غالب شعث )سيرة ذاتيه(1-
من زمــــان..
من
أوراق مهــاجر 1
2
من زمان.. من
أوراق مهاجر
3
أخي "عابد"
4
إهـــــــــــــــــــــــــداء .. إلى روح أخي "عابد"..أستاذي ومعلمي.. الذي برع في التعبير عن حبــــه لي بسخريــــــاتة اللذعة مني. عساي أن أنجح في التعبير عن حبي وعرفاني له.. ولو بالسخرية من نفسي!
5
من زمن الحل م ..والتفاؤل
6
إستهـــــــــــــــل.ل..
قالوا: ثمة أشياء تبدو من "نافل القول" ،أو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو يدوونها ،لكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها. وأقول: وعندما يـتقد م بنا العمر ..نصبح أكثر صدقا مع ذواتنا. نعرف قدرأنفسنا .وربما نتوقف عن الحل م الكبيرة ،وندقق في إنتقاء صغارها. وعندما يقسوعلينا حاضرنا ،يصبح الماضي ملذنا ومأوانا ،ويطيب لنا أن نرسوعلى شطآنه ،ونحتمي من "صهد" الواقع ،أو "صقيعه"، بربيع الذكريات ،مستلهمين منها ما يجعلنا نستعيد شيئا من حرارة الشباب .وربما نلوذ بـ"الكتابة" إتقاء من تيه التداعيات ,وحلقاتها المفرغة. ثمة خواطر ،لو وضعناها على الورق ،تغدو مثل سفح الجبل ونحن نرقبه من أعل،ه ،لنكتشف فيها مساحات لم نكن نعرفها في ذواتنا )والخرين(. ففي الكتابة متعتين: متعة البوح ،ومتعة التواصل والكتشاف. * * * وأخي قال لي: والكتابة يا صديقي..هي ذلك الشكل المتاح )ولوخلسة( لتتعوو د على ممارسة الحـــــــــــرية ..تلك "الرفاهية" المستعصية. *
*
* 7
8
أما قبـــــــــــــــــــل..
فقد راو دتني ،في فترات متباعدة ،فكرة الكتابة عن "تجربتي ضية ،بحيث كانت السينمائية" ،التي حضظيت ببدايات طموحة ممر ض موضوعا لكتابات العديد من الكتاب أو النقا د السينمائيين في مصر، وفي العالم العربي ،وغيرالعربي. ول أحسبني كنت سأقع تحت تأثيرهذ،ه الفكرة وإلحاحها ،فكرة الكتابة، أوالتدوين ،لو كانت المور قد استمرت على الشكل الذي بدأأت عليه، إذن لتركت لهم ،أصحاب القل م ،مهمة إتما م ما بدأو،ه ،ومضيت أنت في تطوير تجربتك. أما وقد تغير الحال ،إثر حوار طال بين طبيعة الرياح وما تشتهيه السفن ،فقد آثرت أن ألجأ ،أو على وجه الدقة ،أن "أرسو" في مينائي المرسو م .ذلك هو ما كنت أسميه "سينما لفلسطين" ،تمهيدا لتحقيق حلمي الكثر طموحا" ..سينما فلسطينيه"! فكان أن اتسعت التجربة ،وباتت ذاكرتي تزخر بالكثير مما يمكن أن يقال ،وما يستدعي "التدوين" في هذا المجال. و يصا دف ،في وقت لحق ،ذلك اللحاح على مشاركتي في كتابة جزء من الملف الذي كانت مجلة "أ دب ونقد" القاهرية تعد لصدار،ه في أكتوبر ،1993بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة صديقي الكاتب المسرحي "محمو د دياب" .فيكون لهذ،ه المساهمة أثر في استرجاعي لبعض التفاصيل المبكرة لتجربتي مع السينما ،والرواية بشكل عا م. كأنما أمسك ت ت يدي بخيط البداية. ثم تتطورالفكر،ه ،فكرة الكتابة عن تجربتي السينمائيه ،الى مشروع أوسع ،وهو كتابة تقترب من ما يعرف بتدوين السيرة الذاتية .بداية، بهدف البحار في الذات والتأمل فيها وفيما كان من حولها .ومن ثم، لمجر د إضفاء قيمة ما إلى الوقت الذي كان يزحف ببطء قاتل .ذلك أثناء 9
"فراغي" ،الذي طال واستطال ،في انتظار صدور التصريح لي ،من قبل السلطات السرائيلية ،بدخول أراضي "الحكم الذاتي" ،بعد توقيع إتفاق "أوسلو" العقيمة ،وانتقال دائرة عملي " ،دائرة الثقافة" في منظمة التحريرالفلسطينية ،من تونس الى "غز،ه" .ومن ثم إلى "را م ا" ،التي رضيت بالمقا م المؤقت فيها لقربها من مدينتي ومسقط رأسي..القدس. ومما جعل الفكرة تتطور أكثر وأكثر ،هو سؤال: من أين أبدأ؟ هل أبدأ منذ أن تفرغت للعمل في منظمة التحرير..في "بيروت"؟ أ م منذ أن بدأت حياتي العملية ..في "القاهرة"؟ أ م منذ بدء دراستي المتخصصة في السينما ..في"فيينا"؟ أ م من حيث ابتدأ ت ت معاناتي الصامتة من القمع الذي كان يسكت أشواقي إلى الستزا دة من إشباع إهتماماتي الفنيه ..في "غز،ه" ..ومن ثم في "السكندرية"؟ وتظل السئلة تعو د بي الى الوراء شيئا فشيئا .لن الحكاية تتعلق بتاريخ وبدايات تشكيل وعيي ،ليس فنيا فقط ،ولكن وعيي بشكل عا م.. فنياا ،وإنسانيا ،واجتماعياا ،وسياسيا ا أيضاا .فالحكاية ل تتجزأ. ثم تشغلني ،بشكل عابر ،مسألة "الشكل" .ولكنني أتغلب عليها بعد أن أسترجع في ذهني المعارك ،التي قامت ولم تقعد ،حول "الشكل" و "المضمون"..إلخ .فأتمثل عندها بالقول القائل" :لكل حا دث حديث". شيء ما يجعلني أتر د د ،في بعض الحيان. أغلب الظن أنه ذلك الخلط أو الندماج اللإرا دي )الذي تجاوز عندي القدرالمألوف( بين الخاص والعا م ،أو ذلك القتحا م المتبا دل بينهما. وهي حالة ربما كانت تفرضها حياة المنفى ،وأوضاع "الثورة" ،التي انتميت إليها والتزمت بمبا دئها..في الشتات ،ومعاناة قسوة الغتراب والوحدة. فهل يليق بي أن تتضمن سطوري ،أو ما بين سطوري ،ما يشي من قريب او من بعيد بأن إلتزامي المطلق أما م نفسي تجا،ه قضيتي ،ذلك اللتزا م الذي ارتضيته بمحض إرا دتي واختياري ،قد ساهم في تدمير جانب ها م من جوانب حياتي الشخصية؟! 10
والكثرحرجا من هذا وذاك أن ل أجد دليل على تقصيرر ما ،كان يتراءى لي ،أكثر دللة مما كان في تجربة كنت أنا أحد أطرافها .وهنا تبدو المسألة وكأنها من جراء موقفي الشخصي من الشياء .وتغدو شها دتي خلوا من الموضوعية التي أفنيت عمري في محاولة التمسك بأهدابها ،والصدق الذي أتوق إليه و أتباهى بعشق ممارسته. لكن مهلا ! فأنا ما زلت أستبعد ،أو ،ل أتعوجل ،فكرة النشر التي يحاول بعض أصدقائي المقربين أن يقنعوني بها. كذلك فأنا ،بالرغم من عشقي للتاريخ ،ل أنوي "التأريخ" للسينما الفلسطينية بقدر ما أنا أشفق أن ل يتمكن ذلك الذي )كان ا في عونه وألهمه الصواب( سوف يأخذ على عاتقه تلك المهمة ،من أن يلم إلماما كافيا بالدور المتواضع الذي قدر لي أن أقو م به في فترة من فترات نشوء ما سوف يسمى بالسينما الفلسطينية .فلعل ما سير د في سيرتي هذ،ه ،مما له علقة بها ،أن يسد بعض الثغرات التي سوف يتعثر بها. وأخيرا..وليس آخرا.. لكأني ،بالكتابة ،إنما أحاول إسكات أشواقي المتأججة إلى لغتي التي أحببتها وما زلت أهيم بها عشقا..لغة السينما .وكأني ما برحت أتطلع إلى اليو م الذي سوف أتمكن فيه من العو دة إلى مزاولة الكتابة عن حكايات الوطن ،وعن النسان وأشواقه للحق والعدالة، بالنور..والظلل ..والغنيات. *
*
*
11
Flash back فل ش باك 12
"فل ش باك"هو الصطلح الذي قامت "اللغة السينمائية" بتكريسه، بمعنى العو دة إلى الماضي ،أثناء السر د ،وكلما اقتضت الضرورة استكمال أو توضيح موقف أو معلومة قد تبدو بحاجة إلى ذلك. وهذا مما يهوون عليي المر و يجعلني ،منذ البداية ،ل أتر د د كثيرا في الستعانة به ،بين الحين والخر ،في تدوين سيرتي الذاتية هذ،ه. *
*
*
13
أ م العابد ..وأبوالعابد
غـــــــــــــــــــــزز ه .. 14
قالت لي أمي ذات يو م*: خالك "علي" سوف يفرح بك ،فقد كان دائما يتمنى أن تكبر،وتدخل الجامعة وتصبح مهندسا ليفخر بك. برضاي عليك ياومه تبقى تزور،ه في السكندرية..وتسمع كلمه. ثم أكملت بعد أن غ و صت وابتلعت دمعتها: أخوك "عابد" ،بعد الهجرة واللي صار ،راحــت عليــه يــا حســرتي،وما كملش تعليمه ،وهويو قاعد أل يعلم بحاله في الصــحرا ،مســتني اليو م اللي إنت تدخل فيه الجامعة ،وتتخرج ،وتشيل الحمل معا،ه. أما والدي ،فلم يز د على ذلك سوى دعاء،ه المفضل ،بصوته الرخيم ونبرته المميزة: ..ا يرضى عليـك..ويحنـن عليـك ..ويوفقـك ..ويجعـل لـك فـي كـلطريق صديق. لم أكن أقل حرصا من خالي "أبو نبيل" ** المقيم فــي الســكندرية ،أو أخي "عابد" المقيم في السعو دية ،على تحقيــق تلــك الحل م الـتي بـاتت تراو د كل المهات ،أو الباء الذين فقدوا الوطن والرض. عشت السنوات الخمس ،منذ هجرتنا من"القدس"عا م ،48فــي"غــزة"، وأنــا أؤمــن أن العلــم ،كمــا كــان أخــي يلــح ويعيــد ويزيــد فــي رســائله المنتظمة لي من منفا،ه ،هو الهوية البديلة عن هوية اللجيء المفقو دة المسلوبة. ___________________________________________ )*( )**(
عام 1953 هو خالي "أبو نبيل" الذي تعودت الم أن تذكر ه باسمه ل بلقبه.
وتوالت سنوات الدراسة الثانوية بحلوها ومرها. 15
على أن أبرز أحداث تلك السنوات كانت السنة التي تم فيها زواج شقيقتي "إكتمال" وانتقالها إلى جدة حيث يعمل زوجها "رشا د الدباغ" مديرا لفرع المؤسسة الفلسطينية العتيدة ،البنك العربي ،في مدينة "جد،ه"السعو دية .فلم يخفف ذلك من ثقل العبء فحسب ،بل أضاف لونا من الفرحة إلى السرة اللجئة طالما اشتاقت إليه. وجاءت السنة الدراسية الثانوية الخامسة والخيرة" ،التوجيهية" ،وهي سنة الختيار ما بين مشأعب التخصص الثلث :أ دبي..علمي ..ورياضي. وكان من الطبيعي أن أختار الشعبة الرياضية التي تؤهلني لصبح مهندسا يحقق آمال والد و ي ،ويفخر بي خالي "أبو نبيل" ،وأشيل الحمل مع أخي "عابد". لكن مدير مدرستي )أ .ممدوح الخالدي( قرر أن ينقلني إلى شعبة العلو م ،لسبب كان يرا،ه مناسبا. وهذا مما ترتب عليه إرباكا في مجرى الدراسة ،ومما اضطرني إلى إعا دة السنة الخيرة ،حتى أتمكن من إعا دة التقد م لدخول شعبة الرياضة التي أريدها ،والتي كانت في نظري تؤهلني للدراسة الجامعية التي سوف تقوربني من أشياء أهواها .فكان لي ما أر دت. *
*
16
*
منظر عا م لمدينة القدس من جبل الزيتون
17
مبنى "هوسبيس النمسا" الذي يطل على مدخل دارنا في مدينة القدس القديمه
القاهـــــــــــر ه.. 18
ولول مرة أغا در فيها "غزة" إلى مدينة "القاهرة" ،بعد هجرتنا من مدينة "القدس" وأنا في الثالثة عشر من عمري .فهذ،ه هي بداية أسفاري وهجراتي وغربتي عن الوطن ..و الهل. في القدس ،كانت كلمة "هنا القاهرة" ،التي دأبت على سماعها ،منذ طفولتي المبكرة ،من را ديو المقهى المجاور لدارنا ،تشكل لي حلما. كانت "هنا القاهرة" توازي في وجداني ،كما قال أحدهم ،تلك الكلمة الساحرة "إفتح يا سمسم!" ،التي دأبنا على قراءتها في "ألف ليله وليله" ،أو سماعها من برامج الذاعة المصرية ،التي كانت تجول بنا في عوالم جديدة. فلقد ولدت في تلك الدار في عا م ،1934وهو نفس العا م الذي بدأت " دار الذاعة المصرية" بثها من القاهرة .وتربى سمعي على برامجها الذاعية ،بفضل را ديوالمقهى المجاور ،ناهيك عن أغاني ذلك "الزمن الجميل". وبالرغم من أن قراءاتي لل دب المصري ،أثناء دراستي الثانوية في "غزة" ،قد خلقت لدي تلك القربى النسبية من الجواء المصرية، خصوصا روايات الكاتب الكبير المتميز "نجيب محفوظ" التي طافت بي في أنحاء القاهرة ،والحياء القديمة منها بالذات ،إل أن واقع المدينة كان على غير ما كنت أتصور،ه. استقبلني صديقي "حسين غيث" في بيته الكائن في ضاحية "الجيزة"، بشارع يحمل إسما لم يطرق سمعي من قبل"..مراحق بن عامر"! أخذ "حسين" ،الذي سبقني لكلية الهندسة بعا م ،نتيجة لرسوبي في السنة الماضية ،يدور بي مستعرضا معرفته بالقاهرة ومعالمها ،بحيث لم يترك لي فرصة للتقاط أنفاسي .فمن أهرامات الجيزة إلى مصر 19
القديمة..إلى جبل المقطم..إلى مصر الجديدة..إلى سيدنا الحسين..إلى الموسكي..إلى مختلف أحياء المدينة العظيمة ،التي يشهد لها تاريخها وآثارها وماضيها وحاضرها وثقافتها ومذاقها ..وأهلها وسلوكهم ورقتهم وشهامتهم ..ومرحهم وصخبهم وضجيجهم. إل أنه سرعان ما شوكل لي هذا الصخب صدمة لم أكن أتوقعها. كان ذلك ،ويا للدهشة ،في عا م !!! 1954 /53 *
*
السكندريه.. 20
*
وسرعان ،أيضا ،ما خطر لي أن أقو م ،حسب توصية والدتي ،بزيارة خالي في السكندرية. وهناك في السكندرية أفاجأ بأجواء مختلفة عن أجواء القاهرة ،مما جعلني أعيد النظر في أمر مكان دراستي .يحرضني على ذلك ،إلى جانب الدوافع الخرى ،وجو د كل من"إبراهيم شرف" ،و"ماجد بسيسو" ،زملء الدراسة الثانوية اللذان استقر بهم المقا م للدراسة في السكندرية. "إبراهيم" ،صديقي في سنوات الدراسة الثانوية ،الذي أجبر،ه مدير المدرسة ،أيضا ،على دخول القسم ال دبي الذي لم يؤهله إل لدخول كلية الحقوق .ولكنه أصر ،إلى جانب ذلك ،على إعا دة التقد م لمتحان الثانوية العامة )التوجيهية( مرة أخرى ،فنجح في السنة التالية في دخول كلية الطب وفي النتقال إلى السنة الثانية لكلية الحقوق ،وما برح يعلن عن إصرار،ه على أن يظل منتسبا إليها مصمما على مواصلة الدراسة في الكليتين .وهو يزيد على ذلك بأنه سيكون طبيبا ..ونقيبا للطباء! "نا دي فلسطين" ،الذي كان يجمع نخبة من الجالية الفلسطينية ،والذي كان يبدو لي وكأنه قطعة حرة باقية من الوطن المغتصب. وأونى لي أن أنسى تلك المناسبة ،التي ما زالت ذكراها محفورة في ذاكرتي ،وهي استجابة الزعيم "جمال عبد الناصر" ،في ذلك الوقت، لزيارة "نا دي فلسطين" ،حيث استقبلته فرقة تشكلت عفويا من فتيان النا دي وفتياته وأطفاله بالنشيد الفلسطيني الجميل "موطني.".. ظل الزعيم واقفا في مدخل الصالة ،ولم يتخذ مكانه إل عندما انتهى الفريق من أ داء النشيد. 21
وذلك الخطاب الوطني الذي كان يقطر صدقا وتفاؤل ،والذي سمعت فيه لول مرة قولة الزعيم الوطني الشهيرة ،التي تركت أثرها في وعينا: "ما أخذ بالقوة ل يستر د إل بالقوة". بيت خالي ،الذي تفوح فيه رائحة الوطن ،فلسطين ،ويذكرني ببيته في "يافا" قبل أن ينتقل منها عا م 1946مديرا لفرع المؤسسة الفلسطينية في السكندرية. أول د وبنات خالي ،ومستوى المعيشة المتميز لمدير فرع البنك العربي ..المؤسسة الفلسطينية هناك. لكم كنت دائما أحلم وأتمنى أن يصبح لي ،لفرط محبتي لخالي وإعجابي به ،بيت منظم مثل بيته ،ومكتبة حافلة بالكتب واسطوانات الموسيقى مثل مكتبته ،وزوجة أنيقة حنونة مثل زوجته ،وأول د أذكياء مثل أول د،ه ،يجيدون العزف على آلة "البيــانو" الساحرة التي تتصدر المكان ،فيملونه بهجة وسعا دة ..إلخ. وأخيرا وليس آخرا ،الهدوء ،والبحر الذي كنت أعشقه ،ويذكرني بطفولتي وصباي ،وببحر"غزة" ..و"يافا". كل ذلك كان دافعا لي لكي أفكر في إستر دا د أوراقي المقبولة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة ،وأن ألتحق بكلية الهندسة في السكندرية. وبالفعل باشرت في الجراءات المطلوبة ،بعد أن استشرت أخي "عابد" ،وحصلت على قبولي فيها. كان هذا مما أثار غضب خالي ،الذي اتهمني بالنفرا د بالرأي ،أنا العديم المعرفة والتجربة ،الذي كان يفترض أن أستنير برأي من هو أكثر مني معرفة وتجربة. وفي أحد اليا م ،التي قضيتها ضيفا في بيت خالي ،وكنت أنعم فيها بصحبة أصدقائي القدماء والجد د ،وأبحث بجد عن مسكن مستقل لي أسوة بهم ،وأنتظر بشغف بداية السنة الدراسية ،فوجئت بخالي يطلب
22
مني الستعدا د ،في صباح الغد الباكر ،للسفر إلى القاهرة برفقة أحد موظفيه في البنك ،بعد أن كان قد نجح في استر دا د أوراقي من كلية هندسة السكندرية ،للعو دة بها إلى هندسة القاهرة ،بحجة مكانة جامعة القاهرة وسمعتها وتفوقها العلمي. لم تفتني فكرة المخاوف التي قد تكون قد ساورت الخال من أن تستمر إقامة إبن أخته في بيته ،وهو الذي ل يستطيع أن يصرح بغير الترحيب به ،مراعاة لشقيقته الكبرى "إ م العابد" ،التي كانت دائما بمقا م والدته. وإن كانت الوالدة قد أوصت وشد دت التوصية لي باختصار مدة الزيارة بقدر المكان ،مكررة لي مثلها الشهير" ..ضخـ ت ف تتـعو م"! إل أن الخال كانت له حساباته ،وتحسسباته .فوجو دي في القاهرة يعفيه ويخلصه من أي حرج. في القاهرة عدت لجد الصخب يقتحم هدوء نفسي ويغتال لحظات صفائي ويلوث سمعي الذي لم يألف مثل هذا الضجيج ،والذي تعو د وتربى منذ طفولتي على الهدوء. وعدت لمقارنة أجواء المدينتين .إلى أن استقر بي الرأي على العو دة إلى السكندرية مهما كلفني المر .لنني أيقنت أني لن أستطيع أن أتحمل كل ذلك الصخب طوال سنوات الدراسة الخمس. استشرت أخي "عابد" ،الذي كان بمقا م الوالد والمعلم ،فترك ليه حرية الختيار. راسلت صديقي "إبراهيم" ،طالب الطب والحقوق ،وكلفته بإعا دة تسجيلي في كلية هندسة السكندرية .كما اتفقت مع الصديق "ماجد" أن يحجز لي الغرفة الخرى الخالية حيث يسكن في بيت "المدا م" اليونانية وابنتها "ألكساندرا" ،في أحد أحياء السكندرية" ،كامب شيزار"، القريبة من كلية الهندسة.
23
24
وعند وصول القطار القا د م من القاهرة إلى محطة "سيدي جابر" في السكندرية ،وقفت أبحث بين المستقبلين عن صديقي "ماجد" ،الذي سوف يأخذني مباشرة إلى مسكني الجديد. لكنني فوجئت بخالي وزوجته وهما يقفان على رصيف المحطة ،حيث صا دف أن كانا هناك بانتظار وصول أحد الصدقاء .فما كان من"أحمد حسين" ،السائق الخاص ،الخالي الذهن مما يجري أمامه من المفارقات ،إل أن تقد م وحمل حقيبة سفري إلى السيارة بين دهشة الجميع. بعد تناول الغذاء ،في بيت خالي ،حملت حقيبتي. على فين؟ على مسكني ..في "كامب شيزار"!مفاجأة أخرى للخال. *
*
*
ثم تبدأ الدراسة في كلية الهندسة. ربما تجدر الشارة بأن قبولي لدراسة "فن العمارة" في كلية الهندسة لم يكن سوى محاولة مني للقتراب من حلمي الدفين بدراسة الفنون، للوصول إلى "فن السينما" بالذات ،حيث لم يكن ذكر دراسة فن السينما في ذلك الوقت براء من الوصف بالعبث والكل م الفارغ ،إن لم يكن من ما يندرج تحت بند المحرمات .ولم أكن أمتلك ذلك القدر من الشجاعة لطالب بـ"ما ل تقبله التقاليد ا ا لسرية" ،علوة على أنه لم يكن المعهد العالي للسينما في مصر قد تأسس بعد. كانت موا د السنة العدا دية في قسم العمارة ل تخلو بمعظمها من سهولة وسلسة ،إن لم تكن متعة .بحيث لم يكن أ داء واجباتي اليومية تجا،ه دراستي يتطلب مني سوى بضع ساعات .أعو د بعدها إلى ممارسة ما تيسر من الهوايات .القراءة ،أو مشاهدة أفل م السينما ،أوغيرها من الممكنات.
25
كان شقيقي"عابد" ل يفتأ يوصيني بضرورة التزو د بالمطالعة و "الثقافة العامة" التي ل تقل ضرورة عن الموا د الدراسية في تأسيس النسان .ولم ينس أن يهون علي ما سوف يترتب على ذلك من زيا دة في العبء المالي ،ويطلب مني عد م التفكير في ذلك .بل كان دائما ما يؤكد لي أنه يشعر بالسعا دة وهو يحاول أن يحقق لخيه الصغر ما كان يتمنا،ه لنفسه .تلك الجملة التي كان ال خ الكبر ير د دها بكل الحب والصدق. وتبدأ تدخلت الخال" ،مدير" فرع البنك العربي بالسكندرية ،بكل ما عند،ه من النوايا الحسنة ،بحيث تصل إلى التحكم في صرف الحوالة المالية المرسلة شهريا من "عابد" ،عن طريق نفس البنك ،والتي كانت قيمتها تثير غضب الخال ،وتزيد من إصرار،ه على تقنين المصروف. حتى شراء الكتب الخاصة بالدراسة ،يرى الخال بأنه غير ضروري. فعندما كان في الجامعة الميريكية في بيروت ،كما كان ل يفتأ أن يتباهى ،كان يستعير هذ،ه الكتب .بل ،كثيرا ما كان يسهر الليالي لنسخ ما جاء فيها توفيرا لثمنها. كان ل يمل من معايرتي بأني أهدر وقتي ول أستغله في المذاكرة .ول يمل من طرح نفسه كمثال يحتذى به والتباهي بأنه ،أثناء دراسته الجامعية ،كان ل يترك ساعة من وقته تضيع هدرا. ويتزايد التها م لي بالهمال ،مما جعلني في أحد المرات أحضر له كراسات موا د الهندسة العملية ،وفيها تقديرات ممتازة من أساتذتي. ..ولو! إنت برضه مهمل! أنا كنت أ درس 12ساعة في اليو م. طب أنا ،يا خالي ،مش محتاج لكثر من ساعتين ثلثه في اليو م.فيعتبر ر دي إهانة له. ..يعني إنت اللي ،ماشاء ا عليك ،عبقري زمانك!طيب كيف ضاعت عليك سنة "التوجيهي"؟ وميسقط في يدي .وتستمر المعايرة. ويستمر حجز الحوالة المالية الشهرية ،وصرف مجر د أجزاء منها بعد تقديم قائمة بتفاصيل المصروفات في كل مرة.
26
ول سبيل لثبات أن أوقاتي ل تضيع هباء .فلقد تعو دت ،بتشجيع من أخي ،على أن القراءة والطلع والثقافة العامة ل تقل أهمية عن مطالعة وحفظ الدروس المقررة. لكن الخال يرى غير ذلك .وبدون نقا ش: الول دروسك المقررة وشها دتك ..وبعدين الثقافة العامة.وليش ما وريتنا شطارتك في سنة "التوجيهية" ؟ وال ناوي برضه تاخد سنوات الجامعة كل سنة بسنتين؟! كان الخال ل يتورع أن ينطوي حديثه ،الذي ل يمل من تكرار،ه ،على ما يشبه التها م بالطيش والهمال. كان يرى ،ولعله محق في ذلك ،أن القاهرة وجامعتها العريقة هي الفضل لدراستي ،خصوصا وأن "مجموعي" في امتحان التوجيهية )الثانوية العامة( قد أوهلني للقبول لدراسة الهندسة المعمارية فيها. لم يغفر لي أنني "ل أ درك قيمة نصائحه وحكمتها" ،وأنني خالفته و"كسرت كلمه". هذا كله ،بالرغم من ما كانت للخال من صفات حميدة ما زلت أعجب بها منذ الصغر .فقد كان واسع الطلع ،مرحا خفيف الظل ،محبا للموسيقى والطرب ،أبا مثاليا وصديقا لول د،ه وزوجته .بحيث كنت أتمنى أن تكون لي في المستقبل مثل هذ،ه المزايا. بيت ،وزوجة محبة ،وأول د سعداء ،ينعمون برغد العيش. *
*
*
يعو د الخال من أسفار،ه ،التي يتطلبها عمله إلى أوروبا ،مثل ،محمل بهدايا وألعاب وكتب واسطوانات موسيقية ليباهي ويشارك الخرين بمعرفته وثقافته ،ويضفي السعا دة والمتعة على ذويه ومجالسيه. ويتزايد إعجابي بخالي ،ثم ل ألبث أن مأصد م.
27
وفي أحد المرات عا د الخال ،من ضمن ما عا د به ،بلعبة سحرية عبارة عن "كوتشيته" مصممة بشكل يتيح له التعرف على الكارت الذي يختار،ه أي شخص من بين الكروت الخرى بعد أن يعيد،ه إلى مكانه بدون أن يترك الفرصة لحد غير،ه أن يرى تفاصيله .ولقد ظلت هذ،ه اللعبة السحرية هي متعة السهرة في تلك الليلة المشهو دة .الكل يحاول ويعاو د المحاولة ،عبثا ،لكي يعرف السر الذي يتيح للخال معرفة الكارت الذي تم اختيار،ه ثم أعيد إلى مكانه بين بقية الكروت بدون أن يرا،ه أحد سوى اللعب. كان من السهل أن أكتشف الحيلة ،لسبب بسيط وهو أن تصميم أبعا د ورقة الكوتشينة المستطيلة الشكل كان يعتمد على خدعة ذات خواص هندسية دقيقة. وهيهات أن يصدق الخال أنني اهتديت إلى الحل بنفسي .ويصر على أن أحدا ما قد كشف لي وعورفني على السر مسبقا .كأنه يستكثر علوي قدرتي على التفكير ،أو كأنه يستهين بذكائي .فيتهمني بما يشبه الكذب وال دعاء. ومن النوا در التي ظلت عالقة في ذاكرتى أنه ،بعد عو دة الخال من إحدى أسفار،ه )هذ،ه المرة إلى إسبانيا( أخذ يحكي أما م أفرا د العائلة عن مشاهداته ومسموعاته ،ومنها أن الموسيقار السباني الذائع الصيت " دي فايا" كان ذا أصل عربي ،واسمه الصلي "ضيف ا"! وعبثا حاولت أن أقنع الخال أن هناك لبسا سببه طريقة الكتابة السبانية للسم ، de Fallaحيث أن الل م المز دوجة في هذ،ه الحالة تنقلب إلى ياء ،فيصبح السم هو " دي فايا" وليس " دي فالل"..أو "ضيف ا" كما يتراءى للبعض ،تماما كما هو الحال مع إسم المدينة السبانية الشهيرة Marbellaالذي ينطقها أهلها "ماربضويا" ..وليس "ماربيلل". إنت إ ش عرفك؟ معلومات عامة. -طب بل ش فلسفه.
28
وهيهات أن تتاح لي فرصة أشرح فيها لخالي كيف أحببت في صباي المبكر ،في "القدس" ،جارتي ذات الصول السبانية فأحببت بالتالي أغانيها ولغتها ،لدرجة أن أخي "عابد" ،الذي كان يلحظ عن بعد تلك العلقة النامية ويشجعها ،قا م بإهدائي كتاب "علم نفسك اللغة السبانية" .وكيف دأبت جارتي الصبية" ،هنيه" ،على الشراف على إتقاني للفظ كلمات تلك اللغة. * * * ثم يعو د الخال لتهامي بالهمال ،وبأنني ل أقودر غربة أخي ومشقة حصوله على النقو د التي يرسلها لي. وتنقلب حياتي إلى جحيم. وبالرغم من محاولتي الخذ بتوصيات أخي "عابد" لي بأن أحافظ على "شعرة معاوية" التي تربطني بالخال ،إل أنني لم أستطع الستمرار في هذا الحال. وهكذا قررت ،بعد طول معاناة وتفكير ،وبعد أن أيقنت من استحالة الجمع بين إرضاء خالي ،وإرضاء قناعاتي والمحافظة على كرامتي واستقللي وحريتي ،التوقف عن الزيارة السبوعية لتناول طعا م الغذاء في بيت خالي .فأنا محاصر بتعليماته المتشد دة .ل أستطيع ،بالرغم من محاولتي ،أن أكون كما يريدني الخال أن أكون. وتعاو د إمرأة خالي الطيبة ،التي كانت تبا دلني المو دة ،محاولتها لصلح ذات البين ،وتعو د الميا،ه إلى مجاريها ،ثم ل تلبث أن تتعكر الميا،ه ،إذ يعو د الخال إلى تدخلته ونصائحه وفرض وصايته، وتعليماته ،واتهاماته بإهمالي وتقصيري .وعبثا أحاول أن أثبت، بتأشيرات أساتذة الكلية على كراسات الموا د العملية ،إعترافهم بتقدمي الدراسي المتميز .فلم تكن امتحانات الفصل الدراسي الول قد بدأت بعد. هذا إلى جانب معاو دة تر ديد،ه دائما بأني ل أقدور تضحيات أخي الذي يكدح ويشقى في "السعو دية" ،وأني أرهقه بمصاريفي الزائدة عن اللز م .سينمات ..ومجلت ..ونا دي ..و"شياكة" و "صرمحه")!( 29
و إتهامي بأنه بسلوكي هذا إنما أحر م أخي الكبر من مجر د التفكير في مستقبله وحقه في أن يصبح له زوجة وأسرة. وأنا أحاول عبثا كسب ثقته التي حرمني منها لسباب تـنم عنها شخصيته الصارمة .شخصية "المدير"* الذي ،كما وصفه بعضهم ،قد تضخمت ذاته ،مما زا د من عشقه لها ،لدرجة حالت دونه والقدرة على العتراف بحق الخرين في اختياراتهم ،وفي معتقداتهم وقناعاتهم. ولكن ،أخيرا ،ينفذ صبري ويبلغ ضيقي بتلك الوضاع لدرجة تجعلني أقرر ترك الدراسة والعو دة إلى "غزة" ،حيث بدأت العمل مدرسا في مخيمات اللجئين ،مما أثار غضب أخي "عابد" ،الذي لم ير بدا من الستجابة لرغبتي في النتقال إلى "جدة" ،لكي أعمل هناك ،وأ دخر ما يموكنني من أن أستقل ما ديا ،ومن ثم أقرر السفر إلى البلد الذي أختار،ه، والذي أستطيع فيه أن أمارس العمل والدراسة ،معتمدا على نفسي. أسوة بأحد زملئي الذي أتاحت له أسرته فرصة الدراسة في أميريكا. ولول أن عا دت لخي "عابد" ذكريات معاناته ،هو أيضا ،وكما أسور لي لحقا ،من استبدا د "المدير" في السنوات الخوالي ،حينما كان ل بد من اللجوء إليه بعد الهجرة من "القدس" ليجد له عمل في أي مكان، لما أ درك معاناتي ،ولما غفر لأخيه الصغر أنه خرج عن طوعه هو الخر. وسرعان ما وصلتني تذكرة الطائرة وعقد العمل في السعو دية. *
*
*
___________________________________________ )**(
بدأ حياته العملية بعد أن تخرج في الجامعة الميريكية ببيروت مديرا لمدارس مختلفة في أنحاء فلسطين ) عكا ..وصفد ..والخليل (..ختمها مديرا لمدرسة العامرية الثانوية في يافا ،ومن ثم )عام ( 1946مديرا لفرع البنك العربي ،المؤسسة الفلسطينية ،في السكندر
30
جـــــــــزد ه .. وتبدأ ملمح المرحلة الجديدة من حياتي في أولى ساعات السفر .ففي الطائرة المتجهة إلى "جود،ه" ،تبا دلت الحديث مع جليسي في المقعد المجاور ،المسافر أيضا إلى "جدة" ،لعرف أنه لم يكن سوى الفنان التشكيلي المصري المعروف" ،هبه عنايت" ،المتعاقد مع دار حديثة للصحافة والنشر هناك. وفي مطار "جدة" ،أفاجأ بـ"كاظم" ،صديق شقيقي "عابد" ،ورفيق طفولته وشبابه في القدس ،بانتظاري ..وانتظار الصديق الفنان "هبه" الذي جاء ليحل مكان صديق ثالث لهما كانت قد انتهت مدة خدمته في المؤسسة الصحفية المشار إليها ،وهو الفنان "صلح جاهين" ،الذي كان قد غا در "جدة" لتو،ه. *
*
*
لم يساورني الند م لحظة واحدة لتخاذي تلك الخطوة ،حيث عدت إلى حظيرة أخي "عابد" ،معلمي وأستاذي ،بعد حرماني من رعايتة لسنوات خمس ،هي مدة الدراسة الثانوية في "غزة" ،بعد الهجرة من "القدس" ،إثر فقدان الوالد لوظيفته ،واضطرار ال خ الكبر للعمل لكسب العيش في "السكندرية" ومن بعدها "جدة" ،بعد حرمانه من إتما م تعليمه الجامعي. فلقد أتيح لي بوجو دي إلى جانب أخي ومجموعة الصدقاء المتجانسة والمتكاملة ثقافيا ،المر الكثر أهمية ،إمكانية التسلح بخبرات ومعارف لكثير من المور الحياتية والعلقات النسانية التي كنت أفتقر إلي مثلها أثناء غيابه. * 31
*
*
في البداية لم يكن عملي ،في مجموعة شركات "العويني وشركا،ه"، التي تتميز من بينها شركة سيارات " دو دج" الميريكية التي تنتج سيارات " دو دج" و " ديسوتو" و "كرايسلر" ..إلخ ،سوى كاتب على اللة الكاتبة ،التي أوصاني أخي بأن أتزو د بخبرتها قبل السفر. كان من الطبيعي أن أحاول أن أزيد من مهارتي بمزيد من التدريب على سرعة الكتابة .بحيث وجدت نفسي ،بالتدريج ،أمل أوقات فراغي أثناء ساعات العمل ،بكتابة ما يعن لي من الخواطر .واستهوتني فكرة كتابة رسائلي على اللة الكاتبة مما ل يدع مجال للخرين للشك بأني أقو م بإهدار الوقت بأعمال خاصة ،بل إنني أقو م بالتدريب على سرعة الكتابة على اللة. ولقد حظي صديقي "إبراهيم" ،الذي واظبت على مراسلته برسائل مني أصف فيها جانبا من حياتي في تجربتي الفريدة .فلم تخل الشهور الثلثين التي قضيتها في "جدة" من طرائف وتجارب حياتية و دروس. ولقد تعو دت ،أنا وصديقي ،أن تأخذ رسائلنا المتبا دلة شكل أقرب إلى المذكرات التي تحتوي على مختلف الحكايات والخواطر .كما تعو دت في كثير من الحيان أن أحتفظ بنسخة "كربون" من هذ،ه الرسالة أو تلك. *
*
*
لم يكن هناك ،في "جدة" ،حياة اجتماعية منفتحة ،كما في "القاهرة" أو في "السكندرية" مثل .بمعنى وجو د أماكن للتسلية والسهر في نهاية السبوع .فلم تكن هناك نوا د ،أو دور مسرح أو سينما. وكانت سهرة نهاية السبوع تقتضي التفاق مسبقا مع ما تيسر من القارب أو الصدقاء لقضاء السهرة في منزل أحدهم. وما زلت أتذكر الليالي التي كان الفنان "هبه عنايت" يضفي عليها من روحه المرحة ،وموهبته في الغناء وتقليد نجو م الكوميديا ونجو م الطرب ،والسياسة .ز د على ذلك مقدرته العجيبة في تقليد نباح الكلب
32
المختلفة أنواعها .فهو يميز بين كلب الفلحين ،وكلب الحضر، وكلب الفقراء ،وكلب الغنياء)!( أما "النا دي" ،الذي كان الفضل في تأسيسه ،واتخاذ مقر له قرب أحد الماكن التي اشتهرت باسم "كيلو عشرة" لوقوعها على بعد عشرة كيلومترات بعيدا عن البلدة ،يرجع إلى طيب الذكر ،الصديق الفنان "صلح جاهين" ،الذي قا م بتأليف النشيد الخاص بالنا دي ،والذي قا م بتوليف لحنه أخي"عابد": حويوا النا دي ..حويوا النا دي.. أجدع نا دي في الحته دي.. الدنيا بور،ه نا دينا.. هوي ف وا دي ..واحنا ف وا دي! ... ... ... ... إلى آخر،ه من كلمات مرحة ساخرة يؤ دونها بمنتهى الجدية في كل مرة يجتمع شمل العضاء في مقر "النا دي" ،الذي يتألف من بضعة صخور في منطقة صحراوية بعيدة عن النظار. ولقد حرص الفنان "هبه عنايت" على بعث الحياة في النا دي واستمرار نشاطه بعد غياب زميله الفنان "صلح جاهين" .وعلى فتح المجال لنتسابي ،وانتساب مزيد ممن هم من جيلي من أشقاء وأقارب الشله. أحدهم كان "جميل" الشاعر الرقيق ،الشقيق الصغر لحد أفرا د الشلة، ويليه ابن عمه "سعيد" الذي كان يتميز بحجمه الضئيل ،الذي ل يوحي بأن صاحبه يمتلك الخبرة العميقة في رياضة كمال الجسا م .والذي أصر على تكوين فريق لممارسة هذ،ه الرياضة .و"كمال" إبن خالتي، الكهربائي ،صاحب الحكايات ،الفريدة من نوعها ،عن مشاهداته بينما هو يعتلي أعمدة الكهرباء ،أثناء عمله الصلحي ،ويطل على ما يقع وراء الجدران في حدائق القصور. وينضم إلينا أخيرا صديقي"حسين" ،الذي توفي والد،ه فجأة ،تاركا له رهطا من الخوة والخوات الصغر سنا في "غزة" ،مما اضطر،ه إلى 33
من تصوير وتوليف صديقي حسين في جد،ه عا م 1954
34
ترك الدراسة في كلية الهندسة في القاهرة ،ومما جعلني أعمل على استقدامه إلى "جد،ه" ليتمكن ،بفضل وساطة خالي الكبر"توفيق" ،من العمل في البنك العربي. خالي "توفيق" هذا كان قد أتقن مهنة مكانيكا السيارات ،بحيث انفر د بهذ،ه المهنة ،مما جعلته يصبح من أغنى أغنياء مدينة "غز،ه" ،ومما مكنه ،في شبابه ،من أن يجوب الفاق بسيارته. وكانت آخر جولته في "إيران" ،حيث تزوج فتاة جميلة اسمها "فروغ الزمان" ،وعا د بها إلى بلد،ه ،وأنجب منها أربعة أول د وثمانية بنات .ثم انتقل من "غزة" إلى "جد،ه" في بداية الخمسينيات ،واكتسب الجنسية السعو دية .ولول أن وافته المنية لستمر في تحقيق أمنيته في إنجاب "الدستة الثانية" ،كما كان يعلن. من الذكريات التي ظلت عالقة في ذهني ،تـلك المسيات التي كان خالي هذا يحييها بغنائه الممتع .فقد كان يحفظ الكثير من أغاني الشيخ "سيد درويش" وغير،ه من شيو خ الغناء. أما عن الرياضة والستجما م والتمتع بالهواء والبحر فهو مما يقتضي ترتيبات مسبقة أخرى تتيح قضاء نهار الجمعة على شاطئ البحر بعيدا عن أعين أولي "المر بالمعروف والنهي عن المنكر" ،لكي أتمكن ،مع رفاقي الجد د ،من ممارسة الرياضة التي كان يشرف عليها صديقنا سعيد "أبو حديد" ،بإتقان شديد .وكذلك السباحة ،رياضتي المفضلة التي تفوقت فيها على الخرين. هناك على بعد بضع عشرة كيلومترات من شمالي مدينة جدة شاطيء اشتهر باسم "مأبمحر" .والمكان عبارة عن خليج طبيعي عرضه بضعة عشرات من المتار ،و يمتد لبضع عشرات أخرى من المتار في عمق الصحراء ،يتميز بالهدوء ،والميا،ه الساكنة التي تخلو من المواج، حيث اعتا د قاصدوا الستجما م أو الستحما م في البحر والتمتع بالهواء الطلق ،وصيد السماك ،أن يرتا دو،ه .وحيث تعو د "الجانب" من سكان المدينة اللجوء إليه ابتعا دا عن عيون المتطفلين ،فكان أن دأبوا على اتخاذ أحد جانبي الخليج "بلجا" خاصا لهم .كما تعو د بعضهم ركوب 35
قوارب يمارسون منها هواية الصيد في البحر الحمر الشهير بتنوع أسماكه. أما الجانب الخر من الخليج فكان ملذا لشريحة أخرى من الجانب من الدول العربية .ومعظمهم من الشباب العزاب الذين كانت تستهويهم مراقبة أجسا د الجنبيات ،عن بعد ،وهو يرتعن على شاطئهن بالمايوهات . وفي أحد اليا م ،يتفق بعض هؤلء الشباب على غزو الجانب الخر من الخليج ..سباحة! ويبدأ السباق بعد د ل بأس به من المشتركين ثم ل يلبث عد دهم أن يأخذ بالتناقص تدريجيا كلما أوغلت المجموعة في عرض الخليج .فإذا ما بلغت ،أنا الذي كنت أعتبر أمهرهم وأكثرهم قدرة على السباحة، منتصف المسافة إلى الشاطئ الخر فوجئت بأنني الوحيد الباقي في حلبة السباق .ويأبى علي كبريائي إل مواصلة السباحة ,ل سيما وقد بدأت ألحظ عن بعد ،كما تراءى لي ،بعض المصطافين الجانب وهم يلوحون بأيديهم لي مهللين مشجعين ،الشيء الذي لم أستطع تفسير،ه إلعندما وصلت الشاطيء الخر ،وعرفت أني قد نجوت من موت أكيد. لقد كانت سمكة قر ش تائهة قد نجت لتوها بأعجوبة من أحد هواة الصيد .وكانت تظهر لهم وهي تبدو كما لو كانت تطار دني أنا الغافل عما يدور حولي. * * * وتشاء الصدف ،وربما وساطة ذوي النفوذ من القارب والصدقاء ،أو ما كنت أتميز به من دقة في أ داء عملي ،أوإتقاني النسبي للغة النجليزية ،أن يقع علي الختيار لشغل منصب مساعد ،ثم نائب لمدير قسم السيارات ومستو دعاتها وورشها .فتز دا د تجربتي غنى ،وأز دا د معرفة بالناس وفهما لما يسمى بالعلقات العامة .فلقد كان مديرالقسم، السيد "بشير" رجل متعاونا كريم الخلق ،طيب المعشر .لم يبخل أبدا على مساعد،ه ونائبه بأسرار العمل وتفاصيله. 36
وأعو د أنا إلى ملء أوقات فراغي بعا دة القراءة وكتابة الرسائل، وممارسة الرياضة ،بالضافة إلى مشاهدة أفل م السينما في العروض المنزلية التي أتاحها لنا عملي في وكالة أشهر أنواع السيارات الميريكية والمتخصصة باستيرا د سيارات القصور الملكية ،والحرس الوطني السعو دي ،حيث يبا در مندوب هذا القصر أو ذاك ،لقاء مجاملة أمتلك أن أسديها إليه ،بحكم موقعي كنائب للمدير ،بإعارتي ما توفر من الفل م السينمائية )مقاس 16مم( التي كانت تر د بشكل خاص ،و خفوي، للقصور الملكية. ثم تشاء الصدف ،مرة أخرى ،أن يغيب السيد "بشير" مدير قسم السيارات في إجازة طويلة أعقبها تقديم استقالته ،لصبح أنا القائم بأعمال المدير إلى أجل غير مسمى ،حيث كانت الشهور التي قضيتها مساعدا للمدير كافية للتقاط أسرار العمل ،وأسلوب إ دارته منه، ولتمتع بلقب الـ"عم" أو "عممنا" ،وهو هنا ما يقو م مقا م "سيد" أو "سيدنا" ،من قبل عشرات العاملين تحت إمرتي .وبالتالي يز دا د نفوذي لدى مندوبي هذا القصر الملكي أو ذلك .وتز دا د "عروض" الفل م السينمائية لصبح بين القرباء والصدقاء مصدر تلك "المتعة المحرمة". لم تكن مشاهدة الفل م السينمائية متاحة إل في أضيق الحدو د ،خفية، في المنازل ،حيث تعو دوا أن يتكفل أحدهم بتدبير جهاز العرض، ويتعهد آخرون بدعوة ما تيسر من الصدقاء والقرباء بما في ذلك التحضير لقضاء سهرة سينمائية مع أحدث الفل م. *
*
*
"عم أسعد" ،الرجل العجوز الذي يرأس عمال قسم ور ش تركيب السيارات الجديدة وصيانتها منذ تأسيس الشركة في زمن بعيد ،والذي يتمتع بحب جميع رؤساء،ه ومرؤسيه ،يطرق باب غرفة ال دارة ومعه حارس باب الورشة الجديد ،وهو رجل حضرمي ،من "حضرموت"، شأن الكثير من العمال ،ليعورفه على "عممنا" المدير. 37
الكل بانتظاري حامل أحدث الفل م
38
لكن "عممنا" المدير الجديد يستبقي الحارس خارج الغرفة حتى ينتهي من الترحيب بمندوب أحد القصور الملكية الذي بور بوعد،ه وأحضر معه آخر ما أنتجته السينما المصرية حتى ذلك التاريخ ،عا م ،1955ذلك هو الفيلم الشهير"..أيامنا الحلوة". وبعد خروج المندوب ،وإيداع علب الفيلم المذكور في أحد ال دراج المينة ،بعيدا عن أعين الخرين ،جرت مراسيم تثبيت الحارس الجديد ،ومن ثم إعطائه التعليمات اللزمة بخصوص عمله .ومنها، وأهمها ،عد م فتح الباب والسماح بالدخول لكائن من كان بعد انتهاء ساعات العمل. وعندما رأيت أمارات عد م استيعاب الحارس الجديد للمحظورات، أر دت أن أؤكد له ذلك بقولي: ..يعني ل تفتح الباب أبدا ،بعد الدوا م ،لي إنسان حتى لو كان مينمن كان ..فاهم؟ هز الرجل رأسه مؤكدا أنه استوعب كل التعليمات ،ول حاجة للتأكيد على أهميتها. وحرصا مني على وصول المعلومة رأيت أن أؤكد تعليماتي وأنهي المقابلة بقولي: ..حتى لو أنا جيت بعد الدوا م ..ل تفتح لي الباب ..فهمت؟*
*
*
وتجري الستعدا دات ،في ذلك اليو م ،لتلك السهرة السينمائية الستثنائية على قد م وساق .ويتوافد المدعوون المتلهفون لمشاهدة أحدث الفل م المصرية في ذلك الوقت ،فيلم "أيامنا الحلوة" ،بطولة "فاتن حمامه" و"عمرالشريف" و"أحمد رمزي" و"عبد الحليم حافظ"، وهم يمطرونني بعبارات المديح والتقدير على إنجازي المتميز. و لم يبق سوى أن أستقل سيارتي ،في اللحظات الخيرة ،لحضار الفيلم من مكتبي في قسم السيارات القريب من مكان التجمع.
39
دقائق معدو دة ،وينطلق صوت منبه سيارتي لكي يستدعي الحارس الذي أطل بسرعة من فتحة صغيرة في بوابة الورشة. ..إفتح يا سالم! ما أقدر. قلت لك إفتح! إنت مش شايفني؟ شايفك يا عومنا .بس إنت اللي قلت لي ما أفتح لحد بعد ساعاتالدوا م. طيب ،ما أنا اللي بقول لك إفتح الن.فيكرر الحارس إجابته بخبث واعتدا د شديدين. ما أقدر.ويطول النقا ش ،وتتكرر ،بشتى الساليب ،محاولة إقناع الحارس الجديد بضرورة الدخول لحضار غرض من المكتب. لكن الحارس ،كما يبدو ،كان يظن أن ذلك ما هو إل محاولة من "عومنا" لمتحان قدرته على المحافظة على تنفيذ الوامر والتعليمات. فيصر على عد م السماح للمدير بالدخول بالرغم من شتى التهديدات: ..وإذا حبيت يا عومنا ،لما تيجي باكر ،تعطيني التعليمات الجديدة،وأنا تحت أمرك. وهيهات أن أستطيع توضيح ما قد يترتب على عنا د الحارس من موقف محرج أما م حشد المدعوين المنتظرين بلهفة لمشاهدة فيلم "أيامنا الحلو،ه" . * * * كانت الفترة التي قضيتها في "جد،ه" ,في كنف أخي والصحبة المنتقاة من أصدقاء،ه ,فترة هامة من حياتي .غنية بالتجارب الجديدة من نوعها. يرجع إليها الفضل بالنفتاح والوعي النسبي الذي اكتسبته اجتماعيا.. وثقافيا ..وسياسيا .فكان من الطبيعي أن تتمخض تلك الفترة عن تساؤلت كثيرة متنوعة تتسلل إلى ذهني بين الحين والخر. ذلك مما جعلني أعمل التفكير في مستقبلي بشكل أكثر واقعية .ومما جعلني أمعن النظر بما تفعله "أميريكا" في المنطقة ،حيث انقشع آخر 40
القنعة عن وجهها البشع ،ومما جعلني بالتالي أتراجع عن فكرة السفر للدراسة فيها ،والعو دة للدراسة في السكندرية ،بتشجيع من أخي. خصوصا عندما تبلورت وتأكدت ،و بدأت تأخذ مجرى التنفيذ ،فكرة انتقال الوالدين من "غزة" واستقرارهم في "السكندرية" ،مما يتيح لي استقرارا يساعد على خلق جو مثالي للدراسة ،في كنف الوالدين والشقيقات. تأتي بعد ذلك تلك الفكرة التي كانت قد طرأت لي وظلت تتراوح أمامي .وهي التخلي عن مدخراتي ،طوال عملي الذي جاوز الثلثين شهرا ،لخي ،تشجيعا له على التفكير الجودي في أمر الزواج .على أن أعو د لستئناف الدراسة في السكندرية .ل سيما وقد تغيرت الكثير من الحوال التي استتبعت قرار قطع الدراسة فيها ،ومن أهمها فكرة انتقال العائلة من "غزة" إليها .أضف إلى ذلك انتقال الخال "أبو نبيل" للعمل في "السعو دية". ثم تجري بعض التطورات التي كان نتيجتها التعجيل في إجراءات العو دة. * * * كانت "الورشة" تضم عد دا من العمال ل يلبث أن يتزايد بانضما م عد د آخر من "عمال اليومية" إليهم ،لسد الحاجة لمزيد من اليدي العاملة في مواسم وصول شحنات جديدة من السيارات .وكنت أعطي الولوية، حرصا مني على مساعدتهم ،لعمال فلسطينيين جاءوا بمعظمهم من "قطاع غزة" بالتأشيرة الوحيدة المتاحة لهم ،وهي تأشيرة "الحج" أو "العمرة" ،التي ل تبيح لحامليها القيا م بمزاولة أي عمل .لكن ظروف هؤلء العمال ،الذين يعانون من الفاقة والبطالة في "قطاع غزة"، والذين يتكبدون مشقة وتكاليف هذ،ه الرحلة على أمل الحصول على فرصة عمل يومية ،طوال موسم الحج ،تغطي تكاليف الرحلة ،أو تزيد قليل ،كانت تجعلني ،تعاطفا معهم ،أتغاضى عن تعليمات "مكتب العمل" السعو دي ،الذي دأب على مراقبة أماكن العمل في كل مكان وتغريم المخالفين لقوانينهم . 41
ولقد كانت الحتياطات الدقيقة المحكمة تتخذ ،بمساعدة بعض العاملين معي في الورشة ،من أجل تجنب عواقب انكشاف هذ،ه المخالفات بحيث كانت عمليات المراقبة الفجائية التي يجريها "مكتب العمل" تفشل في إثبات وجو د عمال يومية مخالفين .هذا مع يقين الضابط المندوب من المكتب المذكور من صحة معلوماته التي وصلته عن طريق بعض عملئه. وبعد أن تكررت "كبسة" مكتب العمل عدة مرات ،وتكرر فشلها في مفاجأة عمال يومية متلبسين بالوجو د والعمل في الورشة ،ثارت ثائرة الضابط المسئول وتوعدني قائل بعد أن أقسم بأغلظ اليمان، وبالطلق: ..يا أنا ..يا إنت في هالبلد!وبعد أيا م معدو دة حدث ما جرى تدوين تفاصيله في المذكرات التي كنت أتبا دلها في رسائلي مع صديقي "إبراهيم شرف" ،المقيم للدراسة في السكندرية .وهأنا ألجأ إلى أزرار خولي الوفي ،حهازالكومبيوتر، لكي يستحضر لي تفاصيل ما جاء في تلك الرسالة المحفوظة فيه حرفيا: جد،ه في 19 55 /20/8 عزيزي إبراهيم.. كانت رأسي تمتلئ بشتى الفكار والمواضيع التي تصلح للكتابة ،وقد اختمرت تلك الفكار في رأسي منذ أسبوع .ووطدت العز م على أن أبدأ بالكتابة في ذلك الحين .وكانت العقبة الوحيدة هي أنني كنت مرتبطا في ذلك الصباح للذهاب إلى المطار لتو ديع شقيقتي وزوجها وأول دها المسافرين إلى "السكندرية" لقضاء الجازة الصيفية ،ومعهم أخي عابد ،للقيا م بأولى إجراءات الخطوبة .فكان أن أجلت الكتابة لحين " " عو دتي من المطار. وعدت ورأسي يمتلئ بالذكريات. 42
ذكريات من نوع جديد ،طغت على الفكار والمواضيع التي كنت أنوي أن أسطرها في رسالتي إليك! ومنذ ذلك اليو م –الجمعة الموافق 2فبراير -1956وأنا شار د غارق في بحر تلك الذكريات .أحاول في كل مرة أستعيدها بها أن أتذكر مزيدا من التفاصيل والدقائق ،وأتعجب تارة ،أو أتأسف أو أعبس ،أو أنفجر ضاحكا تارة أخرى. ثم أكرر المحاولة للستزا دة من تفاصيل ما حدث لي ،وإحصاء حركاتي وسكناتي ،وعد د الكرابيج ..والرفسات ..واللكمات !!! قصة مشوقة ،سوف أتذكرها دائما كلما تذكرت هذ،ه الفترة من حياتي. وهي تكملة لما ذكرته عن عمال اليومية أعل،ه ،قصة سأترك اختيار عنوانها إليك ،أو أتركها بل عنوان ،فكلها عناوين! كل شيء كان يبدو عا ديا .وعندما اقترب موعد رحيل الطائرة الـ المجعر أسماء الركاب المتخلفين طالبا منهم التوجه إلى " "فايكونت ،نا دى" أماكنهم في الطائرة المغا درة"جدة" إلى مصر .وتوجه الركاب بعد أن و دعناهم ،وخرجوا من البوابة الحديدية التي تفصل قاعة النتظار والبراح الذي يتبعها عن أرض المطار الواسعة. والتعليمات تمنع أن يتخطى هذ،ه البوابة أحد غير الركاب المغا درين. وللمحافظة على هذا القانون يقف حول هذ،ه البوابة"بشكة" من الحرس. إلى هنا ،كان كل شيء يبدو عا ديا. بعد أن صعد شقيقي و شقيقتي وزوجها وأول دها إلى الطائرة ،خطر عوض ،الصبي الحضرمي الخا د م الذي سيرافق " لي أن أتأكد من أن" عائلة شقيقتي ،قد صعد إلى الطائرة أيضا .فقد كنت أشك في ذلك لما كان يبدو عليه من التر د د والخوف من تجربة السفر بالطائرة. اعترض الحارس طريقي ،فامتثلت لمر،ه ،بالرغم من أنني أحمل تصريحا دائما لدخول المناطق الجمركية بحكم طبيعة عملي .وبينما أنا احاول استخراج البطاقة من جيبي ،تبرع أحد الواقفين من موظفي البنك العربي الذين كانوا في و داع مديرهم ،زوج شقيقتي ،بأن يذهب ليسأل عنه فاعترضه الحارس أيضا. 43
قه ،ومن الخر مثلها .إلى من هذا كلمة ،ومن الخر كلمة .ومن هذا"ز و" أن أصبحا على وشك الشتباك باليدي ،فما كان مني إل أن دخلت البوابة لكي أحاول الصلح بينهما والعتذار للحارس والحيلولة دون تطور المشا دة .وفعل أمسكت بالشرطي ،بعد أن أبعدت الشاب ،وأنا أحاول أن أهديء أعصابه بالصلة على النبي ..ولعنة الشيطان .ولكن الشرطي قابل الحسان بالساءة .فكان نصيبي منه شتيمة بشعة! ولم يكتف بذلك ،بل قبض على قميصي )الجديد( ،ربما ظنا منه أننا نراوغه لكي يتجه أحدنا إلى سلم الطائرة .وأصبحت المسألة تبدو كما لو كانت مشا دة بيني وبين الشرطي .تجمع على أثر ذلك بقية الرهط من العساكر المنوط إليهم بالحراسة. وتسلل إلى مسامعي صوت أحدهم وهو يقول لهم : ..إيو،ه ..هوو،ه ..هوو،ه ..الفلسطيني ..ل تتركو،ه!أمسكوا بي ،وكانوا ثلثة .وعبثا حاولت أن أتخلص من قبضاتهم. التروفال ،الذي كان " وكانت نتيجة محاولتي هذ،ه أن أصبح قميصي الـ" جديدا ،في خبر كان! وكانت محاولتي هذ،ه تتطلب أن أ دفع هذا أوذاك عني وأزيحه من طريقي لكي أستطيع الخروج من هذ،ه الورطة .فلقد أصبح سلوكي هذا في حكم تهمة العتداء على رجل الشرطة أثناء تأ دية أعمالهم. وبالرغم من محاولتي للهروب من هذا الموقف ،إل أنه قد أفلتت من يدي حركة كنت أقصد بها أن أ دفع أحدهم عني ،وكان مثل زملئه ضعيف البنية ،فإذا به يسقط أرضا ،مما جعل ثلثتهم ينقضون علي ويوسعوني ضربا بالكرابيج والعصي والبساطير ..والقايش ذو البزيم النحاسي الثقيل! ووجدت نفسي فجأة في موقف الدفاع عن النفس ،فلقد طالت المسألة ووصلت الحالة إلى درجة من التعقيد بحيث ل يجدي معها التعقل. كل هذا والبوابة الفاصلة بين أرض المطار وساحة النتظار مغلقة، مما أكد استحالة حتى الفرار .أنا والعسكر خارج السياج ،والمو دعين وفيهم عد د من القارب والصدقاء وموظفي البنك دونه.
44
لم يكن هناك من مخرج من ذلك المأزق سوى أن أضرب وأوجع لفسح الطريق .بحيث تجلت قدراتي البدنية نتيجة لممارساتي الرياضية ،ناسيا في تلك اللحظة ما كان يقال عن حرمة البدلة العسكرية .فقد كنت في حالة غريبة من غياب الوعي لم تشهدها حياتي من قبل. ولم يخلصني من مأزقي ،كما خيل لي ،سوى تلك الجلبة التي أحدثها المعركة فانفضوا من " المطار ،إلى"أرض " وصول الضابط"،قايد حولي ،لعله إحساس منهم بأنهم المعتدين .أحدهم كان يتفقد آثار الضربات الموجعة التي تلقاها مني بينما الدماء تسيل من بين أسنانه، وزميله الذي كنت أمسك بتلبيبه ،متجها به عبر البوابة كأنما لقدمه للقائد المنقذ. وعندما سأل الضابط عن تفاصيل الخناقة أجابه العسكري الموجوع : ..طال عمرك ..جا هو يدخل فمنعته ..قا م ضربني.فصرخت بملء فمي: كذاب!وهنا ثارت ثائرة الضابط الغيور على شرف العسكرية ،وانهالت منه علوي ألوان الشتائم .كما انهالت علي توسلت القارب والصدقاء من حولي لكي ألتز م الصمت حتى ل تتطور الحكاية إلى ما هو أسوأ .وقد كان لتوسلتهم أثرها فوي ،ولولها لما تر د دت عن النقضاض على الضابط نفسه. إلى هنا ،كنت متهما بتهم ثلث ،أولها خرق القانون بمحاولة العبور من البوابه ،وثانيهما العتداء بالضرب على العساكر أثناء تأ ديتهم لواجبهم بحراسة البوابه ،والثالثة إتها م عسكري بريء بأنه كذاب..أما م الضابط! وتنفيذا لوامر الضابط ،اتجه بي جنديان إلى غرفة التوقيف ،الحبس القريب من مبنى إ دارة المطار .ولما عرضت عليهما أن نركب سيارتي رفضا بشدة وأصرا إل أن نمشي المسافة على القدا م .ومن محاسن الصدف أن الحبس كان ل يبعد سوى أمتار قليلة .كما أن الطريق إليه لم تكن مأهولة. 45
النقطة ،وهناك تسلمني عريف الحبس .وقوبلت بالترحاب من و دخلنا" " المحبوسين الربعة الذين كانت تكتظ بهم غرفة التوقيف المعتمة النتنة. أفندي ..ببنطلون ..يدخل الحبس! أفسحوا لي مكانا ،وفرشوا لي أنظف طوراحة ،وتطلعت إلي العيون في تساؤل و إشفاق وارتياب .ثم انهمرت السئلة: إ ش بك؟ إ ش في ؟ عساك بخير؟ ل باس عليك! إنت شامي؟ فلسطيني؟ صاحب سيار،ه؟ مع مين متضارب؟ خير إنشال! ل بسيطه .ل يهمك! وبعد أن أخذوا المعلومات الكافية عني،عن طريق هزات رأسي نفنيا أو إيجابا,عا دوا إلى حديثهم وكأن شيئا لم يحدث .وتركوني أفكر في ما انتهى إليه حالي. كيف حدث هذا؟ أنا الن في الحبس مع هذ،ه النفايات البشرية في غرفة واحدة! وشعرت برأسي ينتفخ وينتفخ حتى ليكا د ينفجر من طول التفكير. كانت كل دقيقة ،بل كل ثانية ،تمر وكأنها دهر. وكان ،رفاقي في الحبس ،يتضاحكون ويتندرون ويتحدثون في سعا دة عن آخر مغامراتهم ،وكيف استطاع هذا أو ذاك منهم أن يفلت من أيدي الشرطة مرات ومرات ،أو يهرب من نفس السجن ،أو يعو د إليه بمحض إرا دته حيث الراحة ولقمة الخبز بدون عناء. وشعرت براحة كبرى عندما وجدت نفسي منفر دا في الغرفة ،فغيرت من وضع جلستي بعد أن خرجوا كلهم إلى الفناء التابع للغرفة لتناول طعا م الغذاء .ولم ينسوا أن يكرروا دعوتهم لي لمشاركتهم في طعامهم. وبين لحظة و أخرى كان أحدهم يدخل الغرفة ليكرر الدعوة أو يسألني إن كنت في حاجة لي شيء آخر. ..أجيب لك مويا؟ ..كوكاكول ؟ ببسيكول؟ ..بسكوت ؟ ل ..شكرا ..مشكور ..دوبي شارب ..ل ..ول شي ..مجوملمشكور!..
46
وانفرجب أساريري عندما دخل الغرفة صديقي"حسين" وآخر من أقاربي .وباختصار حكيت لهم تفاصيل القصة من أوله ،واستطاع حسين أن يحول الحكاية من مأساة إلى موقف كوميدي مضحك " " فضحكنا .وأحضر أحد المساجين لي وللضيوف الفندية ببسي كول. حسين أن ثم أعلن الحارس العريف انتهاء وقت الزيارة .فعرض علي" " يلبسني قميصه ،ولكنني رفضت .فالقرائن كلها تدل على أنني أنا المعتدي .فل أقل من قميص ممزق عن ذراع مجلوطة لكي أوحي للمحقق ،إن كان هناك ثمة تحقيق ،أنني معتدى عليه. ولم تمض دقائق أخرى حتى جاء الشرطي إيا،ه وقال للحارس وهو يحدجني بنظرات شماته: سلمني المحبوس يا عسكري حسب أمر القايد!ور د عليه الحارس: استلم المحبوس يا عسكري حسب أمر القايد!وتم التسليم والستل م .وقا دني العسكري إلى مبنى المطار .وصعدنا إلى غرفة القايد حيث كان حشد غفير من أقاربي والصدقاء خارج الغرفة .وأعا دو على مسامعي النصائح والتوصيات بأن ألز م الصمت ول أتفو،ه أو أعترض على أي شيء .فهم قد تدبروا المر و ما علي سوى أن أعتذر! والغريب أن معظمهم لم يعرف الحكاية من أولها بالضبط .بل عرفوا التفاصيل مشوهة من المعتدين أنفسهم .وكانت جهو دهم منصبة في إيجا د العذار ..والعتذارات ..والتوسلت. وعندما طلب مني القايد أن أ دلي بأقوالي بعد أن اختلى بي ،قلت له الحقيقة كما حدثت ،ولم أز د أو أحذف منها شيئا .وقلت له أنني اضطررت أن أ دافع عن نفسي ،وهذا كل ما في المر. مط حضرة القايد شفتيه ،وهز رأسه ،وطلب من أحد الحراس أن أعو د حيث كنت. عدت وأنا متشائم .إذ بدا لي أن المسألة قد تعقدت وهاهي تهمة رابعة سوف توجه لي ،وهي أنني أ دعي وأكذب! 47
وأخذت أتصور العقوبات التي يمكن أن يفرضوها علي .وتمنيت أن يكون الحكم هو مغا درة البل د في الحال. عدت أفكر في هذا اليو م المشئو م ،واستسلمت للواقع الليم .فل بد لي من قضاء يومين ثلثة في الحبس ريثما يستطيعون توسيط أحد المعارف الكبار ،أو أحد المراء. ثم تذكرت ضابط المن الذي أقسم أغلظ اليمان بأن"يا أنا يا إنت في هالبلد" .وعدت لتذكر تلك الجملة التي طرقت مسامعي"..إيو،ه ..هوو،ه.. هوو،ه ..الفلسطيني ..ل تتركو،ه !" فأيقنت أنني مرتحل من هذ،ه البلد في أقرب مما كنت أظن. أخذت أنظر حولي متفحصا الغرفة الرطبة النتنة الحارة ،لنتقي الركن الذي سوف أقضي فيه الليل .وكانت هذ،ه الفكار السو داء سوف تتسلسل لول أن دخل الغرفة زائر آخر هو إبن خالي ليطمئنني بأن نائب مدير البنك العربي ذهب لمقابلة المير مش عارف مين وزير الداخلية. وبعدها بدقائق جاء أحد الحراس يدعوني لعند القايد. اختلفت هذ،ه المرة عن المرة السابقة بأنهم أرسلو لي سيارة لكي تنقلني. وهناك في بوفيه المطار وجدت القايد يمسك بيد،ه رزمة من الوراق المالية ذات العشرة ريالت ويوزعها بالقسطاس بين المجني عليهما. وكان نصيب كل منهما مائة ر. وتمت المصالحة. )انتهت الرسالة( * * * ويبدأ التحضير لتنفيذ خطة العو دة العاجلة للسكندرية ،وذلك بتحديد موعد قريب للجازة السنوية من العمل،على أن يعقب ذلك استقالة نهائية بل رجعة. هناك من استهجن فكرة الستقالة بعد أن حصلت في عملي على ثقة ال دارة العامة للشركة .وأوشكت أن تسند إلي إ دارة قسم السيارات، 48
بعد أن أثبتت عمليا ،أثناء غياب المدير السابق المستقيل ،منذ ما يناهز العا م ،كفاءة ل غبار عليها. هناك من أعطى هذا السلوك تفسيرا لم يخطر لي على بال .فمن أهم مها م مدير قسم السيارات في "شركة دو دج" ،التي اشتهرت بهذا السم ،كانت هي عملية استخراج شحنات السيارات المختلفة النوع والحجم من جمارك الميناء ،والشراف على نقلها للور ش الخاصة لتجهيزها لتسليمها إلى أصحابها ،حسب تعليمات ال دارة العامة .وهي عملية موسمية تتكرر أكثر من مرة في كل عا م* . وتقتضي عملية استخراج السيارات من الجمارك معاينتها في ميناء الوصول ،بمصاحبة مندوت شركة التأمين ،لتحديد الضرار الناجمة عن الشحن من أميريكا عبر البحار ،وبالتالي تحديد قيمة التعويضات التي استوجبت على شركة التأمين. ويصا دف أن تكون شركة التأمين المعنية هي أحد فروع الشركة التي يعمل بها شقيقي "عابد" ،مما كان يستوجب معرفتة بالمندوب. لم أفطن لسباب محاولت الشاب ،مندوب شركة التأمين ،المتكررة للتقرب مني إل عندما ور دت شحنة جديدة من السيارات ،فكان من الطبيعي أن يتجه كلنا إلى الميناء لنهاء إجراءات إخراج السيارات، وبالتالي ،كخطوة أولى ،إجراء الكشف وتحديد التلفيات الناجمة عن عملية الشحن كالمعتا د ،حيث لحظت مبالغة مندوب شركة التأمين في __________________________________________ ) * ( لعل عدد السيارات المباعة عام 1955الذي بلغ رقما مشابها هو حوالي 1950سيارة بما في ذلك سيارات القصور الملكية والحرس الوطني بمختلف أنواعها وأحجامها يعطي فكرة عن الحالة التي أحاول توضيحها.
تقدير التلفيات ،والفاقد ،وهوالشيء المناقض لما تحتمه وظيفة مندوب أي شركة تأمين التي سيتوجب عليها دفع التعويضات .واستصدار فواتيرها ،أو فواتير الصلحات اللزمة.الخطوة التالية هي الحصول على البدائل.
