غالب شعث )سيرة ذاتية(3-
صندوق العجب
من
أوراق مهـــــــــاجر
2
القسم الول
3
4
ما سر انبثاق هذا الماضي ؟ أهو البحث عن طفولة المكان؟ أهو الشبق لملاقاة الطفولة؟ أم هو الاقتراب من سؤال سابق؟ ما البداية ..وما النهاية؟! محمود درويش
5
تعقيب على ما هو آت..
6
ربما تكون الخواطر والصورالتي تداعت إلى مخيلتي ،أثنــاء أو بعــد"رحلتي" الولى إلى"غزة" ،بموجب "تصريح مؤاقت" من السلطات السرائيلية ،بعد سنوات المنفى الربعين ،اقد تواردت بترتيب عشوائي وجاءت ،هكذا ،بذلك القدر من التفصيل حينا،أو اليجاز حينا آخر .لكنها بكل تأكيد ،هي التي سافرت بي في الزمن، وجعلتني أستسلم للرغبة في تقمص طفولتي التي سااقتني إلى المزيد من تلك الخواطرالمتواردة المتدفقة. لم تغرني اقوالب السسييرالتي اقرأتها ول استهواني اللجوء إلى منهج محدد .وآثرت أن أترك لقلمي الحبل على الغارب ليجوس في دهاليز الماضي كيفما اتفق .فليس هناك في أيامنا الغابرة أيام أاقل أهمية من غيرها .فكل ذكرى لها مذااقها ،حلروا أو م ررا ،وكل تجربة لها معانيها. اقد يكون ما أنا مقبل عليه هو مجرد تقليب في صفحات الماضي، وتأمل في ما يطل من بين سطورها من الصورالتي يحتفظ بعضها بتفاصيل أو ملمح واضحة ،أوآخذة في الشحوب. سرمها "نوستالجيا" ،مما اقد يسوق المرء إلى التلمؤم مع "ذاته" ،أو التصالح معها .أو واقفة متأملة مع مختلف مراحل العمر ،لعل في ذلك مزيد من البحار في غياهب "الذات" ،أو محاولة لكتشاف "الذات الخرى" ،وهو ما يطلق على "الخرين". اقد يكون "الخرون" هم الجحيم ،كما يقول "سارتر". ولكن الكيد هو أن "ذات" المرء هي جنته ..كما هي جحيمه. وحيلتنا هي أن نعرف كيف نجعل "ذاتنا" تقترب من ذلك"الخر"، الذي أسميناه "الذات الخرى" ،أو"الوجه الخر للذات" ،لتتفاعل مع همومه ،أو تتعلم منه. واقبل كل شيء..أن نتعلم كيف نسخرمن همومنا. أن نجعل من السخرية خشبة النجاة من تلك الهموم. *
* 7
*
و"على النسان أن يكتب دون أن يفكر في شكل كتابته على الطلق، بل يدع هذا الشكل يسيل تلقائيا من نبع روحه". الكاتب اللماني
ل .كونستانتين
"تصريـح مؤقت" لزيــــارة الوطـن..
كان ،يا للسخرية ،ل بد من محاولة الحصول على "تصريح مؤاقت "لزيارة" اقطاع غزة" ،من السلطات السرائيلية ،ريثما تُصدر لي ما يسمى براقم "الكومبيوتر" )أو ما دأبت سلطتنا الوطنية على أن تطلق 8
عليه إسم "الراقم الوطني"( الذي سوف يتيح لي العودة النهائية إلى تلك النتفة من الوطن ،التي جادت بها "إتفااقية أوسلو" المجيدة! وفي صبيحة يوم الثلثاء ،25/4/1995،حملني "أوتوبيس السهم الذهبي" في السابعة والنصف ،من القاهرة ،عبراقناة السويس ،إلى مدينة "رفح" .حامل حقيبتي التي أنهكها الترحال. *
*
*
ما من فلسطيني إل ونشأت بينه وبين حقيبة السفرعلاقة خاصة بحيث باتت من علماته المميزة .ففي الماكن التي تعج بهم تصبح الحقائب ظاهرة وتجارة رائجة ،بحيث نجد الكثير من الفلسطينيين يهتمون بااقتناء أحدث ما أنتجته مصانع أوروبا وأميريكا من الحقائب .كأنما يجدون في ذلك شيئا من العزاء أو العوض. عندما خطرت لي هذه الملحظة ،تذكرت أني أيضا كنت أاقتني عددا ل بأس به منها .أتركها بمحتوياتها في هذا البلد أو ذاك،عند أحد الصداقاء أو الاقارب ،أو في هذا الفندق أو ذاك ،أو حتى في "أمانات" محطات القطار في مختلف البلد .وذلك ريثما أعود من السفر لأبحث عن مكان جديد لأسكنها فيه ..مؤاقتا. ولم تكن مساكني في البداية ،شأن كل الطلب المغتربين ،سوى غرفا مفروشة ابتداء من أيام الدراسة في السكندرية عند "أم ألكسندرا"، وفي القاهرة عند "أم ليلى" ،وفي جده ضيفا على أخيي "عابد" .وفي فيينا ،أثناء دراستي وعملي فيها لما يزيد عن العشر سنوات ،عند عدد من"المهات" اللواتي كن يبحثن عن مزيد من الدخل. ثم ،في القاهرة مرة أخرى عند الست "أم سلوى". وكانت سكناي ،بعد ذلك ،وفي عدد من المدن ،أيضا في شقق مفروشه ،حيث ل يمتلك المرء سوى ..حقائب سفره. * 9
*
*
لم تستغرق إجراءات الخروج من الحدود المصرية واقتا طويل ،كما هي العادة عند الدخول منها .وسرعان ما وجدت نفسي ،مع بعض المسافرين ،في المنطقة الحدوديه. وجدت شابا تبين أنه من سكان اقطاع غزة ممن تعودوا العبور من تلك المنطقه .أغلب الظن أنه أحد الطلبة الذين يدرسون في الجامعات المصرية .عرف مني ،بعد أن لمس حيرتي ،أنني أعود للمرة الولى إلى غزة ،بعد غربة عنها دامت أكثر من أربعين عاما .وعرفت منه أننا سنستقل حافلة لتعبر بنا من "المنطقة المحرمة" إلى "نقطة المعبر السرائيليه" )!( صدمتني هذه المعلومة .ألم أكن في طريقي إلى"اقطاع غزه"، الجزءالمحرر من الرض ،الخاضع الن للسلطة الوطنية الفلسطينيه؟! صحيح أنني كنت أعلم عن الوجود السرائيلي العسكري في القطاع، بل واقرأت في تلك النسخة المتاحة من إتفااقية السلم عن المناطق "أ" السيادية ،وعن التواجدالسرائيلي ،المتواري ،في المنطقة الحدودية، لسباب أمنيه مزعومة .لكنني فوجئت ،بعد نزولي من الحافلة ،بأنني أواجه مظاهر"سلطة إسرائيليه" .إحتلل اقائم بمفهومه المباشرمن خلل سيطرة إسرائيلية شبه تامة على مداخل ومخارج الرض الفلسطينية. كدت أردد ما يردده العامة عادة في مثل هذه الحالت ،وأن أتساءل مستنكرا: "من أولها..؟!" أو ما يردده المتثقفون: "أول القصيدة كفر!" لكنني تشبثت بخاطر برق في ذهني .فثمة أفكار ل ندري إن كنا اقد اقرأناها وانطبعت في ذاكرتنا ،في عقلنا الباطن ،أم أنها من وحي اللحظة وعفو الخاطر: "العدو اليوم أمامنا ووراءنا ،وعن يميننا ويسارنا .فكيف له الفرار منا هذه المره". ثم ساءلت نفسي: 10
-
ألم تكن تتمنى أن يأتي اليوم الذي تنتقل فيه "ثورتنا" من المنافي ،ويصبح نضالها كله في داخل أرضنا المحتلة؟ وهل كان حماسك لنتفاضة يوم الرض )30مارس ،(76 الذي أسفر عن فيلمك التسجيلي "يوم الرص" ،إل من حيث أنها انبثقت من هناك ..من الداخل؟
وأخذت ،لول مرة ،أمعن النظرعن اقرب في عدوري هذا. ُ تماثل أمامي ما اقرأت وسمعت أو رأيت في أجهزة العلم المختلفة؛ وجوه شابه ،متعددة اللوان والسحن .جييء بأصحابها ،أو بآباءهم ،من مختلف بقاع الرض .ل يوحرد بينهم سوى "الزي العسكري" ،ول يجمع بينهم سوى وهم ،أو لنقل حلم ،أطلقوا عليه إسم "أرض الميعاد"، و اقانون ليس له مثيل في تاريخ الشعوب هو "اقانون العودة" السرائيلي الذي يبيح لي يهودي من أي جنسية كانت في أي بقعة في العالم أن "يعود" إلى "أرض الميعاد" ويتمتع بحقوق المواطنة الكاملة فيها .هذا ،بينما يقف الفلسطيني صاحب الحق المتوارث في انتظار السماح له بـ" ..زيارة مؤاقتة". لول مرة في حياتي أاقف أمام مجندات ومجندين إسرائيليين. لول مرة أاقف ،على أرض بلدي ،والعلم السرائيلي يرفرف من فواقي. نجمة داود الزراقاء تطرل من بين الخطين الزراقين"..النيل" و"الفرات" ،كما اقيل دائما. واللفتات العبرية ،بلونري العلم ،الزرق والبيض ،تمل المكنه من حولي أوامر ومحاذير وممنوعات. أصابني ما يشبه الدوار ،وأحسست بانقباض في صدري. لم أعد أسمع سوى ذلك الطنين في أذني اليسرى ،اقال عنه الطباء أنه سوف يلزمني مدى الحياة ،إثر الصابة الذي تعرضت لها ذات يوم في "بيروت". لم أعد أرى الشياء .بل أصبحت أشعر وكأن حرابا داقيقة غير مرئية تنطلق من تلك الشياء فتخترق عينري اخترااقا. أحد المجندين ،وكأنما نفذ صبره ،يشوح بيده في إتجاهي. 11
الشاب الفلسطيني يتقدم نحوي بوجه أاقرب إلى العبوس ،ويطلب مني أن أترك متاعي على العربة المخصصة لذلك ،وأن أتقدم من خلل بوابه أشارإليها ،حيث سوف يفحصون تصريح دخولي "المؤاقت". صادف أنه لم يكن هناك أحدغيري ..بتصريح مؤاقت. هناك نوع من اللفة القسرية بيننا ،نحن الفلسطينيين ،وبين أماكن الإنتظار في الموانئ الجوية والبحرية والبرية .ظلت هذه الفكرة تراودني وتوحي إلري بسيناريو فيلم سينمائي جديد عن ذلك الفلسطيني الذي ظل محروما من "اقانون عودة" ومكان "يعود إليه" ،حتى كاد أن "يتعود" العيش خارج مكانه. جلست على أحد المقاعد. بعد داقائق ،سمعت صوتا نسائيا يطلب مني "التصريح" .تلفتت حولي فلم أجد أحدا .واقفت ،فرأيت رأس فتاة خلف شباك يطل من منصة مرتفعة ،ربما حرصا منهم على أن ل يمارسوا التعاطي معنا إل ..من عـلل. مدت يدها لتتناول "التصريح" وهي تطلب ،بلغة إنجليزية مهجنة، صورا شخصيه .أعطيتها ما تطلب ،فقد كنت اقد أعددت عددا كبيرا من الصور حسب توصيات الذين سبقوني لهذه المناسبة وما شابهها. وعدت إلى مكاني حسب أوامر المجندة. بعد مئات الثواني ناولتني "التصريح" وأشارت لى ،بتهذيب موصى عليه ،بالخروج من ممر ضيق يفضي إلى ساحة مغطاة. إلى يساري وجدت شباكا يقف خلفه شاب عابس )بالرغم من محاولته للبتسام( ،ناولته أورااقي بتلقائية .رحب بي باللغة العربية ،وبإسمي، بعد أن ألقى نظرة على الوراق .فجأة تحققت أنني أمام أحد "موظفي" السلطة الفلسطينيه .تنفست الصعداء. أشارإلى الركن الذي سأتسلم فيه متاعي .سألته عن المكان الذي ينتظر فيه المستقبلون .بادر متطوعا بإجراء مكالمة تلفونية ليتأكد من وجود أحد في استقبالي .جاء الرد بالنفي. هذه كانت أول بوادرالترحيب بي ..في وطني. كانت أكثر من جهة اقد أبدت استعدادها لستقبالي في "المعبر". ل بأس ،لكلل ظروفه التي ل يملك أن يتحكم بها. 12
اقال لي موظف السلطة أنني سأتمكن من إيجاد حافلة أو سيارة أجرة في الساحة الخارجية. لم أتردد ،وأنا أتواصى مع نفسي بالصبر ،في اقبول دفع المبلغ الذي أصرعلى طلبه سائق سيارة الجرة ،العابس أيضا ،سبعين دولرا أميركيا ،مقابل تحركه إلى "غزة" بدون انتظار ركاب آخرين. جلست في المقعد المامي ،الذي اقاطعته منذ أن تفجر زجاج السيارة المامي ذات يوم في وجهي في "بيروت" ،ربما لكي أطل عبر ذلك الزجاج بعينري الجائعتين ،اللهفتين ،إلى أرض بلدي وشجرها وسماءها. خرجنا ،أو دخلنا ،من أكثر من بوابة حديدية ،مكهربة ،يحرسها جنود إسرائيليون .انتابتني أحاسيس غريبة ،ومرت بخاطري صور السجون والمعتقلت في الفلم الميريكية الكثيرة التي تندد بالنازية. ثم طغى على تلك الصورأصداء أصوات كنت أسمعها تتحدث عن "شيرك" كانت دولة اليهود اقد أحكمت نصبه لنا بعد أن نجونا من شرك "شارون" في "لبنان". "غزه-أريحا" أول! مازحت نفسي يومها ..لماذا أريحا بالذات؟ تلك البلدة الغائرة في أعماق التاريخ ..والجغرافيا. هل هي خاتمة اللعنات التي انصبت علينا؟ تلك البلدة التي اقذف ا بها إلى "الغوار" السحيقة. أكثر نقطة في الكرة الرضية بعدا عن السماء. هل يعااقبنا ا جل شأنه ،بعد سنوات المنفى الطويلة ،بأن يوغل في استبعادنا؟ أستغفر ا العظيم. مررنا عن حاجز يقف عنده جنديان فلسطينيان..عابسان. اقرأت فيما اقرأت أن "صلح الدين اليوبي" كان دائم العبوس ،ل تعرف البتسامة طريقها إلى وجهه .وعندما تجرأ أحد المقربين إليه وسأله عن السبب أجاب: 13
"أستحي من ا أن يراني مبتسما بينما المسجد الاقصى يحتله الصليبيون". أاقول لنفسي ،محاولة مني للعتصام بفضيلة التفامؤل ،من المؤكد ،أنه سيأتي اليوم الذي تعود فيه البتسامة إلى وجوهنا ،كما عادت إلى وجه "صلح الدين" ذات يوم جمعة ،يوم أن أدى الصلة في المسجد الاقصى بعد استرداد "القدس" في الرابع من أكتوبرعام 1187م ،بعد الحتلل الصليبي الذي دام 88سنة. بعد اقليل استواقفنا حاجز إسرائيلي آخر. عاودني شعورالنقباض. نطق السائق همسرا ،اقبل أن يتواقف ،بإسم مستوطنتين وهو يوميء بحذر إلى اليمين وإلى الشمال. ألقى الجندي السرائيلي نظرة فاحصة داخل السيارة ،وعلى وجهه ابتسامة ،من بقايا ضحكات كان يتبادلها مع زميله ،ثم أشارللسائق بإحساس عارم بالتفوق ،بمواصلة السير. أتنفس الصعداء. هأنا أعود إلى جزء من أرض الوطن .بعد أكثر من أربعين عام من المنفى .منذ أن تركت "غزة" لللتحاق بجامعة القاهرة. ذلك منذعام 53على وجه التحديد. يبدو أنني كنت أفكر بصوت مسموع .صاح السائق بدون أن يتخلى عن عبوسه: ..ياه!ت ر أنا ما كنتش لرسه انولدت .طبعا بدك تلاقي كل إشي تغيرعليك. لم أشأ أن أرد عليه .كنت أفضل أن أحتمي بصمتي من عوااقب البوح بما يعتمل في نفسي من المشاعر المتضاربة ،ولكي أجبره على أن يتركني لتأملتي. وبالرغم من ذلك ،تسربت إلى أذني بعض كلماته عن التغيرات التي طرأت على البلد. كلمات تنم عن مواقفه مما يحدث. 14
*
*
*
تتداعى الخواطر والذكريات ،كما يتراءى للبعض ،دون أن يخضع ذلك إلى اقوانين ثابتة .ولكن ،في لحظة ما ،لبد من أن تلوح بعض الشارات التي تفسرذلك التداعي .ولذلك عود ي ت نفسك أن ل تكبح جماح أي فكرة. مازلت أتذكر ذلك السائق الذي عرفته أثناء رحلتي القصيرة إلى "لبنان"،عام .62 ركبت سيارة أجرة من "بيروت" دون أن أتفق مع سائقها على اقيمة الجرة ،لني لم أكن أعرف بالضبط عنوان المكان الذي أاقصده. هرون السائق عليي المر ،ووعد أن ينجز المهمة وأن ل يتركني اقبل أن أجد أاقاربي الذين كنت أبحث عنهم ..في "الجبل". وفي الطريق إلى "الجبل" ،كان ل بد من أن متجاذب أطراف الحديث الذي عرف الرجل من ثناياه أني طالب فلسطيني في طريقي إلى "مصر" ،حيث يقيم والد ر ي وأخواتي "مؤاقتا" ،وأني مازلت في مرحلة الدراسة الجامعية في الخارج .وأني اضطررت للعمل في السعودية لكي أوفر لنفسي هذه الفرصة .كما عرف أيضا أن المرة الولى التي زرت فيها "لبنان" كانت في طفولتي المبكرة بحيث ل أتذكر منها سوى أطياف. ثم انطلق يتحدث عن البلد العربية وعن العروبة والقومية العربية، وعن "جمال عبد الناصر" ،وعن عدونا الحقيقي "أميريكا" المتوارية خلف مختلف الاقنعة ،وعن أحلم التحرير والوحده. وأخذ يؤكد اقناعاته بترديد جملة تشبه إلى حد كبير تلك الجملة التي دأب الزعيم "جمال عبد الناصر"على ترديدها: "ما أخذ بالقوة ل يسترد بغير القوة". وأضاف: " .. ..التجارب تعلمنا أن نتعلم منها ،فالجيوش العربية التي -وإن بارك ا في عددها اليوم -لن تعيدنا إلى فلسطين .و"مثل ما بيقول المثل الشعبي الفلسطيني ..ما يحرث الرض إل عجولها". 15
نطقها ،وهو يبتسم ،بلهجة فلسطينية سليمة .ثم ردد بضع اصطلحات كانت ما تزال جديدة على مسامعي؛ تنظيمات سرية ..أجنحة عسكرية ..حرب تحرير شعبية طويلة المد..عمليات فدائية في العمق ..مقاومة شعبية. أذهلك الرجل. لم يكن وعيه وتلقائيته في صياغة وتلخيص المور ،وثقته بطروحاته فحسب ،هو ما أذهلني. كان السبب ،أيضا ،هوإصراره ،بعد أن اطمأن إلى وصولي إلى المكان الذي أاقصده ،على عدم تقاضي أجرته. كل ما اقاله لي وهو يبتسم لي ابتسامة والدرية ،ويسارع بإدارة محرك سيارته والنطلق بها ،اقبل أن أفيق من ذهولك: "دير بالك على حالك ..وا معك.وعندما حاولت أن أاقول شيئا أضاف اقائل: "مين عارف ..يمكن نتقابل في يوم من اليام ..في البلد ..اقول إنشال". واختفى الرجل .لكن كلماته ،وابتسامته ،لم تنمح أبدا من ذاكرتي. هل كان يخشى أن أعتبر حديثه مجرد "فض مجالس" ،كما يقولون، ولذلك أراد أن يضفي ،بطريقته الخاصة ،مصدااقية على ما كان يقول ويعتقد؟ وعندما عدت إلى "فيينا" ،مقر دراستي ،لم تفاراقني كلمات الرجل. بل ظلت تلحقني حتى كانت صدفة اللقاء مع صديق الطفولة المقدسي" ،م .الوكيل" ،ثم كان ذلك اللقاء المدببر مع "حمدان" ،وكان ذلك التحول في مجرى حياتي. *
*
*
ل أدري ،حتى الن ،ولربما يأتي ذلك اليوم الــذي ســأعرف فيــه ،لمــاذا عادت تلك القصة لتطل من وراء السنين وتنثر تفاصيلها على صــفحات خاطري ،بينما أنا أحاول البحث عن مهرب من حديث السائق الغــرزاوي 16
العابس الذي لم يتواقف أبدا عن استعراض فرص الكسب الــتي ضــاعت منه بعد زوال الحتلل و دخول السلطة . هل هي الدولرات التي أصرهذا السائق على إاقتناصها مني؟ أم هوعزوف السائق الخرعن تقاضي أجره؟ أم هوالحديث ،الذي كان يفيض تفامؤلعن "العودة"إلى الوطن ،والــذي أفاض به الخير. * * * تتزاحم في ذاكرتي عناوين مختلفة لصفحات أخرى من الماضي تمر سريعة متلحقة كموجججات البحججر ،تخطججف الواحدة منها سمعنا وبصرنا فتطغى على ما قبلهججا ،ول تتلىشى إل وقد مهدت لظهور موجة أخرى تتكسججرعلى الشججاطيء ثججم ل يلبججث بحرالججذاكرة أن يتمخججض عججن أمواج غيرها ..وهكذا. وموج البحر هو التكرار الوحيد الذي ل يصيبنا بالملل أبدا.ر تعود بي الذاكرة إلى الماضي البعيد كلما مرالبحر بخاطري ،وكثيرا ما يحدث لي ذلك ،فأراني على شاطيء البحرالذي عشقته طفل يستهويه تأمل مظاهر الوجود وتملؤه الدهشة تحت تأثير آيات القرآن الكريم الني كان يرتلها أبي في الصباحات المقدسية: ي ت ت يرسبي لينيفليد البيتحُر اقيتبيل أتن يتنفييد يكلليما ُ ت يرسبي "اقُتل ليتو يكاين اتلبيتحُر لميدادار لليكلليما ل يوليتو لجتئينا بللمتثللله يميددار".. هذا ،بالرغم من أن البحر لم يرني إل بضع أيـام فـي السـنة ،حينمـا كنـا ننتقل من مدينتنا ،القدس ،لنقضي جزءا من أجازة الصــيف فــي ضــيافة أاقارب لنا ،في"غزة" ،أو في "يافا". "يافا" ،ثغرالقدس .بحرها كان بالنسبة لي..الحرية المطلقة. أما "القدس" ،فهي الحب المطلق. كــان مــن ضــمن أمنيــات طفولــتي أن ينتقــل البحــر إلــى"القــدس" الــتي تربطني برباط ل فكاك منه ،أو أن تنتقل "القدس" لتربض على ضفاف 17
البحر إلى جانب"يافا" التي كنت أراها متكاملة ..بحرها يليق بهــا وهــي تليق به. وظل البحر يسكن ركنا واسعا من وعيي ومن ذاكرتي. البحر ،وإمتداداته الرحبة ،وإنفتاحه على الفاق الواسعة. هذا الكيان الغريب المليء بالمتنااقضات .العميق الواسع الشاسع الذي يمارس مرده وجزره متحديا كل العوائق .الهاديء ،الهائج بأمواجه العاتية المتمردة ،التي ما إن تقترب من الشاطيء حتى تخر ساجدة مذعنة مسالمة .كأنما هي رسالة توحي وتؤكد أن لهذا الكون ما أو من يسيطرعليه. البحر يقربنا دائما من الله ومن معنى الخلود واللنهاية. وموجه يوحي بالتجدد ..يحيى المل ..يقتل اليأس. البحر يعيدني أنا لـ"كلمات ربي" التي ل ينفذ "مدادها" ،والتي كان والدي يرتل آياتها في "وسط الدار" ،فأجدني دائما أسبح في لجة أحلم العودة إليها ..دارنا في"القدس". البحر ،الذي طفت كل الركان من حـوله سعيا للعودة إلى "يافا" أو "غزه" ،ما برح يعيدني إلى"بيروت" وبحرها الثائر ،ويذكرني بزمن الموت النبيل لرفاق سبقونا واحد وراء الخر ،مثل المواج ،عائدين إلى الوطن دون المرور من بوابات حديدية مكهربة ،أو نقاط تفتيش تتفحص التصريح المؤاقت ،وتجبرنا على خلع أحذيتنا. مرة أخرى أجدني مطواقا بثرثرات سائق اليوم .تمنيت لو أنني لم اتخذ مكاني إلى جانبه في السيارة. أحاول الهروب من ذلك الوجه المعتم .ألجأ إلى الوجه الخر وأتشبث بأهدابه. أستدعي أحاديث الذين سبقوني بالعودة إلى "الوطن" من الحياء. فتتداعى إلى خاطري كلمات صديقي العلمي والكاتب الفلسطيني "زياد عبد الفتاح" في حديث إذاعي له اقبل سفري بأيام. اقال فيما اقال …":كان الحتلل اقد ألقى على كل شيء غللة سميكة من الحزن والسى والكآبه .الشجر حزين .الطراقات ..السماء ..تشارك الوجوه والنفوس حزنها وكآبتها .وزوال الحتلل صاحبه اختفاء الكآبة 18
عن كل شيء ،بحيث أصبحنا نرى الشجر يبتسم ..الطراقات تبتسم.. والسماء……" أتلفت ،بلهفة ،يمينا ويسارا .أمل عينري بأرض بلدي وسماءها.. وشمسها التي كنت أشتاق إلى الغتسال بها! أبحث عن الصور التي رسمها "زياد" .أذوب شواقا إلى البتسام. وأكاد أهذي حنينا لتلك اللحظات التي وصفها صديقي. أتذكر ،عندما غادرت غزة اقبل حوالي أربعين عاما ،أن القطار الذي كان يحملني إلى القاهرة ،لبدأ المرحلة الجامعية من الدراسة ،كان يمر بمحاذاة شاطيء البحر. ذلــك الشــاطيء الــذي كــانت تميــزه غابــات متنــاثرة مــن أشــجارالنخيل السامقة المشرئبة ،وغابــات الزيتــون والبرتقــال والليمــون الــتي اقلرصــها المحتل ..لسباب اقيل أنها أمنرية )!( النخيل على شاطيء "ديرالبلح" ..أينه؟ هل ااقتلعوه أيضا لسباب أمنية كما يقولون؟ أم نقلوه إلى أماكن أخرى لسباب سياحية كما يقول آخرون؟ أين البحر الذي كنت أرى السماء من فواقه أكثر جمال؟ وشاطيء البحر ،حيث يصافحك في الصباحات هواءه البكر الذي لم يسبقك إليه أحد شهيقا وزفيرا؟ ورائحة هواء البحر المشبعة باليود..المنعشة الشافية؟ سألت السائق ،بلوعة الحبيب الغائب العائد ،خرج معها صوتي أاقرب إلى الحشرجة: أين البحر؟اقال بصوت يخلو من أي تعبير ،ل أثر فيه لحزن حتى ول استنكار: ل نستطيع الاقتراب منه. كأنما اقد أتحت له ،بسؤالي ،الفرصة لكي يسترسل ،جاهدا أن ل يتضح مواقفه مما يقول ،في مقارنة ما كان بما صار .أو كأنما عاد الرجل ليستدرجني ،لكي يعرف في أي جانب عليه أن يقف.
19
.. ..وهناك أربع مستوطنات أخرى على امتداد الشاطيء ..منهنا حتى "ديرالبلح" ..وبعد ذلك تأتي مستوطنة "نيتساريم" ..اقبل "غزه" ...و ... ... وظل يتكلم كلما غير مترابط ،ويعدد الأسماء العبرية للمستوطنات التي لم أسمع بقيتها لنني انشغلت في استحضار بعض ما اقرأته بشأن التفااقية ..إتفااقية "أوسلو". ومرت فترة غير اقصيرة من الصمت الثقيل الرهيب ،يختراقه ذلك الصفير الحاد في أذني اليسرى. عرفت بعض من يعتريهم هاجس الموت أحيانا .لم أكن يوما أحدهم. أعرف أن الموت هو الحقيقة الكيدة الوحيدة في حياة النسان .دأبت على أن أحدث نفسي: ..طالما أنت تؤمن وتعي هذه الحقيقة ،فليس هناك داع للخوفمن الموت أو حتى التفكير فيه..وحبذا لواتخذ تفكيرك فيه منحى يتسم بالبساطة والسخرية والفكاهة إن جاز التعبير. حتى في أحلك لحظات وأيام وسنوات الخطرالمرعبة إبان الحرب الهلية التي عايشتها في بيروت ،من عام 75إلى عام .1982أيام مجازرالقتل على الهوية ،والسيارا ت المفخخة ،والقصف العشوائي، ومراهنات القناصة ،وطائرات العدوالسرائيلي الحربية بغاراتها ،أو بسرعتها التي تخترق حاجز الصوت ،وتحطم زجاج النوافذ والعصاب. أيام كان الواحد منا يخرج من بيته وهو يشك في أنه عائد إليه .أو يخرج من مقرعمله وينظر إلى رفااقه وكأنه يوردعهم ،أو يستودعهم ا. ول يلبث في يوم تال أن يرى أحدهم يطل عليه من ملصق" ،بوستر"، معلق على أحد الجدران بعد أن أودت به اقذيفة .أو سيارة مفخخة..أو رصاصة اقناص. أيام ..كان الموت فيها وكأنه جزء من الحياة.
20
يحتلني مرة أخرى إحساس ،متزايد ،بانقباض صدري وصعوبة تنفسي .صرت أشعر بكثافة الهواء وهو يدخل إلى رئتري ،وكأنني أتنفس سائل لزجا له كثافة القطران ،أو اقوام الزفت! داخلني شعور وكأنني أجاهد لنتزع أنفاسي الخيرة .إحساس جديد علري..غريب. خاطر مفاجيء أخذ يسيطر علي ،وهوأن سائق السيارة سوف ينظرنحوي بعد اقليل ،ليعرف سر صمتي ..فيكتـشف أنني ميت)!( أسارع إلى حقيبة يدي لستخراج مفكرة الجيب ،التي كنت اقد جمعت فيها كل ما توصلت إليه من أسماء وأراقام تليفونات وعناوين الاقارب في "غزة" ،أو الرفاق الذين سبقوني بالعودة إليها .أضع المفكرة مع "وثيقتي" في جيبي اليسر ،لتكون في متناول السائق ،ولكي ليسبب له جثماني حرجا ،أو يقع في حيص بيص ،كما يقولون ،فل يدري كيف يتصرف به ،ولكي ل أشارك أيضا في خلق أسباب أخرى لعبوس الرجل ،أو مبررات أخرى للعنات التي كنت أكاد أراها وهي تتزاحم للتدفق من شداقيه. خيل إلي أن أولى البتسامات اقد وجدت طريقها إلى شفتري لهذا الخاطر الذي يصلح بداية لفيلم سينمائي ،ينتمي إلى شريحة سوف يصنفها نااقد فني "حداثي" تحت إسم يرمي إلى ما هو أبعد من "ما بعد الحداثة" ..شيء من هذا القبيل! تنحنحت ،وسعلت ،واعتدلت في جلستي ،وداققت النظر ذات اليمين وذات اليسار ،وخيل لي أنني فعلت ) في حدود الليااقة( كل ما من شأنه أن يؤكد لنفسي وللسائق أنني ما زلت على اقيد الحياة .هناك مازال الكثير مما يستوجب أو يستحق أن أعيش من أجله .وهناك الكثير مما عقدت العزم على أن أعرفه أو أشاهده ،بعدما كادت المور أن تختلط في ذهني نتيجة لما سمعت وما اقرأت في الشهور الكثيرة الماضية. لم أكد أأنس إلى الفكار الخيرة التي سااقتني بطبيعة الحال إلى التفكير في مدى إمكانية السفر عائدا من "غزة" إلى "القدس" مدينتي ،التي هاجرت منها إلى "غزة" عام ،48وما يمكن أن يصادفني بينهما ،حتى عدت إلى الهاجس الذي تملكني..الموت. 21
ثم احتلني شعورغامص بأنني في عداد الموات. *
*
*
"زيارة مؤقتة" للعـــــالم الـخــــــر
"سبحان ا ،وما أعظم شأنه ،فكأنما ُكتب له أن تكتحل عيناه بمرأى الوطن ،وأن تطأ اقدماه أرضه ..ثم يموت!" هذه كانت أول جملة سمعتيها تتردد على شفاه الكثيرين بعد أن سمعوا الخبر ،وترحموا على روحي. في صباح اليوم التالي ،سأرى بأم عينك الـ "بوستر" الملون، الملصق الذي يحمل صورتي )المكبرة عن الصورة التي أخذت لي خصيصا لتصريح زيارتي المؤاقتة إلى الوطن( وإسمي مسبواقا برتبة "الشهيد" ،على أكثر من حائط في أكثر من مكان .وسوف يحظى الجدار الخارجي للمبنى الذي يحوي"وزارة الثقافة" ،ول عجب، بنصيب السد من تلك البوسترات .أليس للثقافة أيضا نصيبها في اقائمة الشهداء. أما الصحف ،فقد زين بعضها صفحتها الولى بصورتي )التي التقطت لي خصيصا للتصريح المؤاقت( في إطار داكن السواد، وُذكرإسمي مجردا .وفي صحيفة أخرى ،أكثر جرأة ،جاء إسمي مقرونا بلقبي الذي دأبت على العتزاز به" ..المخرج السينمائي الفلسطيني". 22
هذا ،واقد تناهى إلى مسامعي تسامؤلت البعض )باستنكار متوارب( عن علاقة "السينما" بالثقافة .وكيف يمكن أن يكون ذلك الذي يعمل في دنيا الراقاصــات ،والجنــاكي ،مثقفا ..أو شهيدا؟! لم أستغرب لتلك الخواطر ،فهي لم تأت من فراغ .فما زالت مثل هذه التعليقات محشورة في أذنير ،منذ أن كنت بعد في عداد الحياء .ذلك عندما وصلت إلى بيروت ،اقادما من القاهرة ،في أعقاب عام ،74 اقبل ما يناهز العشرين سنة ،متفرغا للعمل في صفوف الثورة .اقالها بعض"زملء المهنة" تعبيرا عن تحفظهم لوجودي بينهم. والحق يقال أيضا ،أني في اليام القليلة التالية لـ"موتي" اقد سمعت واقرأت الكثير مما يثلج الصدر ويبهج النفس ويجعل الموات ،بل مبالغة ،يشعرون أن "الدنيا لرساها بخير" .اللهم ،وإن كانوا يتمنون لو يتاح للمرء أن يلمس ،في حياته ،ولو اقدرا ضئيل من هذا الحتفاء أو التقدير. ما زال هناك من ،ع ر ظم ا أجرهم ،يعرفون الواجب والصول. وليتني استطعت أن أعرف من هو صاحب تلك الفكرة أو العلن الفذ النبيل: "حفل تأبين في مبنى الوزارة" لم يتواجد في المكان أحد ممن أعرفهم ،من المثقفين. ل بأس .يبدو أن ظرفا طارئا اقد حال دون الحضور. لم أزعل .فالموات اقد مرن ا عليهم بنعمة الترفع عن الكثير من مثل هذه الصغائر. أخذ الخطباء )كعادة الحياء( يعددون منااقبي وصفاتي ،وتبارى البعض في إبراز مدى اقربهم مني ومعرفتهم لدق أخباري وأعمق أسراري. وبالرغم من ما أصبغوه على شخصي من الفضائل التي ل تليق إل بالقديسين البرار ،إل أنهم نسوا أعرز ما كنت أعتز به وأحرص عليه ،وهو حبي وإخلصي لعملي. 23
غير أن أشد ما سمعته طرافة هو ما اقاله أحدهم بلهجة حماسية أضحكتني بصوت مسموع ،مما جعل أحد الحاضرين ينظر في إتجاهي شزرا )علما بأنه ل يراني( ،فل بد أن تلك الطرافة اقد أضحكت غيري ممن يحيطون بي فاختلط عليه المر .اقال ،بعد أن ألرح في ابتهاله وطلبه من ا عز وجل أن يرحمي ويسكنني فسيح جناته ،أني كنت" ..مقاتل" شديد المراس. وأضاف صاحب الكلمة ،مؤكدا أني تعرضت ،كمقاتل ،للموت عدة مرات كانت إحداهاعندما أصبت ،في بيروت ،إصابة بالغة ظلت آثارها في وجهي ،تزيده اقسوة وشراسة)!( هنا ..لم أستطع أن أستمر في التماسك عن الضحك ،فقررت أن أغادر المكان. )في حالت مشابهة ،كنت ل أملك إل أن أصدق ما يقال عن فلن أو غيره .فأرنى لي أن أعرف الحقيقة؟ أما الن ،وأنا صاحب الشان ،فما الذي أملكه سوى أن أضحك بينما أنا أتساءل بيني وبين نفسي: هل يتعين علينا أن نعيد النظر فيما سمعناه عن بعضهم؟( وبما أن الخواطر ل تزورنا هكذا ،اعتباطا وكما اتفق ،بل إنها تتداعى أو تستدعي أحدها الخرى في الظرف المناسب ،بحيث أعادت إلى ذاكرتي ما يؤكد أني سمعت ما يشبه تلك الفرية )بينما كنت لم أزل حيا ر أرزق( ،وفي أعقاب إصابتي في بيروت ،عام ،1980اقبيل هبوط الطائرة التي كانت تحمل وفدا كنت أرأسه إلى أحد مهرجانات السينما في ألمانيا )الشراقية( ،عندما كان أحد الزملء يحبذ ،جاردا ،لو أننا أشعنا بين الصحافيين في المهرجان أن إصابتي كانت نتيجة اقصف إسرائيلي لحد المخيمات الفلسطينية التي كنت أاقوم بالتصوير فيها ،في الجنوب اللبناني. لم تكن تلك الصابة إل نتيجة لحادث سير ،عندما كان مساعدي يقوم بتوصيلي بسيارته إلى منزلي في أعقاب ليلة عمل .فلم أكن أمتلك سيارة في ذلك الواقت. 24
) وهنا لبد أن تعود إلى ذهني سخرية بعض المقربين في ذلك الواقت من حالي ،وهم الذين كانوا يتندرون مستنكرين أنه ،منذ أن كنت طالبا في "فيينا" ،وبعدها طوال فترة عملي في تلفزيون "جمهورية مصرالعربية" ،اقبل أن أتركها لتفرغ للعمل في بيروت ..كانت لي سيارتي الخاصة(. تسرب إلى مسامعي من بعض الحاضرين ،بينما كنت أتسلل لمغادرة المكان وأنا أتماسك وأكتم ضحكاتي ،حفاظاعلى جلل المواقف ،أن "ماتتشا" شديد الهمية ،تقوم ببثه محطات التلفزة ،هو الذي كان يحول دون حضور أغلبية المتثقفين لحفل التأبين. وبالرغم من أن "الثقافة الكروية" كانت مما ل تراقى إليه إهتماماتي، إل أني لم أر أن هناك ما يتنااقض مع مشاهدتي لهذا الـ"ماتش" الهام. حدثت نفسي مواسيا )خوفا من أن تسسول لي نفسي أن أزعل(: " ..وهل تعتقد أن موتك أجلل ـخطبا من الموت والدمار الذي حاق بـ"لبنان" إثر الجتياح الرسرائيلي له عام 1982؟ أفلم ينصرف العالم بأسره )والعربي بالذات( آنذاك إلى متابعة ماتشات كأس العالم؟" وسرعان ما استطعت الوصول إلى مطعم "حرمص وفول" ،يتجمع العاملون فيه حول جهاز التلفزيون ،يتابعون سير المباراة وكلهم عيون ،حيث كان اللعب يجري في"..الواقت بدل الضائع"! حددثت نفسي: "الحكَم"، َ ..لو أن ا عز وجل ،ومن أرسمائه الحسنى"العدل" ،يتعامل مع الفلسطينيين ،أوعلى وجه الدقة ،مع تلك ضـييعة من الفلسطينيين كما يتعامل "حكم" المباراة الفئة المـ ـ َ العادل مع فريقي كرة القدم ،فيحتسب لهم حق "الوقت الضائع" ..ويضيفه إلى أعمارهم. 25
لو يتحقق لي ذلك ،وأنا واحد منهم ،فإن لي مطلبا أخيرا هو أن أرى"القدس" اقبل مماتي .أو،على الاقل ،أن يتوفاني ا وأنا في طريقي إلى مدينتي" ،القدس" ،وليس إلى غيرها. هذا علما بأن صديقي "جورج خليفي" ،السينمائي الفلسطيني ،إبن مدينة "الناصرة" الذي يحمل الجنسية السرائيلية ،لكونه من أهل فلسطين المحتلة الذين حباهم ا بعد النظر فآثروا البقاء فيها عام ،48اقد وعدي ببذل المستطاع للحصول على تصريح لي لزيارته )بصفته مواطنا إسرائيليا من الدرجة الثانية( .ومعنى ذلك أني سأتمكن من السفر من"غزة" إلى "القدس" .بل معنى ذلك أن أمنية عيني ،التي دبجتها سريعا على شكل شعرعامي**، مداعبا صديقي الكاتب "زين العابدين" ،ومقلدا شقيقه الشاعر الشعبي المعروف "أبوالصادق" ،اقبيل رحلتي هذه ،سوف تتحقق. *
*
*
أصحو من تأملتي وأنأ أشعر بشيء من الخدر. يضبطني السائق العابس متلبسا لبـ إبتسامة .فأمسح أرنبة أنفي بظهر سبابتي وأنا أشعر بما يشبه الحرج. يدلي السائق بالمعلومة بااقتضاب ،بلهجته الغزاوية وبدون أن يتنازل عن عبوسه: طنا "خانونس"! اقييل تأستغرق بعض الواقت لكي أدرك أن السيارة اقد تجاوزت ،في طريقها شمال ،مدينة "خان يونس". _________________________________________________ )** ( منى عيني أروح القدس من غزده .. أروح "ماشي" ..واشوف "لحْجار" كيف بتصير.. ـ بنى وعمارات ..على الجنبين منغدزه.. و"الطفال" -بدون حجار في إيديهم.. - وفي عينيهم.. القاهره في 18/3/1993 معاني النصر ..والععدزه ... ... ..إلخ
26
القدس
غــزه
27
أحاول أن أحدد ما إذا كان ما اقد رأته "حلم يقظة" ،أم "حلم منام". ثم أاقرر بأن ذلك ليس مهما .المهم أن ا ،سبحانه وتعالى ،اقد استجاب لرغبتي ،وهاهو يتركني لأعيش ..في "الزمن الضائع". *
*
)فـل ش بــــاك(..
28
*
يتراءى لي شريط يشبه ،بلغة السينما ،الـ "فوتومونتاج" السريع من الصور التي تنهمر كما تنهمر الذكريات في مخيلة العاشق ،خليطا من مررها وحلوها ..بعيدها واقريبها. أتذكر رحلتي،عام ،1948من "القدس" إلى"غزه" التي لم أكن ،في طفولتي ،أُلكن لها حبا يماثل حبي للـ"يافا" مثل ،بالرغم من وجود كل منهما على شاطئ البحر .فعندما اقرر والدي الهجرة من القدس ليلحق بأهله ،لن "الموت مع الجماعه رحمه" ،كما كان يقول ،كانت "يافا"** اقد سقطت وهاجر أهله ،من أهلها ،إلى مدينة "غزه". وعلى كل حال فقد كان الجميع يقولون ،وكان الجميع يصداقونهم، أنها مجرد رحلة لأيام أو أسابيع معدودة ،يعود إثرها كلل إلى بلده، بعد أن يقوم "الجيش العربي" ،أو الجيوش العربية ،بتنظيف البلد المقدسة كلها من دنس الصهاينة. لكن تلك الـ"رحلة" باتت ،من حيث ل ندري، "رحيـــــــــــــ ر ل"! *
*
*
_______________________________ ________________________________ )**( أـخلت قوات النتداب البريطانية مواقعها في يافا فجأة ليتسلمها اليهود في 24/4/48وذلك قبل حوالي عشرين يوما من الموعد المحدد لذلك.
""1 9 4 8
29
عام ،1948كان أخي"عابد" يعمل مدرسا في اقرية "الجيب" ،في اقضاء القدس الشمالي الغربي ،بعد أن حالت الظروف دون سفره لمواصلة تعليمه الجامعي في الخارج ،كما كان يحلم ويخطط .ذلك بعد حصوله على شهادة الـ Matriculationالتي تعتبر نهاية المرحلة الثانوية ،والتي كانوا يسمونها "اليمتتلرك" اختصارا ،وهي أعلى مراحل التعليم في بلدنا في ذلك الواقت. كنت اقد انتقلت ،لسباب أمنية ،من المدرسة "العمرية" البعيدة في و ُ حي"البقعه" في "القدس الجديدة" إلى المدرسة "الرشيدية" ،القريبة من "باب الساهره" ،أحد البواب الشمالية لسور"القدس القديمه"، لمتابعة الدراسة في الصف السابع ،آخر سنوات المرحلة البتدائيه. في تلك الفترة كانت اقد بدأت تنشأ بيني وبين أخي ،الذي يكبرني بسنوات ست،علاقة لم أنعم براقتها وحلوتها من اقبل .كأنما أحس، ل بعد إنهائه للدراسة الثانوية وما كانت تفرضه من إنغماس وتفرغ، وبعد التحااقه بسلك التدريس ،بفراغ جعله يلمس وحدتي بين أخواتي الربعة اللواتي يكبرنني أيضا .أو كأنه أدرك أنني مقبل على تلك المرحلة الهامة من العمر .أو لعله كان يرى في عينري تلك الحشود من التسامؤلت التي تتكاثرعادة في سنوات المراهقة المبكرة. هذا ،بالضافة إلى تلك التسامؤلت المستجدة التي فرضتها التغيرات المتعااقبة والتطورات المتلحقة فيما كانوا يسمونه "إنتداب بريطاني"و "استعمارإستيطاني" و "صهيونية" و"هاغاناه" و"إرغون" و"شتيرن" و"عمليات إرهابية" و"مورتر" و"هاون" و"تآمر" و"خيانة" و ..و.. ناهيك عن "المؤتمرات" و"الملوك والرمؤساء" و"الجيوش العربية" و"جيش النقاذ" و"الجهاد المقدس" و ..و.. كلمات يرددها الكبار ،والراديو ،و باعة "الدفــــــــاع" و "فلسطـــــــــــين" ،الصحيفتان اليوميتان في ذلك الواقت. مفردات جديدة فرضت نفسها علينا نحن الصغار .يصاحب ذلك إحساس بالمسئولية بات يلزمني ويتعاظم في داخلي تجاه أاقراني في الحارة" ،حارة الواد" ،وهم في معظمهم الذين كنت أتميزعنهم بأنني 30
ما زلت أواصل تعليمي ،في الصفوف البتدائية ،ولم يجبرني أهلي على أن أتركه لللتحاق بعمل ،كما هوالحال مع معظمهم .وكثيرا ما كانوا يتساءلون أمامي وينتظرون إجابتي لمعرفة ما يجري حولنا، يقينا منهم بعلمي ومعرفتي لأنني ،كما باتوا يلقبونني،أخو الستـــــــاذ "عابد". ذات صباح ،لم يتمكن أخي "الستاذ" من الوصول إلى مدرسته في اقرية "الجيب" ،إحدى ضواحي مدينة القدس ،ول استطعت أنا الوصول إلى مدرستي .كانت "طريق الواد" ،التي تنحدر من "باب العمود" ،الباب الشمالي لسور القدس القديمة ،مرورا بحوشنا ،حتى ساحة الحرم )حرم المسجد الاقصى( ،تعج بمجموعات من الناس، مكومة تحت القناطر ،وفي مداخل الحواش .نساء وأطفال وشيوخ، تكسو وجوههم مسوح من الوجوم والهلع. الناس يتهامسون أو يتبادلون مسموعاتهم عن ما جرى في إحدى اقرى القدس التي كنت أسمع باسمها لول مرة"..دير ياسين". رأيت في ذلك الصباح كيف يكون الهلع مرتسما على الوجوه ،وكيف تكون العيون طافحة بالرعب المذهول ،أوالذهول المرعب. كارثة جديدة من نوعها .لم نسمع بمثلها حتى ذلك الواقت أبدا. لم نكن اقد نسينا برميل المتفجرات الذي دحرجوه في الساحة الخارجية المؤدية إلى"باب العمود" فانفجر واقتل وجرح العشرات من المنين ،وما إلى ذلك من العمليات الرهابية التي كانت تفاجئنا بها عصابات الصهاينة. كما أننا لم نكن بعد اقد أفقنا من كارثة جبل "القسطل". فلقد نشبت حول هذا الجبل واقريته معارك دفاعية عديدة حشد لها "المجاهدون" كل طااقاتهم واستنفروا لها الـ "نجدات" من كل مكان، لنها كانت على جانب كبير من الهمية من حيث مواقعها الذي يشرف على الطريق الذي يربط القدس بيافا والساحل ،وكانت آخر هذه المعارك لصالح العصابات الصهيونية. 31
في ذلك الواقت -حسب رواية أخي لي -كان القائد "عبدالقادرالحسيني" اقد رأى أن يقوم بجولة على الملوك والرمؤساء العرب ،يستجدي منهم الذخيرة والسلح ،ويؤكد لهم عدم حاجتنا للرجال .ولما لم يجد منهم استجابة لمطالبه ،اقرر هو وحوالي خمسين من رجاله ،بما تبقى لهم من ذخيرة وبعض القنابل اليدوية ،استعادة الجبل واقريته بعملية تعتبر ،بكل المقاييس ،عملية انتحارية. و في يوم .7/4/1948دخل "عبدالقادر" اقرية "القسطل" فاتحا، ليخرج منها شهيدا. هزت تلك الكارثة أركان البلد ،وتوافد الرجال من كل النحاء إلى ساحة الحرم القدسي للمشاركة في تشييع جنازة القائد الشهيد ،مما جعل الفرصة مهيأة للعصابات اليهودية لحتلل "القسطل" مرة أخرى.
32
_____________________________________ )صورة المذكرة التاريخية التي أررسلها"عبد القادر الحسيني" في يوم 6إ بريل من عام 1948إلى الجامعة العربية في اليوم السابق لرستشهاده في القسطل(
33
وفي ليلة السبت ،48 /10/4-9كانت تلك الطامة الكبرى ..مذبحة "دير ياسين"**. عندما تتعرض اقرية بكاملها للتدمير والفناء والفتك والتمثيل دون تمييز ،ومن ثم يؤدي ذلك إلى هروب جماعي من القرى المجاورة للمستعمرات اليهودية ،ويكون وراء ذلك كله إثنان من القادة الصهاينة البارزين" ،مناحيم بيجين" و"إسحق شامير" ،فل شك بأن العملية مدبرة ومدروسة ،ل سيما وأن بعض الناجين من اقرية"دير ياسين" اقد ُشحنوا في سيارات نقل معدة لهذا الغرض إلى القدس لكي يقوموا برواية ما شاهدوه .وذلك للقاة الرعب في اقلوب أهل القدس. رأى والدي ،بعد ما تناهى إلينا من الفظائع التي ارتكبت في"دير ياسين" ،وبعد تزايد شدة القصف على مدينة القدس القديمه المحاصرة ،وبعد ما تردد عن حكايات الرض والعرض ،رأى أن بلده "غزه" هي المكان الكثر أمنا الذي يستطيع فيه أن يطمئن على شقيقاتي الصبايا الربعه .واقيل أن خالي"علي" ،الذي كان اقد استقر به المقام بحكم عمله في "السكندرية" ،اقد اتصل بوالدي يشير ويلح عليه أن ينقلهن إلى غزة ،بمرافقة شقيقي"عابد" ،الذي سرعان ماعاد إلى القدس بعد أن أودعهن في بيت أحد أعمامي هناك. أما بالنسبة لي ،فقد استقر الرأي على بقائي في القدس حتى نهاية السنة المدرسية البتدائية. لم يكن هناك ما يحول دون واقوع المزيد من الكوارث .فقد انكشفت بعد ذلك نوايا "بريطانيا" وخططها الرامية إلى تسليم المدن والموااقع _________________________________________________________ )**( جريدة"حيروت" الرسرائيليةالصادرة في 15/4/49عن"عملية دير يارسين": "كان من أهم نتائجها هو فرار العرب الجماعي من المدن والقرى .وبالتالي فإن مشكلة العرب قد ـحدلت تقريبا .فإجلء العرب يمدكننا من توطين المهاجرين مكانهم ".. أما "بني موريس" ..أحد المؤرـخين الرسرائليين الجدد ،الذي رفض عام 1988الخدمة في الجيش )في الراضي العربية المحتلة( وفضل السجن عن ذلك ،كتب ،في درارسته حول "مشكلة اللجئين" التي أصدرها في نفس العام ،عن عملية "دير يارسين" قائل أنها: "كانت ضمن ـخطة مررسومة إرسمها ـخطة "داليت" ..لـخلء فلسطين من أهلها .ذلك لن"الدولة اليهودية"حسب قرارالتقسيم لعام 1947كانت رستحتوي على نسبة %45من رسكانها الصليين العرب ..فكان ل بد من إـخلء هؤلءالسكان بالقوة".
المهمة إلى اليهود اقبل انسحابهم ،أوانتهاء انتدابهم المعلن في .15/5/1948 34
وبالرغم من أن النجليز كانوا اقد أشاعوا اقرار بقاء اقواتهم في "حيفا" لما بعد ذلك ،وعلى وجه التحديد حتى ،1/8/48إل أن الهالي العرب فوجئوا بإخلء القوات البريطانية لموااقعها ،في ،21/4/48لتتسلم العصابات اليهودية تلك الموااقع بكامل معداتها الحربية الثقيلة. وهكذا تم إخلء مدينة "حيفا" ،وإجبار جموع الفلول الهاربة من جحيم القصف والتنكيل على التجاه إلى البحر ،حيث لم يكن لهم من ملجأ سوى مراكب الصيد التي كانت تنقلهم إلى المنافي **. وبنفس الطريقة تم إخلء موااقع القوات البريطانية في مدينة "يافا"، في .24/4/48وبالرغم من أن أهالي "يافا" واقراها" ،يسلييمه" و"أبو كبير" وغيرهما ،ظلوا يقاومون ببسالة .لكن العصابات اليهودية شددت هجماتها بشراسة إلى أن تم إجلء معظم السكان عنها ،اقبل دخول الجيوش العربية إلى الراضي الفلسطينية. وكانت اقيادة"جلوب باشا" للفيلق العربي في الجيش البريطاني سابقا، اقد ساهمت اقبل ذلك في تسليم مدينتي "صفد"و"طبريا"في ذات لشهر. وكان أخي "عابد" يجيء لوالدي دائما بما يؤكد أن هناك خيانة ما. ومن الدلة التي كان يسواقها هي إصرار"جلوب باشا"على إبقاء الضباط النجليز ،الستة وأربعين ضابطا ،في اقياداتهم لـ "الجيش العربي" الردني المنوط به..تحرير فلسطين )!( كان والدي ،ورجال الحارة ،وأهل البلد كلها يؤمنون بنوايا الملك "عبد ا" بنصرتنا وتخليصنا من هذا "الكرب". *
*
*
___________________________________________________________ ) **( من هنا جاءت ،وا أعلم ،مقولة "إلقاء اليهود في البحر" ،التي نسبت للعرب، وروجتها اجهزة العلم الصهيونية بحذق .
أراني ،من حيث ل أاقصد ،أنساق إلى موضوع أشبعه السياسيون )العارفون بما يجب وما ل يجب أن يقال( تفصيل وتحليل. ولذلك فإنني سأتواقف لبدأ من جديد .فبالرغم من أنني ُأكرن عشقا لقراءة التاريخ ،إل أنني لن أدعي بأنني أمتلك حذاقا لكتابته. 35
*
*
*
"معرفة التاريخ ضرورية للشعور باستمرار الوجود".
إبن خلدون
"وهل نستطيع أن نميز بين الظلم والعدالة بدون أن نفهم التاريخ؟" أرنولد توينبي
36
صور لفراد العائله
" أبوالعابد"..
