعاث‪ .‬والغلب أنه أسلم في أوائل السنة الحادية عشر ة من النبو ة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ إياس بن معاذ‪:‬‬

‫كان غلًماـ حدثا من سكان يثرب‪ ،‬قد م في وفد من الوس‪ ،‬جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على‬ ‫قومهم من الخزرج‪ ،‬وذلك قبيل حـرب بعاث في أوائل سنة ‪ 11‬من النبو ة؛ إذ كانت نيران العداو ة‬

‫متقد ة في يثرب بين القبيلتين ـ وكان الوس أقل عدًداـ من الخزرج ـ فلما علم رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم بمقدمهم جاءهم‪ ،‬فجلس إليهم‪ ،‬وقال لهم‪ :‬‏)هل لكم في خير مما جئتم له؟( فقالوا‪ :‬وما ذاك؟‬

‫قال‪ :‬‏)أنا رسول ال ‪ ،‬بعثنى إلى العباد‪ ،‬أدعوهم إلى أن يعبدوا ال ول يشركوا به شيًئا‪ ،‬وأنزل علّي‬ ‫الكتاب(‪ ،‬ثم ذكر لهم السل م‪ ،‬وتل عليهم القرآن‪ .‬فقال إياس بن معاذ‪ :‬أي قو م‪ ،‬هذا وال خير مما‬ ‫جئتم له‪ ،‬فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه‬

‫إياس‪ ،‬وقال‪ :‬دعنا فلعمرى لقد جئنا لغير هذا‪ ،‬فصمت إياس‪ ،‬وقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش‪.‬‬ ‫وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك‪ ،‬وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته‪ ،‬فل‬

‫يشكون أنه مات مسلًم اـ‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ أبو ذر الغفاري‪:‬‬

‫وكان من سكان نواحي يثرب‪ ،‬ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى ال عليه وسلم بسويد بن‬

‫ض اـ‪ ،‬وصار سبًبا لسلمه‪.‬‬ ‫الصامت وإياس بن معاذ‪ ،‬وقع في أذن أبي ذر أي ً‬

‫روى البخاري عن ابن عباس قال‪ :‬قال أبو ذر‪ :‬كنت رجًل من غفار‪ ،‬فبلغنا أن رجًل قد خرج بمكة‬

‫يزعم أنه نبى‪ ،‬فقلت لخي‪ :‬انطلق إلى هذا الرجل وكلمه‪ ،‬وائتنى بخبره‪ ،‬فانطلق فلقيه‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬فقلت‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ما عندك؟ فقال‪ :‬وال ‪ ،‬لقد رأيت رجًل يأمر بالخير‪ ،‬وينهي عن الشر‪ ،‬فقلت له‪ :‬لم تشفنى من الخبر‪،‬‬

‫فأخذت جراًبا وعصا‪ ،‬ثم أقبلت إلى مكة‪ ،‬فجعلت ل أعرفه‪ ،‬وأكره أن أسأل عنه‪ ،‬وأشرب من ماء زمز م‬ ‫وأكون في المسجد‪ .‬قال‪ :‬فمر بى علّي‪ .‬فقال‪ :‬كأن الرجل غريب؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ :‬فانطلق إلى‬ ‫المنزل‪ ،‬فانطلقت معه ل يسألنى عن شيء ول أسأله ول أخبره‪ .‬فلما أصبحت غدوت إلى المسجد‬

‫لسأل عنه‪ ،‬وليس أحد يخبرنى عنه بشيء‪ .‬قال‪ :‬فمر بى علّي فقال‪ :‬أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فانطلق معي‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلد ة؟ قال‪ :‬قلت له‪:‬إن‬

‫كتمت علّي أخبرتك‪ ،‬قال‪ :‬فإني أفعل‪ ،‬قال‪ :‬قلت له‪ :‬بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبى ال ‪،‬‬ ‫فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفنى من الخبر‪ ،‬فأردت أن ألقاه‪.‬‬

‫فقال له‪ :‬أما إنك قد رشدت‪ .‬هذا وجهي إليه‪ ،‬ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحًد اـ أخافه عليك‬ ‫قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلى‪ ،‬وامض أنت‪ .‬فمضى ومضيت معه حتى دخل‪ ،‬ودخلت معه على‬

‫النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬فقلت له‪:‬اعرض علّي السل م‪ .‬فعرضه‪ ،‬فأسلمت مكإني ‪ ،‬فقال لي‪ :‬‏)يا أبا‬

‫ذر‪ ،‬اكتم هذا المر‪ ،‬وارجع إلى بلدك‪ ،‬فإذا بلغك ظهورنا فأقبل(‪ .‬فقلت‪ :‬والذي بعثك بالحق لصرخن‬

‫بها بين أظهرهم‪ ،‬فجئت إلى المسجد‪ ،‬وقريش فيه ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إني أشهد أن ل إله إل ال‬ ‫‪ ،‬وأشهد أن محمًد اـ عبده ورسوله ‪ ،‬فقالوا‪ :‬قوموا إلى هذا الصابئ‪ .‬فقاموا‪ ،‬فضربت لموت‪ ،‬فأدركنى‬ ‫العباس فأكب علّي ‪،‬ـ ثم أقبل عليهم فقال‪ :‬ويلكم تقتلون رجًل من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار‪،‬‬ ‫فأقلعوا عنى‪ .‬فلما أن أصبحت الغد‪ ،‬رجعت‪ ،‬فقلت مثل ما قلت بالمس‪ .‬فقالوا‪ :‬قوموا إلى هذا‬ ‫الصابئ‪ ،‬فصنع بي ما صنع بالمس‪ ،‬فأدركني العباس‪ ،‬فأكب علّي وقال مثل مقالته بالمس‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ طَُف ْيـل بن عمرو الّد ْوـسـى‪:‬‬ ‫كان رجًل شريًف اـ‪ ،‬شاعًرا لبيًبا‪ ،‬رئيس قبيلة دوس‪ ،‬وكانت لقبيلته إمار ة أو شبه إمار ة في بعض نواحى‬

‫اليمن‪ ،‬قد م مكة في عا م ‪ 11‬من النبو ة‪ ،‬فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها‪ ،‬وبذلوا له أجل تحية وأكر م‬

‫تقدير‪ ،‬وقالوا له‪ :‬يا طفيل‪ ،‬إنك قدمت بلدنا‪ ،‬وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا‪ ،‬وقد فرق‬ ‫جماعتنا‪ ،‬وشتت أمرنا‪ ،‬وإنما قوله كالسحر‪ ،‬يفرق بين الرجل وأبيه‪ ،‬وبين الرجل وأخيه ‪ ،‬وبين الرجل‬

‫وزوجـه‪ ،‬وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا‪ ،‬فل تكلمه ول تسمعن منه شيًئا‪.‬‬ ‫يقول طفيل‪ :‬فوال ما زالوا بي حتى أجمعت أل أسمع منه شيًئا‪ ،‬ول أكلمه‪ ،‬حتى حشوت أذنى حين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غدوت إلى المسجد ُك ْرـُسـًفـاـ؛ فرًقا من أن يبلغنى شيء من قوله‪ ،‬قال‪ :‬فغدوت إلى المسجد فإذا هو‬ ‫قائم يصلى عند الكعبة‪ ،‬فقمت قريًبا منه‪ ،‬فأبي ال إل أن يسمعنى بعض قوله‪ ،‬فسمعت كلًماـ حسًنا‪،‬‬ ‫فقلت في نفسى‪ :‬واثكل أمي‪ ،‬وال إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي علّي الحسن من القبيح‪ ،‬فما‬

‫يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسًنا قبلته‪ ،‬وإن كان قبيًح اـ تركته‪ ،‬فمكثت حتى‬ ‫انصرف إلى بيته فاتبعته‪ ،‬حتى إذا دخل بيته دخلت عليه‪ ،‬فعرضت عليه قصة مقدمى‪ ،‬وتخويف الناس‬

‫إياي‪ ،‬وسد الذن بالكرسف‪ ،‬ثم سماع بعض كلمه‪ ،‬وقلت له‪ :‬اعرض علّي أمرك‪ ،‬فعرض علّي السل م‪،‬‬ ‫وتل علّي القرآن‪ .‬فوال ما سمعت قوًل قط أحسن منه‪ ،‬ول أمًرا أعدل منه‪ ،‬فأسلمت وشهدت شهاد ة‬ ‫الحق‪ ،‬وقلت له‪ :‬إني مطاع في قومى‪ ،‬وراجع إليهم‪ ،‬وداعيهم إلى السل م‪ ،‬فادع ال أن يجعل لى آية‪،‬‬ ‫فدعا‪.‬‬ ‫وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل ال نوًرا في وجهه مثل المصباح‪ ،‬فقال‪ :‬ال م في غير وجهي‪.‬‬

‫أخشى أن يقولوا‪ :‬هذه مثلة‪ ،‬فتحول النور إلى سوطه‪ ،‬فدعا أباه وزوجته إلى السل م فأسلما‪ ،‬وأبطأ عليه‬ ‫قومه في السل م‪ ،‬لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق‪ ،‬ومعه سبعون أو ثمانون بيًتا من قومه‪ ،‬وقد‬ ‫أبلى في السل م بلء حسًنا‪ ،‬وقتل شهيًد اـ يو م اليمامة‪.‬‬ ‫‪5‬ـ ِ‬ ‫ض َمـاـد الزدى‪:‬‬ ‫كان من أْزِد َش نُـوَء ة من اليمن‪ ،‬وكان يرقى من هذا الريح‪ ،‬قد م مكة فسمع سفهاءها يقولون‪ :‬إن محمًد اـ‬

‫مجنون‪ ،‬فقال‪ :‬لو إني أتيت هذا الرجل لعل ال يشفيه على يدى‪ ،‬فلقيه‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬إني أرقى من‬ ‫هذا الريح‪ ،‬فهل لك؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن الحمد ل نحمده ونستعينه‪ ،‬من يهده‬

‫ال فل مضل له‪ ،‬ومن يضلله فل هادى له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن‬ ‫محمًد اـ عبده ورسوله‪ .‬أما بعد(‪.‬‬

‫فقال‪ :‬أعد علّي كلماتك هؤلء‪ ،‬فأعادهن عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلث مرات‪ ،‬فقال‪ :‬لقد‬ ‫سمعت قول الكهنة‪ ،‬وقول السحر ة‪ ،‬وقول الشعراء‪ ،‬فما سمعت مثل كلماتك هؤلء‪ ،‬ولقد بلغن قاموس‬ ‫البحر‪ ،‬هات يدك أبايعك على السل م‪ ،‬فبايعه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ست نسمات طيبة من أهل يثرب‬

‫وفي موسم الحج من سنة ‪ 11‬من النبو ة ـ يوليو سنة ‪ 620‬م ـ وجدت الدعو ة السلمية بذوًرا صالحة‪،‬‬ ‫سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات‪ ،‬اتقى المسلمون في ظللها الوارفة لفحات الظلم والعدوان‬ ‫حتى تغير مجرى الحداث وتحول خط التاريخ‪.‬‬

‫وكان من حكمته صلى ال عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل‬ ‫ال أنه كان يخرج إلى القبائل في ظل م الليل‪ ،‬حتى ل يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين‪.‬‬ ‫فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى‪ ،‬فمر على منازل ذُْه لـ وشيبان بن ثعلبة ‪ ،‬وكلمهم في السل م‪ .‬وقد‬

‫دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة‪ ،‬وأجاب بنو شيبان بأرجى الجوبة‪ ،‬غير أنهم‬

‫توقفوا في قبول السل م‪.‬‬ ‫ثم مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقبة منى‪ ،‬فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حتى لحقهم‪،‬‬ ‫وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ أسعد بن ُزَرار ة ‏]من بني النجار[‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ عوف بن الحارث بن رفاعة ابن َعْف رـاء ‏]من بني النجار[‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ رافع بن مالك بن الَعْج لــن ‏]من بني ُزَرْيق[‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ قُطَْبة بن عامر بن حديد ة ‏]من بني سلمة[‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ عُْق بَـة بن عامر بن نابي ‏]من بني َح َرـا م بن كعب [‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ جابر بن عبد ال بن ِرئاب ‏]من بني عبيد بن غَْنم [‪.‬‬ ‫وكان من سعاد ة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة‪ ،‬إذا كان بينهم شيء‪ ،‬أن‬

‫نبًيا من النبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج‪ ،‬فنتبعه‪ ،‬ونقتلكم معه قتل عاد وإر م‪.‬‬

‫فلما لحقهم رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لهم‪ :‬‏)من أنتم؟( قالوا‪ :‬نفر من الخزرج‪ ،‬قال‪ :‬‏)من‬ ‫موالى اليهود؟( أي حلفائهم‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬‏)أفل تجلسون أكلمكم؟( قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬فجلسوا معه‪ ،‬فشرح‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لهم حقيقة السل م ودعوته‪ ،‬ودعاهم إلى ال عز وجل‪ ،‬وتل عليهم القرآن‪ .‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬تعلمون‬ ‫وال يا قو م‪ ،‬إنه للنبى الذي توعدكم به يهود‪ ،‬فل تسبقنكم إليه‪ ،‬فأسرعوا إلى إجابة دعوته‪ ،‬وأسلموا‪.‬‬

‫وكانوا من عقلء يثرب‪ ،‬أنهكتهم الحرب الهلية التي مضت قريًبا‪ ،‬والتي ل يزال لهيبها مستعًرا‪ ،‬فأملوا‬ ‫أن تكون دعوته سبًبا لوضع الحرب‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا قد تركنا قومنا ول قو م بينهم من العداو ة والشر ما‬ ‫بينهم‪ ،‬فعسى أن يجمعهم ال بك‪ ،‬فسنقد م عليهم‪ ،‬فندعوهم إلى أمرك‪ ،‬ونعرض عليهم الذي أجبناك‬

‫إليه من هذا الدين ‪ ،‬فإن يجمعهم ال عليك فل رجل أعز منك‪.‬‬ ‫ولما رجع هؤلء إلى المدينة حملوا إليها رسالة السل م‪ ،‬حتى لم تبق دار من دور النصار إل وفيه ذكر‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫استطراد ـ زواج رسول ال صلى ال عليه وسلم بعائشة‬ ‫وفي شوال من هذه السنة ـ سنة ‪ 11‬من النبو ة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم عائشة الصديقة‬

‫رضي ال عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة في شوال في السنة الولى من الهجر ة وهي بنت‬

‫تسع سنين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الس ـراء والمع ـراج‬ ‫وبينما النبي صلى ال عليه وسلم يمـر بهذه المرحلة‪ ،‬وأخذت الدعو ة تشق طريًق اـ بين النجاح‬

‫والضطهـاد‪ ،‬وبـدأت نجـو م المل تتلمح في آفاق بعيد ة‪ ،‬وقع حادث السراء والمعـراج‪ .‬واختلف في‬

‫تعيين زمنه على أقوال شتى‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ فقيل‪ :‬كان السراء في السنة التي أكرمه ال فيها بالنبو ة‪ ،‬واختاره الطبرى‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ وقيل‪ :‬كان بعد المبعث بخمس سنين‪ ،‬رجح ذلك النووى والقرطبى‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وقيل‪ :‬كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ‪ 10‬من النبو ة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ وقيل‪ :‬قبل الهجر ة بستة عشر شهًرا‪ ،‬أي في رمضان سنة ‪ 12‬من النبو ة‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ وقيل‪ :‬قبل الهجر ة بسنة وشهرين‪ ،‬أي في المحر م سنة ‪ 13‬من النبو ة‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ وقيل‪ :‬قبل الهجر ة بسنة‪ ،‬أي في ربيع الول سنة ‪ 13‬من النبو ة‪.‬‬ ‫ورّد ِ‬ ‫تـ القواُل الثلثة الول بأن خديجة رضي ال عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبو ة‪ ،‬وكانت‬ ‫َُ‬ ‫وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس‪ .‬ول خلف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة السراء‪ .‬أما‬ ‫القوال الثلثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحًد اـ منها‪ ،‬غير أن سياق سور ة السراء يدل على أن‬

‫السراء متأخر جًد اـ‪.‬‬

‫وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة‪ ،‬وفيما يلي نسردها بإيجاز‪:‬‬ ‫قال ابن القيم‪ :‬أسرى برسول ال صلى ال عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرا م إلى‬ ‫بيت المقدس‪ ،‬راكًبا على البـَُراق‪ ،‬صحبة جبريل عليهما الصل ة والسل م‪ ،‬فنزل هناك‪ ،‬وصلى بالنبياء‬ ‫إماًماـ‪ ،‬وربط البراق بحلقة باب المسجد‪.‬‬ ‫ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا‪ ،‬فاستفتح له جبريل ففتح له‪ ،‬فرأي هنالك‬ ‫آد م أبا البشر‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرحب به ورد عليه السل م‪ ،‬وأقر بنبوته‪ ،‬وأراه ال أرواح السعداء عن يمينه‪،‬‬

‫وأرواح الشقياء عن يساره‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء الثانية‪ ،‬فاستفتح له‪ ،‬فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم‪ ،‬فلقيهما وسلم‬ ‫عليهما‪ ،‬فردا عليه ورحبا به‪ ،‬وأقّرا بنبوته‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء الثالثة‪ ،‬فرأي فيها يوسف‪ ،‬فسلم عليه فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬ ‫ثم عرج به إلى السماء الرابعة‪ ،‬فرأي فيها إدريس‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء الخامسة‪ ،‬فرأي فيها هارون بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬ ‫بنبوته‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء السادسة‪ ،‬فلقى فيها موسى بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬ ‫بنبوته‪.‬‬

‫فلما جاوزه بكى موسى‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك ؟ فقال‪ :‬أبكى؛ لن غلًماـ بعث من بعدى يدخل الجنة من‬

‫أمته أكثر مما يدخلها من أمتى‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء السابعة‪ ،‬فلقى فيها إبراهيم عليه السل م‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر‬ ‫بنبوته‪.‬‬

‫لل َه َجـرـ‪ ،‬وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‪ ،‬ثم غشيها فراش‬ ‫ثم رفع إلى سدر ة المنتهى‪ ،‬فإذا نَـبـُْقها مثل قِ َ‬ ‫من ذهب‪ ،‬ونور وألوان‪ ،‬فتغيرت‪ ،‬فما أحد من خلق ال يستطيع أن يصفها من حسنها‪ .‬ثم رفع له البيت‬ ‫المعمور‪ ،‬وإذا هو يدخله كل يو م سبعون ألف ملك ثم ل يعودون‪ .‬ثم أدخل الجنة‪ ،‬فإذا فيها حبائل‬ ‫ص ِرـيف القل م‪.‬‬ ‫اللؤلؤ‪ ،‬وإذا ترابها المسك‪ .‬وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه َ‬

‫ثم عرج به إلى الجّبار جل جلله‪ ،‬فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى‪ ،‬فأوحى إلى عبده ما أوحى‪،‬‬ ‫وفرض عليه خمسين صل ة‪ ،‬فرجع حتى مّر على موسى فقال له‪ :‬بم أمرك ربك؟ قال‪ :‬‏]بخمسين‬ ‫صل ة[‪ .‬قال‪ :‬إن أمتك ل تطيق ذلك‪ ،‬ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ ،‬فالتفت إلى جبريل‪ ،‬كأنه‬

‫يستشيره في ذلك‪ ،‬فأشار‪ :‬أن نعم إن شئت‪ ،‬فعل به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى‪ ،‬وهو في‬

‫مكانه ـ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه عشًرا‪ ،‬ثم أنزل حتى مر بموسى‪ ،‬فأخبره‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف‪ ،‬فلم يزل يتردد بين موسى وبين ال عز وجل‪ ،‬حتى جعلها خمًس اـ‪ ،‬فأمره‬ ‫موسى بالرجوع وسؤال التخفيف‪ ،‬فقال‪ :‬‏]قد استحييت من ربي‪ ،‬ولكني أرضى وأسلم[‪ ،‬فلما بعد نادى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مناد‪ :‬قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى‪ .‬انتهي‪.‬‬ ‫ثم ذكر ابن القيم خلًفا في رؤيته صلى ال عليه وسلم ربه تبارك وتعالى‪ ،‬ثم ذكر كلًماـ لبن تيمية بهذا‬ ‫الصدد‪ ،‬وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصًل ‪ ،‬ـ ـوهو قول لم يقله أحد من الصحابة‪ .‬وما نقل‬ ‫عن ابن عباس من رؤيته مطلًق اـ ورؤيته بالفؤاد فالول ل ينافي الثاني‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬وأما قوله تعالى في سور ة النجم‪ :‬‏}ثُّم َدنَـا فـتَ​َد لّـى { ‏]النجم‪ [8:‬فهو غير الدنو الذي في قصة‬ ‫السراء‪ ،‬فإن الذي في سور ة النجم هو دنو جبريل وتدليه‪ ،‬كما قالت عائشة وابن مسعود‪ ،‬والسياق‬ ‫يدل عليه‪ ،‬وأما الدنو والتدلى في حديث السراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه‪،‬‬

‫ول تعرض في سور ة النجم لذلك‪ ،‬بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدر ة المنتهى‪ .‬وهذا هو جبريل‪ ،‬رآه‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم على صورته مرتين‪ :‬مر ة في الرض‪ ،‬ومر ة عند سدر ة المنتهى‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬ ‫انتهى‪.‬‬

‫ض اـ‪ ،‬وقد رأى النبي صلى‬ ‫وقد جاء في بعض الطرق أن صدره صلى ال عليه وسلم شق في هذه المر ة أي ً‬ ‫ال عليه وسلم في هذه الـرحلة أموًرا عديد ة‪:‬‬ ‫عرض عليه اللبن والخمر‪ ،‬فاختار اللبن‪ ،‬فقيل‪ :‬هديت الفطر ة أو أصبت الفطر ة‪ ،‬أما إنك لو أخذت‬

‫الخمر غوت أمتك‪.‬‬

‫ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدر ة المنتهى‪ :‬نهران ظاهران ونهران باطنان‪ ،‬فالظاهران هما‪ :‬النيل‬ ‫والفرات‪ ،‬عنصرهما‪ .‬والباطنان‪ :‬نهران في الجنة‪ .‬ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشار ة إلى تمكن‬

‫السل م من هذين القطرين‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫ورأى مالًك اـ خازن النار‪ ،‬وهو ل يضحك‪ ،‬وليس على وجهه بشر ول بشاشة‪ ،‬وكذلك رأي الجنة والنار‪.‬‬ ‫ورأى أكلة أموال اليتامى ظلًم اـ لهم مشافر كمشافر البل‪ ،‬يقذفون في أفواههم قطًعا من نار كالفهار‪،‬‬ ‫فتخرج من أدبارهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ورأى أكلة الربا لهم بطون كبير ة ل يقدرون لجلها أن يتحولوا عن أماكنهم‪ ،‬ويمر بهم آل فرعون حين‬ ‫يعرضون على النار فيطأونهم‪.‬‬ ‫ورأى الزنا ة بين أيديهم لحم سمين طيب‪ ،‬إلى جنبه لحم غث منتن‪ ،‬يأكلون من الغث المنتن‪ ،‬ويتركون‬ ‫الطيب السمين‪.‬‬

‫ورأى النساء اللتى يدخلن على الرجال من ليس من أولدهم‪ ،‬رآهن معلقات بثديهن‪.‬‬ ‫ورأى عيًرا من أهل مكة في الياب والذهاب‪ ،‬وقد دلهم على بعير نَّد لهم‪ ،‬وشرب ماءهم من إناء‬ ‫مغطى وهم نائمون‪ ،‬ثم ترك الناء مغطى‪ ،‬وقد صار ذلك دليًل على صدق دعواه في صباح ليلة‬ ‫السراء‪.‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬فلما أصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه ال عز وجل من‬ ‫آياته الكبرى‪ ،‬فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه‪ ،‬وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس‪ ،‬فجله‬

‫ال له‪ ،‬حتى عاينه‪ ،‬فطفق يخبرهم عن آياته‪ ،‬ول يستطيعون أن يردوا عليه شيًئا‪ ،‬وأخبرهم عن عيرهم في‬ ‫مسراه ورجوعه‪ ،‬وأخبرهم عن وقت قدومها‪ ،‬وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها‪ ،‬وكان المر كما قال‪ ،‬فلم‬ ‫يزدهم ذلك إل نفوًرا‪ ،‬وأبي الظالمون إل كفوًرا ‪.‬‬

‫يقال‪ُ :‬س مـى أبو بكر رضي ال عنه صديًق اـ؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس‪.‬‬ ‫وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى‪ :‬‏}لِنُِريَهُ ِم ْنـ آَياتَِنا { ‏]السراء‪ [1 :‬وهذه سنة‬ ‫س مـاـواـ ِ‬ ‫ت َواـلَْر ِ‬ ‫ض َو لِـيَُك وـَن ِم َنـ الُْم وـقِ​ِنيَن{ ‏]النعا م‪:‬‬ ‫ك نُِري ِإبـَْراِه يـَم َملَـُك وـ َ‬ ‫ال في النبياء‪ ،‬قال‪ :‬‏} َوَكَذـلِـ َ‬ ‫ت ال ّ َ َ‬ ‫ك ِم ْنـ آَياتَِنا الُْك بـَْرى{ ‏]طه‪ ،[23:‬وقد بين مقصود هذه الراء ة‬ ‫‪ ،[75‬وقال لموسى عليه السل م‪ :‬‏}لِنُِريَ َ‬ ‫بقوله‪ :‬‏} َولِـيَُكوـَن ِم َنـ الُْم وـقِ​ِنيَن{ فبعد استناد علو م النبياء إلى رؤية اليات يحصل لهم من عين اليقين ما‬ ‫ل يقادر قدره‪ ،‬وليس الخبر كالمعاينة‪ ،‬فيتحملون في سبيل ال ما ل يتحمل غيرهم‪ ،‬وتصير جميع‬

‫قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة ل يعبأون بها إذا ما تدول عليهم بالمحن والعذاب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والحكم والسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة‪ ،‬ولكن هنا‬ ‫حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة‪ ،‬وتتدفق إلى حدائق أزهار السير ة النبوية ـ على‬ ‫ض اـ منها باليجاز‪:‬‬ ‫صاحبها الصل ة والسل م والتحية ـ أرى أن أسجل بع ً‬

‫يرى القارئ في سور ة السراء أن ال ذكر قصة السراء في آية واحد ة فقط‪ ،‬ثم أخذ في ذكر فضائح‬ ‫اليهود وجرائمهم‪ ،‬ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدى للتى هي أقو م‪ ،‬فربما يظن القارئ أن اليتين ليس‬

‫بينهما ارتباط‪ ،‬والمر ليس كذلك‪ ،‬فإن ال تعالى يشير بهذا السلوب إلى أن السراء إنما وقع إلى‬

‫بيت المقدس؛ لن اليهود سيعزلون عن منصب قياد ة المة النسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي ل‬

‫مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب‪ ،‬وإن ال سينقل هذا المنصب فعل إلى رسوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم ويجمع له مركزى الدعو ة البراهيمية كليهما‪ ،‬فقد آن أوان انتقال القياد ة الروحية من أمة إلى أمة؛‬

‫من أمة ملت تاريخها بالغدر والخيانة والثم والعدوان‪ ،‬إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات‪ ،‬ول يزال رسولها‬ ‫يتمتع بوحى القرآن الذي يهدى للتى هي أقو م‪.‬‬ ‫ولكن كيف تنتقل هذه القياد ة‪ ،‬والرسول يطوف في جبال مكة مطروًداـ بين الناس؟ هذا السؤال يكشف‬

‫الغطاء عن حقيقة أخرى‪ ،‬وهي أن عهًد اـ من هذه الدعو ة السلمية قد أوشك إلى النهاية والتما م‪،‬‬

‫وسيبدأ عهد آخر جديد يختلف عن الول في مجراه‪ ،‬ولذلك نرى بعض اليات تشتمل على إنذار‬ ‫ِ‬ ‫سـُقـواْ ِفيَه اـ فَ​َح ّقـ‬ ‫سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين ‏} َوإِـَذا أَ​َرْد نَـا َأن نـّْه لِـ َ‬ ‫ك قـَْريَـًة أَ​َمْرـنَـا ُمتـَْرفيَه اـ فـَف َ‬ ‫ب ِع بـاِد ِهـ َخ بِـي ًرا ب ِ‬ ‫ص يـًرا{‬ ‫َعَليـَْه اـ الَْق ْوـُلـ فَ​َد ّمـْرـنـَاَه اـ تَْد ِمـيـًرا َوَك ْمـ أَْه لَـْك نَــا ِم َنـ الُْقُروِن ِم نـ بـَْعِدـ ُنوٍح َوَك َفـىـ بَِربّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ك بُِذ نُـو ِ َ‬ ‫‏]السراء‪ [17 ،16:‬وبجنب هذه اليات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضار ة وبنودها ومبادئها‬ ‫التي يبتنى عليها مجتمعهم السلمى‪ ،‬كأنهم قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أمورهم من جميع النواحى‪،‬‬ ‫وكونوا وحد ة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع‪ ،‬ففيه إشار ة إلى أن الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫سيجد ملجأ ومأمًنا يستقر فيه أمره‪ ،‬ويصير مركًزا لبث دعوته في أرجاء الدنيا‪ .‬هذا سر من أسرار هذه‬ ‫الرحلة المباركة‪ ،‬يتصل ببحثنا فآثرنا ذكره‪.‬‬ ‫ولجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن السراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الولى أو بين العقبتين‪ ،‬وال‬ ‫أعلم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بيعة العقبة الولى‬

‫سفير السل م في المدينة‬

‫النجاح المغتبط‬

‫بيعة العقبة الثانية‬ ‫بداية المحادثة وتشريح العباس لخطور ة المسئولية‬ ‫بنود البيعة‬

‫التأكيد من خطور ة البيعة‬ ‫عقد البيعة‬

‫اثنا عشر نقيًبا‬ ‫شيطان يكتشف المعاهد ة‬ ‫استعداد النصار لضرب قريش‬

‫قريش تقد م الحتجاج إلى رؤساء يثرب‬ ‫تأكد الخبر لدى قريش ومطارد ة المبايعين‬

‫بيعة العقبة الولى‬ ‫قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة ‪ 11‬من النبو ة‪ ،‬ووعدوا رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم بإبلغ رسالته في قومهم‪.‬‬ ‫وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي ـ موسم الحج سنة ‪ 12‬من النبو ة‪ ،‬يوليو سنة ‪ 621‬م ـ‬

‫اثنا عشر رجًل ‪ ،‬ـ ـفيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم في العا م‬ ‫السابق ـ والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد ال بن ِرئاب ـ وسبعة سواهم‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ معاذ بن الحارث‪ ،‬ابن عفراء من بني النجار ‏]من الخزرج[‬ ‫‪ 2‬ـ ذَْك َوـاـن بن عبد القيس من بني ُزَرْيق‪ .‬‏]من الخزرج[‬ ‫‪ 3‬ـ عباد ة بن الصامت من بني غَْنم ‏]من الخزرج[‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 4‬ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم ‏]من الخزرج[‬

‫ض لَـة من بني سالم ‏]من الخزرج[‬ ‫‪ 5‬ـ العباس بن عَُباد ة بن نَ ْ‬ ‫‪ 6‬ـ أبو الَه ْيـَثم بن التّـيـَّه اـن من بني عبد الشهل ‏]من الوس[‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ عَُو يْـم بن ساعد ة من بني عمرو بن َعْو فـ ‏]من الوس[‪.‬‬ ‫الخيران من الوس‪ ،‬والبقية كلهم من الخزرج‪.‬‬ ‫التقى هؤلء برسول ال صلى ال عليه وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء‪ ،‬أي وفق بيعتهن التي‬ ‫نزلت بعد الحديبية‪.‬‬ ‫روى البخاري عن عباد ة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏]تعالوا بايعوني على أل‬

‫تشركوا بال شيًئا‪ ،‬ول تسرقوا‪ ،‬ول تزنوا‪ ،‬ول تقتلوا أولدكم‪ ،‬ول تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم‬ ‫وأرجلكم‪ ،‬ول تعصوني في معروف‪ ،‬فمن وفي منكم فأجره على ال ‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيًئا فعوقب‬

‫به في الدنيا‪ ،‬فهو له كفار ة‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيًئا فستره ال ‪ ،‬فأمـره إلى ال ؛ إن شاء عاقبه‪ ،‬وإن‬ ‫شاء عفا عـنه[‪ .‬قــال‪ :‬فبايعته ـ وفي نسخة‪ :‬فبايعناه ـ على ذلك‪.‬‬ ‫سفير السل م في المدينة‬

‫وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى ال عليه وسلم مع هؤلء المبايعين أول سفير في‬ ‫يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع السل م‪ ،‬ويفقههم في الدين‪ ،‬وليقو م بنشر السل م بين الذين لم‬

‫ص َعـب بن‬ ‫يزالوا على الشرك‪ ،‬واختار لهذه السفار ة شاًبا من شباب السل م من السابقين الولين‪ ،‬وهو ُم ْ‬ ‫عَُم ْيـر العبدرى رضي ال عنه‪.‬‬

‫النجاح المغتبط‬

‫نزل مصعب بن عمير على أسعد بن ُزَرار ة‪ ،‬وأخذا يبثان السل م في أهل يثرب بجد وحماس‪ ،‬وكان مصعب‬

‫يـُْع َرـف بالمقرئ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعو ة أن أسعد بن زرار ة خرج به يوًماـ يريد دار بني عبد الشهل ودار‬

‫بني ظَ​َف رـ‪ ،‬فدخل في حائط من حوائط بني ظفر‪ ،‬وجلسا على بئر يقال لها‪ :‬بئر َمَرـق‪ ،‬واجتمع إليهما رجال‬

‫ضـْيـر سيدا قومهما من بني عبد الشهل يومئذ على الشرك ـ‬ ‫من المسلمين ـ وسعد بن معاذ وأَُس ْيـد بن ُح َ‬

‫فلما سمعا بذلك قال سعد لسيد‪ :‬اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما‪ ،‬وانههما‬ ‫عن أن يأتيا دارينا‪ ،‬فإن أسعد بن زرار ة ابن خالتي‪ ،‬ولول ذلك لكفيتك هذا‪.‬‬

‫فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما‪ ،‬فلما رآه أسعد قال لمصعب‪ :‬هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق ال فيه‪،‬‬ ‫قال مصعب‪ :‬إن يجلس أكلمه‪ .‬وجاء أسيد فوقف عليهما متشتًم اـ‪ ،‬وقال‪ :‬ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان‬

‫ضعفاءنا؟ اعتزلنا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة‪ ،‬فقال له مصعب‪ :‬أو تجلس فتسمع‪ ،‬فإن رضيت أمرا‬

‫قبلته‪ ،‬وإن كرهته كف عنك ما تكره‪ ،‬فقال‪ :‬أنصفت‪ ،‬ثم ركز حربته وجلس‪ ،‬فكلمه مصعب بالسل م‪،‬‬ ‫وتل عليه القرآن‪ .‬قال‪ :‬فو ال لعرفنا في وجهه السل م قبل أن يتكلم‪ ،‬في إشراقه وتهلله‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما‬

‫أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟‬

‫قال له‪ :‬تغتسل‪ ،‬وتطهر ثوبك‪ ،‬ثم تشهد شهاد ة الحق‪ ،‬ثم تصلى ركعتين‪ .‬فقا م واغتسل‪ ،‬وطهر ثوبه وتشهد‬ ‫وصلى ركعتين‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن ورائى رجًل إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه‪ ،‬وسأرشده إليكما الن ـ‬

‫سعد بن معاذ ـ ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه‪ ،‬وهم جلوس في ناديهم‪ .‬فقال سعد‪ :‬أحلف بال‬

‫لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم‪.‬‬ ‫فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد‪ :‬ما فعلت؟ فقال‪ :‬كلمت الرجلين‪ ،‬فوال ما رأيت بهما بأًس اـ‪،‬‬

‫وقد نهيتهما فقال‪ :‬نفعل ما أحببت‪.‬‬

‫وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرار ة ليقتلوه ـ وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ‬ ‫لِيُْخ ِفـُرـوك‪ .‬فقا م سعد مغضًبا للذى ذكر له‪ ،‬فأخذ حربته‪ ،‬وخرج إليهما‪ ،‬فلما رآهما مطمئنين عرف أن‬ ‫أسيًد اـ إنما أراد منه أن يسمع منهما‪ ،‬فوقف عليهما متشتًم اـ‪ ،‬ثم قال لسعد بن زرار ة‪ :‬وال يا أبا أمامة‪ ،‬لول‬ ‫تـ هذا منى‪ ،‬تغشانا في دارنا بما نكره؟‬ ‫ما بينى وبينك من القرابة ما ُرْم َ‬ ‫وقـد كان أسعد قال لمصعب‪ :‬جاءك وال سيد من ورائه قومه‪ ،‬إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقال مصعب لسعد بن معاذ‪ :‬أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمًرا قبلته‪ ،‬وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره‪،‬‬

‫قال‪ :‬قد أنصفت‪ ،‬ثم ركز حربته فجلس‪ .‬فعـرض عليــه السل م‪ ،‬وقـرأ علـيه القـرآن‪ ،‬قـال‪ :‬فعرفنـا وال في‬ ‫وجهـه السل م قبـل أن يتكلم‪ ،‬في إشـراقه وتهّلله‪ ،‬ثـم قـال‪ :‬كيـف تصنـعون إذا أسلمتـم؟ قال‪ :‬تغتسل‪،‬‬ ‫وتطهر ثوبك‪ ،‬ثم تشهد شهاد ة الحق‪ ،‬ثم تصلى ركعتين‪ .‬ففعل ذلك‪.‬‬

‫ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه‪ ،‬فلما رأوه قالوا‪ :‬نحلف بال لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به‪.‬‬ ‫فلما وقف عليهم قال‪ :‬يا بني عبد الشهل‪ ،‬كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا‪ :‬سيدنا وأفضلنا رأًيا‪ ،‬وأيمننا‬ ‫نقيبة‪ ،‬قال‪ :‬فإن كل م رجالكم ونسائكم علّى حرا م حتى تؤمنوا بال ورسوله‪ .‬فما أمسى فيهم رجل ول امرأ ة‬ ‫ص ْيـِر م ـ تأخر إسلمه إلى يو م أحد‪ ،‬فأسلم ذلك اليو م وقاتل‬ ‫إل مسلًم اـ ومسلمة‪ ،‬إل رجل واحد ـ وهو الُ َ‬ ‫وقتل‪ ،‬ولم يسجد ل سجد ة‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]عمل قليًل وأجر كثيًرا[‪.‬‬

‫وأقا م مصعب في بيت أسعد بن زرار ة يدعو الناس إلى السل م‪ ،‬حتى لم تبق دار من دور النصار إل وفيها‬ ‫رجال ونساء مسلمون‪ ،‬إل ما كان من دار بني أمية بن زيد وَخ طْـَم ةـ ووائل‪ .‬كان فيهم قيس بن السلت‬

‫الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بهم عن السل م حتى كان عا م الخندق سنة خمس من الهجر ة‪.‬‬

‫وقبل حلول موسم الحج التالى ـ أي حج السنة الثالثة عشر ة ـ عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بشائر الفوز‪ ،‬ويقص عليه خبر قبائل يثرب‪ ،‬وما فيها من مواهب الخير‪ ،‬وما‬

‫لها من قو ة ومنعة‪.‬‬ ‫بيعة العقبة الثانية‬

‫في موسم الحج في السنة الثالثة عشر ة من النبو ة ـ يونيو سنة ‪ 622‬م ـ حضر لداء مناسك الحج بضع‬ ‫وسبعون نفًس اـ من المسلمين من أهل يثرب‪،‬جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين‪ ،‬وقد تساءل هؤلء‬ ‫المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق‪ :‬حتى متى نترك رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟‬

‫فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى ال عليه وسلم اتصالت سرية أدت إلى اتفاق الفريقين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫على أن يجتمعوا في أوسط أيا م التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمر ة الولى من منى‪،‬‬

‫وأن يتم الجتماع في سرية تامة في ظل م الليل‪.‬‬

‫ولنترك أحد قاد ة النصار يصف لنا هذا الجتماع التاريخي الذي حول مجرى اليا م في صراع الوثنية‬ ‫والسل م‪ .‬يقول كعب بن مالك النصاري رضي ال عنه‪:‬‬ ‫خرجنا إلى الحج‪ ،‬وواعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيا م التشريق‪ ،‬فلما فرغنا‬

‫من الحج‪ ،‬وكانت الليلة التي واعدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم لها‪ ،‬ومعنا عبد ال بن عمرو بن‬

‫َح َرـا م أبو جابر‪ ،‬سيد من ساداتنا‪ ،‬وشريف من أشرافنا‪ ،‬أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من‬ ‫المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له‪ :‬يا أبا جابر‪ ،‬إنك سيد من ساداتنا‪ ،‬وشريف من أشرافنا‪ ،‬وإنا نرغب‬ ‫بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غًد اـ‪ .‬ثم دعوناه إلى السل م‪ ،‬وأخبرناه بميعاد رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم إيانا العقبة‪ ،‬قال‪ :‬فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيًبا‪.‬‬

‫قال كعب‪ :‬فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬نتسلل تسلل الَق طَـا‪ ،‬مستخفين‪ ،‬حتى اجتمعنا في ال ّ‬ ‫ش ْعـبـ عند العقبة‪،‬‬

‫ونحن ثلثة وسبعون رجًل ‪ ،‬ـ ـوامرأتان من نسائنا؛ نَُس ْيـَبة بنت كعب ـ أ م ُعَم اـر ة ـ من بني مازن بن‬ ‫النجار‪،‬وأسماء بنت عمرو ـ أ م منيع ـ من بني سلمة‪.‬‬

‫فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى جاءنا‪ ،‬ومعه عمه‪ :‬العباس بن عبد‬

‫المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إل أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه‪ ،‬ويتوثق له‪ ،‬وكان أول‬ ‫متكلم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بداية المحادثة وتشريح العباس لخطور ة المسئولية‬ ‫وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لبرا م التحالف الدينى والعسكرى‪ ،‬وكان أول المتكلمين هو‬

‫العباس بن عبد المطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬تكلم ليشرح لهم ـ بكل صراحة ـ خطور ة‬ ‫المسئولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف‪ .‬قال‪:‬‬

‫يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون النصار خزرجًـا‪ ،‬خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمًد اـ منا حيث‬ ‫قد علمتم‪ ،‬وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه‪،‬فهو في عز من قومه ومنعة في بلده‪ .‬وإنه‬ ‫قد أبي إل النحياز إليكم واللحوق بكم‪ ،‬فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه‪ ،‬ومانعوه ممن‬ ‫خالفه‪ ،‬فأنتم وما تحملتم من ذلك‪ .‬وإن كنتم ترون أنكم ُمْس لِـُم وـه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن‬ ‫الن فدعوه‪ .‬فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده‪.‬‬ ‫قال كعب‪ :‬فقلنا له‪ :‬قد سمعنا ما قلت‪ ،‬فتكلم يا رسول ال ‪ ،‬فخذ لنفسك ولربك ما أحببت‪.‬‬ ‫وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عز م صميم‪ ،‬وشجاعة مؤمنة‪ ،‬وإخلص كامل في تحمل هذه‬ ‫المسئولية العظيمة‪ ،‬وتحمل عواقبها الخطير ة‪.‬‬

‫وألقى رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك بيانه‪ ،‬ثم تمت البيعة‪.‬‬ ‫بنود البيعة‬ ‫وقد روى ذلك الما م أحمد عن جابر مفصًل‪ .‬قال جابر‪ :‬قلنا‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬عل م نبايعك؟ قال‪:‬‬ ‫‏]على السمع والطاعة في النشاط والكسل‪.‬‬ ‫وعلى النفقة في العسر واليسر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وعلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫وعلى أن تقوموا في ال ‪ ،‬ل تأخذكم في ال لومة لئم‪.‬‬ ‫وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم‪ ،‬وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم‪ ،‬ولكم‬

‫الجنة[‪.‬‬

‫وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الخير فقط من هذه البنود‪ ،‬ففيه‪ :‬قال كعب‪ :‬فتكلم‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فتل القرآن‪ ،‬ودعا إلى ال ‪ ،‬ورغب في السل م‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏]أبايعكم على‬

‫أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم[‪ .‬فأخذ البراء ابن َمْعـُرـور بيده ثم قال‪ :‬نعم‪ ،‬والذي بعثك‬ ‫بالحق نبًيا‪ ،‬لنمنعنك مما نمنع أُ​ُزَرنا منه‪ ،‬فبايعنا يا رسول ال ‪ ،‬فنحن وال أبناء الحرب وأهل الَْح ْلـَق ةـ‪،‬‬ ‫ورثناها كابًرا عن كابر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التّـيـَّه اـن‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬ ‫ال ‪ ،‬إن بيننا وبين الرجال حباًل ‪ ،‬ـ ـوإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك‪ ،‬ثم أظهرك‬ ‫ال إن ترجع إلى قومك وتدعنا؟‬

‫قال‪ :‬فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏]بل الّد ُ مـ الّد ُ مـ‪ ،‬والَه ْدـُ مـالَْه ْدـُ مــ‪ ،‬أنا منكم وأنتم منى‪،‬‬

‫أحارب من حاربتم‪ ،‬وأسالم من سالمتم[‪.‬‬ ‫التأكيد من خطور ة البيعة‬

‫وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة‪ ،‬وأجمعوا على الـشروع في عقدها قا م رجلن من الرعيل‬

‫الول ممن أسلموا في مواسم سنتى ‪ 11‬و ‪ 12‬من النبو ة‪ ،‬قا م أحدهما تلو الخر؛ ليؤكدا للقو م خطور ة‬ ‫المسئولية‪ ،‬حتى ل يبايعوه إل على جلية من المر‪ ،‬وليعرفا مدى استعداد القو م للتضحية‪ ،‬ويتأكدا من‬

‫ذلك‪.‬‬ ‫ض لَـة‪ :‬هل تدورن عل م تبايعون هذا‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عباد ة بن نَ ْ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الرجل؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إنكم تبايعونه على حرب الحمر والسود من الناس‪ .‬فإن كنتم ترون أنكم إذا‬

‫تـ أموالكم مصيبة‪ ،‬وأشرافكم قتل أسلمتموه‪ ،‬فمن الن‪ ،‬فهو وال إن فعلتم خزى الدنيا والخر ة‪.‬‬ ‫نـَه َكـ ْ‬ ‫وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نـَْه َكـةـ الموال وقتل الشراف فخذوه‪ ،‬فهو وال‬ ‫خير الدنيا والخـر ة‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فإنا نأخذه على مصيبة الموال وقتل الشراف‪ ،‬فما لنا بذلك يا رسول ال إن نحن وفينا بذلك؟‬ ‫قال‪ :‬‏]الجنة[‪ .‬قالوا‪ :‬ابسط يدك‪ ،‬فبسط يده فبايعوه‪.‬‬ ‫وفي رواية جابر ‏]قال[‪ :‬فقمنا نبايعه‪،‬فأخذ بيده أسعد بن زرار ة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال‪ :‬رويدا يا‬

‫أهل يثرب‪ ،‬إنا لم نضرب إليه أكباد البل إل ونحن نعلم أنه رسول ال ‪ ،‬وأن إخراجه اليو م مفارقة‬

‫العرب كافة‪ ،‬وقتل خياركم‪ ،‬وأن تعضكم السيوف‪ ،‬فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه‪ ،‬وأجركم على‬

‫ال ‪ ،‬وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند ال ‪.‬‬ ‫عقد البيعة‬

‫وبعد إقرار بنود البيعة‪ ،‬وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة‪ ،‬قال جابر ـ بعد أن حكى‬ ‫قول أسعد بن زرار ة ـ قال‪ :‬فقالوا‪ :‬يا أسعد‪ ،‬أِم ْطـ عنا يدك‪ .‬فوال ل نذر هذه البيعة‪ ،‬ول نستقيلها‪.‬‬ ‫وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القو م للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير‬ ‫مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬فبنو النجار يزعمون أن أبا‬

‫أمامة أسعد بن زرار ة كان أول من ضرب على يده‪ .‬وبعد ذلك بدأت البيعة العامة‪ ،‬قال جابر‪ :‬فقمنا إليه‬ ‫رجًل رجًل فأخذ علينا البيعة‪ ،‬يعطينا بذلك الجنة‪.‬‬ ‫وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قوًل‪ .‬ما صافح رسول ال صلى ال عليه وسلم امرأ ة‬ ‫أجنبية قط‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫اثنا عشر نقيًبا‬ ‫وبعد أن تمت البيعة طلب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشر زعيًم اـ يكونون نقباء‬ ‫على قومهم‪ ،‬يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة‪ ،‬فقال للقو م‪ :‬أخرجوا إلّى منكم اثنى‬ ‫عشر نقيًبا ليكونوا على قومهم بما فيهم‪.‬‬

‫فتم اختيارهم في الحال‪ ،‬وكانوا تسعة من الخزرج وثلثة من الوس‪.‬وهاك أسماءهم‪:‬‬ ‫نقباء الخزرج‬ ‫‪1‬ـ أسعد بن ُزَراَر ة بن عدس‪.‬‬ ‫‪2‬ـ سعد بن الّرِبيع بن عمرو‪.‬‬

‫‪3‬ـ عبد ال بن رواحة بن ثعلبة‪.‬‬ ‫‪4‬ـ رافع بن مالك بن الَعْج لــن‪.‬‬ ‫ص ْخـرـ‪.‬‬ ‫‪5‬ـ البراء بن َمْعـُرـور بن َ‬

‫‪6‬ـ عبد ال بن عمرو بن َح َرـا م‪.‬‬

‫‪7‬ـ عباد ة بن الصامت بن قيس‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ سعد بن عباد ة بن ُدلَْيم ‪.‬‬

‫‪9‬ـ المنذر بن عمرو بن ُخ نـَْيس ‪.‬‬

‫نقباء الوس‬

‫ضـْيـر بن ِس َم ـاـك‪.‬‬ ‫‪1‬ـ أَُس ْيـد بن ُح َ‬

‫‪2‬ـ سعد بن َخ ْيـثَ​َم ةـ بن الحارث‪.‬‬

‫‪3‬ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زبير‪.‬‬ ‫ولما تم اختيار هؤلء النقباء أخذ عليهم النبي صلى ال عليه وسلم ميثاًقا آخر بصفتهم رؤساء مسئولين‪.‬‬

‫قال لهم‪ :‬‏]أنتم على قومكم بما فيهم كفلء‪ ،‬ككفالـة الحواريين لعيسى ابن مريم‪ ،‬وأنا كفيل على‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قومي[ ـ يعنى المسلمين ـ قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫شيطان يكتشف المعاهد ة‬

‫ولما تم إبرا م المعاهد ة‪ ،‬وكان القو م على وشك الرفضاض‪ ،‬اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا‬ ‫الكتشاف جاء في اللحظة الخير ة‪ ،‬ولم يكن يمكن إبلغ زعماء قريش هذا الخبر سًرا‪ ،‬ليباغتوا‬

‫المجتمعين وهم في الشعب‪ ،‬قا م ذلك الشيطان على مرتفع من الرض‪،‬وصاح بأنفذ صوت سمع قط‪ :‬يا‬

‫أهل الَج بَـاجب ـ المنازل ـ هل لكم في ُمَذ ّمـمـ والصبا ة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم‪.‬‬ ‫ب العقبة‪ ،‬أما وال يا عدو ال لتفرغن لك‪ .‬ثم أمرهم أن‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]هذا أَز ّ‬ ‫ينفضوا إلى رحالهم[‪.‬‬ ‫استعداد النصار لضرب قريش‬ ‫وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عباد ة بن نضلة‪ :‬والذي بعثك بالحق‪ ،‬إن شئت لنميلن‬ ‫على أهل منى غًد اـ باسيافنا‪.‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]لم نؤمر بذلك‪ ،‬ولكن ارجعوا إلى رحالكم[‪ ،‬فرجعوا وناموا حتى‬ ‫أصبحوا‪.‬‬ ‫قريش تقد م الحتجاج إلى رؤساء يثرب‬

‫لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة‪ ،‬وساورتهم القلقل والحزان؛ لنهم كانوا على‬ ‫معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم‪ ،‬فما أن أصبحوا حتى توجه‬

‫وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقد م احتجاجه الشديد على هذه المعاهد ة‪،‬‬ ‫قال الوفد‪:‬‬ ‫‏]يا معشر الخزرج‪ ،‬إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا‪ ،‬وتبايعونه‬ ‫على حربنا‪ ،‬وإنه وال ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم[‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما كان مشركو الخزرج ل يعرفون شيًئا عن هذه البيعة؛ لنها تمت في سرية تامة في ظل م الليل‪،‬‬ ‫انبعث هؤلء المشركون يحلفون بال ‪ :‬ما كان من شيء وما علمناه‪ ،‬حتى أتوا عبد ال بن أبي بن‬

‫سلول‪ ،‬فجعل يقول‪ :‬هذا باطل‪ ،‬وما كان هذا‪،‬وما كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا‪ ،‬ولو كنت بيثرب‬

‫ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني‪.‬‬ ‫أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض‪ ،‬ثم لذوا بالصمت‪ ،‬فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات‪.‬‬ ‫ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين‪ ،‬فرجعوا خائبين‪.‬‬ ‫تأكد الخبر لدى قريش ومطارد ة المبايعين‬

‫ّ‬ ‫س وـنه ـ يكثرون البحث‬ ‫عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر‪ ،‬لكنهم لم يزالوا يَـتـنَط ُ‬ ‫عنه ويدققون النظر فيه ـ حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح‪ ،‬والبيعة قد تمت فعًل‪ .‬وذلك بعد ما نفر‬

‫الحجيج إلى أوطانهم‪ ،‬فسارع فرسانهم بمطارد ة اليثربيين‪ ،‬ولكن بعد فوات الوان‪ ،‬إل أنهم تمكنوا من‬ ‫رؤية سعد بن عباد ة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما‪ ،‬فأما المنذر فأعجز القو م‪ ،‬وأما سعد فألقوا القبض‬ ‫عليه‪ ،‬فربطوا يديه إلى عنقه بنِْس عـ َرْح لِــه‪ ،‬وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة‪،‬‬ ‫فجاء المطعم بن عدى والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يجير لهما‬

‫قوافلهما المار ة بالمدينة‪ ،‬وتشاورت النصار حين فقدوه أن يكروا إليه‪ ،‬فإذا هو قد طلع عليهم‪ ،‬فوصل‬

‫القو م جميًعا إلى المدينة‪.‬‬

‫هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب‬ ‫والولء‪ ،‬والتناصر بين أشتات المؤمنين‪ ،‬والثقة والشجاعة والستبسال في هذا السبيل‪ .‬فمؤمن من أهل‬

‫يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة‪ ،‬ويتعصب له‪،‬ويغضب من ظالمه‪ ،‬وتجيش في حناياه مشاعر‬ ‫الود لهذا الخ الذي أحبه بالغيب في ذات ال ‪.‬‬ ‫ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابر ة تزول على مر اليا م‪ ،‬بل كان مصدرها هو اليمان‬

‫بال وبرسوله وبكتابه‪ ،‬إيمان ل يزول أما م أي قو ة من قوات الظلم والعدوان‪ ،‬إيمان إذا هبت ريحه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫جاءت بالعجائب في العقيد ة والعمل‪ ،‬وبهذا اليمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر‬

‫أعماًل ‪ ،‬ـ ـويتركوا عليها آثاًرا خل عن نظائرها الغابر والحاضر‪ ،‬وسوف يخلو المستقبل‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫طلئـع الهجـر ة‬ ‫طلئـع الهجـر ة‬

‫في دار الندو ة ‏]برلمان قريش[‬

‫النقاش البرلماني والجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫طلئـع الهجـر ة‬ ‫وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح السل م في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة‬

‫ـ وهو أخطر كسب حصل عليه السل م منذ بداية دعوته ـ أذن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫للمسلمين بالهجر ة إلى هذا الوطن‪.‬‬

‫ولم يكن معنى الهجر ة إل إهدار المصالح‪ ،‬والتضحية بالموال‪ ،‬والنجا ة بالشخص فحسب‪ ،‬مع الشعار‬

‫بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها‪ ،‬وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم‪ ،‬ل يدرى ما‬ ‫يتمخض عنه من قلقل وأحزان‪.‬‬ ‫وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك‪ ،‬وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لما‬

‫كانوا يحسون به من الخطر‪ ،‬وهاك نماذج من ذلك‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ‬ ‫وزوجته وابنه‪ ،‬فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره‪ :‬هذه نفسك غلبتنا عليها‪ ،‬أرأيت صاحبتنا هذه؟‬

‫عل م نتركك تسير بها في البلد؟ فأخذوا منه زوجته‪ ،‬وغضب آل أبي سلمة لرجلهم‪،‬فقالوا‪ :‬ل نترك ابننا‬

‫معها إذ نزعتموها من صاحبنا‪ ،‬وتجاذبوا الغل م بينهم فخلعوا يده‪ ،‬وذهبوا به‪ .‬وانطلق أبو سلمة وحده‬ ‫إلى المدينة‪.‬‬

‫وكانت أ م سلمة رضي ال عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غدا ة بالبطح تبكى حتى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫تمسى‪ ،‬ومضى على ذلك نحو سنة‪ ،‬فرق لها أحد ذويها وقال‪ :‬أل تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها‬ ‫وبين زوجها وولدها‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬الحقى بزوجك إن شئت‪ ،‬فاسترجعت ابنها من عصبته‪ ،‬وخرجت تريد‬

‫المدينة ـ رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الودية ـ وليس معها‬ ‫أحد من خلق ال ‪ .‬حتى إذا كانت بالتـّْنِعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة‪ ،‬وبعد أن عرف حالها‬

‫شيعها حتى أقدمها إلى المدينة‪ ،‬فلما نظر إلى قباء‪ ،‬قال‪ :‬زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة ال‬

‫‪ ،‬ثم انصرف راجًعا إلى مكة‪.‬‬

‫صَه ْيـب بن ِس نـان الرومى بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما أراد الهجر ة قال له كفار‬ ‫‪ 2‬ـ وهاجر ُ‬

‫قريش‪ :‬أتيتنا صعلوًك اـ حقيًرا‪ ،‬فكثر مالك عندنا‪ ،‬وبلغت الذي بلغت‪ ،‬ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟‬

‫وال ل يكون ذلك‪ .‬فقال لهم صهيب‪ :‬أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فأني قد جعلت لكم مالى‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬‏]ربح صهيب‪ ،‬ربح‬ ‫صهيب[‪.‬‬

‫ضبـ‬ ‫‪ 3‬ـ وتواعد عمر بن الخطاب‪ ،‬وَعّياش بن أبي ربيعة‪ ،‬وهشا م بن العاص بن وائل موضًعا اسمه التـَّنا ُ‬ ‫فوق َس ِرـف يصبحون عنده‪ ،‬ثم يهاجرون إلى المدينة‪ ،‬فاجتمع عمر وعياش‪ ،‬وحبس عنهما هشا م‪.‬‬ ‫ولما قدما المدينة ونزل بقباء قد م أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأ م الثلثة واحد ة‪ ،‬وهي أسماء‬ ‫بنت ُمَخ ّرـَبة ـ فقال له‪ :‬إن أمك قد نذرت أل يمس رأسها مشط‪ ،‬ول تستظل بشمس حتى تراك‪ ،‬فـَرّق‬

‫لها‪ .‬فقال له عمر‪ :‬يا عياش‪ ،‬إنه وال إن يريدك القو م إل ليفتنوك عن دينك فاحذرهم‪ ،‬فوال لو آذى‬

‫أمك القمل لمتشطت‪ ،‬ولو قد اشتد عليها حر مكة لستظلت‪ ،‬فأبي عياش إل الخروج معهما ليبر قسم‬ ‫أمه‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه‪ ،‬فإنها ناقة نجيبة ذلول‪ ،‬فالز م ظهرها‪،‬‬ ‫فإن رابك من القو م ريب فانج عليها‪.‬‬

‫فخرج عليها معهما‪ ،‬حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‪ :‬يابن أمي‪ ،‬وال لقد استغلظت‬ ‫بعيري هذا‪ ،‬أفل تعقبني على ناقتك هذه؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فأناخ وأناخا ليتحول عليها‪ ،‬فلما استووا بالرض‬

‫عدوا عليه فأوثقاه وربطاه‪ ،‬ثم دخل به مكة نهاًرا موثًق اـ‪ ،‬وقال‪ :‬يا أهل مكة‪ ،‬هكذا فافعلوا بسفهائكم‪،‬‬

‫كما فعلنا بسفيهنا هذا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هذه ثلثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجر ة إذا علموا ذلك‪ .‬ولكن على رغم ذلك‬ ‫ض اـ‪ .‬وبعد شهرين وبضعة أيا م من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من‬ ‫خرج الناس أرساًل يتبع بعضهم بع ً‬ ‫المسلمين إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ وإل من احتبسه‬

‫المشركون كرًه اـ‪ ،‬وقد أعد رسول ال صلى ال عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج‪ ،‬وأعد أبو‬ ‫بكر جهازه‪.‬‬ ‫روى البخاري عن عائشة قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم للمسلمين‪ :‬‏]أني أريت دار‬ ‫هجرتكم‪ ،‬ذات نخل بين لبَـتـَْين [ ـ وهما الحرتان ـ فهاجر من هاجر قبل المدينة‪ ،‬ورجع عامة من كان‬

‫هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة‪ ،‬وتجهز أبو بكر قبل المدينة‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏]على ِرْس لِــك‪ ،‬فأني أرجو أن يؤذن لي[‪ .‬فقال له أبو بكر‪ :‬وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال‪:‬‬

‫‏]نعم[‪ ،‬فحبس أبو بكر نفسه على رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصحبه‪ ،‬وعلف راحلتين كانتا عنده‬ ‫ط ـ أربعة أشهر‪.‬‬ ‫س َمـرـ ـ وهو الَخ بَـ ُ‬ ‫ورق ال ّ‬ ‫في دار الندو ة ‏]برلمان قريش[‬ ‫ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا‪ ،‬وحملوا وساقوا‬

‫الذرارى والطفال والموال إلى الوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن‪ ،‬وساورهم القلق والهم بشكل لم‬ ‫يسبق له مثيل‪ ،‬فقد تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم‪ ،‬أخذ يهدد كيانهم الوثني والقتصادي‪.‬‬ ‫فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى ال عليه وسلم من غاية قو ة التأثير مع كمال القياد ة‬

‫والرشاد‪ ،‬وما في أصحابه من العزيمة والستقامة والفداء في سبيله‪ ،‬ثم ما في قبائل الوس والخزرج من‬

‫القو ة والمنعة‪ ،‬وما في عقلء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلح‪ ،‬والتداعي إلى نبذ الحقاد‪،‬‬ ‫ولسيما بعد أن ذاقوا مرار ة الحروب الهلية طيلة أعوا م من الدهر‪.‬‬

‫كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التى تمر بساحل البحر‬ ‫الحمر من اليمن إلى الشا م‪ .‬وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشا م بقدر ربع مليون دينار ذهب سنوًيا‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫سوى ما كان لهل الطائف وغيرها‪ .‬ومعلو م أن مدار هذه التجار ة كان على استقرار المن في تلك‬

‫الطريق‪.‬‬

‫فل يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعو ة السلمية في يثرب‪ ،‬ومجابهة أهلها ضدهم‪.‬‬ ‫شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم‪ ،‬فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا‬ ‫الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعو ة السل م محمدصلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وفي يو م الخميس ‪ 26‬من شهر صفر سنة ‪ 14‬من النبو ة‪ ،‬الموافق ‪ 12‬من شهر سبتمبر سنة ‪ 622‬م ـ أي‬

‫بعد شهرين ونصف تقريًبا من بيعة العقبة الكبرى ـ عقد برلمان مكة ‏]دار الندو ة[ في أوائل النهارأخطر‬

‫اجتماع له في تاريخه‪ ،‬وتوافد إلى هذا الجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل‬

‫القضاء سريًعا على حامل لواء الدعو ة السلمية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائًيا‪ .‬وكانت الوجوه البارز ة‬ ‫في هذا الجتماع الخطير من نواب قبائل قريش‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ أبو جهل بن هشا م‪ ،‬عن قبيلة بني مخزو م‪.‬‬ ‫‪4 ،3 ،2‬ـ جبير بن ُمطِْعم‪ ،‬وطَُعْيَم ةـ بن عدى‪ ،‬والحارث بن عامر‪ ،‬عن بني نـَْو فَـل بن عبد مناف‪.‬‬ ‫‪7 ،6 ،5‬ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬عن بني عبد شمس بن عبد مناف‪.‬‬ ‫ض رـ بن الحارث‪ ،‬عن بني عبد الدار‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ النّ ْ‬ ‫‪11 ،10 ،9‬ـ أبو البَْخ تَـِرى بن هشا م‪ ،‬وَزْم َعـة بن السود‪ ،‬وَح ِكـيم بن ِح َزـا م‪،‬عن بني أسد بن عبد العزى‪.‬‬ ‫‪13 ،12‬ـ نـبُـَْيه وُمنَّبه ابنا الحجاج‪ ،‬عن بني سهم‪.‬‬ ‫‪14‬ـ أمية بن َخ لَـف‪ ،‬عن بني ُج َمـحـ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما جاءوا إلى دار الندو ة حسب الميعاد‪ ،‬اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل‪ ،‬عليه بَ ّ‬ ‫ت له‪ ،‬ووقف على‬ ‫الباب‪ ،‬فقالوا‪ :‬من الشيخ؟ قال‪ :‬شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما‬ ‫تقولون‪ ،‬وعسى أل يعدمكم منه رأًيا ونصًح اـ‪ .‬قالوا‪ :‬أجل‪ ،‬فادخل‪ ،‬فدخل معهم‪.‬‬

‫النقاش البرلماني والجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وبعد أن تكامل الجتماع بدأ عرض القتراحات والحلول‪ ،‬ودار النقاش طويًل‪ .‬قال أبو السود‪ :‬نخرجه‬

‫من بين أظهرنا وننفيه من بلدنا‪ ،‬ول نبالي أين ذهب‪ ،‬ول حيث وقع‪ ،‬فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما‬ ‫كانت‪.‬‬

‫قال الشيخ النجدى‪ :‬ل وال ما هذا لكم برأي‪ ،‬ألم تروا حسن حديثه‪ ،‬وحلو ة منطقه‪ ،‬وغلبته على‬ ‫قلوب الرجال بما يأتى به؟ وال لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب‪ ،‬ثم يسير بهم‬

‫إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلدكم‪ ،‬ثم يفعل بكم ما أراد‪ ،‬دبروا فيه رأًيا غير هذا‪.‬‬ ‫قال أبو البخترى‪ :‬احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باًبا‪ ،‬ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء‬ ‫الذين كانوا قبله ـ زهيًرا والنابغة ـ ومن مضى منهم‪ ،‬من هذا الموت‪ ،‬حتى يصيبه ما أصابهم‪.‬‬

‫قال الشيخ النجدى‪ :‬ل وال ما هذا لكم برأي‪ ،‬وال لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من‬

‫وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه‪ ،‬فلوشكوا أن يثبوا عليكم‪ ،‬فينزعوه من أيديكم‪ ،‬ثم يكاثروكم‬ ‫به حتى يغلبوكم على أمركم‪ ،‬ما هذا لكم برأي‪ ،‬فانظروا في غيره‪.‬‬ ‫وبعد أن رفض البرلمان هذين القتراحين‪ ،‬قد م إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه‪ ،‬تقد م به كبير‬

‫مجرمى مكة أبو جهل بن هشا م‪ .‬قال أبو جهل‪ :‬وال إن لى فيه رأًيا ما أراكم وقعتم عليه بعد‪ .‬قالوا‪ :‬وما‬ ‫هو يا أبا الحكم؟ قال‪ :‬أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاًبا جليًد اـ نَِس يـبا َو ِسـ يـًطا فينا‪ ،‬ثم نعطى كل فتى‬ ‫منهم سيًف اـ صارًماـ‪ ،‬ثم يعمدوا إليه‪ ،‬فيضربوه بها ضربة رجل واحد‪ ،‬فيقتلوه‪ ،‬فنستريح منه‪ ،‬فإنهم إذا‬ ‫فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميًعا‪ ،‬فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميًعا‪ ،‬فرضوا منا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بالَعْق لـ‪ ،‬فعقلناه لهم‪.‬‬ ‫قال الشيخ النجدى‪ :‬القول ما قال الرجل‪ ،‬هذا الرأي الذي ل رأي غيره‪.‬‬ ‫ووافق برلمان مكة على هذا القتراح الثم بالجماع‪ ،‬ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ‬

‫هذا القرار فوًرا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هجـر ة النبـي صلى ال عليه وسلم‬ ‫بين تدبير قريش وتدبير ال سبحانه وتعالى‬ ‫تطويق منزل الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر بيته‬

‫من الدار إلى الغار‬ ‫إذ هما في الغار‬

‫في الطريق إلى المدينة‬

‫النزول بقباء‬

‫الدخول في المدينة‬

‫بين تدبير قريش وتدبير ال سبحانه وتعالى‬ ‫من طبيعة مثل هذا الجتماع السرية للغاية‪ ،‬وأل يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات‪،‬‬ ‫وتغاير العادات المستمر ة‪ ،‬حتى ل يشم أحد رائحة التآمر والخطر‪ ،‬ول يدور في خلد أحد أن هناك‬

‫ض اـ ينبئ عن الشر‪ ،‬وكان هذا مكًرا من قريش‪ ،‬ولكنهم ماكروا بذلك ال سبحانه وتعالى‪ ،‬فخيبهم‬ ‫غمو ً‬

‫من حيث ل يشعرون‪ .‬فقد نزل جبريل عليه السل م إلى النبي صلى ال عليه وسلم بوحى من ربه تبارك‬ ‫وتعالى فأخبره بمؤامر ة قريش‪ ،‬وأن ال قد أذن له في الخروج‪ ،‬وحدد له وقت الهجر ة‪ ،‬وبين له خطة الرد‬ ‫على قريش فقال‪ :‬ل تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه‪.‬‬

‫وذهب النبي صلى ال عليه وسلم في الهاجر ة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ إلى أبي بكر رضي ال‬ ‫عنه ليبر م معه مراحل الهجر ة‪ ،‬قالت عائشة رضي ال عنها‪ :‬بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر‬ ‫الظهير ة‪ ،‬قال قائل لبي بكر‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم متقنًعا‪ ،‬في ساعة لم يكن يأتينا فيها‪،‬‬

‫فقال أبو بكر‪ :‬فداء له أبي وأمى‪ ،‬وال ما جاء به في هذه الساعة إل أمر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قالت‪ :‬فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،.‬فاستأذن‪،‬فأذن له فدخل‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم لبي بكر‪ :‬‏]أخرج َمْنـ عندك[‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬إنما هم أهلك‪ ،‬بأبي أنت يا رسول ال ‪ .‬قال‪:‬‬

‫‏]فأني قد أذن لى في الخروج[‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬الصحبة بأبي أنت يا رسول ال ؟ قال رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم‪ :‬‏]نعم[‪.‬‬

‫ثم أبر م معه خطة الهجر ة‪ ،‬ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل‪ .‬وقد استمر في أعماله اليومية حسب‬ ‫المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجر ة‪ ،‬أو لي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش‪.‬‬

‫تطويق منزل الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في العداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التى أبرمها برلمان مكة‬ ‫‏]دار الندو ة[ صباًح اـ‪ ،‬واختير لذلك أحد عشر رئيًس اـ من هؤلء الكابر‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫‪1‬ـ أبو جهل بن هشا م‪.‬‬

‫‪2‬ـ الَح َكـمـ بن أبي العاص‪.‬‬ ‫‪3‬ـ عُْق بَـة بن أبي ُمَعْيط‪.‬‬ ‫ض رـ بن الحارث‪.‬‬ ‫‪4‬ـ النّ ْ‬ ‫‪5‬ـ ُأمية بن َخ لَـف‪.‬‬

‫‪6‬ـ َزْم َعـة بن السود‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ىـ‪.‬‬ ‫‪7‬ـ طَُعْيمة بن َعد ّ‬ ‫‪ 8‬ـ أبو لهب‪.‬‬ ‫‪9‬ـ أبي بن خلف‪.‬‬

‫‪10‬ـ نـبُـَْيه بن الحجاج‪.‬‬ ‫‪11‬ـ أخوه ُمنَّبه بن الحجاج‪.‬‬ ‫وكان من عاد ة رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ينا م في أوائل الليل بعد صل ة العشاء‪ ،‬ويخرج بعد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نصف الليل إلى المسجد الحرا م‪ ،‬يصلي فيه قيا م الليل‪ ،‬فأمر علًيا رضي ال عنه تلك الليلة أن يضطجع‬ ‫على فراشه‪ ،‬ويتسجى ببرده الحضرمي الخضر‪ ،‬وأخبره أنه ل يصيبه مكروه‪.‬‬

‫فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء‪ ،‬ونا م عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته صلى ال عليه وسلم‬ ‫سًرا‪ ،‬واجتمعوا على بابه يرصدونه‪ ،‬وهم يظنونه نائًم اـ حتى إذا قا م وخرج وثبوا عليه‪ ،‬ونفذوا ما قرروا فيه‪.‬‬ ‫وكانوا على ثقة ويقين جاز م من نجاح هذه المؤامر ة الدنية‪ ،‬حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلء‪ ،‬وقال‬

‫مخاطًبا لصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء‪ :‬إن محمًد اـ يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك‬

‫العرب والعجم‪ ،‬ثم بعثتم من بعد موتكم‪ ،‬فجعلت لكم جنان كجنان الردن‪ ،‬وإن لم تفعلوا كان له فيكم‬ ‫ذبح‪ ،‬ثم بعثتم من بعد موتكم‪ ،‬ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها‪.‬‬

‫وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامر ة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى ال عليه وسلم من البيت‪،‬‬ ‫فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر‪ ،‬ولكن ال غالب على أمره‪ ،‬بيده ملكوت السموات والرض‪ ،‬يفعل‬ ‫ما يشاء‪ ،‬وهو يجير ول يجـار عليه‪ ،‬فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى ال عليه وسلم فيما بعد‪ :‬‏} َوإِـْذ‬ ‫ك الِّذ يـَن َك َفـُرـواْ لِيُثْبُِتوَك أَْو يـَْق تـُ​ُلوَك أَْو يُْخ ِرـُج وـَك َو يَـْم ُكـُرـوَنَو يَـْم ُكـُرـال ُ َواـلُ َخ يـُْر الَْم اـكِ​ِريَن{‬ ‫يَْم ُكـُرـ بِ َ‬ ‫‏]النفال‪.[30:‬‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر بيته‬ ‫وقد فشلت قريش في خطتهم فشًل ذريًعا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم من البيت‪ ،‬واخترق صفوفهم‪ ،‬وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم‪ ،‬وقد أخذ ال‬ ‫أبصارهم عنه فل يرونه‪ ،‬وهو يتلو‪ :‬‏} َوَجَعـْلَنا ِم نـ بـَْيِن أَيِْد يـِه ْمـ َس ّدـاـ َو ِمـْنـ َخ ْلـِف ِهـْمـ َس ّدـاـ فَأَْغَش يـَْناُه ْمـ فـَُه ْمـ لَ‬ ‫يـْب ِ‬ ‫ص ُرــوَن{ ‏]يس‪ .[9:‬فلم يبق منهم رجل إل وقد وضع على رأسه تراًبا‪ ،‬ومضى إلى بيت أبي بكر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليًل حتى لحقا بغار ثـَْو رـ في اتجاه اليمن‪.‬‬ ‫وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر‪ ،‬وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل‪ ،‬فقد جاءهم‬ ‫رجل ممن لم يكن معهم‪ ،‬ورآهم ببابه فقال‪ :‬ما تنتظرون؟ قالوا‪ :‬محمًد اـ‪ .‬قال‪ :‬خبتم وخسرتم‪ ،‬قد وال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مر بكم‪ ،‬وذر على رءوسكم التراب‪ ،‬وانطلق لحاجته‪ ،‬قالوا‪ :‬وال ما أبصرناه‪ ،‬وقاموا ينفضون التراب عن‬ ‫رءوسهم‪.‬‬

‫ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علًيا‪ ،‬فقالوا‪ :‬وال إن هذا لمحمد نائًم اـ‪ ،‬عليه برده‪ ،‬فلم يبرحوا‬ ‫كذلك حتى أصبحوا‪ .‬وقا م علّى عن الفراش‪ ،‬فسقط في أيديهم‪ ،‬وسألوه عن رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ل علم لي به‪.‬‬

‫من الدار إلى الغار‬ ‫غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم بيته في ليلة ‪ 27‬من شهر صفر سنة ‪ 14‬من النبو ة‪ ،‬الموافق‬ ‫‪ 12/13‬سبتمبر سنة ‪ 622‬م‪ .‬وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمّن الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي ال‬

‫عنه‪ .‬ثم غادر منزل الخير من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر‪.‬‬

‫ولما كان النبي صلى ال عليه وسلم يعلم أن قريًش اـ َس تَـِج ّد ـفي الطلب‪ ،‬وأن الطريق الذي ستتجه إليه‬

‫النظار لول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شماًل ‪ ،‬ـ ـفسلك الطريق الذي يضاده تماًماـ‪ ،‬وهو‬

‫الطريق الواقع جنوب مكة‪ ،‬والمتجه نحو اليمن‪ ،‬سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل‬ ‫يعرف بجبل ثـَْو رـ وهو جبل شامخ‪َ ،‬و ِعـرـ الطريق‪ ،‬صعب المرتقى‪ ،‬ذو أحجار كثير ة‪ ،‬فحفيت قدما رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت‬ ‫قدماه‪ ،‬وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل‪ ،‬وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة‬

‫الجبل عرف في التاريخ بغار ثور‪.‬‬ ‫إذ هما في الغار‬

‫ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر‪ :‬وال ل تدخله حتى أدخل قبلك‪ ،‬فإن كان فيه شيء أصابني دونك‪،‬‬ ‫فدخل فكسحه‪ ،‬ووجد في جانبه ثقًبا فشق إزاره وسدها به‪ ،‬وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه‪ ،‬ثم قال‬ ‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ادخل‪ ،‬فدخل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ووضع رأسه في حجره‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ونا م‪ ،‬فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر‪ ،‬ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫فسقطت دموعه على وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬‏]ما لك يا أبا بكر؟[ قال‪ :‬لدغت‪،‬‬

‫فداك أبي وأمي‪ ،‬فتفل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذهب ما يجده‪.‬‬ ‫وَك ُمـنَـا في الغار ثلث ليال‪ ،‬ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الحد‪ .‬وكان عبد ال بن أبي بكر يبيت‬ ‫عندهما‪ .‬قالت عائشة‪ :‬وهو غل م شاب ثَِق فـ لَِق نـ‪ ،‬فيُْد لِــج من عندهما بَس َحـٍرـ‪،‬ـ فيصبح مع قريش بمكة‬

‫كبائت‪ ،‬فل يسمع أمًرا يكتادان به إل وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظل م‪ ،‬و ‏]كان[‬ ‫يرعى عليهما عامر بن فـَُه يـَْر ة مولى أبي بكر ِم ْنـَح ةـ من غنم‪ ،‬فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من‬ ‫العشاء‪ ،‬فيبيتان في ِرْس لـ ـ وهو لبن ِم ْنـَح تِـهما وَرضيِف هـما ـ حتى يـَْنِعق بها عامر بن فـَُه يـَْر ة بغَ​َلس‪ ،‬يفعل‬ ‫ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلث‪ ،‬وكان عامر بن فهير ة يتبع بغنمه أثر عبد ال بن أبي بكر بعد‬ ‫ذهابه إلى مكة ليـَُعفي عليه‪.‬‬

‫أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلت رسول ال صلى ال عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ‬ ‫المؤامر ة‪ .‬فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا علًيا‪ ،‬وسحبوه إلى الكعبة‪ ،‬وحبسوه ساعة‪ ،‬علهم‬ ‫يظفرون بخبرهما‪.‬‬

‫ولما لم يحصلوا من علّي على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه‪ ،‬فخرجت إليهم أسماء بنت‬

‫أبي بكر‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬أين أبوك؟ قالت‪ :‬ل أدرى وال أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحًش اـ خبيًثا ـ‬ ‫فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها‪.‬‬ ‫وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدا م جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين‪،‬‬ ‫فوضعت جميع الطرق النافذ ة من مكة ‏]في جميع الجهات[ تحت المراقبة المسلحة الشديد ة‪ ،‬كما‬

‫قررت إعطاء مكافأ ة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو‬ ‫ميتين‪ ،‬كائًنا من كان‪.‬‬

‫وحينئذ جدت الفرسان والمشا ة وقصاص الثر في الطلب‪ ،‬وانتشروا في الجبال والوديان‪ ،‬والوهاد‬ ‫والهضاب‪ ،‬لكن من دون جدوى وبغير عائد ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد وصل المطاردون إلى باب الغار‪ ،‬ولكن ال غالب على أمره‪ ،‬روى البخاري عن أنس عن أبي بكر‬ ‫قال‪ :‬كنت مع النبي صلى ال عليه وسلم في الغار‪ ،‬فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدا م القو م‪ ،‬فقلت‪ :‬يا نبي‬

‫ال ‪ ،‬لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا‪ .‬قال‪ :‬‏]اسكت يا أبا بكر‪ ،‬اثنان‪ ،‬ال ثالثهما[‪ ،‬وفي لفظ‪ :‬‏]ما‬ ‫ظنك يا أبا بكر باثنين ال ثالثهما[‪.‬‬

‫وقد كانت معجز ة أكر م ال بها نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم‬

‫إل خطوات معدود ة‪.‬‬

‫في الطريق إلى المدينة‬ ‫وحين خمدت نار الطلب‪ ،‬وتوقفت أعمال دوريات التفتيش‪ ،‬وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار‬

‫المطارد ة الحثيثة ثلثة أيا م بدون جدوى‪ ،‬تهيأ رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى‬ ‫المدينة‪.‬‬ ‫وكانا قد استأجرا عبد ال بن أَُريِْق طـ الليثى‪ ،‬وكان هادًيا ِخ ّرـيًتا ـ ماهًرا بالطريق ـ وكان على دين كفار‬ ‫قريش‪ ،‬وأمناه على ذلك‪ ،‬وسلما إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعداه غار ثـَْو رـ بعد ثلث ليال براحلتيهما‪ ،‬فلما‬

‫كانت ليلة الثنين ـ غر ة ربيع الول سنة ‪1‬هـ ‪ 16 /‬سبتمبر سنة ‪ 622‬م ـ جاءهما عبد ال بن أريقط‬ ‫بالراحلتين‪ ،‬وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى ال عليه وسلم عند مشاورته في البيت‪ :‬بأبي أنت يا‬

‫رسول ال ‪ ،‬خذ إحدى راحلتى هاتين‪ ،‬وقرب إليه أفضلهما‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫بالثمن‪ .‬وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي ال عنها ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـاـًماـ‪ ،‬فلما‬ ‫س ْفـَرـتهما‪ ،‬ونسيت أن تجعل لها ع َ‬ ‫ُ‬ ‫ارتحل ذهبت لتعلق السفر ة‪ ،‬فإذا ليس لها عصا م‪ ،‬فشقت نطاقها باثنين‪ ،‬فعلقت السفر ة بواحد‪،‬‬ ‫وانتطقت بالخر فسميت‪ :‬ذات النطاقين‪.‬‬

‫ثم ارتحل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر رضي ال عنه وارتحل معهما عامر بن فـَُه ْيـر ة‪ ،‬وأخذ‬ ‫بهم الدليل ـ عبد ال بن أريقط ـ على طريق السواحل‪.‬‬ ‫وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن‪ ،‬ثم اتجه غرًبا نحو‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الساحل‪ ،‬حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس‪ ،‬اتجه شماًل على مقربة من شاطئ البحر الحمر‪،‬‬ ‫وسلك طريًق اـ لم يكن يسلكه أحد إل نادًرا‪.‬‬ ‫وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذا الطريق‪ ،‬قال‪ :‬لما‬ ‫خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة‪ ،‬ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من‬

‫عُْس َفـاـن‪ ،‬ثم سلك بهما على أسفل أَمجـ‪ ،‬ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قَُد يْـًد اـ‪،‬‬ ‫ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الَْخ ّرـار‪ ،‬ثم سلك بهما ثـَّنية الَْم ّرـ ة‪ ،‬ثم سلك بهما لِْق ًفـاـ‪ ،‬ثم‬ ‫أجاز بهما َمْدـ لَـَج ةـ لِْق فـ‪ ،‬ثم استبطن بهما َمْدـ لَــجة ِم َجـاـج‪ ،‬ثم سلك بهما َمْرـِج ح ـِم َجـاـح‪ ،‬ثم تبطن بهما‬ ‫ض َوـيْـن‪ ،‬ثم بطن ذى َك ْشـرــ‪ ،‬ثم أخذ بهما على الَْج َدـاـِج دــ‪ ،‬ثم على الجرد‪ ،‬ثم سلك‬ ‫َمْرـِج ح ـمن ذى الغُ ْ‬ ‫بهما ذا سلم من بطن أعدا َمْدـ لَـَج ةـ تِْع ِهـَنـ‪،‬ـ ثم على الَعَبابيد‪ ،‬ثم أجاز بهما الَف اـَج ةـ‪ ،‬ثم هبط بهما الَْعْر جـ‪،‬‬ ‫ثم سلك بهما ثنية الَعاِئر ـ عن يمين َرُك وـبة ـ حتى هبط بهما بطن ِرْئم‪ ،‬ثم قد م بهما على ُقباء ‪.‬‬ ‫وهاك بعض ما وقع في الطريق‬ ‫‪1‬ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي ال عنه قال‪ :‬أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قا م قائم الظهير ة‬

‫وخل الطريق‪ ،‬ل يمر فيه أحد‪ ،‬فرفعت لنا صخر ة طويلة‪ ،‬لها ظل لم تأت عليها الشمس‪ ،‬فنزلنا عنده‪،‬‬

‫وسويت للنبي صلى ال عليه وسلم مكاًنا بيدى‪ ،‬ينا م عليه‪ ،‬وبسطت عليه فرو ة‪ ،‬وقلت‪ :‬نم يا رسول ال‬ ‫‪ ،‬وأنا أنفض لك ما حولك‪ ،‬فنا م‪ ،‬وخرجت أنفض ما حوله‪ ،‬فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخر ة‪ ،‬يريد‬ ‫منها مثل الذي أردنا‪ ،‬فقلت له‪ :‬لمن أنت يا غل م؟ فقال‪ :‬لرجل من أهل المدينة أو مكة‪ .‬قلت‪ :‬أفي‬

‫غنمك لبن؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬أفتحلب؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فأخذ شا ة‪ ،‬فقلت‪ :‬انفض الضرع من التراب والشعر‬

‫والَق َذـىـ‪ ،‬فحلب في قعب ُك ثْـبة من لبن‪ ،‬ومعى إداو ة حملتها للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يرتوى منها‪،‬‬

‫يشرب ويتوضأ‪ ،‬فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم فكرهت أن أوقظه‪ ،‬فوافقته حين استيقظ‪ ،‬فصببت من‬ ‫الماء على اللبن حتى برد أسفله‪ ،‬فقلت‪ :‬اشرب يا رسول ال ‪ ،‬فشرب حتى رضيت‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏]ألم يأن‬ ‫للرحيل؟[ قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فارتحلنا‪.‬‬

‫‪2‬ـ وكان من دأب أبي بكر رضي ال عنه أنه كان ردًفا للنبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان شيًخ اـ يعرف‪،‬‬ ‫ونبى ال صلى ال عليه وسلم شاب ل يعرف‪ ،‬فيلقى الرجل أبا بكر فيقول‪ :‬من هذا الرجل الذي بين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يديك؟ فيقول‪ :‬هذا الرجل يهدينى الطريق‪ ،‬فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق‪ ،‬وإنما يعنى سبيل‬ ‫الخير‪.‬‬

‫‪3‬ـ وفي اليو م الثاني أو الثالث مر بخيمتى أ م َمْعـبَـد الخزاعية‪ ،‬وكان موقعهما بالُم َشـلّـل من ناحية قَُد يْـد‬ ‫على بعد نحو ‪ 130‬كيلو متًرا من مكة‪ ،‬وكانت أ م معبد امرأ ة برز ة جلد ة تحتبى بفناء الخيمة‪ ،‬ثم تطعم‬ ‫وتسقى من مر بها‪ ،‬فسألها‪ :‬هل عندها شيء؟ فقالت‪ :‬وال لو كان عندنا شيء ما أعوزكم‪ ،‬الِق َرـى‬ ‫والشاء عازب‪ ،‬وكانت َس نَـةٌ َش ْهـبــاء‪.‬‬ ‫فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى شا ة في كسر الخيمة‪ ،‬فقال‪ :‬‏]ما هذه الشا ة يا أ م معبد؟[‬

‫قالت‪ :‬شا ة خلفها الجهد عن الغنم‪ ،‬فقال‪ :‬‏]هل بها من لبن؟[ قالت‪ :‬هي أجهد من ذلك‪ .‬فقال‪:‬‬

‫‏]أتأذنين لى أن أحلبها؟[ قالت‪ :‬نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلًبا فاحلبها‪ .‬فمسح رسول ال صلى ال‬ ‫ت ‪ ،‬ـفدعا بإناء لها يـَْربِـض الرهط‪ ،‬فحلب‬ ‫تـ عليه وَدّرـ ْ‬ ‫عليه وسلم بيده ضرعها‪ ،‬وسمى ال ودعا‪ ،‬فتـَف اـّج ْ‬ ‫فيه حتى علته الرغو ة‪ ،‬فسقاها‪ ،‬فشربت حتى رويت‪ ،‬وسقى أصحابه حتى رووا‪ ،‬ثم شرب‪ ،‬وحلب فيه‬

‫ثانًيا‪ ،‬حتى مل الناء‪ ،‬ثم غادره عندها فارتحلوا‪.‬‬

‫فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزًل ‪ ،‬ـ ـفلما رأي اللبن عجب‪ ،‬فقال‪ :‬من‬

‫أين لك هذا؟ والشا ة عازب‪ ،‬ول حلوبة في البيت؟ فقالت‪ :‬ل وال إل أنه مر بنا رجل مبارك كان من‬ ‫حديثه كيت وكيت‪ ،‬ومن حاله كذا وكذا‪ ،‬قال‪ :‬أني وال أراه صاحب قريش الذي تطلبه‪ِ ،‬‬ ‫ص ِفـيـه لى يا أ م‬ ‫معبد‪ ،‬فوصفته بصفاته الكريمة وصًف اـ بديًعا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته‬

‫صلى ال عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد‪ :‬وال هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره‬

‫ما ذكروا‪ ،‬لقد هممت أن أصحبه‪ ،‬ولفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيًل‪ .‬وأصبح صوت بمكة عالًيا‬ ‫يسمعونه ول يرون القائل‪:‬‬ ‫جزى ال رب العرش خير جزائه ** رفيقين َح لّـ خيمــتى أ م َمْعـبَ ـِد‬ ‫هـمـا نزل بالبِـ ـّر وارتحل به ** وأفلح من أمسى رفيق محمــد‬

‫ص ّىـ مــا َزَوىـ ال عنكــم ** به من فعال ل يَُح اـذى وُس ـْؤ ُدـد‬ ‫فيا لُق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ــد‬ ‫ليـَْه ِنـ بني كعـب مكــان َفتاتهــم ** ومقعُد هــا للمؤمنـين بَْم رـ َ‬

‫َس لُـوا أختكم عن شاتهـا وإنائهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـا ة تَْش ـَه ــد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قالت أسماء‪ :‬ما درينا أين توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة‬

‫فأنشد هذه البيات‪ ،‬والناس يتبعونه ويسمعون صوته ول يرونه حتى خرج من أعلها‪ .‬قالت‪ :‬فلما سمعنا‬ ‫قوله عرفنا حيث توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن وجهه إلى المدينة‪.‬‬

‫‪4‬ـ وتبعهما في الطريق ُس َرـاقة بن مالك‪ .‬قال سراقة‪ :‬بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومى بني‬ ‫ُمْد لــج‪ ،‬أقبل رجل منهم حتى قا م علينا ونحن جلوس‪ ،‬فقال‪ :‬يا سراقة‪ ،‬أني رأيت آنًف اـ أْس ِوـَد ةـ بالساحل‪،‬‬

‫أراها محمًد اـ وأصحابه‪ .‬قال سراقة‪ :‬فعرفت أنهم هم‪ ،‬فقلت له‪ :‬إنهم ليسوا بهم‪ ،‬ولكنك رأيت فلًنا‬ ‫وفلًنا انطلقوا بأعيننا‪ ،‬ثم لبثت في المجلس ساعة‪ ،‬ثم قمت فدخلت‪ ،‬فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى‪،‬‬ ‫ت بُزّج ِهـ‬ ‫وهي من وراء أَك َمـةـ‪ ،‬فتحبسها َعلَّى ‪،‬ـ وأخذت رمحى‪ ،‬فخرجت به من ظهر البيت‪ ،‬فَخ طَـطْ ُ‬ ‫ت بى‬ ‫تـ عاليه‪ ،‬حتى أتيت فرسى فركبتها‪ ،‬فَرفـَْع تُـها تـَُق ّرـب بى حتى دنوت منهم‪ ،‬فَعثـَر ْ‬ ‫الرض‪ ،‬وَخ َفـ ْ‬ ‫ضـ ُ‬ ‫فرسى فخررت عنها‪ ،‬فقمت‪ ،‬فأهويت يدى إلى كنانتى‪ ،‬فاستخرجت منها الزل م‪ ،‬فاستقسمت بها‪،‬‬

‫ب بي‪ ،‬حتى إذا سمعت قراء ة‬ ‫أُ‬ ‫ضّرُه ْمـ أ م ل؟ فخرج الذي أكره‪ ،‬فركبت فرسي ـ وعصيت الزل م ـ تـَُق ّرـ ُ‬ ‫تـ يدا فرسى في‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو ل يلتفت‪ ،‬وأبو بكر يكثر اللتفات ـ َس اـَخ ْ‬ ‫الرض حتى بلغتا الركبتين‪ ،‬فخررت عنها‪ ،‬ثم زجرتها فنهضت‪ ،‬فلم تَ​َك ْدـ تخرج يديها‪ ،‬فلما استوت‬ ‫قائمة إذا لثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان‪ ،‬فاستقسمت بالزل م‪ ،‬فخرج الذي أكره‪،‬‬

‫فناديتهم بالمان‪ ،‬فوقفوا‪ ،‬فركبت فرسى حتى جئتهم‪ ،‬ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس‬

‫عنهم أن سيظهر أْم ُرـ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن قومك قد جعلوا فيك الدية‪،‬‬

‫وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم‪ ،‬وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يـَْر َزـأني‪ ،‬ولم يسألني إل أن قال‪:‬‬ ‫‏]أَْخ ِ‬ ‫فـ عنا[‪ ،‬فسألته أن يكتب لى كتاب أْم ٍنـ‪،‬ـ فأمر عامر بن فـَُه ْيـر ة‪ ،‬فكتب لى في رقعة من أد م‪ ،‬ثم‬ ‫مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وفي رواية عن أبي بكر قال‪ :‬ارتحلنا والقو م يطلبوننا‪ ،‬فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن‬ ‫شـمـ‪ ،‬على فرس له‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا الطلب قد لحقنا يا رسول ال ‪ ،‬فقال‪ :‬‏}لَ تَْح َزـْن إِّن ال َ َمَعـَنا{‬ ‫ُج ْعـ ُ‬ ‫‏]التوبة‪.[40:‬‬

‫ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول‪ :‬قد استبرأت لكم الخبر‪ ،‬قد كفيتم ما ها هنا‪ .‬وكان‬ ‫أول النهار جاهًد اـ عليهما‪ ،‬وآخره حارًس اـ لهما‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صـْيـب السلمى ومعه نحو ثمانين بيًتا‪،‬‬ ‫‪ 5‬ـ وفي الطريق لقى النبي صلى ال عليه وسلم ُبريَْد ةـ بن الُح َ‬ ‫فأسلم وأسلموا‪ ،‬وصلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العشاء الخر ة فصلوا خلفه‪ ،‬وأقا م بريد ة بأرض‬

‫قومه حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أُ​ُح دـ‪.‬‬

‫وعن عبد ال بن بريد ة أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يتفاءل ول يتطير‪ ،‬فركب بريد ة في سبعين‬ ‫راكًبا من أهل بيته من بني سهم‪ ،‬فلقى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له‪ :‬‏]ممن أنت؟[ قال‪ :‬من‬ ‫أسلم‪ ،‬فقال‪ :‬لبي بكر‪ :‬سلمنا‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏]ِم ْنـ بني َمْنـ؟[ قال‪ :‬من بني سهم‪ .‬قال‪ :‬‏]خرج سهمك[‬ ‫‪6‬ـ ومر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأبي أْو سـ تميم بن َح َجـرـ أو بأبي تميم أوس بن حجر السلمى‪،‬‬

‫بقحداوات بين الُج ْحـَفـةـ وَه ْرـَشـى ـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره‪ ،‬فكان هو وأبو بكر على‬

‫جمل واحد‪ ،‬فحمله أوس على فحل من إبله‪ ،‬وبعث معهما غلًماـ له اسمه مسعود‪ ،‬وقال‪ :‬اسلك بهما‬ ‫حيث تعلم من محار م الطريق ول تفارقهما‪ ،‬فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة‪ ،‬ثم رد رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم مسعوًداـ إلى سيده‪ ،‬وأمره أن يأمر أوًس اـ أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس‪ ،‬وهو‬ ‫حلقتان‪ ،‬ومد بينهما مًد اـ‪ ،‬فهي سمتهم‪ .‬ولما أتى المشركون يو م أحد أرسل أوس غلمه مسعود بن ُه نـَْيَد ةـ‬

‫من الَعْر جـ على قدميه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يخبره بهم‪ .‬ذكره ابن َماـُك وـل عن الطبرى‪ ،‬وقد‬

‫أسلم بعد قدو م رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة‪ ،‬وكان يسكن العرج‪.‬‬

‫‪7‬ـ وفي الطريق ـ في بطن ِرْئم ـ لقى رسول ال صلى ال عليه وسلم الزبير‪ ،‬وهو في ركب من‬

‫المسلمين‪ ،‬كانوا تجاًرا قافلين من الشا م‪ ،‬فكسا الزبير رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا بكر ثياًبا‬ ‫ض اـ‪.‬‬ ‫بيا ً‬ ‫النزول بقباء‬ ‫وفي يو م الثنين ‪ 8‬ربيع الول سنة ‪ 14‬من النبو ة ـ وهي السنة الولى من الهجر ة ـ الموافق ‪ 23‬سبتمبر‬ ‫سنة ‪ 622‬م نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال عرو ة بن الزبير‪ :‬سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة‪ ،‬فكانوا‬

‫يغدون كل غدا ة إلى الَح ّرـ ة‪ ،‬فينتظرونه حتى يردهم حر الظهير ة‪ ،‬فانقلبوا يوًماـ بعد ما أطالوا انتظارهم‪،‬‬ ‫فلما أووا إلى بيوتهم أَْو فـي رجل من يهود على أُ​ُطم من آطامهم لمر ينظر إليه‪ ،‬فبصر برسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم وأصحابه مبـيّ ِ‬ ‫ض يــن يزول بهم السراب‪ ،‬فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته‪ :‬يا معاشر‬ ‫َُ‬ ‫العرب‪ ،‬هذا جدكم الذي تنتظرون‪ ،‬فثار المسلمون إلى السلح‪ .‬وتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫بظهر الحر ة‪.‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬وُس ِمـعـت الَوْجـ بَـةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف‪ ،‬وكبر المسلمون فرًح اـ بقدومه‪ ،‬وخرجوا‬ ‫للقائه‪ ،‬فتلقوه وحيوه بتحية النبو ة‪ ،‬فأحدقوا به مطيفين حوله‪ ،‬والسكينة تغشاه‪ ،‬والوحى ينزل عليه‪ :‬‏}فَِإّنـ‬ ‫ِ‬ ‫ك ظَِه يـٌر{ ‏]التحريم‪.[4:‬‬ ‫صـاـلُِح الُْم ْؤـِمـنِـيَن َواـلَْم َلـ ئِــَك ةُبـَْعَدـ َذلِ َ‬ ‫ال َ ُه َوـ َمْوـَلـ هُ ـَـوج ْبـِريُلَو َ‬ ‫قال عرو ة بن الزبير‪ :‬فتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في‬ ‫بني عمرو بن عوف‪ ،‬وذلك يو م الثنين من شهر ربيع الول‪ .‬فقا م أبو بكر للناس‪ ،‬وجلس رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم صامًتا‪ ،‬فطفق من جاء من النصار ممن لم ير رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫يحىى ـ وفي نسخة‪ :‬يجىء ـ أبا بكر‪ ،‬حتى أصابت الشمس رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل أبو‬

‫بكر حتى ظلل عليه بردائه‪ ،‬فعرف الناس رسول ال صلى ال عليه وسلم عند ذلك‪.‬‬

‫وكانت المدينة كلها قد زحفت للستقبال‪ ،‬وكان يوًماـ مشهوًداـ لم تشهد المدينة مثله في تاريخها‪ ،‬وقد‬ ‫رأي اليهود صدق بشار ة َح بـُْقوـق النبي‪ :‬إن ال جاء من التيمان‪ ،‬والقدوس من جبال فاران‪.‬‬

‫ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء على كلثو م بن الهد م‪ ،‬وقيل‪ :‬بل على سعد بن َخ ْيـثَ​َم ةـ‪،‬‬ ‫والول أثبت‪.‬‬

‫ومكث على بن أبي طالب رضي ال عنه بمكة ثلًثا حتى أدى عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫الودائع التي كانت عنده للناس‪ ،‬ثم هاجر ماشًيا على قدميه حتى لحقهما بقباء‪ ،‬ونزل على كلثو م بن‬

‫الَه ْدـ مـ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بقباء أربعة أيا م‪ :‬الثنين والثلثاء والربعاء والخميس‪ .‬وأسس‬

‫مسجد قباء وصلى فيه‪ ،‬وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبو ة‪ ،‬فلما كان اليو م الخامس ـ يو م‬ ‫الجمعة ـ ركب بأمر ال له‪ ،‬وأبو بكر ردفه‪ ،‬وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم‪،‬‬ ‫فسار نحو المدينة وهم حوله‪ ،‬وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف‪ ،‬فجمع بهم في المسجد الذي‬ ‫في بطن الوادى‪ ،‬وكانوا مائة رجل‪.‬‬ ‫الدخول في المدينة‬ ‫ثم سار النبي صلى ال عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك اليو م سميت بلد ة يثرب‬

‫بمدينة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويعبر عنها بالمدينة مختصًرا ـ وكان يوًماـ مشهوًداـ أغر‪ ،‬فقد ارتجت‬ ‫البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح‪ ،‬وتغنت بنات النصار بغاية الفرح والسرور‪:‬‬ ‫طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع‬ ‫وجـب الشـكـر علـينا ** م ــا دعــا لـلـه داع‬

‫أيـهـا المبـعـوث فـينا ** جـئـت بـالمـر المطاع‬ ‫والنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إل أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى‬

‫ال عليه وسلم عليه‪ ،‬فكان ل يمر بدار من دور النصار إل أخذوا خطا م راحلته‪ :‬هلم إلى العدد والعد ة‬ ‫والسلح والمنعة‪ ،‬فكان يقول لهم‪ :‬‏]خلوا سبيلها فإنها مأمور ة[‪ ،‬فلم تزل سائر ة به حتى وصلت إلى‬

‫موضع المسجد النبوى اليو م فبركت‪ ،‬ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليًل ‪ ،‬ـ ـثم التفتت ورجعت‬

‫فبركت في موضعها الول‪ ،‬فنزل عنها‪ ،‬وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى ال عليه وسلم ـ وكان من‬

‫توفيق ال لها‪ ،‬فإنه أحب أن ينزل على أخواله‪ ،‬يكرمهم بذلك‪ ،‬فجعل الناس يكلمون رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم في النزول عليهم‪ ،‬وبادر أبو أيوب النصارى إلى رحـله‪ ،‬فأدخله بيته‪،‬فجعل رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬‏]المرء مع رحله[‪ ،‬وجـاء أسعد بن زرار ة فأخـذ بزما م راحلته‪ ،‬فكانت عنــده‪.‬‬

‫وفي رواية أنس عند البخاري‪ ،‬قال نبى ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]أي بيوت أهلنا أقرب؟[ فقال أبو‬ ‫أيوب‪ :‬أنا يا رسول ال ‪ ،‬هذه دارى‪ ،‬وهذا بأبي‪ .‬قال‪ :‬‏]فانطلق فهيئ لنا مقيًل[‪ ،‬قال‪ :‬قوما على بركة‬ ‫ال ‪.‬‬ ‫وبعد أيا م وصلت إليه زوجته َس ْوـَدـ ةـ‪ ،‬وبنتاه فاطمة وأ م كلثو م‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأ م أيمن‪ ،‬وخرج معهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عبد ال بن أبي بكر بعيال أبي بكر‪ ،‬ومنهم عائشة‪ ،‬وبقيت زينب عند أبي العاص‪ ،‬لم يمكنها من‬

‫الخروج حتى هاجرت بعد بدر‪.‬‬

‫قالت عائشة‪ :‬وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض ال ‪ ،‬فكان بُطَْح اـن يجرى نَْج ًلـ ‪ ،‬ـ ـأي ماًء آِج نًـا‪.‬‬ ‫وقالت‪ :‬لما قد م رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلل‪ ،‬فدخلت عليهما فقلت‪:‬‬ ‫يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلل كيف تجدك؟ قالت‪ :‬فكان أبو بكر إذا أخذته الُح ّمـىـ يقول‪:‬‬ ‫ص بّـٌح في أهله ** والموت أدنى من ِش َرـاك نـَْع ِلـه‬ ‫كل امرئ ُم َ‬ ‫وكان بلل إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول‪:‬‬ ‫أل ليت ِش ْع ـِرـى هل أبيتَّن ليلة ** بـَو اـٍد وحـولى إْذِخ ٌر ـوَج لِـيـُل‬ ‫وهل أرْد نـ يومـًـا ميـاه ِم َجـنّـة ** وهل يـَْبُد َوـْنـ لى شامة وطَِف يـُل‬ ‫قالت عائشة‪ :‬فجئت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبرته‪ ،‬فقال‪ :‬‏]ال م العن شيبة بن ربيعة‪ ،‬وعتبة‬ ‫بن ربيعة‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء[‪ .‬ثم قال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏]ال م حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد‪ ،‬وصححها‪ ،‬وبارك في صاعها ومدها‪ ،‬وانقل‬ ‫حماها فاجعلها بالُج ْحـَفـةـ[‪.‬‬ ‫وقد استجاب ال دعاءه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأرى في المنا م أن امرأ ة سوداء ثائر ة الرأس خرجت من‬

‫المدينة حتى نزلت بالَم ْهـيـَعة‪ ،‬وهي الجحفة‪ .‬وكان ذلك عبار ة عن نقل وباء المدينة إلى الجحفة‪ ،‬وبذلك‬ ‫استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شد ة مناخ المدينة‪.‬‬

‫إلى هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى ال عليه وسلم بعد النبو ة‪ ،‬وهو العهد المكى‪ .‬وفيما يلى نقد م‬ ‫باليجاز عهده المدنى صلى ال عليه وسلم‪ .‬وبال التوفيق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫العهد المدني عهد الدعو ة والجهاد والنجاح‬ ‫مراحل الدعو ة والجهاد في العهد المدني‬ ‫سكان المدينة وأحوالهم عند الهجر ة‬

‫مراحل الدعو ة والجهاد في العهد المدني‬ ‫يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلث مراحل‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ مرحلة تأسيس المجتمع السلمي‪ ،‬وتمكين الدعو ة السلمية‪ ،‬وقد أثيرت في هذه المرحلة القلقل‬ ‫والفتن من الداخل‪ ،‬وزحف فيها العداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين‪ ،‬ويقلعوا الدعو ة من‬

‫جذورها‪ .‬وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في‬ ‫ذى القعد ة سنة ست من الهجر ة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ مرحلة الصلح مع العدو الكبر‪ ،‬والفراغ لدعو ة ملوك الرض إلى السل م‪ ،‬وللقضاء على أطراف‬

‫المؤامرات‪ .‬وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجر ة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مرحلة استقبال الوفود‪ ،‬ودخول الناس في دين ال أفواًج اـ‪ .‬وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفا ة‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم في ربيع الول سنة إحدى عشر ة من الهجر ة‪.‬‬ ‫سكان المدينة وأحوالهم عند الهجر ة‬

‫لم يكن معنى الهجر ة التخلص والفرار من الفتنة فحسب‪ ،‬بل كانت الهجر ة تعنى مع هذا تعاوًنا على‬ ‫ض اـ على كل مسلم يقدر على الهجر ة أن يهاجر‬ ‫إقامة مجتمع جديد في بلد آمن‪ ،‬ولذلك أصبح فر ً‬ ‫ويسهم في بناء هذا الوطن الجديد‪ ،‬ويبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولشك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان هو الما م والقائد والهادى في بناء هذا المجتمع‪،‬‬

‫وكانت إليه أزمة المور بل نزاع‪.‬‬

‫والذين قابلهم رسول ال صلى ال عليه وسلم في المدينة كانوا على ثلثة أصناف‪ ،‬يختلف أحوال كل‬ ‫واحد منها بالنسبة إلى الخر اختلًفا واضًح اـ‪ ،‬وكان يواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديد ة‬ ‫غير المسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى الخر‪.‬‬ ‫وهذه الصناف الثلثة هي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ أصحابه الصفو ة الكرا م البرر ة رضي ال عنهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ المشركون الذين لم يؤمنوا بعد‪ ،‬وهم من صميم قبائل المدينة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ اليهــود‪.‬‬

‫أ ـ والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليهم كانت تختلف‬ ‫تماًماـ عن الظروف التي مروا بها في مكة‪ ،‬فهم في مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة وكانوا‬

‫يستهدفون هدًفا واحًد اـ‪ ،‬إل أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى‪ ،‬مقهورين أذلء مطرودين‪ ،‬لم يكن لهم‬ ‫من المر شيء‪ ،‬وإنما كان المر بيد أعدائهم في الدين‪ ،‬فلم يكن هؤلء المسلمون يستطيعون أن‬ ‫ينشئوا مجتمًعا إسلمًيا جديًد اـ بمواده التي ل يستغنى عنها أي مجتمع إنسإني في العالم؛ ولذلك نرى‬ ‫السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ السلمية‪ ،‬وعلى التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد‬ ‫وحده‪ ،‬وعلى الترغيب في البر والخير ومكار م الخلق والترهيب عن الرذائل والدنايا‪.‬‬

‫أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يو م‪ ،‬ولم يكن يسيطر عليهم أحد من الناس‪ ،‬وهذا‬ ‫يعنى أنهم قد آن لهم أن يواجهوا مسائل الحضار ة والعمران‪ ،‬والمعيشة والقتصاد‪ ،‬والسياسة والحكومة‪،‬‬ ‫والسلم والحرب‪ ،‬وأن تفصل لهم مسائل الحلل والحرا م‪ ،‬والعباد ة والخلق‪ ،‬وما إلى ذلك من شئون‬

‫الحيا ة‪.‬‬ ‫أي آن للمسلمين أن يكونوا مجتمًعا إسلمًيا يختلف في جميع مراحل الحيا ة عن المجتمع الجاهلي‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم النساني‪ ،‬ويكون ممثًل للدعو ة السلمية التي عانى لها‬

‫المسلمون ألواًنا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات‪.‬‬

‫ول يخفي أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط ل يمكن أن يستتب في يو م واحد‪ ،‬أو شهر واحد‪ ،‬أو‬ ‫سنة واحد ة‪ ،‬بل لبد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ‬

‫شيًئا فشيًئا‪ ،‬وكان ال كفيًل بهذا التشريع‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قائًم اـ بتنفيذه والرشاد‬ ‫ث ِفي اْلُّميّـيَن َرُس وـًل ّمنـُْه ْمـ يَـتـُْلو َعلَْيِه ْمـ آَياتِ​ِه‬ ‫إليه‪ ،‬وبتربية المسلمين وتزكيتهم وفق ذلك ‏} ُهَوـ الِّذ يـ بـَع َ‬ ‫ِ‬ ‫ب َواـلِْح ْك ـَمـةَ{ـ ‏]الجمعة‪.[2 :‬‬ ‫َو يـَُزّك يـِه ْمـَو يـَُعلُّم ُهـُمـ الْكَتا َ‬

‫ت َعلَْيِه ْمـ‬ ‫وكان الصحابة رضي ال عنهم مقبلين عليه بقلوبهم‪،‬يتحلون بأحكامه‪،‬ويستبشرون بها ‏} َوإِـَذا تُلِيَ ْ‬ ‫آَياتُهُ َزاَدتـُْه ْمـ ِإيَم اـًنا{ ‏]النفال‪ .[2 :‬وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا‪ ،‬فنقتصر‬ ‫منها على قدر الحاجة‪.‬‬

‫وكان هذا أعظم ما واجهه رسول ال صلى ال عليه وسلم بالنسبة للمسلمين‪ ،‬وهو الهدف السمى‬ ‫والمطلب النبيل المقصود من الدعو ة السلمية والرسالة المحمدية‪ ،‬ومعلو م أنه ليس بقضية طارئة تطلب‬

‫الستعجال‪ ،‬بل هي قضية أصيلة تحتاج إلى آجال‪ .‬نعم‪ ،‬كانت هناك قضايا طارئة تطلب الحل العاجل‬ ‫والحكيم‪ ،‬أهمها أن المسلمين كانوا على قسمين‪:‬‬ ‫قسم كانوا في أرضهم وديارهم وأموالهم‪ ،‬ل يهمهم من ذلك إل ما يهم الرجل وهو آمن في ِس ْر ـبِــه‪،‬‬

‫وهم النصار‪ ،‬وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد‪.‬‬

‫وقسم آخر فاتهم كل ذلك‪ ،‬ونجوا بأنفسهم إلى المدينة‪ ،‬وهم المهاجرون‪ ،‬فلم يكن لهم ملجأ يأوون‬ ‫إليه‪ ،‬ول عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم‪ ،‬ول مال يبلغون به قـَو اـًماـ من العيش‪ ،‬وكان عدد هؤلء‬

‫اللجئين غير قليل‪ ،‬ثم كانوا يزيدون يوًماـ فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالهجر ة لكل من آمن بال ورسوله‪.‬‬ ‫ومعلو م أن المدينة لم تكن على ثرو ة طائلة فتزعزع ميزانها القتصادى‪ ،‬وفي هذه الساعة الحرجة قامت‬ ‫القوات المعادية للسل م بشبه مقاطعة اقتصادية‪ ،‬قـَّلت لجلها المستوردات وتفاقمت الظروف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ب ـ أما القو م الثاني ـ وهم المشركون من صميم قبائل المدينة ـ فلم تكن لهم سيطر ة على المسلمين‪،‬‬ ‫وكان منهم من يتخالجه الشكوك ويتردد في ترك دين الباء‪ ،‬ولكن لم يكن يبطن العداو ة والكيد ضد‬ ‫السل م والمسلمين‪ ،‬ولم تمض عليهم مد ة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم ل‪.‬‬ ‫وكان فيهم من يبطن شديد الحن والعداو ة ضد رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬ولكن لم‬

‫يكن يستطيع أن يناوئهم‪ ،‬بل كان مضطًرا إلى إظهار الوّد والصفاء نظًرا إلى الظروف‪ ،‬وعلى رأس هؤلء‬ ‫عبد ال بن أبي‪ ،‬فقد كانت الوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب بـَُعاث ـ ولم يكونوا اجتمعوا‬ ‫على سياد ة أحد قبله ـ وكانوا قد نظموا له الَخ ْرـزـ‪ ،‬لُيتـَّوُج وـه ويَُم لّـُك وـه‪ ،‬وكان على وشك أن يصير ملًك اـ‬ ‫على أهل المدينة إذ بوغت بمجىء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانصراف قومه عنه إليه‪ ،‬فكان‬

‫يرى أنه استلبه الملك‪ ،‬فكان يبطن شديد العداو ة ضده‪ ،‬ولما رأي أن الظروف ل تساعده على شركه‪،‬‬ ‫وأنه سوف يحر م بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الحيا ة الدنيا أظهر السل م بعد بدر‪،‬‬

‫ولكن بقى مستبطًنا الكفر‪ ،‬فكان ل يجد مجاًل يكيد فيه برسول ال صلى ال عليه وسلم وبالمسلمين‬ ‫إل ويأتيه‪ ،‬وكان أصحابه ـ من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجو ة في ملكه ـ يساهمونه ويدعمونه‬

‫في تنفيذ خططه‪ ،‬وربما كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة المسلمين عميًل لتنفيذ خطتهم من حيث‬ ‫ل يشعر‪.‬‬

‫جـ ـ أما القو م الثالث ـ وهم اليهود ـ فإنهم كانوا قد انحازوا إلى الحجاز زمن الضطهاد الشورى‬

‫والروماني كما أسلفنا‪ ،‬وكانوا في الحقيقة عبرانيين‪ ،‬ولكن بعد النسحاب إلى الحجاز اصطبغوا بالصبغة‬

‫العربية في الزى واللغة والحضار ة‪ ،‬حتى صارت أسماؤهم وأسماء قبائلهم عربية‪ ،‬وحتى قامت بينهم وبين‬

‫العرب علقة الزواج والصهر‪ ،‬إل أنهم احتفظوا بعصبيتهم الجنسية‪ ،‬ولم يندمجوا في العرب قطًعا‪ ،‬بل‬