49
هنا كان ل بد للمندوب أن يكشف لي عن ما كان المدير السابق يفعله بالتفاق معه .وهو المبالغة في تقدير التلفيات ومن ثم الحصول بطريقة ما على فواتير شكلية مقابل نسبة من قيمة تلك الفواتير يتقاضاها وكيل قطع الغيار أو ورشة الصلح التي تصدر تلك الفواتير .بحيث تصرف هذ،ه الفواتير من قبل شركة التأمين لقسم السيارات مباشرة بغرض التعجيل في تحضير وتسليم السبارات لصحابها. وفي النهاية يتقاسم مدير قسم السيارات مع مندوب التأمين قيمة هذ،ه الفواتير "الصورية" المصروفة من قبل شركة التأمين. واعترف المندوب لي ،تشجيعا لي على المشاركة في هذ،ه العملية ،بأن ما من شحنة إل و تكون قيمة الفواتير الصورية المستخرجة للتلفيات المزعومه تعد بآلف الريالت. فما كان مني إل أن أخبر شقيقي بكل تلك المعلومات التي تدل على الخيانة .لكن ال خ اكتفى ،نظرا لنعدا م وجو د دلئل ما دية واضحة، بإعطاء الشاب درسا في أخلقيات العمل. *
*
*
وهناك درس آخر ل يخلو من طرافة ل بأس من تسجيله. فـ"عم أسعد" ،الرجل العجوز الذي كان يتمتع بثقتي ومحبتي ،وكان بدور،ه يمتعني بالحديث عن تاريخ الشركة والذين تداولوا ال دارة فيها ومشاكلها على مر الزمن ،والذي قيل أنه أشاع بين العمال بأن العم المدير الجديد سوف يستقيل بعد أن اغتنى هو الخر ،وأصبح"..ما يقص ضهر،ه ميت ألف ر"!! وعندما سألت "عم أسعد" معاتبا عن مصدر معلوماته ،قال لي بكل بساطه وبلهجتة الوالدية: ..ماهو يا "عومنا" ،طال عمرك ،لو إنت ما عملت هيك مثل العم"بشير" ..تبقى ول تآخذني"..محمــــــاتر"!
*
*
50
*
وعدت إلى السكندرية ** ،حيث قد تم استئجار شقة للقامة الدائمة فيها ،في مبنى قريب من الفيلل التي تسكنها عائلة الخال "أبونبيل"، الذي كان قد انتقل كما ذكرنا للعمل في "الرياض" ،وبوشر بالعدا د لنتقال الوالدين والشقيقات إليها من "غزة". كما بوشر بالجراءات النهائية لخطبة وزواج أخي "عابد" في مصر. ليغا در بعدها إلى جدة تاركا سيارته "المرسيدس" في حوزتي إمعانا في تشجيعي على فكرة إكمال دراستي في السكندرية .ولتظل السيارة في خدمة العائلة هناك . * * * هذا ،ول بد من الشارة بأن من أهم ما ساهم في تثبيت فكرة إتما م الدراسة في السكندرية ،هو بداية نمو عاطفة استلطاف ،أو قل حب، من طرف واحد ،تجا،ه إبنة خالي "نهى" ،التي كانت تحرص على مشاركتي في مشاهدة الفل م السينمائية ،والستماع إلى الموسيقى الكلسيكية ،كما كانت تجيد العزف على "البيانو". لم أتر د د في تقديم الطلب إلى كلية الهندسة للسماح لي بالعو دة إلى الدراسة فيها .وكان ل بد من النتظار حتى قبيل بداية الدراسة، واجتماع مجلس الكلية ليبت في هذا المر. لكن القدر يأبى إل أن يتدخل لصالح فكرة الدراسة في الخارج .فبسبب التغيب عن الدراسة بدون إشعار مسبق أو إبداء العذار ،قرنت إ دارة كلية الهندسة قبولي بشرط حصولي على شها دة توجيهية "طازجة". وهو الشيء الذي يتعارض مع الرغبة في كسب الوقت،وتجنب المزيد من المحبطات .ذلك بالرغم من وساطة السيد "ياسر عرفات" ،الذي اشتهر بنشاطه آنذاك ،كرئيس لتحا د العا م للطلبة الفلسطينيين. ___________________________________________ )**(
في يو م الجمعة الموافق 30يونيه 1956
51
جمال عبد الناصر
وجه أمريكا
وفي هذ،ه الثناء ،بدأت تلك المرحلة التاريخية ،عندما ألقي الزعيم جمال عبد الناصر خطابه التاريخي في مدينة السكندرية في ،26/7/1956معلنا تأميم قناة السويس ،شركة مساهمة مصرية ،ر دا 52
على رفض تمويل إنشاء السد العالي من قبل البنك الدولي .وأعقب ذلك استغلل الفرصة من كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل للنتقا م من عبد الناصر والعمل على النيل منه ومن "برنامجه القومي" ،الذي كان يثير قلق الدول الستعمارية ذات المصالح والطماع في خيرات المنطقة .فكانت حرب السويس ،و"العدوان الثلثي" المشترك على مصر ،ومن ثم احتلل إسرائيل لقطاع غزة والتقد م بسرعة صوب القناة في أكتوبر عا م .1956 * * * شهور من الترقب والنتظار قضيتها في السكندرية ،لم يكن لي فيها من عزاء سوى مراسلة ما تيسر من الجامعات الوروبية وأكا ديميات الفنون هناك ،والمقارنة بينها ،ومن ثم القراءة والمطالعة ومشاهدة الفل م السينمائية ،في انتظار أن تنفرج المور. ولم يخفف من عناء التوتر الناشيء عن تلك الظروف الطارئة ،سوى ذلك الزخم الوطني الذي اتسمت به تلك الفترة التي تجلى فيها تضافر قوى الشعب وتنامي الروح المعنوية للشعب العربي بصفة عامة ،مما جعل لـ "العوزة" و"الكرامة" معان واضحة ملموسة محسوسة ،ومما انعكس بوضوح على الثقافة والفنون والصحافة وكافة مجالت الحياة بشكل عا م. هذا إلى جانب الدفء الذي كانت توفر،ه الجواء السرية في بيت خالي الكائن بالقرب من المبنى الذي أسكن فيه بمفر دي ،وأوقات الراحة والستمتاع بالموسيقى التي كانت تهواها "نهى" ..استماعا ..وعزفا. وهذا بالضافة إلى ما كانت توفر،ه السيارة من فرص التنقل لقضاء أوقات في "نا دي سبورتنج" ،أو "قصرالمنتز،ه" ،أو مشاهدة الفل م السينمائية خصوصا بعد أن أتاحت امرأة الخال لبناتها مصاحبتي. أما عن ساعات " دروس التقوية" المتلحقة في ما دة الرياضيات ،التي جمعتني مع "نهى" ،والتي كانت كافية لكي تحقق هي نجاحا ملموسا
53
في تلك الما دة ،و أحقق أنا نجاحا في سعيي للقتراب منها .فحدث، كما يقولون ،ول حرج! فباختصار ،كانت تلك الساعات كافية لكي نتعارف ،و نتآلف ،وأكتشف ما لديها،غير حسنها ورقتها ،من صفات كان من شأنها أن تزيد من تسارع خفقان قلبي لها .وإن ظل ذلك كله في طي الكتمان! مشاعر متنامية مكتومة من كل منا ،كما يبدو ،تجا،ه الخر. كأنما كان موقف خالي ،الغريب ،مني يستوجب ذلك الحذر والكتمان من كلينا. على أن خفقات قلبي لها كانت تسبق ذلك بأمد طويل. صحيح أنها كانت في تلك البدايات مجر د صبية ،في ربيع العمر وريعانه ،ولكنها كانت قبل كل شئ إبنة خالي ،الذي كنت ،وما زلت، أحبه وأتخذ،ه مثل أعلى لي .ويبدو أنني كنت أرى في ذلك ،بداياة ،ما يكفي من المزايا. كنت ذلك الحالم ،الغارق في الرومانسية ،الذي كان يضع مثله العلى نصب عينيه ،ويتمنى أن يصبح له في مستقبل العمر ذلك الشأن، والبيت ،والزوجة ،والرفاء والبنين. ومن هي التي سوف تشاركني في العمل على تحقيق أحلمي تلك سوى "نهى" ،التي نشأت وترعرعت في ذلك البيت المثالي؟ * * * إلى جانب هذا كله يأتي تنامي اهتماماتي الواعية التي اكتسبتها في الشهور الثلثين التي قضيتها في "جد،ه" ،مع أخي "عابد" وأصدقائه المتنوعي المشارب .فلقد أسفرت تأملتي في تلك الحقبة العصيبة من الزمن ،التي أعقبت العدوان الثلثي ،بما فيها من نمو للوعي العا م فكريا وثقافيا ..وسياسيا ،عن تساؤلت كثيرة فيما كان يجري على الساحة في تلك المرحلة. فلم يكن العدوان على مصر سوى استكمال للعدوان على المة العربية بأكملها ،بدءا من اتفاقية "سايكس بيكو" لقتسا م النفوذ في المنطقة، ومرورا بالنتداب البريطاني على فلسطين بما له من أهداف معلنة 54
كالعمل على تمهيد الطريق لتنفيذ "وعد بلفور" البريطاني للعمل على قيا م " دولة إسرائيل" على الجزء الكبر منها .وأخرى غيرمعلنة تهدف إلى تفتيت المنطقة لضمان السيطرة عليها والحيلولة دون تحقيق الحلم العربي بالوحدة ..إلخ .وما العدوان السرائيلي واحتلل قطاع غزة إل خطوة من خطوات التوسع المستقبلي المرسو م صهيونيا. معنى ذلك أن "المن القومي العربي" هو المهد د. وبالتالي كنت أرى أن الدفاع عن قناة السويس ومدنها ما هو إل دفاع عن المن القومي العربي ..دفاع عن النفس. إذن فيم النتظار؟! وها هو زميل الدراسة الثانوية في غز،ه"،نجا د الوسباسي" ،يتحدث عن الجراءات التي قا م بها للتقد م ضمن آخرين لمتحان القبول في الكلية الحربية ،التي فتحت أبوابها لقبول دفعة مروكزة من طلبة فلسطين، ليصبحوا من قا دة "جيش التحرير" الفلسطيني. جدير بالذكر أن رئيس إتحا د الطلبة الفلسطينيين" ،ياسر عرفات" ،قد التحق أيضا بالكلية الحربية آنذاك. وتنتقل إلوي عدوى الحماس لتلبية الواجب الوطني. لكن نتيجة اختبار اللياقة البدنية حالت دون قبولي .فقد اكتشفوا فوي عيبا خلقيا أسمه الـ "الفلت فوت". هذا ،إلى جانب أن جهو دي للتطوع في المقاومة الشعبية ،أسوة ببعض زملئي ،لم تتكلل أيضا بالنجاح. ولم يبق لي سوى العو دة للتفكير والسعي للدراسة في الخارج. فالعلم في الخارج ل يقتصر على نيل الشها دات ،بل هو استثمار سنوات الدراسة الربعة أو الخمسة في القيا م بدور نضالي قومي ها م. وتمضي اليا م ،مرة أخرى ،متثاقلة ،بطيئة ،أقضيها مع إبن خالي "نبيل" والأصدقاء .منهم الصدقاء الجد د أمثال "محمد الزرقا" السكندراني ،و"خالد محيي الدين البياتي" العراقي ،زميل "محمد" في كلية الهندسة .ذلك "الماركسي" الواسع الثقافة والعلقات الذي عورفني بأصدقاء حكوا لي عن "فيينا" وإمكانيات الدراسة فيها. 55
وتتم ،بناء على ذلك ،مراسلة إحدى الجامعات في النمسا والحصول على القبول فيها. وسرعان ما تم النتساب لمعهد خاص لتعليم اللغة اللمانية. وسرعان أيضا ما ساقتني علقتي العابرة بممدورستي الشابة إلى تجربة كان من شأنها أن تؤكد لي أن خفقات قلبي ظلت تر د د إسم "نهى".. وليس غيرها. ثم تجيء اللحظة الحاسمة التي كان لبد لي فيها من أن أحمل حقيبتي وأسافر ..إلى "فيينا". ذلك بعد فترة من النتظار ،ريثما أطمئن على والديو القابعين ،في حكم السرى ،في"غزة" المحتلة ،وعلى قرب وصولهما للستقرار في السكندرية ،بعد أن تم التفاق دوليا على إنهاء العدوان وانسحاب قوات الحتلل من قطاع غزة. ثم تأتي مشكلة تأشيرة "الفيزا" ،السماح لدخول الراضي النمساوية، التي تتطلب وثيقة سفر صالحة بعد أن تعذر قبول جواز السفر الذي كنت أحمله ،الصا در عن الحكومة التي ولدت ميتة" ،حكومة عمو م فلسطين" .وكان البديل المقترح هو الحصول على أي وثيقة سفر أخرى ،معترف بها دوليا ،مما استغرق وقتا قضيته في القاهرة متنقل بين الدوائر المختلفة. ولقد فشلت ،مرة أخرى ،وساطة "ياسر عرفات" ،رئيس التحا د العا م للطلبة الفلسطينيين ،في ذلك الوقت في العمل على استصدار وثيقة سفر بديلة. إلى أن قا دتني الصدفة البحتة إلى لقاء أحد ضباط الشرطة المصريين الذين كانوا في بعثة لمهمة عمل في السعو دية ،والذي شاءت الصدف أن يسكن هذا الضابط في بيت مجاور لمسكن أخي"عابد" في مدينة جد،ه ،فتنشأ بيننا علقة و د وجوار طيبة. وأخرج ذات يو م من مكتب ذلك الضابط في مبنى مجومع الدوائر الحكومية بميدان التحرير في القاهرة وأنا ل أصدق عينوي بأن بين يدي 56
"تذكرة مرور" مصرية" ،ليسيه باسيه" ،تتيح لي الحصول على "الفيزا" النمساوية. ثم يصا دف حضور الخال من السعو دية ،لقضاء بعض اليا م في السكندرية ،ومحاولة امرأة الخال ،التي لحظت ميل ابنتها واهتمامها بي ،تلطيف وتطبيع العلقة بيني وبين الخال بأن تؤكد له مدى حبي واحترامي له ،وأنني لم أعد ذلك الفتى الغير مسئول ،المستهتر ،وأن الثلثين شهرا التي قضيتها في السعو دية قد صهرتني وجعلت مني رجل قا درا على تحمل المسئولية ..واتخاذ القرار الصحيح. كل هذ،ه المحاولت لم تستطع أن تزيل تلك الصورة الشائهة التي كونها الخال لنفسه عني.
*
*
*
ويتحد د يو م السبت 23مارس 1957موعدا للسفر ،بدون أن تتاح لي فرصة رؤية الوالدين وو داعهما. وتقترب اللحظة التي سوف أصافح فيها محبوبتي مو دعا .فأشد على يدها أو تشد على يدي تعبيرا عن الحاسيس الدفينة التي لم تأت لحظة التصريح والعتراف بها بعد. لكن ،يبدو أن سوء الطالع ،ول أقول سوء النية ،كان لي بالمرصا د. فبالرغم من أن موعد السفر كان قد تقرر في يو م السبت ،إل أن الخال أصر أن تصحبه العائلة إلى القاهرة في يو م الجمعة ..اليو م السابق. وكانت اللياقة ،في نظري ،تقتضي أن يقو م خالي بالحتفال بتو ديعي أول ،ثم يسافر ما شاء له السفر .ل أن يتركني وحيدا في يو م تاريخي فاصل كذلك اليو م. كأنما كان الخال يفعل ذلك إمعانا في إهمالي وتأ ديبي. وما برح ذلك المشهد الغريب الطاعن في جبروته ،بالرغم من مرور الزمن ،يتراءى أمامي: الخال يركب السيارة على عجلة من أمر،ه ويستحث الجميع على المسارعة في الركوب ،بدون أن يترك لهم فرصة تو ديعي .وتنطلق السيارة مبتعدة. 57
وتظل صورة تلك اللحظة منطبعة في ذهني. وجه "نهى" المطل ،للحظة ،من النافذة الخلفية للسيارة المبتعدة ،ويدها تسترق حركتها ،على استحياء ،كأنما تخشى أن يكتشف أحد أنها كانت تلوح لي مو دعة. بينما أقف أنا على رصيف الشارع ملوحا بيدي إلى أن اختفت السيارة عن النظار .ل أعرف ما كانت تخفيه هذ،ه اللحظة الموغلة في القسوة. ول أعرف إجابة للسؤال الذي ألح على خاطري فيها: أهي بداية ،أ م نهاية؟ لم ينقذني من هول تلك اللحظة سوى صديقي "محمد الزرقا" ،الذي كان قد أبدى استعدا د،ه لمرافقتي في الغد إلى ميناء السكندرية ،حيث تغا در بي الباخرة "إسبيريا" إيطاليا في صباح يو م السبت ،الموافق /23مارس .1957
*
*
*
في عرض البحر هأنا أجرب نوعا آخر من السفر .يختلف طبعا عن تجربة السفر بالطائرة التي أخذتني إلى مدينة "جدة" قبل حوالي ثلث سنوات. 58
من حسن الحظ أنني ما زلت أحتفظ بنسخ من رسائلي إلى صديقي "إبراهيم" ،الذي كان يواصل دراسة الطب في السكندرية .وهي الرسائل التي تعو دت أن أ دون فيها خواطري ومشاهداتي .ومن ثم حرصت على تخزينها في ذاكرة "خولي الوفوي". *
*
*
عرض البحر على متن الباخرة"إسبيريا" في 23/3/1957 عزيزي إبراهيم .. استيقظت في الصباح ..الساعة السا دسة والربع".. وسمحت لنفسي أن أبقى في الفرا ش حتى الساعة السابعة .وبعدها نهضت لغتسل وأحلق ذقني وأرتب حقيبتي ترتيبا نهائيا .وقد تم ذلك جاءمحمد ،ومن بعد،ه"خالد" "وأنور". كله في الثامنة حين " " محمد وأنا فقط .وكان ذلك في العاشرة أو بعدها بقليل. دخلنا الميناء" "، وأتممت الجراءات في حوالي ساعة ،وبعدها صعدت إلى الباخرة حيث قا دني الموظف المختص إلى الغرفة ذات الربع أسرة رقم 321aوكان نصيبي أحد السريرين العلويين.
59
على ظهرالباخر،ه اليطاليه"إسبيريا" في عرض البحر البيض المتوسط
وبعد أن عرفت مكاني ووضعت حاجياتي في الخزانة الخاصة بي، محمدعن بعد ،بعد أن أوصيته أن يعيد عدت إلى ظهر السفينة لتو ديع" " السيارة إلى جراج بيت الخال بعد عو دتهم بعد يومين أو ثلثة. وتحركت السفينة بعد انتظار حوالي خمس ساعات. 60
وهكذا كانت ساعاتي الخيرة هما ثقيل .كنت خللها أقف وحيدا أتسلى بالخيالت وأتنبأ بالحداث .وفي خلل ذلك أتذكر أشياء كثيرة من ماضيو البعيد ..والقريب .وأتساءل: هل هي بداية ،أ م نهاية ؟ إسبيريا سيرها بطيئا في داخل الميناء ،ولح لنا قصر " بدأت الباخرة" فاروق بل رجعة على ظهر " رأس التين الذي غا در منه الملك السابق" المحروسة ،إثر طر د،ه عا م .1953وكانت هذ،ه هي المرة الولى التي " " أرى فيها القصر. إسبيريا أكثر فأكثر حتى لحت السكندرية خطا أبيض ممتدا " وابتعدت" على جزء كبير من الفق البعيد .ثم اختفت. كانت السفينة قد بدأت بإلقاء فضلتها في عرض البحر بعد خروجها من الميناء .فأخذت أسراب الطيور البحرية تنقض عليها من مختلف الجهات .ثم تحول المشهد إلى مشهد أخاذ عندما بدأ ت تلك الطيور تنقض على فتات الخبز التي أخذ بعض الركاب بإلقائها من على سطح السفينة ..فتنقض ل لتقاطها من الهواء بكل رشاقة وبمنتهى البراعة. الكابينه، " تعبت من وقوفي على سطح الباخرة ،فاتجهت إلى غرفتي"، طلبا للراحة والتأمل والتفكير. * * * أحد شركائي في الغرفة مهندس ألماني عمل في مصر أكثر من إلىفيينا للدراسة قال أنه عشرين عاما .وعندما عرف أنني متوجه " " قضى عدة سنوات فيه ،وأنها بلد جميلة .وأجاب على أحد أسئلتي بأنه، كمهندس ،يفضلها لدراسة هندسة العمارة عن أي بلد أوروبي آخر. بمحاسنفيينا التي قضى فيها ،وهو الن في السبعين من " " ثم عا د يتغنى عمر،ه ،سنوات جميلة من شبابه .وأخذ يكرر قوله بأنني سوف أقضي فيها سنوات ممتعة أيضا .فهي بلد جميلة ،وفتياتها جميلت ،و"سوف
61
تكون موفور الحظ لديهن .كما وأنك سوف تتعلم اللغة اللمانية بصحبتهن بسهولة" !! ترو دي، " هنا ،عا دت إلى ذهني فكرة إعا دة التصال بصديقتي الجميلة " التي نشأت بيني وبيها صداقة ،بالمراسلة ،دامت منذ أيا م الدراسة فيفيينا ،ولم تنقطع أواصر تلك الصداقة الثانوية ،والتي تعيش " " بالرغم من كل التقلبات التي جرت على ظروفي. ولم يلبث أن استأذنني جاري للخروج بعد أن أوصاني بأن أرتدي بلوفر إذا أر دت الخروج للسطح أنا الخر .ثم ر د د جملته للمرة الثالثة " " أو الرابعة ! keep smiling وكان هذا هو أول أصدقاء الرحلة. كان الجو لطيفا ،بالرغم من النسمات القوية التي تهب في عكس إتجاهنا وكنت على وشك العو دة إلى الغرفة لول أن تسللت إلي الكومبارسيتا إلى " عزيز،ه إلى" " مسامعي نغمات موسيقية مختلفة ،من" النور ،وغيرها ،صا درة عن آلة أكور ديون يقو م بالعزف "موكب " إلىفنزويل". عليها أحد أفرا د مجموعة من الشبان اللبنانيين المسافرين " ولم يكف الشاب عن العزف إل عندما سمعنا صوت الجرس الذي يعلن عن موعد طعا م العشاء. )انتهت الرساله( * * *
"إسبيريا" في 24/3/57 عزيزي إبراهيم .. صباح جديد في نوعه ..وغريب!
62
عندما تفتح عينيك في الصباح الباكر لتجد سقف الغرفة ل يبتعد أكثر من ثلثين سنتيمترا عنك ،ل بد أن تأخذك الدهشة ولو لبضع ثوان ريثما تتذكر أن سريرك هو أحد السريرين العلويين في الغرفة.. "الكابينه". نظرت إلى جاري المقابل لي في السرير العلوي الخر ،فوجدته يتململ ويتحسس ساقه الذي ربط فيه حافظة نقو د،ه بطريقة غريبة. وكان السرير الذي تحته ،والذي يشغله اللماني ،خاليا .فقد غا در،ه صديق المس مبكرا. واستغرقت في عدة نومات قصيرة متقطعة إلى أن جاءت الخا د م لتؤ دي مهامها الصباحية ،فكان ل بد من أن أغا در السرير والغرفة. على سطح الباخرة كان صوت ناي يشارك الشبان اللبنانيين المهاجرين في أهازيج شعبية تتكرر بنفس النغم ،ولكنها غير مملة. تجاذبنا أطراف الحديث أنا وشاب مصري كان يقف إلى جانبي اسمه "عبد الفتاح" .عرفت منه أنه قد أنهى دراسته في كلية الهندسة في السكندرية وعمل فيها معيدا منذ عا م ،54وهو الن في طريقه تورينو بإيطاليا .وقدمني بدور،ه إلى شاب مصري " لكمال دراسته في" آخر ذاهب لدراسة هندسة البترول في ألمانيا. وهكذا ،فبمجر د أن تبحر السفينة في عمق البحر ،وتبدو كجزيرة منفصلة عن كل الركان اليابسة ،وحيدة ،يتنامى إحساس الركاب ،كل على حدة ،بوجو د صلة ما بينهم تحتم عليهم أن يتعارفوا ويتقاربوا ويتساءلوا عن وجهاتهم .مما يدفع إلى أن تتزايد اللفة بينهم"..ويجري كلمهم بسؤال وجواب ..وبعد شويه يبقوا أحباب ..و د،ه يعرف د،ه رايح على فين "..على رأي مطربنا محمد عبد الوهاب. ثم نزلنا إلى قاعة السينما ،فشاهدنا فيلما من منتصفه ولم أعرف تمثيلموريس شيفالييه". عنوانه ولكنه من " وأثناء خروجنا من صالة السينما حياني رجل سرعان ما عرفت فيه جاري السفلي .وعرفت منه أنه سويدي الجنسية ،كان في رحلة سياحية بمفر د،ه ،زار فيها أخيرا القاهرة والسكندرية .وعورفته أنا بنفسي 63
الجنسية لنني قلت له أنني " ولحظت أنه اعتقد بأنني"إسرائيلي فلسطيني من القدس. فكانت هذ،ه أولى جولتي التي كنت أتوقعها. دهش الرجل عندما قلت له أن فلسطين بلد عربي في الصل ،وهي محتلة في جزء منها من قبل اليهو د الذين لفظتهم البلدان الوروبية والسيوية والميريكية .وأن هناك جزءا من فلسطين ما زال عربيا. فأعرب عن دهشته واستنكار،ه وأرجع ذلك إلى نشاط العل م السرائيلي وتأييد الغرب .هذا إلى جانب تقاعس العل م العربي وعجز،ه عن الوصول إلى المواطن الوروبي .وتطور الحديث بطبيعة الحال ،بينما نحن نتناول طعا م العشاء سويا ،إلى الحديث عن حرب السويس والعدوان الثلثي ،وأبدى قناعته بأن قناة السويس من حق المصريين إ دارة واستثمارا .وقال أن"عبد الناصر" زعيم حقيقي استطاع أن ينجو بشعبه من المؤامرات ! )انتهت الرساله( * * * إسبيريا في 25/3/57 عزيزي إبراهيم.. صحوت من نومي مبكرا. صباح آخر جديد من نوعه ! الغرفة تتمايل يمينا ويسارا ،لكنها اهتزازات هينه فيها شيء من المتعة والحساس بالطفولة .بعد قليل حدثتني نفسي بالنهوض لكتشاف أحاسيس جديدة على سطح الباخرة المتمايلة .في البداية داخلني شيء من الرهبة ،ثم أخذت في التعو د .لكنني قررت العو دة إلى الغرفة بسب برو دة الجو. با درني صاحبنا السفلي ،السويدي ،بسؤاله عن موعد وصول الباخرة إلى أول الموانيء الوروبيه"سيراكوزا" .وكنت قد علمت بأننا سنصلها 64
في الساعة الواحدة ظهرا .وهنا خطرت لي فكرة الصعو د مرة أخرى، بعد التزو د بما يحميني من برو دة الجو ،لكي أعيش لحظات ميل د القتراب من الحياة على الرض .ولم يلبث الرفيق السويدي ،الذي لم أستطع أن أحفظ إسمه ،أن لحق بي. صقلية عن بعد .ثم أخذت تقترب منا شيئا فشيئا إلى أن " ظهرت جزيرة" احتضن ميناء"سيراكوزا" الباخرة "إسبيريا". ومن مكتب الستعلمات علمنا أن هناك رحلة منظمة لزيارة أنحاء البلدة سوف تستغرق ثلث ساعات ونصف. يورجين ،على " شجعني الصديق السويدي ،الذي عرفت أخيرا أن اسمه" الشتراك في الرحلة. ركبنا السيارات المعدة للرحلة ،وكانت سيارات تاكسي صغيرة .فكنت يورجين ورجل إيطالي في إحداها. " أنا و" زرنا مسرحين مدورجين من المسارح الثرية لقدماء الغريق .كما زرنا إحدى المغارات القديمة التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميل د بحوالي خمسمائة سنة .وكانت بعد ذلك تستعمل كسجن للتعذيب. المسقط الرأسي لها يشبه علمة الستفها م ،وحوائطها صخرية ملساء ى قويا مدويا .وكنا تلتقي في أعلها .وأي همس فيها يسمع له صد ا قبل الدخول في المغارة قد سمعنا أصوات انفجارات مدوية مما أثار فضولنا وتعجبنا .وسرعان ما بد دت مرشدتنا تلك الدهشة بأن أمسكت بقبضتيها بورقة وأخذت في تطبيقها ،ثم تمزيقها .فكان صوت تطبيق الورقة وتمزيقها يرتد صدا،ه دويا هائل رهيبا ،مؤلما .ومن هنا ،كما أعتقد ،جاءت فكرة استخدا م هذ،ه المغارة كسجن للتعذيب. وسيراكوزا هي مسقط رأس العالم الرياضي والمخترع الشهير " " "أرخميدس" .ولقد مررنا بالميدان المسمى باسمه ونحن في طريقنا إلى "النبع العجيب" .فهناك على بعد بضعة أمتار من البحر ،توجد بحيرة صغيرة جدا يسبح فيها السمك و البط .وهي على قربها من البحر إل أنها تتميز بميا،ه عذبة تستمدها من النبع القريب العجيب.
65
ثم تجولنا قليل في أنحاء المدينة القديمة حيث تلمس في مبانيها طابعها الشرقي بوضوح. صقلية هي أقرب الراضي الوروبية إلى الشواطيء " وجزيرة" الفريقية ،التونسية .وقد استطاع العرب في عا م 652الوصول إليها مزار،ه ،ومن ثم كان فتح جزيرة والستيطان في جزء منها يسمى" " "صقلية" بالكامل في عا م ،878حيث أصبحت اللغة العربية لغتها الرسمية حتى منتصف القرن العاشر. وبالرغم من مرور الزمن بعد نهاية الوجو د العربي ،فما زالت اللغة الصقلية تحتفظ ببعض الكلمات العربية مثل: منقشطة"( ،و.. :cassataكعك صقلي ) " :tanuraالفرن )من"تنور"( ،و.. :zaffaranaالزعفران ،و.. :zibbibbuالزبيب .. ..إلخ ! )انتهت الرساله(
*
*
*
وقبل أن تغا در السفينة ميناء "سيراكوزا" ،كنت قد تمكنت من شراء بعض البطاقات البريدية لرسالها إلى والد و ي في "غزة" ،وأخي و شقيقاتي في "جد،ه" .ولم أنس أن أرسل بطاقة إلى صديقتي النمساوية الجميلة "ترو دي" ،التي كان قد تم تعارفنا ببعض عن طريق المراسلة. كما حرصت على أن أرسل إلى خالي ،وكل فر د من عائلتة بطاقة بمفر د،ه ،لعبر للجميع عن امتناني وشكري لهم ،مما مكنني من أن أخص "نهى" ببطاقة خاصة مميزة. أخذت أتذكر اللحظات الخير،ه في السكندرية .ثم استهوتني فكرة استعا دة شريط الذكريات لحظة بلحظة ،بينما أنا أحدق في سقف "الكابينه" القريب. 66
ترى ،كيف يمكن أن يستقيم استمرار هذا الوهم في ظل ظروف تستمد قسوتها من عوامل ل يبشر أحدها بما يستريح له القلب ،وأي حب هذا الذي سيربط بين قلبين تتطاول المسافة بينهما ،بحيث يصبح كل منهما في قارة أخرى ،يفصل بينهما البحر البيض المتوسط ،إلى أجل غيرمسمى؟! هذا إلى جانب موقف "عد م القبول" ،لسبب مبهم ،من أقرب الناس إلي ..خالي؟ و أكا د أن ل أ درك أيهما هو الوهم .هل هو الحساس بعد م القبول هذا ،أ م هي عاطفة الحب ذاتها التي تسكن قلبي؟! وهل تملك فتاتي ،التي جسدت ذلك الوهم الجميل في مخيلتي ،دليل واحدا غير ذلك الهتما م الذي بدا مني بـ " دروس الرياضيات"؟ وهل حاولت فتاتي أن توحي لي بدليل واحد يؤكد اهتمامها بي ،إلى جانب اهتمامها بالمواظبة على " دروس الرياضيات"؟ لطالما تساءلت ،بيني وبين نفسي ،في أيا م قربي منها ،عن جدوى التعلق بذلك الوهم ،ما دامت المور تسير في التجا،ه المعاكس. حتى اللحظة ،التي توهمت فيها أنني سوف أشد على يدها ،أو تفعل هي ذلك ،مرت غير عابئة بنا. هل تكفي البطاقة البريدية الخالية من أي إشارة لكي تقول لها شيئا مما أريد أن أقوله؟ وأي جدوى في ذلك ،طالما أنا أساوى بين جميع أفرا د العائلة وأخصهم لكل بطاقته الخاصة؟ تبقى هناك بارقة أمل وحيدة ،وهي أن تدرك هي أنها طريقة مقمنعة لكي تصلها بطاقة مني ،لتشي بما أكسنه لها! ترى..هل هي بداية؟ أ م نهاية؟ وما هو ،يا ترى ،ما ستبديه لنا اليا م؟ وتواصل السفينة "إسبيريا" رحلتها إلى ميناء "نابولي" اليطالي ،من حيث سوف أواصل رحلتي بورا إلى "فيينا". 67
*
*
*
خاطرة كانت كثيرا ما تبرق ،ثم تخبو ،ثم تبرق مرة أخرى ..وأخرى، ليتسلل إلوي إحساس متزايد بأنه كلما أوغلت السفينة بالبتعا د ..كلما از د دت قربا من تحقيق أحلمي. *
*
*
إسبيريا في 26/3/57 عزيزي إبراهيم.. صحوت اليو م مبكرا -في الساعة السا دسة والنصف -على أصوات الفراشين .وفهمت من همهماتهم أننا قد أشرفنا على ميناء"نابولي". نابولي ونحن ندخل ميناءها " ونهضت لفوري استعدا د لكي أرى مدينة" العظيم ،بالرغم من أنني نمت متأخرا بالمس لنني ذهبت لمشاهدة فيلم Miracle in the rainالذي ابتدأ عرضه في الساعة التاسعة والنصف مساء. فاتني أن أشاهد الفيلم في السكندرية قبل شهور ،وهو ما اتفق الكثيرين على أنه فيلم رائع .وبالرغم من أنني شعرت ،بعد نصف ساعة من زمن العرض ،بشيء من الملل مما جعلني أفكر بمغا درة الصالة ،إل أنني تحاملت على نفسي ،لرى مواطن الروعة فيه! يبدأ الفيلم بقصة حب عا دية ،ثم يسافر الحبيب للحرب وتصل الحبيبة شائعة مقتله هناك ،فيجن جنونها ،وأخذت تكثر من التر د د على الكنيسة راجية من ا أن يعيد إليها حبيبها. وفي أحد الليالي وهي في طريقها إلى الكنيسة ،بعد نوبة حمى عنيفة، كان المطر ينهمر بشدة وهي غيرعابئة بذلك .وعندما همت بدخول الكنيسة فوجئت بحبيبها وقد عا د إليها .وتعانق الحبيبان وهي غير 68
مصدقة عينيها .وما كان من الحبيب إل أن أخرج من صدر،ه سلسلة فيها قطعة من العملة المعدنية القديمة كانت هي قد أهدتها إليه في إحدى المناسبات ،وكان هو يتفاءل بها .وناولها إياها قائل أنها هي التي حفظته من الهلك .ثم و دعها الحبيب واختفى كما ظهر بدون مقدمات. وبقيت هي لوحدها مذهولة ..ثم أغمي عليها. إلى هنا ،وكل شيء معقول .فما حدث هو مجر د تخيلت تحت تأثير هذيان الحمى .ولكنهم ،بعد أن حاولوا مساعدتها وجدوا أنها تقبض على شيء في يدها ،فإذا بهذا الشيء هو تلك السلسلة ذات القطعة النقدية القديمة التي أهدتها لحبيبها ذات يو م .وكانت إحدى صديقاتها قد شهدت بذلك .وهذ،ه هي المعجزة. وأخيرا انتهيت إلى أن نصف ساعة على الكثر هو الزمن المناسب لرواية هذ،ه الحكاية. وهكذا ،وبالرغم من حاجتي إلى النو م ،نهضت وصعدت لرى مدينة نابولي ونحن نقترب منها ،ومن ثم أشاهد دخول الباخرة إلى مينائها " " العظيم. يورجن الذي و دعني لنه سوف يواصل " وبعد تناول الفطار ،رأيت" رحلته إلى الشمال بالقطار. وفضلت هذ،ه المرة أن أذهب لزيارة المدينة بدون العتما د على الرحلت المنظمة ،لن الرحلت التي تنظمها شركة السياحة، بالضافة إلى تكاليفها ،غالبا ما تقيد المرء برؤية أماكن ل تهمه كثيرا. نزلت بمفر دي ،وخرجت من ميناء نابولي العظيم بمبنا،ه وإ دارته، وبينما أنا أمشي في أحد الشوارع الرئيسية صا دفت شلة من ركاب الباخرة فانضممت إليهم .ولم نلبث أن تفرق شملنا ،وبقيت أنا و د. محمد وهو الطبيب المصري ،بالرغم من بقايا شعر،ه الشقر وعينا،ه " " الزرقاوين ،الذي كان صاحب المبا درة بالسؤال عن وجهة سفري في أوائل ساعات البحار ،فأشرق وجهه عندما عرف أنني في طريقي إلى فيينا بالذات ،حيث سيواصل هو تخصصه في دراسة أحد النمسا ،و" " فروع الطب التي تتميز بها جامعات النمسا. 69
وأكملنا تجوالنا في المدينة ،بعد أن اتفقنا على مواصلة سفرنا البري فينيسيا ،ومن " ميلنو ،ثم إلى" " جنوا إلى مدينة " بالقطار سويا من ميناء" " فيينا ،حيث ،كما حدثني" د .محمد" ،سيكون أحد أصدقاء،ه ثم إلى " " المصريين في انتظارنا. )انتهت الرساله( *
*
70
*
فينيسيا
71
صورة جوية للبندقيه
في ميـلنـو
أوروبـــــــا.. 72
كانت الرحلة البرية من "جنوا" إلى "ميلنو" إلى "فينيسيا" برفقة رفيق السفر "،د.محمد" ،حافلة. "جنوا" ،كمدينة ساحلية ،ل تختلف كثيرا عن "ميلنو" .ولول اختلف اللغة لظننت أنني مازلت في السكندرية. أما "فينيسيا"" ،البندقية" ،فهي كما يسمونها ..مدينة المشا،ه ،التي تتكون من 120جزيرة ،يربط بينها 400كوبري للمشا،ه .وقنواتها ،التي يبلغ عد دها 177قنا،ه ،هي الشوارع. والـ"جوندول" الذي تغنى به "محمدعبد الوهاب" هو السيارة التي تمكن السكان من التجول في أنحائها. سكانها البالغ عد دهم ربع مليون نسمة يتناقصون مع الزمن ،كما قيل لنا ،بسبب الحياة غير الصحية والمد والجزر الذي يهد م البيوت. إل أنها تظل ،بفضل "لياليها الحسان" ،كما ير د د مطربنا" ،فاتنة الدنيا.. وحسناء الزمان". قضينا فيها أياما قليلة .وكنت أو د أن تمتد زيارتنا لها ليا م أخرى ،لول أنه قد تم إتفاق " د.محمد" مع صديق له لكي يكون بانتظارنا في محطة القطار في مدينة "فيينا". وبالفعل استقبلنا الصديق المصري ،المقيم في المدينة للدراسة منذ سنوات ،في ذلك الصباح الباكر من يو م السبت الموافق أول أبريل من عا م .1957 * * *
"فيينا" 73
في 4/4/1957 عزيزي إبراهيم.. كانت رحلة القطار الليلية الطويلة تستدعي أن يتركنا الصديق" " فكري لنخلد للراحة في أحد الفنا دق القريبة من المحطة ،على أن يعو د إلينا ظهرا لكي نتدبر بعض المور. واستغرقنا في نو م عميق كان كافيا لكي نستر د نشاطنا ونتأهب لملقاة مفاجأة لم تخطر لنا على بال. محمد بالصعو د فكري عن وصوله برفقة ضيف ما ،فأذن لهما" د" . أعلن" " إلى غرفتنا. لم يكن الضيف سوى فتاة شقراء ،في السا دسة أو السابعة عشر من هيلينا ،وتتكلم اللغة العمر ،بشوشة ،على قدر من الجمال ،إسمها" " النجليزية بطلقة ل بأس بها .وتبا در بالحديث متسائلة عن أشياء كثيرة . فكري أنها إبنة مالكة مسكنه الصغير الذي كان يقطنه منذ أن عرفنا من" " فيينا للدراسة قبل سنوات ثلث .وعندما علمت" " هيلينا جاء إلى" " منفكري أن صديقا له سيحضر من مصر ،لم تلبث أن أصرت على " " فكري، محمد ،الذي يتمتع ،كما يقول" " مرافقته لترى هذا المصري "،د" . ببشرة بيضاء ..و شعر أشقر ..وعينان زرقاوان )!(. كانت أمامي مهمات ل بد من قضاءها في أسرع وقت .أولها الذهاب إلى البنك المركزي لصرف الشيكات السياحية التي كنت أحملها. وثانيها البحث عن مسكن دائم. محمد فكان لزاما عليه أن يسجل وصوله في مكتب البعثات أما" د" . المصرية أول. هيلينا إلى البنك، فكري ،أن أذهب مع" " وهكذا تم التفاق ،حسب اقتراح" " محمد مهمته في مكتب البعثات حيث سيتسلم مخصصه بينما ينهي" د" . المالي ،على أن نلتقي بعد ذلك في مكان تعرفه"هيلي".
74
تمثال "شتراوس" في أحد حدائق "فيينا"
75
دار أوبرا فيينا ليل
قصر"شون برون" الشهير في "فيينا"
كان البنك المركزي قد أقفل أبوابه مبكرا حسب عا دتهم أيا م السبت. 76
هيلينا في قلب المدينة التي بهرتني معالمها وحدائقها وهكذا طافت بي" " بينما أنا أبدي إعجابي وأطلب المزيد ،إلى أن شعرت بالتعب والجوع. هيلينا ،أثناء تناولنا طعا م الغذاء في مطعم صغير بالقرب من حكت لي" " فكري من مصر ميدان الوبرا الشهيرة ،كيف انقطع وصول مرتبات" " خلل حرب السويس في العا م الماضي .وكيف احتضنته والدتها العاشر ،أحد " فيالحي واستضافته ليسكن في أحد غرف بيتهم الكائن " فيينا الشعبية القريبة من محطة القطار وبالتالي من الفندق. أحياء" " وعندما لحظ م ت أنها سوف تسترسل في حكاياتها ،با درت بسؤالها عن موعد لقائنا مع"فكري" "و د.محمد" .لكنها استمرت في مراوغتها إلى أن قالت أخيرا أننا سنتقابل في بيتهم على كل حال. وهكذا اتجهنا ،بعد مزيد من التجوال الممتع في حديقة يتوسطها تمثال شتراوس ،إلى بيتهم. " الموسيقار النمساوي الشهير"يوهان ل أحد في البيت. هيلينا ،تكا د تخلو البيوت من أصحابها ففي مساء يو م السبت ،كما تقول" " الذين يلجأون إلى قضاء سهرة ليلة الحد في أحد الماكن العامة طلبا للمتعة والراحة من عناء العمل خلل السبوع. محمد اللذان وهكذا اضطررنا لقضاء تلك المسية في انتظار"فكري" "و د" . طال غيابهما لسبب ل أعرفه. كنت في تلك المسية كالوسيط الذي يخضع لوامر المنوو م المغناطيسي. موسيقى ل تكا د تنتهي حتى تنبعث مرة أخرى من الجهاز البدائي. ورقص ل بد من أن يؤ دي إلى العناق الطويل ..والتقبيل ،الذي اكتشفت هيلينا أنني ل أعرف أصوله ،بحيث أخذت تلقنني عمليا كيف يكون " " التقبيل. ي كان عندما أجرؤ على رواية ما حدث لي أكا د ل أصدقني ،فما بال أ ي في أمسية ذات اليو م الذي أصل فيه لول مرة إلى ذلك البلد العجيب. 77
صورة لفتاة شديدة الشبه من "هيلينـــــــا"
78
حيرتي كانت تكا د أن تفسد متعتي. و لم ينقذني من ذلك الموقف الغريب العجيب سوى دخول شاب في مقتبل العمر ،عرفت منها أنه أخوها ،لم يكد يرانا في هذا الوضع حتى اعتذر وغاب عن النظار ،بدون أن تبدو على قسماته الدهشة أو الستنكار .وذلك مما زا د دهشتي وحيرتي فيما أنا كنت منغمس فيه. أحاسيس جديدة تفوق قدرتي على الستيعاب. نعم ،لقد سمعت وقرأت عن الحرية والنفتاح والعلقات الحميمة في هذ،ه البل د .ولكنني لم أستطع أن أستوعب ما رأيته ولمسته. ربما يخطر ببالك ،يا صديقي ،أن روايتي هذ،ه ما هي إل من قبيل أبريل المشهورة. " التندر والهزار ،أو ربما تظن أنها"كذبة فيينا ،هو الول من شهر إبريل أليس هذا اليو م ،يو م وصولي إلى" " الشهير بأكاذيبه؟ ولم يكن الحل سوى الهروب من ذلك الموقف ،الغير قابل للوصف. هيلينا حتى باب البناية الذي درجت كان من الطبيعي أن ترافقني" " العا دة على إقفاله قبل أن ينتصف الليل لكي ل يتاح الدخول أو الخروج إل للسكان الذين لهم الحق في امتلك المفتاح. وهناك ،في مدخل العمارة ،كان ل مفر من الستجابة مني إلى" " جولة أخرى قصيرة. )وأكتفي بهذا القدر من الرساله( *
*
*
وخرجت ،قرب منتصف تلك الليلة ،أتنفس الصعداء إلى الطريق الطويل المظلم ،الذي يؤ دي إلى محطة القطار ،وبالتالي إلى الشارع المضاء باللفتات التي تعلن عن أسماء العديد من الفنا دق المختلفة. وهيهات أن أتذكر اسم الفندق الذي نزلنا فيه. وأخيرا قررت أن أ دخل إلى أحد هذ،ه الفنا دق فأقضي فيه بقية تلك الليلة العجيبة ..والصباح رباح ،كما يقولون. وما أن دخلت إلى أقرب الفنا دق حتى با درني موظف الستقبال مرحبا: 79
هاي "ناصر"..ل درك أنني كنت في الفندق المطلوب. أما حكاية "ناصر" ،فلقد درج البعض في أوروبا ،كما بوين لي"فكري"، على مخاطبة أي مصري ،أو حتى شرقي ،بهذ،ه التحية ،تعبيرا عن إعجابهم بالزعيم "جمال عبد الناصر" إثر انتصار،ه وذياع صيته في حرب السويس ،عا م .56 أما التحية الخرى التي با درني بها " د.محمد" وهو يعطي ظهر،ه لمصدر الضوء عندما دخلت الغرفة بعد أن طرقت الباب واضطررت لشعال النور ،فكانت: إنت عولقت البت يا خويا ؟!وعا د يغط في النو م. أما أنا فقد كتمت رغبتي بالبوح ،وقضيت وقتا طويل وأنا أسترجع ما حدث لي في تلك المسية الولى في "فيينا". *
*
*
وانقطعت صلتي بعد ذلك بـ" د.محمد" ،حيث أنه ترك الفندق إلى المسكن الدائم الذي أتاحه له مكتب البعثات المصري. ولم يلبث "فكري" أن وجد لي مسكنا مؤقتا في حي راق بعيد عن قلب المدينة ،بالقرب من قصر Schoenbrunالذي تشتهر به "فيينا". كان المسكن هو غرفة مستقلة في فيلل فاخرة في الحي الثالث عشر*، يمتلكها ويسكنها شاب ما زال في سنواته الولى في كلية الطب. توفي والد الشاب" ،هانس" ،بعد وفاة والدته بعا م قضاها الب مريضا تشرف على علجه ممرضة خاصة ،هي "يوتا" التي ظلت تسكن إحدى غرف الفيلل ،وتشرف على إ دارتها. ______________________________________________ )*( تنقسم مدينة فيينا ،إداريا ،إلى 23حيا سكنيا.
80
ويسكن إحدى الغرف الخرى "موري شيفر" ،الطالب الكندي الجنسية ،الذي يدرس الموسيقى ،في بلد الموسيقى ،في سنته الخيرة. كان "موري" ،يمتلك مذياعا حساسا ،بإمكانه أن يلتقط أي إرسال إذاعي .ولقد دأبت ،بعد أن توطدت علقتي بـ "موري"،على إلتقاط محطة إذاعة "البرنامج الثاني" ،و"صوت العرب" ،ومواصلة الستماع لبرامجهما المختلفة ،حتى أ دمن "موري" نفسه على سماع الموسيقى والغاني العربية ،و دأب على تحيتي صباح مساء بتر ديد،ه للحن المميز لبرامج صوت العرب "أمجا د ياعرب أمجا د" المجيد .بل وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أ م كلثو م" .ل يمل عن السؤال عن أسماء الملحنين للغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها الموسيقية بالذات. كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها. وير د د دائما أن "ضستنباتي" أو"أأستبجي" أو"هأتمدي" أو "أبدتل ووخاب" أو " دارويش" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أو غيرها لو أنه اهتم بدراسة تلك "التفاصيل" .وكنت ل أمل من حديثه ،بل أجد فيه متعة فائقة. ومع "موري" ،ومن ثم "يوتا" ،وطائفة أخرى من المحررضين والمحرضات ،اكتشفت متعة جديدة ،إلى جانب متعة مشاهدة الفل م السينمائية ،والستماع إلى أسطوانات الموسيقى الكلسيكية ،التي أ دمنتها بفضل محبوبتي "نهى" ،هي متعة "الستماع الجماعي" للموسيقى .فبصحبته دخلت لول مرة صالة الـ "كونسيرت" ليز دا د يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أ داة لتغذية الوجدان والرتقاء بالعواطف ،والنتصار لهما ،ولعرف أن الستماع الجا د للموسيقى الجا دة شكل من أشكال الصلة. ولم يلبث "موري" ،إثر سماعه لتعليقى هذا ،أن أصرعلى اصطحابي، في أحد أيا م الحد التالية ،إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة Stephanskircheحيث حدثني عن الموسيقار اللماني"يوهان سيباستيان با خ" ،وأسمعني نموذجا من موسيقا،ه الكنسية ،وحيث از دا د يقيني بالعلقة بين الموسيقى وبين الصلة ومحاولت التقرب إلى ا. 81
أما "هيلينا" ،فلم تستمر علقتي بها كثيرا بعد أن انتقلت إلى مسكني الجديد ،وأخذت تكثر من زياراتها لي هناك .وهذا مما جعل "هانس" يحاول إقناعي بإنهاء هذ،ه العلقة التي كان يستنكر استمرارها ،لكون الفتاة ل تليق بي .فأنا كما قال لي أحتاج إلى صديقة ل تتكلم اللغة النجليزية ،حتى أضطر إلى ممارسة الحديث باللغة اللمانية. هذا إلى جانب أن لغتها اللمانية ،كما أفا دني "هانس" ،هي لغة أهل "الحي العاشر" الدارجة ،البعيدة كل البعد عن اللغة الفصحى. كما أن "هيلينا" دأبت ،وهذا هو الهم ،على مطالبتي بـ"إعلن خطوبتنا" ،وهي تؤكد لي أن ذلك من شأنه أن يتيح لنا علقة حميمة كاملة. * * * هنا خطر لي أن أبا در بالتصال بصديقتي الجميلة "ترو دي" ،التي تعو دت على مراسلتها ،مع عد د من صديقات من أنحاء مختلفة من العالم ،منذ زمن وجو دي في القاهرة .فهي تمتاز بثقافتها الرفيعة. وسرعان ما كنت أطرق باب بيتها الذي كنت أحتفظ بعنوانه. فتحت الباب سيد،ه عجوز .وبمجر د سؤالي لها عن "ترو دي" نا دتها بأعلى صوتها ،فهرعت إلى الباب فتاة ل أعرفها .ول علقة لها بالجمال الذي تتمتع به صديقتي التي أحتفظ بصورتها حتى الن. وانتهت القصة ما بين ارتباك الفتاة الواقفة بالباب وبين دهشتي البالغة. وعندما حكيت القصة لـ"هانس" أخذ يقهقه وهو يقول ،بينما هو يتأمل الصورة التي يفترض أنها صورة صديقتي الجميلة "ترو دي": ..هأ..هأ..هأ ..دي كانت باعته لك صورة الممثلة النمساوية الشابهالمعروفه " ..رومي شنايدر"! *
*
82
*
وتمراليا م سراعا. ويقترب يو م الخامس والعشرين من شهر مايو ،وهو يو م عيد ميل د "نهى" ،فلم أتر د د في إرسال التهنئة لها ببطاقة منتقاة بهذ،ه المناسبة. ولم تمض أيا م حتى وصلتني منها رسالة تشكرني فيها على مبا درتي هذ،ه .كما أنها لم تنس أن تكيل لي الشكر على مساعدتها في دروس الرياضيات مما جعلها تحصل على تقديرات عالية في هذ،ه الما دة. وذلك مما جعل والدتها تشجعها وتحثها على الكتابة لي. واستمر تبا دلنا لرسائل أحكي فيها عن مشاهداتي وتحكي لي عن دراستها وعن أخبار العائلة في السكندرية. *
*
83
*
الصورة المرسلة من صديقة المراسلة "ترو دي" الجميلة واتضح بعد ذلك أنها صورة الممثلة "رومي شنايدر"!!!!
84
تساهيــــل.. يدلني "فكري" على عنوان أحد المقاهي التي تعوو د الطلبة العرب أن يؤمونها. في ذلك المقهى تعرفت على الطالب الفلسطيني "ناجي الطول" إبن القدس ،الذي يدرس الطب في"فيينا" .وهو الذي عرفني بالعديد من الطلبة الفلسطينيين القا دمين من "قطاع غزة" للدراسة في "فيينا". كما كان"ناجي"هو الذي عرفني أيضا على الطالب العراقي"فيصل الياسري" ،الذي يدرس الفنون ،والذي نصحني بأن أتقد م لكا ديمية الفنون التطبيقية ،التي تتميز بسنواتها الدراسية الربعة لفن العمارة الداخلية" ..الديكور" .وبالفعل رافقني "فيصل" إلى حيث قبلت فيها في سنة إعدا دية كطالب مستمع ريثما أتمكن من اللغة اللمانية. وسرعان ما وصلتني رسالة من صديقي "محمد الزرقا" المقيم في القاهرة ،يخبرني بها أن والديه ،اللذان كنت أحظى بمحبتهما ،قد وافقا على إرساله إلى "فيينا" لدراسة فن العمارة ،التي بدأها في القاهرة ولكنه لسبب ما لم يستمر فيها. أعقبتها رسالة من السعو دية ،من خالي الكبر"توفيق" ،ينبؤني فيها عن موعد قدو م إبنه "راسم" إلى "فيينا" لدراسة الطب ،ويوصيني بمساعدته والهتما م به. وسرعان أيضا ما وصل "محمد" إلى "فيينا". ولحسن حظه أن "هانس" قد رحب به ليسكن إحدى غرف الفيلل. ذلك بعد أن كان"موري" قد ترك "فيينا" إلى"القاهرة" ،لكي يتخصص بدراسة الموسيقى العربية هناك. أما "راسم" ،فقد استطاع أن يجد له مسكنا قريبا. 85
وبمرور الوقت ،واقتراب موعد بدء الدراسة في الكا ديمية كان لزاما علي أن أبحث عن مسكن قريب من مقر الدراسة ،في "الحي الثاني" لمدينة "فيينا". أما "محمد" ،الذي سرعان ما تأقلم على الحياة الجديدة في "أوروبا" فقد استطاعت صديقته "هيلدا" ،التي أصبحت زوجته لحقا ،أن تجد له مسكنا مناسبا في حي آخر من أحياء "فيينا". ولم ألبث أن انتقلت إلى مسكني الجديد. وابتدأت الدراسة .وأقبلنا عليها" ،محمد" وأنا ،بحماس شديد. ثم أفاجأ بقرار إبن خالي "راسم" بالعو دة إلى السعو دية لنه اكتشف أنه لن يستطع أن يواصل دراسة الطب. لكنني استطعت أن أقنعه بالبقاء ،ومحاولة دراسة هندسة العمارة في الكا ديمية. وقامت "فراو هوف فيمار" ،صاحبة البيت الذي أسكن فيه ،إكراما لي، بتخصيص غرفة أخرى في بيتها لسكنى قريبي "راسم". *
*
*
ثم تنتهي السنة الدراسية الولى .وتكون النتيجة هي نجاحنا"،محمد" وأنا ،في امتحانات السنة العدا دية ،بمعنى احتساب السنة التحضيرية والقفز عنها ،ليبقى أمامنا سنتان دراسيتان يعقبهما سنة رابعة لتحضير مشروع "الدبلو م". وهنا ل بد أن أذكر بالخير والعرفان تلك الصداقة التي جمعتنا بـ"يوهان" ،الطالب من أصل يوغوسلفي ،الذي كان يسبقنا في الدراسة بعامين ،والذي كان يتحدث اللغة النجليزية ،مما أتاح لنا الستفا دة من شروحاته لما كان يستعصي علينا فهمه باللغة اللمانية، وهذا بالتالي مما ساعد في تطور وتقد م إلمامنا باللغة اللمانية ذاتها. 86
ولقد دامت صداقتنا" ،يوهان" وأنا ،حتى اليو م .وإليه كان يرجع الفضل في إيجا د الفرصة لي للتدريب في المكاتب الهندسية التي كان يعمل بها عقب تخرجه سواء في "فيينا" ،أو في ألمانيا لحقا. وجدير بالذكر أن ما جمعنا في البداية هو علقة "ناصر" بـ "تيتو". ولم نلبث أن قررنا السفر إلى السكندرية ،حيث استقبلتنا عائلة "محمد" بالحفاوة البالغة .ففي نظر والديه ،كانت الصداقه التي جمعتنا هي مما أو دى إلى نجاح"محمد" لول مرة في دراسته الجامعية .ولذلك فوجئت بأنهم قد أفر دوا لي في بيتهم غرقة خاصة لقضاء جزء من الجازة الصيفية معهم ،ظنا منهم أن والد و ي ما زال في "غز،ه". لكن سرعان ما فاجأت والد و ي وأخوتي بوجو دي بينهم ..مفعما بالشواق. ولم يطل انتظاري لـ"نهى" التي جاءت مع والدتها للتهنئة بسلمة الوصول ،والنجاح في دراستي .كما أبدى خالي ،الذي صا دف أن حضر من السعو دية لقضاء إجازة صيفية قصيرة ،سعا دته البالغة .وإن كنت أشعر أنه مازال يحتفظ بنفور،ه مني ،نتيجة لعصياني لوامر،ه، أولنقل نصائحه. وانتظمت مقابلتنا" ،نهى" وأنا ،بالرغم من أنني لحظت سلوكا غريبا منها .فكأنها كانت تخشى أن يكتشف خالي تطورا في علقتها بي. وكأني بها ،بحضور،ه ،شخص آخر يتعمد إظهار عد م إهتمامه بي بشكل مبالغ فيه .ماعلينا. وفي أحد اليا م.. كانت "نهى" تقف إلى جانبي ،بينما كنت أشرف على تركيب ستائر إحدى غرف الشقة )بعد أن وصل الوالدين من "غزة" ليستقرا في الإسكندرية( عندما تبعثرت على الرض بضع حلقات معدنية من تلك المستعملة في تعليق الستائر .إلتقطتها "نهى" لتناولني إياها .فما كان مني ،بعد أن لحظتأ وجه الشبه بين الحلقة المعدنية ..و دبلة الخطوبة. إل أنني ،وبتلقائية شديدة ،قمت بتلبيس حلقة منها لصبعها. 87
فكان في تلك اللمسة العفوية استكمال لما كانت تحتويه رسائلنا المتبا دلة من تلميحات ومعان واعدة طيلة عا م مضى. كان ذلك اليو م هو الثامن عشر من أغسطس عا م .58وهو التاريخ المنقو ش أسفل الحرفين الولين من إسمينا على ميدالية فضية تتدلى من حلقة مفاتيح ما زالت تلزمني ،ول أجد ما يبرر استبدالها أو الستغناء عنها ،منذ أن قامت "نهى" بإهدائها لي في وقت لحق ..توثيقا لتلك الذكرى. وتنتهي الجازة الصيفية ،لعوأ د إلى "فيينا" ،وليستمر تبا دل تلك الرسائل ،لينمو حبنا ويتزايد ،من خلل صفحاتها المتزايدة ،التي تحمل ما يشبه العترافات المتبا دلة ،كما أسهبت ،بدون حرج ،شيئا فشيئا ،في وصف الشواق والحنين. *
*
*
وأعوأ د إلى لقاءاتي مع زملئي الطلبة الفلسطينيين في ذلك المقهى الذي يؤمه الطلبة العرب ،حيث نشأت فكرة تكوين أول تجمع طلبي فلسطيني في النمسا. لم يكن متاحا لنا ،نحن الفلسطينيين ،تكوين "إتحا د طلبة" خاص بنا أسوة بالباقيين ,والسبب هو عد م سماح السلطات النمساوية لذلك. فما كان منا إل أن اكتفينا بتكون ما أسمينا،ه بـ"مكتب فلسطين" ،كفرع من فروع "رابطة الطلبة العرب". *
*
88
*
مع عائلة الخال"أبونبيل"..و"نهى" تقف في أقصى اليمين..إلى جانب والدها
89
90
)وكأنما كان هناك من أوعز ،أو ما أوحى ،للمصور ،الذي توولى تغطية ذلك الحفل العائلي ،أن يسجل بعدسته تلك اللحظة. فكان أن حظي "ألبو م" تلك المناسبة البهيجة بتلك الصورة ..ال
91
عن الحــــــــــــــــلم ..
تتوالى نجاحاتي في دراستي ،يحدوها إحساسي بالسعا دة والرضى والتفاؤل ،والتوازن الذي يخلقه ويضاعفه حب متبا دل ،يترعرع من عا م إلى العا م الذي يليه ،ويتخلل ذلك زيارات قصيرة للسكندرية، أمل فيها ،كما كتبت لها في أحد المرات ،عيني وقلبي من لحظات السعا دة المقتنصة ،زا دا ليا م الغربة المقبلة. ومن ثم ،ترى أمي أنه قد آن الوان لكي تكلل نجاحاتي بالتمهيد لحلم المهات ،بمباركة تلك العلقة الجميلة التي لم تعد خافية على أحد.. وإعلن الخطوبة. كانت أومي بالنسبة لخيها ما تزال هي الخت الكبرى التي ل يملك إل أن يحقق لها رغبتها .وكانت إمرأة خالي الطيبة ،التي رعت حبنا وأحبته منذ أن رأته بريقا في عيني ابنتها،عامل مساعدا هاوما في إقناع الخال بالتسليم بالمر .بل كانت ،لشدة قناعتها ومباركتها، محررضا نبيل لن تتكلل تلك العلقة الجميلة بزواج عاجل ،يبرر،ه ويدعمه تشجيع ال م لرغبة البنة على استكمال دراستها في بلد الموسيقى"فيينا" .ل سيما بعد أن أصبحت أختها الكبرى"،ميسون"، على وشك اللحاق بأخيها للدراسة في أميريكا. لكنه ،ولشدة دهشتي ،سامحه ا ،لم يتركي أهنأ بأجمل لحظة كنت أنتظرها. لم أكد املبس حبيبتي ،ومتلبسني هي ،دبلة الخطوبة ،في ذلك الحفل العائلي الضيق ،ذات إجازة صيفية ،حتى روبت على كتفي من خلفي و 92
قبض على ذراعي وأقتا دني إلى الشرفة حيث أ دلى لي على انفرا د، وبمنتهى القسوة ،الغير مبررة في تلك المناسبة وفي ذات اللحظة، بقرار،ه الحاسم الغريب: ..وإوعك تحلم بالزواج ..إل بعد ما تنفذ كل شروطي ..كلها..فاهم ! ثم توقف عن الكل م ،واكتفى بنظرة ثاقبة سد دها إلي ،محملة بمعانى لم أغفل عن تفسيرها .وكأنه يريد أن يكمل: " ..وبدي أشوف كل م مين اللي راح يمشي هالمورة"!ظلت كلماته الجارحة تدوي في أذنيو ..تقهرني ..تبكيني. في لقاءاتي معها ،حيث كنت أقرأ في عينيها تساؤلت باحثة عن أسباب حزني الصامت ،الدامع أحيانا ،كنت أرى أن الجابة عليها ربما تزيد الطين بولة ،فأؤثر الكتمان. شتان بين تلك الصورة التي برعت رسائلنا في رسم تفاصيلها والستطرا د في الترتيب لبناء ذلك الذي اتفقنا على تسميته بـ "البيت السعيد" ،والسرة التي اتفقنا على تسمية أول أول دها باسم "نبيل"، شقيقها الذي تربطني به صداقة ومو د متبا دل ،بحيث )يا للرومانسية!( يصبح لقبي في المستقبل "أبونبيل" ،تيمنا بخالي الذي أحببته وأتخذته مثل أعلى لي ،وبين الواقع الليم الذي يشي به ذلك التصريح الجارح ،البالغ القسوة ،الباعث على القلق والتشاؤ م .والذي يجعلني أكا د أن أضيع بين الشك واليقين. كأنما كان يعتبر فوزي بقلب ابنته ) يا للغرابة!( بمثابة "انتصار" لي ..و " ..هزيمة" له. ولكم حاولت أن أتخلص من ذلك الخاطر الذي ل يخلو من قسوة على خالي الذي أحببته .لكن سرعان ما كانت تتسرب إلى مسامعي ،في أوساط العائلة ،أقاويل توحي بأن سلوكه الغريب كان نتيجة لما يعانيه من بوا در "هزيمة" أخرى تتراوح أمامه .وذلك بسبب إصرار ولد،ه البكر"،نبيل" ،على اختيار شريكة حياته وتحقيق أحلمه بالزواج من 93
زميلتة المصرية "صفاء" التي با دلته الحب طوال فترة دراستهما الجامعية .قصة حب رائعة تغونى بها وأحبها وباركها الجميع ..ما عدا،ه ،لسبب ل يعلمه إل ا )!( أما عن موقفه من قصتي أنا ،فكانت سلسلة شروطه تكا د أن تكون من قبيل التعجيز ،ومما كان يتيح له ،كما يبدو ،الشعور بـ "استر دا د الهيبة": العمل ،بعد التخرج ،سنتين تلته ،لكتساب الخبرة وللحصول على "مركز" في السعو دية ،التي انتقل هو بدور،ه للعمل فيها مديرا مؤسسا لحد البنوك الجديدة في السنوات الخيرة. وأخيرا ،وليس آخرا ،تكوين "الرصيد البنكي" الملئم لضمان المستقبل لبنته! حدثت أمي في ذلك الوقت فيما كنت أرا،ه: ..مسألة التخرج وضمان فرصة العمل بديهيه .وهو محق في ذلكإلى حد ما .أما اكتساب الخبرة في المجال الذي اخترته لنفسي فهو متاح لي في "فيينا" ،مثل ،وبدخرل ما دي مغرر يفوق دخلي في أي مكان آخر .فلماذا أترك هذ،ه الفرصة وأتجه للعمل في السعو دية أو غيرها من دول الخليج ،وقد سبق أن جربته وذقت مرارته؟! وهو الشيء المستهجن والمرفوض مني نهائيا ..جملة وتفصيل. هذا ..إلى جانب ما كنت أمبريته ،وما لم يحن الوقت للجهر به بعد ،من استكمال الدراسة والتخصص في الخراج السينمائي في أكا ديمية الفنون التعبيرية. * * * تبا دلنا بعد ذلك الرسائل التي كانت تتضمن محاولت مني لرأب الصدع بيني وبين خالي .لكنه كان يصرعلى أن محاولتي هذ،ه ل تحمل إل الستهانة بآراء،ه وحكمته.
94
حتى رسائل "نهى" أصبحت تكا د تحمل نفس الكلمات .وماعا دت تحتل ذلك العد د من الصفحات التي كانت فيما مضى تزخر بمعاني الحب المتراقصة فوق وبين سطور الرسالة لتحمل إلي أرق المشاعر وأجملها. ثم ..جاءت رسالتها الخيرة لي ،مختصرة ،مرموسة بما ل يترك مجال للشك بأني قد خسرت المعركة. فبعد أن اعتدت على أن أروي أشواقي بعبارات مثل "الحبيب الغالي" في بداية رسائلها ،جاءت رسالتها الخيرة جافة قاحلة تخاطبني بلقب " :إبن العمة" العزيزة !.. وعا دت الهيـبة إلى أصحابها .بل تر د دت بعد ذلك في أوساط العائلة أقاويل تنم بأن فتاتي كوفئت من أبيها بإرسالها لتما م دراستها في أميريكا. وتساءل البعض ،وكأنما كان ذلك بلسان حالي: أما كان الجدى أن يرسلها لتكمل دراستها في "فيينا"؟! كم ذا من المور ما يسوق المرء ،بالرغم من يقينه من صدق مشاعر الخرين ،إلى إعا دة تقييمه لكل ما فات ،حتى لو كان في ذلك ما يؤ دي إلى ما يشبه ويقارب "جلد الذات"! مترى ..هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من اختراعك ونسج خيالك؟ وأنه من الخطأ ،كل الخطأ ،أن ميسرف المرء في الخيال فيجعل من محبوبته كل ممنا،ه وممنتها،ه ..وكل جنته وفر دوسه؟ *
*
*
هنا تقتضي المانة ،والصدق الذي أجدني كثيرا ما أتحدث عنه وعن عشقي لممارسته ،أن أتحدث عن خطأ لم أقودر عقبا،ه إل فيما بعد، عندما ساقني الحديث ،بعد ذلك بسنوات ،مع إحدى الصديقات واستدرجني إلى الـ "فضفضة" ،التي يحتاج إليها المرء بين حين 95
وآخر .وما زلت أذكر قسوة ألفاظ تلك الصديقة التي وصفت بها فداحة فعلتي. أقول أنني "لم أقودرعقبا،ه" ،ذلك الخطأ ،ول أقول أنني أعترف به أو أنكر،ه .لنني كنت في موقف يشبه موقف من ل يملك ،دفاعا عن النفس ،سوى أن يكون أو ل يكون. ففي لحظة ما لم أجد ما أ دافع به عن تهمة "النانية وحب الذات، وعد م احترا م ومراعاة ما قد يكون للخرين من اختيارات" ،التي دأب خالي سامحه ا على وصمي بها ،لدرجة اضطررت معها أن أبعث له بإحدى الصفحات من رسائل "نهى" التي كانت تشكو لي فيها من وحدتها ..وإحساسها بالظلم والقهر وعد م مراعاة مشاعرها واختياراتها. وخطأي هذا ،الذي لم أكن أ درك فداحة وقعه على صاحبة الشأن ،كان هو اللحظة المناسبة التي مكنته من الفوز بالضربة القاضية ،وذلك عندما أعا د إرسال الصفحة المذكورة لصاحبتها ،مع العلم بأن رسالتي له كانت تحتوي على رجاء حار أن يبقى ذلك المر سرا بيننا .فلم يكن في تصرفي نية فضح مشاعرها بقدر ما كنت أريد،ه أن يعرف مدى قسوته على كلينا .كما كانت رسالتي تحتوي على وعد مني بأن أرضى بعد ذلك بأي حكم يرتضيه ،وأن أكتم مشاعري ،وأن ل أعو د إلى إثارة موضوعنا إل بما يرا،ه هو .وذلك احتراما مني له ،تماما كما كانت ابنته تكتم مشاعرها احتراما لما يرا،ه. ربما كان هذا مما جعلني أبيت فكرة لقاء أخير مع "نهى" ،ليكون لقاء فاصل. * * * في ذلك الوقت كانت شقيقتي الكبرى "احسن" قد تعاقدت للعمل كمدرسة خاصة لبنتي أحد المراء السعو ديين في "الرياض". ويبدو أنها حاولت،عبثا ،أن تنقذ الموقف مع الخال هناك .فما كان منها إل أن حولت لي مبلغا من المال طالبة مني أن أقضي الجازة الصيفية متنقل في أرجاء أوروبا للفسحة والترويح عن نفسي بعد العناء الذي 96
أصابها .ل سويما وأن "نهى" ووالدتها ،حسب تعليمات الخال ،قد سافرتا لقضاء الصيف في "بيروت" بعيدا عن السكندرية. وفي نفس الوقت كان خالي الكبر "توفيق" ،قد توفي .وذلك مما جعل "راسم" ينوي السفر إلى " دمشق" ،حيث تقيم والدته مع أخته "فريد ه" .إل أنه كان يرجئ السفر حتى يتمكن من استكمال ثمن السيارة التي كان ينوي شرائها. وخطرت له فكرة استدانة جزء من المبلغ الذي وصلني من شقيقتي، على أن نسافر سويا عن طريق البر .وبالفعل باشرنا ،بعد شرائه للسيارة ،بالحصول على تأشيرا ت المرور اللزمة من كل من الدول التي سنمر منها في طريقنا إلى يوغوسلفيا ..واليونان..وتركيا إلخ. لكن ،لسبب ما ،تراجع "راسم" في اللحظة الخيرة. أما أنا فقد قررت ،بعد ما عرفته من شقيقتي ،أن أسافر جوا إلى "بيروت" .فما زالت لد و ي تلك الرغبة في اللقاء الخير والمواجهة الحاسمة. كان خط سير الطائرة الميريكية التي تقلني هو "فيينا" " -استنبول" - "بيروت". أثناء الرحلة الطويلة ،كان ل بد من أن أبدي للمضيفة تذمري من سوء الخدمة في الطائرة .وهذا ما وافقني عليه جليسي في المقعد المجاور. وكأنما كان القدر يمهد لتلك الزيارة الغير مرتقبة لمدينة "إستنبول"، أضاف جليسي ،بعد أن رآى تذكرة سفري ،بأنه بإمكاني النزول في "استنبول" ومواصلة الرحلة في طائرة أخرى. هنا خطر لي أن أستغل هذ،ه الفرصة لسببين. الول أن أعطي نفسي فرصة لعا دة النظر والتفكير في ما أنا مقبل عليه. والثاني لستغلل تلك الفرصة التي يعلم ا متى تتكرر ..وهي زيارة المدينة العتيدة. *
* 97
*
98
مضيق البسفور الذي يفصل أسيا عن أوروبا
99
إستنبـــــــــــــول .. في مكتب استعلمات المطار استطعت أن أحجز لي مقعدا في رحلة قا دمة بعد ثلثة أيا م لمواصلة رحلتي إلى "بيروت" .كما تمكنت من حجز غرفة في بنسيون لمدة اليا م الثلثة. كان البنسيون عبارة عن فيلل صغيرة يمتلكها ويديرها زوجان في مقتبل العمر .وكم سعدت بالترحيب الذي استقبلني فيه الزوجان بعد أن عرفا أنني طالب فلسطيني ،من "القدس" ،سنحت له الظروف صدفة لزيارة "إستنبول" للمرة الولى .ولم ألبث أن وجدت أمامي برنامجا مكتوبا ومفصل لقضاء اليا م الثلثة ،بحيث أستطيع زيارة الماكن الهامة في المدينة. أما المسية الخيرة ،فكان البرنامج يقترح أن أقضيها في مقهى سياحي شهير إسمه "شاركا" يقع على ضفاف مضيق البسفور الذي يفصل بين القارتين " ..أوروبا" و "آسيا". كانت المسافة تسمح أن أقطعها مشيا على القدا م .ولما كنت حريصا على أن ل أضل الطريق ،فقد آليت أن أتأكد من صحة إتجا،ه سيري. فكان أن صا دفت في طريقي عائلة مكونة ،كما يبدو ،من والدين وابنتهما الشابة ،يسيرون ببطء. سالت الرجل إن كان يتحدث اللغة النجليزية ،فما كان منه إل أن أحالني إلى إبنته التي با درت بالشارة إلى التجا،ه المطلوب ،كما أضافت بأنهم أيضا متجهون إلى نفس المكان .وربما كان من الطبيعي أن تسأل هذا الغريب عن جنسيته .فإذا بها ترحب بي هي الخرى عندما عرفت أنني طالب فلسطيني ساقته الظروف إلى زيارة "إستنبول" .فلم تتر د د في طرح أسئلة أخرى وأخرى بحيث تواصل حديثنا بعض الوقت. ولم تلبث أن أشارت لي إلى مكان مضيء قائلة أنه مقهى"شاركا" ،مما جعلني أشكرها وأواصل سيري على عجل. 100
هناك في المقهى اخترت مائدة تطل على المضيق المذكور ،بعيدة نسبيا الموائد الخرى التي لم تكن قد شغلت بعد .وجلست أتأمل المنظر الخلب ،إلى أن جاءني النا دل ليسألني عن طلبي. ولما طالت محاولتي للتفاهم مع النا دل الذي تبين أنه ل يتقن اللغات التي أعرفها ،وأخذ يتلفت حوله مستجيرا ،لفت انتباهي وجو د العائلة التي صا دفتها في الطريق ،وقد اتخذت مكانها إلى مائدة ليست بعيدة عني .فإذا بالب يشير لبنته أن تتقد م لمساعدة هذا الفلسطيني الحائر. وبعد أن قضت الفتاة مهمتها مع النا دل ،شجعتني بشاشتها أن أ دعوها، ولو من باب المجاملة ،أن تتناول معي ما تشاء من المشروبات .فما كان منها إل أن استأذنت والدها الذي أشار لها بالموافقة. وعا دت الفتاة ،واسمها "أ ديل" ،إلى إبداء حب استطلعها وطرح السئلة المختلفة عني وعن بلدي وعن دراستي بحيث تشعب الحديث و امتد ،مما ساقني ،من حيث ل أ دري ،إلى البوح لها عن الهدف من رحلتي هذ،ه ،وبالتالي قصتي مع "نهى". بح أ ت يومها لـ "عديله" بكل ما كان ينوء به صدري من همو م. أعطتني الجابة عن سؤال كنت أبحث له عن إجابة شافية .زو دتني بطاقة روحية بحيث أيقنت بعدها من سحر وقع ذلك "البوح العابر" الذي يشبه ،في كثيرمن الحيان ،لحظة ول دة جديدة. وانتهت تلك المسية بأنني اكتسبت صداقة جديدة استمرت عن طريق المراسلة. * * * في "بيروت" ،اتصلت بأحد أقاربي الذي أكد لي وجو د امرأة خالي هناك .كان يعرف إسم الضاحية التي يقع فيها الفندق الذي تنزلن فيه ولكنه ،كمن يختلط عليه إسم ذلك الفندق بالذات ،أعطاني بعض الشارات إليه. ركبت سيارة أجرة كان يقو دها سائق عرفت من لهجته أنه فلسطيني.
