(1) من زمان

Page 1

‫غالب شعث‬ ‫)سيرة ذاتيه‪(1-‬‬

‫من زمــــان‪..‬‬

‫من‬

‫أوراق مهــاجر‬ ‫‪1‬‬


2


‫من زمان‪..‬‬ ‫من‬

‫أوراق مهاجر‬

‫‪3‬‬


‫أخي "عابد"‬

‫‪4‬‬


‫إهـــــــــــــــــــــــــداء ‪..‬‬ ‫إلى روح أخي "عابد"‪..‬أستاذي ومعلمي‪..‬‬ ‫الذي برع في التعبير عن حبــــه لي بسخريــــــاتة اللذعة مني‪.‬‬ ‫عساي أن أنجح في التعبير عن حبي وعرفاني له‪..‬‬ ‫ولو بالسخرية من نفسي!‬

‫‪5‬‬


‫من زمن الحل م ‪ ..‬والتفاؤل‬

‫‪6‬‬


‫إستهـــــــــــــــل‪.‬ل‪..‬‬

‫قالوا‪:‬‬ ‫ثمة أشياء تبدو من "نافل القول"‪ ،‬أو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو‬ ‫يدوونها‪ ،‬لكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها‪.‬‬ ‫وأقول‪:‬‬ ‫وعندما يـتقد م بنا العمر‪ ..‬نصبح أكثر صدقا مع ذواتنا‪.‬‬ ‫نعرف قدرأنفسنا‪ .‬وربما نتوقف عن الحل م الكبيرة‪ ،‬وندقق في إنتقاء‬ ‫صغارها‪.‬‬ ‫وعندما يقسوعلينا حاضرنا‪ ،‬يصبح الماضي ملذنا ومأوانا‪ ،‬ويطيب‬ ‫لنا أن نرسوعلى شطآنه‪ ،‬ونحتمي من "صهد" الواقع‪ ،‬أو "صقيعه"‪،‬‬ ‫بربيع الذكريات‪ ،‬مستلهمين منها ما يجعلنا نستعيد شيئا من حرارة‬ ‫الشباب‪ .‬وربما نلوذ بـ"الكتابة" إتقاء من تيه التداعيات‪ ,‬وحلقاتها‬ ‫المفرغة‪.‬‬ ‫ثمة خواطر‪ ،‬لو وضعناها على الورق‪ ،‬تغدو مثل سفح الجبل ونحن‬ ‫نرقبه من أعل‪،‬ه‪ ،‬لنكتشف فيها مساحات لم نكن نعرفها في ذواتنا‬ ‫)والخرين(‪.‬‬ ‫ففي الكتابة متعتين‪:‬‬ ‫متعة البوح‪ ،‬ومتعة التواصل والكتشاف‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫وأخي قال لي‪:‬‬ ‫والكتابة يا صديقي‪..‬هي ذلك الشكل المتاح )ولوخلسة( لتتعوو د على‬ ‫ممارسة الحـــــــــــرية‪ ..‬تلك "الرفاهية" المستعصية‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬ ‫‪7‬‬


8


‫أما قبـــــــــــــــــــل‪..‬‬

‫فقد راو دتني‪ ،‬في فترات متباعدة‪ ،‬فكرة الكتابة عن "تجربتي‬ ‫ضية‪ ،‬بحيث كانت‬ ‫السينمائية"‪ ،‬التي حضظيت ببدايات طموحة ممر ض‬ ‫موضوعا لكتابات العديد من الكتاب أو النقا د السينمائيين في مصر‪،‬‬ ‫وفي العالم العربي‪ ،‬وغيرالعربي‪.‬‬ ‫ول أحسبني كنت سأقع تحت تأثيرهذ‪،‬ه الفكرة وإلحاحها‪ ،‬فكرة الكتابة‪،‬‬ ‫أوالتدوين‪ ،‬لو كانت المور قد استمرت على الشكل الذي بدأأت عليه‪،‬‬ ‫إذن لتركت لهم‪ ،‬أصحاب القل م‪ ،‬مهمة إتما م ما بدأو‪،‬ه‪ ،‬ومضيت أنت‬ ‫في تطوير تجربتك‪.‬‬ ‫أما وقد تغير الحال‪ ،‬إثر حوار طال بين طبيعة الرياح وما تشتهيه‬ ‫السفن‪ ،‬فقد آثرت أن ألجأ‪ ،‬أو على وجه الدقة‪ ،‬أن "أرسو" في مينائي‬ ‫المرسو م‪ .‬ذلك هو ما كنت أسميه "سينما لفلسطين"‪ ،‬تمهيدا لتحقيق‬ ‫حلمي الكثر طموحا‪" ..‬سينما فلسطينيه"!‬ ‫فكان أن اتسعت التجربة‪ ،‬وباتت ذاكرتي تزخر بالكثير مما يمكن أن‬ ‫يقال‪ ،‬وما يستدعي "التدوين" في هذا المجال‪.‬‬ ‫و يصا دف‪ ،‬في وقت لحق‪ ،‬ذلك اللحاح على مشاركتي في كتابة جزء‬ ‫من الملف الذي كانت مجلة "أ دب ونقد" القاهرية تعد لصدار‪،‬ه في‬ ‫أكتوبر ‪ ،1993‬بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة صديقي الكاتب‬ ‫المسرحي "محمو د دياب"‪ .‬فيكون لهذ‪،‬ه المساهمة أثر في استرجاعي‬ ‫لبعض التفاصيل المبكرة لتجربتي مع السينما‪ ،‬والرواية بشكل عا م‪.‬‬ ‫كأنما أمسك ت‬ ‫ت يدي بخيط البداية‪.‬‬ ‫ثم تتطورالفكر‪،‬ه‪ ،‬فكرة الكتابة عن تجربتي السينمائيه‪ ،‬الى مشروع‬ ‫أوسع‪ ،‬وهو كتابة تقترب من ما يعرف بتدوين السيرة الذاتية‪ .‬بداية‪،‬‬ ‫بهدف البحار في الذات والتأمل فيها وفيما كان من حولها‪ .‬ومن ثم‪،‬‬ ‫لمجر د إضفاء قيمة ما إلى الوقت الذي كان يزحف ببطء قاتل‪ .‬ذلك أثناء‬ ‫‪9‬‬


‫"فراغي"‪ ،‬الذي طال واستطال‪ ،‬في انتظار صدور التصريح لي‪ ،‬من‬ ‫قبل السلطات السرائيلية‪ ،‬بدخول أراضي "الحكم الذاتي"‪ ،‬بعد توقيع‬ ‫إتفاق "أوسلو" العقيمة‪ ،‬وانتقال دائرة عملي‪ " ،‬دائرة الثقافة" في منظمة‬ ‫التحريرالفلسطينية‪ ،‬من تونس الى "غز‪،‬ه"‪ .‬ومن ثم إلى "را م ا"‪ ،‬التي‬ ‫رضيت بالمقا م المؤقت فيها لقربها من مدينتي ومسقط رأسي‪..‬القدس‪.‬‬ ‫ومما جعل الفكرة تتطور أكثر وأكثر‪ ،‬هو سؤال‪:‬‬ ‫من أين أبدأ؟‬ ‫هل أبدأ منذ أن تفرغت للعمل في منظمة التحرير‪..‬في "بيروت"؟‬ ‫أ م منذ أن بدأت حياتي العملية‪ ..‬في "القاهرة"؟‬ ‫أ م منذ بدء دراستي المتخصصة في السينما‪ ..‬في"فيينا"؟‬ ‫أ م من حيث ابتدأ ت‬ ‫ت معاناتي الصامتة من القمع الذي كان يسكت أشواقي‬ ‫إلى الستزا دة من إشباع إهتماماتي الفنيه‪ ..‬في "غز‪،‬ه"‪ ..‬ومن ثم في‬ ‫"السكندرية"؟‬ ‫وتظل السئلة تعو د بي الى الوراء شيئا فشيئا‪ .‬لن الحكاية تتعلق‬ ‫بتاريخ وبدايات تشكيل وعيي‪ ،‬ليس فنيا فقط‪ ،‬ولكن وعيي بشكل عا م‪..‬‬ ‫فنياا‪ ،‬وإنسانيا‪ ،‬واجتماعياا‪ ،‬وسياسيا ا أيضاا‪ .‬فالحكاية ل تتجزأ‪.‬‬ ‫ثم تشغلني‪ ،‬بشكل عابر‪ ،‬مسألة "الشكل"‪ .‬ولكنني أتغلب عليها بعد أن‬ ‫أسترجع في ذهني المعارك‪ ،‬التي قامت ولم تقعد‪ ،‬حول "الشكل" و‬ ‫"المضمون"‪..‬إلخ‪ .‬فأتمثل عندها بالقول القائل‪" :‬لكل حا دث حديث"‪.‬‬ ‫شيء ما يجعلني أتر د د‪ ،‬في بعض الحيان‪.‬‬ ‫أغلب الظن أنه ذلك الخلط أو الندماج اللإرا دي )الذي تجاوز عندي‬ ‫القدرالمألوف( بين الخاص والعا م‪ ،‬أو ذلك القتحا م المتبا دل بينهما‪.‬‬ ‫وهي حالة ربما كانت تفرضها حياة المنفى‪ ،‬وأوضاع "الثورة"‪ ،‬التي‬ ‫انتميت إليها والتزمت بمبا دئها‪..‬في الشتات‪ ،‬ومعاناة قسوة الغتراب‬ ‫والوحدة‪.‬‬ ‫فهل يليق بي أن تتضمن سطوري‪ ،‬أو ما بين سطوري‪ ،‬ما يشي من‬ ‫قريب او من بعيد بأن إلتزامي المطلق أما م نفسي تجا‪،‬ه قضيتي‪ ،‬ذلك‬ ‫اللتزا م الذي ارتضيته بمحض إرا دتي واختياري‪ ،‬قد ساهم في تدمير‬ ‫جانب ها م من جوانب حياتي الشخصية؟!‬ ‫‪10‬‬


‫والكثرحرجا من هذا وذاك أن ل أجد دليل على تقصيرر ما‪ ،‬كان‬ ‫يتراءى لي‪ ،‬أكثر دللة مما كان في تجربة كنت أنا أحد أطرافها‪ .‬وهنا‬ ‫تبدو المسألة وكأنها من جراء موقفي الشخصي من الشياء‪ .‬وتغدو‬ ‫شها دتي خلوا من الموضوعية التي أفنيت عمري في محاولة التمسك‬ ‫بأهدابها‪ ،‬والصدق الذي أتوق إليه و أتباهى بعشق ممارسته‪.‬‬ ‫لكن مهلا !‬ ‫فأنا ما زلت أستبعد‪ ،‬أو‪ ،‬ل أتعوجل‪ ،‬فكرة النشر التي يحاول بعض‬ ‫أصدقائي المقربين أن يقنعوني بها‪.‬‬ ‫كذلك فأنا‪ ،‬بالرغم من عشقي للتاريخ‪ ،‬ل أنوي "التأريخ" للسينما‬ ‫الفلسطينية بقدر ما أنا أشفق أن ل يتمكن ذلك الذي )كان ا في عونه‬ ‫وألهمه الصواب( سوف يأخذ على عاتقه تلك المهمة‪ ،‬من أن يلم إلماما‬ ‫كافيا بالدور المتواضع الذي قدر لي أن أقو م به في فترة من فترات‬ ‫نشوء ما سوف يسمى بالسينما الفلسطينية‪ .‬فلعل ما سير د في سيرتي‬ ‫هذ‪،‬ه‪ ،‬مما له علقة بها‪ ،‬أن يسد بعض الثغرات التي سوف يتعثر بها‪.‬‬ ‫وأخيرا‪..‬وليس آخرا‪..‬‬ ‫لكأني‪ ،‬بالكتابة‪ ،‬إنما أحاول إسكات أشواقي المتأججة إلى لغتي التي‬ ‫أحببتها وما زلت أهيم بها عشقا‪..‬لغة السينما‪ .‬وكأني ما برحت أتطلع‬ ‫إلى اليو م الذي سوف أتمكن فيه من العو دة إلى مزاولة الكتابة عن‬ ‫حكايات الوطن‪ ،‬وعن النسان وأشواقه للحق والعدالة‪،‬‬ ‫بالنور‪..‬والظلل‪ ..‬والغنيات‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫‪11‬‬


Flash back ‫فل ش باك‬ 12


‫"فل ش باك"هو الصطلح الذي قامت "اللغة السينمائية" بتكريسه‪،‬‬ ‫بمعنى العو دة إلى الماضي‪ ،‬أثناء السر د‪ ،‬وكلما اقتضت الضرورة‬ ‫استكمال أو توضيح موقف أو معلومة قد تبدو بحاجة إلى ذلك‪.‬‬ ‫وهذا مما يهوون عليي المر و يجعلني‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬ل أتر د د كثيرا في‬ ‫الستعانة به‪ ،‬بين الحين والخر‪ ،‬في تدوين سيرتي الذاتية هذ‪،‬ه‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫‪13‬‬


‫أ م العابد ‪ ..‬وأبوالعابد‬

‫غـــــــــــــــــــــزز ه ‪..‬‬ ‫‪14‬‬


‫قالت لي أمي ذات يو م*‪:‬‬ ‫ خالك "علي" سوف يفرح بك‪ ،‬فقد كان دائما يتمنى أن تكبر‪،‬‬‫وتدخل الجامعة وتصبح مهندسا ليفخر بك‪.‬‬ ‫برضاي عليك ياومه تبقى تزور‪،‬ه في السكندرية‪..‬وتسمع‬ ‫كلمه‪.‬‬ ‫ثم أكملت بعد أن غ و‬ ‫صت وابتلعت دمعتها‪:‬‬ ‫ أخوك "عابد"‪ ،‬بعد الهجرة واللي صار‪ ،‬راحــت عليــه يــا حســرتي‪،‬‬‫وما كملش تعليمه‪ ،‬وهويو قاعد أل يعلم بحاله في الصــحرا‪ ،‬مســتني‬ ‫اليو م اللي إنت تدخل فيه الجامعة‪ ،‬وتتخرج‪ ،‬وتشيل الحمل معا‪،‬ه‪.‬‬ ‫أما والدي‪ ،‬فلم يز د على ذلك سوى دعاء‪،‬ه المفضل‪ ،‬بصوته الرخيم‬ ‫ونبرته المميزة‪:‬‬ ‫ ‪..‬ا يرضى عليـك‪..‬ويحنـن عليـك‪ ..‬ويوفقـك‪ ..‬ويجعـل لـك فـي كـل‬‫طريق صديق‪.‬‬ ‫لم أكن أقل حرصا من خالي "أبو نبيل" ** المقيم فــي الســكندرية‪ ،‬أو‬ ‫أخي "عابد" المقيم في السعو دية‪ ،‬على تحقيــق تلــك الحل م الـتي بـاتت‬ ‫تراو د كل المهات‪ ،‬أو الباء الذين فقدوا الوطن والرض‪.‬‬ ‫عشت السنوات الخمس‪ ،‬منذ هجرتنا من"القدس"عا م ‪ ،48‬فــي"غــزة"‪،‬‬ ‫وأنــا أؤمــن أن العلــم‪ ،‬كمــا كــان أخــي يلــح ويعيــد ويزيــد فــي رســائله‬ ‫المنتظمة لي من منفا‪،‬ه‪ ،‬هو الهوية البديلة عن هوية اللجيء المفقو دة‬ ‫المسلوبة‪.‬‬ ‫___________________________________________‬ ‫)*(‬ ‫)**(‬

‫عام ‪1953‬‬ ‫هو خالي "أبو نبيل" الذي تعودت الم أن تذكر ه باسمه ل بلقبه‪.‬‬

‫وتوالت سنوات الدراسة الثانوية بحلوها ومرها‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫على أن أبرز أحداث تلك السنوات كانت السنة التي تم فيها زواج‬ ‫شقيقتي "إكتمال" وانتقالها إلى جدة حيث يعمل زوجها "رشا د الدباغ"‬ ‫مديرا لفرع المؤسسة الفلسطينية العتيدة‪ ،‬البنك العربي‪ ،‬في مدينة‬ ‫"جد‪،‬ه"السعو دية‪ .‬فلم يخفف ذلك من ثقل العبء فحسب‪ ،‬بل أضاف لونا‬ ‫من الفرحة إلى السرة اللجئة طالما اشتاقت إليه‪.‬‬ ‫وجاءت السنة الدراسية الثانوية الخامسة والخيرة‪" ،‬التوجيهية"‪ ،‬وهي‬ ‫سنة الختيار ما بين مشأعب التخصص الثلث‪ :‬أ دبي‪..‬علمي‪ ..‬ورياضي‪.‬‬ ‫وكان من الطبيعي أن أختار الشعبة الرياضية التي تؤهلني لصبح‬ ‫مهندسا يحقق آمال والد و‬ ‫ي‪ ،‬ويفخر بي خالي "أبو نبيل"‪ ،‬وأشيل الحمل‬ ‫مع أخي "عابد"‪.‬‬ ‫لكن مدير مدرستي )أ‪ .‬ممدوح الخالدي( قرر أن ينقلني إلى شعبة‬ ‫العلو م‪ ،‬لسبب كان يرا‪،‬ه مناسبا‪.‬‬ ‫وهذا مما ترتب عليه إرباكا في مجرى الدراسة‪ ،‬ومما اضطرني إلى‬ ‫إعا دة السنة الخيرة‪ ،‬حتى أتمكن من إعا دة التقد م لدخول شعبة الرياضة‬ ‫التي أريدها‪ ،‬والتي كانت في نظري تؤهلني للدراسة الجامعية التي‬ ‫سوف تقوربني من أشياء أهواها‪ .‬فكان لي ما أر دت‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪16‬‬

‫*‬


‫منظر عا م لمدينة القدس من جبل الزيتون‬

‫‪17‬‬


‫مبنى "هوسبيس النمسا" الذي يطل على مدخل دارنا في مدينة القدس القديمه‬

‫القاهـــــــــــر ه‪..‬‬ ‫‪18‬‬


‫ولول مرة أغا در فيها "غزة" إلى مدينة "القاهرة"‪ ،‬بعد هجرتنا من‬ ‫مدينة "القدس" وأنا في الثالثة عشر من عمري‪ .‬فهذ‪،‬ه هي بداية أسفاري‬ ‫وهجراتي وغربتي عن الوطن‪ ..‬و الهل‪.‬‬ ‫في القدس‪ ،‬كانت كلمة "هنا القاهرة"‪ ،‬التي دأبت على سماعها‪ ،‬منذ‬ ‫طفولتي المبكرة‪ ،‬من را ديو المقهى المجاور لدارنا‪ ،‬تشكل لي حلما‪.‬‬ ‫كانت "هنا القاهرة" توازي في وجداني‪ ،‬كما قال أحدهم‪ ،‬تلك الكلمة‬ ‫الساحرة "إفتح يا سمسم!"‪ ،‬التي دأبنا على قراءتها في "ألف ليله‬ ‫وليله"‪ ،‬أو سماعها من برامج الذاعة المصرية‪ ،‬التي كانت تجول بنا‬ ‫في عوالم جديدة‪.‬‬ ‫فلقد ولدت في تلك الدار في عا م ‪ ،1934‬وهو نفس العا م الذي بدأت‬ ‫" دار الذاعة المصرية" بثها من القاهرة‪ .‬وتربى سمعي على برامجها‬ ‫الذاعية‪ ،‬بفضل را ديوالمقهى المجاور‪ ،‬ناهيك عن أغاني ذلك "الزمن‬ ‫الجميل"‪.‬‬ ‫وبالرغم من أن قراءاتي لل دب المصري‪ ،‬أثناء دراستي الثانوية في‬ ‫"غزة"‪ ،‬قد خلقت لدي تلك القربى النسبية من الجواء المصرية‪،‬‬ ‫خصوصا روايات الكاتب الكبير المتميز "نجيب محفوظ" التي طافت‬ ‫بي في أنحاء القاهرة‪ ،‬والحياء القديمة منها بالذات‪ ،‬إل أن واقع المدينة‬ ‫كان على غير ما كنت أتصور‪،‬ه‪.‬‬ ‫استقبلني صديقي "حسين غيث" في بيته الكائن في ضاحية "الجيزة"‪،‬‬ ‫بشارع يحمل إسما لم يطرق سمعي من قبل‪"..‬مراحق بن عامر"!‬ ‫أخذ "حسين"‪ ،‬الذي سبقني لكلية الهندسة بعا م‪ ،‬نتيجة لرسوبي في‬ ‫السنة الماضية‪ ،‬يدور بي مستعرضا معرفته بالقاهرة ومعالمها‪ ،‬بحيث‬ ‫لم يترك لي فرصة للتقاط أنفاسي‪ .‬فمن أهرامات الجيزة إلى مصر‬ ‫‪19‬‬


‫القديمة‪..‬إلى جبل المقطم‪..‬إلى مصر الجديدة‪..‬إلى سيدنا الحسين‪..‬إلى‬ ‫الموسكي‪..‬إلى مختلف أحياء المدينة العظيمة‪ ،‬التي يشهد لها تاريخها‬ ‫وآثارها وماضيها وحاضرها وثقافتها ومذاقها‪ ..‬وأهلها وسلوكهم‬ ‫ورقتهم وشهامتهم‪ ..‬ومرحهم وصخبهم وضجيجهم‪.‬‬ ‫إل أنه سرعان ما شوكل لي هذا الصخب صدمة لم أكن أتوقعها‪.‬‬ ‫كان ذلك‪ ،‬ويا للدهشة‪ ،‬في عا م ‪!!! 1954 /53‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫السكندريه‪..‬‬ ‫‪20‬‬

‫*‬


‫وسرعان‪ ،‬أيضا‪ ،‬ما خطر لي أن أقو م‪ ،‬حسب توصية والدتي‪ ،‬بزيارة‬ ‫خالي في السكندرية‪.‬‬ ‫وهناك في السكندرية أفاجأ بأجواء مختلفة عن أجواء القاهرة‪ ،‬مما‬ ‫جعلني أعيد النظر في أمر مكان دراستي‪ .‬يحرضني على ذلك‪ ،‬إلى‬ ‫جانب الدوافع الخرى‪ ،‬وجو د كل من"إبراهيم شرف"‪ ،‬و"ماجد‬ ‫بسيسو"‪ ،‬زملء الدراسة الثانوية اللذان استقر بهم المقا م للدراسة في‬ ‫السكندرية‪.‬‬ ‫"إبراهيم"‪ ،‬صديقي في سنوات الدراسة الثانوية‪ ،‬الذي أجبر‪،‬ه مدير‬ ‫المدرسة‪ ،‬أيضا‪ ،‬على دخول القسم ال دبي الذي لم يؤهله إل لدخول‬ ‫كلية الحقوق‪ .‬ولكنه أصر‪ ،‬إلى جانب ذلك‪ ،‬على إعا دة التقد م لمتحان‬ ‫الثانوية العامة )التوجيهية( مرة أخرى‪ ،‬فنجح في السنة التالية في‬ ‫ دخول كلية الطب وفي النتقال إلى السنة الثانية لكلية الحقوق‪ ،‬وما برح‬ ‫يعلن عن إصرار‪،‬ه على أن يظل منتسبا إليها مصمما على مواصلة‬ ‫الدراسة في الكليتين‪ .‬وهو يزيد على ذلك بأنه سيكون طبيبا‪ ..‬ونقيبا‬ ‫للطباء!‬ ‫"نا دي فلسطين"‪ ،‬الذي كان يجمع نخبة من الجالية الفلسطينية‪ ،‬والذي‬ ‫كان يبدو لي وكأنه قطعة حرة باقية من الوطن المغتصب‪.‬‬ ‫وأونى لي أن أنسى تلك المناسبة‪ ،‬التي ما زالت ذكراها محفورة في‬ ‫ذاكرتي‪ ،‬وهي استجابة الزعيم "جمال عبد الناصر"‪ ،‬في ذلك الوقت‪،‬‬ ‫لزيارة "نا دي فلسطين"‪ ،‬حيث استقبلته فرقة تشكلت عفويا من فتيان‬ ‫النا دي وفتياته وأطفاله بالنشيد الفلسطيني الجميل "موطني‪."..‬‬ ‫ظل الزعيم واقفا في مدخل الصالة‪ ،‬ولم يتخذ مكانه إل عندما انتهى‬ ‫الفريق من أ داء النشيد‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫وذلك الخطاب الوطني الذي كان يقطر صدقا وتفاؤل‪ ،‬والذي سمعت‬ ‫فيه لول مرة قولة الزعيم الوطني الشهيرة‪ ،‬التي تركت أثرها في‬ ‫وعينا‪:‬‬ ‫"ما أخذ بالقوة ل يستر د إل بالقوة‪".‬‬ ‫بيت خالي‪ ،‬الذي تفوح فيه رائحة الوطن‪ ،‬فلسطين‪ ،‬ويذكرني ببيته في‬ ‫"يافا" قبل أن ينتقل منها عا م ‪1946‬مديرا لفرع المؤسسة الفلسطينية‬ ‫في السكندرية‪.‬‬ ‫أول د وبنات خالي‪ ،‬ومستوى المعيشة المتميز لمدير فرع البنك‬ ‫العربي‪ ..‬المؤسسة الفلسطينية هناك‪.‬‬ ‫لكم كنت دائما أحلم وأتمنى أن يصبح لي‪ ،‬لفرط محبتي لخالي‬ ‫وإعجابي به‪ ،‬بيت منظم مثل بيته‪ ،‬ومكتبة حافلة بالكتب واسطوانات‬ ‫الموسيقى مثل مكتبته‪ ،‬وزوجة أنيقة حنونة مثل زوجته‪ ،‬وأول د أذكياء‬ ‫مثل أول د‪،‬ه‪ ،‬يجيدون العزف على آلة "البيــانو" الساحرة التي تتصدر‬ ‫المكان‪ ،‬فيملونه بهجة وسعا دة‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫وأخيرا وليس آخرا‪ ،‬الهدوء‪ ،‬والبحر الذي كنت أعشقه‪ ،‬ويذكرني‬ ‫بطفولتي وصباي‪ ،‬وببحر"غزة"‪ ..‬و"يافا"‪.‬‬ ‫كل ذلك كان دافعا لي لكي أفكر في إستر دا د أوراقي المقبولة في كلية‬ ‫الهندسة بجامعة القاهرة‪ ،‬وأن ألتحق بكلية الهندسة في السكندرية‪.‬‬ ‫وبالفعل باشرت في الجراءات المطلوبة‪ ،‬بعد أن استشرت أخي‬ ‫"عابد"‪ ،‬وحصلت على قبولي فيها‪.‬‬ ‫كان هذا مما أثار غضب خالي‪ ،‬الذي اتهمني بالنفرا د بالرأي‪ ،‬أنا‬ ‫العديم المعرفة والتجربة‪ ،‬الذي كان يفترض أن أستنير برأي من هو‬ ‫أكثر مني معرفة وتجربة‪.‬‬ ‫وفي أحد اليا م‪ ،‬التي قضيتها ضيفا في بيت خالي‪ ،‬وكنت أنعم فيها‬ ‫بصحبة أصدقائي القدماء والجد د‪ ،‬وأبحث بجد عن مسكن مستقل لي‬ ‫أسوة بهم‪ ،‬وأنتظر بشغف بداية السنة الدراسية‪ ،‬فوجئت بخالي يطلب‬

‫‪22‬‬


‫مني الستعدا د‪ ،‬في صباح الغد الباكر‪ ،‬للسفر إلى القاهرة برفقة أحد‬ ‫موظفيه في البنك‪ ،‬بعد أن كان قد نجح في استر دا د أوراقي من كلية‬ ‫هندسة السكندرية‪ ،‬للعو دة بها إلى هندسة القاهرة‪ ،‬بحجة مكانة جامعة‬ ‫القاهرة وسمعتها وتفوقها العلمي‪.‬‬ ‫لم تفتني فكرة المخاوف التي قد تكون قد ساورت الخال من أن تستمر‬ ‫إقامة إبن أخته في بيته‪ ،‬وهو الذي ل يستطيع أن يصرح بغير الترحيب‬ ‫به‪ ،‬مراعاة لشقيقته الكبرى "إ م العابد"‪ ،‬التي كانت دائما بمقا م والدته‪.‬‬ ‫وإن كانت الوالدة قد أوصت وشد دت التوصية لي باختصار مدة الزيارة‬ ‫بقدر المكان‪ ،‬مكررة لي مثلها الشهير‪" ..‬ضخـ ت‬ ‫ف تتـعو م"!‬ ‫إل أن الخال كانت له حساباته‪ ،‬وتحسسباته‪ .‬فوجو دي في القاهرة يعفيه‬ ‫ويخلصه من أي حرج‪.‬‬ ‫في القاهرة عدت لجد الصخب يقتحم هدوء نفسي ويغتال لحظات‬ ‫صفائي ويلوث سمعي الذي لم يألف مثل هذا الضجيج‪ ،‬والذي تعو د‬ ‫وتربى منذ طفولتي على الهدوء‪.‬‬ ‫وعدت لمقارنة أجواء المدينتين‪ .‬إلى أن استقر بي الرأي على العو دة‬ ‫إلى السكندرية مهما كلفني المر‪ .‬لنني أيقنت أني لن أستطيع أن‬ ‫أتحمل كل ذلك الصخب طوال سنوات الدراسة الخمس‪.‬‬ ‫استشرت أخي "عابد"‪ ،‬الذي كان بمقا م الوالد والمعلم‪ ،‬فترك ليه حرية‬ ‫الختيار‪.‬‬ ‫راسلت صديقي "إبراهيم"‪ ،‬طالب الطب والحقوق‪ ،‬وكلفته بإعا دة‬ ‫تسجيلي في كلية هندسة السكندرية‪ .‬كما اتفقت مع الصديق "ماجد" أن‬ ‫يحجز لي الغرفة الخرى الخالية حيث يسكن في بيت "المدا م" اليونانية‬ ‫وابنتها "ألكساندرا"‪ ،‬في أحد أحياء السكندرية‪" ،‬كامب شيزار"‪،‬‬ ‫القريبة من كلية الهندسة‪.‬‬

‫‪23‬‬


24


‫وعند وصول القطار القا د م من القاهرة إلى محطة "سيدي جابر" في‬ ‫السكندرية‪ ،‬وقفت أبحث بين المستقبلين عن صديقي "ماجد"‪ ،‬الذي‬ ‫سوف يأخذني مباشرة إلى مسكني الجديد‪.‬‬ ‫لكنني فوجئت بخالي وزوجته وهما يقفان على رصيف المحطة‪ ،‬حيث‬ ‫صا دف أن كانا هناك بانتظار وصول أحد الصدقاء‪ .‬فما كان من"أحمد‬ ‫حسين"‪ ،‬السائق الخاص‪ ،‬الخالي الذهن مما يجري أمامه من‬ ‫المفارقات‪ ،‬إل أن تقد م وحمل حقيبة سفري إلى السيارة بين دهشة‬ ‫الجميع‪.‬‬ ‫بعد تناول الغذاء‪ ،‬في بيت خالي‪ ،‬حملت حقيبتي‪.‬‬ ‫ على فين؟‬‫ على مسكني‪ ..‬في "كامب شيزار"!‬‫مفاجأة أخرى للخال‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ثم تبدأ الدراسة في كلية الهندسة‪.‬‬ ‫ربما تجدر الشارة بأن قبولي لدراسة "فن العمارة" في كلية الهندسة لم‬ ‫يكن سوى محاولة مني للقتراب من حلمي الدفين بدراسة الفنون‪،‬‬ ‫للوصول إلى "فن السينما" بالذات‪ ،‬حيث لم يكن ذكر دراسة فن السينما‬ ‫في ذلك الوقت براء من الوصف بالعبث والكل م الفارغ‪ ،‬إن لم يكن من‬ ‫ما يندرج تحت بند المحرمات‪ .‬ولم أكن أمتلك ذلك القدر من الشجاعة‬ ‫لطالب بـ"ما ل تقبله التقاليد ا ا‬ ‫لسرية"‪ ،‬علوة على أنه لم يكن المعهد‬ ‫العالي للسينما في مصر قد تأسس بعد‪.‬‬ ‫كانت موا د السنة العدا دية في قسم العمارة ل تخلو بمعظمها من‬ ‫سهولة وسلسة‪ ،‬إن لم تكن متعة‪ .‬بحيث لم يكن أ داء واجباتي اليومية‬ ‫تجا‪،‬ه دراستي يتطلب مني سوى بضع ساعات‪ .‬أعو د بعدها إلى ممارسة‬ ‫ما تيسر من الهوايات‪ .‬القراءة‪ ،‬أو مشاهدة أفل م السينما‪ ،‬أوغيرها من‬ ‫الممكنات‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫كان شقيقي"عابد" ل يفتأ يوصيني بضرورة التزو د بالمطالعة و‬ ‫"الثقافة العامة" التي ل تقل ضرورة عن الموا د الدراسية في تأسيس‬ ‫النسان‪ .‬ولم ينس أن يهون علي ما سوف يترتب على ذلك من زيا دة‬ ‫في العبء المالي‪ ،‬ويطلب مني عد م التفكير في ذلك‪ .‬بل كان دائما ما‬ ‫يؤكد لي أنه يشعر بالسعا دة وهو يحاول أن يحقق لخيه الصغر ما‬ ‫كان يتمنا‪،‬ه لنفسه‪ .‬تلك الجملة التي كان ال خ الكبر ير د دها بكل الحب‬ ‫والصدق‪.‬‬ ‫وتبدأ تدخلت الخال‪" ،‬مدير" فرع البنك العربي بالسكندرية‪ ،‬بكل ما‬ ‫عند‪،‬ه من النوايا الحسنة ‪ ،‬بحيث تصل إلى التحكم في صرف الحوالة‬ ‫المالية المرسلة شهريا من "عابد"‪ ،‬عن طريق نفس البنك‪ ،‬والتي كانت‬ ‫قيمتها تثير غضب الخال‪ ،‬وتزيد من إصرار‪،‬ه على تقنين المصروف‪.‬‬ ‫حتى شراء الكتب الخاصة بالدراسة‪ ،‬يرى الخال بأنه غير ضروري‪.‬‬ ‫فعندما كان في الجامعة الميريكية في بيروت‪ ،‬كما كان ل يفتأ أن‬ ‫يتباهى‪ ،‬كان يستعير هذ‪،‬ه الكتب‪ .‬بل‪ ،‬كثيرا ما كان يسهر الليالي لنسخ‬ ‫ما جاء فيها توفيرا لثمنها‪.‬‬ ‫كان ل يمل من معايرتي بأني أهدر وقتي ول أستغله في المذاكرة‪ .‬ول‬ ‫يمل من طرح نفسه كمثال يحتذى به والتباهي بأنه‪ ،‬أثناء دراسته‬ ‫الجامعية‪ ،‬كان ل يترك ساعة من وقته تضيع هدرا‪.‬‬ ‫ويتزايد التها م لي بالهمال‪ ،‬مما جعلني في أحد المرات أحضر له‬ ‫كراسات موا د الهندسة العملية‪ ،‬وفيها تقديرات ممتازة من أساتذتي‪.‬‬ ‫ ‪ ..‬ولو! إنت برضه مهمل! أنا كنت أ درس ‪ 12‬ساعة في اليو م‪.‬‬‫ طب أنا‪ ،‬يا خالي‪ ،‬مش محتاج لكثر من ساعتين ثلثه في اليو م‪.‬‬‫فيعتبر ر دي إهانة له‪.‬‬ ‫ ‪ ..‬يعني إنت اللي‪ ،‬ماشاء ا عليك‪ ،‬عبقري زمانك!‬‫طيب كيف ضاعت عليك سنة "التوجيهي"؟‬ ‫وميسقط في يدي‪ .‬وتستمر المعايرة‪.‬‬ ‫ويستمر حجز الحوالة المالية الشهرية‪ ،‬وصرف مجر د أجزاء منها بعد‬ ‫تقديم قائمة بتفاصيل المصروفات في كل مرة‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫ول سبيل لثبات أن أوقاتي ل تضيع هباء‪ .‬فلقد تعو دت‪ ،‬بتشجيع من‬ ‫أخي‪ ،‬على أن القراءة والطلع والثقافة العامة ل تقل أهمية عن‬ ‫مطالعة وحفظ الدروس المقررة‪.‬‬ ‫لكن الخال يرى غير ذلك‪ .‬وبدون نقا ش‪:‬‬ ‫ الول دروسك المقررة وشها دتك‪ ..‬وبعدين الثقافة العامة‪.‬‬‫وليش ما وريتنا شطارتك في سنة "التوجيهية" ؟‬ ‫وال ناوي برضه تاخد سنوات الجامعة كل سنة بسنتين؟!‬ ‫كان الخال ل يتورع أن ينطوي حديثه‪ ،‬الذي ل يمل من تكرار‪،‬ه‪ ،‬على‬ ‫ما يشبه التها م بالطيش والهمال‪.‬‬ ‫كان يرى‪ ،‬ولعله محق في ذلك‪ ،‬أن القاهرة وجامعتها العريقة هي‬ ‫الفضل لدراستي‪ ،‬خصوصا وأن "مجموعي" في امتحان التوجيهية‬ ‫)الثانوية العامة( قد أوهلني للقبول لدراسة الهندسة المعمارية فيها‪.‬‬ ‫لم يغفر لي أنني "ل أ درك قيمة نصائحه وحكمتها"‪ ،‬وأنني خالفته‬ ‫و"كسرت كلمه"‪.‬‬ ‫هذا كله‪ ،‬بالرغم من ما كانت للخال من صفات حميدة ما زلت أعجب‬ ‫بها منذ الصغر‪ .‬فقد كان واسع الطلع‪ ،‬مرحا خفيف الظل‪ ،‬محبا‬ ‫للموسيقى والطرب‪ ،‬أبا مثاليا وصديقا لول د‪،‬ه وزوجته‪ .‬بحيث كنت‬ ‫أتمنى أن تكون لي في المستقبل مثل هذ‪،‬ه المزايا‪.‬‬ ‫بيت‪ ،‬وزوجة محبة‪ ،‬وأول د سعداء‪ ،‬ينعمون برغد العيش‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫يعو د الخال من أسفار‪،‬ه‪ ،‬التي يتطلبها عمله إلى أوروبا‪ ،‬مثل‪ ،‬محمل‬ ‫بهدايا وألعاب وكتب واسطوانات موسيقية ليباهي ويشارك الخرين‬ ‫بمعرفته وثقافته‪ ،‬ويضفي السعا دة والمتعة على ذويه ومجالسيه‪.‬‬ ‫ويتزايد إعجابي بخالي‪ ،‬ثم ل ألبث أن مأصد م‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫وفي أحد المرات عا د الخال‪ ،‬من ضمن ما عا د به‪ ،‬بلعبة سحرية عبارة‬ ‫عن "كوتشيته" مصممة بشكل يتيح له التعرف على الكارت الذي‬ ‫يختار‪،‬ه أي شخص من بين الكروت الخرى بعد أن يعيد‪،‬ه إلى مكانه‬ ‫بدون أن يترك الفرصة لحد غير‪،‬ه أن يرى تفاصيله‪ .‬ولقد ظلت هذ‪،‬ه‬ ‫اللعبة السحرية هي متعة السهرة في تلك الليلة المشهو دة‪ .‬الكل يحاول‬ ‫ويعاو د المحاولة‪ ،‬عبثا‪ ،‬لكي يعرف السر الذي يتيح للخال معرفة‬ ‫الكارت الذي تم اختيار‪،‬ه ثم أعيد إلى مكانه بين بقية الكروت بدون أن‬ ‫يرا‪،‬ه أحد سوى اللعب‪.‬‬ ‫كان من السهل أن أكتشف الحيلة‪ ،‬لسبب بسيط وهو أن تصميم أبعا د‬ ‫ورقة الكوتشينة المستطيلة الشكل كان يعتمد على خدعة ذات خواص‬ ‫هندسية دقيقة‪.‬‬ ‫وهيهات أن يصدق الخال أنني اهتديت إلى الحل بنفسي‪ .‬ويصر على‬ ‫أن أحدا ما قد كشف لي وعورفني على السر مسبقا‪ .‬كأنه يستكثر علوي‬ ‫قدرتي على التفكير‪ ،‬أو كأنه يستهين بذكائي‪ .‬فيتهمني بما يشبه الكذب‬ ‫وال دعاء‪.‬‬ ‫ومن النوا در التي ظلت عالقة في ذاكرتى أنه‪ ،‬بعد عو دة الخال من‬ ‫إحدى أسفار‪،‬ه )هذ‪،‬ه المرة إلى إسبانيا( أخذ يحكي أما م أفرا د العائلة عن‬ ‫مشاهداته ومسموعاته‪ ،‬ومنها أن الموسيقار السباني الذائع الصيت‬ ‫" دي فايا" كان ذا أصل عربي‪ ،‬واسمه الصلي "ضيف ا"!‬ ‫وعبثا حاولت أن أقنع الخال أن هناك لبسا سببه طريقة الكتابة السبانية‬ ‫للسم ‪ ، de Falla‬حيث أن الل م المز دوجة في هذ‪،‬ه الحالة تنقلب إلى‬ ‫ياء‪ ،‬فيصبح السم هو " دي فايا" وليس " دي فالل"‪..‬أو "ضيف ا"‬ ‫كما يتراءى للبعض‪ ،‬تماما كما هو الحال مع إسم المدينة السبانية‬ ‫الشهيرة ‪ Marbella‬الذي ينطقها أهلها "ماربضويا"‪ ..‬وليس "ماربيلل"‪.‬‬ ‫ إنت إ ش عرفك؟‬‫ معلومات عامة‪.‬‬‫‪ -‬طب بل ش فلسفه‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫وهيهات أن تتاح لي فرصة أشرح فيها لخالي كيف أحببت في صباي‬ ‫المبكر‪ ،‬في "القدس"‪ ،‬جارتي ذات الصول السبانية فأحببت بالتالي‬ ‫أغانيها ولغتها‪ ،‬لدرجة أن أخي "عابد"‪ ،‬الذي كان يلحظ عن بعد تلك‬ ‫العلقة النامية ويشجعها‪ ،‬قا م بإهدائي كتاب "علم نفسك اللغة‬ ‫السبانية"‪ .‬وكيف دأبت جارتي الصبية‪" ،‬هنيه"‪ ،‬على الشراف على‬ ‫إتقاني للفظ كلمات تلك اللغة‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ثم يعو د الخال لتهامي بالهمال‪ ،‬وبأنني ل أقودر غربة أخي ومشقة‬ ‫حصوله على النقو د التي يرسلها لي‪.‬‬ ‫وتنقلب حياتي إلى جحيم‪.‬‬ ‫وبالرغم من محاولتي الخذ بتوصيات أخي "عابد" لي بأن أحافظ‬ ‫على "شعرة معاوية" التي تربطني بالخال‪ ،‬إل أنني لم أستطع‬ ‫الستمرار في هذا الحال‪.‬‬ ‫وهكذا قررت‪ ،‬بعد طول معاناة وتفكير‪ ،‬وبعد أن أيقنت من استحالة‬ ‫الجمع بين إرضاء خالي‪ ،‬وإرضاء قناعاتي والمحافظة على كرامتي‬ ‫واستقللي وحريتي‪ ،‬التوقف عن الزيارة السبوعية لتناول طعا م الغذاء‬ ‫في بيت خالي‪ .‬فأنا محاصر بتعليماته المتشد دة‪ .‬ل أستطيع‪ ،‬بالرغم من‬ ‫محاولتي‪ ،‬أن أكون كما يريدني الخال أن أكون‪.‬‬ ‫وتعاو د إمرأة خالي الطيبة‪ ،‬التي كانت تبا دلني المو دة‪ ،‬محاولتها‬ ‫لصلح ذات البين‪ ،‬وتعو د الميا‪،‬ه إلى مجاريها‪ ،‬ثم ل تلبث أن تتعكر‬ ‫الميا‪،‬ه‪ ،‬إذ يعو د الخال إلى تدخلته ونصائحه وفرض وصايته‪،‬‬ ‫وتعليماته‪ ،‬واتهاماته بإهمالي وتقصيري‪ .‬وعبثا أحاول أن أثبت‪،‬‬ ‫بتأشيرات أساتذة الكلية على كراسات الموا د العملية‪ ،‬إعترافهم بتقدمي‬ ‫الدراسي المتميز‪ .‬فلم تكن امتحانات الفصل الدراسي الول قد بدأت‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫هذا إلى جانب معاو دة تر ديد‪،‬ه دائما بأني ل أقدور تضحيات أخي الذي‬ ‫يكدح ويشقى في "السعو دية"‪ ،‬وأني أرهقه بمصاريفي الزائدة عن‬ ‫اللز م‪ .‬سينمات‪ ..‬ومجلت‪ ..‬ونا دي‪ ..‬و"شياكة" و "صرمحه")!(‬ ‫‪29‬‬


‫و إتهامي بأنه بسلوكي هذا إنما أحر م أخي الكبر من مجر د التفكير في‬ ‫مستقبله وحقه في أن يصبح له زوجة وأسرة‪.‬‬ ‫وأنا أحاول عبثا كسب ثقته التي حرمني منها لسباب تـنم عنها‬ ‫شخصيته الصارمة‪ .‬شخصية "المدير"* الذي‪ ،‬كما وصفه بعضهم‪ ،‬قد‬ ‫تضخمت ذاته‪ ،‬مما زا د من عشقه لها‪ ،‬لدرجة حالت دونه والقدرة على‬ ‫العتراف بحق الخرين في اختياراتهم‪ ،‬وفي معتقداتهم وقناعاتهم‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬أخيرا‪ ،‬ينفذ صبري ويبلغ ضيقي بتلك الوضاع لدرجة تجعلني‬ ‫أقرر ترك الدراسة والعو دة إلى "غزة"‪ ،‬حيث بدأت العمل مدرسا في‬ ‫مخيمات اللجئين‪ ،‬مما أثار غضب أخي "عابد"‪ ،‬الذي لم ير بدا من‬ ‫الستجابة لرغبتي في النتقال إلى "جدة"‪ ،‬لكي أعمل هناك‪ ،‬وأ دخر ما‬ ‫يموكنني من أن أستقل ما ديا‪ ،‬ومن ثم أقرر السفر إلى البلد الذي أختار‪،‬ه‪،‬‬ ‫والذي أستطيع فيه أن أمارس العمل والدراسة‪ ،‬معتمدا على نفسي‪.‬‬ ‫أسوة بأحد زملئي الذي أتاحت له أسرته فرصة الدراسة في أميريكا‪.‬‬ ‫ولول أن عا دت لخي "عابد" ذكريات معاناته‪ ،‬هو أيضا‪ ،‬وكما أسور‬ ‫لي لحقا‪ ،‬من استبدا د "المدير" في السنوات الخوالي‪ ،‬حينما كان ل بد‬ ‫من اللجوء إليه بعد الهجرة من "القدس" ليجد له عمل في أي مكان‪،‬‬ ‫لما أ درك معاناتي‪ ،‬ولما غفر لأخيه الصغر أنه خرج عن طوعه هو‬ ‫الخر‪.‬‬ ‫وسرعان ما وصلتني تذكرة الطائرة وعقد العمل في السعو دية‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫___________________________________________‬ ‫)**(‬

‫بدأ حياته العملية بعد أن تخرج في الجامعة الميريكية ببيروت مديرا لمدارس مختلفة‬ ‫في أنحاء فلسطين ) عكا‪ ..‬وصفد‪ ..‬والخليل‪ (..‬ختمها مديرا لمدرسة العامرية الثانوية‬ ‫في يافا‪ ،‬ومن ثم )عام ‪ ( 1946‬مديرا لفرع البنك العربي ‪ ،‬المؤسسة الفلسطينية ‪ ،‬في‬ ‫السكندر‬

‫‪30‬‬


‫جـــــــــزد ه ‪..‬‬ ‫وتبدأ ملمح المرحلة الجديدة من حياتي في أولى ساعات السفر‪ .‬ففي‬ ‫الطائرة المتجهة إلى "جود‪،‬ه"‪ ،‬تبا دلت الحديث مع جليسي في المقعد‬ ‫المجاور‪ ،‬المسافر أيضا إلى "جدة"‪ ،‬لعرف أنه لم يكن سوى الفنان‬ ‫التشكيلي المصري المعروف‪" ،‬هبه عنايت"‪ ،‬المتعاقد مع دار حديثة‬ ‫للصحافة والنشر هناك‪.‬‬ ‫وفي مطار "جدة"‪ ،‬أفاجأ بـ"كاظم"‪ ،‬صديق شقيقي "عابد"‪ ،‬ورفيق‬ ‫طفولته وشبابه في القدس‪ ،‬بانتظاري‪ ..‬وانتظار الصديق الفنان "هبه"‬ ‫الذي جاء ليحل مكان صديق ثالث لهما كانت قد انتهت مدة خدمته في‬ ‫المؤسسة الصحفية المشار إليها‪ ،‬وهو الفنان "صلح جاهين"‪ ،‬الذي‬ ‫كان قد غا در "جدة" لتو‪،‬ه‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫لم يساورني الند م لحظة واحدة لتخاذي تلك الخطوة‪ ،‬حيث عدت إلى‬ ‫حظيرة أخي "عابد"‪ ،‬معلمي وأستاذي‪ ،‬بعد حرماني من رعايتة‬ ‫لسنوات خمس‪ ،‬هي مدة الدراسة الثانوية في "غزة"‪ ،‬بعد الهجرة من‬ ‫"القدس"‪ ،‬إثر فقدان الوالد لوظيفته‪ ،‬واضطرار ال خ الكبر للعمل‬ ‫لكسب العيش في "السكندرية" ومن بعدها "جدة"‪ ،‬بعد حرمانه من‬ ‫إتما م تعليمه الجامعي‪.‬‬ ‫فلقد أتيح لي بوجو دي إلى جانب أخي ومجموعة الصدقاء المتجانسة‬ ‫والمتكاملة ثقافيا‪ ،‬المر الكثر أهمية‪ ،‬إمكانية التسلح بخبرات ومعارف‬ ‫لكثير من المور الحياتية والعلقات النسانية التي كنت أفتقر إلي مثلها‬ ‫أثناء غيابه‪.‬‬ ‫*‬ ‫‪31‬‬

‫*‬

‫*‬


‫في البداية لم يكن عملي‪ ،‬في مجموعة شركات "العويني وشركا‪،‬ه"‪،‬‬ ‫التي تتميز من بينها شركة سيارات " دو دج" الميريكية التي تنتج‬ ‫سيارات " دو دج" و " ديسوتو" و "كرايسلر"‪ ..‬إلخ‪ ،‬سوى كاتب على‬ ‫اللة الكاتبة‪ ،‬التي أوصاني أخي بأن أتزو د بخبرتها قبل السفر‪.‬‬ ‫كان من الطبيعي أن أحاول أن أزيد من مهارتي بمزيد من التدريب‬ ‫على سرعة الكتابة‪ .‬بحيث وجدت نفسي‪ ،‬بالتدريج‪ ،‬أمل أوقات فراغي‬ ‫أثناء ساعات العمل‪ ،‬بكتابة ما يعن لي من الخواطر‪ .‬واستهوتني فكرة‬ ‫كتابة رسائلي على اللة الكاتبة مما ل يدع مجال للخرين للشك بأني‬ ‫أقو م بإهدار الوقت بأعمال خاصة‪ ،‬بل إنني أقو م بالتدريب على سرعة‬ ‫الكتابة على اللة‪.‬‬ ‫ولقد حظي صديقي "إبراهيم"‪ ،‬الذي واظبت على مراسلته برسائل مني‬ ‫أصف فيها جانبا من حياتي في تجربتي الفريدة‪ .‬فلم تخل الشهور‬ ‫الثلثين التي قضيتها في "جدة" من طرائف وتجارب حياتية و دروس‪.‬‬ ‫ولقد تعو دت‪ ،‬أنا وصديقي‪ ،‬أن تأخذ رسائلنا المتبا دلة شكل أقرب إلى‬ ‫المذكرات التي تحتوي على مختلف الحكايات والخواطر‪ .‬كما تعو دت‬ ‫في كثير من الحيان أن أحتفظ بنسخة "كربون" من هذ‪،‬ه الرسالة أو‬ ‫تلك‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫لم يكن هناك‪ ،‬في "جدة"‪ ،‬حياة اجتماعية منفتحة‪ ،‬كما في "القاهرة" أو‬ ‫في "السكندرية" مثل‪ .‬بمعنى وجو د أماكن للتسلية والسهر في نهاية‬ ‫السبوع‪ .‬فلم تكن هناك نوا د‪ ،‬أو دور مسرح أو سينما‪.‬‬ ‫وكانت سهرة نهاية السبوع تقتضي التفاق مسبقا مع ما تيسر من‬ ‫القارب أو الصدقاء لقضاء السهرة في منزل أحدهم‪.‬‬ ‫وما زلت أتذكر الليالي التي كان الفنان "هبه عنايت" يضفي عليها من‬ ‫روحه المرحة‪ ،‬وموهبته في الغناء وتقليد نجو م الكوميديا ونجو م‬ ‫الطرب‪ ،‬والسياسة‪ .‬ز د على ذلك مقدرته العجيبة في تقليد نباح الكلب‬

‫‪32‬‬


‫المختلفة أنواعها‪ .‬فهو يميز بين كلب الفلحين‪ ،‬وكلب الحضر‪،‬‬ ‫وكلب الفقراء‪ ،‬وكلب الغنياء)!(‬ ‫أما "النا دي"‪ ،‬الذي كان الفضل في تأسيسه‪ ،‬واتخاذ مقر له قرب أحد‬ ‫الماكن التي اشتهرت باسم "كيلو عشرة" لوقوعها على بعد عشرة‬ ‫كيلومترات بعيدا عن البلدة‪ ،‬يرجع إلى طيب الذكر‪ ،‬الصديق الفنان‬ ‫"صلح جاهين"‪ ،‬الذي قا م بتأليف النشيد الخاص بالنا دي‪ ،‬والذي قا م‬ ‫بتوليف لحنه أخي"عابد"‪:‬‬ ‫حويوا النا دي‪ ..‬حويوا النا دي‪..‬‬ ‫أجدع نا دي في الحته دي‪..‬‬ ‫الدنيا بور‪،‬ه نا دينا‪..‬‬ ‫هوي ف وا دي‪ ..‬واحنا ف وا دي!‬ ‫‪... ... ... ...‬‬ ‫إلى آخر‪،‬ه من كلمات مرحة ساخرة يؤ دونها بمنتهى الجدية في كل مرة‬ ‫يجتمع شمل العضاء في مقر "النا دي"‪ ،‬الذي يتألف من بضعة‬ ‫صخور في منطقة صحراوية بعيدة عن النظار‪.‬‬ ‫ولقد حرص الفنان "هبه عنايت" على بعث الحياة في النا دي‬ ‫واستمرار نشاطه بعد غياب زميله الفنان "صلح جاهين"‪ .‬وعلى فتح‬ ‫المجال لنتسابي‪ ،‬وانتساب مزيد ممن هم من جيلي من أشقاء وأقارب‬ ‫الشله‪.‬‬ ‫أحدهم كان "جميل" الشاعر الرقيق‪ ،‬الشقيق الصغر لحد أفرا د الشلة‪،‬‬ ‫ويليه ابن عمه "سعيد" الذي كان يتميز بحجمه الضئيل‪ ،‬الذي ل يوحي‬ ‫بأن صاحبه يمتلك الخبرة العميقة في رياضة كمال الجسا م‪ .‬والذي‬ ‫أصر على تكوين فريق لممارسة هذ‪،‬ه الرياضة‪ .‬و"كمال" إبن خالتي‪،‬‬ ‫الكهربائي‪ ،‬صاحب الحكايات‪ ،‬الفريدة من نوعها‪ ،‬عن مشاهداته بينما‬ ‫هو يعتلي أعمدة الكهرباء‪ ،‬أثناء عمله الصلحي‪ ،‬ويطل على ما يقع‬ ‫وراء الجدران في حدائق القصور‪.‬‬ ‫وينضم إلينا أخيرا صديقي"حسين"‪ ،‬الذي توفي والد‪،‬ه فجأة‪ ،‬تاركا له‬ ‫رهطا من الخوة والخوات الصغر سنا في "غزة"‪ ،‬مما اضطر‪،‬ه إلى‬ ‫‪33‬‬


‫من تصوير وتوليف صديقي حسين في جد‪،‬ه عا م ‪1954‬‬

‫‪34‬‬


‫ترك الدراسة في كلية الهندسة في القاهرة‪ ،‬ومما جعلني أعمل على‬ ‫استقدامه إلى "جد‪،‬ه" ليتمكن‪ ،‬بفضل وساطة خالي الكبر"توفيق"‪ ،‬من‬ ‫العمل في البنك العربي‪.‬‬ ‫خالي "توفيق" هذا كان قد أتقن مهنة مكانيكا السيارات‪ ،‬بحيث انفر د‬ ‫بهذ‪،‬ه المهنة‪ ،‬مما جعلته يصبح من أغنى أغنياء مدينة "غز‪،‬ه"‪ ،‬ومما‬ ‫مكنه‪ ،‬في شبابه‪ ،‬من أن يجوب الفاق بسيارته‪.‬‬ ‫وكانت آخر جولته في "إيران"‪ ،‬حيث تزوج فتاة جميلة اسمها "فروغ‬ ‫الزمان"‪ ،‬وعا د بها إلى بلد‪،‬ه‪ ،‬وأنجب منها أربعة أول د وثمانية بنات‪ .‬ثم‬ ‫انتقل من "غزة" إلى "جد‪،‬ه" في بداية الخمسينيات‪ ،‬واكتسب الجنسية‬ ‫السعو دية‪ .‬ولول أن وافته المنية لستمر في تحقيق أمنيته في إنجاب‬ ‫"الدستة الثانية"‪ ،‬كما كان يعلن‪.‬‬ ‫من الذكريات التي ظلت عالقة في ذهني‪ ،‬تـلك المسيات التي كان‬ ‫خالي هذا يحييها بغنائه الممتع‪ .‬فقد كان يحفظ الكثير من أغاني الشيخ‬ ‫"سيد درويش" وغير‪،‬ه من شيو خ الغناء‪.‬‬ ‫أما عن الرياضة والستجما م والتمتع بالهواء والبحر فهو مما يقتضي‬ ‫ترتيبات مسبقة أخرى تتيح قضاء نهار الجمعة على شاطئ البحر بعيدا‬ ‫عن أعين أولي "المر بالمعروف والنهي عن المنكر"‪ ،‬لكي أتمكن‪ ،‬مع‬ ‫رفاقي الجد د‪ ،‬من ممارسة الرياضة التي كان يشرف عليها صديقنا‬ ‫سعيد "أبو حديد"‪ ،‬بإتقان شديد‪ .‬وكذلك السباحة‪ ،‬رياضتي المفضلة‬ ‫التي تفوقت فيها على الخرين‪.‬‬ ‫هناك على بعد بضع عشرة كيلومترات من شمالي مدينة جدة شاطيء‬ ‫اشتهر باسم "مأبمحر"‪ .‬والمكان عبارة عن خليج طبيعي عرضه بضعة‬ ‫عشرات من المتار‪ ،‬و يمتد لبضع عشرات أخرى من المتار في‬ ‫عمق الصحراء‪ ،‬يتميز بالهدوء‪ ،‬والميا‪،‬ه الساكنة التي تخلو من المواج‪،‬‬ ‫حيث اعتا د قاصدوا الستجما م أو الستحما م في البحر والتمتع بالهواء‬ ‫الطلق‪ ،‬وصيد السماك‪ ،‬أن يرتا دو‪،‬ه‪ .‬وحيث تعو د "الجانب" من سكان‬ ‫المدينة اللجوء إليه ابتعا دا عن عيون المتطفلين‪ ،‬فكان أن دأبوا على‬ ‫اتخاذ أحد جانبي الخليج "بلجا" خاصا لهم‪ .‬كما تعو د بعضهم ركوب‬ ‫‪35‬‬


‫قوارب يمارسون منها هواية الصيد في البحر الحمر الشهير بتنوع‬ ‫أسماكه‪.‬‬ ‫أما الجانب الخر من الخليج فكان ملذا لشريحة أخرى من الجانب‬ ‫من الدول العربية‪ .‬ومعظمهم من الشباب العزاب الذين كانت تستهويهم‬ ‫مراقبة أجسا د الجنبيات‪ ،‬عن بعد‪ ،‬وهو يرتعن على شاطئهن‬ ‫بالمايوهات ‪.‬‬ ‫وفي أحد اليا م‪ ،‬يتفق بعض هؤلء الشباب على غزو الجانب الخر من‬ ‫الخليج‪ ..‬سباحة!‬ ‫ويبدأ السباق بعد د ل بأس به من المشتركين ثم ل يلبث عد دهم أن يأخذ‬ ‫بالتناقص تدريجيا كلما أوغلت المجموعة في عرض الخليج‪ .‬فإذا ما‬ ‫بلغت‪ ،‬أنا الذي كنت أعتبر أمهرهم وأكثرهم قدرة على السباحة‪،‬‬ ‫منتصف المسافة إلى الشاطئ الخر فوجئت بأنني الوحيد الباقي في‬ ‫حلبة السباق‪ .‬ويأبى علي كبريائي إل مواصلة السباحة‪ ,‬ل سيما وقد‬ ‫بدأت ألحظ عن بعد‪ ،‬كما تراءى لي‪ ،‬بعض المصطافين الجانب وهم‬ ‫يلوحون بأيديهم لي مهللين مشجعين‪ ،‬الشيء الذي لم أستطع تفسير‪،‬ه‬ ‫إلعندما وصلت الشاطيء الخر‪ ،‬وعرفت أني قد نجوت من موت‬ ‫أكيد‪.‬‬ ‫لقد كانت سمكة قر ش تائهة قد نجت لتوها بأعجوبة من أحد هواة‬ ‫الصيد‪ .‬وكانت تظهر لهم وهي تبدو كما لو كانت تطار دني أنا الغافل‬ ‫عما يدور حولي‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫وتشاء الصدف‪ ،‬وربما وساطة ذوي النفوذ من القارب والصدقاء‪ ،‬أو‬ ‫ما كنت أتميز به من دقة في أ داء عملي‪ ،‬أوإتقاني النسبي للغة‬ ‫النجليزية‪ ،‬أن يقع علي الختيار لشغل منصب مساعد‪ ،‬ثم نائب لمدير‬ ‫قسم السيارات ومستو دعاتها وورشها‪ .‬فتز دا د تجربتي غنى‪ ،‬وأز دا د‬ ‫معرفة بالناس وفهما لما يسمى بالعلقات العامة‪ .‬فلقد كان مديرالقسم‪،‬‬ ‫السيد "بشير" رجل متعاونا كريم الخلق‪ ،‬طيب المعشر‪ .‬لم يبخل أبدا‬ ‫على مساعد‪،‬ه ونائبه بأسرار العمل وتفاصيله‪.‬‬ ‫‪36‬‬


‫وأعو د أنا إلى ملء أوقات فراغي بعا دة القراءة وكتابة الرسائل‪،‬‬ ‫وممارسة الرياضة‪ ،‬بالضافة إلى مشاهدة أفل م السينما في العروض‬ ‫المنزلية التي أتاحها لنا عملي في وكالة أشهر أنواع السيارات‬ ‫الميريكية والمتخصصة باستيرا د سيارات القصور الملكية‪ ،‬والحرس‬ ‫الوطني السعو دي‪ ،‬حيث يبا در مندوب هذا القصر أو ذاك‪ ،‬لقاء مجاملة‬ ‫أمتلك أن أسديها إليه‪ ،‬بحكم موقعي كنائب للمدير‪ ،‬بإعارتي ما توفر من‬ ‫الفل م السينمائية )مقاس ‪ 16‬مم( التي كانت تر د بشكل خاص‪ ،‬و خفوي‪،‬‬ ‫للقصور الملكية‪.‬‬ ‫ثم تشاء الصدف‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬أن يغيب السيد "بشير" مدير قسم‬ ‫السيارات في إجازة طويلة أعقبها تقديم استقالته‪ ،‬لصبح أنا القائم‬ ‫بأعمال المدير إلى أجل غير مسمى‪ ،‬حيث كانت الشهور التي قضيتها‬ ‫مساعدا للمدير كافية للتقاط أسرار العمل‪ ،‬وأسلوب إ دارته منه‪،‬‬ ‫ولتمتع بلقب الـ"عم" أو "عممنا"‪ ،‬وهو هنا ما يقو م مقا م "سيد" أو‬ ‫"سيدنا"‪ ،‬من قبل عشرات العاملين تحت إمرتي‪ .‬وبالتالي يز دا د نفوذي‬ ‫لدى مندوبي هذا القصر الملكي أو ذلك‪ .‬وتز دا د "عروض" الفل م‬ ‫السينمائية لصبح بين القرباء والصدقاء مصدر تلك "المتعة‬ ‫المحرمة"‪.‬‬ ‫لم تكن مشاهدة الفل م السينمائية متاحة إل في أضيق الحدو د‪ ،‬خفية‪،‬‬ ‫في المنازل‪ ،‬حيث تعو دوا أن يتكفل أحدهم بتدبير جهاز العرض‪،‬‬ ‫ويتعهد آخرون بدعوة ما تيسر من الصدقاء والقرباء بما في ذلك‬ ‫التحضير لقضاء سهرة سينمائية مع أحدث الفل م‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫"عم أسعد"‪ ،‬الرجل العجوز الذي يرأس عمال قسم ور ش تركيب‬ ‫السيارات الجديدة وصيانتها منذ تأسيس الشركة في زمن بعيد‪ ،‬والذي‬ ‫يتمتع بحب جميع رؤساء‪،‬ه ومرؤسيه‪ ،‬يطرق باب غرفة ال دارة ومعه‬ ‫حارس باب الورشة الجديد‪ ،‬وهو رجل حضرمي‪ ،‬من "حضرموت"‪،‬‬ ‫شأن الكثير من العمال‪ ،‬ليعورفه على "عممنا" المدير‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫الكل بانتظاري حامل أحدث الفل م‬

‫‪38‬‬


‫لكن "عممنا" المدير الجديد يستبقي الحارس خارج الغرفة حتى ينتهي‬ ‫من الترحيب بمندوب أحد القصور الملكية الذي بور بوعد‪،‬ه وأحضر معه‬ ‫آخر ما أنتجته السينما المصرية حتى ذلك التاريخ‪ ،‬عا م ‪ ،1955‬ذلك‬ ‫هو الفيلم الشهير‪"..‬أيامنا الحلوة"‪.‬‬ ‫وبعد خروج المندوب‪ ،‬وإيداع علب الفيلم المذكور في أحد ال دراج‬ ‫المينة‪ ،‬بعيدا عن أعين الخرين‪ ،‬جرت مراسيم تثبيت الحارس‬ ‫الجديد‪ ،‬ومن ثم إعطائه التعليمات اللزمة بخصوص عمله‪ .‬ومنها‪،‬‬ ‫وأهمها‪ ،‬عد م فتح الباب والسماح بالدخول لكائن من كان بعد انتهاء‬ ‫ساعات العمل‪.‬‬ ‫وعندما رأيت أمارات عد م استيعاب الحارس الجديد للمحظورات‪،‬‬ ‫أر دت أن أؤكد له ذلك بقولي‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬يعني ل تفتح الباب أبدا‪ ،‬بعد الدوا م‪ ،‬لي إنسان حتى لو كان مين‬‫من كان‪ ..‬فاهم؟‬ ‫هز الرجل رأسه مؤكدا أنه استوعب كل التعليمات‪ ،‬ول حاجة للتأكيد‬ ‫على أهميتها‪.‬‬ ‫وحرصا مني على وصول المعلومة رأيت أن أؤكد تعليماتي وأنهي‬ ‫المقابلة بقولي‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬حتى لو أنا جيت بعد الدوا م‪ ..‬ل تفتح لي الباب‪ ..‬فهمت؟‬‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وتجري الستعدا دات‪ ،‬في ذلك اليو م‪ ،‬لتلك السهرة السينمائية‬ ‫الستثنائية على قد م وساق‪ .‬ويتوافد المدعوون المتلهفون لمشاهدة‬ ‫أحدث الفل م المصرية في ذلك الوقت‪ ،‬فيلم "أيامنا الحلوة"‪ ،‬بطولة‬ ‫"فاتن حمامه" و"عمرالشريف" و"أحمد رمزي" و"عبد الحليم حافظ"‪،‬‬ ‫وهم يمطرونني بعبارات المديح والتقدير على إنجازي المتميز‪.‬‬ ‫و لم يبق سوى أن أستقل سيارتي‪ ،‬في اللحظات الخيرة‪ ،‬لحضار‬ ‫الفيلم من مكتبي في قسم السيارات القريب من مكان التجمع‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫ دقائق معدو دة‪ ،‬وينطلق صوت منبه سيارتي لكي يستدعي الحارس‬ ‫الذي أطل بسرعة من فتحة صغيرة في بوابة الورشة‪.‬‬ ‫ ‪ ..‬إفتح يا سالم!‬‫ ما أقدر‪.‬‬‫ قلت لك إفتح! إنت مش شايفني؟‬‫ شايفك يا عومنا‪ .‬بس إنت اللي قلت لي ما أفتح لحد بعد ساعات‬‫الدوا م‪.‬‬ ‫ طيب‪ ،‬ما أنا اللي بقول لك إفتح الن‪.‬‬‫فيكرر الحارس إجابته بخبث واعتدا د شديدين‪.‬‬ ‫ ما أقدر‪.‬‬‫ويطول النقا ش‪ ،‬وتتكرر‪ ،‬بشتى الساليب‪ ،‬محاولة إقناع الحارس‬ ‫الجديد بضرورة الدخول لحضار غرض من المكتب‪.‬‬ ‫لكن الحارس‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬كان يظن أن ذلك ما هو إل محاولة من‬ ‫"عومنا" لمتحان قدرته على المحافظة على تنفيذ الوامر والتعليمات‪.‬‬ ‫فيصر على عد م السماح للمدير بالدخول بالرغم من شتى التهديدات‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وإذا حبيت يا عومنا‪ ،‬لما تيجي باكر‪ ،‬تعطيني التعليمات الجديدة‪،‬‬‫وأنا تحت أمرك‪.‬‬ ‫وهيهات أن أستطيع توضيح ما قد يترتب على عنا د الحارس من موقف‬ ‫محرج أما م حشد المدعوين المنتظرين بلهفة لمشاهدة فيلم "أيامنا‬ ‫الحلو‪،‬ه" ‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫كانت الفترة التي قضيتها في "جد‪،‬ه"‪ ,‬في كنف أخي والصحبة المنتقاة‬ ‫من أصدقاء‪،‬ه‪ ,‬فترة هامة من حياتي‪ .‬غنية بالتجارب الجديدة من نوعها‪.‬‬ ‫يرجع إليها الفضل بالنفتاح والوعي النسبي الذي اكتسبته اجتماعيا‪..‬‬ ‫وثقافيا‪ ..‬وسياسيا‪ .‬فكان من الطبيعي أن تتمخض تلك الفترة عن‬ ‫تساؤلت كثيرة متنوعة تتسلل إلى ذهني بين الحين والخر‪.‬‬ ‫ذلك مما جعلني أعمل التفكير في مستقبلي بشكل أكثر واقعية‪ .‬ومما‬ ‫جعلني أمعن النظر بما تفعله "أميريكا" في المنطقة‪ ،‬حيث انقشع آخر‬ ‫‪40‬‬


‫القنعة عن وجهها البشع‪ ،‬ومما جعلني بالتالي أتراجع عن فكرة السفر‬ ‫للدراسة فيها‪ ،‬والعو دة للدراسة في السكندرية‪ ،‬بتشجيع من أخي‪.‬‬ ‫خصوصا عندما تبلورت وتأكدت‪ ،‬و بدأت تأخذ مجرى التنفيذ‪ ،‬فكرة‬ ‫انتقال الوالدين من "غزة" واستقرارهم في "السكندرية"‪ ،‬مما يتيح لي‬ ‫استقرارا يساعد على خلق جو مثالي للدراسة‪ ،‬في كنف الوالدين‬ ‫والشقيقات‪.‬‬ ‫تأتي بعد ذلك تلك الفكرة التي كانت قد طرأت لي وظلت تتراوح‬ ‫أمامي‪ .‬وهي التخلي عن مدخراتي‪ ،‬طوال عملي الذي جاوز الثلثين‬ ‫شهرا‪ ،‬لخي‪ ،‬تشجيعا له على التفكير الجودي في أمر الزواج‪ .‬على أن‬ ‫أعو د لستئناف الدراسة في السكندرية‪ .‬ل سيما وقد تغيرت الكثير من‬ ‫الحوال التي استتبعت قرار قطع الدراسة فيها‪ ،‬ومن أهمها فكرة انتقال‬ ‫العائلة من "غزة" إليها‪ .‬أضف إلى ذلك انتقال الخال "أبو نبيل" للعمل‬ ‫في "السعو دية"‪.‬‬ ‫ثم تجري بعض التطورات التي كان نتيجتها التعجيل في إجراءات‬ ‫العو دة‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫كانت "الورشة" تضم عد دا من العمال ل يلبث أن يتزايد بانضما م عد د‬ ‫آخر من "عمال اليومية" إليهم‪ ،‬لسد الحاجة لمزيد من اليدي العاملة‬ ‫في مواسم وصول شحنات جديدة من السيارات‪ .‬وكنت أعطي الولوية‪،‬‬ ‫حرصا مني على مساعدتهم‪ ،‬لعمال فلسطينيين جاءوا بمعظمهم من‬ ‫"قطاع غزة" بالتأشيرة الوحيدة المتاحة لهم‪ ،‬وهي تأشيرة "الحج" أو‬ ‫"العمرة"‪ ،‬التي ل تبيح لحامليها القيا م بمزاولة أي عمل‪ .‬لكن ظروف‬ ‫هؤلء العمال‪ ،‬الذين يعانون من الفاقة والبطالة في "قطاع غزة"‪،‬‬ ‫والذين يتكبدون مشقة وتكاليف هذ‪،‬ه الرحلة على أمل الحصول على‬ ‫فرصة عمل يومية‪ ،‬طوال موسم الحج‪ ،‬تغطي تكاليف الرحلة‪ ،‬أو تزيد‬ ‫قليل‪ ،‬كانت تجعلني‪ ،‬تعاطفا معهم‪ ،‬أتغاضى عن تعليمات "مكتب‬ ‫العمل" السعو دي‪ ،‬الذي دأب على مراقبة أماكن العمل في كل مكان‬ ‫وتغريم المخالفين لقوانينهم ‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫ولقد كانت الحتياطات الدقيقة المحكمة تتخذ‪ ،‬بمساعدة بعض العاملين‬ ‫معي في الورشة‪ ،‬من أجل تجنب عواقب انكشاف هذ‪،‬ه المخالفات بحيث‬ ‫كانت عمليات المراقبة الفجائية التي يجريها "مكتب العمل" تفشل في‬ ‫إثبات وجو د عمال يومية مخالفين‪ .‬هذا مع يقين الضابط المندوب من‬ ‫المكتب المذكور من صحة معلوماته التي وصلته عن طريق بعض‬ ‫عملئه‪.‬‬ ‫وبعد أن تكررت "كبسة" مكتب العمل عدة مرات‪ ،‬وتكرر فشلها في‬ ‫مفاجأة عمال يومية متلبسين بالوجو د والعمل في الورشة‪ ،‬ثارت ثائرة‬ ‫الضابط المسئول وتوعدني قائل بعد أن أقسم بأغلظ اليمان‪،‬‬ ‫وبالطلق‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬يا أنا‪ ..‬يا إنت في هالبلد!‬‫وبعد أيا م معدو دة حدث ما جرى تدوين تفاصيله في المذكرات التي‬ ‫كنت أتبا دلها في رسائلي مع صديقي "إبراهيم شرف"‪ ،‬المقيم للدراسة‬ ‫في السكندرية‪ .‬وهأنا ألجأ إلى أزرار خولي الوفي‪ ،‬حهازالكومبيوتر‪،‬‬ ‫لكي يستحضر لي تفاصيل ما جاء في تلك الرسالة المحفوظة فيه‬ ‫حرفيا‪:‬‬ ‫جد‪،‬ه في ‪19 55 /20/8‬‬ ‫عزيزي إبراهيم‪..‬‬ ‫كانت رأسي تمتلئ بشتى الفكار والمواضيع التي تصلح للكتابة‪ ،‬وقد‬ ‫اختمرت تلك الفكار في رأسي منذ أسبوع‪ .‬ووطدت العز م على أن أبدأ‬ ‫بالكتابة في ذلك الحين‪ .‬وكانت العقبة الوحيدة هي أنني كنت مرتبطا في‬ ‫ذلك الصباح للذهاب إلى المطار لتو ديع شقيقتي وزوجها وأول دها‬ ‫المسافرين إلى "السكندرية" لقضاء الجازة الصيفية‪ ،‬ومعهم أخي‬ ‫عابد‪ ،‬للقيا م بأولى إجراءات الخطوبة‪ .‬فكان أن أجلت الكتابة لحين‬ ‫" "‬ ‫عو دتي من المطار‪.‬‬ ‫وعدت ورأسي يمتلئ بالذكريات‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫ذكريات من نوع جديد‪ ،‬طغت على الفكار والمواضيع التي كنت‬ ‫أنوي أن أسطرها في رسالتي إليك!‬ ‫ومنذ ذلك اليو م –الجمعة الموافق ‪ 2‬فبراير ‪ -1956‬وأنا شار د غارق‬ ‫في بحر تلك الذكريات‪ .‬أحاول في كل مرة أستعيدها بها أن أتذكر‬ ‫مزيدا من التفاصيل والدقائق‪ ،‬وأتعجب تارة‪ ،‬أو أتأسف أو أعبس‪ ،‬أو‬ ‫أنفجر ضاحكا تارة أخرى‪.‬‬ ‫ثم أكرر المحاولة للستزا دة من تفاصيل ما حدث لي‪ ،‬وإحصاء‬ ‫حركاتي وسكناتي‪ ،‬وعد د الكرابيج‪ ..‬والرفسات‪ ..‬واللكمات !!!‬ ‫قصة مشوقة‪ ،‬سوف أتذكرها دائما كلما تذكرت هذ‪،‬ه الفترة من حياتي‪.‬‬ ‫وهي تكملة لما ذكرته عن عمال اليومية أعل‪،‬ه‪ ،‬قصة سأترك اختيار‬ ‫عنوانها إليك‪ ،‬أو أتركها بل عنوان‪ ،‬فكلها عناوين!‬ ‫كل شيء كان يبدو عا ديا‪ .‬وعندما اقترب موعد رحيل الطائرة الـ‬ ‫المجعر أسماء الركاب المتخلفين طالبا منهم التوجه إلى‬ ‫"‬ ‫"فايكونت‪ ،‬نا دى"‬ ‫أماكنهم في الطائرة المغا درة"جدة" إلى مصر‪ .‬وتوجه الركاب بعد أن‬ ‫و دعناهم‪ ،‬وخرجوا من البوابة الحديدية التي تفصل قاعة النتظار‬ ‫والبراح الذي يتبعها عن أرض المطار الواسعة‪.‬‬ ‫والتعليمات تمنع أن يتخطى هذ‪،‬ه البوابة أحد غير الركاب المغا درين‪.‬‬ ‫وللمحافظة على هذا القانون يقف حول هذ‪،‬ه البوابة"بشكة" من الحرس‪.‬‬ ‫إلى هنا‪ ،‬كان كل شيء يبدو عا ديا‪.‬‬ ‫بعد أن صعد شقيقي و شقيقتي وزوجها وأول دها إلى الطائرة‪ ،‬خطر‬ ‫عوض‪ ،‬الصبي الحضرمي الخا د م الذي سيرافق‬ ‫"‬ ‫لي أن أتأكد من أن"‬ ‫عائلة شقيقتي‪ ،‬قد صعد إلى الطائرة أيضا‪ .‬فقد كنت أشك في ذلك لما‬ ‫كان يبدو عليه من التر د د والخوف من تجربة السفر بالطائرة‪.‬‬ ‫اعترض الحارس طريقي‪ ،‬فامتثلت لمر‪،‬ه‪ ،‬بالرغم من أنني أحمل‬ ‫تصريحا دائما لدخول المناطق الجمركية بحكم طبيعة عملي‪ .‬وبينما أنا‬ ‫احاول استخراج البطاقة من جيبي‪ ،‬تبرع أحد الواقفين من موظفي‬ ‫البنك العربي الذين كانوا في و داع مديرهم‪ ،‬زوج شقيقتي‪ ،‬بأن يذهب‬ ‫ليسأل عنه فاعترضه الحارس أيضا‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫قه‪ ،‬ومن الخر مثلها‪ .‬إلى‬ ‫من هذا كلمة‪ ،‬ومن الخر كلمة‪ .‬ومن هذا"ز و"‬ ‫أن أصبحا على وشك الشتباك باليدي‪ ،‬فما كان مني إل أن دخلت‬ ‫البوابة لكي أحاول الصلح بينهما والعتذار للحارس والحيلولة دون‬ ‫تطور المشا دة‪ .‬وفعل أمسكت بالشرطي‪ ،‬بعد أن أبعدت الشاب‪ ،‬وأنا‬ ‫أحاول أن أهديء أعصابه بالصلة على النبي‪ ..‬ولعنة الشيطان‪ .‬ولكن‬ ‫الشرطي قابل الحسان بالساءة‪ .‬فكان نصيبي منه شتيمة بشعة! ولم‬ ‫يكتف بذلك‪ ،‬بل قبض على قميصي )الجديد(‪ ،‬ربما ظنا منه أننا‬ ‫نراوغه لكي يتجه أحدنا إلى سلم الطائرة‪ .‬وأصبحت المسألة تبدو كما‬ ‫لو كانت مشا دة بيني وبين الشرطي‪ .‬تجمع على أثر ذلك بقية الرهط‬ ‫من العساكر المنوط إليهم بالحراسة‪.‬‬ ‫وتسلل إلى مسامعي صوت أحدهم وهو يقول لهم ‪:‬‬ ‫ ‪..‬إيو‪،‬ه‪ ..‬هوو‪،‬ه‪ ..‬هوو‪،‬ه‪ ..‬الفلسطيني ‪..‬ل تتركو‪،‬ه!‬‫أمسكوا بي‪ ،‬وكانوا ثلثة‪ .‬وعبثا حاولت أن أتخلص من قبضاتهم‪.‬‬ ‫التروفال‪ ،‬الذي كان‬ ‫"‬ ‫وكانت نتيجة محاولتي هذ‪،‬ه أن أصبح قميصي الـ"‬ ‫جديدا‪ ،‬في خبر كان!‬ ‫وكانت محاولتي هذ‪،‬ه تتطلب أن أ دفع هذا أوذاك عني وأزيحه من‬ ‫طريقي لكي أستطيع الخروج من هذ‪،‬ه الورطة‪ .‬فلقد أصبح سلوكي هذا‬ ‫في حكم تهمة العتداء على رجل الشرطة أثناء تأ دية أعمالهم‪.‬‬ ‫وبالرغم من محاولتي للهروب من هذا الموقف‪ ،‬إل أنه قد أفلتت من‬ ‫يدي حركة كنت أقصد بها أن أ دفع أحدهم عني‪ ،‬وكان مثل زملئه‬ ‫ضعيف البنية‪ ،‬فإذا به يسقط أرضا‪ ،‬مما جعل ثلثتهم ينقضون علي‬ ‫ويوسعوني ضربا بالكرابيج والعصي والبساطير‪ ..‬والقايش ذو البزيم‬ ‫النحاسي الثقيل!‬ ‫ووجدت نفسي فجأة في موقف الدفاع عن النفس‪ ،‬فلقد طالت المسألة‬ ‫ووصلت الحالة إلى درجة من التعقيد بحيث ل يجدي معها التعقل‪.‬‬ ‫كل هذا والبوابة الفاصلة بين أرض المطار وساحة النتظار مغلقة‪،‬‬ ‫مما أكد استحالة حتى الفرار‪ .‬أنا والعسكر خارج السياج‪ ،‬والمو دعين‬ ‫وفيهم عد د من القارب والصدقاء وموظفي البنك دونه‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫لم يكن هناك من مخرج من ذلك المأزق سوى أن أضرب وأوجع‬ ‫لفسح الطريق‪ .‬بحيث تجلت قدراتي البدنية نتيجة لممارساتي‬ ‫الرياضية‪ ،‬ناسيا في تلك اللحظة ما كان يقال عن حرمة البدلة‬ ‫العسكرية‪ .‬فقد كنت في حالة غريبة من غياب الوعي لم تشهدها‬ ‫حياتي من قبل‪.‬‬ ‫ولم يخلصني من مأزقي‪ ،‬كما خيل لي‪ ،‬سوى تلك الجلبة التي أحدثها‬ ‫المعركة فانفضوا من‬ ‫"‬ ‫المطار‪ ،‬إلى"أرض‬ ‫"‬ ‫وصول الضابط‪"،‬قايد‬ ‫حولي ‪ ،‬لعله إحساس منهم بأنهم المعتدين‪ .‬أحدهم كان يتفقد آثار‬ ‫الضربات الموجعة التي تلقاها مني بينما الدماء تسيل من بين أسنانه‪،‬‬ ‫وزميله الذي كنت أمسك بتلبيبه‪ ،‬متجها به عبر البوابة كأنما لقدمه‬ ‫للقائد المنقذ‪.‬‬ ‫وعندما سأل الضابط عن تفاصيل الخناقة أجابه العسكري الموجوع ‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬طال عمرك‪ ..‬جا هو يدخل فمنعته‪ ..‬قا م ضربني‪.‬‬‫فصرخت بملء فمي‪:‬‬ ‫ كذاب!‬‫وهنا ثارت ثائرة الضابط الغيور على شرف العسكرية‪ ،‬وانهالت منه‬ ‫علوي ألوان الشتائم‪ .‬كما انهالت علي توسلت القارب والصدقاء من‬ ‫حولي لكي ألتز م الصمت حتى ل تتطور الحكاية إلى ما هو أسوأ‪ .‬وقد‬ ‫كان لتوسلتهم أثرها فوي‪ ،‬ولولها لما تر د دت عن النقضاض على‬ ‫الضابط نفسه‪.‬‬ ‫إلى هنا‪ ،‬كنت متهما بتهم ثلث‪ ،‬أولها خرق القانون بمحاولة العبور‬ ‫من البوابه‪ ،‬وثانيهما العتداء بالضرب على العساكر أثناء تأ ديتهم‬ ‫لواجبهم بحراسة البوابه‪ ،‬والثالثة إتها م عسكري بريء بأنه‬ ‫كذاب‪..‬أما م الضابط!‬ ‫وتنفيذا لوامر الضابط‪ ،‬اتجه بي جنديان إلى غرفة التوقيف‪ ،‬الحبس‬ ‫القريب من مبنى إ دارة المطار‪ .‬ولما عرضت عليهما أن نركب‬ ‫سيارتي رفضا بشدة وأصرا إل أن نمشي المسافة على القدا م‪ .‬ومن‬ ‫محاسن الصدف أن الحبس كان ل يبعد سوى أمتار قليلة‪ .‬كما أن‬ ‫الطريق إليه لم تكن مأهولة‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫النقطة‪ ،‬وهناك تسلمني عريف الحبس‪ .‬وقوبلت بالترحاب من‬ ‫و دخلنا" "‬ ‫المحبوسين الربعة الذين كانت تكتظ بهم غرفة التوقيف المعتمة النتنة‪.‬‬ ‫أفندي‪ ..‬ببنطلون‪ ..‬يدخل الحبس!‬ ‫أفسحوا لي مكانا‪ ،‬وفرشوا لي أنظف طوراحة‪ ،‬وتطلعت إلي العيون في‬ ‫تساؤل و إشفاق وارتياب‪ .‬ثم انهمرت السئلة‪:‬‬ ‫إ ش بك؟ إ ش في ؟ عساك بخير؟ ل باس عليك! إنت شامي؟‬ ‫فلسطيني؟ صاحب سيار‪،‬ه؟ مع مين متضارب؟ خير إنشال!‬ ‫ل بسيطه ‪.‬ل يهمك!‬ ‫وبعد أن أخذوا المعلومات الكافية عني‪،‬عن طريق هزات رأسي نفنيا‬ ‫أو إيجابا‪,‬عا دوا إلى حديثهم وكأن شيئا لم يحدث‪ .‬وتركوني أفكر في ما‬ ‫انتهى إليه حالي‪.‬‬ ‫كيف حدث هذا؟‬ ‫أنا الن في الحبس مع هذ‪،‬ه النفايات البشرية في غرفة واحدة!‬ ‫وشعرت برأسي ينتفخ وينتفخ حتى ليكا د ينفجر من طول التفكير‪.‬‬ ‫كانت كل دقيقة‪ ،‬بل كل ثانية‪ ،‬تمر وكأنها دهر‪.‬‬ ‫وكان‪ ،‬رفاقي في الحبس‪ ،‬يتضاحكون ويتندرون ويتحدثون في سعا دة‬ ‫عن آخر مغامراتهم‪ ،‬وكيف استطاع هذا أو ذاك منهم أن يفلت من أيدي‬ ‫الشرطة مرات ومرات‪ ،‬أو يهرب من نفس السجن‪ ،‬أو يعو د إليه‬ ‫بمحض إرا دته حيث الراحة ولقمة الخبز بدون عناء‪.‬‬ ‫وشعرت براحة كبرى عندما وجدت نفسي منفر دا في الغرفة‪ ،‬فغيرت‬ ‫من وضع جلستي بعد أن خرجوا كلهم إلى الفناء التابع للغرفة لتناول‬ ‫طعا م الغذاء‪ .‬ولم ينسوا أن يكرروا دعوتهم لي لمشاركتهم في طعامهم‪.‬‬ ‫وبين لحظة و أخرى كان أحدهم يدخل الغرفة ليكرر الدعوة أو يسألني‬ ‫إن كنت في حاجة لي شيء آخر‪.‬‬ ‫ ‪ ..‬أجيب لك مويا؟‪ ..‬كوكاكول ؟ ببسيكول؟‪ ..‬بسكوت ؟‬‫ ل‪ ..‬شكرا‪ ..‬مشكور‪ ..‬دوبي شارب ‪..‬ل‪ ..‬ول شي‪ ..‬مجومل‬‫مشكور‪!..‬‬

‫‪46‬‬


‫وانفرجب أساريري عندما دخل الغرفة صديقي"حسين" وآخر من‬ ‫أقاربي‪ .‬وباختصار حكيت لهم تفاصيل القصة من أوله‪ ،‬واستطاع‬ ‫حسين أن يحول الحكاية من مأساة إلى موقف كوميدي مضحك‬ ‫" "‬ ‫فضحكنا‪ .‬وأحضر أحد المساجين لي وللضيوف الفندية ببسي كول‪.‬‬ ‫حسين أن‬ ‫ثم أعلن الحارس العريف انتهاء وقت الزيارة‪ .‬فعرض علي" "‬ ‫يلبسني قميصه‪ ،‬ولكنني رفضت‪ .‬فالقرائن كلها تدل على أنني أنا‬ ‫المعتدي‪ .‬فل أقل من قميص ممزق عن ذراع مجلوطة لكي أوحي‬ ‫للمحقق‪ ،‬إن كان هناك ثمة تحقيق‪ ،‬أنني معتدى عليه‪.‬‬ ‫ولم تمض دقائق أخرى حتى جاء الشرطي إيا‪،‬ه وقال للحارس وهو‬ ‫يحدجني بنظرات شماته‪:‬‬ ‫ سلمني المحبوس يا عسكري حسب أمر القايد!‬‫ور د عليه الحارس‪:‬‬ ‫ استلم المحبوس يا عسكري حسب أمر القايد!‬‫وتم التسليم والستل م‪ .‬وقا دني العسكري إلى مبنى المطار‪ .‬وصعدنا‬ ‫إلى غرفة القايد حيث كان حشد غفير من أقاربي والصدقاء خارج‬ ‫الغرفة‪ .‬وأعا دو على مسامعي النصائح والتوصيات بأن ألز م الصمت‬ ‫ول أتفو‪،‬ه أو أعترض على أي شيء‪ .‬فهم قد تدبروا المر و ما علي‬ ‫سوى أن أعتذر!‬ ‫والغريب أن معظمهم لم يعرف الحكاية من أولها بالضبط‪ .‬بل عرفوا‬ ‫التفاصيل مشوهة من المعتدين أنفسهم‪ .‬وكانت جهو دهم منصبة في‬ ‫إيجا د العذار‪ ..‬والعتذارات‪ ..‬والتوسلت‪.‬‬ ‫وعندما طلب مني القايد أن أ دلي بأقوالي بعد أن اختلى بي‪ ،‬قلت له‬ ‫الحقيقة كما حدثت‪ ،‬ولم أز د أو أحذف منها شيئا‪ .‬وقلت له أنني‬ ‫اضطررت أن أ دافع عن نفسي‪ ،‬وهذا كل ما في المر‪.‬‬ ‫مط حضرة القايد شفتيه‪ ،‬وهز رأسه‪ ،‬وطلب من أحد الحراس أن أعو د‬ ‫حيث كنت‪.‬‬ ‫عدت وأنا متشائم‪ .‬إذ بدا لي أن المسألة قد تعقدت وهاهي تهمة رابعة‬ ‫سوف توجه لي‪ ،‬وهي أنني أ دعي وأكذب!‬ ‫‪47‬‬


‫وأخذت أتصور العقوبات التي يمكن أن يفرضوها علي‪ .‬وتمنيت أن‬ ‫يكون الحكم هو مغا درة البل د في الحال‪.‬‬ ‫عدت أفكر في هذا اليو م المشئو م‪ ،‬واستسلمت للواقع الليم‪ .‬فل بد لي‬ ‫من قضاء يومين ثلثة في الحبس ريثما يستطيعون توسيط أحد‬ ‫المعارف الكبار‪ ،‬أو أحد المراء‪.‬‬ ‫ثم تذكرت ضابط المن الذي أقسم أغلظ اليمان بأن"يا أنا يا إنت في‬ ‫هالبلد"‪ .‬وعدت لتذكر تلك الجملة التي طرقت مسامعي"‪..‬إيو‪،‬ه‪ ..‬هوو‪،‬ه‪..‬‬ ‫هوو‪،‬ه‪ ..‬الفلسطيني ‪..‬ل تتركو‪،‬ه !"‬ ‫فأيقنت أنني مرتحل من هذ‪،‬ه البلد في أقرب مما كنت أظن‪.‬‬ ‫أخذت أنظر حولي متفحصا الغرفة الرطبة النتنة الحارة‪ ،‬لنتقي الركن‬ ‫الذي سوف أقضي فيه الليل‪ .‬وكانت هذ‪،‬ه الفكار السو داء سوف‬ ‫تتسلسل لول أن دخل الغرفة زائر آخر هو إبن خالي ليطمئنني بأن‬ ‫نائب مدير البنك العربي ذهب لمقابلة المير مش عارف مين وزير‬ ‫الداخلية‪.‬‬ ‫وبعدها بدقائق جاء أحد الحراس يدعوني لعند القايد‪.‬‬ ‫اختلفت هذ‪،‬ه المرة عن المرة السابقة بأنهم أرسلو لي سيارة لكي تنقلني‪.‬‬ ‫وهناك في بوفيه المطار وجدت القايد يمسك بيد‪،‬ه رزمة من الوراق‬ ‫المالية ذات العشرة ريالت ويوزعها بالقسطاس بين المجني عليهما‪.‬‬ ‫وكان نصيب كل منهما مائة ر‪.‬‬ ‫وتمت المصالحة‪.‬‬ ‫)انتهت الرسالة(‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ويبدأ التحضير لتنفيذ خطة العو دة العاجلة للسكندرية‪ ،‬وذلك بتحديد‬ ‫موعد قريب للجازة السنوية من العمل‪،‬على أن يعقب ذلك استقالة‬ ‫نهائية بل رجعة‪.‬‬ ‫هناك من استهجن فكرة الستقالة بعد أن حصلت في عملي على ثقة‬ ‫ال دارة العامة للشركة‪ .‬وأوشكت أن تسند إلي إ دارة قسم السيارات‪،‬‬ ‫‪48‬‬


‫بعد أن أثبتت عمليا‪ ،‬أثناء غياب المدير السابق المستقيل‪ ،‬منذ ما يناهز‬ ‫العا م‪ ،‬كفاءة ل غبار عليها‪.‬‬ ‫هناك من أعطى هذا السلوك تفسيرا لم يخطر لي على بال‪ .‬فمن أهم‬ ‫مها م مدير قسم السيارات في "شركة دو دج"‪ ،‬التي اشتهرت بهذا‬ ‫السم‪ ،‬كانت هي عملية استخراج شحنات السيارات المختلفة النوع‬ ‫والحجم من جمارك الميناء‪ ،‬والشراف على نقلها للور ش الخاصة‬ ‫لتجهيزها لتسليمها إلى أصحابها‪ ،‬حسب تعليمات ال دارة العامة‪ .‬وهي‬ ‫عملية موسمية تتكرر أكثر من مرة في كل عا م‪* .‬‬ ‫وتقتضي عملية استخراج السيارات من الجمارك معاينتها في ميناء‬ ‫الوصول‪ ،‬بمصاحبة مندوت شركة التأمين‪ ،‬لتحديد الضرار الناجمة‬ ‫عن الشحن من أميريكا عبر البحار‪ ،‬وبالتالي تحديد قيمة التعويضات‬ ‫التي استوجبت على شركة التأمين‪.‬‬ ‫ويصا دف أن تكون شركة التأمين المعنية هي أحد فروع الشركة التي‬ ‫يعمل بها شقيقي "عابد"‪ ،‬مما كان يستوجب معرفتة بالمندوب‪.‬‬ ‫لم أفطن لسباب محاولت الشاب‪ ،‬مندوب شركة التأمين‪ ،‬المتكررة‬ ‫للتقرب مني إل عندما ور دت شحنة جديدة من السيارات‪ ،‬فكان من‬ ‫الطبيعي أن يتجه كلنا إلى الميناء لنهاء إجراءات إخراج السيارات‪،‬‬ ‫وبالتالي‪ ،‬كخطوة أولى‪ ،‬إجراء الكشف وتحديد التلفيات الناجمة عن‬ ‫عملية الشحن كالمعتا د‪ ،‬حيث لحظت مبالغة مندوب شركة التأمين في‬ ‫__________________________________________‬ ‫) * ( لعل عدد السيارات المباعة عام ‪ 1955‬الذي بلغ رقما مشابها هو حوالي ‪ 1950‬سيارة بما‬ ‫في ذلك سيارات القصور الملكية والحرس الوطني بمختلف أنواعها وأحجامها يعطي فكرة‬ ‫عن الحالة التي أحاول توضيحها‪.‬‬