نشأت في عائلة تتكون من "أبوالعابد" و"أم العابد" وأربع أخوات يتوسطهن الخ الوحيد الذي يكبرني بحوالي ست سنوات. 37
كنت كما يقولون" ..آخر العنقود" ..سادسهم. ذاكرتي ل تحتفظ بالكثيرعن والدي في طفولتي المبكرة .فقد كانت أيامه تتناسخ متشابهة. كانت "الوظيفة" ،في بلدية القدس ،تستغرق نصف النهار الول من كل يوم. يعود متعبرا ،بدون أن تعرف طبيعة عمله بالضبط .كل ما تذكره هي تلك البدلة "لجبردين" ،التي تنشط "أم العابد" في كسيها كل صباح، وتلميع أزرارها النحاسية بين حين وآخر .ناهيك عن الـ"يكتلبيتك" السود المصنوع من فراء الـ"أستراخان" ،والتي تتخذ واجهته المامية ،المزينة بالتاج البريطاني النحاسي اللمع ،شكل شبه المنحرف ،بحيث تستقر اقاعدته الصغرى فوق الرأس. يستمع إلى نشرة أخبار "محطة الشرق الدنى للذاعة العربية" ،التي كانت تذيع برامجها من مدينة"يافا" ،في الساعة الثانية من راديو"اقهوة الباسطي" ،الراديو الوحيد في الحارة ،والذي كان صوته يلحق معظم سكانها ليشاركهم كل ساعات يومهم ،وجزءا من الليل. يتناول "أبوالعابد" غذاءه ،يلف سيجارة "الهيشة" بوراقة "البافرة" ببراعة ملفتة للنتباه ،يدخنها بشراهة واستمتاع ،يصلي ،يستريح على الجنبية في غرفته التي تحتل صدرالدار ،رأسه على ركبة "إم العابد" المتربعة إلى جواره ،وأصابعها تعبث بشعر مؤخرة رأسه، يتهامسان بهدوء واختصار ،وغالبا ما يغفو لفترة اقصيرة ينهض بعدها ليتوضأ ويصلي ،وتفوح رائحة اقهوة "أم العابد" التي يعشقها "أبوالعابد" فيرتشفها بمتعة ثم ينهض ليمارس رياضته اليومية الثيرة عنده وهي سقي "الزريعه" ،التي أنبتها في البراميل الخشبية الضخمة ،الخضراء اللون ،ذات الكروش المزرنرة بأحزمة من حديد، والتي تفوح منها روائح عطرة تغلب عليها رائحة الفل والياسمين، والعناية بالزهور المتنوعة الشكال واللوان في الصص المختلفة الحجام التي تنتشرفي أنحاء "وسط الدار" ،والتي كان يحرص على 38
رعايتها منذ أن يأتي ببذورها أو بشتلتها من حديقة البلدية ،لتعطيه بشذاها ذلك المذاق الخاص المتميز الذي ما زال يسكن حواسك. يصب الماء بمقادير محسوبة وهو يقترب من الشتلت الصغيرة حتى ليخيل إليك أنه يوشوشها ،ثم يعود ليمل الكوز الصغير من البرميل الرابض اقرب حافة البئر ،حيث تتجمع مياه أمطار الشتاء، التي تصبها فيه مزاريب أسطح غرف الدار المقببة. يذهب بعد أداء طقوسه اليومية هذه ،وبعد أن يطمئن على سلمة حديقته وأزهاره وفلره وياسمينه ،وبعد أن يرتدي "القمباز" و"الساكو" و"الحطة والعقال" ،الى اقهوة الباسطي الملصقة للدار، ليلعب الـ"ضامه" أو "الدومينو" مع أصحابه. يعود في المساء ،يتعشى ،يدخن سيجارة الهيشة ،يصلي ،يتمتم بالدعية نفسها ،يوصينا بمذاكرة الدروس ،ينام. ثم أصحوعلى صوته ،في الفجر ،وهو يرتل القرآن. أستطيع أن أاقول أن آيات القرآن المرتلة ،بصوت والدي الرخيم الشجي ،بشهادة الذين أدمنوا النصات لصوته متسلل من فوق أسطحة البيوت المتجاورة ،هي الشيء المتميز الذي كان يصبغ حضوره ويشدني إليه ويربطي به في ذلك الواقت. *
*
*
لشدما كانت تزعجني ،أو اقل تثيرغيرتي ،علاقته الحميمة تلك بأمي. وأبلغ ما كان يثير إزعاجي هو نكرانها لنا ،وللـذاتها ،بمجرد عودته إلى الدار. تتحول عنا إذ راك ،بكل جوارحها وعنايتها المركزة ،إليه. مازلت أذكر كيف كنت أعبرعن إحتجاجي على سلوكهما هذا، بإصراري على النوم في فراشهما ..بينهما! لم يعارض والدي ذلك مرة واحدة .كانت له عينان ضيقتان تزدادان ضيقا حتى تكادان تختفيان من تحت حاجبيه الكثيفين عندما يبتسم لي 39
)وندر ما كنت أراه يفعل ذلك ،إل في مثل تلك الموااقف( اقبل أن يحتضنني ويظهر تعاطفه مع إصراري. لكنني ،في كل صباح ،ولشدة دهشتي ،كنت أجد نفسي في فراش آخر ،في غرفة أخرى ،فأعيد الكرر ة في الليلة التالية "أُتخري مرره"، كما كانت جارتنا الخليلية "إم سماعين" تقول ،فتعود ابتسامة أبي الحانية النادرة الساحرة لتأسرني وتمتص كل ثورتي. ول أذكر بالضبط متى استسلمت ،أوأصابني اليأس .لكنني أذكرأنه، منذ اليوم الول لدخولي المدرسة ،في السادسة من عمري ،كان لزاما علي أن أشارك أخي "عابد" غرفته لكي يشرف على مذاكرتي لدروسي اقبل النوم .هذا إلى جانب أنني ،كما أصر والدي ،اقد أصبحت رجل ،ول يصح إطلاقا أن أنام في حضن أمي. طب ما إنت ررجال وبتنام كل يوم. .. ..واقبل أن أكمل ،تكمم أمي بكفيها وجهي وفمي وهي ،كما يبدو، تحاول أن تداري خجل ل أرى له مبررا .وتنضم الحكاية إلى اقائمة النوادر المنسوبة لي والتي دأب الكبار على التندر بها أمام أمثالهم من الكبار. وأظل أنا سادر في جهلي إلى أن يقوم "إلياس" ،أحد أاقراني في المدرسة البتدائية ،في حي "المصراره" ،بشرح المسألة بطريقته النابعة من تجربته الخاصة: بتعرف كيف أنا انولدت؟ كيف؟ أبوي عمل مع إمي " كلم رزيل" ..اقامت إمي حبلت وجابتني.ولم أجرمؤ ،طبعا ،أن أفاتح أحدا باكتشافي للسرالغامض. لم أكن ،في الصل ،أصدق أن المهات والباء يمكن أن يرتكبوا مثل تلك الرذائل )!( وانتظرت طويل لعل أمي أن تحبل ،لكنها لم تفعل .فعزوت ذلك إلى جهل صديقي "إلياس" ،أو ما اقد يكون هناك في المعلومة من إلتباس. لكن سرعان ما حبلت جارتنا الخليلية "إم سماعين" ،التي كانت تخصني بقدر كبير من الحب والمودة والتدليل .وفي لحظة وضعها 40
اكتشفت ستي "إم عارف الباسطي" ،الداية ،أنني كنت كامنا في أحد أركان الغرفة ،أراقب ما يدور في صمت ،فصاحت بي صيحتها المعهودة: يوليتك يا عكروت...لكن صرخة مدوية صرفت نظر الدراية عني لتشمرعن ذراعيها، وتوجه صيحاتها إلى "إم سماعين" طالبة منها أن " تحزق"، ومكررة طلبها ..كمان ..وكمان ..وكمان ..بتصاعد متزايد لتساعدها على استخراج الوليد الذي أطل برأسه من المكان الذي حدده "إلياس". وسرعان ما حملته "إم صالح" من اقدميه ،بعد أن اقطعت حبله السري وعقدته بسرعة ومهارة ،وأخذت تصفع مؤخرته الحمراء وهو يصرخ بها ،وهي تصرخ بي بعد أن أطلقت زغروتة مدوية: ولك يا عكروت ..فلتز ..اقوم ..روح لبو سماعين اقول له "الولد"أجا ..وخود منه "البشاره"! كان "أبو سماعين" ،كعادته ،يجلس في" اقهوة زعتره" القريبة من "باب العامود". لطتر ُ ت .ولم تمض داقائق معدودة ،حتى عدت بخفي حنين. *
*
*
"إم العــــابد"
لن يتهمني أحد بالنحيازإلى "إم العابد" .لنها ،وبكل بساطة ،أمي. فهوعلى أي حال إنحياز مشروع. فما بالنا لو كانت تستحق ذلك بجدارة ،وبشهادة جميع أهل الحاره؟ 41
بيت"إم العابد" ..ذوق"إم العابد" ..تولد"إم العابد" ..تفصيل وخياطة "إم العابد". ر كانت دائما هي مضرب المثل بالست "المعدله". رحمة ا عليك يا "إم العابد". كأنما كانت تدخل في سباق دائم مع كل المهات الخريات ،تسهر الليالي استعدادا له ،فإذا جاء الصباح الباكر من كل يوم ،وجد تولد "إم العابد" ،وأبوهم من اقبلهم ،كل ما يحتاجونه في أكمل صورة. لم يشعر أحدنا بأاقل من التفوق على كل الاقران أنااقة ونظافة وحسن مظهر. كما لم يخطر ببال أحد يوما أن يتساءل: لماذا كان "أبو العابد" يهيم بها حبا؟ *
*
*
كانوا يقولون عنا" :أغنى ناس في حارة الواد" ،والحارات المجاورة. وكنت أسمع أمي تقول تعليقاعلى ذلك: "الصيت ول الغنى". وعندما يزورنا المعارف والصداقاء أو الاقارب ،كان أهل الحارة يزدادون يقينا بذلك. "باص" مدرسة "صهيون" الذي كان سائقه ،بعد أن يفرغ حمولته من أطفال المدرسة المجاورة لنا ،يلجأ يوميا إلى نقطة إلتقاء "طريق اللم" الضيق مع "طريق الواد" التي من "باب العامود" ،حيث تقع دارنا ،ليتمكن من الدوران والعودة من حيث أتى" ..باب السباط"، كان هوالسيارة الوحيدة التي تعرفها حارتنا في القدس القديمة .وتأتي بعد ذلك سيارة خالي "توفيق" ،الـ"أوستن" ،التي لزيارتنا من "غزه". كان أهل الحارة يقولون عن خالي "توفيق": ..هادا ررجال غني ،وعنده "تاكسي تسكارسا"!42
لم يكن من بين مفرداتهم ما يعني :سيارة خاصة"..م ر لكي". أما المعارف والصداقاء فكانوا ،عند الزيارة الولى لدارنا ،يفغرون أفواههم في صمت .ول تدري أهو لشدة تواضع الدار ومحتوياتها ،أم لشدة تناسق تلك المحتويات ونظافتها. وكثيرا ما كانت تصدرعن بعضهم تعليقات وتسامؤلت عن سر تمسكنا بهذا المواقع المتواضع .وكانت "إم العابد" ترد ،وعيناها المتراوح لونهما بين خضرة الزيتون ولون العسل ،مترعتان بالرضى والحمد ل ،بما معناه: ..يكفي أننا نمتلك هذه الدار.وكثيرا ما تناهى إلى مسامعي وشوشات "إم العابد" و "أبوالعابد" التي تنم عن أزمات مالية وضيق ذات اليد .لكن أحدا لم يشعر بما يمكن أن يترتب على ذلك. أذكر أني سألت أمي ذات مرة: ليش إحنا مش أغنيا زي أخوالي وأعمامي ..وبقية أاقاربنا؟تنهدت و اقالت لي: بيقولوا عن أبوك إنه "غاوي فقر".بس أنا بقول إنه نفسه عزيزه عليه. ثم أكملت وكأنها تحدث نفسها: ..يمكن أكثر من اللزم شويه ،وحامل السلم بالعرض. شو يعني؟ ُبكره بتعرف يارمه.* * * اقمباز"أبوالعابد" الجوخ يتحول بقدرة اقادر إلى بنطلون طويل يتباهى به أخي "عابد" أمام زملءه ،إلى جانب البنطلون الجبردين الذي"دبيرته"** له صاحبة النامل الذهبية .ول يلبث ،في الموسم ي التالي أوالذي يليه ،أن يفقد نصفه السفل ويتضاءل حجمه مع بعض 43
التعديلت ..فيصبح "شورت" من ممتلكاتي أنا فأرتديه ..وأتغندرفيه. وهو في الصل جزء من لباس "الوظيفه" الرسمي لبي العابد. ولم تكن "إم العابد" تتردد في الذهاب لشراء "فضلت" الاقمشة من محلت اليهود في"شارع يافا" في القدس الجديدة أيام"الوكازيونات" ،لتصبح هذه الفضلت ،بقدرة اقادر أيضا، "فساتين" و"تنانير" و"بلوزات" تتساءل الخريات عن مكان بيعها. وكثيرا ما كانت الجارات يقمن باستعارة هذه القطعة أو تلك )واقد انطلت عليهن إدعاءات شقيقاتي بأن خالي "علي" اقد أحضرها من "بيروت"( ،ليذهبن بها إلى "الخرياطه" التي سوف تقوم بدورها بنقل "الموديل" ،الذي كان من بنات أفكار"إم العابد" ،أو نقلعن أحد "الجورنالت" ،مع كثير من التعديلت. لن أوفيها حقها مهما اقلت. ومهما أوتيت من فصاحة أو بيان. أكاد ل أفرق بين أمي وبين "أغنيات" إيام زمان. كل المواهب تحاول أن تؤديها. لكنها ل تستطيع أكثر من أن تعيدها )تلك الغنيات( إلى الذهان. ______________________________________________________________ )**( إعادة حياكة لباس شخص بحيث يغدو ملئما لشخص آـخر .ولم أرسمع هذا التعبير إل من "أم العابد" .
ولدتني أمي مرتين ..هكذا كانت تقول! المرة الثانية عندما أصابني ذلك المرض اللعين ،ذو العوااقب الملعونة .كيف نجو ت من لعنته؟ هذا هو مصدر تعجب ودهشة الكثيرين ممن عرفوا اقصتي معه .اقيل أني اقضيت شهرا كامل في "مستشفى الراهبات" .لن أذكر تفاصيل هذا الشهر في المستشفى .ليس لصغر سني آنذاك ،حيث كنت ،كما يقولون ،لم أتعد الثالثة من عمري بعد ،ولكن لني كنت غائبا عن الوعي.
لكن..أتذركرني ،بعد خروجي من المستشفى ،واقد حملني "عارف الباسطي" ،ابن جيراننا البكري ،ليطوف بي بفرح وسعادة واحتفاء، 44
وراح يوزع حلوى الـ"طوفي" ،على أولد الحارة ،من مرطبان زجاجي كبير الحجم كروي الشكل كان يتصدر دكانه المجاورة للحوش. أتذكر أيضا ذلك القفص الضخم المصنوع من جريد النخل ،الذي كان يحوي أكثر من عشرين زوجا من الطائر الساحلي الموسمي ،الفسري، أو السرمان ،والذي عادني به خالي"توفيق" ،بسيارته الـ"أوستن" من "غزة" ،لدى خروجي من المستشفى معافى من "التيفوئيد". ويظل عدد الطيور يتنااقص كل يوم .وأنا أتماثل للشفاء وأسترد اقوتي، التي كانت تظهر بوادرها عندما أتشبث بحافة السرير النحاسية لكي أساعد سااقي الهزيلتين على الواقوف ،فيصفق لي الحاضرون فرحا و تشجيعا. كان يحلو لي دائما أن أستحلف أمي أن تحكي لي ،أُتخري يمبره، تفاصيل تلك اليام العصيبة .فتروي لي أمي وكأنها تفعل ذلك للمرة الولى ،كيف كانت تقضي الليل ساهرة إلى جانبي ،بينما أنا غائب عن الوعي ،لعزاء لها سوى أنفاسي الواهية كدليل على أنني مازلت على اقيد الحياة. ..وفي أحد الليالي...تحكي أمي بصوت حزين واجف ،فتدمع عيناي من شدة تأثري، كيف وضعت أذنها على صدري كي تسمع داقات اقلبي بعد أن ساورها الشك بانقطاع أنفاسي ،فأحست أن اقلبها سوف ينخلع من صدرها أو يتواقف عن الخفقان ،وراحت تصيح مستنجدة بالراهبة المناوبة. جاءت الـ"نارس" ،كما تروي أمي ،مهرولة تحاول طمأنتها: حبيبتي إنتي لزم ينام ..ما تخافيش..هو للرسه موش يموت الليله!فتشهق أمي وتدق بيدها على صدرها ،ثم تستعيذ بال من شر تلك اللحظة. ثم تروي لي في مرة أخرى ،بعد إلحاح مني ،بأداء ممثل محترف ل يعجزعن تكرارالمشهد بنفس المقدرة والبراعة مهما تطلب المر من إعادة ،كيف سمعت للمرة الولى ،بعد غيبوبة طالت ،مع خيوط 45
الفجرالولى ،أنينا واهيا يصدر مني كأنما كنت أطلب شيئا معينا، وهي تحاول ،والفرحة تفر من عينيها دموعا ،أن تستوضح مطلبي، بينما أنا ل أكف عن التكرار محاول التعبيرعن شيء ما .وتقوم أمي بتقليدي بصوت واله ممطوط: إيـ …………وي ..........آ ……… تو! إيش يامه؟ إيش بتقول يا حبة عيني؟ إيـ…………وي ..........دا …….وت! يا وردي على إمك يا حبيبي ..إيش اللي بتقوله؟ إيـ …...دوي ......دا ......تو! وبعدين يامه ..وا ماني عارفه إيش اللي بدك إياه ..اقول يا حبيبي كمان مره ..اقول! ويطول الحوار أو يقصر ،حسب مزاج والدتي في ذلك اليوم، وينتهي بأنني كنت أحاول أن أاقول: ضتو! إضوي ال بو ذلك ما كان بداية أمارات استردادي لصحتي وشفائي التام .. وميلدي من جديد. ل أستطيع الن أن أجزم أن أمثال تلك الصور ،التي كانت ولم تزل تزخر بها ذاكرتي عن طفولتي المبكرة ،هي من وحي معايشتي ورمؤيتي لها ،أم من تأثير تكرار سماعي لوصفها من أمي وأخواتي. هل يمكن لنسان ولد في أوائل عام ،35أو حتى ،34أن يتذكرأحداثا من "إضراب عام "36الشهير؟ أو تفاصيل رحلة، بحذافيرها ،إلى بيروت لحضور "عرس" هناك ،عام 38؟ كان العريس هو خالي "علي" ،أبو نبيل .وما زلت أذكر اليوم الذي رافقت فيه الهل لشراء "الشبكة" ،أو شيء من هذا القبيل ،عندما مررنا ببائع للطرابيش ،وتزعفلت على أرض "سوق سُترسُق" البيروتي إصرارا مني على شراء طربوش لي ،أسوة ببقية أفراد "الجاهة" من الرجال .وظل الطربوش شاهدا على هذه الحادثة حتى تركته في القدس،عام .48 هل كانت هي ذاكرة الخرين؟ 46
هل كانت ذكرياتي تلك ،الموغلة في البعد ،هي مجرد إنطباعات حفرتها ثرثرات الخرين الذين كنت أسمعهم يتندرون بتلك القصص؟ ربما .ولكنني على يقين أنني أحتفظ بصور أخرى كثيرة ،من صميم تجربتي وانطباعاتي. *
*
*
"إم رسـمــــــــاعين" ..
كثيرات كن المهات اللواتي كان يعج ويشتهر بهن حوشنا ،حوش "آل خرمنده"* في حارة الواد ،في القدس القديمة. "إم خضر" ،و"إم لطفي" ،و"إم فارس" ،و"إم عارف الكبيره"، "القابلة القانونية") ،الدايه اللي سحبتني ،حسب تعبيرها هي( .وهناك كبنتها "إم عارف الزغيره" ،زوجة إبنها "أبو عارف الباسطي" صاحب "مقهى الباسطي" الشهير أو "اقهوة السبيس" التي أخذت إسمها من مبنى "هوسبيس النمسا" الضخم المجاور بحديقته المدرجة الواسعة ،وسوره الشاهق العلو الممتد شراقا وشمال ،ومدخله المهيب المرتفع بالدرجات الحجرية المؤدية إليه. وهناك "إم مصطفى" التي اشتهرت ،إلى جانب لكنتها الحيفاوية وكلماتها "إرسا" و"خايتاه" ** ،بلقب "إم أبوالنوم" بعد أن انكشفت 47
حيلتها التي لجأت إليها لتتخلص من مضايقات وحيدها وتتفرغ لثرثراتها مع بقية أمهات الحوش بأن أرضعته مشروبا يقال له "أبو النوم"*** ،فأدمن الرضيع عليه. ولأنسى"إم علي" المفترية ،التي اشتهرت بين الجارات بعينيها الواقحتين الواسعتين "مثل اقرص الجبنه" ،كما وصفتها "إم مصطفى" مرة ،وهي التي اتهمتني يوما بالتحرش بإبنتها البيضاء الملظلظة "كوكب" مؤكدة لوالدتي أنها رأتني رمؤيا العين أثناء أحتضاني لها و .. و ، ..بينما أنا أذوب استحياء وخجل من سماع إتهاماتها الباطلة. ________________________________________________ ) * ( إسم الحوش كما هو مدون في الكوشان ..وثيقة ملكية الدار. )**( إرسا > هرسا > هرس تع > هالساعه > هذه الساعة > الن ! خايتاه > أختاه ! )***( مغلي أوراق الخشخاش .
أما "إم سماعين" ،الخليلية ،فهي أاقرب جيراننا إلينا ،حيث كانت تسكن مع زوجها ،الذي ل أذكرالكثير من ملمحه ،في غرفتين استقطعهما والدي من دارنا الوسيعة. وهي صاحبة البتسامة العريضة التي ندر ما كانت تفاراقها ،والتي كانت تكشف عن نابين صغيرين من ذهب ،يتخللن أسنانها البيضاء التي ل تختفي ،حتى وهي تنطق بحرفي "الميم" و"الفاء" ،عندما تتحدث عن "حرمام الشفا" الذي يتعهده زوجها ،والكائن بالممرالمعتم المؤدي إلى "باب القطانين" ،أحد أبواب الحرم الشريف. كانت "إم سماعين" ،ذات الصول المصرية التي تتجلى في خفة دمها وحضور بديهتا ونكاتها )التي كانت الجارات تصفنها بأنها "من الزنرار وتحت"( ،مغرمة بحضور أفلم السينما المصرية .وكنت بدوري مغرما بسماع روايتها لقصص تلك الفلم بأسلوب سردها المشوق لدق تفاصيلها وحذافيرها .وكانت سعادتي تبلغ ذروتها عند عودتها من مدينة "بلبيس" المصرية لزيارة أهل زوجها ذوي الجذور الفلسطينية ،ومن ثم "اقاهرة المعز"" ،المحروسة" ،و"السيدة زينب" و"باب الشعريه" ،حيث نشأ وترعرع إبن جيرانهم مطرب الملوك والمراء" ،محمدعبدالوهاب" ،الذي أكدت لي أنا ،بعد إلحاحي بالسؤال ،أنها رأته "شخصي" لعدد ل يحصى من المرات ،وحيث 48
يمتلك عمها دارا للعرض السينمائي كانت تصرعلى تسميتها "سيلـ يما" ،والتي كان جمهورها يستمتع بالفرجة على الفلم وهو متربع على الحصيرة .عندها كانت تفسح لي مكانا إلى جوارها فأصغي إليها مبهورا بينما هي منهمكة في وصف القاهرة ولياليها، وحدائقها ،وملهيها ،وشوارعها ،وترامها ،ومسارحها، و"سيلـ يماتها" ..وحذافير اقصص أفلمها ..وتفاصيلها. أرادت إحدى الجارات ،ذات مرة ،أن تجاريها في رواية تفاصيل ذلك المشهد المثير في فيلم "رصاصة في القلب" ،حينما كان عبد الوهاب يردد أغنية "المريه تروي العطشان" بينما هو) ،اقدرام الناس من غير لخشا ول حيا( ،يستحم في البانيو! سألتها "إم سماعين" بغتة: ت وين كنتي اقاعده يوميتها يام علي ..اقدام والل ورا ..بل اقافيه؟ردت "إم علي" بعظمة تجبلت واضحة على أوداجها التي انتفخت فجأة: على سلمته "أبوعلي"..عمره ما اقيـ ي يطـ يع لي إل في اللوج. فما كان من "إم سماعين" إل أن أسكتتها بإشارة استخفاف من يدها مصحوبة بصوت مصمصة شفتيها ،أسفا لجهل "إم علي" ،اقبل أن تفصح: إيش أاقول أنا اللي كنت اقاعده ،إسم ا على اقيمتك،في"البلكون" ..وا وكيلك ..شايفه من فوق ..كل المسـائل؟! ثم تعقب بسرعة ،وبلهجتها المصرية: هو انتي ياختي شفتي حاجه؟ فتنطلق عاصفة من الضحكات المكبوتة ،التي كانت تنتظر"إم سماعين" لتفرج عنها.
49
وكثيرا ما كنت أسترق السمع لحاديثها عن اقصص زبونات الحمام الذي خصص يومي الخميس والثنين للنساء فقط )وهي في معظمها ،كما كانوا يقولون ،اقصص "من الزنار وتحت"(. لم أكن في البداية أدرك لماذا تثير تلك القصص ضحك الجارات حتى تدمع عيونهن .وكثيرا ما كنت ألحظ أمي وهي تغمز لها أو تكز بأسنانها على شفتها السفلى ،في الخفاء ،لكي تكف عن الحديث أمامي في هذه المور .لكن سرعان ما كانت "إم سماعين" تمد يدها إلى أسفل بطني وهي تقول ضاحكة بلهجتها الخليلية: هيك لزم ليعلرف. ت ..ما هو لُتخري هيكتوتمرالسنوات سراعا. وتبتسم أمي ،ابتسامة ذات معنى ،وهي تجففني بمنشفة الحمام اقائلة، بعد أن داققت النظر في شعيرات يميل لونها إلى السواد بدأت تغزو ذلك المكان ،أنه اقد آن الوان للقيام ،بمفردي ،بمهمة الستحمام. وبدأت أسمع أاقراني يتحدثون عن تلك الشعيرات وعن ظواهر أخرى أثارت فضولي .بل إن انفرادي في غرفة الحمام ،حسب تعليمات أمي ،أتاح لي فرصة محاولة "تجربة"الصابون التي ازدادت وشوشة الاقران عنها إلى درجة التباهي بنتائجها التي تشير إلى العبور إلى .. الرجولة. وظلت "إم سماعين" تحكي اقفشاتها ول تتحرج من وجودي .بل أصرت في أحد المرات على أن تعاود إصطحابي معها ،يوم خميس، إلى "حمام الشفا" ،وهو اليوم المخصص للنساء بالرغم من تحفظ والدتي التي حاولت أن تلمح لها بأن الولد اقد بلغ سن البلوغ. لكنها اقهقهت حتى استلقت على ظهرها وهي تقول: ..حرام عليكي يا مستوره ..للرساُته يطفلتل! *
50
*
*
غيوم من البخار ،كالغللت ،تلتحف بها النساء والصبايا ،والفتيات الصغيرات اللواتي ينافسن الكبار في الحرص على إخفاء أجزائهن عن أعين ذكور الطفال الدخلء أمثالي .لكن سرعان ما تعيدهن رغاوي الصابون و فقاعاته إلى أصولهن البريئة ولهوهن ،فتنطلق الصرخات ويتزايد ارتفاع "صوتيات" الحرمام العام التقليدية المشهوره. خليط من الناث من مختلف العمار .بعضهن عاريات تماما. وأخريات أبى حيامؤهن إل أن تحتفظ الواحدة منهن بقطعة ملبس داخلية أو اثنتين ،أو بقميص ابتل والتصق باللحم ،وغدا كما يقول الشاعر ،كثوب الرياء ..يشف عما تحته. العجائز منهن غير مباليات .منهن من يستظرفن بمداعبة بناتهن أو حفيداتهن ،دعابات ما كنت أظنها مباحة إل في ذلك المكان فقط. ومنهن من يحاولن لفت أنظار الطائشات إلى التمسك بأهداب الصول. وصبية تتشبه بفتيات المجلت الجنبية في إبرازعريها في أحسن أوضاعه. وأخريات يمصمصن شفاههن ويلوين أعنااقهن ويتبادلن نظرات تفيض بالغيرة والحسد. إحداهن تطارد الخرى لتثأر لنفسها من دعابة بريئة أو غير بريئة، فتنزلق على بلط الحمام الذي لم يكف لمعانه وابتلله عن التحذير من مغبة المطاردات .تنطلق الضحكات ويعلو الصراخ تعليقا على أوضاع الجسد المتزحلق الذي فقد اتزانه واقدرته على الحتشام، فأهتدي إلى أسباب أخرى لرتفاع أصوات رواد الحمرام..غير انقطاع المياه. وهنا أمم انتبذت مع صبيتها مكانا اقصيا لـتمارس عمل ل يليق أن تمارسه ،هكذا ،أمام الجميع ،وتهمس في أذنها ما ل يليق أن يسمعه أحد. وعجوز تستعرض مهارتها في التكبـيس ،وأخرى تتفنن في التليـيف والتكيـيس. 51
وكاعب أخذت تغطي نهديها النافرين بخصلت شعرها المبتل المرسل ،وهي بذلك إنما تستلفت النظار إليهما باعتداد واعتزاز. وامرأة تروح وتجيء وهي تضم صدرها الخذ في الترهل بيد ،كأنما هي تخشى أن يسقط منها ،وبكف يدها الخرى تجاهد أن تخفي ملتقى أسفل بطنها بسااقيها. وصبية أخرى تتباهى بشعرها الذي ينسدل على ظهرها حتى يكاد يغطي كرتي مؤخرتها المتأرجحتين بإيقاع مدروس وخبرة متوارثة، وأمها تتابعها بابتسامة راضية فخورة. وأنا ،كالملح الحديث العهد بأمواج العماق ،تائه في بحرالنوثة. أحاول ،هذه المرة ،أن أاقرأ السطورالمبهمة أو أن أفك الرموز المختلطة علري ،وأتعرف إلى مفردات لغة جديدة ،لغة العري ،تتغنى بها اقبيلة الناث تلك. أتظاهر بالبحث عن "إم سماعين" ،فإذا وجدتها أبادلها البتسام مع افتعال البراءة ،لن ابتسامتها الشقية ترميني بما يشبه التهام. ثم أواصل رحلتي في عالم جديد متجدد .فقد سبق أن أتاحت لي "إم سماعين" خوض التجربة في مرات عديدة لم يكن لها ذلك المذاق، بعيون لم يكن لها تلك القدرة الجديدة على الكتشاف والولوج والختراق. كل ما كان يشدني إلى "حمام الشفا" في الماضي هو صحبة "إم سماعين" التي كانت تجيد رسم البسمات على الوجوه ،والحساس الغامربالحرية ،حرية أن تمعن النظر في عري الخرين بمحض إرادتهم ،وبمتعة النظافة ،واستنشاق عبق صابون "الشكعه" النابلسي الذي تفوح رائحته وتمل المكان ،بل تخرج لتستقبل زبائن الحمام عند مدخله في ممر "باب القطانين". فما بالي الن أداقق النظر في هذه وتلك. هذه سمينة أو ممتلئة أو هيفاء ،وتلك نحيفة أو مترهلة أو عجفاء. هذه صبية ،وتلك طفلة شقية. وهذه جميلة ،وتلك ممشواقة وطويلة. هذه كاملة العري جريئة تتباهى بعريها ،وتلك مابرحت تحاول أن تواريه بكفيها ورغاوي الصابون ،خجوله. 52
أتذكر أاقراني وادعاءاتهم ،والصابون ،ومحاولتي اليائسة. خدر مبهم لذيذ ،مازلت حديث العهد به ،يغمرني وينتشر في عرواقي. "لباسي" ،الذي لم أتنازل عنه لسباب خاصة ،تعرفها أمي جيدا، يضيق علي فجأة. بقايا امرأة تحدجنـــي بنظرات متفحصة ،مستنكرة ،ثم تُيوتتلوت مع عجوز بيدها كوز. تنضم إليهما مستاءة ثالثة. يتجهن نحوي مشيرات ،وتتبعهن أخريات ثائرات. وترشقني العجوز بمحتويات الكوز ،ليلتصق لباسي المبتل بجسدي. تعلو الصيحات الغاضبة المستعيذة بال رب العالمين. ول ينقذني من ويلت غضب الغاضبات سوى ..خالتي "إم سماعين". *
53
*
*
"حوش آل خرمنده" يقع مقابل "المحطة السادسة" التي تظهر في يمين الصوره. وفي الخلفية مبنى "هوسبيس النمسا" الشهير.
54
"إم ـخضــــــــــــــــــــــــر"
في "القدس" القديمة ،كنا نسكن بجوار "إم خضر" ،في نفس الحوش. كلما تذكرت "القدس" ،لحت لي "إم خضر" بكل ملمحها. وتذكرت حتى"الشامه" الباهتة البارزة التي تلمع على رأس خدها، وكأنها دمعة وتجمدت. ر وما أكثر ما تلوح لي "إم خضر" بثوبها "الفلحي" الجميل الذي كانت تصرعلى ارتداءه ،ولهجتها القروية المحببة التي لم تتخل عنها، بالرغم من وجودها في المدينه منذ أن وعتها ذاكرتي. ل أعرف متى جاءت إلى "القدس" .ولكن كل ما أعرفه وأذكره أنها كانت ،بالضافة إلى جارنا "أبو عارف الباسطي" ،بقامتها القصيرة المشدودة ،ووجهها المعروق الصارم ،وحضورها المهيب السر، من أهم ُمعالم الحاره" .إم خضر" ..إم الرجال. ُ كانت "أُرمرا" لكل أمهات الحارة .وكثيرا ما كنت تسمع إحداهن تنصح الخرى باستشارة "إم خضر" في أمر يستدعي المشورة. كان لها من البناء عشره .وكان "داود" هو أصغرهم. أحلى ساعات الطفولة هي تلك التي كنت أاقضيها في دار خالتي "إم خضر" ألعب مع "داود" وأخيه "إبراهيم" .وفي بعض الحيان ،كان "سعيد خضر" ،إبن إبنها البكر ،الذي كان أكبرنا سنا ،يأتي ليشاركنا، عرميه وأنا ،اللعب. أو عندما ترسلنا" ،داود" وأنا لبيت جارتنا "إم فارس" لستعارة "الطاحونة" ،فنعود إليها وكل منا يحمل أحد لشرقيها .وتكتمل سعادتي وأنا أستمتع بالجلوس إلى جانبها وهي تقوم بعملية جرش مختلف الحبوب ،بينما هي تغني ،على إيقاع صوت الطاحونة الرتيب،
55
أغنيات تقطر حزنا وأشوااقا إلى أبناء لها ل يكفون عن الترحال والغياب ..فتدمع عيناي: "خذوني معاكم .. وين ما نويتو السفر .. ما بقعد بلكم .. وين ما نويتو الفراق ..إلخ". لكنها سرعان ما كانت تقوم بتحضير اقرصين من العجين الخمران لتوه ،لتصنع لكل منا فطيرة ،تغمرها بزيت الزيتون وترش عليها "الداقة" الطازجة الخارجة لتوها من بين شقى الرحى ،أو"الزعتر"، أو"تفقش" بيضه فوق كل من القرصين ،بعد أن تهيء لهما حوافا على شيء من العلو ،وتزينهما بقطع من الزيتون والبندورة والبصل، ثم تنثر فواقها اقطعا صغيرة من الجبنة النابلسية ،فننطلق إلى "عم أبو أنور" الفرران في "عقبة المفتي" القريبة ،لننعم بالمكافأة " ..منااقيش". أو ما دأبنا بعد ذلك على تسميتها "بيتسا" أو "بيتزا" ..تشبها بالجانب! طالما شدني إلى "إم خضر" ذلك التنااقض ..اقوة شخصيتها وجبروتها من ناحية ،ثم راقتها وضعفها الحزين من ناحية أخرى. من أبناءها الخرين ،إلى جانب "خضر" و"حربي" ،أذكرإبراهيم، وداود ،وزكريا ،و محمد ،وعيسى ،وموسى! كنت أتساءل دائما ،كيف تجتمع كل هذه السماء في أسرة واحده؟! وفي أحد اليام ،أاقاموا عرسا لحد أبنائها ،لعله "زكريا" ،سائق التاكسي الملقب بلـ"الدعراس" .ولكنني ما زلت أذكر أهم عناصر الحدث ..اسم العروس" ..شوشانا". في عام ،48عندما اشتد القصف على "القدس القديمه" ،وكان حوشنا يقع مقابل لمبنى "الهوسبيس" ،الذي تحول عندما دعت الحاجة إلى مستشفى .كنا نرى الجرحى يدخلون إليه ،والموتى يخرجون منه. 56
وفي أحداليام ،اشتد القصف واكتظ المستشفى بالجرحى ،ولم يعد يستوعب مزيدا منهم .فوضعوهم على بطانيات في مدخل الحوش، في انتظار دورهم .في ذلك اليوم اكتشفت "إم خضر" وجود أحد أولد الجيران" ،علي" ،إبن"أم علي" ،بين الجرحى .كان في السابعة من العمر .كان ميترا. كان اقد ذهب ،كما كان يفعل الخرون ،إلى أحد آبار ساحة الحرم وفي يده صفيحة ليملها بالماء. صرخت "شوشانا" اليهودية ،بدون وعي: ..ا يخرب بيت كل اليهود!وما زلت أذكر "إم خضر" وهي تنهرها بلهجتها القروية المحببة اقائلة: "كولي" الصهاينه ،وما "تكوليش" اليهود ،يا "كليلة" الصل!كان هذا بعد خروج النجليز من البلدة القديمة مبكرا عن الموعد المحدد لخروجهم .أي اقبل دخول "الجيش العربي" إلى القدس. *
57
*
*
قهوة البارسطي
كان "أبو عارف الباسطي" أيضا أحد معالم "حارة الواد" الهامة ،بعد طيبة الذكر "إم خضر". 58
"جهامه" ،مغرم أتذكره طويل القامة ،أو كما كانوا يصفونه ..ت بمظهره ،يرتدي "شروال" مررة ،ومرة بنطال ،ومرره أخرى اقمبازا وعباءة .ويعتمر الطااقيه مررة ،ول يتحرج من الظهور برأسه العاري تماما وكأنه يتباهى بصلعته البهية .أما عن طربوشه الحمرالقاني الذي تتدلى شرشوبته الحريرية السوداء من جنبه ،وتترااقص تبعا لمزاجه في ذلك اليوم ،فقد أشيع أنه ل يلبسه إل في أيام "الجمعة"، و"العيدين" ،و"مقابلة الحكام "! وأتذكره ،حتى الن ،كلما رأيت الممثل طيب الذكر "سراج منير" على الشاشة .ذلك الباشا ،أو العمدة ،الذي يشع هيبة وواقارا، وتعجب به وبأدواره ظالما أو مظلوما. كان "أبوعارف" دائم البتسامة عن صف من السنان الذهبية. وحين يقهقه ،يكشف لك عن بقية الكنزالذهبي الذي يحتويه فمه، فتقف على السبب الحقيقي وراءابتساماته العريضة واقهقهاته العالية. وهو يحرص دائما على أن يتحسس كرشه بكفيه المزدانتين أصابعهما بخواتم ذوات فصوص متعددة ألوانها .ناهيك عن السلسلة الفضية التي تتدلى بشكل ينم عن وجود ساعة أثرية في جيب الصديريه ،ل يمل من استخراجها وتفحصها بطريقتة الستعراضيه. أما عن أاقلم الحبر" ،الباركر" و"البيليكان" ،ذوات الغطية أو المشابك المذهبة ،التي تصطف لمعة مطلة من الجيب العلوي لسترته ،فحدث ول حرج .فكل من في الحارة يعرف ويؤكد أن "أبوعارف" كان أمريا ل يعرف الكتابة أو القراءة .لكنه ،منذ أن فتحها ا عليه ،وأصبح بقدرة اقادر من العيان ،اقررأن يتعلم كيف يكتب إسمه ،و"يمضي" ،ويستغني عن الختم و البصمة .كانت هذه مشورة إبنه المتنور "حموده" ،صاحب السبع صنايع ،الذي كان يحب الطلع ول يكف عن استعارة جرائد زبائن القهوة واقراءتها. وبالرغم من أن "أبو عارف" لم ينل الـ"مخترة" إل مؤخرا ،في أيام الحكم الردني ،بعد خروج النجليز ،إل أنه كان يتصرف دوما وكأنه مختار الحارة. 59
في طفولتي المبكرة ،اقبل خروج النجليز ،رأيته في مواقف فسرر لي، بعد ذلك ،ما كان يبدو لي غموضا في شخصيته .فقد رأيته بأم عيني وهو يوميء لجندي إنجليزي مشيرا ،بشكل خفي ،إلى رجل من رواد "مقهى الباسطي". ثم فوجئت بالجندي ،الذي كان بمفرده ،ينقض على الرجل ويطرحه أرضا وهو يحاول أن يستخرج من عبسه شيئا ما .وبالرغم من تدخل "أبوعارف" ،الذي فسره الجميع بأنه شهامة ونجدة وشجاعة منقطعة النظير ،إل أن الجندي اقد تمكن من التغلب على الرجل ،واستخراج مسدس صغيرمن عبره ،وااقتياده هو وأبي عارف الباسطي إلى"الروضة"(*) . لم أعرف ،ولم يعرف أحد شيئا عن مصير الرجل ذوالمسدس .كل ما أذكره أن "أبا عارف" اقداختفى لمدة شهر اقضاها سجينا! وأذكر ،يوم الفراج عنه ،أن الحارة خرجت عن بكرة أبيها تستقبل "أبا عارف" استقبال البطال ،بالزغاريت والهازيج. وظل "أبو عارف" يتبختر ويتباهى بشجاعته ،وأمارات "النعمة" تزداد ظهورا على مظهره. وتعيدني تلك الحكاية إلى مشهد آخر ل ينمحي من ذاكرتي: ضابط انجليزي يمد يده باحثة بين ثنايا محتويات طشت الغسيل، الذي كانت تجلس أمامه أمي ساعة ااقتحام العسكر لوسط الدار ،أثناء _________________________ _____________________________________ )*( مدررسة الروضة التي كانت قد تحولت إلى مقر لقيادة قوات النتداب البريطاني في القدس القديمه .
غياب والدي ،ومسدسه يرتفع في الهواء بينما يشر منه الماء في الطشت ،وبينما الضابط يحدج أمي المرتعدة خوفا ،بنظرات تقدح شررا. لم تكن أمي تعرف أن أبي يمتلك ترخيصا لحيازة السلح بحكم وظيفته ،فسارعت لخفائه بمجرد أن شعرت بقدوم "الكبسة" ،نتيجة لـ"إخبارية" من مجهول. لم أسمع أحدا يشكك في مصادر نعمة "أبو عارف" .فقد كان رواج مقهاه وكثرة زبائنه يرد على أي تسامؤل .بل كان لسلوكه وبشاشته واقدرته على اجتذاب الزبائن كبير الثر في نسيان ذلك الجانب 60
الغامض من شخصيته .وأكثر من ذلك أنني لم أعد أاقيم وزنا لذلك المواقف الذي شغلني لفترة اقصيرة فقط .لكنني كثيرا ما كنت ،بعد ذلك ،أتذكر الرجل عندما تتكرر الحاديث عن ظاهرة "صناعة البطال" من لاقبل "أجهزة" السلطة أو الستعمار .وهو السم الخر لـ "صناعة العملء". كان صوت راديو مقهى الباسطي يلعلع طوال النهار وجزءا من الليل ،خصوصا أيام الصيف ،حيث كانت كراسي القش القصيره تنتشر لتغطي مساحة ممتدة على رصيفي ذلك الجزء من "طريق الواد" ،لكي يتسع المكان لكبر عدد من السمريعه و الرواد. ذلك بعد أن يقوم المعلم "أبو العز" برش الرض بالماء ،بطريقته الستعراضية ،لترطيب الجو. ثم تتعالى طراقعات اقطع الدومينو ،وأصوات دحرجة مكعبات النرد على سطح طاولت الزهر يليها صوت طراقعة الاقراص العاجية السوداء أو البيضاء على صفحتها مختلطة مع صيحات البهجة ونداءات صبيان القهوة ،الذين يزداد عددهم ،إضافة إلى أولد "أبو عارف" و المعلم "أبوالعز" ،حسب متطلبات الموسم. "ولعه"" ..نار""..واحد شاي"" ..تنين اقهوه سبكيرليل" ،ذلك اللفظ المضغوم الذي طالما حرت في الوصول إلى أصله" ..سكر اقليل". وكثيرا ما كان "أبوعارف" شخصيا يبادر في المساهمة في الخدمة، خصوصا عندما يكون الزبون أحد أصداقاءه المقربين ،عندها يعلو صوته ممازحا ،ومرحبا به: واحد سادا ..للعرص هادا !أو: واحد شاي ..للعرص اللي جاي!ثم ل يلبث أن يسحب مقهقها أحد الكراسي القش القصيرة ليستقر تحت عجيزته ،ليجالس بعض زبائته. * 61
*
*
وكان "أبو عارف" مشهورا وفخورا بامتلك مجموعتة الكبيرة من أسطوانات "بيضا فون" .تراه دوما يديرالـ "ماناويلل" التي تتدلى من جانب الـ"جراموفون" الذي كان يتصدرالمقهى ببواقه الضخم .كما كان يتباهى بامتلك السطوانة اللي كان "يبعت يجيبها من مصر"، بمجرد صدورها ،وما زال يكرر إذاعتها المرة تلو المرة ،واليوم تلو الخر ،حتى تنحفر كلماتها وألحانها على جدران عقلك الباطن. كان "أبو عارف الباسطي" سمرـيعـا ر مغرما بأغاني "صالح عبد الحي" و "عبده الحامولي" و مطربة القطرين "فتحيه أحمد" و "لوردكاش" و "عامر خرداج" و المطرب الصغير الناشيء في حينها "محمد غازي" ،و"جميل العاص" .ناهيك عن "منيره المهديه" وكوكب الشرق "أم كلثوم" و "عبد الوهاب" ،وغيرهم من أباطرة وملوك وأمراء الطرب. أما "ليلى مراد" ،فقد كان لها في وجداني منزلة لم تستطع أن تنافسها عليها سوى"أسمهان" ،التي كنت أطرب لصوتها ،ولسبب ل أعرفه، حينما كنت أسمعها تشدو بأغنية "ليالي النس في فيينا" بالذات! ذلك ،طبعا ،اقبل أن تظهر "فيروز" ،اقيثارة العرب ،لتتربع على عرش الغناء والطرب. لم يفتني ،وا أعلم ،أغنية واحدة من أغاني إذاعة القاهرة التي صادف ميلدها عام ،1934وهو عام ميـلدك ،كما جاء في شهادة الميلد. ولدت إذن ،واقضيت طفولتي في القدس ،في بيت يقبع فوق ذلك المقهى الشهير في حارة الواد .فكان ذلك مما أحدث بالطفل الذي كنته بالغ الثر .فب ر ت مولعا بفنون الغناء بحكم العاده والتعود .وظل عالم الموسيقى ،إلى جانب مظاهر أخرى للجمال ،يشكل ركنا مشراقا في وجداني. *
62
*
*
من الشياء التي لم تكن تخلو من طرافة ،أنني كنت "أكتشف" ،بعد ذلك بأمد طويل ،أنني أحفظ هذه الغنية أو تلك عن ظهر اقلب ،لحنا ونصا .هذا مع بعض التحريف لبعض كلمات الغنية ،لعدم وضوحها ،أو بسبب عدم إلمامي التام باللهجة المصرية ،بالضافة إلى مقتضيات التلحين ،التي تدمج الكلمات ،أو تفصل الكلمة الواحدة إلى عدة مقاطع .فأغنية "ليلى مراد" ،مثل ،التي تقول فيها: " والشمس عند الصيل ..راخيه شعور الدهب " .كنت أجدني أحفظها بالشكل التي: "والشمس عندنا صيف ..أخ يا شعور الدهب"! وفي أحد المرات ضبطني أخي وأنا أردد ،بكل ثقه ،أغنية عبد الوهاب الشهيرة" ..النيل ماجاشي"! وأدهشني استغرااقه في الضحك .لكنه لم يلبث أن صحح الخطأ، مذكرا إياي بـ لملك الملوك "نجاشي" الحبشه ،الذي سمعنا عنه لحقا في دروس التاريخ ،شارحا معاني الغنية التي كتبها الشاعر"أحمد شواقي" ،الذي يشربه نهرالنيل بـ"النجاشي" ،مبينا لي أهمية استيعاب معاني الشعرالُمغرنى لكي يتماهى مع اللحن أثناء الداء السليم المعربر الذي ل يقل أهمية عن الصوت القوي الجميل. كما تكرر مثل هذا اللتباس مع أغنية عبد الوهاب الشهيرة "..يا ناسيه وعدي" ،التي كنت أظنها "ياناس ..ياوعدي"! وربما يرجع الفضل في ذلك اللتباس ،كما خطر لي ،إلى الفنان الشعبي الشهير "محمود شكوكو" ،صاحب تعبير الدهشة الدارج" ..يا وعدي"! كان أخي "عابد" ،إلى جــانب راديــو"اقهــوة الباســطي" ،مصــدرار آخــر يرفــد مســامعي ،المتعطشــة دومــا للغــاني الــتي كــانت تــروي ظمــأ مشاعري النامية الغضة ،بالمزيد منهججا .لكنججه ،إلججى جججانب الصوت الجميججل الججذي ورثججه عججن والججدي ،كججان يتمتججع بدرايججة وقججدرة علججى انتقججاء الغججاني الججتي يحفظهججا ويرددها. 63
كانت معظم الغاني التي كان يرددها أخي "عابد" عبارة عــن اقصــائد باللغة الفصحى .وكنت كثيرا ما أاقلده ،ول أجد مفــرا مــن اللجــوء إليــه عندما يستعصي علي فهم بعض الكلمات أوالمعاني .فكان أخي يشــرح لي معانيها ،فيزداد تعلقي بتلك الغنية أوغيرها. هناك العديد من الغاني التي انطبعت في ذاكرتي ،وما زالت تعيد لي ذكرى بعض الصورالمتكررة في بيتنا المقدسي ،كأن أجدني ،عند ما يصادف سماعي لها في أي زمان ومكان ،جالسا على أعلى الدرجات الحجرية المؤدية إلى "أوضة عابد"" ،اللعسليه" ،بعيــدا بمــا فيــه الكفايــة لكــي ل أتســبب فــي إزعــاجه ،اقريبــا بمــا فيــه الكفايــة لكــي أســمعه وهويــؤدي أغنيــاته المحببــة..أغنيــة "ســيد درويــش"" ..أنــاهويت وانتهيت" ،أو أغنية "عبد الوهاب" " ..يا ما بنيــت اقصــرالماني" ،أو أغنيتي المفضلة "سهرت منه الليالي" ،التي ضبطني ذات يوم متلبســا بالتغني بها ،فما كان منه إل أن ينفرد بي ليلقنني الداء الصحيح لتلــك الغنية .كان ذلك اليوم من أمتع أيام طفولتي .ليس هناك أجمل من أن يحاول أحدهم أن يهتم بإتقانك لشياء تحبها. "يجب الهتمام بمخارج اللفاظ .والهم من ذلك هو أن تفهم المعاني وتحسها ..وتحسها ..فاهم اقصدي؟ إفرد صوتك ..ل تخجل ..هنا تستعمل حنجرتك ..وهنا تدع الصوت يخرج من صدرك ..وهنا ل بد من أن يخرج من تجويف بطنك عندما تضغط بعضلته علي الحجاب الحاجز. ب بغيــرغراااالم ..جسم م من اقول معي"..الحب فيـــه بقـا اااا ئي ..اقل م الروح خـــــالي". وأنا أحاول وأحاول. ول يلبث هوأن ييأس ويقول بحسرة ..يا خساره ،أذنك موسيقية، و"أداءك" صحيح ،بس صوتك ضعيف! لكنني كنت سعيدا .أكتفي منه بحصيلة شروحات القصائد التي جعلتني أشعر بمتعة تذووق معانيها. وعزائي كان دائما هو أملي في أن أتقن ،في يوم من اليام ،العزف على آلة أخرى ..غير حنجرتي الهزيلة. 64
كنت أتوق دائما إلى آلة موسيقية أتعلم العــزف عليهــا .لكننــي ســرعان ماكنت أصطدم بموانع أبي الصارمة .فل أجد غير حنجرتي الضــعيفة لتردد اللحان التي أحبهــا .وهــذا هــو صــوت عبــد الوهــاب يصــرعلى التسلل إلى إذني من راديو اقهوة الباسطي صباح مســاء ول يكــف عــن تحريضي على محاولة الغناء بالرغم من تسليمي بضعف حنجرتي. ل يهمني أن يسمعني أحد ..يستحسن غنائي أحد ..أو يثنيني عنه أحد. فالبلبل ،كما كان أخي "عابد" يقول ،تغرد ل لن لديها صوتا جميل تتباهى به ..وإنما هي طبيعتها. ثمة يقين كان ينمو في أعمااقي بأن الغناء بهجة من مباهج الحياة ،تحس معها بالراحة والمان. في البداية كنت أتساءل عما يعجب أخي في هذه الغنية الغريبة أو تلك .ولكن ،مع تكرار سماعها ،واعتيادي عليه ،صرت أهتز طربا لها .ولقد تذكرت تلك الملحوظة ،بعد ذلك ،عند بداية سماعي للموسيقى الجنبية ،والكلسيكية بالذات. كان يبدو لي أحيانا وكأن أخي كان ملتحقا ،من حيث ل يدري أحد، بمعهد لتدريس الغناء. وأظنني اقد عرفت سبب هذا النطباع مؤخررا. ففي بيروت ،في نهاية السبعينيات ،تعرفت إلى أحد الفلسطينيين "الُمبعدين" ،من اقبل سلطات الحتلل السرائيلي ،من الضفة الغربيه .كان ذلك هو"الشيخ" داود ** ،الذي جمعتني به أمسيات موسيقية ،كان يبدع فيها بالعزف على آلة العود ،وترديد الغاني التراثية ،وأغاني "محمدعبدالوهاب" القديمة ومن سبقوه أمثال الشيخ "سيد درويش" أوالشيخ "سلمه حجازي" أوالشيخ "زكريا أحمد".. أو غيرهم من شيوخ الطرب. كان "الشيخ" داود أحد أفراد الشلة التي كان أخي "عابد" ينتمي إليها في القدس .تلك المجموعة من الصداقاء التي كانت تشكل مصدرا لقلق والدي .وكثيرا ما تناهى إلى مسامعي أجزاء من حديث خاص بينهما ،مفاده أن هذه الشلة "شلة ُكرفار". 65
أذكرأن هذا الحديث اقد تحول ،مع الزمن ،إلى أوامر صارمة بالبتعاد والقطيعة! ومن ثم إلى تهديدات مختلفة مما جعل أخي "عابد" يخفي استمرار علاقته بالشله ،مراعاة لمشاعر والدي الذي كانت تحركه إلى ذلك منطلقات دينيه بحته. لكنني مازلت أذكر دفاع أخي عن تلك الشلة ومقارنة ما يدعون إليه بما كان يدعو إليه صحابة بررة مثل "أبي ذرالغفاري" .كما كان دفاعه مقرونا بقصص من عهد "عمر بن الخطاب" و"عمر بن عبد العزيز" ..فكان ذلك بالنسبة لي ،أيضا ،مصدرا من مصادر الطرب. *
*
*
__________ )**( داود عريقات
عندما أبكاني "حـــــربي"..
خروج النجليزمن فلسطين عام ،48أوانتهاء النتداب البريطاني، بلغة الكبار والمتعلمين من أهل الحاره" ،حارة الواد" في القدس القديمه ،كان يعني ،في ذلك اليوم بالذات ،بالنسبة لمعظمهم: عــــودة "حــــربي". و"حربي" هوالبن الثاني في ترتيب أبناء "إم خضر" العشره. وعودة "حربي" ،في هذا الواقت بالذات ،تعني بالنسبة لها الكثير، خصوصا بعد مصرع إبنها البكر"خضر" ،أبو سعيد ،في حادث انفجاراللغم تحت القطارالذي كان يقوم بقيادته. كان "سعيد خضر" ،وكنا ننطق اسمه كامل لنميز بينه وبين "سعيد" آخر من أاقراننا في الحاره ،اقد حدثنا طويل عن بطولت عسمه 66
"حربي" ،الذي التحق منذ سنوات طويلة بالجيش البريطاني ،وعن أسفاره ومغامراته والحروب التي خاضها. تارة نسمع أنه كان يحارب "الطليان" ،وأخرى أنه حارب "البولشفيك" ،وثالثة أنه اشترك في معارك "العلمين" ضد اللمان. واقد ساورنا الشك في صحة المعلومة الخيرة ،كما أصابنا الستهجان والستنكار لمواقف ومسلك بطلنا ،حيث أننا كنا على يقين من أن اللمان هم من أصداقاء زعيمنا المفدى المفتي"الحاج أمين" الحسيني، كما كان آبامؤنا يرددون .فكيف يحارب "حربي" مع النجليز ضد اللمان ،الذين كانوا في طريقهم إلى مصر ثم إلى فلسطين ليخلصونا من النجليز واليهود مرة واحده؟ لكن"سعيد خضر" سرعان ما يستطيع أن يتجاوز ذلك المطب ،بروايات أخرى جديدة ،تشهد ببطولة عرمه الــ"صاجن ميجرحربي"* ووطنيته وشدة بأسه. ____________________________________________________________ )*( - Major Sergeanرتبة عسكرية بريطانية) صول( ،وتلفظ بلهجة العمال العرب العاملين مع الجيش البريطاني " :صاجن ميجر"
لم يكن أحد منا اقد رآه .فقد اختفى من البلدة اقبل ميلدنا ،أنا و"سعيد" و"سعيد خضر" وعمه "إبراهيم" وعمه الصغر"داود" ،البنين التاسع والعاشر في ترتيب أبناء "إم خضر" .وبالرغم من أنني ل أذكر أن أحدا من أهلي ،أو حتى من أهل الحارة ،اقد أتى على ذكر شيء يتعلق بـ"حربي" من بعيد أو من اقريب ،مما يؤكد أهميته ومكانته ،إل أن ذلك البطل الغائب ،الحاضر في ضمائرنا ،ظل يداعب خيالتنا. ينسج "سعيد خضر" عنه القصص البطولية الخاراقة التي تقترب من الساطير .ويؤيده كل من "إبراهيم" و"داود" ،أصغرأشقاء البطل، ونميل كلنا إلى تصديق كل تلك الروايات لنها كانت تدغدغ أشوااقنا إلى البطولة ،التي سوف تنقذنا من وااقع أليم كنا نعيشه ،ومستقبل غامض كنا نسمع كبارنا يتمتمون بويلته ،ول يسألون ا رد القضاء بل يسألونه اللطف فيه. إلى أن تردد فجأة في أرجاء الحارة خبرعن اقرب عودة "حربي".
67
اقال لنا "سعيد خضر" ،في الشهرالسابق ،أنه لو اقدر لعمه "حربي" أن يشارك في معركة "القسطل" لما خسرناها ،ولما استشهد "عبدالقادر الحسيني". وعندما كنا نتساءل عن سبب كل هذا الغياب ،وعن ما يحول دون عودته ،بعد أن انتهت الحرب العالمية ،التي كانت سببا في غيابه -أل يدرك أننا بأم ر س الحاجة إليه الن؟ كان "سعيد خضر" يبرر ذلك ،بكل بساطة ،بعدم استغناء النجليز عنه. وأصبحنا ،نحن الصغار ،ننتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم ،الذي سوف يخرج فيه النجليز ،تاركين لنا"حربي" .فهوالمحارب القديم المغوارالذي ل يشق له غبار ،والذي سوف ينضم إلى "المجاهدين" الثوار ،أو يقودهم في معركة الدفاع عن القدس المحاصرة والتي تتعرض للقصف ،ليل نهار ،بمدافع "الهاون" و"المورتر" من الخارج ،و"البسلبند" ورصاص القناصة من الداخل ..من حارة اليهود الكائنة داخل أسوار القدس القديمه.