101
وعرف مني أنني طالب فلسطيني أعمل وأ درس في "فيينا" وأنني في طريقي لقضاء إجازتي الصيفية في السكندرية ،وأنني أبحث عن أقارب لي مقيمين في ذلك الفندق المجهول. صعد بي السائق إلى الجبل آخذا على عاتقه مهمة البحث عن ذلك الفندق المجهول ،بدون أن يسأل عن سر لهفتي. وانطلق يحكي مطول عن "جمال عبد الناصر" والوحدة العربية، وفلسطين التي "لن يفلح أرظها إل رجالها" ،حسب كلماته ،وعن الثورة والكفاح المسلح طويل المد ،والعمليات الفدائية في عمق الكيان الصهيوني ،فما زالت كلماته ،التي كانت تشع منها الحياة ،عالقة في وجداني وعقلي ،ترتبط بذلك اليو م القدري. وأخيرا تم ذلك اللقاء المنشو د. ظلت "نهى" صامتة بينما تحدثت والدتها عن القسمة والنصيب .وانتهى الموقف بأن خلعت الدبلة التي كنت لم أزل أحتفظ بها في إصبعي حتى تلك اللحظة ،وتركتها أمامها على المائدة التي كنا نجلس إليها، وانصرفت. * * * هناك مثل فرنسي يقول: "الزمن ..كفيل بزوال الحب أو الشفاء منه". إذا صوحت هذ،ه المقولة ،فما بالنا لو اقترن طول"الزمن" بطول "المسافة" بين "فيينا" ،مقر دراستك ،و"السكندرية" ،مقر إقامة العائلة. أي حب هذا الذي يستطيع أن يدو م في ظروف تقتضي الوجو د بعيدا عن جوارالمحبوب! هكذا كنت دائما أعـلل النفس. *
*
102
*
صورة قديمه لخالي توفيق مع "نصف الدستة" الولى من أبناء،ه .. و"فريد،ه" في أقصى اليمن
103
"أيــــام معهــــا" ..في دمشق من "بيروت" ،قبل عو دتي إلى "فيينا" ،كان ل بد أيضا من أن أذهب إلى" دمشق" القريبة للقيا م بواجب العزاء بوفاة خالي الكبر"توفيق" قبل ذلك بفترة قصيرة ،حيث استقبلتني أرملته ،والدة "فريد،ه"، بترحاب شديد ،بعد فراق طويل سنواته في ذلك الوقت كانت تزيد عن العشرة .ذلك منذ ضهجرتهم،عا م ،1952من مدينتهم"غزة" إلى السعو دية ،ومن ثم إلى سوريا! قضيت بضعة أيا م في ضيافتهم ،حيث أفر دوا لي غرفة "فريد،ه" التي كانت قد غدت صبية في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمرها. كانت "فريد،ه" تتر د د عليي ،في غرفتها،التي استضافوني بها، لسباب ضيافية مختلفة .ول تتر د د في البقاء معي ،لتجاذبني أطراف الحديث الذي كان يبدأ بالسؤال عن شقيقها "راسم" ،الذي شاركني السكن في ذلك الوقت في نفس المسكن في"فيينا" ،وينتهي بأحا ديث مبتورة عن حياتنا الثقافية ،وعن قراءتها الطازجة لرواية حديثة الظهور وهي رواية "أيا م معه"لـ "كوليت خوري". وبالرغم من جمالها الذي ورثته عن أمها اليرانية ،وجرأتها في محاولتها لتجاوز ما كنت أرا،ه جدارا تفرضه أحوالي الشائكة ،إل أنها لم تستطع أن تنتشلني من وحدتي ،التي كنت أعاني منها بعد النهاية الليمة لقصتي الولى. هذا بالرغم من همسة إمرأة خالي المداعبة لي ذات مرة ،بعد أن تأكدت من انتهاء علقتي بخطيبتي "نهى" ،بما يوحي بترحيب شديد الخصوصية منها. لم أستطع ،في ذلك الوقت ،أن أستجيب إلى علقة جديدة ربما تتشابه ظروفها مع ظروف علقتي الولى.
104
عدت بعد ذلك إلى"فيينا" ،حيث كان أخوها ما زال شريكي في المسكن .وحيث كانت رسائلها وصورها إلى أخيها ،كما خويل إلي، تلحقني. لكني في ذلك الوقت كنت منشغل بمها م أكثرأهمية،غير عملي و دراستي ،إضافة إلى إنغماسي في علقات كنت قد حرمتها على نفسي طوال سنوات مضت ،إخلصا للنسانة التي أحببتها. و دارت اليا م والسنوات ،وأنا أتنقل من بلد إلى آخر ،ومن علقة إلى أخرى ،بدون شعور بأي استقرار أو أمان. في السنوات التالية التي قضيتها في "فيينا" ،كنت أتر د د أما م أي علقة أشعر أنها أخذت مني وقتا أكثر مما يجب .وكنت أهرب منها إلى علقة أخرى ،وأنا كار،هه لما أفعل .فسلوكي هذا يتناقض مع طبيعتي. كنت أقف متر د دا أما م فكرة إنشاء علقة جديدة ،ثابتة ،لمجر د قناعتي وقراري المسبق بعد م جواز استمرار مثل تلك العلقه .إنها قناعة لم أستطع أن أتخلص منها ،وهي عد م الرتباط بهذا البلد ،أو أي بلد آخر ،غير بلدي. * * * ولم يمض الكثير من الزمن حتى جمعتني الصدف بـ"ماريا"، العقلنية ،الرومانسية ،الواقعية ،التي عرفت كيف تحتفظ بي ،أو تحفظني ،للسنوات الباقية لي في "فيينا" .ورافقتني في طريق عو دتي إلى مصر حتى المتارالخيرة من القارة الوروبية حيث لوحت لي مو دعة من على رصيف ميناء "فينيسيا" اليطالي في آخر أيا م شهر سبتمبر .67وكأنها بذلك تنهي مهمة كانت قد نذرت نفسها لتحقيقها، أو كأن القدر قد ساقها لتحقيق هذ،ه المهمة. سل م عليك يا "ماريا"!
* 105
*
*
الكتابة ،كما اتفق العارفون ،هي إحدى وسائل البحث عن الذات واكتشافها. ففي الكتابة ،كما سبق وأن قلت في البداية ،متعتين: متعة البوح..ومتعة التواصل والكتشاف. وهاهو أستاذ علم النفس في جامعة "كاليفورنيا" الميريكية، " د.ماثيوليبرمان" ،يحفرزني بقوله: "إن التعبيرعن النفس بالكتابة يعد نوعا من تنظيم العواطف .وأن مجرد المساك بالقلم والكتابة عن مشاعرك يساعد بشكل كبير على تجاوز مشاعر الحيرة..أو الحزن". وفي ظوني أيضا أنني ،بالكتابة والبوح ،أفهمني أكثر وأكثر. وهو الهم. *
106
*
*
107
مارزيـــــــا.. هناك من ل تكتمل الحكاية بدون ذكرهم. كيف يمكن أن أغفر لنفسي إغفالي التنويه بما أ دين به من العرفان لنسانة ما أظنها سوف تقرأ هذ،ه السطور؟ تلك هي "ماريا" التي آنست غربتي ،وأذابت مرارة وحدتي في بحرعذوبتها ،ومنحتني حبا يكفيني العمر كله ،والتي لم يفرق بيني وبينها سوى قناعتي باستحالة الرتباط بها ،لني كنت على يقين من أن ظروفي لن تمكني من أن أقد م لها القليل من الكثير الذي تستحقه. بدأت علقتي بها يو م لمبيت دعوة أحد زملء العمل في المكتب الهندسي" ،هوبينبيرجر" ،الذي كنت أعمل به في "فيينا" قبيل بدء دراستي السينمائية .تر د دت في البداية في قبول الدعوة .لكن زملئي الخرين أصروا على حضوري إصرارا لم متجضد معه كل أعذاري التي كان من بينها أني لم أكن في ذلك الوقت على علقة بمن أصطحبها لذلك "البارتي" ،الذي يقيمه الزميل إحتفال بعيد ميل د،ه .فلقد دأبت على بتر علقاتي قبل أن تتحول إلى أوها م قد تمركنها الغربة وقسوة الوحدة من احتللي. حرت في ذلك الوقت في نوع الهدية التي كان يتعين علي أن أحملها لزميلي .وفي اللحظات الخيرة ،وقبل فوات الوان ،خطرت لي فكرة مطورة عن فكرة قديمة يرجع الفضل فيها إلى صديقي وزميلي "يوهان" الذي شاركته يوما في تطبيقها ،وهي تصميم وتنفيذ إطار خشبي متوسط الحجم مطعم بزخارف شرقية بسيطة تتكون من نجو م مُثمانوية من أسلك فضية دقيقة غائرة في الخشب .ثم خطر لي ،بدل من تقديم الطار فارغا ،أن أضع فيه بطاقة بريد
108
ملونة كانت بحوزتي لمدينة القدس القديمة ،تتوسطها ساحة الحر م الشريف والمسجد القصى ومسجد الصخرة وما يحيط بالحر م القدسي من كنائس تتميز من بينها كنيسة القيامة. اجتذبت تلك الهدية أنظار ضيوف زميلي وظلت تتنقل بين أيديهم إلى أن استقرت بين يديها فجاءتني لتعبرعن إعجابها ،وتتساءل عن النجو م التي اختلطت في ذهنها مع "نجمة داو د" السداسية ..السرائيلية .وكان من الطبيعي أن يجري الحوار حول دللة كل من النجمتين من ناحية، وحول مدينة "القدس" وعلقتي بها من ناحية أخرى. أما المناسبة الثانية التي جمعتنا فكانت ذلك الحفل الذي أقامه المهندس "هوبينبيرجر" في أحد مطاعم "فيينا" العتيقة الشهيرة بمناسبة حصوله على وسا م الدولة ولقب الشرف " ".H.Cفي مجال عمله .وكان زوج إبنة المهندس ،المحامي ذائع الصيت " د .شفارتس" ،وزوجته طبعا ،من ضمن الحاضرين الذين كانوا بمعظمهم من موظفي المؤسسة. * * * مازلت أتذكر ذلك اليو م الذي زارت فيه تلك المرأة المكتب الهندسي ،يو م نهض طاقم المهندسين الذين كنت أعمل معهم لتحيتها .نظرت إلى زملئي باستفسار فهمسوا لي بشيء لم أفهمه في الحال .مدت يدها لي وهي تقول: ــ أظنك السيد "شاث" الذي سمعت عنه من "بابي" ..و"مامي" بالذات؟ رسمت على وجهي تساؤل ..فأجابت: ــ "..ماجي"! وعرفت أنها إبنة المهندس"هوبينبيرجر"التي طالما سمعت زملئي في المرسم يتحدثون عن سحر جمالها ..ويتندرون بمغامراتها. كان جمالها ينتمي إلى ذلك الجمال الباذ خ الذي ل يستهويني ،والذي ينطبق عليه وصف "عمر الخيا م" الغريب بأنه "فاجر الحسن" ،والذي يحث العقلء على الحتماء منه بالبتعا د عنه خوفا من السقوط في أحابيله ،عمل بالحكمة الشعبية القائلة "إبعد عن الشر وغوني له".
109
ولذلك لم يبد على ملمحي ذلك النبهار الذي كانت تتوقعه منك ..أسوة ببقية الزملء. وتكررت الزيارة مرات متقاربة ثم تباعدت ..ثم انقطعت .وكان أن فسر الزملء ذلك النقطاع بأنها لم تعد بحاجة لتلك الزيارات ..فهناك أماكن أخرى للقاء )!( ولم تتوقف القاويل التي كانت تحكي عن مغامرة "ماجي" الجديدة المزعومة مع زميلهم ،العبد الفقير .بل إنها خرجت من حدو د المكتب الهندسي الذي اجتهد أفرا د،ه في فبركتها. على أني لم أ دخر جهدا في محاولة إقناع الزملء بأن شيئا مما في ظنونهم لم يحدث .مما أثار تعليقاتهم الساخرة من" ..قلة حيلتي". * * * همست لي "فراتو هوبينبيرجر" ،زوجة المهندس ،العجوزالطيبة التي كانت تشعر بتقدير زوجها ومو دته لي ،بعد أن قامت بمهمة تعريف الحاضرين الجالسين حول المائدة الطويلة الممتدة ،همست لي بأنها ل تحمل و دا شديدا لزوج ابنتها "الخائب" ،كما وصفته ،لنه يتولى قضايا التعويضات النمساوية لليهو د من ضحايا المحرقة ..الهولوكوست**. أما " د.شفارتس" الذي كان يعرف موقف حماته منه والذي أ درك بفطنته ما يمكن أن تهمس به لي بالرغم من جلوسه إلى طرف المائدة البعيد، وهو أيضا ما كانت تشي به قسمات وجهها ،فقد ظل يحاول اقتناص اللحظة التي تلتقي فيها نظراتنا .وذلك ما كنت أتجنبه .فماعسا،ه،هذا الذي يعمل على تزويد جل ديك بالمال الذي يأتي بالسلح ،أن يحمل لي من "مجاملت"؟ لكني لم أستطع إل أن ألتقط كلماته التي كان يوجهها لبعض الجالسين من حوله ،وهو يبذل جهد،ه لكي تصل كلماته إلى مسامعي. _______________________________________________________ )**(
تعتبر النمسا ذاتها من ضحايا النازية ،فلقد سبق وأن تم احتللها وضمها إلى الرايخ الثالث .ولم يتوقف شعب النمسا عن مقاومة الحتلل النازي ومن ثم قوات الحلفاء .وقد تم جلء قوات الحلفاء في 26أكتوبر ، 1955وهو اليوم الذي تحتفل فيه النمسا بعيدها الوطني.
110
كان حديثه يدور حول اليهو دية والنازية والمحرقة ..و"النازية الجديدة" ..وصول إلى الحديث عن إسرائيل.. "واحة الديمقراطية في صحراء التخلف العربية" ..وتساؤلته الستفزازية: " ..من هم العرب؟" " ..أليسوا ،كما يذكرالتاريخ ،هم "البربر" الذين غزوا إسبانيا؟" " ..أليسوا هم الذين أغاروا على إيطاليا وصقلية و جنوب فرنسا؟" " ..ومن هم المسلمون؟ أليسوا هم التراك الذين حولوا بيزنطة إلى القسطنطينية ..وزحفوا إلى مشارف فيينا؟" وهألم ومم جوراا! كل ذلك وأنا أحاول تجاهله بالتشاغل بالحديث مع جيران المائدة .إل أنه ،وقبيل انتهاء السهرة ،استطاع أن يقتنص فرصته رغما عني ،فابتسم لي ابتسامة ذات معنى وهو يقول بأن حماته قد حدثته مرة عن إتقاني اللغة اللمانية بشكل يثير إعجابها ،ثم أر دف سائل باستفزاز مستتر وسخرية مبيتة متوارية وراء كلماته: ..وما دا م المر كذلك ،فل بد أنك تعرف أيضا ما تعنيه "جملةجوتس المأثورة**. لم يكن " د.شفارتس" ،الذي أرا د السخرية مني أما م الجمع ،يقودر أني )ربما بمحض الصدفة( قد قرأت تلك المسرحية أو سمعت، على القل، ________________________________________________ )**( "جوتس" هو إسم الشخصية المحورية في مسرحية "جوتس فون بيرليشنجن" ،إحدى مسرحيات الشاعر والمفكر والكاتب الروائي والمسرحي اللماني المعروف"..جوته" .وفي أحد المواقف يطلب "جوتس" ،المتمر د ،من الرسول أن يبلغ سيد،ه ،المستبد ،متحديا ساخرا: . .قل له" :بإمكانك أن تلعق مؤخرتي"!فكان أن صارت عبارة "جملة جوتس المأثورة" ،بين الناطقين باللغة اللمانية ) والصفوة منهم بالذات( مثل سائرا ..وكناية عن شتيمة مستترة ،تغنيهم عن التلفظ بنص الشتيمة الصلي ..الخارج...
111
عن تلك الطرافة التي احتوتها تلك المسرحية .فما كان إل أن انقلبت الية ،وأصبح ،بجللة قدر،ه،هو موضع السخرية عندما أجبأته بسرعة، وبل تر د د أو خجل )على غير عا دتي(: بكل تأكيد يا " دكتور شفارتس"..ثم أر دفت بأعلى صوتي: "بإمكانك أن." .. ..وتعالت الضحكات بمختلف ما تحمله من معان ،عندما قمت باستظهارالجملة المذكورة بحذافيرها ونصها الصلي ،كما نطقها "جوتس" المتمر د ،وبدون اللجوء إلى الضكناأية اللغوية التي باتت تتضمنها العبارة المعروفة بـ"جملة جوتس المأثورة". ضمت "فراو هوبينبيرجر""،حماته" ،قبضتيها رافعة إبهاميها في الهواء معلنة تضامنها معي ،بينما تماسك المهندس "هوبينبيرجر" وحاول كبت ضحكته المتواطئة وإخفاءها وراء كتف زوجته. ورأيت أنا أن أنسحب من المكان قبل أن يتطور الموقف إلى "حرب" كلمية لست مؤهل لها مع محا م قدير ذائع الصيت ،ويتمتع بالعدوانية و الوقاحة أيضا. اعتذرت لرئيسي المهندس وزوجته ،بعد تقديم التهاني وكذلك الشكر لدعوته إياي لتلك المناسبة ،وسارعت بالخروج من المكان ،مكتفيا بالنصر الذي حققته في تلك "المعركة"" ..الخاطفة". ولم أكد أستنشق هواء الشارع في أولى ساعات الصباح وأصل إلى محطة الترا م القريبة حتى شعرت بمن كان يتبعني ثم يمسك بذراعي من خلفي. كانت هي "ماريا". وسرعان ما تمكنت كلماتها من أن تبد د أمارات الكتئاب والقهر التي كانت با دية على وجهي: 112
..لعلك سوف تنسى ما قاله ذلك العميل المأجور ،أما هو فمن أينله أن ينسى ذلك الموقف المزري الذي وضع أته فيه! وكم كنت أتمنى أن يطول بقاؤك لكي تستمع بنفسك إلى سخريات الحاضرين منه بل استثناء. ثم أر دفت بروح مرحة وهي تلوح بمفاتيح سيارتها: أظن أن آخر"مترو" قد فاتك ،وأنه ل يليق بي أن أترككتنتظرحتى يأتي أول"مترو" في الصباح الباكر ،فهل تقبل دعوتي لتوصيلك. * * * ولم تترك ذراعي لسنوات طوال ،نشأت فيها بعد ذلك بيني وبين "ماريا" كأجمل ما تكون العلقة بين شاب تضنيه الغربة ويشتاق إلى الحنان ،و فتاة رقيقة مثقفة معطاءة تفتقد شيئا كانت تتوق إليه،هو ،كما أوجأزت لي مرة إثر مرة ،ما كنا نمارسه معا بعفوية شديدة..الصدق. عرفت عني كل شيء ،فراحت تغدق في عطاءها العاطفي بسخاء نا در ،ورحت أعيرها الو د والحترا م والهتما م. ت واحترم ت كما عرف ت ت منذ البداية تحوفظي من الرتباط بأجنبية ربما أجد فيها كل المزايا التي يبحث عنها أي إنسان في شريكة حياته ،ولكنه يخشى من أن يكون سببا في إقتلعها من بيئتها ،وبالتالي معاناتها لما أعانيه أنا من الحساس بقسوة الغتراب ومرارته .هذا ما كان يفرضه كوني ممن هم "غير معيني الجنسية" ،أو "بل وطن" كما تقول الترجمة الحرفية للصطلح اللماني ،وما يمليه الغموض الذي كان يكتنف مستقبل جيلي كله من الفلسطينيين. هذا ..إلى جانب إ دراكها وتفهمها لما كنت أعانيه إثر تجربتي العاطفية الفاشلة التي لم أستطع أن أكتم تفاصيلها عنها .بل إنها كانت تحفظ إسم "نهى" ،محبوبتي ،وكثيرا ما كانت تر د د ،ويا للعجب ،ما ينطوي على محاولة إحياء المل في عو دة المور إلى نصابها )!(
113
كانت خير رفيق لي في سنوات الغربة الخيرة .كانت النسمة المنعشة. كانت البسمة المضيئة دوما .كانت الحضن الدافيء الذي حاول أن يداوي جرحا قديما لم يلتئم ،وأحزانا كنت أكابرها وأحاول أن أتعالى عليها. في يو م ما من أيا م الخلو د إلى ذكرى اليا م الجميلة من الماضي ،أيقنت أن الفضل في نجاحي المتميز في دراستي ،وحصولي على المجانية الكاملة في الكا ديمية ،كان يدين للتوازن الذي كانت تضفيه "ماريا" على حياتي ومشاعري .هذا..علما بأني كنت دائما متوسط النجاح في دراساتي السابقة! ما طالعني وجهها يوما إل وكانت تعلو،ه ابتسامتها المنسية أبدا على قسماته المريحة .ابتسامة غدت مألوفة لي كما دقات القلب ورمشات العين. مرة واحدة ،أو ربما مرتان ،كأنما استيقظ فيها ذلك الجانب من أنوثتها ولم تستطع أن تواري حزنا وشى به بريق دمعة مكتومة لم تلبث أن ابتلعتها الجفان ،ذلك عندما أفلتت منها ،بعد تر د د طال ،كلمات متعثرة توحي برغبتها في "ولد" يبقى لها بعد نهاية دراستي ..وغيابي المحتو م. لكنها سرعان ما كانت تثوب إلى رشد يمليه خوفي من مسئولية لست كفؤا لها .خوفي من ما كان يرقى في نظري إلى مرتبة ارتكاب الجناية التي ل تغتفر في حق ذلك الـ "ولد". مرتان متباعدتان ،خلل السنوات الربع،غابت فيهما عني لبضعة أيا م، ولغيرما سبب ظاهر .في البداية لم أستطع أن أتكهن بتفسير لذلك الغياب .وبعد محاولت متواربة ،باحت لي صديقتها "إيفا" بالسبب. في المرتين ،استجابة منها لصوت العقل ،كانت متخضع نفسها لعملية تتخلص فيها من الجنين قبل فوات الوان. سل م عليك يا "ماريا". وجهها وطن ..ابتسامتها وطن ..قلبها وطن.. لكنها أوطان لم تكن لي.. 114
هذا ما كانت تقوله قناعاتي! تترقرق دوما ا في عينيها الصافيتين كلمتها المتسائلة: " ..ماألكت"؟تطار دني بحنان المهات..تطمئن علي..تطمئنني.. يز دا د حسنها في نظري كلما اندأمأج ت ت معي في حديث جا د. يزيدني حديثي معها..اشتياقا لها. وأعيش متعة الحديث معها قبل ،وبعد ،اللحظات الحميمة. لعرف كيف يمكن أن تتماهى وتتناغم رغبات الجسد وحاجاته مع أمنيات الروح وأشواقها ،مع نداء العقل واتزان بصيرته. وأتساءل باستنكار: كيف يمكن لنسان أن ينعم بالقرب من أنثى ل تغريه شفتاها بالنصات إلى حديثها؟ حيث يكون لصوت عقلها ما لمذاق حضورها ،وبريق عينيها ،وفوح عطرها الرباني من سحر. * * * لم أعرف معنى الحزن الحقيقي ،ولم أر دموعا صا دقة مثل تلك التي رأيتها عن بعد عشرات عديدة من المتار وهي تلمع منهمرة من عينيها في اللحظات الخيرة التي كنت أقف فيها على ظهرالسفينة "إسبيريا" ،بينما كانت "ماريا" تقف ملووحة بيديها مو دعة على رصيف ميناء "فينيسيا". ذلك اليو م كان صبيحة ليلة عيد ميل دها السا دس والعشرين. لقد أبت إل أن ترافقني لكي نحتفل به في ساعاتنا الخيرة معا. * * * عندما زرت "فيينا" لول مرة ،بعد مرور تلك السنوات الطويلة على مغا درتي لها ،وذلك إثر حضوري لمهرجان سينمائي في ألمانيا التحا دية ،عا م ،94وبينما كان صديقي "يوهان" ،الذي بات ذلك المهندس المعماري المتألق في بلد،ه "فيينا" ،يقو دني لتفرج على الفيل
115
المنيفة التي صممها وبناها لنفسه ،وبينما كنا نقف أما م حوض السباحة الشتوي ،بجوار حما م "الساونا" ،سألني فجأة: أل تريد أن ترى "ماريا"؟ إنها ما زالت تذكرك بالرغم منمرور حوالي ربع قرن على سفرك من فيينا؟ أ دركتنا زوجته "إيفا" في تلك اللحظة .كررت نفس السؤال وحاولت إضافة ملحظة ما ،فأسكتها "يوهان" بإيماءة ظلت مطبوعة في ذاكرتي ل تكف عن تحريضي على استشفاف معناها. لم يسمع أحدهما مني إجابة. كنت أخشى أن أرى في عيني "ماريا" الرثاء لحالي. هل أقول لها أنني خسرت الرهان بعد أن أنفقت أهم سنوات عمري جريا وراء سراب إسمه العو دة إلى الوطن والستقرار فيه؟ ذلك بعد أن أعطتني "النمسا" كل مقومات الستقرار فيها ،من حق في إكتساب الجنسية ،إلى إمكانيات العمل ،إضافة إلى رفيقة عمرأسكن إليها. هل أعترف لها -إن كانت بعد ل تدري -عن تجربتأتي زواجي الفاشلتين؟! هل أقول لها أنني مازلت أتنقل بين الفنا دق و"الشقق المفروشة" ،في مختلف البل د ،في إنتظار العو دة إلى بلدي؟ هل أقول لها أن أحلمي قد انحسرت وتقلصت وانحصرت في انتظار الحصول على "رقم الكومبيوتر" الذي سوف يمكنني من العيش في ظل "سلطة" يعلم ا مدى سلطتها ،ويعلم ا متى سوف تعيدني إلى داري في "القدس"؟ داري التي باتت "ماريا" تكا د تعرفها ركنا ركنا! صديقي"يوهان" كان قد عوقب على شعار "الرض مقابل السل م"، الطازج في حينها ،والذي "فرحنا" به في بداية الحديث عن الحل السلمي ،بسخرية مريرة: -أي أرض ..وأي سل م؟
116
أخشى ،يا صديقي ،أنهم يقصدون "أراض عربية" ما زالت في حوزتكم ولم تجر مصا درتها أو احتللها أو استيطانها بعد، مقابل سلمتهم وأمنهم هم! * * * ل أ دري ،هل كان من فرط سوء حظي ،أ م لعله من حسن حظ "ماريا" ،أن أخي "عابد" قد تدوخل في حسم المر ،عندما كانت تواتيني لحظات الضعف تجاهها! لم يترك أخي فرصة تمر دون أن ير د د لي مقولته عن خطورة الزواج المختلط على البناء ،مستشهدا لذلك بكثير من الحالت التي أعرفها، والتي لم يكتب لها النجاح والستمرار ،لنها كانت تفتقر إلى الرضية الصلبة ..والستقرار. *
*
117
*
قالوا..... هم الغرب ونحن" العرب" .. والفرق بيننا نقطة هم يعيشون مع بعضهم البعض في حالة تحالف ونحن في" تخالف"...... والفرق بيننا نقطة. عندهم المواطن وصل الحصانة وعندنا ل زال في" الحضانة" ..والفرق بيننا نقطة. عندهم يهتم الحكام باستقلل شعوبهم وعندنا" باستغلل" شعوبهم .. والفرق بيننا نقطة. المستقبل لبنائهم غناء ولبنائنا" عناء" ... والفرق بيننا نقطة. هم يصنعون الدبابة ونحن نخاف من" ذبابه" ..... والفرق بيننا نقطة.. هم صاروا شعب ا المختار ونحن ل زلنا شعب ا" المحتار" .. والفرق بيننا نقطة. شي يحزن وا
*
*
118
*
الغرب ..والشرق كثيرا ما يخطرلي ،في مثل هذ،ه المناسبة ،ما قاله "نقول زيا د،ه"، الكاتب ال ديب والمؤر خ الفلسطيني ،حينما تحدث عن "صدمتين" عندما ذهب في مقتبل عمر،ه للدراسة في لندن. الصدمة الولــى صــدمة عا ديــة،سياســية،تتعلــق بمواجهــة مظاهرحريــة الرأي ،والممارسة اليومية للديمقراطية .وأظننــا ،نحــن معشرالدارســين في جامعات أوروبا ،قدعرفنا وخبرنا ما شابه ذلك من الصدمات. أذكر ،أيضا ،أنني صدمت عندما شاهدت مظاهر الحرية والديمقراطية في بل د الغرب هذ،ه. لم يكن لنا عهد بهذ،ه المظاهر ،فلقد حرصت حكومة النتداب البريطاني في فلسطين على ذلك أشد الحرص. لم نعرف معنى "الديمقراطية" .ولم نعرف كلمة "إنتخاب" .كنا نسمع عنها سمعا فقط. في المدرسة ميفرض علينا "العريف" الذي يمثل سلطة المدرسة ،كما كانت تفرض علينا حتى اللعاب التي نمارسها. واختياراتنا -إن وجدت -محد دة مشروطة. وفجأة ،وجدنا أنفسنا في أوروبا نعيش ونرى ونسمع ونتأمل ،ونتمنى لبل دنا العربية أجمل ما رأينا وشاهدنا وسمعنا .وباتت أحلمنا هي دولة لنا ،تتفتح في ظلها طاقاتنا على البداع والبناء. أماالصدمة الثانية فكانت اجتماعية .ذلك عندما سأل "نقول زيا د،ه" والدة صديقته لتسمح له بمرافقة ابنتها فقالت له ببساطة: -لماذا تسألني أنا ..إسألها هي؟!
119
ولقد كـانت"ماريـا" ،إضـافة إلـى رجاحـة عقلهـا ،تتمتـع أيضـا برعايـة أبوين واسعي الصدر والفق. قالت لي أمها ،ليلة أن سهرنا للحتفال بعيد ميل دها الرابع والعشرين، وعندما هممت بمغا درة بيتهم في أولى ساعات الصباح ،وهومت "ماريا" لتوصيلي إلى مسكني بسيارتها حيث قد فات موعد آخر "مترو": لم كل هذا العذاب؟وتبا دلت نظرة مع الب الذي ابتسم وهو يتمنى لنا ليلة سعيدة ويغا درنا إلى غرفته .ثم أكملت ،وهي تبتسم في مكر غير ممجوج: خذ المر ببساطة يا بني ،ول داعي للحرج أو للتر د د ،فما الفرقبين أن تقضي "ماريا" عندك طول النهار ،وبين أن تقضي أنت عندها بقية هذ،ه الليلة؟ هل يختلف فرا ش الليل عن فرا ش النهار؟ ألجمتني )والحق يقال( تلك المسألة. ولم أعرف )وأكا د ل أعرف حتى الن( في أي جانب أنا من هذا المنطق. أما صديقي خفيف الظل "ع .مصطفى" فقد استغرق في الضحك عندما سمع حكايتي ،وحكى لي قصة مشابهة ..قال: ..و"هايدي" قالت لها أمها يو م ما رحت آخدها لحفلة الكا ديميهالساهرة السنوية: "خذي وقتك" ..وما تشغليش بالك بموعد آخر "ترا م"..ورووحي معا،ه ..والصباح رباح! * * * قالوا : "الشرق هو الشرق..والغرب هوالغرب ..فكيف يلتقيان؟!" وأقول مكررا:
120
للمنفى مساوئ ل تحصى..وفضيلة واحدة.إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى وطن ،ويؤكد صلتنا بأصولنا.
121
"فل ش باك" .. هأنا ألجأ إلى العو دة المؤقتة إلى الماضي لتوضيح بعض المور التي أراها على درجة من الهمية. كانت "السينما" تستهويني دوما .وكان ما يكتب عن الفل م السينمائية في الصحف والمجلت يستدرجني لشاهد هذا الفيلم أو ذاك .ثم أقارن بين ما كتبه هذا الناقد أوغير،ه .وأسارع إلى قراءة قصة أو رواية جرى تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل أن أشاهد،ه ،أو بعد ذلك .أو أهرع لرى كيف عالج ذلك المخرج تلك الرواية ،التي حولها خيالي أثناء قراءتها أو بعدها إلى فيلم سينمائي .وهي عا دة قديمة درجت عليها في صباي المبكر .هذا بالرغم من تلك النظرة الستنكارية ،المتخلفة ،من قبل أوساطنا المتزمتة لمثل هذ،ه الهتمامات .ولزمتني تلك العا دة بشكل أكثر جدية ،أثناء دراستي في "فيينا" ،حيث كان المجال أوسع وأرحب .خصوصا في فترات تدريبي وما بعدها ،حيث كانت أحوالي الما دية تتيح لي التر د د على "الصفوف المامية" ،القل تكلفة، لمختلف دورالسينما في فيينا ،بشكل يومي تقريبا. *
*
*
في بداية المرحلة الدراسية ،كانت دار سينما Urania "أورانيــــــا" تتوسط المسافة بين مبنى أكا ديمية الفنون التطبيقية وبين مسكني في الحي الثاني .وكثيرا ما كانت نافذة عرض صور"الفل م القا دمة" تلفت نظري أثناء رحلتي اليومية بالمترو من البيت إلى 122
الكا ديمية وبالعكس .ثم دأبت بعد ذلك على أن أتحايل على المسافة، لقطعها مشيا على القدا م ،بأن أمرعلى تلك المؤسسة ،أتفرج على صورعروضها المقبلة وأتزو د بنشراتها ،فأكون بذلك قد اجتزت نصف المسافة ،ول أجد ضرورة لركوب المترو لجتيازالنصف الخر منها. وكانت تلك الدار تتميز بأنها تتبع إحدى المؤسسات الثقافية ** ،التي تحمل اسمها ،وتتخصص بشكل مميز في عرض الفل م التسجيلية وأفل م المهرجانات ذات القيمة الفنية والفكريه .فهي مشهورة ،مثل، بــ ض"أسابيع الفل م" بأنواعها. وكانت سينما "أورانيا"هي أول عهدي بالفل م التسجيليه ،التي لم تكن في الغالب ،في نظري ونظرالكثيرين ،سوى"جريدة ناطقة" تحتوي على "ريبورتاجات" تعرض عا دة قبل عرض الفيلم الرئيسي في دورالسينما. أصبحت أجد متعة في مشاهدة فيلم تسجيلي طويل ،أو مجموعة أفل م قصير،ه ،تنقلني إلى أماكن متعد دة ،وتنقل لي واقع تلك الماكن بدون تزييف أو تجميل .إلى أن جاء يو م عرض فيلم تسجيلي اسمه باللغة اللمانية " ." Paradies und Feueroefenبمعنى"الجنة وأفران النار" ،من تأليف وإخراج "هيربرت فيكتور" ،والذي كان ينقلنا من الحديث عن نار "أفران الغازالنازية" إلى استعراض "الجنة" التي صنعها اليهو د لنفسهم من صحراء فلسطين الجر داء)!( كان ذلك في أواخرعا م ،1960على قدرما أذكر. ولكنني ما زلت أذكر ،وبالتفصيل ،تسلسل اللقطات المأخوذة من الجو، والتي كانت تنقلنا ،عن طريق "المزج" ،من أراض صحراوية شاسعة قاحلة وقد تشققت بسبب ما أصابها من العطش ،إلى مساحات ل نهاية لها من اللون الخضر البهيج .ثم نرى بتفصيل تدريجي أشجار البرتقال بثمارها الذهبية اللون المتللئة ،وفتيات جميلت يرتدين "الشـورت" الذي يكشف عن سيقان ل تقل نضارة و تللؤا ،وهن يجمعن المحصول ،ويضعنه في صنا ديق كتبت عليها كلمة "يافا"..
123
تلك الكلمة التي باتت بديل عن السم المعروف والمتداول للـ"البرتقال اليافاوي" ،وينشدن أغنية ،بكلمات عبرية،ل تحتاج إلى كثيرمن الدهاء ___________________________________________ )**(
وهي المؤسسة التي أوحت لي فيما بعد بمشروع تخرجي من أكاديمية الفنون التطبيقية مشروع مبـــنى "المــركـز الثقــــافي الفلسطيــــني" .
لتعرف أن لحنها ينتمي إلى أصول عربية. وتتعالى شهقات العجاب ،في صالة العرض ،من الجمهور الذي رأى بأ م عينه كيف حول "اليهو د" المضطهدون نارهم إلى جنة .وكيف أصبحت الرض القاحلة )الخالية من السكان( ،بفضلهم ،وطنا جميل، لشعب جميل كان مشر دا بل وطن. ثم،على سبيل المثال ،يرى الجمهور موقعا قاحل على شاطيء البحر، كان فيما سبق ،حسبما يفيد التعليق ،مجر د محطة لقوافل الجمال )!( فإذا بهذا الموقع يتحول ،حسبما يرى الجمهور ،بأ م عينه ،على أيدي ذلك "الشـعب المختـار" إلى..ميناء عصري..ومدينة جميلة حديثه اسمها"..حيفـــــا")!( بدا لي جليا أن لغة السينما قد اقتربت من ،أو ربما سبقت ،اللغة الشعرية في مقدرتها بفصاحة التعبير وبلغة الوصف على التأثير والقناع ،بحيث أمكن استغلل قوة تأثيرها ،لتحويل الكاذيب إلى حقائق تراها العين ،فتستعذبها ثم تصدقها. ل عجب إذ قالوا قديما"..أعذب الشعر أكذبه". أل يذكرنا هذا بأفل م الدعاية لـ"صابون الجمال" والـ"شامبو"! حيث يجتهد صانعوا تلك الفل م في اختيار فتيات جميلت ذوات بشرة نضرة أو شعور حريرية منسابة بطبيعتها ،ثم يدبجون الكلمات والصور التي توهم المشاهد أن ذلك ماكان إل نتيجة لستعمال ذلك المنتج. بعد ثلث سنوات دراسية ،وفي الفترة التي قضيتها متدربا في أحد كبرى الشركات الهندسية في"فيينا" ،استعدا دا لعمل مشروع التخرج المذكور ،بعد عو دتي من "فوبرتال" ،كنت أسكن بجوار صالة سينما "كولوسيو م" Kolosseumفي الحي التاسع. 124
دأبت تلك الدار ،لمدة عا م كامل ،على العلن عن عرض ثان لفيلم المخرج "أوتو بريمينجر" " ،Otto Premingerإكسو داس" " ، Exodusالخروج" ،عن رواية "ليون أوريس" . Leon Oris
125
ملصق الفيلم الذي كان نقطة تحول في حياتي لم أكن قد شاهدت الفيلم في عروضه الولى ،وإن كنت قد قرأت الكثيرعنه .وكان ذلك مما حفزني على قراءة الرواية ،من منشورات
126
دار"أرض الدانوب" Donaulandبالرغم من طولها ،وبالرغم من تواضع لغتي اللمانية آنذاك. * * * طوال أكثر من ساعتين ،وهي مدة عرض الفيلم ،كانت تتناهى إلى مسامعي همسات المشاهدين ،ونهنهات الباكين ،وشهقات المندهشين، وآهات المنفعلين ،وتعليقات المستنكرين ،وتصفيق المتعاطفين مع أسطورة "الرووا د" وأوها م از دهار الصحراء الخالية المجدبة على أيديهم وإقامة دولتهم ببذل الد م والعرق والدموع. شاهدت الفيلم مرة أخرى ،وثالثة ،ورابعة. وفي كل مرة ،كان القبال يتزايد .ويخرج المشاهدون وكأنما أجريت لكل واحد منهم تلك العملية التي يسمونها" Brain Washing :غسيل مخ"! أمارات "التغيير" با دية عليهم .كنت أراقب تلك الشياء التي جسدت أمامي مقولة أن "التغيير" هو "غاية الفنون وهدفها" ،وأن السينما "أهم الفنون". "إكسو داس") ،وغير،ه من الفل م السينمائية الخرى التي دأبت على تكرار نفس القصة( ،قصة شعب أعزل يعاني من اضطها د قوى الشر، التي تقترف جرائم القتل الجماعي ضد،ه تارة ،وتحول دونه و"العو دة" إلى أرضه )أرض الميعا د( تارة أخرى)!( ثم تعلن ،قوى الشر تلك ،تقسيم أرضه وإعطاء جزء منها إلى فئة من البدو المتوحشين ،الذين نراهم وهم يحرقون الزرع ويقتلون المواشي، ويكورون..ويفورون..مولولين كما "الهنو د الحمر" في الفل م الميريكية. لكنهم"،أبناء شعب ا المختار" ،بإيمانهم وتضحياتهم وتضافرهم وتمسكهم بحضارتهم ،بعد سنوات طويلة من عناء القهر والظلم، استطاعوا أن يحققوا النصر ويعلنوا "استقلل" بل دهم وقيا م دولتهم المسالمة ،التي تستحق العطف والتأييد ،لنها قائمةعلى الحب والديمقراطية وسمو المبا دئ و الهداف)!(
127
كل ذلك ،بلغة سينمائية عالية ،وأ داء متقن مقنع لممثلين لهم مكانتهم العالميه"،بول نيومان" و"إيفا ماريا سينت" ،ومشاهد مؤثرة توفر لتنفيذها كل المكانات التقنية بحساب دقيق..أو..بدون حساب.
*
*
*
ل أبالغ كثيرا حينما أقول أنني كدت ،أنا الفلسطيني المشر د ،أن أتأ ثر بما رأيت وسمعت ،أو أن أتعاطف للحظات معه ،أوعلى الصح مع تلك الحالة)!( نقطة التحول في حياة المرء ،كما يقول الفيلسوف الجتماعي اللماني "فر ديناند تونييس" ،تعتمد في غالب الحيان على مصا دفة ل تلبث أن تهيء لوضاع معينة ليست في الحسبان من شأنها أن ينفعل بها المرء، سلبا أو إيجابا ،فيكون نتيجة هذا النفعال إتخاذ قرار يحد د مسار حياته أو يؤثر في علقاته. كان هذا الفيلم )مع غير،ه من شاكلته( هو نقطة التحول في حياتي .وقد اتخذت قراري ببساطة متناهيه .بل وجدتني مرة أضحك ،وأنا أسأل نفسي ،ساخرا ،عن جدوى دراستي لفن"العمارة الداخلية""..الديكور". وما دمت أ دعي ارتباطي بقضيتي ومصيرشعبي ،فما هي حاجـتة لهذ،ه الرفاهية وهو ،في معظمه ،يسكن المخيمات ،التي سوف تتحول ،على أحسن الفروض ،إلى معسكرات للفدائيين؟! صحيح أنني أحببت "السينما" منذ صباي المبكر. وصحيح أنني ،في صباي المبكر ،أو في سنوات مراهقتي ،طالما حلمت بأن أصبح مخرجا سينمائيا. لكنني الن أصبحت أعرف سببا أو هدفا دافعا لهذا الختيار. أعرف الن ،على سبيل المثال ،مدى حاجة الكثيرين من البسطاء أمثال من شاهدوا فيلم "الخروج" ،في كل بقاع الرض ،إلى أفل م تتحدث عن الوجه الخر لتلك الحقيقه المزعومة. 128
تذكرت ما قاله البقال اليهو دي النمساوي الكائن دكانه في شارع "هاينه" المجاور لمسكني بالحي الثاني ،والذي كان قد عا د مؤخرا للستقرار في بلد،ه "فيينا" ،بعد أن تركها مهاجرا إلى "إسرائيل".. أرض الميعا د..في أوائل الخمسينات. قال لي بأسلوبه الساخرالممرور ،بعد أن عرفت قصته ،بعد عدة مرات تبا دلنا فيها حديثا و ديا: لو أن"عبد الناصر" اتخذ لنفسه وزيرإعل م ذكي ،مثلما فعل "هتلر" مع "جوبلز" ،لميطلع العالم على الوجه الخر للقضية الفلسطينيه ،لكان ،على القل ،قد وفرعلوي وعلى الكثيرين مشقة النتقال إلى "أرض اللبن والعسل" المزعومة تلك ،لكي نتبين الحقيقه .فالنسان البسيط ،يا جاري المحتر م ،يصدق ما يسمعه أو يقرأ،ه أو يرا،ه من "حقائق" أجهزة العل م ،المزيفة .لكنه عندما يعرف أن للحقيقة أكثر من وجه ،عندها يبدأ بالتفكير. ثم أر دف قائل: العل م ..العل م الذكي ياعزيزي..هذا هو ما ينقصكم!هل يملك من هو في مكاني أن يتوقف عن السعي لمتلك أ دواته لكي يتمكن من رواية قصة الخروج الجديدة وتفنيد مزاعم الصهيونية وكشف أكاذيبها المضللة ،بنفس اللغة التي أشاعت تلك الكاذيب. *
129
*
*
أثناء التدريب في مكتب هندسي في "فيينا"
أوراق قديمـــــــــــــــة.. 130
تعو د م ت ،لفترات متقطعة ،متباعدة ،أن أ دون خواطري ،كما اتفق ،كلما وجدت سبيل إلى ذلك. كما تعو دت ،بين حين وآخر ،أن أطل على بعض ما كتبت. أجدني في بعض المرات أسخر من خواطر معينة ،فأتخلص من بعض الوراق .وفي مرات أخرى ،أجدني متفقا مع تلك الخواطر فأحرص على تصنيف وعنونة و"تخزين" ما تبقى لي من بعض الوراق الخرى ،ظنا ،أو تكهنا مني ،وا أعلم ،أنني سوف أجد لبعضها مكانا فيما أنا مقبل عليه الن ..مشروع تدوين سيرتي الذاتية. وحسبي في ذلك ،الن ،هو صديقي اللكتروني الشهيربضـ"الحاسوب"، الذي اختصرالمستحيلت الثلثة** إلى مستحيلين فقط ،وغدا هو "الخول الوفي" ،الذي أثبت وجو د،ه بجدارة ،وصارهو مستو دع أسراري و سجل خواطري ،الذي ل يكل ول يمل ،والذي أصبح وبات وما بضرح يستجيب لضربات أصابعي على أزرار،ه ،فيقو م بتخزين أواستدعاء أو حذف أو إضافة أو تأجيل أو تعديل أوتقديم أوتأخير كلمات أوفقرات أوصفحات معينة ،مما سبق أن أو دعتها فيه ،حسبما يعن لي. مثال ذلك ما يلي: فيينا /النمسا ..الربعاء 27/6/1962 نحن في بداية الجازة الصيفية للعا م الدراسي الخير .ورسالة صديقي وزميل الدراسة النمساوي"يوهان" تقول أنه سيكون بانتظاري يو م الحد ،1/7/62،لبدأ العمل ،في مطلع السبوع القا د م ،حيث تعو دت أن أقضي جزءا من إجازاتي السابقة في العمل كمتدرب في نفس _______________________________________ )**( كما قال الشاعر :نببُتئت أن المستحيل ثلثة
الغول والعنقاء والخخزل الوفزي
المكتب الهندسي الذي يعمل فيه صديقي. أما وقد انتهيت إلى ذلك القرار المصيري الذي جعلني أبدأ باتخاذ تغييرات هامة في مجريات أموري فرضتها ظروف مختلفة ،ربما 131
يأتي الوقت الكثر مناسبة للحديث عنها بالتفصيل اللئق ،فل بد لي، كبداية ،وإيذانا بالبدء في تنفيذ تلك التغييرات ،من إلغاء عا دة قضاء الجازة الصيفية في السكندرية كما تعو دت في السنوات الماضية. كنت إذن قد عقدت النية على قضاء الجازة كلها بالتدريب في ذلك المكتب الهندسي .ذلك بعد أن أنهيت إمتحاناتي النظرية كلها في أكا ديمية الفنون التطبيقية بفيينا ،ولم يبق لي سوى التحضير لمشروع التخرج..مشروع "الدبلو م": ذلك المبنى الذي سوف يقا م على إحدى مشارف مدينتي" ،القدس"، يطل على تاريخها ،ويستمد منه طراز،ه المعماري. يحتوي على مكتبة عامه للكتب ،والمنشورات ،والمطبوعات الدورية وغيرالدورية ،بمختلف أنواعها من كل أنحاء العالم .وأخرى للتسجيلت الموسيقية بكل أشكالها .وغيرهما للفل م السينمائية. صالة محاضرات..وصالة "كونسيرت" للعروض الموسيقيه..وصالة للقراء،ه..وأخرى للستماع .وصالةعرض مسرحي..وصالة عرض سينمائي ملحقة بالـ "سينماتيك". عالم رحب..يتسع لكل ما يمت للثقافة والرياضة العقلية والبدنية بصلة. حلم..سوف يتحقق يوما ما على أرض بل دي. إنه )كان ولم يزل( حلمي في منامي ،ويقيني في يقظتي.. ذلك هو مشروع مبنى "المركزالثقافي الفلسطيني". الحق أنني كنت على يقين من أن الضهتر "شولتس" ما زال يرحب بعو دتي للعمل متدربا في مكتبه الهندسي ،في"فوبرتال" اللمانية ،في أي وقت. هوألماني مخضر م ،كان تعاطفه يوحي إلي بأنه يخجل من ماضيه. كان دائما يحاول أن يؤكد لي )وربما كان يحاول أن يؤكد ذلك لنفسه( أنه لم يكن سوى "مهندسا معماريا" مجندا في مجال عمله في عهد النازيه. 132
لم أطالبه بذلك ،ول أشعرته يوما ،في واحدة من جلساتنا ،أثناء عملي في مكتبه في الجازات السابقة ،أنني أشك في براءته مما ينسب عا دة لجيله من اللمان. قال لي مرة ،أنني كنت سببا في إيقاظ أو تجد د معاناته من"..عقدة الذنب"! في البداية ،في إجازتي الصيفية قبل الماضية ،كان يظن أنني يهو ديا من "إسرائيل" )!( لقداختلطت المور لديهم .أصبحت فلسطين هي إسرائيل ،وإسرائيل هي فلسطين. ولم تمض أيا م قليلة على اكتشافي هذا حتى أعدت المور إلى نصابها. حاول تبرير جهله. قال أن أوراقي تقول أنني من مواليد القدس ،وأن اسمي الثلثي لم ير د فيه "محمد" أو"عبدا" أو "مصطفى" )؟!) والهم من ذلك هو مظهري وسلوكي القرب ،في نظر،ه ،لمظهر وسلوك الوروبيين ) .كذا!( ثم أكمل بأن المعلومات المتاحة كانت تفيد بأن فلسطين لم يكن يسكن فيها أحد عندما بدأت الهجرة اليهو دية من أوروبا إليها..سوى بعض قبائل البدو السرمحل. حدثته عن بلدي..القدس العربية ،حيث ولدت في دارعتيقة موروثة. وما زال حتى اليو م يحتفظ بالـ"كوشان" الذي يثبت ملكيته لها. كأنه لم يصدق أذنيه. "ماذا تقول؟!" أقول أن "إسرائيل" قامت على أنقاض 385قرية عربية دمرت وأزيلت عن سطح الرض ،ذلك بعد أن طر د اليهو د أهلها العرب قسرا وإرهابا .وأقاموا مكانها مستوطنات ابتكروا لها أسماء توراتية. هذا من أصل 475قرية عربية فلسطينية كانت قائمة قبل عا م . 1948 133
أما المدن فما زالت تحكي تاريخها لمن يهمه أن يعرف التاريخ. معقول؟!!أخذت )كالعا دة( أسر د إليه بعض الحقائق التاريخية التي حفظناها ،نحن معشرالطلبة الفلسطينيين المغتربين ،عن ظهر قلب ،من فرط تر دا دها. بما فيها من تواريخ ،وأرقا م ،وإحصائيات ،وقرارات ل تعد ول تحصى للمم المتحدة....... قلت له ،مثل ،أن "إسرائيل" هي ،منذ بدء تاريخ المم ،الدولة الوحيدة التي أوجدت بقرار .وهو قرار "الجمعية العامة للمم المتحدة" رقم 181الصا در في 2نوفمبر 1947والذي يقضي بتقسيم فلسطين )العربية أصل و مك و ل( إلى دولتين: دولة يهو دية ،وأخرى عربية. وبناء عليه فقد تم إعلن قيا م " دولة إسرائيل" في 15مايو 1948 وتوالت إعترافات الدول "العظمى" بها .وتم قبول الدولة الوليدة عضوا في "المم المتحدة" ،في 11مايو ) ،49قبول مشروطا بقيا م الدولة العربية المذكورة في القرار 181المذكور( ،لكن "المم المتحدة" غضت الطرف عن متابعة تنفيذ بقية قراراتها حتى يومنا هذا..وكأن قراراتها تلك ،كما يقولون ،ليست إل ذورا للرما د في العيون. كا د أن يتهمني بالمبالغة عندما ذكرت له أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المعترف بها دوليا بدون أن يكون لها " دستورا" ،وبالتالي"حدو دا" رسمية معلنة. وهي الدولة التي تعتبرنفسها دولة كل اليهو د في العالم. وهي ،بما تسميه "قانون العو دة" ،تضمن لي يهو دي في أي مكان في العالم أن "يعو د" إليها في الوقت الذي يريد،ه ليحصل على جنسيتها )مع الحتفاظ بجنسيته الصلية( ويتمتع بكامل حقوق المواطنة من الدرجة الولى .هذا ،بينما تعتبر القلية الباقية من المواطنين الصليين، أصحاب الرض الذين ينتمون لفلسطين التاريخية ،مواطنين من الدرجة الثانية .أما الغلبية ،وأنا شخصيا واحد منهم ،فهم لجئون 134
مشر دون بالعنف وقوة السلح الغربي ،محرومون من العو دة إلى موطنهم المحتل فلسطين. " ..كفى! كفى! إن معلوماتنا تتناقض تماما مع ما تقول!"ثم يضيف معتذرا: ..عفوا..أنا أصدقك طبعا .ولكن يبدو أننا ،هنا ،كنا وما نزال فريسةلعل م آخر. كان يتساءل دائما عن سرغياب أجهزة العل م العربية وتقصيرها، وعما إذا كان هناك "أجهزة" أص أ ل. كان ل يمل من تر ديد سؤاله الذي ل يخلو من سخرية واستنكار: هل تكفي الصدفة البحتة لمواطن أوروبي مثلي ،أن تربطه علقة شخصية بمواطن عربي فلسطيني مثلك ،لكي يعرف ما يحل بكم وما يجري في هذ،ه البقعة من العالم من ظلم؟! ثم أصبح الهر "شولتس" ،بعد ذلك ،يتصيد الفرص ليدعوني لمشاركته في تناول "كأس" في مكتبه ،بعد ساعات العمل ،وهو يغمز لي مطمئنا بأن مكتبه ل يخلو من الـ* . Apfelsaftومن ثم يأخذ في استعراض ما تمكن من جمعه من المعلومات ،من مصا درأخرى "موثوق بها".
_____________________________________ )**( عصير التفاح ..المشروب الشعبي الشهير والخالي من الكحول .
135
)بدون تعليق(
وصار ينافسني في سر د ال دلة على تواطؤ الغرب مع الصهيونية، وتواطؤ الصهيونية نفسها مع القوى النازية ،والمبريالية .وآخرها ،من منظور،ه الجديد ،مؤامرة العدوان الثلثي عا م .1956 136
وأذكر أنه كان يصرعلى لفت إنتباهي بإشاراته إلى محاولت أميريكا السافرة لخلفة أوروبا في السيطرة على منطقة الشرق الوسط..ومن ثم العالم أجمع. كان ليفتأ يؤكد لي أن أمريكا لن تترك "ناصر" يهنأ بانتصاراته وأنها لن تسمح بانتشار فكر،ه ،وأنها سوف تعمل على خلق قناعة عند العرب بعد م جدوى التفكير بـ"الحلم العربي الكبير" أو التفكير بالقضاء على إسرائيل التي "وجدت لتبقى" ،ولتبقي قا درة على أن تحافظ على المصالح المبريالية في المنطقة. كان يحدثني عن "ناصر" بإعجاب شديد .ولم ميخف أن سرإعجابه هو وجه الشبه ،من منظورهم ،ومن دواعي استنكاري الشديــــد أيضا، بينه وبين "هتلر" ،الذي مازال هناك من يجهر بتمجيد جوانب معينة له ..وهو واحد منهم. وفاجأني في أحد المرات وهو يرفع كأسه قائ ا ل: ..سوف ننتصر في النهايه!ذكرني بأخي "عابد" ،الذي كان ل يمل من تر ديد قصائد صديقه الشاعر "صلح جاهين" والتي كنت أطرب لسماعه وهو ير د د في ختا م إحداها.." ..راح ننتصر في النهاية"! لم يداخلني الشك يوما في أننا سننتصر ،فقضيتنا عا دلة .وشعبنا قد بدأ يتلمس طريقه ،ويبحث عن ذاته .وأخذ يمعن في أمر تشكيل إرا دته وإحكا م القبض على أ دواته. لكن ما بال الهر "شولتس" يبالغ في محاولته "إبراء الذمة"؟ هل اكتشف أخيرا أن ضحايا النازية ليسوا ،فقط ،هم من عانوا من سعير ما مسومي بـ"الهولوكوست" ..و"أفران الغاز" .وأن من ضحاياهم، أيضا ،من يعانون مثلنا من جحيم "أفران" الغربة والتشريد خارج بل دهم المحتلة ،ومن الضطها د والقهر والذلل في داخلها؟ في الصيف الفائت ،عدت من "مكتب الجانب" مكتئباا .وعندما عرف الهر "شولتس" ما حل بي ،با درني: 137
..لن تغا درالبل د! وستبقى هنا وتعمل ،حتى بدون "إذن عمل" أو" تصريح إقامه" .وأما عن المسكن ،فسوف أتدبرالمر بنفسي. * * * ما زلت أذكر ذلك اليو م ،وذلك الشاب الشقر ،وهو يقلب "وثيقة" سفري بين يديه .يتنقل بها من زميل إلى آخر في "مكتب الجانب". أحدهم مط شفتيه في غير اهتما م ،وهو ير د د: .. Staatenlos)الصطلح يفيد" :غير معين الجنسية" ،والترجمة الحرفية تعني " :بل وطن"( وآخر أومأ إليه ،بعد أن رمقني بنظرة فاحصة من فوق ظاراته ،بما معنا،ه: و ما الذي يمنع......؟!وقال آخهر آخر )فهم أ ت ذلك من إيماءاته أيضاا( بحز م: القانون هو القانون!عا د الشاب الشقر ليجلس إلى مكتبه .يقلب وثيقة سفري بين يديه.. يتصفحها..يتفحصها ..ينظر إليي ..يدير قرص حامل الختا م متر د دا ثم يتنهد .وأنا أنتظر،ه في توقع ورجاء ،أن يقبض على الختم المنشو د. أتذكرعيون المقامرين )على شاشة السينما طبعا ..فأونى لي مثل تلك الخبرات!( وهي تتركزعلى قرص "الروليت" أثناء دورانه. رقم واحد معوين..هو مفتاح السعا دة. وبالنسبة لي ..ختم واحد معين هو مفتاح الفرج. يكا د قرص حامل الختا م أن يتوقف ..فتعبث به يد الشاب الشقر المتر د د ..ليعو د إلى الدوران من جديد قبل توقفه. فجأة ،كمن إتخذ قرارا ،أخذ يبحث في وثيقة سفري عن صفحة فارغة. يقبض على أحد الختا م .وأشعر أنا بارتياح بالغ. ل لني عرفت النتيجة ..ولكن لني سئمت النتظار.
138
طمتز!* ..إذا لم يكن هو الختم المطلوب ..فليست هي المرة الولى التي أتعرض فيها لمشاكل بالنسبة للسفر أو للقامة في هذا البلد أو ذاك .فما أنا غير ذلك ..الفلسطيني المشر د. طخ! صوت ارتطا م الختم بصفحة الوثيقه يعيدني من شرو دي .أصوب نظري إلى الصفحة .ما زالت فارغه. ينظر إليي الشاب بعينين ل تخلوان من العتذار ،مع شبح ابتسامة فيها قدرغير قليل من السخريه ) في مثل هذ،ه الحالت يعفى المحكو م عليه بالعدا م من تنفيذ الحكم(. لكن الشاب يفتح "خوتامة" حمراء اللون ،ويلون الختم بحبرها .وسرعان ما تتلوث صفحة الوثيقة بختم أحمر. قرأت العبارة من بعيد ..في اللحظة ما بين ارتفاع الختم عن الصفحة وتغطيتها باليد الخرى بالنشافه: "يغا در ألمانيا التحا ديه خلل 24ساعه" وشيعني الشاب الشقر بنظرة ل تخلو من الرقة..أو قل العطف..أو الشفقة. وعدت إلى مقرعملي مكتئباا .وكانت فرصة العمر بالنسبة للهر"شولتس" لكي يظهر تعاطفه مع الشعب الفلسطيني المشر د ..ممثل في شخصي. اليو م الربعاء ،وغدا الخميس ،وبعد غد الجمعة .ثم يأتي يو م السبت ومن بعد،ه يو م الحد .لأم كل هذا النتظار؟ ________________________________________ )*(
طزز تعني باللغة التركية "ملح" .وقد أصبحت الكلمة تستعمل للستخفاف بالشيء، حيث كان الملح ،في وقت ما ،يستوجب أقل قدر من القيمة الضرائبية التركية .للعلم!
وفوق هذا وذاك ،فلقد رتبت صديقتي أمورها لتقضي عطلة "نهاية السبوع" مع عائلتها في بيتهم الريفي،علما منها بأنني على سفر. مررت عليها في مقر عملها .طلبت منها أن تتصل بـ"يوهان" 139
لتخبر،ه بأنني سأستقل قطار "فيينا -فوبرتال" الليلي في ذلك اليو م.. الربعاء ،بدل من يو م الحد المتفق عليه. فوبرتال /ألمانيا الغربيه ..الخميس 28/6/62 تعو دنا ،أو تعلمنا أن نعبرالحدو د التي ل يجوز لنا عبورها -نحن معشر الفلسطينيين الـ"غير معويني الجنسيه" -بطريقة أو بأخرى. ومنها قطارالليل ،بما يقتضيه المر من ضحـأيل )!( واستقبلني صديقي "يوهان" مضطربا ،محاول أن يخفي استياء،ه .فقد استأجرلي نفس الغرفة التي كنت أسكنها في الصيف الفائت ،في بيت أحد معارف الهر "شولتس" ،ولكن إبتداء من يو م الحد المقبل ،حسب اتفاقنا .وعندما فوجيء بنبأ قدومي قبل موعدي ،قضى نهار،ه في البحث لي عن مسكن مؤقت لليا م الثلثة التي لم تكن في حسبانه. ولم يكن هناك من حل سوى أن أقتسم المسكن مع ذلك الرجل.. "فولكر". با درني بلكنة ألمانية شمالية ريفيه ،وبصوت عريض ل يتناسب مع حجمه الضئيل: أنا مغترب مثلك....لم أ درك في البداية أن بلدته "بوتسدا م" تقع في ألمانيا "الشرقية". وحرت في أمرهذا المغترب في بلد،ه .كنت حتى ذلك الوقت أظن أن شعورالمرء بالغتراب في وطنه يقتصرعلينا..نحن معشرالعرب. ثم قلت لنفسي: مالي أنا وماله! ثلثة أيا م ،أوعلى الصح ،ثلث ليال ثم تكون لي غرفتي..وغربتي. هناك أشخاص تشعر برغبة في التحدث إليهم أو بإنشاء صداقة معهم إذا ما التقيت بأحدهم في قطار أو رحلة أو أي ظرف عابر .لم يكن هو أحدهم .وإن كان يبدو لي مهذبا ا طيباا .إل أنه أيقظ في داخلي ،دون أن يقصد ،تلك المشاعر المرهقة..التي كنت أتحايل لطالة غفوتها. كان الوقت مناسبا لن يتمنى كل منا للخر ليلة سعيد،ه. بدأت أنا متعللا برحلة القطار الطويلة المتعبه. 140
صب لنفسه كأسا من النبيذ ،ولوح لي بالزجاجة: نبيذ فرنسي فاخر..معتق من كرو م الجزائر..من عندكم.ثم أر دف: ..كنت أسمع دائما أنه من أجو د أنواع النبيذ في العالم .والن تحققتمن ذلك بالتجربة .وسمعت أيضا أنه ل يباع في الجزائر .جورب! ثم استدرك: "آ خ..سو" ..* (Ach so ) ..فأنت إذن "محمداني"**!تناول جرعة شرهة ثم أكمل: ضحكواعليكم باسم الدين..وعلينا باسم الشيوعيه .فعندنا ،هناك،مثلكم تماما ،خيراتنا ليست لنا .نعمل ونكدح من أجل الغير. لقد وولى ذلك الزمن بالنسبة لي .أنا الن أنعم بنتيجة عملي.. وبحريتي .هل تعرف معنى الحريه؟ طبعا تعرف .لن الفرنسيين يتمتعون بالحرية في بل دكم...... سامحك ا يا صديقي "يوهان" .أل يكفيني ،عقابا لي على عد م احترامي للمواعيد ،تلك الليالي الثلثة التي سأقضيها في ذلك القبو؟! ل بأس في نقا ش أو حديث حول معنى الحرية بين حين وآخر .ولكن ليس في مثل هذا الوقت ،وبعد رحلة قطار استغرقت وقتا طويل، قضيت منه جزءا ل بأس به ،حبيساا ،على كرسي "التواليت". تلك هي الحيلة التي تفتق عنها ذهن الكثيرين من زملئي في"وثيقة السفر" .فقبل أن يقترب القطار من مدينة "سالتزبورج" ،التي تقع على _________________________________________ )*( تعبير سائد عن الدهشة. )**( لفظ Mohamedanerيراد به تعريف المسلم ..وينطوي على شئ من الستخفاف والتعالي .
الحدو د في الطريق من النمسا إلى ألمانيا التحا دية )الغربيه( ،ل بد من الختفاء عن أعين رجال بوليس الحدو د .فعندما يتهيأ القطار للوقوف، لتغييرالقاطرة ،والجراءات الحدو دية وما إلى ذلك ،تبدأ أطول ربع ساعة في التاريخ ،لما فيها من اضطراب ،وتوتر ،وخوف.
141
الحقيقة أن الجراءات المذكورة ل تعني شيئا بالنسبة للوروبيين .فهي إجراءات شكلية .أما الجنبي ،فل بد من حصوله على تأشيرة دخول، أو أن يحتوي "جواز سفر،ه" على تصريح للقامة في إحدى الدول الوروبيه. صحيح أنه ،في بعض الحيان ،يختلط المر على رجل الحدو د اللماني فيتعامل مع "الوثيقة" التي أحملها وكـأنها "جواز سفر" حقيقي .خصوصا بعد أن اشتريت من القاهرة حافظة جلدية ،خضراء اللون ،أو دعتها وثيقتي ) ذات الغلف المميز بلونه الزرق( مصنوعة خصيصا لجوازات السفرالمصرية ،الخضراء اللون، ومطبوع عليها بماء الذهب ما يفيد بأنها تحتوي على "جواز سفر مصري". لكن هيهات أن "تسلم الجور،ه في كل مور،ه". لم يلبث مضيفي أن أقر بأنني أبدو متأعباا ،ويحسن أن أخلد للراحة والنو م. ألم أقل أنه يبدو..طيبـاا؟ لقد أطلق سراحي بالرغم من أنه كان تواقا للحديث ،ولمستمع جيد مثلي .لكنه حين أضاف أن للحديث بقية ،وأنه يعرف أنني سأمكث معه في نفس المكان ليال ثلث ،عرفت أنه لم يتركني رأفة بحالي ،فهو يريدني في الغد يقظا غير متعب. وبالرغم من أنني احتجت لبعض الوقت لكي أتكيف مع سريري الغريب -كما هو الحال مع الكثيرين في مثل هذ،ه الحالت -وأنني، بينما كان النعاس يغالبني ،كنت أشعر بالسيد الهارب من "بوتسدا م"- الشرقية ،لينعم بالحرية في "فوبرتال" -الغربية ،ما زال في أوج نشاطه ،يفتح زجاجة جديدة ،يروح ويجيء ،يعبث بآلة موسيقية ثم ل يلبث أن يتركها ،ليعبث في محتويات أ دراج الدولب. بالرغم من ذلك ،استيقظ الرجل مبكرا .وبالرغم من أنه كان يتحرك بمنتهى الحرص والهدوء ،إل أنني صحوت من نومي أنا الخر .ولم
142
يهدأ لي بال حتى سمعته يضع المفتاح في قفل الباب من الخارج ليقفله بحرص ،بدل من أن يصفقه فيزعجني .ونمت نوما عميقا. فوبرتال ..الجمعه 29/6/62 عندما صحوت..استغرقت وقتا امتد لبضع لحظات حتى عرفت أين أنا. واسترعى انتباهي أن البيت القبو -على ضقدمه -كان نظيفا ومرتبا .كما استرعى انتباهي -أيضا -شئ آخر ،آلة موسيقية" ،أكور ديون"، بحجم لم أر له مثيل من قبل .جديدة ..براقة ..لها أجزاء معدنية مذهبة مفضضة بريقها يخطف البصار. إن من يحرص على امتلك آلة كهذ،ه ل بد أن يكون عازفا بارعا. خطر لي أيضا ،وأيقنت ،أن العازف الذي يمتلك مثل هذ،ه اللة ول يستعملها حرصا على راحة شريكه في المسكن ل بد وأن يكون إنسانا مهذبا. شيء آخر شد انتباهي في ذلك الصباح ،قبل أن أغا در البيت القبو.. صورة فوتوغرافية لفتاة ل تخلو من حسن ،في الرابعة أو الخامسة عشر من عمرها ،في إطار معدني براق يخطف البصار أيضا. لم أتعجل .استغرقت وقتا في الستعدا د للخروج .فاليو م الجمعة ،ومن الطبيعي أن ل أبدأ عملي إل في بداية السبوع القا د م ،يو م الثنين. كان ترحيب المهندس اللماني بي كما توقعته .وأكثر من ذلك ،أنه أصرعلى أن أبدأ عملي في الحال .وهذ،ه تضحية ل يقو م بها أرباب العمل عا دة .فمعنى ذلك أنني سأتمتع بإجازة أسبوعية مدفوعة الجر بالكامل ،لقاء عمل نصف يومي الجمعة والسبت فقط من السبوع كله. وكان ذلك مبعث دهشة صديقي "يوهان" ،الذي يعمل في نفس المكتب منذ سنتين ،بصفة دائمة .فلقد تعو د على أن ميخصم من راتبه أجر مجموع الدقائق التي تنقص من ساعات عمله إذا تأخر لسبب أو لخر. قال لي الهر "شولتس" مرة: لقد دفعنا د م قلوبنا ،وما زلنا ندفع مئات المليين سنويا ثمنالصكوك الغفران ،أو ما يقال له "التعويضات اللمانيه" لليهو د.