‫تقدير التلفيات‪ ،‬والفاقد‪ ،‬وهوالشيء المناقض لما تحتمه وظيفة مندوب‬ ‫أي شركة تأمين التي سيتوجب عليها دفع التعويضات‪ .‬واستصدار‬ ‫فواتيرها‪ ،‬أو فواتير الصلحات اللزمة‪.‬الخطوة التالية هي الحصول‬ ‫على البدائل‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫هنا كان ل بد للمندوب أن يكشف لي عن ما كان المدير السابق يفعله‬ ‫بالتفاق معه‪ .‬وهو المبالغة في تقدير التلفيات ومن ثم الحصول بطريقة‬ ‫ما على فواتير شكلية مقابل نسبة من قيمة تلك الفواتير يتقاضاها وكيل‬ ‫قطع الغيار أو ورشة الصلح التي تصدر تلك الفواتير‪ .‬بحيث تصرف‬ ‫هذ‪،‬ه الفواتير من قبل شركة التأمين لقسم السيارات مباشرة بغرض‬ ‫التعجيل في تحضير وتسليم السبارات لصحابها‪.‬‬ ‫وفي النهاية يتقاسم مدير قسم السيارات مع مندوب التأمين قيمة هذ‪،‬ه‬ ‫الفواتير "الصورية" المصروفة من قبل شركة التأمين‪.‬‬ ‫واعترف المندوب لي‪ ،‬تشجيعا لي على المشاركة في هذ‪،‬ه العملية‪ ،‬بأن‬ ‫ما من شحنة إل و تكون قيمة الفواتير الصورية المستخرجة للتلفيات‬ ‫المزعومه تعد بآلف الريالت‪.‬‬ ‫فما كان مني إل أن أخبر شقيقي بكل تلك المعلومات التي تدل على‬ ‫الخيانة‪ .‬لكن ال خ اكتفى‪ ،‬نظرا لنعدا م وجو د دلئل ما دية واضحة‪،‬‬ ‫بإعطاء الشاب درسا في أخلقيات العمل‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وهناك درس آخر ل يخلو من طرافة ل بأس من تسجيله‪.‬‬ ‫فـ"عم أسعد"‪ ،‬الرجل العجوز الذي كان يتمتع بثقتي ومحبتي‪ ،‬وكان‬ ‫بدور‪،‬ه يمتعني بالحديث عن تاريخ الشركة والذين تداولوا ال دارة فيها‬ ‫ومشاكلها على مر الزمن‪ ،‬والذي قيل أنه أشاع بين العمال بأن العم‬ ‫المدير الجديد سوف يستقيل بعد أن اغتنى هو الخر‪ ،‬وأصبح‪"..‬ما‬ ‫يقص ضهر‪،‬ه ميت ألف ر"!!‬ ‫وعندما سألت "عم أسعد" معاتبا عن مصدر معلوماته‪ ،‬قال لي بكل‬ ‫بساطه وبلهجتة الوالدية‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬ماهو يا "عومنا"‪ ،‬طال عمرك‪ ،‬لو إنت ما عملت هيك مثل العم‬‫"بشير"‪ ..‬تبقى ول تآخذني‪"..‬محمــــــاتر"!‬

‫*‬

‫*‬

‫‪50‬‬

‫*‬


‫وعدت إلى السكندرية **‪ ،‬حيث قد تم استئجار شقة للقامة الدائمة‬ ‫فيها‪ ،‬في مبنى قريب من الفيلل التي تسكنها عائلة الخال "أبونبيل"‪،‬‬ ‫الذي كان قد انتقل كما ذكرنا للعمل في "الرياض"‪ ،‬وبوشر بالعدا د‬ ‫لنتقال الوالدين والشقيقات إليها من "غزة"‪.‬‬ ‫كما بوشر بالجراءات النهائية لخطبة وزواج أخي "عابد" في مصر‪.‬‬ ‫ليغا در بعدها إلى جدة تاركا سيارته "المرسيدس" في حوزتي إمعانا في‬ ‫تشجيعي على فكرة إكمال دراستي في السكندرية‪ .‬ولتظل السيارة في‬ ‫خدمة العائلة هناك ‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫هذا‪ ،‬ول بد من الشارة بأن من أهم ما ساهم في تثبيت فكرة إتما م‬ ‫الدراسة في السكندرية‪ ،‬هو بداية نمو عاطفة استلطاف‪ ،‬أو قل حب‪،‬‬ ‫من طرف واحد‪ ،‬تجا‪،‬ه إبنة خالي "نهى"‪ ،‬التي كانت تحرص على‬ ‫مشاركتي في مشاهدة الفل م السينمائية‪ ،‬والستماع إلى الموسيقى‬ ‫الكلسيكية‪ ،‬كما كانت تجيد العزف على "البيانو"‪.‬‬ ‫لم أتر د د في تقديم الطلب إلى كلية الهندسة للسماح لي بالعو دة إلى‬ ‫الدراسة فيها‪ .‬وكان ل بد من النتظار حتى قبيل بداية الدراسة‪،‬‬ ‫واجتماع مجلس الكلية ليبت في هذا المر‪.‬‬ ‫لكن القدر يأبى إل أن يتدخل لصالح فكرة الدراسة في الخارج‪ .‬فبسبب‬ ‫التغيب عن الدراسة بدون إشعار مسبق أو إبداء العذار‪ ،‬قرنت إ دارة‬ ‫كلية الهندسة قبولي بشرط حصولي على شها دة توجيهية "طازجة"‪.‬‬ ‫وهو الشيء الذي يتعارض مع الرغبة في كسب الوقت‪،‬وتجنب المزيد‬ ‫من المحبطات‪ .‬ذلك بالرغم من وساطة السيد "ياسر عرفات"‪ ،‬الذي‬ ‫اشتهر بنشاطه آنذاك‪ ،‬كرئيس لتحا د العا م للطلبة الفلسطينيين‪.‬‬ ‫___________________________________________‬ ‫)**(‬

‫في يو م الجمعة الموافق ‪ 30‬يونيه ‪1956‬‬

‫‪51‬‬


‫جمال عبد الناصر‬

‫وجه أمريكا‬

‫وفي هذ‪،‬ه الثناء‪ ،‬بدأت تلك المرحلة التاريخية‪ ،‬عندما ألقي الزعيم‬ ‫جمال عبد الناصر خطابه التاريخي في مدينة السكندرية في‬ ‫‪ ،26/7/1956‬معلنا تأميم قناة السويس‪ ،‬شركة مساهمة مصرية‪ ،‬ر دا‬ ‫‪52‬‬


‫على رفض تمويل إنشاء السد العالي من قبل البنك الدولي‪ .‬وأعقب ذلك‬ ‫استغلل الفرصة من كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل للنتقا م من‬ ‫عبد الناصر والعمل على النيل منه ومن "برنامجه القومي"‪ ،‬الذي كان‬ ‫يثير قلق الدول الستعمارية ذات المصالح والطماع في خيرات‬ ‫المنطقة‪ .‬فكانت حرب السويس‪ ،‬و"العدوان الثلثي" المشترك على‬ ‫مصر‪ ،‬ومن ثم احتلل إسرائيل لقطاع غزة والتقد م بسرعة صوب‬ ‫القناة في أكتوبر عا م ‪.1956‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫شهور من الترقب والنتظار قضيتها في السكندرية‪ ،‬لم يكن لي فيها‬ ‫من عزاء سوى مراسلة ما تيسر من الجامعات الوروبية وأكا ديميات‬ ‫الفنون هناك‪ ،‬والمقارنة بينها‪ ،‬ومن ثم القراءة والمطالعة ومشاهدة‬ ‫الفل م السينمائية‪ ،‬في انتظار أن تنفرج المور‪.‬‬ ‫ولم يخفف من عناء التوتر الناشيء عن تلك الظروف الطارئة‪ ،‬سوى‬ ‫ذلك الزخم الوطني الذي اتسمت به تلك الفترة التي تجلى فيها تضافر‬ ‫قوى الشعب وتنامي الروح المعنوية للشعب العربي بصفة عامة‪ ،‬مما‬ ‫جعل لـ "العوزة" و"الكرامة" معان واضحة ملموسة محسوسة‪ ،‬ومما‬ ‫انعكس بوضوح على الثقافة والفنون والصحافة وكافة مجالت الحياة‬ ‫بشكل عا م‪.‬‬ ‫هذا إلى جانب الدفء الذي كانت توفر‪،‬ه الجواء السرية في بيت خالي‬ ‫الكائن بالقرب من المبنى الذي أسكن فيه بمفر دي‪ ،‬وأوقات الراحة‬ ‫والستمتاع بالموسيقى التي كانت تهواها "نهى"‪ ..‬استماعا‪ ..‬وعزفا‪.‬‬ ‫وهذا بالضافة إلى ما كانت توفر‪،‬ه السيارة من فرص التنقل لقضاء‬ ‫أوقات في "نا دي سبورتنج"‪ ،‬أو "قصرالمنتز‪،‬ه"‪ ،‬أو مشاهدة الفل م‬ ‫السينمائية خصوصا بعد أن أتاحت امرأة الخال لبناتها مصاحبتي‪.‬‬ ‫أما عن ساعات " دروس التقوية" المتلحقة في ما دة الرياضيات‪ ،‬التي‬ ‫جمعتني مع "نهى"‪ ،‬والتي كانت كافية لكي تحقق هي نجاحا ملموسا‬

‫‪53‬‬


‫في تلك الما دة‪ ،‬و أحقق أنا نجاحا في سعيي للقتراب منها‪ .‬فحدث‪،‬‬ ‫كما يقولون‪ ،‬ول حرج!‬ ‫فباختصار‪ ،‬كانت تلك الساعات كافية لكي نتعارف‪ ،‬و نتآلف‪ ،‬وأكتشف‬ ‫ما لديها‪،‬غير حسنها ورقتها‪ ،‬من صفات كان من شأنها أن تزيد من‬ ‫تسارع خفقان قلبي لها‪ .‬وإن ظل ذلك كله في طي الكتمان!‬ ‫مشاعر متنامية مكتومة من كل منا‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬تجا‪،‬ه الخر‪.‬‬ ‫كأنما كان موقف خالي‪ ،‬الغريب‪ ،‬مني يستوجب ذلك الحذر والكتمان‬ ‫من كلينا‪.‬‬ ‫على أن خفقات قلبي لها كانت تسبق ذلك بأمد طويل‪.‬‬ ‫صحيح أنها كانت في تلك البدايات مجر د صبية‪ ،‬في ربيع العمر‬ ‫وريعانه‪ ،‬ولكنها كانت قبل كل شئ إبنة خالي‪ ،‬الذي كنت‪ ،‬وما زلت‪،‬‬ ‫أحبه وأتخذ‪،‬ه مثل أعلى لي‪ .‬ويبدو أنني كنت أرى في ذلك‪ ،‬بداياة‪ ،‬ما‬ ‫يكفي من المزايا‪.‬‬ ‫كنت ذلك الحالم‪ ،‬الغارق في الرومانسية‪ ،‬الذي كان يضع مثله العلى‬ ‫نصب عينيه‪ ،‬ويتمنى أن يصبح له في مستقبل العمر ذلك الشأن‪،‬‬ ‫والبيت‪ ،‬والزوجة‪ ،‬والرفاء والبنين‪.‬‬ ‫ومن هي التي سوف تشاركني في العمل على تحقيق أحلمي تلك‬ ‫سوى "نهى" ‪ ،‬التي نشأت وترعرعت في ذلك البيت المثالي؟‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫إلى جانب هذا كله يأتي تنامي اهتماماتي الواعية التي اكتسبتها في‬ ‫الشهور الثلثين التي قضيتها في "جد‪،‬ه"‪ ،‬مع أخي "عابد" وأصدقائه‬ ‫المتنوعي المشارب‪ .‬فلقد أسفرت تأملتي في تلك الحقبة العصيبة من‬ ‫الزمن‪ ،‬التي أعقبت العدوان الثلثي‪ ،‬بما فيها من نمو للوعي العا م‬ ‫فكريا وثقافيا‪ ..‬وسياسيا‪ ،‬عن تساؤلت كثيرة فيما كان يجري على‬ ‫الساحة في تلك المرحلة‪.‬‬ ‫فلم يكن العدوان على مصر سوى استكمال للعدوان على المة العربية‬ ‫بأكملها‪ ،‬بدءا من اتفاقية "سايكس بيكو" لقتسا م النفوذ في المنطقة‪،‬‬ ‫ومرورا بالنتداب البريطاني على فلسطين بما له من أهداف معلنة‬ ‫‪54‬‬


‫كالعمل على تمهيد الطريق لتنفيذ "وعد بلفور" البريطاني للعمل على‬ ‫قيا م " دولة إسرائيل" على الجزء الكبر منها‪ .‬وأخرى غيرمعلنة تهدف‬ ‫إلى تفتيت المنطقة لضمان السيطرة عليها والحيلولة دون تحقيق الحلم‬ ‫العربي بالوحدة‪ ..‬إلخ‪ .‬وما العدوان السرائيلي واحتلل قطاع غزة إل‬ ‫خطوة من خطوات التوسع المستقبلي المرسو م صهيونيا‪.‬‬ ‫معنى ذلك أن "المن القومي العربي" هو المهد د‪.‬‬ ‫وبالتالي كنت أرى أن الدفاع عن قناة السويس ومدنها ما هو إل دفاع‬ ‫عن المن القومي العربي‪ ..‬دفاع عن النفس‪.‬‬ ‫إذن فيم النتظار؟!‬ ‫وها هو زميل الدراسة الثانوية في غز‪،‬ه‪"،‬نجا د الوسباسي"‪ ،‬يتحدث عن‬ ‫الجراءات التي قا م بها للتقد م ضمن آخرين لمتحان القبول في الكلية‬ ‫الحربية‪ ،‬التي فتحت أبوابها لقبول دفعة مروكزة من طلبة فلسطين‪،‬‬ ‫ليصبحوا من قا دة "جيش التحرير" الفلسطيني‪.‬‬ ‫جدير بالذكر أن رئيس إتحا د الطلبة الفلسطينيين‪" ،‬ياسر عرفات"‪ ،‬قد‬ ‫التحق أيضا بالكلية الحربية آنذاك‪.‬‬ ‫وتنتقل إلوي عدوى الحماس لتلبية الواجب الوطني‪.‬‬ ‫لكن نتيجة اختبار اللياقة البدنية حالت دون قبولي‪ .‬فقد اكتشفوا فوي عيبا‬ ‫خلقيا أسمه الـ "الفلت فوت"‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬إلى جانب أن جهو دي للتطوع في المقاومة الشعبية‪ ،‬أسوة ببعض‬ ‫زملئي‪ ،‬لم تتكلل أيضا بالنجاح‪.‬‬ ‫ولم يبق لي سوى العو دة للتفكير والسعي للدراسة في الخارج‪.‬‬ ‫فالعلم في الخارج ل يقتصر على نيل الشها دات‪ ،‬بل هو استثمار‬ ‫سنوات الدراسة الربعة أو الخمسة في القيا م بدور نضالي قومي ها م‪.‬‬ ‫وتمضي اليا م‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬متثاقلة‪ ،‬بطيئة‪ ،‬أقضيها مع إبن خالي‬ ‫"نبيل" والأصدقاء‪ .‬منهم الصدقاء الجد د أمثال "محمد الزرقا"‬ ‫السكندراني‪ ،‬و"خالد محيي الدين البياتي" العراقي‪ ،‬زميل "محمد" في‬ ‫كلية الهندسة‪ .‬ذلك "الماركسي" الواسع الثقافة والعلقات الذي عورفني‬ ‫بأصدقاء حكوا لي عن "فيينا" وإمكانيات الدراسة فيها‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫وتتم‪ ،‬بناء على ذلك‪ ،‬مراسلة إحدى الجامعات في النمسا والحصول‬ ‫على القبول فيها‪.‬‬ ‫وسرعان ما تم النتساب لمعهد خاص لتعليم اللغة اللمانية‪.‬‬ ‫وسرعان أيضا ما ساقتني علقتي العابرة بممدورستي الشابة إلى تجربة‬ ‫كان من شأنها أن تؤكد لي أن خفقات قلبي ظلت تر د د إسم "نهى"‪..‬‬ ‫وليس غيرها‪.‬‬ ‫ثم تجيء اللحظة الحاسمة التي كان لبد لي فيها من أن أحمل حقيبتي‬ ‫وأسافر‪ ..‬إلى "فيينا"‪.‬‬ ‫ذلك بعد فترة من النتظار‪ ،‬ريثما أطمئن على والديو القابعين‪ ،‬في حكم‬ ‫السرى‪ ،‬في"غزة" المحتلة‪ ،‬وعلى قرب وصولهما للستقرار في‬ ‫السكندرية‪ ،‬بعد أن تم التفاق دوليا على إنهاء العدوان وانسحاب‬ ‫قوات الحتلل من قطاع غزة‪.‬‬ ‫ثم تأتي مشكلة تأشيرة "الفيزا"‪ ،‬السماح لدخول الراضي النمساوية‪،‬‬ ‫التي تتطلب وثيقة سفر صالحة بعد أن تعذر قبول جواز السفر الذي‬ ‫كنت أحمله‪ ،‬الصا در عن الحكومة التي ولدت ميتة‪" ،‬حكومة عمو م‬ ‫فلسطين"‪ .‬وكان البديل المقترح هو الحصول على أي وثيقة سفر‬ ‫أخرى‪ ،‬معترف بها دوليا‪ ،‬مما استغرق وقتا قضيته في القاهرة متنقل‬ ‫بين الدوائر المختلفة‪.‬‬ ‫ولقد فشلت‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬وساطة "ياسر عرفات"‪ ،‬رئيس التحا د العا م‬ ‫للطلبة الفلسطينيين‪ ،‬في ذلك الوقت في العمل على استصدار وثيقة سفر‬ ‫بديلة‪.‬‬ ‫إلى أن قا دتني الصدفة البحتة إلى لقاء أحد ضباط الشرطة المصريين‬ ‫الذين كانوا في بعثة لمهمة عمل في السعو دية‪ ،‬والذي شاءت الصدف‬ ‫أن يسكن هذا الضابط في بيت مجاور لمسكن أخي"عابد" في مدينة‬ ‫جد‪،‬ه‪ ،‬فتنشأ بيننا علقة و د وجوار طيبة‪.‬‬ ‫وأخرج ذات يو م من مكتب ذلك الضابط في مبنى مجومع الدوائر‬ ‫الحكومية بميدان التحرير في القاهرة وأنا ل أصدق عينوي بأن بين يدي‬ ‫‪56‬‬


‫"تذكرة مرور" مصرية‪" ،‬ليسيه باسيه"‪ ،‬تتيح لي الحصول على‬ ‫"الفيزا" النمساوية‪.‬‬ ‫ثم يصا دف حضور الخال من السعو دية‪ ،‬لقضاء بعض اليا م في‬ ‫السكندرية‪ ،‬ومحاولة امرأة الخال‪ ،‬التي لحظت ميل ابنتها واهتمامها‬ ‫بي‪ ،‬تلطيف وتطبيع العلقة بيني وبين الخال بأن تؤكد له مدى حبي‬ ‫واحترامي له‪ ،‬وأنني لم أعد ذلك الفتى الغير مسئول‪ ،‬المستهتر‪ ،‬وأن‬ ‫الثلثين شهرا التي قضيتها في السعو دية قد صهرتني وجعلت مني‬ ‫رجل قا درا على تحمل المسئولية‪ ..‬واتخاذ القرار الصحيح‪.‬‬ ‫كل هذ‪،‬ه المحاولت لم تستطع أن تزيل تلك الصورة الشائهة التي كونها‬ ‫الخال لنفسه عني‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ويتحد د يو م السبت ‪ 23‬مارس ‪ 1957‬موعدا للسفر‪ ،‬بدون أن تتاح لي‬ ‫فرصة رؤية الوالدين وو داعهما‪.‬‬ ‫وتقترب اللحظة التي سوف أصافح فيها محبوبتي مو دعا‪ .‬فأشد على‬ ‫يدها أو تشد على يدي تعبيرا عن الحاسيس الدفينة التي لم تأت لحظة‬ ‫التصريح والعتراف بها بعد‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬يبدو أن سوء الطالع‪ ،‬ول أقول سوء النية‪ ،‬كان لي بالمرصا د‪.‬‬ ‫فبالرغم من أن موعد السفر كان قد تقرر في يو م السبت‪ ،‬إل أن الخال‬ ‫أصر أن تصحبه العائلة إلى القاهرة في يو م الجمعة‪ ..‬اليو م السابق‪.‬‬ ‫وكانت اللياقة‪ ،‬في نظري‪ ،‬تقتضي أن يقو م خالي بالحتفال بتو ديعي‬ ‫أول‪ ،‬ثم يسافر ما شاء له السفر‪ .‬ل أن يتركني وحيدا في يو م تاريخي‬ ‫فاصل كذلك اليو م‪.‬‬ ‫كأنما كان الخال يفعل ذلك إمعانا في إهمالي وتأ ديبي‪.‬‬ ‫وما برح ذلك المشهد الغريب الطاعن في جبروته‪ ،‬بالرغم من مرور‬ ‫الزمن‪ ،‬يتراءى أمامي‪:‬‬ ‫الخال يركب السيارة على عجلة من أمر‪،‬ه ويستحث الجميع على‬ ‫المسارعة في الركوب‪ ،‬بدون أن يترك لهم فرصة تو ديعي‪ .‬وتنطلق‬ ‫السيارة مبتعدة‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫وتظل صورة تلك اللحظة منطبعة في ذهني‪.‬‬ ‫وجه "نهى" المطل‪ ،‬للحظة‪ ،‬من النافذة الخلفية للسيارة المبتعدة‪ ،‬ويدها‬ ‫تسترق حركتها‪ ،‬على استحياء‪ ،‬كأنما تخشى أن يكتشف أحد أنها كانت‬ ‫تلوح لي مو دعة‪.‬‬ ‫بينما أقف أنا على رصيف الشارع ملوحا بيدي إلى أن اختفت السيارة‬ ‫عن النظار‪ .‬ل أعرف ما كانت تخفيه هذ‪،‬ه اللحظة الموغلة في القسوة‪.‬‬ ‫ول أعرف إجابة للسؤال الذي ألح على خاطري فيها‪:‬‬ ‫أهي بداية‪ ،‬أ م نهاية؟‬ ‫لم ينقذني من هول تلك اللحظة سوى صديقي "محمد الزرقا"‪ ،‬الذي‬ ‫كان قد أبدى استعدا د‪،‬ه لمرافقتي في الغد إلى ميناء السكندرية‪ ،‬حيث‬ ‫تغا در بي الباخرة "إسبيريا" إيطاليا في صباح يو م السبت‪ ،‬الموافق‬ ‫‪/23‬مارس ‪.1957‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في عرض البحر‬ ‫هأنا أجرب نوعا آخر من السفر‪ .‬يختلف طبعا عن تجربة السفر‬ ‫بالطائرة التي أخذتني إلى مدينة "جدة" قبل حوالي ثلث سنوات‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫من حسن الحظ أنني ما زلت أحتفظ بنسخ من رسائلي إلى صديقي‬ ‫"إبراهيم"‪ ،‬الذي كان يواصل دراسة الطب في السكندرية‪ .‬وهي‬ ‫الرسائل التي تعو دت أن أ دون فيها خواطري ومشاهداتي‪ .‬ومن ثم‬ ‫حرصت على تخزينها في ذاكرة "خولي الوفوي"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫عرض البحر‬ ‫على متن الباخرة"إسبيريا"‬ ‫في ‪23/3/1957‬‬ ‫عزيزي إبراهيم ‪..‬‬ ‫استيقظت في الصباح ‪ ..‬الساعة السا دسة والربع"‪..‬‬ ‫وسمحت لنفسي أن أبقى في الفرا ش حتى الساعة السابعة‪ .‬وبعدها‬ ‫نهضت لغتسل وأحلق ذقني وأرتب حقيبتي ترتيبا نهائيا‪ .‬وقد تم ذلك‬ ‫جاءمحمد‪ ،‬ومن بعد‪،‬ه"خالد" "وأنور"‪.‬‬ ‫كله في الثامنة حين " "‬ ‫محمد وأنا فقط‪ .‬وكان ذلك في العاشرة أو بعدها بقليل‪.‬‬ ‫ دخلنا الميناء‪" "،‬‬ ‫وأتممت الجراءات في حوالي ساعة‪ ،‬وبعدها صعدت إلى الباخرة‬ ‫حيث قا دني الموظف المختص إلى الغرفة ذات الربع أسرة رقم‬ ‫‪321a‬وكان نصيبي أحد السريرين العلويين‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫على ظهرالباخر‪،‬ه اليطاليه"إسبيريا" في عرض البحر البيض المتوسط‬

‫وبعد أن عرفت مكاني ووضعت حاجياتي في الخزانة الخاصة بي‪،‬‬ ‫محمدعن بعد‪ ،‬بعد أن أوصيته أن يعيد‬ ‫عدت إلى ظهر السفينة لتو ديع" "‬ ‫السيارة إلى جراج بيت الخال بعد عو دتهم بعد يومين أو ثلثة‪.‬‬ ‫وتحركت السفينة بعد انتظار حوالي خمس ساعات‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫وهكذا كانت ساعاتي الخيرة هما ثقيل‪ .‬كنت خللها أقف وحيدا‬ ‫أتسلى بالخيالت وأتنبأ بالحداث‪ .‬وفي خلل ذلك أتذكر أشياء كثيرة‬ ‫من ماضيو البعيد‪ ..‬والقريب‪ .‬وأتساءل‪:‬‬ ‫هل هي بداية‪ ،‬أ م نهاية ؟‬ ‫إسبيريا سيرها بطيئا في داخل الميناء‪ ،‬ولح لنا قصر‬ ‫"‬ ‫بدأت الباخرة"‬ ‫فاروق بل رجعة على ظهر‬ ‫"‬ ‫رأس التين الذي غا در منه الملك السابق"‬ ‫المحروسة‪ ،‬إثر طر د‪،‬ه عا م ‪ .1953‬وكانت هذ‪،‬ه هي المرة الولى التي‬ ‫"‬ ‫"‬ ‫أرى فيها القصر‪.‬‬ ‫إسبيريا أكثر فأكثر حتى لحت السكندرية خطا أبيض ممتدا‬ ‫"‬ ‫وابتعدت"‬ ‫على جزء كبير من الفق البعيد‪ .‬ثم اختفت‪.‬‬ ‫كانت السفينة قد بدأت بإلقاء فضلتها في عرض البحر بعد خروجها‬ ‫من الميناء‪ .‬فأخذت أسراب الطيور البحرية تنقض عليها من مختلف‬ ‫الجهات‪ .‬ثم تحول المشهد إلى مشهد أخاذ عندما بدأ ت تلك الطيور‬ ‫تنقض على فتات الخبز التي أخذ بعض الركاب بإلقائها من على سطح‬ ‫السفينة‪ ..‬فتنقض ل لتقاطها من الهواء بكل رشاقة وبمنتهى البراعة‪.‬‬ ‫الكابينه‪،‬‬ ‫"‬ ‫تعبت من وقوفي على سطح الباخرة‪ ،‬فاتجهت إلى غرفتي‪"،‬‬ ‫طلبا للراحة والتأمل والتفكير‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫أحد شركائي في الغرفة مهندس ألماني عمل في مصر أكثر من‬ ‫إلىفيينا للدراسة قال أنه‬ ‫عشرين عاما‪ .‬وعندما عرف أنني متوجه " "‬ ‫قضى عدة سنوات فيه‪ ،‬وأنها بلد جميلة‪ .‬وأجاب على أحد أسئلتي بأنه‪،‬‬ ‫كمهندس‪ ،‬يفضلها لدراسة هندسة العمارة عن أي بلد أوروبي آخر‪.‬‬ ‫بمحاسنفيينا التي قضى فيها‪ ،‬وهو الن في السبعين من‬ ‫" "‬ ‫ثم عا د يتغنى‬ ‫عمر‪،‬ه‪ ،‬سنوات جميلة من شبابه‪ .‬وأخذ يكرر قوله بأنني سوف أقضي‬ ‫فيها سنوات ممتعة أيضا‪ .‬فهي بلد جميلة‪ ،‬وفتياتها جميلت‪ ،‬و"سوف‬

‫‪61‬‬


‫تكون موفور الحظ لديهن‪ .‬كما وأنك سوف تتعلم اللغة اللمانية‬ ‫بصحبتهن بسهولة" !!‬ ‫ترو دي‪،‬‬ ‫"‬ ‫هنا‪ ،‬عا دت إلى ذهني فكرة إعا دة التصال بصديقتي الجميلة "‬ ‫التي نشأت بيني وبيها صداقة‪ ،‬بالمراسلة‪ ،‬دامت منذ أيا م الدراسة‬ ‫فيفيينا‪ ،‬ولم تنقطع أواصر تلك الصداقة‬ ‫الثانوية‪ ،‬والتي تعيش " "‬ ‫بالرغم من كل التقلبات التي جرت على ظروفي‪.‬‬ ‫ولم يلبث أن استأذنني جاري للخروج بعد أن أوصاني بأن أرتدي‬ ‫بلوفر إذا أر دت الخروج للسطح أنا الخر‪ .‬ثم ر د د جملته للمرة الثالثة‬ ‫" "‬ ‫أو الرابعة ‪! keep smiling‬‬ ‫وكان هذا هو أول أصدقاء الرحلة‪.‬‬ ‫كان الجو لطيفا‪ ،‬بالرغم من النسمات القوية التي تهب في عكس‬ ‫إتجاهنا وكنت على وشك العو دة إلى الغرفة لول أن تسللت إلي‬ ‫الكومبارسيتا إلى‬ ‫"‬ ‫عزيز‪،‬ه إلى"‬ ‫"‬ ‫مسامعي نغمات موسيقية مختلفة‪ ،‬من"‬ ‫النور‪ ،‬وغيرها‪ ،‬صا درة عن آلة أكور ديون يقو م بالعزف‬ ‫"موكب "‬ ‫إلىفنزويل"‪.‬‬ ‫عليها أحد أفرا د مجموعة من الشبان اللبنانيين المسافرين "‬ ‫ولم يكف الشاب عن العزف إل عندما سمعنا صوت الجرس الذي يعلن‬ ‫عن موعد طعا م العشاء‪.‬‬ ‫)انتهت الرساله(‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫"إسبيريا" في ‪24/3/57‬‬ ‫عزيزي إبراهيم ‪..‬‬ ‫صباح جديد في نوعه‪ ..‬وغريب!‬

‫‪62‬‬


‫عندما تفتح عينيك في الصباح الباكر لتجد سقف الغرفة ل يبتعد أكثر‬ ‫من ثلثين سنتيمترا عنك‪ ،‬ل بد أن تأخذك الدهشة ولو لبضع ثوان‬ ‫ريثما تتذكر أن سريرك هو أحد السريرين العلويين في الغرفة‪..‬‬ ‫"الكابينه"‪.‬‬ ‫نظرت إلى جاري المقابل لي في السرير العلوي الخر‪ ،‬فوجدته‬ ‫يتململ ويتحسس ساقه الذي ربط فيه حافظة نقو د‪،‬ه بطريقة غريبة‪.‬‬ ‫وكان السرير الذي تحته‪ ،‬والذي يشغله اللماني‪ ،‬خاليا‪ .‬فقد غا در‪،‬ه‬ ‫صديق المس مبكرا‪.‬‬ ‫واستغرقت في عدة نومات قصيرة متقطعة إلى أن جاءت الخا د م لتؤ دي‬ ‫مهامها الصباحية‪ ،‬فكان ل بد من أن أغا در السرير والغرفة‪.‬‬ ‫على سطح الباخرة كان صوت ناي يشارك الشبان اللبنانيين‬ ‫المهاجرين في أهازيج شعبية تتكرر بنفس النغم‪ ،‬ولكنها غير مملة‪.‬‬ ‫تجاذبنا أطراف الحديث أنا وشاب مصري كان يقف إلى جانبي اسمه‬ ‫"عبد الفتاح"‪ .‬عرفت منه أنه قد أنهى دراسته في كلية الهندسة في‬ ‫السكندرية وعمل فيها معيدا منذ عا م ‪ ،54‬وهو الن في طريقه‬ ‫تورينو بإيطاليا‪ .‬وقدمني بدور‪،‬ه إلى شاب مصري‬ ‫"‬ ‫لكمال دراسته في"‬ ‫آخر ذاهب لدراسة هندسة البترول في ألمانيا‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فبمجر د أن تبحر السفينة في عمق البحر‪ ،‬وتبدو كجزيرة‬ ‫منفصلة عن كل الركان اليابسة‪ ،‬وحيدة‪ ،‬يتنامى إحساس الركاب‪ ،‬كل‬ ‫على حدة‪ ،‬بوجو د صلة ما بينهم تحتم عليهم أن يتعارفوا ويتقاربوا‬ ‫ويتساءلوا عن وجهاتهم‪ .‬مما يدفع إلى أن تتزايد اللفة بينهم‪"..‬ويجري‬ ‫كلمهم بسؤال وجواب‪ ..‬وبعد شويه يبقوا أحباب‪ ..‬و د‪،‬ه يعرف د‪،‬ه رايح‬ ‫على فين‪ "..‬على رأي مطربنا محمد عبد الوهاب‪.‬‬ ‫ثم نزلنا إلى قاعة السينما‪ ،‬فشاهدنا فيلما من منتصفه ولم أعرف‬ ‫تمثيلموريس شيفالييه"‪.‬‬ ‫عنوانه ولكنه من "‬ ‫وأثناء خروجنا من صالة السينما حياني رجل سرعان ما عرفت فيه‬ ‫جاري السفلي‪ .‬وعرفت منه أنه سويدي الجنسية‪ ،‬كان في رحلة سياحية‬ ‫بمفر د‪،‬ه‪ ،‬زار فيها أخيرا القاهرة والسكندرية‪ .‬وعورفته أنا بنفسي‬ ‫‪63‬‬


‫الجنسية لنني قلت له أنني‬ ‫"‬ ‫ولحظت أنه اعتقد بأنني"إسرائيلي‬ ‫فلسطيني من القدس‪.‬‬ ‫فكانت هذ‪،‬ه أولى جولتي التي كنت أتوقعها‪.‬‬ ‫ دهش الرجل عندما قلت له أن فلسطين بلد عربي في الصل‪ ،‬وهي‬ ‫محتلة في جزء منها من قبل اليهو د الذين لفظتهم البلدان الوروبية‬ ‫والسيوية والميريكية‪ .‬وأن هناك جزءا من فلسطين ما زال عربيا‪.‬‬ ‫فأعرب عن دهشته واستنكار‪،‬ه وأرجع ذلك إلى نشاط العل م‬ ‫السرائيلي وتأييد الغرب‪ .‬هذا إلى جانب تقاعس العل م العربي‬ ‫وعجز‪،‬ه عن الوصول إلى المواطن الوروبي‪ .‬وتطور الحديث بطبيعة‬ ‫الحال‪ ،‬بينما نحن نتناول طعا م العشاء سويا‪ ،‬إلى الحديث عن حرب‬ ‫السويس والعدوان الثلثي‪ ،‬وأبدى قناعته بأن قناة السويس من حق‬ ‫المصريين إ دارة واستثمارا‪ .‬وقال أن"عبد الناصر" زعيم حقيقي‬ ‫استطاع أن ينجو بشعبه من المؤامرات !‬ ‫)انتهت الرساله(‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫إسبيريا‬ ‫في ‪25/3/57‬‬ ‫عزيزي إبراهيم‪..‬‬ ‫صحوت من نومي مبكرا‪.‬‬ ‫صباح آخر جديد من نوعه !‬ ‫الغرفة تتمايل يمينا ويسارا‪ ،‬لكنها اهتزازات هينه فيها شيء من المتعة‬ ‫والحساس بالطفولة‪ .‬بعد قليل حدثتني نفسي بالنهوض لكتشاف‬ ‫أحاسيس جديدة على سطح الباخرة المتمايلة‪ .‬في البداية داخلني شيء‬ ‫من الرهبة‪ ،‬ثم أخذت في التعو د‪ .‬لكنني قررت العو دة إلى الغرفة بسب‬ ‫برو دة الجو‪.‬‬ ‫با درني صاحبنا السفلي‪ ،‬السويدي‪ ،‬بسؤاله عن موعد وصول الباخرة‬ ‫إلى أول الموانيء الوروبيه"سيراكوزا"‪ .‬وكنت قد علمت بأننا سنصلها‬ ‫‪64‬‬


‫في الساعة الواحدة ظهرا‪ .‬وهنا خطرت لي فكرة الصعو د مرة أخرى‪،‬‬ ‫بعد التزو د بما يحميني من برو دة الجو‪ ،‬لكي أعيش لحظات ميل د‬ ‫القتراب من الحياة على الرض‪ .‬ولم يلبث الرفيق السويدي‪ ،‬الذي لم‬ ‫أستطع أن أحفظ إسمه‪ ،‬أن لحق بي‪.‬‬ ‫صقلية عن بعد‪ .‬ثم أخذت تقترب منا شيئا فشيئا إلى أن‬ ‫"‬ ‫ظهرت جزيرة"‬ ‫احتضن ميناء"سيراكوزا" الباخرة "إسبيريا"‪.‬‬ ‫ومن مكتب الستعلمات علمنا أن هناك رحلة منظمة لزيارة أنحاء‬ ‫البلدة سوف تستغرق ثلث ساعات ونصف‪.‬‬ ‫يورجين‪ ،‬على‬ ‫"‬ ‫شجعني الصديق السويدي‪ ،‬الذي عرفت أخيرا أن اسمه"‬ ‫الشتراك في الرحلة‪.‬‬ ‫ركبنا السيارات المعدة للرحلة‪ ،‬وكانت سيارات تاكسي صغيرة‪ .‬فكنت‬ ‫يورجين ورجل إيطالي في إحداها‪.‬‬ ‫"‬ ‫أنا و"‬ ‫زرنا مسرحين مدورجين من المسارح الثرية لقدماء الغريق‪ .‬كما‬ ‫زرنا إحدى المغارات القديمة التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميل د‬ ‫بحوالي خمسمائة سنة‪ .‬وكانت بعد ذلك تستعمل كسجن للتعذيب‪.‬‬ ‫المسقط الرأسي لها يشبه علمة الستفها م‪ ،‬وحوائطها صخرية ملساء‬ ‫ى قويا مدويا‪ .‬وكنا‬ ‫تلتقي في أعلها‪ .‬وأي همس فيها يسمع له صد ا‬ ‫قبل الدخول في المغارة قد سمعنا أصوات انفجارات مدوية مما أثار‬ ‫فضولنا وتعجبنا‪ .‬وسرعان ما بد دت مرشدتنا تلك الدهشة بأن أمسكت‬ ‫بقبضتيها بورقة وأخذت في تطبيقها‪ ،‬ثم تمزيقها‪ .‬فكان صوت تطبيق‬ ‫الورقة وتمزيقها يرتد صدا‪،‬ه دويا هائل رهيبا‪ ،‬مؤلما‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كما‬ ‫أعتقد‪ ،‬جاءت فكرة استخدا م هذ‪،‬ه المغارة كسجن للتعذيب‪.‬‬ ‫وسيراكوزا هي مسقط رأس العالم الرياضي والمخترع الشهير‬ ‫"‬ ‫"‬ ‫"أرخميدس"‪ .‬ولقد مررنا بالميدان المسمى باسمه ونحن في طريقنا إلى‬ ‫"النبع العجيب"‪ .‬فهناك على بعد بضعة أمتار من البحر‪ ،‬توجد بحيرة‬ ‫صغيرة جدا يسبح فيها السمك و البط‪ .‬وهي على قربها من البحر إل‬ ‫أنها تتميز بميا‪،‬ه عذبة تستمدها من النبع القريب العجيب‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫ثم تجولنا قليل في أنحاء المدينة القديمة حيث تلمس في مبانيها طابعها‬ ‫الشرقي بوضوح‪.‬‬ ‫صقلية هي أقرب الراضي الوروبية إلى الشواطيء‬ ‫"‬ ‫وجزيرة"‬ ‫الفريقية‪ ،‬التونسية‪ .‬وقد استطاع العرب في عا م ‪ 652‬الوصول إليها‬ ‫مزار‪،‬ه‪ ،‬ومن ثم كان فتح جزيرة‬ ‫والستيطان في جزء منها يسمى" "‬ ‫"صقلية" بالكامل في عا م ‪ ،878‬حيث أصبحت اللغة العربية لغتها‬ ‫الرسمية حتى منتصف القرن العاشر‪.‬‬ ‫وبالرغم من مرور الزمن بعد نهاية الوجو د العربي‪ ،‬فما زالت اللغة‬ ‫الصقلية تحتفظ ببعض الكلمات العربية مثل‪:‬‬ ‫منقشطة"( ‪ ،‬و‪..‬‬ ‫‪ :cassata‬كعك صقلي ) "‬ ‫‪ :tanura‬الفرن )من"تنور"( ‪ ،‬و‪..‬‬ ‫‪ :zaffarana‬الزعفران ‪ ،‬و‪..‬‬ ‫‪ :zibbibbu‬الزبيب ‪..‬‬ ‫‪ ..‬إلخ !‬ ‫)انتهت الرساله(‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وقبل أن تغا در السفينة ميناء "سيراكوزا"‪ ،‬كنت قد تمكنت من شراء‬ ‫بعض البطاقات البريدية لرسالها إلى والد و‬ ‫ي في "غزة"‪ ،‬وأخي و‬ ‫شقيقاتي في "جد‪،‬ه"‪ .‬ولم أنس أن أرسل بطاقة إلى صديقتي النمساوية‬ ‫الجميلة "ترو دي"‪ ،‬التي كان قد تم تعارفنا ببعض عن طريق المراسلة‪.‬‬ ‫كما حرصت على أن أرسل إلى خالي‪ ،‬وكل فر د من عائلتة بطاقة‬ ‫بمفر د‪،‬ه‪ ،‬لعبر للجميع عن امتناني وشكري لهم‪ ،‬مما مكنني من أن‬ ‫أخص "نهى" ببطاقة خاصة مميزة‪.‬‬ ‫أخذت أتذكر اللحظات الخير‪،‬ه في السكندرية‪ .‬ثم استهوتني فكرة‬ ‫استعا دة شريط الذكريات لحظة بلحظة‪ ،‬بينما أنا أحدق في سقف‬ ‫"الكابينه" القريب‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫ترى‪ ،‬كيف يمكن أن يستقيم استمرار هذا الوهم في ظل ظروف تستمد‬ ‫قسوتها من عوامل ل يبشر أحدها بما يستريح له القلب‪ ،‬وأي حب هذا‬ ‫الذي سيربط بين قلبين تتطاول المسافة بينهما‪ ،‬بحيث يصبح كل منهما‬ ‫في قارة أخرى‪ ،‬يفصل بينهما البحر البيض المتوسط ‪ ،‬إلى أجل‬ ‫غيرمسمى؟!‬ ‫هذا إلى جانب موقف "عد م القبول"‪ ،‬لسبب مبهم‪ ،‬من أقرب الناس‬ ‫إلي‪ ..‬خالي؟‬ ‫و‬ ‫أكا د أن ل أ درك أيهما هو الوهم‪ .‬هل هو الحساس بعد م القبول هذا‪ ،‬أ م‬ ‫هي عاطفة الحب ذاتها التي تسكن قلبي؟!‬ ‫وهل تملك فتاتي‪ ،‬التي جسدت ذلك الوهم الجميل في مخيلتي‪ ،‬دليل‬ ‫واحدا غير ذلك الهتما م الذي بدا مني بـ " دروس الرياضيات"؟‬ ‫وهل حاولت فتاتي أن توحي لي بدليل واحد يؤكد اهتمامها بي‪ ،‬إلى‬ ‫جانب اهتمامها بالمواظبة على " دروس الرياضيات"؟‬ ‫لطالما تساءلت‪ ،‬بيني وبين نفسي‪ ،‬في أيا م قربي منها‪ ،‬عن جدوى‬ ‫التعلق بذلك الوهم‪ ،‬ما دامت المور تسير في التجا‪،‬ه المعاكس‪.‬‬ ‫حتى اللحظة‪ ،‬التي توهمت فيها أنني سوف أشد على يدها‪ ،‬أو تفعل هي‬ ‫ذلك‪ ،‬مرت غير عابئة بنا‪.‬‬ ‫هل تكفي البطاقة البريدية الخالية من أي إشارة لكي تقول لها شيئا مما‬ ‫أريد أن أقوله؟‬ ‫وأي جدوى في ذلك‪ ،‬طالما أنا أساوى بين جميع أفرا د العائلة وأخصهم‬ ‫لكل بطاقته الخاصة؟‬ ‫تبقى هناك بارقة أمل وحيدة‪ ،‬وهي أن تدرك هي أنها طريقة مقمنعة لكي‬ ‫تصلها بطاقة مني‪ ،‬لتشي بما أكسنه لها!‬ ‫ترى‪..‬هل هي بداية؟‬ ‫أ م نهاية؟‬ ‫وما هو‪ ،‬يا ترى‪ ،‬ما ستبديه لنا اليا م؟‬ ‫وتواصل السفينة "إسبيريا" رحلتها إلى ميناء "نابولي" اليطالي‪ ،‬من‬ ‫حيث سوف أواصل رحلتي بورا إلى "فيينا"‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫خاطرة كانت كثيرا ما تبرق‪ ،‬ثم تخبو‪ ،‬ثم تبرق مرة أخرى‪ ..‬وأخرى‪،‬‬ ‫ليتسلل إلوي إحساس متزايد بأنه كلما أوغلت السفينة بالبتعا د‪ ..‬كلما‬ ‫از د دت قربا من تحقيق أحلمي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫إسبيريا‬ ‫في ‪26/3/57‬‬ ‫عزيزي إبراهيم‪..‬‬ ‫صحوت اليو م مبكرا ‪ -‬في الساعة السا دسة والنصف‪ -‬على أصوات‬ ‫الفراشين‪ .‬وفهمت من همهماتهم أننا قد أشرفنا على ميناء"نابولي"‪.‬‬ ‫نابولي ونحن ندخل ميناءها‬ ‫"‬ ‫ونهضت لفوري استعدا د لكي أرى مدينة"‬ ‫العظيم‪ ،‬بالرغم من أنني نمت متأخرا بالمس لنني ذهبت لمشاهدة فيلم‬ ‫‪ Miracle in the rain‬الذي ابتدأ عرضه في الساعة التاسعة‬ ‫والنصف مساء‪.‬‬ ‫فاتني أن أشاهد الفيلم في السكندرية قبل شهور‪ ،‬وهو ما اتفق الكثيرين‬ ‫على أنه فيلم رائع‪ .‬وبالرغم من أنني شعرت‪ ،‬بعد نصف ساعة من‬ ‫زمن العرض‪ ،‬بشيء من الملل مما جعلني أفكر بمغا درة الصالة‪ ،‬إل‬ ‫أنني تحاملت على نفسي‪ ،‬لرى مواطن الروعة فيه!‬ ‫يبدأ الفيلم بقصة حب عا دية‪ ،‬ثم يسافر الحبيب للحرب وتصل الحبيبة‬ ‫شائعة مقتله هناك‪ ،‬فيجن جنونها‪ ،‬وأخذت تكثر من التر د د على‬ ‫الكنيسة راجية من ا أن يعيد إليها حبيبها‪.‬‬ ‫وفي أحد الليالي وهي في طريقها إلى الكنيسة‪ ،‬بعد نوبة حمى عنيفة‪،‬‬ ‫كان المطر ينهمر بشدة وهي غيرعابئة بذلك‪ .‬وعندما همت بدخول‬ ‫الكنيسة فوجئت بحبيبها وقد عا د إليها‪ .‬وتعانق الحبيبان وهي غير‬ ‫‪68‬‬


‫مصدقة عينيها‪ .‬وما كان من الحبيب إل أن أخرج من صدر‪،‬ه سلسلة‬ ‫فيها قطعة من العملة المعدنية القديمة كانت هي قد أهدتها إليه في‬ ‫إحدى المناسبات‪ ،‬وكان هو يتفاءل بها‪ .‬وناولها إياها قائل أنها هي التي‬ ‫حفظته من الهلك‪ .‬ثم و دعها الحبيب واختفى كما ظهر بدون مقدمات‪.‬‬ ‫وبقيت هي لوحدها مذهولة‪ ..‬ثم أغمي عليها‪.‬‬ ‫إلى هنا‪ ،‬وكل شيء معقول‪ .‬فما حدث هو مجر د تخيلت تحت تأثير‬ ‫هذيان الحمى‪ .‬ولكنهم‪ ،‬بعد أن حاولوا مساعدتها وجدوا أنها تقبض‬ ‫على شيء في يدها‪ ،‬فإذا بهذا الشيء هو تلك السلسلة ذات القطعة‬ ‫النقدية القديمة التي أهدتها لحبيبها ذات يو م‪ .‬وكانت إحدى صديقاتها قد‬ ‫شهدت بذلك‪ .‬وهذ‪،‬ه هي المعجزة‪.‬‬ ‫وأخيرا انتهيت إلى أن نصف ساعة على الكثر هو الزمن المناسب‬ ‫لرواية هذ‪،‬ه الحكاية‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وبالرغم من حاجتي إلى النو م‪ ،‬نهضت وصعدت لرى مدينة‬ ‫نابولي ونحن نقترب منها‪ ،‬ومن ثم أشاهد دخول الباخرة إلى مينائها‬ ‫"‬ ‫"‬ ‫العظيم‪.‬‬ ‫يورجن الذي و دعني لنه سوف يواصل‬ ‫"‬ ‫وبعد تناول الفطار‪ ،‬رأيت"‬ ‫رحلته إلى الشمال بالقطار‪.‬‬ ‫وفضلت هذ‪،‬ه المرة أن أذهب لزيارة المدينة بدون العتما د على‬ ‫الرحلت المنظمة‪ ،‬لن الرحلت التي تنظمها شركة السياحة‪،‬‬ ‫بالضافة إلى تكاليفها‪ ،‬غالبا ما تقيد المرء برؤية أماكن ل تهمه كثيرا‪.‬‬ ‫نزلت بمفر دي‪ ،‬وخرجت من ميناء نابولي العظيم بمبنا‪،‬ه وإ دارته‪،‬‬ ‫وبينما أنا أمشي في أحد الشوارع الرئيسية صا دفت شلة من ركاب‬ ‫الباخرة فانضممت إليهم‪ .‬ولم نلبث أن تفرق شملنا‪ ،‬وبقيت أنا و د‪.‬‬ ‫محمد وهو الطبيب المصري‪ ،‬بالرغم من بقايا شعر‪،‬ه الشقر وعينا‪،‬ه‬ ‫" "‬ ‫الزرقاوين‪ ،‬الذي كان صاحب المبا درة بالسؤال عن وجهة سفري في‬ ‫أوائل ساعات البحار‪ ،‬فأشرق وجهه عندما عرف أنني في طريقي إلى‬ ‫فيينا بالذات‪ ،‬حيث سيواصل هو تخصصه في دراسة أحد‬ ‫النمسا‪ ،‬و" "‬ ‫فروع الطب التي تتميز بها جامعات النمسا‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫وأكملنا تجوالنا في المدينة‪ ،‬بعد أن اتفقنا على مواصلة سفرنا البري‬ ‫فينيسيا‪ ،‬ومن‬ ‫"‬ ‫ميلنو‪ ،‬ثم إلى"‬ ‫"‬ ‫جنوا إلى مدينة "‬ ‫بالقطار سويا من ميناء" "‬ ‫فيينا‪ ،‬حيث‪ ،‬كما حدثني" د‪ .‬محمد"‪ ،‬سيكون أحد أصدقاء‪،‬ه‬ ‫ثم إلى " "‬ ‫المصريين في انتظارنا‪.‬‬ ‫)انتهت الرساله(‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪70‬‬

‫*‬


‫فينيسيا‬

‫‪71‬‬


‫صورة جوية للبندقيه‬

‫في ميـلنـو‬

‫أوروبـــــــا‪..‬‬ ‫‪72‬‬


‫كانت الرحلة البرية من "جنوا" إلى "ميلنو" إلى "فينيسيا" برفقة‬ ‫رفيق السفر‪ "،‬د‪.‬محمد"‪ ،‬حافلة‪.‬‬ ‫"جنوا"‪ ،‬كمدينة ساحلية‪ ،‬ل تختلف كثيرا عن "ميلنو"‪ .‬ولول اختلف‬ ‫اللغة لظننت أنني مازلت في السكندرية‪.‬‬ ‫أما "فينيسيا"‪" ،‬البندقية"‪ ،‬فهي كما يسمونها‪ ..‬مدينة المشا‪،‬ه‪ ،‬التي تتكون‬ ‫من ‪ 120‬جزيرة‪ ،‬يربط بينها ‪ 400‬كوبري للمشا‪،‬ه‪ .‬وقنواتها‪ ،‬التي يبلغ‬ ‫عد دها ‪177‬قنا‪،‬ه‪ ،‬هي الشوارع‪.‬‬ ‫والـ"جوندول" الذي تغنى به "محمدعبد الوهاب" هو السيارة التي‬ ‫تمكن السكان من التجول في أنحائها‪.‬‬ ‫سكانها البالغ عد دهم ربع مليون نسمة يتناقصون مع الزمن‪ ،‬كما قيل‬ ‫لنا‪ ،‬بسبب الحياة غير الصحية والمد والجزر الذي يهد م البيوت‪.‬‬ ‫إل أنها تظل‪ ،‬بفضل "لياليها الحسان"‪ ،‬كما ير د د مطربنا‪" ،‬فاتنة الدنيا‪..‬‬ ‫وحسناء الزمان"‪.‬‬ ‫قضينا فيها أياما قليلة‪ .‬وكنت أو د أن تمتد زيارتنا لها ليا م أخرى ‪ ،‬لول‬ ‫أنه قد تم إتفاق " د‪.‬محمد" مع صديق له لكي يكون بانتظارنا في محطة‬ ‫القطار في مدينة "فيينا"‪.‬‬ ‫وبالفعل استقبلنا الصديق المصري‪ ،‬المقيم في المدينة للدراسة منذ‬ ‫سنوات‪ ،‬في ذلك الصباح الباكر من يو م السبت الموافق أول أبريل من‬ ‫عا م ‪.1957‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫"فيينا"‬ ‫‪73‬‬


‫في ‪4/4/1957‬‬ ‫عزيزي إبراهيم‪..‬‬ ‫كانت رحلة القطار الليلية الطويلة تستدعي أن يتركنا الصديق" "‬ ‫فكري‬ ‫لنخلد للراحة في أحد الفنا دق القريبة من المحطة‪ ،‬على أن يعو د إلينا‬ ‫ظهرا لكي نتدبر بعض المور‪.‬‬ ‫واستغرقنا في نو م عميق كان كافيا لكي نستر د نشاطنا ونتأهب لملقاة‬ ‫مفاجأة لم تخطر لنا على بال‪.‬‬ ‫محمد بالصعو د‬ ‫فكري عن وصوله برفقة ضيف ما‪ ،‬فأذن لهما" د‪" .‬‬ ‫أعلن" "‬ ‫إلى غرفتنا‪.‬‬ ‫لم يكن الضيف سوى فتاة شقراء‪ ،‬في السا دسة أو السابعة عشر من‬ ‫هيلينا‪ ،‬وتتكلم اللغة‬ ‫العمر‪ ،‬بشوشة‪ ،‬على قدر من الجمال‪ ،‬إسمها" "‬ ‫النجليزية بطلقة ل بأس بها‪ .‬وتبا در بالحديث متسائلة عن أشياء‬ ‫كثيرة ‪.‬‬ ‫فكري أنها إبنة مالكة مسكنه الصغير الذي كان يقطنه منذ أن‬ ‫عرفنا من" "‬ ‫فيينا للدراسة قبل سنوات ثلث‪ .‬وعندما علمت" "‬ ‫هيلينا‬ ‫جاء إلى" "‬ ‫منفكري أن صديقا له سيحضر من مصر‪ ،‬لم تلبث أن أصرت على‬ ‫" "‬ ‫فكري‪،‬‬ ‫محمد‪ ،‬الذي يتمتع‪ ،‬كما يقول" "‬ ‫مرافقته لترى هذا المصري‪ "،‬د‪" .‬‬ ‫ببشرة بيضاء‪ ..‬و شعر أشقر‪ ..‬وعينان زرقاوان )!(‪.‬‬ ‫كانت أمامي مهمات ل بد من قضاءها في أسرع وقت‪ .‬أولها الذهاب‬ ‫إلى البنك المركزي لصرف الشيكات السياحية التي كنت أحملها‪.‬‬ ‫وثانيها البحث عن مسكن دائم‪.‬‬ ‫محمد فكان لزاما عليه أن يسجل وصوله في مكتب البعثات‬ ‫أما" د‪" .‬‬ ‫المصرية أول‪.‬‬ ‫هيلينا إلى البنك‪،‬‬ ‫فكري‪ ،‬أن أذهب مع" "‬ ‫وهكذا تم التفاق‪ ،‬حسب اقتراح" "‬ ‫محمد مهمته في مكتب البعثات حيث سيتسلم مخصصه‬ ‫بينما ينهي" د‪" .‬‬ ‫المالي‪ ،‬على أن نلتقي بعد ذلك في مكان تعرفه"هيلي"‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫تمثال "شتراوس" في أحد حدائق "فيينا"‬

‫‪75‬‬


‫ دار أوبرا فيينا ليل‬

‫قصر"شون برون" الشهير في "فيينا"‬

‫كان البنك المركزي قد أقفل أبوابه مبكرا حسب عا دتهم أيا م السبت‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫هيلينا في قلب المدينة التي بهرتني معالمها وحدائقها‬ ‫وهكذا طافت بي" "‬ ‫بينما أنا أبدي إعجابي وأطلب المزيد‪ ،‬إلى أن شعرت بالتعب والجوع‪.‬‬ ‫هيلينا‪ ،‬أثناء تناولنا طعا م الغذاء في مطعم صغير بالقرب من‬ ‫حكت لي" "‬ ‫فكري من مصر‬ ‫ميدان الوبرا الشهيرة‪ ،‬كيف انقطع وصول مرتبات" "‬ ‫خلل حرب السويس في العا م الماضي‪ .‬وكيف احتضنته والدتها‬ ‫العاشر‪ ،‬أحد‬ ‫"‬ ‫فيالحي‬ ‫واستضافته ليسكن في أحد غرف بيتهم الكائن "‬ ‫فيينا الشعبية القريبة من محطة القطار وبالتالي من الفندق‪.‬‬ ‫أحياء" "‬ ‫وعندما لحظ م‬ ‫ت أنها سوف تسترسل في حكاياتها‪ ،‬با درت بسؤالها عن‬ ‫موعد لقائنا مع"فكري" "و د‪.‬محمد"‪ .‬لكنها استمرت في مراوغتها إلى أن‬ ‫قالت أخيرا أننا سنتقابل في بيتهم على كل حال‪.‬‬ ‫وهكذا اتجهنا‪ ،‬بعد مزيد من التجوال الممتع في حديقة يتوسطها تمثال‬ ‫شتراوس‪ ،‬إلى بيتهم‪.‬‬ ‫"‬ ‫الموسيقار النمساوي الشهير"يوهان‬ ‫ل أحد في البيت‪.‬‬ ‫هيلينا‪ ،‬تكا د تخلو البيوت من أصحابها‬ ‫ففي مساء يو م السبت‪ ،‬كما تقول" "‬ ‫الذين يلجأون إلى قضاء سهرة ليلة الحد في أحد الماكن العامة طلبا‬ ‫للمتعة والراحة من عناء العمل خلل السبوع‪.‬‬ ‫محمد اللذان‬ ‫وهكذا اضطررنا لقضاء تلك المسية في انتظار"فكري" "و د‪" .‬‬ ‫طال غيابهما لسبب ل أعرفه‪.‬‬ ‫كنت في تلك المسية كالوسيط الذي يخضع لوامر المنوو م‬ ‫المغناطيسي‪.‬‬ ‫موسيقى ل تكا د تنتهي حتى تنبعث مرة أخرى من الجهاز البدائي‪.‬‬ ‫ورقص ل بد من أن يؤ دي إلى العناق الطويل‪ ..‬والتقبيل‪ ،‬الذي اكتشفت‬ ‫هيلينا أنني ل أعرف أصوله‪ ،‬بحيث أخذت تلقنني عمليا كيف يكون‬ ‫" "‬ ‫التقبيل‪.‬‬ ‫ي كان عندما أجرؤ على رواية ما حدث لي‬ ‫أكا د ل أصدقني‪ ،‬فما بال أ ي‬ ‫في أمسية ذات اليو م الذي أصل فيه لول مرة إلى ذلك البلد العجيب‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫صورة لفتاة شديدة الشبه من "هيلينـــــــا"‬

‫‪78‬‬


‫حيرتي كانت تكا د أن تفسد متعتي‪.‬‬ ‫و لم ينقذني من ذلك الموقف الغريب العجيب سوى دخول شاب في‬ ‫مقتبل العمر‪ ،‬عرفت منها أنه أخوها‪ ،‬لم يكد يرانا في هذا الوضع حتى‬ ‫اعتذر وغاب عن النظار‪ ،‬بدون أن تبدو على قسماته الدهشة أو‬ ‫الستنكار‪ .‬وذلك مما زا د دهشتي وحيرتي فيما أنا كنت منغمس فيه‪.‬‬ ‫أحاسيس جديدة تفوق قدرتي على الستيعاب‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬لقد سمعت وقرأت عن الحرية والنفتاح والعلقات الحميمة في‬ ‫هذ‪،‬ه البل د‪ .‬ولكنني لم أستطع أن أستوعب ما رأيته ولمسته‪.‬‬ ‫ربما يخطر ببالك‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬أن روايتي هذ‪،‬ه ما هي إل من قبيل‬ ‫أبريل المشهورة‪.‬‬ ‫"‬ ‫التندر والهزار‪ ،‬أو ربما تظن أنها"كذبة‬ ‫فيينا‪ ،‬هو الول من شهر إبريل‬ ‫أليس هذا اليو م‪ ،‬يو م وصولي إلى" "‬ ‫الشهير بأكاذيبه؟‬ ‫ولم يكن الحل سوى الهروب من ذلك الموقف‪ ،‬الغير قابل للوصف‪.‬‬ ‫هيلينا حتى باب البناية الذي درجت‬ ‫كان من الطبيعي أن ترافقني" "‬ ‫العا دة على إقفاله قبل أن ينتصف الليل لكي ل يتاح الدخول أو الخروج‬ ‫إل للسكان الذين لهم الحق في امتلك المفتاح‪.‬‬ ‫وهناك‪ ،‬في مدخل العمارة‪ ،‬كان ل مفر من الستجابة مني إلى" "‬ ‫جولة‬ ‫أخرى قصيرة‪.‬‬ ‫)وأكتفي بهذا القدر من الرساله(‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وخرجت‪ ،‬قرب منتصف تلك الليلة‪ ،‬أتنفس الصعداء إلى الطريق‬ ‫الطويل المظلم‪ ،‬الذي يؤ دي إلى محطة القطار‪ ،‬وبالتالي إلى الشارع‬ ‫المضاء باللفتات التي تعلن عن أسماء العديد من الفنا دق المختلفة‪.‬‬ ‫وهيهات أن أتذكر اسم الفندق الذي نزلنا فيه‪.‬‬ ‫وأخيرا قررت أن أ دخل إلى أحد هذ‪،‬ه الفنا دق فأقضي فيه بقية تلك الليلة‬ ‫العجيبة‪ ..‬والصباح رباح ‪ ،‬كما يقولون‪.‬‬ ‫وما أن دخلت إلى أقرب الفنا دق حتى با درني موظف الستقبال مرحبا‪:‬‬ ‫‪79‬‬


‫ هاي "ناصر"‪..‬‬‫ل درك أنني كنت في الفندق المطلوب‪.‬‬ ‫أما حكاية "ناصر"‪ ،‬فلقد درج البعض في أوروبا‪ ،‬كما بوين لي"فكري"‪،‬‬ ‫على مخاطبة أي مصري‪ ،‬أو حتى شرقي‪ ،‬بهذ‪،‬ه التحية‪ ،‬تعبيرا عن‬ ‫إعجابهم بالزعيم "جمال عبد الناصر" إثر انتصار‪،‬ه وذياع صيته في‬ ‫حرب السويس‪ ،‬عا م ‪.56‬‬ ‫أما التحية الخرى التي با درني بها " د‪.‬محمد" وهو يعطي ظهر‪،‬ه‬ ‫لمصدر الضوء عندما دخلت الغرفة بعد أن طرقت الباب واضطررت‬ ‫لشعال النور‪ ،‬فكانت‪:‬‬ ‫ إنت عولقت البت يا خويا ؟!‬‫وعا د يغط في النو م‪.‬‬ ‫أما أنا فقد كتمت رغبتي بالبوح‪ ،‬وقضيت وقتا طويل وأنا أسترجع ما‬ ‫حدث لي في تلك المسية الولى في "فيينا"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وانقطعت صلتي بعد ذلك بـ" د‪.‬محمد"‪ ،‬حيث أنه ترك الفندق إلى‬ ‫المسكن الدائم الذي أتاحه له مكتب البعثات المصري‪.‬‬ ‫ولم يلبث "فكري" أن وجد لي مسكنا مؤقتا في حي راق بعيد عن قلب‬ ‫المدينة‪ ،‬بالقرب من قصر ‪ Schoenbrun‬الذي تشتهر به "فيينا"‪.‬‬ ‫كان المسكن هو غرفة مستقلة في فيلل فاخرة في الحي الثالث عشر*‪،‬‬ ‫يمتلكها ويسكنها شاب ما زال في سنواته الولى في كلية الطب‪.‬‬ ‫توفي والد الشاب‪" ،‬هانس"‪ ،‬بعد وفاة والدته بعا م قضاها الب مريضا‬ ‫تشرف على علجه ممرضة خاصة‪ ،‬هي "يوتا" التي ظلت تسكن‬ ‫إحدى غرف الفيلل‪ ،‬وتشرف على إ دارتها‪.‬‬ ‫______________________________________________‬ ‫)*( تنقسم مدينة فيينا‪ ،‬إداريا‪ ،‬إلى ‪ 23‬حيا سكنيا‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫ويسكن إحدى الغرف الخرى "موري شيفر"‪ ،‬الطالب الكندي‬ ‫الجنسية‪ ،‬الذي يدرس الموسيقى‪ ،‬في بلد الموسيقى‪ ،‬في سنته الخيرة‪.‬‬ ‫كان "موري"‪ ،‬يمتلك مذياعا حساسا‪ ،‬بإمكانه أن يلتقط أي إرسال‬ ‫إذاعي‪ .‬ولقد دأبت‪ ،‬بعد أن توطدت علقتي بـ "موري"‪،‬على إلتقاط‬ ‫محطة إذاعة "البرنامج الثاني"‪ ،‬و"صوت العرب"‪ ،‬ومواصلة‬ ‫الستماع لبرامجهما المختلفة‪ ،‬حتى أ دمن "موري" نفسه على سماع‬ ‫الموسيقى والغاني العربية‪ ،‬و دأب على تحيتي صباح مساء بتر ديد‪،‬ه‬ ‫للحن المميز لبرامج صوت العرب "أمجا د ياعرب أمجا د" المجيد‪ .‬بل‬ ‫وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أ م كلثو م"‪ .‬ل يمل عن السؤال عن‬ ‫أسماء الملحنين للغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها‬ ‫الموسيقية بالذات‪.‬‬ ‫كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها‪.‬‬ ‫وير د د دائما أن "ضستنباتي" أو"أأستبجي" أو"هأتمدي" أو "أبدتل ووخاب" أو‬ ‫" دارويش" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية‬ ‫كاملة من تلك الجملة الموسيقية أو غيرها لو أنه اهتم بدراسة تلك‬ ‫"التفاصيل"‪ .‬وكنت ل أمل من حديثه ‪ ،‬بل أجد فيه متعة فائقة‪.‬‬ ‫ومع "موري"‪ ،‬ومن ثم "يوتا"‪ ،‬وطائفة أخرى من المحررضين‬ ‫والمحرضات‪ ،‬اكتشفت متعة جديدة‪ ،‬إلى جانب متعة مشاهدة الفل م‬ ‫السينمائية‪ ،‬والستماع إلى أسطوانات الموسيقى الكلسيكية‪ ،‬التي‬ ‫أ دمنتها بفضل محبوبتي "نهى"‪ ،‬هي متعة "الستماع الجماعي"‬ ‫للموسيقى‪ .‬فبصحبته دخلت لول مرة صالة الـ "كونسيرت" ليز دا د‬ ‫يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أ داة لتغذية الوجدان والرتقاء‬ ‫بالعواطف‪ ،‬والنتصار لهما‪ ،‬ولعرف أن الستماع الجا د للموسيقى‬ ‫الجا دة شكل من أشكال الصلة‪.‬‬ ‫ولم يلبث "موري"‪ ،‬إثر سماعه لتعليقى هذا‪ ،‬أن أصرعلى اصطحابي‪،‬‬ ‫في أحد أيا م الحد التالية‪ ،‬إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة‬ ‫‪ Stephanskirche‬حيث حدثني عن الموسيقار اللماني"يوهان‬ ‫سيباستيان با خ"‪ ،‬وأسمعني نموذجا من موسيقا‪،‬ه الكنسية‪ ،‬وحيث از دا د‬ ‫يقيني بالعلقة بين الموسيقى وبين الصلة ومحاولت التقرب إلى ا‪.‬‬ ‫‪81‬‬


‫أما "هيلينا"‪ ،‬فلم تستمر علقتي بها كثيرا بعد أن انتقلت إلى مسكني‬ ‫الجديد‪ ،‬وأخذت تكثر من زياراتها لي هناك‪ .‬وهذا مما جعل "هانس"‬ ‫يحاول إقناعي بإنهاء هذ‪،‬ه العلقة التي كان يستنكر استمرارها‪ ،‬لكون‬ ‫الفتاة ل تليق بي‪ .‬فأنا كما قال لي أحتاج إلى صديقة ل تتكلم اللغة‬ ‫النجليزية‪ ،‬حتى أضطر إلى ممارسة الحديث باللغة اللمانية‪.‬‬ ‫هذا إلى جانب أن لغتها اللمانية‪ ،‬كما أفا دني "هانس"‪ ،‬هي لغة أهل‬ ‫"الحي العاشر" الدارجة‪ ،‬البعيدة كل البعد عن اللغة الفصحى‪.‬‬ ‫كما أن "هيلينا" دأبت‪ ،‬وهذا هو الهم‪ ،‬على مطالبتي بـ"إعلن‬ ‫خطوبتنا"‪ ،‬وهي تؤكد لي أن ذلك من شأنه أن يتيح لنا علقة حميمة‬ ‫كاملة‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫هنا خطر لي أن أبا در بالتصال بصديقتي الجميلة "ترو دي"‪ ،‬التي‬ ‫تعو دت على مراسلتها‪ ،‬مع عد د من صديقات من أنحاء مختلفة من‬ ‫العالم‪ ،‬منذ زمن وجو دي في القاهرة‪ .‬فهي تمتاز بثقافتها الرفيعة‪.‬‬ ‫وسرعان ما كنت أطرق باب بيتها الذي كنت أحتفظ بعنوانه‪.‬‬ ‫فتحت الباب سيد‪،‬ه عجوز‪ .‬وبمجر د سؤالي لها عن "ترو دي" نا دتها‬ ‫بأعلى صوتها‪ ،‬فهرعت إلى الباب فتاة ل أعرفها‪ .‬ول علقة لها‬ ‫بالجمال الذي تتمتع به صديقتي التي أحتفظ بصورتها حتى الن‪.‬‬ ‫وانتهت القصة ما بين ارتباك الفتاة الواقفة بالباب وبين دهشتي البالغة‪.‬‬ ‫وعندما حكيت القصة لـ"هانس" أخذ يقهقه وهو يقول‪ ،‬بينما هو يتأمل‬ ‫الصورة التي يفترض أنها صورة صديقتي الجميلة "ترو دي"‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬هأ‪..‬هأ‪..‬هأ‪ ..‬دي كانت باعته لك صورة الممثلة النمساوية الشابه‬‫المعروفه ‪" ..‬رومي شنايدر"!‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪82‬‬

‫*‬


‫وتمراليا م سراعا‪.‬‬ ‫ويقترب يو م الخامس والعشرين من شهر مايو‪ ،‬وهو يو م عيد ميل د‬ ‫"نهى"‪ ،‬فلم أتر د د في إرسال التهنئة لها ببطاقة منتقاة بهذ‪،‬ه المناسبة‪.‬‬ ‫ولم تمض أيا م حتى وصلتني منها رسالة تشكرني فيها على مبا درتي‬ ‫هذ‪،‬ه‪ .‬كما أنها لم تنس أن تكيل لي الشكر على مساعدتها في دروس‬ ‫الرياضيات مما جعلها تحصل على تقديرات عالية في هذ‪،‬ه الما دة‪.‬‬ ‫وذلك مما جعل والدتها تشجعها وتحثها على الكتابة لي‪.‬‬ ‫واستمر تبا دلنا لرسائل أحكي فيها عن مشاهداتي وتحكي لي عن‬ ‫ دراستها وعن أخبار العائلة في السكندرية‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪83‬‬

‫*‬


‫الصورة المرسلة من صديقة المراسلة "ترو دي" الجميلة‬ ‫واتضح بعد ذلك أنها صورة الممثلة "رومي شنايدر"!!!!‬

‫‪84‬‬


‫تساهيــــل‪..‬‬ ‫يدلني "فكري" على عنوان أحد المقاهي التي تعوو د الطلبة العرب أن‬ ‫يؤمونها‪.‬‬ ‫في ذلك المقهى تعرفت على الطالب الفلسطيني "ناجي الطول" إبن‬ ‫القدس‪ ،‬الذي يدرس الطب في"فيينا"‪ .‬وهو الذي عرفني بالعديد من‬ ‫الطلبة الفلسطينيين القا دمين من "قطاع غزة" للدراسة في "فيينا"‪.‬‬ ‫كما كان"ناجي"هو الذي عرفني أيضا على الطالب العراقي"فيصل‬ ‫الياسري"‪ ،‬الذي يدرس الفنون‪ ،‬والذي نصحني بأن أتقد م لكا ديمية‬ ‫الفنون التطبيقية‪ ،‬التي تتميز بسنواتها الدراسية الربعة لفن العمارة‬ ‫الداخلية‪" ..‬الديكور"‪ .‬وبالفعل رافقني "فيصل" إلى حيث قبلت فيها في‬ ‫سنة إعدا دية كطالب مستمع ريثما أتمكن من اللغة اللمانية‪.‬‬ ‫وسرعان ما وصلتني رسالة من صديقي "محمد الزرقا" المقيم في‬ ‫القاهرة‪ ،‬يخبرني بها أن والديه‪ ،‬اللذان كنت أحظى بمحبتهما‪ ،‬قد وافقا‬ ‫على إرساله إلى "فيينا" لدراسة فن العمارة‪ ،‬التي بدأها في القاهرة‬ ‫ولكنه لسبب ما لم يستمر فيها‪.‬‬ ‫أعقبتها رسالة من السعو دية‪ ،‬من خالي الكبر"توفيق"‪ ،‬ينبؤني فيها‬ ‫عن موعد قدو م إبنه "راسم" إلى "فيينا" لدراسة الطب‪ ،‬ويوصيني‬ ‫بمساعدته والهتما م به‪.‬‬ ‫وسرعان أيضا ما وصل "محمد" إلى "فيينا"‪.‬‬ ‫ولحسن حظه أن "هانس" قد رحب به ليسكن إحدى غرف الفيلل‪.‬‬ ‫ذلك بعد أن كان"موري" قد ترك "فيينا" إلى"القاهرة"‪ ،‬لكي يتخصص‬ ‫بدراسة الموسيقى العربية هناك‪.‬‬ ‫أما "راسم"‪ ،‬فقد استطاع أن يجد له مسكنا قريبا‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫وبمرور الوقت‪ ،‬واقتراب موعد بدء الدراسة في الكا ديمية كان لزاما‬ ‫علي أن أبحث عن مسكن قريب من مقر الدراسة‪ ،‬في "الحي الثاني"‬ ‫لمدينة "فيينا"‪.‬‬ ‫أما "محمد"‪ ،‬الذي سرعان ما تأقلم على الحياة الجديدة في "أوروبا"‬ ‫فقد استطاعت صديقته "هيلدا"‪ ،‬التي أصبحت زوجته لحقا‪ ،‬أن تجد له‬ ‫مسكنا مناسبا في حي آخر من أحياء "فيينا"‪.‬‬ ‫ولم ألبث أن انتقلت إلى مسكني الجديد‪.‬‬ ‫وابتدأت الدراسة‪ .‬وأقبلنا عليها‪" ،‬محمد" وأنا‪ ،‬بحماس شديد‪.‬‬ ‫ثم أفاجأ بقرار إبن خالي "راسم" بالعو دة إلى السعو دية لنه اكتشف أنه‬ ‫لن يستطع أن يواصل دراسة الطب‪.‬‬ ‫لكنني استطعت أن أقنعه بالبقاء‪ ،‬ومحاولة دراسة هندسة العمارة في‬ ‫الكا ديمية‪.‬‬ ‫وقامت "فراو هوف فيمار"‪ ،‬صاحبة البيت الذي أسكن فيه‪ ،‬إكراما لي‪،‬‬ ‫بتخصيص غرفة أخرى في بيتها لسكنى قريبي "راسم"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ثم تنتهي السنة الدراسية الولى‪ .‬وتكون النتيجة هي نجاحنا‪"،‬محمد"‬ ‫وأنا‪ ،‬في امتحانات السنة العدا دية‪ ،‬بمعنى احتساب السنة التحضيرية‬ ‫والقفز عنها‪ ،‬ليبقى أمامنا سنتان دراسيتان يعقبهما سنة رابعة لتحضير‬ ‫مشروع "الدبلو م"‪.‬‬ ‫وهنا ل بد أن أذكر بالخير والعرفان تلك الصداقة التي جمعتنا‬ ‫بـ"يوهان"‪ ،‬الطالب من أصل يوغوسلفي‪ ،‬الذي كان يسبقنا في‬ ‫الدراسة بعامين‪ ،‬والذي كان يتحدث اللغة النجليزية‪ ،‬مما أتاح لنا‬ ‫الستفا دة من شروحاته لما كان يستعصي علينا فهمه باللغة اللمانية‪،‬‬ ‫وهذا بالتالي مما ساعد في تطور وتقد م إلمامنا باللغة اللمانية ذاتها‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫ولقد دامت صداقتنا‪" ،‬يوهان" وأنا‪ ،‬حتى اليو م‪ .‬وإليه كان يرجع الفضل‬ ‫في إيجا د الفرصة لي للتدريب في المكاتب الهندسية التي كان يعمل بها‬ ‫عقب تخرجه سواء في "فيينا"‪ ،‬أو في ألمانيا لحقا‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر أن ما جمعنا في البداية هو علقة "ناصر" بـ "تيتو"‪.‬‬ ‫ولم نلبث أن قررنا السفر إلى السكندرية‪ ،‬حيث استقبلتنا عائلة‬ ‫"محمد" بالحفاوة البالغة‪ .‬ففي نظر والديه‪ ،‬كانت الصداقه التي جمعتنا‬ ‫هي مما أو دى إلى نجاح"محمد" لول مرة في دراسته الجامعية‪ .‬ولذلك‬ ‫فوجئت بأنهم قد أفر دوا لي في بيتهم غرقة خاصة لقضاء جزء من‬ ‫الجازة الصيفية معهم‪ ،‬ظنا منهم أن والد و‬ ‫ي ما زال في "غز‪،‬ه"‪.‬‬ ‫لكن سرعان ما فاجأت والد و‬ ‫ي وأخوتي بوجو دي بينهم ‪ ..‬مفعما‬ ‫بالشواق‪.‬‬ ‫ولم يطل انتظاري لـ"نهى" التي جاءت مع والدتها للتهنئة بسلمة‬ ‫الوصول‪ ،‬والنجاح في دراستي‪ .‬كما أبدى خالي‪ ،‬الذي صا دف أن‬ ‫حضر من السعو دية لقضاء إجازة صيفية قصيرة‪ ،‬سعا دته البالغة‪ .‬وإن‬ ‫كنت أشعر أنه مازال يحتفظ بنفور‪،‬ه مني‪ ،‬نتيجة لعصياني لوامر‪،‬ه‪،‬‬ ‫أولنقل نصائحه‪.‬‬ ‫وانتظمت مقابلتنا‪" ،‬نهى" وأنا‪ ،‬بالرغم من أنني لحظت سلوكا غريبا‬ ‫منها‪ .‬فكأنها كانت تخشى أن يكتشف خالي تطورا في علقتها بي‪.‬‬ ‫وكأني بها‪ ،‬بحضور‪،‬ه‪ ،‬شخص آخر يتعمد إظهار عد م إهتمامه بي بشكل‬ ‫مبالغ فيه‪ .‬ماعلينا‪.‬‬ ‫وفي أحد اليا م‪..‬‬ ‫كانت "نهى" تقف إلى جانبي‪ ،‬بينما كنت أشرف على تركيب ستائر‬ ‫إحدى غرف الشقة )بعد أن وصل الوالدين من "غزة" ليستقرا في‬ ‫الإسكندرية( عندما تبعثرت على الرض بضع حلقات معدنية من تلك‬ ‫المستعملة في تعليق الستائر‪ .‬إلتقطتها "نهى" لتناولني إياها‪ .‬فما كان‬ ‫مني‪ ،‬بعد أن لحظتأ وجه الشبه بين الحلقة المعدنية‪ ..‬و دبلة الخطوبة‪.‬‬ ‫إل أنني‪ ،‬وبتلقائية شديدة‪ ،‬قمت بتلبيس حلقة منها لصبعها‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫فكان في تلك اللمسة العفوية استكمال لما كانت تحتويه رسائلنا المتبا دلة‬ ‫من تلميحات ومعان واعدة طيلة عا م مضى‪.‬‬ ‫كان ذلك اليو م هو الثامن عشر من أغسطس عا م ‪ .58‬وهو التاريخ‬ ‫المنقو ش أسفل الحرفين الولين من إسمينا على ميدالية فضية تتدلى من‬ ‫حلقة مفاتيح ما زالت تلزمني‪ ،‬ول أجد ما يبرر استبدالها أو الستغناء‬ ‫عنها‪ ،‬منذ أن قامت "نهى" بإهدائها لي في وقت لحق‪ ..‬توثيقا لتلك‬ ‫الذكرى‪.‬‬ ‫وتنتهي الجازة الصيفية‪ ،‬لعوأ د إلى "فيينا"‪ ،‬وليستمر تبا دل تلك‬ ‫الرسائل‪ ،‬لينمو حبنا ويتزايد‪ ،‬من خلل صفحاتها المتزايدة‪ ،‬التي تحمل‬ ‫ما يشبه العترافات المتبا دلة‪ ،‬كما أسهبت‪ ،‬بدون حرج‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬في‬ ‫وصف الشواق والحنين‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وأعوأ د إلى لقاءاتي مع زملئي الطلبة الفلسطينيين في ذلك المقهى الذي‬ ‫يؤمه الطلبة العرب‪ ،‬حيث نشأت فكرة تكوين أول تجمع طلبي‬ ‫فلسطيني في النمسا‪.‬‬ ‫لم يكن متاحا لنا‪ ،‬نحن الفلسطينيين‪ ،‬تكوين "إتحا د طلبة" خاص بنا أسوة‬ ‫بالباقيين‪ ,‬والسبب هو عد م سماح السلطات النمساوية لذلك‪.‬‬ ‫فما كان منا إل أن اكتفينا بتكون ما أسمينا‪،‬ه بـ"مكتب فلسطين"‪ ،‬كفرع‬ ‫من فروع "رابطة الطلبة العرب"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪88‬‬

‫*‬


‫مع عائلة الخال"أبونبيل"‪..‬و"نهى" تقف في أقصى اليمين‪..‬إلى جانب والدها‬

‫‪89‬‬


90


‫)وكأنما كان هناك من أوعز‪ ،‬أو ما أوحى‪ ،‬للمصور‪ ،‬الذي توولى تغطية ذلك الحفل‬ ‫العائلي‪ ،‬أن يسجل بعدسته تلك اللحظة‪.‬‬ ‫فكان أن حظي "ألبو م" تلك المناسبة البهيجة بتلك الصورة‪ ..‬ال‬

‫‪91‬‬


‫عن الحــــــــــــــــلم ‪..‬‬

‫تتوالى نجاحاتي في دراستي‪ ،‬يحدوها إحساسي بالسعا دة والرضى‬ ‫والتفاؤل‪ ،‬والتوازن الذي يخلقه ويضاعفه حب متبا دل‪ ،‬يترعرع من‬ ‫عا م إلى العا م الذي يليه‪ ،‬ويتخلل ذلك زيارات قصيرة للسكندرية‪،‬‬ ‫أمل فيها‪ ،‬كما كتبت لها في أحد المرات‪ ،‬عيني وقلبي من لحظات‬ ‫السعا دة المقتنصة‪ ،‬زا دا ليا م الغربة المقبلة‪.‬‬ ‫ومن ثم‪ ،‬ترى أمي أنه قد آن الوان لكي تكلل نجاحاتي بالتمهيد لحلم‬ ‫المهات‪ ،‬بمباركة تلك العلقة الجميلة التي لم تعد خافية على أحد‪..‬‬ ‫وإعلن الخطوبة‪.‬‬ ‫كانت أومي بالنسبة لخيها ما تزال هي الخت الكبرى التي ل يملك‬ ‫إل أن يحقق لها رغبتها‪ .‬وكانت إمرأة خالي الطيبة‪ ،‬التي رعت حبنا‬ ‫وأحبته منذ أن رأته بريقا في عيني ابنتها‪،‬عامل مساعدا هاوما في‬ ‫إقناع الخال بالتسليم بالمر‪ .‬بل كانت‪ ،‬لشدة قناعتها ومباركتها‪،‬‬ ‫محررضا نبيل لن تتكلل تلك العلقة الجميلة بزواج عاجل‪ ،‬يبرر‪،‬ه‬ ‫ويدعمه تشجيع ال م لرغبة البنة على استكمال دراستها في بلد‬ ‫الموسيقى"فيينا"‪ .‬ل سيما بعد أن أصبحت أختها الكبرى‪"،‬ميسون"‪،‬‬ ‫على وشك اللحاق بأخيها للدراسة في أميريكا‪.‬‬ ‫لكنه‪ ،‬ولشدة دهشتي‪ ،‬سامحه ا‪ ،‬لم يتركي أهنأ بأجمل لحظة كنت‬ ‫أنتظرها‪.‬‬ ‫لم أكد املبس حبيبتي‪ ،‬ومتلبسني هي‪ ،‬دبلة الخطوبة‪ ،‬في ذلك الحفل‬ ‫العائلي الضيق‪ ،‬ذات إجازة صيفية‪ ،‬حتى روبت على كتفي من خلفي و‬ ‫‪92‬‬


‫قبض على ذراعي وأقتا دني إلى الشرفة حيث أ دلى لي على انفرا د‪،‬‬ ‫وبمنتهى القسوة‪ ،‬الغير مبررة في تلك المناسبة وفي ذات اللحظة‪،‬‬ ‫بقرار‪،‬ه الحاسم الغريب‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وإوعك تحلم بالزواج‪ ..‬إل بعد ما تنفذ كل شروطي‪ ..‬كلها‪..‬‬‫فاهم !‬ ‫ثم توقف عن الكل م‪ ،‬واكتفى بنظرة ثاقبة سد دها إلي‪ ،‬محملة‬ ‫بمعانى لم أغفل عن تفسيرها‪ .‬وكأنه يريد أن يكمل‪:‬‬ ‫ ‪" ..‬وبدي أشوف كل م مين اللي راح يمشي هالمورة"!‬‫ظلت كلماته الجارحة تدوي في أذنيو‪ ..‬تقهرني‪ ..‬تبكيني‪.‬‬ ‫في لقاءاتي معها‪ ،‬حيث كنت أقرأ في عينيها تساؤلت باحثة عن‬ ‫أسباب حزني الصامت‪ ،‬الدامع أحيانا‪ ،‬كنت أرى أن الجابة عليها‬ ‫ربما تزيد الطين بولة‪ ،‬فأؤثر الكتمان‪.‬‬ ‫شتان بين تلك الصورة التي برعت رسائلنا في رسم تفاصيلها‬ ‫والستطرا د في الترتيب لبناء ذلك الذي اتفقنا على تسميته بـ "البيت‬ ‫السعيد"‪ ،‬والسرة التي اتفقنا على تسمية أول أول دها باسم "نبيل"‪،‬‬ ‫شقيقها الذي تربطني به صداقة ومو د متبا دل‪ ،‬بحيث )يا للرومانسية!(‬ ‫يصبح لقبي في المستقبل "أبونبيل"‪ ،‬تيمنا بخالي الذي أحببته وأتخذته‬ ‫مثل أعلى لي‪ ،‬وبين الواقع الليم الذي يشي به ذلك التصريح‬ ‫الجارح‪ ،‬البالغ القسوة‪ ،‬الباعث على القلق والتشاؤ م‪ .‬والذي يجعلني‬ ‫أكا د أن أضيع بين الشك واليقين‪.‬‬ ‫كأنما كان يعتبر فوزي بقلب ابنته ) يا للغرابة!( بمثابة "انتصار"‬ ‫لي‪ ..‬و ‪" ..‬هزيمة" له‪.‬‬ ‫ولكم حاولت أن أتخلص من ذلك الخاطر الذي ل يخلو من قسوة على‬ ‫خالي الذي أحببته‪ .‬لكن سرعان ما كانت تتسرب إلى مسامعي‪ ،‬في‬ ‫أوساط العائلة‪ ،‬أقاويل توحي بأن سلوكه الغريب كان نتيجة لما يعانيه‬ ‫من بوا در "هزيمة" أخرى تتراوح أمامه‪ .‬وذلك بسبب إصرار ولد‪،‬ه‬ ‫البكر‪"،‬نبيل"‪ ،‬على اختيار شريكة حياته وتحقيق أحلمه بالزواج من‬ ‫‪93‬‬


‫زميلتة المصرية "صفاء" التي با دلته الحب طوال فترة دراستهما‬ ‫الجامعية‪ .‬قصة حب رائعة تغونى بها وأحبها وباركها الجميع‪ ..‬ما‬ ‫عدا‪،‬ه‪ ،‬لسبب ل يعلمه إل ا )!(‬ ‫أما عن موقفه من قصتي أنا‪ ،‬فكانت سلسلة شروطه تكا د أن تكون من‬ ‫قبيل التعجيز‪ ،‬ومما كان يتيح له‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬الشعور بـ "استر دا د‬ ‫الهيبة"‪:‬‬ ‫العمل‪ ،‬بعد التخرج‪ ،‬سنتين تلته‪ ،‬لكتساب الخبرة وللحصول على‬ ‫"مركز" في السعو دية‪ ،‬التي انتقل هو بدور‪،‬ه للعمل فيها مديرا مؤسسا‬ ‫لحد البنوك الجديدة في السنوات الخيرة‪.‬‬ ‫وأخيرا‪ ،‬وليس آخرا‪ ،‬تكوين "الرصيد البنكي" الملئم لضمان‬ ‫المستقبل لبنته!‬ ‫حدثت أمي في ذلك الوقت فيما كنت أرا‪،‬ه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬مسألة التخرج وضمان فرصة العمل بديهيه‪ .‬وهو محق في ذلك‬‫إلى حد ما‪ .‬أما اكتساب الخبرة في المجال الذي اخترته لنفسي‬ ‫فهو متاح لي في "فيينا"‪ ،‬مثل ‪ ،‬وبدخرل ما دي مغرر يفوق دخلي‬ ‫في أي مكان آخر‪ .‬فلماذا أترك هذ‪،‬ه الفرصة وأتجه للعمل في‬ ‫السعو دية أو غيرها من دول الخليج‪ ،‬وقد سبق أن جربته وذقت‬ ‫مرارته؟!‬ ‫وهو الشيء المستهجن والمرفوض مني نهائيا‪ ..‬جملة وتفصيل‪.‬‬ ‫هذا‪ ..‬إلى جانب ما كنت أمبريته‪ ،‬وما لم يحن الوقت للجهر به بعد ‪ ،‬من‬ ‫استكمال الدراسة والتخصص في الخراج السينمائي في أكا ديمية‬ ‫الفنون التعبيرية‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫تبا دلنا بعد ذلك الرسائل التي كانت تتضمن محاولت مني لرأب‬ ‫الصدع بيني وبين خالي‪ .‬لكنه كان يصرعلى أن محاولتي هذ‪،‬ه ل‬ ‫تحمل إل الستهانة بآراء‪،‬ه وحكمته‪.‬‬

‫‪94‬‬


‫حتى رسائل "نهى" أصبحت تكا د تحمل نفس الكلمات‪ .‬وماعا دت‬ ‫تحتل ذلك العد د من الصفحات التي كانت فيما مضى تزخر بمعاني‬ ‫الحب المتراقصة فوق وبين سطور الرسالة لتحمل إلي أرق المشاعر‬ ‫وأجملها‪.‬‬ ‫ثم‪ ..‬جاءت رسالتها الخيرة لي‪ ،‬مختصرة‪ ،‬مرموسة بما ل يترك‬ ‫مجال للشك بأني قد خسرت المعركة‪.‬‬ ‫فبعد أن اعتدت على أن أروي أشواقي بعبارات مثل "الحبيب الغالي"‬ ‫في بداية رسائلها ‪ ،‬جاءت رسالتها الخيرة جافة قاحلة تخاطبني بلقب‬ ‫‪" :‬إبن العمة" العزيزة ‪!..‬‬ ‫وعا دت الهيـبة إلى أصحابها‪ .‬بل تر د دت بعد ذلك في أوساط العائلة‬ ‫أقاويل تنم بأن فتاتي كوفئت من أبيها بإرسالها لتما م دراستها في‬ ‫أميريكا‪.‬‬ ‫وتساءل البعض‪ ،‬وكأنما كان ذلك بلسان حالي‪:‬‬ ‫أما كان الجدى أن يرسلها لتكمل دراستها في "فيينا"؟!‬ ‫كم ذا من المور ما يسوق المرء‪ ،‬بالرغم من يقينه من صدق مشاعر‬ ‫الخرين‪ ،‬إلى إعا دة تقييمه لكل ما فات‪ ،‬حتى لو كان في ذلك ما‬ ‫يؤ دي إلى ما يشبه ويقارب "جلد الذات"!‬ ‫مترى‪ ..‬هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من‬ ‫اختراعك ونسج خيالك؟‬ ‫وأنه من الخطأ‪ ،‬كل الخطأ‪ ،‬أن ميسرف المرء في الخيال فيجعل من‬ ‫محبوبته كل ممنا‪،‬ه وممنتها‪،‬ه‪ ..‬وكل جنته وفر دوسه؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫هنا تقتضي المانة‪ ،‬والصدق الذي أجدني كثيرا ما أتحدث عنه وعن‬ ‫عشقي لممارسته‪ ،‬أن أتحدث عن خطأ لم أقودر عقبا‪،‬ه إل فيما بعد‪،‬‬ ‫عندما ساقني الحديث‪ ،‬بعد ذلك بسنوات‪ ،‬مع إحدى الصديقات‬ ‫واستدرجني إلى الـ "فضفضة"‪ ،‬التي يحتاج إليها المرء بين حين‬ ‫‪95‬‬


‫وآخر‪ .‬وما زلت أذكر قسوة ألفاظ تلك الصديقة التي وصفت بها‬ ‫فداحة فعلتي‪.‬‬ ‫أقول أنني "لم أقودرعقبا‪،‬ه"‪ ،‬ذلك الخطأ‪ ،‬ول أقول أنني أعترف به أو‬ ‫أنكر‪،‬ه‪ .‬لنني كنت في موقف يشبه موقف من ل يملك‪ ،‬دفاعا عن‬ ‫النفس‪ ،‬سوى أن يكون أو ل يكون‪.‬‬ ‫ففي لحظة ما لم أجد ما أ دافع به عن تهمة "النانية وحب الذات‪،‬‬ ‫وعد م احترا م ومراعاة ما قد يكون للخرين من اختيارات"‪ ،‬التي دأب‬ ‫خالي سامحه ا على وصمي بها‪ ،‬لدرجة اضطررت معها أن أبعث‬ ‫له بإحدى الصفحات من رسائل "نهى" التي كانت تشكو لي فيها من‬ ‫وحدتها‪ ..‬وإحساسها بالظلم والقهر وعد م مراعاة مشاعرها‬ ‫واختياراتها‪.‬‬ ‫وخطأي هذا‪ ،‬الذي لم أكن أ درك فداحة وقعه على صاحبة الشأن‪ ،‬كان‬ ‫هو اللحظة المناسبة التي مكنته من الفوز بالضربة القاضية‪ ،‬وذلك‬ ‫عندما أعا د إرسال الصفحة المذكورة لصاحبتها‪ ،‬مع العلم بأن رسالتي‬ ‫له كانت تحتوي على رجاء حار أن يبقى ذلك المر سرا بيننا‪ .‬فلم يكن‬ ‫في تصرفي نية فضح مشاعرها بقدر ما كنت أريد‪،‬ه أن يعرف مدى‬ ‫قسوته على كلينا‪ .‬كما كانت رسالتي تحتوي على وعد مني بأن‬ ‫أرضى بعد ذلك بأي حكم يرتضيه‪ ،‬وأن أكتم مشاعري‪ ،‬وأن ل أعو د‬ ‫إلى إثارة موضوعنا إل بما يرا‪،‬ه هو‪ .‬وذلك احتراما مني له‪ ،‬تماما كما‬ ‫كانت ابنته تكتم مشاعرها احتراما لما يرا‪،‬ه‪.‬‬ ‫ربما كان هذا مما جعلني أبيت فكرة لقاء أخير مع "نهى" ‪ ،‬ليكون لقاء‬ ‫فاصل‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫في ذلك الوقت كانت شقيقتي الكبرى "احسن" قد تعاقدت للعمل كمدرسة‬ ‫خاصة لبنتي أحد المراء السعو ديين في "الرياض"‪.‬‬ ‫ويبدو أنها حاولت‪،‬عبثا‪ ،‬أن تنقذ الموقف مع الخال هناك‪ .‬فما كان منها‬ ‫إل أن حولت لي مبلغا من المال طالبة مني أن أقضي الجازة الصيفية‬ ‫متنقل في أرجاء أوروبا للفسحة والترويح عن نفسي بعد العناء الذي‬ ‫‪96‬‬


‫أصابها‪ .‬ل سويما وأن "نهى" ووالدتها‪ ،‬حسب تعليمات الخال‪ ،‬قد سافرتا‬ ‫لقضاء الصيف في "بيروت" بعيدا عن السكندرية‪.‬‬ ‫وفي نفس الوقت كان خالي الكبر "توفيق"‪ ،‬قد توفي‪ .‬وذلك مما جعل‬ ‫"راسم" ينوي السفر إلى " دمشق" ‪ ،‬حيث تقيم والدته مع أخته‬ ‫"فريد ه"‪ .‬إل أنه كان يرجئ السفر حتى يتمكن من استكمال ثمن‬ ‫السيارة التي كان ينوي شرائها‪.‬‬ ‫وخطرت له فكرة استدانة جزء من المبلغ الذي وصلني من شقيقتي‪،‬‬ ‫على أن نسافر سويا عن طريق البر‪ .‬وبالفعل باشرنا‪ ،‬بعد شرائه‬ ‫للسيارة‪ ،‬بالحصول على تأشيرا ت المرور اللزمة من كل من الدول‬ ‫التي سنمر منها في طريقنا إلى يوغوسلفيا‪ ..‬واليونان‪..‬وتركيا إلخ‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬لسبب ما‪ ،‬تراجع "راسم" في اللحظة الخيرة‪.‬‬ ‫أما أنا فقد قررت‪ ،‬بعد ما عرفته من شقيقتي‪ ،‬أن أسافر جوا إلى‬ ‫"بيروت"‪ .‬فما زالت لد و‬ ‫ي تلك الرغبة في اللقاء الخير والمواجهة‬ ‫الحاسمة‪.‬‬ ‫كان خط سير الطائرة الميريكية التي تقلني هو "فيينا" ‪" -‬استنبول" ‪-‬‬ ‫"بيروت"‪.‬‬ ‫أثناء الرحلة الطويلة‪ ،‬كان ل بد من أن أبدي للمضيفة تذمري من سوء‬ ‫الخدمة في الطائرة‪ .‬وهذا ما وافقني عليه جليسي في المقعد المجاور‪.‬‬ ‫وكأنما كان القدر يمهد لتلك الزيارة الغير مرتقبة لمدينة "إستنبول"‪،‬‬ ‫أضاف جليسي‪ ،‬بعد أن رآى تذكرة سفري‪ ،‬بأنه بإمكاني النزول في‬ ‫"استنبول" ومواصلة الرحلة في طائرة أخرى‪.‬‬ ‫هنا خطر لي أن أستغل هذ‪،‬ه الفرصة لسببين‪.‬‬ ‫الول أن أعطي نفسي فرصة لعا دة النظر والتفكير في ما أنا مقبل‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫والثاني لستغلل تلك الفرصة التي يعلم ا متى تتكرر‪ ..‬وهي زيارة‬ ‫المدينة العتيدة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬ ‫‪97‬‬