68
القائد البطل عبد القادر الحسيني
69
ومما ل شك فيه أن "حربي" اقد سمع بنبأ مصرع أخيه الكبر "خضر" ،سائق القطار ،الذي راح ضحية انفجاراللغم اليهودي من تحته .وهذا مما سوف يجعله يبلي أحسن بلء للخذ بثأر أخيه، إضافة إلى دوافعه الوطنية الخرى للقتال والتحرير. كنت أتصور"حربي" دائما ،مستوحيا ذلك من أحاديث "سعيد خضر" ،كما لو كان "صلح الدين اليوبي". و كانت أحاديث مدرسي التاريخ الذين تعااقبوا على مر سنين دراستي البتدائية الستة ،كفيلة باستكمال تفاصيل الصوره. لكنني ،مسايرة للزمن ،كنت ُألبسه زي "المجاهدين" الذين يتكرر نشر صورهم ،في جريدتي "الدفاع" و "فلسطين" ،بملبس القتال. أاقرب ما يكون إلى شكل القائد "عبد القادرالحسيني" ،أو القائد الشيخ "حسن سلمه" ،مثل .بكوفيته وعقاله ،وسترته "الكاكية" ذات الجيوب الربعة ومن فواقها "السلاحلك" ،الذي يتخذ شكل "علمة الضرب" على صدره ،واقد تعددت طبقاته المكتظة والمرصعة بـ ل "الفشك" النحاسي اللمع .هذا إلى جانب "السنجه" وبعض اقنابل الـ "الميلز" ،وكذلك "الفرد" الـ"بارابيللو" اللماني المتدلي من حزامه كما أبطال أفلم "الكاوبوي" التي كانت تعرضها سينما "ريجنت"، الكائنة خارج أسوار بلدة القدس القديمة والتي لم نعد نستطيع الوصول إليها .ولم أنس ،وهوالهم ،السراويل الـ "تبريتلشز" الضيقة من تحت الركبة ،والمنتفخة الفضفاضة عند جانبي الفخذين .أما "المرتينه"، فهي"النجليزية" طبعرا ،بالرغم من حديث الاقران العارفين ،أمثال "سعيد خضـر" ،عن سمعة المرتينة "الر يلمـــانيسـه" التي لتخطئ الهدف .ول بأس من أن يظهر في بعض الحيان ،حسب متطلبات المعركه ،متأبطا الـ"تستلتن يجتن" ،أو حامل مدفع الـ "تبلرن يجتن" على كتفه. ومعاذ ا أن أنسى ما أكده "سعيد خضر" عن طول عمه "حربي" الفارع ،الذي سوف يضطره إلى النحناء عندما يعبر من تحت اقوس مدخل الحوش. في اليوم المحدد لوصوله ،كانت العصاب مشدودة. 70
هناك حركة غيرعادية في حوش "آل خرمنده" المطل على "هوسبيـس النمسا" ،الذي يقع مدخله عند ملتقى "طريق اللم" القادم من "باب السباط" ،والمؤدي إلى كنيسة القيامه بعد أن يلتحم مع "طريق الواد" القادم من "باب العمود". "إم خضر" ،القروية التي يحبها البعض ويحترمها البعض الخر ويخشاها الخرون" ،إم الرجال" ،مثل أم العروس .تروح وتجيء بسرعة بثوبها الفلحي الجميل ،واقامتها القصيرة المشدوده دوما، كأنها تتمرد على اقصر اقامتها ،ول أحد يعرف إن كان هناك ما يستدعي فعل هذه السرعة في الرواح أو المجيء. حتى "أبوخضر" ،الرجل العجوز الهاديء ،الذي لم نكن نشعر بوجوده إل عند عودته إلى الدار ،عندما يتنحنح ويصيح بأعلى صوته المتحشرج :يا أل ..يا ساتر! كان ل بد من صيحته هذه كلما هم بالدخول من الباب المشترك، لكي"تلتن ي ظ ت ب" زوجة وللدله "الدرعاس" ،اليهوديه ،التي كان يحلو لها أن تتواجد في وسط الدار "مزرلطه" مكشوفة الراس .كما كان ل بد من أن يعلن بقية أولد "إم خضر" ،الشباب ،بما فيهم"إبراهيم" و "داود")!( عن رجولتهم بترديد تلك الصيحة كلما هموا بدخول الدار. هذا بالرغم من أن "شوشانا" اقد أاقلعت عن عاداتها تلك ،منذ أن اشتدت الهجمات اليهوديه .فقد أصبحت تحرص على إرتداء غطاء الراس ظنا منها ووهما ،أن عيون الجارات اقد بدأت تنظر إليها، كيهودية ،بتوجس وارتياب. والشاهد أن سلوكها الجديد اقد بدأ منذ أن نهرتها جارتنا الدايه "إم عارف الباسطي" ،عندما ضبطتها في أحد اليام القريبة ،وهي تطل مكشوفة الراس من تحت اقوس مدخل الحوش إلى الشارع باحثة عن طفلتها البكرية "عربيه" .عندها ،ما كان من "شوشانا" إل أنها سارعت بتغطية رأسها بذيل فستانها ،كاشفة بذلك ،دون أن تدري، عن مؤخرتها ذات الـكلسون زهري اللون. في ذلك اليوم ،كان "أبوخضر" يدق الرض بعكازه بشكل مختلف، وكأنه يعلن عن حالة الطواريء ،أو يستعجل العد التنازلي الذي 71
يقترب ببطء من ساعة الصفر .ل يكاد يدخل الدار ،حتى يعود أدراجه خارجا من الحوش متجها إلى وسط الشارع .وهناك ،مقابل مدخل "سبـيـس النامسا" ،ينتصب وااقفا وهو يظلل عينيه بكفه ،ناظرا في إتجاه "باب العمود" .وهكذا يعاود "أبوالعز" ،معلم "اقهوة الباسطي" ،محاولته لجلس "أبو خضر" على أحد كراسي القهوة في مكان مشرف على الطريق .ويكرر تأكيده أن "الدرعاس" اقد ذهب ومعه أخوه "أبوعرر اج" لحضار "حربي" وسرعان ما يصل الخوة الثلثه ،فليس هناك ما يدعو إلى هذا القلق. وبالرغم من أن خروج النجليز كان يعني أيضا دخول "الجيش العربي" إلى القدس .لكن "حربي" استطاع أن يستأثر بلهفة أهل الحارة في ذلك اليوم .وكنت أنا بالذات أكثر أاقران الحارة تعلقا بتلك اللحظة ،بذلك المل الذي يجسده البطل السطوري المنتظر .وكأن القدر اقد اردخره ،ليأتي إلينا في الواقت المناسب. حتى اسمه" ،حربي" ،سبحان ا ،كان يؤكد الدور البطولي الذي محاربا رومنقذار ومخلرصا. ر سوف يلعبه.. وماهي إل داقائق ،حتى جاء "أبوعرراج" يحجل بخطى واسعة ل تتناسب مع اقدمه الاقصر من الخرى .اقال من خلل لهاثه أن أخاه "حربي" اقد وصل .ولكن بمجرد دخوله من "باب العمود" ،استقبله صاحب "اقهوة زعتره" ،وأصر أن ل يتركه إل بعد أن يستريح ويشرب الـقهوة "الفرنساوي" .وبعد ذلك جاء "أبو فايزالعرشي" و حلف عليه بالطلق بالثلثه لتناول اقزازة مشروب الـ"سيفون" السااقع عنده. ساد الهرج والمرج في المنطقة كلها .وتجمع من يعرف "حربي" ومن ل يعرفه ،بحيث أيقنت أنه ل مكان لي بين هذه الجمهرة المحتشدة من الناس ،وأن الجدى أن أرااقب المشهد من أحد شباكينا المطلين على الحوش ،وبالتالي على الشارع حيث كان يقف "أبو خضر" ول يطيق الجلوس. 72
وفي دارنا ،فوجئت بجاراتنا ،عن بكرة أبيهن ،يتجمعن حول الشباكين المطلين على الحوش ومدخله ،فلم أجد مناصا من الصعود إلى سطح الدار ،حيث ليزاحمني هناك أحد. ر اندلعت أصوات الزغاريت .ثم ظهرت كتلة بشرية متراصة مقتربة مهروله .كان يبدو أنها تحيط بالقادم مرحبة مهلله .ولشدة خوفي من أن تراني ،وأنا أاقترب من حافة السطوح المطل على الحوش ،جارتنا "ستي إم عارف" ،الدايه التي ُولد ُ ت على يديها ،لم أستطع أن أتبين أو أميز"حربي" من بين تلك الكتلة البشرية .وبالفعل ،لمحتني "ستي ام عارف" ،وكأنها كانت متربصة في انتظاري ،وانهالت لعناتها علي وعلى "اللي سحبتني" ،وهي التي سحبت نصف أهل الحارة ،لفرط حبها لي وحرصها على سلمتي . ك يا عكروت! ..يويل تلكنني لم أستسلم .ووجدتني أاقفز إلى سطوح الجيران المشرفة على دار "أبو خضر". وما هي إل ثوان ،حتى تحول الستقبال العائلي إلى مظاهرة سياسية وامتل وسط الدارالعلوية بالمستقبلين والمهنئين والهاتفين بحياة مفتي فلسطين " ،الحاج أمين": حاج أمين ل تهتم.. شبابك شسريبة الدم.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. في تلك اللحظات ،وجدتني أردد بيني وبين نفسي أبياتا حماسية من الشعر ،اقام بتحفيظها لنا مدرس الخط العربي ،الخطاط الشهير طيب الذكر "الستاذ حسام اشتريه" ،الذي كان يحرص أثناء حصة الخط على أن يعلمنا أشياء أخرى كثيرة عن المثل العليا والصدق والوفاء وحب الوطن .كان أستاذنا شديد الولع بالشعر والموسيقى ،ل يفتأ يستظهرأمامنا اقصائد حماسية بأسلوبه الذي كان يستهوينا ويبهرنا، ومنها اقصيدة إسمها "حطين". 73
تخيلت نفسي وأنا أعبرعن ترحيبي بالبطل وأشد انتباه الجميع بينما أنا ألوح بيدي التي تحمل "العلم العربي"* ،وأردد بأعلى صوتي ماكنت اقد حفظته من أبيات القصيدة: .. .. .. .. .. هاتي "صلح الدين" ثانية فينا وجددي حطرين ..أو شبه حطرينا تير ت ي أسود الغاب تمخر في الغوار جحافل تنساب كالعارض المدرار! ** لكن صوتي خرج على شكل آهة متحشرجة لم يسمعها أحد غيري. فلقد رأيت "حربي". ولم يغمض لي في تلك الليلة جفن. شعرت أمي بأن شيئا ما اقد ألم بي .هرعت تتفقدني وتتحسس كعادتها جبيني ووجهي. عندها أحسـس ُ ت بكفها المبتل بدموعي. وما كادت تتساءل عما يوجعني ،حتى انفلت بكائي المكتوم بصوت عال .وهيهات أن أستطيع أن أصوغ إجابة على تسؤلت أمي. في اليام التالية ،كنا نرى رجل اقصيرالقامة ،محدودب الظهر ،يكاد المرء ل يرى عينيه الغاراقتين في وجهه من تحت حاجبين خفيفين تكاد ل تراهما أيضا ،يخرج من دار "أبوخضر" ليأخذ مكانه على أحد كراسي "اقهوة الباسطي" المصفوفة على الرصيف. يجلس وحيدا صامتا ل تدري في أي اتجاه ينظر. ____________________________________________________________ )*( "العلم العربي" هو الرسم الدارج في حينها لما هو معروف الن بالـ "العلم الفلسطيني" )**( البيات من قصيدة "حطين" الشهيرة للشاعرالسوري"ـخيرالدين الزركلي" .
أما "سعيد خضر" فلم نعد نراه في حارتنا إل مطأطيء الرأس ،على عجلة من أمره .ذلك عندما ترسله والدته في مهمة لجدته "إم خضر". يحاذرأن يراه "سعيد الب" ،المشاكس الذي دأب على أن يبادره ساخرا: 74
إيش طابخين دار سيدك اليوم؟فيرد عليه أخوه "خميس" ،بأداء مسرحي ممطوط موغل في السخرية: "طـــــــاجن" ميــــــــجر!وينفجر بقية الاقران مقهقهين .وأشاركهم أنا الضحك إلى أن تمتلئ عيناي بالدموع. *
*
*
لم يعد خافيا على أحد أن الـ"صاجن ميجر حربي" ما كان سوى ذلك العامل المسكين الذي احدودب ظهره من أثرالنحناء خلل خدمته الطويلة عامل في أحد مطابخ أحد معسكرات الجيش النجليزي المحتل. كان ذلك في عام .48 *
75
*
*
الليــــــــــلة الحزينـــــــــــه
في ليلة ،15/5/48 -14الموعد الرسمي لنسحاب اقوات النتداب البريطانية ،تم إعلن دولة إسرائيل ،وشهدت القدس القديمة ليلة حالكة السواد. وأما أكثر لياليها سوادا فقد كانت ليلة الثلثاء ،18/5/48حيث كانت تجري محاولت جادة ،جنونية ،يائسة ،لحتللها من اقبل العصابات اليهودية ،اقبل وصول طلئع "الجيش العربي" ،وحيث دافع أهالي القدس ،المحدودي التسليح ،عن البلدة دفاعا باسل مستميتا. 76
كانت الجيوش العربية اقد بدأت زحفها .وكان الجيش العربي الردني ،جيش "أبوحنيك" ،الجنرال النجليزي"جلوب باشا"، يزحف نحو القدس الشراقية وبلدتها القديمة. لن تغيب تلك الليلة عن بالي .مازلت أسمع تلك النداءات من خلل صوت زخات رصاص مختلف السلحة ،التي كنا ،نحن الصغار، نتبارى في التعرف عليها ،مع تحديد مصادرها ،من أصواتها .هذا صوت "تبلرتن" ..وهذا صوت "فيكرز" ..وذاك صوت "تستلتن" .. وتلك هي "المرتينه" اللمانيه أو الفرنساويه ..أو ..أو.. ويتخلل هذا وذاك أصوات إنفجارات ،اقريبة وبعيدة وما بينهما، لقذائف مختلف المدافع"..مورتر" ..و"سالبند" ..و"هاون" ..أو .. لم ولن تنمحي تفاصيل تلك الليلة من ذاكرتي .ما زلت أسمع من خلل تلك الصوات أصواتا أخرى كانت تتردد في حارات البلدة و تنادي بنداءات تنفطر لها القلوب: يا ناس ..ياعالم ..منشان أل..اللي عنده سلح..اللي عنده "باروده" يطلع على "السور"! النجده يا شباب ..النجده يارجال! اليهود اقرربوا يدخلوا البلد! لم تنقطع تلك النداءات طوال الليل .وتحولت في أواخره إلى توسلت يائسة تصيب السامعين باليأس والهلع: يا أهل ا ..منشان أل ..بجاه النبيا ..اللي عنده "فشك" ..إنشال "فشكه" واحده ..يعطيها للي ماعندوش..الشباب ذخيرتهم اقربت تخلص..والمعركه دايره في باب العامود بالسلح البيض! كانت المعارك تدور حول أسوار البلدة القديمة ،حيث اشتد حصارها والهجوم عليها من الخارج ،وفي داخلها أيضا ،حيث كانت "حارة القديمة المحاصرة. 77
لم يكن أمام المواطن العربي في القدس سوى المقاومة ..المقاومة بأبسط معانيها..المقاومة بدون تفسير ول تبرير ..ول "أدلجة".. الدفاع عن النفس وعن الكرامة وعن الرض والعرض. أن تكون أو ل تكون. واقد كان ما كان! *
*
*
"البــــــــاروده"..
كان ل بد لتلك اليام العصيبة أن تفرز وتكشف عن جوهر الناس، فلسنا كلنا ملئكة. كان "سامي" ،أحد أبناء "أبوعارف الباسطي" ،جارنا ،اقد تطوع في العام السابق أوالسبق في حرس الحدود النجليزي و ،كما كانوا يقولون" ،للب ت س بوليس إضافي" .ثم تمكن من الهروب من الخدمة هو و"الباروده" النجليزيه ،الجديده لنج ،عندما تأكد من موعد انتهاء النتداب البريطاني ،لكي ينضم إلى "المجاهدين" ،كما فعل الكثيرون. وأصبح "سامي" ،بعد خروج النجليز ،دائم الظهور والستعراض بكامل لباسه وعتاده العسكري. نراه ،من شباك دارنا المطل على الحوش ،وهو يذرع الطريق من البيت للقهوة ومن القهوة للبيت. 78
ثم تبين أن لـ"سامي" في البارودة النجليزية مآرب أخرى .فقد رأته أمي ،من شباكنا المطل على الحوش ،أكثر من مرة ،وهو يساوم بعض الغرباءعلى ثمن البنداقيه .ثم أاقلع عن محاولته تلك ،كما أاقلع عن إستعراضاته ،وتوارى عن النظار ،عندما احتدم القتال واشتد الحصار. وفي تلك الليلة الحزينة ،كان المنادي يتعمد الاقتراب من الحوش ليحث "سامي"على الخروج واللتحاق بالشباب المدافع عن القدس القديمة ،من أعالى السور .فقد كانت أخبارالبارودة النجليزية اقد انتشرت وتجاوزت حوش آل خرمنده .لكن ،ما من مجيب. في صبيحة اليوم الخير ،يوم الثلثاء ،18/5/48اقبيل وصول طلئع الجيش العربي الردني ،تمكن "خميس" ،أخوه الصغر ،من أن يغافل جميع من في البيت ،ويسرق البارودة. لكن أمه ،التي شعرت به وأدركته وهو يشرع في الهروب بها لللتحاق بالشباب ،أطلقت عقيرتها تصيح وتولول من الشباك المطل على الشارع والمقهى لكي يلحق "أبو عارف" وإخوته بالصبي اقبل أن يضيع )!( اندفع أهل الحارة إلى الحوش يحاولون احتواء الصبي المتأجج حماسا .واستطاع المعلم "أبوالعز" ،القهوجي ،أن يفوز في هذه المعمعة بالبارودة الجديدة التي تتميزعن كل بواريد الخرين، وينطلق بها إلى سور "باب العمود" .فلقد جاءته الفرصة التي كان يتمناها لكي يشارك في الدفاع عن القدس التي اشتد حصارها. أما "سامي" ،فلم يجرمؤ حتى على تخطي عتبة البيت ،لشدة حرجه. وفي نفس اليوم ،تم دخول اقوات الجيش العربي الردني إلى القدس، وتمركزوا في ضاحية "راس العمود" المشرفة على القدس القديمة استعدادا لدخولها في اليوم التالي(**) . ولم أعرف بعد ذلك كيف انتهت المشكلة التي نشأت بين ابن جيراننا "سامي" ،البوليس الضافي الهارب ببنداقيته ،وبين "أبوالعز" الذي اضطر لتسليم البنداقية إلى اقيادة الجيش العربي ،حسب الوامرالتي شاعت عن نزع سلح الهالي. 79
أما "حميدان" ،أحدث سكان الحوش ،الذي انتقل مؤخرا من اقريته "بستير" ليسكن بالقرب من"إم خضر" ،بلدياته ،مع ابنته الصغيرة و زوجته "يسرى" التي تصغره بسنوات كثيرة ،بحثا عن المان لهما ،فلم يكن يبخل بنفسه بل كان دائما أول الملبين للصيحات التي تطلب "النجدة" لي ضاحية من ضواحي القدس ،في أي واقت من أواقات الليل أو النهار .فكنا نسمعه يردد "مونولوجه" الشهير، بلسانه اللثغ ،الذي يلفظ الراء واللم يارء ،بينما هو يحمل بارودته العثمانلية العتيقة البالغة الطول مثله: ___ __________________________ __________ _____________________ )* *( وكما يقول "إرسحق رابين" في مذكراته ":وبعد معارك شررسة طاحنة ،ارستمرت عشرة أيام، ارستسلم موشي روزنك ،قائد "الهاغاناه" في القدس ،في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة 28أيارعام ،48ومعه 1500من رسكان الحي ،وتم أرسر 340جنديا كانوا مندرسين بينهم .وبهذا انتهت أهم معركة ـخاضها الفيلق الردني في هذه الحرب ،قتل فيها 300يهودي منهم 136 من "الرجون" وجرح " 80
-
..يا " ُيستيا " ..أنا ياليح ..دييي باليك عتي بلنل ت ت ..يمكن ما إيجعش**!
بعدأاقل من شهرجاءنا ،إلى غزة ،ما يفيد بأن "سامي" اقد استشهد. لكن والدي ووالدتي وأخي ،الذين لحقوا بنا بعدها بأيام ،أكدوا لنا أن "سامي" ذهب إلى "المستوصف" ليخلع طاحونته ،وفي اليوم التالي مات في فراشه. وعندما سألت أخي عن "حميدان" ،الذي كنت أكن له تقديرا وإعجابا، اقال بأسى بالغ: ..ترك زوجته "يسرى" بعد أن أوصاها أن "تدير بالها" ع البنتفي أحد اليام ..و"رايح" كعادته ..ولم "يرجع"! أحزنني الخبر .فمازلت أذكر "حميدان" يوم أن هرع ليلتحق بإحدى "النجدات" المتجهة إلى ضاحية تتعرض لهجوم صهيوني ،بملبسه الريفية الداخلية ،في عز البرد. *
* 80
*
________________________________________________ )**( ..يا يسرى ..أنا رايح ..ديري بالك عالبنت ..يمكن ما أرجعش !
81
"الخــــــــــــــــــــروج"!
شهدت خروج اليهود الذين أبلى اقناصتهم أي بلء في اصطياد نساء البلدة اللواتي كن يجرمؤن على نشر غسيلهن أو جمعه عن الحبال، كعادتهن،على سطوح المنازل ،وفي اقنص أطفال البلدة الذين كانوا يسعون إلى آبار ساحة الحرم الشريف لجلب الماء لبيوتهم .وكان ابن الجيران "علي" ،ابن السبعة أعوام ،أحدهم. واقفت إلى جانب أبيي ،بين جموع الهـالي المتراصــين علــى جــانبي طريـق ال واد ،ذلـك الج زء مـن طريـق اللم ،أراق ب أس رى"ح ارة اليهود"وهم يغادرون البلــدة القديمــة ،تحــت حراســة جنــود الجيــش العربي. وعادت إلى ذاكرتي الصور التي كانت تتراءى لي عندما يقوم مدرس التاريخ بالحديث عن سبي "نبوخذ ن ر صر" لليهود. ترى ..هل كان "نبوخذ ن ر صر"على حق فيما فعل؟ هل كان "اقناصوهم" يتسلون بتصويب السهام على أكف النساء إن تطاولت للوصول لحبال نشر الغسيل على سطوح المنازل؟ هل اقتل اليهود ،أيضا ،في ذلك الواقت أطفال في سن "علـي" ..ذو السبعة أعوام؟ لم أدرك ،في تلك اللحظة من ذلك اليوم ،سبب إصرار والدي على الواقوف طويل حتى يمر آخر يهودي في طابورالسرى من أمامنا. 82
لكني في المساء ،سمعته يتحدث إلى أمي عن صديقه القديم "بو داود" الذي لم يمر من أمامه ،وعن الحتمال الوحيد لعدم مروره. اقلما رأيت والدي حزينا مثلما رأيته في ذلك اليوم. *
83
*
*
حمار "فارس" ذات صباح باكر ،والشمس ترسل أوائل خيوطها الذهبية لتبدد عتمه"باب السباط" ،البوابة الشراقية لسور القدس القديمة ،كنت أتقف هناك أنا وأخي "عابد" ووالدي بانتظار اليحبمار الشاب"فارس"، إبن جارتنا "إم فارس". لم يطل النتظار .وسرعان ما لوحنا لوالدنا مودعين. كنت ،في حينها ،أظن أني أودع القدس لمدة أسبوع أو أسبوعين، ريثما ينظف الجيش العربي المنطقة كلها من دنس الصهاينة ،كما كانوا يشيعون. وتناوبـنا صهوة الحمار ،بينما كان الحرمار الشاب ل يكف عن لسع مؤخرته بخيزرانته ،في الطريق الجبلي الملتف الوعر وصول إلى "بيت لحم" .فقد كانت "العصابات الصهيونية" اقد اقطعت واستولت على الطريق الرئيسي. *
*
*
هناك في حياتنا لحظات ندرك فيها معاني الكلمات أو الصطلحات بدون جهد ،حيث نراها مجسدة ،فتنحفر في ذاكرتنا إلى البد،على شكل موسوعة "حاسوبية" ،نسبة إلى " الحاسوب" ،وهوذلك الكائن العجيب المجيب"..الكومبيوتر" .ما تكاد تضغط على أحد أزراره حتى تنهمرالمعلومات على شاشته بوضوح! بعضها على شكل كلمات ،وبعضهاعلى شكل صور ثابتة ،والبعض الخر في صور متحركة ،وربما ناطقه أيضا. ألسنا ،بل عجب ،نعيش الن في عصر الـ "مالتي ميديا"؟ "حــــــرون" الحمار: مثال ذلك ُ صورة حمار تصنع اقوائمه الربعة مع الرض زوايا حادة ،راقبته مشدودة بالبريسن ،رأسه منكسة بعناد ،ومنخراه يقتربان من أديم 84
الرض بينما ينطلق منهما ،على دفعات متقاربة ،مخروطان من الهواء يثيران عواصف من التراب .وهو) اللحمار( يتشبث بالرض، ويأبى أن يتزحزح اقيد أنملة ،بالرغم من السياط الموجعة ،إل بعد استعمال مختلف الحيل ،التي يعرفها صاحبه "اليحبمار" ،بحكم تجربته مع أمثاله من الحميرالغرار. في ذلك الواقت كنت أفسر ذلك العصيان بالعجزعن مواصلة السير في الطريق الوعرالهابط الصاعد .لكنني ،بعد ذلك ،وكلما عادت تلك الصورة إلى مخيلتي ،ازددت يقينا بأن الـ"حمار" كان "يتشبث" بالرض ،ويأبى ،ببساطة ،أن يترك "موطنه الصلي" الذي ولد ونشأ فيه وينتمي إليه. أتيحت لي في صباي المبكر ،اقبل الهجرة ،وبشكل تلقائي عابر، بفضل خالتي "آمنه" ،الفنانة التشكيلية ،ممارسة أشكال من الفنون، فيماعدا فن"النحت" الذي كانت تشدني وتبهرني"تماثيــــله" كلما مررت بكنائس وأديرة القدس القديمة .وكم تمنيت ،في صباي، بعدالهجرة ،لو تمكنت من هذا الفن وأدواته .ولم تتواقف أمنتياتي عند هذا الحد ،بل حاولت ،وعندما باءت محاولتي بالفشل ،تخيلت نفسي واقد صنعت تمثال ليوضع على اقاعدة مرتفعة في ميدان "باب العمود" في القدس .تمثال ضخما لذلك "الحمار" ،في تلك اللحظة، لحظة حرونه وإصراره على الرفض ،ولم أستطع كبح جماح خيالي الذي أخذ يزين ميادين مختلف المدن والقرى ،في كل مكان ،بذلك التمثال الذي يجسد حمار "فارس". وبمرورالسنوات ،عندما كبرت ونمى في رأسي ،كما يفترض ،شيء يسمونه الوعي ،تخليت عن أحلم التماثيل هذه خصوصا بعد أن اقرأت اقول برناردشو: "تصنع المم تماثيل كبيرة للشياء التي تفتقدها أكثر". صرت أبحث عن أشياء نفتقدها أكثر من حمار "فارس". ل أستطيع أن أتذكر تاريخ ذلك اليوم ،يوم الهجرة من القدس، بالضبط .ولم يعدأمامي سوى التخمين .ولم يكن ذلك ،على أي حال، إل بعد انتهاء السنة الدراسية بأيام معدوده .ربما في شهريونيـو من 85
عام .48فمازلت أذكر اقيظ الرحله .ومن بعدها اقيظ "غزه" الشهير، الذي استقبلتنا به ،والذي عرفته اقبل ذلك في أشُهر الجازات الصيفيه. بل أذكرأننا غادرنا القدس أثناء الهدنة الولى التي فرضتها المم المتحدة .ويمكن التداقيق في تاريخ بدايتها ونهايتها*. بالضافة إلى اقصة حمار إبن "أبو فارس" اليحرون ،التي لم تنته بعد ،هناك ذلك المشهد الذي ظل يحتل جزءا من ذاكرتي ،والذي أكاد أراه بكل تفاصيله كلما تداعت أمامي ذكريات الهجرة. كنت فيما مضى أرى المصريين وأسمع لهجتهم المحببة بلسان جارتنا "إم سماعين" وفي الفلم السينمائية فقط .ولكنني على يقين من أن "المشهد" الذي يتراءى لي الن اقد حدث بالفعل. لم نكن بعد اقد اقطعنا سوى بضعة كيلومترات ،في طريقنا جنوبا إلى مدينة "بيت لحم" ،عندما استواقفنا جنود يتحدثون اللهجة المصرية، طالبين منا أن نساعدهم ،مع بعض الذين اقاموا باحتجازهم من القرويين ،في حفرالخنادق ،وتعبئة أكياس الستحكامات بالتراب. وهيهات أن يسمح الجنود المصريون لنا بمواصلة السير .هذا بالرغم من ادعاء أخي بأن الولد ،أنا ،مريض وأنه يجب أن يسارع في توصيله إلى "بيت لحم" ،وبالرغم من أدائي المتقن لدور المريض. وهنا ينبري اليحرمار الشهم لنقاذنا بأن يتطوع بالبقاء معهم للقيام بالمهمة المطلوبة مقابل أن يتركوا أخي ليواصل الرحله معي ،على أن يعود بالحماربعد أن يودعني عند أاقارب لنا هناك في "بيت لحم". وبعد أاقل من نصف ساعة كان الحبمار اقد غافل الجنود ،وفر منهم هاربا ،ليلحق بنا. وهكذا اقدر لي أن أكون شاهد عيان لحد الحقائق التاريخيه. الجيش المصري على مشارف القدس الجنوبيه. عجبت ،في حينها ،لمر هذه الجيوش .وتساءلت: ____________________________________________ )*( أعلنت الهدنه الولى في ، 1948 /11/6ولمدة 28يوما
ما الذي أتى بهم إلى تلك البقعه؟ هل ضلوا طريقهم؟ أم أنهم وصلوها حسب خطة مرسومه؟! 86
ثم يأتي مشهد النهاية. فقبيل وصولنا إلى مشارف مدينة "بيت لحم" ،فوجئنا بالحمار يسقط على الرض إعياء وعبثا حاول الحيريمار "،فارس" ،مساعدته على النهوض ثانية. لم يلبث جارنا "فارس" أن رأى أن يلجأ لتخفيف الحمل بأن يفك وثاق الحقيبة والبردعة عن ظهر الحمار .ولم يكد يفعل ذلك حتى اقفز الخير ،مثل الجندب ،وفرر هاربا في إتجاه الشمال..عائدا من حيث أتينا )!( ألم يستحق ذلك )الحمار( تمثال يخلد عبقريته؟ *
*
*
من مدينة "بيت لحم" ،التي عانينا الوصول إليها مشيا على الاقدام، ركبنا الـ "باص" إلى مدينة الخليل ،ومنها واصلنا سفرنا إلى"غزة". أودعني أخي في بيت عمي"غزال" ،في غزه ،حيث سبقتني شقيقاتي، وعاد إلى القدس. *
*
"غازي"..
87
*
عمي "غزال" ،وهذا هو لقبه الذي طغى على إسمه الحقيقي الذي لم نعد نذكره ،هوثالث أعمامي الثلثه .يقال أنه كان ،منذ طفولته، "شقيا" خفيف الظل ،رشيقا خفيف الحركة ،عنيدا لدرجة أنه لم يكن ليتحمل طاعة شيخ الكرتاب الذي كان كثيرا ما يعريره بأخيه "يوسف"، والدي ،الصغر منه سنا ،والذي كاد أن يحفظ القرآن كله في سن مبكره. وعندما يئس منه جدي ألحقه بالعمل معه في محل تجارة الحبوب. وكان ما أسعده عندما خصص له جدي حمارا لينقل على ظهره الشولة لـتسليمها لبائعي الحبوب في دكاكينهم. وماهي إلبضع سنوات حتى استقل عمي"غزال" ،بحماره الرهوان، عن أبيه وإخوته .هذا بالضافة إلى الدونم الذي كتبه له أبوه في منطقة "الرمال" الممتدة بين مدينة غزة وبحرها .وأعقب ذلك تلك الحركةالنفصالية التي جرت في أسرة الحاج عبدالرحمن ،جدي لبي ،والتي كانت نتيجة لبلوغ جدي سنا لتسمح له بمواصلة العمل، ولذهاب والدي إلى "الجهاديه" ،وانتقال عمي الكبر"خليل" إلى يافا، المدينة التي تتناسب مع إمكانياته الكبيرة كتاجر حبوب له وزنه، وجنوح "عمي أحمد" وانحرافه ،من بين إخوته الذين يصغرهم بسنوات ،نحوالتعليم في الكلية العربية في القدس ،ومن ثم في الجامعة الميريكية في بيروت )!( ثم هجرة والدي إلى القدس ،بعد أن عاد من "الـيُُستر" ،وتزوج حبيبة اقلبه ،أمي ،التي ظلت تتوارى عن الُخ ر طاب طوال المدة التي اقضاها في الجهادية ومن ثم المدة التي اقضاها أسيرا في الحجاز. ولقدعرفت عمي "غزال" ،اقبل الهجرة ،في زياراتنا الصيفية السابقة إلى"غزه" .وهو يسكن في بيت متعدد الحجرات ،بنيت بشكل عشوائي في أحد زوايا الدونم .إل أن البيت لم يكن يخلو من الطرافة في تكوينه .فقد كان أشبه ما يكون بالشاليهات السياحية ،محاطا بكل أنواع الزهور وأشجارالفاكهة. وكانت لعمي زوجة بيضاء سمينة رجراجة ،خفيفة الحركة ،ذات خدود دائمة الحمرة وأسنان ضحوكة ناصعة البياض ،ولتكنة نابلسية. 88
كانوا ينادونها بإسم عزيزإلى نفسي" ،إم العابد" ،أمي .ذلك بالرغم من أنها لم ترزق ل بـ"عابد" ول بغيره. دأبت امرأة عمي على أن تتنقل برشااقة ،ل تتناسب مع شحومها المكدسة على أردافها ،بين أشجارالجوافه والكلمنتينا والبوملي والخوخ واللوز ،ودوالي العنب التي تغطي "العريشة" ،أهم معالم الدار ،والتي كان يحلو لعمي"غزال" اقضاء أواقات العصر تحتها مع أنفاس الرجيله ،ثم تخصني بالجزء الكبر من الحصيلة وهي تقول في جرعات متدفقة من طيبة وحنان لم تتضاءل على مر اليام: ..كل يا روحي ..كول يا "غازي"!كانت تصرعلى مناداتي بإسم "غازي" ،وهواسم اقديم لي. فعندما ولدت ،كان لتلك السماء الملكية..غازي ..وفيصل..و فاروق ..رواج وأي رواج .بحيث أصرت والدتي على مجاراة الموضة .ومثلما اختارت جارتنا لوليدها إسم "فاروق" ،والجارة الخرى إسم "فيصل" ،فقد اختارت لي أمي إسم "غازي" الذي لم يعجب والدي لقناعته بأن الملوك مكروهون بدليل اقوله تعالى "إن الملوك إذا دخلوا اقرية أهلكوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة" ،ولسبب تاريخي يتعلق بالفترة التي اقضاها في الجيش التركي ،أيام "السفر برلك" ،وأيام "اليُُستر" ،السر ،في الحجاز .فقد كان الملك غازي ملك العراق السبق ،في نظر والدي" ،لخلرتع". وعندما بلغت السادسة من عمري ،أخذني والدي إلى مدرسة "المصراره" البتدائية للقيام بإجراءات التسجيل .هذا بالرغم من صراخي الرافض ،وتوسلت أمي بالتأجيل للسنة القادمة ،لني ،كما كانت تكرر "للرساته زغيرعالمدراس". وهناك ،في المدرسة ،عرفت لول مرة أن اسمي ،كماهو مسجل في شهادة ميلدي ،هو"غالب". كما اكتشفت أن عمري اقد أصبح سبع سنوات ،وليس سته. فلقد كان والدي اقد اختار لي هذا السم وسجلني به في اقيد النفوس وشهادة الميلد ،ولم يشأ أن تتسبب إشاعة ذلك في مساءلت والدتي التي كانت سعيدة باسم "غازي" أريما سعاده .لقد كان يهيم بها حبا، 89
ولم يستكثرعليها أن تتمتع بالسم الذي اختارته لمدة الست سنوات. ولكل حادث حديث ،كما كان يقول في كثير من المناسبات. الغريب أن والدي لم يخطيء يوما بمناداتي بإسمي الذي اختاره لي. كما أنني لم أسمعه يناديني يوما بالسم الخر الذي اختارته لي أمي. لكنه استعاض عن هذا وذاك بألقاب كان يخلعها علي كان آخرها.. "غاندي" .وكان ضمور جسمي هو وجه الشبه بيني وبين خالد الذكر، الذي سمعت عنه الكثير في طفولتي المبكره .كما كنت مغرما باستعراض اقدرتي على شفط بطني بحيث يكاد يلتصق بظهري ،و بالجلوس متربعا ،فيما يشبه وضع اليوجا المشهور ،كما كان يفعل الحاوي السيماوي الذي أتوا به لمدرستنا ليخرج لنا من عربه صيصانا ويأكل النار بالشوكة. وظل والدي يداعبني بهذا اللقب حتى بعد انكشاف أمر إسمي الجديد. ولم يكن ذلك بسبب بنيتي الضعيفة فحسب ،بل لنني كنت معرضا عن أكل كل أنواع الطبيخ ،فيماعدا شوربة العدس ،التي لم أكن أتردد في تناولها والمطالبة بها ..يوميا. ولقد أدى ذلك كله إلى تعااقب اللقاب التي كان يناديني بها والدي .. "غاندي" و "..أبوالعدس". أما تفاصيل حكاية عمري الذي زاد سنة بأكملها ،فهي تتلخص في وجهة نظر والدي التي كان يفسرها بأنه ل داعي للنتظار لمدة سنة كاملة بينما هوعلى يقين أنني بلغت من النضوج والنباهة مما يمكرنني من دخولي المدرسة البتدائية وانا بعد في السنة السادسة من عمري بدل من السابعة .فقد كان والدي يعمل في بلدية القدس ،ولم يكن ذلك "التحايل" بعيدا عن مناله. كان والدي يردد دائما أنها الكذبة الوحيدة في حياته .وكانت المرة الولى التي أسمع فيها عن "الكذبة البيضاء" . *
90
*
*
"حمـــوده َحْلحــــ َْل"!..
اقلت أن دخولي المدرسة البتدائية جاء اقبل أوانه بسنة .وأذكر أني اقابلت هذا التعنت في حقي بمختلف صورالرفض .منها التمارض، الذي ساهم كما يبدو في خلق أو تنمية موهبة التمثيل ،أو لنقل ،موهبة التقليد عندي .فذلك هو الاقرب لما تميزت به طفولتي. 91
ومن مظاهر ذلك الرفض ،كان تزويغي من المدرسة والعودة ،بدون مبررمقنع ،إلى البيت في أي واقت من أواقات اليوم المدرسي ،حيث تقوم أمي بالتنبيه والحرص على البقاء في البيت ،تسترا وخوفا من أن يراني أحد الجيران فـ"يفتن" لبي. كنت أرضى عندها بأن أُحبس في وسط الدار .أركض وألهو منفردا كما شاء لي اللهو .تشجيني أصوات العصافيرالتي تطير بحرية في أسراب غفيرة ثم تحط على شجرة الفلفل الضخمة الشاهقة ،جذعها في ساحة مدرسة البنات البتدائية "المدرسةالعييللورية" المجاورة لنا وفروعها تطل من علل على وسط الدار ،ويمتعني صوت بنات المدرسة وهن يلهون وينشدن الغاني في الساحة"..طليع البدُرعلينا ،"..أو تصدح أصواتهن المرتفعة ،بعد أن يرن الجرس معلنا بداية اليوم الدراسي ،بكلمات ذلك النشيد الصباحي الذي يذكرني دائما بـ"إم خضر" بما فيه من اقوة وشجن"..موطني.. موطني". أو يرددن ،بعد ذلك ،في حصة القراءة ،بصوت واحد ما تلقنه لهم المعلمة من "كتاب القراءة" في الصف.. دار ..دور .. دور ..دار .. دار ..دور .. كنت أمرح وأركض بشكل ملفت بحيث كانت أمي تسترق من واقتها هنيهات تكرسها للعناية بي ،بشكل استثنائي نادر ،فأذوق أنا طعما جديدا للسعادة .ثم تكرر ،بينما هي تنشسط بنشرالغسيل على الحبال المشدودة في وسط الدار ،سؤالها بدون أن تنظر إليي: " ..إنت ما ُدختش لرسه يا بنريي؟"وتنهرني بلهجتها المشوبة بآثار من اللهجة الغزاوية" ..لكتن يا بتينيي.. لكتن!" غالبا ما كنت أستمر بصخبي ول "ألكن" إل بعد أن"أدوخ" أو أكاد. 92
أستلقي على اقرص الدرج المؤدي إلى"العلريه"،الغرفة الفواقانية الشهيرة بغرفة"عابد" ،للتقط أنفاسي وأنا أتابع بعينري أسراب الحمام وطيور السنونو وهي تحلق في الجو .تغوص ثم تصعد في الفضاء بتشكيلت تسحرك .وتملني الدهشة وأنا أرااقب حركة الغيوم وهي تتآلف وتتفرق ثم تتداخل ،فأرى فيها صورا أشبه بالتنين والديناصور والدببة وأنواع الطيور ،أو أرى وجوها عابسة متجهمة ،أو ضاحكة ،أو تشبه أناسا أعرفهم. وتبهرني الرسومات التي تتراوح ألوانها بين البيض والسود المشبع بزراقة السماء ،أو التماثيل ذات البعاد الثلثة طول وعرضا وعمقا وهي تتعااقب وتتبدل أشكالها. وتشدني أشعة الشمس وهي تتسلل من ثقوب في الغيمات فتصل إلى بلطات وسط الدارالحجرية ،ثم سرعان ما تختفي لختفاء الشمس وراءغيمة داكنة تمشي متباطئة كأنها تستعرض اقدرتها وجبروتها .وأنا أنتظربل كلل ول ملل .وأعتبر نفسي اقد انتصرت على الغيمة السوداء عندما تنقشع ويعود نور الشمس ليمل وسط الدار مرة أخرى ساطعا منيرا يمل النفس بهجة. وكــثيرا ماكــانت الســحب،وهــي تتشــكل فــي الســماء ،تــذكري بخــالتي "آمنه" .فأتخيل ريشة خفيــة بيــد ســحرية غيــر مرئيــة تفعــل علــى أديــم السماء الزراقاء ما كانت تفعلــه ريشــتها علــى اقماشــة لوحاتهــا البيضــاء المشدودة على إطار خشبي. أو تذهلني تلك الخيوط اللمعة المتكسرة التي تبرق وهي تشطرالغيمات ،ثم يتبع ذلك أصوات هدير الرعد التي لم تكن ترعبك بقدر ما كانت تدفعك إلى التأمل و تثير في نفسك التسامؤل حول كينونتها ،بالرغم من محاولة أخيك"عابد" مرة لتبديد حيرتك ،متسلحا بما عرفه في "علم الطبيعة" عن التفاوت الكبير بين سرعة وصول الصوت إلى آذاننا وبين سرعة وصول الضوء إلى عيوننا .هذا بينما كان انطلاقهما متزامنا. أتساءل أحيانا ،هل كان هروبي من المدرسة هو تعبيرعن رفضي للشعور بالقهر والظلم واستلب الحرية ،التي كنت أرى أاقراني 93
يتمتعون بها في الحاره .خصوصا واقد سمعت والدتي ،منذ البداية، وهي تتوسل إلى والدي ،أكثر من مرة ،لرجاء دخولي المدرسة للسنة القادمة؟ هل كان سبب نفوري من المدرسة هو ذلك التشابه المفروض، والطاعة العمياء .الكل حليق الرأس .الكل ينصاع بل تردد .الكل صامت .أو يردد ما يقوله الستاذ .الكل صف واحد ل أحد يحيد عنه. الكل خائف .ما إن تقترب منه "مسطرة" الستاذ حتى يفتح يديه الثنتين اقبل أن يؤمر بذلك. أم ترى كان عزوفي عنها وهروبي منها ما هو إل تعــبيرعن إحساســي المتزايد بالوحدة في تلك الدار الوسيعة ،حيث دأبــت شــقيقاتي الربعــة على ال نشغال عني بأمورهن ،بينما تنشغل أمي بتوفير أسباب الراحــة لهن ،وحيث يغيب أبي حتى في حضــوره ،وكــذلك أخــي الــذي يتزايــد اغترابه كلما "تر ربفع" إلى سنة ثانوية أخــرى .وكــل ذلــك كــان يــدفعني إلى التشبث بالدار ،في واقــت يتغيــب فيــه الجميــع عنهــا ،أاقتنــص تلــك السويعات التي تكون فيهــا أمــي لـي وحــدي ،حيـث تقتطــع مــن واقتهــا المزدحم ما يكفي لتمنحني الهتمام الذي كنت أفتقــده ،والمشــاعر الــتي من شأنها أن تغذي وتشبع حاجاتي النفســية .فأســبح عندئــذ فــي عينيهــا وأغرق في حنانها. كم كان يطيب لي أن أختــبيء لكــي تنعــم بحضــنها وبشــعوري العــارم بالسعادة وهي تضمني بينما أنا أستنشق رائحـة صـدرها ،وأس تمع إل ى داقات اقلبها عندما تعثر علي بعد أن يعتريها القلق. نعم ،كان لنشأتي بيــن أخــواتي ،البنــات ،وإحساســي المســتديم بالوحــدة بينهــن ،أكــبرالثر فــي عنــادي وإحساســي بالوحــدة ،وازديــاد لءاتــي. وغالبا ما كان رفضي يجيء هكذا بدون مبررات أو أعذار .وهنا ،كان ل بد من أن يتصرف أحد أفراد السرة .فكنت ،في مثل هذه الحــالت، أُنقل إلــى المدرســة محمــول ،باكيـا ،ل أكــن ول أذعــن إل عنــدما أجــد نفســي واقــد أصــبحت فــي عهــدة أحــد المدرســين ،أو مديرالمدرســة شخصيا. 94
تناوب في أداء مهمة التحايل لزجي في سجن المدرسة جميع أفراد السرة ،باستثناء والدك الذي لم يجرمؤ أحد أن يشكو إليه حالتي هذه .بل وكثيرا ما تطوع واحد من الصداقاء أو الجيران لممارسة هذا التعذيب في. أحدهم كان "حموده" ،إبن"أبو عارف" .ذلك الشاب متعدد المواهب والقدرات ،الذي استطاع ،بالرغم من أنه ترك المدرسة منذ طفولته ليساعد والده في خدمة زبائن القهوة وهو "يا دوبك يفك الخط" ،أن يتنقل بين مختلف الحرف .واشتهر "حموده" بأنه أبو السبع صنايع. كان يتمتع بشيء من حسن المنظر ،وكثير من الذكاء .وكان يشعر بتميزه عن إخوته ،وعن أهل الحارة أيضا ،بالعلاقة الطيبة التي كانت تربطه بأخيي "عابد"" ،المتعرلم" ،الذي يقاربه في العمر، فيعطيه ذلك إحساسا بالثقة بالنفس ،ينطبع على سلوكه ،فيبدو اقانعا متباهيا سعيدا .يمشي في الرض مرحا وهو يدندن .وكثيرا ما كان المعلم"أبوالعز" يمازحه بلقب "حموده حلحل" ،نظرا لـ"إنحلل وسطه" وهو يتمايل على ألحان راديو أو جراموفون المقهى الشهير .أوعندما كان يردد مغنيا "حمــــوده فايت يا بنت الجيران"، بينما هي" ،زكيه" بنت الجيران ،تحاول أن تتوارى وراء نافذتها بعد أن تعمدت الظهور ،وتظاهرت ،أو افتعلت المصادفة. *
*
*
كن ُ ت أفرح كل الفرح ،وياللمفاراقة ،عندما يبادر"حموده" بتنفيذ طلب والدتي بتوصيلي إلى مدرسة المصراره ،لنه كان ل يكف ،طوال الطريق،عن الحديث عن حديقة الحيوانات التي تقع في مستوطنة "ميا شعاريم" اليهودية التي تلي مواقع المدرسة شمال ،وعن وعوده لي باصطحابي لزيارتها ،وعن ترديد أغنية ليلى مراد "يا أوتوموبيل يا جميل ما حلك!" ،التي كان يطلق عقيرته بها وينطلق بي محمول على كتفيه ،بعد أن يحرور في كلمات الغنية ويستبدل أسماء الماكن المصرية بأماكن محلية لتصبح"..روح العيزريه وروح سلوان.. ي البقعه كمان!" تارة ،أو "روح المصراره وروح الواد.. واطلع بل ب 95
ي الطوري يا واد"** تارة أخرى ،ثم ل يكف عن مضاحكتي واطلع بل ب وابتكارالقصص التي كانت تنسيني عناء الطريق وعذاب السجن الذي كان يسواقني إليه. علماءالنفس ،وأخصائيوالتربية الحديثة يطلقون على تلك الظاهرة أسماء مثل "اقلق النفصال" أو"الورهاب" .أما أنا فغالبا ما كان تفسيرها عندي ،إضافة إلى ما سبق ،هو أن المدرسة كانت في نظري عالما شريرا يتميز بقوانينه الصارمة الجائرة. منها ،مثل ،غير حلاقة شعرالرأس )عالزيرو( ،ما لم أجد له مبررا حتى الن ،وهو منع الجري في ملعب المدرسه. _______________________________________________________________ )**( العيزريه ..رسلوان ..البقعه ..المصراره ..الواد ..أرسماء ضواحي وأحياء في القدس، كما هي الجيزة ..حلوان ..القلعة ..في القاهرة.
الجري عند الطفال هو من أبسط مظاهر ممارسة الحرية والنطلق للتخلص من الحساس بقيد المكان .ونحن نرى الطفال يجرون بدون هدف كلما أتيح لهم ذلك ،حتى في المكنة المحدودة المقفلة .فما بالنا عند تواجدهم في أماكن وساحات ممتدة مفتوحة. أليست هي غريزة الطفال الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ كنت أرفض التقيد أو حتى مجرد الستماع للمدرس المناوب في طابورالصباح ،الذي كان يكرر على مسامعنا اقائمة الممنوعات صباح كل يوم. كنت أفهم ،مثل ،معنى منع رمي الورق والفضلت في الساحة. أما الجري ..والنطلق! كان هناك شخص مكلف بتدوين أسماء التلميذ الذين يخالفون النظام. بحيث ُتقرأ اقائمة هذه السماء كل صباح ،فيخرج أصحابها من طوابيرصفوفهم لينالوا عقابهم على يد مديرالمدرسة ،الذي كان ،كما يبدو ،يتلذذ في طراقعة عصاه على أكفنا الصغيرة. في أحدالمرات أمسك بي ذلك الرجل ،المكلف بتدوين أسماء المشاغبين في ملعب المدرسة ،ولم يتركني إل عندما أفصحت له عن السم ..أي إسم. في اليوم التالي ،وفي موعد الطابور نال كل من المشاغبين جزاءه، ماعدا "حموده حلحل" الذي كان اسمه يتردد على لسان المدير 96
مناديا بتوعد متصاعد ،وما من مجيب .مما جعل مديرالمدرسة ينادي ذلك العريف المسئول عن تسجيل السماء ،وهو الذي أخذ يؤكد للمدير أن صاحب السم موجود في الصف ،ولكنه يتجاهل مناداة المدير .صاح المدير: فين هو؟ دلني عليه!إلى أن وصل ذلك المسئول إلى صفي ،وأشار نحوي مؤكدا بصوت عال ،وبثقة عالية أيضا ،أنني المتهم المنشود .لكن "عريف"* الصف _______________________________________________________________ )*( لم يكن عريف الصف رسوى عضو المجلس الوطني الفلسطيني ،الراحل " ،عبد المحسن أبو ميزر".
أخذ يؤكد للمدير ،ببراءة شديدة ،أنني بريء ,وأن اسمي هو كذا ،ول علاقة لي بهذا الـ "حموده حلحل". ومنذ ذلك اليوم المشهود ،ظل أفراد أسرتي ،الذين بلغتهم تفاصيل اقصتي ،يطلقون هذا اللقب علي أنا. هذا إلى جانب ألقابي النفة الذكر" ..غاندي" و "أبو العدس". *
*
97
*
98
" ...كف عـــــــدس"
الشيء بالشيء يذكر. في عام ،48كان عمي "غزال" اقد بنى في "الدوُنم" دارا واسعة من طابق واحد كما هي العادة في دور منطقة "الرمال" ،التي كانوا يطلقون عليها إسم "الودلُـمات" ،جمع الـ"ُدُلم" .وهو الإسم الشائع الذي يطلقه الغزيون على الـ "دونم". ولهذه الدار اقصة طريفة ظل أفراد عائلتنا يتندرون بها مدة طويلة، بعيدا عن أسماع الغرباء. ففي عام ،1946انتقل خالي "علي" ،الذي اقضى حياته حتى ذلك الواقت يعمل في سلك التعليم وانتهى به المر مديرا لمدرسة العامرية الثانوية الشهيرة في مدينة "يافا" ،ليتولى بعد ذلك إفتتاح وإدارة فرع البنك العربي ،المؤسسة الفلسطينية ،في مدينة السكندريه .وبذلك اختفى الحافز الهم لقضاء جزء من العطلة الصيفية في "يافا"، الشيء الذي أحزنني كثيرا ،وتقرر أن نقضي جزءا من الجازة في "غزه". من أكثرالاقارب هناك اقربا إلى نفسي كانت عمتي "إم سامي" ،التي توفي زوجها الموسر في طفولتي المبكرة ،بحيث لم تعها ذاكرتي إل بملبس الحداد ،وترك لها دارا اشتهرت باتساعها وتعدد حجراتها، مما يتناسب مع عدد أولدها وبناتها ،التسعه .كما اشتهرت بحديقتها الواسعة ذات البركة والسمك الملون ،والنافورة في وسطها .هذا إلى جانب "البيارة" المترامية الطراف في ضواحي غزة البعيده. ولم تكن البيارة بأشجارها وفواكهها واتساعها وحوض الماء الكبير، الذي كنا كثيرا ما نستحم فيه ،هي سر جاذبية "دار عمتي" ،فهناك 99
أيضا كان ولداها ،اللذان يقاربانني في السن ،وبقية أفراد العائلة الذين كان والدي يتمتع بمنزلة طيبة لديهم .وكانت زياراتهم الكثيرة للقدس مما وطد العلاقة بيننا ،خصوصا عندما التحقت اثنتان من بنات عمتي في إحدى مدارس القدس الثانوية الجنبية .فكانتا كثيرا ما تقضيان عطلة نهاية السبوع عندنا ،حسب ترتيبات عمتي التي أجريت مع إدارة المدرسة الداخليه. في أحد اليام ،بينما كان "سامي" يقود سيارته بنا في طريق عودتنا إلى الدار بعد اقضاء يوم كامل في البياره ،كانت الشمس اقد مالت إلى المغيب ،والجو ترطبه نسمات المساء وتعطره رائحة أزهار الليمون المنبعثة من البيارات ذات اليمين وذات الشمال ،وفجأة ،مرت سيارة جاءت من خلفنا وتخطتنا بسرعة جنونية. وبعدها بقليل تبعتها ،مطالردة إياها كما يبدو ،سيارة عسكرية إنجليزيه .وسرعان ما سمعنا أصوات طلقات رصاص متباعدة ،مما جعل "سامي" يتواقف عند جانب الطريق اقليل إلى أن يزول أي احتمال لواقوعنا في خطر. ولم نكد نستأنف سيرنا حتى تواقف "سامي" واقد لفت نظره وجود جسم ممدد على جانب الطريق المعتم شيئا ،ظنا منه أن يكون شخصا مصابا. إاقترب "سامي" من الجسم الممدد بحرص شديد .ورأيناه وهو يلكزه برجله ،ثم يتحسسه بيده ،يتردد اقليل ثم يعود ببطء إلى السيارة حيث ي وشقيقتيه. اقوبل باستفسارات شقيقت ب اقال بعد أن مط شفتيه وفتح ذراعيه وألقى نظرة أخيرة في إتجاه الجسم الممدد: كيس كبير مليان أبصر إيش!وكان على وشك أن يدخل السيارة ليواصل رحلة العودة إلى غزه، عندما اندفعت أخته "سعاد" ومعها أختي "إكتمال" متجهتان بجرأة غريبة إلى ذلك الكيس .وبعد أن تحسست كل منهما الكيس في محاولت لتخمين محتوياته ،عادتا واقد اتخذتا اقرارا بشأنه: 100
إنزل يا سامي نحمل الكيس ونحطه في السياره ،فهو مليء بـ"شباشب" مصرية. وبعد حوار سريع ،وإصرار من "سعاد" ،وموافقة الخريات ،تعاون الجميع على نقل الكيس ووضعه في صندوق السيارة. وفي الدار ،أصيب الجميع بخيبة المل .فقد كانت محتوياته ل تمت إلى الشباشب المزعومة بصله. وانعقدت لجنة ،من الكبار ،لفحص ومعرفة ماهية محتويات الكيس. وبقينا نحن الصغار خارج الغرفة المغلقة ،نحاول أن نرهف السمع ونتلصص وننتظر بلهفة وشوق ،خصوصا عندما سمعنا صوت عمتي وهي تقول بعد صمت طال: يمكن اقوالب شوكولطه.وكم خابت آمالنا ونحن نستمع إلى تعليقات الخرين الساخرة، واقرارهم بأن محتويات الكيس ل تمت أيضا إلى الشوكولطة بصلة، وإن كانت ،كما سمعناهم يقولون ،مصبوبة في اقوالب "اقد الكف" أو أكبر اقليل ،ومغلفة كل منها بكيس منفصل من ورق القصدير. ومن خلل الحوارالساخن ،سمعنا صوت عمتي وهي تشهق شهقة يتبعها صمت لم يطل: ...ليتيكون هادا ..إيش إسمه ..من هاداك ..اللي بيقولوا عليه.... حشيش؟ آ ..حشيش! إنتي من وين بتعرفي الحشيش؟ وا عمري ماشفته. ول أنا ..هبو هيك الحشيش؟ طب إيش بده يكون؟ هبو ه ..ما فش غيره! طب مين بعرف ..نسأل مين؟ مافش غير خالكم "غزال" ..هو اللي بعرف في المسائل هادي.101
طب وإذا طلع إنه الكيس مليان من"هاداك الشي" ..إيش نعملفيه؟ أنا بقول ،في الول ،ما نحكيش عالكيس كله ..نقول لقينا اقالبواحد بس. براو عليك يا "سامي" ..كلمك صح!كان هذا موجزا للحوار الذي انتهى بقرار استدعاء عمي"غزال" في الحال. ولم يغب "سامي" طويل .إذ عاد ومعه خاله "غزال" وعلى وجهه أمارات السعادة التي حاول إخفائها والتظاهر بعدم المبالة .وانعقد مجلس الكبار مرة ثانية باستثناء الصبايا هذه المره. وسمعت بعد ذلك بقية القصة من عدة أفواه .كل بطريقته. اقيل أن عمي "غزال" اقضم اقطعة من القالب ولكها فانفرجت أساريره وسارع بإخفاء القالب في عبه ،ثم نهض وهو يحاول إخفاء مشاعره تجاه الغنيمة التي نزلت عليه من السماء .وبعد أن غمغم بكلم غير مفهوم ..انصرف إلى غير رجعة. و اقيل أنه أخذ على عاتقه سؤال أهل العلم والمعرفة عن ماهية هذا "القالب" ،وأنه سوف يوافيهم بالنتيجة .و"عيش يا تكديش!".. .. كما اقيل أنه أصبح يلزم الدار ،ليل نهار ،ل يغادر العريشة ،ول يكف عن تدخين الشيشه. عاشت دار عمتي أسبوعا متوترا ،وضاق الجميع ذرعا بحالة الطواريء التي فرضت نفسها على أهل الدار. ثم كان القرار الحاسم باستدعاء عمي "غزال" مرة أخرى، والعتراف له بكامل القصة .وطلبت منه عمتي أن يخلصها من هالمصيبه بمعرفته. فحمل عمي "المصيبه" ،ومضى في كثير من الحذر ،ولم يظهر له بعد ذلك أي أثر. وبعد وفاة جدي لبي ،في العام التالي ،بدأت آثار ومظاهرالنعمة تظهر على عمي "غزال". 102
ومن أبرز تلك المظاهر كانت تلك الدار التي أشيع أنه يبنيها من نصيبه في الرث. ول تملك عمتي ،ومن يعرف حقيقة القصة ،إل أن يرددوا المثل القائل: "اللي بعرف بعرف ،واللي ما بعرف بيقول كف عدس". *
*
103
*
عمي "رسليم" ..