‫كانوا يفتخرون بجنسيتهم السرائيلية ـ اليهودية ـ وكانوا يحتقرون العرب احتقاًرا بالًغا وكانوا يرون أن‬ ‫أموال العرب مباحة لهم‪ ،‬يأكلونها كيف شاءوا‪ ،‬قال تعالى‪ :‬‏} َوِمـْنـ أَْه ِلـ الِْكَتا ِ‬ ‫ب َمْنـ ِإن تَأَْم ْنـهُ بِ​ِق نـَطاٍر يـَُؤ ّدـِهـ‬ ‫تـ َعلَْيِه َقآئًِم اـ َذلِ َ ِ‬ ‫س َعَليـَْنا ِفي‬ ‫ك َو ِمـنـُْه مـ ّمْن ِإن تَأَْم ْنـهُ بِ​ِد يـَناٍر لّ يـَُؤ ّدـِهـ إِلَْي َ‬ ‫إِلَْي َ‬ ‫ك إِلّ َماـ ُدْم َ‬ ‫ك بَأنـُّه ْمـ َقاُلواْ لَْي َ‬ ‫الُّميّـيَن َس بِـيٌل{ ‏]آل عمران‪ .[75 :‬ولم يكونوا متحمسين في نشر دينهم‪ ،‬وإنما جل بضاعتهم الدينية‬ ‫هي‪ :‬الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالها‪ ،‬وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقياد ة‬ ‫روحانية‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانوا َمَهـَرـً ة في فنون الكسب والمعيشة‪ ،‬فكانت في أيديهم تجار ة الحبوب والتمر والخمر والثياب‪،‬‬

‫كانوا يستوردون الثياب والحبوب والخمر‪ ،‬ويصدرون التمر‪ ،‬وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها‬ ‫عاملون‪ ،‬فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعاًفا مضاعفة‪ ،‬ثم لم يكونوا يقتصرون على ذلك‪ ،‬بل‬ ‫كانوا أكالين للربا‪ ،‬يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتهم؛ ليكسبوا بها مدائح الشعراء‬ ‫والسمعة الحسنة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ول طائلة‪ ،‬وكانوا يرتهنون لها أرض هؤلء‬

‫الرؤساء وزروعهم وحوائطهم‪ ،‬ثم ل يلبثون إل أعواًماـ حتى يتملكونها‪.‬‬

‫وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداو ة والشحناء بين القبائل العربية المجاور ة‪،‬‬ ‫ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعره تلك القبائل‪ ،‬فكانت تتطاحن في حروب‪ ،‬ولم تكد‬

‫تنطفئ نيرانها حتى تتحرك أنامل اليهود مر ة أخرى لتؤججها من جديد‪ .‬فإذا تم لهم ذلك جلسوا على‬ ‫حياد يرون نتائج هذا التحريض والغراء‪ ،‬ويستلذون بما يحل بهؤلء المساكين ـ العرب ـ من التعاسة‬

‫والبوار‪ ،‬ويزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى ل يحجموا عن الحرب لعسر النفقة‪ .‬وبهذا التدبير كانوا‬

‫يحصلون على فائدتين كبيرتين‪ :‬هما الحتفاظ على كيانهم اليهودى‪ ،‬وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعاًفا‬ ‫مضاعفة‪ ،‬ويكسبوا ثروات طائلة‪.‬‬ ‫وكانت في يثرب منهم ثلث قبائل مشهور ة‪:‬‬ ‫‪1‬ـ بنو قَـيْـنـَُق اـع ‪ :‬وكانوا حلفاء الخزرج‪ ،‬وكانت ديارهم داخل المدينة‪.‬‬ ‫‪2‬ـ بنو النّ ِ‬ ‫ض يــر‪ :‬وكانوا حلفاء الخزرج‪ ،‬وكانت ديارهم بضواحى المدينة‪.‬‬ ‫‪3‬ـ بنو قـَُرْيظة ‪ :‬وكانوا حلفاء الوس‪ ،‬وكانت ديارهم بضواحى المدينة‪.‬‬

‫وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الوس والخزرج منذ أمد بعيد‪ ،‬وقد ساهمت بأنفسها في‬ ‫حرب بـَُعاث‪ ،‬كل مع حلفائها‪.‬‬ ‫وطبًعا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى السل م إل بعين البغض والحقد؛ فالرسول لم يكن‬ ‫ش عصبيتهم الجنسية التي كانت مسيطر ة على نفسياتهم وعقليتهم‪،‬‬ ‫من أبناء جنسهم حتى يَُس ّكـنـ َج أْـ َ‬ ‫ودعو ة السل م لم تكن إل دعو ة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب‪ ،‬وتطفئ نار العداو ة والبغضاء‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وتدعو إلى التزا م المانة في كل الشئون‪ ،‬وإلى التقيد بأكل الحلل من طيب الموال‪ ،‬ومعنى كل ذلك‬

‫أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها‪ ،‬وحينئذ لبد من أن تفلت من براثن اليهود‪ ،‬فيفشل نشاطهم‬ ‫التجارى‪ ،‬ويحرمون أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم‪ ،‬بل يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل‪،‬‬

‫فتدخل في حسابها الموال الربوية التي أخذتها اليهود‪ ،‬وتقو م بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى‬ ‫اليهود في تأدية الربا‪.‬‬

‫كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعو ة السل م تحاول الستقرار في يثرب؛‬ ‫ولذلك كانوا يبطنون أشد العداو ة ضد السل م‪ ،‬وضد رسول ال صلى ال عليه وسلم منذ أن دخل‬

‫يثرب‪ ،‬وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إل بعد حين‪.‬‬ ‫ويظهر ذلك جلًيا بما رواه ابن إسحاق عن أ م المؤمنين صفية رضي ال عنها قال ابن إسحاق‪ :‬حدثت‬ ‫بـ ولد أبي إليه‪ ،‬وإلى عمي أبي ياسر‪ ،‬لم ألقهما‬ ‫عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت‪ :‬كنت أَح ّ‬ ‫قط مع ولد لهما إل أخذإني دونه‪ .‬قالت‪ :‬فلما قد م رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة ونزل قباء‬ ‫في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛ حيى بن أخطب‪ ،‬وعمى أبو ياسر بن أخطب ُمغَلِّس يــن‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس‪ ،‬قالت‪ :‬فأتيا َك اـلّْين كسلنين ساقطين يمشيان الُه َوـيـَْنى‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫فهششت إليهما كما كنت أصنع‪ ،‬فوال ما التفت إلّى واحد منهما‪ ،‬مع ما بهما من الغم‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫وسمعت عمى أبا ياسر‪ ،‬وهو يقول لبي حيي بن أخطب‪ :‬أهو هو؟ قال‪ :‬نعم وال‪ ،‬قال‪ :‬أتعرفه وتثبته؟‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فما في نفسك منه؟ قال‪ :‬عداوته وال ما بقيت‪.‬‬

‫ض اـ ما رواه البخاري في إسل م عبد ال بن َس لَـ م رضي ال عنه فقد كان حبًرا من‬ ‫ويشهد بذلك أي ً‬ ‫فطاحل علماء اليهود‪ ،‬ولما سمع بمقد م رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه‬

‫مستعجًل ‪ ،‬ـ ـوألقى إليه أسئلة ل يعلمها إل نبى‪ ،‬ولما سمع ردوده صلى ال عليه وسلم عليها آمن به‬ ‫تـ ‪ ،‬ـ إن علموا بإسلمي قبل أن تسألهم بـَ​َه تُـوِنى عندك‪،‬‬ ‫ساعته ومكانه‪ ،‬ثم قال له‪ :‬إن اليهود قو م بـُْه ٌ‬ ‫فأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم فجاءت اليهود‪ ،‬ودخل عبد ال بن سل م البيت‪ .‬فقال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]أي رجل فيكم عبد ال بن سل م؟[ قالوا‪ :‬أعلمنا وابن أعلمنا‪ ،‬وأخيرنا وابن‬

‫أخيرنا ـ وفي لفظ‪ :‬سيدنا وابن سيدنا‪ .‬وفي لفظ آخر‪ :‬خيرنا وابن خيرنا‪ ،‬وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]أفرأيتم إن أسلم عبد ال؟[ فقالوا‪ :‬أعاذه ال من ذلك ‏]مرتين أو‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثلثا[‪ ،‬فخرج إليهم عبد ال فقال‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال‪ ،‬وأشهد أن محمًد اـ رسول ال‪ ،‬قالوا‪ :‬شّرنا‬ ‫وابن شّرنا‪ ،‬ووقعوا فيه‪ .‬وفي لفظ‪ :‬فقال‪ :‬يا معشر اليهود‪ ،‬اتقوا ال‪ ،‬فوال الذي ل إله إل هو‪ ،‬إنكم‬ ‫لتعلمون أنه رسول ال‪ ،‬وأنه جاء بحق‪ .‬فقالوا‪ :‬كذبت‪.‬‬

‫وهذه أول تجربة تلقاها رسول ال صلى ال عليه وسلم من اليهود في أول يو م دخل فيه المدينة‪.‬‬ ‫وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى ال عليه وسلم حين نزل بالمدينة‪.‬‬ ‫أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها من يدين بدين قريش‪ ،‬وكانت قريش ألـد عـدو للسل م‬

‫والمسلمين‪ ،‬جربت عليهم طوال عشر ة أعوا م ـ حينما كان المسلمون تحت أيديها ـ كل أساليب‬

‫الرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب‪ ،‬والمقاطعة والتجويع‪ ،‬وأذاقتهم التنكيلت والويلت‪ ،‬وشنت‬

‫عليهم حرًبا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة‪ ،‬ولما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم‬ ‫وديارهم وأموالهم‪ ،‬وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم‪ ،‬بل حبست وعذبت من قدرت عليه‪ ،‬ولم‬

‫تقتصر على هذا‪ ،‬بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعو ة صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والقضاء عليه وعلى‬

‫دعوته‪ ،‬ولم تَأُْل جهًد اـ في تنفيذ هذه المؤامر ة‪ .‬فكان من الطبيعى جًد اـ‪ ،‬حينما نجا المسلمون منها إلى‬ ‫أرض تبعد نحو خمسمائة كيلو متر‪ ،‬أن تقو م بدورها السياسى والعسكرى‪ ،‬لما لها من الصدار ة الدنيوية‬ ‫والزعامة الدينية بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحر م ومجاور ة بيت ال وسدنته‪ ،‬وتغرى غيرها من‬

‫مشركي الجزير ة ضد أهل المدينة‪ ،‬وفعًل قامت بذلك كله حتى صارت المدينة محفوفة بالخطار‪ ،‬وفي‬ ‫ت لجلها المستوردات‪ ،‬في حين كان عدد اللجئين إليها يزيد يوًماـ بعد يو م‪،‬‬ ‫شبه مقاطعة شديد ة قـَلّ ْ‬

‫وبذلك كانت ‏]حالة الحرب[ قائمة بين هؤلء الطغا ة من أهل مكة ومن دان دينهم‪ ،‬وبين المسلمين في‬ ‫وطنهم الجديد‪.‬‬ ‫وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلء الطغا ة كما صودرت أموالهم‪ ،‬وأن يديلوا عليهم من‬ ‫التنكيلت بمثل ما أدالوا بها‪ ،‬وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حيا ة‬

‫المسلمين‪ ،‬وأن يكيلوا لهؤلء الطغا ة صاًعا بصاع حتى ل يجدوا سبيًل لباد ة المسلمين واستئصال‬ ‫خضرائهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهذه هي القضايا والمشاكل الخارجية التي واجهها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعدما ورد المدينة‪،‬‬ ‫وكان عليه أن يعالجها بحكمة بالغة حتى يخرج منها مكلًل بالنجاح‪.‬‬

‫وقد قا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بمعالجة كل القضايا أحسن قيا م‪ ،‬بتوفيق من ال وتأييده‪ ،‬فعامل‬ ‫كل قو م بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشد ة والنكال‪،‬وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس‬

‫وتعليم الكتاب والحكمة‪ ،‬ول شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحمة كان غالًبا على جانب‬ ‫الشد ة والعنت ـ حتى عاد المر إلى السل م وأهله في بضع سنوات‪ ،‬وسيجد القارئ كل ذلك جلًيا في‬ ‫الصفحات التية‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المرحلة الولى‬ ‫بناء مجتمع جديد‬ ‫بناء المسجد النبوي‬

‫المؤاخا ة بين المسلمين‬

‫ميثاق التحالف السلمي‬

‫أثر المعنويات في المجتمع‬ ‫بناء مجتمع جديد‬ ‫قد أسلفنا أن نزول رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يو م الجمعة ‏]‪ 12‬ربيع‬ ‫الول سنة ‪ 1‬هـ‪ /‬الموافق ‪ 27‬سبتمبر سنة ‪ 622‬م[‪ ،‬وأنه نزل في أرض أما م دار أبي أيوب‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‏]هاهنا المنزل إن شاء ال[‪ ،‬ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي ال عنه‬

‫بناء المسجد النبوي‬ ‫وأول خطو ة خطاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي‪ ،‬واختار له‬ ‫المكان الذي بركت فيه ناقته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاشتراه من غلمين يتيمين كانا يملكانه‪ ،‬وأسهم في‬ ‫بنائه بنفسه‪ ،‬فكان ينقل اللِبن والحجار ة ويقول‪:‬‬ ‫ش الخر ة ** فاْغِف ْرـ للنصار والُم َهـاـِج َرـ ة[‬ ‫ش إل َعْي ُ‬ ‫‏]اللهم ل َعْي َ‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫‏]هذا الِح َم ـاـُل ل ِح َم ـاـل َخ ْيـَبر ** هــذا أب ـَّر َربـَّنا وأطْـَه رـ[‬ ‫وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل‪ ،‬حتى إن أحدهم ليقول‪:‬‬ ‫ضـلّـل‬ ‫لئن قـَع ـْد نــا والنبي يـَْع َمـلـ ** لـذاك ِم ـّنا الَعَم ـُل الُم َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين‪ ،‬وكان فيه خرب ونخل وشجر ة من غَْرقَـد‪ ،‬فأمر رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت‪ ،‬وبالَخ ِرـب فسويت‪ ،‬وبالنخل والشجر ة فقطعت‪ ،‬وصفت في‬ ‫قبلة المسجد‪ ،‬وكانت القبلة إلى بيت المقدس‪ ،‬وجعلت عضادتاه من حجار ة‪ ،‬وأقيمت حيطانه من اللبن‬ ‫والطين‪ ،‬وجعل سقفه من جريد النخل‪ ،‬وعُ​ُم دـه الجذوع‪ ،‬وفرشت أرضه بالرمال والحصباء‪ ،‬وجعلت له‬

‫ثلثة أبواب‪ ،‬وطوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع‪ ،‬والجانبان مثل ذلك أو دونه‪ ،‬وكان أساسه قريًبا‬ ‫من ثلثة أذرع‪.‬‬ ‫وبني بجانبه بيوًتا بالحجر واللبن‪ ،‬وسقفها بالجريد والجذوع‪ ،‬وهي حجرات أزواجه صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب‪.‬‬ ‫ولم يكن المسجد موضًعا لداء الصلوات فحسب‪ ،‬بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم السل م‬ ‫وتوجيهاته‪ ،‬ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية‬ ‫وحروبها‪ ،‬وقاعد ة لدار ة جميع الشئون وبث النطلقات‪ ،‬وبرلمان لعقد المجالس الستشارية والتنفيذية‪.‬‬ ‫وكان مع هذا كله داًرا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللجئين الذين لم يكن لهم هناك‬ ‫دار ول مال ول أهل ول بنون‪.‬‬ ‫وفي أوائل الهجر ة شرع الذان‪ ،‬تلك النغمة العلوية التي تدوى في الفاق‪ ،‬وتهز أرجاء الوجود‪ ،‬تعلن‬ ‫كل يو م خمس مرات بأن ل إله إل ال وأن محمًد اـ رسول ال‪ ،‬وتنفي كل كبرياء في الكون وكل دين‬ ‫في الوجود‪ ،‬إل كبرياء ال‪ ،‬والدين الذي جاء به عبده محمد رسول ال‪ .‬وقد تشرف برؤيته في المنا م‬

‫أحد الصحابة الخيار عبد ال بن زيد بن عبد ربه رضي ال عنه فأقره النبي صلى ال عليه وسلم وقد‬ ‫وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب رضي ال عنه فأقره النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والقصة بكاملها‬ ‫مروية في كتب السنة والسير ة‪.‬‬ ‫المؤاخا ة بين المسلمين‬ ‫ثم إن النبي صلى ال عليه وسلم بجانب قيامه ببناء المسجد‪ :‬مركز التجمع والتآلف‪ ،‬قا م بعمل آخر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫من أروع ما يأثره التاريخ‪ ،‬وهو عمل المؤاخا ة بين المهاجرين والنصار‪ ،‬قال ابن القيم‪ :‬ثم أخي رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم بين المهاجرين والنصار في دار أنس بن مالك‪ ،‬وكانوا تسعين رجًل ‪ ،‬ـ ـنصفهم‬ ‫من المهاجرين‪ ،‬ونصفهم من النصار‪ ،‬أخي بينهم على المواسا ة‪ ،‬ويتوارثون بعد الموت دون ذوى‬ ‫ضـُه ْمـ أَْو لَـى ِببـَْع ٍ‬ ‫ضـ { ‏]النفال‪:‬‬ ‫الرحا م إلى حين وقعة بدر‪ ،‬فلما أنزل ال عز وجل‪ :‬‏} َوأـُْولُـواْ الَْرَح اـِ م بـَْع ُ‬ ‫‪ [75‬رد التوارث إلى الرحم دون عقد الخو ة‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إنه أخي بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخا ة ثانية‪ ...‬والثبت الول‪ ،‬والمهاجرون كانوا‬

‫مستغنين بأخو ة السل م وأخو ة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخا ة فيما بينهم‪ ،‬بخلف المهاجرين مع‬ ‫النصار‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫ومعنى هذا الخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية‪ ،‬وتسقط فوارق النسب واللون والوطن‪ ،‬فل يكون‬

‫أساس الولء والبراء إل السل م‪.‬‬

‫وقد امتزجت عواطف اليثار والمواسا ة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الخو ة‪ ،‬وملت المجتمع‬ ‫الجديد بأروع المثال‪.‬‬ ‫روى البخاري‪ :‬أنهم لما قدموا المدينة أخي رسول ال صلى ال عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن‬

‫الربيع‪ ،‬فقال لعبد الرحمن‪ :‬إني أكثر النصار ماًل ‪ ،‬ـ ـفاقسم مالى نصفين‪ ،‬ولى امرأتان‪ ،‬فانظر أعجبهما‬

‫إليك فسمها لي‪ ،‬أطلقها‪ ،‬فإذا انقضت عدتها فتزوجها‪ ،‬قال‪ :‬بارك ال لك في أهلك ومالك‪ ،‬وأين‬ ‫سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع‪ ،‬فما انقلب إل ومعه فضل من أقٍِط وَس ْمـٍنـ‪،‬ـثم تابع الغدو‪ ،‬ثم‬ ‫صْف َرـ ة‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏] َمْهـيَـْم؟[ قال‪ :‬تزوجت‪ .‬قال‪ :‬‏]كم سقت‬ ‫جاء يوًماـ وبه أثر ُ‬

‫إليها؟[ قال‪ :‬نوا ة من ذهب‪.‬‬

‫وروى عن أبي هرير ة قال‪ :‬قالت النصار للنبى صلى ال عليه وسلم‪ :‬اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏]ل[‪ ،‬فقالوا‪ :‬فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمر ة‪ .‬قالوا‪ :‬سمعنا وأطعنا‪.‬‬ ‫وهذا يدلنا على ما كان عليه النصار من الحفاو ة البالغة بإخوانهم المهاجرين‪ ،‬ومن التضحية واليثار‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والود والصفاء‪ ،‬وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكر م حق قدره‪ ،‬فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إل‬

‫بقدر ما يقيم أودهم‪.‬‬

‫وحًق اـ فقد كانت هذه المؤاخا ة حكمًة فذً ة‪ ،‬وسياسًة حكيمًة‪ ،‬وحًل رشيًد اـ لكثير من المشاكل التي كان‬ ‫يواجهها المسلمون‪ ،‬والتي أشرنا إليها‪.‬‬ ‫ميثاق التحالف السلمي‬ ‫وكما قا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بعقد هذه المؤاخا ة بين المؤمنين‪ ،‬قا م بعقد معاهد ة أزاح بها ما‬

‫كان بينهم من حزازات في الجاهلية‪ ،‬وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائر ة‪ ،‬واستطاع بفضلها إيجاد‬ ‫ص اـ‪:‬‬ ‫وحد ة إسلمية شاملة‪ .‬وفيما يلى بنودها ملخ ً‬

‫هذا كتاب من محمد النبي صلى ال عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب‪ ،‬ومن تبعهم‬

‫فلحق بهم‪ ،‬وجاهد معهم‪:‬‬

‫‪1‬ـ إنهم أمة واحد ة من دون الناس‪.‬‬ ‫‪2‬ـ المهاجرون من قريش على ِربـَْعِتهم يتعاقلون بينهم‪ ،‬وهم يـَْف ُدـوـن َعاِنيهم بالمعروف والقسط بين‬ ‫المؤمنين‪ ،‬وكل قبيلة من النصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الولى‪ ،‬وكل طائفة منهم تفدى عانيها‬

‫بالمعروف والقسط بين المؤمنين‪.‬‬

‫‪3‬ـ وإن المؤمنين ل يتركون ُمْف َرـًح اـبينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل‪.‬‬ ‫‪4‬ـ وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم‪ ،‬أو ابتغى َدِسـ يــعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين‬

‫المؤمنين‪.‬‬

‫‪5‬ـ وإن أيديهم عليه جميًعا‪ ،‬ولو كان ولد أحدهم‪.‬‬ ‫‪6‬ـ ول يقتل مؤمن مؤمنا في كافر‪.‬‬ ‫‪7‬ـ ول ينصر كافًرا على مؤمن‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ وإن ذمة ال واحد ة يجير عليهم أدناهم‪.‬‬

‫‪9‬ـ وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والسو ة‪ ،‬غير مظلومين ول متناصرين عليهم‪.‬‬ ‫‪10‬ـ وإن سلم المؤمنين واحد ة؛ ل يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل ال إل على سواء وعدل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بينهم‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ وإنه ل يجير مشرك ماًل لقريش ول نفًس اـ‪ ،‬ول يحول دونه على مؤمن‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ وإنه من اعتبط مؤمًنا قتًل عن بينة فإنه قود به إل أن يرضى ولي المقتول‪.‬‬ ‫‪ 14‬ـ وإن المؤمنين عليه كافة‪ ،‬ول يحل لهم إل قيا م عليه‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ وإنه ل يحل لمؤمن أن ينصر محدًثا ول يؤويه‪ ،‬وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة ال وغضبه‬ ‫ص ْرـفـ ول َعْد لـ‪.‬‬ ‫يو م القيامة‪ ،‬ول يؤخذ منه َ‬ ‫‪ 16‬ـ وإنكم مهما اختلفـتم فيه من شيء‪ ،‬فإن مرده إلى ال ـ عز وجل ـ وإلى محمـد صلى ال عليه‬

‫وسلم‪.‬‬ ‫أثر المعنويات في المجتمع‬

‫بهذه الحكمة وبهذا التدبير أرسى رسول ال صلى ال عليه وسلم قواعد مجتمع جديد‪ ،‬كانت صورته‬ ‫الظاهر ة بيانا وآثاًرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك المجاد بفضل صحبة النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية‪ ،‬وتزكية النفوس‪ ،‬والحث على مكار م‬ ‫الخلق‪ ،‬ويؤدبهم بآداب الود والخاء والمجد والشرف والعباد ة والطاعة‪.‬‬ ‫سأله رجل‪ :‬أي السل م خير؟ قال‪ :‬‏]تطعم الطعا م‪ ،‬وتقرئ السل م على من عرفت ومن لم تعرف[‪.‬‬ ‫قال عبد ال بن سل م‪ :‬لما قد م النبي صلى ال عليه وسلم المدينة جئت‪ ،‬فلما تبينت وجهه‪ ،‬عرفت أن‬ ‫وجهه ليس بوجه كذاب‪ ،‬فكان أول ما قال‪ :‬‏]يا أيها الناس‪ ،‬أفشوا السل م‪ ،‬وأطعموا الطعا م‪ ،‬وصلوا‬

‫الرحا م‪ ،‬وصلوا بالليل والناس نيا م‪ ،‬تدخلوا الجنة بسل م[‬ ‫وكان يقول‪ :‬‏]ل يدخل الجنة من ل يأمن جاره بوائقه[‬ ‫ويقول‪ :‬‏]المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده[‬

‫ويقول‪ :‬‏]ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه[‬ ‫ويقول‪ :‬‏]المؤمنون كرجل واحد‪ ،‬إن اشتكى عينه اشتكى كله‪ ،‬وإن اشتكى رأسه اشتكى كله[‪.‬‬

‫ويقول‪ :‬‏]المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً[ ويقول‪ :‬‏]ل تباغضوا‪ ،‬ول تحاسدون‪ ،‬ول تدابروا‪،‬‬

‫وكونوا عباد ال إخوانًا‪ ،‬ول يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة أيا م[‪ .‬ويقول‪ :‬‏]المسلم أخو المسلم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ل يظلمه ول يسلمه‪ ،‬ومن كان في حاجة أخيه كان ال في حاجته‪ ،‬ومن فرج عن مسلم كربة فرج ال‬

‫عنه كربة من كربات يو م القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلماً ستره ال يو م القيامة[ ويقول‪ :‬‏]ارحموا من في الرض‬ ‫يرحمكم من في السماء[‪ .‬ويقول‪ :‬‏]ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه[‪ .‬ويقول‪ :‬‏]ِس بـاب‬ ‫المؤمن فسوق‪ ،‬وقتاله كفر[‪ .‬وكان يجعل إماطة الذى عن الطريق صدقة‪ ،‬ويعدها شعبة من شعب‬

‫اليمان ‪ .‬ويقول‪ :‬‏]الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار[‪ .‬ويقول‪ :‬‏]أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً‬ ‫على ُعرى كساه ال من ُخ ضـر الجنة‪ ،‬وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه ال من ثمار الجنة‪،‬‬

‫وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه ال من الرحيم المختو م[ ويقول‪ :‬‏]اتقوا الناء ولو بشق تمر ة‪،‬‬ ‫فإن لم تجد فبكلمة طيبة[‪ .‬وبجانب هذا كان يحث حثاً شديداً على الستعفاف عن المسألة‪ ،‬ويذكر‬

‫فضائل الصبر والقناعة‪ ،‬فكان يعد المسألة كدوحاً أو خدوشاً أو خموشاً في وجه السائل اللهم إل إذا‬ ‫كان مضطرًا‪ .‬كما كان يبين لهم ما في العبادات من الفضائل والجر والثواب عند ال‪ ،‬وكان يربطهم‬

‫بالوحي النازل عليه من المساء ربطاً مؤثقًا‪ ،‬فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه‪ :‬لتكون هذه الدراسة إشعاراً بما‬ ‫عليهم من حقوق الدعو ة وتبعات الرسلة‪ ،‬فضلً عن ضرور ة الفهم والتدبر‪ .‬وهكذا هذب تفكيرهم‪ ،‬وربع‬

‫معنوياتهم‪ ،‬وأيقظ مواهبهم‪ ،‬وزودهم بأعلى القيم والقدار‪ ،‬حتى وصول إلى أعلى قمة من الكمال عرفت‬

‫في تاريخ البشر بعد النبياء‪ .‬يقول عبد ال بن مسعود رضى ال عنه‪ :‬من كان مستنا فليستن بمن قد‬ ‫مات‪ ،‬فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كانوا أفضل هذه‬

‫المة؛ وأبرها قلوبًا‪ ،‬وأعمقها علما‪ ،‬وأقلها تكلفًا‪ ،‬اختارهم ال لصحبة نبيه‪ ،‬ولقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم‬ ‫فضلهم‪ ،‬وابتعوهم على أثرهم‪ ،‬وتمسكوا بما استطعتم من أخلقهم وسيرهم‪ ،‬فإنهم كانوا على الهدى‬ ‫المستقيم‪ .‬ثم إن هذا الرسول القائد العظم صلى ال عليه وسلم كان يتمتع من الصفات المعنوية‬

‫والظاهر ة‪ ،‬ومن الكمالت المواهب‪ ،‬والمجاد والفضائل‪ ،‬ومكار م الخلق ومحاسن العمال بما جعتله‬

‫تهوى إليه الفئد ة‪ ،‬وتتفانى عليه النفوس‪ ،‬فما يتكلم بكلمة إل ويبادر صحابته رضي ال عنهم إلى‬

‫امتثالها‪ ،‬وما يصدر من إرشاد أو توجيه إل ويتسابقون إلى العمل به‪ .‬بمثل هذا استطاع النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم أن يبني في المدينة مجتمعاً جديداً أروع وأشرف مجتمع عرفة التاريخ‪ ،‬وأن يضع لمشاكل‬ ‫هذا المجتمع حلً تنفست له النسانية الصعداء‪ ،‬بعد أن كانت قد تعبت في غياهب الزمان ودياجير‬ ‫الظلمات‪ .‬وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذي واجه كل تيارات‬

‫الزمان حتى صرف وجهتها‪ ،‬وحول مجرى التاريخ واليا م‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫معاهد ة مع اليهود‬ ‫بعد أن أرسى رسول ال صلى ال وعليه وسلم قواعد مجتمع جديد وأمة إسلمية حديد ة‪ ،‬بإقامة الوحد ة‬ ‫العقدية والسياسية والنظامية بين المسلمين‪ ،‬بدأ بتنظيم علقاته بغير المسلمين‪ ،‬وكان قصده بذلك توفير‬ ‫المن والسل م والسعاد ة الخير للبشرية جمعاء‪ ،‬مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد‪ ،‬فسن في ذلك‬

‫قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في ذلك العالم الملئ بالتعصب والغراض الفردية والعرقية‪.‬‬ ‫وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬وهم وإن كانوا يبطنون‬

‫العداو ة للمسلمين‪ ،‬لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد‪ ،‬فعقد معهم رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم معاهد ة قرر لهم فيها النصح والخير‪ ،‬وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال‪ ،‬ولم‬

‫يتجه إلى سياسة البعاد أو المصادر ة والخصا م‪.‬‬ ‫وفيما يلى أهم بنود هذه المعاهد ة‪:‬‬ ‫بنود المعاهد ة‬

‫‪ -1‬إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين‪ ،‬لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم‪ ،‬وكذلك‬

‫لغير بنى عوف من اليهود‪.‬‬

‫‪-2‬وإن على اليهود نفقتهم‪ ،‬وعلى المسلمين نفقتهم‪.‬‬

‫‪ -3‬وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‪.‬‬ ‫‪ -4‬وإن بينهم النصح والنصحية‪ ،‬والبر دون الثم‪.‬‬ ‫‪ -5‬وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه‪.‬‬ ‫‪ -6‬وإن النصر للمظلو م‪.‬‬

‫‪ -7‬وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‪.‬‬ ‫‪-8‬وإن يثرب حرا م جوفها لهل هذه الصحيفة‪.‬‬

‫‪ -9‬وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى ال عز‬ ‫وجل‪ ،‬وإلى محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -10‬وإنه ل تجار قريش ول من نصرها‪.‬‬

‫‪ -11‬وإن بينهم النصر على من َدَهـمـ يثرب‪ ..‬على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم‪.‬‬ ‫‪ -12‬وإنه ل يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبإبرا م هذه المعاهد ة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية‪ ،‬عاصمتها المدينة‪ ،‬ورئيسها ـ إن صح هذا‬ ‫التعبير ـ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والكلمة النافذ ة والسلطان الغالب فيها للمسلمين‪.‬‬

‫ولتوسيع منطقة المن والسل م عاهد النبي صلى ال عليه وسلم قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه‬

‫المعاهد ة‪ ،‬حسب ما اقتضته الظروف‪ ،‬وسيأتي ذكر شيء عنها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الكفاح الدامي‬ ‫استفزازات قريش واتصالهم بعبد ال بن أبي‬

‫إعلن عزيمة الصد عن المسجد الحرا م‬ ‫قريش تهدد المهاجرين‬

‫الذان بالقتال‬

‫الغزوات والسيرايا قبل بدر‬

‫وفيما يلى أحوال هذه السرايا باليجاز‪:‬‬ ‫استفزازات قريش واتصالهم بعبد ال بن أبي‬

‫تقد م ما أدلى به كفار مكة من التنكيلت والويلت على المسلمين في مكة‪ ،‬ثم ما أتوا به من الجرائم‬ ‫التي استحقوا لجلها المصادر ة والقتال‪ ،‬عند الهجر ة‪ ،‬ثم إنهم لم يفيقوا من غيهم ول امتنعوا عن‬

‫عدوانهم بعدها‪ ،‬بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدنية‪ ،‬فكتبوا إلى عبد ال‬ ‫بن أبي سلول‪ -‬وكان إذ ذاك مشركاً ‪ -‬بصفته رئيس النصار قبل الهجر ة ‪ -‬فمعلوا أنهم كانوا قد اتفقوا‬ ‫عليه‪ ،‬وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لول أن هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬وآمنوا به‬ ‫‪ -‬كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين‪ ،‬يقولون لهم في كلمات باتة‪:‬‬

‫إنكم آويتم صاحبنا‪ ،‬وإنا نقسم بال لتقاتلنه أو لتخرجنه‪ ،‬أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم‪،‬‬ ‫ونستبيح نساءكم‪.‬‬

‫وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قا م عبد ال بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة ‪ -‬وقد كان‬ ‫يحقد على النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬لما يراه أنه استبله ملكه‪ -‬يقول عبد الرحمن بن كعب‪ :‬فلما بلغ‬ ‫ذلك عبد ال بن أبي ومن كان معه من عبد ة الوثان اجتمعوا لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫فلما بلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم لقيهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ‪ ،‬ما كانت‬

‫تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم‪ ،‬تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم(‪ ،‬فلما سمعوا ذلك‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫من النبي صلى ال عليه وسلم تفرقوا‪.‬‬ ‫امتنع عبد ال بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك‪ ،‬لما رأي خوراً أو رشداً في أصحابه‪ ،‬ولكن يبدو‬

‫من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش‪ ،‬فكان ل يجد فرصة إل وينتهزها ليقاع الشر بين المسلمين‬ ‫والمشركين‪ ،‬وكان يضم معه اليهود‪ ،‬ليعينوه على ذلك‪ ،‬ولكن تلك هي حكمة النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫التي كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين‪.‬‬

‫إعلن عزيمة الصد عن المسجد الحرا م‬ ‫ثم أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرًا‪ ،‬فنزل على أمية بن خلف بمكة‪ ،‬فقال لمية‪ :‬انظر لي ساعة‬ ‫خلو ة لعلي أن أطوف البيت‪ ،‬فخرج به قريباً من نصف النهار‪ ،‬فلقيهما أبو جهل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا صفوان‪ ،‬من‬ ‫هذا معك؟ فقال‪ :‬هذا سعد‪ ،‬فقال له أبو جهل‪ :‬أل أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصبا ة‪ ،‬وزعمتم‬

‫أنكم تنصرونهم‪ ،‬وتعينونهم‪ ،‬أما وال لول أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا‪ ،‬فقال له سعد ‪-‬‬ ‫ورفع صوته عليه‪ :‬أما وال لئن منعتني هذا لمنعك ما هو أشد عليكم منه‪ :‬طريقك على أهل المدينة‪.‬‬ ‫قريش تهدد المهاجرين‬ ‫وكأن قريشاً كانت تعتزعلى شر أشد من هذا‪ ،‬وتفكر في القيا م بنفهسا للقضاء على المسلمين‪ ،‬وخاصة‬ ‫على النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ولم يكن هذا مجرد وهم أو خيال‪ ،‬فقد تأكد لدى رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكائد قريش‬ ‫وإرادتها على الشر ما كان لجله ل يبيت إل ساهرًا‪ ،‬أو في حرس من الصحابة‪ .‬روى الشيخان في‬ ‫صحيحيهما عن عائشة رضى ال عنها قالت‪ :‬سهر رسول ال صلى ال عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة‬ ‫فقال‪ :‬‏)ليت رجلً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة(‪ ،‬قالت‪ :‬فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة‬ ‫سلح‪ ،‬فقال‪ :‬‏)من هذا ؟( قال‪ :‬سعد بن أبي وقاص‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما جاء‬ ‫بك؟( فقال‪ :‬وقع في نفسي خوف على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجئت أحرسه‪ ،‬فدعا له رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم نا م‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي‪ ،‬بل كان ذلك أمراً مستمرًا‪ ،‬فقد روى عن عائشة قالت‪:‬‬ ‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحرس ليلً حتى نزل‪ :‬‏} واـُل يـْع ِ‬ ‫كـ ِم َنـ الّنا ِ‬ ‫س { ‏]المائد ة‪،[67 :‬‬ ‫صـ ُمـ َ‬ ‫َ َ‬

‫فأخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم رأسه من القبة‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا أيها الناس‪ ،‬انصرفوا عني فقد عصمني‬

‫ال عز وجل(‪.‬‬ ‫ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل كان يحدق بالمسلمين كافة‪ ،‬فقد‬ ‫روى أبي بن كعب‪ ،‬قال‪ :‬لما قد م رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه المدينة‪ ،‬وآوتهم النصار‬ ‫رمتهم العرب عن قوس واحد ة‪ ،‬وكانوا ل يبيتون إل بالسلح‪ ،‬ول يصبحون إل فيه‪.‬‬ ‫الذان بالقتال‬

‫في هذه الظروف الخطير ة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة‪ ،‬وتنبئ عن قريش أنهم ل يفيقون‬

‫عن غيهم ول يمتنعون عن تمردهم بحال‪ ،‬أنزل ال تعالى الذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِرـِه ْمـ لَ​َق ِدـيـٌر{ ‏]الحج‪.[39 :‬‬ ‫قال تعالى‪ :‬‏}أُِذَنـ للِّذ يـَن يـَُق اـتـَُلوَن بَِأنـُّه ْمـ ظُلُم وـا َو إِـّن اَل َعَلى نَ ْ‬ ‫وأنزل معه آيات بين لهم فيها أن هذا الذن إنما هو لزاحة الباطل وإقامة شعائر ال‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫صَلـ ةَ ـ ـوآـتـواـ الّزَك اـَ ة وأَـمرـوا ِبالْم عـرـو ِ‬ ‫‏}الِّذيـَن ِإن ّمّك نّـاُه ْمـ ِفي اْلَْر ِ‬ ‫ف َو نـَ​َه ْوـاـَعِن الُْم نـَك ِرـ َو لِـلِّه َعاقِبَةُ‬ ‫ض أَ​َقاُموا ال ّ َ َُ‬ ‫َ َُ َ ُْ‬ ‫اْلُ​ُموِر { ‏]الحج‪.[41 :‬‬ ‫وكان الذن مقتصراً على قتال قريش‪ ،‬ثم تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة‬ ‫الوجوب‪ ،‬وجاوز قريشاً إلى غيرهم‪ ،‬ول بأس أن نذكر تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر‬ ‫الحداث‪:‬‬

‫‪ -1‬اعتبار مشركي قريش محاربين؛ لنهم بدأوا بالعدوان‪ ،‬فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا‬ ‫أموالهم دون غيرهم من بقية مشركي العرب‪.‬‬

‫‪ -2‬قتال كل من تمال من مشركي العرب مع قريش واتحد معهم‪ ،‬وكذلك كل من تفرد بالعتداء على‬

‫المسلمين من غير قريش‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ -3‬قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم‪ ،‬ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء‪.‬‬

‫‪ -4‬قتال من بادأ بعداو ة المسلمين من أهل الكتاب‪ ،‬كالنصارى‪ ،‬حتى يعطوا الجزية عن يد وهم‬

‫صاغرون‪.‬‬

‫‪ -5‬الكف عمن دخل في السل م‪ ،‬مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك‪ ،‬فل يتعرض لنفسه‬ ‫وماله إل بحق السل م‪ ،‬وحسابه على ال‪.‬‬ ‫ولما نزل الذن بالقتال رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي‬ ‫تسلكه قريش من مكة إلى الشا م في تجاراتهم‪ ،‬واختار لذلك خطتين‪:‬‬ ‫الولى‪ :‬عقد معاهدات الحلف أو عد م العتداء مع القبائل التي كانت مجاور ة لهذا الطريق‪ ،‬أو كانت‬

‫تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة‪ ،‬وقد عقد صلى ال عليه وسلم معاهد ة مع جهينة قبل الخذ‬ ‫في النشاط العسكري‪ ،‬وكانت مساكنهم على ثلث مراحل من المدينة‪ ،‬كما عقد معاهدات أخرى أثناء‬ ‫دورياته العسكرية‪ ،‬وسيأتي ذكرها‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬إرسال البعوث واحد ة تلو الخرى إلى هذا الطريق‪.‬‬

‫الغزوات والسيرايا قبل بدر‬ ‫ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ بالتحركات العسكرية فعلً بعد نزول الذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات‬ ‫الستطلعية‪ ،‬وكان المطلوب منها كما أشرنا‪:‬‬

‫الستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة‪ ،‬والمسالك المؤدية إلى مكة‪.‬‬

‫عقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق‪.‬‬

‫إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ضعفهم القديم‪.‬‬ ‫إنذار قريش ُعقَبى طيشها‪ ،‬حتى تفيق عن َغيها الذي ل يزال يتوغل في أعماقها‪ ،‬وعلها تشعر بتفاقم‬ ‫الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم‪ ،‬وتمتنع عن إراد ة قتال المسلمين في عقر‬ ‫دارهم‪ ،‬وعن الصد عن سبيل ال‪ ،‬وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة‪ ،‬حتى يصير‬

‫المسلمون أحراراً في إبلغ رسالة ال في ربوع الجزير ة‪.‬‬ ‫وفيما يلى أحوال هذه السرايا باليجاز‪:‬‬ ‫‪ -1‬سرية سيف البحر‬

‫في رمضان سنة ‪ 1‬هـ‪ ،‬الموافق مارس سنة ‪ 623‬م‪ ،‬أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذه السرية‬ ‫حمز ة بن عبد المطلب‪ ،‬وبعثه في ثلثين رجلً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشا م‪،‬‬

‫وفيها أبو جهل بن هشا م في ثلثمائة رجل‪ ،‬فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص‪ ،‬فالتقوا واصطفوا‬

‫للقتال‪ ،‬فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلء وهؤلء حتى جحز‬ ‫بينهم فلم يقتتلوا‪.‬‬ ‫وكان لواء حمز ة أول لواء عقده رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان أبيض‪ ،‬وحمله أبو مرثد َك نـاز بن‬ ‫حصين الغَ​َنوي ‪.‬‬ ‫‪-2‬سرية رابغ‪:‬‬ ‫في شوال سنة ‪ 1‬من الهجر ة‪ ،‬الموافق أبريل سنة ‪ 632‬م‪ ،‬بعث لها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫عبيد ة بن الحارث بن المطلب في ستين رجلً من المهاجرين‪ ،‬فلقى أبا سفيان ‪ -‬وهو في مائتين ‪-‬‬ ‫على بطن رابغ‪ ،‬وقد ترامي الفريقان بالنبل‪ ،‬ولم يقع قتال‪.‬‬

‫وفي هذه السرية انضم رجلن من جيش مكة إلى المسلمين‪ ،‬وهما المقداد بن عمرو البهراني‪ ،‬وعتبه بن‬ ‫غزوان المارني‪ ،‬وكانا مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين‪ ،‬وكان لواء‬ ‫عبيد ة أبيض‪ ،‬وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ -3‬سرية الخرار‬ ‫في ذي العقد ة سنة ‪ 1‬هـ‪ ،‬الموافق مايو سنة ‪ 623‬م‪ ،‬بعث لها رسول ال صلى ال عليه وسلم سعد بن‬

‫أبي وقاص في عشرين رجل يعترضون عيراً لقريش‪ ،‬وعهد إليه إل يجاوز الخرار‪ ،‬فخرجوا مشا ة يكمنون‬ ‫بالنهار‪ ،‬ويسيرون بالليل‪ ،‬حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس‪ ،‬فوجدوا العير قد مرت بالمس‪.‬‬

‫كان لواء سعد رضى ال عنه أبيض‪ ،‬وحمله المقداد بن عمرو‪.‬‬ ‫‪-4‬غز ة البواء أو ودان‪:‬‬

‫في صفر سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الموافق أغسطس سنة ‪ 623‬م‪ ،‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم فيها بنفسه‬ ‫في سبعين رجلً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش‪ ،‬حتى بلغ ودان‪ ،‬فلم يلق كيدًا‪ ،‬واستخلف‬ ‫فيها على المدينة سعد بن عباد ة رضى ال عنه‪.‬‬ ‫وفي هذه الغزو ة عقد معاهد ة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري‪ ،‬وكان سيد بنى ضمر ة في زمانه‪،‬‬ ‫وهذا نص المعاهد ة‪ :‬‏)هذا كتاب من محمد رسول ال لبني ضمره‪ ،‬فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم‪،‬‬ ‫وإن لهم النصر على من رامهم إل أن يحاربوا دين ال ن ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاهم لنصره‬

‫أجابوه(‪.‬‬ ‫وهذه أول غزو ة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانت غيبته خمس عشر ة ليلة‪ ،‬وكان اللواء‬

‫أبيض وحامله حمز ة بن عبد المطلب‪.‬‬ ‫‪ -5‬غزو ة بواط‪:‬‬

‫في شهر ربيع الول سنة ‪ 2‬هـ الموافق سبتمبر سنة ‪ 623‬م‪ ،‬خرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫في مائتين من أصحابه‪ ،‬يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش‪ ،‬وألفان‬ ‫وخمسمئة بعير‪ ،‬فبلغ بواطا من ناحية رضوى ولم يلق كيدا‪.‬‬

‫واستخلف في هذه الغزو ة على المدينة سعد بن معاذ‪ ،‬واللواء كان أبيض‪ ،‬وحامله سعد بن أبي وقاص‬ ‫رضى ال عنه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪-6‬غزو ة سفوان‬ ‫في شهر ربيع الول سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الموافق سبتمبر سنة ‪ 623‬م‪ ،‬أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة‬

‫من المشركين على مراعي المدينة‪ ،‬ونهب بعض المواشي فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم في‬

‫سبعين رجلً من أصحابه لمطارته‪ ،‬حتى بلغ وادياً يقال له‪ :‬سفوان من ناحية بدر‪ ،‬ولكنه لم يدرك كرزاً‬ ‫وأصحابه‪ ،‬فرجع من دون حرب‪ ،‬وهذه الغزو ة تسمى بغزو ة بدر الولى‪.‬‬ ‫واستخلف في هذه الغزو ة على المدينة زيد بن حارثة‪ ،‬وكان اللواء أبيض‪ ،‬وحامله علي بن أبي طالب‪.‬‬ ‫‪ -7‬غزو ة ذي العشير ة‪:‬‬

‫في جمادى الولى‪ ،‬وجمادى الخر ة سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الموافق نوفمبر وديسمبر سنة ‪623‬هـ‪ ،‬خرج فيها رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال‪ :‬في مائتين‪ ،‬من المهاجرين‪ ،‬ولم يكره أحداً على‬ ‫الخروج‪ ،‬وخرجوا على ثلثين بعيراً يعتقبونها‪ ،‬يعترضون عيراً لقريش‪ ،‬ذاهبة إلى الشا م‪ ،‬وقد جاء الخبر‬

‫بفصولها من مكة‪ ،‬فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشير ة‪ ،‬فوجد العير قد فاتته بأيا م‪ ،‬وهذه هي العير التي‬ ‫خرج في طلبها حين رجعت من الشا م‪ ،‬فصارت سبباً لغزو ة بدر الكبرى‪.‬‬

‫وكان خروجه صلى ال عليه وسلم في أواخر جمادى الولى‪ ،‬ورجوعه في أوائل جمادى الخر ة‪ ،‬على ما‬ ‫قاله ابن إسحاق‪ ،‬ولعل هذه هو سبب اختلف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزو ة‪.‬‬

‫وفي هذه الغزو ة عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم معاهد ة عد م اعتداء مع بنى مدلج وحلفائهم من‬

‫بنى ضمر ة‪.‬‬

‫واستخلف على المدينة في هذه الغزو ة أبا سلمة بن عبد السد المخزومي‪ ،‬وكان اللواء أبيض‪ ،‬وحامله‬

‫حمز ة بن عبد الملطب رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ -8‬سرية نخلة‪:‬‬

‫في رجب سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬الموافق يناير سنة ‪ 624‬م‪ ،‬بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم كتب له كتابًا‪،‬‬ ‫وأمره أل ينظر فيه حتى يسير يومين‪ ،‬ثم ينظر فيه‪ .‬فسار عبد ال ثم قرأ الكتاب بعد يومين‪ ،‬فإذا فيه‪:‬‬

‫‏)إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف‪ ،‬فترصد بها عير قريش وتعلم لنا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫من أخبارهم(‪ .‬فقال‪ :‬سمعاً وطاعة‪ ،‬وأخبر أصحابه بذلك‪ ،‬وأنه ل يستكرههم‪ ،‬فمن أحب الشهاد ة‬ ‫فلينهض‪ ،‬ومن كره الموت فليرجع‪ ،‬وأما أنا فناهض‪ ،‬فنهضوا كلهم‪ ،‬غير أنه لما كان في أثناء الطريق‬ ‫أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه‪ ،‬فتخلفا في طلبه‪.‬‬ ‫وسار عبد ال بن جحش حتى نزل بنخلة‪ ،‬فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجار ة‪ ،‬وفيها عمرو بن‬ ‫الخضرمي‪ ،‬وعثمان ونوفل ابنا عبد ال بن المغير ة‪ ،‬والحكم ابن كيسان مولى بني المغير ة‪ .‬فتشاور‬ ‫المسلمون وقالوا‪ :‬نحن في آخر يو م من رجب الشهر الحرا م‪ ،‬فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرا م‪ ،‬وإن‬

‫تركناهم الليلة دخلوا الحر م‪ ،‬ثم اجتمعوا على اللقاء‪ ،‬فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله‪ ،‬وأسروا‬

‫عثمان والحكم وأفلت نوفل‪ ،‬ثم قدموا بالعير والسيرين إلى المدينة‪ ،‬وقد عزلوا من ذلك الخمس‪ ،‬وهو‬

‫أو خمس كان في السل م‪ ،‬وأول قتيل في السل م‪ ،‬وأول أسيرين في السل م‪.‬‬ ‫وأنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ما فعلوه‪ ،‬وقال‪ :‬‏)ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرا م( وتوقف عن‬

‫التصرف في العير والسيرين‪.‬‬

‫ووجد المشركون فيما حدث فرصة لتها م المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حر م ال‪ ،‬وكثر في ذلك القيل‬ ‫والقال‪ ،‬حتى نزل الوحي حاسماً هذه القاويل وأن ما عليه المشروكون أكبر وأعظم مما ارتكبه‬ ‫ِ ِ​ِ ِ ِ​ِ‬ ‫ك َعِن ال ّ‬ ‫صـّدـ َعن َس بِـيِل اِل َوُك ْفـٌرـبِ​ِه‬ ‫المسلمون‪ :‬‏}يَْسأَـُلونَ َ‬ ‫ش ْهـِرـ الَْح َرـاِ م قَتاٍل فيه قُْل قَتاٌل فيه َك بِـيٌر َو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ج أَْه لِـِه ِم ْنـهُ أَْك بـَُر ِع نـَد اِل َواـلِْف تـْنَةُ أَْك بـَُر ِم َنـ الَْق ْتـِل{ ‏]البقر ة‪.[217 :‬‬ ‫َواـلَْم ْسـجـ داـلَْح َرـاِ م َو إِـْخ َرــا ُ‬ ‫فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لثار ة الريبة في سير ة المقاتلين المسلمين ل‬

‫مساغ لها‪ ،‬فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة السل م‪ ،‬واضطهاد أهله‪ ،‬ألم يكن‬

‫المسلمون مقيمين بالبلد الحرا م حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات‬ ‫قداستها فجأ ة‪ ،‬فأصبح انتهاكها معر ة وشناعة؟ ل جر م أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية‬

‫تبتني على وقاحة ودعار ة‪.‬‬ ‫وبعد ذلك أطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم سراح السيرين‪, ،‬أدى دية المقتول إلى أوليائه‪.‬‬ ‫تلكم السرايا والغزوات قبل بدر‪ ،‬لم يجر في احد منها سلب الموال وقتل الرجال إل بعد ما ارتكبه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المشركون في قياد ة كرز بن جابر الفهري‪ ،‬فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل‬ ‫ذلك من الفاعيل‪.‬‬

‫وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد ال بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي‪،‬‬ ‫ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه‪ ،‬وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص‪ ،‬تترقب كل‬

‫حركة من حركاتهم التجارية‪ ،‬وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلثمائة ميل تقريبًا‪ ،‬ثم يقلتوا‬ ‫ويأسروا رجالهم‪ ،‬ويأخذوا أموالهم‪ ،‬ويرجعوا سالمين غانمين‪ ،‬وشعر هؤلء المشركون بأن تجارتهم إلى‬

‫الشا م أما م خطر دائم‪ ،‬لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم‪ ،‬ويأخذوا طريق الصلح والموادعة ‪ -‬كما فعلت‬ ‫جهينة وبنو ضمر ة ازدادوا حقداً وعيظًا‪ ،‬وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به‬ ‫من قبل‪ :‬من إباد ة المسلمين في عقر دارهم‪ ،‬وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر‪.‬‬ ‫أما المسلمون فقد فرض ال عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد ال بن جحش في شهر شعبان سنة ‪2‬‬ ‫بـ‬ ‫هـ‪ ،‬وأنزل في ذلك آيات بينات‪ :‬‏}َوقَـاتُِلواْ ِفي َس بِـيِل اِل الِّذ يـَن يـَُق اـتُِلونَُك ْمـ َولَ تـَْع تَـُد وـاْ إِّن اَل لَ يُِح ّ‬ ‫ث أَْخ َرـُج وـُك ْمـَواـلِْف تـْنَةُ أَ​َش ّدـ ِم َنـ الَْق ْتـِل َولَ تـَُق اـتُِلوُه ْمـ‬ ‫ث ثَِق ْفـتُـُم وـُه ْمـ َوأَـْخ ِرـُج وـُه مـّمْنـ َح ْيـ ُ‬ ‫الُْم ْعـتَـِد يـَن َواـقْـتـُ​ُلوُه ْمـ َح ْيـ ُ‬ ‫ك َج َزـاء الَْك اـفِ​ِريَن فَِإ ِنـ انتـَ​َه ْوـاْـ فَِإ ّنـ اَل‬ ‫ِع نـَد الَْم ْسـِجـ ِد ـالَْح َرـاِ م َح تّـى يـَُق اـتُِلوُك ْمـ ِفيِه فَِإ نـ َقاتـَُلوُك ْمـ َفاقْـتـُ​ُلوُه ْمـ َك َذـلِـ َ‬ ‫غَُفوـٌر ّرِح يـٌم َو قَـاتُِلوُه ْمـ َح تّـى لَ تَُك وـَن ِفتـْنَةٌ َو يَـُك وـَن الّد يـُن لِلِّه فَِإ ِنـ انتـَ​َه وـاْ فَلَ عُْد َوـاـَن إِلّ َعَلى الّظالِ​ِم يـَن {‬ ‫‏]البقر ة‪.[193 :190:‬‬ ‫ثم لم يلبث أن أنزل ال تعالى عليهم آيات من نوع آخر‪ ،‬يعلمهم فيها طريقة القتال‪ ،‬ويحثهم عليه‪،‬‬ ‫بـ الّرَقا ِ‬ ‫ش ّدـوـا الَْو ثَـاَق‬ ‫ب َح تّـى إَِذا أَثَْخ نـتُ​ُم وـُه ْمـ فَ ُ‬ ‫ويبين لهم بعض أحكامه‪ :‬‏}فَِإذـا لَِق يـتُ​ُم الِّذ يـَن َك َفـُرـوا فَ َ‬ ‫ض ْرـ َ‬ ‫ضـُكـمـ‬ ‫ص َرـِم نـُْه ْمـ َو لَـِكن لَّيبـْلَُو بـَْع َ‬ ‫بـ أَْو َزـاَرَه اـَذلِ َ‬ ‫فَِإ ّمـاـ َمنّـا بـَْع ُدـ َو إِـّماـ فَِد اـء َح تّـى تَ َ‬ ‫ك َو لَـْو يَ​َش اـء اُل َل ن ـتَـ َ‬ ‫ض َعـ الَْح ْرـ ُ‬ ‫ضـ واـلِّذ يـن قُتِلُوا ِفي س بِـيِل اِل فـَلن ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص لِـُح َبالَُه ْمـ َو يـُْد ِخـ لُـُه ُمـالَْج نّـَة َعّرفـَ​َه اـ لَُه ْمـ‬ ‫ض ّلـ أَْع َمـاـلَُه ْمـ َس يـَْه ِدـيـِه ْمـ َو يـُ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ببـَْع ٍ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت أَقَْد اـَم ُكـْمـ { ‏]محمد‪.[7 :4 :‬‬ ‫صْرُك ْمـ َو يـثَُبّ ْ‬ ‫صُروا اَل َين ُ‬ ‫َيا َأيـَّه اـ الّذ يـَن آَمنُـوا ِإن َتن ُ‬ ‫ت ُس وـَر ةٌ ّمْح َكـَمـةٌـ‬ ‫ثم ذ م ال الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا المر بالقتال‪ :‬‏}فَِإذَـا ُأنِزلَ ْ‬ ‫ك نَظَر الْم غْـِش ّي ـَعلَْيِه ِم نـ الْم وـ ِ‬ ‫تـ{ ‏]محمد‪:‬‬ ‫َو ذـُكَِر ِفيَه اـ الِْق تَـاُل َرأَيْ َ‬ ‫ت الِّذ يـَن ِفي قـُ​ُلوبِ​ِه مـ ّمَر ٌ‬ ‫َ َْ‬ ‫ضـ َينظُ​ُروَن إِلَْي َ َ َ‬ ‫‪.[20‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وإيجاب القتال والحض عليه‪ ،‬والمر بالستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الحوال‪ ،‬ولو كان هناك‬ ‫قائد يسبر أغوار الظروف لمر جنده بالستعداد لجميع الطورائ‪ ،‬فكيف بالرب العليم المتعال‪،‬‬

‫فالظروف كانت تقتضى عراكاً دامياً بين الحق والباطل‪ ،‬وكانت وقعة سرية عبد ال بن جحش ضربة‬ ‫قاسية على غير ة المشركين وحميتهم‪ ،‬آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر‪.‬‬

‫وآيات المر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي‪ ،‬وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا‪،‬‬

‫انظر كيف يأمر ال المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم‪ ،‬وكيف يعلمهم أحكا م الجند‬ ‫المتغلب في الساري والثخان في الرض حتى تضع الحرب أوزارها‪ ،‬هذه كلها إشار ة إلى غلبة‬

‫المسلمين نهائياً‪ .‬ولكن ترك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل ال‪.‬‬

‫وفي هذه اليا م ‪ -‬في شعبان سنة ‪ 2‬هـ ‪ /‬فبراير ‪ 624‬م ‪ -‬أمر ال تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس‬ ‫إلى المسجد الحرا م‪ ،‬وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف‬

‫المسلمين لثار ة البلبلة‪ ،‬انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه‪ ،‬وهكذا تطهرت صفوف‬ ‫المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة‪.‬‬

‫ولعل في تحويل القبلة إشار ة لطيفة إلى بداية دور جديد ل ينتهي إلى بعد احتلل المسلمين هذه‬

‫القبلة‪ ،‬أو ليس من العجب أن تكون قبلة قو م بيد أعدائهم‪ ،‬وإن كانت بأيديهم فعل فلبد من تخليصها‬ ‫يوما ما إن كانوا على الحق‪.‬‬ ‫وبهده الوامر والشارات زاد نشاط المسلمين‪ ،‬واشتد شوقهم إلى الجهاد في سبيل ال‪ ،‬ولقاء العدو‬ ‫في معركة فاصلة لعلء كلمة ال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة بدر الكبرى أول معركة من معارك السل م الفاصلة‬

‫سبب الغزو ة‬ ‫مبلغ قو ة الجيش السلمي وتوزيع القيادات‬ ‫النذير في مكة‬

‫أهل مكة يتجهزون للغزو‬ ‫قوا م الجيش المكي‬

‫مشكلة قبائل بني بكر‬ ‫جيش مكة يتحرك‬

‫العير تفلت‬

‫َه ّمـ الجيش المكي بالرجوع‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬

‫موقف الجيش السلمي في ضيق وحرج‬

‫المجلس الستشاري‬

‫الجيش السلمي يواصل سيره‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقو م بعملية الستكشاف‬ ‫الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي‬

‫الجيش السلمي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية‬ ‫مقر القياد ة‬

‫تعبئة الجيش وقضاء الليل‬

‫الجيش المكي في عرصة القتال‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬ ‫سبب الغزو ة‬ ‫سبق في ذكر غرز ة العشير ة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى ال عليه وسلم في ذهابها من مكة‬

‫إلى الشا م‪ ،‬فلما قرب رجوعها من الشا م إلى مكة بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم طلحة بن عبيد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ال وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها‪ ،‬فوصل إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو‬ ‫سفيان بالعير‪ ،‬فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول ال صلى ال عليه وسلم الخبر‪.‬‬

‫وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها‪ :‬ألف بعير موقر ة بأموال ل تقل عن خمسين‬ ‫ألف دينار ذهبي‪ .‬ولم يكن معها من الحرب إل نحو أربعين رجل‪.‬‬ ‫إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة‪ ،‬تتألم لها قلوبهم على مر‬

‫العصور‪ ،‬لذلك أعلن رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً‪ :‬‏)هذه عير قريش فيها أموالهم‪ ،‬فاخرجوا‬ ‫إليها لعل ال ينفلكموها(‪.‬‬

‫ولم يعز م على أحد بالخروج‪ ،‬بل ترك المر للرغبة المطلقة‪ ،‬لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا النتداب أنه‬ ‫سيصطد م بجيش مكة ‪ -‬بدل العير‪ -‬هذا الصطدا م العنيف في بدر؛ ولذلك تخلف كثير من الصحابة‬

‫في المدينة‪ ،‬وهم يحسبون أن مضى رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه‬ ‫في السرايا والغزوات الماضية؛ ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغرو ة‪.‬‬ ‫مبلغ قو ة الجيش السلمي وتوزيع القيادات‬ ‫واستعد رسول ال صلى ال عليه وسلم للخروج ومعه ثلثمائة وبضعة عشر رجلً ـ ‪ ،313‬أو ‪ ،314‬أو‬ ‫‪ 317‬رجلً ـ ‪ 82‬أو ‪ 83‬أو ‪ 86‬من المهاجرين و ‪ 61‬من الوس و ‪ 170‬من الخرزج‪ .‬ولم يحتفلوا‬

‫لهذا الخروج احتفال بليغا‪ ،‬ول اتخذوا أهبتهم كاملة‪ ،‬فلم يكن معهم إل فرس أو فرسان‪ :‬فرس للزبير‬

‫بن العوا م‪ ،‬وفرس للمقداد بن السود الكندي‪ ،‬وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلن والثلثة على‬

‫بعير واحد‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً واحد‪.‬‬ ‫واستخلف على المدينة وعلى الصل ة ابن أ م مكتو م‪ ،‬فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر‪،‬‬

‫واستعمله على المدينة‪.‬‬

‫ودفع لواء القياد ة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري‪ ،‬وكان هذا اللواء أبيض‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقسم جيشه إلى كتيبتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬كتيبة المهاجرين‪ :‬وأعطى رايتها علي بن أبي طالب‪ ،‬ويقال لها‪ :‬العقاب‪.‬‬ ‫‪ -2‬وكتبية النصار‪ :‬وأعطى رايتها سعد بن معاذ‪ .‬ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ‪.‬‬ ‫وجعل على قياد ة الميمنة الزبير بن العوا م‪ ،‬وعلى الميسر ة المقداد بن عمرو‪ -‬وكانا هما الفارسين‬

‫الوحيدين في الجيش ‪ -‬كما سبق ‪ -‬وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة‪ ،‬وظلت القياد ة العامة في‬ ‫يده صلى ال عليه وسلم كقائد أعلى للجيش‪.‬‬ ‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب‪ ،‬فخرج من نقب المدينة‪ ،‬ومضى‬ ‫على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة‪ ،‬حتى بلغ بئر الروحاء‪ ،‬فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى‬

‫اليسار‪ ،‬وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك في ناحية منه حتى جزع ودياً يقال له‪:‬‬ ‫رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء‪ ،‬ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء‪ ،‬ومن‬ ‫هنالك بعث بسبس بن عمرو الجني وعدي بن أبي الزغباء الجهي إلى بدر يتجسسان له أخبار العير‪.‬‬

‫النذير في مكة‬ ‫وأما خبر العير فإن أبا سفيان ‪ -‬وهو المسئول عنها ‪ -‬كان على غاية من الحيطة والحذر‪ ،‬فقد كان‬ ‫يعلم أن طريق مكة محفوف بالخطار‪ ،‬وكان يتحسس الخبار ويسأل من لقى من الركبان‪ ،‬ولم يلبث أن‬ ‫نقلت إليه استخباراته بأن محمداً صلى ال عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير‪ ،‬وحينئذ استأجر‬ ‫أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوه من محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة‪ ،‬فخرخ ببطن الوادي واقفاً على‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بعيره‪ ،‬وقد جدع أنفه وحول رحله‪ ،‬وشقق قميصه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬اللطيمة‪ ،‬اللطيمة أموالكم‬

‫مع أبي سفيان قد عرض لها لها محمد في أصحابه‪ ،‬ل أرى أن تدركوها‪ ،‬الغوث‪ ...‬الغوث‪.‬‬

‫أهل مكة يتجهزون للغزو‬

‫فتحفز الناس سراًعا وقالوا‪ :‬أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كل وال ليعلمن غير‬ ‫ذلك‪ ،‬فكانوا بين رجلين‪ :‬إما خارج‪ ،‬وإما باعث مكانه رجًل ‪ ،‬ـ ـوأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من‬

‫أشرافهم أحد سوى أبي لهب‪ ،‬فإنه عوض عنه رجًل كان له عليه دين‪ ،‬وحشدوا من حولهم من قبائل‬

‫العرب‪ ،‬ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إل بني عدى فلم يخرج منهم أحد‪.‬‬ ‫قوا م الجيش المكي‬

‫وكان قوا م هذا الجيش نحو ألف وثلثمائة مقاتل في بداية سيره‪ ،‬وكان معه مائة فرس وستمائة ِد ْرـع‪،‬‬ ‫وجمال كثير ة ل يعرف عددها بالضبط‪ ،‬وكان قائده العا م أبا جهل ابن هشا م‪ ،‬وكان القائمون بتموينه‬

‫تسعة رجال من أشراف قريش‪ ،‬فكانوا ينحرون يوًماـ تسًعا ويوًماـ عشًرا من البل‪.‬‬ ‫مشكلة قبائل بني بكر‬

‫ولما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداو ة والحرب‪،‬‬

‫فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف‪ ،‬فيكونوا بين نارين‪ ،‬فكاد ذلك يثنيهم‪ ،‬ولكن حينئذ تبدى‬

‫شـمـ المدلجى ـ سيد بني كنانة ـ فقال لهم‪ :‬أنا لكم جار من‬ ‫لهم إبليس في صور ة ُس َرـاقة بن مالك بن ُج ْعـ ُ‬

‫أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه‪.‬‬

‫جيش مكة يتحرك‬

‫وحينئذ خرجوا من ديارهم‪ ،‬كما قال ال‪ :‬‏}بَطًَرا َوِرـَئاء الّنا ِ‬ ‫صّدـوـَن َعن َس بِـيِل اِل{ ‏]النفال‪،[47:‬‬ ‫س َو يَـ ُ‬

‫وأقبلوا ـ كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ بحدهم وحديدهم يحادون ال ويحادون رسوله‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‏} َوغَـَدْواـَعَلى َح ْرـٍدـ َقاِد ِرـيَن{ ‏] القلم‪ ،[25:‬وعلى حمية وغضب وحنق على رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم وأصحابه؛ لجرأ ة هؤلء على قوافلهم‪.‬‬ ‫تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر‪ ،‬وسلكوا في طريقهم وادى عُْس َفـاـن‪ ،‬ثم قَُد يْـًد اـ‪ ،‬ثم‬

‫الُج ْحـَفـةـ‪ ،‬وهناك تلقوا رسالة جديد ة من أبي سفيان يقول لهم فيها‪ :‬إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم‬ ‫ورجالكم وأموالكم‪ ،‬وقد نجاها ال فارجعوا‪.‬‬

‫العير تفلت‬ ‫وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى‪ ،‬ولكنه لم يزل حذًرا متيقًظا‪ ،‬وضاعف‬ ‫ىـ بن عمرو‪ ،‬وسأله عن جيش‬ ‫حركاته الستكشافية‪ ،‬ولما اقترب من بدر تقد م عيره حتى لقى َمْجـ ِدـ ّ‬

‫المدينة‪ ،‬فقال‪ :‬ما رأيت أحًد اـ أنكره إل إني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل‪ ،‬ثم استقيا في شن‬

‫لهما‪ ،‬ثم انطلقا‪ ،‬فبادر أبو سفيان إلى مناخهما‪ ،‬فأخذ من أبعار بعيرهما‪ ،‬ففته فإذا فيه النوى‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫هذه وال علئف يثرب‪ ،‬فرجع إلى عيره سريًعا‪ ،‬وضرب وجهها محوًل اتجاهها نحو الساحل غرًبا‪ ،‬تارًك اـ‬ ‫الطريق الرئيسى الذي يمر ببدر على اليسار‪ ،‬وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة‪،‬‬ ‫وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة‪.‬‬ ‫َه ّمـ الجيش المكي بالرجوع‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬ ‫ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع‪ ،‬ولكن قا م طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة‬ ‫قائًل‪ :‬وال ل نرجع حتى نرد بدًرا‪ ،‬فنقيم بها ثلًثا‪ ،‬فننحر الَج ُزـور‪ ،‬ونطعم الطعا م‪ ،‬ونسقى الخمر‪،‬‬ ‫وتعزف لنا الِق يـان‪ ،‬وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا‪ ،‬فل يـزالون يهابوننا أبًد اـ‪.‬‬ ‫ولكن على رغم أبي جهل ـ أشار الْخ نَــس بن َش ِرـيق بالرجوع فعصوه‪،‬فرجع هو وبنو ُزْه َرـ ة ـ وكان حليًف اـ‬ ‫لهم‪ ،‬ورئيًس اـ عليهم في هذا النفير ـ فلم يشهد بدًرا زهرى واحد‪ ،‬وكانوا حوالى ثلثمائة رجل‪،‬واغتبطت‬ ‫بنو زهر ة بـَْعُدـ برأي الخنس بن شريق‪ ،‬فلم يزل فيهم مطاًعا معظًم اـ‪.‬‬ ‫وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل‪ ،‬وقال‪ :‬ل تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع‪.‬‬

‫فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهر ة ـ وهو يقصد بدًرا ـ فواصل سيره حتى نزل قريًبا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫من بدر‪ ،‬وراء كثيب يقع بالعدو ة القصوى على حدود وادى بدر‪.‬‬ ‫موقف الجيش السلمي في ضيق وحرج‬ ‫أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو ل يزال في الطريق‬ ‫بوادي َذفَِران ـ خبر العير والنفير‪ ،‬وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الخبار أنه لم يبق مجال لجتناب‬ ‫اللقاء الدامي‪ ،‬وأنه ل بد من إقدا م يبني على الشجاعة والبسالة‪ ،‬والجراء ة‪ ،‬والجسار ة‪ ،‬فمما ل شك فيه‬ ‫أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلل تلك المنطقة يكون ذلك تدعيًم اـ لمكانة قريش العسكرية‪ ،‬وامتداًداـ‬ ‫لسلطانها السياسي‪ ،‬وإضعاًفا لكلمة المسلمين وتوهيًنا لها‪،‬بل ربما تبقى الحركة السلمية بعد ذلك‬ ‫جسًد اـ ل روح فيه‪ ،‬ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على السل م في هذه المنطقة‪.‬‬

‫ثم هل هناك ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة‪ ،‬حتى ينقل المعركة إلى‬ ‫أسوارها‪ ،‬ويغزو المسلمين في عقر دارهم؟ كل! فلو حدث من جيش المدينة نكول ما‪ ،‬لكان له أسوأ‬

‫الثر على هيبة المسلمين وسمعتهم‪.‬‬ ‫المجلس الستشاري‬

‫ونظًرا إلى هذا التطور الخطير المفاجيء عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم مجلًس اـ عسكرًيا استشارًيا‬ ‫أعلى‪ ،‬أشار فيه إلى الوضع الراهن‪ ،‬وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه وقادته‪ .‬وحينئذ تزعزع قلوب فريق‬ ‫ك ِبالَْح ّقـ َو إِـّن‬ ‫ك ِم نـ بـَْيتِ َ‬ ‫كـَربّ َ‬ ‫من الناس‪،‬وخافوا اللقاء الدامى‪،‬وهم الذين قال ال فيهم‪ :‬‏} َكَمـاـ أَْخ َرـَج َ‬ ‫ك ِفي الْح ّقـ بـْعَدـمـاـ تـبـيّن َك أَـنّم اـ يس اـُقوَن إَِلى الْم وـ ِ‬ ‫تـَو ُهـْمـ َينظُ​ُروَن {‬ ‫فَِريقاً ّمَنـ الُْم ْؤـِمـنِـيَن لَ​َك اـِرُه وـَن يَُج اـِد لُـونَ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ َ​َ َ َ ُ َ‬ ‫‏]النفال‪ ،[6 ،5:‬وأمــا قاد ة الجيش فقـا م أبو بكر الصديق فقال وأحسن‪،‬ثم قا م عمر بن الخطاب فقال‬ ‫وأحسن‪،‬ثم قا م المقداد بن عمرو فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬امض لما أراك ال‪،‬فنحن معك‪،‬وال ل نقول لك‬ ‫ك فـَق اـِتل إِّنا َه اـُه نَـا َقاِع ُدـوـَن{ ‏]المائد ة‪ ،[24:‬ولكن‬ ‫ت َوَرـبّ َ‬ ‫بـ َأن َ‬ ‫كما قالت بنو إسرائيل لموسى‪ :‬‏} َفاْذَه ْ‬ ‫اذهب أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون‪ ،‬فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بـَْركـ الِغَم اـد لجالدنا‬ ‫معك من دونه حتى تبلغه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًرا ودعا له به‪.‬‬

‫وهؤلء القاد ة الثلثة كانوا من المهاجرين‪ ،‬وهم أقلية في الجيش‪ ،‬فأحب رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم أن يعرف رأي قاد ة النصار؛ لنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش‪ ،‬ولن ثقل المعركة سيدور على‬ ‫كواهلهم‪ ،‬مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم‪ ،‬فقال بعد سماع كل م هؤلء‬

‫القاد ة الثلثة‪ :‬‏)أشيروا علّى أيها الناس( وإنما يريد النصار‪ ،‬وفطن إلى ذلك قائد النصار وحامل لوائهم‬ ‫سعد بن معاذ‪.‬‬

‫فقال‪ :‬وال‪ ،‬ولكأنك تريدنا يا رسول ال؟‬

‫قال‪ :‬‏)أجل(‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقد آمنا بك‪ ،‬فصدقناك‪ ،‬وشهدنا أن ما جئت به هو الحق‪ ،‬وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا‬ ‫على السمع والطاعة‪ ،‬فامض يا رسول ال لما أردت‪ ،‬فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر‬

‫صُبر في‬ ‫فخضته لخضناه معك‪ ،‬ما تخلف منا رجل واحد‪ ،‬وما نكره أن تلقى بنا عدونا غًد اـ‪ ،‬إنا ل ُ‬ ‫صّدـقـ في اللقاء‪ ،‬ولعل ال يريك منا ما تـَق ّرـ به عينك‪ ،‬فِس ْر ـبنا على بركة ال‪.‬‬ ‫الحرب‪ُ ،‬‬

‫وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬لعلك تخشى أن تكون النصار ترى‬ ‫حًق اـ عليها أل تنصرك إل في ديارهم‪ ،‬وإني أقول عن النصار وأجيب عنهم‪ :‬فاظعن حيث شئت‪ ،‬و ِ‬ ‫ص ْلـ‬ ‫َح ْبـل من شئت‪ ،‬واقطع حبل من شئت‪ ،‬وخذ من أموالنا ما شئت‪ ،‬وأعطنا ما شئت‪ ،‬وما أخذت منا كان‬

‫أحب إلينا مما تركت‪ ،‬وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لمرك‪ ،‬فهو ال لئن سرت حتى تبلغ البرك من‬ ‫ِغ ْمـدـان لنسيرن معك‪ ،‬ووال لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك‪.‬‬ ‫س ّرـ رسول ال صلى ال عليه وسلم بقول سعد‪ ،‬ونشطه ذلك‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)سيروا وأبشروا‪ ،‬فإن ال تعالى‬ ‫فَ ُ‬ ‫قد وعدنى إحدى الطائفتين‪ ،‬وال لكإني الن أنظر إلى مصارع القو م(‪.‬‬ ‫الجيش السلمي يواصل سيره‬

‫ثم ارتحل رسول ال صلى ال عليه وسلم من َذفَِران‪ ،‬فسلك على ثنايا يقال لها‪ :‬الصافر‪ ،‬ثم انحط‬ ‫منها إلى بلد يقال له‪ :‬الّد بّـة‪ ،‬وترك الَح نّـان بيمين ـ وهو َك ثِـيب عظيم كالجبل ـ ثم نزل قريًبا من بدر‪.‬‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقو م بعملية الستكشاف‬

‫وهناك قا م صلى ال عليه وسلم بنفسه بعملية الستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ال عنه وبينما هما يتجولن حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب‪ ،‬فسأله رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه ـ سأل عن الجيشين زياد ة في التكتم ـ ولكن الشيخ قال‪ :‬ل‬

‫أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إذا أخبرتنا أخبرناك(‪ ،‬قال‪:‬‬

‫أو ذاك بذاك؟ قال‪ :‬‏)نعم(‪.‬‬

‫قال الشيخ‪ :‬فإنه بلغنى أن محمًد اـ وأصحابه خرجوا يو م كذا وكذا‪ ،‬فإن كان صدق الذي أخبرني فهم‬ ‫اليو م بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش المدينة‪ .‬وبلغنى أن قريًش اـ خرجوا يو م كذا وكذا‪ ،‬فإن‬

‫كان صدق الذي أخبرني فهم اليو م بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة‪.‬‬

‫ولما فرغ من خبره قال‪ :‬ممن أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)نحن من ماء(‪ ،‬ثم‬ ‫انصرف عنه‪ ،‬وبقى الشيخ يتفوه‪ :‬ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟‬ ‫الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي‬ ‫وفي مساء ذلك اليو م بعث صلى ال عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو‪ ،‬وقا م‬

‫لهذه العملية ثلثة من قاد ة المهاجرين؛ على بن أبي طالب والزبير بن العوا م وسعد ابن أبي وقاص في‬ ‫نفر من أصحابه‪ ،‬ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلمين يستقيان لجيش مكة‪ ،‬فألقوا عليهما القبض‪ ،‬وجاءوا‬ ‫بهما إلى الرسول صلى ال عليه وسلم وهو في الصل ة‪ ،‬فاستخبرهما القو م‪ ،‬فقال‪ :‬نحن سقا ة قريش‪،‬‬ ‫بعثونا نسقيهم من الماء‪ ،‬فكره القو م‪ ،‬ورجوا أن يكونا لبي سفيان ـ لتزال في نفوسهم بقايا أمل في‬ ‫الستيلء على القافلة ـ فضربوهما ضرًبا موجًعا حتى اضطر الغلمان أن يقول‪ :‬نحن لبي سفيان‬ ‫فتركوهما‪.‬‬

‫ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم مـن الصل ة قال لهم كالعاتب‪ :‬‏)إذا صدقاكم ضربتموهما‪ ،‬وإذا‬

‫كذباكم تركتموهما‪ ،‬صدقا وال‪ ،‬إنهما لقريش(‪.‬‬

‫ثم خاطب الغلمين قائًل‪ :‬‏)أخبرإني عن قريش(‪ ،‬قال‪ :‬هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدو ة القصوى‪،‬‬ ‫فقال لهما‪ :‬‏)كم القو م؟( قال‪ :‬كثير‪ .‬قال‪ :‬‏)ما عدتهم؟( قال‪ :‬ل ندرى‪ ،‬قال‪ :‬‏)كم ينحرون كل يو م؟(‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال‪ :‬يوًماـ تسًعا ويوًماـ عشًرا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)القو م فيما بين التسعمائة إلى‬ ‫ى بن‬ ‫اللف(‪ ،‬ثم قال لهما‪ :‬‏)فمن فيهم من أشراف قريش؟( قال‪ :‬عتبة وشيبة ابنا ربيعة‪ ،‬وأبو البَْخ تَــر ّ‬ ‫هشا م‪ ،‬وحكيم بن ِح ــزا م‪ ،‬ونـَْو فَـل بن خويلد‪ ،‬والحارث بن عامر‪ ،‬وطَُعْيَم ةـ بن عدى‪ ،‬والنضر بن الحارث‪،‬‬ ‫َوزـْم َعـة بن السود‪ ،‬وأبو جهل بن هشا م‪ ،‬وأميــة بن خلف في رجال سمياهم‪.‬‬ ‫فأقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس فقال‪ :‬‏)هذه مكة قد ألقت إليكم أفلذ كبدها(‪.‬‬

‫نزول المطر‬ ‫وأنزل ال عز وجل في تلك الليلة مطًرا واحًد اـ‪ ،‬فكان على المشركين وابًل شديًد اـ منعهم من التقد م‪،‬‬ ‫وكان على المسلمين طل طهرهم به‪ ،‬وأذهب عنهم رجس الشيطان‪ ،‬ووطأ به الرض‪ ،‬وصلب به الرمل‪،‬‬ ‫وثبت القدا م‪ ،‬ومهد به المنزل‪ ،‬وربط به على قلوبهم‪.‬‬ ‫الجيش السلمي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية‬ ‫وتحرك رسول ال صلى ال عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر‪ ،‬ويحول بينهم وبين‬

‫الستيلء عليه‪ ،‬فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر‪ ،‬وهنا قا م الُح بَـاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال‪:‬‬

‫يا رسول ال‪ ،‬أرأيت هذا المنزل‪ ،‬أمنزًل أنزلكه ال‪ ،‬ليس لنا أن نتقدمه ول نتأخر عنه؟ أ م هو الرأي‬ ‫والحرب والمكيد ة؟ قال‪ :‬‏)بل هو الرأي والحرب والمكيد ة(‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن هذا ليس بمنزل‪ ،‬فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القو م ـ قريش ـ فننزله‬ ‫ض اـ‪ ،‬فنمله ماء‪ ،‬ثم نقاتل القو م‪ ،‬فنشرب ول‬ ‫ونغّو رـ ـ أي نَُخ ّرـب ـ ما وراءه من الُقُلب‪ ،‬ثم نبني عليه حو ً‬ ‫يشربون‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لقد أشرت بالرأي(‪.‬‬ ‫فنهض رسول ال صلى ال عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو‪ ،‬فنزل عليه شطر الليل‪،‬‬ ‫ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب‪.‬‬ ‫مقر القياد ة‬

‫وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يبني المسلمون مقًرا لقيادته؛ استعداًداـ للطوارئ‪ ،‬وتقديًرا للهزيمة قبل النصر‪ ،‬حيث قال‪:‬‬ ‫يا نبى ال‪ ،‬أل نبني لك عريًش اـ تكون فيه‪ ،‬ونعد عندك ركائبك‪ ،‬ثم نلقى عدونا‪ ،‬فإن أعزنا ال وأظهرنا‬ ‫على عدونا كان ذلك ما أحببنا‪ ،‬وإن كانت الخرى جلست على ركائبك فلحقت بَِم ْنـ وراءنا من قومنا‪،‬‬ ‫فقد تخلف عنك أقوا م يا نبي ال ما نحن بأشد لك حًبا منهم‪ ،‬ولو ظنوا أنك تلقى حرًبا ما تخلفوا‬ ‫عنك‪ ،‬يمنعك ال بهم‪ ،‬يناصحونك ويجاهدون معك‪.‬‬

‫فأثنى عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم خيًرا ودعا له بخير‪ ،‬وبني المسلمون َعِريًش اـ على تل مرتفع‬

‫يقع في الشمال الشرقى لميدان القتال‪ ،‬ويشرف على ساحة المعركة‪.‬‬

‫كما تم اختيار فرقة من شباب النصار بقياد ة سعد بن معاذ يحرسون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫حول مقر قيادته‪.‬‬

‫تعبئة الجيش وقضاء الليل‬ ‫ثم عبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم جيشه‪ .‬ومشى في موضع المعركة‪ ،‬وجعل يشير بيده‪ :‬‏)هذا‬

‫مصرع فلن غًد اـ إن شاء ال‪ ،‬وهذا مصرع فلن غدا إن شاء ال(‪ .‬ثم بات رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم يصلي إلى جذع شجر ة هنالك‪ ،‬وبات المسلمون ليلهم هادئي النفاس منيري الفاق‪ ،‬غمرت الثقة‬ ‫قلوبهم‪ ،‬وأخذوا من الراحة قسطهم؛ يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباًح اـ‪ :‬‏}إِْذ يـُغَ ّ‬ ‫س‬ ‫ش يـُك ُمـ النـَّعا َ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫بـ َعنُك ْمـ ِرْج َزـ ال ّ‬ ‫ط َعَلى قـُ​ُلوبُِك ْمـ‬ ‫ش ْيـَطاِن َو لِـيـَْربِـ َ‬ ‫أَ​َمنَـًة ّمْنـهُ َو يـنُـَّزُل َعلَْيُك مـ ّمنـ ال ّ‬ ‫س َمـاـء َماـء لّيُطَّه َرـُك مـ به َو يـُْذ هـ َ‬ ‫ت بِ​ِه الَقَْد اـَ م{ ‏]النفال‪.[11:‬‬ ‫َو يـثَُبّ َ‬ ‫كانت هذه الليلة ليلة الجمعة‪ ،‬السابعة عشر ة من رمضان في السنة الثانية من الهجر ة‪ ،‬وكان خروجه‬ ‫صلى ال عليه وسلم في ‪ 8‬أو ‪ 12‬من نفس الشهر‪.‬‬ ‫الجيش المكي في عرصة القتال‪ ،‬ووقوع النشقاق فيه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدو ة القصوى‪ ،‬ولما أصبحت أقبلت في كتائبها‪ ،‬ونزلت‬ ‫من الكثيب إلى وادي بدر‪ .‬وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬‬

‫‏]دعوهم[‪ ،‬فما شرب أحد منهم يومئذ إل قتل‪ ،‬سوى حكيم بن حزا م‪ ،‬فإنه لم يقتل‪ ،‬وأسلم بعد ذلك‪،‬‬ ‫وحسن إسلمه‪ ،‬وكان إذا اجتهد في اليمين قال‪ :‬ل والذي نجاني من يو م بدر‪.‬‬

‫فلما اطمأنت قريش بعثت عَُم ْيـر بن وهب الُج َمـِحـ ى ـللتعرف على مدى قو ة جيش المدينة‪ ،‬فدار عمير‬

‫بفرسه حول العسكر‪ ،‬ثم رجع إليهم فقال‪ :‬ثلثمائة رجل‪ ،‬يزيدون قليًل أو ينقصون‪ ،‬ولكن أمهلونى حتى‬ ‫أنظر أللقو م كمين أو مدد؟‬

‫فضرب في الوادى حتى أبعد‪ ،‬فلم ير شيًئا‪ ،‬فرجع إليهم فقال‪ :‬ما وجدت شيًئا‪ ،‬ولكنى قد رأيت يا‬ ‫معشر قريش البليا تحمل المنايا‪ ،‬نواضح يثرب تحمل الموت الناقع‪ ،‬قو م ليس معهم منعة ول ملجأ إل‬

‫سيوفهم‪ ،‬وال ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجًل منكم‪،‬فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير‬ ‫العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم‪.‬‬

‫وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل ـ المصمم على المعركة ـ تدعو إلى العود ة بالجيش إلى مكة‬ ‫دونما قتال‪ ،‬فقد مشى حكيم بن حزا م في الناس‪ ،‬وأتى عتبة ابن ربيعة فقال‪ :‬يا أبا الوليد‪ ،‬إنك كبير‬

‫قريش وسيدها‪ ،‬والمطاع فيها‪ ،‬فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال‪ :‬وما ذاك يا حكيم؟‬

‫قال‪ :‬ترجع بالناس‪ ،‬وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى ـ المقتول في سرية نخلة ـ فقال عتبة‪ :‬قد‬

‫فعلت‪ .‬أنت ضامن علّى بذلك‪ .‬إنما هو حليفي‪ ،‬فعلى عقله ‏]ديته[ وما أصيب من ماله‪.‬‬ ‫ثم قال عتبة لحكيم بن حزا م‪ :‬فائت ابن الَح ْنـظَلِيِّة ـ أبا جهل‪ ،‬والحنظلية أمه ـ فإني ل أخشى أن يشجر‬ ‫أمر الناس غيره‪.‬‬

‫ثم قا م عتبة بن ربيعة خطيًبا فقال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إنكم وال ما تصنعون بأن تلقوا محمًد اـ وأصحابه‬ ‫شيًئا‪ ،‬وال لئن أصبتموه ليزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه‪ ،‬قتل ابن عمه أو ابن خاله أو‬

‫رجًل من عشيرته‪ ،‬فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب‪ ،‬فإن أصابوه فذاك الذي أردتم‪ ،‬وإن كان‬

‫ضوا منه ما تريدون‪.‬‬ ‫غير ذلك ألَْف اـُك ْمـ ولم تـَعّر ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وانطلق حكيم بن حزا م إلى أبي جهل ـ وهو يهيئ درًعا له ـ قال‪ :‬يا أبا الحكم‪ ،‬إن عتبة أرسلنى بكذا‬

‫وكذا‪ ،‬فقال أبو جهل‪ :‬انتفخ وال َس ْحـُرـهُ حين رأي محمًد اـ وأصحابه‪ ،‬كل وال ل نرجع حتى يحكم ال‬

‫بيننا وبين محمد‪ ،‬وما بعتبة ما قال‪ ،‬ولكنه قد رأي أن محمًد اـ وأصحابه أكلة َج ُزـور‪ ،‬وفيهم ابنه ـ وهو‬

‫أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديًم اـ وهاجر ـ فـتَ​َخ ّوـفَـُك ْمـ عليه‪.‬‬

‫ص ّفـرـ اْس تَــه من انتفخ سحره‪ ،‬أنا أ م‬ ‫ولما بلغ عتبة قول أبي جهل‪ :‬انتفخ وال سحره‪ ،‬قال عتبة‪ :‬سيعلم ُم َ‬ ‫هو؟ وتعجل أبو جهل‪ ،‬مخافة أن تقوى هذه المعارضة‪ ،‬فبعث على إثر هذه المحاور ة إلى عامر بن‬

‫الحضرمى ـ أخي عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد ال بن جحش ـ فقال‪ :‬هذا حليفك ‏]أي‬

‫ش دـ ُخ ْفـَرـَتك ‪ ،‬وَمْقـتَـَل أخيك‪ ،‬فقا م عامر‬ ‫عتبة[ يريد أن يرجع بالناس‪ ،‬وقد رأيت ثأرك بعينك‪ ،‬فقم فانْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بـ أمرهم‪ ،‬واستوثقوا على ما هم عليه‬ ‫فكشف عن استه‪ ،‬وصرخ‪ :‬واعمراه‪ ،‬واعمراه‪ ،‬فحمى القو م‪ ،‬وَح قـ َ‬ ‫من الشر‪ ،‬وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة‪ .‬وهكذا تغلب الطيش على الحكمة‪ ،‬وذهبت‬ ‫هذه المعارضة دون جدوى‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الجيشان يتراآن‬

‫ساعة الصفر وأول وقود المعركة‬

‫المب ــارز ة‬

‫الهجو م العا م‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يناشد ربه‬

‫نزول الملئكة‬

‫الهجو م المضاد‬

‫إبليس ينسحب عن ميدان القتال‬ ‫الهزيمة الساحقة‬

‫صمود أبي جهل‬

‫مصرع أبي جهل‬

‫من روائع اليمان في هذه المعركة‬

‫الجيشان يتراآن‬ ‫ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)اللهم هذه قريش قد أقبلت‬ ‫بُخ يَـلئها وفَْخ رــها تَُح اـّدكـ وتكذب رسولك‪ ،‬اللهم فنصرك الذي وعدتني‪ ،‬اللهم أْح نِـُه مـ ‏]الغدا ة[( وقد قال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة في القو م على جمل له أحمر‪ :‬‏)إن يكن في أحد‬ ‫من القو م خير فعند صاحب الجمل الحمر‪ ،‬إن يطيعوه يـَْر ُشـُدـوـا(‪.‬‬

‫وعدل رسول ال صلى ال عليه وسلم صفوف المسلمين‪ ،‬وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب‪ ،‬فقد كان‬ ‫في يديه قِْدح يعدل به‪ ،‬وكان س وـاـد بن غَِزّية مس تـْن ِ‬ ‫ص ًلـ من الصف‪ ،‬فطعن في بطنه بالقدح‪ ،‬وقال‪ :‬‏)استو‬ ‫َُْ‬ ‫َ​َ‬ ‫يا سواد(‪ ،‬فقال سواد‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أوجعتنى فأقدنى‪ ،‬فكشف عن بطنه وقال‪ :‬‏)استقد(‪ ،‬فاعتنقه سواد‬ ‫وقبل بطنه‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ما حملك على هذا يا سواد؟( قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬قد حضر ما ترى‪ ،‬فأردت أن‬

‫يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك‪ .‬فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم بخير‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأل يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الوامر الخير ة‪ ،‬ثم‬

‫أدلى إليهم بتوجيه خـاص في أمـر الحـرب‪ ،‬فقال‪ :‬‏)إذا أكثبوكم ـ يعنى اقتربوا منكم ـ فارموهم‪ ،‬واستبقوا‬ ‫نبلكم‪ ،‬ول تسلوا السيوف حتى يغشوكم( ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة‪،‬وقا م سعد بن معاذ‬ ‫بكتيبة الحراسة على باب العريش‪.‬‬

‫أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليو م فقال‪ :‬اللهم أقطعنا للرحم‪ ،‬وآتانا بما لنعرفه‪،‬فأِح ْنــه‬ ‫الغدا ة‪،‬اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليو م‪ ،‬وفي ذلك أنزل ال‪ :‬‏}ِإن تَْس تـَْف تِـُح وـاْ فـَق ْدـ‬ ‫ت َوأَـّن‬ ‫َج اـءُك ُمـ الَْف ْتـُح َو إِـن َتنتـَُه وـاْ فـَُه َوـ َخ يـٌْر لُّك ْمـ َو إِـن تـَُعوُدواْ نـَعُْد َو لَـن تـُْغنَِي َعنُك ْمـ فِئَتُ​ُك ْمـ َش ْيـًئا َو لَـْو َك ثـَُر ْ‬ ‫اَل َمَعـ الُْم ْؤـِمـنِـيَن{ ‏]النفال‪[19:‬‬ ‫ساعة الصفر وأول وقود المعركة‬ ‫وكان أول وقود المعركة السود بن عبد السد المخزومى ـ وكان رجًل شرًس اـ سيئ الخلق ـ خرج قائًل‪:‬‬

‫أعاهد ال لشربن من حوضهم أو لهدمنه أو لموتن دونه‪ .‬فلما خرج خرج إليه حمز ة بن عبد المطلب‬ ‫رضي ال عنه فلما التقيا ضربه حمز ة فأطَّن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض‪ ،‬فوقع على ظهره‬ ‫تشخب رجله دًماـ نحو أصحابه‪ ،‬ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه‪ ،‬يريد أن تبر يمينه‪ ،‬ولكن حمز ة‬ ‫ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض‪.‬‬ ‫المب ــارز ة‬ ‫وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة‪ ،‬فقد خرج بعده ثلثة من خير ة فرسان قريش كانوا من عائلة‬ ‫واحد ة‪ ،‬وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارز ة‪،‬‬

‫فخرج إليهم ثلثة من شباب النصار َعْو فـ وُمَعّو ذـ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد ال بن رواحة‪،‬‬ ‫فقالوا‪ :‬من أنتم؟ قالوا‪ :‬رهط من النصار‪ .‬قالوا‪ :‬أكِّفاـء كرا م‪ ،‬ما لنا بكم حاجة‪ ،‬وإنما نريد بني عمنا‪ ،‬ثم‬ ‫نادى مناديهم‪ :‬يا محمد‪ ،‬أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)قم يا‬ ‫عبيد ة بن الحارث‪ ،‬وقم يا حمز ة‪ ،‬وقم يا على(‪ ،‬فلما قاموا ودنوا منهم‪ ،‬قالوا‪ :‬من أنتم؟ فأخبروهم‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقالوا‪ :‬أنتم أكفاء كرا م‪ ،‬فبارز عبيد ة ـ وكان أسن القو م ـ عتبة بن ربيعة‪ ،‬وبارز حمز ة شيبة‪ ،‬وبارز على‬

‫الوليد‪ .‬فأما حمز ة وعلى فلم يمهل قرنيهما أن قتلهما‪ ،‬وأما عبيد ة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان‪،‬‬

‫فأثخن كل واحد منهما صاحبه‪ ،‬ثم َك ّرـ على وحمز ة على عتبة فقتله‪ ،‬واحتمل عبيد ة وقد قطعت رجله‪،‬‬ ‫ض ِمـنًـا حتى مات بالصفراء‪،‬بعد أربعة أو خمسة أيا م من وقعة بدر‪ ،‬حينما كان المسلمون في‬ ‫فلم يزل َ‬ ‫طريقهم إلى المدينة‪ .‬وكان على يقسم بال أن هذه الية ن ـزلت فيهم‪ :‬‏} َهَذـاـِن َخ ْ ِ‬ ‫ص ُمـوـا ِفي‬ ‫صـَمـاـن اْخ تَـ َ‬ ‫َربِّه ْمـ{ الية ‏]الحج‪.[19:‬‬ ‫الهجو م العا م‬ ‫وكانت نهاية هذه المبارز ة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلثة من خير ة فرسانهم وقادتهم دفعة‬ ‫واحد ة‪،‬فاستشاطوا غضًبا‪،‬وكروا على المسلمين كر ة رجل واحد‪.‬‬

‫وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين‬ ‫المتتالية‪ ،‬وهم مرابطون في مواقعهم‪ ،‬واقفون موقف الدفاع‪ ،‬وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة‪ ،‬وهم‬

‫يقولون‪ :‬أَح دـ أَح دـ‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يناشد ربه‬ ‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من‬ ‫النصر‪ ،‬ويقول‪ :‬‏)اللهم أنجز لي ما وعدتني‪ ،‬اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك(‪ ،‬حتى إذا َح ِمـَىـ‬ ‫ِ‬ ‫س ‪،‬ـواستدارت رحى الحرب بشد ة واحتد م القتال‪ ،‬وبلغت المعركة قمتها‪ ،‬قال‪ :‬‏)اللهم إن تهلك‬ ‫الَو طـيـ ُ‬

‫هذه العصابة اليو م ل تعبد‪ ،‬اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليو م أبًد اـ(‪ .‬وبالغ في البتهال حتى سقط رداؤه‬

‫عن منكبيه‪ ،‬فرده عليه الصديق‪ ،‬وقال‪ :‬حسبك يا رسول ال‪ ،‬ألححت على ربك‪.‬‬

‫وأوحى ال إلى ملئكته‪ :‬‏}أَّني معـُك مـ فـثَبُّتواْ الِّذ يـن آمنُـواْ س أُـلِْق يـ ِفي قـُلو ِ ّ ِ‬ ‫بـ{‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫ب الذ يـَن َك َفـُرـواْ الّرْع َ‬ ‫‏]النفال‪،[12 :‬وأوحى إلى رسوله‪ :‬‏}أَّني ُمِم ّدـُك مـ بِأَلْ ٍ‬ ‫ف ّمَنـ الَْم لـئَِك ِةـ ُمْر ِدـفِـيَن{ ‏]النفال‪ [9:‬ـ أي إنهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ض اـ أرساًل ‪ ،‬ـ ـل يأتون دفعة واحد ة‪.‬‬ ‫ردف لكم‪ ،‬أو يردف بعضهم بع ً‬ ‫نزول الملئكة‬ ‫وأغفي رسول ال صلى ال عليه وسلم إغفاء ة واحد ة‪ ،‬ثم رفع رأسه فقال‪ :‬‏)أبشر يا أبا بكر‪ ،‬هذا جبريل‬

‫على ثـَناياه النـّْق ُعـ( ‏]أي الغبار[ وفي رواية ابن إسحاق‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أبشر يا أبا‬ ‫بكر‪ ،‬أتاك نصر ال‪ ،‬هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده‪ ،‬وعلى ثناياه النقع(‪.‬‬ ‫ثم خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول‪ :‬‏} َسيـُْهَزـُ م الَْج ْمـُعـ‬ ‫صـبَـاء‪ ،‬فاستقبل بها قريًش اـ وقال‪ :‬‏)شاهت الوجوه(‬ ‫َو يـَُو لّـوَن الّد بـَُر { ‏]القمر‪، [45:‬ثم أخذ َح ْفـنَـًة من الَح ْ‬ ‫ورمى بها في وجوههم‪ ،‬فما من المشركين من أحد إل أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة‪،‬‬ ‫ت َو لَـِكّن اَل َرَمىـ{ ‏]النفال‪.[17:‬‬ ‫ت إِْذ َرَمْيـ َ‬ ‫وفي ذلك أنزل ال‪ :‬‏} َوَمـاـ َرَمْيـ َ‬

‫الهجو م المضاد‬ ‫وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الخير ة بالهجمة المضاد ة فقال‪ :‬‏)شدوا(‪ ،‬وحرضهم على القتال‪ ،‬قائًل‪:‬‬

‫‏)والذي نفس محمد بيده‪ ،‬ل يقاتلهم اليو م رجل فيقتل صابًرا محتسًبا مقبًل غير مدبر‪ ،‬إل أدخله ال‬ ‫الجنة(‪ ،‬وقال وهو يحضهم على القتال‪ :‬‏)قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض(‪ ،‬‏]وحينئذ[ قال‬

‫عَُم ْيـر بن الُح َمـاـ م‪ :‬بَْخ بَْخ ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما يحملك على قولك‪ :‬بخ بخ؟( قال‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬وال يا رسول ال إل رجاء أن أكون من أهلها‪ ،‬قال‪ :‬‏)فإنك من أهلها(‪ .‬فأخرج تمرات من قـَرِنه‬ ‫فجعل يأكل منهن‪ ،‬ثم قال‪ :‬لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحيا ة طويلة‪ ،‬فرمى بما كان معه‬

‫من التمر‪ ،‬ثم قاتلهم حتى قتل‪.‬‬ ‫وكذلك سأله عوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ما يضحك الرب من عبده؟ قال‪:‬‬

‫سـهـ يده في الَعُد ّوـ حاسًرا(‪ ،‬فنزع درعا كانت عليه فقذفها‪ ،‬ثم أخذ سيفه فقاتل القو م حتى قتل‪.‬‬ ‫‏) غَْم ُ‬ ‫وحين أصدر رسول ال صلى ال عليه وسلم المر بالهجو م المضاد كانت حد ة هجمات العدو قد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ذهبت وفتر حماسه‪ ،‬فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين‪ ،‬فإنهم حينما‬

‫تلقوا أمر الشد والهجو م ـ وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه ـ قاموا بهجو م كاسح مرير‪ ،‬فجعلوا‬

‫يقلبون الصفوف‪ ،‬ويقطعون العناق‪ .‬وزادهم نشاًطا وحد ة أن رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يثب‬ ‫في الدرع‪ ،‬وقد تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من المشركين منه‪ ،‬وهو يقول في جز م وصراحة‪ :‬‏} َسيـُْهَزـُ م‬ ‫الَْج ْمـُعـ َو يـَُو لّـوَن الّد بـَُر { فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرتهم الملئكة‪ .‬ففي رواية ابن سعد عن عكرمة‬ ‫قال‪ :‬كان يومئذ يـَْنُد رـ رأس الرجل ل يدرى من ضربه‪ ،‬وتندر يد الرجل ل يدرى من ضربها‪ .‬وقال ابن‬ ‫عباس‪ :‬بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه‪،‬‬

‫وصوت الفارس يقول‪ :‬أقد م َح يـُْزو م‪ ،‬فنظر إلى المشرك أمامه‪ ،‬فخر مستلقًيا‪ ،‬فنظر إليه فإذا هو قد خطم‬ ‫ضـّرـ ذلك أجمع‪ ،‬فجاء النصارى فحدث بذلك رسول ال صلى‬ ‫أنفه وشق وجهه كضربة السوط‪ ،‬فاْخ َ‬

‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)صدقت‪ ،‬ذلك من مدد السماء الثالثة(‪.‬‬

‫وقال أبو داود المازنى‪ :‬إني لتبع رجًل من المشركين لضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي‪،‬‬

‫فعرفت أنه قد قتله غيرى‪ ،‬وجاء رجل من النصار بالعباس بن عبد المطلب أسيًرا‪،‬فقال العباس‪ :‬إن هذا‬

‫وال ما أسرني‪ ،‬لقد أسرني رجل أجلح‪ ،‬من أحسن الناس وجًه اـ على فرس أبـَْلق‪ ،‬وما أراه في القو م‪،‬‬ ‫فقال النصاري‪ :‬أنا أسرته يا رسول ال‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اسكت فقد أيدك ال بملك كريم(‪.‬‬

‫وقال علي‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم يو م بدر‪ ،‬ولبي بكر‪ :‬‏)مع أحدكما جبريل ومع الخر‬ ‫ميكائيل‪ ،‬وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال‪ ،‬أو يكون في القتال(‪.‬‬

‫إبليس ينسحب عن ميدان القتال‬ ‫شـمـ المدلجي كما ذكرنا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صور ة سراقة بن مالك بن ُج ْعـ ُ‬ ‫فارقهم منذ ذلك الوقت ـ فلما رأي ما يفعل الملئكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه‪ ،‬وتشبث به‬ ‫الحارث بن هشا م ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه‪ ،‬ثم خرج هارًبا‪ ،‬وقال له‬ ‫المشركون‪ :‬إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت‪ :‬إنك جار لنا‪ ،‬ل تفارقنا؟ فقال‪ :‬‏}إِّني أَ​َرى َماـ لَ تـَرْوـَنـ إِنَّي‬ ‫ف اَل َواـُل َش ِدـيـُد الِْعَق اـ ِ‬ ‫ب{ ‏]النفال‪ ،[48:‬ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر‪.‬‬ ‫أَ​َخ اـ ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الهزيمة الساحقة‬ ‫وبدأت أمارات الفشل والضطراب في صفوف المشركين‪ ،‬وجعلت تتهد م أما م حملت المسلمين‬

‫العنيفة‪ ،‬واقتربت المعركة من نهايتها‪ ،‬وأخذت جموع المشركين في الفرار والنسحاب المبدد‪ ،‬وركب‬ ‫المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون‪ ،‬حتى تمت عليهم الهزيمة‪.‬‬ ‫صمود أبي جهل‬

‫أما الطاغية الكبر أبو جهل‪ ،‬فإنه لما رأى أول أمارات الضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه‬ ‫هذا السيل‪ ،‬فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابر ة‪ :‬ل يهزمنكم خذلن سراقة إياكم‪ ،‬فإنه‬

‫كان على ميعاد من محمد‪ ،‬ول يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد‪ ،‬فإنهم قد عجلوا‪ ،‬فواللت والعزى ل‬

‫نرجع حتى نقرنهم بالحبال‪ ،‬ول ألفين رجًل منكم قتل منهم رجًل ‪ ،‬ـ ـولكن خذوهم أخًذ اـ حتى نعرفهم‬ ‫بسوء صنيعهم‪.‬‬

‫ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة‪ ،‬فما لبث إل قليًل حتى أخذت الصفوف تتصدع أما م‬ ‫تيارات هجو م المسلمين‪ .‬نعم‪ ،‬بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياًج اـ من السيوف‪،‬‬

‫وغابات من الرماح‪ ،‬ولكن عاصفة هجو م المسلمين بددت هذا السياج‪ ،‬وأقلعت هذه الغابات‪ ،‬وحينئذ‬ ‫ظهر هذا الطاغية‪ ،‬ورآه المسلمون يجول على فرسه‪ ،‬وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى‬ ‫غلمين أنصاريين‪.‬‬

‫مصرع أبي جهل‬ ‫قال عبد الرحمن بن عوف رضي اله عنه إني لفي الصف يو م بدر إذ التفت‪ ،‬فإذا عن يمينى وعن‬

‫يسارى فتيان حديثا السن‪ ،‬فكأني لم آمن بمكانهما‪ ،‬إذ قال لي أحدهما سًرا من صاحبه‪ :‬يا عم‪ ،‬أرني‬

‫أبا جهل‪ ،‬فقلت‪ :‬يابن أخي‪ ،‬فما تصنع به؟ قال‪ :‬أخبرت أنه يسب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫قال‪ :‬والذي نفسي بيده لئن رأيته ل يفارق سوادي سواده حتى يموت العجل منا‪ ،‬فتعجبت لذلك‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال‪ :‬وغمزني الخر‪ ،‬فقال لي مثلها‪ ،‬فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس‪ .‬فقلت‪ :‬أل‬

‫تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألني عنه‪ ،‬قال‪ :‬فابتدراه فضرباه حتى قتله‪ ،‬ثم انصرفا إلى رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فـقال‪ :‬‏)أيكما قتله؟( فقـال كـل واحد منهما‪ :‬أنا قتلته‪ ،‬قال‪ :‬‏)هل مسحتما‬

‫سيفيكما؟( فـقال‪ :‬ل‪ .‬فنـظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إلــى السيفـين فقال‪ :‬‏)كلكما قتله(‪ ،‬وقضى‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بَس لَـِبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح‪ ،‬والرجلن معاذ بن عمرو بن الجموح‬ ‫وُمَعّو ذـ ابن عفراء‪.‬‬ ‫وقال ابن إسحاق‪ :‬قال معاذ بن عمرو بن الجموح‪ :‬سمعت القو م‪ ،‬وأبو جهل في مثل الَح َرـَج ة ـ‬

‫والحرجة‪ :‬الشجر الملتف‪ ،‬أو شجر ة من الشجار ل يوصل إليها‪ ،‬شبه رماح المشركين وسيوفهم التي‬

‫كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجر ة ـ وهم يقولون‪ :‬أبو الحكم ل يخلص إليه‪ ،‬قال‪ :‬فلما سمعتها‬ ‫ت قدمه ـ أطارتها ـ بنصف‬ ‫جعلته من شاني فصمدت نحوه‪ ،‬فلما أمكنني حملت عليه‪ ،‬فضربته ضربة أطَنّ ْ‬ ‫ساقه‪ ،‬فوال ما شبهتها حين طاحت إل بالنوا ة تَِط يـح من تحت ِم رـ ِ‬ ‫ضـ َخـةـالنوى حين يضرب بها‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي‪ ،‬فتعلقت بجلد ة من جنبي‪ ،‬وأجهضني القتال عنه‪ ،‬فلقد‬ ‫ت بها عليها حتى‬ ‫قاتلت َعاّمَةـ يومي وإني لسحبها خلفي‪ ،‬فلما آذتني وضعت عليها قدمي‪ ،‬ثم تَ​َم طّـْي ُ‬ ‫طرحتها‪ ،‬ثم مر بأبي جهل ـ وهو َعِق يـٌر ـ ُمَعّو ذـ ابن عفراء فضربه حتى أثبته‪ ،‬فتركه وبه َرَمقـ‪ ،‬وقاتل معوذ‬ ‫حتى قتل‪.‬‬ ‫ولما انتهت المعركة قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)من ينظر ما صنع أبو جهل؟( فتفرق الناس‬ ‫في طلبه‪ ،‬فوجده عبد ال بن مسعود رضي ال عنه وبه آخر رمق‪ ،‬فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته‬

‫ليحتز رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬هل أخزاك ال يا عدو ال؟ قال‪ :‬وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل‬ ‫فوق رجل قتلتموه؟ وقال‪ :‬فلو غير أّك اـر قتلنى‪ ،‬ثم قال‪ :‬أخبرني لمن الدائر ة اليو م؟ قال‪ :‬ل ورسوله‪ ،‬ثم‬ ‫قال لبن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه‪ :‬لقد ارتقيت مرتقى صعًبا يا ُرَو يْـِعَى الغنم‪ ،‬وكان ابن‬ ‫مسعود من رعا ة الغنم في مكة‪.‬‬ ‫وبعد أن دار بينهما هذا الكل م احتز ابن مسعود رأسه‪ ،‬وجاء به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا رأس عدو ال أبي جهل‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ال الذي ل إله إل هو؟( فرددها ثلًثا‪ ،‬ثم‬ ‫قال‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬الحمد ل الذي صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهز م الحزاب وحده‪ ،‬انطلق أرنيه(‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فانطلقـنا فــأريته إيـاه‪ ،‬فقال‪ :‬‏)هذا فرعون هذه المة(‪.‬‬ ‫من روائع اليمان في هذه المعركة‬ ‫لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحما م وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه‬

‫المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قو ة العقيد ة وثبات المبدأ‪ ،‬ففي هذه المعركة التقى الباء بالبناء‪ ،‬والخو ة‬ ‫بالخو ة‪ ،‬خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف‪ ،‬والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى ال عليه وسلم قال لصحابه‪ :‬‏)إني قد عرفت أن‬

‫رجاًل من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرًه اـ‪ ،‬ل حاجة لهم بقتالنا‪ ،‬فمن لقى أحًد اـ من بني هاشم فل‬ ‫ي بن هشا م فل يقتله‪ ،‬ومن لقى العباس بن عبد المطلب فل يقتله‪ ،‬فإنه إنما‬ ‫يقتله‪ ،‬ومن لقى أبا البَْخ تَـِر ّ‬

‫أخرج مستكرًه اـ(‪ ،‬فقال أبو حذيفة بن عتبة‪ :‬أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس‪ ،‬وال‬

‫لئن لقيته للحمنه ـ أو للجمنه ـ بالسيف‪ ،‬فبلغت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال لعمر بن‬

‫الخطاب‪ :‬‏)يا أبا حفص‪ ،‬أيضرب وجه عم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسيف(‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا‬ ‫رسول ال‪ ،‬دعني فلضرب عنقه بالسيف‪ ،‬فوال لقد نافق‪.‬‬ ‫فكان أبو حذيفة يقول‪ :‬ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ‪ ،‬ول أزال منها خائًف اـ إل أن تكفرها‬ ‫عنى الشهاد ة‪ .‬فقتل يو م اليمامة شهيًد اـ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري؛ لنه كان أكف القو م عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬

‫بمكة‪ ،‬وكان ل يؤذيه‪ ،‬ول يبلغ عنه شيء يكرهه‪ ،‬وكان ممن قا م في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم‬ ‫وبني المطلب‪.‬‬

‫ى لقيه في المعركة ومعه‬ ‫ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله‪ ،‬وذلك أن الُم َجـّذـرـ بن زياد اْلبـَلَِو ّ‬ ‫زميل له‪ ،‬يقاتلن سوًيا‪ ،‬فقال المجذر‪ :‬يا أبا البخترى إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد نهانا عن‬

‫قتلك‪ ،‬فقال‪ :‬وزميلي؟ فقال المجذر‪ :‬ل وال ما نحن بتاركي زميلك‪ ،‬فقال‪:‬وال إذن لموتن أنا وهو‬ ‫جميًعا‪ ،‬ثم اقتتل‪ ،‬فاضطر المجذر إلى قتله‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة‪ ،‬فلما كان يو م بدر مر به‬

‫عبد الرحمن‪ ،‬وهو واقف مع ابنه على بن أمية‪ ،‬آخًذ اـ بيده‪ ،‬ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها‪ ،‬وهو‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يحملها‪ ،‬فلما رآه قال‪ :‬هل لك في؟ فأنا خير من هذه الدراع التي معك‪ ،‬ما رأيت كاليو م قط‪ ،‬أما لكم‬ ‫حاجة في اللبن؟ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثير ة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الدراع‪،‬‬

‫وأخذهما يمشى بهما‪ ،‬قال عبد الرحمن‪ :‬قال لي أمية بن خلف‪ ،‬وأنا بينه وبين ابنه‪ :‬من الرجل منكم‬

‫المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت‪ :‬ذاك حمز ة بن عبد المطلب‪ ،‬قال‪ :‬ذاك الذي فعل بنا الفاعيل‪.‬‬ ‫قال عبد الرحمن‪ :‬فوال إني لقودهما إذ رآه بلل معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلًل بمكة ـ فقال‬ ‫بلل‪ :‬رأس الكفر أمية بن خلف‪ ،‬ل نجوت إن نجا‪ .‬قلت‪ :‬أي بلل‪ ،‬أسيري‪ .‬قال‪ :‬ل نجوت إن نجا‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬أتسمع يابن السوداء‪ .‬قال‪ :‬ل نجوت إن نجا‪ .‬ثم صرخ بأعلى صوته‪ :‬يا أنصار ال‪ ،‬رأس الكفر‬

‫أمية بن خلف‪ ،‬ل نجوت إن نجا‪ .‬قال‪ :‬فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الَْم َسـَكـةـ‪ ،‬وأنا أذب عنه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فأخلف رجل السيف‪ ،‬فضرب رجل ابنه فوقع‪ ،‬وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط‪ ،‬فقلت‪ :‬انج‬