‫*‬


98


‫مضيق البسفور الذي يفصل أسيا عن أوروبا‬

‫‪99‬‬


‫إستنبـــــــــــــول ‪..‬‬ ‫في مكتب استعلمات المطار استطعت أن أحجز لي مقعدا في رحلة‬ ‫قا دمة بعد ثلثة أيا م لمواصلة رحلتي إلى "بيروت"‪ .‬كما تمكنت من‬ ‫حجز غرفة في بنسيون لمدة اليا م الثلثة‪.‬‬ ‫كان البنسيون عبارة عن فيلل صغيرة يمتلكها ويديرها زوجان في‬ ‫مقتبل العمر‪ .‬وكم سعدت بالترحيب الذي استقبلني فيه الزوجان بعد أن‬ ‫عرفا أنني طالب فلسطيني‪ ،‬من "القدس"‪ ،‬سنحت له الظروف صدفة‬ ‫لزيارة "إستنبول" للمرة الولى‪ .‬ولم ألبث أن وجدت أمامي برنامجا‬ ‫مكتوبا ومفصل لقضاء اليا م الثلثة‪ ،‬بحيث أستطيع زيارة الماكن‬ ‫الهامة في المدينة‪.‬‬ ‫أما المسية الخيرة‪ ،‬فكان البرنامج يقترح أن أقضيها في مقهى سياحي‬ ‫شهير إسمه "شاركا" يقع على ضفاف مضيق البسفور الذي يفصل بين‬ ‫القارتين ‪" ..‬أوروبا" و "آسيا"‪.‬‬ ‫كانت المسافة تسمح أن أقطعها مشيا على القدا م‪ .‬ولما كنت حريصا‬ ‫على أن ل أضل الطريق‪ ،‬فقد آليت أن أتأكد من صحة إتجا‪،‬ه سيري‪.‬‬ ‫فكان أن صا دفت في طريقي عائلة مكونة‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬من والدين‬ ‫وابنتهما الشابة‪ ،‬يسيرون ببطء‪.‬‬ ‫سالت الرجل إن كان يتحدث اللغة النجليزية‪ ،‬فما كان منه إل أن‬ ‫أحالني إلى إبنته التي با درت بالشارة إلى التجا‪،‬ه المطلوب‪ ،‬كما‬ ‫أضافت بأنهم أيضا متجهون إلى نفس المكان‪ .‬وربما كان من الطبيعي‬ ‫أن تسأل هذا الغريب عن جنسيته‪ .‬فإذا بها ترحب بي هي الخرى‬ ‫عندما عرفت أنني طالب فلسطيني ساقته الظروف إلى زيارة‬ ‫"إستنبول"‪ .‬فلم تتر د د في طرح أسئلة أخرى وأخرى بحيث تواصل‬ ‫حديثنا بعض الوقت‪.‬‬ ‫ولم تلبث أن أشارت لي إلى مكان مضيء قائلة أنه مقهى"شاركا"‪ ،‬مما‬ ‫جعلني أشكرها وأواصل سيري على عجل‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫هناك في المقهى اخترت مائدة تطل على المضيق المذكور‪ ،‬بعيدة نسبيا‬ ‫الموائد الخرى التي لم تكن قد شغلت بعد‪ .‬وجلست أتأمل المنظر‬ ‫الخلب ‪ ،‬إلى أن جاءني النا دل ليسألني عن طلبي‪.‬‬ ‫ولما طالت محاولتي للتفاهم مع النا دل الذي تبين أنه ل يتقن اللغات‬ ‫التي أعرفها‪ ،‬وأخذ يتلفت حوله مستجيرا‪ ،‬لفت انتباهي وجو د العائلة‬ ‫التي صا دفتها في الطريق‪ ،‬وقد اتخذت مكانها إلى مائدة ليست بعيدة‬ ‫عني‪ .‬فإذا بالب يشير لبنته أن تتقد م لمساعدة هذا الفلسطيني الحائر‪.‬‬ ‫وبعد أن قضت الفتاة مهمتها مع النا دل‪ ،‬شجعتني بشاشتها أن أ دعوها‪،‬‬ ‫ولو من باب المجاملة‪ ،‬أن تتناول معي ما تشاء من المشروبات‪ .‬فما‬ ‫كان منها إل أن استأذنت والدها الذي أشار لها بالموافقة‪.‬‬ ‫وعا دت الفتاة‪ ،‬واسمها "أ ديل"‪ ،‬إلى إبداء حب استطلعها وطرح‬ ‫السئلة المختلفة عني وعن بلدي وعن دراستي بحيث تشعب الحديث و‬ ‫امتد‪ ،‬مما ساقني‪ ،‬من حيث ل أ دري‪ ،‬إلى البوح لها عن الهدف من‬ ‫رحلتي هذ‪،‬ه‪ ،‬وبالتالي قصتي مع "نهى"‪.‬‬ ‫بح أ‬ ‫ت يومها لـ "عديله" بكل ما كان ينوء به صدري من همو م‪.‬‬ ‫أعطتني الجابة عن سؤال كنت أبحث له عن إجابة شافية‪ .‬زو دتني‬ ‫بطاقة روحية بحيث أيقنت بعدها من سحر وقع ذلك "البوح العابر"‬ ‫الذي يشبه‪ ،‬في كثيرمن الحيان‪ ،‬لحظة ول دة جديدة‪.‬‬ ‫وانتهت تلك المسية بأنني اكتسبت صداقة جديدة استمرت عن طريق‬ ‫المراسلة‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫في "بيروت"‪ ،‬اتصلت بأحد أقاربي الذي أكد لي وجو د امرأة خالي‬ ‫هناك‪ .‬كان يعرف إسم الضاحية التي يقع فيها الفندق الذي تنزلن فيه‬ ‫ولكنه‪ ،‬كمن يختلط عليه إسم ذلك الفندق بالذات‪ ،‬أعطاني بعض‬ ‫الشارات إليه‪.‬‬ ‫ركبت سيارة أجرة كان يقو دها سائق عرفت من لهجته أنه فلسطيني‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫وعرف مني أنني طالب فلسطيني أعمل وأ درس في "فيينا" وأنني في‬ ‫طريقي لقضاء إجازتي الصيفية في السكندرية‪ ،‬وأنني أبحث عن‬ ‫أقارب لي مقيمين في ذلك الفندق المجهول‪.‬‬ ‫صعد بي السائق إلى الجبل آخذا على عاتقه مهمة البحث عن ذلك‬ ‫الفندق المجهول‪ ،‬بدون أن يسأل عن سر لهفتي‪.‬‬ ‫وانطلق يحكي مطول عن "جمال عبد الناصر" والوحدة العربية‪،‬‬ ‫وفلسطين التي "لن يفلح أرظها إل رجالها"‪ ،‬حسب كلماته‪ ،‬وعن الثورة‬ ‫والكفاح المسلح طويل المد‪ ،‬والعمليات الفدائية في عمق الكيان‬ ‫الصهيوني‪ ،‬فما زالت كلماته‪ ،‬التي كانت تشع منها الحياة‪ ،‬عالقة في‬ ‫وجداني وعقلي‪ ،‬ترتبط بذلك اليو م القدري‪.‬‬ ‫وأخيرا تم ذلك اللقاء المنشو د‪.‬‬ ‫ظلت "نهى" صامتة بينما تحدثت والدتها عن القسمة والنصيب‪ .‬وانتهى‬ ‫الموقف بأن خلعت الدبلة التي كنت لم أزل أحتفظ بها في إصبعي حتى‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬وتركتها أمامها على المائدة التي كنا نجلس إليها‪،‬‬ ‫وانصرفت‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫هناك مثل فرنسي يقول‪:‬‬ ‫"الزمن‪ ..‬كفيل بزوال الحب أو الشفاء منه‪".‬‬ ‫إذا صوحت هذ‪،‬ه المقولة‪ ،‬فما بالنا لو اقترن طول"الزمن" بطول‬ ‫"المسافة" بين "فيينا"‪ ،‬مقر دراستك‪ ،‬و"السكندرية"‪ ،‬مقر إقامة‬ ‫العائلة‪.‬‬ ‫أي حب هذا الذي يستطيع أن يدو م في ظروف تقتضي الوجو د بعيدا عن‬ ‫جوارالمحبوب!‬ ‫هكذا كنت دائما أعـلل النفس‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪102‬‬

‫*‬


‫صورة قديمه لخالي توفيق مع "نصف الدستة" الولى من أبناء‪،‬ه ‪..‬‬ ‫و"فريد‪،‬ه" في أقصى اليمن‬

‫‪103‬‬


‫"أيــــام معهــــا"‪ ..‬في دمشق‬ ‫من "بيروت"‪ ،‬قبل عو دتي إلى "فيينا"‪ ،‬كان ل بد أيضا من أن أذهب‬ ‫إلى" دمشق" القريبة للقيا م بواجب العزاء بوفاة خالي الكبر"توفيق"‬ ‫قبل ذلك بفترة قصيرة‪ ،‬حيث استقبلتني أرملته‪ ،‬والدة "فريد‪،‬ه"‪،‬‬ ‫بترحاب شديد‪ ،‬بعد فراق طويل سنواته في ذلك الوقت كانت تزيد عن‬ ‫العشرة‪ .‬ذلك منذ ضهجرتهم‪،‬عا م ‪ ،1952‬من مدينتهم"غزة" إلى‬ ‫السعو دية‪ ،‬ومن ثم إلى سوريا!‬ ‫قضيت بضعة أيا م في ضيافتهم‪ ،‬حيث أفر دوا لي غرفة "فريد‪،‬ه" التي‬ ‫كانت قد غدت صبية في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمرها‪.‬‬ ‫كانت "فريد‪،‬ه" تتر د د عليي‪ ،‬في غرفتها‪،‬التي استضافوني بها‪،‬‬ ‫لسباب ضيافية مختلفة‪ .‬ول تتر د د في البقاء معي‪ ،‬لتجاذبني أطراف‬ ‫الحديث الذي كان يبدأ بالسؤال عن شقيقها "راسم"‪ ،‬الذي شاركني‬ ‫السكن في ذلك الوقت في نفس المسكن في"فيينا"‪ ،‬وينتهي بأحا ديث‬ ‫مبتورة عن حياتنا الثقافية‪ ،‬وعن قراءتها الطازجة لرواية حديثة‬ ‫الظهور وهي رواية "أيا م معه"لـ "كوليت خوري"‪.‬‬ ‫وبالرغم من جمالها الذي ورثته عن أمها اليرانية‪ ،‬وجرأتها في‬ ‫محاولتها لتجاوز ما كنت أرا‪،‬ه جدارا تفرضه أحوالي الشائكة‪ ،‬إل‬ ‫أنها لم تستطع أن تنتشلني من وحدتي‪ ،‬التي كنت أعاني منها بعد‬ ‫النهاية الليمة لقصتي الولى‪.‬‬ ‫هذا بالرغم من همسة إمرأة خالي المداعبة لي ذات مرة‪ ،‬بعد أن‬ ‫تأكدت من انتهاء علقتي بخطيبتي "نهى"‪ ،‬بما يوحي بترحيب شديد‬ ‫الخصوصية منها‪.‬‬ ‫لم أستطع‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬أن أستجيب إلى علقة جديدة ربما تتشابه‬ ‫ظروفها مع ظروف علقتي الولى‪.‬‬

‫‪104‬‬


‫عدت بعد ذلك إلى"فيينا"‪ ،‬حيث كان أخوها ما زال شريكي في‬ ‫المسكن‪ .‬وحيث كانت رسائلها وصورها إلى أخيها‪ ،‬كما خويل إلي‪،‬‬ ‫تلحقني‪.‬‬ ‫لكني في ذلك الوقت كنت منشغل بمها م أكثرأهمية‪،‬غير عملي‬ ‫و دراستي‪ ،‬إضافة إلى إنغماسي في علقات كنت قد حرمتها على‬ ‫نفسي طوال سنوات مضت‪ ،‬إخلصا للنسانة التي أحببتها‪.‬‬ ‫و دارت اليا م والسنوات‪ ،‬وأنا أتنقل من بلد إلى آخر‪ ،‬ومن علقة إلى‬ ‫أخرى‪ ،‬بدون شعور بأي استقرار أو أمان‪.‬‬ ‫في السنوات التالية التي قضيتها في "فيينا"‪ ،‬كنت أتر د د أما م أي‬ ‫علقة أشعر أنها أخذت مني وقتا أكثر مما يجب‪ .‬وكنت أهرب منها‬ ‫إلى علقة أخرى‪ ،‬وأنا كار‪،‬هه لما أفعل‪ .‬فسلوكي هذا يتناقض مع‬ ‫طبيعتي‪.‬‬ ‫كنت أقف متر د دا أما م فكرة إنشاء علقة جديدة‪ ،‬ثابتة‪ ،‬لمجر د‬ ‫قناعتي وقراري المسبق بعد م جواز استمرار مثل تلك العلقه‪ .‬إنها‬ ‫قناعة لم أستطع أن أتخلص منها‪ ،‬وهي عد م الرتباط بهذا البلد‪ ،‬أو‬ ‫أي بلد آخر‪ ،‬غير بلدي‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ولم يمض الكثير من الزمن حتى جمعتني الصدف بـ"ماريا"‪،‬‬ ‫العقلنية‪ ،‬الرومانسية‪ ،‬الواقعية‪ ،‬التي عرفت كيف تحتفظ بي‪ ،‬أو‬ ‫تحفظني‪ ،‬للسنوات الباقية لي في "فيينا"‪ .‬ورافقتني في طريق عو دتي‬ ‫إلى مصر حتى المتارالخيرة من القارة الوروبية حيث لوحت لي‬ ‫مو دعة من على رصيف ميناء "فينيسيا" اليطالي في آخر أيا م شهر‬ ‫سبتمبر ‪ .67‬وكأنها بذلك تنهي مهمة كانت قد نذرت نفسها لتحقيقها‪،‬‬ ‫أو كأن القدر قد ساقها لتحقيق هذ‪،‬ه المهمة‪.‬‬ ‫سل م عليك يا "ماريا"!‬

‫*‬ ‫‪105‬‬

‫*‬

‫*‬


‫الكتابة‪ ،‬كما اتفق العارفون‪ ،‬هي إحدى وسائل البحث عن الذات‬ ‫واكتشافها‪.‬‬ ‫ففي الكتابة‪ ،‬كما سبق وأن قلت في البداية‪ ،‬متعتين‪:‬‬ ‫متعة البوح‪..‬ومتعة التواصل والكتشاف‪.‬‬ ‫وهاهو أستاذ علم النفس في جامعة "كاليفورنيا" الميريكية‪،‬‬ ‫" د‪.‬ماثيوليبرمان"‪ ،‬يحفرزني بقوله‪:‬‬ ‫"إن التعبيرعن النفس بالكتابة يعد نوعا من تنظيم العواطف‪ .‬وأن‬ ‫مجرد المساك بالقلم والكتابة عن مشاعرك يساعد بشكل كبير على‬ ‫تجاوز مشاعر الحيرة‪..‬أو الحزن‪".‬‬ ‫وفي ظوني أيضا أنني‪ ،‬بالكتابة والبوح‪ ،‬أفهمني أكثر وأكثر‪.‬‬ ‫وهو الهم‪.‬‬ ‫*‬

‫‪106‬‬

‫*‬

‫*‬


107


‫مارزيـــــــا‪..‬‬ ‫هناك من ل تكتمل الحكاية بدون ذكرهم‪.‬‬ ‫كيف يمكن أن أغفر لنفسي إغفالي التنويه بما أ دين به من العرفان‬ ‫لنسانة ما أظنها سوف تقرأ هذ‪،‬ه السطور؟‬ ‫تلك هي "ماريا" التي آنست غربتي‪ ،‬وأذابت مرارة وحدتي في‬ ‫بحرعذوبتها‪ ،‬ومنحتني حبا يكفيني العمر كله‪ ،‬والتي لم يفرق بيني‬ ‫وبينها سوى قناعتي باستحالة الرتباط بها‪ ،‬لني كنت على يقين من أن‬ ‫ظروفي لن تمكني من أن أقد م لها القليل من الكثير الذي تستحقه‪.‬‬ ‫بدأت علقتي بها يو م لمبيت دعوة أحد زملء العمل في المكتب‬ ‫الهندسي‪" ،‬هوبينبيرجر"‪ ،‬الذي كنت أعمل به في "فيينا" قبيل بدء‬ ‫ دراستي السينمائية‪ .‬تر د دت في البداية في قبول الدعوة‪ .‬لكن زملئي‬ ‫الخرين أصروا على حضوري إصرارا لم متجضد معه كل أعذاري التي‬ ‫كان من بينها أني لم أكن في ذلك الوقت على علقة بمن أصطحبها‬ ‫لذلك "البارتي"‪ ،‬الذي يقيمه الزميل إحتفال بعيد ميل د‪،‬ه‪ .‬فلقد دأبت‬ ‫على بتر علقاتي قبل أن تتحول إلى أوها م قد تمركنها الغربة وقسوة‬ ‫الوحدة من احتللي‪.‬‬ ‫حرت في ذلك الوقت في نوع الهدية التي كان يتعين علي أن أحملها‬ ‫لزميلي‪ .‬وفي اللحظات الخيرة‪ ،‬وقبل فوات‬ ‫الوان‪ ،‬خطرت لي فكرة مطورة عن فكرة قديمة يرجع الفضل فيها‬ ‫إلى صديقي وزميلي "يوهان" الذي شاركته يوما في تطبيقها‪ ،‬وهي‬ ‫تصميم وتنفيذ إطار خشبي متوسط الحجم مطعم بزخارف شرقية بسيطة‬ ‫تتكون من نجو م‬ ‫مُثمانوية من أسلك فضية دقيقة غائرة في الخشب‪ .‬ثم خطر لي‪ ،‬بدل من‬ ‫تقديم الطار فارغا‪ ،‬أن أضع فيه بطاقة بريد‬

‫‪108‬‬


‫ملونة كانت بحوزتي لمدينة القدس القديمة‪ ،‬تتوسطها ساحة الحر م‬ ‫الشريف والمسجد القصى ومسجد الصخرة وما يحيط بالحر م القدسي‬ ‫من كنائس تتميز من بينها كنيسة القيامة‪.‬‬ ‫اجتذبت تلك الهدية أنظار ضيوف زميلي وظلت تتنقل بين أيديهم إلى‬ ‫أن استقرت بين يديها فجاءتني لتعبرعن إعجابها‪ ،‬وتتساءل عن النجو م‬ ‫التي اختلطت في ذهنها مع "نجمة داو د" السداسية‪ ..‬السرائيلية‪ .‬وكان‬ ‫من الطبيعي أن يجري الحوار حول دللة كل من النجمتين من ناحية‪،‬‬ ‫وحول مدينة "القدس" وعلقتي بها من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫أما المناسبة الثانية التي جمعتنا فكانت ذلك الحفل الذي أقامه المهندس‬ ‫"هوبينبيرجر" في أحد مطاعم "فيينا" العتيقة الشهيرة بمناسبة حصوله‬ ‫على وسا م الدولة ولقب الشرف " ‪ ".H.C‬في مجال عمله‪ .‬وكان زوج‬ ‫إبنة المهندس‪ ،‬المحامي ذائع الصيت " د‪ .‬شفارتس"‪ ،‬وزوجته طبعا‪ ،‬من‬ ‫ضمن الحاضرين الذين كانوا بمعظمهم من موظفي المؤسسة‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫مازلت أتذكر ذلك اليو م الذي زارت فيه تلك المرأة المكتب الهندسي‪ ،‬يو م‬ ‫نهض طاقم المهندسين الذين كنت أعمل معهم لتحيتها‪ .‬نظرت إلى زملئي‬ ‫باستفسار فهمسوا لي بشيء لم أفهمه في الحال‪ .‬مدت يدها لي وهي تقول‪:‬‬ ‫ــ أظنك السيد "شاث" الذي سمعت عنه من "بابي"‪ ..‬و"مامي" بالذات؟‬ ‫رسمت على وجهي تساؤل‪ ..‬فأجابت‪:‬‬ ‫ــ ‪"..‬ماجي"!‬ ‫وعرفت أنها إبنة المهندس"هوبينبيرجر"التي طالما سمعت زملئي في‬ ‫المرسم يتحدثون عن سحر جمالها‪ ..‬ويتندرون بمغامراتها‪.‬‬ ‫كان جمالها ينتمي إلى ذلك الجمال الباذ خ الذي ل يستهويني‪ ،‬والذي‬ ‫ينطبق عليه وصف "عمر الخيا م" الغريب بأنه "فاجر الحسن"‪ ،‬والذي‬ ‫يحث العقلء على الحتماء منه بالبتعا د عنه خوفا من السقوط في‬ ‫أحابيله‪ ،‬عمل بالحكمة الشعبية القائلة "إبعد عن الشر وغوني له"‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫ولذلك لم يبد على ملمحي ذلك النبهار الذي كانت تتوقعه منك‪ ..‬أسوة‬ ‫ببقية الزملء‪.‬‬ ‫وتكررت الزيارة مرات متقاربة ثم تباعدت‪ ..‬ثم انقطعت‪ .‬وكان أن‬ ‫فسر الزملء ذلك النقطاع بأنها لم تعد بحاجة لتلك الزيارات‪ ..‬فهناك‬ ‫أماكن أخرى للقاء )!(‬ ‫ولم تتوقف القاويل التي كانت تحكي عن مغامرة "ماجي" الجديدة‬ ‫المزعومة مع زميلهم‪ ،‬العبد الفقير‪ .‬بل إنها خرجت من حدو د المكتب‬ ‫الهندسي الذي اجتهد أفرا د‪،‬ه في فبركتها‪.‬‬ ‫على أني لم أ دخر جهدا في محاولة إقناع الزملء بأن شيئا مما في‬ ‫ظنونهم لم يحدث‪ .‬مما أثار تعليقاتهم الساخرة من‪" ..‬قلة حيلتي"‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫همست لي "فراتو هوبينبيرجر"‪ ،‬زوجة المهندس‪ ،‬العجوزالطيبة التي‬ ‫كانت تشعر بتقدير زوجها ومو دته لي‪ ،‬بعد أن قامت بمهمة تعريف‬ ‫الحاضرين الجالسين حول المائدة الطويلة الممتدة‪ ،‬همست لي بأنها ل‬ ‫تحمل و دا شديدا لزوج ابنتها "الخائب"‪ ،‬كما وصفته‪ ،‬لنه يتولى قضايا‬ ‫التعويضات النمساوية لليهو د من ضحايا المحرقة‪ ..‬الهولوكوست**‪.‬‬ ‫أما " د‪.‬شفارتس" الذي كان يعرف موقف حماته منه والذي أ درك بفطنته‬ ‫ما يمكن أن تهمس به لي بالرغم من جلوسه إلى طرف المائدة البعيد‪،‬‬ ‫وهو أيضا ما كانت تشي به قسمات وجهها‪ ،‬فقد ظل يحاول اقتناص‬ ‫اللحظة التي تلتقي فيها نظراتنا‪ .‬وذلك ما كنت أتجنبه‪ .‬فماعسا‪،‬ه‪،‬هذا الذي‬ ‫يعمل على تزويد جل ديك بالمال الذي يأتي بالسلح‪ ،‬أن يحمل لي من‬ ‫"مجاملت"؟‬ ‫لكني لم أستطع إل أن ألتقط كلماته التي كان يوجهها لبعض الجالسين‬ ‫من حوله‪ ،‬وهو يبذل جهد‪،‬ه لكي تصل كلماته إلى مسامعي‪.‬‬ ‫_______________________________________________________‬ ‫)**(‬

‫تعتبر النمسا ذاتها من ضحايا النازية‪ ،‬فلقد سبق وأن تم احتللها وضمها إلى الرايخ‬ ‫الثالث‪ .‬ولم يتوقف شعب النمسا عن مقاومة الحتلل النازي ومن ثم قوات الحلفاء‪ .‬وقد‬ ‫تم جلء قوات الحلفاء في ‪ 26‬أكتوبر ‪ ، 1955‬وهو اليوم الذي تحتفل فيه النمسا بعيدها‬ ‫الوطني‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫كان حديثه يدور حول اليهو دية والنازية والمحرقة‪ ..‬و"النازية‬ ‫الجديدة"‪ ..‬وصول إلى الحديث عن إسرائيل‪..‬‬ ‫"واحة الديمقراطية في صحراء التخلف العربية"‪ ..‬وتساؤلته‬ ‫الستفزازية‪:‬‬ ‫"‪ ..‬من هم العرب؟"‬ ‫"‪ ..‬أليسوا‪ ،‬كما يذكرالتاريخ‪ ،‬هم "البربر" الذين غزوا إسبانيا؟"‬ ‫"‪ ..‬أليسوا هم الذين أغاروا على إيطاليا وصقلية و جنوب‬ ‫فرنسا؟"‬ ‫"‪ ..‬ومن هم المسلمون؟ أليسوا هم التراك الذين حولوا بيزنطة إلى‬ ‫القسطنطينية‪ ..‬وزحفوا إلى مشارف فيينا؟"‬ ‫وهألم ومم جوراا!‬ ‫كل ذلك وأنا أحاول تجاهله بالتشاغل بالحديث مع جيران‬ ‫المائدة‪ .‬إل أنه‪ ،‬وقبيل انتهاء السهرة‪ ،‬استطاع أن يقتنص‬ ‫فرصته رغما عني‪ ،‬فابتسم لي ابتسامة ذات معنى وهو‬ ‫يقول بأن حماته قد حدثته مرة عن إتقاني اللغة اللمانية بشكل يثير‬ ‫إعجابها‪ ،‬ثم أر دف سائل باستفزاز مستتر وسخرية مبيتة متوارية وراء‬ ‫كلماته‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وما دا م المر كذلك‪ ،‬فل بد أنك تعرف أيضا ما تعنيه "جملة‬‫جوتس المأثورة**‪.‬‬ ‫لم يكن " د‪.‬شفارتس"‪ ،‬الذي أرا د السخرية مني أما م الجمع‪ ،‬يقودر‬ ‫أني )ربما بمحض الصدفة( قد قرأت تلك المسرحية أو سمعت‪،‬‬ ‫على القل‪،‬‬ ‫________________________________________________‬ ‫)**( "جوتس" هو إسم الشخصية المحورية في مسرحية "جوتس فون بيرليشنجن"‪ ،‬إحدى‬ ‫مسرحيات الشاعر والمفكر والكاتب الروائي والمسرحي اللماني المعروف‪"..‬جوته"‪ .‬وفي‬ ‫أحد المواقف يطلب "جوتس"‪ ،‬المتمر د‪ ،‬من الرسول أن يبلغ سيد‪،‬ه‪ ،‬المستبد‪ ،‬متحديا‬ ‫ساخرا‪:‬‬ ‫ ‪ . .‬قل له‪" :‬بإمكانك أن تلعق مؤخرتي"!‬‫فكان أن صارت عبارة "جملة جوتس المأثورة"‪ ،‬بين الناطقين باللغة اللمانية ) والصفوة‬ ‫منهم بالذات( مثل سائرا‪ ..‬وكناية عن شتيمة مستترة‪ ،‬تغنيهم عن التلفظ بنص الشتيمة‬ ‫الصلي‪ ..‬الخارج‪...‬‬

‫‪111‬‬


‫عن تلك الطرافة التي احتوتها تلك المسرحية‪ .‬فما كان إل أن انقلبت‬ ‫الية‪ ،‬وأصبح‪ ،‬بجللة قدر‪،‬ه‪،‬هو موضع السخرية عندما أجبأته بسرعة‪،‬‬ ‫وبل تر د د أو خجل )على غير عا دتي(‪:‬‬ ‫ بكل تأكيد يا " دكتور شفارتس"‪..‬‬‫ثم أر دفت بأعلى صوتي‪:‬‬ ‫ "بإمكانك أن‪." .. ..‬‬‫وتعالت الضحكات بمختلف ما تحمله من معان‪ ،‬عندما قمت‬ ‫باستظهارالجملة المذكورة بحذافيرها ونصها الصلي‪ ،‬كما نطقها‬ ‫"جوتس" المتمر د‪ ،‬وبدون اللجوء إلى الضكناأية‬ ‫اللغوية التي باتت تتضمنها العبارة المعروفة بـ"جملة‬ ‫جوتس المأثورة"‪.‬‬ ‫ضمت "فراو هوبينبيرجر"‪"،‬حماته"‪ ،‬قبضتيها رافعة إبهاميها في‬ ‫الهواء معلنة تضامنها معي‪ ،‬بينما تماسك‬ ‫المهندس "هوبينبيرجر" وحاول كبت ضحكته المتواطئة وإخفاءها وراء‬ ‫كتف زوجته‪.‬‬ ‫ورأيت أنا أن أنسحب من المكان قبل أن يتطور الموقف إلى "حرب"‬ ‫كلمية لست مؤهل لها مع محا م قدير ذائع الصيت‪ ،‬ويتمتع بالعدوانية‬ ‫و الوقاحة أيضا‪.‬‬ ‫اعتذرت لرئيسي المهندس وزوجته‪ ،‬بعد تقديم التهاني وكذلك الشكر‬ ‫لدعوته إياي لتلك المناسبة‪ ،‬وسارعت بالخروج من المكان‪ ،‬مكتفيا‬ ‫بالنصر الذي حققته في تلك "المعركة"‪" ..‬الخاطفة"‪.‬‬ ‫ولم أكد أستنشق هواء الشارع في أولى ساعات الصباح وأصل إلى‬ ‫محطة الترا م القريبة حتى شعرت بمن كان يتبعني ثم يمسك بذراعي‬ ‫من خلفي‪.‬‬ ‫كانت هي "ماريا"‪.‬‬ ‫وسرعان ما تمكنت كلماتها من أن تبد د أمارات الكتئاب والقهر التي‬ ‫كانت با دية على وجهي‪:‬‬ ‫‪112‬‬


‫‪ ..‬لعلك سوف تنسى ما قاله ذلك العميل المأجور‪ ،‬أما هو فمن أين‬‫له أن ينسى ذلك الموقف المزري الذي وضع أته فيه! وكم كنت‬ ‫أتمنى أن يطول بقاؤك لكي تستمع بنفسك إلى سخريات‬ ‫الحاضرين منه بل استثناء‪.‬‬ ‫ثم أر دفت بروح مرحة وهي تلوح بمفاتيح سيارتها‪:‬‬ ‫ أظن أن آخر"مترو" قد فاتك‪ ،‬وأنه ل يليق بي أن أتركك‬‫تنتظرحتى يأتي أول"مترو" في الصباح الباكر‪ ،‬فهل تقبل دعوتي‬ ‫لتوصيلك‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ولم تترك ذراعي لسنوات طوال‪ ،‬نشأت فيها بعد ذلك بيني وبين‬ ‫"ماريا" كأجمل ما تكون العلقة بين شاب تضنيه الغربة ويشتاق إلى‬ ‫الحنان‪ ،‬و فتاة رقيقة مثقفة معطاءة تفتقد شيئا كانت تتوق إليه‪،‬هو‪ ،‬كما‬ ‫أوجأزت لي مرة إثر مرة‪ ،‬ما كنا نمارسه معا بعفوية شديدة‪..‬الصدق‪.‬‬ ‫عرفت عني كل شيء‪ ،‬فراحت تغدق في عطاءها العاطفي بسخاء‬ ‫نا در‪ ،‬ورحت أعيرها الو د والحترا م والهتما م‪.‬‬ ‫ت واحترم ت‬ ‫كما عرف ت‬ ‫ت منذ البداية تحوفظي من الرتباط بأجنبية ربما أجد‬ ‫فيها كل المزايا التي يبحث عنها أي إنسان في شريكة حياته‪ ،‬ولكنه‬ ‫يخشى من أن يكون سببا في إقتلعها من بيئتها‪ ،‬وبالتالي معاناتها لما‬ ‫أعانيه أنا من الحساس بقسوة الغتراب ومرارته‪ .‬هذا ما كان يفرضه‬ ‫كوني ممن هم "غير معيني الجنسية"‪ ،‬أو "بل وطن" كما تقول الترجمة‬ ‫الحرفية للصطلح اللماني‪ ،‬وما يمليه الغموض الذي كان يكتنف‬ ‫مستقبل جيلي كله من الفلسطينيين‪.‬‬ ‫هذا‪ ..‬إلى جانب إ دراكها وتفهمها لما كنت أعانيه إثر تجربتي العاطفية‬ ‫الفاشلة التي لم أستطع أن أكتم تفاصيلها عنها‪ .‬بل إنها كانت تحفظ إسم‬ ‫"نهى"‪ ،‬محبوبتي‪ ،‬وكثيرا ما كانت تر د د‪ ،‬ويا للعجب‪ ،‬ما ينطوي على‬ ‫محاولة إحياء المل في عو دة المور إلى نصابها )!(‬

‫‪113‬‬


‫كانت خير رفيق لي في سنوات الغربة الخيرة‪ .‬كانت النسمة المنعشة‪.‬‬ ‫كانت البسمة المضيئة دوما‪ .‬كانت الحضن الدافيء الذي حاول أن‬ ‫يداوي جرحا قديما لم يلتئم‪ ،‬وأحزانا كنت أكابرها وأحاول أن أتعالى‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫في يو م ما من أيا م الخلو د إلى ذكرى اليا م الجميلة من الماضي‪ ،‬أيقنت‬ ‫أن الفضل في نجاحي المتميز في دراستي‪ ،‬وحصولي على المجانية‬ ‫الكاملة في الكا ديمية‪ ،‬كان يدين للتوازن الذي كانت تضفيه "ماريا"‬ ‫على حياتي ومشاعري‪ .‬هذا‪..‬علما بأني كنت دائما متوسط النجاح في‬ ‫ دراساتي السابقة!‬ ‫ما طالعني وجهها يوما إل وكانت تعلو‪،‬ه ابتسامتها المنسية أبدا على‬ ‫قسماته المريحة‪ .‬ابتسامة غدت مألوفة لي كما دقات القلب ورمشات‬ ‫العين‪.‬‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬أو ربما مرتان‪ ،‬كأنما استيقظ فيها ذلك الجانب من أنوثتها‬ ‫ولم تستطع أن تواري حزنا وشى به بريق دمعة مكتومة لم تلبث أن‬ ‫ابتلعتها الجفان‪ ،‬ذلك عندما أفلتت منها‪ ،‬بعد تر د د طال‪ ،‬كلمات متعثرة‬ ‫توحي برغبتها في "ولد" يبقى لها بعد نهاية دراستي‪ ..‬وغيابي‬ ‫المحتو م‪.‬‬ ‫لكنها سرعان ما كانت تثوب إلى رشد يمليه خوفي من مسئولية لست‬ ‫كفؤا لها‪ .‬خوفي من ما كان يرقى في نظري إلى مرتبة ارتكاب الجناية‬ ‫التي ل تغتفر في حق ذلك الـ "ولد"‪.‬‬ ‫مرتان متباعدتان‪ ،‬خلل السنوات الربع‪،‬غابت فيهما عني لبضعة أيا م‪،‬‬ ‫ولغيرما سبب ظاهر‪ .‬في البداية لم أستطع أن أتكهن بتفسير لذلك‬ ‫الغياب‪ .‬وبعد محاولت متواربة‪ ،‬باحت لي صديقتها "إيفا" بالسبب‪.‬‬ ‫في المرتين‪ ،‬استجابة منها لصوت العقل‪ ،‬كانت متخضع نفسها لعملية‬ ‫تتخلص فيها من الجنين قبل فوات الوان‪.‬‬ ‫سل م عليك يا "ماريا"‪.‬‬ ‫وجهها وطن‪ ..‬ابتسامتها وطن‪ ..‬قلبها وطن‪..‬‬ ‫لكنها أوطان لم تكن لي‪..‬‬ ‫‪114‬‬


‫هذا ما كانت تقوله قناعاتي!‬ ‫تترقرق دوما ا في عينيها الصافيتين كلمتها المتسائلة‪:‬‬ ‫ ‪ " ..‬ماألكت"؟‬‫تطار دني بحنان المهات‪..‬تطمئن علي‪..‬تطمئنني‪..‬‬ ‫يز دا د حسنها في نظري كلما اندأمأج ت‬ ‫ت معي في حديث جا د‪.‬‬ ‫يزيدني حديثي معها‪..‬اشتياقا لها‪.‬‬ ‫وأعيش متعة الحديث معها قبل‪ ،‬وبعد‪ ،‬اللحظات الحميمة‪.‬‬ ‫لعرف كيف يمكن أن تتماهى وتتناغم رغبات الجسد وحاجاته مع‬ ‫أمنيات الروح وأشواقها‪ ،‬مع نداء العقل واتزان بصيرته‪.‬‬ ‫وأتساءل باستنكار‪:‬‬ ‫كيف يمكن لنسان أن ينعم بالقرب من أنثى ل تغريه شفتاها بالنصات‬ ‫إلى حديثها؟‬ ‫حيث يكون لصوت عقلها ما لمذاق حضورها‪ ،‬وبريق عينيها‪ ،‬وفوح‬ ‫عطرها الرباني من سحر‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫لم أعرف معنى الحزن الحقيقي‪ ،‬ولم أر دموعا صا دقة مثل تلك التي‬ ‫رأيتها عن بعد عشرات عديدة من المتار وهي تلمع منهمرة من‬ ‫عينيها في اللحظات الخيرة التي كنت أقف فيها على ظهرالسفينة‬ ‫"إسبيريا"‪ ،‬بينما كانت "ماريا" تقف ملووحة بيديها مو دعة على‬ ‫رصيف ميناء "فينيسيا"‪.‬‬ ‫ذلك اليو م كان صبيحة ليلة عيد ميل دها السا دس والعشرين‪.‬‬ ‫لقد أبت إل أن ترافقني لكي نحتفل به في ساعاتنا الخيرة معا‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫عندما زرت "فيينا" لول مرة‪ ،‬بعد مرور تلك السنوات الطويلة على‬ ‫مغا درتي لها‪ ،‬وذلك إثر حضوري لمهرجان سينمائي في ألمانيا‬ ‫التحا دية‪ ،‬عا م ‪ ،94‬وبينما كان صديقي "يوهان"‪ ،‬الذي بات ذلك‬ ‫المهندس المعماري المتألق في بلد‪،‬ه "فيينا"‪ ،‬يقو دني لتفرج على الفيل‬

‫‪115‬‬


‫المنيفة التي صممها وبناها لنفسه‪ ،‬وبينما كنا نقف أما م حوض السباحة‬ ‫الشتوي‪ ،‬بجوار حما م "الساونا"‪ ،‬سألني فجأة‪:‬‬ ‫ أل تريد أن ترى "ماريا"؟ إنها ما زالت تذكرك بالرغم من‬‫مرور حوالي ربع قرن على سفرك من فيينا؟‬ ‫أ دركتنا زوجته "إيفا" في تلك اللحظة‪ .‬كررت نفس السؤال وحاولت‬ ‫إضافة ملحظة ما‪ ،‬فأسكتها "يوهان" بإيماءة ظلت مطبوعة في‬ ‫ذاكرتي ل تكف عن تحريضي على استشفاف معناها‪.‬‬ ‫لم يسمع أحدهما مني إجابة‪.‬‬ ‫كنت أخشى أن أرى في عيني "ماريا" الرثاء لحالي‪.‬‬ ‫هل أقول لها أنني خسرت الرهان بعد أن أنفقت أهم سنوات عمري‬ ‫جريا وراء سراب إسمه العو دة إلى الوطن والستقرار فيه؟ ذلك بعد أن‬ ‫أعطتني "النمسا" كل مقومات الستقرار فيها‪ ،‬من حق في إكتساب‬ ‫الجنسية‪ ،‬إلى إمكانيات العمل‪ ،‬إضافة إلى رفيقة عمرأسكن إليها‪.‬‬ ‫هل أعترف لها ‪ -‬إن كانت بعد ل تدري‪ -‬عن تجربتأتي زواجي‬ ‫الفاشلتين؟!‬ ‫هل أقول لها أنني مازلت أتنقل بين الفنا دق و"الشقق المفروشة"‪ ،‬في‬ ‫مختلف البل د‪ ،‬في إنتظار العو دة إلى بلدي؟‬ ‫هل أقول لها أن أحلمي قد انحسرت وتقلصت وانحصرت في انتظار‬ ‫الحصول على "رقم الكومبيوتر" الذي سوف يمكنني من العيش في‬ ‫ظل "سلطة" يعلم ا مدى سلطتها‪ ،‬ويعلم ا متى سوف تعيدني إلى‬ ‫ داري في "القدس"؟‬ ‫ داري التي باتت "ماريا" تكا د تعرفها ركنا ركنا!‬ ‫صديقي"يوهان" كان قد عوقب على شعار "الرض مقابل السل م"‪،‬‬ ‫الطازج في حينها‪ ،‬والذي "فرحنا" به في بداية الحديث عن الحل‬ ‫السلمي‪ ،‬بسخرية مريرة‪:‬‬ ‫‪ -‬أي أرض‪ ..‬وأي سل م؟‬

‫‪116‬‬


‫أخشى‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬أنهم يقصدون "أراض عربية" ما زالت في‬ ‫حوزتكم ولم تجر مصا درتها أو احتللها أو استيطانها بعد‪،‬‬ ‫مقابل سلمتهم وأمنهم هم!‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ل أ دري‪ ،‬هل كان من فرط سوء حظي‪ ،‬أ م لعله من حسن حظ‬ ‫"ماريا"‪ ،‬أن أخي "عابد" قد تدوخل في حسم المر‪ ،‬عندما كانت‬ ‫تواتيني لحظات الضعف تجاهها!‬ ‫لم يترك أخي فرصة تمر دون أن ير د د لي مقولته عن خطورة الزواج‬ ‫المختلط على البناء‪ ،‬مستشهدا لذلك بكثير من الحالت التي أعرفها‪،‬‬ ‫والتي لم يكتب لها النجاح والستمرار‪ ،‬لنها كانت تفتقر إلى الرضية‬ ‫الصلبة‪ ..‬والستقرار‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪117‬‬

‫*‬


‫قالوا‪.....‬‬ ‫هم‪ ‬الغرب‪ ‬ونحن‪" ‬العرب"‪ .. ‬والفرق‪ ‬بيننا‪ ‬نقطة‬ ‫هم‪ ‬يعيشون‪ ‬مع‪ ‬بعضهم‪ ‬البعض‪ ‬في‪ ‬حالة‪ ‬تحالف‪ ‬ونحن‪ ‬في‪" ‬تخالف"‪...... ‬‬ ‫والفرق‪ ‬بيننا‪ ‬نقطة‪. ‬‬ ‫عندهم‪ ‬المواطن‪ ‬وصل‪ ‬الحصانة‪ ‬وعندنا ل‪ ‬زال‪ ‬في‪" ‬الحضانة"‪ ..‬والفرق‪ ‬بيننا‬ ‫نقطة‪. ‬‬ ‫عندهم‪ ‬يهتم‪ ‬الحكام‪ ‬باستقلل‪ ‬شعوبهم‪ ‬وعندنا‪" ‬باستغلل"‪ ‬شعوبهم‪ .. ‬والفرق‬ ‫بيننا‪ ‬نقطة‪. ‬‬ ‫المستقبل‪ ‬لبنائهم‪ ‬غناء‪ ‬ولبنائنا‪" ‬عناء"‪ ... ‬والفرق‪ ‬بيننا‪ ‬نقطة‪. ‬‬ ‫هم‪ ‬يصنعون‪ ‬الدبابة‪ ‬ونحن‪ ‬نخاف‪ ‬من‪" ‬ذبابه"‪ ..... ‬والفرق‪ ‬بيننا‪ ‬نقطة‪.. ‬‬ ‫هم‪ ‬صاروا‪ ‬شعب ا‪ ‬المختار‪ ‬ونحن ل‪ ‬زلنا‪ ‬شعب ا‪" ‬المحتار"‪ .. ‬والفرق‪ ‬بيننا‬ ‫نقطة‪.‬‬ ‫شي‪ ‬يحزن‪ ‬وا‬

‫*‬

‫*‬

‫‪118‬‬

‫*‬


‫الغرب‪ ..‬والشرق‬ ‫كثيرا ما يخطرلي‪ ،‬في مثل هذ‪،‬ه المناسبة‪ ،‬ما قاله "نقول زيا د‪،‬ه"‪،‬‬ ‫الكاتب ال ديب والمؤر خ الفلسطيني‪ ،‬حينما تحدث عن "صدمتين"‬ ‫عندما ذهب في مقتبل عمر‪،‬ه للدراسة في لندن‪.‬‬ ‫الصدمة الولــى صــدمة عا ديــة‪،‬سياســية‪،‬تتعلــق بمواجهــة مظاهرحريــة‬ ‫الرأي‪ ،‬والممارسة اليومية للديمقراطية‪ .‬وأظننــا‪ ،‬نحــن معشرالدارســين‬ ‫في جامعات أوروبا‪ ،‬قدعرفنا وخبرنا ما شابه ذلك من الصدمات‪.‬‬ ‫أذكر‪ ،‬أيضا‪ ،‬أنني صدمت عندما شاهدت مظاهر الحرية‬ ‫والديمقراطية في بل د الغرب هذ‪،‬ه‪.‬‬ ‫لم يكن لنا عهد بهذ‪،‬ه المظاهر‪ ،‬فلقد حرصت حكومة النتداب‬ ‫البريطاني في فلسطين على ذلك أشد الحرص‪.‬‬ ‫لم نعرف معنى "الديمقراطية"‪ .‬ولم نعرف كلمة "إنتخاب"‪ .‬كنا نسمع‬ ‫عنها سمعا فقط‪.‬‬ ‫في المدرسة ميفرض علينا "العريف" الذي يمثل سلطة المدرسة‪ ،‬كما‬ ‫كانت تفرض علينا حتى اللعاب التي نمارسها‪.‬‬ ‫واختياراتنا ‪-‬إن وجدت‪ -‬محد دة مشروطة‪.‬‬ ‫وفجأة‪ ،‬وجدنا أنفسنا في أوروبا نعيش ونرى ونسمع ونتأمل‪ ،‬ونتمنى‬ ‫لبل دنا العربية أجمل ما رأينا وشاهدنا وسمعنا‪ .‬وباتت أحلمنا هي‬ ‫ دولة لنا‪ ،‬تتفتح في ظلها طاقاتنا على البداع والبناء‪.‬‬ ‫أماالصدمة الثانية فكانت اجتماعية‪ .‬ذلك عندما سأل "نقول زيا د‪،‬ه" والدة‬ ‫صديقته لتسمح له بمرافقة ابنتها فقالت له ببساطة‪:‬‬ ‫‪ -‬لماذا تسألني أنا‪ ..‬إسألها هي؟!‬

‫‪119‬‬


‫ولقد كـانت"ماريـا"‪ ،‬إضـافة إلـى رجاحـة عقلهـا‪ ،‬تتمتـع أيضـا برعايـة‬ ‫أبوين واسعي الصدر والفق‪.‬‬ ‫قالت لي أمها‪ ،‬ليلة أن سهرنا للحتفال بعيد ميل دها الرابع والعشرين‪،‬‬ ‫وعندما هممت بمغا درة بيتهم في أولى ساعات الصباح‪ ،‬وهومت‬ ‫"ماريا" لتوصيلي إلى مسكني بسيارتها حيث قد فات موعد آخر‬ ‫"مترو"‪:‬‬ ‫ لم كل هذا العذاب؟‬‫وتبا دلت نظرة مع الب الذي ابتسم وهو يتمنى لنا ليلة سعيدة ويغا درنا‬ ‫إلى غرفته‪ .‬ثم أكملت‪ ،‬وهي تبتسم في مكر غير ممجوج‪:‬‬ ‫ خذ المر ببساطة يا بني‪ ،‬ول داعي للحرج أو للتر د د‪ ،‬فما الفرق‬‫بين أن تقضي "ماريا" عندك طول النهار‪ ،‬وبين أن تقضي أنت‬ ‫عندها بقية هذ‪،‬ه الليلة؟‬ ‫هل يختلف فرا ش الليل عن فرا ش النهار؟‬ ‫ألجمتني )والحق يقال( تلك المسألة‪.‬‬ ‫ولم أعرف )وأكا د ل أعرف حتى الن( في أي جانب أنا من هذا‬ ‫المنطق‪.‬‬ ‫أما صديقي خفيف الظل "ع‪ .‬مصطفى" فقد استغرق في الضحك عندما‬ ‫سمع حكايتي‪ ،‬وحكى لي قصة مشابهة‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬و"هايدي" قالت لها أمها يو م ما رحت آخدها لحفلة الكا ديميه‬‫الساهرة السنوية‪:‬‬ ‫"خذي وقتك"‪ ..‬وما تشغليش بالك بموعد آخر "ترا م"‪..‬ورووحي‬ ‫معا‪،‬ه‪ ..‬والصباح رباح!‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫قالوا ‪:‬‬ ‫"الشرق هو الشرق‪..‬والغرب هوالغرب‪ ..‬فكيف يلتقيان؟!"‬ ‫وأقول مكررا‪:‬‬

‫‪120‬‬


‫للمنفى مساوئ ل تحصى‪..‬وفضيلة واحدة‪.‬إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى‬ ‫وطن‪ ،‬ويؤكد صلتنا بأصولنا‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫"فل ش باك" ‪..‬‬ ‫هأنا ألجأ إلى العو دة المؤقتة إلى الماضي لتوضيح بعض المور التي‬ ‫أراها على درجة من الهمية‪.‬‬ ‫كانت "السينما" تستهويني دوما‪ .‬وكان ما يكتب عن الفل م السينمائية‬ ‫في الصحف والمجلت يستدرجني لشاهد هذا الفيلم أو ذاك‪ .‬ثم أقارن‬ ‫بين ما كتبه هذا الناقد أوغير‪،‬ه‪ .‬وأسارع إلى قراءة قصة أو رواية جرى‬ ‫تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل أن أشاهد‪،‬ه‪ ،‬أو بعد ذلك‪ .‬أو أهرع لرى‬ ‫كيف عالج ذلك المخرج تلك الرواية‪ ،‬التي حولها خيالي أثناء قراءتها‬ ‫أو بعدها إلى فيلم سينمائي‪ .‬وهي عا دة قديمة درجت عليها في صباي‬ ‫المبكر‪ .‬هذا بالرغم من تلك النظرة الستنكارية‪ ،‬المتخلفة‪ ،‬من قبل‬ ‫أوساطنا المتزمتة لمثل هذ‪،‬ه الهتمامات‪ .‬ولزمتني تلك العا دة بشكل‬ ‫أكثر جدية‪ ،‬أثناء دراستي في "فيينا"‪ ،‬حيث كان المجال أوسع‬ ‫وأرحب‪ .‬خصوصا في فترات تدريبي وما بعدها‪ ،‬حيث كانت أحوالي‬ ‫الما دية تتيح لي التر د د على "الصفوف المامية"‪ ،‬القل تكلفة‪،‬‬ ‫لمختلف دورالسينما في فيينا‪ ،‬بشكل يومي تقريبا‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في بداية المرحلة الدراسية ‪ ،‬كانت دار سينما ‪Urania‬‬ ‫"أورانيــــــا" تتوسط المسافة بين مبنى أكا ديمية الفنون التطبيقية وبين‬ ‫مسكني في الحي الثاني‪ .‬وكثيرا ما كانت نافذة عرض صور"الفل م‬ ‫القا دمة" تلفت نظري أثناء رحلتي اليومية بالمترو من البيت إلى‬ ‫‪122‬‬


‫الكا ديمية وبالعكس‪ .‬ثم دأبت بعد ذلك على أن أتحايل على المسافة‪،‬‬ ‫لقطعها مشيا على القدا م‪ ،‬بأن أمرعلى تلك المؤسسة‪ ،‬أتفرج على‬ ‫صورعروضها المقبلة وأتزو د بنشراتها‪ ،‬فأكون بذلك قد اجتزت نصف‬ ‫المسافة‪ ،‬ول أجد ضرورة لركوب المترو لجتيازالنصف الخر منها‪.‬‬ ‫وكانت تلك الدار تتميز بأنها تتبع إحدى المؤسسات الثقافية **‪ ،‬التي‬ ‫تحمل اسمها‪ ،‬وتتخصص بشكل مميز في عرض الفل م التسجيلية‬ ‫وأفل م المهرجانات ذات القيمة الفنية والفكريه‪ .‬فهي مشهورة‪ ،‬مثل‪،‬‬ ‫بــ ض"أسابيع الفل م" بأنواعها‪.‬‬ ‫وكانت سينما "أورانيا"هي أول عهدي بالفل م التسجيليه‪ ،‬التي لم تكن‬ ‫في الغالب‪ ،‬في نظري ونظرالكثيرين‪ ،‬سوى"جريدة ناطقة" تحتوي‬ ‫على "ريبورتاجات" تعرض عا دة قبل عرض الفيلم الرئيسي في‬ ‫ دورالسينما‪.‬‬ ‫أصبحت أجد متعة في مشاهدة فيلم تسجيلي طويل‪ ،‬أو مجموعة أفل م‬ ‫قصير‪،‬ه‪ ،‬تنقلني إلى أماكن متعد دة‪ ،‬وتنقل لي واقع تلك الماكن بدون‬ ‫تزييف أو تجميل‪ .‬إلى أن جاء يو م عرض فيلم تسجيلي اسمه باللغة‬ ‫اللمانية " ‪ ." Paradies und Feueroefen‬بمعنى"الجنة وأفران‬ ‫النار"‪ ،‬من تأليف وإخراج "هيربرت فيكتور"‪ ،‬والذي كان ينقلنا من‬ ‫الحديث عن نار "أفران الغازالنازية" إلى استعراض "الجنة" التي‬ ‫صنعها اليهو د لنفسهم من صحراء فلسطين الجر داء)!(‬ ‫كان ذلك في أواخرعا م ‪ ،1960‬على قدرما أذكر‪.‬‬ ‫ولكنني ما زلت أذكر‪ ،‬وبالتفصيل‪ ،‬تسلسل اللقطات المأخوذة من الجو‪،‬‬ ‫والتي كانت تنقلنا‪ ،‬عن طريق "المزج"‪ ،‬من أراض صحراوية‬ ‫شاسعة قاحلة وقد تشققت بسبب ما أصابها من العطش‪ ،‬إلى مساحات‬ ‫ل‬ ‫نهاية لها من اللون الخضر البهيج‪ .‬ثم نرى بتفصيل تدريجي أشجار‬ ‫البرتقال بثمارها الذهبية اللون المتللئة‪ ،‬وفتيات جميلت يرتدين‬ ‫"الشـورت" الذي يكشف عن سيقان ل تقل نضارة و تللؤا‪ ،‬وهن‬ ‫يجمعن المحصول‪ ،‬ويضعنه في صنا ديق كتبت عليها كلمة "يافا"‪..‬‬

‫‪123‬‬


‫تلك الكلمة التي باتت بديل عن السم المعروف والمتداول للـ"البرتقال‬ ‫اليافاوي"‪ ،‬وينشدن أغنية‪ ،‬بكلمات عبرية‪،‬ل تحتاج إلى كثيرمن الدهاء‬ ‫___________________________________________‬ ‫)**(‬

‫وهي المؤسسة التي أوحت لي فيما بعد بمشروع تخرجي من أكاديمية الفنون التطبيقية‬ ‫مشروع مبـــنى "المــركـز الثقــــافي الفلسطيــــني" ‪.‬‬

‫لتعرف أن لحنها ينتمي إلى أصول عربية‪.‬‬ ‫وتتعالى شهقات العجاب‪ ،‬في صالة العرض‪ ،‬من الجمهور الذي رأى‬ ‫بأ م عينه كيف حول "اليهو د" المضطهدون نارهم إلى جنة‪ .‬وكيف‬ ‫أصبحت الرض القاحلة )الخالية من السكان(‪ ،‬بفضلهم‪ ،‬وطنا جميل‪،‬‬ ‫لشعب جميل كان مشر دا بل وطن‪.‬‬ ‫ثم‪،‬على سبيل المثال‪ ،‬يرى الجمهور موقعا قاحل على شاطيء البحر‪،‬‬ ‫كان فيما سبق‪ ،‬حسبما يفيد التعليق‪ ،‬مجر د محطة لقوافل الجمال )!(‬ ‫فإذا بهذا الموقع يتحول‪ ،‬حسبما يرى الجمهور‪ ،‬بأ م عينه‪ ،‬على أيدي‬ ‫ذلك "الشـعب المختـار" إلى‪..‬ميناء عصري‪..‬ومدينة جميلة حديثه‬ ‫اسمها‪"..‬حيفـــــا")!(‬ ‫بدا لي جليا أن لغة السينما قد اقتربت من‪ ،‬أو ربما سبقت‪ ،‬اللغة‬ ‫الشعرية في مقدرتها بفصاحة التعبير وبلغة الوصف على التأثير‬ ‫والقناع‪ ،‬بحيث أمكن استغلل قوة تأثيرها‪ ،‬لتحويل الكاذيب إلى‬ ‫حقائق تراها العين‪ ،‬فتستعذبها ثم تصدقها‪.‬‬ ‫ل عجب إذ قالوا قديما‪"..‬أعذب الشعر أكذبه"‪.‬‬ ‫أل يذكرنا هذا بأفل م الدعاية لـ"صابون الجمال" والـ"شامبو"! حيث‬ ‫يجتهد صانعوا تلك الفل م في اختيار فتيات جميلت ذوات بشرة‬ ‫نضرة أو شعور حريرية منسابة بطبيعتها‪ ،‬ثم يدبجون الكلمات‬ ‫والصور التي توهم المشاهد أن ذلك ماكان إل نتيجة لستعمال ذلك‬ ‫المنتج‪.‬‬ ‫بعد ثلث سنوات دراسية‪ ،‬وفي الفترة التي قضيتها متدربا في أحد‬ ‫كبرى الشركات الهندسية في"فيينا"‪ ،‬استعدا دا لعمل مشروع التخرج‬ ‫المذكور‪ ،‬بعد عو دتي من "فوبرتال"‪ ،‬كنت أسكن بجوار صالة سينما‬ ‫"كولوسيو م" ‪ Kolosseum‬في الحي التاسع‪.‬‬ ‫‪124‬‬


‫ دأبت تلك الدار‪ ،‬لمدة عا م كامل‪ ،‬على العلن عن عرض ثان لفيلم‬ ‫المخرج "أوتو بريمينجر" ‪" ،Otto Preminger‬إكسو داس"‬ ‫‪" ، Exodus‬الخروج"‪ ،‬عن رواية "ليون أوريس" ‪. Leon Oris‬‬

‫‪125‬‬


‫ملصق الفيلم الذي كان نقطة تحول في حياتي‬ ‫لم أكن قد شاهدت الفيلم في عروضه الولى‪ ،‬وإن كنت قد قرأت‬ ‫الكثيرعنه‪ .‬وكان ذلك مما حفزني على قراءة الرواية‪ ،‬من منشورات‬

‫‪126‬‬


‫ دار"أرض الدانوب" ‪ Donauland‬بالرغم من طولها‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫تواضع لغتي اللمانية آنذاك‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫طوال أكثر من ساعتين‪ ،‬وهي مدة عرض الفيلم‪ ،‬كانت تتناهى إلى‬ ‫مسامعي همسات المشاهدين‪ ،‬ونهنهات الباكين‪ ،‬وشهقات المندهشين‪،‬‬ ‫وآهات المنفعلين‪ ،‬وتعليقات المستنكرين‪ ،‬وتصفيق المتعاطفين مع‬ ‫أسطورة "الرووا د" وأوها م از دهار الصحراء الخالية المجدبة على أيديهم‬ ‫وإقامة دولتهم ببذل الد م والعرق والدموع‪.‬‬ ‫شاهدت الفيلم مرة أخرى‪ ،‬وثالثة‪ ،‬ورابعة‪.‬‬ ‫وفي كل مرة‪ ،‬كان القبال يتزايد‪ .‬ويخرج المشاهدون وكأنما أجريت‬ ‫لكل واحد منهم تلك العملية التي يسمونها‪" Brain Washing :‬غسيل‬ ‫مخ"!‬ ‫أمارات "التغيير" با دية عليهم‪ .‬كنت أراقب تلك الشياء التي جسدت‬ ‫أمامي مقولة أن "التغيير" هو "غاية الفنون وهدفها"‪ ،‬وأن السينما "أهم‬ ‫الفنون"‪.‬‬ ‫"إكسو داس"‪) ،‬وغير‪،‬ه من الفل م السينمائية الخرى التي دأبت على‬ ‫تكرار نفس القصة(‪ ،‬قصة شعب أعزل يعاني من اضطها د قوى الشر‪،‬‬ ‫التي تقترف جرائم القتل الجماعي ضد‪،‬ه تارة‪ ،‬وتحول دونه و"العو دة"‬ ‫إلى أرضه )أرض الميعا د( تارة أخرى)!(‬ ‫ثم تعلن‪ ،‬قوى الشر تلك‪ ،‬تقسيم أرضه وإعطاء جزء منها إلى فئة من‬ ‫البدو المتوحشين‪ ،‬الذين نراهم وهم يحرقون الزرع ويقتلون المواشي‪،‬‬ ‫ويكورون‪..‬ويفورون‪..‬مولولين كما "الهنو د الحمر" في الفل م الميريكية‪.‬‬ ‫لكنهم‪"،‬أبناء شعب ا المختار"‪ ،‬بإيمانهم وتضحياتهم وتضافرهم‬ ‫وتمسكهم بحضارتهم‪ ،‬بعد سنوات طويلة من عناء القهر والظلم‪،‬‬ ‫استطاعوا أن يحققوا النصر ويعلنوا "استقلل" بل دهم وقيا م دولتهم‬ ‫المسالمة‪ ،‬التي تستحق العطف والتأييد‪ ،‬لنها قائمةعلى الحب‬ ‫والديمقراطية وسمو المبا دئ و الهداف)!(‬

‫‪127‬‬


‫كل ذلك‪ ،‬بلغة سينمائية عالية‪ ،‬وأ داء متقن مقنع لممثلين لهم مكانتهم‬ ‫العالميه‪"،‬بول نيومان" و"إيفا ماريا سينت"‪ ،‬ومشاهد مؤثرة توفر‬ ‫لتنفيذها كل المكانات التقنية بحساب دقيق‪..‬أو‪..‬بدون حساب‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ل أبالغ كثيرا حينما أقول أنني كدت‪ ،‬أنا الفلسطيني المشر د‪ ،‬أن أتأ ثر‬ ‫بما رأيت وسمعت‪ ،‬أو أن أتعاطف للحظات معه‪ ،‬أوعلى الصح مع‬ ‫تلك الحالة)!(‬ ‫نقطة التحول في حياة المرء‪ ،‬كما يقول الفيلسوف الجتماعي اللماني‬ ‫"فر ديناند تونييس"‪ ،‬تعتمد في غالب الحيان على مصا دفة ل تلبث أن‬ ‫تهيء لوضاع معينة ليست في الحسبان من شأنها أن ينفعل بها المرء‪،‬‬ ‫سلبا أو إيجابا‪ ،‬فيكون نتيجة هذا النفعال إتخاذ قرار يحد د مسار حياته‬ ‫أو يؤثر في علقاته‪.‬‬ ‫كان هذا الفيلم )مع غير‪،‬ه من شاكلته( هو نقطة التحول في حياتي‪ .‬وقد‬ ‫اتخذت قراري ببساطة متناهيه‪ .‬بل وجدتني مرة أضحك‪ ،‬وأنا أسأل‬ ‫نفسي‪ ،‬ساخرا‪ ،‬عن جدوى دراستي لفن"العمارة الداخلية"‪"..‬الديكور"‪.‬‬ ‫وما دمت أ دعي ارتباطي بقضيتي ومصيرشعبي‪ ،‬فما هي حاجـتة لهذ‪،‬ه‬ ‫الرفاهية وهو‪ ،‬في معظمه‪ ،‬يسكن المخيمات‪ ،‬التي سوف تتحول‪ ،‬على‬ ‫أحسن الفروض‪ ،‬إلى معسكرات للفدائيين؟!‬ ‫صحيح أنني أحببت "السينما" منذ صباي المبكر‪.‬‬ ‫وصحيح أنني‪ ،‬في صباي المبكر‪ ،‬أو في سنوات مراهقتي‪ ،‬طالما‬ ‫حلمت بأن أصبح مخرجا سينمائيا‪.‬‬ ‫لكنني الن أصبحت أعرف سببا أو هدفا دافعا لهذا الختيار‪.‬‬ ‫أعرف الن‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬مدى حاجة الكثيرين من البسطاء أمثال‬ ‫من شاهدوا فيلم "الخروج"‪ ،‬في كل بقاع الرض‪ ،‬إلى أفل م تتحدث‬ ‫عن الوجه الخر لتلك الحقيقه المزعومة‪.‬‬ ‫‪128‬‬


‫تذكرت ما قاله البقال اليهو دي النمساوي الكائن دكانه في شارع‬ ‫"هاينه" المجاور لمسكني بالحي الثاني‪ ،‬والذي كان قد عا د مؤخرا‬ ‫للستقرار في بلد‪،‬ه "فيينا"‪ ،‬بعد أن تركها مهاجرا إلى "إسرائيل"‪..‬‬ ‫أرض الميعا د‪..‬في أوائل الخمسينات‪.‬‬ ‫قال لي بأسلوبه الساخرالممرور‪ ،‬بعد أن عرفت قصته‪ ،‬بعد عدة‬ ‫مرات تبا دلنا فيها حديثا و ديا‪:‬‬ ‫لو أن"عبد الناصر" اتخذ لنفسه وزيرإعل م ذكي‪ ،‬مثلما فعل‬ ‫‬‫"هتلر" مع "جوبلز"‪ ،‬لميطلع العالم على الوجه الخر للقضية‬ ‫الفلسطينيه‪ ،‬لكان‪ ،‬على القل‪ ،‬قد وفرعلوي وعلى الكثيرين مشقة‬ ‫النتقال إلى "أرض اللبن والعسل" المزعومة تلك‪ ،‬لكي نتبين‬ ‫الحقيقه‪ .‬فالنسان البسيط‪ ،‬يا جاري المحتر م‪ ،‬يصدق ما يسمعه‬ ‫أو يقرأ‪،‬ه أو يرا‪،‬ه من "حقائق" أجهزة العل م‪ ،‬المزيفة‪ .‬لكنه‬ ‫عندما يعرف أن للحقيقة أكثر من وجه‪ ،‬عندها يبدأ بالتفكير‪.‬‬ ‫ثم أر دف قائل‪:‬‬ ‫ العل م‪ ..‬العل م الذكي ياعزيزي‪..‬هذا هو ما ينقصكم!‬‫هل يملك من هو في مكاني أن يتوقف عن السعي لمتلك أ دواته لكي‬ ‫يتمكن من رواية قصة الخروج الجديدة وتفنيد مزاعم الصهيونية وكشف‬ ‫أكاذيبها المضللة‪ ،‬بنفس اللغة التي أشاعت تلك الكاذيب‪.‬‬ ‫*‬

‫‪129‬‬

‫*‬

‫*‬


‫أثناء التدريب في مكتب هندسي في "فيينا"‬

‫أوراق قديمـــــــــــــــة‪..‬‬ ‫‪130‬‬


‫تعو د م‬ ‫ت‪ ،‬لفترات متقطعة‪ ،‬متباعدة‪ ،‬أن أ دون خواطري‪ ،‬كما اتفق‪ ،‬كلما‬ ‫وجدت سبيل إلى ذلك‪.‬‬ ‫كما تعو دت‪ ،‬بين حين وآخر‪ ،‬أن أطل على بعض ما كتبت‪.‬‬ ‫أجدني في بعض المرات أسخر من خواطر معينة‪ ،‬فأتخلص من بعض‬ ‫الوراق‪ .‬وفي مرات أخرى‪ ،‬أجدني متفقا مع تلك الخواطر فأحرص‬ ‫على تصنيف وعنونة و"تخزين" ما تبقى لي من بعض الوراق‬ ‫الخرى‪ ،‬ظنا‪ ،‬أو تكهنا مني‪ ،‬وا أعلم‪ ،‬أنني سوف أجد لبعضها مكانا‬ ‫فيما أنا مقبل عليه الن‪ ..‬مشروع تدوين سيرتي الذاتية‪.‬‬ ‫وحسبي في ذلك‪ ،‬الن‪ ،‬هو صديقي اللكتروني الشهيربضـ"الحاسوب"‪،‬‬ ‫الذي اختصرالمستحيلت الثلثة** إلى مستحيلين فقط‪ ،‬وغدا هو‬ ‫"الخول الوفي"‪ ،‬الذي أثبت وجو د‪،‬ه بجدارة‪ ،‬وصارهو مستو دع أسراري‬ ‫و سجل خواطري‪ ،‬الذي ل يكل ول يمل‪ ،‬والذي أصبح وبات وما بضرح‬ ‫يستجيب لضربات أصابعي على أزرار‪،‬ه‪ ،‬فيقو م بتخزين أواستدعاء أو‬ ‫حذف أو إضافة أو تأجيل أو تعديل أوتقديم أوتأخير كلمات أوفقرات‬ ‫أوصفحات معينة‪ ،‬مما سبق أن أو دعتها فيه‪ ،‬حسبما يعن لي‪.‬‬ ‫مثال ذلك ما يلي‪:‬‬ ‫فيينا ‪ /‬النمسا‪ ..‬الربعاء ‪27/6/1962‬‬ ‫نحن في بداية الجازة الصيفية للعا م الدراسي الخير‪ .‬ورسالة صديقي‬ ‫وزميل الدراسة النمساوي"يوهان" تقول أنه سيكون بانتظاري يو م‬ ‫الحد‪ ،1/7/62،‬لبدأ العمل‪ ،‬في مطلع السبوع القا د م‪ ،‬حيث تعو دت‬ ‫أن أقضي جزءا من إجازاتي السابقة في العمل كمتدرب في نفس‬ ‫_______________________________________‬ ‫)**( كما قال الشاعر ‪ :‬نببُتئت أن المستحيل ثلثة‬

‫الغول والعنقاء والخخزل الوفزي‬

‫المكتب الهندسي الذي يعمل فيه صديقي‪.‬‬ ‫أما وقد انتهيت إلى ذلك القرار المصيري الذي جعلني أبدأ باتخاذ‬ ‫تغييرات هامة في مجريات أموري فرضتها ظروف مختلفة‪ ،‬ربما‬ ‫‪131‬‬


‫يأتي الوقت الكثر مناسبة للحديث عنها بالتفصيل اللئق‪ ،‬فل بد لي‪،‬‬ ‫كبداية‪ ،‬وإيذانا بالبدء في تنفيذ تلك التغييرات‪ ،‬من إلغاء عا دة قضاء‬ ‫الجازة الصيفية في السكندرية كما تعو دت في السنوات الماضية‪.‬‬ ‫كنت إذن قد عقدت النية على قضاء الجازة كلها بالتدريب في ذلك‬ ‫المكتب الهندسي‪ .‬ذلك بعد أن أنهيت إمتحاناتي النظرية كلها في‬ ‫أكا ديمية الفنون التطبيقية بفيينا‪ ،‬ولم يبق لي سوى التحضير لمشروع‬ ‫التخرج‪..‬مشروع "الدبلو م"‪:‬‬ ‫ذلك المبنى الذي سوف يقا م على إحدى مشارف مدينتي‪" ،‬القدس"‪،‬‬ ‫يطل على تاريخها‪ ،‬ويستمد منه طراز‪،‬ه المعماري‪.‬‬ ‫يحتوي على مكتبة عامه للكتب‪ ،‬والمنشورات‪ ،‬والمطبوعات الدورية‬ ‫وغيرالدورية‪ ،‬بمختلف أنواعها من كل أنحاء العالم‪ .‬وأخرى للتسجيلت‬ ‫الموسيقية بكل أشكالها‪ .‬وغيرهما للفل م السينمائية‪.‬‬ ‫صالة محاضرات‪..‬وصالة "كونسيرت" للعروض الموسيقيه‪..‬وصالة‬ ‫للقراء‪،‬ه‪..‬وأخرى للستماع‪ .‬وصالةعرض مسرحي‪..‬وصالة عرض‬ ‫سينمائي ملحقة بالـ "سينماتيك"‪.‬‬ ‫عالم رحب‪..‬يتسع لكل ما يمت للثقافة والرياضة العقلية والبدنية بصلة‪.‬‬ ‫حلم‪..‬سوف يتحقق يوما ما على أرض بل دي‪.‬‬ ‫إنه )كان ولم يزل( حلمي في منامي‪ ،‬ويقيني في يقظتي‪..‬‬ ‫ذلك هو مشروع مبنى "المركزالثقافي الفلسطيني"‪.‬‬ ‫الحق أنني كنت على يقين من أن الضهتر "شولتس" ما زال يرحب‬ ‫بعو دتي للعمل متدربا في مكتبه الهندسي‪ ،‬في"فوبرتال" اللمانية‪ ،‬في‬ ‫أي وقت‪.‬‬ ‫هوألماني مخضر م‪ ،‬كان تعاطفه يوحي إلي بأنه يخجل من ماضيه‪.‬‬ ‫كان دائما يحاول أن يؤكد لي )وربما كان يحاول أن يؤكد ذلك لنفسه(‬ ‫أنه لم يكن سوى "مهندسا معماريا" مجندا في مجال عمله في عهد‬ ‫النازيه‪.‬‬ ‫‪132‬‬


‫لم أطالبه بذلك‪ ،‬ول أشعرته يوما‪ ،‬في واحدة من جلساتنا‪ ،‬أثناء عملي‬ ‫في مكتبه في الجازات السابقة‪ ،‬أنني أشك في براءته مما ينسب عا دة‬ ‫لجيله من اللمان‪.‬‬ ‫قال لي مرة‪ ،‬أنني كنت سببا في إيقاظ أو تجد د معاناته من‪"..‬عقدة‬ ‫الذنب"!‬ ‫في البداية‪ ،‬في إجازتي الصيفية قبل الماضية‪ ،‬كان يظن أنني يهو ديا‬ ‫من "إسرائيل" )!(‬ ‫لقداختلطت المور لديهم‪ .‬أصبحت فلسطين هي إسرائيل‪ ،‬وإسرائيل‬ ‫هي فلسطين‪.‬‬ ‫ولم تمض أيا م قليلة على اكتشافي هذا حتى أعدت المور إلى نصابها‪.‬‬ ‫حاول تبرير جهله‪.‬‬ ‫قال أن أوراقي تقول أنني من مواليد القدس‪ ،‬وأن اسمي الثلثي لم ير د‬ ‫فيه "محمد" أو"عبدا" أو "مصطفى" )؟!)‬ ‫والهم من ذلك هو مظهري وسلوكي القرب‪ ،‬في نظر‪،‬ه‪ ،‬لمظهر‬ ‫وسلوك الوروبيين‪ ) .‬كذا!(‬ ‫ثم أكمل بأن المعلومات المتاحة كانت تفيد بأن فلسطين لم يكن يسكن‬ ‫فيها أحد عندما بدأت الهجرة اليهو دية من أوروبا إليها‪..‬سوى بعض‬ ‫قبائل البدو السرمحل‪.‬‬ ‫حدثته عن بلدي‪..‬القدس العربية‪ ،‬حيث ولدت في دارعتيقة موروثة‪.‬‬ ‫وما زال حتى اليو م يحتفظ بالـ"كوشان" الذي يثبت ملكيته لها‪.‬‬ ‫كأنه لم يصدق أذنيه‪.‬‬ ‫ "ماذا تقول؟!"‬‫ أقول أن "إسرائيل" قامت على أنقاض ‪ 385‬قرية عربية‬‫ دمرت وأزيلت عن سطح الرض‪ ،‬ذلك بعد أن طر د اليهو د‬ ‫أهلها العرب قسرا وإرهابا‪ .‬وأقاموا مكانها مستوطنات ابتكروا‬ ‫لها أسماء توراتية‪.‬‬ ‫هذا من أصل ‪ 475‬قرية عربية فلسطينية كانت قائمة قبل عا م‬ ‫‪. 1948‬‬ ‫‪133‬‬


‫أما المدن فما زالت تحكي تاريخها لمن يهمه أن يعرف‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫ معقول؟!!‬‫أخذت )كالعا دة( أسر د إليه بعض الحقائق التاريخية التي حفظناها‪ ،‬نحن‬ ‫معشرالطلبة الفلسطينيين المغتربين‪ ،‬عن ظهر قلب‪ ،‬من فرط تر دا دها‪.‬‬ ‫بما فيها من تواريخ‪ ،‬وأرقا م‪ ،‬وإحصائيات‪ ،‬وقرارات ل تعد ول‬ ‫تحصى للمم المتحدة‪.......‬‬ ‫قلت له‪ ،‬مثل‪ ،‬أن "إسرائيل" هي‪ ،‬منذ بدء تاريخ المم‪ ،‬الدولة الوحيدة‬ ‫التي أوجدت بقرار‪ .‬وهو قرار "الجمعية العامة للمم المتحدة" رقم‬ ‫‪ 181‬الصا در في ‪ 2‬نوفمبر ‪ 1947‬والذي يقضي بتقسيم فلسطين‬ ‫)العربية أصل و مك و‬ ‫ل( إلى دولتين‪:‬‬ ‫ دولة يهو دية‪ ،‬وأخرى عربية‪.‬‬ ‫وبناء عليه فقد تم إعلن قيا م " دولة إسرائيل" في ‪ 15‬مايو ‪1948‬‬ ‫وتوالت إعترافات الدول "العظمى" بها‪ .‬وتم قبول الدولة الوليدة عضوا‬ ‫في "المم المتحدة"‪ ،‬في ‪11‬مايو ‪ ) ،49‬قبول مشروطا بقيا م الدولة‬ ‫العربية المذكورة في القرار ‪181‬المذكور(‪ ،‬لكن "المم المتحدة"‬ ‫غضت الطرف عن متابعة تنفيذ بقية قراراتها حتى يومنا هذا‪..‬وكأن‬ ‫قراراتها تلك‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬ليست إل ذورا للرما د في العيون‪.‬‬ ‫كا د أن يتهمني بالمبالغة عندما ذكرت له أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة‬ ‫المعترف بها دوليا بدون أن يكون لها " دستورا"‪ ،‬وبالتالي"حدو دا"‬ ‫رسمية معلنة‪.‬‬ ‫وهي الدولة التي تعتبرنفسها دولة كل اليهو د في العالم‪.‬‬ ‫وهي‪ ،‬بما تسميه "قانون العو دة"‪ ،‬تضمن لي يهو دي في أي مكان في‬ ‫العالم أن "يعو د" إليها في الوقت الذي يريد‪،‬ه ليحصل على جنسيتها‬ ‫)مع الحتفاظ بجنسيته الصلية( ويتمتع بكامل حقوق المواطنة من‬ ‫الدرجة الولى‪ .‬هذا‪ ،‬بينما تعتبر القلية الباقية من المواطنين الصليين‪،‬‬ ‫أصحاب الرض الذين ينتمون لفلسطين التاريخية‪ ،‬مواطنين من‬ ‫الدرجة الثانية‪ .‬أما الغلبية‪ ،‬وأنا شخصيا واحد منهم‪ ،‬فهم لجئون‬ ‫‪134‬‬


‫مشر دون بالعنف وقوة السلح الغربي‪ ،‬محرومون من العو دة إلى‬ ‫موطنهم المحتل فلسطين‪.‬‬ ‫ ‪" ..‬كفى! كفى! إن معلوماتنا تتناقض تماما مع ما تقول!"‬‫ثم يضيف معتذرا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬عفوا‪..‬أنا أصدقك طبعا‪ .‬ولكن يبدو أننا‪ ،‬هنا‪ ،‬كنا وما نزال فريسة‬‫لعل م آخر‪.‬‬ ‫كان يتساءل دائما عن سرغياب أجهزة العل م العربية وتقصيرها‪،‬‬ ‫وعما إذا كان هناك "أجهزة" أص أ‬ ‫ل‪.‬‬ ‫كان ل يمل من تر ديد سؤاله الذي ل يخلو من سخرية واستنكار‪:‬‬ ‫هل تكفي الصدفة البحتة لمواطن أوروبي مثلي‪ ،‬أن تربطه‬ ‫‬‫علقة شخصية بمواطن عربي فلسطيني مثلك‪ ،‬لكي يعرف ما‬ ‫يحل بكم وما يجري في هذ‪،‬ه البقعة من العالم من ظلم؟!‬ ‫ثم أصبح الهر "شولتس"‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬يتصيد الفرص ليدعوني لمشاركته‬ ‫في تناول "كأس" في مكتبه‪ ،‬بعد ساعات العمل‪ ،‬وهو يغمز لي مطمئنا‬ ‫بأن مكتبه ل يخلو من الـ* ‪ . Apfelsaft‬ومن ثم يأخذ في استعراض‬ ‫ما‬ ‫تمكن من جمعه من المعلومات‪ ،‬من مصا درأخرى "موثوق بها"‪.‬‬

‫_____________________________________‬ ‫)**( عصير التفاح ‪ ..‬المشروب الشعبي الشهير والخالي من الكحول ‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫)بدون تعليق(‬

‫وصار ينافسني في سر د ال دلة على تواطؤ الغرب مع الصهيونية‪،‬‬ ‫وتواطؤ الصهيونية نفسها مع القوى النازية‪ ،‬والمبريالية‪ .‬وآخرها‪ ،‬من‬ ‫منظور‪،‬ه الجديد‪ ،‬مؤامرة العدوان الثلثي عا م ‪.1956‬‬ ‫‪136‬‬


‫وأذكر أنه كان يصرعلى لفت إنتباهي بإشاراته إلى محاولت أميريكا‬ ‫السافرة لخلفة أوروبا في السيطرة على منطقة الشرق الوسط‪..‬ومن‬ ‫ثم العالم أجمع‪.‬‬ ‫كان ليفتأ يؤكد لي أن أمريكا لن تترك "ناصر" يهنأ بانتصاراته وأنها‬ ‫لن تسمح بانتشار فكر‪،‬ه‪ ،‬وأنها سوف تعمل على خلق قناعة عند العرب‬ ‫بعد م جدوى التفكير بـ"الحلم العربي الكبير" أو التفكير بالقضاء على‬ ‫إسرائيل التي "وجدت لتبقى"‪ ،‬ولتبقي قا درة على أن تحافظ على‬ ‫المصالح المبريالية في المنطقة‪.‬‬ ‫كان يحدثني عن "ناصر" بإعجاب شديد‪ .‬ولم ميخف أن سرإعجابه هو‬ ‫وجه الشبه‪ ،‬من منظورهم‪ ،‬ومن دواعي استنكاري الشديــــد أيضا‪،‬‬ ‫بينه وبين "هتلر"‪ ،‬الذي مازال هناك من يجهر بتمجيد جوانب معينة‬ ‫له‪ ..‬وهو واحد منهم‪.‬‬ ‫وفاجأني في أحد المرات وهو يرفع كأسه قائ ا‬ ‫ل‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬سوف ننتصر في النهايه!‬‫ذكرني بأخي "عابد"‪ ،‬الذي كان ل يمل من تر ديد قصائد صديقه‬ ‫الشاعر "صلح جاهين" والتي كنت أطرب لسماعه وهو ير د د في‬ ‫ختا م إحداها‪.." ..‬راح ننتصر في النهاية"!‬ ‫لم يداخلني الشك يوما في أننا سننتصر‪ ،‬فقضيتنا عا دلة‪ .‬وشعبنا قد بدأ‬ ‫يتلمس طريقه‪ ،‬ويبحث عن ذاته‪ .‬وأخذ يمعن في أمر تشكيل إرا دته‬ ‫وإحكا م القبض على أ دواته‪.‬‬ ‫لكن ما بال الهر "شولتس" يبالغ في محاولته "إبراء الذمة"؟‬ ‫هل اكتشف أخيرا أن ضحايا النازية ليسوا‪ ،‬فقط‪ ،‬هم من عانوا من‬ ‫سعير ما مسومي بـ"الهولوكوست"‪ ..‬و"أفران الغاز"‪ .‬وأن من ضحاياهم‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬من يعانون مثلنا من جحيم "أفران" الغربة والتشريد خارج‬ ‫بل دهم المحتلة‪ ،‬ومن الضطها د والقهر والذلل في داخلها؟‬ ‫في الصيف الفائت‪ ،‬عدت من "مكتب الجانب" مكتئباا‪ .‬وعندما عرف‬ ‫الهر "شولتس" ما حل بي‪ ،‬با درني‪:‬‬ ‫‪137‬‬


‫ ‪ ..‬لن تغا درالبل د! وستبقى هنا وتعمل‪ ،‬حتى بدون "إذن عمل" أو‬‫" تصريح إقامه"‪ .‬وأما عن المسكن‪ ،‬فسوف أتدبرالمر بنفسي‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ما زلت أذكر ذلك اليو م‪ ،‬وذلك الشاب الشقر‪ ،‬وهو يقلب "وثيقة"‬ ‫سفري بين يديه‪ .‬يتنقل بها من زميل إلى آخر في "مكتب الجانب"‪.‬‬ ‫أحدهم مط شفتيه في غير اهتما م‪ ،‬وهو ير د د‪:‬‬ ‫ ‪.. Staatenlos‬‬‫)الصطلح يفيد‪" :‬غير معين الجنسية"‪ ،‬والترجمة الحرفية تعني ‪" :‬بل‬ ‫وطن"(‬ ‫وآخر أومأ إليه‪ ،‬بعد أن رمقني بنظرة فاحصة من فوق ظاراته‪ ،‬بما‬ ‫معنا‪،‬ه‪:‬‬ ‫ و ما الذي يمنع‪......‬؟!‬‫وقال آخهر آخر )فهم أ‬ ‫ت ذلك من إيماءاته أيضاا( بحز م‪:‬‬ ‫ القانون هو القانون!‬‫عا د الشاب الشقر ليجلس إلى مكتبه‪ .‬يقلب وثيقة سفري بين يديه‪..‬‬ ‫يتصفحها‪..‬يتفحصها‪ ..‬ينظر إليي‪ ..‬يدير قرص حامل الختا م متر د دا ثم‬ ‫يتنهد‪ .‬وأنا أنتظر‪،‬ه في توقع ورجاء‪ ،‬أن يقبض على الختم المنشو د‪.‬‬ ‫أتذكرعيون المقامرين )على شاشة السينما طبعا‪ ..‬فأونى لي مثل تلك‬ ‫الخبرات!( وهي تتركزعلى قرص "الروليت" أثناء دورانه‪.‬‬ ‫رقم واحد معوين‪..‬هو مفتاح السعا دة‪.‬‬ ‫وبالنسبة لي‪ ..‬ختم واحد معين هو مفتاح الفرج‪.‬‬ ‫يكا د قرص حامل الختا م أن يتوقف‪ ..‬فتعبث به يد الشاب الشقر‬ ‫المتر د د‪ ..‬ليعو د إلى الدوران من جديد قبل توقفه‪.‬‬ ‫فجأة‪ ،‬كمن إتخذ قرارا‪ ،‬أخذ يبحث في وثيقة سفري عن صفحة فارغة‪.‬‬ ‫يقبض على أحد الختا م‪ .‬وأشعر أنا بارتياح بالغ‪.‬‬ ‫ل لني عرفت النتيجة‪ ..‬ولكن لني سئمت النتظار‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫طمتز!*‪ ..‬إذا لم يكن هو الختم المطلوب‪ ..‬فليست هي المرة الولى التي‬ ‫أتعرض فيها لمشاكل بالنسبة للسفر أو للقامة في هذا البلد أو ذاك‪ .‬فما‬ ‫أنا غير ذلك‪ ..‬الفلسطيني المشر د‪.‬‬ ‫طخ!‬ ‫صوت ارتطا م الختم بصفحة الوثيقه يعيدني من شرو دي‪ .‬أصوب‬ ‫نظري إلى الصفحة‪ .‬ما زالت فارغه‪.‬‬ ‫ينظر إليي الشاب بعينين ل تخلوان من العتذار‪ ،‬مع شبح ابتسامة فيها‬ ‫قدرغير قليل من السخريه ) في مثل هذ‪،‬ه الحالت يعفى المحكو م عليه‬ ‫بالعدا م من تنفيذ الحكم(‪.‬‬ ‫لكن الشاب يفتح "خوتامة" حمراء اللون‪ ،‬ويلون الختم بحبرها‪ .‬وسرعان‬ ‫ما تتلوث صفحة الوثيقة بختم أحمر‪.‬‬ ‫قرأت العبارة من بعيد‪ ..‬في اللحظة ما بين ارتفاع الختم عن الصفحة‬ ‫وتغطيتها باليد الخرى بالنشافه‪:‬‬ ‫"يغا در ألمانيا التحا ديه خلل ‪ 24‬ساعه"‬ ‫وشيعني الشاب الشقر بنظرة ل تخلو من الرقة‪..‬أو قل العطف‪..‬أو‬ ‫الشفقة‪.‬‬ ‫وعدت إلى مقرعملي مكتئباا‪ .‬وكانت فرصة العمر بالنسبة‬ ‫للهر"شولتس" لكي يظهر تعاطفه مع الشعب الفلسطيني المشر د‪ ..‬ممثل‬ ‫في شخصي‪.‬‬ ‫اليو م الربعاء‪ ،‬وغدا الخميس‪ ،‬وبعد غد الجمعة‪ .‬ثم يأتي يو م السبت‬ ‫ومن بعد‪،‬ه يو م الحد‪ .‬لأم كل هذا النتظار؟‬ ‫________________________________________‬ ‫)*(‬

‫طزز تعني باللغة التركية "ملح"‪ .‬وقد أصبحت الكلمة تستعمل للستخفاف بالشيء‪،‬‬ ‫حيث كان الملح‪ ،‬في وقت ما‪ ،‬يستوجب أقل قدر من القيمة الضرائبية التركية‪ .‬للعلم!‬

‫وفوق هذا وذاك‪ ،‬فلقد رتبت صديقتي أمورها لتقضي عطلة "نهاية‬ ‫السبوع" مع عائلتها في بيتهم الريفي‪،‬علما منها بأنني على سفر‪.‬‬ ‫مررت عليها في مقر عملها‪ .‬طلبت منها أن تتصل بـ"يوهان"‬ ‫‪139‬‬


‫لتخبر‪،‬ه بأنني سأستقل قطار "فيينا‪ -‬فوبرتال" الليلي في ذلك اليو م‪..‬‬ ‫الربعاء‪ ،‬بدل من يو م الحد المتفق عليه‪.‬‬ ‫فوبرتال ‪ /‬ألمانيا الغربيه ‪ ..‬الخميس ‪28/6/62‬‬ ‫تعو دنا‪ ،‬أو تعلمنا أن نعبرالحدو د التي ل يجوز لنا عبورها ‪ -‬نحن‬ ‫معشر الفلسطينيين الـ"غير معويني الجنسيه"‪ -‬بطريقة أو بأخرى‪.‬‬ ‫ومنها قطارالليل‪ ،‬بما يقتضيه المر من ضحـأيل )!(‬ ‫واستقبلني صديقي "يوهان" مضطربا‪ ،‬محاول أن يخفي استياء‪،‬ه‪ .‬فقد‬ ‫استأجرلي نفس الغرفة التي كنت أسكنها في الصيف الفائت‪ ،‬في بيت‬ ‫أحد معارف الهر "شولتس"‪ ،‬ولكن إبتداء من يو م الحد المقبل‪ ،‬حسب‬ ‫اتفاقنا‪ .‬وعندما فوجيء بنبأ قدومي قبل موعدي‪ ،‬قضى نهار‪،‬ه في البحث‬ ‫لي عن مسكن مؤقت لليا م الثلثة التي لم تكن في حسبانه‪.‬‬ ‫ولم يكن هناك من حل سوى أن أقتسم المسكن مع ذلك الرجل‪..‬‬ ‫"فولكر"‪.‬‬ ‫با درني بلكنة ألمانية شمالية ريفيه‪ ،‬وبصوت عريض ل يتناسب مع‬ ‫حجمه الضئيل‪:‬‬ ‫ أنا مغترب مثلك‪....‬‬‫لم أ درك في البداية أن بلدته "بوتسدا م" تقع في ألمانيا "الشرقية"‪.‬‬ ‫وحرت في أمرهذا المغترب في بلد‪،‬ه‪ .‬كنت حتى ذلك الوقت أظن أن‬ ‫شعورالمرء بالغتراب في وطنه يقتصرعلينا‪..‬نحن معشرالعرب‪.‬‬ ‫ثم قلت لنفسي‪:‬‬ ‫مالي أنا وماله! ثلثة أيا م‪ ،‬أوعلى الصح‪ ،‬ثلث ليال ثم تكون لي‬ ‫غرفتي‪..‬وغربتي‪.‬‬ ‫هناك أشخاص تشعر برغبة في التحدث إليهم أو بإنشاء صداقة معهم‬ ‫إذا ما التقيت بأحدهم في قطار أو رحلة أو أي ظرف عابر‪ .‬لم يكن هو‬ ‫أحدهم‪ .‬وإن كان يبدو لي مهذبا ا طيباا‪ .‬إل أنه أيقظ في داخلي‪ ،‬دون أن‬ ‫يقصد‪ ،‬تلك المشاعر المرهقة‪..‬التي كنت أتحايل لطالة غفوتها‪.‬‬ ‫كان الوقت مناسبا لن يتمنى كل منا للخر ليلة سعيد‪،‬ه‪.‬‬ ‫بدأت أنا متعللا برحلة القطار الطويلة المتعبه‪.‬‬ ‫‪140‬‬


‫صب لنفسه كأسا من النبيذ‪ ،‬ولوح لي بالزجاجة‪:‬‬ ‫ نبيذ فرنسي فاخر‪..‬معتق من كرو م الجزائر‪..‬من عندكم‪.‬‬‫ثم أر دف‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬كنت أسمع دائما أنه من أجو د أنواع النبيذ في العالم‪ .‬والن تحققت‬‫من ذلك بالتجربة‪ .‬وسمعت أيضا أنه ل يباع في الجزائر‪ .‬جورب!‬ ‫ثم استدرك‪:‬‬ ‫ "آ خ‪..‬سو" ‪ ..* (Ach so ) ..‬فأنت إذن "محمداني"**!‬‫تناول جرعة شرهة ثم أكمل‪:‬‬ ‫ ضحكواعليكم باسم الدين‪..‬وعلينا باسم الشيوعيه‪ .‬فعندنا‪ ،‬هناك‪،‬‬‫مثلكم تماما‪ ،‬خيراتنا ليست لنا‪ .‬نعمل ونكدح من أجل الغير‪.‬‬ ‫لقد وولى ذلك الزمن بالنسبة لي‪ .‬أنا الن أنعم بنتيجة عملي‪..‬‬ ‫وبحريتي‪ .‬هل تعرف معنى الحريه؟‬ ‫طبعا تعرف‪ .‬لن الفرنسيين يتمتعون بالحرية في بل دكم‪......‬‬ ‫سامحك ا يا صديقي "يوهان"‪ .‬أل يكفيني‪ ،‬عقابا لي على عد م‬ ‫احترامي للمواعيد‪ ،‬تلك الليالي الثلثة التي سأقضيها في ذلك القبو؟!‬ ‫ل بأس في نقا ش أو حديث حول معنى الحرية بين حين وآخر‪ .‬ولكن‬ ‫ليس في مثل هذا الوقت‪ ،‬وبعد رحلة قطار استغرقت وقتا طويل‪،‬‬ ‫قضيت منه جزءا ل بأس به‪ ،‬حبيساا‪ ،‬على كرسي "التواليت"‪.‬‬ ‫تلك هي الحيلة التي تفتق عنها ذهن الكثيرين من زملئي في"وثيقة‬ ‫السفر"‪ .‬فقبل أن يقترب القطار من مدينة "سالتزبورج"‪ ،‬التي تقع على‬ ‫_________________________________________‬ ‫)*( تعبير سائد عن الدهشة‪.‬‬ ‫)**( لفظ ‪ Mohamedaner‬يراد به تعريف المسلم‪ ..‬وينطوي على شئ من الستخفاف‬ ‫والتعالي ‪.‬‬

‫الحدو د في الطريق من النمسا إلى ألمانيا التحا دية )الغربيه(‪ ،‬ل بد من‬ ‫الختفاء عن أعين رجال بوليس الحدو د‪ .‬فعندما يتهيأ القطار للوقوف‪،‬‬ ‫لتغييرالقاطرة‪ ،‬والجراءات الحدو دية وما إلى ذلك‪ ،‬تبدأ أطول ربع‬ ‫ساعة في التاريخ‪ ،‬لما فيها من اضطراب‪ ،‬وتوتر‪ ،‬وخوف‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫الحقيقة أن الجراءات المذكورة ل تعني شيئا بالنسبة للوروبيين‪ .‬فهي‬ ‫إجراءات شكلية‪ .‬أما الجنبي‪ ،‬فل بد من حصوله على تأشيرة دخول‪،‬‬ ‫أو أن يحتوي "جواز سفر‪،‬ه" على تصريح للقامة في إحدى الدول‬ ‫الوروبيه‪.‬‬ ‫صحيح أنه‪ ،‬في بعض الحيان‪ ،‬يختلط المر على رجل الحدو د‬ ‫اللماني فيتعامل مع "الوثيقة" التي أحملها وكـأنها "جواز سفر"‬ ‫حقيقي‪ .‬خصوصا بعد أن اشتريت من القاهرة حافظة جلدية‪ ،‬خضراء‬ ‫اللون‪ ،‬أو دعتها وثيقتي ) ذات الغلف المميز بلونه الزرق(‬ ‫مصنوعة خصيصا لجوازات السفرالمصرية‪ ،‬الخضراء اللون‪،‬‬ ‫ومطبوع عليها بماء الذهب ما يفيد بأنها تحتوي على "جواز سفر‬ ‫مصري"‪.‬‬ ‫لكن هيهات أن "تسلم الجور‪،‬ه في كل مور‪،‬ه"‪.‬‬ ‫لم يلبث مضيفي أن أقر بأنني أبدو متأعباا‪ ،‬ويحسن أن أخلد للراحة‬ ‫والنو م‪.‬‬ ‫ألم أقل أنه يبدو‪..‬طيبـاا؟‬ ‫لقد أطلق سراحي بالرغم من أنه كان تواقا للحديث‪ ،‬ولمستمع جيد‬ ‫مثلي‪ .‬لكنه حين أضاف أن للحديث بقية‪ ،‬وأنه يعرف أنني سأمكث معه‬ ‫في نفس المكان ليال ثلث‪ ،‬عرفت أنه لم يتركني رأفة بحالي‪ ،‬فهو‬ ‫يريدني في الغد يقظا غير متعب‪.‬‬ ‫وبالرغم من أنني احتجت لبعض الوقت لكي أتكيف مع سريري‬ ‫الغريب ‪ -‬كما هو الحال مع الكثيرين في مثل هذ‪،‬ه الحالت‪ -‬وأنني‪،‬‬ ‫بينما كان النعاس يغالبني‪ ،‬كنت أشعر بالسيد الهارب من "بوتسدا م"‪-‬‬ ‫الشرقية‪ ،‬لينعم بالحرية في "فوبرتال"‪ -‬الغربية‪ ،‬ما زال في أوج‬ ‫نشاطه‪ ،‬يفتح زجاجة جديدة‪ ،‬يروح ويجيء‪ ،‬يعبث بآلة موسيقية ثم ل‬ ‫يلبث أن يتركها‪ ،‬ليعبث في محتويات أ دراج الدولب‪.‬‬ ‫بالرغم من ذلك‪ ،‬استيقظ الرجل مبكرا‪ .‬وبالرغم من أنه كان يتحرك‬ ‫بمنتهى الحرص والهدوء‪ ،‬إل أنني صحوت من نومي أنا الخر‪ .‬ولم‬