اقبيــل سقوط يافا ،كان عمي "سليم" ،الذي كان يتمتع بالذكاء والحصافة ،اقد انتقل ،هو وزوجتيه وأولده منهما )عشرة أنفار( بالضافة إلى ابنته الكبرى وزوجها وأولدهما الثمانيه )عشرة أنفار( وعفش بيته ،دون أن يترك اقشة فيه ،إلى غزه ،حيث استأجر وتقاسم الجميع حجرات الدار الجديدة التي انتهى لتوه من بناءها العم 104
"غزال" ،أو "أبوالعابد" الذي كانت الهجرة سببا في إضافة صفة "الغزاوي" للقبه ،من أجل التمييز بينه وبين"أبوالعابد" القدسي، والدي. وكان من الطبيعي ،نظرا لضيق ذات اليد ،أن تتقاسم عائلة "أبوالعابد القدسي" مع "أبي العابد الغزاوي" وزوجته حجرات "الشاليه". عمي "سليم" ،أيضا ،له حكاية. لكنها تختلف عن حكاية عمي "غزال" ،لن الول ،وهو الخ الكبر ،كان ذو حظوة عند جدي بحيث تسربت إليه أسرار تجارة الحبوب فبرع في عمله واستقل وانتقل إلى مدينة "يافا" ليصبح فيها تاجرا ذا شأن ،حيث تعددت أملكه وذاعت شهرته ،خصوصا عندما أمعن الحظ في محالفته. كان ذلك في بداية الربعينات ،عندما لجأ إليه أحد العتالين، "العرايشيه" ،العاملين في "الحاصل" ،مخزن الحبوب ،لينقذه من مأزق مالي واقع فيه .فلقد تعسرت ولدة الزوجة واضطر ،تحت إصرارالرداية ،إلى اللجوء إلى طبيب ولدة ،مما استنفذ كل ما تملك يداه. نسيت أن أذكر ،وإن كنت ل أنسى ما كان عليه عمي هذا من البخل الشديد بالرغم من كل ما حباه ا به من نعم .ولم يكن صاحبنا العتال يجهل فيه هذه الفضيلة .ولذلك أخذها من اقصيرها وجاءه بوراقة يانصيب "ديربي" كان اقد اشتراها منذ أيام ،وتوسل إليه أن يأخذها ويعطيه ثمنها .وبعد طول جدال ،ورجاء وإلحاح من العتال ،أخذعمي "سليم" وراقة اليانصيب على مضض ،وأعطاه الثمن ،وهوما اقيمته نصف جنيه فلسطيني بالتمام والكمال. بعد أيام معدودات ،دارت "البـ لتلييه" ،كما يقولون ،في بلد النجليز، واستقرت على راقم تحمله الوراقة التي أصبحت من ممتلكات عمي "سليم" .وما هي سوى أيام حتى ذاع الخبر في كل الفاق .وذاعت شهرتي في المدرسة بين الرفاق ،وأصبح لقبي ..اللي عومه كسب "الديربي" .خمسة عشرألف جنيه استرليني من جنيهات أيام زمان. 105
) وربما كان ذلك من أحد السباب التي جعلتنا نتمتع ،في القدس ،بـ "صيت الغنى" النف الذكر(. هذا ،ويقوم العارفون بتصحيح اقيمة الجائزة إلى أصلها ،وهو"ستة عشرألف " .فالحقيقة أن عمي"سليم" ،كان شديد الحرص على ترويج القيمة الولى ،التي تبدأ بـل "خمسة" لما في هذا العدد من اقدرة على درء الحسد. وبالرغم من أن عمي"سليم" كان اقد بلغ من الكبرعتيا ،وأصبح له العديد من الحفاد ،إل أن زوجته ،العجوزأيضا ،كانت دائمة الشكوى ،وهي تبتسم إبتسامة لم أكن أدرك معناها ،من أنه "لدني". و"عينه فارغه" ..و"نفسه للرساتها خضره"! ولذلك اقامت ،بنفسها ،بالبحث له عن بنت الحلل وتزويجه بمعرفتها. رزق بعد ذلك بولدين .وعندما كبرا وتعلما الكلم ،أصبح يخجل منهما أمام الناس .فهما أصغر سنا من أحفاده .وخطرت له فكرة تلقينهما أن يخاطباه أمام الخرين الغرباء بلقب "سيدو" منعا للحرج. وكأنما فرح الطفلن بهذا السم الجديد ،فلم يكرفا ،في أول زيارة لهما لـ "الحاصل" ،عن مناداته أمام العاملين والزبائن بملء صوتيهما: بابا سيدو ..بابا سيدو!كثيرة كانت القصص التي سمعتها عن عمي "سليم" .لكن ما كان يحيرني أنه كان يحافظ بداقة متناهية على مظهره الجاد الواقور الورع المتدين ،بحيث يتعارض هذا الذي أسمعه مع ذلك المظهر، ومن أشكاله ،مثل ،كانت زيارته المتكررة للقدس كل يوم جمعة، حيث شاع أنه يحرص على أداء صلة الجمعة في المسجد الاقصى. في أحد تلك اليام ،نمى إلى علمي أنه كان "فاتح بيت" في القدس لواحدة ربما تكون زوجة أخرى له .وهذا مما يفسر إصراره على اقضاء أيام الجمعة فيها .لكنني لم أجرمؤعلى السؤال عن صحة المعلومه .فلقد كنت أاقل سرنا وأكثر حرجا أو خجل من أن أتحدث في مثل هذي المور. 106
أما في"غزة" ،بعدالهجرة ،فقد جاءتني المعلومة تمشي على سااقيها. واكتشفت في واقت ما أن عمي "سليم" هوغريمي ومنافسي في العلاقة مع تلك الصبية "الفايره"" ،نعيمه" ،البنة الوحيدة لذلك "العرايشي" الذي كان يعمل في "الحاصل" ،وهوالمالك الول لوراقة يانصيب الديربي الرابحة ،والذي توفيت زوجته الحبلى في شهرها الخير ،فاضطر أن يودع البنة الصبية أمانة في دار عمي إلى أن يشاء ا. كنت في الثالثة عشر من عمري ،وكانت تكبرني ببضع سنوات. وظلت ،لكثر من سنة ،تتحرش بي منذ أن استقر بنا المقام في "غزه" ،بدون أن تجد استجابة مني) .ل أستطيع أن أجزم إن كان ذلك تعففا أم جهل(. ولما أحست بعدم جدوى ذلك أخذت تعيرني بأنني ما زلت طفل، لأدرك أو أاقيم وزنا لما يتحدث عنه كل الكبار .تقول هذا وهي تتثنى وتمر بكفيها بخيلء على الصدر الذي كان اقميصها يشي بعريه ،ومن ثم الخصر ،فالردفيين ،وعيناها تقولن ما عرفته لحقا حينما غلرقت امرأة العزيز البواب واقالت لسيدنا يوسف: "هيت لك"! وكان ذلك الشتاء .حيث كنت ،في يوم من أيامه القارسه ،جالسا أمام طاولتي منهمكا في مراجعة دروسي ،أفرك يد بالخرى محاول التغلب على البرد الذي كان يشل أصابعي ،ويكاد أن يحد من اقدرتها على تقليب صفحات الكتاب. فجأة وجدتها تقف أمامي بثياب منزلية خفيفة ،وكأننا في عزالصيف. كانت كثيرا ما تتردد على والدتي لتعرض خدماتها. أمسكت بكفي اليمن وأخذت تفركه بيديها وهي تظهر تعاطفها لما أعانيه من الحساس بالبرد .ثم فوجئت بها تدس كفي من تحت اقميصها ،وتشدعليه بشكل يتعذرالفلت منه ,بينما أنا منساق يعتريني الذهول ،وبينما هي تحدجني بنظرات متحفزة متراقبة نتيجة ما فعله بي ذلك الدفء الذي يكمن في ثدييها النافرين. ر اقالت لي ،بعد ذلك ،أن عمي"سليم" هوالذي "علمها". 107
اقالت أنه كان ،ومازال ،ل يكف عن ملحقتها ومحاولته للتحسيس عليها ،منذ أن "فارت" فجأة ونبت لها ثديان. في البداية لم تكن "نعيمه" تدرك جدوى هذا "المزاح" منه ،وهو الرجل الواقورالذي كان بمقام والدها ،ول تستطيع أن "تفتح عينها" فيه. اقالت لي مرة أن زوجته الثانية اقد لمحته مرة وهو يلحقها ،فما كان منها إل أن تتمت بكلمات أولها "إخص!".. ثم أخذت الزوجة الطيبة بعد ذلك تلحقها بالنصائح والتحذيرات. وبمرور الواقت ،تعودت الصبية على ذلك بل أصبحت ،كما ألمحت لي ،تجد لذة فيما يستدرجها إليه .خصوصا عندما أصبح يعدها بالكثير و يحقق لها بعض وعوده ،كالفساتين والحذية الجديدة. ولشدما عاتبتني لنني لم أكن أعيرها اهتماما أو أستجيب لمحاولتها للتقرب مني .بل إنهاعللت ذلك بانشغالي و"حبي" لـ"نهاد"، صغرى حفيدات عمي "سليم". أذكرأنها كانت دائما تهددني بإفشاء سري .بل إنها ادعت مرة ،زورا وبهتانا ،بأنها رأتني وأنا أبوس "نهاد" ،الشيء الذي أدهشني لنه لم يخطر لي ،حتى تلك اللحظة ،على بال. والحقيقة أنها كانت تمتلك جسدا فارعا غنيا بالمنحنيات والتضاريس التي كان الخرون يعتبرونها ميزة ،يتغنى بها الرجال ،وتحسدنها عليها النساء .لكنها ،إلى جانب ذلك ،كانت تمتلك وجها أاقرب إلى القبح ،وشعرا أكرت لم يُجد في إصلحه الـ "بريانتين" الذي كثيرا ما كان ،في أيام الصيف بالذات ،يسيح على جبينها. ر وبالرغم من ذلك فقد انسقت إذ راك إلى ما كانت تتيحه لي من لذ ات لم أكن اقد جربتها بعد. *
*
108
*
109
"نهـــــــــــــــــاد"..
أليست "نهاد" هي تلك الحورية التي يحلولي أن أتذكرها ،وأذكرها، كلما جاء ذكر حوريات الجنه؟ ألم أاقل مرة أنها آية من آيات ا ،خلقها على مهل ،ولم يخلق لها شبيها. وإن هي إل تجسيد حي لدهشة الطفولة الجميلة البريئة. هل كنت حقا أحبها؟ كنت اقد بلغت الثالثة عشر من عمري ،وإن كنت أبدو أصغر سنا من ذلك ،حينما جمعت دار عمي "غزال" ،في بداية الهجرة ،ذلك العدد الوفير من أفراد العائلة اللجئين إلى "غزه" ،من أماكن مختلفة. كنت أصغرالولد ،وكانت هي أصغرالبنات .تصغرني بسنة ،أو أكثر بقليل. وكانت امرأة عمي ،جدتها ،تردد دائما أننا "لبقين لبعض" .وكثيرا ما كانت تخصنا باهتمام يلفت انتباه الخرين ويثير تعليقاتهم .بل كانت ل تطيق أن تراني لوحدي ،فتبادر بسؤالي: وين "نهاد" عرنك؟ شوفها راحت فين ،ودير بالك عليها!* * * 110
كانت دار عمي "غزال" تقع في أطراف المنطقة ،تحدها من الشمال سوافي الرمال البكرالذهبية الناعمة التي كانت حباتها أشبه بكرات داقيقة مصقولة من الزجاج. كنا ،في أواقات العصر ،نتراكض عليها ،حفاة الاقدام ،صعودا وهبوطا من فوق سوافي الرمل باتجاه الغابة البعيدة .بحيث كانت دار عمي تتوارى تارة ،ثم تظهرمن خلفنا تارة أخرى فيروق لنا ذلك الظهور والختفاء ،فنوغل في البعد والصعود والهبوط. نتسابق تارة ،أو يسابق كل منا ظله ،تارة أخرى .ول نتواقف إل عندما يدركنا التعب ،أوعندما تميل الشمس إلى الغروب ،فنجلس لنلتقط أنفاسنا .ثم نسارع بالعودة خوفا من أن يدركنا الظلم ،بينما يجتهد كلنا في نفض حبات الرمل الزجاجيةعن سيقان الخر. راقيقة كانت ،سمراء ،بعينين عسليتين غائرتين في وجه ل أمول من النظرإليه والتأمل فيه. لها شعركستنائي طويل منسدل ،مطواع ،تعرف كيف تعيده إلى مكانه بحركات رشيقة من رأسها ،كلما انزلقت خصلته لتغطي نصف وجهها. ناعمة،هائمة ،دائمة البتسام .تتلل في عينيها ومضات من البراءة الساحره .وما أن تبتسم لي ،بشفتيها ،وغمازتي خديها اللتان تضفيان على جمالها خصوصية سابية ،حتى تبتسم لي الدنيا. وعندما تضحك ،فلها ضحكة لم أجد لها شبيها سوى صوت الصينية الفضية الراقيقة عندما تدحرجت على بلط وسط درانا الحجري في القدس ذات مرة. ذراعاها ،وكذلك سااقاها اللذان لم تكن تشعر بأي حرج عندما تطسير الريح تنورتها عنهما ،يكسو سمرتهما الخاذة زغب حريري أشقر لمع من كثرة تعرضها للشمس. كنت أحب براءتها التي كانت تتجلى في إيماءاتها ،وأسئلتها الكثيرة. "ليش في نجوم كتير في السما؟" "ليش العصافير بس هي اللي بتطير؟" 111
"ليش ما بنشوف المليكه؟" "كيف الشياء بتتلون وكيف اللوان بتصير؟" " ليش خيالك صار أطول منك؟" "ليش ما بدك ترسمني؟" " اقال إنت بتعرف تغني؟" " ليش الرمل عامل هيك ..كأنه بساط حرير؟" ثم تنطلق راكضة حولي في دوائر تتسع تدريجيا ،وهي تطلق ضحكتها فضية النبرات ،لترسم بأثار اقدميها على أديم سوافي الرمل المتماوج شكل حلزونيا يظل يكبر ويتسع إلى أن ينهكها التعب فترتمي على الرمال الزجاجية الناعمة الجافة .ثم تضع يدها على اقلبها: "يا أل كيف اقلبي بيدق بسرعه ..تعال هات إيدك ..لحست! " وفي اليوم التالي تتساءل في دهشة بريئة عن مصير الدوائر الحلزونية ،إن محتها الريح. ول نمل من تكرار ما فعلناه بالمس. ول تمل هي من تكرار طلبها بأن أصطحب "الفلوت" الذي سمعت ثنارء على عزفي عليه ،فإن فعلت ،فهي ل تمل من سماع عزفي لغنية "سجى الليل" ،أو"آ يا زين العابدين" ،أو مقدمة أغنية "طول عمري عايش لوحدي" ،أو الرتجالت الموغلة في الحزن التي كانت تنفلت من اللة بعفوية ،فل ألبث أن أتواقف عن العزف عندما أرى إبتسامتها تكاد أن تذوي. لم أعرف تفسيرا محددا لمشاعري تجاهها ،وهي التي أنستني كل أوهامي السابقة. لم أكن أطيق البعد عنها لحظات. كانت هي شاغلي الوحيد في تلك الظروف الطارئة الثقيلة الظل ،التي حرمتني من دارنا التي أحبها في القدس ..من حوشنا ..من أولد جيراننا ..من صوت أخي"عابد" مغنيا ..من صوت والدي مرتل 112
يتردد في وسط الدار ..من صوت راديو اقهوة "الباسطي" وهو يصدح بأغاني جميلة لم أعد أسمعها. اشتقت لسماع نشرات الخبارالتي كان "أبو عارف الباسطي" يتعمد رفع صوتها ليسمعها كل الجيران وهي تتحدث عن انتصارات معارك "باب الواد" ،وصمود "يافا" واقراها" ،أبو كبير" ،و"يسلييمه" الباسله. لم أعد أسمع سوى تعليقات يائسة حول النسحاب من مدينتي"اللد" و "الرمله" ..أو سقوط هذه المدينة أو تلك القرية. أتساءل عن مصير "جيوشنا العربية". أين هي ،وما الذي جرى لها؟! ثم أتذكر جارنا "الصاجن ميجر حربي" ،وليلة بكيت فيها من حيث ل أدرك السبب. ثم تنتهي الهدنة ،التي أشيع أنه بانتهائها ستكون المور اقد سويت سلميا بمعرفة رجل مهم إسمه "الكونت برنادوت" ،إن لم يكن بالتدخل الحاسم للجيوش العربية ،ولن نلبث أن يعود كل منا من حيث أتى. لكن اليهود اغتالوا ذلك المل .اقتلوا الوسيط الدولي في أحد شوارع القدس الجديدة*. واندلع القتال بأشرس مما كان عليه من اقليبيلهم .وكانت تلك الظاهرة التي باتت موضع تعليق الجميع ،فكأن الهدنة ما كانت إل لعادة تسليح اليهود ،وبأسلحة أكثر تقدما .كالطائرات مثل. وعرفنا ،في"غزة" ،الغارات الجويه. عرفنا الرعب الجماعي ،والتكدس في الماكن الكثر أمانا. عندما نسمع صوت الطائرة ،أو زامورالخطر ،كنا نسارع للختباء في"البدروم" .بل كثيرا ما كنا نقضي بعض الليالي متكومين. متراصين في ذلك المكان المين. كنت أبحث عن "نهاد" فأجدها تلتصق بجدتها التي كانت تفسح لي مكانا إلى جانبها .ثم أصبحت الجدة تحرص على أن تفصل بيننا ليكون كل منا على أحد جانبيها. وبعد أسابيع انضم إلينا ،في"غزة" ،والد ر ي وأخي "عابد". 113
لم يستطيعوا الصمود تحت وابل القذائف .أصيبت والدتي في رأسها إصابة خفيفة مما جعل والدي يقرر الرحيل .حتى إذا جاءت الهدنة ____________________________________________________________ )*( اغتالت عصابة "شتيرن" ،بقيادة إرسحق شامير ،الكونت برنادوت في القدس في 17يوليو 1948
الثانية ،جمعوا كل ما في بيت الخزين من مؤن .رز وسكر وزيت وزيتون وطحين ومختلف الحبوب الخرى وبعض الملبس والحرامات لزوم الشتاء المقبل .ولم ينسوا برميل الكاز. وعندما وصلت السيارة الشاحنة باب دار عمي "غزال" وأخذنا بإنزال الغراض والحقائب والكياس الخيش والسلل فاحت رائحة الكاز الذي حرص رجال "الهاجاناه" البواسل ،الذين اعترضوا طريق الشاحنة ،لسباب أمنية ،على صبه على كافة محتوياتها من مؤن. واقيل لنا أن بقية ضواحي القدس الجديدة ،الغربية منها ،اقد سقطت بدون مقاومة تذكر .إذ شاع أن الجيش العربي كان معنيا بالدفاع عن الماكن المقدسة في البلدة القديمه ،وشراقها فقط .واقيل أن الجزء المخصص للدولة العربية ،حسب اقرارالتقسيم ،هوما كان يسترعي إهتمام الملك عبد ا بالدرجة الولى. )ذلك ما اتضح عندما اقررالملك عبد ا ضم "الضفة الغربية" إلى "شراقي الردن" وظهور المملكة الردنية الهاشمية في عام (1950 ولما طال انتظار عودتنا كل إلى بلده ،تقرر أن ننتقل لنسكن في شبه بيت مقام في أرض حديقة واسعة لبيت العم الثالث ،عمي"أحمد". وذلك مما ااقتضى سفر والدي وبصحبته أخي إلى القدس ،مغامرة، لحضار ما تيسر من الفراش وومزيدا من الملبس الشتويه. مع نهاية النتداب البريطاني ،كان من الطبيعي أن تنتهي علاقة والدي الوظيفية ببلدية القدس .وكان من الطبيعي أيضا أن تأخذ مدخراته المتواضعة بعد ذلك في الضمحلل مما اضطرأخي"عابد"، بعد طول انتظار في غزة ،إلى السفر إلى "السكندرية" بحثا عن عمل بمساعدة خاله "علي" ،الذي كان يشغل وظيفة مدير المؤسسة الفلسطينية ،البنك العربي ،هناك منذ عام .47
114
وبذلك حرمت من وصاية أخي ورعايته لي ،التي لم تكد تبدأ ولم أكد أهنأ بها ،والتي كنت في أمس الحاجة إليها في تلك المرحلة من عمري. وانضمت شقيقتاي "ُحسن" و "إكتمال" إلى "شفاء" ،إبنة عمي "سليم" الكبرى ،للعمل بالتفصيل والخياطة للمساعدة في مواجهة أعباء الحياة ،وتوفير مكان أفضل للسكن. وانتقلت أسرة "نهاد" للسكن في منطقة بعيدة أاقرب إلى اقلب البلد. ومع ذلك ،فقد كانت تأتي لزيارة جدتها وتحرص على العودة اقبل الغروب .فأحرص أنا على مرافقتها في طريق عودتها .وتحرص هي على أن تستدرجني أثناء سيرنا لنغني سويا تلك الغنية السبانية التي تعلمتها من"هنيه" بنت "روزاليا" ،إحدى جاراتنا في القدس. تعودنا أن نسلك طريقا رمليا مختصرا ،يخترق أرضا مهجورة*، ليصل بنا إلى الطريق العام المنحدر إلى سينما "السامر" ،مرورا بمنتزه البلدية ،حيث تكون دار "نهاد" الجديده. كانت الشمس تميل إلى الغروب عند مرورنا ،في ذلك اليوم ،من خلل ذلك الطريق المختصر ،الخالي عادة من المارة. كنت أثناء سيري إلى جانبها أضع يدي اليمنى على كتفها اليمن، بينما هي تستدرجني لمشاركتها الغناء. ول أدري كيف خطرت لي ،ولول مرة ،تلك الفكرة في تلك اللحظة. فبعد تردد طال ،وأنا أحسب للعوااقب ألف حساب ،اختطفت من خدها اقبلة سريعة خلتني بعدها اقد ااقتطفت تفاحة الجنة ،وارتكبت بذلك الثم الذي ل يغتفر. تركتها غاراقة في دهشتها ولذت بالفرار. الحقيقة أنني ل أدري كيف واتتني تلك الرغبة ،في ذلك الواقت وذلك المكان .فلم أكن أفتقر إلى لحظات عزلة معها .فكثيرا ما اقضينا الساعات الطوال منفردين ،بعيدين عن أي راقابة ،نمرح ونتقلب على سوافي الرمال المجاورة لبيت عمي "غزال" ،بدون أن يخطر لي تقبيلها على بال .ظللت بعدها أضرب أخماس بأسداس ،محاول أن أتنبأ بالحتمالت كلها. 115
في اليوم التالي ،لم تحضر "نهاد" لزيارة جدتها التي سألتني باستنكار إن كنت اقد "زبعلتها". ____________________________________ )*( يطلقون عليها الن إرسم ..أرض "أبو ـخضرا"
وفي اليوم الذي تله حضرت "نهاد" كعادتها .ولكنها اقابلتني، بالفعل ،متجهمة. ولم أدر كيف أبدأ بالعتذار والمصالحة ،خصوصا وأنني لم أر منها غير النفور والدبار. وغادرتنا "نهاد" عائدة في واقت مبكر من ذلك اليوم .خشيت ،بل أيقنت ،أنها اقد حكت لمها عن ما بدر مني. في اليوم الثالث ،رأتني ابنة عمي ،أمها ،فما كان منها إل أن رسمت الجد والغضب على وجهها ،وهي تقول لي: ..مش عيب عليك؟في حدا عااقل يعمل عملتك السودة هاي؟ وتتسع حداقتا عيناي ،وتتزايد ضربات اقلبي رعبا ،وهي تكمل لومها وتأنيبها: ..تتركها في نص الطريق ،وتخليها تمشي لحالها ،والدنياالمغرب! وانتهت اقصة "نهاد". ولكن صورتها ظلت تأخذ حيزها في ذاكرتي .تلوح كلما خطرت لي صور وأفكارالطفولة والبراءة ..أو كلما جاء ذكر ..حوريات الجنه. هل كانت "نهاد" هي حبي الول؟ هل كنت أحبها حقا؟ * * * هكذا كانت تردعي "نعيمه" ،البنت الفايره ،بنت العرايشي ،التي ظلت تلحقني إلى أن أواقعتني في حبائلها ،ساخرة من ما كانت تسميه "لعب العيال" .واستطاعت أن تحقق لي ،في غزة ،ما عجزت عنه نصائح أاقراني وتعليماتهم في القدس. 116
وبالرغم من أني انسقت إلى ما كانت تتيحه لي من لـرذات عابرة ،غير مكتملة ،إل أن "القبلة الولى" ،المخطوفة من خد "نهاد" ،ظلت إلى واقت طويل ،هي محور أحلمي ،واقمة لذاتي. *
*
*
أوهام الحب.. عندما تقودني التداعيات للتوغل في الماضي والتأمل في معنى ما يسمونه أوهام الحب الول ،فل بد من أن يستدعيني من "القدس" 117
طيف "ست أمينه جار ا" التي عرفت معها أول ماعرفت معنى الشواق والنتظار. ربما كانت في الثامنة عشرة من عمرها ،صديقة حميمة لشقيقتي الكبرى "ُحسن" ،التي تكبرني بأكثر من عشر سنوات. كانت بيضاء ذات عينين سوداوين ،حوراء ،لها شفتان داقيقتانُ ،رقُ الفنجان** ،تنفرجان عن صفين من الللي ،كما كانوا يصفونها. فارعة الطول تشتهر بأنااقتها التي يتيحها لها انتسابها إلى عائلة غنية من عائلت القدس العريقة .أما عطرها الخاذ الذي كان ينم عن حضورها عن بعد حينما أحس به يدغدغ خياشيمي فحدث ول حرج. خطرلها ذات يوم أن تساهم في حل مشكلتي ،التي أعيت أمي وإخواتي ،بأن ترافقني إلى المدرسة التي أدمنت على إعلن إضرابي عن الذهاب إليها .وعندما أمعنت في رفضي ،ذات يوم وتشبثت بالرض ،عند الطاحونة ،اقبل الوصول إلى "باب العمود" ،حملتني بين يديها ظنا منها أنها اقد اهتدت إلى الحل المثل ،فما كان مني إل أن نزعت عن وجهها "المنديل" ،الذي كان ل يفارق رأسها ووجهها في الطريق العام حتى تلك اللحظة .وذلك إمعانا في احتجاجي على تدخلها في شؤوني ،والمساس بحريتي. لم تجد يومها مفرا من إنزالي إلى الرض ،بعد أن انكشف رأسها ووجها للمارة الذين أخذوا يستنكرون "سفورها" ،لمحاولة تخليص "المنديل" من اقبضتي ،مما سهل لي الهروب والعودة إلى البيت. __________________________________________________________ )**( مقاييس الجمال عند ذلك الجيل كانت تؤكدها الغنية الشعبية الغزلية القائلة: ق الفنجان"! " شفايفها ـر ْ
كل ما أتذكره بعد ذلك أن "ست أمينه جار ا" انقطعت عن زيارة أخواتي مدة طالت كثيرا. *
*
*
في أحد أيام الجمعة ،بعد عيدين من أعياد الفطر مباشرة ،هرعت إلى باب الدار إثر سماعي لطراقات خفيفة ناعمة متميزة .فتحت الباب فإذا 118
أنا أمام واحدة تشبه الجميلت اللواتي يظهرن على أغلفة المجلت وفي أفلم السينما .أول ما لفت ناظر ر ي هي تلك القبعة السوداء المائلة فوق جبينها ميل خفيفا ،والتي ينسدل من حافتها العريضة غللة من الدانتيل السود بثقوبها الداقيقة لتغطي نصف وجهها العلى ول تخفيه. أزاحت الغللة ،بحركة رشيقة من يدها ،عن وجه أبيض وعينين سوداوين ،وانفرجت شفتاها الداقيقتان عن صفي الللي باسمة. أيقنت ،ربما بفضل عطرها ،من أنها "ست أمينه جار ا" ،اقبل أن تنحني لتقبلني. كنت أنظر إليها مشدوها ،أخطو الهوينا إلى الخلف مبتعدا عنها لكي أرى اقوامها الفارع الذي بات يذكرني بـالممثلة "رااقيه إبراهيم" ،التي رأيتها في أول أيام العيد في فيلم سينمائي مع "عبد الوهاب" .ثم انطلقت أطوف أنحاء الدار ،واقد أطلقت عقيرتي مكررا أحدث أغنية، "دويتو" ،لمطربي المفضل ،معلنا بذلك عن ذلك الحدث الجلل: حكيم روحاني حضرتك؟ حكيم عيون أفهم في العين..وافهم كمان في رموش العين.. * * * في البداية كنت أسمع أخواتي وأمي وهن يتبادلن الحديث والتسامؤل عن سبب غياب "ست أمينه جار ا" .لكن خالتي الفنانة التشكيلية "ست آمنه" ،التي دأبت على الحديث عن الجمعيات النسائية والتباهي بمعرفة "هدى هانم شعراوي" و "سيزا نبراوي" أو "ملك حفني ناصف" ،باحثة الوادي ،أوغيرهن من رموز حركات تحررالمرأة في ذلك الواقت ،معرفة شخصية ،اقد أوضحت لهن مؤخرا أن سبب غياب "ست أمينه جار ا" لم يكن هو وفاة والدها فقط ،ولكنها اقد أصبحت عضوا نشيطا في إحدى الجمعيات النسائية ،تقود حملة تنادي بـ "سفورالمرأة"!
119
وهذا مما جعل أخي "عابد" يردد ويكرر دائما وهو يشيرإلى حكايتي السابقة مع "المنديل" في "طريق الواد" ،عند الطاحونه ،اقبل الوصول إلى "باب العامود" ،ضاحكا: لقد لقنها هذا المفعوص درسا في "التمورد".*
*
*
اقلت لمي في ذلك اليوم )وكنت اقد ناهزت التاسعة من عمري( أنني، عندما أكبر ،لن أتزوج إل واحدة في مثل رشااقة وجمال وأنااقة "ست أمينه جار ا". وعندما سربيت شقيقتي لها الخبر ،احتضنتني براقة وحنان آسرين وهي تؤكد لي أنها سوف تنتظرني إلى أن أكبر. وأعلرنا خطوبتنا في ذلك اليوم)!( كنت أعشق وجودها ،ويكدرني غيابها ،وأطير فرحا عندما تكلفني شقيقتي "ُحسن" بتوصيل رسالة لها ،وأنتظر بفارغ الصبر زياراتها لنا .أعرد اللحظات في انتظار موعد حضورها .وعندها ،كنت أجتهد في أن أسبسب شعري بعد انتقاء أجمل حلة لستقبلها بها وفي يدي ضمة زهور ،أو اقلدة ياسمين أعددتها لها من شجيرات والدي التي تنبت في البراميل والصص المنتشرة في أنحاء وسط الدار. لشدما كانت تثيرني همزات وغمزات أخواتي المتدارية والتي كنت أشعرأنها تحمل سخرية من حبي المعلن ،وأشوااقي ولهفتي للقاء حبيبتي. كل ما كان يدور في خلدي عن الحب هوأنه ذلك الشيء اللذيذ الممتع الذي يتمتع به المحبون ،وأن المحبين إنما هم فئة ل تختلف كثيرا عن أبطال التاريخ أو الرسل والنبياء ،الذين يرسلهم ا ليكونوا اقدوة حسنة .نراهم )المحبين( في أفلم السينما ،في أحسن حالتهم تارة، وفي أسوأها تارة أخرى ،لنتعلم منهم عدم جدوى المال والجاه في غياب الصدق والمانة. كدت أتوهم أحيانا أن اقصص الحب ل تحدث إل بين شاب أنيق يتمتع بصوت جميل ،وفتاة جميلة ل بأس في أن تحسن الغناء أيضا. 120
وهو،البطل ،ل بد له من أن يحفظ عن ظهر اقلب عددا كبيرا من الغاني ،لكل منايسبة أغنية منالسبة .وهو إبن الناس الغنياء ،الذي يصر ،رغم معارضة أهله ،على التضحية بميراثه من أجل حبيبته بنت الفقراء .أو إبن الفقراء الشجاع الشهم ،الذي تقع في حبه بنت الغنياء ،وبالرغم من معارضة أبيها الباشا ،إل أنه في النهاية ينجح في تذليل العقبات ،ويتزوجها ليخلفا صبيانا وبنات. وكثيرا ما كنت أتساءل بيني وبين نفسي ،لماذا يقتصر وجود هذا "الحب" ،هذا الشيء الرائع ،على اقصص الروايات والفلم وكلمات الغاني فقط ،ول وجود له بيننا؟ لماذا يتحدثون عن أبطال اقصص الحب بإعجاب ،ويطربون لغاني الحب ،ول يجاهرون به ،بل ينكرونه أو يتنكرون له ،إن لمستهم عصاه السحرية؟ ولماذا ،اقبل كل شيء ،كل هذا الهمز واللمز الذي أتعرض له عندما أجاهر بحبي لـ "ست أمينه جار ا" ،خطيبتي؟ غدوت أردد أغاني الحب التي كان "عبد الوهاب" يلقنها لي من خلل راديو "اقهوة الباسطي": "سهرت منه الليالي" و" إيه انكتب لي يا روحي معاكي" و"طول عمري عايش لوحدي" و"لست أدري" و"يا دنيا يا غرامي" و "حياتي إنت " و"عشقت روحك" و"أحب عيشة الحرية" و"طال انتظاري"..وغيرها..وغيرها. أحببت الممثلة "رااقيه إبراهيم" من أجل سواد عيون "ست أمينه جار ا". اقالوا لي "رااقيه إبراهيم" يهوديه ،اقلت مش مهم! وبت أحلم بيوم أصبح فيه في عمر "محمدعبد الوهاب" وأنااقته التي لم أكن أمتلك من مقوماتها سوى ذلك الطربوش الذي تزعفلت ،في طفولتي المبكرة،على أرض"سوق سُترسُق" ،في بيروت ،إيام فرح خالي "علي" ،وصول إلى الحصول عليه. وكأنما كنت أعد العدة لذلك اليوم البعيد بأن أتزود بأغانيه ،وأحفظ كلماتها إن فاتني بعضها بأن أصيخ السمع لخي "عابد" وهو يرددها 121
بينه وبين نفسه .وكثيرا ما كنت أبحث عن كلمات الغنيات في كتب أخي ومن بينها دواوين "أحمد شواقي" أوغيره من الشعراء. أسترسل في الغناء ،ول يعنيني من ينصت لغنائي أو يطرب له أو يعرض عن سماعه أو يثني عليه ،أو يثنيني عنه .المهم أنني استمتع به .وكان خفوت صوتي بطبيعته هو ما كان يحول دون سماع غيري له أو انزعاجهم منه أو استنكارهم له ،فأتمادى في مواصلة الستمتاع. ض ،مما كان يجعل يبدو أنني كنت أمؤدي تلك الغنيات على نحو مر ل خالتي آمنة تزيدني ثقة بنفسي وتعطيني شعورا بالتميز .الشيء الذي كنت أفتقده بين أخواتي ووالد ر ي اللهين عني بمشاكلهم التي لم أكن أدرك كنهها. ويبدوأنني ،في ذلك الواقت ،اقد عقدت العزم على أن أصبح ممثل سينمائيا .ربما كان ذلك أملر في أن يتاح لي عندها أن أستمتع بهذا الشيء الجميل الممتنع ،و يولييها ر في ولوج عالم الحب الساحر. بات كياني مسكونا بذلك المعنى اللهي الغامض السر. وظل مثلي العلى هو"محمد عبد الوهاب". وأصبحت أحلمي ،في يقظتي ومنامي ،ل تخلو من طيف "ست أمينه جار ا". و "طال انتظاري".. * * *
122
"موتشاتشا"..
ماليي ؟! هل يمكن أن أكون اقد نسيت اقصتي التي دأب على التندر بها الجيران والجارات ،وصبايا حارتنا في القدس القديمة ،وما جاورها في البلدة من حارات؟ هل نسيت"هنريه" ،وذلك الشعور الغامض بالمتعة و النشراح،عندما كانت تلفحي أنفاسها الدافئة التي يتيحها الاقتراب والتلمس البكر الغير مفتعل؟ كيف أنسى تلك اليام التي استنشقت فيها حواسي بواكير ذلك الفوح النثوي الغامض؟ 123
ما كادت عائلة الجارة "إم سماعين" تلملم عزالها وترحل عائدة من"القدس" إلى "الخليل" ،بعد أن نضبت مياه "حمام الشفا"، واستعرت نيران القذائف العشوائية في كل أركان البلدة القديمة ،حتى استقبلت الدار مكانها جيرانا جددا. كان"أبو فايز" صديقا اقديما لوالدي .كثر ما سمعتهما يسترجعان برللك". ذكريات أيام الصبا ،أيام "السفر ت وتهوربا من "الجهادية" التي لم تكن تستهوي شباب ذلك الزمن بالرغم من ما يحمله ذلك السم من معان نبيلة ،تمكن والده من ترحيله ،بعد أن زروجه بإبنة عمه ،إلى بلد لم تسمع به من اقبل "..نيكاراجوا"، المهجر ،حيث يعيش أعمامه. هناك ولدت له إبنة عمه الشباب الخمسة ثم توفيت بعد أن وضعت له طفيه" ..السمراء. "ل ر ُ وهذا مما اضطره ،كما اقال ،أن يتزوج من "روزاليا" التي جاءت له ـ"هنيه" ..الشقراء. بل ر وعاد "أبوفايز" ،عام اقرارالتقسيم ،1947،مع عائلته إلى اقريته "المالحه" ،في الجنوب الغربي للقدس الجديدة ،ليرعى أرض العائلة، حسب وصية والده. لكن الظروف ،في العام التالي ،ااقتضت أن يبحث "أبو فايز" لزوجته "السبانيولية" ،كما دأبوا على تسميتها لنها لم تكن تتكلم سوى و"هنيه"،عن مكان أكثر أمنا .فقد ر "لطفيه".. ر اللغة السبانية ،وابنتيه كانت تلك المنطقة من ضواحي القدس الغربية مستهدفة منذ البداية. *
*
*
صديقان لدودان كنا ،و نردان ل يطيق أحدهما البعد عن الخر لحظة. "تدويتتو" ..كما كان يحلو لمها "روزاليا" أن تطلق علينا. في العصريات ،ما يكاد والدي "يضهر" ليلتحق بأصداقائه ،ومنهم "أبو فايز" ،في"اقهوة الباسطي" ،حتى تطل علينا "روزاليا" بوجهها الضاحك دوما. 124
أستقبلها بلهفة وترحاب ،فتعبث مازحة بشعري الذي استغرق مني تسريحه واقتا ليس بالقصير ،وترطن بما أفهم منه أن "هنية".. بانتظاري. كان يحلو لي أن أناديها ،كما سمعت أمها تفعل مرة"،موتشاتشا". وكانت تحتج بعصبية ،بينما هي تدق بكلتي اقبضتيهاعلى صدري، وبينما تراقبها أختها "لطفيه" ذات الربعة عشرعام ،والتي تكبرها بعامين اثنين وتفواقها معرفة باللغة العربية ،مقهقهة بتلذذ ملحوظ. كانت تجتهد لتقول بلغة عربية مكسرة: أنا ل بنت ..أنا "هنــيــــــه" ..إنت اللي"موتشو"!*كانت "لطفيه" تلقنني بعض الكلمات السبانية لاقولها لـ"هنيه"، فتسعد الخيرة بها. وفي اليوم التالي ،تلقـنني"لطفيه" ،بعد رجاء وإلحاح مني ،مزيدا من الكلمات أو الجمل القصيرة التي ،لدهشتي الشديدة ،كانت تثيرغضب الشقراء وتجعلها تعرض عني ،أوتهاجمني في غفلة مني ،فتكاد أن تطرحني أرضا متظاهرة بمحاولة كتم أنفاسي ،وتعرضني بذلك لسخرية "لطفيه" ،مما يجعلها تدرك أنها مكيدة مدبرة من أختها الكبرى ،فتتركني لتنقض على أختها بشراسة. ولم أعرف كيف أتجنب الواقوع تحت طائلة مكائد "لطفيه" ،لنها كانت بين حين وآخر تعود لتلقـنني بما يتهلل وجه شقرائي له فرحا وسعادة .وعندها تستجيب لي وتغني لي أغان إسبانية تقطر راقة وعذوبة ،حفظت بعضا منها بدون أن أعرف معانيها. وغدونا ،بتشجيع من "روزاليا" التي كانت تحظى بمحبة الجارات، "الدويتـو" ،الثنـائي الغنائي ،الذي يشيع البسمة على الوجوه الخائفة المتوترة من أهل الحاره في ذلك الواقت العصيب. لم أكن بعد أدرك معنى الغيرة في الحب .ولذلك لم أدرك ما سوف تسفرعنه تلك الكلمات الثلث التي حفرتها "لطفيه" خفية بمسمار حديدي على أحد أكبر أحجارالجدار في وسط الدار. أول تلك الكلمات الثلث كان إسم "هنيه" وآخرها إسمي أنا .وعندما 125
اكتشفت "هنيه" ذلك بادرت وعلى وجهها أمارات التحدي بحفر تلك الكلمات الثلث معكوسة على نفس الحجر .كانت الكلمة الوسطى باللغة السبانية .ولم تنجح توسلتي لكل من الطرفين من أجل التأكد من معناها الذي بدا وكأنه سر تحتفظ به الختان ،لول ذلك التشابه بين بعض كلمات اللغتين السبانية واللتينية ,التي تعلمها أخي "عابد" في صفوفه الثانوية الخيرة ،والذي أوحى لي بأن الكلمة الوسطى في الجملة تحمل ذلك"السرالخطير". وظل الحجر المحفور بالمسمار الحديدي شاهدا يحتفظ به. اقلت أن أخي "عابد" كان هو الذي أماط اللثام عن ذلك السرالخطير الذي حرصت كل من "لطفيه" و"هنيه" على حجبه عني .وكان يبدو __________________________________________________ )*( "موتشو" و "موتشاتشا" ،بالرسبانية ،تعني "ولد" و "بنت".
سعيدا بعلاقتي النامية بالشقراء ،يهدهدها بغبطة ،ويراقبها عن بعد، وهويردد مغنيا ،مع إيماءات وغمزات ذات معان يسسربها للخرين، أغنية "عبدالوهاب" القديمة"..عصفورتان تتناجيان .".. وفي أحد اليام جاءني بكتاب بعنوان "علم نفسك اللغة السبانية" . *
*
*
و"لطفيه" و"هنيه" يتناوبن على مساعدتي ر أخذت كل من "روزاليا" على تعلم اللفظ الصحيح للحروف والكلمات. لكن سرعان ما كانت تلك الرحــــــــــلة إلى غزة. ولم أنس أن أصطحب معي كتاب تعليم السبانية في رحلتي،آمل أن أعود في القريب ،كما بات الكل يعتقد ،إلى جارتي الشقراء التي وعدتها أن أتعلم لغتها ،لأشاركها الغناء بعد أن أعرف معاني أغانيها الجميله. تلك الرحلة التي باتت رحيــــــــــــــــــل. *
*
126
*
رست "آمنــــــــــــــــــــه".. في مطلع صباي ،أشاعت خالتي "آمنه" عني أن أداة التعبيرالفضل والسهل عندي هي الكتابة ..وليس الكلم! ربما يتضمن هذا إشارة غير مباشرة لشخصيتي التي ل تخلو من الميل الى النطواء ..أو لنقل الخجل. ل بأس! بل إني حتى الن ،واقد بلغت من العمر عتيرا ر ،أجاهد في كثيرمن الحيان في سبيل صياغة أفكاري اقولر ،بينما أصوغها كتابةر بمجهود أاقل ،وبصورة أكثر وضوحا. كنت اقد ناهزت التاسعة من عمري ،حينما كانت خالتي "آمنه"، الفنانة التشكيلية ،تكاد ل تترك فرصة تفوت ،في أي مجلس من مجالسها ،دون أن تفتح حقيبة يدها لتخرج منها مظروفا ر كاد أن يهتريء ،وتفض منه وراقة تقرأ محتواها على الحاضرين .فينصت الحاضرون حتى النهاية .ثم يبدأ كل منهم بالتعبيرعن اعجابه بما سمع. عبر بهاعن أشوااقي كانت تلك هي الرسالة التي كتبتها لخالتي ل س ومحبتي ،وشعوري بالكدر والحزن والسى لمرضها ،الذي اضطرها أن تعود إلى "غزة" لتقيم عند أخيها الكبر ،خالي "توفيق" ،بعض الواقت إلى حين شفائها .فلم يكن بإمكاني أن أكون إلى جانبها ،ألبي طلباتها ،وأحنو عليها ،وأتعلم منها ...إلخ 127
دأبت خالتي "آمنه" على التنوبؤ لي -بعد تلك الرسالة -بأني سوف أصبح شاعرار مرمواقا .إل أنها لم تلبث أن تداركت وغيرت نبوءتها لتراني واقد أصبحت مثلها فنانا ر يشار إليه بالبنان .وأخذت على عاتقها مهمة تنمية موهبة الرسم التي كانت تراها تطل من بين خطوطي في أيام صباي المبكر ،في القدس. كانت "ست آمنه" اقد أنشأت هناك ،في مدرسة اليتام ،معهدا لتعليم التطريز والرسم للبنات ،حيث كنت أحرص على اقضاء أيام "الفرص" والجازة الصيفية مواظبا على مرافقتها ،والمتثال إلى أوامرها وتعليماتها .وحيث كنت أيضا أنعم برفقة صبايا جميلت أنيقات ،يتسابقن لرضاء إبن أحت الست "آمنه" . *
*
*
ما زالت خالتي "آمنه" تتراءى لي بطبيعتها المرحة التي كانت تثير الصخب والمرح في مجالسها وتنبت السعادة في اقلوب الجميع من الاقارب والصداقاء والتلميذات اللواتي أحببنها لدرجة الهيام .وما زلت أذكر ضحكاتها التي كانت تنم عن وجه آخر كثيرا ما كنت ألمح فيه أطياف الحزن والشواق إلى شيء لم أكن أدري كنهه. عاشت خالتي"آمنه" بعد ذلك أكثر من ثلثين عامرا .درست خللها، بالرغم من التقدم بالعمر ،الفن التشكيلي في مصر ،وعملت بمهنة التدريس في دمشق ،ثم التحقت لبضع سنوات ببعثة دراسية فنية في "بلغاريا " ،ثم عادت إلى سوريا. ورأتني ونبوءتها في طورالتحقيق! اقالوا لي -بعد وفاتها -أنها كانت تحتفظ ،باعتزاز ،تحت زجاج الكومودينو بجانب سريرها ،بصورة لي مأخوذة من إحدى المجلت الفنية ،تتصدر مقال نقديا للكاتب النااقد السينمائي المصري "فتحي فرج" تحت عنوان: المخرج الشاعر ..واقصيدته "حكايه".. 128
و "حكايه" ..كان اسم الفيلم السينمائي الروائي القصير"..مشروع" تخرجي في أكاديمية الفنون بفيينا. *
*
*
"صنـــدوق العجـــب"..
لم يأت اختياري لدراسة السينما إعتباطا ،أو من فراغ .لقد ظلت رغبتي دفينة الظروف الجتماعية المحافظة إلى حد الرجعية، والاقتصادية المتدهورة إلى حد ل يمكن إل أخذها بعين العتبار. لكن ،في الواقت المناسب ،ولسبب ما ،وإن طال المد ،تستيقظ تلك الرغبة وتنفض عن نفسها تراب تلك الظروف ،وتملي إرادتها علي .ل سيما بعد أن أدركت وتيقنت أن لغة السينما لغة عالمية ل بد ر من أن أتزود بها كسلح تفتقر إليه "القضية". إن الكتابة عن تجربتي السينمائية )وذلك هو المنطلق لما أنا بصدده الن من تدوين لسيرتي الذاتية ،أو ما يشبه ذلك( لن تكتمل إن لم يتصدرها ،أو يتخللها الحديث عن بدايات علاقتي بالسينما في مراحل مختلفة من الطفولة والصبا والشباب. في أحد كتاباتي ،بينما كنت أتحدث عن لغة الصورة، والصورالمتحركة بالذات ،ودخولها إلى عالم الطفولة ،سااقتني التداعيات إلى ذكريات عن طفولتي في القدس. وليس هناك الن من حرج في أن أجري تعديل في ترتيب الصفحات ،وأن أستدعي تلك الذكريات في تسلسل جديد .فمن نعم ا أني واكبت ذلك الختراع المسمى "الحاسوب" ،والذي يسهل إعادة ترتيب الوراق بمجرد لمسات محسوبة لزرار معينة فيه، وبعدها تتدفق الكلمات والسطورفي المكان الذي تختاره: 129
اقد يكون "جيل التلفزيون" ،ومن بعده "جيل الفضائيات" ،أسعد حظا من الجيال التي سبقته .فهو اقد تعلم كيف "يحبو" متجها الى "الجهاز" ،الذي أرغم الكبارعلى الرضوخ لرغبة الصغارعلى حضور مجالسهم ،ليدير مفتاحه )أو أن يعبث في مرحلة متقدمة بـ "الريموت كونترول"( بثقة مذهلة ،اقبل أن يتعلم المشي ،ثم يختار مكانا اقريبا ليرااقب منه الشاشة الصغيرة ،أو ليرى ردود فعله لدى الحاضرين .أو يظل ،بدون أن يتمكن من أن يصوغ تسامؤلته، يطل من خلل تلك النافذة الى عوالم غريبة ،وكأنه على يقين من أن الفرصة ما زالت أمامه ،وأن مغاليق السرار سوف تتفتح شيئا فشيئا ،لن الزمن يعمل لصالحه .فالصورة المتحركة ،الناطقة، يتسلل مفعولها بالتدريج ،لتصبح جزءا من وااقعنا ،ووسيلة للتواصل مع العالم ،وكأنها ،كما يقولون ،تحصيل حاصل .ول مكان هناك للدهشة. لكننا ،الجيال السابقه ،مازلنا نذكر ذلك الحساس الجميل بدهشه المشاهدة الولى ،لنها جاءت في سن تكون الذاكرة فيه على اقدر من النضوج .وبعد ذلك يأتي الحساس الكثرإمتاعا،عندما تأخذ تسامؤلتنا التي كنا نطلقها ،بكل ما فيها من سذاجة ،في تبديد تلك الدهشة .ففي سن الطفولة تنمو وتترعرع "ذاكرة الحفظ" ،ثم تبدأ "ذاكرة الفهم" في الظهور في سنوات المراهقة المبكرة ،حيث يجري إكتشاف الشياء في ضوء جديد. من منا ،الجيال السابقه ،ل يتذكرأحاديث الكبارعن"أفلم السينما"، ذلك الشئ الذي لم يحن الواقت بعد لمشاركتهم الحديث فيه ،لننا كنا صغارا .وعندما يحين الواقت ،يصبح لكل منا ،نحن الصغار، حصيلة من المشاهدات نتباهى بها أمام الاقران. كانت دورالسينما تتواجد خارج أسوار "القدس" القديمه .وذلك يعني أن "حضور" الفلم يتطلب النتقال الى خارج البلده ،وركوب "الباص" برفقة أحد الكبار للوصول الى دار السينما ،التي كان اختيارها من اختصاص الكبار أيضا .وكانت المواسم والعياد هي 130
الفرصة الوحيدة المتاحة لنا ،نحن الصغار .ولم يكن أمامنا سوى القبول بما هو متاح .هذا ،وليجب أن ننسى المظهر الحتفالي الذي يتجلى بارتداءنا حرلة العيد ،وحصولنا على العيدية. وكانت سينما "ريجنت" هي الاقرب ،كما يبدو .بالرغم من أنها تقع في حي"البقعه" ،في القدس الجديده .ولهذا السبب ،ربما ،كانت معظم الفلم الولى التي شاهدتها أفلما "إنجليزيه". "زورو"" ،سيسكو"" ،فلش جوردن"" ،طرزان"" ،كينج كونج". سبق ذلك أوتخلله مشاهدة "يوم سعيد" و"ممنوع الحب" أو غيرهما. وهي نفس السماء التي كان يرددها الاقران .كل يتباهى بكمية الفلم التي شاهدها ،والتفاصيل التي يحفظها عن القصص المثيرة أوعن المعارك التي خاضها البطال. ولسبب ما كنت أاقل أاقراني حظا من حيث عدد الفلم التي "حضرتها" .ربما لكوني أصغرإخوتي .أما أخي الوحيد ،فكان يكبرني بستة أعوام ،ربما ل يليق معها اصطحابي مع أصداقائه الى خارج السوار. إل أنني كنت كثيرا ما أجدني مضطرا لختلق اسم "فيلم" ل يعرفه الاقران ،ورواية اقصص ومغامرات تفوق اقصصهم إثارة وغرابه. كلها مستوحاة من ثرثرات أخواتي حول كتب أو اقصص كن يواظبن على اقراءتها ،مثل "جين إير" و"تحت ظلل الزيزفون" و "ووذرينج هايتس" و"جوليوس سيزر" و"الغاني لبي الفرج الصبهاني"، وغير ذلك من مقررات الصفوف الثانوية في ذلك الواقت ،أو حتى فيلم "ذهب مع الريح" الذي لم تتح لي فرصة لمشاهدته ،والذي كدت أحفظ تسلسل مشاهده من كثرة استماعي إلى روايتها من خالتي "آمنه" وشقيقاتي وصديقاتهن. ناهيك عن "إلياذة هوميروس" وبطلها "أخيلوس" الذي ل يشق له غبار ،وينافس "الفانتوم" الذي يتباهى بمعرفته أاقراني العزاء. ثم يطرأ ذلك التغييرعلى حصيلتي من الفلم ،كرما ونوعا ،ذات صيف .ذلك عندما تقرر أن تقضي العائلة جزءا من العطلة الصيفية 131
في مدينة "يافا" ،حيث يقيم أاقارب لنا ،ومن أاقربهم وأحبهم لي خالي "علي" .وحيث اختلفت السماء التي يرددها الاقران الجدد هناك. "عبدالوهاب"" ،رصاصة في القلب"" ،ليلى مراد"" ،انتصار الشباب"" ،رجاء عبده"" ،عنتر وعبله"" ،رابحه"" ،بدرلما"، "اقبله في الصحراء"" ،ليلى بنت الفقراء" و"ليلى بنت الغنياء" و "ليلى بنت مدارس" .وإن أنس ل أنسى آخر سلسلة أفلم "ليلى".. وهو فيلم " ..ليلى ممطره"! أعداد لحصر لها من السماء .كأنهم ،في"يافا" ،يعيشون في مواسم وأعياد متصلة ل تنتهي .أو لن مدينتهم ليس لها أسوار تفصلها عن الحياء الجديدة ،حيث تكثر دورالسينما. هذا ،واقد تناهى الى علمي ،بعد ذلك ،أن هناك في"يافا" أحياء بعيدة يسكنها اليهود ،وتكثر فيها دورالسينما المختلفة ،وأماكن أخرى عرفت فيما بعد أنها تلك الماكن التي يرتادها عادة أبطال الفلم العربية حينما ..يزعلون. لم تكن تلك هي المرة الولى التي نزور فيها مدينة "يافا" ،التي كنت أجد فيها من المزايا ما يجعلني أفضلها ،في بعض الحيان ،وفي بعض الجوانب،عن مدينتي"القدس" .ول أدري أهوالبحر وشواطئه الرملية الناعمة الممتدة؟ أم هي بيارات البرتقال المترامية الطراف التي يمتلكها بعض الاقارب ،مما كان يتيح لي اقدرا من اللهو والنطلق في تلك الماكن التي تتميز بآفااقها الرحبة؟ ذلك الشئ الذي كنت أفتقده في القدس القديمة ،ذات السوار ،والحارات الضيقه. أم هم الاقارب أنفسهم ،وأولهم "خالي علي" بالذات ،ومن بعده ذلك العدد الكبير من الاقران الذين يتميزون بحرية أكثر ..وأفق أوسع؟ كان "خالي علي" رجل أنيقا مهيب الطلعة ،مرحا خفيف الظل، يشيع البهجة في مجالسه بالرغم من حفاظه دوما على صرامة ملمحه و كأنه يخشى أن ينسى أحدنا للحظة أنه "مدير" المدرسة العامرية الثانوية .وعندما كان يزورنا في القدس ،كانت الحارة كلها تقف على اقدم وساق. 132
كنت أتباهى به أمام أاقراني ،وكم كنت أشعر بالفخرعندما يسألني أحد أساتذتي أو مديرالمدرسة في مختلف مراحل التعليم البتدائي أوالثانوي ،وكثيرا ما تكرر ذلك ،عن مدى اقرابتي لذلك "المربي الفاضل" الذي كانت تنهال علي أوصافه الجليلة من أفواه أساتذتي.. تلميذه. كنت أعتبره مثلي العلى في كل صفاته ومواصفاته ،وأحلم بأن يصبح لي في يوم من اليام بيت مثل بيته ،وزوجة محبة مثل زوجته ،وأولد وبنات مثل أولده وبناته. وكثيرا ما كنت أاقوم بتقليد طريقته في الحديث ،حيث يكثر في عباراته من استعمال الكلمات العربية الفصحى. أشد ما كان يبهرني هو صالون بيته ،وآلة "البيانو" التي تتصدر المكان ،وإلى جانبه "الفونوجراف" واسطواناته بمختلف أنواعها، والجدران المكدسة بخزائن تحتشد رفوفها بكتب مختلفة الحجام. كان يبالغ في المحافظة على كتبه بحيث يوصي بتجليدها بأغلفة جلدية داكنة اللون يلمع في أعقابها إسمه المطبوع بماء الذهب ،مما جعلني أتوهم في البداية أنه المؤلف لكل تلك الكتب. ذلك ،خصوصا ،بعد أن ذاع صيته كمؤلف لكتابري "من طرائف العلماء" و"من البنسلين إلى القنبلة الذرية " ،اللذان صدرا عن "سلسلة الثقافة العامة" في يافا ،في أعقاب الحرب العالمية. لم يبهرني إبن "خالي علي" ،الذي كان يصغرني بما يقرب من سنوات ثلث ،والذي تعود أن يقف على كرسي أمام ضيوف والده ليلقي نشيد "النرجادة" الوطني: في حالكات النويوب ل تيهي ت واهتف بلد العرب للعرب ب ... ... ...إلخ أو ليجيب بدون أن يتلعثم عن أسئلة تتعلق بعواصم بلدان العالم .ذلك، لنني كنت أحفظ الكثير من الناشيد والغاني ،ولن أخي "عابد" كان يتباهى أمام أصداقائه بمقدرتي على حفظ أسماء عواصم بلدان بعيدة مثل "تشيكوسلوفاكيا" و"هنغاريا" و"بولندا" و"التحاد السوفييتي" و"الصين" وغيرها! 133
هذا بالضافة إلى"تسميع" منطوق نظرية "فيثاغورس"" :مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية ..إلخ". أو تصريف بعض أفعال اللغة اللتينية ،أو رسم خارطة فلسطين والعالم العربي من الذاكرة. لكن ما كان يبهرني ويثير دهشتي ،وربماغيرتي أيضا ،هو تلك الجابات التي كانت تتعلق بأفلم السينما وممثليها .وذلك الشيء الآخرالذي لم أسمع به اقبل ،وهو أسماء "مخرجي الفلم". من أين لي أن أعرف ،في ذلك الواقت ،أن هناك لكل فيلم "مخرجا" يشرف على إخراجه؟ وأن مخرج فيلم "اقبلة في الصحراء" هو "إبراهيم لما" ،الفلسطيني؟ أو أن مخرج فيلم "سلفني تلته جنيه" ،بطولةعلي الكسار ،هو "توجو مزراحي" ،اليهودي ،كما كان إبن خالي يفعل؟ في ذلك الصيف ،بلغ إعجابي بمدينة "يافا" أشده .وصرت أشعر بأنه ل وجه للمقارنة بينها وبين "القدس" ،مدينتي .فهناك ،غير بحرها الذي أسرني سحره ،ميزة جديدة اكتشفتها في مدينة "يافا" .فقد سمح لي الهل بمرافقة أاقراني الجدد لحضور أحدالفلم ،بدون مرافقة الكبار .وتوالت بعد ذلك المفاجآت. مشينا ،وركضنا ،وبرطعنا ،واقفزنا ومارسنا كل أساليب النتقال التي تعتمد على الاقدام .وكنت أتصور أن ذلك كان من اقبيل الستعجال للحاق بطابور اقطع التذاكر ،الذي ينطبع طوله في مخيلتي ،والذي يعتبر من الطقوس الضرورية لحضور الفلم .الى أن وصلنا سينما "الحمرا"! تذكرت عندها أن السينما التى شاهدت فيها الفلم الولى كان اسمها سينما "ريجنت" ،وأخرى كان اسمها "ركس" ،وثالثة كنت أسمع بعض الاقران يرددون اسمها "زيون" ،ورابعة اسمها "أوريون". وكانت المفاجأة الولى..أن أكتشف أنه يمكن أن يكون لدور السينما أسماء عربية. أما المفاجأة الثانية فكانت أكثرغرابة .فقد كان علينا ،بعد أن وصلنا سينما "الحمرا"،أن نسلك ،بدون أن أعرف السبب ،بقيادة رجل ل 134
أعرفه ولكنه كان يعرف جميع أفراد المجموعه ويناديهم بأسمائهم، طريقا خلفيا عبر ممرات وأبواب عديدة ،الى أن وجدت نفسي أجلس معهم في"..اللوج"! ولم يتركنا الرجل العندما تأكد أننا ل نحتاج الى أي شئ آخر .كأنه موصى علينا من اقبل شخص مهم. ول أعرف لماذا شعرت بالحباط ،بدل من الشعور بالسعادة نتيجة لذلك المتياز .صحيح أنني رأيت إبن خالي وهو يتلقى مبلغا ل بأس به من القروش من والدته مع تعليمات ووصايا تجعل مني شريكا له، ومما اقد يتيح لنا تلك الرفاهية .لكن هذه الحقيقة لم تستطع أن تبدد حيرتي. الشئ الذي حيرني هو أننا لم نقف في الطابور ،أمام شباك التذاكر، حيث تعودنا ،في القدس ،أن نقف طويل ،ونصبر ،ونتدافع ونناضل الى أن نصل ،نحن الصغار ،الى ما تحت الشباك ،ونرى كبيرنا وهو يعد النقود ويعطيها لشخص ل نراه ،ليتناول منه تذاكرا يختلف لونها عن تذاكر بعض الخرين .ونسعد أشد السعادة لننا بذلك نكون اقد اقطعنا شوطا من المسيرة الكبرى في طريقنا الى الصفوف الولى أمام الشاشه. أما الشوط التالي من المسيرة ،فهوالواقوف في طابورآخر ،في انتظارأن ينفتح باب الدخول .وما أن ينفرج الباب حتى نتنفس الصعداء ،وتعلوالصيحات ،ثم نبدأ بالتدافع والنضال مرة أخرى للوصول الى ذلك الرجل الذي كنت أتصور دائما أنه صاحب الدار. فهوالمرالناهي ،وهو الذي يقرر أي اتجاه علينا أن نتخذه ،بعد أن يداقق النظر في "البوليت" ،ويجتزئ لنفسه اقطعة منها ،يحتفظ بها في صندوق كبيرأمامه يسنده بكرشه ،أو يسند به كرشه. ثم تغمرنا النشوة ونحن نهرول في اتجاه الصف الول والمقاعد المكتوبة أراقامها على ظهرالجزء المتبقي لنا من "البوليت" ،بين أصوات طراقعة الكراسي ،وضجيج الناس ،ونداءات الباعة، وأصوات فتح زجاجات "السيفون" ومن ثم صوت ارتطام الغطاء المعدني وتدحرجه على أرضية الصالة المنحدرة. 135
لم يكن هناك واقت كاف للتسامؤل ،فسرعان ما ساد الظلم .ويبدو أن أاقربائي ،لكثرة ترددهم على هذه الدار ،اقد عرفوا بالضبط الزمن الذي يحتاج اليه الوصول في الواقت المناسب. وأنشغلت أنا ،كعادتي ريثما تنتهي "العناوين" ويبدأ الفيلم ،في متابعة ذلك الشكل المخروطي الهائل من الدخان والغبارالمضئ .اقاعدته تستقرعلى الشاشة البيضاء ،ورأسه ينبع من ثقب في أعلى الحائط الخلفي للصالة .أحاول أحيانا الربط بين ما يجري على الشاشة وبين التقلبات التي تطرأ على المخروط الضوئي .وأعترف أن ذلك كان يشد انتباهي ويلهيني في بعض الحيان عن "كينج كونج" نفسه .وفي أحد المرات ،صادف أن رأيت رأس المخروط وهو ينتقل من الثقب في أعلى الحائط الخلفي الى ثقب مجاور له .وظللت أراقب رأس المخروط الى أن عاد الى الثقب الول .وهيهات أن أعرف كيف ولماذا؟ بالرغم من أنني سألت من هم أكبر مني سنا. عندما مددت بصري لعد الثقوب التي يخرج منها رأس المخروط في سينما "الحمرا" بيافا ،اصطدم بصري بسقف "اللوج" الذي كنا نجلس فيه. ما أكثر ما تقف الرفاهية حائل دون المعرفه! ل بأس ،فربما أستطيع أن أاقنعهم ،في مرة أخرى ،أن نجلس في مكان آخر. في اليوم التالي ،وفي نفس الواقت ،وكأنما أخذت على حين غرة من أمري ،وجدت نفسي أجلس في نفس المكان ،أشاهد نفس الفيلم ،مع نفس المجموعة من الاقران. وسرعان ما اكتشفت سرالسرار ،وهوأن سينما "الحمرا" يمتلكها "عمو أبوعمر" ،وآخرون من الاقرباء. وحينما أبديت رغبتي في تغيير المكان ،لغرض في نفسي .ااقترح أحدهم أن نصعد لنزور"عمو أبوعصام" .وفي الحال ،وكأنما هم على اتفاق مسبق ،هرول جميعهم ،وأنا معهم ،سالكين ممرات ،صاعدين أدراجا معدنية ضيقة ،لتتسع لكثر من شخص واحد ،يقودنا "عمر" الذي فتح باب غرفة مكتوب عليه كلمة اقرأتها ولم أفهم 136
معناها .ثم سمعت صوتا مميزا أعرف اسم صاحبه ،يرحب بنا جميعا. يتميز "عموأبوعصام" أيضا بطوله الغيرعادي ،وبشاشته الدائمه. وكم أسعدني أنه رحب بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد .بل إنه سألني ليتأكد من أنني ابن "أبوالعابد" ،وازداد ترحيبه عندما أكدت له ذلك .وأخذ يحدثني عن دارنا في القدس ،وعن "اقهوة الباسطي" التي تقع تحت الدار ،وعن "طريق اللم" التي تمر من أمام القهوة ويمتد صعودا الى اليمين ليؤدي الى كنيسة القيامه .وإذا لم نتجه الى اليمين، وأكملنا سيرنا نزول فإننا نكون في طريقنا إلى "الحرم الشريف" و"المسجد الاقصى". كان يحدثنا وعيناه ل تغيبان عن آلة ضخمة ،تقف الى جوارآلة أخرى مشابهة لها تماما .ينبعث من الولى نور يخرج من ثقب في الحائط .ولها صوت يكركر بنعومة مع دوران بكرتين أحدهما فوق مصدر النور والخرى من تحته ،والشريط اللمع الجذاب ينساب بينهما. فجأة أشارالينا "عمو أبوعصام" بيده أن نلزم الهدوء .فإذا باللة الولى تتواقف عن الدوران ،وينطفئ نورها في الواقت الذي تبدأ اللة الثانية بالدوران ،وينبعث منها نور يخرج من ثقب في الحائط، مجاور للثقب الول .وتذكرت في الحال "كينج كونج" الذي كاد أن يشد انتباهي و يلهيني عن مرااقبة رأس المخروط الضوئي الضخم، الذي يخرج من ثقب في أعلى الحائط الخلفي لصالة سينما "ريجنت" بالقدس. عندما ينتهي عرض "الفصل الول" من الفيلم ،تبدأ اللة الثانية بالدوران لعرض"الفصل الثاني" منه .هكذا أخبرني"عموأبوعصام"، بعدأن رأى الدهشة المتسائلة تقفز من عينري لتتشبث به ،بينماهو يقوم بتركيب "الفصل الثالث" من الفيلم على اللة الولى ،في مكان "الفصل الول" الذي اكتمل عرضه.