143
ولم نكن نعرف أننا ندفع هذ،ه المليين لتساهم في تدمير شعب آخر. أيقنت الن أن ألمانيا التحا دية )الغربية( ،ممثلة في شخص الهتر "شولتس" ،قد ثابت إلى رشدها ،وأنها ربما تفكر في تحويل التعويضات إلى الشعب الفلسطيني..ممثل في شخصي. أليكفي ،دليل على ذلك ،إعفائي من قبل السيد الكريم -كما كنت أتوقع -من مشقة المحاولة اليائسة للحصول على تصريح القامة والعمل منذ البداية .وهذا ما راهنت عليه بتسللي إلى ألمانيا ،فوثيقة سفري ما زالت ،منذ الصيف الفائت ،مز دانة بالختم الحمر ذو القامة المحد دة بالربع وعشرين ساعه. هل تعرف؟ قالها وهو يقترب مني بقدر ما تسمح المسافة بين مقعدينا ،ليتخذ وضعا يكون فيه الكل م ،كما يبدو له ،أكثر جدية .وأكمل بما يشبه الهمس، ليوهمني بأنه سيدلي بسرخطيرل يليق بأحدغيرنا أن يسمعه: تلك الكاذيب التاريخية الكبرى"..الهولوكوست"..والستة مليين يهو دي..وأفران الغاز... ثم اعتدل في جلسته وأكمل مزهوا واثقا من معلوماته: أول..هناك مبالغة هائلة في الرقم .وحسب تقاريرالمنظمات اليهو دية نفسها ،كان عد د يهو د أوروبا كلها في زمن الرايخ الثالث ل يتجاوز المليين الثلثة. ثانيا ..قردرعد د ضحايا الحرب العالمية الثانية كلها في حينه بحوالي الخمسين مليون ،منهم ما ل يزيد عن المليون الواحد من اليهو د .فكيف تقو م الدنيا ول تقعد من أجل هذا المليون!؟ ول يستفيق الضمير العالمي إل من أجل الضحايا اليهو د! أليست هذ،ه هي "العنصرية" بعينها؟ ثالثا ..معسكرات العتقال .لم تكن سوى مرحلة لتنفيذ خطة "ترحيل" اليهو د إلى "أماكن أخرى".
144
لم تغب عن فطنته ما تضمنته ابتسامتي من مرارة إزاء ذكر كلمتي الـ "ترانسفير" و"الماكن الخرى" .أطرق برهة كأنه يعبرعن إعتذار،ه، ثم واصل حديثه: ..رابعا..وهذا هو الهم .لم يكن هناك ما يسمونه بغرف الغازبالمعنى الذي يرروجونه .بل كانت الظروف الناتجة عن الحرب الطويلة تستدعي وجو د محارق لجثث الموتى بشكل عا م نتيجة الغارات ،و"التيفوس" ،وغير،ه من المراض التي تفشت في معسكرات العتقال بالذات ،وبشكل خاص. ثم إنني قبل كل شيء أحب أن أتساءل: لماذا لم يسمع العالم شيئا عن "الهولوكوست" طوال سنوات الحرب الستة؟! أ م أن إبا دة المليين الستة قد تمت في اليا م الخيرة للحرب؟! "الهولوكوست" ،يا عزيزي ،هو السلح المبتكرلصرف النقد عن إسرائيل وأغراضها ونواياها .إنه أ داة لبتزازنا **. ولم ينس أن يهمس لي مؤكدا أن ماقاله هي الحقيقة التي ليجرؤ الكثيرين على ذكرها ،ويحسن أن أحتفظ لنفسي بمصدرها )!( وفي مرة أخرى ،حكى لي ،بتفصيل ينم عن قراءة طازجة ،كيف تورطت ألمانيا بقصة التعويضات .فبعد إعلن دولة إسرائيل عا م 1948وتدفق المهاجرين الجد د إليها ،مما أصاب ميزانية الدولة الجديدة بالعجز ،بالرغم مما تلقو،ه من مساعدات مالية من يهو د العالم، ________________________________________ )**( هناك شخصيات هامة مؤثرة قد قامت بتدوين شهادتها و تجربتها في الحرب العالمية الثانية ،وتم نشرها )من عام (59 -1948مثل: البريطاني " تشيرتشل" في موسوعته "الحرب العالمية الثانية" بأجزاءها الستة وصفحاتها الـ ، 4448والفرنسي"ديجول" في"ذكريات الحرب" بأجزاء ه الثلثة وصفحاتها الـ ، 2054والميريكي "أيزنهاور" في في كتابه "حملة أوروبا" ذو الـ 559 صفحة .هذ ه الوثائق التي تبلغ في مجموعها 7061صفحة لم يرد فيها شيُتئا عن "غرف الغازالنازية" ،أو "جرائم القتل الجماعي لليهود" ،أو ضحايا "الهولوكوست" التي أشاعوا أنها بلغت المليين الستة !!!!!
أوغيراليهو د ،أبرق رئيس الوزراء السرائيلي"،بن جوريون"، لـرئيس المؤتمراليهو دي العالمي والحركة الصهيونية العالمية في 145
ألمانيا آنذاك" ،ناحو م جولدمان" ،الذي كان يتابع محاكمات "نورنبيرج" لمجرمي الحرب ،يرجو،ه أن يقو م بتدبير أي مبلغ على وجه السرعة للحاجة الماسة إليه. عندها طرأت لـ"جولدمان" فكرة أن يطالب "أ ديناور" ،المستشار اللماني في ذلك الوقت ،أن تغطي ألمانيا مصاريف إعا دة توطين اليهو د اللمان في إسرائيل ،فوافق "أ ديناور" على أن تدفع ألمانيا مبلغ ثلثة آلف دولر عن كل رأس )!( ثم اكتشف "أ ديناور" بعدها أن ألمانيا ،بذلك ،قد التزمت بدفع مبلغ وقدر،ه 1,5بليون دولر )بالباء( .فقد ناهز عد د اليهو د اللمان في إسرائيل ،في حينها ،حوالي نصف المليون*. في المساء ،عدت إلى البيت القبو بعد أن أنجزت من العمل ما لم يكن أحد يتوقع مني إنجاز،ه ،كي أثبت للسيد الكريم أنني أهل لكرمه وثقته بي .رآني "فولكر" مجهداا .فأرا د أن يخفف عني بطريقته الخاصه. وأصر على أن يسقيني كأسا من النبيذ الفرنسي الفاخر..المعتق ،كما قال ،من كرو م الجزائر. تنحنحت آمل أن أمسك بدفة الحديث ،قبل أن يبدأ هو باستكمال حديثه عن الحريه ..قلت له: ..أنا فلسطيني ،ولم أحظ بعد بزيارة الجزائر..لم يبد عليه أي اهتما م بما قلت .بل أر دف بسرعه: ..لبأس!)واصطلح آخرمعنا،ه بالتقريب..كلكم في الهرم شرق (** _________________________________________ )*( عندما حاول "أديناور" ،عام ،1952عقد إتفاقية بين ألمانيا وإسرائيل وذلك بهدف تنظيم وتقنين عملية دفع التعويضات اللمانية لليهود ،تعرض المستشار اللماني لمحاولة إغتيال من تدبير "مناحيم بيجين" الذي كان يتزعم حزب"حيروت" .وظلت "إسرائيل"، نتيجة لذلك ،تبتز التعويضات بدون أي قيود أو معايير. )**( الصطلح اللماني المشار إليه هو Alles Seifeومعنا ه الحرفي" :كزله صابون"!
آثرت أن أرجيء سر د "حكايتي" لحين آخرأكثر ملءمة ،فابتسمت له مجامل ،فإذا به قد رفع كأسه في وجهي وأنشأ يقول: 146
كأسك يا صديقي ،فلنشرب نخب الحرية و....قاطعته بضجر مغلف بمحاولة يائسة لن أبدو مرحا: ..عن أي حرية تتحدث يا رجل؟!قال وكأنه كان ينتظر سؤالي منذ دهر: ..عن حرية النسان في أن يختار العمل الذي يريد،ه ،وأن يعيش فيالمكان الذي يختار،ه.. ثم أضاف باستدراك: ..ل داعي لن نتحدث عن حرية الرأي..ولنترك ذلك للمثقفين!)كا دت تلك الضافة أن تصيب كبريائي في مقتل .أخذت أتساءل بيني وبين نفسي عن ذلك الشيء الذي يميزالمثقفين في مظهرهم ويفتقر مظهري إليه ..مما جعلني أتعرض لمثل هذ،ه الهانة التي لم يقصدها صاحبنا(. لحظ "فولكر" شرو دي وانقباضي ،فلكزني بيد،ه التي تحمل الكأس وتابع حديثه: خذ مث ا ل..أنت! ألم تأت إلى ألمانيا التحا دية لتعمل؟ ألم تأت في الوقت الذي حد دته أنت ،وإلى المكان الذي تريد،ه أنت ..و.. حاولت بيني وبين نفسي أن أترجم المثل الفلسطيني المعروف "اللي يعرف يعرف ..واللي ما يعرف يقول كف عدس" إلى اللغة اللمانية فباءت محاولتي بالفشل. ثم فكرت أن أسبقه وأتشبث بدفة الحديث ،وأروي له "حكايتي" التي أحفظها عن ظهر قلب ،كما أحفظ نشيد "موطني" الجميل الذي كنا ننشد،ه صغاراا كل صباح قبل أن ندخل إلى "الصفوف" في مدرستنا في القدس ،التي تركتها صبيا مهاجرا ،برفقة أخي "عابد" ،على ظهر حمار من خلل طرق جانبية جبلية وعرة إلى "بيت لحم" ومنها إلى"الخليل" ثم إلى "غز،ه" .ثم كيف ساقتني الظروف ،بعد أن أنهيت دراستي الثانوية ،إلى السعو دية للعمل فيها -شأن الكثيرين -لكي أتيح لنفسي فرصة التعليم العالي .لكنني تر د دت ،و رأيت أن أبدأ -مسبقاا- بالجابة على السئلة التقليدية ،التي تدورعا دة في خلد أهل هذ،ه القارة 147
النائية،عن وسائل المواصلت في بل دنا..غير الجمال والحمير..وأن أوضح له -على سبيل المثال -أن سبب استعمالنا للحمار كوسيلة _ للنتقال هو قطع الطرق الرئيسية ،التي تسير فيها السيارات ،بواسطة العصابات الصهيونية المدججة بأنواع السلح البريطاني والتشيكي و الميريكي ،والمسد دة فواتيرها بالمارك اللماني. ثم عدلت عن تلك الفكرة ،و رأيت أن أنتقل مباشرة إلى الحديث الذي تفرضه ثقافة غالبيتهم ومعلوماتهم عن ذلك "الشرق" الذي ابتكرو،ه وأضفوا عليه ما يروق لهم أن يرو،ه ،والمستقاة من ترجمات بعض "المستشرقين الوروبيين" المحرفة لضـ"ألف ليله وليله" ،أو مشاهداتهم للفل م المفبركة عن أمراء الصحراء أو شيو خ البترول أو"الليالي العربيه" ،أو من إقبالهم على قراءة سلسلة روايات الكاتب اللماني الفاق "كارل ماي" Karl Mayالشهيرة ،التي تصف رحلته المتعد دة إلى الشرق ،والتي قا م بتأليفها خلل السنوات الطويلة التي قضاها في السجن لسباب أخلقية** . ثم ل بد ،بعد ذلك أو قبله ،من الجابة على السؤال عن زوجات أبي الربعه..غير الجواري والحريم .وعن تاريخ البنطال الذي أرتديه. ول بأس من أن أؤكد أن أبي كان يرتدي بنطال هوالخر .وأن أختي كانت تذهب إلى المدرسة..وبدون حجاب. ___________________________________________________ )**( بلغ عدد مؤلفات "كارل ماي" عن رحلته 74كتابا! هذا علما بأن سجلته تقول بأنه لم يغادر بلد ه قط .شأنه في ذلك شأن الكثير من "المستشرقين". جدير بالذكرأنه ،في بداية الخمسينات ،كانت خمسون عاما قد مرت على وفاة "كارل ماي" حيث تكون حقوق المؤلف وورثته قد سقطت ومن حيث تصبح مؤلفاته كلها مشاعا تستثمر ه دور النشر المختلفة وتجني من نشرها الرباح. على أنه،إحقاقا للحقيقة ،ل بد من ذكر ما تميز به "الستشراق اللماني" من ابتعاد عن الهداف السياسية أو الستعمارية في الشرق ،حيث أنه لم يكن للمانيا مستعمرات في العالم العربي )أم كان ذلك ،يا ترى ،لن الفرنسيين والنجليز لم يتركوا لهم مجال لذلك( . ول بد أيضا من ذكر ما تميزت به كتابات بعض المستشرقين اللمان )"جوته" و"سيغريد هونكه" على سبيل المثال ل الحصر( من إنصاف يصل إلى حد الشادة بالحضارة العربية الرائدة ..ذات يوم .
وعندما تزوجت..لم يتقاض أبي ثمنها .وما إلى ذلك من المعلومات التي عا دة ما يحرصون على معرفتها. 148
إل أنني وجدت في نفسي ميلا لن أترك لمضيفي الحرية في الحديث حتى ل يتهمني أنا الخر باضطها د،ه ،كما اضطهد،ه زعيمه "فالترأولبريخت" من قبل ،حسب روايته هو .فأنا أرى كيف يحرقه الشوق إلى اللحظة التي يمارس فيها حريته في الحديث ،أو حديثه عن الحريه. ثلث سنوات مرت ،منذ أن تمكن صاحبنا " فولكر" من الهروب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربيه ،قضاها عامل في مصنع كبير ،يتيح له العمل لساعات إضافية ،فيحقق كسبا أكبر .وهو يسكن في هذا القبو ليحقق وفراا أكثر .ويبدو أنه قضى تلك السنوات الثلث يعمل بدون انقطاع ،فلم يجد في وقته متسعا لن يجد له صديقا يتحدث إليه. وربما لم يجد الخرون في وقتهم متسعا لن يتحدثوا إليه .فالوقت من ذهب ،كما يقول اللمان أنفسهم .لكن الفرصة جاءته -كما يبدو -إلى عقر دار،ه. وها هو يتشبث بها ويمضي في حديثه إلي: أكثر من عشرسنوات ،وأنا أعمل في المصنع في "بوتسدا م". زوجتي تعمل أيضا .ولم نستطع توفير "مارك" واحد. لم أجرؤ حتى على التفكير في شراء دراجة لبنتي .ظلت تحلم بها منذ أن كان عمرها ثلث سنوات .واليو م أصبح عمرها ثلثة عشرعاما. البنات في عمرها ،هنا ،يملكن سيارات .ونحن ،هناك ،ما زلنا في عصر القطاع .الفارق الوحيد أن القطاعي هو الدوله .ونحن عبيد عندها .نعمل لكي نمل بطوننا فقط .هذا هو الطموح الوحيد المتاح لنا .أما هم ،فيملون جيوبهم.... استوقفه شرو دي. كان يبدو لي أنه طيب مهذب ،فهل يتعارض ذلك مع النطباع الجديد بأنه..أفاق؟ ربما لحظ أيضا عد م إكتراثي بل واستنكاري الصامت لما يحكيه .فالبلدان الشتراكية تتمتع في عالمنا بمكانة محترمة .وهي التي 149
كانت مثلنا العلى لما نصبو إليه من نظم تضمن لنا العدالة الجتماعية والتقد م والرفاهية. تذكرت بعض الذين بذلوا حياتهم دفاعا عن الشتراكية في بل دنا. وآخرين دفعوا ،وما زالوا )حتى هذا الحين( يدفعون سنوات من شبابهم في السجون لنفس السبب .وعدت لتذكر شقيقي ومعلمي "عابد" وهو ل يكف عن تر ديد قصائد صديقه "صلح جاهين" التي كان يحفظها عن ظهر قلب: يا "معين" يا صوت الضحايا.. إرعد بصوتك معايا.. إرعب عدوي وعدوك.. راح ننتصر في النهايه(**) .. أفقت من شرو دي على حركة فجائية لصاحبنا "فولكر"،عندما نهض بسرعة وفتح "الثلجة" التي لم تسترع انتباهي قبل ذلك لسبب ل أعرفه ،بالرغم من أن لها أجزاء معدنية بريقها يخطف البصار .ثم أخذ ،بطريقة ل تخلو من نوايا الستعراض ،يقرلب ما في جوفها من أشياء مغلفة بورق القصديرالبراق ،وأخرى بأكياس شفافة ،وغيرها محفوظة في علب معدنية ملونة أنيقه .ثم ،كمن اتخذ قرارا هاما ،أخرج زجاجة "شمبانيا" ألمانية -كما أفا د -وقا م بفتحها باستمتاع بالغ )وبمهارة لم أرها من قبل إل على شاشة السينما( .كل ذلك وهو يواصل حديثا غير مترابط ،يقارن به في النهاية بين "هنــــا".. و"هنـــــــــاك". ________________________________________ )**( الشاعر الفلسطيني "معين بسيسو" هو القائل أيضا: "فالقول ليس ما يقوله السلطان والمير /وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير.. للمهرج الصغير /فأنت إن نطقت مت /وإن سكت مت /قلها ومت".
صحيح أنني أتمتع بما يسمونه "فضيلة" القدرة على الستماع .ولكن هل يتناقض ذلك مع احتمال اختلفي معه في الرأي؟ ثم ،ألم يحن الوقت الذي أجاهر فيه برأيي فيه وبأقواله ،حتى لو أ دى ذلك إلى إغضابه؟ 150
لكنني تذكرت تعليمات رئيسي الهر "شولتس" المشد دة لي ،وهو الذي يتحمل مسئولية عملي في مكتبه بدون "تصريح العمل" ،أو"تصريح القامه" من السلطات اللمانيه ،بأن "أمشي بجوار الحائط" ،ول أعرض نفسي لما قد يستوجب مساءلتي عن أوراقي الثبوتية..إلخ ،إن مجر د "وجو دي" في البل د هو وجو د غير شرعي ،وغيرمصرح به .فما بالك لو اتضهم م ت في "ألمانيا الغربية" بمحاولة إقناع لجئ من "ألمانيا الشرقية" بالعو دة إلى موطنه الصلي ،أو بالمشاجرة مع ذلك المواطن دفاعا عن الشتراكيه. وسرعان ما طرقت ذهني أقوال أجدا دنا الحكماء عن كل م الفضة وسكوت الذهب .فالتزمت السكوت لفترة. ثم خرجت عن طوري وتناسيت أجدا دي ،وتنحنحت عدة مرات معلنا رغبتي في المشاركة في الحديث أو إبداء الرأي فيما يقوله صاحبنا. لكن "فولكر" كان ل يتورع عن قمعي بأ دب .يمهلني لكي يصب لنفسه كأسا أو ليتفقد كأسي ،أو يقد م لي"الكافياراللماني" المشهور ،والذي يأتي -حسب روايته وتواضعا منه -مباشرة بعد الكافيار الروسي ،أو يريني صورته بين أفرا د عائلته بالمعطف الوحيد الذي كان يمتلكه .ثم يفتح لي دولب ملبسه -بانفعال شديد -ويأخذ في عد البدل التي يمتلكها الن ،ثم يعيد الشارة إلى المعاطف الربعة الجديدة. معطف لكل فصل من فصول السنة الربعة ،كما يبدو! لحظ "فولكر" شرو دي مرة أخرى .كنت في هذ،ه المرة أتساءل، بيني وبين نفسي ،عن المناسبات التي تستدعي إمتلكه لكل هذ،ه الملبس ،وهوالذي ل يخرج من قبو،ه إل لمقرعمله .وهاهو يقضي يو م السبت ،وليلة الحد ،وحيدا مع زجاجاته. لكزني بيد،ه التي تحمل الكأس ونهض ،وهو يمهلني ،ليريني شيئا لم يلبث أن نسيه عندما استوقفته الصورة ذات الطار اللمع. تأمل الصورة .تناولها واحتضنها بحنان. كان أكثر صدقا عندما تحولت ثرثرته إلى الحديث عن ابنته ،وشوقه إليها.
151
لقد تركها طفلة في العاشرة ،وهي الن صبية في الثالثة عشر،ه .ولو أنها تبدو في الصورة أكبر سونا بقليل. أخذ -ولول مرة -يحدثني عن ذكريات جميله. تأسرني حكايات الوطن..أي وطن. تمنيت أن يستمر في حديثه عن الهل ،والبيت وحديقته ،وأزهار،ه وأشجار،ه وطيور،ه. )لحت لي صور بيتنا في القدس..أزهار،ه وشجيراته التي كانت تنمو في البراميل الخشبية والصص المنتشرة في "وسط الدار".. وأسراب طيور السنونو وهي تحلق بحرية في سمائه(. نهض مرة أخرى -وهو يمهلني -ليريني صورة كبيرة الحجم لكل أفرا د عائلته ،في حديقة البيت ،وهو يتوسطهم محتضنا آلة "أكور ديون" قديمه ،قال أنه ورثها عن أبيه. لكنه عا د ،وأخرجني عن طوري عندما تفو،ه بجملة تحمل معنى حرمانه من إبنته. قلت بسرعة أذهلته: وما الذي أرغمك على...؟قاطعني بسرعة أذهلتني ،وكأنما كان ينتظر سؤالي هذا ،ليفصح عما كان يرى أنه سر معاناته: بل هربت من أجل ابنتي .من أجل أن أستطيع أن أحقق لها بعضالمنيات .فأنا أرسل لها ولمها -كلما أمكنني ذلك -ألبسة.. وهدايا ..وأشياء أخرى كانت ل تجرؤ أن تحلم بها مجر د حلم. وأخذ يعد د لي مرة أخرى ما استطاع امتلكه خلل ثلث سنوات أو أقل .وهو ،والحق يقال ،كثير وفير .وعدت أتساءل بيني وبين نفسي عن موطن الخلل .أهو "فولكر" نفسه ،أ م النظا م الذي لم يستطع، حسب قوله ،خلل عشر سنوات أن يكفل لبنته دراجة ،أو "بنطلون جينز"؟! فكرت..هل يمكن لنسان ان يؤمن حقا أن بمقدور،ه أن يكون حرا وهو في الحقيقة سجينا داخل نفسه؟! 152
أسكتني مرة أخرى قبل أن أنطق .بالرغم من أنه لم يكن في نيتي العتراض أو الر د أو السؤال .كنت أريد،ه فقط أن يمل لي كأسي الفارغه ،عولي أن أنسى وصايا رئيسي في العمل. أعترف بأنني ،في لحظة ما ،قد استملحت فكرة اللجوء إلى بلد مثل ألمانيا لكي أنعم بالحرية فيها .لكنني تذكرت ،وإن لم أكن قد نسيت تماما ،أنني لكي يتسنى لي أن أفعل ذلك ،لبد من أن أنتظر حتى تتحرر بلدي من الحتلل أول .عندها سأتحول إلى مواطن عا دي يحمل"جواز سفر" عا دي ،يتيح لي الخيارات في السفر إلى المكان الذي أرا،ه .وليس "وثيقة سفر" ،تهمة إسمها "عديم الجنسية" ،تكا د بالكا د أن تكفل له القامة في هذا البلد أو ذاك بحجة الدراسة العليا فقط ،ول يجوز له ،بعد إنهاء دراسته ،أن يبقى فيها يوما واحدا! *
*
*
وأخي قال لي ذات مرة: " كم هو جميل أن يتمتع النسان بنعمة حرية الختيار. والجمل من ذلك أن يعرف طريقه إلى هذ،ه الحرية. وأجمل من هذا وذاك ..أن يعرف ماذا يفعل بتلك الحريه". *
*
*
فوبرتال ..السبت 30/6/62 قبل النتهاء من العمل ،قال لي صديقي"يوهان" أن زوجته "إيفا" سوف تكون بانتظارنا لتناول طعا م الغذاء معاا ،ثم نرى ماذا سنفعل في أمسية نهاية السبوع .ولم أكن بحاجة إلى إلحاح صديقي .قلت بسرعة: 153
-
هناك حكمة صينية تقول أن "الكريم" هو صاحب الدعوة ،وأن من ل يقبلها هو "البخيل"!
الحقيقة أنني لم أسمع بحكمة كهذ،ه ل من قريب ول من بعيد .كل ما هنالك أنني تعلمت من صديق لي أن أنسب ما أقوله -أحيانا -إلى مصا در أجنبية لتزيد،ه أهمية ومصداقية )!( أر دت التشبث باقتراح صديقي "يوهان" من أجل الخلص من الرجل القابع بانتظاري ليسوق لي مبررات جديدة لهروبه من بلد،ه ،ويبرهن لي بال دلة على فشل "ماركس" و"لينين" ،ومن بعدهم "فالتر أولبريخت" ،في تحقيق العدالة الجتماعيه في ألمانيا الشرقية. حاولت أن أقنع صديقي بتأجيل الدعوة إلى المساء ،وبعد ذلك نسهر ما طاب لنا السهر .وذلك لكي يتسنى لي أن أعمل في المكتب أطول وقت ممكن ،فأنجز قدرا أكبر من العمل ،فأر د شيئا من جميل السيد الكريم الذي رضي بأن أبدأ عملي قبيل نهاية السبوع ،علوة على تحمله مسئولية عملي في مكتبه بدون حصولي على التصاريح اللزمه. صديقي "يوهان" زو دني -باسما -بمعلومةهامة ،وهي أن كوني غيرمسجل في مكتب العمل ل يتيح لي الحق بأي ضمان صحي أواجتماعي أوأي مكافأة أو تعويض .علوة على أنني أتقاضى أجراا يساوي نصف ما يتقاضا،ه المتدرب العا دي .أي أن السيد الكريم هو المستفيد من وضعي ،ول حاجة بي للتضحية من أجله! وكانت سهرة ممتعة. عدت بعد ذلك -في وقت متأخر -إلى القبو متلصصاا ،كي ل أزعج صاحبنا. لكنه كان في النتظار. وجدته مكوما في نفس المقعد الذي تركته عليه بالمس ،كأنه لم يغا در،ه، والكأس في يد،ه ،وأمامه أكثر من زجاجة فارغة ،وصحنا تتكو م عليه أعقاب السجائر كأنه لم يتوقف عن الشرب والتدخين .إلى جانبه تبعثرت أكثر من علبة من علب السجائر الميريكية الفاخرة ،و أكثرمن رسالة مفتوحة ،وبعض الصور الفوتوجرافيه ،كأنه كان يتحدى بها 154
وحدته .وجرائد قديمة يرجع تاريخ بعضها إلى ما يزيد عن العا م، مانشيتاتها تتحدث عن إقامة سور برلين )!( ** أشفقت أن أكون قد خدشت مشاعر،ه لني تركته ينتظر .وهو الذي أعد العدة لكي يحتفل بضيفه في الليلة الثالثة..الخير،ه. با درته باعتذاراتي ،مدعيا ومؤكدا أنني لم أستمتع بسهرتي .انفرجت أسارير،ه بعض الشيء.أضفت )كاذبا( بأنني حاولت،عبثا ،العو دة مبكرا لشاركه السهرة والشراب ،والستماع إلى حديثه الممتع. قال ،وهو يصب لي كأسا ا من عصيرالتفاح ،بصوت ل يخلو من نبرة حزينة: إما أنك تسخر مني ،أو أنك رجل طيب.الحقيقة أنني لم أ دخر جهدا لخفاء خواطري الساخرة من سلوكه منذ أن قابلته .رفعت يدي بالكأس ،وحاولت أن أبدو مرحا .قلت: كأسك يا صديقي ،فلنشرب نخب الوطن!شربنا ..وسا د الصمت. الرسائل المبعثرة على المقعد إلى جوار،ه تنم عن حنينه ،وبؤسه المتراكم .ندمت أنني ذكرت الوطن في تلك اللحظة .خفت أن يتأجج بركان أحزانه. كان يتجنب اللتفات نحوي .عينا،ه كانتا تتللن بدموع محبوسة مكتومة .أجفانه المحمرة كانت تتلقى بتواتر متقارب وكأنها بذلك تعلن رفضها للستسل م ،وإطلق الدموع من أسرها. ____________________________________________________ **
يعود بناء سور برلين إلى 31أغسطس عام 1961بعد أن ازدادت موجات الهروب والتسلل بين شرقزي برلين و غربزيها.
أعرف أن الخمر قد تعمق الحساس بالحزن. اعتراني شعور بأنني القوى .كأنما قد أكسبتني سنوات التشر د واللجوء والحرمان من الوطن حصانة ضد توابع الحساس بالغربة. اللة الموسيقية ترسل بريقا يوحي ،أو يوهم ،بالفرح .توسمت فيها أن تكون المنقذ لنا مما نحن فيه .قلت: 155
ألم تعدني يا صديقي بأن تسمعني عزفك على اللة الجديدة؟مرت بخاطري أغنية ألمانية قديمه،آسرة ،كان ير د د لحنها الجميل في ذلك الوقت المغني المريكي "إلفيس بريسلي" ،يبدأها بمطلع الغنية، بكلماتها اللمانية ،ثم يواصل الغناء بكلمات إنجليزية قيل لي أن معناها ل يمت إلى الصل بأي صله .سألته أن يعزف لحنها ،ورجوته أن يسمعني الكلمات الصلية للغنية التي لم أكن أعرف منها سوى مطلعها. أحسست أني داعبت أوتار الشجن المشدو دة على صدر،ه. داعب أصابع الله. خرجت منها ألحان ل تشبه اللحن الصلي إل من بعيد. أعا د المحاولة مرة..وأخرى..وأنا أتصنع الستحسان. غمنى بصوت مشرو خ ،حبسته الوحدة مع ما توفر له من السجائر والخمور "المستور دة". فإذا بالكلمات -يا ويلي! -تتغنى بالحنين إلى الوطن البعيد. الوطن يطار دنا يا صديقي ،يتسلل إلينا. ل .إنه يعيش فينا .ل سبيل إلى الهروب منه. الوطن قدر محتو م على النسان ،مثل النتساب إلى الب وال م. الوطن يختارنا ..ول نختار،ه. لم يعد بإمكان صاحبنا التحكم بعواطفه ول السيطرة على عضلت وجهه وغد د،ه التي خانته وتمر دت على كبريائه فانهمرت الدموع تسبق كفه الذي اجتهد ليمسحها قبل أن تفضحه. بكى الرجل .استمر في البكاء. لكنه لم يتوقف عن محاولة استخراج اللحن من اللة. كأنما كان يرى في الماضي خلصا من وطأة أحزانه. وترك العنان لدموعه تجري وتنهمرعلى وجهه. كأنه كان يغتسل بها من أ دران حاضر،ه ،واللحن يعصا،ه. تذكرت الصورة الفوتوجرافية لفرا د عائلته في الحديقة ،وهو يتوسطهم محتضنا آلة الكور ديون القديمة التي ورثها عن أبيه ،الذي كان عازفا بارعا كما قال لي ،والذي كانت الطيور المهاجرة تتريث 156
فوق الشجار المحيطة بالبيت إذا ما سمعت عزفه الشجي .هذ،ه كانت كلماته. ا ا هل بكى صاحبنا لنه تذكر أنه عازفا ماهرا ..كان..ل يقل مهارة في العزف عن أبيه؟ اللة الجديدة بريقها يخطف البصار ،لكنها ل تشاركه فرحا ول حزنا. تصدر أصواتا كأنها تهزأ به .هذ،ه كانت كلماته. إبنته أيضا سخرت منه في رسالتها الخير،ه. تريد،ه هو ،ول تحتاج إلى هدايا،ه. علب الـ"تشيكليتس" ،و بنطلونات الـ"جينز" الميريكاني. أخذ ير د د كلمات إبنته وهو يمسح دموعه. وتحدث عن أشياء أخرى كثيرة .لم أعد أسمعه. كنت "ألمس" أحزانه ..في صوته. "أسمع" أنين أشواقه ..في عينيه. "أرى" حديثه وآهاته ..في صفحة وجهه. أحزان الغربة ،وأشواق العو دة ،والحديث عن الوطن. و"الحرية" التي تكبلنا خارج الوطن. * * * فوبرتال ..الحد 1/7/62 الحقيقة أن ظروفي في الليالي الثلثة الماضية لم تمكنني من مواصلة ممارسة عا دتي المنقرضة )والتي كنت أتشبث بها أثناء أسفاري بالذات( في كتابة مذكراتي ،أوعلى الصح خواطري وإنطباعاتي. وكان ل بد من النتظار حتى أنتقل إلى مسكني المحجوز إبتداء من اليو م..الحد. وهكذا اضطررت لن أسجل اليو م -بأثر رجعي -ما فاتني تسجيله عن أهم وقائع تلك اليا م الثلثة الماضيه .وأرى أن أكتفي بالصفحات التي دبجتها اليو م. * * *
157
فوبرتال ..الخميس 5/7/1962 صباحا ،فوجئت بالهر "شولتس" يدعوني إلى غرفته ،ويستقبلني بابتسامة عريضة ،وهو يمد لي جريدة “ " ،”Die Weltالعالم"، اللمانيه بيد ويشير بالخرى إلى "مانشيت" خبر كنت قد قرأته ضمن مانشتات أخرى لصحف أخرى محلية تعو دت أن أقرأها في واجهة كشك الصحافة في محطة المترو كل صباح : ) يوم الخميس 5/7/1962يوم إعلن استقلل الجزائر ( * إنه النصر الثاني لضـ"ناصر" على فرنسا..هتف الهر "شولتس" بشماتة ذكرتني بإشاراته للموقف اللماني من فرنسا ،وموقفه هو من العدوان الثلثي )بريطانيا ،فرنسا ،إسرائيل( عا م .1956 فرنســـا..؟وواصل تساؤله مؤكدا بحماس. ..ألم تتجه إلى دعم إسرائيل ر دا على دعم "ناصر" لثورةالجزائر؟من الذي قا م بإهداء المفاعل الذري ،المسمى "مفاعل ديمونه"، لسرائيل في ذلك العا م بالذات؟ وروى لي ،فيما روى ،عن"مجازرسطيف" التي ارتكبتها قوات الحتلل الفرنسي في الجزائر ،في يو م 8من مايو ،1945ومالم أسمعه من قبل عن "فرنسا الباغية" ،يو م تجمع الجزائريون مع عائلتهم في __________________________________________ )*( تحتفل الجزائر بعيد الستقلل في يوم 5يوليو رغم أن الجزائريين قد انتزعوا استقللهم يوم 3يوليو .1962ولقد وقع اختيار اليوم الخامس من يوليو لتجسيد هدف سياسي ،إذ أن فرنسا كانت قد احتلت الجزائر يوم 5يوليو 1830
مظاهرة مسالمة في العا م المنصر م على جسر "ميرابو"في باريس ،في يو م 17من أكتوبر ،1961يعلنون عن إحتجاجهم على حظرالتجول المفروض عليهم ،فأمر"بابون" ،مسئول المن في حينها ،البوليس الفرنسي بإلقاء العشرات منهم من جسر"ميرابو"** في نهرالسين.
158
ولم ينس أن يقارن بين "بابون" وبين "أيخمان" ،الذي تم إعدامه قبل شهور ،في يو م 31من مايو ،1962والذي تواطأ مع النظا م النازي لخلق حالة الفزع عند اليهو د وإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين.
وكأنما شجعتني حفاوته هذ،ه ،بأن أستأذنه في الغياب عن المكتب في ذلك اليو م ،و ذلك لسبب آخر غيرالذي تبا درإلى ذهنه ،وهو الحتفال بمناسبة الستقلل .فقد كنت أنوي السفر إلى مدينة "كولون" القريبة لزيارة صديق فلسطيني يقيم فيها ،كان قد زو دني بعنوان إحدى المكتبات القليلة ،في ألمانيا ،المتخصصة في بيع الكتب والسطوانات الموسيقية العربية .هذا بالضافة إلى نيتي في شراء جهاز تسجيل "ريكور در" من نوع "جرونديـــــج" اللماني ذائع الشهرة ،والذي طالما تمنيت أن أقتنيه .فلقد حدثني صديقي المقيم في"كولون" ،أنه يعرف مكانا يبيع أحدث الجهزة بأسعارمخفضة ،بالضافة إلى خصم "ضريبة الستهلك" للجهزة التي ينوي مشتروها من الجانب الخروج بها من الراضي اللمانيه. طلبت من صديقي "يوهان" أن يعتذر بالنيابة عني لعد م تلبية دعوة "إيفا" ..زوجته .وعرفت منه أنني سأكون في "كولون" في أقل من ساعة ،لو أنني توجهت في الحال إلى محطة القطار. في الميدان الرئيسي للمدينة ،الذي ل يبعد عن محطة القطار غير بضع عشرات من الخطوات ،كنت أتلفت حولي باحثا عن شخص أتوسم فيه الستعدا د للجابة عن سؤالي عن طريقة الوصول إلى الشارع الذي تقع فيه المكتبة. مر شاب ممتليء الجسم متجاوزا إياي من خلفي .وبالرغم من أنني لم أر وجهه ،إل أن ملبسه وسمرة قفا،ه كانا ينمان عن إنتمائه لبلد شرقي. مد دت يدي لربت على كتفه من خلفه: __________________________________________________ )**( نسبة إلى "ميرابو " ..خطيب الثورة الفرنسية الذي ارتبط اسمه بحريتها
من فضلك!التفت بشيء من التساؤل الذي سرعان ما تبد د وتحول إلى دهشة مذهولة: مين…؟!159
مين…؟! مش معقول!كانت المرة الخيرة التي افترقنا فيها ،ولم نلتق بعدها أبدا ،عندما انتقل والد،ه من القدس ،للعمل في عومان ،عا م .1945كنا في العاشرة من عمرينا. بالرغم من مرور ما يقرب من مخمس قرن من الزمان ،لم يتغير من ملمحه الشيء الكثير .وجهه المستدير ،سمرته ،شفته العليا المتدلية، عينا،ه الذكيتان ،جبينه العريض الذي كان أيضا أحد سمات ذكائه .كل ما هنالك أن حجمه قد تضخم بشكل ملحوظ ذكرني بوالد،ه الذي كان صديقا لوالدي .كما از دا د وجهه استدارة ،واخشوشن صوته ،وامتد عرض جبينه حتى يكا د أن يصل إلى قفا،ه! يظهرأن هناك الكثير من الشياء الغير معقولة في انتظارنا.قالها وهو يشدني من ذراعي في إتجا،ه لم أجد ما يستدعي أن أستوضحه .فهو يبدو واثـقا مما يفعل .كأنه قد أ درك أنني أزورهذ،ه المدينة للمرة الولى ،فانطلق يتصرف كالمضيف العارف .يقو دني عبرالشارع بدون أن يعبأ باعتراضي على مخالفة قواعد مرورالمشاة، وهو يوميء لي بأن آخذ المور ببساطة. قال وهو يمسح بكفه رغوة البيرة التي كللت شفته العليا التي تضخمت هي الخرى واز دا د تدوليها ،بالرغم من أنه لجأ إلى ترميم العيب بأن مل المساحة بينها وبين منخريه بشوارب عريضة: ل تقلق .مشاويرك كلها ل تحتاج لكثر من ساعة ،فاترك بقيةاليو م لي أنا .أما عن صديقك المقيم هنا في "كولون" فيمكنك زيارته في يو م آخر ما دمت لم تتفق معه على موعد محد د .وما دمت تتدرب في مدينة "فوبرتال" القريبة .فهناك أشياء كثيرة أرى أن نتحدث عنها ،خصوصا بعدما عرفت منك أن هناك في "فيينا" هذا العد د من الطلب الفلسطينيين ،وأنه قد تم انتخابك رئيسا لفرع إتحا د الطلبة هناك. 160
قلت لك أنه مجر د تجمع طلبي فلسطيني في إطار رابطةالطلبة العرب .القانون ل يسمح بإقامة فرع لتحا دنا في النمسا. مش مهم..عندي ما هو أهم.وأكمل وهو يرتفق مائدة المقهى ،وينقرعليها محد دا بسبابته: نذهب إلى المكتبة أول ،وهي ل تبعد كثيرا عن الميدان. نشتري "الممسرجل" ،فأنا أعرف ذلك المكان الذي يعنيه صديقك. نتصل بصديقك إن شئت وندعو،ه لينضم إلينا. نذهب إلى مسكني ،بعد أن نمرعلى البقال المجاور لنا ونتزو د بما يلزمنا للطعا م ..والشراب ..لنحتفل بإعلن الستقلل. لم أجد أمامي خيارا آخرغيرالمتثال لرفيق الطفولة الذي ظهر لي فجأة ،ويبدو أنه سوف يختفي أيضا بدون مقدمات. إنه يتكلم بسرعة ،ولكن بتركيز واختصار واضحين .واثق مما يقول، كأنما يعرف مسبقا نتيجة وقع حديثه. حديثه ذكرني بسائق التاكسي اللبناني الذي أبى ،في العا م المنصر م ،أن يتقاضى أجر،ه مني يو م أن انطلق بي من بيروت إلى الجبل ،للبحث عن أقارب لي. قال لي ذلك السائق ،أيضا ،أننا ل بد أن نتفق ،كفلسطينيين أول ،وأن نأخذ زما م أمرنا بأيدينا ،وأن ل ننسى أن أميريكا هي عدونا المختفي وراء "إسرائيل " والمتواطيء معها .وتحدث ،كذلك ،عن "تنظيمات سرية" ذات "أجنحة عسكرية" ،وعن "العمل الفدائي" ،والضرب في العمق ،والكفاح المسلح طويل المد ،والمسيرة الطويلة و"ما يحرث الرض إل عجولها"..واختفى! عرفت من رفيق الطفولة أنه قد شارك بالقتال في الجزائر ،بعد أن نال قسطا من التدريب العسكري اللز م مع مجموعات أخرى من الفلسطينيين. رأيت بريقا يتلل في عينيه وهو يقول أن نجاح ثورة الجزائر هو بمثابة بلسم للجرح العميق الذي سببه انكسار حلم الوحدة العربية
161
مصر )**(
في سبتمبرعا م ،61وأننا يجب أن ل
بانفصال سوريا عن نتوقف عن الحل م. قال أنه قد آن لنا أن نتدارك كل أخطاءنا ونلملم شتاتنا ونتبنى فكرة "التنظيم" ،استعدا دا لخوض حرب شعبية طويلة المد .وأكد ،فيما أكد،ه ،أنه ل يحبذ العو دة إلى الرأي القائل بتوريط الدول العربية بحرب نظامية مع إسرائيل مرة أخرى .و ،كمن يقلب الصفحة ويبدأ في تلوة صفحة جديدة ،قال باستمتاع وتحد شديدين: ..اليو م نحتفل باستقلل الجزائر ،وغدا بتحرير فلسطين!وإذا كان الحتلل الفرنسي للجزائر قد امتد لـ 130عاما ،فإن غدا لناظر،ه قريب! كان يتحدث وأصابعه تعبث بأزرار الريكو در الـ"جرونديج" الجديد، الذي ما زال حتى الن من ضمن مقتنياتي مع الكثير من الشرطة المسجلة التي تزخر بالذكريات. ولقد نجحت إحدى محاولتي المتكررة في تحديد الشريط الذي تم تسجيل صوت "محمد الوكيل"عليه ،مع صوتي وأنا أر د د من بعد،ه: أقسم بال العظيم.. أقسم بشرفي ومعتقداتي.. أقسم أن أكون مخلصا لفلسطين.. وأن أعمل على تحريرها باذل كل ما أستطيع.. وأقسم أن ل أبوح بسرية حركة فتح ..وما أعرف من أمورها.. وهذا قسم حق ..وا شاهد.
*
*
*
____________________________________________________________ )** ( أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في ..25/2/1958ولم تستمرأكثر من 44شهرا
لم يكن "القأـ أأسـم" المشار إليه التزاما بالتمسك بمشروعي الوطني فقط ، بل الحرص أيضا على العمل من أجله في صمت وسرية .ولذلك حرصت على أن أكتم نواياي حتى عن أقرب الناس إليي. إل أني لم تجد غضاضة في أن أشرك أخي "عابد" فيما انتهيت إليه ،فهو مرشدي و دليلي في كل خطواتي. 162
وكان ل بد لي من أن أخلو إلى نفسي لكي أزن المور ..على ضوء ماسمعته من رفيق الطفولة. كما كان ل بد من أن يشاركني ذلك رفاقي الذين تركتهم في "فيينا" دون أن يشفى غليلهم بر دو د على تساؤلتهم التي كانت تساؤلتي أنا أيضا. كنت ،وكأنما كنت أهرب منهم ومن نفسي إلى شفافية "يوهان" ونقاء،ه، ورقة "إيفا" وابتسامتها البهية وأطباقها الشهية ،أو مشاكل "فولكر" وعقد،ه وتبريراته ،ونظريات "شولتس" وظنونه وحساباته.
*
*
أقول : للمنفى مساويء كثيرة ل تحصى..وفضيلة واحدة ل تنسى.. إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى الوطن..ويؤكد صلتنا بأصولنا .
163
*
قصاصة من أحد الجرائد
نواة "إتحاد الطلبة الفلسطينيين" ..
164
لم أجد في أوراقي القديمة ما يوضح بشكل مباشر أثر ما قاله رفيق الطفولة " ..م .الوكيل". لكن أوراقا أخرى بـينت أني لم أمكث في ألمانيا سوى أيا م .عدت بعدها إلى "فيينا" لواصل تدريبي هناك ،قريبا من رفاقي الذين انتخبوني رئيسا لهم. من بين تلك الوراق وأوضحها كانت شها دة الخدمة التي قضيتها بعد ذلك ،في "فيينا" ،في مكتب المهندس المعماري "هوبـينبيرجر" ، Hoppenbergerمن 10/7/1962إلى . 13/10/63
*
*
* كانت الغلبية من الطلبة الفلسطينيين في "فيينا" تسكن "الحي الثاني"، فهو من الحياء الشعبية القريبة إلى مركز تجمع الكليات الجامعية ،إلى جانب تواضع اليجارات السكنية فيه. كنت أكبرهم سنا بحكم انقطاعي عن الدراسة لسنوات العمل في السعو دية .وكنت أكثرهم إطلعا بحكم ميلي للقراءة وإتقاني النسبي عنهم للغة اللمانية بفضل أسبقيتي في الوجو د في "فيينا" .وذلك مما أ دى، وكان أيضا نتيجة ،لشتراكي بنا د ثقافي تابع لدار النشرالمعروفة في فيينا "أرض الدانوب" Donaulandالتي كانت تقو م بمنح مشتركيها خصومات هائلة على أسعار كتبها مقابل اللتزا م بشراء الحد ال دنى شهريا من كتب الدار. _______________________________________________________ )**(
في الخمسينات ،في بداية الهجرة ،درج آباؤنا وأمهاتنا ،من قبيل الترحيب والتمنيات الطيبة في مناسبات العياد والزيارة ،بعد تناول فنجان القهوة ،على ترديد كلمات مثل: "بالعود ه" و"في البلد إن شاا" وما شابه ذلك .ثم انقرضت تلك العادة أو كادت .كأنما دب اليأس في النفوس .ثم لم يلبث ذلك الحلم أن عاد ..وعادت معه تلك المنيات تتردد على اللسنة مع إرهاصات الثورة.
هذا ،ول أنسى فضل شقيقتي الكبرى "محتسن" التي حرصت على استمرار وصول بعض الصحف لي ،ومواصلة تجديد اشتراكي السنوي 165
بمجلتي "روزاليوسف" و"صباح الخير" طوال فترة دراستي .وذلك ما كان بمثابة "الحبل السسري" الذي يربطني بالوطن ال م..الوطن العربي. أحد هؤلء الطلبة" ،نبيل" ،كان هو ال خ الصغر لصديقي"حسن قليلت" ،زميل سنوات الدراسة الثانوية في "غز،ه" .كان احترامه لي، بحكم علقتي الوطيدة بأخيه الكبر ،كأنما فرض على بقية زملئه أسلوبهم بالتعامل معي .وكأنما منحني ذلك شعورا بالبوة ال دبية و الفكرية. كنا نتوافد تلقائيا على مقهى "هايضنه" المسمى حسب موقعه في شارع "هايضنه شترارسه" ،Heine Strasseالمسمى بدور،ه باسم شاعر اللمانية الغنائي الرومانسي الشهيرالذي يقال أنه تخولى عن يهو ديته وتن و صر"..هاينريش هاينه" .ثم تعو دنا أن يلتئم شملنا في ذلك المقهى في مساء يو م السبت من كل أسبوع .هذا إلى جانب لقاءاتنا في مقر رابطة الطلبة العرب. ل أذكر بالتحديد متى وكيف انتظمنا وواظبنا على لقاءات من هذا النوع ،يقرأ فيها أحدنا ،على التوالي ،تلخيصا لكتاب أو بحث قرأ،ه عن قضية فلسطين ،أو ما يؤثر فيها من قريب أو من بعيد .إنما الذي أتذكر،ه أننا كثيرا ما كنا نشعر بالحرج من نقص في المعلومات التي تدعم حججنا أثناء حواراتنا مع الطلبة أو غيرالطلبة من المواطنين و الجانب في "فيينا" .كنا نشعر أننا مسئولون عن حمل ذلك العبء الذي لم توله أجهزة العل م العربية عنايتها اللئقة .ولذلك يتحتم علينا تعميق معرفتنا بقضيتنا ،وتطوير أ دواتنا لمواجهة رأي عا م ،أوروبي ،يحكمه إعل م صهيوني يهو دي إسرائيلي قوي بحيث أمسى ل يعرف عن فلسطين والفلسطينيين و"مشكلة الشرق الوسط" إل ما درج على سماعه عن نتائج مذابح النازية ضد اليهو د من خلل كل أنواع الوسائط العلمية.. صحافة..وإذاعة..وتلفزيون ..ومسرح..وسينما.
166
لم يكن أسينا معدوا للنخراط في نقا ش جا د وعلمي حول قضايانا العربية، كنا فقط محملين بشعارات ومقولت جاهزة كالتي كان يقولها إعلمنا ليل نهار ،ولكنها ل تصمد في مواجهة السئلة الصعبة. وعندما كانت النقاشات تدور بين الطلبة في الوسط الجامعي ،كنا نفاجأ بأسئلة لسنا على استعدا د للجابة عليها. كنا نفتقر إلى إتقان إ دارة المناقشات البناءة ،بحيث نستطيع مخاطبة الخر وأن نؤثر فيه بدون أن يشعر أننا ننتقص من مقدار ثقافته أو معلوماته أو رجاحة عقله ..فينصرف عنا. كنا بحاجة إلى شيء من التنسيق والتوحيد في مضمون الجابات على السئلة التي كان كل منا يجد نفسه مضطرا لمواجهتها صباح مساء، فل يضطر كل منا على حدة أن يرتجل إجاباته بما يمليه عليه "إحساسه" الوطني والقومي فقط . ل يكا د أحدنا أن ينجح في طرح المسألة بشكل عقلني ،حتى نفاجأ بأحدنا يرميه بالجهل إن لم يكن بالخيانة ،أو يبا در إلى المنا داة جهارا بما يعني ويؤكد إ دعاءات الصهاينة المفبركة** عن نوايا العرب برمي اليهو د في البحر. توحيد "الخطاب السياسي الفلسطيني"..هو ما كنا نفتقد،ه ونشعر بحاجتنا الماسة إليه.
*
*
*
أثناء النقا ش حول ما جاء ،في ذلك الوقت ،في إحدى المحاضرات التي ألقاها أحد نشطاء الطلبة العرب في نا دي "المؤسسة الفريقية السيوية" بفيينا ،عولق أحد الحاضرين من الجانب سائل: ..ونحن نكا د نؤمن ،بفضل الحقائق التي أتيح لنا معرفتها منكملول مرة ،بحقكم التاريخي بفلسطين ،ولكن ماذا عن اليهو د الذين يعيشون فيها الن ،وماذا عن البرياء الذين قدر لهم أن يولدوا فيها بعدعا م ..1948هل سوف ترمونهم في البحر كما نسمعهم يقولون؟! * ______________________________________ )*( بعد هزيمة 67أمر عبد الناصر بتشكيل لجنة للبحث عن مصدر عبارة "إلقاء اليهو د في البحر" .وثبت أنه قد تم فبركتها من قبل وسائل دعايتهم وقتها لكتساب عطف العالم .
167
كأنما أسقط في يد الزميل المحاضر .وقبل أن تطول مدة تر د د،ه طلب الكلمة أحد الحاضرين الجانب ،مشيرا إلى أحد أعضاء البعثة التعليمية المصرية للدراسات العليا ،وكان برفقة زوجته الشابة التي تبدو عليها علمات الحمل في الشهور الخيرة ،وتحدث بتلقائية وبساطة عن احتمال استقبالها لوليدها في "فيينا" ،وعن حق المولو د في القامة في البل د بل وحقه في نيل جنسيتها ،والتمتع بكل حقوق المواطنة فيها، طالما حافظ على أ داء واجباته تجا،ه هذ،ه البل د ومواطنيها الصليين. لم أتعو د أن أنغمس في أحا ديث السياسة ،وبالذات وسط عد د كبير من الحاضرين .ولكني تذكرت طرحا كان أخي "عابد" قد أعا د التلميح إليه في إحدى رسائله الخيرة،وكان قد لقى في نفسي هوى ،و قا م بسد ثغرة كانت كأنما تفغر شدقيها متسائلة في كثير من المناسبات ،مسببة الحرج. هذا مع العلم بأني مازلت ،حتى تلك اللحظة ،أتحرج من المجاهرة بمثل هذا الطرح "الرومانسي" في نظري ..والمفرط في تفريطه في نظر الخرين. وهكذا ألفيت نفسي أتحدث عن حتمية العمل على إيقاف الهجرة اليهو دية إلى فلسطين أول ،وعن قناعتي بجدوى أن تفتح الدول العربية أبوابها لعو دة من يشاء من اليهو د العرب الذين غا دروها تحت ضغوط متباينة، لتعو د الميا،ه إلى مجاريها ،ويعو د اللجئون الفلسطينيون إلى ديارهم، وتقو م عندها في فلسطين دولة يعيش فيها يهو دها مع مسيحييها و مسلميها في ظل " دولة فلسطين" ذات النظا م الديمقراطي العلماني الذي يكفل المساواة للجميع في كافة الحقوق والواجبات*. صفق البعض )وهم من الجانب وبعض الطلبة العرب( لهذا الطرح. وقا م البعض الخر )وهم من الطلبة العرب( بالسخرية مني .بل إن بعضهم قد تفوو،ه بكلمات تنذرني بالويل والثبور وعظائم المور ،وذهب _____________________________________________________
)* ( استطاعت"فتح" بتأييد من بعض الفصائل الفلسطينية الخرى وضع شعارالدولةالفلسطينية الديمقرا طية العلمانية ضمن برنامج المجلس الوطني الفلسطيني الثامن لسنة 1971
168
إلى إتهامي بما يشبه الخيانة العظمى .وكدت يومها أن أتعرض لعتداء بعض المتزمتين منهم ،والذين كانوا يتربصون لي في الخارج ،بعد انتهاء المحاضرة ،لول البعض الخر الذي قا م بمرافقتي إلى أن زال الخطر. * * * ذكرني بهذ،ه الواقعة صديقي "نبيل قليلت" ،زميل الدراسة في "فيينا"، أحد أفرا د مجموعة مقهى"هاينه" ،عندما تقابلنا في برلين عا م ،1975 حيث كان يشغل منصب "السفير" لمنظمة التحريرالفلسطينية. ثم ذكرني بها مرة أخرى عندما تقابلنا مؤخرا ،لدى"زيارتي المؤقتة" إلى "غز،ه" عا م ،1995عندما كان يوميء إلى الوضع المتر دي الذي وصلنا إليه بقبول "أوسلو" على علتها. *
*
169
*
بدون تعليق !
"فتــــــــــــــــــــــــــــح"..
170
يهاتفني صباح ذات يو م سبت شخص فلسطيني لم يسبق لي معرفته، يتكلم اللهجة الغوزاوية ،ويطلب مقابلتي لمرها م .ولم أجد حرجا من التفاق معه على اللقاء في ذلك المقهى"،مقهى هاينه" ،قبل ساعة من موعد توافد مجموعتنا. لكن ال خ "يحيى" لم يحضر إل بعد التئا م الجمع .ل أعتقد أنه كان يقصد ذلك .ربما كانت هي عا داتنا في التهاون في تقديرالوقت والمواعيد. تم تعارف الجميع ،واتضح أنه يدرس في مدينة "جراتس" ،جنوب "فيينا" .وأنه جاء خصيصا لمقابلتي ،وسيعو د أ دراجه في نفس اليو م. كان يمسك بيد،ه مغلفا يبدو أنه يحتوي على كمية من الوراق ،مما جعلني أستبعد أن تكون الرسالة "شخصية" .ولم يترك لي فرصة للتخمين إذ قال بدون أي حرج من أن يعرف الخرون شيئا عن "المرالها م": أنا آت إليك في مهمة خطير،ه .فهناك "تنظيم سري".. .. ..وبالرغم من أنني كنت حديث العهد بمثل هذ،ه المصطلحات وما وراءها من المهمات ،إل أنني رأيت أن أغير مجرى الحديث ريثما ننفر د للخوض في تفاصيل هذا الموضوع السري الخطير. في تلك اللحظة تذكرت الرسالة الممهورة بختم "الهيئة العربية العليا"، التي حملت لي التهاني بمناسبة انتخابي رئيسا لمكتب فلسطين ،كما أبدت استعدا د "الهيئة" لتقديم ما احتاجه من المساعدات .لكنني سرعان ما استبعدت وجو د أي علقة بين "التنظيم السري" و"الهيئة" التي لم تنقطع عن إمدا دي بالمطبوعات العلمية المفيدة. على أنه من أهم ما كان يصلني في ذلك الوقت ،بدون تحديد المصدر، هي مجلة "فلسطيننا" ،التي عرفت بعد ذلك أن حركة "فتح" السرية كانت تقف وراءها. 171
على أي حال ،فقد كان المغلف يحتوي على مجموعة من بيانات "فتح" الولى. كان من بين الجالسين شخصان ما زال ،مثلي ،حويان يرزقان حتى كتابة هذ،ه السطور. "نبيل قليلت" ،الذي أصبح فيما بعد مديرا لمكتب منظمة التحرير في برلين الشرقية ،بمرتبة سفير. و"عوني قرمان" ،الذي أصبح بدور،ه مديرا لمكتب المنظمة في"فيينا" ذاتها. أما "يحيى عاشور" ،فقد التقيته بعد ذلك بحوالي إثني عشرعاما في بيروت ،ولم يكن سوى "حمدان" أمين سرالمجلس الثوري لحركة "فتح". *
*
*
التسوية السلمية ..ونهــج التفريــــــط!
172
مازال أحد العناوين التي كانت تتصدرإحدى أوراق المغلف الذي تركه لي "حمدان" يتراوح أما م ذاكرتي: " شرم الشيخ..سؤال قد يتحول إلى إتهام!" كأنما كانت المعلومة التي حملها البيان تؤكد أن انسحاب القوات السرائيلية من قطاع غزة وسيناء ،عا م ،57إثرالعدوان الثلثي على مصر ،لم يكن إنسحابا كامل. أو أنها كانت تنفي عو دة السيا دة المصرية الكاملة على "شر م الشيخ". وبالتالي على"خليج العقبة" ،حيث كانت مهمة قوات الطواريء الدولية ضمان حرية "إسرائيل" للملحة في الخليج ،كما في قناة السويس. ما معنى هذا؟ هل كانت"فتح" ،حقوا ،هي أول من رفع صوته ضد "نهج التفريط"، مقابل "التسوية السلمية" ؟! لم يعد سورا أن هناك ،من الطلبة الفلسطينين ،من ترك الدراسة آنذاك والتحق بمعسكرات التدريب مقاتل .ومنا من ظل على علقة بالتنظيمات المختلفة ،بعد أن تكاثرت ،خلل فترة الدراسة. وكان ل بد لي من أن أتخذ قراري بالبدء بدراسة "السينما"،
كما ذكرت ،إيمانا بقوتها وجدواها كسلح ،ويقينا مني بأني سوف أجيد استعمال هذا السلح ،دون غير،ه .هذا إلى جانب يقيني بأن أحدا من إخواني الفلسطينيين ،في ذلك الحين ،لم يفكر في التفرغ لهذ،ه الدراسة. *
173
*
*
"أي ثورة لها ثلثة أعمدة ل غنى أبدا عن أحدها: الكفاح المسلح ..والسياسي ..والعلمي". جنرال جياب قائد النصر الفييتنامي على الفرنسيين في معركة " ديان بيان فو" عا م 1954
*
*
"ضيف ا"..
174
*
هو الصديق والزميل السباني لصديقي "ع .مصطفى" ،المبعوث لستكمال دراساته المتخصصة للعزف على آلة "البيانو" في الكا ديمية** ،الذي كان ل يكف عن التعبيرعن فخر،ه واعتزاز،ه بآثار الدماء العربية التي تجري في عروقه .كان هذا مما جعلنا ،مصطفى وأنا ،نطلق عليه إسم "ضيف ا" تيمنا بإبن جلدته الموسيقار الذائع الصيت ، De Falla Manuelالسم الذي ينطقه ال سبان " دي فايا" والذي يصر "العارفون" على إعا دة تحريفه إلى أصوله العربية )!( )ومن ل يتذكر أن "شيكسبير" قد تحول ،في يو م من اليا م ،بقدرة قا در ،على أيدي هؤلء العارفين ،إلى "شيخ زبير" .وأن إسم "ماركوس" هو تحريف عن "امرؤ القيس"؟!( كان "ضيف ا" ،إلى جانب روحه المرحة وقدرته على السخرية اللذعة ،متعد د المواهب .كان عازفا بارعا متميزا متمكنا من آلته الموسيقية ،البيانو ،ول يقل عن ذلك براعة كلعب كرة قد م تجلت قدراته في فريق الكا ديمية .وهو ،فوق هذا وذاك ،يقطر موهبة ككاتب قصصي وروائي له باعه الطويل في هذا الميدان. قرأت ،فيما قرأت له ،مترجما إلى اللغة اللمانية ،مخطوط روايتة القصيرة" ،العبيط" ، Idiotالتي كتبها متأثرا بـرواية" ديستويفسكي" بنفس العنوان ،والتي ظلت محور أحا ديثنا لفترات طويلة .كنا نتسلى دائما بتحويل أجزاء منها تزخر بالمواقف"الكوميدية الجا دة" ،كما كان يحلو له أن يصفها ،إلى مشاهد سينمائية يقو م بتقمص شخصياتها فإذا بي أكتشف قدراته وبراعته كممثل كوميدي ساخر من نوع "نجيب الريحاني". ________________________________________________________ )**( ومن زملئه في ذلك الوقت الصديقين "يوسف السيسي" و"كمال هلل" اللذان كانا يدرسان قيادة الوركسترا والتأليف الموسيقي .
لأعرف سببا معينا لحضور،ه الملح على هذ،ه الصفحة وفي هذ،ه اللحظة هل هو شعور،ه العار م بالسى ،بعد 5يونيه ،وإحساسه العميق بالهزيمة..مثلنا؟
175
أ م هو شعورنا ،الذي استطاع بسخرياته أن يوصلنا إليه ،بأننا قد خدعنا،ه وخذلنا،ه؟ )إذ يبدو أننا كونا ،في اليا م العربية "المجيدة" التي سبقت "5يونيه" والتي جرى فيها حشد الجيو ش واستعراض القوة ،أيا م كانت إنتصاراتنا تتوالى على الهواء ،قد أخذتنا نشوة وهم النتصار ،مما زوين لنا أن نتخلى بعض الشيء عن تحفظنا و" دبلوماسيتنا" في أحا ديثنا عن الصراع العربي السرائيلي(. هل هي سخريته اللذعة ،وتقمصه المتقن لشخصية السفيرالمصري "ح .ت" منذ أن أصر ،وهو يفوقنا حماسا وضغيرة ،على مرافقتنا آن ذهبنا نحن الطلبة العرب لمقابلة السفير ومطالبته بترحيلنا إلى أرض المعركة؟ دأب "ضيف ا" ،بعد ذلك ،على إنهاء كل مناقشة ل يتفق مع محتواها بتر ديد ما قاله السفير لنا: " روخو ..زاكرو ..أخسن!"أ م هو فهمه لقضيتنا ،وقضايا العصر ،وقدرته على تحليل وتفسير هزائم العرب ،منذ قرطبة الندلس ،وغرناطتها؟ *
*
*
قال لي صديقي السباني ذات مرة ..بمرارة: ..البرنامج الرسمي للحزب النازي كان هو "طر د كل اليهو د منألمانيا" .وهم الن يتبا دلون ال دوار مع مضطهديهم اللمان، ويعملون على طر د العرب من بلدهم الصلي فلسطين .فهل يعني ذلك سوى عو دة وانبعاث عنصرية النازية في "إسرائيل" الصهيونية ..صنيعة الغرب؟! ثم أضاف "ضيف ا" مستدركا: قد يكون طر د العرب من إسبانيا ،وأقول قد يكون ،مقبول با دعاءأنهم "محتلون" .فماذا عن إضطها د اليهو د وطر دهم من إنجلتراعلى يد الملك النجليزي "إ دوار د الول" عا م ،1290و 176
البا دة التي واجهوها على يد "محاكم التفتيش" عا م 1492في أسبانيا؟! أل يؤكد هذا مقولة أن الثقافة الغربية هي التي انتجت أكثر الظواهر بشاعة في التاريخ" ..اللسامية" ،و"النازية" ،و"الهولوكوست"، و"الصهيونية" ،و"العنصرية" ،و"البارتهيد"؟! ** جاءني "ضيف ا" في أحد اليا م التي أعقبت الهزيمة بقصاصة من اللمانية جاء فيها ما أسما،ه مجلة " دير شبيجل"،Der Spiegel ، "ضيف ا" تفسيرا لسر نكباتنا ،على لسان " دافيد بن جوريون" في خطابه الذي ألقا،ه على مسامع قا دة الهاجانا،ه ،في العيد الول لعلن دولتهم ،والذي رأيت أن أحتفظ به. وفيما يلي ترجمة كلمات "بن جوريون" حرفيا: "إن ما تحقق لنا من نصرعظيم كان أكثر مما تصورنا ه وتوقعنا ه. ولكن إذا كنتم تتصورون وتعتقدون أن هذا النصر هو بفضل عبقريتكم وذكائكم و قوتكم فإنكم على خطأ كبير .إنني أحذركم من خداع أنفسكم ،فلقد تم لنا ذلك لن أعداءنا يعيشون في حالة مزرية من التفسخ ..والضعف ..والفساد". و لعل سبب حضور صديقنا "ضيف ا" هو مشاركته لي بإهتماماته السينمائية التي تجولت عندما أصرعلى قراءة سيناريو فيلم "حكاية" آن لجأت إليه ليسجل لي مقطعا موسيقيا أحتاج إليه على آلة البيانو. ________________________________________________________ )**( "الموسوعة العالمية اليهو دية" تتحدث عن العرب وتصفهم بأنهم أحسن من عامل اليهو د بين المم وأنقذوهم من محاكم التفتيش في أسبانيا حيث كان يجري حرق اليهو د الهراطقة )الذين اعتنقوا المسيحية في العلن وكانوا يمارسون اليهو دية في السر( وتقول أن اليهو د هم الذي أطلقوا على عمر بن الخطاب لقب "الفاروق" ،الذي يفرق بين الحق والباطل ،وهو الذي سمح لليهو د بالمجيء إلى فلسطين بعد أن طر دهم الرومان منها و دمروا الهيكل. وكذلك صلح الدين اليوبي سمح لهم بالمجيء إلى فلسطين بعد أن ذبحهم الصليبيون في أوروبا ..وكانوا دائما من علية القو م في العواصم العربية حتى عا م 1948
177
جين فوندا
محمد لطفي
178
وبعد ذلك مرافقته لي في معظم مراحل عمل الفيلم ،ومن ثم إعجابه البالغ به ،مما جعله يقو م بدعوة أحد أقرباء،ه الثرياء ،وهو منتج سينمائي إسباني معروف ،تصا دف وجو د،ه في "فيينا" في ذلك الوقت، لحضورأحد عروض الفيلم المذكور وإقناعه بإنتاج روايته "العبيط" فيلما سينمائيا أقو م أنا بإخراجه؟ كان ذلك قبيل مغا درتي لـ "فيينا" بأيا م قلئل ،بحيث لم يكن هناك مجال للستجابة إلى إلحاحهما ،أو حتى مجر د مناقشتهما. أ م هي رسائله العديدة اللحوحة التي طار دني بها في القاهرة، ووصفني في آخرها بأنني أنا"..العبيط"؟ لكن "ضيف ا" فاجأني ،بعد انقطاع ،برسالة يعتذر فيها عن ما جاء في رسائله السابقة .ولم يلبث أن أخذ يعبرعن تقدير،ه لحجامي عن بدء حياتي العملية بعمل يبتعد عن قضيتي ،التي كانت سببا في دراستي للسينما ،ويمطرني بعبارات التشجيع والعجاب بفكرة ارتجلتها مرة لكي أتخلص من إلحاحه لمعرفة مشاريعي المقبلة. كانت الفكرة تتلخص في تصويرمعاناة الغربة ،والمنفى ،والتشر د، والشواق إلى أحضان الوطن. كتب لي يقول: من،غيرك ،يمكنه ذلك؟ ولم تغا درني الفكرة .بل أخذت تكبر وتتطور وتتشعب وتتبلور. أما عن مشروعي الروائي الثاني "حكاية عمر" فقد كان "ضيف ا" هو من قا م بالحصول على موافقة الممثلة "جين فوندا" المبدئية للقيا م ببطولة الفيلم أما الممثل "محمد لطفي" أحد أبطال فيلم "الظلل في الجانب الخر" ،الذي قامدور الطالب الفلسطيني خير قيا م. *
*
179
*
في المكتب الهندسي في "فيينا"
السيـــــــــنما..
180
كان ل بد لي من العو دة إلى "فيينا" لستكمال تدريبي هناك في أحد المكاتب الهندسيه .وصا دف لدى عو دتي أن قرأت عن مسابقة للقبول في قسم الدراسات العليا للسينما في أكا ديمية الموسيقى والفنون التعبيريه. في موعد التقد م للمسابقة ،وجدتني ،منساقا بقوة خفية ،أستأذن رئيسي في العمل ،الذي كان يكن لي كثيرا من المو دة ،للخروج لقضاء أمر ها م. وبعد بضعة أيا م ،حمل إسمي رقم 138في قائمة المختارين للتقد م لمتحان القبول للدراسة العليا في أكا ديمية الموسيقى والفنون التعبيرية- فرع السينما والتلفزيون. ولدى انتهاء فترة التدريب ،واقتراب موعد إبتداء السنة الدارسية، و دعني رئيس الشركه ،المهندس ذائع الصيت ،طيب الذكر ،متعد د اللقاب" ،هانس هوبينبيرجر" HansHoppenberger Pro..Dr.Dr.Hc بتمنياته لي بمستقبل مشرق .ولم يتر د د في عرض خدماته و دعوتي للعمل لديه ،في شركته الهندسية ،بعد تخرجي في نهاية ذلك العا م .ثم أخذ ،بعد أن أثنى على مشروعي "المركزالثقافي الفلسطيني" المذكور، والذي كنت أقو م بإعدا د،ه للتخرج ،يحدثني بإسهاب عن "المنشآت" التابعة لمشروع السد ،التي تعاقدت شركته بشأنها مع شركة "سيمنز" Siemensاللمانية لتنفيذها في سوريا .وقال أنه كان "يودخرني" للسفر والمشاركة مع البعثة النمساوية اللمانية )!(** ولشدما كانت دهشة رئيس الشركة حينما عرف أني سأواصل الدراسة في مكان آخر .إل أنني ،تخفيفا لتلك الدهشة واتقاء لنظراته التي كانت تتهمني بالجنون ،ا دعيت أنني سوف أتخصص في هندسة ديكور ___________________________________________________ **
ولم يفبوت أخي "عابد" الفرصة ،كعادته ،لتعليقاته الساخرة ..ومنها: .. -وا و صرنا يا خويا ياغالب من ضمن "الخبرا الجانب"!