‫‪142‬‬


‫يهدأ لي بال حتى سمعته يضع المفتاح في قفل الباب من الخارج ليقفله‬ ‫بحرص‪ ،‬بدل من أن يصفقه فيزعجني‪ .‬ونمت نوما عميقا‪.‬‬ ‫فوبرتال ‪ ..‬الجمعه ‪29/6/62‬‬ ‫عندما صحوت‪..‬استغرقت وقتا امتد لبضع لحظات حتى عرفت أين أنا‪.‬‬ ‫واسترعى انتباهي أن البيت القبو ‪-‬على ضقدمه‪ -‬كان نظيفا ومرتبا‪ .‬كما‬ ‫استرعى انتباهي ‪ -‬أيضا‪ -‬شئ آخر‪ ،‬آلة موسيقية‪" ،‬أكور ديون"‪،‬‬ ‫بحجم لم أر له مثيل من قبل‪ .‬جديدة‪ ..‬براقة‪ ..‬لها أجزاء معدنية مذهبة‬ ‫مفضضة بريقها يخطف البصار‪.‬‬ ‫إن من يحرص على امتلك آلة كهذ‪،‬ه ل بد أن يكون عازفا بارعا‪.‬‬ ‫خطر لي أيضا‪ ،‬وأيقنت‪ ،‬أن العازف الذي يمتلك مثل هذ‪،‬ه اللة ول‬ ‫يستعملها حرصا على راحة شريكه في المسكن ل بد وأن يكون إنسانا‬ ‫مهذبا‪.‬‬ ‫شيء آخر شد انتباهي في ذلك الصباح‪ ،‬قبل أن أغا در البيت القبو‪..‬‬ ‫صورة فوتوغرافية لفتاة ل تخلو من حسن‪ ،‬في الرابعة أو الخامسة‬ ‫عشر من عمرها‪ ،‬في إطار معدني براق يخطف البصار أيضا‪.‬‬ ‫لم أتعجل‪ .‬استغرقت وقتا في الستعدا د للخروج‪ .‬فاليو م الجمعة‪ ،‬ومن‬ ‫الطبيعي أن ل أبدأ عملي إل في بداية السبوع القا د م‪ ،‬يو م الثنين‪.‬‬ ‫كان ترحيب المهندس اللماني بي كما توقعته‪ .‬وأكثر من ذلك‪ ،‬أنه‬ ‫أصرعلى أن أبدأ عملي في الحال‪ .‬وهذ‪،‬ه تضحية ل يقو م بها أرباب‬ ‫العمل عا دة‪ .‬فمعنى ذلك أنني سأتمتع بإجازة أسبوعية مدفوعة الجر‬ ‫بالكامل‪ ،‬لقاء عمل نصف يومي الجمعة والسبت فقط من السبوع كله‪.‬‬ ‫وكان ذلك مبعث دهشة صديقي "يوهان"‪ ،‬الذي يعمل في نفس المكتب‬ ‫منذ سنتين‪ ،‬بصفة دائمة‪ .‬فلقد تعو د على أن ميخصم من راتبه أجر‬ ‫مجموع الدقائق التي تنقص من ساعات عمله إذا تأخر لسبب أو لخر‪.‬‬ ‫قال لي الهر "شولتس" مرة‪:‬‬ ‫ لقد دفعنا د م قلوبنا‪ ،‬وما زلنا ندفع مئات المليين سنويا ثمنا‬‫لصكوك الغفران‪ ،‬أو ما يقال له "التعويضات اللمانيه" لليهو د‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫ولم نكن نعرف أننا ندفع هذ‪،‬ه المليين لتساهم في تدمير شعب‬ ‫آخر‪.‬‬ ‫أيقنت الن أن ألمانيا التحا دية )الغربية(‪ ،‬ممثلة في شخص الهتر‬ ‫"شولتس"‪ ،‬قد ثابت إلى رشدها‪ ،‬وأنها ربما تفكر في تحويل‬ ‫التعويضات إلى الشعب الفلسطيني‪..‬ممثل في شخصي‪.‬‬ ‫أليكفي‪ ،‬دليل على ذلك‪ ،‬إعفائي من قبل السيد الكريم ‪ -‬كما كنت‬ ‫أتوقع‪ -‬من مشقة المحاولة اليائسة للحصول على تصريح القامة‬ ‫والعمل منذ البداية‪ .‬وهذا ما راهنت عليه بتسللي إلى ألمانيا‪ ،‬فوثيقة‬ ‫سفري ما زالت‪ ،‬منذ الصيف الفائت‪ ،‬مز دانة بالختم الحمر ذو القامة‬ ‫المحد دة بالربع وعشرين ساعه‪.‬‬ ‫هل تعرف؟‬ ‫‬‫قالها وهو يقترب مني بقدر ما تسمح المسافة بين مقعدينا‪ ،‬ليتخذ وضعا‬ ‫يكون فيه الكل م‪ ،‬كما يبدو له‪ ،‬أكثر جدية‪ .‬وأكمل بما يشبه الهمس‪،‬‬ ‫ليوهمني بأنه سيدلي بسرخطيرل يليق بأحدغيرنا أن يسمعه‪:‬‬ ‫تلك الكاذيب التاريخية الكبرى‪"..‬الهولوكوست"‪..‬والستة مليين‬ ‫‬‫يهو دي‪..‬وأفران الغاز‪...‬‬ ‫ثم اعتدل في جلسته وأكمل مزهوا واثقا من معلوماته‪:‬‬ ‫أول‪..‬هناك مبالغة هائلة في الرقم‪ .‬وحسب تقاريرالمنظمات‬ ‫‬‫اليهو دية نفسها‪ ،‬كان عد د يهو د أوروبا كلها في زمن الرايخ‬ ‫الثالث ل يتجاوز المليين الثلثة‪.‬‬ ‫ثانيا‪ ..‬قردرعد د ضحايا الحرب العالمية الثانية كلها في حينه‬ ‫بحوالي الخمسين مليون‪ ،‬منهم ما ل يزيد عن المليون الواحد من‬ ‫اليهو د‪ .‬فكيف تقو م الدنيا ول تقعد من أجل هذا المليون!؟‬ ‫ول يستفيق الضمير العالمي إل من أجل الضحايا اليهو د!‬ ‫أليست هذ‪،‬ه هي "العنصرية" بعينها؟‬ ‫ثالثا‪ ..‬معسكرات العتقال‪ .‬لم تكن سوى مرحلة لتنفيذ خطة‬ ‫"ترحيل" اليهو د إلى "أماكن أخرى"‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫لم تغب عن فطنته ما تضمنته ابتسامتي من مرارة إزاء ذكر كلمتي الـ‬ ‫"ترانسفير" و"الماكن الخرى"‪ .‬أطرق برهة كأنه يعبرعن إعتذار‪،‬ه‪،‬‬ ‫ثم واصل حديثه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬رابعا‪..‬وهذا هو الهم‪ .‬لم يكن هناك ما يسمونه بغرف الغاز‬‫بالمعنى الذي يرروجونه‪ .‬بل كانت الظروف الناتجة عن الحرب‬ ‫الطويلة تستدعي وجو د محارق لجثث الموتى بشكل عا م نتيجة‬ ‫الغارات‪ ،‬و"التيفوس"‪ ،‬وغير‪،‬ه من المراض التي تفشت في‬ ‫معسكرات العتقال بالذات‪ ،‬وبشكل خاص‪.‬‬ ‫ثم إنني قبل كل شيء أحب أن أتساءل‪:‬‬ ‫لماذا لم يسمع العالم شيئا عن "الهولوكوست" طوال سنوات‬ ‫الحرب الستة؟!‬ ‫أ م أن إبا دة المليين الستة قد تمت في اليا م الخيرة للحرب؟!‬ ‫"الهولوكوست"‪ ،‬يا عزيزي‪ ،‬هو السلح المبتكرلصرف النقد عن‬ ‫إسرائيل وأغراضها ونواياها‪ .‬إنه أ داة لبتزازنا ‪**.‬‬ ‫ولم ينس أن يهمس لي مؤكدا أن ماقاله هي الحقيقة التي ليجرؤ‬ ‫الكثيرين على ذكرها‪ ،‬ويحسن أن أحتفظ لنفسي بمصدرها )!(‬ ‫وفي مرة أخرى‪ ،‬حكى لي‪ ،‬بتفصيل ينم عن قراءة طازجة‪ ،‬كيف‬ ‫تورطت ألمانيا بقصة التعويضات‪ .‬فبعد إعلن دولة إسرائيل عا م‬ ‫‪1948‬وتدفق المهاجرين الجد د إليها‪ ،‬مما أصاب ميزانية الدولة‬ ‫الجديدة بالعجز‪ ،‬بالرغم مما تلقو‪،‬ه من مساعدات مالية من يهو د العالم‪،‬‬ ‫________________________________________‬ ‫)**( هناك شخصيات هامة مؤثرة قد قامت بتدوين شهادتها و تجربتها في الحرب العالمية‬ ‫الثانية‪ ،‬وتم نشرها )من عام ‪ (59 -1948‬مثل‪:‬‬ ‫البريطاني " تشيرتشل" في موسوعته "الحرب العالمية الثانية" بأجزاءها الستة‬ ‫وصفحاتها الـ ‪ ، 4448‬والفرنسي"ديجول" في"ذكريات الحرب" بأجزاء ه الثلثة‬ ‫وصفحاتها الـ ‪ ، 2054‬والميريكي "أيزنهاور" في في كتابه "حملة أوروبا" ذو الـ ‪559‬‬ ‫صفحة‪ .‬هذ ه الوثائق التي تبلغ في مجموعها ‪ 7061‬صفحة لم يرد فيها شيُتئا عن "غرف‬ ‫الغازالنازية"‪ ،‬أو "جرائم القتل الجماعي لليهود"‪ ،‬أو ضحايا "الهولوكوست" التي‬ ‫أشاعوا أنها بلغت المليين الستة !!!!!‬

‫أوغيراليهو د‪ ،‬أبرق رئيس الوزراء السرائيلي‪"،‬بن جوريون"‪،‬‬ ‫لـرئيس المؤتمراليهو دي العالمي والحركة الصهيونية العالمية في‬ ‫‪145‬‬


‫ألمانيا آنذاك‪" ،‬ناحو م جولدمان"‪ ،‬الذي كان يتابع محاكمات‬ ‫"نورنبيرج" لمجرمي الحرب‪ ،‬يرجو‪،‬ه أن يقو م بتدبير أي مبلغ على‬ ‫وجه السرعة للحاجة الماسة إليه‪.‬‬ ‫عندها طرأت لـ"جولدمان" فكرة أن يطالب "أ ديناور"‪ ،‬المستشار‬ ‫اللماني في ذلك الوقت‪ ،‬أن تغطي ألمانيا مصاريف إعا دة توطين‬ ‫اليهو د اللمان في إسرائيل‪ ،‬فوافق "أ ديناور" على أن تدفع ألمانيا مبلغ‬ ‫ثلثة آلف دولر عن كل رأس )!( ثم اكتشف "أ ديناور" بعدها أن‬ ‫ألمانيا‪ ،‬بذلك‪ ،‬قد التزمت بدفع مبلغ وقدر‪،‬ه ‪ 1,5‬بليون دولر )بالباء(‪ .‬فقد‬ ‫ناهز عد د اليهو د اللمان في إسرائيل‪ ،‬في حينها‪ ،‬حوالي نصف‬ ‫المليون*‪.‬‬ ‫في المساء‪ ،‬عدت إلى البيت القبو بعد أن أنجزت من العمل ما لم يكن‬ ‫أحد يتوقع مني إنجاز‪،‬ه‪ ،‬كي أثبت للسيد الكريم أنني أهل لكرمه وثقته‬ ‫بي‪ .‬رآني "فولكر" مجهداا‪ .‬فأرا د أن يخفف عني بطريقته الخاصه‪.‬‬ ‫وأصر على أن يسقيني كأسا من النبيذ الفرنسي الفاخر‪..‬المعتق‪ ،‬كما‬ ‫قال‪ ،‬من كرو م الجزائر‪.‬‬ ‫تنحنحت آمل أن أمسك بدفة الحديث‪ ،‬قبل أن يبدأ هو باستكمال حديثه‬ ‫عن الحريه‪ ..‬قلت له‪:‬‬ ‫ ‪..‬أنا فلسطيني‪ ،‬ولم أحظ بعد بزيارة الجزائر‪..‬‬‫لم يبد عليه أي اهتما م بما قلت‪ .‬بل أر دف بسرعه‪:‬‬ ‫ ‪..‬لبأس!‬‫)واصطلح آخرمعنا‪،‬ه بالتقريب‪..‬كلكم في الهرم شرق (**‬ ‫_________________________________________‬ ‫)*( عندما حاول "أديناور"‪ ،‬عام ‪ ،1952‬عقد إتفاقية بين ألمانيا وإسرائيل وذلك بهدف‬ ‫تنظيم وتقنين عملية دفع التعويضات اللمانية لليهود‪ ،‬تعرض المستشار اللماني لمحاولة‬ ‫إغتيال من تدبير "مناحيم بيجين" الذي كان يتزعم حزب"حيروت"‪ .‬وظلت "إسرائيل"‪،‬‬ ‫نتيجة لذلك‪ ،‬تبتز التعويضات بدون أي قيود أو معايير‪.‬‬ ‫)**( الصطلح اللماني المشار إليه هو ‪ Alles Seife‬ومعنا ه الحرفي‪" :‬كزله صابون"!‬

‫آثرت أن أرجيء سر د "حكايتي" لحين آخرأكثر ملءمة‪ ،‬فابتسمت له‬ ‫مجامل‪ ،‬فإذا به قد رفع كأسه في وجهي وأنشأ يقول‪:‬‬ ‫‪146‬‬


‫ كأسك يا صديقي‪ ،‬فلنشرب نخب الحرية و‪....‬‬‫قاطعته بضجر مغلف بمحاولة يائسة لن أبدو مرحا‪:‬‬ ‫ ‪..‬عن أي حرية تتحدث يا رجل؟!‬‫قال وكأنه كان ينتظر سؤالي منذ دهر‪:‬‬ ‫ ‪..‬عن حرية النسان في أن يختار العمل الذي يريد‪،‬ه‪ ،‬وأن يعيش في‬‫المكان الذي يختار‪،‬ه‪..‬‬ ‫ثم أضاف باستدراك‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬ل داعي لن نتحدث عن حرية الرأي‪..‬ولنترك ذلك للمثقفين!‬‫)كا دت تلك الضافة أن تصيب كبريائي في مقتل‪ .‬أخذت أتساءل بيني‬ ‫وبين نفسي عن ذلك الشيء الذي يميزالمثقفين في مظهرهم ويفتقر‬ ‫مظهري إليه‪ ..‬مما جعلني أتعرض لمثل هذ‪،‬ه الهانة التي لم يقصدها‬ ‫صاحبنا‪(.‬‬ ‫لحظ "فولكر" شرو دي وانقباضي‪ ،‬فلكزني بيد‪،‬ه التي تحمل الكأس‬ ‫وتابع حديثه‪:‬‬ ‫خذ مث ا‬ ‫ل‪..‬أنت! ألم تأت إلى ألمانيا التحا دية لتعمل؟ ألم تأت‬ ‫‬‫في الوقت الذي حد دته أنت‪ ،‬وإلى المكان الذي تريد‪،‬ه أنت ‪..‬و‪..‬‬ ‫حاولت بيني وبين نفسي أن أترجم المثل الفلسطيني المعروف "اللي‬ ‫يعرف يعرف‪ ..‬واللي ما يعرف يقول كف عدس" إلى اللغة اللمانية‬ ‫فباءت محاولتي بالفشل‪.‬‬ ‫ثم فكرت أن أسبقه وأتشبث بدفة الحديث‪ ،‬وأروي له "حكايتي" التي‬ ‫أحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬كما أحفظ نشيد "موطني" الجميل الذي كنا‬ ‫ننشد‪،‬ه صغاراا كل صباح قبل أن ندخل إلى "الصفوف" في مدرستنا‬ ‫في القدس‪ ،‬التي تركتها صبيا مهاجرا‪ ،‬برفقة أخي "عابد"‪ ،‬على ظهر‬ ‫حمار من خلل طرق جانبية جبلية وعرة إلى "بيت لحم" ومنها‬ ‫إلى"الخليل" ثم إلى "غز‪،‬ه"‪ .‬ثم كيف ساقتني الظروف‪ ،‬بعد أن أنهيت‬ ‫ دراستي الثانوية‪ ،‬إلى السعو دية للعمل فيها ‪ -‬شأن الكثيرين‪ -‬لكي أتيح‬ ‫لنفسي فرصة التعليم العالي‪ .‬لكنني تر د دت‪ ،‬و رأيت أن أبدأ ‪-‬مسبقاا‪-‬‬ ‫بالجابة على السئلة التقليدية‪ ،‬التي تدورعا دة في خلد أهل هذ‪،‬ه القارة‬ ‫‪147‬‬


‫النائية‪،‬عن وسائل المواصلت في بل دنا‪..‬غير الجمال والحمير‪..‬وأن‬ ‫أوضح له ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬أن سبب استعمالنا للحمار كوسيلة _‬ ‫للنتقال هو قطع الطرق الرئيسية‪ ،‬التي تسير فيها السيارات‪ ،‬بواسطة‬ ‫العصابات الصهيونية المدججة بأنواع السلح البريطاني والتشيكي و‬ ‫الميريكي‪ ،‬والمسد دة فواتيرها بالمارك اللماني‪.‬‬ ‫ثم عدلت عن تلك الفكرة‪ ،‬و رأيت أن أنتقل مباشرة إلى الحديث الذي‬ ‫تفرضه ثقافة غالبيتهم ومعلوماتهم عن ذلك "الشرق" الذي ابتكرو‪،‬ه‬ ‫وأضفوا عليه ما يروق لهم أن يرو‪،‬ه‪ ،‬والمستقاة من ترجمات بعض‬ ‫"المستشرقين الوروبيين" المحرفة لضـ"ألف ليله وليله"‪ ،‬أو مشاهداتهم‬ ‫للفل م المفبركة عن أمراء الصحراء أو شيو خ البترول أو"الليالي‬ ‫العربيه"‪ ،‬أو من إقبالهم على قراءة سلسلة روايات الكاتب اللماني‬ ‫الفاق "كارل ماي" ‪ Karl May‬الشهيرة‪ ،‬التي تصف رحلته‬ ‫المتعد دة إلى الشرق‪ ،‬والتي قا م بتأليفها خلل السنوات الطويلة التي‬ ‫قضاها في السجن لسباب أخلقية‪** .‬‬ ‫ثم ل بد‪ ،‬بعد ذلك أو قبله‪ ،‬من الجابة على السؤال عن زوجات أبي‬ ‫الربعه‪..‬غير الجواري والحريم‪ .‬وعن تاريخ البنطال الذي أرتديه‪.‬‬ ‫ول بأس من أن أؤكد أن أبي كان يرتدي بنطال هوالخر‪ .‬وأن أختي‬ ‫كانت تذهب إلى المدرسة‪..‬وبدون حجاب‪.‬‬ ‫___________________________________________________‬ ‫)**( بلغ عدد مؤلفات "كارل ماي" عن رحلته ‪ 74‬كتابا! هذا علما بأن سجلته تقول بأنه لم‬ ‫يغادر بلد ه قط‪ .‬شأنه في ذلك شأن الكثير من "المستشرقين"‪.‬‬ ‫جدير بالذكرأنه‪ ،‬في بداية الخمسينات‪ ،‬كانت خمسون عاما قد مرت على وفاة "كارل‬ ‫ماي" حيث تكون حقوق المؤلف وورثته قد سقطت ومن حيث تصبح مؤلفاته كلها‬ ‫مشاعا تستثمر ه دور النشر المختلفة وتجني من نشرها الرباح‪.‬‬ ‫على أنه‪،‬إحقاقا للحقيقة‪ ،‬ل بد من ذكر ما تميز به "الستشراق اللماني" من ابتعاد عن‬ ‫الهداف السياسية أو الستعمارية في الشرق‪ ،‬حيث أنه لم يكن للمانيا مستعمرات في‬ ‫العالم العربي )أم كان ذلك‪ ،‬يا ترى‪ ،‬لن الفرنسيين والنجليز لم يتركوا لهم مجال لذلك( ‪.‬‬ ‫ول بد أيضا من ذكر ما تميزت به كتابات بعض المستشرقين اللمان )"جوته"‬ ‫و"سيغريد هونكه" على سبيل المثال ل الحصر( من إنصاف يصل إلى حد الشادة‬ ‫بالحضارة العربية الرائدة‪ ..‬ذات يوم ‪.‬‬

‫وعندما تزوجت‪..‬لم يتقاض أبي ثمنها‪ .‬وما إلى ذلك من المعلومات‬ ‫التي عا دة ما يحرصون على معرفتها‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫إل أنني وجدت في نفسي ميلا لن أترك لمضيفي الحرية في الحديث‬ ‫حتى ل يتهمني أنا الخر باضطها د‪،‬ه‪ ،‬كما اضطهد‪،‬ه زعيمه‬ ‫"فالترأولبريخت" من قبل‪ ،‬حسب روايته هو‪ .‬فأنا أرى كيف يحرقه‬ ‫الشوق إلى اللحظة التي يمارس فيها حريته في الحديث‪ ،‬أو حديثه عن‬ ‫الحريه‪.‬‬ ‫ثلث سنوات مرت‪ ،‬منذ أن تمكن صاحبنا " فولكر" من الهروب من‬ ‫ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربيه‪ ،‬قضاها عامل في مصنع كبير‪ ،‬يتيح‬ ‫له العمل لساعات إضافية‪ ،‬فيحقق كسبا أكبر‪ .‬وهو يسكن في هذا القبو‬ ‫ليحقق وفراا أكثر‪ .‬ويبدو أنه قضى تلك السنوات الثلث يعمل بدون‬ ‫انقطاع‪ ،‬فلم يجد في وقته متسعا لن يجد له صديقا يتحدث إليه‪.‬‬ ‫وربما لم يجد الخرون في وقتهم متسعا لن يتحدثوا إليه‪ .‬فالوقت من‬ ‫ذهب‪ ،‬كما يقول اللمان أنفسهم‪ .‬لكن الفرصة جاءته ‪ -‬كما يبدو‪ -‬إلى‬ ‫عقر دار‪،‬ه‪.‬‬ ‫وها هو يتشبث بها ويمضي في حديثه إلي‪:‬‬ ‫أكثر من عشرسنوات‪ ،‬وأنا أعمل في المصنع في "بوتسدا م"‪.‬‬ ‫‬‫زوجتي تعمل أيضا‪ .‬ولم نستطع توفير "مارك" واحد‪.‬‬ ‫لم أجرؤ حتى على التفكير في شراء دراجة لبنتي‪ .‬ظلت تحلم‬ ‫بها منذ أن كان عمرها ثلث سنوات‪ .‬واليو م أصبح عمرها‬ ‫ثلثة عشرعاما‪.‬‬ ‫البنات في عمرها‪ ،‬هنا‪ ،‬يملكن سيارات‪ .‬ونحن‪ ،‬هناك‪ ،‬ما زلنا في‬ ‫عصر القطاع‪ .‬الفارق الوحيد أن القطاعي هو الدوله‪ .‬ونحن‬ ‫عبيد عندها‪ .‬نعمل لكي نمل بطوننا فقط‪ .‬هذا هو الطموح الوحيد‬ ‫المتاح لنا‪ .‬أما هم‪ ،‬فيملون جيوبهم‪....‬‬ ‫استوقفه شرو دي‪.‬‬ ‫كان يبدو لي أنه طيب مهذب‪ ،‬فهل يتعارض ذلك مع النطباع الجديد‬ ‫بأنه‪..‬أفاق؟ ربما لحظ أيضا عد م إكتراثي بل واستنكاري الصامت لما‬ ‫يحكيه‪ .‬فالبلدان الشتراكية تتمتع في عالمنا بمكانة محترمة‪ .‬وهي التي‬ ‫‪149‬‬


‫كانت مثلنا العلى لما نصبو إليه من نظم تضمن لنا العدالة الجتماعية‬ ‫والتقد م والرفاهية‪.‬‬ ‫تذكرت بعض الذين بذلوا حياتهم دفاعا عن الشتراكية في بل دنا‪.‬‬ ‫وآخرين دفعوا‪ ،‬وما زالوا )حتى هذا الحين( يدفعون سنوات من‬ ‫شبابهم في السجون لنفس السبب‪ .‬وعدت لتذكر شقيقي ومعلمي‬ ‫"عابد" وهو ل يكف عن تر ديد قصائد صديقه "صلح جاهين" التي‬ ‫كان يحفظها عن ظهر قلب‪:‬‬ ‫يا "معين" يا صوت الضحايا‪..‬‬ ‫إرعد بصوتك معايا‪..‬‬ ‫إرعب عدوي وعدوك‪..‬‬ ‫راح ننتصر في النهايه‪(**) ..‬‬ ‫أفقت من شرو دي على حركة فجائية لصاحبنا "فولكر"‪،‬عندما نهض‬ ‫بسرعة وفتح "الثلجة" التي لم تسترع انتباهي قبل ذلك لسبب ل‬ ‫أعرفه‪ ،‬بالرغم من أن لها أجزاء معدنية بريقها يخطف البصار‪ .‬ثم‬ ‫أخذ‪ ،‬بطريقة ل تخلو من نوايا الستعراض‪ ،‬يقرلب ما في جوفها من‬ ‫أشياء مغلفة بورق القصديرالبراق‪ ،‬وأخرى بأكياس شفافة‪ ،‬وغيرها‬ ‫محفوظة في علب معدنية ملونة أنيقه‪ .‬ثم‪ ،‬كمن اتخذ قرارا هاما‪ ،‬أخرج‬ ‫زجاجة "شمبانيا" ألمانية ‪-‬كما أفا د‪ -‬وقا م بفتحها باستمتاع بالغ‬ ‫)وبمهارة لم أرها من قبل إل على شاشة السينما(‪ .‬كل ذلك وهو‬ ‫يواصل حديثا غير مترابط‪ ،‬يقارن به في النهاية بين "هنــــا"‪..‬‬ ‫و"هنـــــــــاك"‪.‬‬ ‫________________________________________‬ ‫)**( الشاعر الفلسطيني "معين بسيسو" هو القائل أيضا‪:‬‬ ‫"فالقول ليس ما يقوله السلطان والمير ‪ /‬وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير‪..‬‬ ‫للمهرج الصغير‪ /‬فأنت إن نطقت مت ‪ /‬وإن سكت مت ‪ /‬قلها ومت‪".‬‬

‫صحيح أنني أتمتع بما يسمونه "فضيلة" القدرة على الستماع‪ .‬ولكن‬ ‫هل يتناقض ذلك مع احتمال اختلفي معه في الرأي؟‬ ‫ثم‪ ،‬ألم يحن الوقت الذي أجاهر فيه برأيي فيه وبأقواله‪ ،‬حتى لو أ دى‬ ‫ذلك إلى إغضابه؟‬ ‫‪150‬‬


‫لكنني تذكرت تعليمات رئيسي الهر "شولتس" المشد دة لي‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يتحمل مسئولية عملي في مكتبه بدون "تصريح العمل"‪ ،‬أو"تصريح‬ ‫القامه" من السلطات اللمانيه‪ ،‬بأن "أمشي بجوار الحائط"‪ ،‬ول‬ ‫أعرض نفسي لما قد يستوجب مساءلتي عن أوراقي الثبوتية‪..‬إلخ ‪،‬إن‬ ‫مجر د "وجو دي" في البل د هو وجو د غير شرعي‪ ،‬وغيرمصرح‬ ‫به‪ .‬فما بالك لو اتضهم م‬ ‫ت في "ألمانيا الغربية" بمحاولة إقناع لجئ من‬ ‫"ألمانيا الشرقية" بالعو دة إلى موطنه الصلي‪ ،‬أو بالمشاجرة مع ذلك‬ ‫المواطن دفاعا عن الشتراكيه‪.‬‬ ‫وسرعان ما طرقت ذهني أقوال أجدا دنا الحكماء عن كل م الفضة‬ ‫وسكوت الذهب‪ .‬فالتزمت السكوت لفترة‪.‬‬ ‫ثم خرجت عن طوري وتناسيت أجدا دي‪ ،‬وتنحنحت عدة مرات معلنا‬ ‫رغبتي في المشاركة في الحديث أو إبداء الرأي فيما يقوله صاحبنا‪.‬‬ ‫لكن "فولكر" كان ل يتورع عن قمعي بأ دب‪ .‬يمهلني لكي يصب لنفسه‬ ‫كأسا أو ليتفقد كأسي‪ ،‬أو يقد م لي"الكافياراللماني" المشهور‪ ،‬والذي‬ ‫يأتي ‪-‬حسب روايته وتواضعا منه‪ -‬مباشرة بعد الكافيار الروسي‪ ،‬أو‬ ‫يريني صورته بين أفرا د عائلته بالمعطف الوحيد الذي كان يمتلكه‪ .‬ثم‬ ‫يفتح لي دولب ملبسه ‪ -‬بانفعال شديد‪ -‬ويأخذ في عد البدل التي‬ ‫يمتلكها الن‪ ،‬ثم يعيد الشارة إلى المعاطف الربعة الجديدة‪.‬‬ ‫معطف لكل فصل من فصول السنة الربعة‪ ،‬كما يبدو!‬ ‫لحظ "فولكر" شرو دي مرة أخرى‪ .‬كنت في هذ‪،‬ه المرة أتساءل‪،‬‬ ‫بيني وبين نفسي‪ ،‬عن المناسبات التي تستدعي إمتلكه لكل هذ‪،‬ه‬ ‫الملبس‪ ،‬وهوالذي ل يخرج من قبو‪،‬ه إل لمقرعمله‪ .‬وهاهو يقضي‬ ‫يو م السبت‪ ،‬وليلة الحد‪ ،‬وحيدا مع زجاجاته‪.‬‬ ‫لكزني بيد‪،‬ه التي تحمل الكأس ونهض‪ ،‬وهو يمهلني‪ ،‬ليريني شيئا لم‬ ‫يلبث أن نسيه عندما استوقفته الصورة ذات الطار اللمع‪.‬‬ ‫تأمل الصورة‪ .‬تناولها واحتضنها بحنان‪.‬‬ ‫كان أكثر صدقا عندما تحولت ثرثرته إلى الحديث عن ابنته‪ ،‬وشوقه‬ ‫إليها‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫لقد تركها طفلة في العاشرة‪ ،‬وهي الن صبية في الثالثة عشر‪،‬ه‪ .‬ولو‬ ‫أنها تبدو في الصورة أكبر سونا بقليل‪.‬‬ ‫أخذ ‪-‬ولول مرة‪ -‬يحدثني عن ذكريات جميله‪.‬‬ ‫تأسرني حكايات الوطن‪..‬أي وطن‪.‬‬ ‫تمنيت أن يستمر في حديثه عن الهل‪ ،‬والبيت وحديقته‪ ،‬وأزهار‪،‬ه‬ ‫وأشجار‪،‬ه وطيور‪،‬ه‪.‬‬ ‫)لحت لي صور بيتنا في القدس‪..‬أزهار‪،‬ه وشجيراته التي كانت تنمو‬ ‫في البراميل الخشبية والصص المنتشرة في "وسط الدار"‪..‬‬ ‫وأسراب طيور السنونو وهي تحلق بحرية في سمائه‪(.‬‬ ‫نهض مرة أخرى ‪-‬وهو يمهلني‪ -‬ليريني صورة كبيرة الحجم لكل أفرا د‬ ‫عائلته‪ ،‬في حديقة البيت‪ ،‬وهو يتوسطهم محتضنا آلة "أكور ديون"‬ ‫قديمه‪ ،‬قال أنه ورثها عن أبيه‪.‬‬ ‫لكنه عا د‪ ،‬وأخرجني عن طوري عندما تفو‪،‬ه بجملة تحمل معنى‬ ‫حرمانه من إبنته‪.‬‬ ‫قلت بسرعة أذهلته‪:‬‬ ‫ وما الذي أرغمك على‪...‬؟‬‫قاطعني بسرعة أذهلتني‪ ،‬وكأنما كان ينتظر سؤالي هذا‪ ،‬ليفصح عما‬ ‫كان يرى أنه سر معاناته‪:‬‬ ‫ بل هربت من أجل ابنتي‪ .‬من أجل أن أستطيع أن أحقق لها بعض‬‫المنيات‪ .‬فأنا أرسل لها ولمها ‪ -‬كلما أمكنني ذلك‪ -‬ألبسة‪..‬‬ ‫وهدايا‪ ..‬وأشياء أخرى كانت ل تجرؤ أن تحلم بها مجر د حلم‪.‬‬ ‫وأخذ يعد د لي مرة أخرى ما استطاع امتلكه خلل ثلث سنوات أو‬ ‫أقل‪ .‬وهو‪ ،‬والحق يقال‪ ،‬كثير وفير‪ .‬وعدت أتساءل بيني وبين نفسي‬ ‫عن موطن الخلل‪ .‬أهو "فولكر" نفسه‪ ،‬أ م النظا م الذي لم يستطع‪،‬‬ ‫حسب قوله‪ ،‬خلل عشر سنوات أن يكفل لبنته دراجة‪ ،‬أو "بنطلون‬ ‫جينز"؟!‬ ‫فكرت‪..‬هل يمكن لنسان ان يؤمن حقا أن بمقدور‪،‬ه أن يكون حرا وهو‬ ‫في الحقيقة سجينا داخل نفسه؟!‬ ‫‪152‬‬


‫أسكتني مرة أخرى قبل أن أنطق‪ .‬بالرغم من أنه لم يكن في نيتي‬ ‫العتراض أو الر د أو السؤال‪ .‬كنت أريد‪،‬ه فقط أن يمل لي كأسي‬ ‫الفارغه‪ ،‬عولي أن أنسى وصايا رئيسي في العمل‪.‬‬ ‫أعترف بأنني‪ ،‬في لحظة ما‪ ،‬قد استملحت فكرة اللجوء إلى بلد مثل‬ ‫ألمانيا لكي أنعم بالحرية فيها‪ .‬لكنني تذكرت‪ ،‬وإن لم أكن قد نسيت‬ ‫تماما‪ ،‬أنني لكي يتسنى لي أن أفعل ذلك‪ ،‬لبد من أن أنتظر حتى‬ ‫تتحرر بلدي من الحتلل أول‪ .‬عندها سأتحول إلى مواطن عا دي‬ ‫يحمل"جواز سفر" عا دي‪ ،‬يتيح لي الخيارات في السفر إلى المكان‬ ‫الذي أرا‪،‬ه‪ .‬وليس "وثيقة سفر"‪ ،‬تهمة إسمها "عديم الجنسية"‪ ،‬تكا د‬ ‫بالكا د أن تكفل له القامة في هذا البلد أو ذاك بحجة الدراسة العليا‬ ‫فقط‪ ،‬ول يجوز له‪ ،‬بعد إنهاء دراسته‪ ،‬أن يبقى فيها يوما واحدا!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وأخي قال لي ذات مرة‪:‬‬ ‫" كم هو جميل أن يتمتع النسان بنعمة حرية الختيار‪.‬‬ ‫والجمل من ذلك أن يعرف طريقه إلى هذ‪،‬ه الحرية‪.‬‬ ‫وأجمل من هذا وذاك‪ ..‬أن يعرف ماذا يفعل بتلك الحريه‪".‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫فوبرتال‪ ..‬السبت ‪30/6/62‬‬ ‫قبل النتهاء من العمل‪ ،‬قال لي صديقي"يوهان" أن زوجته "إيفا"‬ ‫سوف تكون بانتظارنا لتناول طعا م الغذاء معاا‪ ،‬ثم نرى ماذا سنفعل في‬ ‫أمسية نهاية السبوع‪ .‬ولم أكن بحاجة إلى إلحاح صديقي‪ .‬قلت بسرعة‪:‬‬ ‫‪153‬‬


‫‪-‬‬

‫هناك حكمة صينية تقول أن "الكريم" هو صاحب الدعوة‪ ،‬وأن من‬ ‫ل يقبلها هو "البخيل"!‬

‫الحقيقة أنني لم أسمع بحكمة كهذ‪،‬ه ل من قريب ول من بعيد‪ .‬كل ما‬ ‫هنالك أنني تعلمت من صديق لي أن أنسب ما أقوله ‪-‬أحيانا‪ -‬إلى‬ ‫مصا در أجنبية لتزيد‪،‬ه أهمية ومصداقية )!(‬ ‫أر دت التشبث باقتراح صديقي "يوهان" من أجل الخلص من الرجل‬ ‫القابع بانتظاري ليسوق لي مبررات جديدة لهروبه من بلد‪،‬ه‪ ،‬ويبرهن‬ ‫لي بال دلة على فشل "ماركس" و"لينين"‪ ،‬ومن بعدهم "فالتر‬ ‫أولبريخت"‪ ،‬في تحقيق العدالة الجتماعيه في ألمانيا الشرقية‪.‬‬ ‫حاولت أن أقنع صديقي بتأجيل الدعوة إلى المساء‪ ،‬وبعد ذلك نسهر ما‬ ‫طاب لنا السهر‪ .‬وذلك لكي يتسنى لي أن أعمل في المكتب أطول وقت‬ ‫ممكن‪ ،‬فأنجز قدرا أكبر من العمل‪ ،‬فأر د شيئا من جميل السيد الكريم‬ ‫الذي رضي بأن أبدأ عملي قبيل نهاية السبوع‪ ،‬علوة على تحمله‬ ‫مسئولية عملي في مكتبه بدون حصولي على التصاريح اللزمه‪.‬‬ ‫صديقي "يوهان" زو دني ‪-‬باسما‪ -‬بمعلومةهامة‪ ،‬وهي أن كوني‬ ‫غيرمسجل في مكتب العمل ل يتيح لي الحق بأي ضمان صحي‬ ‫أواجتماعي أوأي مكافأة أو تعويض‪ .‬علوة على أنني أتقاضى أجراا‬ ‫يساوي نصف ما يتقاضا‪،‬ه المتدرب العا دي‪ .‬أي أن السيد الكريم هو‬ ‫المستفيد من وضعي‪ ،‬ول حاجة بي للتضحية من أجله!‬ ‫وكانت سهرة ممتعة‪.‬‬ ‫عدت بعد ذلك ‪-‬في وقت متأخر‪ -‬إلى القبو متلصصاا‪ ،‬كي ل أزعج‬ ‫صاحبنا‪.‬‬ ‫لكنه كان في النتظار‪.‬‬ ‫وجدته مكوما في نفس المقعد الذي تركته عليه بالمس‪ ،‬كأنه لم يغا در‪،‬ه‪،‬‬ ‫والكأس في يد‪،‬ه‪ ،‬وأمامه أكثر من زجاجة فارغة‪ ،‬وصحنا تتكو م عليه‬ ‫أعقاب السجائر كأنه لم يتوقف عن الشرب والتدخين‪ .‬إلى جانبه‬ ‫تبعثرت أكثر من علبة من علب السجائر الميريكية الفاخرة‪ ،‬و أكثرمن‬ ‫رسالة مفتوحة‪ ،‬وبعض الصور الفوتوجرافيه‪ ،‬كأنه كان يتحدى بها‬ ‫‪154‬‬


‫وحدته‪ .‬وجرائد قديمة يرجع تاريخ بعضها إلى ما يزيد عن العا م‪،‬‬ ‫مانشيتاتها تتحدث عن إقامة سور برلين )!( **‬ ‫أشفقت أن أكون قد خدشت مشاعر‪،‬ه لني تركته ينتظر‪ .‬وهو الذي أعد‬ ‫العدة لكي يحتفل بضيفه في الليلة الثالثة‪..‬الخير‪،‬ه‪.‬‬ ‫با درته باعتذاراتي‪ ،‬مدعيا ومؤكدا أنني لم أستمتع بسهرتي‪ .‬انفرجت‬ ‫أسارير‪،‬ه بعض الشيء‪.‬أضفت )كاذبا( بأنني حاولت‪،‬عبثا‪ ،‬العو دة مبكرا‬ ‫لشاركه السهرة والشراب‪ ،‬والستماع إلى حديثه الممتع‪.‬‬ ‫قال‪ ،‬وهو يصب لي كأسا ا من عصيرالتفاح‪ ،‬بصوت ل يخلو من نبرة‬ ‫حزينة‪:‬‬ ‫ إما أنك تسخر مني‪ ،‬أو أنك رجل طيب‪.‬‬‫الحقيقة أنني لم أ دخر جهدا لخفاء خواطري الساخرة من سلوكه منذ‬ ‫أن قابلته‪ .‬رفعت يدي بالكأس‪ ،‬وحاولت أن أبدو مرحا‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫ كأسك يا صديقي‪ ،‬فلنشرب نخب الوطن!‬‫شربنا‪ ..‬وسا د الصمت‪.‬‬ ‫الرسائل المبعثرة على المقعد إلى جوار‪،‬ه تنم عن حنينه‪ ،‬وبؤسه‬ ‫المتراكم‪ .‬ندمت أنني ذكرت الوطن في تلك اللحظة‪ .‬خفت أن يتأجج‬ ‫بركان أحزانه‪.‬‬ ‫كان يتجنب اللتفات نحوي‪ .‬عينا‪،‬ه كانتا تتللن بدموع محبوسة‬ ‫مكتومة‪ .‬أجفانه المحمرة كانت تتلقى بتواتر متقارب وكأنها بذلك‬ ‫تعلن رفضها للستسل م‪ ،‬وإطلق الدموع من أسرها‪.‬‬ ‫____________________________________________________‬ ‫**‬

‫يعود بناء سور برلين إلى ‪ 31‬أغسطس عام ‪ 1961‬بعد أن ازدادت موجات الهروب‬ ‫والتسلل بين شرقزي برلين و غربزيها‪.‬‬

‫أعرف أن الخمر قد تعمق الحساس بالحزن‪.‬‬ ‫اعتراني شعور بأنني القوى‪ .‬كأنما قد أكسبتني سنوات التشر د واللجوء‬ ‫والحرمان من الوطن حصانة ضد توابع الحساس بالغربة‪.‬‬ ‫اللة الموسيقية ترسل بريقا يوحي‪ ،‬أو يوهم‪ ،‬بالفرح‪ .‬توسمت فيها أن‬ ‫تكون المنقذ لنا مما نحن فيه‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫‪155‬‬


‫ ألم تعدني يا صديقي بأن تسمعني عزفك على اللة الجديدة؟‬‫مرت بخاطري أغنية ألمانية قديمه‪،‬آسرة‪ ،‬كان ير د د لحنها الجميل في‬ ‫ذلك الوقت المغني المريكي "إلفيس بريسلي"‪ ،‬يبدأها بمطلع الغنية‪،‬‬ ‫بكلماتها اللمانية‪ ،‬ثم يواصل الغناء بكلمات إنجليزية قيل لي أن معناها‬ ‫ل يمت إلى الصل بأي صله‪ .‬سألته أن يعزف لحنها‪ ،‬ورجوته أن‬ ‫يسمعني الكلمات الصلية للغنية التي لم أكن أعرف منها سوى‬ ‫مطلعها‪.‬‬ ‫أحسست أني داعبت أوتار الشجن المشدو دة على صدر‪،‬ه‪.‬‬ ‫ داعب أصابع الله‪.‬‬ ‫خرجت منها ألحان ل تشبه اللحن الصلي إل من بعيد‪.‬‬ ‫أعا د المحاولة مرة‪..‬وأخرى‪..‬وأنا أتصنع الستحسان‪.‬‬ ‫غمنى بصوت مشرو خ‪ ،‬حبسته الوحدة مع ما توفر له من السجائر‬ ‫والخمور "المستور دة"‪.‬‬ ‫فإذا بالكلمات ‪ -‬يا ويلي!‪ -‬تتغنى بالحنين إلى الوطن البعيد‪.‬‬ ‫الوطن يطار دنا يا صديقي‪ ،‬يتسلل إلينا‪.‬‬ ‫ل‪ .‬إنه يعيش فينا‪ .‬ل سبيل إلى الهروب منه‪.‬‬ ‫الوطن قدر محتو م على النسان‪ ،‬مثل النتساب إلى الب وال م‪.‬‬ ‫الوطن يختارنا‪ ..‬ول نختار‪،‬ه‪.‬‬ ‫لم يعد بإمكان صاحبنا التحكم بعواطفه ول السيطرة على عضلت‬ ‫وجهه وغد د‪،‬ه التي خانته وتمر دت على كبريائه فانهمرت الدموع تسبق‬ ‫كفه الذي اجتهد ليمسحها قبل أن تفضحه‪.‬‬ ‫بكى الرجل‪ .‬استمر في البكاء‪.‬‬ ‫لكنه لم يتوقف عن محاولة استخراج اللحن من اللة‪.‬‬ ‫كأنما كان يرى في الماضي خلصا من وطأة أحزانه‪.‬‬ ‫وترك العنان لدموعه تجري وتنهمرعلى وجهه‪.‬‬ ‫كأنه كان يغتسل بها من أ دران حاضر‪،‬ه‪ ،‬واللحن يعصا‪،‬ه‪.‬‬ ‫تذكرت الصورة الفوتوجرافية لفرا د عائلته في الحديقة‪ ،‬وهو‬ ‫يتوسطهم محتضنا آلة الكور ديون القديمة التي ورثها عن أبيه‪ ،‬الذي‬ ‫كان عازفا بارعا كما قال لي‪ ،‬والذي كانت الطيور المهاجرة تتريث‬ ‫‪156‬‬


‫فوق الشجار المحيطة بالبيت إذا ما سمعت عزفه الشجي‪ .‬هذ‪،‬ه كانت‬ ‫كلماته‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫هل بكى صاحبنا لنه تذكر أنه عازفا ماهرا‪ ..‬كان‪..‬ل يقل مهارة في‬ ‫العزف عن أبيه؟‬ ‫اللة الجديدة بريقها يخطف البصار‪ ،‬لكنها ل تشاركه فرحا ول حزنا‪.‬‬ ‫تصدر أصواتا كأنها تهزأ به‪ .‬هذ‪،‬ه كانت كلماته‪.‬‬ ‫إبنته أيضا سخرت منه في رسالتها الخير‪،‬ه‪.‬‬ ‫تريد‪،‬ه هو‪ ،‬ول تحتاج إلى هدايا‪،‬ه‪.‬‬ ‫علب الـ"تشيكليتس"‪ ،‬و بنطلونات الـ"جينز" الميريكاني‪.‬‬ ‫أخذ ير د د كلمات إبنته وهو يمسح دموعه‪.‬‬ ‫وتحدث عن أشياء أخرى كثيرة‪ .‬لم أعد أسمعه‪.‬‬ ‫كنت "ألمس" أحزانه‪ ..‬في صوته‪.‬‬ ‫"أسمع" أنين أشواقه‪ ..‬في عينيه‪.‬‬ ‫"أرى" حديثه وآهاته‪ ..‬في صفحة وجهه‪.‬‬ ‫أحزان الغربة‪ ،‬وأشواق العو دة‪ ،‬والحديث عن الوطن‪.‬‬ ‫و"الحرية" التي تكبلنا خارج الوطن‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫فوبرتال ‪ ..‬الحد ‪1/7/62‬‬ ‫الحقيقة أن ظروفي في الليالي الثلثة الماضية لم تمكنني من مواصلة‬ ‫ممارسة عا دتي المنقرضة )والتي كنت أتشبث بها أثناء أسفاري‬ ‫بالذات( في كتابة مذكراتي‪ ،‬أوعلى الصح خواطري وإنطباعاتي‪.‬‬ ‫وكان ل بد من النتظار حتى أنتقل إلى مسكني المحجوز إبتداء من‬ ‫اليو م‪..‬الحد‪.‬‬ ‫وهكذا اضطررت لن أسجل اليو م ‪-‬بأثر رجعي‪ -‬ما فاتني تسجيله عن‬ ‫أهم وقائع تلك اليا م الثلثة الماضيه‪ .‬وأرى أن أكتفي بالصفحات التي‬ ‫ دبجتها اليو م‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪157‬‬


‫فوبرتال ‪ ..‬الخميس ‪5/7/1962‬‬ ‫صباحا‪ ،‬فوجئت بالهر "شولتس" يدعوني إلى غرفته‪ ،‬ويستقبلني‬ ‫بابتسامة عريضة‪ ،‬وهو يمد لي جريدة “ ‪" ،”Die Welt‬العالم"‪،‬‬ ‫اللمانيه بيد ويشير بالخرى إلى "مانشيت" خبر كنت قد قرأته ضمن‬ ‫مانشتات أخرى لصحف أخرى محلية تعو دت أن أقرأها في واجهة‬ ‫كشك الصحافة في محطة المترو كل صباح ‪:‬‬ ‫) يوم الخميس ‪ 5/7/1962‬يوم إعلن استقلل الجزائر ( *‬ ‫ إنه النصر الثاني لضـ"ناصر" على فرنسا‪..‬‬‫هتف الهر "شولتس" بشماتة ذكرتني بإشاراته للموقف اللماني من‬ ‫فرنسا‪ ،‬وموقفه هو من العدوان الثلثي )بريطانيا‪ ،‬فرنسا‪ ،‬إسرائيل(‬ ‫عا م ‪.1956‬‬ ‫ فرنســـا‪..‬؟‬‫وواصل تساؤله مؤكدا بحماس‪.‬‬ ‫ ‪ ..‬ألم تتجه إلى دعم إسرائيل ر دا على دعم "ناصر" لثورةالجزائر؟‬‫من الذي قا م بإهداء المفاعل الذري‪ ،‬المسمى "مفاعل ديمونه"‪،‬‬ ‫لسرائيل في ذلك العا م بالذات؟‬ ‫وروى لي‪ ،‬فيما روى‪ ،‬عن"مجازرسطيف" التي ارتكبتها قوات‬ ‫الحتلل الفرنسي في الجزائر‪ ،‬في يو م ‪ 8‬من مايو ‪ ،1945‬ومالم‬ ‫أسمعه من قبل عن "فرنسا الباغية"‪ ،‬يو م تجمع الجزائريون مع‬ ‫عائلتهم في‬ ‫__________________________________________‬ ‫)*( تحتفل الجزائر بعيد الستقلل في يوم ‪5‬يوليو رغم أن الجزائريين قد انتزعوا استقللهم‬ ‫يوم ‪ 3‬يوليو ‪ .1962‬ولقد وقع اختيار اليوم الخامس من يوليو لتجسيد هدف سياسي ‪ ،‬إذ‬ ‫أن فرنسا كانت قد احتلت الجزائر يوم ‪ 5‬يوليو ‪1830‬‬

‫مظاهرة مسالمة في العا م المنصر م على جسر "ميرابو"في باريس‪ ،‬في‬ ‫يو م ‪17‬من أكتوبر ‪ ،1961‬يعلنون عن إحتجاجهم على حظرالتجول‬ ‫المفروض عليهم‪ ،‬فأمر"بابون"‪ ،‬مسئول المن في حينها‪ ،‬البوليس‬ ‫الفرنسي بإلقاء العشرات منهم من جسر"ميرابو"** في نهرالسين‪.‬‬

‫‪158‬‬


‫ولم ينس أن يقارن بين "بابون" وبين "أيخمان"‪ ،‬الذي تم إعدامه قبل‬ ‫شهور‪ ،‬في يو م ‪31‬من مايو ‪ ،1962‬والذي تواطأ مع النظا م النازي لخلق‬ ‫حالة الفزع عند اليهو د وإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين‪.‬‬

‫وكأنما شجعتني حفاوته هذ‪،‬ه‪ ،‬بأن أستأذنه في الغياب عن المكتب في‬ ‫ذلك اليو م‪ ،‬و ذلك لسبب آخر غيرالذي تبا درإلى ذهنه‪ ،‬وهو الحتفال‬ ‫بمناسبة الستقلل‪ .‬فقد كنت أنوي السفر إلى مدينة "كولون" القريبة‬ ‫لزيارة صديق فلسطيني يقيم فيها‪ ،‬كان قد زو دني بعنوان إحدى‬ ‫المكتبات القليلة‪ ،‬في ألمانيا‪ ،‬المتخصصة في بيع الكتب والسطوانات‬ ‫الموسيقية العربية‪ .‬هذا بالضافة إلى نيتي في شراء جهاز تسجيل‬ ‫"ريكور در" من نوع "جرونديـــــج" اللماني ذائع الشهرة‪ ،‬والذي‬ ‫طالما تمنيت أن أقتنيه‪ .‬فلقد حدثني صديقي المقيم في"كولون"‪ ،‬أنه‬ ‫يعرف مكانا يبيع أحدث الجهزة بأسعارمخفضة‪ ،‬بالضافة إلى خصم‬ ‫"ضريبة الستهلك" للجهزة التي ينوي مشتروها من الجانب‬ ‫الخروج بها من الراضي اللمانيه‪.‬‬ ‫طلبت من صديقي "يوهان" أن يعتذر بالنيابة عني لعد م تلبية دعوة‬ ‫"إيفا"‪ ..‬زوجته‪ .‬وعرفت منه أنني سأكون في "كولون" في أقل من‬ ‫ساعة‪ ،‬لو أنني توجهت في الحال إلى محطة القطار‪.‬‬ ‫في الميدان الرئيسي للمدينة‪ ،‬الذي ل يبعد عن محطة القطار غير بضع‬ ‫عشرات من الخطوات‪ ،‬كنت أتلفت حولي باحثا عن شخص أتوسم فيه‬ ‫الستعدا د للجابة عن سؤالي عن طريقة الوصول إلى الشارع الذي‬ ‫تقع فيه المكتبة‪.‬‬ ‫مر شاب ممتليء الجسم متجاوزا إياي من خلفي‪ .‬وبالرغم من أنني لم‬ ‫أر وجهه‪ ،‬إل أن ملبسه وسمرة قفا‪،‬ه كانا ينمان عن إنتمائه لبلد شرقي‪.‬‬ ‫مد دت يدي لربت على كتفه من خلفه‪:‬‬ ‫__________________________________________________‬ ‫)**( نسبة إلى "ميرابو "‪ ..‬خطيب الثورة الفرنسية الذي ارتبط اسمه بحريتها‬

‫ من فضلك!‬‫التفت بشيء من التساؤل الذي سرعان ما تبد د وتحول إلى دهشة‬ ‫مذهولة‪:‬‬ ‫ مين…؟!‬‫‪159‬‬


‫ مين…؟!‬‫ مش معقول!‬‫كانت المرة الخيرة التي افترقنا فيها‪ ،‬ولم نلتق بعدها أبدا‪ ،‬عندما انتقل‬ ‫والد‪،‬ه من القدس‪ ،‬للعمل في عومان‪ ،‬عا م ‪ .1945‬كنا في العاشرة من‬ ‫عمرينا‪.‬‬ ‫بالرغم من مرور ما يقرب من مخمس قرن من الزمان‪ ،‬لم يتغير من‬ ‫ملمحه الشيء الكثير‪ .‬وجهه المستدير‪ ،‬سمرته‪ ،‬شفته العليا المتدلية‪،‬‬ ‫عينا‪،‬ه الذكيتان‪ ،‬جبينه العريض الذي كان أيضا أحد سمات ذكائه‪ .‬كل ما‬ ‫هنالك أن حجمه قد تضخم بشكل ملحوظ ذكرني بوالد‪،‬ه الذي كان صديقا‬ ‫لوالدي‪ .‬كما از دا د وجهه استدارة‪ ،‬واخشوشن صوته‪ ،‬وامتد عرض‬ ‫جبينه حتى يكا د أن يصل إلى قفا‪،‬ه!‬ ‫ يظهرأن هناك الكثير من الشياء الغير معقولة في انتظارنا‪.‬‬‫قالها وهو يشدني من ذراعي في إتجا‪،‬ه لم أجد ما يستدعي أن‬ ‫أستوضحه‪ .‬فهو يبدو واثـقا مما يفعل‪ .‬كأنه قد أ درك أنني أزورهذ‪،‬ه‬ ‫المدينة للمرة الولى‪ ،‬فانطلق يتصرف كالمضيف العارف‪ .‬يقو دني‬ ‫عبرالشارع بدون أن يعبأ باعتراضي على مخالفة قواعد مرورالمشاة‪،‬‬ ‫وهو يوميء لي بأن آخذ المور ببساطة‪.‬‬ ‫قال وهو يمسح بكفه رغوة البيرة التي كللت شفته العليا التي تضخمت‬ ‫هي الخرى واز دا د تدوليها‪ ،‬بالرغم من أنه لجأ إلى ترميم العيب بأن‬ ‫مل المساحة بينها وبين منخريه بشوارب عريضة‪:‬‬ ‫ ل تقلق‪ .‬مشاويرك كلها ل تحتاج لكثر من ساعة‪ ،‬فاترك بقية‬‫اليو م لي أنا‪ .‬أما عن صديقك المقيم هنا في "كولون" فيمكنك‬ ‫زيارته في يو م آخر ما دمت لم تتفق معه على موعد محد د‪ .‬وما‬ ‫ دمت تتدرب في مدينة "فوبرتال" القريبة‪ .‬فهناك أشياء كثيرة أرى‬ ‫أن نتحدث عنها‪ ،‬خصوصا بعدما عرفت منك أن هناك في "فيينا"‬ ‫هذا العد د من الطلب الفلسطينيين‪ ،‬وأنه قد تم انتخابك رئيسا‬ ‫لفرع إتحا د الطلبة هناك‪.‬‬ ‫‪160‬‬


‫ قلت لك أنه مجر د تجمع طلبي فلسطيني في إطار رابطة‬‫الطلبة العرب‪ .‬القانون ل يسمح بإقامة فرع لتحا دنا في النمسا‪.‬‬ ‫ مش مهم‪..‬عندي ما هو أهم‪.‬‬‫وأكمل وهو يرتفق مائدة المقهى‪ ،‬وينقرعليها محد دا بسبابته‪:‬‬ ‫‪ ‬نذهب إلى المكتبة أول‪ ،‬وهي ل تبعد كثيرا عن الميدان‪.‬‬ ‫‪ ‬نشتري "الممسرجل"‪ ،‬فأنا أعرف ذلك المكان الذي يعنيه صديقك‪.‬‬ ‫‪ ‬نتصل بصديقك إن شئت وندعو‪،‬ه لينضم إلينا‪.‬‬ ‫‪ ‬نذهب إلى مسكني‪ ،‬بعد أن نمرعلى البقال المجاور لنا‬ ‫ونتزو د بما يلزمنا للطعا م‪ ..‬والشراب‪ ..‬لنحتفل بإعلن‬ ‫الستقلل‪.‬‬ ‫لم أجد أمامي خيارا آخرغيرالمتثال لرفيق الطفولة الذي ظهر لي‬ ‫فجأة‪ ،‬ويبدو أنه سوف يختفي أيضا بدون مقدمات‪.‬‬ ‫إنه يتكلم بسرعة‪ ،‬ولكن بتركيز واختصار واضحين‪ .‬واثق مما يقول‪،‬‬ ‫كأنما يعرف مسبقا نتيجة وقع حديثه‪.‬‬ ‫حديثه ذكرني بسائق التاكسي اللبناني الذي أبى‪ ،‬في العا م المنصر م‪ ،‬أن‬ ‫يتقاضى أجر‪،‬ه مني يو م أن انطلق بي من بيروت إلى الجبل‪ ،‬للبحث عن‬ ‫أقارب لي‪.‬‬ ‫قال لي ذلك السائق‪ ،‬أيضا‪ ،‬أننا ل بد أن نتفق‪ ،‬كفلسطينيين أول‪ ،‬وأن‬ ‫نأخذ زما م أمرنا بأيدينا‪ ،‬وأن ل ننسى أن أميريكا هي عدونا المختفي‬ ‫وراء "إسرائيل " والمتواطيء معها‪ .‬وتحدث‪ ،‬كذلك‪ ،‬عن "تنظيمات‬ ‫سرية" ذات "أجنحة عسكرية"‪ ،‬وعن "العمل الفدائي"‪ ،‬والضرب في‬ ‫العمق‪ ،‬والكفاح المسلح طويل المد‪ ،‬والمسيرة الطويلة و"ما يحرث‬ ‫الرض إل عجولها"‪..‬واختفى!‬ ‫عرفت من رفيق الطفولة أنه قد شارك بالقتال في الجزائر‪ ،‬بعد أن‬ ‫نال قسطا من التدريب العسكري اللز م مع مجموعات أخرى من‬ ‫الفلسطينيين‪.‬‬ ‫رأيت بريقا يتلل في عينيه وهو يقول أن نجاح ثورة الجزائر هو‬ ‫بمثابة بلسم للجرح العميق الذي سببه انكسار حلم الوحدة العربية‬

‫‪161‬‬


‫مصر )**(‬

‫في سبتمبرعا م ‪ ،61‬وأننا يجب أن ل‬

‫بانفصال سوريا عن‬ ‫نتوقف عن الحل م‪.‬‬ ‫قال أنه قد آن لنا أن نتدارك كل أخطاءنا ونلملم شتاتنا ونتبنى فكرة‬ ‫"التنظيم"‪ ،‬استعدا دا لخوض حرب شعبية طويلة المد‪ .‬وأكد‪ ،‬فيما‬ ‫أكد‪،‬ه‪ ،‬أنه ل يحبذ العو دة إلى الرأي القائل بتوريط الدول العربية بحرب‬ ‫نظامية مع إسرائيل مرة أخرى‪ .‬و‪ ،‬كمن يقلب الصفحة ويبدأ في تلوة‬ ‫صفحة جديدة‪ ،‬قال باستمتاع وتحد شديدين‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬اليو م نحتفل باستقلل الجزائر‪ ،‬وغدا بتحرير فلسطين!‬‫وإذا كان الحتلل الفرنسي للجزائر قد امتد لـ ‪130‬عاما‪ ،‬فإن غدا‬ ‫لناظر‪،‬ه قريب!‬ ‫كان يتحدث وأصابعه تعبث بأزرار الريكو در الـ"جرونديج" الجديد‪،‬‬ ‫الذي ما زال حتى الن من ضمن مقتنياتي مع الكثير من الشرطة‬ ‫المسجلة التي تزخر بالذكريات‪.‬‬ ‫ولقد نجحت إحدى محاولتي المتكررة في تحديد الشريط الذي تم‬ ‫تسجيل صوت "محمد الوكيل"عليه‪ ،‬مع صوتي وأنا أر د د من بعد‪،‬ه‪:‬‬ ‫أقسم بال العظيم‪..‬‬ ‫أقسم بشرفي ومعتقداتي‪..‬‬ ‫أقسم أن أكون مخلصا لفلسطين‪..‬‬ ‫وأن أعمل على تحريرها باذل كل ما أستطيع‪..‬‬ ‫وأقسم أن ل أبوح بسرية حركة فتح‪ ..‬وما أعرف من أمورها‪..‬‬ ‫وهذا قسم حق‪ ..‬وا شاهد‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫____________________________________________________________‬ ‫)** ( أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في ‪ ..25/2/1958‬ولم تستمرأكثر من ‪ 44‬شهرا‬

‫لم يكن "القأـ أأسـم" المشار إليه التزاما بالتمسك بمشروعي الوطني فقط ‪،‬‬ ‫بل الحرص أيضا على العمل من أجله في صمت وسرية‪ .‬ولذلك‬ ‫حرصت على أن أكتم نواياي حتى عن أقرب الناس إليي‪.‬‬ ‫إل أني لم تجد غضاضة في أن أشرك أخي "عابد" فيما‬ ‫انتهيت إليه‪ ،‬فهو مرشدي و دليلي في كل خطواتي‪.‬‬ ‫‪162‬‬


‫وكان ل بد لي من أن أخلو إلى نفسي لكي أزن المور‪ ..‬على ضوء‬ ‫ماسمعته من رفيق الطفولة‪.‬‬ ‫كما كان ل بد من أن يشاركني ذلك رفاقي الذين تركتهم في "فيينا"‬ ‫ دون أن يشفى غليلهم بر دو د على تساؤلتهم التي كانت تساؤلتي أنا‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫كنت‪ ،‬وكأنما كنت أهرب منهم ومن نفسي إلى شفافية "يوهان" ونقاء‪،‬ه‪،‬‬ ‫ورقة "إيفا" وابتسامتها البهية وأطباقها الشهية‪ ،‬أو مشاكل "فولكر"‬ ‫وعقد‪،‬ه وتبريراته‪ ،‬ونظريات "شولتس" وظنونه وحساباته‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫أقول ‪:‬‬ ‫للمنفى مساويء كثيرة ل تحصى‪..‬وفضيلة واحدة ل تنسى‪..‬‬ ‫إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى الوطن‪..‬ويؤكد صلتنا بأصولنا ‪.‬‬

‫‪163‬‬

‫*‬


‫قصاصة من أحد الجرائد‬

‫نواة "إتحاد الطلبة الفلسطينيين" ‪..‬‬

‫‪164‬‬


‫لم أجد في أوراقي القديمة ما يوضح بشكل مباشر أثر ما قاله رفيق‬ ‫الطفولة‪ " ..‬م‪ .‬الوكيل"‪.‬‬ ‫لكن أوراقا أخرى بـينت أني لم أمكث في ألمانيا سوى أيا م‪ .‬عدت‬ ‫بعدها إلى "فيينا" لواصل تدريبي هناك‪ ،‬قريبا من رفاقي الذين‬ ‫انتخبوني رئيسا لهم‪.‬‬ ‫من بين تلك الوراق وأوضحها كانت شها دة الخدمة التي قضيتها بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬في "فيينا"‪ ،‬في مكتب المهندس المعماري "هوبـينبيرجر"‬ ‫‪ ، Hoppenberger‬من ‪ 10/7/1962‬إلى ‪. 13/10/63‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬ ‫كانت الغلبية من الطلبة الفلسطينيين في "فيينا" تسكن "الحي الثاني"‪،‬‬ ‫فهو من الحياء الشعبية القريبة إلى مركز تجمع الكليات الجامعية‪ ،‬إلى‬ ‫جانب تواضع اليجارات السكنية فيه‪.‬‬ ‫كنت أكبرهم سنا بحكم انقطاعي عن الدراسة لسنوات العمل في‬ ‫السعو دية‪ .‬وكنت أكثرهم إطلعا بحكم ميلي للقراءة وإتقاني النسبي عنهم‬ ‫للغة اللمانية بفضل أسبقيتي في الوجو د في "فيينا"‪ .‬وذلك مما أ دى‪،‬‬ ‫وكان أيضا نتيجة‪ ،‬لشتراكي بنا د ثقافي تابع لدار النشرالمعروفة في فيينا‬ ‫"أرض الدانوب" ‪ Donauland‬التي كانت تقو م بمنح مشتركيها‬ ‫خصومات هائلة على أسعار كتبها مقابل اللتزا م بشراء الحد ال دنى‬ ‫شهريا من كتب الدار‪.‬‬ ‫_______________________________________________________‬ ‫)**(‬

‫في الخمسينات‪ ،‬في بداية الهجرة‪ ،‬درج آباؤنا وأمهاتنا‪ ،‬من قبيل الترحيب والتمنيات الطيبة‬ ‫في مناسبات العياد والزيارة‪ ،‬بعد تناول فنجان القهوة‪ ،‬على ترديد كلمات مثل‪:‬‬ ‫"بالعود ه" و"في البلد إن شاا" وما شابه ذلك‪ .‬ثم انقرضت تلك العادة أو كادت‪ .‬كأنما‬ ‫دب اليأس في النفوس‪ .‬ثم لم يلبث ذلك الحلم أن عاد‪ ..‬وعادت معه تلك المنيات تتردد على‬ ‫اللسنة مع إرهاصات الثورة‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ول أنسى فضل شقيقتي الكبرى "محتسن" التي حرصت على‬ ‫استمرار وصول بعض الصحف لي‪ ،‬ومواصلة تجديد اشتراكي السنوي‬ ‫‪165‬‬


‫بمجلتي "روزاليوسف" و"صباح الخير" طوال فترة دراستي‪ .‬وذلك ما‬ ‫كان بمثابة "الحبل السسري" الذي يربطني بالوطن ال م‪..‬الوطن العربي‪.‬‬ ‫أحد هؤلء الطلبة‪" ،‬نبيل"‪ ،‬كان هو ال خ الصغر لصديقي"حسن‬ ‫قليلت"‪ ،‬زميل سنوات الدراسة الثانوية في "غز‪،‬ه"‪ .‬كان احترامه لي‪،‬‬ ‫بحكم علقتي الوطيدة بأخيه الكبر‪ ،‬كأنما فرض على بقية زملئه‬ ‫أسلوبهم بالتعامل معي‪ .‬وكأنما منحني ذلك شعورا بالبوة ال دبية و‬ ‫الفكرية‪.‬‬ ‫كنا نتوافد تلقائيا على مقهى "هايضنه" المسمى حسب موقعه في شارع‬ ‫"هايضنه شترارسه" ‪ ،Heine Strasse‬المسمى بدور‪،‬ه باسم شاعر‬ ‫اللمانية الغنائي الرومانسي الشهيرالذي يقال أنه تخولى عن يهو ديته‬ ‫وتن و‬ ‫صر‪"..‬هاينريش هاينه"‪ .‬ثم تعو دنا أن يلتئم شملنا في ذلك المقهى في‬ ‫مساء يو م السبت من كل أسبوع‪ .‬هذا إلى جانب لقاءاتنا في مقر رابطة‬ ‫الطلبة العرب‪.‬‬ ‫ل أذكر بالتحديد متى وكيف انتظمنا وواظبنا على لقاءات من هذا النوع‬ ‫‪ ،‬يقرأ فيها أحدنا‪ ،‬على التوالي‪ ،‬تلخيصا لكتاب أو بحث قرأ‪،‬ه عن قضية‬ ‫فلسطين‪ ،‬أو ما يؤثر فيها من قريب أو من بعيد‪ .‬إنما الذي أتذكر‪،‬ه أننا‬ ‫كثيرا ما كنا نشعر بالحرج من نقص في المعلومات التي تدعم حججنا‬ ‫أثناء حواراتنا مع الطلبة أو غيرالطلبة من المواطنين و الجانب في‬ ‫"فيينا"‪ .‬كنا نشعر أننا مسئولون عن حمل ذلك العبء الذي لم توله أجهزة‬ ‫العل م العربية عنايتها اللئقة‪ .‬ولذلك يتحتم علينا تعميق معرفتنا‬ ‫بقضيتنا‪ ،‬وتطوير أ دواتنا لمواجهة رأي عا م‪ ،‬أوروبي‪ ،‬يحكمه إعل م‬ ‫صهيوني يهو دي إسرائيلي قوي بحيث أمسى ل يعرف عن فلسطين‬ ‫والفلسطينيين و"مشكلة الشرق الوسط" إل ما درج على سماعه عن‬ ‫نتائج مذابح النازية ضد اليهو د من خلل كل أنواع الوسائط العلمية‪..‬‬ ‫صحافة‪..‬وإذاعة‪..‬وتلفزيون ‪..‬ومسرح‪..‬وسينما‪.‬‬

‫‪166‬‬


‫لم يكن أسينا معدوا للنخراط في نقا ش جا د وعلمي حول قضايانا العربية‪،‬‬ ‫كنا فقط محملين بشعارات ومقولت جاهزة كالتي كان يقولها إعلمنا‬ ‫ليل نهار‪ ،‬ولكنها ل تصمد في مواجهة السئلة الصعبة‪.‬‬ ‫وعندما كانت النقاشات تدور بين الطلبة في الوسط الجامعي‪ ،‬كنا نفاجأ‬ ‫بأسئلة لسنا على استعدا د للجابة عليها‪.‬‬ ‫كنا نفتقر إلى إتقان إ دارة المناقشات البناءة‪ ،‬بحيث نستطيع مخاطبة‬ ‫الخر وأن نؤثر فيه بدون أن يشعر أننا ننتقص من مقدار ثقافته أو‬ ‫معلوماته أو رجاحة عقله‪ ..‬فينصرف عنا‪.‬‬ ‫كنا بحاجة إلى شيء من التنسيق والتوحيد في مضمون الجابات على‬ ‫السئلة التي كان كل منا يجد نفسه مضطرا لمواجهتها صباح مساء‪،‬‬ ‫فل يضطر كل منا على حدة أن يرتجل إجاباته بما يمليه عليه‬ ‫"إحساسه" الوطني والقومي فقط ‪.‬‬ ‫ل يكا د أحدنا أن ينجح في طرح المسألة بشكل عقلني‪ ،‬حتى نفاجأ بأحدنا‬ ‫يرميه بالجهل إن لم يكن بالخيانة‪ ،‬أو يبا در إلى المنا داة جهارا بما يعني‬ ‫ويؤكد إ دعاءات الصهاينة المفبركة** عن نوايا العرب برمي اليهو د في‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫توحيد "الخطاب السياسي الفلسطيني"‪..‬هو ما كنا نفتقد‪،‬ه ونشعر بحاجتنا‬ ‫الماسة إليه‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫أثناء النقا ش حول ما جاء‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬في إحدى المحاضرات التي‬ ‫ألقاها أحد نشطاء الطلبة العرب في نا دي "المؤسسة الفريقية السيوية"‬ ‫بفيينا‪ ،‬عولق أحد الحاضرين من الجانب سائل‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬ونحن نكا د نؤمن‪ ،‬بفضل الحقائق التي أتيح لنا معرفتها منكم‬‫لول مرة‪ ،‬بحقكم التاريخي بفلسطين‪ ،‬ولكن ماذا عن اليهو د الذين‬ ‫يعيشون فيها الن‪ ،‬وماذا عن البرياء الذين قدر لهم أن يولدوا فيها‬ ‫بعدعا م ‪ ..1948‬هل سوف ترمونهم في البحر كما نسمعهم يقولون؟! *‬ ‫______________________________________‬ ‫)*( بعد هزيمة ‪ 67‬أمر عبد الناصر بتشكيل لجنة للبحث عن مصدر عبارة "إلقاء اليهو د في‬ ‫البحر"‪ .‬وثبت أنه قد تم فبركتها من قبل وسائل دعايتهم وقتها لكتساب عطف العالم ‪.‬‬

‫‪167‬‬


‫كأنما أسقط في يد الزميل المحاضر‪ .‬وقبل أن تطول مدة تر د د‪،‬ه طلب‬ ‫الكلمة أحد الحاضرين الجانب‪ ،‬مشيرا إلى أحد أعضاء البعثة التعليمية‬ ‫المصرية للدراسات العليا‪ ،‬وكان برفقة زوجته الشابة التي تبدو عليها‬ ‫علمات الحمل في الشهور الخيرة‪ ،‬وتحدث بتلقائية وبساطة عن‬ ‫احتمال استقبالها لوليدها في "فيينا"‪ ،‬وعن حق المولو د في القامة في‬ ‫البل د بل وحقه في نيل جنسيتها‪ ،‬والتمتع بكل حقوق المواطنة فيها‪،‬‬ ‫طالما حافظ على أ داء واجباته تجا‪،‬ه هذ‪،‬ه البل د ومواطنيها الصليين‪.‬‬ ‫لم أتعو د أن أنغمس في أحا ديث السياسة‪ ،‬وبالذات وسط عد د كبير من‬ ‫الحاضرين‪ .‬ولكني تذكرت طرحا كان أخي "عابد" قد أعا د التلميح إليه‬ ‫في إحدى رسائله الخيرة‪،‬وكان قد لقى في نفسي هوى‪ ،‬و قا م بسد‬ ‫ثغرة كانت كأنما تفغر شدقيها متسائلة في كثير من المناسبات‪ ،‬مسببة‬ ‫الحرج‪.‬‬ ‫هذا مع العلم بأني مازلت‪ ،‬حتى تلك اللحظة‪ ،‬أتحرج من المجاهرة بمثل‬ ‫هذا الطرح "الرومانسي" في نظري‪ ..‬والمفرط في تفريطه في نظر‬ ‫الخرين‪.‬‬ ‫وهكذا ألفيت نفسي أتحدث عن حتمية العمل على إيقاف الهجرة اليهو دية‬ ‫إلى فلسطين أول‪ ،‬وعن قناعتي بجدوى أن تفتح الدول العربية أبوابها‬ ‫لعو دة من يشاء من اليهو د العرب الذين غا دروها تحت ضغوط متباينة‪،‬‬ ‫لتعو د الميا‪،‬ه إلى مجاريها‪ ،‬ويعو د اللجئون الفلسطينيون إلى ديارهم‪،‬‬ ‫وتقو م‬ ‫عندها في فلسطين دولة يعيش فيها يهو دها مع مسيحييها و مسلميها في‬ ‫ظل " دولة فلسطين" ذات النظا م الديمقراطي العلماني الذي يكفل‬ ‫المساواة للجميع في كافة الحقوق والواجبات‪*.‬‬ ‫صفق البعض )وهم من الجانب وبعض الطلبة العرب( لهذا الطرح‪.‬‬ ‫وقا م البعض الخر )وهم من الطلبة العرب( بالسخرية مني‪ .‬بل إن‬ ‫بعضهم قد تفوو‪،‬ه بكلمات تنذرني بالويل والثبور وعظائم المور‪ ،‬وذهب‬ ‫_____________________________________________________‬

‫)* ( استطاعت"فتح" بتأييد من بعض الفصائل الفلسطينية الخرى وضع شعارالدولةالفلسطينية‬ ‫الديمقرا طية العلمانية ضمن برنامج المجلس الوطني الفلسطيني الثامن لسنة ‪1971‬‬

‫‪168‬‬


‫إلى إتهامي بما يشبه الخيانة العظمى‪ .‬وكدت يومها أن أتعرض لعتداء‬ ‫بعض المتزمتين منهم‪ ،‬والذين كانوا يتربصون لي في الخارج‪ ،‬بعد‬ ‫انتهاء المحاضرة‪ ،‬لول البعض الخر الذي قا م بمرافقتي إلى أن زال‬ ‫الخطر‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ذكرني بهذ‪،‬ه الواقعة صديقي "نبيل قليلت"‪ ،‬زميل الدراسة في "فيينا"‪،‬‬ ‫أحد أفرا د مجموعة مقهى"هاينه"‪ ،‬عندما تقابلنا في برلين عا م ‪،1975‬‬ ‫حيث كان يشغل منصب "السفير" لمنظمة التحريرالفلسطينية‪.‬‬ ‫ثم ذكرني بها مرة أخرى عندما تقابلنا مؤخرا‪ ،‬لدى"زيارتي المؤقتة"‬ ‫إلى "غز‪،‬ه" عا م ‪ ،1995‬عندما كان يوميء إلى الوضع المتر دي الذي‬ ‫وصلنا إليه بقبول "أوسلو" على علتها‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪169‬‬

‫*‬


‫بدون تعليق !‬

‫"فتــــــــــــــــــــــــــــح"‪..‬‬

‫‪170‬‬


‫يهاتفني صباح ذات يو م سبت شخص فلسطيني لم يسبق لي معرفته‪،‬‬ ‫يتكلم اللهجة الغوزاوية‪ ،‬ويطلب مقابلتي لمرها م‪ .‬ولم أجد حرجا من‬ ‫التفاق معه على اللقاء في ذلك المقهى‪"،‬مقهى هاينه"‪ ،‬قبل ساعة من‬ ‫موعد توافد مجموعتنا‪.‬‬ ‫لكن ال خ "يحيى" لم يحضر إل بعد التئا م الجمع‪ .‬ل أعتقد أنه كان‬ ‫يقصد ذلك‪ .‬ربما كانت هي عا داتنا في التهاون في تقديرالوقت‬ ‫والمواعيد‪.‬‬ ‫تم تعارف الجميع‪ ،‬واتضح أنه يدرس في مدينة "جراتس"‪ ،‬جنوب‬ ‫"فيينا"‪ .‬وأنه جاء خصيصا لمقابلتي‪ ،‬وسيعو د أ دراجه في نفس اليو م‪.‬‬ ‫كان يمسك بيد‪،‬ه مغلفا يبدو أنه يحتوي على كمية من الوراق‪ ،‬مما‬ ‫جعلني أستبعد أن تكون الرسالة "شخصية"‪ .‬ولم يترك لي فرصة‬ ‫للتخمين إذ قال بدون أي حرج من أن يعرف الخرون شيئا عن‬ ‫"المرالها م"‪:‬‬ ‫ أنا آت إليك في مهمة خطير‪،‬ه‪ .‬فهناك "تنظيم سري"‪.. .. ..‬‬‫وبالرغم من أنني كنت حديث العهد بمثل هذ‪،‬ه المصطلحات وما‬ ‫وراءها من المهمات‪ ،‬إل أنني رأيت أن أغير مجرى الحديث ريثما‬ ‫ننفر د للخوض في تفاصيل هذا الموضوع السري الخطير‪.‬‬ ‫في تلك اللحظة تذكرت الرسالة الممهورة بختم "الهيئة العربية العليا"‪،‬‬ ‫التي حملت لي التهاني بمناسبة انتخابي رئيسا لمكتب فلسطين‪ ،‬كما‬ ‫أبدت استعدا د "الهيئة" لتقديم ما احتاجه من المساعدات‪ .‬لكنني سرعان‬ ‫ما استبعدت وجو د أي علقة بين "التنظيم السري" و"الهيئة" التي لم‬ ‫تنقطع عن إمدا دي بالمطبوعات العلمية المفيدة‪.‬‬ ‫على أنه من أهم ما كان يصلني في ذلك الوقت‪ ،‬بدون تحديد المصدر‪،‬‬ ‫هي مجلة "فلسطيننا"‪ ،‬التي عرفت بعد ذلك أن حركة "فتح" السرية‬ ‫كانت تقف وراءها‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫على أي حال‪ ،‬فقد كان المغلف يحتوي على مجموعة من بيانات‬ ‫"فتح" الولى‪.‬‬ ‫كان من بين الجالسين شخصان ما زال‪ ،‬مثلي‪ ،‬حويان يرزقان حتى‬ ‫كتابة هذ‪،‬ه السطور‪.‬‬ ‫"نبيل قليلت"‪ ،‬الذي أصبح فيما بعد مديرا لمكتب منظمة التحرير في‬ ‫برلين الشرقية‪ ،‬بمرتبة سفير‪.‬‬ ‫و"عوني قرمان"‪ ،‬الذي أصبح بدور‪،‬ه مديرا لمكتب المنظمة في"فيينا"‬ ‫ذاتها‪.‬‬ ‫أما "يحيى عاشور"‪ ،‬فقد التقيته بعد ذلك بحوالي إثني عشرعاما في‬ ‫بيروت‪ ،‬ولم يكن سوى "حمدان" أمين سرالمجلس الثوري لحركة‬ ‫"فتح"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫التسوية السلمية‪ ..‬ونهــج التفريــــــط!‬

‫‪172‬‬


‫مازال أحد العناوين التي كانت تتصدرإحدى أوراق المغلف الذي تركه‬ ‫لي "حمدان" يتراوح أما م ذاكرتي‪:‬‬ ‫" شرم الشيخ‪..‬سؤال قد يتحول إلى إتهام!"‬ ‫كأنما كانت المعلومة التي حملها البيان تؤكد أن انسحاب القوات‬ ‫السرائيلية من قطاع غزة وسيناء‪ ،‬عا م ‪ ،57‬إثرالعدوان الثلثي على‬ ‫مصر‪ ،‬لم يكن إنسحابا كامل‪.‬‬ ‫أو أنها كانت تنفي عو دة السيا دة المصرية الكاملة على "شر م الشيخ"‪.‬‬ ‫وبالتالي على"خليج العقبة"‪ ،‬حيث كانت مهمة قوات الطواريء الدولية‬ ‫ضمان حرية "إسرائيل" للملحة في الخليج‪ ،‬كما في قناة السويس‪.‬‬ ‫ما معنى هذا؟‬ ‫هل كانت"فتح"‪ ،‬حقوا‪ ،‬هي أول من رفع صوته ضد "نهج التفريط"‪،‬‬ ‫مقابل "التسوية السلمية" ؟!‬ ‫لم يعد سورا أن هناك‪ ،‬من الطلبة الفلسطينين‪ ،‬من ترك الدراسة آنذاك‬ ‫والتحق بمعسكرات التدريب مقاتل‪ .‬ومنا من ظل على علقة‬ ‫بالتنظيمات المختلفة‪ ،‬بعد أن تكاثرت‪ ،‬خلل فترة الدراسة‪.‬‬ ‫وكان ل بد لي من أن أتخذ قراري بالبدء بدراسة "السينما"‪،‬‬

‫كما ذكرت‪ ،‬إيمانا بقوتها وجدواها كسلح‪ ،‬ويقينا مني بأني‬ ‫سوف أجيد استعمال هذا السلح‪ ،‬دون غير‪،‬ه‪ .‬هذا إلى جانب‬ ‫يقيني بأن أحدا من إخواني الفلسطينيين‪ ،‬في ذلك الحين‪ ،‬لم‬ ‫يفكر في التفرغ لهذ‪،‬ه الدراسة‪.‬‬ ‫*‬

‫‪173‬‬

‫*‬

‫*‬


‫"أي ثورة لها ثلثة أعمدة ل غنى أبدا عن أحدها‪:‬‬ ‫الكفاح المسلح‪ ..‬والسياسي‪ ..‬والعلمي‪".‬‬ ‫جنرال جياب‬ ‫قائد النصر الفييتنامي على الفرنسيين‬ ‫في معركة " ديان بيان فو" عا م ‪1954‬‬

‫*‬

‫*‬

‫"ضيف ا"‪..‬‬

‫‪174‬‬

‫*‬


‫هو الصديق والزميل السباني لصديقي "ع‪ .‬مصطفى"‪ ،‬المبعوث‬ ‫لستكمال دراساته المتخصصة للعزف على آلة "البيانو" في‬ ‫الكا ديمية**‪ ،‬الذي كان ل يكف عن التعبيرعن فخر‪،‬ه واعتزاز‪،‬ه بآثار‬ ‫الدماء العربية التي تجري في عروقه‪ .‬كان هذا مما جعلنا‪ ،‬مصطفى‬ ‫وأنا‪ ،‬نطلق عليه إسم "ضيف ا" تيمنا بإبن جلدته الموسيقار الذائع‬ ‫الصيت ‪ ، De Falla Manuel‬السم الذي ينطقه ال سبان " دي فايا"‬ ‫والذي يصر "العارفون" على إعا دة تحريفه إلى أصوله العربية )!(‬ ‫)ومن ل يتذكر أن "شيكسبير" قد تحول‪ ،‬في يو م من اليا م‪ ،‬بقدرة‬ ‫قا در‪ ،‬على أيدي هؤلء العارفين‪ ،‬إلى "شيخ زبير"‪ .‬وأن إسم‬ ‫"ماركوس" هو تحريف عن "امرؤ القيس"؟!(‬ ‫كان "ضيف ا"‪ ،‬إلى جانب روحه المرحة وقدرته على السخرية‬ ‫اللذعة‪ ،‬متعد د المواهب‪ .‬كان عازفا بارعا متميزا متمكنا من آلته‬ ‫الموسيقية‪ ،‬البيانو‪ ،‬ول يقل عن ذلك براعة كلعب كرة قد م تجلت‬ ‫قدراته في فريق الكا ديمية‪ .‬وهو‪ ،‬فوق هذا وذاك‪ ،‬يقطر موهبة ككاتب‬ ‫قصصي وروائي له باعه الطويل في هذا الميدان‪.‬‬ ‫قرأت‪ ،‬فيما قرأت له‪ ،‬مترجما إلى اللغة اللمانية‪ ،‬مخطوط روايتة‬ ‫القصيرة‪" ،‬العبيط" ‪ ، Idiot‬التي كتبها متأثرا بـرواية" ديستويفسكي"‬ ‫بنفس العنوان‪ ،‬والتي ظلت محور أحا ديثنا لفترات طويلة‪ .‬كنا نتسلى‬ ‫ دائما بتحويل أجزاء منها تزخر بالمواقف"الكوميدية الجا دة"‪ ،‬كما كان‬ ‫يحلو له أن يصفها‪ ،‬إلى مشاهد سينمائية يقو م بتقمص شخصياتها فإذا‬ ‫بي أكتشف قدراته وبراعته كممثل كوميدي ساخر من نوع "نجيب‬ ‫الريحاني"‪.‬‬ ‫________________________________________________________‬ ‫)**( ومن زملئه في ذلك الوقت الصديقين "يوسف السيسي" و"كمال هلل" اللذان كانا‬ ‫يدرسان قيادة الوركسترا والتأليف الموسيقي ‪.‬‬

‫لأعرف سببا معينا لحضور‪،‬ه الملح على هذ‪،‬ه الصفحة وفي هذ‪،‬ه اللحظة‬ ‫هل هو شعور‪،‬ه العار م بالسى‪ ،‬بعد ‪ 5‬يونيه‪ ،‬وإحساسه العميق‬ ‫بالهزيمة‪..‬مثلنا؟‬

‫‪175‬‬


‫أ م هو شعورنا‪ ،‬الذي استطاع بسخرياته أن يوصلنا إليه‪ ،‬بأننا قد‬ ‫خدعنا‪،‬ه وخذلنا‪،‬ه؟‬ ‫)إذ يبدو أننا كونا‪ ،‬في اليا م العربية "المجيدة" التي سبقت "‪5‬يونيه"‬ ‫والتي جرى فيها حشد الجيو ش واستعراض القوة‪ ،‬أيا م كانت إنتصاراتنا‬ ‫تتوالى على الهواء‪ ،‬قد أخذتنا نشوة وهم النتصار‪ ،‬مما زوين لنا أن‬ ‫نتخلى بعض الشيء عن تحفظنا و" دبلوماسيتنا" في أحا ديثنا عن‬ ‫الصراع العربي السرائيلي‪(.‬‬ ‫هل هي سخريته اللذعة‪ ،‬وتقمصه المتقن لشخصية السفيرالمصري‬ ‫"ح‪ .‬ت" منذ أن أصر‪ ،‬وهو يفوقنا حماسا وضغيرة‪ ،‬على مرافقتنا آن‬ ‫ذهبنا نحن الطلبة العرب لمقابلة السفير ومطالبته بترحيلنا إلى أرض‬ ‫المعركة؟‬ ‫ دأب "ضيف ا"‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬على إنهاء كل مناقشة ل يتفق مع محتواها‬ ‫بتر ديد ما قاله السفير لنا‪:‬‬ ‫ " روخو‪ ..‬زاكرو‪ ..‬أخسن!"‬‫أ م هو فهمه لقضيتنا‪ ،‬وقضايا العصر‪ ،‬وقدرته على تحليل وتفسير‬ ‫هزائم العرب‪ ،‬منذ قرطبة الندلس‪ ،‬وغرناطتها؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫قال لي صديقي السباني ذات مرة‪ ..‬بمرارة‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬البرنامج الرسمي للحزب النازي كان هو "طر د كل اليهو د من‬‫ألمانيا"‪ .‬وهم الن يتبا دلون ال دوار مع مضطهديهم اللمان‪،‬‬ ‫ويعملون على طر د العرب من بلدهم الصلي فلسطين‪ .‬فهل يعني‬ ‫ذلك سوى عو دة وانبعاث عنصرية النازية في "إسرائيل"‬ ‫الصهيونية‪ ..‬صنيعة الغرب؟!‬ ‫ثم أضاف "ضيف ا" مستدركا‪:‬‬ ‫ قد يكون طر د العرب من إسبانيا‪ ،‬وأقول قد يكون‪ ،‬مقبول با دعاء‬‫أنهم "محتلون"‪ .‬فماذا عن إضطها د اليهو د وطر دهم من‬ ‫إنجلتراعلى يد الملك النجليزي "إ دوار د الول" عا م ‪ ،1290‬و‬ ‫‪176‬‬


‫البا دة التي واجهوها على يد "محاكم التفتيش" عا م ‪ 1492‬في‬ ‫أسبانيا؟!‬ ‫أل يؤكد هذا مقولة أن الثقافة الغربية هي التي انتجت أكثر الظواهر‬ ‫بشاعة في التاريخ‪" ..‬اللسامية"‪ ،‬و"النازية"‪ ،‬و"الهولوكوست"‪،‬‬ ‫و"الصهيونية"‪ ،‬و"العنصرية"‪ ،‬و"البارتهيد"؟! **‬ ‫جاءني "ضيف ا" في أحد اليا م التي أعقبت الهزيمة بقصاصة من‬ ‫اللمانية جاء فيها ما أسما‪،‬ه‬ ‫مجلة " دير شبيجل"‪،Der Spiegel ،‬‬ ‫"ضيف ا" تفسيرا لسر نكباتنا‪ ،‬على لسان " دافيد بن جوريون" في‬ ‫خطابه الذي ألقا‪،‬ه على مسامع قا دة الهاجانا‪،‬ه‪ ،‬في العيد الول لعلن‬ ‫ دولتهم‪ ،‬والذي رأيت أن أحتفظ به‪.‬‬ ‫وفيما يلي ترجمة كلمات "بن جوريون" حرفيا‪:‬‬ ‫"إن ما تحقق لنا من نصرعظيم كان أكثر مما تصورنا ه وتوقعنا ه‪.‬‬ ‫ولكن إذا كنتم تتصورون وتعتقدون أن هذا النصر هو بفضل‬ ‫عبقريتكم وذكائكم و قوتكم فإنكم على خطأ كبير‪ .‬إنني أحذركم من‬ ‫خداع أنفسكم‪ ،‬فلقد تم لنا ذلك لن أعداءنا يعيشون في حالة مزرية‬ ‫من التفسخ‪ ..‬والضعف‪ ..‬والفساد‪".‬‬ ‫و لعل سبب حضور صديقنا "ضيف ا" هو مشاركته لي بإهتماماته‬ ‫السينمائية التي تجولت عندما أصرعلى قراءة سيناريو فيلم "حكاية" آن‬ ‫لجأت إليه ليسجل لي مقطعا موسيقيا أحتاج إليه على آلة البيانو‪.‬‬ ‫________________________________________________________‬ ‫)**( "الموسوعة العالمية اليهو دية" تتحدث عن العرب وتصفهم بأنهم أحسن من عامل اليهو د‬ ‫بين المم وأنقذوهم من محاكم التفتيش في أسبانيا حيث كان يجري حرق اليهو د الهراطقة‬ ‫)الذين اعتنقوا المسيحية في العلن وكانوا يمارسون اليهو دية في السر( وتقول أن اليهو د هم‬ ‫الذي أطلقوا على عمر بن الخطاب لقب "الفاروق"‪ ،‬الذي يفرق بين الحق والباطل‪ ،‬وهو‬ ‫الذي سمح لليهو د بالمجيء إلى فلسطين بعد أن طر دهم الرومان منها و دمروا الهيكل‪.‬‬ ‫وكذلك صلح الدين اليوبي سمح لهم بالمجيء إلى فلسطين بعد أن ذبحهم الصليبيون في‬ ‫أوروبا‪ ..‬وكانوا دائما من علية القو م في العواصم العربية حتى عا م ‪1948‬‬

‫‪177‬‬


‫جين فوندا‬

‫محمد لطفي‬

‫‪178‬‬


‫وبعد ذلك مرافقته لي في معظم مراحل عمل الفيلم‪ ،‬ومن ثم إعجابه‬ ‫البالغ به‪ ،‬مما جعله يقو م بدعوة أحد أقرباء‪،‬ه الثرياء‪ ،‬وهو منتج‬ ‫سينمائي إسباني معروف‪ ،‬تصا دف وجو د‪،‬ه في "فيينا" في ذلك الوقت‪،‬‬ ‫لحضورأحد عروض الفيلم المذكور وإقناعه بإنتاج روايته "العبيط"‬ ‫فيلما سينمائيا أقو م أنا بإخراجه؟‬ ‫كان ذلك قبيل مغا درتي لـ "فيينا" بأيا م قلئل‪ ،‬بحيث لم يكن هناك مجال‬ ‫للستجابة إلى إلحاحهما‪ ،‬أو حتى مجر د مناقشتهما‪.‬‬ ‫أ م هي رسائله العديدة اللحوحة التي طار دني بها في القاهرة‪،‬‬ ‫ووصفني في آخرها بأنني أنا‪"..‬العبيط"؟‬ ‫لكن "ضيف ا" فاجأني‪ ،‬بعد انقطاع‪ ،‬برسالة يعتذر فيها عن ما جاء‬ ‫في رسائله السابقة‪ .‬ولم يلبث أن أخذ يعبرعن تقدير‪،‬ه لحجامي عن بدء‬ ‫حياتي العملية بعمل يبتعد عن قضيتي‪ ،‬التي كانت سببا في دراستي‬ ‫للسينما‪ ،‬ويمطرني بعبارات التشجيع والعجاب بفكرة ارتجلتها مرة‬ ‫لكي أتخلص من إلحاحه لمعرفة مشاريعي المقبلة‪.‬‬ ‫كانت الفكرة تتلخص في تصويرمعاناة الغربة‪ ،‬والمنفى‪ ،‬والتشر د‪،‬‬ ‫والشواق إلى أحضان الوطن‪.‬‬ ‫كتب لي يقول‪:‬‬ ‫من‪،‬غيرك‪ ،‬يمكنه ذلك؟‬ ‫ولم تغا درني الفكرة‪ .‬بل أخذت تكبر وتتطور وتتشعب وتتبلور‪.‬‬ ‫أما عن مشروعي الروائي الثاني "حكاية عمر" فقد كان "ضيف ا"‬ ‫هو من قا م بالحصول على موافقة الممثلة "جين فوندا" المبدئية للقيا م‬ ‫ببطولة الفيلم أما الممثل "محمد لطفي" أحد أبطال فيلم "الظلل في‬ ‫الجانب الخر" ‪ ،‬الذي قامدور الطالب الفلسطيني خير قيا م‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪179‬‬