137
كنت أنظر حولي ،وأنا أكاد ل أصدق أنني موجود في المكان الذي ينبعث منه ذلك الشعاع السحري ،الذي ينتظره الناس في صالة العرض بفارغ الصبر. هل سيصداقني أاقراني في القدس ،عندما أاقول لهم أنني كنت في ذلك المكان؟ ثم وجدتني ابتسم وأنا أتذكر ابن الجيران "فاروق" ،الذي كان يعرف أشياء كثيرة ل نعرفها ،وكاد أن يقنعني بأن الصورة التي نراها على الشاشة تنبعث من خلف الشاشه ،ل من أمامها كما أرى بأم عيني الن .وأتأمل كل ما في تلك الغرفة ،محاول أن أحفظ تفاصيل صورتها في ذاكرتي ،لكي أشرح لفاروق وغيره ما ل يعرفونه، وأعرفه أنا عن يقين وتجربه. فجأة أفيق من تأملتي على صوت "أبوعصام" العريض وهو يطلب من"عمر" أن يسلرم على أمه وأبيه وأخوته .ويخرج آخرالاقران وهو يشير لي باللحاق بهم ،فُأصسغر أكتافي معلنا أنني أريد البقاء ،ناظرا الى "عمو أبوعصام" في رجاء يشبه الستعطاف .فيلحق بهم ليطلب منهم أن يمروا ليأخذونني معهم اقبل العودة الى البيت ،والسعادة تنضح من وجهه لنني ،كما اقال" ،فلتلتح" وأحب المعرفه. ومنذ تلك اللحظة ،أخذ على عاتقه مهمة الشرح المفصل ،الذي لم أستوعبه ،لشياء لم أشك في أهميتها. كنت أشعر بقوة ما تشدني الى ذلك المكان .تدور في رأسي دوامة من السئلة التي ل أعرف كيف أصوغها .وكانت الغرفة تتسم بشئ من الفوضى ،مكدسة بعلب مستديره من الصفيح ،بعضها يعلوه الصدأ، والبعض الخر مازال يحتقظ ببريق جذاب .ولكنها ،الغرفة ،كانت نظيفة تفوح منها رائحة خاصة ،مميزة ،أليفه ،ملت خياشيمي منذ أن دخلتها. ذكرتني تلك الرائحة بـ"خالتي آمنه" ،الفنانه التشكيلية ،أو"الرسامه"، كما كانوا يلقبونها أحيانا. كانت ،في ذلك الواقت ،تربطني بها صلة تتجاوز كثيرا صلة ابن الخت بخالته .شئ ما كان يشدني لتكرار زيارتها ،في مرسمها في"داراليتام" بالقدس ،كلما لحت لي فرصة لذلك .كنت أحب 138
الرسم .وكنت ل أمل من مرااقبتها وهي تمارس عملها .وأسعد اللحظات كانت هي تلك التي تضع فيها أمامي أصيص الزهور ،أو أي شيء من هذا القبيل لاقوم برسمه .ثم تبدأ بدندنة أغنية لعبدالوهاب ،وأنا على يقين بأنها تفعل ذلك لتستدرجني للغناء .فقد كنت أحفظ ،عن ظهراقلب ،الكثير من الغاني التي كان يصدح بها "راديو" أو "جراموفون" اقهوة الباسطي ،ليل نهار ،منذ رأت عيناي النور. وكثيرا ما كانت تطلب مني أن أاقوم بتنظيف ُفرش الرسم ،فأفعل ذلك بترحاب شديد .ول أتذكر تماما ،هل كنت مغرما بعملية التنظيف نفسها،أم بتلك "الرائحة" التي تنبعث من سائل التنظيف؟ أم أنني كنت مغرما بكل ما له علاقة بخالتي "آمنه" الفنانه ،التي كنت أتمنى أن أصبح فنانا مثلها .بينما هي تتنبأ لي بأني سأكون شاعرا مشهورا، لمجرد أنني ،ذات مرة ،كتبت لها رسالة أعبر بها عن شواقي لها، وعن اقلقي لمرضها. تكررت زيارتي لصومعة العم أبوعصام ،وشجعني على ذلك بشاشته الدائمه ،وابتسامته التي ل تعرف الملل. في المرة الثانية التي زرت فيها "الصومعه" ،حدث ما تعودنا أن يكون سببا لهياج الجمهور في صالة العرض .مرة لهتزاز الصورة على الشاشة ،وأخرى لنقطاع الصوت ،وغيرها لنقطاع الصوت والصورة معا ،مع تواقف التقلبات التي تجري في جسم مخروط الدخان والغبارالمضيء ،وظهورالشاشة بيضاء من غير سوء ،ما عدا بعض البقع الكبيرة الباهته من تأثيرالرطوبة ،فيعلوالصياح والصفير والتعليقات التي تثير ،أحيانا ،عاصفة من ضحك الجمهور. وكم كانت سعادتي وأنا أشهد مثل تلك اللحظات ،في المكان الذي تتجه اليه النظار مبتهلة ،وأرى ما الذي يجري لكي تعود المياه الى مجاريها. ضك"! صدمتني ،لول وهلة ،شتيمة العم أبوعصام" ،يلعن عر ل بكسرالضاد .اقالها وهو يقتطع جزءا من كلل من طرفي شريط الفيلم، ويلقى به على أرض الغرفة بعصبية ل تليق به ،وكأنه أحد الممثلين المحترفين السيئين. 139
بعد أن عرفت أنها المرة الثالثة ،التي تقوم فيه اللة بفعلتها الشنعاء في نفس اليوم ،وهوما يفسر وجود شرائط يتراوح طول كل منها ما بين متر الى نصف متر ،من الفيلم ،مبعثرة على أرض الغرفة، وجدت أنه من الطبيعي أن يتعرض سلوك "آلة العرض" للعنة العم "أبوعصام" .وعندما تأكدت أن ما صدمني هو مجرد تشابه لفظي بين ما اقاله وبين الشتيمة السواقية المعروفه ،اشتد تعاطفي مع"عمي أبوعصام" ،وعبرت عن ذلك بمبادرتي بجمع اقطع الفلم المبعثرة، بينما هو منهمك في لصق طرفي الفيلم المقطوع .يبسمل ويحواقل بصوت عال ،ردا على شتائم الجمهور وصفيرهم الذى كان يعلو ويتزايد .ورائحة خالتي "آمنه" تعبق في المكان أكثر من ذي اقبل. وما هي ال ثوان معدودة ،حتى يعود الهدوء ،وتعود اللة لتكركر بنعومة محببه الى نفسي .كما تعود البتسامة الى وجه الرجل .وكأن شيئا لم يكن .و يؤكد لي ،وهو يربت على آلته بحب وحنان بالغين ،أن العيب يكمن في نسخة الفيلم القديمة المهترئه ،وأن اللة ل عيب فيها أبدا. كنت وااقفا أراقبه وأنا أحمل اقطع "الفلم" ،بعد أن اقمت بجمعها وترتيبها بحرص شديد حسب أطوالها ،متسائل أين أضعها ،بينما كانت نفسي تحدثني أن أطلب منه ،على الاقل ،أن أحتفظ بأصغر اقطعة منها .وأتخيل نفسي ،وأنا في "القدس" ،أفاجيء أاقراني ،ومعي الدليل المادي ،على خبرتي الواسعة في مجال السينما .خصوصا "فاروق" ،أكثرهم علما ،والذي ظل يؤكد أن الصورة تأتي من خلف الشاشة ،بالرغم من إشارتي إلى المخروط الضوئي الذي ينبع من الحائط الخلفي لصالة العرض في دار السينما .وأكثر ما كان يحز في نفسي ،أنني لم أستطع إل أن أسلم بما يقول ،خوفا ل ااقتناعا. فبالرغم من أنه لم يكن أكبرنا حجما ،إل أنه كان أكثرنا اقوة وشراسه. كان يستمد هيبته من أبيه "الومباشي" ،الذي ما يكاد يهل عند عودته من عمله ،حتى يتركنا "فاروق" راكضا نحو أبيه ،ليعود متعلقا بحزامه ،ينظر إلينا وهو يتحسس "الفرد" المتدلي منه ،فننفض لنوسع لهما الطريق ،ونحن نرتعد خوفا. 140
أنقذني الصوت المميز من الذكرى المؤلمة لـ"القتله" التي أكلتها من "فاروق" ذات يوم .فقد كان العم "أبوعصام" يطلب مني أن أناوله اقطع "الفيلم" التي أحملها بحرص .أخذها وأخذ يقص أطرافها، ويشذبها ،ويكحتها ،ثم يبلل الطراف بريشة داقيقه ،بعد أن يغمسها في زجاجة صغيرة شدت انتباهي ،لنني أدركت أنها مصدرالرائحة الخاصة المألوفه. كان يمارس عمله بتلذذ واستعراض واضحين ،بينما هو ينظرالي، بين الحين والخر ،مبتسما ابتسامة الماهر العارف .وكان يتمتم، وكأنه يحدث نفسه بصوت مسموع ،أو كأنه يريد أن يسمعني صوته يصف خطوات العمل الذي كان يؤديه باستمتاع فائق. ثم نطق بكلمة كدت أاقفز من الفرح وأنا أسمعها"..أسيتون"! مرحى! لقد تذكرت إسم السائل الذي كنت أاقوم بتنظيف فراشي الرسم به ،في مرسم خالتي "آمنه". هل كان يقرأ أفكاري؟ تكررت زياراتي للعم "أبوعصام" .وتحولت اقطع "الفيلم" الى بكرة كان اقطرها يزيد في كل مرة .خصوصا بعد أن تعلمت كيف أكحت أطراف الفيلم وأاقوم بلصقها بسائل "السيتون" ،بنفسي .إلى أن وصل حجم البكرة من الكبر ،بحيث أصبحت أزهد في المزيد. وعدت الى الصالة أمتع نفسي بمشاهدة الفلم . شاهدت فيلم "دموع الحب" ،لعبدالوهاب ،بعدد أيام السبوع .وحفظت أغــانيه"..كــروان حيــران""..مــاأحلى الحــبيب""..يامــا بنيــت اقصــر الماني" ..و"سهرت منه الليالي". )واقدعرفت بعدها أن الفيلــم عــن اقصــة "ماجــدولين" لكاتبهــا "ألفـونس كار" وترجمة المنفلوطي(. وزادت حصيلتي من أسماء الممثلين والفلم ،بالضافة إلى معلوماتي عن "كابينة" العرض ،بحيث أصبحت أستعجل العودة الى القدس. كنت في كل مرة أعود فيها من "يافا" ،أو من "غزه" ،أحمل معي مجموعة من أنواع مختلفة من أصداف البحر والمحار والودع 141
جمعتها من الشاطيء ،تثير إعجاب وانبهارأاقراني في الحارة وفي المدرسه. كم كنت أتباهى بامتلك تلك الشياء التي ل يعرفها أاقراني، وخصوصا تلك المحارة الكبيرة التي أدهشتهم عندما كانوا يضعونها على آذانهم ليسمعوا هديرالبحر كما كنت أدعي! فما بالهم وأنا أعود إليهم ،هذه المرة ،بما لا يمكن أن يتواقعه أحد؟ وكان ما تواقعت .فلقد سرت أنباء "البكره" بينهم ،كما يقولون، مسرى النار في الهشيم .وكان أيضا ما لم أكن أتواقعه ،وهو انتقال خدمة الومباشي "أبو فاروق" ،الى بلد آخر .فأصبحت ،بين عشية وضحاها ،مرجعا لولد الجيران في كل ما يختص بأسرارالسينما. ل يساورني خوف من أن أتعرض لتهديدات "فاروق" وجبروته. ثم جاء الواقت الذي اضطررت فيه ،لكي أحتفظ بمكانتي المتميزة بين أاقراني ،أن أعمل الفكر ،وأكررالمحاولت والتجارب ،للوصول الى ماهو أكثر من مجرد امتلك "البكره" ،والمعلومات التي مللت من تكرار ترديدها عن صومعة العم "ابوعصام". كانت الستارة البيضاء التي تغطي "ركسة الفراش" الموجودة في صدر"أوضة الضيوف" في بيتنا في القدس ،هي التي ألهمتني باستعمال "مصباح اليد" الكهربائي كمصدر للضوء ،الذي يخترق الفيلم ويلقي بصورة مكبرة على الشاشة..الستارة. أخيرا ،وبعد تجارب عديدة ،ها هي الشاشة وعليها صورة عربة "كارو" يجرها بغل ،محملة بكومة من القش .يجلس فواقها الستاذ "محمد عبدالوهاب" متأنقا ،أكاد أسمعه وهو يغني أغنية "إجري..إجري..إجري..وديني اقوام وصلني". وهكذا تطور نبأ "البكره" ،ليصبح إشاعة يتنااقلها الاقران في كل مكان ،بلسان شهود عيان ،تؤكد أن"..غالب اخترع سينما" ..وفي اقول آخر"..صندوق العجب"! لم يبق سوى أن أاقوم بتطوير ذلك الصندوق الكرتوني بأن أجعل له نافذة صغيرة مستطيلة ،بحجم صورة الفيلم ،ذات مجرى يمر فيه شريط الفيلم ،لينساب من "البكرة" في أعلى النافذة الى بكرة أخرى 142
في أسفلها ،أديرها بيدي ،بينما تمر حزمة الشعة الصادرة من المصباح الكهربائي من خلل النافذة المستطيلة ،لكي تتحرك العربه الكارو على الستاره .ناهيك عن نيتي المبيتة ،لصنع اقرطاس كرتوني ضخم ،كمكبر للصوت ،ليسمعهم أغنية "إجري..إجري ،"..بصوتي، وأكون بذلك اقد عرضت جزءا من فيلم "يوم سعيد". لكن ،هيهات أن تنجح التجربه. فما أن تدور يدي بالبكرة ،حتى تنطمس الصور في بعضها البعض على ستارة "ركسة الفراش". ولم تنفعني الستغاثة بخبرة أخي الكبر ،أو خالتي "آمنه" ،ول حتى أستاذ الرسم والشغال اليدوية في المدرسه .حاولت الستعانة بكل من كنت أتوسم فيه المعرفه .وكنت بمحاولتي ،التي ذهبت كلها أدراج الرياح ،كمن يؤذن في "مالطا". وظلت المسألة لغزا لم أعرف له حل. إلى أن التحقت بأكاديمية الفنون لدراسة "السينما" .وعرفت أن هذه المشكلة بالذات اقد ظلت تؤرق رواد صناعة "السينماتوجراف" في أوروبا وأمريكا في نهايات القرن الماضي .ولم تتحرك الصورة بوضوح على الشاشة إل عندما أضاف المخترع "أوسكار ميستر"، في عام ،1895الى آلة العرض ،اقطعة معدنية تشبه في شكلها الصليب .وتعرف حتى اليوم ،ول أدري لماذا ،بإسم"..صليب مالطا". *
*
143
*
"تلحيـــــــــــن"..
يقينا أن تنامي الحساس بجمال اللغة العربية ،وتذواقها منذ الصغر، ر بفضل تراتيل والدي القرآنية المتميزة ،وانغماس أخيي"عابد" في ثقافة المطالعة ومجاراة أختاي الكبريين له ،هوالسر ،بالدرجة الولى ،في ذلك الاقبال المبكرعلى القراءة ،وحبي للمطالعة ،واكتشاف مباهجها. *
*
*
ف من الشياء المحفورة في ذاكرتي ،منذ أيام طفولتي في القدس،هي تلك اليات القرآنية التي كان والدي يرددها في صلواته .خصوصا صلة الفجر ،حيث كنت كثيرا ما أصحوعلى صوته الجميل ،وهو يرتل القرآن"..ترتي ر ل" .ثم أعود للنوم إلى أن يحين موعد النهوض استعدادا للذهاب الى المدرسه. وشهر رمضان يذكرني دائما بوالدي .خصوصا ساعات ما اقبل الغروب ،حيث كان يجلس مفترشا "جنبية" على أرضية "وسط الدار" الحجريه..مرتل بصوته الشجي. وما يكاد ينتهي ذلك الشهر ،حتى يكون والدي اقد ختم "الختمه"، وتكون حصيلتي من اليات الجميلة اقد زادت .وإذا بي أحفظ عن ظهر 144
اقلب سورة "الرحمن" ،وأجزاء من سورة "البقرة" ،وسورة "يوسف"، بينما كان أاقراني يتلعثمون في "جزء عبم"..أو"جزء تبارك". وكم كنت أزهوأمام أاقراني وأنا أاقوم بترديد تلك اليات من سورالقرآن "الكبيره" ،والتي لم نكن بعد اقد وصلنا إليها في دروس الدين. لم أكن أنا الوحيد الذي كان يستمتع بترتيل والدي .بل كان الجيران دائما يشيدون بصوته وأدائه .مما كان يحفزه ويزيده إبداعا. وكانت أيام الجمعة ،التي كان والدي يصحو فيها مبكرار كعادته ول يغادرالبيت ،تعتبر بالنسبة لي حدثا هاما .فقد كانت فترة تلوته للقرآن تطول إلى ما اقبيل صلة الجمعة التي كان ل يلبث أن يسارع للحاق بها في مسجد "الاقصى" .فأستمع إليه في سورة "الرحمن" ،ول أمل الستماع إلى ذلك التسامؤل المتكررالجميل"..فبأي آلء ربكما تكذبان". أو سورة "مريم" ،وذلك السجع واليقاع الموسيقي الذي تتميز به .أو سورة "يوسف" ،فأنشغل واقد تملكتني الحيرة بمن "اقطعن أيديهن"، وبإمرأة العزيز التي"غرلقت البواب" في بيتها ،و"راودته عن نفسه"، واقالت له" :هي ي ت لك"! كلمتان لم يتمكن كل شعراء العربية ،حتى يومنا هذا ،من أن يحشدوا بمثلهما كل تلك المعاني. حفظت نتيجة لذلك جزءار كبيرار من تلك السيور ،التي تتمتع آياتها بصياغة شعرية موسيقية كانت تحملني على محاولة الترتيل.. والتجويد أحيانا. سمعني والدي مرة ،خلسة ،فاهتز رأسه " طربا" ،كما خيل لي ،ثم اقال في سخرية مؤلمة: "التجويد ،يا ولدي ،له أصوله .إنت بتغني ..وبتلحن!" ولم أحاول تجويد القرآن بعد ذلك. لكن ،كأنما اعتبرت كلم والدي شهادة لي بمقدرتي على التلحين فلم أترك بيت شعر مما كنا نحفظه في المدرسة أوغير ذلك مما كانت تصل إليه يداي إل واقمت )بيني وبين نفسي( بتلحينه وغناءه .وكان انخفاض صوتي الذي يتناسب مع بنيتي الهزيلة ،هو سراستمرارهذه المحاولت التي لم يكن يسمعها او يستمع إليها أحد غيري. 145
إلى أن عرفت أن "اللحن" ،الذي كان والدي يقصده ،هو الخطأ في اقواعد اللغة .فتواقفت عن "التلحين". *
*
*
و ال غنـــــــــــــــــــــــــــاء..
أما عن الغناء ،فلول ما كنت أتمتع به من صفات الخجل والنطواء، ولول خفوت صوتي بطبيعته ،لكنت أحتاج إلى المزيد من الحرص على أن ل يتسرب غنائي إلى مسامع الخرين ،فيرى أحدهم ،أو معظمهم ،أن أتواقف عنه أيضا. كانت "ست آمنه" هي الشخص الوحيد الذي كان يشعرني بالتميز، والموهبة ،والذي يوهمي بحلوة صوتك ،أو "حرسي" ،أوعلى الاقل، بمقدرتي على الداء .وذلك مما زاد من محبتي لها ،لني كنت في داخلي أعشق الموسيقى والغناء. كانت خالتي"آمنه" تحرص ،كما كنت شديد الحرص ،على صحبتي لها .وكثيرا ما ُسمح لي بمرافقـتها في أسفارها في الجازات إلى "غزة" .وحينئذ ،كانت أمي تنشط في أن تخيط لي أطقما جميلة تلفت النظار .فكانت خالتي تتباهى بي ،وتزداد سعادتها عندما يتعامل الخرون -الغرباء منهم بالذات -معها ومعي ..كأم وطفلها. كانت خالتي اقد أجبرت ،فيما مضى ،على الزواج من اقريب لها ل تحبه ولم يحبها ،وسرعان ما تم انفصالهما .لذلك ،كما كانت دائما تقول، وهبت نفسها للشيء الذي تحبه ويحبها ..الفن. 146
ومن الشياء التي كانت تزيد من ولعي بصحبتها في أسفارها ،أنها كانت تطلق سراحي لختارالاقارب الذين تطيب لي استضافتهم. خالتي ..عمتي ..خالي. خالي "توفيق" ،الذي كان يمتلك جراجا لتصليح السيارات ،والذي كان يعتبر من أوائل من تعامل مع ذلك الكيان الرستقراطي ،اشتهر بأسفاره التي وصلت إلى بلد القواقاز وإلى إيران التي زار فيها مدينة "خراسان" وعاد منها بزوجته الصبية الجميلة "فروق الزمان"، لينجب منها درزينة كاملة من الولد والبنات. كان دائما ما يعلن بفخر شديد أنه ينوي البدء في إنجاب "الدزينة" الثانية ،لول أن اختاره ا مبكرا. أحد أبناءه كان في مثل عمري"..راسم" .استطاع أن يقنعني بأنه ل حرج من الذهاب برفقته ،دون الستعانة بالكبار ،إلى البحر ،الذي كنت أعشق رائحته و رمؤية أمواجه والتأمل في تكويناتها ،فانجذبت وراءه مسلوب الرادة. و أصر"راسم" أن يثبت لي براعته في "السباحة" التي لم تكن تتجاوز النبطاح والستسلم للموجة بينما هي ترتمي في أحضان الشاطيء. وبينما أنا أتابع ،مأخوذا ،مهارات إبن خالي ،وراقصات المواج العنيفة التي كانت تنتهي كل منها بانحناءة مستسلمة للشاطيء ،حانت الفرصة لحد المارة أن يستولي على "صندل" إبن خالي الموضوع فوق بقية ثيابه على رمال الشاطيء .وعندما عدنا إلى البيت واكتشفت امرأة خالي ضياع الصندل ،لحست ذراعه فعرفت من طعم جلده المالح مكان غيبتنا. اقال لها ،باكيا ،أنني أنا الذي استدرجته وأخذته إلى البحر. سمعتها،عندئذ ،وهي تطيب خاطره وتســكت بكــاءه الكــاذب )خوفــا مــن عقاب والده( بينما هي تقوم بتحميمه: ..يلعن أبوه غالب اللي!.. ..زعلت ،ورحت عند خالتي "رشا"" ،إم جميل" ،وحكيت لها ما كان. وكأنما كانت خالتي تنتظرغلطة من امرأة أخيها .ذهبت إليها ،ولم تق ر صـر في تأنيبها. 147
جاء خالي إلى بيت خالتي ليصالحني ،خشية منه أن تستاء شقيقته الكبرى ،أمي ،عندما يتسرب إليها الخبر .إل أنني رفضت يومها الذهاب إلى بيته الذي ُلعن فيه والدي. عمي"أبوجميل" كان من المعجبين بمواقفي ،والمشجعين لي على سلوكي هذا. خالتي"رشا" كانت كثيرة الشبه من أمي .ويدهشني أنها كانت تجد متسعا من الواقت للهتمام بي ،بالرغم من أن لها رهط من البناء والبنات متقاربي العمار .وكلهم مثل أبـيهم" ،أبو جميل" ،الذي اشتهر بخفة روحه ومرحه وحبه للهزار .بادرني في ذلك اليوم مازحا: "روح ا ينعل أبوك"! وعندما شكوته لبي ،فيما بعد ،اقابل شكواي بالضحك)وهي من المرات القليلة التي رأيت فيها والدي مقهقها( ،ثم بيرن لي أن عمي "أبوجميل" إنما كان يمازحني. وفي أول لقاء ،بعد ذلك ،مع عمي"أبو جميل" بادرته بتحيته المفضلة: نعتل أبوك! ..روح ا لتي يويضرب العم جبينه بباطن كفه كما كان يفعل "شكوكو" مقهقها مرددا اقولته المشهورة: يا خرابي!ليغرق الجميع بالضحك. * * * "كمال" ،إبن خالتي الذي يقاربني سنا ،خاطب أباه ذات مرة بكلمة "بابا" ،مقلدا "راسم" ،إبن خالنا المشترك ،الذي تعود هو وإخوته وأخواته أن يقولوا "بابا" و"ماما" ،من دون أطفال العائلة في غزه. فما كان من عمي "أبو جميل" إل أن صرخ في وجهه مؤنبا بعنف: ..اقول "يابا" يا ابن الكلب .وانشال بسمع إنك رجعت تمشي معهادا الولد التميسقستع اللي إسمه "راسم"!
148
ولم يسرهذا الحظرعلري ،لنني في نظرعمي"أبوجميل" ولد "تزكوترت" ..يقول "يابا" و"يرمه"! * *
*
كان عمي "أبو جميل" طرازا متفردا من أاقاربي .له عينان غائرتان تتميزان بلونهما الفاتح .ولـه طربوش يعرف كيف يجعله يشي بمزاجه. كان أحد "الظرفاء" الذين يتميز بهم عادة ذلك المكان أو ذلك الزمان. في أحد المرات القليلة التي تسللت فيها إلى مجالس الكبار )وكان غياب والدي هو ما كان يتيح لي تلك المتعة وذلك القدر من الحرية( شاهدته والكل يستحلفه أن يعيد أمامهم تقليد أحد الحاضرين أو أحد الممثلين المشهورين .لكنه أصر في تلك المرة أن يأتيهم بشيء جديد كما يبدو، وهو كما أعلن ..لغة الطرابيش. أخذ ،وهو يضع طربوشه على رأسه بزاوية معينة مختلفة في كل مرة، و"الطتفران" ،و"العجوزالمتصابي"، ر يقوم بتقليد كل من "السكران"، "الزعيرلطي" ،والشاب "العاشق الولهان" .يقوم بذلك بمنتهى ت والشاب الجدية ،بينما يغرق الحاضرون بالضحك والتصفيق والتعليقات التي تثير بدورها تعقيباته الساخرة. ولشدة إعجابي بشخصية عمي "أبوجميل" ،دأبت على تقليده، خصوصا بعدما أحرزت استحسانه هو. وكان عمي "أبو جميل" مغرما بتقليد اللهجات الفلسطينية المختلفة. ذلك مما حملني وشجعني على استظهار مختلف اللهجات التي دأبت على سماعها من جاراتنا في القدس ،الخليلية "إم سماعين" ،والحيفاوية "إم مصطفى" ،و"إم خضر" القروية ،أو"امرأة عمي غزال" النابلسية، أو من أاقراني في مدرستنا في القدس ،من أبناء القرى المجاورة ،أو من المدرسين المتنوعة أصولهم .من أبرزهم نائب المدير المنحدر من اقرية ل أذكر اسمها ولكنني أتذكر الموشح الذي حفظناه عن ظهر اقلب لكثرة تكراره كلما حان موسم جمع "الاقساط" المدرسية ،عند بداية أحد فصول الدراسة .كان يلحقنا مهددا: يو بتجيب "الُكُسط" ..يو بتجيب "يويريكته" تمن المدير ..يو ما بتيجيشيعتلمضرلسه! 149
* * * كان الجميع ،في غزة ،يتعاملون معي كإبن العاصمة" ،القدس"، المديـــــنة المختلفة ،مما يميزني ويضفي عليي هالة من الهمية دون مجهود يذكر من جانبي .ويتنامى الهتمام والنبهار بحكاياتي، المتباهية ،عن مدينتي ،وعن شتاءها الذي يميزها عن "غزة" و"يافا"، وعن الثلوج التي كانت تتكدس في وسط الدار بحيث تكاد تحول دون خروجكنا من الغرف إل بعد أن يتمكن "أبوالعابد" بمشاركة الجميع من تجريف الثلوج ،وتمهيد ممرات بين مختلف الغرف ،لتبدأ ممارسة لعبة التراجم بكرات الثلج التي ل يعرفها أهل غزة بطبيعة الحال. وأستذكرالماسي الشتائية الساكنة حيث يسكت صوت راديو مقهى "أبوعارف الباسطي" ،لخلروه من الرواد الذين آثروا الركون إلى دفء بيوتهم ،بينما نحن نتحلق حول "الكانون" المشتعل ،نبسط أكفنا فوق ت ناره إلتماسا للدفء ،وأنا أتأمل لون الجمرات المتوهجة حول "بيتكيرج" القهوة ،أو أنتظر بفارغ الصبر حبات الكستناء الشهية وهي تتماثل للستواء ،أو أستنشق بشغف تلك الرائحة العطرة الصادرة عن اقشر البرتقال المحترق ،أو تصغي إلى تكتكات أسنان القادم من بين ثلوج وسط الدار ،أوصوت "اقراقرة"الهرر المدلل"عبهر" الذي استكان تحت الكانون. وحكاياتي عن حائط البراق حيث ترك النبي محمد دابته "البراق". و"الصخرة" التي صعد منها إلى السماء ،ليلة السراء .وعن المسجد الاقصى ،وكنيسة القيامة ،وعيد الشعانين ،والموكب المسيحي الذي يمر من أمام دارنا ،في طريق اللم ،في ظهيرة أيام الجمعة .وعن إحتفالت "الموسم" التي تجري في ساحة الحرم الشريف ،حيث تتوافد الفرق ومواكب البيارق والطبول والدفوف ،وعلى رأسها فراقة موسيقى دار اليتام النحاسية ،و يتجمع الناس من كل القرى المجاورة لاقامة الحتفالت الشعبية ،وحلقات "الدبكه" و مباريات "السيف والترس" والغناء ،وأهازيج "الدلعونا" و"الميجانا" ،وزغاريد "الشبابه" و"اللمتجلوز". 150
ول تتحرج أمام تشجيعهم ،أنت الذي استطاع عمك "أبو جميل" ،إلى حد ما ،إماطة لثام الخجل عن وجهك ،من ترديد ما تحفظه من تلك الهازيج المرحة التي كانت تثير تعليقاتهم الضاحكة: على دلعونا ..وعلى دلعونا.. ……………………… وياللي طليتي من الشباك.. دلدي لي السلدم لطلع بحداكي.. وأمص ـخدودك مص الليمونا.. أو.. زحلق حبيبي عالبلط ..وقعت أنا.. أو.. طلعت عالجبل والجبل عالي.. ع لفحها الهوا ..و بَيينْ الغالي.. وتختلط الضحكات والغمزات مع التسامؤلت عن ماهية ذلك الموصوف بـ"الغالي". ثم تختتم ،حسب طلب المستمعين ،بموال من مواويل الميجانا .وترتفع عقيرتك ،بقدرة اقادر ،مرددة بين صيحات إعجاب الاقرباء ..المجاملين المحابين: يا بنت شعرك على اكتافك جددلي.. واحكي المزح للغير والجْد لي.. لو تعرفي في غيابك شو جدْ لي.. مجنون ليلى ما تعذب في الهوى مثلنا.. أو.. جدي وجدك في البراري توالفوا.. ع الزدمان تحالفوا.. وبـيدي وبـديك َ َ وأمي وأمك في ليله واحده ـخلفوا.. بنت وصبي وعشقنا بعضنا.. أوف ..أوف .. 151
إل أن متعتي كانت تتجلى حينما يتجمع الاقران ،أاقارب وجيران، في وسط دار خالتي "إم جميل" ،حول شباك أحد الغرف المطلة على وسط الدار ،و التي أتوارى أنا فيها لأتغلب على بقايا خجلي، وأردد أغنيات "محمد عبد الوهاب" ،التي كانت خالتي "آمنه" تستدرجني لأشاركها غناءها: "إيه انكتب لي يا روحي معاكي" ..أو.. "يا وابور قول لي رايح على فين" ..أو أغنية "أم كلثوم" الجميلة" ..على بلدي المحبوب وديني".. إلى آخر ما حفره راديو "اقهوة الباسطي" في وجداني وعلى جدران ذاكرتي. *
*
*
لم أكن أعرف ما هو سرالاقبال على تلك "الحفلت" التي كان يشرف على تنظيمها أحد أاقربائي من الاقران. إلى أن نمى إلى علمي أنه كان يزعم لهم ويوهمهم أنني لست سوى مطرب إذاعة القدس ،الفتى الذائع الصيت في ذلك الواقت ،الشهير باسم "محمد غازي" .كان الطفال يصداقونه ،ل سيما وأن علاقتي بهذا السم كانت ما تزال اقائمة ،حيث أن معظم أاقاربي في "غزة" ل يعرفونني إل بهذا السم"،غازي" ،يتنااقلون الخبر ،فيزيد الاقبال على الستماع لقصتي ،التي تحكيها أغنية "إجري..إجري". ثم نمى إلى علمي أيضا ما هوأكثرغرابة ،وهوأن اقريبي هذا ،الذي أصبح مؤخرا من كبار رجال العمال ،كان يتقاضى من كل فرد من أفراد "جمهوري""..لم ر ل" فلسطينيا عن كل حفلة يقيمها .وا أعلم! *
*
152
*
"كاريــــــــــــــوكا".. الزهارالمتنوعة ،المختلفة اللوان ،المنتشرة في وسط الدار ،تبعث في نفسي مشاعر ذات مذاق خاص ،وتوحي لي بالأشكال الجديدة والألوان المتناسقة للطيارات الوراقية في موسمها..فصل الربيع .حيث تعود أشعة الشمس الدافئة لتحتوي ساعات النهار ،وتقوم "إم العابد" بفتق الملحف والجنابي والفرشات ليتكوم صوفها المتلبد على بلط وسط الدار .وفي ذلك اليوم ،يأتي إبن الجيران "حموده" ،أبوالسبع صنايع ،في ثوب "المنرجلرلد" هذه المرة ،بآلته التي تشبه آلة موسيقية 153
رأيت صورتها على الجدران الفرعونية في أحد كتب أخيي "عابد". ي أغلب الظن أنه كتاب "بريستد"** الشهير لتاريخ العالم القديم. يضرب"أبوالسبع صنايع" بمطراقته الخشبية البدينة ،التي تشبه"إيد الهاون" ،الوترالمشدود فيهتزعن دندنات اقصار لها إيقاعات رااقصة تشيع في نفسي الفرح والبهجة .ويتفنن"حموده" في إعادة تواترها، فتتطاير كتل الصوف المتلبدة بعد أن نفشتها الخلخلة الناتجة عن إهتزازات الوتر المدروسة ،وتتسلق الهواء مترااقصة على ايقاعاته ثم تهبط متهادية لتتكوم في الجانب الخر لللة الفرعونية .ويظل كوم"العهن المنفوش" يكبر ويكبر ،فيصل بي إلى ذروة الفرح والنشوة ،فأاقفز إليه من آخر الدرجات المؤدية إلى أوضة"عابد" ،من تحققت في رحلتي إلى القدس مؤخرا ي علو أمتار)كنت أراها كذلك ،ثم أنها ليست بذلك القدر من العلو( ،إلى أرضية وسط الدار ،ليستقبلني الكوم ويحتويني بحضن طري .وأعيد الكرة بدون أن أكترث لصيحات أمي"،لكتن يا بنيي لكتن" ،الغير جادة ،كي أكف ،وهي نفسها ل تكترث بالتالي لعصياني لوامرها بل تجد لذة في متابعتي وأنا أت نقض من علل مع صيحاتي المنتشية الجذلى .يكاد الكوم أن يواريني _____________________________ )**( James Henry Breasted
وهي تضحك وتضحك حتى تدمع عيناها ،وتنظر إليي كأنما كانت تتمنى أن تعود مثلي طفلة لتشاركني لهوي. هكذا كنت أظنها .ثم عرفت القصة. * * *
كانت أمي ،أيام كنت وإخوتي مازلنا بريقا في عينيها ،شديدة التعلق بإبن عمها "يوسف" ،أبي ،الغائب في "الجهاديه" .انتظرته ما يربو عن السنتين .ظلت فيها أسيرة حبه حتى عاد إليها من السر. كانت ،وهي البيضاء الجميلة ،حسب شهادة جميع من عرفها ،ذات العينين المائلتين إلى الخضرة ،تتوارى دوما من "الخُ ر طاب". في أحد المرات ،ذات ربيع ،بحثت عنها جدتي طويل ،أثناء زيارة فوج منهم ،فوجدتها أخيرا واقد دفنت نفسها في كوم الصوف المندوف. 154
*
* * وهكذا يحين موسم الطيران ،حين تغدق علي أمي بالخيطان المستعملة التي تجمعت لديها أثناء فك الملحف والجنابي والفرشات. ألفها ،بعد أن أعقد أكثرها طول ببعضها البعض لضيفها إلى ر عشرات المتارالتي أحتفظ بها من العام السبق. وأما القطع القصيرة فلي فيها مآرب أخرى .فعندما تنتقل أكوام الصوف إلى أكياسها ،وتعود سيرتها الولى ،جنابي وفرشات ازدادت طراوة وحجما ،حتى تكاد "الركسة" أن تطاول سقف أوضة الضيوف ،عندها يأتي دوري لفترش الرض الحجرية الملساء، ذات البلطات المربعة أو المستطيلة المتباينة الحجام واللوان، بعدأن تكون أمي اقد اقامت ،بمساعدة شقيقاتي ،بعملية "اقش" شاملة. أحيط نفسي بمعداتي من أعواد القصب الجاف الذهبي اللون مختلف الطوال ،والورق الشفاف مختلف اللوان ،والمقص ،والسكين، والخيطان ،وعلبة النشا المطبوخ الذي كنت أستعيض به عن العجين، لنه أخف وزنا ،للصق أجزاء الطيارات الوراقية متباينة الحجام. أغدق ببعضها على بعض أاقراني من الجيران ،أو أبادلها بما يوفرونه لي من فروخ الورق الملون أوغير ذلك ،بعد أن أحتفظ لنفسي بأكبرها حجما .طائرة تكاد تطاولني طول ،ويكاد عرضها يضاهي مسافة ذراعي المفرودتين .جديرة بنظرات العجاب والنبهار من الجميع ،بل استثناء. وأما اقمة القمم في دراما موسم الطيارات ،فهي عندما أحمل طيارتي العملاقة ،بألوانها الزاهية ،وشراشيبها المتهدلة ،وذيلها الطويل المزين ،ويتبعني أاقراني من الجيران إلى ساحة "الاقصى" الواسعة والتي تمتد لبضع عشرات من المتار طول ،تفصل بيني )أنا الطيار( وبين سعيد الحظ الذي واقع عليه الختيار ليكون مساعدي ،إذ يعتمد مكان إطلق الطيارة عادة على حجمها أول ،ومن ثم على كمية الخيطان التي سوف تبتعد بها في الهواء الطلق. أصيح :يارلل! فيترك مساعدي الطيارة واقد أحس بها تنشد منه عندما أنطلق راكضا بعكس اتجاه الريح .وتتهادى الطيارة متسلقة الهواء وهي تتمايل 155
برفق وثقة ذات اليمين وذات اليسار ،ويتلوى ذنبها المدندش ويترااقص ويتأود ،فيتصايح الاقران هاتفين باسمها الذي اتفقوا عليه بأعلى صوتهم وهم يصفقون: ..كاريوكا ..كاريوكا!بينما تعلو صيحات الخرين الذين يبدأون بمناداتي ومناشدتي: " ..أعطيها خيط" ..كمان و كمان.تبتعدالطيارة ،وتعلو ،وتبتعد فتعلو أكثر وأكثر .وأنا أاقف على أرض ساحة البراق ،ما بين مسجد الاقصى والحائط الغربي ،حائط البراق، ممسكا بآخر شبرمن الخيط .تكاد تأكلني الحسرة وأنا أتمنى لوكان لدي المزيد .أشدها وتشدني .أركض عكس اتجاه الريح فتزدادعلوا، حاملة معها أحلمي لتسبح في الفضاء ،وتحلق في حرية. فجأة ..أفقد سيطرتي على الطيارة التي أخذت بالتقهقر والهبوط البطيء ،ل يجدي معها شدا ول ركضا ،بينما صفحتها تهتز يمينا ويسارا وكأنها تعبرعن أسفها ،أو كأنها تعاتبني ،أو تلقي علي باللئمة لرتكاب خطأ ما كان يجب أن أاقع فيه. ثم تختفي في أحد الركان البعيدة خلف البنيان المجاورة. ويصيح بعض الاقران: حارة اليهود ..حارة اليهود. ل ،حارة المغاربه ..حارة المغاربه.يخيم علينا الوجوم لحظة .ويبدو الخوف على بعضنا ،والحيرة على البعض الخر .ول يلبث أحدنا أن يبدد ذلك كله بأن ينبري زاعما أنه يعرف الوصول إلى مكان سقوطها ،فيتولى هو القيادة ،ونجري خلفه صاغرين لهثين متظاهرين بالشجاعة ،فنصل إلى مكان ما تكون الطيارة فيه اقد تشعلقت بشجرة أو سقف أو عامود. وأجد نفسي في مكان لم تطأه اقدماي من اقبل ،فتكون الطيارة أحيانا سببا في التعرف لول مرة على أحد الزاقة أو الحارات. و يقابلنا صاحب الدارالتي سقطت الطيارة ،هذه المرة ،على سطحها ببشاشة وهو يسألني: 156
إبن مين يا شاطر؟فيسارع أحد أاقراني بالجابة بشيء من الفخر: إبن جارنا "أبوالعابد الغزاوي".وهنا يصادف أن تزداد بشاشة صاحب الدار ،ربما لنه عرف والدي ،فيعاودني الزهو ،وهو يساعدنا على تسليك ذنب الطيارة وتخليصها سليمة بقدرالمكان من الشرك الذي واقعت فيه ،وهو يقول في شبه تأنيب: دير بالك عرمي ،هيك طياره بهالحجم هادا بدها خيط ماكلن ،ايرضى عليك ،مش خيط ملحف ،فاهم علري عرمي؟ ثم يشيعنا اقائل لي: سلم لي على أبوك ،اقول له عرمي "بو داود" ،تبع البويا ،بيسلمغليك. * * *
الصندوق ..والللي..
صندوق العروس ،الذي هو أول وأهم اقطع الثاث في بيوت زمان، يكبرحجمه أو يصغر ليتناسب مع جهاز العروس من مختلف الملبوسات وملحقاتها .ولكن هناك حدود ل يجب أن يتعداها هذا الحجم فهو في النهاية سوف يدخل غرفة النوم من بابها. إذن لبد من وجود صفات أخرى يتميزبها هذا الصندوق عن غيره، غيرالحجم ،مثل نوع الخشب ،وكمية الزخارف المحفورة على جدرانه ،أو كميات النحاس أو الصدف التي ترصع تلك الجدران. كم واقفت مبهورا وأنا أرااقب جدران صندوق أمي وهي تعيد ترتيب محتوياته من حين إلى آخر. لم يكن يلفت انتباهي عن زخارفه سوى دموعها الصامتة بينما هي تولي عنايتها بمجموعة الكتب التي لم أكن أعرف كيف عرفت طريقها إليه إل بمرورالزمن. ..كان المرحوم خالك "رشدي" ،ياحسرة اقلبي ،يحب الكتب كتير.157
ديوان المتنبي..الشواقيات..النظرات..العبرات..النبي..الجنحة المتكسرة..تحت ظلل الزيزفون..رسائل الحزان..كليله ودمنه.. الغاني لبي الفرج الصفهاني ..و ..و .. أمي لتعرف القراءة ول الكتابة ،لكنني ما زلت أذكر كيف كنا نتحلق من حولها وهي تحاول ،بعد إلحاح منا ،أن "ترسم" إسمها مرة بالحروف العربية ومرة بالحروف اللتينية ،ونحن في اقمة النبهار. كيف كان ذلك ؟ كانت هي البنة البكرية المدللة .ول يدري أحد كيف جاء دخولها وانتظامها لبعض الواقت في "مدرسة الراهبات" .وفي أحد اليام سمعها جدي وهي تتلو ما تعلمته في المدرسة"..أبانا الذي في السماوات ..إلخ" ،فما كان منه إل أن حلف اليمين إياه بأن تلزم الدار، وتنسى حكاية التعليم .لكن ذلك لم يتكرر مع شقيقاتها .أما الشقاء فقد تخرج اثنان منهم في الجامعة الميريكية في بيروت.. خالي"رشدي" ..وأخوه الصغر "علي". وأبي ،لم تمتد يده إلى كتاب آخرغير"القرآن الكريم" ،و"دلئل الخيرات" ،أو"الحصن الحصين" ،و"رياض الصالحين". أما أخي الكبر فقد تنوعت وتعددت اقراءاته بعد أن أجهزعلى اقراءة محتويات الصندوق ،التي كانت أمي تحرص على إعادتها إليه حفاظا و حرصا منها على "ريحة المرحوم". *
*
*
أدين لخي"عابد" ،الذي كان يكبرني بحوالي ست سنوات ،بالكثير، وأشعر نحوه بالعرفان وبالحرص على إعطائه حقه من المحبة والتقدير. أتذكره وهو فترى ،مجتهدا ،يقضي أواقات فراغه مع أصداقائه .أما في البيت ،فهو غارق في مطالعاته. ر وكانت الواقات التي يجالسنا فيها نادرة جدا .عندها ،كنت سرعان ما أهتف ،بينما أنا أاقوم بتقليد مشيته المميزة: 158
-
"الستاذ عابد" ..جاء لزيارتنا!
كانت له غرفة خاصة تقع فوق غرفنا ..يسمونها "العلريه" .تصعد إليها من "وسط الدار" بدرجات حجرية ضيقة محاذية للحائط ،مبريرة حوافها كما اقطع الصابون .وكانت الغرفة تتميز بسقف مقبب، وشباكين ،أحدهما يطل على وسط الدار ،والخرعالل يطل على سطوح الغرفة الكبيرة المطلة على الحوش"..حوش آل خرمنده". كانت غرفته الخاصة تفصله عنا .وكنت أشاركه المعيشة في تلك الغرفة في مواسم المتحانات فقط ،حيث كان يشرف على مراجعاتي للمواد الصعبه. كانت غرفته الصغيرة مليئة بالكتب ،وسريره النحاسي يبتلع نصف الغرفه. وأشد ما كان يبهرني فيها هو أبيات الشعرالتي كانت مكتوبة على حائطها بقلم الرصاص ،بخط يده .أبرزها ذلك البيت: من طلب العل سهرالليالي غوص البحارفي طلب الللي ويبدو ،وذلك بشهادة الجميع ،أنه كان مقتنعا بتلك الحكمة عامل بها. فقد كانت نافذة غرفته المطلة على وسط الدار تنم عن ذلك .وكذلك النافذة المطلة على السطوح ،والجيران. كان نورغرفته المميز ،المنبعث من ضتو لمبة الكاز"نمرة ،"4في الواقات المتأخرة من الليل يلفت انتباه الجيران. ..ما شاء ا عليه ..مجتهد. " ..عابد" كان سهران يدرس طول الليل ..ا يرضى عليه. " ..عابد" ،ا يفتح عليه ،شباك أوضته كان ضاوي طول الليل!أكثر ما كان يثير دهشتي هي تلك الكتب "التخينه" .وكتب كثيرة باللغة النجليزيه. كنت أحيانا أشعر بالرهبة من أن يمر الزمن ،فأصبح في الصفوف الثانوية ،وأضطر للسهر لقراءة وحفظ كل ما في هذه الكتب. 159
وتلك اللغة الغريبة ،اللتينية ،التي دأب على استظهار تصريف أفعالها في غدوه وفي رواحه. "بورتي ..بورتا ..بورتاريس ..بورتيس ..بورتيس" باتت مثل أغاني راديو اقهوة الباسطي ،محفورة على صفحات عقلي الباطن .ذلك مما حدا بأخيي لستدعائك مرة إلى غرفته ،لتلقين أحد أصداقائه التصريف الصحيح لحد الفعال .كما كان يحملني على حفظ وترديد منطوق "نظرية فيثاغورس" ،أو الحرص على إتقان رسم خارطة العالم العربي ،وفلسطين بالذات ،بكل تفاصيليها. "ُحسن" و "إكتمال" ،أختاي اللتان تكبران "عابد" ،كانتا أيضا في الصفوف الثانويه .وكانتا تتمتعان أيضا ر بسمعة طيبة فيما يتعلق بالدرس والتحصيل والجتهاد والمطالعة. وبعد إنهاء السنة الثانوية الثانية ،وهي أعلى ما كانت تصل إليه مدارس البنات الحكومية السائدة ،لم يسمح لهما والدي بمواصلة الدراسة في "دارالمعلمات" ،بالرغم من وساطة مديرة المدرسة ومعلماتها ،لسبب لم تعرفه في حينها. ربما كان ذلك مما أوجد تغييرا شامل في حياة "إم العابد" وبناتها، ومما فرض عليها حالة من التفرغ والتأهب استعدادا لحياة جديدة تقتضي الهتمام وتعلم وإتقان مهارات أخرى جديدة مثل التدبيرالمنزلي والتطريز والتفصيل والخياطة ،إنتظارا لبن الحلل المناسب الذي طال انتظاره. كأنما كان ذلك مما زاد من إنشغال أمي وانصراف الجميع أكثر وأكثرعن الهتمام بي ،ومما زاد من انطوائي وشعوري بالوحدة. * * * لعل أن عادة "المطالعة" ،مبكرار ،كانت في البداية مجرد رغبة مني في تقليد أخي "عابد" وشقيقتري الكبريين .فقد كنت أشهد مباريات في القراءة بينهم .كل من الثلثة يستظهر ما اقرأه أمام الخرين، فأشعرأنا بالغيرة تأكلني .ويلحظ أخي ذلك. ر أتذكره في أحد اليام ،حينما ضبطني "متلبسا" بمحاولة اقراءة كتاب "دمعة وابتسامة" لـ"جبران خليل جبران". 160
كأنما أخذته الشفقة ،فأخذني من يدي الى "مكتبة النهضة" ،التي يمتلكها شقيق صديقه وزميله "كاظم أبو غزاله" ،بباب العامود، واشترى لي مجلة اسمها "مجلة الطالب" ،كانت تصدر في القاهره. وأدمنت أنا على اقراءتها .وبالرغم من ذلك ،فقد بدأت يداي تتسللن إلى صندوق أمي حيث تراقد ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي "ماجدولين"** ،و"تحت ظلل الزيزفون" ،أو "النظرات" _____________________________________________________ )**( قرأت ذلك العنوان لول مرة " ..ماجد" و "لين" ..على غرار قصص الحب التي اشتهرت مثل "قيس و ليلى" ..و "روميو و جولييت" .
و"العبرات" .هذا بالضافة إلى "إلياذة هومــــيروس" في الترجمة المشهورة لـ ل "عنبره سلم الخالدي" ،و"حي بن يقظان". عندما كبرت وأصبحت اقراءاتي أكبر نضجا،عرفت أن "حي بن يقظان" ،لبن طفيل ،التي اقرأتها طفل أكثر من مرة ،هي رواية فلسفية. هل كان سحرها الذي يدعو إلى التأمل هو ما دفعي إلى اقراءتها مرة بعد مرة ،بل ملل؟ اقد يكون ذلك هو ما اقربي من فنون التأمل ،وجعلني أدرك أن هناك لغات تتجاوز الكلم في اقدرتها على القول والبيان والمعرفة .أحدها لغة الصمت التي تتيح لي متعة الحوار مع الشياء ،بعد أن كان خجلي وانطوائي يمنعاني من الحوار مع الخرين. وأصبحت مواد القراءة تستهلك مصروفي .لكن كثيرا ما كان أخي يكمل لي من مصروفه الخاص ثمن ذلك الكتاب أو تلك المجلة تشجيعا لي على القراءة والطلع ،بينما كان والدي يعتبر كل ما يخرج عن نطاق المدرسة إن هو إل عبث ولهو ،ومن عمل الشيطان. عندما انتقلت من المدرسة البكرية ،إلى الصف الرابع البتدائي في المدرسة العمرية ،التي كانت تقع في حي "البقعه" ،خارج أسوار البلدة القديمة ،كان ذلك يستدعي ركوب "الباص" نمرة في الذهاب والياب. لكنني كنت أفضل أن أمشي تلك المسافة لوفر المصروف الضافي، أجرة المواصلت ،لتمكن من شراء مزيدار من مواد القراءه. كان ذلك في عام .19 46 /45 161
ومازالت الطريق التي كنا نسلكها ،بعض أاقراني وأنا ،مرسومة في ذاكرتي. أمشي نزول في "طريق اللم" التي تمر من أمام دارنا ،وعند "المحطة الخامسة" من الطريق أتجه معها في "عقبة المفتي" وأصعد الدرجات الحجرية العريضة ،مرورا بالمدرسة العلوية للبنات ،وفرن "عم أبوأنور" ،و"المعصرة" .واقبل الوصول إلى سوق"خان الزيت" أكون اقد تقابلت مع صديقي"خلدون" ،لنكمل السيرحتى بداية "سوق العطارين" فنتجه إلى اليمين حيث يقابلنا الباب المؤدي إلى كنسية القيامة ،وحيث يقابلنا بقية الزملء عند الدرجات العريضة المؤدية إلى "سوق الهنود" ،وهوعبارة عن مستديرة واسعة تتراصص من حولها "بسطات" زجاجية شبه ثابتة ،يجلس خلف كل منها رجل عجوز ملتح يهب وااقفا بمجرد أن تقترب منه مرحبا بكلمات عربية اقليلة مكسرة .أما بضاعتهم فهي تكاد أن تكون متشابهة ..المشاط بأنواعها ،والعقود والحلقان ،والمسابح والخرز، والبر ولوازم الخياطة والتطريز ،والحزمة الجلدية ،وكذلك أحزمة النايلون الشفافة والملونه التي كانت آخر ما توصلت إليه "الموضة" في ذلك الواقت ،والاقلم بأنواعها وأاقلم الحبر ،واقطع غيارها التي ل تجدها إل في ذلك المكان .وأاقلم "الحبرالجاف" الملون التي كانت في ذلك الحين من المبتكرات الحديثة. هناك،إلى اليسار ،اقبل الوصول إلى سوق الهنود ،كان دكان عمي "سلمه" بياع الكتب القديمه .كنت تراه متربعا على أرض الدكان المرتفعة عن مستوى الطريق ،منهمكا في كحت حواف كتاب اقديم، أو في تحريك الممحاة بعنف جيئة وذهابا فوق غلف أحد الكتب أو أحد صفحاته لزالة ما اقد علق بها من بقع أو كلمات أو أسماء مكتوبة باليد. كنت زبونا دائما لهذا الدكان ،حيث كانت تشدني عناوين كتبه المختلفة وبالذات سلسلة روايات الجيب ،ورومانسيات "جرجي زيدان" التاريخية التي التهمتها التهاما.