السينما .وهذا مما جعله يزو دني برسالة إلى صديقه وزميل دراسته المهندس البروفيسور "فيأبر" ،Weberرئيس ذلك القسم ،ونائب عميد معهد السينما في الكا ديميه.
181
كما وأنه أخذ يلح ويؤكد لي أن ل أتر د د في العو دة إلى مكتبه في أي وقت لكي أعمل لديه بنظا م الـ ، Part timeإذا اقتضتني الحاجة الما دية إلى ذلك. والحقيقة أنني في غمرة مروري من خلل لجان التصفيات المتعد دة، نظرا لضخامة عد د المتقدمين لها ،والتي كان يرأسها البروفيسور "فيأبر" نفسه ،وشعوري باهتمامه بي وتشجيعه لي ،لمجر د معرفته بخلفيتي الدراسيه ،فقد نسيت أمرالرسالة ،فلم أسلمها له إل بعد صدور النتيجة ،مما زا د من احترامه لي ،كما أخبرني بعد ذلك. حاول جاهدا ،بشخصيته المريحة وأسلوبه المرح ،أن يشدني إلى قسم "الديكورالسينمائي" الذي يدير،ه ،لكنني كنت قد عقدت العز م على التخصص في "الخراج". * * * أتذكر سؤال وجهه لي أحد الساتذة في إحدى اللجان الولى .كان ذلك هوالسؤال التقليدي الذي يدورحول السبب الذي جعلني أقرر دراسة السينما والتخصص في الخراج السينمائي بالذات .قلت باختصار وبدون إمعان في التفكير ،وبالحرف الواحد: أنا فلسطيني،لجيء ،صاحب قضية ،تطلقون على أمثاليوصف " Staatenlosبل وطن" ،أو"غيرمعين الجنسية" .ذلك نتيجة لحتلل بل دي فلسطين من قبل اليهو د الصهاينة الذين جاءوا إليها من أنحاء مختلفة من العالم .ول أجد ما يلء م قدراتي للدفاع عن قضيتي أو النضال من أجل استر دا د حقي والعو دة إلى داري ،التي ولدت فيها ،في بلدي "القدس"، أفضل من هذ،ه "اللغه" كسلح. هذ،ه هي قناعتي ،أما عن مدى استعدا دي أو صلحيتي لذلك، فهذا ما سوف تقررونه أنتم. واستدرجتني ملمح أحد الساتذة الممتحنين ،البروفسور"فينجه" ، Hans Wingeإلى استكمال توضيح وجهة نظري:
182
-
استطاعوا أن يقنعوا العالم بأن فلسطين هي"أرض بل شعب".. إلخ ،وعلينا ،نحن الشعب الفلسطيني ،أن نؤكد للعالم ،بشتى الوسائل ،أننا كنا وما زلنا موجو دين .ذلك قبل أن تنجح مساعيهم ،بشتى وسائلهم ،لتنفيذ خططهم لطر د البقية الباقية منا من بيوتنا و أراضينا في فلسطين..أو إفناءنا.
أضاف البروفيسور "فينجه" سائل: هل أفهم من ذلك أن اهتمامك منصب على عمل الفل م الوثائقيةوالعلمية؟ قلت: الذي أعرفه بكل تأكيد أن لنا "روايتنا" التي يجهلها العالم ،ول بدلنا من أن نرويها له بوضوح ،وبالشكل الملئم. هذا..ولبد من أن أعترف بأنني أميل إلى الشكل الروائي.. "الدراما" ..لقدرته على توصيل الفكار بطريقة أكثر جاذبية ومصداقية. * * * في أماكن أخرى من هذ،ه "السيرة" ،سوف أتر د د في خاطري تلك الكلمة التي قالها البروفيسور"فيأبر" ،بعد مرور سنوات الدراسة ،وعقب انتهاء مناقشة فيلم مشروع التخرج في الكا ديمية. قال بالحرف الواحد: ..وأضم صوتي إلى صوت هيئة الزملء ،بمنح "الزميل"* " "شاث دبلو م "الخراج السينمائي" ،وكذلك دبلـــــو م "السيناريو والدراما التلفزيونيه" بدرجة "المتياز بالجماع". ثم أضاف ،بلهجته التي دأبت على إشاعة المرح في حضور،ه: ..فلقد جاءنا وهو يتحدث اللغة النجليزية إلى جانب لغة ال م،__________________________________________________ )*( كان البروفيسور يخاطبني دائما بـ"الزميل" باعتباري مهندسا زميل له في الصل .
183
العربية ،وها هو يغا درنا وهو يتقن ،علوة على اللغة اللمانية ،لغة أخرى عالمية..هي اللغة السينمائية .ول يسعني بهذ،ه المناسبة إل أن أهنئه ..واقول أيضا"..هنيــــئا لهله ولشعبــــه بـــــه". كنت أعرف مسبقا تقديرات نجاحي .لكني فوجئت بالكلمات الخيرة التي ضخمت إحساسي بالمسئولية وأضافت إلى قاموسي معنى آخر لمعاني الوطن والنتماء إليه. خرجت بعد سماعي لتلك الكلمات مملوءا ثقة وزهاووا.. وآمـــــــــــــــــــــــــــــــالا. يغمرني الحساس بالقوة ،واليقين بأني قد أحسنت الختيار عندما قررت أن يكون سلحي لخدمة قضيتي هو ..السينما. هأنا قد خطوت الخطوات الولى في الطريق الطويل ،طريق اللف ميل! هأنذا قد حققت ما سعيت إليه. هأنا قد امتلكت "بندقيتي". لم يعد أمامي سوى الحصول على"الذخيرة" ..الخبـــرة العمليـــة. فالسينما من أكثرالفنون قوة وأكثرها انتماء إلى ما بات يسمى بـ"القوة الناعمة" ،وأكثرها قدرة على فتح باب التواصل بين المم .و"سينما فلسطينية" ،هي القا درة على فتح البواب الموصدة من حول النسان الفلسطيني والخروج به إلى آفاق رحبة تجعله يعو دإلى الوجو د الفعال، وإلى معاو دة المشاركة الفعالة ،مستقبل ،في بناء الحضارة النسانية. ألم نتعلم أن الفنان الحقيقي هو من يحرص في إبداعاته على تحديد ملمح أمته ،وأنه بالتالي من أبرز حماةالهوية؟ *
*
*
لن أنسى ذلك الحساس الذي داهمني وطغى على مشاعري وكا د أن يفقدني فرحتي لول أن ساقتي قدماي إلى أقرب مكتب للبرق والبريد حيث استطعت أن أ دبج باللغة النجليزية برقية مختصرة جدا لخي "عابد" في السعو دية ،ذيلتها بتوقيع راق لي في حينها: 184
"المخرج السينمائي الفلسطيني"! وفي اليو م التالي فقط ،،بعد مرور أطول ليلة سهد في حياتي ،اكتملت فرحتي ،عندما صافحت عيناي برقية أخي "عابد" ومن بعدها برقيات والد و ي وشقيقاتي تحمل لي تهاني النجاح. * * * هذا ،وأظنني لن أنسى ما همس لي به البروفيسور "فنجه" ، Winge الذي لم أشك لحظة في نبرة الخلص في كلماته: ..لقد قمنا بتعليمك وتأهيلك لن تصبح مخرجا سينمائيا كما كنتتسعى .وأشهد أنك أبديت استعدا دا واستيعابا ل بأس بهما لما حاولنا أن نعطيك إيا،ه من علم و"تكنيك" .ولكن..عليك أنت أن تطور قدراتك بجهدك بحيث تمتلك ما ل نستطيع ،ول أحد يستطيع أن يعطيك إيا،ه ،وأعني... وقا م البروفيسور بأ داء حركات وئيدة بمرفقيه ،كمن يحاول أن يشق طريقه وسط الزحا م ،ثم أكمل: .. Elbo Technique ..تكنيك إستعمال المرفقين ،والتزاحمبالمناكب .فأنا ،يا بني ،أخشى أنك تفتقد لصفة مهمة في مجال عملك وهي صفة الـ Fighter ..المقاتل! *
*
*
مقاتل؟! أ أ أظنك قد اخترت "السينما" كسلح توسمت فيه وسيلة تكفيك شرالقتال. فأي قتال هذا الذي تحتاج إليه وقد شهد جميع أساتذة الكا ديمية بامتلكك للغة السينما وقدرتك على ممارسة هذا الفن..هذ،ه القوة الناعمة؟! أي هراء هذا يا سيدي البروفيسور؟! وهل يتعين على المرء أن يقاتل من أجل أن ميعطـــي؟! 185
186
تمثيل النمسا(!)..
كان مشروع التخرج من أكا ديمية السينما عبارة عن فيلم روائي قصير ،أسميته "حكايه" ،Episodeمدته 20دقيقه ،وهي الحد القصى للطول المتاح. كتبت له السيناريو ،عن القصة القصيرة" ،بين قطارين" ،للكاتب اللماني "فيرنر كلوزن" .Klausen Werner قصة حب عاثر ،لم يكنب لها الستمرار بسبب الخلفات الفكريه اليديولوجية التي عا دة ما تؤ دي إلى طريق مسدو د ،بين الطالب الشاب وزميلته ،التي سرعان ما التقت بشخص آخر واستقرت معه في بلد آخر .لكن أواصر الصداقة بقيت قائمة بينهما عن بعد ،في حدو د تبا دل الرسائل أو بطاقات التهنئة بالعيا د والمناسبات. في أحد اليا م ،بعد مرورعامين على فراقهما ،يتسلم الشاب بطاقة منها ،تخبر،ه فيها بأنها ستقو م ،خلل رحلة عو دتها من إجازتها، بتغييرالقطار في مدينتهما التي مازال يقيم فيها )والتي شهدت سنوات حبهما( وأن هناك بضع ساعات بين موعد القطار الذي ستصل به والقطارالذي ستواصل به رحلةعو دتها ،وتسأله عن إمكانية اللقاء به خلل تلك الساعات. ويروي الفيلم ..بعد "فل ش باك"على شكل "فوتومونتاج" سريع يجسد ذكرى اليا م الجميلة من الماضي الذي ل سبيل إلى نسيانه..ما يجري بينهما في تلك الساعات القليلة ،منذ وصول قطارها ،واستقباله لها، حتى موعد مغا درة قطارالعو د،ه ،بعد فراقهما الذي دا م لمدة سنتين. لحظة اللقاء .ولحظات الصمت والحرج من الحديث عن الماضي الذي مازال يحتل مكانة في قلبيهما .والنظرات المختلسة أثناء إجابة أحدهما 187
المقتضبة عن سؤال جاهد الخر لصياغته بحيث يبدو طبيعيا ل يخفي وراء،ه قصدا ما. المحاولت اليائسة لكل منهما في التسلل إلى أعماق الخر .أسئلة مختصرة وإجابات مبتورة تحكي في مجموعها قصة تكا د تكون مكررة ولكن بتفاصيل مختلفة. ومحاولت الهروب إلى أماكن أخرى غير تلك الماكن التي تعيدهم إلى اجترارالماضي. ولحظة الفراق التي كان ل بد من أن تأتي ،بالرغم من حنين كليهما الجارف إلى ذلك الماضي ،ورغبتهما الدفينة في انبعاث حبهما القديم من جديد. ثم تأتي اللقطة المكبرة لوجه الفتاة الصامتة. يبد د هذا الصمت ،بالتدريج ،صوت القطارالمسافر..ويختلط مع صوته ويحل محله صوت موسيقى كونشيرتو "رحمانينوف" الثاني للبيانو، التي غلفت لحظات الفيلم منذ بدايته. وينتهي الفيلم بلقطة علوية بعيدة للقطار وهو يخرج من الصورة لتبقى الخطوط الحديدية المتوازية والمتقاطعة خلفية للعناوين ،وتظل الموسيقى تغطي نهاية "عناوين الفيلم" حيث ينتهي "الكونشيرتو" مع الظل م التدريجي للصورة. كان أكثرأعضاء لجنة التقييم حماسا للفيلم ،هو أستاذ الخراج ،الذي طالما حذرني ونصحني باختيار موضوع آخرلمشروع التخرج، إشفاقا من صعوبة تنفيذ تلك الفكر،ه .فلقد أخذ يكرر القول بأن السيناريوالذي قدمته يحتوي على تفاصيل تهتم بوصف حالت نفسية، وتصوير لحظات صامتة من شأنها أن تعبرعن أحاسيس تكمن في أعماق الشخصيتين ،وهي مشاهد ل يتمكن من تنفيذها سوى مخرج متمكن ذو تجربة طويلة .بل إنه )رأفة بي( قال في أحد المرات التي حاول فيها إقناعي بالبحث عن موضوع سهل ومضمون ،على مسمع من بقية زملئي الطلبه ،أن هذا الموضوع ل يجرؤ على تناولـه سوى مخرج متمكن مثل "أنتونيوني" ،مثل!
188
اللـــــــــه! ما أروع أن يقارنني أستاذي ،أو يشربهني ،إذا ما نجحت في تنفيذ فيلمي، بمثلي العلى ،المخرج الشهير "مايكل أنجيلو أنتونيوني"! كان ذلك مما زا دني تصميما وإصراراعلى التمسك بالسيناريو. و كان أستاذي هذا ،بعد ذلك ،هوأحد أعضاء "لجنةالختيار" المنوط بها ترشيح الفيلم الذي سوف يمثل النمسا في أسبوع سينما الشباب "سينيستو د" Cinestud67في أمستر دا م -هولندا. ذلك بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل بعض العضاء الخرين، لكوني أجنبي ل يحق لي تمثيل النمسا. لكن العتبارات الفنية رجحت فيلمي "حكايه" . Episode ووصلت أمستر دا م ،ممثل للنمسا في المهرجان المذكور ،وأنا ل أملك إل الحترا م والتقدير ،إضافة إلى آخرين ،لتلك الستاذة النمساوية الفاضلة Dr.Agnes Bleier Brodyالتي بذلت جهدا ل ينسى من التأييد والدعم لي ،والتي نمى إلى علمي بعد ذلك أنها ..يهو دية الديانة )!( وهناك في هولندا ،بلد المهرجان ،ظهرت المشكلة الثانية ،حيث ترجح كفة اعتبار الفيلم يحمل جنسية مخرجه .وعندما بحثوا في أوراقي الرسمية ،وجدوا أني أحمل صفة "غير ممعمين الجنسيه"! بل ذهب بعضهم إلى اعتباري إسرائيليا لمجر د وجو د اسم "القدس" في خانة مكان الميل د! وفي حديث لحدى الصحف ،حرصت على أن أعرف نفسي كلجيء فلسطيني أحمل وثيقة سفر مصرية ،وقلت أن مكان إقامتي الذي أنوي فيه أن أبدأ ممارسة العمل ،والتسلح بالخبرة العملية ،بعد أن أتممت دراستي في النمسا ،هي القاهر،ه .ويبدو أن المر قد اختلط على ناقل الخبر ،ففي اليو م التالي ظهرت الصحيفة بعنوان بارز: "وصول الدولة رقم 28من الدول المشتركة في المهرجان .. وهي مصر". وأخيرا ينتهى المر بان يعتبر الفيلم ،في سجلت المهرجان ،فيلما نمساويا.
189
جدير بالذكرأن مديراا لمهرجان سينمائي أميريكي ،كان من ضمن أعضاء لجنة التحكيم ،قد طلب مني المشاركة بفيلمي في مهرجانه المشابه في الوليات المتحدة الميريكية ،باعتبار،ه فيلما يحمل جنسية مخرجه .وعندما أبلغته أني سأكون ،وقت انعقا د المهرجان ،في القاهرة ،وعد بإرسال كتاب لوزير الثقافة المصري يطلب فيه مشاركة الفيلم في المهرجان الميريكي. نال الفيلم تقديرا كأحسن فيلم "روائي" قصير. ووجدت نفسك تقف أما م كاميرات التلفزيون وميكروفونات الذاعة )والبرنامج العربي للذاعة الهولندية( ومندوبي الصحف .لكن شعورك بمسئولية إختيارك والدفاع عن وجهة نظرك لم يبدأ إل عندما واجهت طلبة معهد السينما في أمستر دا م بعد العرض الخاص الذي أقيم لهم .فلقد مارسوا مع عملك ما جعلك تفهم المعنى الحقيقي لـكلمة "تشريح". ومن أشد انتقا داتهم كانت مواجهتي بسؤال عن سبب استخدامي لموسيقى "رحمانينوف" التي غلفت مشاهد الفيلم والتي "باتت مستهلكة لكثرة استخدامها في الفل م الرومانسية بمختلف جنسياتها" .هكذا قال أحدهم. ولم أستطع أن أقنعهم بأني في حقيقة المر قد بحثت طويل إلى أن وجدت القصة التي تلئم موسيقى "كونشيرتو البيانو" المذكور ،وليس العكس. كنت شديد اليمان بأن التفاعل بين الصورة والموسيقى في السينما يخلق ما يسمى بالصورة السمعية ،أو الغنية البصرية. ولدى عو دتي إلى"فيينا"،وجد أ ت جائزتي بانتظاري،وهي شها دة "تقديــر للبــداع الفنــي" ،مع جائزة ماليه ،صا درة من وزارة التعليم العالي النمساويه. هذا ..بالضافةإلى منحة تدريبيــة مدفوعــة الجــر فــي تلفزيــون النمســا، لمدة ستة أشهر: تبدأ في .. 15/3/1967وتنتهي في .67 / 9 / 15 190
وأما الجائزة التي لم أكن أتوقعها ،فهي الســيارة "الوبــل البيضــا" الــتي أرسل لي ثمنها أخي "عابد" ،كإعتذار ،أو كما كتب لي مازحا ..كـــ"ر د اعتبار"! قال لي أنه كــان جــا دا عنــدما ظــن بــي الظنــون ،ووصــمني بــأني دعــوي فوشار! *
*
191
*
192
"مزوال" معاداة السامزيه..
صص يومــا لزيــارة لم يفت أعضاء الوفد النمساوي ،وأنا أحدهم ،أن ميخ م معالم"أمستر دا م"،مدينة"ريمبراندت" ،Rembrandt ،و"فـان جـو خ"، ،Goch Vanويوما آخر لزيارة متاحفها الفنية التاريخية. كان ذكرالفنانين الهولنديين كثيرا ما يتر د د فــي محاضــرات مــا دة"إ دارة التصوير" ،طوال السنوات الدراسية الماضية ،لما لســلوب كــل منهمــا من علمات بارزة في معالجة "الضوء" و"مصا درالضاءة" ،ولحظــة انبثاق النورلتكــون مرا دفــا للحظــة انبثــاق الـوعي ،الــتي ميــزت عصــر التنوير واليقظة ،في أعمالهم. أذكرأنني في ذلك اليو م توقفت طويل أما م لوحة "حراس الليل"الشهيرة لـ"ريمبراندت" ،في المتحف الوطني ،مما جعل بقية الزملء يسبقونني إلى جناح آخر بدون أن ألحظ ذلك .لم يبق منهم سوى"هانيلوري" ،التي كانت تتأمل اللوحة بإمعان هي الخرى .وعندما هممت بترك المكان ومواصلة السير استرعى إنتباهي وقوف رجلين بملمح وهيئة ليست بالغريبة عني .كانا يرتديان الزي المميز بـالـ"ساكو" ،المعطف السو د الطويل ،والقبعة السو داء ذات الحواف العريضة ،يتدلى سالفاهما المبرومان ،واللحية ،إلى كتفيهما والصدر .با در الثنان في الحديث إلى زميلتي حديثا سمعت بدايته ولم أجد في نفسي رغبة لسماع بقيته. تركت زميلتي وتجولت في الركان المجاورة وعدت إليها عــدة مــرات وهي ما زالت تستمع إليهمــا بانتبــا،ه وتهــز رأســها موافقــة علــى كــل مــا يقولنه .وبعد عدة جــولت وعــو دات ،محاولــة منــي لعطاءهــا مــبررا للتخلص من حالة السر التي استسـلمت لهـا ،أصـابني اليـأس وحـاولت أن ألتحق ببقية الزملء الذين كــانوا يقــتربون مــن مكاننــا .ســألوني عــن "هانيلوري" ،فأجبت مشيرا إليها: 193
..يهو ديـــــان أحاطا بها يحاولن إقناعهــا بــأن"ريمبرانــدت" كــانيهو ديا أيضا. فوجئت بزملئي يضعون أيديهم على أفواههم علمــة وجــوب إلــتزامي بالصمت! و همس أحدهم لي مفسرا ومؤنبا: هل تريد أن توقعنا في مصيبة؟أل تعلم أن مجر د وصفك لحدهم بكلمة "يهــو دي" يكفــي لن تــومجه إليك تهمة "السب العلني" ،مما يجعلك تحت طائلة القانون؟! سب علني؟! نعم،لن استعمالك لكلمة "يهو دي" تشي بنية مبيتة ،متوارية،لهانةالشخص المخا أ طب والنتقاص من قدر،ه. وهمس لي زميل آخر: أل تعلم بأن الوسيلة الجديدة لسكات العقول الناقدة وتحجيم حريةالرأي عندنا هي التها م بمعا دة الهسامية؟ وأن هناك في بل دنا قانون يعتبر"معا داة السامية" جريمة تصل عقوبتها إلى السجن عشرة سنوات؟ *
*
*
كأني ،لول وهلة ،لم أستوعب ما قيل وإن كنت قد لمست قبل ذلك كيف نجحت أجهزة الدعاية الصهيونية في تكريس الكثيرمن المحاذير وخلق العديد من "التابوهات" الخاصة باليهو د واليهو دية ،ومحاولة اصطيا د أي تصريح أو موقف له ملمح المعا دة للسامية .هذا إلى جانب مواصلة وضع اليهو د في كل مكان في حالة الحساس بالخطر ،بقصد تحريضهم على السعي للخلص ..والهجرة إلى "إسرائيل". وأعا دني هذا إلى أحا ديث المهندس اللماني "شولتس" عن ألعيب اليهو د وخرافات"اللسامية""..معسكرات العتقال" ..و"أفران الغاز".. و"الهولوكوست" ..و ..و"مصانع الصابون".
194
أصبح ذهني ،لدى ذكر تلك المصانع ،التي كان يفترض أن تنتج صابونا مــن "شــحو م"اليهــو د)!( ،مهيــأ لســتدعاء صــور معســكرات العتقــال المكتظة بســجناء أقــرب مــا يكونــون إلــى "الهياكــل العظميــه" المكســوة بالجلد )!( )علقت صديقتي على ذلك بأنها المرة الولى الــتي يتصــف فيهــا العل م الصهيوني بالغباء .واضطررت أن أعترض على هذا الوصــف لمــا فــي ذلك من إهانة للغبياء(. كما أمسيت أتذكر شخصية "زيطه" صانع العاهــات فــي روايــة "زقــاق المدق" لكاتبنا "نجيب محفوظ" ،كلما ور د إلــى خــاطري ذكــر "أجهــزة الدعاية الصهيونية". هناك في اللغة الـ"ييديش" ، Jidischوهي اللغة التي يتداولها "الشكيناز" ،يهو د أوروبا الوسطى و الشرقية بالذات ،والمشتقة من عدة لغات أهمها اللمانية والعبرية القديمة والرامية والسلفية ،هناك كلمة ل يوجد كلمة أخرى مرا دفة لها في أي لغة من لغات العالم ،وهي: "خوتسبا،ه" Chutzpahالتي تطلق على الولد الذي يقتل أبويه لكي يستدر عطف الناس لكونه "يتيم البوين". إن وجو د مثل هذ،ه المفر دة في القاموس اليهو دي لهو دليل على تأصل "ثقافة" الوصولية و النتحال والتزوير والنصب والبتزاز لديهم. *
*
*
أما عن زميلتي "هانيلوري" ،التي تمكأنت أخيرا من أن تنجو من أسر الرجلين اليهو ديين ،فقد أجابت عن استفساري عن سبب استسلمها لهما ،وموافقتها على كل ما يقولنه بالرغم من يقيني بأنها تعرف مدى ابتعا د،ه عن الصواب ،بتر ديدها للموال المشهور: ..وهل كنت تريدني أن أخالفهمــا الــرأي ليكــون مصــيري أن أتهــم)والعياذ بال( بأنني"معا دية للساميه"؟! * 195
*
*
الحرب الخاطفة)!( 196
إثربداية تدريبي في التليفزيون النمساوي بفترة ،بدأت إرهاصات حرب اليا م السته ،وبدأت معها الحرب العلمية التي شنتها أجهزة العل م الوروبية ،والتي تخضع بمعظمها لنفوذ "اللوبي الصهيوني" .ولم يكن تلفزيون النمسا ،بالرغم من حيا د الدولة الرسمي ،ببعيد عن طائلة ذلك النفوذ المؤثر. كما وأنه لم يكن من الممكن أن ألتز م الصمت إزاء الكاذيب التي كانت تتر د د في ر دهات مبنى التليفزيون قبيل ،وأثناء ،وإثر "حرب اليا م الستة". وانتهى المر ،في أحد اليا م ،إلى حوار أ دى إلى مشا دة كلمية بيني وبين رئيس تحرير كبرى الجرائد اليومية ،الـ"كورير" ، Kurrier الذي كان يقو م بالتعليق يوميا على النباء ،ويدعو إلى إنقاذ "واحة الديمقراطية في صحراء التخلف العربي" من عدوان جيرانها "الشرار الحاسدين الحاقدين"! استطعت أن أتأكد من أن رئيس التحرير هذا ليس يهو ديا ،بل هناك من اكد لي بأنه معروف بإلحا د،ه .وحرت في أمر هذا الرجل الذي يتبوأ ذلك المركز في تلك البلد التي تعلن حيا دها رسميا ،بحيث يملي عليه الواجب أن يسعى وراء معرفة ونشر الحقيقة .حاولت تذكير،ه بالحقائق التاريخية التي تتعلق بالقضية وقرارات المم المتحدة التي تدين الكيان الصهيوني صراحة .لكنه كان يهز رأسه وينظر لي بعينين زجاجيتين وابتسامة صفراء ساخرة من جهلي ،ويهز رأسه متوعدا كأنما كان يعرف ما ستبدي لنا اليا م .لم أجد تفسيرا لموقفه وانحياز،ه العمى سوى..العمالة! واجهته برأيي هذا فيه ،محاول أن أبدو في نفس برو د،ه.
197
بعد ذلك ببضعة أيا م ،أي بعد مرور ثلثة أشهر فقط من الستة شهورالممنوحة لي للتدريب ،وصلني من إ دارة التلفزيون خطابا يفيد، بطريقة غير مباشرة ،بإنهاء الخدمه في !15/6/67 ذلك بدل من الموعد المتفق عليه ..وهو !15/9/67 كان الخطاب عبارة عن "شها دة خبرة" من التلفزيون النمساوي تفيد بأنني قضيت فيه فترة تدريبية لمدة الشهور الثلثة. وبالرغم من ذلك فقد أتاح لي أساتذتي ) العاملين منهم في نفس الجهاز( فرصة إتما م المدة الباقية بصفة غير رسمية ،ولكن بدون أجر. *
*
*
ربما كان هذا هوالمكان المناسب للتنويه عن أسوأ أيا م يمكن أن يعيشها مطلق إنسان مغترب .لكن تلك "المناسبة" بذاتها ما زالت مثل الكابوس الذي تفيق منه ول تعرف كيف ومن أين تبدأ في استذكار تفاصيله. قال لي صديقي "يوهان" ،الذي دامت صداقته منذ أن وطئت قدماي أرض "فيينا" حتى وقتنا هذا: ..ليس هناك ما هو أكثر بشاعة من "الهولوكوست" المزعو م إلما يقترف بحق شعبكم! لقد استطاع اليهو د أن يتبوأوا منزلة رفيعة قوية في أوروبا ،عن طريق استخدامهم الذكي للكاذيب .فأين أجهزتكم العلمية ،وأنتم تمتلكون الحق والحقيقة؟! ثم ر د د ،بكلمات أخرى ،نفس المعنى الذي قاله لي المهندس "شولتس" في مدينة "فوبرتال" اللمانية: ..وهل يجوزأن يقتصرالوصول إلى هذ،ه الحقيقة على أفرا دتصا دف أن جمعت بينكم وبينهم صداقة مثل صداقتنا. يجب أن تكفوا عن الكتفاء بأنكم أصحاب حق .فهذا ل يكفي. أنتم بحاجة إلى العلن عن ذلك بشكل يتفهمه ويقبله الغرب الذي استطاعت "إسرائيل" أن تضمن انحياز،ه إليها .فالغرب لم يفعل
198
ذلك إل نتيجة لسعيها الدؤوب ،بمحتلف الوسائل ،للوصول إلى ذلك. نعم يا صديقي ،يجب أن تتسع لغتنا لتلك المفر دات التي نصوغ بها أقوالنا حتى تصبح روايتنا مقبولة ومفهومة من قبل الخرين. *
*
*
يأبى علينا كبرياؤنا إل أن نصدق "صوت العرب"..ونصور على أن نكرذب كل إذاعات الدنيا ،وكل الصوات ،ألم يعدنا المذيع "أحمد سعيد" بأن قواتنا المصرية سوف تتناول الشاي ،قبل غروب شمس يو م 5 يونيه ،في "تل أبيب"؟ ثم نذهب ،الطلبة العرب ،إلى السفارة المصرية مستوضحين طالبين نقلنا إلى أرض المعركة ،فيسخرمنا السفير..." ،التهامي" ،قائل أن "البلد مش ناقصه رجاله ..روحوا زاكروا أحسن!" مساء الخميس ،الثامن من يونيه ،يخترق أذني صوت "ماريا" ،من خلل الهاتف ،وهي تسألني عن حقيقة سقوط القدس! يو م الجمعة 9يونيه ،كنا قد تنا دينا للتجمع في مقر رابطة الطلبة العرب. تحلقنا حول المذياع ..في انتظار الخبراليقين. إلى أن سمعنا صوت الزعيم جمال عبد الناصر وهو يطلع الجماهير المصرية ،والمة العربية ،على قرار،ه بالتنحي عن الحكم ،واعترافه بمسئوليته الكاملة عن الهزيمة .وهو نفس الصوت الذي كان يمل آذاننا ونفوسنا عـــزة وكرامــــة وفخـــرا وآمـــال وكبريـــاء. يومها ..بكينا كلنا بل استثناء بكاء الثكالى!.. يكا د كل منا أن يصر خ من أعماقه في وجه الخر" :يستحيل!" *
199
*
*
يو م السبت 10يونيه ،67يصر صديقنا "يوهان" على أن يصطحبنا لقضاء أمسية آخر السبوع خارج المدينة ،بعيدا عن مجال تأثير الصحافة وأجهزة العل م ،وهروبا من النظرات والتعليقات الساخرة التي كانت تلحقنا. هناك في ضاحية "سيمرينج" Simmeringعلى سفح جبل "كالينبرج" Kahlenbergالمطل على "فيينا" والدانوب الزرق وهو يخترقها ..سوف نحتفل بعو دة "عبد الناصر" عن قرارالتنحي. "توني كاراز" ،منذ عا م ،49حيث ذاع صيت موسيقا،ه عقب نجاح فيلم "الرجل الثالث" ،رائعة "جراها م جرين" ،مازال يعزف لحنه الشهير ،الذي اتخذ،ه المخرج الممثل"أورسون ويلز" لحنا مميزا للفيلم، على آلة الـ"تتسيتار" ،التي تشبه إلى حد بعيد آلة "القانون" .وروا د مقها،ه ،الذي صرورت فيه أجمل مشاهد الفيلم المذكور ،من السائحين يتقارعون الكؤوس في ضوء الشموع. "ماريا" تحيط كتفي بذراعها وتشاركني بيدها الخرى رشفة من ما تبقى في كأسها من "عصير التفاح" النمساوي الشهير. ننتزع البسمات ونتبا دلها" .سامي" و"مصطفى" وزميله السباني "ضيف ا" و"يوهان " و"أنا"..وصديقاتنا. ويعو د "ضيف ا" لممارسة دعاباته وسخرياته اللذعة لستفزازنا بتكرار تذكيرنا بأن عد م موافقته على عو دة اليهو د إلى فلسطين لم يكن حبا بالفلسطينيين أو كراهية لليهو د..ولكن حتى ل يتخذ العرب من ذلك حجة لعو دتهم إلى أسبانيا! فنضحك. وبالتدريج تنطلق ألسنتنا ،التي أ دمنت السكوت منذ أيا م مرت متثاقلة كأنها دهور ،بأحا ديث كان ل بد أن تتخللها كلمات عربية يقتضيها قفشة من قفشات "مصطفى" ،أو تعليق من تعليقات "سامي" أو "ضيف ا" الموغلة في السخرية .ول بأس من أن تحاول إحدى الصديقات أن تستعرض الكلمات العربية التي تعلمتها ،محاولة منها
200
في إضفاء مسحة من المرح على مجلسنا الحزين ،البالغ الكآبة والحساس بالضياع. فجأة ،يقف أحد الجالسين حول مائدة مجاورة ،ويرفع كأسه وصوته، معلنا وطالبا تناول نخب النتصار في "الحرب الخاطفة"، ، Blitzkriegالصطلح اللماني الشهير. كانت الكلمات العربية قد نومت عن جنسيتنا .وكانت كؤوس النبيذ قد حفزت ذلك الواقف وزينت له إستفزازنا .أخذ يتحدث عن "الحرب الخاطفة" التي لقنت "أعداء السامية" درسا لن ينسو،ه ،وسحقت "حلفاء الشيطان" الذين سولت لهم أنفسهم أن يهد دوا أمن "واحة الحرية والديمقراطية" بدافع من حقدهم وحسدهم ..و ..و.. إلى آخر الموشح المعروف. ثم يختتم حديثه بأن يوجه إلينا الكلمات الخيرة ،بلغة عربية سليمة: ..حبيبي إذا ما كنتش فاهم كلمي ..أنا بقول لك باللغة العربيةالفصيحة: "من ل يعرف السباحة يترك الملحة" ..مفهو م؟ *
*
*
هناك تعبيرات ل تجدها إل في اللغة الدارجة: "مش عارف أوو دي ضووشي فين!" كان هذا لسان حال كل طالب عربي في "فيينا" ،أوغيرها. بتنا نتوارى عن النظار خجل وإحساسا بالكآبة ..و بالخزي والمهانة. بماذا نجيب عن تساؤلت الصدقاء المتعاطفين معنا؟ وكيف نتحمل نظرات الشامتين فينا ،أو نتجرع كؤوس المهانة والخزي التي كانت تقد م إلينا على شكل تعليقات جارحة؟ )هنا تلحقون الفتيات ،وهناك تفورون منهن ..خوفا!( )تركتم سلحكم الجوي ميدممرعلى الرض .فهل كنتم تريدون من السوفييت أن يتولوا أيضا محاربة إسرائيل نيابة عنكم؟(
201
) إخلعوا أحذيتكم واختفوا من أمامنا ..حفاة كما كنتم ..يا رعاة البل!(** ) تنتصرون على الهواء ،وتنهزمون على الرض!( ) ل تريدون السلم ،ول تجيدون الحرب!( ) إنكم تثيرون شفقتنا!( *
*
*
إل أن أكثر ما أوجعني ،هو سؤال "ماريا" الذي رأيته في عينيها أكثر من مرة قبل أن تستجمع شجاعتها وتسأله واللم يعتصرها: ..هل يعني ذلك أنك لن تستطيع العو دة إلى القدس..؟*
*
*
سقوط القدس كان يؤرق "ماريا" .كانت تخشى أن يعني ذلك أنني لن أستطيع العو دة إلى مدينتي .هذا مع أنها كانت دائما تحبذ لو أن أقرر أنا البقاء في "فيينا". *
*
*
ظلوا ،منذ ألفي عا م ،ير د دون: "تنساني يميني إن نسيتك يا أورشليم"! ماذا عساي أن أقول غير ذلك ..يا "قدس"؟ *
*
*
__________________________________________________________ )**( إشارة إلى ذلك المشهد الممعن في السادية ،الذي تكرر بزثه في تلفزيونات أوروبا ،لكوام الحذية العسكرية وقد تركها الجنود السرى المصريين تنفيذا لوامر السرائيليين .. ليسيروا حفاة على رمال الصحراء الحارقة ،إمعانا في الذلل .و"رعاة البل" صون بها العرب بالذات . Kameltreiberهي شتيمة ألمانية مشهورة يخ ز
202
وداعا ..فيينـــــــــــــا!
وكان "ل بد مما ليس منه بدد". كانت "العو دة" من "فيينا" بالنسبة لي ،نظرا لستحالة تحقيق حلم عو دتي الموءو د إلى مسقط رأسي القدس ،بعد احتللها في يونيه ،67 تعني معاو دة "الهجرة" أو"اللجوء" إلى مصر بالذات .فهي ،على كل حال ،المكان النسب الذي كان يمكن أن يتيح لي فرصة العمل واكتساب الخبرة في مجال تخصصي الجديد..السينما. قلت في البداية أن ثمة أشياء تبدو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو يدونها ،ولكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها .مثال ذلك هو ما أ دين به من العرفان لصديق عزيزهوالفنان التشكيلي المصري "سامي رافع" ،المدرس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ،الذي أرسلته وزارة الثقافة المصرية آنذاك للتخصص في تصميم مناظر "الباليه" و "الوبرا" في نفس الكا ديمية التي كنت أ درس فيها .فقد تم تعارفنا واستمرت صداقتنا طوال فترة الدراسة .بل وقامت الملحقية الثقافية المصرية ،بالتنسيق مع رابطة الطلبة العرب ،بالحتفال بتخرجنا معا ا في أحد صالت الفنون في "فيينا" حيث عرضت أعماله بما فيها من لوحات و"ماكيتات" متعلقة بمشروع تخرجه .كما تم عرض فيلم "حكايه" ،مشروع تخرجي السابق الذكر .هذا إضافة إلى "البوستر" الجميل الذي صممه ونفذ،ه "سامي" للفيلم. كان ذلك في 10يناير ،67كما تؤكد بطاقة الدعوة التي ما زالت بين مقتنياتي. 203
إتحا د الطلبه العرب يدعو لمشاهدة مشاريع اخرج كل من سامي رافع وغالب شعث
204
كنا قد قمنا باستعارة نسخة الفيلم من الكا ديمية لهذا الغرض .ولم تخطر ببالي ،حتى ذلك الوقت ،فكرة عمل نسخة خاصة بي من الفيلم ،لول تأكيد صديقي "سامي" على أهمية ذلك .بل إنه كان يصرعلى أن نسخة من الفيلم في يدي أحسن وأوقع أثرا من كل "الدبلومات" وشها دات التقدير المتميزة التي حصلت عليها. الحقيقة أن إغفالي لتلك الفكرة كان نتيجة لرتفاع التكاليف ،وضيق ذات اليد .لكن صديقي كان ل يمل من محاولته لقناعي بتدبير "المبلغ" بأي طريقة .فما كان مني إل أن أرسلت إلى أخي "عابد" في السعو دية أطلب منه تحويل تكاليف عمل النسخة الخاصة بي. *
*
*
كان ذلك قبيل سفري إلى "هولندا" .وأذكر أنني ،لكي أقنع أخي بأهمية طلبي هذا ،قمت بالكتابة إليه عن نيتي بالشتراك في مهرجان "أمستر دا م" وغير،ه من المهرجانات السينمائيه ،وعن يقيني بأنني سوف أحصل على "جوائزعالميه")!( لم يتر د د أخي ،وقتها ،في تحويل المبلغ المطلوب .لكنه لم يتر د د أيضا في إبداء رأيه في ما كانت تحمله رسالتي من مظاهرالثقة بالنفس إلى درجة الغرور ،والحديث عن المشاريع المستقبلية إلى درجة "الفشر". فلقد جاءت رسالته لي مروسة بعبارة: أخي العزيز "أبو لعزمععــــــه" الصلي! وذلك إيماء إلى فـوشار برنامج "ساعه لقلبك" الذاعي الشهير في حينه. *
*
*
كانت تربطني بالفنان "سامي رافع" صداقة جديرة بالعتزاز .فقد كنا نتبا دل الهتما م كل باختصاصات الخر .كان يقدر لي إهتماماتي التشكيلية وكنت أفعل ذلك إزاء إهتمامه بالسينما والتصوير الفوتوغرافي الذي كان يمارسه بإتقان و دراية .كما كانت لنا إهتمامات مشتركة بالموسيقى. 205
وهو الذي نصحني مؤخرا بأن ل أنسى أهمية الستعانة بالصور الفوتوغرافية بين آن وأخر ،عندما أشرع بنشر مذكراتي. ماذا عساني أن أكون قد تعلمت من ذلك الفنان ،المسكون بهاجس التقان ،غير ذلك الشيء بعينه الذي ل يجوز أن يفتقر إليه أي فنان؟ ومما هو جدير بالذكر هو إلتحاقنا للتدريب في دورتين عقدهما تلفزيون النمسا بالشتراك مع منظمة الـ"يونيسكو" خلل عا م ،67 وحصول كل منا على " دبلومين". الول " ..دبلو م" دورة "فن إقتباس الوبرا للتلفزيون". الثاني " ..دبلو م" دورة "فن إقتباس الباليه للتلفزيون". وعندما حان موعد سفرنا إلى مصر ،لم يكن بوسع سيارة كل منا أن تستوعب أمتعته ،التي كانت تتكون في معظمها من صنا ديق كرتونية مكدسة بالكتب والمجلت الفنية والسطوانات والتسجيلت الموسيقية، مما اضطرنا إلى استئجار سيارة" ،نص نقل" ،لترافقنا بالمتعة إلى ميناء "فينيسيا" البحري ،حيث قضينا ليلتنا الخيرة" ،ماريا" وأنا ،و من حيث واصلنا رحلتنا" ،سامي رافع" وزوجته النمساوية "جريتا" وأنا ،في صبيحة اليو م التالي بحرا إلى السكندرية لنصلها في يو م 3سبتمبر .1967 *
)بقية( "فضـــــفضـــــه".. 206
*
*
عندما لحت لي السكندرية من بعيد وهي تفر د ذراعيها متثائبة على شاطيء البحر ،مرحبة بالعائدين ،في ذلك الصباح الباكر ،الثالث من أيلول )سبتمبر( ،1967عا دت بي الذكرى إلى مرة سالفة كنت فيها أغا در ذلك الميناء ،بعد قضاء جزء من الجازة الصيفية ،حيث كانت محبوبتي "نهى" تلووح لي بيدها مو دعة ،بينما كنت ألمح ،وأنا أقف على سطح ذات الباخرة اليطالية "إسبيريا" ،عن بعد شرات عديدة من المتار ،شفتيها المزمومتين في مشروع قبلة و داع خفوية تحاول أن تسوربها لي من وراء أكتاف المو دعين من الهل والصدقاء على رصيف الميناء. هل يمكن أن تتراكم كل هذ،ه الشواق المكتومة لتتأجج بعد كل هذ،ه السنوات؟ هل يعقل أن أجد نفسي فجأة أ دقق النظر ،كما كنت أفعل في عو داتي الصيفية السابقة ،بحثا "عنها"بين المستقبلين على رصيف الميناء؟ كيف تخطر لي تلك الخاطرة البلهاء بعد مرور تلك السنوات؟ هل يمتلك الحب صفات طائر الفينيق ،الخرافي ،لينبثق من رما د الماضي فيسيطرعلى أفكارنا وعقولنا ،ويخدرها بـما تجو د به كلمات مثل "ربما" ..و"لعل" ..و"ليت"؟ أ م أن ذلك الحساس ،كما قيل لي في حينها) ،وذلك هو الرجح( ،ما كان إل تجسيدا لمعنى الخلص من قسوة الغتراب ،وتعبيرا عن أشواقي المتأججة ،ولهفتي العارمة لكل ما له علقة بـالهل.. و"الوطن". كم هالتي ،في يو م عو دتي النهائية إلى الوطن العربي ،أن يغمرني فجأة ذلك الشلل الجارف من الحنين ،بعنف لم أألفه من قبل ،لماض لم تستطع السنين أن تمحو جانبه الحلو من ذاكرتي .كأني ،شأن أهل الكهف ،قد أفقت بعد سبات دا م لمدة سنوات ،منذ أن جالسأتها لخر 207
مرة ،آن ذهبت للقائها المفاجيء لها ،في بيروت ،لنتبا دل كلماتنا الخيرة ،ويتخلى إصبعي عن دبلة الخطوبة ،بعد أن كانت قد سبقتني إلى ذلك. *
*
نهــــــــاية ..وبدايــــــــة..
208
*
كانت إجراءات الدخول من ميناء السكندرية ،وإجراءات تخليص العد د الكبير من الحقائب والكراتين التي لم يشفع لدخولها إل شها دة مكتب البعثات المصرية في فيينا التي تثبت أننا" ،سامي رافع" وأنا، نعو د عو دة نهائية بعد إنهاء الدراسة في الخارج .ولقد استهلكت تلك الجراءات نهارنا بكامله بحيث أصبح من المتعذر أن نقو م بتخليص سيارتينا أيضا ،مما اضطرنا إلى تأجيل هذ،ه العملية ،على أن نبكر في الحضور إلى جمارك الميناء في اليو م التالي. *
*
*
وانقضت اللحظات الولى الحارة من لقاء الوالدين والخوات ،ولم ألبث أن أخذت أن أتأقلم تدريجيا مع نسمات خريف السكندرية.. البار دة )!( وكان ل بد من الحديث عن الغائبين. أخي "عابد" اتصل في وقت متأخر ليعبر عن فرحته لعو دتي ،مكلل بالنجاح ،وأسفه لعد م تمكنه من استقبالي في السكندرية ويؤكد وعو د،ه بلقاء قريب. خالي ،أيضا كان قد أناب من يعتذرعنه ،بسبب وعكة قلبية. أمي ما زالت تتحوسسني فرحانة ثم تحتضن وجهي بكفيها وتنظرلي بعينيها وكأنها تحاول أن تقرأ في وجهي ما يجول في خاطري في تلك اللحظة .ثم تنهمر دموعها. أبي يقول لي وهو يلوح لي بيد،ه أن أتناسى وأسامح: ..بكر،ه يا ولدي ،ا يرضى عليك ،بتروح بتجيب سيارتك منالمينا ،وبتيجي بتاخد إومك لتزور خالك المريض .لضوساتتها بعد كل هالسنين ماخد،ه على خاطرها منه .من يوميتها ما داست عتبة دار،ه! م فوجئت ،بل فجعت. يستحيل أن أسمح لهذا الجفاء الذي كنت أنا سببا له ،بين أمي وأخيها، أن يطول ولو لـيو م واحد آخر! 209
في اليو م التالي استغرقت إجراءات الفراج المؤقت عن السيارة ،منذ الصباح الباكر ،ساعات طويلة من النهار عدت بعدها منهكا. لم يكن هناك أحد في بيتنا. ربما فضلوا ،فوكرت ،إنتظاري في بيت شقيقتي "إكتمال". هناك عرفت من أطفالها أن الجميع قد سبقوني منذ ساعات الصباح إلى بيت خالي. كان مدخل العمارة الصغيرة يعج بالسيارات .وقبل أن أبا درالبواب بالسؤال ..قال لي: ..تعيش إنت!وافته المنية قبل أن يصبح الصباح! وتوافد البناء تباعا من القاهرة..مقرأعمالهم. "نبيل" وزوجته" .ميسون" وزوجها. و"..نهى" ..وزوجها )!( كم ذا من الصدمات ما ميفقد المرء صوابه ،أوروبما يعيد إليه صوابه. ولكن الكيد..أنني لم أشعر يوما بأقل من كل الوفاء والحترا م لتلك الذكرى. وتمضي اليا م. *
*
تلفزيون ج .م .ع.
210
*
في أواخر نوفمبر ،67تم تعييني مخرجا في تلفزيون مصرالعربيه. وربما يرجع الفضل في ذلك لصدفة ل تخلو من الطرافة. لدى وصولي إلى السكندرية ،حيث استقر والداي وأخواتي من بعد معاناتهم لحتلل "غزة" عا م ،1956توافد بعض القارب وأصدقاء العائلة للتهنئة بتخرجي وبسلمة وصولي إلى أرض الوطن"العربي". كان من بين المهنئين سيدة كثيرا ما كنت أسمع إسمها " ،دولت هانم"، يتر د د على ألسنة أفرا د العائلة إعجابا بشخصيتها الو دو دة وصداقتها. سألتني ،بعد أن عرفت مني كل ما تريد،ه عن دراستي ،عن خطواتي المستقبلية .فقلت لها أن "إ دارة البعثات" قد طمأنتني بأن "مكتب التنسيق" سوف ينظر بعين العناية في أمر توظيفي في مؤسسة السينما. قالت ضاحكة بمو دة وبدون حرج: موت ياحمار.. .. ..ثم أر دفت وكأنها كانت تضمر ذلك مسبقا: طب ما تكتب طلب للتلفزيون ،وهات لي صور،ه منه مع صورمن شها داتك ،وأنا أ ديهم لمحمد إبن أختي في إيد،ه. ولما قرأت في عينوي دهشة وتساؤل عن هذا الـ"محمد" ،إبن أختها، أر دفت قائلة: ..د،ه "محمد فايق" ..وزيرالعل م!إعمل حسابك بكر،ه أو بعد بكر،ه بالكتير تكون الصور عندي عشان أنا عازما،ه عالعشا عندي في البيت! كنت قد تقدمت بالفعل بطلب ل دارة التلفزيون ،بالرغم من تطلعاتي للعمل في السينما .لكنني فعلت ذلك استجابة إلى نصائح الصدقاء المتكررة ،وعمل بالحكمة الشعبية ،كما قالوا لي: "إلعب بالمقصوص على بال ما ييجيلك الطويــــــــار!" *
211
*
*
في زيارتي الخيرة ،قبل تخرجي ،كانت السكندرية تحتفل بمهرجان التلفزيون ،مما أتاح لي التعرف على السيد الفاضل العلمي الكبير"سعد لبيب" ،مديرعا م البرامج ،الذي استصدر لي"كارنيه" يمكنني من حضور فعاليات المهرجان كضيف ،ولم ينس أن يؤكد لي ضرورة التصال به ،بمجر د عو دتي بعد تخرجي. وعندها رحب بي "سعد لبيب" وشجعني على تقديم طلب اللتحاق بالعمل في التلفزيون ،بعد أن شاهد فيلم تخرجي" ،حكايه" ،في عرض خاص. وعندما زرته في أواخر نوفمبر 67للسؤال عن مصير طلبي قال لي معاتبا: أنا زعلن منك..ولم ينتظر حتى أعبر عن استغرابي..فأكمل عتابه: ..إيه اللي خلك تروح لسيا دة الوزير؟واحد زيك يابني ..بالفيلم الجميل اللي إنت أخرجته..وكل الشها دات المشرفه اللي حاصل عليها..مش محتاج لوساطة حد! و د،ه برضه كان رأي وتعليق الوزير نفسه. أسقط في يدي .ووجدتني مضطرا لقول الحقيقة بحذافيرها لكي أؤكد أنني لم أذهب للوزير وإنما.. .. لم يتمالك "سعد لبيب" نفسه من الضحك إزاء تر د دي .فتساءل مازحا: ..إنما إيه ..هو اللي جالك؟ ل مش هو..خالته.* * * واضطررت بعد أن شكرت " دولت هانم"..أن أطلب منها أن تحكي القصة بحذافيرها لبن أختها الذي لم أر،ه إل بعد ذلك بحوالي عشرين عاما ،حيث جمعتنا الصدفة على كرسيين متجاورين في طائرة متجهة من القاهرة إلى تونس. وكانت تلك القصة بداية لحديث طويل شيق مع الوزير السابق الذي غدا أمينا عاما للمنظمة العربية للدفاع عن حقوق النسان.
212
*
*
213
*
214
"صدمة الهبــــــــــــوط "..
لن يفوتني أن أنو،ه عن الترحيب الذي لقيته من المسئولين في تلفزيون جمهورية مصر العربية. وكذلك ترحيب واحتضان مجموعة الفنانين والصحافيين والنقا د الذين عرفني بهم ،أوعرفهم بي ،صديقي الفنان"سامي رافع" لدى وصولنا سويا إلى مصر. إليهم جميعا أهدي محبتي وتقديري وعرفاني. كثيرا ما كان "سامي" يحدثني عن أصــدقائه مــن الفنــانين فــي القــاهرة، حــتى ليخيــل لــي أننــي بــت أعرفهــم واحــدا واحــدا .خصوصــا الفنــان التشكيلي "ناجي شاكر" ،والمخرج السينمائي اللمــع"توفيــق صــالح".. وفيلمه الروائي الول " درب المهابيل" الــذي وضــعه ،منــذ بــدايته ،فــي مصاف المخرجين الكبار. في أول لقاء لي في القاهرة مع صديقي"سامي" ،بعد افتراقنا فــي مينــاء السكندرية ،إثروصولنا إليه عائدين سويا من "فيينا" ،قال لــي أننــا فــي طريقنا لزيارة صديق له كان قد حدثني عنه كثيرا .كما عرفت بعد ذلــك أن الصديق "ناجي شاكر" الذي كان في انتظارنا قد بات يعــرف عنــي، وعن فيلمي "حكايه" ،الكثير أيضا. كان "ناجي" ،الفنان المتعد د المواهب والهتمامات ،قد انتهى لتو،ه من تنفيذ تصميماته لعرائس و ديكورات الوبريت الشهير،ه"..الليله الكبير،ه" ،التي طبقت شهرتها الفاق ،من أشعار "صلح جاهين".. وألحان "سيد مكاوي". أعتقد أنني بذلك قد قدمت الفنان "ناجي شاكر" ،من خلل أحد جوانبه، لمن فاته أن يعرفه. 215
وكان "ناجي" هو من قدمني إلى الكثيرين من أصدقائه وزملئه من الفنانين التشكيليين والصحافيين وال دباء والشعراء. من خلله عرفت شقيقه الذي يكا د يتفوق عليه في الرقة والشفافية، رسا م الكاريكاتير" ،إيهاب شاكر" ،وصديقهما الساخر والذي ل تحتاج لكثر من ثوان ،من حديثه ،حتى تدرك أنه رسا م الكاريكاتير "بهجت عثمان" ،والفنان التشكيلي المتميز"حلمي التوني" ،والفنان التشكيلي السينمائي ،الذي ل يقل عنه تميزا" ،شا دي عبد السل م" ،والفنان "عدلي رزق ا" ،والفنان "محيي اللبا د" ،والفنان "جورج البهجوري" ،والشاعر"أحمد عبد المعطي حجازي" ،و"سيد حجاب"، و"عبد الرحيم منصور" و"عبد الرحمن البنو دي" ،والكاتب "سيد خميس" و"يحيى الطاهرعبد ا" و"غالب هلسا" والناقد "رؤوف توفيق" ..وغيرهم من الكتاب والشعراء والفنانين الذين كنت ،في غربتي ،أكتفي بأن أقرأ لهم ،أو عنهم ،في مجلتي "روزاليوسف" و " صباح الخير". ومن خلل هذ،ه المجموعة عرفت طريقي إلى دار "الهلل" و دار "روزاليوسف" .وهناك قابلت الفنان "هبة عنايت" الذي فوجيء بي بعد مرور زمن طويل على فراقنا في "جدة" عا م ،1956حيث كان يعمل في إحدى المؤسسات الصحفية الناشئة هناك ،بعد أن انتهت مدة خدمة الفنان "صلح جاهين" في نفس المؤسسة .وكان كلهما يرتبط بصداقة قديمة حميمة مع شقيقي "عابد". وعرفني "هبة" بشقيقه الكاتب "راجي عنايت"* الذي قدمني بدور،ه إلى الكاتب والناقد "رجاء النقا ش" في دارالهلل حيث تم تعارفي مع الصديق الضاحك دوما "محمد صبري" ،رئيس قسم التصوير في الدار ،والعديد من العاملين في الصحافة والنقد ال دبي والفني. أما "صلح جاهين"..فقد كان الفضل في تعرفــي إليـه يرجــع إلــى أخــي "عابد". قال وهو يقد م أخي -صديق أيا م العزوبية -إلى زوجته: ________________________________________________________ س" الفلسطينية ،قبل أن تتحول إلى )*( ولد "راجي عنايت" ،كما عرفت منه ،في بلدة "ملعبب ز مستعمرة إسرائيلية إسمها "بتاح تكفا".
216
" ..عابد"..أول فلسطيني حبيته ..و..ثم أكمل ،وهو يقد م زوجته إلينا: " ..ممنى"..آخرفلسطينيه حبيتها..*
*
*
وفي أحد المسيات ،وكان ذلك في أوائل شهر يونيه ،1968في منزل "ناجي شاكر" فاجأني الجمع بأنه قد تقررعرض فيلمي"حكايه" ،في النصف الثاني من ذلك الشهر ،في المركزالثقافي التشيكي. قالوا لي أنهم قــد قــاموا بكــل الســتعدا دات ،ومــاعلي إلأن أحضــرالفيلم الذي كان لصديقي"سامي"الفضل الول في وجو د نسخة منه معــي فــي القاهرة. فــي الموعــد المحــد د فــوجئت بحشــد مــن الفنــانين والكتــاب والشــعراء والصحافيين ،الـذين كـانوا فـي ذلـك الـوقت يعتـبرون مـن رموزالثقافـة العربية في مصر. شعرت أنني إزاء امتحان عسير .أكون بعد،ه..أو ل أكون! *
*
*
كان فيلم "حكاية" أحد أهم مسوغات تعييني مخرجا في قسم الدراما في التلفزيون .فلقد شاهد،ه العديد من المسئولين هناك ،كما تم عرضه كامل في أحد البرامج الثقافية .بل إنه ،مع المتيازات الخرى التي كنت قد نلتها ،كان سببا في إعفائي من أربع سنوات كان يفترض أن أقضيها كمساعد للخراج ،أسوة بما هو متبع مع خريجي معهد السينما في القاهرة. ولــم يكــن عــرض الفيلــم فــي صــالة المركــز الثقــافي التشــيكي هــو أول العروض ،ول آخرها .لكنه كان أهمها بالنســبة لــي ،مــن حيــث نوعيــة المشاهدين وأهميتهم وتأثيرهم. 217
218
219
كان معظم الحاضرين من الفنانين والمثقفين والنقا د قد سمعوا عن الفيلم ،وعن ذلك المخرج الفلسطيني الوافد حديثا ،والذي كثر الحديث عنه ،مما حفزهم للحضور ..متحفزين. كنت أشعر أنني أما م لجنة تحكيم جديدة ،ذات مستوى عال في تذوقها للفنون ،تنتظر منها أن تنطق بتقييم لعملي. وكان أن صفق الجمهور في نهاية عرض الفيلم .وذلك حتى تلك اللحظة هو الشيء العا دي. أما أن يطالب الجميع بإعا دة عرضه.. .. ..؟! فذلك ما أسعدني إلى درجة الرباك..وما سجله الكاتب "راجي عنايت" في مقاله الفتتاحي بمجلة "الكواكب" في عد دها الصا در في 25يونيه .68 لم يكن بمحض الصدفة ظهور مقال "راجي عنايت" في الصفحة الولى من مجلة "الكواكب" ،بعنوان "صدمة الهبوط ،**"..مع ظهور أولى صفحات "مجلة الغاضبين" في نفس العد د .فلقد اقتنع رئيس التحرير "رجاء النقا ش" بجدوى دعم "جماعة السينما الجديدة" ،التي ساهمت في تأسيسي كما ساهتمت في تأسيسها ،وأفر د لنل صفحتين أسبوعيا لنقو م بتحريرهما كما نشاء. وكان من أهم نتائج العرض أني تعرفت عن قرب بالمخرج "توفيق صالح" الذي حاول بلباقة شديدة أن يح و صنني من "صدمة الهبوط" إلى أرض الواقع ،والذي أ دلى في أحد لقاءاته الصحفية بكلمات كانت وستظل مصدرا لسعا دتي واعتزازي. ______________________________________________________ )**( أذكر أنه جاء في مقال الصديق"راجي عنايت" تساؤل يحمل شيُتئا من الستنكار لتكرار ظاهرة تغيير المبعوثين للخارج لنوع دراساتهم .وإن لم تسنح الفرصة لي بأن أشرح له أو لغير ه مفصل السبب أوالدافع الذي جعلني أقوم بهذا التغيير ،فلعله ،أو غير ه من المتسائلين ،أن يجد في مذكراتي هذ ه إجابة على هذا التساؤل أو ما يبرر ذلك التحول.
220
اختتم الحديث بقوله بالحرف الواحد: "..أعتقد أن غالب شعث سيكون من أوائل مخرجينا خللأعوام قليلة ..إنه يقطر فنا و موهبة وحسا سينمائيا سليما**"!.. *
*
*
_______________________________________________ )**( صديقي المهزار ،المونتير المعروف "أحمد متولي" ،دأب على تقليد أستاذنا توفيق صالح وهو يدلي برأيه هذا ،بدون أن يغفل عن لثغتة المميزة التي تقلب "الراء" إلى "غين" ،حينما كان يستعمل الكلمة الدارجة "يعخزر" بدل من "يقطر": ..غالب دا بيـ"خزغ" فن -
221
ملصق فيلم "حكايه" من تصميم سامي رافع
"إيفا" بطلة فيلم حكايه 222
أثناء تصوير فيلم "حكايه" في منزل إحدى الزميلت
223
مع "إيفا" بطلة فيلم حكايه التي وقفت أما م الكاميرا لول مرة
من فيلم حكايه
224
وزارة الثقافة.. لــدى وصــولي إلــى الســكندرية ،وجــدت بانتظــاري رســالة مــن مــدير المهرجان الميريكي ،الــذي جــرى بينـي وبينـه مــا يشــبه التفـاق علــى مشاركتي بفيلم "حكايه" ،وفي طي الرسالة نسخة من كتاب مــوجه مــن إ دارة المهرجان إلى وزيرالثقافة ،د .ثروت عكاشه ،يطلــب فيهــا تيســير و دعم هذ،ه المشاركة )!( قابلت الوزير ،الفنان بحق ،فرحب بي في و د وأبدى سعا دته واستجابته ،كما قا م بتكليف مدير مكتبه بتدبير عرض خاص له لمشاهدة الفيلم حال .وعندما سئلت عن مواصفات الفيلم تبين أن أجهزة العرض التي لديهم ينقصها إمكانية عرض الفل م ذات شريط الصوت المغناطيسي .فطلب مني الوزيرأن أتدبر المر. ذهبت إلى عميد معهد السينما في حينها ،الستاذ "أحمد الحضري"، فأبدى هو الخر ترحيبه بإعارة جهاز العرض المناسب لمكتب الوزير، شريطة أن يرسل مكتب الوزيرمن يقو م باستعارة واستل م جهاز العرض المطلوب ونقله إلى مقرالوزارة. راجعت الستاذ الحضري بهذا الشأن فكان ر د،ه دائما أنهم في انتظار من يقو م باستل م الجهاز. 225
راجعت مدير مكتب الوزير أكثر من مرة ،فكان ر د،ه أنهم سوف يتدبرون أمر نقل الجهاز في أقرب فرصة ممكنة. ويبدو أن تلك الفرصة لم تكن من الممكنات. وأذكرأنني انشغلت بالعدا د لول تمثيلية سهرة لي في التلفزيون.. "التركة" ،عن مسرحية قصيرة لنجيب محفوظ . وخلل تلك الفترة جرى تعرفي إلى مذيعة التلفزيون المتألقة "سلوى حجازي"..وكان أن قدمتني في برنامجها المتميز "شريط تسجيل".. كأحسن ما يكون التقديم .وحيث تطرق الحديث عن مهرجان السكندرية السينمائي الول..ومشاركتي فيه. * * *
226
مهرجان السكندرية السينمائي
عندما أقيم مهرجان سينما الشباب الول في السكندرية ،في أغسطس من عا م 1969كما أذكر ،برزت مشكلة جنسية ،أوجهة إنتاج ،فيلم "حكايه" مرة أخرى .واتضح فيما بعد ،أن المشكلة لم تكن في جنسية الفيلم .واتضح المر بشكل أكثر"وضوحا" ،عندماأصرمديرالمهرجان، الستاذ "أحمدالحضري" ،على عرض الفيلم "خارج نطاق التحكيم"، لتاحة الفرصة أما م أفل م أخرى لنيل الجائزة ،حيث أنه كان يرى أن فيلم "حكايه" كان ،من ناحية المستوى الفني ،خارج المنافسه)!( ..وليس من العدل أن يتنافس على الجائزة مع بقية الفل م،خصوصا وأنه في الصل-،بيني وبينك -من انتاج نمساوي يتميز بالمكانــــات المتاحة له ،والتي لم تتوفرللفل م الخرى المشاركه. 227
هذا ماقاله لي الستاذ "أحمدالحضــري" ،مــديرالمهرجان .وختــم أقــواله بوعد قاطع بمنح الفيلم جائزة تقديرية خاصه. عجبت لحجة مديرالمهرجان ،عميد المعهد العالي للسينما ،والتي شجبها الكثير من العارفين .فلم يكن هناك في الحقيقة ما يستدعي إفتراض وجو د تلك "المكانــــات" .فلقد شاركني في تنفيذ الفيلم ،كما تقول عناوينه ،خمسة من زملء الدراسة فقط. الزميل المصورالذي كنت أقو م أنا بمساعدته ،والزميلة مساعدة الخراج أو الـ"سكريبت" التي كانت تقو م بتسجيل الصوت أيضا، والتي جرى تصوير المشاهد الداخلية في بيتها ،وبطلةالفيلم ،وهي صديقة لم يكن لها أي علقة أوخبرة سابقة ** ،وبطله الطالب في معهدالفنون المسرحية ،ومن بعدهم الزميلة "هانيلوري" التي قامت بـ "مونتاج" الفيلم ..مقاس 16مم/أبيض وأسو د .أي أنه ينطبق على الفريق المذكور القول بأنهم قاموا بـ"غزل" الفيلم بـ"رجل حمار". وأخيرا ،كما قلت ،تنازلت عن عرض الفيلم في نطاق التحكيم. إل أنه يبدو أن الجائزة التقديرية الموعو دة قد ضلت طريقها إلي. *
*
*
______________________________________________________ )**( جرت العادة أن يستعين طلبة قسم السينما في الكاديمية ،لداء الدوارفي أفلمهم، بطلبة معهد التمثيل .وبالفعل تم اختيارالبطل والبطلة كماهو متبع .وتحددت مدةالتصوير بخمسة أيام.
228
وتمت استعارة معدات التصوير والضـاءة وتسـجيل الصـوت ومـا إلـى ذلـك لتلـك اليـام الخمسة .كما تم تنفيذ خطة العمل لليوم الول على أكمل وجه. وفي اليوم الثاني فوجُتئنا بعدم تواجد البطلة لرتباطها بعمل آخر خارج فيينا ! ولم يكن هناك من مخرج سوى الستعانة بتلك الصديقة ،التي اضطرت لطلب إجازة طارئة من عملها ،بعدإلحاح شديد من الفريق ،واستدرار شفقتها على "المخرج" اللي مستقبله بين إيديها وتحت رحمتها ،للقيام بدور البطولة دون أي دراية سابقة لها بأمور التمثيل أو الوقوف أمام الكاميرا. ويشاء الحظ أن يعجب بأدائها أحد المخرجين من أساتذتي ،فيسند إليها دورا صغيرا في أحد أفلمه ،لتصبح تلك الصديقة بعد ذلك ممثلة نمساوية ،شبه معروفة ،بإسم "إيفا سيعجر" ، Eva Sieger،هذا علما بأن كلمة "سيعجر" هي الترجمة اللمانية لمعنى السم،غالب ،الذي درج أصدقائي على مخاطبتي به هناك .وذلك لصعوبة نطقهم للسم العربي.
من طرائف الصحافة الفنية
يتصل بي الصحفي المعروف " ".. ..ليتفق معي على موعد لجراء حوار يتعلق بمشاركتي في المهرجان المذكور .وبعد إنهاء الحوار، يسألني عن إمكانية مرافقتي في سيارتي إلى السكندرية ،حيث تقرر إيفا د،ه لتغطية وقائع المهرجان السينمائي .ونتفق على أن أمر في صباح اليو م السبق ليو م الفتتاح ،للتقاطه بسيارتي من مسكنه. وعندما إلتقينا ألح في رجائه أن نمر ،قبل التجا،ه إلى السكندرية ،على " دار الهلل" لتسليم "ما دة المهرجان" )!( ولما قرأ أمارات التعجب والتساؤل المرسومة على وجهي ،قال: ماخوبيش عليك .أنا قلت أخلص من جزء من المقالت اللي مفروضأكتبها هناك..عشان ما أتزنقش..وبرضه الواحد يلقي وقت يتفسح في اسكندرية.
229
لم يكن قد شاهد فيلمي المشارك في المهرجان .وبالرغم من ذلك فقد ظهرعد د المجلة في الوقت المناسب وبه التغطية المطلوبة. وكان " ".. ..قد اكتفى بما قلته أنا عن الفيلم ،وما حصل عليه مني من الصور الفوتوغرافية التي ملت بعد ذلك صفحتين كاملتين من مجلته. على أن الكثر طرافة هو زميله الــذي طلــب منــي أن أكتــب بنفســي مــا أرا،ه مناسبا ،معلقا على"فيلمي" من وجهة نظرالمجلة الفنية الــتي يعمــل بها )!( * * * لكن ..لم يخل المرمــن صــفحات جــا دة تتنـاول العمــل تحليل وتقريظــا. يتصدى فيها للكتابة عنه جيـل مـن شــباب ذلــك الـوقت مـن روا د "النقــد السينمائي" أذكر منهم على سبيل المثال ل الحصر ..ســميرفريد..فتحــي فرج..سامي السلموني..صبحي شفيق..علي أبوشا دي..كمــال رمــزي.. رؤوف توفيق ..د .رفيق الصبان..محســن شــا،ه*..ويوســف شــريف رزق اــ..وفــوزي ســليمان..بالضــافة إلــى "شــيخ النقــا د" الســتاذ "أ .ك. مرسي" ..وهم الذين مازلت أحتفظ -باعتزاز -بمقــالتهم ..وآخريــن ل يتسع المجال لذكرهم. هذا ..إلى جانب استضافتي في برامج التلفزيون المهتمة بالثقافة والفنون. الحقيقة أنني كنت أشعر بأن باكورة أعمالي السينمائية "حكايه" قــد نــال حقه من التقدير والتكريم. هذا بالضافة إلى شعوري أنا بالتقدير ،والوفاء ،لما أضــافه لــي هــؤلء النقا د ،حينذاك ،وبعد ذلك ،من ثقة بالنفس ووضوح الرؤية بفضل نقدهم البناء. *
*
230
*
_________________________________________________________ )*( الفدائية "أ م العبد" ..كما ملقبت الكاتبة الصحفية والناقدة "حسن شا،ه" عندما ذهبت عا م 69 لترصــد نشــاط الفــدائيين الفلســطينيين أثنــاء أوج نشــاطهم فــي عبــور نهــر الر دن للقيــا م بعملياتهم الفدائية في الرض المحتلة. كانت الشارة إلى مقالها تتصدرالصفحة الولى في جريدة الخبارالصا درة يو م 75 /9/4 بالعنوان الملفت" :النور ..والظل في سينما غالب شعث"
عن الكتـــــــــــــــــــابة..
تنفرج أسارير رئيسة تحرير مجلة "حكايات الهلل للطفال" في دار الهلل ،السيدة "نتيله راشد" ،بمجر د أن سمعت أحد الصدقاء وهو يثني على لغتي اللمانية ،فتتناول من أحد الرفف كتابا حديث النشر قالت أنها حصلت عليه مؤخرا ،ضمن مجموعة أخرى من الكتب الفائزة في مسابقة لكتب الطفال ،من أحد معارض الكتب في ألمانيا الديمقراطية ،وتطلب مني أن أسدي إليها خدمة لن تنساها لي ،وهي أن أقو م بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية .تصفحت الكتاب ،الكتيب ،ولم أ در ما الذي دفعي ،في حينها ،لبداء استعدا دي وحماسي لذلك. في يو م تال ،قدمت لها الترجمة المطلوبة .ولم تمض أيا م أخرى حتى صدر العد د العاشر من سلسلة الكتب المعروفة "حكايات الهلل للطفال" بعنوان" ..أبطال صغار".