‫بنفسك‪ ،‬ول نجاء بك‪ ،‬فوال ما أغني عنك شيًئا‪ .‬قال‪ :‬فـَ​َه بـَُروُه َمـاـ بأسيافهم حتى فرغوا منهما‪ ،‬فكان‬ ‫عبد الرحمن يقول‪ :‬يرحم ال بلًل ‪ ،‬ـ ـذهبت أدراعي‪ ،‬وفجعني بأسيري‪.‬‬

‫وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال‪ :‬كاتبت أمية بن خلف كتاًبا بأن يحفظني في صاغيتي ـ‬ ‫أي خاصتي ومالي ـ بمكة‪ ،‬وأحفظه في صاغيته بالمدينة‪ ...‬فلما كان يو م بدر خرجت إلى جبل لحرزه‬

‫حين نا م الناس‪ ،‬فأبصره بلل‪ ،‬فخرج حتى وقف على مجلس النصار فقال‪ :‬أمية بن خلف‪ ،‬ل نجوت‬

‫إن نجا أمية‪ ،‬فخرج معه فريق من النصار في آثارنا‪ ،‬فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه‬

‫ليشغلهم‪ ،‬فقتلوه‪ ،‬ثم أبوا حتى يتبعونا‪ ،‬وكان رجًل ثقيًل ‪ ،‬ـ ـفلما أدركونا قلت له‪ :‬ابرك‪ ،‬فبرك‪ ،‬فألقيت‬

‫عليه نفسي لمنعه‪ ،‬فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه‪ ،‬وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‪ .‬وكان عبد‬

‫الرحمن يرينا ذلك الثر في ظهر قدمه‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي ال عنه يومئذ خاله العاص بن هشا م بن المغير ة‪ ،‬ولم يلتفت إلى قرابته‬

‫منه‪ ،‬ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو في السر‪ :‬يا‬

‫عباس أسلم‪ ،‬فوال أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب‪ ،‬وما ذاك إل لما رأيت رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم يعجبه إسلمك‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي ال عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال‪ :‬أين مالي‬

‫يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن‪:‬‬

‫لَم يـبق َغيـر ش ّكـٍةـ ويـع بـوب ** و ٍ‬ ‫ضّ‬ ‫لل ال ّ‬ ‫ب‬ ‫ْ َْ َ ُْ َ‬ ‫ص اـِر م يـَْق تُـُل ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ش يَـ ْ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 6‬ـ ولما وضع القو م أيديهم يأسرون‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم في العريش‪ ،‬وسعد بن معاذ قائم‬

‫على بابه يحرسه متوشًح اـ سيفه‪ ،‬رأي رسول ال صلى ال عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما‬ ‫يصنع الناس‪ ،‬فقال له‪ :‬وال لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القو م؟ قال‪ :‬أجل وال يا رسول ال‪ ،‬كانت‬

‫أول وقعة أوقعها ال بأهل الشرك‪ ،‬فكان الثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلّى من استبقاء الرجال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صـنـ السدي‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأعطاه‬ ‫‪ 7‬ـ وانقطع يومئذ سيف عُّك اـَش ةـ بن م ْحـ َ‬ ‫ِج ْذ ـًلـمن حطب‪ ،‬فقال‪ :‬‏)قاتل بهذا يا عكاشة(‪ ،‬فلما أخذه من رسول ال صلى ال عليه وسلم هزه‪،‬‬ ‫فعاد سيًف اـ في يده طويل القامة‪ ،‬شديد المتن‪ ،‬أبيض الحديد ة‪ ،‬فقاتل به حتى فتح ال تعالى للمسلمين‪،‬‬ ‫وكان ذلك السيف يسمى الَعْو نــ‪ ،‬ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد‪ ،‬حتى قتل في حروب الرد ة وهو‬ ‫عنده‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد‬

‫المسلمين‪،‬مر به وأحد النصار يشد يده‪ ،‬فقال مصعب للنصاري‪ :‬شد يديك به‪ ،‬فإن أمه ذات متاع‪،‬‬

‫لعلها تفديه منك‪ ،‬فقال أبو عزيز لخيه مصعب‪ :‬أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب‪ :‬إنه ـ أي النصاري ـ‬ ‫أخي دونك‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في الَق ِلـيب‪ ،‬وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب‪ ،‬نظر رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة‪ ،‬فإذا هو كئيب قد تغير‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا أبا حذيفة‪ ،‬لعلك‬

‫قد دخلك من شأن أبيك شيء؟( فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬يا رسول ال‪ ،‬ما شككت في أبي ول مصرعه‪ ،‬ولكنني‬

‫كنت أعرف من أبي رأًيا وحلًم اـ وفضًل ‪ ،‬ـ ـفكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى السل م‪ ،‬فلما رأيت ما أصابه‪،‬‬ ‫وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك‪ .‬فدعا له رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم بخير‪ ،‬وقال له خيًرا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قتلى الفريقين‬

‫مكة تتلقى نبأ الهزيمة‬ ‫المدينة تتلقى أنباء النصر‬

‫الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة‬ ‫وفود التهنئة‬

‫قضية السارى‬ ‫القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‬ ‫قتلى الفريقين‬

‫انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين‪ ،‬وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين‪ ،‬وقد استشهد من‬ ‫المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجًل ‪ ،‬ـ ـستة من المهاجرين وثمانية من النصار‪.‬‬ ‫أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة‪ ،‬قتل منهم سبعون‪ ،‬وأسر سبعون‪ .‬وعامتهم القاد ة والزعماء‬ ‫والصناديد‪.‬‬

‫ولما انقضت الحرب أقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال‪ :‬‏)بئس العشير ة‬ ‫كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس‪ ،‬وخذلتموني ونصرني الناس‪ ،‬وأخرجتموني وآواني الناس(‪ ،‬ثم‬

‫أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قـُ​ُلب بدر‪.‬‬

‫وعن أبي طلحة‪ :‬أن نبي ال صلى ال عليه وسلم أمر يو م بدر بأربعة وعشرين رجًل من صناديد قريش‪،‬‬ ‫صـةـ ثلث ليال‪ ،‬فلما‬ ‫ي من أطواء بدر َخ بِـيث ُمْخ بــث‪ .‬وكان إذا ظهر على قو م أقا م بالَعْر َ‬ ‫فقذفوا في َطو ّ‬

‫كان ببدر اليو م الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها‪ ،‬ثم مشى‪ ،‬واتبعه أصحابه‪ .‬حتى قا م على شفة‬ ‫الّركِّى ‪،‬ـ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‪ ،‬‏)يا فلن بن فلن‪ ،‬يا فلن بن فلن‪ ،‬أيسركم أنكم‬ ‫أطعتم ال ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حًق اـ‪ ،‬فهل وجدتم ما وعد ربكم حًق اـ؟( فقال عمر‪ :‬يا‬ ‫رسول ال‪ ،‬ما تكلم من أجساد ل أرواح لها؟ قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)والذي نفس محمد‬

‫بيده‪ ،‬ما أنتم بأسمع لما أقول منهم( وفي رواية‪ :‬‏)ما أنتم بأسمع منهم‪ ،‬ولكن ل يجيبون(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مكة تتلقى نبأ الهزيمة‬ ‫فر المشركون من ساحة بدر في صور ة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب‪ ،‬واتجهوا صوب مكة‬ ‫مذعورين‪ ،‬ل يدرون كيف يدخلونها خجًل‪.‬‬

‫س َمـاـن بن عبد ال الخزاعى‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما وراءك؟‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬وكان أول من قد م بمصاب قريش الَح ْيـ ُ‬ ‫قال‪ :‬قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشا م وأمية بن خلف‪ ،‬في رجال من الزعماء‬ ‫سماهم‪ .‬فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الِح ْج ـر‪:‬ـ وال إن يعقل هذا‪،‬‬ ‫فاسألوه عنى‪ .‬قالوا‪ :‬ما فعل صفوان بن أمية؟ قال‪ :‬ها هو ذا جالس في الحجر‪ ،‬وقد وال رأيت أباه‬ ‫وأخاه حين قتل‪.‬‬

‫وقال أبو رافع ـ مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬كنت غلًماـ للعباس وكان السل م قد دخلنا أهَل‬ ‫البيت‪ ،‬فأسلم العباس‪ ،‬وأسلمت أ م الفضل‪ ،‬وأسلمت‪ ،‬وكان العباس يكتم إسلمه‪ ،‬وكان أبو لهب قد‬

‫تخلف عن بدر‪ ،‬فلما جاءه الخبر كبته ال وأخزاه‪ ،‬ووجدنا في أنفسنا قو ة وعًزا‪ ،‬وكنت رجًل ضعيًف اـ‬ ‫أعمل القداح‪ ،‬أنحتها في حجر ة زمز م‪ ،‬فوال إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أ م الفضل‬

‫جالسة‪ ،‬وقد سرنا ما جاءنا من الخبر‪ ،‬إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُ​ُنب‬ ‫الحجر ة‪ ،‬فكان ظهره إلى ظهرى‪ ،‬فبينما هو جالس إذ قال الناس‪ :‬هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد‬

‫المطلب قد قد م‪ ،‬فقال له أبو لهب‪ :‬هلم إلّى ‪،‬ـ فعندك لعمرى الخبر‪ ،‬قال‪ :‬فجلس إليه‪،‬والناس قيا م‬

‫عليه‪ .‬فقال‪ :‬يابن أخي‪ ،‬أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال‪ :‬ما هو إل أن لقينا القو م فمنحناهم أكتافنا‪،‬‬ ‫يقتلوننا كيف شاءوا‪ ،‬ويأسروننا كيف شاءوا وايم ال مع ذلك ما لمت الناس‪ ،‬لَِق يـَنا رجال بيض على‬ ‫خيل بـُْلق بين السماء والرض‪ ،‬وال ما تُِليق شيًئا‪ ،‬ول يقو م لها شيء‪.‬‬

‫قال أبو رافع‪ :‬فرفعت طنب الحجر ة بيدى‪ ،‬ثم قلت‪ :‬تلك وال الملئكة‪ .‬قال‪ :‬فرفع أبو لهب يده‪،‬‬

‫فضرب بها وجهي ضربة شديد ة‪ ،‬فثاورته‪ ،‬فاحتملنى فضرب بى الرض‪ ،‬ثم برك علّى يضربني‪ ،‬وكنت‬

‫ت في رأسه‬ ‫رجًل ضعيًف اـ فقامت أ م الفضل إلى عمود من عُ​ُم دـ الحجر ة فأخذته‪ ،‬فضربته به ضربة فـَلَ​َع ْ‬ ‫شجة منكر ة‪ ،‬وقالت‪ :‬استضعفته أن غاب عنه سيده‪ ،‬فقا م مولًيا ذليًل ‪ ،‬ـ ـفوال ما عاش إل سبع ليال حتى‬ ‫رماه ال بالعدسة ‏]وهي قرحة تتشاء م بها العرب[ فقتلته‪ ،‬فتركه بنوه‪ ،‬وبقى ثلثة أيا م ل تقرب جنازته‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ول يحاول دفنه‪ ،‬فلما خافوا السبة في تركه حفروا له‪ ،‬ثم دفعوه بعود في حفرته‪ ،‬وقذفوه بالحجار ة من‬

‫بعيد حتى واروه‪.‬‬

‫هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر‪ ،‬وقد أثر ذلك فيهم أثًرا سيًئا جًد اـ‪ ،‬حتى منعوا‬ ‫النياحة على القتلى؛ لئل يشمت بهم المسلمون‪.‬‬ ‫ومن الطرائف أن السود بن المطلب أصيب ثلثة من أبنائه يو م بدر‪ ،‬وكان يحب أن يبكي عليهم‪ ،‬وكان‬ ‫بـ؟ هل بكت قريش‬ ‫ضرير البصر‪ ،‬فسمع ليًل صوت نائحة‪ ،‬فبعث غلمه‪ ،‬وقال‪ :‬انظر هل أحل النّْح ُ‬ ‫على قتلها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق‪ ،‬فرجع الغل م وقال‪ :‬إنما هي‬

‫امرأ ة تبكى على بعير لها أضلته‪ ،‬فلم يتمالك السود نفسه وقال‪:‬‬

‫أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النو م السهود‬

‫فل تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود‬ ‫على بدر سرا ة بني هصيص ** ومخزو م ورهط أبي الوليد‬ ‫وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد السود‬ ‫وبكيهم ول تسمى جميعا ** وما لبي حكيمة من نديد‬ ‫أل قد ساد بعدهم رجال ** ولول يو م بدر لم يسودوا‬

‫المدينة تتلقى أنباء النصر‬ ‫ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل لهم‬

‫البشرى‪ ،‬أرسل عبد ال بن رواحة بشيًرا إلى أهل العالية‪ ،‬وأرسل زيد بن حارثة بشيًرا إلى أهل السافلة‪.‬‬ ‫وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة‪ ،‬حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل‬ ‫صـَوـاـء ـ ناقة رسول ال صلى‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكًبا الَق ْ‬ ‫ال عليه وسلم ـ قال‪ :‬لقد قتل محمد‪ ،‬وهذه ناقته نعرفها‪ ،‬وهذا زيد ل يدري ما يقول من الرعب‪ ،‬وجاء‬ ‫فَلّ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فلما بلغ الرسولن أحاط بهما المسلمون‪ ،‬وأخذوا يسمعون منهما الخبر‪ ،‬حتى تأكد لديهم فتح‬ ‫المسلميـن‪ ،‬فـَعّم تـ البهجـة والسـرور‪ ،‬واهتزت أرجاء المدينة تهليًل وتكبيًرا‪ ،‬وتقد م رءوس المسلمين ـ‬ ‫الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر‪ ،‬ليهنئوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذا الفتح المبين‪.‬‬ ‫قال أسامة بن زيد‪ :‬أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم التي‬ ‫كانت عند عثمان بن عفان‪ ،‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم خلفنى عليها مع عثمان‪.‬‬

‫الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة‬ ‫أقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلثة أيا م‪ ،‬وقبل رحيله من مكان المعركة‬ ‫وقع خلف بين الجيش حول الغنائم‪ ،‬ولما اشتد هذا الخلف أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن‬

‫يرد الجميع ما بأيديهم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة‪.‬‬

‫عن عباد ة بن الصامت قال‪ :‬خرجنا مع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فشهدت معه بدًرا‪ ،‬فالتقى الناس‬

‫فهز م ال العدو‪ ،‬فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون‪ ،‬وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه‬ ‫ويجمعونه‪ ،‬وأحدقت طائفة برسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ل يصيب العدو منه ِغ ّرـ ة‪ ،‬حتى إذا كان‬ ‫الليل‪ ،‬وفاء الناس بعضهم إلى بعض‪ ،‬قال الذين جمعوا الغنائم‪ :‬نحن حويناها‪ ،‬وليس لحد فيها‬

‫نصيب‪،‬وقال الذين خرجوا في طلب العدو‪ :‬لستم أحق بها منا‪ ،‬نحـن نحـينا منـها العـدو وهزمناه‪ ،‬وقال‬

‫الذين أحدقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬خفنا أن يصيب العدو منه غر ة‪ ،‬فاشتغلنا به‪ ،‬فأنزل ال‪:‬‬ ‫لنَف اـِل قُِل ا َ ِ‬ ‫ك َعِن ا َ‬ ‫ت بِْينُِك ْمـ َوأَـِط يـُعواْ اَل َوَرـُس وـلَهُ ِإن‬ ‫ص لِـُح وـاْ َذا َ‬ ‫‏}يَْسأَـُلونَ َ‬ ‫لنَف اـُل للِّه َواـلّرُس وـِل َفاتـُّقوـاْ اَل َوأَـ ْ‬ ‫ُك نـُتم ّمْؤ ِمـنِـيَن{ ‏]النفال‪ .[1:‬فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بين المسلمين‪.‬‬ ‫وبعد أن أقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم ببدر ثلثة أيا م تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه السارى‬

‫من المشركين‪ ،‬واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين‪ ،‬وجعل عليه عبد ال بن كعب‪ ،‬فلما‬ ‫خرج من م ِ‬ ‫ضـ يــق الصفراء نزل على َك ثِـيب بين المضيق وبين الّناِزَية‪ ،‬وقسم هنالك الغنائم على المسلمين‬ ‫َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫على السواء بعد أن أخذ منها الخمس‪.‬‬ ‫وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يو م بدر‪ ،‬وكان‬

‫من أكابر مجرمى قريش‪ ،‬ومن أشد الناس كيًد اـ للسل م وإيذاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ‬ ‫فضرب عنقه علي بن أبي طالب‪.‬‬

‫ولمـا وصل إلى ِع ْرـقـ الّظبـْيَِة أمر بقتل عُْق بَـة بن أبي ُمَعْيط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو الذي كان ألقى َس لـ َج ُزـور على ظهر رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم وهو في الصل ة‪ ،‬وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله‪ ،‬لول اعتراض أبي بكر رضي ال عنه ـ فلما‬ ‫صبـْيَِة يا محمد؟ قال‪ :‬‏)النار(‪ .‬فقتله عاصم ابن ثابت النصارى‪ ،‬ويقال‪ :‬علي بن‬ ‫أمر بقتله قال‪ :‬من لل ّ‬ ‫أبي طالب‪.‬‬ ‫وكان قتل هذين الطاغيتين واجًبا نظًرا إلى سوابقهما‪ ،‬فلم يكونا من السارى فحسب‪ ،‬بل كانا من‬ ‫مجرمى الحرب بالصطلح الحديث‪.‬‬

‫وفود التهنئة‬ ‫ولما وصل صلى ال عليه وسلم إلى الّرْو َحـاـءلقيه رءوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة‬ ‫والستقبال حين سمعوا بشار ة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح‪ .‬وحينئذ قال لهم َس لَـَم ةـ بن سلمة‪:‬ما‬ ‫ِ‬ ‫صْلًعا كالْبُْد نـ المعُّق لَـِة‪،‬ـ فنحرناها‪ ،‬فتبسم رسول ال صلى ال‬ ‫الذي تهنئوننا به؟ فوال إن لَق يـنا إل عجائز ُ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)يا بن أخي‪ ،‬أولئك المل(‪.‬‬

‫وقال أسيد بن حضير‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬الحمد ل الذي أظفرك‪ ،‬وأقر عينك‪ ،‬وال يا رسول ال ما كان‬

‫تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدًواـ‪ ،‬ولكن ظننت أنها عير‪ ،‬ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت‪ ،‬فقال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)صدقت(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة مظفًرا منصوًرا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها‪،‬‬ ‫فأسلم بشر كثير من أهل المدينة‪ ،‬وحينئذ دخل عبد ال بن أبي وأصحابه في السل م ظاهًرا‪.‬‬

‫وقد م السارى بعد بلوغه المدينة بيو م‪ ،‬فقسمهم على أصحابه‪ ،‬وأوصى بهم خيًرا‪ .‬فكان الصحابة‬ ‫يأكلون التمر‪ ،‬ويقدمون لسرائهم الخبز‪ ،‬عمًل بوصية رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫قضية السارى‬ ‫ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في السارى‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول‬ ‫ال‪ ،‬هؤلء بنو العم والَعِش يـر ة والخوان‪ ،‬وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية‪ ،‬فيكون ما أخذناه قو ة لنا على‬ ‫الكفار‪ ،‬وعسى أن يهديهم ال‪ ،‬فيكونوا لنا عضًد اـ‪.‬‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما ترى يابن الخطاب؟( قال‪ :‬قلت‪ :‬وال ما أرى ما رأى أبو‬ ‫بكر‪ ،‬ولكن أرى أن تمكننى من فلن ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه‪ ،‬وتمكن علًيا من َعِق يـل بن أبي طالب‬ ‫فيضرب عنقه‪ ،‬وتمكن حمز ة من فلن أخيه فيضرب عنقه‪ ،‬حتى يعلم ال أنه ليست في قلوبنا هواد ة‬ ‫للمشركين‪ .‬وهؤلء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‪.‬‬

‫فهوى رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قال أبو بكر‪ ،‬ولم يهو ما قلت‪ ،‬وأخذ منهم الفداء‪ :‬فلما كان‬ ‫من الغد قال عمر‪ :‬فغدوت إلى النبي صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول‬

‫ال‪ ،‬أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت‪ ،‬وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما‪،‬‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء‪ ،‬فقد عرض‬ ‫علّى عذابهم أدنى من هذه الشجر ة( ـ شجر ة قريبة‪.‬‬

‫وأنزل ال تعالى‪ :‬‏} َماـ َك اـَن لِنَبِّي َأن يَُك وـَن لَهُ أَْس َرــى َح تّـى يـثُِْخ َن ـ ِفي الَْر ِ‬ ‫ضـ الّد نـَْيا َواـُل يُِريُد‬ ‫ض تُِريُد وـَن َعَر َ‬ ‫الِخ رـَ ة واـُل َعِزيٌز ح ِكـيم لّو لَـ كَِتاب ّمنـ اِل س بـَق لَم ّ ِ‬ ‫ب َعِظ يـٌم{ ‏]النفال‪،67:‬‬ ‫سـُكـْمـ فيَم اـ أَ​َخ ْذـتُـْم َعَذ اـ ٌ‬ ‫َ ٌ ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫‪.[68‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والكتاب الذي سبق من ال قيل‪ :‬هو قوله تعالى‪ :‬‏} فَِإّمـا َمنّـا بـَْعُدـ َو إِـّماـ فَِد اـء{ ‏]محمد‪ .[4 :‬ففيه الذن‬ ‫بأخذ الفدية من السارى؛ ولذلك لم يعذبوا‪ ،‬وإنما نزل العتاب لنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في‬ ‫الرض‪ ،‬وقيل‪ :‬بل الية المذكور ة نزلت فيما بعد‪ ،‬وإنما الكتاب الذي سبق من ال هو ما كان في علم‬

‫ال من إحلل الغنائم لهذه المة‪ ،‬أو من المغفر ة والرحمة لهل بدر‪.‬‬

‫وحيث إن المر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء‪ ،‬وكان الفداء من أربعة آلف‬ ‫درهم إلى ثلثة آلف درهم إلى ألف درهم‪ ،‬وكان أهل مكة يكتبون‪ ،‬وأهل المدينة ل يكتبون‪ ،‬فمن لم‬

‫يكن عنده فداء دفع إليه عشر ة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم‪ ،‬فإذا حذقوا فهو فداء‪.‬‬

‫ومّن رسول ال صلى ال عليه وسلم على عد ة من السارى فأطلقهم بغير فداء‪ ،‬منهم‪ :‬المطلب ابن‬ ‫ص ْيـفي بن أبي رفاعة‪ ،‬وأبو عز ة الُج َمـِحـ ىــ‪ ،‬وهو الذي قتله أسيرا في أحد‪ ،‬وسيأتي‪.‬‬ ‫َح ْنـَطب‪ ،‬و َ‬ ‫ومّن على َخ تَـِنه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب‪ ،‬وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه‬ ‫بقلد ة لها كانت عند خديجة‪ ،‬أدخلتها بها على أبي العاص‪ ،‬فلما رآها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫رق لها رقة شديد ة‪ ،‬واستأذن أصحابه في إطلق أبي العاص ففعلوه‪ ،‬واشترط رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب‪ ،‬فخلها فهاجرت‪ ،‬وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫زيد بن حارثة ورجًل من النصار‪ ،‬فقال‪ :‬‏)كونا ببطن َيأَج جـ حتى تمر بكما زينب فتصحباها(‪ ،‬فخرجا‬ ‫حتى رجعا بها‪ .‬وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جًد اـ‪.‬‬

‫ِ‬ ‫صـَقـًعـا‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬انزع ثنيتي سهيل بن‬ ‫وكان في السرى سهيل بن عمرو‪ ،‬وكان خطيًبا م ْ‬ ‫عمرو يَْد لَـْع لَس اـُنه‪ ،‬فل يقو م خطيًبا عليك في موطن أبًد اـ‪ ،‬بيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رفض‬ ‫هذا الطلب؛ احتراًزا عن الُم ثـْلَِة‪،‬ـ وعن بطش ال يو م القيامة‪.‬‬ ‫وخرج سعد بن النعمان معتمًرا فحبسه أبو سفيان‪ ،‬وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في السرى‪ ،‬فبعثوا به‬

‫إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‬ ‫وحول موضوع هذه المعركة نزلت سور ة النفال‪ ،‬وهذه السور ة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على‬ ‫هذه المعركة‪ ،‬يختلف كثيًرا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح‪.‬‬

‫إن ال تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أوًل ـ إلى بعض التقصيرات الخلقية التي كانت قد بقيت فيهم‪،‬‬

‫وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال‪ ،‬وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات‪.‬‬

‫ثم ثـَّنى بما كان في هذا الفتح من تأييد ال وعونه ونصره بالغيب للمسلمين‪ .‬ذكر لهم ذلك لئل يغتروا‬ ‫بشجاعتهم وبسالتهم‪ ،‬فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء‪ ،‬بل ليتوكلوا على ال‪ ،‬ويطيعوه ويطيعوا رسوله‬ ‫عليه الصل ة والسل م‪.‬‬ ‫ثم بين لهم الهداف والغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى ال عليه وسلم لجلها هذه المعركة‬ ‫الدامية الرهيبة‪ ،‬ودلهم على الصفات والخلق التي تتسبب في الفتوح في المعارك‪.‬‬

‫ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة‪ ،‬ووعظهم موعظة بليغة‪ ،‬تهديهم إلى الستسل م‬ ‫للحق واللتزا م به‪.‬‬ ‫ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم‪ ،‬وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة‪.‬‬ ‫ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعو ة السلمية‬ ‫في هذه المرحلة‪ ،‬حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية‪ ،‬ويتفوق المسلمون في‬

‫الخلق والقيم والمثل‪ ،‬ويتأكد للدنيا أن السل م ليس مجرد وجهة نظر‪ ،‬بل هو دين يثقف أهله عملًيا‬ ‫على السس والمبادئ التي يدعو إليها‪.‬‬ ‫ثم قرر بنوًداـ من قوانين الدولة السلمية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها‪،‬‬ ‫والذين يسكنون خارجها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي السنة الثانية من الهجر ة فرض صيا م رمضان‪ ،‬وفرضت زكا ة الفطر‪ ،‬وبينت أنصبة الزكا ة الخرى‪،‬‬ ‫وكانت فريضة زكا ة الفطر وتفصيل أنصبة الزكا ة الخرى تخفيًف اـ لكثير من الوزار التي كان يعانيها عدد‬ ‫كبير من المهاجرين اللجئين الذين كانوا فقراء ل يستطيعون ضرًبا في الرض‪.‬‬

‫ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع‬ ‫في شوال سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزو ة بدر‪ .‬فما أروع هذا العيد السعيد الذي‬ ‫جاء به ال بعد أن تـَّوَج هامتهم بتاج الفتح والعز‪ ،‬وما أروق منظر تلك الصل ة التي صلوها بعد أن‬

‫خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد‪ ،‬وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى ال‪ ،‬وحنيًنا‬ ‫إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولهم به من النعم‪،‬وأيدهم به من النصر‪ ،‬وقد ذكرهم بذلك قائًل‪ :‬‏} َواـذُْكُرـواْ‬ ‫ّ‬ ‫ض َعـُف وـَن ِفي الَْر ِ‬ ‫ص ِرـِه َوَرـَزقَُك مـّمَنـ‬ ‫إِْذ َأنتُْم قَِليٌل ّمْس تَـ ْ‬ ‫س َفآَواـُك ْمـ َوأَـيَّدُك مـ بِنَ ْ‬ ‫ض تَ​َخ اـُفوَن َأن يـتَ​َخ طـَف ُكـُمـ الّنا ُ‬ ‫الطّيّبا ِ‬ ‫ت لَ​َعلُّك ْمـ تَْش ُكـُرـوَن{ ‏]النفال‪.[26:‬‬ ‫َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النشاط العسكري بين بدر وأحد‬ ‫إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين‪ ،‬وكانت معركة فاصلة أكسبت‬ ‫المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة‪ .‬والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه المعركة هم أولئك‬ ‫الذين منوا بخسائر فادحة مباشر ة؛ وهم المشركون‪ ،‬أو الذين كانوا يرون عز ة المسلمين وغلبتهم ضرباً‬

‫قاصماً على كيانهم الديني والقتصادي‪ ،‬وهم اليهود‪ .‬فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان‬ ‫هذان الفريقان يحترقان غيظاً وحنًق اـ على المسلمين؛ ‏} لَتَِجَدـّنـ أَ​َش ّدـ الّنا ِ‬ ‫س َعَد اـَو ةًـ لّلِّذ يـَن آَمنُـواْ اْليـَُه وـَد‬ ‫َواـلِّذ يـَن أَْش َرـُك وـاْ{ ‏]المائد ة‪ ،[82:‬وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في السل م حين لم يبق مجال‬ ‫لعزهم إل في السل م‪ ،‬وهم عبد ال بن أبي وأصحابه‪ ،‬ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من‬ ‫الوليين‪.‬‬ ‫وكانت هناك فرقة رابعة‪ ،‬وهم البدو الضاربون حول المدينة‪ ،‬لم يكن يهمهم مسألة الكفر واليمان‪،‬‬ ‫ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب‪ ،‬فأخذهم القلق‪ ،‬واضطربوا لهذا النتصار‪ ،‬وخافوا أن تقو م في‬

‫المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب‪ ،‬فجعلوا يحقدون على‬ ‫المسلمين وصاروا لهم أعداء‪.‬‬

‫وتبين بهذا أن النتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم كذلك كان سبباً‬ ‫لحقد جهات متعدد ة‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يتبع كل فريق ما يراه كفيلً ليصاله إلى غايته‪.‬‬

‫فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالسل م‪ ،‬وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس الخفية كانت‬

‫فرقة من اليهود تعلن بالعداو ة‪ ،‬وتكاشف عن الحقد والغيظ‪ ،‬وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم‪ ،‬وتعلن‬

‫بأخذ الثأر والنقمة‪ ،‬وتهتم بالتعبئة العامة جهارًا‪ ،‬وترسل إلى المسلمين بلسان حالها‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫ول بد من يو م أغّر ُمَح ّجـلـ ** يطول استماعي بعده للنوادب‬

‫وفعلً فقد قادت غزو ة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزو ة أحد‪ ،‬والتي كان لها أثر سيئ‬ ‫على سمعة المسلمين وهيبتهم‪.‬‬

‫وقد لعب المسلمون دوراً هاماً للقضاء على هذه الخطار‪ ،‬تظهر فيه عبقرية قياد ة النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الخطار‪ ،‬وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء‬ ‫عليها‪ ،‬ونذكر في السطور التية صور ة مصغر ة منها‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة بني ُس لَـيم بالُك ْدـ رـ‬ ‫أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى ال عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَ​َف اـن‬

‫تحشد قواتها لغزو المدينة‪ ،‬فباغتهم النبي صلى ال عليه وسلم في مائتي راكب في عقر دراهم‪ ،‬وبلغ‬

‫إلى منازلهم في موضع يقال له‪ :‬الُك ْدـ رـ‪ .‬ففر بنو سليم‪ ،‬وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولي عليها‬ ‫جيش المدينة‪ ،‬وقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين‪،‬‬

‫وأصاب غلما يقال له‪ :‬‏)يسار( فأعتقه‪.‬‬

‫وأقا م النبي صلى ال عليه وسلم في ديارهم ثلثة أيا م‪ ،‬ثم رجع إلى المدينة‪.‬‬

‫وكانت هذه الغزو ة في شوال سنة ‪ 2‬هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيا م‪ ،‬أوفي المحر م للنصف منه‪،‬‬ ‫واستخلف في هذه الغزو ة على المدينة ِس بَـاع بن عُْرفـَُطة‪ .‬وقيل‪ :‬ابن أ م مكتو م‪.‬‬

‫مؤامر ة لغتيال النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضبًا‪ ،‬وجعلت مكة تغلي كالِم ْرـَج لـضد النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى تآمر بطلن من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلف والشقاق ومثار‬ ‫هذا الذل والهوان في زعمهم‪ ،‬وهو النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الِح ْج ـرـبعد وقعة بدر بيسير ـ وكان عمير من‬ ‫شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ـ وكان ابنه وهب بن‬ ‫عمير في أساري بدر‪ ،‬فذكر أصحاب الَق ِلـيب ومصابهم‪ ،‬فقال صفوان‪ :‬وال إن في العيش بعدهم خير‪.‬‬

‫قال له عمير‪ :‬صدقت وال‪ ،‬أما وال لول َديْـن على ليس له عندي قضاء‪ ،‬وعيال أخشي عليهم ال ّ‬ ‫ضْيـعَة‬ ‫ت إلى محمد حتى أقتله‪ ،‬فإن لي ِقبـَلَُه ْمـ ِع لّـًة‪ ،‬ابني أسير في أيديهم‪.‬‬ ‫بعدي لركب ُ‬ ‫فاغتنمها صفوان وقال‪ :‬على دينك‪ ،‬أنا أقضيه عنك‪ ،‬وعيالك مع عيإلى‪ ،‬أواسيهم ما بقوا‪ ،‬ل يسعني‬

‫شيء ويعجز عنهم‪.‬‬

‫فقال له عمير‪ :‬فاكتم عني شأني وشأنك‪ .‬قال‪ :‬أفعل‪.‬‬ ‫ش ِحـ َذ ـله وُس ّمـ‪،‬ـ ثم انطلق حتى قد م به المدينة‪ ،‬فبينما هو على باب المسجد ينيخ‬ ‫ثم أمر عمير بسيفه ف ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫راحلته رآه عمر بن الخطاب ـ وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم ال به يو م بدر ـ فقال‬

‫عمر‪ :‬هذا الكلب عدو ال عمير ما جاء إل لشر‪ .‬ثم دخل على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬ ‫نبي ال‪ ،‬هذا عدو ال عمير قد جاء متوشحاً سيفه‪ ،‬قال‪ :‬‏)فأدخله علي(‪ ،‬فأقبل إلى عمير فلَبّبَهُ بَح َمـاـلة‬ ‫سيفه‪ ،‬وقال لرجال من النصار‪ :‬ادخلوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاجلسوا عنده واحذروا‬ ‫عليه من هذا الخبيث‪ ،‬فإنه غير مأمون‪ ،‬ثم دخل به‪ ،‬فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وعمر‬ ‫آخذ بحمالة سيفه في عنقه ـ قال‪ :‬‏)أرسله يا عمر‪ ،‬ادن يا عمير(‪ ،‬فدنا وقال‪ :‬أنِْعُم وـا صباحًا‪ ،‬فقال النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)قد أكرمنا ال بتحية خير من تحيتك يا عمير‪ ،‬بالسل م تحية أهل الجنة(‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬‏)ما جاء بك يا عمير ؟( قال‪ :‬جئت لهذا السير الذي في أيديكم‪ ،‬فأحسنوا فيه‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏)فما بال السيف في عنقك؟( قال‪:‬قبحها ال من سيوف‪ ،‬وهل أغنت عنا شيئاً ؟‬

‫قال‪ :‬‏)اصدقني‪ ،‬ما الذي جئت له ؟( قال‪ :‬ما جئت إل لذلك‪.‬‬ ‫ت أنت وصفوان بن أمية في الِح ْج ـرــ‪ ،‬فذكرتما أصحاب القليب من قريش‪ ،‬ثم قلت‪ :‬لول‬ ‫قال‪ :‬‏)بل قعد َ‬ ‫دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا‪ ،‬فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني‪،‬‬ ‫وال حائل بينك وبين ذلك(‪.‬‬

‫قال عمير‪ :‬أشهد أنك رسول ال‪ ،‬قد كنا يا رسول ال نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء‪ ،‬وما‬

‫ينزل عليك من الوحي‪ ،‬وهذا أمر لم يحضره إل أنا وصفوان‪ ،‬فوال إني لعلم ما أتاك به إل ال‪،‬‬

‫فالحمد ل الذي هداني للسل م‪ ،‬وساقني هذا المساق‪ ،‬ثم تشهد شهاد ة الحق‪ .‬فقال رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم‪ :‬‏)فقهوا أخاكم في دينه‪ ،‬وأقرئوه القرآن‪ ،‬وأطلقوا له أسيره(‪.‬‬

‫وأما صفوان فكان يقول‪ :‬أبشروا بوقعة تأتيكم الن في أيا م تنسيكم وقعة بدر‪ .‬وكان يسأل الركبان عن‬ ‫عمير‪ ،‬حتى أخبره راكب عن إسلمه فحلف صفوان أل يكلمه أبًد اـ‪ ،‬ول ينفعه بنفع أبدا‪.‬‬

‫ورجع عمير إلى مكة وأقا م بها يدعو إلى السل م‪ ،‬فأسلم على يديه ناس كثير‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غـزو ة بني قينقـاع‬ ‫غـزو ة بني قينقـاع‬

‫نموذج من مكيد ة اليهود‬ ‫بنو َقينـَُق اـع ينقضون العهد‬ ‫الحصار ثم التسليم ثم الجلء‬ ‫س ِوـيق‬ ‫غزو ة ال ّ‬ ‫غزو ة ذي أمر‬

‫قتل كعب بن الشرف‬ ‫غزو ة بُْح رـان‬

‫سرية زيد بن حارثة‬

‫غـزو ة بني قينقـاع‬ ‫قدمنا بنود المعاهد ة التي عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم مع اليهود‪ ،‬وقد كان حريصاً كل الحرص‬ ‫على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهد ة‪ ،‬وفعلً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها‪.‬‬

‫ولكن اليهود الذين ملوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود‪ ،‬لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة‪،‬‬

‫وأخذوا في طريق الدس والمؤامر ة والتحريش وإثار ة القلق والضطراب في صفوف المسلمين‪ .‬وهاك مثلً‬ ‫من ذلك‪:‬‬

‫نموذج من مكيد ة اليهود‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً ‏]يهودياً[ قد عسا ‪ ،‬عظيم الكفر‪ ،‬شديد الضغن على‬ ‫المسلمين‪ ،‬شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم من الوس‬

‫والخزرج في مجلس قد جمعهم‪ ،‬يتحدثون فيه‪ ،‬فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلح ذات بينهم‬ ‫على السل م‪ ،‬بعد الذي كان بينهم من العداو ة في الجاهلية‪ ،‬فقال‪ :‬قد اجتمع مل بني قَـيـْلَ​َة بهذه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫البلد‪ ،‬ل وال ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار‪ ،‬فأمر فتي شاباً من يهود كان معه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫اعمد إليهم‪ ،‬فاجلس معهم‪ ،‬ثم اذكر يو م بـَُعاث وما كان من قبله‪ ،‬وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه‬

‫من الشعار‪ ،‬ففعل‪ ،‬فتكلم القو م عند ذلك‪ ،‬وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلن من الحيين على‬

‫الركب فتقاول‪ ،‬ثم قال أحدهما لصاحبه‪ :‬إن شئتم رددناها الن َج َذـَعـة ـ يعني الستعداد لحياء الحرب‬ ‫الهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعًا‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد فعلنا‪ ،‬موعدكم الظاهر ة ـ والظاهر ة‪ :‬الَح ّرـ ة‬ ‫ـ السلح السلح‪ ،‬فخرجوا إليها ‏]وكادت تنشب الحرب[‪.‬‬

‫فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم‬ ‫فقال‪ :‬‏)يا معشر المسلمين‪ ،‬ال ال‪ ،‬أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم ال للسل م‪،‬‬ ‫وأكرمكم به‪ ،‬وقطع به عنكم أمر الجاهلية‪ ،‬واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم(‬

‫فعرف القو م أنها نزغة من الشيطان‪ ،‬وكيد من عدوهم‪ ،‬فبكوا‪ ،‬وعانق الرجال من الوس والخزرج بعضهم‬

‫بعضًا‪ ،‬ثم انصرفوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم سامعين مطيعين‪ ،‬قد أطفأ ال عنهم كيد عدو ال‬ ‫شاس بن قيس‪.‬‬ ‫هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثار ة القلقل والفتن في المسلمين‪ ،‬وإقامة العراقيل‬

‫في سبيل الدعو ة السلمية‪ ،‬وقد كانت لهم خطط شتي في هذا السبيل‪ .‬فكانوا يبثون الدعايات‬

‫الكاذبة‪ ،‬ويؤمنون وجه النهار‪ ،‬ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء‪ ،‬وكانوا يضيقون‬ ‫سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى‪ ،‬فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء‪ ،‬وإن‬

‫كان له عليهم يأكلونـه بالباطل‪ ،‬ويمتنعون عن أدائه وكانوا يقولون‪ :‬إنما كان علينا قرضك حينما كنت‬ ‫على دين آبائك‪ ،‬فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل‪.‬‬

‫كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهد ة التي عقدوها مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم‪ ،‬وعلى‬ ‫بسط المن والسل م في المنطقة‪.‬‬ ‫بنو َقينـَُق اـع ينقضون العهد‬ ‫لكنهم لما رأوا أن ال قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر‪ ،‬وأنهم قد صارت لهم عز ة وشوكة‬ ‫وهيبة في قلوب القاصي والداني‪ .‬تميزت قدر غيظهم‪ ،‬وكاشفوا بالشر والعداو ة‪ ،‬وجاهروا بالبغي والذي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الشرف ـ وسيأتي ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم‬ ‫الثلث هم يهود بني قينقاع‪ ،‬كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين‬

‫وصناع الظروف والواني‪ ،‬ولجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلت الحرب‪ ،‬وكان‬ ‫عدد المقاتلين فيهم سبعمائة‪ ،‬وكانوا أشجع يهود المدينة‪ ،‬وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من‬

‫اليهود‪.‬‬

‫فلما فتح ال للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم‪ ،‬وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم‪ ،‬فكانوا يثيرون‬

‫الشغب‪ ،‬ويتعرضون بالسخرية‪ ،‬ويواجهون بالذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا‬ ‫يتعرضون بنسائهم‪.‬‬

‫وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم‪ ،‬جمعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فوعظهم ودعاهم إلى الرشد‬ ‫والهدي‪ ،‬وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان‪ ،‬ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم‪.‬‬

‫روي أبو داود وغيره‪ ،‬عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬لما أصاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫قريشاً يو م بدر‪ ،‬وقد م المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع‪ .‬فقال‪ :‬‏)يا معشر يهود‪ ،‬أسلموا قبل أن‬ ‫يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً(‪ .‬قالوا‪:‬يا محمد‪ ،‬ل يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا‬

‫أغماراً ل يعرفون القتال‪ ،‬إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس‪ ،‬وأنك لم تلق مثلنا‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫‏}ُقل لّلِّذ يـَن َك َفـرـواْ َس تـُْغلَُبوَن َو تُـْح َ ِ‬ ‫س الِْم َهـاـُد قَْد َك اـَن لَُك ْمـ آيَةٌ ِفي فَِئتـَْيِن اْلتـَق تَـا فِئَةٌ‬ ‫ُ‬ ‫شـُرـوَنإَلى َج َهـنّـَم َو بـْئ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ك‬ ‫ص ِرـِه َمنـ يَ​َش اـء إِّن ِفي َذلِ َ‬ ‫ي الَْعْيِن َواـُل يـَُؤ يـُّد بِنَ ْ‬ ‫تـَُق اـتُل في َس بـيِل ال َوأُـْخ َرــى َك اـفَر ةٌ يـَرْو نـَُه مـ ّمثـْلَْيِه ْمـ َرأْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص اـِر { ‏]آل عمران ‪.[13 ،12‬‬ ‫لَعبـَْرً ة ّلُْو لـي الَبْ َ‬ ‫كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو العلن السافر عن الحرب‪ ،‬ولكن كظم النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم غيظه‪ ،‬وصبر المسلمون‪ ،‬وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإلى واليا م‪.‬‬

‫وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراء ة‪ ،‬فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطرابًا‪ ،‬وسعوا إلى‬ ‫حتفهم بظلفهم‪ ،‬وسدوا على أنفسهم أبواب الحيا ة‪.‬‬ ‫روي ابن هشا م عن أبي عون‪ :‬أن امرأ ة من العرب قدمت بَج لَـ ٍ‬ ‫ب لها‪ ،‬فباعته في سوق بني قينقاع‪،‬‬

‫وجلست إلى صائغ‪ ،‬فجعلوا يريدونها على كشف وجهها‪ ،‬فأبت‪ ،‬فـَعَم دـ الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده‬ ‫إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت‪ ،‬فوثب رجل من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه‪ ،‬فاستصرخ أهل‬ ‫المسلم المسلمين على اليهود‪ ،‬فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‪.‬‬ ‫الحصار ثم التسليم ثم الجلء‬ ‫وحينئذ ِع يـَل صبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستخلف على المدينة أبا لَُبابة بن عبد المنذر‪،‬‬ ‫وأعطي لواء المسلمين حمز ة بن عبد المطلب‪ ،‬وسار بجنود ال إلى بني قينقاع‪ ،‬ولما رأوه تحصنوا في‬

‫حصونهم‪ ،‬فحاصرهم أشد الحصار‪ ،‬وكان ذلك يو م السبت للنصف من شوال سنة ‪ 2‬هـ‪ ،‬ودا م الحصار‬

‫خمس عشر ة ليلة إلى هلل ذي القعد ة‪ ،‬وقذف ال في قلوبهم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلن قو م‬

‫وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم ـ فنزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في رقابهم‬

‫وأموالهم ونسائهم وذريتهم‪ ،‬فأمر بهم فكتفوا‪.‬‬

‫وحينئذ قا م عبد ال بن أبي بن سلول بدور نفاقه‪ ،‬فألح على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يصدر‬ ‫عنهم العفو‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أحسن فـي موإلى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه‪ ،‬فأدخل يده في جيب درعه‪ ،‬فقال له رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أرسلني(‪ ،‬وغضب حتى رأوا لوجهه ُظللً ‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)ويحك‪ ،‬أرسلني(‪ .‬ولكن‬ ‫المنافق مضى على إصراره وقال‪ :‬ل وال ل أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلثمائة‬ ‫دارع قد منعوني من الحمر والسود‪ ،‬تحصدهم في غدا ة واحد ة ؟ إني وال امرؤ أخشي الدوائر‪.‬‬

‫وعامل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلمه إل نحو‬ ‫شهر واحد فحسب ـ عامله بالحسنى‪ .‬فوهبهم له‪ ،‬وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ول يجاوروه بها‪،‬‬

‫فخرجوا إلى أْذُرَعات الشا م‪ ،‬فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم‪.‬‬

‫وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم أموالهم‪ ،‬فأخذ منها ثلث قِ​ِس ي ـودرعين وثلثة أسياف‬ ‫وثلثة رماح‪ ،‬وخمس غنائمهم‪ ،‬وكان الذي تولي جمع الغنائم محمد بن مسلمة‪.‬‬ ‫س ِوـيق‬ ‫غزو ة ال ّ‬ ‫بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم‪ ،‬كان أبو سفيان يفكر في‬ ‫عمل قليل المغار م ظاهر الثر‪ ،‬يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه‪ ،‬ويبرز ما لديهم من قو ة‪ ،‬وكان قد نذر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أل يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا‪ ،‬فخرج في مائتي راكب ليبِّر يمينه‪ ،‬حتى نزل بصْد رـ َقنا ة‬ ‫ب ‪ ،‬ـ من المدينة على بَِريد أو نحوه‪ ،‬ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهارًا‪،‬‬ ‫إلى جبل يقال له‪َ :‬ثي ٌ‬

‫فقا م بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة‪ ،‬فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح‬ ‫الظل م‪ ،‬فأتي حيي بن أخطب‪ ،‬فاستفتح بابه‪ ،‬فأبي وخاف‪ ،‬فانصرف إلى َس لّـ م بن ِم ْشـَكـمـ سيد بِني‬ ‫النضير‪ ،‬وصاحب كنزهم إذ ذاك‪ ،‬فاستأذن عليه فأذن‪ ،‬فـَق َرـاه وسقاه الخمر‪ ،‬وبَ​َطن له من خبر الناس‪ ،‬ثم‬ ‫خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه‪ ،‬فبعث مفرز ة منهم‪ ،‬فأغارت على ناحية من المدينة‬

‫ص َوـاـًرا من النخل‪ ،‬ووجدوا رجلً من النصار وحليفاً له في‬ ‫يقال لها‪ :‬‏]العَُريض[‪ ،‬فقطعوا وأحرقوا هناك أ ْ‬ ‫حرث لهما فقتلوهما‪ ،‬وفروا راجعين إلى مكة‪.‬‬ ‫وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم الخبر‪ ،‬فسارع لمطارد ة أبي سفيان وأصحابه‪ ،‬ولكنهم فروا ببالغ‬

‫السرعة‪ ،‬وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم‪ ،‬يتخففون به‪ ،‬فتمكنوا من الفلت‪ ،‬وبلغ رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم إلى قـَْرقـَرِ ة الُك ْدـ رــ‪ ،‬ثم انصرف راجعاً‪ .‬وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من‬ ‫سويقهم‪ ،‬وسموا هذه المناوشة بغزو ة السويق‪ .‬وقد وقعت في ذي الحجة سنة ‪ 2‬هـ بعد بدر بشهرين‪،‬‬ ‫واستعمل على المدينة في هذه الغزو ة أبا لبابة بن عبد المنذر‪.‬‬ ‫غزو ة ذي أمر‬ ‫وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل معركة أحد‪ ،‬قادها في المحر م سنة‬ ‫‪ 3‬هـ‪.‬‬

‫وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة‬ ‫ومحارب تجمعوا‪ ،‬يريدون الغار ة على أطراف المدينة‪ ،‬فندب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫المسلمين‪ ،‬وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلً ما بين راكب وراجل‪ ،‬واستخلف على المدينة عثمان بن‬

‫عفان‪.‬‬

‫وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له‪ُ :‬ج بَـار من بني ثعلبة‪ ،‬فأدخل على رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فدعاه إلى السل م فأسلم‪ ،‬فضمه إلى بلل‪ ،‬وصار دليلً لجيش المسلمين إلى أرض العدو‪.‬‬ ‫وتفرق العداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدو م جيش المدينة‪ .‬أما النبي صلى ال عليه وسلم فقد‬

‫وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم‪ ،‬وهو الماء المسمي ‏]بذي أمر[ فأقا م هناك صفراً كله ـ من سنة ‪ 3‬هـ‬

‫ـ أو قريباً من ذلك‪ ،‬ليشعر العراب بقو ة المسلمين‪ ،‬ويستولي عليهم الرعب والرهبة‪ ،‬ثم رجح إلى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المدينة‪.‬‬ ‫قتل كعب بن الشرف‬

‫كان كعب بن الشرف من أشد اليهود حنقاً على السل م والمسلمين‪ ،‬وإيذاء لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وتظاهرا بالدعـو ة إلى حربه‪.‬‬ ‫كان من قبيلة طيئ ـ من بني نـَْبهان ـ وأمه من بني النضير‪ ،‬وكان غنياً مترفاً معروفاً بجماله في العرب‪،‬‬ ‫شاعراً من شعرائها‪ .‬وكان حصنه في شرق جنوب المدينة خلف ديار بني النضير‪.‬‬

‫ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين‪ ،‬وقتل صناديد قريش في بدر قال‪ :‬أحق هذا ؟ هؤلء أشراف‬

‫العرب‪ ،‬وملوك الناس‪ ،‬وال إن كان محمد أصاب هؤلء القو م لبطن الرض خير من ظهرها‪.‬‬

‫ولما تأكد لديه الخبر‪ ،‬انبعث عدو ال يهجو رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬ويمدح‬

‫عدوهم ويحرضهم عليهم‪ ،‬ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش‪ ،‬فنزل على المطلب بن أبي‬ ‫َو َدـاـعة السهمي‪ ،‬وجعل ينشد الشعار يبكي فيها على أصحاب الَق ِلـيب من قتلى المشركين‪ ،‬يثير بذلك‬ ‫حفائظهم‪ ،‬ويذكي حقدهم على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويدعوهم إلى حربه‪ ،‬وعندما كان بمكة سأله‬

‫أبو سفيان والمشركون‪ :‬أديننا أحب إليك أ م دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدي سبيلً؟ فقال‪:‬‬ ‫أنتم أهدي منهم سبيل‪ ،‬وأفضل‪ ،‬وفي ذلك أنزل ال تعالى‪ :‬‏}أَلَم تـر إَِلى الِّذ يـن ُأوُتواْ نَ ِ‬ ‫ص يـًبا ّمَنـ الِْكَتا ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت واـلّطاُغو ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت َو يـَُقوـُلوَن لِلِّذ يـَن َك َفـُرـواْ َه ُؤـلء أَْه َدـىـ ِم َنـ الِّذ يـَن آَمنُـواْ َس بِـيلً{ ‏] النساء‪.[51 :‬‬ ‫يـُْؤ مـنُـوَن ِبالْج ْب ـ َ‬ ‫ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال‪ ،‬وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة‪ ،‬ويؤذيهم بسلطة‬ ‫لسانه أشد اليذاء‪.‬‬

‫وحينئذ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)من لكعب بن الشرف ؟ فإنه آذى ال ورسوله(‪ ،‬فانتدب‬ ‫له محمد بن مسلمة‪ ،‬وَعّباد بن بشر‪ ،‬وأبو نائلة ـ واسمه ِس ْلـَك اـن بن سلمة‪ ،‬وهو أخو كعب من‬ ‫الرضاعة ـ والحارث بن أوس‪ ،‬وأبو َعْبس بن جبر‪ ،‬وكان قائد هذه المفرز ة محمد بن مسلمة‪.‬‬

‫وتفيد الروايات في قتل كعب بن الشرف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما قال‪ :‬‏)من لكعب بن‬ ‫الشرف ؟ فإنه قد آذى ال ورسوله(‪ ،‬قا م محمد بن مسلمة فقال‪ :‬أنا يا رسول ال‪ ،‬أتحب أن أقتله ؟‬ ‫قال‪ :‬‏)نعم(‪ .‬قال‪ :‬فائذن لي أن أقول شيئاً‪ .‬قال‪ :‬‏)قل(‪.‬‬

‫فأتاه محمد بن مسلمة‪ ،‬فقال‪ :‬إن هذا الرجل قد سألنا صدقة‪ ،‬وإنه قد َعّنانا‪.‬‬ ‫قال كعب‪ :‬وال لَتَ​َم لّـنّهُ ‪.‬‬

‫قال محمد بن مسلمة‪ :‬فإنا قد اتبعناه‪ ،‬فل نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ؟ وقد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أردنا أن تسلفنا َو ْسـقـًـا أو َو ْسـَقـيـن‪.‬‬ ‫قال كعب‪ :‬نعم‪ ،‬أرهنوني‪.‬‬

‫قال ابن مسلمة‪ :‬أي شيء تريد ؟‬ ‫قال‪ :‬أرهنوني نساءكم‪.‬‬

‫قال‪ :‬كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟‬ ‫قال‪ :‬فترهنوني أبناءكم‪.‬‬

‫بـ أَح ُدـهـم فيقال‪ُ :‬رِه نـ بوسق أو وسقين هذا عار علينا‪ .‬ولكنا نرهنك‬ ‫قال‪ :‬كيف نرهنك أبناءنا فيَُس ّ‬ ‫الّلَْمةـ‪ ،‬يعني السلح‪.‬‬ ‫فواعده أن يأتيه‪.‬‬

‫وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة‪ ،‬فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الشعار سويعة‪ ،‬ثم‬ ‫قال له‪ :‬ويحك يا بن الشرف‪ ،‬إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني‪.‬‬ ‫قال كعب‪ :‬أفعل‪.‬‬

‫قال أبو نائلة‪ :‬كان قدو م هذا الرجل علينا بلء‪ ،‬عادتنا العرب‪ ،‬ورمتنا عن قـَْو ٍ‬ ‫ت عنا‬ ‫س ـ واحد ة‪ ،‬وقطع ْ‬ ‫السبل‪ ،‬حتى ضاع العيال‪ ،‬وُج ِهـَدـتـ النفس‪ ،‬وأصبحنا قد ُج ِهـْدـنــا وُج ِهـدـ عيالنا‪ ،‬ودار الحوار على نحو ما‬ ‫دار مع ابن مسلمة‪.‬‬

‫وقال أبو نائلة أثناء حديثه‪ :‬إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي‪ ،‬وقد أردت أن آتيك بهم‪ ،‬فتبيعهم‬ ‫وتحسن في ذلك‪.‬‬

‫وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد‪ ،‬فإن كعباً لن ينكر معهما السلح‬ ‫والصحاب بعد هذا الحوار‪.‬‬ ‫وفي ليلة ُمْق ِمـَرـ ة ـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الول سنة ‪ 3‬هـ ـ اجتمعت هذه المفرز ة إلى رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فشيعهم إلى بَِق يـع الغَْرقَـد‪ ،‬ثم وجههم قائلً‪ :‬‏)انطلقوا على اسم ال‪ ،‬اللهم أعنهم(‪،‬‬ ‫ثم رجع إلى بيته‪ ،‬وطفق يصلى ويناجي ربه‪.‬‬ ‫وانتهت المفرز ة إلى حصن كعب بن الشرف‪ ،‬فهتف به أبو نائلة‪ ،‬فقا م لينزل إليهم‪ ،‬فقالت له امرأته ـ‬

‫وكان حديث العهد بها‪ :‬أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الد م‪.‬‬ ‫قال كعب‪ :‬إنما هو أخي محمد بن مسلمة‪ ،‬ورضيعي أبو نائلة‪ ،‬إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب‪ ،‬ثم‬ ‫خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‪.‬‬

‫وقد كان أبو نائلة قال لصحـابـه‪ :‬إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه‪ ،‬فإذا رأيتموني استمكنت من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫رأسه فدونكم فاضربوه‪ ،‬فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة‪ ،‬ثم قال أبو نائلة‪ :‬هل لك يا بن‬ ‫الشرف أن نتماشى إلى ِش ْع ـبـ العجوز فنتحدث بقية ليلتنا ؟ قال‪ :‬إن شئتم‪ ،‬فخرجوا يتماشون‪ ،‬فقال‬

‫أبو نائلة وهو في الطريق ‪ :‬ما رأيت كالليلة طيباً أعطر ‪ ،‬وزهي كعب بما سمع ‪ ،‬فقال‪ :‬عندي أعطر‬ ‫نساء العرب ‪ ،‬قال أبو نائلة ‪ :‬أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال‪ :‬نعم ‪ ،‬فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم‬ ‫أصحابه ‪.‬‬

‫ثم مشى ساعـة ثم قال ‪ :‬أعود ؟ قال كعب‪ :‬نعم ‪ ،‬فعاد لمثلها ‪ .‬حتى اطمأن ‪.‬‬ ‫ثم مشى ساعة ثم قال‪ :‬أعود ؟ قال‪ :‬نعم ‪ ،‬فأدخل يده في رأسه‪ ،‬فلما استمكن منه قال‪ :‬دونكم عدو‬ ‫ال ‪ ،‬فاختلفت عليه أسيافهم‪ ،‬لكنها لم تغن شيئًا‪ ،‬فأخذ محمد بن مسلمة ِم غْـَولًـ فوضعه في ثـنُّتِ​ِه‪،‬ـ ثم‬ ‫ل‪ ،‬وكان قد صاح صيحة شديد ة أفزعت من حوله‪ ،‬فلم‬ ‫تحامل عليه حتي بلغ عانته‪ ،‬فوقع عدو ال قتي ً‬ ‫يبق حصن إل أوقدت عليه النيران‪.‬‬

‫ورجعت المفرز ة وقد أصيب الحارث بن أوس بُذ بَـاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الد م‪ ،‬فلما‬ ‫بلغت المفرز ة َح ّرـ ة العَُرْيض رأت أن الحارث ليس معهم‪ ،‬فوقفت ساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم‪،‬‬ ‫فاحتملوه‪ ،‬حتي إذا بلغوا بَِق يـع الغَْر قَـد كبروا‪ ،‬وسمع رسول ال صلى ال عليه وسلم تكبيرهم‪ ،‬فعرف‬ ‫أنهم قد قتلوه‪ ،‬فكبر‪ ،‬فلما انتهوا إليه قال‪ :‬‏)أفلحت الوجوه(‪ ،‬قالوا‪ :‬ووجهك يا رسول ال‪ ،‬ورموا برأس‬ ‫الطاغية بين يديه‪ ،‬فحمد ال على قتله‪ ،‬وتفل علي جرح الحارث فبرأ‪ ،‬ولم يؤذ بعده‪.‬‬

‫ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الشرف دب الرعب في قلوبهم العنيد ة‪ ،‬وعلموا أن‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم لن يتوانى في استخدا م القو ة حين يري أن النصح ل يجدي نفعاً لمن يريد‬ ‫العبث بالمن وإثار ة الضطرابات وعد م احترا م المواثيق‪ ،‬فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم‪ ،‬بل لزموا‬ ‫الهدوء‪ ،‬وتظاهروا بإيفاء العهود‪ ،‬واستكانوا‪ ،‬وأسرعت الفاعي إلى جحورها تختبئ فيها ‪.‬‬

‫وهكذا تفرغ الرسول صلى ال عليه وسلم ـ إلي حين ـ لمواجهة الخطار التي كان يتوقع حدوثها من‬

‫خارج المدينة‪ ،‬وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها‪،‬‬

‫ويشمون رائحتها بين آونة وأخري ‪.‬‬ ‫غزو ة بُْح رـان‬ ‫وهي دورية قتال كبير ة‪ ،‬قوامها ثلثمائة مقاتل‪ ،‬قادها الرسول صلى ال عليه وسلم في شهر ربيع الخر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫سنة ‪ 3‬هـ إلى أرض يقال لها‪ :‬بحران ـ وهي َمْعـِدـنـ بالحجاز من ناحية الُف ْرـع ـ فأقا م بها شهر ربيع الخر‬

‫ثم جمادى الولى ـ من السنة الثالثة من الهجر ة ـ ثم رجع إلى المدينة‪ ،‬ولم يلق حرباً‪.‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‬

‫وهي آخر وأنجح دورية للقتال قا م بها المسلمون قبل أحد‪ ،‬وقعت في جمادي الخر ة سنة ‪ 3‬هـ‪.‬‬ ‫وتفصيلها‪ :‬أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والضطراب‪ ،‬وجاء الصيف‪ ،‬واقترب موسم رحلتها‬ ‫إلى الشا م‪ ،‬فأخذها َه ّمـ آخر‪.‬‬ ‫قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نخبته قريش في هذا العا م لقياد ة تجارتها إلى الشا م‪ :‬إن محمداً‬ ‫وصحبه َعّو ُرـوا علينا متجرنا‪ ،‬فما ندري كيف نصنع بأصحابه‪ ،‬وهم ل يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل‬

‫قد وادعهم ودخل عامتهم معه‪ ،‬فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم‬

‫يكن لها من بقاء‪ .‬وإنما حياتنا بمكة على التجار ة إلى الشا م في الصيف‪ ،‬وإلى الحبشة في الشتاء‪.‬‬ ‫ودارت المناقشة حول هذا الموضوع‪ ،‬فقال السود بن عبد المطلب لصفوان‪ :‬تنكب الطريق على‬

‫الساحل وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشا م‪ ،‬وتمر في شرقي المدينة‬ ‫على بعد كبير منها‪ ،‬وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل ـ فأشار السود بن عبد المطلب على‬ ‫صفوان أن يتخذ فـَُرات بن َح يّـان ـ من بني بكر بن وائل ـ دليلً له‪ ،‬ويكون رائده في هذه الرحلة‪.‬‬ ‫وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية‪ ،‬آخذ ة الطريق الجديد ة‪ ،‬إل أن أنباء هذه القافلة وخطة‬ ‫سيرها طارت إلى المدينة‪ .‬وذلك أن َس ِلـيط بن النعمان ـ كان قد أسلم ـ اجتمع في مجلس شرب ـ‬ ‫وذلك قبل تحريم الخمر ـ مع نعيم بن مسعود الشجعي ـ ولم يكن أسلم إذ ذاك ـ فلما أخذت الخمر‬

‫من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها‪،‬فأسرع سليط إلى النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫يروي له القصة‪.‬‬ ‫وجهز رسول ال صلى ال عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قياد ة زيد بن حارثة الكلبي‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة ـ على حين غر ة ـ وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له‪ :‬قـَْر َدـ ةـ ـ‬

‫بالفتح فالسكون ـ فاستولي عليها كلها‪ ،‬ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إل الفرار بدون‬ ‫أي مقاومة‪.‬‬ ‫وأسر المسلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان‪ ،‬وقيل‪ :‬ورجلين غيره ـ وحملوا غنيمة كبير ة من الواني‬ ‫والفضة كانت تحملها القافلة‪ ،‬قدرت قيمتها بمائة ألف‪ ،‬وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه‬

‫الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس‪ ،‬وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وكانت مأسا ة شديد ة ونكبة كبير ة أصابت قريشاً بعد بدر‪ ،‬اشتد لها قلق قريش وزادتها هما وحزناً‪ .‬ولم‬ ‫يبق أمامها إل طريقان‪،‬إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها‪ ،‬وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع‬ ‫المسلمين‪ ،‬أو تقو م بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد‪ ،‬وعزها القديم‪ ،‬وتقضي على قوات المسلمين‬

‫بحيث ل يبقي لهم سيطر ة على هذا ول ذاك‪ ،‬وقد اختارت مكة الطريق الثانية‪ ،‬فازداد إصرارها على‬

‫المطالبة بالثأر‪ ،‬والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة‪ ،‬وتصميمها على الغزو في ديارهم‪ ،‬فكان ذلك‬

‫وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غـزو ة أحـد‬

‫استعداد قريش لمعركة ناقمة‬

‫تعبئـة الجيش المكي‬

‫قوا م جيش قريش وقيادته‬

‫مناورات سياسية من قبل قريش‬

‫استعداد المسلمين للطوارئ‬

‫أول وقود المعركة‬

‫جيش مكة يتحرك‬

‫جهود نسو ة قريش في التحميس‬

‫الجيش المكي إلى أسوار المدينة‬

‫ثقل المعركة حول اللواء وإباد ة حملته‬

‫المجلس الستشاري لخذ خطة الدفاع‬

‫القتال في بقية النقاط‬

‫استعراض الجيش‬

‫السيطر ة على الموقف‬

‫تكتيب الجيش السلمي وخروجه إلى ساحة القتال مصرع أسد ال حمز ة بن عبد المطلب‬ ‫المبيت بين أحد والمدينة‬

‫من أحضان المرأ ة إلى مقارعة السيوف والدرقة‬

‫تمرد عبد ال بن أبي وأصحابه‬

‫نصيب فصيلة الرما ة في المعركة‬

‫بقية الجيش السلمي إلى أحد‬

‫الهزيمة تنزل بالمشركين‬

‫خطة الدفاع‬

‫غلطة الرما ة الفظيعة‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ينفث روح البسالة في خالد بن الوليد يقو م بخطة تطويق الجيش السلمي‬ ‫الجيش‬

‫استعداد قريش لمعركة ناقمة‬

‫كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأسا ة الهزيمة وقتل الصناديد‬

‫والشراف‪ ،‬وكانت تجيش فيها نزعات النتقا م وأخذ الثأر‪ ،‬حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على‬

‫قتلهم في بدر‪ ،‬ومنعوا من الستعجال في فداء الساري حتى ل يتفطن المسلمون مدي مأساتهم‬ ‫وحزنهم‪.‬‬

‫وعلى أثر غزو ة بدر اتفقت قريش على أن تقو م بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حقدها‪ ،‬وأخذت في الستعداد للخوض في مثل هذه المعركة‪.‬‬ ‫وكان عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬وعبد ال بن أبي ربيعة أكثر زعماء‬ ‫قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة‪.‬‬

‫وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان‪ ،‬والتي كانت سبباً لمعركة‬

‫بدر‪ ،‬وقالوا للذين كانت فيها أموالهم‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن محمداً قد َو تـَرُك مـ وقتل خياركم‪ ،‬فأعينونا بهذا‬

‫المال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرًا‪ ،‬فأجابوا لذلك‪ ،‬فباعوها‪ ،‬وكانت ألف بعير‪ ،‬والمال خمسين ألف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صّد وـاْ َعن َس بِـيِل اِل فَ​َس يُـنِف ُقـونـَ​َه اـ ثُّم‬ ‫دينار‪ ،‬وفي ذلك أنزل ال تعالي‪ :‬‏}إِّن الّذ يـَن َك َفـُرـواْ ُينف ُقـوـَن أَْم َوـاـلَُه ْمـ ليَ ُ‬ ‫تَُك وـُن َعلَْيِه ْمـ َح ْسـَرـً ةثُّم يـُْغلَُبوَن { ‏]النفال‪[36 :‬‬ ‫ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الحابيش وكنانة وأهل تهامة‪،‬‬ ‫وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض‪ ،‬حتى إن صفوان بن أمية أغري أبا عز ة الشاعر ـ الذي كان قد‬

‫أسر في بدر‪ ،‬فَ​َم ّنـ عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية‪ ،‬وأخذ منه العهد بأل يقو م‬ ‫ضده ـ أغراه على أن يقو م بتحريض القبائل ضد المسلمين‪ ،‬وعاهده أنه إن رجع عن الغزو ة حياً يغنيه‪ ،‬وإل‬

‫يكفل بناته‪ ،‬فقا م أبو عز ة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم‪ ،‬كما اختاروا شاعراً آخر ـ‬

‫ُمَس اـفع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة‪.‬‬

‫س ِوـيق خائباً لم ينل ما في نفسه‪ ،‬بل‬ ‫وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزو ة ال ّ‬

‫أضاع مقداًرا كبيراً من تمويناته في هذه الغزو ة‪.‬‬

‫وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء‪ ،‬إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من‬

‫الخسار ة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها‪ ،‬وزودها من الحزن والهم ما ل يقادر قدره‪ ،‬وحينئذ زادت‬ ‫سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين‪.‬‬

‫قوا م جيش قريش وقيادته‬ ‫ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها‪ ،‬واجتمع إليها من المشركين ثلثة آلف مقاتل من‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قريش والحلفاء والحابيش‪ ،‬ورأي قاد ة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في‬ ‫استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم‪ ،‬وكان عدد هذه النسو ة خمس عشر ة امرأ ة‪.‬‬

‫وكان سلح النقليات في هذا الجيش ثلثة آلف بعير‪ ،‬ومن سلح الفرسان مائتا فرس ‪ ،‬جنبوها طول‬ ‫الطريق‪ ،‬وكان من سلح الوقاية سبعمائة درع‪ .‬وكانت القياد ة العامة إلى أبي سفيان بن حرب‪ ،‬وقياد ة‬

‫الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل‪ .‬أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار‪.‬‬ ‫جيش مكة يتحرك‬

‫تحرك الجيش المكي بعد هذا العداد التا م نحو المدينة‪ ،‬وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل‬ ‫البغضاء في القلوب‪ ،‬ويشف عما سوف يقع من قتال مرير‪ .‬الستخبارات النبوية تكشف‬ ‫حركة العدو‬ ‫وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية‪ ،‬فلما تحرك هذا الجيش‬

‫بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى ال عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش‪.‬‬

‫وأسرع رسول العباس بإبلغ الرسالة‪ ،‬وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ‬ ‫مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلثة أيا م‪ ،‬وسلم الرسالة إلى النبي صلى ال عليه وسلم وهو‬ ‫في مسجد قباء‪.‬‬

‫قرأ الرسالة على النبي صلى ال عليه وسلم أبي بن كعب‪ ،‬فأمره بالكتمان‪ ،‬وعاد مسرعاً إلى المدينة‪،‬‬ ‫وتبادل الرأي مع قاد ة المهاجرين والنصار‪.‬‬ ‫استعداد المسلمين للطوارئ‬

‫وظلت المدينة في حالة استنفار عا م ل يفارق رجالها السلح حتى وهم في الصل ة‪ ،‬استعداداً للطوارئ‪.‬‬

‫وقامت مفرز ة من النصار ـ فيهم سعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وسعد بن عباد ة ـ بحراسة رسول ال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلح‪ .‬وقامت على مداخل المدينة وأنقابها‬

‫مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غر ة‪.‬‬

‫وقامت دوريات من المسلمين ـ لكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها‬ ‫المشركون للغار ة على المسلمين‪.‬‬ ‫الجيش المكي إلى أسوار المدينة‬

‫وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتاد ة‪ ،‬ولما وصل إلى البـَْو اـء اقترحت هند بنت‬ ‫عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أ م رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪َ ،‬بيَد أن قاد ة الجيش رفضوا هذا‬ ‫الطلب‪،‬وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب‪.‬‬

‫ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة‪ ،‬فسلك وادي الَعقيق‪ ،‬ثم انحرف منه إلى ذات‬

‫س ْبـَخ ةـ من قنا ة على شفير‬ ‫اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد‪ ،‬في مكان يقال له‪َ :‬عينـَْين‪ ،‬في بطن ال ّ‬ ‫الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة بجنب أحـد‪ ،‬فعسكر هناك يو م الجمعة السادس من شهر شوال سنة‬

‫ثلث من الهجر ة‪.‬‬ ‫المجلس الستشاري لخذ خطة الدفاع‬

‫ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الخير عن معسكره‪ ،‬وحينئذ‬ ‫عقد رسول ال صلى ال عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ‪ ،‬تبادل فيه الرأي لختيار‬ ‫الموقف‪ ،‬وأخبرهم عن رؤيا رآها‪ ،‬قال‪ :‬‏)إني قد رأيت وال خيرًا‪ ،‬رأيت بقراً يذبح‪ ،‬ورأيت في ذَُباب‬ ‫سيفي ثـُْلمًا‪ ،‬ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة(‪ ،‬وتأّو لـ البقر بنفر من أصحابه يقتلون‪ ،‬وتأول‬

‫الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته‪ ،‬وتأول الدرع بالمدينة‪.‬‬

‫ثم قد م رأيه إلى صحابته أل يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها‪،‬فإن أقا م المشركون بمعسكرهم أقاموا‬ ‫بَِش ّرـ ُمَق اـ م وبغير جدوي‪ ،‬وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الزقة‪ ،‬والنساء من فوق‬ ‫البيوت‪ ،‬وكان هذا هو الرأي‪ .‬ووافقه على هذا الرأي عبد ال بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان‬

‫قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج‪ .‬ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لجل أن هذا هو‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية‪ ،‬بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك‬

‫أحد‪ ،‬وشاء ال أن يفتضح هو وأصحابه ـ لول مر ة ـ أما م المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان‬ ‫كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه‪ ،‬ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الفاعي التي كانت‬ ‫تتحرك تحت ملبسهم وأكمامهم‪.‬‬

‫فقد بادر جماعة من فضلء الصحابة ممن فاته الخروج يو م بدر ومن غيرهم‪ ،‬فأشاروا على النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم بالخروج‪ ،‬وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم‪ :‬يا رسول ال‪،‬كنا نتمني هذا اليو م‬ ‫وندعو ال‪ ،‬فقد ساقه إلينا وقرب المسير‪ ،‬اخرج إلى أعدائنا‪ ،‬ل يرون أنا َج بـُّنا عنهم‪.‬‬

‫وكان في مقدمة هؤلء المتحمسين حمز ة بن عبد المطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ الذي‬ ‫كان قد أبلي أحسن بلء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬والذي أنزل عليك‬ ‫الكتاب ل أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة ‪.‬‬

‫وتنازل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن رأيه مراعا ة لهؤلء المتحمسين‪ ،‬واستقر الرأي على الخروج‬ ‫من المدينة‪ ،‬واللقاء في الميدان السافر‪.‬‬

‫تكتيب الجيش السلمي وخروجه إلى ساحة القتال‬ ‫ثم صلى النبي صلى ال عليه وسلم بالناس يو م الجمعة‪ ،‬فوعظهم وأمرهم بالجد والجتهاد‪ ،‬وأخبر أن لهم‬ ‫النصر بما صبروا‪ ،‬وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم‪ ،‬ففرح الناس بذلك‪ .‬ثم صلى بالناس العصر‪ ،‬وقد حشدوا‬

‫وحضر أهل الَعَو إـلى ‪ ،‬ثم دخل بيته‪ ،‬ومعه صاحباه أبو بكر وعمر‪ ،‬فعمماه وألبساه‪ ،‬فتدجج بسلحه وظاهر‬

‫بين درعين ‏]أي لبس درعا فوق درع[ وتقلد السيف‪ ،‬ثم خرج على الناس‪.‬‬

‫وكان الناس ينتظرون خروجه‪ ،‬وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير‪ :‬استكرهتم رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم على الخروج فردوا المر إليه‪،‬فندموا جميعاً على ما صنعوا‪ ،‬فلما خرج قالوا له‪ :‬يا رسول ال‪،‬ما‬

‫كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت‪ ،‬إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏)ما ينبغي لنبي إذا لبس لَْمتَـه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم ال بينه وبين عدوه( ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقسم النبي صلى ال عليه وسلم جيشه إلى ثلث كتائب‪:‬‬ ‫‪ .1‬كتيبة المهاجرين‪ ،‬وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري‪.‬‬ ‫‪ .2‬كتيبة الوس من النصار‪ ،‬وأعطي لواءها أسيد بن حضير‪.‬‬

‫‪ .3‬كتيبة الخزرج من النصار‪ ،‬وأعطي لواءها الُح بَـاب بن المنذر‪.‬‬ ‫وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع‪ ،‬ولم يكن فيهم من الفرسان أحد ‪،‬واستعمل على‬

‫المدينة ابن أ م مكتو م على الصل ة بمن بقي في المدينة‪،‬وآذن بالرحيل‪ ،‬فتحرك الجيش نحو الشمال‪،‬‬ ‫وخرج السعدان أما م النبي صلى ال عليه وسلم يعدوان دارعين‪.‬‬

‫ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفرد ة عن سواد الجيش‪ ،‬فسأل عنها‪ ،‬فأخبر أنهم اليهود‬ ‫من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين‪ ،‬فسأل‪ :‬‏)هل أسلموا ؟( فقالوا‪:‬ل‪ ،‬فأبى أن‬ ‫يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك‪.‬‬ ‫استعراض الجيش‬ ‫وعندما وصل إلى مقا م يقال له‪ :‬‏]الشيخان[ استعرض جيشه‪ ،‬فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال‪،‬‬

‫وكان منهم عبد ال بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد‪ ،‬وأسيد بن ظَُه يـر‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وزيد بن أرقم‪،‬‬

‫وَعَراَبة بن أْو ســ‪ ،‬وعمرو بن حز م‪ ،‬وأبو سعيد الخدري‪ ،‬وزيد بن حارثة النصاري‪ ،‬وسعد بن َح بّـة‪ ،‬ويذكر في‬ ‫هؤلء البراء بن عازب‪ ،‬لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليو م‪.‬‬

‫وأجاز رافع بن َخ ِدـيـج‪ ،‬وَس ُمـَرـ ة بن ُج ْنـَد بـ على صغر سنهما‪ ،‬وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية‬

‫النبل فأجازه‪ ،‬فقال سمر ة‪ :‬أنا أقوي من رافع‪،‬أنا أصرعه‪ ،‬فلما أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك‬

‫أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا‪ ،‬فصرع سمر ة رافعًا‪ ،‬فأجازه أيضاً‪.‬‬ ‫المبيت بين أحد والمدينة‬

‫وفي هذا المكان أدركهم المساء‪ ،‬فصلى المغرب‪ ،‬ثم صلى العشاء‪ ،‬وبات هنالك‪ ،‬واختار خمسين رجلً‬ ‫لحراسة المعسكر يتجولون حوله‪ ،‬وكان قائدهم محمد بن مسلمة النصاري‪ ،‬بطل سرية كعب بن‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الشرف‪ ،‬وتولي ذَْك َوـاـن بن عبد قيس حراسة النبي صلى ال عليه وسلم خاصة‪.‬‬ ‫تمرد عبد ال بن أبي وأصحابه‬

‫وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج‪ ،‬حتى إذا كان بال ّ‬ ‫ش ْوـطـصلى الفجر‪ ،‬وكان بمقربة جداً من العدو‪ ،‬فقد كان‬

‫يراهم ويرونه‪ ،‬وهناك تمرد عبد ال بن أبي المنافق‪ ،‬فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلثمائة مقاتل ـ قائلً‪:‬‬

‫ما ندري عل م نقتل أنفسنا ؟ ومتظاهراً بالحتجاج بأن الرسول صلى ال عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره‪.‬‬

‫ول شك أن سبب هذا النعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫رأيه‪ ،‬وإل لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معني‪ .‬ولو كان هذا هو السبب ل نعزل عن‬

‫الجيش منذ بداية سيره‪ ،‬بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث‬

‫البلبلة والضطراب في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوهم‪،‬حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتنهار معنويات من يبقي معه‪ ،‬بينما يتشجع العدو‪ ،‬وتعلو همته لرؤية هذا المنظر‪،‬‬

‫فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه المخلصين‪ ،‬ويصحو بعد ذلك‬

‫الجو لعود ة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه‪.‬‬

‫وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه‪ ،‬فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الوس‪ ،‬وبنو‬ ‫سلمة من الخزرج ـ أن تفشل‪ ،‬ولكن ال تولهما‪ ،‬فثبتتا بعدما سري فيهما الضطراب‪ ،‬وهمتا بالرجوع‬ ‫والنسحاب‪ ،‬وعنهما يقول ال تعالي‪ :‬‏}إِْذ َه ّمـتـ ّطآئَِف تَـاِن ِم نـُك ْمـ َأن تـَْف َشـلَـ َواـُل َو لِـيـُّه َمـاـ َو َعـَلى اِل فـَْلَيتـَوّك ِلـ‬ ‫الُْم ْؤـِمـنُـوَن{ ‏]آل عمران‪.[122 :‬‬ ‫وحاول عبد ال بن َح َرـا م ـ والد جابر بن عبد ال ـ تذكير هؤلء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق‪،‬‬ ‫فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع‪ ،‬ويقول‪ :‬تعالوا قاتلوا في سبيل ال أو ادفعوا‪ ،‬قالوا‪ :‬لو نعلم‬

‫أنكم تقاتلون لم نرجع‪ ،‬فرجع عنهم عبد ال بن حرا م قائلً‪ :‬أبعدكم ال أعداء ال‪ ،‬فسيغني ال عنكم نبيه‪.‬‬

‫وفي هؤلء المنافقين يقول ال تعالى ‪ :‬‏}َولْـيـَْعلَـَم الِّذ يـَن َنافـَُقوـاْ َو قِـيَل لَُه ْمـ تـَعالَْو اْـ َقاتُِلواْ ِفي َس بِـيِل اِل أَِو اْد فـَُعواْ‬ ‫ِ‬ ‫لتّـبـْع نَـاُك مـ ُه مـ لِْلُك ْفـِرـ يـو مـئِـٍذ َأقـْر ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫س ِفي قـُ​ُلوبِ​ِه ْمـ‬ ‫َْ َ َ ُ‬ ‫َقاُلواْ لَْو نـَْع لَـُم قَتالً ّ َ ْ ْ‬ ‫ب م نـُْه ْمـ لل يـَم اـن يـَُقوـُلوَن بَأفـَْو اـه هـمـ ّماـ لَْي َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫َواـُل أَْع لَـُم بَِم اـ يَْك تُـُم وـَن{ ‏]آل عمران‪.[167 :‬‬ ‫بقية الجيش السلمي إلى أحد‬

‫وبعد هذا التمرد والنسحاب قا م النبي صلى ال عليه وسلم ببقية الجيش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ‬ ‫ليواصل سيره نحو العدو‪ ،‬وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثير ة‪ ،‬فقال‪ :‬‏)من‬ ‫رجل يخرج بنا على القو م من َك ثَـ ٍ‬ ‫ب ـ أي من قريب ـ من طريق ل يمر بنا عليهم ؟(‪.‬‬ ‫فقال أبو َخ يـَثمَة‪ :‬أنا يارسول ال‪ ،‬ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بَح ّرـِ ة بني حارثة وبمزارعهم‪ ،‬تاركاً‬ ‫جيش المشركين إلى الغرب‪.‬‬

‫ومر الجيش في هذا الطريق بحائط ِم ْرـبَـع بن َقيِظ يـ ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قا م‬ ‫يحثو التراب في وجوه المسلمين‪ ،‬ويقول‪ :‬ل أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول ال‪ .‬فابتدره‬ ‫القو م ليقتلوه‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬‏)ل تقتلوه‪ ،‬فهذا الْع َمـىـ أعمى القلب أعمى البصر(‪.‬‬ ‫ونفذ رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدو ة الوادي‪ ،‬فعسكر بجيشه‬ ‫مستقبلً المدينة‪ ،‬وجاعل ظهره إلى هضاب جبل أحد‪ ،‬وعلى هذا صار جيش العدو فاصلً بين‬ ‫المسلمين وبين المدينة‪.‬‬

‫خطة الدفاع‬ ‫وهناك عبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم جيشه‪ ،‬وهيأهم صفوفاً للقتال‪ ،‬فاختار منهم فصيلة من الرما ة‬ ‫ل‪ ،‬وأعطي قيادتها لعبد ال بن جبير بن النعمان النصاري الوسي‬ ‫الماهرين‪ ،‬قوامها خمسون مقات ً‬

‫البدري‪ ،‬وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قنا ة ـ وعرف فيما بعد بجبل‬

‫الرما ة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين‪ ،‬على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش السلمي‪.‬‬ ‫والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول ال صلى ال عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلء الرما ة‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقد قال لقائدهم‪ :‬‏)انضح الخيل عنا بالنبل‪ ،‬ل يأتونا من خلفنا‪ ،‬إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك‪،‬‬

‫ل نؤتين من قبلك( وقال للرما ة‪ :‬‏)احموا ظهورنا‪ ،‬فإن رأيتمونا نقتل فل تنصرونا‪ ،‬وإن رأيتمونا قد غنمنا‬

‫فل تشركونا(‪ ،‬وفي رواية البخاري أنه قال‪ :‬‏)إن رأيتمونا تخطفنا الطير فل تبرحوا مكانكم هذا حتى‬ ‫أرسل إليكم‪ ،‬وإن رأيتمونا هزمنا القو م ووطأناهم فل تبرحوا حتى أرسل إليكم(‪.‬‬

‫بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الوامر العسكرية الشديد ة سد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫الثلمة الوحيد ة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين‪ ،‬ويقوموا‬

‫بحركات اللتفاف وعملية التطويق‪.‬‬

‫أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو‪ ،‬وجعل على الميسر ة الزبير بن العوا م‪ ،‬يسانده‬ ‫المقداد بن السود‪ ،‬وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد‪،‬وجعل في مقدمة‬ ‫الصفوف نخبة ممتاز ة من شجعان المسلمين ورجالتهم المشهورين بالنجد ة والبسالة‪ ،‬والذين يوزنون‬

‫باللف ‪.‬‬ ‫ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدًا‪ ،‬تتجلي فيها عبقرية قياد ة النبي صلى ال عليه وسلم لعسكرية‪،‬‬ ‫وأنه ل يمكن لي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل‬ ‫موضع من ميدان المعركة‪ ،‬مع أنه نزل فيه بعد العدو‪ ،‬فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل‪ ،‬وحمي‬

‫ميسرته وظهره ـ حين يحتد م القتال ـ بسد الثلمة الوحيد ة التي كانت توجد في جانب الجيش السلمي‪،‬‬

‫واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ول يلتجئ إلى الفرار‪ ،‬حتى‬ ‫يتعرض للوقوع في قبضة العداء المطاردين وأسرهم‪ ،‬ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا‬ ‫احتلل معسكره وتقدموا إليه‪،‬وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا‬

‫على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم‪ ،‬ويصعب عليهم الفلت من المسلمين المطاردين إن‬

‫كانت الغلبة للمسلمين‪ ،‬كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتاز ة من أصحابه‬ ‫الشجعان البارزين‪.‬‬

‫وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يو م السبت السابع من شهر شوال سنة ‪3‬هـ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش‬

‫ونهى الرسول صلى ال عليه وسلم الناس عن الخذ في القتال حتى يأمرهم‪ ،‬وظاهر بين درعين‪ ،‬وحرض‬

‫أصحابه على القتال‪ ،‬وحضهم على المصابر ة والجلد عند اللقاء‪ ،‬وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة‬

‫في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادي أصحابه‪ :‬‏)من يأخذ هذا السيف بحقه؟(‪ ،‬فقا م إليه رجال‬ ‫ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب‪ ،‬والزبير بن العوا م‪ ،‬وعمر بن الخطاب ـ حتى قا م إليه أبو ُدَج اـنة‬ ‫ِس َم ـاـك بن َخ َرـَش ةـ‪ ،‬فقال‪ :‬وما حقه يا رسول ال ؟ قال‪ :‬‏)أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني(‪ .‬قال‪ :‬أنا‬ ‫آخذه بحقه يا رسول ال‪ ،‬فأعطاه إياه‪.‬‬

‫وكان أبو دجانة رجلً شجاعاً يختال عند الحرب‪ ،‬وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس‬ ‫أنه سيقاتل حتى الموت‪ .‬فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة‪ ،‬وجعل يتبختر بين الصفين‪،‬‬ ‫وحينئذ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إنها لمشية يبغضها ال إل في مثل هذا الموطن(‪.‬‬

‫تعبئـة الجيش المكي‬

‫أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظا م الصفوف‪ ،‬فكانت القياد ة العامة إلى أبي سفيان صخر بن‬ ‫حرب الذي تمركز في قلب الجيش‪ ،‬وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ وعلى‬ ‫الميسر ة عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وعلى المشا ة صفوان ابن أمية‪ ،‬وعلى رما ة النبل عبد ال بن أبي ربيعة‪.‬‬ ‫أما اللواء فكان إلى مفرز ة من بني عبد الدار‪ ،‬وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف‬ ‫المناصب التي ورثوها من قصي بن كلب ـ كما أسلفنا في أوائل الكتاب ـ وكان ل يمكن لحد أن‬

‫ينازعهم في ذلك؛ تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر‪ ،‬بيد أن القائد العا م ـ أبا سفيان ـ ذكرهم‬ ‫بما أصاب قريشاً يو م بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث‪ ،‬وقال لهم ـ ليستفز غضبهم ويثير‬ ‫حميتهم‪ :‬يا بني عبد الدار‪ ،‬قد وليتم لواءنا يو م بدر فأصابنا ما قد رأيتم‪ ،‬وإنما يؤتي الناس من قبل‬ ‫راياتهم‪ ،‬وإذا زالت زالوا‪ ،‬فإما أن تكفونا لواءنا‪ ،‬وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‪.‬‬ ‫ونجح أبو سفيان في هدفه‪ ،‬فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب‪ ،‬وهموا به‬

‫وتواعدوه وقالوا له‪ :‬نحن نسلم إليك لواءنا ؟ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع‪ .‬وقد ثبتوا عند احتدا م‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المعركة حتى أبيدوا عن بكر ة أبيهم‪.‬‬ ‫مناورات سياسية من قبل قريش‬

‫وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين‪ .‬فقد أرسل أبو سفيان‬

‫إلى النصار يقول لهم‪ :‬خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم‪ ، ،‬فل حاجة لنا إلى قتالكم‪ .‬ولكن أين‬ ‫هذه المحاولة أما م اليمان الذي ل تقو م له الجبال‪ ،‬فقد رد عليه النصار رداً عنيفًا‪ ،‬وأسمعوه ما يكره‪.‬‬

‫واقتربت ساعة الصفر‪ ،‬وتدانت الفئتان‪ ،‬فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض‪ ،‬فقد خرج إلى‬ ‫صيـِف يـ‪ ،‬وكان يسمي الراهب‪ ،‬فسماه‬ ‫النصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن َ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الفاسق‪ ،‬وكان رأس الوس في الجاهلية‪ ،‬فلما جاء السل م َش ِرـق به‪،‬‬

‫وجاهر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالعداو ة‪ ،‬فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم ويحضهم على قتاله‪ ،‬ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه‪ ،‬ومالوا معه ـ فكان‬ ‫أول من خرج إلى المسلمين في الحابيش وعُْبَد اـن أهل مكة‪ .‬فنادي قومه وتعرف عليهم‪ ،‬وقال‪ :‬يا‬

‫معشر الوس‪ ،‬أنا أبو عامر‪ .‬فقالوا‪ :‬ل أنعم ال بك عيناً يا فاسق‪ .‬فقال‪ :‬لقد أصاب قومي بعدي شر‪ .‬ـ‬ ‫ولما بدأ القتال قاتلهم قتالً شديداً وراضخهم بالحجار ة‪.‬‬

‫وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل اليمان‪ .‬ويدل عملهم هذا على ما‬

‫كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم‪ ،‬مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعد ة‪.‬‬ ‫جهود نسو ة قريش في التحميس‬

‫وقامت نسو ة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة‪ ،‬تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان‪ ،‬فكن‬ ‫يتجولن في الصفوف‪ ،‬ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال‪ ،‬ويحرضن على القتال‪ ،‬ويثرن حفائظ‬ ‫البطال‪ ،‬ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال‪ ،‬فتار ة يخاطبن أهل اللواء فيقلن‪:‬‬

‫َو يْـها بني عبد الــدار **‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ويـها ُح َمـاـ ة الدب ــار **‬

‫ضـرباً بكـل بت ـ ــار **‬ ‫وتار ة يأززن قومهن على القتال وينشدن‪:‬‬

‫إن تـُْق بـلُـوا نـَُعانـِـق **‬ ‫ش النم ــارق **‬ ‫ونَف ـِْر ُ‬ ‫أو تـُْد بِـُروا ُنفـَـاِرق **‬ ‫ف ـراق غيـر َواـمِـق **‬ ‫أول وقود المعركة‬ ‫وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان‪ ،‬وآنت مرحلة القتال‪ ،‬وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين‬

‫طلحة بن أبي طلحة العبدري‪ ،‬وكان من أشجع فرسان قريش‪ ،‬يسميه المسلمون كبش الكتيبة‪ .‬خرج وهو‬ ‫راكب على جمل يدعو إلى المبارز ة‪ ،‬فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته‪ ،‬ولكن تقد م إليه الزبير ولم يمهله‪،‬‬

‫بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله‪ ،‬ثم اقتحم به الرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه‪.‬‬

‫ورأي النبي صلى ال عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر‪ ،‬وكبر المسلمون وأثنى على الزبير‪ ،‬وقال في‬ ‫حقه‪ :‬‏)إن لكل نبي حواريًا‪ ،‬وحواري الزبير( ‪.‬‬ ‫ثقل المعركة حول اللواء وإباد ة حملته‬

‫ثم اندلعت نيران المعركة‪ ،‬واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان‪ ،‬وكان ثقل المعركة‬ ‫يدور حول لواء المشركين‪ ،‬فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة‪،‬‬ ‫فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة‪ ،‬وتقد م للقتال وهو يقول‪:‬‬

‫صْعـَدـ ةـ أو تـَْنَد قّـا‬ ‫بـ ال ّ‬ ‫إّن على أْه لـ اللَو اـء حق ـاً ** أن تُْخ َ‬ ‫ضـ َ‬ ‫فحمل عليه حمز ة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه‪ ،‬حتى وصلت إلى‬ ‫سرته‪ ،‬فبانت رئته‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ِ‬ ‫ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة‪ ،‬فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته‪ ،‬فأُْد لـَع لسانُهُ‬ ‫ومات لحينه‪ .‬وقيل‪ :‬بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز‪ ،‬فتقد م إليه على بن أبي طالب‪ ،‬فاختلفا ضربتين‪،‬‬ ‫فضربه على فقتله‪.‬‬

‫ثم رفع اللواء ُمَس اـفع بن طلحة بن أبي طلحة‪ ،‬فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الفـَْلح بسهم فقتله‪،‬‬ ‫لب بن طلحة بن أبي طلحة‪ ،‬فانقض عليه الزبير بن العوا م وقاتله حتى قتله‪،‬‬ ‫فحمل اللواء بعده أخوه كِ َ‬ ‫ثم حمل اللواء أخوهما الُج لَـس بن طلحة بن أبي طلحة‪ ،‬فطعنه طلحة بن عبيد ال طعنة قضت على‬ ‫حياته‪ .‬وقيل‪ :‬بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الفلح بسهم فقضي عليه‪.‬‬

‫هؤلء ستة نفر من بيت واحد‪ ،‬بيت أبي طلحة عبد ال بن عثمان بن عبد الدار‪ ،‬قتلوا جميعاً حول لواء‬ ‫المشركين‪ ،‬ثم حمله من بني عبد الدار أرطا ة بن ُش َرـْح بِــيل‪ ،‬فقتله على بن أبي طالب‪ ،‬وقيل‪ :‬حمز ة بن‬

‫عبد المطلب‪ ،‬ثم حمله ُش َرـيح بن قارظ فقتله قـُْزَمـاـن ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية‪ ،‬ل عن‬ ‫السل م ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري‪ ،‬فقتله قزمان أيضًا‪ ،‬ثم حمله ولد لشرحبيل بن‬ ‫هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً‪.‬‬

‫فهؤلء عشر ة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم‪ ،‬ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء‪.‬‬

‫صَؤ اـب ـ فحمل اللواء‪ ،‬وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به‬ ‫فتقد م غل م لـهم حبشي ـ اسمه ُ‬ ‫مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله‪ ،‬فقد قاتل حتى قطعت يداه‪ ،‬فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛‬

‫لئل يسقط‪ ،‬حتى قتل وهو يقول‪ :‬اللهم هل أعزرت ؟ يعني هل أعذرت؟‪.‬‬

‫صؤاب ـ سقط اللواء على الرض‪ ،‬ولم يبق أحد يحمله‪ ،‬فبقي ساقطاً‪.‬‬ ‫وبعد أن قتل هذا الغل م ـ ُ‬

‫القتال في بقية النقاط‬

‫وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة‪،‬‬

‫وكانت روح اليمان قد سادت صفوف المسلمين‪ ،‬فانطلقوا خلل جنود الشرك انطلق الفيضان تتقطع‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أمامه السدود‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬‏]أمت‪ ،‬أمت[ كان ذلك شعاراً لهم يو م أحد‪.‬‬ ‫أقبل أبو ُدَج اـنة معلماً بعصابته الحمراء‪ ،‬آخذاً بسيف رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مصمماً على‬ ‫أداء حقه‪ ،‬فقاتل حتى أمعن في الناس‪ ،‬وجعل ل يلقي مشركاً إل قتله‪ ،‬وأخذ يهد صفوف المشركين‬ ‫هّد اـ‪.‬قال الزبير بن العوا م‪ :‬وجدت في نفسي حين سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم السيف‬

‫فمنعنيه‪ ،‬وأعطاه أبا دجانة‪ ،‬وقلت ـ أي في نفسي‪ :‬أنا ابن صفية عمته‪ ،‬ومن قريش‪ ،‬وقد قمت إليه‪،‬‬

‫فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني‪ ،‬وال لنظرن ما يصنع ؟ فاتبعته‪ ،‬فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها‬ ‫رأسه‪ ،‬فقالت النصار‪ :‬أخرج أبو دجانة عصابة الموت‪ ،‬فخرج وهو يقول‪:‬‬

‫س ْفـحـ لدى النِّخ يــل‬ ‫أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بال ّ‬ ‫ب بَس يـف ال والرسول‬ ‫أل أقو م الّد ْهـَرـ في الَك يـول ** أ ْ‬ ‫ض ِرـ ْ‬ ‫ف عليه‪ ،‬فجعل كل‬ ‫فجعل ل يلقى أحداً إل قتله‪ ،‬وكان في المشركين رجل ل يدع لنا جريحاً إل ذَفّ َ‬ ‫واحد منهما يدنو من صاحبه‪ ،‬فدعوت ال أن يجمع بينهما فالتقيا‪ ،‬فاختلفا ضربتين‪ ،‬فضرب المشرك أبا‬ ‫دجانة فاتقاه بدرقته‪ ،‬فـَع ّ‬ ‫تـ بسيفه‪ ،‬فضربه أبو دجانة فقتله ‪.‬‬ ‫ض ْ‬

‫ثم أمعن أبو دجانة في هّد الصفوف‪ ،‬حتى خلص إلى قائد ة نسو ة قريش‪ ،‬وهو ل يدري بها‪ .‬قال أبو‬ ‫دجانة‪:‬رأيت إنساناً يْخ ِمـشـ الناس خمشاً شديدًا‪ ،‬فصمدت له‪ ،‬فلما حملت عليه السيف ولَْو َلـ ‪ ،‬ـفإذا‬ ‫امرأ ة‪ ،‬فأكرمت سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أضرب به امرأ ة‪.‬‬ ‫وكانت تلك المرأ ة هي هند بنت عتبة‪ .‬قال الزبير بن العوا م‪ :‬رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على‬

‫مفرق رأس هند بنت عتبة‪ ،‬ثم عدل السيف عنها‪ ،‬فقلت‪:‬ال ورسوله أعلم ‪.‬‬

‫وقاتل حمز ة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة‪ ،‬فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامر ة‬ ‫منقطعة النظير‪ ،‬ينكشف عنه البطال كما تتطاير الوراق أما م الرياح الهوجاء‪ ،‬فبالضافة إلى مشاركته‬

‫الفعالة في إباد ة حاملي لواء المشركين فعل الفاعيل بأبطالهم الخرين‪ ،‬حتى صرع وهو في مقدمة‬

‫المبرزين‪ ،‬ولكن ل كما تصـرع البطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال‪ ،‬وإنما كمـا يغتال الكرا م في حلك‬ ‫الظـل م‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مصرع أسد ال حمز ة بن عبد المطلب‬ ‫يقول قاتل حمز ة وْح ِشـ ي ـبن حرب‪ :‬كنت غلماً لجبير بن ُمطِْعم‪ ،‬وكان عمه طَُعيَم ةـ بن عدي قد أصيب‬ ‫يو م بدر‪ ،‬فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير‪ :‬إنك إن قتلت حمز ة عم محمد بعمي فأنت عتيق‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة‪ ،‬قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما‬ ‫التقي الناس خرجت أنظر حمز ة وأتبصره‪ ،‬حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الْو َرـق‪ ،‬يُه ّدـ الناس‬ ‫هّد اـ ما يقو م له شيء‪ .‬فوال إني لتهيأ له أريده‪ ،‬فأستتر منه بشجر ة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه‬ ‫ِس بَـاع بن عبد العزي‪ ،‬فلما رآه حمز ة قال له‪ :‬هلم إلى يابن ُمَق طّـَعة البُ​ُظور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال‪:‬‬

‫فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‪.‬‬

‫قال‪ :‬وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه‪ ،‬فوقعت في ثـنُِّته ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين‬ ‫ِ‬ ‫ب ‪ ،‬ـ وتركته وإياها حتى مات‪ ،‬ثم أتيته فأخذت حربتي‪ ،‬ثم رجعت إلى‬ ‫رجليه‪ ،‬وذهب لينوء نحوي فـَغُل َ‬ ‫العسكر فقعدت فيه‪ ،‬ولم يكن لي بغيره حاجة‪ ،‬وإنما قتلته لعتق‪ ،‬فلما قدمت مكة عتقت ‪.‬‬ ‫السيطر ة على الموقف‬

‫وبرغم هذه الخسار ة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد ال وأسد رسوله حمز ة بن عبد المطلب‪،‬‬

‫ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله‪ .‬فقد قاتل يومئذ أبو بكر‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعلى بن أبي‬ ‫طالب‪ ،‬والزبير بن العوا م‪ ،‬ومصعب بن عمير‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال‪ ،‬وعبد ال بن جحش‪ ،‬وسعد بن‬

‫معاذ‪ ،‬وسعد بن عباد ة‪ ،‬وسعد بن الربيع‪ ،‬وأنس بن النضر وأمثالهم قتالً فَّل عزائم المشركين‪ ،‬وف ّ‬ ‫ت في‬ ‫أعضادهم‪.‬‬ ‫من أحضان المرأ ة إلى مقارعة السيوف والدرقة‬ ‫وكان من البطال المغامرين يومئذ َح ْنـَظلة الغَِس يــل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر‪ ،‬وأبو عامر هذا هو الراهب‬ ‫الذي سمي بالفاسق‪ ،‬والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُْر سـ‪ ،‬فلما سمع هواتف‬ ‫الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها‪ ،‬وقا م من فوره إلى الجهاد‪ ،‬فلما التقي بجيش المشركين‬ ‫في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب‪ ،‬وكاد‬

‫يقضي عليه لول أن أتاح ال له الشهاد ة‪ ،‬فقد شد على أبي سفيان‪ ،‬فلما استعله وتمكن منه رآه شداد‬ ‫بن السود فضربه حتى قتله‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نصيب فصيلة الرما ة في المعركة‬ ‫وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى ال عليه وسلم على جبل الرما ة يد بيضاء في إدار ة دفة القتال‬

‫لصالح الجيش السلمي‪ ،‬فقد هجم فرسان مكة بقياد ة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلث‬ ‫مرات؛ ليحطموا جناح الجيش السلمي اليسر‪ ،‬حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين‪ ،‬فيحدثوا البلبلة‬ ‫والرتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة‪ ،‬ولكن هؤلء الرما ة رشقوهم بالنبل حتى فشلت‬ ‫هجماتهم الثلث‪.‬‬ ‫الهزيمة تنزل بالمشركين‬

‫هكذا دارت رحي الحرب الّزُبون‪ ،‬وظل الجيش السلمي الصغير مسيطًرا على الموقف كله حتى خارت‬

‫عزائم أبطال المشركين‪ ،‬وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والما م والخلف‪ ،‬كأن ثلثة آلف‬

‫مشرك يواجهون ثلثين ألف مسلم ل بضع مئات قلئل‪ ،‬وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة‬ ‫واليقين‪.‬‬

‫وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجو م المسلمين أحست بالعجز والخور‪ ،‬وانكسرت همتها ـ‬

‫صؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ‬ ‫حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل ُ‬

‫فأخذت في النسحاب‪ ،‬ولجأت إلى الفرار‪ ،‬ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر‬ ‫والوتر والنتقا م‪ ،‬وإعاد ة العز والمجد والوقار‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬ثم أنزل ال نصره على المسلمين‪ ،‬وصدقهم وعده‪ ،‬فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم‬ ‫عن المعسكر‪ ،‬وكانت الهزيمة لشك فيها‪.‬‬ ‫روى عبد ال بن الزبير عن أبيه أنه قال‪ :‬وال لقد رأيتني أنظر إلى َخ َدـ مـ ـ سوق ـ هند بنت عتبة‬ ‫وصواحبها مشمرات هوارب‪ ،‬ما دون أخذهن قليل ول كثير‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح‪ :‬فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن‬ ‫في الجبل‪ ،‬يرفعن سوقهن قد بدت خلخيلهن ‪ .‬وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلح‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وينتهبون الغنائم‪.‬‬ ‫غلطة الرما ة الفظيعة‬

‫وبينما كان الجيش السلمي الصغير يسجل مر ة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة‬ ‫من النصر الذي اكتسبه يو م بدر‪ ،‬وقعت من أغلبية فصيلة الرما ة غلطة فظيعة قلبت الوضع تمامًا‪ ،‬وأدت‬ ‫إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين‪ ،‬وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد‬ ‫تركت أسوأ أثر على سمعتهم‪ ،‬وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر‪.‬‬

‫لقد أسلفنا نصوص الوامر الشديد ة التي أصدرها رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى هؤلء الرما ة‪،‬‬

‫بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة‪ ،‬ولكن على رغم هذه الوامر المشدد ة‬

‫لما رأي هؤلء الرما ة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثار ة من حب الدنيا‪ ،‬فقال بعضهم‬

‫لبعض‪ :‬الغنيمة‪ ،‬الغنيمة‪ ،‬ظهر أصحابكم‪ ،‬فما تنتظرون ؟‬

‫أما قائدهم عبد ال بن جبير‪ ،‬فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أنسيتم ما قال‬ ‫لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم؟‬ ‫ل‪ ،‬وقالت‪ :‬وال لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ‪ .‬ثـم‬ ‫ولكن الغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير با ً‬ ‫س َوـاـد الجيش ليشاركـوه فـي جمع‬ ‫غـادر أربعون رجلً أو أكثر هؤلء الرما ة مواقعهم من الجبل‪ ،‬والتحقوا ب َ‬

‫الغنائم‪ .‬وهكذا خلت ظهور المسلمين‪ ،‬ولم يبق فيها إل ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا‬ ‫مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا‪.‬‬ ‫خالد بن الوليد يقو م بخطة تطويق الجيش السلمي‬ ‫وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية‪ ،‬فكّر بسرعة خاطفة إلى جبل الرما ة ليدور من خلفه إلى‬

‫مؤخر ة الجيش السلمي‪ ،‬فلم يلبث أن أباد عبد ال بن جبير وأصحابه إل البعض الذين لحقوا‬

‫بالمسلمين‪ ،‬ثم انقض على المسلمين من خلفهم‪ ،‬وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون‬

‫بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين‪ ،‬وأسرعت امرأ ة منهم ـ وهي عمر ة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لواء المشركين المطروح على التراب‪ ،‬فالتف حوله المشركون ولثوا به‪ ،‬وتنادي بعضهم بعضًا‪ ،‬حتى‬ ‫اجتمعوا على المسلمين‪ ،‬وثبتوا للقتال‪ ،‬وأحيط المسلمون من الما م والخلف‪ ،‬ووقعوا بين ِش ّق ـيـ الرحي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‬

‫تبدد المسلمين في الموقف‬

‫احتدا م القتال حول رسول ال‬

‫أحرج ساعة في حيا ة الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‬

‫تضاعف ضغط المشركين‬

‫البطولت النادر ة‬

‫إشاعة مقتل النبي صلى ال عليه وسلم وأثره على‬ ‫المعركة‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ‬ ‫الموقف‬

‫مقتل أبي بن خلف‬

‫طلحة ينهض بالنبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫آخر هجو م قا م به المشركون‬

‫تشويه الشهداء‬

‫مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية‬ ‫المعركة‬

‫بعد انتهاء الرسول صلى ال عليه وسلم إلى الشعب‬ ‫شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر‬ ‫جمع الشهداء ودفنهم‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يثني على ربه عز وجل‬ ‫ويدعوه‬

‫الرجوع إلى المدينة‪ ،‬ونوادر الحب والتفاني‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم في المدينة‬ ‫قتلى الفريقين‬

‫حالة الطوارئ في المدينة‬

‫غزو ة حمراء السد‬

‫القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‬

‫الحكم والغايات المحمود ة في هذه الغزو ة‬

‫موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‬ ‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم حينئذ في مفرز ة صغير ة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخر ة‬ ‫المسلمين ‪ ،‬كان يرقب مجالد ة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة‪،‬‬

‫فكان أمامه طريقان‪ :‬إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون‪ ،‬ويترك جيشه‬

‫المطوق إلى مصيره المقدور‪ ،‬وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله‪ ،‬ويتخذ بهم جبهة‬ ‫قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى ال عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير‪ ،‬فقد رفع صوته ينادي‬ ‫أصحابه‪ :‬‏)إلي عباد ال(‪ ،‬وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون‪،‬‬ ‫ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق‪.‬‬

‫وفعلً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه‪ ،‬قبل أن يصل إليه المسلمون‪.‬‬

‫تبدد المسلمين في الموقف‬

‫أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم‪ ،‬فلم تكن تهمها إل أنفسها‪ ،‬فقد أخذت‬ ‫طريق الفرار‪ ،‬وتركت ساحة القتال‪ ،‬وهي ل تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة‬ ‫حتى دخلها‪ ،‬وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل‪.‬‬

‫ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين‪ ،‬والتبس العسكران فلم يتميزا‪ ،‬فوقع القتل في المسلمين‬ ‫بعضهم من بعض‪ .‬روي البخاري عن عائشة قالت‪ :‬لما كان يو م أحد هز م المشركون هزيمة بينة‪ ،‬فصاح‬

‫إبليس‪ :‬أي عباد ال أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولهم فاجتلدت هي وأخراهم‪ ،‬فبصر‬ ‫حذيفة‪ ،‬فإذا هو بأبيه اليمان‪ ،‬فقال‪ :‬أي عباد ال أبي أبي‪ .‬قالت‪ :‬فوال ما احتجزوا عنه حتى قتلوه‪،‬‬

‫فقال حذيفة‪ :‬يغفر ال لكم‪ .‬قال عرو ة‪ :‬فوال ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بال ‪.‬‬

‫وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد‪ ،‬وعمتها الفوضي‪ ،‬وتاه منها الكثيرون؛ل يدرون أين‬ ‫يتوجهون‪ ،‬وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‪ :‬إن محمداً قد قتل‪ ،‬فطارت بقية صوابهم‪،‬‬ ‫وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها‪ ،‬فتوقف من توقف منهم عن القتال‪،‬‬ ‫وألقي بأسلحته مستكينًا‪ ،‬وفكر آخرون في التصال بعبد ال بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم المان‬ ‫من أبي سفيان‪.‬ومر بهؤلء أنس بن النضر‪ ،‬وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‪ :‬ما تنتظرون ؟ فقالوا‪ :‬قتل رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬ما تصنعون بالحيا ة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلء‪ ،‬يعني المسلمين‪ ،‬وأبرأ إليك مما‬

‫صنع هؤلء‪ ،‬يعني المشركين‪ ،‬ثم تقد م فلقيه سعد بن معاذ‪ ،‬فقال‪ :‬أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس‪ :‬واها‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لريح الجنة يا سعد‪ ،‬إني أجده دون أحد‪ ،‬ثم مضي فقاتل القو م حتى قتل‪ ،‬فما عرف حتى عرفته أخته ـ‬

‫بعد نهاية المعركة ـببنانه‪ ،‬وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح‪ ،‬وضربة بسيف‪ ،‬ورمية بسهم ‪.‬‬

‫ونادى ثابت بن الَد ْحـَدـاـح قومه فقال‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬إن كان محمد قد قتل‪ ،‬فإن ال حي ل يموت‪،‬‬ ‫قاتلوا على دينكم‪ ،‬فإن ال مظفركم وناصركم‪ .‬فنهض إليه نفر من النصار‪ ،‬فحمل بهم على كتيبة‬ ‫فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح‪ ،‬وقتل أصحابه ‪.‬‬

‫ومر رجل من المهاجرين برجل من النصار‪ ،‬وهو يتَ​َش ّحـ ُ‬ ‫طـ في دمه‪ ،‬فقال‪ :‬يا فلن‪ ،‬أشعرت أن محمداً‬ ‫قد قتل ؟ فقال النصاري‪ :‬إن كان محمد قد قتل فقد بـَّلغ‪ ،‬فقاتلوا عن دينكم ‪.‬‬ ‫وبمثل هذا الستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية‪ ،‬ورجع إليهم رشدهم‬ ‫وصوابهم‪ ،‬فعدلوا عن فكر ة الستسل م أو التصال بابن أبي‪ ،‬وأخذوا سلحهم‪ ،‬يهاجمون تيارات‬

‫المشركين‪ ،‬وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القياد ة‪ ،‬وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم كذب ُمْخ تـَ​َلق‪ ،‬فزادهم ذلك قو ة على قوتهم‪ ،‬فنجحوا في الفلت عن التطويق‪ ،‬وفي التجمع‬ ‫حول مركز منيع‪ ،‬بعد أن باشروا القتال المرير‪ ،‬وجالدوا بضراو ة بالغة‪.‬‬

‫وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقد كرت هذه الطائفة إلى‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعمل التطويق فى بدايته‪ ،‬وفى مقدمة هؤلء أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر‬

‫بن الخطاب‪ ،‬وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي ال عنهم ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين‪ ،‬فلما أحسوا‬ ‫بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصل ة والسل م والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين‪.‬‬ ‫احتدا م القتال حول رسول ال‬

‫وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق‪ ،‬وتطحن بين ِش ّق ـيـ َرَح يـ المشركين‪ ،‬كان العراك‬

‫محتدماً حول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن‬ ‫مع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل تسعة نفر‪ ،‬فلما نادي المسلمين‪ :‬‏)هلموا إلي‪ ،‬أنا رسول ال(‪،‬‬

‫سمع صوته المشركون وعرفوه‪ ،‬فكروا إليه وهاجموه‪ ،‬ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش‬ ‫المسلمين‪ ،‬فجري بين المشركين وبين هؤلء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الحب والتفاني والبسالة والبطولة‪.‬‬ ‫روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أفرد يو م أحد في سبعة من النصار‬

‫ورجلين من قريش‪ ،‬فلما رهقوه قال‪ :‬‏)من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ؟( فتقد م رجل‬ ‫من النصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال‪ :‬‏)من يردهم عنا وله الجنة‪ ،‬أو هو رفيقي في الجنة ؟(‬ ‫فتقد م رجل من النصار فقاتل حتى قتل‪ ،‬فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم لصاحبيه ـ أي القرشيين‪ :‬‏)ما أنصفنا أصحابنا( ‪.‬‬ ‫س َكـنـ‪ ،‬قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‪.‬‬ ‫وكان آخر هؤلء السبعة هو عمار ة بن يزيد بن ال ّ‬ ‫أحرج ساعة في حيا ة الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط‪ ،‬ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال‪ :‬لم يبق‬

‫مع النبي صلى ال عليه وسلم في بعض تلك اليا م التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد ال وسعد ـ بن‬ ‫أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفرصة ذهبية بالنسبة‬ ‫إلى المشركين‪ ،‬ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة‪ ،‬فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى ال‬

‫عليه وسلم‪ ،‬وطمعوا في القضاء عليه‪ ،‬رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجار ة فوقع لشقه‪ ،‬وأصيبت رباعيته‬ ‫تـ شفته السفلي‪ ،‬وتقد م إليه عبد ال بن شهاب الزهري فَ​َش ّجـهـ في جبهته‪ ،‬وجاء‬ ‫اليمنى السفلى‪ ،‬وُك لِـَم ْ‬ ‫فارس عنيد هو عبد ال بن قَِم ئَـة‪ ،‬فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لجلها أكثر من شهر‬ ‫إل أنه لم يتمكن من هتك الدرعين‪ ،‬ثم ضرب على وجنته صلى ال عليه وسلم ضربة أخري عنيفة‬ ‫كالولي حتى دخلت حلقتان من حلق الِم غْـَف رـ في وْج نَـِته‪ ،‬وقال‪ :‬خذها وأنا ابن قمئة‪ .‬فقال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم وهو يمسح الد م عن وجهة‪ :‬‏)أقمأك ال( ‪.‬‬