162
ثم تتواصل الرحلة لنصل إلى "باب الخليل" من خلل "سويقة علون" .ومن باب الخليل نزول إلى "بركة السلطان" حيث نتجه عن ر يمينها صعودا لنمر في طريق جبلي غير ممهد يطل على مستوطنة "مونتفيوري" المطلة ،عن شمالنا ،على الساحل المشرف على "بركة السلطان" .ثم نسير في الطريق الجبلي" ،مقاطعه" ،حيث يكون ظهر مبنى فندق الـ " KingDavidالملك داود" على يميننا .ثم نقطع الشارع الذي يفصل بين الفندق الشهير و مبنى جمعية الشبان المسيحيين ،الــ" ،".Y.M.C.Aالشهر. وهكذا نكون اقد وصلنا إلى منطقة "البقعة التحتا" حيث يقع ذلك المبنى الحديث للمدرسة العمرية ،مدرستي ،بين مساحات ممتدة من الرض المكسوة بأشجار الزيتون. *
163
*
*
ـخارج الرســـــــوار
أحياء "البقعة التحتا" ،والبقعة الفواقا" ،و"الطالبية" ،من الحياء العربية الرااقية في "القدس الجديده" على السهل المجاور لجبل "القطمون". 164
ول أعرف الظروف التي أحاطت بخالتي "آمنه" ،الفنانه التشكيليه، والتي مكنتها من السكنى في ذلك الحي .كل ما أذكره أنها كانت تقيم في غرفة ،لها مدخل مستقل ،في"فيلل" محاطة بأشجاراللوز وغيرها "النمري"، ر من أشجارالمنطقه .تمتلك تلك الفيلل وتسكنها عائلة المكونه من أم وبناتها الثلث .إحداهن ،الكبرى ،كانت من تلميذات خالتي"آمنه" في معهد داراليتام للبنات للرسم والتطريز. وهكذا اتسع المجال المتاح لي خارج أسوارالقدس القديمه .فكنت غالبا ماأاقضي أيام الجازة السبوعية ،وهما يومي الجمعة والحد ،في زيارة خالتي "آمنه" .ولم يكن حبها لي هوالمشجع الوحيد على ذلك. بل كانت البشاشة التي تقابلني بها عائلة "النمري" ،أيضا ،حافزار لي على تكرار الزيارة اسبوعا بعد أسبوع. أضف إلى ذلك متعة الخروج من البيت والحاره ،والنطلق في رحلة تتخطى السوار إلى أطراف القدس الجديدة ،حيث الطبيعة والمتداد والبراح والشجار والزهار. من أكثر ما كان يشد انتباهي ،بل ويؤخرني أحيانا عن الوصول إلى خالتي "آمنه" ،كان ملعب "التنس" الذي يقع في بداية الطريق الصاعد إلى "الفيلل" .خصوصا في أيام الحد ،عندما يكون الملعب مكتظا باللعبين واللعبات والمتفرجين والمتفرجات ،والذين أو اللواتي ينتظرن أن يحين دورهن لممارسة اللعبه ،ومعظمهم من الجانب. كنت أجد متعة شديدة بمرااقبتهن ،وهن يتقافزن بحركات رشيقة، جريا وراء الكرة ،بملبسهن المختصرة التي تكشف عن سيقان بضة في لون الورد ،وخدود تضاهيها حمرة .وتبلغ سعادتي اقمتها عندما تضل الكرة طريقها لتقترب من المكان الذي أاقف فيه ،فأبادر بالمساك بها لـ "أناولها" للعبة يدا بيد ،مما يمكنني من الاقتراب منها أكثر وأكثر .فيكون نصيبي ابتسامة وكلمة "ثانك يو" المنرغمة بصوت راقيق يظل يرن في أذني ويطربني وأشتاق إليه طوال السبوع .يضاهيه صوت ارتطام "الطابه" ،الكرة ،بمضرب التنس واليقاع الخاذ الناجم عن توالي ذلك الرتطام ،وصدى ذلك الصوت 165
يتردد في أرجاء المنطقة الجبلية الهادئة .ذلك الصوت الذي مازال يعود بذاكرتي إلى القدس كلما وأينما صافح أذناي. وبمرورالواقت ،وتكرارالتجربة ،أصبح دوري هذامن الهمية بمكان، بحيث كانت هذه أو تلك ترجوني ،إذا أنا اقررت مواصلة رحلتي إلى خالتي"آمنه" ،أن أبقى إلى أن تنتهي من اللعب .ويصبح نصيبي، علوة على البتسامة والشكر ،مصافحة ،وتربيت على خدي .هذا بالضافة إلى بعض القروش ،التي كنت أرفضها بشدة في بداية المر .لكن خالتي"آمنه" أحلرت لي تلك القروش ،وبررت اقبولي لها بأنها مقابل شغلي وتعبي ،وأن هذه هي طبيعة الجانب .كل شيء بحسابه .والعمل ليس عيبا .والواقت والجهد لهما ثمنهما. في كل مرة ،واقد تقاضيت أجري ،كنت أمرأثناءعودتي إلى البلدة القديمه ،بمكتبة عمي"سلمه" ،التي كانت الكتب ،القديمة ،المعروضة في واجهتها والمفروشة على البسطات تستواقفني دائما وأنا في طريقي إلى المدرسة العمرية أوفي طريق عودتي إلى البيت. صحيح أنني كنت أوفر ثمن ركوب الباص ،ذهابا إلى المدرسة وإيابا منها ،بأن أرافق بعض الاقران مشياعلى الاقدام .لكن شرهي المتزايد للقراءة ،كان يقضي على"المصروف" كله .خصوصا عندما بدأت أتطلع إلى معرفة ما تحتويه سلسلة كتب "روايات الجيب". شدني عنوان "اللص الظريف أرسين لوبين" المتكررعلى عدد كبير من روايات "موريس لبلن". كيف يكون اللص ظريفا ؟! والكثر جاذبية ،كانت تلك الروايات التي تحولت إلى أفلم سينمائية، والتي كنت أجد أسماءها على إعلنات سينما "ريجنت" ،القريبة من ملعب "التنس". عندما حكيت اقصة ملعب "التنس" لرفيق المدرسة ،وجاري في القدس القديمه" ،خلدون" ،اشرأب عنقه وجحظت عيناه ،ونظر يمينا ويسارا ،وابتلع ريقه ثم اقال بصوت خفيض: .. -وين ..وين؟ اقول لي وين! وإوعى حدا غيرنا يعرف!
166
وأصبحنا نعمل سويا ،أيام الحد ،في تلك المهنة المبتكره" ،ليتم الطابات". وازدادت أواصر الصدااقة بيني وبين "خلدون" ،الذي كنت اقبل ذلك أتردد في الاقتراب منه ،لما كان يشاع عنه من أنه "ابن عيله" ومتكبر و"شايف حاله" .لكنني اكتشفت معه نوعا جديدا من الصدااقة. وهو ،إلى جانب كونه "إبن ناس" ،كما كان والدي يقول ،فهو أيضا من "أوائل الصف". ثم أصبح مجرد ذكر اسمه أمام والد ر ي يتيح لي التغيب ،في حدود المعقول ،عن البيت .فقد كان "خلدون" ينتمي إلى نفس العائلة التي ينتمي إليها رئيس والدي في العمل. وهكذا أصبحت ،بمرافقة "خلدون" ،من الرواد الدائمين لسينما "ريجنت" ،بعد أن كان ذهابي إليها مرهونا بتنازل أخي "عابد"، وسماحه لي بمرافقته إليها .ساعد على ذلك ،طبعا ،وجود دار السينما في منطقة تتوسط المسافة بين مكان سكن خالتي "آمنه" وبين مدرستي ،المدرسة العمرية. كان صديقي "خلدون" يتمتع بموهبة البحث عن مصادرالكسب .واقد أتاح لي معرفة إحداها،عرفانا منه لي بتعريفه على ملعب التنس. في أحد اليام سقط منى"اقلم الحبر" وانكسرت ريشته. تعودنا في مثل هذه الحالت أن نلجأ إحدى المكتبات لتقوم بتغييرالريشة أو الـ "عضمه" ،أو الـ "جلده" .لكن صديقي"خلدون" كان يعرف طريقة أخرى .ففي سوق الهنود ،في طريقنا اليومي إلى باب الخليل ،كانوا يبيعون اقطع غيارالاقلم تلك وأجزاءها المختلفة بثمن بخس ،مما جعلني أحاول إصلح اقلمي بنفسي هذه المره. ولما نجحت التجربة ،لجأ لي زميل ،وآخر ،ومن بعده آخرون .إلى أن ذاعت شهرة خبرتي وبراعتي في تصليح أاقلم الحبر في المدرسه. وكانت هذه "الحادثة" بداية لمرحلة جديدة من مراحل العمل المربح، بعد"لرم الطابات" ،التي زادت من دخلنا وأتاحت لي إمكانية المزيد من شراء بعض الكتب أوالمجلت ،ومشاهدة الفلم السينمائيه. ولم يبخل علي صديقي بالبوح بالمزيد من أسراره ،أسرار المهنه، حينما رضي أن يأخذني معه لرى بعيني كيف ومن أين يشتري 167
"جروس" الشاي بسعرالجملة من القدس الجديدة وبيعه لحد أصحاب الدكاكين في البلدة القديمة .وشاركني في ذلك اليوم بالرباح. تطور المر بعد ذلك ،عام ،48إلى شراء علب "الفييشك" ،ذخيرة بالحبه .إلى أن تواقف ذلك كله بعد أن ر المسدسات والبنادق ،وبيعها ش تسبب لي بـ "اقتلة" ل أنساها من والدي. وشى بي وا ل كان ذلك أحد أسباب التعجيل بترحيلي إلى غزة .حيث رافقني أخي "عابد" في تلك الرحلة التي ل تنسى .والتي أثبت فيها "الحمار"، بتمرده وعودته هاربا إلى موطنه الصلي ،أنه أكثر حكمة مما كان كاتبنا "توفيق الحكيم" يظن. *
*
*
ــــرداح".. الشيخ "رسـع ْ
وفي "غزة" ،سرعان ما ينتهي صيفها القائظ الطويل ،ويتبين للجميع أن إنتظار"القدس" لنا ،أو انتظار العودة إليها ،سوف يطول. ويكون القرار أنه ل بد وأن ألتحق ،مؤاقتا ،بالصف الول الثانوي في مدرسة المام الشافعي. "براكيات" التي كانت "صفوف" المدرسة عبارة عن صفين من الـ ر كانت ،فيما مضى ،مقرا لقوات جيش النتداب البريطاني .ولم يكن هناك ما نفعله ،في اليام الولى من السنة الدراسية ،سوى حفر الـ"براكيات". ر الخنادق المتعرجة في المساحة الوااقعة بين صفري 168
ومن ثم القيام بالتدريبات على كيفية الخروج من الصفوف واللتجاء بنظام ،إلى تلك الخنادق ،عندما يدوي زامورالغارة الجويه الوهمية. هذا بالضافة إلى الستماع إلى محاضرات مديرالمدرسة ،الستاذ "ممدوح الخالدي" ،عن أهمية العلم في مواجهة العدوالصهيوني الغاشم. كانت "الصفوف" تجمع "الشامي على المغربي" ،وسرعان ما يعبر تلميذ من "غزة" عن ضيقه بتلميذ آخر "مهاجر" إليها من أحد اقرى فلسطين أو مدنها ويتهمه بالجبن الذي أسلمه إلى الهروب والهجرة. وهنا ل بد من أن تتجلى اقوة الحجة وتتطور القدرة على التبرير، حتى أن أحدهم اقد أفحم الخر بقوله أن الهجرة ليست عيبا ول سبرة، فقد فعلها النبي محمد "صلعم" ،بل إنه أخذ يعدد ما يتوجب على"النصار" تجاه "المهاجرين" لكي يتمكنوا من العودة إلى ديارهم. أما مدرس اللغة العربية ،الستاذ الشاعر"رامز فاخره" ،فهوعلى يقين من أن الوحدة العربية هي سبيلنا الوحيد لسترداد الوطن السليب .ول يكف عن ترديد اقصة الرجل الذي جمع أبناءه وطلب منهم أن يحاول كل منهم على التوالي أن يكسر حزمة الرماح، وعندما فشلوا أنشد يقول: "كونوا جميــعا يابني إذا اعترى ـخطب ول تتفرقــــوا أفــــــرادا" " تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقــــن تكسرت آحــادا" ناهيك عن سرد الدلة والبراهين على وجود خيانة ما تتجلى في تخرلي الملك "عبدا" عن مدينتي "اللد" و "الرملة" للصهاينة ،كجزء من اتفااقية سرية ،أو بنود سرية في إتفااقية ما. هذا إلى جانب تقاعسه عن إنقاذ القدس الغربية وتسليمه مقاليد المورإلى "جلوب باشا" ،الذي كان يورلي اقيادة سرايا "الجيش 169
العربي" لضباط إنجليز يشرفون على خطط "التسليم" بداقة وإخلص. ول يلبث الشيخ "سرداح" ،مدرس الدين ،أن يدلي بدلوه ويؤكد جازما أن ابتعادنا عن ديننا الحنيف هو سر نكبتنا .وأن ما أصابنا لم يكن سوى "محنة" أراد ا أن يمتحن بها عباده. وعندما تساءلت ،ببراءة ،عن ضحايا الحرب من الطفال الر ر ضع الذين لم يعرفوا بعد معنى الاقتراب من الدين الحنيف أوالبتعاد عنه، هوت خيزرانة الشيخ سرداح على كتفي ،وانهالت علي عينات مختلفة من السباب لم أألفها من اقبل ،بما في ذلك "حيوان" و "زنديق" و " ..شيوعي"! ولم يكتف بذلك ،بل طردني من الصف. *
*
*
كان ذلك أول عهدي بالتسامؤل الجاد عن معنى الشيوعية. كنت أسمع والدي يصف الشيوعيين بأنهم "كفار" .ذلك عندما كان يحذرأخي"عابد" ويمنعه من الـتمادي في الختلط بأفراد "الشلة"، التي كان أخي شديد التعلق بها في القدس. إل أن أخي كان يحرص على أن يتملص من كلمة "شيوعي" المكروهة بإصراره على أنه "إشتراكي" .وكثيرا ما كنت أسمع منه بعد ذلك تفسيرات ،لشدما كنت أطرب لها ،لمعنى الشتراكية التي تبناها صحابة بررة وخلفاء راشدون. أما أن يقذفني الشيخ سرداح بكل تلك السبائب ،فذلك مالم أغفره له. وفي اليوم التالي ،حدثني الستاذ "عبدالكريم" ،أثناء حصة الرياضه، بأنه اقد علم بما جرى معي في حصة الدين .ربت على كتفي وهو يقول راضيا مبتسما: صتح"! "ول يهمك .إنت ي س ثم كرر رجاءه بأن أسلم على أخي "عابد" عندما أكتب له. 170
*
*
*
كان الستاذ "عبدالكريم" ،الرياضي القوام ،ذوالسمرة القريبة من السواد ،يتمتع بحبنا وإعجابنا بروحه المرحة .وكثيرا ما كنا نداعبه ببيت الشعرالغزلي الذي اقاله فيه أستاذنا الشاعر"رامزفاخره": ـخال" "الناس تعشق من ـخالل بوجنته ..فكيف بي وحبيبي كلله ـ فيضحك الستاذ "عبدالكريم"عن أسنان بيضاء يزيد ظهورها من حلكة ولمعان سمرته .وسرعان ما يدوي صوته في ملعب المدرسة بأوامر تمريناته الرياضية ،بعدأن ينطلق صوت صفارته التي ل نملك إل أن نطيعها طوعا. * * * في صباح أحد اليام التالية ،يستدعيني مديرالمدرسة إلى غرفته، حيث لم أفاجأ بوجود والدي ،الذي جاء ليستوضح سبب مواقف الشيخ سرداح مني ،ومنه أيضا .فقد كنت اقد أبلغت والدي بأن أستاذ الدين ،الذي كان حاضرا أيضا ،يقول عني أني "حيوان ابن حيوان"! وبادرني الشيخ سرداح بغضب أبوي: أنا يا إبني جبت سيرة أبوك؟وكانت إجابتي ،التي ،بعكس ما كنت تتواقع ،أثارت عاصفة من الضحك: طبعا أستاذ ،إنت سسبيته!يعني ،أستاذ ،لما تقول لي"ياحيوان" ،إيش بلدره يكون أبوي؟ *
*
171
*
"الحكي في السيارسة"..
ثم ينهمك مدرس التاريخ في شرح دور بريطانيا المتآمرة مع الصهيونية العالميه .ويقرأ لنا نص الرسالة التي بعث بها رئيس الوزراء البريطاني"بلفور" إلى "حاييم وايزمان" ،رئيس المنظمة الصهيونية العالمية،عام ،1917والتي اشتهرت بعد ذلك بإسم "وعد بلفور". ويحكي لناعن دورالنتداب البريطاني في وضع البلد في ظروف سياسية وإاقتصادية وإدارية معينة من شأنها أن تساعدعلى تحقيق "وعد بلفور" المشئوم .ومن ضمن الراقام والتواريخ المحفورة في ذاكرتي، ما كان يردده أستاذنا عن إرتفاع عدد اليهود في فلسطين ،بفضل الهجرة اليهودية المنظمة ،خلل وبإشراف حكومة النتداب )-1920 ،(1948من 50ألفا إلى 600ألف يهودي. ناهيك عن انسحاب النجليز من "حيفا" اقبل الموعد المحدد لذلك ،مما نجم عنه استيلء اليهودعلى المدينة وتكرار نفس القصة مع مدن أخرى. وينفرد مدرس الرياضة ،الستاذ عبدالكريم ،بالرأي القائل بأن أميريكا هي أُس البلء. 172
فهي التي عملت ،باتصالتها ،وعلاقاتها ،ونفوذها على إنجاح اقرار التقسيم** ،الذي دفعت أميريكا ثمن إنجاحه بشراء أصوات بعض الدول ،بعدأن فشلت في الحصول على موافقة أغلبية الدول في الاقتراع الول ،وهوالذي حرول وعد "بلفور" لليهود من مجرد وعد بـ"وطن اقومي" إلى حق بـ"دولة إسرائيلية" ،في فلسطين. ________________________________________________________________ )**( قرار التقسيم عام ،1947ـخصص من أصل 26ألف كم مربع ،كل مساحة فلسطين التاريخية، 14100كم مربع لدولة إرسرائيل ،ولكن إرسرائيل ارستطاعت زيادتها بالقوة إلى 20700كم مربع.
ثم يحدثناعن حرب العشرة أيام ،اقبيل إتفااقية رودس ،التي تم فيها احتلل 201اقرية في المنطقة المخصصة لليهود و 112اقرية في المنطقة العربية ،حسب اقرارالتقسيم. ثم يعود ليذكرنا بأن أميريكا هي أول من اعترف بالدولة السرائيلية، بعد سبع داقائق من إعلن إاقامتها .وهي التي ،والتي ،وصول إلى الحديث عن "الستعمار" ،و"المبريالية" التي كان يصفها أستاذنا دائما بأنها أعلى مراحل الستعمار ،ومن ثم الحديث عن من يقف لأميريكا بالمرصاد ،صديق الشعوب المقهورة ،التحادالسوفييتي وغيره من الدول الشتراكيه )!( ناهيك عن اجتهادات الزملء من"فلسفة الصفوف" الذين يستعرضون معلوماتهم ومعرفتهم الوثيقة بـالمسميات الجديدة علينا.. "الماركسية" و"القوميه" و"البعث" و"الخوان" و ..و .. ونتيجة لهذا الخليط من النظريات ،أصبحنا نردد المقولت التي نسمعها من هنا ومن هناك .هذا علما بأن صفوفنا كانت تضم تشكيلة متنوعة من القادمين من مختلف أنحاء فلسطين .فأمست أحاديثنا تتلون وتتشكل بألوان وأشكال التيارات المختلفة التي زاد تعددها واختلفها. وما برحت أوهامنا أن صورت لنا أننا غدونا كبارا ،نحكي في السياسة. لكن مدرس الرسم ،الستاذ المجدلوي ،كان هوالكثر نفوذا إلى سرائرنا المتعطشة للمعرفة .ولم نحظ بساعات ممتعة مثل ساعات حصة الرسم التي كان مدرسنا يسمح لنا فيها بقدر من حرية التعبير والمنااقشة في ظل جو أخوي مرح. 173
بدأ أول دروس الرسم بأن رسم على اللوح السود خطا تعرج في أعله ثم انساب منحدرا مع ميل إلى اليسار سرعان ما تعرفنا فيه على "ساحل فلسطين". ..حدودنا من الشمال؟كلنا بصوت واحد: ..رأس النااقوره. ..حدودنا من الجنوب؟ ..رفح. ..مين فيكم من يافا؟أكثر من واحد: ..أنا أستاذ ..أنا أستاذ. ..إطلع يا "ماجد" ،أكتب السماء اللي ذكرناها ،بعد أن تحددموااقعها. وسرعان ما أصبح الساحل يعج بالسماء..رفح ..خان يونس..دير البلح..غزه..جباليا..المجدل..اسدود ..يافا..تل أبيب..نتانيا.. كفرسابا..الخضيره ..اقيساريه..عتليت..الطنطوره..حيفا..عكا..ثم رأس النااقورة. ثم ينتقل أستاذنا إلى الحدود الشمالية ،فالحدود الشراقية ،وهو يطلب من أحد أصحاب الصابع المرفوعة أن يضيف إلى الخارطة ما يجعلها تقترب من الكتمال ،وتتزاحم فيها السماء بخطوط متباينة الحجام. ثم: ..مين فينا من القدس؟وكنت أنا المقدسي الوحيد ،في ذلك الواقت. خطرلي أن أستعرض ما دأب أخاي"عابد"على تلقيني إياه ،وتدريبي عليه منذ الصغر ،أن أعيد ،بمفردي ،رسم الخارطة بأكملها بعد أن تقوم بمسح كل ما على اللوح .ولكني ترددت ،مما جعل الستاذ يستنهضي مازحا: ..مالك ..مش عارف بلدك القدس فين؟174
درج الستاذ بعدها على أن يبدأ حصص الرسم التالية بأن يطلب من كل واحد منا أن يفعل ما كنت أنوي فعله .ول ينسى أن يستهل الدرس بتأكيده أن من يريد أن يفهم في السياسه ،يجب أول ،أن يعرف كل شيء عن بلده .ليس تاريخها فحسب ،بل جغرافيتها أيضا: ..فلسطين يا ولدي هي فلسطين كلها .هي كل إشي بفلسطين.بحرها..بحيراتها..سهولها..جبالها ..مدنها ..اقراها.. تاريخها..أهلها..أزياءها ..دبكاتها..أغانيها ..زهورها ..برتقالها.. واللي برده فلسطين مش لزم يعرف تاريخها وبس ،لزم يحفظ خارطتها بكل تفاصيلها! ثم ينهي حديثه بأن يطلب من كل منكم أن يرسم فلسطينه كما يراها. كان ذلك مما أكد لي أن أخي"عابد"والستاذ "المجدلوي" ،كما يقولون" ،اقاريين على شيخ واحد". *
*
*
كنا نتفق ونختلف ويحتدم النقاش بيننا في حصة الرسم التي كان مدرسنا يسمح لنا أثناءها بذلك القدر من الحرية .لكنه كثيرا ما كان يضج من ضجيجنا فيصيح محتجا ر ،مازحا ،بالمقولة الشهيرة للـ "اليمجادله" ،أهل المجدل: ..ياريتهم كبسيمتو *!ثم يفتعل الجد والصرامة ،ويشير إلى أحدنا وهو يصيح: "كوم" إنت وارسم خارطة فلسطين وحدودها تنشوف شطارتك!*
*
175
*
________________________________________________________________ )*( مقولة كان اللجئون من أهل مدينة المجدل يرددونها ترحما على"قرارالتقسيم" ،بعدما طال بهم النتظار للعودة إلى مدينتهم ،كما وعدت الجيو ش العربية ،أوعندما يشعرون أن "الغزازوه" قد سـموا !" جاوزوا حدودهم في التعبير عن ضيقهم باللجئين ..و "المجاْدله" بالذات " .يا ريتهم ق د
"رسعد يــــــــــــــــــــه"..
وسرعان ما يتكون في مدرسة المام الشافعي فريق للتمثيل ليقدم مسرحية "الوطن السليب" .بطولة فتاة فدائية ترمز إلى شعب فلسطين. وتبرزالمشكلة في عدم وجود فتاة لتقوم بهذا الدور .لكن مؤلف المسرحية ،وهو مخرجها ،وبطلها أيضا ،يرى أنه ل بأس من اقيام أي طالب بدور الفتاة "سهام" .وهنا تبرز المشكلة الكثر تعقيدا. من منا يقوم بدورالفتاه؟ وأكون أنا الفدائي ،متحديا تعليقات الزملء وسخرياتهم. *
*
*
فلقد استهواك المسرح منذ أن رأيت في طفولتك تلك المسرحية في "داراليتام" ،في القدس ،اقبل الهجرة .وخصوصا مشهد الزنزانة المعتمة وصوت السجناء وهم يغنون ذلك اللحن الطافح بالشجن"..يا ظلم السجن خريم ،نحن ل نخشى الظلما"..إلخ. أو ذلك المشهد المؤثر لتلك الم وهي تودع ابنها البطل السجين. ورحت تعيد فصول المسرحية وتضيف إليها ما يتناسب مع ما تكتشفه من مواهب أولد وبنات الجيران. إلى أن ثارت ثائرة إحدى الجارات"،إم علي" ،التي رااقبتك خلسة،على أحد المشاهد التي كنت فيها ،ببراءة الطفال ،تحتضن ابنتها البيضاء "كوكب" التي كانت تؤدي دور البطل السجين .ولما رأت أن شكواها لمك لم تجد الصدى الذي كانت تتواقعه ،ادعت ،وأاقسمت أنها رأتك بأم عينها عندما "سبحلتت للبنت لباسها"! * * * 176
ثم يفشل مشروع مسرحية "الوطن السليب". ويأبى أحد التلميذ السُبمج ،الذين ل يخلو منهم أي"صف" مدرسي ،إل أن يتمادى في استفزازي حينما كرر مناداتي في ساحة المدرسة بإسم بطلة المسرحية"..سهام". وتكون النتيجة ،التي لم أكن أتواقعها ،ولم يتواقعها أحد ،أن"سعدي"، الولد السامج ،جاء في اليوم التالي إلى المدرسة بيده اليمنى معلقة إلى راقبته واقد كساها الجبس ،مما أكسبني بعد ذلك هيبة ومهابة بين زملئي. ولم أعد ،بعد ذلك ،أسمع سخريات بعض أاقراني بتقليدهم للهجتي المقدسية التي تتصف بالراقة والنعومة مقارنة باللهجة الغزاوية. ول يكف زملئي ،لفترة طويلة من الزمن ،عن التندر بمنظرالولد "سعدي" الذي انحنى تحت وطأة اللم ،بينما يداي تحكمان القبضة على معصمه اليمن ،من خلفه ،وهو يردد مستسلما ومكررا ،بين الـ"آه" والخرى ،حسب طلب أحد الزملء: أنا "سعديـه".. علري صوتك! أنا سعديـــــــــه.. أعلى! أنا سعديــــــــــــــــــــــه..)غني عن التنويه بأن إسم "سعديه" كان يقترن بإمرأة شهيرة بإسم: "سعديه الطبتحله" ،كانت من أهم رموز"العالم التحتي" لمدينة غزه(. والطريف ،أن ذلك الولد السامج اقد أبى عليه كبريامؤه أن يعترف لهله بالحقيقة ،وادعى أن إصابته كانت نتيجة واقوعه على الرض بقوة فركت رسغه عندما حاول تفادي الصدمة بيده .وبذلك نجوت أنا من عقاب عائلته ..وعائلتي ،ومديرالمدرسه ،الستاذ ممدوح الخالدي، الذي ووضعني في اقائمة المشاغبين منذ حكاية الشيخ "سرداح". 177
*
*
*
هوايـــــــــــــــات.. وكان ل بد من أن تنتقل العائلة إلى بيت أكثر ملءمة .فالحوال وتلمح إلى س السياسية كانت تشي باستحالة إمكانية العودة إلى القدس، وجوب التكيف مع إستقرار ،ولو بشكل مؤاقت ،في غزه .ويوفق أخي"عابد" ،بمساعي ونفوذ خالي "علي" في إيجاد عمل ثابت له في أحد شركات الغزل والنسيج في السكندريه. وتنتهي السنة الدراسية ،وتنتقل إلى الصف الثاني الثانوي. وماهي إل أيام حتى صدرت التعليمات بتحويل نظام الدراسة ومنهجها إلى نظام التعليم المصري .فكان أن تعادلت السنة الثانوية "الثانية" في النظام الفلسطيني مع السنة الثانوية "الثالثة" في النظام التعليمي المصري. وُسحبت منا الكتب المقررة على"الصف" الثاني الثانوي ،ووزعت علينا بدل منها الكتب المصرية المقررة على"الفصل" الثالث الثانوي ،ليفاجأ الجميع بأن مقرر اللغة النجليزية للسنة الثالثة الثانوية في النظام المصري ،على سبيل المثال ،هو ما كان مقررا علينا اقبل سنة أو سنتين. الستاذ "الليثي" ،مدرس اللغة النجليزية المصري المنتدب ،كان يصرعلى أن يعطي كل درس من دروس اللغة حقه .ولم يقتنع بأن ينتهي ،في حصة واحدة ،من أكثر من درس. إحساسي بسهولة المنهاج المقرر ربما هو الذي جعلني أشعر بوفرة واقت الفراغ .مما حداني أن تتجه إلى ممارسة هوايات كالقراءة.. والرسم ..ومشاهدة أفلم السينما ..في الخفاء. كان شغل والدي الشاغل ،بعد الصلة وتلوة القرآن والدعية، هواللحاح بدون ملل على وجوب استغلل كل الواقات للمذاكرة والدرس والتحصيل. وعلى الجانب الخر ،لم يتواقف أخي "عابد" عن تشجيعي ،في رسائله من "السكندرية" ،وبعد ذلك من "جدة" ،على مواصلة 178
الطلع والقراءة .وكان يحرص على أن يرسل لك بين الحين والخر مصروفا إضافيا لشراء الكتب والمجلت ،ولممارسة ما شئت من الهوايات ،كالقراءة والرسم ،أو مشاهدة أفلم السينما. وها هي ذي مجـــــلة "الفن" ،الصادرة في القاهرة ،في أحد أسابيع عام ،50تنشر لي صورة رسمتها لمطربتي المفضلة في حينها"،ليلى مراد" ،معلنة عن فوزك بالجائزة المالية الولى ،واقدرهاعشرون اقرشا مصريا )!( ول يكاد الخبر ينتشر بين أاقراني وأساتذتي في المدرسة وبين الهل والجيران حتى يظهر إسمي مرة أخرى تحت صورة أخرى فائزة في عدد آخر من نفس المجلة. وتتدفق التهاني على الفوز المزدوج ،ولكن انتظاري للجائزتين الماليتين اقد طال ..بل طائل. لكني كنت أشد فخرا وسعادة وأنا تتلقى رسالة تهنئة وتشجيع من خالتي "آمنه" ،التي كانت في ذلك الواقت اقد حققت حلمها باللتحاق بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة في مصر ،بالرغم من تقدمها في السن .وكان إصرارها على تحقيق هذا الحلم هو في حد ذاته اقصة كفاح زادتي إعجابا بها ،وحبا لها. إل أن رسائلها لم تستطع أن تسد الفراغ الذي تركه غيابها في نفسي. فقد كان لوجودها ذلك الثر في تحفيزي على ممارسة هذا الفن أو ذاك. كانت تستدرجني إلى مشاركتها الغناء أثناء مرااقبتها بينما هي منهمكة في وضع لمساتها وألوانها على إحدى اللوحات. وكانت تغدق عليي باللوان ولوازم الرسم والحفر ..والرشادات. وكما كنت أفتقد أخي "عابد" ،ورعايته التي حرمت منها بسبب ظروف الهجرة التي اضطرته للسفر بحثا عن العمل ،كذلك كنت أشعر بأشوااقي لخالتي "آمنه" وما كانت تتيحه لي في القدس من متعة الحساس بالجمال وتذواقه والتعامل معه. * * *
السهل الممتنع.. 179
الشعر شيء حسلن فعلمـــوا أولدكـــم
ليس به من حرج عقــاَر طب الـمهج*
حفظت في طفولتي تلك البيات ،ويبدو أني أمنت بأن الشعرهو ،كما برين لنا المدرس ،خيردواء للُميهج ،فلم أدخر جهدا في حفظ ما تيسرلي من البيات المقررة ،وغيرالمقررة ،وخصوصا المغنراة منها. أما في الصفوف الثانوية فقد كان هناك من بين زملئي من يقرضون الشعر .واقد أتى علي حين ،أو أحايين ،من الزمان حاولت فيها"الكتابه" .بمعني ممارسة البداع بالكلمه أسوة ببعض الزملء. إل أن محاولتي لم تكن موفقة في مجال الشعر. بدأت محاولتي بأن أنتقي مطلعا من أحد القصائد المعروفة. مثل: فل بد أن يستجيب القدر إذا الشعب يوما أراد الحياة ثم أستكمله بمعرفتي: نغذ المسير تجاه الحيـاه فهيا أـخــي نجمع الشمل ثم أو "لست أدري ..ولماذا لست أدري ..لست أدري" __________________________________ )*( من شعر الحسن بن رشيق القيرواني
ثم أمضي مكمل: قالها الشاعر يوما ..منذ عمر مثل عمري لكأني قلتها بلسانه ..أو كأنْه كان يعرف أمري 180
رددوها بعده وتغنوا.. وهي مني ..وهي شعري.. ..إلخ إل أن أستاذ اللغة العربية ،الشاعر ،كان يرى أن ما أاقوله ل يمت إلى الشعر بصلة. ردد ،ساخرا ،ما يشبه ما اقاله لي والدي آن ضبطني متلبسا بمحاولة تجويد آيات من القرآن الكريم. هذا بالرغم من إهتمامي الملحوظ بعلم العروض ،في دروس اللغة العربية ،وحفظي عن ظهر اقلب ،ومبكرا ،لبحور الشعر وأوزانه، وعلاقة ذلك بالموسيقى التي كانت تستهويني. *
*
*
بدأ ذلك مبكرا ،في "المدرسة البكرية" في القدس .عندما كان، مديرالمدرسة ،يهتم بتعيين"عرفاء" على الصفوف الدنيا يختارهم من تلميذ الصفوف العليا. واقد كان عريف صفنا ،الثالث البتدائي ،هو"عبدالمحسن" ،الذي كان يسبقنا في الدراسة بسنتين أو ثلث .وكان يحرص على ملء فراغنا، خصوصا عندما يتغيب أحد المدرسين ،بتحفيظنا أبيات من الشعر، ومنها ما هو بمثابة مفاتيح لبحورالشعر .مثال ذلك..البحرالوافر: مفاعلتن مفاعلتن فعول بحور الشعر وافرها جميل أو بحر الرجز: مستفعلن مستفعلن مستفعلن أرجز لنا يا صاحبي أرجوزة أو بحر المتدارك: فتداركهــا رجـــمل رجـــُل كـرة ضربـــــت بصـــوالجة فـعلن فـعلن فـعلن فـعـُل يفـلعلُتن فـعلن فـعلن فـعلن 181
وكان عريفنا "عبدالمحسن" خفيف الظل اقريبا إلى اقلوبنا ،بحيث كنا ننتظر ،ونتمنى ،غياب أحد المدرسين لكي نحظى بتواجده بيننا. وعندئذ ل يلبث أن يبدأ بإنشاد أبيات الشعر بطريقة مواقعة ،ونحن نرددها وراءه بجذل وطرب يجعلنا نحفظ هذه البيات وغيرها بسهولة. ثم يدورالزمن ،وتمضي السنون ،ويكون من بين الهاربين من بطش الملك "عبدا" في الردن إلى غزة ،عام " ،1951شويعر" ناشيء كان نجمه اقد بدأ بالظهور. واقد روي عنه في ذلك الواقت أنه كان ،رغم صغر سنه ،ممن يناهضون الملك عبدا علنا ،وأنه اقد ذاعت له اقصيدة يدعو فيها إلى مواصلة النضال لسترداد ما ضاع من أرض الوطن. ولما وصل أمرالقصيدة إلى الملك ،اكتفى بأن ردد معلقا: " ..والشعراء يتبعهم الغاوون". ويقال أيضا أن "عبدالمحسن" لم يسكت ،بل أجاب معقبا على ذلك: " ..إن الملوك إذا دخلوا اقرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة". ثم تدورعجلة الزمن مرة أخرى ،وتمضي السنين ،وأتقابل ،مرة ثالثة، مع عريفنا "عبد المحسن أبوميزر" ،الذي هجرالشعر واحترف السياسة ،إثر إبعاده ،من اقبل السلطات السرائيلية ،من الضفة الغربية إلى لبنان .في بداية السبعينيات. *
*
182
*
والقصـــــــة..
كأنما كان ل بد لي من أن أجرب حظي في مجال إبداعي آخر،غيرالشعرالذي استعصى علي اقرضه. 183
كانت لي ،في مرحلة لحقة ،بعض المحاولت التي ل تخلو من ملمح القصة القصيرة ،وإن كانت ل تخلو أيضا من السذاجة ،والتي لم ي ر طلع عليها سوى بعض المقربين من الصداقاء .وكانت هذه المحاولت نتيجة لتنامي عادة القراءة لدي ،والحساس بأني لن أعجز عن "توليف" بعض الحكايات أو الموااقف التي كنت أسمعها أو أاقرأها أو أتخيلها .ولم يكن كرتاب القصة الذين عرفتهم في ذلك الواقت ،في تقديري ،ليفعلوا أكثر من ذلك. كل ما هنالك أنهم اقد امتلكوا القدرة على التعبير اللغوي .وهو الشيء الذي كنت أتوهم أني في طريقي لمتلكه. لكن يبدو ،بل الكيــد ،أن التعبير بـ "الصــــــــورة" كان بالنسبة لي هو الهاجس الكبر والهدف الذي يثير اهتمامي أكثر .ذلك ما كانت خالتي ،الفنانة التشكيلية ،ل تمل من التأكيد عليه. مازلت أذكر تلك "الصورة" في أول مشروع لكتابة "اقصة اقصيرة" متكاملة ،عن غير ما اقصد. * * * لم تكن الكلمات المكتوبة تشغلني أو تعنيني لذاتها بقدر ما تكون لتلك الكلمات من اقدرة على رسم الصورالتي تجول في خاطري .فالصل عند أي مبدع ،كما علمتني خالتي "الست آمنه" ،هو الصورة التي، بعد أن تتضح معالمها في مخيلته ،يجتهد في نقلها للخرين مستخدما أدواته .وما الكلمات إل إحدى تلك الدوات. كن ُ ت في الصف الثالث الثانوي ،حينما طلب منا مدرس اللغة العربية كتابة موضوع إنشائي عن نكبة عام .48كان ذلك في عام .51 أخذت ،من فرط يأسي وإحساسي بالعجز ،أبحث عن عذر لجعله سببا لتغيبي عن درس "النشاء" القادم. كان من بين طلب صرفي إثنان من الـ"الفطاحل" في اللغة العربيه، كما كان يحلو لستاذنا أن يلقبهما مداعبا .كنت أفغر فاهي دهشة وأنا أستمع الى أحدهما وهو يقرأ علينا ما كتبه في مادة "النشاء". وأستاذنا ل ينفك يوسعه مدحا وثناء .أحدهما كان يتظاهر بأنه يحفظ معظم "ألفية" إبن مالك .والخر كان يحفظ اقصائد مدرسنا العصماء 184
كلها .ولا يفسوت فرصة دون أن يحشر بيتا منها أو أكثر في كل موضوع "إنشاءعربي" يطلب أستاذنا أن نكتبه. جلست في غرفتي أفكر ،ماذا عساي أن أكتب؟ كان الفصل شتاء .وأنا أجلس إلى طاولتي اقابضا على كوب الشاي الذي صنعته لنفسي محاول أن أدفيء أصابعي التي لم تستطع أن تمسك بالقلم من شدة البرد .وصوت الريح يتسلل الى الغرفة مزمجرار يتوعدني وينبؤني بغضب "الستاذ" .وغصن الشجرة الذي يصطدم بزجاج نافذتي يصدر صوتا يشبه صوت عصا "الستاذ" وهي تخبط على أحد "بنوك" الصف تعبيرا عن غضبه وتهديداته .وظل صوت الطراقات يلح على أذنري مشتتا أفكاري ،ل أستطيع التركيز ،بحيث استغراقت واقتا ليس بالقصير حتى استطعت أن أميز ذلك الصوت عن صوت طراقات أخرى على باب الدار الخارجي. لم يكن هناك أحد غيري في البيت .فاضطررت أن أخرج من غرفتي لرى من الطارق؟ كان بالباب رجل عجوز بأسمال بالية ،يرتعد بردا. لم أفكر كثيرار اقبل أن أطلب منه الدخول .ولم يطل تردد الرجل في ذلك كثيرا .بل إنه لم يتردد حتى في أن يمد يده ليأخذ مني كوب الشاي اقبل أن أطلب منه ذلك .وأخذ يردد دعواته لي بالتوفيق وسداد الخطى. كانت كلماته ولكنته تنم عن أنه غريب .سألته: من أي بلد أنت يا عم؟رد العجوز: من "دير ياسين". إذن فأنت من تلك البلد التي..اقاطعني بصوت مرتعش: نعم يا ولدي ،أنا من تللك البلد التي...وأكمل ،أو أكملت أنا ،رواية الحكايه. وكان هذا هو موضوع النشاء الذي كتبته. 185
نكبة عام ،48من خلل اقصة العجوز الهارب الناجي من مذبحة "دير ياسين". صورت ،ول أاقول رويت ،كل ما سمعته من اقبل عن تلك المذبحة.. بلسانه. ومازلت أذكر ،مثل ،وصفي للدمعة التي انحدرت من عين العجوز.. " ..فتوزعت في الخاديد التي حفرها الدهر في وجهه". بل أتذكرني واقد أخذت أتخيل "الستاذ" وهو يطلب مني أن أاقرأ "الموضوع" أمام طلب الصف .وكدت أسمعه وهو يوسعني مدحا وثناء ..أسوة بزملئي "الفطاحل". *
*
*
و انتهى واقت حصة النشاء .ولم يطلب مني "الستاذ" أن أاقرأ موضوعي ! لكنه كان ،بين حين وآخر ،يحدجني بنظرة لم أفهم معناها .ولم يكد يخرج من الصف ،حتى دخل الساعي مناديا إسمي للحضور الى غرفة المعلمين. ناولني الستاذ دفتري ،الذي كان مفتوحا بيده ،وطلب مني أن أاقرأ موضوعي أمام بقية الساتذه ففعلت ،وأنا أشعر بالفخر والسعادة لهذا التكريم المتميز. وما كدت أنتهي من القراءة ،حتى دوت عاصفة من التصفيق تتخللها عاصفة أخرى من الضحكات ،ذات المعنى! اختطف الستاذ الكراسة من يدي: ..وانحدرت دمعة من عين العجوز ،فتوزعت في الخاديد التيحفرها الدهر في وجهه! اقرأها وهو يتلذذ باكتشافه ،ثم أردف سائلر مهددا: وهلقيت بردك تعترف وتقول ،من وين "نقلت" موضوعك هذا،وإ ر ل... اقالها وهو يهزعصاه في الهواء مهددرا. 186
ألفيت نفسي متهما بجريمة لم تخطر لي على بال .وعبثا حاولت أن أدافع عن نفسي ،وأن لاقنع الستاذ "صبيح" بأن اقصة الرجل ملفقة من بنات أفكاري .وأن ما دفعي إلى ذلك هو رغبتي في أن أكتب شيئا يختلف ويتميزعن ما يكتبه زملئي "..الفطاحل"! وأما صورة الدموع التي استرعت إنتباه الستاذ وأكدت شكوكه فهي "صورة" كثيرا ما كنت أراها في وجه العجائز ،ومنهن جدتي أنا. سرتي "إم رشدي". لم يقتنع. وكان من الطبيعي أن يحذو معظم زملء الصف حذو أستاذهم. كرهت حصة "النشاء" .وصرت أجد عزائي في حصة "الرسم". لكني كنت ،بين الحين والخر ،أتوق إلى الرسم بالكلمات فأفعل. وأحتفظ لنفسي بما كتبت .ثم أعود إلى القراءة. إلى أن برز "حسين". * * *
صديقي "حســــــــــين"..
الشخص الثالث ،بعد أخي"عابد" وخالتي"آمنه" ،الذي شارك في مخاطبة وتنمية حاسة "التذوق"عندي ،أدبيا أو فنيا ،هو صديقي "حسين غيث". *
*
*
هذا ،بالضافة إلى تأثير سحر المكان الذي ولدت ونشأت فيه ..دارنا العتيقة في القدس. 187
باحتها )وسط الدار( المطلة على سماء القدس والتي كانت تنطق بالخصوصية والجمال. جدرانها وبلطاتها الحجرية التي تشي بالرومة والصالة العربية والتراث. لمسات "أم العابد" ،وتطاريزها الملونة ومعلقاتها. تقاطيع وجهها الحلوة .عيناها المائل لونهما إلى الخضرة بما توحيان به من اقدرة طاغية على العطاء. أزهار"أبو العابد" المتنوعة أشكالها وألوانها وعبيرها .يتميز منها الياسمين والفل ،بالنقاء والصفاء. صوته الرخيم مرتل آيات القرآن في الصباحات. صوت راديو أو فونوغراف مقهى جارنا "أبو عارف الباسطي" يصدح بأغاني وألحان ذلك الزمن الجميل طول النهار وفي المسيات. كلمة "هنا القاهره" التي كان راديو المقهى يعلو بها فتحدث في نفسي أثر السحر. صوت أخيي "عابد" الذي يعيدني سماع أغنياته المفضلة في أي زمان ومكان إلى ذلك الزمان وذلك المكان. صوت زاقزاقة العصافير المعششة على شجرة الفلفل العملاقة ،أصلها في باحة مدرسة البنات وفروعها المطلة على وسط الدار. أصوات أناشيد الطفال الصباحية وفي مقدمتها نشيد "موطني" الجميل. كل هذا مع خلفية متآلفة من أصوات المؤذنين من على مختلف المآذن ،وأصوات أجراس الكنائس المنداحة من أبراجها ،متباينة البعد أو القرب من الدار ،وهي تنتشر في الفضاء وتختلط ببعضها لتخرج منها توزيعات عبقرية ،ما زالت تسكن تلفيف ذاكرتي الصوتية ،يعجزعن إبداعها عبااقرة الموسيقيين. كل هذا ،إلى جانب خالتي "آمنه" الفنانة ولوحاتها وألوانها ومرسمها وتلميذاتها الصبايا الجميلت. * 188
*
*
ومن عجب أنني لم أدرك تلك الحقيقة إل مؤخررا .وذلك أثناء استرجاعي للماضي ،وإبحاري فيه ،ومحاولة الغوص في أعمااقه. أاقصد أثناء محاولتي لما أنا أحاوله الن..الكتابة ،والبوح. والعجب من ذلك أن صديقي "حسين" ،رجل العمال فيما بعد ،اقد أخذته الدهشة عندما سمع رأيي هذا ،حينما اقابلته مؤخرا ،بعد فراق دام أكثر من أربعين عاما. ابتدأت صدااقتنا في الصف الثالث الثانوي ).(50/1951 في ذلك الواقت كان كل من الخوين التوأمين" ،عيسى" و"موسى"، اللجئين من اقرية "الجوره" ،يتبادلن المركزين الول والثاني في الصف. وفجأة ،وبدون مقدمات ،وبكل هدوء ،أصبح "حسين" ،ذلك الطالب المستجد ،منافسا لهما. ولم تعد اقراءة موضوع النشاء حكرار على "عيسى" وتوأمه "موسى" .صار "حسين" أحد "فطاحل" اللغة العربيه في الصف. أذكرللـ"حسين" مواقفه يوم أن اتهمني مدرس اللغة العربية ،ظلما ر وبهتانا ،بأنني"نقلت" موضوع النشاء الخاص بنكبة عام .48وكأنه لم يستطع أن يتحمل الظلم الوااقع على أحد زملئه .ففي ذلك اليوم فوجئت به يطلب مني أن أسمح له بقراءة موضوع النشاء ،الذي كان مثارار لسخرية الجميع مني .وفي اليوم التالي عرفت أنه ذهب لغرفة المعلمين ليؤكد لهم أنني كتبت "موضوع النشاء" المذكورأثناء وجوده عندي ،في بيتنا. وعرفت أيضا أن الستاذ المجدلوي ،مدرس الرسم ،اقد اتخذ مواقفا إلى جانبي ،مستشهدا بكراسة الرسم الخاصة بي ،اقائ ر ل: ..إن من يمتلك تلك الخطوط التي تحتويها الكراسة ،ل يصعبعلى مخيلته أن توحي له بالصورالتي وردت في موضوع النشاء. 189
كان "حسين" هو صاحب فكرة الستعانة بالستاذ المجدلوي. وفوجئت بزملء آخرين يقفون إلى جانبي بالرغم من صمتهم في البدايه .وتفسيري للمواقف هو أن أحدهم لم يتعود على المجاهرة بالرأي المخالف. كأنما اقد جاء"حسين" ليكشف النقاب عن "اقيمة" خبيئة ،فضيلة كامنة، لم يكن لها من اقبل فرصة للظهور والممارسه. كان والده رجل مثقفا ذو رأي وجرأة جعلت الملك عبدا ،بعد ضم الضفة الغربية إلى مملكته الردنية ،يعمل على التخلص منه ومن أمثاله المعارضين بطردهم منها. ونشأت بيني وبين "حسين" صدااقة محورها القراءة ،وتبادل الكتب الدبية أو الروايات ،ومشاهدة الفلم التي كانت تعرضها سينما "السامر" ،دارالسينما الوحيدة في غزة في ذلك الواقت ،ومن ثم الحوار حول ما نقرأ ،أو ما نشاهد .وسرعان ما استرجعنا سويا "أيـــــــام" طه حسين و"يوميات" توفيق الحكيم و"عبرات" المنفلوطي و"عبقريات" العقاد و"رومانسيات" محمود تيمور و"أندلسيات" جورجي زيدان ،وأعمال "نجيب محفوظ" التي طافت بي في حواري القاهرة اقبل أن تطأها اقدماي ..وغيرهم. كأني بكل ما اقرأته اقبل ذلك لم يكن ،كما يقولون ،سوى نباتا شيطانيا لم تمتد إليه يد العناية والتشذيب والتهذيب. كنت ،اقبل ذلك ،أشعر بالوحدة والغربة بين أصداقائي الذين لم يكن لي دورفي اختيارهم ،بل كان ما ربطني بهم هو الصدفة والجوار. كنت أرى في عيونهم إتهاما لي بـ"الفلسفة" ،بمعناها المرفوض ،إذا ما حاولت التعليق على فيلم سينمائي رأيناه سويا .فكثيرا ما كنت أختلف في الرأي حول أحد الفلم التي تثير إعجابهم لدرجة الصرار على مشاهدته مرة ثانيه .أوعكس ذلك ،عندما كنت أحاول أن أتحدث عن اقيمة أكتشفتها في أحد الفلم التي لم تحظ باهتمامهم ،فأفاجأ بتسخيف رأيي ،أو بالعراض حتى عن سماعه بحجة أننا إنما نذهب لمشاهدة الفلم بهدف التسلية ،ل للـ"وجع القلب" ،و"الكلم الفارغ".. و"الفلسفه")!( 190
وهم بذلك إنما يضيفون دليل جديدا على جهل يجعلهم يساوون بين "الفلسفة" و"الكلم الفارغ". ثم جاء "حسين" ،ل ليستمع إلى ملحظاتي فحسب ،بل ليضيف إليها ويثريها أيضا. كنا نعيد اقراءة القصة أو الرواية التي أخذ عنها الفيلم السينمائي ،ثم نعيد "إخراج" الفيلم سويا كما يروق لنا. أذكر ،على سبيل المثال ،رواية "محمد عبد الحليم عبدا"، "لقيطه" ،التي تحولت إلى فيلم سينمائي لم ترق لنا نهايته السعيدة المفتعله. كأني بتلك الصدااقة الجديدة اقد وجد ُ ت مرآة صاداقة ،أرى فيها نفسي بعيوبها ،أستمع لصوتي ،أعرف أخطائي. وهل يمكن أن يرى النسان وجهه بدون مرآة؟ أو كأنني وجدت من يشاركني العناية بحديقة اقمت بغرس مختلف أنواع الزهور فيها ،مدركا أن هذه الزهور تحتاج لمن يتفقدها ويشذبها ويهذبها ،ويضيف إليها ،أو يستبعد منها النشاز الضار ،أو الواقوف على أسرار الذبول أو الزدهار. مازلت أذكر مكتبة "خميس أبوشعبان" ،الكائنة في البداية الشراقية لشارع "غزة" الشهير "شارع عمرالمختار" ،والتي كانت تزودنا بما يستجد من إصدارات .وإن أنس ل أنسى مجلة "كتابي" الشهرية، التي كان "حلمي مراد" يصدرها في مصر ،والتي كانت تشكل إطللة على آداب العالم ،حيث دأبت على تلخيص الروايات وتقديم ما كنا نتلهف لقراءته من نتاج أدباء العالم اقديمه وحديثه .هذا بالضافة إلى مطبوعات "كتابي" التي كانت تقدم ترجمات كاملة لمختلف العمال الدبية العالمية الهامة. لم تخل لقاءاتنا أو منااقشاتنا من الختلف في الرأي .بل كثيرا ما كان المر ينتهي إلى القطيعة لبضعة أيام .فقد كان صديقي "حسين" ذو مزاج متقلب بين العبقريه ..والسخافة تارة ،وبين الصراحه.. والواقاحه تارة أخرى )!( 191
لكن سرعان ما كان أحدنا يعترف بخطأه للخر .وتعود المياه إلى مجاريها. كان "حسين" هوالذي أخرجني من اقواقعة الصداقاء المحدودي الفق والطموح ،ومن خلله توثقت علاقتي بأصداقاء جدد مثل "عيسى" و "نادر" و" إبراهيم" و"ماجد" وآخرين .ودخلت إلى عالم آخر فيه من يكتب الشعر ومن يقرأ ومن يغني ومن يعزف على آلة العود ومن يهوى التصوير الفوتوجرافي أوغير ذلك من سائرالفنون. كان ذلك مما شجعني لدخار مبلغ يكفي لشراء آلة الكمان التي كنت أعشق صوتها وأداءها .واتفقت مع صديق لشقيق "نادر" الذي كان يجيد العزف عليها أن يقوم بتدريبي على العزف .إل أن أمي أكدت لي ،وهي ترتعد خوفا ،أن والدي سوف يخريرني بين دخول آلة الكمان إلى الدار ..وبين بقائي أنا فيها. *
*
*
ويعود إلى ذهني مواقف والدي المتطرف من الموسيقى .ذلك عندما ألحقي مدرس الرسم والشغال بـ "فريق البلبل" الذي ينشد نشيد "موطني" في طابورالصباح ،في المدرسة العمرية بالقدس ،ثم اختارني ضمن أفراد الفراقة الموسيقية المزمع تشكيلها لتعلم العزف على الـ "فلوت" .لكن والدي رفض ذلك "النحراف" في حينها بشدة ،لن "التصفير" من المحرمات التي"تُيجسمع الشياطين"! ثم تقودني الذاكرة إلى اليام الولى من الهجرة إلى غزة عندما اقام"سعد ا" ،إبن عمي أحمد ،الذي كان من جيل أخيك "عابد" وتربطنا به علاقة طيبة ،منذ أن كان طالبا في"القسم الداخلي" في المدرسة البراهيمية في القدس حيث كان يقضي أيام الجمعة في ضيافتنا فيكرم الكل وفادته ،والذي كان يجيد العزف على آلة الفلوت، بإهداءك آلته القديمة ،فاجتهدت حتى عرفت كيف أخرج منها الكثير من اللحان المعروفة .كانت والدتي تحرص على أن تخفيها عن 192
أعين والدك ،ول تفرج عنها أو تسمح لي بالعزف عليها إل أثناء غيابه. من يصدق أن النسان ،أي إنسان ،يمكن أن يتطور حتى بعد أن يتقدم به السن؟ فهأنا ،في أول عودة مفاجئة إلى غزة ،بعد أن غادرتها للتحق بكلية الهندسة في مصر ،أاقترب من الباب الخارجي للبيت فأسمع عزفا جميل صادرا من آلة أعرفها ،لكتشف أن العازف لم يكن سوى.. والدي! * * * كنا ،جميعنا ،نعيش في ظروف إاقتصادية متواضعه .وكانت الهوايات المتاحة أمامنا هي القراءة ،ومشاهدة الفلم السينمائية .أما الرياضة، فلم يستهوينا منها سوى السباحة في بحر غزه .وهي رياضة موسميه. وأماغير ذلك من الرياضات أو الهوايات فكانت رفاهية ل اقبل لنا بها. في الصف الرابع الثانوي ،وهو العام الدراسي ،52 / 51كنا نستعد لمتحان شهادة "الثقافة العامة" ،وهي السنة التي تسبق سنة "التوجيهي" ،نهاية المرحلة الثانوية .في ذلك الواقت اكتشفنا هواية جديدة ،انفردنا بممارستها" ،حسين" وأنا ،وبعض المقربين من الصداقاء ممن اقمنا باختيارهم بعنايه. تلك كانت هواية المراسله. *
*
193
*
194
صديــــــــــــــــق أـخي..