‫*‬


‫في المكتب الهندسي في "فيينا"‬

‫السيـــــــــنما‪..‬‬

‫‪180‬‬


‫كان ل بد لي من العو دة إلى "فيينا" لستكمال تدريبي هناك في أحد‬ ‫المكاتب الهندسيه‪ .‬وصا دف لدى عو دتي أن قرأت عن مسابقة للقبول‬ ‫في قسم الدراسات العليا للسينما في أكا ديمية الموسيقى والفنون‬ ‫التعبيريه‪.‬‬ ‫في موعد التقد م للمسابقة‪ ،‬وجدتني‪ ،‬منساقا بقوة خفية‪ ،‬أستأذن رئيسي‬ ‫في العمل‪ ،‬الذي كان يكن لي كثيرا من المو دة‪ ،‬للخروج لقضاء أمر‬ ‫ها م‪.‬‬ ‫وبعد بضعة أيا م‪ ،‬حمل إسمي رقم ‪ 138‬في قائمة المختارين للتقد م‬ ‫لمتحان القبول للدراسة العليا في أكا ديمية الموسيقى والفنون التعبيرية‪-‬‬ ‫فرع السينما والتلفزيون‪.‬‬ ‫ولدى انتهاء فترة التدريب‪ ،‬واقتراب موعد إبتداء السنة الدارسية‪،‬‬ ‫و دعني رئيس الشركه‪ ،‬المهندس ذائع الصيت‪ ،‬طيب الذكر‪ ،‬متعد د‬ ‫اللقاب‪" ،‬هانس هوبينبيرجر" ‪HansHoppenberger Pro..Dr.Dr.Hc‬‬ ‫بتمنياته لي بمستقبل مشرق‪ .‬ولم يتر د د في عرض خدماته و دعوتي‬ ‫للعمل لديه‪ ،‬في شركته الهندسية‪ ،‬بعد تخرجي في نهاية ذلك العا م‪ .‬ثم‬ ‫أخذ‪ ،‬بعد أن أثنى على مشروعي "المركزالثقافي الفلسطيني" المذكور‪،‬‬ ‫والذي كنت أقو م بإعدا د‪،‬ه للتخرج‪ ،‬يحدثني بإسهاب عن "المنشآت"‬ ‫التابعة لمشروع السد‪ ،‬التي تعاقدت شركته بشأنها مع شركة "سيمنز"‬ ‫‪ Siemens‬اللمانية لتنفيذها في سوريا‪ .‬وقال أنه كان "يودخرني"‬ ‫للسفر والمشاركة مع البعثة النمساوية اللمانية )!(**‬ ‫ولشدما كانت دهشة رئيس الشركة حينما عرف أني سأواصل الدراسة‬ ‫في مكان آخر‪ .‬إل أنني‪ ،‬تخفيفا لتلك الدهشة واتقاء لنظراته التي كانت‬ ‫تتهمني بالجنون‪ ،‬ا دعيت أنني سوف أتخصص في هندسة ديكور‬ ‫___________________________________________________‬ ‫**‬

‫ولم يفبوت أخي "عابد" الفرصة‪ ،‬كعادته‪ ،‬لتعليقاته الساخرة‪ ..‬ومنها‪:‬‬ ‫‪ .. -‬وا و صرنا يا خويا ياغالب من ضمن "الخبرا الجانب"!‬

‫السينما‪ .‬وهذا مما جعله يزو دني برسالة إلى صديقه وزميل دراسته‬ ‫المهندس البروفيسور "فيأبر" ‪ ،Weber‬رئيس ذلك القسم‪ ،‬ونائب‬ ‫عميد معهد السينما في الكا ديميه‪.‬‬

‫‪181‬‬


‫كما وأنه أخذ يلح ويؤكد لي أن ل أتر د د في العو دة إلى مكتبه في أي‬ ‫وقت لكي أعمل لديه بنظا م الـ ‪ ، Part time‬إذا اقتضتني الحاجة‬ ‫الما دية إلى ذلك‪.‬‬ ‫والحقيقة أنني في غمرة مروري من خلل لجان التصفيات المتعد دة‪،‬‬ ‫نظرا لضخامة عد د المتقدمين لها‪ ،‬والتي كان يرأسها البروفيسور‬ ‫"فيأبر" نفسه‪ ،‬وشعوري باهتمامه بي وتشجيعه لي‪ ،‬لمجر د معرفته‬ ‫بخلفيتي الدراسيه‪ ،‬فقد نسيت أمرالرسالة‪ ،‬فلم أسلمها له إل بعد صدور‬ ‫النتيجة‪ ،‬مما زا د من احترامه لي‪ ،‬كما أخبرني بعد ذلك‪.‬‬ ‫حاول جاهدا‪ ،‬بشخصيته المريحة وأسلوبه المرح‪ ،‬أن يشدني إلى قسم‬ ‫"الديكورالسينمائي" الذي يدير‪،‬ه‪ ،‬لكنني كنت قد عقدت العز م على‬ ‫التخصص في "الخراج"‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫أتذكر سؤال وجهه لي أحد الساتذة في إحدى اللجان الولى‪ .‬كان ذلك‬ ‫هوالسؤال التقليدي الذي يدورحول السبب الذي جعلني أقرر دراسة‬ ‫السينما والتخصص في الخراج السينمائي بالذات‪ .‬قلت باختصار‬ ‫وبدون إمعان في التفكير‪ ،‬وبالحرف الواحد‪:‬‬ ‫ أنا فلسطيني‪،‬لجيء‪ ،‬صاحب قضية‪ ،‬تطلقون على أمثالي‬‫وصف ‪" Staatenlos‬بل وطن"‪ ،‬أو"غيرمعين الجنسية"‪ .‬ذلك‬ ‫نتيجة لحتلل بل دي فلسطين من قبل اليهو د الصهاينة الذين‬ ‫جاءوا إليها من أنحاء مختلفة من العالم‪ .‬ول أجد ما يلء م‬ ‫قدراتي للدفاع عن قضيتي أو النضال من أجل استر دا د حقي‬ ‫والعو دة إلى داري‪ ،‬التي ولدت فيها‪ ،‬في بلدي "القدس"‪،‬‬ ‫أفضل من هذ‪،‬ه "اللغه" كسلح‪.‬‬ ‫هذ‪،‬ه هي قناعتي‪ ،‬أما عن مدى استعدا دي أو صلحيتي لذلك‪،‬‬ ‫فهذا ما سوف تقررونه أنتم‪.‬‬ ‫واستدرجتني ملمح أحد الساتذة الممتحنين‪ ،‬البروفسور"فينجه"‬ ‫‪ ، Hans Winge‬إلى استكمال توضيح وجهة نظري‪:‬‬

‫‪182‬‬


‫‪-‬‬

‫استطاعوا أن يقنعوا العالم بأن فلسطين هي"أرض بل شعب"‪..‬‬ ‫إلخ‪ ،‬وعلينا‪ ،‬نحن الشعب الفلسطيني‪ ،‬أن نؤكد للعالم‪ ،‬بشتى‬ ‫الوسائل‪ ،‬أننا كنا وما زلنا موجو دين‪ .‬ذلك قبل أن تنجح‬ ‫مساعيهم‪ ،‬بشتى وسائلهم‪ ،‬لتنفيذ خططهم لطر د البقية الباقية منا‬ ‫من بيوتنا و أراضينا في فلسطين‪..‬أو إفناءنا‪.‬‬

‫أضاف البروفيسور "فينجه" سائل‪:‬‬ ‫ هل أفهم من ذلك أن اهتمامك منصب على عمل الفل م الوثائقية‬‫والعلمية؟‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ الذي أعرفه بكل تأكيد أن لنا "روايتنا" التي يجهلها العالم‪ ،‬ول بد‬‫لنا من أن نرويها له بوضوح‪ ،‬وبالشكل الملئم‪.‬‬ ‫هذا‪..‬ولبد من أن أعترف بأنني أميل إلى الشكل الروائي‪..‬‬ ‫"الدراما"‪ ..‬لقدرته على توصيل الفكار بطريقة أكثر جاذبية‬ ‫ومصداقية‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫في أماكن أخرى من هذ‪،‬ه "السيرة"‪ ،‬سوف أتر د د في خاطري تلك الكلمة‬ ‫التي قالها البروفيسور"فيأبر"‪ ،‬بعد مرور سنوات الدراسة‪ ،‬وعقب انتهاء‬ ‫مناقشة فيلم مشروع التخرج في الكا ديمية‪.‬‬ ‫قال بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وأضم صوتي إلى صوت هيئة الزملء‪ ،‬بمنح "الزميل"* " "‬‫شاث‬ ‫ دبلو م "الخراج السينمائي"‪ ،‬وكذلك دبلـــــو م "السيناريو والدراما‬ ‫التلفزيونيه" بدرجة "المتياز بالجماع"‪.‬‬ ‫ثم أضاف‪ ،‬بلهجته التي دأبت على إشاعة المرح في حضور‪،‬ه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬فلقد جاءنا وهو يتحدث اللغة النجليزية إلى جانب لغة ال م‪،‬‬‫__________________________________________________‬ ‫)*( كان البروفيسور يخاطبني دائما بـ"الزميل" باعتباري مهندسا زميل له في الصل ‪.‬‬

‫‪183‬‬


‫العربية‪ ،‬وها هو يغا درنا وهو يتقن‪ ،‬علوة على اللغة اللمانية‪ ،‬لغة‬ ‫أخرى عالمية‪..‬هي اللغة السينمائية‪ .‬ول يسعني بهذ‪،‬ه المناسبة إل أن‬ ‫أهنئه‪ ..‬واقول أيضا‪"..‬هنيــــئا لهله ولشعبــــه بـــــه"‪.‬‬ ‫كنت أعرف مسبقا تقديرات نجاحي‪ .‬لكني فوجئت بالكلمات الخيرة‬ ‫التي ضخمت إحساسي بالمسئولية وأضافت إلى قاموسي معنى آخر‬ ‫لمعاني الوطن والنتماء إليه‪.‬‬ ‫خرجت بعد سماعي لتلك الكلمات مملوءا ثقة وزهاووا‪..‬‬ ‫وآمـــــــــــــــــــــــــــــــالا‪.‬‬ ‫يغمرني الحساس بالقوة‪ ،‬واليقين بأني قد أحسنت الختيار عندما‬ ‫قررت أن يكون سلحي لخدمة قضيتي هو‪ ..‬السينما‪.‬‬ ‫هأنا قد خطوت الخطوات الولى في الطريق الطويل‪ ،‬طريق اللف‬ ‫ميل!‬ ‫هأنذا قد حققت ما سعيت إليه‪.‬‬ ‫هأنا قد امتلكت "بندقيتي"‪.‬‬ ‫لم يعد أمامي سوى الحصول على"الذخيرة"‪ ..‬الخبـــرة العمليـــة‪.‬‬ ‫فالسينما من أكثرالفنون قوة وأكثرها انتماء إلى ما بات يسمى بـ"القوة‬ ‫الناعمة"‪ ،‬وأكثرها قدرة على فتح باب التواصل بين المم‪ .‬و"سينما‬ ‫فلسطينية"‪ ،‬هي القا درة على فتح البواب الموصدة من حول النسان‬ ‫الفلسطيني والخروج به إلى آفاق رحبة تجعله يعو دإلى الوجو د الفعال‪،‬‬ ‫وإلى معاو دة المشاركة الفعالة‪ ،‬مستقبل‪ ،‬في بناء الحضارة النسانية‪.‬‬ ‫ألم نتعلم أن الفنان الحقيقي هو من يحرص في إبداعاته على تحديد‬ ‫ملمح أمته‪ ،‬وأنه بالتالي من أبرز حماةالهوية؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫لن أنسى ذلك الحساس الذي داهمني وطغى على مشاعري وكا د أن‬ ‫يفقدني فرحتي لول أن ساقتي قدماي إلى أقرب مكتب للبرق والبريد‬ ‫حيث استطعت أن أ دبج باللغة النجليزية برقية مختصرة جدا لخي‬ ‫"عابد" في السعو دية‪ ،‬ذيلتها بتوقيع راق لي في حينها‪:‬‬ ‫‪184‬‬


‫"المخرج السينمائي الفلسطيني"!‬ ‫وفي اليو م التالي فقط‪ ،،‬بعد مرور أطول ليلة سهد في حياتي‪ ،‬اكتملت‬ ‫فرحتي‪ ،‬عندما صافحت عيناي برقية أخي "عابد" ومن بعدها برقيات‬ ‫والد و‬ ‫ي وشقيقاتي تحمل لي تهاني النجاح‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫هذا‪ ،‬وأظنني لن أنسى ما همس لي به البروفيسور "فنجه" ‪، Winge‬‬ ‫الذي لم أشك لحظة في نبرة الخلص في كلماته‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬لقد قمنا بتعليمك وتأهيلك لن تصبح مخرجا سينمائيا كما كنت‬‫تسعى‪ .‬وأشهد أنك أبديت استعدا دا واستيعابا ل بأس بهما لما حاولنا‬ ‫أن نعطيك إيا‪،‬ه من علم و"تكنيك"‪ .‬ولكن‪..‬عليك أنت أن تطور‬ ‫قدراتك بجهدك بحيث تمتلك ما ل نستطيع‪ ،‬ول أحد يستطيع أن‬ ‫يعطيك إيا‪،‬ه‪ ،‬وأعني‪...‬‬ ‫وقا م البروفيسور بأ داء حركات وئيدة بمرفقيه‪ ،‬كمن يحاول أن يشق‬ ‫طريقه وسط الزحا م‪ ،‬ثم أكمل‪:‬‬ ‫ ‪ .. Elbo Technique ..‬تكنيك إستعمال المرفقين‪ ،‬والتزاحم‬‫بالمناكب‪ .‬فأنا‪ ،‬يا بني‪ ،‬أخشى أنك تفتقد لصفة مهمة في مجال‬ ‫عملك وهي صفة الـ ‪Fighter ..‬المقاتل!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫مقاتل؟!‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أظنك قد اخترت "السينما" كسلح توسمت فيه وسيلة تكفيك شرالقتال‪.‬‬ ‫فأي قتال هذا الذي تحتاج إليه وقد شهد جميع أساتذة الكا ديمية بامتلكك‬ ‫للغة السينما وقدرتك على ممارسة هذا الفن‪..‬هذ‪،‬ه القوة الناعمة؟!‬ ‫أي هراء هذا يا سيدي البروفيسور؟!‬ ‫وهل يتعين على المرء أن يقاتل من أجل أن ميعطـــي؟!‬ ‫‪185‬‬


186


‫تمثيل النمسا‪(!)..‬‬

‫كان مشروع التخرج من أكا ديمية السينما عبارة عن فيلم روائي‬ ‫قصير‪ ،‬أسميته "حكايه" ‪ ،Episode‬مدته ‪ 20‬دقيقه‪ ،‬وهي الحد‬ ‫القصى للطول المتاح‪.‬‬ ‫كتبت له السيناريو‪ ،‬عن القصة القصيرة‪" ،‬بين قطارين"‪ ،‬للكاتب‬ ‫اللماني "فيرنر كلوزن" ‪.Klausen Werner‬‬ ‫قصة حب عاثر‪ ،‬لم يكنب لها الستمرار بسبب الخلفات الفكريه‬ ‫اليديولوجية التي عا دة ما تؤ دي إلى طريق مسدو د‪ ،‬بين الطالب الشاب‬ ‫وزميلته‪ ،‬التي سرعان ما التقت بشخص آخر واستقرت معه في بلد‬ ‫آخر‪ .‬لكن أواصر الصداقة بقيت قائمة بينهما عن بعد‪ ،‬في حدو د تبا دل‬ ‫الرسائل أو بطاقات التهنئة بالعيا د والمناسبات‪.‬‬ ‫في أحد اليا م‪ ،‬بعد مرورعامين على فراقهما‪ ،‬يتسلم الشاب بطاقة‬ ‫منها‪ ،‬تخبر‪،‬ه فيها بأنها ستقو م‪ ،‬خلل رحلة عو دتها من إجازتها‪،‬‬ ‫بتغييرالقطار في مدينتهما التي مازال يقيم فيها )والتي شهدت سنوات‬ ‫حبهما( وأن هناك بضع ساعات بين موعد القطار الذي ستصل به‬ ‫والقطارالذي ستواصل به رحلةعو دتها‪ ،‬وتسأله عن إمكانية اللقاء به‬ ‫خلل تلك الساعات‪.‬‬ ‫ويروي الفيلم‪ ..‬بعد "فل ش باك"على شكل "فوتومونتاج" سريع يجسد‬ ‫ذكرى اليا م الجميلة من الماضي الذي ل سبيل إلى نسيانه‪..‬ما يجري‬ ‫بينهما في تلك الساعات القليلة‪ ،‬منذ وصول قطارها‪ ،‬واستقباله لها‪،‬‬ ‫حتى موعد مغا درة قطارالعو د‪،‬ه‪ ،‬بعد فراقهما الذي دا م لمدة سنتين‪.‬‬ ‫لحظة اللقاء‪ .‬ولحظات الصمت والحرج من الحديث عن الماضي الذي‬ ‫مازال يحتل مكانة في قلبيهما‪ .‬والنظرات المختلسة أثناء إجابة أحدهما‬ ‫‪187‬‬


‫المقتضبة عن سؤال جاهد الخر لصياغته بحيث يبدو طبيعيا ل يخفي‬ ‫وراء‪،‬ه قصدا ما‪.‬‬ ‫المحاولت اليائسة لكل منهما في التسلل إلى أعماق الخر‪ .‬أسئلة‬ ‫مختصرة وإجابات مبتورة تحكي في مجموعها قصة تكا د تكون مكررة‬ ‫ولكن بتفاصيل مختلفة‪.‬‬ ‫ومحاولت الهروب إلى أماكن أخرى غير تلك الماكن التي تعيدهم‬ ‫إلى اجترارالماضي‪.‬‬ ‫ولحظة الفراق التي كان ل بد من أن تأتي‪ ،‬بالرغم من حنين كليهما‬ ‫الجارف إلى ذلك الماضي‪ ،‬ورغبتهما الدفينة في انبعاث حبهما القديم‬ ‫من جديد‪.‬‬ ‫ثم تأتي اللقطة المكبرة لوجه الفتاة الصامتة‪.‬‬ ‫يبد د هذا الصمت‪ ،‬بالتدريج‪ ،‬صوت القطارالمسافر‪..‬ويختلط مع صوته‬ ‫ويحل محله صوت موسيقى كونشيرتو "رحمانينوف" الثاني للبيانو‪،‬‬ ‫التي غلفت لحظات الفيلم منذ بدايته‪.‬‬ ‫وينتهي الفيلم بلقطة علوية بعيدة للقطار وهو يخرج من الصورة لتبقى‬ ‫الخطوط الحديدية المتوازية والمتقاطعة خلفية للعناوين‪ ،‬وتظل‬ ‫الموسيقى تغطي نهاية "عناوين الفيلم" حيث ينتهي "الكونشيرتو" مع‬ ‫الظل م التدريجي للصورة‪.‬‬ ‫كان أكثرأعضاء لجنة التقييم حماسا للفيلم‪ ،‬هو أستاذ الخراج‪ ،‬الذي‬ ‫طالما حذرني ونصحني باختيار موضوع آخرلمشروع التخرج‪،‬‬ ‫إشفاقا من صعوبة تنفيذ تلك الفكر‪،‬ه‪ .‬فلقد أخذ يكرر القول بأن‬ ‫السيناريوالذي قدمته يحتوي على تفاصيل تهتم بوصف حالت نفسية‪،‬‬ ‫وتصوير لحظات صامتة من شأنها أن تعبرعن أحاسيس تكمن في‬ ‫أعماق الشخصيتين‪ ،‬وهي مشاهد ل يتمكن من تنفيذها سوى مخرج‬ ‫متمكن ذو تجربة طويلة‪ .‬بل إنه )رأفة بي( قال في أحد المرات التي‬ ‫حاول فيها إقناعي بالبحث عن موضوع سهل ومضمون‪ ،‬على مسمع‬ ‫من بقية زملئي الطلبه‪ ،‬أن هذا الموضوع ل يجرؤ على تناولـه سوى‬ ‫مخرج متمكن مثل "أنتونيوني"‪ ،‬مثل!‬

‫‪188‬‬


‫اللـــــــــه!‬ ‫ما أروع أن يقارنني أستاذي‪ ،‬أو يشربهني‪ ،‬إذا ما نجحت في تنفيذ فيلمي‪،‬‬ ‫بمثلي العلى‪ ،‬المخرج الشهير "مايكل أنجيلو أنتونيوني"!‬ ‫كان ذلك مما زا دني تصميما وإصراراعلى التمسك بالسيناريو‪.‬‬ ‫و كان أستاذي هذا‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬هوأحد أعضاء "لجنةالختيار" المنوط بها‬ ‫ترشيح الفيلم الذي سوف يمثل النمسا في أسبوع سينما الشباب‬ ‫"سينيستو د" ‪ Cinestud67‬في أمستر دا م ‪ -‬هولندا‪.‬‬ ‫ذلك بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل بعض العضاء الخرين‪،‬‬ ‫لكوني أجنبي ل يحق لي تمثيل النمسا‪.‬‬ ‫لكن العتبارات الفنية رجحت فيلمي "حكايه" ‪. Episode‬‬ ‫ووصلت أمستر دا م‪ ،‬ممثل للنمسا في المهرجان المذكور‪ ،‬وأنا ل أملك‬ ‫إل الحترا م والتقدير‪ ،‬إضافة إلى آخرين‪ ،‬لتلك الستاذة النمساوية‬ ‫الفاضلة ‪ Dr.Agnes Bleier Brody‬التي بذلت جهدا ل ينسى من التأييد‬ ‫والدعم لي‪ ،‬والتي نمى إلى علمي بعد ذلك أنها‪ ..‬يهو دية الديانة )!(‬ ‫وهناك في هولندا‪ ،‬بلد المهرجان‪ ،‬ظهرت المشكلة الثانية‪ ،‬حيث ترجح‬ ‫كفة اعتبار الفيلم يحمل جنسية مخرجه‪ .‬وعندما بحثوا في أوراقي‬ ‫الرسمية‪ ،‬وجدوا أني أحمل صفة "غير ممعمين الجنسيه"!‬ ‫بل ذهب بعضهم إلى اعتباري إسرائيليا لمجر د وجو د اسم "القدس" في‬ ‫خانة مكان الميل د!‬ ‫وفي حديث لحدى الصحف‪ ،‬حرصت على أن أعرف نفسي كلجيء‬ ‫فلسطيني أحمل وثيقة سفر مصرية‪ ،‬وقلت أن مكان إقامتي الذي أنوي‬ ‫فيه أن أبدأ ممارسة العمل‪ ،‬والتسلح بالخبرة العملية‪ ،‬بعد أن أتممت‬ ‫ دراستي في النمسا‪ ،‬هي القاهر‪،‬ه‪ .‬ويبدو أن المر قد اختلط على ناقل‬ ‫الخبر‪ ،‬ففي اليو م التالي ظهرت الصحيفة بعنوان بارز‪:‬‬ ‫"وصول الدولة رقم ‪28‬من الدول المشتركة في المهرجان ‪..‬‬ ‫وهي مصر‪".‬‬ ‫وأخيرا ينتهى المر بان يعتبر الفيلم‪ ،‬في سجلت المهرجان‪ ،‬فيلما‬ ‫نمساويا‪.‬‬

‫‪189‬‬


‫جدير بالذكرأن مديراا لمهرجان سينمائي أميريكي‪ ،‬كان من ضمن‬ ‫أعضاء لجنة التحكيم‪ ،‬قد طلب مني المشاركة بفيلمي في مهرجانه‬ ‫المشابه في الوليات المتحدة الميريكية‪ ،‬باعتبار‪،‬ه فيلما يحمل جنسية‬ ‫مخرجه‪ .‬وعندما أبلغته أني سأكون‪ ،‬وقت انعقا د المهرجان ‪ ،‬في‬ ‫القاهرة‪ ،‬وعد بإرسال كتاب لوزير الثقافة المصري يطلب فيه مشاركة‬ ‫الفيلم في المهرجان الميريكي‪.‬‬ ‫نال الفيلم تقديرا كأحسن فيلم "روائي" قصير‪.‬‬ ‫ووجدت نفسك تقف أما م كاميرات التلفزيون وميكروفونات الذاعة‬ ‫)والبرنامج العربي للذاعة الهولندية( ومندوبي الصحف‪ .‬لكن شعورك‬ ‫بمسئولية إختيارك والدفاع عن وجهة نظرك لم يبدأ إل عندما واجهت‬ ‫طلبة معهد السينما في أمستر دا م بعد العرض الخاص الذي أقيم لهم‪ .‬فلقد‬ ‫مارسوا مع عملك ما جعلك تفهم المعنى الحقيقي لـكلمة "تشريح"‪.‬‬ ‫ومن أشد انتقا داتهم كانت مواجهتي بسؤال عن سبب استخدامي‬ ‫لموسيقى "رحمانينوف" التي غلفت مشاهد الفيلم والتي "باتت مستهلكة‬ ‫لكثرة استخدامها في الفل م الرومانسية بمختلف جنسياتها"‪ .‬هكذا قال‬ ‫أحدهم‪.‬‬ ‫ولم أستطع أن أقنعهم بأني في حقيقة المر قد بحثت طويل إلى أن‬ ‫وجدت القصة التي تلئم موسيقى "كونشيرتو البيانو" المذكور‪ ،‬وليس‬ ‫العكس‪.‬‬ ‫كنت شديد اليمان بأن التفاعل بين الصورة والموسيقى في السينما‬ ‫يخلق ما يسمى بالصورة السمعية‪ ،‬أو الغنية البصرية‪.‬‬ ‫ولدى عو دتي إلى"فيينا"‪،‬وجد أ‬ ‫ت جائزتي بانتظاري‪،‬وهي شها دة "تقديــر‬ ‫للبــداع الفنــي"‪ ،‬مع جائزة ماليه‪ ،‬صا درة من وزارة التعليم العالي‬ ‫النمساويه‪.‬‬ ‫هذا‪ ..‬بالضافةإلى منحة تدريبيــة مدفوعــة الجــر فــي تلفزيــون النمســا‪،‬‬ ‫لمدة ستة أشهر‪:‬‬ ‫تبدأ في ‪ .. 15/3/1967‬وتنتهي في ‪.67 / 9 / 15‬‬ ‫‪190‬‬


‫وأما الجائزة التي لم أكن أتوقعها‪ ،‬فهي الســيارة "الوبــل البيضــا" الــتي‬ ‫أرسل لي ثمنها أخي "عابد"‪ ،‬كإعتذار‪ ،‬أو كما كتب لي مازحا‪ ..‬كـــ"ر د‬ ‫اعتبار"!‬ ‫قال لي أنه كــان جــا دا عنــدما ظــن بــي الظنــون‪ ،‬ووصــمني بــأني دعــوي‬ ‫فوشار!‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪191‬‬

‫*‬


192


‫"مزوال" معاداة السامزيه‪..‬‬

‫صص يومــا لزيــارة‬ ‫لم يفت أعضاء الوفد النمساوي‪ ،‬وأنا أحدهم‪ ،‬أن ميخ م‬ ‫معالم"أمستر دا م"‪،‬مدينة"ريمبراندت"‪ ،Rembrandt ،‬و"فـان جـو خ"‪،‬‬ ‫‪ ،Goch Van‬ويوما آخر لزيارة متاحفها الفنية التاريخية‪.‬‬ ‫كان ذكرالفنانين الهولنديين كثيرا ما يتر د د فــي محاضــرات مــا دة"إ دارة‬ ‫التصوير"‪ ،‬طوال السنوات الدراسية الماضية‪ ،‬لما لســلوب كــل منهمــا‬ ‫من علمات بارزة في معالجة "الضوء" و"مصا درالضاءة"‪ ،‬ولحظــة‬ ‫انبثاق النورلتكــون مرا دفــا للحظــة انبثــاق الـوعي‪ ،‬الــتي ميــزت عصــر‬ ‫التنوير واليقظة‪ ،‬في أعمالهم‪.‬‬ ‫أذكرأنني في ذلك اليو م توقفت طويل أما م لوحة "حراس الليل"الشهيرة‬ ‫لـ"ريمبراندت"‪ ،‬في المتحف الوطني‪ ،‬مما جعل بقية الزملء يسبقونني‬ ‫إلى جناح آخر بدون أن ألحظ ذلك‪ .‬لم يبق منهم سوى"هانيلوري"‪ ،‬التي‬ ‫كانت تتأمل اللوحة بإمعان هي الخرى‪ .‬وعندما هممت بترك المكان‬ ‫ومواصلة السير استرعى إنتباهي وقوف رجلين بملمح وهيئة ليست‬ ‫بالغريبة عني‪ .‬كانا يرتديان الزي المميز بـالـ"ساكو"‪ ،‬المعطف السو د‬ ‫الطويل‪ ،‬والقبعة السو داء ذات الحواف العريضة‪ ،‬يتدلى سالفاهما‬ ‫المبرومان‪ ،‬واللحية‪ ،‬إلى كتفيهما والصدر‪ .‬با در الثنان في الحديث إلى‬ ‫زميلتي حديثا سمعت بدايته ولم أجد في نفسي رغبة لسماع بقيته‪.‬‬ ‫تركت زميلتي وتجولت في الركان المجاورة وعدت إليها عــدة مــرات‬ ‫وهي ما زالت تستمع إليهمــا بانتبــا‪،‬ه وتهــز رأســها موافقــة علــى كــل مــا‬ ‫يقولنه‪ .‬وبعد عدة جــولت وعــو دات‪ ،‬محاولــة منــي لعطاءهــا مــبررا‬ ‫للتخلص من حالة السر التي استسـلمت لهـا‪ ،‬أصـابني اليـأس وحـاولت‬ ‫أن ألتحق ببقية الزملء الذين كــانوا يقــتربون مــن مكاننــا‪ .‬ســألوني عــن‬ ‫"هانيلوري"‪ ،‬فأجبت مشيرا إليها‪:‬‬ ‫‪193‬‬


‫ ‪ ..‬يهو ديـــــان أحاطا بها يحاولن إقناعهــا بــأن"ريمبرانــدت" كــان‬‫يهو ديا أيضا‪.‬‬ ‫فوجئت بزملئي يضعون أيديهم على أفواههم علمــة وجــوب إلــتزامي‬ ‫بالصمت!‬ ‫و همس أحدهم لي مفسرا ومؤنبا‪:‬‬ ‫ هل تريد أن توقعنا في مصيبة؟‬‫أل تعلم أن مجر د وصفك لحدهم بكلمة "يهــو دي" يكفــي لن تــومجه‬ ‫إليك تهمة "السب العلني"‪ ،‬مما يجعلك تحت طائلة القانون؟!‬ ‫ سب علني؟!‬‫ نعم‪،‬لن استعمالك لكلمة "يهو دي" تشي بنية مبيتة‪ ،‬متوارية‪،‬لهانة‬‫الشخص المخا أ‬ ‫طب والنتقاص من قدر‪،‬ه‪.‬‬ ‫وهمس لي زميل آخر‪:‬‬ ‫ أل تعلم بأن الوسيلة الجديدة لسكات العقول الناقدة وتحجيم حرية‬‫الرأي عندنا هي التها م بمعا دة الهسامية؟‬ ‫وأن هناك في بل دنا قانون يعتبر"معا داة السامية" جريمة تصل‬ ‫عقوبتها إلى السجن عشرة سنوات؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كأني‪ ،‬لول وهلة‪ ،‬لم أستوعب ما قيل وإن كنت قد لمست قبل ذلك كيف‬ ‫نجحت أجهزة الدعاية الصهيونية في تكريس الكثيرمن المحاذير وخلق‬ ‫العديد من "التابوهات" الخاصة باليهو د واليهو دية‪ ،‬ومحاولة اصطيا د‬ ‫أي تصريح أو موقف له ملمح المعا دة للسامية‪ .‬هذا إلى جانب مواصلة‬ ‫وضع اليهو د في كل مكان في حالة الحساس بالخطر‪ ،‬بقصد تحريضهم‬ ‫على السعي للخلص‪ ..‬والهجرة إلى "إسرائيل"‪.‬‬ ‫وأعا دني هذا إلى أحا ديث المهندس اللماني "شولتس" عن ألعيب‬ ‫اليهو د وخرافات"اللسامية"‪"..‬معسكرات العتقال"‪ ..‬و"أفران الغاز"‪..‬‬ ‫و"الهولوكوست"‪ ..‬و‪ ..‬و"مصانع الصابون"‪.‬‬

‫‪194‬‬


‫أصبح ذهني‪ ،‬لدى ذكر تلك المصانع‪ ،‬التي كان يفترض أن تنتج صابونا‬ ‫مــن "شــحو م"اليهــو د)!(‪ ،‬مهيــأ لســتدعاء صــور معســكرات العتقــال‬ ‫المكتظة بســجناء أقــرب مــا يكونــون إلــى "الهياكــل العظميــه" المكســوة‬ ‫بالجلد )!(‬ ‫)علقت صديقتي على ذلك بأنها المرة الولى الــتي يتصــف فيهــا العل م‬ ‫الصهيوني بالغباء‪ .‬واضطررت أن أعترض على هذا الوصــف لمــا فــي‬ ‫ذلك من إهانة للغبياء‪(.‬‬ ‫كما أمسيت أتذكر شخصية "زيطه" صانع العاهــات فــي روايــة "زقــاق‬ ‫المدق" لكاتبنا "نجيب محفوظ"‪ ،‬كلما ور د إلــى خــاطري ذكــر "أجهــزة‬ ‫الدعاية الصهيونية"‪.‬‬ ‫هناك في اللغة الـ"ييديش" ‪ ، Jidisch‬وهي اللغة التي يتداولها‬ ‫"الشكيناز"‪ ،‬يهو د أوروبا الوسطى و الشرقية بالذات‪ ،‬والمشتقة من‬ ‫عدة لغات أهمها اللمانية والعبرية القديمة والرامية والسلفية‪ ،‬هناك‬ ‫كلمة ل يوجد كلمة أخرى مرا دفة لها في أي لغة من لغات العالم‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫"خوتسبا‪،‬ه" ‪ Chutzpah‬التي تطلق على الولد الذي يقتل أبويه لكي‬ ‫يستدر عطف الناس لكونه "يتيم البوين"‪.‬‬ ‫إن وجو د مثل هذ‪،‬ه المفر دة في القاموس اليهو دي لهو دليل على تأصل‬ ‫"ثقافة" الوصولية و النتحال والتزوير والنصب والبتزاز لديهم‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫أما عن زميلتي "هانيلوري"‪ ،‬التي تمكأنت أخيرا من أن تنجو من أسر‬ ‫الرجلين اليهو ديين‪ ،‬فقد أجابت عن استفساري عن سبب استسلمها‬ ‫لهما‪ ،‬وموافقتها على كل ما يقولنه بالرغم من يقيني بأنها تعرف مدى‬ ‫ابتعا د‪،‬ه عن الصواب‪ ،‬بتر ديدها للموال المشهور‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وهل كنت تريدني أن أخالفهمــا الــرأي ليكــون مصــيري أن أتهــم‬‫)والعياذ بال( بأنني"معا دية للساميه"؟!‬ ‫*‬ ‫‪195‬‬

‫*‬

‫*‬


‫الحرب الخاطفة)!(‬ ‫‪196‬‬


‫إثربداية تدريبي في التليفزيون النمساوي بفترة‪ ،‬بدأت إرهاصات حرب‬ ‫اليا م السته‪ ،‬وبدأت معها الحرب العلمية التي شنتها أجهزة العل م‬ ‫الوروبية‪ ،‬والتي تخضع بمعظمها لنفوذ "اللوبي الصهيوني"‪ .‬ولم يكن‬ ‫تلفزيون النمسا‪ ،‬بالرغم من حيا د الدولة الرسمي‪ ،‬ببعيد عن طائلة ذلك‬ ‫النفوذ المؤثر‪.‬‬ ‫كما وأنه لم يكن من الممكن أن ألتز م الصمت إزاء الكاذيب التي كانت‬ ‫تتر د د في ر دهات مبنى التليفزيون قبيل‪ ،‬وأثناء‪ ،‬وإثر "حرب اليا م‬ ‫الستة"‪.‬‬ ‫وانتهى المر‪ ،‬في أحد اليا م‪ ،‬إلى حوار أ دى إلى مشا دة كلمية بيني‬ ‫وبين رئيس تحرير كبرى الجرائد اليومية‪ ،‬الـ"كورير" ‪، Kurrier‬‬ ‫الذي كان يقو م بالتعليق يوميا على النباء‪ ،‬ويدعو إلى إنقاذ "واحة‬ ‫الديمقراطية في صحراء التخلف العربي" من عدوان جيرانها‬ ‫"الشرار الحاسدين الحاقدين"!‬ ‫استطعت أن أتأكد من أن رئيس التحرير هذا ليس يهو ديا‪ ،‬بل هناك من‬ ‫اكد لي بأنه معروف بإلحا د‪،‬ه‪ .‬وحرت في أمر هذا الرجل الذي يتبوأ ذلك‬ ‫المركز في تلك البلد التي تعلن حيا دها رسميا‪ ،‬بحيث يملي عليه‬ ‫الواجب أن يسعى وراء معرفة ونشر الحقيقة‪ .‬حاولت تذكير‪،‬ه بالحقائق‬ ‫التاريخية التي تتعلق بالقضية وقرارات المم المتحدة التي تدين الكيان‬ ‫الصهيوني صراحة‪ .‬لكنه كان يهز رأسه وينظر لي بعينين زجاجيتين‬ ‫وابتسامة صفراء ساخرة من جهلي‪ ،‬ويهز رأسه متوعدا كأنما كان‬ ‫يعرف ما ستبدي لنا اليا م‪ .‬لم أجد تفسيرا لموقفه وانحياز‪،‬ه العمى‬ ‫سوى‪..‬العمالة!‬ ‫واجهته برأيي هذا فيه‪ ،‬محاول أن أبدو في نفس برو د‪،‬ه‪.‬‬

‫‪197‬‬


‫بعد ذلك ببضعة أيا م‪ ،‬أي بعد مرور ثلثة أشهر فقط من الستة‬ ‫شهورالممنوحة لي للتدريب‪ ،‬وصلني من إ دارة التلفزيون خطابا يفيد‪،‬‬ ‫بطريقة غير مباشرة‪ ،‬بإنهاء الخدمه في ‪!15/6/67‬‬ ‫ذلك بدل من الموعد المتفق عليه‪ ..‬وهو ‪!15/9/67‬‬ ‫كان الخطاب عبارة عن "شها دة خبرة" من التلفزيون النمساوي تفيد‬ ‫بأنني قضيت فيه فترة تدريبية لمدة الشهور الثلثة‪.‬‬ ‫وبالرغم من ذلك فقد أتاح لي أساتذتي ) العاملين منهم في نفس الجهاز(‬ ‫فرصة إتما م المدة الباقية بصفة غير رسمية‪ ،‬ولكن بدون أجر‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ربما كان هذا هوالمكان المناسب للتنويه عن أسوأ أيا م يمكن أن يعيشها‬ ‫مطلق إنسان مغترب‪ .‬لكن تلك "المناسبة" بذاتها ما زالت مثل الكابوس‬ ‫الذي تفيق منه ول تعرف كيف ومن أين تبدأ في استذكار تفاصيله‪.‬‬ ‫قال لي صديقي "يوهان"‪ ،‬الذي دامت صداقته منذ أن وطئت قدماي‬ ‫أرض "فيينا" حتى وقتنا هذا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬ليس هناك ما هو أكثر بشاعة من "الهولوكوست" المزعو م إل‬‫ما يقترف بحق شعبكم!‬ ‫لقد استطاع اليهو د أن يتبوأوا منزلة رفيعة قوية في أوروبا‪ ،‬عن‬ ‫طريق استخدامهم الذكي للكاذيب‪ .‬فأين أجهزتكم العلمية‪ ،‬وأنتم‬ ‫تمتلكون الحق والحقيقة؟!‬ ‫ثم ر د د‪ ،‬بكلمات أخرى‪ ،‬نفس المعنى الذي قاله لي المهندس "شولتس"‬ ‫في مدينة "فوبرتال" اللمانية‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وهل يجوزأن يقتصرالوصول إلى هذ‪،‬ه الحقيقة على أفرا د‬‫تصا دف أن جمعت بينكم وبينهم صداقة مثل صداقتنا‪.‬‬ ‫يجب أن تكفوا عن الكتفاء بأنكم أصحاب حق‪ .‬فهذا ل يكفي‪.‬‬ ‫أنتم بحاجة إلى العلن عن ذلك بشكل يتفهمه ويقبله الغرب الذي‬ ‫استطاعت "إسرائيل" أن تضمن انحياز‪،‬ه إليها‪ .‬فالغرب لم يفعل‬

‫‪198‬‬


‫ذلك إل نتيجة لسعيها الدؤوب‪ ،‬بمحتلف الوسائل‪ ،‬للوصول إلى‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫نعم يا صديقي‪ ،‬يجب أن تتسع لغتنا لتلك المفر دات التي نصوغ بها‬ ‫أقوالنا حتى تصبح روايتنا مقبولة ومفهومة من قبل الخرين‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫يأبى علينا كبرياؤنا إل أن نصدق "صوت العرب"‪..‬ونصور على أن‬ ‫نكرذب كل إذاعات الدنيا‪ ،‬وكل الصوات‪ ،‬ألم يعدنا المذيع "أحمد سعيد"‬ ‫بأن قواتنا المصرية سوف تتناول الشاي‪ ،‬قبل غروب شمس يو م ‪5‬‬ ‫يونيه‪ ،‬في "تل أبيب"؟‬ ‫ثم نذهب‪ ،‬الطلبة العرب‪ ،‬إلى السفارة المصرية مستوضحين طالبين‬ ‫نقلنا إلى أرض المعركة‪ ،‬فيسخرمنا السفير‪..." ،‬التهامي"‪ ،‬قائل أن‬ ‫"البلد مش ناقصه رجاله‪ ..‬روحوا زاكروا أحسن!"‬ ‫مساء الخميس‪ ،‬الثامن من يونيه‪ ،‬يخترق أذني صوت "ماريا"‪ ،‬من‬ ‫خلل الهاتف‪ ،‬وهي تسألني عن حقيقة سقوط القدس!‬ ‫يو م الجمعة ‪ 9‬يونيه‪ ،‬كنا قد تنا دينا للتجمع في مقر رابطة الطلبة‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫تحلقنا حول المذياع‪ ..‬في انتظار الخبراليقين‪.‬‬ ‫إلى أن سمعنا صوت الزعيم جمال عبد الناصر وهو يطلع الجماهير‬ ‫المصرية‪ ،‬والمة العربية‪ ،‬على قرار‪،‬ه بالتنحي عن الحكم‪ ،‬واعترافه‬ ‫بمسئوليته الكاملة عن الهزيمة‪ .‬وهو نفس الصوت الذي كان يمل آذاننا‬ ‫ونفوسنا عـــزة وكرامــــة وفخـــرا وآمـــال وكبريـــاء‪.‬‬ ‫يومها‪ ..‬بكينا كلنا بل استثناء بكاء الثكالى‪!..‬‬ ‫يكا د كل منا أن يصر خ من أعماقه في وجه الخر‪" :‬يستحيل!"‬ ‫*‬

‫‪199‬‬

‫*‬

‫*‬


‫يو م السبت ‪10‬يونيه ‪ ،67‬يصر صديقنا "يوهان" على أن يصطحبنا‬ ‫لقضاء أمسية آخر السبوع خارج المدينة‪ ،‬بعيدا عن مجال تأثير‬ ‫الصحافة وأجهزة العل م‪ ،‬وهروبا من النظرات والتعليقات الساخرة‬ ‫التي كانت تلحقنا‪.‬‬ ‫هناك في ضاحية "سيمرينج" ‪ Simmering‬على سفح جبل‬ ‫"كالينبرج" ‪ Kahlenberg‬المطل على "فيينا" والدانوب الزرق‬ ‫وهو يخترقها‪ ..‬سوف نحتفل بعو دة "عبد الناصر" عن قرارالتنحي‪.‬‬ ‫"توني كاراز"‪ ،‬منذ عا م ‪ ،49‬حيث ذاع صيت موسيقا‪،‬ه عقب نجاح‬ ‫فيلم "الرجل الثالث"‪ ،‬رائعة "جراها م جرين"‪ ،‬مازال يعزف لحنه‬ ‫الشهير‪ ،‬الذي اتخذ‪،‬ه المخرج الممثل"أورسون ويلز" لحنا مميزا للفيلم‪،‬‬ ‫على آلة الـ"تتسيتار"‪ ،‬التي تشبه إلى حد بعيد آلة "القانون"‪ .‬وروا د‬ ‫مقها‪،‬ه‪ ،‬الذي صرورت فيه أجمل مشاهد الفيلم المذكور‪ ،‬من السائحين‬ ‫يتقارعون الكؤوس في ضوء الشموع‪.‬‬ ‫"ماريا" تحيط كتفي بذراعها وتشاركني بيدها الخرى رشفة من ما‬ ‫تبقى في كأسها من "عصير التفاح" النمساوي الشهير‪.‬‬ ‫ننتزع البسمات ونتبا دلها‪" .‬سامي" و"مصطفى" وزميله السباني‬ ‫"ضيف ا" و"يوهان " و"أنا"‪..‬وصديقاتنا‪.‬‬ ‫ويعو د "ضيف ا" لممارسة دعاباته وسخرياته اللذعة لستفزازنا‬ ‫بتكرار تذكيرنا بأن عد م موافقته على عو دة اليهو د إلى فلسطين لم يكن‬ ‫حبا بالفلسطينيين أو كراهية لليهو د‪..‬ولكن حتى ل يتخذ العرب من ذلك‬ ‫حجة لعو دتهم إلى أسبانيا!‬ ‫فنضحك‪.‬‬ ‫وبالتدريج تنطلق ألسنتنا‪ ،‬التي أ دمنت السكوت منذ أيا م مرت متثاقلة‬ ‫كأنها دهور‪ ،‬بأحا ديث كان ل بد أن تتخللها كلمات عربية يقتضيها‬ ‫قفشة من قفشات "مصطفى"‪ ،‬أو تعليق من تعليقات "سامي" أو‬ ‫"ضيف ا" الموغلة في السخرية‪ .‬ول بأس من أن تحاول إحدى‬ ‫الصديقات أن تستعرض الكلمات العربية التي تعلمتها‪ ،‬محاولة منها‬

‫‪200‬‬


‫في إضفاء مسحة من المرح على مجلسنا الحزين‪ ،‬البالغ الكآبة‬ ‫والحساس بالضياع‪.‬‬ ‫فجأة‪ ،‬يقف أحد الجالسين حول مائدة مجاورة‪ ،‬ويرفع كأسه وصوته‪،‬‬ ‫معلنا وطالبا تناول نخب النتصار في "الحرب الخاطفة"‪،‬‬ ‫‪ ، Blitzkrieg‬الصطلح اللماني الشهير‪.‬‬ ‫كانت الكلمات العربية قد نومت عن جنسيتنا‪ .‬وكانت كؤوس النبيذ قد‬ ‫حفزت ذلك الواقف وزينت له إستفزازنا‪ .‬أخذ يتحدث عن "الحرب‬ ‫الخاطفة" التي لقنت "أعداء السامية" درسا لن ينسو‪،‬ه‪ ،‬وسحقت "حلفاء‬ ‫الشيطان" الذين سولت لهم أنفسهم أن يهد دوا أمن "واحة الحرية‬ ‫والديمقراطية" بدافع من حقدهم وحسدهم‪ ..‬و‪ ..‬و‪..‬‬ ‫إلى آخر الموشح المعروف‪.‬‬ ‫ثم يختتم حديثه بأن يوجه إلينا الكلمات الخيرة‪ ،‬بلغة عربية سليمة‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬حبيبي إذا ما كنتش فاهم كلمي‪ ..‬أنا بقول لك باللغة العربية‬‫الفصيحة‪:‬‬ ‫"من ل يعرف السباحة يترك الملحة"‪ ..‬مفهو م؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫هناك تعبيرات ل تجدها إل في اللغة الدارجة‪:‬‬ ‫"مش عارف أوو دي ضووشي فين!"‬ ‫كان هذا لسان حال كل طالب عربي في "فيينا"‪ ،‬أوغيرها‪.‬‬ ‫بتنا نتوارى عن النظار خجل وإحساسا بالكآبة‪ ..‬و بالخزي والمهانة‪.‬‬ ‫بماذا نجيب عن تساؤلت الصدقاء المتعاطفين معنا؟‬ ‫وكيف نتحمل نظرات الشامتين فينا‪ ،‬أو نتجرع كؤوس المهانة والخزي‬ ‫التي كانت تقد م إلينا على شكل تعليقات جارحة؟‬ ‫)هنا تلحقون الفتيات‪ ،‬وهناك تفورون منهن‪ ..‬خوفا!(‬ ‫)تركتم سلحكم الجوي ميدممرعلى الرض‪ .‬فهل كنتم تريدون من‬ ‫السوفييت أن يتولوا أيضا محاربة إسرائيل نيابة عنكم؟(‬

‫‪201‬‬


‫) إخلعوا أحذيتكم واختفوا من أمامنا‪ ..‬حفاة كما كنتم‪ ..‬يا رعاة‬ ‫البل!(**‬ ‫) تنتصرون على الهواء‪ ،‬وتنهزمون على الرض!(‬ ‫) ل تريدون السلم‪ ،‬ول تجيدون الحرب!(‬ ‫) إنكم تثيرون شفقتنا!(‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫إل أن أكثر ما أوجعني‪ ،‬هو سؤال "ماريا" الذي رأيته في عينيها أكثر‬ ‫من مرة قبل أن تستجمع شجاعتها وتسأله واللم يعتصرها‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬هل يعني ذلك أنك لن تستطيع العو دة إلى القدس‪..‬؟‬‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫سقوط القدس كان يؤرق "ماريا"‪ .‬كانت تخشى أن يعني ذلك أنني لن‬ ‫أستطيع العو دة إلى مدينتي‪ .‬هذا مع أنها كانت دائما تحبذ لو أن أقرر‬ ‫أنا البقاء في "فيينا"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ظلوا‪ ،‬منذ ألفي عا م‪ ،‬ير د دون‪:‬‬ ‫"تنساني يميني إن نسيتك يا أورشليم"!‬ ‫ماذا عساي أن أقول غير ذلك‪ ..‬يا "قدس"؟‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫__________________________________________________________‬ ‫)**( إشارة إلى ذلك المشهد الممعن في السادية‪ ،‬الذي تكرر بزثه في تلفزيونات أوروبا‪ ،‬لكوام‬ ‫الحذية العسكرية وقد تركها الجنود السرى المصريين تنفيذا لوامر السرائيليين ‪..‬‬ ‫ليسيروا حفاة على رمال الصحراء الحارقة‪ ،‬إمعانا في الذلل‪ .‬و"رعاة البل"‬ ‫صون بها العرب بالذات ‪.‬‬ ‫‪ Kameltreiber‬هي شتيمة ألمانية مشهورة يخ ز‬

‫‪202‬‬


‫وداعا‪ ..‬فيينـــــــــــــا!‬

‫وكان "ل بد مما ليس منه بدد"‪.‬‬ ‫كانت "العو دة" من "فيينا" بالنسبة لي‪ ،‬نظرا لستحالة تحقيق حلم‬ ‫عو دتي الموءو د إلى مسقط رأسي القدس‪ ،‬بعد احتللها في يونيه ‪،67‬‬ ‫تعني معاو دة "الهجرة" أو"اللجوء" إلى مصر بالذات‪ .‬فهي‪ ،‬على كل‬ ‫حال‪ ،‬المكان النسب الذي كان يمكن أن يتيح لي فرصة العمل‬ ‫واكتساب الخبرة في مجال تخصصي الجديد‪..‬السينما‪.‬‬ ‫قلت في البداية أن ثمة أشياء تبدو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو‬ ‫يدونها‪ ،‬ولكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها‪ .‬مثال ذلك هو ما‬ ‫أ دين به من العرفان لصديق عزيزهوالفنان التشكيلي المصري "سامي‬ ‫رافع"‪ ،‬المدرس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة‪ ،‬الذي أرسلته وزارة‬ ‫الثقافة المصرية آنذاك للتخصص في تصميم مناظر "الباليه" و‬ ‫"الوبرا" في نفس الكا ديمية التي كنت أ درس فيها‪ .‬فقد تم تعارفنا‬ ‫واستمرت صداقتنا طوال فترة الدراسة‪ .‬بل وقامت الملحقية الثقافية‬ ‫المصرية‪ ،‬بالتنسيق مع رابطة الطلبة العرب‪ ،‬بالحتفال بتخرجنا معا ا‬ ‫في أحد صالت الفنون في "فيينا" حيث عرضت أعماله بما فيها من‬ ‫لوحات و"ماكيتات" متعلقة بمشروع تخرجه‪ .‬كما تم عرض فيلم‬ ‫"حكايه"‪ ،‬مشروع تخرجي السابق الذكر‪ .‬هذا إضافة إلى "البوستر"‬ ‫الجميل الذي صممه ونفذ‪،‬ه "سامي" للفيلم‪.‬‬ ‫كان ذلك في ‪ 10‬يناير ‪ ،67‬كما تؤكد بطاقة الدعوة التي ما زالت بين‬ ‫مقتنياتي‪.‬‬ ‫‪203‬‬


‫إتحا د الطلبه العرب يدعو لمشاهدة مشاريع اخرج كل من‬ ‫سامي رافع وغالب شعث‬

‫‪204‬‬


‫كنا قد قمنا باستعارة نسخة الفيلم من الكا ديمية لهذا الغرض‪ .‬ولم تخطر‬ ‫ببالي‪ ،‬حتى ذلك الوقت‪ ،‬فكرة عمل نسخة خاصة بي من الفيلم‪ ،‬لول‬ ‫تأكيد صديقي "سامي" على أهمية ذلك‪ .‬بل إنه كان يصرعلى أن‬ ‫نسخة من الفيلم في يدي أحسن وأوقع أثرا من كل "الدبلومات"‬ ‫وشها دات التقدير المتميزة التي حصلت عليها‪.‬‬ ‫الحقيقة أن إغفالي لتلك الفكرة كان نتيجة لرتفاع التكاليف‪ ،‬وضيق‬ ‫ذات اليد‪ .‬لكن صديقي كان ل يمل من محاولته لقناعي بتدبير‬ ‫"المبلغ" بأي طريقة‪ .‬فما كان مني إل أن أرسلت إلى أخي "عابد" في‬ ‫السعو دية أطلب منه تحويل تكاليف عمل النسخة الخاصة بي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كان ذلك قبيل سفري إلى "هولندا"‪ .‬وأذكر أنني‪ ،‬لكي أقنع أخي بأهمية‬ ‫طلبي هذا‪ ،‬قمت بالكتابة إليه عن نيتي بالشتراك في مهرجان‬ ‫"أمستر دا م" وغير‪،‬ه من المهرجانات السينمائيه‪ ،‬وعن يقيني بأنني‬ ‫سوف أحصل على "جوائزعالميه")!(‬ ‫لم يتر د د أخي‪ ،‬وقتها‪ ،‬في تحويل المبلغ المطلوب‪ .‬لكنه لم يتر د د أيضا‬ ‫في إبداء رأيه في ما كانت تحمله رسالتي من مظاهرالثقة بالنفس إلى‬ ‫ درجة الغرور‪ ،‬والحديث عن المشاريع المستقبلية إلى درجة "الفشر"‪.‬‬ ‫فلقد جاءت رسالته لي مروسة بعبارة‪:‬‬ ‫أخي العزيز "أبو لعزمععــــــه" الصلي!‬ ‫وذلك إيماء إلى فـوشار برنامج "ساعه لقلبك" الذاعي الشهير في حينه‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كانت تربطني بالفنان "سامي رافع" صداقة جديرة بالعتزاز‪ .‬فقد كنا‬ ‫نتبا دل الهتما م كل باختصاصات الخر‪ .‬كان يقدر لي إهتماماتي‬ ‫التشكيلية وكنت أفعل ذلك إزاء إهتمامه بالسينما والتصوير‬ ‫الفوتوغرافي الذي كان يمارسه بإتقان و دراية‪ .‬كما كانت لنا إهتمامات‬ ‫مشتركة بالموسيقى‪.‬‬ ‫‪205‬‬


‫وهو الذي نصحني مؤخرا بأن ل أنسى أهمية الستعانة بالصور‬ ‫الفوتوغرافية بين آن وأخر‪ ،‬عندما أشرع بنشر مذكراتي‪.‬‬ ‫ماذا عساني أن أكون قد تعلمت من ذلك الفنان‪ ،‬المسكون بهاجس‬ ‫التقان‪ ،‬غير ذلك الشيء بعينه الذي ل يجوز أن يفتقر إليه أي فنان؟‬ ‫ومما هو جدير بالذكر هو إلتحاقنا للتدريب في دورتين عقدهما‬ ‫تلفزيون النمسا بالشتراك مع منظمة الـ"يونيسكو" خلل عا م ‪،67‬‬ ‫وحصول كل منا على " دبلومين"‪.‬‬ ‫الول‪ " ..‬دبلو م" دورة "فن إقتباس الوبرا للتلفزيون"‪.‬‬ ‫الثاني‪ " ..‬دبلو م" دورة "فن إقتباس الباليه للتلفزيون"‪.‬‬ ‫وعندما حان موعد سفرنا إلى مصر‪ ،‬لم يكن بوسع سيارة كل منا أن‬ ‫تستوعب أمتعته‪ ،‬التي كانت تتكون في معظمها من صنا ديق كرتونية‬ ‫مكدسة بالكتب والمجلت الفنية والسطوانات والتسجيلت الموسيقية‪،‬‬ ‫مما اضطرنا إلى استئجار سيارة‪" ،‬نص نقل"‪ ،‬لترافقنا بالمتعة إلى‬ ‫ميناء "فينيسيا" البحري‪ ،‬حيث قضينا ليلتنا الخيرة‪" ،‬ماريا" وأنا‪ ،‬و‬ ‫من حيث واصلنا رحلتنا‪" ،‬سامي رافع" وزوجته النمساوية "جريتا"‬ ‫وأنا‪ ،‬في صبيحة اليو م التالي بحرا إلى السكندرية لنصلها في يو م‬ ‫‪3‬سبتمبر ‪.1967‬‬ ‫*‬

‫)بقية( "فضـــــفضـــــه"‪..‬‬ ‫‪206‬‬

‫*‬

‫*‬


‫عندما لحت لي السكندرية من بعيد وهي تفر د ذراعيها متثائبة على‬ ‫شاطيء البحر‪ ،‬مرحبة بالعائدين‪ ،‬في ذلك الصباح الباكر‪ ،‬الثالث من‬ ‫أيلول )سبتمبر( ‪ ،1967‬عا دت بي الذكرى إلى مرة سالفة كنت فيها‬ ‫أغا در ذلك الميناء‪ ،‬بعد قضاء جزء من الجازة الصيفية‪ ،‬حيث كانت‬ ‫محبوبتي "نهى" تلووح لي بيدها مو دعة‪ ،‬بينما كنت ألمح‪ ،‬وأنا أقف على‬ ‫سطح ذات الباخرة اليطالية "إسبيريا"‪ ،‬عن بعد شرات عديدة من‬ ‫المتار‪ ،‬شفتيها المزمومتين في مشروع قبلة و داع خفوية تحاول أن‬ ‫تسوربها لي من وراء أكتاف المو دعين من الهل والصدقاء على‬ ‫رصيف الميناء‪.‬‬ ‫هل يمكن أن تتراكم كل هذ‪،‬ه الشواق المكتومة لتتأجج بعد كل هذ‪،‬ه‬ ‫السنوات؟‬ ‫هل يعقل أن أجد نفسي فجأة أ دقق النظر‪ ،‬كما كنت أفعل في عو داتي‬ ‫الصيفية السابقة‪ ،‬بحثا "عنها"بين المستقبلين على رصيف الميناء؟‬ ‫كيف تخطر لي تلك الخاطرة البلهاء بعد مرور تلك السنوات؟‬ ‫هل يمتلك الحب صفات طائر الفينيق‪ ،‬الخرافي‪ ،‬لينبثق من رما د‬ ‫الماضي فيسيطرعلى أفكارنا وعقولنا‪ ،‬ويخدرها بـما تجو د به كلمات‬ ‫مثل "ربما"‪ ..‬و"لعل"‪ ..‬و"ليت"؟‬ ‫أ م أن ذلك الحساس‪ ،‬كما قيل لي في حينها‪) ،‬وذلك هو الرجح(‪ ،‬ما‬ ‫كان إل تجسيدا لمعنى الخلص من قسوة الغتراب‪ ،‬وتعبيرا عن‬ ‫أشواقي المتأججة‪ ،‬ولهفتي العارمة لكل ما له علقة بـالهل‪..‬‬ ‫و"الوطن"‪.‬‬ ‫كم هالتي‪ ،‬في يو م عو دتي النهائية إلى الوطن العربي‪ ،‬أن يغمرني‬ ‫فجأة ذلك الشلل الجارف من الحنين‪ ،‬بعنف لم أألفه من قبل‪ ،‬لماض‬ ‫لم تستطع السنين أن تمحو جانبه الحلو من ذاكرتي‪ .‬كأني‪ ،‬شأن أهل‬ ‫الكهف‪ ،‬قد أفقت بعد سبات دا م لمدة سنوات‪ ،‬منذ أن جالسأتها لخر‬ ‫‪207‬‬


‫مرة‪ ،‬آن ذهبت للقائها المفاجيء لها‪ ،‬في بيروت‪ ،‬لنتبا دل كلماتنا‬ ‫الخيرة‪ ،‬ويتخلى إصبعي عن دبلة الخطوبة‪ ،‬بعد أن كانت قد سبقتني‬ ‫إلى ذلك‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫نهــــــــاية‪ ..‬وبدايــــــــة‪..‬‬

‫‪208‬‬

‫*‬


‫كانت إجراءات الدخول من ميناء السكندرية‪ ،‬وإجراءات تخليص‬ ‫العد د الكبير من الحقائب والكراتين التي لم يشفع لدخولها إل شها دة‬ ‫مكتب البعثات المصرية في فيينا التي تثبت أننا‪" ،‬سامي رافع" وأنا‪،‬‬ ‫نعو د عو دة نهائية بعد إنهاء الدراسة في الخارج‪ .‬ولقد استهلكت تلك‬ ‫الجراءات نهارنا بكامله بحيث أصبح من المتعذر أن نقو م بتخليص‬ ‫سيارتينا أيضا‪ ،‬مما اضطرنا إلى تأجيل هذ‪،‬ه العملية‪ ،‬على أن نبكر في‬ ‫الحضور إلى جمارك الميناء في اليو م التالي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وانقضت اللحظات الولى الحارة من لقاء الوالدين والخوات‪ ،‬ولم‬ ‫ألبث أن أخذت أن أتأقلم تدريجيا مع نسمات خريف السكندرية‪..‬‬ ‫البار دة )!(‬ ‫وكان ل بد من الحديث عن الغائبين‪.‬‬ ‫أخي "عابد" اتصل في وقت متأخر ليعبر عن فرحته لعو دتي‪ ،‬مكلل‬ ‫بالنجاح‪ ،‬وأسفه لعد م تمكنه من استقبالي في السكندرية ويؤكد وعو د‪،‬ه‬ ‫بلقاء قريب‪.‬‬ ‫خالي‪ ،‬أيضا كان قد أناب من يعتذرعنه‪ ،‬بسبب وعكة قلبية‪.‬‬ ‫أمي ما زالت تتحوسسني فرحانة ثم تحتضن وجهي بكفيها وتنظرلي‬ ‫بعينيها وكأنها تحاول أن تقرأ في وجهي ما يجول في خاطري في تلك‬ ‫اللحظة‪ .‬ثم تنهمر دموعها‪.‬‬ ‫أبي يقول لي وهو يلوح لي بيد‪،‬ه أن أتناسى وأسامح‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬بكر‪،‬ه يا ولدي‪ ،‬ا يرضى عليك‪ ،‬بتروح بتجيب سيارتك من‬‫المينا‪ ،‬وبتيجي بتاخد إومك لتزور خالك المريض‪ .‬لضوساتتها بعد كل‬ ‫هالسنين ماخد‪،‬ه على خاطرها منه‪ .‬من يوميتها ما داست عتبة‬ ‫ دار‪،‬ه!‬ ‫م‬ ‫فوجئت‪ ،‬بل فجعت‪.‬‬ ‫يستحيل أن أسمح لهذا الجفاء الذي كنت أنا سببا له‪ ،‬بين أمي وأخيها‪،‬‬ ‫أن يطول ولو لـيو م واحد آخر!‬ ‫‪209‬‬


‫في اليو م التالي استغرقت إجراءات الفراج المؤقت عن السيارة‪ ،‬منذ‬ ‫الصباح الباكر‪ ،‬ساعات طويلة من النهار عدت بعدها منهكا‪.‬‬ ‫لم يكن هناك أحد في بيتنا‪.‬‬ ‫ربما فضلوا‪ ،‬فوكرت‪ ،‬إنتظاري في بيت شقيقتي "إكتمال"‪.‬‬ ‫هناك عرفت من أطفالها أن الجميع قد سبقوني منذ ساعات الصباح إلى‬ ‫بيت خالي‪.‬‬ ‫كان مدخل العمارة الصغيرة يعج بالسيارات‪ .‬وقبل أن أبا درالبواب‬ ‫بالسؤال‪ ..‬قال لي‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬تعيش إنت!‬‫وافته المنية قبل أن يصبح الصباح!‬ ‫وتوافد البناء تباعا من القاهرة‪..‬مقرأعمالهم‪.‬‬ ‫"نبيل" وزوجته‪" .‬ميسون" وزوجها‪.‬‬ ‫و‪"..‬نهى"‪ ..‬وزوجها )!(‬ ‫كم ذا من الصدمات ما ميفقد المرء صوابه‪ ،‬أوروبما يعيد إليه صوابه‪.‬‬ ‫ولكن الكيد‪..‬أنني لم أشعر يوما بأقل من كل الوفاء والحترا م لتلك‬ ‫الذكرى‪.‬‬ ‫وتمضي اليا م‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫تلفزيون ج‪ .‬م‪ .‬ع‪.‬‬

‫‪210‬‬

‫*‬


‫في أواخر نوفمبر ‪ ،67‬تم تعييني مخرجا في تلفزيون مصرالعربيه‪.‬‬ ‫وربما يرجع الفضل في ذلك لصدفة ل تخلو من الطرافة‪.‬‬ ‫لدى وصولي إلى السكندرية‪ ،‬حيث استقر والداي وأخواتي من بعد‬ ‫معاناتهم لحتلل "غزة" عا م ‪ ،1956‬توافد بعض القارب وأصدقاء‬ ‫العائلة للتهنئة بتخرجي وبسلمة وصولي إلى أرض الوطن"العربي"‪.‬‬ ‫كان من بين المهنئين سيدة كثيرا ما كنت أسمع إسمها‪ " ،‬دولت هانم"‪،‬‬ ‫يتر د د على ألسنة أفرا د العائلة إعجابا بشخصيتها الو دو دة وصداقتها‪.‬‬ ‫سألتني‪ ،‬بعد أن عرفت مني كل ما تريد‪،‬ه عن دراستي‪ ،‬عن خطواتي‬ ‫المستقبلية‪ .‬فقلت لها أن "إ دارة البعثات" قد طمأنتني بأن "مكتب‬ ‫التنسيق" سوف ينظر بعين العناية في أمر توظيفي في مؤسسة السينما‪.‬‬ ‫قالت ضاحكة بمو دة وبدون حرج‪:‬‬ ‫ موت ياحمار‪.. .. ..‬‬‫ثم أر دفت وكأنها كانت تضمر ذلك مسبقا‪:‬‬ ‫ طب ما تكتب طلب للتلفزيون‪ ،‬وهات لي صور‪،‬ه منه مع صور‬‫من شها داتك‪ ،‬وأنا أ ديهم لمحمد إبن أختي في إيد‪،‬ه‪.‬‬ ‫ولما قرأت في عينوي دهشة وتساؤل عن هذا الـ"محمد"‪ ،‬إبن أختها‪،‬‬ ‫أر دفت قائلة‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬د‪،‬ه "محمد فايق"‪ ..‬وزيرالعل م!‬‫إعمل حسابك بكر‪،‬ه أو بعد بكر‪،‬ه بالكتير تكون الصور عندي عشان‬ ‫أنا عازما‪،‬ه عالعشا عندي في البيت!‬ ‫كنت قد تقدمت بالفعل بطلب ل دارة التلفزيون‪ ،‬بالرغم من تطلعاتي‬ ‫للعمل في السينما‪ .‬لكنني فعلت ذلك استجابة إلى نصائح الصدقاء‬ ‫المتكررة‪ ،‬وعمل بالحكمة الشعبية‪ ،‬كما قالوا لي‪:‬‬ ‫"إلعب بالمقصوص على بال ما ييجيلك الطويــــــــار!"‬ ‫*‬

‫‪211‬‬

‫*‬

‫*‬


‫في زيارتي الخيرة‪ ،‬قبل تخرجي‪ ،‬كانت السكندرية تحتفل بمهرجان‬ ‫التلفزيون‪ ،‬مما أتاح لي التعرف على السيد الفاضل العلمي‬ ‫الكبير"سعد لبيب"‪ ،‬مديرعا م البرامج‪ ،‬الذي استصدر لي"كارنيه"‬ ‫يمكنني من حضور فعاليات المهرجان كضيف‪ ،‬ولم ينس أن يؤكد لي‬ ‫ضرورة التصال به‪ ،‬بمجر د عو دتي بعد تخرجي‪.‬‬ ‫وعندها رحب بي "سعد لبيب" وشجعني على تقديم طلب اللتحاق‬ ‫بالعمل في التلفزيون‪ ،‬بعد أن شاهد فيلم تخرجي‪" ،‬حكايه" ‪ ،‬في عرض‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫وعندما زرته في أواخر نوفمبر ‪ 67‬للسؤال عن مصير طلبي قال لي‬ ‫معاتبا‪:‬‬ ‫ أنا زعلن منك‪..‬‬‫ولم ينتظر حتى أعبر عن استغرابي‪..‬فأكمل عتابه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬إيه اللي خلك تروح لسيا دة الوزير؟‬‫واحد زيك يابني‪ ..‬بالفيلم الجميل اللي إنت أخرجته‪..‬وكل‬ ‫الشها دات المشرفه اللي حاصل عليها‪..‬مش محتاج لوساطة حد!‬ ‫و د‪،‬ه برضه كان رأي وتعليق الوزير نفسه‪.‬‬ ‫أسقط في يدي‪ .‬ووجدتني مضطرا لقول الحقيقة بحذافيرها لكي أؤكد‬ ‫أنني لم أذهب للوزير وإنما‪.. ..‬‬ ‫لم يتمالك "سعد لبيب" نفسه من الضحك إزاء تر د دي‪ .‬فتساءل مازحا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬إنما إيه‪ ..‬هو اللي جالك؟‬‫ ل مش هو‪..‬خالته‪.‬‬‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫واضطررت بعد أن شكرت " دولت هانم"‪..‬أن أطلب منها أن تحكي‬ ‫القصة بحذافيرها لبن أختها الذي لم أر‪،‬ه إل بعد ذلك بحوالي عشرين‬ ‫عاما‪ ،‬حيث جمعتنا الصدفة على كرسيين متجاورين في طائرة متجهة‬ ‫من القاهرة إلى تونس‪.‬‬ ‫وكانت تلك القصة بداية لحديث طويل شيق مع الوزير السابق الذي غدا‬ ‫أمينا عاما للمنظمة العربية للدفاع عن حقوق النسان‪.‬‬

‫‪212‬‬


*

*

213

*


214


‫"صدمة الهبــــــــــــوط ‪"..‬‬

‫لن يفوتني أن أنو‪،‬ه عن الترحيب الذي لقيته من المسئولين في تلفزيون‬ ‫جمهورية مصر العربية‪.‬‬ ‫وكذلك ترحيب واحتضان مجموعة الفنانين والصحافيين والنقا د الذين‬ ‫عرفني بهم‪ ،‬أوعرفهم بي‪ ،‬صديقي الفنان"سامي رافع" لدى وصولنا‬ ‫سويا إلى مصر‪.‬‬ ‫إليهم جميعا أهدي محبتي وتقديري وعرفاني‪.‬‬ ‫كثيرا ما كان "سامي" يحدثني عن أصــدقائه مــن الفنــانين فــي القــاهرة‪،‬‬ ‫حــتى ليخيــل لــي أننــي بــت أعرفهــم واحــدا واحــدا‪ .‬خصوصــا الفنــان‬ ‫التشكيلي "ناجي شاكر"‪ ،‬والمخرج السينمائي اللمــع"توفيــق صــالح"‪..‬‬ ‫وفيلمه الروائي الول " درب المهابيل" الــذي وضــعه‪ ،‬منــذ بــدايته‪ ،‬فــي‬ ‫مصاف المخرجين الكبار‪.‬‬ ‫في أول لقاء لي في القاهرة مع صديقي"سامي"‪ ،‬بعد افتراقنا فــي مينــاء‬ ‫السكندرية‪ ،‬إثروصولنا إليه عائدين سويا من "فيينا"‪ ،‬قال لــي أننــا فــي‬ ‫طريقنا لزيارة صديق له كان قد حدثني عنه كثيرا‪ .‬كما عرفت بعد ذلــك‬ ‫أن الصديق "ناجي شاكر" الذي كان في انتظارنا قد بات يعــرف عنــي‪،‬‬ ‫وعن فيلمي "حكايه"‪ ،‬الكثير أيضا‪.‬‬ ‫كان "ناجي"‪ ،‬الفنان المتعد د المواهب والهتمامات‪ ،‬قد انتهى لتو‪،‬ه من‬ ‫تنفيذ تصميماته لعرائس و ديكورات الوبريت الشهير‪،‬ه‪"..‬الليله‬ ‫الكبير‪،‬ه"‪ ،‬التي طبقت شهرتها الفاق‪ ،‬من أشعار "صلح جاهين"‪..‬‬ ‫وألحان "سيد مكاوي"‪.‬‬ ‫أعتقد أنني بذلك قد قدمت الفنان "ناجي شاكر"‪ ،‬من خلل أحد جوانبه‪،‬‬ ‫لمن فاته أن يعرفه‪.‬‬ ‫‪215‬‬


‫وكان "ناجي" هو من قدمني إلى الكثيرين من أصدقائه وزملئه من‬ ‫الفنانين التشكيليين والصحافيين وال دباء والشعراء‪.‬‬ ‫من خلله عرفت شقيقه الذي يكا د يتفوق عليه في الرقة والشفافية‪،‬‬ ‫رسا م الكاريكاتير‪" ،‬إيهاب شاكر"‪ ،‬وصديقهما الساخر والذي ل تحتاج‬ ‫لكثر من ثوان‪ ،‬من حديثه‪ ،‬حتى تدرك أنه رسا م الكاريكاتير "بهجت‬ ‫عثمان"‪ ،‬والفنان التشكيلي المتميز"حلمي التوني"‪ ،‬والفنان التشكيلي‬ ‫السينمائي‪ ،‬الذي ل يقل عنه تميزا‪" ،‬شا دي عبد السل م"‪ ،‬والفنان‬ ‫"عدلي رزق ا"‪ ،‬والفنان "محيي اللبا د"‪ ،‬والفنان "جورج‬ ‫البهجوري"‪ ،‬والشاعر"أحمد عبد المعطي حجازي"‪ ،‬و"سيد حجاب"‪،‬‬ ‫و"عبد الرحيم منصور" و"عبد الرحمن البنو دي"‪ ،‬والكاتب "سيد‬ ‫خميس" و"يحيى الطاهرعبد ا" و"غالب هلسا" والناقد "رؤوف‬ ‫توفيق"‪ ..‬وغيرهم من الكتاب والشعراء والفنانين الذين كنت‪ ،‬في‬ ‫غربتي‪ ،‬أكتفي بأن أقرأ لهم‪ ،‬أو عنهم‪ ،‬في مجلتي "روزاليوسف" و‬ ‫" صباح الخير"‪.‬‬ ‫ومن خلل هذ‪،‬ه المجموعة عرفت طريقي إلى دار "الهلل" و دار‬ ‫"روزاليوسف"‪ .‬وهناك قابلت الفنان "هبة عنايت" الذي فوجيء بي‬ ‫بعد مرور زمن طويل على فراقنا في "جدة" عا م ‪ ،1956‬حيث كان‬ ‫يعمل في إحدى المؤسسات الصحفية الناشئة هناك‪ ،‬بعد أن انتهت مدة‬ ‫خدمة الفنان "صلح جاهين" في نفس المؤسسة‪ .‬وكان كلهما يرتبط‬ ‫بصداقة قديمة حميمة مع شقيقي "عابد"‪.‬‬ ‫وعرفني "هبة" بشقيقه الكاتب "راجي عنايت"* الذي قدمني بدور‪،‬ه‬ ‫إلى الكاتب والناقد "رجاء النقا ش" في دارالهلل حيث تم تعارفي مع‬ ‫الصديق الضاحك دوما "محمد صبري"‪ ،‬رئيس قسم التصوير في‬ ‫الدار‪ ،‬والعديد من العاملين في الصحافة والنقد ال دبي والفني‪.‬‬ ‫أما "صلح جاهين"‪..‬فقد كان الفضل في تعرفــي إليـه يرجــع إلــى أخــي‬ ‫"عابد"‪.‬‬ ‫قال وهو يقد م أخي ‪ -‬صديق أيا م العزوبية‪ -‬إلى زوجته‪:‬‬ ‫________________________________________________________‬ ‫س" الفلسطينية‪ ،‬قبل أن تتحول إلى‬ ‫)*( ولد "راجي عنايت"‪ ،‬كما عرفت منه‪ ،‬في بلدة "ملعبب ز‬ ‫مستعمرة إسرائيلية إسمها "بتاح تكفا"‪.‬‬

‫‪216‬‬


‫ ‪" ..‬عابد"‪..‬أول فلسطيني حبيته‪ ..‬و‪..‬‬‫ثم أكمل‪ ،‬وهو يقد م زوجته إلينا‪:‬‬ ‫ ‪" ..‬ممنى"‪..‬آخرفلسطينيه حبيتها‪..‬‬‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وفي أحد المسيات‪ ،‬وكان ذلك في أوائل شهر يونيه ‪ ،1968‬في منزل‬ ‫"ناجي شاكر" فاجأني الجمع بأنه قد تقررعرض فيلمي"حكايه"‪ ،‬في‬ ‫النصف الثاني من ذلك الشهر‪ ،‬في المركزالثقافي التشيكي‪.‬‬ ‫قالوا لي أنهم قــد قــاموا بكــل الســتعدا دات‪ ،‬ومــاعلي إلأن أحضــرالفيلم‬ ‫الذي كان لصديقي"سامي"الفضل الول في وجو د نسخة منه معــي فــي‬ ‫القاهرة‪.‬‬ ‫فــي الموعــد المحــد د فــوجئت بحشــد مــن الفنــانين والكتــاب والشــعراء‬ ‫والصحافيين‪ ،‬الـذين كـانوا فـي ذلـك الـوقت يعتـبرون مـن رموزالثقافـة‬ ‫العربية في مصر‪.‬‬ ‫شعرت أنني إزاء امتحان عسير‪ .‬أكون بعد‪،‬ه‪..‬أو ل أكون!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كان فيلم "حكاية" أحد أهم مسوغات تعييني مخرجا في قسم الدراما في‬ ‫التلفزيون‪ .‬فلقد شاهد‪،‬ه العديد من المسئولين هناك‪ ،‬كما تم عرضه كامل‬ ‫في أحد البرامج الثقافية‪ .‬بل إنه‪ ،‬مع المتيازات الخرى التي كنت قد‬ ‫نلتها‪ ،‬كان سببا في إعفائي من أربع سنوات كان يفترض أن أقضيها‬ ‫كمساعد للخراج‪ ،‬أسوة بما هو متبع مع خريجي معهد السينما في‬ ‫القاهرة‪.‬‬ ‫ولــم يكــن عــرض الفيلــم فــي صــالة المركــز الثقــافي التشــيكي هــو أول‬ ‫العروض‪ ،‬ول آخرها‪ .‬لكنه كان أهمها بالنســبة لــي‪ ،‬مــن حيــث نوعيــة‬ ‫المشاهدين وأهميتهم وتأثيرهم‪.‬‬ ‫‪217‬‬


218


219


‫كان معظم الحاضرين من الفنانين والمثقفين والنقا د قد سمعوا عن‬ ‫الفيلم‪ ،‬وعن ذلك المخرج الفلسطيني الوافد حديثا‪ ،‬والذي كثر الحديث‬ ‫عنه‪ ،‬مما حفزهم للحضور‪ ..‬متحفزين‪.‬‬ ‫كنت أشعر أنني أما م لجنة تحكيم جديدة‪ ،‬ذات مستوى عال في تذوقها‬ ‫للفنون‪ ،‬تنتظر منها أن تنطق بتقييم لعملي‪.‬‬ ‫وكان أن صفق الجمهور في نهاية عرض الفيلم‪ .‬وذلك حتى تلك‬ ‫اللحظة هو الشيء العا دي‪.‬‬ ‫أما أن يطالب الجميع بإعا دة عرضه‪.. .. ..‬؟!‬ ‫فذلك ما أسعدني إلى درجة الرباك‪..‬وما سجله الكاتب "راجي عنايت"‬ ‫في مقاله الفتتاحي بمجلة "الكواكب" في عد دها الصا در في ‪ 25‬يونيه‬ ‫‪.68‬‬ ‫لم يكن بمحض الصدفة ظهور مقال "راجي عنايت" في الصفحة‬ ‫الولى من مجلة "الكواكب"‪ ،‬بعنوان "صدمة الهبوط‪ ،**"..‬مع ظهور‬ ‫أولى صفحات "مجلة الغاضبين" في نفس العد د‪ .‬فلقد اقتنع رئيس‬ ‫التحرير "رجاء النقا ش" بجدوى دعم "جماعة السينما الجديدة"‪ ،‬التي‬ ‫ساهمت في تأسيسي كما ساهتمت في تأسيسها‪ ،‬وأفر د لنل صفحتين‬ ‫أسبوعيا لنقو م بتحريرهما كما نشاء‪.‬‬ ‫وكان من أهم نتائج العرض أني تعرفت عن قرب بالمخرج "توفيق‬ ‫صالح" الذي حاول بلباقة شديدة أن يح و‬ ‫صنني من‬ ‫"صدمة الهبوط" إلى أرض الواقع‪ ،‬والذي أ دلى في أحد‬ ‫لقاءاته الصحفية بكلمات كانت وستظل مصدرا لسعا دتي‬ ‫واعتزازي‪.‬‬ ‫______________________________________________________‬ ‫)**( أذكر أنه جاء في مقال الصديق"راجي عنايت" تساؤل يحمل شيُتئا من الستنكار لتكرار‬ ‫ظاهرة تغيير المبعوثين للخارج لنوع دراساتهم‪ .‬وإن لم تسنح الفرصة لي بأن أشرح له أو‬ ‫لغير ه مفصل السبب أوالدافع الذي جعلني أقوم بهذا التغيير‪ ،‬فلعله‪ ،‬أو غير ه من‬ ‫المتسائلين‪ ،‬أن يجد في مذكراتي هذ ه إجابة على هذا التساؤل أو ما يبرر ذلك التحول‪.‬‬

‫‪220‬‬


‫اختتم الحديث بقوله بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫ "‪..‬أعتقد أن غالب شعث سيكون من أوائل مخرجينا خلل‬‫أعوام قليلة‪ ..‬إنه يقطر فنا و موهبة وحسا سينمائيا‬ ‫سليما‪**"!..‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫_______________________________________________‬ ‫)**( صديقي المهزار‪ ،‬المونتير المعروف "أحمد متولي"‪ ،‬دأب على تقليد أستاذنا‬ ‫توفيق صالح وهو يدلي برأيه هذا‪ ،‬بدون أن يغفل عن لثغتة المميزة التي‬ ‫تقلب "الراء" إلى "غين"‪ ،‬حينما كان يستعمل الكلمة الدارجة "يعخزر" بدل‬ ‫من "يقطر"‪:‬‬ ‫‪ ..‬غالب دا بيـ"خزغ" فن‬ ‫‪-‬‬

‫‪221‬‬


‫ملصق فيلم "حكايه" من تصميم سامي رافع‬

‫"إيفا" بطلة فيلم حكايه‬ ‫‪222‬‬


‫أثناء تصوير فيلم "حكايه" في منزل إحدى الزميلت‬

‫‪223‬‬


‫مع "إيفا" بطلة فيلم حكايه التي وقفت أما م الكاميرا لول مرة‬

‫من فيلم حكايه‬

‫‪224‬‬


‫وزارة الثقافة‪..‬‬ ‫لــدى وصــولي إلــى الســكندرية‪ ،‬وجــدت بانتظــاري رســالة مــن مــدير‬ ‫المهرجان الميريكي‪ ،‬الــذي جــرى بينـي وبينـه مــا يشــبه التفـاق علــى‬ ‫مشاركتي بفيلم "حكايه"‪ ،‬وفي طي الرسالة نسخة من كتاب مــوجه مــن‬ ‫إ دارة المهرجان إلى وزيرالثقافة‪ ،‬د‪ .‬ثروت عكاشه‪ ،‬يطلــب فيهــا تيســير‬ ‫و دعم هذ‪،‬ه المشاركة )!(‬ ‫قابلت الوزير‪ ،‬الفنان بحق‪ ،‬فرحب بي في و د وأبدى سعا دته‬ ‫واستجابته‪ ،‬كما قا م بتكليف مدير مكتبه بتدبير عرض خاص له‬ ‫لمشاهدة الفيلم حال‪ .‬وعندما سئلت عن مواصفات الفيلم تبين أن أجهزة‬ ‫العرض التي لديهم ينقصها إمكانية عرض الفل م ذات شريط الصوت‬ ‫المغناطيسي‪ .‬فطلب مني الوزيرأن أتدبر المر‪.‬‬ ‫ذهبت إلى عميد معهد السينما في حينها‪ ،‬الستاذ "أحمد الحضري"‪،‬‬ ‫فأبدى هو الخر ترحيبه بإعارة جهاز العرض المناسب لمكتب الوزير‪،‬‬ ‫شريطة أن يرسل مكتب الوزيرمن يقو م باستعارة واستل م جهاز‬ ‫العرض المطلوب ونقله إلى مقرالوزارة‪.‬‬ ‫راجعت الستاذ الحضري بهذا الشأن فكان ر د‪،‬ه دائما أنهم في انتظار‬ ‫من يقو م باستل م الجهاز‪.‬‬ ‫‪225‬‬


‫راجعت مدير مكتب الوزير أكثر من مرة‪ ،‬فكان ر د‪،‬ه أنهم سوف‬ ‫يتدبرون أمر نقل الجهاز في أقرب فرصة ممكنة‪.‬‬ ‫ويبدو أن تلك الفرصة لم تكن من الممكنات‪.‬‬ ‫وأذكرأنني انشغلت بالعدا د لول تمثيلية سهرة لي في التلفزيون‪..‬‬ ‫"التركة"‪ ،‬عن مسرحية قصيرة لنجيب محفوظ ‪.‬‬ ‫وخلل تلك الفترة جرى تعرفي إلى مذيعة التلفزيون المتألقة "سلوى‬ ‫حجازي"‪..‬وكان أن قدمتني في برنامجها المتميز "شريط تسجيل"‪..‬‬ ‫كأحسن ما يكون التقديم‪ .‬وحيث تطرق الحديث عن مهرجان‬ ‫السكندرية السينمائي الول‪..‬ومشاركتي فيه‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪226‬‬


‫مهرجان السكندرية السينمائي‬

‫عندما أقيم مهرجان سينما الشباب الول في السكندرية‪ ،‬في أغسطس‬ ‫من عا م ‪ 1969‬كما أذكر‪ ،‬برزت مشكلة جنسية‪ ،‬أوجهة إنتاج‪ ،‬فيلم‬ ‫"حكايه" مرة أخرى‪ .‬واتضح فيما بعد‪ ،‬أن المشكلة لم تكن في جنسية‬ ‫الفيلم‪ .‬واتضح المر بشكل أكثر"وضوحا"‪ ،‬عندماأصرمديرالمهرجان‪،‬‬ ‫الستاذ "أحمدالحضري"‪ ،‬على عرض الفيلم "خارج نطاق التحكيم"‪،‬‬ ‫لتاحة الفرصة أما م أفل م أخرى لنيل الجائزة‪ ،‬حيث أنه كان يرى أن‬ ‫فيلم "حكايه" كان‪ ،‬من ناحية المستوى الفني‪ ،‬خارج المنافسه)!(‬ ‫ ‪ ..‬وليس من العدل أن يتنافس على الجائزة مع بقية الفل م‪،‬‬‫خصوصا وأنه في الصل‪-،‬بيني وبينك‪ -‬من انتاج نمساوي يتميز‬ ‫بالمكانــــات المتاحة له‪ ،‬والتي لم تتوفرللفل م الخرى‬ ‫المشاركه‪.‬‬ ‫‪227‬‬


‫هذا ماقاله لي الستاذ "أحمدالحضــري"‪ ،‬مــديرالمهرجان‪ .‬وختــم أقــواله‬ ‫بوعد قاطع بمنح الفيلم جائزة تقديرية خاصه‪.‬‬ ‫عجبت لحجة مديرالمهرجان‪ ،‬عميد المعهد العالي للسينما‪ ،‬والتي‬ ‫شجبها الكثير من العارفين‪ .‬فلم يكن هناك في الحقيقة ما يستدعي‬ ‫إفتراض وجو د تلك "المكانــــات"‪ .‬فلقد شاركني في تنفيذ الفيلم‪ ،‬كما‬ ‫تقول عناوينه‪ ،‬خمسة من زملء الدراسة فقط‪.‬‬ ‫الزميل المصورالذي كنت أقو م أنا بمساعدته‪ ،‬والزميلة مساعدة‬ ‫الخراج أو الـ"سكريبت" التي كانت تقو م بتسجيل الصوت أيضا‪،‬‬ ‫والتي جرى تصوير المشاهد الداخلية في بيتها‪ ،‬وبطلةالفيلم‪ ،‬وهي‬ ‫صديقة لم يكن لها أي علقة أوخبرة سابقة **‪ ،‬وبطله الطالب في‬ ‫معهدالفنون المسرحية‪ ،‬ومن بعدهم الزميلة "هانيلوري" التي قامت بـ‬ ‫"مونتاج" الفيلم‪ ..‬مقاس ‪ 16‬مم‪/‬أبيض وأسو د‪ .‬أي أنه ينطبق على‬ ‫الفريق المذكور القول بأنهم قاموا بـ"غزل" الفيلم بـ"رجل حمار"‪.‬‬ ‫وأخيرا‪ ،‬كما قلت‪ ،‬تنازلت عن عرض الفيلم في نطاق التحكيم‪.‬‬ ‫إل أنه يبدو أن الجائزة التقديرية الموعو دة قد ضلت طريقها إلي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫______________________________________________________‬ ‫)**( جرت العادة أن يستعين طلبة قسم السينما في الكاديمية‪ ،‬لداء الدوارفي أفلمهم‪،‬‬ ‫بطلبة معهد التمثيل‪ .‬وبالفعل تم اختيارالبطل والبطلة كماهو متبع‪ .‬وتحددت مدةالتصوير‬ ‫بخمسة أيام‪.‬‬

‫‪228‬‬


‫وتمت استعارة معدات التصوير والضـاءة وتسـجيل الصـوت ومـا إلـى ذلـك لتلـك اليـام‬ ‫الخمسة‪ .‬كما تم تنفيذ خطة العمل لليوم الول على أكمل وجه‪.‬‬ ‫وفي اليوم الثاني فوجُتئنا بعدم تواجد البطلة لرتباطها بعمل آخر خارج فيينا !‬ ‫ولم يكن هناك من مخرج سوى الستعانة بتلك الصديقة‪ ،‬التي اضطرت لطلب إجازة‬ ‫طارئة من عملها‪ ،‬بعدإلحاح شديد من الفريق‪ ،‬واستدرار شفقتها على "المخرج" اللي‬ ‫مستقبله بين إيديها وتحت رحمتها‪ ،‬للقيام بدور البطولة دون أي دراية سابقة لها بأمور‬ ‫التمثيل أو الوقوف أمام الكاميرا‪.‬‬ ‫ويشاء الحظ أن يعجب بأدائها أحد المخرجين من أساتذتي‪ ،‬فيسند إليها دورا صغيرا في‬ ‫أحد أفلمه‪ ،‬لتصبح تلك الصديقة بعد ذلك ممثلة نمساوية‪ ،‬شبه معروفة‪ ،‬بإسم "إيفا‬ ‫سيعجر"‪ ، Eva Sieger،‬هذا علما بأن كلمة "سيعجر" هي الترجمة اللمانية لمعنى‬ ‫السم‪،‬غالب‪ ،‬الذي درج أصدقائي على مخاطبتي به هناك‪ .‬وذلك لصعوبة نطقهم للسم‬ ‫العربي‪.‬‬

‫من طرائف الصحافة الفنية‬

‫يتصل بي الصحفي المعروف "‪ ".. ..‬ليتفق معي على موعد لجراء‬ ‫حوار يتعلق بمشاركتي في المهرجان المذكور‪ .‬وبعد إنهاء الحوار‪،‬‬ ‫يسألني عن إمكانية مرافقتي في سيارتي إلى السكندرية‪ ،‬حيث تقرر‬ ‫إيفا د‪،‬ه لتغطية وقائع المهرجان السينمائي‪ .‬ونتفق على أن أمر في‬ ‫صباح اليو م السبق ليو م الفتتاح‪ ،‬للتقاطه بسيارتي من مسكنه‪.‬‬ ‫وعندما إلتقينا ألح في رجائه أن نمر‪ ،‬قبل التجا‪،‬ه إلى السكندرية‪ ،‬على‬ ‫" دار الهلل" لتسليم "ما دة المهرجان" )!(‬ ‫ولما قرأ أمارات التعجب والتساؤل المرسومة على وجهي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ ماخوبيش عليك‪ .‬أنا قلت أخلص من جزء من المقالت اللي مفروض‬‫أكتبها هناك‪..‬عشان ما أتزنقش‪..‬وبرضه الواحد يلقي وقت يتفسح‬ ‫في اسكندرية‪.‬‬

‫‪229‬‬


‫لم يكن قد شاهد فيلمي المشارك في المهرجان‪ .‬وبالرغم من ذلك فقد‬ ‫ظهرعد د المجلة في الوقت المناسب وبه التغطية المطلوبة‪.‬‬ ‫وكان "‪ ".. ..‬قد اكتفى بما قلته أنا عن الفيلم‪ ،‬وما حصل عليه مني من‬ ‫الصور الفوتوغرافية التي ملت بعد ذلك صفحتين كاملتين من مجلته‪.‬‬ ‫على أن الكثر طرافة هو زميله الــذي طلــب منــي أن أكتــب بنفســي مــا‬ ‫أرا‪،‬ه مناسبا‪ ،‬معلقا على"فيلمي" من وجهة نظرالمجلة الفنية الــتي يعمــل‬ ‫بها )!(‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫لكن‪ ..‬لم يخل المرمــن صــفحات جــا دة تتنـاول العمــل تحليل وتقريظــا‪.‬‬ ‫يتصدى فيها للكتابة عنه جيـل مـن شــباب ذلــك الـوقت مـن روا د "النقــد‬ ‫السينمائي" أذكر منهم على سبيل المثال ل الحصر‪ ..‬ســميرفريد‪..‬فتحــي‬ ‫فرج‪..‬سامي السلموني‪..‬صبحي شفيق‪..‬علي أبوشا دي‪..‬كمــال رمــزي‪..‬‬ ‫رؤوف توفيق‪ ..‬د‪ .‬رفيق الصبان‪..‬محســن شــا‪،‬ه*‪..‬ويوســف شــريف رزق‬ ‫اــ‪..‬وفــوزي ســليمان‪..‬بالضــافة إلــى "شــيخ النقــا د" الســتاذ "أ‪ .‬ك‪.‬‬ ‫مرسي"‪ ..‬وهم الذين مازلت أحتفظ ‪ -‬باعتزاز‪ -‬بمقــالتهم‪ ..‬وآخريــن ل‬ ‫يتسع المجال لذكرهم‪.‬‬ ‫هذا‪ ..‬إلى جانب استضافتي في برامج التلفزيون المهتمة بالثقافة‬ ‫والفنون‪.‬‬ ‫الحقيقة أنني كنت أشعر بأن باكورة أعمالي السينمائية "حكايه" قــد نــال‬ ‫حقه من التقدير والتكريم‪.‬‬ ‫هذا بالضافة إلى شعوري أنا بالتقدير‪ ،‬والوفاء‪ ،‬لما أضــافه لــي هــؤلء‬ ‫النقا د‪ ،‬حينذاك‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬من ثقة بالنفس ووضوح الرؤية بفضل نقدهم‬ ‫البناء‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪230‬‬

‫*‬


‫_________________________________________________________‬ ‫)*( الفدائية "أ م العبد"‪ ..‬كما ملقبت الكاتبة الصحفية والناقدة "حسن شا‪،‬ه" عندما ذهبت عا م ‪69‬‬ ‫لترصــد نشــاط الفــدائيين الفلســطينيين أثنــاء أوج نشــاطهم فــي عبــور نهــر الر دن للقيــا م‬ ‫بعملياتهم الفدائية في الرض المحتلة‪.‬‬ ‫كانت الشارة إلى مقالها تتصدرالصفحة الولى في جريدة الخبارالصا درة يو م ‪75 /9/4‬‬ ‫بالعنوان الملفت‪" :‬النور‪ ..‬والظل في سينما غالب شعث"‬

‫عن الكتـــــــــــــــــــابة‪..‬‬

‫تنفرج أسارير رئيسة تحرير مجلة "حكايات الهلل للطفال" في دار‬ ‫الهلل‪ ،‬السيدة "نتيله راشد"‪ ،‬بمجر د أن سمعت أحد الصدقاء وهو‬ ‫يثني على لغتي اللمانية‪ ،‬فتتناول من أحد الرفف كتابا حديث النشر‬ ‫قالت أنها حصلت عليه مؤخرا‪ ،‬ضمن مجموعة أخرى من الكتب‬ ‫الفائزة في مسابقة لكتب الطفال‪ ،‬من أحد معارض الكتب في ألمانيا‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬وتطلب مني أن أسدي إليها خدمة لن تنساها لي‪ ،‬وهي أن‬ ‫أقو م بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية‪ .‬تصفحت الكتاب‪ ،‬الكتيب‪ ،‬ولم‬ ‫أ در ما الذي دفعي‪ ،‬في حينها‪ ،‬لبداء استعدا دي وحماسي لذلك‪.‬‬ ‫في يو م تال‪ ،‬قدمت لها الترجمة المطلوبة‪ .‬ولم تمض أيا م أخرى حتى‬ ‫صدر العد د العاشر من سلسلة الكتب المعروفة‬ ‫"حكايات الهلل للطفال" بعنوان‪" ..‬أبطال صغار"‪.‬‬