‫ت الد م عنه ويقول‪:‬‬ ‫وفي الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم كسرت َرَباِع يَـته‪ ،‬وُش ّجـ في رأسه‪ ،‬فجعل يَْس لُـ ُ‬ ‫س‬ ‫‏)كيف يفلح قو م شجوا وجه نبيهم‪ ،‬وكسروا رباعيته‪ ،‬وهو يدعوهم إلى ال(‪ ،‬فأنزل ال عز وجل‪ :‬‏}لَْي َ‬ ‫لَ َ ِ‬ ‫ب َعلَْيِه ْمـ أَْو يـَُعّذ بـَُه ْمـ فَِإ نـُّه ْمـ َظالُِم وـَن { ‏]آل عمران‪. [128:‬‬ ‫ك م َنـ الَْم ِرـ َش ْيـ ٌءـ أَْو يـَُتو َ‬ ‫وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ‪ :‬‏)اشتد غضب ال على قو م دموا وجه رسوله(‪ ،‬ثم مكث ساعة ثم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال‪ :‬‏)اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون( ‪ ،‬وفي صحيح مسلم أنه قال‪:‬‏)رب اغفر لقومي فإنهم ل‬

‫يعلمون( ‪ ،‬وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‪ :‬‏)اللهم اهد قومي فإنهم ل يعلمون(‪.‬‬

‫ول شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسلم إل أن القرشيين‬ ‫سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد ال قاما ببطولة نادر ة‪ ،‬وقاتل ببسالة منقطعة النظير‪ ،‬حتى لم يتركا ـ‬

‫وهما اثنان فحسب ـ سبيل ً إلى نجاح المشركين في هدفهم‪ ،‬وكانا من أمهر رما ة العرب فتناضل حتى‬ ‫أجهضا مفرز ة المشركين عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فأما سعد بن أبي وقاص‪ ،‬فقد نثل له رسول ال صلى ال عليه وسلم كنانته وقال‪:‬‏)ار م فداك أبي وأمي(‬ ‫‪ .‬ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يجمع أبويه لحد غير سعد‪.‬‬

‫وأما طلحة بن عبيد ال فقد روي النسائي عن جابر قصة تَ​َج ّمـعـ المشركين حول رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم ومعه نفر من النصار‪ ،‬قال جابر‪ :‬فأدرك المشركون رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬‬

‫‏)من للقو م ؟( فقال طلحة‪ :‬أنا‪ ،‬ثم ذكر جابر تقد م النصار‪ ،‬وقتلهم واحداً بعد واحد‪ ،‬بنحو ما ذكرنا من‬ ‫رواية مسلم‪ ،‬فلما قتل النصار كلهم تقد م طلحة‪ .‬قال جابر‪ :‬ثم قاتل طلحة قتال الحد عشر حتى‬ ‫سـ ‪ ،‬ـ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لو قلت‪ :‬بسم ال‪ ،‬لرفعتك‬ ‫ضربت يده فقطعت أصابعه‪ ،‬فقال‪َ :‬ح ّ‬ ‫الملئكة والناس ينظرون(‪ ،‬قال‪ :‬ثم رد ال المشركين ‪ .‬ووقع عند الحاكم في الكليل أنه جرح يو م أحد‬

‫تسعاً وثلثين أو خمساً وثلثين‪ ،‬وشلت إصبعه‪ ،‬أي السبابة والتي تليها ‪.‬‬

‫وروي البخاري عن قيس بن أبي حاز م قال‪ :‬رأيت يد طلحة شلء‪ ،‬وقى بها النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫يو م أحد‪.‬‬ ‫وروي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال فيه يومئذ‪ :‬‏)من أحب أن ينظر إلى شهيد‬ ‫يمشي على وجه الرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد ال( ‪.‬‬

‫وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‪ :‬كان أبوبكر إذا ذكر يو م أحد قال‪ :‬ذلك اليو م كله لطلحة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقال فيه أبو بكر الصديق رضي ال عنه أيضاً‪:‬‬ ‫ت الَم َهـاـ الِعيَنا‬ ‫يا طلحة بن عبيد ال قد َوَج بَـ ْ‬ ‫ت ** لك الجنان وبـُّو ئـ َ‬ ‫وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل ال نصره بالغيب‪ ،‬ففي الصحيحين عن سعد‪ ،‬قال‪:‬‬

‫رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يو م أحد‪ ،‬ومعه رجلن يقاتلن عنه‪ ،‬عليهما ثياب بيض كأشد‬

‫القتال‪ ،‬ما رأيتهما قبل ول بعد‪ .‬وفي رواية‪ :‬يعني جبريل وميكائيل‪.‬‬ ‫بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة‪ ،‬وإل فالمصطفون الخيار من صحابته صلى ال عليه‬ ‫وسلم ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف‪ ،‬أو يسمعوا‬ ‫صوته صلى ال عليه وسلم حتى أسرعوا إليه ؛ لئل يصل إليه شيء يكرهونه‪ ،‬إل أنهم وصلوا وقد لقي‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لقي من الجراحات ـ وستة من النصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته‬

‫الجراحات‪ ،‬وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم‬ ‫وسلحهم‪ ،‬وبالغوا في وقايته من ضربات العدو‪ ،‬ورد هجماته‪ .‬وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار‬ ‫أبو بكر الصديق رضي ال عنه‪.‬‬ ‫روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت‪ :‬قال أبو بكر الصديق‪ :‬لما كان يو م أحد انصرف الناس‬

‫كلهم عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكنت أول من فاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرأيت بين‬

‫يديه رجلً يقاتل عنه ويحميه‪ ،‬قلت‪ :‬كن طلحة‪ ،‬فداك أبي وأمي‪ ،‬كن طلحة‪ ،‬فداك أبي وأمي‪ ،‬‏]حيث‬ ‫فاتني ما فاتني‪ ،‬فقلت‪ :‬يكون رجل من قومي أحب إلي[ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيد ة بن الجراح‪،‬‬ ‫وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني‪ ،‬فدفعنا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا طلحة بين يديه‬

‫صريعًا‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)دونكم أخـاكم فقـد أوجب(‪ ،‬وقد رمي النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم في َوْج نَـتِ​ِه حتى غابت حلقتان من حلق الِم غْـَف رـ في وجنته‪ ،‬فذهبت لنزعهما عن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم فقال أبو عبيد ة‪ :‬نشدتك بال يا أبا بكر‪ ،‬إل تركتني‪ ،‬قال‪ :‬فأخذ بفيه فجعل ينَ ّ‬ ‫ضــضه كراهية‬ ‫أن يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم استل السهم بفيه‪ ،‬فنَ​َد َرـت ثنية أبي عبيد ة‪ ،‬قال أبو بكر‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم ذهبت لخذ الخر‪ ،‬فقال أبو عبيد ة‪ :‬نشدتك بال يا أبا بكر‪ ،‬إل تركتني‪ ،‬قال‪:‬فأخذه فجعل ينضضه‬ ‫حتى اْس تـَّله‪ ،‬فندرت ثنية أبي عبيد ة الخري‪ ،‬ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‏)دونكم أخاكم‪،‬‬

‫فقد أوجب(‪ ،‬قال‪ :‬فأقبلنا على طلحة نعالجه‪ ،‬وقد أصابته بضع عشر ة ضربة ‪ .‬وفي تهذيب تاريخ دمشق‬ ‫‪ :‬فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر‪ ،‬بين طعنة ورمية وضربة‪ ،‬وإذا قد‬

‫قطعت إصبعه‪ ،‬فأصلحنا من شأنه‪.‬‬ ‫وخلل هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى ال عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين‬

‫منهم أبو ُدَج اـنة‪ ،‬ومصعب بن عمير‪ ،‬وعلى بن أبي طالب ‪ ،‬وسهل بن حنيف‪ ،‬ومالك بن سنان والد أبي‬

‫سعيد الخدري‪ ،‬وأ م عمار ة نَُس ْيـبة بنت كعب المازنية‪ ،‬وقتاد ة ابن النعمان‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬وحاطب‬ ‫بن أبي بلتعة‪ ،‬وأبو طلحة‪.‬‬ ‫تضاعف ضغط المشركين‬ ‫كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن‪ ،‬وبالطبع فقد اشتدت حملتهم وزاد ضغطهم على‬

‫المسلمين‪ ،‬حتى سقط رسول ال صلى ال عليه وسلم في حفر ة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق‬ ‫تـركبته‪ ،‬وأخذه على بيده‪ ،‬واحتضنه طلحة بن عبيد ال حتى استوي قائمًا‪ ،‬وقال‬ ‫يكيد بها‪ ،‬فُج ِحـ َش ـ ْ‬ ‫نافع بن جبير‪ :‬سمعت رجلً من المهاجرين يقول‪ :‬شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية‪،‬‬ ‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم وسطها‪ ،‬كل ذلك يصرف عنه‪ ،‬ولقد رأيت عبد ال بن شهاب الزهري‬

‫يقول يومئذ‪ :‬دلوني على محمد‪ ،‬فل نجوت إن نجا‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم إلى جنبه‪ ،‬ما معه‬ ‫أحد‪ ،‬ثم جاوزه‪ ،‬فعاتبه في ذلك صفوان‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما رأيته‪ ،‬أحلف بال إنه منا ممنوع‪ ،‬خرجنا أربعة‪،‬‬ ‫فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله‪ ،‬فلم نخلص إلى ذلك ‪.‬‬

‫البطولت النادر ة‬ ‫وقا م المسلمون ببطولت نادر ة وتضحيات رائعة‪ ،‬لم يعرف لها التاريخ نظيراً‪ .‬كان أبو طلحة يسور نفسه‬

‫بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويرفع صدره ليقيه سها م العدو‪ .‬قال أنس‪ :‬لما كان يو م أحد‬ ‫انهز م الناس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له‪ ،‬وكان رجلً‬ ‫رامياً شديد النزع‪ ،‬كسر يومئذ قوسين أو ثلثا‪ ،‬وكان الرجل يمر معه بَج ْعـبَـة من النبل فيقول‪ :‬‏)انثرها‬ ‫لبي طلحة(‪ ،‬قال‪ :‬ويشرف النبي صلى ال عليه وسلم ينظر إلى القو م‪ ،‬فيقول أبو طلحة‪ :‬بأبي أنت‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأمي ل تشرف يصيبك سهم من سها م القو م‪ ،‬نَْح ِرــي دون نحرك ‪.‬‬ ‫وعنه أيضاً قال‪ :‬كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى ال عليه وسلم بترس واحد‪ ،‬وكان أبو طلحة‬ ‫حسن الّرْم يـ‪ ،‬فكان إذا رمي تشرف النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فينظر إلى موقع نبله‪.‬‬ ‫س عليه بظهره‪ .‬والنبل يقع عليه وهو ل‬ ‫وقا م أبو دجانة أما م رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فَـتـَّر َ‬ ‫يتحرك‪.‬‬ ‫وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الّرباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح‬ ‫رأسه‪ ،‬ثم أخذ فرسه وسيفه‪ ،‬وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إل أنه‬

‫لم يظفر به‪ ،‬بل ظفر به حاطب‪.‬‬ ‫وكان سهل بن ُح نَـيف أحد الرما ة البطال‪ ،‬بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم على الموت‪ ،‬ثم قا م‬

‫بدور فعال في ذود المشركين‪.‬‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه‪ ،‬فعن قتاد ة بن النعمان‪ :‬أن رسول ال رمي عن‬ ‫قوسه حتى اندقت ِس يـُتها ‪ ،‬فأخذها قتاد ة بن النعمان‪ ،‬فكانت عنده‪ ،‬وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت‬ ‫على َوْج نَـِته‪ ،‬فردها رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده‪ ،‬فكانت أحسن عينيه وأَح ّدـُهـمـا‪.‬‬

‫وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فُه تِـَم‪،‬ـ وجرح عشرين جراحة أو أكثر‪ ،‬أصابه بعضها‬

‫في رجله فعرج‪.‬‬

‫وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الد م من وجنته صلى ال عليه وسلم حتى أنقاه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏) ُمّجهـ(‪ ،‬فقال‪ :‬وال ل أمجه‪ ،‬ثم أدبر يقاتل‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)من أراد أن ينظر إلى‬ ‫رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا(‪ ،‬فقتل شهيداً‪.‬‬

‫وقاتلت أ م عمار ة فاعترضت لبن قَِم ئَـة في أناس من المسلمين‪ ،‬فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫تركت جرحاً أجوف‪ ،‬وضربت هي ابن قمئة عد ة ضربات بسيفها‪ ،‬لكن كانت عليه درعان فنجا‪ ،‬وبقيت‬ ‫أ م عمار ة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‪.‬‬ ‫وقاتل مصعب بن عمير بضراو ة بالغة‪ ،‬يدافع عن النبي صلى ال عليه وسلم هجو م ابن قمئة وأصحابه‪،‬‬ ‫وكان اللواء بيده‪ ،‬فضربوه على يده اليمني حتى قطعت‪ ،‬فأخذ اللواء بيده اليسري‪ ،‬وصمد في وجوه‬

‫الكفار حتى قطعت يده اليسري‪ ،‬ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل‪ ،‬وكان الذي قتله هو ابن قمئة‪،‬‬ ‫وهو يظنه رسول ال ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين‪ ،‬وصاح‪ :‬إن محمداً قد قتل ‪.‬‬

‫إشاعة مقتل النبي صلى ال عليه وسلم وأثره على المعركة‬

‫ولم يمض على هذا الصياح دقائق‪ ،‬حتى شاع خبر مقتل النبي صلى ال عليه وسلم في المشركين‬ ‫والمسلمين‪ .‬وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين‪ ،‬الذين لم‬

‫يكونوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانهارت معنوياتهم‪ ،‬حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد‪،‬‬ ‫وعمتها الفوضي والضطراب‪ ،‬إل أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات‬ ‫المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم‪ ،‬فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف‬

‫ولما قتل مصعب أعطي رسول ال اللواء على بن أبي طالب‪ ،‬فقاتل قتالً شديدًا‪ ،‬وقامت بقية الصحابة‬ ‫الموجودين هناك ببطولتهم النادر ة‪ ،‬يقاتلون ويدافعون‪.‬‬ ‫وحينئذ استطاع رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق‪ ،‬فأقبل إليهم فعرفه‬

‫كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته‪ :‬يا معشر المسلمين أبشروا‪ ،‬هذا رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئل يعرف موضعه المشركون ـ إل أن هذا الصوت‬

‫بلغ إلى آذان المسلمين‪ ،‬فلذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلثين رجلً من الصحابة‪.‬‬

‫وبعد هذا التجمع أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم في النسحاب المنظم إلى شعب الجبل‪ ،‬وهو‬ ‫يشق الطريق بين المشركين المهاجمين‪ ،‬واشتد المشركون في هجومهم ؛ لعرقلة النسحاب إل أنهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فشلوا أما م بسالة ليوث السل م ‪.‬‬ ‫تقد م عثمان بن عبد ال بن المغير ة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬

‫يقول‪ :‬ل نجوت إن نجا‪ .‬وقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم لمواجهته‪ ،‬إل أن الفرس عثرت في بعض‬ ‫ف عليه وأخذ سلحه‪ ،‬والتحق‬ ‫الحفر‪ ،‬فنازله الحارث بن ال ّ‬ ‫ص ّمـةـ‪ ،‬فضرب على رجله فأقعده‪ ،‬ثم َذفّ َ‬ ‫برسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ص ّمـةـ‪ ،‬فضرب بالسيف على‬ ‫وعطف عبد ال بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن ال ّ‬ ‫عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على‬ ‫عبد ال بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‪.‬‬

‫وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من ال‪ ،‬كما تحدث عنه القرآن‪ .‬قال أبو‬ ‫طلحة‪ :‬كنت فيمن تغشاه النعاس يو م أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا‪ ،‬يسقط وآخذه ويسقط‬ ‫وآخذه ‪.‬‬ ‫وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل‪ ،‬وشق لبقية الجيش طريقاً‬ ‫إلى هذا المقا م المأمون‪ ،‬فتلحق به في الجبل‪ ،‬وفشلت عبقرية خالد أما م عبقرية رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬

‫مقتل أبي بن خلف‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬فلما أسند رسول ال صلى ال عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول‪:‬‬

‫ت إن نجا‪ .‬فقال القو م‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول ال‬ ‫أين محمد ؟ ل نجو ُ‬

‫صلى ال عليه وسلم‪:‬‏)دعوه(‪ ،‬فلما دنا منه تناول رسول ال صلى ال عليه وسلم الحربة من الحارث بن‬

‫الصمة‪ ،‬فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض‪ ،‬ثم استقبله‬ ‫وأبصر تـَْرقـَُو تَـه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة‪ ،‬فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه‬

‫مراراً‪ .‬فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير‪ ،‬فاحتقن الد م‪ ،‬قال‪ :‬قتلني وال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫محمد‪ ،‬قالوا له‪ :‬ذهب وال فؤادك‪ ،‬وال إن بك من بأس‪ ،‬قال‪ :‬إنه قد كان قال لي بمكة‪:‬‏)أنا‬ ‫أقتلك( ‪ ،‬فوال لو بصق على لقتلني‪ .‬فمات عدو ال بَس ِرـف وهم قافلون به إلى مكة‪.‬وفي رواية أبي‬

‫السود عن عرو ة‪ ،‬وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه‪ :‬أنه كان يخور خوار الثور‪ ،‬ويقول‪ :‬والذي‬

‫نفسي بيده‪ ،‬لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً ‪.‬‬

‫طلحة ينهض بالنبي صلى ال عليه وسلم‬

‫وفي أثناء انسحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخر ة من الجبل‪ ،‬فنهض‬

‫إليها ليعلوها فلم يستطع ؛ لنه كان قد بَّد َنـ وظاهر بين الدرعين‪ ،‬وقد أصابه جرح شديد‪.‬فجلس تحته‬ ‫بـ طلحةُ( ‪ ،‬أي‪:‬الجنة‪.‬‬ ‫طلحة بن عبيد ال‪ ،‬فنهض به حتى استوي عليها‪ ،‬وقال‪ :‬‏) أْوَجـ َ‬ ‫آخر هجو م قا م به المشركون‬

‫ولما تمكن رسول ال صلى ال عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قا م المشركون بآخر هجو م حاولوا‬ ‫به النيل من المسلمين‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية‬

‫من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)اللهم إنه‬ ‫ل ينبغي لهم أن يعلونا(‪ ،‬فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ‪.‬‬ ‫وفي مغازي الموي‪ :‬أن المشركين صعدوا على الجبل‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لسعد‪:‬‬

‫‏) اْجنُــبـُْهْمـ( ـ يقول‪ :‬ارددهم ـ فقال‪ :‬كيف أْج نُـبـُه ْمـ وحدي ؟ فقال ذلك ثلثًا‪ ،‬فأخذ سعد سهماً من كنانته‪،‬‬ ‫فرمي به رجلً فقتله‪ ،‬قال‪ :‬ثم أخذت سهمي أعرفه‪ ،‬فرميت به آخر‪ ،‬فقتلته‪ ،‬ثم أخذته أعرفه فرميت به‬ ‫آخر فقتلته‪ ،‬فهبطوا من مكانهم‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا سهم مبارك‪ ،‬فجعلته في كنانتي‪ .‬فكان عند سعد حتى‬

‫مات‪ ،‬ثم كان عند بنيه ‪.‬‬

‫تشويه الشهداء‬ ‫وكان هذا آخر هجو م قا م به المشركون ضد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولما لم يكونوا يعرفون من‬

‫مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم‪ ،‬وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة‪،‬‬ ‫واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين‪ ،‬يمثلون بهم‪ ،‬ويقطعون الذان‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫والنوف والفروج‪ ،‬ويبقرون البطون‪ .‬وبقرت هند بنت عتبة كبد حمز ة فلكتها‪ ،‬فلم تستطع أن تسيغها‬

‫فلفظتها‪ ،‬واتخذت من الذان والنوف َخ َدـمـاً ـ خلخيل ـ وقلئد‪.‬‬ ‫مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة‬

‫وفي هذه الساعة الخير ة وقعت وقعتان تدلن على مدي استعداد أبطال المسلمين للقتال‪ ،‬ومدي‬ ‫استماتتهم في سبيل ال‪:‬‬ ‫‪ .1‬قال كعب بن مالك‪ :‬كنت فيمن خرج من المسلمين‪ ،‬فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلي المسلمين‬

‫قمت فتجاوزت‪ ،‬فإذا رجل من المشركين جمع اللمة يجوز المسلمين وهو يقول‪ :‬استوسقوا كما‬

‫استوسقت جزر الغنم‪ .‬وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لمته‪ ،‬فمضيت حتى كنت من ورائه‪ ،‬ثم‬

‫قمت أقدر المسلم والكافر ببصري‪ ،‬فإذا الكافر أفضلهما عد ة وهيئة‪ ،‬فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا‪،‬‬ ‫فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين‪ ،‬ثم كشف المسلم عن وجهه‪ ،‬وقال‪ :‬كيف‬

‫تري يا كعب ؟ أنا أبو دجانة ‪.‬‬

‫‪ .2‬جاءت نسو ة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة‪ ،‬قال أنس‪ :‬لقد رأيت عائشة بنت أبي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب على متونهما‪ ،‬تفرغانه في أفواه‬ ‫بكر وأ م سليم‪ ،‬وإنهما لمشمرتان ـ أري َخ َدـ مـ سوقهما ـ تَـنـُْقَزان الق َرـ َ‬ ‫القو م‪ ،‬ثم ترجعان فتملنها‪ ،‬ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القو م ‪ .‬وقال عمر‪ :‬كانت ‏]أ م َس ِلـيط من نساء‬ ‫النصار[ تزفر لنا القرب يو م أحد ‪.‬‬

‫وكانت في هؤلء النسو ة أ م أيمن‪ ،‬لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة‪ ،‬أخذت تحثو التراب‬

‫في وجوههم وتقول لبعضهم‪:‬هاك المغزل‪ ،‬وهلم سيفك‪ .‬ثم سارعت إلى ساحة القتال‪ ،‬فأخذت تسقي‬ ‫الجرحي‪ ،‬فرماها ِح بّـان ـ بالكسر ـ بن الَعَرَقة بسهم‪ ،‬فوقعت وتكشفت‪ ،‬فأغرق عدو ال في الضحك‪،‬‬ ‫فشق ذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً ل نصل له‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‏)ار م به(‪ ،‬فرمي به سعد‪ ،‬فوقع السهم في نحر حبان‪ ،‬فوقع مستلقياً حتى تكشف‪ ،‬فضحك رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم حتى بدت نواجذه‪ ،‬ثم قال‪:‬‏)استقاد لها سعد‪ ،‬أجاب ال دعوته( ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫بعد انتهاء الرسول صلى ال عليه وسلم إلى الشعب‬

‫ولما استقر رسول ال صلى ال عليه وسلم في مقره من ال ّ‬ ‫ش عـب خرج على أبي طالب حتى مل َدَرـَقته‬ ‫ماء من الِم ْهـَرــاس ـ قيل‪ :‬هو صخر ة منقور ة تسع كثيراً‪ .‬وقيل‪ :‬اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم ليشرب منه‪ ،‬فوجد له ريحاً فعافه‪ ،‬فلم يشرب منه‪ ،‬وغسل عن وجهه الد م‪ ،‬وصب‬ ‫على رأسه وهو يقول‪ :‬‏)اشتد غضب ال على من َدّمـىـ وجه نبيه( ‪.‬‬

‫وقال سهل‪ :‬وال إني لعرف من كان يغسل جرح رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن كان يسكب‬ ‫الماء‪ ،‬وبما ُدوِوي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله‪ ،‬وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالِم َجـّنـ‪،‬ـ فلما رأت‬ ‫فاطمة أن الماء ل يزيد الد م إل كثر ة أخذت قطعة من حصير‪ ،‬فأحرقتها‪ ،‬فألصقتها فاستمسك الد م‪.‬‬ ‫وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ‪ ،‬فشرب منه النبى صلى ال عليه وسلم ودعا له بخير‪ .‬وصلى‬

‫الظهر قاعداً من أثر الجراح ‪ ،‬وصلى المسلمون خلفه قعوداً‪.‬‬ ‫شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر‬

‫ولما تكامل تهيؤ المشركين للنـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل‪ ،‬فـنادي أفيكم محمد؟ فلم‬ ‫يجيبوه‪ .‬فقال‪ :‬أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجبيبوه‪ .‬فقال‪ :‬أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه ـ وكان‬

‫النبي صلى ال عليه وسلم منعهم من الجابة ـ ولم يسأل إل عن هؤلء الثلثة لعلمه وعلم قومه أن قيا م‬

‫السل م بهم‪ .‬فقال‪ :‬أما هؤلء فقد كفيتموهم‪ ،‬فلم يملك عمر نفسه أن قال‪ :‬يا عدو ال‪ ،‬إن الذين‬

‫ذكرتهم أحياء‪ ،‬وقد أبقي ال ما يسوءك‪ .‬فقال‪ :‬قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني‪.‬‬ ‫ثم قال‪ :‬أْع ِلـ ُه بَـل‪.‬‬

‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أل تجيبونه؟( فقالوا‪:‬فما نقول؟ قال‪ :‬‏)قولوا‪ :‬ال أعلى وأجل(‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬لنا الُعّزى ول عزى لكم‪.‬‬

‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أل تجيبونه؟( قالوا‪ :‬ما نقول؟ قال‪ :‬‏)قولوا‪:‬ال مولنا‪ ،‬ول مولي لكم(‪.‬‬

‫تـ فـَعال ‪ ،‬يو م بيو م بدر‪ ،‬والحرب ِس َج ـاـل‪.‬‬ ‫ثم قال أبو سفيان‪ :‬أنـَْعْم َ‬ ‫فأجابه عمر‪ ،‬وقال‪ :‬لسواء‪ ،‬قتلنا في الجنة‪ ،‬وقتلكم في النار‪.‬‬

‫ثم قال أبو سفيان‪ :‬هلم إلى يا عمر‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ائته فانظر ما شأنه؟(‬ ‫فجاءه‪ ،‬فقال له أبو سفيان‪ :‬أنشدك ال يا عمر‪ ،‬أقتلنا محمداً؟ قال عمر‪ :‬اللهم ل‪ .‬وإنه ليستمع‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كلمك الن‪ .‬قال‪ :‬أنت أصدق عندي من ابن قَِم ئَـة وأبر‪.‬‬ ‫مواعد ة التلقي في بدر‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي‪ :‬إن موعدكم بدر العا م القابل‪.‬فقال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم لرجل من أصحابه‪ :‬‏)قل‪ :‬نعم‪ ،‬هو بيننا وبينك موعد(‪.‬‬ ‫التثبت من موقف المشركين‬

‫ثم بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم على بن أبي طالب‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اخرج في آثار القو م فانظر ماذا‬ ‫يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد َج نَـبُوا الخيل‪ ،‬واْم تَـطُوا البل‪ ،‬فإنهم يريدون مكة‪ ،‬وإن كانوا قد‬ ‫ركبوا الخيل وساقوا البل فإنهم يريدون المدينة‪ .‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لئن أرادوها لسيرن إليهم فيها‪ ،‬ثم‬ ‫لناجزنهم(‪ .‬قال على‪ :‬فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون‪ ،‬فجنبوا الخيل وامتطوا البل‪ ،‬وَوّج ُهـوـا إلى‬

‫مكة ‪.‬‬

‫تفقد القتلى والجرحى‬

‫وفرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش‪ .‬قال زيد بن ثابت‪ :‬بعثني رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم يو م أحد أطلب سعد بن الربيع‪ .‬فقال لي‪ :‬‏)إن رأيته فأقرئه مني السل م‪ ،‬وقل له‪ :‬يقول لك‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬كيف تجدك؟( قال‪ :‬فجعلت أطوف بين القتلي‪ ،‬فأتيته وهو بآخر رمق‪،‬‬

‫فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح‪ ،‬وضربة بسيف‪ ،‬ورمية بسهم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا سعد‪ ،‬إن رسول ال يقرأ‬ ‫عليك السل م‪ ،‬ويقول لك‪ :‬أخبرني كيف تجدك؟ فقال‪ :‬وعلى رسول ال صلى ال عليه وسلم السل م‪،‬‬

‫قل له‪ ،‬يا رسول ال‪ ،‬أجد ريح الجنة‪ ،‬وقل لقومي النصار‪ :‬ل عذر لكم عند ال إن خلص إلى رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم وفيكم عين تطرف‪ ،‬وفاضت نفسه من وقته ‪.‬‬

‫ص يـِر م ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير‪ ،‬وكانوا من قبل يعرضون عليه السل م‬ ‫ووجدوا في الجرحي الُ َ‬

‫فيأباه‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن هذا الصير م ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا المر‪ ،‬ثم سألوه‪ :‬ما الذي جاء‬

‫بـ على قومك‪ ،‬أ م رغبة في السل م؟ فقال‪ :‬بل رغبة في السل م‪ ،‬آمنت بال ورسوله‪ ،‬ثم‬ ‫بك‪ ،‬أَح َدـ ٌ‬

‫قاتلت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أصابني ما ترون‪ ،‬ومات من وقته‪ ،‬فذكروه لرسول ال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ص ّلـ ل صل ة قط ‪.‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)هو من أهل الجنة(‪ .‬قال أبو هرير ة‪ :‬ولم يُ َ‬ ‫ووجدوا في الجرحي قـُْزَمـاـن ـ وكان قد قاتل قتال البطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ‬

‫وجدوه قد أثبتته الجراحة‪ ،‬فاحتملوه إلى دار بني ظَ​َف رـ‪ ،‬وبشره المسلمون فقال‪ :‬وال إن قاتلت إل عن‬ ‫أحساب قومي‪ ،‬ولول ذلك ما قاتلت‪ ،‬فلما اشتد به الجراح نحر نفسه‪ .‬وكان رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم يقول ـ إذا ذكر له‪ :‬‏)إنه من أهل النار( ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي‬ ‫سبيل سوي إعلء كلمة ال‪ ،‬وإن قاتلوا تحت لواء السل م‪ ،‬بل وفي جيش الرسول والصحابة‪.‬‬ ‫وعلى عكس من هذا كان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة‪ ،‬قال لقومه‪ :‬يا معشر يهود‪ ،‬وال لقد‬ ‫علمتم أن نصر محمد عليكم حق‪.‬قالوا‪:‬إن اليو م يو م السبت‪ .‬قال‪:‬ل سبت لكم‪.‬فأخذ سيفه وعدته‪،‬‬

‫وقال‪ :‬إن أصبت فمإلى لمحمد‪ .‬يصنع فيه ما شاء‪ ،‬ثم غدا فقاتل حتى قتل‪.‬فقال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ :‬‏) ُمَخيـِريق خير يهود(‪.‬‬

‫جمع الشهداء ودفنهم‬

‫وأشرف رسول ال صلى ال عليه وسلم على الشهداء فقال‪ :‬‏)أنا شهيد على هؤلء‪ ،‬إنه ما من جريح‬ ‫يُْج َرـحـ في ال إل وال يبعثه يو م القيامة‪ ،‬يَْد َمـيـ ُج ْرـُح هـ‪ ،‬اللون لون الد م‪ ،‬والريح ريح الِم ْسـكـ( ‪.‬‬ ‫وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم‪ ،‬فيدفنوهم في مضاجعهم وأل‬ ‫يغسلوا‪ ،‬وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود‪ .‬وكان يدفن الثنين والثلثة في القبر‬

‫الواحد‪ ،‬ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد‪ ،‬ويقول‪ :‬‏)أيهم أكثر أَْخ ًذـاـ للقرآن؟( فإذا أشاروا إلى الرجل‬

‫قدمه في اللحد‪ ،‬وقال‪ :‬‏)أنا شهيد على هؤلء يو م القيامة( ‪ .‬ودفن عبد ال بن عمرو بن حرا م وعمرو بن‬ ‫الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة ‪.‬‬ ‫وفقدوا نعش حنظلة‪ ،‬فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الرض يقطر منه الماء‪ ،‬فأخبر رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم أصحابه أن الملئكة تغسله‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)سلوا أهله ما شأنه؟( فسألوا امرأته‪ ،‬فأخبرتهم‬

‫الخبر‪.‬ومن هنا سمي حنظلة‪ :‬غسيل الملئكة ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما رأى ما بحمز ة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه‪ ،‬وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها‬ ‫حمز ة‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها‪ ،‬ل تري ما بأخيها‪ ،‬فقالت‪ :‬ولم؟‬

‫وقد بلغني أن قد ُمثَّل بأخي‪ ،‬وذلك في ال‪ ،‬فما أرضانا بما كان من ذلك‪ ،‬لحتسبن ولصبرن إن شاء‬ ‫ال‪ ،‬فأتته فنظرت إليه‪ ،‬فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له‪ .‬ثم أمر رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم بدفنه مع عبد ال بن جحش ـ وكان ابن أخته‪ ،‬وأخاه من الرضاعة‪.‬‬

‫قال ابن مسعود‪ :‬ما رأينا رسول ال صلى ال عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمز ة بن عبد‬ ‫المطلب‪.‬وضعه في القبلة‪ ،‬ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَ​َش عـ من البكاء ـ والنشع‪ :‬الشهيق‪.‬‬ ‫وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الكباد‪ .‬قال خباب‪ :‬إن حمز ة لم يوجد له كفن إل برد ة َمْلـَح اـء‪،‬‬ ‫ص تـ عن قدميه‪ ،‬وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه‪ ،‬حتى مدت على‬ ‫إذا جعلت على رأسه قـَلَ َ‬ ‫رأسه‪ ،‬وجعل على قدميه اِل ْذـَخ رـ ‪.‬‬ ‫وقال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬قتل مصعب بن عمير وهو خير مني‪ ،‬كفن في برد ة إن غطي رأسه بدت‬ ‫رجله‪ ،‬وإن غطي رجله بدا رأسه ‪ ،‬وروي مثل ذلك عن خباب‪ ،‬وفيه‪ :‬فقال لنا النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ :‬‏)غطوا بها رأسه‪ ،‬واجعلوا على رجليه الذخر(‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه‬ ‫روي الما م أحمد‪ :‬لما كان يو م أحد وانكفأ المشركون‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)استووا‬ ‫حتى أثني على ربي عز وجل(‪ ،‬فصاروا خلفه صفوفًا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏)اللهم لك الحمد كله‪ ،‬اللهم ل قابض لما بسطت‪ ،‬ول باسط لما قبضت‪ ،‬ول هادي لمن أضللت‪ ،‬ول‬ ‫مضل لمن هديت‪ ،‬ول معطي لما منعت‪ ،‬ول مانع لما أعطيت‪ ،‬ول مقرب لما باعدت‪ ،‬ول مبعد لما‬ ‫قربت‪ .‬اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‏)اللهم إني أسألك النعيم المقيم‪ ،‬الذي ل يُح وـل ول يزول‪ .‬اللهم إني أسألك العون يو م العيلة‪ ،‬والمن‬ ‫يو م الخوف‪ .‬اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا‪ .‬اللهم حبب إلينا اليمان وزينه في‬ ‫قلوبنا‪ ،‬وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬واجعلنا من الراشدين‪ .‬اللهم توفنا مسلمين‪ ،‬وأحينا‬

‫مسلمين‪ ،‬وألحقنا بالصالحين‪ ،‬غير خزايا ول مفتونين‪ .‬اللهم قاتل الكفر ة الذين يكذبون رسلك‪ ،‬ويصدون‬ ‫عن سبيلك‪ ،‬واجعل عليهم رجزك وعذابك‪ .‬اللهم قاتل الكفر ة الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬إله الحق(‪.‬‬

‫الرجوع إلى المدينة‪ ،‬ونوادر الحب والتفاني‬ ‫ولما فرغ رسول ال من دفن الشهداء والثناء على ال والتضرع إليه‪ ،‬انصرف راجعاً إلى المدينة‪ ،‬وقد‬ ‫ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات‪ ،‬كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة‪.‬‬ ‫لقيته في الطريق َح ْمـنَــة بنت جحش‪ ،‬فـَنُِعي إليها أخوها عبد ال بن جحش فاسترجعت واستغفرت له‪ ،‬ثم‬ ‫نعي لها خالها حمز ة بن عبد المطلب‪ ،‬فاسترجعت واستغفرت‪ ،‬ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير‪،‬‬ ‫فصاحت وولوت‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن زوج المرأ ة منها لبَِم كـان( ‪.‬‬ ‫ومر بامرأ ة من بني دينار‪ ،‬وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد‪ ،‬فلما نعوا لها قالت‪ :‬فما فعل رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم؟ قالوا‪ :‬خيراً يا أ م فلن‪ ،‬هو بحمد ال كما تحبين‪ ،‬قالت‪ :‬أرونيه حتى أنظر‬ ‫إليه‪ ،‬فأشير إليها حتى إذا رأته قالت‪ :‬كل مصيبة بعدك َج لَـٌل ـ تريد صغير ة‪.‬‬ ‫وجاءت إليه أ م سعد بن معاذ تعدو‪ ،‬وسعد آخذ بلجا م فرسه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أمي‪ ،‬فقال‪ :‬‏)مرحباً‬ ‫بها(‪ ،‬ووقف لها‪ ،‬فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ‪ .‬فقالت‪ :‬أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت‬ ‫المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لهل من قتل بأحد‪ ،‬وقال‪ :‬‏)يا أ م سعد‪ ،‬أبشري وبشري أهلهم أن‬

‫قتلهم ترافقوا في الجنة جميعًا‪ ،‬وقد شفعوا في أهلهم جميعاً(‪ .‬قالت‪ :‬رضينا يا رسول ال‪ ،‬ومن يبكي‬ ‫عليهم بعد هذا؟ ثم قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ادع لمن خلفوا منهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اللهم أذهب حزن قلوبهم‪،‬‬ ‫ف على من ُخ لّـُفوـا( ‪.‬‬ ‫واجبر مصيبتهم‪ ،‬وأحسن الَخ لـ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم في المدينة‬

‫وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم مساء ذلك اليو م ـ يو م السبت السابع من شهر شوال سنة ‪3‬هـ ـ‬

‫إلى المدينة‪ .‬فلما انتهي إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اغسلي عن هذا دمه يا بنية‪ ،‬فوال لقد‬ ‫صدقني اليو م(‪ ،‬وناولها على بن أبي طالب سيفه‪ ،‬فقال‪ :‬وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه‪ ،‬فوال لقد‬ ‫صدقني اليو م‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لئن كنت صدقت القتال‪ ،‬لقد صدق معك سهل‬

‫بن ُح نَـيف وأبو ُدَج اـنة( ‪.‬‬

‫قتلى الفريقين‬

‫اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين‪ ،‬وكانت الغلبية الساحقة من النصار؛ فقد‬ ‫ل‪ ،‬واحد وأربعون من الخزرج‪ ،‬وأربعة وعشرون من الوس‪ ،‬وقتل رجل من‬ ‫قتل منهم خمسة وستون رج ً‬ ‫اليهود‪ .‬وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬ولكن الحصاء الدقيق ـ بعد تعميق‬ ‫وأما قتلي المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتي ً‬ ‫النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير‪ ،‬والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين‬ ‫في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلثون‪ ،‬ل اثنان وعشرون‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬ ‫حالة الطوارئ في المدينة‬

‫بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الحد الثامن من شهر شوال سنة ‪ 3‬هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ‬ ‫وهم في حالة الطوارئ‪ ،‬باتوا ـ وقد أنهكهم التعب‪ ،‬ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة‬

‫ومداخلها‪ ،‬ويحرسون قائدهم العلى رسول ال صلى ال عليه وسلم خاصة ؛ إذ كانت تتلحقهم‬

‫الشبهات من كل جانب‪.‬‬

‫غزو ة حمراء السد‬ ‫وبات الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يفكر في الموقف‪ ،‬فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في‬

‫أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال‪ ،‬فل بد من أن يندموا على‬ ‫ذلك‪ ،‬ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مر ة ثانية‪ ،‬فصمم على أن يقو م بعملية مطارد ة الجيش المكي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال أهل المغازي ما حاصله‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم نادي في الناس‪ ،‬وندبهم إلى المسير إلى‬ ‫لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد‪ ،‬أي يو م الحد الثامن من شهر شوال سنة ‪ 3‬هـ ـ وقال‪:‬‬ ‫‏)ل يخرج معنا إل من شهد القتال(‪ ،‬فقال له عبد ال بن أبي‪ :‬أركب معك؟ قال‪ :‬‏)ل(‪ ،‬واستجاب له‬

‫المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد‪ ،‬والخوف المزيد‪ ،‬وقالوا‪ :‬سمعاً وطاعة‪ .‬واستأذنه جابر بن‬ ‫عبد ال‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إني أحب أل تشهد مشهداً إل كنت معك‪ ،‬وإنما خلفني أبي على بناته‬

‫فائذن لي أسير معك‪ ،‬فأذن له‪.‬‬

‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء السد‪ ،‬على بعد ثمانية أميال‬

‫من المدينة‪ ،‬فعسكروا هناك‪.‬‬

‫وهناك أقبل َمْعـبَـد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلم ـ ويقال‪ :‬بل كان‬

‫على شركه‪ ،‬ولكنه كان ناصحاً لرسول ال صلى ال عليه وسلم لما كان بين خزاعة وبني هاشم من‬ ‫الحلف ـ فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أما وال لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك‪ ،‬ولوددنا أن ال عافاك‪ .‬فأمره‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فـَيَُخ ّذـلَـه‪.‬‬ ‫ولم يكن ما خافه رسول ال صلى ال عليه وسلم من تفكير المشركين في العود ة إلى المدينة إل حقًا‪،‬‬ ‫فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلثين ميلً من المدينة تلوموا فيما بينهم‪ ،‬قال بعضهم‬

‫لبعض‪:‬لم تصنعوا شيئًا‪ ،‬أصبتم شوكتهم وحدهم‪ ،‬ثم تركتموهم‪ ،‬وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم‪،‬‬ ‫فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم‪.‬‬

‫ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قو ة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ؛ ولذلك‬ ‫خالفهم زعيم مسئول ‏]صفوان بن أمية[ قائلً‪ :‬يا قو م‪ ،‬لتفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف‬

‫من الخروج ـ أي من المسلمين في غزو ة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم‪ ،‬فإني ل آمن إن رجعتم أن تكون‬

‫الدولة عليكم‪ .‬إل أن هذا الرأي رفض أما م رأي الغلبية الساحقة‪ ،‬وأجمع جيش مكة على المسير نحو‬ ‫المدينة‪ .‬ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن‬

‫يعرف أبو سفيان بإسلمه‪ ،‬فقال‪ :‬ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عنيفة‪ :‬محمد قد خرج في أصحابه‪ ،‬يطلبكم في جمع لم أر مثله قط‪ ،‬يتحرقون عليكم تحرقًا‪ ،‬قد‬ ‫اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم‪ ،‬وندموا على ما ضيعوا‪ ،‬فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر‬ ‫مثله قط‪.‬‬ ‫قال أبو سفيان‪ :‬ويحك‪ ،‬ما تقول؟‬

‫قال‪ :‬وال ما أري أن ترتحل حتى تري نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه‬ ‫الكمة‪.‬‬

‫فقال أبو سفيان‪ :‬وال لقد أجمعنا الكر ة عليهم لنستأصلهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فل تفعل‪ ،‬فإني ناصح‪.‬‬ ‫وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب‪ ،‬فلم ير العافية إل في مواصلة النسحاب‬

‫والرجوع إلى مكة‪ ،‬بيد أن أبا سفيان قا م بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش السلمي‪ ،‬لعله ينجح في‬ ‫كف هذا الجيش عن مواصلة المطارد ة‪ ،‬وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه‪ .‬فقد مر به ركب من عبد‬ ‫القيس يريد المدينة‪ ،‬فقال‪ :‬هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة‪ ،‬وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيًبا بعكاظ‬ ‫إذا أتيتم إلى مكة؟‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكر ة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه‪.‬‬ ‫فمر الركب برسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬وهم بحمراء السد‪ ،‬فأخبرهم بالذي قال له أبو‬ ‫ِ‬ ‫شـْوـ ُهـْمـفـَزاَدُهـْمـ{ ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ ‏} ِإيَماـناً‬ ‫س قَْد َج َمـعُـواْ لَُك ْمـ َفاْخ َ‬ ‫سفيان‪ ،‬وقالوا‪ :‬‏}إّن الّنا َ‬ ‫ض َوـاـَن اِل َواـُل‬ ‫َو قَـاُلواْ َح ْسـبـَُنا اُل َو نـِْع َمـ الَْوِكيُل َفانَق لَـُبواْ بِنِْع َمـٍةـ ّمَنـ اِل َو فَـ ْ‬ ‫ض ٍلـ لّْم يَْم َسـْسـُهـْمـ ُس وـٌء َواـتّـبـَُعواْ ِر ْ‬ ‫ض ٍلـ َعِظ يـٍم{‏]آل عمران‪.[174 ،173 :‬‬ ‫ُذو فَ ْ‬ ‫أقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بحمراء السد ـ بعد مقدمه يو م الحد ـ الثنين والثلثاء والربعاء ـ‬ ‫‪ 11 ،10 ،9‬شوال سنة ‪ 3‬هـ ـ ثم رجع إلى المدينة‪ ،‬وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل الرجوع‬

‫إلى المدينة أبا َعّز ة الجمحي ـ وهو الذي كان قد مّن عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثر ة بناته‪ ،‬على أل‬

‫يظاهر عليه أحدًا‪ ،‬ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كما أسلفنا‪ ،‬وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬يا محمد‪،‬‬

‫أقلني‪ ،‬وامنن على‪ ،‬ودعني لبناتي‪ ،‬وأعطيك عهداً أل أعود لمثل ما فعلت‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‏)ل تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول‪ :‬خدعت محمداً مرتين‪ ،‬ل يلدغ المؤمن من جحر مرتين(‪ ،‬ثم‬ ‫أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه‪.‬‬ ‫كما حكم بالعدا م في جاسوس من جواسيس مكة‪ ،‬وهو معاوية بن المغير ة بن أبي العاص جد عبد‬

‫الملك بن مروان لمه ؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يو م أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن‬ ‫عفان رضي ال عنه فاستأمن له عثمان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمنه على أنه إن وجد بعد‬

‫ثلث قتله‪ .‬فلما خلت المدينة من الجيش السلمي أقا م فيها أكثر من ثلث يتجسس لحساب قريش‪،‬‬ ‫فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربًا‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن‬ ‫ياسر‪ ،‬فتعقباه حتى قتله ‪.‬‬

‫ومما ل شك فيه أن غزو ة حمراء السد ليست بغزو ة مستقلة‪ ،‬وإنما هي جزء من غزو ة أحد‪ ،‬وتتمة لها‬ ‫وصفحة من صفحاتها‪.‬‬

‫تلك هي غزو ة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها‪ ،‬وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزو ة‪ ،‬هل‬ ‫كانت هزيمة أ م ل؟ والذي ل يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان‬

‫للمشركين‪ ،‬وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال‪ ،‬وأن خسار ة الرواح والنفوس كانت في جانب‬

‫المسلمين أكثر وأفدح‪ ،‬وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعًا‪ ،‬وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش‬ ‫المكي‪ ،‬لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح‪.‬‬ ‫فمما ل شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلل معسكر المسلمين‪ ،‬وأن المقدار الكبير من‬ ‫الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الرتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاو م بالبسالة حتى‬

‫تجمع حول مقر قيادته‪ ،‬وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي‪ ،‬وأن أحداً من جيش‬

‫المدينة لم يقع في أسر الكفار‪ ،‬وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين‪ ،‬وأن الكفار لم‬

‫يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره‪ ،‬وأنهم لم يقيموا‬

‫بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلثة أيا م ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون‪ ،‬ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب‬

‫الذراري والموال‪ ،‬مع أنها على بعد عد ة خطوات فحسب‪ ،‬وكانت مفتوحة وخالية تماماً‪.‬‬

‫كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق‬ ‫الخسائر الفادحة بالمسلمين‪ ،‬مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إباد ة الجيش السلمي بعد عمل‬ ‫التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً‬ ‫وفتحاً فكل وحاشا‪.‬‬

‫بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في النسحاب والنصراف أنه كان يخاف على جيشه المعر ة والهزيمة لو‬ ‫جرت صفحة ثالثة من القتال‪ ،‬ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزو ة حمراء‬ ‫السد‪.‬‬

‫وإذن فهذه الغزو ة إنما كانت حرباً غير منفصلة‪ ،‬أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسار ة‪،‬‬ ‫ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لحتلل العدو‪ ،‬وهذا هو‬ ‫معني الحرب غير المنفصلة‪.‬‬ ‫وإلى هذا يشير قوله تعإلى‪ :‬‏} َولَ تَِه نُـواْ ِفي ابْتَِغاء الَْق ْوـِ مـ ِإن تَُك وـُنواْ تَأْلَُم وـَن فَِإ نـُّه ْمـ يَأْلَُم وـَن َك َمـاـ تَأَْلموَن‬ ‫َو تـَْرُج وـَن ِم َنـ اِل َماـ لَ يـَْرُج وـَن{ ‏]النساء‪ ،[104 :‬فقد شبه أحد العسكرين بالخر في التألم وإيقاع اللم‪،‬‬

‫مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين‪ ،‬وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب‪.‬‬

‫القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‬ ‫ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة‪ ،‬وصرح بالسباب‬ ‫التي أدت إلى هذه الخسار ة الفادحة‪ ،‬وأبدي النواحي الضعيفة التي لم تزل موجود ة في طوائف أهل‬

‫اليمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة‪ ،‬وبالنسبة إلى الهداف النبيلة السامية التي‬

‫أنشئت للحصول عليها هذه المة‪ ،‬والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين‪ ،‬ففضحهم وأبدي ما كان في باطنهم من العداو ة ل ولرسوله‪،‬‬ ‫مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوب ضعفاء المسلمين‪ ،‬والتي كان يثيرها هؤلء‬

‫المنافقون وإخوانهم اليهود ـ أصحاب الدس والمؤامر ة ـ وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمود ة التي‬ ‫تمخضت عنها هذه المعركة‪.‬‬

‫نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سور ة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة‪:‬‬ ‫ك تـبُـَّو ىـُء الُْم ْؤـِمـنِـيَن َمَقـاـِع َدـ لِْلِق تَـاِل{ ‏] آل عمران‪ ،[ 121 :‬وتترك في نهايتها تعليقاً‬ ‫تـ ِم ْنـ أَْه لِـ َ‬ ‫‏} َوإِـْذ غَ​َد ْوـ َ‬ ‫جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها‪ ،‬قال تعإلى‪ :‬‏}ّما َك اـَن اُل لِيَ​َذ َرـ الُْم ْؤـِمـنِـيَن َعَلى َمآـ َأنتُْم َعلَْيِه َح تّـَى‬ ‫ب َو َمـاـ َك اـَن اُل لِيُطْلَِعُك ْمـ َعَلى الْغَْي ِ‬ ‫ث ِم َنـ الطّيّ ِ‬ ‫ب َو لَـِكّن اَل يَْج تَـِبي ِم نـ ّرُس لِـِه َمنـ يَ​َش اـء َفآِم نُـواْ‬ ‫يَِم يـَز الَْخ بِـي َ‬ ‫ِباِل َوُرُس لِـِه َو إِـن تـُْؤ ِمـنُـواْ َو تـَـتـُّقوـاْ فـَلَُك ْمـ أَْج ٌرـ َعِظ يـٌم{ ‏]آل عمران‪.[179 :‬‬

‫الحكم والغايات المحمود ة في هذه الغزو ة‬ ‫قد بسط ابن القيم الكل م على هذا الموضوع بسطاً تاماً ‪ .‬وقال ابن حجر‪ :‬قال العلماء‪ :‬وكان في قصة‬ ‫أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة‪ ،‬منها تعريف المسلمين‬ ‫سوء عاقبة المعصية‪ ،‬وشؤ م ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرما ة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى‬

‫ال عليه وسلم أل يبرحوا منه‪.‬‬

‫ومنها أن عاد ة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة‪ ،‬والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في‬ ‫المؤمنين من ليس منهم‪ ،‬ولم يتميز الصادق من غيره‪ ،‬ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من‬

‫البعثة‪ ،‬فاقتضت الحكمة الجمع بين المرين لتمييز الصادق من الكاذب‪ ،‬وذلك أن نفاق المنافقين كان‬ ‫مخفياً عن المسلمين‪ ،‬فلما جرت هذه القصة‪ ،‬وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد‬ ‫التلويح تصريحًا‪ ،‬وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم‪ ،‬فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم‪.‬‬ ‫ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضـماً للنفس‪ ،‬وكسراً لشـماختها‪ ،‬فلما ابتلي المؤمنـون‬ ‫صـبروا‪ ،‬وجـزع المنافقون‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ومنها أن ال هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته ل تبلغها أعمالهم‪ ،‬فقيض لهم أسباب البتلء‬ ‫والمحن ليصلوا إليها‪.‬‬ ‫ومنها أن الشهاد ة من أعلى مراتب الولياء فساقها إليهم‪.‬‬ ‫ومنها أنه أراد إهلك أعدائه‪ ،‬فقيض لهم السباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم‬ ‫في أذى أوليائه ‪ ،‬فمحص بذلك ذنوب المؤمنين‪ ،‬ومحق بذلك الكافرين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫السرايا والبعوث بين أحد والحزاب‬ ‫سرية أبي سلمة‬

‫بعث عبد ال بن أَُنيس‬ ‫بعث الّرِج يــع‬ ‫مأسا ة بئر َمعُـونة‬ ‫غزو ة بني النضير‬ ‫غزو ة نجد‬

‫غزو ة بدر الثانية‬

‫غزو ة ُدَو مـة الجندل‬

‫كان لمأسا ة أحد أثر سيئ على سمعة المؤمنين‪ ،‬فقد ذهبت ريحهم‪ ،‬وزالت هيبتهم عن النفوس‪ ،‬وزادت‬ ‫المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الخطار بالمدينة من كل جانب‪ ،‬وكاشف اليهود‬

‫والمنافقون والعراب بالعداء السافر‪ ،‬وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين‪ ،‬بل طمعت في أن‬

‫تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم‪.‬‬

‫ض لـ‬ ‫فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للغار ة على المدينة‪ .‬ثم قامت قبائل َع َ‬

‫وَقاَر ة في شهر صفر سنة ‪4‬هـ بمكيد ة تسببت في قتل عشر ة من الصحابة‪ ،‬وفي نفس الشهر نفسه قا م‬ ‫عامر بن الطَّف يـل العامري بتحريض بعض القبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة‪ ،‬وتعرف هذه الوقعة‬

‫بوقعة بئر َمعُـوَنة‪ ،‬ولم تزل بنو نضير خلل هذه المد ة تجاهر بالعداو ة حتى قامت في ربيع الول سنة ‪4‬‬ ‫هـ بمكيد ة تهدف إلى قتل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتجرأت بنو غَطَ​َف اـن حتى همت بالغزو على‬ ‫المدينة في جمادي الولي سنة ‪ 4‬هـ‪.‬‬ ‫فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين ـ إلى حين ـ يهددون بالخطار‪،‬‬ ‫ولكن تلك هي حكمة محمد صلى ال عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات‪ ،‬وأعادت للمسلمين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هيبتهم المفقود ة‪ ،‬وأكسبتهم العلو والمجد من جديد‪ .‬وأول ما أقد م عليه بهذا الصدد هي حركة‬

‫المطارد ة التي قا م بها إلى حمراء السد‪ ،‬فقد حفظ بها قدراً من سمعة جيشه‪ ،‬واستعاد بها من مكانته‬

‫شيئاً مذكورًا‪ ،‬ثم قا م بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم‪ ،‬بل زادت فيها‪ ،‬وفي الصفحات التية شيء‬ ‫مما جري بين الطرفين‪.‬‬

‫سرية أبي سلمة‬ ‫أول من قا م ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة‪ ،‬فقد نقلت استخبارات المدينة أن‬ ‫طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلً من المهاجرين‬

‫والنصار‪ ،‬وأمر عليهم أبا سلمة‪ ،‬وعقد له لواء‪ .‬وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن‬

‫يقوموا بغارتهم‪ ،‬فتشتتوا في المر‪ ،‬وأصاب المسلمون إبل وشاء لهم فاستاقوها‪ ،‬وعادوا إلى المدينة‬ ‫سالمين غانمين لم يلقوا حرباً‪.‬‬

‫كان مبعث هذه السرية حين استهل هلل المحر م سنة ‪ 4‬هـ‪ .‬وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان‬ ‫قد أصابه في أحد‪ ،‬فلم يلبث حتى مات‪.‬‬

‫بعث عبد ال بن أَُنيس‬ ‫وفي اليو م الخامس من نفس الشهر ـ المحر م سنة ‪ 4‬هـ ـ نقلت الستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي‬ ‫يحشد الجموع لحرب المسلمين‪ ،‬فأرسل إليه النبي صلى ال عليه وسلم عبد ال ابن أنيس ليقضي‬ ‫عليه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وظل عبد ال بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشر ة ليلة‪ ،‬ثم قد م يو م السبت لسبع بقين من المحر م‪،‬‬ ‫وقد قتل خالداً وجاء برأسه‪ ،‬فوضعه بين يدي النبي صلى ال عليه وسلم فأعطاه عصا وقال‪ :‬‏)هذه آية‬ ‫بيني وبينك يو م القيامة(‪ ،‬فلما حضرته الوفا ة أوصي أن تجعل معه في أكفانه‪.‬‬

‫بعث الّرِج يــع‬

‫وفي شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الهجر ة ـ قد م على رسول ال صلى ال عليه وسلم قو م‬

‫ض لـ وَقاَر ة‪ ،‬وذكروا أن فيهم إسلمًا‪ ،‬وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين‪ ،‬ويقرئهم القرآن‪،‬‬ ‫من َع َ‬ ‫فبعث معهم ستة نفر ـ في قول ابن إسحاق‪ ،‬وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشر ة ـ وأمر عليهم َمْرـثَـد بن‬ ‫أبي َمْرـثَـد الغَنَِوي ـ في قول ابن إسحاق‪ ،‬وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن‬ ‫الخطاب ـ فذهبوا معهم‪ ،‬فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء لُه َذـيـِل بناحية الحجاز بين َراِبغ وُج ّدـ ةـ ـ استصرخوا‬

‫عليهم حياً من هذيل يقال لهم‪ :‬بنو لَْح يَــان‪ ،‬فتبعوهم بقريب من مائة را م‪ ،‬واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم‪،‬‬ ‫فأحاطوا بهم ـ وكانوا قد لجأوا إلى فَْد فَــد ـ وقالوا ‪ :‬لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أل نقتل منكم‬ ‫رجلً‪ .‬فأما عاصم فأبي من النزول وقاتلهم في أصحابه‪ ،‬فقتل منهم سبعة بالنبل‪ ،‬وبقي ُخ بَـيب وزيد بن‬ ‫الّد ثِـنِّة ورجل آخر‪ ،‬فأعطوهم العهد والميثاق مر ة أخري‪ ،‬فنزلوا إليهم ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار‬ ‫قِ​ِس يــهم‪ ،‬فقال الرجل الثالث ‪ :‬هذا أول الغدر‪ ،‬وأبي أن يصحبهم‪ ،‬فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم‬ ‫فلم يفعل فقتلوه‪ ،‬وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة‪ ،‬وكانا قتل من رءوسهم يو م بدر‪ ،‬فأما خبيب‬

‫فمكث عندهم مسجونًا‪ ،‬ثم أجمعوا على قتله‪ ،‬فخرجوا به من الحر م إلى التنعيم‪ ،‬فلما أجمعوا على‬ ‫صلبه قال ‪ :‬دعوني حتى أركع ركعتين‪ ،‬فتركوه فصلهما‪ ،‬فلما سلم قال‪ :‬وال لول أن تقولوا‪ :‬إن ما بي‬ ‫جزع لزدت‪ ،‬ثم قال‪:‬اللهم أْح ِ‬ ‫صـِهـْمـَعَد ًدـاـ‪ ،‬واقتلهم بَ​َد ًدـاـ ‪ ،‬ول تـْبُِق منهم أحدا‪ ،‬ثم قال‪ :‬فقال له أبو‬

‫سفيان‪ :‬أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه‪ ،‬وأنك في أهلك؟ فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬ما يسرني أني في أهلي‬

‫وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه‪ .‬ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته‪ ،‬فجاء‬ ‫ل‪ ،‬فذهب به فدفنه‪ ،‬وكان الذي تولي قتل خبيب هو عقبة‬ ‫عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬فاحتمله بخدعة لي ً‬

‫بن الحارث‪ ،‬وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يو م بدر‪.‬‬

‫وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل‪ ،‬وأنه رئي وهو أسير يأكل قِطًْف اـ من العنب‪ ،‬وما‬ ‫بمكة ثمر ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأما زيد بن الّد ثِـّنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه‪.‬‬ ‫وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يو م بدر‬ ‫ـ فبعث ال عليه مثل الظّ​ّلة من الّد بْـر ـ الزنابير ـ فحمته من رسلهم‪ ،‬فلم يقدروا منه على شيء‪ .‬وكان‬

‫عاصم أعطي ال عهداً أل يمسه مشرك ول يمس مشركاً‪ .‬وكان عمر لما بلغه خبره يقول‪ :‬يحفظ ال‬ ‫العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته ‪.‬‬

‫مأسا ة بئر َمعُـونة‬ ‫وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأسا ة الّرِج يــع وقعت مأسا ة أخري أشد وأفظع من الولي‪ ،‬وهي التي‬

‫تعرف بوقعة بئر معونة‪.‬‬

‫وملخصها ‪ :‬أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بُم لَـِع بـ الِس نّــة قد م على رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم المدينة‪ ،‬فدعاه إلى السل م فلم يسلم ولم يبعد‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬لو بعثت أصحابك إلى‬ ‫أهل نَْج دـ يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)إني أخاف عليهم أهل نجد(‪ ،‬فقال أبو بَ​َراء‬ ‫‪ :‬أنا َج اـٌر لهم‪ ،‬فبعث معه أربعين رجلً ـ في قول ابن إسحاق‪ ،‬وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين‪ ،‬والذي‬ ‫في الصحيح هو الصحيح ـ وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعد ة الملقب بالُم ْعـنِـَق ِليُم وـت ‪،‬‬ ‫وكانوا من خيار المسلمين وفضلئهم وساداتهم وقرائهم‪ ،‬فساروا يحتطبون بالنهار‪ ،‬يشترون به الطعا م‬ ‫لهل الصفة‪ ،‬ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل‪ ،‬حتى نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بين بني عامر وَح ّرـ ة‬ ‫بني ُس لَـْيم ـ فنزلوا هناك‪ ،‬ثم بعثوا حرا م بن ِم ْلـَح اـن أخا أ م سليم بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫إلى عدو ال عامر بن الطَّف ْيـل‪ ،‬فلم ينظر فيه‪ ،‬وأمر رجلً فطعنه بالحربة من خلفه‪ ،‬فلما أنفذها فيه ورأى‬ ‫تـ ورب الكعبة‪.‬‬ ‫الد م‪ ،‬قال حرا م ‪ :‬ال أكبر‪ ،‬فـُْز ُ‬ ‫ثم استنفر عدو ال لفوره بني عامر إلى قتال الباقين‪ ،‬فلم يجيبوه لجل جوار أبي براء‪ ،‬فاستنفر بني‬ ‫ص يّـة وِرْع لـ وذَ​َك وـان‪ ،‬فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫سليم‪ ،‬فأجابته عُ َ‬

‫فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إل كعب بن زيد بن النجار‪ ،‬فإنه اْرتُ ّ‬ ‫ث من بين القتلي‪ ،‬فعاش حتى قتل‬

‫يو م الخندق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحو م على‬ ‫موضع الوقعة‪ ،‬فنزل المنذر‪ ،‬فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه‪ ،‬وأسر عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬فلما‬ ‫ض رـ َج ّزـ عامر ناصيته‪ ،‬وأعتقه عن رقبة كانت على أمه‪.‬‬ ‫أخبر أنه من ُم َ‬

‫ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى ال عليه وسلم حاملً معه أنباء المصاب الفادح‪ ،‬مصرع‬ ‫سبعين من أفاضل المسلمين‪ ،‬تذكر نكبتهم الكبير ة بنكبة أحد ؛ إل أن هؤلء ذهبوا في قتال واضح ؛‬ ‫وأولئك ذهبوا في غدر ة شائنة‪.‬‬

‫ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالَق ْرـقـَر ة من صدر قنا ة‪ ،‬نزل في ظل شجر ة‪ ،‬وجاء رجلن من بني‬

‫كلب فنزل معه‪ ،‬فلما ناما فتك بهما عمرو‪ ،‬وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه‪ ،‬وإذا معهما عهد من‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يشعر به‪ ،‬فلما قد م أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بما فعل‪،‬‬ ‫فقال ‪:‬‏)لقد قتلت قتيلين لِد يـَّنهما (‪ ،‬وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائهم اليهود ‪ ،‬وهذا‬ ‫الذي صار سبباً لغزو ة بني النضير‪ ،‬كما سيذكر‪.‬‬ ‫وقد تألم النبي صلى ال عليه وسلم لجل هذه المأسا ة‪ ،‬ولجل مأسا ة الرجيع اللتين وقعتا خلل أيا م‬ ‫معدود ة ‪ ،‬تألما شديدًا‪ ،‬وتغلب عليه الحزن والقلق ‪ ،‬حتى دعا على هؤلء القوا م والقبائل التي قامت‬ ‫بالغدر والفتك في أصحابه‪ .‬ففي الصحيح عن أنس قال ‪ :‬دعا النبي صلى ال عليه وسلم على الذين‬ ‫ص يـة‪،‬‬ ‫قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلثين صباحًا‪ ،‬يدعو في صل ة الفجر على ِرْع لـ وذَْك َوـاـن ولَْح يَــان وعُ َ‬ ‫تـ ال ورسوله(‪ ،‬فأنزل ال تعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد‪ :‬‏)بلغوا عنا‬ ‫ص ْ‬ ‫صيـة َع َ‬ ‫ويقول‪:‬‏) عُ َ‬ ‫قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه( فترك رسول ال صلى ال عليه وسلم قـُنوَته ‪.‬‬

‫غزو ة بني النضير‬

‫قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على السل م والمسلمين إل أنهم لم يكونوا أصحاب حرب‬ ‫وضرب‪ ،‬بل كانوا أصحاب دس ومؤامر ة‪ ،‬فكانوا يجاهرون بالحقد والعداو ة‪ ،‬ويختارون أنواعاً من الحيل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫؛ ليقاع اليذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق‪،‬‬ ‫وأنهم بعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء‬ ‫والسكوت‪.‬‬ ‫ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا‪ ،‬فكاشفوا بالعداو ة والغدر‪ ،‬وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من‬

‫أهل مكة سرًا‪ ،‬ويعملون لصالحهم ضد المسلمين ‪.‬‬

‫وصبر النبي صلى ال عليه وسلم حتى ازدادوا جرأ ة وجسار ة بعد وقعة الّرِج يــع وبئر َمعُـونة‪ ،‬حتى قاموا‬

‫بمؤامر ة تهدف القضاء على النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه‪ ،‬وكلمهم أن يعينوه في دية‬ ‫الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ال ّ‬ ‫ضْمـ ِرــي ـ وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهد ة ـ فقالوا‬ ‫‪ :‬نفعل يا أبا القاسم‪ ،‬اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك‪ .‬فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر‬

‫وفاءهم بما وعدوا‪ ،‬وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه‪.‬‬

‫وخل اليهود بعضهم إلى بعض‪ ،‬وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم‪ ،‬فتآمروا بقتله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أيكم يأخذ هذه الرحي‪ ،‬ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟‪ ...‬فقال أشقاهم‬ ‫عمرو بن جحاش‪ :‬أنا‪ .‬فقال لهم َس لّـ م بن ِم ْشـَكـمـ‪ :‬ل تفعلوا‪ ،‬فوال ليخبرن بما هممتم به‪ ،‬وإنه لنقض‬ ‫للعهد الذي بيننا وبينه‪ .‬ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم‪.‬‬ ‫ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى ال عليه وسلم يعلمه بما هموا به‪ ،‬فنهض مسرعاً‬ ‫تـ به يهود‪.‬‬ ‫وتوجه إلى المدينة‪ ،‬ولحقه أصحابه فقالوا ‪ :‬نهضت ولم نشعر بك‪ ،‬فأخبرهم بما َه ّمـ ْ‬ ‫وما لبث رسول ال صلى ال عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم ‪:‬‬ ‫‏)اخرجوا من المدينة ول تساكنوني بها‪ ،‬وقد أجلتكم عشرًا‪ ،‬فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه(‪.‬‬ ‫ولم يجد يهود مناصاً من الخروج‪ ،‬فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل‪ ،‬بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد ال بن‬ ‫أبي ـ بعث إليهم أن اثبتوا وتَ​َم نـّعُوا‪ ،‬ول تخرجوا من دياركم‪ ،‬فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فيموتون دونكم ‏}لَئِْن‬ ‫‪ [11‬وتنصركم قريظة‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صَرـنُّك ْمـ{ ‏]الحشر‪:‬‬ ‫أُْخ ِرـْج تُـْم لَنَْخ ُرـَج ّنـ َمَعـُك ْمـ َوَل نُط يـُع فيُك ْمـ أَ​َح ًدـاـ أَبًَد اـ َو إِـن ُقوتْلتُْم لَ​َنن ُ‬ ‫وحلفاؤكم من غطفان‪.‬‬

‫وهناك عادت لليهود ثقتهم‪ ،‬واستقر رأيهم على المناوأ ة‪ ،‬وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس‬ ‫المنافقين‪ ،‬فبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬إنا ل نخرج من ديارنا‪ ،‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬

‫ول شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين‪ ،‬فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفتر ة المحرجة‬ ‫من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب‪ ،‬وقد رأوا َك لَـب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم‪ ،‬ثم إن يهود‬ ‫بني النضير كانوا على درجة من القو ة تجعل استسلمهم بعيد الحتمال‪ ،‬وتجعل فرض القتال معهم‬

‫محفوفاً بالمكاره‪ ،‬إل أن الحال التي جدت بعد مأسا ة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين‬ ‫بجرائم الغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفرادًا‪ ،‬وضاعفت نقمتهم على مقترفيها‪،‬‬ ‫ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همهم باغتيال الرسول صلى ال عليه وسلم ـ مهما تكن‬ ‫النتائج‪.‬‬

‫فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه‪ ،‬ثم نهض لمناجز ة‬ ‫القو م‪ ،‬فاستعمل على المدينة ابن أ م مكتو م‪ ،‬وسار إليهم‪ ،‬وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء‪ ،‬فلما انتهي‬

‫إليهم فرض عليهم الحصار‪.‬‬

‫والتجأ بنو النضير إلى حصونهم‪ ،‬فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجار ة‪ ،‬وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً‬ ‫لهم في ذلك‪ ،‬فأمر بقطعها وتحريقها‪ ،‬وفي ذلك يقول حسان‪:‬‬ ‫وهان على َس َرـاِ ة بني ُلؤي ** حـريـق بالبـَُو يـَْرِ ة مسـتطيـر‬ ‫‏]البوير ة ‪ :‬اسم لنخل بني النضير[ وفي ذلك أنزل ال تعالى‪ :‬‏} َماـ قَطَْع تُـم ّمنـ ّلينٍَة أَْو تـَرْك تُـُم وـَه اـ َقائَِم ةًـ َعَلى‬ ‫صولَِه اـ فَبِ​ِإ ْذـِنـ اِل{ ‏]الحشر‪.[5 :‬‬ ‫أُ ُ‬ ‫واعتزلتهم قريظة‪ ،‬وخانهم عبد ال بن أبي وحلفاؤهم من غطفان‪ ،‬فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرًا‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أو يدفع عنهم شرًا‪ ،‬ولهذا شبه سبحانه وتعإلى قصتهم‪ ،‬وجعل مثلهم‪:‬‏} َكَمـثَـِل ال ّ‬ ‫ش ْيـَطاِن إِْذ َقاَل لِِْل نـَس اـِن‬ ‫ك{ ‏]الحشر‪[16 :‬‬ ‫اْك ُفـْرـ فـَلَّم اـ َك َفـَرـ َقاَل إِّني بَِريٌء ّمنـ َ‬ ‫ولم يطل الحصار ـ فقد دا م ست ليال فقط‪ ،‬وقيل ‪ :‬خمس عشر ة ليلة ـ حتى قذف ال في قلوبهم‬ ‫الرعب‪ ،‬فاندحروا وتهيأوا للستسل م وللقاء السلح‪ ،‬فأرسلوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫نحن نخرج عن المدينة‪ .‬فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم‪ ،‬وأن لهم ما حملت البل إل‬ ‫السلح‪.‬‬ ‫فنزلوا على ذلك‪ ،‬وخربوا بيوتهم بأيديهم‪ ،‬ليحملوا البواب والشبابيك‪ ،‬بل حتى حمل بعضهم الوتاد‬

‫وجذوع السقف‪ ،‬ثم حملوا النساء والصبيان‪ ،‬وتحملوا على ستمائة بعير‪ ،‬فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي‬ ‫بن أخطب وس ّ‬ ‫ل م بن أبي الُح َقـيـق إلى خيبر‪ ،‬وذهبت طائفة منهم إلى الشا م‪ ،‬وأسلم منهم رجلن فقط ‪:‬‬ ‫ياِم يـُن بن عمرو وأبو سعد بن وهب‪ ،‬فأحرزا أموالهما‪.‬‬ ‫وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم سلح بني النضير‪ ،‬واستولي على أرضهم وديارهم وأموالهم‪،‬‬ ‫فوجد من السلح خمسين درعاً وخمسين بيضة‪ ،‬وثلثمائة وأربعين سيفاً‪.‬‬ ‫وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ يضعها حيث‬ ‫يشاء‪ ،‬ولم يَخ ّمـْسـهــا لن ال أفاءها عليه‪ ،‬ولم يوِج ف ـالمسلمون عليها بَِخ يـٍل ول ِركاب‪ ،‬فقسمها بين‬

‫المهاجرين الولين خاصة‪ ،‬إل أنه أعطي أبا ُدَج اـنة وسهل بن ُح نَـيف النصاريين لفقرهما‪ .‬وكان ينفق منها‬

‫على أهله نفقة سنة‪ ،‬ثم يجعل ما بقي في السلح والُك َرـاع عد ة في سبيل ال‪.‬‬

‫كانت غزو ة بني النضير في ربيع الول سنة ‪ 4‬من الهجر ة‪ ،‬أغسطس ‪ 625‬م‪ ،‬وأنزل ال في هذه الغزو ة‬ ‫سور ة الحشر بأكملها‪ ،‬فوصف طرد اليهود‪ ،‬وفضح مسلك المنافقين‪ ،‬وبين أحكا م الفيء‪ ،‬وأثني على‬

‫المهاجرين والنصار‪ ،‬وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية‪ ،‬وأن ذلك ليس من‬ ‫الفساد في الرض‪ ،‬وأوصي المؤمنين بالتزا م التقوي والستعداد للخر ة‪ ،‬ثم ختمها بالثناء على نفسه‬ ‫وبيان أسمائه وصفاته‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان ابن عباس يقول عن سور ة الحشر ‪ :‬قل ‪ :‬سور ة النضير ‪.‬‬ ‫هذه خلصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزو ة‪ .‬وقد روي أبو داود وعبد الرزاق‬

‫وغيرهما سبباً آخر حول هذه الغزو ة‪ ،‬وهو أنه لما كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر‬ ‫إلى اليهود ‪ :‬إنكم أهل الحلقة والحصون‪ ،‬وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا‪ ،‬ول يحول بيننا‬

‫وبين َخ َدـ مـ نسائكم شيء ـ وهو الخلخيل ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر‪،‬‬ ‫فأرسلوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اخرج إلينا في ثلثين رجلً من أصحابك‪ ،‬ولنخرج في ثلثين‬

‫فـ بيننا وبينكم‪ ،‬فيسمعوا منك‪ ،‬فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا‬ ‫ص ٌ‬ ‫حبرًا‪ ،‬حتى نلتقي في مكان كذا‪ ،‬نَ َ‬ ‫كلنا‪ ،‬فخرج النبي صلى ال عليه وسلم في ثلثين من أصحابه‪ ،‬وخرج إليه ثلثون حبراً من يهود‪ ،‬حتى‬

‫إذا برزوا في براز من الرض قال بعض اليهود لبعض ‪ :‬كيف تخلصون إليه ومعه ثلثون رجلً من‬ ‫أصحابه‪ ،‬كلهم يحب أن يموت قبله‪ ،‬فأرسلوا إليه ‪ :‬كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلً ؟ اخرج في‬

‫ثلثة من أصحابك ويخرج إليك ثلثة من علمائنا‪ ،‬فليسمعوا منك‪ ،‬فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك‪،‬‬ ‫فخرج النبي صلى ال عليه وسلم في ثلثة نفر من أصحابه واشتملوا ‏]أي اليهود[ على الخناجر‪،‬‬

‫وأرادوا الفتك برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأرسلت امرأ ة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها‪،‬‬

‫وهو رجل مسلم من النصار‪ ،‬فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬فرجع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما كان من الغد غدا عليهم رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم‪ ،‬وقال لهم ‪ :‬‏)إنكم لتأمنون عندي إل بعهد تعاهدوني عليه(‪،‬‬

‫فأبوا أن يعطوه عهدًا‪ ،‬فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون‪ ،‬ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل‬ ‫والكتائب‪ ،‬وترك بني النضير‪ ،‬ودعاهم إلى أن يعاهدوه‪ ،‬فعاهدوه‪ ،‬فانصرف عنهم‪ ،‬وغدا إلى بني النضير‬ ‫بالكتائب‪ ،‬فقاتلهم حتى نزلوا على الجلء‪ ،‬وعلى أن لهم ما أقلت البل إل الَح ْلـقة ـ والحْلقة‪ :‬السلح ـ‬

‫فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها‪ ،‬فكانوا يخربون بيوتهم‬ ‫فيهدمونها‪ ،‬فيحملون ما وافقهم من خشبها‪ ،‬وكان جلؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشا م ‪.‬‬ ‫غزو ة نجد‬

‫وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون ـ في غزو ة بني النضير ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانهم في‬ ‫المدينة‪ ،‬وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم‪ ،‬وأمكن للرسول صلى ال عليه وسلم أن يتفرغ لقمع‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫العراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد‪ ،‬وتواثبوا على بعوث الدعا ة يقتلون رجالها في نذالة وكفران‪،‬‬ ‫وبلغت بهم الجرأ ة إلى أن أرادوا القيا م بجر غزو ة على المدينة‪.‬‬

‫فقبل أن يقو م النبي صلى ال عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين‪ ،‬نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد‬ ‫جموع البدو والعراب من بني ُمَح اـِرب وبني ثعلبة من غَطَ​َف اـن‪ ،‬فسارع النبي صلى ال عليه وسلم إلى‬

‫الخروج‪ ،‬يجوس فيافي نجد‪ ،‬ويلقي بذور الخوف في أفئد ة أولئك البدو القسا ة؛ حتى ل يعاودوا‬ ‫مناكرهم التي ارتكبها إخوانهم مع المسلمين‪.‬‬

‫وأضحي العراب الذين مردوا على النهب والسطو ل يسمعون بمقد م المسلمين إل حذروا وتمنعوا في‬

‫رءوس الجبال‪ ،‬وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغير ة‪ ،‬وخلطوا بمشاعرهم الرعب‪ ،‬ثم رجعوا إلى‬

‫المدينة آمنين‪.‬‬ ‫وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزو ة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع‬

‫الثاني أو جمادي الولي سنة ‪ 4‬هـ‪ ،‬ويسمون هذه الغزو ة بغزو ة ذات الّرَقاع‪ .‬أما وقوع الغزو ة خلل هذه‬ ‫المد ة فهو أمر تقتضيه ظروف المدينة‪ ،‬فإن موسم غزو ة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين‬ ‫انصرافه من أحد‪ ،‬كان قد اقترب‪ .‬وإخلء المدينة‪ ،‬مع ترك البدو والعراب على تمردهم وغطرستهم‪،‬‬

‫والخروج لمثـل هذا اللقاء الرهيب لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعاً ‪ ،‬بل كان ل بد من خضد‬ ‫شوكتهم وكف شرهم‪ ،‬قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبير ة‪ ،‬التى كانوا يتوقعون وقوعها فى رحاب بدر‬ ‫‪.‬‬ ‫وأما أن تلك الغزو ة التى قادها الرسول صلى ال عليه وسلم فى ربيع الخر أو جمادى الولى سنة ‪ 4‬هـ‬ ‫هى غزو ة ذات الرقاع فل يصح‪ ،‬فإن غزو ة ذات الرقاع شهدها أبو هرير ة وأبو موسى الشعرى رضي ال‬ ‫عنهما‪ ،‬وكان إسل م أبى هرير ة قبل غزو ة خيبر بأيا م‪ ،‬وكذلك أبو موسى الشعرى رضي ال عنه‪ ،‬وافى‬

‫النبى صلى ال عليه وسلم بخيبر‪ .‬وإذن فغزو ة ذات الرقاع بعد خيبر ‪ ،‬ويدل على تأخرها عن السنة‬

‫الرابعة أن النبى صلى ال عليه وسلم صلى فيها صل ة الخوف‪ ،‬وكانت أول شرعية صل ة الخوف فى‬

‫غزو ة عُْس َفـاـن‪ ،‬ول خلف أن غزو ة عسفان كانت بعد الخندق‪ ،‬وكانت غزو ة الخندق فى أواخر السنة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الخامسة‪.‬‬ ‫غزو ة بدر الثانية‬

‫ولما خضد المسلمون شوكة العراب‪ ،‬وكفكفوا شرهم‪ ،‬أخذوا يتجهزون لملقا ة عدوهم الكبر‪ ،‬فقد‬ ‫استدار العا م وحضر الموعد المضروب مع قريش ـ في غزو ة أحد ـ وحق لمحمد صلى ال عليه وسلم‬

‫وصحبه أن يخرجوا ؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه‪ ،‬وأن يديروا رحى الحرب كر ة أخرى حتى يستقر المر‬ ‫لهدي الفريقين وأجدرهما بالبقاء‪.‬‬ ‫ففي شعبان سنة ‪4‬هـ يناير سنة ‪ 626‬م خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم لموعده في ألف‬

‫وخمسمائة‪ ،‬وكانت الخيل عشر ة أفراس‪ ،‬وحمل لواءه على بن أبي طالب‪ ،‬واستخلف على المدينة عبد‬

‫ال بن رواحة‪ ،‬وانتهي إلى بدر‪ ،‬فأقا م بها ينتظر المشركين‪.‬‬ ‫وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة‪ ،‬ومعهم خمسون فرسًا‪ ،‬حتى انتهي إلى َمّرـ الظّْه َرــان‬ ‫على بعد مرحلة من مكة فنزل بَم َجـنّـة ـ ماء في تلك الناحية‪.‬‬ ‫خرج أبو سفيان من مكة متثاقلً يفكر في عقبي القتال مع المسلمين‪ ،‬وقد أخذه الرعب‪ ،‬واستولت‬ ‫على مشاعره الهيبة‪ ،‬فلما نزل بمر الظهران خار عزمه‪ ،‬فاحتال للرجوع‪ ،‬وقال لصحابه‪ :‬يا معشر قريش‪،‬‬

‫إنه ل يصلحكم إل عا م خصب ترعون فيه الشجر‪ ،‬وتشربون فيه اللبن‪ ،‬وإن عامكم هذا عا م جدب‪،‬‬ ‫وإني راجع فارجعوا‪.‬‬ ‫ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضًا‪ ،‬فقد رجع الناس ولم يبدوا أي‬ ‫معارضة لهذا الرأي‪ ،‬ول أي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين‪.‬‬ ‫وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيا م ينتظرون العدو‪ ،‬وباعوا ما معهم من التجار ة فربحوا بدرهم‬ ‫درهمين‪ ،‬ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زما م المفاجأ ة إلى أيديهم‪ ،‬وتوطدت هيبتهم في النفوس‪،‬‬

‫وسادوا على الموقف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وتعرف هذه الغزو ة ببدر الموعد‪ ،‬وبدر الثانية‪ ،‬وبدر الخر ة‪ ،‬وبدر الصغرى‪.‬‬ ‫غزو ة ُدَو مـة الجندل‬ ‫عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم من بدر‪ ،‬وقد ساد المنطقة المن والسل م‪ ،‬واطمأنت دولته‪ ،‬فتفرغ‬

‫للتوجه إلى أقصي حدود العرب حتى تصير السيطر ة للمسلمين على الموقف‪ ،‬ويعترف بذلك الموالون‬ ‫والمعادون‪.‬‬

‫مكث بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر‪ ،‬ثم جاءت إليه الخبار بأن القبائل حول دومة الجندل ـ‬

‫قريباً من الشا م ـ تقطع الطريق هناك‪ ،‬وتنهب ما يمر بها وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم‬ ‫المدينة‪ ،‬فاستعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على المدينة ِس بَـاع ابن عُْرفُـَطة الغفاري‪ ،‬وخرج في‬ ‫ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الول سنة ‪5‬هـ‪ ،‬وأخذ رجلً من بني ُعْذ َرـ ة دليلً للطريق‬

‫يقال له‪ :‬مذكور‪.‬‬

‫خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون‪ ،‬فلما دنا منهم إذا هم مغربون‪ ،‬فهجم‬ ‫على ما شيتهم ورعائهم‪ ،‬فأصاب من أصاب‪ ،‬وهرب من هرب‪.‬‬

‫وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه‪ ،‬فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدًا‪ ،‬وأقا م رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم أيامًا‪ ،‬وبث السرايا وفرق الجيوش‪ ،‬فلم يصب منهم أحدًا‪ ،‬ثم رجع إلى‬

‫المدينة‪ ،‬ووادع في تلك الغزو ة عيينة بن حصن‪ .‬وُدومة بالضم‪ :‬موضع معروف بمشارف الشا م بينها وبين‬ ‫دمشق خمس ليال‪ ،‬وبـُْع ُدـهـا من المدينة خمس عشر ة ليلة‪.‬‬

‫بهذه الجراءات السريعة الحاسمة‪ ،‬وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى ال عليه وسلم في‬ ‫بسط المن‪ ،‬وتنفيذ السل م في المنطقة‪ ،‬والسيطر ة على الموقف‪ ،‬وتحويل مجري اليا م لصالح‬

‫المسلمين‪ ،‬وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم وأحاطت بهم من كل‬

‫جانب‪ ،‬فقد سكت المنافقون واستكانوا‪ ،‬وتم إجلء قبيلة من اليهود‪ ،‬وبقيت الخري تظاهر بإيفاء حق‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الجوار‪ ،‬وبإيفاء العهود والمواثيق‪ ،‬واستكانت البدو والعراب‪ ،‬وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين‪،‬‬

‫ووجد المسلمون فرصة لنشر السل م وتبليغ رسالت رب العالمين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة الحزاب‬

‫عاد المن والسل م‪ ،‬وهدأت الجزير ة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة‪،‬‬

‫إل أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم‬ ‫ودسائسهم ـ لم يفيقوا من غيهم‪ ،‬ولم يستكينوا‪ ،‬ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر‪ .‬فهم‬

‫بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلل المناوشات التي كانت قائمة بين‬

‫المسلمين والوثنيين‪ ،‬ولما تحول مجري اليا م لصالح المسلمين‪ ،‬وتمخضت الليإلى واليا م عن بسط‬

‫نفوذهم‪ ،‬وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلء اليهود أي تحرق‪.‬‬

‫وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين‪ ،‬وأخذوا يعدون العد ة‪ ،‬لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون‬ ‫قاتلة ل حيا ة بعدها‪ .‬ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأ ة على قتال المسلمين مباشر ة‪ ،‬خططوا لهذا‬

‫الغرض خطة رهيبة‪.‬‬

‫خرج عشرون رجلً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة‪ ،‬يحرضونهم على غزو‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويوالونهم عليه‪ ،‬ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم‪ ،‬فأجابتهم قريش‪،‬‬

‫وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر‪ ،‬فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها‪.‬‬

‫ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَ​َف اـن‪ ،‬فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك‪ ،‬ثم طاف الوفد في‬ ‫قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب‪ ،‬وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في‬ ‫تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪.‬‬

‫وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في‬ ‫أربعة آلف‪ ،‬ووافاهم بنو سليم بَم ّرـ الظّْه َرــان‪ ،‬وخرجت من الشرق قبائل غطفان‪ :‬بنو فـَزار ة‪ ،‬يقودهم‬ ‫ِ‬ ‫ص ـنـ‪ ،‬وبنو ُمّر ة‪ ،‬يقودهم الحارث بن عوف‪ ،‬وبنو أشجع‪ ،‬يقودهم ِم ْسـَعــر بن ُرَح يـلَِة‪،‬ـ كما‬ ‫ُعييَنة بن ح ْ‬ ‫خرجت بنو أسد وغيرها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫واتجهت هذه الحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه‪.‬‬ ‫وبعد أيا م تجمع حول المدينة جيش َعَرْم َرـ م يبلغ عدده عشر ة آلف مقاتل‪ ،‬جيش ربما يزيد عدده على‬ ‫جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ‪.‬‬

‫ولو بلغت هذه الحزاب والمحزبة والجنود المجند ة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على‬ ‫كيان المسلمين مما يقاس‪ ،‬وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإباد ة الخضراء‪ ،‬ولكن قياد ة المدينة كانت‬ ‫قياد ة متيقظة‪ ،‬لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة‪ ،‬تتجسس الظروف‪ ،‬وتقدر ما يتمخض عن‬

‫مجراها‪ ،‬فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها‬ ‫بهذا الزحف الخطير‪.‬‬ ‫وسارع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلي‪ ،‬تناول فيه موضوع خطة الدفاع‬

‫عن كيان المدينة‪ ،‬وبعد مناقشات جرت بين القاد ة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل‬ ‫سلمان الفارسي ضي ال عنه‪.‬‬

‫قال سلمان‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا َخ ْنـَد قـَْنا علينا‪ .‬وكانت خطة حكيمة لم تكن‬

‫تعرفها العرب قبل ذلك‪.‬‬

‫وأسرع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة‪ ،‬فوكل إلى كل عشر ة رجال أن يحفروا من‬ ‫الخندق أربعين ذراعًا‪ ،‬وقا م المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا‪ .‬ففي البخاري عن سهل بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع رسول ال في‬ ‫الخندق‪ ،‬وهم يحفرون‪ ،‬ونحن ننقل التراب على أكتادنا‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)اللهم‬ ‫ش الخر ة‪ ،‬فاغفر للمهاجرين والنصار(‪.‬‬ ‫ش إل عي ُ‬ ‫ل َعي َ‬

‫وعن أنس‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والنصار يحفرون في‬ ‫غدا ة بارد ة‪ ،‬فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم‪ ،‬فلما رأي ما بهم من النصب والجوع قال‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫اللهم إن العيش عيش الخر ة ** فاغفـر للنصـار والمهـاجر ة‬ ‫فقالوا مجيبين له‪:‬‬ ‫نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً ** على الجهـاد ما بقيـنا أبداً‬ ‫وفيه عن البراء بن عازب قال‪ :‬رأيته صلى ال عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار‬ ‫جلد ة بطنه‪ ،‬وكان كثير الشعر‪ ،‬فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة‪ ،‬وهو ينقل من التراب ويقول‪:‬‬ ‫اللهم لول أنت ما اهتدينا ** ول تصـدقنـا ول صلينــا‬ ‫فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت القـدا م إن لقينــا‬ ‫إن اللى رغبوا علينـا ** وإن أرادوا فتـنـة أبين ــا‬ ‫قال‪ :‬ثم يمد بها صوته بآخرها‪ ،‬وفي رواية‪:‬‬ ‫إن اللى قـد بغـوا علينـا ** وإن أرادوا فـتنـة أبينـا‬ ‫كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شد ة الجوع ما يفتت الكباد‪ ،‬قال أنس‪ :‬كان‬ ‫أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير‪ ،‬فيصنع لهم بإَه اـلٍَة سنخة توضع بين يدي القو م‪ ،‬والقو م‬ ‫جياع‪ ،‬وهي بشعة في الحلق ولها ريح‪.‬‬

‫وقال أبو طلحة‪ :‬شكونا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم الجوع‪ ،‬فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر‪،‬‬

‫فرفع رسول ال صلى ال عليه وسلم عن حجرين‪.‬‬

‫وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعل م النبو ة‪ ،‬رأي جابر بن عبد ال في النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم خمصاً شديًد اـ فذبح بهيمة‪ ،‬وطحنت امرأته صاعاً من شعير‪ ،‬ثم التمس من رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه‪ ،‬فقا م النبي صلى ال عليه وسلم بجميع أهل‬

‫الخندق‪ ،‬وهم ألف‪ ،‬فأكلوا من ذلك الطعا م وشبعوا‪ ،‬وبقيت بـُْر َمـةـ اللحم تغط به كما هي‪ ،‬وبقي العجين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يخبز كما هو‪.‬‬ ‫وجاءت أخت النعمان بن بشير بَح ْفـنَـة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله‪ ،‬فمرت برسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فطلب منها التمر‪ ،‬وبدده فوق ثوب‪ ،‬ثم دعا أهل الخندق‪ ،‬فجعلوا يأكلون منه‬

‫وجعل التمر يزيد‪ ،‬حتى صدر أهل الخندق عنه‪ ،‬وإنه يسقط من أطراف الثواب‪.‬‬ ‫وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال‪ :‬إنا يو م خندق نحفر‪ ،‬فعرضت ُك ْدـيــة شديد ة‪ ،‬فجاءوا‬

‫النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬هذه كدية عرضت في الخندق‪ .‬فقال‪ :‬‏)أنا نازل(‪ ،‬ثم قا م وبطنه‬ ‫معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلثة ل نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي صلى ال عليه وسلم الِم ْعـَوـلـ‪ ،‬فضرب فعاد‬ ‫كثيباً أْه يــل أو أْه يــم ‪ ،‬أي صار رملً ل يتماسك‪.‬‬ ‫وقال البراء‪ :‬لما كان يو م الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخر ة ل تأخذ منها المعاول‪ ،‬فاشتكينا‬ ‫ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء ة وأخذ المعول فقال‪ :‬‏)بسم ال(‪ ،‬ثم ضرب ضربة‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‏)ال أكبر‪ ،‬أعطيت مفاتيح الشا م‪ ،‬وال إني لنظر قصورها الحمر الساعة(‪ ،‬ثم ضرب الثانية فقطع آخر‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬أعطيت فارس‪ ،‬وال إني لبصر قصر المدائن البيض الن(‪ ،‬ثم ضرب الثالثة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏)بسم ال(‪ ،‬فقطع بقية الحجر‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬أعطيت مفاتيح اليمن‪ ،‬وال إني لبصر أبواب صنعاء‬ ‫من مكاني(‪.‬‬ ‫وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي ال عنه‪.‬‬

‫ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال‪ ،‬وكان‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير‪ ،‬ومهاجمته المدينة ل يمكن إل من‬ ‫جهة الشمال‪ ،‬اتخذ الخندق في هذا الجانب‪.‬‬ ‫وواصل المسلمون عملهم في حفره‪ ،‬فكانوا يحفرونه طول النهار‪ ،‬ويرجعون إلى أهليهم في المساء‪،‬‬

‫حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشود ة‪ ،‬قبل أن يصل الجيش الوثني العرمر م إلى أسوار المدينة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأقبلت قريش في أربعة آلف‪ ،‬حتى نزلت بمجتمع السيال من ُروَمةـ بين الُج ْرـفـ وَزَغاَبة‪ ،‬وأقبلت‬ ‫غَطَ​َف اـن ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلف حتى نزلوا بَذ نَـ ِ‬ ‫ب نـَْق َمـيـ إلى جانب أحد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صـَدـَقـاُل َوَرـُس وـلُهُ َو َمـاـ َزاَدُهـْمـ إِّل ِإيَم اـًنا‬ ‫ب َقاُلوا َه َذـاـ َماـ َو َعـَد نَـا اُل َوَرـُس وـلُهُ َو َ‬ ‫‏} َولَـّماـ َرَأى الُْم ْؤـمـنُـوَن اْلَْح َزــا َ‬ ‫َو تَـْس لِــيًم اـ{ ‏]الحزاب‪.[22 :‬‬ ‫وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش ‏} َوإِـْذ يـَُقوـُل الُْم نَـافُِقوـَن َواـلِّذ يـَن ِفي‬ ‫ضـ ّماـ َو َعـَد نَـا اُل َوَرـُس وـلُهُ إِّل غُ​ُروًرا{‏] الحزاب‪.[12 :‬‬ ‫قـُ​ُلوبِ​ِه مـ ّمَر ٌ‬ ‫وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم في ثلثة آلف من المسلمين‪ ،‬فجعلوا ظهورهم إلى جبل َس ْلـع‬

‫فتحصنوا به‪ ،‬والخندق بينهم وبين الكفار‪.‬وكان شعارهم‪ :‬‏]حم ل ينصرون[‪ ،‬واستحلف على المدينة ابن‬

‫أ م مكتو م‪ ،‬وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطا م المدينة‪.‬‬

‫ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحا م المدينة‪ ،‬وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها‪،‬‬ ‫فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين‪ ،‬بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم‪ ،‬إذ‬

‫كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيد ة ما عرفتها العرب‪ ،‬فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً‪.‬‬

‫وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابًا‪ ،‬يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها‪ ،‬وأخذ‬ ‫المسلمون يتطلعون إلى جولت المشركين‪ ،‬يرشقونهم بالنبل‪ ،‬حتى ل يجترئوا على القتراب منه‪ ،‬ول‬ ‫يستطيعوا أن يقتحموه‪ ،‬أو يهيلوا عليه التراب‪ ،‬ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور‪.‬‬

‫وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائج الحصار‪ ،‬فإن ذلك لم‬ ‫يكن من شيمهم‪ ،‬فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد ُوّد وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب‬ ‫س ْبـخة بين الخندق‬ ‫وغيرهم‪ ،‬فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه‪ ،‬وجالت بهم خيلهم في ال ّ‬ ‫وَس ْلـع‪ ،‬وخرج على بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغر ة التي أقحموا منها‬ ‫خيلهم‪ ،‬ودعا عمرو إلى المبارز ة‪ ،‬فانتدب له على بن أبي طالب‪ ،‬وقال كلمة حمي لجلها ـ وكان من‬

‫شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه‪ ،‬ثم أقبل على علي‪ ،‬فتجاول‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وتصاول حتى قتله علي رضي ال عنه‪ ،‬وانهز م الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين‪ ،‬وقد بلغ بهم‬

‫الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهز م عن عمرو‪.‬‬

‫وقد حاول المشركون في بعض اليا م محاولة بليغة لقتحا م الخندق‪ ،‬أو لبناء الطرق فيها‪ ،‬ولكن‬ ‫المسلمين كافحوا مكافحة مجيد ة‪ ،‬ورشقوهم بالنبل‪ ،‬وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في‬

‫محاولتهم‪.‬‬

‫ولجل الشتغال بمثل هذه المكافحة الشديد ة فات بعض الصلوات عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمسلمين‪ ،‬ففي الصحيحين عن جابر رضي ال عنه‪ :‬أن عمر بن الخطاب جاء يو م الخندق‪ ،‬فجعل‬

‫يسب كفار قريش‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس‬ ‫أن تغرب‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)وأنا وال ما صليتها(‪ ،‬فنزلنا مع النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫بُطَْح اـن‪ ،‬فتوضأ للصل ة‪ ،‬وتوضأنا لها‪ ،‬فصلى العصر بعد ما غربت الشمس‪ ،‬ثم صلي بعدها المغرب‪.‬‬

‫وقد استاء رسول ال صلى ال عليه وسلم لفوات هذه الصل ة حتى دعا على المشركين‪ ،‬ففي البخاري‬ ‫عن على عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال يو م الخندق‪ :‬‏)مل ال عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا‪ ،‬كما‬ ‫شغلونا عن الصل ة الوسطي حتى غابت الشمس(‪.‬‬ ‫وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صل ة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلهن جميعاً‪.‬‬

‫قال النووي‪ :‬وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض اليا م‪،‬‬ ‫وهذا في بعضها‪ .‬انتهي‪.‬‬ ‫ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين‪ ،‬والمكافحة المتواصلة من المسلمين‪ ،‬دامت أيامًا‪ ،‬إل‬ ‫أن الخندق لما كان حائلً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية‪ ،‬بل اقتصروا على‬ ‫المراما ة والمناضلة‪.‬‬

‫وفي هذه المراما ة قتل رجال من الجيشين‪ ،‬يعدون على الصابع‪ :‬ستة من المسلمين‪ ،‬وعشر ة من‬ ‫المشركين‪ ،‬بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي هذه المراما ة رمي سعد بن معاذ رضي ال عنه بسهم فقطع منه الْك َحـلـ‪ ،‬رماه رجل من قريش يقال‬ ‫له‪َ :‬ح بّـان بن الَعِرَقة‪ ،‬فدعا سعد‪ :‬اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قو م‬ ‫كذبوا رسولك وأخرجوه‪ ،‬اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم‪ ،‬فإن كان بقي من حرب‬ ‫قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك‪ ،‬وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها‪.‬‬ ‫وقال في آخر دعائه‪ :‬ول تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‪.‬‬

‫وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في‬ ‫جحورها‪ ،‬تريد إيصال السم داخل أجسادهم‪ :‬انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار‬

‫بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم‪ ،‬وكان قد عاقد‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب‪ ،‬كما تقد م ـ فضرب عليه حيي الباب‬

‫فأغلقه كعب دونه‪ ،‬فما زال يكلمه حتى فتح له بابه‪ ،‬فقال حيي‪ :‬إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر‬ ‫وببحر َطاٍ م ‪ ،‬ـ جئتك بقريش على قادتها وسادتها‪ ،‬حتى أنزلتهم بمجمع السيال من ُروَمةـ‪ ،‬وبغطفان على‬

‫قادتها وسادتها‪ ،‬حتى أنزلتهم بَذ نَـب نـَْق َمـيـ إلى جانب أحد‪ ،‬قد عاهدوني وعاقدوني على أل يبرحوا حتى‬ ‫نستأصل محمداً ومن معه‪.‬‬ ‫فقال له كعب‪ :‬جئتني وال بُذ ّلـ الدهر وبَج َهـاـٍ م قد َه َرـاق ماؤه‪ ،‬فهو يْرِع دـ ويْبِرق‪ ،‬ليس فيه شيء‪ .‬ويحك‬ ‫يا حيي فدعني وما أنا عليه‪ ،‬فإني لم أر من محمد إل صدقا ووفاء‪.‬‬ ‫فلم يزل حيي بكعب يْف تِـُله في الّذ ْرـَو ةـوالَغاِرب‪ ،‬حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من ال وميثاقاً‪ :‬لئن‬ ‫رجعت قريش وغطفان‪ ،‬ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك‪ ،‬حتى يصيبني ما أصابك‪ ،‬فنقض‬

‫كعب بن أسد عهده‪ ،‬وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين‪ ،‬ودخل مع المشركين في المحاربة ضد‬ ‫المسلمين‪.‬‬

‫وفعلً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬كانت صفية بنت عبد المطلب في‬ ‫فارع حصن حسان بن ثابت‪ ،‬وكان حسان فيه مع النساء والصبيان‪ ،‬قالت صفية‪ :‬فمر بنا رجل من‬ ‫يهود‪ ،‬فجعل يطيف بالحصن‪ ،‬وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول ال صلى ال عليه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وسلم‪ ،‬وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم‪،‬‬

‫ل يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت‪ ،‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬يا حسان‪ ،‬إن هذا اليهودي كما تري يطيف‬ ‫بالحصن‪ ،‬وإني وال ما آمنه أن يدل على عورتنا َمْنـ وراءنا ِم ْنـ يهود‪ ،‬وقد شغل عنا رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬فانزل إليه فاقتله‪.‬‬ ‫قال‪ :‬وال لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‪ ،‬قالت‪ :‬فاحتجزت ثم أخذت عمودًا‪ ،‬ثم نزلت من الحصن‬ ‫إليه‪ ،‬فضربته بالعمود حتى قتلته‪ ،‬ثم رجعت إلى الحصن وقلت‪ :‬يا حسان‪ ،‬انزل إليه فاسلبه‪ ،‬فإنه لم‬ ‫يمنعني من سبله إل أنه رجل‪ ،‬قال‪ :‬ما لي بسلبه من حاجة‪.‬‬

‫وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى ال عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري‬ ‫المسلمين ونسائهم‪ ،‬ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الطا م والحصون في منعة من الجيش السلمي ـ مع‬

‫أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مر ة ثانية للقيا م بمثل هذا العمل‪ ،‬إل أنهم أخذوا يمدون‬ ‫الغزا ة الوثنيين بالمؤن‪ ،‬كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين‪ ،‬حتى أخذ المسلمون من‬ ‫مؤنهم عشرين جملً‪.‬‬

‫وانتهي الخبر إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه‪ ،‬حتى يستجلي‬ ‫موقف قريظة‪ ،‬فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية‪ ،‬وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ‬

‫وسعد بن عباد ة‪ ،‬وعبد ال بن رواحة وَخ ّوـاـت بن جبير‪ ،‬وقال‪ :‬‏)انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن‬

‫هؤلء القو م أ م ل ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه‪ ،‬ول تـَُف تّـوا في أعضاد الناس‪ ،‬وإن كانوا على‬ ‫الوفاء فاجهروا به للناس(‪ .‬فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون‪ ،‬فقد جاهروهم بالسب‬ ‫والعداو ة‪ ،‬ونالوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وقالوا‪ :‬من رسول ال ؟ ل عهد بيننا وبين محمد‪ ،‬ول عقد‪ .‬فانصرفوا عنهم‪ ،‬فلما أقبلوا على رسول ال‬

‫ض لـ وَقاَر ة ؛ أي إنهم على غدر كغدر عضل وقار ة بأصحاب‬ ‫صلى ال عليه وسلم لحنوا له‪ ،‬وقالوا‪َ :‬ع َ‬ ‫الّرِج يــع‪.‬‬ ‫وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية المر‪ ،‬فتجسد أمامهم خطر رهيب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون‪ ،‬فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من‬ ‫الخلف‪ ،‬بينما كان أمامهم جيش عرمر م لم يكونوا يستطيعون النصراف عنه‪ ،‬وكانت ذراريهم ونساؤهم‬ ‫ص اـر و بـلَغَ ِ‬ ‫ت‬ ‫بمقربة من هؤلء الغادرين في غير منعة وحفظ‪ ،‬وصاروا كما قال ال تعالي‪ :‬‏} َوإِـْذ َزاغَ ْ‬ ‫ت اْلَبْ َ ُ َ َ‬ ‫ك ابـْتُلَِي الُْم ْؤـِمـنُـوَن َوُزـلِْزُلوا ِزلَْزاًل َش ِدـيـًد اـ{‏] الحزاب‪[11 ،10:‬‬ ‫ب الَْح نَـاِج َر ـَو تَـظُّنوَن ِباِل الظُّنوَنا ُه نَـالِ َ‬ ‫الُْقُلو ُ‬

‫ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال‪ :‬كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر‪ ،‬وأحدنا‬ ‫اليو م ل يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‪ .‬وحتى قال بعض آخر في مل من رجال قومه‪ :‬إن بيوتنا‬

‫عور ة من العدو‪ ،‬فائذن لنا أن نخرج‪ ،‬فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة‪ .‬وحتى همت بنو سلمة‬ ‫ضـ ّماـ َو َعـَد نَـا اُل‬ ‫بالفشل‪ ،‬وفي هؤلء أنزل ال تعالي‪ :‬‏} َوإِـْذ يـَُقوُل الُْم نَـافُِقوَن َواـلِّذ يـَن ِفي قـُ​ُلوبِ​ِه مـ ّمَر ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ب َل ُمَق اـَ م لَُك ْمـ َفاْرِج عُــوا َو يَـْس تَـأِْذ ُنـ فَِريٌق ّمنـُْه ُمـ النّبِّي‬ ‫َوَرـُس وـلُهُ إِّل غُ​ُروًرا َو إِـْذ َقاَلت ّطائَف ةٌـ ّمنـُْه ْمـ َيا أَْه َلـ يـَثِْر َ‬ ‫يـَُقوـُلوَن إِّن بـُيوتـَنا َعْو َرـ ةٌ َو َمـاـ ِه َيـ بَِعْو َرـٍ ة ِإن يُِريُد وـَن إِّل فَِراًرا{ ‏]الحزاب‪.[13 ،12 :‬‬

‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غَْد رـ قريظة‪ ،‬فاضطجع ومكث طويلً حتى اشتد‬ ‫على الناس البلء‪ ،‬ثم نهض مبشراً يقول‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬أبشروا يا معشر المسلمين بفتح ال ونصره(‪ ،‬ثم‬ ‫أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن‪ ،‬وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئل يؤتي‬

‫الذراري والنساء على غر ة‪ ،‬ولكن كان لبد من إقدا م حاسم‪ ،‬يفضي إلى تخاذل الحزاب‪ ،‬وتحقيـقاً‬ ‫لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح ُعييَنة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة‪،‬‬ ‫حتى ينصرفا بقومهما‪ ،‬ويخلو المسلمون للحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي‬

‫قوتها وبأسها مرارًا‪ ،‬وجرت المراود ة على ذلك‪ ،‬فاستشار السعدين في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن‬ ‫كان ال أمرك بهذا فسمعاً وطاعة‪ ،‬وإن كان شيء تصنعه لنا فل حاجة لنا فيه‪ ،‬لقد كنا نحن وهؤلء‬ ‫القو م على الشرك بال وعباد ة الوثان‪ ،‬وهم ل يطمعون أن يأكلوا منها ثمر ة إل قًِري أو بيعًا‪ ،‬فحين‬ ‫بـ رأيهما‬ ‫أكرمنا ال بالسل م وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ وال ل نعطيهم إل السيف‪ ،‬فَ َ‬ ‫ص ّوـ َ‬ ‫وقال‪ :‬‏)إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد ة(‪.‬‬ ‫ثم إن ال عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهز م جموعهم‪ ،‬وفَّل حدهم‪ ،‬فكان‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫مما هيأ من ذلك أن رجلً من غطفان يقال له‪ :‬نعيم بن مسعود بن عامر الشجعي رضي ال عنه جاء‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إني قد أسلمت‪ ،‬وإن قومي لم يعلموا بإسلمي‪،‬‬ ‫فمرني ما شئت‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إنما أنت رجل واحد‪َ ،‬فخّذ ْلـ عنا ما استطعت‪،‬‬ ‫فإن الحرب خدعة(‪ ،‬فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم‬ ‫وقال‪ :‬قد عرفتم ودي إياكم‪ ،‬وخاصة ما بيني وبينكم‪ ،‬قالوا‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فإن قريشاً ليسوا مثلكم‪،‬‬

‫البلد بلدكم‪ ،‬فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم‪ ،‬ل تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره‪ ،‬وإن قريشاً وغطفان‬ ‫قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه‪ ،‬وقد ظاهرتموهم عليه‪ ،‬وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره‪ ،‬فإن أصابوا‬ ‫فرصة انتهزوها‪ ،‬وإل لحقوا ببلدهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬فما العمل يا نعيم ؟ قال‪ :‬ل‬ ‫تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن‪ .‬قالوا‪ :‬لقد أشرت بالرأي‪.‬‬

‫ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم‪ :‬تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إن‬

‫يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه‪ ،‬وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم‬ ‫رهائن يدفعونها إليه‪ ،‬ثم يوالونه عليكم‪ ،‬فإن سألوكم رهائن فل تعطوهم‪ ،‬ثم ذهب إلى غطفان‪ ،‬فقال لهم‬

‫مثل ذلك‪.‬‬

‫فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة ‪5‬هـ ـ بعثوا إلى يهود‪ :‬أنا لسنا بأرض مقا م‪ ،‬وقد هلك الُك َرـاع‬

‫والخف ‪ ،‬فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا‪ ،‬فأرسل إليهم اليهود أن اليو م يو م السبت‪ ،‬وقد علمتم ما‬ ‫أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه‪ ،‬ومع هذا فإنا ل نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن‪ ،‬فلما جاءتهم‬

‫رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان‪ :‬صدقكم وال نعيم‪ ،‬فبعثوا إلى يهود إنا وال ل نرسل إليكم أحدًا‪،‬‬ ‫فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا‪ ،‬فقالت قريظة‪ :‬صدقكم وال نعيم‪ .‬فتخاذل الفريقان‪ ،‬ودبت الفرقة بين‬ ‫صفوفهم‪ ،‬وخارت عزائمهم‪.‬‬

‫وكان المسلمون يدعون ال تعإلى‪ :‬‏)اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا(‪ ،‬ودعا رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم على الحزاب‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اللهم منزل الكتاب‪ ،‬سريع الحساب‪ ،‬اهز م الحزاب‪ ،‬اللهم اهزمهم‬ ‫وزلزلهم(‪.‬‬ ‫وقد سمع ال دعاء رسوله والمسلمين‪ ،‬فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أرسل ال عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم‪ ،‬ول تدع لهم قِْد ًرـا إل كفأتها‪ ،‬ول طُنًُبا إل‬ ‫قلعته‪ ،‬ول يقر لهم قرار‪ ،‬وأرسل جنداً من الملئكة يزلزلونهم‪ ،‬ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف‪.‬‬ ‫وأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم في تلك الليلة البارد ة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم‪،‬‬ ‫فوجدهم على هذه الحالة‪ ،‬وقد تهيأوا للرحيل‪ ،‬فرجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبره برحيل‬

‫القو م‪ ،‬فأصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد رد ال عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه ال قتالهم‪،‬‬ ‫فصدق وعده‪ ،‬وأعز جنده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهز م الحزاب وحده‪ ،‬فرجع إلى المدينة‪.‬‬ ‫وكانت غزو ة الخندق سنة خمس من الهجر ة في شوال على أصح القولين‪ ،‬وأقا م المشركون محاصرين‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر‪ .‬ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن‬ ‫بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعد ة‪ ،‬وعند ابن سعد أن انصراف رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم من الخندق كان يو م الربعاء لسبع بقين من ذي القعد ة‪.‬‬

‫إن معركة الحزاب لم تكن معركة خسائر‪ ،‬بل كانت معركة أعصاب‪ ،‬لم يجر فيها قتال مرير‪ ،‬إل أنها‬ ‫كانت من أحسم المعارك في تاريخ السل م‪ ،‬تمخضت عن تخاذل المشركين‪ ،‬وأفادت أن أية قو ة من‬

‫قوات العرب ل تستطيع استئصال القو ة الصغير ة التي تنمو في المدينة ؛ لن العرب لم تكن تستطيع أن‬

‫تأتي بجمع أقوي مما أتت به في الحزاب‪ ،‬ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم حين أجلي ال‬ ‫الحزاب‪ :‬‏)الن نغزوهم‪ ،‬ول يغزونا‪ ،‬نحن نسير إليهم(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة بني قريظة‬ ‫غزو ة بني قريظة‬ ‫مقتل َس لّـ م بن أبي الُح َقـْيـق‬ ‫سرية محمد بن مسلمة‬

‫غزو ة بني لَْح يَــان‬

‫متابعة البعوث والسرايا‬ ‫غزو ة بني قريظة‬ ‫وفي اليو م الذي رجع فيه رسول ال إلى المدينة‪ ،‬جاءه جبريل \ عند الظهر‪ ،‬وهو يغتسل في بيت أ م‬ ‫سلمة‪ ،‬فقال‪ :‬أو قد وضعت السلح؟ فإن الملئكة لم تضع أسلحتهم‪ ،‬وما رجعت الن إل من طلب‬

‫القو م‪ ،‬فانهض بمن معك إلى بني قريظة‪ ،‬فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم‪ ،‬وأقذف في قلوبهم‬ ‫الرعب‪ ،‬فسار جبريل في موكبه من الملئكة‪.‬‬

‫ص لّـيّن العصر إل‬ ‫وأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس‪ :‬من كان سامعاً مطيعاً فل ي َ‬ ‫ببني قريظة‪ ،‬واستعمل على المدينة ابن أ م مكتو م‪ ،‬وأعطي الراية على بن أبي طالب‪ ،‬وقّد مـه إلى بني‬ ‫قريظة‪ ،‬فسار على حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والنصار‪ ،‬حتى نزل على بئر من آبار‬ ‫قريظة يقال لها‪ :‬بئر أّنا ‪ .‬وبادر المسلمون إلى امتثال أمره‪ ،‬ونهضوا من فورهم‪ ،‬وتحركوا نحو قريظة‪،‬‬ ‫وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم‪ :‬ل نصليها إل في بني قريظة كما أمرنا‪ ،‬حتى إن رجالً منهم‬

‫صلوا العصر بعد العشاء الخر ة‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬لم يرد منا ذلك‪ ،‬وإنما أراد سرعة الخروج‪ ،‬فصلوها في‬

‫الطريق‪ ،‬فلم يعنف واحد ة من الطائفتين‪.‬‬ ‫هكذا تحرك الجيش السلمي نحو بني قريظة أرسالً حتى تلحقوا بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم‬ ‫ثلثة آلف‪ ،‬والخيل ثلثون فرسًا‪ ،‬فنازلوا حصون بني قريظة‪ ،‬وفرضوا عليهم الحصار‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلث خصال‪ :‬إما أن يسلموا ويدخلوا‬

‫مع محمد صلى ال عليه وسلم في دينه‪ ،‬فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال‬