كانت الهجرة من القدس إلى غزه ،عام ،48وفقدان والدي لوظيفته، سببا في فقداني لرعاية أخيي "عابد" ،الذي اضطر للسفر للبحث عن عمل ،شأن غيره من شباب ذلك الجيل ،ممن تحولوا بين عشية وضحاها إلى"أرباب أسر" يتحملون مسئولياتها. كان عليهم أن يتحملوا عبء الباء ،الذين انطلت عليهم بشارات الزعامات العربية ،والذين أكلوا الحصرم ،هذه المرة ،وتركوا البناء هم الذين يضرسون )!( كان ذلك كله بمثابة الستارة التي أسدلت على حلمه في إتمام دراسته الجامعيه. وظلت الرسائل هي وسيلة التواصل بيني وبينه .كانت رسائله إليي تقربه مني .كنت أكتشف فيه صفات لم أكن أحسن إدراكها عندما كانت تجمعنا دارنا في القدس. وما زلت أذكر تلك الرسالة التي بثني فيها أحزانه والتي اقال لي في ختامها بالحرف الواحد: " ..ولكن ل بأس ،فعزائي دائما هو أملي ،وعهدي ،أن أحقق لك كل ما تمنيته لنفسي". * 195
*
*
الحقيقة أن أخي لم يأل جهدا في سبيل تحقيق ذلك العهد .كما أنني، أيضا ،بذلت ما وسعي لكي ل أخذله .وكان حرصي على إرضائه هو أحد العوامل التي أثرت فيما بعد في بعض مسارات حياتي الخاصة. كان شديد الحرص على أن يقدم لي مفاتيحا أساسية للبحث عن المعرفة وامتلك ما يمكن امتلكه منها. في إحدى رسائله ،بعد أن لمس تنامي عادة القراءة لدي ،طلب مني التصال بصديق له ،الستاذ "سعيد"* ،اقائلر أنني سوف أجد فيه أخا ر بدي ر ل ،يمدني بالنصيحة والتوجيه السليم .ولدى زيارتي الولى لهذا ر الصديق ،اكتشفت أن لديه منجما من الكتب في مختلف الموضوعات. وكانت فرصة الستعارة من هذه الكتب مشروطة بأن أعيد له الكتاب ومعه صفحة واحدة فقط ،تحتوي على تلخيص لذلك الكتاب. فاستجبت له. الكتاب الول كان " ..الوعد الحق" ..لـ ل "طه حسين" الكتاب الثاني كان " ..تربية سلمه موسى" الكتاب الثالث كان " ..الم" ..لـ ل "مكسيم جوركي" )!( .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. وجاءتني بعد ذلك رسائل أخي "عابد" التي يعلن فيهاعن سعادته لسماع رأي صديقه" ،سعيد" ،فري كقارئ ..ناشيء. *
*
*
__________________________ ________________ )*( الرستاذ رسعيد فلفل ،من أعيان المثقفين في غزة .
196
"فييــنــــــا" ..أول مره
في أحد المرات سألني الستاذ "سعيد" عن مدى إهتمامي باللغة النجليزيه وتعاملي معها خارج نطاق المقررات المدرسيه .وعندما لمس استعدادي للخروج من ذلك النطاق ،فاجأني بصورة لفتاة جميلة خلتها لول وهلة ممثلة أجنبية في مقتبل عمرها. اقال أنها ابنة أحد أصداقائه من الكرتاب النمساويين .ثم سألني: ما رأيك أن تقوم بمراسلتها؟اقال ببساطه: أعطيك عنوانها في "فيينا" ،فتكتب لها رسالة باللغة النجليزية.تساءلت: وماذا أاقول لها؟ تقول لها ما تراه .فهي سوف ترحب برسالتك ،وتكتب إليك .فلقدطلبت مني أن أجد لها صديقا في مثل عمرها ،في غزه ،لتراسله وتعرف من خلل رسائله ما تريد أن تعرفه عن شعبنا وعن بلدنا .وتستطيع أنت أن تعرف من خلل رسائلها الكثيرعن بلدهم وعن ثقافتهم" .فيينا" بلد جميله وعريقه ..بلد الموسيقى والفنون. ثم أضاف ضاحكا: ألم تسمع أغنية "أسمهان" ..ليالي النس في "فيينا"؟خذ ،هذه وراقة ،وهذا اقلم ،واكتب! وأكمل يمليني ،باللغة النجليزية ،ما معناه: " ل أدري كيف سيكون شعورك وأنت تتسلمين هذه الرسالة ،ولكن الكيد أنك سوف تتذكرين صديق والدك ،الستاذ سعيد ".. .. 197
ثم أكمل اقائل باللغة العربيه: ..فأنا طالب فلسطيني إلخ..أكلمتل الرساله على مهلك في البيت .اقل لها أنني أعطيتك عنوانها وطلبت منك مراسلتها .إحك لها عن فلسطين ،واسألها عن بلدها التي عانت أيضا من الحروب والحتلل .وإذا كنت متخوفا من أن تقع في أخطاء لغوية ،أرني ما كتبت اقبل إرساله .و تعرود أن ل تخجل من خطئك ،بل أن تتعلم منه .ول تنسى أن لغة الم بالنسبة لـ "أستريد" هي اللغة اللمانية ،وسوف تكون المراسلة بينكما باللغة النجليزية ،إلى جانب ماذكرت ،وسيلة مران وتقوية لكليكما. خلل شهرواحد ،وصلتني رسالتين من "أستريد" .وفي الرسالة الثانية ،فوجئت باعتذارها عن مواصلة مراسلتي لنها في الحقيقة كانت تتطلع إلى من يراسلها باللغة الفرنسية ،لغتها الثانية بعد اللمانية .فكان أن أعطيت عنوانها لصديق لنا يتقن اللغة الفرنسية. وكانت رسالتها تحتوي على أسماء وعناوين أربعة من صديقاتها، زميلت المدرسة ممن يريدن المراسلة باللغة النجليزية. أعطيت "حسين" أحدها ،واحتفظت لنفسي بالثاني ،لعجابي بإسم صاحبته"..ترودي" ،التي مالبثت أن أرسلت لي صورتها فازداد إعجابي بها .واتفقنا على أن نختار بعناية صديقين من زملءنا لينضما إلينا. ولم يمض شهران آخران حتى كنا نشكل ما أسميناه بـ"نادي المراسلة" ،تمتد "فروعه" إلى دول أخرى كثيرة .من بريطانيا إلى اليابان ،مرورا بفنلندا والسويد وألمانيا ،علوة على النمسا. وأصبح كل منا يحتفظ بعدد من صور صديقات حسناوات لم تتردد بعضهن في تذييل الهداء المكتوب على ظهر الصورة بكلمة"..مع حبي"! وهو الشيء الذي كان يرفعنا في نظر البعض من أاقراننا إلى مرتبة الـ"دون جوانات". كانت"ترودي" جميلة بشكل مذهل .وكانت أيضا ،لدهشتي الشديدة، مثقفة جدا. 198
كانت تحكي لي عــن "فيينـــــا" وجمالهــا ،وعــن"سالتســبورج" ،مدينــة "يوهان موتسارت" ،الطفل المعجزة ،وعن الموســيقى والوبــرا ،ممــا جعلني أحلم بزيارتها يوما. *
*
*
لم تكن أحلمي تجرمؤ أن تتجاوز مجرد "الزيارة". لكن يبدو أن القدر كان يمتلك من الجرأة ما جعله يحقق لي حلمي بعد ذلك ،بل ويتجاوز ذلك بأن يمد في عمر تلك "الزيارة" حتى تجاوزت مدتها السنوات العشر ،بما فيها من مفاجآت. *
*
*
وبالرغم من الفائدة العظيمة التي كنت أجنيها من زياراتي للصديق "الستاذ سعيد" ،وبالرغم من تفانيه في أداء ما كلفه به أخي"عابد". إل أن زياراتي له سرعان ما بدأت تتباعد شيئا فشيئا لغيرما سبب واضح ،سوى عدم إرتياحي لذلك الحساس بأن هناك من يرسم لي الطريق الذي ينبغي أن أنتهجه. صحيح أن مباديء حقوق النسان وواجباته التي تنادي بها "الشتراكية" والتي تتلخص في مقولة "من كلل ما يستطيع ،ولكلل ما يحتاج" كان من صميم أخلاقيات زرعها فري أخي بحرص شديد، ولاقت عندي استساغة واقبول. وصحيح أن حديث الستاذ "سعيد" عن "الشتراكية" كان يستهويني ويستحوذ علري. لكن أخي كان يحرص على نسبة ذلك إلى "أبي ذرالغفاري" ،أو إلى "عمربن الخطاب" ،الشخصية الحبيبة إلى نفسي ،أو إلى شخصيات أخرى ،يزخر بها تاريخنا ،ممن وهبوا عمرهم للبحث عن سعادة النسان وحريته وحقواقه وأمنه ورفاهيته .ولم أسمع أخي يتحدث بهذا الحماس عن "ماركس" و"لينين" ،بالرغم من أنني كنت ،في واقت مبكر،أيام القدس ،اقد سمعت تلك السماء تتردد بين الحين والخر 199
على لسان أخي أو أحد أصداقائه .إل أن المر ،كما يبدو ،اقد اختلط علي في البداية بحيث كنت أعتقد أنهما مثل بقية السماء الخرى، "بوشكين" ،و"جوركي" ،و"جوجول" و"تورجنيف" وغيرهم من الشعراء والكرتاب "المسكوب" ،الذين كانوا يتحدثون عن الفقراء واقهر الغنياء لهم ،والذين كانت غرفة أخي الصغيرة تعج بكتبهم ومؤلفاتهم! كنت ،في"غزة" ،أنظرإلى اقائمة المعترفين بدولة الصهاينة المغتصبين ،فأجد أن "التحادالسوفييتي" كان )بعد الوليات المتحدة وجواتيمال( على رأسها منذ الساعات الولى لعلن تلك الدولة .ولم أكن بحاجة لسباب أخرى لكي أضعه في اقائمة أعدائنا .ولم أكن في ذلك الواقت على استعداد لن أسمع التبريرات والتحليلت. الهم من هذا وذاك هوالسبب الذي تكلمت عنه في البداية ،وهو إحساسي بأن أحدا يرسم لي طريقي بعناية فيها شيء من الخبث! *
*
*
حكاية "كارولين"..
كثيرا ماكان صديقي"حسين"يحاول أن يحملني على تكرار محاولتي الولى في كتابة ما كان يصر على تسميته "اقصه اقصيرة". 200
بل كثيرا ما عـريرني بأنه أدلى يوما بشهادته من أجلي ،زورا ،وأني مدين له بدليل آخر يقدمه لمن عاشوا تفاصيل اقصة "موضوع النشاء" مع الستاذ "صبيح" مدرس اللغة العربيه. إلى أن اقدر لنا أن نخوض ،حسين وأنا ،تجربة مع سيدة أجنبية شابة جميلة كان له في بدايتها دورا أساسيا .ثم شاءت الظروف أن ل يشاركني بقية التجربة. أذكرأني رويت لصديقي ،بعد ذلك ،كتابة ،ما حدث مع تلك السيدة الجميله ،محاول تحقيق غرضين من تلك المحاوله. الول ،هوالوفاء بوعدي له برواية التفــاصيــل التي أرادها. والثاني ،استجابة مني للحاحه علري بتكرار محاولة الكتابة القصصية. وهكذا اتخذت روايتي لحداث التجربة شكل القصة التي كان "حسين" يلح في طلبها مني. لم يبق لي أي أثر من القليل مما كتبته في تلك الفترة من حياتي. فعندما غادرت مدينة "غزة" لللتحاق بالجامعة في مصر ،لم يكن يخطر ببالي أني أغادرها إلى غير رجعة. ثم كان أن تطورت الظروف بحيث تمخضت عن اقطع دراستي في كلية الهندسة بالسكندرية لهاجر إلى مدينة "جدة" بالسعودية. وبينما كنت في السكندرية ،إثرعودتي من السعودية ،أعد العدة للسفر إلى"فيينا" ،داهمنا "العدوان الثلثي" ومن ثم الحتلل السرائيلي لقطاع غزة .ولم يتم الجلء عنه ،وكذلك مغادرة والد ر ي النهائية لغزة ،إل أثناء وجودي في النمسا. ر ولم تكن أورااقي أو دفاتري من ضمن ما حمله والدي معهما من غزة إلى السكندرية ..المقر الخير. *
*
201
*
ضرورة فنيــــــــــه..
من البديهي أن يختلف ما كتبته اقبل نيف وأربعين سنة عما جاء في الصفحات التي سوف أفرد لها مكانا آخر في هذا التدوين ،والتي جعلت إسم تلك المرأة" ،كارولين" ،عنوانا له. ربما ،بل الكيد ،أن كتابتي لتلك الواقائع ،في حينها ،اقد كان لها دور في تثبيت التفاصيل في ذاكرتي. وأماعن الشكل ،فإني أكاد أجزم بأن ما كتبته في ذلك الواقت كان ينتمي إلى فن القصة القصيرة .بينما سينتمي ما كتبته بعد كل هذه السنين إلى ما اقد يسمى بـ"السيرة الذاتيه". 202
أذكرأنني بدأت القصة حينئذ بقولي: كانت هناك حديقة غناء ،يتوسطها بيت أنيق ،يسكنه .. .. .. .. .. وكانت "كارولين" الجميلة .. .. .. ..إلخ لم أكن بحاجة إلى الستعانة بالخيال لضفاء التشويق الذي تتطلبه القصة التي كنت بصدد تدوينها .فلقد عشت مع تلك المرأة لحظات فااقت كل ما يمكن أن تصل إليه مداركي ،وخيالي ،وأحلمي. وعندما واجهني صديقي "حسين" بعد اقراءته لما كتبت ،رأيت في عينيه ما يشبه التهام بـ "الفشر" أول ،ثم بالخيانة .فكيف "أستفرد" بهذه المرأة التي كان له الفضل بتعرفنا بها؟! وهكذا انتابني شعور غريب يحثني على إصلح المواقف .ولم أتخلص من هذا الشعور إلعندما أضفت في نهاية المخطوطة ،في يوم تال، السطورا التية: نعم ،كانت هناك حديقة غناء ،يتورسطها بيت أنيق .. .. .. .. و كانت "كارولين" الجميلة .. .. .. ..إلخ ولكن ما كان بيني وبينها ،لم يكن إل حلما من أحلم اليقظة ،نسجه ـخيالي المراهق. واختفت نظرة التهام من عيني صديقي "حسين" .وأخذ يشيد بموهبتي في التأليف القصصي. كأنما كنت أشعر ،بالفطرة ،أن هناك "ضرورة فنية" لتلك السطور. *
203
*
*
عام الـختيـــــــــــــــــار
سرعان ما انتهت السنة الدراسية وانفرط عقد "نادينا" ،ليتوزع أفراده على شعب السنة الثانوية الخيرة الثلثة: "عيسى فرح" و"ماجد أبو شرار"..أدبي "إبراهيم شرف"..علمي "حسين غيث" و"نادرعفانه" ..رياضي "حسن اقليلت" ..سافر للدراسة فى أميريكا أما أنا فلقد أرغمت على الختيار بين "العلمي" و "الدبي" ،لني حصلت على درجة متدنية في "الرياضيات" .لعن ا مادة "الجبر". ومع تعسف مدير المدرسة زاد عنادي وتصميمي على اللتحاق بصديقي "حسين" لقناعلة بأن شعبة "الرياضة" سوف تؤهلني لختيارات أكثر اقربا لما كنت أحلم بدراسته في الجامعة.
204
كيف ومتى تبخرت من رأسي أحلم دراسة الخراج السينمائي ،وحل محلها صراخي بأن مدير المدرسة يحول دونك ودراسة الهندسة المعمارية؟ هل كان ذلك محض تحلد لمديرالمدرسة؟ أم أني كنت أفتقر إلى الشجاعة التي تجعلني أفصح عن مكنون أحلمي التي كانت في حكم أصحاب القرار تندرج تحت اقائمة المنكرات؟ بعد حوالي شهرين من ترددي على "صف" شعبة العلوم الذي فرض علي فرضا ،دخل الضابط المصري الصاغ "أحمد إسماعيل"، مديرالتعليم في اقطاع غزة ،فجأة وفي سابقة اهتزت لها أركان الصف كله .نهض الكل واقوفا. جلوس!مين فيكم اللي اقاعد في شعبة العلوم غصب عنه؟ بين وجوم الجميع ،بما فيهم مدرس الكيمياء ،العلم الذي لم أكن أستسيغه ،واقفت. فال: إنت غالب شعس؟ولم ينتظر إجابتي .فقد كانت اقسماتك المتهللة تنم عن ذلك. للتم حاجاتك ويلل على هناك ..شعبة الرياضه! *
*
*
كان أستاذنا "المجدلوي" وراء ذلك التحول .وهوالذي كان يقوم بتدريس مادة "الرسم الهندسي" لشعبة الرياضة .وهوالذي ظل يواصل حديثه عن فلسطين وعروبتها ..ويرسم لنا خريطتها ويحثنا على اللمام بتفاصيلها.
205
كان أستاذنا "المجدلوي" ،أول من حكى لناعن تفاصيل معارك الجيش المصري في"دير سنيد" ،و"الفالوجا" ،وتفاصيل حصارها، وعن بطولت البكباشي السيد طه" ،الضبع السود" ،وعن شجاعة بكباشي آخراسمه "جمال عبد الناصر". ثم جاء اليوم الذي جاء فيه أستاذنا هذا ليحدثنا عن فضائح الملك فاروق ونظامه الفاسد الذي تجلى في خضوعه للنجليز ،والخيانات التي كان آخرها اقضية السلحة الفاسدة. كما حدثنا عن نبوءاته في سقوط ذلك النظام. وأخيرا جاءنا ،ووجهه يتهلل بشرا وفرحا ،ليذكرنا بنبوءته التي آن لها أن تتحقق عندما اقامت الثورة وأسقطت الملكية البغيضة وطردت الملك فاروق و ..و وكان ل يفتأ يذكرنا بالبكباشي "جمال عبدالناصر" ،ويؤكد لنا أنه البطل الذي يحمل بين أضلعه اقلبا ينبض بالعروبة ،ويبشرنا بااقتراب موعد عودة الوعي للمة العربية ،واستيقاظ القومية العربية من سباتها ،وتحقيق الوحدة العربية ،طريقنا إلى فلسطين العربية. *
*
206
*
أرستاذ في"كامب -بريج"!.. 207
لن أستطيع أن أبرر فشلي في الحصول على شهادة "التوجيهية" في تلك السنة ،ول أظنني أجرمؤ على مجرد المحاولة .فالفشل هو الفشل مهما كانت السباب. عندما طال انتظارأخيي "عابد" لخبر نجاحي أرسل يقول لي ،بدون عتاب ول تأنيب ،ما معناه: "أن النجاح ليس كل شيء ،إنما الرغبة في النجاح هي أهم الشياء. وأن الفشل مرحلة من مراحل الوصول إلى النجاح ،لوعرفت واعترفت ،بينك وبين نفسك ،بأوجه تقصيرك". وطويت الصفحة ،خجل من غروري.
*
*
*
اقرر ُ ت أن أتقدم للمتحان مرة أخرة" ،من منازلهم" .ويبدو أنني كنت أكثرجبنا ،أو خجل ،من المواجهه اليومية ،طوال عام دراسي كامل، لساتذتي وحتى الراسبين مثلي من الزملء الذين كنت أتباهى بتفواقي عليهم في مختلف المواد الدراسية. سمعت عن وجود فرصة للعمل لحاملي شهادة "الثقافة العامة" ،التي كنت أحملها بطبيعة الحال ،وذلك للتدريس في مدارس المخيمات التابعة لـ"وكالةغوث وتشغيل اللجئين الفلسطينيين"" ..الونروا". وجاء تعييني في مخيم ،أو كامب "البريج" ،جنوبي غزة. مديرالمدرسة يسألني عن الصفوف التي أرى أنني على استعداد للقيام بالتدريس لها .فكان أن أملى علري تفكيري الساذج إلى اختيار الصفوف البتدائية الولى ،ظنا مني أنها الكثر سهولة ،ول تتطلب مني الستعداد والتحضير. كان أحد السباب لهذا الختيار أني كنت ،كما كان يبدو للجميع ،أبدو في مظهري أصغر سنا مما أنا عليه .وكان وجودي بين تلميذ الصفوف العلى ،حسب تعليق الكثيرين ،يثيرالتعليقات التي تمس واقاري المصطنع كمدرس. 208
استقبلني تلميذ الصف "الثاني البتدائي" بالترحيب اللئق .ولم أكد أبدأ في الستماع إلى"تسميع" أحدهم لحدى فقرات كتاب "القراءة"، حتى لحظت لغطا في مؤخرة الصف ،مما استواقفني لستطلع السباب .طلبت من أحد التلميذ أن يبين لي ذلك فتلعثم وتردد في الجابة ،لكن جارار له تشجع كما يبدو للدلء بما يجري من ورائي. وما لبث هذا المتطوع أن تردد ولزم الصمت إثر"زغدة" تهديد من جاره ،مما جعلني أزداد تطلعا إلى معرفة المشكلة. وأخيرا ..رفع أحد التلميذ إصبعه وبادر في الدلء مشيرا إلى أحد جيرانه اقبل أن أأذن له بالكلم: ..أستاذ ..أستاذ ..ها دا بيقول عليك إنك"..ولد"! إلى جانب حقيقة أن تدريس الطفال تحتاج إلى خبرة يفتقر إليها حتى الكبارمن المدرسين ،فقد كانت هذه التجربة كافية لن ألجأ إلى مدير المدرسة لكي يبحث لي عن مكان أكثر ملءمة ،أو أاقل تعرضا لموااقف محرجة. ولم تخل اليام التالية من موااقف ومشاهد مختلفة .منها ما يدعو إلى البتسام أو التأمل ،ومنها يثيرالحزن والسى ،ومنها ما يجعلك تقف معقود اللسان لفرط سخريتها المريرة.
*
*
*
مشهد 1 مجموعة من الطفال يمارسون في ساحة المدرسة لعبة ،أوتمثيلية، مبتكرة ،ومستوحاة من أحد مظاهرالحياة في مخيم اللجئين .الجزء الكبر منهم يقفون في طابور متزاحم ،بينما أحدهم ينادي بأعلى صوته إسما سرعان مايستجيب له أحد الوااقفين في الطابور ،ليتقدم ويقف أمام الطفل الذي يلعب دور "موزع المؤن" بحيث يدور بينهما حوار مرتجل حول نصيب الول من الطحين أوالزيت أو.. أو ..الذي يتم توزيعه عادة في مقرات توزيع المؤن التابعة لـ"وكالة غوث اللجئين" .وهنا نستمع إلى النوادرالتي تجري حقيقة في تلك الطوابيرالتي تكونت في الصل من آباء أو أمهات الطفال اللعبين. 209
فما نراه ما هوإل إعادة لما يجري عادة في الطوابيرالحقيقية ،حسب رواية الباء والمهات لبعضهم البعض. وهكذا يتوالى النداءعلى أسماء تتكون من السم الول ،الغريب المضحك عادة ،يليه إسم العائلة التي تنتسب إلى إحدى القرى الفلسطينية المهرجرة التي روعي انتقاء أسماءها ذات الرنين الخاص: سعسع ..برير ..حمامه ..هربيا ..عرجور ..ناعوره ..صويلح.. السوافير ..باجور ..سمسم ..رعناتا ..صرفند ..طلروزه ..إلخ فتتوالى النداءات على هذاالمنوال: محروس علي الناعوري! حاضر.. عبد الموجود سعسع! أنا جاي.. سلمه الباجوري! عبد العفو طيرلوزه!! .. ..وهكذا ..إلى أن يقرع جرس انتهاء الفسحة. *
*
*
مشهد 2 أحد الطفال يشكو زميله الذي اقام بالدعاء إلى ا دعاء يبدو مؤلما على اقسمات وجه الطفل الول: ..أستاذ! هادا بيقول لي – روح أل "يمسح كارتك"!ولن يستطيع أن يدرك اقسوة هذا الدعاء سوى اللجئ الذي ليس له مصدر لقوت يومه سوى "كارت المؤن" الذي تصدره وكالة غوث اللجئين ،والمعرض لسبب أو آخر لللغاء ..أو المسح. * مشهد 3 210
*
*
وطفل آخر ،كما يبدو ،من لجئي مدينة المجدل المحتلة ،يشكو زميله الذي يعايره بأنه "لجئ" ،ويجاهر بأمنيته التي ل تقل اقسوة أو مهانة عن ما جاء على لسان الطفل السابق: ..ياريتهم كرسموا ! يعني ياريتهم كانوا وافقوا على "اقرار التقسيم" اللي أصدرته هيئة المم المتحدة عام .. 47بما في ذلك من السخرية المبطنة من لهجة أهل المجدل الذين هاجروا إلى اقطاع غزة! والمقصود هنا هو أنه لول رفض تطبيق اقرار التقسيم المذكور لما كنا رأينا وجوهكم. * * * مشهد 4 وأما أكثر حكاياتهم عمقا وسخرية فهي سؤال أحدهم: ..يا أستاذ ..مش إنت اقلت إن مساحة فلسطين كلها هي 27ألفكيلومتر مربع بس؟ طيب ما إحنا لو جمعنا مساحة بيارات فلن وفلن وفلن )أسماء زملءه من التلميذ اللجئين( الفشارين اللي كلهم بيقولوا إنهم كان عندهم بيارات واسعه ما لهاش حدود ..المجموع راح يطلع أكثر بكثير من الـ 27ألف كلم مربع؟
*
*
*
وانقضى العام ،بما فيه من مختلف الموااقف والمشاكل ،بنجاحي في نيل شهادة "التوجيهية" ،اقسم رياضة ،مما يؤهلني لدخول كلية الهندسة في القاهرة ،واستعدادي لمواجهة المرحلة الجديدة القادمة من عمري ..خارج غزه.
*
* 211
*
212
غــــــــزة ..غــــــــزه .. اندفعت بشكل مفاجيء إلى اليمين .نظرت حولي فإذا بالسائق يتخلى عن عبوسه ،ول أاقول يبتسم ،وهو يعدل مقود السيارة بعد أن كان اقد اتجه بها فجأة إلى اليسار ،وكأنه ضبطني متلبسا بإغفاءة .اقال: ..دخلنا غزه .حمد ل على السلمه .اقلت لي وين نازل؟إذن ،ها اقد عدنا إلى الوطن ،أو إلى جزء منه. انتهت مرحلة الحلم بالعودة إلى الوطن. وبدأت مرحلة التأمل فيه. كرر السائق سؤاله: اقلت لي وين نازل؟أجبت بااقتضاب: فندق فلسطين من فضلك.اقال وهو يبتسم عن أسنان غزاوية صفراء )من آثارالدمان على أكل الجميزالغزاوي الشهير ،كما كانوا يقولون دائما(: -أف ..آخرالدنيا ..على البحر ..ما اتفقناش على هيك.
213
تجاهلته تماما .فلم يكن يعنيني سوى الوصول ،لكي ألتقط أنفاسي، وأبدأ في رسم خطواتي لبقية اليوم ،واليوم التالي. كنا اقد تجاوزنا الظهيرة بكثير .وكانت الفرازات الحمضية لمعدتي الخاوية اقد بدأ ت تفري جدارها ألما. استرعت نظرات السائق المتطلعة المتحفزة ،بينما كنت أنقده السبعين دولرا ،إنتباه حاجب الفندق الذي حمل حقيبتي .سألني الحاجب عن الجرالذي اتفقت عليه مع السائق .نفخ في الهواء مستكثرا .اقال: ..ا ل يتيكـ يتسُبه!اعتذر لي موظف الستقبال عن عدم وجود أماكن في الفندق .ولكنه بعد أن اقلب صفحات السجل أمامه اقال أنه بإمكاني اقضاء ليلة واحدة فقط ،على أن أتدبرالمر لليام المقبلة في فندق آخر .لم يفتني أدامؤه السيء للتمثيلية المعروفة لكثرة ما تكرر ترددنا على الفنادق في السنوات العشرين الماضية .ولكنني خضعت بإرادتي لمناورته .فلم أكن أنوي البقاء في هذا الفندق لكثر من ليلة واحدة ،وذلك لعلمي بارتفاع أسعاره. اقلت أننا تعودنا النزول في الفنادق .كان ذلك في بلدان الغربة المتعددة ،على مدى سنوات الشتات .أما في بلدنا ،فكان ذلك أحد الحالت التي تثيرالتعجب والستنكار. ففي كل بيت من بيوتنا ،في أي بلد من بلدان وطننا ،كانت هناك غرفة مقفول بابها تسمى "أوضة الضيوف" ،يحل بها الاقارب والمقربون .أما الفنادق ،فهي بدعة لم أسمع عنها ول عن النجوم التي تحدد مستوياتها وأسعارها .لم أسمع أبدار عن فندق كان في "غزة" عند هجرتنا إليها .كما لم يعرف أاقربامؤنا ،عندما كانوا يزورون "القدس" ،لسبب ديني أوعلجي أو غير ذلك ،نُُزل غير ذلك المنزل الكائن في حوش "آل خرمنده" ..دار "أبو العابد". كدت أن أعود لشغل نفسي بالبحث عن إجابة السؤال الذي كثيرا ما حيرني .أتساءل عما جناه أبي من اقراره بترك بيتنا في "القدس" إلى 214
"غزة" التي لم نكن نمتلك فيها حجرا ،فيضطرأخي ،الشاب في حينها ،والذي تناسى أحلمه ،أن يهاجر أكثر من مرة ،للعمل في بلد آخر لكي نستطيع أن ندفع إيجارالبيت الخر .أي عبث هذا! لكن القضية الهم بالنسبة لي الن ظلت هي إسكات آلم معدتي الخاوية .ومن ثم النفراد في غرفتي مع جهاز التليفون لترتيب برنامج الغد. * * * في الصباح الباكر من اليوم التالي جاءتني "نهيل" ،التي كانت بانتظار مكالمة مني فور وصولي ،لتقوم بدورالدليل حسب توصيات اقريبها الكائن في القاهرة ،صديقي زين العابدين الحسيني .اعتذرت لي عن عدم استطاعتها التصال بـ"أبي الصادق" ،شقيق"زين" وصديقي الحميم أيضا .أودعتني في وزارة الثقافة ثم ذهبت إلى مقر عملها على أن نعاود التصال تليفونيا. المقرمتواضع .مكتظ بالموظفين .وجوه غريبة عني .سألت عن "المدير العام" .اقيل لي أنه كان على سفر ،وينتظرأن يحضر في الغد. لم يعد أمامي سوى مغادرة المكان ،والعودة في الغد ،أمل في حضور "أحمد دحبور". اتصلت تلفونيا بالصديق "يحيى يخلف" ،وكيل الوزارة في"رام ا". كان اقد أبدى استعداده ،اقبل ذلك ببضعة أسابيع ،للحضور إلى"غزه" بمجرد وصولي إليها ليأخذني معه إلى "رام ا" ،مقرعملي المفروض .فهو ،كما اقال لي في القاهرة يتمتع ببطااقة الـ "،"..V.I.P التي تمكنه من ذلك .لكن سكرتيرته اقالت لي بأنه غير موجود، فتركت له رسالة تفيد بوصولي إلى "غزة" ،وانتظاري له حسب إتفااقنا. واقبل أن يجول في خاطري السؤال عن المكان الذي سأاقصده في تلك اللحظة ،لمحت وجها أعرف صاحبه منذ سنوات المنفى الولى في بيروت ،منذ حوالي عشرين سنة .أاقبل صاحب ذلك الوجه يرحب بي بحرارة وهو يرجوأن ل يكون اقد أخطأ الحدس .كلنا خضع لمؤثرات السنوات العشرين ،وما فعله بنا المشيب. 215
المخرج المسرحي الفلسطيني "الشاب" الواعد" ،خليل طافش"، الذي اختار ،مضطرا ،الهجرة والعمل في "موريتانيا" ،والذي استطاع أخيرا أن يتمتع بلقب "العائد" .وهو لقب ما زلت أسعى للوصول إليه بالحصول على ما يسمى بالراقم الوطني ،وهو"راقم الكومبيوتر" الذي تصدره سلطات الحتلل السرائيلي للعائدين. ذلك بموجب إتفااقية "أوسلو" المجيده. ما كاد "خليل" يقدمني للخرين حتى علت أصوات زحزحة الكراسي مع عبارات الترحيب ،بما يليق باللقاب التي خلعهاعلي .وابتدأت، ولول مرة ،أشعربذلك الحساس الذي طالما حاولت أن أتلمس معالمه أو تفاصيله ،إحساس العودة إلى الوطن .تماما كما حاولنا كلنا، في يوم ما ،أن نتلمس معالم وتفاصيل حلوة "الرجوع إليه" ،بعد ما تراءى لنا في أحلمنا ،وانتظرناه طويل ،وذبنا شواقا إلى لقـياه.. الحبيب. وما هي إل ثوان حتى وجدت نفسي بين ذراعي د.محمد الديب ذلك الحالم الذي تخصص في دراسة التاريخ والثار ،والذي كان يحكي لي منذ عشرين عام في بيروت ،ومن بعدها تونس ،عن متحف الثار الذي سوف تقيمه "دولتنا" في غزه فورعودتنا .كانت ملمحه تتدفق بمعان تعجزعن صياغتها الكلمات ولكنها تتلخص في جملة واحدة أخذ يرددها: ..ها اقد عدنا ..ها اقد عدنا!بوادرالحساس بنشوة العودة إلى الوطن تتسلل إلى كياني لتواقظ مالم تستطع أن تواقظة لحظة عبوري "الحدود الدولية" .أيقنت لحظتها أن الوطن لم ولن يكون وحده هوالديار فحسب ولكنه بكل تأكيد ،كما ردد الشاعر العربي "..من سكن الديار" أيضا. دفء غريب ممتع يتدفق إلى كياني .ما أكثر ما يشبه ذلك الدفء الذي غمرني عندما تلمست أيدينا للمرة الولى ،أنا وهي ،حبي الول ،أو وهمي الول ،بعد غياب طال. ها هوالوطن يلوح لي في عيون المتحلقين حولي .بعضهم توحي نظراته بأنه يعرفني إسما ،ولم يستطع أو يحاول إخفاء غبطته بلقائي. 216
والبعض الخر اقد سمع إسمي يتردد في الفترة الخيرة من كثرة إتصالتي الهاتفية للستفسارعن مصير "راقمي الوطني" الذي ضل طريقه إلي. شربنا "شايا" سرعان ما أعقبه "اقهوة" .ولم يتحرج بعضهم من سؤالي مرة أخرى عن ما أفضل شربه بعد ذلك ،شايا أم اقهوة؟ كنت اقد أاقلعت عن التدخين ،منذ اقرابة العام ،لسباب صحية وأخرى مالية .لكن اليدي الكثيرة التي امتدت لي بمختلف أنواع السجائر واللحاح الصادق مع الشاي والقهوة والجو المعبأ ،والحديث ذو الشجون ،كل ذلك جعلني أتنازل عن إصراري على العتذار. ثم ..أخذ الجمع ينفض من حولي ،تدريجيا .لقد أزف واقت النصراف. وطال بنا الحديث ،خليل وأنا ،عن أهم ما فاتني معرفته عنه ،وما فاته معرفته عني .ثم انتقلنا للحديث عن الصداقاء المشتركين. منهم من أصبح في عداد الموات ،ومنهم من بات في عداد "العائدين" ،ومنهم من ينتظر. لم أكد أسأله عن "ح.أ" ،زميله في دراسة المسرح ،حتى امتدت يده إلى الهاتف. تناولت السماعة التي انهالت منها عبارات الترحيب .سألت "ح.أ". عن بقية الزملء ،من رفاق بيروت والشام ،فوعد باصطحاب من يتمكن من الوصول إليهم ،والحضور معهم لملاقاتي في مقرالوزارة. وكان ل بد من الوصول إلى الحديث عن العمل. لكن زفرة ألم طويلة ،تسربت من أعماق صديقي المخرج المسرحي، كادت أن تكون هي نهاية الحديث الذي لم يبدأ بعد .أشعل لنفسه سيجارة ،ثم مد لي يده بسيجارة بعد أن تذكرأنني اقد "أاقلعت" تدريجيا عن العتذار .اقال: -ليس هناك ميزانية للنتاج.
217
فعل ،كنت اقد اقرأت تصريحا لوزيرالثقافة يدلي فيه أن إنتاج الثقافة ليس من مهام وزارته .حسبت في حينها أن هناك ،بل شك ،خطأ مطبعيا .لكن صديقي "خليل" أكد لي المعلومة ،وحدثني بأنه اقام بالعداد لمسرحية مع مجموعة من الهواة ،الذين يعملون بدون مقابل .وتواقف العمل لعدم توفر ما يغطي تكاليف الملبس والمواد الخام اللزمة لبناء الديكور ،الذي اقام بتصميمه متطوعا الفنان التشكيلي "إبراهيم المزسين" ،أحد الزملء العائدين ،في دائرة الفنون التشكيلية في الوزارة. كنا ،في الماضي ،نشكو من عدم وجود المؤسسة المتخصصة التي ترعى الفنون وتدعم المبدعين ،اقال صديقي ،وكانوا يقولون لنا أن المقاتل بحاجة إلى الرصاصة أكثر من حاجتنا إلى المسرحية أوالفيلم السينمائي .أما الن فالتصريحات الرسمية مصوبة فوهاتها نحو هدف ل تملك إل أن تحني له رأسك. ويحرص معظم المتحدثين أشد الحرص على استعمال الكلمة الجنبية" ،إنفرا ستراكتشر" ،ثم يتفضلون عليك بالترجمة العربيه.. "البنية التحتيه". أضاف صديقي بحراقة: أفنينا عمرنا ونحن نعتقد أن مهام "الفنون" ما هي إل العمل علىإنشاء وتكوين وتقوية البنية التحتية للنسان. *
*
*
كنت على وشك أن أدلي برأيي ،ولكني رأيت أن أتمهل. فما زلت في يومي الول. وحضر "ح.أ ،" .المخرج المسرحي الخر ،بدون أن يتمكن من الوصول إلى أي من الرفاق الذين سألت عنهم. اقبل عدة سنوات تقابلنا في القاهرة .سألته عن مشاريعه المسرحية. اقال اقي حينها أنه يبحث عن "نص" جيد. وعرفت أنه ما زال يبحث عنه حتى الن. 218
الفراش الشاب ،بوجهه الباسم دوما ،ليتساءل مرة ويأتي "أكرم" ،ر أخرى ،شايا أم اقهوة؟ ويتخذ الحديث مجرى آخر. *
*
219
*
"التلفزيون الفلسطيني"
من أهم الماكن التي كنت أخطط لزيارتها هي تلك المؤسسة الفلسطينية التي شارك ُ ت ،في أحلمي ،في تأسيسها بحكم خبرتي بالعمل التلفزيوني .فلقد عملت اقبل ظهور "التلفزيون الفلسطيني" بحوالي عشرسنوات على مشروع إصدار"مجلة" ،سمعية بصرية، أسميتها "ميرمرية" ،تصدرعلى شكل شريط مغناطيسي ،مدته 220
ساعتان ،يبدأ بالسلم الوطني الفلسطيني )نشيد موطني( العتيد ،ومن ثم تظهرالمذيعة بثوبها الفلسطيني التقليدي لتقدم ،من القدس ،فقرات "الرسال التلفزيوني" التي تتكون من مختلف الموضوعات الثقافية والفنية والجتماعية والفكرية والتاريخية والجغرافية والسياسية..إلخ كل ذلك ،سوف يجري بإشراف "هيئة تحرير" ،تتألف لتكون نواة للتلفزين الفلسطيني المرتقب. وربما يأتي الواقت المناسب لعرض الفكرة بتفصيل لئق. أما سبب تعرضي لذلك الموضوع فهو الزيارة التي أتاحها لي صديقي العلمي"أ .سعيد" في اليوم الثالث من أيام زيارتي المؤاقتة لمدينة غزة ،وبالتحديد يوم الخميس ،27/4/95والتي لحظت خللها أن "التلفزيون الفلسطيني" ،الجهازالعلمي الرسمي ،اقد اتخذ لنفسه شعارا ،يظهر دوما في الركن العلوي اليسر من الشاشة هو صورة "مسجد اقبة الصخرة". وعندما تساءلت عن مصدر هذا الختيار لم أجد أي إجابة .وكان أن بلغ تسامؤلي هذا إلى المدير العام لذلك الجهاز العلمي الخطير، الذي تساءل بدوره عن شخصية المتساءل .فلما كان أن أجابه الزميل "أ .سعيد" ،رد عليه المدير العام بالحرف الواحد وباستنكار: "شو اللي جاب غالب شعث هنا"؟! وعندما سألت عن إسم المدير العام ،عرفت أنه كان يعمل مساعدا فنيا في تلفزيون"عرمان" ،عام ،74في الواقت الذي كنت فيه أاقوم بإخراج مسلسل "راس العين" هناك. ما علينا! المهم أنني لم أكف عن محاولة معرفة المسئول عن هذا الختيار الخاطيء ،خطأ فاحشا .وعبثا حاولت. ربما كانت أصولي المقدسية هي المحرك لهذا التسامؤل الذي ل يخلو من استنكار .ذلك لنني كنت أرى أن صورة "المسجد الاقصى" هي الشعارالصح ،إن كان ل بد من هذا المسلك.
221
ويعود استنكاري هذا إلى ملحظة استرعت اهتمامي منذ زمن طويل. وهي ذلك الخلط الذي يقع فيه الكثيرين من غيرالفلسطينيين ،عربا ومسلمين. ر ترى ..مالذي سيحدث عندما يتكرس هذا الخلط ،المتعمد ،المضلل، ويصبح "مسجد اقبة الصخرة" في أذهان ونظر سائر العرب والمسلمين ،وغيرهم من أمم العالم ،هو المسجد الاقصى" ،الذي باركنا حوله " ،و"أولى القبلتين" ،و"ثالث الحرمين الشريفين"؟ ما هي ردود الفعل العربية والسلمية والعالمية ،عندما ينجم عن الحفائرالتي تجري منذ سنوات تحت مبنى"المسجد الاقصى" الحقيقي، بشكل متعمد ،تصدعات سوف تؤدي حتما إلى انهياره؟ وكيف ستكون ردود الفعال العربية والسلمية والعالمية عندما تبادر دولة الحتلل السرائيلي في تحقيق الحلم الزلي بإعادة بناء "الهيكل" في ذلك المواقع بالذات ،على أنقاض "مسجد الاقصى" الحقيقي؟ وحتى لو تمخض المرعن ماتعودنا عليه من الندب والشجب والدإنة والستنكارات الشديدة اللهجة من اقبل الدول العربية والسلمية، فهناك رد جاهز في ظاهره شيء من المنطق ،وفي باطنه الكثير من المراوغة والكذب والغطرسة والصلف المعروف عن"دولة إسرلئيل اليهودية" يقول: إن من حق"الدولة اليهودية" أن يكون لها رمزها الديني المتمثل في "الهيكل" ،تماما مثل حق المسلمين في أن يكون لهم رمزهم الديني المتمثل في "مسجدهم القصى" ،الذي يراه العالم ما زال قائما لم يمسسه ضر. ولعجب ،فلقد دأبت أجهزة العلم العربية والسلمية ،خطأ،ر وبدون أي حرج ،على إبراز صورة "مسجد قبة الصخرة" كلما جاء ذكر "مسجد القصى". هذا الخلط الذي تحدثت عنه ل يمكن أن يولد مصادفة.
222
وها هي،على سبيل المثال ،محطة فضائية فلسطينية جديدة تبدأ بثها باسم "الاقصى" اقد اتخذت صورة "مسجد الصخرة" شعارا لها!
*
*
223
*
عدداك العيب! زيارة "اقطاع غزه" ،كانت بموجب تصريح "مؤاقت" ،حصلت عليه بشق النفس ،لمدة محدودة ..ثلثة شهور .كان المفروض أن أاقوم خللها بإتمام الجراءات الرسمية المتعلقة بـ"العودة" النهائية إلى الوطن. لم أتمكن من البقاء أكثر من أسبوعين .لزمني فيهما شعور كدت تحت وطأته أن أاقتنع بأن ما أنا مقبل عليه إنما هو "هجرة" أخرى تضاف إلى هجراتي السابقة. أبلغني السيد مديرعام وزارة الثقافة ،أن إاقامتي في الفندق سوف تكون على نفقتي الخاصة. و اقد تطول المدة أو تقصر. كذلك اقرار تعييني في الوزارة ،المتعلق تنفيذه بصدور "راقم الكومبيوتر" الخاص بي ،وما سوف يترتب على ذلك من استئناف لصرف رواتبي التي انقطعت منذ اقيام "السلطة" ،اقد تطول مدة انتظاره أوتقصر. كل ذلك سيظل خاضعا لقانون الحتمالت. أتساءل ..ما حاجتي لقرار تعيين ،والمفروض أني من ضمن العائدين؟ ألم أكن من ضمن كوادر دائرة الثقافة بمنظمة التحرير، في بيروت ،ثم في تونس؟! الجابة مبهمة.
* 224
*
*
وحتى يوم الثنين ،8/5/95لم يكن مديرعام الوزارة اقد جاءني بأي نبأ ،أو أي معلومة عن مصيري ..عملي ..وظيفتي ..مرتباتي .ول تمكن وكيل الوزارة ،الصديق الديب "يحيى يخلف" ،من الحضور لمرافقتي إياه لزيارة "رام ا" ،مقرعملي ،كما وعدني. و بحساب داقيق ،تبين أنه لم يبق في حوزتي من "شوااقل" سوى اقيمة فاتورة الفندق ،علوة على أجرة السفر للعودة إلى القاهرة. اقال لي المديرالعام ،الصديق الشاعر "أحمد دحبور" ،عندما علم بقراري: لم هذا الستعجال بالسفر؟ لو انتظرت إلى ما بعد الغد ،فسوف أضطر إلى أن أمد يدي إليكطالبا المعونة. اقال ،ل فضر فوه ،متأثرا: عرداك العيب!وفي اليوم التالي كنت في طريقي إلى القاهرة ،وكلي أمل أن يتنااقص ذلك الحساس بالقهر والمرارة كلما ابتعدت عن "أرض الوطن". فالوطن شأنه شأن الحبيب ،ينسيك البعد عنه سوءاته. وكأنما اقد خلق ا لنا العقل لنمتلك القدرة على النسيان. ما عاد ثمة ما يقال. هل يليق أن أعترف بأن "موتي" ،في الكابوس الذي تراءى لي، بينما كنت في بداية طريق عودتي إلى أرض الوطن ،كان أكثر سكينة ،إن لم يكن أكثر بهجة وطرافة ،من اليام القليلة التي "عشتها" في الحقيقة ..في غزة؟ هل أعتبر أن زيارتي "المؤاقتة" تلك لم تكن سوى أضغاث أحلم؟ هل أاقوم بإلغائها من ذاكرتي ،وأعود لنتظارالتصريح لي بـ "عودة نهائية"؟ أم هل يتعين علي أن أعيد الكبره ،وأعاود الهجرة إلى بلد ما ،لكي أعمل وأدخرمن المال ما يكفي لتغطية مصاريف إاقامتي في الفندق، ليام أخرى معدودات ..في وطني؟ 225
*
*
*
مقدمة لما قد فات..
يبدو ،بل الكيد ،أن الكتابة عن الحنين إلى الوطن ،أوعن الحلم بالعودة إليه ،أهيون بكثير من مهمة الكتابة عن تجربة العودة إلى "الوطن" كحقيقة .فمن السهولة أن "تتصور" نفسك وأنت ترى حلمك بالعودة يتحقق ،وأن "تتخيل" لحظة أن تطأ اقدماك الرض ،التي حرمت منها طوال سنوات تقارب الخمسين .لحظةر تلخور فيها ساجدا لتقبل تراب الوطن ،كما صورها لك بعضهم .أو لحظة تفقد فيها إحساسك بالحرج من أن يراك أحدهم بينما أنت تعجزعن السيطرة على دموعك التي تنهمر من عينيك ..إلخ أما الحديث عن الهبوط في أرض الوطن ،أو تلك النتفة منه ،كوااقع، فهو تحد يشبه محاولة الغوص في بحر اللغة ذاتها ،أو تلك المنطقة الهوجاء منه ،حيث تكون اللغة في نفس الواقت شديدة الغنى ،وشديدة الفقر .سخية مفرطة في معانيها ،وشحيحة ل تسمن ول تغني من جوع للبوح. شتان شتان بين طراوة الحلم وطواعيته ،وبين اقساوة الحقيقة وعصيانها. * * * كنت أرى دائما أن الفضل أن نلتقط النفاس و نمعن التفكير اقبل اتخاذ المواقف أو إبداء الرأي .فليس هناك ما هو أاقسى على النسان من أن يقع فريسة لحكم جائر متسرع .ول يليق بإنسان ذاق مرارة الواقوع فريسة للحكام الجائرة المتسرعة أن يطلقها على الموااقف والناس. 226
يبدو ،أيضا ،بل الكيد ،أنه اقد أعيتني الحيل في إدراك كنه هذا التردد الذي يعتريني كلما واتتني الشجاعة لن أحاول الاقتراب من تلك المنطقة من الذاكره. لعلها تلك العلاقة الحرجة ما بين الكلمات وبين وااقعنا .تلك العلاقة المستحيلة بين الكلمة الحرة والحقيقة المرة ،هي التي تجعل الهروب إلى الماضي البعيد ،ولو مؤاقتا ،أهون بكثيرمن الاقتراب من الحاضر ،أوالماضي القريب. *
*
*
هاجرت من القدس إلى غزه .وهاجرت إلى السعودية .وعندما أتممت دراستي في"النمسا" ،في أواخرعام ،67كان ل بد من مواصلة الهجرة ،فاخترتها إلى مصر. كنت في حينها أنعم بخيارات الهجرة. كنت في حينها ما زلت شابا. ثم اقرر ي ت الهجرة إلى لبنان ،وتعمدت أن تظل بطااقة الزيارة الخاصة بي ،والتي تحتم علي طبيعة عملي حملها ،بل عنوان ،تفامؤل مني، ويقينا أن بيروت هي مجرد محطتي الخيرة اقبل القدس..عنواني. ثم كانت تونس .وكانت مصر مرة أخرى. ثم ،جاء الزمن الذي كاد فيه الحديث أن يصير حديثا عن هجرة أخرى: "هجرة ..إلى الوطن!
*
227
*
*
القسـم الثــاني
228
229
عودة إلى "كارولين"
التجارب الولى متنوعة،غالبا ما تشارك فيها حواسنا كل منهاعلى انفراد ،كالمشاهدة..والسمع..واللمس ..والحساس ..إلخ ثم ل تلبث بعد ذلك أن تأتي تلك التجارب المركبة ،التي يكتنف لحظاتها رهبة غامضة ممتعة آسرة ،عندما تشترك الحواس كلها في تجربة واحدة. في ذلك الواقت الذي سبق زيارتي الولى إلى"غزة" ،بعد "دخول السلطة" ،وأثناء محاولتي لقتل الواقت في انتظار التصريح المؤاقت لي بزيارتها ،حيث سقط إسمي لسبب لأعرفه من سجل العائدين ،فلم أحصل على "راقم الكومبيوتر" الذي يتيح لي العودة النهائية ،راودتني فكرة إعادة كتابة تلك الحكاية التي ظلت ذكراها تدغدغ ذاكرتي. لم أجد ضيرار في أن تتخذ كتابتي لتلك الذكريات شكل ليخلو من البداع .فكتابة السيرة الذاتية باتت ،كما اتفق الكثير من النقاد ،شكل من أشكال البداع الدبي. ولم أنس أني اقرأ ي ت لبن حزم ،في "طوق الحمامة" ،ما يحض على التزام الحقيقة والصدق ،لنه شرط أساسي في كتابة السيرة الذاتية .وما أظنني إل فاعل ذلك. ولم أجد صعوبة في ذلك ،خصوصا وأن تفاصيلها ظلت ولم تزل محفورة في عقلي الباطن .فهي جزءعزيز ،هام ،من تجارب سنوات البكارة المحل رة ربمتعة الكتشاف حينا ،المسقسقة بمرق الشواق إلى كل ما هو جديد حينا آخر. 230
ولعلني اقد أحسنت الختيارعندما رأيت أن أمؤجل سرد اقصتي ،أوهذا الجزء من سيرتي الذاتية ،بحيث تأتي في سياق آخر ،أشير إليها بعنوان"عودة إلى كارولين" ،في "القسم الثاني" من هذا الجزء من هذه السيرة. و"الضرورة الفنية" ،هذه المرة ،هي التي جعلتني أمؤجل رواية تفاصيل أحداث اليوم الخير في اقصتي مع "كارولين" إلى "حركة سادسة" ،بالرغم من أني حددت في البداية عدد الحركات التي يتكون منها "الكونشيرتو" بخمسة حركات فقط.