231
وهيهات أن أتخلص من إلحاح رئيسة التحريــر مواصــلة الترجمــة ،إلــى أن صــدر العــد د الثــالث عشـــر مــن المجموعــة بعنـــوان "الجعـــران السحري" ،رسو م الصديق الفنان "هبه عنايت" ،ومــن ثــم العــد د الســابع عشر بعنوان "عنبر وسكر" و رسو م صديقي "حلمي التوني". وكان أن تقاضيت مبلغ ستيــــن جنيها ،وهو ما كان يعا دل قيمة مرتبي لشهرين اثنين. ولم يكد صديقي "محمد صبري"** ،رئيس قسم التصوير في نفس الدار ،دار الهلل ،أن يتفرج على مجموعة للصور التي كنت قد التقطتها عندما كنت ،برفقة زميل الدراسة والصديق الفنان "سامي رافع" ،في رحلة إلى إحدى قرى النمسا" ،سانت مارجاريتين" ،التي اشتهرت بموسمها المسرحي المتميز ،حتى انطلق ليعرض فكرة عمل ملف مصور باللوان لمجلة "الهلل" على رئيس تحريرها ،الكاتب والناقد الكبير"رجاء النقا ش" ،الذي رحب بالفكرة، وطلب مني الكتابة عن ذلك الحدث الفريد. وهكذا ظهرت أولى كتاباتي في عد د يونيه 1968من المجلة المذكورة. ثم توالت الكتابة والترجمة في مجلة "الكواكب" ..ومجلة "السينما".. وغيرها .وأخص بالذكر الترجمة الكاملة لـ سيناريوهات بعض الفل م الهامة ،مثل فيلم "إنفجار" Blow upللمخرج اليطالي المعروف "مايكل أنجلو أنتونيوني" الذي أثارعرضه في ذلك الوقت زوبعة فنية. وهكذا اهتديت إلى طريق ممأعوبد ،ل غبار عليه ،لتحسين وضعي الما دي. *
*
232
*
____________________________________________________________ )**( الفنان محمد صبري الـذي أتـاح لــي فــي بيتـه المكـان الملئـم لكتابــة جــزء ل بــأس بـه مـن سيناريو فيلم "الظلل ،"...ريثما أهتدي إلى مسكن ملئم ،وحيث رافقني الفنان التشكيلي ذو الهتمامات السينمائية ،فخــري الليــثي ،الــذي واكــب أغلــب مراحــل كتــابتي للســيناريو وكان له الفضل في المساعدة على استحضار أجواء كلية الفنون الجميلــة القاهريــة ،كمــا كان له الفضل في تأكيد قناعتي بنقل أحد مشاهد الفيلم إلى "بيت السحيمي" العريق مم ا اعتبر ،في نظر النقاد السينمائيين ،ميزة وريادة في ابتكار أماكن التصوير السينمائي.
آلم السيد المسيح ..في قرية ألمانيه**
في اليونان ،قديما ،كانت هناك جماعة يطلق عليها إسم "أتباع ديونيزوس" .وكانت هذ،ه الجماعة تمارس ما يسمى بـ"الطقوس السحرية" التي تطورت إلى احتفالت دينية تقا م في مواسم معينة من كل سنة .وكانت هذ،ه الحتفالت مرتبطة بحياة "الله ديونيزوس" وهذا ما سمي بعد ذلك بـ"الدراما الموسمية". وكان قوا م هذ،ه الحتفالت هو الناشيد "الديونيزية ورقصات "الديثورامبوس" التي قال عنها أرسطوأنها أصل "الترجيديا الغريقية" .وقد تطورت هذ،ه الغاني الجماعية إلى أن اتخذت شكل "الكورال" .ومن الحوارالذي كان يجري بين الكورال وقائد،ه ولدت الدراما أوالمسرحية ،بعد أن أ دخل "أسخيليوس" عليها الممثل الثاني مما أ دى إلى غلبة عنصر الحوار على الغناء نتيجة لوجو د الصراع بين وجهات النظر .وأضاف "سوفوكليس" ممثل ثالثا مما زا د من أهمية النص ،وإثراء الحدث ،وإغناء الشكل.
233
كانت المسرحيات البدائية إذن ل تعدو أن تكــون تطــورا لتلــك الطقــوس الدينية التي قا م بها "أتباع ديــونيزوس" ،فهــي تحكــي قصــة حيــاة وآل م الله " ديونيزوس". وفي القدس ،قبل العــدوان الصــهيوني واحتللــه للمدينــة عــا م ،67كــان هناك موكب ديني ينطلق ظهر يو م الجمعة من كل أســبوع فــي "طريــق الل م" ) Via Dolorasaالذي يمر من أما م دارنا ف ي الق دس( .وه و الطريــق الــذي ســلكه المســيح عليــه الســل م حــامل الصــليب إلــى جبــل "الجلجله" ،حيث تقع الن كنيسة القــبر ..أوكنيســة القيامــة .إنــه الفصــل الخيرمن مأساة المسيح الذي رحل مؤمنا أنه يحمل معه آل م البشرية. ____________________________________________________________ )**( كانت مجموعة الصورالملونة التي نشرت في المجلة هـي الصــل فـي الموضــوع .لكــن الهتمــام بــالنص يــأتي لهميتــه فــي ســياق التنــويه عــن "العلم الــذكي"..واســتغلل اللــوبي،قــوى الضــغط الصــهيوني منــذ عشــرات الســنين لكــل مــا مــن شــأنه أن يســاند أغراضهم الستيطانية التوسعية.
وفي معظم بلدان العالم ،مــازالت الشــعائرالدينية تقــا م فــي ذكــرى "يــو م الجمعة الحزين". بعض هذ،ه البل د ل تكتفي بالمشهد الخيــر ،بــل يعــا د تمثيــل مأســاة آل م المسيح و صلبه بأكملها في "أسبوع الل م". كما درجت بعض بلدان أوروبا على تحويل هذ،ه الشعائر إلى مهرجانات تذكرنا بما سمي قديما بـ"الدراما الموسمية" ،وبالله " ديونيزوس" ،والحتفالت التي كان أتباعه يحكون قصة حياته وآلمه ،مؤكدين بذلك تقديسهم له. وأشهرهذ،ه المهرجانات وأقدمها هو ذلك المهرجان الذي يقــا م فــي قريــة "أوبر أضمرجاو" في ألمانيا. ولهذا المهرجان قصة: ففي عا م 1633اجتاح وباء الطاعون القرية ،وبلغ عــد د ضــحايا الوبــاء في القرية الصغيرة 84شخصا خلل شهور قليلة. وفي ذلك الوقت أجمع بعــض رجــال الــدين وشــيو خ القريــة علــى القيــا م بإعا دة تمثيل مأساة صلب المسيح كنوع من التقرب إلى ا والستجارة به .ومنذ تلك الساعة لم يصب أحد من أهالي القرية. 234
وأوفى أهالي القرية بالنذر ،وقاموا بتمثيل المأساة في مقـبرة القريــة .ثـم استمرت القرية في تقديم هذاالعمل مرة كل عشر سنوات. وسجل عا م 1960نجاحا كبيرا للموسم رقم ،34حيث قدمت القرية 93 عرضا شاهدها 518000متفرج. وبلــغ عــد د التقــارير والمقــالت الصــحفية ،المحليــة والجنبيــة ،حــوالي 6300مقال. لم تخل هذ،ه المقالت من نقد للنص الذي لم يتغير منــذ أن عرضــت فيــه التمثيلية لول مرة. وسلطت الضــواء علــى نــص آخــر يرجــع إلــى عــا م 1750مــن وضــع الروائي اليهو دي "فير ديناند روزنر". وظل النقا ش يدور في مجلس القرية حول النص الــذي ســوف يقــد م فــي الموسم التالي عا م .1970 وانقسم المسئولون على أنفسهم إلى فريقين: فريــق يطــالب باســتخدا م نــص "روزنــر" الــذي يتجنــب إ دانــة اليهــو د ويبرئهم ضمنا من د م المسيح ،و"ل يتسم بمعا داة السامية" )!( والفريق الخر ،وهوالغالبية ،يصرعلى استخدا م النص القديم الستعدا د به للموسم القا د م. إل أن المديرالمسئول حسم الموقف وقرر رفض نص"روزنر" قائل: "إذا كان ل بد من إيجا د نص جديد ..فما علينا إل أن ننتظر ظهور ذلــك الرجل الذي يدور حوله مضمون النص أول*". ونتيجة لذلك اســتقال مخــرج المهرجــان المثوــال "هــانس شــفايجهوفر".. وسافر إلى إسرائيل بدعوة رسمية منها. أمــا أحــدث هــذ،ه المهرجانــات،فهــو ذلــك الــذي يقــا م فــي قريــة "ســانت مارجاريتين" في إقليم "بورجنلند" في النمسا .تلك القريـة الواقعـة فـي وا د خصــيب تحيــط بــه جبــال مــا زالــت عليهــا آثارالرومــان القــدماء. والوا دي مشهور ،شأن معظم أراضي القليم المــذكور ،بكــرو م العنــب، وتصديرالنبيذ .ويعمل أهل القرية )3500نسمة( في زراعة العنب.
235
ويقا م هــذا المهرجــان فــي أشهرالصــيف .يشــترك فيــه ،تمــثيل وتنفيــذا، حــوالي 200رجــل وإمــرأة وطفــل مــن أهــالي القريــة ،معظمهــم مــن الفلحين ،هذا إلى جانب كورال مكون من 50مغن ومغنية. في سفح أحد الجبــال بنيــت ديكــورات ثابتــة مــن الحجــر ،تحســبها لول وهلة جزءا من مدينة القـدس القديمــة ،علــى مســاحة واســعة يرتـع فيهــا "جنو د الرومان" على خيولهم أما م جماهير المتفرجين. هذا ،وقد جهز هذا "المسرح الطلــق" بــأجهزة الصــوت اللزمــة والــتي تتيح للمتفرجين القا دمين من شتى النحاء متابعة الحوار. يعا د العرض عشرين مرة في السنة ،موزعة علــى خمســة شــهور ،مــن مايو حتى سبتمبر ،حيث يحين بعدها وقت الحصا د. ليس بين الممثلين أحد من محترفي التمثيل ،فمعظمهم من الفلحين. وبعد أن ينتهي موسم العروض ،يعو د "السيد المسيح" و "تلميذ،ه" إلــى _______________________________________ )*( يقصد عو دة السيد المسيح.
أعمالهم وحقولهم. ويعو د "بونتيوس بيلتــوس" إلــى معصــرته ،و"يهــوذا الســخربوطي" إلى دكانه. وتعــو د "مريــم العــذراء" إلــى تلميــذها فــي مدرســة القريــة ،و"مريــم المجدلية" إلى بيتها وزوجها. والممثلون الذين يقومون بال دوار الرئيسية معروفون في القريـة .ولكـل واحد منهم " دوبلير" أو خليفة. ول يحتاج منهم هذا العمل إلى جهد كبير ،فقد أصبح جزءا من حيــاتهم، يقومون بأ دائه طوعا على مر السنين طالما هم قا درون على ذلك. *
*
236
*
237
238
239
محطــــــــــــــــــــات..
من الشياء التي أوقن أنها "أكثرأهمية من أن يهملها المرء أو يتناساها" ،هي "محطات" الوقوف التي تشكل جزءا هاما من رحلة العمر .تلك الرحلة الطويلة في قطار يعج بالركاب ،يتوقف في هذ،ه المحطة أو تلك ،ركاب يصعدون ،وركاب ينزلون .منهم من يترك علمة في ذاكرتك ،ومنهم من ل تدري متى صعد أو متى نزل .منهم من لم يعرك اهتمامه ،ومنهم من اتسعت ذاكرته لملمحك. منهم من نسيك ،ومنهم من يتناساك. كيف يمكن أن نتعمبرعن تلك الفترات من مسيرتنا بــدون أن نقــف لنلتقــط أنفاسنا عند بعض"المحطات"؟ هل يمكن أن أتناسى رحلة البحث عن أول نــص لول "تمثيليــة ســهرة" سأقو م بإخراجها لتلفزيون ج .م.ع.؟ لم أكن قد أعد دت نفسي بما فيه الكفاية للقيا م بمثل هذ،ه التجربة التلفزيونية ،بالرغم من عملي كمتدرب في تلفزيون "فيينا" .ذلك بعد أن اكتشفت الهووة العميقة بين أسلوب العمل في ستو ديوهات كل من "القاهرة" و "فيينا"! يكفي اختلف لغة التواصل المتداولة بين الفنيين والفنانين ،و اختلف المسميات والمصطلحات ،إلى جانب اختلف المعدات .وقبل كل شيء ،معرفة أوساط الفنانين والفنيين أنفسهم. *
*
*
كنت أشعر بفداحة خسارتي عندما أراهم أو أسمعهم يتحدثون عن أشياء فاتني الطلع على تفاصيلها خلل مايزيد عن عشر سنوات قضيتها 240
في فيينا بعيدا عن الوطن العربي وما يدور فيه .هذا بالرغم مما كان يتيحه لي الحصول المنتظم على بعض الصحف والمجلت المصرية المهتمة بالثقافة والفنون بأنواعها ،ومنها اشتراكي السنوي الذي لم ينقطع بالمجلتين السبوعيتين المفضلتين ،في ذلك الوقت.. "روزاليوسف" و "صباح الخير". لكني سرعان ما كنت أستعيد ثقتي عندما كنت أراهم يستمعون لما أرويه عن مشاهداتي ،أو معلوماتي أو قراءاتي في أوروبا وعنها ،خلل تلك السنوات. وكان من أبرز ما اكتسبته هناك وما تميزت به هوإطلعي على النشاط التشكيلي والموسيقي والفني بشكل عا م ،والسينمائي بشكل خاص، بطبيعة الحال. إل أن عملي في القاهرة كمخرج ،ومعرفتي بالكوتاب والمخرجين والمسرحيين والفنانين التشكيليين ،يوسر لي وجعلك كثير التر د د على المسرح و الوبرا و دور السينما ومعارض الفنون التشكيلية. انهالت عليي منذ البداية إهداءات الكتب القصصية والروائية من مختلف المكوتاب ،و دعوات متتالية لحضور عروض مسرحية أو "بروفا جنرال" ،أو افتتاح "عرض أول" لفيلم ما ،أو العروض الخاصة بالنقا د والصحافيين للفنون الشعبية والغنائية والموسيقية. وهكذا ،وبالتدريج ،نمت معارفي التي شربتها من كتب سور الزبكية قبل أن يهدمو،ه .ومن دار الوبرا قبل أن يحرقوها .ومن مسارح الدولة قبل أن تقفر .ومن معارضها قبل أن متهجر. * * * طلب م ت من الستاذ الفاضل "سعد لبيب" أن ألتحق بإحدى دورات معهد التلفزيون ،فما كان منه إل أن سخر من تواضعي وأكد لي جا دا أنه يرى أن أتخلى عنه .بل أنه كان يرى أن ألتحق بالمعهد ..كمدرس! طلبت منه أن يرشح لي مخرجا لعمل معه كمساعد .فما كان منه إل أن عبرعن دهشته لصراري على العو دة إلى الوراء مضيفا أن قرار
241
تعييني كمخرج يتعارض مع عملي كمساعد ،إل في حالة قبولي للعمل كمساعد لمدة أربع سنوات ،كما هو متبع مع الخريجين الجد د. ثم كان أن عرفني بالمخرج "نورالدمر دا ش" الذي رحب بتوصية "سعد بيه" بأن "أرافقه" أثناء قيامه بمختلف مراحل العمل لمجر د التعرف على الفنيين والفنانين وأجواء العمل. وكانت تجربة! كررت التجربة مع مخــرج آخــر توســمت فيــه مــا كــان يفتقــد،ه المخــرج الول ،فلم أستطع ،أيضا ،الستمرار سوى لبضعة أيا م. اعترفت لـ"سعد لبيب" بفشلي فــي الســتفا دة مــن التجربــتين الســابقتين، فشــتان بيــن مــا تعلمتــه فــي"النمســا" ،وبيــن مــا أرا،ه فــي ســتو ديوهات "ماسبيرو" .فما كان منه إل أن نصحني أن أقضي فترة أتجول فيها بين مختلـف السـتو ديوهات بـدون أي الـتزا م مـع أي كـان مـن المخرجيـن. وقد كان. وعندما أحسست أنه قد آن الوان لكي أخوض التجربة الولــى ،أعلنــت عن ذلك ،فنصحني المخرج "نورالدمر دا ش" ،مراقب عا م قسم الــدراما آنذاك ،الملقب بـــ"ملــك الفيــديو" ،أن أختــار ،كبدايــة ،نصــا ســهل يلــبي ويخــاطب ذوق المشــاهد العــا دي"..إذا أر دت أن تصــل إلــى الجمــاهير مباشرة وتدخل بيوتها ،وقلوبها"! أمضيت فترة طويلة أتر د د بين هذا النص ،وتلك الرواية ،وذلك السيناريو .وعندما استقر رأيي على قصة قصيرة وجدتها تحمل المواصفات الموصوفة ،وتتحدث عن السلوك النساني والحب والكبرياء والتضحية و"الجدعنه" ،كما قال لي "ملك الفيديو"، وصا دف أن حكيتها لزميلي المخرج "محمد كامل" الذي كنت أستريح إلى رأيه .اعترض بشدة ،وقال محتدا قامعا: ما أنا برضه عملت الموضوع د،ه ،وغيري كتيرعملو،ه!إنت يرضيك تبقى نسخة مني والل من "نورالدمر دا ش" حتى؟ الموضوعات دي شغل صنايعيه .واحنا نعملها واحنا مغمضين.
242
إنت غيرمقبول منك إل حاجه "مختلفه" .حاجه ماحد ش عملهــا قبـل كــد،ه .وإل تبقــى مــاعملتش حــاجه .حتقــوللي إنــك مــش هــدفك تبقــى مخرج تلفزيوني .حقولك ولو .العمل حيتسجل ويتحسب عليك. قرأت فيما قرأت أن الفن عبارة عن "صدمة" يحــدثها العمـل الفنـي فـي المتلقي ،يكون هدفها و نتيحتها التغييـــــــــر. ولقد كان في ما مارسه معي زميلي من القمع ..شيء من الفن. أعا دني زميلي المخرج "محمد كامل" إلى صوابي. وابتدأت الرحلة من أولها. لكن كاتبنا "نجيب محفوظ" ما لبث أن اختصــني فــي أحــد أيــا م الجمعــة بصفحة من جريدة الهرا م تحتوي على مسرحية قصيرة تحــت عنــوان "التركة". لم أكرر قراءتها .ولم تمض أيا م حتى كنت قداتفقت مع الصديق ال ديــب "مجيــد طوبيــا" ،الــذي تــبين أن المســرحية بــاتت تشــغله أيضــا بمجــر د قراءتها ،على كتابة السيناريو. إليك يا صديقي المخرج المختلف "محمدكامل" أبعث ،أينما كنت، بتقديري واحترامي وعرفاني! ولم أكد أنتهي من تسجيل العمل الول حتى قدمني التلفزيون في برنامجه الشهير في حينه" ،حياتنا الثقافية" ،من إعدا د الكاتب "سيد خميس" ،وتقديم العلمي"عباس أحمد" .وهوالبرنامج الثقافي المتميز الذي استضافني قبل ذلك مع عرض لفيلمي"حكايه" ،حيث دار الحوار حول تمثيلية "التركة" التي وصفت ،بعدعرض أجزاء منها ،بأنها عمل طليعي مضمونا ..وشكل. في موعدعرض السـهرة ،كمــا جــاء فــي دليـل البرامـج التلفزيونيـة فـي الصحف اليوميــة ،تجمعنــا فــي بيــت الصــديق الفنــان "بهجــت عثمــان" انتظارا للحدث الها م. لكن ،وبعد طول انتظار ،وجــدنا أنفســنا أمــا م ثمثيليــة أخــرى .بــدون أي إعتذار! وتبين بعد ذلك أنه قد تم منع عرض "التركة" ..رقابيا! 243
مرت أسابيع من مراجعاتي المتكررة وعنا دي بالمتناع عن أي عمل آخر قبل أن يتم عرض "التركة" ،أوإفا دتي عن أسباب منع عرضها، ولكن عبثا حاولت .إلى أن همس لي الصديق والزميل المخرج " م.كامل" بما معنا،ه أن هناك من يرحبون بعنا دي وامتناعي عن مواصلة العمل )!( لجأت ،تجنبا لكل ما من شأنه أن يثير حساسية "الرقابة" ،إلى القيا م باختيار أعمال مسرحية "عالمية" وترجمتها وكتابة السيناريو لها. فكانت تمثيلية "رجل خطير"* من ال دب اللماني. ومن بعدها تمثيلية "البالطو الجديد" من ال دب النجليزي. إلى أن تمت إجازة نص "رحلة عم مسعود" للمسرحي الكبير "محمو د دياب" ..إلخ ويرتبط ذكر الصديق ال ديب "مجيد طوبيا" في ذهني بفترة غليان الرا دة الشعبية المصرية ،ومظاهرات الطلبة ،وظاهرة "الشيخ إما م". وقد كان "مجيد"** هو أول من عرفني بـ"حو ش قد م" ،والشيخ إما م وأغنياته الجريئة الرافضة لهزيمة 67من كلمات الشاعر"أحمد فؤا د نجم" ،المختلفة ،والذي خلته يتحدث بلسان حالي عن هزيمتي وعن مدينتي السيرة "القدس" عندما كان يقول: "حبيبتي يا مدينه ..متزوقه وحزينه..في كل حار،ه حسر،ه ..وفي كل قصر زينه .ممنوع من المناقشه ..ممنوع من السكات ..وف كل يو م في حبك ..تزيد الممنوعات .".وغير ذلك من الشعار الموجعة. وسرعان ما كان جميع أفرا د مجموعة الصدقاء يتناقلون أخبار الثنائي ويتخاطفونهما في سهرات منزلية .وعرف "حو ش قد م" السيارة "الوبل البيضا" التي باتت تحملهما في كل مرة إلى منزل آخر من ___________________________________________________________ عندما فوجُتئت بتصنيفي ككاتب سيناريو فُتئة رابعة )بأجر قيمته ثمانية جنيهات(. )*( سألت مراقب التمثيليات عن السبب فأجاب :لنك ما زلت مبتدئا! هذا وقد جاء في تقرير لجنة المشاهدة )استمارة التقييم( ليوم ،30/7/69بالحرف الواحد: "تمثيلية جيدة الموضوع امتازت بإخراجها وتمثيلها الرائع ،فهي في نظري ل تقل عن أي حلقة أجنبية"(!) ... )**( وهو أيضا أول من أخبرني عن نية بعض السينمائيين الجدد من الشباب بتكوين تجمع خاص بهم ..وذلك ما أسفر عن اشتراكي معهم بتأسيس "جماعة السينما الجديدة".
244
منازل أفرا د مجموعة الصدقاء .وذلك مما كان له دور،ه في توسيع دائرة الصدقاء من المثقفين والفنانين. كان الصديق الناقد "رجاءالنقا ش" هو أول من اهتم بهما وبزميلهما المثال "محمو د اللبان" فعمل على إقامة معرض لعماله التلقائية الفطرية في دارالهلل بعد أن أقيمت في نقابة الصحفيين أول حفلة عامة للشيخ إما م ،استمع فيها الناس إلى الغنية التي تقطر فجيعة وألما وسخرية" ..آخر خبر في الرا ديوهات ..جيفارا مات.".. "جيفارا " ..الذي بات يجسد الرمز للتضحية والصدق واللتزا م. "جيفارا" ..الذي وصفه "سارتر" بأنه أحد أكبر رجال عصرنا ،وأكثر شخصياته اكتمال. ومما هو جدير بالذكر أن الناقد الكبير "رجاء النقا ش" ،هوأيضا ،أول من قد م شعراء الرض المحتلة ،شعراء المقاومة الفلسطينية ،إلى القاريء العربي ،وبشكل مدروس. * * * لكني سـرعان مـا كــدت أن أزهـد فـي المواظبـة علــى حضـور المســيات الــتي كــانت تستضــيف "الشــيخ إمــا م" و "أحمــد فــؤا د نجــم"، والحرص على التسجيلت الصوتية التي كنت أقـو م بهـا )علـى جهـازي الجرونــدج اللمــاني النــف الــذكر( وبتوزيعهــا علــى الصــدقاء .ذلــك بــالرغم مــن إعجــابي الشــديد بألحــان الول و بأشــعار الثــاني الثــائرة الرافضة للهزيمة .وبالرغم من أني كنت أعتبرهــا إحــدى موجــات النقــد الذاتي العربي ،التي تحدث عنها المؤر خ اللبنــاني "قســطنطين زريــق"، والتي كنا في أمس الحاجة إليها بدليل انتشارها وذيوعها "عربيا" ،وهــو ما كنت أرا،ه ظاهرة صحية. ففي إحـدى المسـيات الشـتوية ،كنـت أجلـس فـي العوام ة ،الـتي كـان صديقي "المونتير" أحمد متولي يتخذها مسكنا لـه ،وقــد اكتظـت بـروا د جد د من أنمــاط متباينــة مــن "متثقفيــن" و"متمركســين" ل تــدري كيــف وجدوا طريقهم إلى العوامة. من بينهم من وضعت على كتفيها فراء ثعلب ،وتلفحت الخــرى بلفحــة صــوف "مــوهير" ،وثالثــة تنفــث فــي تأمــل صــوفي دخــان ســيجارة 245
الـ"كنت" ،الميركانية ،الممهورة بــأحمر شــفاهها .وأخــرى تمســك بيــن إصبعيها سيجارة أرفع من السجائر المألوفـة وأطـول منهـا اسـتخرجتها لتوها من علبة أنيقة عليها إسم غير مألوف ،وهي تمسك بنفس اليد كأسا كا د أن يفرغ مـافيه مـن الويسـكي" ،أون ذي روكـس" ،تحركـه متمايلـة على إيقاع مقطع مــن الغنيــة الطازجــة الــتي تهــز المشــاعر وتســتنطق الجمــا د "جيفــارا مــات ،"..فتصــدرعن كأســها رنــات قطــع الثلــج علــى الجدارالبلوري ،لتتآلف مع ترنيمات الشيخ إما م المو وقعة الساخرة: "..مــارأيكم دا م عزكــم ..يــا أنتيكــات ..يــا دفيــانين ومــولعين الــدفايات.. يــامحفلطين يــاملومعين ياجيمســينات ..يــا بتــوع نضــال آخــر زمــن فــي العوامات". وأكا د أوقن ،في خضم هذا الخليط ،أن حضورالبعض لمثل هذ،ه المسيات ما هو إل من باب اللهفة للتظاهر بالولء للوطن .وشيء يشبه محاولت "إبراء الذمة" أو" ..غسيل الذمه" ،على وزن "غسيل الموال" ،بحيث تكا د تفرغ تلك المسيات من مضمونها النبيل. *
*
*
و"معركة الكرامة" ،مارس ،68ذلك الوهج الذي تألقت به الثورة الفلسطينية ،والذي أوحى للفنانين من كل أنحاء الوطن العربي بأعمال تكا د ل تقل أهمية عن العمل الفدائي نفسه .كان من أبرزها مسرحية "النار والزيتون" ،من تأليف "ألفريد فرج" وإخراج "سعد أر د ش"، الذي طالبني بالشراف على حوار المسرحية الفلسطيني ،وإن لم تتحقق هذ،ه التجربة بسبب ضيق الوقت .فقد كانوا قد قطعوا شوطا كبيرا في التدريبات ولم يكن متاحا لي أن أعو د بهم إلى البداية .ومن بعدها مسرحية "وطني عكا" ،تأليف "عبدالرحمن الشرقاوي" ،والتي أ دين لها بصداقتي مع الموسيقار "المستشار" القانوني "كمال بكير"، صاحب موسيقى وألحان المسرحية .أما مخرجها "كر م مطاوع" فقد عا د بي إلى ذكرى لقاءنا الول ،عا م ،59حيث قضينا أياما ممتعة على متن الباخرة اليطاليه "إسبيريا" ،هو في طريقه إلى مقر دراسته في 246
"روما" ،وأنا في طريقي إلى "فيينا" .وهو الذي أنعم علي مؤخرا بلقب زا دني إعتدا دا بنفسي"..المخرج متعد د المواهب". وذلك اللقاء مع "أبوالهول" ،هايل عبدالحميد ،عضواللجنة المركزية لحركة "فتح" ،والمسئول العلمي ،في مكتبه في القاهرة ،الذي سعيت إليه لعرض خدماتي من خلل موقعي بالتلفزيون ،فطالبني بالتفرغ والسفر في الحال إلى "الغوار" ،وذلك لمهمة تتلخص في "مرافقة مجموعة فدائية تتسلل إلى الرض المحتلة والقيا م بتصويرالعملية الفدائية سينمائيا")!( وعبثا حاولت أن أقنع أحد "البوات" الحاضرين بالصدفة ،وأظنه "أبو صبري" ،أن مجبني الذي اتهمني به سوف يتسبب في إفشال العملية الفدائية ذاتها إذا ما رافقتها لهذا الغرض ،بينما لو أننا أتحنا فرصة التدريب لحد الفدائيين على استعمال الكاميرا الخفيفة فإننا سنحصل على نتائج أفضل بكثير. وما زالت كلمات "أبوصبري" الغريبة ،التي لم أسمعها من قبل ،عن "التصفية الجسدية" للمتقاعسين ،ترن في أذني. كان ذلك الموقف بمثابة صدمة بالنسبة لي ،تنم عن مدى عجز "إ دراك" قيا داتنا لدورالفن وقيمته ووظيفته. لكن ،شاءت الصدف أن أتعرف عن قرب على أحد قا دة الثورة الفلسطينية" ،أبو إيا د" ،عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" ،الذي أعا د لي ثقتي بوعي قيا دة الثورة. *
*
*
وذلك اللقاء الذي جمع بيني وبين الكاتب الفلسطيني "زين العابدين الحسيني" لول مرة في بيت صديقي "ناجي شاكر". كانت تلك هي روح "الكرامة" ،الروح المستمدة من النتصار في معركة "الكرامة" الشهيرة عا م ،68التي جعلت ال ديب يسعى للقاء 247
المخرج ،بدون سابق معرفة ،وبدون أي حرج ،من أجل التعاون لتقديم ما يمكن تقديمه من أجل الهم المشترك ،وحيث تم التفاق على إعدا د روايته "سر البوري" وتحويها إلى فيلم سينمائي. *
*
*
ثم يلي ذلك ،ذلك اللقاء الول والها م الذي كنت أنتظر،ه بفارغ الصبر، والذي أ دركت أن وقته قد حان عندما كنت في زيارة بدون موعد سابق للصديق "زين العابدين" في مقرعمله في "إذاعة فلسطين" ،بشارع الشريفين ،حيث صا دف أن قابلت د.نبيل شعث الذي با درني بسؤاله باسما كعا دته ،ولكن بشيء من الدهشة: إيش عورفك؟! ... ...؟ كيف عرفت إنه "أبوعمار" جاي اليو م؟أجبته مازحا وأنا أحاول أن أخفي فرحتي وأن أبدو كما لو كنت أعرف عن الخبر الغير معلن أكثر مما تحمل ملمحي: يبدو أنها الحاسة السا دسة.أطلق لضحكته العنان ،كعا دته أيضا ،ثم همس لي قبل أن ينشغل بالحديث مع آخرين: لما يوصل خليك جنبي ،عشان أعورفه عليك.بعد الديباجة اللزمه ،وبينما "أبوعمار" ما زال يغدق علي بترحيبه بطريقتة التي توحي بأنه يعرفك حق المعرفة ،تطرق نبيل للحديث عن السينما ،و دورها في العل م ،وعن ضرورة وجو دي في "بيروت"، الشيء الذي كنت أسعى إليه. وهنا زا د انفراج شفتي "أبوعمار" عن ابتسامتة الشهيرة الواعدة، وعا د يغمرني بفيض من مشاعر،ه البوية الفياضة: ..طبعا ..طبعا ..إحنا محتاجين للشباب اللي زيك .فإلى لقاء قريبفي بيروت! 248
ولم يلبث أن صدر قرارالقائد العا م "أبوعمار" بتفرغي للعمل في دائرة "العل م الفلسطيني الموحد" ..في بيروت. *
*
*
أما عن لقائي الول مع شاعرنا "محمو د درويش" ،الذي اتخذ شكل على قدر من الطرافة ،فل بد من التأكيد هنا بأن الفضل في معرفتي به ،غيابيا ،وتعلقي به كشاعر فلسطيني يرجع إلى الصديق الناقد الكبير"رجاء النقا ش" وكتاباته الشهيرة للتعريف بشعراء المقاومة، وللتأكيد أن هناك في فلسطين المحتلة عربا ما زالوا صامدين يدافعون عن حقهم وعن هويتهم. كنت )في فبراير (1971أجلس مع صديقي "مختاريونس" ،الذي كان في ذلك الوقت يعمل معي مساعدا للخراج ،في الصف الثاني من صالة "مسرح الطليعة" ،لمشاهدة مسرحية "الغول"** للكاتب اللماني "بيتر فايس" ،عندما حانت من الكاتب الكبير والمفكر "محمو د أمين العالم" ،الذي كان يجلس أمامنا في الصف الول إلتفاتة أعقبها تبا دل التحية في صمت. لم أ در ما الذي شد إنتباهي وأثار تطلعي لتحقق من شخصية ذلك الجالس إلى جانبه ،أمامي مباشرة ،وجعلني بالتالي أطل من خلفه إلى الـ"بروفيل" الذي ل يخفى على أحد. إنه أنف "محمو د درويش"! معقول؟! همست له من خلفه متسائل ،بل مقدمات: ..محمو د درويش؟______________________________________ )**( جدير بالذكر مبلغ إعجابي بموسيقى وأغاني المسرحية المذكورة التي قام بوضع ألحانها الموسيقي الشاب عبد العظيم عويضه ،مما حفزني على تكليفه بعد ذلك بوضع ألحان وموسيقى فيلمي الروائي "الظلل في الجانب الخر" .وقد كانت تلك هي تجربته الولى مع السينما أيضا
التفت مرتبكا ،ثم أ دار وجهه عني بتلقائية حذرة وهو يهز رأسه فيما يشبه النفي .وضعت يدي على كتف د".محمو د أمين العالم" ،الذي أحس 249
بما يجري ،كأنني أستنجد به ليحل هذا اللغز .لم ينكر .لكنه وضع سبابته على شفتيه ثم أر دف هامسا: ..بعدين ..بعدين.في اليا م التالية ،تناقلت الوساط الثقافية خبر خروج الشاعرالفلسطيني محمو د درويش من فلسطين المحتلة 48ووصوله، سورا ،عن طريق موسكو ،إلى مصر للقامة فيها. بلغني بعد ذلك أنه كان قد حصل على منحة دراسية من أحد جامعات موسكو .لكنه بعد مرور عا م قرر اللجوء إلى مصر. وقد تم تعيينه ،خلل عامي 71و 72في جريدة الرهرام حيث قضى تلك الفترة مع "نجيب محفوظ" و"بنت الشاطيء" و"يوسف إدريس" في مكتب واحد. كم أحزنني خروج محمو د درويش من فلسطين! خيل إلي أن أحد رموزالصمو د في الوطن المحتل قد انهار .كنت أريد،ه هناك .كنت أتمنى أن نذهب نحن إليه -عائدين -إلى فلسطين. عند زيارة الشاعرة "فدوى طوقان" لمحمو د درويش في حيفا – إثر هزيمة حزيران واحتلل إسرائيل لبقية فلسطين -قال لها: " ..أخشى أن يأتي يو م يأتي فيه نزار قباني لزيارتنا".ويبدو أن خوفه من أن يرى ذلك اليو م ،يو م يأتي شعراء من سوريا والر دن ولبنان ومصر..إلخ ،لزيارة "حيفا" ،هوالذي جعله يفضل أن"..يحمل حقيبته ويسافر" ،ول يكترث لغضب أبيه الذي كان قد.. "نها،ه عن السفر". وفي قصيدة )رب اليائل يا أبي( صرح ،بعد ذلك ،مخاطبا أبا،ه إثر وفاته: " ..وذهبت وحدي كي أطل على القصيدة من بعيد"..مؤكدا لنا أن تغييرالموقع..ل يعني أبدا تغيير الموقف.
250
وأيقنت بعدها أن وجو د،ه على مختلف المنصات الشعرية في مختلف بل د العالم كان ضروريا .وأن خروجه من "حيفا" المحتلة أهون عليه وعلينا من زيارة "فدوى" ،أو "نزار" ،وغيرهما ،لها. ومرت اليا م.. وأقنعتني ،بعد ذلك ،الشاعرة "فدوى طوقان" حين قالت أنه خرج ليبدأ مرحلة جديدة لبداعه الشعري ،ولكي تقوى أكثر فأكثرعلقته بالوطن البعيد. خرج لنه يحبها لدرجة الوجع ،وبالتالي لم يعد قا درا على البقاء فيها. وفهمت معنى تلك القوة التي ألحت على محمو د درويش بترك فلسطين المحتلة التي ظلت حاضرة في كل قصائد،ه ،حتى عندما يتحدث عن مشاعر الحب ..والغزل. "عيونك شوكة في القلب ..توجعني ..وأعبدها". * * * ثم يأتي "أيلول السود" ،الذي مازال يضاهي الليل سوا دا في تاريخنا. وما زال يومه الثامن والعشرين من عام السبعين بعد المُتئة التاسعة عشر يعو د إلينا ليذكرني بالمعنى الخر للميتم. ذلك حينما فقد العالم العربي رجل أعطى هذ،ه المة بحق فكرة عن إمكاناتها. قد يخالفني الرأي من يشاء .ولكنني ،كفلسطيني ،ل أستطيع أن اتنكر لمن انفر د في يو م ما في الوقوف إلى جانبي وفي تجسيد حلمي في الوحدة العربية ،والعمل على استعا دة "ما أخذ مني بالقوة.".. والمهم بالنسبة لي ،قبل كل شئ ،هو المبدأ الصحيح ،وليس القائل بهذا المبدأ. *
251
*
*
252
أم العابد
أبو العابد
253
أمي ..وأبي..
تهاتفني شقيقتي الكبرى "محسن" ،من السكندرية ،صباح يو م الربعاء 9ديسمبر من عا م ،1970بصوت كدت أن ل أتعرف على صاحبته. تطلب مني الحضور لمرها م ،وهي التي تعرف مدى إنشغالي في التحضير لفيلمي الروائي الول .لم أستطع إزاء إصرارها إل أن أستقل سيارتي وأسارع بالسفر. ويعلم ا كيف نهبت عجلت سيارتي الطريق الزراعي من القاهرة إلى السكندرية. كانت أمي ،في الفترات الخيرة ،تعاني من مرضها بذات القلب. هل اشتد المرض لدرجة تستدعي حضوري؟ فتحت لي الباب شقيقتي الخرى"منوور" ،وانفجرت باكيــة وهــي تلهــج ..أبوك..أبوك يا غالب!لحقت بها "محسن" وهي تحاول أن تهدئها خوفا من أن تصحو والــدتي فتعرف الخبرالذي أوصى الطبيب بعــد م تســربه إليهــا .ثــم ســاقتنا إلــى غرفة الصالون ،وأغلقت الباب بحرص. *
254
*
*
لم تحتمل أعصاب أبي تلك النوبة من نوبات المرض التي كانت تصيب "إ م العابد" ،أمي .بات يتمتم ،في غدو،ه ورواحه وبعد صلواته وقبل نومه وبعد صحو،ه ،بدعواته المستجيرة بال وبرحمته. "يا خفي اللطاف ..ألطف بنا يارب". هذا إضافة إلى دعوته المعروفة كلما أصاب "إ م العابد" مكروها. "ربنا يجعل يومي قبل يومك يا رشيد،ه". لحظ الطبيب توتر،ه وشحوبه ،فكان أن أوصا،ه بالنتقال للنو م في غرفة أخرى غيرغرفتهما. وفي فجر ذلك اليو م ،لحظت "محسن" هدوءا غيرعا دي يغمرالبيت. لم تسمع خطوات والدي وتنقلته بين الغرفة والحما م والصالة التي تعو د أن يقيم فيها صلة الفجر في موعدها ،حاضرا ،ومن ثم يبدأ في تلوة آيات من القرآن بصوت مسموع. كان من الطبيعي أن تؤثر شدة التوتر والسهد والرق على موعد صحيان "أبوالعابد" لممارسة طقوسه الفجرية. لكن ،وبالرغم من ذلك فقد نهضت الشقيقة الكبرى ليطمئن قلبها. كانت أسارير،ه توحي بالراحة..البدية. وبهدوء العقلء ،اتصلت بالطبيب الذي قا م بتحرير شها دة الوفاة وبالتصال بسيارة المستشفى لنقله إلى بيت الشقيقة "إكتمال" في منطقة سموحه ،من حيث تقرر أن تتم مراسيم الدفن .كل ذلك بدون أن تشعرال م بما يجري .فلقد احتاط الطبيب لذلك ،بإعطائها ما يلز م من المهدئات أو المنومات. *
*
*
في اليو م التالي ،فوجأئت أمي بوجو دنا ،أخي"عابد" القا د م من السعو دية ،في غير موعد ،وأنا التي من القاهرة بالرغم من إنشغالي. ولم يكن من الصعب أن نؤلف لها "سيناريو" مفصل يفسر ويبرر كل ما كان يثير دهشتها وشكوكها حول غياب "أبوالعابد" .وكان الطبيب
255
قد قا م بدور،ه في إقناعها بوجوب إنفصالهما لبضعة أيا م حرصا على صحة الطرفين. إل أن نظرتها المتأرجحة بيني وبين أخي ،وابتسامتها التي كانت تحمل صنوف المعاني ،كانتا تحملن إلينا إيحاء بأنها قد رضيت بالمر الواقع .وفي بعض الحيان كانت تستجمع شجاعتها وتسأل برجاء يائس :فين "أبوالعابد"؟ وعندما ل يشفى غليلها من إجاباتنا المراوغة ،كانت تعو د إلى ابتسامتها الموجعة ،ذات المعاني. ومع ذلك فقد أصر الطبيب على الستمرار في تأ دية ال دوار ،بالرغم من تحسن صحة أمي تحسنا ملحوظا جعله يلح في طلبه أن يغا در كل منا السكندرية لللتحاق بأعماله. سافر أخي "عابد" بعد أيا م ثلثة ،وبعد أن تم التفاق على أن أبقى لحضور أول "خميس" لتقبل العزاء في والدي كما تقتضي التقاليد. ظل متماسكا حتى اللحظة الخيرة ،حيث أفلتت منه دموعه ،لول مرة ،بينما كنت أو دعه في المطار. نويت العو دة إلى القاهرة في مساء يو م الجمعة .لكن شيئا ما في نظرات أمي كان يستبقيني. في فجر يو م السبت 19ديسمبر ،1970أيقظتني "محسن" سائلة إن كنت أرغب في رؤية أمي قبل أن تسلم الروح. كانت عيناها ما زالتا ترسلن تلك الشارات الصامتة المبهمة التي حرت في تفسيرها. قرأت فيهما تارة شيئا من التها م لنا بتقصير ما. ورأيت فيهما تارة أخرى شيئا من العتاب. ثم أمعنت النظر ،فإذا هي نظرات تتأرجح بين الرجاء ..والرضاء! *
256
*
*
خلل عشرة أيا م فقدت الب وال م ،أنا الذي كنت أموني النفس بلحظات السعا دة التي سوف يضفيها نجاح مشروعي الثقافي والوطني عليهما .ذلك النجاح الذي كنت أرى فيه تعويضا لهما عن سنوات غربتي الطويلة عنهما. ل أذكرعد د اليا م الكئيبة التي تلت ذلك .لكنني أذكر أن صديقي "مختار يونس" ،الذي كان يفترض أن يكون مساعدي في الفيلم الذي وافقت مؤسسة السينما على إنتاجه ،بالشتراك مع "جماعة السينما الجديدة" ،جاء إلى السكندرية لنتشالي من أحزاني. وكان العمل ،كما يقولون ،هو فعل "بلسم الحزان". *
*
257
*
258
259
جريدة الرهرام 25/7/74
260
261
الظلل في الجانب الخر"
كما سبق وأن ذكرت في البداية أن فكرة تسجيل تجربتي السينمائية، بشكل عا م ،كانت قد خطرت لي ،أوعلى الصح قد تبلورت ،بينما أنا أكتب المقالة التي طلبتها مني مجلة "أ دب ونقد" القاهريه ،كمساهمة في الملف الخاص الذي تعد،ه المجلة عن الكاتب الروائي والمسرحي "محمو د دياب" ،بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله. *
*
*
هكذا بدأت مقالتي أو مساهمتي في ذلك الملف: أن نقوم بإحياء ذكرى مبدعينا بعد رحيلهم ،ففي ذلك تكريم لهم يقتضيه الوفاء .ولكن أن يقتصر هذا التكريم على شعائر تقام كل عشر سنوات ،أو حتى كل سنة ،فذلك هو أضعف اليمان .بل هو في رأيي أشد الكفر ..والجحود! هل صدرت طبعة واحدة من "العمال الكامله" لمحمود دياب؟ هل أخذت أعماله المسرحيه حقها على مسارح الدوله؟ هل تحولت رواياته أو قصصه الى أعمال درامية في التلفزيون؟ ولنترك الحديث عن السينما ،لنه لم يعد هناك وجود للقطاع السينمائي العام الذي كان يمكن أن يتحمل مثل هذا "العبء"! ففي أيام "عز" القطاع العام ،احتاجت "جماعة السينما الجديد ه" لما يقارب الثل ث سنوات من النضال لكي تحول إحدى روايات محمود دياب الى فيلم سينمائي .ذلك بعد أن تنازل هو وحشد من الفنانين والفنيين عن أجورهم لكي يتحقق ذلك. ما زال هناك بصيص من المل .وهو أن تتاح الفرصة لحد "المناضلين" في التلفزيون -بالذات -لن يجمع ما يستطيع جمعه من الرشيف ،ويحاول أن يضيف سهرة قيمة الى سهرات التلفزيون. 262
وأعني "تحقيقا" يوفي محمود دياب بعضا من حقه ..يحيي ذكرا ه.. ويعرف الجيال به. وإذا كان ذلك البصيص قد اختفى من أفق السينما بعد تدفق "مشاريع الخصخصة"! فما يدريك؟ فقد تبلغ الجرأة بصندوق النقد الدولي ،مثلما أوصى بالمس ببيع "ميناء العقبة" للقطاع الخاص ،أن يوصي ببيع التلفزيون ،ومن قبله أو من بعد ه ،أن يوصي ببيع قناة السويس أيضا!
لكن صديقي الناقد ال دبي "فاروق عبد القا در" ،الذي كان قد قا م بترشيحي لهذ،ه المساهمة ،كان يرى ويحبذ حذف تلك المقدمة. وظهرت المقالة في العد د 89من مجلة "أ دب ونقد" الصا درة في أكتوبر 1993كما يلي:
263
"حكايات مع محمو د دياب"
تعــدد مصـادر النــور
لدى عو دتي ،بعد حوالي أحد عشرعاما قضيتها بعيدا عن الوطن العربي ،كان ل بد من أن أحاول -بالقراءة -أن أعوض ،بقدر المكان ،وأن أستزيد من أسباب التواصل مع مجتمعي القديم الجديد. ل سيما وأن عملي سوف يعتمد إعتما دا وثيقا على هذا التواصل. كان ،طيب الذكر ،سورالزبكية ،هوأحد المصا در بل أهمها ،إذا أخذنا "الدخل" المتواضع المحدو د للموظف بعين العتبار .فقد مو ر ظف م ت ،في نهاية عا م ،67مخرجا في قسم التمثيليات بالتلفزيون. كانت رواية "الظلل في الجانب الخر" إحدى الغنائم التي خرجت بها من جولتي الروتينية الكثيرة حول "السور" .وكنت ،في ذلك الوقت ،أبحث عن "نص" يصلح لول تمثيلية سهرة تلفزيونية سأقو م بإخراجها. أخذتني الروايـة ،ابتـداء مــن عنوانهـا الغنـي باليحـاءات ،الـى أجــواء الفنانين التشكيليين التي لم أكن بعيدا عنها. الشباب الباحث عن مصابيحه في عتمة الضياع ،بين افتقا د للحساس بالستقرار والمان ،وأمل في مستقبل أفضل يلوح بريقه ثم يخبو ،حسب اتجا،ه رياح الصراعات الدولية التي تؤثر في أوضاع المنطقة بكاملها. موهد "محمو د دياب" لذلك ببراعة مذهلة ،في تلك "العووامة" التي تسكنها مجموعة من طلبة كلية الفنون الجميله ،ينتمون الى أماكن متباعدة من )الوطن العربي( مصر. 264
"العووامة" المهتزة دوما من تحتهم .المرتبطة بأرض الواقع بحبال قديمة واهية ،وجسر خشبي ل يكف عن النين تحت وطأة أقدا م العابرين .وذلك العالم المتضارب من اللوان والتكوينات والنظريات والمذاهب ..والصوات والمشاعر ..والعمل والفشل ..والمحاولة والمل ..والرفض ..والصرار ..والحب ..والغيرة ..إلخ كل ذلك في رواية ظهرت في عا م .1963 هل كان محمو د دياب يستشعر الهوزات؟ هل كان يحذر من كارثة أسموها بعد ذلك بالنكسه؟ لقد لمست سخريته المريرة من بعض الشعارات النبيلة في تلك المرحله ،مند دا بذلك بأسلوب التعامل مع تلك الشعارات. كان ل بد من أن أتعرف بهذا الكاتب الذي أعترف بأنني -حتى ذلك الوقت -لم أكن قد قرأت له .ولم يكن ذلك لقلة شأنه بين الكتاب العرب. ولكن لجهلي ،نظرا لغربتي الطويلة التي اقتضتها ظروفي و دراستي. استقبلني "محمو د دياب" ،في بيته ،إثر مكالمة تلفونية قصيرة جرت بيننا ،وكأنه على يقين بما كنت أريد استيضاحه. أو كأنه يستأنف حوارا يفترض أنه دار بيننا قبل ذلك. هل استخلصت أي رموز من الروايه؟ إطلقا! وأنا لست مغرما بالترميز بمفهومه السائد! إذن..إتفقنا.وعرفت ،ربما لول مرة ،معنى التعبيرال دبي "ضحك فلن بملء فيه" .كان محمو د يضحك بملء فيه ،وتحمل ضحكاته جزءا هاما مكمل لمعنى الجملة التي يقولها .سألته: هل يمكنني حذف إحدى الشخصيات ،أو إضافة شخصيات جديد،ه؟ )مبتسما( طبعا! وهل أستطيع أن أغير زمن الرواية ،بحيث يصبح ما بين عامي 66و 67؟ ) -ضاحكا بملء فيه( يا ريت!
265
التحفظ الوحيد الذي أصرعليه محمو د دياب هو "العوامه" .وكان يعني أن إمكانات التلفزيون لن تستطيع أن تعطي المكان حقه. وحكى لي عن تجربة "نص" كتبه للتلفزيون ،وتم رفضه بسبب صعوبة بناء " ديكورات" الماكن التي تجري فيها الحداث .كان اسم التمثيلية "رحلة عم مسعو د". كنت قد نسيت أن أقـد م ل ه نفسـي كمخـرج سـينمائي فـي الصـل ،وأن عملي في التلفزيون هو مجــر د "مرحلــه" .وأننــي شــرعت فــي وضــع تصوري لـ ض"الظلل في الجانب الخر" كفيلــم ســينمائي .فعــا د يضــحك بملء فيه .وأخذ يحدثني عن صديقه المخرج التلفزيوني الذي "رحــل" بأحد نصوصه ،ولم يعد .ثم عا د وحدثني ،بوجد مــن فقــد عزيــزا ،عــن "رحلة عم مسعو د". ولم يفته أن يسألني ،في نهاية لقائنا: ما دمت ل تنوي عمل "الظلل "...في التلفزيون ،فهل يا ترى وجدت "المنتج السينمائي"؟ قلت ببراءة شديد،ه: ل .المهم أن يصبح لدينا "سيناريو" جاهز!سألني: من أنتم؟* * * في عا م ،68أعلنت "جماعة السينما الجديدة"** عن نفسها .رافضة كل ما من شأنه أن يقيد حرية البداع السينمائي من تقاليد إنتاجية.. ورقابة ..إلخ ___________________________________________________ )**( أحمد راشد /احمد متولي /ألفريد ميخائيل /حسين عبد الجواد /خيريه البشلوي /داود عبد السيد /رحمه منتصر /رأفت الميهي /سامي السلموني /سامي المعداوي /سعيد الشيمي /سمير فرج /سمير فريد /صبحي شفيق /عادل منير /عبد الحميد سعيد /علي أبو شادي /علي عبد الخالق /غالب شعث /فؤاد التهامي /فؤاد فيظ ا /فايزغالي/ فتحي فرج /مجيد طوبيا /محمد راضي /محمود عبد السميع /مختار يونس /نفيسه نصر /نبيهه لطفي /هاشم النحاس /يوسف شريف رزق ا /وغيرهم. )مع العتذار للسهو أوالخطأ (
266
وأفر دت لنا ،في ذلك الحين ،مجلة "الكـواكـب" مساحة صفحتين أسموها "مجلـة الغاضبيـن" .والحقيقة أنه لم يكن لنا دور في تلك التسمية .ولو أتيحت لنا فرصة الختيار لسميناها "مجلة المتفائلين" مثلا! فقد كانت غالبيتنا من خريجي معاهد السينما الباحثين عن ذواتهم ،المجمعين على أن السينما التي نريدها ل يمكن تحقيقها إل من خلل أساليب جديدة في النتاج والتوزيع ،تتمتع بحرية في اختيار الموضوع -المعاصر -واختيار الممثلين المناسبين ،بدون الوقوع في شباك "الشوباك"! هذا ..بالضافة الى اللغة السينمائية السليمه. ومرة أخرى ..حرية التعبير! المهم أننا بدأنا بالتعبير عن أنفسنا ،وتعريف الخرين بنا ،وبحركات التجديد السينمائية المنتعشة في ذلك الوقت في كل مكان .مثل الموجة الجديدة في فرنسا ،والسينما الشابه في ألمانيا ،وسينما الشاطيء الشرقي في أمريكا ومسميات أخرى ..في أماكن أخرى. سألني محمو د دياب عن "السلوب الجديد" في النتاج .فحكيت له على سبيل المثال -قصة أسرة "شاموني" اللمانيه ،الذين كوونوا،في بداية الستينات ،فريقا سينمائيا تعاون مع بعض الصدقاء ،وبدأوا إنتاجهم بفيلم كان بداية موجة "السينما اللمانية الشابه"! وقد تميز الفيلم بعد د محدو د من الشخصيات ،وقصة تعالج مشكلة من مشاكل الشباب في ذلك الوقت. كانت بيوتهم ومكاتبهم هي أماكن التصوير الداخليه ،بالضافة الى الشوارع والحدائق العامه .وكانوا جميعهم يعملون في مختلف العمال ،ليدخروا بعض المال الكافي لشراء بعض الموا د الخا م، والمصاريف اللزمة لتصوير جزء من الفيلم ،الذي يقو م بأ دوار،ه ممثلون ناشئون ،أو هواة .ثم يتوقفون لمعاو دة العمل ،وجمع بعض المال مرة أخرى ..وهكذا! قال لي محمو د دياب بحماسة شديدة: ما تعملوا زيهم! وأنا كمان مش عاوز حاجه منكم .أنا مساهم معكمبالروايه بتاعتي! 267
ثم ذكر لي اسم منتج "عربي" يدعي أنه يحب التعاون مع المخرجين الشبان! إبقوا شوفو،ه ..مش غلط!والحقيقة أن مسألة التمويل لم تكن تؤرقني في البدايه .فقد كنت أرى، فعل ،أن وجو د "السيناريو" الجاهز للتصويرهوالمهم .وبعد ذلك تبدأ عملية البحث عن التمويل .فها هو المنتج "العربي" الذي سمع عنه محمو د دياب ،دليل عل عد م وجو د مشكلة. هذا ،بالضافة الى ذلك الثري "المستنير" ،الذي كان يؤمن بموهبة شقيقته الصغرى ،والذي استعد أن يساهم في انتاج "فيلم نظيف" حسب تعبير،ه -تقو م شقيقته ببطولته ،رغبة منه في إيجا د "فرصة"لظهورها وتحقيق أحلمها. ووافقت "جماعة السينما الجديدة" على تلك الفكرة .خصوصا وأن الفتاة كانت في عمر "روز" ،بطلة الرواية المراهقة البريئة ،التي لم يكن من السهل إيجا د ممثلة في سنها تقو م بدورها .هذا بالضافة إلى أنها كانت تمتلك بعض الموهبة ،وأنني تعهدت بالقيا م بإعدا دها كممثلة. *
*
*
لم ألتق بمحمو د دياب إل بعد عا م أو يزيد .كنت خلله قد انتهيت من كتابة السيناريو ،وأخرجت للتلفزيون أول أعمالي وهو"التركه" لنجيب محفوظ .وأذكر ذلك لن الكاتب الكبير قال لنا ،كاتب السيناريو"مجيد طوبيا" وأنا ،نفس الجابة التي سمعتها من محمو د دياب: تلك هي روايتي .كتبتها لكي تقرأ .أما أنت فلك "لغتك" الخاصة،ولك أن "ترويها" كما تشاء!
268
وإذا كان عنوان القصيدة هو تجربتي"كمخرج سينمائي" مع محمو د دياب "الكاتب" ،فإن "بيت القصيد" ،بمفهومي ،هو أن أتحدث ،على ضوء هذ،ه التجربة ،عن "الرواية ال دبية" ،وعن إعا دة "روايتها" بلغة السينما. وهذا هو التعبير الذي أفضل أن أطلقه على عملي هذا .ول يعنيني الصطلحات الخرى مثل التحويل ..أوالقتباس ..أوالفلمه.. أوالعدا د ..إلخ .وهذا الموضوع يحتاج إلى"أعدا د خاصة" من المجلة ،وجولت من البحث والدراسة والحوار ،وإعا دة النظر. وذلك للوصول الى حل لمسألة المصطلح النقدي العربي .وأخص بالذكر ما يتعلق بالسينما .لن الناقد السينمائي العربي قد آثر ،في كثير من الحيان ،أن يختصرالطريق ،وأن يوفرعلى نفسه مشقة البحث عن قواعد،ه وأصوله الخاصه .بل إنه كثيرا ما كان يسلك الطريق الكثر سهولة فيستعيرالمصطلح النقدي ال دبي. وعندما يريد أحدهم أن يتميزعن غير،ه من النقا د ..نجد،ه "يتلذذ" باستخدا م اصطلحات نقدية أجنبية ،ناسيا أو متناسيا أن "لكل مقا م مقال". ليس صحيحا أن "الصورة" هي مفر دة "اللغة السينمائية" مثلما أن "الكلمة" هي مفر دة "اللغة ال دبيه" .فها هوال ديب ل يكف عن محاولة خلق "الصور" ليراها القاريء بمخيلته .وفي الناحية الخرى ،هل استطاع السينمائي -حتى في أيا م السينما الصامتة -أن يستغني عن "الكلمه" ،بالرغم من تعد د أ دواته التعبيريه؟ في البدء كانت الكلمة تتحمل عبء خلق الصورة لدى المتلقي. كانت هناك "صورة الكلمة" ،التي لم تستطع "صورة اللة" أن تضاهيها جمال وإيحاء. إن جدلية العلقة بين "الصورة" و"الكلمة" تعو د بنا الى فجر التاريخ، عندما كان النسان الول يقو م بأولى محاولته لتسجيل انطباعاته. وتاريخ الحضارة يؤكد لنا أن أولى أ دوات التعبير" ،تسجيل" أو "كتابة" ،كانت هي الصور،ه .بل وتشهد الرسو م القديمة التي وجدت 269
على جدران مغارات "ألتاميرا" في اسبانيا ،وغيرها ،أن النسان الول حاول ،أيضا ،أن يحرك الصورة .أو ،بتعبير أ دق ،أن يسجل الحركة ،أو أن يعبر عنها في رسوماته. ولكن يبدو أن النسان الول قد "أرجأ" استكمال محاولته في تحريك الصورة الى أن يصل الى صناعة "الله" أولا. واكتفى أحفا د،ه بمحاولت "تحريك" الكلمة .وأعني بذلك خلق علقات بين الكلمات ،من شأنها أن تثري مدلولها ،وتؤ دي الى "صور" ومعان جديدة .وتصل باللغة المحكية أو المكتوبة الى الكتشافات التي توارثناها ،وما اصطلح على تسميتها بالبلغة ،والبديع ،والبيان ..إلخ. لتصبح اللغة )المحكية أو المكتوبة( في كامل لياقتها ،ولتكون أكثر تعبيرا عن الحاسيس البشرية ،التي از دا دت تعقيدا باز ديا د وتشعب التجربة النسانية ذاتها. وبمجر د أن توصل النسان ،في العصرالحديث ،الى اللة وطورها وطوعها لحتياجاته المختلفة ،عا د لمواصلة محاولته في تحريك الصور،ه ..فكانت "السينماتوجرافيا". وظلت "السينماتوجرافيا" اختراعا ،أو ،كما وصفها الناقد المؤر خ "جورج سا دول" ..صناعة يدوية ،لفتت أنظار رجال العمال. إلى أن وضع المبدعون من رووا د السينما القواعد والنظريات في جماليات "اللغة السينمائيه" .ومارسوا كل ضروب البلغة والمحسنات البديعية في تعبيراتهم السينمائيه ،من تشبيه ،واستعارة، وكناية ،وجناس ،ومطابقة..إلخ. إلى أن اكتملت تجربة دمج "المؤثرالبصري" مع "المؤثرالسمعي"، كلمة ،وموسيقى ،وما إلى ذلك من المؤثرات الصوتية الخرى. عندها أصبحت السينما ،بحق" ،الفن السابع"! وعلى الرغم من أن رجال العمال ،الذين لفت أنظارهم ذلك الختراع ،قد استعانوا بال دب -قصة أو رواية -كمصدر للحدث، الذي أصبحت "السينماتوجرافيا" قا درة على روايته ،مستثمرين رواج تلك العمال ال دبية ل أكثر ،إل أن المبدعين ظلوا ينظرون بعين 270
خ و لقة الى مسألة التزاوج ،الذي كان من الطبيعي أن ينشأ بين ال دب والسينما .فالبداع ال دبي ،كما قلت ،لم يتوقف عن محاولة خلق الصورة وتحريكها في مخيلة القاريء. والسينما قا درة على تجسيد تلك "الصور" ،وفي بعض الحيان ،على كبح جماح الخيال الذي يتمتع به القاريء ،لكي ل يتجاوز ما يرمي إليه ال ديب ..شيء من الواقعيه! ربما صارت إحدى مهمات الرواية ال دبية هي رفد السينما بالموضوعات ،لو جف المعين .وربما أصبحت إحدى مهمات السينما هي نشر العمل ال دبي ،أو التعريف به ،على نطاق أوسع من الكتاب. خصوصا حيث ترتفغ نسبة الميه. لكن ضربا من ضروب البداع السينمائي ،له دوافعه ومبرراته ،ما زال وسيظل يعتني بإعا دة "رواية" القصة ،أو الرواية ال دبيه. هنا نعو د الى موضوعنا .حيث أو د أن أؤكد أنه ل بد من أن يحمل العمل السينمائي ،المبني على عمل أ دبي ،مبررات ظهور،ه في هذا الثوب الجديد ،أوهذ،ه اللغة الخرى .وهي نفس المبررات التي يحملها ظهور عمل أ دبي يعالج قضية سبقت معالجتها في عمل أ دبي آخر. إنه ،في نظري ،محاولة إلقاء أضواء جديدة ،من زوايا جديدة ،على شخصية ما أو حدث ما أوعلقات ما ،من شأنها ،على القل ،أن تخفف من حدة الظلل. أعو د بالذاكرة الى ذلك الخلف الذي نشأ بين "محمو د دياب"، ككاتب سيناريو ،وبين مخرج ومنتج أحد الفل م المأخوذة عن "رواية عالميه"! كان سبب الخلف ،الذي أ دى الى انسحاب محمو د في النهاية ،هو مفهو م التعريب أو التمصير عند "رجال العمال الذين لفت نظرهم إختراع السينما ". ل يكفي ،مثل ،أن نطلق على "هار دي" اسم "هريدي" ،ونمضي في ترسيمه ،وإلباسه أثوابا ليست له ،بينما اللف من هذا "الهار دي" يتجولون بيننا بأسماء مختلفة. 271
إن "تمصير" الشخصية هو البحث عن شخصية مصرية لها مبرراتها الخاصة ،و دوافعها الناتجة عن بيئتها لنفس السلوك الذي سلكته الشخصية الصلية" ..هار دي". *
*
*
كنت أشعر ،بعد منحي الضوء الخضر من "محمو د دياب" ،أنني أحمل في يدي "كشافا" أسلطه على مواقع معينة من الرواية .وفي يدي الخرى عدسة مقربة ،أو مكبرة ،أضعها فوق كلمات معينة .وأشعر أيضا أنني من خلل "رواية" محمو د دياب ،بلغته ال دبية ،قد تعرفت على شخوص وأماكن وأحداث وعلقات أثارت إهتمامي ،مما وولد عندي الرغبة الملحة في إعا دة "روايتها" باسلوبي الخاص ،ولغتي السينمائيه الخاصة. هل هوالفارق بين "البورتريه" المرسو م باللوان الزيتية أو المائية، والصورة الفوتوجرافية التي تلعب فيها الضاءة وزاوية التصوير ونوع العدسة دورا هاما؟ نسيت أن أقول أننا" ،جماعة السينما الجديدة" ،في ذلك الوقت لم نكن نملك رفاهية الحلم بعمل فيلم باللوان! بالرغم من أن أجواء كلية الفنون التي كانت خلفية الحداث كانت تقتضي ذلك. *
*
*
قلت أن كتابة السيناريو استغرقت ما يزيدعن العا م .وكانت "روز" البطلة قد كبرت عاما آخر .وجاءتها "الفرصة" الحقيقية على شكل عريس ثري)!( .فكان ل بد من أن أسعى لمقابلة ذلك المنتج الذي حدثني عنه محمو د دياب. استقبلني الرجل ببشاشة أبوية ،بينما أنا "أتأبط" السيناريو كدليل على جدوية المقابلة! وتحدث عن المخرجين الشبان ،وكنت في ذلك الوقت أحدهم ،وعن رغبته في التعاون معهم في حل "أزمة السينما" .فهم أمل 272
الحاضر ..وعما د المستقبل و ..وحمدت ا أن هداني الى معرفة "محمو د دياب" ،الذي منحني بدور،ه تلك الرواية ومعها منتجها ،الذي يبدو جا داه هو الخر. لم يبق سوى أن يطلب مني ترك السيناريو لقراءته. لكنه ،لشدة إهتمامه ،طلب مني أن أعطيه فكرة عن موضوع الفيلم. فما كان مني إل أن وضعت السيناريو أمامه على المكتب النفيس الفاخر. أزاحه جانبا ،وأشار لي أن أتكلم! إنه يتعجل معرفة موضوع فيلمه القا د م .وكنت بدوري أتعجل نهاية المقابلة ،لكي أزف البشرى لجماعتي -جماعة السينما الجديد،ه - بالفرج القرب مما كنا نتوقع. ولم أكد أبدأ في سر د ملخص الحكاية عن الشبان الربعة ،الطلبة في كلية الفنون ،والفتاة الصغيرة التي يرتبط بها أحدهم ،حتى انبرى يقد م اقتراحاته ،وتعليماته كمنتج صاحب تجربة طويلة: فليكن اسم الفيلم "أربع تلمذ،ه ..وبنت"!)على غرار فيلم "أربع بنات ..وضابط" ،الذي سجل في حينه نجاحا تجاريا(. واسترسل يرشح لي أسماء البطال! ولما رأى الدهشة على وجهي ،استدرك ،وأخذ يذكرني بمزايا ذلك الشيء الذي يسمونه "ماكياج" ،ومفعوله السحري في اختصار عشرات السنين من عمر البطال! أمومال!قالها وهو يتلذذ بإتقانه للهجة المصرية ،إتقانه لصول "لعبة" السينما. وخرجت من عند المنتج متأبطا السيناريو ،وأنا أشعر أنني أجدر بلقب "تأبط شوراا" من ذلك الشاعرالعربي ،الذي بحثت عنه أمه -طفلا -في البا دية ،لتجد،ه يتأبط ذئبا صغيرا ضال ظنوا ا منه بأنه حمل و ديع! فأطلقت عليه أمه ذلك اللقب الذي اشتهر به.
273
و دأب محمو د دياب على مداعبتي بلقب "تأبط شوراا" ،وهول يكف عن تحذيري بأنه ل مكان للحملن في زماننا هذا. هل كان يعني أنني تأبطت شوراا باختياري لتلك الرواية؟ أ م أنني قد تأبطت الشر بإختياري لتلك "المهنه" بالذات؟ في أول اجتماع لـ ض"جماعة السينما الجديد،ه" ،كنت أما م خيارين. أن "أطنش" حكاية المنتج ،فيتهمونني بالستهتار والتفريط بالفرص. أو أن أحكي لهم ما انتهت إليه ،فيشبعونني "تريقة" .فقررت أن "أطنش". و يكفيني ما نلته ،عندما اضطررت لن أزف إليهم بشرى زواج "البطله" ،في الجتماع السابق. كان ل بد من أن نطرح موضوع المشاركة على الطريقة اللمانية. والحقيقة أن الجميع تقريبا قد أبدوا حماسهم واستعدا دهم للفكرة .ولكن، بعد القيا م بعملية حسابية ،تبين أننا سوف ننتظرأعواما كثير،ه! حيث كان المبلغ الذي يستطيع أيسرنا حالا أن يساهم به ،ل يتجاوز الخمسة جنيهات شهريا. وهكذا اقتصر نشاط "جماعة السينما الجديدة" على الندوات والدراسات وأسابيع العروض السينمائية المختلفة ،التي كانت أيضا من الهداف التي خططنا لها .هذا الى جانب نمو فكرة فيلم آخر للزميل "علي عبد الخالق" ،عن مسرحية الكاتب "علي سالم""..أغنيه على الممر". وتوالت نشاطاتنا ،و"أسابيعنا". وفي أحد الجتماعات تقرر تقديم المشروعين" ،الظلل "...و "أغنيه ،"...لمؤسسة السينما آنذاك ،بعد أن قمنا ببلورة أسلوب المشاركة بأجورنا ،التي كانت في مجموعها جزءاا ل يستهان به من ميزانية الفيلمين .على أن نتقاضى هذ،ه الجور ،بعد ذلك ،من إيرا دات العروض! * * * 274
بقدرالحرية التي منحني إياها م .دياب في معالجتي لروايته ،كنت حريصا على عد م المساس بأوجه البداع فيها بناء ،ومضمونا ،ولغة!ا لم يكن السر د الرباعي الذي يعتمد على فكرة تعد د الرواة في ال دب والسينما ،حيث تتكامل روايتهم أو تتعارض أو تتقاطع ،وتخلق من القاريء أو من المشاهد شريكا في الحدث وصناعته ،بجديد على ال دب ..ول السينما .ومع ذلك ،كان هناك من ينصحني بأن أختار شكلا سر ديا ا أسهل .خصوصا وأنني كنت إزاء أول عمل سينمائي روائي طويل .وظلت هذ،ه النصيحة تلحقني الى ما بعد النتهاء من التصوير.. الى مرحلة "المونتاج" ،أو تركيب الفيلم. والحق أقول ،أن محمو د دياب كان حافزاا لي على ممارسة حقي في "رواية" روايته سينمائيا ،بالشكل الذي أرا،ه. "الظلل في الجانب الخر" ..ذكرني هذا العنوان بالنظرية الضوئية التي تقول أننا إذا سلطنا ضوءاا على جسم ما ،فإننا سنرى له ظلوا في الجهة المعاكسة .وإذا سلطنا ضوءاا آخر من تلك الجهة المعاكسة على نفس الجسم ،فإننا سنحصل على ظلين متقابلين بحيث يكون كل الظلين أخف حدة من الحالة الولى .فإذا سلطنا ضوءاا ثالثـــــــا ا مساويا لكل من الضوئين السابقين على نفس الجسم من الجهة الثالثة ،فإننا سنحصل على ظل ثالث ،بحيث نلحظ نقصانا في درجة حدة الظلل الثلثه .أما إذا سلطنا ضوءاا رابعا ا مساويا ا في القوة لكل من الضواء الثلثة السابقة ،من الجهة الرابعة ،فعندها سوف تختفي كل الظلل! وهكذا كانت روايات محمو د دياب الربعه ،التي تتكون منها رواية "الظلل ،"..تساهم في إزالة الظلل ،أو تخفيف حدتها على أقل تقدير. ولم أجد حرجا من تلخيص تلك الفكرة في عبارة كنت أريد لها أن تظهرعلى الشاشة في بداية الفيلم .لكنها ،لسبب ما ،لم تجد لها مكانا إل في "النشرة"** التي لم يتم توزيعها إوبان العرض: "ما أكثر ما تخفيه الظلل من حقائق.. ________________________________________________________ ** قام الفنان حلمي التوني بتصميم النشرة إضافة إلى تصميم "بوسترات" الفيلم المتميزة ..وبعض السهامات الفنية الخرى .