‫لهم‪ :‬وال‪ ،‬لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل‪ ،‬وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم‬ ‫ص لِـِتين‪ ،‬يناجزونه حتى يظفروا‬ ‫ونساءهم بأيديهم‪ ،‬ويخرجوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم بالسيوف ُم ْ‬

‫بهم‪ ،‬أو يقتلوا عن آخرهم‪ ،‬وإما أن يهجموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬ويكبسوهم‬ ‫يو م السبت ؛ لنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه‪ ،‬فأبوا أن يجيبوه إلى واحد ة من هذه الخصال الثلث‪،‬‬

‫وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب‪ :‬ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحد ة‬

‫من الدهر حازماً‪.‬‬

‫ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلث إل أن ينزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين‪ ،‬لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على‬

‫حكمه‪ ،‬فبعثوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لَُبابة نستشيره‪ ،‬وكان حليفاً لهم‪،‬‬ ‫شـ النساء والصبيان يبكون في وجهه‪،‬‬ ‫وكانت أمواله وولده في منطقتهم‪ ،‬فلما رأوه قا م إليه الرجال‪ ،‬وَج َهـ َ‬ ‫فـَرّق لهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا أبا لبابة‪ ،‬أتري أن ننزل على حكم محمد؟ قال‪ :‬نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫إنه الذبح‪ ،‬ثم علم من فوره أنه خان ال ورسوله فمضي على وجهه‪ ،‬ولم يرجع إلى رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة‪ ،‬فربط نفسه بسارية المسجد‪ ،‬وحلف أل يحله إل رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم بيده‪ ،‬وأنه ل يدخل أرض بني قريظة أبداً‪ .‬فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال‪ :‬‏)أما إنه لو جاءني لستغفرت له‪ ،‬أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا‬

‫بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب ال عليه(‪.‬‬

‫وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولقد كان‬ ‫باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والبار ومناعة الحصون؛‬

‫ولن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء‪ ،‬مع شد ة التعب الذي‬

‫اعتراهم ؛ لمواصلة العمال الحربية من قبل بداية معركة الحزاب‪ ،‬إل أن حرب قريظة كانت حرب‬

‫أعصاب‪ ،‬فقد قذف ال في قلوبهم الرعب‪ ،‬وأخذت معنوياتهم تنهار‪ ،‬وبلغ هذا النهيار إلى نهايته أن‬

‫تقد م علي بن أبي طالب والزبير بن العوا م‪ ،‬وصاح علي‪ :‬يا كتيبة اليمان‪ ،‬وال لذوقن ما ذاق حمز ة أو‬ ‫لفتحن حصنهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمر رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم باعتقال الرجال‪ ،‬فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة النصاري‪ ،‬وجعلت‬ ‫النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية‪ ،‬وقامت الوس إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا‪:‬‬

‫يا رسول ال‪ ،‬قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت‪ ،‬وهم حلفاء إخواننا الخزرج‪ ،‬وهؤلء موالينا‪،‬‬

‫فأحسن فيهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أل ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟( قالوا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪ :‬‏)فذاك إلى سعد بن‬

‫معاذ(‪ .‬قالوا‪ :‬قد رضينا‪.‬‬

‫فأرسل إلى سعد بن معاذ‪ ،‬وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أْك ُحـلَـه في‬

‫معركة الحزاب‪ .‬فُأركب حمارًا‪ ،‬وجاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجعلوا يقولون‪ ،‬وهم َك نـَف ْيـِه‪:‬‬ ‫يا سعد‪ ،‬أجمل في مواليك‪ ،‬فأحسن فيهم‪ ،‬فإن رسول ال قد حكمك لتحسن فيهم‪ ،‬وهو ساكت ل‬ ‫يرجع إليهم شيئًا‪ ،‬فلما أكثروا عليه قال‪ :‬لقد آن لسعد أل تأخذه في ال لومة لئم‪ ،‬فلما سمعوا ذلك‬ ‫منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القو م‪.‬‬

‫ولما انتهى سعد إلى النبي صلى ال عليه وسلم قال للصحابة‪ :‬‏)قوموا إلى سيدكم(‪ ،‬فلما أنزلوه قالوا‪ :‬يا‬ ‫سعد‪ ،‬إن هؤلء قد نزلوا على حكمك‪ .‬قال‪ :‬وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وعلى المسلمين؟‬

‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫إجللً له وتعظيًم اـ‪ .‬قال‪ :‬‏)نعم‪ ،‬وعلي(‪ .‬قال‪ :‬فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال‪ ،‬وتسبي الذرية‪ ،‬وتقسم‬

‫الموال‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)لقد حكمت فيهم بحكم ال من فوق سبع سموات(‪.‬‬

‫وكان حكم سعد في غاية العدل والنصاف‪ ،‬فإن بني قريظة‪ ،‬بالضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع‪،‬‬

‫كانوا قد جمعوا لباد ة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف‪ ،‬وألفين من الرماح‪ ،‬وثلثمائة درع‪ ،‬وخمسمائة‬ ‫ترس‪ ،‬وَح َجـَفـةـ ‪ ،‬حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم‪.‬‬ ‫وأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأ ة من بني النجار‪،‬‬ ‫ل‪،‬‬ ‫وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة‪ ،‬ثم أمر بهم‪ ،‬فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالً أرسا ً‬ ‫وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم‪ .‬فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد‪ :‬ما تراه‬ ‫يصنع بنا؟ فقال‪ :‬أفي كل موطن ل تعقلون؟ أما ترون الداعي ل ينزع؟ والذاهب منكم ل يرجع؟ هو‬

‫وال القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة‪ ،‬فضربت أعناقهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة‪ ،‬الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد‪ ،‬وعاونوا الحزاب‬

‫على إباد ة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم‪ ،‬وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من‬

‫أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والعدا م‪.‬‬ ‫وقتل مع هؤلء شيطان بني النضير‪ ،‬وأحد أكابر مجرمي معركة الحزاب حيي بن أخطب والد صفية أ م‬ ‫المؤمنين رضي ال عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ؛‬

‫وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيا م غزو ة الحزاب‪ ،‬فلما‬ ‫أتي به ـ وعليه ُح لّـة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئل يُْس لَـَبها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل‪ ،‬قال‬

‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أما وال ما لمت نفسي في معاداتك‪ ،‬ولكن من ُيغالب ال يـُْغَلب ‪ .‬ثم‬ ‫قال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ل بأس بأمر ال‪ ،‬كتاب وقَ​َد رـ وَمْلـَح َمـةـ كتبها ال على بني إسرائيل‪ ،‬ثم جلس‪ ،‬فضربت‬ ‫عنقه‪.‬‬

‫وقتل من نسائهم امرأ ة واحد ة كانت قد طرحت الرحى على َخ لّـد بن ُس َوـيْـد فقتلته‪ ،‬فقتلت لجل ذلك‪.‬‬ ‫ت ‪ ،‬ـ وترك من لم ينبت‪ ،‬فكان ممن لم ينبت عطية الُقَرـِظ يـ‪ ،‬فترك‬ ‫وكان قد أمر رسول ال بقتل من أنـْبَ َ‬ ‫حياً فأسلم‪ ،‬وله صحبة‪.‬‬ ‫واستوهب ثابت بن قيس‪ ،‬الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له ثابت بن قيس‪ :‬قد وهبك رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى ‪ ،‬ووهب‬

‫لي مالك وأهلك فهم لك‪ .‬فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه‪ :‬سألتك بيدي عندك يا ثابت إل‬

‫ألحقتني بالحبة‪ ،‬فضرب عنقه‪ ،‬وألحقه بالحبة من اليهود‪ ،‬واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد‬

‫الرحمن بن الزبير‪ ،‬فأسلم وله صحبة‪.‬‬

‫واستوهبت أ م المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي‪ ،‬فوهبه لها فاستحيته‪ ،‬فأسلم‬

‫وله صحبة‪.‬‬

‫وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول‪ ،‬فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي‪ ،‬فخلي سبيله حين عرفه‪ ،‬فلم يعلم أين‬ ‫ذهب‪.‬‬ ‫وقسم رسول ال صلى ال عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس‪ ،‬فأسهم للفارس‬ ‫ثلثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس‪ ،‬وأسهم للراجل سهماً واحدًا‪ ،‬وبعث من السبايا إلى نجد‬ ‫تحت إشراف سعد بن زيد النصاري فابتاع بها خيلً وسلحاً‪.‬‬ ‫واصطفى رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفسه من نسائهم َريَْح اـنة بنت عمرو بن ُخ نَـافة‪ ،‬فكانت عنده‬

‫حتى توفي عنها وهي في ملكه‪ ،‬هذا ما قاله ابن إسحاق‪.‬وقــال الكلبي‪ :‬إنه صلى ال عليه وسلم أعتقها‪،‬‬

‫وتزوجها سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع‪ ،‬فدفنها بالبقيـع‪.‬‬ ‫ولما تم أمر قريظة أجيبت دعو ة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي ال عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزو ة‬ ‫الحزاب ـ وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب‪ ،‬فلما تم‬ ‫أمر قريظة انتقضت جراحته‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فانفجرت من لَبّتِ​ِه فلم يـَُرْع ُهـْمـ ـ وفي المسجد خيمة من بني‬ ‫غفار ـ إل والد م يسيل إليهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أهل الخيمة‪ ،‬ما هذا الذي يأتينا من قبلكم‪ ،‬فإذا سعد يغذو‬ ‫جرحه دمًا‪ ،‬فمات منها‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن جابر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن‬

‫معاذ(‪ .‬وصحح الترمذي من حديث أنس قال‪ :‬لما حملت جناز ة سعد بن معاذ قال المنافقون‪ :‬ما أخف‬ ‫جنازته‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن الملئكة كانت تحمله(‪.‬‬ ‫قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين‪ ،‬وهو خلد بن ُس َوـيْـد الذي طرحت عليه الرحى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـنـ أخو عُّك اـَش ةـ‪.‬‬ ‫امرأ ة من قريظة‪ .‬ومات في الحصار أبو س نـان بن م ْحـ َ‬ ‫وأما أبو ُلبابة‪ ،‬فأقا م مرتبطاً بالجذع ست ليال‪ ،‬تأتيه امرأته في وقت كل صل ة فتحله للصل ة‪ ،‬ثم يعود‬ ‫فيرتبط بالجذع‪ ،‬ثم نزلت توبته على رسول ال صلى ال عليه وسلم َس َحـًرـا وهو في بيت أ م سلمة‪،‬‬

‫فقامت على باب حجرتها‪ ،‬وقالت‪ :‬يا أبا لبابة‪ ،‬أبشر فقد تاب ال عليك‪ ،‬فثار الناس ليطلقوه‪ ،‬فأبي أن‬

‫يطلقه أحد إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما مر النبي صلى ال عليه وسلم خارجاً إلى صل ة‬ ‫الصبح أطلقه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقعت هــذه الغــزو ة فـي ذي القعد ة سنـة ‪ 5‬هـ‪ ،‬ودا م الحصار خمساً وعشريـن ليلة‪.‬‬ ‫وأنزل ال تعإلى في غزو ة الحزاب وبني قريظة آيات من سور ة الحزاب‪ ،‬ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة‪،‬‬ ‫وبين حال المؤمنين والمنافقين‪ ،‬ثم تخذيل الحزاب‪ ،‬ونتائج الغدر من أهل الكتاب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النشاط العسكري بعد هذه الغزو ة‬ ‫مقتل َس لّـ م بن أبي الُح َقـْيـق‬ ‫كان سل م بن أبي الحقيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الحزاب ضد‬

‫المسلمين‪ ،‬وأعانهم بالمؤن والموال الكثير ة ‪ ،‬وكان يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما فرغ‬

‫المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول ال صلى ال عليه وسلم في قتله‪ .‬وكان قتل كعب بن‬

‫الشرف على أيدي رجال من الوس‪ ،‬فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم‪ ،‬فلذلك أسرعوا‬ ‫إلى هذا الستئذان‪.‬‬

‫وأذن رسول ال في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان‪ ،‬فخرجت مفرز ة قوامها خمسة رجال‪ ،‬كلهم من‬ ‫بني سلمة من الخزرج‪ ،‬قائدهم عبد ال بن َعِتيك‪.‬‬ ‫خرجت هذه المفرز ة‪ ،‬واتجهت نحو خيبر ؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع‪ ،‬فلما دنوا منه‪ ،‬وقد غربت‬ ‫الشمس‪ ،‬وراح الناس بسرحهم‪ ،‬قال عبد ال بن عتيك لصحابه‪ :‬اجلسوا مكانكم‪ ،‬فإني منطلق‬

‫ومتلطف للبواب‪ ،‬لعلى أن أدخل‪ ،‬فأقبل حتى دنا من الباب‪ ،‬ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته‪ ،‬وقد‬ ‫دخل الناس‪ ،‬فهتف به البواب‪ :‬يا عبد ال‪ ،‬إن كنت تريد أن تدخل فادخل‪ ،‬فإني أريد أن أغلق الباب‪.‬‬

‫قال عبد ال بن َعِتيك‪ :‬فدخلت فكمنت‪ ،‬فلما دخل الناس أغلق الباب‪ ،‬ثم علق الغاليق على َو ّدـ‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقمت إلى القاليد فأخذتها‪ ،‬ففتحت الباب‪ ،‬وكان أبو رافع يسمر عنده‪ ،‬وكان في عللى له‪ ،‬فلما‬

‫ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه‪ ،‬فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل‪ .‬قلت‪ :‬إن القو م لو‬ ‫نَِذ رـوا بي لم يخلصوا إلى حتى أقتله‪ ،‬فانتهيت إليه‪ ،‬فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله‪ ،‬ل أدري أين‬ ‫هو من البيت‪ .‬قلت‪ :‬أبا رافع‪ ،‬قال‪ :‬من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش‪،‬‬

‫فما أغنيت شيئًا‪ ،‬وصاح‪ ،‬فخرجت من البيت‪ ،‬فأمكث غير بعيد‪ ،‬ثم دخلت إليه‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا‬ ‫الصوت يا أبا رافع؟ فقال‪ :‬لمك الويل‪ ،‬إن رجلً في البيت ضربني قبل بالسيف‪ .‬قال‪ :‬فأضربه ضربة‬ ‫ض بِـيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره‪ ،‬فعرفت أني قتلته‪ ،‬فجعلت‬ ‫أثخنته ولم أقتله‪ .‬ثم وضعت َ‬

‫أفتح البواب باباً بابًا‪ ،‬حتى انتهيت إلى درجة له‪ ،‬فوضعت رجلي‪ ،‬وأنا أري أني قد انتهيت إلى الرض‪،‬‬ ‫فوقعت في ليلة مقمر ة‪ ،‬فانكسرت ساقي‪ ،‬فعصبتها بعمامة‪ ،‬ثم انطلقت حتى جلست على الباب‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬ل أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قا م الناعي على السور‪ ،‬فقال‪ :‬أنعي أبا رافع‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫تاجر أهل الحجاز‪ ،‬فانطلقت إلى أصحابي فقلت‪ :‬النجاء‪ ،‬فقد قتل ال أبا رافع‪ .‬فانتهيت إلى النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحدثته فقال‪ :‬‏)ابسط رجلك(‪ ،‬فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها‪.‬‬

‫هذه رواية البخاري‪ ،‬وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله‪ ،‬وأن الذي‬

‫ل‪ ،‬وانكسرت ساق عبد‬ ‫تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد ال بن أنيس‪ ،‬وفيه‪ :‬أنهم لما قتلوه لي ً‬ ‫ال بن عتيك حملوه‪ ،‬وأتوا َمنـَْه ًرـا من عيونهم فدخلوا فيه‪ ،‬وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه‪،‬‬ ‫حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم‪ ،‬وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد ال بن عتيك حتى قدموا على‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫كان مبعث هذه السرية في ذي القعد ة أو ذي الحجة سنة ‪ 5‬هـ‪.‬‬ ‫ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من الحزاب وقريظة أخذ يوجه حملت تأديبية إلى القبائل‬ ‫والعراب‪ ،‬الذين لم يكونوا يستكينون للمن والسل م إل بالقو ة القاهر ة‪.‬‬

‫سرية محمد بن مسلمة‬ ‫وكانت أول سرية بعد الفراغ من الحزاب وقريظة‪ ،‬وكان عدد قوات هذه السرية ثلثين راكباً‪.‬‬ ‫ض ِرـّية بالبَ​َك رـات من أرض نجد‪ ،‬وبين ضرية والمدينة سبع ليال‪،‬‬ ‫تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية َ‬

‫تحركت لعشر ليال خلون من المحر م سنة ‪ 6‬هـ إلى بطن بني بكر بن كلب‪ .‬فلما أغارت عليهم هربوا‪،‬‬ ‫فاستاق المسلمون نعما وشاء‪ ،‬وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحر م ومعهم ثَُم اـَمةـ بن أثال الحنفي سيد‬

‫بني حنيفة‪ ،‬كان قد خرج متنكراً لغتيال النبي صلى ال عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ‪ ،‬فأخذه‬ ‫المسلمون‪ ،‬فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد‪ ،‬فخرج إليه النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫فقال‪ :‬‏)ما ذا عندك يا ثمامة؟( فقال‪ :‬عندي خير يا محمد‪ ،‬إن تقتل تقتل ذا د م‪ ،‬وإن تنعم تنعم على‬ ‫شاكر‪ ،‬وإن كنت تريد المال فَ​َس ْلـ تعط منه ماشئت‪ ،‬فتركه‪ ،‬ثم مّر به مر ة أخري ؛ فقال له مثل ذلك‪،‬‬

‫فرد عليه كما رد عليه أولً ‪ ،‬ثم مر مر ة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكل م السابق‪ :‬‏)أطلقوا ثمامة(‪،‬‬ ‫فأطلقوه‪ ،‬فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل‪ ،‬ثم جاءه فأسلم‪ ،‬وقال‪ :‬وال‪ ،‬ما كان على وجه‬

‫الرض وجه أبغض إلى من وجهك‪ ،‬فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى‪ ،‬وال ما كان على وجه الرض‬ ‫دين أبغض إلى من دينك‪ ،‬فقد أصبح دينك أحب الديان إلى‪ ،‬وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمر ة‪،‬‬

‫فبشره رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمره أن يعتمر‪ ،‬فلما قد م على قريش قالوا‪ :‬صبأت يا ثمامة‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال‪ :‬ل وال‪ ،‬ولكني أسلمت مع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول وال ل يأتيكم من اليمامة حبة حنطة‬ ‫حتى يأذن فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكانت يمامة ريف مكة‪ ،‬فانصرف إلى بلده‪ ،‬ومنع‬

‫الحمل إلى مكة‪ ،‬حتى جهدت قريش‪ ،‬وكتبوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن‬

‫يكتب إلى ثمامـة يخلي إليـه حمل الطعـا م‪ ،‬ففعـل رسـول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫غزو ة بني لَْح يَــان‬ ‫بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشر ة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم بالّرِج يــع‪،‬‬

‫وتسببوا في إعدامهم‪ ،‬ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة‪ .‬والتارات الشديد ة‬

‫قائمة بين المسلمين وقريش والعراب‪ ،‬لم يكن يري رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتوغل في‬

‫البلد بمقربة من العدو الكبر‪ ،‬فلما تخاذلت الحزاب‪ ،‬واستوهنت عزائمهم‪ ،‬واستكانوا للظروف الراهنة‬

‫إلى حد ما‪ ،‬رأي أن الوقت قد آن لن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع‪ ،‬فخرج إليهم‬ ‫في ربيع الول أو جمادي الولي سنة ‪ 6‬هـ في مائتين من أصحابه‪ ،‬واستخلف على المدينة ابن أ م‬

‫مكتو م‪ ،‬وأظهر أنه يريد الشا م‪ ،‬ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غَُران ـ واد بين أَمَجـ وعُْس َفـاـن ـ حيث‬

‫كان مصاب أصحابه‪ ،‬فترحم عليهم ودعا لهم‪ ،‬وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال‪ ،‬فلم‬

‫يقدر منهم على أحد‪ ،‬فأقا م يومين بأرضهم‪ ،‬وبعث السرايا‪ ،‬فلم يقدروا عليهم‪ ،‬فسار إلى عسفان‪ ،‬فبعث‬ ‫عشر ة فوارس إلى ُك َرـاع الغَِم يـم لتسمع به قريش‪ ،‬ثم رجع إلى المدينة‪ .‬وكانت غيبته عنها أربع عشر ة‬ ‫ليلة‪.‬‬ ‫متابعة البعوث والسرايا‬ ‫ثم تابع رسول ال صلى ال عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا‪ ،‬وهاك صور ة مصغر ة منها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫صـنـ إلى الغَْم رـ في ربيع الول أو الخر سنة ‪6‬هـ‪ .‬خرج عكاشة في أربعين رجلً‬ ‫‪ 1‬ـ سرية عُّك اـَش ةـ بن م ْحـ َ‬ ‫إلى الغْم رــ‪ ،‬ماء لبني أسد‪ ،‬ففر القو م‪ ،‬وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة‪.‬‬ ‫صـةـ في ربيع الول أو الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج ابن مسلمة في‬ ‫‪ 2‬ـ سرية محمد بن َمْسـ لَـَم ةـ إلى ذي الَق ّ‬ ‫عشر ة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة‪ ،‬فكمن القو م لهم ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إل ابن‬ ‫مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 3‬ـ سرية أبي عبيد ة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وقد بعثه النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة‪ ،‬فخرج ومعه أربعون رجلً إلى مصارعهم‪ ،‬فساروا ليلتهم‬ ‫مشا ة‪ ،‬ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم‪ ،‬فأعجزوهم هرباً في الجبال‪ ،‬وأصابوا رجلً واحداً‬ ‫فأسلم‪ ،‬وغنموا نـَعما وشاء‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية زيد بن حارثة إلى الَج ُمـوـ م في ربيع الخر سنة ‪6‬هـ ـ والجمو م ماء لبني سليم في َمّرـ الظّْه َرــان ـ‬

‫خرج إليهم زيد فأصاب امرأ ة من ُمَزيـَْنة يقال لها‪ :‬حليمة‪ ،‬فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها‬

‫نعما وشاء وأسري‪ ،‬فلما قفل زيد بما أصاب وهب رسول ال صلى ال عليه وسلم للمزينية نفسها‬ ‫وزوجها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سرية زيد إلى الِعيص في جمادي الولي سنة ‪ 6‬هـ في سبعين ومائة راكب‪ ،‬وفيها أخذت أموال عير‬

‫لقريش كان قائدها أبو العاص َخ تَـن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬وأفلت أبو العاص‪ ،‬فأتي زينب‬

‫فاستجار بها‪ ،‬وسألها أن تطلب من رسول ال صلى ال عليه وسلم رد أموال العير عليه ففعلت‪ ،‬وأشار‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس برد الموال من غير أن يكرههم‪ ،‬فردوا الكثير والقليل‬

‫والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة‪ ،‬وأدي الودائع إلى أهلها‪ ،‬ثم أسلم وهاجر‪ ،‬فرد عليه‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم زينب بالنكاح الول بعد ثلث سنين ونيف‪ ،‬كما ثبت في الحديث‬

‫الصحيح ردهــا بالنـكاح الول ؛ لن آيــة تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك‪ ،‬وأما ما‬

‫ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد‪ ،‬أو رد عليه بعد ست سنين فل يصح معني‪ ،‬كما أن ــه‬

‫ليـس بصحـيح سنداً‪ .‬والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف فإنهم يقولون‪ :‬إن أبا العاص أسلم‬ ‫في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح‪ .‬ثم يناقضون أنفسهم‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان‪،‬‬

‫وقد بسطنا الكل م شيئاً في تعليقنا على بلوغ المرا م‪ .‬وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث وقع‬ ‫في سنة ‪7‬هـ من قبل أبي بصير وأصحابه‪ ،‬ولكن ذلك ل يطابق الحديث الصحيح ول الضعيف‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ سرية زيد أيضاً إلى الطِّرف أو الطِّرق في جمادي الخر سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج زيد في خمسة عشر رجلً‬ ‫إلى بني ثعلبة فهربت العراب‪ ،‬وخافوا أن يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم سار إليهم‪ ،‬فأصاب من‬ ‫نـَعِم ِهـمـ عشرين بعيرًا‪ ،‬وغاب أربع ليال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 7‬ـ سرية زيد أيضاً إلى وادي القري في رجب سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬خرج زيد في اثني عشر رجلً إلى وادي‬ ‫القري؛ لستكشاف حركات العدو إن كانت هناك‪ ،‬فهجم عليهم سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة‪،‬‬ ‫وأفلتت ثلثة فيهم زيد بن حارثة‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ سرية الَخ بَـط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل‬

‫الحديبية ـ قال جابر‪ :‬بعثنا النبي صلى ال عليه وسلم في ثلثمائة راكب‪ ،‬أميرنا أبو عبيد ة بن الجراح‪،‬‬

‫نرصد عيراً لقريش‪ ،‬فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط‪ ،‬فسمي جيش الخبط‪ ،‬فنحر رجل ثلث‬ ‫جزائر‪ ،‬ثم نحر ثلث جزائر‪ ،‬ثم نحر ثلث جزائر‪ ،‬ثم إن أبا عبيد ة نهاه‪ ،‬فألقي إلينا البحر دابة يقال‬

‫لها‪ :‬الَعْنَبر‪ ،‬فأكلنا منه نصف شهر‪ ،‬واّدَه نّـا منه حتى ثابت منه أجسامنا‪ ،‬وصلحت‪ ،‬وأخذ أبو عبيد ة‬ ‫ضلعاً من أضلعه‪ ،‬فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل‪ ،‬فحمل عليه‪ ،‬ومر تحته‪ ،‬وتزودنا من‬ ‫لحمة َو َشـاـِئق‪ ،‬فلما قدمنا المدينة‪ ،‬أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرنا له ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬‏)هو رزق‬ ‫أخرجه ال لكم‪ ،‬فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا؟( فأرسلنا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم منه‪.‬‬ ‫وإنما قلنا‪ :‬إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لن المسلمين لم يكونوا يتعرضون‬ ‫لعير قريش بعد صلح الحديبية‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة بني الُم صـطلق أو غزو ة المريسيع في شعبان سنة ‪ 5‬أو ‪ 6‬هـ‬ ‫غزو ة بني الُم صـطلق أو غزو ة المريسيع‬

‫دور المنافقين قبل غزو ة بني المصطلق‬ ‫دور المنافقين في غزو ة بني المصطلق‬

‫غزو ة بني الُم صـطلق أو غزو ة المريسيع‬ ‫وهذه الغزو ة وإن لم تكن طويلة الذيل‪ ،‬عريضة الطراف من حيث الوجهة العسكريـة‪ ،‬إل أنها وقعـت فيـها‬ ‫وقـائـع أحدثـت البلبلـة والضطـراب فـي المجتمـع السلمي‪ ،‬وتمخضت عن افتضاح المنافقين‪،‬‬

‫والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع السلمي صور ة خاصة من النبل والكرامة وطهار ة النفوس‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ثم نذكر تلك الوقائع‪.‬‬ ‫ونسرد الغزو ة أو ً‬

‫كانت هذه الغزو ة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي‪ ،‬وسنة ست على قول ابن إسحاق‪.‬‬ ‫وسببها أنه بلغه صلى ال عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ِ‬ ‫ض َرــار سار في قومه ومن قدر‬ ‫عليه من العرب يريدون حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبعث بـَُريَْد ةـ بن الحصيب السلمي لتحقيق‬

‫الخبر‪ ،‬فأتاهم‪ ،‬ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه‪ ،‬ورجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبره‬ ‫الخبر‪.‬‬

‫وبعد أن تأكد لديه صلى ال عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة‪ ،‬وأسرع في الخروج‪ ،‬وكان خروجه‬ ‫لليلتين خلتا من شعبان‪ ،‬وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزا ة قبلها‪ ،‬واستعمل على المدينة‬

‫زيد بن حارثة‪ ،‬وقيل‪ :‬أبا ذر‪ ،‬وقيل‪ :‬نَُم يـَْلة بن عبد ال الليثي‪ ،‬وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عيًنا ؛‬ ‫ليأتيه بخبر الجيش السلمي‪ ،‬فألقي المسلمون عليه القبض وقتلوه‪.‬‬ ‫ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول ال صلى ال عليه وسلم وقتله عينه‪ ،‬خافوا خوفاً‬ ‫شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب‪ ،‬وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الُم َرـيِْس يــعـ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صـ ّ‬ ‫فـ رسول ال‬ ‫بالضم فالفتح مصغرًا‪ ،‬اسم لماء من مياههم في ناحية قَُد يْـد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال‪َ .‬و َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ ،‬وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق‪ ،‬وراية النصار مع سعد بن عباد ة‪،‬‬

‫فتراموا بالنبل ساعة‪ ،‬ثم أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد‪ ،‬فكانت النصر ة‬

‫وانهز م المشركون‪ ،‬وقتل من قتل‪ ،‬وسبى رسول ال صلى ال عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء‪،‬‬ ‫ولم يقتل من المسلمين إل رجل واحد‪ ،‬قتله رجل من النصار ظناً منه أنه من العدو‪.‬‬ ‫كذا قال أهل المغازي والسير‪ ،‬قال ابن القيم‪ :‬هو َو ْهـمــ‪ ،‬فإنه لم يكن بينهم قتال‪ ،‬وإنما أغار عليهم على‬

‫الماء فسبي ذراريهم وأموالهم‪ ،‬كما في الصحيح أغار رسول صلى ال عليه وسلم على بني المصطلق وهم‬ ‫غارون‪ ،‬وذكر الحديث‪ .‬انتهي‪.‬‬

‫وكان من جملة السبي‪ُ :‬ج َوـيْـِرَية بنت الحارث سيد القو م‪ ،‬وقعت في سهم ثابت ابن قيس‪ ،‬فكاتبها‪ ،‬فـأدي‬

‫عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم وتزوجهـا‪ ،‬فأعـتق المسلـمون بسبـب هـذا التزويـج مـائـة أهـل بيـت مـن‬

‫بنـي المصطلق قـد أسلمـوا‪ ،‬وقـالـوا‪ :‬أصهـار رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزو ة‪ ،‬فلجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد ال بن أبي وأصحابه‪،‬‬ ‫نري أن نورد أولً شيئاً من أفعالهم في المجتمع السلمي‪.‬‬

‫دور المنافقين قبل غزو ة بني المصطلق‬ ‫قدمنا مراراً أن عبد ال بن أبي كان يَْح نَـُق على السل م والمسلمين‪ ،‬ولسيما على رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم َح نـًَق اـ شديداً ؛ لن الوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته‪ ،‬وكانوا ينظمون له الَخ َرـَزـ‬

‫ليتوجوه إذ دخل فيهم السل م‪ ،‬فصرفهم عن ابن أبي‪ ،‬فكان يري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو‬ ‫الذي استلبه ملكه‪.‬‬ ‫وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجر ة قبل أن يتظاهر بالسل م‪ ،‬وبعد أن تظاهر به‪ .‬ركب رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم مر ة على حمار ليعود سعد بن عباد ة‪ ،‬فمر بمجلس فيه عبد ال بن أبي فَخ ّمـَرـ ابن أبي‬

‫أنفه‪ ،‬وقال‪ :‬ل تـَُغبـُّروا علينا‪ .‬ولما تل رسول ال صلى ال عليه وسلم على المجلس القرآن‪ ،‬قال‪ :‬اجلس‬ ‫في بيتك‪ ،‬ول تؤذنا في مجالسنا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهذا قبل أن يتظاهر بالسل م‪ ،‬ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إل عدًواـ ل ولرسوله وللمؤمنين‪ ،‬ولم يكن‬ ‫يفكر إل في تشتيت المجتمع السلمي وتوهين كلمة السل م‪ .‬وكان يوإلى أعداءه‪ ،‬وقد تدخل في أمر‬

‫بني قينقاع كما ذكرنا‪ ،‬وكذلك جاء في غزو ة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين‪ ،‬وإثار ة الرتباك‬ ‫والفوضي في صفوفهم بما مضي‪.‬‬

‫وكان من شد ة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالسل م‪ ،‬يقو م كل جمعة حين‬

‫يجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم للخطبة‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم بين أظهركم‪،‬‬ ‫أكرمكم ال وأعزكم به‪ ،‬فانصروه وعزروه‪ ،‬واسمعـوا لــه وأطيعوا‪ ،‬ثم يجلس‪ ،‬فيقو م رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ويخطب‪ .‬وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قا م في يو م الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر‬ ‫والغدر الشنيع ـ قا م ليقول ما كان يقوله من قبل‪ ،‬فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه‪ ،‬وقالوا له‪ :‬اجلس أي‬

‫عدو ال‪ ،‬لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت‪ ،‬فخرج يتخطي رقاب الناس‪ ،‬وهو يقول‪ :‬وال لكأنما‬

‫قلت بُْج ًرــا أن قمت أشدد أمره‪ ،‬فلقيه رجل من النصار بباب المسجد‪ ...‬فقال‪ :‬ويلك‪ ،‬ارجع يستغفر لك‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬وال ما أبتغي أن يستغفر لي‪.‬‬

‫وكانت له اتصالت ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم‪ :‬‏}لَئِْن أُْخ ِرـْج تُـْم لَنَْخ ُرـَج ّنـَمَعـُك ْمـ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صَرنُّك ْمـ{ ‏] الحشر‪.[11 :‬‬ ‫َوَل نُط يـُع فيُك ْمـ أَ​َح ًدـاـ أَبًَد اـ َو إِـن ُقوتْلتُْم لَ​َنن ُ‬ ‫وكذلك فعل هو وأصحابه في غزو ة الحزاب من إثار ة القلق والضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب‬ ‫ضـ ّماـ َو َعـَد نَـا‬ ‫المؤمنين ما قصه ال تعالى في سور ة الحزاب‪ :‬‏}َو إِـْذ يـَُقوـُل الُْم نَـافُِقوَن َواـلِّذ يـَن ِفي قـُ​ُلوبِ​ِه مـ ّمَر ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ب يـَو ّدـوـا لَْو َأنـُّه مـ َباُدوَن‬ ‫ب لَْم يَْذ َهـبُـوا َو إِـن يَأْت اْلَْح َزــا ُ‬ ‫اللّهُ َوَرـُس وـلُهُ إِّل غُ​ُروًرا{ إلى قوله‪ :‬‏} يَْح َسـبُـوَن اْلَْح َزــا َ‬ ‫ِفي اْلَْع رـا ِ‬ ‫ب يَْس أَـُلوَن َعْن َأنَبائُِك ْمـ َو لَـْو َك اـُنوا ِفيُك مـ ّماـ َقاتـَُلوا إِّل قَِليًل { ‏]الحزاب‪.[20 :12 :‬‬ ‫َ‬ ‫بيد أن جميع أعداء السل م من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة السل م‬

‫ليس هو التفوق المادي وكثر ة السلح والجيوش والعدد‪ ،‬وإنما السبب هي القيم والخلق والمثل التي‬

‫يتمتع بها المجتمع السلمي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين‪ ،‬وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما‬

‫هو رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي هو المثل العلى ـ إلى حد العجاز ـ لهذه القيم‪ ،‬كما عرفوا بعد‬

‫إدار ة دفة الحروب طيلة خمس سنين‪ ،‬أن القضاء على هذا الدين وأهله ل يمكن عن طريق استخدا م‬

‫السلح‪ ،‬فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الخلق والتقاليد‪ ،‬وأن يجعلوا شخصية‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة‪ .‬ولما كان المنافقون هم الطابور‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الخامس في صفوف المسلمين‪ ،‬ولكونهم سكان المدينة‪ ،‬كان يمكن لهم التصال بالمسلمين واستفزاز‬ ‫مشاعرهم كل حين‪ .‬تحمل فريضة الدعاية هؤلء المنافقون‪ ،‬وعلى رأسهم ابن أبي‪.‬‬

‫وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول ال صلى ال عليه وسلم بأ م المؤمنين زينب بنت جحش‪،‬‬

‫بعد أن طلقها زيد بن حارثة‪ ،‬فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل البن الصلبي‪،‬‬

‫فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه‪ ،‬فلما تزوج النبي صلى ال عليه وسلم بزينب‬

‫وجد المنافقون ثـُْلَم تـَْين ـ حسب زعمهم ـ لثار ة المشاغب ضد النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الولى‪ :‬أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة‪ ،‬والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسو ة‪ ،‬فكيف‬ ‫صح له هذا الزواج؟‬

‫الثانية‪ :‬أن زينب كانت زوجة ابنه ـ ُمَتبـَّناه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر‪ ،‬حسب تقاليد العرب‪ .‬وأكثروا من‬ ‫الدعاية في هذا السبيل‪ ،‬واختلقوا قصصاً وأساطير‪ ،‬قالوا‪ :‬إن محمداً رآها بغتة‪ ،‬فتأثر بحسنها وشغفته‬

‫حبًا‪ ،‬وعلقت بقلبه‪ ،‬وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد‪ ،‬وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً‬ ‫بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان‪ ،‬وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف‬

‫الضعفاء حتى نزل القرآن باليات البينات فيها شفاء لما في الصدور‪ ،‬وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن‬ ‫ال استفتح سور ة الحزاب بقوله‪ :‬‏}يا َأيـَّه اـ النّبِّي اتِّق اللَّه َوَل تُِط ِعـ الَْك اـفِ​ِريَن َواـلُْم نَـافِ​ِق يـَن إِّن اللَّه َك اـَن َعِليًم اـ‬ ‫َح ِكـيًم اَـ{ ‏]الحزاب‪.[1 :‬‬ ‫وهذه إشارات عابر ة‪ ،‬وصور مصغر ة لما اقترفه المنافقون قبل غزو ة بني المصطلق‪ ،‬وكان النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف‪ ،‬وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم‪ ،‬أو‬

‫يتحملونه بالصبر ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مر ة بعد أخري حسب قوله تعالى‪ :‬‏}أَ​َولَ يـَرْوـَنـ َأنـُّه ْمـ‬ ‫يـُْف تـَُنوَن ِفي ُك ّلـ َعاٍ م ّمّرـً ة أَْو َمّرـتـَْيِن ثُّم لَ يـَُتوُبوَن َولَ ُه ْمـ يَّذّك ُرـوَن{ ‏]التوبة ‪.[126:‬‬ ‫دور المنافقين في غزو ة بني المصطلق‬ ‫ولما كانت غزو ة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى‪ :‬‏}لَْو َخ َرـُج وـاْ ِفيُك مـ ّماـ َزاُدوُك ْمـ إِلّ‬ ‫ضـعُـواْ ِخ لَـلَُك ْمـ يَـبـُْغونَُك ُمـ الِْف تـْنَ​َة { ‏]التوبة‪ [47 :‬فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر‪ ،‬فأثاروا‬ ‫َخ بَـالً ولَْو َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الرتباك الشديد في صفوف المسلمين‪ ،‬والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهاك بعض‬ ‫التفصيل عنها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قول المنافقين‪ :‬‏]لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل[‬ ‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفراغ من الغزو ة مقيماً على الُم َرـيِْس يــع‪،‬ووردت وارد ة الناس‪ ،‬ومع‬ ‫عمر بن الخطاب أجير يقال له‪َ :‬ج ْهـَجـاـه الغفاري‪ ،‬فازدحم هو وِس نَـان بن َو بَـر الجهني على الماء فاقتتل‪،‬‬ ‫فصرخ الجهني‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬وصرخ جهجاه‪ :‬يا معشر المهاجرين‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏)أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها ُمْنتَِنة(‪ ،‬وبلغ ذلك عبد ال بن أبي بن سلول‬ ‫فغضب ـ وعنده رهط من قومه‪ ،‬فيهم زيد بن أرقم غل م حدث ـ وقال‪ :‬أو قد فعلوها‪ ،‬قد نافرونا وكاثرونا‬ ‫ك ‪ ،‬ـأما وال لئن رجعنا إلى المدينة‬ ‫ك َيأُك ْلـ َ‬ ‫في بلدنا‪ ،‬وال ما نحن وهم إل كما قال الول‪َ :‬س ّمـْنـ َك ْلـبَ َ‬

‫ليخرجن العز منها الذل‪ ،‬ثم أقبل على من حضره فقال لهم‪ :‬هذا ما فعلتم بأنفسكم‪ ،‬أحللتموهم‬ ‫بلدكم‪ ،‬وقاسمتموهم أموالكم‪ ،‬أما وال لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم‪.‬‬

‫فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر‪ ،‬فأخبر عمه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده عمر‪ ،‬فقال عمر‪ُ :‬مْر‬ ‫َعّباد بن بشر فليقتله‪ .‬فقال‪ :‬‏)فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ل ولكن أَّذْن‬ ‫بالرحيل(‪ ،‬وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها‪ ،‬فارتحل الناس‪ ،‬فلقيه أسيد بن حضير فحياه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد‬ ‫رحت في ساعة منكر ة؟ فقال له‪ :‬‏)أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟( يريد ابن أبي‪ ،‬فقال‪ :‬وما قال؟ قال‪:‬‬

‫‏)زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل(‪ ،‬قال‪ :‬فأنت يا رسول ال‪ ،‬تخرجه منها إن شئت‪،‬‬ ‫هو وال الذليل وأنت العزيز‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ارفق به‪ ،‬فوال لقد جاءنا ال بك‪ ،‬وإن قومه لينظمون‬

‫له الَخ َرـزـ ليتوجوه‪ ،‬فإنه يري أنك استلبته ملكاً‪.‬‬

‫ص ْدـ رـيومهم ذلك حتى آذتهم الشمس‪،‬‬ ‫ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي‪ ،‬وليلتهم حتى أصبح‪ ،‬و َ‬ ‫س الرض فوقعوا نياماً‪ .‬فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث‪.‬‬ ‫ثم نزل بالناس‪ ،‬فلم يلبثوا أن وجدوا َم ـ ّ‬

‫أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحلف بال ما‬ ‫قلت ما قال‪ ،‬ول تكلمت به‪ ،‬فقال من حضر من النصار‪ :‬يا رسول ال عسي أن يكون الغل م قد أوهم‬ ‫في حديثه‪ ،‬ولم يحفظ ما قال الرجل‪ .‬فصدقه‪ ،‬قال زيد‪ :‬فأصابني َه ّمـ لم يصبني مثله قط‪ ،‬فجلست في‬ ‫بيتي‪ ،‬فأنزل ال‪ :‬‏}إَِذا َج اـءَك الُْم نَـافُِقوَن{ إلى قوله‪ :‬‏}ُه ُمـ الِّذ يـَن يـَُقوُلوَن َل ُتنِف ُقـوـا َعَلى َمْنـ ِع نـَد َرُس وـِل اللِّه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫َح تّـى َينَف ّ‬ ‫ضـوـا{ إلى ‏}لَيُْخ ِرـَج ّنـ اْلَ​َعّز ِم نـَْه اـ اْلَ​َذّل{ ‏]المنافقون‪ 1 :‬ـ ‪ ،[8‬فأرسل إلى رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم فقرأها علي‪ .‬ثم قال‪ :‬‏)إن ال قد صدقك(‪.‬‬

‫وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد ال بن عبد ال بن أبي ـ رجلً صالحاً من الصحابة الخيار‪ ،‬فتبرأ من أبيه‪،‬‬ ‫ووقف له على باب المدينة‪ ،‬واستل سيفه‪ ،‬فلما جاء ابن أبي قال له‪ :‬وال ل تجوز من هاهنا حتى يأذن‬

‫لك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه العزيز وأنت الذليل‪ ،‬فلما جاء النبي صلى ال عليه وسلم أذن له‬ ‫فخلي سبيله‪ ،‬وكان قد قال عبد ال ابن عبد ال بن أبي‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أردت قتله فمرني بذلك‪ ،‬فأنا‬

‫وال أحمل إليك رأسه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ حديث الفك‬ ‫وفي هذه الغزو ة كانت قصة الفك‪ ،‬وملخصها‪ :‬أن عائشة رضي ال عنها كانت قد خرج بها رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم معه في هذه الغزو ة بقرعة أصابتها‪ ،‬وكانت تلك عادته مع نسائه‪ ،‬فلما رجعوا من‬

‫الغزو ة نزلوا في بعض المنازل‪ ،‬فخرجت عائشة لحاجتها‪ ،‬ففقدت عقداً لختها كانت أعارتها إياه‪ ،‬فرجعت‬ ‫تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها‪ ،‬فجاء النفر الذين كانوا يرحلون َه ْوـَدـَجـهـافظنوها فيه‬ ‫فحملوا الهودج‪ ،‬ول ينكرون ِخ ّف ـتَـه؛ لنها رضي ال عنها كانت فَتِيَّة السن لم يـَْغَش َهـاـ اللحم الذي كان‬

‫يثقلها‪ ،‬وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته‪ ،‬ولو كان الذي حمله واحداً أو‬

‫اثنين لم يخف عليهما الحال‪ ،‬فرجعت عائشة إلى منازلهم‪ ،‬وقد أصابت العقد‪ ،‬فإذا ليس به داع ول‬

‫مجيب‪ ،‬فقعدت في المنزل‪ ،‬وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها‪ ،‬وال غالب على أمره‪ ،‬يدبر المر‬ ‫من فوق عرشه كما يشاء‪ ،‬فغلبتها عيناها‪ ،‬فنامت‪ ،‬فلم تستيقظ إل بقول صفوان بن الُم َعـّطل‪ :‬إنا ل وإنا‬

‫إليه راجعون‪ ،‬زوجة رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ وكان صفوان قد َعَرسـ في أخريات الجيش ؛ لنه كان‬

‫كثير النو م‪ ،‬فلما رآها عرفها‪ ،‬وكان يراها قبل نزول الحجاب‪ ،‬فاسترجع وأناخ راحلته‪ ،‬فقربها إليها‪ ،‬فركبتها‪،‬‬

‫وما كلمها كلمة واحد ة‪ ،‬ولم تسمع منه إل استرجاعه‪ ،‬ثم سار بها يقودها‪ ،‬حتى قد م بها‪ ،‬وقد نزل الجيش‬ ‫في نحر الظهير ة‪ ،‬فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته‪ ،‬وما يليق به‪ ،‬ووجد الخبيث عدو ال ابن‬

‫أبي متنفسًا‪ ،‬فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه‪ ،‬فجعل يستحكي الفك‪ ،‬ويستوشيه‪،‬‬ ‫ويشيعه‪ ،‬ويذيعه‪ ،‬ويجمعه ويفرقه‪ ،‬وكان أصحابه يتقربون به إليه‪ ،‬فلما قدموا المدينة أفاض أهل الفك في‬ ‫الحديث‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم ساكت ليتكلم‪ ،‬ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي‬

‫طويلً ـ في فراقها‪ ،‬فأشار عليه علي رضي ال عنه أن يفارقها‪ ،‬ويأخذ غيرها‪ ،‬تلويحاً لتصريحًا‪ ،‬وأشار عليه‬ ‫أسامة وغيره بإمساكها‪ ،‬وأل يلتفت إلى كل م العداء‪ .‬فقا م على المنبر يستعذر من عبد ال ابن أبي‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فأظهر أسيد بن حضير سيد الوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عباد ة ـ سيد الخزرج‪ ،‬وهي قبيلة ابن‬

‫أبي ـ الحمية القبلية‪ ،‬فجري بينهما كل م تثاور له الحيان‪ ،‬فخفضهم رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى‬ ‫سكتوا وسكت‪.‬‬ ‫أما عائشة فلما رجعت مرضت شهرًا‪ ،‬وهي لتعلم عن حديث الفك شيئًا‪ ،‬سوي أنها كانت ل تعرف من‬ ‫تـ خرجت مع أ م ِم ْسـطَــح‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي‪ ،‬فلما نَِق َهـ ْ‬ ‫ل‪ ،‬فعثرت أ م مسطح في ِم ْرـِطـهـا‪ ،‬فدعت على ابنها‪ ،‬فاستنكرت ذلك عائشة منها‪ ،‬فأخبرتها‬ ‫إلى البـَراز لي ً‬ ‫الخبر‪ ،‬فرجعت عائشة واستأذنت رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر‪ ،‬ثم أتتهما‬ ‫بعد الذن حتى عرفت جلية المر‪ ،‬فجعلت تبكي‪ ،‬فبكت ليلتين ويومًا‪ ،‬لم تكن تكتحل بنو م‪ ،‬ول يرقأ لها‬ ‫دمع‪ ،‬حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها‪ ،‬وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم في ذلك‪ ،‬فتشهد وقال‪:‬‬ ‫‏)أما بعد يا عائشة‪ ،‬فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا‪ ،‬فإن كنت بريئة فسيبرئك ال‪ ،‬وإن كنت ألممت بذنب‬ ‫فاستغفري ال وتوبي إليه‪ ،‬فإن العبد إذا اعترف بذنبه‪ ،‬ثم تاب إلى ال تاب ال عليه(‪.‬‬ ‫وحينئذ قـَ​َلص دمعها‪ ،‬وقالت لكل من أبويها أن يجيبا‪ ،‬فلم يدريا ما يقولن‪ .‬فقالت‪ :‬وال لقد علمت لقد‬ ‫سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم‪ ،‬وصدقتم به‪ ،‬فلئن قلت لكم‪ :‬إني بريئة ـ وال يعلم أني بريئة‬

‫ص ّدـقـّني‪ ،‬وال ما أجد لي ولكم‬ ‫ـ ل تصدقونني بذلك‪ ،‬ولئن اعترفت لكم بأمر ـ وال يعلم أني منه بريئة ـ لتُ َ‬ ‫مثلً إل قول أبي يوسف‪ ،‬قال‪ :‬‏}فَص بـْر ج ِمـيـل واـللّهُ الْم سـتـعاُن َعَلى ماـ تَ ِ‬ ‫ص ُفـوـَن{ ‏]يوسف‪.[18 :‬‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ َ ٌَ‬ ‫س ّرـي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يضحك‪.‬‬ ‫ثم تحولت واضطجعت‪ ،‬ونزل الوحي ساعته‪ ،‬فَ ُ‬

‫فكانت أول كلمة تكلم بها‪ :‬‏)يا عائشة‪ ،‬أما ال فقد برأك(‪ ،‬فقالت لها أمها‪ :‬قومي إليه‪ ..‬فقالت عائشة ـ‬

‫إدللً ببراء ة ساحتها‪ ،‬وثقة بمحبة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وال ل أقو م إليه‪ ،‬ول أحمد إل ال‪.‬‬ ‫والذي أنزله ال بشأن الفك هو قوله تعالي‪ :‬‏}إِّن الِّذ يـن ج اـُؤوا ِبا ِْل فْـ ِ‬ ‫ص بَـةٌ ّمنـُك ْمـ‪ {...‬‏] النور‪:11 :‬‬ ‫ك عُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫‪ .[20‬العشر اليات‪.‬‬

‫وُج لِـد من أهل الفك ِم ْسـطَــح بن أثاثة‪ ،‬وحسان بن ثابت‪ ،‬وَح ْمـنَــة بنت جحش‪ ،‬جلدوا ثمانين ثمانين‪ ،‬ولم‬

‫يَُح ّدـ الخبيث عبد ال بن أبي مع أنه رأس أهل الفك‪ ،‬والذي تولي كبره ؛ إما لن الحدود تخفيف‬ ‫لهلها‪ ،‬وقد وعده ال بالعذاب العظيم في الخر ة‪ ،‬وإما للمصلحة التي ترك لجلها قتله‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والرتياب والقلق والضطراب عن جو المدينة‪ ،‬وافتضح رأس‬ ‫المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك‪ ،‬قال ابن إسحاق‪ :‬وجعل بعد ذلك إذا أحدث‬

‫الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمر‪:‬‬

‫‏)كيف ترى يا عمر؟ أما وال لوقتلته يو م قلت لي‪ :‬اقتله‪ ،‬لرعدت له آنف‪ ،‬ولو أمرتها اليو م بقتله لقتلته(‪.‬‬ ‫ت ‪ ،‬ـلْم رـ رسول ال صلى ال عليه وسلم أعظم بركة من أمري‪.‬‬ ‫قال عمر‪ :‬قد وال علم ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫البعوث والسرايا بعد غزو ة الُم َرـيِْس يــع‬ ‫‪ 1‬ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بَد ْوـَمـةـالَج ْنـَد لـ‪ ،‬في شعبان سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬أقعده رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم بين يديه وعممه بيده‪ ،‬وأوصاه بأحسن المور في الحرب‪ ،‬وقال له‪ :‬‏)إن‬

‫أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم(‪ ،‬فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلثة أيا م يدعوهم إلى السل م‪ ،‬فأسلم القو م‬ ‫وتزوج عبد الرحمن تُم اـ ِ‬ ‫ض رـ بنت الصبغ‪ ،‬وهي أ م أبي سلمة‪ ،‬وكان أبوها رأسهم وملكهم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ 2‬ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بَف َدـكـ‪ ،‬في شعبان سنة ‪ 6‬هـ‪ .‬وذلك أنه بلغ رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود‪ .‬فبعث إليهم علياً في مائتي رجل‪ ،‬وكان‬ ‫يسير الليل ويكمن النهار‪ ،‬فأصاب عيناً لهم‪ ،‬فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن‬ ‫يجعلوا لهم تمر خيبر‪ .‬ودل العين على موضع تجمع بني سعد‪ ،‬فأغار عليهم علي‪ ،‬فأخذ خمسمائة بعير‬ ‫وألفي شا ة‪ ،‬وهربت بنو سعد بالّظعُن ‪،‬ـ وكان رئيسهم َو بَـر بن عُلَْيم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري‪ ،‬في رمضان سنة ‪6‬هـ‪ .‬كان بطن من فـَزار ة‬

‫يريد اغتيال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا بكر الصديق‪ .‬قال‬

‫َس لَـَم ةـ بن الْك َوــع‪ :‬وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغار ة‪ ،‬فوردنا الماء‪ ،‬فقتل أبو بكر‬

‫من قتل‪ ،‬ورأيت طائفة وفيهم الذراري‪ ،‬فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم‪ ،‬ورميت بسهم بينهم‬ ‫وبين الجبل‪ ،‬فلما رأوا السهم وقفوا‪ ،‬وفيهم امرأ ة هي أ م قِْرفَـة‪ ،‬عليها قَْش ٌعـ من أِد يـم‪ ،‬معها ابنتها من‬ ‫أحسن العرب‪ ،‬فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر‪ ،‬فنفلني أبو بكر ابنتها‪ ،‬فلم أكشف لها ثوبا‪ ،‬وقد سأله‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بنت أ م قِْرفَـة‪ ،‬فبعث بها إلى مكة‪ ،‬وفدي بها أسري من المسلمين‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫وكانت أ م قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجهزت ثلثين فارساً من أهل بيتها‬

‫لذلك‪ ،‬فلقت جزاءها‪ ،‬وقتل الثلثون‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية ُك ْرـزـ بن جابر الفهري إلى العَُرنِّيين‪ ،‬في شوال سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬وذلك أن رهطاً من عَُك لـ وعَُريَنة‬ ‫أظهروا السل م‪ ،‬وأقاموا بالمدينة فاستوخموها‪ ،‬فبعثهم رسول ال صلى ال عليه وسلم في ذود في‬ ‫المراعي‪ ،‬وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها‪ ،‬فلما صحوا قتلوا راعي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫واستاقوا البل‪ ،‬وكفروا بعد إسلمهم‪ ،‬فبعث في طلبهم كرزاً الفهري في عشرين من الصحابة‪ ،‬ودعا‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫على العرنيين‪ :‬‏)الّلهم أعم عليهم الطريق‪ ،‬واجعلها عليهم أضيق من َمَسـكـ(‪ ،‬فعمي ال عليهم السبيل‬ ‫ت أعينهم‪ ،‬جزاء وقصاصاً بما فعلوا‪ ،‬ثم تركوا في ناحية الحر ة‬ ‫فأدركوا‪ ،‬فقطعت أيديهم وأرجلهم‪ ،‬وَس ُمـلَـ ْ‬ ‫حتى ماتوا ‪ ،‬وحديثهم في الصحيح عن أنس‪.‬‬

‫ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية ال ّ‬ ‫ضْمـ ِرــي مع سلمة بن أبي سلمة‪ ،‬في شوال سنة ‪ 6‬هـ‪.‬‬

‫أنه ذهب إلى مكة لغتيال أبي سفيان ؛ لن أبا سفيان كان أرسل أعرابياً لغتيال النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الغتيال‪ ،‬لهذا‪ ،‬ول ذاك‪ .‬ويذكرون أن عمرا قتل في الطريق‬

‫ثلثة رجال‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن عمرا أخذ جثة الشهيد ُخ بـَْيب في هذا السفر‪ ،‬والمعروف أن خبيباً استشهد‬ ‫بعد الّرِج يــع بأيا م أو أشهر‪ ،‬ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة ‪ 4‬هـ‪ ،‬فل أدري هل اختلط السفران على‬ ‫أهل السير‪ ،‬أو كان المران في سفر واحد في السنة الرابعة‪ ،‬وقد أنكر العلمة المنصورفوري أن تكون‬ ‫هذه السرية سرية حرب أو مناوشة‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫هذه هي السرايا والغزوات بعد الحزاب‪ ،‬وبني قريظة‪ ،‬لم يجر في واحد ة منها قتال مرير‪ ،‬وإنما وقعت‬

‫فيما وقعت مصادمة خفيفة‪ ،‬فليست هذه البعوث إل دوريات استطلعية‪ ،‬أو تحركات تأديبية ؛ لرهاب‬ ‫العراب والعداء الذين لم يستكينوا بعد‪ .‬ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري اليا م كان قد أخذ‬

‫في التطور بعد غزو ة الحزاب‪ ،‬وأن أعداء السل م كانت معنوياتهم في انهيار متواصل‪ ،‬ولم يكن بقي‬ ‫ضـدـ شوكتها‪ ،‬إل أن هذا التطور ظهر جلياً بصلح‬ ‫لهم أمل في نجاح كسر الدعو ة السلمية وَخ ْ‬

‫الحديبية‪ ،‬فلم تكن الهدنة إل العتراف بقو ة السل م‪ ،‬والتسجيل على بقائها في ربوع الجزير ة العربية‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عمر ة الحديبية في ذي القعد ة سنة ‪ 6‬هـ‬ ‫سبب عمر ة الحديبية‬

‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬

‫استنفار المسلمين‬

‫إبرا م الصلح وبنوده‬

‫المسلمون يتحركون إلى مكة‬

‫محاولة قريش صد المسلمين عن البيت‬

‫رد أبي جندل‬

‫النّْح رـ والَح ْلـق للِح ّل ـعن العمر ة‬

‫تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي‬

‫الباء عن رد المهاجرات‬

‫بَُد يْـل يتوسط بين رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقريش‬

‫ماذا يتمخض عن بنود المعاهد ة‬

‫حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى ال عليه‬

‫رسل قريش‬

‫وسلم‬

‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬

‫انحلت أزمة المستضعفين‬

‫عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش‬

‫إسل م أبطال من قريش‬

‫سبب عمر ة الحديبية‬ ‫ولما تطورت الظروف في الجزيز ة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين‪ ،‬أخذت طلئع الفتح العظم‬ ‫ونجاح الدعو ة السلمية تبدو شيئاً فشيئًا‪ ،‬وبدأت التمهيدات لقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم‬ ‫في المسجد الحرا م‪ ،‬الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوا م‪.‬‬ ‫أري رسول ال صلى ال عليه وسلم في المنا م‪ ،‬وهو بالمدينة‪ ،‬أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرا م‪،‬‬ ‫وأخذ مفتاح الكعبة‪ ،‬وطافوا واعتمروا‪ ،‬وحلق بعضهم وقصر بعضهم‪ ،‬فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا‪،‬‬ ‫وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك‪ ،‬وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر‪.‬‬ ‫استنفار المسلمين‬ ‫واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه‪ ،‬فأبطأ كثير من العراب‪ ،‬أما هو فغسل ثيابه‪،‬‬ ‫صـوـاء‪ ،‬واستخلف على المدينة ابن أ م مكتو م أو نَُم يـَْلة الليثي‪ .‬وخرج منها يو م الثنين غر ة‬ ‫وركب ناقته الَق ْ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ذي القعد ة سنة ‪ 6‬هـ‪ ،‬ومعه زوجته أ م سلمة‪ ،‬في ألف وأربعمائة‪ ،‬ويقال‪ :‬ألف وخمسمائة‪ ،‬ولم يخرج معه‬

‫بسلح‪ ،‬إل سلح المسافر‪ :‬السيوف في الُقُرب‪.‬‬ ‫المسلمون يتحركون إلى مكة‬

‫وتحرك في اتجاه مكة‪ ،‬فلما كان بذي الُح لَـيـَْف ةـ قـَّلد الهدي وأْش َعـَره‪ ،‬وأحر م بالعمر ة؛ ليأمن الناس من‬ ‫حربه‪ ،‬وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش‪ ،‬حتى إذا كان قريباً من عُْس َفـاـن أتاه عينه‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الحابيش ‪ ،‬وجمعوا لك جموعًا‪ ،‬وهم مقاتلوك وصادوك‬ ‫عن البيت‪ ،‬واستشار النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ ،‬وقال‪ :‬‏)أترون نميل إلى ذراري هؤلء الذين‬

‫أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين‪ ،‬وإن نجوا يكن عنق قطعها ال‪ ،‬أ م تريدون أن‬

‫نؤ م هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟( فقال أبو بكر‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬إنما جئنا معتمرين‪ ،‬ولم نجئ‬ ‫لقتال أحد‪ ،‬ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)فروحوا(‪ ،‬فراحوا‪.‬‬

‫محاولة قريش صد المسلمين عن البيت‬ ‫وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى ال عليه وسلم عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد‬ ‫المسلمين عن البيت كيفما يمكن‪ ،‬فبعد أن أعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الحابيش‪ ،‬نقل‬ ‫إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طَُو يـ‪ ،‬وأن مائتي فارس في قياد ة خالد بن الوليد مرابطة‬ ‫بُك َرـاع الغَِم يـم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة‪ .‬وقد حاول خالد صد المسلمين‪ ،‬فقا م بفرسانه‬ ‫إزاءهم يتراءي الجيشان‪ .‬ورأي خالد المسلمين في صل ة الظهر يركعون ويسجدون‪ ،‬فقال‪ :‬لقد كانوا‬

‫على غر ة‪ ،‬لو كنا حملنا عليهم لصبنا منهم‪ ،‬ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صل ة العصر ـ‬

‫ميلة واحد ة‪ ،‬ولكن ال أنزل حكم صل ة الخوف‪ ،‬ففاتت الفرصة خالداً‪.‬‬

‫تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي‬ ‫وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم طريقاً َو ْعـًرـا بين شعاب‪ ،‬وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري‬ ‫الَح ْمـضـ في طريق تخرجه على ثنية الُم َرـار مهبط الحديبية من أسفل مكة‪ ،‬وترك الطريق الرئيسي الذي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يفضي إلى الحر م ماراً بالتنعيم‪ ،‬تركه إلى اليسار‪ ،‬فلما رأي خالد قَـتـَر ة الجيش السلمي قد خالفوا عن‬ ‫طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش‪.‬‬ ‫وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته‪ ،‬فقال الناس‪َ :‬ح ْلـ َح ْلـ‪،‬ـ‬

‫تـ ‪ ،‬فقالوا‪ :‬خلت القصواء‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما خلت القصواء‪ ،‬وما ذاك لها‬ ‫فألَّح ْ‬

‫بخلق‪ ،‬ولكن حبسها حابس الفيل(‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)والذي نفسي بيده ل يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات‬

‫ال إل أعطيتهم إياها(‪ ،‬ثم زجرها فوثبت به‪ ،‬فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية‪ ،‬على ثَ​َم دـ قليل الماء‪،‬‬ ‫إنما يتبرضه الناس تبرضًا‪ ،‬فلم يلبث أن نزحوه‪ .‬فشكوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العطش‪،‬‬ ‫فانتزع سهماً من كنانته‪ ،‬ثم أمرهم أن يجعلوه فيه‪ ،‬فوال ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا‪.‬‬

‫بَُد يْـل يتوسط بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وقريش‬ ‫ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء بديل بن َوْرـَقاء الخزاعي في نفر من خزاعة‪ ،‬وكانت‬

‫ص حـ لرسول ال صلى ال عليه وسلم من أهل تـَُه اـَمةـ‪ ،‬فقال‪ :‬إني تركت كعب ابن لؤي‪،‬‬ ‫خزاعة َعْيَبة نُ ْ‬ ‫نزلوا أعداد مياه الحديبية‪ ،‬معهم الُعوذ المَطاِفيل ‪ ،‬وهم مقاتلوك وصاَدوـك عن البيت‪ .‬قال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إنا لم نجئ لقتال أحد‪ ،‬ولكنا جئنا معتمرين‪ ،‬وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب‬ ‫وأضرت بهم‪ ،‬فإن شاءوا ماددتهم‪ ،‬ويخلوا بيني وبين الناس‪ ،‬وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس‬ ‫فعلوا‪ ،‬وإل فقد َج ّمـوـا ‪ ،‬وإن هم أبوا إل القتال فوالذي نفسي بيده لقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد‬ ‫سالفتي‪ ،‬أو لينفذن ال أمره(‪.‬‬ ‫قال بديل‪ :‬سأبلغهم ما تقول‪ ،‬فانطلق حتى أتي قريشًا‪ ،‬فقال‪ :‬إني قد جئتكم من عند هذا الرجل‪،‬‬ ‫وسمعته يقول قول‪ ،‬فإن شئتم عرضته عليكم‪.‬‬ ‫فقال سفهاؤهم‪ :‬ل حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء‪ .‬وقال ذوو الرأي منهم‪ :‬هات ما سمعته‪ .‬قال‪ :‬سمعته‬ ‫يقول كذا وكذا‪ ،‬فبعثت قريش ِم ْكـَرــز بن حفص‪ ،‬فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬هذا‬ ‫رجل غادر‪ ،‬فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه‪ ،‬فرجع إلى قريش وأخبرهم‪.‬‬

‫رسل قريش‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الُح لَـْيس بن علقمة‪ :‬دعوني آته‪ .‬فقالوا‪ :‬ائته‪ ،‬فلما أشرف على النبي صلى‬

‫ال عليه وسلم وأصحابه قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)هذا فلن‪ ،‬وهو من قو م يعظمون البدن‪،‬‬ ‫فابعثوها(‪ ،‬فبعثوها له‪ ،‬واستقبله القو م يلبون‪ ،‬فلما رأي ذلك‪ .‬قال‪ :‬سبحان ال ما ينبغي لهؤلء أن‬

‫يصدوا عن البيت‪ ،‬فرجع إلى أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت البدن قد قلدت وأشعرت‪ ،‬وما أري أن يصدوا‪،‬‬ ‫وجري بينه وبين قريش كل م أحفظه‪.‬‬ ‫فقال عرو ة بن مسعود الثقفي‪ :‬إن هذا قد عرض عليكم خطة ُرْش دـ فاقبلوها‪ ،‬ودعوني آته‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فجعل‬

‫يكلمه‪ ،‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم نحواً من قوله لبديل‪ .‬فقال له عرو ة عند ذلك‪ :‬أي محمد‬ ‫أرأيت لو استأصلت قومك‪ ،‬هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك‪ ،‬وإن تكن الخري فوال إني‬ ‫ل أري وجوها‪ ،‬وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك‪ ،‬قال له أبو بكر‪ :‬امصص بَْظر‬ ‫اللت‪ ،‬أنحن نفر عنه؟ قال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬أما والذي نفسي بيده لول يد كانت عندي‬ ‫لم أْج ِزـَك بها لجبتك‪ .‬وجعل يكلم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلما كلمه أخذ بلحيته‪ ،‬والمغير ة بن‬ ‫شعبة عند رأس النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعه السيف وعليه الِم غْـَف ُرـ‪،‬ـ فكلما أهوي عرو ة إلى لحية‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف‪ ،‬وقال‪ :‬أخر يدك عن لحية رسول ال صلى ال عليه‬ ‫ت أسعي في‬ ‫وسلم‪ ،‬فرفع عرو ة رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬المغير ة بن شعبة‪ ،‬فقال‪ :‬أي عَُذ رـ‪ ،‬أو لس ُ‬ ‫غَْد رـِتك؟ وكان المغير ة ِ‬ ‫ب ـقوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم‪ ،‬ثم جاء فأسلم‪ ،‬فقال النبـي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صحـ َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أما السل م فأقبُل‪ ،‬وأما المال فلست منـه فـي شيء( ‏)وكان المغير ة ابن أخي‬ ‫عرو ة(‪.‬‬

‫ثم إن عرو ة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وتعظيمهم له‪ ،‬فرجع إلى أصحابه‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬أي قو م‪ ،‬وال لقد وفدت على الملوك‪ ،‬على قيصر وكسري والنجاشي‪ ،‬وال ما رأيت ملكاً يعظمه‬ ‫أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا‪ ،‬وال إن تـنَّخ َمـ نخامة إل وقعت في كف رجل منهم‪ ،‬فدلك‬

‫بها وجهه وجلده‪ ،‬وإذا أمرهم ابتدروا أمره‪ ،‬وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه‪ ،‬وإذا تكلم خفضوا‬ ‫أصواتهم عنده‪ ،‬وما يُِح ّد ـوـن إليه النظر تعظيماً له‪ ،‬وقد عرض عليكم خطة ُرْش ٍدـ فاقبلوها‪.‬‬

‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما رأي شباب قريش الطائشون‪ ،‬الطامحون إلى الحرب‪ ،‬رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة‬

‫ل‪ ،‬ويتسللوا إلى معسكر المسلمين‪ ،‬ويحدثوا أحداثاً‬ ‫تحول بينهم وبين الصلح‪ ،‬فقرروا أن يخرجوا لي ً‬ ‫تشعل نار الحرب‪ ،‬وفعلً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار‪ ،‬فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلً فهبطوا من‬ ‫جبل التنعيم‪ ،‬وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين‪ ،‬غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم‬

‫جميعاً‪.‬‬ ‫ورغبة ف ــي الصلــح أطلـق سراحهم النبي صلى ال عليه وسلم وعفا عنـهم‪ ،‬وفي ذلك أنزل ال‪ :‬‏}َو ُهـَوـ‬ ‫الِّذ يـ َك ّ‬ ‫فـ أَيِْد يـَُه ْمـ َعنُك ْمـ َوأَـيِْد يَـُك ْمـ َعنـُْه مـ بِبَطِْن َمّكـةَـ ِم نـ بـَْع ِدـ أَْن أَظَْف َرـُك ْمـ َعلَْيِه ْمـ{ ‏]الفتح‪[24 :‬‬ ‫عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش‬ ‫وحينئذ أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا‬

‫السفر‪ ،‬فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم‪ ،‬فاعتذر قائلً‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ليس لي أحد بمكة من بني‬ ‫عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت‪ ،‬فأرسل عثمان بن عفان‪ ،‬فإن عشيرته بها‪ ،‬وإنه مبلغ ما أردت‪،‬‬ ‫فدعاه‪ ،‬وأرسله إلى قريش‪ ،‬وقال‪ :‬أخبرهم أنا لم نأت لقتال‪ ،‬وإنما جئنا عمارًا‪ ،‬وادعهم إلى السل م‪،‬‬ ‫وأمره أن يأتي رجالً بمكة مؤمنين‪ ،‬ونساء مؤمنات‪ ،‬فيبشرهم بالفتح‪ ،‬ويخبرهم أن ال عز وجل مظهر‬ ‫دينه بمكة‪ ،‬حتى ل يستخفي فيها أحد باليمان‪.‬‬

‫فانطلق عثمان حتى مر على قريش ِببـَْلَدح‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين تريد؟ فقال‪ :‬بعثني رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم بكذا وكذا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد سمعنا ما تقول‪ ،‬فانفذ لحاجتك‪ ،‬وقا م إليه أبان ابن سعيد بن العاص‪ ،‬فرحب‬ ‫به ثم أسرج فرسه‪ ،‬فحمل عثمان على الفرس‪ ،‬وأجاره وأردفه حتى جاء مكة‪ ،‬وبلغ الرسالة إلى زعماء‬

‫قريش‪ ،‬فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت‪ ،‬فرفض هذا العرض‪ ،‬وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن‪ ،‬ويبرموا أمرهم‪ ،‬ثم‬

‫يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الحتباس‪ ،‬فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل‪ ،‬فقال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لما بلغته الشاعة‪ :‬‏)ل نبرح حتى نناجز القو م(‪ ،‬ثم دعا أصحابه إلى‬

‫البيعة‪ ،‬فثاروا إليه يبايعونه على أل يفروا‪ ،‬وبايعته جماعة على الموت‪ ،‬وأول من بايعه أبو سنان السدي‪،‬‬ ‫وبايعه سلمة بن الكوع على الموت ثلث مرات‪ ،‬في أول الناس ووسطهم وآخرهم‪ ،‬وأخذ رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم بيد نفسه وقال‪ :‬‏)هذه عن عثمان(‪ .‬ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه‪ ،‬ولم‬

‫يتخلف عن هذه البيعة إل رجل من المنافقين يقال له‪َ :‬ج ّدـ بن قـَْيس ‪.‬‬

‫أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه البيعة تحت شجر ة‪ ،‬وكان عمر آخذا بيده‪ ،‬وَمْعـِقـلـ بن يَ​َس اـر‬

‫آخذا بغصن الشجر ة يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل ال‬ ‫فيها‪ :‬‏}لَ​َق ْدـ ر ِ‬ ‫تـ ال ّ‬ ‫ش َجـَرـِ ة{الية ‏]الفتح‪[18 :‬‬ ‫ض َيـ اللّهُ َعِن الُْم ْؤـِمـنِـيَن إِْذ يـَُبايُِعونَ َ‬ ‫ك تَْح َ‬ ‫َ‬

‫إبرا م الصلح وبنوده‬ ‫وعرفت قريش ضيق الموقف‪ ،‬فأسرعت إلى بعث ُس َهـْيـل بن عمرو لعقد الصلح‪ ،‬وأكدت له أل يكون في‬

‫الصلح إل أن يرجع عنا عامه هذا‪ ،‬ل تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنو ة أبدًا‪ ،‬فأتاه سهيل بن‬ ‫عمرو‪ ،‬فلما رآه \ قال‪ :‬‏)قد سهل لكم أمركم(‪ ،‬أراد القو م الصلح حين بعثوا هذا الرجل‪ ،‬فجاء سهيل‬ ‫ل‪ ،‬ثم اتفقا على قواعد الصلح‪ ،‬وهي هذه‪:‬‬ ‫فتكلم طوي ً‬ ‫‪ .1‬الرسول صلى ال عليه وسلم يرجع من عامه‪ ،‬فل يدخل مكة‪ ،‬وإذا كان العا م القابل دخلها‬ ‫المسلمون فأقاموا بها ثلثًا‪ ،‬معهم سلح الراكب‪ ،‬السيوف في الُقُرـب‪ ،‬ول يتعرض لهم بأي نوع من‬ ‫أنواع التعرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين‪ ،‬يأمن فيها الناس‪ ،‬ويكف بعضهم عن بعض‪.‬‬

‫‪ .3‬من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه‪ ،‬ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم‬ ‫دخل فيه‪ ،‬وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق‪ ،‬فأي عدوان تتعرض له أي‬

‫من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ .4‬من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشاً ممن مع‬ ‫محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه‪.‬‬ ‫ثم دعا علياً ليكتب الكتاب‪ ،‬فأملي عليه‪ :‬‏)بسم ال الرحمن الرحيم( فقال سهيل‪ :‬أما الرحمن فوال ل‬ ‫ندري ما هو؟ ولكن اكتب‪ :‬باسمك الّلهم‪ .‬فأمر النبي صلى ال عليه وسلم بذلك‪ .‬ثم أملي‪ :‬‏)هذا ما‬

‫صالح عليه محمد رسول ال( فقال سهيل‪ :‬لو نعلم أنك رسول ال ما صددناك عن البيت‪ ،‬ول قاتلناك‪،‬‬

‫ولكن اكتب‪ :‬محمد بن عبد ال فقال‪ :‬‏)إني رسول ال وإن كذبتموني(‪ ،‬وأمر علياً أن يكتب‪ :‬محمد بن‬ ‫عبد ال‪ ،‬ويمحو لفظ رسول ال‪ ،‬فأبي على أن يمحو هذا اللفظ‪ .‬فمحاه صلى ال عليه وسلم بيده‪ ،‬ثم‬

‫تمت كتابة الصحيفة‪ ،‬ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وكانوا‬

‫حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب‪ ،‬كما قدمنا في أوائل الكتاب‪ ،‬فكان دخولهم في هذا العهد‬

‫تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش‪.‬‬ ‫رد أبي جندل‬

‫فـ في قيوده‪ ،‬قد خرج من أسفل مكة حتى رمي‬ ‫وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو َج ْنـَد لـ بن سهيل يـَْر ُسـ ُ‬

‫بنفسه بين ظهور المسلمين‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ :‬‏)إنا لم نقض الكتاب بعد(‪.‬‬

‫فقال‪ :‬فوال إذا ل أقاضيك على شيء أبداً‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)فأجزه لي(‪ .‬قال‪ :‬ما أنا‬

‫بمجيزه لك‪ .‬قال‪ :‬‏)بلى فافعل(‪ ،‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ .‬وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه‪ ،‬وأخذ بتلبيبه‬ ‫وجره ؛ ليرده إلى المشركين‪ ،‬وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬أأرد إلى‬

‫المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)يا أبا جندل‪ ،‬اصبر واحتسب‪ ،‬فإن‬

‫ال جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا‪ ،‬إنا قد عقدنا بيننا وبين القو م صلحًا‪،‬‬ ‫وأعطيناهم على ذلك‪ ،‬وأعطونا عهد ال فل نغدر بهم(‪.‬‬ ‫فوثب عمر بن الخطاب رضي ال عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‪ :‬اصبر يا أبا جندل‪ ،‬فإنما‬

‫هم المشركون‪ ،‬وإنما د م أحدهم د م كلب‪ ،‬ويدني قائم السيف منه‪ ،‬يقول عمر‪ :‬رجوت أن يأخذ السيف‬

‫فيضرب به أباه‪ ،‬فضن الرجل بأبيه‪ ،‬ونفذت القضية‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النّْح رـ والَح ْلـق للِح ّل ـعن العمر ة‬ ‫ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من قضية الكتاب قال‪ :‬‏)قوموا فانحروا(‪ ،‬فوال ما قا م منهم‬ ‫أحد حتى قال ثلث مرات‪ ،‬فلما لم يقم منهم أحد قا م فدخل على أ م سلمة‪ ،‬فذكر لها ما لقي من‬

‫الناس‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أتحب ذلك؟ اخرج‪ ،‬ثم ل تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك‪ ،‬وتدعو‬ ‫حالقك فيحلقك‪ ،‬فقا م فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك‪ ،‬نحر بُْد نَــه‪ ،‬ودعا حالقه فحلقه‪،‬‬ ‫فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا‪ ،‬وجعل بعضهم يحلق بعضًا‪ ،‬حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمًا‪،‬‬

‫وكانوا نحروا البدنة عن سبعة‪ ،‬والبقر ة عن سبعة‪ ،‬ونحر رسول ال صلى ال عليه وسلم جملً كان لبي‬ ‫جهل‪ ،‬كان في أنفه بـَُر ةٌ من فضة‪ ،‬ليغيظ به المشركين‪ ،‬ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم للمحلقين‬

‫ثلثاً بالمغفر ة وللمقصرين مر ة‪ .‬وفي هذا السفر أنزل ال فدية الذي لمن حلق رأسه‪ ،‬بالصيا م‪ ،‬أو‬ ‫الصدقة‪ ،‬أو النسك‪ ،‬في شأن كعب بن ُعْج َرـ ة‪.‬‬

‫الباء عن رد المهاجرات‬ ‫ثم جاء نسو ة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية‪ ،‬فرفض طلبهم‬ ‫هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهد ة بصدد هذا البند هي‪ :‬‏)وعلى أنه ل يأتيك منا رجل‪،‬‬

‫وإن كان على دينك إل رددته علينا( ‪ ،‬فلم تدخل النساء في العقد رأساً‪ .‬وأنزل ال في ذلك‪ :‬‏}َيا َأيـَّه اـ‬ ‫الِّذ يـن آمنُـوا إَِذا ج اـءُك مـ الْم ْؤـِمـنَـا ُ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِمـ الَْك َوـاـفِ​ِر{ ‏]الممتحنة‪[10 :‬‬ ‫ت ُمَه اـج َرـاتَفاْم تَـح نُــوُه ّنـ{‪ ،‬حتى بلغ ‏}بِع َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ك َعَلى َأن ّل‬ ‫ت يـَُبايِْع نَـ َ‬ ‫فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى‪ :‬‏}إَِذا َج اـءَك الُْم ْؤـِمـنَـا ُ‬ ‫يُْش ِرـْك َنـ ِباللِّه َش ْيـًئا‪ {...‬إلخ ‏]الممتحنة‪ ،[12 :‬فمن أقرت بهذه الشروط قال لها‪ :‬‏)قد بايعتك(‪ ،‬ثم لم‬ ‫يكن يردهن‪.‬‬ ‫وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم‪ .‬فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك‪ ،‬تزوج‬

‫بإحداهما معاوية‪ ،‬وبالخري صفوان بن أمية‪.‬‬

‫ماذا يتمخض عن بنود المعاهد ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫هذا هو صلح الحديبية‪ ،‬ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته ل يشك أنه فتح عظيم للمسلمين‪ ،‬فقريش‬

‫لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف‪ ،‬بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم‪ ،‬وتنتظر أن تشهد يوماً ما‬ ‫نهايتهم‪ ،‬وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعو ة السلمية وبين الناس‪ ،‬بصفتها ممثلة الزعامة‬ ‫الدينية والصدار ة الدنيوية في جزير ة العرب‪ ،‬ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقو ة المسلمين‪ ،‬وأن‬ ‫قريشاً ل تقدر على مقاومتهم‪ ،‬ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية‬ ‫وزعامتها الدينية‪ ،‬وأنها لتهمها الن إل نفسها‪ ،‬أما سائر الناس وبقية جزير ة العرب فلو دخلت في‬

‫السل م بأجمعها‪ ،‬فليهم ذلك قريشًا‪ ،‬ول تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل‪ .‬أليس هذا فشلً‬ ‫ذريعاً بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين‬ ‫المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادر ة الموال وإباد ة الرواح‪،‬‬

‫وإفناء الناس‪ ،‬أو إكراه العدو على اعتناق السل م‪ ،‬وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون‬ ‫من هذه الحروب هو الح ـرية الكاملة للناس فـي العــقيد ة والــدين ‏}فَ​َمنـ َش اـء فـَْليـُْؤ ِمـنـ َو َمـنـ َش اـء فـَْليَْك ُفـرـ{‬ ‫‏]الكهف‪ .[29 :‬ل يحول بينهم وبين ما يريدون أي قو ة من القوات‪ ،‬وقدحصل هذا الهدف بجميع‬ ‫أجزائه ولوازمه‪ ،‬وبطريق ربما ل يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين‪ ،‬وقد كسب المسلمون‬

‫لجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعو ة‪ ،‬فبينما كان عدد المسلمين ل يزيد على ثلثة آلف قبل‬ ‫الهدنة صار عدد الجيش السلمي في سنتين عند فتح مكة عشر ة آلف‪.‬‬ ‫أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين‪ ،‬فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب‪ ،‬وإنما بدأتها‬ ‫قريش‪ ،‬يقول ال تعالى‪ :‬‏}َو ُهـمـ بَ​َد ُؤـوُك ْمـ أَّوَلـ َمّرـٍ ة{ ‏]التوبة‪ ،[13 :‬أما المسلمون فلم يكن المقصود من‬ ‫دورياتهم العسكرية إل أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل ال‪ ،‬وتعمل معهم بالمساوا ة‪ ،‬كل‬ ‫من الفريقين يعمل على شاكلته‪ ،‬فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد‪ ،‬ودليل‬ ‫على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره‪.‬‬

‫أما البند الول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرا م‪ ،‬فهو أيضاً فشل لقريش‪ ،‬وليس فيه ما يشفي‬ ‫قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العا م الواحد فقط‪.‬‬ ‫أعطت قريش هذه الخلل الثلث للمسلمين‪ ،‬وحصلت بإزائها خلة واحد ة فقط‪ ،‬وهي ما في البند‬

‫الرابــع‪ ،‬ولـكن تلك الخلة تافهة جدًا‪ ،‬ليس فيها شيء يضر بالمسلمين‪ ،‬فمعلو م أن المسلم ما دا م‬ ‫مسلماً ل يفر عن ال ورسوله‪ ،‬وعن مدينة السل م‪ ،‬ول يفر إل إذا ارتد عن السل م ظاهراً أو باطنًا‪،‬‬ ‫فإذا ارتد فل حاجة إليه للمسلمين‪ ،‬وانفصاله من المجتمع السلمي خير من بقائه فيه‪ ،‬وهذا الذي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أشار إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله‪ :‬‏)إنه من ذهب منا إليهم فأبعده ال(‪ .‬وأما من أسلم من‬

‫أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض ال واسعة‪ ،‬ألم تكن الحبشة واسعة‬

‫للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن السل م شيئاً؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله‪ :‬‏)ومن‬

‫جاءنا منهم سيجعل ال له فرجاً ومخرجاً(‪.‬‬

‫والخذ بمثل هذا الحتفاظ‪ ،‬وإن كان مظهر العتزاز لقريش‪ ،‬لكنه في الحقيقة ينبئ عن شد ة انزعاج‬ ‫قريش وهلعهم وَخ َوـِرـهم‪ ،‬وعن شد ة خوفهم على كيانهم الوثني‪ ،‬وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليو م‬ ‫على شفا ُج ُرـف هار ل بد له من الخذ بمثل هذا الحتفاظ‪ .‬وما سمح به النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫من أنه ل يسترد من فّر إلى قريش من المسلمين‪ ،‬فليس هذا إل دليلً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه‬ ‫وقوته كمال العتماد‪ ،‬ول يخاف عليه من مثل هذا الشرط‪.‬‬

‫حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح‪ ،‬لكن هناك ظاهرتان عمت لجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد‪.‬‬ ‫الولي‪ :‬أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به‪ ،‬فما له يرجع ولم يطف به؟‬ ‫الثانية‪ :‬أنه رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلى الحق‪ ،‬وال وعد إظهار دينه‪ ،‬فما له قبل ضغط قريش‪،‬‬ ‫وأعطي الّد نِـيَّة في الصلح؟‬ ‫كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون‪ ،‬وصارت مشاعر المسلمين لجلهما‬

‫جريحة‪ ،‬بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح‪.‬ولعل أعظمهم حزناً كان عمر‬ ‫بن الخطاب‪ ،‬فقد جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ألسنا على حق وهم على‬

‫باطل؟ قـال‪ :‬‏)بلى(‪ .‬قـال‪ :‬أليس قتلنا في الجنة وقتلهم في النار؟ قال‪ :‬‏)بلي(‪ .‬قال‪ :‬ففيم نعطي الدنية‬ ‫في ديننا‪ ،‬ونرجع ولما يحكم ال بيننا وبينهم؟ قال‪ :‬‏)يا ابن الخطاب‪ ،‬إني رسول ال ولست أعصيه‪،‬‬

‫وهو ناصري ولن يضيعني أبداً(‪ .‬قال‪ :‬أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال‪ :‬‏)بلي‪،‬‬ ‫فأخبرتك أنا نأتيه العا م؟( قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬‏)فإنك آتيه ومطوف به(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر‪ ،‬فقال له كما قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورد عليه أبو‬ ‫بكر‪ ،‬كما رد عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء‪ ،‬وزاد‪ :‬فاستمسك بغَْر ِزـه حتى تموت‪ ،‬فوال إنه‬ ‫لعلى الحق‪.‬‬

‫ك فـَْتًح اـ ّمِبيًنا‪ {...‬إلخ ‏]سور ة الفتح‪ ،[1:‬فأرسل رسول ال إلى عمر فأقرأه إياه‪.‬‬ ‫ثم نزلت‪ :‬‏}إِّنا فـتَْح نَــا لَ َ‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أو فتح هو؟ قال‪ :‬‏)نعم(‪ .‬فطابت نفسه ورجع‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬مازلت أتصدق وأصو م‬ ‫ثم ند م عمر على ما فرط منه ندماً شديدًا‪ ،‬قال عمر‪ :‬فعملت لذلك أعما ً‬ ‫وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ‪ ،‬مخافة كلمي الذي تكلمت به‪ ،‬حتى رجوت أن يكون خيراً‪.‬‬

‫انحلت أزمة المستضعفين‬ ‫ولما رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬واطمأن بها‪ ،‬انفلت رجل من المسلمين‪ ،‬ممن‬ ‫كان يعذب في مكة‪ ،‬وهو أبو ب ِ‬ ‫ص يــر‪ ،‬رجل من ثقيف حليف لقريش‪ ،‬فأرسلوا في طلبه رجلين‪ ،‬وقالوا‬ ‫َ‬ ‫للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬العهد الذي جعلت لنا‪ .‬فدفعه النبي صلى ال عليه وسلم إلى الرجلين‪،‬‬ ‫فخرجا به حتى بلغا ذا الُح لَـيـَْف ةـ‪ ،‬فنزلوا يأكلون من تمر لهم‪ ،‬فقال أبو بصير لحد الرجلين‪ :‬وال إني‬ ‫ت‪.‬‬ ‫ت به ثم َج ّرـبْ ُ‬ ‫لري سيفك هذا يا فلن جيدًا‪ ،‬فاستله الخر فقال‪ :‬أجل‪ ،‬وال إنه لجيد‪ ،‬لقد َج ّرـبْ ُ‬ ‫فقال أبو بصير‪ :‬أرني أنظر إليه‪ ،‬فأمكنه منه‪ ،‬فضربه حتى برد‪.‬‬

‫وفر الخر حتى أتي المدينة‪ ،‬فدخل المسجد يعدو‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم حين رآه‪:‬‬ ‫‏)لقد رأى هذا ذعراً(‪ ،‬فلما انتهي إلى النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬قُِتل صاحبي‪ ،‬وإني لمقتول‪ ،‬فجاء‬

‫أبو بصير وقال‪ :‬يا نبي ال‪ ،‬قد وال أْو فَـي ال ذمتك‪ ،‬قد رددتني إليهم‪ ،‬ثم أنجاني ال منهم‪ ،‬قال رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ويل أمه‪ِ ،‬م ْسـَعــر َح ْرـ ٍ‬ ‫بـ لو كان له أحد(‪ ،‬فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده‬ ‫ف البحر‪ ،‬وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل‪ ،‬فلحق بأبي بصير‪ ،‬فجعل ل‬ ‫إليهم‪ ،‬فخرج حتى أتي ِس ي ـ َ‬ ‫يخرج من قريش رجل قد أسلم إل لحق بأبي بصير‪ ،‬حتى اجتمعت منهم عصابة‪ .‬فو ال ما يسمعون‬ ‫بعير خرجت لقريش إلى الشا م إل اعترضوا لها‪ ،‬فقتلوهم وأخذوا أموالهم‪ .‬فأرسلت قريش إلى النبي‬

‫صلى ال عليه وسلم تناشده ال والرحم لما أرسل‪ ،‬فمن أتاه فهو آمن‪ ،‬فأرسل النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم إليهم‪ ،‬فقدموا عليه المدينة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إسل م أبطال من قريش‬ ‫وفي سنة ‪ 7‬من الهجر ة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة‪ ،‬ولما‬ ‫حضروا عند النبـي صلى ال عليه وسلم قـال‪ :‬‏)إن مكـة قد ألقت إلينا أفلذ كبدها(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬طور جديد‬ ‫مكاتبة الملوك والمراء‬ ‫الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة‬ ‫الكتاب إلى المقوقس ملك مصر‬ ‫الكتاب إلى كسرى ملك فارس‬ ‫الكتاب إلى قيصر ملك الرو م‬ ‫الكتاب إلى المنذر بن َس اـِوي‬

‫الكتاب إلى َه ْوـذَـ ة بن على صاحب اليمامة‬ ‫الكتاب إلى الحارث بن أبي َش ِمـرـ الغساني صاحب دمشق‬ ‫الكتاب إلى ملك عَُم اـن‬

‫إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حيا ة السل م والمسلمين‪ ،‬فقد كانت قريش أقوي قو ة‬ ‫وأعندها وألدها في عداء السل م‪ ،‬وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب المن والسل م انكسر‬

‫أقوي جناح من أجنحة الحزاب الثلثة ـ قريش وغَطَ​َف اـن واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية‪،‬‬

‫وزعيمتهم في ربوع جزير ة العرب انخفضت حد ة مشاعر الوثنيين‪ ،‬وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد‬

‫كبير‪ ،‬ولذلك ل نري لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة‪ ،‬وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء‬ ‫اليهود‪.‬‬ ‫أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلئهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر‪ ،‬وكانت شياطينهم تبيض‬

‫هناك وتفرخ‪ ،‬وتؤجج نار الفتنة‪ ،‬وتغري العراب الضاربة حول المدينة‪ ،‬وتبيت للقضاء على النبي صلى‬

‫ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬أو للحاق الخسائر الفادحة بهم‪ ،‬ولذلك كان أول إقدا م حاسم من النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر‪.‬‬

‫ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبير ة لنشر الدعو ة السلمية‬

‫وإبلغها‪ ،‬وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال‪ ،‬وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم‬

‫العسكري ؛ ولذلك نري أن نقسم هذه المرحلة إلى قسمين‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 1‬ـ النشاط في مجال الدعو ة‪ ،‬أو مكاتبة الملوك والمراء‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ النشاط العسكري‪.‬‬ ‫وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة‪ ،‬نتناول موضوع مكاتبة الملوك والمراء ؛ إذ الدعو ة‬

‫السلمية هي المقدمة طبعًا‪ ،‬بل ذلك هو الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب‬ ‫والل م‪ ،‬والحروب والفتن‪ ،‬والقلقل والضطرابات‪.‬‬

‫مكاتبة الملوك والمراء‬ ‫في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك‬

‫يدعوهم إلى السل م‪.‬‬

‫ولما أراد أن يكتب إلى هؤلء الملوك قيل له‪ :‬إنهم ل يقرءون كتابا إل وعليه خاتم‪ ،‬فاتخذ النبي صلى‬

‫ال عليه وسلم خاتماً من فضة‪ ،‬نقشه‪ :‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان هذا النقش ثلثة‬ ‫أسطر‪ :‬محمد سطر‪ ،‬ورسول سطر‪ ،‬وال سطر‪ ،‬هــكذا‪.‬‬ ‫واختار من أصحابه رسلً لهم معرفة وخبر ة‪ ،‬وأرسلهم إلى الملوك‪ ،‬وقد جز م العلمة المنصورفوري أن‬

‫النبي صلى ال عليه وسلم أرسل هؤلء الرسل غر ة المحر م سنة سبع من الهجر ة قبل الخروج إلى خيبر‬

‫بأيا م‪ .‬وفيما يلي نصوص هذه الكتب‪ ،‬وبعض ما تمخضت عنه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة‪:‬‬ ‫ص َحـَمـةـ بن البَْج رـ‪ ،‬كتب إليه النبي صلى ال عليه وسلم مع عمرو بن أمية‬ ‫وهذا النجاشي اسمه أ ْ‬ ‫ال ّ‬ ‫ضْمـ ِرــي في آخر سنة ست أو في المحر م سنة سبع من الهجر ة‪ .‬وقد ذكر الطبري نص الكتاب‪ ،‬ولكن‬ ‫النظر الدقيق في ذلك النص‪ ،‬يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى ال عليه وسلم بعد‬

‫الحديبية‪ ،‬بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المكي‪ ،‬فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلء المهاجرين بهذا اللفظ‪ :‬‏)وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً‬ ‫ومعه نفر من المسلمين‪ ،‬فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر(‪.‬‬ ‫وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى ال عليه وسلم إلى النجاشي‪ ،‬وهو هذا‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬هذا كتاب من محمد رسول ال إلى النجاشي‪ ،‬الصحم عظيم الحبشة‪ ،‬سل م‬ ‫على من اتبع الهدي‪ ،‬وآمن بال ورسوله‪ ،‬وشهد أن ل إله إلال وحده ل شريك له‪ ،‬لم يتخذ صاحبه‬

‫ول ولدًا‪ ،‬وأن محمًد اـ عبده ورسوله‪ ،‬وأدعوك بدعاية السل م‪ ،‬فإني أنا رسوله فأسلم تسلم‪ ،‬‏}َيا أَْه َلـ‬ ‫الِْكَتا ِ‬ ‫ضـَنا بـَْع ضـاً‬ ‫ب تـَعالَْو اْـ إَِلى َك لَـَم ٍةـ َس َوـاـء بَـيْـنـَنا َو بـَـيـْنَُك ْمـ أَلّ نـَْع بُـَد إِلّ اللَّه َولَ نُْش ِرـَك بِ​ِه َش ْيـًئا َولَ يـَتِّخ َذ ـ بـَْع ُ‬ ‫أَْرَباًبا ّمنـ ُدوِن اللِّه فَِإ نـ تـَو لّـْو اْـ فـَُقوـُلواْ اْش َهـُدـوـاْ بِأَّنا ُمْس لِـُم وـَن{ فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك(‪.‬‬ ‫وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد ال ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ‬

‫بمثل ما أورده ابن القيم مع الختلف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً‬ ‫بليغًا‪ ،‬واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث‪ ،‬وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى النجاشي عظيم الحبشة‪ ،‬سل م على من اتبع‬ ‫الهدى‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فإني أحمد إليك ال الذي ل إله إل هو الملك القدوس السل م المؤمن المهيمن‪ ،‬وأشهد أن عيسي بن‬ ‫مريم روح ال وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة‪ ،‬فحملت بعيسي من روحه ونفخه‪ ،‬كما‬

‫خلق آد م بيده‪ ،‬وإني أدعو إلى ال وحده ل شريك له‪ ،‬والموال ة على طاعته‪ ،‬وأن تتبعني‪ ،‬وتؤمن بالذي‬ ‫جاءني‪ ،‬فإني رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإني أدعوك وجنودك إلى ال عز وجل‪ ،‬وقد بلغت‬

‫ونصحت‪ ،‬فاقبل نصيحتى‪ ،‬والسل م على من اتبع الهدى(‪.‬‬

‫وأكد الدكتور المحتر م أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسلم إلى النجاشي بعد‬ ‫الحديبية‪ ،‬أما صحة هذا النص فل شك فيها بعد النظر في الدلئل‪ ،‬وأما أن هذا الكتاب هو الذي‬

‫كتب بعد الحديبية فل دليل عليه‪ ،‬والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية‪ ،‬فإن فيه الية الكريمة‪ :‬‏} َيا أَْه لـ الِْكَتا ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫تـَعالَْو اْـ إَِلى َك لَـَم ٍةـ‪ {...‬إلخ‪ ،‬كما كان دأبه في تلك الكتب‪ ،‬وقد ورد فيه اسم الصحمة صريحًا‪ ،‬وأما‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النص الذي أورده الدكتور حميد ال‪ ،‬فالغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته‪ ،‬ولعل هذا هو السبب في ترك السم‪.‬‬

‫وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب‪.‬‬ ‫والعجب من الدكتور حميد ال أنه جز م بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب‬

‫الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا‬ ‫النص صريحًا‪ ،‬والعلم عند ال‪.‬‬

‫ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى ال عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي‪ ،‬ووضعه‬

‫على عينه‪ ،‬ونزل عن سريره على الرض‪ ،‬وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب‪ ،‬وكتب إلى النبي صلى ال‬

‫عليه وسلم بذلك‪ ،‬وهاك نصه‪:‬‬ ‫‏]بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬إلى محمد رسول ال من النجاشي أصحمة‪ ،‬سل م عليك يا نبي ال من ال‬ ‫ورحمة ال وبركاته‪ ،‬ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫فقد بلغني كتابك يا رسول ال فيما ذكرت من أمر عيسي‪ ،‬فورب السماء والرض إن عيسي ل يزيد‬ ‫على ما ذكرت تـُْف ُرـوقا‪ ،‬إنه كما قلت‪ ،‬وقد عرفنا ما بعثت به إلينا‪ ،‬وقد قرينا ابن عمك وأصحابك‪،‬‬

‫فأشهد أنك رسول ال صادقاً مصدقًا‪ ،‬وقد بايعتك‪ ،‬وبايعت ابن عمك‪ ،‬وأسلمت على يديه ل رب‬ ‫العالمين(‪.‬‬ ‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معه من مهاجري الحبشة‪،‬‬ ‫فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬فقد م بهم على النبي صلى ال عليه وسلم وهو‬

‫بخيبر‪.‬‬

‫وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجر ة بعد تبوك‪ ،‬ونعاه النبي صلى ال عليه وسلم يو م‬

‫وفاته‪ ،‬وصلي عليه صل ة الغائب‪ ،‬ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم كتاباً آخر‪ ،‬ول يدري هل أسلم أ م ل؟‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكتــب النبــي صلى ال عليه وسلم إلى ُج َرـْيج بـن َمتّـي الملقب بالُم َقـْوـقِــس ملك مصر والسكندرية‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم من محمد عبد ال ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط‪ ،‬سل م على من اتبع‬ ‫الهدى‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإني أدعوك بدعاية السل م‪ ،‬أسلم تسلم‪ ،‬وأسلم يؤتك ال أجرك مرتين‪ ،‬فإن توليت‬ ‫فإن عليك إثم أهل القبــط‪ ،‬‏}َيا أَْه لـ الِْكَتا ِ‬ ‫ب تـَعالَْو اْـ إَِلى َك لَـَم ٍةـ َس َوـاـء بَـيْـنـَنا َو بـَـيـْنَُك ْمـ أَلّ نـَْع بُـَد إِلّ اللَّه َولَ‬ ‫َ‬ ‫ضـَنا بـَْع ضـاً أَْرَباًبا ّمنـ ُدوِن اللِّه فَِإ نـ تـَو لّـْو اْـ فـَُقوـُلواْ اْش َهـُدـوـاْ بِأَّنا ُمْس لِـُم وـَن{(‬ ‫نُْش ِرـَك بِ​ِه َش ْيـًئا َولَ يـَتِّخ َذ ـ بـَْع ُ‬ ‫واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بـَْلتـَعة ‪ .‬فلما دخل حاطب على المقوقس قال له‪ :‬إنه كان‬

‫قبلك رجل يزعم أنه الرب العلى‪ ،‬فأخذه ال نكال الخر ة والولى‪ ،‬فانتقم به ثم انتقم منه‪ ،‬فاعتبر‬

‫بغيرك‪ ،‬ول يعتبر غيرك بك‪.‬‬

‫فقال المقوقس‪ :‬إن لنا دينا لن ندعه إل لما هو خير منه‪.‬‬ ‫فقال حاطب‪ :‬ندعوك إلى دين السل م الكافي به ال فـَْق َدـ ما ِس وـاه‪ ،‬إن هذا النبي دعا الناس فكان‬ ‫أشدهم عليه قريش‪ ،‬وأعداهم له اليهود‪ ،‬وأقربهم منه النصاري‪ ،‬ولعمري ما بشار ة موسي بعيسي إل‬

‫كبشار ة عيسي بمحمد‪ ،‬وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إل كدعائك أهل التورا ة إلى النجيل‪ ،‬فكل نبي‬

‫أدرك قوماً فهم أمته‪ ،‬فالحق عليهم أن يطيعوه‪ ،‬وأنت ممن أدركه هذا النبي‪ ،‬ولسنا ننهاك عن دين‬ ‫المسيح‪ ،‬ولكنا نأمرك به‪.‬‬ ‫فقال المقوقس‪ :‬إني قد نظرت في أمر هذا النبي‪ ،‬فوجدته ل يأمر بمزهود فيه‪ .‬ول ينهي عن مرغوب‬

‫فيه‪ ،‬ولم أجده بالساحر الضال‪ ،‬ول الكاهن الكاذب‪ ،‬ووجدت معه آية النبو ة بإخراج الخبء والخبار‬ ‫بالنجوي‪ ،‬وسأنظر‪.‬‬

‫وأخذ كتاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجعله في ُح ّقـ من عاج‪ ،‬وختم عليه‪ ،‬ودفعه إلى جارية له‪ ،‬ثم‬ ‫دعا كاتباً له يكتب بالعربية‪ ،‬فكتب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬لمحمد بن عبد ال من المقوقس عظيم القبط‪ ،‬سل م عليك‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫فقد قرأت كتابك‪ ،‬وفهمت ما ذكرت فيه‪ ،‬وما تدعو إليه‪ ،‬وقد علمت أن نبياً بقي‪ ،‬وكنت أظن أنه‬ ‫يخرج بالشا م‪ ،‬وقد أكرمت رسولك‪ ،‬وبعثت إليك بجاريتين‪ ،‬لهما مكان في القبط عظيم‪ ،‬وبكسو ة‪،‬‬ ‫وأهديت بغلة لتركبها‪ ،‬والسل م عليك(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولم يزد على هذا ولم يسلم‪ ،‬والجاريتان مارية‪ ،‬وسيرين‪ ،‬والبغلة ُدلُْد لـ‪ ،‬بقيت إلى زمن معاوية ‪ ،‬واتخذ‬

‫النبي صلى ال عليه وسلم مارية سرية له‪ ،‬وهي التي ولدت له إبراهيم‪ .‬وأما سيرين فأعطاها لحسان بن‬

‫ثابت النصاري‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس‪:‬‬ ‫وكتب النبي صلى ال عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى كسرى عظيم فـارس‪ ،‬سـل م على من اتبع الهدي‪،‬‬ ‫وآمن بال ورسوله‪ ،‬وشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬وأدعوك‬ ‫بدعاية ال‪ ،‬فإني أنا رسول ال إلى الناس كافة‪ ،‬لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين‪ ،‬فأسلم‬

‫تسلم‪ ،‬فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك(‪.‬‬

‫واختار لحمل هذا الكتاب عبد ال بن حذافة السهمي‪ ،‬فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين‪ ،‬ول ندري‬ ‫هل بعث به عظيم البحرين رجلً من رجالته‪ ،‬أ م بعث عبد ال السهمي‪ ،‬وأّيا ما كان فلما قرئ الكتاب‬ ‫على كسرى مزقه‪ ،‬وقال في غطرسة‪ :‬عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي‪ ،‬ولما بلغ ذلك رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)مزق ال ملكه(‪ ،‬وقد كان كما قال‪ ،‬فقد كتب كسرى إلى َباَذان عامله‬ ‫على اليمن‪ :‬ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به‪ .‬فاختار باذان‬ ‫رجلين ممن عنده‪ ،‬أحدهما‪ :‬قهرمانه بانويه‪ ،‬وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس‪ .‬وثانيهما‪ :‬خرخسرو من‬ ‫الفرس ‪ ،‬وبعثهما بكتاب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إلى كسري‪ ،‬فلما‬ ‫قدما المدينة‪ ،‬وقابل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال أحدهما‪ :‬إن شاهنشاه ‏]ملك الملوك[ كسرى قد‬

‫كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك‪ ،‬وبعثني إليك لتنطلق معي‪ ،‬وقال قولً توعده‬ ‫فيه‪ ،‬فأمرهما النبي صلى ال عليه وسلم أن يلقياه غداً‪.‬‬

‫وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثور ة كبير ة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لقت جنوده هزيمة‬ ‫منكر ة أما م جنود قيصر‪ ،‬فقد قا م شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله‪ ،‬وأخذ الملك لنفسه‪ ،‬وكان ذلك في‬

‫ليلة الثلثاء لعشر مضين من جمادي الولي سنة سبع ‪ ،‬وعلم رسول ال صلى ال عليه وسلم الخبر من‬ ‫الوحي‪ ،‬فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك‪ .‬فقال‪ :‬هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أفنكتب هذا عنك‪ ،‬ونخبره الملك‪ .‬قال‪ :‬‏)نعم أخبراه ذلك عني‪ ،‬وقول له‪ :‬إن ديني وسلطاني سيبلغ ما‬

‫بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي الخف والحافر‪ ،‬وقول له‪ :‬إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك‪ ،‬وملكتك‬ ‫على قومك من البناء(‪ ،‬فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر‪ ،‬وبعد قليل جاء كتاب‬

‫بقتل شيرويه لبيه‪ ،‬وقال له شيرويه في كتابه‪ :‬انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك‪ ،‬فل تهجه‬ ‫حتى يأتيك أمري‪.‬‬ ‫وكان ذلك سبباً في إسل م باذان ومن معه من أهل فارس باليمن‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ الكتاب إلى قيصر ملك الرو م‪:‬‬

‫روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسلم إلى ملك الرو م‬ ‫هرقل‪ ،‬وهو هذا‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد عبد ال ورسوله إلى هرقل عظيم الرو م‪ ،‬سل م على من اتبع‬ ‫الهدي‪ ،‬أسلم تسلم‪ ،‬أسلم يؤتك ال أجرك مرتين‪ ،‬فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين ‏} َيا أَْه َلـ‬ ‫الِْكَتا ِ‬ ‫ضـَنا بـَْع ضـاً‬ ‫ب تـَعالَْو اْـ إَِلى َك لَـَم ٍةـ َس َوـاـء بَـيْـنـَنا َو بـَـيـْنَُك ْمـ أَلّ نـَْع بُـَد إِلّ اللَّه َولَ نُْش ِرـَك بِ​ِه َش ْيـًئا َولَ يـَتِّخ َذ ـ بـَْع ُ‬ ‫أَْرَباًبا ّمنـ ُدوِن اللِّه فَِإ نـ تـَو لّـْو اْـ فـَُقوـُلواْ اْش َهـُدـوـاْ بِأَّنا ُمْس لِـُم وـَن{( ‏]آل عمران‪.[64:‬‬ ‫واختار لحمل هذا الكتاب َدْحـ يَــة بن خليفة الكلبي‪ ،‬وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري‪ ،‬ليدفعه إلى‬

‫قيصر‪ ،‬وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من‬

‫قريش‪ ،‬كانوا تجاراً بالشا م‪ ،‬في المد ة التي كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ماّد فيها أبا سفيان‬ ‫وكفار قريش‪ ،‬فأتوه وهم بإيلياء ‪ ،‬فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الرو م‪ ،‬ثم دعاهم ودعا ترجمانه‬

‫فقال‪ :‬أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان‪ :‬فقلت‪ :‬أنا أقربهم نسبًا‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫أدنوه مني‪ ،‬وقربوا أصحابه‪ ،‬فاجعلوهم عند ظهره‪ ،‬ثم قال لترجمانه‪ :‬إني سائل هذا عن هذا الرجل‪ ،‬فإن‬ ‫كذبني فكذبوه‪ ،‬فو ال لول الحياء من أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬أول ما سألني عنه أن قال‪ :‬كيف نسبه فيكم؟ فقلت‪ :‬هو فينا ذو نسب‪ ،‬قال‪ :‬فهل قال هذا‬

‫القول منكم أحد قط قبله؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فأشراف الناس‬ ‫اتبعوه أ م ضعفاؤهم؟ قلت‪ :‬بل ضعفاؤهم‪ .‬قال‪ :‬أيزيدون أ م ينقصون؟ قلت‪ :‬بل يزيدون‪ .‬قال‪ :‬فهل يرتد‬

‫أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه‪ :‬قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل يغدر؟ قلت‪ :‬ل‪ ،‬ونحن منه في مد ة ل ندري ما هو فاعل فيها ـ قال‪ :‬ولم تمكنني‬

‫كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال‪ :‬فهل قاتلتموه؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فكيف كان قتالكم إياه؟‬ ‫قلت‪ :‬الحرب بيننا وبينه سجال‪ ،‬ينال منا وننال منه‪ .‬قال‪ :‬ماذا يأمركم؟ قلت‪ :‬يقول‪ :‬‏)اعبدوا ال وحده‪،‬‬ ‫ول تشركوا به شيئًا‪ ،‬واتركوا ما يقول آباؤكم(‪ ،‬ويأمرنا بالصل ة والصدق والعفاف والصلة‪.‬‬

‫فقال للترجمان‪ :‬قل له‪ :‬سألتك عن نسبه‪ ،‬فذكرت أنه فيكم ذو نسب‪ ،‬وكذلك الرسل تبعث في نسب‬

‫من قومها‪ .‬وسألتك‪ :‬هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن ل‪ .‬قلت‪ :‬لو كان أحد قال هذا‬ ‫القول قبله لقلت‪ :‬رجل يأتسي بقول قيل قبله‪ .‬وسألتك‪ :‬هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬فلو كان من آبائه من ملك قلت‪ :‬رجل يطلب ملك أبيه‪ .‬وسألتك‪ :‬هل كنتم تتهمونه بالكذب‬

‫قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ل‪ ،‬فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس‪ ،‬ويكذب على‬

‫ال‪ .‬وسألتك‪ :‬أشراف الناس اتبعوه أ م ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه‪ ،‬وهم أتباع الرسل‪.‬‬

‫وسألتك‪ :‬أيزيدون أ م ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون‪ ،‬وكذلك أمر اليمان حتى يتم‪ .‬وسألتك‪ :‬أيرتد أحد‬

‫سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن ل‪ ،‬وكذلك اليمان حين تخالط بشاشته القلوب‪ .‬وسألتك‪:‬‬

‫هل يغدر؟ فذكرت أن ل‪ ،‬وكذلك الرسل ل تغدر‪.‬وسألتك‪ :‬بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ال‪،‬‬

‫ول تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عباد ة الوثان‪ ،‬ويأمركم بالصل ة والصدق والعفاف‪ ،‬فإن كان ما تقول‬ ‫حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين‪ ،‬وقد كنت أعلم أنه خارج‪ ،‬ولم أكن أظنه أنه منكم‪ ،‬فلو أني أعلم‬

‫أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه‪ ،‬ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‪.‬‬

‫ثم دعا بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسلم فقرأ‪ ،‬فلما فرغ من قراء ة الكتاب ارتفعت الصوات‬ ‫عنده وكثر اللغط‪ ،‬وأمر بنا فأخرجنا‪ ،‬قال‪ :‬فقلت لصحابي حين أخرجنا‪ :‬لقد أِم َرـ أْم ُرـ ابن أبي َك ْبـَش ةـ‪،‬‬ ‫إنه ليخافه ملك بني الصفر ‪ ،‬فما زلت موقنا بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه سيظهر حتى‬ ‫أدخل ال على السل م‪.‬‬

‫هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر‪ ،‬وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة‬ ‫الكلبي‪ ،‬حامل كتاب الرسول صلى ال عليه وسلم بمال وكسو ة‪ ،‬ولما كان دحية بِح ْس ـَمـيـفي الطريق‬ ‫لقيه ناس من ُج َذـاـ م‪ ،‬فقطعوها عليه‪ ،‬فلم يتركوا معه شيئًا‪ ،‬فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن‬ ‫يدخل بيته‪ ،‬فأخبره‪ ،‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي‪ ،‬وهي وراء وادي‬

‫القري‪ ،‬في خمسمائة رجل‪ ،‬فشن زيد الغار ة على جذا م‪ ،‬فقتل فيهم قتلً ذريعًا‪ ،‬واستاق نـَعمهم‬ ‫ونساءهم‪ ،‬فأخذ من النعم ألف بعير‪ ،‬ومن الشاء خمسة آلف‪ ،‬والسبي مائة من النساء والصبيان‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان بين النبي صلى ال عليه وسلم وبين قبيلة جذا م موادعة‪ ،‬فأسرع زيد بن ِرَفاعة الجذامي أحد‬

‫زعماء هذه القبيلة بتقديم الحتجاج إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان قد أسلم هو ورجال من‬

‫قومه‪ ،‬ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى ال عليه وسلم احتجاجه‪ ،‬وأمر برد الغنائم‬ ‫والسبي‪.‬‬

‫وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية‪ ،‬وهو خطأ واضح‪ ،‬فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر‬

‫كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القيم‪ :‬هذا بعد الحديبية بل شك‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ الكتاب إلى المنذر بن َس اـِوي‪:‬‬ ‫وكتب النبي صلى ال عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتاباً يدعوه فيه إلى السل م‪،‬‬ ‫وبعث إليه العلء بن الحضرمي بذلك الكتاب‪ ،‬فكتب المنذر إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫‏]أما بعد‪ ،‬يا رسول ال‪ ،‬فإني قرأت كتابك على أهل البحرين‪ ،‬فمنهم من أحب السل م وأعجبه‪ ،‬ودخل‬ ‫فيه‪ ،‬ومنهم من كرهه‪ ،‬وبأرضي مجوس ويهود‪ ،‬فأحدث إلى في ذلك أمرك[‪.‬‬ ‫فكتب إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى المنذر بن ساوي‪ ،‬سل م عليك‪ ،‬فإني أحمد إليك‬

‫ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإني أذكرك ال عز وجل‪ ،‬فإنه من‬ ‫ينصح فإنما ينصح لنفسه‪ ،‬وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني‪ ،‬ومن نصح لهم فقد نصح لي‪،‬‬ ‫وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا‪ ،‬وإني قد شفعتك في قومك‪ ،‬فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه‪ ،‬وعفوت‬ ‫عن أهل الذنوب‪ ،‬فاقبل منهم‪ ،‬وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك‪ .‬ومن أقا م على يهودية أو‬ ‫مجوسية فعليه الجزية(‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ الكتاب إلى َه ْوـذَـ ة بن على صاحب اليمامة‪:‬‬ ‫وكتب النبي صلى ال عليه وسلم إلى هوذ ة بن على صاحب اليمامة‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى هوذ ة بن علي‪ ،‬سل م على من اتبع الهدى‪ ،‬واعلم‬