‫‪231‬‬


‫وهيهات أن أتخلص من إلحاح رئيسة التحريــر مواصــلة الترجمــة‪ ،‬إلــى‬ ‫أن صــدر العــد د الثــالث عشـــر مــن المجموعــة بعنـــوان "الجعـــران‬ ‫السحري"‪ ،‬رسو م الصديق الفنان "هبه عنايت"‪ ،‬ومــن ثــم العــد د الســابع‬ ‫عشر بعنوان "عنبر وسكر" و رسو م صديقي "حلمي التوني"‪.‬‬ ‫وكان أن تقاضيت مبلغ ستيــــن جنيها‪ ،‬وهو ما كان يعا دل قيمة مرتبي‬ ‫لشهرين اثنين‪.‬‬ ‫ولم يكد صديقي "محمد صبري"**‪ ،‬رئيس قسم التصوير في نفس‬ ‫الدار‪ ،‬دار الهلل‪ ،‬أن يتفرج على مجموعة للصور التي‬ ‫كنت قد التقطتها عندما كنت‪ ،‬برفقة زميل الدراسة والصديق الفنان‬ ‫"سامي رافع"‪ ،‬في رحلة إلى إحدى قرى النمسا‪" ،‬سانت‬ ‫مارجاريتين"‪ ،‬التي اشتهرت بموسمها المسرحي المتميز‪ ،‬حتى انطلق‬ ‫ليعرض فكرة عمل ملف مصور باللوان لمجلة "الهلل" على رئيس‬ ‫تحريرها‪ ،‬الكاتب والناقد الكبير"رجاء النقا ش"‪ ،‬الذي رحب بالفكرة‪،‬‬ ‫وطلب مني الكتابة عن ذلك الحدث الفريد‪.‬‬ ‫وهكذا ظهرت أولى كتاباتي في عد د يونيه ‪ 1968‬من المجلة المذكورة‪.‬‬ ‫ثم توالت الكتابة والترجمة في مجلة "الكواكب"‪ ..‬ومجلة "السينما"‪..‬‬ ‫وغيرها‪ .‬وأخص بالذكر الترجمة الكاملة لـ سيناريوهات بعض الفل م‬ ‫الهامة‪ ،‬مثل فيلم "إنفجار"‪ Blow up‬للمخرج اليطالي المعروف‬ ‫"مايكل أنجلو أنتونيوني" الذي أثارعرضه في ذلك الوقت زوبعة فنية‪.‬‬ ‫وهكذا اهتديت إلى طريق ممأعوبد‪ ،‬ل غبار عليه‪ ،‬لتحسين وضعي‬ ‫الما دي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪232‬‬

‫*‬


‫____________________________________________________________‬ ‫)**( الفنان محمد صبري الـذي أتـاح لــي فــي بيتـه المكـان الملئـم لكتابــة جــزء ل بــأس بـه مـن‬ ‫سيناريو فيلم "الظلل‪ ،"...‬ريثما أهتدي إلى مسكن ملئم‪ ،‬وحيث رافقني الفنان التشكيلي‬ ‫ذو الهتمامات السينمائية‪ ،‬فخــري الليــثي‪ ،‬الــذي واكــب أغلــب مراحــل كتــابتي للســيناريو‬ ‫وكان له الفضل في المساعدة على استحضار أجواء كلية الفنون الجميلــة القاهريــة‪ ،‬كمــا‬ ‫كان له الفضل في تأكيد قناعتي بنقل أحد مشاهد الفيلم إلى "بيت السحيمي" العريق مم ا‬ ‫اعتبر‪ ،‬في نظر النقاد السينمائيين‪ ،‬ميزة وريادة في ابتكار أماكن التصوير السينمائي‪.‬‬

‫آلم السيد المسيح‪ ..‬في قرية ألمانيه**‬

‫في اليونان‪ ،‬قديما‪ ،‬كانت هناك جماعة يطلق عليها إسم "أتباع‬ ‫ ديونيزوس"‪ .‬وكانت هذ‪،‬ه الجماعة تمارس ما يسمى بـ"الطقوس‬ ‫السحرية" التي تطورت إلى احتفالت دينية تقا م في مواسم معينة من‬ ‫كل سنة‪ .‬وكانت هذ‪،‬ه الحتفالت مرتبطة بحياة "الله ديونيزوس"‬ ‫وهذا ما سمي بعد ذلك بـ"الدراما الموسمية"‪.‬‬ ‫وكان قوا م هذ‪،‬ه الحتفالت هو الناشيد "الديونيزية ورقصات‬ ‫"الديثورامبوس" التي قال عنها أرسطوأنها أصل "الترجيديا‬ ‫الغريقية"‪ .‬وقد تطورت هذ‪،‬ه الغاني الجماعية إلى أن اتخذت شكل‬ ‫"الكورال"‪ .‬ومن الحوارالذي كان يجري بين الكورال وقائد‪،‬ه ولدت‬ ‫الدراما أوالمسرحية‪ ،‬بعد أن أ دخل "أسخيليوس" عليها الممثل الثاني‬ ‫مما أ دى إلى غلبة عنصر الحوار على الغناء نتيجة لوجو د الصراع‬ ‫بين وجهات النظر‪ .‬وأضاف "سوفوكليس" ممثل ثالثا مما زا د من‬ ‫أهمية النص‪ ،‬وإثراء الحدث ‪ ،‬وإغناء الشكل‪.‬‬

‫‪233‬‬


‫كانت المسرحيات البدائية إذن ل تعدو أن تكــون تطــورا لتلــك الطقــوس‬ ‫الدينية التي قا م بها "أتباع ديــونيزوس"‪ ،‬فهــي تحكــي قصــة حيــاة وآل م‬ ‫الله " ديونيزوس"‪.‬‬ ‫وفي القدس‪ ،‬قبل العــدوان الصــهيوني واحتللــه للمدينــة عــا م ‪ ،67‬كــان‬ ‫هناك موكب ديني ينطلق ظهر يو م الجمعة من كل أســبوع فــي "طريــق‬ ‫الل م" ‪) Via Dolorasa‬الذي يمر من أما م دارنا ف ي الق دس(‪ .‬وه و‬ ‫الطريــق الــذي ســلكه المســيح عليــه الســل م حــامل الصــليب إلــى جبــل‬ ‫"الجلجله"‪ ،‬حيث تقع الن كنيسة القــبر‪ ..‬أوكنيســة القيامــة‪ .‬إنــه الفصــل‬ ‫الخيرمن مأساة المسيح الذي رحل مؤمنا أنه يحمل معه آل م البشرية‪.‬‬ ‫____________________________________________________________‬ ‫)**( كانت مجموعة الصورالملونة التي نشرت في المجلة هـي الصــل فـي الموضــوع‪ .‬لكــن‬ ‫الهتمــام بــالنص يــأتي لهميتــه فــي ســياق التنــويه عــن "العلم الــذكي"‪..‬واســتغلل‬ ‫اللــوبي‪،‬قــوى الضــغط الصــهيوني منــذ عشــرات الســنين لكــل مــا مــن شــأنه أن يســاند‬ ‫أغراضهم الستيطانية التوسعية‪.‬‬

‫وفي معظم بلدان العالم‪ ،‬مــازالت الشــعائرالدينية تقــا م فــي ذكــرى "يــو م‬ ‫الجمعة الحزين"‪.‬‬ ‫بعض هذ‪،‬ه البل د ل تكتفي بالمشهد الخيــر‪ ،‬بــل يعــا د تمثيــل مأســاة آل م‬ ‫المسيح و صلبه بأكملها في "أسبوع الل م"‪.‬‬ ‫كما درجت بعض بلدان أوروبا على تحويل هذ‪،‬ه الشعائر إلى‬ ‫مهرجانات تذكرنا بما سمي قديما بـ"الدراما الموسمية"‪ ،‬وبالله‬ ‫" ديونيزوس"‪ ،‬والحتفالت التي كان أتباعه يحكون قصة حياته‬ ‫وآلمه‪ ،‬مؤكدين بذلك تقديسهم له‪.‬‬ ‫وأشهرهذ‪،‬ه المهرجانات وأقدمها هو ذلك المهرجان الذي يقــا م فــي قريــة‬ ‫"أوبر أضمرجاو" في ألمانيا‪.‬‬ ‫ولهذا المهرجان قصة‪:‬‬ ‫ففي عا م ‪ 1633‬اجتاح وباء الطاعون القرية‪ ،‬وبلغ عــد د ضــحايا الوبــاء‬ ‫في القرية الصغيرة ‪ 84‬شخصا خلل شهور قليلة‪.‬‬ ‫وفي ذلك الوقت أجمع بعــض رجــال الــدين وشــيو خ القريــة علــى القيــا م‬ ‫بإعا دة تمثيل مأساة صلب المسيح كنوع من التقرب إلى ا والستجارة‬ ‫به‪ .‬ومنذ تلك الساعة لم يصب أحد من أهالي القرية‪.‬‬ ‫‪234‬‬


‫وأوفى أهالي القرية بالنذر‪ ،‬وقاموا بتمثيل المأساة في مقـبرة القريــة‪ .‬ثـم‬ ‫استمرت القرية في تقديم هذاالعمل مرة كل عشر سنوات‪.‬‬ ‫وسجل عا م ‪ 1960‬نجاحا كبيرا للموسم رقم ‪ ،34‬حيث قدمت القرية ‪93‬‬ ‫عرضا شاهدها ‪518000‬متفرج‪.‬‬ ‫وبلــغ عــد د التقــارير والمقــالت الصــحفية‪ ،‬المحليــة والجنبيــة‪ ،‬حــوالي‬ ‫‪ 6300‬مقال‪.‬‬ ‫لم تخل هذ‪،‬ه المقالت من نقد للنص الذي لم يتغير منــذ أن عرضــت فيــه‬ ‫التمثيلية لول مرة‪.‬‬ ‫وسلطت الضــواء علــى نــص آخــر يرجــع إلــى عــا م ‪1750‬مــن وضــع‬ ‫الروائي اليهو دي "فير ديناند روزنر"‪.‬‬ ‫وظل النقا ش يدور في مجلس القرية حول النص الــذي ســوف يقــد م فــي‬ ‫الموسم التالي عا م ‪.1970‬‬ ‫وانقسم المسئولون على أنفسهم إلى فريقين‪:‬‬ ‫فريــق يطــالب باســتخدا م نــص "روزنــر" الــذي يتجنــب إ دانــة اليهــو د‬ ‫ويبرئهم ضمنا من د م المسيح‪ ،‬و"ل يتسم بمعا داة السامية" )!(‬ ‫والفريق الخر‪ ،‬وهوالغالبية‪ ،‬يصرعلى استخدا م النص القديم الستعدا د‬ ‫به للموسم القا د م‪.‬‬ ‫إل أن المديرالمسئول حسم الموقف وقرر رفض نص"روزنر" قائل‪:‬‬ ‫"إذا كان ل بد من إيجا د نص جديد‪ ..‬فما علينا إل أن ننتظر ظهور ذلــك‬ ‫الرجل الذي يدور حوله مضمون النص أول‪*".‬‬ ‫ونتيجة لذلك اســتقال مخــرج المهرجــان المثوــال "هــانس شــفايجهوفر"‪..‬‬ ‫وسافر إلى إسرائيل بدعوة رسمية منها‪.‬‬ ‫أمــا أحــدث هــذ‪،‬ه المهرجانــات‪،‬فهــو ذلــك الــذي يقــا م فــي قريــة "ســانت‬ ‫مارجاريتين" في إقليم "بورجنلند" في النمسا‪ .‬تلك القريـة الواقعـة فـي‬ ‫وا د خصــيب تحيــط بــه جبــال مــا زالــت عليهــا آثارالرومــان القــدماء‪.‬‬ ‫والوا دي مشهور‪ ،‬شأن معظم أراضي القليم المــذكور‪ ،‬بكــرو م العنــب‪،‬‬ ‫وتصديرالنبيذ‪ .‬ويعمل أهل القرية )‪3500‬نسمة( في زراعة العنب‪.‬‬

‫‪235‬‬


‫ويقا م هــذا المهرجــان فــي أشهرالصــيف‪ .‬يشــترك فيــه‪ ،‬تمــثيل وتنفيــذا‪،‬‬ ‫حــوالي ‪200‬رجــل وإمــرأة وطفــل مــن أهــالي القريــة‪ ،‬معظمهــم مــن‬ ‫الفلحين‪ ،‬هذا إلى جانب كورال مكون من ‪ 50‬مغن ومغنية‪.‬‬ ‫في سفح أحد الجبــال بنيــت ديكــورات ثابتــة مــن الحجــر‪ ،‬تحســبها لول‬ ‫وهلة جزءا من مدينة القـدس القديمــة‪ ،‬علــى مســاحة واســعة يرتـع فيهــا‬ ‫"جنو د الرومان" على خيولهم أما م جماهير المتفرجين‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬وقد جهز هذا "المسرح الطلــق" بــأجهزة الصــوت اللزمــة والــتي‬ ‫تتيح للمتفرجين القا دمين من شتى النحاء متابعة الحوار‪.‬‬ ‫يعا د العرض عشرين مرة في السنة‪ ،‬موزعة علــى خمســة شــهور‪ ،‬مــن‬ ‫مايو حتى سبتمبر‪ ،‬حيث يحين بعدها وقت الحصا د‪.‬‬ ‫ليس بين الممثلين أحد من محترفي التمثيل‪ ،‬فمعظمهم من الفلحين‪.‬‬ ‫وبعد أن ينتهي موسم العروض‪ ،‬يعو د "السيد المسيح" و "تلميذ‪،‬ه" إلــى‬ ‫_______________________________________‬ ‫)*( يقصد عو دة السيد المسيح‪.‬‬

‫أعمالهم وحقولهم‪.‬‬ ‫ويعو د "بونتيوس بيلتــوس" إلــى معصــرته‪ ،‬و"يهــوذا الســخربوطي"‬ ‫إلى دكانه‪.‬‬ ‫وتعــو د "مريــم العــذراء" إلــى تلميــذها فــي مدرســة القريــة‪ ،‬و"مريــم‬ ‫المجدلية" إلى بيتها وزوجها‪.‬‬ ‫والممثلون الذين يقومون بال دوار الرئيسية معروفون في القريـة‪ .‬ولكـل‬ ‫واحد منهم " دوبلير" أو خليفة‪.‬‬ ‫ول يحتاج منهم هذا العمل إلى جهد كبير‪ ،‬فقد أصبح جزءا من حيــاتهم‪،‬‬ ‫يقومون بأ دائه طوعا على مر السنين طالما هم قا درون على ذلك‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪236‬‬

‫*‬


237


238


239


‫محطــــــــــــــــــــات‪..‬‬

‫من الشياء التي أوقن أنها "أكثرأهمية من أن يهملها المرء أو‬ ‫يتناساها"‪ ،‬هي "محطات" الوقوف التي تشكل جزءا هاما من رحلة‬ ‫العمر‪ .‬تلك الرحلة الطويلة في قطار يعج بالركاب‪ ،‬يتوقف في هذ‪،‬ه‬ ‫المحطة أو تلك‪ ،‬ركاب يصعدون‪ ،‬وركاب ينزلون‪ .‬منهم من يترك‬ ‫علمة في ذاكرتك‪ ،‬ومنهم من ل تدري متى صعد أو متى نزل‪ .‬منهم‬ ‫من لم يعرك اهتمامه‪ ،‬ومنهم من اتسعت ذاكرته لملمحك‪.‬‬ ‫منهم من نسيك‪ ،‬ومنهم من يتناساك‪.‬‬ ‫كيف يمكن أن نتعمبرعن تلك الفترات من مسيرتنا بــدون أن نقــف لنلتقــط‬ ‫أنفاسنا عند بعض"المحطات"؟‬ ‫هل يمكن أن أتناسى رحلة البحث عن أول نــص لول "تمثيليــة ســهرة"‬ ‫سأقو م بإخراجها لتلفزيون ج‪ .‬م‪.‬ع‪.‬؟‬ ‫لم أكن قد أعد دت نفسي بما فيه الكفاية للقيا م بمثل هذ‪،‬ه التجربة‬ ‫التلفزيونية‪ ،‬بالرغم من عملي كمتدرب في تلفزيون "فيينا"‪ .‬ذلك بعد أن‬ ‫اكتشفت الهووة العميقة بين أسلوب العمل في ستو ديوهات كل من‬ ‫"القاهرة" و "فيينا"! يكفي اختلف لغة التواصل المتداولة بين الفنيين‬ ‫والفنانين‪ ،‬و اختلف المسميات والمصطلحات‪ ،‬إلى جانب اختلف‬ ‫المعدات‪ .‬وقبل كل شيء‪ ،‬معرفة أوساط الفنانين والفنيين أنفسهم‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كنت أشعر بفداحة خسارتي عندما أراهم أو أسمعهم يتحدثون عن أشياء‬ ‫فاتني الطلع على تفاصيلها خلل مايزيد عن عشر سنوات قضيتها‬ ‫‪240‬‬


‫في فيينا بعيدا عن الوطن العربي وما يدور فيه‪ .‬هذا بالرغم مما كان‬ ‫يتيحه لي الحصول المنتظم على بعض الصحف والمجلت المصرية‬ ‫المهتمة بالثقافة والفنون بأنواعها‪ ،‬ومنها اشتراكي السنوي الذي لم‬ ‫ينقطع بالمجلتين السبوعيتين المفضلتين‪ ،‬في ذلك الوقت‪..‬‬ ‫"روزاليوسف" و "صباح الخير"‪.‬‬ ‫لكني سرعان ما كنت أستعيد ثقتي عندما كنت أراهم يستمعون لما‬ ‫أرويه عن مشاهداتي‪ ،‬أو معلوماتي أو قراءاتي في أوروبا وعنها‪ ،‬خلل‬ ‫تلك السنوات‪.‬‬ ‫وكان من أبرز ما اكتسبته هناك وما تميزت به هوإطلعي على النشاط‬ ‫التشكيلي والموسيقي والفني بشكل عا م‪ ،‬والسينمائي بشكل خاص‪،‬‬ ‫بطبيعة الحال‪.‬‬ ‫إل أن عملي في القاهرة كمخرج‪ ،‬ومعرفتي بالكوتاب والمخرجين‬ ‫والمسرحيين والفنانين التشكيليين‪ ،‬يوسر لي وجعلك كثير التر د د على‬ ‫المسرح و الوبرا و دور السينما ومعارض الفنون التشكيلية‪.‬‬ ‫انهالت عليي منذ البداية إهداءات الكتب القصصية والروائية من‬ ‫مختلف المكوتاب‪ ،‬و دعوات متتالية لحضور عروض مسرحية أو "بروفا‬ ‫جنرال"‪ ،‬أو افتتاح "عرض أول" لفيلم ما‪ ،‬أو العروض الخاصة بالنقا د‬ ‫والصحافيين للفنون الشعبية والغنائية والموسيقية‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وبالتدريج‪ ،‬نمت معارفي التي شربتها من كتب سور الزبكية‬ ‫قبل أن يهدمو‪،‬ه‪ .‬ومن دار الوبرا قبل أن يحرقوها‪ .‬ومن مسارح الدولة‬ ‫قبل أن تقفر‪ .‬ومن معارضها قبل أن متهجر‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫طلب م‬ ‫ت من الستاذ الفاضل "سعد لبيب" أن ألتحق بإحدى دورات معهد‬ ‫التلفزيون‪ ،‬فما كان منه إل أن سخر من تواضعي وأكد لي جا دا أنه‬ ‫يرى أن أتخلى عنه‪ .‬بل أنه كان يرى أن ألتحق بالمعهد‪ ..‬كمدرس!‬ ‫طلبت منه أن يرشح لي مخرجا لعمل معه كمساعد‪ .‬فما كان منه إل‬ ‫أن عبرعن دهشته لصراري على العو دة إلى الوراء مضيفا أن قرار‬

‫‪241‬‬


‫تعييني كمخرج يتعارض مع عملي كمساعد‪ ،‬إل في حالة قبولي للعمل‬ ‫كمساعد لمدة أربع سنوات‪ ،‬كما هو متبع مع الخريجين الجد د‪.‬‬ ‫ثم كان أن عرفني بالمخرج "نورالدمر دا ش" الذي رحب بتوصية‬ ‫"سعد بيه" بأن "أرافقه" أثناء قيامه بمختلف مراحل العمل لمجر د‬ ‫التعرف على الفنيين والفنانين وأجواء العمل‪.‬‬ ‫وكانت تجربة!‬ ‫كررت التجربة مع مخــرج آخــر توســمت فيــه مــا كــان يفتقــد‪،‬ه المخــرج‬ ‫الول‪ ،‬فلم أستطع‪ ،‬أيضا‪ ،‬الستمرار سوى لبضعة أيا م‪.‬‬ ‫اعترفت لـ"سعد لبيب" بفشلي فــي الســتفا دة مــن التجربــتين الســابقتين‪،‬‬ ‫فشــتان بيــن مــا تعلمتــه فــي"النمســا"‪ ،‬وبيــن مــا أرا‪،‬ه فــي ســتو ديوهات‬ ‫"ماسبيرو"‪ .‬فما كان منه إل أن نصحني أن أقضي فترة أتجول فيها بين‬ ‫مختلـف السـتو ديوهات بـدون أي الـتزا م مـع أي كـان مـن المخرجيـن‪.‬‬ ‫وقد كان‪.‬‬ ‫وعندما أحسست أنه قد آن الوان لكي أخوض التجربة الولــى‪ ،‬أعلنــت‬ ‫عن ذلك‪ ،‬فنصحني المخرج "نورالدمر دا ش"‪ ،‬مراقب عا م قسم الــدراما‬ ‫آنذاك‪ ،‬الملقب بـــ"ملــك الفيــديو"‪ ،‬أن أختــار‪ ،‬كبدايــة‪ ،‬نصــا ســهل يلــبي‬ ‫ويخــاطب ذوق المشــاهد العــا دي‪"..‬إذا أر دت أن تصــل إلــى الجمــاهير‬ ‫مباشرة وتدخل بيوتها‪ ،‬وقلوبها"!‬ ‫أمضيت فترة طويلة أتر د د بين هذا النص‪ ،‬وتلك الرواية‪ ،‬وذلك‬ ‫السيناريو‪ .‬وعندما استقر رأيي على قصة قصيرة وجدتها تحمل‬ ‫المواصفات الموصوفة‪ ،‬وتتحدث عن السلوك النساني والحب‬ ‫والكبرياء والتضحية و"الجدعنه"‪ ،‬كما قال لي "ملك الفيديو"‪،‬‬ ‫وصا دف أن حكيتها لزميلي المخرج "محمد كامل" الذي كنت أستريح‬ ‫إلى رأيه‪ .‬اعترض بشدة‪ ،‬وقال محتدا قامعا‪:‬‬ ‫ ما أنا برضه عملت الموضوع د‪،‬ه‪ ،‬وغيري كتيرعملو‪،‬ه!‬‫إنت يرضيك تبقى نسخة مني والل من "نورالدمر دا ش" حتى؟‬ ‫الموضوعات دي شغل صنايعيه‪ .‬واحنا نعملها واحنا مغمضين‪.‬‬

‫‪242‬‬


‫إنت غيرمقبول منك إل حاجه "مختلفه"‪ .‬حاجه ماحد ش عملهــا قبـل‬ ‫كــد‪،‬ه‪ .‬وإل تبقــى مــاعملتش حــاجه‪ .‬حتقــوللي إنــك مــش هــدفك تبقــى‬ ‫مخرج تلفزيوني‪ .‬حقولك ولو‪ .‬العمل حيتسجل ويتحسب عليك‪.‬‬ ‫قرأت فيما قرأت أن الفن عبارة عن "صدمة" يحــدثها العمـل الفنـي فـي‬ ‫المتلقي‪ ،‬يكون هدفها و نتيحتها التغييـــــــــر‪.‬‬ ‫ولقد كان في ما مارسه معي زميلي من القمع‪ ..‬شيء من الفن‪.‬‬ ‫أعا دني زميلي المخرج "محمد كامل" إلى صوابي‪.‬‬ ‫وابتدأت الرحلة من أولها‪.‬‬ ‫لكن كاتبنا "نجيب محفوظ" ما لبث أن اختصــني فــي أحــد أيــا م الجمعــة‬ ‫بصفحة من جريدة الهرا م تحتوي على مسرحية قصيرة تحــت عنــوان‬ ‫"التركة"‪.‬‬ ‫لم أكرر قراءتها‪ .‬ولم تمض أيا م حتى كنت قداتفقت مع الصديق ال ديــب‬ ‫"مجيــد طوبيــا"‪ ،‬الــذي تــبين أن المســرحية بــاتت تشــغله أيضــا بمجــر د‬ ‫قراءتها‪ ،‬على كتابة السيناريو‪.‬‬ ‫إليك يا صديقي المخرج المختلف "محمدكامل" أبعث‪ ،‬أينما كنت‪،‬‬ ‫بتقديري واحترامي وعرفاني!‬ ‫ولم أكد أنتهي من تسجيل العمل الول حتى قدمني التلفزيون في‬ ‫برنامجه الشهير في حينه‪" ،‬حياتنا الثقافية"‪ ،‬من إعدا د الكاتب "سيد‬ ‫خميس"‪ ،‬وتقديم العلمي"عباس أحمد"‪ .‬وهوالبرنامج الثقافي المتميز‬ ‫الذي استضافني قبل ذلك مع عرض لفيلمي"حكايه"‪ ،‬حيث دار الحوار‬ ‫حول تمثيلية "التركة" التي وصفت‪ ،‬بعدعرض أجزاء منها‪ ،‬بأنها عمل‬ ‫طليعي مضمونا‪ ..‬وشكل‪.‬‬ ‫في موعدعرض السـهرة‪ ،‬كمــا جــاء فــي دليـل البرامـج التلفزيونيـة فـي‬ ‫الصحف اليوميــة‪ ،‬تجمعنــا فــي بيــت الصــديق الفنــان "بهجــت عثمــان"‬ ‫انتظارا للحدث الها م‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬وبعد طول انتظار‪ ،‬وجــدنا أنفســنا أمــا م ثمثيليــة أخــرى‪ .‬بــدون أي‬ ‫إعتذار!‬ ‫وتبين بعد ذلك أنه قد تم منع عرض "التركة"‪ ..‬رقابيا!‬ ‫‪243‬‬


‫مرت أسابيع من مراجعاتي المتكررة وعنا دي بالمتناع عن أي عمل‬ ‫آخر قبل أن يتم عرض "التركة"‪ ،‬أوإفا دتي عن أسباب منع عرضها‪،‬‬ ‫ولكن عبثا حاولت‪ .‬إلى أن همس لي الصديق والزميل المخرج‬ ‫" م‪.‬كامل" بما معنا‪،‬ه أن هناك من يرحبون بعنا دي وامتناعي عن‬ ‫مواصلة العمل )!(‬ ‫لجأت‪ ،‬تجنبا لكل ما من شأنه أن يثير حساسية "الرقابة"‪ ،‬إلى القيا م‬ ‫باختيار أعمال مسرحية "عالمية" وترجمتها وكتابة السيناريو لها‪.‬‬ ‫فكانت تمثيلية "رجل خطير"* من ال دب اللماني‪.‬‬ ‫ومن بعدها تمثيلية "البالطو الجديد" من ال دب النجليزي‪.‬‬ ‫إلى أن تمت إجازة نص "رحلة عم مسعود" للمسرحي الكبير‬ ‫"محمو د دياب"‪ ..‬إلخ‬ ‫ويرتبط ذكر الصديق ال ديب "مجيد طوبيا" في ذهني بفترة غليان‬ ‫الرا دة الشعبية المصرية‪ ،‬ومظاهرات الطلبة‪ ،‬وظاهرة "الشيخ إما م"‪.‬‬ ‫وقد كان "مجيد"** هو أول من عرفني بـ"حو ش قد م"‪ ،‬والشيخ إما م‬ ‫وأغنياته الجريئة الرافضة لهزيمة ‪ 67‬من كلمات الشاعر"أحمد فؤا د‬ ‫نجم"‪ ،‬المختلفة‪ ،‬والذي خلته يتحدث بلسان حالي عن هزيمتي وعن‬ ‫مدينتي السيرة "القدس" عندما كان يقول‪:‬‬ ‫"حبيبتي يا مدينه‪ ..‬متزوقه وحزينه‪..‬في كل حار‪،‬ه حسر‪،‬ه‪ ..‬وفي كل‬ ‫قصر زينه‪ .‬ممنوع من المناقشه‪ ..‬ممنوع من السكات‪ ..‬وف كل يو م في‬ ‫حبك‪ ..‬تزيد الممنوعات‪ .".‬وغير ذلك من الشعار الموجعة‪.‬‬ ‫وسرعان ما كان جميع أفرا د مجموعة الصدقاء يتناقلون أخبار الثنائي‬ ‫ويتخاطفونهما في سهرات منزلية‪ .‬وعرف "حو ش قد م" السيارة‬ ‫"الوبل البيضا" التي باتت تحملهما في كل مرة إلى منزل آخر من‬ ‫___________________________________________________________‬ ‫عندما فوجُتئت بتصنيفي ككاتب سيناريو فُتئة رابعة )بأجر قيمته ثمانية جنيهات(‪.‬‬ ‫)*(‬ ‫سألت مراقب التمثيليات عن السبب فأجاب‪ :‬لنك ما زلت مبتدئا!‬ ‫هذا وقد جاء في تقرير لجنة المشاهدة )استمارة التقييم( ليوم ‪ ،30/7/69‬بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫"تمثيلية جيدة الموضوع امتازت بإخراجها وتمثيلها الرائع‪ ،‬فهي في نظري ل تقل عن‬ ‫أي حلقة أجنبية"‪(!) ...‬‬ ‫)**( وهو أيضا أول من أخبرني عن نية بعض السينمائيين الجدد من الشباب بتكوين تجمع‬ ‫خاص بهم ‪ ..‬وذلك ما أسفر عن اشتراكي معهم بتأسيس "جماعة السينما الجديدة"‪.‬‬

‫‪244‬‬


‫منازل أفرا د مجموعة الصدقاء‪ .‬وذلك مما كان له دور‪،‬ه في توسيع‬ ‫ دائرة الصدقاء من المثقفين والفنانين‪.‬‬ ‫كان الصديق الناقد "رجاءالنقا ش" هو أول من اهتم بهما وبزميلهما‬ ‫المثال "محمو د اللبان" فعمل على إقامة معرض لعماله التلقائية‬ ‫الفطرية في دارالهلل بعد أن أقيمت في نقابة الصحفيين أول حفلة‬ ‫عامة للشيخ إما م‪ ،‬استمع فيها الناس إلى الغنية التي تقطر فجيعة وألما‬ ‫وسخرية‪" ..‬آخر خبر في الرا ديوهات‪ ..‬جيفارا مات‪."..‬‬ ‫"جيفارا "‪ ..‬الذي بات يجسد الرمز للتضحية والصدق واللتزا م‪.‬‬ ‫"جيفارا"‪ ..‬الذي وصفه "سارتر" بأنه أحد أكبر رجال عصرنا‪ ،‬وأكثر‬ ‫شخصياته اكتمال‪.‬‬ ‫ومما هو جدير بالذكر أن الناقد الكبير "رجاء النقا ش"‪ ،‬هوأيضا‪ ،‬أول‬ ‫من قد م شعراء الرض المحتلة‪ ،‬شعراء المقاومة الفلسطينية‪ ،‬إلى‬ ‫القاريء العربي‪ ،‬وبشكل مدروس‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫لكني سـرعان مـا كــدت أن أزهـد فـي المواظبـة علــى حضـور‬ ‫المســيات الــتي كــانت تستضــيف "الشــيخ إمــا م" و "أحمــد فــؤا د نجــم"‪،‬‬ ‫والحرص على التسجيلت الصوتية التي كنت أقـو م بهـا )علـى جهـازي‬ ‫الجرونــدج اللمــاني النــف الــذكر( وبتوزيعهــا علــى الصــدقاء‪ .‬ذلــك‬ ‫بــالرغم مــن إعجــابي الشــديد بألحــان الول و بأشــعار الثــاني الثــائرة‬ ‫الرافضة للهزيمة‪ .‬وبالرغم من أني كنت أعتبرهــا إحــدى موجــات النقــد‬ ‫الذاتي العربي‪ ،‬التي تحدث عنها المؤر خ اللبنــاني "قســطنطين زريــق"‪،‬‬ ‫والتي كنا في أمس الحاجة إليها بدليل انتشارها وذيوعها "عربيا"‪ ،‬وهــو‬ ‫ما كنت أرا‪،‬ه ظاهرة صحية‪.‬‬ ‫ففي إحـدى المسـيات الشـتوية‪ ،‬كنـت أجلـس فـي العوام ة‪ ،‬الـتي كـان‬ ‫صديقي "المونتير" أحمد متولي يتخذها مسكنا لـه‪ ،‬وقــد اكتظـت بـروا د‬ ‫جد د من أنمــاط متباينــة مــن "متثقفيــن" و"متمركســين" ل تــدري كيــف‬ ‫وجدوا طريقهم إلى العوامة‪.‬‬ ‫من بينهم من وضعت على كتفيها فراء ثعلب‪ ،‬وتلفحت الخــرى بلفحــة‬ ‫صــوف "مــوهير"‪ ،‬وثالثــة تنفــث فــي تأمــل صــوفي دخــان ســيجارة‬ ‫‪245‬‬


‫الـ"كنت"‪ ،‬الميركانية‪ ،‬الممهورة بــأحمر شــفاهها‪ .‬وأخــرى تمســك بيــن‬ ‫إصبعيها سيجارة أرفع من السجائر المألوفـة وأطـول منهـا اسـتخرجتها‬ ‫لتوها من علبة أنيقة عليها إسم غير مألوف‪ ،‬وهي تمسك بنفس اليد كأسا‬ ‫كا د أن يفرغ مـافيه مـن الويسـكي‪" ،‬أون ذي روكـس"‪ ،‬تحركـه متمايلـة‬ ‫على إيقاع مقطع مــن الغنيــة الطازجــة الــتي تهــز المشــاعر وتســتنطق‬ ‫الجمــا د "جيفــارا مــات‪ ،"..‬فتصــدرعن كأســها رنــات قطــع الثلــج علــى‬ ‫الجدارالبلوري‪ ،‬لتتآلف مع ترنيمات الشيخ إما م المو وقعة الساخرة‪:‬‬ ‫"‪..‬مــارأيكم دا م عزكــم‪ ..‬يــا أنتيكــات‪ ..‬يــا دفيــانين ومــولعين الــدفايات‪..‬‬ ‫يــامحفلطين يــاملومعين ياجيمســينات‪ ..‬يــا بتــوع نضــال آخــر زمــن فــي‬ ‫العوامات"‪.‬‬ ‫وأكا د أوقن‪ ،‬في خضم هذا الخليط‪ ،‬أن حضورالبعض لمثل هذ‪،‬ه‬ ‫المسيات ما هو إل من باب اللهفة للتظاهر بالولء للوطن‪ .‬وشيء يشبه‬ ‫محاولت "إبراء الذمة" أو‪" ..‬غسيل الذمه"‪ ،‬على وزن "غسيل‬ ‫الموال"‪ ،‬بحيث تكا د تفرغ تلك المسيات من مضمونها النبيل‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫و"معركة الكرامة"‪ ،‬مارس ‪ ،68‬ذلك الوهج الذي تألقت به الثورة‬ ‫الفلسطينية‪ ،‬والذي أوحى للفنانين من كل أنحاء الوطن العربي بأعمال‬ ‫تكا د ل تقل أهمية عن العمل الفدائي نفسه‪ .‬كان من أبرزها مسرحية‬ ‫"النار والزيتون"‪ ،‬من تأليف "ألفريد فرج" وإخراج "سعد أر د ش"‪،‬‬ ‫الذي طالبني بالشراف على حوار المسرحية الفلسطيني‪ ،‬وإن لم‬ ‫تتحقق هذ‪،‬ه التجربة بسبب ضيق الوقت‪ .‬فقد كانوا قد قطعوا شوطا‬ ‫كبيرا في التدريبات ولم يكن متاحا لي أن أعو د بهم إلى البداية‪ .‬ومن‬ ‫بعدها مسرحية "وطني عكا"‪ ،‬تأليف "عبدالرحمن الشرقاوي"‪ ،‬والتي‬ ‫أ دين لها بصداقتي مع الموسيقار "المستشار" القانوني "كمال بكير"‪،‬‬ ‫صاحب موسيقى وألحان المسرحية‪ .‬أما مخرجها "كر م مطاوع" فقد‬ ‫عا د بي إلى ذكرى لقاءنا الول‪ ،‬عا م ‪ ،59‬حيث قضينا أياما ممتعة على‬ ‫متن الباخرة اليطاليه "إسبيريا"‪ ،‬هو في طريقه إلى مقر دراسته في‬ ‫‪246‬‬


‫"روما"‪ ،‬وأنا في طريقي إلى "فيينا"‪ .‬وهو الذي أنعم علي مؤخرا‬ ‫بلقب زا دني إعتدا دا بنفسي‪"..‬المخرج متعد د المواهب"‪.‬‬ ‫وذلك اللقاء مع "أبوالهول"‪ ،‬هايل عبدالحميد‪ ،‬عضواللجنة المركزية‬ ‫لحركة "فتح"‪ ،‬والمسئول العلمي‪ ،‬في مكتبه في القاهرة‪ ،‬الذي سعيت‬ ‫إليه لعرض خدماتي من خلل موقعي بالتلفزيون‪ ،‬فطالبني بالتفرغ‬ ‫والسفر في الحال إلى "الغوار"‪ ،‬وذلك لمهمة تتلخص في "مرافقة‬ ‫مجموعة فدائية تتسلل إلى الرض المحتلة والقيا م بتصويرالعملية‬ ‫الفدائية سينمائيا")!(‬ ‫وعبثا حاولت أن أقنع أحد "البوات" الحاضرين بالصدفة‪ ،‬وأظنه "أبو‬ ‫صبري"‪ ،‬أن مجبني الذي اتهمني به سوف يتسبب في إفشال العملية‬ ‫الفدائية ذاتها إذا ما رافقتها لهذا الغرض‪ ،‬بينما لو أننا أتحنا فرصة‬ ‫التدريب لحد الفدائيين على استعمال الكاميرا الخفيفة فإننا سنحصل‬ ‫على نتائج أفضل بكثير‪.‬‬ ‫وما زالت كلمات "أبوصبري" الغريبة‪ ،‬التي لم أسمعها من قبل‪ ،‬عن‬ ‫"التصفية الجسدية" للمتقاعسين‪ ،‬ترن في أذني‪.‬‬ ‫كان ذلك الموقف بمثابة صدمة بالنسبة لي‪ ،‬تنم عن مدى عجز‬ ‫"إ دراك" قيا داتنا لدورالفن وقيمته ووظيفته‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬شاءت الصدف أن أتعرف عن قرب على أحد قا دة الثورة‬ ‫الفلسطينية‪" ،‬أبو إيا د"‪ ،‬عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"‪ ،‬الذي‬ ‫أعا د لي ثقتي بوعي قيا دة الثورة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وذلك اللقاء الذي جمع بيني وبين الكاتب الفلسطيني "زين العابدين‬ ‫الحسيني" لول مرة في بيت صديقي "ناجي شاكر"‪.‬‬ ‫كانت تلك هي روح "الكرامة"‪ ،‬الروح المستمدة من النتصار في‬ ‫معركة "الكرامة" الشهيرة عا م ‪ ،68‬التي جعلت ال ديب يسعى للقاء‬ ‫‪247‬‬


‫المخرج‪ ،‬بدون سابق معرفة‪ ،‬وبدون أي حرج‪ ،‬من أجل التعاون لتقديم‬ ‫ما يمكن تقديمه من أجل الهم المشترك‪ ،‬وحيث تم التفاق على إعدا د‬ ‫روايته "سر البوري" وتحويها إلى فيلم سينمائي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫ثم يلي ذلك‪ ،‬ذلك اللقاء الول والها م الذي كنت أنتظر‪،‬ه بفارغ الصبر‪،‬‬ ‫والذي أ دركت أن وقته قد حان عندما كنت في زيارة بدون موعد سابق‬ ‫للصديق "زين العابدين" في مقرعمله في "إذاعة فلسطين"‪ ،‬بشارع‬ ‫الشريفين‪ ،‬حيث صا دف أن قابلت د‪.‬نبيل شعث الذي با درني بسؤاله‬ ‫باسما كعا دته‪ ،‬ولكن بشيء من الدهشة‪:‬‬ ‫ إيش عورفك؟!‬‫ ‪... ...‬؟‬‫ كيف عرفت إنه "أبوعمار" جاي اليو م؟‬‫أجبته مازحا وأنا أحاول أن أخفي فرحتي وأن أبدو كما لو كنت أعرف‬ ‫عن الخبر الغير معلن أكثر مما تحمل ملمحي‪:‬‬ ‫ يبدو أنها الحاسة السا دسة‪.‬‬‫أطلق لضحكته العنان‪ ،‬كعا دته أيضا‪ ،‬ثم همس لي قبل أن ينشغل‬ ‫بالحديث مع آخرين‪:‬‬ ‫ لما يوصل خليك جنبي‪ ،‬عشان أعورفه عليك‪.‬‬‫بعد الديباجة اللزمه‪ ،‬وبينما "أبوعمار" ما زال يغدق علي بترحيبه‬ ‫بطريقتة التي توحي بأنه يعرفك حق المعرفة‪ ،‬تطرق نبيل للحديث عن‬ ‫السينما‪ ،‬و دورها في العل م‪ ،‬وعن ضرورة وجو دي في "بيروت"‪،‬‬ ‫الشيء الذي كنت أسعى إليه‪.‬‬ ‫وهنا زا د انفراج شفتي "أبوعمار" عن ابتسامتة الشهيرة الواعدة‪،‬‬ ‫وعا د يغمرني بفيض من مشاعر‪،‬ه البوية الفياضة‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬طبعا‪ ..‬طبعا‪ ..‬إحنا محتاجين للشباب اللي زيك‪ .‬فإلى لقاء قريب‬‫في بيروت!‬ ‫‪248‬‬


‫ولم يلبث أن صدر قرارالقائد العا م "أبوعمار" بتفرغي للعمل في‬ ‫ دائرة "العل م الفلسطيني الموحد"‪ ..‬في بيروت‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫أما عن لقائي الول مع شاعرنا "محمو د درويش"‪ ،‬الذي اتخذ شكل‬ ‫على قدر من الطرافة‪ ،‬فل بد من التأكيد هنا بأن الفضل في معرفتي‬ ‫به‪ ،‬غيابيا‪ ،‬وتعلقي به كشاعر فلسطيني يرجع إلى الصديق الناقد‬ ‫الكبير"رجاء النقا ش" وكتاباته الشهيرة للتعريف بشعراء المقاومة‪،‬‬ ‫وللتأكيد أن هناك في فلسطين المحتلة عربا ما زالوا صامدين يدافعون‬ ‫عن حقهم وعن هويتهم‪.‬‬ ‫كنت )في فبراير ‪ (1971‬أجلس مع صديقي "مختاريونس"‪ ،‬الذي كان‬ ‫في ذلك الوقت يعمل معي مساعدا للخراج‪ ،‬في الصف الثاني من‬ ‫صالة "مسرح الطليعة"‪ ،‬لمشاهدة مسرحية "الغول"** للكاتب‬ ‫اللماني "بيتر فايس"‪ ،‬عندما حانت من الكاتب الكبير والمفكر‬ ‫"محمو د أمين العالم"‪ ،‬الذي كان يجلس أمامنا في الصف الول إلتفاتة‬ ‫أعقبها تبا دل التحية في صمت‪.‬‬ ‫لم أ در ما الذي شد إنتباهي وأثار تطلعي لتحقق من شخصية ذلك‬ ‫الجالس إلى جانبه‪ ،‬أمامي مباشرة‪ ،‬وجعلني بالتالي أطل من خلفه إلى‬ ‫الـ"بروفيل" الذي ل يخفى على أحد‪.‬‬ ‫إنه أنف "محمو د درويش"! معقول؟!‬ ‫همست له من خلفه متسائل‪ ،‬بل مقدمات‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬محمو د درويش؟‬‫______________________________________‬ ‫)**( جدير بالذكر مبلغ إعجابي بموسيقى وأغاني المسرحية المذكورة التي قام بوضع‬ ‫ألحانها الموسيقي الشاب عبد العظيم عويضه‪ ،‬مما حفزني على تكليفه بعد ذلك بوضع ألحان‬ ‫وموسيقى فيلمي الروائي "الظلل في الجانب الخر"‪ .‬وقد كانت تلك هي تجربته الولى مع‬ ‫السينما أيضا‬

‫التفت مرتبكا‪ ،‬ثم أ دار وجهه عني بتلقائية حذرة وهو يهز رأسه فيما‬ ‫يشبه النفي‪ .‬وضعت يدي على كتف د‪".‬محمو د أمين العالم"‪ ،‬الذي أحس‬ ‫‪249‬‬


‫بما يجري‪ ،‬كأنني أستنجد به ليحل هذا اللغز‪ .‬لم ينكر‪ .‬لكنه وضع سبابته‬ ‫على شفتيه ثم أر دف هامسا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬بعدين‪ ..‬بعدين‪.‬‬‫في اليا م التالية‪ ،‬تناقلت الوساط الثقافية خبر خروج‬ ‫الشاعرالفلسطيني محمو د درويش من فلسطين المحتلة ‪ 48‬ووصوله‪،‬‬ ‫سورا‪ ،‬عن طريق موسكو‪ ،‬إلى مصر للقامة فيها‪.‬‬ ‫بلغني بعد ذلك أنه كان قد حصل على منحة دراسية من أحد جامعات‬ ‫موسكو‪ .‬لكنه بعد مرور عا م قرر اللجوء إلى مصر‪.‬‬ ‫وقد تم تعيينه‪ ،‬خلل عامي ‪ 71‬و ‪ 72‬في جريدة الرهرام‬ ‫حيث قضى تلك الفترة مع "نجيب محفوظ" و"بنت‬ ‫الشاطيء" و"يوسف إدريس" في مكتب واحد‪.‬‬ ‫كم أحزنني خروج محمو د درويش من فلسطين!‬ ‫خيل إلي أن أحد رموزالصمو د في الوطن المحتل قد انهار‪ .‬كنت‬ ‫أريد‪،‬ه هناك‪ .‬كنت أتمنى أن نذهب نحن إليه ‪-‬عائدين‪ -‬إلى فلسطين‪.‬‬ ‫عند زيارة الشاعرة "فدوى طوقان" لمحمو د درويش في حيفا – إثر‬ ‫هزيمة حزيران واحتلل إسرائيل لبقية فلسطين‪ -‬قال لها‪:‬‬ ‫ ‪" ..‬أخشى أن يأتي يو م يأتي فيه نزار قباني لزيارتنا‪".‬‬‫ويبدو أن خوفه من أن يرى ذلك اليو م‪ ،‬يو م يأتي شعراء من سوريا‬ ‫والر دن ولبنان ومصر‪..‬إلخ‪ ،‬لزيارة "حيفا"‪ ،‬هوالذي جعله يفضل‬ ‫أن‪"..‬يحمل حقيبته ويسافر"‪ ،‬ول يكترث لغضب أبيه الذي كان قد‪..‬‬ ‫"نها‪،‬ه عن السفر"‪.‬‬ ‫وفي قصيدة )رب اليائل يا أبي( صرح‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬مخاطبا أبا‪،‬ه إثر‬ ‫وفاته‪:‬‬ ‫ ‪" ..‬وذهبت وحدي كي أطل على القصيدة من بعيد‪"..‬‬‫مؤكدا لنا أن تغييرالموقع‪..‬ل يعني أبدا تغيير الموقف‪.‬‬

‫‪250‬‬


‫وأيقنت بعدها أن وجو د‪،‬ه على مختلف المنصات الشعرية في مختلف‬ ‫بل د العالم كان ضروريا‪ .‬وأن خروجه من "حيفا" المحتلة أهون عليه‬ ‫وعلينا من زيارة "فدوى"‪ ،‬أو "نزار"‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬لها‪.‬‬ ‫ومرت اليا م‪..‬‬ ‫وأقنعتني‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬الشاعرة "فدوى طوقان" حين قالت أنه خرج ليبدأ‬ ‫مرحلة جديدة لبداعه الشعري‪ ،‬ولكي تقوى أكثر فأكثرعلقته بالوطن‬ ‫البعيد‪.‬‬ ‫خرج لنه يحبها لدرجة الوجع‪ ،‬وبالتالي لم يعد قا درا على البقاء فيها‪.‬‬ ‫وفهمت معنى تلك القوة التي ألحت على محمو د درويش بترك فلسطين‬ ‫المحتلة التي ظلت حاضرة في كل قصائد‪،‬ه‪ ،‬حتى عندما يتحدث عن‬ ‫مشاعر الحب‪ ..‬والغزل‪.‬‬ ‫"عيونك شوكة في القلب‪ ..‬توجعني‪ ..‬وأعبدها‪".‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ثم يأتي "أيلول السود"‪ ،‬الذي مازال يضاهي الليل سوا دا في‬ ‫تاريخنا‪.‬‬ ‫وما زال يومه الثامن والعشرين من عام السبعين بعد المُتئة التاسعة‬ ‫عشر يعو د إلينا ليذكرني بالمعنى الخر للميتم‪.‬‬ ‫ذلك حينما فقد العالم العربي رجل أعطى هذ‪،‬ه المة بحق فكرة عن‬ ‫إمكاناتها‪.‬‬ ‫قد يخالفني الرأي من يشاء‪ .‬ولكنني‪ ،‬كفلسطيني‪ ،‬ل أستطيع أن اتنكر‬ ‫لمن انفر د في يو م ما في الوقوف إلى جانبي وفي تجسيد حلمي في‬ ‫الوحدة العربية‪ ،‬والعمل على استعا دة "ما أخذ مني بالقوة‪."..‬‬ ‫والمهم بالنسبة لي‪ ،‬قبل كل شئ‪ ،‬هو المبدأ الصحيح‪ ،‬وليس القائل‬ ‫بهذا المبدأ‪.‬‬ ‫*‬

‫‪251‬‬

‫*‬

‫*‬


252


‫أم العابد‬

‫أبو العابد‬

‫‪253‬‬


‫أمي‪ ..‬وأبي‪..‬‬

‫تهاتفني شقيقتي الكبرى "محسن"‪ ،‬من السكندرية‪ ،‬صباح يو م الربعاء‬ ‫‪ 9‬ديسمبر من عا م ‪ ،1970‬بصوت كدت أن ل أتعرف على صاحبته‪.‬‬ ‫تطلب مني الحضور لمرها م‪ ،‬وهي التي تعرف مدى إنشغالي في‬ ‫التحضير لفيلمي الروائي الول‪ .‬لم أستطع إزاء إصرارها إل أن‬ ‫أستقل سيارتي وأسارع بالسفر‪.‬‬ ‫ويعلم ا كيف نهبت عجلت سيارتي الطريق الزراعي من القاهرة‬ ‫إلى السكندرية‪.‬‬ ‫كانت أمي‪ ،‬في الفترات الخيرة‪ ،‬تعاني من مرضها بذات القلب‪.‬‬ ‫هل اشتد المرض لدرجة تستدعي حضوري؟‬ ‫فتحت لي الباب شقيقتي الخرى"منوور"‪ ،‬وانفجرت باكيــة وهــي تلهــج‬ ‫ ‪..‬أبوك‪..‬أبوك يا غالب!‬‫لحقت بها "محسن" وهي تحاول أن تهدئها خوفا من أن تصحو والــدتي‬ ‫فتعرف الخبرالذي أوصى الطبيب بعــد م تســربه إليهــا‪ .‬ثــم ســاقتنا إلــى‬ ‫غرفة الصالون‪ ،‬وأغلقت الباب بحرص‪.‬‬ ‫*‬

‫‪254‬‬

‫*‬

‫*‬


‫لم تحتمل أعصاب أبي تلك النوبة من نوبات المرض التي كانت‬ ‫تصيب "إ م العابد"‪ ،‬أمي‪ .‬بات يتمتم‪ ،‬في غدو‪،‬ه ورواحه وبعد صلواته‬ ‫وقبل نومه وبعد صحو‪،‬ه‪ ،‬بدعواته المستجيرة بال وبرحمته‪.‬‬ ‫"يا خفي اللطاف‪ ..‬ألطف بنا يارب‪".‬‬ ‫هذا إضافة إلى دعوته المعروفة كلما أصاب "إ م العابد" مكروها‪.‬‬ ‫"ربنا يجعل يومي قبل يومك يا رشيد‪،‬ه"‪.‬‬ ‫لحظ الطبيب توتر‪،‬ه وشحوبه‪ ،‬فكان أن أوصا‪،‬ه بالنتقال للنو م في‬ ‫غرفة أخرى غيرغرفتهما‪.‬‬ ‫وفي فجر ذلك اليو م‪ ،‬لحظت "محسن" هدوءا غيرعا دي يغمرالبيت‪.‬‬ ‫لم تسمع خطوات والدي وتنقلته بين الغرفة والحما م والصالة التي‬ ‫تعو د أن يقيم فيها صلة الفجر في موعدها‪ ،‬حاضرا‪ ،‬ومن ثم يبدأ في‬ ‫تلوة آيات من القرآن بصوت مسموع‪.‬‬ ‫كان من الطبيعي أن تؤثر شدة التوتر والسهد والرق على موعد‬ ‫صحيان "أبوالعابد" لممارسة طقوسه الفجرية‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬وبالرغم من ذلك فقد نهضت الشقيقة الكبرى ليطمئن قلبها‪.‬‬ ‫كانت أسارير‪،‬ه توحي بالراحة‪..‬البدية‪.‬‬ ‫وبهدوء العقلء‪ ،‬اتصلت بالطبيب الذي قا م بتحرير شها دة الوفاة‬ ‫وبالتصال بسيارة المستشفى لنقله إلى بيت الشقيقة "إكتمال" في‬ ‫منطقة سموحه‪ ،‬من حيث تقرر أن تتم مراسيم الدفن‪ .‬كل ذلك بدون أن‬ ‫تشعرال م بما يجري‪ .‬فلقد احتاط الطبيب لذلك‪ ،‬بإعطائها ما يلز م من‬ ‫المهدئات أو المنومات‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في اليو م التالي‪ ،‬فوجأئت أمي بوجو دنا‪ ،‬أخي"عابد" القا د م من‬ ‫السعو دية‪ ،‬في غير موعد‪ ،‬وأنا التي من القاهرة بالرغم من إنشغالي‪.‬‬ ‫ولم يكن من الصعب أن نؤلف لها "سيناريو" مفصل يفسر ويبرر كل‬ ‫ما كان يثير دهشتها وشكوكها حول غياب "أبوالعابد"‪ .‬وكان الطبيب‬

‫‪255‬‬


‫قد قا م بدور‪،‬ه في إقناعها بوجوب إنفصالهما لبضعة أيا م حرصا على‬ ‫صحة الطرفين‪.‬‬ ‫إل أن نظرتها المتأرجحة بيني وبين أخي‪ ،‬وابتسامتها التي كانت‬ ‫تحمل صنوف المعاني‪ ،‬كانتا تحملن إلينا إيحاء بأنها قد رضيت‬ ‫بالمر الواقع‪ .‬وفي بعض الحيان كانت تستجمع شجاعتها وتسأل‬ ‫برجاء يائس‪ :‬فين "أبوالعابد"؟‬ ‫وعندما ل يشفى غليلها من إجاباتنا المراوغة‪ ،‬كانت تعو د إلى‬ ‫ابتسامتها الموجعة‪ ،‬ذات المعاني‪.‬‬ ‫ومع ذلك فقد أصر الطبيب على الستمرار في تأ دية ال دوار‪ ،‬بالرغم‬ ‫من تحسن صحة أمي تحسنا ملحوظا جعله يلح في طلبه أن يغا در كل‬ ‫منا السكندرية لللتحاق بأعماله‪.‬‬ ‫سافر أخي "عابد" بعد أيا م ثلثة‪ ،‬وبعد أن تم التفاق على أن أبقى‬ ‫لحضور أول "خميس" لتقبل العزاء في والدي كما تقتضي التقاليد‪.‬‬ ‫ظل متماسكا حتى اللحظة الخيرة‪ ،‬حيث أفلتت منه دموعه‪ ،‬لول‬ ‫مرة‪ ،‬بينما كنت أو دعه في المطار‪.‬‬ ‫نويت العو دة إلى القاهرة في مساء يو م الجمعة‪ .‬لكن شيئا ما في‬ ‫نظرات أمي كان يستبقيني‪.‬‬ ‫في فجر يو م السبت ‪ 19‬ديسمبر ‪ ،1970‬أيقظتني "محسن" سائلة إن‬ ‫كنت أرغب في رؤية أمي قبل أن تسلم الروح‪.‬‬ ‫كانت عيناها ما زالتا ترسلن تلك الشارات الصامتة المبهمة التي‬ ‫حرت في تفسيرها‪.‬‬ ‫قرأت فيهما تارة شيئا من التها م لنا بتقصير ما‪.‬‬ ‫ورأيت فيهما تارة أخرى شيئا من العتاب‪.‬‬ ‫ثم أمعنت النظر‪ ،‬فإذا هي نظرات تتأرجح بين الرجاء‪ ..‬والرضاء!‬ ‫*‬

‫‪256‬‬

‫*‬

‫*‬


‫خلل عشرة أيا م فقدت الب وال م‪ ،‬أنا الذي كنت أموني النفس‬ ‫بلحظات السعا دة التي سوف يضفيها نجاح مشروعي الثقافي‬ ‫والوطني عليهما‪ .‬ذلك النجاح الذي كنت أرى فيه تعويضا لهما عن‬ ‫سنوات غربتي الطويلة عنهما‪.‬‬ ‫ل أذكرعد د اليا م الكئيبة التي تلت ذلك‪ .‬لكنني أذكر أن صديقي‬ ‫"مختار يونس"‪ ،‬الذي كان يفترض أن يكون مساعدي في الفيلم الذي‬ ‫وافقت مؤسسة السينما على إنتاجه‪ ،‬بالشتراك مع "جماعة السينما‬ ‫الجديدة"‪ ،‬جاء إلى السكندرية لنتشالي من أحزاني‪.‬‬ ‫وكان العمل‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬هو فعل "بلسم الحزان"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪257‬‬

‫*‬


258


259


‫جريدة الرهرام ‪25/7/74‬‬

‫‪260‬‬


261


‫الظلل في الجانب الخر"‬

‫كما سبق وأن ذكرت في البداية أن فكرة تسجيل تجربتي السينمائية‪،‬‬ ‫بشكل عا م‪ ،‬كانت قد خطرت لي‪ ،‬أوعلى الصح قد تبلورت‪ ،‬بينما أنا‬ ‫أكتب المقالة التي طلبتها مني مجلة "أ دب ونقد" القاهريه‪ ،‬كمساهمة‬ ‫في الملف الخاص الذي تعد‪،‬ه المجلة عن الكاتب الروائي والمسرحي‬ ‫"محمو د دياب"‪ ،‬بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫هكذا بدأت مقالتي أو مساهمتي في ذلك الملف‪:‬‬ ‫أن نقوم بإحياء ذكرى مبدعينا بعد رحيلهم‪ ،‬ففي ذلك تكريم لهم‬ ‫يقتضيه الوفاء‪ .‬ولكن أن يقتصر هذا التكريم على شعائر تقام كل عشر‬ ‫سنوات‪ ،‬أو حتى كل سنة‪ ،‬فذلك هو أضعف اليمان‪ .‬بل هو في رأيي‬ ‫أشد الكفر‪ ..‬والجحود!‬ ‫هل صدرت طبعة واحدة من "العمال الكامله" لمحمود دياب؟‬ ‫هل أخذت أعماله المسرحيه حقها على مسارح الدوله؟‬ ‫هل تحولت رواياته أو قصصه الى أعمال درامية في التلفزيون؟‬ ‫ولنترك الحديث عن السينما‪ ،‬لنه لم يعد هناك وجود للقطاع‬ ‫السينمائي العام الذي كان يمكن أن يتحمل مثل هذا "العبء"!‬ ‫ففي أيام "عز" القطاع العام‪ ،‬احتاجت "جماعة السينما الجديد ه" لما‬ ‫يقارب الثل ث سنوات من النضال لكي تحول إحدى روايات محمود‬ ‫دياب الى فيلم سينمائي‪ .‬ذلك بعد أن تنازل هو وحشد من الفنانين‬ ‫والفنيين عن أجورهم لكي يتحقق ذلك‪.‬‬ ‫ما زال هناك بصيص من المل‪ .‬وهو أن تتاح الفرصة لحد‬ ‫"المناضلين" في التلفزيون ‪ -‬بالذات‪ -‬لن يجمع ما يستطيع جمعه من‬ ‫الرشيف‪ ،‬ويحاول أن يضيف سهرة قيمة الى سهرات التلفزيون‪.‬‬ ‫‪262‬‬


‫وأعني "تحقيقا" يوفي محمود دياب بعضا من حقه‪ ..‬يحيي ذكرا ه‪..‬‬ ‫ويعرف الجيال به‪.‬‬ ‫وإذا كان ذلك البصيص قد اختفى من أفق السينما بعد تدفق "مشاريع‬ ‫الخصخصة"! فما يدريك؟‬ ‫فقد تبلغ الجرأة بصندوق النقد الدولي‪ ،‬مثلما أوصى بالمس ببيع‬ ‫"ميناء العقبة" للقطاع الخاص‪ ،‬أن يوصي ببيع التلفزيون‪ ،‬ومن‬ ‫قبله أو من بعد ه‪ ،‬أن يوصي ببيع قناة السويس أيضا!‬

‫لكن صديقي الناقد ال دبي "فاروق عبد القا در"‪ ،‬الذي كان قد قا م‬ ‫بترشيحي لهذ‪،‬ه المساهمة‪ ،‬كان يرى ويحبذ حذف تلك المقدمة‪.‬‬ ‫وظهرت المقالة في العد د ‪ 89‬من مجلة "أ دب ونقد" الصا درة في‬ ‫أكتوبر ‪ 1993‬كما يلي‪:‬‬

‫‪263‬‬


‫"حكايات مع محمو د دياب"‬

‫تعــدد مصـادر النــور‬

‫لدى عو دتي‪ ،‬بعد حوالي أحد عشرعاما قضيتها بعيدا عن الوطن‬ ‫العربي‪ ،‬كان ل بد من أن أحاول ‪-‬بالقراءة‪ -‬أن أعوض‪ ،‬بقدر‬ ‫المكان‪ ،‬وأن أستزيد من أسباب التواصل مع مجتمعي القديم الجديد‪.‬‬ ‫ل سيما وأن عملي سوف يعتمد إعتما دا وثيقا على هذا التواصل‪.‬‬ ‫كان‪ ،‬طيب الذكر‪ ،‬سورالزبكية‪ ،‬هوأحد المصا در بل أهمها‪ ،‬إذا‬ ‫أخذنا "الدخل" المتواضع المحدو د للموظف بعين العتبار‪ .‬فقد‬ ‫مو ر‬ ‫ظف م‬ ‫ت‪ ،‬في نهاية عا م ‪ ،67‬مخرجا في قسم التمثيليات بالتلفزيون‪.‬‬ ‫كانت رواية "الظلل في الجانب الخر" إحدى الغنائم التي خرجت‬ ‫بها من جولتي الروتينية الكثيرة حول "السور"‪ .‬وكنت‪ ،‬في ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬أبحث عن "نص" يصلح لول تمثيلية سهرة تلفزيونية سأقو م‬ ‫بإخراجها‪.‬‬ ‫أخذتني الروايـة‪ ،‬ابتـداء مــن عنوانهـا الغنـي باليحـاءات‪ ،‬الـى أجــواء‬ ‫الفنانين التشكيليين التي لم أكن بعيدا عنها‪.‬‬ ‫الشباب الباحث عن مصابيحه في عتمة الضياع‪ ،‬بين افتقا د‬ ‫للحساس بالستقرار والمان‪ ،‬وأمل في مستقبل أفضل يلوح بريقه ثم‬ ‫يخبو‪ ،‬حسب اتجا‪،‬ه رياح الصراعات الدولية التي تؤثر في أوضاع‬ ‫المنطقة بكاملها‪.‬‬ ‫موهد "محمو د دياب" لذلك ببراعة مذهلة‪ ،‬في تلك "العووامة" التي‬ ‫تسكنها مجموعة من طلبة كلية الفنون الجميله‪ ،‬ينتمون الى أماكن‬ ‫متباعدة من )الوطن العربي( مصر‪.‬‬ ‫‪264‬‬


‫"العووامة" المهتزة دوما من تحتهم‪ .‬المرتبطة بأرض الواقع بحبال‬ ‫قديمة واهية‪ ،‬وجسر خشبي ل يكف عن النين تحت وطأة أقدا م‬ ‫العابرين‪ .‬وذلك العالم المتضارب من اللوان والتكوينات والنظريات‬ ‫والمذاهب‪ ..‬والصوات والمشاعر‪ ..‬والعمل والفشل‪ ..‬والمحاولة‬ ‫والمل‪ ..‬والرفض‪ ..‬والصرار‪ ..‬والحب‪ ..‬والغيرة‪ ..‬إلخ‬ ‫كل ذلك في رواية ظهرت في عا م ‪.1963‬‬ ‫هل كان محمو د دياب يستشعر الهوزات؟‬ ‫هل كان يحذر من كارثة أسموها بعد ذلك بالنكسه؟‬ ‫لقد لمست سخريته المريرة من بعض الشعارات النبيلة في تلك‬ ‫المرحله‪ ،‬مند دا بذلك بأسلوب التعامل مع تلك الشعارات‪.‬‬ ‫كان ل بد من أن أتعرف بهذا الكاتب الذي أعترف بأنني ‪ -‬حتى ذلك‬ ‫الوقت‪ -‬لم أكن قد قرأت له‪ .‬ولم يكن ذلك لقلة شأنه بين الكتاب العرب‪.‬‬ ‫ولكن لجهلي‪ ،‬نظرا لغربتي الطويلة التي اقتضتها ظروفي و دراستي‪.‬‬ ‫استقبلني "محمو د دياب"‪ ،‬في بيته‪ ،‬إثر مكالمة تلفونية قصيرة جرت‬ ‫بيننا‪ ،‬وكأنه على يقين بما كنت أريد استيضاحه‪.‬‬ ‫أو كأنه يستأنف حوارا يفترض أنه دار بيننا قبل ذلك‪.‬‬ ‫ هل استخلصت أي رموز من الروايه؟‬‫ إطلقا! وأنا لست مغرما بالترميز بمفهومه السائد!‬‫ إذن‪..‬إتفقنا‪.‬‬‫وعرفت‪ ،‬ربما لول مرة‪ ،‬معنى التعبيرال دبي "ضحك فلن بملء‬ ‫فيه"‪ .‬كان محمو د يضحك بملء فيه‪ ،‬وتحمل ضحكاته جزءا هاما‬ ‫مكمل لمعنى الجملة التي يقولها‪ .‬سألته‪:‬‬ ‫ هل يمكنني حذف إحدى الشخصيات‪ ،‬أو إضافة شخصيات جديد‪،‬ه؟‬‫ )مبتسما( طبعا!‬‫ وهل أستطيع أن أغير زمن الرواية‪ ،‬بحيث يصبح ما بين عامي‬‫‪ 66‬و ‪ 67‬؟‬ ‫‪) -‬ضاحكا بملء فيه( يا ريت!‬

‫‪265‬‬


‫التحفظ الوحيد الذي أصرعليه محمو د دياب هو "العوامه"‪ .‬وكان‬ ‫يعني أن إمكانات التلفزيون لن تستطيع أن تعطي المكان حقه‪.‬‬ ‫وحكى لي عن تجربة "نص" كتبه للتلفزيون‪ ،‬وتم رفضه بسبب‬ ‫صعوبة بناء " ديكورات" الماكن التي تجري فيها الحداث‪ .‬كان اسم‬ ‫التمثيلية "رحلة عم مسعو د"‪.‬‬ ‫كنت قد نسيت أن أقـد م ل ه نفسـي كمخـرج سـينمائي فـي الصـل‪ ،‬وأن‬ ‫عملي في التلفزيون هو مجــر د "مرحلــه"‪ .‬وأننــي شــرعت فــي وضــع‬ ‫تصوري لـ ض"الظلل في الجانب الخر" كفيلــم ســينمائي‪ .‬فعــا د يضــحك‬ ‫بملء فيه‪ .‬وأخذ يحدثني عن صديقه المخرج التلفزيوني الذي "رحــل"‬ ‫بأحد نصوصه‪ ،‬ولم يعد‪ .‬ثم عا د وحدثني‪ ،‬بوجد مــن فقــد عزيــزا‪ ،‬عــن‬ ‫"رحلة عم مسعو د"‪.‬‬ ‫ولم يفته أن يسألني‪ ،‬في نهاية لقائنا‪:‬‬ ‫ما دمت ل تنوي عمل "الظلل‪ "...‬في التلفزيون‪ ،‬فهل يا ترى‬ ‫وجدت "المنتج السينمائي"؟‬ ‫قلت ببراءة شديد‪،‬ه‪:‬‬ ‫ ل‪ .‬المهم أن يصبح لدينا "سيناريو" جاهز!‬‫سألني‪:‬‬ ‫ من أنتم؟‬‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫في عا م ‪ ،68‬أعلنت "جماعة السينما الجديدة"** عن نفسها‪ .‬رافضة‬ ‫كل ما من شأنه أن يقيد حرية البداع السينمائي من تقاليد إنتاجية‪..‬‬ ‫ورقابة‪ ..‬إلخ‬ ‫___________________________________________________‬ ‫)**( أحمد راشد‪ /‬احمد متولي‪ /‬ألفريد ميخائيل‪ /‬حسين عبد الجواد ‪ /‬خيريه البشلوي ‪ /‬داود‬ ‫عبد السيد‪ /‬رحمه منتصر‪ /‬رأفت الميهي‪ /‬سامي السلموني‪ /‬سامي المعداوي‪ /‬سعيد‬ ‫الشيمي‪ /‬سمير فرج‪ /‬سمير فريد ‪ /‬صبحي شفيق‪ /‬عادل منير‪ /‬عبد الحميد سعيد‪ /‬علي‬ ‫أبو شادي‪ /‬علي عبد الخالق‪ /‬غالب شعث‪ /‬فؤاد التهامي ‪ /‬فؤاد فيظ ا‪ /‬فايزغالي‪/‬‬ ‫فتحي فرج‪ /‬مجيد طوبيا ‪ /‬محمد راضي ‪/‬محمود عبد السميع ‪/‬مختار يونس‪ /‬نفيسه‬ ‫نصر‪ /‬نبيهه لطفي‪ /‬هاشم النحاس‪ /‬يوسف شريف رزق ا‪ /‬وغيرهم‪.‬‬ ‫)مع العتذار للسهو أوالخطأ (‬

‫‪266‬‬


‫وأفر دت لنا‪ ،‬في ذلك الحين‪ ،‬مجلة "الكـواكـب" مساحة صفحتين‬ ‫أسموها "مجلـة الغاضبيـن"‪ .‬والحقيقة أنه لم يكن لنا دور في تلك‬ ‫التسمية‪ .‬ولو أتيحت لنا فرصة الختيار لسميناها "مجلة المتفائلين"‬ ‫مثلا! فقد كانت غالبيتنا من خريجي معاهد السينما الباحثين عن‬ ‫ذواتهم‪ ،‬المجمعين على أن السينما التي نريدها ل يمكن تحقيقها إل‬ ‫من خلل أساليب جديدة في النتاج والتوزيع‪ ،‬تتمتع بحرية في اختيار‬ ‫الموضوع ‪-‬المعاصر‪ -‬واختيار الممثلين المناسبين‪ ،‬بدون الوقوع في‬ ‫شباك "الشوباك"!‬ ‫هذا‪ ..‬بالضافة الى اللغة السينمائية السليمه‪.‬‬ ‫ومرة أخرى‪ ..‬حرية التعبير!‬ ‫المهم أننا بدأنا بالتعبير عن أنفسنا‪ ،‬وتعريف الخرين بنا‪ ،‬وبحركات‬ ‫التجديد السينمائية المنتعشة في ذلك الوقت في كل مكان‪ .‬مثل الموجة‬ ‫الجديدة في فرنسا‪ ،‬والسينما الشابه في ألمانيا‪ ،‬وسينما الشاطيء‬ ‫الشرقي في أمريكا ومسميات أخرى‪ ..‬في أماكن أخرى‪.‬‬ ‫سألني محمو د دياب عن "السلوب الجديد" في النتاج‪ .‬فحكيت له‬ ‫ على سبيل المثال‪ -‬قصة أسرة "شاموني" اللمانيه‪ ،‬الذين كوونوا‪،‬‬‫في بداية الستينات‪ ،‬فريقا سينمائيا تعاون مع بعض الصدقاء‪ ،‬وبدأوا‬ ‫إنتاجهم بفيلم كان بداية موجة "السينما اللمانية الشابه"!‬ ‫وقد تميز الفيلم بعد د محدو د من الشخصيات‪ ،‬وقصة تعالج مشكلة من‬ ‫مشاكل الشباب في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫كانت بيوتهم ومكاتبهم هي أماكن التصوير الداخليه‪ ،‬بالضافة الى‬ ‫الشوارع والحدائق العامه‪ .‬وكانوا جميعهم يعملون في مختلف‬ ‫العمال‪ ،‬ليدخروا بعض المال الكافي لشراء بعض الموا د الخا م‪،‬‬ ‫والمصاريف اللزمة لتصوير جزء من الفيلم‪ ،‬الذي يقو م بأ دوار‪،‬ه‬ ‫ممثلون ناشئون‪ ،‬أو هواة‪ .‬ثم يتوقفون لمعاو دة العمل‪ ،‬وجمع بعض‬ ‫المال مرة أخرى‪ ..‬وهكذا!‬ ‫قال لي محمو د دياب بحماسة شديدة‪:‬‬ ‫ ما تعملوا زيهم! وأنا كمان مش عاوز حاجه منكم‪ .‬أنا مساهم معكم‬‫بالروايه بتاعتي!‬ ‫‪267‬‬


‫ثم ذكر لي اسم منتج "عربي" يدعي أنه يحب التعاون مع المخرجين‬ ‫الشبان!‬ ‫ إبقوا شوفو‪،‬ه‪ ..‬مش غلط!‬‫والحقيقة أن مسألة التمويل لم تكن تؤرقني في البدايه‪ .‬فقد كنت أرى‪،‬‬ ‫فعل‪ ،‬أن وجو د "السيناريو" الجاهز للتصويرهوالمهم‪ .‬وبعد ذلك تبدأ‬ ‫عملية البحث عن التمويل‪ .‬فها هو المنتج "العربي" الذي سمع عنه‬ ‫محمو د دياب‪ ،‬دليل عل عد م وجو د مشكلة‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬بالضافة الى ذلك الثري "المستنير"‪ ،‬الذي كان يؤمن بموهبة‬ ‫شقيقته الصغرى‪ ،‬والذي استعد أن يساهم في انتاج "فيلم نظيف"‬ ‫حسب تعبير‪،‬ه‪ -‬تقو م شقيقته ببطولته‪ ،‬رغبة منه في إيجا د "فرصة"‬‫لظهورها وتحقيق أحلمها‪.‬‬ ‫ووافقت "جماعة السينما الجديدة" على تلك الفكرة‪ .‬خصوصا وأن‬ ‫الفتاة كانت في عمر "روز"‪ ،‬بطلة الرواية المراهقة البريئة‪ ،‬التي لم‬ ‫يكن من السهل إيجا د ممثلة في سنها تقو م بدورها‪ .‬هذا بالضافة إلى‬ ‫أنها كانت تمتلك بعض الموهبة‪ ،‬وأنني تعهدت بالقيا م بإعدا دها‬ ‫كممثلة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫لم ألتق بمحمو د دياب إل بعد عا م أو يزيد‪ .‬كنت خلله قد انتهيت من‬ ‫كتابة السيناريو‪ ،‬وأخرجت للتلفزيون أول أعمالي وهو"التركه"‬ ‫لنجيب محفوظ‪ .‬وأذكر ذلك لن الكاتب الكبير قال لنا‪ ،‬كاتب‬ ‫السيناريو"مجيد طوبيا" وأنا‪ ،‬نفس الجابة التي سمعتها من محمو د‬ ‫ دياب‪:‬‬ ‫ تلك هي روايتي‪ .‬كتبتها لكي تقرأ‪ .‬أما أنت فلك "لغتك" الخاصة‪،‬‬‫ولك أن "ترويها" كما تشاء!‬

‫‪268‬‬


‫وإذا كان عنوان القصيدة هو تجربتي"كمخرج سينمائي" مع محمو د‬ ‫ دياب "الكاتب"‪ ،‬فإن "بيت القصيد"‪ ،‬بمفهومي‪ ،‬هو أن أتحدث‪ ،‬على‬ ‫ضوء هذ‪،‬ه التجربة‪ ،‬عن "الرواية ال دبية"‪ ،‬وعن إعا دة "روايتها" بلغة‬ ‫السينما‪.‬‬ ‫وهذا هو التعبير الذي أفضل أن أطلقه على عملي هذا‪ .‬ول يعنيني‬ ‫الصطلحات الخرى مثل التحويل‪ ..‬أوالقتباس‪ ..‬أوالفلمه‪..‬‬ ‫أوالعدا د‪ ..‬إلخ‪ .‬وهذا الموضوع يحتاج إلى"أعدا د خاصة" من‬ ‫المجلة‪ ،‬وجولت من البحث والدراسة والحوار‪ ،‬وإعا دة النظر‪.‬‬ ‫وذلك للوصول الى حل لمسألة المصطلح النقدي العربي‪ .‬وأخص‬ ‫بالذكر ما يتعلق بالسينما‪ .‬لن الناقد السينمائي العربي قد آثر‪ ،‬في كثير‬ ‫من الحيان‪ ،‬أن يختصرالطريق‪ ،‬وأن يوفرعلى نفسه مشقة البحث‬ ‫عن قواعد‪،‬ه وأصوله الخاصه‪ .‬بل إنه كثيرا ما كان يسلك الطريق‬ ‫الكثر سهولة فيستعيرالمصطلح النقدي ال دبي‪.‬‬ ‫وعندما يريد أحدهم أن يتميزعن غير‪،‬ه من النقا د‪ ..‬نجد‪،‬ه "يتلذذ"‬ ‫باستخدا م اصطلحات نقدية أجنبية‪ ،‬ناسيا أو متناسيا أن "لكل مقا م‬ ‫مقال"‪.‬‬ ‫ليس صحيحا أن "الصورة" هي مفر دة "اللغة السينمائية" مثلما أن‬ ‫"الكلمة" هي مفر دة "اللغة ال دبيه"‪ .‬فها هوال ديب ل يكف عن‬ ‫محاولة خلق "الصور" ليراها القاريء بمخيلته‪ .‬وفي الناحية‬ ‫الخرى‪ ،‬هل استطاع السينمائي ‪ -‬حتى في أيا م السينما الصامتة‪ -‬أن‬ ‫يستغني عن "الكلمه"‪ ،‬بالرغم من تعد د أ دواته التعبيريه؟‬ ‫في البدء كانت الكلمة تتحمل عبء خلق الصورة لدى المتلقي‪.‬‬ ‫كانت هناك "صورة الكلمة"‪ ،‬التي لم تستطع "صورة اللة" أن‬ ‫تضاهيها جمال وإيحاء‪.‬‬ ‫إن جدلية العلقة بين "الصورة" و"الكلمة" تعو د بنا الى فجر التاريخ‪،‬‬ ‫عندما كان النسان الول يقو م بأولى محاولته لتسجيل انطباعاته‪.‬‬ ‫وتاريخ الحضارة يؤكد لنا أن أولى أ دوات التعبير‪" ،‬تسجيل" أو‬ ‫"كتابة"‪ ،‬كانت هي الصور‪،‬ه‪ .‬بل وتشهد الرسو م القديمة التي وجدت‬ ‫‪269‬‬


‫على جدران مغارات "ألتاميرا" في اسبانيا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬أن النسان‬ ‫الول حاول‪ ،‬أيضا‪ ،‬أن يحرك الصورة‪ .‬أو‪ ،‬بتعبير أ دق‪ ،‬أن يسجل‬ ‫الحركة‪ ،‬أو أن يعبر عنها في رسوماته‪.‬‬ ‫ولكن يبدو أن النسان الول قد "أرجأ" استكمال محاولته في‬ ‫تحريك الصورة الى أن يصل الى صناعة "الله" أولا‪.‬‬ ‫واكتفى أحفا د‪،‬ه بمحاولت "تحريك" الكلمة‪ .‬وأعني بذلك خلق علقات‬ ‫بين الكلمات‪ ،‬من شأنها أن تثري مدلولها‪ ،‬وتؤ دي الى "صور" ومعان‬ ‫جديدة‪ .‬وتصل باللغة المحكية أو المكتوبة الى الكتشافات التي‬ ‫توارثناها‪ ،‬وما اصطلح على تسميتها بالبلغة‪ ،‬والبديع‪ ،‬والبيان‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫لتصبح اللغة )المحكية أو المكتوبة( في كامل لياقتها‪ ،‬ولتكون أكثر‬ ‫تعبيرا عن الحاسيس البشرية‪ ،‬التي از دا دت تعقيدا باز ديا د وتشعب‬ ‫التجربة النسانية ذاتها‪.‬‬ ‫وبمجر د أن توصل النسان‪ ،‬في العصرالحديث‪ ،‬الى اللة وطورها‬ ‫وطوعها لحتياجاته المختلفة‪ ،‬عا د لمواصلة محاولته في تحريك‬ ‫الصور‪،‬ه‪ ..‬فكانت "السينماتوجرافيا"‪.‬‬ ‫وظلت "السينماتوجرافيا" اختراعا‪ ،‬أو‪ ،‬كما وصفها الناقد المؤر خ‬ ‫"جورج سا دول"‪ ..‬صناعة يدوية‪ ،‬لفتت أنظار رجال العمال‪.‬‬ ‫إلى أن وضع المبدعون من رووا د السينما القواعد والنظريات في‬ ‫جماليات "اللغة السينمائيه"‪ .‬ومارسوا كل ضروب البلغة‬ ‫والمحسنات البديعية في تعبيراتهم السينمائيه‪ ،‬من تشبيه‪ ،‬واستعارة‪،‬‬ ‫وكناية‪ ،‬وجناس‪ ،‬ومطابقة‪..‬إلخ‪.‬‬ ‫إلى أن اكتملت تجربة دمج "المؤثرالبصري" مع "المؤثرالسمعي"‪،‬‬ ‫كلمة‪ ،‬وموسيقى‪ ،‬وما إلى ذلك من المؤثرات الصوتية الخرى‪.‬‬ ‫عندها أصبحت السينما‪ ،‬بحق‪" ،‬الفن السابع"!‬ ‫وعلى الرغم من أن رجال العمال‪ ،‬الذين لفت أنظارهم ذلك‬ ‫الختراع‪ ،‬قد استعانوا بال دب ‪ -‬قصة أو رواية‪ -‬كمصدر للحدث‪،‬‬ ‫الذي أصبحت "السينماتوجرافيا" قا درة على روايته‪ ،‬مستثمرين رواج‬ ‫تلك العمال ال دبية ل أكثر‪ ،‬إل أن المبدعين ظلوا ينظرون بعين‬ ‫‪270‬‬


‫خ و‬ ‫لقة الى مسألة التزاوج‪ ،‬الذي كان من الطبيعي أن ينشأ بين ال دب‬ ‫والسينما‪ .‬فالبداع ال دبي‪ ،‬كما قلت‪ ،‬لم يتوقف عن محاولة خلق‬ ‫الصورة وتحريكها في مخيلة القاريء‪.‬‬ ‫والسينما قا درة على تجسيد تلك "الصور"‪ ،‬وفي بعض الحيان‪ ،‬على‬ ‫كبح جماح الخيال الذي يتمتع به القاريء‪ ،‬لكي ل يتجاوز ما يرمي‬ ‫إليه ال ديب‪ ..‬شيء من الواقعيه!‬ ‫ربما صارت إحدى مهمات الرواية ال دبية هي رفد السينما‬ ‫بالموضوعات‪ ،‬لو جف المعين‪ .‬وربما أصبحت إحدى مهمات السينما‬ ‫هي نشر العمل ال دبي‪ ،‬أو التعريف به‪ ،‬على نطاق أوسع من الكتاب‪.‬‬ ‫خصوصا حيث ترتفغ نسبة الميه‪.‬‬ ‫لكن ضربا من ضروب البداع السينمائي‪ ،‬له دوافعه ومبرراته‪ ،‬ما‬ ‫زال وسيظل يعتني بإعا دة "رواية" القصة‪ ،‬أو الرواية ال دبيه‪.‬‬ ‫هنا نعو د الى موضوعنا‪ .‬حيث أو د أن أؤكد أنه ل بد من أن يحمل‬ ‫العمل السينمائي‪ ،‬المبني على عمل أ دبي‪ ،‬مبررات ظهور‪،‬ه في هذا‬ ‫الثوب الجديد‪ ،‬أوهذ‪،‬ه اللغة الخرى‪ .‬وهي نفس المبررات التي يحملها‬ ‫ظهور عمل أ دبي يعالج قضية سبقت معالجتها في عمل أ دبي آخر‪.‬‬ ‫إنه‪ ،‬في نظري‪ ،‬محاولة إلقاء أضواء جديدة‪ ،‬من زوايا جديدة‪ ،‬على‬ ‫شخصية ما أو حدث ما أوعلقات ما‪ ،‬من شأنها‪ ،‬على القل‪ ،‬أن‬ ‫تخفف من حدة الظلل‪.‬‬ ‫أعو د بالذاكرة الى ذلك الخلف الذي نشأ بين "محمو د دياب"‪،‬‬ ‫ككاتب سيناريو‪ ،‬وبين مخرج ومنتج أحد الفل م المأخوذة عن‬ ‫"رواية عالميه"! كان سبب الخلف‪ ،‬الذي أ دى الى انسحاب محمو د‬ ‫في النهاية‪ ،‬هو مفهو م التعريب أو التمصير عند "رجال العمال الذين‬ ‫لفت نظرهم إختراع السينما "‪.‬‬ ‫ل يكفي‪ ،‬مثل‪ ،‬أن نطلق على "هار دي" اسم "هريدي"‪ ،‬ونمضي في‬ ‫ترسيمه‪ ،‬وإلباسه أثوابا ليست له‪ ،‬بينما اللف من هذا "الهار دي"‬ ‫يتجولون بيننا بأسماء مختلفة‪.‬‬ ‫‪271‬‬


‫إن "تمصير" الشخصية هو البحث عن شخصية مصرية لها‬ ‫مبرراتها الخاصة‪ ،‬و دوافعها الناتجة عن بيئتها لنفس السلوك الذي‬ ‫سلكته الشخصية الصلية‪" ..‬هار دي"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كنت أشعر‪ ،‬بعد منحي الضوء الخضر من "محمو د دياب"‪ ،‬أنني‬ ‫أحمل في يدي "كشافا" أسلطه على مواقع معينة من الرواية‪ .‬وفي يدي‬ ‫الخرى عدسة مقربة‪ ،‬أو مكبرة‪ ،‬أضعها فوق كلمات معينة‪ .‬وأشعر‬ ‫أيضا أنني من خلل "رواية" محمو د دياب‪ ،‬بلغته ال دبية‪ ،‬قد تعرفت‬ ‫على شخوص وأماكن وأحداث وعلقات أثارت إهتمامي‪ ،‬مما وولد‬ ‫عندي الرغبة الملحة في إعا دة "روايتها" باسلوبي الخاص‪ ،‬ولغتي‬ ‫السينمائيه الخاصة‪.‬‬ ‫هل هوالفارق بين "البورتريه" المرسو م باللوان الزيتية أو المائية‪،‬‬ ‫والصورة الفوتوجرافية التي تلعب فيها الضاءة وزاوية التصوير‬ ‫ونوع العدسة دورا هاما؟‬ ‫نسيت أن أقول أننا‪" ،‬جماعة السينما الجديدة"‪ ،‬في ذلك الوقت لم نكن‬ ‫نملك رفاهية الحلم بعمل فيلم باللوان! بالرغم من أن أجواء كلية‬ ‫الفنون التي كانت خلفية الحداث كانت تقتضي ذلك‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫قلت أن كتابة السيناريو استغرقت ما يزيدعن العا م‪ .‬وكانت "روز"‬ ‫البطلة قد كبرت عاما آخر‪ .‬وجاءتها "الفرصة" الحقيقية على شكل‬ ‫عريس ثري)!(‪ .‬فكان ل بد من أن أسعى لمقابلة ذلك المنتج الذي‬ ‫حدثني عنه محمو د دياب‪.‬‬ ‫استقبلني الرجل ببشاشة أبوية‪ ،‬بينما أنا "أتأبط" السيناريو كدليل على‬ ‫جدوية المقابلة! وتحدث عن المخرجين الشبان‪ ،‬وكنت في ذلك الوقت‬ ‫أحدهم‪ ،‬وعن رغبته في التعاون معهم في حل "أزمة السينما"‪ .‬فهم أمل‬ ‫‪272‬‬


‫الحاضر‪ ..‬وعما د المستقبل و‪ ..‬وحمدت ا أن هداني الى معرفة‬ ‫"محمو د دياب"‪ ،‬الذي منحني بدور‪،‬ه تلك الرواية ومعها منتجها‪ ،‬الذي‬ ‫يبدو جا داه هو الخر‪.‬‬ ‫لم يبق سوى أن يطلب مني ترك السيناريو لقراءته‪.‬‬ ‫لكنه‪ ،‬لشدة إهتمامه‪ ،‬طلب مني أن أعطيه فكرة عن موضوع الفيلم‪.‬‬ ‫فما كان مني إل أن وضعت السيناريو أمامه على المكتب النفيس‬ ‫الفاخر‪.‬‬ ‫أزاحه جانبا‪ ،‬وأشار لي أن أتكلم!‬ ‫إنه يتعجل معرفة موضوع فيلمه القا د م‪ .‬وكنت بدوري أتعجل نهاية‬ ‫المقابلة‪ ،‬لكي أزف البشرى لجماعتي ‪ -‬جماعة السينما الجديد‪،‬ه ‪-‬‬ ‫بالفرج القرب مما كنا نتوقع‪.‬‬ ‫ولم أكد أبدأ في سر د ملخص الحكاية عن الشبان الربعة‪ ،‬الطلبة في‬ ‫كلية الفنون‪ ،‬والفتاة الصغيرة التي يرتبط بها أحدهم‪ ،‬حتى انبرى يقد م‬ ‫اقتراحاته‪ ،‬وتعليماته كمنتج صاحب تجربة طويلة‪:‬‬ ‫ فليكن اسم الفيلم "أربع تلمذ‪،‬ه‪ ..‬وبنت"!‬‫)على غرار فيلم "أربع بنات‪ ..‬وضابط"‪ ،‬الذي سجل في حينه نجاحا‬ ‫تجاريا‪(.‬‬ ‫واسترسل يرشح لي أسماء البطال!‬ ‫ولما رأى الدهشة على وجهي‪ ،‬استدرك‪ ،‬وأخذ يذكرني بمزايا ذلك‬ ‫الشيء الذي يسمونه "ماكياج"‪ ،‬ومفعوله السحري في اختصار‬ ‫عشرات السنين من عمر البطال!‬ ‫ أمومال!‬‫قالها وهو يتلذذ بإتقانه للهجة المصرية‪ ،‬إتقانه لصول "لعبة" السينما‪.‬‬ ‫وخرجت من عند المنتج متأبطا السيناريو‪ ،‬وأنا أشعر أنني أجدر بلقب‬ ‫"تأبط شوراا" من ذلك الشاعرالعربي‪ ،‬الذي بحثت عنه أمه ‪-‬طفلا‪ -‬في‬ ‫البا دية‪ ،‬لتجد‪،‬ه يتأبط ذئبا صغيرا ضال ظنوا ا منه بأنه حمل و ديع!‬ ‫فأطلقت عليه أمه ذلك اللقب الذي اشتهر به‪.‬‬

‫‪273‬‬


‫و دأب محمو د دياب على مداعبتي بلقب "تأبط شوراا"‪ ،‬وهول يكف عن‬ ‫تحذيري بأنه ل مكان للحملن في زماننا هذا‪.‬‬ ‫هل كان يعني أنني تأبطت شوراا باختياري لتلك الرواية؟‬ ‫أ م أنني قد تأبطت الشر بإختياري لتلك "المهنه" بالذات؟‬ ‫في أول اجتماع لـ ض"جماعة السينما الجديد‪،‬ه"‪ ،‬كنت أما م خيارين‪.‬‬ ‫أن "أطنش" حكاية المنتج‪ ،‬فيتهمونني بالستهتار والتفريط بالفرص‪.‬‬ ‫أو أن أحكي لهم ما انتهت إليه‪ ،‬فيشبعونني "تريقة"‪ .‬فقررت أن‬ ‫"أطنش"‪.‬‬ ‫و يكفيني ما نلته‪ ،‬عندما اضطررت لن أزف إليهم بشرى زواج‬ ‫"البطله"‪ ،‬في الجتماع السابق‪.‬‬ ‫كان ل بد من أن نطرح موضوع المشاركة على الطريقة اللمانية‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الجميع تقريبا قد أبدوا حماسهم واستعدا دهم للفكرة‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫بعد القيا م بعملية حسابية‪ ،‬تبين أننا سوف ننتظرأعواما كثير‪،‬ه! حيث‬ ‫كان المبلغ الذي يستطيع أيسرنا حالا أن يساهم به‪ ،‬ل يتجاوز الخمسة‬ ‫جنيهات شهريا‪.‬‬ ‫وهكذا اقتصر نشاط "جماعة السينما الجديدة" على الندوات‬ ‫والدراسات وأسابيع العروض السينمائية المختلفة‪ ،‬التي كانت أيضا من‬ ‫الهداف التي خططنا لها‪ .‬هذا الى جانب نمو فكرة فيلم آخر للزميل‬ ‫"علي عبد الخالق"‪ ،‬عن مسرحية الكاتب "علي سالم"‪"..‬أغنيه على‬ ‫الممر"‪.‬‬ ‫وتوالت نشاطاتنا‪ ،‬و"أسابيعنا"‪.‬‬ ‫وفي أحد الجتماعات تقرر تقديم المشروعين‪" ،‬الظلل‪ "...‬و‬ ‫"أغنيه‪ ،"...‬لمؤسسة السينما آنذاك‪ ،‬بعد أن قمنا ببلورة أسلوب‬ ‫المشاركة بأجورنا‪ ،‬التي كانت في مجموعها جزءاا ل يستهان به من‬ ‫ميزانية الفيلمين‪ .‬على أن نتقاضى هذ‪،‬ه الجور‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬من إيرا دات‬ ‫العروض!‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫‪274‬‬


‫بقدرالحرية التي منحني إياها م‪ .‬دياب في معالجتي لروايته‪ ،‬كنت‬ ‫حريصا على عد م المساس بأوجه البداع فيها بناء‪ ،‬ومضمونا‪ ،‬ولغة!ا‬ ‫لم يكن السر د الرباعي الذي يعتمد على فكرة تعد د الرواة في ال دب‬ ‫والسينما‪ ،‬حيث تتكامل روايتهم أو تتعارض أو تتقاطع‪ ،‬وتخلق من‬ ‫القاريء أو من المشاهد شريكا في الحدث وصناعته‪ ،‬بجديد على‬ ‫ال دب‪ ..‬ول السينما‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كان هناك من ينصحني بأن أختار شكلا‬ ‫سر ديا ا أسهل‪ .‬خصوصا وأنني كنت إزاء أول عمل سينمائي روائي‬ ‫طويل‪ .‬وظلت هذ‪،‬ه النصيحة تلحقني الى ما بعد النتهاء من التصوير‪..‬‬ ‫الى مرحلة "المونتاج"‪ ،‬أو تركيب الفيلم‪.‬‬ ‫والحق أقول‪ ،‬أن محمو د دياب كان حافزاا لي على ممارسة حقي في‬ ‫"رواية" روايته سينمائيا‪ ،‬بالشكل الذي أرا‪،‬ه‪.‬‬ ‫"الظلل في الجانب الخر"‪ ..‬ذكرني هذا العنوان بالنظرية الضوئية‬ ‫التي تقول أننا إذا سلطنا ضوءاا على جسم ما‪ ،‬فإننا سنرى له ظلوا في‬ ‫الجهة المعاكسة‪ .‬وإذا سلطنا ضوءاا آخر من تلك الجهة المعاكسة على‬ ‫نفس الجسم‪ ،‬فإننا سنحصل على ظلين متقابلين بحيث يكون كل الظلين‬ ‫أخف حدة من الحالة الولى‪ .‬فإذا سلطنا ضوءاا ثالثـــــــا ا مساويا لكل‬ ‫من الضوئين السابقين على نفس الجسم من الجهة الثالثة‪ ،‬فإننا‬ ‫سنحصل على ظل ثالث‪ ،‬بحيث نلحظ نقصانا في درجة حدة الظلل‬ ‫الثلثه‪ .‬أما إذا سلطنا ضوءاا رابعا ا مساويا ا في القوة لكل من الضواء‬ ‫الثلثة السابقة‪ ،‬من الجهة الرابعة‪ ،‬فعندها سوف تختفي كل الظلل!‬ ‫وهكذا كانت روايات محمو د دياب الربعه‪ ،‬التي تتكون منها رواية‬ ‫"الظلل‪ ،"..‬تساهم في إزالة الظلل‪ ،‬أو تخفيف حدتها على أقل تقدير‪.‬‬ ‫ولم أجد حرجا من تلخيص تلك الفكرة في عبارة كنت أريد لها أن‬ ‫تظهرعلى الشاشة في بداية الفيلم‪ .‬لكنها‪ ،‬لسبب ما‪ ،‬لم تجد لها مكانا إل‬ ‫في "النشرة"** التي لم يتم توزيعها إوبان العرض‪:‬‬ ‫"ما أكثر ما تخفيه الظلل من حقائق‪..‬‬ ‫________________________________________________________‬ ‫** قام الفنان حلمي التوني بتصميم النشرة إضافة إلى تصميم "بوسترات" الفيلم‬ ‫المتميزة ‪ ..‬وبعض السهامات الفنية الخرى ‪.‬‬

‫‪275‬‬


‫ولكي نرى واقعنا بدون ظلل‪..‬‬ ‫ل بد من أن تتعدد مصــــــــادر النور!"‬ ‫هل هناك من شك في أن "محمو د دياب" كان يقع تحت إلحاح فكرة‬ ‫الحرية بمعناها المطلق؟‬ ‫حتى علو م "الطبيعة" وقوانينها‪ ،‬كانت توحي أو تملي بوجوب تعد د‬ ‫مصا درالنور‪ ..‬مصا درالمعرفه‪ ..‬مصا درالرأي‪ ..‬والرأي الخر!‬ ‫كان "جميل"‪ ،‬الشخصية المحورية في الرواية‪ ،‬منقسما في داخله‪.‬‬ ‫يتحدث ويتباهى بشجاعته حينا‪ ،‬ثم يعو د ويعترف بخوفه حينا آخر‪.‬‬ ‫وهو صا دق في كلتا الحالتين‪.‬‬ ‫أو ربما كان يتميزعن غير‪،‬ه بأنه كان يمتلك الشجاعة لن يعترف‬ ‫بالخوف!‬ ‫عندما كان "محمو د دياب" يقرأ ذلك المشهد من السيناريو‪ ،‬الذي يهذي‬ ‫فيه "جميل"‪ ،‬تحت تأثير الحمى التي أصابته‪ ،‬نتيجة لما أوصلته إليه‬ ‫مواقفه المستهترة‪:‬‬ ‫ سيرياليه‪ ..‬تكعيبيه‪ ..‬قوميه عربيه‪...‬‬‫فوجئت به ينتقل‪ ،‬من القراءة بصوت مسموع‪ ،‬الى "ال داء" المعبر‪،‬‬ ‫وكأنه تقمص الدور‪ .‬وقا م‪ ،‬بعفوية شديدة‪ ،‬نتيجة لنفعاله‪ ،‬بإضافة‬ ‫بسيطة لم يفتني أن أقو م بتثبيتها في السيناريو‪ .‬قال مكملا‪:‬‬ ‫ ‪...‬يهو د‪ ..‬أميركان‪ ..‬أبل أزرق!‬‫ثم أكمل ال داء‪:‬‬ ‫ ‪...‬النسان الحر هو أساس المجتمع الحر!‬‫هل كانت قناعتي بأن "جميل"‪ ،‬الرافض المتمر د الضائع الخائف‪ ،‬هو‬ ‫بعض من "محمو د دياب"‪ ،‬هي السبب في تسميتي للبطل في الفيلم‬ ‫"محمو د"‪ ..‬بدل من "جميل"؟‬ ‫*‬ ‫‪276‬‬