275
ولكي نرى واقعنا بدون ظلل.. ل بد من أن تتعدد مصــــــــادر النور!" هل هناك من شك في أن "محمو د دياب" كان يقع تحت إلحاح فكرة الحرية بمعناها المطلق؟ حتى علو م "الطبيعة" وقوانينها ،كانت توحي أو تملي بوجوب تعد د مصا درالنور ..مصا درالمعرفه ..مصا درالرأي ..والرأي الخر! كان "جميل" ،الشخصية المحورية في الرواية ،منقسما في داخله. يتحدث ويتباهى بشجاعته حينا ،ثم يعو د ويعترف بخوفه حينا آخر. وهو صا دق في كلتا الحالتين. أو ربما كان يتميزعن غير،ه بأنه كان يمتلك الشجاعة لن يعترف بالخوف! عندما كان "محمو د دياب" يقرأ ذلك المشهد من السيناريو ،الذي يهذي فيه "جميل" ،تحت تأثير الحمى التي أصابته ،نتيجة لما أوصلته إليه مواقفه المستهترة: سيرياليه ..تكعيبيه ..قوميه عربيه...فوجئت به ينتقل ،من القراءة بصوت مسموع ،الى "ال داء" المعبر، وكأنه تقمص الدور .وقا م ،بعفوية شديدة ،نتيجة لنفعاله ،بإضافة بسيطة لم يفتني أن أقو م بتثبيتها في السيناريو .قال مكملا: ...يهو د ..أميركان ..أبل أزرق!ثم أكمل ال داء: ...النسان الحر هو أساس المجتمع الحر!هل كانت قناعتي بأن "جميل" ،الرافض المتمر د الضائع الخائف ،هو بعض من "محمو د دياب" ،هي السبب في تسميتي للبطل في الفيلم "محمو د" ..بدل من "جميل"؟ * 276
*
*
ولماذا "معمر"؟سأل أحدهم ،عن تلك الشخصية التي أضفتها الى الرواية الصليه. ذلك الطالب الفلسطيني ،في كلية الفنون الجميلة ،وأحد سكان العوامه. أجاب "محمو د دياب": ذلك هو الجانب الخر .ذلك هوالتفسير الجديد ،الذي يجب أنيحتمله العمل البداعي. واكتفيت بهذ،ه الجابه .وتحاشيت ،في حينها ،أن أعترف أن "معمر" كان بعضا مني ،أوأنني كنت أتحدث بلسانه .ولم يفت ذلك على الكثيرين! "معمر" طالب فلسطيني ،لجيء ،أتاح له أخو،ه الكبر ،الذي يعمل في إحدى دول الخليج ،شأن معظم أبناء جيله ،فرصة الدراسة الجامعيه، فالتحق بكلية الفنون الجميلة. و دأب "معمر" على أن يحلم بـ ض"مشروع التخرج" ،شأن بقية الطلبة في سنواتهم الدراسية الخير،ه .كل يحاول أن يجسد همومه واهتماماته في "مشروعه" .وكانت "سكتشات" معمر في البداية تصورالبؤس والعراء والتشر د في "معسكرات اللجئين" ،مشروعه .حيث كان الحديث عن " قضية فلسطين" قد تحول بفعل التقا د م الى حديث عن "اللجئين الفلسطينيين". لكن "الهزة" التي أصابت معمر ،عندما رأى "معسكرات الفدائيين" في أغوار الر دن ،في إجازته الصيفية لعا م ،66جعلته يقول لحد زملء العوامة ،وهو يعرض عليه اسكتشات** مشروعه الجديد: بقى لنا 18سنه بنرسم لجئين ..وبنخرلف لجئين!حاقول إيه أكثرمن اللي اتقال؟ حنفضل نلف وندور وبالخر" ..إنناعائدون"! )ساخرا من لوحة أو"بوستر" فلسطيني شهير حمل هذا السم في ذلك الوقت(. __________________________________________________________ )**( استخدمت في الفيلم اسكتشات الفنان "محمد حجي" التي رسمها عندما كان في زيارة معسكرات الفدائيين في "الغوار".
277
وقرر "معمر" أن يعايش "الفدائيين" لمدة أخرى لكي يقو م بالتحضير لمشروعه الجديد. عا د الى "الغوار" قبيل شهر يونيو من عا م .67انقطعت أخبار،ه. ثم جاءت منه رسالة ،بعد يونيو ،67من الضفة الشرقية للر دن ،الى أحد رفاق العوامة"..بكر" .يقول فيها: "لقد وجدت الطريق الذي أستطيع به أن أعبرعن نفسي وعن قضيتي، خصوصا بعد أن أصبحت للمرة الثانية بل وطن" ..و .. "لم يعد لدينا ما نخشى أن نفقد،ه".. إذن ،فقد وجد "معمر" طريقه .انتقل من حال المسميرالى المخمير ،الذي ربما يخطيء ،ولكنه سوف يتحمل نتيجة خطأ،ه ،بعد أن تعمو د على الشكوى ،وإلقاء اللو م على الخرين .وأصبح دأبه العمل على تحقيق قناعاته التي أخذ يجهربها ،والتي تؤكد أن حل القضية الفلسطينية يكمن في إعلن دولة علمانية يعيش فيها اليهو د والمسلمين والمسيحيين في ظل نظا م ديمقراطي ،يتساوون فيه في الحقوق والواجبات. هذا ،مثلما تلومس بقية زملء العوامة طريقهم بعد التيه ،والتخبط! أما "مصطفى" ،المثالي الساذج ،الذي"ستظل مثالياته جدارا بينه وبين الحقيقه" ،حسب تعبير"محمو د" .فقد صاغ "محمو د دياب" رأيه في هذا النمط من الناس صياغة أشفقت عليها من تحويلها الى حوار بالعاميه ،مما سوف يفقدها الكثير من قيميتها .وكان الأمخرج الذي ارتأيته للمحافظة على تلك الصياغة باللغة الفصحى ،هو قراءة مختارات منها -مونولوج داخلي بصوت مصطفى -بحيث يوحي سماعها في الفيلم بأنها من نصوص مذكرات مصطفى الذي تعمدت الشارة ،أكثر من مرة ،إلى عا دته في تدوين مذكراته. *
*
*
وإذا كانت "روز" قد نجت من الموت ،بعد محاولتها النتحار، واستطاعت -في النص الصلي -أن "تعمبر" من أزمتها الى حياة 278
جديدة ..عاملة في محل لبيع الزهور .فقد أنهيت الفيلم ،حيث كنا كلنا نحلم بالعبور ،بلقطة لها في حديقة المستشفى ،بعد نجاتها .بينما نسمع صوت "محمد حما م" ،الذي قا م بدور "بكر" ،وهو يغني أغنية وجدت كلماتها في "بريد القراء" لحدى المجلت .كتبها شاعر ناشيء -في ذلك الوقت -هوالشاعر "عبد الستار سليم" ،الذي كان ينا دي من أعماق الصعيد: النيل مسافر من زمان ..زي الزمان بين الجنادل تجرحه ..لكنه عارف مطرحه . . . . . . النيل د ه عمر ..ممكن يطول بيه السفر ممكن يعوق سكته مليون حجر ممكن يتو ه ..ممكن يلف المستحيل إنه يجف! **
________________________________________________________ ** كنت قد عهدت للشاعر "عبد الرحيم منصور" بكتابة أغاني الفيلم فرحب بذلك بعد أن قرأ السيناريو وتناقشنا في مضمونها ومكانها في سياق الفيلم كتب لي ثل ث أغان )البداية والمنتصف والنهاية( .لكنني ،بعد تسديد حقوق صديقي الشاعر المالية ،والعتذار له عن عدم توظيف أغنياته الثل ث في الفيلم ،قمت باستدعاء الشاعر عبد الستار سليم ،الناشئ، في حينها ،والتعاقد معه على استعمال قصيدته التي قرأتها مصادفة في بريد القراء بمجلة المصور.
ولـ"محمود دياب" حكاية أخرى* 279
قبل حوالي عشر سنوات ،وبعد عا م أو يزيد من عو دتي إلى القاهرة، إثرالخروج من لبنان ،عا م ،1982ركبت القطارالمسافرالى السكندريه .وعلى المقعد المقابل ،كان هناك رجلن يتحدثان بصوت مسموع ،بحيث لم يكن من الصعب أن أتبين موضوع الحديث الذي استغرق النصف الثاني من الرحله .كان أحدهما يذركر الخر بتفاصيل دقيقة من تمثيلية تلفزيونيه .ولم يكن من الصعب أيضا أن أتبين ،منذ البداية ،أن موضوع الحديث كان يدور حول ثمثيلية السهرة "رحلة عم مسعو د" ،التي ظل "محمو د دياب" يبحث عن نصها في التلفزيون المفقو د الى أن وجد،ه ،وقمت بإخراجه للتلفزيون عا م .72 التزمت الصمت ،مستمتعا بحديثهما بكل ما فيه من تفاصيل و "إضافات" وتعليقات .وتملكتني الرغبة أن أسأل ،في النهاية ،عن المناسبة التي ذكرتهم بتمثيلية مضى على عرضها الول عشر سنوات. هل أعيد عرضها في التلفزيون مؤخرا؟ مستحيل! فمعلوماتي تقول أن كل "شرائطي" قد مسحت ،واستخدمت لتسجيلت أخرى. وتلك حكاية أخرى. وقبل أن أحد د اللحظة التي سوف "أقحم" نفسي فيها بذلك الحديث، ___________________________________________________________ هذا العنوان مقتبس من عنوان الجزء الخير من رواية "الظلل في الجانب الخر" )*(
الذي "يخصني" أيضها ،اصطدمت أذناي بصوت أحد الرجلين الغريبين وهو يقول: 280
...ا يرحمه! **ثم يكمل حديثه. ألجمتني المفاجأة .لم أعلق ولم أتدخل. ا تركتهما يتروحمان على صديقي الكاتب ،يعطيانه بعضا من حقه ،بعد وفاته. حرصت على ألو أشاركه ،أوأقتسم معه ،تلك اللحظات الفضرحة. من "محمو د دياب" عرفت كيف يضحك النسان بملء فيه. ومن بعد،ه تساءلت ،كيف يمكن لنسان أن يعرف الفرح ..والحزن يسكن فيه؟! *
*
*
__________________________________ )**(
انتقل محمود دياب إلى رحمة ا في 12من أكتوبر 1983
آراء!.. 281
عندما كنت أعتصر ذاكرتي مستجيبا إلى دعوتي للمشاركة في ملف مجلة "أ دب ونقد" الخاص بالكاتب "محمو د دياب" ،المشار إليها آنفا، كنت أحاول أن اتجنب شبهة الظهور بمظهر من ينسب لنفسه فضل أو دورا أكبر من دور،ه .قلت لنفسي: يكفيك فخرا أن يشملك الختيار لهذ،ه المشاركة في مجلة جا دة لها وزنها مثل مجلة "أ دب ونقد". لكن ..لم يكد يظهر ذلك العد د من المجلة حتى فاجأني صديقي د .مختار يونس ،الستاذ بمعهد السينما ،وعضو "جماعة السينما الجديدة"، بتهمة المبالغة في التواضع وإنكارالذات. وأخذ "مختار" ،الذي كان يعمل معي مساعدا لخراج فيلم "الظلل في الجانب الخر" ،يذكرني بأشياء لم تكن تعني لي سوى أنها كانت تصب في محاولة تحقيق هدف وأمل مشترك. أما صديقي ،وعضو "جماعة السينما الجديدة" البارز ،كاتب السيناريو "فايزغالي" ،فقد أخذ يؤكد لزوجته الكاتبة والناقدة "ماجد،ه موريس"، بحضوري ،أن دوري وصل من الهمية ما تجاوز ما ذكرته ،في المقال المشار إليه ،إلى القيا م حتى بصياغة البيان الصا درعن "جماعة السينما الجديدة" يو م إعلنها .وهوالشيء العاري تماما من الصحة. وأجدني مضطرا لتوضيح ذلك اللتباس. قلت أن الكاتب والناقد الستاذ "رجاء النقا ش" قد منحنا صفحتان من مجلة الكواكب الفنية ،أسماهما "مجلة الغاضبين" ،لنستعرض فيهما أفكارنا وطموحاتنا وإنجازاتنا .فقمت ،في العد د الول ،بترجمة بيان حركة جماعة "السينما اللمانية الشابة" في ألمانيا التحا دية ،المعروف في ذلك الوقت ببيان"أوبرهاوزن" الشهير ،إلى اللغةالعربية.
282
ولقد كان البيان يعبرعن موقف ومطالب تلك "الجماعة" ،التي لم تختلف عن مطالبنا وموقفنا نحن أيضا كـ "جماعة سينما جديدة"، ومماجاء فيه: .............. ونحن هنا نجاهر بالتمسك بحقنا ودورنا في خلق سينما جديدة.. 283
هذ ه السينما الجديدة تحتاج إلى حريات جديدة.. حرية من عبودة السينما التقليدية.. باك والربح.. حرية من سيطرة"الش ز " حرية من كل وصاية. .............. وانتهى البيان بتوقيعي ،بدون ورو د كلمة" ..ترجمة"! وهو في اعتقا دي الخطأ الذي أ دى إلى اللتباس المشار إليه. أما البيان الخر الذي ظهرت ترجمته في عد د لحق من المجلة المذكورة فكان هو بيان حركة السينما الجديدة في أميريكا ،الشاطيء الشرقي ،الذي أعلنوا فيه ثورتهم على سينما الشاطيء الغربي )هوليوو د( التي اتسمت ،في نظرالقائمين بحركة السينما الجديدة، بتزييف الواقع. وكان أن جاء في البيان نداءهم الشهير: ............................... نحن ل نريدها أفلما وردية.. بل نريدها حمراء مثل الدم. وهنا كانت الطامة الكبرى .فلقد استضهمنا ،نحن "جماعة السينما الجديدة"، من قبل عد د من المسئولين ومنهم ،كما جاء في مكان آخر من هذ،ه السيرة ،وزير الثقافة يوسف السباعي ،بأننا شوية عيال شيوعيين )!( والبقية معروفة! *
*
284
*
"حكــــــاية ععمــــــــر" 285
قد تكون "حكاية معمر" ،مشروع فيلمي الروائي الثاني ،هي التي جعلتني أور د نص المقال المذكور .فبمجر د انتهائي من عمل ذلك الفيلم الول ،ظل "معمر" ،طالب كلية الفنون ،يلح علي أن أروي بقية حكايته بعد أن اختفى وعا د إلى الظهور مقاتل مع فدائيي الثور،ه الفلسطينية. وهو المشروع الذي حدثت "أبوإيا د" مطولعنه ،عقب مشاهدته لفيلم "الظلل ،"..قبل أن أنتقل إلى لبنان. رأيت "معمر" ينتقل ،بعد أحداث أيلول السو د في الر دن عا م ،70إلى لبنان .ثم يصيبه الحباط ،إثر إحساسه بالحصار والقيو د المفروضة على الحركة الفدائيه ،التي وصفها الزعيم جمال عبد الناصر بأنها أنبل ظاهرة في التاريخ العربي الحديث! م مات عبد الناصر .وسا د الصمت المريب .وقرر "عمر" الهروب من واقعه بعد أن تسلل إليه اليأس. اخترت لـ ض"معمر" بلدا أوروبيا يلجأ إليها ،ليبدأ حياته من جديد .قلت، فلتكن "ميونيخ" .فأنا أعرفها جيدا ،فهي أقرب مدينة ألمانية لفيينا. ابتدأ "معمر" حياته الجديدة بائعا للصحف .ومكنه التجوال في مقاهي المثقفين ،وهومشروع الفنان المثقف ،من التعرف إلى بعضهم ،من مختلف مشاربهم .وتوطدت علقته بفتاة صحفية شابه من التقدميين، الذين كانوا يؤيدون حركات التحرر ،وينا دون بمناصرة الشعوب المقهور،ه .وكانت تظاهرات الحتجاج على حرب الفييتنا م في أوجها. استطاعت صديقته أن تمكنه من إيجا د عمل يدوي يتناسب مع مؤهلته. بل إنها شجعته على اللتحاق بأكا ديمية الفنون الجميله ليواصل دراسته صرأخو،ه ،الذي التي كان قد قطع شوطا كبيرا منها في القاهر،ه .ولم يق ر يعمل في إحدى دول الخليج ،في تشجيعه على مواصلة الدراسه، و دعمه ما ديا .إلى أن توفرت له كل مقومات الستقرار في تلك البلد. 286
التوفيق في الدراسة ومن ثم العمل ،مما أتاح له دخل ل بأس به. شيء غير قليل من النجاح كفنان. والكثير من الحب والستقرار العاطفي. دأبت"مريم" ،كماكان يحلو لـ ض"معمر" أن يسمي صــديقته "ماريــا"،علــى دعوته لقضاء الجازة السبوعية عند عائلتها في منزلهم الريفي ،حيــث رحب به أفرا دعائلتها وأحبو،ه .هناك ال م والب والجد والخالة والخت وال خ والطفال ،أبناء وأحفا دا ،مما كان يعيد إليه ذكريات الطفولة بيــن أفرا د عائلته ،ويوقظ حنينه إلى الهل والبيت والرض والوطن. كانت "ماريا" واسعة الثقافه ،كثيرة الطلع على القضايا السياسية المعاصر،ه .وكثيرا ما كانت تدخل مع "معمر" في نقاشات حول تلك القضايا ،فيختلفان ،وتتكشف الكثير من الحقائق .أو يتفقان ،فتز دا د الواصر بينهما قوة. وكانت كثيرا ما تأخذ على الفلسطينيين ،والعرب بشكل عا م ،وهم أصحاب تاريخ وحضار،ه ،إغفالهم لدورالثقافة في معركتهم مع إسرائيل .وكانت تأتي له بالمثلة عن تواجد إسرائيل بذكاء في كل مجالت الثقافة والفنون ،بحيث تلفت أنظار العالم إليها كدولة مسالمة حضارية لها تاريخ وجذور)!( وتقول ،أن إسرائيل تحارب من أجل وجو دها ،إضافة إلى الساليب الخرى ،بعازف كمان يهو دي ،أو مغنيه يهو ديه ،أو ممثل أو فنان تشكيلي يهو دي ،أو فرقة "فنون شعبيه" يهو ديه ،أو حتى فريق رياضي يهو دي. العل م الذكي -كانت تقول -ل يقل تأثيرا في حروب التحريرعن المدافع .ذلك عندما يستعين بما بات يسمى بـ "القوة الناعمة".. العارمة! م ثم نرى "عمر" في حياته اليومية وقد تغيرت ،بالتدريج ،نظرته إلى الكثير من مظاهرها .كأنما كان سعيه إلى النجاح وتحدي الظروف يلهيه عن رؤية الواقع .فإذا به ،في بعض المواقف ،يتعرض لما يوقظ لديه الحساس بأنه سيظل ضيفا غريبا ل ينتمي إلى ذلك المجتمع المختلف طبعا وطبيعة .فل النجاح في العمل ،ول الستقرار الما دي، 287
ول القدرالمتواضع من الشهرة ،ل و ل حتى زواجه من "ماريا" بقا در على أن يجعل منه "مواطنا" ..في غير بلد،ه. في هذا البلد ،الذي كان "معمر" يتغنى بديمقراطيته ،أصبح يرى أن الديمقراطية سلحا ذو حدين .فمصا در الصحافة "الحرة" تقع تحت تأثير المصالح التي تؤثر في اتجاهاتها .هذا بالضافة إلى غياب المصدرالذي يتيح معرفة الوجه الخر من القضايا المطروحه .فمن الطبيعي أن يتعاطف الوروبي البسيط مع فكرة "انقاذ واحة الديمقراطية" في الشرق الوسط .خصوصا إذا ما أجا دت أجهزة الوسائط العلمية العزف على وتر "الضمير" .وساقت ،ليل نهار، المثلة وال دلة على ما حاق بالشعب اليهو دي المظلو م ،على أيدي النازيه ،من عمليات البا دة الجماعية. ومن أخطر الفكار التي دأبت إسرائيل على ترويجها ،وما زالت تسعى إلى نشرها في العالم بشتى الوسائل ،هي فكرة المقارنة بين مدينتي "القدس" و "برلين" .ذلك مما كان يصيب "معمر" المقدسي في مقتل .فالمدينتان اللتان ،حسب ا دعاء إسرائيل ،قد جرى تقسيمهما في غفلة من التاريخ ،يجب أن يتم توحيدهما )!( هذا الطرح يصيب قبول في ألمانيا بالذات ،ويحظى بتعاطف تلقائي في أوروبا بشكل عا م. كيف يمكن مواجهة هذ،ه الفكار بأسلوب آخر ،غيرالشجب العربي، والستنكار؟ كان إحساس "معمر" بالعجزعن التصدي لذلك المار د العلمي مما زا د في إحساسه بالعزلة والغتراب عن مجتمعه الجديد. أخذ ينشد العزاء في أصدقاء فلسطينيين وعرب .ويعو د إلى حظيرة الباحثين عن ذواتهم وعن مستقبل شعبهم ،ليقضي على ذلك الفراغ والحساس بالغربه ،وحاجته المتزايدة إلى الشعور بالنتماء .إلى أن أصبح يكثر من إعتذاراته لتأخر،ه في مواعيد،ه مع "ماريا" ،التي لحظت أيضا ظهور وجو،ه جديدة تتر د د على المقاهي أو النوا دي التي كانوا يتر د دون عليها. 288
وفي أحد العيا د القومية ،دعته السرة ،حيث كانت تقيم احتفالها السنوي في البلدة الريفية. غنى الجميع ،ورقصوا مبتهجين سعداء ،وهو يراقبهم ،بينما تستعيد ذاكرته مناسبات مشابهة كانت تجمع شمل عائلته في طفولته ،في مسقط رأسه ..القدس. لحظ الجد ،الذي كان يعزف ألحانهم الشعبيه على آلة الكور ديون، شرو د "معمر" ،فاحب أن يخرجه من وحدته .وطلب منه أن يغني أو يرقص كما يفعلون في وطنه ،في الحتفالت الشعبية الفلسطينية .وما زال يستدرجه للغناء بمحاولة مرافقته باللة الموسيقية ،والكل يشجعون محاولته ،حتى إذا ما قارب إيقاع تصفيقهم ،على نغمات الغنية الشعبية الفلسطينيه ،أن يصل إلى قدر من التقان ،التهبت أكفهم وحناجرهم في محاولة تر ديد همهمات الهزوجه معه ،بعد أن تمكنت اللة أيضا من إلتقاط لحنها السهل المتكرر ،مما قضى نهائيا على تر د د "معمر" وخجله ،فاستجاب إلى محاولة "مريم" ،التي أخذت تستدرجه بدورها ،بما لها من بعض الدراية التي اكتسبتها منه ،إلى النهوض إلى الحلبه ،ليشاركها رقصة الدبكه ،فتحلقوا حوله مصفقين مهللين ،وهو يلوح بمنديله المعقو د ،تز دا د ضربات قدميه على الرض قوة ،وقفزاته في الهواء علوا ،كأنما قد تحرر لتو،ه من قيو د لم تكن مرئية ،في رقصة "زورباوية" صاعدت من حماسهم ومشاركتهم .إلى أن سقط على مقعد،ه منهوك القوى بين تصفيقهم وتهليلهم. نرا،ه بعد ذلك وهو يتقلب على جنبيه محاول،عبثا ،أن يخلد إلى النو م. ثم ينهض ليطل من نافذة الغرفة العلوية إلى حديقة المنزل الريفي، ويمتد نظر،ه إلى الفق البعيد الذي ابتدأت تباشير الصباح تكسو،ه بثياب النور. ونسمع لحن تلك الغنية الشعبية الذي يتحول تدريجيا إلى نغمات يشوبها الشجن و الحزن النبيل. "ياومه مويل الهوى ..ياومه مويلويا" "ضرب الخناجر ول حكم النذل فضويا" 289
ويمرشريط الذكريات أما م عيني"معمر" ،مختصرا ،مركزا ،صامتا. وينتهي بما كان يجري في اليا م الخيرة من محاولت لقناعه ،من قبل بعض الوجو،ه الفلسطينية التي تكرر ظهورها في الفترة الخير،ه، بالعو دة إلى صفوف الفدائيين. تستيقظ "ماريا" ذات الصباح .تبحث عن "معمر" فل تجد،ه. ثم نراها تجوب المدينة -ميونيخ -باحثة عنه في كل الماكن والمقاهي التي كانا يتر د دان عليها. وفي أثناء بحثها وتجوالها ،تطالعنا في خلفية المشاهد ،ملصقات جدارية ولفتات ضخمه تعلن عن دورة اللعاب الولمبيه،عا م ،1972التي تعد لها مدينة "ميونيخ" ،بينما نحن نسمع لحن الغنية الشعبية الفلسطينية الموغل في الحزن..الموشى ببصيص أحل م الخلص. *
*
*
كان صديقي السباني "ضيف ا" ،الذي استقر به المقا م في باريس، والذي اتفق أن إلتقيت به في القاهرة أثناء رحلته التي طالما خطط لها، هو صاحب الفضل بالتصال بممثلة أمريكية ظهرت صورها ،في ذلك الوقت ،وفي كثير من المناسبات ،وهي تتلفع بالكوفية الفلسطينية معلنة عن وقوفها إلى جانب الثورة الفلسطينية .كما اشتهرت قبل ذلك باسم "جين هانوي" لموقفها المساند للفيتنا م* .تلك هي بعينها "جين فوندا" التي تمكن صديقي من الحصول على موافقة مبدئية منها على القيا م بدور "ماريا". كان هذا هو مشروعي الذي حملته ،وحلمت بتحقيقه في بيروت. والذي وعدني "أبو إيا د" ،بأن يدفع إلى تحقيقه. والغريب أن كل من قرأ المعالجة ،سواء المختصرة منها أوالموسعه، كان يشيد بالفكار التي يحتويها مشروع الفيلم ،بما في ذلك محاولة تكريس فكرة ومبدأ "نقد الذات" .فهناك إشارة إلى خطورة الوقوع في نفس الخطاء التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية في الر دن ،والتي 290
أ دت إلى أول "نكسة" في عمرالثورة الواعد،ه .هذا بالضافة إلى التحذير من خطورة الرفاهية التي أتاحها أوأباحها بعض القيا ديين،أو المقربين منهم ،لنفسهم ..فقلدهم البعض الخر ..وهلوم جورا! وكما ألهبت الصورة المشرقة مشاعر الكتاب والشعراء والفنانين وألهمتهم أعمال سوف تظل تحدث الجيال عن "أنبل ظاهرة في التاريخ العربي الحديث"** ،كذلك كان هناك من با در بدق ناقوس الخطر ،وإن على استحياء. كانت الفكار التي ور دت في المعالجة السينمائية لمشروعي الجديد من وحي إطلعي ومتابعتي و دراستي وتحليلي لما يجري في لبنان بعد خروج قوات المقاومة من الر دن. وها هي الفرصة قد حانت ،أو أوشك حينها ،للمعايشة الحقيقية .وهو الشيء الذي كنت أعد له منذ زمن. *
*
*
_______________________________ ذلك قبل أن ترتد وتعلن تضامنها مع دولة إسرائيل . )*( )**( مقولة الزعيم جمال عبد الناصر
نهايـــــــــــــة مرحــــــــــــــلـة.. 291
نعم ،كان ل بد لي من فترة تكفي لكتساب الخبرة العملية ،التي استطعت أن أحصل عليها من عملي مخرجا للدراما في تلفزيون القاهرة لمدة جاوزت الست سنوات .هذا إلى جانب خبرات أخرى أتاحها لي قربي من تلك الباقة من الصدقاء ذوي العلقة المتميزة بالموسيقى وال دب والشعر والفن التشكيلي .وأنى لي أن أنسى مسارح الدولة في عهدها الذهبي ،أو دار الوبرا العريقة ،التي فجعت بحريقها ذات يو م خميس ) ،**(28/10/71بعد أن أصبحت من روا دها الدائمين بفضل صديقي "سامي رافع" الذي تلقفته الدار واحتضنته مبدعا. وفي الوقت الذي شعرت فيه أن وجو دي في القاهرة قد استنفذ أغراضه ،كما أسلفت ،تقدمت أو عاو دت اللحاح على طلب "التفــــــــــورغ" للعمل في "منظمة التحرير". ولول العقبات الرقابية التي كانت تحول دون عرض فيلمي الروائي الول "الظلل في الجانب الخر" ،والذي كنت أعتقد أن عرضه في مصر والبل د العربية سوف يكون بالنسبة لي بمثابة بطاقة التعريف بي كمخرج سينمائي قا درعلى صنع الفيلم الفلسطيني الروائي .لول ذلك لكنت قد با درت بالسعي للتفرغ فور انتهاء العمل بالفيلم. ________________________________________________________ )**( في 28/10/1971جرى حريق دار الوبرا المصرية التي بناها الخديوي إسماعيل . وكان قد تم افتتاحها في 29/11/1869بعرض أوبرا "ريجوليتو" المأخوذة عن قصة "الملك يمرح" لفيكتور هوجو بدل من "عايد،ه" التي كتبها "فير دي" خصيصا لهذ،ه المناسبة ولكنها لم تكن جاهزة في هذا التاريخ .ولقد تم أول عرض لوبرا "عايد،ه" في أوروبا )في ميلنو( في .8/2/1872
في أوائل عا م ،73أقيم في مقر جمعية النقا د السينمائيين عرضا خاصا للفيلم ،حضر،ه معظم العاملين في مكاتب الثورة الفلسطينية في القاهرة، 292
بالضافة إلى "أبوإيا د" ،عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" ،الذي تصا دف وجو د،ه في زيارة للقاهر،ه ،فكان لقائي الول به. عانقني "أبو إيا د" بعد العرض مهنئا ،ومؤكدا على ضرورة سفري متفرغا للعمل إلى بيروت. قال لي وللحاضرين بحماس شديد: "هذ،ه هي اللغة التي نستطيع أن نخاطب العالم بها ،وهذا هو العل م الحقيقي المؤثر!" كدت أن أطير فرحا وسعا دة وزهوا .فلقد وصلت رسالتي. قلت له ممازحا: "إذن لقد نجح م ت في المتحان". قال: " ..وبتفوق ..ومرحبا بك في بيروت!" ثم حدثته باختصارعن مشاريعي القا دمة ..فيلم"حكاية عمر" و فيلم "المجموعه .."778أول مجموعة فدائية فلسطينية نشأت في الرض المحتلة عا م .. 48و .. *
عرض فيلم "الظلل ".. .. .. 293
*
*
الناقد السينمائي المتميز "كمال رمزي" هو الذي حكى لي حكاية الزوبعة التي أثارها البعض في مجلس الشعب بشأن فيلم "الظلل ،"...والمطالبة بإيقاف عرضه .ذلك أثناء وجو دي في بيروت. وأرى أن أنقل إلى هذا السياق ما قاله الناقد المعروف في كتاب "الهوية القومية في السينما العربية" -صفحة 67و -68الصا در عن مركز دراسات الوحدة العربية: الخر عام ،1975بعد أن ظل عندما عرض فيلم"الظلل في الجانب " حبيسا في العلب لمدة عامين * ،كان النظام المصري قد انتهى من توقيع اتفاقية فك الشتباك الثاني التي تنص مادتها الثانية على أن "يتعهد الطرفان بعدم استخدام القوة أو التهديد أو الحصار العسكري في مواجهة الطرف الخر" ،كما تنص في مادتها الثالثة على أن الطرفان "سوف يستمران في أن يراعيا بدقة وقف إطلق النار في البر والبحر والجو ،والمتناع عن أي أعمال عسكرية أو شبه عسكرية ضد الطرف ". الخر "** ،قد لم يكن النظام عام ،1972عندما عرض فيلم"أغنيه على الممر كشف بوضوح عن توجهاته السياسية والقتصادية المتمثلة في تصفية الحرب مع إسرائيل والعتماد الكامل على أمريكا كشريك ورقيب من جهة ،وفي النفتاح القتصادي من جهة أخرى ،لذلك قد بدا أن الطريق الجديدة لتقدم أعمال تعتمد على مرتكزات " مفتوح أمام"جماعة السينما الممر ،ولكن الن، فيلمأغنية على " فكرية شبيهة بتلك التي يعتمد عليها " في عام ،1975لم يعد ،من وجهة نظر السلطة مسموحا بمثل"الظلل الخر برؤيته الشابة التي تناصر فكر في الجانب " ____________________________________________ )*( )**(
واقع المر أكثر من ثل ث سنوات .وكان ذلك أثناء غيابي في بيروت. الذي تم إنتاحه في نفس عام إنتاح فيلم "الظلل"..
المقاومة الفلسطينية القائل بأن" البندقية هي الني تفتح الطريق إلى " المصريين المستقبل لذلك فإن الفيلم ،على الرغم من أقلم"جمعية النقاد " إغتيال ،فمثل " التي وقفت بقوة إلى جانبه ،تعرض لما يشبه"مؤامرة 294
نشرت الجرائد الحكومية أخبارا مريبة ،ترمي إلى تشويه الفيلم وإخافة الجديدة ،فتحت عنوان"مجلس الشعب يطلب وقف " "جماعة السينما مصري كتبت صحيفة الجمهورية ) (7/5/1975تقول: " عرض فيلم "تلقت لجنة الثقافة والعلم لمجلس الشعب عددا من البرقيات والخطابات حول مضمون فيلم مصري معروض في القاهرة حاليا. انتقلت اللجنة لمشاهدة الفيلم .أثار الفيلم استياء اللجنة .وبعثت تسأل وزير الثقافة كيف سمحت الرقابة بعرض هذا الفيلم .ذكر مصدر مسُتئول بالثقافة أن هذا الفيلم تم إخراجه منذ عامين وأنه أحد أفلم جماعة السينما الجديدة. " وفي اليوم نفسه نشرت جريدة الهرام ) (7/5/1975خبرا يقول: "صرحت لجنة الثقافة والعلم بمجلس الشعب بأنها لن تناقش مستوى الفلم المصرية في الجلسة التي أعلن عنها ،وأن اعتراضها كان على فيلم واحد يجري عرضه الن في القاهرة. " وقبل انتهاء مدة عرض الفيلم كتبت إحدى الجرائد )الجمهورية (8/5/1975تقول: الخر الذي أنتجته جماعة السينما الجديدة ،صدر " الظلل في الجانب " قرار وزير الثقافة بعدم عرضه أو توزيعه في الداخل أو الخارج. وبسرعة تم سحب الفيلم لتنشر الجرائد )الهرام (10/5/1975خبرا جديدا يقول: "يوسف السباعي وزير الثقافة لم يصدر قرارا بوقف عرض الظلل في ". الجانب الخر في الداخل أو الخارج ،فالفيلم انتهت مدة عرضه وما أن تبين كزتاب التخلف ،ومروجو السينما المتردية موقف السلطة المعادي للفيلم حتى انطلقوا في مهاجمته ،على نحو بالغ الشراسة والتجني .وكمثال ،نشرت إحدى المجلت )الكواكب 14أغسطس الطائر فوميل لبيب: " (1975بقلم"الناقد "أن الفيلم فشل سينمائي ذريع تخسر فيه جماعة السينما الجديدة نقطة ثمينة في المباراة الدائرة بين المخرجين القدامى والجدد ..والفيلم يعتبر إهدارا لمال الدولة حين كان المال سائبا وأبواب المجاملت مفتوحة 295
للغاضبين والسينمائيين الجدد والواعدين وكنوز الغد السينمائي وغير ذلك من الوصاف التي امتلت بها أعمدة النقد حين كان النقاد من أتباع غيفارا والشيخ إمام. " ولم تكن هذ ه النغمة الكريهة شاذة في هذ ه الفترة ،ولكنها جاءت متوافقة مع هجمة اليمين على جميع الجبهات الثقافية ،فقبل عرض الكاتب قد تعرضت الخر واغتياله ،كانت مجلة" " "الظلل في الجانب " لنقلب قامت به وزارة الثقافة ،أطاح بهيُتئة تحريرها ذا ت التجاهات التقدمية ،لتحل محلها هيُتئة تحرير من موظفين يدينون بالولء الكامل لخط النظام .وبعد شهور قليلة تمت تصفية القطاع العام في مجال الكتاب الذي تكون عام 1976 " السينما ،وحسمت السلطة معركة"إتحاد لمصلحة أصحاب التجاهات الرجعية .وفي العام التالي ،بعد انتفاضة الشعب المصري الشهيرة أغلقت مجلة الطليعة التي كانت تعد من أهم قلع اليسار ،وفي الوقت الذي تم فيه الزج بالعديد من الكتاب التقدميين في المعتقلت .أزيح ممثلوا التيارات الليبرالية من الجرائد والمجلت، ليحل مكانهم من يقتنع أو يتظاهر بالقتناع بسياسة النفتاح ،والصلح مع إسرائيل ،والنعزال عن المة العربية ،والقول بأن مصر دفعت الكثير ،وتحملت الكثير ،وأنه آن الوان لكي تتوقف عن الدفع ..إلخ" *
*
296
*
مع بعض العاملين في فيلم "الظلل "...
وفي السكندرية
297
لعله مما يزيد المور وضوحا ،في هذا السياق ،أنه في إحدى زياراتي الخاطفة ،قا دما من بيروت ،لزيارة شقيقاتي في السكندرية ،صا دف موعد عرض فيلم "الظلل في الجانب الخر" في دورالسينما لول مرة ،بعد سنوات من انتاجه والحجر عليه من قبل الرقابة ،وقبل إيقاف عرضه استجابة للمطالب المذكورة في مقال الناقد كمال رمزي ،كان من الطبيعي أن أ دعوالشقيقات لمشاهدة فيلمي بعد طول انتظار. همست لي الموظفة ،من خلف شباك التذاكر ،بشكل مباشر وبدون مقدمات: ..ما تشوفو لكو فيلم تاني ..الفيلم دا مش حلو ..ل "قصه" ول"مناظر"! *
*
*
لم أتوقف كثيرا عند ذلك التعليق الذي عرفت بعد ذلك حقيقة مصدر،ه. ولم أتركه يفسد عليي متعة أول مشاهدة لفيلمي الروائي الول في عرض تجاري في دار عامة للـ "خيالة" .وتركت العنان لذنوي للتقاط ما أمكن التقاطه من تعليقات الجمهور ،المعلم الول ،سلبا أو إيجابا. إنها متعة ..بل وأي متعة! *
298
*
*
صورة إعلن فيلم "الظلل "...في بيروت بدون ذكر إسم المخرج !!!!!!!
299
)بقية(
"فضـــــفضـــــه"..
"ما أضيق العيش لول فسحة المضل" ،أو تلك الستراحات التي يجد فيها النسان ،والفنان بالذات ،وقتا ضلذاته! هل يمكن أن تكون اهتمامات الفنان كلها مقتصرةعلى عمله ،الذي يص و ب في الهتما م بالخرين دائما؟ وهل هناك مفر من الوقوع تحت تأثير "حالت إبداعية" أخرى تفرض نفسها على الجانب الخر من حياته؟ فما أكثر ما كانت لي ،شأن الخرين ،شطحاتي وعثراتي ولحظات ضعفي وحاجاتي!.. .. .. *
*
*
كنت أسكن في غرفة مفروشة مقتطعة من شقة عائلة من الطبقة المتوسطة في حي تعو د الطلبة أن يلجأوا فيه إلى هذاالنوع من السكن. هذا بينما كان والد و ي وأخواتي يسكنون السكندرية منذ عا م .1957 أمي كانت تنتظر زياراتي وتفرح لها .ولكنها كانت تنظرلي دائما بشيء من العتاب ،وفي عينيها ذلك التساؤل الذي ل تمل من تكرار،ه، شأن كل المهات.. "متى يابنوي.. ..؟" كانت أحوالي الما دية ل تسمح لي بالتفكير في ذلك .هذا إلى جانب شعوري بعد م الستقرار وإحساسي بالذنب والمسئولية تجا،ه أخي الذي تولى رعاية السرة ما ديا منذ عا م ،48والذي تضاعفت مسئولياته 300
وإلتزاماته بعد زواجه ،ولم يبرح مكان عمله في السعو دية )حتى وافا،ه أجله هناك عا م .( 83لكنه كان ل يفتأ يكتب لي ويعبر لي عن سعا دته وهو يقرأ أخباري في الصحف ويقول مشجعا ..إستمر ول تشغل بالك! كنت دائما أبوح له ،كتابة ،بكل ما ينوء به صدري. قال لي أكثر من مرة" :أنا مؤمن بما تفعل ،ولو كنت مكانك لما فعلت غير ذلك". ومرة أخرى قال لي" :إسمح لي أن أستمتع بالفخر بأنني أساهم في أن تتمكن وتصبح الشيء الذي تريد،ه". وكتب لي مرة بأسلوبه الساخر: " أشعر بضآلة ما يقتطعونه من مرتبي لصالح الثورة ،ولذلك فقد اقتطعتك أنت من حساباتي لقدمك لها ،هذا كل ما يمكنني عمله من أجلها .فامض في طريقك لني سعيد بما استطع أ ت أن تنجز حتى الن، وسوف يسعدني أكثر أن تنجز أكثر وأكثر! إذن فما عليك الن -بعد أن وفيت أنا بوعدي..أو كدت -إل أن تحقق لي ما أتمنا،ه الن ،وهو أن أراك سخيا وا في عطاءك ،وأن تحقق لي ما تتمنا،ه أنت لنفسك". وكتب لي في مرة أخرى يقول: " كيف يمكن ،بعدما قرأت ما كتبو،ه عنك وعن مشروعك ،الثقافي والوطني ،أن يتوقع مني أحد غير دعمك والوقوف إلى جانبك؟ ولول الضرورة والحاجة واللتزامات العائلية التي تقتضي وتحتم بقائي هنا في السعو دية لوجدتني واقف معك..عامل "كلكيت"! ويتضخم إحساسي بالمسئولية ،والخوف من أن ل أكون أهل لكل تلك الثقة. لم يكن أخي"عابد" أقل إلحاحا علوي من أمي فيما يتعلق بالزواج والستقرار .ولكنه كان أكثر ذكاء في تلميحاته وتصريحاته. كان دائم السخرية مني ومن نظرتي إلى الحب والزواج .فقد كنت دائما أومن أن الحب سلوك أخلقي حتى لو لم يكن مكلل بالزواج، 301
ولكنني كنت أومن أيضا أن الزواج بدون حب هو السلوك الغيرأخلقي بعينه. كان أخي "عابد" ،القاريء النهم كما عرفته ،ل يفتأ يشبعني سخرية و تنكيتا وتبكيتا ،يذيل رسائله دائما بأقوال مأثورة ،أو أخرى من بنات أفكار،ه ،تتناسب مع موضوع جاء ذكر،ه في رسالتي إليه أو في ر د،ه عليها. ذلك على غرار: " ما أسوأ أن تقع في الحب ثم تفقد،ه .ولكن السوأ من ذلك ..أن ل تحب أبدا!" و"الرجل العاقل هو الذي يعمل على الزواج من المرأة التي يحبها. والعقل منه..هوالذي يعمل على أن يحب المرأة التي يتزوجها". و"ليس هناك أجمل من أن يكتشف الخرون مزاياك الحميدة. فامنحهم الفرص للمزيد من هذ،ه الكتشافات". و" في حياة كل منا قدران ،قدر تكتبه السماء ،وقدر نصنعه نحن بأيدينا". إلخ ..إلخ .. * * * وعن "أوسكار وايلد" أنه قال: " ثمة مصيبتان في الحياة ،الولى أن ل تحصل على ما تريد،ه وتتمنــا،ه، والثانية ..أن تحصل عليه". ففي أثناء قيامي بالعدا د لفيلمي الروائي الول وبحــثي فــي دار الذاعــة في القاهرة عن تسجيلت لموسيقى فلسطينية ،لكي أستخدمها في بعض مشاهد الفيلم،أحالوني إلى إذاعـة فلسـطين فـي"صـوت العـرب" ،حيـث سأجد بغيتي.
302
لم أجد هناك ما كنت أبحث عنه .ولكني قابلت "هـ" التي استطاعت أن تدفعني لختلق أسباب أخرى لزيارة ذلك المكان والتي سعدت بوجو دها إلى جانبي فترة ليست بالقصيرة. في لقاء لنا خارج نطاق العمل ،بعد بضعة أشهر من اللقاءات الولى، وبعد غيبة أيا م قضيأتها في السكندرية ،تعرضت فيها لموجات من الشحنات العاطفية التي كان يبوح بها صمت أختي الكبرى "محسن" ونظراتها اللئمة ،وهي التي أخذت على عاتقها أن تواصل ما دأبت عليه والدتي قبل وفاتها. قلت لها -لضـ"هـ" -فجأة وبعفوية شديدة: اشتقت إليك..رمقتني بنظرة طويلة تحمل من المعاني ما يحتاج لكثير من البلغة لكي تقال .ثم أوجأز ت ت: وأنا أيضا..قلت لها ،مجيبا ،بعد عدة لقاءات أخرى: عندما تقول لي إحداهن "أحبك"! فهي إذن قد استطاعت أن تكتشفما في داخلي من قيم .ول تسـتطيع ذلـك إل مـن كـانت تمتلـك مثـل هـذ،ه القيم. وعندما فاجأتني بسؤالها لي عن تينك الخريات ،قلت لها ما قاله أحد الظرفاء: الخريات يا عزيزتي كن صديقاتي ..لكنك ستكونين أرملتي.ضحكنا ،واعتبرنا ذلك الحوارالقصير المقتضب بمثابة عرض للزواج وقبول له من كلينا. وسرعان ما سربنا الخبر لمن يهمه المر ..فذاع وانتشر. ولم يبق سوى صدور تصريح الرقابة العامة بعرض فيلمي "الظلل ،"..وبالتالي استل م قيمة أجري المؤجل لما بعد العرض عن 303
كتابة السيناريو والخراج** ،حسب التفاق ،لكي أتمكن من حل مشكلة اللتزامات المالية لمشروعي الجديد ..مشروع الستقرار العاطفي. *
*
*
__________________________________________________________
304
)**(
ولعله من الطريف أن أذكر أن ما تسلمته من أجري المذكور ،حتى كتابة هذ ه السطور، هو 400جنيها فقط ل غير ،من أصل 2000من الجنيهات ،حسب ما جاء في العقد، عن كتابة السيناريو والحوار ..والخراج.
جزء من حديث مع "نهى العلمي" في مجلة "الذاعة والتلفزيون"
305
صـــه" السينمائي مهرجان "عجعمـــ ع
ثم يتقررعقد أول مهرجان قومي للسينما المصرية ..في منتجع "جمصه". ويتقرر ،وهو في رأيي ما يعتبر أحد إنجازات جماعة السينما الجديدة،أن يشارك الشباب السينمائي في لجنة التحكيم ،التي كان يرأسها شيخ المخرجين والنقا د "أحمد كامل مرسي". وأكون أنا أحد العضاء الممثلين للسينمائيين الشبان في تلك اللجنة .كما يتقرر عرض فيلم"الظلل ".. ..خارج نطاق التحكيم لكوني عضوا في لجنة التحكيم تلك )!( كنا ،جماعة السينما الجديدة ،نعتبر بكل فخرأن ذلك يدخل في نطاق إنتصاراتنا التي حققناها. وينتهي المهرجان .وتنهي لجنة التحكيم التي كانت تجتمع في منزل "أ. ك .مرسي" مهامها ومن ثم يرسل المظروف المقفل الذي يحتوي على النتائج إلى وزارة الثقافة. وننظر إعلن النتائج. وبدل من ذلك تصل أعضاء لجنة التحكيم دعوة لجتماع استثنائي )!( وتتناقل الوساط الثقافية تكهنات متشابهة تفيد بأن وزير الثقافة ،يوسف السباعي ،لم يكن راضيا عن المخرح"يوسف شاهين" الذي كان قراراللجنة في صالح فيلمه "الختيار" .ويبدو أن النتيجة كانت قد "تسربت" إلى الوزير فأعا د المظروف مقفل إلى رئيس اللجنة. 306
في ذلك اليو م وصلت ،كعا دتي ،مبكرا لجد أحد أعضاء اللجنة الشبان يقف منتظرا بباب العمارة التي يسكنها أستاذنا "أ.ك.مرسي" .أبدى
307
العضو المذكور ارتياحه ،ورأيه في عد م الدخول انتظارا لوصول بقية العضاء لكي يتم التفاق على موقف رافض للستسل م لرا دة الوزيرالفر دية ،لما في ذلك من إهدار للقيم التي نؤمن وننا دي بها. في بداية ذلك الجتماع الستثنائي أخذ أستاذنا يسترسل في التمهيد لشرح الغرض من الجتماع ،ثم )بعد أن عاجله أحدنا بالجملة الدارجة "هات من الخر"( ،لم يجد مناصا من إعلنها صريحة بأن المطلوب من اللجنة..أن تعيد تقييمها أو تقويمها )!( الحق يقال ،أن جميع أعضاء اللجنة ،وعلى رأسهم الشبان الثلثة طبعا، قد أبدوا رفضهم للنصياع لرا دة فر دية شخصية لما فيها من مخالفة للقوانين والعراف ..والضمير. ولم أكد أسعد بذلك الموقف الجماعي الذي كان يلبي اللهفة والشوق إلى ممارسة ذلك الشيء الذي طالما نا دينا به ..حرية الرأي ..حتى وجدت نفسي شيئا فشيئا أقف وحيدا ،وأنا أبدي رفضي للتراجع ،أما م محاولت أستاذنا "أ.ك.مرسي" المشينة بقبول فكرة تلفيق النتيجة بما يرضي سيا دة الوزير ،بعد أن تراجع الجميع عن مواقفهم الرافضة الواحد تلو الخر. كانت أسبابهم جميعا ل تتعدى الشارة إلى كونهم موظفين في الدولة ول يستطيعون "قطع أرزاقهم بأيديهم" ،بمخالفة إرا دة معالي الوزير. وأما م إصراري على رفض إتخاذ الموقف المتخاذل ،إتهمني الجميع بأني "أزايد" عليهم رجولة والتزاما ،بحجة أني لن أتضرر من جراء فصلي من وظيفتي في التلفزيون ،حيث أن كوني فلسطيني الجنسية يجعلني أمتلك الخيارات للعمل في أي بلد عربي آخر. بل إن أحدهم صرح ،كمن يفشى سرا ،بأني كنت أسعى فعل للتفرغ للعمل في إعل م "منظمة التحرير" ..في بيروت )!( وبذلك وجدت نفسي متهما بالنتهازية ،والنانية ،وعد م مراعاة ظروف الخرين.
308
ثم وجدت نفسي ،مراعاة لتلك الظروف ،أرضى بالحل الذي يقترحه رئيس اللجنة ،الذي كان بمكانة الستاذ والمعلم مني والذي أحرجني وأخجلني موقفه وهو يسد د لي نظراته اللحوحة بينما هو يمسك أسفل ذقنه بأطراف أصابعه مذكرا إياي بأنه أخي الكبر وفي مقا م والدي الذي يحرص على مصلحتي ،أل وهو الستقالة من لجنة التحكيم. لكن اللجنة لم تقبل إستقالتي لكونها ..إستقالة "مسمببة". ولم أجد مناصا من الموافقة على كتابة صياغة أخرى غير مسببة"، مؤكدا لرئيس اللجنة وأعضائها أني لن أتعهد بالسكوت عن إبداء أسباب الستقالة فيما لو تعرضت لي مساءلة شفوية بهذا الشأن من أ و ي كان. )لعلي أذكر أني قابلت في مساء ذلك اليو م صديقي ال ديب "مجيد طوبيا" ..وأنه سألني ..وأني أجبته بصراحة(. وانتهى المر بأن ظل الوضع على ما هو عليه. وأسدل على الموضوع برمته ستار الكتمان ،فكانت تلك الظاهرة التاريخية الفريدة ..مهرجان سينمائي ومسابقة ولجنة تحكيم ..بدون إعلن النتائج! وبل عو دة لقامة ذلك المهرجان السنوي بعد ذلك! *
*
*
كانت لي محاولة يتيمة ،سرمها نزوة ،لكتابة مسرحية من فصل واحد حول تلك اللجنة التي يتبارى فيها أبطالها ،أعضاء لجنة التحكيم ،في الحديث عن المثل العليا والضمير والتمسك بالمبا ديء والتصدي لكل ما من شأنه أن يمس حرية الرأي .ثم تأتي لحظة الحسم التي يتساقط فيها أبطال المسرحية الواحد تلو الخر .لكرل أسبابه النسانية و دوافعه الما دية وأعذار،ه المنطقية )!( ويتخلخل جدار الصمو د وينهارأما م قهرالظروف وجبروت السلطة. 309
لكنني تذكرت ،بعدما قطعت شوطا في الكتابة ،أن "الموضوع" مكرر إلى درجة الهتراء فتوقفت.
العبـــــــــــــور..
كان ،وما زال ،شأن الكثيرين ،من العبث أن أحاول وصف مشاعري إزاء حدث جلل مثل إنتصار حرب أكتوبر ..73كتاباة .وكانت المسألة في نظري تتجاوز معنى كسب حرب ،أومعركة في حرب ،إلى المعنى الشمل وهو "العبور" .العبور إلى بر الكرامة .فقد كان انفعالي ل يدانيه سوى قدرة الكاميرا على التعبيرالطازج ،بالصوت والصورة، عن تلك المشاعر التي غمرتنا وأنقذتنا من مستنقع عارالهزيمة. أول ما توار د إلى خاطري هو ذكريات اليا م الولى للهزيمة التي تعو دنا أن نطلق عليها إسما آخر هو"النكسة". تمنيت أن أطير إلى "فيينا" لكي أ دعو صديقي "يوهان" للحتفال ،مع بقية أفرا د الشلة الباقين هناك ،باستر دا د الكرامة المفقو دة في نفس المكان الذي شهد لحظات إكتشافنا لمدى قسوة مرارة الحساس بالهزيمة والمذلة. تمنيت أن أرى صديقي السباني"ضيف ا" وهو يستعيد شعور،ه بالفخر والمجاهرة باعتزاز،ه ببقايا الدماء العربية التي تسري في عروقه ،كما كان يصرح دائما. تمنيت أن أنظر مرة أخرى في وجه ذلك اليهو دي الصهيوني المعتو،ه الذي قال لنا ذات يو م ،في إحدى ضواحي فيينا ،بالعربية الفصحى: "من ل يعرف السباحة ..يترك الملحة". مجر د نظرة ..ولن أبصق في وجهه. تمنيت أن أرى "ماريا" لكي أزف إليها إشراقة المل في العو دة إلى القدس. 310
*
*
*
كنت قد اغتنمت فرصة مرور عضواللجنة التنفيذية لقيا دة الثورة "أبو إيا د" ،ووجو د،ه في مصر ،أواخر سبتمبر ،73لطلب منه تمويل لفيلم تسجيلي عن معركة العبور "القا دمة حتما" في يو م ما ليس ببعيد ،بعد أن أعا دت إلينا "حرب الستنزاف" المل في استر دا د الكرامة .لمعت عينا،ه ،مما أوحى لي بأنه كان يعرف أكثرمما نعرف ،ولم يتر د د في إصدار التعليمات لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة ..بما يسمى "كارت بلنش"! لقائي وحديثي مع "أبو إيا د" خلق عندي ذلك الشعور الذي يشبه شعور القطط قبل وقوع الزلزال. هل كانت خواطر"أبوإيا د" التي طرحها وتلميحاته التي باح بها إستشرافا أو نبوءة بما سيكون؟ أ م أنها مجر د تداعيات وأفكار ساقها من قبيل التحليل والتفسير ،كما يفسرالبدوي تحليق الطائر فوق رأسه بوجو د ثعبان بالقرب منه؟ أ م أنه ،يا ترى ،كان يعرف حقا أكثر مما نعرف؟! وبا درت منذ اللحظات الولى للعبور ،وفرحتي ل تدانيها فرحة ،في التقد م للحصول على تصريح أمني للتصوير في مسرح العمليات من إ دارة التليفزيون ،إتفاقا مع زميلي وصديقي المصورالسينمائي وعضو جماعة السينما الجديدة "محمو د عبد السميع" .ولكنني محولت من قبل التليفزيون إلى "هيئة لستعلمات"للحصول على التصريح المطلوب، لكوني لست مصري الجنسية. وهناك في "هيئة الستعلمات" أفا دوني بأن "التصاريح" التي يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمراسلين الجانب .أما أنا فينطبق علي ما ينطبق على إخواني المصريين بحكم إقامتي الدائمة في مصر، وكوني موظفا في أحد أجهزة الدولة. في المكتب المختص في "التليفزيون" كرروا إفا دتي بأن التصاريح التي يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمصريين ،وأن أوراقي الرسمية تقول غير ذلك. 311
ويبدو أنني قد بدأت ،من حيث ل أ دري ،بمزاولة "الجولت المكوكية" بين "هيئة الستعلمات" و "هيئة التليفزيون" ،قبل أن يقو م "صديقي كيسنجر" بتكريس هذا الصطلح. التليفزيـــون الستعلمات التليفزيـــون الستعلمات التليفزيــــون الستعلمات التليفزيــــون الستعلمات التليفزيـــون الستعلمات
:يا حضرة إنت صحيح زميلنا ..وما فيش فرق بين فلسطيني ومصري .لكن الجهه المختصة بالسماح لك هي"هيئة الستعلمات"وبس! :يا أستاذ إحنا بننفذ لوائح ..وحضرتك ل تنطبق عليك هذ،ه اللوائح. :ما تتعبشي روحك! وروح وما تتنقلشي من عندهم إل ومعاك التصريح ..إيه الكل م الفارغ د،ه؟! :الراجل اللي قال لك الكل م د،ه مش فاهم شغله ..خليه يسأل اللي أعلى منه! :مش حضرتك بتقول إن الفيلم اللي رايح تصور،ه مش تبع التليفزيون ..طيب يبقى التصريح لز م يطلع من "هيئة الستعلمات" ..وال إيه ياخواننا؟ :ما نقدرشي نتعامل معاك كأجنبي وحضرتك فلسطيني وموظف في التليفزيون كمان ..هو فيه فرق بين مصري وفلسطيني يا عالم؟! :روح قول للراجل "الجاهل" د،ه يشوف شغله وبل ش تضييع وقت! ……… : ……… : :مش حضرتك كنت عاوز تصور "العبور"؟ طب ما إحنا عبرنا ..وخلص.
كانت هذ،ه مجر د "عينه" مختصرة ومنقحة من تلك الحوارات فقط. ولقد استغرقت في الواقع أياما كانت الحداث فيها قد تطورت إلى
312
مرحلة "الجسرالجووي" ..و"الثغرة" ..والقبول بقرار المم المتحدة بوقف القتال ..والمفاوضات على "فك الرتباط" ..إلخ وكان زملئي في التلفزيون يتابعون جولتي المكوكية ويعلقون على نتائجها بما ل يسور الخاطر. *
*
*
أذكرهنا موقفا حدث قبيل الحرب ،في الوقت الذي كان فيه زملئي في "مراقبة التمثيليات" في مبنى التلفزيون يتندرون بحكاية الرئيس أنور السا دات مع سنوات "الحسم" وأيا م "الضباب" .فقد دأب صديقي الكاتب التلفزيوني البارز في حينها "جلل الغزالي" على أن يدير نقاشا يوميا حول الحداث المتعاقبة بسرعة ،وخطر له أن يسألني أما م بقية الزملء ،بصفتي أنتمي لطرف ربما يكون له رؤية أخرى ربما تكون أكثر وضوحا أو موضوعية ،عن الحتمالت المتداولة. حقيقة المر أنني لم أكن في يو م من اليا م مغرما بالنغماس في أحا ديث السياسة .وهذا ل يتعارض قطعا أو ينفي مقدرتي المتواضعة على فهم ما يجري من حولي ،ومعرفة أسبابه وتحليلها ،أومقارنة التحليلت المتوفرة واستيعابها وتحديد مكاني منها والتكهن بالنتائج، وهوما أصبح يسمى ،بلغة المحللين السياسيين ،بتصور"سيناريو" الحداث .وكان تواجدي بين مجموعة من الصدقاء المثقفين المصريين ،كوتابا وصحفيين وفنانين ،خارج نطاق التليفزيون ،كفيل بتوفيرالجواء التي تتيح وتسهل لي ذلك. ومع ذلك قلت ،متأثرا بقراءتي الطازجة لكتاب "لعبة المم" ،من تأليف رجل المخابرات المركزية الميريكية "مايلز كوبلند" ،اشتهر في تلك الونة التي أعقبت "النكسة" بالذات ،أن هناك "جهات عليا" ذات "مصالح" مصيرية في "المنطقة" ربما ترى أن حل مشكلة "التوتر" وإقرار "سل م" أو "استقرار" يكفي ويضمن الحفاظ على مصالحها ل يتأتى ،فيما يتعلق بما تم التعارف على تسميته بـ"مشكلة الشرق 313
الوسط" ،إل بوجو د "قائد بطل" ينقا د إليه العرب ،ومصربالذات .هذا البطل يمكن صناعته وتلميعه )على غرار طريقة صناعة النجو م في السينما الميريكية ،بحيث يمكن من خللهم ،بعد تألقهم ونجاحهم وتعلق الجماهير بهم ،تمريرالقصص المحشوة بما طاب لهم من الفكار المبيتة( عن طريق نجاح أو إنتصار يحرز،ه في حرب قصيرة "محدو دة" ،يمكن استدراج الطرفين لها ،لهذا الغرض .ثم ل تلبث هذ،ه الحرب المحدو دة أن "تتوقف" بعد حصول كل من الطرفين على إنتصارات أو مكاسب محسوبة تعقبها مساومات ،أو سومها مفاوضات، قد تؤ دي في النهاية إلى النتائج المطلوبة من سل م واستقرار "محسوبين" في المنطقة ..أو ..حالة "ل حرب ول سلم"! أو كما فسرها بعض المراقبين" ..انتصارات تؤ دي إلى أهداف ظاهرها الديمقراطية والسل م وباطنها التحالف مع الوليات المتحدة وأتباعها في المنطقة". وفي أحد اليا م السابقة لقرار المم المتحدة بوقف القتال ،وما زالت رحى الحرب دائرة ،عاو د صديقي"جلل" سؤالي عن توقعاتي لليا م القا دمة ،فما كان مني إل أن أشرت إلى حديثي السابق مضيفا أنني ل أستبعد ،وإن كنت أتمنى أن أكون مخطئا ،أن تجري الحداث بما يتفق مع "السيناريو" الذي ربما تكون تلك "الجهات العليا" قد وضعته. قال"جلل" محتدا: والحرب اللي قايمه دلوقتي ،والعبوراللي حققنا،ه ،وخط "بارليف"اللي تدمر ،مش معقول كل د،ه لعبة زي ما إنت بتقول .ل طبعا! الحرب راح تستمر… قلت موضحا كلمي: مش أنا اللي بقول! والحرب اللي قايمة والعبور اللي حققنا،ه..والجنو د والضباط اللي واخدينها جد ،وهم على يقين من أن العدو يمتلك مخزونا كبيرا من السلح النووي ،وبالرغم من ذلك لم يتر د دوا في الهجو م و دمروا خط بارليف ،ولواء المدرعات السرائيلي الذي تم أسر،ه بأسر،ه )وما ننسا ش ،قبل 314
كل شيء ،الخمسميت يو م من حرب الستنزاف المجيد،ه، والعمال الخارقة اللي خطط ليها "سلح المهندسين"إبتداء من فتح الكباري على القنا،ه إلى فتح الثغرات في الساتر الترابي إلى إزالة ألغا م خط بارليف( ،وكل المعجزات اللي حققها واللي قا دريحققها الجيش المصري حاجة ،واللي إنت بتسألني عليه حاجه تانيه .إحنا كنا بنتكلم عن "الجهات العليا" ،والقوى العظمى التي تجتهد في أن تسوير الحداث في المنطقة حسبما تمليه مصالحها. هناك من كان يرى أن حرب عا م ،67المدوبرة والمقصو د منها التخلص من "عبدالناصر" واتجاهاته التي لتتفق مع أطماع الغرب في إمتصاص خيرات المنطقة ،تمخضت عن مشكلت لم يتمكن المجتمع الدولي من حلها ،وأن شكل من أشكال السل م هوالحل ،على أن ل يكون ذلك بالنسبة لمصر من موقف ضعف .ولذلك يجب أن يكون هناك حرب صغيرة محسوبة ،مهمتها استعا دة الكرامة الوطنية بالنسبة لمصر ،وكسر حدة إحساس إسرائيل بقدرتها على فرض إرا دتها، واستئثارها ،بما يشبه الهيمنة ،على تسييرالمور في المنطقة. ألم يصرح "هنري كيسنجر" ،وزيرالخارجية الميريكية ،بعد ذلك، بهذا المعنى ،في مؤتمر صحفي -عقد في الثاني عشر من أكتوبر -74 مضيفا بأن هدف الدبلوماسية الميريكية هو: " تفا دي أي مهانة للعرب ،ومنع أي هزيمة لسرائيل!" والهم من ذلك هو السؤال الذي طرحه "كيسنجر" نفسه: "هل تسمح أميريكا للسلح السوفييتي أن يهز م السلح الميريكي في أيدي حليفتها إسرائيل؟" والكثرأهمية من هذا وذاك هو تصريح الرئيس الميريكي "ريتشار د نيكسون" عندما التقى عد دا من وزراء الخارجية العرب يو م 7أكتوبر، أي بعد يو م واحد من بدء الحرب المجيدة وظهور المؤشرات القوية التي تؤكد نهاية خرافة التفوق العسكري السرائيلي ،فقد قال بالحرف الواحد: 315
"إن الوليات المتحدة الميريكية سوف تساعد إسرائيل علنا وبدون أي محاولة للتسترلنها ملتزمة بضمان أمن إسرائيل وحماية وجو دها". ران الصمت في ذلك اليو م لفترة طالت أو قصرت. ثم انفض المجلس ما بين مقتنع ..ومندهش ..ومستنكر ..ورافض لما دار في الجلسة من إفتراضات وتكهنات. و أعقب ذلك حكايات "الجسرالجوي" ،الذي فتحت أميريكا أمامه مخازن سلح الجيش الميريكي لتتدفق على إسرائيل ،والذي أسقط آخرالقنعة عن وجه أميريكا القبيح ،مما كان يشير إلى فزع أميريكا و دخولها الحرب ،بطريقة تكا د أن تكون مباشرة ،إلى جانب حليفتها إسرائيل. وثغرة "شارون" ..ذلك الهجو م السرائيلي المضا د في الدفرسوار*.. و"فض الشتباك" ..و"فصل القوات"** ..وما آل إلى إعلن موافقة مصر بالذات على قرار وقف القتال. و دخلت مقولة "أوراق اللعبه في إيد أمريكا" التاريخ. *
*
*
_______________________________________________________ )*( جاء ،بعد ذلك ،في مذكرات الفريق الشاذلي عن حرب أكتوبر ،أن طائرة تجسس أميريكية قامت في يومي 13و 14أكتوبر بتصوير الموقع غرب القناة من علو 30ألف كيلومتر ) بينما أقصى مدى لصواريخنا هو 20ألف كيلو متر( لرصد خلو منطقة غرب القناة من أي قوات مدرعة ،وبناء على ذلك نجح العدو في العبور بقواته إلى غرب القناة ليلة 16 أكتوبر واستمر في توسيع الثغرة يوما بعد يوم. )**( بعد الجولت المكوكية العديدة التي قام بها "هنري كيسنجر" في عواصم المنطقة ،تم توقيع إتفاقية فصل القوات في 18أكتوبر عند الكيلو 101في سيناء مما يشي بمقدار المسافة التي تفصل بين قوات العدو ..والقاهرة.
كنت قد قضيت الساعات هائما على وجهي ،حائرا مذهول ،كأنما كنت أبحث عن اليقين في وجو،ه الناس ،أجوب الشوارع وأذرعها وأنا أشبه 316
بطفل تا،ه في "مولد" غاب عنه صاحبه ،بينما ينهش كياني حزن له آلف النياب المدببة ،أتفحص تلك الوجو،ه المذهولة الرافضة مثلي، الغير مصدقة لما يجري ،قبل أن أتمكن من أن أتمالك أعصابي وأ دخل مبنى التليفزيون. قال لي "جلل الغزالي" وهو يستقبلني بإيماءة مسرحية وينتقي كلماته التي تنضح سخرية ومرارة وأسى ،قال بالحرف الواحد: أرفع لك قبعتي يا صديقي ..إذ يبدو أنه قد تم فعل تنفيذ"السيناريو" كما وضعته "الجهات العليا". كان ذلك يو م قبول مصرلقرار وقف إطلق النار ..يو م أن اغتيل الحلم. في تلك اللحظة لم أستطع أن أتمالك نفسي. خرجت أجوب الشوارع بسيارتي بينما تحتلني مشاعر لم أجربها ولم أعرف مثلها من قبل ول من بعد ،ول سبيل لمحاولة الخلص منها، ول حتى بالدموع التي كانت تكا د أن تحجب عني الرؤية. ولنني كنت في داخلي أرفض تلك التوقعات ،فقد كا دت الصدمة تفقدني توازني .فل ميذضهل المرء ،ويرعبه ،مثل وقوع المخاوف التي كان يتوقعها .وليس أشق على النسان أكثر من أن يرتعد خشية من حدسه. *
*
*
في تلك المسية الكئيبة التي ل تنسى ،في الثاني والعشرين من أكتوبر ،73حيث كنا في بيت الصديق "حلمي التوني" مع مجموعة من الصدقاء ،نستمع إلى توابع أنباء وقف القتال ،ذلك بعد أن استمعنا إلى "البيان الول" الذي مهد للخبرالمفعم بالفجيعة في إذاعة صوت العرب ..أغنية المطرب "محمد فوزي" المليئة بالشجن" ،بلدي أحببتك يا بلدي" ،وحيث بلغ الحزن ،الذي كنت أرا،ه على وجو،ه الحاضرين وفي عيني الفنان "بهجت عثمان" ،الضاحكتين دوما ،حد البكاء، فأجأتني "هـ" بنجاح مساعيها ،من حيث ل أ دري أنا ول أحتسب، 317
بامكانية الحصول لي على عرض للعمل في إحدى دول الخليج أرسله شقيق لها يعمل هناك )!( يصبح المرء ،لفرط ما أصابه قبل ذلك من إحباطات ،محصنا ضد توابع ذلك اللون من المشاعر. كيف استطاعت أن تنسى لهفتي على "قرارالتفرغ" للعمل في "منظمةالتحرير" في لبنان ،ذلك المل الذي طال ما حدثأتها عنه، والذي طال ما سعيت إليه و انتظرته؟! كأنما كانت ،منذ البداية ،تراهن على نسياني له أيضا. ومعدت ألمس في ثنايا حديثها سخرية من حلمي بـ"العو دة إلى القدس عن طريق بيروت". ولم يستطع صديقنا ،رسا م الكاريكاتير "بهجت عثمان" ،بالرغم من جلل الموقف ،إل أن يعلق ساخرا من "هـ" وهو يمسح دموعه: ..يروح الخليج مين يا عم واحنا شايفينه شرقان على بيروت ..ماصودق ييجي له أمر التفورغ للعمل هناك ..وعامل زي اللي حا "يناضل" على روحه؟! ذلك مما أثار عاصفة من الضحك بين الحاضرين ،ومما كان له أثر،ه في تخفيف حدة الكآبة التي ألقت بظللها علينا في تلك المسية. *
*
*
مرة أخرى يتبا در إلى ذهني أسئلة لم أجد لها إجابة شافية قبل ذلك في هذا الصد د. هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من اختراعك ونسج خيالك؟ وأنه كثيرا ما يأتي اليو م الذي تلحظ فيه أن صورته الجميلة التي أتقنت رسمها هي صورة ثنائية البعا د ..ل عمق فيها ..وأن البعد الثالث كان من صنع خيالك أنت ..لتصبح كما كنت تشتهيها أن تكون؟ 318
*
*
*
إل أن أكثر ما أسفت عليه هو أني خذلت شقيقتي الكبرى"محسن" ،التي كانت تتبنى العمل على تحقيق ما كانت تصبو إليه أمي ،التي رحلت مكوفنة بشوق المهات إلى ذلك اليو م الذي تكتمل فيه فرحتها بأن تراني سعيدا في بيتي مع أسرتي الصغيرة. *
النتظــــــــــــــــــــــــار
*
319
*
طال انتظاري للتصريح بعرض فيلم "الظلل ."...وقدمت "جماعة السينما الجديدة" طعنا في حكم الرقابة الذي يمنع عرضه ،مما أتاح لعرض الفيلم أما م لجنة رقابية جديدة. "معمر" الو ديع المسالم ،الذي أضنا،ه التفكير في قضيته السياسية، يشعر بالحرج تجا،ه زملء،ه في العوامة .فهوالمسئول عن ذلك التحول والفوضى التي ألمت بالعوامة منذ أن جاء بصديقه "محمو د" ليشاركهم السكنى فيها. "بكر" الها ديء المتعقل يصمم على ترك "محمو د" للعوامة. "مصطفى" المثالي يرى أن الوقت ،وقت المتحانات ،غير مناسب لهذا الجراء. تتفاقم المشاكل اليومية ،مضافا إليها مشكلة "روز" ومرض ابنتها وتخلي "محمو د" عن مسئولياته تجاهها ،ومحاولت "معمر" اليائسة في إصلح ما أفسد،ه صديقه. وتأتي اللحظة الحاسمة التي ل مفر عندها من إنفجار العنف الكامن في أعماق "معمر". ومن خلل الصمت الذي أطبق على الموقف المتفاقم المتأز م ،وفي ظل م صالة العرض الصغيرة ،ينطلق من إحدى مندوبات الرقابة تعليقا على شكل همسة غاضبه إلى زميلها الجالس بجوارها: إسمه إيه د،ه ..عاوز ضرب!ولم يكد زميلها يبدي موافقته حتى اندفعت قبضة "معمر" باتجا،ه "إسمه إيه د،ه" ..الذي هو"محمو د"! 320
كانت إحدى إعتراضات الرقابة على الفيلم ،هي تلك المشا دة العنيفة التي جرت بين "معمر" و "محمو د" الذي كان نصيبه علقة ساخنة تمنت حدوثها إحدى مندوبات الرقابة وأيدها زميلها في ذلك قبل وقوعها. لم يكن العتراض على الموقف أو نتائجه ،فلقد اعترفت "الرقابة" بالضرورة الدرامية لذلك التصاعد .الدليل على ذلك هو ما تشي به بقية أحداث الفيلم .فلقد انضم "معمر" للمقاومة الفلسطينية .انطلقت من أعماقه طاقة كامنة كان ل بد من تحريكها ..الرفض ..العنف.. المقاومه. كان العتراض على جنسية "معمر"! ي مصرياا؟! قالوا :كيف يضرب فلسطين ه ولطالما قال كثيرون: كيف تكون ضحالة تفكير "الرقابه" ،أي رقابة ،وفي أي زمان ومكان، سببا في قتل البداع أو لجم المبدعين! ناهيك عن العتراض على فكرة "تعد د مصا درالنور" وتفسيرها بالدعوة الصريحة إلى تعد د الحزاب )المرفوضة في ذلك الوقت( .أو العتراض على الدعوة الوار دة على لسان الطالب الفلسطيني "معمر" لفكرة "الدولة الديمقراطية العلمانية" التي يعيش فيها أهل ال ديان الثلثة متساوون في الحقوق والواجبات و بدون أي تفرقة .وهو ما نا دى به "ياسرعرفات" ،بعد ذلك ،في خطابه الشهير في المم المتحدة بعد ذلك..في 13نوفمبرعا م .74 أما أكثرالعتراضات عنا دا ،وأغربها ،فهو اعتراض السيد ) م .د،(. رئيس هيئة السينما في ذلك الوقت ،على الخلفية الصوتية لحد مشاهد الفيلم الجارية قبيل الهزيمة ،حيث كنا نسمع صوت "أ م كلثو م" المنبعث من الرا ديو في مقطع من إحدى أغانيها كنت أرى أنه يناسب ذلك الموقف ويصلح تعليقا عليه ..في تلك الظروف. غني عن التنويه بأن السيد ) م .د (.هو إبن شقيقة السيدة أ م كلثو م. 321
)وجدير بالذكر أيضا أن المذكور أعل،ه هو من هواة "المصا درة" ،فقد اعتلى منصة مهرجان "كارلوفي فاري" بعد ذلك ليتسلم "الجائزة" بالنيابة عني ،لغيابي ،وأصرعلى ممارسة هوايته(. *
*
*
بالرغم من كل تلك الظروف ،تمكنت ،مع الصديق الكاتب المسرحي "ميخائيل رومان" ،الذي كان يعاني من مرض عضال ،من النغماس واللجوء إلى أحضان العمل بالقيا م بإعدا د آخر مؤلفاته، "ضميرامراة" .وكدت أن أتقاعس عن تنفيذ تلك التمثيلية التلفزيونية، لول أن وافته المنية ،فرأيت أن أسارع بتنفيذها وفاء له فقط. وكانت هذ،ه هي آخر تمثيلية سهرة لي في تليفزيون مصرالعربي عا م .1974 *
*
322
*
أزمة أشرطة! 323
بعد بناء الديكورات ،وإجراء ما يلز م من البروفات ،والطمئنان على سلمة سيرأمور ثمثيلية السهرة الجديدة ،يتوجه أحد مساعدي المخرج، كما هو متبع ،ما بين فرحة الفنانين والفنيين المشتركين في العمل لقتراب ساعة ميل د عملهم الفني ،إلى مكتبة الشرطة للحصول على شريط جديد لتما م آخر المراسم"..التسجيل". جاءني الفتى "محمد الشال "** ،أحد المساعدين العاملين معي في تمثيلية السهرة بنبأ غريب ،وهو خلوالمكتبة من الشرطة الجديدة ،مما استوجب التصال بمراقب عا م قسم التمثيليات ،الذي تمخض ذهنه عن حل عبقري لتلك المشكلة المفاجئة في تلك الساعة الحرجة .قال: خليه يشوف أي شريط قديم ..يمسحه ويسجل عليه!سأله المساعد ببراءة: منين نجيب له شريط قديم؟قال: أي تمثيليه قديمه من تمثيليات الستاذ غالب!أأبي م ت إل أن أعتبرها دعابة. لكن مساعدي أكد لي ،بين دهشة حشد الفنانين والفنيين المنتتظرين واستنكارهم ،أن سيا دة المراقب العا م يعني ما يقول ،مما جعل الجميع يتضامنون معلنين التوقف عن العمل في انتظار حل معقول .لكن سرعان ما استجاب المراقب العا م وأمر لنا بشريط كان يبدوعليه القد م. خضعت للمرالواقع. ولكنني ،قبل بدءالتسجيل ،خشية مني أن أكون قد وقعت في شرك التمويه الذي بدا على غلف الشريط المرسل ،طلبت من الفني المختص أن أستعرض جزءا من محتوياته .كنت أتوقع ،على أسوأ _____________________________________________ مساعد المخرج الذي غدا مخرجا معروفا في تليفزيون ج.م.ع. )**(
الفروض ،أن يكون الشريط كما اقترح المراقب قبل ذلك ..يحتوي على أحد أعمالي السابقة. 324
كان فنويو "ستو ديو ،"2الخاص بتسجيل التمثيليات ،يتندرون بطبيعتي الها دئة والجو الها ديء الذي يسو د المكان أثناء العمل ،بعكس الحال مع كثير من الزملء المخرجين ،ويصفون اليا م التي يقضونها في العمل مع مخرجين غيرهم مثل "إبراهيم الصحن" و"محمد فاضل" ،وأنا من بينهم، بأنها "أيا م راحة واستجما م"! ..أول مر،ه نشوفه في الحاله دي ..عصبي وبيشخط وصوته طالع..ياعالم ..يا ناس ..د،ه تاريخ ..فيه حد بيمسح تاريخه بإيد،ه .. ..؟! سا د التوتر جو الستو ديو .وتناقل الموجو دين الخبر ..وعبروا بدورهم عن جا م غضبهم واستنكارهم. صودق أو ل تصودق! لقد كان الشريط المرسل يحتوي على تسجيل تلفزيوني لحدى خطب الزعيم "جمال عبد الناصر"!! لكن سرعان ما تمكن المراقب العا م من تدارك المر بأن أمر بإرسال شريط "جديد لنج" لتسجيل تمثيلية السهرة الخيرة لي في تليفزيون جمهورية مصر العربية" ..ضمير امرأة".