‫أن ديني سيظهر إلى منتهي الخف والحافر‪ ،‬فأسلم تسلم‪ ،‬وأجعل لك ما تحت يديك(‪.‬‬

‫واختار لحمل هذا الكتاب َس ِلـيط بن عمرو العامري‪ ،‬فلما قد م سليط على هوذ ة بهذا الكتاب مختوماً‬ ‫أنزله وحياه‪ ،‬وقرأ عليه الكتاب‪ ،‬فرد عليه رداً دون رد‪ ،‬وكتب إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏]ما‬ ‫أحسن ما تدعو إليه وأجمله‪ ،‬والعرب تهاب مكاني‪ ،‬فاجعل لي بعض المر أتبعك(‪ ،‬وأجاز سليطاً‬ ‫بجائز ة‪ ،‬وكساه أثواباً من نسج هجر‪.‬‬

‫فقد م بذلك كله على النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره‪ ،‬وقرأ النبي صلى ال عليه وسلم كتابه فقال‪:‬‬

‫‏)لو سألني قطعة من الرض ما فعلت‪ ،‬باد‪ ،‬وباد ما في يديه(‪ .‬فلما انصرف رسول ال من الفتح جاءه‬ ‫جبريل عليه السل م بأن هوذ ة مات‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أما إن اليمامة سيخرج بها‬

‫كذاب يتنبي‪ ،‬يقتل بعدي(‪ ،‬فقال قائل‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬من يقتله؟ فقال‪ :‬‏)أنت وأصحابك(‪ ،‬فكان‬ ‫كذلك؟‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي َش ِمـرـ الغساني صاحب دمشق‪:‬‬ ‫كتب إليه النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى الحارث بن أبي شمر‪ ،‬سل م على من اتبع الهدى‪،‬‬ ‫وآمن بال وصدق‪ ،‬وإني أدعوك إلى أن تؤمن بال وحده ل شريك له‪ ،‬يبقي لك ملكك(‪.‬‬ ‫واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة‪ ،‬ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال‪:‬‬ ‫‏]من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه[‪ ،‬ولم يسلم‪ .‬واستأذن قيصر في حرب رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم فثناه عن عزمه‪ ،‬فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسو ة والنفقة‪ ،‬ورده بالحسني‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ الكتاب إلى ملك عَُم اـن‪:‬‬ ‫وكتب النبي صلى ال عليه وسلم كـتاباً إلى ملـك عمان َج يـَْف رـ وأخيه عبد ابني الُج لَـْنَد يـ‪ ،‬ونصه‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‏)بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول ال إلى جيفر وعبد ابني الجلندي‪ ،‬سل م على من اتبع‬ ‫الهدي‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فإني أدعوكما بدعاية السل م‪ ،‬أسلما تسلما‪ ،‬فإني رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الناس كافة‪،‬‬

‫لنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين‪ ،‬فإنكما إن أقررتما بالسل م وليتكما‪ ،‬وإن أبيتما ‏]أن تقرا‬ ‫بالسل م[ فإن ملككما زائل‪ ،‬وخيلي تحل بساحتكما‪ ،‬وتظهر نبوتي على ملككما(‪.‬‬ ‫واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي ال عنه قال عمرو‪ :‬فخرجت حتى انتهيت إلى عمان‪،‬‬ ‫فلما قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين‪ ،‬وأسهلهما خلقاً ـ فقلت‪ :‬إني رسول رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم إليك وإلى أخيك‪ ،‬فقال‪ :‬أخي المقد م على بالسن والملك‪ ،‬وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ‬ ‫كتابك‪ ،‬ثم قال‪ :‬وما تدعو إليه؟ قلت‪ :‬أدعو إلى ال وحده ل شريك له‪ ،‬وتخلع ما عبد من دونه‪،‬‬

‫وتشهد أن محمداً عبده ورسوله‪ .‬قال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه‬ ‫قدو ة‪ .‬قلت‪ :‬مات ولم يؤمن بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ووددت أنه كان أسلم وصدق به‪ ،‬وقد كنت‬

‫أنا على مثل رأيه حتى هداني ال للسل م‪ .‬قال‪ :‬فمتى تبعته؟ قلت‪ :‬قريباً‪ .‬فسألني أين كان إسلمك؟‬ ‫قلت‪ :‬عند النجاشي‪ ،‬وأخبرته أن النجاشي قد أسلم‪ .‬قال‪ :‬وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت‪ :‬أقروه‬

‫واتبعوه‪ .‬قال‪ :‬والساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬انظر يا عمرو ما تقول‪ ،‬إنه ليس من خصلة في‬ ‫رجل أفضح له من الكذب‪ .‬قلت‪ :‬ما كذبت‪ ،‬وما نستحله في ديننا‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما أرى هرقل علم بإسل م‬

‫النجاشي‪.‬قلت‪ :‬بلي‪ ،‬قال‪ :‬فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت‪ :‬كان النجاشي يخرج له خرجًا‪ ،‬فلما أسلم‬ ‫وصدق بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬ل وال لو سألني درهما واحداً ما أعطيته‪ ،‬فبلغ هرقل قوله‪،‬‬ ‫فقال له اليـَّناق أخوه‪ :‬أتدع عبدك ل يخرج لك خرجًا‪ ،‬ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً؟ قال هرقل‪ :‬رجل‬ ‫رغب في دين‪ ،‬فاختاره لنفسه‪ ،‬ما أصنع به؟ وال لول الضن بملكي لصنعت كما صنع‪ .‬قال‪ :‬انظر ما‬

‫تقول يا عمرو؟ قلت‪ :‬وال صدقتك‪.‬‬

‫قال عبد‪ :‬فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت‪ :‬يأمر بطاعة ال عز وجل وينهي عن معصيته‪،‬‬

‫ويأمر بالبر وصلة الرحم‪ ،‬وينهي عن الظلم والعدوان‪ ،‬وعن الزنا‪ ،‬وعن الخمر‪ ،‬وعن عباد ة الحجر والوثن‬ ‫والصليب‪ .‬قال‪ :‬ما أحسن هذا الذي يدعو إليه‪ ،‬لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد‬

‫صلى ال عليه وسلم ونصدق به‪ ،‬ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنباً‪ .‬قلت‪ :‬إنه إن أسلم‬ ‫َملّـَك هُـ رسول ال صلى ال عليه وسلم على قومه‪ ،‬فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم‪ .‬قال‪ :‬إن‬ ‫هذا لخلق حسن‪ .‬وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول ال صلى ال عليه وسلم في الصدقات في‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الموال‪ ،‬حتى انتهيت إلى البل‪ .‬قال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد‬

‫المياه؟ فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما أري قومي في بعد دارهم وكثر ة عددهم يطيعون لهذا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فمكثت ببابه أيامًا‪ ،‬وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري‪ ،‬ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه‪،‬‬ ‫فأخذ أعوانه بضبعي فقال‪ :‬دعوه‪ ،‬فأرسلت فذهبت لجلس‪ ،‬فأبوا أن يدعوني أجلس‪ ،‬فنظرت إليه فقال‪:‬‬ ‫تكلم بحاجتك‪ ،‬فدفعت إليه الكتاب مختومًا‪ ،‬ففض خاتمه‪ ،‬وقرأ حتى انتهي إلى آخره‪ ،‬ثم دفعه إلى‬ ‫أخيه فقرأه مثل قراءته‪ ،‬إل أني رأيت أخاه أرق منه‪ ،‬قال‪ :‬أل تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت‪:‬‬ ‫تبعوه‪ ،‬إما راغب في الدين‪ ،‬وإما مقهور بالسيف‪ .‬قال‪ :‬ومن معه؟ قلت‪ :‬الناس قد رغبوا في السل م‬

‫واختاروه على غيره‪ ،‬وعرفوا بعقولهم مع هدي ال إياهم أنهم كانوا في ضلل‪ ،‬فما أعلم أحداً بقي‬ ‫غيرك في هذه الَح رـَج ةـ‪ ،‬وأنت إن لم تسلم اليو م وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك‪ ،‬فأسلم تسلم‪،‬‬ ‫ويستعملك على قومك‪ ،‬ول تدخل عليك الخيل والرجال‪ ،‬قال‪ :‬دعني يومي هذا‪ ،‬وارجع إلى غداً‪.‬‬

‫فرجعت إلى أخيه فقال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إني لرجو أن يسلم إن لم ي ِ‬ ‫ض ّنـ بملكه‪ ،‬حتى إذا كان الغد أتيت‬ ‫َ‬

‫إليه‪ ،‬فأبي أن يأذن لي‪ .‬فانصرفت إلى أخيه‪ ،‬فأخبرته أني لم أصل إليه‪ ،‬فأوصلني إليه‪ ،‬فقال‪ :‬إني فكرت‬ ‫فيما دعوتني إليه‪ ،‬فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلً ما في يدي‪ ،‬وهو لتبلغ خيله هاهنا‪ ،‬وإن‬

‫بلغت خيله لقيت قتالً ليس كقتال من لقي‪ .‬قلت‪ :‬أنا خارج غدًا‪ ،‬فلما أيقن بمخرجي خل به أخوه‬ ‫فقال‪ :‬ما نحن فيما ظهر عليه‪ ،‬وكل من أرسل إليه قد أجابه‪ ،‬فأصبح فأرسل إلى‪ ،‬فأجاب إلى السل م‬ ‫هو وأخوه جميعًا‪ ،‬وصدقا النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخليا بيني وبين الصدقة‪ ،‬وبين الحكم فيما‬ ‫بينهم‪ ،‬وكانا لي عوناً على من خالفني‪.‬‬

‫وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيراً عن كتب بقية الملوك‪ ،‬والغلب أنه‬ ‫كان بعد الفتح‪.‬‬ ‫وبهذه الكتب كان النبي صلى ال عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الرض‪ ،‬فمنهم من آمن به‬ ‫ومنهم من كـفر‪ ،‬ولكن شغل فكره هؤلء الكافرين‪ ،‬وعرف لديهم باسمه ودينه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النشاط العسكري بعد صلح الحديبية‬ ‫غزو ة الغابة أو غزو ة ذي قـَرد‬ ‫غزو ة خيبر ووادي الُقري ‏)في المحر م سنة ‪ 7‬هـ(‬

‫سرية أَبان بن سعيد‬ ‫بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة‬

‫غزو ة الغابة أو غزو ة ذي قـَرد‬ ‫هذه الغزو ة حركــة مطـارد ة ضد فصيلة من بني فـَزار ة قامت بعمل القرصنة في لَِق اـِح رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫وهي أول غزو ة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الحديبية‪ ،‬وقبل خيبر‪ .‬ذكر البخاري في‬ ‫ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلث‪ ،‬وروي ذلك مسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الكوع‪ .‬وذكر‬ ‫الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية‪ ،‬وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي‪.‬‬ ‫وخلصة الروايات عن سلمة بن الكوع بطل هذه الغزو ة أنه قال‪ :‬بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫بظهره مع غلمه َرَباح‪ ،‬وأنا معه بفرس أبي طلحة‪ ،‬فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على‬ ‫الظهر‪ ،‬فاستاقه أجمع‪ ،‬وقتل راعيه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رباح‪ ،‬خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة‪ ،‬وأخبر رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قمت على أَك َمـةـ‪ ،‬واستتقبلت المدينة‪ ،‬فناديت ثلثاً‪ :‬يا صباحاه‪ ،‬ثم خرجت‬ ‫في آثار القو م أرميهم بالنبل وأرتجز‪ ،‬أقول‪:‬‬ ‫ضعـ‬ ‫‏]ُخ ْذـهــا[ أنا ابُن الْك ـَوع ** واليـوُ م يـوُ م الّر ّ‬

‫فو ال ما زلت أرميهم وأعقر بهم‪ ،‬فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر‪ ،‬ثم رميته فتعفرت به‪،‬‬ ‫حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته‪ ،‬فجعلت أرديهم بالحجار ة‪ ،‬فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما‬

‫خلق ال تعالى من بعير من ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم إل خلفته وراء ظهري‪ ،‬وخلوا بيني‬

‫وبينه‪ ،‬ثم اتبعتهم أرميهم‪ ،‬حتى ألقوا أكثر من ثلثين برد ة‪ ،‬وثلثين رمحاً يستخفون‪ ،‬ول يطرحون شيئاً‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إل جعلت عليه آراماً من الحجار ة‪ ،‬يعرفها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ .‬حتى أتوا متضايقاً‬ ‫من ثَنِيٍّة‪،‬ـ فجلسوا يتغدون‪ ،‬وجلست على رأس قـَْرنـ‪ ،‬فصعد إلى منهم أربعة في الجبل‪ ،‬قلت‪ :‬هل‬

‫تعرفونني؟ أنا سلمة بن الكوع‪ ،‬ل أطلب رجلً منكم إل أدركته‪ ،‬ول يطلبني فيدركني‪ ،‬فرجعوا‪ .‬فما‬ ‫برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخللون الشجر‪ ،‬فإذا أولهم أخر م‪،‬‬ ‫وعلى أثره أبو قتاد ة‪ ،‬وعلى أثره المقداد بن السود‪ ،‬فالتقي عبد الرحمن وأخر م‪ ،‬فعقر بعبد الرحمن‬

‫فرسه‪ ،‬وطعنه عبد الرحمن فقتله‪ ،‬وتحول على فرسه‪ ،‬ولحق أبو قتاد ة بعبد الرحمن فطعنه فقتله‪ ،‬وولي‬ ‫القو م مدبرين‪ ،‬فتبعتهم أعدو على رجلي‪ ،‬حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له‪:‬‬ ‫ذو قـَرد‪ ،‬ليشربوا منه‪ ،‬وهم عطاش‪ ،‬فأجليتهم عنه‪ ،‬فما ذاقوا قطر ة منه‪ ،‬ولحقني رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم والخيل عشاء‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن القو م عطاش‪ ،‬فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما‬

‫س ْرـحـ‪ ،‬وأخذت بأعناق القو م‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا بن الكوع‪ .‬ملكت فأسجح(‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)إنهم‬ ‫عندهم من ال ّ‬

‫ليقرون الن في غطفان(‪.‬‬

‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)خير فرساننا اليو م أبو قتاد ة‪ ،‬وخير رجالتنا سلمة(‪ .‬وأعطاني‬ ‫ض بَـاء راجعين إلى المدينة‪.‬‬ ‫سهمين‪ ،‬سهم الراجل وسهم الفارس‪ ،‬وأردفني وراءه على الَع ْ‬ ‫استعمل رسول ال صلى ال عليه وسلم على المدينة في هذه الغزو ة ابن أ م مكتو م‪ ،‬وعقد اللواء‬ ‫للمقداد بن عمرو‪.‬‬

‫غزو ة خيبر ووادي الُقرـي ‏)في المحر م سنة ‪ 7‬هـ(‬ ‫كانت خيبر مدينة كبير ة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميل من المدينة في جهة الشمال‪ ،‬وهي‬

‫الن قرية في مناخها بعض الوخامة‪.‬‬ ‫سبب الغزو ة‬

‫ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم من أقوي أجنحة الحزاب الثلثة‪ ،‬وهو قريش‪ ،‬وأمن منه‬ ‫تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم المن‬ ‫والسل م‪ ،‬ويسود الهدوء في المنطقة‪ ،‬ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة‬ ‫ال والدعو ة إليه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما كانت خيبر هي وكر ة الدس والتآمر ومركز الستفزازات العسكرية‪ ،‬ومعدن التحرشات وإثار ة‬

‫الحروب‪ ،‬كانت هي الجدير ة بالتفات المسلمين أول‪.‬‬

‫أما كون خيبر بهذه الصفة‪ ،‬فل ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الحزاب ضد المسلمين‪ ،‬وأثاروا‬ ‫بني قريظة على الغدر والخيانة‪ ،‬ثم أخذوا في التصالت بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع‬

‫السلمي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال‪،‬‬

‫فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة‪ ،‬حتى وضعوا خطة لغتيال النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة‪ ،‬وإلى الفتك برأس هؤلء المتآمرين‪ ،‬مثل سل م‬ ‫بن أبي الُح َقـْيـق‪ ،‬وأِس يــر بن زار م‪ ،‬ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلء اليهود كان أكبر من ذلك‪،‬‬ ‫وإنما أبطأوا في القيا م بهذا الواجب ؛ لن قو ة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت‬ ‫مجابهة للمسلمين‪ ،‬فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلء المجرمين‪ ،‬واقترب لهم يو م‬

‫الحساب‪.‬‬ ‫الخروج إلى خيبر‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬أقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض‬

‫المحر م‪ ،‬ثم خرج في بقية المحر م إلى خيبر‪.‬‬

‫قال المفسرون‪ :‬إن خيبر كانت وعدا وعدها ال تعالى بقوله‪ :‬‏} َوَعـَدُكُمـاللّهُ َمغَـانَِم َك ثِـيَرً ة تَأُْخ ُذـوـنـَ​َه اـ فـَعّج َلـ‬ ‫لَُك ْمـ َه ِذـِهـ{ ‏]الفتح‪ [20 :‬يعني صلح الحديبية‪ ،‬وبالمغانم الكثير ة خيبر‪.‬‬ ‫عدد الجيش السلمي‬ ‫ولما كان المنافقون وضعفاء اليمان تخلفوا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزو ة الحديبية أمر‬ ‫ال تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم فيهم قائلً‪ :‬‏}َسيـَُقوُل الُْم َخـلّـُف وـَن إَِذا انطَلَْق تُـْم إَِلى َمغَـانَِم لِتَأُْخ ُذـوـَه اـ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ ّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫س يـَُقوُلوَن بَْل‬ ‫َذُروَنا نـَتّبْع ُكـْمـ يُِريُد وـَن َأن يـبَُّد لُـوا َك َلـ َ م ـ ـالله ُقل لن تـَتّبُعوَنا َك َذـلـُك ْمـ َقاَل اللهُ م نـ قـَْبُل فَ َ‬ ‫سـُدـوـنـَنا بَْل َك اـُنوا َل يـَْف َقـُهـوـَن إِّل قَِليًل { ‏]الفتح‪.[15 :‬‬ ‫تَْح ُ‬ ‫فلما أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن أل يخرج معه إل راغب في الجهاد‪،‬‬ ‫فلم يخرج إل أصحاب الشجر ة وهم ألف وأربعمائة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫واستعمل على المدينة ِس بَـاع بن عُْرفـُطَ​َة الغفاري‪ ،‬وقال ابن إسحاق‪ :‬نَُم يـَْلة بن عبد ال الليثي‪ ،‬والول‬ ‫أصح عند المحققين‪.‬‬ ‫وبعد خروجه صلى ال عليه وسلم قد م أبو هرير ة المدينة مسلمًا‪ ،‬فوافي سباع بن عرفطة في صل ة‬ ‫الصبح‪ ،‬فلما فرغ من صلته أتي سباعا فزوده‪ ،‬حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلم‬ ‫المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم‪.‬‬ ‫اتصال المنافقين باليهود‬ ‫وقد قا م المنافقون يعملون لليهود‪ ،‬فقد أرسل رأس المنافقين عبد ال بن أبي إلى يهود خيبر‪ :‬إن محمداً‬ ‫قصد قصدكم‪ ،‬وتوجه إليكم‪ ،‬فخذوا حذركم‪ ،‬ول تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثير ة‪ ،‬وقو م محمد‬ ‫شرذمة قليلون‪ ،‬عّزل‪ ،‬ل سلح معهم إل قليل‪ ،‬فلما علم ذلك أهل خيبر‪ ،‬أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق‬

‫وَه ْوـذَـ ة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ؛ لنهم كانوا حلفاء يهود خيبر‪ ،‬ومظاهرين لهم على المسلمين‪،‬‬ ‫وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين‪.‬‬

‫الطريق إلى خيبر‬ ‫وسلك رسول صلى ال عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جـبل عــصر ـ بالكسر‪ ،‬وقيل‪ :‬بالتحريك ـ ثم‬ ‫على الصهباء‪ ،‬ثم نزل على واد يقال له‪ :‬الرجيع‪ ،‬وكان بينه وبين غطفان مسير ة يو م وليلة‪ ،‬فتهيأت‬

‫غطفان وتوجهوا إلى خيبر‪ ،‬لمداد اليهود‪ ،‬فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطًا‪،‬‬ ‫فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا‪ ،‬وخلوا بين رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وبين خيبر‪.‬‬ ‫ثم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم أحدهما‪:‬‬ ‫ُح َسـْيـل ـ ليدله على الطريق الحسن‪ ،‬حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشا م ـ فيحول بين‬

‫اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشا م‪ ،‬كما يحول بينهم وبين غطفان‪.‬‬

‫قال أحدهما‪ :‬أنا أدلك يا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأقبل حتى انتهي إلى مفرق الطرق المتعدد ة‬

‫وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد‪ ،‬فأمر أن يسمها له واحداً‬ ‫واحداً‪ .‬قال‪ :‬اسم واحد منها حزن‪ ،‬فأبي النبي صلى ال عليه وسلم من سلوكه‪ ،‬قال‪ :‬اسم الخر شاش‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فامتنع منه أيضًا‪ ،‬وقال‪ :‬اسم الخر حاطب‪ ،‬فامتنع منه أيضًا‪ ،‬قال حسيل‪ :‬فما بقي إل واحد‪ .‬قال عمر‪:‬‬ ‫ما اسمه؟ قال‪َ :‬مْرـَح بـ‪ ،‬فاختار النبي صلى ال عليه وسلم سلوكه‪.‬‬ ‫بعض ما وقع في الطريق‬ ‫ل‪ ،‬فقال رجل‬ ‫‪ 1‬ـ عن سلمة بن الكوع قال‪ :‬خرجنا مع النبي صلى ال عليه وسلم إلى خيبر فسرنا لي ً‬ ‫من القو م لعامر‪ :‬يا عامر‪ ،‬أل تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان عامر رجلً شاعراً ـ فنزل يحدو بالقو م‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ص لّـيـنـا‬ ‫اللهم لول أنت ما اهتديـنا ** ول َتصّد قْـنا ول َ‬ ‫فاغـفر فَِد اـًء لك ما اقْـتـَف ْيـنا ** َو ثـّبت القدا م إن لقينـا‬ ‫وألْـِق يـن سكـينة عــلينا ** إنا إذا ِ‬ ‫ص ــيَح بنا أبينــا‬ ‫ْ‬ ‫وبالصياح َعّو لُـوا عــلينا **‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)من هذا السائق( قــالوا‪ :‬عــامر بــن الكوع‪ ،‬قال‪ :‬‏)يرحمه ال(‪:‬‬ ‫قال رجل من القو م‪ :‬وجبت يا نبي ال‪ ،‬لول أمتعتنا به‪.‬‬ ‫وكانوا يعرفون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستغفر لنسان يخصه إل استشهد ‪ ،‬وقد وقع ذلك‬ ‫في حرب خيبر‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى ال عليه وسلم العصر‪ ،‬ثم دعا بالزواد‪ ،‬فلم يؤت إل‬ ‫س ِوـيق‪ ،‬فأمر به فثري‪ ،‬فأكل وأكل الناس‪ ،‬ثم قا م إلى المغرب‪ ،‬فمضمض‪ ،‬ومضمض الناس‪ ،‬ثم صلي‬ ‫بال ّ‬ ‫ولم يتوضأ ‪ ،‬ثم صلي العشاء‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال‪ :‬‏)قفوا(‪ ،‬فوقــف الجيش‪ ،‬فــقال‪ :‬‏)اللهم رب السموات السبع‬

‫وما أظللن‪ ،‬ورب الرضين السبع وما أقللن‪ ،‬ورب الشياطين وما أضللن‪ ،‬ورب الرياح وما أذرين‪ ،‬فإنا‬

‫نسألك خير هذه القرية‪ ،‬وخير أهلها‪ ،‬وخير ما فيها‪ ،‬ونعوذ بك من شر هذه القرية‪ ،‬وشر أهلها‪ ،‬وشر ما‬ ‫فيها‪ ،‬أقدموا‪ ،‬بسم ال(‪.‬‬

‫الجيش السلمي إلى أسوار خيبر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبات المسلمون الليلة الخير ة التي بدأ في صباحها القتال قريًبا من خيبر‪ ،‬ول تشعر بهم اليهود‪ ،‬وكان‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم إذا أتي قوًماـ بليل لم يقربهم حتى يصبح‪ ،‬فلما أصبح صلي الفجر بغَ​َلس‪،‬‬ ‫وركب المسلمون‪ ،‬فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم‪ ،‬ول يشعرون‪ ،‬بل خرجوا لرضهم‪ ،‬فلما رأوا‬ ‫الجيش قالوا‪ :‬محمد‪ ،‬وال محمد والَخ ِمـيـس ‪ ،‬ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬خربت خيبر‪ ،‬ال أكبر‪ ،‬خربت خيبر‪ ،‬إنا إذا نزلنا بساحة قو م فساء صباح المنذرين(‪.‬‬ ‫حصون خيبر‬ ‫وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين‪ ،‬شطر فيها خمسة حصون‪:‬‬ ‫صْعـبـ بن معاذ‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ حصن ناعم‪ 2 .‬ـ حصن ال ّ‬ ‫‪ 3‬ـ حصن قلعة الزبير‪ 4 .‬ـ حصن أبي‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ حصن النـَّزار‪.‬‬ ‫والحصون الثلثة الولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها‪ :‬‏)النطا ة( وأما الحصنان الخران فيقعان في‬ ‫منطقة تسمي بال ّ‬ ‫ش ّقـ‪.‬‬ ‫أما الشطر الثاني‪ ،‬ويعرف بالكتيبة‪ ،‬ففيه ثلثة حصون فقط‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ حصن الَق ُمـوـص ‏]وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير[‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ حصن الَو ِطـيـح‪.‬‬ ‫س لـلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ حصن ال ّ‬ ‫وفي خيبر حصون وقلع غير هذه الثمانية‪ ،‬إل أنها كانت صغير ة‪ ،‬ل تبلغ إلى درجة هذه القلع في‬ ‫مناعتها وقوتها‪.‬‬

‫والقتال المرير إنما دار في الشطر الول منها‪ ،‬أما الشطر الثاني فحصونها الثلثة مع كثر ة المحاربين‬

‫فيها سلمت دونما قتال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫معسكر الجيش السلمي‬ ‫ل‪ ،‬فأتاه ُح بَـاب بن المنذر‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬ ‫وتقد م رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منز ً‬ ‫رسول ال‪ ،‬أرأيت هذا المنزل أنزلكه ال‪ ،‬أ م هو الرأي في الحرب؟ قال‪ :‬‏)بل هو الرأي( فقال‪ :‬يا رسول‬

‫ال‪ ،‬إن هذا المنزل قريب جًد اـ من حصن نَ​َطا ة‪ ،‬وجميع مقاتلي خيبر فيها‪ ،‬وهم يدرون أحوالنا‪ ،‬ونحن ل‬ ‫ض اـ هذا بين‬ ‫ندري أحوالهم‪ ،‬وسهامهم تصل إلينا‪ ،‬وسهامنا ل تصل إليهم‪ ،‬ول نأمن من بياتهم‪ ،‬وأي ً‬ ‫النخلت‪ ،‬ومكان غائر‪ ،‬وأرض وخيمة‪ ،‬لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكًرا‪ ،‬قال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)الرأي ما أشرت(‪ ،‬ثم تحول إلى مكان آخر‪.‬‬

‫التهيؤ للقتال وبشار ة الفتح‬ ‫ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل‪ :‬بل بعد عد ة محاولت ومحاربات ـ قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‏)لعطين الراية غًد اـ رجلً يحب ال ورسوله ويحبه ال ورسوله‪ ،‬‏]يفتح ال على يديه [( فلما أصبح‬ ‫الناس غدوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كلهم يرجو أن يعطاها‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أين علي بن أبي‬

‫طالب؟( فقالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هو يشتكي عينيه‪ ،‬قال‪ :‬‏)فأرسلوا إليه(‪ ،‬فأتي به فبصق رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم في عينيه‪ ،‬ودعا له‪ ،‬فبرئ‪ ،‬كأن لم يكن به وجع‪ ،‬فأعطاه الراية‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أقاتلهم‬ ‫حتى يكونوا مثلنا‪ ،‬قال‪ :‬‏)انفذ على رسلك‪ ،‬حتى تنزل بساحتهم‪ ،‬ثم ادعهم إلى السل م‪ ،‬وأخبرهم بما‬

‫يجب عليهم من حق ال فيه‪ ،‬فوال‪ ،‬لن يهدي ال بك رجل واحًد اـ خير لك من أن يكون لك حمر‬ ‫النعم(‪.‬‬

‫بدء المعركة وفتح حصن ناعم‬ ‫أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم‪ ،‬وكان من الطبيعي أن‬ ‫يستعدوا للقتال‪.‬‬ ‫وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم‪.‬‬ ‫وكان خط الدفاع الول لليهود لمكانه الستراتيجي‪ ،‬وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي‬

‫الذي كان يعد باللف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫خرج علي بن أبي طالب رضي ال عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن‪ ،‬ودعا اليهود إلى السل م‪ ،‬فرفضوا‬

‫هذه الدعو ة‪ ،‬وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب‪ ،‬فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارز ة‪،‬‬ ‫قال سلمة بن الكوع‪ :‬فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول‪:‬‬ ‫ت خيبر أني َمْرـَح بـ ** َش اـِكي السلح بطل ُمَج ّرـب‬ ‫قد َعِلم ْ‬ ‫ت تـَلَّه بـ **‬ ‫إذا الحروب أقبل ْ‬ ‫فبرز له عمي عامر فقال‪:‬‬ ‫قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلح بطل ُمَغاِم رـ‬ ‫فاختلفا ضربتين‪ ،‬فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر‪ ،‬وذهب عامر يسفل له‪ ،‬وكان سيفه قصيًرا‪،‬‬ ‫فتناول به ساق اليهودي ليضربه‪ ،‬فيرجع ذَُباب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه‪ ،‬وقال فيه النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن له لجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لَج اـِه ٌدـ ُمَج اـِه دـ‪ ،‬قَّل عربي َمَشـيـ بها ِم ثـَْله (‪.‬‬ ‫ويبدو أن مرحًبا دعا بعد ذلك إلى البراز مر ة أخري وجعل يرتجز بقوله‪:‬‬ ‫قد علمت خيبر أني مرحب‪ ...‬إلخ‪ ،‬فبرز له على بن أبي طالب‪ .‬قال سلمة ابن الكوع‪ :‬فقال علي‪:‬‬ ‫أنا الذي سمتني أمي ح ْيـَد رـْه ** كلَْي ِ‬ ‫ث غابات َك ِرـيه الَم ْنـظَ​َرْه‬ ‫َ َ‬ ‫س ْنـَد َرـْه **‬ ‫ُأوِفيهم بال ّ‬ ‫صاـع َك ْيـل ال ّ‬ ‫فضرب رأس مرحب فقتله‪ ،‬ثم كان الفتح على يديه‪.‬‬ ‫ولما دنا علي رضي ال عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن‪ ،‬وقال‪ :‬من أنت؟ فقال‪ :‬أنا‬ ‫علي بن أبي طالب‪ ،‬فقال اليهودي‪ :‬علوتم وما أنزل على موسى‪.‬‬ ‫ثم خرج ياسر أخو مرحب‪ ،‬وهو يقول‪ :‬من يبارز؟ فبرز إليه الزبير‪ ،‬فقالت صفية أمه‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬يقتل‬ ‫ابني‪ ،‬قال‪ :‬‏)بل ابنك يقتله(‪ ،‬فقتله الزبير‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ودار القتال المرير حول حصن ناعم‪ ،‬قتل فيه عد ة سرا ة من اليهود‪ ،‬انهارت لجله مقاومة اليهود‪،‬‬

‫وعجزوا عن صد هجو م المسلمين‪ ،‬ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دا م أياًماـ لقي المسلمون فيها‬

‫صْعـبـ‪،‬‬ ‫مقاومة شديد ة‪ ،‬إل أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين‪ ،‬فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن ال ّ‬ ‫واقتحم المسلمون حصن ناعم‪.‬‬ ‫فتح حصن الصعب بن معاذ‬ ‫وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القو ة والمناعة بعد حصن ناعم‪ ،‬قا م المسلمون بالهجو م‬ ‫عليه تحت قياد ة الحباب بن المنذر النصاري‪ ،‬ففرضوا عليه الحصار ثلثة أيا م‪ ،‬وفي اليو م الثالث‪ ،‬دعا‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعو ة خاصة‪.‬‬

‫روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لقد جهدنا‪ ،‬وما‬

‫بأيدينا من شيء‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اللهم إنك قد عرفت حالهم‪ ،‬وأن ليست بهم قو ة‪ ،‬وأن ليس بيدي شيء‬

‫أعطيهم إياه‪ ،‬فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَ​َناء‪ ،‬وأكثرها طعاًماـ وَو َدـًك اـ(‪ .‬فغدا الناس ففتح ال عز‬ ‫وجل حصن الصعب بن معاذ‪ ،‬وما بخيبر حصن كان أكثر طعاًماـ وودًك اـ منه‪.‬‬ ‫ولما ندب النبي صلى ال عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم‬

‫المقاديم في المهاجمة‪ ،‬ودار البراز والقتال أما م الحصن‪ ،‬ثم فتح الحصن في ذلك اليو م قبل أن تغرب‬ ‫الشمس‪ ،‬ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات‪.‬‬ ‫ولجل هذه المجاعة الشديد ة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق‪ ،‬كان رجال من الجيش قد ذبحوا‬ ‫الحمير‪ ،‬ونصبوا القدور على النيران‪ ،‬فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك نهي عن لحو م‬

‫الحمر النسية‪.‬‬ ‫فتح قلعة الزبير‬

‫وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطا ة إلى قلعة الزبير‪ ،‬وهو حصن منيع‬ ‫في رأس قـُلٍّة ‪ ،‬ل تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه‪ ،‬ففرض عليه رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم الحصار‪ ،‬وأقا م محاصًرا ثلثة أيا م‪ ،‬فجاء رجل من اليهود‪ ،‬وقال‪ :‬يا أبا القاسم‪ ،‬إنك لو أقمت‬ ‫شهًرا ما بالوا‪ ،‬إن لهم شراًبا وعيوًنا تحت الرض‪ ،‬يخرجون بالليل ويشربون منها‪ ،‬ثم يرجعون إلى قلعتهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فيمتنعون منك‪ ،‬فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك‪ .‬فقطع ماءهم عليهم‪ ،‬فخرجوا فقاتلوا أشد‬

‫القتال‪ ،‬قتل فيه نفر من المسلمين‪ ،‬وأصيب نحو العشر ة من اليهود‪ ،‬وافتتحه رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫فتح قلعة أبي‬ ‫وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه‪ ،‬وفرض المسلمون عليهم الحصار‪ ،‬وقا م‬

‫بطلن من اليهود واحد بعد الخر بطلب المبارز ة‪ ،‬وقد قتلهما أبطال المسلمين‪ ،‬وكان الذي قتل المبارز‬ ‫الثاني هو البطل المشهور أبو ُدَج اـنة ِس َم ـاـك بن َخ َرـَش ةـ النصاري صاحب العصابة الحمراء‪ .‬وقد أسرع‬ ‫أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحا م القلعة‪ ،‬واقتحم معه الجيش السلمي‪ ،‬وجري قتال مرير ساعة داخل‬ ‫الحصن‪ ،‬ثم تسلل اليهود من القلعة‪ ،‬وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الول‪.‬‬ ‫فتح حصن النـَّزار‬ ‫كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر‪ ،‬وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين ل يستطيعون‬

‫اقتحا م هذه القلعة‪ ،‬وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل‪ ،‬ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع‬ ‫الذراري والنساء‪ ،‬بينما كانوا قد أخلوا منها القلع الربعة السابقة‪.‬‬

‫وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار‪ ،‬وصاروا يضغطون عليهم بعنف‪ ،‬ولكون الحصن يقع‬ ‫على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيل للقتحا م فيه‪ .‬أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من‬

‫الحصن‪ ،‬وللشتباك مع قوات المسلمين‪ ،‬ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيد ة برشق النبال‪ ،‬وبإلقاء‬ ‫الحجار ة‪.‬‬ ‫وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين‪ ،‬أمر النبي صلى ال عليه وسلم بنصب آلت‬ ‫المنجنيق‪ ،‬ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف‪ ،‬فأوقعوا الخلل في جدران الحصن‪ ،‬واقتحموه‪ ،‬ودار‬

‫قتال مرير في داخل الحصن انهز م أمامه اليهود هزيمة منكر ة‪ ،‬وذلك لنهم لم يتمكنوا من التسلل من‬ ‫هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الخري‪ ،‬بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم‬ ‫وذراريهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الول من خيبر‪ ،‬وهي ناحية النَّطا ة وال ّ‬ ‫ش ّقـ‪،‬ـ وكانت في‬ ‫هذه الناحية حصون صغير ة أخري إل أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون‪،‬‬ ‫وهربوا إلى الشطر الثاني من بلد ة خيبر‪.‬‬ ‫فتح الشطر الثاني من خيبر‬ ‫ولما أتم رسول ال صلى ال عليه وسلم فتح ناحية النطا ة والشق‪ ،‬تحول إلى أهل الكتيبة التي بها‬ ‫س لـلم‪ ،‬وجاءهم كل فَّل‬ ‫حصن الَق ُمـوـص‪ :‬حصن بني أبي الُح َقـْيـق من بني النضير‪ ،‬وحصن الَو ِطـيـح وال ّ‬ ‫كان انهز م من النطا ة والشق‪ ،‬وتحصن هؤلء أشد التحصن‪.‬‬ ‫واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلثة أ م ل؟ فسياق ابن إسحاق‬ ‫صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص‪ ،‬بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال‬

‫فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للستسل م‪.‬‬

‫أما الواقدي‪ ،‬فيصرح تما م التصريح أن قلع هذا الشطر الثلث إنما أخذت بعد المفاوضة‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫تكون المفاوضة قد جرت لستل م حصن القموص بعد إدار ة القتال‪ ،‬وأما الحصنان الخران فقد سلما‬

‫إلى المسلمين دونما قتال‪.‬‬ ‫ومهما كان‪ ،‬فلما أتي رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد‬ ‫الحصار‪ ،‬ودا م الحصار أربعة عشر يوًماـ‪ ،‬واليهود ل يخرجون من حصونهم‪ ،‬حتى هّم رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق‪ ،‬فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫الصلح‪.‬‬ ‫المفاوضة‬ ‫وأرسل ابن أبي الُح َقـْيـق إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنزل فأكلمك؟ قال‪ :‬‏)نعم(‪ ،‬فنزل‪ ،‬وصالح‬ ‫على حقن دماء َمْنـ في حصونهم من المقاتلة‪ ،‬وترك الذرية لهم‪ ،‬ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم‪،‬‬

‫ويخلون بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض‪ ،‬وعلى الصفراء والبيضاء ـ‬

‫أي الذهب والفضة ـ والُك َرـاع والَْح ْلـَق ةـ إل ثوًبا على ظهر إنسان ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‏)وبرئت منكم ذمة ال وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا(‪ ،‬فصالحوه على ذلك ‪ ،‬وبعد هذه المصالحة تم‬ ‫تسليم الحصون إلى المسلمين‪ ،‬وبذلك تم فتح خيبر‪.‬‬ ‫قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد‬ ‫وعلى رغم هذه المعاهد ة غيب ابنا أبي الحقيق مال كثيرا‪ ،‬غيبا َمْسـ ًكـاـ فيه مال وُح لُـي لحيي بن أخطب‪،‬‬

‫كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير‪.‬‬

‫قال ابن إسحاق‪ :‬وأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم بِكَنانة الربيع‪ ،‬وكان عنده كنز بني النضير‪ ،‬فسأله‬ ‫عنه‪ ،‬فجحد أن يكون يعرف مكانه‪ ،‬فأتي رجل من اليهود فقال‪ :‬إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل‬ ‫غدا ة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لكنانة‪ :‬‏)أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟( قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأمر‬

‫بالخربة‪ ،‬فحفرت‪ ،‬فأخرج منها بعض كنزهم‪ ،‬ثم سأله عما بقي‪ ،‬فأبي أن يؤديه‪ .‬فدفعه إلى الزبير‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫عذبه حتى نستأصل ما عنده‪ ،‬فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه‪ ،‬ثم دفعه رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة‪ ،‬فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل‬ ‫تحت جدار حصن ناعم‪ ،‬ألقي عليه الرحي‪ ،‬وهو يستظل بالجدار فمات ـ‪.‬‬

‫وذكر ابن القيم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق‪ ،‬وكان الذي اعترف‬ ‫عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة‪.‬‬

‫وسبي رسول ال صلى ال عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب‪ ،‬وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق‪،‬‬

‫وكانت عروًس اـ حديثة عهد بالدخول‪.‬‬ ‫قسمة الغنائم‬

‫وأراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬دعنا نكون في هذه‬ ‫الرض‪ ،‬نصلحها‪ ،‬ونقو م عليها‪ ،‬فنحن أعلم بها منكم‪ ،‬ولم يكن لرسول ال صلى ال عليه وسلم ول‬

‫لصحابه غلمان يقومون عليها‪ ،‬وكانوا ل يفرغون حتى يقوموا عليها‪ ،‬فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر‬

‫من كل زرع‪ ،‬ومن كل ثمر‪ ،‬ما بدا لرسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقرهم‪ ،‬وكان عبد ال بن رواحة‬

‫يخرصه عليهم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقسم أرض خيبر على ستة وثلثين سهًم اـ‪ ،‬جمع كل سهم مائة سهم‪ ،‬فكانت ثلثة آلف وستمائة‬

‫سهم‪ ،‬فكان لرسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم‪،‬‬

‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين‪ ،‬وعزل النصف الخر‪ ،‬وهو ألف وثمانمائة‬ ‫سهم‪ ،‬لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين‪ ،‬وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لنها كانت‬

‫طعمة من ال لهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب‪ ،‬وكانوا ألفا وأربعمائة‪ ،‬وكان معهم مائتا فرس‪،‬‬

‫لكل فرس سهمان‪ ،‬فقسمت على ألف وثمانمائة سهم‪ ،‬فصار للفارس ثلثة أسهم‪ ،‬وللراجل سهم واحد‪.‬‬ ‫ويدل على كثر ة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال‪ :‬ما شبعنا حتى فتحنا خيبر‪ ،‬وما رواه عن‬ ‫عائشة قالت‪ :‬لما فتحت خيبر قلنا‪ :‬الن نشبع من التمر ‪ ،‬ولما رجع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫إلى المدينة رد المهاجرون إلى النصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم‬ ‫بخيبر مال ونخيل‪.‬‬

‫قدو م جعفر بن أبي طالب والشعريين‬ ‫وفي هذه الغزو ة قد م عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه‪ ،‬ومعهم الشعريون أبو موسى‬ ‫وأصحابه‪.‬‬ ‫قال أبو موسي‪ :‬بلغنا مخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ونحن باليمن‪ ،‬فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا‬ ‫وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلً من قومي‪ ،‬ركبنا سفينة‪ ،‬فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة‪،‬‬

‫فوافقنا جعفًرا وأصحابه عنده‪ ،‬فقال‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالقامة‪ ،‬فأقيموا‬ ‫معنا‪ ،‬فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حين فتح خيبر‪ ،‬فأسهم لنا‪ ،‬وما‬

‫قسم لحد غاب عن فتح خيبر شيئا إل لمن شهد معه‪ ،‬إل لصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه‪ ،‬قسم‬

‫لهم معهم‪.‬‬ ‫ولما قد م جعفر على النبي صلى ال عليه وسلم تلقاه وقـَبَّل ما بين عينيه وقال‪ :‬‏)وال ما أدري بأيهما‬ ‫أفرح؟ بفتح خيبر أ م بقدو م جعفر(‪.‬‬ ‫وكان قدو م هؤلء على أثر بعث الرسول صلى ال عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري‬ ‫ل‪ ،‬معهم من بقي من نسائهم‬ ‫يطلب توجيههم إليه‪ ،‬فأرسلهم النجاشي على مركبين‪ ،‬وكانوا ستة عشر رج ً‬ ‫وأولدهم‪ ،‬وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الزواج بصفية‬ ‫ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كَِنانة بن أبي الحقيق لغدره‪ ،‬ولما جمع السبي جاء‬ ‫دحية بن خليفة الكلبي‪ ،‬فقال‪ :‬يا نبي ال‪ ،‬أعطني جارية من السبي‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب فخذ جارية‪ ،‬فأخذ‬

‫صفية بنت حيي‪ ،‬فجاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا نبي ال‪ ،‬أعطيت دحية صفية بنت‬

‫حيي سيد ة قريظة وبني النضير‪ ،‬ل تصلح إل لك‪ ،‬قال‪ :‬‏)ادعوه بها(‪ .‬فجاء بها‪ ،‬فلما نظر إليها النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)خذ جارية من السبي غيرها(‪ ،‬وعرض عليها النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫السل م فأسلمت‪ ،‬فأعتقها وتزوجها‪ ،‬وجعل عتقها صداقها‪ ،‬حتى إذا كان بسد الصهباء راجًعا إلى‬

‫المدينة حلت‪ ،‬فجهزتها له أ م سليم‪ ،‬فأهدتها له من الليل‪ ،‬فأصبح عروًس اـ بها‪ ،‬وأولم عليها بحيس من‬ ‫س ِوـيق‪ ،‬وأقا م عليها ثلثة أيا م في الطريق يبني بها‪.‬‬ ‫التمر والسمن وال ّ‬

‫ورأى بوجهها خضر ة‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ما هذا؟( قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من‬ ‫مكانه‪ ،‬وسقط في حجري‪ ،‬ول وال ما أذكر من شأنك شيئا‪ ،‬فقصصتها على زوجي‪ ،‬فلطم وجهي‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬تمنين هذا الملك الذي بالمدينة‪.‬‬

‫أمر الشا ة المسمومة‬ ‫ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث‪ ،‬امرأ ة َس لّـ م‬ ‫ِ‬ ‫صـلِـيًّة‪ ،‬وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقيل لها‪:‬‬ ‫بن م ْشـَكـمـ‪ ،‬شا ة َم ْ‬ ‫الذراع‪ ،‬فأكثرت فيها من السم‪ ،‬ثم سمت سائر الشا ة‪ ،‬ثم جاءت بها‪ ،‬فلما وضعتها بين يدي رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم تناول الذراع‪ ،‬فَلَ​َك منها مضغة فلم يسغها‪ ،‬ولفظها‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)إن هذا العظم‬ ‫ليخبرني أنه مسمو م(‪ ،‬ثم دعا بها فاعترفت‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ما حملك على ذلك؟( قالت‪ :‬قلت‪ :‬إن كان ملًك اـ‬

‫استرحت منه‪ ،‬وإن كان نبًيا فسيخبر‪ ،‬فتجاوز عنها‪.‬‬

‫وكان معه بِْش رـ بن البراء بن َمْعـُرـور‪ ،‬أخذ منها أكلة فأساغها‪ ،‬فمات منها‪.‬‬ ‫واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأ ة وقتلها‪ ،‬وجمعوا بأنه تجاوز عنها أول‪ ،‬فلما مات بشر قتلها‬

‫قصاصا‪.‬‬

‫قتلى الفريقين في معارك خيبر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ل‪ ،‬أربعة من قريش وواحد من أْش َجـعـ‪،‬‬ ‫وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رج ً‬ ‫وواحد من أْس لَــم‪ ،‬وواحد من أهل خيبر والباقون من النصار‪.‬‬ ‫ويقال‪ :‬إن شهداء المسلمين في هذه المعارك ‪ 81‬رجلً‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬ثم قال‪ :‬إني وجدت بعد التفحص ‪ 32‬اسما‪ ،‬واحد منها في‬ ‫وذكر العلمة المنصورفوري ‪ 91‬رج ً‬ ‫الطبري فقط‪ ،‬وواحد عند الواقدي فقط‪ ،‬وواحد مات لجل أكل الشا ة المسمومة‪ ،‬وواحد اختلفوا هل‬ ‫قتل في بدر أو خيبر‪ ،‬والصحيح أنه قتل في بدر‪.‬‬

‫أما قتلي اليهود فعددهم ثلثة وتسعون قتيلً‪.‬‬ ‫فَـَد كـ‬ ‫ص ةـ بن مسعود إلى يهود فَ​َد كـ‪ ،‬ليدعوهم‬ ‫ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى خيبر‪ ،‬بعث ُمَح يّـ َ‬

‫إلى السل م‪ ،‬فأبطأوا عليه‪ ،‬فلما فتح ال خيبر قذف الرعب في قلوبهم‪ ،‬فبعثوا إلى رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر‪ ،‬فقبل ذلك منهم‪ ،‬فكانت‬ ‫فدك لرسول ال صلى ال عليه وسلم خالصة؛ لنه لم ُيوِج ف ـ عليه المسلمون بخيل ول ركاب‪.‬‬

‫وادي الُقَري‬ ‫ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من خيبر‪ ،‬انصرف إلى وادي القري‪ ،‬وكان بها جماعة من‬ ‫اليهود‪ ،‬وانضاف إليهم جماعة من العرب‪.‬‬ ‫فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي‪ ،‬وهم على تعبئة‪ ،‬فقتل ِم ْدـَعــم ـ َعْبٌد لرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ‬ ‫فقال الناس‪ :‬هنيئا له الجنة‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)كل‪ ،‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إن ال ّ‬ ‫ش ْمـلَــة التي‬

‫أخذها يو م خيبر من المغانم‪ ،‬لم تصبها المقاسم‪ ،‬لتشتعل عليه ناًرا(‪ ،‬فلما سمع بذلك الناس جاء رجل‬ ‫إلى النبي صلى ال عليه وسلم بِش َرـاك أو شراكين‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)شراك من نار أو‬ ‫شراكان من نار(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ص ّفـهـم‪ ،‬ودفع لواءه إلى سعد بن عباد ة‪ ،‬وراية‬ ‫ثم َعّبأ رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه للقتال‪ ،‬و َ‬ ‫إلى الُح بَـاب بن المنذر‪ ،‬وراية إلى سهل بن ُح نـَْيف‪ ،‬وراية إلى عباد بن بشر‪ ،‬ثم دعاهم إلى السل م‬ ‫فأبوا‪ ،‬وبرز رجل منهم‪ ،‬فبرز إليه الزبير بن العوا م فقتله‪ ،‬ثم برز آخر فقتله‪ ،‬ثم برز آخر فبرز إليه علي‬

‫ل‪ ،‬كلما قتل منهم رجل دعا من بقي‬ ‫بن أبي طالب رضي ال عنه فقتله‪ ،‬حتى قتل منهم أحد عشر رج ً‬ ‫إلى السل م‪.‬‬ ‫وكانت الصل ة تحضر هذا اليو م‪ ،‬فيصلي بأصحابه‪ ،‬ثم يعود‪ ،‬فيدعوهم إلى السل م وإلى ال ورسوله‪،‬‬ ‫فقاتلهم حتى أمسوا‪ ،‬وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم‪ ،‬وفتحها عنو ة‪،‬‬

‫وغَنَّم هُـ اُل أموالهم‪ ،‬وأصابوا أثاثا ومتاًعا كثيًرا‪.‬‬

‫وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بوادي القري أربعة أيا م‪ .‬وقسم على أصحابه ما أصاب بها‪ ،‬وترك‬

‫الرض والنخل بأيدي اليهود‪ ،‬وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبرـ‪.‬‬ ‫تـَْيَم ــاء‬

‫ولما بلغ يهود تيماء خبر استسل م أهل خيبر ثم فَ​َد كـ ووادي الُقَرـي‪ ،‬لم يبدوا أي مقاومة ضد‬

‫المسلمين‪ ،‬بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح‪ ،‬فقبل ذلك منهم رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬وأقاموا بأموالهم‪ .‬وكتب لهم بذلك كتابا وهاك نصه‪ :‬هذا كتاب محمد رسول ال لبني عاديا‪ ،‬أن‬ ‫لهم الذمة‪ ،‬وعليهم الجزية‪ ،‬ول عداء ول جلء‪ ،‬الليل مد‪ ،‬والنهار شد‪ ،‬وكتب خالد بن سعيد‪.‬‬ ‫العود ة إلى المدينة‬ ‫ثم أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم في العود ة إلى المدينة‪ ،‬وفي الطريق أشرف الناس على واد‬

‫فرفعوا أصواتهم بالتكبير‪ :‬‏)ال أكبر‪ ،‬ال أكبر‪ ،‬ل إله إل ال( فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫ص ّمـ ول غائبا‪ ،‬إنكم تدعون سميعا قريبا(‪.‬‬ ‫‏)أربعوا على أنفسكم‪ ،‬إنكم ل تدعون أ َ‬ ‫وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى ال عليه وسلم ليلة‪ ،‬ثم نا م في آخر الليل ببعض الطريق‪ ،‬وقال لبلل‪:‬‬ ‫‏)اكل لنا الليل(‪ ،‬فغلبت بللً عيناه‪ ،‬وهو مستند إلى راحلته‪ ،‬فلم يستيقظ أحد‪ ،‬حتى ضربتهم الشمس‪،‬‬ ‫وأول من استيقظ بعد ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم خرج من ذلك الوادي‪ ،‬وتقد م‪ ،‬ثم صلي‬ ‫الفجر بالناس‪ ،‬وقيل‪ :‬إن هذه القصة في غير هذا السفر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر‪ ،‬يبدو أن رجوع النبي صلى ال عليه وسلم كان في أواخر صفر أو‬ ‫في ربيع الول سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬ ‫سرية أَبان بن سعيد‬ ‫كان النبي صلى ال عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلء المدينة تماما بعد انقضاء‬ ‫الشهر الحر م ليس من الحز م قطًعا‪ ،‬بينما العراب ضاربة حولها‪ ،‬تطلب غر ة المسلمين للقيا م بالنهب‬ ‫والسلب وأعمال القرصنة ؛ ولذلك أرسل سرية إلى نجد لرهاب العراب تحت قياد ة أبان بن سعيد‪،‬‬

‫بينما كان هو إلى خيبر‪ ،‬وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجًبا عليه‪ ،‬فوافي النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم بخيبر‪ ،‬وقد افتتحها‪.‬‬ ‫والغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة ‪7‬هـ‪ ،‬وقد ورد ذكرها في البخاري‪ .‬قال ابن حجر‪ :‬لم‬

‫أعرف حال هذه السرية‪.‬‬

‫بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة‬ ‫غزو ة ذات الّرَقاع‬ ‫ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحة الحزاب الثلثة تفرغ‬

‫تماًماـ لللتفات إلى الجناح الثالث‪ ،‬أي إلى العراب القسا ة الضاربين في فيافي نجد‪ ،‬والذين ما زالوا‬ ‫يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري‪.‬‬

‫ولما كان هؤلء البدو ل تجمعهم بلد ة أو مدينة‪ ،‬ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلع‪ ،‬كانت الصعوبة‬ ‫في فرض السيطر ة عليهم وإخماد نار شرهم تماًماـ تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ؛‬ ‫ولذلك لم تكن تجدي فيهم إل حملت التأديب والرهاب‪ ،‬وقا م المسلمون بمثل هذه الحملت مر ة‬ ‫بعد أخري‪.‬‬ ‫ولفرض الشوكة ـ أو لجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للغار ة على أطراف المدينة ـ قا م رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزو ة ذات الرقاع‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزو ة في السنة الرابعة‪ ،‬ولكن حضور أبي موسي الشعري وأبي هرير ة‬ ‫رضي ال عنهما في هذه الغزو ة يدل على وقوعها بعد خيبر‪ ،‬والغلب أنها وقعت في شهر ربيع الول‬

‫سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬ ‫وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزو ة‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سمع باجتماع بني أنمار‬ ‫أو بني ثعلبة وبني ُمَح اـِرب من غطفان‪ ،‬فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه‪،‬‬

‫واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي ال عنهما‪ ،‬وسار فتوغل في بلدهم حتى وصل‬

‫إلى موضع يقال له‪ :‬نخل‪ ،‬على بعد يومين من المدينة‪ ،‬ولقي جمعاً من غطفان‪ ،‬فتقاربوا وأخاف بعضهم‬ ‫بعضاً ولم يكن بينهم قتال‪ ،‬إل أنه صلي بهم يومئذ صل ة الخوف‪.‬وفي رواية البخاري‪ :‬وأقيمت الصل ة‬

‫فصلي بطائفة ركعتين‪ ،‬ثم تأخروا‪ ،‬وصلي بالطائفة الخري ركعتين‪ ،‬وكان للنبي صلى ال عليه وسلم أربع‪،‬‬

‫وللقو م ركعتان‪.‬‬

‫وفي البخاري عن أبي موسي الشعري رضي ال عنهم قال‪ :‬خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه‪ ،‬فنقبت أقدامنا‪ ،‬ونقبت قدماي‪ ،‬وسقطت أظفاري‪ ،‬فكنا نلف على‬ ‫أرجلنا الخرق‪ ،‬فسميت ذات الرقاع‪ ،‬لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا‪.‬‬

‫وفيه عن جابر‪ :‬كنا مع النبي صلى ال عليه وسلم بذات الرقاع‪ ،‬فإذا أتينا على شجر ة ظليلة تركناها‬ ‫للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنزل رسول ال صلى ال عليه وسلم فتفرق الناس في العضا ة‪ ،‬يستظلون‬

‫بالشجر‪ ،‬ونزل رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت شجر ة فعلق بها سيفه‪ .‬قال جابر‪ :‬فنمنا نومة‪،‬‬

‫فجاء رجل من المشركين‪ :‬فاخترط سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬أتخافني؟ قال‪ :‬‏)ل(‪،‬‬

‫قال‪ :‬فمن يمنعك مني؟ قال‪ :‬‏)ال(‪ .‬قال جابر‪ :‬فإذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعونا‪ ،‬فجئنا‪ ،‬فإذا‬ ‫عنده أعرابي جالس‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم‪ ،‬فاستيقظت‬

‫ص ْلـًتا‪ .‬فقال لي‪ :‬من يمنعك مني؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬فها هو ذا جالس(‪ ،‬ثم لم يعاتبه رسول ال‬ ‫وهو في يده َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وفي رواية أبي عوانة‪ :‬فسقط السيف من يده‪ ،‬فأخذه رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)من يمنعك مني؟( قال‪ :‬كـن خـير آخـذ‪ ،‬قال‪ :‬‏)تشهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال؟(‬ ‫قال العرابي‪ :‬أعاهدك على أل أقاتلك‪ ،‬ول أكون مع قو م يقاتلونك‪ ،‬قال‪ :‬فخلي سبيله‪ ،‬فجاء إلى‬ ‫قومه‪ ،‬فقال‪ :‬جئتكم من عند خير الناس‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي رواية البخاري‪ :‬قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر‪ :‬اسم الرجل غَْو َرـث ابن الحارث‪.‬قال ابن‬

‫حجر‪ :‬ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة‪ :‬أن اسم العرابي ُدْع ثُـور‪ ،‬وأنه أسلم‪ ،‬لكن ظاهر كلمه‬ ‫أنهما قصتان في غزوتين‪ .‬وال أعلم‪.‬‬ ‫وفي مرجعهم من هذه الغزو ة سبوا امرأ ة من المشركين‪ ،‬فنذر زوجها أل يرجع حتى يهريق دماً في‬ ‫ل‪ ،‬وقد أرصد رسول ال صلى ال عليه وسلم رجلين‬ ‫أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء لي ً‬ ‫َرِبيئة للمسلمين من العدو‪ ،‬وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر‪ ،‬فضرب عبادًا‪ ،‬وهو قائم يصلي‪ ،‬بسهم‬ ‫فنزعه‪ ،‬ولم يبطل صلته‪ ،‬حتى رشقه بثلثة أسهم‪ ،‬فلم ينصرف منها حتى سلم‪ ،‬فأيقظ صاحبه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫سبحان ال! هل نبهتني‪ ،‬فقال‪ :‬إني كنت في سور ة فكرهت أن أقطعها‪.‬‬

‫كان لهذه الغزو ة أثر في قذف الرعب في قلوب العراب القسا ة‪ ،‬وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا‬

‫بعدالغزو ة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزو ة‪ ،‬بل استكانت شيئاً‬ ‫فشيئاً حتى استسلمت‪ ،‬بل وأسلمت‪ ،‬حتى نري عد ة قبائل من هذه العراب تقو م مع المسلمين في‬ ‫فتح مكة‪ ،‬وتغزو ُح نـَْينًا‪ ،‬وتأخذ من غنائمها‪ ،‬ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من‬ ‫غزو ة الفتح‪ ،‬فبهذا تم كسر الجنحة الثلثة التي كانت ممثلة في الحزاب‪ ،‬وساد المنطقة المن‬

‫والسل م‪ ،‬واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من‬

‫بعض القبائل‪ ،‬بل بعد هذه الغزو ة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبير ة ؛ لن الظروف في‬ ‫داخل البلد كانت قد تطورت لصالح السل م والمسلمين‪.‬‬

‫وبعد الرجوع من هذه الغزو ة أقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى شوال سنة ‪ 7‬هـ‪.‬‬ ‫وبعث في خلل ذلك عد ة سرايا‪ .‬وهاك بعض تفصيلها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي إلى بني الُم لَـّوح ُبقَد يْـد‪ ،‬في صفر أو ربيع الول سنة ‪ 7‬هـ‪ .‬كان بنو‬ ‫الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن ُس َوـيْـد‪ ،‬فبعثت هذه السرية لخذ الثأر‪ ،‬فشنوا الغار ة في الليل فقتلوا‬

‫من قتلوا‪ ،‬وساقوا النعم‪ ،‬وطاردهم جيش كبير من العدو‪ ،‬حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر‪ ،‬فجاء‬ ‫سيل عظيم حال بين الفريقين‪ .‬ونجح المسلمون في بقية النسحاب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سرية ِح ْس ـَمـيـ‪،‬في جمادي الثانية سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬وقد مضي ذكرها في مكاتبة الملوك‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 3‬ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تـَُرَبة‪ ،‬في شعبان سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬ومعه ثلثون رجلً‪ .‬كانوا يسيرون الليل‬ ‫ويستخفون في النهار‪ ،‬وأتي الخبر إلى هوازن فهربوا‪ ،‬وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحدًا‪ ،‬فانصرف‬ ‫راجعاً إلى المدينة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ سرية بشير بن سعد النصاري إلى بني مر ة بناحية فَ​َد كـ‪ ،‬في شعبان سنة ‪7‬هـ في ثلثين رجلً‪ .‬خرج‬

‫إليهم واستاق الشاء والنعم‪ ،‬ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل‪ ،‬فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير‬ ‫وأصحابه‪ ،‬فقتلوا جميعاً إل بشير‪ ،‬فإنه اْرتُ ّ‬ ‫ث إلى فدك‪ ،‬فأقا م عند يهود حتى برأت جراحه‪ ،‬فرجع إلى‬ ‫المدينة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي‪ ،‬في رمضان سنة ‪ 7‬هـ إلى بني عَُو اـل وبني عبد ابن ثعلبة بالَم يـَْف َعـة‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬فهجموا عليهم جميعًا‪ ،‬وقتلوا من أشرف لهم‪،‬‬ ‫وقيل إلى الُح َرـَقات من ُج َهـيـَْنة‪ ،‬في مائة وثلثين رج ً‬ ‫ك بن ِم ْرـَدـاـس بعد أن قال‪ :‬ل إله إل ال‪،‬‬ ‫واستاقوا نعما وشاء‪ ،‬وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَِه يـ َ‬ ‫فلما قدموا وأخبر النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كبر عليه وقال‪ :‬‏)أقتلته بعد ما قال‪ :‬ل إله إل ال؟(‬ ‫فقال‪ :‬إنما قالها متعوذاً قال‪ :‬‏)فهل شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أ م كاذب؟(‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ سرية عبد ال بن رواحة إلى خيبر‪ ،‬في شوال سنة ‪ 7‬هـ في ثلثين راكًبا‪ .‬وذلك أن أِس يــر أو بشير بن‬ ‫زار م كان يجمع غطفان لغزو المسلمين‪ ،‬فأخرجوا أسيًرا في ثلثين من أصحابه‪ ،‬وأطمعوه أن الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم يستعمله على خيبر‪ ،‬فلما كانوا بَق ْرـقـَر ة نَِيار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى‬ ‫قتل أسير وأصحابه الثلثين‪ .‬ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ سرية بشير بن سعد النصاري إلى يمن وَج بـار ‏]بالفتح‪ ،‬أرض لغطفان‪ ،‬وقيل‪ :‬لَف َزـاَر ة وُعْذ َرـ ة[‪ ،‬في‬ ‫شوال سنة ‪ 7‬هـ في ثلثمائة من المسلمين‪ ،‬للقاء جمع كبير تجمعوا للغار ة على أطراف المدينة‪،‬‬ ‫فساروا الليل وكمنوا النهار‪ ،‬فلما بلغهم مسير بشير هربوا‪ ،‬وأصاب بشير نعما كثير ة‪ ،‬وأسر رجلين‪ ،‬فقد م‬

‫بهما المدينة إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلما‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ سرية أبي َح ْدـَرــد السلمي إلى الغابة‪ ،‬ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمر ة القضاء‪،‬‬

‫وملخصها‪ :‬أن رجل من ُج َشـمـ بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة‪ ،‬يريد أن يجمع قيًس اـ على‬

‫محاربة المسلمين‪ .‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم‪،‬‬ ‫فوصلوا إلى القو م مع غروب الشمس‪ ،‬فكمن أبو حدرد في ناحية‪ ،‬وصاحباه في ناحية أخري‪ ،‬وأبطأ‬

‫على القو م راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء‪ ،‬فقا م رئيس القو م وحده‪ ،‬فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫في فؤاده فسقط ولم يتكلم‪ ،‬فاحتز أبو حدرد رأسه‪ ،‬وشد في ناحية العسكر‪ ،‬وكبر‪ ،‬وكبر صاحباه‬

‫وشدا‪ ،‬فما كان من القو م إل الفرار‪ ،‬واستاق المسلمون الثلثة الكثير من البل والغنم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عمر ة القضاء‬

‫قال الحاكم‪ :‬تواترت الخبار أنه صلى ال عليه وسلم لما َه ّلـ ذو القعد ة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء‬

‫عمرتهم‪ ،‬وأل يتخلف منهم أحد شهد الحديبية‪ ،‬فخرجوا إل من استشهد‪ ،‬وخرج معه آخرون معتمرين‪،‬‬

‫فكانت عدتهم ألفين سوي النساء والصبيان‪ .‬ا هـ‪.‬‬ ‫ض بَـط الّد يـلي‪ ،‬أو أبا ُرْه مـ الغفاري‪ ،‬وساق ستين بدنة‪ ،‬وجعل عليها‬ ‫واستخلف على المدينة عَُو يـف بن ال ْ‬ ‫ناجية بن ُج ْنـُد بـ السلمي‪ ،‬وأحر م للعمر ة من ذي الُح لَـيـَْف ةـ‪ ،‬ولبي‪ ،‬ولبي المسلمون معه‪ ،‬وخرج مستعداً‬ ‫بالسلح والمقاتلة‪ ،‬خشية أن يقع من قريش غدر‪ ،‬فلما بلغ َيأُج جـ وضع الدا ة كلها‪ :‬الَح َجـفـ والِم َجـاـّن‬ ‫والنّْبل والّرماح‪ ،‬وخلف عليها أوس بن َخ ْوـلِـي النصاري في مائتي رجل‪ ،‬ودخل بسلح الراكب‪ :‬السيوف‬ ‫في الُقُرـب‪.‬‬ ‫صـوـاء‪ ،‬والمسلمون متوشحون‬ ‫وكان رسول اللهصلى ال عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته الَق ْ‬ ‫السيوف‪ ،‬محدقون برسول ال صلى ال عليه وسلم يلبون‪.‬‬ ‫وخـرج المشركـون إلى جبل قـَُعْيِق َعـان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين‪ ،‬وقد قالوا فيما‬ ‫بينهم‪ :‬إنه يقد م عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب‪ ،‬فأمر النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه أن يرملوا‬ ‫الشواط الثلثة‪ ،‬وأن يمشوا ما بين الركنين‪ .‬ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الشواط كلها إل البقاء‬

‫عليهم‪ ،‬وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته كما أمرهم بالضطباع‪ ،‬أي أن يكشفوا المناكب اليمني‪،‬‬

‫ويضعوا طرفي الرداء على اليسري‪.‬‬ ‫ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الَح ُجـوـن ـ وقد صف المشركون‬ ‫ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بِم ْحـَجـنِـه‪ ،‬ثم طاف‪ ،‬وطاف المسلمون‪ ،‬وعبد ال بن‬ ‫رواحة بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم يرتجز متوشحاً بالسيف‪:‬‬ ‫وفي حديث أنس فقال عمر‪ :‬يا ابن رواحة‪ ،‬بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفي حر م ال‬

‫تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏) َخّلـ عنه يا عمر‪ ،‬فلهو أسرع فيهم من نضح النبل(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وَرَمَلـ رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون ثلثة أشواط‪ ،‬فلما رآهم المشركون قالوا‪ :‬هؤلء الذين‬ ‫زعمتم أن الحمي قد وهنتهم‪ ،‬هؤلء أجلد من كذا وكذا‪.‬‬

‫ولما فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمرو ة‪ ،‬فلما فرغ من السعي‪ ،‬وقد وقف الهدي عند المرو ة‪،‬‬

‫قال‪ :‬‏)هذا المنحر‪ ،‬وكل فجاج مكة منحر(‪ ،‬فنحر عند المرو ة‪ ،‬وحلق هناك‪ ،‬وكذلك فعل المسلمون‪ ،‬ثم‬

‫بعث ناساً إلى يَأُْج جـ‪ ،‬ليقيموا على السلح‪ ،‬ويأتي الخرون فيقضون نسكهم ففعلوا‪.‬‬

‫وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بمكة ثلثًا‪ ،‬فلما أصبح من اليو م الرابع أتوا علياً فقالوا‪ :‬قل‬ ‫لصاحبك‪ :‬اخرج عنا فقد مضي الجل‪ ،‬فخرج النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونزل بَس ِرـف فأقا م بها‪.‬‬ ‫ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمز ة‪ ،‬تنادى‪ ،‬يا عم يا عم‪ ،‬فتناولها علي‪ ،‬واختصم فيها على‬ ‫وجعفر وزيد‪ ،‬فقضي النبي صلى ال عليه وسلم لجعفر ؛ لن خالتها كانت تحته‪.‬‬ ‫وفي هذه العمر ة تزوج النبي صلى ال عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية‪ ،‬وكان رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة‪ ،‬فجعلت أمرها إلى‬ ‫العباس‪ ،‬وكانت أختها أ م الفضل تحته‪ ،‬فزوجها إياه‪ ،‬فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة‬

‫إليه حين يمشي‪ ،‬فبني بها بسرف‪.‬‬ ‫وسميت هذه العمر ة بعمر ة القضاء ؛ إما لنها كانت قضاء عن عمر ة الُح َدـيْـبَِية‪ ،‬أو لنها وقعت حسب‬ ‫المقاضا ة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية‪ ،‬والوجه الثاني رجحه المحققون‪ ،‬وهذه العمر ة‬ ‫تسمي بأربعة أسماء‪ :‬القضاء‪ ،‬والَق ِ‬ ‫صلـح‪.‬‬ ‫ضـ يّــة‪ ،‬والقصاص‪ ،‬وال ّ‬ ‫وقــد أرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الرجـوع مـن هذه العمر ة عد ة سرايا‪ ،‬وهي كما يلي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ سرية ابن أبي العوجاء‪ ،‬في ذي الحجة سنة ‪ 7‬هـ في خمسين رجلً‪ .‬بعثه رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم إلى بني ُس لَـْيم ؛ ليدعوهم إلى السل م‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل حاجة لنا إلى ما دعوتنا‪ ،‬ثم قاتلوا قتالً شديداً‪.‬‬ ‫جرح فيه أبو العوجاء‪ ،‬وأسر رجلن من العدو‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ سرية غالب بن عبد ال إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بَف َدـكـ‪ ،‬في صفر سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬بعث في‬

‫مائتي رجل‪ ،‬فأصابوا من العدو نعما‪ ،‬وقتلوا منهم قتلي‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ض اـَعة قد حشدت جموعاً كبير ة للغار ة‬ ‫‪ 3‬ـ سرية ذات أطلح في ربيع الول سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬كانت بنو قُ َ‬ ‫على المسلمين‪ ،‬فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم كعب بن عمير النصاري في خمسة عشر‬ ‫ل‪ ،‬فلقوا العدو‪ ،‬فدعوهم إلى السل م‪ ،‬فلم يستجيبوا لهـم‪ ،‬وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إل‬ ‫رج ً‬ ‫رجل واحد‪ ،‬فقد اْرتُ ّ‬ ‫ث من بين القتلي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ سرية ذات ِع ْرـقـ إلى بني هوازن‪ ،‬في ربيع الول سنة ‪ 8‬هـ‪ .‬كانت بنو هوازن قد أمدت العداء مر ة‬

‫ل‪ ،‬فاستاقوا نـَعما من العدو‪،‬‬ ‫بعد أخري فأرسل إليها ُش َجـاـع بن وهب السدي في خمسة وعشرين رج ً‬ ‫ولم يلقوا كيداً‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫معركة مؤتة‬

‫وهذه المعركة أكبر لقاء ُمثِْخ نــ‪ ،‬وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حيا ة رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري‪ ،‬وقعت في جمادي الولي سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬وفق‬

‫أغسطس أو سبتمبر سنة ‪ 926‬م‪.‬‬ ‫ومؤتة ‏)بالضم فالسكون( هي قرية بأدني بلقاء الشا م‪ ،‬بينها وبين بيت المقدس مرحلتان‪.‬‬ ‫سبب المعركة‬ ‫وسبب هذه المعركة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الزدي بكتابه إلى عظيم‬ ‫ص َرـي‪ .‬فعرض له ُش َرـْح بِــيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملً على البلقاء من أرض الشا م من قبل قيصر ـ‬ ‫بُ ْ‬ ‫فأوثقه رباطًا‪ ،‬ثم قدمه‪ ،‬فضرب عنقه‪.‬‬ ‫وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم‪ ،‬يساوي بل يزيد على إعلن حالة الحرب‪ ،‬فاشتد ذلك‬ ‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم حين نقلت إليه الخبار‪ ،‬فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلثة آلف‬ ‫مقاتل ‪ ،‬وهو أكبر جيش إسلمي لم يجتمع قبل ذلك إل في غزو ة الحزاب‪.‬‬

‫أمراء الجيش ووصية رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‬ ‫أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة‪ ،‬وقال‪ :‬‏)إن قتل زيد فجعفر‪ ،‬وإن قتل‬ ‫جعفر فعبد ال بن رواحة( ‪ ،‬وعقد لهم لواء أبيض‪ ،‬ودفعه إلى زيد بن حارثة‪.‬‬

‫وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير‪ ،‬وأن يدعوا َمْنـ هناك إلى السل م‪ ،‬فإن أجابوا وإل استعانوا‬

‫بال عليهم‪ ،‬وقاتلوهم‪ ،‬وقال لهم‪ :‬‏)اغزوا بسم ال‪ ،‬في سبيل ال‪َ ،‬مْنـ كفر بال‪ ،‬ل تغدروا‪ ،‬ول تغلوا‪،‬‬

‫ول تقتلوا وليداً ول امرأ ة‪ ،‬ول كبيراً فانيًا‪ ،‬ول منعزلً بصومعة‪ ،‬ول تقطعوا نخلً ول شجر ة‪ ،‬ول تهدموا‬ ‫بناء(‪.‬‬ ‫توديع الجيش السلمي وبكاء عبد ال بن رواحة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما تهيأ الجيش السلمي للخروج حضر الناس‪ ،‬وودعوا أمراء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسلموا‬ ‫عليهم‪ ،‬وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد ال بن رواحة ـ فقالوا‪ :‬ما يبكيك؟ فقال‪ :‬أما وال ما بي‬

‫حب الدنيا‪ ،‬ول صبابة بكم‪ ،‬ولكني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ آية من كتاب ال يذكر‬ ‫ك ح ْتـم اـ ّمْق ِ‬ ‫ضـيّـا{ ‏]مريم‪ ،[71:‬فلست أدري كيف لي‬ ‫فيها النار‪:‬‏} َوإِـن ّمنـُك ْمـ إِّل َواـِرُدَه اـَك اـَن َعَلى َربّ َ َ ً‬ ‫بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون‪ :‬صحبكم ال بالسلمة‪ ،‬ودفع عنكم‪ ،‬وردكم إلينا صالحين‬ ‫غانمين‪ ،‬فقال عبد ال بن رواحة‪:‬‬

‫لكنني أسأل الرحمن مغف ـر ة ** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا‬ ‫أو طعنة بيدي حران مجـهز ة ** بحربة تنفذ الحشـاء والكبدا‬ ‫حتى يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده ال من غاز وقد رشدا‬ ‫ثم خرج القو م‪ ،‬وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع‪ ،‬فوقف‬ ‫ووّدعهم‪.‬‬ ‫تحرك الجيش السلمي‪ ،‬ومباغتته حالة رهيبة‬ ‫وتحرك الجيش السلمي في اتجاه الشمال حتى نزل َمَعـان‪ ،‬من أرض الشا م‪ ،‬مما يلي الحجاز الشمإلى‪،‬‬

‫وحينئذ نقلت إليهم الستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الرو م‪ ،‬وانضم‬ ‫إليهم من لَْخ مـ وُج َذـاـ م وبـَْلَق ْيـن وبـَْه َرــاء وبَِلي مائة ألف‪.‬‬ ‫المجلس الستشاري بَم َعـان‬

‫لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمر م ـ الذي بوغتوا به في هذه الرض‬

‫البعيد ة ـ وهل يهجم جيش صغير‪ ،‬قوامه ثلثة آلف مقاتل فحسب‪ ،‬على جيش كبير عرمر م مثل البحر‬

‫الخضم‪ ،‬قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون‪ ،‬وأقاموا في َمَعـان ليلتين يفكرون في أمرهم‪ ،‬وينظرون‬ ‫ويتشاورون‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬نكتب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنخبره بعدد عدونا‪ ،‬فإما أن يمدنا‬

‫بالرجال‪ ،‬وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‪.‬‬ ‫ولكن عبد ال بن رواحة عارض هذا الرأي‪ ،‬وشجع الناس‪ ،‬قائلً‪ :‬يا قو م‪ ،‬وال إن التي تكرهون لَلِّتي‬ ‫خرجتم تطلبون‪ :‬الشهاد ة‪ ،‬وما نقاتل الناس بعدد ول قو ة ول كثر ة‪ ،‬ما نقاتلهم إل بهذا الدين الذي‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أكرمنا ال به‪ ،‬فانطلقوا‪ ،‬فإنما هي إحدي الحسنيين‪ ،‬إما ظهور وإما شهاد ة‪ .‬وأخيراً استقر الرأي على ما‬ ‫دعا إليه عبد ال بن رواحة‪.‬‬ ‫الجيش السلمي يتحرك نحو العدو‬

‫وحينئذ بعد أن قضي الجيش السلمي ليلتين في معان‪ ،‬تحركوا إلى أرض العدو‪ ،‬حتى لقيتهم جموع‬ ‫هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها‪ :‬‏]َ​َش اـِرف[ ثم دنا العدو‪ ،‬وانحاز المسلمون إلى مؤتة‪ ،‬فعسكروا‬

‫هناك‪ ،‬وتعبأوا للقتال‪ ،‬فجعلوا على ميمنتهم قُطَْبة بن قتاد ة الُعْذ ِرــي‪ ،‬وعلى الميسر ة عباد ة بن مالك‬ ‫النصاري‪.‬‬ ‫بداية القتال‪ ،‬وتناوب القواد‬

‫وهناك في مؤتة التقي الفريقان‪ ،‬وبدأ القتال المرير‪ ،‬ثلثة آلف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف‬

‫مقاتل‪ .‬معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحير ة‪ ،‬ولكن إذا هبت ريح اليمان جاءت بالعجائب‪.‬‬ ‫ب ـرسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وجعل يقاتل بضراو ة بالغة‪ ،‬وبسالة ل‬ ‫أخذ الراية زيد بن حارثة ـ ِح ّ‬

‫يوجد لها نظير إل في أمثاله من أبطال السل م‪ ،‬فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القو م‪ ،‬وخر‬ ‫صريعاً‪.‬‬ ‫وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب‪ ،‬وطفق يقاتل قتالً منقطع النظير‪ ،‬حتى إذا أرهقه القتال اقتحم‬ ‫عن فرسه الشقراء فعقرها‪ ،‬ثم قاتل حتى قطعت يمينه‪ ،‬فأخذ الراية بشماله‪ ،‬ولم يزل بها حتى قطعت‬

‫شماله‪ ،‬فاحتضنها بعضديه‪ ،‬فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل‪ .‬يقال‪ :‬إن رومياً ضربه ضربًة قطعته نصفين‪،‬‬ ‫وأثابه ال بجناحيه جناحين في الجنة‪ ،‬يطير بهما حيث يشاء ؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار‪ ،‬وبجعفر ذي‬ ‫الجناحين‪.‬‬

‫روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبره‪ :‬أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل‪ ،‬فعددت به خمسين‬

‫بين طعنة وضربة‪ ،‬ليس منها شيء في دبره‪ ،‬يعني ظهره‪.‬‬

‫وفي رواية أخري قال ابن عمر‪ :‬كنت فيهم في تلك الغزو ة‪ ،‬فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في‬

‫القتلي‪ ،‬ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية‪ .‬وفي رواية العمري عن نافع زياد ة‪ :‬‏]فوجدنا‬ ‫ذلك فيما أقبل من جسده[‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراو ة والبسالة‪ ،‬أخذ الراية عبد ال بن رواحة‪ ،‬وتقد م بها‪،‬‬

‫وهو على فرسه‪ ،‬فجعل يستنزل نفسه‪ ،‬ويتردد بعض التردد‪ ،‬حتى حاد حيد ة ثم قال‪:‬‬

‫ثم نزل‪ ،‬فأتاه ابن عم له بَعْر قـ من لحم فقال‪ :‬شد بهذا صلبك‪ ،‬فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما‬ ‫لقيت‪ ،‬فأخذه من يده فانتهس منه نـَْه َسـةـ‪ ،‬ثم ألقاه من يده‪ ،‬ثم أخذ سيفه فتقد م‪ ،‬فقاتل حتى قتل‪.‬‬

‫الراية إلى سيف من سيوف ال‬ ‫وحينئذ تقد م رجل من بني َعْج لــن ـ اسمه ثابت بن أقر م ـ فأخذ الراية وقال‪ :‬يا معشر المسلمين‪،‬‬

‫اصطلحوا على رجل منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬أنت‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ ،‬فاصطلح الناس على خالد بن الوليد‪ ،‬فلما‬

‫أخذ الراية قاتل قتالً مريرًا‪ ،‬فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال‪ :‬لقد انقطعت في يدي يو م مؤتة‬ ‫تسعة أسياف‪ ،‬فما بقي في يدي إل صفيحة يمانية‪ .‬وفي لفظ آخر‪ :‬لقد دق في يدي يو م مؤتة تسعة‬ ‫أسياف‪ ،‬وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية‪.‬‬

‫وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يو م مؤتة ـ مخبراً بالوحي‪ ،‬قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من‬ ‫ساحة القتال‪ :‬‏)أخذ الراية زيد فأصيب‪ ،‬ثم أخذ جعفر فأصيب‪ ،‬ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه‬ ‫تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف ال‪ ،‬حتى فتح ال عليهم(‪.‬‬ ‫نهاية المعركة‬ ‫ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراو ة المريرتين‪ ،‬كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في‬ ‫الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الرو م‪ .‬ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد‬ ‫مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه‪.‬‬ ‫واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً‪ .‬ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن‬ ‫خالد بن الوليد نجح في الصمود أما م جيش الرومان طول النهار‪ ،‬في أول يو م من القتال‪ .‬وكان يشعر‬

‫بمسيس الحاجة إلى مكيد ة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في النحياز بالمسلمين‬

‫من غير أن يقو م الرومان بحركات المطارد ة‪ .‬فقد كـان يعرف جيداً أن الفلت من براثنهم صعب جداً‬ ‫لو انكشف المسلمون‪ ،‬وقا م الرومان بالمطارد ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فلما أصبح اليو م الثاني غير أوضاع الجيش‪ ،‬وعبأه من جديد‪ ،‬فجعل مقدمته ساقه‪ ،‬وميمنته ميسر ة‪،‬‬

‫وعلى العكس‪ ،‬فلما رآهم العداء أنكروا حالهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬جاءهم مدد‪ ،‬فرعبوا‪ ،‬وصار خالد ـ بعد أن‬

‫ل‪ ،‬مع حفظ نظا م جيشه‪ ،‬ولم يتبعهم‬ ‫تراءي الجيشان‪ ،‬وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالمسلمين قليلً قلي ً‬ ‫الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم‪ ،‬ويحاولون القيا م بمكيد ة ترمي بهم في الصحراء‪.‬‬ ‫وهكذا انحاز العدو إلى بلده‪ ،‬ولم يفكر في القيا م بمطارد ة المسلمين ونجح المسلمون في النحياز‬ ‫سالمين‪ ،‬حتى عادوا إلى المدينة‪.‬‬

‫قتلى الفريقين‬ ‫ل‪ ،‬أما الرومان‪ ،‬فلم يعرف عدد قتلهم‪ ،‬غير أن تفصيل‬ ‫واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رج ً‬ ‫المعركة يدل على كثرتهم‪.‬‬ ‫أثر المعركة‬ ‫وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر‪ ،‬الذي عانوا مرارتها لجله‪ ،‬لكنها كانت كبير ة‬ ‫الثر لسمعة المسلمين‪ ،‬إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحير ة‪ ،‬فقد كانت الرومان أكبر وأعظم‬

‫قو ة على وجه الرض‪ ،‬وكانت العرب تظن أن معني جلدها هو القضاء على النفس وطلب الحتف‬ ‫بالظّْلف‪ ،‬فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلثة آلف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمر م الكبير ـ‬ ‫مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسار ة تذكر‪ .‬كان كل ذلك من عجائب‬ ‫الدهر‪ ،‬وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته‪ ،‬وأنهم مؤيدون ومنصورون‬

‫من عند ال‪ ،‬وأن صاحبهم رسول ال حقاً‪ .‬ولذلك نري القبائل اللدود ة التي كانت ل تزال تثور على‬ ‫المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى السل م‪ ،‬فأسلمت بنو ُس لَـْيم وأْش َجـعـ وغَطَ​َف اـن وُذبـَْيان وفـَزاَر ة‬ ‫وغيرها‪.‬‬

‫وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان‪ ،‬فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية‪،‬‬ ‫واحتلل المسلمين الراضي البعيد ة النائية‪.‬‬

‫س لـِس ل ـ‬ ‫سرية ذات ال ّ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم بموقف القبائل العربية ـ التي تقطن مشارف الشا م ـ في معركة‬

‫مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين‪ ،‬شعر بمسيس الحاجة إلى القيا م بحكمة بالغة توقع‬ ‫الفرقة بينها وبين الرومان‪ ،‬وتكون سبباً للئتلف بينها وبين المسلمين‪ ،‬حتى ل تتحشد مثل هذه‬ ‫الجموع الكبير ة مر ة أخري‪.‬‬

‫واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لن أ م أبيه كانت امرأ ة من بَِلي ‪ .‬فبعثه إليهم في جمادي‬

‫ض اـَعة‬ ‫الخر ة سنة ‪ 8‬هـ على إثر معركة مؤتة ؛ ليستألفهم‪ ،‬ويقال‪ :‬بل نقلت الستخبارات أن جمعاً من قُ َ‬ ‫قد تجمعوا‪ ،‬يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة‪ ،‬فبعثه إليه‪ ،‬ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معاً‪.‬‬ ‫وعقد رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض‪ ،‬وجعل معه راية سوداء‪ ،‬وبعثه في‬ ‫ثلثمائة من سرا ة المهاجرين والنصار‪ ،‬ومعهم ثلثون فرسًا‪ ،‬وأمره أن يستعين بمن مر به من بَِلي وُعْذ َرـَ ة‬ ‫وبـْلَق ْيـِن ‪ .‬فسار الليل وكم نـ النهار‪ ،‬فلما قرب من القو م بلغه أن لهم جمعاً كثيرًا‪ ،‬فبعث رافع بن مِكـي ٍ‬ ‫ث‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫الُج َهـنِـي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يستمده‪ ،‬فبعث إليه أبا عبيد ة بن الجراح في مائتين‪ ،‬وعقد‬

‫له لواء‪ ،‬وبعث له سرا ة المهاجرين والنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو‪ ،‬وأن يكونا‬

‫جميعاً ول يختلفا‪ .‬فلما لحق به أراد أبو عبيد ة أن يؤ م الناس‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬إنما قدمت على مددا‪ ،‬وأنا‬ ‫المير‪ ،‬فأطاعه أبو عبيد ة‪ ،‬فكان عمرو يصلي بالناس‪.‬‬ ‫ض اـَعة‪ ،‬فدوخها حتى أتي أقصي بلدهم‪ ،‬ولقي في آخر ذلك جمعًا‪ ،‬فحمل‬ ‫وسار حتى وطئ بلد قُ َ‬ ‫عليهم المسلمون فهربوا في البلد وتفرقوا‪.‬‬ ‫وبعث عوف بن مالك الشجعي بريداً إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبره بقفولهم وسلمتهم‪،‬‬ ‫وما كان في غزاتهم‪.‬‬ ‫وذات السلسل ‏]بضم السين الولي وفتحها‪ :‬لغتان[ بقعة وراء وادي الُقَرـي‪ ،‬بينها وبين المدينة عشر ة‬

‫أيا م‪ .‬وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض ُج َذـاـ م يقال له‪ :‬السلسل‪ ،‬فسمي ذات‬ ‫السلسل‪.‬‬

‫سرية أبي قتاد ة إلى خضر ة‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫كانت هذه السرية في شعبان سنة ‪ 8‬هـ ؛ وذلك لن بني غَطَ​َف اـن كانوا يتحشدون في َخ ِ‬ ‫ضـَرـ ة ـ وهي‬ ‫ل‪ ،‬فقتل‬ ‫أرض ُمَح اـِرب بنَْج دـ ـ فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا قتاد ة في خمسة عشر رج ً‬ ‫منهم‪ ،‬وَس بَـي وغنم‪ ،‬وكانت غيبته خمس عشر ة ليلة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة فتح مكة‬

‫قال ابن القيم‪ :‬هو الفتح العظم الذي أعز ال به دينه ورسوله وجنده وحزبه المـين‪ ،‬واستنقذ به بلــده‬

‫وبيته الذي جعله هدي للعالمين‪ ،‬من أيدي الكفار والمشركين‪ ،‬وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل‬ ‫السمـاء‪ ،‬وضـربت أطناب ِع ّزـه على مناكب الجوزاء‪ ،‬ودخل الناس به فــي ديــن ال أفواجـًا‪ ،‬وأشرق به‬

‫وجه الرض ضياء وابتهاجاً ا‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫سبب الغزو ة‬

‫قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهد ة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد‬

‫صلى ال عليه وسلم وعهده دخل فيه‪ ،‬ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه‪ ،‬وأن‬

‫القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق‪ ،‬فأي عدوان تتعرض له أي من تلك‬

‫القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‪.‬‬

‫وحسب هذا البند دخلت ُخ َزـاَعة في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودخلت بنو بكر في عهد‬ ‫قريش‪ ،‬وصارت كل من القبيلتين في أمن من الخري‪ ،‬وقد كانت بين القبيلتين عداو ة وتوترات في‬

‫الجاهلية‪ ،‬فلما جاء السل م‪ ،‬ووقعت هذه الهدنة‪ ،‬وأمن كل فريق من الخر ـ اغتنمها بنو بكر‪ ،‬وأرادوا‬

‫أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم‪ ،‬فخرج نـَْو فَـل بن معاوية الّد يـلي في جماعة من بني بكر في شهر‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬وهم على ماء يقال له‪ :‬‏]الَو تِـير[ فأصابوا منهم رجا ً‬ ‫شعبان سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬فأغاروا على خزاعة لي ً‬ ‫وتناوشوا واقتتلوا‪ ،‬وأعانت قريش بني بكر بالسلح‪ ،‬وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل‪،‬‬ ‫حتى حازوا خزاعة إلى الحر م‪ ،‬فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‪ :‬يا نوفل‪ ،‬إنا قد دخلنا الحر م‪ ،‬إلهك‬ ‫إلهك‪ ،‬فقال كلمة عظيمة‪ :‬ل إله اليو م يا بني بكر‪ ،‬أصيبوا ثأركم‪ .‬فلعمري إنكم لَتسِرُقون في الحر م‪،‬‬

‫أفل تصيبون ثأركم فيه؟‬

‫ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بَُد يْـل بن َوْرـَقاء الخزاعي‪ ،‬وإلى دار مولي لهم يقال له‪ :‬رافع‪.‬‬ ‫وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي‪ ،‬فخرج حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة‪ ،‬فوقف‬ ‫عليه‪ ،‬وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)نصرت يا عمرو بن سالم(‪ ،‬ثم عرضت له سحابة من السماء‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬‏)إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب(‪.‬‬

‫ثم خرج بَُد يْـل بن َوْرـَقاء الخزاعي في نفر من ُخ َزـاَعة‪ ،‬حتى قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫المدينة‪ ،‬فأخبروه بمن أصيب منهم‪ ،‬وبمظاهر ة قريش بني بكر عليهم‪ ،‬ثم رجعوا إلى مكة‪.‬‬

‫أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح‬ ‫ول شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق‪ ،‬لم يكن له أي مبرر‪،‬‬ ‫ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها‪ ،‬وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة‪ ،‬فعقدت مجلساً استشاريًا‪،‬‬ ‫وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلً لها ليقو م بتجديد الصلح‪.‬‬

‫وقد أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم‪ .‬قال‪ :‬‏)كأنكم بأبي‬ ‫سفيان قد جاءكم ليشد الَعْق َدـ‪،‬ـ ويزيد في المد ة(‪.‬‬

‫وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُْس َفـاـن ـ وهو راجع من المدينة إلى‬

‫مكة ـ فقال‪ :‬من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى ال عليه وسلم ـ فقال‪ :‬سرت في خزاعة‬ ‫في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي‪ .‬قال‪ :‬أو ما جئت محمداً؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬ ‫فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان‪ :‬لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي‪ ،‬فأتي مبرك راحلته‪،‬‬ ‫فأخذ من بعرها‪ ،‬ففته‪ ،‬فرأي فيها النوي‪ ،‬فقال‪ :‬أحلف بال لقد جاء بديل محمداً‪.‬‬ ‫وقد م أبو سفيان المدينة‪ ،‬فدخل على ابنته أ م حبيبة‪ ،‬فلما ذهب ليجلس على فراش رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم طوته عنه‪ ،‬فقال‪ :‬يا بنية‪ ،‬أرغبت بي عن هذا الفراش‪ ،‬أ م رغبت به عني؟ قالت‪ :‬بل هو فراش‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنت رجل مشرك نجس‪ .‬فقال‪ :‬وال لقد أصابك بعدي شر‪.‬‬

‫ثم خرج حتى أتي رسول ال صلى ال عليه وسلم فكلمه‪ ،‬فلم يرد عليه شيئًا‪ ،‬ثم ذهب إلى أبي بكر‬ ‫فكلمه أن يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بفاعل‪ .‬ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬أأنا أشفع لكم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فوال لو لم أجد إل الّذ ّرـ لجاهدتكم به‪ ،‬ثم‬ ‫جاء فدخل على على بن أبي طالب‪ ،‬وعنده فاطمة‪ ،‬وحسن‪ ،‬غل م يدب بين يديهما‪ ،‬فقال‪ :‬يا علي‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إنك أمس القو م بي رحمًا‪ ،‬وإني قد جئت في حاجة‪ ،‬فل أرجعن كما جئت خائبًا‪ ،‬اشفع لي إلى محمد‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬لقد عز م رسول ال صلى ال عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‪.‬‬ ‫فالتفت إلى فاطمة‪ ،‬فقال‪ :‬هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس‪ ،‬فيكون سيد العرب إلى آخر‬

‫الدهر؟ قالت‪ :‬وال ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس‪ ،‬وما يجير أحد على رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫وحيئذ أظلمت الدنيا أما م عيني أبي سفيان‪ ،‬فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط‪ :‬يا‬ ‫أبا الحسن‪ ،‬إني أري المور قد اشتدت علي‪ ،‬فانصحني‪ ،‬قال‪ :‬وال ما أعلم لك شيئاً يغني عنك‪.‬‬ ‫ولكنك سيد بني كنانة‪ ،‬فقم فأجر بين الناس‪ ،‬ثم الَْح ْقـ بأرضك‪ .‬قال‪ :‬أو تري ذلك مغنياً عني شيئاً؟‬

‫قال‪ :‬ل وال ما أظنه‪ ،‬ولكني لم أجد لك غير ذلك‪ .‬فقا م أبو سفيان في المسجد‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس‪،‬‬

‫إني قد أجرت بين الناس‪ ،‬ثم ركب بعيره‪ ،‬وانطلق‪.‬‬

‫ولما قد م على قريش‪ ،‬قالوا‪ :‬ما وراءك؟ قال‪ :‬جئت محمداً فكلمته‪ ،‬فوال ما رد على شيئًا‪ ،‬ثم جئت‬ ‫ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرًا‪ ،‬ثم جئت عمر بن الخطاب‪ ،‬فوجدته أدني العدو‪ ،‬ثم جئت علياً‬

‫فوجدته ألين القو م‪ ،‬قد أشار على بشيء صنعته‪ ،‬فوال ما أدري هل يغني عني شيئاً أ م ل؟ قالوا‪ :‬وبم‬ ‫أمرك؟ قال‪ :‬أمرني أن أجير بين الناس‪ ،‬ففعلت‪ ،‬قالوا‪ :‬فهل أجاز ذلك محمد؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قالوا‪ :‬ويلك‪ ،‬إن‬ ‫زاد الرجل على أن لعب بك‪ .‬قال‪ :‬ل وال ما وجدت غير ذلك‪.‬‬ ‫التهيؤ للغزو ة ومحاولة الخفاء‬ ‫يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض‬ ‫الميثاق بثلثة أيا م ـ أن تجهزه‪ ،‬ول يعلم أحد‪ ،‬فدخل عليها أبو بكر‪ ،‬فقال‪ :‬يابنية‪ ،‬ما هذا الجهاز؟‬

‫قالت‪ :‬وال ما أدري‪ .‬فقال‪ :‬وال ما هذا زمان غزو بني الصفر‪ ،‬فأين يريد رسول ال؟ قالت‪ :‬وال ل‬

‫علم لي‪ ،‬وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا‪ ،‬وارتجز‪ :‬يا رب إني ناشد‬ ‫محمداً‪ ...‬البيات‪ .‬فعلم الناس بنقض الميثاق‪ ،‬وبعد عمرو جاء بديل‪ ،‬ثم أبو سفيان‪ ،‬وتأكد عند الناس‬ ‫الخبر‪ ،‬فأمرهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بالجهاز‪ ،‬وأعلمهم أنه سائر إلى مكة‪ ،‬وقال‪ :‬‏)الّلهم خذ‬

‫العيون والخبار عن قريش حتى نبغتها في بلدها(‪.‬‬

‫وزياد ة في الخفاء والتعمية بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال‪ ،‬تحت قياد ة‬ ‫ض مـ‪ ،‬فيما بين ذي َخ َشـبـ وذي المرو ة‪ ،‬على ثلثة بـُرد من المدينة‪ ،‬في‬ ‫أبي قتاد ة بن ِربِْعي‪ ،‬إلى بطن إ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أول شهر رمضان سنة ‪ 8‬هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى ال عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية‪ ،‬ولتذهب‬

‫بذلك الخبار‪ ،‬وواصلت هذه السرية سيرها‪ ،‬حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم خرج إلى مكة‪ ،‬فسارت إليه حتى لحقته‪.‬‬ ‫وكتب حاطب بن أبي بـَْلتـَعة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬ثم‬ ‫أعطاه امرأ ة‪ ،‬وجعل لها ُج ْعـلًـ على أن تبلغه قريشًا‪ ،‬فجعلته في قرون رأسها‪ ،‬ثم خرجت به‪ ،‬وأتي رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب‪ ،‬فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوا م وأبا‬ ‫ضـةَـ َخ اـخ‪ ،‬فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش(‪ ،‬فانطلقوا‬ ‫َمْرـثَـد الغَنَِوي فقال‪ :‬‏)انطلقوا حتى تأتوا َرْو َ‬ ‫تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأ ة بذلك المكان‪ ،‬فاستنـزلوها‪ ،‬وقالوا‪ :‬معك كتاب؟ فقالت‪ :‬ما معي‬

‫كتاب‪ ،‬ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً‪ .‬فقال لها علي‪ :‬أحلف بال‪ ،‬ما كذب رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ول كذبنا‪ ،‬وال لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‪ .‬فلما رأت الجد منه قالت‪ :‬أعرض‪ ،‬فأعرض‪،‬‬

‫فحلت قرون رأسها‪ ،‬فاستخرجت الكتاب منها‪ ،‬فدفعته إليهم‪ ،‬فأتوا به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫فإذا فيه‪ :‬‏)من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش( يخبرهم بمسير رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدعا‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم حاطبًا‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ما هذا يا حطب؟( فقال‪ :‬ل تـَْع َجـْلـ على يا رسول ال‪.‬‬ ‫ص قـًـا في قريش ؛ لست من‬ ‫وال إني لمؤمن بال ورسوله‪ ،‬وما ارتددت ول بدلت‪ ،‬ولكني كنت امرأ ُمْل َ‬ ‫أنـَْف ِسـ هــم‪ ،‬ولي فيهم أهل وعشير ة وولد‪ ،‬وليس لي فيهم قرابة يحمونهم‪ ،‬وكان من معك له قرابات‬ ‫يحمونهم‪ ،‬فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي‪ .‬فقال عمر بن الخطاب‪:‬‬ ‫دعني يا رسول ال أضرب عنقه‪ ،‬فإنه قد خان ال ورسوله‪ ،‬وقد نافق‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ :‬‏)إنه قد شهد بدرًا‪ ،‬وما يدريك يا عمر لعل ال قد اطلع على أهل بدر فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم‬ ‫ت عينا عمر‪ ،‬وقال‪ :‬ال ورسوله أعلم‪.‬‬ ‫فقد غفرت لكم(‪ ،‬فَذ َرـفَ ْ‬ ‫وهكذا أخذ ال العيون‪ ،‬فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف‬ ‫والقتال‪.‬‬ ‫الجيش السلمي يتحرك نحو مكة‬

‫ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك ‪ 8‬هـ‪ ،‬غادر رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة متجهاً إلى‬ ‫مكــة‪ ،‬في عشر ة ألف من الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬واستخـلف على المدينة أبا ُرْه مـ الغفاري‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما كان بالُج ْحـَفـةـ ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب‪ ،‬وكان قد خرج بأهله وعياله‬

‫مسلماً مهاجرًا‪ ،‬ثم لما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بالبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن‬ ‫الحارث وابن عمته عبد ال بن أبي أمية‪ ،‬فأعرض عنهما‪ ،‬لما كان يلقاه منهما من شد ة الذي والهجو‪،‬‬ ‫فقالت له أ م سلمة‪ :‬ل يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك‪ .‬وقال على لبي سفيان بن‬

‫الحارث‪ :‬ائت رسول ال صلى ال عليه وسلم من قبل وجهه‪ ،‬فقل له ما قال إخو ة يوسف ليوسف‪:‬‬ ‫‏}َقاُلواْ َتاللِّه لَ​َق ْدـ آثـَرَك اللّهُ َعَليـَْنا َو إِـن ُك نّـا لَ​َخ اـِط ئِـيَن{ ‏]يوسف‪ ،[91:‬فإنه ل يرضي أن يكون أحد أحسن‬ ‫ب َعلَْيُك ُمـ اْليـَْو َ مـ‬ ‫منه قولً‪ .‬ففعل ذلك أبو سفيان‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏}َقاَل لَ تَـثـَْري َ‬ ‫يـَْغِف ُرـ اللّهُ لَُك ْمـ َو ُهـَوـ أَْرَح ُمـ الّراِح ِم ـيـَن{ ‏]يوسف‪ ،[92:‬فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها‪:‬‬ ‫ت طَّرْد تَـِني كل ُمطَّرد؟(‪.‬‬ ‫فضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم صدره وقال‪ :‬‏)أن َ‬ ‫الجيش السلمي ينزل بَم ّرـ الظّْه َرــان‬ ‫وواصل رسول ال صلى ال عليه وسلم سيره وهو صائم‪ ،‬والناس صيا م‪ ،‬حتى بلغ الُك َدـيْـد ـ وهو ماء بين‬

‫عُْس َفـاـن وقَُد يْـد ـ فأفطر‪ ،‬وأفطر الناس معه‪ .‬ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله‬ ‫عشاء‪ ،‬فأمر الجيش‪ ،‬فأوقدوا النيران‪ ،‬فأوقدت عشر ة آلف نار‪ ،‬وجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫على الحرس عمر بن الخطاب رضي ال عنه‬

‫أبو سفيان بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم البيضاء‪ ،‬وخرج‬ ‫يلتمس‪ ،‬لعله يجد بعض الَح طّـابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم قبل أن يدخلها‪.‬‬

‫وكان ال قد عمي الخبار عن قريش‪ ،‬فهم على َوَج ٍلـ وترقب‪ ،‬وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الخبار‪،‬‬ ‫فكان قد خرج هو وحكيم بن حزا م‪ ،‬وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبار‪.‬‬ ‫قال العباس‪ :‬وال إني لسير عليها ـ أي على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ إذ سمعت كل م أبي‬ ‫سفيان وبديل بن ورقاء‪ ،‬وهما يتراجعان‪ ،‬وأبو سفيان يقول‪ :‬ما رأيت كالليلة نيراناً قط ول عسكراً‪ .‬قال‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يقول بديل‪ :‬هذه وال خزاعة‪َ ،‬ح َمـَشـْتـها الحرب‪ ،‬فيقول أبو سفيان‪ :‬خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه‬ ‫نيرانها وعسكرها‪.‬‬

‫قال العباس‪ :‬فعرفت صوته‪ ،‬فقلت‪ :‬أبا َح ْنـظَ​َلة؟ فعرف صوتي‪ ،‬فقال‪ :‬أبا الفضل؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬مالك؟‬ ‫فداك أبي وأمي‪ .‬قلت‪ :‬هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم في الناس‪ ،‬واصباح قريش وال‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فما الحيلة فداك أبي وأمي؟‪ ،‬قلت‪ :‬وال لئن ظفر بك ليضربن عنقك‪ ،‬فاركب في عجز هذه‬

‫البغلة‪ ،‬حتى آتي بك رسول ال صلى ال عليه وسلم فأستأمنه لك‪ ،‬فركب خلفي‪ ،‬ورجع صاحباه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فجئت به‪ ،‬فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين‪ ،‬قالوا‪ :‬من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم وأنا عليها قالوا‪ :‬عم رسول ال صلى ال عليه وسلم على بغلته‪ .‬حتى مررت بنار‬

‫عمر بن الخطاب فقال‪ :‬من هذا؟ وقا م إلى‪ ،‬فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال‪ :‬أبو سفيان‪ ،‬عدو‬

‫ال؟ الحمد ل الذي أمكن منك بغير عقد ول عهد‪ ،‬ثم خرج يشتد نحو رسول ال صلى ال عليه‬

‫ت البغلة فسبقت‪ ،‬فاقتحمت عن البغلة‪ ،‬فدخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫وسلم‪ ،‬وركض ُ‬ ‫ودخل عليه عمر‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬ ‫إني قد أجرته‪ ،‬ثم جلست إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذت برأسه‪ ،‬فقلت‪ :‬وال ل يناجيه‬

‫الليلة أحد دوني‪ ،‬فلما أكثر عمر في شأنه قلت‪ :‬مهلً يا عمر‪ ،‬فوال لو كان من رجال بني عدي بن‬

‫كعب ما قلت مثل هذا‪ ،‬قال‪ :‬مهلً يا عباس‪ ،‬فوال لسلمك كان أحب إلى من إسل م الخطاب‪ ،‬لو‬ ‫أسلم‪ ،‬وما بي إل أني قد عرفت أن إسلمك كان أحب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم من إسل م‬ ‫الخطاب‪.‬‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)اذهب به يا عباس إلى رحلك‪ ،‬فإذا أصبحت فأتني به(‪،‬‬ ‫فذهبت‪ ،‬فلما أصبحت غدوت به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رآه قال‪ :‬‏)ويحك يا أبا‬

‫سفيان‪ ،‬ألم يأن لك أن تعلم أن ل إله إل ال؟( قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟‬

‫لقد ظننت أن لو كان مع ال إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏)ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ألم يأن لك أن تعلم أني رسول ال؟(‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك‬ ‫وأكرمك وأوصلك‪ :‬أما هذه فإن في النفس حتى الن منها شيء‪ .‬فقال له العباس‪ :‬ويحك أسلم‪ ،‬واشهد‬

‫أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمداً رسول ال‪ ،‬قبل أن تضرب عنقك‪ ،‬فأسلم وشهد شهاد ة الحق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قال العباس‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‪ .‬قال‪ :‬‏)نعم‪ ،‬من دخل دار‬

‫أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد الحرا م فهو آمن(‪.‬‬

‫الجيش السلمي يغادر مر الظهران إلى مكة‬ ‫وفي هذا الصباح ـ صباح يو م الثلثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة ‪ 8‬هـ ـ غادر رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم مر الظهران إلى مكة‪ ،‬وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند َخ طْـِم‬

‫الجبل‪ ،‬حتى تمر به جنود ال فيراها‪ ،‬ففعل‪ ،‬فمرت القبائل على راياتها‪ ،‬كلما مرت به قبيلة قال‪ :‬يا‬ ‫ِ‬ ‫س لَـْيم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول‪ :‬يا عباس‪ ،‬من‬ ‫عباس‪ ،‬من هذه؟ فيقول ـ مثل ـ سليم‪ ،‬فيقول‪ :‬مإلى ول ُ‬ ‫هؤلء؟ فيقول‪ُ :‬مَزيـَْنة‪ ،‬فيقول‪ :‬ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل‪ ،‬ما تمر به قبيلة إل سأل العباس عنها‪،‬‬ ‫فإذا أخبره قال‪ :‬مالي ولبني فلن؟ حتى مر به رسول ال صلى ال عليه وسلم في كتيبته الخضراء‪ ،‬فيها‬

‫المهاجرون والنصار‪ ،‬ل يري منهم إل الَح َدـقـ من الحديد‪ ،‬قال‪ :‬سبحان ال! يا عباس‪ ،‬من هؤلء؟ قال‪:‬‬ ‫هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم في المهاجرين والنصار‪ ،‬قال‪ :‬ما لحد بهؤلء قِبٌَل ول طاقة‪ .‬ثم‬ ‫ك ابن أخيك اليو م عظيماً‪ .‬قال العباس‪ :‬يا أبا سفيان‪ ،‬إنها النبو ة‪،‬‬ ‫قال‪ :‬وال يا أبا الفضل‪ ،‬لقد أصبح ُمْل ُ‬ ‫قال‪ :‬فنعم إذن‪.‬‬

‫وكانت راية النصار مع سعد بن عباد ة‪ ،‬فلما مر بأبي سفيان قال له‪ :‬اليو م يو م الملحمة‪ ،‬اليو م تُْس تَـَح ّلـ‬

‫الُح ْرـَمـةـ‪ ،‬اليـو م أذل ال قـريشاً‪ .‬فلما حـاذي رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا سفيان قال‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬ ‫ألم تسمع ما قال سعد؟ قال‪ :‬‏)وما قال؟( فقال‪ :‬قال كذا وكذا‪ .‬فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف‪ :‬يا‬ ‫رسول ال‪ ،‬ما نأمن أن يكون له في قريش صولة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)بل اليو م يو م‬ ‫تـَُعّظم فيه الكعبة‪ ،‬اليو م يو م أعز ال فيه قريشاً( ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء‪ ،‬ودفعه إلى ابنه‬ ‫قيس‪ ،‬ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد‪ .‬وقيل‪ :‬بل دفعه إلى الزبير‪.‬‬

‫قريش تباغت زحف الجيش السلمي‬ ‫ولما مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس‪ :‬النجاء إلى قومك‪ .‬فأسرع‬

‫أبو سفيان حتى دخل مكة‪ ،‬وصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬هذا محمد‪ ،‬قد جاءكم فيما ل قبل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫لكم به‪ .‬فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ .‬فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‪:‬‬ ‫اقتلوا الَح ِمـيـت الدسم الخمش الساقين‪ ،‬قـبَُّح من طَِليَعة قو م‪.‬‬ ‫قال أبو سفيان‪ :‬ويلكم‪ ،‬لتغرنكم هذه من أنفسكم‪ ،‬فإنه قد جاءكم بما ل قبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار‬

‫أبي سفيان فهو آمن‪ .‬قالوا‪ :‬قاتلك ال‪ ،‬وما تغني عنا دارك؟ قال‪ :‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪ ،‬ومن‬

‫دخل المسجد فهو آمن‪ .‬فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‪ ،‬ووبشوا أوباشاً لهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬نقد م‬ ‫هؤلء‪ ،‬فإن كان لقريش شيء كنا معهم‪ ،‬وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا‪ .‬فتجمع سفهاء قريش‬ ‫وأِخ ّف ـاـؤها مع عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وسهيل بن عمرو بالَخ ْنـَد َمـةـ ليقاتلوا المسلمين‪.‬‬ ‫وكان فيهم رجل من بني بكر ـ ِح َم ـاـس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلحًا‪ ،‬فقالت له امرأته‪ :‬لماذا تعد‬ ‫ما أري؟ قال‪ :‬لمحمد وأصحابه‪ .‬قالت‪ :‬وال ما يقو م لمحمد وأصحابه شيء‪ .‬قال‪ :‬إني وال لرجو أن‬ ‫أخدمك بعضهم‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫إن يقبلوا اليو م فمالي ِع لّـه ** هــذا ســلح كامــل وأّله‬ ‫س لّـة **‬ ‫وذو ِغ َرـاَرْين سريع ال ّ‬ ‫فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة‪.‬‬ ‫الجيش السلمي بذي طَُو ىـ‬ ‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً ل حين‬ ‫رأي ما أكرمه ال به من الفتح‪ ،‬حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه‪ ،‬وكان‬ ‫خالد بن الوليد على الُم َجـنّـبَِة اليمني ـ وفيها أْس لَـُم وُس لَـْيم وِغ َفـاـر وُمَزيـَْنة وُج َهـيـَْنة وقبائل من قبائل العرب ـ‬ ‫فأمره أن يدخل مكة من أسفلها‪ ،‬وقال‪ :‬‏)إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا‪ ،‬حتى‬ ‫توافوني على الصفا(‪.‬‬ ‫وكان الزبير بن العوا م على الُم َجـنّـبَِة اليسري‪ ،‬وكان معه راية رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمره أن‬ ‫يدخل مكة من أعلها ـ من َك َدـاـء ـ وأن يغرز رايته بالَح ُجـوـن‪ ،‬ول يبرح حتى يأتيه‪.‬‬

‫سـرـ ـ وهم الذيم لسلح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى‬ ‫وكان أبو عبيد ة على الرجالة والُح ّ‬

‫ينصب لمكة بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الجيش السلمي يدخل مكة‬ ‫وتحركت كل كتيبة من الجيش السلمي على الطريق التي كلفت الدخول منها‪.‬‬ ‫فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إل أناموه‪ .‬وقتل من أصحابه من المسلمين ُك ْرـزـ بن‬ ‫جابر الِف ْهـ ِرــي وُخ نـَْيس بن خالد بن ربيعة‪ .‬كانا قد شذا عن الجيش‪ ،‬فسلكا طريقاً غير طريقه فقتل‬ ‫جميعًا‪ ،‬وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالَخ ْنـَد َمـةـ فناوشوهم شيئا من قتال‪ ،‬فأصابوا من‬ ‫ل‪ ،‬فانهز م المشركون‪ ،‬وانهز م ِح َم ـاـس بن قيس ـ الذي كان يعد السلح لقتال‬ ‫المشركين اثني عشر رج ً‬ ‫المسلمين ـ حتى دخل بيته‪ ،‬فقال لمرأته‪ :‬أغلقي على بابي‪.‬‬

‫فقالت‪ :‬وأين ما كنت تقول؟ فقال‪:‬‬ ‫وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصفا‪.‬‬ ‫وأما الزبير فتقد م حتى نصب راية رسول ال صلى ال عليه وسلم بالَح ُجـوـن عند مسجد الفتح‪ ،‬وضرب‬

‫له هناك قبة‪ ،‬فلم يبرح حتى جاءه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يدخل المسجد الحرا م ويطهره من الصنا م‬ ‫ثم نهض رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمهاجرون والنصار بين يديه وخلفه وحوله‪ ،‬حتى دخل‬

‫المسجد‪ ،‬فأقبل إلى الحجر السود‪ ،‬فاستلمه‪ ،‬ثم طاف بالبيت‪ ،‬وفي يده قوس‪ ،‬وحول البيت ثلثمائة‬ ‫وستون صنما‪ ،‬فجعل يطعنها بالقوس‪ ،‬ويقول‪ :‬‏}َج اـء الَْح ّقـ َوَزـَه َقـالَْباِط ُلـ إِّن الَْباِط َلـ َك اـَن َزُه وـًقا{‏]السراء‪:‬‬ ‫ئـ الَْباِط ُلـ َو َمـاـ يُِعيُد { ‏]سبأ‪ [49:‬والصنا م تتساقط على وجوهها‪.‬‬ ‫‪ ،[81‬‏}قُْل َج اـء الَْح ّقـ َو َمـاـ يـْبُِد ُ‬