‫*‬

‫*‬


‫ ولماذا "معمر"؟‬‫سأل أحدهم‪ ،‬عن تلك الشخصية التي أضفتها الى الرواية الصليه‪.‬‬ ‫ذلك الطالب الفلسطيني‪ ،‬في كلية الفنون الجميلة‪ ،‬وأحد سكان العوامه‪.‬‬ ‫أجاب "محمو د دياب"‪:‬‬ ‫ ذلك هو الجانب الخر‪ .‬ذلك هوالتفسير الجديد‪ ،‬الذي يجب أن‬‫يحتمله العمل البداعي‪.‬‬ ‫واكتفيت بهذ‪،‬ه الجابه‪ .‬وتحاشيت‪ ،‬في حينها‪ ،‬أن أعترف أن "معمر"‬ ‫كان بعضا مني‪ ،‬أوأنني كنت أتحدث بلسانه‪ .‬ولم يفت ذلك على‬ ‫الكثيرين!‬ ‫"معمر" طالب فلسطيني‪ ،‬لجيء‪ ،‬أتاح له أخو‪،‬ه الكبر‪ ،‬الذي يعمل في‬ ‫إحدى دول الخليج‪ ،‬شأن معظم أبناء جيله‪ ،‬فرصة الدراسة الجامعيه‪،‬‬ ‫فالتحق بكلية الفنون الجميلة‪.‬‬ ‫و دأب "معمر" على أن يحلم بـ ض"مشروع التخرج"‪ ،‬شأن بقية الطلبة في‬ ‫سنواتهم الدراسية الخير‪،‬ه‪ .‬كل يحاول أن يجسد همومه واهتماماته في‬ ‫"مشروعه"‪ .‬وكانت "سكتشات" معمر في البداية تصورالبؤس والعراء‬ ‫والتشر د في "معسكرات اللجئين"‪ ،‬مشروعه‪ .‬حيث كان الحديث عن‬ ‫" قضية فلسطين" قد تحول بفعل التقا د م الى حديث عن "اللجئين‬ ‫الفلسطينيين"‪.‬‬ ‫لكن "الهزة" التي أصابت معمر‪ ،‬عندما رأى "معسكرات الفدائيين" في‬ ‫أغوار الر دن‪ ،‬في إجازته الصيفية لعا م ‪ ،66‬جعلته يقول لحد زملء‬ ‫العوامة‪ ،‬وهو يعرض عليه اسكتشات** مشروعه الجديد‪:‬‬ ‫ بقى لنا ‪ 18‬سنه بنرسم لجئين‪ ..‬وبنخرلف لجئين!‬‫حاقول إيه أكثرمن اللي اتقال؟‬ ‫حنفضل نلف وندور وبالخر‪" ..‬إنناعائدون"!‬ ‫)ساخرا من لوحة أو"بوستر" فلسطيني شهير حمل هذا السم في‬ ‫ذلك الوقت‪(.‬‬ ‫__________________________________________________________‬ ‫)**( استخدمت في الفيلم اسكتشات الفنان "محمد حجي" التي رسمها عندما كان في‬ ‫زيارة معسكرات الفدائيين في "الغوار"‪.‬‬

‫‪277‬‬


‫وقرر "معمر" أن يعايش "الفدائيين" لمدة أخرى لكي يقو م بالتحضير‬ ‫لمشروعه الجديد‪.‬‬ ‫عا د الى "الغوار" قبيل شهر يونيو من عا م ‪ .67‬انقطعت أخبار‪،‬ه‪.‬‬ ‫ثم جاءت منه رسالة‪ ،‬بعد يونيو ‪ ،67‬من الضفة الشرقية للر دن‪ ،‬الى‬ ‫أحد رفاق العوامة‪"..‬بكر"‪ .‬يقول فيها‪:‬‬ ‫"لقد وجدت الطريق الذي أستطيع به أن أعبرعن نفسي وعن قضيتي‪،‬‬ ‫خصوصا بعد أن أصبحت للمرة الثانية بل وطن"‪ ..‬و ‪..‬‬ ‫"لم يعد لدينا ما نخشى أن نفقد‪،‬ه‪"..‬‬ ‫إذن‪ ،‬فقد وجد "معمر" طريقه‪ .‬انتقل من حال المسميرالى المخمير‪ ،‬الذي‬ ‫ربما يخطيء‪ ،‬ولكنه سوف يتحمل نتيجة خطأ‪،‬ه‪ ،‬بعد أن تعمو د على‬ ‫الشكوى‪ ،‬وإلقاء اللو م على الخرين‪ .‬وأصبح دأبه العمل على تحقيق‬ ‫قناعاته التي أخذ يجهربها‪ ،‬والتي تؤكد أن حل القضية الفلسطينية يكمن‬ ‫في إعلن دولة علمانية يعيش فيها اليهو د والمسلمين والمسيحيين في‬ ‫ظل نظا م ديمقراطي‪ ،‬يتساوون فيه في الحقوق والواجبات‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬مثلما تلومس بقية زملء العوامة طريقهم بعد التيه‪ ،‬والتخبط!‬ ‫أما "مصطفى"‪ ،‬المثالي الساذج‪ ،‬الذي"ستظل مثالياته جدارا بينه وبين‬ ‫الحقيقه"‪ ،‬حسب تعبير"محمو د"‪ .‬فقد صاغ "محمو د دياب" رأيه في‬ ‫هذا النمط من الناس صياغة أشفقت عليها من تحويلها الى حوار‬ ‫بالعاميه‪ ،‬مما سوف يفقدها الكثير من قيميتها‪ .‬وكان الأمخرج الذي‬ ‫ارتأيته للمحافظة على تلك الصياغة باللغة الفصحى‪ ،‬هو قراءة‬ ‫مختارات منها ‪-‬مونولوج داخلي بصوت مصطفى‪ -‬بحيث يوحي‬ ‫سماعها في الفيلم بأنها من نصوص مذكرات مصطفى الذي تعمدت‬ ‫الشارة‪ ،‬أكثر من مرة‪ ،‬إلى عا دته في تدوين مذكراته‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وإذا كانت "روز" قد نجت من الموت‪ ،‬بعد محاولتها النتحار‪،‬‬ ‫واستطاعت ‪ -‬في النص الصلي‪ -‬أن "تعمبر" من أزمتها الى حياة‬ ‫‪278‬‬


‫جديدة‪ ..‬عاملة في محل لبيع الزهور‪ .‬فقد أنهيت الفيلم‪ ،‬حيث كنا كلنا‬ ‫نحلم بالعبور‪ ،‬بلقطة لها في حديقة المستشفى‪ ،‬بعد نجاتها‪ .‬بينما نسمع‬ ‫صوت "محمد حما م"‪ ،‬الذي قا م بدور "بكر"‪ ،‬وهو يغني أغنية وجدت‬ ‫كلماتها في "بريد القراء" لحدى المجلت‪ .‬كتبها شاعر ناشيء ‪ -‬في‬ ‫ذلك الوقت‪ -‬هوالشاعر "عبد الستار سليم"‪ ،‬الذي كان ينا دي من‬ ‫أعماق الصعيد‪:‬‬ ‫النيل مسافر من زمان‪ ..‬زي الزمان‬ ‫بين الجنادل تجرحه‪ ..‬لكنه عارف مطرحه‬ ‫‪. . . . . .‬‬ ‫النيل د ه عمر‪ ..‬ممكن يطول بيه السفر‬ ‫ممكن يعوق سكته مليون حجر‬ ‫ممكن يتو ه‪ ..‬ممكن يلف‬ ‫المستحيل إنه يجف! **‬

‫________________________________________________________‬ ‫** كنت قد عهدت للشاعر "عبد الرحيم منصور" بكتابة أغاني الفيلم فرحب بذلك بعد أن قرأ‬ ‫السيناريو وتناقشنا في مضمونها ومكانها في سياق الفيلم كتب لي ثل ث أغان )البداية‬ ‫والمنتصف والنهاية(‪ .‬لكنني‪ ،‬بعد تسديد حقوق صديقي الشاعر المالية‪ ،‬والعتذار له عن‬ ‫عدم توظيف أغنياته الثل ث في الفيلم‪ ،‬قمت باستدعاء الشاعر عبد الستار سليم‪ ،‬الناشئ‪،‬‬ ‫في حينها‪ ،‬والتعاقد معه على استعمال قصيدته التي قرأتها مصادفة في بريد القراء بمجلة‬ ‫المصور‪.‬‬

‫ولـ"محمود دياب" حكاية أخرى*‬ ‫‪279‬‬


‫قبل حوالي عشر سنوات‪ ،‬وبعد عا م أو يزيد من عو دتي إلى القاهرة‪،‬‬ ‫إثرالخروج من لبنان‪ ،‬عا م ‪ ،1982‬ركبت القطارالمسافرالى‬ ‫السكندريه‪ .‬وعلى المقعد المقابل‪ ،‬كان هناك رجلن يتحدثان بصوت‬ ‫مسموع‪ ،‬بحيث لم يكن من الصعب أن أتبين موضوع الحديث الذي‬ ‫استغرق النصف الثاني من الرحله‪ .‬كان أحدهما يذركر الخر بتفاصيل‬ ‫ دقيقة من تمثيلية تلفزيونيه‪ .‬ولم يكن من الصعب أيضا أن أتبين‪ ،‬منذ‬ ‫البداية‪ ،‬أن موضوع الحديث كان يدور حول ثمثيلية السهرة "رحلة عم‬ ‫مسعو د"‪ ،‬التي ظل "محمو د دياب" يبحث عن نصها في التلفزيون‬ ‫المفقو د الى أن وجد‪،‬ه‪ ،‬وقمت بإخراجه للتلفزيون عا م ‪.72‬‬ ‫التزمت الصمت‪ ،‬مستمتعا بحديثهما بكل ما فيه من تفاصيل و‬ ‫"إضافات" وتعليقات‪ .‬وتملكتني الرغبة أن أسأل‪ ،‬في النهاية‪ ،‬عن‬ ‫المناسبة التي ذكرتهم بتمثيلية مضى على عرضها الول عشر‬ ‫سنوات‪.‬‬ ‫هل أعيد عرضها في التلفزيون مؤخرا؟‬ ‫مستحيل!‬ ‫فمعلوماتي تقول أن كل "شرائطي" قد مسحت‪ ،‬واستخدمت لتسجيلت‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫وتلك حكاية أخرى‪.‬‬ ‫وقبل أن أحد د اللحظة التي سوف "أقحم" نفسي فيها بذلك الحديث‪،‬‬ ‫___________________________________________________________‬ ‫هذا العنوان مقتبس من عنوان الجزء الخير من رواية "الظلل في الجانب الخر"‬ ‫)*(‬

‫الذي "يخصني" أيضها‪ ،‬اصطدمت أذناي بصوت أحد الرجلين الغريبين‬ ‫وهو يقول‪:‬‬ ‫‪280‬‬


‫ ‪ ...‬ا يرحمه! **‬‫ثم يكمل حديثه‪.‬‬ ‫ألجمتني المفاجأة‪ .‬لم أعلق ولم أتدخل‪.‬‬ ‫ا‬ ‫تركتهما يتروحمان على صديقي الكاتب‪ ،‬يعطيانه بعضا من حقه‪ ،‬بعد‬ ‫وفاته‪.‬‬ ‫حرصت على ألو أشاركه‪ ،‬أوأقتسم معه‪ ،‬تلك اللحظات الفضرحة‪.‬‬ ‫من "محمو د دياب" عرفت كيف يضحك النسان بملء فيه‪.‬‬ ‫ومن بعد‪،‬ه تساءلت‪ ،‬كيف يمكن لنسان أن يعرف الفرح‪ ..‬والحزن‬ ‫يسكن فيه؟!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫__________________________________‬ ‫)**(‬

‫انتقل محمود دياب إلى رحمة ا في ‪ 12‬من أكتوبر ‪1983‬‬

‫آراء‪!..‬‬ ‫‪281‬‬


‫عندما كنت أعتصر ذاكرتي مستجيبا إلى دعوتي للمشاركة في ملف‬ ‫مجلة "أ دب ونقد" الخاص بالكاتب "محمو د دياب"‪ ،‬المشار إليها آنفا‪،‬‬ ‫كنت أحاول أن اتجنب شبهة الظهور بمظهر من ينسب لنفسه فضل أو‬ ‫ دورا أكبر من دور‪،‬ه‪ .‬قلت لنفسي‪:‬‬ ‫يكفيك فخرا أن يشملك الختيار لهذ‪،‬ه المشاركة في مجلة جا دة لها‬ ‫وزنها مثل مجلة "أ دب ونقد"‪.‬‬ ‫لكن‪ ..‬لم يكد يظهر ذلك العد د من المجلة حتى فاجأني صديقي د‪ .‬مختار‬ ‫يونس‪ ،‬الستاذ بمعهد السينما‪ ،‬وعضو "جماعة السينما الجديدة"‪،‬‬ ‫بتهمة المبالغة في التواضع وإنكارالذات‪.‬‬ ‫وأخذ "مختار"‪ ،‬الذي كان يعمل معي مساعدا لخراج فيلم "الظلل في‬ ‫الجانب الخر"‪ ،‬يذكرني بأشياء لم تكن تعني لي سوى أنها كانت تصب‬ ‫في محاولة تحقيق هدف وأمل مشترك‪.‬‬ ‫أما صديقي‪ ،‬وعضو "جماعة السينما الجديدة" البارز‪ ،‬كاتب السيناريو‬ ‫"فايزغالي"‪ ،‬فقد أخذ يؤكد لزوجته الكاتبة والناقدة "ماجد‪،‬ه موريس"‪،‬‬ ‫بحضوري‪ ،‬أن دوري وصل من الهمية ما تجاوز ما ذكرته‪ ،‬في‬ ‫المقال المشار إليه‪ ،‬إلى القيا م حتى بصياغة البيان الصا درعن "جماعة‬ ‫السينما الجديدة" يو م إعلنها‪ .‬وهوالشيء العاري تماما من الصحة‪.‬‬ ‫وأجدني مضطرا لتوضيح ذلك اللتباس‪.‬‬ ‫قلت أن الكاتب والناقد الستاذ "رجاء النقا ش" قد منحنا صفحتان من‬ ‫مجلة الكواكب الفنية‪ ،‬أسماهما "مجلة الغاضبين"‪ ،‬لنستعرض فيهما‬ ‫أفكارنا وطموحاتنا وإنجازاتنا‪ .‬فقمت‪ ،‬في العد د الول‪ ،‬بترجمة بيان‬ ‫حركة جماعة "السينما اللمانية الشابة" في ألمانيا التحا دية‪ ،‬المعروف‬ ‫في ذلك الوقت ببيان"أوبرهاوزن" الشهير‪ ،‬إلى اللغةالعربية‪.‬‬

‫‪282‬‬


‫ولقد كان البيان يعبرعن موقف ومطالب تلك "الجماعة"‪ ،‬التي لم‬ ‫تختلف عن مطالبنا وموقفنا نحن أيضا كـ "جماعة سينما جديدة"‪،‬‬ ‫ومماجاء فيه‪:‬‬ ‫‪..............‬‬ ‫ونحن هنا نجاهر بالتمسك بحقنا ودورنا في خلق سينما جديدة‪..‬‬ ‫‪283‬‬


‫هذ ه السينما الجديدة تحتاج إلى حريات جديدة‪..‬‬ ‫حرية من عبودة السينما التقليدية‪..‬‬ ‫باك والربح‪..‬‬ ‫حرية من سيطرة"الش ز "‬ ‫حرية من كل وصاية‪.‬‬ ‫‪..............‬‬ ‫وانتهى البيان بتوقيعي‪ ،‬بدون ورو د كلمة‪" ..‬ترجمة"!‬ ‫وهو في اعتقا دي الخطأ الذي أ دى إلى اللتباس المشار إليه‪.‬‬ ‫أما البيان الخر الذي ظهرت ترجمته في عد د لحق من المجلة‬ ‫المذكورة فكان هو بيان حركة السينما الجديدة في أميريكا‪ ،‬الشاطيء‬ ‫الشرقي‪ ،‬الذي أعلنوا فيه ثورتهم على سينما الشاطيء الغربي‬ ‫)هوليوو د( التي اتسمت‪ ،‬في نظرالقائمين بحركة السينما الجديدة‪،‬‬ ‫بتزييف الواقع‪.‬‬ ‫وكان أن جاء في البيان نداءهم الشهير‪:‬‬ ‫‪...............................‬‬ ‫نحن ل نريدها أفلما وردية‪..‬‬ ‫بل نريدها حمراء مثل الدم‪.‬‬ ‫وهنا كانت الطامة الكبرى‪ .‬فلقد استضهمنا‪ ،‬نحن "جماعة السينما الجديدة"‪،‬‬ ‫من قبل عد د من المسئولين ومنهم‪ ،‬كما جاء في مكان آخر من هذ‪،‬ه‬ ‫السيرة‪ ،‬وزير الثقافة يوسف السباعي‪ ،‬بأننا شوية عيال شيوعيين )!(‬ ‫والبقية معروفة!‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪284‬‬

‫*‬


‫"حكــــــاية ععمــــــــر"‬ ‫‪285‬‬


‫قد تكون "حكاية معمر"‪ ،‬مشروع فيلمي الروائي الثاني‪ ،‬هي التي‬ ‫جعلتني أور د نص المقال المذكور‪ .‬فبمجر د انتهائي من عمل ذلك الفيلم‬ ‫الول‪ ،‬ظل "معمر"‪ ،‬طالب كلية الفنون‪ ،‬يلح علي أن أروي بقية حكايته‬ ‫بعد أن اختفى وعا د إلى الظهور مقاتل مع فدائيي الثور‪،‬ه الفلسطينية‪.‬‬ ‫وهو المشروع الذي حدثت "أبوإيا د" مطولعنه‪ ،‬عقب مشاهدته لفيلم‬ ‫"الظلل‪ ،"..‬قبل أن أنتقل إلى لبنان‪.‬‬ ‫رأيت "معمر" ينتقل‪ ،‬بعد أحداث أيلول السو د في الر دن عا م ‪ ،70‬إلى‬ ‫لبنان‪ .‬ثم يصيبه الحباط‪ ،‬إثر إحساسه بالحصار والقيو د المفروضة‬ ‫على الحركة الفدائيه‪ ،‬التي وصفها الزعيم جمال عبد الناصر بأنها أنبل‬ ‫ظاهرة في التاريخ العربي الحديث!‬ ‫م‬ ‫مات عبد الناصر‪ .‬وسا د الصمت المريب‪ .‬وقرر "عمر" الهروب من‬ ‫واقعه بعد أن تسلل إليه اليأس‪.‬‬ ‫اخترت لـ ض"معمر" بلدا أوروبيا يلجأ إليها‪ ،‬ليبدأ حياته من جديد‪ .‬قلت‪،‬‬ ‫فلتكن "ميونيخ"‪ .‬فأنا أعرفها جيدا‪ ،‬فهي أقرب مدينة ألمانية لفيينا‪.‬‬ ‫ابتدأ "معمر" حياته الجديدة بائعا للصحف‪ .‬ومكنه التجوال في مقاهي‬ ‫المثقفين‪ ،‬وهومشروع الفنان المثقف‪ ،‬من التعرف إلى بعضهم‪ ،‬من‬ ‫مختلف مشاربهم‪ .‬وتوطدت علقته بفتاة صحفية شابه من التقدميين‪،‬‬ ‫الذين كانوا يؤيدون حركات التحرر‪ ،‬وينا دون بمناصرة الشعوب‬ ‫المقهور‪،‬ه‪ .‬وكانت تظاهرات الحتجاج على حرب الفييتنا م في أوجها‪.‬‬ ‫استطاعت صديقته أن تمكنه من إيجا د عمل يدوي يتناسب مع مؤهلته‪.‬‬ ‫بل إنها شجعته على اللتحاق بأكا ديمية الفنون الجميله ليواصل دراسته‬ ‫صرأخو‪،‬ه‪ ،‬الذي‬ ‫التي كان قد قطع شوطا كبيرا منها في القاهر‪،‬ه‪ .‬ولم يق ر‬ ‫يعمل في إحدى دول الخليج‪ ،‬في تشجيعه على مواصلة الدراسه‪،‬‬ ‫و دعمه ما ديا‪ .‬إلى أن توفرت له كل مقومات الستقرار في تلك البلد‪.‬‬ ‫‪286‬‬


‫التوفيق في الدراسة ومن ثم العمل‪ ،‬مما أتاح له دخل ل بأس به‪.‬‬ ‫شيء غير قليل من النجاح كفنان‪.‬‬ ‫والكثير من الحب والستقرار العاطفي‪.‬‬ ‫ دأبت"مريم"‪ ،‬كماكان يحلو لـ ض"معمر" أن يسمي صــديقته "ماريــا"‪،‬علــى‬ ‫ دعوته لقضاء الجازة السبوعية عند عائلتها في منزلهم الريفي‪ ،‬حيــث‬ ‫رحب به أفرا دعائلتها وأحبو‪،‬ه‪ .‬هناك ال م والب والجد والخالة والخت‬ ‫وال خ والطفال‪ ،‬أبناء وأحفا دا‪ ،‬مما كان يعيد إليه ذكريات الطفولة بيــن‬ ‫أفرا د عائلته‪ ،‬ويوقظ حنينه إلى الهل والبيت والرض والوطن‪.‬‬ ‫كانت "ماريا" واسعة الثقافه‪ ،‬كثيرة الطلع على القضايا السياسية‬ ‫المعاصر‪،‬ه‪ .‬وكثيرا ما كانت تدخل مع "معمر" في نقاشات حول تلك‬ ‫القضايا‪ ،‬فيختلفان‪ ،‬وتتكشف الكثير من الحقائق‪ .‬أو يتفقان‪ ،‬فتز دا د‬ ‫الواصر بينهما قوة‪.‬‬ ‫وكانت كثيرا ما تأخذ على الفلسطينيين‪ ،‬والعرب بشكل عا م‪ ،‬وهم‬ ‫أصحاب تاريخ وحضار‪،‬ه‪ ،‬إغفالهم لدورالثقافة في معركتهم مع‬ ‫إسرائيل‪ .‬وكانت تأتي له بالمثلة عن تواجد إسرائيل بذكاء في كل‬ ‫مجالت الثقافة والفنون‪ ،‬بحيث تلفت أنظار العالم إليها كدولة مسالمة‬ ‫حضارية لها تاريخ وجذور)!( وتقول‪ ،‬أن إسرائيل تحارب من أجل‬ ‫وجو دها‪ ،‬إضافة إلى الساليب الخرى‪ ،‬بعازف كمان يهو دي‪ ،‬أو مغنيه‬ ‫يهو ديه‪ ،‬أو ممثل أو فنان تشكيلي يهو دي‪ ،‬أو فرقة "فنون شعبيه"‬ ‫يهو ديه‪ ،‬أو حتى فريق رياضي يهو دي‪.‬‬ ‫العل م الذكي ‪-‬كانت تقول‪ -‬ل يقل تأثيرا في حروب التحريرعن‬ ‫المدافع‪ .‬ذلك عندما يستعين بما بات يسمى بـ "القوة الناعمة"‪..‬‬ ‫العارمة!‬ ‫م‬ ‫ثم نرى "عمر" في حياته اليومية وقد تغيرت‪ ،‬بالتدريج‪ ،‬نظرته إلى‬ ‫الكثير من مظاهرها‪ .‬كأنما كان سعيه إلى النجاح وتحدي الظروف‬ ‫يلهيه عن رؤية الواقع‪ .‬فإذا به‪ ،‬في بعض المواقف‪ ،‬يتعرض لما يوقظ‬ ‫لديه الحساس بأنه سيظل ضيفا غريبا ل ينتمي إلى ذلك المجتمع‬ ‫المختلف طبعا وطبيعة‪ .‬فل النجاح في العمل‪ ،‬ول الستقرار الما دي‪،‬‬ ‫‪287‬‬


‫ول القدرالمتواضع من الشهرة‪ ،‬ل و ل حتى زواجه من "ماريا"‬ ‫بقا در على أن يجعل منه "مواطنا"‪ ..‬في غير بلد‪،‬ه‪.‬‬ ‫في هذا البلد‪ ،‬الذي كان "معمر" يتغنى بديمقراطيته‪ ،‬أصبح يرى أن‬ ‫الديمقراطية سلحا ذو حدين‪ .‬فمصا در الصحافة "الحرة" تقع تحت‬ ‫تأثير المصالح التي تؤثر في اتجاهاتها‪ .‬هذا بالضافة إلى غياب‬ ‫المصدرالذي يتيح معرفة الوجه الخر من القضايا المطروحه‪ .‬فمن‬ ‫الطبيعي أن يتعاطف الوروبي البسيط مع فكرة "انقاذ واحة‬ ‫الديمقراطية" في الشرق الوسط‪ .‬خصوصا إذا ما أجا دت أجهزة‬ ‫الوسائط العلمية العزف على وتر "الضمير"‪ .‬وساقت‪ ،‬ليل نهار‪،‬‬ ‫المثلة وال دلة على ما حاق بالشعب اليهو دي المظلو م‪ ،‬على أيدي‬ ‫النازيه‪ ،‬من عمليات البا دة الجماعية‪.‬‬ ‫ومن أخطر الفكار التي دأبت إسرائيل على ترويجها‪ ،‬وما زالت‬ ‫تسعى إلى نشرها في العالم بشتى الوسائل‪ ،‬هي فكرة المقارنة بين‬ ‫مدينتي "القدس" و "برلين"‪ .‬ذلك مما كان يصيب "معمر" المقدسي في‬ ‫مقتل‪ .‬فالمدينتان اللتان‪ ،‬حسب ا دعاء إسرائيل‪ ،‬قد جرى تقسيمهما في‬ ‫غفلة من التاريخ‪ ،‬يجب أن يتم توحيدهما )!(‬ ‫هذا الطرح يصيب قبول في ألمانيا بالذات‪ ،‬ويحظى بتعاطف تلقائي‬ ‫في أوروبا بشكل عا م‪.‬‬ ‫كيف يمكن مواجهة هذ‪،‬ه الفكار بأسلوب آخر‪ ،‬غيرالشجب العربي‪،‬‬ ‫والستنكار؟‬ ‫كان إحساس "معمر" بالعجزعن التصدي لذلك المار د العلمي مما‬ ‫زا د في إحساسه بالعزلة والغتراب عن مجتمعه الجديد‪.‬‬ ‫أخذ ينشد العزاء في أصدقاء فلسطينيين وعرب‪ .‬ويعو د إلى حظيرة‬ ‫الباحثين عن ذواتهم وعن مستقبل شعبهم‪ ،‬ليقضي على ذلك الفراغ‬ ‫والحساس بالغربه‪ ،‬وحاجته المتزايدة إلى الشعور بالنتماء‪ .‬إلى أن‬ ‫أصبح يكثر من إعتذاراته لتأخر‪،‬ه في مواعيد‪،‬ه مع "ماريا"‪ ،‬التي‬ ‫لحظت أيضا ظهور وجو‪،‬ه جديدة تتر د د على المقاهي أو النوا دي التي‬ ‫كانوا يتر د دون عليها‪.‬‬ ‫‪288‬‬


‫وفي أحد العيا د القومية‪ ،‬دعته السرة‪ ،‬حيث كانت تقيم احتفالها‬ ‫السنوي في البلدة الريفية‪.‬‬ ‫غنى الجميع‪ ،‬ورقصوا مبتهجين سعداء‪ ،‬وهو يراقبهم‪ ،‬بينما تستعيد‬ ‫ذاكرته مناسبات مشابهة كانت تجمع شمل عائلته في طفولته‪ ،‬في‬ ‫مسقط رأسه‪ ..‬القدس‪.‬‬ ‫لحظ الجد‪ ،‬الذي كان يعزف ألحانهم الشعبيه على آلة الكور ديون‪،‬‬ ‫شرو د "معمر"‪ ،‬فاحب أن يخرجه من وحدته‪ .‬وطلب منه أن يغني أو‬ ‫يرقص كما يفعلون في وطنه‪ ،‬في الحتفالت الشعبية الفلسطينية‪ .‬وما‬ ‫زال يستدرجه للغناء بمحاولة مرافقته باللة الموسيقية‪ ،‬والكل‬ ‫يشجعون محاولته‪ ،‬حتى إذا ما قارب إيقاع تصفيقهم‪ ،‬على نغمات‬ ‫الغنية الشعبية الفلسطينيه‪ ،‬أن يصل إلى قدر من التقان‪ ،‬التهبت أكفهم‬ ‫وحناجرهم في محاولة تر ديد همهمات الهزوجه معه‪ ،‬بعد أن تمكنت‬ ‫اللة أيضا من إلتقاط لحنها السهل المتكرر‪ ،‬مما قضى نهائيا على‬ ‫تر د د "معمر" وخجله‪ ،‬فاستجاب إلى محاولة "مريم"‪ ،‬التي أخذت‬ ‫تستدرجه بدورها‪ ،‬بما لها من بعض الدراية التي اكتسبتها منه‪ ،‬إلى‬ ‫النهوض إلى الحلبه‪ ،‬ليشاركها رقصة الدبكه‪ ،‬فتحلقوا حوله مصفقين‬ ‫مهللين‪ ،‬وهو يلوح بمنديله المعقو د‪ ،‬تز دا د ضربات قدميه على الرض‬ ‫قوة‪ ،‬وقفزاته في الهواء علوا‪ ،‬كأنما قد تحرر لتو‪،‬ه من قيو د لم تكن‬ ‫مرئية‪ ،‬في رقصة "زورباوية" صاعدت من حماسهم ومشاركتهم‪ .‬إلى‬ ‫أن سقط على مقعد‪،‬ه منهوك القوى بين تصفيقهم وتهليلهم‪.‬‬ ‫نرا‪،‬ه بعد ذلك وهو يتقلب على جنبيه محاول‪،‬عبثا‪ ،‬أن يخلد إلى النو م‪.‬‬ ‫ثم ينهض ليطل من نافذة الغرفة العلوية إلى حديقة المنزل الريفي‪،‬‬ ‫ويمتد نظر‪،‬ه إلى الفق البعيد الذي ابتدأت تباشير الصباح تكسو‪،‬ه بثياب‬ ‫النور‪.‬‬ ‫ونسمع لحن تلك الغنية الشعبية الذي يتحول تدريجيا إلى نغمات‬ ‫يشوبها الشجن و الحزن النبيل‪.‬‬ ‫"ياومه مويل الهوى‪ ..‬ياومه مويلويا"‬ ‫"ضرب الخناجر ول حكم النذل فضويا"‬ ‫‪289‬‬


‫ويمرشريط الذكريات أما م عيني"معمر"‪ ،‬مختصرا‪ ،‬مركزا‪ ،‬صامتا‪.‬‬ ‫وينتهي بما كان يجري في اليا م الخيرة من محاولت لقناعه‪ ،‬من‬ ‫قبل بعض الوجو‪،‬ه الفلسطينية التي تكرر ظهورها في الفترة الخير‪،‬ه‪،‬‬ ‫بالعو دة إلى صفوف الفدائيين‪.‬‬ ‫تستيقظ "ماريا" ذات الصباح‪ .‬تبحث عن "معمر" فل تجد‪،‬ه‪.‬‬ ‫ثم نراها تجوب المدينة ‪-‬ميونيخ‪ -‬باحثة عنه في كل الماكن والمقاهي‬ ‫التي كانا يتر د دان عليها‪.‬‬ ‫وفي أثناء بحثها وتجوالها‪ ،‬تطالعنا في خلفية المشاهد‪ ،‬ملصقات جدارية‬ ‫ولفتات ضخمه تعلن عن دورة اللعاب الولمبيه‪،‬عا م ‪ ،1972‬التي‬ ‫تعد لها مدينة "ميونيخ"‪ ،‬بينما نحن نسمع لحن الغنية الشعبية‬ ‫الفلسطينية الموغل في الحزن‪..‬الموشى ببصيص أحل م الخلص‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كان صديقي السباني "ضيف ا"‪ ،‬الذي استقر به المقا م في باريس‪،‬‬ ‫والذي اتفق أن إلتقيت به في القاهرة أثناء رحلته التي طالما خطط لها‪،‬‬ ‫هو صاحب الفضل بالتصال بممثلة أمريكية ظهرت صورها‪ ،‬في ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬وفي كثير من المناسبات‪ ،‬وهي تتلفع بالكوفية الفلسطينية معلنة‬ ‫عن وقوفها إلى جانب الثورة الفلسطينية‪ .‬كما اشتهرت قبل ذلك باسم‬ ‫"جين هانوي" لموقفها المساند للفيتنا م*‪ .‬تلك هي بعينها "جين فوندا"‬ ‫التي تمكن صديقي من الحصول على موافقة مبدئية منها على القيا م‬ ‫بدور "ماريا"‪.‬‬ ‫كان هذا هو مشروعي الذي حملته‪ ،‬وحلمت بتحقيقه في بيروت‪.‬‬ ‫والذي وعدني "أبو إيا د"‪ ،‬بأن يدفع إلى تحقيقه‪.‬‬ ‫والغريب أن كل من قرأ المعالجة‪ ،‬سواء المختصرة منها أوالموسعه‪،‬‬ ‫كان يشيد بالفكار التي يحتويها مشروع الفيلم‪ ،‬بما في ذلك محاولة‬ ‫تكريس فكرة ومبدأ "نقد الذات"‪ .‬فهناك إشارة إلى خطورة الوقوع في‬ ‫نفس الخطاء التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية في الر دن‪ ،‬والتي‬ ‫‪290‬‬


‫أ دت إلى أول "نكسة" في عمرالثورة الواعد‪،‬ه‪ .‬هذا بالضافة إلى‬ ‫التحذير من خطورة الرفاهية التي أتاحها أوأباحها بعض القيا ديين‪،‬أو‬ ‫المقربين منهم‪ ،‬لنفسهم‪ ..‬فقلدهم البعض الخر‪ ..‬وهلوم جورا!‬ ‫وكما ألهبت الصورة المشرقة مشاعر الكتاب والشعراء والفنانين‬ ‫وألهمتهم أعمال سوف تظل تحدث الجيال عن "أنبل ظاهرة في‬ ‫التاريخ العربي الحديث"**‪ ،‬كذلك كان هناك من با در بدق ناقوس‬ ‫الخطر‪ ،‬وإن على استحياء‪.‬‬ ‫كانت الفكار التي ور دت في المعالجة السينمائية لمشروعي الجديد من‬ ‫وحي إطلعي ومتابعتي و دراستي وتحليلي لما يجري في لبنان بعد‬ ‫خروج قوات المقاومة من الر دن‪.‬‬ ‫وها هي الفرصة قد حانت‪ ،‬أو أوشك حينها‪ ،‬للمعايشة الحقيقية‪ .‬وهو‬ ‫الشيء الذي كنت أعد له منذ زمن‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫_______________________________‬ ‫ذلك قبل أن ترتد وتعلن تضامنها مع دولة إسرائيل ‪.‬‬ ‫)*(‬ ‫)**( مقولة الزعيم جمال عبد الناصر‬

‫نهايـــــــــــــة مرحــــــــــــــلـة‪..‬‬ ‫‪291‬‬


‫نعم‪ ،‬كان ل بد لي من فترة تكفي لكتساب الخبرة العملية‪ ،‬التي‬ ‫استطعت أن أحصل عليها من عملي مخرجا للدراما في تلفزيون‬ ‫القاهرة لمدة جاوزت الست سنوات‪ .‬هذا إلى جانب خبرات أخرى‬ ‫أتاحها لي قربي من تلك الباقة من الصدقاء ذوي العلقة المتميزة‬ ‫بالموسيقى وال دب والشعر والفن التشكيلي‪ .‬وأنى لي أن أنسى مسارح‬ ‫الدولة في عهدها الذهبي‪ ،‬أو دار الوبرا العريقة‪ ،‬التي فجعت بحريقها‬ ‫ذات يو م خميس )‪ ،**(28/10/71‬بعد أن أصبحت من روا دها‬ ‫الدائمين بفضل صديقي "سامي رافع" الذي تلقفته الدار واحتضنته‬ ‫مبدعا‪.‬‬ ‫وفي الوقت الذي شعرت فيه أن وجو دي في القاهرة قد استنفذ‬ ‫أغراضه‪ ،‬كما أسلفت‪ ،‬تقدمت أو عاو دت اللحاح على طلب‬ ‫"التفــــــــــورغ" للعمل في "منظمة التحرير"‪.‬‬ ‫ولول العقبات الرقابية التي كانت تحول دون عرض فيلمي الروائي‬ ‫الول "الظلل في الجانب الخر"‪ ،‬والذي كنت أعتقد أن عرضه في‬ ‫مصر والبل د العربية سوف يكون بالنسبة لي بمثابة بطاقة التعريف بي‬ ‫كمخرج سينمائي قا درعلى صنع الفيلم الفلسطيني الروائي‪ .‬لول ذلك‬ ‫لكنت قد با درت بالسعي للتفرغ فور انتهاء العمل بالفيلم‪.‬‬ ‫________________________________________________________‬ ‫)**( في ‪ 28/10/1971‬جرى حريق دار الوبرا المصرية التي بناها الخديوي إسماعيل ‪.‬‬ ‫وكان قد تم افتتاحها في ‪ 29/11/1869‬بعرض أوبرا "ريجوليتو" المأخوذة عن قصة‬ ‫"الملك يمرح" لفيكتور هوجو بدل من "عايد‪،‬ه" التي كتبها "فير دي" خصيصا لهذ‪،‬ه المناسبة‬ ‫ولكنها لم تكن جاهزة في هذا التاريخ ‪ .‬ولقد تم أول عرض لوبرا "عايد‪،‬ه" في أوروبا )في‬ ‫ميلنو( في ‪.8/2/1872‬‬

‫في أوائل عا م ‪ ،73‬أقيم في مقر جمعية النقا د السينمائيين عرضا خاصا‬ ‫للفيلم‪ ،‬حضر‪،‬ه معظم العاملين في مكاتب الثورة الفلسطينية في القاهرة‪،‬‬ ‫‪292‬‬


‫بالضافة إلى "أبوإيا د"‪ ،‬عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"‪ ،‬الذي‬ ‫تصا دف وجو د‪،‬ه في زيارة للقاهر‪،‬ه‪ ،‬فكان لقائي الول به‪.‬‬ ‫عانقني "أبو إيا د" بعد العرض مهنئا‪ ،‬ومؤكدا على ضرورة سفري‬ ‫متفرغا للعمل إلى بيروت‪.‬‬ ‫قال لي وللحاضرين بحماس شديد‪:‬‬ ‫"هذ‪،‬ه هي اللغة التي نستطيع أن نخاطب العالم بها‪ ،‬وهذا هو العل م‬ ‫الحقيقي المؤثر!"‬ ‫كدت أن أطير فرحا وسعا دة وزهوا‪ .‬فلقد وصلت رسالتي‪.‬‬ ‫قلت له ممازحا‪:‬‬ ‫"إذن لقد نجح م‬ ‫ت في المتحان‪".‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫"‪ ..‬وبتفوق‪ ..‬ومرحبا بك في بيروت!"‬ ‫ثم حدثته باختصارعن مشاريعي القا دمة‪ ..‬فيلم"حكاية عمر" و فيلم‬ ‫"المجموعه ‪ .."778‬أول مجموعة فدائية فلسطينية نشأت في الرض‬ ‫المحتلة عا م ‪ .. 48‬و ‪..‬‬ ‫*‬

‫عرض فيلم "الظلل ‪".. .. ..‬‬ ‫‪293‬‬

‫*‬

‫*‬


‫الناقد السينمائي المتميز "كمال رمزي" هو الذي حكى لي حكاية الزوبعة‬ ‫التي أثارها البعض في مجلس الشعب بشأن فيلم "الظلل‪ ،"...‬والمطالبة‬ ‫بإيقاف عرضه‪ .‬ذلك أثناء وجو دي في بيروت‪.‬‬ ‫وأرى أن أنقل إلى هذا السياق ما قاله الناقد المعروف في كتاب "الهوية‬ ‫القومية في السينما العربية" ‪ -‬صفحة ‪ 67‬و ‪ -68‬الصا در عن مركز‬ ‫ دراسات الوحدة العربية‪:‬‬ ‫الخر عام ‪ ،1975‬بعد أن ظل‬ ‫عندما عرض فيلم"الظلل في الجانب "‬ ‫حبيسا في العلب لمدة عامين *‪ ،‬كان النظام المصري قد انتهى من‬ ‫توقيع اتفاقية فك الشتباك الثاني التي تنص مادتها الثانية على أن‬ ‫"يتعهد الطرفان بعدم استخدام القوة أو التهديد أو الحصار العسكري في‬ ‫مواجهة الطرف الخر"‪ ،‬كما تنص في مادتها الثالثة على أن الطرفان‬ ‫"سوف يستمران في أن يراعيا بدقة وقف إطلق النار في البر والبحر‬ ‫والجو‪ ،‬والمتناع عن أي أعمال عسكرية أو شبه عسكرية ضد الطرف‬ ‫"‪.‬‬ ‫الخر‬ ‫"**‪ ،‬قد‬ ‫لم يكن النظام عام ‪ ،1972‬عندما عرض فيلم"أغنيه على الممر‬ ‫كشف بوضوح عن توجهاته السياسية والقتصادية المتمثلة في تصفية‬ ‫الحرب مع إسرائيل والعتماد الكامل على أمريكا كشريك ورقيب من‬ ‫جهة‪ ،‬وفي النفتاح القتصادي من جهة أخرى‪ ،‬لذلك قد بدا أن الطريق‬ ‫الجديدة لتقدم أعمال تعتمد على مرتكزات‬ ‫"‬ ‫مفتوح أمام"جماعة السينما‬ ‫الممر‪ ،‬ولكن الن‪،‬‬ ‫فيلمأغنية على "‬ ‫فكرية شبيهة بتلك التي يعتمد عليها "‬ ‫في عام ‪ ،1975‬لم يعد‪ ،‬من وجهة نظر السلطة مسموحا بمثل"الظلل‬ ‫الخر برؤيته الشابة التي تناصر فكر‬ ‫في الجانب "‬ ‫____________________________________________‬ ‫)*(‬ ‫)**(‬

‫واقع المر أكثر من ثل ث سنوات‪ .‬وكان ذلك أثناء غيابي في بيروت‪.‬‬ ‫الذي تم إنتاحه في نفس عام إنتاح فيلم "الظلل‪"..‬‬

‫المقاومة الفلسطينية القائل بأن" البندقية هي الني تفتح الطريق إلى‬ ‫"‬ ‫المصريين‬ ‫المستقبل لذلك فإن الفيلم‪ ،‬على الرغم من أقلم"جمعية النقاد‬ ‫"‬ ‫إغتيال‪ ،‬فمثل‬ ‫"‬ ‫التي وقفت بقوة إلى جانبه‪ ،‬تعرض لما يشبه"مؤامرة‬ ‫‪294‬‬


‫نشرت الجرائد الحكومية أخبارا مريبة‪ ،‬ترمي إلى تشويه الفيلم وإخافة‬ ‫الجديدة‪ ،‬فتحت عنوان"مجلس الشعب يطلب وقف‬ ‫"‬ ‫"جماعة السينما‬ ‫مصري كتبت صحيفة الجمهورية ) ‪ (7/5/1975‬تقول‪:‬‬ ‫"‬ ‫عرض فيلم‬ ‫"تلقت لجنة الثقافة والعلم لمجلس الشعب عددا من البرقيات‬ ‫والخطابات حول مضمون فيلم مصري معروض في القاهرة حاليا‪.‬‬ ‫انتقلت اللجنة لمشاهدة الفيلم‪ .‬أثار الفيلم استياء اللجنة‪ .‬وبعثت تسأل‬ ‫وزير الثقافة كيف سمحت الرقابة بعرض هذا الفيلم‪ .‬ذكر مصدر مسُتئول‬ ‫بالثقافة أن هذا الفيلم تم إخراجه منذ عامين وأنه أحد أفلم جماعة‬ ‫السينما الجديدة‪.‬‬ ‫"‬ ‫وفي اليوم نفسه نشرت جريدة الهرام ) ‪ (7/5/1975‬خبرا يقول‪:‬‬ ‫"صرحت لجنة الثقافة والعلم بمجلس الشعب بأنها لن تناقش مستوى‬ ‫الفلم المصرية في الجلسة التي أعلن عنها‪ ،‬وأن اعتراضها كان على‬ ‫فيلم واحد يجري عرضه الن في القاهرة‪.‬‬ ‫"‬ ‫وقبل انتهاء مدة عرض الفيلم كتبت إحدى الجرائد )الجمهورية‬ ‫‪ (8/5/1975‬تقول‪:‬‬ ‫الخر الذي أنتجته جماعة السينما الجديدة‪ ،‬صدر‬ ‫" الظلل في الجانب "‬ ‫قرار وزير الثقافة بعدم عرضه أو توزيعه في الداخل أو الخارج‪.‬‬ ‫وبسرعة تم سحب الفيلم لتنشر الجرائد )الهرام ‪ (10/5/1975‬خبرا‬ ‫جديدا يقول‪:‬‬ ‫"يوسف السباعي وزير الثقافة لم يصدر قرارا بوقف عرض الظلل في‬ ‫"‪.‬‬ ‫الجانب الخر في الداخل أو الخارج‪ ،‬فالفيلم انتهت مدة عرضه‬ ‫وما أن تبين كزتاب التخلف‪ ،‬ومروجو السينما المتردية موقف السلطة‬ ‫المعادي للفيلم حتى انطلقوا في مهاجمته‪ ،‬على نحو بالغ الشراسة‬ ‫والتجني‪ .‬وكمثال‪ ،‬نشرت إحدى المجلت )الكواكب ‪14‬أغسطس‬ ‫الطائر فوميل لبيب‪:‬‬ ‫"‬ ‫‪ (1975‬بقلم"الناقد‬ ‫"أن الفيلم فشل سينمائي ذريع تخسر فيه جماعة السينما الجديدة نقطة‬ ‫ثمينة في المباراة الدائرة بين المخرجين القدامى والجدد‪ ..‬والفيلم يعتبر‬ ‫إهدارا لمال الدولة حين كان المال سائبا وأبواب المجاملت مفتوحة‬ ‫‪295‬‬


‫للغاضبين والسينمائيين الجدد والواعدين وكنوز الغد السينمائي وغير‬ ‫ذلك من الوصاف التي امتلت بها أعمدة النقد حين كان النقاد من أتباع‬ ‫غيفارا والشيخ إمام‪.‬‬ ‫"‬ ‫ولم تكن هذ ه النغمة الكريهة شاذة في هذ ه الفترة‪ ،‬ولكنها جاءت‬ ‫متوافقة مع هجمة اليمين على جميع الجبهات الثقافية‪ ،‬فقبل عرض‬ ‫الكاتب قد تعرضت‬ ‫الخر واغتياله‪ ،‬كانت مجلة" "‬ ‫"الظلل في الجانب "‬ ‫لنقلب قامت به وزارة الثقافة‪ ،‬أطاح بهيُتئة تحريرها ذا ت التجاهات‬ ‫التقدمية‪ ،‬لتحل محلها هيُتئة تحرير من موظفين يدينون بالولء الكامل‬ ‫لخط النظام‪ .‬وبعد شهور قليلة تمت تصفية القطاع العام في مجال‬ ‫الكتاب الذي تكون عام ‪1976‬‬ ‫"‬ ‫السينما‪ ،‬وحسمت السلطة معركة"إتحاد‬ ‫لمصلحة أصحاب التجاهات الرجعية‪ .‬وفي العام التالي‪ ،‬بعد انتفاضة‬ ‫الشعب المصري الشهيرة أغلقت مجلة الطليعة التي كانت تعد من أهم‬ ‫قلع اليسار‪ ،‬وفي الوقت الذي تم فيه الزج بالعديد من الكتاب التقدميين‬ ‫في المعتقلت‪ .‬أزيح ممثلوا التيارات الليبرالية من الجرائد والمجلت‪،‬‬ ‫ليحل مكانهم من يقتنع أو يتظاهر بالقتناع بسياسة النفتاح‪ ،‬والصلح‬ ‫مع إسرائيل‪ ،‬والنعزال عن المة العربية‪ ،‬والقول بأن مصر دفعت‬ ‫الكثير‪ ،‬وتحملت الكثير‪ ،‬وأنه آن الوان لكي تتوقف عن الدفع‪ ..‬إلخ"‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪296‬‬

‫*‬


‫مع بعض العاملين في فيلم "الظلل ‪"...‬‬

‫وفي السكندرية‬

‫‪297‬‬


‫لعله مما يزيد المور وضوحا‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬أنه في إحدى زياراتي‬ ‫الخاطفة‪ ،‬قا دما من بيروت‪ ،‬لزيارة شقيقاتي في السكندرية‪ ،‬صا دف‬ ‫موعد عرض فيلم "الظلل في الجانب الخر" في دورالسينما لول‬ ‫مرة‪ ،‬بعد سنوات من انتاجه والحجر عليه من قبل الرقابة‪ ،‬وقبل إيقاف‬ ‫عرضه استجابة للمطالب المذكورة في مقال الناقد كمال رمزي‪ ،‬كان‬ ‫من الطبيعي أن أ دعوالشقيقات لمشاهدة فيلمي بعد طول انتظار‪.‬‬ ‫همست لي الموظفة‪ ،‬من خلف شباك التذاكر‪ ،‬بشكل مباشر وبدون‬ ‫مقدمات‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬ما تشوفو لكو فيلم تاني‪ ..‬الفيلم دا مش حلو‪ ..‬ل "قصه" ول‬‫"مناظر"!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫لم أتوقف كثيرا عند ذلك التعليق الذي عرفت بعد ذلك حقيقة مصدر‪،‬ه‪.‬‬ ‫ولم أتركه يفسد عليي متعة أول مشاهدة لفيلمي الروائي الول في‬ ‫عرض تجاري في دار عامة للـ "خيالة"‪ .‬وتركت العنان لذنوي للتقاط‬ ‫ما أمكن التقاطه من تعليقات الجمهور‪ ،‬المعلم الول‪ ،‬سلبا أو إيجابا‪.‬‬ ‫إنها متعة‪ ..‬بل وأي متعة!‬ ‫*‬

‫‪298‬‬

‫*‬

‫*‬


‫صورة إعلن فيلم "الظلل‪ "...‬في بيروت‬ ‫بدون ذكر إسم المخرج !!!!!!!‬

‫‪299‬‬


‫)بقية(‬

‫"فضـــــفضـــــه"‪..‬‬

‫"ما أضيق العيش لول فسحة المضل"‪ ،‬أو تلك الستراحات التي يجد‬ ‫فيها النسان‪ ،‬والفنان بالذات‪ ،‬وقتا ضلذاته!‬ ‫هل يمكن أن تكون اهتمامات الفنان كلها مقتصرةعلى عمله‪ ،‬الذي يص و‬ ‫ب‬ ‫في الهتما م بالخرين دائما؟‬ ‫وهل هناك مفر من الوقوع تحت تأثير "حالت إبداعية" أخرى تفرض‬ ‫نفسها على الجانب الخر من حياته؟‬ ‫فما أكثر ما كانت لي‪ ،‬شأن الخرين‪ ،‬شطحاتي وعثراتي ولحظات‬ ‫ضعفي وحاجاتي‪!.. .. ..‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كنت أسكن في غرفة مفروشة مقتطعة من شقة عائلة من الطبقة‬ ‫المتوسطة في حي تعو د الطلبة أن يلجأوا فيه إلى هذاالنوع من السكن‪.‬‬ ‫هذا بينما كان والد و‬ ‫ي وأخواتي يسكنون السكندرية منذ عا م ‪.1957‬‬ ‫أمي كانت تنتظر زياراتي وتفرح لها‪ .‬ولكنها كانت تنظرلي دائما‬ ‫بشيء من العتاب‪ ،‬وفي عينيها ذلك التساؤل الذي ل تمل من تكرار‪،‬ه‪،‬‬ ‫شأن كل المهات‪..‬‬ ‫"متى يابنوي‪.. ..‬؟"‬ ‫كانت أحوالي الما دية ل تسمح لي بالتفكير في ذلك‪ .‬هذا إلى جانب‬ ‫شعوري بعد م الستقرار وإحساسي بالذنب والمسئولية تجا‪،‬ه أخي الذي‬ ‫تولى رعاية السرة ما ديا منذ عا م ‪ ،48‬والذي تضاعفت مسئولياته‬ ‫‪300‬‬


‫وإلتزاماته بعد زواجه‪ ،‬ولم يبرح مكان عمله في السعو دية )حتى وافا‪،‬ه‬ ‫أجله هناك عا م ‪ .( 83‬لكنه كان ل يفتأ يكتب لي ويعبر لي عن سعا دته‬ ‫وهو يقرأ أخباري في الصحف ويقول مشجعا‪ ..‬إستمر ول تشغل بالك!‬ ‫كنت دائما أبوح له‪ ،‬كتابة‪ ،‬بكل ما ينوء به صدري‪.‬‬ ‫قال لي أكثر من مرة‪" :‬أنا مؤمن بما تفعل‪ ،‬ولو كنت مكانك لما فعلت‬ ‫غير ذلك‪".‬‬ ‫ومرة أخرى قال لي‪" :‬إسمح لي أن أستمتع بالفخر بأنني أساهم في أن‬ ‫تتمكن وتصبح الشيء الذي تريد‪،‬ه‪".‬‬ ‫وكتب لي مرة بأسلوبه الساخر‪:‬‬ ‫" أشعر بضآلة ما يقتطعونه من مرتبي لصالح الثورة‪ ،‬ولذلك فقد‬ ‫اقتطعتك أنت من حساباتي لقدمك لها‪ ،‬هذا كل ما يمكنني عمله من‬ ‫أجلها‪ .‬فامض في طريقك لني سعيد بما استطع أ‬ ‫ت أن تنجز حتى الن‪،‬‬ ‫وسوف يسعدني أكثر أن تنجز أكثر وأكثر!‬ ‫إذن فما عليك الن ‪ -‬بعد أن وفيت أنا بوعدي‪..‬أو كدت‪ -‬إل أن تحقق‬ ‫لي ما أتمنا‪،‬ه الن‪ ،‬وهو أن أراك سخيا وا في عطاءك‪ ،‬وأن تحقق لي ما‬ ‫تتمنا‪،‬ه أنت لنفسك‪".‬‬ ‫وكتب لي في مرة أخرى يقول‪:‬‬ ‫" كيف يمكن‪ ،‬بعدما قرأت ما كتبو‪،‬ه عنك وعن مشروعك‪ ،‬الثقافي‬ ‫والوطني‪ ،‬أن يتوقع مني أحد غير دعمك والوقوف إلى جانبك؟ ولول‬ ‫الضرورة والحاجة واللتزامات العائلية التي تقتضي وتحتم بقائي هنا‬ ‫في السعو دية لوجدتني واقف معك‪..‬عامل "كلكيت"!‬ ‫ويتضخم إحساسي بالمسئولية‪ ،‬والخوف من أن ل أكون أهل لكل تلك‬ ‫الثقة‪.‬‬ ‫لم يكن أخي"عابد" أقل إلحاحا علوي من أمي فيما يتعلق بالزواج‬ ‫والستقرار‪ .‬ولكنه كان أكثر ذكاء في تلميحاته وتصريحاته‪.‬‬ ‫كان دائم السخرية مني ومن نظرتي إلى الحب والزواج‪ .‬فقد كنت‬ ‫ دائما أومن أن الحب سلوك أخلقي حتى لو لم يكن مكلل بالزواج‪،‬‬ ‫‪301‬‬


‫ولكنني كنت أومن أيضا أن الزواج بدون حب هو السلوك الغيرأخلقي‬ ‫بعينه‪.‬‬ ‫كان أخي "عابد"‪ ،‬القاريء النهم كما عرفته‪ ،‬ل يفتأ يشبعني سخرية و‬ ‫تنكيتا وتبكيتا‪ ،‬يذيل رسائله دائما بأقوال مأثورة‪ ،‬أو أخرى من بنات‬ ‫أفكار‪،‬ه‪ ،‬تتناسب مع موضوع جاء ذكر‪،‬ه في رسالتي إليه أو في ر د‪،‬ه‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫ذلك على غرار‪:‬‬ ‫" ما أسوأ أن تقع في الحب ثم تفقد‪،‬ه‪ .‬ولكن السوأ من ذلك‪ ..‬أن ل تحب‬ ‫أبدا!"‬ ‫و"الرجل العاقل هو الذي يعمل على الزواج من المرأة التي يحبها‪.‬‬ ‫والعقل منه‪..‬هوالذي يعمل على أن يحب المرأة التي يتزوجها‪".‬‬ ‫و"ليس هناك أجمل من أن يكتشف الخرون مزاياك الحميدة‪.‬‬ ‫فامنحهم الفرص للمزيد من هذ‪،‬ه الكتشافات‪".‬‬ ‫و" في حياة كل منا قدران‪ ،‬قدر تكتبه السماء‪ ،‬وقدر نصنعه نحن‬ ‫بأيدينا‪".‬‬ ‫إلخ ‪ ..‬إلخ ‪..‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫وعن "أوسكار وايلد" أنه قال‪:‬‬ ‫" ثمة مصيبتان في الحياة‪ ،‬الولى أن ل تحصل على ما تريد‪،‬ه وتتمنــا‪،‬ه‪،‬‬ ‫والثانية‪ ..‬أن تحصل عليه‪".‬‬ ‫ففي أثناء قيامي بالعدا د لفيلمي الروائي الول وبحــثي فــي دار الذاعــة‬ ‫في القاهرة عن تسجيلت لموسيقى فلسطينية‪ ،‬لكي أستخدمها في بعض‬ ‫مشاهد الفيلم‪،‬أحالوني إلى إذاعـة فلسـطين فـي"صـوت العـرب"‪ ،‬حيـث‬ ‫سأجد بغيتي‪.‬‬

‫‪302‬‬


‫لم أجد هناك ما كنت أبحث عنه‪ .‬ولكني قابلت "هـ" التي استطاعت أن‬ ‫تدفعني لختلق أسباب أخرى لزيارة ذلك المكان والتي سعدت‬ ‫بوجو دها إلى جانبي فترة ليست بالقصيرة‪.‬‬ ‫في لقاء لنا خارج نطاق العمل‪ ،‬بعد بضعة أشهر من اللقاءات الولى‪،‬‬ ‫وبعد غيبة أيا م قضيأتها في السكندرية‪ ،‬تعرضت فيها لموجات من‬ ‫الشحنات العاطفية التي كان يبوح بها صمت أختي الكبرى "محسن"‬ ‫ونظراتها اللئمة‪ ،‬وهي التي أخذت على عاتقها أن تواصل ما دأبت‬ ‫عليه والدتي قبل وفاتها‪.‬‬ ‫قلت لها ‪ -‬لضـ"هـ"‪ -‬فجأة وبعفوية شديدة‪:‬‬ ‫ اشتقت إليك‪..‬‬‫رمقتني بنظرة طويلة تحمل من المعاني ما يحتاج لكثير من البلغة لكي‬ ‫تقال‪ .‬ثم أوجأز ت‬ ‫ت‪:‬‬ ‫ وأنا أيضا‪..‬‬‫قلت لها‪ ،‬مجيبا‪ ،‬بعد عدة لقاءات أخرى‪:‬‬ ‫ عندما تقول لي إحداهن "أحبك"! فهي إذن قد استطاعت أن تكتشف‬‫ما في داخلي من قيم‪ .‬ول تسـتطيع ذلـك إل مـن كـانت تمتلـك مثـل هـذ‪،‬ه‬ ‫القيم‪.‬‬ ‫وعندما فاجأتني بسؤالها لي عن تينك الخريات‪ ،‬قلت لها ما قاله أحد‬ ‫الظرفاء‪:‬‬ ‫ الخريات يا عزيزتي كن صديقاتي‪ ..‬لكنك ستكونين أرملتي‪.‬‬‫ضحكنا‪ ،‬واعتبرنا ذلك الحوارالقصير المقتضب بمثابة عرض للزواج‬ ‫وقبول له من كلينا‪.‬‬ ‫وسرعان ما سربنا الخبر لمن يهمه المر‪ ..‬فذاع وانتشر‪.‬‬ ‫ولم يبق سوى صدور تصريح الرقابة العامة بعرض فيلمي‬ ‫"الظلل ‪ ،"..‬وبالتالي استل م قيمة أجري المؤجل لما بعد العرض عن‬ ‫‪303‬‬


‫كتابة السيناريو والخراج**‪ ،‬حسب التفاق‪ ،‬لكي أتمكن من حل‬ ‫مشكلة اللتزامات المالية لمشروعي الجديد‪ ..‬مشروع الستقرار‬ ‫العاطفي‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫__________________________________________________________‬

‫‪304‬‬


‫)**(‬

‫ولعله من الطريف أن أذكر أن ما تسلمته من أجري المذكور‪ ،‬حتى كتابة هذ ه السطور‪،‬‬ ‫هو ‪ 400‬جنيها فقط ل غير‪ ،‬من أصل ‪ 2000‬من الجنيهات‪ ،‬حسب ما جاء في العقد‪،‬‬ ‫عن كتابة السيناريو والحوار‪ ..‬والخراج‪.‬‬

‫جزء من حديث مع "نهى العلمي" في مجلة "الذاعة والتلفزيون"‬

‫‪305‬‬


‫صـــه" السينمائي‬ ‫مهرجان "عجعمـــ ع‬

‫ثم يتقررعقد أول مهرجان قومي للسينما المصرية‪ ..‬في منتجع‬ ‫"جمصه"‪.‬‬ ‫ويتقرر‪ ،‬وهو في رأيي ما يعتبر أحد إنجازات جماعة السينما‬ ‫الجديدة‪،‬أن يشارك الشباب السينمائي في لجنة التحكيم‪ ،‬التي كان يرأسها‬ ‫شيخ المخرجين والنقا د "أحمد كامل مرسي"‪.‬‬ ‫وأكون أنا أحد العضاء الممثلين للسينمائيين الشبان في تلك اللجنة‪ .‬كما‬ ‫يتقرر عرض فيلم"الظلل‪ ".. ..‬خارج نطاق التحكيم لكوني عضوا‬ ‫في لجنة التحكيم تلك )!(‬ ‫كنا‪ ،‬جماعة السينما الجديدة‪ ،‬نعتبر بكل فخرأن ذلك يدخل في نطاق‬ ‫إنتصاراتنا التي حققناها‪.‬‬ ‫وينتهي المهرجان‪ .‬وتنهي لجنة التحكيم التي كانت تجتمع في منزل "أ‪.‬‬ ‫ك‪ .‬مرسي" مهامها ومن ثم يرسل المظروف المقفل الذي يحتوي على‬ ‫النتائج إلى وزارة الثقافة‪.‬‬ ‫وننظر إعلن النتائج‪.‬‬ ‫وبدل من ذلك تصل أعضاء لجنة التحكيم دعوة لجتماع استثنائي )!(‬ ‫وتتناقل الوساط الثقافية تكهنات متشابهة تفيد بأن وزير الثقافة‪ ،‬يوسف‬ ‫السباعي‪ ،‬لم يكن راضيا عن المخرح"يوسف شاهين" الذي كان‬ ‫قراراللجنة في صالح فيلمه "الختيار"‪ .‬ويبدو أن النتيجة كانت قد‬ ‫"تسربت" إلى الوزير فأعا د المظروف مقفل إلى رئيس اللجنة‪.‬‬ ‫‪306‬‬


‫في ذلك اليو م وصلت‪ ،‬كعا دتي‪ ،‬مبكرا لجد أحد أعضاء اللجنة الشبان‬ ‫يقف منتظرا بباب العمارة التي يسكنها أستاذنا "أ‪.‬ك‪.‬مرسي"‪ .‬أبدى‬

‫‪307‬‬


‫العضو المذكور ارتياحه‪ ،‬ورأيه في عد م الدخول انتظارا لوصول بقية‬ ‫العضاء لكي يتم التفاق على موقف رافض للستسل م لرا دة‬ ‫الوزيرالفر دية‪ ،‬لما في ذلك من إهدار للقيم التي نؤمن وننا دي بها‪.‬‬ ‫في بداية ذلك الجتماع الستثنائي أخذ أستاذنا يسترسل في التمهيد‬ ‫لشرح الغرض من الجتماع‪ ،‬ثم )بعد أن عاجله أحدنا بالجملة الدارجة‬ ‫"هات من الخر"(‪ ،‬لم يجد مناصا من إعلنها صريحة بأن المطلوب‬ ‫من اللجنة‪..‬أن تعيد تقييمها أو تقويمها )!(‬ ‫الحق يقال‪ ،‬أن جميع أعضاء اللجنة‪ ،‬وعلى رأسهم الشبان الثلثة طبعا‪،‬‬ ‫قد أبدوا رفضهم للنصياع لرا دة فر دية شخصية لما فيها من مخالفة‬ ‫للقوانين والعراف‪ ..‬والضمير‪.‬‬ ‫ولم أكد أسعد بذلك الموقف الجماعي الذي كان يلبي اللهفة والشوق إلى‬ ‫ممارسة ذلك الشيء الذي طالما نا دينا به‪ ..‬حرية الرأي‪ ..‬حتى وجدت‬ ‫نفسي شيئا فشيئا أقف وحيدا‪ ،‬وأنا أبدي رفضي للتراجع‪ ،‬أما م‬ ‫محاولت أستاذنا "أ‪.‬ك‪.‬مرسي" المشينة بقبول فكرة تلفيق النتيجة بما‬ ‫يرضي سيا دة الوزير‪ ،‬بعد أن تراجع الجميع عن مواقفهم الرافضة‬ ‫الواحد تلو الخر‪.‬‬ ‫كانت أسبابهم جميعا ل تتعدى الشارة إلى كونهم موظفين في الدولة‬ ‫ول يستطيعون "قطع أرزاقهم بأيديهم"‪ ،‬بمخالفة إرا دة معالي الوزير‪.‬‬ ‫وأما م إصراري على رفض إتخاذ الموقف المتخاذل‪ ،‬إتهمني الجميع‬ ‫بأني "أزايد" عليهم رجولة والتزاما‪ ،‬بحجة أني لن أتضرر من جراء‬ ‫فصلي من وظيفتي في التلفزيون‪ ،‬حيث أن كوني فلسطيني الجنسية‬ ‫يجعلني أمتلك الخيارات للعمل في أي بلد عربي آخر‪.‬‬ ‫بل إن أحدهم صرح‪ ،‬كمن يفشى سرا‪ ،‬بأني كنت أسعى فعل للتفرغ‬ ‫للعمل في إعل م "منظمة التحرير"‪ ..‬في بيروت )!(‬ ‫وبذلك وجدت نفسي متهما بالنتهازية‪ ،‬والنانية‪ ،‬وعد م مراعاة ظروف‬ ‫الخرين‪.‬‬

‫‪308‬‬


‫ثم وجدت نفسي‪ ،‬مراعاة لتلك الظروف‪ ،‬أرضى بالحل الذي يقترحه‬ ‫رئيس اللجنة‪ ،‬الذي كان بمكانة الستاذ والمعلم مني والذي أحرجني‬ ‫وأخجلني موقفه وهو يسد د لي نظراته اللحوحة بينما هو يمسك أسفل‬ ‫ذقنه بأطراف أصابعه مذكرا إياي بأنه أخي الكبر وفي مقا م والدي‬ ‫الذي يحرص على مصلحتي‪ ،‬أل وهو الستقالة من لجنة التحكيم‪.‬‬ ‫لكن اللجنة لم تقبل إستقالتي لكونها‪ ..‬إستقالة "مسمببة"‪.‬‬ ‫ولم أجد مناصا من الموافقة على كتابة صياغة أخرى غير مسببة"‪،‬‬ ‫مؤكدا لرئيس اللجنة وأعضائها أني لن أتعهد بالسكوت عن إبداء‬ ‫أسباب الستقالة فيما لو تعرضت لي مساءلة شفوية بهذا الشأن من أ و‬ ‫ي‬ ‫كان‪.‬‬ ‫)لعلي أذكر أني قابلت في مساء ذلك اليو م صديقي ال ديب "مجيد‬ ‫طوبيا"‪ ..‬وأنه سألني‪ ..‬وأني أجبته بصراحة‪(.‬‬ ‫وانتهى المر بأن ظل الوضع على ما هو عليه‪.‬‬ ‫وأسدل على الموضوع برمته ستار الكتمان‪ ،‬فكانت تلك الظاهرة‬ ‫التاريخية الفريدة‪ ..‬مهرجان سينمائي ومسابقة ولجنة تحكيم‪ ..‬بدون‬ ‫إعلن النتائج!‬ ‫وبل عو دة لقامة ذلك المهرجان السنوي بعد ذلك!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كانت لي محاولة يتيمة‪ ،‬سرمها نزوة‪ ،‬لكتابة مسرحية من فصل واحد‬ ‫حول تلك اللجنة التي يتبارى فيها أبطالها‪ ،‬أعضاء لجنة التحكيم‪ ،‬في‬ ‫الحديث عن المثل العليا والضمير والتمسك بالمبا ديء والتصدي لكل‬ ‫ما من شأنه أن يمس حرية الرأي‪ .‬ثم تأتي لحظة الحسم التي يتساقط‬ ‫فيها أبطال المسرحية الواحد تلو الخر‪ .‬لكرل أسبابه النسانية و دوافعه‬ ‫الما دية وأعذار‪،‬ه المنطقية )!(‬ ‫ويتخلخل جدار الصمو د وينهارأما م قهرالظروف وجبروت السلطة‪.‬‬ ‫‪309‬‬


‫لكنني تذكرت‪ ،‬بعدما قطعت شوطا في الكتابة‪ ،‬أن "الموضوع" مكرر‬ ‫إلى درجة الهتراء فتوقفت‪.‬‬

‫العبـــــــــــــور‪..‬‬

‫كان‪ ،‬وما زال‪ ،‬شأن الكثيرين‪ ،‬من العبث أن أحاول وصف مشاعري‬ ‫إزاء حدث جلل مثل إنتصار حرب أكتوبر ‪ ..73‬كتاباة‪ .‬وكانت المسألة‬ ‫في نظري تتجاوز معنى كسب حرب‪ ،‬أومعركة في حرب‪ ،‬إلى المعنى‬ ‫الشمل وهو "العبور"‪ .‬العبور إلى بر الكرامة‪ .‬فقد كان انفعالي ل‬ ‫يدانيه سوى قدرة الكاميرا على التعبيرالطازج‪ ،‬بالصوت والصورة‪،‬‬ ‫عن تلك المشاعر التي غمرتنا وأنقذتنا من مستنقع عارالهزيمة‪.‬‬ ‫أول ما توار د إلى خاطري هو ذكريات اليا م الولى للهزيمة التي‬ ‫تعو دنا أن نطلق عليها إسما آخر هو"النكسة"‪.‬‬ ‫تمنيت أن أطير إلى "فيينا" لكي أ دعو صديقي "يوهان" للحتفال‪ ،‬مع‬ ‫بقية أفرا د الشلة الباقين هناك‪ ،‬باستر دا د الكرامة المفقو دة في نفس‬ ‫المكان الذي شهد لحظات إكتشافنا لمدى قسوة مرارة الحساس‬ ‫بالهزيمة والمذلة‪.‬‬ ‫تمنيت أن أرى صديقي السباني"ضيف ا" وهو يستعيد شعور‪،‬ه‬ ‫بالفخر والمجاهرة باعتزاز‪،‬ه ببقايا الدماء العربية التي تسري في‬ ‫عروقه‪ ،‬كما كان يصرح دائما‪.‬‬ ‫تمنيت أن أنظر مرة أخرى في وجه ذلك اليهو دي الصهيوني المعتو‪،‬ه‬ ‫الذي قال لنا ذات يو م‪ ،‬في إحدى ضواحي فيينا‪ ،‬بالعربية الفصحى‪:‬‬ ‫"من ل يعرف السباحة‪ ..‬يترك الملحة"‪.‬‬ ‫مجر د نظرة‪ ..‬ولن أبصق في وجهه‪.‬‬ ‫تمنيت أن أرى "ماريا" لكي أزف إليها إشراقة المل في العو دة إلى‬ ‫القدس‪.‬‬ ‫‪310‬‬


‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كنت قد اغتنمت فرصة مرور عضواللجنة التنفيذية لقيا دة الثورة "أبو‬ ‫إيا د"‪ ،‬ووجو د‪،‬ه في مصر‪ ،‬أواخر سبتمبر ‪ ،73‬لطلب منه تمويل لفيلم‬ ‫تسجيلي عن معركة العبور "القا دمة حتما" في يو م ما ليس ببعيد‪ ،‬بعد‬ ‫أن أعا دت إلينا "حرب الستنزاف" المل في استر دا د الكرامة‪ .‬لمعت‬ ‫عينا‪،‬ه‪ ،‬مما أوحى لي بأنه كان يعرف أكثرمما نعرف‪ ،‬ولم يتر د د في‬ ‫إصدار التعليمات لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة‪ ..‬بما‬ ‫يسمى "كارت بلنش"!‬ ‫لقائي وحديثي مع "أبو إيا د" خلق عندي ذلك الشعور الذي يشبه شعور‬ ‫القطط قبل وقوع الزلزال‪.‬‬ ‫هل كانت خواطر"أبوإيا د" التي طرحها وتلميحاته التي باح بها‬ ‫إستشرافا أو نبوءة بما سيكون؟ أ م أنها مجر د تداعيات وأفكار ساقها من‬ ‫قبيل التحليل والتفسير‪ ،‬كما يفسرالبدوي تحليق الطائر فوق رأسه‬ ‫بوجو د ثعبان بالقرب منه؟‬ ‫أ م أنه‪ ،‬يا ترى‪ ،‬كان يعرف حقا أكثر مما نعرف؟!‬ ‫وبا درت منذ اللحظات الولى للعبور‪ ،‬وفرحتي ل تدانيها فرحة‪ ،‬في‬ ‫التقد م للحصول على تصريح أمني للتصوير في مسرح العمليات من‬ ‫إ دارة التليفزيون‪ ،‬إتفاقا مع زميلي وصديقي المصورالسينمائي وعضو‬ ‫جماعة السينما الجديدة "محمو د عبد السميع"‪ .‬ولكنني محولت من قبل‬ ‫التليفزيون إلى "هيئة لستعلمات"للحصول على التصريح المطلوب‪،‬‬ ‫لكوني لست مصري الجنسية‪.‬‬ ‫وهناك في "هيئة الستعلمات" أفا دوني بأن "التصاريح" التي‬ ‫يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمراسلين الجانب‪ .‬أما أنا فينطبق‬ ‫علي ما ينطبق على إخواني المصريين بحكم إقامتي الدائمة في مصر‪،‬‬ ‫وكوني موظفا في أحد أجهزة الدولة‪.‬‬ ‫في المكتب المختص في "التليفزيون" كرروا إفا دتي بأن التصاريح‬ ‫التي يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمصريين‪ ،‬وأن أوراقي‬ ‫الرسمية تقول غير ذلك‪.‬‬ ‫‪311‬‬


‫ويبدو أنني قد بدأت‪ ،‬من حيث ل أ دري‪ ،‬بمزاولة "الجولت المكوكية"‬ ‫بين "هيئة الستعلمات" و "هيئة التليفزيون"‪ ،‬قبل أن يقو م "صديقي‬ ‫كيسنجر" بتكريس هذا الصطلح‪.‬‬ ‫التليفزيـــون‬ ‫الستعلمات‬ ‫التليفزيـــون‬ ‫الستعلمات‬ ‫التليفزيــــون‬ ‫الستعلمات‬ ‫التليفزيــــون‬ ‫الستعلمات‬ ‫التليفزيـــون‬ ‫الستعلمات‬

‫‪ :‬يا حضرة إنت صحيح زميلنا‪ ..‬وما فيش فرق بين‬ ‫فلسطيني ومصري‪ .‬لكن الجهه المختصة بالسماح لك‬ ‫هي"هيئة الستعلمات"وبس!‬ ‫‪ :‬يا أستاذ إحنا بننفذ لوائح‪ ..‬وحضرتك ل تنطبق عليك‬ ‫هذ‪،‬ه اللوائح‪.‬‬ ‫‪ :‬ما تتعبشي روحك! وروح وما تتنقلشي من عندهم إل‬ ‫ومعاك التصريح‪ ..‬إيه الكل م الفارغ د‪،‬ه؟!‬ ‫‪ :‬الراجل اللي قال لك الكل م د‪،‬ه مش فاهم شغله‪ ..‬خليه‬ ‫يسأل اللي أعلى منه!‬ ‫‪ :‬مش حضرتك بتقول إن الفيلم اللي رايح تصور‪،‬ه مش‬ ‫تبع التليفزيون‪ ..‬طيب يبقى التصريح لز م يطلع من‬ ‫"هيئة الستعلمات"‪ ..‬وال إيه ياخواننا؟‬ ‫‪ :‬ما نقدرشي نتعامل معاك كأجنبي وحضرتك فلسطيني‬ ‫وموظف في التليفزيون كمان‪ ..‬هو فيه فرق بين‬ ‫مصري وفلسطيني يا عالم؟!‬ ‫‪ :‬روح قول للراجل "الجاهل" د‪،‬ه يشوف شغله وبل ش‬ ‫تضييع وقت!‬ ‫‪……… :‬‬ ‫‪……… :‬‬ ‫‪ :‬مش حضرتك كنت عاوز تصور "العبور"؟‬ ‫طب ما إحنا عبرنا‪ ..‬وخلص‪.‬‬

‫كانت هذ‪،‬ه مجر د "عينه" مختصرة ومنقحة من تلك الحوارات فقط‪.‬‬ ‫ولقد استغرقت في الواقع أياما كانت الحداث فيها قد تطورت إلى‬

‫‪312‬‬


‫مرحلة "الجسرالجووي"‪ ..‬و"الثغرة"‪ ..‬والقبول بقرار المم المتحدة‬ ‫بوقف القتال‪ ..‬والمفاوضات على "فك الرتباط"‪ ..‬إلخ‬ ‫وكان زملئي في التلفزيون يتابعون جولتي المكوكية ويعلقون على‬ ‫نتائجها بما ل يسور الخاطر‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫أذكرهنا موقفا حدث قبيل الحرب‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه زملئي في‬ ‫"مراقبة التمثيليات" في مبنى التلفزيون يتندرون بحكاية الرئيس أنور‬ ‫السا دات مع سنوات "الحسم" وأيا م "الضباب"‪ .‬فقد دأب صديقي الكاتب‬ ‫التلفزيوني البارز في حينها "جلل الغزالي" على أن يدير نقاشا يوميا‬ ‫حول الحداث المتعاقبة بسرعة‪ ،‬وخطر له أن يسألني أما م بقية‬ ‫الزملء‪ ،‬بصفتي أنتمي لطرف ربما يكون له رؤية أخرى ربما تكون‬ ‫أكثر وضوحا أو موضوعية‪ ،‬عن الحتمالت المتداولة‪.‬‬ ‫حقيقة المر أنني لم أكن في يو م من اليا م مغرما بالنغماس في‬ ‫أحا ديث السياسة‪ .‬وهذا ل يتعارض قطعا أو ينفي مقدرتي المتواضعة‬ ‫على فهم ما يجري من حولي‪ ،‬ومعرفة أسبابه وتحليلها‪ ،‬أومقارنة‬ ‫التحليلت المتوفرة واستيعابها وتحديد مكاني منها والتكهن بالنتائج‪،‬‬ ‫وهوما أصبح يسمى‪ ،‬بلغة المحللين السياسيين‪ ،‬بتصور"سيناريو"‬ ‫الحداث‪ .‬وكان تواجدي بين مجموعة من الصدقاء المثقفين‬ ‫المصريين‪ ،‬كوتابا وصحفيين وفنانين‪ ،‬خارج نطاق التليفزيون‪ ،‬كفيل‬ ‫بتوفيرالجواء التي تتيح وتسهل لي ذلك‪.‬‬ ‫ومع ذلك قلت‪ ،‬متأثرا بقراءتي الطازجة لكتاب "لعبة المم"‪ ،‬من تأليف‬ ‫رجل المخابرات المركزية الميريكية "مايلز كوبلند"‪ ،‬اشتهر في تلك‬ ‫الونة التي أعقبت "النكسة" بالذات‪ ،‬أن هناك "جهات عليا" ذات‬ ‫"مصالح" مصيرية في "المنطقة" ربما ترى أن حل مشكلة "التوتر"‬ ‫وإقرار "سل م" أو "استقرار" يكفي ويضمن الحفاظ على مصالحها ل‬ ‫يتأتى‪ ،‬فيما يتعلق بما تم التعارف على تسميته بـ"مشكلة الشرق‬ ‫‪313‬‬


‫الوسط"‪ ،‬إل بوجو د "قائد بطل" ينقا د إليه العرب‪ ،‬ومصربالذات‪ .‬هذا‬ ‫البطل يمكن صناعته وتلميعه )على غرار طريقة صناعة النجو م في‬ ‫السينما الميريكية‪ ،‬بحيث يمكن من خللهم‪ ،‬بعد تألقهم ونجاحهم وتعلق‬ ‫الجماهير بهم‪ ،‬تمريرالقصص المحشوة بما طاب لهم من الفكار‬ ‫المبيتة( عن طريق نجاح أو إنتصار يحرز‪،‬ه في حرب قصيرة‬ ‫"محدو دة"‪ ،‬يمكن استدراج الطرفين لها‪ ،‬لهذا الغرض‪ .‬ثم ل تلبث هذ‪،‬ه‬ ‫الحرب المحدو دة أن "تتوقف" بعد حصول كل من الطرفين على‬ ‫إنتصارات أو مكاسب محسوبة تعقبها مساومات‪ ،‬أو سومها مفاوضات‪،‬‬ ‫قد تؤ دي في النهاية إلى النتائج المطلوبة من سل م واستقرار‬ ‫"محسوبين" في المنطقة‪ ..‬أو‪ ..‬حالة "ل حرب ول سلم"!‬ ‫أو كما فسرها بعض المراقبين‪" ..‬انتصارات تؤ دي إلى أهداف ظاهرها‬ ‫الديمقراطية والسل م وباطنها التحالف مع الوليات المتحدة وأتباعها في‬ ‫المنطقة"‪.‬‬ ‫وفي أحد اليا م السابقة لقرار المم المتحدة بوقف القتال‪ ،‬وما زالت‬ ‫رحى الحرب دائرة‪ ،‬عاو د صديقي"جلل" سؤالي عن توقعاتي لليا م‬ ‫القا دمة‪ ،‬فما كان مني إل أن أشرت إلى حديثي السابق مضيفا أنني ل‬ ‫أستبعد‪ ،‬وإن كنت أتمنى أن أكون مخطئا‪ ،‬أن تجري الحداث بما يتفق‬ ‫مع "السيناريو" الذي ربما تكون تلك "الجهات العليا" قد وضعته‪.‬‬ ‫قال"جلل" محتدا‪:‬‬ ‫ والحرب اللي قايمه دلوقتي‪ ،‬والعبوراللي حققنا‪،‬ه‪ ،‬وخط "بارليف"‬‫اللي تدمر‪ ،‬مش معقول كل د‪،‬ه لعبة زي ما إنت بتقول‪ .‬ل طبعا!‬ ‫الحرب راح تستمر…‬ ‫قلت موضحا كلمي‪:‬‬ ‫ مش أنا اللي بقول! والحرب اللي قايمة والعبور اللي حققنا‪،‬ه‪..‬‬‫والجنو د والضباط اللي واخدينها جد‪ ،‬وهم على يقين من أن‬ ‫العدو يمتلك مخزونا كبيرا من السلح النووي‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫ذلك لم يتر د دوا في الهجو م و دمروا خط بارليف‪ ،‬ولواء‬ ‫المدرعات السرائيلي الذي تم أسر‪،‬ه بأسر‪،‬ه )وما ننسا ش‪ ،‬قبل‬ ‫‪314‬‬


‫كل شيء‪ ،‬الخمسميت يو م من حرب الستنزاف المجيد‪،‬ه‪،‬‬ ‫والعمال الخارقة اللي خطط ليها "سلح المهندسين"إبتداء من‬ ‫فتح الكباري على القنا‪،‬ه إلى فتح الثغرات في الساتر الترابي‬ ‫إلى إزالة ألغا م خط بارليف(‪ ،‬وكل المعجزات اللي حققها واللي‬ ‫قا دريحققها الجيش المصري حاجة‪ ،‬واللي إنت بتسألني عليه‬ ‫حاجه تانيه‪ .‬إحنا كنا بنتكلم عن "الجهات العليا"‪ ،‬والقوى‬ ‫العظمى التي تجتهد في أن تسوير الحداث في المنطقة حسبما‬ ‫تمليه مصالحها‪.‬‬ ‫هناك من كان يرى أن حرب عا م ‪ ،67‬المدوبرة والمقصو د منها التخلص‬ ‫من "عبدالناصر" واتجاهاته التي لتتفق مع أطماع الغرب في‬ ‫إمتصاص خيرات المنطقة‪ ،‬تمخضت عن مشكلت لم يتمكن المجتمع‬ ‫الدولي من حلها‪ ،‬وأن شكل من أشكال السل م هوالحل‪ ،‬على أن ل‬ ‫يكون ذلك بالنسبة لمصر من موقف ضعف‪ .‬ولذلك يجب أن يكون‬ ‫هناك حرب صغيرة محسوبة‪ ،‬مهمتها استعا دة الكرامة الوطنية بالنسبة‬ ‫لمصر‪ ،‬وكسر حدة إحساس إسرائيل بقدرتها على فرض إرا دتها‪،‬‬ ‫واستئثارها‪ ،‬بما يشبه الهيمنة‪ ،‬على تسييرالمور في المنطقة‪.‬‬ ‫ألم يصرح "هنري كيسنجر"‪ ،‬وزيرالخارجية الميريكية‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬ ‫بهذا المعنى‪ ،‬في مؤتمر صحفي ‪-‬عقد في الثاني عشر من أكتوبر ‪-74‬‬ ‫مضيفا بأن هدف الدبلوماسية الميريكية هو‪:‬‬ ‫" تفا دي أي مهانة للعرب‪ ،‬ومنع أي هزيمة لسرائيل!"‬ ‫والهم من ذلك هو السؤال الذي طرحه "كيسنجر" نفسه‪:‬‬ ‫"هل تسمح أميريكا للسلح السوفييتي أن يهز م السلح الميريكي في‬ ‫أيدي حليفتها إسرائيل؟"‬ ‫والكثرأهمية من هذا وذاك هو تصريح الرئيس الميريكي "ريتشار د‬ ‫نيكسون" عندما التقى عد دا من وزراء الخارجية العرب يو م ‪ 7‬أكتوبر‪،‬‬ ‫أي بعد يو م واحد من بدء الحرب المجيدة وظهور المؤشرات القوية‬ ‫التي تؤكد نهاية خرافة التفوق العسكري السرائيلي‪ ،‬فقد قال بالحرف‬ ‫الواحد‪:‬‬ ‫‪315‬‬


‫"إن الوليات المتحدة الميريكية سوف تساعد إسرائيل علنا وبدون أي‬ ‫محاولة للتسترلنها ملتزمة بضمان أمن إسرائيل وحماية وجو دها‪".‬‬ ‫ران الصمت في ذلك اليو م لفترة طالت أو قصرت‪.‬‬ ‫ثم انفض المجلس ما بين مقتنع‪ ..‬ومندهش‪ ..‬ومستنكر‪ ..‬ورافض لما‬ ‫ دار في الجلسة من إفتراضات وتكهنات‪.‬‬ ‫و أعقب ذلك حكايات "الجسرالجوي"‪ ،‬الذي فتحت أميريكا أمامه‬ ‫مخازن سلح الجيش الميريكي لتتدفق على إسرائيل‪ ،‬والذي أسقط‬ ‫آخرالقنعة عن وجه أميريكا القبيح‪ ،‬مما كان يشير إلى فزع أميريكا‬ ‫و دخولها الحرب‪ ،‬بطريقة تكا د أن تكون مباشرة‪ ،‬إلى جانب حليفتها‬ ‫إسرائيل‪.‬‬ ‫وثغرة "شارون"‪ ..‬ذلك الهجو م السرائيلي المضا د في الدفرسوار*‪..‬‬ ‫و"فض الشتباك"‪ ..‬و"فصل القوات"**‪ ..‬وما آل إلى إعلن موافقة‬ ‫مصر بالذات على قرار وقف القتال‪.‬‬ ‫و دخلت مقولة "أوراق اللعبه في إيد أمريكا" التاريخ‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫_______________________________________________________‬ ‫)*( جاء‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬في مذكرات الفريق الشاذلي عن حرب أكتوبر‪ ،‬أن طائرة تجسس أميريكية‬ ‫قامت في يومي ‪ 13‬و ‪ 14‬أكتوبر بتصوير الموقع غرب القناة من علو ‪30‬ألف كيلومتر‬ ‫) بينما أقصى مدى لصواريخنا هو ‪ 20‬ألف كيلو متر( لرصد خلو منطقة غرب القناة من‬ ‫أي قوات مدرعة‪ ،‬وبناء على ذلك نجح العدو في العبور بقواته إلى غرب القناة ليلة ‪16‬‬ ‫أكتوبر واستمر في توسيع الثغرة يوما بعد يوم‪.‬‬ ‫)**( بعد الجولت المكوكية العديدة التي قام بها "هنري كيسنجر" في عواصم المنطقة‪ ،‬تم‬ ‫توقيع إتفاقية فصل القوات في ‪ 18‬أكتوبر عند الكيلو ‪ 101‬في سيناء مما يشي بمقدار‬ ‫المسافة التي تفصل بين قوات العدو ‪ ..‬والقاهرة‪.‬‬

‫كنت قد قضيت الساعات هائما على وجهي‪ ،‬حائرا مذهول‪ ،‬كأنما كنت‬ ‫أبحث عن اليقين في وجو‪،‬ه الناس‪ ،‬أجوب الشوارع وأذرعها وأنا أشبه‬ ‫‪316‬‬


‫بطفل تا‪،‬ه في "مولد" غاب عنه صاحبه‪ ،‬بينما ينهش كياني حزن له‬ ‫آلف النياب المدببة‪ ،‬أتفحص تلك الوجو‪،‬ه المذهولة الرافضة مثلي‪،‬‬ ‫الغير مصدقة لما يجري‪ ،‬قبل أن أتمكن من أن أتمالك أعصابي وأ دخل‬ ‫مبنى التليفزيون‪.‬‬ ‫قال لي "جلل الغزالي" وهو يستقبلني بإيماءة مسرحية وينتقي كلماته‬ ‫التي تنضح سخرية ومرارة وأسى‪ ،‬قال بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫ أرفع لك قبعتي يا صديقي‪ ..‬إذ يبدو أنه قد تم فعل تنفيذ‬‫"السيناريو" كما وضعته "الجهات العليا"‪.‬‬ ‫كان ذلك يو م قبول مصرلقرار وقف إطلق النار‪ ..‬يو م أن اغتيل الحلم‪.‬‬ ‫في تلك اللحظة لم أستطع أن أتمالك نفسي‪.‬‬ ‫خرجت أجوب الشوارع بسيارتي بينما تحتلني مشاعر لم أجربها ولم‬ ‫أعرف مثلها من قبل ول من بعد‪ ،‬ول سبيل لمحاولة الخلص منها‪،‬‬ ‫ول حتى بالدموع التي كانت تكا د أن تحجب عني الرؤية‪.‬‬ ‫ولنني كنت في داخلي أرفض تلك التوقعات‪ ،‬فقد كا دت الصدمة‬ ‫تفقدني توازني‪ .‬فل ميذضهل المرء‪ ،‬ويرعبه‪ ،‬مثل وقوع المخاوف التي‬ ‫كان يتوقعها‪ .‬وليس أشق على النسان أكثر من أن يرتعد خشية من‬ ‫حدسه‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في تلك المسية الكئيبة التي ل تنسى‪ ،‬في الثاني والعشرين من أكتوبر‬ ‫‪ ،73‬حيث كنا في بيت الصديق "حلمي التوني" مع مجموعة من‬ ‫الصدقاء‪ ،‬نستمع إلى توابع أنباء وقف القتال‪ ،‬ذلك بعد أن استمعنا إلى‬ ‫"البيان الول" الذي مهد للخبرالمفعم بالفجيعة في إذاعة صوت‬ ‫العرب‪ ..‬أغنية المطرب "محمد فوزي" المليئة بالشجن‪" ،‬بلدي أحببتك‬ ‫يا بلدي"‪ ،‬وحيث بلغ الحزن‪ ،‬الذي كنت أرا‪،‬ه على وجو‪،‬ه الحاضرين‬ ‫وفي عيني الفنان "بهجت عثمان"‪ ،‬الضاحكتين دوما‪ ،‬حد البكاء‪،‬‬ ‫فأجأتني "هـ" بنجاح مساعيها‪ ،‬من حيث ل أ دري أنا ول أحتسب‪،‬‬ ‫‪317‬‬


‫بامكانية الحصول لي على عرض للعمل في إحدى دول الخليج أرسله‬ ‫شقيق لها يعمل هناك )!(‬ ‫يصبح المرء‪ ،‬لفرط ما أصابه قبل ذلك من إحباطات‪ ،‬محصنا ضد‬ ‫توابع ذلك اللون من المشاعر‪.‬‬ ‫كيف استطاعت أن تنسى لهفتي على "قرارالتفرغ" للعمل في‬ ‫"منظمةالتحرير" في لبنان‪ ،‬ذلك المل الذي طال ما حدثأتها عنه‪،‬‬ ‫والذي طال ما سعيت إليه و انتظرته؟!‬ ‫كأنما كانت‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬تراهن على نسياني له أيضا‪.‬‬ ‫ومعدت ألمس في ثنايا حديثها سخرية من حلمي بـ"العو دة إلى القدس‬ ‫عن طريق بيروت"‪.‬‬ ‫ولم يستطع صديقنا‪ ،‬رسا م الكاريكاتير "بهجت عثمان"‪ ،‬بالرغم من‬ ‫جلل الموقف‪ ،‬إل أن يعلق ساخرا من "هـ" وهو يمسح دموعه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬يروح الخليج مين يا عم واحنا شايفينه شرقان على بيروت‪ ..‬ما‬‫صودق ييجي له أمر التفورغ للعمل هناك‪ ..‬وعامل زي اللي حا "يناضل"‬ ‫على روحه؟!‬ ‫ذلك مما أثار عاصفة من الضحك بين الحاضرين‪ ،‬ومما كان له أثر‪،‬ه في‬ ‫تخفيف حدة الكآبة التي ألقت بظللها علينا في تلك المسية‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫مرة أخرى يتبا در إلى ذهني أسئلة لم أجد لها إجابة شافية قبل ذلك في‬ ‫هذا الصد د‪.‬‬ ‫هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من‬ ‫اختراعك ونسج خيالك؟‬ ‫وأنه كثيرا ما يأتي اليو م الذي تلحظ فيه أن صورته الجميلة التي‬ ‫أتقنت رسمها هي صورة ثنائية البعا د‪ ..‬ل عمق فيها‪ ..‬وأن البعد‬ ‫الثالث كان من صنع خيالك أنت‪ ..‬لتصبح كما كنت تشتهيها أن تكون؟‬ ‫‪318‬‬


‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫إل أن أكثر ما أسفت عليه هو أني خذلت شقيقتي الكبرى"محسن"‪ ،‬التي‬ ‫كانت تتبنى العمل على تحقيق ما كانت تصبو إليه أمي‪ ،‬التي رحلت‬ ‫مكوفنة بشوق المهات إلى ذلك اليو م الذي تكتمل فيه فرحتها بأن تراني‬ ‫سعيدا في بيتي مع أسرتي الصغيرة‪.‬‬ ‫*‬

‫النتظــــــــــــــــــــــــار‬

‫*‬

‫‪319‬‬

‫*‬


‫طال انتظاري للتصريح بعرض فيلم "الظلل‪ ."...‬وقدمت "جماعة‬ ‫السينما الجديدة" طعنا في حكم الرقابة الذي يمنع عرضه‪ ،‬مما أتاح‬ ‫لعرض الفيلم أما م لجنة رقابية جديدة‪.‬‬ ‫"معمر" الو ديع المسالم‪ ،‬الذي أضنا‪،‬ه التفكير في قضيته السياسية‪،‬‬ ‫يشعر بالحرج تجا‪،‬ه زملء‪،‬ه في العوامة‪ .‬فهوالمسئول عن ذلك التحول‬ ‫والفوضى التي ألمت بالعوامة منذ أن جاء بصديقه "محمو د" ليشاركهم‬ ‫السكنى فيها‪.‬‬ ‫"بكر" الها ديء المتعقل يصمم على ترك "محمو د" للعوامة‪.‬‬ ‫"مصطفى" المثالي يرى أن الوقت‪ ،‬وقت المتحانات‪ ،‬غير مناسب‬ ‫لهذا الجراء‪.‬‬ ‫تتفاقم المشاكل اليومية‪ ،‬مضافا إليها مشكلة "روز" ومرض ابنتها‬ ‫وتخلي "محمو د" عن مسئولياته تجاهها‪ ،‬ومحاولت "معمر" اليائسة‬ ‫في إصلح ما أفسد‪،‬ه صديقه‪.‬‬ ‫وتأتي اللحظة الحاسمة التي ل مفر عندها من إنفجار العنف الكامن في‬ ‫أعماق "معمر"‪.‬‬ ‫ومن خلل الصمت الذي أطبق على الموقف المتفاقم المتأز م‪ ،‬وفي‬ ‫ظل م صالة العرض الصغيرة‪ ،‬ينطلق من إحدى مندوبات الرقابة‬ ‫تعليقا على شكل همسة غاضبه إلى زميلها الجالس بجوارها‪:‬‬ ‫ إسمه إيه د‪،‬ه‪ ..‬عاوز ضرب!‬‫ولم يكد زميلها يبدي موافقته حتى اندفعت قبضة "معمر" باتجا‪،‬ه "إسمه‬ ‫إيه د‪،‬ه"‪ ..‬الذي هو"محمو د"!‬ ‫‪320‬‬