*
*
*
روى لي صديقي الموسيقي "كمال بكير" ،بعد ذلك بسنوات ،عن صديقه المخرج "إبراهيم الصحن" ،أن الخير ،عندما عا د إلى موقعه في التلفزيون المصري كمراقب لقسم الدراما بعد انتهاء مدة إعارته إلى تلفزيون بغدا د ،قد وضع برنامج "ريبريتوار" ، Repertoireحسب الصطلح الفرنسي في مجال الموسيقي وكذلك الوبرا والمسرح، لعا دة عرض بعض العمال الدرامية المميزة.
325
ولما كان ،لدى عرض تمثيلية "رحلةعم مسعو د" ،من تأليف الكاتب الكبير"محمو د دياب" وإخراج العبدالفقير ،ما زال في بغدا د ،حيث شاهدها ولم تنمح من ذاكرته ،فقد وضعها في البرنامج لعا دة عرضها. وعندما فوجئ بأنها قد اختفت من مكتبة التلفزيون ،ممسحت ،ما كان منه إل أن أرسل لستحضار نسخة منها من التلفزيون العراقي. وقد تم إعا دة عرض تمثيلية السهرة "رحلة عم مسعو د" في عا م .1983
*
*
326
*
"نكتة" الموسيقى ..والسلم الوطني السرائيلي! 327
بيني وبين الموسيقى و د قديم متصل .قد يكون للسنوات الطويلة التي قضيتها في مدينة "فيينا" بالنمسا أثرها في تمتين عرا،ه .أضف إلى ذلك تلك الصداقة التي تمتعت بها مع إثنين من عازفي البيانو، المصري"مصطفى" وزميله السباني"ضيف ا" ،واثنين آخرين من دارسي قيا دة الوركسترا والتأليف الموسيقي" ،يوسف السيسي"، و"كمال هلل" .ولقد أقا م الخير في عامه الدراسي الول في غرفة مجاورة لغرفتي في نفس البيت الذي كنت أسكنه ،مما أكسبني المزيد من القتراب من المعارف الخاصة بالموسيقى .فبسبب عد م إلمامه باللغة اللمانية بعد ،كنت أجد نفسي مقبل بلهفة على مساعدته ،وذلك بقراءة بعض فقرات الموا د المتعلقة بدراسته أول ،ثم محاولة ترجمتها له إلى اللغة العربية .ومنه عرف أ ت معنى"الهارموني" و "البوليفوني" و"المونوفوني" و"الكونتربوينت" و "الربع تون" ..و ..إلخ. ثم يأتي صديقي الفنان "سامي رافع" الذي كانت دراسته وثيقة الصلة بالموسيقى ليتيح لي اطللت تطوورت إلى اللتحاق معه بدورتين متتاليتين والحصول معه على دبلومين منفصلين أحدهما عن فنون اقتباس "الباليه" والخر "الوبرا" ..للتلفزيون. ذلك كله مما كان له ،في تصوري ،بالغ الثر في تعميق إحساسي باللغة الموسيقية وتذوقي لها. ولقد تبدت مظاهر تلك العلقة للخرين منذ أن قمت بالعدا د الموسيقي لول أفلمي " ..حكايه" ،حيث كنت أر د د دائما أنه إذا كان الفيلم السينمائي جسما فالموسيقى التصويرية هي روحه .وحيث نجحت في جعل الموسيقى جزءا من النسيج الدرامي للفيلم .فلقد نشأت فكرة اختيار موضوع ذلك الفيلم في حينها متوازية مع إنفعالي مع موسيقى كونشيرتو البيانوالثاني لـ "رحمانينوف". ثم يلى ذلك قيامي بنفس المهمة في معظم تمثيلياتي التلفزيونية بشكل لفت النتبا،ه .وذلك مما دعى أحد زملئي المخرجين باللجوء إليي لكي أقو م بهذ،ه المهمة لعمل درامي كبير كان يعد لخراجه ،خصوصا وأن 328
"السيناريو" قد أعد،ه زميل آخر* كنت أكن له الكثير من المو دة ،عن رواية "حذار من الشفقة" للكاتب النمساوي "شتيفان تسفايج" ،الشيء الذي لم أتر د د في قبوله .فل شك بأن الموسيقى "النمساوية" التي أحببأتها سوف تغلف وتبرز الجواء التاريخية لتلك الرواية الرومانسية الجميلة. لم يكن "العدا د الموسيقي" للتمثيليات في ذلك الوقت أكثر من اختيار ما يناسب المواقف الدرامية للتمثيلية من معزوفات تزخر بها الموسيقى الكلسيكية التي تتوفر تسجيلتها وأسطواناتها في مكتبة التلفزيون. في مثل هذ،ه الحالت يستصدر المخرج للمعد تصريحا باستعارة التسجيلت أو السطوانات اللزمة من المكتبة .هذا التصريح يكون موقعا من "مراقب عا م التمثيليات". ولم أكد أنتهي من تحديد اختياراتي حتى هرع أحد المساعدين بكتاب من زميلي المخرج "فايق إسماعيل" لستصدار التصريح المطلوب. لكن الزميل لم يلبث أن قابلني متجهما يحاول أن يعتذر لي عن عد م إمكانية إتما م المهمة التي كان يلح في طلبه لقبولي لها. لعب الفار في عوبي ،وز دت إصراراعلى معرفة سبب التراجع عندما لمحت أنه يحاول إخفاء ورقة كان يحملها .وأما م إلحاحي لم يجد مناصا من أن يناولني الورقة التي كانت تحتوي على طلب المخرج بالتصريح له باستعارة التسجيلت المطلوبة. كانت هناك ،في أعقاب الصفحة ،جملة قصيرة مكتوبة بخط اليد وممهورة بإمضاء مراقب عا م التمثيليات: "سري وعاجل ..المرجو تكليف شخص آخر للعدا د الموسيقي!". كنت قبل ذلك قد قمت بالعدا د الموسيقي لتمثيليتي السابقة "رحلة عم مسعو د" من تأليف الكاتب المسرحي"محمو د دياب" .وقد عرضت في القناة الولى ونالت قسطا كبيرا من ترحيب النقا د وإطراءهم بشكل خاص لحسن اختيارالموسيقى التصويرية. ____________________________________ )*(
هو المخرج المعروف "ممدوح مرا د".
)أخص بالذكرالمقال النقدي المفصل للكاتب الكبير "رجاء النقا ش" في أحد أعدا د مجلة المصور(** 329
كانت إ دارة "مراقبة التمثيليات" قد عو دتنا على إعا دة إذاعة "تمثيليات السهرة" الجديدة من خلل "القناة الثانية" مرة أخرى بعد أسبوع من إذاعتها من "القناة لولى" .وكان ذلك مما يتيح للمشاهدين ،ممن فاتهم مشاهدة العمل في العرض الول )في الساعة التاسعة والربع من مساء الثلثاء 29فبراير ،(72أن يتابعو،ه بعد سماع ما يتر د د على لسان البعض أو قراءة ما يكتبه النقا د عن ذلك العمل. وكان من البديهي أن نهتم ،نحن المخرجون ،بمتابعة نتائج ذلك العرض الثاني .فعا دة ما يكون المشاهدون أو النقا د من ذوي الصلة والهتما م بالعمال الفنية الجا دة. وفي تلك المسية ،حسب البرنامج المعلن في الصحف ،كنا قد تجمعنا في بيت الصديق الكاتب "محمو د دياب" لقضاء السهرة مع" ..رحلةعم مسعو د" .لكننا فوجئنا بعرض تمثيلية أخرى بدون أي إشارة للسباب التي دعت إلى ذلك التغيير في البرنامج المعلن. قال لي "مراقب عا م التمثيليات" أن الرقابة قد اعترضت على إعا دة عرض "رحلةعم مسعو د" بسبب الموسيقى التصويرية التي غلفت العمل ،مما حفزني على المتابعة لمعرفة باقي الحيثيات ،التي كانت تتلخص في أن تلك الموسيقى التصويرية ،هكذا بالنص: " مأخوذة عن السلم الوطني السرائيلي" )!( وسرعان ما تلقيت من رئيس التلفزيون مذكرة استفسارعن ملبسات "القضية")!( لجأت حينئذ إلى صديقي الفنان "كمال بكير" ،الذي كان يحترف مهنة المحاماة ويمارس ،بحرفية شديدة ،هواية التأليف الموسيقي للمسرح والسينما والتلفزيون ،والذي أشارعلي بالكتابة لرئيس التلفزيون مبينا سلمة موقفي ،وعد م السكوت عن تلك المهزلة ،بعد أن زو دني ببعض المعلومات الهامة .وهذا ما سطرته حرفيا: ___________________________________________ )**(
صدر بتاريخ .. 10/3/72بعنوان "نموذج جديد للتمثيلية التلفزيونية .
السيد /رئيس مجلس ال دارة تحية طيبة وبعد، 330
ر دا على المذكرة المحولة من سيا دتكم بخصوص موسيقى تمثيلية "رحلة عم مسعو د": .1
الموسيقى المستخدمة في التمثيلية المذكورة كانت مختارة من عمل سيمفوني قديم للمؤلف التشيكي"فريدريك سميتانا" وتحمل إسم"مولداو" ..أو"فالتافا".
.2
إن العمال الموسيقية الكلسيكية هي تراث إنساني .وإن التلفزيون العربي يسلم بهذا ،بدليل أن كافة العمال الدرامية وغيرالدرامية تعتمد في موسيقاها التصويرية على مختارات من هذا التراث.
.3
ليس من المنطق في شيء أن نحر م أنفسنا من هذا التراث لمجر د تصا دف وجو د شبه بين السل م السرائيلي وبين هذ،ه الموسيقى ،مع العلم أن هذا التشابه مشكوك في صحته.
.4
أكد لي السيد المراقب العا م ،تأكيدا قاطعا ،بأن مؤلف موسيقى "مولداو" التي استخدمت في التمثيلية المذكورة قد" " لطش موسيقا،ه من السل م الوطني السرائيلي)!( هذا مع ملحظة أن "فريدريك سميتانا" قد توفا،ه ا في"براغ" في عا م (!)1884
.5
عزفت أوركسترا القاهرة السيمفوني أكثر من مرة ) 12مرة على وجه التحديد( وتحت إشراف وزارة الثقافة نفس العمل أوفالتافا" لمؤلفه"ف .سميتانا" .وكانت آخر هذ،ه الحفلت "مولداو" " العامة في 5/2/1972بقاعة"سيد درويش" بالقاهرة. وهذا وحد،ه ينفي صحة"الفتوى" الوار دة في مذكرة السيد المراقب العا م.
331
.6
إنني أطالب بالتحقيق في هذا المر ،والحتكا م إلى لجنة من الموسيقيين المطلعين والمعتمدين لدى هيئتكم الموقرة أو لدى وزارة الثقافة حتى ل تمنع إذاعة التمثيلية المذكورة ،وحتى ل يهدر مجهو د الفنيين والفنانين الذي عملوا في هذ،ه التمثيلية، وحتى ل تهدر الموال التي صرفت لنجاز هذا العمل، وحتى ل تكال التهم جزافا إلى القائم بالعدا د الموسيقي أو المخرج أو لجنة المشاهدة التي أجازت إذاعة التمثيلية المذكورة في عرضها الول .وكل ذلك استنا دا إلى معلومات منقوصة.
إنني أطالب بإحالتي إلى النيابة ال دارية للتحقيق معي بصفتي .7 المعد والمخرج المسئول المباشر عن تمثيلية"رحلةعم مسعو د"، أو برفض مذكرة المراقب بالطريقة التي ترونها ،وإذاعة التمثيلية المذكورة فورا كر د على المذكرة ،حيث أن أنباءها قد تسربت وانتشرت .وفي هذا إساءة إلى سمعتي كفنان أعتز بإخلصي لقضايا وطني العربي ،وقضية وطني فلسطين بصفة خاصة .وتفضلوا بقبول فائق إحترامي. المخرج غالب شعث تحريرا في 26مارس 1972 *
*
*
في اليو م التالي استدعاني رئيس مجلس ال دارة ،واستقبلني هاوشا باوشا وهو يشد على يدي ويبدي إعجابه الشديد بتمثيلية "رحلةعم مسعو د"، وطلب مني الجلوس وهو يثني على مجهو دي ويهز رأسه استنكارا لما حدث ومن ثم يدير قرص التليفون ثم يقول بدون مقدمات وبلهجة مستنكرة صارمة وهو ممسك بيد،ه الخرى برسالتي: إيه الكل م الفارغ د،ه يا أستاذ "ن "...؟!332
تمثيلية "رحلة عم مسعو د" أنا شفتها ،وهي من أحسن العمال اللي اتعملت عندنا ،ولز م تنذاع تاني وتالت .وبل ش المور دي! وضع رئيس التلفزيون سماعة التليفون مكانها ونظر لي سائل بعينيه: ..مبسوط كد،ه؟ثم نهض ليو دعني ضاحكا ويشد على يدي وهو يناولني الرسالة مضيفا: ..وأي مشكلة بتصا دفك ..بابي مفتوح لك ..بدون "المرافعات"المكتوبه دي! ولم أكد أهبط آخر درجات السلم المؤ دي إلى "مراقبة التمثيليات" حتى قابلني أحد المساعدين وهو يبلغني لهثا رسالة شفوية تفيد بأن الستاذ "ن "...يريد مقابلتي لمر ها م! قال وهو يبتسم لي متو د دا والضطراب با د عليه: خلص يا غالب ..أنا حوليت لك المشكلة مع سيا دة الرئيس "حوما دبيه" مباشرة ..والتمثيلية حتتذاع تاني ..إبسط ياعم! * * * بعد أن قرأت الملحظة "السرية والعاجلة" والممهورة بتوقيع السيد المراقب العا م لم أستطع أن أتمالك نفسي .وبالرغم من محاولت زميلي المخــــرج "فايق إسماعيل" ورجاء،ه وتوسلته بأن ل "أكوبر" الحكاية ،توجهت لفوري إلى السيد رئيس التلفزيون الذي استقبلني بمجر د أن أعلنت عن وجو دي عند السكرتيرة. ناولته الورقة ،قرأها ،أ دار قرص التليفون .وانهالت على المتحدث على الطرف الخر ألوان من السخريات ،مازلت أذكر منها بعض الكلمات ،مثل "الكل م الفاضي" و "إثارة الشبهات" و "السخافات"! *
* 333
*
الموسيقى ..وأنا..
وللموسيقى والغناء معي حكايات ،ل تخلو من دللة ،وطرافة ،تمتد منذ مولدي* في دار مقدسية تقع ،في حارة الوا د ،فوق مقهى"تسبي ت س النتمسا"** الذي ل يسكت مذياعه عن بث الغنيات إل ليلبوي رغبة بعض روا د،ه في سماع نشرة الخبار من "محطة الشرق ال دنى للذاعة العربية" .ثم يعو د ليستأنف وظيفته وليسكت إل بانتهاء فترات البث الذاعي من مختلف المحطات ،ليبدأ صوت "الجراموفون" الذي حرص عمي "أبوصالح" ،صاحب المقهى ،على تزويد،ه بأحدث اسطوانا ت "بيضا فون" .وعندها ل يسكت صوت ذلك المطرب إل ليبدأ صوت مطربة أو مطرب آخر في اللعلعة .فإذا أغلق المقهى أبوابه وعا د السكون إلى دارنا بعو دة أبي من "القهوة" ،عا د صوت مختلف المطربين إلى التسلل إلى أذني ،يحرضني على الدندنة بأغانيهم. . كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها. وير د د دائما أن "ضستنباتي" أو"أأستبجي" أو"هأتمدي" أو "أبضدتلأووخاب" أو " دارويش" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة ..تلك "التفاصيل". أذكر من ملحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية العناصر" ،اللحن أوالنغم الحا دي الصوت ،واليقاع .بينما تتميز الموسيقى الغربية بعناصرأخرى مثل تعد د الصوات ،الـ"بوليفونيه"، إلى جانب اعتما دها على الـ"هارمونيه" التي تقو م بتوزيع اللحان وتكثيفها ،وإثراءها. ___________________________________________________________ عام ،1934آن قامت شركة "ماركوني" ببث أول إرسال إذاعي مصري على الهواء. )*(
334
)**(
مقهى شعبي في بلدة القدس القديمة يقع أمام مبنى"هوسبيس النمسا" الشهيرالذي بنا ه قيصرالنمسا "فرانتس جوزيف" عام 1860لستقبال الحجاج الكاثوليك.
وهي تمتلك القدرة على الشفاء ،لنها تغسل الروح من غبارالحياة اليومية. وهي ،كما يقول "بيتهوفن" ،وسيط بين الحياة الروحية والما دية .كما أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير العالم. الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر ..والحب. إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات ،كما وصفها أحد الفلسفة. وهي ،كما قال "مارتن لوثر" ،واحدة من أعظم عطايا ا للنسان. أو ،كما يقول"سرفانتس": يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى. الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي ل يحتوي قاموسها على أي تعبير يتسم بالبذاءة .وهي مقياس للحضارة ،بسبب قدرتها على التأثير في المشاعر وتهدئة النفعالت. وبدونها ،كما يقول "نيتشه" ،تكا د الحياة أن تكون إثما. وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي اللوان ،كما ينشد "طاغور" ،فل أقل من أن نر د عليه بالموسيقى. في صالة "الكونسيرت" يرغمك النصات الجماعي ،أو يغريك ،على التأمل والتفكير ومن ثم الستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى بشكل محسوب ومدروس ،بحيث تتوصل ،بينما الموسيقى تمل الرجاء والمكان سحرا ،إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة. وكماهي الحال في المسرح ،حيث يشعرالمؤ دي بمسؤولية رسالتة تجا،ه المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقو م بتر ديد كلماتها ،كذلك يوحي العازف للمستمع ،مباشرة ،بإحساسه الطازج بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقو م بعزفها. قلما يصلك هذا الحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "را ديو" أو "فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة. 335
وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريد،ه ييلينيك" ،صاحبة الرواية ذائعة الصيت" ..عازفة البيانو": "لن يصل النسان إلى أسمى ما لديه من قيم إل عندما ينفصل عن الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس". ففي صالة "الكونسيرت" ،أو"الوبرا" ،تدرك معنى أن ينفصل المرء، باختيار،ه ،وبكامل وعيه ،عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس. هناك ستكتشف فعل أن "الصمت" أيضا موسيقى ،وأنه جزء أساسي من الجملة الموسيقية التي يعورفها البعض بأنها تتابع لصوات تصدرها آلة ،أوعدة آلت موسيقية متنوعة ،تعلو وتنخفض ،لفترات متباينة لتتناغم مع فترات أخرى ،تقصر أو تطول ،من الصمت. في تلك الصالت ،يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري ،فنلحظ أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات لكي يعو دوا إلى واقعهم ،فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد ،حيث أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لإرا ديا ،خشية أن يزعجوا بحركتهم هذ،ه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف) ،شيء من فضيلة احترا م الخر( ،أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء التزا م الصمت ،فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي المتنوع على "مفاصل" المقاعد ..و"حناجر" الحاضرين! الموسيقى ،في إعتقا دي ،تجهسد "قيمة" إنسانية عالية ،حيث يلتز م أفرا د الفريق الموسيقي ،أوالكورال ،بقاعدتين ذهبيتين: يبدأون سويا ..وينتهون سويا. تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل الجماعي". ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل والمل بمستقبل أفضل. * * * ولقد استمرت صداقتنا" ،موري شيفر" وأنا ،بعد أن انتقلت إثر مرور عا م ،للسكنى في"الحي الثاني" ،قريبا من أكا ديمية الفنون التطبيقية 336
مقر دراستي ،حيث وصلتني منه رسالة ،من القاهرة ،يقول فيها أنه قرر دراسة الموسيقى العربية. أما المايسترو المصري "كمال هلل" ،فلم تكن سكنا،ه في نفس البيت الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجر د صدفة ،لنني سعيت إلى ذلك، حبا في الموسيقى والموسيقيين .ولم أند م على فعلتي هذ،ه إل بين حين وآخر)!( وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب ،أكثر ما شدني لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصرار،ه الذي تبودى في حكاياته لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع ،منذ أن عمل ترزيا في طفولته ،إلى أن عمل في محل لبيع اللت الموسيقية ،ومن ثم "إنحرافه" ،حسب تعبير،ه الساخر ،إلى "مهنة الموسيقى" ،إلى أن أصبح وهو في الخامسة عشرة من عمر،ه "عازف تشيللو" على مسارح "روض الفرج" ،إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك اللة في فرقة "أحمد فؤا د حسن" الغنية عن التعريف ،وما تبع ذلك من محاولته الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيا دة الوركسترا والتأليف الموسيقي في فيينا. أ دخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظا م وهو أحد روا د وأساتذة فن الوبريت النمساوي" ،فرانتس فون سوبيه" . Franz von Suppeفقد كان ،استعدا دا لـ"امتحان تحديد المستوى" للقبول في الكا ديمية ،يقو م بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفر د المكتوب للة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلح" ،رائعة الموسيقي المذكور. أسرتني تلك اللة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل .وكان من البديهي أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كامل .وما زلت حتى الن أحتفظ بالسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية. *
*
337
*
"سيد درويش" ..في فيينا )!( في أحد المسيات ،سهرنا "كمال هلل" و"سعيد الجمل" ،الذي كان يدرس إ دارة فنا دق في فيينا ،وأنا ،في "حانة دارالبلدية"، ، Rathauskellerأحد المطاعم الشهيرة ،حيث تكتظ بروا دها في أمسيات أيا م السبت ويطول فيها السهرعلى أنغا م الموسيقى والغاني الشعبية الجماعية "الفييناوية" المرحة. تساءلت في تلك المسية ،وكثيرا ما تساءلنا ،عن سبب نقص الغاني الشعبية الجماعية لدينا ،التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في تر ديدها في مختلف المناسبات .ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة بالغناء الجماعي ،يطول بحثنا عن أغنية لنر د دها كمجموعة ،أسوة بزملء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلبية ،فل نجد سوى أغنية "وا زمان ياسلحي" أو تلك الغنيات الحماسية التي اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن )بعد عا م .(56 انفعل المايسترو "كمال هلل" ،إحساسا منه بأنه معنوي بهذا التقصير، وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاول دحضها بأن يستعرض أغنيات تعو د إلى عهد از دهار المسرح الغنائي ،منذ أيا م فنان الشعب "سيد درويش" مثل ،ويفسر لنا هذا النقص ،أوالتناقص ،باندثار ذلك النوع من المسارح .وفي مقابل ذلك انتشار الغاني الفر دية التي تهتم بالتطريب ،بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون" ،واستعراض لـ "المعأر ت ب" التي تمويز صوت ذلك المطرب الفر د عن غير،ه. وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية. طلب من النا دل ان يحضر له ورقة وقلما .وأخذنا نرقبه وهو يرسم على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة أخرى إلى أن امتلت الصفحة ..وأ دركنا ما هو مقبل عليه. أخذ يدندن ويدوون النوته الموسيقية لغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن متناول ذاكرتي .كانت أغنية سيد درويش: 338
"الحلو،ه دي قامت تعجن في الصبحية". ثم أخذ يلقننا كلمات الغنية و يقو دنا لتر ديدها بصوت خفيض ،إلى أن اطمأن لنجاح التجربة ،فأشار للفرقة الموسيقية التي تعو دت أثناء عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن وتشجيعهم على المشاركة ،وسرعان ما أخذت الفرقة بالقتراب منا بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا ير د د،ه جميع الحاضرين نساء ورجال في جذل. انتظر حتى انتهت الغنية .وقبل أن يبدأ الفريق ،المكون من عازف الكور ديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس ،بأغنية أخرى، كان "كمال" قد أعطى الورقة ،التي تحتوي على النوتة الموسيقية لغنية "سيد درويش" ،لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع رفاقه برهة ،ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلثة حولنا وأخذوا في عزف الغنية ،بينما نحن ،بقيا دة "كمال هلل" ،نر د د كلماتها. في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت اللت الثلثة وصوتنا مشاركا بتر ديد كلمات الغنية .ثم ابتدأت همهمات الجمهور الموقوـعة المشاركة تتزايد بالتدريج .وأخذت الصوات تعلو شيئا فشيئا ،بينما استغنى أفرا د الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة على المائدة ،بعد أن حفظوا اللحن الجميل ،الذي يتصف بأسلوب "سيد درويش"" ،السهل الممتنع" ،وابتدأوا كعا دتهم بالتجوال بين الموائد، وقد انتقل الحماس من مائدة لخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر تصيح سويا مر د دة ذلك المقطع المميز: " والديك بيودن ..كوكو كـــــوكو ..م الفجريه". ويحكى أنه ،بعد ذلك ،قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية" الشهيرة في "فيينا" ،الذين يتوسم فيهم أفرا د الفرقة أنهم من أصول عربية أو شرقية. * * *
339
من الشياء التي وضحها لي "كمال هلل" ،في ذلك الوقت ،كانت مشكلة "الربع تون" في موسيقانا .وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس إلى آلة البيانو .قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون" الكامل ،وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء )المقا م الكبير( ،و"النصف تون" ،وهو ما نسمعه عند العزف على الصابع السو داء للبيانو )المقا م الصغير(. أما السللم ،أو المقامات ،الموسيقية العربية المتعد دة فيحتوي الكثير منها على نصف النصف ،أي "الربع تون"** ،وهوالصوت الذي ل تستطيع اللت الغربية إصدار،ه .ولقد و و ضح لي ذلك سبب عد م استساغة الذن الغربية أحيانا لغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية" يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها. إل أن هناك مقامات شرقية ل تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم تتعو دها الذن الغربية .مثال ذلك "مقا م النهاوند" ..أو"مقا م حجاز" الذي صاغ به الموسيقار ،فنان الشعب "سيد درويش" ،لحن أغنية "الحلو،ه دي قامت تعجن." .. *
*
*
_________________________________________________________ نمى إلى علمي بعد ذلك ،أ ن "الربع تون"" ،الربع نغمة " ،هو السم الدارج ..أما )**( التسمية العلمية الصحيحة فهي " :ثلثة أرباع النغمة".
340
341
"أوبرا" و "باليه"..
"ماريا" كانت أيضا أحد وأهم المحرضين على مواصلة تجربة "الستمتاع الجماعي" لهم ما اشتهرت بها "فيينا". كانت كثيرا ما تفاجئني بأن والدها ،الذي تتيح له علقاته أن يحصل، بين حين وآخر ،على تذكرتين للكونسيرت أو للوبرا الفلنية أوالباليه الفلني ،قد عا د واعترف )كما كانت "ماريا" تداعب والدها( بأن اهتماماته تتنافى مع إهدار ساعتين أو ثلثة من وقته ليقضيها في انتظار أن تسدل الستارة على تلك "الوبرا" أو ذلك "الباليه". هذا بينما كنت أنا أشارك القائلين بأن الموسيقى مطلب ضروري للنسان ،ثم أصبحت أومن بأن تأثيرها ل ينحصر في المتاع الحسي والسمعي بل يتجاوزها إلى المتاع الذهني .فما بالك عندما تكون موسيقى "الباليه" مكتوبة لكي تعزفها ،بمشاركة الوركسترا ،أجسا د آ دمية بحركات رشيقة مدروسة لتكون عمل متكامل يروي " دراما" متكاملة ل تحتاج إلى كلمات ،وليعوزها تفسير أو شرح أو ترجمة. *
*
*
تعيدني موسيقى"باليه بحيرة البجع" إلى أوقات كنت أقضيها إلى جانب "نهى" في السكندرية ،في مطلع فترة ول دة اهتما م أحدنا بالخر ،في ما قبل عا م ،56نستمع إلى "الجراموفون" ،الـ"بيك أب" ،وهو يدور بإحدى أسطوانات مكتبة خالي الموسيقية ،مما كان يعتبر بالنسبة لي من أوائل الفتوحات في عالم الموسيقى العالمية! كان خالي يجتهد ليشاركنا متعته بأن يحاول أن يصور لنا ذلك الجو الرومانسي السطوري ،وأن يروي ويفسرأحداث الباليه الذي شاهد،ه في آخر جولته الوروبية. 342
"أو ديت" ،الميرة ،التي تصيبها لعنة الساحر "فون روتبارت" ،إنتقاما لصودها له ،فتحولها مع شروق الشمس إلى بجعة ،ولكنها تعو د لتتحول مع الغروب إلى راقصة ممشوقة القوا م ،يرافقنها في رقصها على ضفاف البحيرة صديقاتها اللواتي كن قد تحولن أيضا إلى بجعات صغيرات ،فيراها المير"سيجفريد" أثناء تجواله على ضفاف البحيرة ليقع في حبها ويقتنع أخيرا بفكرة الزواج .ولكن والدته ،التي دأبت على محاولة إقناعه بالفكرة ،كانت قد اختارت له زوجة المستقبل وهي ما زالت تصرعلى اختيارها ،فتقيم الحفلت الصاخبة لتحاول عبثا تجميل اختيارها لولدها. وتتوالى الحداث الدرامية ،صراع الخير ضد الشر ،في أجواء من الرومانسية السحرية الخلبة لينتصر الحب في النهاية على الساحرالشرير وتتخلص "أو ديت" من أحابيله الشيطانية ،فنشاهد الحفلت تتخللها الرقصات الجماعية والفر دية على أنغا م الموسيقى.. ذلك التعبير الها ديء الصاخب عن العواطف النسانية ،وذلك السحرالحلل ،القا درعلى شفاء النفوس التي هجرتها السعا دة ..إلخ *
*
*
وهأنا أرى بأ م عيني تلك الجواء السحرية التي تخلقها اللوحات التشكيلية التي تتألف منها خلفيات المشاهد لتتآلف مع موسيقى "تشايكوفسكي" المسموعة ومع حركة الراقصين والراقصات المدروسة ،يبهرني مرآهم وهم وكأنهم لهون "يتجولون" في الهواء. تكا د أطراف أصابع أقدامهم أن ل تلمس الرض إل بين لحظة وأخرى مع إيقاعات الفالس الجميلة ،وغيرها من اللحان ذات اليحاءات والدللت التي ل يخطئها ال دراك البشري. ففي فن الباليه يتضافرالفن التعبيري )الموسيقى والرقص( مع الفن التشكيلي)الديكور والضاءة( ،حيث نكتشف أن الذن يمكن أن ترى، وأن الصوات ذات ألوان و أشكال .وسرعان ما تتبدى لنا سيمفونية مرئية تصدح بما يمتع العين والذن والفكر معا. 343
أما "الوبرا" ،التي تعتمد إلى جانب هذا كله على نص وكلمات مغناة، فلم أكن أفهم منها شيئا لن معالم كلماتها كانت تضيع في اللحن، أولنني ،كما خيل لي في البداية ،لم أكن أتقن اللغة إلى الحد الذي يتيح لي أن أتبين معه معاني تلك الغنيات. إل أنني اكتشفت أن حالي يتشابه مع حال مرافقي أو مرافقتي ،وأنها حالة عامة ،بحيث درجت إ دارة الوبرا على إصدار كتيب ،يحكي قصة الوبرا ويور د نص الغاني باللغة المحلية .فلينطبق ذلك على الوبرات المقدمة بلغاتها الصلية مثل اليطالية فحسب ،بل يشمل اللغة اللمانية أيضا .فيتهافت ،حتى الجمهور الناطق بنفس اللغة،على شراء الكتيب. وشيئا فشيئا ،يضاف إلى مداركي أن الغناء الوبرالي ما هو إل عزف على اللة البشرية" ،الروبانية" ،التي تسمى الحنجرة ،لتأخذ دورها مع بقية اللت .فهناك ،مثل ،آلة بشرية نسائية "سوبرانو" وغيرها "ألتو" ،أو رجالية "تينور" ،وأخرى "باص" ..وهكذا. *
*
344
*
345
والشعراء ..
ل أجرؤ على ال دعاء بأنني من ذوي الولع بمدرسة من مدارس الشعر دون غيرها .ومع ذلك فهناك من شعراء الحداثة من تعلق ومضات من أشعارهم بذاكرتي. منهم "أمل دنقل" الذي لأذكرالشعرأو ميذكرالشعر أمامي إل وتذكرته، وتذكرت قصته الطريفة مع الفنان "شا دي عبد السل م". *
*
*
إثرأحد العروض الولى لفيلمي الروائي القصير"حكايــة" فــي القــاهرة، تقــد م لــي"عمرالعلــي"،الطــالب الفلســطيني فــي الســنة النهائيــة بالمعهــد العالي للسينما ،ورئيس فرع إتحا د الفنانين الفلسطينيين في القــاهرة فــي ذلك الوقت ،مبديا إعجابه بالفيلم وطالبا العمل معي كمساعد مخرج فــي التلفزيون ،حيث كنت أعدالعدة لخراج أول تمثيلية سهرة"..التركه". وهكذا بدأت صداقتي مع "عمر". فـي ظهيــرة أحــداليا م دعــاني إلــى بيتـه )شـقة مفروشـة فـي الزمالــك(. وبينما هو مشغول في إعدا د القهوة من البــن العــدني الــذي وصــله لتــو،ه من أخيـه الـذي يعمـل فـي دولـة خليجيـة ،دق جـرس البـاب ،فسـارعت بفتحه لجدني أما م شخص ل أعرفــه .ولكننــي أتــذكرأنني رأيــت وجهــه 346
على إحدى جداريات العهد الفرعوني ،أوفوق كتفــي تمثــال مــن تماثيــل ذلك العهد. حوياني الرجل بصمت ،ثم اتجه إلى الصالون .خلع نعليه ،وتمد د على أحد الكنبات ،وراح في سبات عميق. أفقت من ذهولي ،بينما أنا أتأمله ،على رائحة القهوة المحووجة ،وصوت ضحكات "عمر" وهو يحاول -مندهشا -أن يبد د دهشتي: " ..أمل دنقل" ..إنت مش عارفه؟!كانت هذ،ه هي بداية تعارفنا. وما أن حل الصيف ،وبدأت الجازة السنوية ،حتى طلب مني "عمــر" القامة في شقته إلى حين عو دته من عمان ،بعــد أن ســد د أجــرة شــهور الصــيف الثلثـة ،كمـاهي عـا دته ضـمانا لعــد م تأجيرالشـقة لغيـر،ه أثنـاء غيابه. لم أتر د د في تنفيذ رغبة صديقي ،فقــد كــانت شــقة جميلــه ،مريحــة ،تقــع بمواجهةالمعهد الثقافي اليطالي الذي يقع بدور،ه خلف القصر التاريخي الذي غدا إسمه "فندق ماريوت" ..بالزمالك! ويبدو أن ا كان يريد أن يمتعني بصــحبة "إخنــاتون" ،الــذي لــم يقطــع عا دته في قضاء القيلولة بين حين وآخر على كنبة الصالون. أكثرمــا شــدني إليــه أنــه كــان صــموتا ،ل يحــب الــثرثرة .وبــالرغم مــن ملمحه القاسية ،فإن عينا،ه كانتا تفصحان عمــا بــداخله ،وتجيبــان برقــة وعذوبة واختصار على أسئلتك قبل أن تنطق بها. ولــم يكــن هنــاك بيننــا ،إذ ذاك ،مــن حــديث ســوى كلمــات نتبا دلهــا عــن فلسـطين..والث ورة الفلسـطينية .كلمـاته القليل ة كـانت تشـي بعمـق فهمـه للقضية. و دارت اليا م .وجاء يو م أخذ يحدثني فيه عن فيلم "المومياء" الذي رآ،ه في أحد العروض الخاصة ،ورأى فيه "فيلما سياسيا" من الطرازالول. بل إنه زا د علــى ذلــك بقـوله أن "الموميـاء" ،فــي رأيـه ،هـو أول "فيلــم سياسي" مصري. 347
لم يبد إعجابه به فقط ،بل خرج عن صمته وقال فيه قصيدة مدح تمنيت لو يسمعها صديقي مخرج الفيلم "شا دي عبد السل م" .وهنا خطر لي أن أجمع بينهما ،ل لكي يسمع "شا دي" تلك القصيدة فحسب ،بل لعله أيضا يرى في "أمل" ما أرا،ه أنا. لم أستطع أن أكتم "رؤيتي" بصلحية هذا الخير للقيا م بــدور البطولــة في فيلم "إخناتون" الذي كان "شــا دي عبــد الســل م" مــازال يبحــث عــن وجه يصلح له. وشجعني فرحه الطفولي بفكرة قيــامه بالــدور أن أنســاق فــي محــاولتي لقناعه بمقابلة المخرج لدرجة "تظاهرت" معها في أحد المرات بــأنني قد تحدثت مع الصديق "شا دي" في موضوع ترشيحي له ،وأنه يرحب باستقباله في مكتبه الكائن في شارع 26يوليو في أي وقت ،بمجر د أن يتصل به تلفونيا. لم يكن هناك ،بعد ذلك ،الكثير مما نتبا دله من الحديث ،سوى سؤالي لــه قبل "القيلولة" أو بعدها: ..كلمت شا دي؟وغالبا ما كان ير د علي: ..خلص بقى!ثم تباعدت لقاءاتنا .ولم أتحدث مع "شا دي" في هذا الموضوع. و ندمت أشد الند م عندما عرفــت بعــد ذلــك أن "أمــل" قــد ذهــب لمقابلــة "شا دي" بالفعل ،واكتشف أمر "المقلب" الغير مقصو د. وعاتبني "شا دي" عتابا شديد الرقة ،لنني تسببت في إحراجهما. ولم تتح لي ،لسفي الشديد ،فرصــة العتــذار لمــل دنقــل عــن دعــابتي السمجه إل في إحدى زياراتي لمصر ،بعد ســنة أو أكــثر مــن مغــا درتي لها إلى لبنان. في ذلك اليو م ،قابلني بوجه عابس لدرجة ظننت معها أنــه ،بــالرغم مــن مرور السنوات ،مازال يحمل لي طغينة )!( 348
لكنه قال لي بصوت يشوبه إحساس يقترب من الفجيعة: يظهر إن اللي مايتسما ش ناوي فعل يعملها ..ويصالح **ثم أكمل وكأن النكتة قد حبكت نفسها: حياخد بـطاري منك ..ويفقعكو إنتو يا الفلسطينيه المقلب اللي هوو،ه!*
*
*
_________________________________________ )**( وفي بيروت ..وصلتنا قصيدته التي جاء فيها: .. .. .. .. .. ل تصالح! ولو منحوك الذهب. أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ .. .. .. .. .. ل تصالح على الدم ،حتى بدم! ل تصالح! ولو قيل رأس برأس! أكلل الرؤوس سواء ؟! أققلب الغريب كقلب أخيك؟! أعينا ه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدد ..سيفها كان لزك.. بيد سيفها أثكلزك؟ .. .. .. .. .. ل تصالح! ل تصالح! "أمل دنقل" ) نوفمبر (1976
349
مداخلــــــــــــــــــــــه هناك من اعترضوا على "أمل دنقل" ،واعتبروا قصيدته تحريضا على الحرب وقطعا للطريق أو المل في المصالحة أو الحـل السـلمي .ولكـن القليلين كانوا يــدركون أن "أمـل" إنمـا كـان يـر د علـى قصـيدة الشــاعر السرائيلي "إفراييم تسيدون"** الهستيرية: لو تخزلى الفدائيون عن أسلحتهم وعقيدتهم وأرسلوا بطاقات التهنُتئة لكل بيت يهودي حتى لو شاركتنا المنظمة في بناء المستوطنات للمهاجرين الجدد حتى لو أعلنوا أمام المل بأن الضفة الغربية هي أرض يهودية حتى لو قامت "فتح" بنسج قبعات الصوف ليهود إسرائيل حتى لواستقبل أهالي الضفة جماعات "جو ش أمونيم" بالغاني والزغاريد حتى لو التزم "ياسرعرفات" أمام المل بأننا الذئب وهم الغنم وحتى لو اعترفوا بالدولة اليهودية وقدموا لنا كل أموال التبرعات التي يتلقونها وحتى لو نقلوا اللجُتئين إلى القطب الشمالي ورفعوا رايات الهزيمة أياما وليالي وحتى لو تحولت سيوفهم إلى أقلم ومساطر فلن نجالسهم أبدا ولن نحــــــاور! أرى بوضوح أن كلمات "أمل" كانت نابعة من الجــرح ،ولــم تكــن مثــل كلمات الشاعر اليهو دي نابعة من الحقد الغليل. ______________________________________________________ )**( الترجمة العربية للقصيدة منقولة عــن الجــزء الثــاني مــن ســيرة فــدوى طوقــان "الرحلــة الصعب".
350
351
"صلـــــــــح الحديبيــــــــه"!
في إجتماع طاريء للمخرجين ،كان يفترض أن يكون أحد الجتماعات الدورية التي كان يعقدها مسئولنا لوضع خطة الدورة الربع سنوية المقبلة في "مراقبة التمثيليات" ،كنا ،بدون استثناء ،نشعر وكأننا في حفل تأبين .كان ذلك في أعقاب حرب أكتوبرالمجيدة. "المراقــب العــا م" يتلوعلينــا قائمــة الممنوعــات ،بينمــا نحــن نطــأطيء رؤوسنا محوقلين. ثم يبدأ بتسجيل ما يقترحه كل مخـرج منـا مـن أعمـال دراميـة للمرحلـة المقبلة التي ل تتحمل ،حسب التعليمات التي تفرضها أوضاع المرحلة، أكثر من أعمال "كوميديــة" أو " دينيــة" أو "تاريخيــة"..علــى أن تكــون هذ،ه العمال خلوا من أي إسقاطات أو تلميحات سياسية. عنــدما جــاء دوري ،ابتســم لــي ابتســامة ذات معنــى ،وهــز رأســه ويــد،ه الممسكة بالقلم. لم يكن في ذهنــي أي مشــروع .كنــت قــد عقــدت العــز م علــى الســفرإلى بيروت. قلت له قبل أن يسألني: مسلسل تاريخي عن "صلح الحديبيه"!اتسعت إبتسامته دليل الرضــى والدهشــة معــا .وســارع بتــدوين رغبــتي في أوراقه. وانفض المجلس. وبعد ذلك بأيا م قابلني وهو يحاول أن يكتم إنفعال مبهما. كنت في ذلك اليو م أحمل الكتاب الموجه من مكتــب "منظمــة التحريــر" في القاهرة لتلفزيون ج .م.ع .يطلب إعـارتي للعمــل فــي " دائـرة العل م 352
الموحــد" فــي منظمــة التحريرالفلســطينية فــي بيــروت ،للمســاهمة فــي تطوير السينما الفلسطينية. أعطيته الرسالة .قرأها فانفرجت أسارير،ه ،وقا م بتذيلها بتوقيـع الموافقـة المطلوب. ورحلت إلى بيروت. *
*
رأيت مصر في المنام.. لشدما تغيرت.. .. .. .. .. .. .. .. هأنا أرحل عنك.. عائدا يوما إليك.. حينما يصب نهر النيل في بزر الشام. "أحمد عبد المعطي حجازي"
أيامي الخيرة في القاهرة.. 353
*
كان صدور قرار التفرغ ،وموافقة تلفزيون ج .م.ع .على "إعارتي" لمنظمة التحرير الفلسطينية ،ومن ثم إمكانية النتقال للعمل في بيروت هو طوق النجاة من الغرق في دوامات بحر الكآبة والحزن واليأس والحباط. ومن سخريات القدر ،أنني ،عندما ذهبت لشركة الطيران لستل م تذكرة السفر إلى بيروت ،وجدت تذكرة بإسمي ،وأخرى بإسم الزوجة "هـ" .فقد خيل ،كما يبدو ،لمسئول "العل م الفلسطيني الموحد" بمنظمة التحرير في بيروت" ،ماجد أبو شرار" ،زميل الدراسة الثانوية في غزة ،أن زواجي من "هـ" قد تم ،أو هو في طريقه إلى ذلك. فوجيء صديقي "ماجد" ،والذي كان يعلم بمشروع إرتباطي، بقراري بالسفر إلى بيروت بمفر دي ونصحني بالتمهل .كما نصحني، عند لقائي به في القاهرة ،بقبول العرض الذي كنت قد تلقيته مؤخرا لخراج مسلسل تليفزيوني لشركة إنتاج يمتلكها مجموعة من الشبان الفلسطينيين في عمان ،بحيث أتواجد في بيروت بعد النتهاء من المسلسل مع بداية السنة الجديدة .وذلك ضمانا لوجو د ميزانية لنتاج الفل م في"العل م الموحد" من ناحية ،ومن ناحية أخرى من أجل الستفا دة من قيمة أجري عن إخراج المسلسل .وهدف آخر كان "ماجد" يقصد،ه وهو توفير فرصة للتفكير قبل إنهاء علقتي بـ ض "هـ". كانت هناك عدة شهور من الجازات السنوية المتراكمة التي نمى إلى علمي إمكانية الستفا دة منها بحيث أقضي منها في عمان شهورا ثلثة أو أربعة في النصف الثاني من عا م ،74ومن ثم أعو د إلى القاهرة لتما م إجراءات إعارتي من التلفزيون العربي في القاهرة إلى منظمة
354
التحرير إبتداء من العا م الجديد ،عا م ،1975على أن أستعد للسفر إلى بيروت ،حسب التفاق ،في أواخر عا م .74 كانت الوقات الكئيبة التي ظهرت فيها إرهاصات ونوايا إتفاقية السل م المنفر د مع إسرائيل ،بالضافة إلى تلك القيو د التي فرضت على مخرجي الدراما في التلفزيون من حظرعلى أي موضوع يتناول ويعالج تلك الظروف التي أملتها الوضاع المستجدة ،وقصرالنتاج على التمثيليات الكوميدية والمسلسلت الدينية والتاريخية التي يشترط أن ل ميشتم فيها رائحة السقاطات السياسية ،كل ذلك كان من السباب التي عجلت في قبولي للسفرإلى عمان ،بدون أن أقرأ حتى سيناريو المسلسل ،أو أن أتفق على المسائل المالية. إكتفيت فقط بقول المنتج" ،سهيل إلياس" ،بأن الموضوع يدورحول الرض ..والنتماء لها ..والتمسك بها. *
*
355
*
عمزــــــــان ..أول مرة!
هناك فوجئت بـ"سيناريو" متواضع لم يحرك فوي رغبتي ول أثار شهيتي للعمل .فقررت العو دة وقضاء اجازاتي المتراكمة في السكندرية ،مع شقيقاتي ،خصوصا وأنني على سفر إلى بيروت، والبقاء فيها إلى ما شاء ا. لكن المنتج أصرعلى بقائي في عمان ،وأعطاني مطلــق الصــلحية فــي أن أعيد كتابة الســيناريو بالطريقــة الــتي أراهــا وترضــيني ،وبالشــروط التي تناسبني. وكانت أولى بوا درالنوايا الحسنة هي إنتقالي من الفندق إلى مســكن يقــع في واحد من أرقى وأجمل أحياءعمان" ،الشميساني" ،وتتــوفر فيــه كــل أسباب الراحة ،ناهيك عن كـر م الضـيافة الـذي غمرنـي وألجمنـي .هـذا إلى جانب الجواءالفلسطينية المقدسية ،التي كــانت تعــج بهــا "عمــان"، والتي كنت أتوق إليها والتي أشعرتني بالسعا دة والحساس بأنني أقترب من بلدي ،القدس ،وجعلتني أعو د إلى الحديث بلهجتي المقدســية بعــد أن خيل إلوي أنني كدت أن أنساها في غمــرة عملــي فــي الوســاط القاهريــة وفي التلفزيون المصري. وكيــف أنســى ترحيــب الوســاط الثقافيــة ،ومشــاعرالو د الــتي أحــاطتني وطوقتني وأعا دت إلوي توازني الذي كدت أن أفقد،ه فــي أيــامي الخيــرة في القاهرة.
356
بعد إكتمال إعا دة كتابة الحلقة الولى من المسلسل ابتدأ السيناريو ينحو إلــى إتجاهــات جديــدة ويتطلــب وجــو د شخصــيات جديــدة ،أوأن تتخــذ شخصيات معينة فيه ملمح أخرى مغايرة ،أو أكثر وضوحا. وتوالت بعــدها الحلقــات الــتي كــان المنتــج ،وشــركائه والمقربيــن منــه، يستقبلونها بلهفة تنم عن القناعة والرضى. أذكرأنني كنت أنفعل ،إلى حد البكاء ،أثنـاء صـياغة أحـد المشـاهد الـتي يكتشف فيهــا أهــل قريــة "راس العيــن" أن الســرفي طغيــان "المختــار" يكمن فــي ضـعف أهــل القريـة ذاتهــم ،ل فــي قـوته هـو .أوعنـدما كنــت أكتب ،على لسان بعضهم ،ما كان يجول فــي خــاطري مــن تمــر د علــى الوضــاع الــتي وصــلت إليهــا "تلــك القريــة" المحاصــرة بالعــداء.. والمخترقة بال دعياء. وتناقلت الوساط الفنية والثقافية أخبار سيناريومسلســل"راس العيــن".. أول مسلسل عربي سوف يجري تصوير ه باللوان! وتوالى تعريفي بالممثلين والممثلت والفنيين في تلفزيون عمان، وغالبيتهم العظمى كانوا من الفلسطينيين. وبدأت إختياراتي على مهل. في أحد اليا م ،جاءني المنتج"سهيل إلياس" وعلى وجهه أمارات الفرح المشوب بالدهشة ،وفي يد،ه جريدة الهرا م الصا درة في نفــس اليــو م25، يوليه ،1974لقرأفي الصفحة الخيرة،صفحةكمال المل خ"بلعنوان"، خــبرا مفصــل عــن فــوز فيلــم "الظلل فــي الجــانب الخــر" بجــائزة مهرجان "كارلوفي فاري" في تشيكوسلوفاكيا**. لم يكن فوزالفيلم هو سبب المفاجأة ،ولكنه كان أيضا لعلمي ويقيني بأن الفيلم لم يفرج عنه رقابيا بعد. فكيــف يتــأتى أن يشــارك الفيلــم فــي مهرجــان دولــي وهوممنــوع مــن العرض في بلد،ه ؟! _______________________________________________________ ** مهرجان "كارلوفي فاري" التاسع عشر عام ،74باشتراك 30دوله و 90فيلم طويل
357
ثم أعقب ذلك عرض التلفزيون الر دني لخــر تمثيليــة ســهرة كنــت قــد أنجزتها في القاهرة قبيل حضوري إلى عمان ..تمثيلية "ضمير إمرأة". وانهالت علي بعد ذلك أنــواع التهــاني والمباركــات والعــروض للتفــاق على كتابة مسلســلت أخــرى،الشــيء الــذي كنــت أرفــض بشــدة مجــر د الحديث عنه ،ما دمت لم أنته بعد من العمل الذي أنا بصد د،ه. وعندما شــارف موعــد بــدء التصــويرالذي يحتــم حضــورالممثلة "منــى واصف" مع الممثل "عبدالرحمن آل رشي" من سوريا للبدء في إجراء البروفات ،لحت في الفق إحدى بوا در سلوك المنتجين المراوغين. فوجئت باعتذارالسيدة "منى"عن عد م إمكانية حضــورها ) ،وهــي الــتي أكدت لي فيما بعد ،عندما قابلتها في مهرجان موسكو السينمائي ،أنها لم تتلق أي عرض من ذلك المنتج( ،ووجدتني أما م أمــر واقــع ل أســتطيع إزاء،ه إل القبول بالممثلة البديلة المتاحة ،والتي قامت بدورها بشكل جيد والحمد ل. وتوالت التراجعات من طرفهم ،والتنــازلت المحــدو دة المشــروطة مــن طرفي ،ومن ثم التوقعات الحذرة والوساوس. وفي أحد اليا م فوجئنا بتوقف إحدى الكاميرات الثلث عن العمــل ،ولــم متجد محاولت الفنيين اليائسة في إصلحها .هذا مع العلم بأن فريقا فنيــا قد قضى مدة ل بــأس بهــا ،كمــا قيــل لــي ،فــي بريطانيــا للتــدريب علــى صيانة أجهزتهم الحديثة قبل تركيبها في التليفزيون الر دني ..الملون. هنــا..كــان ل بــد لــي مــن إنقــاذ الموقــف بإعــا دة النظــر فــي الســيناريو، وإجراء التعديلت الممكنــة فــي الـــ" ديكوبــاج" بمــا يتلء م مــع الكتفــاء بالكاميرتين الباقيتين. ل أنكرأننــي كنــت أشــعر بالمتعــة أثنــاء قيــامي بعملــي بــالرغم مــن كــل المنغصــات الــتي واجهتنــي نتيجــة لحابيــل المنتــج ومراوغــاته .وكــان مصدرمتعتي هي تلك الشخصيات التي قمت بتطوير أ دوارها وجعلتهــا تنطق ببعض ما كان يعتمل في داخلي ،أنا المنفي المبعد عن بلــد،ه ،مــن أحاسيس وما كنت أومن به من أفكار. 358
359
ثم ..ما لبثت الكــاميرا الثانيــة أن لحقــت بأختهــا ،فلــم يبــق أمامنــا ســوى إنتظاروصــول الخبيرالبريطــاني لصــلح العطــال .فمــن المســتحيل إكمال العمل في المسلســل بكــاميرا واحــدة وذلــك لعــد م تــوفر إمكانيــات "المونتاج اللكتروني" المتطورة ،في ذلك الوقت. إل أنني تمكنت من إتما م تصــوير بقيــة اللقطــات للمشــاهد الــتي يشــارك فيها الممثل السوري القدير"عبدالرحمن آل رشي" ،ليتمكن من العــو دة إلى بلد،ه وأعماله. ومرت أيا م من الركو د كان إحساسي فيها بفداحة التنازلت التي قدمتها يتعاظم ،وخوفي من الظروف التي قد تضطرني لتقديم تنازلت أخرى سوف يكون لها أثرهاعلى مستوى العمل ينمو ويتزايــد .وقــد ســاهم فــي ذلك ظهور بوا در نوايا "غير مريحة" بالنسبة للتعاب ،فلم يكـن هنـاك حتى ذلك الوقت أي تعاقد يحكم هذا الجانب من العلقة بيني وبين جهة النتاج . ومع إز ديا د شكوكي بالنوايا الغيرعا دلة ،بالضافة إلى التنازلت الفنية التي كنت أتوجس من المزيد منها ،واقتراب موعد عيد الضحى ،وجدت أن الوقت قد حان للهروب من مأزقي مقابل التضحية ببقية أتعابي ،وتركها رهينة لحين عو دتي التي لن تتم. كنت أعرف أنني لن أعو د لتما م العمل في المسلسل .وكنت في نفس الوقت أشفق على العمل الذي أحببته وأنا أكتب تفاصيله .ثم أحببته أكثر بينما أنا أقو م بتنفيذ مشاهد جميلة كنت راضيا عنها كل الرضى. ولذلك ،تركت "الديكوباج" التفصيلي للعمل بين يدي المنتج أمل في أن يستفيد منه المخرج الذي سيتولى العمل من بعدي. عندما صا دف أن عدت إلى زيارة عمان بعد ذلك بحوالي عامين ،قيل لي ،أنه أثناء عرض المسلسل في التلفزيون ،وبعد أن عهدوا إلى مخرج آخر لتمامه ،كانت تعليقات المشاهدين تتفق و تتلخص في التساؤل عن سر الكبوات في إيقاع بعض المشاهد ،وخلوها من ذلك التألق الذي تميزت به المشاهد الخرى التي ل أنساها في مسلسل "راس العين". 360
وهل أنسى دور تلك الصبية الـ "فيديت" الــذي أســندته بــدون تــر د د إلــى فتاة كان يبدو لي أنها كانت من قريبات المنتج ،كانت تتر د د على مكتبه وتتطلع حولها في خفرالعذارى المشوب بالعجاب والنبهــار ،وبا دلتهــا عدسة الكامير العجاب وأحبتها من "أول لقطة"؟ كنت أتأمل وجهها الجميل الناطق بمعاني البراءة من خلل الكاميرا فتز دا د قناعتي بحسن اختياري .وكنت أتعمد أن أ دعوها لترى ما قامت بتجسيد،ه بعد تصوير بعض مشاهدها لترى قسماتها تنضح بشرا وعزما على مواصلة اللتزا م بتعليماتي التي كانت ترهقها في بعض الحيان لدرجة المجاهرة بنواياها بترك العمل واعتبار تجربتها الولى هي الخيرة أيضا ..كان اسم الصبية "جولييت". *
*
361
*
"جولييت" ..ثاني مرة كانت عشرون سنة قد مرت عندما كنت ،ومعي ممثلة المسرح العكاوية ،الصديقة "ساميه بكري" ،أتفقد ضيوف مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة ،عا م ،94باحثا عن رئيس الوفد الر دني المشارك ،لفتت انتباهي سيدة أربعينية كانت تختلس نحوي نظرات متفحصة بإلحاح داعب غروري وأثار فضولي .ولم ألبث أن رأيت صورة وجهها تطل من أحد الملصقات التي تفيد بأنها بطلة لمسرحية "مونو دراما" هي المشا أركة الر دنية في ذلك المهرجان ،مما أكد لي أنني عرفتها في يو م ما. لم يطل بحثي عن صديقي "حاتم السيد" ،مندوب قطاع المسرح في وزارة الثقافة الر دنية ،ورئيس الوفد الر دني ،الذي سارع بالقبض على ذراع شخص طويل القامة ،كان يقف خلفه بجانب تلك السيدة الفضولية ذات النظرات المتفحصة ،ويشد،ه لمواجهتي فإذا بي أرى "جميل عوا د" الذي لم أر،ه منذ عشرين عا م مضت. كان "جميل" ،مخرج المسرحية الر دنية المشاركة ،أحد المساعدين الذين تعاونوا معي في مسلسل "راس العين" .وكان اللقاء حارا لدرجة لفتت أنظار "السيدة" التي سرعان ما انضمت إلينا بينما تتر د د على وجهها إبتسامة و دو دة .وسرعان ايضا ما استدرك "جميل" الموقف ليقد م لي زوجته مضيفا: ..شو حكايتك ..إنت نسيت "جولييت"؟!وتعانقت أشواقنا والحنين إلى أيا م لم تخل من بشر وأحل م كبار ،و با درتني بقولها مازحة: ..روح ا يسامحك ياشيخ!وأكملت مشيرة لي وهي توجه كلمها للممثلة المسرحية "سامية بكري" بلهجة شاكية: 362
..هوالسبب ،هواللي وورطني وأعطاني أول دور في حياتي،وجاب لي المشاكل والحكي .الناس في الشارع صاروا يشاوروا علوي ويقولوا" ..البنت اللي".. .. وعقب "جميل" مازحا بسرعة: لما كترالحكي ..شفقت عليها وتجوزتها!ثم لم تلبث أن غيرت لهجتها وأكدت لمن حولها ،بنظراتها التي تشي بالسعا دة والعرفان ،أنها غير نا دمة. *
*
363
*
364
365
"جولييت" ..مرة أخرى**
عشرون عاما تفصل بين اليو م الذي اختر م ت فيه تلك الفتاة ،لتقف لول مرة أما م الكاميرا ،لتقو م بدور بذلت قسطا وافرا من العناية في رسمه، وبين اليو م الذي أراها فيه ممثلة قديرة تشارك بنجاح ملفت في مهرجان دولي للمسرح التجريبي. ثم تمرعشرة أعوا م أخرى لراها وهي تطل شامخة من شاشة إحدى القنوات الفضائية في دور تنافس فيه ممثلة المسرح النمساوية القديرة، ذات الشهرة العالمية " ،دوروثيا نيف" ،التي قامت بدور"ال م أشجاعة" في مسرحية "بيرتولد بريخت" الخالدة )على مسرح الشعب ،في فيينا، عا م .(1963 ذلك هو دور "إ م صالح" في المسلسل العربي البديع" ،التغريبة الفلسطينية" ،الذي يجسد معاناة عائلة فلسطينية خلل نصف قرن من النضال حفاظا على الحق ،والذي أبدعت فيه الفنانة "جولييت عووا د"، وكذلك زوجها الفنان "جميل عووا د" ،إلى جانب المجموعة المتميزة من الممثلين الفلسطينيين" ،المقيمين" في الر دن أوسوريا ،إلى جانب تلك الباقة من الممثلين والممثلت العرب. المقا م ل يتسع لتقييم المسلسل وإعطائه حقه من النقد .ولكنني أر دت صا بهذ،ه الضافة أن أنوو،ه عن الجهد الرائع لكل من شارك فيه ..ن ا وإخرااجا وأ دااء وتنفياذا. _______________________________________ القاهرة ..إضافة في ديسمبر 2004 )**(
366
أقول باختصار.. أي فرحة تلك التي تغمرني وقد امتد بي العمر لشهد ذلك الميل د.. ول دة "الدراما التلفزيونية الفلسطينية"! لقد أنجز لنا الزميل المخرج الشاب "حاتم علي" ،بالشتراك مع الكاتب القدير د .وليد سيف ،شيئا مما كنت أنا شخصيا أحلم بإنجاز،ه ،فلهما مني ،ولسائر المشاركين في هذا العمل ،أصدق الشكر والمتنان.
*
*
367
*
ي حلم"** "لد ز
كانت إقامتي في "عومان" ل تخلو من لحظات مخطوفة ،أنسى فيها همو م العمل ومتاعبه ،حينما كنت ألبي دعوات بعض الصدقاء المقدسيين القدامى أو الجد د .ولم تكن الدعوات إلى المطاعم أو الفنا دق تستهويني بقدر ما كنت أهيم شوقا إلى"العزايم" في البيوت الفلسطينية، والمقدسية بالذات ،حيث تعبق رائحة "الزعتر" و"الميرمية" ،فتأخذني إلى رحاب الطفولة وتتجول بي في حارات الذاكرة. ففي المنافي غالبا ما يجعل الفلسطيني من بيته وطنا افتراضيا ،فيقو م بإعطائه طابعه المميز عن طريق نثر التحف التذكارية ذات الطابع الوطني وقطع المشغولت اليدوية التراثية في أركان البيت وعلى حيطانه. وأتلهف أنا لسماع أحدهم وهو يستدعي ذكرياته التي تعو د إلى سنوات ما زالت قريبة طازجة بالنسبة لذكرياتي الغائرة في السنين والطاعنة في القد م .فنسافر سويا في الزمن. نتبا دل معلوماتنا عن تضاريس "البلدة القديمة" وجغرافيتها وتاريخها، ونتجول في معالمها .يقو دونني تارة ،وأقو دهم تارة أخرى للعبور من تحت أحد القناطر في إحدى الحارات. وتأخذنا معها الذكريات .و يرحل بي حنيني إلى شطآن الوطن بعد أن كدت أن أغرق في بحور الغربة. وأتوق إلى حلم طفولتي ،ذلك الحلم المتكرر ،حيث كنت أراني أفر د ذراعوي وأطلقهما للريح ..فأطير ..وأطير. _______________________________________________________ )**( خطبة "مارتن لوثر كينج" الشهيرة التي ألقاها أمام آلف المواطنين السود بجوار تمثال "أبراهام لنكولن" عام ،1963ولم تلبث يد التعصب في أميريكا أن اغتالت هذا الحلم باغتيال القس في عام .68
368
في القدس ..في المدرسة العمرية البتدائية التي كانت قبل الحتلل الصهيوني تقع على أحد المرتفعات خارج أسوارالمدينة القديمة ،أشار مدرس الجغرافيا من نافذة الصف إلى الجبال العالية التي تبدو في الفق الشرقي ،غائمة تكا د تنمحي ولكنها موجو دة .قال أنها "جبال مؤاب" التي تقع في الر دن ،وراء البحرالميت. ساءلت نفسي في عمان: ترى لو وقفت على أحد القمم في جبال مؤاب ،شرقي البحر الميت، فهل سوف أطل ،من فوقه غربا ،على القدس..على مدرستي..على طفولتي؟ بل إنني كثيرا ما كنت أنوي القيا م بتلك "التجربة" في أحد أيا م إقامتي في عمان .لكنني لم أجد الوقت المناسب ،ول المرافق المناسب لها. لم يطفيء لهيب أشواقي سوى ذلك الحلم المتكرر ،الذي كنت فيه أفر د ذراعوي وأطلقهما للريح ..وأطير ..وأطير إليها. *
*
*
كدت ،في بعض الحيان ،أن أتنساق وراء ما زينه لي البعض بالستقرار في "عومان" ،خصوصا وأن فرص العمل ،كمخرج تلفزيوني ،كانت تنهال عليي بإلحاح ..وبسخاء. كنت ،أحيانا ،أحدث نفسي متسائل في شيء من التواطؤ مع أصحاب العروض المغرية: ما دمت أرى في "بيروت" محطة أخيرة لترحالي بين المنافي ،أفليست "عومان" هي القرب جغرافيا إلى "القدس" من "بيروت" ..كمحطة أخيرة؟ لكني ،كلما أمعنت في التفكير والحسبان ،كنت أرى في "عومان" مكانا آخر للنتظار .بينما كانت "بيروت" في نظري مكان للعمل والنطلق. شتان بين البلد التي لفظت "المقاومة الفلسطينية" في أيلول السو د عا م ،1970وبين "بيروت" التي احتضنتها سنوات طوال. 369
ولم يختلف إحساسي ،بعد ذلك ،عندما ذهبت إلى لبنان ،وأخذت أطل من قمم جباله الجنوبية على أراضي شمال فلسطين. كم عاو دني ذلك الحلم المتكرر الذي كنت فيه أفر د ذراعوي وأطلقهما للريح فأطير وأطير ..إليها! فكما العاشق الذي يرى كل نساء العالم في محبوبته. كنت ،وسأظل ،أختزل العالم كله في مكان واحد هو :القدس.
*
*
Word 2003
370
*
الجنسيه : المولد :
فلسطيني القدس 27/2/1934
عضوية لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية الدوليه التيه :* المهرجان القومي الول للفلم الروائيه المصريه المقام في "جمصه" عام 1972 * مهرجان "ليبتزج" الدولي بألمانيا عام 1978 * مهرجان "بغداد" الدولي لفلم فلسطين عام 1979 * مهرجان "القارهره" للفلم التسجيليه عام 1984 المشاركه في المهرجانات وحلقات الدراسه الدوليه للسينما وأرهمها: * مهرجان "سينيستود" في أمستردام -رهولندا عام 1967 عام 1973 * مهرجان "كارلوفيفاري" الدولي للسينما * مهرجان "طشقند" الدولي للسينما عام 1975 * مهرجان "كراكوف" الدولي للسينما عام 1976 * مهرجان "قرطاج" الدولي للسينما 1976 * مهرجان "بيلباو" الدولي للسينما -عام 1977 * مهرجان "ليبتزج" الدولي للسينما -عام 1977 * مهرجان "فالينسيا" الدولي للسينما -عام 1990 * مهرجان الفلم التسجيليه الدولي -أمستردام 1991 - * مهرجان " آوجسبورج" الدولي للسينما -عام 1991 * الملتقى الدولي للسينما والروايه -تطوان-عام 19991 * الملتقى الدولي للسينما والروايه -الدار البيضاء92 - * مهرجان قرطاج -تونس 1998 - أرهم الجوائز الدوليه : جائزة أحسن فيلم روائي قصير -مهرجان o )ممثل عن النمســـــا ( "سينيستود" -رهولندا 1967
371
جائزة مهرجان "كارلوفيفاري" الولى عن o الفيلم الروائي الطويل- ) ممثل عن مصــــــــر (تشيكوسلوفاكيا 1973 جائزة مهرجان "كراكوف" الفضيه عن o ) ممثل عن الفلم التسجيليه -بولندا 1976 فلسطين ( جائزة مهرجان "بلباو" الفضيه عن الفلم o ) ممثل عن فلسطين ( التسجيليه -اسبانيا 1977 جائزة مهرجان "قرطاج" الفضيه عن الفلم o ) ممثل عن فلسطين ( التسجيليه -تونس 1976 الجائزه الكبرى " -الحمامه الذرهبيه" - o ) ممثل عن فلسطين ( 1978 مهرجان "ليبتزج"- شهادة تكريم و تقدير "للمساهمة المتميزة o في إنجاح الباقة التاسعة لمهرجان ربيع الفنون الدولي" – تونس 2003
372