‫وكان طوافه على راحلته‪ ،‬ولم يكن محرماً يومئذ‪ ،‬فاقتصر على الطواف‪ ،‬فلما أكمله دعا عثمان بن‬ ‫طلحة‪ ،‬فأخذ منه مفتاح الكعبة‪ ،‬فأمر بها ففتحت فدخلها‪ ،‬فرأي فيها الصور‪ ،‬ورأي فيها صور ة إبراهيم‪،‬‬ ‫وإسماعيل ـ عليهما السل م ـ يستقسمان بالزل م‪ ،‬فقال‪ :‬‏)قاتلهم ال‪ ،‬وال ما استقسما بها قط(‪ .‬ورأي‬

‫في الكعبة حمامة من عيدان‪ ،‬فكسرها بيده‪ ،‬وأمر بالصور فمحيت‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أما م قريش‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم أغلق عليه الباب‪ ،‬وعلى أسامة وبلل‪ ،‬فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه‬

‫ثلثة أذرع وقف‪ ،‬وجعل عمودين عن يساره‪ ،‬وعموداً عن يمينه‪ ،‬وثلثة أعمد ة وراءه ـ وكان البيت يومئذ‬ ‫على ستة أعمد ة ـ ثم صلي هناك‪ .‬ثم دار في البيت‪ ،‬وكبر في نواحيه‪ ،‬ووحد ال‪ ،‬ثم فتح الباب‪ ،‬وقريش‬ ‫قد ملت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏)ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهز م الحزاب وحده‪ ،‬أل كل مأثـَُر ة أو‬ ‫مال أو د م فهو تحت قدمي هاتين‪ ،‬إل ِس َد ـاـَنة البيت وِس قـاية الحاج‪ ،‬ألوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط‬ ‫والعصا ـ ففيه الدية مغلظة‪ ،‬مائة من البل أربعون منها في بطونها أولد‪.‬‬

‫يا معشر قريش إن ال قد أذهب عنكم نخو ة الجاهلية وتعظمها بالباء‪ ،‬الناس من آد م‪ ،‬وآد م من تراب‬ ‫ثم تل هذه الية‪ :‬‏}يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم‬ ‫عند ال أتقاكم إن ال عليم خبير{‪.‬‬ ‫ل تثريب عليكم اليو م‬ ‫ثم قال‪ :‬‏)يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟( قالوا‪ :‬خيًرا‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ :‬‏)فإني‬

‫ب َعلَْيُك ُمـ{ اذهبوا فأنتم الطلقاء(‪.‬‬ ‫أقول لكم كما قال يوسف لخوته‪ :‬‏}لَ تَـثـَْري َ‬ ‫مفتاح البيت إلى أهله‬

‫ثم جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم في المسجد فقا م إليه علي رضي ال عنه ومفتاح الكعبة في‬

‫يده فقال‪ :‬اجمع لنا الحجابة مع السقاية‪ ،‬صلى ال عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أين عثمان بن طلحة؟(‪ .‬فدعي له‪ ،‬فقال له‪ :‬‏)هاك مفتاحك يا‬ ‫عثمان‪ ،‬اليو م يو م بر ووفاء(‪ ،‬وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه‪:‬‬

‫‏)خذوها خالد ة تالد ة‪ ،‬ل ينزعها منكم إل ظالم‪ ،‬يا عثمان إن ال استأمنكم على بيته‪ ،‬فكلوا مما يصل‬ ‫إليكم من هذا البيت بالمعروف(‪.‬‬

‫بلل يؤذن على الكعبة‬ ‫وحانت الصل ة‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بلل أن يصعد فيؤذن على الكعبة‪ ،‬وأبو سفيان بن‬ ‫حرب‪ ،‬وعتاب بن أسيد‪ ،‬والحارث بن هشا م جلوس بفناء الكعبة‪ ،‬فقال عتاب‪ :‬لقد أكر م ال أسيدا أل‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يكون سمع هذا‪ ،‬فيسمع منه ما يغيظه‪ .‬فقال الحارث‪ :‬أما وال لو أعلم أنه حق لتبعته‪ .‬فقال أبو‬

‫سفيان‪ :‬أما وال ل أقول شيًئا‪ ،‬لو تكلمت لخبرت عني هذه الحصباء‪ .‬فخرج عليهم النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم فقال لهم‪ :‬‏)لقد علمت الذي قلتم( ثم ذكر ذلك لهم‪.‬‬

‫فقال الحارث وعتاب‪ :‬نشهد أنك رسول ال‪ ،‬وال ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك‪.‬‬ ‫صل ة الفتح أو صل ة الشكر‬ ‫ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دار أ م هانئ بنت أبي طالب‪ ،‬فاغتسل وصلى ثماني ركعات‬ ‫في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صل ة الضحى‪ ،‬وإنما هذه صل ة الفتح‪ ،‬وأجارت أ م هانئ‬

‫حموين لها‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)قد أجرنا من أجرت يا أ م هانئ(‪ ،‬وقد كان أخوها‬

‫علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما‪ ،‬فأغلقت عليهما باب بيتها‪ ،‬وسألت النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫فقال لها ذلك‪.‬‬

‫إهدار د م رجال من أكابر المجرمين‬ ‫وأهدر رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين‪ ،‬وأمر بقتلهم وإن‬ ‫وجدوا تحت أستار الكعبة‪ ،‬وهم عبد العزى بن خطل‪ ،‬وعبدال بن سعد بن أبي سرح‪ ،‬وعكرمة بن أبي‬ ‫جهل‪ ،‬والحارث بن نفيل بن وهب‪ ،‬ومقيس بن صبابة‪ ،‬وهبار بن السود‪ ،‬وقينتان كانتا لبن الخطل‪،‬‬

‫كانت تغنيان بهجو النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسار ة مول ة لبعض بني عبد المطلب‪ ،‬وهي التي وجد‬ ‫معها كتاب حاطب‪.‬‬

‫فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وشفع فيه‪ ،‬فحقن دمه‪ ،‬وقبل إسلمه‬

‫بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقو م إليه بعض الصحابة فيقتله‪ ،‬وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر‪ ،‬ثم ارتد‬ ‫ورجع إلى مكة‪.‬‬

‫وأما عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬ففر إلى اليمن‪ ،‬فاستأمنت له امرأته‪ ،‬فأمنه النبي صلى ال عليه وسلم فتبعته‪،‬‬ ‫فرجع معها وأسلم وحسن إسلمه‪.‬‬ ‫وأما ابن خطل فكان متعلًق اـ بأستار الكعبة‪ ،‬فجاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم وأخبره‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‏)اقتله( فقتله‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدال‪ ،‬وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك‪ ،‬ثم عدا على رجل من‬ ‫النصار فقتله‪ ،‬ثم ارتد ولحق بالمشركين‪.‬‬

‫وأما الحارث فكان شديد الذى لرسول ال بمكة‪ ،‬فقتله علي‪.‬‬ ‫وأما هبار بن السود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم حين‬ ‫هاجرت‪ ،‬فنخس بها حتى سقطت على صخر ة وأسقطت جنينها‪ ،‬ففر هبار يو م مكة ثم أسلم وحسن‬

‫إسلمه‪.‬‬

‫وأما القينتان فقتلت إحداهما‪ ،‬واستؤمن للخرى فأسلمت‪ ،‬كما استؤمن لسار ة وأسلمت‪.‬‬ ‫قال ابن حجر‪ :‬وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلطل الخزاعي‪ ،‬قتله على‪ .‬وذكر الحاكم‬ ‫أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير‪ ،‬وقصته مشهور ة‪ ،‬وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح‪ ،‬ووحشي بن‬ ‫حرب‪ ،‬وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان‪ ،‬وقد أسلمت‪ ،‬وأرنب موله ابن خطل أيضاً قتلت‪ ،‬وأ م سعد‬ ‫قتلت‪ ،‬فيما ذكر ابن إسحاق‪ ،‬فكملت العد ة ثامنية رجال وست نسو ة‪ ،‬ويحتمل أن تكون أرنب وأ م‬ ‫سعد القينتان‪ ،‬أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب‪.‬‬

‫إسل م صفوان بن أمية‪ ،‬وفضالة بن عمير‬ ‫لم يكن صفوان ممن أهدر دمه‪ ،‬لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر‪،‬‬ ‫فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول ال صلى ال عليه وسلم فأمنه‪ ،‬وأعطاه عمامته التي دخل‬

‫بها مكة‪ ،‬فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جد ة إلى اليمن فرده‪ ،‬فقال لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ :‬اجعلني بالخيار شهرين‪ .‬قال ‏)أنت بالخيار أربعة أشهر( ثم أسلم صفوان‪ ،‬وقد كانت امرأته‬

‫أسلمت قبله‪ ،‬فأقرهما على النكاح الول‪.‬‬

‫وكان فضالة رجلً جريئا جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو في الطواف؛ ليقتله‪ ،‬فأخبر‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم بما في نفسه فأسلم‪.‬‬

‫خطبة الرسول صلى ال عليه وسلم الثاني من الفتح‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما كان الغد من يو م الفتح قا م رسول ال صلى ال عليه وسلم في الناس خطيبًا‪ ،‬فحمد ال‪ ،‬وأثنى‬ ‫عليه‪ ،‬ومجده بما هو أهله‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)أيها الناس‪ ،‬إن ال حر م مكة يو م خلق السموات والرض‪ ،‬فهي‬ ‫حرا م بحرمة ال إلى يو م القيامة‪ ،‬فل يحل لمرئ يؤمن بال واليو م الخر أن يسفك فيها دمًا‪ ،‬أو يعضد‬ ‫بها شجر ة‪ ،‬فإن أحد ترخص لقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا‪ :‬إن ال أذن لرسولة ولم يأذن‬ ‫لكم‪ ،‬وإنما حلت لي ساعة من نهار‪ ،‬وقد عادت حرمتها اليو م كحرمتها بالمس‪ ،‬فليبلغ الشاهد‬

‫الغائب(‪.‬‬

‫وفي رواية‪ :‬‏)ل يعضد شوكه‪ ،‬ول ينفر صيده ول تلتقط ساقطته إل من عرفها‪ ،‬ول يختلى خله(‪ ،‬فقال‬

‫العباس‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إل الذخر‪ ،‬فإنه لقينهم وبيوتهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)إل الذخر(‪.‬‬

‫وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجل من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم بهذا الصدد‪ :‬‏)يا معشر خزاعة‪ ،‬ارفعو أيديكم عن القتل‪ ،‬فلقد كثر القتل إن نفع‪ ،‬ولقد قتلتم‬

‫قتيال لدينه‪ ،‬فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين‪ ،‬إن شاءوا فد م قاتله‪ ،‬وإن شاءوا فعقله(‪.‬‬ ‫وفي رواية‪ :‬فقا م رجل من أهل اليمن يقال له‪ :‬شاه فقال‪ :‬اكتب لي يا رسول ال‪ ،‬فقال رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ :‬‏)اكتبو لبي شاه(‪.‬‬ ‫تخوف النصار من بقاء الرسول صلى ال عليه وسلم في مكة‬ ‫ولما تم فتح مكة على الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهي بلده ووطنه ومولده ‪ -‬قال النصار فيما‬

‫بينهم‪ :‬أترون رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ فتح ال عليه أرضه وبلده أن يقيم بها ‪ -‬وهو يدعو‬

‫على الصفا رافعاً يديه ‪ -‬فلما فرغ من دعائة قال‪ :‬‏)ماذا قلتم؟( قالوا‪ :‬ل شيء يا رسول ال‪ ،‬فلم يزل‬ ‫بهم حتى أخبروه‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)معاذ ال‪ ،‬المحيا محياكم‪ ،‬والممات مماتكم(‪.‬‬ ‫أخذ البيعة‬ ‫وحين فتح ال مكة على رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬تبين لهل مكة الحق‪ ،‬وعلموا أن‬ ‫ل سبيل إلى النجاح إل السل م‪ ،‬فأذعنوا له‪ ،‬واجتمعوا للبيعة‪ ،‬فجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫على الصفا يبايع الناس‪ ،‬وعمر بن الخطاب أسفل منه‪ ،‬يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة‬

‫فيما استطاعوا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي المدارك‪ :‬روى أن النبي صلى ال عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء‪ ،‬وهو‬ ‫على الصفا‪ ،‬وعمر قاعد أسفل منه‪ ،‬يبايعهن بأمره‪ ،‬ويبلغهن عنه‪ ،‬فجاءت هند بنت عتبة امرأ ة أبي‬

‫سفيان متنكر ة‪ ،‬خوفاً من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمز ة‪ ،‬فقال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم ‏)أبايعكن على أل تشركن بال شيئا(‪ ،‬فبايع عمر النساء على أل يشركن بال شيئا‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ول تسرقن( فقالت هند‪ :‬إن أبا سفيان رجل شحيح‪ ،‬فإن أنا‬

‫أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان‪ :‬وما أصبت فهو لك حلل‪ ،‬فضحك رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم وعرفها‪ ،‬فقال‪ :‬‏)وإنك لهند؟( قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فاعف عما سلف يا نبي ال‪ ،‬عفا ال عنك‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬‏)ول يزنين(‪ .‬فقالت‪ :‬أو تزني الحر ة؟‬ ‫فقال‪ :‬‏)ول يقتلن أولدهن(‪ .‬فقالت‪ :‬ربيناهم صغارا‪ ،‬وقتلناهم كبارا‪ ،‬فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة‬

‫بن أبي سفيان قد قتل يو م بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏)ول يأتين ببهتان( فقالت‪ :‬وال إن البهتان لمر قبيح وما تأمرنا إل بالرشد ومكار م الخلق‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬‏)ول يعصينك في معروف( فقالت‪ :‬وال ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك‪.‬‬ ‫ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول‪ :‬كنا منك في غرور‪.‬‬

‫وفي الصحيح‪ :‬جاءت هند بنت عتبة فقالت‪ :‬يا رسول ال ما كان على ظهر الرض من أهل خباء أحب‬ ‫إلي أن يذلوا من أهل خبائك‪ ،‬ثم ما أصبح اليو م على ظهر الرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من‬

‫أهل خبائك‪ .‬قال‪ :‬‏)وأيضا‪ ،‬والذي نفسي بيده( قالت‪ :‬يا رسول ال‪،‬له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل‬ ‫علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال‪ :‬‏)ل أره إل بالمعروف(‪.‬‬

‫إقامته صلى ال عليه وسلم بمكة وعمله فيها‬ ‫وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوًماـ يجدد معالم السل م‪ ،‬ويرشد الناس إلى‬

‫الهدى والتقى‪ ،‬وخلل هذه اليا م أمر أبا أسيد الخزاعي‪ ،‬فجدد أنصاب الحر م‪ ،‬وبث سراياه للدعو ة إلى‬ ‫السل م‪ ،‬ولكسر الوثان التي كانت حول مكة‪ ،‬فكسرت كلها‪ ،‬ونادى مناديه بمكة‪ :‬من كان يؤمن بال‬ ‫واليو م الخر فل يدع في بيته صنما إل كسره‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫السرايا والبعوث‬ ‫‪1‬ـ ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال‬ ‫بقين من شهر رمضان ـ سنة ‪ 8‬هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة‪ ،‬وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم‬ ‫أصنامهم‪ .‬وكان سدنتها بني شيبان‪ ،‬فخرج إليها خالد في ثلثين فارًس اـ حتى انتهى إليها‪ ،‬فهدمها‪ .‬ولما‬ ‫رجع إليها سأله رسول ال صلى ال عليه وسلم ‏)هل رأيت شيئا؟( قال ‪ :‬ل قال‪ :‬‏)فإنك لم تهدمها‬

‫فارجع إليها فاهدمها( فرجع خالد متغيًظا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأ ة عريانة سوداء ناشر ة الرأس‬ ‫فجعل السادن يصيح بها‪ ،‬فضربها خالد فجزلها باثنتين‪ ،‬ثم رجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫فأخبره‪ ،‬فقال‪ :‬‏)نعم‪ ،‬تلك العزى‪ ،‬وقد أيست أن تعبد في بلدكم أبدا(‪.‬‬

‫‪2‬ـ ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط‪ ،‬على قرابة‬

‫‪ 150‬كيلوا مترا شمال شرقي مكة‪ ،‬فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن‪ :‬ما تريد؟ قال‪ :‬أمرني رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم أن أهدمه قال‪ :‬ل تقدر على ذلك قال‪ :‬لم ؟ قال تمنع قال‪ :‬حتى الن أنت‬

‫على الباطل؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره‪ ،‬وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا‬

‫فيه شيئا‪ ،‬ثم قال للسادن‪ :‬كيف رأيت؟ قال‪ :‬أسلمت ل‪.‬‬ ‫‪3‬ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الشهلي في عشرين فارًس اـ إلى منا ة وكانت بالمشلل عند‬

‫قديد للوس والخزرج وغسان وغيرهم‪ ،‬فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها‪ :‬ما تريد؟ قال‪ :‬هد م منا ة‪،‬‬ ‫قال‪ :‬أنت وذاك‪ ،‬فأقبل إليها سعد‪ ،‬وخرجت امرأ ة عريانة سوداء ثائر ة الرأس‪ ،‬تدعو بالويل‪ ،‬وتضرب‬

‫صدرها‪ ،‬فقال لها السادن‪ :‬منا ة دونك بعض عصاتك‪ .‬فضربها سعد فقتلها‪ ،‬وأقبل إلى الصنم فهدمه‬

‫وكسره‪ ،‬ولم يجدوا في خزانته شيًئا‪.‬‬

‫‪4‬ـ ولما رجع خالد بن الوليد من هد م العزى بعثه رسول ال صلى ال عليه وسلم في شوال من نفس‬

‫السنة ـ ‪8‬هـ ـ إلى بني جذيمة داعيا إلى السل م ل مقاتل فخرج في ثلثمائة وخمسين رجل من‬

‫المهاجرين والنصار وبني سليم‪ ،‬فانتهى إليهم فدعاهم إلى السل م فلم يحسنوا أن يقولوا‪ :‬أسلمنا‪،‬‬

‫فجعلوا يقولون‪ :‬صبأنا‪ ،‬صبأنا‪ .‬فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيًرا‪،‬‬ ‫فأمر يوًماـ أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫فذكروا له‪ ،‬فرفع صلى ال عليه وسلم يديه وقال ‪ :‬‏)اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالًد اـ( مرتين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والنصار وبعث رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم علًيا فودى لهم قتلهم وما ذهب منهم وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كل م وشر في‬ ‫ذلك فبلغ النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬‏)مهل يا خالد‪ ،‬دع عنك أصحابي‪ ،‬فوال لو كان أحد‬ ‫ذهبا‪ ،‬ثم أنفقته في سبيل ال ما أدركت غدو ة رجل من أصحابي ول روحته(‪.‬‬

‫تلك هي غزو ة فتح مكة‪ ،‬وهي المعركة الفاصلة والفتح العظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باًتا‪،‬‬ ‫ولم يترك لبقائها مجال ول مبررا في ربوع الجزير ة العربية‪ ،‬فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض‬ ‫عنه العراك والصطدا م الذي كان دائًرا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن‬

‫الحر م ل يسيطر عليه إل من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذا العتقاد الجاز م أي تأكد قبل‬ ‫نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول‪.‬‬ ‫ض اـ‪،‬‬ ‫وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم‪ ،‬أمن الناس به وكلم بعضهم بع ً‬

‫وناظره في السل م‪ ،‬وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعو ة إليه والمناظر ة عليه‪،‬‬ ‫ودخل بسببه كثير في السل م‪ ،‬حتى إن عدد الجيش السلمي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على‬

‫ثلث آلف إذا هو يزخر في هذه الغزو ة في عشر ة آلف‪.‬‬ ‫وهذه الغزو ة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين السل م‬ ‫وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزير ة العرب‬ ‫وعرضها‪ ،‬فقد انتقلت إليهم الصدار ة الدينية والزعامة الدنيوية‪.‬‬

‫فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين‪ ،‬وبدأ‬

‫بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماًماـ‪ ،‬وكان لهم فيه السيطر ة على الموقف تماًماـ‪ .‬ولم يبق‬ ‫لقوا م العرب إل أن يفدوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فيعتنقوا السل م ويحملوا دعوته إلى‬ ‫العالم‪ ،‬وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المرحلة الثالثة‬ ‫وهي آخر مرحلة من مراحل حيا ة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته‬ ‫السلمية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة‬

‫بضعة وعشرين عاًماـ‪.‬‬

‫وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه العوا م‪ ،‬تغير لجله مجرى اليا م‪ ،‬وتحول‬

‫به جو العرب‪ ،‬فقد كان الفتح حًد اـ فاصل بين السابقة عليه وبين ما بعده‪ ،‬فإن قريًش اـ كانت في نظر‬

‫العرب حما ة الدين وأنصاره‪ ،‬والعرب في ذلك تبع لهم‪ ،‬فخضوع قريش يعتبر القضاء الخير على الدين‬ ‫الوثني في جزير ة العرب‪.‬‬

‫ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين‪:‬‬ ‫‪1‬ـ صفحة المجاهد ة والقتال‪.‬‬ ‫‪2‬ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق السل م‪.‬‬ ‫وهاتان الصفحتان متلصقتان تناوبتا في هذه المرحلة‪ ،‬ووقعت كل واحد ة منهما خلل الخرى إل أنا‬ ‫اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميز ة عن الخرى‪ ،‬ونظًرا إلى صفحة‬

‫القتال ألصق بما مضى‪ ،‬وأكثر مناسبة من الخرى قدمناها في الترتيب‪.‬‬

‫ولما أجمع القائد العا م ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين‪ ،‬ساق مع الناس أموالهم‬ ‫ونساءهم وأبناءهم‪ ،‬فسار حتى نزل بأْو طَـاس ـ وهو واد في دار َه َوـاـِزن بالقرب من ُح نـَْين‪ ،‬لكن وادي‬

‫أوطاس غير وادي حنين‪ ،‬وحنين واد إلى جنب ذي المَج اـز‪ ،‬بينه وبين مكة بضعة عشر ميلً من جهة‬ ‫عرفات‪.‬‬

‫ُمَج ّرـب الحروب يـُغَّلط رأي القائد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ص ّمـِةـ ـ وهو شيخ كبير‪ ،‬ليس فيه إل رأيه ومعرفته‬ ‫ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس‪ ،‬وفيهم ُدَريُْد بن ال ّ‬

‫بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد‪ :‬بأي واد أنتم؟ قالوا‪ :‬بأوطاس‪ ،‬قال‪ :‬نعم َمَجـاـُل الخيل‪ ،‬ل َح ْزـٌنـ‬ ‫س ‪ ،‬ول َس ْهـٌلـ َدِهـسـ‪ ،‬مإلى أسمع ُرَغاء البعير‪ ،‬ونـَُه اـق الحمير‪ ،‬وبَُك اـء الصبي‪ ،‬وثـَُغاء الشاء؟ قالوا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ضرـ ٌ‬ ‫ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم‪ ،‬فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم‪ ،‬فقال‪ :‬راعي ضأن والّله‪ ،‬وهل يرد‬ ‫المنهز م شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إل رجل بسيفه ورمحه‪ ،‬وإن كانت عليك فُ ِ‬ ‫تـ في‬ ‫ض ْحـ َ‬

‫ض ةـ هوازن‬ ‫أهلك ومالك‪ ،‬ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا مالك‪ ،‬إنك لم تصنع بتقديم بـَْي َ‬ ‫صبَـا ة على متون الخيل‪ ،‬فإن‬ ‫إلى نحور الخيل شيئًا‪ ،‬ارفعهم إلى ممتنع بلدهم وعلياء قومهم‪ ،‬ثم الَْق ال ّ‬

‫ت أهلك ومالك‪.‬‬ ‫كانت لك لحق بك من وراءك‪ ،‬وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرز َ‬

‫ولكن مالكاً ـ القائد العا م ـ رفض هذا الطلب قائلً‪ :‬والّله ل أفعل‪ ،‬إنك قد كبرت وكبر عقلك‪ ،‬والّله‬ ‫لتطيعني هوازن أو لتِّكئَّن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري‪ ،‬وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو‬ ‫رأي‪ ،‬فقالوا‪ :‬أطعناك‪ .‬فقال دريد‪ :‬هذا يو م لم أشهده ولم يـَُف ْتـِني ‪:‬‬ ‫ض ْعـ‬ ‫ع ** أُخ ّ‬ ‫يا ليتنـي فيها جـَ​َذ ْ‬ ‫بـ فيها وأ َ‬ ‫ع‬ ‫صَدـ ْ‬ ‫أقود وطَْف اـَء الّزَم ـْع ** كأنها شـا ة َ‬ ‫سلح استكشاف العدو‬ ‫وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للستكشاف عن المسلمين‪ ،‬جاءت هذه العيون وقد تفرقت‬ ‫أوصالهم‪ ،‬قال‪ :‬ويلكم‪ ،‬ما شأنكم؟ قالوا‪ :‬رأينا رجالً بيضا على خيل بـُْلق‪ ،‬وال ما تماسكنا أن أصابنا ما‬ ‫تري‪.‬‬ ‫سلح استكشاف رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫ونقلت الخبار إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم بمسير العدو‪ ،‬فبعث أبا َح ْدـَرــد السلمي‪ ،‬وأمره أن‬

‫يدخل في الناس‪ ،‬فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم‪ ،‬ثم يأتيه بخبرهم‪ ،‬ففعل‪.‬‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفي يو م السبت ـ السادس من شهر شوال سنة ‪ 8‬هـ ـ غادر رسول الّله صلى ال عليه وسلم مكةـ وكان‬ ‫ذلك اليو م التاسع عشر من يو م دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ؛ عشر ة آلف‬

‫ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة‪ ،‬وألفان من أهل مكة‪ .‬وأكثرهم حديثو عهد بالسل م واستعار من‬ ‫صفوان بن أمية مائة درع بأداتها‪ ،‬واستعمل على مكة َعّتاب بن أسيد‪.‬‬

‫ولما كان عشية جاء فارس‪ ،‬فقال‪ :‬إني طلعت جبل كذا وكذا‪ ،‬فإذا أنا بهوازن على بكر ة آبائهم بِظُعُِنهم‬ ‫ونـَ​َعِم هـم وشائهم اجتمعوا إلى حنين‪ ،‬فتبسم رسول الّله صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬‏)تلك غنيمة‬ ‫المسلمين غًد اـ إن شاء الّله(‪ ،‬وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي َمْرـثَـد الغَ​َنوي ‪.‬‬

‫وفي طريقهم إلى حنين رأوا ِس ْد ـَرـ ة عظيمة خضراء يقال لها‪ :‬ذات أنـَْو اـط‪ ،‬كانت العرب تعلق عليها‬ ‫أسلحتهم‪ ،‬ويذبحون عندها ويعكفون‪ ،‬فقال بعض أهل الجيش لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬اجعل‬

‫لنا ذات أنواط‪ ،‬كما لهم ذات أنواط‪ .‬فقال‪ :‬‏)الّله أكبر‪ ،‬قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قو م‬ ‫س نَـُن ‪،‬ـ لتركبن َس نَـَن من كان‬ ‫موسي‪ :‬اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‪ ،‬قال‪ :‬إنكم قو م تجهلون‪ ،‬إنها ال ّ‬ ‫قبلكم(‪.‬‬

‫ب اليو م‪ ،‬وكان قد شق ذلك على رسول الّله صلى‬ ‫وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثر ة الجيش‪ :‬لن نـُْغلَ َ‬ ‫ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫ت بالرما ة والمهاجمين‬ ‫الجيش السلمي ُيباغَ ْ‬ ‫انتهي الجيش السلمي إلى حنين‪ ،‬الليلة التي بين الثلثاء والربعاء لعشر خلون من شوال‪ ،‬وكان مالك‬ ‫بن عوف قد سبقهم‪ ،‬فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي‪ ،‬وفرق ُك َمـنَـاءه في الطرق والمداخل‬

‫والشعاب والخباء والمضايق‪ ،‬وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا‪ ،‬ثم يشدوا شد ة‬ ‫رجل واحد‪.‬‬

‫س َحـرـ عبأ رسول الّله صلى ال عليه وسلم جيشه‪ ،‬وعقد اللوية والرايات‪ ،‬وفرقها على الناس‪ ،‬وفي‬ ‫وبال ّ‬ ‫َعَم اـية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين‪ ،‬وشرعوا ينحدرون فيه‪ ،‬وهم ل يدرون بوجود كمناء العدو‬ ‫في مضايق هذا الوادي‪ ،‬فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال‪ ،‬وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم‬ ‫شد ة رجل واحد‪ ،‬فانشمر المسلمون راجعين‪ ،‬ل يلوي أحد على أحد‪ ،‬وكانت هزيمة منكر ة‪ ،‬حتى قال‬

‫أبو سفيان بن حرب‪ ،‬وهو حديث عهد بالسل م‪ :‬ل تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الحمر ـ وصرخ َج بـَلَةُ‬ ‫س ْحـرـ اليو م‪.‬‬ ‫أو َك لَـَد ةُـ بن الَح ْنـَبل‪ :‬أل بطل ال ّ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وانحاز رسول الّله صلى ال عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول‪ :‬‏) َهلُـّموـا إلى أيها الناس‪ ،‬أنا رسول ال‪،‬‬ ‫أنا محمد بن عبد الّله ( ولم يبق معه في موقفه إل عدد قليل من المهاجرين والنصار‪ .‬تسعة على قول‬

‫ابن إسحاق‪ ،‬واثنا عشر على قول النووي‪ ،‬والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث‬ ‫ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬كنت مع النبي صلى ال عليه وسلم يو م حنين‪ ،‬فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون‬ ‫لمن المهاجرين والنصار‪ ،‬فكنا على أقدامنا ولم نـَُو لّـهم الّد بُـر‪ ،‬وروي الترمذي من حديث ابن عمر‬ ‫رج ً‬

‫بإسناد حسن قال‪ :‬لقد رأيتنا يو م حنين وإن الناس لمولين‪ ،‬وما مع رسول الّله صلى ال عليه وسلممائة‬ ‫رجل‪.‬‬

‫وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى ال عليه وسلم التي ل نظير لها‪ ،‬فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار‬ ‫وهو يقول‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫بـ ** أنا ابن عبد المطلب(‬ ‫‏)أنــا النبي ل َك ذـ ْ‬ ‫بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجا م بغلته‪ ،‬والعباس بركابه‪ ،‬يكفانها أل تسرع‪ ،‬ثم نزل رسول‬

‫الّله صلى ال عليه وسلم فاستنصر ربه قائلً‪ :‬‏)الّلهم أنزل نصرك(‪.‬‬ ‫رجوع المسلمين واحتدا م المعركة‬

‫وأمر رسول الّله صلى ال عليه وسلم عمه العباس ـ وكان َج ِهـيَـر الصوت ـ أن ينادي الصحابة‪ ،‬قال‬ ‫س ُمـَرـ ة؟ قال‪ :‬فوال لكأن َعطَْف تـَُه مـ حين سمعوا صوتي َعطَْف ةـ‬ ‫العباس‪ :‬فقلت بأعلى صوتي‪ :‬أين أصحاب ال ّ‬ ‫البقر على أولدها‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا لبيك‪ ،‬يا لبيك‪ .‬ويذهب الرجل ليثني بعيره فل يقدر عليه‪ ،‬فيأخذ درعه‪،‬‬ ‫فيقذفها في عنقه‪ ،‬ويأخذ سيفه وترسه‪ ،‬ويقتحم عن بعيره‪ ،‬ويخلي سبيله‪ ،‬فيؤ م الصوت‪ ،‬حتى إذا اجتمع‬

‫إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا‪.‬‬

‫وصرفت الدعو ة إلى النصار‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬يا معشر النصار‪ ،‬ثم قصرت الدعو ة في بني الحارث‬

‫بن الخزرج‪ ،‬وتلحقت كتائب المسلمين واحد ة تلو الخري كما كانوا تركوا الموقعة‪ ،‬وتجالد الفريقان‬ ‫مجالد ة شديد ة‪ ،‬ونظر رسول الّله صلى ال عليه وسلم إلى ساحة القتال‪ ،‬وقد استحر واحتد م‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س(‪ .‬ثم أخذ رسول الّله صلى ال عليه وسلم قبضة من تراب الرض‪ ،‬فرمي بها في‬ ‫‏)الن َح مـيـ الَو طـيـ ُ‬

‫وجوه القو م وقال‪ :‬‏)شاهت الوجوه(‪ ،‬فما خلق الّله إنساناً إل ملعينيه تراباً من تلك القبضة‪ ،‬فلم يزل‬ ‫َح ّدـُهـمـ َك لِـيلً وأمرهم ُمْد بِـًرا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫انكسار حد ة العدو وهزيمته الساحقة‬

‫وما هي إل ساعات قلئل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهز م العدو هزيمة منكر ة‪ ،‬وقتل من ثَِق يـف وحدهم‬ ‫نحو السبعين‪ ،‬وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلح وظُ​ُعن ‪.‬‬ ‫وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله‪ :‬‏} َويـَْوَ مـ ُح نـَْيٍن إِْذ أَْعَجـبَـْتُك ْمـ َك ثـَْرتُ​ُك ْمـ فـَلَْم تـُْغِن‬ ‫ت ثُّم َو لّـْيُتم ّمْدـ بِـِريَن ثُّم أَ​َنزَل اللّهُ َس ِكـينَتَهُ َعَلى َرُس وـلِ​ِه َو َعـَلى‬ ‫ض بَِم اـ َرُح بَـ ْ‬ ‫ضـاـقَ ْ‬ ‫َعنُك ْمـ َش ْيـًئا َو َ‬ ‫ت َعلَْيُك ُمـ الَْر ُ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ك َج َزـاء الَْك اـفِ​ِريَن{ ‏]التوبة‪[26 ،25:‬‬ ‫بـ الِّذ يـَن َك َفـُرـواْ َو ذَـلِ َ‬ ‫الُْم ْؤـمـنـيَن َوأَـنَزَل ُج نُـوًداـ لّْم تـَرْو َهـاـ َو عـّذ َ‬ ‫حركة المطارد ة‬

‫ولما انهز م العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف‪ ،‬وطائفة إلى نَْخ لَــة‪ ،‬وطائفة إلى أْو طـاس‪ ،‬فأرسل النبي‬

‫شـ الفريقان القتال‬ ‫صلى ال عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالشعري‪ ،‬فَـتـَناَو َ‬ ‫قليلً ‪ ،‬ثم انهز م جيش المشركين‪ ،‬وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الشعري‪.‬‬

‫وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة‪ ،‬فأدركت ُدَريَْد بن‬

‫ص ّمـةـ فقتله ربيعة بن ُرفـَْيع ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف‪ ،‬فتوجه إليهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫بنفسه بعد أن جمع الغنائم‪.‬‬

‫الغنائم‬

‫وكانت الغنائم‪ :‬السبي ستة آلف رأس‪ ،‬والبل أربعة وعشرون ألفاً ‪ ،‬والغنم أكثر من أربعين ألف شا ة‪،‬‬ ‫وأربعة آلف أوقية فضة‪ ،‬أمر رسول الّله صلى ال عليه وسلم بجمعها‪ ،‬ثم حبسها بالِج ْع ـَرـاَنة‪ ،‬وجعل‬ ‫عليها مسعود بن عمرو الغفاري‪ ،‬ولم يقسمها حتى فرغ من غزو ة الطائف‪.‬‬ ‫وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول الّله صلى ال عليه وسلم من الرضاعة‪،‬‬ ‫فلما جيء بها إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم عرفت له نفسها‪ ،‬فعرفها بعلمة فأكرمها‪ ،‬وبسط لها‬ ‫رداءه‪ ،‬وأجلسها عليه‪ ،‬ثم مّن عليها‪ ،‬ورّدها إلى قومها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غزو ة الطائف‬

‫وهذه الغزو ة في الحقيقة امتداد لغزو ة حنين‪ ،‬وذلك أن معظم فلول َه َوـاـزن وثَِق يـف دخلوا الطائف مع‬ ‫ص ِرـي ـ وتحصنوا بها‪ ،‬فسار إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد‬ ‫القائد العا م ـ مالك بن عوف النّ ْ‬ ‫فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة‪ ،‬في الشهر نفسه ـ شوال سنة ‪ 8‬هـ‪.‬‬

‫وقد م خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل‪ ،‬ثم سلك رسول اللهصلى ال عليه وسلم إلى‬ ‫الطائف‪ ،‬فمر في طريقه على نخلة اليمانية‪ ،‬ثم على قـَْرِنـ المنازل‪ ،‬ثم على لِيَّة‪ ،‬وكان هناك حصن لمالك‬ ‫بن عوف فأمر بهدمه‪ ،‬ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه‪ ،‬وعسكر هناك‪،‬‬ ‫وفرض الحصار على أهل الحصن‪.‬‬ ‫ودا م الحصار مد ة غير قليلة‪ ،‬ففي رواية أنس عند مسلم‪ :‬أن مد ة حصارهم كانت أربعين يومًا‪ ،‬وعند‬ ‫أهل السير خلف في ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬عشرين يومًا‪ ،‬وقيل‪ :‬بضعة عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬ثمانية عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬خمسة‬ ‫عشر‪.‬‬

‫ووقعت في هذه المد ة مراما ة‪ ،‬ومقاذفات‪ ،‬فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً‬ ‫ل‪ ،‬واضطروا‬ ‫شديدًا‪ ،‬كأنه ِرْج لـ جراد‪ ،‬حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة‪ ،‬وقتل منهم اثنا عشر رج ً‬

‫إلى الرتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليو م‪ ،‬فعسكروا هناك‪.‬‬

‫ونصب النبي صلى ال عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف‪ ،‬وقذف به القذائف‪ ،‬حتى وقعت شدخة‬

‫في جدار الحصن‪ ،‬فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة‪.‬‬

‫ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه‪ ،‬فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محما ة بالنار‪ .‬فخرجوا من تحتها‪،‬‬

‫فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالً‪.‬‬

‫وأمر رسول الّله صلى ال عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب للجاء العدو إلى الستسل م ـ أمر‬ ‫بقطع العناب وتحريقها‪ ،‬فقطعها المسلمون قطعاً ذريعًا‪ ،‬فسألته ثقيف أن يدعها لّله والرحم‪ ،‬فتركها لّله‬ ‫والرحم‪.‬‬

‫ونادى مناديه صلى ال عليه وسلم‪ :‬أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر‪ ،‬فخرج إليهم ثلثة‬ ‫وعشرون رجلً ‪ ،‬فيهم أبو بكر ة ـ تسور حصن الطائف‪ ،‬وتدلي منه ببكر ة مستدير ة يستقى عليها‪ ،‬فكناه‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم ‏]أبا بكر ة[ ـ فأعتقهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودفع كل رجل‬ ‫منهم إلى رجل من المسلمين يمونه‪ ،‬فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديد ة‪.‬‬ ‫ولما طال الحصار واستعصي الحصن‪ ،‬وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد‬

‫المحما ة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول الّله صلى ال عليه‬ ‫وسلم نـَْو فَـل بن معاوية الّد يـلي فقال‪ :‬هم ثعلب في جحر‪ ،‬إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك‪،‬‬ ‫وحينئذ عز م رسول الّله صلى ال عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل‪ ،‬فأمر عمر بن الخطاب فأذن‬

‫في الناس‪ ،‬إنا قافلون غداً إن شاء الّله‪ ،‬فثقل عليهم وقالوا‪ :‬نذهب ول نفتحه؟ فقال رسول الّله صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ :‬‏)اغدوا على القتال(‪ ،‬فغدوا فأصابهم جراح‪ ،‬فقال‪ :‬‏)إنا قافلون غداً إن شاء الّله ( فسروا‬ ‫بذلك وأذعنوا‪ ،‬وجعلوا يرحلون‪ ،‬ورسول الّله صلى ال عليه وسلم يضحك‪.‬‬ ‫ولما ارتحلوا واستقلوا قال‪ :‬قولوا‪ :‬‏)آيبون تائبون عابدون‪ ،‬لربنا حامدون(‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬يا رسول الّله‪ ،‬ادع على ثقيف‪ ،‬فقال‪ :‬‏)الّلهم اهد ثقيفا‪ ،‬وائت بهم(‪.‬‬ ‫قسمة الغنائم بالِج ْع ـَرـاَنة‬ ‫ولما عاد رسول الْله صلى ال عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشر ة ليلة‬ ‫ل يقسم الغنائم‪ ،‬ويتأني بها‪ ،‬يبتغي أن يقد م عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا‪ ،‬ولكنه لم يجئه‬

‫أحد‪ ،‬فبدأ بقسمة المال‪ ،‬ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة‪ ،‬فكان المؤلفة قلوبهم أول‬

‫من أعطي وحظي بالنصبة الجزلة‪.‬‬

‫أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من البل‪ ،‬فقال‪ :‬ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها‪ ،‬فقال‪ :‬ابني‬

‫معاوية؟ فأعطاه مثلها‪ ،‬وأعطي حكيم بن حزا م مائة من البل‪ ،‬ثم سأله مائة أخري‪ ،‬فأعطاه إياها‪ .‬وأعطي‬ ‫صفوان بن أمية مائة من البل‪ ،‬ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن َك لَـَد ةـ‬

‫مائة من البل‪ ،‬وكذلك أعطي رجال من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من البل وأعطي آخرين خمسين‬ ‫خمسين وأربعين أربعين‪ ،‬حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاًء‪ ،‬ما يخاف الفقر‪ ،‬فازدحمت عليه‬ ‫العراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجر ة‪ ،‬فانتزعت رداءه فقال‪ :‬‏)أيها الناس‪ ،‬ردوا علي ردائي‪،‬‬ ‫فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم‪ ،‬ثم ما ألفيتموني بخيلً ول‬ ‫جباناً ول كذاباً(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم قا م إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبر ة‪ ،‬فجعلها بين إصبعه‪ ،‬ثم رفعها‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أيها الناس‪ ،‬والّله‬ ‫مالى من فيئكم ول هذه الوبر ة إل الخمس‪ ،‬والخمس مردود عليكم(‪.‬‬ ‫وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول الّله صلى ال عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس‪،‬‬ ‫ثم فرضها على الناس‪ ،‬فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من البل‪ ،‬وإما أربعين شا ة‪ ،‬فإن كان فارساً‬ ‫أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شا ة‪.‬‬

‫النصار تَِج ُد ـ على رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬

‫ت ألسنة شتي‬ ‫كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة‪ ،‬لكنها لم تـُْف َهـمـ أول المر‪ ،‬فأُطِْلق ْ‬ ‫بالعتراض‪.‬‬ ‫روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬لما أعطي رسول الّله صلى ال عليه وسلم ما أعطي من‬ ‫تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب‪ ،‬ولم يكن في النصار منها شيء‪َ ،‬وَج َدـ هذا الحي من النصار‬

‫في أنفسهم حتى كثرت فيهم الَق اـلَُة‪ ،‬حتى قال قائلهم‪ :‬لقي والّله رسول الّله صلى ال عليه وسلم قومه‪،‬‬ ‫فدخل عليه سعد بن عباد ة فقال‪ :‬يا رسول الّله‪ ،‬إن هذا الحي من النصار قد َوَج ُدـوـا عليك في أنفسهم‬

‫لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت‪ ،‬قسمت في قومك‪ ،‬وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب‪،‬‬ ‫ولم يك في هذا الحي من النصار منها شيء‪.‬قال‪ :‬‏)فأين أنت من ذلك يا سعد؟( قال‪ :‬يا رسول الّله‪،‬‬

‫ما أنا إل من قومي‪ .‬قال‪ :‬‏)فاجمع لي قومك في هذه الحظير ة(‪ .‬فخرج سعد فجمع النصار في تلك‬ ‫الحظير ة‪ ،‬فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا‪ .‬وجاء آخرون فردهم‪ ،‬فلما اجتمعوا له أتاه سعد‬

‫فقال‪ :‬لقد اجتمع لك هذا الحي من النصار‪ ،‬فأتاهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم فحمد الّله‪ ،‬وأثني‬ ‫عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)يا معشر النصار‪ ،‬ما َقالَهٌ بلغتني عنكم‪َ ،‬وِج َد ـ ةٌـوجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم‬

‫ضللً فهداكم الّله؟ وعالة فأغناكم الّله؟ وأعداء فألف الّله بين قلوبكم؟( قالـوا‪ :‬بلـي‪ ،‬الّله ورسولـه أَمّنـ‬ ‫ض ُلـ‪.‬‬ ‫وأفْ َ‬

‫ثم قال‪ :‬‏)أل تجيبوني يا معشر النصار؟( قالوا‪ :‬بماذا نجيبك يا رسول الّله؟ لّله ورسوله المن والفضل‪.‬‬ ‫صّدـقـْتُْم‪ :‬أتيتنا ُمَك ّذـبًـا فصدقناك‪ ،‬ومخذولً فنصرناك‪ ،‬وطريداً‬ ‫ص َدـقـْتُْم ول ُ‬ ‫قال‪ :‬‏)أما والّله لو شئتم لقلتم‪ ،‬ف َ‬ ‫فآويناك‪ ،‬وعائلً فآَس يـَْناك (‪.‬‬

‫تـ بها قوماً ليُْس لِـُم وـا‪ ،‬وَوَك ْلـُتكم إلى‬ ‫‏) أَوَجْدـتُـْم يا معشر النصار في أنفسكم في لَ​َعاَعٍة من الدنيا َتألّف ُ‬ ‫إسلمكم؟ أل ترضون يا معشر النصار أن يذهب الناس بالشا ة والبعير‪ ،‬وترجعوا برسول الّله صلى ال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده‪ ،‬لول الهجر ة لكنت امرأ من النصار‪ ،‬ولو سلك‬ ‫الناس ِش ْع ـبًـا‪ ،‬وسلكت النصار شعباً لسلكت شعب النصار‪ ،‬الّلهم ارحم النصار‪ ،‬وأبناء النصار‪ ،‬وأبناء‬ ‫أبناء النصار(‪.‬‬ ‫ضـلُـوا لَِح اـُه مـ وقالوا‪ :‬رضينا برسول الّله صلى ال عليه وسلم قَْس ًمـاـ وحظًا‪ ،‬ثم‬ ‫فبكي القو م حتى أْخ َ‬ ‫انصرف رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتفرقوا‪.‬‬

‫قدو م وفد هوازن‬ ‫صَرد‪ ،‬وفيهم أبو‬ ‫وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلمًا‪ ،‬وهم أربعة عشر رجلً ورأسهم زهير ابن ُ‬ ‫بـُْرقَـان عم رسول الّله صلى ال عليه وسلم من الرضاعة‪ ،‬فأسلموا وبايعوا ثم قالوا‪ :‬يا رسول الّله‪ ،‬إن‬ ‫فيمن أصبتم المهات والخوات‪ ،‬والعمات والخالت‪ ،‬وهن مخازي القوا م‪:‬‬

‫فامنن علينا رسول الّله في كـر م ** فإنـك المرء نرجـوه وننتظر‬ ‫امنن على نسو ة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر‬ ‫وذلك في أبيات‪ .‬فقال‪ :‬‏)إن معي من ترون‪ ،‬وإن أحب الحديث إلى أصدقه‪ ،‬فأبناؤكم ونساؤكم أحب‬ ‫إليكم أ م أموالكم؟( قالوا‪ :‬ما كنا نعدل بالحساب شيئاً‪ .‬فقال‪ :‬‏)إذا صليت الغدا ة ـ أي صل ة الظهر ـ‬ ‫فقوموا فقولوا‪ :‬إنا نستشفع برسول الّله صلى ال عليه وسلم إلى المؤمنين‪ ،‬ونستشفع بالمؤمنين إلى‬

‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا(‪ ،‬فلما صلي الغدا ة قاموا فقالوا ذلك‪ .‬فقال رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‪ ،‬وسأسأل لكم الناس(‪ ،‬فقال‬

‫المهاجرون والنصار‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال القـَْرع بن حابس‪ :‬أما أنا‬ ‫ِ‬ ‫ص ـنـ‪ :‬أما أنا وبنو فـَزاَر ة فل‪.‬وقال العباس بن ِم ْرـَدـاـس‪ :‬أما أنا وبنو ُس لَـْيم‬ ‫وبنو تميم فل‪ .‬وقال ُعيَـيـَْنة بن ح ْ‬ ‫فل‪ .‬فقالت بنو سليم‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال العباس بن مرداس‪:‬‬ ‫وهنتموني‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فقال رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن هؤلء القو م قد جاءوا مسلمين‪ ،‬وقد كنت استأنيت َس بـْـيـَُه ْمـ‪،‬ـ‬ ‫وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالبناء والنساء شيئًا‪ ،‬فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل‬ ‫ذلك‪ ،‬ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم‪ ،‬وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الّله‬ ‫علينا(‪ ،‬فقال الناس‪ :‬قد طيبنا لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬‏)إنا ل نعرف من رضي منكم‬

‫ممن لم يرض‪ ،‬فارجعوا حتى يرفع إلينا عَُرَفاؤكم أمركم(‪ ،‬فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم‪ ،‬لم يتخلف منهم‬

‫أحد غير عيينة بن حصن‪ ،‬فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم‪ ،‬ثم ردها بعد ذلك‪ ،‬وكسا‬ ‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم السبي قبطية قبطية‪.‬‬ ‫العمر ة والنصراف إلى المدينة‬

‫ولما فرغ رسول الّله صلى ال عليه وسلم من قسمة الغنائم في الِج ْع ـَرـانة أهّل معتمراً منها‪ ،‬فأدي‬ ‫العمر ة‪ ،‬وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة َعّتاب بن أسيد‪ ،‬وكان رجوعه إلى‬

‫المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعد ة سنة ‪ 8‬هـ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزو ة الفتح‬ ‫وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقا م رسول الّله صلى ال عليه وسلم بالمدينة يستقبل‬ ‫ت من بقي فيه الستكبار عن الدخول في دين الّله‪،‬‬ ‫الوفود‪ ،‬ويبعث العمال‪ ،‬ويبث الدعا ة‪ ،‬ويَْك بِـ ُ‬ ‫والستسل م للمر الواقع الذي شاهدته العرب‪ .‬وهاك صور ة مصغر ة من ذلك‪.‬‬

‫المصدقون‬ ‫قد عرفنا مما تقد م أن رجوع رسول الّله صلى ال عليه وسلم إلى المدينة كان في أواخر أيا م السنة‬

‫الثامنة‪ ،‬فما هو إل أن استهل هلل المحر م من سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫صـّدـقـين إلى القبائل‪ ،‬وهذه هي قائمتهم‪:‬‬ ‫الُم َ‬ ‫‪ 1‬ـ ُعيَـيـْنَةُ بن حصن إلى بني تميم‪.‬‬ ‫صـْيـن إلى أْس لَــم وِغ َفـاـر‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ يزيد بن الُح َ‬ ‫‪ 3‬ـ َعّباد بن بشير الشهلي إلى ُس لَـْيم وُمَزيـْنَ​َة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ رافع بن َمِكـيث إلى ُج َهـيـَْنة‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ عمرو بن العاص إلى بني فـَزاَر ة‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ الضحاك بن سفيان إلى بني كلب‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ بشير بن سفيان إلى بني كعب‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ابن اللِّْتبّية الزدي إلى بني ُذبـَْيان ‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء ـ وخرج عليه السود العنسي وهو بها‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ زياد بن لبيد إلى حضرموت‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 11‬ـ عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ مالك بن نـَُو يـَْر ة إلى بني َح ْنـظَ​َلة‪.‬‬ ‫‪13‬ـ الّزبِْرَقان بن بدر إلى بني سعد ـ إلى قسم منهم‪.‬‬ ‫‪ 14‬ـ قيس بن عاصم إلى بني سعد ـ إلى قسم آخر منهم‪.‬‬ ‫‪ 15‬ـ العلء بن الحضرمي إلى البحرين‪.‬‬ ‫‪ 16‬ـ علي بن أبي طالب إلى نجران ـ لجمع الصدقة والجزية كليهما‪.‬‬ ‫وليس هؤلء العمال كلهم بعثوا في المحر م سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬بل تأخر بعث عد ة منهم إلى اعتناق السل م من‬

‫تلك القبائل التي بعثوا إليها‪ .‬نعم كانت بداية بعث العمال بهذا الهتما م البالغ في المحر م سنة ‪ 9‬هـ‪،‬‬

‫وهذا يدل على مدي نجاح الدعو ة السلمية بعد صلح الحديبية‪ ،‬وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس‬ ‫في دين الّله أفواجاً‪.‬‬

‫السرايا‬ ‫سـ ِ‬ ‫تـ الحاجة إلى بعث عد ة من السرايا مع سياد ة المن على عامة‬ ‫وكما بعث المصدقون إلى القبائل‪َ ،‬م ّ‬

‫مناطق الجزير ة‪ ،‬وهاك لوحة تلك السرايا‪:‬‬

‫‪1‬ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ في المحر م سنة ‪ 9‬هـ ـ إلى بني تميم‪ ،‬في خمسين فارسًا‪ ،‬لم يكن‬ ‫فيهم مهاجري ول أنصاري‪ ،‬وسببها‪ :‬أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل‪ ،‬ومنعوهم عن أداء الجزية‪.‬‬ ‫وخرج عيينة بن حصن يسير الليل‪ ،‬ويكمن النهار‪ ،‬حتى هجم عليهم في الصحراء فولي القو م مدبرين‪،‬‬

‫وأخذ منهم أحد عشر رجلً وإحدي وعشرين امرأ ة وثلثين صبيًا‪ ،‬وساقهم إلى المدينة‪ ،‬فأنزلوا في دار‬ ‫َرْم لَـة بنت الحارث‪.‬‬ ‫وقد م فيهم عشر ة من رؤسائهم‪ ،‬فجاءوا إلى باب النبي صلى ال عليه وسلم فنادوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬اخرج‬ ‫إلينا‪ ،‬فخرج‪ ،‬فتعلقوا به‪ ،‬وجعلوا يكلمونه‪ ،‬فوقف معهم‪ ،‬ثم مضي حتى صلي الظهر‪ ،‬ثم جلس في‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صحن المسجد‪ ،‬فأظهروا رغبتهم في المفاخر ة والمباها ة‪ ،‬وقدموا خطيبهم عَُطاِرد بن حاجب فتكلم‪،‬‬ ‫فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ثابت بن قيس بن َش ّمـاـس ـ خطيب السل م ـ فأجابهم‪ ،‬ثم قدموا‬ ‫شاعرهم الزبرقان بن بدر‪ ،‬فأنشد مفاخرًا‪ ،‬فأجابه شاعر السل م حسان بن ثابت على البديهة‪.‬‬

‫ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال القرع بن حابس‪ :‬خطيبه أخطب من خطيبنا‪ ،‬وشاعره أشعر من‬ ‫شاعرنا‪ ،‬وأصواتهم أعلى من أصواتنا‪ ،‬وأقوالهم أعلى من أقوالنا‪ ،‬ثم أسلموا‪ ،‬فأجازهم رسول الّله صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ ،‬فأحسن جوائزهم‪ ،‬ورد عليهم نساءهم وأبناءهم‪.‬‬ ‫‪2‬ـ سرية قُطَْبة بن عامر إلى حي من َخ ثـَْعم بناحية تـَباَلة ‪ ،‬بالقرب من تـَُرَبة في صفر سنة ‪ 9‬هـ‪ .‬خرج قطبة‬ ‫في عشرين رجلً على عشر ة أبعر ة يعتقبونها‪ ،‬فشن الغار ة‪ ،‬فاقتتلوا قتالً شديداً حتى كثر الجرحى في‬ ‫الفريقين جميعًا‪ ،‬وقتل قطبة مع من قتل‪ ،‬وساق المسلمون النـَّعم والنساء والشاء إلى المدينة‪.‬‬ ‫لب في ربيع الول سنة ‪9‬هـ‪ .‬بعثت هذه السرية إلى بني‬ ‫‪3‬ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلبي إلى بني كِ َ‬ ‫كلب ؛ لدعوتهم إلى السل م‪ ،‬فأبوا وقاتلوا‪ ،‬فهزمهم المسلمون‪ ،‬وقتلوا منهم رجلً‪.‬‬ ‫‪4‬ـ سرية علقمة بن ُمَج ّزـِرـ الُم ْدـلِــجي إلى سواحل ُج ّدـ ةـ في شهر ربيع الخر سنة ‪9‬هـ في ثلثمائة‪.‬بعثهم‬

‫صـنَـة ضد أهل‬ ‫إلى رجال من الحبشة‪ ،‬كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جد ة للقيا م بأعمال الَق ْرـ َ‬ ‫مكة‪ ،‬فخاض علقمة البحر حتى انتهي إلى جزير ة‪ ،‬فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا‪.‬‬

‫‪5‬ـ سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيئ يقال له‪ :‬الُفْلـس ـ ليهدمه ـ في شهر ربيع الول سنة ‪ 9‬هـ‪.‬‬

‫بعثه رسول الّله صلى ال عليه وسلم في خمسين ومائة‪ ،‬على مائة بعير وخمسين فرسًا‪ ،‬ومعه راية سوداء‬ ‫ولواء أبيض‪ ،‬فشنوا الغار ة على محلة آل حاتم مع الفجر‪ ،‬فهدموه وملوا أيديهم من السبي والنعم‬ ‫والشاء‪ ،‬وفي السبي أخت عدي بن حاتم‪ ،‬وهرب عدي إلى الشا م‪ ،‬ووجد المسلمون في خزانة الفلس‬

‫ثلثة أسياف وثلثة أدرع‪ ،‬وفي الطريق قسموا الغنائم‪ ،‬وعزلوا الصفي لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ولم يقسموا آل حاتم‪.‬‬ ‫ولما جـاءوا إلى المدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حاتم رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قائلـة‪ :‬يا‬ ‫رسول الّله‪ ،‬غاب الوافد‪ ،‬وانقطع الوالد‪ ،‬وأنا عجوز كبير ة‪ ،‬ما بي من خدمة‪ ،‬فُم ّنـ على‪ ،‬مّن الّله عليك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬‏)من وافدك؟( قالت‪ :‬عدي بن حاتم‪ .،‬قال‪ :‬‏)الذي فر من الّله ورسوله؟( ثم مضي‪ ،‬فلما كان الغد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫قالت مثل ذلك‪ ،‬وقال لها مثل ما قال أمس‪ .‬فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك‪ ،‬فمن عليها‪ ،‬وكان إلى‬ ‫جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لها‪ :‬سليه الِح ْم ـلــن فسألته فأمر لها به‪.‬‬ ‫ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشا م‪ ،‬فلما لقيته قالت عن رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ :‬لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها‪ ،‬ائته راغباً أو راهبًا‪ ،‬فجاءه عدي بغيرأمان ول كتاب‪ .‬فأتي به‬ ‫إلى داره‪ ،‬فلما جلس بين يديه حمد الّله وأثني عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما يُِف ّرـَك؟ أيُِف ّرـك أن تقول‪ :‬‏)ل إله إل الّله؟‬ ‫فهل تعلم من إله سوى الّله؟( قال‪ :‬ل‪ .‬ثم تكلم ساعة ثم قال‪ :‬‏)إنما تفر أن يقال‪ :‬الّله أكبر‪ ،‬فهل تعلم‬ ‫شيئاً أكبر من ال؟( قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬‏)فإن اليهود مغضوب عليهم‪ ،‬وإن النصاري ضالون(‪ .‬قال‪ :‬فإني‬ ‫َح نِـيف مسلم‪ ،‬فانبسط وجهه فرحًا‪ ،‬وأمر به فنزل عند رجل من النصار‪ ،‬وجعل يأتي النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم طرفي النهار‪.‬‬

‫وفي رواية ابن إسحاق عن عدي‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم لما أجلسه بين يديه في داره قال له‪:‬‬ ‫‏)إيه يا عدي بن حاتم‪ ،‬ألم تكن َرُك وـِس يّـا؟( قال‪ :‬قلت‪ :‬بلي‪ ،‬قال‪ :‬‏)أو لم تكن تسير في قومك‬ ‫بالِم ْرـبَـاع؟(‪.‬قال‪ :‬قلت‪ :‬بلي‪ .‬قال‪ :‬‏)فإن ذلك لم يحل لك في دينك(‪ .‬قال‪ :‬قلت أجل والّله ‪ .‬قال‪:‬‬ ‫وعرفت أنه نبي مرسل‪ ،‬يعرف ما يُْج َهـلـ‪.‬‬ ‫وفي رواية لحمد‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬‏)يا عدي‪ ،‬أسلم تسلم(‪ .‬فقلت‪ :‬إني من أهل‬ ‫دين‪ .‬قال‪ :‬‏)أنا أعلم بدينك منك(‪ .‬فقلت‪ :‬أنت أعلم بديني مني؟ قال‪ :‬‏)نعم‪ ،‬ألست من الركوسية‪،‬‬

‫وأنت تأكل مرباع قومك؟( فقلت‪ :‬بلي‪ ،‬قال‪ :‬‏)فإن هذا ل يحل لك في دينك(‪ .‬قال‪ :‬فلم يعد أن قالها‬ ‫فتواضعت لها‪.‬‬ ‫وروي البخاري عن عدي قال‪ :‬بينا أنا عند النبي صلى ال عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة‪ ،‬ثم‬ ‫أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل‪ ،‬فقال‪ :‬‏)يا عدي‪ ،‬هل رأيت الحير ة؟ فإن طالت بك حيا ة فلترين‬

‫الظعينة ترتحل من الحير ة حتى تطوف بالكعبة‪ ،‬ل تخاف أحداً إل الّله‪ ،‬ولئن طالت بك حيا ة لتفتحن‬ ‫كنوز كسري‪ ،‬ولئن طالت بك حيا ة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة‪ ،‬ويطلب من يقبله‬ ‫فل يجد أحداً يقبله منه‪ (...‬الحديث وفي آخره‪ :‬قال عدي‪ :‬فرأيت الظعينة ترتحل من الحير ة حتى‬

‫تطوف بالكعبة ل تخاف إل الّله ‪ .‬وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز‪ ،‬ولئن طالت بكم حيا ة‬ ‫لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)يخرج ملء كفه(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫غ ــزو ة تب ــوك في رجب سنة ‪9‬هـ‬

‫إن غزو ة فتح مكة كانت غزو ة فاصلة بين الحق والباطل‪ ،‬لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم عند العرب‪ ،‬ولذلك انقلب المجري تمامًا‪ ،‬ودخل الناس في دين الّله‬ ‫أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود‪ ،‬ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ‬ ‫وانتهت المتاعب الداخلية‪ ،‬واستراح المسلمون لتعليم شرائع اّل ‪ ،‬ـ ـ ـوبث دعو ة السل م‪.‬‬ ‫سبب الغزو ة‬ ‫إل أنه كانت هناك قو ة تعرضت للمسلمين من غير مبرر‪ ،‬وهي قو ة الرومان ـ أكبر قو ة عسكرية ظهرت‬ ‫على وجه الرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقد م أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم ـ الحارث بن عمير الزدي ـ على يدي ُش َرـْح بِــيل بن عمرو الغساني‪ ،‬حينما كان‬ ‫ص َرـي‪ ،‬وأن النبي صلى ال عليه وسلم أرسل‬ ‫السفير يحمل رسالة النبي صلى ال عليه وسلم إلى عظيم بُ ْ‬ ‫بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة‪ ،‬ولم تنجح في أخذ الثأر‬ ‫من أولئك الظالمين المتغطرسين‪ ،‬إل أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب‪ ،‬قريبهم وبعيدهم‪.‬‬

‫ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الثر الكبير لصالح المسلمين‪ ،‬وعما كان‬ ‫يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقللهم عن قيصر‪ ،‬ومواطأتهم للمسلمين‪ ،‬إن هذا‬

‫كان خطراً يتقد م ويخطو إلى حدوده خطو ة بعد خطو ة‪ ،‬ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب‪ ،‬فكان‬ ‫يري أن القضاء يجب على قو ة المسلمين قبل أن تتجسد في صور ة خطر عظيم ل يمكن القضاء‬ ‫عليها‪ ،‬وقبل أن تثير القلقل والثورات في المناطق العربية المجاور ة للرومان‪.‬‬

‫ونظراً إلى هذه المصالح‪ ،‬لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان‬ ‫والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم‪ ،‬وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة‪.‬‬ ‫س اـن‬ ‫الخبار العامة عن استعداد الرومان وغَ ّ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكانت النباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيا م بغزو ة حاسمة ضد المسلمين‪ ،‬حتى كان‬

‫الخوف يتسورهم كل حين‪ ،‬ل يسمعون صوتاً غير معتاد إل ويظنونه زحف الرومان‪.‬ويظهر ذلك جلياً‬ ‫مما وقع لعمر بن الخطاب‪ ،‬فقد كان النبي صلى ال عليه وسلم إلى من نسائه شهراً في هذه السنة ـ‬

‫‪9‬هـ ـ وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ‪ ،‬ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة المر في بدايته‪ ،‬فظنوا‬

‫أن النبي صلى ال عليه وسلم طلقهن‪ ،‬فسري فيهم الهم والحزن والقلق‪ .‬يقول عمر بن الخطاب ـ وهو‬

‫يروي هذه القصة‪ :‬وكان لي صاحب من النصار إذا غبت أتاني بالخبر‪ ،‬وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر‬ ‫ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة‪ ،‬يتناوبان إلى النبي صلى ال عليه وسلم ـ ونحن نتخوف ملكاً من‬

‫ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا‪ ،‬فقد امتلت صدورنا منه‪ ،‬فإذا صاحبي النصاري يدق‬

‫الباب‪ ،‬فقال‪ :‬افتح‪ ،‬افتح‪ ،‬فقلت‪ :‬جاء الغساني؟ فقال‪ :‬بل أشد من ذلك‪ ،‬اعتزل رسول الّله صلى ال‬ ‫عليه وسلم أزواجه‪ ...‬الحديث‪.‬‬ ‫وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ‪ :‬وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا‪ ،‬فنزل صاحبي يو م نـَْو بَـتِ​ِه‪،‬ـ فرجع‬

‫عشاء‪ ،‬فضرب بابي ضرباً شديداً وقال‪ :‬أنائم هو؟ ففزعت‪ ،‬فخرجت إليه‪ ،‬وقال‪ :‬حدث أمر عظيم‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال‪ :‬ل بل أعظم منه وأطول‪ ،‬طلق رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬

‫نساءه‪ ...‬الحديث‪.‬‬

‫وهذا يدل على خطور ة الموقف‪ ،‬الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان‪ ،‬ويزيد ذلك تأكداً‬ ‫ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان‪ ،‬فبرغم ما رآه هؤلء المنافقون من‬ ‫نجاح رسول الّله صلى ال عليه وسلم في كل الميادين‪ ،‬وأنه ل يوجل من سلطان على ظهر الرض‪ ،‬بل‬ ‫يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلء المنافقون يأملون في تحقق ما‬ ‫كانوا يخفونه في صدورهم‪ ،‬وما كانوا يتربصونه من الشر بالسل م وأهله‪ .‬ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم‬ ‫أنشأوا وكر ة للدس والتآمر‪ ،‬في صور ة مسجد‪ ،‬وهو مسجد ال ّ‬ ‫ض َرـار‪ ،‬أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين‬

‫وإرصاداً لمن حارب الّله ورسوله‪ ،‬وعرضوا على رسول الّله صلى ال عليه وسلم أن يصلي فيه‪ ،‬وإنما‬ ‫مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فل يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامر ة ضدهم‪،‬‬

‫ول يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه‪ ،‬فيصير وكر ة مأمونة لهؤلء المنافقين ولرفقائهم في الخارج‪ ،‬ولكن‬ ‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم أخر الصل ة فيه ـ إلى قفوله من الغزو ة ـ لشغله بالجهاز‪ ،‬ففشلوا في‬

‫مرامهم وفضحهم الّله‪ ،‬حتى قا م الرسول صلى ال عليه وسلم بهد م المسجد بعد القفول من الغزو‪ ،‬بدل‬ ‫أن يصلي فيه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان‬ ‫كانت هذه هي الحوال والخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون‪ ،‬إذ بلغهم من النباط الذين قدموا‬ ‫بالزيت من الشا م إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل‪ ،‬وأعطي قيادته‬ ‫لعظيم من عظماء الرو م‪ ،‬وأنه أجلب معهم قبائل لَْخ ٍمـ وُج َذـاـٍ م وغيرهما من متنصر ة العرب‪ ،‬وأن مقدمتهم‬ ‫بلغت إلى البلقاء‪ ،‬وبذلك تمثل أما م المسلمين خطر كبير‪.‬‬ ‫زياد ة خطور ة الموقف‬ ‫والذي كان يزيد خطور ة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد‪ ،‬وكان الناس في عسر ة وجدب من‬

‫البلء وقلة من الظهر‪ ،‬وكانت الثمار قد طابت‪ ،‬فكانوا يحبون المقا م في ثمارهم وظللهم‪ ،‬ويكرهون‬ ‫الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه‪ ،‬ومع هذا كله كانت المسافة بعيد ة‪ ،‬والطريق وعر ة‬ ‫صعبة‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم يقرر القيا م بإقدا م حاسم‬ ‫ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله‪،‬‬ ‫إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة‪ ،‬وترك الرومان لتجوس‬ ‫خلل المناطق التي كانت تحت سيطر ة السل م ونفوذه‪ ،‬وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على‬

‫الدعو ة السلمية وعلى سمعة المسلمين العسكرية‪ ،‬فالجاهلية التي تلفظ نفسها الخير بعد ما لقيت‬

‫من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مر ة أخري‪ ،‬والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين‪،‬‬

‫ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف‪ ،‬في‬

‫حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الما م‪ ،‬وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها‬ ‫هو أصحابه في نشر السل م‪ ،‬وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات‬ ‫عسكرية متتابعة متواصلة‪ ...‬تذهب هذه المكاسب بغير جدوي‪.‬‬

‫كان رسول الّله صلى ال عليه وسلم يعرف كل ذلك جيدًا‪ ،‬ولذلك قرر القيا م ـ مع ما كان فيه من‬ ‫العسر ة والشد ة ـ بغزو ة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم‪ ،‬ول يمهلونهم حتى يزحفوا‬ ‫إلى دار السل م‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫العلن بالتهيؤ لقتال الرومان‬ ‫ولما قرر الرسول صلى ال عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال‪ ،‬وبعث إلى القبائل‬ ‫من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم‪ .‬وكان قل ما يريد غزو ة يغزوها إل َوّرـي بغيرها‪ ،‬ولكنه نظراً إلى‬ ‫خطور ة الموقف وإلى شد ة العسر ة أعلن أنه يريد لقاء الرومان‪ ،‬وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة‪،‬‬ ‫وحضهم على الجهاد‪ ،‬ونزلت قطعة من سور ة براء ة تثيرهم على الجلد‪ ،‬وتحثهم على القتال‪ ،‬ورغبهم‬ ‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم في بذل الصدقات‪ ،‬وإنفاق كرائم الموال في سبيل الّله ‪.‬‬

‫المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو‬ ‫ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول الّله صلى ال عليه وسلم يدعو إلى قتال الرو م إل‬

‫وتسابقوا إلى امتثاله‪ ،‬فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة‪ ،‬وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من‬

‫كل صوب وناحية‪ ،‬ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزو ة ـ إل الذين في قلوبهم‬

‫مرض وإل ثلثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِم َنـ الّد ْمـِعـ‬ ‫؛ ليخرجوا إلى قتال الرو م‪ ،‬فإذا قال لهم‪ :‬‏}لَ أَِج ُد ـ َماـ أَْح ِمـلُـُك ْمـ َعلَْيه تـَو لّـواْ ّوأَْعيـنُـُه ْمـ تَف يـ ُ‬ ‫َح َزـًنا أَلّ يَِج ُد ـوـاْ َماـ ُينِف ُقـوَن{ ‏]التوبة‪.[92:‬‬ ‫كما تسابق المسلمون في إنفاق الموال وبذل الصدقات‪ ،‬كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشا م‪،‬‬

‫مائتا بعير بأقتابها وأحلسها‪ ،‬ومائتا أوقية‪ ،‬فتصدق بها‪ ،‬ثم تصدق بمائة بعير بأحلسها وأقتابها‪ ،‬ثم جاء‬

‫بألف دينار فنثرها في حجره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان رسول الّله صلى ال عليه وسلم يقلبها ويقول‪:‬‬

‫ض ّرـ عثمان ما عمل بعد اليو م( ‪ ،‬ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة‬ ‫‏)ما َ‬ ‫فرس سوى النقود‪.‬‬

‫وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة‪ ،‬وجاء أبو بكر بماله كّله ولم يترك لهله إل الّله ورسوله‬ ‫ـ وكانت أربعة آلف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته‪ .‬وجاء عمر بنصف ماله‪ ،‬وجاء العباس بمال‬ ‫كثير‪ ،‬وجاء طلحة وسعد بن عباد ة ومحمد بن مسلمة‪ ،‬كلهم جاءوا بمال‪ .‬وجاء عاصم بن عدي‬

‫بتسعين َو ْسـًقـاـمن التمر‪ ،‬وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها‪ ،‬حتى كان منهم من أنفق ُمّد اـ أو مدين‬

‫لم يكن يستطيع غيرها‪ .‬وبعثت النساء ما قدرن عليه من َمَسـكـ ومعاضد وخلخل وقـُْرطـ وخواتم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولم يمسك أحد يده‪ ،‬ولم يبخل بماله إل المنافقون ‏}الِّذيـَن يـَْلِم ُزـوَن الُْم طّـّو ِعـيـَن ِم َنـ الُْم ْؤـِمـنِـيَن ِفي‬ ‫صَدـقَـا ِ‬ ‫ت َواـلِّذ يـَن لَ يَِج ُد ـوـَن إِلّ ُج ْهـَدـُهـْمـفـيَْس َخـُرـوَن ِم نـُْه ْمـ{‏]التوبة‪.[79 :‬‬ ‫ال ّ‬ ‫الجيش السلمي إلى تبوك‬ ‫وهكذا تجهز الجيش‪ ،‬فاستعمل رسول الّله صلى ال عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة‬ ‫ِ‬ ‫صـ‬ ‫النصاري‪ ،‬وقيل‪ :‬س بَـاع بن عُْرفـُطَ​َة‪ ،‬وخلف على أهله على بن أبي طالب‪ ،‬وأمره بالقامة فيهم‪ ،‬وغَ​َم َ‬ ‫عليه المنافقون‪ ،‬فخرج فلحق برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرده إلى المدينة وقال‪ :‬‏)أل ترضى أن‬ ‫تكون مني بمنزلة هارون من موسي‪ ،‬إل أنه ل نبي بعدي(‪.‬‬ ‫وتحرك رسول الّله صلى ال عليه وسلم يو م الخميس نحو الشمال يريد تبوك‪ ،‬ولكن الجيش كان كبيراً‬ ‫ـ ثلثون ألف مقاتل‪ ،‬لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون‬

‫ل‪ ،‬بل كانت في الجيش قلة شديد ة بالنسبة إلى الزاد‬ ‫مع ما بذلوه من الموال أن يجهزوه تجهيزاً كام ً‬ ‫والمراكب‪ ،‬فكان ثمانية عشر رجلً يعتقبون بعيراً واحدًا‪ ،‬وربما أكلوا أوراق الشجار حتى تورمت‬ ‫شفاههم‪ ،‬واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء‪ ،‬ولذلك سمي هذا‬ ‫الجيش جيش الُعْس َرـِ ة‪.‬‬

‫ومر الجيش السلمي في طريقه إلى تبوك بالِح ْج ـر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد‪ ،‬أي وادي‬

‫الُقَرـى ـ فاستقي الناس من بئرها‪ ،‬فلما راحوا قال رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ل تشربوا من مائها‬ ‫ول تتوضأوا منه للصل ة‪ ،‬وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه البل‪ ،‬ول تأكلوا منه شيئاً(‪ ،‬وأمرهم أن‬ ‫يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول ال‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‪ :‬لما مر النبي صلى ال عليه وسلم بالحجر قال‪ :‬‏)ل تدخلوا مساكن‬ ‫الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إل أن تكونوا باكين(‪ ،‬ثم َقنَع رأسه وأسرع بالسير حتى‬ ‫جاز الوادي‪.‬‬ ‫واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الّله‪ ،‬فدعا الّله‪ ،‬فأرسل الّله سحابة‬ ‫فأمطرت حتى ارتوي الناس‪ ،‬واحتملوا حاجاتهم من الماء‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما قرب من تبوك قال‪ :‬‏)إنكم ستأتون غداً إن شاء الّله تعالى عين تبوك‪ ،‬وإنكم لن تأتوها حتى‬ ‫ض َحـيـ النهار‪ ،‬فمن جاءها فل يمس من مائها شيئاً حتى آتي(‪ ،‬قال معاذ‪ :‬فجئنا وقد سبق إليها رجلن‪،‬‬ ‫يَ ْ‬ ‫ض بشيء من مائها‪ ،‬فسألهما رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)هل مسستما من مائها شيئاً؟(‬ ‫والعين تَبِ ّ‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ .‬وقال لهما ما شاء الّله أن يقول‪ .‬ثم غرف من العين قليلً قليلً حتى اجتمع الَْو َشـُلـ ‪ ،‬ثم‬ ‫غسل رسول الّله صلى ال عليه وسلم فيه وجهه ويده‪ ،‬ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير‪ ،‬فاستقي‬

‫الناس‪ ،‬ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)يوشك يا معاذ‪ ،‬إن طالت بك حيا ة أن تري ماهاهنا قد‬ ‫ملئ جناناً(‪.‬‬ ‫وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلف الروايات ـ قال رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)تهب‬ ‫عليكم الليلة ريح شديد ة‪ ،‬فل يقم أحد منكم‪ ،‬فمن كان له بعير فليشد ِع َقـاـَله(‪ ،‬فهبت ريح شديد ة‪،‬‬

‫فقا م رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ‪.‬‬

‫وكان دأب رسول الّله صلى ال عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر‪ ،‬وبين المغرب‬ ‫والعشاء جمع التقديم وجمع التأخيركليهما‪.‬‬ ‫الجيش السلمي بتبوك‬ ‫نزل الجيش السلمي بتبوك‪ ،‬فعسكر هناك‪ ،‬وهو مستعد للقاء العدو‪ ،‬وقا م رسول الّله صلى ال عليه‬

‫وسلم فيهم خطيبًا‪ ،‬فخطب خطبة بليغة‪ ،‬أتي بجوامع الكلم‪ ،‬وحض على خير الدنيا والخر ة‪ ،‬وحذر‬ ‫وأنذر‪ ،‬وبشر وأبشر‪ ،‬حتى رفع معنوياتهم‪ ،‬وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد‬

‫والماد ة والمؤنة‪ .‬وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الّله صلى ال عليه وسلم أخذهم‬ ‫الرعب‪ ،‬فلم يجترئوا على التقد م واللقاء‪ ،‬بل تفرقوا في البلد في داخل حدودهم‪ ،‬فكان لذلك أحسن‬ ‫أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية‪ ،‬في داخل الجزير ة وأرجائها النائية‪ ،‬وحصل بذلك المسلمون‬ ‫على مكاسب سياسية كبير ة خطير ة‪ ،‬لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدا م بين‬

‫الجيشين‪.‬‬ ‫جاء يَُح نّـةُ بن ُرْؤ بَـَة صاحب أيـْلَ​َة‪ ،‬فصالح الرسول صلى ال عليه وسلم وأعطاه الجزية‪ ،‬وأتاه أهل َج ْرـبَـاء‬ ‫وأهل أْذُرح‪ ،‬فأعطوه الجزية‪ ،‬وكتب لهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم كتاباً فهو عندهم‪ ،‬وصالحه‬ ‫أهل ِم يـَناء على ربع ثمارها‪ ،‬وكتب لصاحب أيلة‪ :‬‏)بسم الّله الرحمن الرحيم‪ ،‬هذه أمنة من الّله ومحمد‬ ‫النبي رسول الّله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة‪ ،‬سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الّله وذمة محمد‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫النبي‪ ،‬ومن كان معه من أهل الشا م وأهل البحر‪ ،‬فمن أحدث منهم حدثًا‪ ،‬فإنه ل يحول ماله دون‬ ‫نفسه‪ ،‬وإنه طيب لمن أخذه من الناس‪ ،‬وأنه ل يحل أن يمنعوا ماء يردونه‪ ،‬ول طريقاً يريدونه من بر أو‬

‫بحر(‪.‬‬

‫وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أَُك ْيـِد ِرـ ُدوَمةـ الَج ْنـَد لـ في أربعمائة وعشرين‬

‫فارسًا‪ ،‬وقال له‪ :‬‏)إنك ستجده يصيد البقر(‪ ،‬فأتاه خالد‪ ،‬فلما كان من حصنه بمنظر العين‪ ،‬خرجت‬ ‫بقر ة‪ ،‬تحك بقرونها باب القصر‪ ،‬فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمر ة ـ فتلقاه خالد في خيله‪،‬‬

‫فأخذه وجاء به إلى رسول الّلهصلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحقن دمه‪ ،‬وصالحه على ألفي بعير‪ ،‬وثمانمائة‬ ‫رأس وأربعمائة درع‪ ،‬وأربعمائة رمح‪ ،‬وأقر بإعطاء الجزية‪ ،‬فقاضاه مع يَُح نّـة على قضية ُدوَمةـ وتبوك وأيـْلَ​َة‬

‫َو تـَْيماء‪.‬‬

‫وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها القدمين قد فات أوانه‪،‬‬ ‫فانقلبت لصالح المسلمين‪ ،‬وهكذا توسعت حدود الدولة السلمية‪ ،‬حتى لقت حدود الرومان مباشر ة‪،‬‬

‫وشهد عملء الرومان نهايتهم إلى حد كبير‪.‬‬ ‫الرجوع إلى المدينة‬

‫ورجع الجيش السلمي من تبوك مظفرين منصورين‪ ،‬لم ينالوا كيدًا‪ ،‬وكفي ال المؤمنين القتال‪ ،‬وفي‬ ‫الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلً من المنافقين الفتك بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك أنه‬

‫حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزما م ناقته‪ ،‬وحذيفة ابن اليمان يسوقها‪ ،‬وأخذ الناس‬

‫ببطن الوادي‪ ،‬فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة‪ .‬فبينما رسول الّله صلى ال عليه وسلم وصاحباه‬ ‫يسيران إذ سمعوا وكز ة القو م من ورائهم‪ ،‬قد غشوه وهم ملتثمون‪ ،‬فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم‬ ‫بِم ْحـَجـنـ كان معه ‪ ،‬فأرعبهم الّله‪ ،‬فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقو م‪ ،‬وأخبر رسول الّله صلى ال‬ ‫عليه وسلم بأسمائهم‪ ،‬وبما هموا به‪ ،‬فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وفي ذلك يقول الّله تعالي‪ :‬‏}َو َهـّمـوـاْ بَِم اـ لَْم يـَناُلوا { ‏]التوبة‪.[74:‬‬ ‫ولما لحت للنبي صلى ال عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال‪ :‬‏)هذه َطابَُة‪ ،‬وهذا أُح ٌدـ‪،‬ـ جبل يحبنا‬ ‫ونحبه(‪ ،‬وتسامع الناس بمقدمه‪ ،‬فخرج النساء والصبيان والولئد يقابلن الجيش بحفاو ة بالغة ويقلن‪:‬‬ ‫طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع‬ ‫وكانت عودته صلى ال عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة ‪9‬هـ ‪ ،‬واستغرقت هذه‬ ‫الغزو ة خمسين يومًا‪ ،‬أقا م منها عشرين يوماً في تبوك‪ ،‬والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوًبا ‪ .‬وكانت‬ ‫هذه الغزو ة آخر غزواته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الُم َخـلّـفون‬ ‫وكانت هذه الغزو ة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من الّله‪ ،‬امتاز به المؤمنون من غيرهم‪ ،‬كما‬ ‫هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن‪ ،‬حيث يقول‪ :‬‏}ّما َك اـَن اللّهُ لِيَ​َذ َرـ الُْم ْؤـِمـنِـيَن َعَلى َمآـ َأنتُْم َعلَْيِه َح تّـَى‬ ‫ث ِم َنـ الطّيّ ِ‬ ‫ب {‏] آل عمران‪ .[179:‬فقد خرج لهذه الغزو ة كل من كان مؤمناً صادقًا‪ ،‬حتى‬ ‫يَِم يـَز الَْخ بِـي َ‬ ‫صار التخلف أمار ة على نفاق الرجل‪ ،‬فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫قال لهم‪ :‬‏)دعوه‪ ،‬فإن يكن فيه خير فسيلحقه الّله بكم‪ ،‬وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه(‪ ،‬فلم‬

‫يتخلف إل من حبسهم العذر‪ ،‬أو الذين كذبوا الّله ورسوله من المنافقين‪ ،‬الذين قعدوا بعد أن استأذنوا‬ ‫للقعود كذبًا‪ ،‬أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا‪ .‬نعم كان هناك ثلثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من‬ ‫غير مبرر‪ ،‬وهم الذين أبلهم الّله‪ ،‬ثم تاب عليهم‪.‬‬

‫ولما دخل رسول الّله صلى ال عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد‪ ،‬فصلي فيه ركعتين‪ ،‬ثم جلس للناس‪،‬‬

‫فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من العذار‪ ،‬وطفقوا يحلفون له‪،‬‬ ‫فقبل منهم علنيتهم‪ ،‬وبايعهم‪ ،‬واستغفر لهم‪ ،‬ووكل سرائرهم إلى الّله‪.‬‬ ‫وأما النفر الثلثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك‪ ،‬وُمَراَر ة بن الربيع‪ ،‬وهلل بن أمية ـ‬

‫فاختاروا الصدق‪ ،‬فأمر رسول الّله صلى ال عليه وسلم الصحابة أل يكلموا هؤلء الثلثة‪ ،‬وجرت ضد‬ ‫هؤلء الثلثة مقاطعة شديد ة‪ ،‬وتغير لهم الناس‪ ،‬حتى تنكرت لهم الرض‪ ،‬وضاقت عليهم بما رحبت‪،‬‬

‫وضاقت عليهم أنفسهم‪ ،‬وبلغت بهم الشد ة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا‬ ‫أن يعتزلوا نساءهم‪ ،‬حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة‪ ،‬ثم أنزل الّله توبتهم‪ :‬‏}َو َعـَلى الثّلَثَِة الِّذ يـَن‬ ‫سـُهـْمـ َو ظَـّنواْ َأن لّ َمْلـَج أَـ ِم َنـ اللِّه إِلّ‬ ‫ضـاـقَ ْ‬ ‫ض بَِم اـ َرُح بَـ ْ‬ ‫ض اـقَ ْ‬ ‫ت َو َ‬ ‫ُخ لّـُفوـاْ َح تّـى إَِذا َ‬ ‫ت َعلَْيِه ُمـ الَْر ُ‬ ‫ت َعلَْيِه ْمـ َأنُف ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب الّرِح يـُم{ ‏]التوبة‪.[118:‬‬ ‫ب َعلَْيِه ْمـ ليَُتوُبواْ إِّن اللَّه ُه َوـ التـّو اـ ُ‬ ‫إِلَْيه ثُّم َتا َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفرح المسلمون‪ ،‬وفرح الثلثة فرحاً ل يقاس مداه وغايته‪ ،‬فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا‪،‬‬ ‫وكان أسعد يو م من أيا م حياتهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫س َعَلى ال ّ‬ ‫ضـىـ َولَ َعَلى الِّذ يـَن لَ‬ ‫ضَعـَف اـء َولَ َعَلى الَْم ْرـ َ‬ ‫وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم‪ :‬‏}لْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ُحـوـاْ لِلِّه َوَرـُس وـلِ​ِه{ ‏]التوبة‪ .[91 :‬وقال فيهم رسول الّله حين دنا من‬ ‫جـ إَِذا نَ َ‬ ‫يَج ُد ـوـَن َماـ ُينف ُقـوـَن َح َرـ ٌ‬ ‫المدينة‪ :‬‏)إن بالمدينة رجالً ما سرتم َمِسـ يــرًا‪ ،‬ول قطعتم وادياً إل كانوا معكم‪ ،‬حبسهم العُْذ ُرـ(‪ ،‬قـالوا‪ :‬يا‬ ‫رسول الّله‪ ،‬وهــم بالمدينة؟ قال‪ :‬‏)وهم بالمدينة(‪.‬‬ ‫أثر الغزو ة‬ ‫وكان لهذه الغزو ة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزير ة العرب‪ ،‬فقد تبين للناس أنه‬ ‫ليس لي قو ة من القوات أن تعيش في العرب سوي قو ة السل م‪ ،‬وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت‬

‫تتحرك في قلوب بقايا الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين‪ ،‬وكانوا قد عقدوا‬ ‫آمالهم بالرومان‪ ،‬فقد استكانوا بعد هذه الغزو ة‪ ،‬واستسلموا للمر الواقع‪ ،‬الذي لم يجدوا عنه محيداً‬ ‫ول مناصاً‪.‬‬ ‫ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين‪ ،‬وقد أمر الّله بالتشديد عليهم‪ ،‬حتى نهي‬ ‫عن قبول صدقاتهم‪ ،‬وعن الصل ة عليهم‪ ،‬والستغفار لهم والقيا م على قبرهم‪ ،‬وأمر بهد م وكر ة دسهم‬

‫وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد‪ ،‬وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تامًا‪ ،‬لم يبق في معرفتهم‬ ‫بعدها أي خفاء‪ ،‬كأن اليات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة‪.‬‬ ‫ويعرف مدي أثر هذه الغزو ة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول الّله صلى ال‬ ‫عليه وسلم بعد غزو ة فتح مكة‪ ،‬بل وما قبلها‪ ،‬إل أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه‬ ‫الغزو ة‪.‬‬ ‫نزول القرآن حول موضوع الغزو ة‬ ‫نزلت آيات كثير ة من سور ة براء ة حول موضوع الغزو ة‪ ،‬نزل بعضها قبل الخروج‪ ،‬وبعضها بعد الخروج ـ‬ ‫وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة‪ ،‬وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزو ة‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وفضح المنافقين‪ ،‬وفضل المجاهدين والمخلصين‪ ،‬وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين‪ ،‬الخارجين منهم‬

‫في الغزو ة والمتخلفين‪ ،‬إلى غير ذلك من المور‪.‬‬ ‫بعض الوقائع المهمة في هذه السنة‬

‫وفي هذه السنة وقعت عد ة وقائع لها أهمية في التاريخ‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ بعد قدو م رسول الّله صلى ال عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عَُو يْـِم رـ الَعْج لــني وامرأته‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ رجمت المرأ ة الغامدية‪ ،‬التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة‪ ،‬رجمت بعدما فطمت ابنها‪.‬‬ ‫ص َحـَمـةـ‪ ،‬ملك الحبشة‪ ،‬في رجب‪ ،‬وصلي عليه رسول ال صل ة الغائب في المدينة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ توفي النجاشي أ ْ‬ ‫‪ 4‬ـ توفيت أ م كلثو م بنت النبي صلى ال عليه وسلم في شعبان‪ ،‬فحزن عليها حزناً شديدًا‪ ،‬وقال‬ ‫لعثمان‪ :‬‏)لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها(‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ مات رأس المنافقين عبد الّله بن أبي بن َس لُـول بعد مرجع رسول الّله صلى ال عليه وسلم من تبوك‪،‬‬

‫فاستغفر له رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصل ة عليه‪ ،‬وقد‬ ‫نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حج أبي بكر رضي ال عنه‬

‫نظر ة على الغزوات‬

‫الناس يدخلون في دين الّله أفواجاً‬ ‫الـوف ــود‬

‫حج أبي بكر رضي ال عنه‬ ‫وفي ذي القعد ة أو ذي الحجــة من نفس السنة ـ ‪ 9‬هـ ـ بعث رسول الّله صلى ال عليه وسلم أبــا بكر‬

‫الصديق رضي ال عنه أميراً على الحج‪ ،‬ليقيم بالمسلمين المناسك‪.‬‬

‫ثم نزلت أوائل سور ة براء ة بنقض المواثيق ونبذها على سواء‪ ،‬فبعث رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬

‫على بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك‪ ،‬وذلك تمشياً منه على عاد ة العرب في عهود الدماء والموال‪،‬‬ ‫ض ْجـ نَــان‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أمير أو مأمور؟ قال علي‪ :‬ل‪ ،‬بل مأمور‪ .‬ثم‬ ‫فالتقي على بأبي بكر بالَعْر جـ أو ب َ‬

‫مضيا‪ ،‬وأقا م أبو بكر للناس حجهم‪ ،‬حتى إذا كان يو م النحر‪ ،‬قا م على بن أبي طالب عند الجمر ة‪،‬‬

‫فأذن في الناس بالذي أمره رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونبذ إلى كل ذي عهد عهده‪ ،‬وأجل لهم‬

‫أربعة شهور‪ ،‬وكذلك أجل أربعة أشهر لمن لم يكن له عهد‪ ،‬وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئًا‪ ،‬ولم‬ ‫يظاهروا عليهم أحداً فأبقي عهدهم إلى مدتهم‪.‬‬ ‫وبعث أبو بكر رضي ال عنه رجالً ينادون في الناس‪ :‬أل ل يحج بعد هذا العا م مشرك‪ ،‬ول يطوف‬

‫بالبيت عُْريـَان‪.‬‬

‫ئـ ول تُِعيُد بعد هذا العا م‪.‬‬ ‫وكان هذا النداء بمثابة إعلن نهاية الوثنية في جزير ة العرب‪ ،‬وأنها ل تـْبُِد ُ‬ ‫نظر ة على الغزوات‬ ‫إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى ال عليه وسلم وبعوثه وسراياه‪ ،‬ل يمكن لنا ول لحد ممن ينظر في‬ ‫أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها ـ ل يمكن لنا إل أن نقول‪:‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إن النبي صلى ال عليه وسلم كان أكبر قائد عسكري في الدنيا‪ ،‬وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظًا‪ ،‬إنه‬ ‫صاحب عبقرية فذ ة في هذا الوصف‪ ،‬كما كان سيد الرسل وأعظمهم في صفة النبو ة والرسالة‪ ،‬فلم‬ ‫يخض معركة من المعارك إل في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحز م والشجاعة والتدبير‪ ،‬ولذلك‬

‫لم يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش وتعيينه‬

‫على المراكز الستراتيجية‪ ،‬واحتلل أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة‪ ،‬واختيار أفضل خطة لدار ة دفة‬

‫القتال‪ ،‬بل أثبت في كل ذلك أن له نوعاً آخر من القياد ة غير ما عرفتها الدنيا في القواد‪ .‬ولم يقع ما‬ ‫وقع في ُأحد وحنين إل من بعض الضعف في أفراد الجيش ـ في حنين ـ أو من جهة معصيتهم أوامره‬ ‫وتركهم التقيد واللتزا م بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهه العسكرية‪.‬‬

‫وقد تجلت عبقريته صلى ال عليه وسلم في هاتين الغزوتين عند هزيمة المسلمين‪ ،‬فقد ثبت مجابهاً‬ ‫للعدو‪ ،‬واستطاع بحكمته الفذ ة أن يخيبهم في أهدافهم ـ كما فعل في أحد ـ أو يغير مجري الحرب‬ ‫حتى يبدل الهزيمة انتصاراً ـ كما في حنين ـ مع أن مثل هذا التطور الخطير‪ ،‬ومثل هذه الهزيمة الساحقة‬ ‫تأخذان بمشاعر القواد‪ ،‬وتتركان على أعصابهم أسوأ أثر‪ ،‬ل يبقي لهم بعد ذلك إل هم النجا ة بأنفسهم‪.‬‬ ‫هذه من ناحية القياد ة العسكرية الخالصة‪ ،‬أما من نواح أخري‪ ،‬فإنه استطاع بهذه الغزوات فرض المن‬

‫وبسط السل م‪ ،‬وإطفاء نار الفتنة‪ ،‬وكسر شوكة العداء في صراع السل م والوثنية‪ ،‬وإلجائهم إلى‬

‫المصالحة‪ ،‬وتخلية السبيل لنشر الدعو ة‪ ،‬كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو‬

‫يبطن النفاق‪ ،‬ويضمر نوازع الغدر والخيانة‪.‬‬

‫وقد أنشأ طائفة كبير ة من القواد‪ ،‬الذين لقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق والشا م‪ ،‬ففاقوهم‬ ‫في تخطيط الحروب وإدار ة دفة القتال‪ ،‬حتى استطاعوا إجلءهم من أرضهم وديارهم وأموالهم من‬ ‫جنات وعيون وزروع ومقا م كريم ونعمة كانوا فيها فاكيهن‪.‬‬ ‫كما استطاع رسول الّله صلى ال عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكني والرض والحرف‬

‫صـيـ من كثير من مشاكل اللجئين الذين لم يكن لهم مال ول دار‪ ،‬وهيأ‬ ‫والمشاغل للمسلمين‪ ،‬حتى تـَف ّ‬

‫السلح والُك َرـاع والعد ة والنفقات‪ ،‬حصل على كل ذلك من غير أن يقو م بمثقال ذر ة من الظلم‬ ‫والطغيان والبغي والعدوان على عباد الّله‪.‬‬

‫وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطر م نار الحرب لجلها في الجاهلية‪ ،‬فبينما كانت‬ ‫الحرب عبار ة عن النهب والسلب والقتل والغار ة والظلم والبغي والعدوان‪ ،‬وأخذ الثأر‪ ،‬والفوز بالَو تَـر‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكبت الضعيف‪ ،‬وتخريب العمران‪ ،‬وتدمير البنيان‪ ،‬وهتك حرمات النساء‪ ،‬والقسو ة بالضعاف والولئد‬

‫والصبيان‪ ،‬وإهلك الحرث والنسل‪ ،‬والعبث والفساد في الرض ـ في الجاهلية ـ إذ صارت هذه الحرب ـ‬

‫في السل م ـ جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة ‪ ،‬وأغراض سامية‪ ،‬وغايات محمود ة‪ ،‬يعتز بها المجتمع‬ ‫النساني في كل زمان ومكان‪ ،‬فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص النسان من نظا م القهر‬

‫ص فـ‪ ،‬من نظا م يأكل فيه القوي الضعيف‪ ،‬إلى نظا م يصير فيه القوي‬ ‫والعدوان‪ ،‬إلى نظا م العدالة والنّ َ‬ ‫ضَعـِفيـَنِم َنـ الّرَج اـِل َواـلنَّس اـء َواـلِْولَْد اـِن الِّذ يـَن‬ ‫ضعيفاً حتى يؤخذ منه‪ ،‬وصارت جهاداً في تخليص ‏} َواـلُْمْسـتَـ ْ‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫ص يـًرا{‬ ‫ك َو لِـّيا َواـْج َعــل لَّنا ِم نـ لُّد نـ َ‬ ‫يـَُقوـُلوَن َربـَّنا أَْخ ِرـْج نَــا ِم ْنـ َه ـِذ ِهـ الَْق ْرـيـَِة الّظالِ​ِم أَْه لُـَه اـ َواـْج َعــل لَّنا ِم نـ لُّد نـ َ‬ ‫‏]النساء‪ .[75:‬وصارت جهاداً في تطهير أرض الّله من الغدر والخيانة والثم والعدوان‪ ،‬إلى بسط المن‬ ‫والسلمة والرأفة والرحمة ومراعا ة الحقوق والمروء ة‪.‬‬ ‫كما شرع للحروب قواعد شريفة ألز م التقيد بها على جنوده وقوادها‪ ،‬ولم يسمح لهم الخروج عنها‬ ‫بحال‪ .‬روي سليمان بن بريد ة عن أبيه قال‪ :‬كان رسول الّله صلى ال عليه وسلم إذا أمر أميراً على‬ ‫جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الّله عز وجل‪ ،‬ومن معه من المسلمين خيرًا‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)اغزوا‬

‫بسم الّله‪ ،‬في سبيل الّله‪ ،‬قاتلوا من كفر بالّله‪ ،‬اغزوا‪ ،‬فل تغلوا‪ ،‬ولتغدروا‪ ،‬ول تمثلوا‪ ،‬ول تقتلوا‬ ‫وليداً‪ (...‬الحديث‪ .‬وكان يأمر بالتيسير ويقول‪ :‬‏)يسروا ول تعسروا‪ ،‬وسكنوا ول تنفروا(‪.‬‬

‫وكان إذا جاء قوماً بِلَْيل لم يُِغْر عليهم حتى ُيصِبح‪ ،‬ونهي أشد النهي عن التحريق في النار‪ ،‬ونهي عن‬ ‫قتل الصبر‪ ،‬وقتل النساء وضربهن‪ ،‬ونهي عن النهب حتى قال‪ :‬‏)إن النـّْه بَــى ليست بأحل من الميتة(‪،‬‬ ‫ونهي عن إهلك الحرث والنسل وقطع الشجار إل إذا اشتدت إليها الحاجة‪ ،‬ول يبقي سواه سبيل‪.‬‬

‫وقال عند فتح مكة‪ :‬‏)ل تجهزن على جريح‪ ،‬ول تتبعن مدبرًا‪ ،‬ول تقتلن أسيراً(‪ ،‬وأمضى السنة بأن‬ ‫السفير ل يقتل‪ ،‬وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال‪ :‬‏)من قتل معاهداً لم يُِرْح رائحة الجنة‪،‬‬

‫وإن ريحها لتوجد من مسير ة أربعين عاماً(‪ ،‬إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من‬

‫أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً‪.‬‬

‫الناس يدخلون في دين الّله أفواجاً‬ ‫كانت غزو ة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة‪ ،‬قضت على الوثنية قضاء باتًا‪ ،‬عرفت العرب لجلها‬ ‫الحق من الباطل‪ ،‬وزالت عنهم الشبهات‪ ،‬فتسارعوا إلى اعتناق السل م‪ .‬قال عمرو بن سلمة‪ :‬كنا بماء‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ممر الناس‪ ،‬وكان يمر بنا الركبان فنسألهم‪ :‬ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم ـ فيقولون‪ :‬يزعم أن الّله أرسله‪ ،‬أوحي إليه‪ ،‬أوحي الّله كذا‪ ،‬فكنت أحفظ ذاك الكل م‪،‬‬

‫فكأنما يقر في صدري‪ ،‬وكانت العرب تلو م بإسلمهم الفتح‪ ،‬فيقولون‪ :‬اتركوه وقومه‪ ،‬فإنه إن ظهر عليهم‬

‫فهو نبي صادق‪ .‬فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قو م بإسلمهم‪ ،‬وبدر أبي قومي بإسلمهم‪ ،‬فلما‬

‫قد م قال‪ :‬جئتكم والّله من عند النبي صلى ال عليه وسلم حقاً‪ .‬فقال‪ :‬صلوا صل ة كذا في حين كذا‪،‬‬ ‫وصل ة كذا في حين كذا‪ ،‬فإذا حضرت الصل ة فليؤذن أحدكم‪ ،‬وليؤمكم أكثركم قرآناً‪ ...‬الحديث‪.‬‬ ‫وهذا الحديث يدل مدي أثر فتح مكة في تطوير الظروف‪ ،‬وتعزيز السل م‪ ،‬وتعيين الموقف للعرب‪،‬‬

‫واستسلمهم للسل م‪ ،‬وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزو ة تبوك‪ ،‬ولذلك نري الوفود تقصد المدينة تتري في‬

‫هذين العامين ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون في دين الّله أفواجًا‪ ،‬حتى إن الجيش السلمي‬ ‫الذي كان قوامه عشر ة آلف مقاتل في غزو ة الفتح‪ ،‬إذا هو يزخر في ثلثين ألف مقاتل في غزو ة تبوك‬ ‫قبل أن يمضي على فتح مكة عا م كامل‪ ،‬ثم نري في حجة الوداع بحراً من رجال السل م ـ مائة ألف‬

‫من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم ـ يموج حول رسول الّله صلى ال عليه وسلم بالتلبية‬ ‫والتكبير والتسبيح والتحميد‪ ،‬تدوي له الفاق‪ ،‬وترتج له الرجاء‪.‬‬

‫الـوف ــود‬ ‫والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفدًا‪ ،‬ول يمكن لنا استقصاءها‪ ،‬وليس كبير‬ ‫فائد ة في بسط تفاصيلها‪ ،‬وإنما نذكر منها إجمالً ماله روعة أو أهمية في التاريخ‪ ،‬وليكن على ذكر من‬

‫القارئ أن وفاد ة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح‪ ،‬ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضاً‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ وفد عبد القيس‪:‬‬

‫كانت لهذه القبيلة وفادتان‪ :‬الولي سنة خمس من الهجر ة أو قبل ذلك‪ .‬كان رجل منهم يقال له ُمْنِق ُذـ‬ ‫بن حيان‪ ،‬يَِرُد المدينة بالتجار ة‪ ،‬فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقد م النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعلم‬ ‫السل م أسلم‪ ،‬وذهب بكتاب من النبي صلى ال عليه وسلم إلى قومه فأسلموا‪ ،‬فتوافدوا إليه في شهر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ل‪ ،‬وفيها سألوا عن اليمان وعن الشربة‪ ،‬وكان كبيرهم الشج العصري‬ ‫حرا م في ثلثة أو أربعة عشر رج ً‬ ‫الذي قال فيه رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن فيك خصلتين يحبهما الّله ‪ :‬الحلم والنا ة(‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬وكان فيهم الجارود بن العلء‬ ‫والوفاد ة الثانية كانت في سنة الوفود‪ ،‬وكان عددهم فيها أربعين رج ً‬ ‫العبدي‪ ،‬وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلمه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ وفد َدْوـ سـ‪:‬‬

‫كانت وفاد ة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع‪ ،‬ورسول الّله صلى ال عليه وسلم بخيبر ‪ ،‬وقد قدمنا‬ ‫حديث إسل م الطَّف ْيـل بن عمرو الدوسي‪ ،‬وأنه أسلم ورسول الّله صلى ال عليه وسلم بمكة‪ ،‬ثم رجع‬

‫إلى قومه‪ ،‬فلم يزل يدعوهم إلى السل م‪ ،‬ويبطئون عليه حتى يئس منهم‪ ،‬ورجع إلى رسول الّله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فطلب منه أن يدعو على دوس‪ ،‬فقال‪ :‬‏)اللهم اهد دوساً(‪ .‬ثم أسلم هؤلء‪ ،‬فوفد الطفيل‬

‫بسبعين أو ثمانين بيتا من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع‪ ،‬ورسول الّله صلى ال عليه وسلم‬ ‫بخيبر‪ ،‬فلحق به‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ رسول فـَْر َوـ ةـ بن عمرو الُج َذـاـمي‪:‬‬

‫كان فرو ة قائداً عربياً من قواد الرومان‪ ،‬عاملً لهم على من يليهم من العرب‪ ،‬وكان منزله َمَعـان وما حوله‬ ‫من أرض الشا م‪ ،‬أسلم بعد ما رأي من جلد المسلمين وشجاعتهم‪ ،‬وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة‬ ‫‪ 8‬هـ‪ ،‬ولما أسلم بعث إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم رسولً بإسلمه‪ ،‬وأهدي له بغلة بيضاء‪ ،‬ولما‬ ‫علم الرو م بإسلمه أخذوه فحبسوه‪ ،‬ثم خيروه بين الرد ة والموت‪ ،‬فاختار الموت على الرد ة‪ ،‬فصلبوه‬ ‫بفلسطين على ماء يقال له‪ :‬عفراء‪ ،‬وضربوا عنقه‪.‬‬ ‫صَدـاـء‪:‬‬ ‫‪ 4‬ـ وفد ُ‬

‫جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول الّله صلى ال عليه وسلم من الِج ْع ـَرـانة سنة ‪ 8‬هـ ‪ ،‬وذلك أن رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم هيأ بعثاً من أربعمائة من المسلمين‪ ،‬وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها‬ ‫ص ْدـ ِرـ قـَنا ة علم به زياد بن الحارث الصدائي‪ ،‬فجاء إلى رسول الّله‬ ‫صَدـاـء‪ ،‬وبينما ذلك البعث معسكر ب َ‬ ‫ُ‬ ‫صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬جئتك وافداً على َمْنـ ورائي‪ ،‬فاردد الجيش وأنا لك بقومي‪ ،‬فرد الجيش من‬ ‫صدر قنا ة‪ ،‬وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدو م على رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد م‬

‫عليه خمسة عشر رجلً منهم‪ ،‬وبايعوه على السل م‪ ،‬ثم رجعوا إلى قومهم‪ ،‬فدعوهم ففشا فيهم‬ ‫السل م‪ ،‬فوافي رسول الّله صلى ال عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 5‬ـ قدو م كعب بن زهير بن أبي سلمى‪:‬‬

‫كان من بيت الشعراء‪ ،‬ومن أشعر العرب‪ ،‬وكان يهجو النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما انصرف رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم من غزو ة الطائف سنة ‪8‬هـ ‪ ،‬كتب إلى كعب بن زهير أخوه بَُج ْيـر بن زهير أن‬ ‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم قتل رجالً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه‪ ،‬ومن بقي من شعراء قريش‬ ‫هربوا في كل وجه‪ ،‬فإن كانت لك في نفسك حاجة فَِط ْرـ إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه ل‬ ‫يقتل أحداً جاء تائبًا‪ ،‬وإل فانج إلى نجاتك‪ ،‬ثم جري بين الخوين مراسلت ضاقت لجلها الرض على‬ ‫كعب‪ ،‬وأشفق على نفسه‪ ،‬فجاء المدينة‪ ،‬ونزل على رجل من ُج َهـيـْنَ​َة‪ ،‬وصلي معه الصبح‪ ،‬فلما انصرف‬ ‫أشار عليه الجهني‪ ،‬فقا م إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم حتى جلس إليه‪ ،‬فوضع يده في يده‪ ،‬وكان‬

‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم ل يعرفه فقال‪ :‬يا رسول الّله‪ ،‬إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك‬ ‫تائباً مسلمًا‪ ،‬فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال‪ :‬‏)نعم(‪ .‬قال‪ :‬أنا كعب بن زهير‪ ،‬فوثب عليه رجل‬ ‫من النصار يستأذن ضرب عنقه‪ ،‬فقال‪ :‬‏)دعه عنك‪ ،‬فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه(‪.‬‬ ‫وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهور ة التي أولها‪:‬‬ ‫بانت سعاد فقلبي اليو م َمْتـُبول ** ُمتـَيٌّم إثـَْرَه اـ‪ ،‬لم يـُْف َدـ‪،‬ـ َمْكـ بُــول‬ ‫قال فيها ـ وهو يعتذر إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويمدحه‪:‬‬ ‫نبئت أن رسول ال أوعدني ** والعفو عند رسول ال مأمول‬ ‫مهل هداك الذي أعطاك نافلة الـ ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل‬ ‫ل تأخذن بأقوال الوشا ة ولم ** أذنب‪ ،‬ولو كثرت فّي القاويل‬ ‫لقد أقو م مقاما ما لو يقو م به ** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل‬ ‫لظل يرعد إل أن يكون له ** من الرسول بإذن ال تنويل‬ ‫حتى وضعت يميني ما أنازعه ** في كف ذي نقمات قيله القيل‬ ‫فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ** وقيل‪ :‬إنك منسوب ومسئول‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫من ضيغم بضراء الرض مخدر ة ** في بطن عثر غيل دونه غيل‬ ‫إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف ال مسلول‬ ‫ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لنهم لم يكن تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إل بخير‪ ،‬وعرض في‬ ‫أثناء مدحهم على النصار لسئذان رجل منهم في ضرب عنقه‪ ،‬قال‪:‬‬

‫س وـُد التـَّناِبيل‬ ‫بـ إذا َعّرد ال ّ‬ ‫يمشون َمْشـ يـ الجمال الّزْه ِرـ يعصمهم ** َ‬ ‫ض ْرـ ٌ‬ ‫فلما أسلم وحسن إسلمه مدح النصار في قصيد ة له‪ ،‬وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم‪ ،‬قال في‬ ‫تلك القصيد ة‪:‬‬ ‫من سره َك َرـُ م الحــيا ة فل يـَزْل ** في ِم ْقـنَـ ٍ‬ ‫ب من صالحي النصار‬ ‫ورثوا المكار م كابراً عن كـابر ** إن الخـيار هـم بنـو الخيار‬ ‫‪ 6‬ـ وفد ُعْذ َرـ ة‪:‬‬

‫قد م هذا الوفد في صفر سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وهم اثنا عشر رجلً فيهم حمز ة بن النعمان‪ ،‬قال متكلمهم حين‬

‫ص يـ لمه‪ ،‬نحن الذين عضدوا قصيًا‪ ،‬وأزاحوا من بطن مكة‬ ‫سئلوا ‏)من القو م؟(‪ :‬نحن بنو ُعْذ َرـ ة‪ ،‬إخو ة قُ َ‬ ‫خزاعة وبني بكر‪ ،‬لنا قرابات وأرحا م‪ ،‬فرحب بهم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبشرهم بفتح الشا م‪،‬‬

‫ونهاهم عن سؤال الكاهنة‪ ،‬وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها‪ .‬أسلموا وأقاموا أياماً ثم رجعوا‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ وفد بَِلي ‪:‬‬

‫قد م في ربيع الول سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وأسلم وأقا م بالمدينة ثلثًا‪ ،‬وقد سأل رئيسهم أبو ال ّ‬ ‫ضبـَْيب عن الضيافة‬ ‫هل فيها أجر؟ فقال رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)نعم‪ ،‬وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو‬

‫صدقة(‪ ،‬وسأل عن وقت الضيافة‪ ،‬فقال‪ :‬‏)ثلثة أيا م(‪ ،‬وسأل عن ضالة الغنم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)هي لك أو لخيك‬

‫أو للذنب(‪ ،‬وسأل عن ضالة البعير‪ .‬فقال‪ :‬‏)مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه(‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ وفد ثقيف‪:‬‬ ‫كانت وفادتهم في رمضان سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وقصة إسلمهم أن رئيسهم عرو ة بن مسعود الثقفي جاء إلى‬

‫رسول الّله صلى ال عليه وسلم بعد مرجعه من غزو ة الطائف في ذي القعد ة سنة ‪ 8‬هـ قبل أن يصل إلى‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫المدينة‪ ،‬فأسلم عرو ة‪ ،‬ورجع إلى قومه‪ ،‬ودعاهم إلى السل م ـ وهو يظن أنهم يطيعونه ؛ لنه كان سيدا‬

‫مطاعاً في قومه‪ ،‬وكان أحب إليهم من أبكارهم ـ فلما دعاهم إلى السل م رموه بالنبل من كل وجه حتى‬ ‫قتلوه‪ ،‬ثم أقاموا بعد قتله أشهرًا‪ ،‬ثم ائتمروا بينهم‪ ،‬ورأوا أنه ل طاقة لهم بحرب َمْنـ حولهم من العرب ـ‬

‫الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا ـ فأجمعوا أن يرسلوا رجلً إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكلموا‬ ‫َعْبد ياِليل بن عمرو‪ ،‬وعرضوا عليه ذلك فأبي‪ ،‬وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعرو ة‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬فبعثوا معه رجلين من الحلف وثلثة من بني مالك‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬لست فاعلً حتى ترسلوا معي رجا ً‬ ‫فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي‪ ،‬وكان أحدثهم سناً‪.‬‬

‫فلما قدموا على رسول الّله صلى ال عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد‪ ،‬لكي يسمعوا‬

‫القرآن‪ ،‬ويروا الناس إذا صلوا‪ ،‬ومكثوا يختلفون إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو يدعوهم إلى‬ ‫السل م‪ ،‬حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم قضية صلح بينه وبين‬ ‫ثقيف‪ ،‬يأذن لهم فيه بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا‪ ،‬ويترك لهم طاغيتهم اللت‪ ،‬وأن يعفيهم من‬

‫الصل ة‪ ،‬وأل يكسروا أصنامهم بأيديهم‪ ،‬فأبي رسول الّله صلى ال عليه وسلم أن يقبل شيئاً من ذلك‪،‬‬ ‫فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً عن الستسل م لرسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستسلموا‬ ‫وأسلموا‪ ،‬واشترطوا أن يتولي رسول الّله صلى ال عليه وسلم هد م اللت‪ ،‬وأن ثقيفاً ل يهدمونها‬

‫بأيديهم أبداً‪ .‬فقبل ذلك‪ ،‬وكتب لهم كتابًا‪ ،‬وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي ؛ لنه كان‬ ‫أحرصهم على التفقه في السل م وتعلم الدين والقرآن‪ .‬وذلك أن الوفد كانوا كل يو م يغدون إلى رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم‪ ،‬فإذا رجعوا وقالوا بالهاجر ة عمد‬ ‫عثمان بن أبي العاص إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم فاستقرأه القرآن‪ ،‬وسأله عن الدين‪ ،‬وإذا‬

‫وجده نائماً عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض ‏)وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الرد ة‪ ،‬فإن ثقيفاً‬ ‫لما عزمت على الرد ة قال لهم‪ :‬يا معشر ثقيف‪ ،‬كنتم آخر الناس إسلمًا‪ ،‬فل تكونوا أول الناس رد ة‪،‬‬ ‫فامتنعوا عن الرد ة‪ ،‬وثبتوا على السل م(‪.‬‬

‫ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة‪ ،‬وخوفهم بالحرب والقتال‪ ،‬وأظهر الحزن والكآبة‪ ،‬وأن رسول‬ ‫الّله صلى ال عليه وسلم سألهم السل م وترك الزنا والخمر والربا وغيرها وإل يقاتلهم‪ .‬فأخذت ثقيفاً‬ ‫نخو ة الجاهلية‪ ،‬فمكثوا يومين أو ثلثة يريدون القتال‪ ،‬ثم ألقي الّله في قلوبهم الرعب‪ ،‬وقالوا للوفد‪:‬‬ ‫ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل‪ .‬وحينئذ أبدي الوفد حقيقة المر‪ ،‬وأظهروا ما صالحوا عليه‪ ،‬فأسلمت‬

‫ثقيف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسلم رجالً لهد م اللت‪ ،‬أمر عليهم خالد بن الوليد‪ ،‬فقا م المغير ة ابن‬ ‫شعبة‪ ،‬فأخذ الُك ْرـِزـين وقال لصحابه‪ :‬والّله لضحكنكم من ثقيف‪ ،‬فضرب بالكرزين‪ ،‬ثم سقط يركض‪،‬‬