‫كانت إحدى إعتراضات الرقابة على الفيلم‪ ،‬هي تلك المشا دة العنيفة‬ ‫التي جرت بين "معمر" و "محمو د" الذي كان نصيبه علقة ساخنة‬ ‫تمنت حدوثها إحدى مندوبات الرقابة وأيدها زميلها في ذلك قبل‬ ‫وقوعها‪.‬‬ ‫لم يكن العتراض على الموقف أو نتائجه‪ ،‬فلقد اعترفت "الرقابة"‬ ‫بالضرورة الدرامية لذلك التصاعد‪ .‬الدليل على ذلك هو ما تشي به بقية‬ ‫أحداث الفيلم‪ .‬فلقد انضم "معمر" للمقاومة الفلسطينية‪ .‬انطلقت من‬ ‫أعماقه طاقة كامنة كان ل بد من تحريكها‪ ..‬الرفض‪ ..‬العنف‪..‬‬ ‫المقاومه‪.‬‬ ‫كان العتراض على جنسية "معمر"!‬ ‫ي مصرياا؟!‬ ‫قالوا‪ :‬كيف يضرب فلسطين ه‬ ‫ولطالما قال كثيرون‪:‬‬ ‫كيف تكون ضحالة تفكير "الرقابه"‪ ،‬أي رقابة‪ ،‬وفي أي زمان ومكان‪،‬‬ ‫سببا في قتل البداع أو لجم المبدعين!‬ ‫ناهيك عن العتراض على فكرة "تعد د مصا درالنور" وتفسيرها‬ ‫بالدعوة الصريحة إلى تعد د الحزاب )المرفوضة في ذلك الوقت(‪ .‬أو‬ ‫العتراض على الدعوة الوار دة على لسان الطالب الفلسطيني "معمر"‬ ‫لفكرة "الدولة الديمقراطية العلمانية" التي يعيش فيها أهل ال ديان‬ ‫الثلثة متساوون في الحقوق والواجبات و بدون أي تفرقة‪ .‬وهو ما‬ ‫نا دى به "ياسرعرفات"‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬في خطابه الشهير في المم‬ ‫المتحدة بعد ذلك‪..‬في ‪ 13‬نوفمبرعا م ‪.74‬‬ ‫أما أكثرالعتراضات عنا دا‪ ،‬وأغربها‪ ،‬فهو اعتراض السيد ) م‪ .‬د‪،(.‬‬ ‫رئيس هيئة السينما في ذلك الوقت‪ ،‬على الخلفية الصوتية لحد مشاهد‬ ‫الفيلم الجارية قبيل الهزيمة‪ ،‬حيث كنا نسمع صوت "أ م كلثو م" المنبعث‬ ‫من الرا ديو في مقطع من إحدى أغانيها كنت أرى أنه يناسب ذلك‬ ‫الموقف ويصلح تعليقا عليه‪ ..‬في تلك الظروف‪.‬‬ ‫غني عن التنويه بأن السيد ) م‪ .‬د‪ (.‬هو إبن شقيقة السيدة أ م كلثو م‪.‬‬ ‫‪321‬‬


‫)وجدير بالذكر أيضا أن المذكور أعل‪،‬ه هو من هواة "المصا درة"‪ ،‬فقد‬ ‫اعتلى منصة مهرجان "كارلوفي فاري" بعد ذلك ليتسلم "الجائزة"‬ ‫بالنيابة عني‪ ،‬لغيابي‪ ،‬وأصرعلى ممارسة هوايته‪(.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫بالرغم من كل تلك الظروف‪ ،‬تمكنت‪ ،‬مع الصديق الكاتب المسرحي‬ ‫"ميخائيل رومان"‪ ،‬الذي كان يعاني من مرض عضال‪ ،‬من النغماس‬ ‫واللجوء إلى أحضان العمل بالقيا م بإعدا د آخر مؤلفاته‪،‬‬ ‫"ضميرامراة"‪ .‬وكدت أن أتقاعس عن تنفيذ تلك التمثيلية التلفزيونية‪،‬‬ ‫لول أن وافته المنية‪ ،‬فرأيت أن أسارع بتنفيذها وفاء له فقط‪.‬‬ ‫وكانت هذ‪،‬ه هي آخر تمثيلية سهرة لي في تليفزيون مصرالعربي عا م‬ ‫‪.1974‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪322‬‬

‫*‬


‫أزمة أشرطة!‬ ‫‪323‬‬


‫بعد بناء الديكورات‪ ،‬وإجراء ما يلز م من البروفات‪ ،‬والطمئنان على‬ ‫سلمة سيرأمور ثمثيلية السهرة الجديدة‪ ،‬يتوجه أحد مساعدي المخرج‪،‬‬ ‫كما هو متبع‪ ،‬ما بين فرحة الفنانين والفنيين المشتركين في العمل‬ ‫لقتراب ساعة ميل د عملهم الفني‪ ،‬إلى مكتبة الشرطة للحصول على‬ ‫شريط جديد لتما م آخر المراسم‪"..‬التسجيل"‪.‬‬ ‫جاءني الفتى "محمد الشال "**‪ ،‬أحد المساعدين العاملين معي في‬ ‫تمثيلية السهرة بنبأ غريب‪ ،‬وهو خلوالمكتبة من الشرطة الجديدة‪ ،‬مما‬ ‫استوجب التصال بمراقب عا م قسم التمثيليات‪ ،‬الذي تمخض ذهنه عن‬ ‫حل عبقري لتلك المشكلة المفاجئة في تلك الساعة الحرجة‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ خليه يشوف أي شريط قديم‪ ..‬يمسحه ويسجل عليه!‬‫سأله المساعد ببراءة‪:‬‬ ‫ منين نجيب له شريط قديم؟‬‫قال‪:‬‬ ‫ أي تمثيليه قديمه من تمثيليات الستاذ غالب!‬‫أأبي م‬ ‫ت إل أن أعتبرها دعابة‪.‬‬ ‫لكن مساعدي أكد لي‪ ،‬بين دهشة حشد الفنانين والفنيين المنتتظرين‬ ‫واستنكارهم‪ ،‬أن سيا دة المراقب العا م يعني ما يقول‪ ،‬مما جعل الجميع‬ ‫يتضامنون معلنين التوقف عن العمل في انتظار حل معقول‪ .‬لكن‬ ‫سرعان ما استجاب المراقب العا م وأمر لنا بشريط كان يبدوعليه القد م‪.‬‬ ‫خضعت للمرالواقع‪.‬‬ ‫ولكنني‪ ،‬قبل بدءالتسجيل‪ ،‬خشية مني أن أكون قد وقعت في شرك‬ ‫التمويه الذي بدا على غلف الشريط المرسل‪ ،‬طلبت من الفني‬ ‫المختص أن أستعرض جزءا من محتوياته‪ .‬كنت أتوقع‪ ،‬على أسوأ‬ ‫_____________________________________________‬ ‫مساعد المخرج الذي غدا مخرجا معروفا في تليفزيون ج‪.‬م‪.‬ع‪.‬‬ ‫)**(‬

‫الفروض‪ ،‬أن يكون الشريط كما اقترح المراقب قبل ذلك‪ ..‬يحتوي‬ ‫على أحد أعمالي السابقة‪.‬‬ ‫‪324‬‬


‫كان فنويو "ستو ديو ‪ ،"2‬الخاص بتسجيل التمثيليات‪ ،‬يتندرون بطبيعتي‬ ‫الها دئة والجو الها ديء الذي يسو د المكان أثناء العمل‪ ،‬بعكس الحال مع‬ ‫كثير من الزملء المخرجين‪ ،‬ويصفون اليا م التي يقضونها في العمل مع‬ ‫مخرجين غيرهم مثل "إبراهيم الصحن" و"محمد فاضل"‪ ،‬وأنا من بينهم‪،‬‬ ‫بأنها "أيا م راحة واستجما م"!‬ ‫ ‪ ..‬أول مر‪،‬ه نشوفه في الحاله دي‪ ..‬عصبي وبيشخط وصوته طالع‪..‬‬‫ياعالم‪ ..‬يا ناس‪ ..‬د‪،‬ه تاريخ‪ ..‬فيه حد بيمسح تاريخه بإيد‪،‬ه‪ .. ..‬؟!‬ ‫سا د التوتر جو الستو ديو‪ .‬وتناقل الموجو دين الخبر‪ ..‬وعبروا بدورهم‬ ‫عن جا م غضبهم واستنكارهم‪.‬‬ ‫صودق أو ل تصودق!‬ ‫لقد كان الشريط المرسل يحتوي على تسجيل تلفزيوني لحدى خطب‬ ‫الزعيم "جمال عبد الناصر"!!‬ ‫لكن سرعان ما تمكن المراقب العا م من تدارك المر بأن أمر بإرسال‬ ‫شريط "جديد لنج" لتسجيل تمثيلية السهرة الخيرة لي في تليفزيون‬ ‫جمهورية مصر العربية‪" ..‬ضمير امرأة"‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫روى لي صديقي الموسيقي "كمال بكير"‪ ،‬بعد ذلك بسنوات‪ ،‬عن‬ ‫صديقه المخرج "إبراهيم الصحن"‪ ،‬أن الخير‪ ،‬عندما عا د إلى موقعه‬ ‫في التلفزيون المصري كمراقب لقسم الدراما بعد انتهاء مدة إعارته إلى‬ ‫تلفزيون بغدا د‪ ،‬قد وضع برنامج "ريبريتوار" ‪ ، Repertoire‬حسب‬ ‫الصطلح الفرنسي في مجال الموسيقي وكذلك الوبرا والمسرح‪،‬‬ ‫لعا دة عرض بعض العمال الدرامية المميزة‪.‬‬

‫‪325‬‬


‫ولما كان‪ ،‬لدى عرض تمثيلية "رحلةعم مسعو د"‪ ،‬من تأليف الكاتب‬ ‫الكبير"محمو د دياب" وإخراج العبدالفقير‪ ،‬ما زال في بغدا د‪ ،‬حيث‬ ‫شاهدها ولم تنمح من ذاكرته‪ ،‬فقد وضعها في البرنامج لعا دة عرضها‪.‬‬ ‫وعندما فوجئ بأنها قد اختفت من مكتبة التلفزيون‪ ،‬ممسحت‪ ،‬ما كان منه‬ ‫إل أن أرسل لستحضار نسخة منها من التلفزيون العراقي‪.‬‬ ‫وقد تم إعا دة عرض تمثيلية السهرة "رحلة عم مسعو د" في عا م ‪.1983‬‬

‫*‬

‫*‬

‫‪326‬‬

‫*‬


‫"نكتة" الموسيقى‪ ..‬والسلم الوطني السرائيلي!‬ ‫‪327‬‬


‫بيني وبين الموسيقى و د قديم متصل‪ .‬قد يكون للسنوات الطويلة التي‬ ‫قضيتها في مدينة "فيينا" بالنمسا أثرها في تمتين عرا‪،‬ه‪ .‬أضف إلى ذلك‬ ‫تلك الصداقة التي تمتعت بها مع إثنين من عازفي البيانو‪،‬‬ ‫المصري"مصطفى" وزميله السباني"ضيف ا"‪ ،‬واثنين آخرين من‬ ‫ دارسي قيا دة الوركسترا والتأليف الموسيقي‪" ،‬يوسف السيسي"‪،‬‬ ‫و"كمال هلل"‪ .‬ولقد أقا م الخير في عامه الدراسي الول في غرفة‬ ‫مجاورة لغرفتي في نفس البيت الذي كنت أسكنه‪ ،‬مما أكسبني المزيد‬ ‫من القتراب من المعارف الخاصة بالموسيقى‪ .‬فبسبب عد م إلمامه‬ ‫باللغة اللمانية بعد‪ ،‬كنت أجد نفسي مقبل بلهفة على مساعدته‪ ،‬وذلك‬ ‫بقراءة بعض فقرات الموا د المتعلقة بدراسته أول‪ ،‬ثم محاولة ترجمتها‬ ‫له إلى اللغة العربية‪ .‬ومنه عرف أ‬ ‫ت معنى"الهارموني" و "البوليفوني"‬ ‫و"المونوفوني" و"الكونتربوينت" و "الربع تون"‪ ..‬و ‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫ثم يأتي صديقي الفنان "سامي رافع" الذي كانت دراسته وثيقة الصلة‬ ‫بالموسيقى ليتيح لي اطللت تطوورت إلى اللتحاق معه بدورتين‬ ‫متتاليتين والحصول معه على دبلومين منفصلين أحدهما عن فنون‬ ‫اقتباس "الباليه" والخر "الوبرا"‪ ..‬للتلفزيون‪.‬‬ ‫ذلك كله مما كان له‪ ،‬في تصوري‪ ،‬بالغ الثر في تعميق إحساسي باللغة‬ ‫الموسيقية وتذوقي لها‪.‬‬ ‫ولقد تبدت مظاهر تلك العلقة للخرين منذ أن قمت بالعدا د الموسيقي‬ ‫لول أفلمي ‪" ..‬حكايه"‪ ،‬حيث كنت أر د د دائما أنه إذا كان الفيلم‬ ‫السينمائي جسما فالموسيقى التصويرية هي روحه‪ .‬وحيث نجحت في‬ ‫جعل الموسيقى جزءا من النسيج الدرامي للفيلم‪ .‬فلقد نشأت فكرة اختيار‬ ‫موضوع ذلك الفيلم في حينها متوازية مع إنفعالي مع موسيقى‬ ‫كونشيرتو البيانوالثاني لـ "رحمانينوف"‪.‬‬ ‫ثم يلى ذلك قيامي بنفس المهمة في معظم تمثيلياتي التلفزيونية بشكل‬ ‫لفت النتبا‪،‬ه‪ .‬وذلك مما دعى أحد زملئي المخرجين باللجوء إليي لكي‬ ‫أقو م بهذ‪،‬ه المهمة لعمل درامي كبير كان يعد لخراجه‪ ،‬خصوصا وأن‬ ‫‪328‬‬


‫"السيناريو" قد أعد‪،‬ه زميل آخر* كنت أكن له الكثير من المو دة‪ ،‬عن‬ ‫رواية "حذار من الشفقة" للكاتب النمساوي "شتيفان تسفايج"‪ ،‬الشيء‬ ‫الذي لم أتر د د في قبوله‪ .‬فل شك بأن الموسيقى "النمساوية" التي أحببأتها‬ ‫سوف تغلف وتبرز الجواء التاريخية لتلك الرواية الرومانسية الجميلة‪.‬‬ ‫لم يكن "العدا د الموسيقي" للتمثيليات في ذلك الوقت أكثر من اختيار‬ ‫ما يناسب المواقف الدرامية للتمثيلية من معزوفات تزخر بها الموسيقى‬ ‫الكلسيكية التي تتوفر تسجيلتها وأسطواناتها في مكتبة التلفزيون‪.‬‬ ‫في مثل هذ‪،‬ه الحالت يستصدر المخرج للمعد تصريحا باستعارة‬ ‫التسجيلت أو السطوانات اللزمة من المكتبة‪ .‬هذا التصريح يكون‬ ‫موقعا من "مراقب عا م التمثيليات"‪.‬‬ ‫ولم أكد أنتهي من تحديد اختياراتي حتى هرع أحد المساعدين بكتاب‬ ‫من زميلي المخرج "فايق إسماعيل" لستصدار التصريح المطلوب‪.‬‬ ‫لكن الزميل لم يلبث أن قابلني متجهما يحاول أن يعتذر لي عن عد م‬ ‫إمكانية إتما م المهمة التي كان يلح في طلبه لقبولي لها‪.‬‬ ‫لعب الفار في عوبي‪ ،‬وز دت إصراراعلى معرفة سبب التراجع عندما‬ ‫لمحت أنه يحاول إخفاء ورقة كان يحملها‪ .‬وأما م إلحاحي لم يجد مناصا‬ ‫من أن يناولني الورقة التي كانت تحتوي على طلب المخرج بالتصريح‬ ‫له باستعارة التسجيلت المطلوبة‪.‬‬ ‫كانت هناك‪ ،‬في أعقاب الصفحة‪ ،‬جملة قصيرة مكتوبة بخط اليد‬ ‫وممهورة بإمضاء مراقب عا م التمثيليات‪:‬‬ ‫"سري وعاجل‪ ..‬المرجو تكليف شخص آخر للعدا د الموسيقي‪!".‬‬ ‫كنت قبل ذلك قد قمت بالعدا د الموسيقي لتمثيليتي السابقة "رحلة عم‬ ‫مسعو د" من تأليف الكاتب المسرحي"محمو د دياب"‪ .‬وقد عرضت في‬ ‫القناة الولى ونالت قسطا كبيرا من ترحيب النقا د وإطراءهم بشكل‬ ‫خاص لحسن اختيارالموسيقى التصويرية‪.‬‬ ‫____________________________________‬ ‫)*(‬

‫هو المخرج المعروف "ممدوح مرا د"‪.‬‬

‫)أخص بالذكرالمقال النقدي المفصل للكاتب الكبير "رجاء النقا ش"‬ ‫في أحد أعدا د مجلة المصور(**‬ ‫‪329‬‬


‫كانت إ دارة "مراقبة التمثيليات" قد عو دتنا على إعا دة إذاعة "تمثيليات‬ ‫السهرة" الجديدة من خلل "القناة الثانية" مرة أخرى بعد أسبوع من‬ ‫إذاعتها من "القناة لولى"‪ .‬وكان ذلك مما يتيح للمشاهدين‪ ،‬ممن فاتهم‬ ‫مشاهدة العمل في العرض الول )في الساعة التاسعة والربع من مساء‬ ‫الثلثاء ‪29‬فبراير ‪ ،(72‬أن يتابعو‪،‬ه بعد سماع ما يتر د د على لسان‬ ‫البعض أو قراءة ما يكتبه النقا د عن ذلك العمل‪.‬‬ ‫وكان من البديهي أن نهتم‪ ،‬نحن المخرجون‪ ،‬بمتابعة نتائج ذلك‬ ‫العرض الثاني‪ .‬فعا دة ما يكون المشاهدون أو النقا د من ذوي الصلة‬ ‫والهتما م بالعمال الفنية الجا دة‪.‬‬ ‫وفي تلك المسية‪ ،‬حسب البرنامج المعلن في الصحف‪ ،‬كنا قد تجمعنا‬ ‫في بيت الصديق الكاتب "محمو د دياب" لقضاء السهرة مع‪" ..‬رحلةعم‬ ‫مسعو د"‪ .‬لكننا فوجئنا بعرض تمثيلية أخرى بدون أي إشارة للسباب‬ ‫التي دعت إلى ذلك التغيير في البرنامج المعلن‪.‬‬ ‫قال لي "مراقب عا م التمثيليات" أن الرقابة قد اعترضت على إعا دة‬ ‫عرض "رحلةعم مسعو د" بسبب الموسيقى التصويرية التي غلفت‬ ‫العمل‪ ،‬مما حفزني على المتابعة لمعرفة باقي الحيثيات‪ ،‬التي كانت‬ ‫تتلخص في أن تلك الموسيقى التصويرية‪ ،‬هكذا بالنص‪:‬‬ ‫" مأخوذة عن السلم الوطني السرائيلي" )!(‬ ‫وسرعان ما تلقيت من رئيس التلفزيون مذكرة استفسارعن ملبسات‬ ‫"القضية")!(‬ ‫لجأت حينئذ إلى صديقي الفنان "كمال بكير"‪ ،‬الذي كان يحترف مهنة‬ ‫المحاماة ويمارس‪ ،‬بحرفية شديدة‪ ،‬هواية التأليف الموسيقي للمسرح‬ ‫والسينما والتلفزيون‪ ،‬والذي أشارعلي بالكتابة لرئيس التلفزيون مبينا‬ ‫سلمة موقفي‪ ،‬وعد م السكوت عن تلك المهزلة‪ ،‬بعد أن زو دني ببعض‬ ‫المعلومات الهامة‪ .‬وهذا ما سطرته حرفيا‪:‬‬ ‫___________________________________________‬ ‫)**(‬

‫صدر بتاريخ ‪ .. 10/3/72‬بعنوان "نموذج جديد للتمثيلية التلفزيونية ‪.‬‬

‫السيد ‪ /‬رئيس مجلس ال دارة‬ ‫تحية طيبة وبعد‪،‬‬ ‫‪330‬‬


‫ر دا على المذكرة المحولة من سيا دتكم بخصوص موسيقى تمثيلية‬ ‫"رحلة عم مسعو د"‪:‬‬ ‫‪.1‬‬

‫الموسيقى المستخدمة في التمثيلية المذكورة كانت مختارة من‬ ‫عمل سيمفوني قديم للمؤلف التشيكي"فريدريك سميتانا" وتحمل‬ ‫إسم"مولداو"‪ ..‬أو"فالتافا"‪.‬‬

‫‪.2‬‬

‫إن العمال الموسيقية الكلسيكية هي تراث إنساني‪ .‬وإن‬ ‫التلفزيون العربي يسلم بهذا‪ ،‬بدليل أن كافة العمال الدرامية‬ ‫وغيرالدرامية تعتمد في موسيقاها التصويرية على مختارات‬ ‫من هذا التراث‪.‬‬

‫‪.3‬‬

‫ليس من المنطق في شيء أن نحر م أنفسنا من هذا التراث‬ ‫لمجر د تصا دف وجو د شبه بين السل م السرائيلي وبين هذ‪،‬ه‬ ‫الموسيقى‪ ،‬مع العلم أن هذا التشابه مشكوك في صحته‪.‬‬

‫‪.4‬‬

‫أكد لي السيد المراقب العا م‪ ،‬تأكيدا قاطعا‪ ،‬بأن مؤلف موسيقى‬ ‫"مولداو" التي استخدمت في التمثيلية المذكورة قد" "‬ ‫لطش‬ ‫موسيقا‪،‬ه من السل م الوطني السرائيلي)!( هذا مع ملحظة أن‬ ‫"فريدريك سميتانا" قد توفا‪،‬ه ا في"براغ" في عا م ‪(!)1884‬‬

‫‪.5‬‬

‫عزفت أوركسترا القاهرة السيمفوني أكثر من مرة ) ‪12‬مرة‬ ‫على وجه التحديد( وتحت إشراف وزارة الثقافة نفس العمل‬ ‫أوفالتافا" لمؤلفه"ف‪ .‬سميتانا"‪ .‬وكانت آخر هذ‪،‬ه الحفلت‬ ‫"مولداو" "‬ ‫العامة في ‪5/2/1972‬بقاعة"سيد درويش" بالقاهرة‪.‬‬ ‫وهذا وحد‪،‬ه ينفي صحة"الفتوى" الوار دة في مذكرة السيد‬ ‫المراقب العا م‪.‬‬

‫‪331‬‬


‫‪.6‬‬

‫إنني أطالب بالتحقيق في هذا المر‪ ،‬والحتكا م إلى لجنة من‬ ‫الموسيقيين المطلعين والمعتمدين لدى هيئتكم الموقرة أو لدى‬ ‫وزارة الثقافة حتى ل تمنع إذاعة التمثيلية المذكورة‪ ،‬وحتى ل‬ ‫يهدر مجهو د الفنيين والفنانين الذي عملوا في هذ‪،‬ه التمثيلية‪،‬‬ ‫وحتى ل تهدر الموال التي صرفت لنجاز هذا العمل‪،‬‬ ‫وحتى ل تكال التهم جزافا إلى القائم بالعدا د الموسيقي أو‬ ‫المخرج أو لجنة المشاهدة التي أجازت إذاعة التمثيلية‬ ‫المذكورة في عرضها الول‪ .‬وكل ذلك استنا دا إلى معلومات‬ ‫منقوصة‪.‬‬

‫إنني أطالب بإحالتي إلى النيابة ال دارية للتحقيق معي بصفتي‬ ‫‪.7‬‬ ‫المعد والمخرج المسئول المباشر عن تمثيلية"رحلةعم مسعو د"‪،‬‬ ‫أو برفض مذكرة المراقب بالطريقة التي ترونها‪ ،‬وإذاعة‬ ‫التمثيلية المذكورة فورا كر د على المذكرة‪ ،‬حيث أن أنباءها‬ ‫قد تسربت وانتشرت‪ .‬وفي هذا إساءة إلى سمعتي كفنان أعتز‬ ‫بإخلصي لقضايا وطني العربي‪ ،‬وقضية وطني فلسطين‬ ‫بصفة خاصة‪ .‬وتفضلوا بقبول فائق إحترامي‪.‬‬ ‫المخرج‬ ‫غالب شعث‬ ‫تحريرا في ‪26‬مارس ‪1972‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في اليو م التالي استدعاني رئيس مجلس ال دارة‪ ،‬واستقبلني هاوشا باوشا‬ ‫وهو يشد على يدي ويبدي إعجابه الشديد بتمثيلية "رحلةعم مسعو د"‪،‬‬ ‫وطلب مني الجلوس وهو يثني على مجهو دي ويهز رأسه استنكارا لما‬ ‫حدث ومن ثم يدير قرص التليفون ثم يقول بدون مقدمات وبلهجة‬ ‫مستنكرة صارمة وهو ممسك بيد‪،‬ه الخرى برسالتي‪:‬‬ ‫ إيه الكل م الفارغ د‪،‬ه يا أستاذ "ن ‪"...‬؟!‬‫‪332‬‬


‫تمثيلية "رحلة عم مسعو د" أنا شفتها‪ ،‬وهي من أحسن العمال اللي‬ ‫اتعملت عندنا‪ ،‬ولز م تنذاع تاني وتالت‪ .‬وبل ش المور دي!‬ ‫وضع رئيس التلفزيون سماعة التليفون مكانها ونظر لي سائل بعينيه‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬مبسوط كد‪،‬ه؟‬‫ثم نهض ليو دعني ضاحكا ويشد على يدي وهو يناولني الرسالة‬ ‫مضيفا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬وأي مشكلة بتصا دفك‪ ..‬بابي مفتوح لك‪ ..‬بدون "المرافعات"‬‫المكتوبه دي!‬ ‫ولم أكد أهبط آخر درجات السلم المؤ دي إلى "مراقبة التمثيليات" حتى‬ ‫قابلني أحد المساعدين وهو يبلغني لهثا رسالة شفوية تفيد بأن الستاذ‬ ‫"ن ‪ "...‬يريد مقابلتي لمر ها م!‬ ‫قال وهو يبتسم لي متو د دا والضطراب با د عليه‪:‬‬ ‫ خلص يا غالب‪ ..‬أنا حوليت لك المشكلة مع سيا دة الرئيس "حوما د‬‫بيه" مباشرة‪ ..‬والتمثيلية حتتذاع تاني‪ ..‬إبسط ياعم!‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫بعد أن قرأت الملحظة "السرية والعاجلة" والممهورة بتوقيع السيد‬ ‫المراقب العا م لم أستطع أن أتمالك نفسي‪ .‬وبالرغم من محاولت‬ ‫زميلي المخــــرج "فايق إسماعيل" ورجاء‪،‬ه وتوسلته بأن ل "أكوبر"‬ ‫الحكاية‪ ،‬توجهت لفوري إلى السيد رئيس التلفزيون الذي استقبلني‬ ‫بمجر د أن أعلنت عن وجو دي عند السكرتيرة‪.‬‬ ‫ناولته الورقة‪ ،‬قرأها‪ ،‬أ دار قرص التليفون‪ .‬وانهالت على المتحدث‬ ‫على الطرف الخر ألوان من السخريات‪ ،‬مازلت أذكر منها بعض‬ ‫الكلمات‪ ،‬مثل "الكل م الفاضي" و "إثارة الشبهات" و "السخافات"!‬ ‫*‬

‫*‬ ‫‪333‬‬

‫*‬


‫الموسيقى‪ ..‬وأنا‪..‬‬

‫وللموسيقى والغناء معي حكايات‪ ،‬ل تخلو من دللة‪ ،‬وطرافة‪ ،‬تمتد منذ‬ ‫مولدي* في دار مقدسية تقع‪ ،‬في حارة الوا د‪ ،‬فوق مقهى"تسبي ت‬ ‫س‬ ‫النتمسا"** الذي ل يسكت مذياعه عن بث الغنيات إل ليلبوي رغبة‬ ‫بعض روا د‪،‬ه في سماع نشرة الخبار من "محطة الشرق ال دنى‬ ‫للذاعة العربية"‪ .‬ثم يعو د ليستأنف وظيفته وليسكت إل بانتهاء فترات‬ ‫البث الذاعي من مختلف المحطات‪ ،‬ليبدأ صوت "الجراموفون" الذي‬ ‫حرص عمي "أبوصالح"‪ ،‬صاحب المقهى‪ ،‬على تزويد‪،‬ه بأحدث‬ ‫اسطوانا ت "بيضا فون"‪ .‬وعندها ل يسكت صوت ذلك المطرب إل‬ ‫ليبدأ صوت مطربة أو مطرب آخر في اللعلعة‪ .‬فإذا أغلق المقهى أبوابه‬ ‫وعا د السكون إلى دارنا بعو دة أبي من "القهوة"‪ ،‬عا د صوت مختلف‬ ‫المطربين إلى التسلل إلى أذني‪ ،‬يحرضني على الدندنة بأغانيهم‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها‪.‬‬ ‫وير د د دائما أن "ضستنباتي" أو"أأستبجي" أو"هأتمدي" أو "أبضدتلأووخاب" أو‬ ‫" دارويش" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية‬ ‫كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة‪ ..‬تلك‬ ‫"التفاصيل"‪.‬‬ ‫أذكر من ملحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية‬ ‫العناصر"‪ ،‬اللحن أوالنغم الحا دي الصوت‪ ،‬واليقاع‪ .‬بينما تتميز‬ ‫الموسيقى الغربية بعناصرأخرى مثل تعد د الصوات‪ ،‬الـ"بوليفونيه"‪،‬‬ ‫إلى جانب اعتما دها على الـ"هارمونيه" التي تقو م بتوزيع اللحان‬ ‫وتكثيفها‪ ،‬وإثراءها‪.‬‬ ‫___________________________________________________________‬ ‫عام ‪ ،1934‬آن قامت شركة "ماركوني" ببث أول إرسال إذاعي مصري على الهواء‪.‬‬ ‫)*(‬

‫‪334‬‬


‫)**(‬

‫مقهى شعبي في بلدة القدس القديمة يقع أمام مبنى"هوسبيس النمسا" الشهيرالذي بنا ه‬ ‫قيصرالنمسا "فرانتس جوزيف" عام ‪ 1860‬لستقبال الحجاج الكاثوليك‪.‬‬

‫وهي تمتلك القدرة على الشفاء‪ ،‬لنها تغسل الروح من غبارالحياة‬ ‫اليومية‪.‬‬ ‫وهي‪ ،‬كما يقول "بيتهوفن"‪ ،‬وسيط بين الحياة الروحية والما دية‪ .‬كما‬ ‫أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر‪ ..‬والحب‪.‬‬ ‫إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات‪ ،‬كما وصفها أحد الفلسفة‪.‬‬ ‫وهي‪ ،‬كما قال "مارتن لوثر"‪ ،‬واحدة من أعظم عطايا ا للنسان‪.‬‬ ‫أو‪ ،‬كما يقول"سرفانتس"‪:‬‬ ‫يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى‪.‬‬ ‫الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي ل يحتوي قاموسها على أي تعبير‬ ‫يتسم بالبذاءة‪ .‬وهي مقياس للحضارة‪ ،‬بسبب قدرتها على التأثير في‬ ‫المشاعر وتهدئة النفعالت‪.‬‬ ‫وبدونها‪ ،‬كما يقول "نيتشه"‪ ،‬تكا د الحياة أن تكون إثما‪.‬‬ ‫وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي اللوان‪ ،‬كما ينشد‬ ‫"طاغور"‪ ،‬فل أقل من أن نر د عليه بالموسيقى‪.‬‬ ‫في صالة "الكونسيرت" يرغمك النصات الجماعي‪ ،‬أو يغريك‪ ،‬على‬ ‫التأمل والتفكير ومن ثم الستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى‬ ‫بشكل محسوب ومدروس‪ ،‬بحيث تتوصل‪ ،‬بينما الموسيقى تمل‬ ‫الرجاء والمكان سحرا‪ ،‬إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة‪.‬‬ ‫وكماهي الحال في المسرح‪ ،‬حيث يشعرالمؤ دي بمسؤولية رسالتة تجا‪،‬ه‬ ‫المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقو م بتر ديد‬ ‫كلماتها‪ ،‬كذلك يوحي العازف للمستمع‪ ،‬مباشرة‪ ،‬بإحساسه الطازج‬ ‫بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقو م بعزفها‪.‬‬ ‫قلما يصلك هذا الحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "را ديو" أو‬ ‫"فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة‪.‬‬ ‫‪335‬‬


‫وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريد‪،‬ه ييلينيك"‪ ،‬صاحبة‬ ‫الرواية ذائعة الصيت‪" ..‬عازفة البيانو"‪:‬‬ ‫"لن يصل النسان إلى أسمى ما لديه من قيم إل عندما ينفصل عن‬ ‫الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس‪".‬‬ ‫ففي صالة "الكونسيرت"‪ ،‬أو"الوبرا"‪ ،‬تدرك معنى أن ينفصل المرء‪،‬‬ ‫باختيار‪،‬ه‪ ،‬وبكامل وعيه‪ ،‬عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس‪.‬‬ ‫هناك ستكتشف فعل أن "الصمت" أيضا موسيقى‪ ،‬وأنه جزء أساسي‬ ‫من الجملة الموسيقية التي يعورفها البعض بأنها تتابع لصوات تصدرها‬ ‫آلة‪ ،‬أوعدة آلت موسيقية متنوعة‪ ،‬تعلو وتنخفض‪ ،‬لفترات متباينة‬ ‫لتتناغم مع فترات أخرى‪ ،‬تقصر أو تطول‪ ،‬من الصمت‪.‬‬ ‫في تلك الصالت‪ ،‬يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري‪ ،‬فنلحظ‬ ‫أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات‬ ‫لكي يعو دوا إلى واقعهم‪ ،‬فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد‪ ،‬حيث‬ ‫أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لإرا ديا‪ ،‬خشية أن يزعجوا بحركتهم‬ ‫هذ‪،‬ه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف‪) ،‬شيء من فضيلة احترا م‬ ‫الخر(‪ ،‬أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء‬ ‫التزا م الصمت‪ ،‬فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي‬ ‫المتنوع على "مفاصل" المقاعد‪ ..‬و"حناجر" الحاضرين!‬ ‫الموسيقى‪ ،‬في إعتقا دي‪ ،‬تجهسد "قيمة" إنسانية عالية‪ ،‬حيث يلتز م أفرا د‬ ‫الفريق الموسيقي‪ ،‬أوالكورال‪ ،‬بقاعدتين ذهبيتين‪:‬‬ ‫يبدأون سويا‪ ..‬وينتهون سويا‪.‬‬ ‫تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل‬ ‫الجماعي"‪.‬‬ ‫ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل والمل بمستقبل أفضل‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫ولقد استمرت صداقتنا‪" ،‬موري شيفر" وأنا‪ ،‬بعد أن انتقلت إثر مرور‬ ‫عا م‪ ،‬للسكنى في"الحي الثاني"‪ ،‬قريبا من أكا ديمية الفنون التطبيقية‬ ‫‪336‬‬


‫مقر دراستي‪ ،‬حيث وصلتني منه رسالة‪ ،‬من القاهرة‪ ،‬يقول فيها أنه‬ ‫قرر دراسة الموسيقى العربية‪.‬‬ ‫أما المايسترو المصري "كمال هلل"‪ ،‬فلم تكن سكنا‪،‬ه في نفس البيت‬ ‫الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجر د صدفة‪ ،‬لنني سعيت إلى ذلك‪،‬‬ ‫حبا في الموسيقى والموسيقيين‪ .‬ولم أند م على فعلتي هذ‪،‬ه إل بين حين‬ ‫وآخر)!( وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب‪ ،‬أكثر ما شدني‬ ‫لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصرار‪،‬ه الذي تبودى في حكاياته‬ ‫لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع‪ ،‬منذ أن عمل ترزيا‬ ‫في طفولته‪ ،‬إلى أن عمل في محل لبيع اللت الموسيقية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫"إنحرافه"‪ ،‬حسب تعبير‪،‬ه الساخر‪ ،‬إلى "مهنة الموسيقى"‪ ،‬إلى أن‬ ‫أصبح وهو في الخامسة عشرة من عمر‪،‬ه "عازف تشيللو" على مسارح‬ ‫"روض الفرج"‪ ،‬إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك اللة في فرقة‬ ‫"أحمد فؤا د حسن" الغنية عن التعريف‪ ،‬وما تبع ذلك من محاولته‬ ‫الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيا دة الوركسترا‬ ‫والتأليف الموسيقي في فيينا‪.‬‬ ‫أ دخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظا م‬ ‫وهو أحد روا د وأساتذة فن الوبريت النمساوي‪" ،‬فرانتس فون سوبيه"‬ ‫‪ . Franz von Suppe‬فقد كان‪ ،‬استعدا دا لـ"امتحان تحديد المستوى"‬ ‫للقبول في الكا ديمية‪ ،‬يقو م بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفر د‬ ‫المكتوب للة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلح"‪ ،‬رائعة‬ ‫الموسيقي المذكور‪.‬‬ ‫أسرتني تلك اللة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل‪ .‬وكان من البديهي‬ ‫أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كامل‪ .‬وما زلت حتى الن أحتفظ‬ ‫بالسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪337‬‬

‫*‬


‫"سيد درويش"‪ ..‬في فيينا )!(‬ ‫في أحد المسيات‪ ،‬سهرنا "كمال هلل" و"سعيد الجمل"‪ ،‬الذي كان‬ ‫يدرس إ دارة فنا دق في فيينا‪ ،‬وأنا‪ ،‬في "حانة دارالبلدية"‪،‬‬ ‫‪ ، Rathauskeller‬أحد المطاعم الشهيرة‪ ،‬حيث تكتظ بروا دها في‬ ‫أمسيات أيا م السبت ويطول فيها السهرعلى أنغا م الموسيقى والغاني‬ ‫الشعبية الجماعية "الفييناوية" المرحة‪.‬‬ ‫تساءلت في تلك المسية‪ ،‬وكثيرا ما تساءلنا‪ ،‬عن سبب نقص الغاني‬ ‫الشعبية الجماعية لدينا‪ ،‬التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في تر ديدها في‬ ‫مختلف المناسبات‪ .‬ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة‬ ‫بالغناء الجماعي‪ ،‬يطول بحثنا عن أغنية لنر د دها كمجموعة‪ ،‬أسوة‬ ‫بزملء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلبية‪ ،‬فل نجد‬ ‫سوى أغنية "وا زمان ياسلحي" أو تلك الغنيات الحماسية التي‬ ‫اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن )بعد عا م ‪.(56‬‬ ‫انفعل المايسترو "كمال هلل"‪ ،‬إحساسا منه بأنه معنوي بهذا التقصير‪،‬‬ ‫وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاول دحضها بأن يستعرض أغنيات‬ ‫تعو د إلى عهد از دهار المسرح الغنائي‪ ،‬منذ أيا م فنان الشعب "سيد‬ ‫ درويش" مثل‪ ،‬ويفسر لنا هذا النقص‪ ،‬أوالتناقص‪ ،‬باندثار ذلك النوع‬ ‫من المسارح‪ .‬وفي مقابل ذلك انتشار الغاني الفر دية التي تهتم‬ ‫بالتطريب‪ ،‬بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون"‪ ،‬واستعراض لـ‬ ‫"المعأر ت‬ ‫ب" التي تمويز صوت ذلك المطرب الفر د عن غير‪،‬ه‪.‬‬ ‫وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية‪.‬‬ ‫طلب من النا دل ان يحضر له ورقة وقلما‪ .‬وأخذنا نرقبه وهو يرسم‬ ‫على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة‬ ‫أخرى إلى أن امتلت الصفحة‪ ..‬وأ دركنا ما هو مقبل عليه‪.‬‬ ‫أخذ يدندن ويدوون النوته الموسيقية لغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن‬ ‫متناول ذاكرتي‪ .‬كانت أغنية سيد درويش‪:‬‬ ‫‪338‬‬


‫"الحلو‪،‬ه دي قامت تعجن في الصبحية"‪.‬‬ ‫ثم أخذ يلقننا كلمات الغنية و يقو دنا لتر ديدها بصوت خفيض‪ ،‬إلى أن‬ ‫اطمأن لنجاح التجربة‪ ،‬فأشار للفرقة الموسيقية التي تعو دت أثناء‬ ‫عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن‬ ‫وتشجيعهم على المشاركة‪ ،‬وسرعان ما أخذت الفرقة بالقتراب منا‬ ‫بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا ير د د‪،‬ه جميع الحاضرين نساء ورجال‬ ‫في جذل‪.‬‬ ‫انتظر حتى انتهت الغنية‪ .‬وقبل أن يبدأ الفريق‪ ،‬المكون من عازف‬ ‫الكور ديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس‪ ،‬بأغنية أخرى‪،‬‬ ‫كان "كمال" قد أعطى الورقة‪ ،‬التي تحتوي على النوتة الموسيقية‬ ‫لغنية "سيد درويش"‪ ،‬لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع‬ ‫رفاقه برهة‪ ،‬ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلثة حولنا وأخذوا‬ ‫في عزف الغنية‪ ،‬بينما نحن‪ ،‬بقيا دة "كمال هلل"‪ ،‬نر د د كلماتها‪.‬‬ ‫في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت اللت‬ ‫الثلثة وصوتنا مشاركا بتر ديد كلمات الغنية‪ .‬ثم ابتدأت همهمات‬ ‫الجمهور الموقوـعة المشاركة تتزايد بالتدريج‪ .‬وأخذت الصوات تعلو‬ ‫شيئا فشيئا‪ ،‬بينما استغنى أفرا د الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة‬ ‫على المائدة‪ ،‬بعد أن حفظوا اللحن الجميل‪ ،‬الذي يتصف بأسلوب "سيد‬ ‫ درويش"‪" ،‬السهل الممتنع"‪ ،‬وابتدأوا كعا دتهم بالتجوال بين الموائد‪،‬‬ ‫وقد انتقل الحماس من مائدة لخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر‬ ‫تصيح سويا مر د دة ذلك المقطع المميز‪:‬‬ ‫" والديك بيودن‪ ..‬كوكو كـــــوكو‪ ..‬م الفجريه"‪.‬‬ ‫ويحكى أنه‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى‬ ‫أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية"‬ ‫الشهيرة في "فيينا"‪ ،‬الذين يتوسم فيهم أفرا د الفرقة أنهم من أصول‬ ‫عربية أو شرقية‪.‬‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪339‬‬


‫من الشياء التي وضحها لي "كمال هلل"‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬كانت‬ ‫مشكلة "الربع تون" في موسيقانا‪ .‬وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس‬ ‫إلى آلة البيانو‪ .‬قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون"‬ ‫الكامل‪ ،‬وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء )المقا م‬ ‫الكبير(‪ ،‬و"النصف تون"‪ ،‬وهو ما نسمعه عند العزف على الصابع‬ ‫السو داء للبيانو )المقا م الصغير(‪.‬‬ ‫أما السللم‪ ،‬أو المقامات‪ ،‬الموسيقية العربية المتعد دة فيحتوي الكثير‬ ‫منها على نصف النصف‪ ،‬أي "الربع تون"**‪ ،‬وهوالصوت الذي ل‬ ‫تستطيع اللت الغربية إصدار‪،‬ه‪ .‬ولقد و و‬ ‫ضح لي ذلك سبب عد م‬ ‫استساغة الذن الغربية أحيانا لغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية"‬ ‫يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها‪.‬‬ ‫إل أن هناك مقامات شرقية ل تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم‬ ‫تتعو دها الذن الغربية‪ .‬مثال ذلك "مقا م النهاوند"‪ ..‬أو"مقا م حجاز"‬ ‫الذي صاغ به الموسيقار‪ ،‬فنان الشعب "سيد درويش"‪ ،‬لحن أغنية‬ ‫"الحلو‪،‬ه دي قامت تعجن‪." ..‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫_________________________________________________________‬ ‫نمى إلى علمي بعد ذلك‪ ،‬أ ن "الربع تون"‪" ،‬الربع نغمة "‪ ،‬هو السم الدارج ‪ ..‬أما‬ ‫)**(‬ ‫التسمية العلمية الصحيحة فهي ‪" :‬ثلثة أرباع النغمة"‪.‬‬

‫‪340‬‬


341


‫"أوبرا" و "باليه"‪..‬‬

‫"ماريا" كانت أيضا أحد وأهم المحرضين على مواصلة تجربة‬ ‫"الستمتاع الجماعي" لهم ما اشتهرت بها "فيينا"‪.‬‬ ‫كانت كثيرا ما تفاجئني بأن والدها‪ ،‬الذي تتيح له علقاته أن يحصل‪،‬‬ ‫بين حين وآخر‪ ،‬على تذكرتين للكونسيرت أو للوبرا الفلنية أوالباليه‬ ‫الفلني‪ ،‬قد عا د واعترف )كما كانت "ماريا" تداعب والدها( بأن‬ ‫اهتماماته تتنافى مع إهدار ساعتين أو ثلثة من وقته ليقضيها في‬ ‫انتظار أن تسدل الستارة على تلك "الوبرا" أو ذلك "الباليه"‪.‬‬ ‫هذا بينما كنت أنا أشارك القائلين بأن الموسيقى مطلب ضروري‬ ‫للنسان‪ ،‬ثم أصبحت أومن بأن تأثيرها ل ينحصر في المتاع الحسي‬ ‫والسمعي بل يتجاوزها إلى المتاع الذهني‪ .‬فما بالك عندما تكون‬ ‫موسيقى "الباليه" مكتوبة لكي تعزفها‪ ،‬بمشاركة الوركسترا‪ ،‬أجسا د‬ ‫آ دمية بحركات رشيقة مدروسة لتكون عمل متكامل يروي " دراما"‬ ‫متكاملة ل تحتاج إلى كلمات‪ ،‬وليعوزها تفسير أو شرح أو ترجمة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫تعيدني موسيقى"باليه بحيرة البجع" إلى أوقات كنت أقضيها إلى جانب‬ ‫"نهى" في السكندرية‪ ،‬في مطلع فترة ول دة اهتما م أحدنا بالخر‪ ،‬في‬ ‫ما قبل عا م ‪ ،56‬نستمع إلى "الجراموفون"‪ ،‬الـ"بيك أب"‪ ،‬وهو يدور‬ ‫بإحدى أسطوانات مكتبة خالي الموسيقية‪ ،‬مما كان يعتبر بالنسبة لي من‬ ‫أوائل الفتوحات في عالم الموسيقى العالمية!‬ ‫كان خالي يجتهد ليشاركنا متعته بأن يحاول أن يصور لنا ذلك الجو‬ ‫الرومانسي السطوري‪ ،‬وأن يروي ويفسرأحداث الباليه الذي شاهد‪،‬ه في‬ ‫آخر جولته الوروبية‪.‬‬ ‫‪342‬‬


‫"أو ديت"‪ ،‬الميرة‪ ،‬التي تصيبها لعنة الساحر "فون روتبارت"‪ ،‬إنتقاما‬ ‫لصودها له‪ ،‬فتحولها مع شروق الشمس إلى بجعة‪ ،‬ولكنها تعو د لتتحول‬ ‫مع الغروب إلى راقصة ممشوقة القوا م‪ ،‬يرافقنها في رقصها على‬ ‫ضفاف البحيرة صديقاتها اللواتي كن قد تحولن أيضا إلى بجعات‬ ‫صغيرات‪ ،‬فيراها المير"سيجفريد" أثناء تجواله على ضفاف البحيرة‬ ‫ليقع في حبها ويقتنع أخيرا بفكرة الزواج‪ .‬ولكن والدته‪ ،‬التي دأبت على‬ ‫محاولة إقناعه بالفكرة‪ ،‬كانت قد اختارت له زوجة المستقبل وهي ما‬ ‫زالت تصرعلى اختيارها‪ ،‬فتقيم الحفلت الصاخبة لتحاول عبثا تجميل‬ ‫اختيارها لولدها‪.‬‬ ‫وتتوالى الحداث الدرامية‪ ،‬صراع الخير ضد الشر‪ ،‬في أجواء من‬ ‫الرومانسية السحرية الخلبة لينتصر الحب في النهاية على‬ ‫الساحرالشرير وتتخلص "أو ديت" من أحابيله الشيطانية‪ ،‬فنشاهد‬ ‫الحفلت تتخللها الرقصات الجماعية والفر دية على أنغا م الموسيقى‪..‬‬ ‫ذلك التعبير الها ديء الصاخب عن العواطف النسانية‪ ،‬وذلك‬ ‫السحرالحلل‪ ،‬القا درعلى شفاء النفوس التي هجرتها السعا دة‪ ..‬إلخ‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وهأنا أرى بأ م عيني تلك الجواء السحرية التي تخلقها اللوحات‬ ‫التشكيلية التي تتألف منها خلفيات المشاهد لتتآلف مع موسيقى‬ ‫"تشايكوفسكي" المسموعة ومع حركة الراقصين والراقصات‬ ‫المدروسة‪ ،‬يبهرني مرآهم وهم وكأنهم لهون "يتجولون" في الهواء‪.‬‬ ‫تكا د أطراف أصابع أقدامهم أن ل تلمس الرض إل بين لحظة وأخرى‬ ‫مع إيقاعات الفالس الجميلة‪ ،‬وغيرها من اللحان ذات اليحاءات‬ ‫والدللت التي ل يخطئها ال دراك البشري‪.‬‬ ‫ففي فن الباليه يتضافرالفن التعبيري )الموسيقى والرقص( مع الفن‬ ‫التشكيلي)الديكور والضاءة(‪ ،‬حيث نكتشف أن الذن يمكن أن ترى‪،‬‬ ‫وأن الصوات ذات ألوان و أشكال‪ .‬وسرعان ما تتبدى لنا سيمفونية‬ ‫مرئية تصدح بما يمتع العين والذن والفكر معا‪.‬‬ ‫‪343‬‬


‫أما "الوبرا"‪ ،‬التي تعتمد إلى جانب هذا كله على نص وكلمات مغناة‪،‬‬ ‫فلم أكن أفهم منها شيئا لن معالم كلماتها كانت تضيع في اللحن‪،‬‬ ‫أولنني‪ ،‬كما خيل لي في البداية‪ ،‬لم أكن أتقن اللغة إلى الحد الذي يتيح‬ ‫لي أن أتبين معه معاني تلك الغنيات‪.‬‬ ‫إل أنني اكتشفت أن حالي يتشابه مع حال مرافقي أو مرافقتي‪ ،‬وأنها‬ ‫حالة عامة‪ ،‬بحيث درجت إ دارة الوبرا على إصدار كتيب‪ ،‬يحكي‬ ‫قصة الوبرا ويور د نص الغاني باللغة المحلية‪ .‬فلينطبق ذلك على‬ ‫الوبرات المقدمة بلغاتها الصلية مثل اليطالية فحسب‪ ،‬بل يشمل اللغة‬ ‫اللمانية أيضا‪ .‬فيتهافت‪ ،‬حتى الجمهور الناطق بنفس اللغة‪،‬على شراء‬ ‫الكتيب‪.‬‬ ‫وشيئا فشيئا‪ ،‬يضاف إلى مداركي أن الغناء الوبرالي ما هو إل عزف‬ ‫على اللة البشرية‪" ،‬الروبانية"‪ ،‬التي تسمى الحنجرة‪ ،‬لتأخذ دورها مع‬ ‫بقية اللت‪ .‬فهناك‪ ،‬مثل‪ ،‬آلة بشرية نسائية "سوبرانو" وغيرها‬ ‫"ألتو"‪ ،‬أو رجالية "تينور"‪ ،‬وأخرى "باص"‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪344‬‬

‫*‬


345


‫والشعراء ‪..‬‬

‫ل أجرؤ على ال دعاء بأنني من ذوي الولع بمدرسة من مدارس الشعر‬ ‫ دون غيرها‪ .‬ومع ذلك فهناك من شعراء الحداثة من تعلق ومضات من‬ ‫أشعارهم بذاكرتي‪.‬‬ ‫منهم "أمل دنقل" الذي لأذكرالشعرأو ميذكرالشعر أمامي إل وتذكرته‪،‬‬ ‫وتذكرت قصته الطريفة مع الفنان "شا دي عبد السل م"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫إثرأحد العروض الولى لفيلمي الروائي القصير"حكايــة" فــي القــاهرة‪،‬‬ ‫تقــد م لــي"عمرالعلــي"‪،‬الطــالب الفلســطيني فــي الســنة النهائيــة بالمعهــد‬ ‫العالي للسينما‪ ،‬ورئيس فرع إتحا د الفنانين الفلسطينيين في القــاهرة فــي‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬مبديا إعجابه بالفيلم وطالبا العمل معي كمساعد مخرج فــي‬ ‫التلفزيون‪ ،‬حيث كنت أعدالعدة لخراج أول تمثيلية سهرة‪"..‬التركه"‪.‬‬ ‫وهكذا بدأت صداقتي مع "عمر"‪.‬‬ ‫فـي ظهيــرة أحــداليا م دعــاني إلــى بيتـه )شـقة مفروشـة فـي الزمالــك(‪.‬‬ ‫وبينما هو مشغول في إعدا د القهوة من البــن العــدني الــذي وصــله لتــو‪،‬ه‬ ‫من أخيـه الـذي يعمـل فـي دولـة خليجيـة‪ ،‬دق جـرس البـاب‪ ،‬فسـارعت‬ ‫بفتحه لجدني أما م شخص ل أعرفــه‪ .‬ولكننــي أتــذكرأنني رأيــت وجهــه‬ ‫‪346‬‬


‫على إحدى جداريات العهد الفرعوني‪ ،‬أوفوق كتفــي تمثــال مــن تماثيــل‬ ‫ذلك العهد‪.‬‬ ‫حوياني الرجل بصمت‪ ،‬ثم اتجه إلى الصالون‪ .‬خلع نعليه‪ ،‬وتمد د على‬ ‫أحد الكنبات‪ ،‬وراح في سبات عميق‪.‬‬ ‫أفقت من ذهولي‪ ،‬بينما أنا أتأمله‪ ،‬على رائحة القهوة المحووجة‪ ،‬وصوت‬ ‫ضحكات "عمر" وهو يحاول ‪ -‬مندهشا‪ -‬أن يبد د دهشتي‪:‬‬ ‫ ‪ " ..‬أمل دنقل"‪ ..‬إنت مش عارفه؟!‬‫كانت هذ‪،‬ه هي بداية تعارفنا‪.‬‬ ‫وما أن حل الصيف‪ ،‬وبدأت الجازة السنوية‪ ،‬حتى طلب مني "عمــر"‬ ‫القامة في شقته إلى حين عو دته من عمان‪ ،‬بعــد أن ســد د أجــرة شــهور‬ ‫الصــيف الثلثـة‪ ،‬كمـاهي عـا دته ضـمانا لعــد م تأجيرالشـقة لغيـر‪،‬ه أثنـاء‬ ‫غيابه‪.‬‬ ‫لم أتر د د في تنفيذ رغبة صديقي‪ ،‬فقــد كــانت شــقة جميلــه‪ ،‬مريحــة‪ ،‬تقــع‬ ‫بمواجهةالمعهد الثقافي اليطالي الذي يقع بدور‪،‬ه خلف القصر التاريخي‬ ‫الذي غدا إسمه "فندق ماريوت"‪ ..‬بالزمالك!‬ ‫ويبدو أن ا كان يريد أن يمتعني بصــحبة "إخنــاتون"‪ ،‬الــذي لــم يقطــع‬ ‫عا دته في قضاء القيلولة بين حين وآخر على كنبة الصالون‪.‬‬ ‫أكثرمــا شــدني إليــه أنــه كــان صــموتا‪ ،‬ل يحــب الــثرثرة‪ .‬وبــالرغم مــن‬ ‫ملمحه القاسية‪ ،‬فإن عينا‪،‬ه كانتا تفصحان عمــا بــداخله‪ ،‬وتجيبــان برقــة‬ ‫وعذوبة واختصار على أسئلتك قبل أن تنطق بها‪.‬‬ ‫ولــم يكــن هنــاك بيننــا‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬مــن حــديث ســوى كلمــات نتبا دلهــا عــن‬ ‫فلسـطين‪..‬والث ورة الفلسـطينية‪ .‬كلمـاته القليل ة كـانت تشـي بعمـق فهمـه‬ ‫للقضية‪.‬‬ ‫و دارت اليا م‪ .‬وجاء يو م أخذ يحدثني فيه عن فيلم "المومياء" الذي رآ‪،‬ه‬ ‫في أحد العروض الخاصة‪ ،‬ورأى فيه "فيلما سياسيا" من الطرازالول‪.‬‬ ‫بل إنه زا د علــى ذلــك بقـوله أن "الموميـاء"‪ ،‬فــي رأيـه‪ ،‬هـو أول "فيلــم‬ ‫سياسي" مصري‪.‬‬ ‫‪347‬‬


‫لم يبد إعجابه به فقط‪ ،‬بل خرج عن صمته وقال فيه قصيدة مدح تمنيت‬ ‫لو يسمعها صديقي مخرج الفيلم "شا دي عبد السل م"‪ .‬وهنا خطر لي أن‬ ‫أجمع بينهما‪ ،‬ل لكي يسمع "شا دي" تلك القصيدة فحسب‪ ،‬بل لعله أيضا‬ ‫يرى في "أمل" ما أرا‪،‬ه أنا‪.‬‬ ‫لم أستطع أن أكتم "رؤيتي" بصلحية هذا الخير للقيا م بــدور البطولــة‬ ‫في فيلم "إخناتون" الذي كان "شــا دي عبــد الســل م" مــازال يبحــث عــن‬ ‫وجه يصلح له‪.‬‬ ‫وشجعني فرحه الطفولي بفكرة قيــامه بالــدور أن أنســاق فــي محــاولتي‬ ‫لقناعه بمقابلة المخرج لدرجة "تظاهرت" معها في أحد المرات بــأنني‬ ‫قد تحدثت مع الصديق "شا دي" في موضوع ترشيحي له‪ ،‬وأنه يرحب‬ ‫باستقباله في مكتبه الكائن في شارع ‪ 26‬يوليو في أي وقت‪ ،‬بمجر د أن‬ ‫يتصل به تلفونيا‪.‬‬ ‫لم يكن هناك‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬الكثير مما نتبا دله من الحديث‪ ،‬سوى سؤالي لــه‬ ‫قبل "القيلولة" أو بعدها‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬كلمت شا دي؟‬‫وغالبا ما كان ير د علي‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬خلص بقى!‬‫ثم تباعدت لقاءاتنا‪ .‬ولم أتحدث مع "شا دي" في هذا الموضوع‪.‬‬ ‫و ندمت أشد الند م عندما عرفــت بعــد ذلــك أن "أمــل" قــد ذهــب لمقابلــة‬ ‫"شا دي" بالفعل‪ ،‬واكتشف أمر "المقلب" الغير مقصو د‪.‬‬ ‫وعاتبني "شا دي" عتابا شديد الرقة‪ ،‬لنني تسببت في إحراجهما‪.‬‬ ‫ولم تتح لي‪ ،‬لسفي الشديد‪ ،‬فرصــة العتــذار لمــل دنقــل عــن دعــابتي‬ ‫السمجه إل في إحدى زياراتي لمصر‪ ،‬بعد ســنة أو أكــثر مــن مغــا درتي‬ ‫لها إلى لبنان‪.‬‬ ‫في ذلك اليو م‪ ،‬قابلني بوجه عابس لدرجة ظننت معها أنــه‪ ،‬بــالرغم مــن‬ ‫مرور السنوات‪ ،‬مازال يحمل لي طغينة )!(‬ ‫‪348‬‬


‫لكنه قال لي بصوت يشوبه إحساس يقترب من الفجيعة‪:‬‬ ‫ يظهر إن اللي مايتسما ش ناوي فعل يعملها‪ ..‬ويصالح **‬‫ثم أكمل وكأن النكتة قد حبكت نفسها‪:‬‬ ‫ حياخد بـطاري منك‪ ..‬ويفقعكو إنتو يا الفلسطينيه المقلب اللي هوو‪،‬ه!‬‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫_________________________________________‬ ‫)**( وفي بيروت ‪ ..‬وصلتنا قصيدته التي جاء فيها‪:‬‬ ‫‪.. .. .. .. ..‬‬ ‫ل تصالح!‬ ‫ولو منحوك الذهب‪.‬‬ ‫أترى حين أفقأ عينيك‪،‬‬ ‫ثم أثبت جوهرتين مكانهما‪،‬‬ ‫هل ترى؟‬ ‫‪.. .. .. .. ..‬‬ ‫ل تصالح على الدم‪ ،‬حتى بدم!‬ ‫ل تصالح! ولو قيل رأس برأس!‬ ‫أكلل الرؤوس سواء ؟!‬ ‫أققلب الغريب كقلب أخيك؟!‬ ‫أعينا ه عينا أخيك؟!‬ ‫وهل تتساوى يدد‪ ..‬سيفها كان لزك‪..‬‬ ‫بيد سيفها أثكلزك؟‬ ‫‪.. .. .. .. ..‬‬ ‫ل تصالح!‬ ‫ل تصالح!‬ ‫"أمل دنقل" ) نوفمبر ‪(1976‬‬

‫‪349‬‬


‫مداخلــــــــــــــــــــــه‬ ‫هناك من اعترضوا على "أمل دنقل"‪ ،‬واعتبروا قصيدته تحريضا على‬ ‫الحرب وقطعا للطريق أو المل في المصالحة أو الحـل السـلمي‪ .‬ولكـن‬ ‫القليلين كانوا يــدركون أن "أمـل" إنمـا كـان يـر د علـى قصـيدة الشــاعر‬ ‫السرائيلي "إفراييم تسيدون"** الهستيرية‪:‬‬ ‫لو تخزلى الفدائيون عن أسلحتهم وعقيدتهم‬ ‫وأرسلوا بطاقات التهنُتئة لكل بيت يهودي‬ ‫حتى لو شاركتنا المنظمة في بناء المستوطنات للمهاجرين الجدد‬ ‫حتى لو أعلنوا أمام المل بأن الضفة الغربية هي أرض يهودية‬ ‫حتى لو قامت "فتح" بنسج قبعات الصوف ليهود إسرائيل‬ ‫حتى لواستقبل أهالي الضفة جماعات "جو ش أمونيم"‬ ‫بالغاني والزغاريد‬ ‫حتى لو التزم "ياسرعرفات" أمام المل بأننا الذئب وهم الغنم‬ ‫وحتى لو اعترفوا بالدولة اليهودية‬ ‫وقدموا لنا كل أموال التبرعات التي يتلقونها‬ ‫وحتى لو نقلوا اللجُتئين إلى القطب الشمالي‬ ‫ورفعوا رايات الهزيمة أياما وليالي‬ ‫وحتى لو تحولت سيوفهم إلى أقلم ومساطر‬ ‫فلن نجالسهم أبدا‬ ‫ولن نحــــــاور!‬ ‫أرى بوضوح أن كلمات "أمل" كانت نابعة من الجــرح‪ ،‬ولــم تكــن مثــل‬ ‫كلمات الشاعر اليهو دي نابعة من الحقد الغليل‪.‬‬ ‫______________________________________________________‬ ‫)**( الترجمة العربية للقصيدة منقولة عــن الجــزء الثــاني مــن ســيرة فــدوى طوقــان "الرحلــة‬ ‫الصعب"‪.‬‬

‫‪350‬‬


351


‫"صلـــــــــح الحديبيــــــــه"!‬

‫في إجتماع طاريء للمخرجين‪ ،‬كان يفترض أن يكون أحد الجتماعات‬ ‫الدورية التي كان يعقدها مسئولنا لوضع خطة الدورة الربع سنوية‬ ‫المقبلة في "مراقبة التمثيليات"‪ ،‬كنا‪ ،‬بدون استثناء‪ ،‬نشعر وكأننا في‬ ‫حفل تأبين‪ .‬كان ذلك في أعقاب حرب أكتوبرالمجيدة‪.‬‬ ‫"المراقــب العــا م" يتلوعلينــا قائمــة الممنوعــات‪ ،‬بينمــا نحــن نطــأطيء‬ ‫رؤوسنا محوقلين‪.‬‬ ‫ثم يبدأ بتسجيل ما يقترحه كل مخـرج منـا مـن أعمـال دراميـة للمرحلـة‬ ‫المقبلة التي ل تتحمل‪ ،‬حسب التعليمات التي تفرضها أوضاع المرحلة‪،‬‬ ‫أكثر من أعمال "كوميديــة" أو " دينيــة" أو "تاريخيــة"‪..‬علــى أن تكــون‬ ‫هذ‪،‬ه العمال خلوا من أي إسقاطات أو تلميحات سياسية‪.‬‬ ‫عنــدما جــاء دوري‪ ،‬ابتســم لــي ابتســامة ذات معنــى‪ ،‬وهــز رأســه ويــد‪،‬ه‬ ‫الممسكة بالقلم‪.‬‬ ‫لم يكن في ذهنــي أي مشــروع‪ .‬كنــت قــد عقــدت العــز م علــى الســفرإلى‬ ‫بيروت‪.‬‬ ‫قلت له قبل أن يسألني‪:‬‬ ‫ مسلسل تاريخي عن "صلح الحديبيه"!‬‫اتسعت إبتسامته دليل الرضــى والدهشــة معــا‪ .‬وســارع بتــدوين رغبــتي‬ ‫في أوراقه‪.‬‬ ‫وانفض المجلس‪.‬‬ ‫وبعد ذلك بأيا م قابلني وهو يحاول أن يكتم إنفعال مبهما‪.‬‬ ‫كنت في ذلك اليو م أحمل الكتاب الموجه من مكتــب "منظمــة التحريــر"‬ ‫في القاهرة لتلفزيون ج‪ .‬م‪.‬ع‪ .‬يطلب إعـارتي للعمــل فــي " دائـرة العل م‬ ‫‪352‬‬


‫الموحــد" فــي منظمــة التحريرالفلســطينية فــي بيــروت‪ ،‬للمســاهمة فــي‬ ‫تطوير السينما الفلسطينية‪.‬‬ ‫أعطيته الرسالة‪ .‬قرأها فانفرجت أسارير‪،‬ه‪ ،‬وقا م بتذيلها بتوقيـع الموافقـة‬ ‫المطلوب‪.‬‬ ‫ورحلت إلى بيروت‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫رأيت مصر في المنام‪..‬‬ ‫لشدما تغيرت‪..‬‬ ‫‪.. .. .. .. .. .. ..‬‬ ‫هأنا أرحل عنك‪..‬‬ ‫عائدا يوما إليك‪..‬‬ ‫حينما يصب نهر النيل في بزر الشام‪.‬‬ ‫"أحمد عبد المعطي حجازي"‬

‫أيامي الخيرة في القاهرة‪..‬‬ ‫‪353‬‬

‫*‬


‫كان صدور قرار التفرغ‪ ،‬وموافقة تلفزيون ج‪ .‬م‪.‬ع‪ .‬على "إعارتي"‬ ‫لمنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬ومن ثم إمكانية النتقال للعمل في‬ ‫بيروت هو طوق النجاة من الغرق في دوامات بحر الكآبة والحزن‬ ‫واليأس والحباط‪.‬‬ ‫ومن سخريات القدر‪ ،‬أنني‪ ،‬عندما ذهبت لشركة الطيران لستل م‬ ‫تذكرة السفر إلى بيروت‪ ،‬وجدت تذكرة بإسمي‪ ،‬وأخرى بإسم الزوجة‬ ‫"هـ"‪ .‬فقد خيل‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬لمسئول "العل م الفلسطيني الموحد"‬ ‫بمنظمة التحرير في بيروت‪" ،‬ماجد أبو شرار"‪ ،‬زميل الدراسة الثانوية‬ ‫في غزة‪ ،‬أن زواجي من "هـ" قد تم‪ ،‬أو هو في طريقه إلى ذلك‪.‬‬ ‫فوجيء صديقي "ماجد"‪ ،‬والذي كان يعلم بمشروع إرتباطي‪،‬‬ ‫بقراري بالسفر إلى بيروت بمفر دي ونصحني بالتمهل‪ .‬كما نصحني‪،‬‬ ‫عند لقائي به في القاهرة‪ ،‬بقبول العرض الذي كنت قد تلقيته مؤخرا‬ ‫لخراج مسلسل تليفزيوني لشركة إنتاج يمتلكها مجموعة من الشبان‬ ‫الفلسطينيين في عمان‪ ،‬بحيث أتواجد في بيروت بعد النتهاء من‬ ‫المسلسل مع بداية السنة الجديدة‪ .‬وذلك ضمانا لوجو د ميزانية لنتاج‬ ‫الفل م في"العل م الموحد" من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى من أجل‬ ‫الستفا دة من قيمة أجري عن إخراج المسلسل‪ .‬وهدف آخر كان‬ ‫"ماجد" يقصد‪،‬ه وهو توفير فرصة للتفكير قبل إنهاء علقتي بـ ض "هـ"‪.‬‬ ‫كانت هناك عدة شهور من الجازات السنوية المتراكمة التي نمى إلى‬ ‫علمي إمكانية الستفا دة منها بحيث أقضي منها في عمان شهورا ثلثة‬ ‫أو أربعة في النصف الثاني من عا م ‪ ،74‬ومن ثم أعو د إلى القاهرة‬ ‫لتما م إجراءات إعارتي من التلفزيون العربي في القاهرة إلى منظمة‬

‫‪354‬‬


‫التحرير إبتداء من العا م الجديد‪ ،‬عا م ‪ ،1975‬على أن أستعد للسفر إلى‬ ‫بيروت‪ ،‬حسب التفاق‪ ،‬في أواخر عا م ‪.74‬‬ ‫كانت الوقات الكئيبة التي ظهرت فيها إرهاصات ونوايا إتفاقية السل م‬ ‫المنفر د مع إسرائيل‪ ،‬بالضافة إلى تلك القيو د التي فرضت على‬ ‫مخرجي الدراما في التلفزيون من حظرعلى أي موضوع يتناول‬ ‫ويعالج تلك الظروف التي أملتها الوضاع المستجدة‪ ،‬وقصرالنتاج‬ ‫على التمثيليات الكوميدية والمسلسلت الدينية والتاريخية التي يشترط‬ ‫أن ل ميشتم فيها رائحة السقاطات السياسية‪ ،‬كل ذلك كان من السباب‬ ‫التي عجلت في قبولي للسفرإلى عمان‪ ،‬بدون أن أقرأ حتى سيناريو‬ ‫المسلسل‪ ،‬أو أن أتفق على المسائل المالية‪.‬‬ ‫إكتفيت فقط بقول المنتج‪" ،‬سهيل إلياس"‪ ،‬بأن الموضوع يدورحول‬ ‫الرض‪ ..‬والنتماء لها‪ ..‬والتمسك بها‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪355‬‬

‫*‬


‫عمزــــــــان ‪ ..‬أول مرة!‬

‫هناك فوجئت بـ"سيناريو" متواضع لم يحرك فوي رغبتي ول أثار‬ ‫شهيتي للعمل‪ .‬فقررت العو دة وقضاء اجازاتي المتراكمة في‬ ‫السكندرية‪ ،‬مع شقيقاتي‪ ،‬خصوصا وأنني على سفر إلى بيروت‪،‬‬ ‫والبقاء فيها إلى ما شاء ا‪.‬‬ ‫لكن المنتج أصرعلى بقائي في عمان‪ ،‬وأعطاني مطلــق الصــلحية فــي‬ ‫أن أعيد كتابة الســيناريو بالطريقــة الــتي أراهــا وترضــيني‪ ،‬وبالشــروط‬ ‫التي تناسبني‪.‬‬ ‫وكانت أولى بوا درالنوايا الحسنة هي إنتقالي من الفندق إلى مســكن يقــع‬ ‫في واحد من أرقى وأجمل أحياءعمان‪" ،‬الشميساني"‪ ،‬وتتــوفر فيــه كــل‬ ‫أسباب الراحة‪ ،‬ناهيك عن كـر م الضـيافة الـذي غمرنـي وألجمنـي‪ .‬هـذا‬ ‫إلى جانب الجواءالفلسطينية المقدسية‪ ،‬التي كــانت تعــج بهــا "عمــان"‪،‬‬ ‫والتي كنت أتوق إليها والتي أشعرتني بالسعا دة والحساس بأنني أقترب‬ ‫من بلدي‪ ،‬القدس‪ ،‬وجعلتني أعو د إلى الحديث بلهجتي المقدســية بعــد أن‬ ‫خيل إلوي أنني كدت أن أنساها في غمــرة عملــي فــي الوســاط القاهريــة‬ ‫وفي التلفزيون المصري‪.‬‬ ‫وكيــف أنســى ترحيــب الوســاط الثقافيــة‪ ،‬ومشــاعرالو د الــتي أحــاطتني‬ ‫وطوقتني وأعا دت إلوي توازني الذي كدت أن أفقد‪،‬ه فــي أيــامي الخيــرة‬ ‫في القاهرة‪.‬‬

‫‪356‬‬


‫بعد إكتمال إعا دة كتابة الحلقة الولى من المسلسل ابتدأ السيناريو ينحو‬ ‫إلــى إتجاهــات جديــدة ويتطلــب وجــو د شخصــيات جديــدة‪ ،‬أوأن تتخــذ‬ ‫شخصيات معينة فيه ملمح أخرى مغايرة‪ ،‬أو أكثر وضوحا‪.‬‬ ‫وتوالت بعــدها الحلقــات الــتي كــان المنتــج‪ ،‬وشــركائه والمقربيــن منــه‪،‬‬ ‫يستقبلونها بلهفة تنم عن القناعة والرضى‪.‬‬ ‫أذكرأنني كنت أنفعل‪ ،‬إلى حد البكاء‪ ،‬أثنـاء صـياغة أحـد المشـاهد الـتي‬ ‫يكتشف فيهــا أهــل قريــة "راس العيــن" أن الســرفي طغيــان "المختــار"‬ ‫يكمن فــي ضـعف أهــل القريـة ذاتهــم‪ ،‬ل فــي قـوته هـو‪ .‬أوعنـدما كنــت‬ ‫أكتب‪ ،‬على لسان بعضهم‪ ،‬ما كان يجول فــي خــاطري مــن تمــر د علــى‬ ‫الوضــاع الــتي وصــلت إليهــا "تلــك القريــة" المحاصــرة بالعــداء‪..‬‬ ‫والمخترقة بال دعياء‪.‬‬ ‫وتناقلت الوساط الفنية والثقافية أخبار سيناريومسلســل"راس العيــن"‪..‬‬ ‫أول مسلسل عربي سوف يجري تصوير ه باللوان!‬ ‫وتوالى تعريفي بالممثلين والممثلت والفنيين في تلفزيون عمان‪،‬‬ ‫وغالبيتهم العظمى كانوا من الفلسطينيين‪.‬‬ ‫وبدأت إختياراتي على مهل‪.‬‬ ‫في أحد اليا م‪ ،‬جاءني المنتج"سهيل إلياس" وعلى وجهه أمارات الفرح‬ ‫المشوب بالدهشة‪ ،‬وفي يد‪،‬ه جريدة الهرا م الصا درة في نفــس اليــو م‪25،‬‬ ‫يوليه ‪،1974‬لقرأفي الصفحة الخيرة‪،‬صفحةكمال المل خ"بلعنوان"‪،‬‬ ‫خــبرا مفصــل عــن فــوز فيلــم "الظلل فــي الجــانب الخــر" بجــائزة‬ ‫مهرجان "كارلوفي فاري" في تشيكوسلوفاكيا‪**.‬‬ ‫لم يكن فوزالفيلم هو سبب المفاجأة‪ ،‬ولكنه كان أيضا لعلمي ويقيني بأن‬ ‫الفيلم لم يفرج عنه رقابيا بعد‪.‬‬ ‫فكيــف يتــأتى أن يشــارك الفيلــم فــي مهرجــان دولــي وهوممنــوع مــن‬ ‫العرض في بلد‪،‬ه ؟!‬ ‫_______________________________________________________‬ ‫** مهرجان "كارلوفي فاري" التاسع عشر عام ‪ ،74‬باشتراك ‪ 30‬دوله‬ ‫و ‪ 90‬فيلم طويل‬

‫‪357‬‬


‫ثم أعقب ذلك عرض التلفزيون الر دني لخــر تمثيليــة ســهرة كنــت قــد‬ ‫أنجزتها في القاهرة قبيل حضوري إلى عمان‪ ..‬تمثيلية "ضمير إمرأة"‪.‬‬ ‫وانهالت علي بعد ذلك أنــواع التهــاني والمباركــات والعــروض للتفــاق‬ ‫على كتابة مسلســلت أخــرى‪،‬الشــيء الــذي كنــت أرفــض بشــدة مجــر د‬ ‫الحديث عنه‪ ،‬ما دمت لم أنته بعد من العمل الذي أنا بصد د‪،‬ه‪.‬‬ ‫وعندما شــارف موعــد بــدء التصــويرالذي يحتــم حضــورالممثلة "منــى‬ ‫واصف" مع الممثل "عبدالرحمن آل رشي" من سوريا للبدء في إجراء‬ ‫البروفات‪ ،‬لحت في الفق إحدى بوا در سلوك المنتجين المراوغين‪.‬‬ ‫فوجئت باعتذارالسيدة "منى"عن عد م إمكانية حضــورها‪ ) ،‬وهــي الــتي‬ ‫أكدت لي فيما بعد‪ ،‬عندما قابلتها في مهرجان موسكو السينمائي‪ ،‬أنها لم‬ ‫تتلق أي عرض من ذلك المنتج(‪ ،‬ووجدتني أما م أمــر واقــع ل أســتطيع‬ ‫إزاء‪،‬ه إل القبول بالممثلة البديلة المتاحة‪ ،‬والتي قامت بدورها بشكل جيد‬ ‫والحمد ل‪.‬‬ ‫وتوالت التراجعات من طرفهم‪ ،‬والتنــازلت المحــدو دة المشــروطة مــن‬ ‫طرفي‪ ،‬ومن ثم التوقعات الحذرة والوساوس‪.‬‬ ‫وفي أحد اليا م فوجئنا بتوقف إحدى الكاميرات الثلث عن العمــل‪ ،‬ولــم‬ ‫متجد محاولت الفنيين اليائسة في إصلحها‪ .‬هذا مع العلم بأن فريقا فنيــا‬ ‫قد قضى مدة ل بــأس بهــا‪ ،‬كمــا قيــل لــي‪ ،‬فــي بريطانيــا للتــدريب علــى‬ ‫صيانة أجهزتهم الحديثة قبل تركيبها في التليفزيون الر دني‪ ..‬الملون‪.‬‬ ‫هنــا‪..‬كــان ل بــد لــي مــن إنقــاذ الموقــف بإعــا دة النظــر فــي الســيناريو‪،‬‬ ‫وإجراء التعديلت الممكنــة فــي الـــ" ديكوبــاج" بمــا يتلء م مــع الكتفــاء‬ ‫بالكاميرتين الباقيتين‪.‬‬ ‫ل أنكرأننــي كنــت أشــعر بالمتعــة أثنــاء قيــامي بعملــي بــالرغم مــن كــل‬ ‫المنغصــات الــتي واجهتنــي نتيجــة لحابيــل المنتــج ومراوغــاته‪ .‬وكــان‬ ‫مصدرمتعتي هي تلك الشخصيات التي قمت بتطوير أ دوارها وجعلتهــا‬ ‫تنطق ببعض ما كان يعتمل في داخلي‪ ،‬أنا المنفي المبعد عن بلــد‪،‬ه‪ ،‬مــن‬ ‫أحاسيس وما كنت أومن به من أفكار‪.‬‬ ‫‪358‬‬


359


‫ثم‪ ..‬ما لبثت الكــاميرا الثانيــة أن لحقــت بأختهــا‪ ،‬فلــم يبــق أمامنــا ســوى‬ ‫إنتظاروصــول الخبيرالبريطــاني لصــلح العطــال‪ .‬فمــن المســتحيل‬ ‫إكمال العمل في المسلســل بكــاميرا واحــدة وذلــك لعــد م تــوفر إمكانيــات‬ ‫"المونتاج اللكتروني" المتطورة‪ ،‬في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫إل أنني تمكنت من إتما م تصــوير بقيــة اللقطــات للمشــاهد الــتي يشــارك‬ ‫فيها الممثل السوري القدير"عبدالرحمن آل رشي"‪ ،‬ليتمكن من العــو دة‬ ‫إلى بلد‪،‬ه وأعماله‪.‬‬ ‫ومرت أيا م من الركو د كان إحساسي فيها بفداحة التنازلت التي قدمتها‬ ‫يتعاظم‪ ،‬وخوفي من الظروف التي قد تضطرني لتقديم تنازلت أخرى‬ ‫سوف يكون لها أثرهاعلى مستوى العمل ينمو ويتزايــد‪ .‬وقــد ســاهم فــي‬ ‫ذلك ظهور بوا در نوايا "غير مريحة" بالنسبة للتعاب‪ ،‬فلم يكـن هنـاك‬ ‫حتى ذلك الوقت أي تعاقد يحكم هذا الجانب من العلقة بيني وبين جهة‬ ‫النتاج ‪.‬‬ ‫ومع إز ديا د شكوكي بالنوايا الغيرعا دلة‪ ،‬بالضافة إلى التنازلت‬ ‫الفنية التي كنت أتوجس من المزيد منها‪ ،‬واقتراب موعد عيد‬ ‫الضحى‪ ،‬وجدت أن الوقت قد حان للهروب من مأزقي مقابل‬ ‫التضحية ببقية أتعابي‪ ،‬وتركها رهينة لحين عو دتي التي لن تتم‪.‬‬ ‫كنت أعرف أنني لن أعو د لتما م العمل في المسلسل‪ .‬وكنت في نفس‬ ‫الوقت أشفق على العمل الذي أحببته وأنا أكتب تفاصيله‪ .‬ثم أحببته‬ ‫أكثر بينما أنا أقو م بتنفيذ مشاهد جميلة كنت راضيا عنها كل الرضى‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬تركت "الديكوباج" التفصيلي للعمل بين يدي المنتج أمل في‬ ‫أن يستفيد منه المخرج الذي سيتولى العمل من بعدي‪.‬‬ ‫عندما صا دف أن عدت إلى زيارة عمان بعد ذلك بحوالي عامين‪ ،‬قيل‬ ‫لي‪ ،‬أنه أثناء عرض المسلسل في التلفزيون‪ ،‬وبعد أن عهدوا إلى‬ ‫مخرج آخر لتمامه‪ ،‬كانت تعليقات المشاهدين تتفق و تتلخص في‬ ‫التساؤل عن سر الكبوات في إيقاع بعض المشاهد‪ ،‬وخلوها من ذلك‬ ‫التألق الذي تميزت به المشاهد الخرى التي ل أنساها في مسلسل‬ ‫"راس العين"‪.‬‬ ‫‪360‬‬


‫وهل أنسى دور تلك الصبية الـ "فيديت" الــذي أســندته بــدون تــر د د إلــى‬ ‫فتاة كان يبدو لي أنها كانت من قريبات المنتج‪ ،‬كانت تتر د د على مكتبه‬ ‫وتتطلع حولها في خفرالعذارى المشوب بالعجاب والنبهــار‪ ،‬وبا دلتهــا‬ ‫عدسة الكامير العجاب وأحبتها من "أول لقطة"؟‬ ‫كنت أتأمل وجهها الجميل الناطق بمعاني البراءة من خلل الكاميرا‬ ‫فتز دا د قناعتي بحسن اختياري‪ .‬وكنت أتعمد أن أ دعوها لترى ما قامت‬ ‫بتجسيد‪،‬ه بعد تصوير بعض مشاهدها لترى قسماتها تنضح بشرا وعزما‬ ‫على مواصلة اللتزا م بتعليماتي التي كانت ترهقها في بعض الحيان‬ ‫لدرجة المجاهرة بنواياها بترك العمل واعتبار تجربتها الولى هي‬ ‫الخيرة أيضا‪ ..‬كان اسم الصبية "جولييت"‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪361‬‬

‫*‬


‫"جولييت"‪ ..‬ثاني مرة‬ ‫كانت عشرون سنة قد مرت عندما كنت‪ ،‬ومعي ممثلة المسرح‬ ‫العكاوية‪ ،‬الصديقة "ساميه بكري"‪ ،‬أتفقد ضيوف مهرجان المسرح‬ ‫التجريبي في القاهرة‪ ،‬عا م ‪ ،94‬باحثا عن رئيس الوفد الر دني‬ ‫المشارك‪ ،‬لفتت انتباهي سيدة أربعينية كانت تختلس نحوي نظرات‬ ‫متفحصة بإلحاح داعب غروري وأثار فضولي‪ .‬ولم ألبث أن رأيت‬ ‫صورة وجهها تطل من أحد الملصقات التي تفيد بأنها بطلة لمسرحية‬ ‫"مونو دراما" هي المشا أركة الر دنية في ذلك المهرجان‪ ،‬مما أكد لي‬ ‫أنني عرفتها في يو م ما‪.‬‬ ‫لم يطل بحثي عن صديقي "حاتم السيد"‪ ،‬مندوب قطاع المسرح في‬ ‫وزارة الثقافة الر دنية‪ ،‬ورئيس الوفد الر دني‪ ،‬الذي سارع بالقبض‬ ‫على ذراع شخص طويل القامة‪ ،‬كان يقف خلفه بجانب تلك السيدة‬ ‫الفضولية ذات النظرات المتفحصة‪ ،‬ويشد‪،‬ه لمواجهتي فإذا بي أرى‬ ‫"جميل عوا د" الذي لم أر‪،‬ه منذ عشرين عا م مضت‪.‬‬ ‫كان "جميل"‪ ،‬مخرج المسرحية الر دنية المشاركة‪ ،‬أحد المساعدين‬ ‫الذين تعاونوا معي في مسلسل "راس العين"‪ .‬وكان اللقاء حارا لدرجة‬ ‫لفتت أنظار "السيدة" التي سرعان ما انضمت إلينا بينما تتر د د على‬ ‫وجهها إبتسامة و دو دة‪ .‬وسرعان ايضا ما استدرك "جميل" الموقف‬ ‫ليقد م لي زوجته مضيفا‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬شو حكايتك‪ ..‬إنت نسيت "جولييت"؟!‬‫وتعانقت أشواقنا والحنين إلى أيا م لم تخل من بشر وأحل م كبار‪ ،‬و‬ ‫با درتني بقولها مازحة‪:‬‬ ‫ ‪ ..‬روح ا يسامحك ياشيخ!‬‫وأكملت مشيرة لي وهي توجه كلمها للممثلة المسرحية "سامية‬ ‫بكري" بلهجة شاكية‪:‬‬ ‫‪362‬‬


‫ ‪ ..‬هوالسبب‪ ،‬هواللي وورطني وأعطاني أول دور في حياتي‪،‬‬‫وجاب لي المشاكل والحكي‪ .‬الناس في الشارع صاروا يشاوروا‬ ‫علوي ويقولوا‪" ..‬البنت اللي‪".. ..‬‬ ‫وعقب "جميل" مازحا بسرعة‪:‬‬ ‫ لما كترالحكي‪ ..‬شفقت عليها وتجوزتها!‬‫ثم لم تلبث أن غيرت لهجتها وأكدت لمن حولها‪ ،‬بنظراتها التي تشي‬ ‫بالسعا دة والعرفان‪ ،‬أنها غير نا دمة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫‪363‬‬

‫*‬


364


365


‫"جولييت"‪ ..‬مرة أخرى**‬

‫عشرون عاما تفصل بين اليو م الذي اختر م‬ ‫ت فيه تلك الفتاة‪ ،‬لتقف لول‬ ‫مرة أما م الكاميرا‪ ،‬لتقو م بدور بذلت قسطا وافرا من العناية في رسمه‪،‬‬ ‫وبين اليو م الذي أراها فيه ممثلة قديرة تشارك بنجاح ملفت في مهرجان‬ ‫ دولي للمسرح التجريبي‪.‬‬ ‫ثم تمرعشرة أعوا م أخرى لراها وهي تطل شامخة من شاشة إحدى‬ ‫القنوات الفضائية في دور تنافس فيه ممثلة المسرح النمساوية القديرة‪،‬‬ ‫ذات الشهرة العالمية‪ " ،‬دوروثيا نيف"‪ ،‬التي قامت بدور"ال م أشجاعة"‬ ‫في مسرحية "بيرتولد بريخت" الخالدة )على مسرح الشعب‪ ،‬في فيينا‪،‬‬ ‫عا م ‪.(1963‬‬ ‫ذلك هو دور "إ م صالح" في المسلسل العربي البديع‪" ،‬التغريبة‬ ‫الفلسطينية"‪ ،‬الذي يجسد معاناة عائلة فلسطينية خلل نصف قرن من‬ ‫النضال حفاظا على الحق‪ ،‬والذي أبدعت فيه الفنانة "جولييت عووا د"‪،‬‬ ‫وكذلك زوجها الفنان "جميل عووا د"‪ ،‬إلى جانب المجموعة المتميزة من‬ ‫الممثلين الفلسطينيين‪" ،‬المقيمين" في الر دن أوسوريا‪ ،‬إلى جانب تلك‬ ‫الباقة من الممثلين والممثلت العرب‪.‬‬ ‫المقا م ل يتسع لتقييم المسلسل وإعطائه حقه من النقد‪ .‬ولكنني أر دت‬ ‫صا‬ ‫بهذ‪،‬ه الضافة أن أنوو‪،‬ه عن الجهد الرائع لكل من شارك فيه‪ ..‬ن ا‬ ‫وإخرااجا وأ دااء وتنفياذا‪.‬‬ ‫_______________________________________‬ ‫القاهرة‪ ..‬إضافة في ديسمبر ‪2004‬‬ ‫)**(‬

‫‪366‬‬


‫أقول باختصار‪..‬‬ ‫أي فرحة تلك التي تغمرني وقد امتد بي العمر لشهد ذلك الميل د‪..‬‬ ‫ول دة "الدراما التلفزيونية الفلسطينية"!‬ ‫لقد أنجز لنا الزميل المخرج الشاب "حاتم علي"‪ ،‬بالشتراك مع الكاتب‬ ‫القدير د‪ .‬وليد سيف‪ ،‬شيئا مما كنت أنا شخصيا أحلم بإنجاز‪،‬ه‪ ،‬فلهما‬ ‫مني‪ ،‬ولسائر المشاركين في هذا العمل‪ ،‬أصدق الشكر والمتنان‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫‪367‬‬

‫*‬


‫ي حلم"**‬ ‫"لد ز‬

‫كانت إقامتي في "عومان" ل تخلو من لحظات مخطوفة‪ ،‬أنسى فيها‬ ‫همو م العمل ومتاعبه‪ ،‬حينما كنت ألبي دعوات بعض الصدقاء‬ ‫المقدسيين القدامى أو الجد د‪ .‬ولم تكن الدعوات إلى المطاعم أو الفنا دق‬ ‫تستهويني بقدر ما كنت أهيم شوقا إلى"العزايم" في البيوت الفلسطينية‪،‬‬ ‫والمقدسية بالذات‪ ،‬حيث تعبق رائحة "الزعتر" و"الميرمية"‪ ،‬فتأخذني‬ ‫إلى رحاب الطفولة وتتجول بي في حارات الذاكرة‪.‬‬ ‫ففي المنافي غالبا ما يجعل الفلسطيني من بيته وطنا افتراضيا‪ ،‬فيقو م‬ ‫بإعطائه طابعه المميز عن طريق نثر التحف التذكارية ذات الطابع‬ ‫الوطني وقطع المشغولت اليدوية التراثية في أركان البيت وعلى‬ ‫حيطانه‪.‬‬ ‫وأتلهف أنا لسماع أحدهم وهو يستدعي ذكرياته التي تعو د إلى سنوات‬ ‫ما زالت قريبة طازجة بالنسبة لذكرياتي الغائرة في السنين والطاعنة‬ ‫في القد م‪ .‬فنسافر سويا في الزمن‪.‬‬ ‫نتبا دل معلوماتنا عن تضاريس "البلدة القديمة" وجغرافيتها وتاريخها‪،‬‬ ‫ونتجول في معالمها‪ .‬يقو دونني تارة‪ ،‬وأقو دهم تارة أخرى للعبور من‬ ‫تحت أحد القناطر في إحدى الحارات‪.‬‬ ‫وتأخذنا معها الذكريات‪ .‬و يرحل بي حنيني إلى شطآن الوطن بعد أن‬ ‫كدت أن أغرق في بحور الغربة‪.‬‬ ‫وأتوق إلى حلم طفولتي‪ ،‬ذلك الحلم المتكرر‪ ،‬حيث كنت أراني أفر د‬ ‫ذراعوي وأطلقهما للريح‪ ..‬فأطير‪ ..‬وأطير‪.‬‬ ‫_______________________________________________________‬ ‫)**( خطبة "مارتن لوثر كينج" الشهيرة التي ألقاها أمام آلف المواطنين السود بجوار تمثال‬ ‫"أبراهام لنكولن" عام ‪ ،1963‬ولم تلبث يد التعصب في أميريكا أن اغتالت هذا الحلم‬ ‫باغتيال القس في عام ‪.68‬‬

‫‪368‬‬


‫في القدس‪ ..‬في المدرسة العمرية البتدائية التي كانت قبل الحتلل‬ ‫الصهيوني تقع على أحد المرتفعات خارج أسوارالمدينة القديمة‪ ،‬أشار‬ ‫مدرس الجغرافيا من نافذة الصف إلى الجبال العالية التي تبدو في‬ ‫الفق الشرقي‪ ،‬غائمة تكا د تنمحي ولكنها موجو دة‪ .‬قال أنها "جبال‬ ‫مؤاب" التي تقع في الر دن‪ ،‬وراء البحرالميت‪.‬‬ ‫ساءلت نفسي في عمان‪:‬‬ ‫ترى لو وقفت على أحد القمم في جبال مؤاب‪ ،‬شرقي البحر الميت‪،‬‬ ‫فهل سوف أطل‪ ،‬من فوقه غربا‪ ،‬على القدس‪..‬على مدرستي‪..‬على‬ ‫طفولتي؟‬ ‫بل إنني كثيرا ما كنت أنوي القيا م بتلك "التجربة" في أحد أيا م إقامتي‬ ‫في عمان‪ .‬لكنني لم أجد الوقت المناسب‪ ،‬ول المرافق المناسب لها‪.‬‬ ‫لم يطفيء لهيب أشواقي سوى ذلك الحلم المتكرر‪ ،‬الذي كنت فيه أفر د‬ ‫ذراعوي وأطلقهما للريح‪ ..‬وأطير‪ ..‬وأطير إليها‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫كدت‪ ،‬في بعض الحيان‪ ،‬أن أتنساق وراء ما زينه لي البعض‬ ‫بالستقرار في "عومان"‪ ،‬خصوصا وأن فرص العمل‪ ،‬كمخرج‬ ‫تلفزيوني‪ ،‬كانت تنهال عليي بإلحاح‪ ..‬وبسخاء‪.‬‬ ‫كنت‪ ،‬أحيانا‪ ،‬أحدث نفسي متسائل في شيء من التواطؤ مع أصحاب‬ ‫العروض المغرية‪:‬‬ ‫ما دمت أرى في "بيروت" محطة أخيرة لترحالي بين المنافي‪ ،‬أفليست‬ ‫"عومان" هي القرب جغرافيا إلى "القدس" من "بيروت"‪ ..‬كمحطة‬ ‫أخيرة؟‬ ‫لكني‪ ،‬كلما أمعنت في التفكير والحسبان‪ ،‬كنت أرى في "عومان" مكانا‬ ‫آخر للنتظار‪ .‬بينما كانت "بيروت" في نظري مكان للعمل والنطلق‪.‬‬ ‫شتان بين البلد التي لفظت "المقاومة الفلسطينية" في أيلول السو د عا م‬ ‫‪ ،1970‬وبين "بيروت" التي احتضنتها سنوات طوال‪.‬‬ ‫‪369‬‬


‫ولم يختلف إحساسي‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عندما ذهبت إلى لبنان‪ ،‬وأخذت أطل‬ ‫من قمم جباله الجنوبية على أراضي شمال فلسطين‪.‬‬ ‫كم عاو دني ذلك الحلم المتكرر الذي كنت فيه أفر د ذراعوي وأطلقهما‬ ‫للريح فأطير وأطير‪ ..‬إليها!‬ ‫فكما العاشق الذي يرى كل نساء العالم في محبوبته‪.‬‬ ‫كنت‪ ،‬وسأظل‪ ،‬أختزل العالم كله في مكان واحد هو‪ :‬القدس‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫‪Word 2003‬‬

‫‪370‬‬

‫*‬


‫الجنسيه ‪:‬‬ ‫المولد ‪:‬‬

‫فلسطيني‬ ‫القدس ‪27/2/1934‬‬

‫ عضوية لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية الدوليه التيه ‪:‬‬‫* المهرجان القومي الول للفلم الروائيه المصريه المقام في‬ ‫"جمصه" عام ‪1972‬‬ ‫* مهرجان "ليبتزج" الدولي بألمانيا عام ‪1978‬‬ ‫* مهرجان "بغداد" الدولي لفلم فلسطين عام ‪1979‬‬ ‫* مهرجان "القارهره" للفلم التسجيليه عام ‪1984‬‬ ‫ المشاركه في المهرجانات وحلقات الدراسه الدوليه للسينما وأرهمها‬‫‪:‬‬ ‫* مهرجان "سينيستود" في أمستردام ‪ -‬رهولندا عام ‪1967‬‬ ‫عام ‪1973‬‬ ‫* مهرجان "كارلوفيفاري" الدولي للسينما‬ ‫* مهرجان "طشقند" الدولي للسينما عام ‪1975‬‬ ‫* مهرجان "كراكوف" الدولي للسينما عام ‪1976‬‬ ‫* مهرجان "قرطاج" الدولي للسينما ‪1976‬‬ ‫* مهرجان "بيلباو" الدولي للسينما ‪ -‬عام ‪1977‬‬ ‫* مهرجان "ليبتزج" الدولي للسينما ‪ -‬عام ‪1977‬‬ ‫* مهرجان "فالينسيا" الدولي للسينما ‪ -‬عام ‪1990‬‬ ‫* مهرجان الفلم التسجيليه الدولي ‪ -‬أمستردام ‪1991 -‬‬ ‫* مهرجان " آوجسبورج" الدولي للسينما ‪ -‬عام ‪1991‬‬ ‫* الملتقى الدولي للسينما والروايه ‪ -‬تطوان‪-‬عام ‪19991‬‬ ‫* الملتقى الدولي للسينما والروايه ‪ -‬الدار البيضاء‪92 -‬‬ ‫* مهرجان قرطاج ‪ -‬تونس ‪1998 -‬‬ ‫أرهم الجوائز الدوليه ‪:‬‬ ‫جائزة أحسن فيلم روائي قصير ‪ -‬مهرجان‬ ‫‪o‬‬ ‫)ممثل عن النمســـــا (‬ ‫"سينيستود" ‪ -‬رهولندا ‪1967‬‬

‫‪371‬‬


‫جائزة مهرجان "كارلوفيفاري" الولى عن‬ ‫‪o‬‬ ‫الفيلم الروائي الطويل‪-‬‬ ‫) ممثل عن مصــــــــر (تشيكوسلوفاكيا ‪1973‬‬ ‫جائزة مهرجان "كراكوف" الفضيه عن‬ ‫‪o‬‬ ‫) ممثل عن‬ ‫الفلم التسجيليه ‪ -‬بولندا ‪1976‬‬ ‫فلسطين (‬ ‫جائزة مهرجان "بلباو" الفضيه عن الفلم‬ ‫‪o‬‬ ‫) ممثل عن فلسطين (‬ ‫التسجيليه ‪ -‬اسبانيا ‪1977‬‬ ‫جائزة مهرجان "قرطاج" الفضيه عن الفلم‬ ‫‪o‬‬ ‫) ممثل عن فلسطين (‬ ‫التسجيليه ‪ -‬تونس ‪1976‬‬ ‫الجائزه الكبرى ‪" -‬الحمامه الذرهبيه" ‪-‬‬ ‫‪o‬‬ ‫) ممثل عن فلسطين (‬ ‫‪1978‬‬ ‫مهرجان "ليبتزج"‪-‬‬ ‫شهادة تكريم و تقدير "للمساهمة المتميزة‬ ‫‪o‬‬ ‫في إنجاح الباقة التاسعة لمهرجان ربيع الفنون الدولي" – تونس‬ ‫‪2003‬‬

‫‪372‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.