‫فارتج أهل الطائف‪ ،‬وقالوا‪ :‬أبعد الّله المغير ة‪ ،‬قتلته الّربُّة‪ ،‬فوثب المغير ة فقال‪ :‬قبحكم الّله‪ ،‬إنما هي‬ ‫لَُك اـع حجار ة وَمَدـرـ‪ ،‬ثم ضرب الباب فكسره‪ ،‬ثم عل أعلى سورها‪ ،‬وعل الرجال فهدموها وسووها‬

‫بالرض حتى حفروا أساسها‪ ،‬وأخرجوا حليها ولباسها‪ ،‬فبهتت ثقيف‪ ،‬ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول‬ ‫الّْله صلى ال عليه وسلم بحليها وكسوتها‪ ،‬فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم من يومه‪ ،‬وحمد ال‬ ‫على نصر ة نبيه وإعزاز دينه‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ رسالة ملوك اليمن‪:‬‬

‫وبعد مرجع النبي صلى ال عليه وسلم من تبوك قد م كتاب ملوك ِح ْم ـيَــر‪ ،‬وهم الحارث بن عبد ُك لـل‪،‬‬ ‫ونعيم بن عبد كلل‪ ،‬والنعمان‪ ،‬وقـَْيُل ذي ُرَعْين وَه ْمـَدـاـن وُمَعاِفر‪ ،‬ورسولهم إليه صلى ال عليه وسلم‬ ‫مالك بن مر ة الّرَه اـوي‪ ،‬بعثوه بإسلمهم ومفارقتهم الشرك وأهله‪ ،‬وكتب إليهم رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم كتاباً بـَيَّن فيه ما للمؤمنين وما عليهم‪ ،‬وأعطي فيه المعاهدين ذمة الّله وذمة رسوله إذا أعطوا ما‬ ‫عليهم من الجزية وبعث إليهم رجالً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل‪ ،‬وجعله على الكور ة العلياء من‬ ‫س َكـاـِس كــ‪ ،‬وكان قاضياً وحاكماً في الحروب‪ ،‬وعاملً على أخذ الصدقة‬ ‫س ُكـوـن وال ّ‬ ‫جهة َعَد نـ بين ال ّ‬

‫والجزية‪ ،‬ويصلي بهم الصلوات الخمس‪ ،‬وبعث أبا موسي الشعري رضي ال عنه على الكور ة السفلي‪:‬‬

‫ُزبـَْيد ومأرب َوَزـَمعـ والساحل‪ ،‬وقال‪ :‬‏)يسرا ول تعسرا‪ ،‬وبشرا ول تنفرا‪ ،‬وتطاوعا ول تختلفا(‪ .‬وقد مكث‬ ‫معاذ باليمن حتى توفي رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ .‬أما أبو موسي الشعري رضي ال عنه فقد م‬ ‫عليه صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ وفد همدان‪:‬‬

‫قدموا سنة ‪9‬هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسلم من تبوك‪ ،‬فكتب لهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم‬

‫طـ‪،‬ـ واستعمله على من أسلم من قومه‪ ،‬وبعث إلى‬ ‫كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه‪ ،‬وأمر عليهم مالك بن النَّم َ‬ ‫سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى السل م‪ ،‬فأقا م ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه‪ ،‬ثم بعث على بن‬ ‫أبي طالب‪ ،‬وأمره أن يـَْق ُفـَلـ خالدًا‪ ،‬فجاء على إلى همدان‪ ،‬وقرأ عليهم كتاباً من رسول الّله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬ودعاهم إلى السل م فأسلموا جميعًا‪ ،‬وكتب على ببشار ة إسلمهم إلى رسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فلما قرأ الكتاب خر ساجدًا‪ ،‬ثم رفع رأسه فقال‪ :‬‏)السل م على همدان‪ ،‬السل م على همدان(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ 11‬ـ وفد بني فـَزاَر ة‪:‬‬

‫قد م هذا الوفد سنة ‪9‬هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسلم من تبوك‪ ،‬قد م في بضعة عشر رجلً جاءوا‬ ‫مقرين بالسل م‪ ،‬وشكوا جدب بلدهم‪ ،‬فصعد رسول ال صلى ال عليه وسلم المنبر‪ ،‬فرفع يديه‬

‫واستسقي‪ ،‬وقال‪ :‬‏)اللهم اسق بلدك وبهائمك‪ ،‬وانشر رحمتك‪ ،‬وأْح يـ بلدك الميت‪ ،‬اللهم اسقنا غَْيثاً‬ ‫ُمِغيثًا‪ ،‬مريًئا َمِرـيعًا‪ ،‬طَ​َبقاً واسعًا‪ ،‬عاجلً غير آجل‪ ،‬نافعاً غير ضار‪ ،‬الّلهم سقيا رحمة‪ ،‬ل سقيا عذاب‪،‬‬ ‫ولَه ْدـ مـ ول غَ​َرق ول َمْحـ قــ‪ ،‬الّلهم اسقنا الغيث‪ ،‬وانصرنا على العداء(‪.‬‬ ‫‪12‬ـ وفد نجران‪:‬‬

‫‏]نجران[ بفتح النون وسكون الجيم‪ :‬بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن‪ ،‬كان يشتمل‬

‫على ثلث وسبعين قرية‪ ،‬مسير ة يو م للراكب السريع ‪ ،‬وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون‬

‫بالنصرانية‪.‬‬

‫وكانت وفاد ة أهل نجران سنة ‪9‬هـ‪ ،‬وقوا م الوفد ستون رجلً منهم أربعة وعشرون من الشراف‪ ،‬فيهم‬ ‫ثلثة كانت إليهم زعامة أهل نجران‪ .‬أحدهْم‪ :‬الَعاِقب‪ ،‬كانت إليه المار ة والحكومة‪ ،‬واسمه عبد‬ ‫المسيح‪ .‬والثاني‪ :‬السيد‪ ،‬كانت تحت إشرافه المور الثقافية والسياسية‪ ،‬واسمه اليـَْه مـ أو ُش َرـ ِْح بــيل‪.‬‬ ‫والثالث‪ :‬الْس قــف‪ ،‬وكانت إليه الزعامة الدينية‪ ،‬والقياد ة الروحانية‪ ،‬واسمه أبو حارثة بن علقمة‪.‬‬ ‫ولما نزل الوفد بالمدينة‪ ،‬ولقي النبي صلى ال عليه وسلم سألهم وسألوه‪ ،‬ثم دعاهم إلى السل م‪ ،‬وتل‬

‫عليهم القرآن فامتنعوا‪ ،‬وسألوه عما يقول في عيسي عليه السل م‪ ،‬فمكث رسول الّله صلى ال عليه‬ ‫وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه‪ :‬‏}إِّن َمثَـل ِع يـس ىـ ِع نـَد اللِّه َك َمـثَـِل آَدَ مـ َخ لَـَق هُـ ِم نـ تـُرا ٍ‬ ‫ب ثِّم َقاَل لَهُ ُك نـ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫كـ ِفيِه ِم نـ بـَْع ِدـ َماـ َج اـءَك ِم َنـ الِْعْلِم فـَُقْلـ تـَعالَْو اْـ‬ ‫ك فَلَ تَُك نـ ّمنـ الُْم ْمـتَـِريَن فَ​َم ْنـ َح آـّج َ‬ ‫فـيَُك وـُن الَْح ّقـ ِم نـ ّربّ َ‬ ‫ع َأبـَْناءَنا َوأَـبـَْناءُك ْمـ َو نـَِس اـءَنا َو نـَِس اـءُك ْمـ َوأَـنُفَسـنَـا وَأنُفَسـُكـْمـ ثُّم نـَْبتَِه ْلـ فـنَْج َعــل لّْع نَـةُ اللِّه َعَلى الَْك اـِذ بِـيَن{‬ ‫نَْد ُ‬ ‫‏]آل عمران‪.[61 :59:‬‬

‫ولما أصبح رسول الّله صلى ال عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسي ابن مريم في ضوء هذه الية‬ ‫الكريمة‪ ،‬وتركهم ذلك اليو م ؛ ليفكروا في أمرهم‪ ،‬فأبوا أن يقروا بما قال في عيسي‪ .‬فلما أصبحوا وقد‬ ‫أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسي‪ ،‬وأبوا عن السل م دعاهم رسول الّله صلى ال عليه‬ ‫وسلم إلى المباهلة‪ ،‬وأقبل مشتملً على الحسن والحسين في َخ ِمـيـل له‪ ،‬وفاطمة تمشي عند ظهره‪ ،‬فلما‬ ‫رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا‪ ،‬فقال كل من العاقب والسيد للخر‪ :‬ل تفعل‪ ،‬فو الّله لئن كان‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نبياً فَلَ​َعنـَنا ل نفلح نحن ول عقبنا من بعدنا ‪ ،‬فل يبقي على وجه الرض منا شعر ة ول ظُْف رـ إل هلك‪،‬‬ ‫ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول الّله صلى ال عليه وسلم في أمرهم‪ ،‬فجاءوا وقالوا‪ :‬إنا نعطيك ما‬ ‫سألتنا‪ .‬فقبل رسول الّله صلى ال عليه وسلم منهم الجزية‪ ،‬وصالحهم على ألفي ُح لّـة‪ :‬ألف في رجب‪،‬‬ ‫وألف في صفر‪ ،‬ومع كل حلة أوقية‪ ،‬وأعطاهم ذمة الّله وذمة رسوله‪ .‬وترك لهم الحرية الكاملة في‬

‫دينهم‪ ،‬وكتب لهم بذلك كتابًا‪ ،‬وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلً أمينًا‪ ،‬فبعث عليهم أمين هذه المة أبا‬ ‫عبيد ة بن الجراح؛ ليقبض مال الصلح‪.‬‬

‫ثم طفق السل م يفشو فيهم‪ ،‬فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران‪ ،‬وأن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم بعث إليهم علّيا ؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم‪ ،‬ومعلو م أن الصدقة إنما تؤخذ من‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫‪ 13‬ـ وفد بني حنيفة‪:‬‬

‫كانت وفادتهم سنة ‪ 9‬هـ‪ ،‬وكانوا سبعة عشر رجلً فيهم ُمَس ْيـِلمة الكذاب ـ وهو ُمَس ْيـِلمة بن ثَُم اـَمةـ بن‬ ‫كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة ـ نزل هذا الوفد في بيت رجل من النصار‪ ،‬ثم جاءوا إلى‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم فأسلموا‪ ،‬واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب‪ ،‬ويظهر بعد النظر في‬

‫جميعها أن مسيلمة صدر منه الستنكاف والنفة والستكبار والطموح إلى المار ة‪ ،‬وأنه لم يحضر مع‬

‫سائر الوفد إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن النبي صلى ال عليه وسلم أراد استئلفه‬ ‫بالحسان بالقول والفعل أول‪ ،‬فلما رأي أن ذلك ل يجدي فيه نفعاً تفرس فيه الشر‪.‬‬ ‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنا م أنه أتي بخزائن الرض‪ ،‬فوقع في يديه‬

‫سواران من ذهب‪ ،‬فكبرا عليه وأهماه‪ ،‬فأوحي إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا‪ ،‬فأّولَـُه َمـاـ كذابين يخرجان‬

‫من بعده‪ ،‬فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الستنكاف ـ وقد كان يقول‪ :‬إن جعل لي محمد المر‬

‫من بعده تبعته ـ جاءه رسول الّله صلى ال عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد‪ ،‬ومعه خطيبه ثابت بن‬

‫قيس بن َش ّمـاـس‪ ،‬حتى وقف على مسيلمة في أصحابه‪ ،‬فكلمه‪ ،‬فقال له مسيلمة‪ :‬إن شئت خلينا بينك‬ ‫وبين المر‪ ،‬ثم جعلته لنا بعدك‪ ،‬فقال‪ :‬‏)لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها‪ ،‬ولن تعدو أمر الّله فيك‪،‬‬ ‫ت ‪ ،‬ـ وهذا ثابت يجيبك عني(‪ ،‬ثم‬ ‫ولئن أدبر َ‬ ‫ت فيه ما رأي ُ‬ ‫ت ليعقرنك الّله‪ ،‬والّله إني لراك الذي أِري ُ‬

‫انصرف‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫س فيه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن مسيلمة لما رجع إلى اليَ​َم اـمة بقي يفكر في‬ ‫وأخيراً وقع ما تـَف ّرـ َ‬ ‫أمره‪ ،‬حتى ادعي أنه أشرك في المر مع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فادعي النبو ة‪ ،‬وجعل يسجع‬ ‫السجعات‪ ،‬وأحل لقومه الخمر والزنا‪ ،‬وهو مع ذلك يشهد لرسول الّله صلى ال عليه وسلم أنه نبي‪،‬‬ ‫وافتتن به قومه فتبعوه وأصفقوا معه‪ ،‬حتى تفاقم أمره‪ ،‬فكان يقال له‪ :‬رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم‪،‬‬ ‫وكتب إلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم كتاباً قال فيه‪ :‬إني أشركت في المر معك‪ ،‬وإن لنا نصف‬ ‫المر‪ ،‬ولقريش نصف المر‪ ،‬فرد عليه رسول الّله صلى ال عليه وسلم بكتاب قال فيه‪ :‬‏)إن الرض لّله‬

‫يورثها من يشاء من عباده‪ ،‬والعاقبة للمتقين(‪.‬‬

‫وعن ابن مسعود‪ :‬جاء ابن النـّو اـَح ةـ‪ ،‬وابن أَُثال رسول مسيلمة إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‬ ‫لهما‪ :‬‏)أتشهدان أني رسول الّله؟( فقال‪ :‬نشهد أن مسيلمة رسول الّله‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‏)آمنت بالّله ورسوله‪ ،‬لو كنت قاتلً رسولً لقتلتكما(‪.‬‬

‫كان ادعاء مسيلمة النبو ة سنة عشر‪ ،‬وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي ال عنه‬ ‫في ربيع الول سنة ‪21‬هـ‪ ،‬قتله َوْح ِشـ ي ـقاتل حمز ة‪.‬وأما المتنبئ الثاني‪ ،‬وهو السود الَعْنِس ي ـالذي كان‬ ‫باليمن‪ ،‬فقتله فَـيـُْروز‪ ،‬واحتز رأسه قبل وفا ة النبي صلى ال عليه وسلم بيو م وليلة‪ ،‬فأتاه الوحي فأخبر به‬ ‫أصحابه‪ ،‬ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي ال عنه‪.‬‬

‫صـَعـة‪:‬‬ ‫صْعـ َ‬ ‫‪14‬ـ وفد بني عامر بن َ‬ ‫كان فيهم عامر بن الطَّف ْيـل عدو الّله وأْرَبد بن قيس ـ أخو لَِبيد لمه ـ وخالد بن جعفر‪ ،‬وَج بّـار بن أسلم‪،‬‬ ‫وكانوا رؤساء القو م وشياطينهم‪ ،‬وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر َمعُـونة‪ ،‬فلما أراد هذا الوفد أن‬

‫يقد م المدينة تآمر عامر وأربد‪ ،‬واتفقا على الفتك بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما جاء الوفد جعل‬

‫عامر يكلم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودار أربد خلفه‪ ،‬واخترط سيفه شبرًا‪ ،‬ثم حبس الّله يده فلم‬ ‫يقدر على سله‪ ،‬وعصم الّله نبيه‪ ،‬ودعا عليهما النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رجعا أرسل الّله على‬ ‫أربد وجمله صاعقة فأحرقته‪ ،‬وأما عامر فنزل على امرأ ة َس لُـولِيٍّة‪،‬ـ فأصيب بغُّد ٍ ةـ في عنقه فمات وهو‬ ‫يقول‪ :‬أغد ة كغد ة البعير‪ ،‬وموتا في بيت السلولية‪.‬‬ ‫وفي صحيح البخاري‪ :‬أن عامراً أتي النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أَُخ يـُّرَك بين خصال ثلث‪ :‬يكون‬ ‫س ْهـِلـ ولي أهل الَم َدـَرـ‪،‬ـ أو أكون خليفتك من بعدك‪ ،‬أو أغزوك بغَطَ​َف اـن بألف أشقر وألف‬ ‫لك أهل ال ّ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫شقراء‪ ،‬فطعن في بيت امرأ ة‪ ،‬فقال‪ :‬أغد ة كغد ة البعير‪ ،‬في بيت امرأ ة من بني فلن ! ايتوني بفرسي‪،‬‬

‫فركب‪ ،‬فمات على فرسه‪.‬‬ ‫‪15‬ـ وفد تُِج يــب‪:‬‬

‫ل‪ ،‬وكانوا يسألون عن‬ ‫قد م هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم‪ ،‬وكان الوفد ثلثة عشر رج ً‬ ‫القرآن والسنن يتعلمونها‪ ،‬وسألوا رسول الّله صلى ال عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها‪ ،‬ولم يطيلوا‬ ‫اللبث‪ ،‬ولما أجازهم رسول الّله صلى ال عليه وسلم بعثوا إليه غلماً كانوا خلفوه في رحالهم‪ ،‬فجاء‬ ‫الغل م‪ ،‬وقال‪ :‬والّله ما أْع َمـلَـِني من بلدي إل أن تسأل الّله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني‪ ،‬وأن يجعل‬ ‫غناي في قلبي‪ ،‬فدعا له بذلك‪ .‬فكان أقنع الناس‪ ،‬وثبت في الرد ة على السل م‪ ،‬وذكر قومه ووعظهم‬ ‫فثبتوا عليه‪ ،‬والتقي أهل الوفد بالنبي صلى ال عليه وسلم مر ة أخري في حجة الوداع سنة ‪ 01‬هـ‪.‬‬ ‫‪16‬ـ وفد طيّـئ‪:‬‬

‫قد م هذا الوفد وفيهم َزيُْد الَخ ْيـِل ‪ ،‬فلما كلموا النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعرض عليهم السل م‬ ‫أسلموا وحسن إسلمهم‪ ،‬وقال رسول الّله صلى ال عليه وسلم عن زيد‪ :‬‏)ما ذكر لي رجل من العرب‬ ‫بفضل‪ ،‬ثم جاءني إل رأيته دون ما يقال فيه ‪ ،‬إل زيد الخيل‪ ،‬فإنه لم يبلغ كل ما فيه(‪ ،‬وسماه زيد‬

‫الخير‪.‬‬

‫وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر‪ ،‬وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل‬ ‫ض اـَعة‪ ،‬وبني عامر بن قـَْيس‪ ،‬وبني أسد‪ ،‬وبـَْه َرــاء وَخ ْوـلـن وُمَح اـِرب‬ ‫اليمن‪ ،‬والْزد وبني سعد ُه َذـيْـم من قُ َ‬ ‫وبني الحارث بن كعب وَغاِم دـ وبني الُم ْنـتَِف قـ‪ ،‬وَس لـمان‪ ،‬وبني َعْبس‪ ،‬وُمَزيـَْنة‪ ،‬وُمَراد‪ ،‬وُزبـَْيد‪ ،‬وكِْنَد ةـ‪ ،‬وذي‬ ‫س اـن‪ ،‬وبني ِع يـش‪ ،‬ونَْخ عـ ـ وهو آخر الوفود‪ ،‬توافـد فـي منتصف محـر م سنة ‪11‬هـ في مائتي رجـل‬ ‫ُمّر ة‪ ،‬وغَ ّ‬ ‫ـ وكانت وفاد ة الغلبية من هذه الوفود سنة ‪ 9‬و ‪ 01‬هـ‪ ،‬وقد تأخرت وفاد ة بعضها إلى سنة ‪ 11‬هـ‪.‬‬ ‫وتـَتاُبع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعو ة السلمية من القبول التا م‪ ،‬وبسط السيطر ة والنفوذ‬ ‫على أنحاء جزير ة العرب وأرجائها‪ ،‬وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والجلل‪ ،‬حتى لم‬

‫تكن تري محيصاً عن الستسل م أمامها‪ ،‬فقد صارت المدينة عاصمة لجزير ة العرب‪ ،‬ل يمكن صرف‬ ‫النظر عنها‪ ،‬إل أننا ل يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلء بأسرهم ؛ لنه كان وسطهم‬ ‫كثير من العراب الجفا ة الذين أسلموا تبعاً لسادتهم‪ ،‬ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد عما تأصل‬ ‫فيها من الميل إلى الغارات‪ ،‬ولم تكن تعاليم السل م قد هذبت أنفسهم تما م التهذيب‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ب أَ​َش ّدـ ُك ْفـًرـا َو نـَِف اـًقا َوأَـْج َدـُرـأَلّ يـَْع لَـُم وـاْ ُح ُدـوـَد َماـ‬ ‫وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سور ة التوبة‪ :‬‏}الَْعَرـا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأنَزَل اللّهُ َعَلى َرُس وـلِ​ِه َواـللّهُ َعِليٌم َح ِكـيٌم َو ِمـَنـ الَْع رـا ِ‬ ‫ص بُِك ُمـ الّد َوـاـئَِر‬ ‫ب َمنـ يـَتّخ ُذ ـ َماـ ُينف ُقـ َمْغـَرًماـ َو يـَـتـَربّ ُ‬ ‫َ‬ ‫س ْوـ ِء ـَواـللّهُ َس ِمـيـٌع َعِليٌم{ ‏]التوبة‪[98 ،97:‬‬ ‫َعلَْيِه ْمـ َدآـئَِر ةُ ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ب منـ يـْؤ ِمـنـ ِباللِّه واـْليـو ِ مـ الِخ ِر ـو يـتِّخ ُذ ـماـ ينِف ُقـ قـربا ٍ‬ ‫ت ِع نـَد‬ ‫َ َ َ ُ َُ‬ ‫َ َْ‬ ‫وأثنى على آخرين منهم فقال‪ :‬‏}َو مـَنـ الَْع َرـا ِ َ ُ ُ‬ ‫اللِّه و صـلَـو اـ ِ‬ ‫ت الّرُس وـِل َأل ِإنـَّه اـ قـُْربَـةٌ لُّه ْمـ َس يُـْد ِخـ لُـُه ُمـاللّهُ ِفي َرْح َمـتِـِه إِّن اللَّه غَُفوـٌر ّرِح يـٌم{ ‏] التوبة‪.[99:‬‬ ‫َ َ​َ‬ ‫أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف‪ ،‬وكثير من اليمن والبحرين‪ ،‬فقد كان السل م فيهم قويًا‪،‬‬ ‫ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫نجاح الدعو ة وأثرها‬ ‫حجـة الــوداع‬ ‫آخر البعوث‬

‫نجاح الدعو ة وأثرها‬ ‫وقبل أن نتقد م خطو ة أخري إلى مطالعة أواخر أيا م حيا ة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ينبغي لنا أن‬

‫نلقي نظر ة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته‪ ،‬والذي امتاز به عن سائر النبياء‬ ‫والمرسلين‪ ،‬حتى توج ال ّله هامته بسياد ة الولين والخرين‪.‬‬

‫إنه صلى ال عليه وسلم قيل له‪ :‬‏}َيا َأيـَّه اـ الُْم ّزـّمُلـ قُِم اللّْيَل إِّل قَِليًل { اليات ‏]المزمل‪ .[2 ،1:‬و‏} َيا‬ ‫َأيـَّه اـ الُْم ّدـثـُّر قُْم فَ​َأنِذ ْرـ{ ‏]المدثر‪ [2 ،1:‬اليات‪ ،‬فقا م وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على‬

‫عاتقه عبء المانة الكبري في هذه الرض‪ ،‬عبء البشرية كلها وعبء العقيد ة كلها‪ ،‬وعبء الكفاح‬ ‫والجهاد في ميادين شتى‪.‬‬ ‫حمل عبء الكفاح والجهاد في ميادين الضمير البشري الغارق في أوها م الجاهلية وتصوراتها‪ ،‬المثقل‬

‫بأثقال الرض وجواذبها‪ ،‬المكبل بأوهاق الشهوات وأغللها‪ .‬حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض‬ ‫صحابته مما يثقله من ركا م الجاهلية والحيا ة الرضية‪ ،‬بدأ معركة أخري في ميدان آخر‪ ،‬بل معارك‬

‫متلحقة‪ ...‬مع أعداء دعو ة الّله المتألبين عليها‪ ،‬وعلى المؤمنين بها‪ ،‬الحريصين على قتل هذه الغرسة‬ ‫الزكية في منبتها‪ ،‬قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربـة‪ ،‬وفروعها في الفضاء‪ ،‬وتظلل مساحات أخرى‪...‬‬ ‫ولم يكد يفرغ من معارك الجزير ة العربية حتى كانت الرو م تعد لهذه المة الجديد ة‪ ،‬وتتهيأ للبطش بها‬ ‫على تُ​ُخ وـِم هـا الشمالية‪.‬‬ ‫وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الولي ـ معركة الضمير ـ قد انتهت‪ ،‬فهي معركة خالد ة‪ ،‬الشيطان‬ ‫صاحبها‪ ،‬وهو ل يَِني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير النساني‪ ،‬ومحمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم قائم على دعو ة الّله هناك‪ ،‬وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة‪ ،‬في شظف من العيش‪،‬‬

‫صبـ دائم‬ ‫والدنيا مقبلة عليه وفي جهد وَك ّدـ‪،‬ـ والمؤمنون يستروحون من حوله ظلل المن والراحة‪ ،‬وفي نُ ُ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ل ينقطع‪ ،‬وفي صبر جميل على هذا كله‪ ،‬وفي قيا م الليل‪ ،‬وفي عباد ة لربه وترتيل لقرآنه‪ ،‬وتـبَّتل إليه‬ ‫كما أمره أن يفعل‪.‬‬ ‫وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمر ة أكثر من عشرين عامًا‪ ،‬ل يلهيه شأن عن شأن في خلل هذا‬ ‫المد‪ ،‬حتى نجحت الدعو ة السلمية على نطاق واسع تتحير له العقول‪ ،‬فقد دانت لها الجزير ة العربية‪،‬‬ ‫وزالت غبر ة الجاهلية عن آفاقها‪ ،‬وصحت العقول العليلة حتى تركت الصنا م بل كسرت‪ ،‬أخذ الجو‬

‫يرتج بأصوات التوحيد‪ ،‬وسمع الذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلل الصحراء التي أحياها اليمان‬ ‫الجديد‪ ،‬وانطلق القراء شمالً وجنوبًا‪ ،‬يتلون آيات الكتاب‪ ،‬ويقيمون أحكا م الّله ‪.‬‬ ‫وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثر ة‪ ،‬وخرج النسان من عباد ة العباد إلى عباد ة الّله‪ ،‬فليس هناك قاهر‬ ‫ومقهور‪ ،‬وسادات وعبيد‪ ،‬وحكا م ومحكومون‪ ،‬وظالم ومظلو م‪ ،‬وإنما الناس كلهم عباد الّله‪ ،‬إخوان‬ ‫متحابون‪ ،‬متمثلون لحكامه‪ ،‬أذهب الّله عنهم ُعبـيَّة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالباء‪ ،‬ولم يبق هناك‬

‫فضل لعربي على عجمي‪ ،‬ول لعجمي على عربي‪ ،‬ول لحمر على أسود إل بالتقوي‪ ،‬الناس كلهم بنو‬ ‫آد م‪ ،‬وآد م من تراب‪.‬‬

‫وهكذا تحققت ـ بفضل هذه الدعو ة ـ الوحد ة العربية‪ ،‬والوحد ة النسانية‪ ،‬والعدالة الجتماعية‪ ،‬والسعاد ة‬

‫البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية‪ ،‬وفي مسائلها الخروية‪ ،‬فتقلب مجري اليا م‪ ،‬وتغير وجه‬ ‫الرض‪ ،‬وانعدل خط التاريخ‪ ،‬تبدلت العقلية‪.‬‬

‫إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية ـ قبل هذه الدعو ة ـ ويتعفن ضميره‪ ،‬وتأسن روحه‪ ،‬وتختل فيه‬ ‫القيم والمقاييس‪ ،‬ويسوده الظلم والعبودية‪ ،‬وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس‪ ،‬وتغشاه‬ ‫غاشية الكفر والضلل والظل م‪ ،‬على الرغم من الديانات السماوية‪ ،‬التي كانت قد أدركها التحريف‪،‬‬

‫وسري فيها الضعف‪ ،‬وفقدت سيطرتها على النفوس‪ ،‬واستحالت طقوساً جامد ة‪ ،‬ل حيا ة فيها ول روح‪.‬‬ ‫فلما قامت هذه الدعو ة بدورها في حيا ة البشرية‪ ،‬خلصت روح البشر من الوهم والخرافة‪ ،‬ومن العبودية‬ ‫والرق‪ ،‬ومن الفساد والتعفن‪ ،‬ومن القذار ة والنحلل‪ ،‬وخلصت المجتمع النساني من الظلم والطغيان‪،‬‬

‫ومن التفكك والنهيار‪ ،‬ومن فوارق الطبقات‪ ،‬واستبداد الحكا م‪ ،‬واستذلل الكهان‪ ،‬وقامت ببناء العالم‬ ‫على أسس من العفة والنظافة‪ ،‬واليجابية والبناء‪ ،‬والحرية والتجدد‪ ،‬ومن المعرفة واليقين‪ ،‬والثقة‬

‫واليمان‪ ،‬والعدالة والكرامة‪ ،‬ومن العمل الدائب لتنمية الحيا ة‪ ،‬وترقية الحيا ة‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه‬

‫في الحيا ة‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزير ة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران‪،‬‬

‫ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه اليا م الفريد ة من عمرها‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫حجـة الــوداع‬ ‫تمت أعمال الدعو ة‪ ،‬وإبلغ الرسالة‪ ،‬وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات اللوهية لّله‪ ،‬ونفيها عن‬

‫غيره‪ ،‬وعلى أساس رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الّله‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية‪ ،‬حتى إنه حين بعث معاذا على‬

‫اليمن سنة ‪01‬هـ قال له ـ فيما قال‪ :‬‏)يا معاذ‪ ،‬إنك عسي أل تلقاني بعد عامي هذا‪ ،‬ولعلك أن تمر‬

‫بمسجدي هذا وقبري(‪ ،‬فبكي معاذا خشعاً لفراق رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وشاء الّله أن يري رسوله صلى ال عليه وسلم ثمار دعوته‪ ،‬التي عاني في سبيلها ألواناً من المتاعب‬ ‫بضعاً وعشرين عامًا‪ ،‬فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها‪ ،‬فيأخذوا منه شرائع الدين‬ ‫وأحكامه‪ ،‬ويأخذ منهم الشهاد ة على أنه أدي المانة‪ ،‬وبلغ الرسالة‪ ،‬ونصح المة‪.‬‬

‫أعلن النبي صلى ال عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرور ة المشهود ة‪ ،‬فقد م المدينة بشر كثير كلهم‬ ‫يلتمس أن يأتم برسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ .‬وفي يو م السبت لخمس بقين من ذي القعد ة تهيأ‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم للرحيل ‪ ،‬فتـَرّج لـ واّدَه َنـ ولبس إزاره ورداءه وقـَّلد بُْد نَــه‪ ،‬وانطلق بعد الظهر‪،‬‬ ‫حتى بلغ ذا الُح لَـيـَْف ةـ قبل أن يصلي العصر‪ ،‬فصلها ركعتين‪ ،‬وبات هناك حتى أصبح‪ .‬فلما أصبح قال‬ ‫ص ّلـ في هذا الوادي المبارك وقل‪ :‬عمر ة في حجة(‪.‬‬ ‫لصحابه‪ :‬‏)أتاني الليلة آت من ربي فقال‪َ :‬‬

‫وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لحرامه‪ ،‬ثم طيبته عائشة بيدها بَذ ِرـيَر ة وطيب فيه ِم ْسـكــ‪ ،‬في بدنه ورأسه‪،‬‬ ‫ص الطيب يري في مفارقه ولحيته‪ ،‬ثم استدامه ولم يغسله‪ ،‬ثم لبس إزاره ورداءه‪ ،‬ثم صلي‬ ‫حتى كان وبَيِ ُ‬ ‫صـَوـاـَء‪ ،‬فأَه ّلـ أيضًا‪،‬‬ ‫ص لّـه‪ ،‬وقـَرن بينهما‪ ،‬ثم خرج‪ ،‬فركب الَق ْ‬ ‫الظهر ركعتين‪ ،‬ثم أهل بالحج والعمر ة في ُم َ‬

‫ثم أَه ّلـ لما استقلت به على البـَْيَد اـء‪.‬‬

‫ثم واصل سيره حتى قرب من مكة‪ ،‬فبات بذي طَُو يـ‪ ،‬ثم دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من‬

‫صباح يو م الحد لربع ليال خلون من ذي الحجة سنة ‪01‬هـ ـ وقد قضي في الطريق ثماني ليال‪ ،‬وهي‬ ‫المسافة الوسطي ـ فلما دخل المسجد الحرا م طاف بالبيت‪ ،‬وسعي بين الصفا والمرو ة‪ ،‬ولم يَِح ّل ـ ؛لنه‬ ‫كان قارناً قد ساق معه الهدي‪ ،‬فنزل بأعلى مكة عند الَح ُجـوـن‪ ،‬وأقا م هناك‪ ،‬ولم يعد إلى الطواف غير‬ ‫طواف الحج‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأمر من لم يكن معه َه ْدـيـ من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمر ة‪ ،‬فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المرو ة‪،‬‬

‫ثم يحلوا حللً تامًا‪ ،‬فترددوا‪ ،‬فقال‪ :‬‏)لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت‪ ،‬ولول أن معي‬ ‫الهدي لحللت(‪ ،‬فحل من لم يكن معه هدي‪ ،‬وسمعوا وأطاعوا‪.‬‬

‫وفي اليو م الثامن من ذي الحجة ـ وهو يو م التـّْر ِوـَية ـ توجه إلى مني‪ ،‬فصلي بها الظهر والعصر والمغرب‬

‫والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلً حتى طلعت الشمس‪ ،‬فأجاز حتى أتي عرفة‪ ،‬فوجد‬ ‫صـَوـاـء فرحلت له‪ ،‬فأتي بطن‬ ‫القبة قد ضربت له بـنَِم َرـ ة‪ ،‬فنزل بها‪ ،‬حتى إذا زالت الشمس أمر بالَق ْ‬

‫الوادي‪ ،‬وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس‪ ،‬فقا م فيهم خطيبًا‪،‬‬ ‫وألقى هذه الخطبة الجامعة‪:‬‬

‫‏)أيها الناس‪ ،‬اسمعوا قولي‪ ،‬فإني ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً(‪.‬‬ ‫‏)إن دماءكم وأموالكم حرا م عليكم كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في شهركم هذا‪ ،‬في بلدكم هذا‪ .‬أل كل شيء‬ ‫من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع‪ ،‬ودماء الجاهلية موضوعة‪ ،‬وإن أول د م أضع من دمائنا د م ابن‬

‫ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته ُه َذـيْـل ـ وربا الجاهلية موضوع‪ ،‬وأول ربا أضع من‬ ‫ربانا ربا عباس بن عبد المطلب‪ ،‬فإنه موضوع كله(‪.‬‬

‫‏)فاتقوا الّله في النساء‪ ،‬فإنكم أخذتموهن بأمانة الّله‪ ،‬واستحللتم فروجهن بكلمة الّله‪ ،‬ولكم عليهن أل‬ ‫يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه‪ ،‬فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير ُمبـَّر حـ‪ ،‬ولهن عليكم رزقهن‬ ‫وكسوتهن بالمعروف(‪.‬‬

‫‏)وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به‪ ،‬كتاب الّله (‪.‬‬ ‫‏)أيها الناس‪ ،‬إنه ل نبي بعدي‪ ،‬ول أمة بعدكم‪ ،‬أل فاعبدوا ربكم‪ ،‬وصلوا خمسكم‪ ،‬وصوموا شهركم‪،‬‬ ‫وأدوا زكا ة أموالكم‪ ،‬طيبة بها أنفسكم‪ ،‬وتحجون بيت ربكم‪ ،‬وأطيعوا أولت أمركم‪ ،‬تدخلوا جنة ربكم(‪.‬‬ ‫‏)وأنتم تسألون عني‪ ،‬فما أنتم قائلون؟( قالوا‪ :‬نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت‪.‬‬ ‫فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء‪ ،‬وينكتها إلى الناس‪ :‬‏)اللهم اشهد( ثلث مرات‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الّله صلى ال عليه وسلم ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن‬ ‫َخ لَـف‪.‬‬ ‫ت لَُك ْمـ‬ ‫وبعد أن فرغ النبي صلى ال عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى‪ :‬‏}اْليـَْو َ مـ أَْك َمـْلـ ُ‬ ‫تـَعلَْيُك مـ نِْع مـتِـي ورـ ِ‬ ‫ت لَُك ُمـ اِل ْسـلَـَ م ِد يـًنا{ ‏]المائد ة‪ ،[3 :‬ولما نزلت بكي عمر‪ ،‬فقال له‬ ‫ض يـ ُ‬ ‫ِد يـنَُك ْمـ َوأَـتَْم ْمـ ُ‬ ‫ْ َ َ​َ‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)ما يبكيك؟( قال‪ :‬أبكاني أنا كنا في زياد ة من ديننا‪ ،‬فأما إذا كمل فإنه لم‬

‫يكمل شيء قط إل نقص‪ ،‬فقال‪ :‬‏)صدقت(‪.‬‬

‫وبعد الخطبة أذن بلل ثم أقا م‪ ،‬فصلى رسول الّله صلى ال عليه وسلم بالناس الظهر‪ ،‬ثم أقا م فصلي‬ ‫صَخـَرـات ‪،‬‬ ‫العصر‪ ،‬ولم يصل بينهما شيئًا‪ ،‬ثم ركب حتى أتي الموقف‪ ،‬فجعل بطن ناقته القصواء إلى ال ّ‬

‫وجعل َح ْبـل المشا ة بين يديه‪ ،‬واستقبل القبلة‪ ،‬فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس‪ ،‬وذهبت الصفر ة قليلً‬ ‫حتى غاب الُقْر صـ‪.‬‬

‫وأردف أسامة‪ ،‬ودفع حتى أتي الُم ْزـَدـلِـَف ةـ‪ ،‬فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح‬

‫بينهما شيئًا‪ ،‬ثم اضطجع حتى طلع الفجر‪ ،‬فصلي الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة‪ ،‬ثم ركب‬ ‫القصواء حتى أتي الَم ْشـَعـَر الحرا م‪ ،‬فاستقبل القبلة‪ ،‬فدعاه‪ ،‬وكبره‪ ،‬وهّلله‪ ،‬ووحده‪ ،‬فلم يزل واقفاً حتى‬ ‫أْس َفـرـ ِج ّد ـاـ‪.‬‬ ‫سـٍرـ‪،‬ـ‬ ‫فَ​َد فَـع ـ من المزدلفة إلى مني ـ قبل أن تطلع الشمس‪ ،‬وأردف الفضل بن عباس حتى أتي بَطَْن ُمَح ّ‬ ‫ل‪ ،‬ثم سلك الطريق الوسطي التي تخرج على الجمر ة الكبري‪ ،‬حتى أتي الجمر ة التي عند‬ ‫فَ​َح ّرـك قلي ً‬ ‫الشجر ة ـ وهي الجمر ة الكبري نفسها‪ ،‬كانت عندها شجر ة في ذلك الزمان‪ ،‬وتسمي بجمر ة الَعَق بَـة‬ ‫وبالجمر ة الولي ـ فرماها بسبع حصيات‪ ،‬يكبر مع كل حصا ة منها مثل حصي الَخ ْذـفــ‪ ،‬رمي من بطن‬

‫الوادي‪ ،‬ثم انصرف إلى المنحر‪ ،‬فنحر ثلثاً وستين بدنة بيده‪ ،‬ثم أعطي علياً فنحر ما َغبـَر ـ وهي سبع‬ ‫وثلثون بدنة‪ ،‬تما م المائة ـ وأشركه في هديه‪ ،‬ثم أمر من كل بدنة ببضعة‪ ،‬فجعلت في قِْد رــ‪ ،‬فطبخت‪،‬‬ ‫فأكل من لحمها‪ ،‬وشربا من َمَرـِقها‪.‬‬ ‫ثم ركب رسول الّله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأفاض إلى البيت‪ ،‬فصلي بمكة الظهر‪ ،‬فأتي على بني‬

‫المطلب يَْس ُقـوـن على زمز م‪ ،‬فقال‪ :‬‏)انزعوا بني عبد المطلب‪ ،‬فلول أن يغلبكم الناس على سقايتكم‬

‫لنزعت معكم(‪ ،‬فناولوه دلواً فشرب منه‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وخطب النبي صلى ال عليه وسلم يو م النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضاً حين ارتفع الضحي‪ ،‬وهو على‬ ‫بغلة َش ْهـبَــاء‪ ،‬وعلى يعبر عنه‪ ،‬والناس بين قائم وقاعد ‪ ،‬وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس‪،‬‬

‫فقد روي الشيخان عن أبي بكر ة قال‪ :‬خطبنا النبي صلى ال عليه وسلم يو م النحر‪ ،‬قال‪ :‬‏)إن الزمان قد‬ ‫استدار كهيئته يو م خلق ال السموات والرض‪ ،‬السنة اثنا عشر شهرًا‪ ،‬منها أربعة حر م‪ ،‬ثلث متواليات‪،‬‬ ‫ض رـ الذي بين جمادي وشعبان(‪.‬‬ ‫ذو القعد ة وذو الحجة والمحر م‪ ،‬ورجب ُم َ‬

‫وقال‪ :‬‏)أي شهر هذا؟( قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه‪ ،‬قال‪ :‬‏)أليس‬ ‫ذا الحجة؟( قلنا‪ :‬بلي؟ قال‪ :‬‏)أي بلد هذا؟( قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير‬

‫اسمه‪ ،‬قال‪ :‬‏)أليست البلد ة؟( قلنا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪ :‬‏)فأي يو م هذا؟( قلنا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ .‬فسكت حتى ظننا‬ ‫أنه سيسمية بغير اسمه‪ ،‬قال‪ :‬‏)أليس يو م النحر؟( قلنا‪ :‬بلي‪ .‬قال‪ :‬‏)فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم‬ ‫عليكم حرا م كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في بلدكم هذا‪ ،‬في شهركم هذا(‪.‬‬

‫‏)وستلقون ربكم‪ ،‬فيسألكم عن أعمالكم‪ ،‬أل فل ترجعوا بعدي ضللً يضرب بعضكم رقاب بعض(‪.‬‬ ‫ب ُمبـَّلغ أوعي من سامع(‪.‬‬ ‫‏)أل هل بلغت؟( قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬‏)اللهم اشهد‪ ،‬فليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬فـَُر ّ‬ ‫وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة‪ :‬‏)أل ل يجني َج اـٍن إل على نفسه‪ ،‬أل ل يجني جان على ولده‪ ،‬ول‬

‫مولود على والده‪ ،‬أل إن الشيطان قد يئس أن يـُْع بَـد في بلدكم هذا أبدًا‪ ،‬ولكن ستكون له طاعة فيما‬ ‫تحتقرون من أعمالكم‪ ،‬فسيرضى به(‪.‬‬

‫وأقا م أيا م التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع‪ ،‬ويذكر ال‪ ،‬ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم‪،‬‬ ‫ويمحو آثار الشرك ومعالمها‪.‬‬ ‫وقد خطب في بعض أيا م التشريق أيضًا‪ ،‬فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن َس ّرـاِء بنت نَـبـَْه اـَن قالت‪:‬‬ ‫خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يو م الرءوس‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أليس هذا أوسط أيا م التشريق(‪ .‬وكانت‬ ‫خطبته في هذا اليو م مثل خطبته يو م النحر‪ ،‬ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سور ة النصر‪.‬‬

‫وفي يو م النـّْف رـ الثاني ـ الثالث عشر من ذي الحجة ـ نفر النبي صلى ال عليه وسلم من مني‪ ،‬فنزل‬ ‫بِخ يــف بني كَِنانة من البَْطح‪ ،‬وأقا م هناك بقية يومه ذلك‪ ،‬وليلته‪ ،‬وصلي هناك الظهر والعصر والمغرب‬ ‫والعشاء‪ ،‬ثم رقد رقد ة‪ ،‬ثم ركب إلى البيت‪ ،‬فطاف به طواف الوداع‪ ،‬وأمر به الناس‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ولما قضي مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهر ة‪ ،‬ل ليأخذ حظاً من الراحة‪ ،‬بل ليستأنف الكفاح‬ ‫والكدح ل وفي سبيل ال‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫آخر البعوث‬ ‫كانت كبرياء دولة الر م قد جعلتها تأبي حق الحيا ة على من آمن بال ورسوله‪ ،‬وحملها على أن تقتل من‬ ‫أتباعها من يدخل في السل م‪ ،‬كما فعلت بَف ْرـَوـ ةـبن عمرو الُج َذـاـِم يـ‪ ،‬الذي كان والياً على َمَعـان من قبل‬ ‫الرو م‪.‬‬ ‫ونظراً إلى هذه الجراء ة والغطرسة‪ ،‬أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة‬ ‫‪11‬هـ‪ ،‬وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة‪ ،‬وأمره أن يوطئ الخيل تُ​ُخ وـ م البلقاء والدارو م من أرض‬ ‫فلسطين‪ ،‬يبغي بذلك إرهاب الرو م وإعاد ة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود‪ ،‬حتى ل‬

‫يحسبن أحد أن بطش الكنيسة ل معقب له‪ ،‬وأن الدخول في السل م يجر على أصحابه الحتوف‬ ‫فحسب‪.‬‬ ‫وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه‪ ،‬واستبطأوا في بعثه‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫‏)إن تطعنوا في إمارته‪ ،‬فقد كنتم تطعنون في إمار ة أبيه من قبل‪ ،‬وايم ال‪ ،‬إن كان لخليقاً للمار ة‪ ،‬وإن‬ ‫كان من أحب الناس إلى‪ ،‬و إن هذا من أحب الناس إلى بعده(‪.‬‬ ‫وانتدب الناس يلتفون حول أسامة‪ ،‬وينتظمون في جيشة‪ ،‬حتى خرجوا ونزلوا الُج ْرـفـ‪ ،‬على فـَْر َسـخـ من‬

‫المدينة‪ ،‬إل أن الخبار المقلقة عن مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم ألزمتهم التريث‪ ،‬حتى يعرفوا‬ ‫ما يقضي ال به‪ ،‬وقد قضي ال أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلفة أبي بكر الصديق‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫إلى الرفيق العلي‬

‫طلئع التوديع‬ ‫ولما تكاملت الدعو ة وسيطر السل م على الموقف‪ ،‬أخذت طلئع التوديع للحيا ة والحياء تطلع من‬ ‫مشاعره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتتضح بعباراته وأفعاله‪.‬‬ ‫إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشر ة عشرين يومًا‪ ،‬بينما كان ل يعتكف إل عشر ة أيا م فحسب‪،‬‬ ‫وتدارسه جبريل القرآن مرتين‪ ،‬وقال في حجة الوداع‪ :‬‏)إني ل أدري لعلى ل ألقاكم بعد عامي هذا بهذا‬ ‫الموقف أبداً(‪ ،‬وقال وهو عند جمر ة العقبة‪ :‬‏)خذوا عني مناسككم‪ ،‬فلعلي ل أحج بعد عامي هذا(‪،‬‬

‫وأنزلت عليه سور ة النصر في أوسط أيا م التشريق‪ ،‬فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه‪.‬‬

‫وفي أوائل صفر سنة ‪ 11‬هـ خرج النبي صلى ال عليه وسلم إلى أحد‪ ،‬فصلي على الشهداء كالمودع‬ ‫للحياء والموات‪ ،‬ثم انصرف إلى المنبر فقال‪ :‬‏)إني فرط لكم‪ ،‬وأنا شهيد عليكم‪ ،‬وإني وال لنظر إلى‬ ‫حوضي الن‪ ،‬وإني أعطيت مفاتيح خزائن الرض‪ ،‬أو مفاتيح الرض‪ ،‬وإني وال ما أخاف عليكم أن‬

‫تشركوا بعدي‪ ،‬ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها(‪.‬‬ ‫وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَِق يـع‪ ،‬فاستغفر لهم‪ ،‬وقــال‪ :‬‏)السل م عليكـم يـا أهل المقابر‪ِ ،‬ليـَْه َنـ لكم‬

‫ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه‪ ،‬أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم‪ ،‬يتبع آخرها أولها‪ ،‬والخر ة شر‬ ‫من الولي(‪ ،‬وبشرهم قائلً‪ :‬‏)إنا بكم للحقون(‪.‬‬

‫بـدايـة المـرض‬ ‫وفي اليو م الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة ‪11‬هـ ـ وكان يو م الثنين ـ شهد رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم جناز ة في البقيع‪ ،‬فلما رجع‪ ،‬وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه‪ ،‬واتقدت‬ ‫ِ‬ ‫ص اـبة التي تعصب بها رأسه‪.‬‬ ‫الحرار ة‪ ،‬حتى إنهم كانوا يجدون َس ْوـَرـَتها فوق الع َ‬ ‫وقد صلي النبي صلى ال عليه وسلم بالناس وهو مريض ‪ 11‬يومًا‪ ،‬وجميع أيا م المرض كانت ‪ ،31‬أو‬ ‫‪ 41‬يوماً‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫السبوع الخير‬ ‫وثقل برسول ال صلى ال عليه وسلم المرض‪ ،‬فجعل يسأل أزواجه‪ :‬‏)أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟( ففهمن‬ ‫مراده‪ ،‬فأذن له يكون حيث شاء‪ ،‬فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي‬

‫طالب‪ ،‬عاصباً رأسه‪ ،‬تخط قدماه حتى دخل بيتها‪ ،‬فقضي عندها آخر أسبوع من حياته‪.‬‬

‫وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والدعية التي حفظتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكانت تنفث‬ ‫على نفسه‪ ،‬وتمسحه بيده رجاء البركة‪.‬‬

‫قبل الوفا ة بخمسة أيا م‬ ‫ويو م الربعاء قبل خمسة أيا م من الوفا ة‪ ،‬اتقدت حرار ة العلة في بدنه‪ ،‬فاشتد به الوجع وغمي‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ضـ ٍ‬ ‫بـ ‪،‬‬ ‫‏)هريقوا علي سبع قَِرب من آبار شتي‪ ،‬حتى أخرج إلى الناس‪ ،‬فأعهد إليهم(‪ ،‬فأقعدوه في ِم َخـ َ‬ ‫وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول‪ :‬‏)حسبكم‪ ،‬حسبكم(‪.‬‬

‫وعند ذلك أحس بخفة‪ ،‬فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه‪ ،‬قد عصب رأسه بعصابة دسمة‬ ‫حتى جلس على المنبر‪ ،‬وكان آخر مجلس جلسه‪ ،‬فحمد ال وأثني عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬‏)أيها الناس‪ ،‬إلي(‪،‬‬ ‫فثابوا إليه‪ ،‬فقال ـ فيما قال‪ :‬‏)لعنة ال على اليهود والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ـ وفي رواية‪:‬‬

‫‏)قاتل ال اليهود والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ـ وقال‪ :‬‏)ل تتخذوا قبري وثناً يعبد(‪.‬‬

‫وعرض نفسه للقصاص قائلً‪ :‬‏)من كنت جلدت له ظَْه ًرــا فهذا ظهري فليستقد منه‪ ،‬ومن كنت شتمت‬ ‫له ِع ْرـضـاً فهذا عرضي فليستقد منه(‪.‬‬ ‫ثم نزل فصلى الظهر‪ ،‬ثم رجع فجلس على المنبر‪ ،‬وعاد لمقالته الولي في الشحناء وغيرها‪ .‬فقال‬ ‫رجل‪ :‬إن لي عندك ثلثة دراهم‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أعطه يا فضل(‪ ،‬ثم أوصي بالنصار قائلً‪:‬‬

‫‏)أوصيكم بالنصار‪ ،‬فإنهم كِْر ِشـ ي ـوَعْيبَِتي‪ ،‬وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم‪ ،‬فاقبلوا من‬ ‫ُمْح ِسـ نــهم‪ ،‬وتجاوزوا عن مسيئهم(‪ ،‬وفي رواية أنه قال‪ :‬‏)إن الناس يكثرون‪ ،‬وتَِق ّلـ النصار حتى يكونوا‬ ‫كالملح في الطعا م‪ ،‬فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم‪ ،‬ويتجاوز عن‬ ‫مسيئهم(‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ثم قال‪ :‬‏)إن عبداً خيره ال بين أن يؤتيه من زهر ة الدنيا ما شاء‪ ،‬وبين ما عنده‪ ،‬فاختار ما عنده(‪ .‬قال‬ ‫أبو سعيد الخدري‪ :‬فبكي أبو بكر‪ .‬قال‪ :‬فديناك بآبائنا وأمهاتنا‪ ،‬فعجبنا له‪ ،‬فقال الناس‪ :‬انظروا إلى هذا‬ ‫الشيخ‪ ،‬يخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم عن عبد خيره ال بين أن يؤتيه من زهر ة الدنيا‪ ،‬وبين ما‬ ‫عنده‪ ،‬وهو يقول‪ :‬فديناك بآبائنا وأمهاتنا‪ .‬فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم هو المخير‪ ،‬وكان أبو‬

‫بكر أعلمنا‪.‬‬ ‫ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)إن من أمّن الناس على في صحبته وماله أبو بكر‪ ،‬ولو كنت‬ ‫ل‪ ،‬ولكن أخو ة السل م ومودته‪ ،‬ل يبقين في المسجد‬ ‫متخذاً خليلً غير ربي ل تخذت أبا بكر خلي ً‬ ‫باب إل سد‪ ،‬إل باب أبي بكر(‪.‬‬ ‫قبل أربعة أيا م‬ ‫ويو م الخميس قبل الوفا ة بأربعة أيا م قال ـ وقد اشتد به الوجع‪ :‬‏)هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده(‬ ‫ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر‪ :‬قد غلب عليه الوجع‪ ،‬وعندكم القرآن‪ ،‬حسبكم كتاب ال‪،‬‬ ‫فاختلف أهل البيت واختصموا‪ ،‬فمنهم من يقول‪ :‬قربوا يكتب لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫ومنهم من يقول ما قال عمر‪ ،‬فلما أكثروا اللغط والختلف قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)قوموا‬ ‫عني(‪.‬‬

‫وأوصى ذلك اليو م بثلث‪ :‬أوصي بإخراج اليهود والنصاري والمشركين من جزير ة العرب‪ ،‬وأوصي بإجاز ة‬

‫الوفود بنحو ما كان يجيزهم‪ ،‬أما الثالث فنسيه الراوي‪ .‬ولعله الوصية بالعتصا م بالكتاب والسنة‪ ،‬أو‬ ‫تنفيذ جيش أسامة‪ ،‬أو هي‪ :‬‏)الصل ة وما ملكت أيمانكم(‪.‬‬

‫والنبي صلى ال عليه وسلم مع ما كان به من شد ة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك‬ ‫اليو م ـ يو م الخميس قبل الوفا ة بأربعة أيا م ـ وقد صلي بالناس ذلك اليو م صل ة المغرب‪ ،‬فقرأ فيها‬

‫بالمرسلت عرفاً‪.‬‬

‫وعند العشاء زاد ثقل المرض‪ ،‬بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فقال النبي صلى‬ ‫صلّـى الناس؟( قلنا‪ :‬ل يا رسول ال‪ ،‬وهم ينتظرونك‪ .‬قال‪ :‬‏)ضعوا لي ماء في‬ ‫ال عليه وسلم‪ :‬‏)أ َ‬ ‫ضـبـ(‪ ،‬ففعلنا‪ ،‬فاغتسل‪ ،‬فذهب لينوء فأغمي عليه‪ .‬ثم أفاق‪ ،‬فقال‪ :‬‏)أصلى الناس؟( ـ ووقع ثانياً‬ ‫الِم ْخـ َ‬ ‫وثالثاً ما وقع في المر ة الولي من الغتسال ثم الغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يصلي بالناس‪ ،‬فصلي أبو بكر تلك اليا م ‪ 17‬صل ة في حياته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي صل ة العشاء‬

‫من يو م الخميس‪ ،‬وصل ة الفجر من يو م الثنين‪ ،‬وخمس عشر ة صل ة فيما بينها‪.‬‬

‫وراجعت عائشة النبي صلى ال عليه وسلم ثلث أو أربع مرات ؛ ليصرف المامة عن أبي بكر حتى ل‬

‫يتشاء م به الناس ‪ ،‬فأبي وقال‪ :‬‏)إنكن لنتن صواحب يوسف‪ ،‬مروا أبا بكر فليصل بالناس(‪.‬‬ ‫قبل ثلثة أيا م‬

‫قال جابر‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم قبل موته بثلث وهو يقول‪ :‬‏)أل ل يموت أحد منكم إل‬ ‫وهو يحسن الظـن بال(‪.‬‬ ‫قبل يو م أو يومين‬ ‫ويو م السبت أو الحد وجد النبي صلى ال عليه وسلم في نفسه خفة‪ ،‬فخرج بين رجلين لصل ة الظهر‪،‬‬ ‫وأبو بكر يصلي بالناس‪ ،‬فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر‪ ،‬فأومأ إليه بأل يتأخر‪ ،‬قال‪ :‬‏)أجلساني إلى‬ ‫جنبه(‪ ،‬فأجلساه إلى يسار أبي بكر‪ ،‬فكان أبو بكر يقتدي بصل ة رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫ويسمع الناس التكبير‪.‬‬ ‫قبل يو م‬

‫وقبل يو م من الوفا ة ـ يو م الحد ـ أعتق النبي صلى ال عليه وسلم غلمانه‪ ،‬وتصدق بستة أو سبعة دنانير‬ ‫كانت عنده ‪ ،‬ووهب للمسلمين أسلحته‪ ،‬وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأ ة من النساء وقالت‪:‬‬ ‫أقطري لنا في مصباحنا من عُّك تِـك السمن ‪ ،‬وكانت درعه صلى ال عليه وسلم مرهونة عند يهودي‬ ‫بثلثين صاعاً من الشعير‪.‬‬

‫آخر يو م من الحيا ة‬ ‫روي أنس بن مالك‪ :‬أن المسلمين بينا هم في صل ة الفجـر من يو م الثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم‬

‫يفجأهم إل رسول ال صلى ال عليه وسلم كشف ستر حجر ة عائشة فنظر إليهم‪ ،‬وهم في صفوف‬

‫الصل ة‪ ،‬ثم تبسم يضحك‪ ،‬فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف‪ ،‬وظن أن رسول ال صلى ال‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصل ة‪ .‬فقال أنس‪ :‬وَه ّمـ المسلمون أن يفتتنوا في صلتهم‪ ،‬فـَرًح اـ برسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأشار إليهم بيده رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أتموا صلتكم‪ ،‬ثم دخل‬ ‫الحجر ة وأرخي الستر‪.‬‬ ‫ثم لم يأت على رسول ال صلى ال عليه وسلم وقت صل ة أخرى‪.‬‬ ‫ولما ارتفع الضحى‪ ،‬دعا النبي صلى ال عليه وسلم فاطمة فَس اـّرها بشيء فبكت‪ ،‬ثم دعاها‪ ،‬فسارها‬

‫بشيء فضحكت‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت‪ :‬سارني النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه‪ ،‬فبكيت‪ ،‬ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت‪.‬‬ ‫وبشر النبي صلى ال عليه وسلم فاطمة بأنها سيد ة نساء العالمين‪.‬‬ ‫ورأت فاطمة ما برسول ال صلى ال عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه‪.‬‬ ‫فقالت‪ :‬وا كرب أباه‪ .‬فقال لها‪ :‬‏)ليس على أبيك كرب بعد اليو م(‪.‬‬ ‫ودعا الحسن والحسين فقبلهما‪ ،‬وأوصي بهما خيرًا‪ ،‬ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن‪.‬‬ ‫وطفق الوجع يشتد ويزيد‪ ،‬وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول‪ :‬‏)يا عائشة‪ ،‬ما أزال‬ ‫أجد ألم الطعا م الذي أكلت بخيبر‪ ،‬فهذا أوان وجدت انقطاع أبـَْه ِرـي من ذلك السم(‪.‬‬ ‫ص ةـ له على وجهه‪ ،‬فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه‪ ،‬فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر‬ ‫وقد طرح َخ ِمـيـ َ‬ ‫ما تكلم وأوصي به الناس‪ :‬‏)لعنة ال على اليهود والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما‬ ‫صنعوا ـ ل يبقين دينان بأرض العرب(‪.‬‬

‫وأوصى الناس فقال‪ :‬‏)الصل ة‪ ،‬الصل ة‪ ،‬وما ملكت أيمانكم(‪ ،‬كــرر ذلك م ـراراً‪.‬‬ ‫الحتضار‬ ‫وبدأ الختصار فأسندته عائشة إليها‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬إن من نعم ال على أن رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين َس ْحـِرــي ونَْح ِرــي‪ ،‬وأن ال جمع بين ريقي وريقه عند موته‪ .‬دخل عبد‬ ‫الرحمن ـ بن أبي بكر ـ وبيده السواك‪ ،‬وأنا مسند ة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرأيته ينظر إليه‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وعرفت أنه يحب السواك‪ ،‬فقلت‪ :‬آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم‪ .‬فتناولته فاشتد عليه‪ ،‬وقلت‪ :‬ألينه‬

‫لك؟ فأشار برأسه أن نعم‪ .‬فلينته‪ ،‬فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ وبين يديه‬ ‫َرْك َوـ ةـفيها ماء‪ ،‬فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه‪ ،‬يقول‪ :‬‏)ل إله إل ال‪ ،‬إن للموت‬ ‫سكرات‪ (...‬الحديث‪.‬‬

‫وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه‪ ،‬وشخص بصره نحو السقف‪ ،‬وتحركت شفتاه‪،‬‬

‫فأصغت إليه عائشة وهو يقول‪ :‬‏)مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪،‬‬

‫اللهم اغفر لي وارحمني‪ ،‬وألحقني بالرفيق العلي‪ .‬اللهم‪ ،‬الرفيق العلي(‪.‬‬ ‫كرر الكلمة الخير ة ثلثًا‪ ،‬ومالت يده ولحق بالرفيق العلي‪ .‬إنا ل وإنا إليه راجعون‪.‬‬ ‫وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحي من يو م الثنين ‪ 12‬ربيع الول سنة ‪11‬هـ‪ ،‬وقد تم له صلى ال‬ ‫عليه وسلم ثلث وستون سنة وزادت أربعة أيا م‪.‬‬

‫تفاقم الحزان على الصحابة‬ ‫وتسرب النبأ الفادح‪ ،‬وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها‪ .‬قال أنس‪ :‬ما رأيت يوماً قط كان‬ ‫أحسن ول أضوأ من يو م دخل علينا فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما رأيت يوما كان أقبح ول‬

‫أظلم من يو م مات فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولما مات قالت فاطمة‪ :‬يا أبتاه‪ ،‬أجاب ربا دعاه‪ .‬يا أبتاه‪َ ،‬مْنـ جنة الفردوس مأواه‪ .‬يا أبتاه‪ ،‬إلى جبريل‬

‫ننعاه‪.‬‬

‫موقف عمر‬ ‫ووقف عمر بن الخطاب يقول‪ :‬إن رجالً من المنافقين يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫توفي‪ ،‬وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما مات‪ ،‬لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسي بن عمران‪،‬‬

‫فغاب عن قومه أربعين ليلة‪ ،‬ثم رجع إليهم بعد أن قيل‪ :‬قد مات‪.‬‬

‫ووال‪ ،‬ليرجعن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات‪.‬‬ ‫موقف أبي بكر‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫س ْنـح حتى نزل‪ ،‬فدخل المسجد‪ ،‬فلم يكلم الناس‪ ،‬حتى دخل‬ ‫وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بال ّ‬ ‫على عائشة فتيمم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو مغشي بثوب ِح بـَر ة‪ ،‬فكشف عن وجهه ثم‬ ‫أكب عليه‪ ،‬فقبله وبكي‪ ،‬ثم قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ل يجمع ال عليك موتتين‪ ،‬أما الموتة التي كتبت‬ ‫عليك فقد ِم تـَّه اـ‪.‬‬ ‫ثم خرج أبو بكر‪ ،‬وعمر يكلم الناس‪ ،‬فقال‪ :‬اجلس يا عمر‪ ،‬فأبي عمر أن يجلس‪ ،‬فتشهد أبو بكر‪،‬‬ ‫فأقبل الناس إليه‪ ،‬وتركوا عمر‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬

‫أما بعد‪ ،‬من كان منكم يعبد محمداً صلى ال عليه وسلم فإن محمداً قد مات‪ ،‬ومن كان منكم يعبد‬ ‫ت أَْو قُتَِل‬ ‫ال فإن ال حي ل يموت‪ ،‬قال ال‪ :‬‏}َو َمـاـ ُمَح ّمـٌدـ إِلّ َرُس وـٌل قَْد َخ لَـ ْ‬ ‫ت ِم نـ قـَْبلِ​ِه الّرُس ُلـ أَفَِإ نـ ّما َ‬ ‫ِ‬ ‫ضّرـ اللَّه َش ْيـًئا َو َسـيَـْج ِزــياللّهُ ال ّ‬ ‫ش اـكِ​ِريَن{ ‏]آل عمران‪:‬‬ ‫ب َعلَ​َى َعِق بـَْيِه فـَ​َلن يَ ُ‬ ‫انَق لَـْبتُْم َعَلى أَْعَقـاـبُِك ْمـ َو َمـنـ َينَق لـ ْ‬ ‫‪.[144‬‬ ‫قال ابن عباس‪ :‬وال لكأن الناس لم يعلموا أن ال أنزل هذه الية حتى تلها أبو بكر‪ ،‬فتلقاها منه‬

‫الناس كلهم‪ ،‬فما أسمع بشراً من الناس إل يتلوها‪.‬‬

‫قال ابن المسيب‪ :‬قال عمر‪ :‬وال‪ ،‬ما هو إل أن سمعت أبا بكر تلها‪ ،‬فعرفت أنه الحق‪ ،‬فعقرت حتى‬ ‫ما تـُقّلني رجلي‪ ،‬وحتى أهويت إلى الرض حين سمعته تلها‪ ،‬علمت أن النبي صلى ال عليه وسلم قد‬ ‫مات‪.‬‬

‫التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الرض‬ ‫ووقع الخلف في أمرالخلفة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجرت مناقشات ومجادلت‬ ‫وحوار وردود بين المهاجرين والنصار في َس ِقـيـفة بني ساعد ة‪ ،‬وأخيًرا اتفقوا على خلفة أبي بكر رضي‬ ‫ال عنه‪ ،‬ومضي في ذلك بقية يو م الثنين حتى دخل الليل‪ ،‬وشغل الناس عن جهاز رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم حتى كان آخر الليل ـ ليلة الثلثاء ـ مع الصبح‪ ،‬وبقي جسده المبارك على فراشه مغشي‬ ‫بثوب ِح ب ـَر ة‪ ،‬قد أغلق دونه الباب أهله‪.‬‬ ‫ويو م الثلثاء غسلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه‪ ،‬وكان القائمون‬ ‫بالغسل‪ :‬العباس وعلّيا‪ ،‬والفضل وقـَُثم ابني العباس‪ ،‬وُش ْقـَرـان مولي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وأسامة بن زيد‪ ،‬وأوس بن َخ ْوـلـي‪ ،‬فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه‪ ،‬وأسامة وشقران يصبان الماء‪،‬‬ ‫وعلى يغسله‪ ،‬وأوس أسنده إلى صدره‪.‬‬

‫وقد غسل ثلث غسلت بماء وِس ْد ـرــ‪ ،‬وغسل من بئر يقال لها‪ :‬الغَْر سـ لسعد بن َخ ْيـثَ​َم ةـ بُقبَـاء وكان‬

‫يشرب منها‪.‬‬

‫ثم كفنوه في ثلثة أثواب يمانية بيض َس ُحـوـلِّية من ُك ْرـُسـفـ‪ ،‬ليس فيها قميص ول عمامة‪ .‬أدرجوه فيها‬ ‫إدراًج اـ‪.‬‬

‫واختلفوا في موضع دفنه‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إني سمعت رسول الّله صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬‏)ما قبض‬ ‫نبي إل دفن حيث يـقبض(‪ ،‬فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه‪ ،‬فحفر تحته‪ ،‬وجعل القبر لحداً‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬عشر ة فعشر ة‪ ،‬يصلون على رسول الّله صلى ال عليه وسلم أفذاذًا‪ ،‬ل‬ ‫ودخل الناس الحجر ة أرسا ً‬ ‫يؤمهم أحد‪ ،‬وصلي عليه أولً أهل عشيرته‪ ،‬ثم المهاجرون‪ ،‬ثم النصار‪ ،‬ثم الصبيان‪ ،‬ثم النساء‪ ،‬أو‬ ‫النساء ثم الصبيان‪.‬‬

‫ل‪ ،‬ومعظم ليلة الربعاء‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬ما علمنا بدفن رسول الّله صلى‬ ‫ومضى في ذلك يو م الثلثاء كام ً‬ ‫ال عليه وسلم حتى سمعنا صوت المَس اـِح ي ـمن جوف الليل ـ وفي رواية‪ :‬من آخر الليل ـ ليلة الربعاء‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫البيت النبوي‬ ‫‪ -1‬كان البيت النبوي في مكة قبل الهجر ة يتألف منه عليه الصل ة والسل م‪ ،‬ومن زوجته خديجة بنت‬ ‫خويلد‪ ،‬تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه‪ ،‬وهي في الربعين‪ ،‬وهي أول من تزوجه من النساء‪،‬‬

‫ولم يتزوج عليها غيرها‪ ،‬وكان له منها أبناء وبنات‪ ،‬أما البناء ‪ ،‬فلم يعش منهم أحد ‪ ،‬وأما البنات فهن‬ ‫‪ :‬زينب ورقية وأ م كلثو م وفاطمة‪ ،‬فأما زينب فتزوجها قبل الهجر ة ابن خالتها‪ ,‬أبوالعاص بن الربيع‪ ،‬وأما‬ ‫رقية وأ م كلثو م فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي ال عنه الواحد ة بعد الخرى‪ ،‬وأما فاطمة فتزوجها‬

‫على بن أبي طالب بين بدر وأحد‪ ،‬ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأ م كلثو م‪.‬‬ ‫ومعلو م أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يمتاز عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لغراض‬ ‫كثير ة‪ ،‬فكان عدد من عقد عليهن ثلثة عشر ة امرأه‪ ،‬منهن تسع مات عنهن‪ ،‬واثنتان توفيتا في حياته‪،‬‬

‫إحداهما خديجة‪ ،‬والخرى أ م المساكين زينب بنت خريمة‪ ،‬واثنتان لم يدخل بهما‪ ،‬وها هي أسماؤهن‬ ‫وشيء عنهن‪.‬‬ ‫‪ -2‬سود ة بنت زمعة‪ ،‬تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبو ة‪ ،‬بعد وفا ة‬ ‫خديجة بنحو شهر‪ ،‬وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له‪ :‬السكران بن عمرو‪ ،‬فمات عنها‪ .‬توفيت‬

‫بالمدينة في شوال سنة ‪54‬هـ ‪.‬‬

‫‪3‬ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق‪ ،‬تزوجها في شوال سنة إحدى عشر ة من النبو ة‪ ،‬بعد زواجه بسود ة‬

‫بسنة‪ ،‬وقبل الهجر ة بسنتين وخمسة أشهر‪ ،‬تزوجها وهي بنت ست سنين‪ ،‬وبني بها في شوال بعد‬

‫الهجر ة بسبعة أشهر في المدينة‪ ،‬وهي بنت تسع سنين‪ ،‬وكانت بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها‪ ،‬وكانت‬ ‫أحب الخلق إليه‪ ،‬وأفقه نساء المة‪ ،‬وأعلمهن على الطلق‪ ،‬فضلها على النساء كفضل الثريد على‬ ‫سائر الطعا م ‪ .‬توفيت في ‪17‬رمضان سنة ‪57‬هـ أو ‪ 58‬هـ ودفنت بالبقيع‪.‬‬ ‫‪ -4‬حفصة بنت عمر بن الخطاب‪ ،‬تأيمت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بين بدر وأحد ‪،‬فلما‬ ‫حلت تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم في شعبان سنة ‪3‬هـ توفيت في شعبان سنة ‪45‬هـ بالمدينة‬

‫‪،‬ولها ستون سنة‪،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ -5‬زينب بنت خزيمة من بنى هلل بن عامر بن صعصة‪ ،‬وكانت تسمى أ م المساكين‪ ،‬لرحمتها أياهم‬

‫ورقتها عليهم‪ ،‬كانت تحت عبد ال بن جحش‪ ،‬فاستشهد في أحد‪ ،‬فتزوجها رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم سنة ‪ 4‬هـ ‪ .‬ماتت بعد الزواج بنحو ثلثة أشهرفي ربيع الخر سنة ‪4‬هـ ‪ ،‬فصلى عليها النبي صلى‬

‫ال عليه وسلم‪ ،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -6‬أ م سلمة هند بنت أبي أمية‪ ،‬كانت تحت أبي سلمة‪،‬وله منها أولد‪ ،‬فمات عنها في جمادى الخر‬

‫سنة ‪ 4‬هـ‪ ،‬فتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم في ليال بقين من شوال السنة نفسها‪ ،‬وكانت من‬ ‫افقه النساء وأعقلهن‪ .‬توفيت سنة ‪59‬هـ‪ ،‬وقيل‪62 :‬هـ ودفنت بالبقيع‪ ،‬ولها ‪ 84‬سنة‪.‬‬ ‫‪ -7‬زينب بنت جحش بن رباب من بنى أسد بن خزيمة‪ ،‬وهي بنت عمة رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬كانت تحت زيد بن حارثة ‪ -‬الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فطلقها زيد‪،‬‬

‫ض ىـ َزيٌْد ّمنـَْه اـ َو طَـًرا‬ ‫فلما انقضت العد ة أنزل ال تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم ‏}فـَلَّماـ قَ َ‬ ‫َزّوْج نَــاَك َهـاـ{ ‏]الحزاب‪ ،[37 :‬وفيها نزلت من سور ة الحزاب آيات فصلت قضية التبني ‪ -‬وسنأتي على‬ ‫ذكرها ‪ -‬تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم في ذي القعد ة سنة خمس من الهجر ة‪ .‬وقيل‪ :‬سنة‬ ‫‪4‬هـ‪ ،‬وكانت أعبد النساء وأعظمهن صدقة‪ ،‬توفيت سنة ‪20‬هـ ولها ‪ 53‬سنة‪ .‬وكانت أول أمهات‬

‫المؤمنين وفا ة بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬صلى عليها عمر بن الخطاب‪ ،‬ودفنت بالبقيع‪.‬‬ ‫‪ -8‬جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق من خزاعة‪ ،‬كانت في سبي بنى المصطلق في سهم ثابت‬

‫بن قيس بن شماس‪ ،‬فكاتبها‪ ،‬فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابتها‪ ،‬وتزوجها في شعبان سنة‬ ‫‪ 6‬هـ‪ .‬وقيل‪ :‬سنة ‪5‬هـ‪ ،‬فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق‪ ،‬وقالوا أصهار رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكانت أعظم النساء بركة على قومها‪ .‬توفيت في ربيع الول سنة ‪56‬هـ‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫‪ 55‬هـ‪ .‬ولها ‪ 65‬سنة‪.‬‬ ‫‪ -9‬أ م حبيبة رملة بنت أبي سفيان‪ ،‬كانت تحت عبيد ال بن جحش‪ ،‬فولدت له حبيبة فكنيت بها‪،‬‬ ‫وهاجرت معه إلى الحبشة‪ ،‬فارتد عبيد ال وتنصر‪ ،‬وتوفي هناك‪ ،‬وثبتت أ م حبيبة على دينها وهجرتها‪،‬‬

‫فلما بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحر م سنة‬ ‫‪ 7‬هـ‪ .‬خطب عليه أ م حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار‪ ،‬وبعث بها مع شرحبيل بن‬

‫حسنة‪ .‬فابتنى بها النبي صلى ال عليه وسلم بعد رجوعه من خيبر‪ .‬توفيت سنة ‪ 42‬هـ‪ ،‬أو ‪44‬هـ‪ ،‬أو‬ ‫‪50‬هـ‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫‪ -10‬صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير من بنى إسرائيل‪ ،‬كانت من سبي خيبر‪ ،‬فاصطفاها‬

‫رسول ال صلى ال وعليه وسلم لنفسه‪ ،‬وعرض عليها السل م فأسلمت‪ ،‬فأعتقها وتزوجها بعد فتح‬

‫خيبر سنة ‪7‬هـ‪ ،‬وابتنى بها بسد الصهباء على بعد ‪ 12‬ميل من خيبر في طريقه إلى المدينة‪ .‬توفيت سنة‬ ‫‪ 50‬هـ وقيل‪52 :‬هـ‪ ،‬وقيل ‪ 36‬هـ ودفنت بالبقيع‪.‬‬

‫‪ -11‬ميمونة بنت الحارث‪ ،‬أخت أ م الفضل لبابة بنت الحارث‪ ،‬تزوجها في ذي القعد ة سنة ‪ 7‬هـ‪ ،‬في‬

‫عمر ة القضاء‪ ،‬بعد أن حل منها على الصحيح‪.‬‬

‫وابتنى بها بسرف على بعد ‪ 9‬أميال من مكة‪ ،‬وقد توفيت بسرف سنة ‪ 61‬هـ‪ ،‬وقيل‪ ،63 :‬وقيل‪ 38 :‬هـ‬

‫ودفنت هناك‪ ،‬ول يزال موضع قبرها معروفا‪.‬‬

‫فهؤلء إحدى عشر ة سيد ة تزوج بهن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان ‪-‬‬ ‫خديجة وزينب أ م المساكين ‪ -‬في حياته‪ ،‬وتوفي هو عن التسع البواقي‪.‬‬

‫وأما الثنتان اللتان لم يبن بهما‪ ،‬فواحد ة من بنى كلب‪ ،‬وأخرى من كند ة‪ ،‬وهي المعروفة بالجونبة‪،‬‬ ‫وهناك خلفات لحاجة إلى بسطها‪.‬‬

‫وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما مارية القبطية‪ ،‬أهداها له المقوقس‪ ،‬فأولدها ابنه‬

‫إبراهيم‪ ،‬الذي توفي صغيرا بالمدينة في حياته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في ‪ / 28‬أو ‪ 29‬من شهر شوال‬ ‫سنة ‪ 10‬هـ وفق ‪ 27‬يناير سنة ‪ 632‬م‪.‬‬ ‫والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية‪ ،‬كانت من سبايا قريظة‪ ،‬فاصطفاها لنفسه‪ ،‬وقيل‪:‬‬

‫بل هي من أزواجه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعتقها فتزوجها‪ .‬والقول الول رجحه ابن القيم‪ .‬وزاد أبو عبيد ة‬ ‫اثنتين أخريين‪ ،‬جميلة أصابها في بعض السبي‪ ،‬وجارية وهبتها له زينب بنت جحش‪.‬‬

‫ومن نظر إلى حيا ة الرسول صلى ال عليه وسلم عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في‬ ‫أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحد ة‬

‫شبه عجوز ‪ -‬خديجة ثم سود ة ‪ -‬عرف أن هذا الزواج لم يكن لجل أنه وجد بغته في نفسه قو ة عارمة‬

‫من الشبق‪ ،‬ل يصبر معها إل بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل‬ ‫وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫فاتجاه الرسول صلى ال عليه وصلى إلى مصاهر ة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة ‪ -‬وكذلك‬

‫تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب‪ ،‬وتزويجه ابنتيه رقية ثم أ م كلثو م بعثمان بن عفان ‪ -‬يشير إلى‬ ‫أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصل ة بالرجال الربعة‪ ،‬الذي عرف بلءهم وفداءهم للسل م في الزمات‬ ‫التي مرت به‪ ،‬وشاء ال أن يجتازها بسل م‪.‬‬

‫وكان من تقاليد العرب الحترا م للمصاهر ة‪ ،‬فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين البطون‬

‫المختلفة‪ ،‬وكانوا يرون مناوأ ة ومحاربة الصهار سبة وعاراً على أنفسهم‪ ،‬فأراد رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم بزواج عد ة من أمهات المؤمنين أن يكسر سور ة عداء القبائل للسل م‪ ،‬ويطفئ حد ة بغضائها‪،‬‬

‫كانت أ م سلمة من بنى مخزو م ‪ -‬حي أبي جهل وخالد بن الوليد ‪ -‬فلما تزوجها رسول ال صلى ال‬

‫عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد‪ ،‬بل أسلم بعد مد ة غير طويلة طائعا راغبًا‪،‬‬ ‫وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول ال صلى ال عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أ م حبيبة‪،‬‬ ‫وكذلك ل نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل‬

‫كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها‪ ،‬فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬أصهار رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ول يخفي ما لهدا المن‬

‫من الثر البالغ في النفوس‪.‬‬

‫وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى ال عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قو م لم يكونوا‬

‫يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضار ة والتقيد بلواز م المدينة‪ ،‬والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه‪.‬‬ ‫والمبادئ التي كانت أسسا لبناء المجتمع السلمي‪ ،‬لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء‪ ،‬فلم‬

‫يكن يمكن تثقيفهن مباشر ة مع المراعا ة لهذه المبادئ‪ ،‬مع أن مسيس الحاجة إلى تثفيفهن مباشر ة لم‬ ‫يكن أهون وأقل من الرجال‪ ،‬بل كان أشد وأقوى‪.‬‬

‫وإذن فلم يكن للنبي صلى ال عليه وسلم سبيل إل أن يختار من النساء المختلفة العمار والمواهب‬ ‫ما يكفي لهذا الغرض‪ ،‬فيزكيهن ويربيهن‪ ،‬ويعلمهن الشرائع والحكا م‪ ،‬ويثقفهن بثقافة السل م حتى‬ ‫يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات‪ ،‬العجائر منهن والشابات‪ ،‬فيكفين مؤنة التبليغ في النساء‪.‬‬

‫وقد كان لمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬المنزلية للناس‪،‬‬ ‫خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة‪ ،‬فإنها روت كثيراً من افعاله وأقواله‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل‪ ،‬وهي قاعد ة التبني‪ .‬وكان للمتبني عند العرب في‬

‫الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للبن الحقيقي سواء بسواء‪ .‬وكانت قد تاصلت تلك‬

‫ل‪ ،‬لكن كانت تلك القاعد ة تعارض معارضة شديد ة‬ ‫القاعد ة في القلوب‪ ،‬بحيث لم يكن محوها سه ً‬ ‫للسس والمبادئ التي قررها السل م في النكاح والطلق والميراث وغير ذلك من المعاملت‪ ،‬وكانت‬ ‫تلك القاعد ة تجلب كثيرا من المفاسد والفواحش التي جاء السل م؛ ليمحوها عن المجتمع‪.‬‬ ‫وقدر ال أن يكون هد م تلك القاعد ة على يد رسول ال صلى ال عليه وسلم وبذاته الشريفة‪ ،‬وكانت‬ ‫ابنة عمته زينب بنت جحش‪ ،‬وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد‪ ،‬ولم يكن‬

‫بينهما توافق‪ ،‬حتى هم زيد بطلقها‪ ،‬وفاتح بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد عرف الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف‪ ،‬وإما بإخبار ال عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر‬

‫هو صلى ال عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها‪ ،‬وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب‬

‫المشركين على رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬وكان يخاف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية‬

‫المنافقين والمشركين واليهود‪ ،‬وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده‪ ،‬وما يكون له من الثر السيئ‬ ‫في نفوس ضعفاء المسلمين‪ ،‬فلما فاتح زيد رسول ال صلى ال عليه وسلم بإرادته طلق زينب أمره بأن‬

‫يمسكها ول يطلقها‪ ،‬وذلك لئل تجئ له مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة‪.‬‬

‫ولم يرض ال من رسوله صلى ال عليه وسلم‪،‬هذا التردد والخوف حتى عاتبه ال عليه بقوله‪ :‬‏}َو إِـْذ‬ ‫تـ َعلَْيِه أَْم ِسـ ْ‬ ‫كـَواـتِّق اللَّه َو تُـْخ ِفـيـ ِفي نـَْف ِسـ َ‬ ‫ك َزْو َجـ َ‬ ‫ك ـَعلَْي َ‬ ‫تـَُقوـُل لِلِّذ يـ َأنـَْعَم اللّهُ َعلَْيِه َوأَـنـَْعْم َ‬ ‫ك ـ َماـ اللّهُ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫س َواـللّهُ أَ​َح ّقـ َأن تَْخ َشـاـهُ{ ‏]الحزاب‪.[37 :‬‬ ‫ُمْبد يـه َو تَـْخ َشـىـالّنا َ‬ ‫وأخيرا طلقها زيد‪ ،‬وتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسلم في أيا م فرض الحصار على بني قريظة بعد‬ ‫أن انقضت عدتها‪ .‬وكان ال قد أوجب عليه هذا النكاح‪ ،‬ولم يترك له خيارا ول مجال‪ ،‬حتى تولى ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫جـ ِفي‬ ‫ذلك النكاح بنفسه يقول‪ :‬‏}فـَلَّماـ قَ َ‬ ‫ض ىـ َزيٌْد ّمنـَْه اـ َو طَـًرا َزّوْج نَــاَك َهـاـلَك ْيـ َل يَُك وـَن َعَلى الُْم ْؤـمـنـيَن َح َرـ ٌ‬ ‫ض ْوـاـ ِم نـُْه ّنـ َو طَـًرا{ ‏]الحزاب‪ ،[37 :‬وذلك ليهد م قاعد ة التبني فعلً كما هدمها‬ ‫أَْزَواـِج أَْد ِعـيَـائِ​ِه ْمـ إَِذا قَ َ‬ ‫طـ ِع نـَد الّلهِ{ ‏]الحزاب‪ ،[5 :‬‏}ّماـ َك اـَن ُمَح ّمـٌدـ أَ​َبا أَ​َح ٍدـ ّمنـ ّرَج اـلُِك ْمـ‬ ‫قول‪ :‬‏}اْد عُـوُه ْمـ ِل بَـاـئِ​ِه ْمـ ُه َوـ أَقَْس ُ‬ ‫َو لَـِكن ّرُس وـَل اللِّه َوَخ اـتَ​َم النّبِّييَن { ‏]الحزاب‪.[40 :‬‬ ‫وكم التقاليد المتأصلة الجافة ل يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول‪ ،‬بل لبد له من مقارنة فعل‬ ‫صاحب الدعو ة‪ ،‬ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمر ة الحديبية‪ ،‬كان هناك أولئك المسلمون‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الذين رآهم عرو ة بن مسعود الثقفي‪ ،‬ل يقع من النبي صلى ال عليه وسلم نخامة إل في يد أحدهم‪،‬‬ ‫ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه‪ ،‬نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على‬

‫الموت أو على عد م الفرار تحت الشجر ة‪ ،‬والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر‪ ،‬لما أمر النبي صلى‬

‫ال عليه وسم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته ‪ -‬بعد عقد الصلح ‪ -‬أن يقوموا فينحروا هديهم لم‬ ‫يقم لمتثال أمره أحد‪ ،‬حتى أخذه القلق والضطراب‪ ،‬ولكن لما أشارت عليه أ م سلمة أن يقو م إلى‬

‫هديه فينحر‪ ،‬ول يكلم أحدا ففعل‪ ،‬تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله‪ ،‬فتسابقوا إلى نحر جزورهم‪.‬‬

‫وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهد م قاعد ة راسخة‪.‬‬ ‫وقد أثر المنافقون وساوس كثير ة‪ ،‬وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح‪ ،‬أثر بعضها في ضعفاء‬ ‫المسلمين‪ ،‬ل سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يكن يعرف المسلمون‬

‫حل الزواج بأكثر من أربع نسو ة وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والزواج بزوجة‬

‫البن كان من أغلظ الفواحش‪ ،‬وقد أنزل ال في سور ة الحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى‪ ،‬وعلم‬

‫الصحابة أن التبني ليس له أثر عند السل م‪ ،‬وأن ال تعالى وسع لرسوله صلى ال عليه وسلم في الزواج‬

‫مالم يوسع لغيره‪ ،‬لغراضهة النبيلة الممتاز ة‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬وكانت عشرته صلى ال عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن‪،‬‬ ‫كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيا م بحقوق الزواج‪ ,‬مع أنه‬

‫كان في شظف من العيش ل يطيقه أحد‪ .‬قال أنس‪ :‬ما أعلم النبي صلى ال عليه وسلم رأى رغيفا‬

‫مرفقا حتى لحق بال‪ ،‬ول رأى شا ة سميطا بعينه قط‪ .‬وقالت عائشة‪ :‬إن كنا لننظر إلى الهلل ثلثة أهلة‬ ‫في شهرين‪ ،‬وما أوقدت في أبيات رسول ال صلى ال عليه وسلم نار‪ .‬فقال لها عرو ة‪ :‬ما كان‬

‫يعيشكم؟ قالت‪ :‬السودان؛ التمر والماء‪ .‬والخبار بهذا الصدد كثير ة‪.‬‬ ‫ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إل مر ة واحد ة ‪ -‬حسب مقتضى البشرية‪،‬‬ ‫ك ـِإن ُك نـتُّن تُِرْد َنـ الَْح يَـاَ ة‬ ‫وليكون سببا لتشريع الحكا م ‪ -‬فأنزل ال آية التخيير ‏}َأيـَّهاـ النّبِّي ُقل ّلَْزَواـِج َ‬ ‫الّد نـَْيا َوِزـيَنتـَه اـ فَـتـَعالَْيَن أَُمتـّْع ُكـّنـ َوأُـَس ّرـْح ُكـّنـَس َرـاًح اـَج ِمـيـًل َو إِـن ُك نـتُّن تُِرْد َنـ اللَّه َوَرـُس وـلَهُ َواـلّد اـَر اْل ِخ ــَرـَ ةفَِإ ّنـ‬ ‫اللَّه أَ​َعّد لِْلم ْحـِسـ نَـا ِ‬ ‫ت ِم نـُك ّنـ أَْج ًرــا َعِظ يـًم{ ‏]الحزاب‪ [29 ،28 :‬وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن ال‬ ‫ُ‬ ‫ورسوله‪ ،‬ولم تمل واحد ة منهن إلى اختيار الدنيا‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر ـ مع كثرتهن ـ إل شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء‬

‫البشرية‪ ،‬ثم عاتب ال عليه فلم يعدن له مر ة أخرى وهو الذي ذكره ال في سور ة التحريم بقوله ‏}َيا َأيـَّه اـ‬ ‫ك { إلى تما م الية الخامسة‪.‬‬ ‫النّبِّي لَِم تَُح ّرـُ م َماـ أَ​َح ّلـ اللّهُ لَ َ‬ ‫وأخيرا أرى أنه ل حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات‪ ،‬فمن نظر في حيا ة سكان اوروبا‬ ‫الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ‪ ،‬ونظر إلى مايقاسون من الشقاو ة والمرار ة‪ ،‬وما يأتون‬ ‫من الفضائح والجرائم الشنيعة‪ ،‬وما يواجهون من البليا والقلقل لنحرافهم عن هذا المبدأ كفى له‬

‫ذلك عن البحث والستدلل‪ ،‬فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ‪ ،‬وإن في ذلك لعبر ة لولى‬

‫البصار‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الصفات والخلق‬

‫كان النبي صلى ال عليه وسلم يمتاز من جمال َخ ْلـقه وكمال ُخ لُـقه بما ل يحيط بوصفه البيان‪ ،‬وكان‬

‫من أثره أن القلوب فاضت بإجلله‪ ،‬والرجال تفانوا في حياطته وإكباره‪ ،‬بما ل تعرف الدنيا لرجل غيره‪،‬‬ ‫فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيا م‪ ،‬ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ول يخدش له ظُْف رـ‪ ،‬وما أحبوه كذلك‬

‫إل لن أنصبته من الكمال الذي يحبب عاد ة لم يرزق بمثلها بشر‪ .‬وفيما يلي نورد ملخص الروايات في‬ ‫بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الحاطة‪.‬‬ ‫جمال الَخ ْلـق‬ ‫قالت أ م َمْعـبَـٍد الخزاعية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها‪ ،‬حين مر بخيمتها‬ ‫ص ْعـلَـة‪ ،‬وِس يــم قَِس يــم‪ ،‬في‬ ‫مهاجراً‪ :‬ظاهر الَو َ‬ ‫ضـاـء ة‪ ،‬أبـْلَُج الوجه‪ ،‬حسن الُخ لُـق‪ ،‬لم تعبه ثُْج لَــة‪ ،‬ولم تـُْز ِرـ به َ‬ ‫ج ‪،‬ـ أقـَْرن‪ ،‬شديد‬ ‫عينيه َدَعـج‪ ،‬وفي أشفاره َو طَـف‪ ،‬وفي صوته َ‬ ‫ص َهـلـ‪ ،‬وفي عنقه َس طَـع‪ ،‬أْح َوـرـ‪ ،‬أْك َحـلـ‪ ،‬أَز ّ‬ ‫سواد الشعر‪ ،‬إذا صمت عله الوقار‪ ،‬وإن تكلم عله البـَه اـء‪ ،‬أجمل الناس وأبهاهم من بعيد‪ ،‬وأحسنه‬

‫ض لـ‪ ،‬ل نـَْز رـ ول َه َذـرـ‪ ،‬كأن منطقه َخ َرـَزات نظمن يـَتحّد رـن‪َ ،‬ربـَْعة‪ ،‬ل‬ ‫وأحله من قريب‪ ،‬حلو المنطق‪ ،‬فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ص نـَْين‪ ،‬فهو أنَْظر الثلثة منظرًا‪ ،‬وأحسنهم قْد ًرـا‪،‬‬ ‫ص نـ بين غُ ْ‬ ‫ص رـ‪ ،‬ول تشنؤه من طول‪ ،‬غُ ْ‬ ‫تقحمه عين من ق َ‬ ‫شـوـد‪ ،‬ل َعاِبس ول‬ ‫له رفقاء يحفون به‪ ،‬إذا قال استمعوا لقوله‪ ،‬وإذا أمر تبادروا إلى أمره‪َ ،‬مْحـ ُفـوـد‪َ ،‬مْحـ ُ‬ ‫ُمَف نّـد‪.‬‬

‫وقال على بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬لم يكن بالطويل الُم َمـغّـِط ‪ ،‬ـول‬ ‫س ْبـط‪َ ،‬رِج لًــ‪ ،‬ولم يكن بالُم طَـّه مـ‪،‬‬ ‫القصير المتردد‪ ،‬وكان َربـَْعة من القو م‪ ،‬ولم يكن بالَج ْعـدـ الَق ِطـِطـ ‪ ،‬ـول بال ّ‬ ‫ول بالُم َكـْلـَثم‪ ،‬وكان في الوجه تدوير‪ ،‬وكان أبيض ُمْش َرـًبا‪ ،‬أْد َعـج العينين‪ ،‬أْه َدـبـ الْش َفـاـر‪َ ،‬ج لِـيل الُم َشـاـش‬ ‫ِ‬ ‫ص بَـب‪ ،‬وإذا‬ ‫والَك تَـد ‪،‬ـ دقيق المْس ُرـَبة‪ ،‬أْج َرــد‪َ ،‬ش ثْـُن الكفين والقدمين‪ ،‬إذا مشي تـَق لّـع كأنما يمشي في َ‬ ‫التفت التفت معًا‪ ،‬بين كتفيه خاتم النبو ة‪ ،‬وهو خاتم النبيين‪ ،‬أجود الناس كفًا‪ ،‬وأجرأ الناس صدرًا‪،‬‬ ‫وأصدق الناس لَْه َجـةـ‪ ،‬وأوفي الناس ذمة‪ ،‬وألينهم َعريَك ةـ‪ ،‬وأكرمهم عشر ة‪ ،‬من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن‬ ‫خالطه معرفة أحبه‪ ،‬يقول ناعته‪ :‬لم أر قبله ول بعده مثله‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫ضْخـمـ الرأس‪ ،‬ضخم الَك َرـاِد يـس‪ ،‬طويل الَم ْسـُرـَبة‪ ،‬إذا مشي تَ​َك ّفـأـ تَ​َك ّفـيًـا كأنما‬ ‫وفي رواية عنه‪ :‬أنه كان َ‬ ‫يـَْنَح ّ‬ ‫ص بَـب‪.‬‬ ‫طـ من َ‬ ‫ض لِـيع الفم‪ ،‬أْش َكـلـ العينين‪َ ،‬منـُْه وـس العقبين‪.‬‬ ‫وقال جابر بن َس ُمـرـ ة‪ :‬كان َ‬ ‫صـًدـاـ‪.‬‬ ‫وقال أبو الطفيل‪ :‬كان أبيض‪َ ،‬مِلـيح الوجه‪ُ ،‬مَق ّ‬ ‫طـ الكفين‪ .‬وقال‪ :‬كان أْزَه رـ اللون‪ ،‬ليس بأبيض أْم َهـَقـ‪،‬ـ ول آَد مـ‪ُ ،‬قبض‬ ‫وقال أنس بن مالك‪ :‬كان بِْس َ‬ ‫وليس في رأسه ولحيته عشرون شعر ة بيضاء‪.‬‬ ‫صْد غَـْيه‪ ،‬وفـي رواية‪ :‬وفي الرأس نـَْبٌذ ‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬إنما كان شيء ـ أي من الشيب ـ في ُ‬ ‫وقال أبو ُج َحـْيـفة‪ :‬رأيت بياضاً تحت شفته السفلي‪ ،‬الَعنـَْف َقـةـ‪.‬‬ ‫وقال عبد ال بن بُْس رـ‪ :‬كان في عنفقته شعرات بيض‪.‬‬ ‫وقال البراء‪ :‬كان َمْرـبُـوًعا‪ ،‬بَِعيَد ما بين الَم ْنـِكبـَْين‪ ،‬له َش ْعـرـ يبلغ َش ْحـَمـةـأذنيه‪ ،‬رأيته في ُح لّـة حمراء‪ ،‬لم أر‬ ‫شيئاً قط أحسن منه‪.‬‬ ‫وكان يُْس ِدـلـ شعره أولً لحبه موافقة أهل الكتاب‪ ،‬ثم فـَرق رأسه بعد‪.‬‬ ‫قال البراء‪ :‬كان أحسن الناس وجًه اـ‪ ،‬وأحسنهم ُخ لُـًق اـ‪.‬‬ ‫وسئل‪ :‬أكان وجه النبي صلى ال عليه وسلم مثل السيف؟ قال‪ :‬ل بل مثل القمر‪ .‬وفي رواية‪ :‬كان‬ ‫وجهه مستديراً‪.‬‬ ‫وقالت الّربـَّيع بنت ُمَعّو ذـ‪ :‬لو رأيته رأيت الشمس طالعة‪.‬‬ ‫ض ِحـ يَـاٍن ‪،‬ـفجعلت أنظر إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وإلى‬ ‫وقال جابر بن َس ُمـَرـ ة‪ :‬رأيته في ليلة إ ْ‬

‫القمر ـ وعليه حلة حمراء ـ فإذا هو أحسن عندي من القمر‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫وقال أبو هرير ة‪ :‬ما رأيت شيئاً أحسن من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كأن الشمس تجري في‬ ‫وجهه‪ ،‬وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كأنما الرض تُطَْو يـ له‪ ،‬وإنا‬

‫لنجهد أنفسنا‪ ،‬وإنه لغير مكترث‪.‬‬

‫وقال كعب بن مالك‪ :‬كان إذا ُس ّرـ استنار وجهه‪ ،‬حتى كأنه قطعة قمر‪.‬‬ ‫وعرق مر ة وهو عند عائشة رضي ال عنها يْخ ِ‬ ‫ل‪ ،‬فجعلت تبرق أسارير وجهه‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬وهي تغزل غز ً‬ ‫فـ نع ً‬ ‫صـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت وقالت‪ :‬وال لو رآك أبو َك بِـير الُه َذـلـي لعلم أنك أحق بشعره من غيرك‪:‬‬ ‫فلما رأته بُِه تَـ ْ‬ ‫وإذا نظرت إلى أسر ة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل‬ ‫وكان أبو بكر إذا رآه يقول‪:‬‬ ‫أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظل م‬ ‫وكان عمر ينشد قول زهير في َه ِرـ م بن ِس نَـان‪:‬‬ ‫لو كنت من شيء سوى البشر ** كنت المضيء لليلة البدر‬ ‫ثم يقول‪ :‬كذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫بـ الرمان‪.‬‬ ‫وكان إذا غضب احمر وجهه‪ ،‬حتى كأنما فقئ في وجنتيه َح ّ‬ ‫س مـاً ‪ .‬وكنت إذا نظرت إليه قلت‪:‬‬ ‫وقال جابر بن َس ُمـَرـ ة‪ :‬كان في ساقيه ُح ُمـوـشة‪ ،‬وكان ل يضحك إل تـبَ ّ‬ ‫أْك َحـلـ العينين‪ ،‬وليس بأكحل‪.‬‬ ‫وقال عمر بن الخطاب‪ :‬وكان من أحسن الناس ثـَْغراً ‪.‬‬ ‫قال ابن عباس‪ :‬كان أفـْلَ​َج الثنيتين‪ ،‬إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه‪.‬‬ ‫وأما عُ​ُنقه فكأنه ِج يـُد ُدْم يَـٍة في صفاء الفضة‪ ،‬وكان في أَْش َفـاـره َعَطف‪ ،‬وفي لحيته كثافة‪ ،‬وكان واسع‬ ‫ج الحواجب في غير قرن بينهما‪ ،‬أقـَْني الِعْر نـِين‪َ ،‬س ْهـلـ الَخ ّدـيْـن‪ ،‬من لُبِّته إلى ُس ّرـِته شعر يجري‬ ‫الجبين‪ ،‬أَز ّ‬ ‫كالقضيب‪ ،‬ليس في بطنه ول صدره شعر غيره‪ ،‬أْش َعــر الذراعين والمنكبين‪َ ،‬س َوـاـُء البطن والصدر‪َ ،‬مِسـ يــح‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫صـْيـن‪َ ،‬س اـِئل الطراف‪ ،‬إذا َزاَل‬ ‫صـاـن الْخ َمـ َ‬ ‫صـبـ‪ُ ،‬خ ْمـ َ‬ ‫الصدر عريضه‪ ،‬طويل الّزْند‪َ ،‬رْح بـ الراحة‪َ ،‬س ْبـط الَق َ‬ ‫َزاَل قـَْلعًا‪ ،‬يخطو تَ​َك ّفـيـاً ويمشي َه ْوـنـاً‪.‬‬ ‫وقال أنس‪ :‬ما مسست حريراً ول ديباجاً ألين من كف النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول شممت ريحاً‬ ‫قط أو َعْرفـاً قط‪ ،‬وفي رواية‪ :‬ما شممت عنبراً قط ول ِم ْسـكـاً ول شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وقال أبو ُج َحـْيـفة‪ :‬أخذت بيده‪ ،‬فوضعتها على وجهي‪ ،‬فإذا هي أبرد من الثلج‪ ،‬وأطيب رائحة من‬

‫المسك‪.‬‬

‫وقال جابر بن سمر ة ـ وكان صبيا‪ :‬مسح َخ ّدـيـ فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من ُج وـنَِة‬ ‫َعّطار ‪.‬‬ ‫وقال أنس‪ :‬كأن عرقه اللؤلؤ‪ .‬وقالت أ م سليم‪ :‬هو من أطيب الطيب‪.‬‬ ‫وقال جابر‪ :‬لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إل عرف أنه قد سلكه من طيب َعْرِفـه‪ .‬أو قال‪ :‬من ريح عرقه‪.‬‬ ‫وكان بين كتفيه خاتم النبو ة مثل بيضة الحمامة‪ ،‬يشبه جسده‪ ،‬وكان عند َناِغ ضـ كتفه اليسري ُج ْمـعـًا‪،‬‬ ‫عليه ِخ يَــلن كأمثال الّثآِليل ‪.‬‬ ‫كمال النفس ومكار م الخلق‬ ‫كان النبي صلى ال عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان‪ ،‬وبلغة القول‪ ،‬وكان من ذلك بالمحل الفضل‪،‬‬ ‫والموضع الذي ل يجهل‪ ،‬سلمة طبع‪ ،‬ونصاعة لفظ‪ ،‬وجزالة قول‪ ،‬وصحة معان‪ ،‬وقلة تكلف‪ ،‬أوتي‬

‫جوامع الكلم‪ ،‬وخص ببدائع الحكم‪ ،‬وعلم ألسنة العرب‪ ،‬يخاطب كل قبيلة بلسانها‪ ،‬ويحاورها بلغتها‪،‬‬

‫اجتمعت له قو ة عارضة البادية وجزالتها‪ ،‬ونصاعة ألفاظ الحاضر ة ورونق كلمها‪ ،‬إلى التأييد اللهي‬ ‫الذي مدده الوحي‪.‬‬

‫ت أدبه ال بها‪ ،‬وكل حليم قد‬ ‫وكان الحلم والحتمال‪ ،‬والعفو عند المقدر ة‪ ،‬والصبر على المكاره‪ ،‬صفا ٌ‬

‫عرفت منه زلة‪ ،‬وحفظت عنه َه ْفـَوـ ةـ‪ ،‬ولكنه صلى ال عليه وسلم لم يزد مع كثر ة الذي إل صبرا‪ ،‬وعلى‬ ‫إسراف الجاهل إل حلما‪ ،‬وقالت عائشة‪ :‬ما خير رسول ال صلى ال عليه وسلم بين أمرين إل اختار‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫أيسرهما ما لم يكن إثمًا‪ ،‬فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه‪ ،‬وما انتقم لنفسه إل أن تنتهك حرمة ال‬ ‫فينتقم ل بها‪ .‬وكان أبعد الناس غضبًا‪ ،‬وأسرعهم رضاً‪.‬‬ ‫وكان من صفة الجود والكر م على مال يقادر قدره‪ ،‬كان يعطي عطاء من ل يخاف الفقر‪ ،‬قال ابن‬

‫عباس‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم أجود الناس‪ ،‬وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل‪،‬‬

‫وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان‪ ،‬فيدارسه القرآن‪ ،‬فلرسول ال صلى ال عليه وسلم أجود‬ ‫بالخير من الريح المرسلة‪ .‬وقال جابر‪ :‬ما سئل شيئاً قط فقال‪ :‬ل‪.‬‬

‫وكان من الشجاعة والنجد ة والبأس بالمكان الذي ل يجهل‪ ،‬كان أشجع الناس‪ ،‬حضر المواقف الصعبة‪،‬‬ ‫وفر عنه الكما ة والبطال غير مر ة‪ ،‬وهو ثابت ل يبرح‪ ،‬ومقبل ل يدبر‪ ،‬ول يتزحزح‪ ،‬وما شجاع إل وقد‬

‫أحصيت له فـَّر ة‪ ،‬وحفظت عنه جولة سواه‪ ،‬قال علي‪ :‬كنا إذا حمي البأس واحمرت الَح َدـُقـ‪،‬ـاتقينا‬ ‫برسول ال صلى ال عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه‪ .‬قال أنس‪ :‬فزع أهل المدينة ذات‬ ‫ليلة‪ ،‬فانطلق ناس قِبَ​َل الصوت‪ ،‬فتلقاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم راجعًا‪ ،‬وقد سبقهم إلى‬ ‫الصوت‪ ،‬وهو على فرس لبي طلحة ُعْري‪ ،‬في عنقه السيف‪ ،‬وهو يقول‪ :‬‏)لم تـَُراعوا‪ ،‬لم تـَُراعوا(‪.‬‬ ‫وكان أشد الناس حياء وإغضاء‪ ،‬قال أبو سعيد الخدري‪ :‬كان أشد حياء من العذراء في ِخ ْد ـرــها‪ ،‬وإذا‬

‫كره شيئاً عرف في وجهة‪ .‬وكان ل يثبت نظره في وجه أحد‪ ،‬خافض الطرف‪ .‬نظره إلى الرض أطول من‬ ‫نظره إلى السماء‪ُ ،‬ج ّلـ نظره الملحظة‪ ،‬ل يشافه أحداً بما يكره حياء وكر م نفس‪ ،‬وكان ل يسمي رجلً‬

‫بلغ عنه شيء يكرهه‪ ،‬بل يقول‪ .‬‏)ما بال أقوا م يصنعون كذا(‪.‬‬

‫وكان أحق الناس بقول الفرزدق‪:‬‬ ‫يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــل يكلـم إل حيـن يبتسـم‬ ‫وكان أعدل الناس‪ ،‬وأعفهم‪ ،‬وأصدقهم لهجة‪ ،‬وأعظمهم أمانة‪ ،‬اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه‪ ،‬وكان‬ ‫يسمي قبل نبوته المين‪ ،‬ويـَُتحاكم إليه في الجاهلية قبل السل م‪ ،‬روي الترمذي عن على أن أبا جهل‬ ‫ك َو لَـِكّن‬ ‫قال له‪ :‬إنا ل نكذبك‪ ،‬ولكن نكذب بما جئت به‪ ،‬فأنزل ال تعالى فيهم‪ :‬‏}فَِإنـُّهْمـ لَ يَُك ّذـبُـونَ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الّظالِ​ِم يـن ِبآيا ِ‬ ‫ت اللِّه يَْج َحـُدـو َـن{ ‏]النعا م‪ .[33:‬وسأل هرقل أبا سفيان‪ ،‬هل تتهمونه بالكذب قبل أن‬ ‫َ َ‬ ‫يقول ما قال؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬ ‫وكان أشد الناس تواضعًا‪ ،‬وأبعدهم عن الكبر‪ ،‬يمنع عن القيا م له كما يقومون للملوك‪ ،‬وكان يعود‬ ‫المساكين‪ ،‬ويجالس الفقراء‪ ،‬ويجيب دعو ة العبد‪ ،‬ويجلس في أصحابه كأحدهم‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬كان‬ ‫يخصف نعله‪ ،‬ويخيط ثوبه‪ ،‬ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته‪ ،‬وكان بشراً من البشر يـَْف لِـي ثوبه‪،‬‬ ‫ويحلب شاته‪ ،‬ويخد م نفسه‪.‬‬ ‫وكان أوفي الناس بالعهود‪ ،‬وأوصلهم للرحم‪ ،‬وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس‪ ،‬أحسن الناس عشر ة‬

‫وأدبًا‪ ،‬وأبسط الناس خلقًا‪ ،‬أبعد الناس من سوء الخلق‪ ،‬لم يكن فاحشًا‪ ،‬ول متفحشًا‪ ،‬ول لعانًا‪ ،‬ول‬ ‫صخابا في السواق‪ ،‬ول يجزي بالسيئة السيئة‪ ،‬ولكن يعفو ويصفح‪ ،‬وكان ل يدع أحدا يمشي خلفه‪،‬‬

‫وكان ل يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ول ملبس‪ ،‬ويخد م من َخ َدـَمـهـ‪ ،‬ولم يقل لخادمه أف قط‪ ،‬ولم‬

‫يعاتبه على فعل شيء أو تركه‪ ،‬وكان يحب المساكين ويجالسهم‪ ،‬ويشهد جنائزهم‪ ،‬ول يحقر فقيراً‬ ‫لفقره‪ .‬كان في بعض أسفار ة فأمر بإصلح شا ة‪ ،‬فقال رجل‪ :‬على ذبحها‪ ،‬وقال آخر‪ :‬على سلخها‪،‬‬

‫وقال آخر على طبخها‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ :‬‏)وعلي جمع الحطب(‪ ،‬فقالوا‪ :‬نحن نكفيك‪ .‬فقال‪:‬‬

‫‏)قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم‪ ،‬فإن ال يكره من عبده أن يراه متميزاً بين‬ ‫أصحابه(‪ ،‬وقا م وجمع الحطب‪.‬‬

‫ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال‪ :‬كان رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم متواصل الحزان‪ ،‬دائم الفكر ة‪ ،‬ليست له راحة‪ ،‬ول يتكلم في غير حاجة‪ ،‬طويل‬

‫ل‪ ،‬ل فضول فيه‬ ‫السكوت‪ ،‬يفتتح الكل م ويختمه بأشداقه ـ ل بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم‪ ،‬فص ً‬ ‫ول تقصير‪ ،‬دمثاً ليس بالجافي ول بالمهين‪ ،‬يعظم النعمة وإن دقت‪ ،‬ليذ م شيئًا‪ ،‬ولم يكن يذ م ذواقاً ـ‬

‫ما يطعم ـ ول يمدحه‪ ،‬ول يقا م لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له‪ ،‬ل يغضب لنفسه‪ ،‬ول‬

‫ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها‪ ،‬وإذا تعجب قلبها‪ ،‬وإذا غضب أعرض وأشاح‪ ،‬وإذا‬ ‫فرح غض طرفه‪ ،‬جل ضحكه التبسم‪ ،‬ويفتر عن مثل حب الغما م‪.‬‬

‫وكان يخزن لسانه إل عما يعنيه‪ ،‬يؤلف أصحابه ول يفرقهم‪ ،‬يكر م كريم كل قو م‪ ،‬ويوليه عليهم‪ ،‬ويحذر‬

‫الناس‪ ،‬ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره‪.‬‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫يتفقد أصحابه‪ ،‬ويسأل الناس عما في الناس‪ ،‬ويحسن الحسن ويصوبه‪ ،‬ويقبح القبيح ويوهنه‪ ،‬معتدل‬

‫المر‪ ،‬غير مختلف‪ ،‬ل يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا‪ ،‬لكل حال عنده عتاد‪ ،‬ل يقصر عن الحق‪ ،‬ول‬

‫يجاوزه إلى غيره‪.‬‬ ‫الذين يلونه من الناس خيارهم‪ ،‬وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة‪ ،‬وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواسا ة‬ ‫ومؤازر ة‪.‬‬ ‫كان ل يجلس ول يقو م إل على ذكر‪ ،‬ول يوطن الماكن ـ ل يميز لنفسه مكاناً ـ إذا انتهي إلى القو م‬ ‫جلس حيث ينتهي به المجلس‪ ،‬ويأمر بذلك‪ ،‬ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى ل يحسب جليسه أن‬

‫أحداً أكر م عليه منه ‪ ،‬من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه‪ ،‬ومن سأله‬ ‫حاجة لم يرده إل بها أو بميسور من القول‪ ،‬وقد وسع الناس بسطه وخلقه‪ ،‬فصار لهم أبا‪ ،‬وصاروا عنده‬ ‫في الحق متقاربين‪ ،‬يتفاضلون عنده بالتقوي‪ ،‬مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة‪ ،‬ل ترفع فيه‬

‫الصوات‪ ،‬ول تؤبن فيه الحر م ـ ل تخشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي‪ ،‬يوقرون الكبير‪ ،‬ويرحمون الصغير‪،‬‬

‫ويرفدون ذا الحاجة‪ ،‬ويؤنسون الغريب‪.‬‬

‫ص ّخـاـب‪ ،‬ول فحاش‪ ،‬ول‬ ‫كان دائم البشر‪ ،‬سهل الخلق‪ ،‬لين الجانب‪ ،‬ليس بفظ‪ ،‬ول غليظ‪ ،‬ول َ‬

‫عتاب‪ ،‬ول مداح‪ ،‬يتغافل عما ل يشتهي‪ ،‬ول يقنط منه‪ .‬قد ترك نفسه من ثلث‪ :‬الرياء‪ ،‬والكثار‪ ،‬وما‬

‫ل يعنيه‪ ،‬وترك الناس من ثلث‪ :‬ل يذ م أحدًا‪ ،‬ول يعيره‪ ،‬ول يطلب عورته‪ ،‬ول يتكلم إل فيما يرجو‬ ‫ثوابه‪ ،‬إذا تكلم أطرق جلساؤه‪ ،‬كأنما على رءوسهم الطير‪ ،‬وإذا سكت تكلموا‪ .‬ل يتنازعون عنده‬ ‫الحديث‪ ،‬من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ‪ ،‬حديثهم حديث أولهم‪ ،‬يضحك مما يضحكون منه‪،‬‬ ‫ويعجب مما يعجبون منه‪ ،‬ويصبر للغريب على الجفو ة في المنطق‪ ،‬يقول‪ :‬إذا رأيتم صاحب الحاجة‬

‫يطلبها فأرفدوه‪ ،‬ول يطلب الثناء إل من مكافئ‪.‬‬ ‫وقال خارجة بن زيد‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه‪ ،‬ل يكاد يخرج شيئاً من‬ ‫أطرافه‪ ،‬وكان كثير السكوت‪ ،‬ل يتكلم في غير حاجة‪ ،‬يعرض عمن تكلم بغير جميل‪ ،‬كان ضحكه‬ ‫تبسمًا‪ ،‬وكلمه فصل ل فضول ول تقصير‪ ،‬وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به‪.‬‬

‫وعلى الجملة‪ ،‬فقد كان النبي صلى ال عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير‪ ،‬أدبه ربه‬ ‫ك لَ​َعلى ُخ لُـٍق َعِظ يـٍم{ ‏]القلم‪ ،[4 :‬وكانت هذه‬ ‫فأحسن تأديبه‪ ،‬حتى خاطبه مثنياً عليه فقال‪ :‬‏}َو إِـنّ َ‬


‫‪GAMAL SUHIM‬‬

‫الخلل مما قرب إليه النفوس‪ ،‬وحببه إلى القلوب‪ ،‬وصيره قائداً تهوي إليه الفئد ة‪ ،‬وألن من شكيمة‬ ‫قومه بعد الباء‪ ،‬حتى دخلوا في دين ال أفواجاً‪.‬‬ ‫وهذه الخلل التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته‪ ،‬أما حقيقة ما كان‬

‫عليه من المجاد والشمائل فأمر ل يدرك كنهه‪ ،‬ول يسبر غوره‪ ،‬ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في‬

‫الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال‪ ،‬استضاء بنور ربه‪ ،‬حتى صار خلقه القرآن؟‬ ‫اللهم صل على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما صّليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‪ ،‬إّنك َح مـيد مجيد‪.‬‬ ‫ت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إّنك حميد مجيد‪.‬‬ ‫اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما بارك َ‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.