*
*
"كاروليـــــــــــــــــــــــــــــــــن" كونشيرتو من خمس حركات
الحـــــــــــــــــركه الولى 231
*
أحد معالم الطريق الذي كنا نسلكه ،مشيا على الاقدام ،من بيوتنا إلى المدرسة وبالعكس ،كان ذلك البيت النيق ،المحاط بحديقة مليئة بأنواع مختلفة من الزهور .ولم تكن الزهور وحدها هي ما يتميز به البيت. كانت هناك راية زراقاء ترفرف من فواقه ،عليها شعار المم المتحده. وفي بعض أيام السبوع كنا نرى سيارة"جيب" عسكرية تقف عند باب البيت ،فنعرف أن "الميجور ريتشارد لوريون" اقدعاد من إحدى جولته الكثيرة ،التي يتطلبها عمله ضمن الفريق الكندي لمرااقبي الهدنه الدوليين. كان"الميجور لوريون" رجل وسيما طويل القامة ،يشبه إلى حد كبير ممثل السينما الشهير "جريجوري بيك" .ل تفارق البتسامة وجهه. ول يتردد عن المبادرة بإلقاء التحية ،إذا صادفناه ،داخل أو خارجا، أثناء مرورنا من أمام البيت. حديثنا في ذلك اليوم" ،حسين" وأنا ،كان يدور حول سفر صديقنا "حسن اقليلت" إلى أمريكا للدراسة هناك في نهاية هذا العام الدراسي ،أي بعد حصولنا على شهادة "الثقافة العامة"" .حسين" يؤكد أنها "فشره" من فشرات"حسن" .وأنا أحاول أن أمؤكد له أنني سمعت والد "حسن" بأم أذني ،كما رأيته بأم عيني ،وهو يتحدث عن ذلك بجدية مع والدته .وبالتالي عدت للدفاع عن "حسن" ،محاول نفي صفة "الفشر" التي يتهمه بها "حسين" ،الذي عاد ليتهمني بالتحيز للـ"حسن" والدفاع عنه دائما لمجرد أنه إبن بلدي ،القدس. ل أدري بالضبط سبب الغيره التي يشعر بها "حسين" تجاه "حسن" المسكين ،علما بأنه متقد الذكاء .ويظهر ذلك بوضوح في تفواقه على طلب شهادة "الثقافه" اقاطبة .هذا مع علمي ويقيني بأن ساعات مذاكرته ،في أاقصى حالت الستنفار للمتحانات ،لتتجاوزالساعتين في اليوم .وبااقي واقته يقضيه في المطالعة والقراءة .وهذا مما يجعله على درجة كبيرة من الثقافة وسعة الطلع .ول ينافسه "حسن" في شيء إل في مادة اللغة النجليزية. 232
حاولت مرارار أن أبين لـ"حسين" اقناعتي بأن المسألة لعلاقة لها بتفاوت الذكاء .كما أنه ل وجه للمقارنة في هذا المضمار بينه وبين "حسن" الذي تربى منذ طفولته المبكرة في مدرسة الـ"تيراسانتا" في القدس .وشتان بين مستوى تدريس اللغات فيها ،وبينه في مدارس الحكومة في اقرية حسين" ،بيت إكسا" ،إحدى اقرى القدس. إل أن رد "حسين" كان دائما بعناد: ولو!كان عناد "حسين" يخرجه عن طوره في بعض الحيان ،حتى يكاد أن يمحو كل صفاته الحميدة النادره .ونتيجة لذلك ل يتورع عن ارتكاب موااقف تتجاوز الحمااقة والسخف لتصل إلى الواقاحه .ول أنكرأنني ،في بعض الحيان أيضا ،كنت أجد نفسي حائرا بين شخصيتين مختلفتين متنااقضتين .كما أنني ل أنكر أنني كنت أجد لذة في استفزاز "حسين" الخر ،الذي يحمر وجهه ،وتنتفخ أوداجه، وتبرزعروق راقبته ،إذا ما فعلت أنا ذلك. ثم ل يلبث أن يتواضع ويعترف ،مثل ،بأن "حسن" ،بحكم انتمائه إلى مدرسة الـ"تيراسانتا" ،ربما "يتحدث" النجليزية بطلاقة أكثر منه .أما إتقان اللغة فهذا شيء آخر. كنا اقد اقطعنا ثلثة أرباع الطريق ،و وصلنا إلى بداية منطقة "الرمال" التي نسكن فيها ،حيث نعرج ،بعد منتزه البلدية ،في طريق رملي مختصر يؤدي في نهايته إلى ذلك البيت المميز برايته الزراقاء ،وحديقته الغــرناء. الحديقة إلى يميني .و"حسين" إلى يساري .وأنا أراقب انفعالته نتيجة استفزازي له .وفجأة ،تنفرج أساريره ،وتتثااقل خطاه ،وتكاد عيناه أن تخرجان من محجريهما ،وهو يمصمص شفتيه الغليظتين ،وتتسع ابتسامته عن سنه المامية المفقوده. أخذت أتابع الخيط اللمرئي الذي يشد بصره حتى وصلت إلى طرفه الخر ..ويا لهول ما رأيت! لو كان "الميجور لوريون" هو"جريجوري بيك" ،فمن تكون هذه الهيفاء؟ 233
إنها بدون شك "جينيفر جونز"! وتمسمر كلنا عند مدخل الحديقة. كانت منهمكة في الحديث ،بالنجليزية ،مع البستاني العجوزالذي كان ينظرإليها بوجه كالقناع ،ل تتغير ملمحه .ثم ل يلبث أن ينظر حوله مستجيرا بأزهارالحديقة التي تشهد بأنه اقد اقام بواجبه خير اقيام، وأجاد عمله بتفوق وامتياز واضحين. أخذت أستحث "حسين" على مواصلة السير ،بعد أن طال واقوفنا، خشية من أن ترانا فيزعجها فضولنا. لكن هيهات أن يتزحزح .تركته ومضيت .وبعد عدة خطوات، نظرت خلفي فوجدته ما زال وااقفا يرااقب الحسناء الغريبة. حاولت أن أستعجله ،فأشار بيده أن أنتظر .لم يطل واقوفه أكثر من ذلك .تحرك داخل إلى الحديقة. في مثل هذه الحالت ،عندما يصادف أن ينشغل عني صديقي أو رفيق طريقي ،لم أكن أتردد في تركه ومواصلة السير ،إلى أن يلحق بي ذلك الصديق معتذرا .لكنني في هذه الحالة الفريدة ،المختلفة تماما ،وجدتني ل أرى أن هناك ما يضيرني ،لوأنني رااقبت عن كثب ذلك الحدث الفريد ،المختلف تماما. "حسين" يتبادل الحديث مع "جينيفر جونز" ،بعد أن عرف منه البستاني ما كانت تريده سيدته فانصرف. "حسين" يضحك. "جينيفر جونز" تضحك. "حسين" يواصل حديثه بطلاقه تثير دهشتي ،بدون أن أسمع ما يقول. تمد له يدها .يتصافحان .تدعوه للدخول بإلحاح .يتذكرني فجأة. تنظر ناحيتي .تطلب منه أن يناديني. أتعثر في مشيتي وأنا أتجه نحوهما. تمد يدها لي بينما هي تحاول عبثا أن تلفظ إسمي .ثم تقدم نفسها: كارولين.تضيع مني الكلمات النجليزية التي كنت أحسب أنني أعرفها جيدا . أتلعثم .يحمرمني الوجه. 234
تضع يدها الخرى على كتفي: صديقك خجول جدرا.تحتوينا الصالة النيقة البسيطه" .حسين" يكمل حديثه: نادينا ،حتى الن ،ليس به أعضاء من كندا .فهل يمكن أنتساعدينا على توسيع نطاق نشاطنا؟ تأوهت براقة وعذوبه: أعرف في بلدي من أظن أنه سيسعدهم أن ينضموا إلى ناديكم.سرى في جسدي ما يشبه التيارالكهربائي ،عندما لمست يدها خدي وهي تسأل: ما رأيك في صديقة جميلة من "كندا"؟ابتسمت ،وتلعثمت مرة أخرى وأنا أتلفظ بما تيسرمن كلمات الشكر، باللغة النجليزية التي ندر ما نطقت بها خارج نطاق المدرسه. حدثت نفسي ،وأنا أتحسس وجهي الملتهب .صحيح ،كما يدعي كل من يعرفونني ،أنني أبدو أصغرمن عمري الحقيقي بأكثر من تلك السنة التي أضيفت إلى عمري في شهادة ميلدي ،لكي "أدخل المدرسة" وأنا في السادسة بدل من السابعة من عمري. لكن ،أن يصل المرإلى أن تربت هذه الغريبة ،حتى لو كانت على هذا القدر من الجمال ،على خدي كما لو كنت طفل غريرا ،فهذا ما ل أتقبله. آه لو تسعفني الكلمات الملئمة للرد عليها. طلبت منا الجلوس ريثما تحضر لنا الشاي .وغابت بخفة ورشااقة "جينيفر جونز". وأنظر أنا إلى "حسين" كأنما لتساءل عن مدى علاقة ما يحدث بالحقيقه أو الوااقع .فيوضح لي بثقة: زوجة "الميجور" ،تقول أنها هنا منذ أسبوع .وسوف تقيم فيغزه بضعة أيام أخرى. كيف لم نشعر بوجودها ،بالرغم من أننا نمر يوميا من أمامالبيت؟ 235
يبدو أن شعورها بالوحده ،في غربتها هذه ،اقد جعلتها تخرجلتتجاذب أطراف الحديث مع البستاني. ثم أضاف بنزق: أنا شخصيا في خدمتها.اقال جملته الخيرة ،وهويحرك يده في جيبه في شيء من البتذال. نهرته ،خوفا من أن تعود مضيفتنا فجأة وتلحظ حركاته فتطردنا شر طرده. لكننا سمعنا صوتها اقبل ظهورها وهي تحمل صينية عليها بعض أنواع "البسكويت" وأكواب الشاي الفارغه: شقيقتي الصغرى في الخامسة عشر ،في مثل عمريكما تقريبا.سوف أكتب لها ،فربما تكون المراسلة من اهتماماتها ،هي أو بعض زميلتها في المدرسه. حدثتنا أحاديث اقصيرة متقطعة ،أثناء تحركاتها المتكررة لحضار الشاي ومن ثم صبه لنا ،وسؤالنا عن عدد اقطع السكر ،وذهابها لحضار أجندتها لكتابة إسم كل منا وعنوانه ،وتكرار دعوتها لتجربة هذا النوع أو ذاك من البسكويت ،علما بأن "حسين" لم يكن بحاجة لتكرار الدعوه. ثم سألتنا عن هواياتنا الخرى .فكان "حسين" يتولى الجابة عن كل السئلة ،مما جعلها تخصني ببعض اهتمامها لكي تحملني على التخلص من خجلي ومشاركتهما الحديث. وعندماعرفت أن كلنا مهتم بالقراءة والطلع ومشاهدة أفلم السينما ،أبدت استعدادها لعطائنا بعض المجلت التي تصل "ريك" تباعا ر لكي نزيد من حصيلتنا ،باللغة النجليزية. ثم ،اقامت بإعلن انتهاء الزيارة وهي تبتسم معتذرة بلطف .وحددت لنا موعدا لزيارتها بعد أيام ،ريثما يصلها ردل من شقيقتها الصغرى. بذل صديقي كل ما أوتي من حصافة وشطارة و"تناحة" لطالة مدة الزيارة .إل أن مضيفتنا الجميلة الراقيقة استطاعت بكل تهذيب أن تستدرجنا إلى باب الحديقه. لوحت لنا بيدها مودعة ،ثم عادت ل تلوي على شيء. 236
وجدنا أنفسنا على اقارعة الطريق ،نتحسس أنفسنا ،كما لو كنا لتسونا في أرض الحلم ،وأعادنا الجرتي خادم المصباح السحري إلى أرض الوااقع ،بعد أن أثبت أنه اقادرعلى تحقيق المعجزات. إذن ،علينا أن ننتظر حتى يوم الخميس القادم. * * *
الحــــــــــــــــــركة الثانيه في اليام الثلثة الولى لم نكف عن استرجاع تفاصيل تلك "المغامرة" الفريده .وبعد ذلك أصبحنا ل نكف عن التنبؤ لما سوف يكون بعد أن يأتي رد شقيقتها بالرفض أو القبول .هل ستستمرعلاقتنا بها ؟ وما نوع هذه العلاقه؟ صديقي ،الذي أعترف بأنني ل أستطيع أحيانا أن أميز بين جده وهزله ،يصرعلى أن "جينيفر جونز" اقد واقعت في غرامه )!( هيهات أن أتمكن من إاقناعه بأنه ل مجال للمنافسة بينه وبين "جريجوري بيك" .وأن كلنا ،بالنسبة لها ،مجرد معرفه عابره لـ ل "طفلين" مراهقين محبين للستطلع ،متطلعين للمعرفه .ل أكثر ول أاقل. ألم تركيف كانت تربت على خدي وكأنني إبن أختها الصغرى؟يضحك "حسين" ضحكته الواقحه ،ويأتي دوره للتلذذ باستفزازي. أنت لم تقرأ رواية الكاتب الفرنسي المعروف" ،جان لويمارسو" ،عن تلك المرأة التي كانت تعشق اليقاع بالمراهقين والستمتاع بتجربتهم الولى .لقد كانت أيضا في منتصف العقد الثالث من عمرها. ويعترف لي ،في يوم آخر ،أنه ل وجود لكاتب فرنسي إسمه "جان لوي مارسو". 237
ثم يعود لـلـ"يعترف" لي ،مرة أخرى ،بأنه في اليوم الرابع لتلك الزيارة ،يوم الحد ،وهواليوم الذي اختفى فيه بالفعل ،ولم يحضر إلى المدرسه ،فاجأها بزيارته لوحده ،فرحبت به .واقضى عندها أكثر من ساعتين .ول ينسى خلل حديثه أن يخطيء ثم يتدارك خطأه ،موحيا ر بذلك بأن هناك سرا يخفيه ،وأن "ما خفي كان أعظم" .ولكي يثبت صحة روايته ،يفاجئني بإحدى المجلت الجنبية التي أعطته إياها، ووعدته بمزيد منها إن هو اقام بزيارتها مرات أخرى بمفرده. وأتأرجح أنا ،للحظات ،بين تصديق روايته ،وبين الصورة المثالية التي رسمتها لها في مخيلتي ،والعلاقة البريئة ،والصدااقة الجميلة التي يمكن أن تربط بيننا .وأمؤكد ذلك لنفسي بقولي مبررا إهتمامها بنا: وما حاجتها لنا،غيرذلك ،وهي زوجة "جريجوري بيك"؟ وأعترف هنا أنه خطرلي القيام بزيارة لها ،بمفردي ،ل لشيء سوى إكتشاف مدى صداقه. لكنني لم أجد في نفسي الشجاعة لتنفيذ ذلك الخاطر .واكتفيت بالتمسك بالصورة المثالية التي رسمتها لها. في اليوم الذي يوافق موعد الزيارة الموعوده للسيدة الجميله، ظهر"حسين" واقفاه ينم عن آخر زياراته ،المتباعدة ،للحلق .كما اختفت الشعيرات التي كان يتركها متناثرة في أنحاء مختلفة من ذاقنه. ولم ينس أن يحذرني مما من شأنه أن ينم عن معرفتي بأمر زيارته للسيده .فهي اقد ألحت عليه بكتمان أمرها. إستقبلتنا بترحاب ما بعده ترحاب. اقالت أنها كانت في انتظارنا ،فهي تحمل لنا أنباء سارة من شقيقتها التي صادف أن اتصلت بها تلفونيا في اليوم التالي لزيارتنا الولى لها .فلقد أبدت إهتمامها بالنضمام إلى نادينا .كما أكدت أنها سوف تجد من بين صديقاتها وزميلتها من تستهويهن المراسله. نظرت إلى"حسين" مبتسما .لم يخنه ذكامؤه ،فهم معنى ابتسامتي. ولكنه آثر تجاهل ملحظتي .واغتنمت أول لحظة تغيب فيها السيدة لكي أعلق: 238
هل نسيت السيدة أن تزف إليك بالخبرالسار يوم زيارتك لها،ويوم أعطتك المجلت الجنبيه؟ حاول "حسين" ،أيضرا ،أن يتجاهل تعليقي. عادت السيدة ومعها سلة من القش مليئة بأنواع الفواكه التي لم نعتد على رمؤية معظمها في غزه .وعقبت: التفاح والكرز من بيروت .أنتما تعرفان أن "ريك" كثيرالتنقل،بحكم عمله ،بين غزه واقبرص وبيروت .ولقد رافقته إلى بيروت في زيارته القصيرة الخيره ،حيث تعود أن يقضي الـ "ويك إند" هناك. وكأنما انحلت العقدة من لساني في تلك اللحظة بالذات .فوجدتني أعلق بطلاقة أدهشتها: أوه! إذن فقد اقضيت الـ"ويك إند" في بيروت .إنها مدينة جميله،كما يقولون .تصوري أن صديقي "حسين" اقد جاء لزيارتك بمفرده يوم الحد.. ونظرت إلى "حسين" متشفيرا ،تاركا ر له الفرصة لكي يتدبر أمر الـورطة التي أواقع نفسه فيها .نظرت إليه السيدة: هل فعلت ذلك حقا؟ ولكنني أتذكر أننا اتفقنا أن نلتقي اليوم ،أوالخميس القادم. وأسقط في يده كما يقولون. وأخذت مضيفتنا تحاول أن تنقلنا من موضوع لخر ،وتطرح مختلف التسامؤلت ،وهي بذلك تستحثنا وتشجعنا على الحديث باللغة النجليزيه .ول تتردد في تصحيح أخطاءنا اللغوية والستطراد في شرح الفروق بين معاني الكلمة الواحدة ،حسب مواقعها .اقالت أنها تعمل بمهنة التعليم ،وتعشق مهنتها جدا ،ولكنها أيضا تحب السفر، ولذلك فهي ل تترك الفرصة تفوتها عندما يتنقل "ريك" ،بحكم عمله، فتأتي لتقضي معه بعض الواقت هنا أو هناك. ثم نهضت معلنة نهاية الزيارة .ولكنها استمهلتنا للحظة ريثما تحضر لنا ما وعدتنا به في المرة السابقه .فإذا بها تعود ومعها كومة من 239
المجلت النجليزية ،مؤكدة أننا سوف نحصل على مثلها في يوم الخميس القادم. لم أاقصد مضايقة "حسين" عندما ااقترحت إشراك صديقنا "حسن" في زيارتنا المقبلة للسيدة الجميله .اقلت ربما تستطيع أن تقدم له نصيحة مفيدة بشأن دراسته التي يخطط لها في جامعات أمريكا .هذا من ناحية ،ومن ناحية أخرى فهو أيضا نموذج مشرف من تلميذ مدرستنا ،بالضافة إلى أنه عضو في نادينا. لم يجادلني "حسين" كثيرار في هذا الشأن ،كما تواقعت. ويبدو أنه آثر السكوت آملر وطامعا في سكوتي بعد افتضاح أمر "الزياره" المزعومه ،بما انطوت عليه من إيحاءات. أضفت: أنت اقد اعترفت أخيرا بأنه يتكلم النجليزية بطلاقة أكثر منك.وأنا أعترف لك بأنك تتفوق عليه في مضمار آخر وهو الـفـشـ .. اقاطعني: طيب ..طيب ..خلص!* * * لشدما كانت دهشتي ،وصدمة "حسين" ،حينما انطلق "حسن" فجأة في الحديث باللغة الفرنسية مع السيده "لوريون" ،التي تبين أنها من مدينة "كيوبيك" ،عاصمة المقاطعة التي تحمل نفس السم ،والتي ما زالت ترتبط بفرنسا الم وتميل إلى النفصال عن كندا. وماهي إل أيام أخرى حتى وصلتني رسالة من الشقيقة الصغرى، "لوسيل" .كانت الرسالة مشفوعة بصورة تؤكد علاقة العائلة الوثيقة بـ "جينيفر جونز" وبااقي جميلت هوليوود. أثارت تلك الرسالة حفيظة "حسين" الذي كان يعتقد أنه صاحب الحق في "لوسيل" ،الجميلة ،لنه كان صاحب الفضل في تلك العلاقة أص ر ل. ولكن سرعان ماهدأ باله عندما وصلته رسالة من "سابينا" ،التي تفوق الجميع حسنا وجمال ،والتي اقال فيها زميلنا الشويعر"عيسى فرح" اقصيدته العصماء ،ومطلعها: 240
جمــالك هز أعطاف الديـار وعيناك الجميلة يا"سابيـنا"
وفتنتك البريئة اقد سبتـني بسهم الحب رميـا ر اقد رمتـني *
*
*
الحـــــــــــــــــركة الثالثه تكررت زياراتنا ،نحن الثلثة ،للسيدة الجميله .وكأنما أصبحنا جزءار من حياتها .تستقبلنا بترحاب وحب شديدين .ول تمل أبدا من تصحيح أخطائنا اللغوية ،أو طريقة نطقنا لبعض الكلمات ،أو الشادة بالجمل الصحيحة أو إجادة النطق بها .ول تنسى أن تسألنا عن رسائل "لوسيل" و"سابينا" و"هيلي". صادفنا الـميجور " لوريون" أكثر من مرة في بيته .كان يرحب بنا بأن يربت على أكتافنا ،ثم يعتذر عن عدم مشاركتنا لنشغاله بكتابة بعض التقارير .فتنفرد هي بالحديث إلينا في جو حميم .وتغدق علينا من خيرات "بيروت" التي دأبت على اقضاء الـ "ويك إند" فيها. وأما عن المجلت النجليزية أو الميركية فقد كادت أن تصبح مصدرا لدخل إضافي لنا ،إذ كنا نتقاسم ثمنها بعد بيعها بالكيلو، وذلك بعد اقراءتها أو تصفحها ،والحتفاظ بما اقد يلزم من صفحاتها الغنية بالصور الجميلة. من الشياء التي استرعت انتباهي ،دون "حسين" ،أو "حسن" ،الذي سرعان ما زهد في مشاركتنا تلك الزيارات ،تلك الموسيقى التي كانت السيدة الجميلة تحرص على أن تغلف بها أجواء البيت .كانت تلك الموسيقى تشدني .لحظت هي شرودي في بعض الحيان .وأدركت أن الموسيقى كانت تستهوينيي .فابتدأت تمدني ببعض الملحظات والمعلومات عن إسم هذه المقطوعة أو تلك ،أوعن المؤلف وجنسيته. حفظت إسم "رافيل" الفرنسي ،وأصبحت أميز مقطوعتة " بوليرو" ذات النغم "الشراقي" القريب إلى القلب .ينافسه في ذلك 241
"خاتشاتوريان" الروسي وزميله الذي أثار اسمه دهشتي.. "رحمانينوف". وعرفت المزيد عن العبقري النمساوي "موتسارت" الذي بدأ العزف على "البيانو" وهو في الخامسة ،والتأليف الموسيقي في السابعة من عمره .وازدادت معرفتي بالموسيقار اللماني "بيتهوفن" الذي واصل التأليف بالرغم من إصابته بالصمم ،وهوالسم الوحيد الذي كنا نسمعه مقترنا بالموسقى الجنبية ،التي درج متثقفونا على تسميتها ،بغير تمييز ،بالـ"سيمفونيات". وسمعت لول مرة موسيقى الـ"جاز" الزنجية ،وعرفت شيئا عن "بول روبسون" المقهور وأغانيه الحزينه. وزاد إهتمامي بملحظاتها خصوصا بعد أن أخذت تقرأ وتفسر ما هو مكتوب على ظهرغلف هذه السطوانة أو تلك. دأبت ،كما ذكرت ،منذ البداية على أن تخصني باهتمامها وتوجيه الحديث لي ،محاولة منها لمساعدتي على التغلب على خجلي وتشجيعا لي على المشاركة في الحديث .وتزايد ذلك الهتمام بعد أن أثمرت محاولتها تلك ،وأصبحت بالفعل أكثر جرأة وتجاوبا ،وأاقل خوفا من الواقوع في الخطاء اللغويه. كانت تقول دائما ما معناه أننا ل بد أن نخطيء لكي نتعلم .وهو ما يتنااقض مع ما درج عليه آبامؤنا في البيت ،وأساتذتنا في المدرسة، كمنهج للتربيه .وكثيرا ما كانت تردد مقولة حفظتها باللغة النجليزية تقول: " الخطأ الكبر..هو أن تخاف من الواقوع في الخطأ .والكبر منه هو عدم العتراف بالواقوع في الخطأ". كان اهتمامها بي يأخذ أشكال مختلفة ،منها الجلوس إلى جانبي، والاقتراب مني بشكل لم أتعوده من أنثى غريبة عني ،إمعانا منها في حملي على النتباه لما تقول .وكثيرا ما كان سلوكها هذا يسبب لي الرتباك والحرج. 242
في أحد المرات ،فاجأتني بأنها اقد حصلت على أسطوانة معينة كانت اقد طلبت من "ريك" أن يحضرها من بيروت ،كما اقالت ،خصيصا من أجلي ،بعد أن لاحظت مدى إهتمامي بنوع الموسيقى التي تعشقها. أحاطت كتفي بذراعها التي تمسك بغلف السطوانة الجديده، وأخذت تشير بإصبع يدها الخرى إلى بعض السطور وتحثني على اقراءتها. Concierto de Aranjuez Joaquin Rodrigo مازلت أذكر ذلك اليوم ،وتلك اللحظات. كانت ،كما يبدو ،تتواقع أن أخطيء في لفظ إسم المقطوعة ومؤلفها السباني .وأخذت ،وهي تقرب رأسها من رأسي ،تعيد القراءة وتطلب مني تكرارها .لكنني في كل مرة كنت أصر على ما كانت تعتبره خطأ ،وأاقوم بلفظ السم بطريقة أخرى: "كونشيرتو دو أرانخيـــــــــــز" "خواكــــــــين رودريــــــــــجو" شتان بين ما كانت تقوله وبين ما كنت أصر على تكراره. وذلك مما كان يجعلها تستغرق في الضحك ،ثم تعيد الكررة ،دون أن تترك لي فرصة لتفسير سبب إصراري على هذا "الخطأ" .إلى أن تمكنت من أن أحكي لها اقصة كتاب "علم نفسك اللغة السبانية" ودور جارتي "هنيه" إبنة "نيكاراجوا" وأمها "روزاليا" في تعليمي اللفظ الصحيح للحرف والكلمات السبانية. وهنا ..أخذت تكرر اعتذارها طالبة مني أن ألقنها ما كانت تعتبره خطأ .وانقلب المواقف إلى مشهد فيه من المفاراقة أو "الكوميديا" ما جعلها تستلقي على ظهرها مستغراقة في الضحك. لقد تبادلنا الدوار. الحقيقة أنني لم أنتبه لما بدر من"حسين" من ردود فعل أو تعليقات. لكن الذي لحظته هوالستياء الذي بدا عليها فجأة ،والذي كان نتيجته أنها سارعت في إنهاء الزيارة بجملة وجهتها له فألجمته .ثم اقالت 243
بحزم اقاطع ما معناه أنها لن تكون ،في اليام القادمة ،اقادرة على استقبالنا. وبما أن صيغة المخاطب باللغة النجليزية ل تفرق بين المخاطب المفرد أو المثنى أوالجمع ،كما هو الحال في لغتنا العربيه ،فقد اختلط علي المر .وبت غاراقا في بحر من الدهشة والحيرة ،غير مدرك لما كان أو ما سيكون. هل يمكن أن يكون هذا الكلم موجه لكلينا؟ وما سر هذا النقلب المفاجيء؟ أم هو مجرد إحساسها بوعكة مفاجئة جعلتها تؤثرالوحده. خيم علينا صمت كئيب ونحن نتجه إلى مدخل البيت .كان "حسين" يسبقني منكس الرأس ،على غير عادته. نظرت إليها نظرة أخيرة وكأني أستحلفها أن تنقذني من حيرتي. مدت يدها وأمسكت ذراعي لتستبقيني ريثما ابتعد "حسين" اقليل. همست لي: يمكنك أن تزورني في أي واقت تريده.ثم أضافت بسرعة: بعد ظهر الغد.كانت لهجتها تحمل صيغة المر ،كما تحتمل صيغة العتذار .أما عيناها فقد خيل إلي أنهما تحملن اقدرا من الرجاء. لم يجبني "حسين" على أسئلتي المتكرره .لعله آثر السكوت لشعوره بذنب ما .مشينا في صمت حتى وصلنا إلى مفترق طريقينا .اقال بدون أن يرفع رأسه: ول يهمك!ثم مضى. في مثل هذه الحالت ،التي تلوفني فيها الحيرة ،أسارع للتخلص مما اقد يربطني بالخرين ،حيث أنفرد بنفسي لسترجع ما فات ،وأحاول أن أجد تفسيرا لما أنا فيه ،أو مخرجا مما أنا مقبل عليه .وكثيرا ما أجدني اقد وصلت إلى ما يبدد حيرتي .إل أنني ،في هذه المرة ،بقيت غاراقا فيما يشبه القلق المشوب بالحزن. 244
ولول مرة أفكر في مدى صحة معنى تلك الحكمة التي تقول "إن غدار لناظره اقريب". الواقت يمر ببطء ل عهد لي به .وليس هناك ما يشير إلى ااقتراب الغد إل بمقدار ما يتحرك عقرب الداقائق في ساعة يدي ،التي لم أكف عن إعادة ملئها إحساسا مني بتواقفها عن الدوران. لجأت إلى واجباتي المدرسية التي عادة ما تلتهم الواقت التهاما .لكن صورة "كارولين" ،في اللحظة التي ماتت فيها الضحكة على شفتيها، كانت تنطبع أمامي على كل الصفحات ،فيوغل الواقت في عناده وفي تواقفه .ثم يتسلل إلى أذني صوت همساتها لي ،فأفاجأ بأن الزمن يعود إلى الوراء .ويعود شريط الحداث الذي يؤكد لي أن صدااقتنا مع السيدة الجميلة اقد باتت مهددة ،أو ربما في حكم المنتهيه. وأسائل نفسي :ما لي أنا؟ فقد بيبني ت ت لي أنها ل تحمل لي بغضا أو جفاء. ولكنه صديقي .وعلاقتي به أاقوى وأهم منها ألف مره. أم أنني أمام أحد الخيارين؟ هو ..أم هي؟ طبعا ر هو .ولتذهب هي إلى الجحيم. ما هذا الجحود؟ ساءلت نفسي باستنكار .وأخذت أشحذ ذاكرتي لسترجع المرة الخيرة التي ربتت فيها أمي على شعري ،كما كانت تفعل "كارولين" .أوآخر مرة لرفت إحدى أخواتي ،اللواتي يكبرنني، ذراعها حول كتفي فأشعر بمثل ذلك القدر من الحنان الذي كنت أشعر به عندما كانت "كارولين" تفعل ذلك. ل أشك أبدا في مقدار عواطف أمي نحوي أوعناية أخواتي بي. ولكن! كل منهن مشغول في تدبيرأمورالبيت ومسئولياته المختلفه .ل ُيقمن، بحكم العادات والتقاليد ،وزنا لظهارعواطفهن ..وكأنها عورات. هل تحرلت أنثانا فعل بصفة "البخل" التي كان أجدادنا العرب اقديما يستملحونها في المرأة ،كما كان شعرامؤنا يفاخرون بصفة البخل التي 245
تتحلى بها المحبوبة ،بحجة أن المرأة الكريمة اقد تجود بعواطفها لمن حولها ..بدون حساب؟ ما اقيمة العواطف إن لم نستطع التعبيرعنها؟ أحبت فينا "كارولين" شيئا ما ،فلم تتردد في التعبيرعن هذا الحب. اقدمتنا لزوجها ،كأصداقاء لها ،من غير ما حرج ول مواربه. في لحظة ما اتخذت من "حسين" مواقفا ،فلم تتردد من التعبيرعن نفسها بصراحه. لم تأخذني بجريرة صديقي ،فهمست لي بما يوحي بأنها تستثنيني من غضبها. غدا سوف تأخذ الحياة بالنسبة لها مجراها الطبيعي ،بدون أحقاد ول هم يحزنون .ربما تفصح لي عما يزعجها ،وربما تكون اقد نسيت أو تناست ما كان. ما أجمل أن يتحلى النسان بمثل هذه الشمائل! *
*
*
الحـــــــــــــــــركة الرابعه وبالفعل ،استقبلتني وكأن شيئا لم يكن .جاءت بسلة الفاكهة ،واقالت أن"ريك" لم يتمكن من العودة ويبدو أنه اضطر لقضاء الـ "ويك إند" في "اقبرص" .وأحضرت مجموعة المجلت التي فاتنا أن نأخذها بالمس كماعودتنا .ثم تذكرت السطوانة التي ما زال غلفها ملقى على المنضده ،فنهضت لتشغيل الـ "بيك أب" ،لينبعث منه صوت الـ "جيتار" ،اللة الرئيسية في"كونشيرتو أرانخيز" ،وعادت تستكمل اقراءة البيانات المكتوبة على ظهرالغلف. وعندما انتهت من القراءة ،نهضت وأعادت إبرة الجهاز إلى بداية السطوانة معلنة أنها سوف تتركني أستمتع بها كاملة .وجلست أمامي تقرأ في كتاب. 246
لم أكن اقبل معرفتي بها ،اقد استمعت إلى ذلك النوع من الموسيقى إل لماما. ولم أستطع أن أحدد السبب ،أو أن أعرف سر إعجابي وانجذابي لتلك الموسيقى. في ذلك اليوم بالذات ،كان لها مذاق آخر ،مميز ،له مفعول السحر. غمرني دفء من نوع لم أعرفه من اقبل ،بالرغم من برودة الجو في أواخر شتاء تلك السنة. استراقت نظرة ،فوجدتها مستغراقة في القراءه .كانت هذه فرصتي لطالة النظر إليها. كم هي جميله! والجمل ،هو ذلك الحساس الذي تشيعه في الخرين .مزيج من اللفة ،والحب ،والمومه ،والصدااقه ،والحنان. خدر لذيذ تسرب إلى أنحاء جسدي ،وعرفت ذلك الشعور الذي يقال له انعدام الوزن. هل هي الموسيقى؟ أم هي "كارولين"؟ أم هما معرا؟ أتمتع الن بصفاء ذهني لم أعهده من اقبل. خطر لي أنني ،في تلك اللحطة ،أستطيع أن أاقوم بليحسل أصعب "مسائل الجبر" التي تستعصي علي في الحوال العاديه. رمقتني فوجدتني متلبسا بالنظر إليها .اضطيرتب ُ ت .ابتيسيمت. جاهدت لترجم إليها خاطري .اتسعت إبتسامتها وأردفت: ُ أهلر بك مرات أخرى ،أنت ودفاترك.رااقت لي هذه الفكره .وفضحتني أساريري .اقالت: أنا أعني ما أاقول .فمعلوماتي تقول أنك تعودت أن تذهب فيبعض الحيان عند صديقك ،أو يأتيك هو للمذاكرة عندك..أليس كذلك؟ وفي أواقات المتحانات ،يبيت أحدنا عند الخر.ضحكت وهي تقول ببساطه: وفي الواقات التي يكون فيها "ريك" على سفر ،يمكنك أن تبيتفي غرفة المكتبة الخاصة به. 247
ضحكنا في اللحظة التي أعلن فيها الـ"بيك أب"عن إنتهاء الوجه ضت بتلقائية ،وسارعت في وضع الول من السطوانه .نه ي السطوانة على وجهها الخر بينما هي تقول: الوجه الخر للسطوانة يحتوي على الحركتين ،الرابعةوالخامسه ،فاستمع إليهما بانتباه. وعادت للقراءة ،بعد أن أضاءت "لمبة" اقريبة منها .فلقد بدأت الشمس تميل إلى الغروب. حاولت العودة للستماع .لكنني لم أنجح في التركيز .ولم يشد انتباهي شيئا مميزا في الـ"حركتين" الخيرتين من الـ "كونشيرتو" ،سوى أنها موسيقى جميله. تمنيت لو لم تنته موسيقى الوجه الول من السطوانة. كيف يمكنني أن أعيدها إلى الحديث الذي انقطع؟ أضافت الضاءة الجانبية إلى وجهها سحررا..وجاذبية ل تقاوم. حرص ُ ت أن ل تضبطني متلبسا باستراق النظر إليها .لكنها فعلت ذلك أكثر من مره .وكانت البتسامة التي ترتسم على شفتيها تزداد إتساعا في كل مرة .ثم فاجأتني بسؤالها: لماذا تنظر إلري هكذا؟تلعثمت وأنا أحاول عبثا أن أجد ردار مناسبا .رأيت أن أحسمل لغتي النجليزية مسئولية ذلك. صحيح أن اقدرتي على الحديث باللغة النجليزية اقد تحسنتاقليل ..ولكن.. اقاطعتني: بل كثيرا .بحيث أصبحت أجد صعوبة وأنا أتصيد لك الخطاء. ربما ،ولكن ،فقط ،عندما نتحدث حديثا عاديا .أعني أنني ل أجدصعوبة في التعبيرعن الخواطر العاديه .لكن ..
248
أغلقت دفتي الكتاب ،ورفعت حاجبيها ،ومالت برأسها اقليل إلى الخلف متصنعة الجد بشكل مبالغ فيه ،وانتظرت أن أكمل جملتي. لكنني تلعثمت مرة أخرى وضاعت مني الكلمات. حاويلت أن تساعدني: هل تقصد أن ما يدور في رأسك الن هي خواطرغيرعاديه؟ بالنسبة لي أنا .فأنا لم أتعود .. ..لم أكن .. ..لم أعرف...وضعت الكتاب جانبا ومالت إلى المام وهي تؤكد متابعتها: أكمل..أنا مهتمة بحديثك كما ترى!استغراقت واقتا ليس بالقصير حتى استطعت أن أمسك بطرف الجملة: أعني ..أنني ..أاقصد ..أنه ..عندما أاقول لك أنك جميلة ..فهذهعبارة عاديه .ولكن... وفجأة ضاعت مني البقيه. نهضت من مكانها ،وجلست إلى جانبي وهي تحاول أن تستنطقني وتشجعني ،كعادتها ،على المضي في الحديث ،وشفتاها مزمومتان على ابتسامة غامضة. يا إلهي! ما الذي جعلني أبدأ بجملة كهذه؟ إنني أكاد ل أجد بقيتها بلغتي العربية التي أدعي بأني ُأحسن التعبير بها .وكلما طالت مدة البحث عن الكلمات تصبح المهمة أكثر صعوبة ،ويزداد الحرص في البحث والنتقاء ،خوفا من أن تأتي النتيجة أاقل مما أاقصد أنا ،أو دون تواقعات الطرف المتلقي. نعم كنت أريد أن أاقول لها أنها جميله .ولكن ،كما اقلت ،بعبارة غيرعادية ،تتناسب مع جمالها الغير عادي ،وإحساسي الغيرعادي أيضا. وجدت مخرجي بأن نظرت إلى الساعة ،واقررت أنني ل أستطيع البقاء أكثر من ذلك .فقد أمعنت الشمس فى الغروب .ولم أتعود على البقاء خارج المنزل ،بعد ذلك ،بدون إذن مسبق من والد ر ي. ض ت ت متفهمة .واقالت وهي ترافقني إلى المدخل ،والبتسامة فنه ي الغامضة ل تفارق شفتيها: 249
-
اقلت لك أن "ريك" متغيب في الغد .وهذا يعني أنك تستطيع أن تحضر كتبك ودفاترك ،وأن تبيت ،إن شئت ،في غرفة المكتب. وسوف أتركك مع الموسيقى و"مسائل الجبر" ،ولكن بعد أن تكمل حديثك الذي انقطع .أمامك متسع من الواقت ،تستطيع خلله أن تستعين بالقواميس ،وتبحث عن الكلمات ما استطعت. *
*
*
الحـــــــــــــــركة الخامسه مشيت وأنا أدسبج ردودا على أسئلتها المتواقعة تارة ،أو أفكر في أعذار لغيابي عن البيت لما بعد غروب الشمس تارة أخرى ،أو أدسبر حيلة تتيح لي الغياب في الغد ،لما بعد شرواقها ،تارة ثالثه .تقابلت عند باب الدار مع والدي العائد لتوه من الجامع القريب منها ،حيث يؤدي الصلوات الخمس في أواقاتها .عاتبني بصمته .وعندما سمع أعذاري، أخذ يتمتم بدعوات الرضى وسداد الخطى .وفعلت ذلك والدتي، داعية إلى ا ،كعادتها ،أن يجعل لي في كل طريق صديق ،وفي كل خطوة سلم. واقالت لي إحدى شقيقاتي بااقتضاب أن"حسين" اقد حضر وسأل عني. أول ما داهم خاطري هو أن "حسين" ،بعد أن تفقدني ولم يجدني ،اقد رااقبني ورآني وأنا أغادر بيتها .ولذلك اقررت أن أاقول له الحقيقة، التي أخفيتها عنه أثناء لقاءنا اليوم في المدرسه .وهذه خطوة ضرورية لكي أحظى بدعمه لي في الغد .فل بد أن "يعرف" والدي أنني سوف أاقضي ليلة الغد في بيتهم .وعلى كل حال ،مازال في الواقت متسع لتدبر المر. تناولت عشائي بصمت ونهم .ثم جلست إلى طاولتي .أنهيت كل واجباتي المدرسية بسرعة اقياسية .وبعد فترة من التفكير والتأمل، وجدتني أمسك بالقلم وأكتب: 250
أردت أن أاقول لك.. أن ا ،سبحانه ،اقد جعل من خلقه من هم على اقدرته ،دلئل و آيـــــــات.. أو .. كأني ،وأنا أتأمل وجهك ،إنما أاقرأ فيه التسبيح والصلوات.. أو .. أن ما كان يجول في خاطري ،وأنا أنظر إليك ،هو نغم إلهي..أغنية بل كلمات ..أو.. واقبل أن أسترسل فيما كنت أتوهم أنه ينتمي إلى الشعر المنثور الذي كنت أميل إليه ،حاولت أن أترجم تلك الكلمات إلى اللغة النجليزية، فلم أاقتنع بنتيجة ما بذلت من محاولت. خطر لي أن ألجأ للستاذ "سعيد" ،أول من طرح فكرة استعمال اللغة النجليزية خارج نطاق المدرسة .لكنني سرعان ما استبعدت هذا الحل. هل ألجأ لصديقي "حسين"؟ ربما ..ولكن.. فجأة تذكرت رأي "حسين" فيها ،والرواية التي أرلفها ونسبها للكاتب الفرنسي "جان لوي مارسو" ،الذي تبين أنه ل وجود له .تلك اللعبة التي كان يتقنها ،وكثيرا ما كان يمارسها مع بعض المدرسين. يستشهد بأاقوال وحكم من وحي اقراءاته أو من تأليفه ،بعد أن ينسبها لحد الكتاب الكبار أو لكاتب أجنبي ،يسميه كما اتفق .ول يجد المدرس أمامه سوى إلتزام الصمت خوفا من انكشاف جهله. وبالرغم من أنني استبعدت ،وما زلت أستبعد ،هذا الرأي جملة وتفصي ر ل ،إل أنني لم أستطع الهروب من ذلك التسامؤل: ماذا بعد؟ وأطلقت لمخيلتي العنان .وتزاحمت وتصارعت الفكار. ثم غلبني النوم.
الحــــــــــــــــــركة السادسه 251
كأن البتسامة الغامضة لم تفارق شفتيها منذ المس .تناولي ت ت دفاتري وألقت بها جانبا. لول مرة يشد إنتباهي شيء آخر ،غير وجهها وعينيها الشهلوين. ظ ت كأني أرى اقوامها للمرة الولى .لح ي ت ذلك. لماذا تنظر لي هكذا؟وكأنما أدركت فجأة أنه السؤال الذي أربكني بالمس .غطت وجهها بيديها وانحنت في ضحكة اقصيرة ،ثم اعتدلت وأكملت: ل ،ليس بهذه السرعه .إسترح أول! أمامنا متسع من الواقت.لم أستطع أن أكف عن النظر إليها وهي تتحرك بحيوية ومرح. كانت ترتدي نفس الرداء الذي ظهرت به في اليوم الول لتعارفنا. وكذلك لم أستطع أن أكتم رغبتي في أن أبوح لها باللقب الذي اخترته لها منذ الوهلة الولى" ..جينيفر جونز". تمايلت طربا ،وتأودت في مشيتها بما يتناسب مع الموسيقى الناعمة التي كانت تغمر المكان. اقالت: أل تخشى أن يملني الغرور؟أضفت بصدق: "جينيفر جونز" التي أعرفها ليست سوى صوره ،بدون روح،بل حراره. ااقتربت ،وجلست إلى جانبي ،وعادت إلى شفتيها تلك البتسامة الغامضة: مادمت اقد بدأت ..فلنكمل حديث المس.وهيهات أن أتذكر كلمة واحدة مما دونت بالمس .تصبب العرق من جبيني .اجتاحتني هربة لفحة من الحر. ظننت أن السبب هو تلك "الكنزة" الصوفية التي أصرت والدتي أن أرتديها إتقاء لنسمات ليالي أواخر فبراير البارده. 252
ساعدتني "كارولين" على التخلص منها .لكن موجات أخرى كانت تلفحني كلما ااقتربت مني لتستدرجني في الحديث. نهضت وهي تقول: داقيقة واحده ..سأعد لك شرابا مرطبا.تمنيت أن تطول غيبتها ريثما أستعيد بعض هدوئي ،أو أتدبر إجابة لسؤالها. ساءلت نفسي عما إذا كانت تريد أن تعرف ما يجول في خاطري بالذات ،أم أنها ،فقط ،تريد أن تسمع مني المزيد من كلمات العجاب التي لتمل النساء سماعها ،حسب ما أعرفه من اقراءاتي .ول أدري لماذا كنت أميل إلى الفتراض الول ،بالرغم من العقبات التي تجعل ذلك في عداد المهمات الصعبة. عادت تحمل كأسين يختلف لون محتويات أحدهما عن الخر .اقالت وهي تقدم أحدهما لي: "كوكتيل" ،عصير فواكه مع اقطع من الثلج.ثم رفعت كأسها ،المختلف لون محتوياته ،وهي تقول: كأسي فيه خليط " ،كوكتيل" ،يحتوي على الـ"كامباري" .اقال ليالطبيب أن اقليل من الكحول يفتح شرايين القلب .وأجد متعة في شربه أحيانا. ل أظنك ترغب في مثل هذا المشروب.أم أنك تحب أن تجربه؟ كأنما أجفلت لمجرد سماع عرضها ،وإن كنت لم أسمع بذلك السم من اقبل: ل ..ل ..شكرا!رضحكت واقالت بشيء من الدلل: هل تمانع في شربي أنا؟ سأتواقف عن ذلك إن أردت. طبعا ل.اقالت وهي تقرع كأسها بكأسي: -إذن ،في صحتك.
253
هأنا ،أخيراير ،أمارس "اقرع الكؤوس" كما كنت أراه في الفلم السينمائيه. اقلت لها ذلك فأغراقت في ضحكة يشوبها بعض المجون ،مما أصابني بما يشبه الصدمه .تذكرت فجأة صديقي "حسين" .لكن سرعان ما انتزعتني هي من صديقي وأفكاره الشاذه. نظرت إلى ساعة يدها ،ثم اقالت: مارأيك في الموسيقى؟ هل تريدني أن أستبدل السطوانه بواحدةأخرى تختارها أنت؟ كانت أغنية حالمة تتردد فيها كلمة إسبانية استرعت انتباهي.. " موتشو ..موتشو ..موتشو". أجبتها بسرعة: ل ..أبدا! إنها تروق لي .هل تعرفين معنى كلمة "موتشو"؟هزت رأسها ،ورمقتني بنظرة استنكار فيها شيء من الدلع والعتاب وهي تجيب: "بوي"!ثم أضافت وهي تمد لي يدها: تعال لريك غرفة المكتبه ،حيث سأتركك مع "مسائل الجبر"للمدة التي تراها كافية .أما الموسيقى فسيصلك صوتها عن طريق السماعة المعلقة على حائط الـ"كوريدور". كنا اقد دخلنا الغرفة ،فأكملت وهي تشير إلى الريكة التي تحتل جزءا كبيرا منها ،وعليها "بيجامة" مطوية ومنشفه: أظنك ستجد كل إحتياجاتك هنا ،ول ينقصك كما أرى سوى فرشاةالسنان. ثم شدتني من يدي ،وأضافت ،بينما أنا منقاد إليها بشيء من الذهول: وهذا هو باب الحمام ،وهذا هو مفتاح النور..هل من أسئلة؟استدارت عائدة إلى الصالة ،ثم التفتت نحوي وهي تبتعد اقائله: لو احتجت إلى أي شيء ،فأنا في الصالة..أاقرأ .وعندما تشعربالجوع ،عليك أن تخبرني بذلك بدون تردد .فلقد أعددت لنا 254
عشاء خفيفا .أما أنا فأعتقد أنني سأشعر بالجوع ..بعد مدة ساعه أو تزيد اقليل. تأملت اقوامها وهي تبتعد بخطوات رشيقة متناسقة تكاد تتوافق مع إيقاع الموسيقى الخفيفة المرحه .شيء ما كان يدفعني إلى إطالة النظر إليها. لم يعد وجهها أو عيناها هما مركز الجاذبيه بالنسبة لي. عندما اختفت ،وجدتني أاقف بباب غرفة المكتبه ،ومن أمامي غرفة أخرى ،يبدو أنها غرفة النوم ،ظل بابها مواربا بالرغم من محاولتها غلقه وهي في طريقها إلى الصاله. عندما تركتني في المرة الولى لتحضير شراب الفواكه ،كنت أرجو أن تطول غيبتها لكي أخلو إلى نفسي ريثما يزول اضطرابي .أما الن ،فلست أدري ما الذي أنا فاعله ريثما تشعر هي بالجوع. هل أعترف لها بأنني لم آت من أجل "مسائل الجبر" ،ول من أجل "كونشيرتو أرانخيز"؟ أعترف؟! وهل هي من السذاجة بحيث تكون اقد انطلت عليها حيلتي ،وواقعت في شراكها؟ أم أنني أنا الذي واقعت في الشرك الذي تحدث عنه صديقي"حسين"؟ مازلت أتمنى أن يكون هو المخطيء .ولوأنني ،أيضا ،أتمنى أن أنعم بالمزيد من اقربها. وماذا بعد؟ هل هناك أاقرب مما كنا فيه اقبل اقليل؟ أخذت أستعيد واقائع زيارة المس ،والزيارات السابقة ،واليوم الول. ثم عدت بالتسلسل الزمني إلى أن وصلت إلى اللحظة التي فتحت لي فيها الباب ،اليوم .إبتسامتها الغامضه ،واقوامها .وحرارة جسدها التي لفحتني. شعرت بجفاف في حلقي .تذكرت كوب الشراب .أظنني تركته بدون أن أكمل شربه .لم أتردد في النهوض والتوجه إلى الصاله. تنحنح ُ ت .رفيعت عينيها عن الكتاب في تسامؤل .أشرت إلى الكوب. وضعت الكتاب جانبا ونهضت اقائله: 255
انتظر اقليل! ل بد أن الثلج اقد ذاب وأصبح الشراب مخففا .ظننتأنه لم يعجبك .سأحضر لك غيره في الحال. كنت اقد سبقتها في الوصول إلى الكوب .حاولت أن تأخذه من يدي، فتمسكت به وأنا أبين لها أن الشراب المخفف سوف يؤدي الغرض في إطفاء عطشي .ول أدري من منا هو الذي كان يسعى إلى إطالة فترة تلمس أيدينا. ل أظنني كنت أمتلك مثل هذه الجرأه .ول أدري كم طالت تلك الفتره. لكن الذي أعرفه تماما هو أنني كنت أريد لها أن تطول أكثر. عادت بالكوب المملوء ،وأثلجت صدري بمحاولتها تجاوز ما جرى. كنت أخشى أن تكون اقد لحظت مظاهر التوترالتي انتابتني .اقالت بمرح يخلو من الفتعال: نصف ساعة ،وأكون اقد انتهيت من اقراءة الفصل الخير منالكتاب ،وبعدها أتفرغ لعداد العشاء .ولن يستغرق ذلك سوى داقائق أخرى .هل بدأت تشعر بالجوع مثلي؟ أومأت برأسي وشكرتها وعدت إلى غرفة المكتب .شربت الكأس حتى الثماله .وحمدت ا أنها لم تعرأي اهتمام لما كنت أحسب له ألف حساب. شعرت بحاجة لدخول الحمام .كان ل بد من اللجوء إلى ما يعيد لي بعض هدوئي. لدى خروجي لمحت صورة وجهي في المرآة .ااقتربت منها عندما لحظ ُ ت شحوبي الزائد .فجأة تذكرت زوجها" ،جريجوري بيك". تأملـُتني .الشيء الوحيد الذي يميزني عن الطفال هو ذلك الزغب الكثيف المائل لونه إلى السواد فوق شفتي العليا .ابتسمت ،في سخرية من نفسي. خرجت من الحمام أكثر وااقعية ،وبل أوهام. استلقيت على الريكة ،ورحت فيما هو بين الغفاءة والغماءة. سمعت صوتا يأتيني من بعيد .تمكنت بالكاد من تمييزه: 256
..يا صديقي العزيز!لأستطيع أن أحدد كم مرة تكررالنداء .المهم أنني صحوت من النوم. نهضت ،وأصلحت من شأني ،وخرجت إلى الصالة وأنا أتظاهر بأن شيئا لم يكن .اقالت وهي توميء لي بالجلوس إلى المائدة: ..تسللت إلى غرفتك ،فوجدتك مستغراقا في النوم .هل أنت "أو..كيه"؟ صبت لنفسها كأسا ،وسألتني عن رغبتي بتناول كأس من "النبيذ الحمر" .أجفلت ،فأنا أعرف ،هذه المرة ،ما هوالنبيذ .اقالت من خلل ضحكتها المميزه: ل تجزع! فأنا أعرف وأحترم التقاليد والديان ،وما سؤالي إلمن اقبيل اللتزام بآداب المائده ،أو الـ"إيتيكيت" .وعلى أي حال فأنا من أنصار أن يجرب النسان كل شيء ،فيقبل عليه ،أو يمتنع ،عن وعي وبااقتناع. تذكرت الستاذ "سعيد" ونصائحه وتعاليمه التي كانت تجد في نفسي اقبول في بعض الحيان .ثم تذكرت اقولها بأننا يجب أن ل نخاف من الخطأ لكي نتعلم من أخطائنا .وتمنيت أن تكررعرضها لي .لكنها لم تفعل .ولم أجد في نفسي الجرأة للتراجع بدون إلحاح منها. لم أخجل من جوعي ،خصوصا وأنها كانت تأكل بشهية واستمتاع. وعندما انتهينا من تناول العشاء ،ملت كأسها مرة أخرى وهي تقول: الموسيقى الرااقصة تساعد على الهضم .ما رأيك؟هل أختارها أنا ،أم أترك لك حرية الختيار؟ اخترت أغنية لمغن زنجي ،حفظت لحنها وبعض كلماتها لكثرة ما سمعتها في زياراتنا الولى لها .صرخت فلرحه. هرعت للركن الذي يقع فيه الـ"بيك أب" والسطوانات .لم يطل ي بحثها .انطلقت موسيقى الغنية.
257
أاقبلت علي وهي تتمايل على إيقاع الموسيقى الهاديء فاتحة ذراعيها ،ثم انحنت أمامي بطريقة مسرحية ،وتمتمت بكلمات لم أفهمها .ثم عرفت أنها تطلب مني ،باللغة الفرنسية ،أن أرااقصها. ولما رأت اضطرابي وحيرتي اقالت ،واقد عادت إلى تمايلها: سوف تتعلم الراقص بسرعة .أذنك الموسيقية كفيلة بذلك.ورأيت نفسي أمام أمر وااقع ،ل مجال إزاءه للتردد أو التراجع. أخذت يدي اليمنى ،وأحاطت بها خصرها ووضعت يدها اليسرى على كتفي ،بينما ظلت اليدان الخريان ،يدها ويدي ،متماسكتان ممدودتان ،واقالت وهي تكاد أن تلتصق بي: هذا هو الوضع الصحيح لراقصة الـ "فوكس تروت".ثم ابتعدت عنى بما يسمح لكلينا أن يرى خطوات الخر ،وأكملت على إيقاع الموسيقى: واحد ..واحد إثنين .خطوه ..خطوتين .واحد ..واحد إثنين..ثم أخذت المسافة بيننا تضمحل بالتدريج .ومدت يدها لتثبت يدي، المتراخية رهبة وخجل ،حول خصرها: هكذا يا صديقي العزيز! هذا من مقتضيات الراقصه .كف عنخجلك! تيار كهربائي يدغدغ جسدي ،فيسري دم ساخن في عرواقي ..وكل أعضائي. نشوة عارمة تغمرني .وأشعر بالحرج الشديد من ذلك النموالمتزايد الذي يضطرني للبتعاد عنها خشية أن تشعر به ،فأفسد تلك اللحظات التي لم أحظ بمثلها حتى في أحلمي التي كانت تثيرها اقراءاتي ،أو ثرثرات الصداقاء ،أو مشاهداتي في الفلم السينمائيه ،أو ربما تجاربي المخطوفه المرتعده مع اقريبات أو جارات لي ممن يصغرنني أو من هن في مثل سني ،أو أكبر بقليل. تميل بي إلى اليمين فأميل معها .تقودني إلى اليسار فأنقاد إليها. وتفكيري يتركز في تجنب الحتكاك بها ،وفي متابعة الغنية 258
مستعجل نهايتها .واقبل أن يتلفظ المغني الزنجي ذو الصوت الرخيم بكلماته الخيرة ،أكون اقد تركت خصرها ويدها ،وأخذت بالتصفيق، حسب ما تمليه مشاهداتي في الفلم السينمائيه .ثم أسارع بالجلوس لكي ل تكتشف ما جاهدت لخفاءه. صفقت هي الخرى ،وأثنت على سرعة تعلمي لراقصة الـ "فوكس تروت" اقائلة ليت واقتها يسمح بأن تدربني على بقية الراقصات في مرات اقادمة .في كل مرة راقصه أخرى" .هذا طالما كنت لم أزل في هذا البلد" .وهذا ،كما تقول ،من متطلبات الحياة العصرية الجديدة التي سوف أخوضها في المستقبل القريب ،عندما أسافر إلى أمريكا لدراسة الخراج السينمائي. ..أليست هذه أحلمك للمستقبل؟ ألم تقل لي أنك تنوي دراسةالسينما؟ رشفت من كأسها بتلذذ وأعادته إلى مكانه ،ثم أضافت وهي تمسك بذراع الـ "بيك أب" ،وتعيد وضع إبرته على بداية السطوانه: ..ثم إن المخرج السينمائي ل بد وأن يكون مل رما بمختلف مظاهرالحياه .والهم من هذا وذاك..أن ل يكون خجول! اقالتها بشيء من العتاب أو التأنيب ،وهي تشدني من مكاني وتحملني على مواصلة الراقص ،وتضطر لن تقوم بنفسها بتثبيت ذراعي اليمنى ليحتوي طراوة خصرها ودفئه. إذن ،فقد كانت كل مخاوفي وهما .فهي لم تشعر بالتغيرات التي اعترتني في الجولة الولى. وضعت ذراعها ،هذه المرة ،على كتفي .وأخذت تدندن بلحن المقدمة الموسيقية وهي تقودني بخطوات ضيقة بحيث لم أستطع تجنب ملمسة سااقي لسااقها. وعندما بدأ المغني الزنجي ذو الصوت الرخيم في الغناء ،أخذت تهمس معه بكلمات الغنيه: ..الشمس مشراقه ..يا له من يوم سعيد ..ويا لله ما أسعدني!259
واستمرت بالهمس بكلمات أخرى مرتجلة ،مع اللتزام بلحن الغنيه: عليك أنت أن تقودني ..فهذه هي اقواعد الراقصه ..المرأة تنقادللرجل..أليس كذلك؟ وهأنا سأترك لك نفسي من الن. ثم فطنت فجأة لشيء هام .خلعت حذاءها ،لنصبح بنفس الطول تقريبا. أسندت ذاقنهاعلى كتفي ،واستمرت بالهمس ببقية كلمات الغنيه: _ The Moon is shining .. O happy Night .. .. O, O lucky me أما أنا فقد كنت أناضل في عدة جبهات .أتابع إيقاع الموسيقى، وأحرص على ضبط الخطوات ،وأتحاشى أن تصطدم سااقانا ،أو أن أتعثر بقدميها ،وأتوخى حفظ مسافة معينة بيننا. لكن هيهات! يدي تمسك بيد "جينيفر جونز" ،تلك الغادة الفاتنة التي ااقتتل من أجلها الشقيقان "جريجوري بيك" و "جوزيف كوتون" حتى الموت، في فيلم "صراع تحت الشمس". وذراعي يحيط بخصرها اللين المتأود ،تلك التي جسدت شخصية "إيرما" ،والتي أذعن لسحرها سادة القوم في فيلم "مدام بوفاري"، رائعة "جوستاف فلوبير". وصدرها الجريء يزيد اقربه مني في سرعة ضربات اقلبي واضطرابي ،وشعرها يداعب وجهي ،وأريجه يمل خياشيمي. فأتمنى أن تقف المور عند هذا الحد ،لنفرد بنفسي فأحاول أن أستوعب ما يحدث. كنت أشعرأن التجربة أكبر مني ،وأن ما يجري أكثر حتى من اقدرة مخيلتي بمراحل. والحق أنني لم أتذكر صديقي "حسين" ،لنني لم أشعر بأي افتعال لما حدث .كل شيء كان يتطور بشكل طبيعي وتلقائي .وكانت ،بعد كل راقصة ،تسألني إن كنت أفضل أن أخلد للراحة أو النوم .فأنفي ذلك وأكتفي بالجلوس وتجفيف عراقي والتقاط أنفاسي .تأخذ خللها رشفات من كأسها أو تمله بدون أن تحاول إستدراجي لمشاركتها في ذلك .ثم تعبث في مجموعة السطوانات ،ونواصل الراقص من جديد. 260
تبدأ بالتعريف باسم المغني أو المغنيه أو المؤلف الموسيقي. وأشاركها الحديث بأن أسال عما يستعصي علي فهمه ،فتفسر لي الكلمات أو الجمل بدون كلل ،أو تبادر بترجمة ما تختاره من الغاني الفرنسية. ثم تموت على شفتينا الكلمات. ويلفحني صهد حرارتها ،ويعود جسدي للحساس باستدارة فخذيها، تكور نهديها. أو ر وتسترق عيناي النظر ،رغما عني ،إلى تلك المساحة من العري المتاح للصدر ،وأكاد ل أستطيع أن ألجم نظراتي المتسللة .ثم أعود لمحاولتي اليائسة لتجنب ما اقد يثير انزعاجها ،كما كنت أتخيل .وما أن تنتهي الغنية ،أوالقطعة الموسيقية ،حتى ألقي بنفسي على الكنبة، وأنا أدارى إنتصابي ،مبالغا بالتظاهر بالتعب والجهاد. *
*
*
كانت لي "مغامرات" يحسدني عليها أصداقائي ،وتجعلني ،في نظرهم" ،دون جوان" يشار إليه بالبنان .لكنها لم تكن تتجاوز النظرات ،أو البتسامات المتبادلة ،أو لمسة يد ،أو"بوسه" مخطوفة. وأكثر مغامراتي "فجوررا" كانت مع تلك الصبيه "الفايره""..نعيمه"، التي عوضها ا عن وجهها المائل إلى القبح ،بجسد يحسدها عليه كل من رآها من فتيات أو نساء منطقة "الرمال" بكاملها. كانت تكبرني بسنتين أو ثلثة ،وكانت تدرك أنها تمتلك تلك "المواهب" ،ول تترك فرصة تفوت دون أن تتعمد إبرازها، والتباهي بها ،أمامي. ظلت تتحرش بي منذ أن استقر بنا المقام في "غزة" ،إثر الهجرة إليها من القدس ،بدون أن تجد استجابة مني ،إلى أن كان ذلك الشتاء ،فلم أستطع منها فكاكا. كان والدها يعمل "عتا ر ل" في متجر الحبوب الذي يمتلكه أحد أاقربائي في يافا .وكانت وحيدة أباها الرمل .وبعد الهجرة إلى "غزة" ،لم يجد بديل عن ترك الصبية في بيت اقريبي ليسافر باحثاعن الرزق. 261
وبعد عامين أرسل والدها ما يفيد بأنه اقد "كتب كتابها" على صديق له عائد إلى "غزة" ليستقر فيها. زفت لي الخبر وهي تكاد تفقد صوابها من الفرحه .وأخذت تعدني بأنها ،بعد ذلك ،سوف تمتعني بعلاقة كاملة .كانت ،في الشهورالخيرة ،تقول لي ،بالحرف الواحد ،أن الـ"ترين" ،حسب تعبيرها السواقي ،الذي كنت أنفر منه ،سوف يتمكن من دخول المحطه )!( لكن زوجها اقرر أن ينتقل بها ليعمل في الخليج. *
*
*
أما أن أرااقص "جينيفر جونز" ،في خلوة امتدت حتى اقارب الليل على النتصاف ،فهذا ما لم يكن ليتسع له خيالي. لكنها الحقيقة التي ما برحت أراها بعيني ،وألمسها بيدي ،وأسمعها بأذني ،وأستشعرها بجسدي. هناك ،من بين أحلم منامي ،حلم كثيرا ما كان يتكرر بنفس تفاصيله. كنت أراني فيه أتنقل من مكان إلى آخر طائرا ،أحلق في الهواء مثل الطيور. أطير صعودا في العالي أو أغوص هابطا في الفضاء .ثم أراني واقد صحوت من نومي ،ول أكاد أتبين ذلك حتى أعود لواصل الطيران كأنما لثبت لنفسي أن اقدرتي على الطيران حقيقة ،وليست مجرد أضغاث أحلم. حلم في داخل حلم. وكأني ،في تلك الليلة ،مازلت أواصل شيئا من هذا القبيل .أصحو من حلمي الرااقص ،ثم أعود للراقص لثبت لنفسي أن "جينيفر جونز" حقيقة شاخصة أمامي ،وأستطيع احتضانها ومرااقصتها مرة إثر الخرى. يعترى جسدي خدر لذيذ ،بينما كانت تدور في رأسي فكرة الكتفاء بهذا القدر و الستسلم للنوم ،على أن أواصل الحلم في يوم آخر، ربما في الغد. 262
ثم أفاجأ بموسيقى "كونشيرتو أرانخيز" تتسلل إلى مسامعي، وصوتها يقترب: ..والن ..واقبل أن أتركك مع هذه الموسيقى الهادئة..ااقتربت تحمل كأسي مجددا ،وجلست إلى جانبي وأكملت ،واقد عادت إلى شفتيها ابتسامتها الغامضة: ..أحب أن أستمع إليك في الحديث الذي انقطع بالمس .أم أنك اقدنسيت؟ ولول مرة أرى أن في وجهها ما يخطف البصرغير العينين. شفتـــــــــــاها. حكيت لها ،على أنغام "رودريجو" ،اقصة حلمي الطائر الذي أثبتت في أحلمي أنه حقيقه .وأشرت إلى الحلم الخر ،الذي ما زال يفتقر إلى إثبات حقيقته. اتسعت إبتسامتها .شربت ما تبقى في كأسها وشردت بأفكارها برهة ثم نهضت. وبدون مقدمات ،تمنت لي ،بثغر يفترعن "إبتسامة ما" ،نوما هادئا، واختفت في غرفة النوم. ل أدري كم من الواقت اقد مضى وأنا أحاول التخلص من رعشة البرد التي أصابتني منذ أن استبدلت ملبسي لخلد إلى النوم .لكن الموسيقى الناعمة كانت تؤكد أنه لم يمض الكثير. عبثا حاولت أن أجد ما أتدثر به .لقد تذكير ت ت كل شيء ..ما عدا الغطاء .وعبثا حاول ُ ت الستغناء عنه. واقفت بباب غرفة المكتب أفكر فيما عساي أن أفعل .كان باب غرفة النوم مواربا ،ونور خافت يتسلل منها ،وهو الشيء الذي ربما ينم عن إحتمال عدم استغرااقها في النوم. طراقت الباب طراقا خفيفا .لم أسمع رد را .طراقته مرة أخرى .انتظرت اقليل ثم دفعته بحرص. فوجئت بها تنظر لي متسائله .وتراءت لي تلك الـ"ابتسامة ما" التي ارتسمت على كل وجهها. 263
خيم الصمت برهة. كنت أرتعش من البرد .اتسعت ابتسامتها بشكل ملحوظ ،ثم ضحكت. كان شكلي بمنامة "جريجوري بيك" الفضفاضة ،التي تتسع لشخصين آخرين من مثلي ،مما يثيرالضحك فعل. ازداد إحساسي بالبرد واشتدت إرتعاشة بدني .فتحت فمي لتكلم فاصطكت أسناني .كدت من شدة إرتباكي أن أاقفل عائدا .لكنني فوجئت بخلجاتها تتغير: تعال يا طفلي المسكين!اقالت هذا وهي ترفع الغطاء عنها بملء ذراعها. كانت عارية. كررت دعوتها مرة وثانية وثالثة ،وأنا ااقف مذهول ،ل أدري ماذا أنا فاعل .كانت هذه هي المرة الولى التي أرى فيها ،عن اقرب ،جسد إمرأة كاملة العري في سريرها ..وأي إمراه! لماذا تقف هكذا..هيا ااقترب!ااقتربت مترددار مرتعدا .تحركت ومدت يدها الخرى وجذبتني إليها بلهفة ،ثم احتوتني بالغطاء .ومازالت تدلك جسمي بيديها برفق حتى بدأ الدفء يغمر أنحائي .جست جبيني و جفني ووجنتي وراقبتي بشفتيها .ندت عنها تنهيدة راحة اقبل أن تقول وهي تحتضنني: الحمد ل! ظننت أن مكروها أصابك.ثم أبعدت وجهها عني ،وأخذت تتأملني .عادت إليها بالتدريج ابتسامتها الغامضة. الحرارة تتسرب منها إلى جسدي المتلهف إلى الدفء .وأي دفء! أرهيفت السمع برهة ،ثم رمقـتني متسائلة: هل تسمع شيئا؟اقلت بعد أن أرهفت سمعي فترة أطول: ل..اقالت بابتسامة ذات معنى: 264
وأنا أيضا..ل أسمع شيئا!ثم أضافت مداعبة: ألم نتفق أن الحركتين الرابعة والخامسة ل تقلن روعة عنالحركات الثلث الولى؟ مرت لحظات ،وأنا أحاول أن أستوعب ما اقالته .أضافت براقة شديدة وهي تشير بإصبعها إلى خارج الغرفه: السيد "رودريجو" ..يتساءل من سيقلب السطوانة على وجههاالخر؟ اقبل أن تكمل نطقها للسم ،كنت اقد أدركت ما تعنيه .لكنني لم أشأ أن أتحرك اقبل أن تكمل جملتها .كنت أرى منها شفتيها فقط. لم أكن أعرف كم يمكن أن تكون الشفاه ..شهيه. شدت الغطاء عنى ،وهي ترنو إلي برجاء. كأنما كنت أخشى إن عدت إليها أن ل يكون هناك ما يبرر وجودي في سريرها بعد أن ذهبت عني اقشعريرة البرد ،واختفت مظاهر المرض التي دفعتها لتمنحني تلك العناية الفائقه. حاولت أن أاقرأ في وجهها ما يؤكد لي عكس ذلك ،أو ما يضمن لي عودتي. انتظرت أن تنطق بكلمة تبدد مخاوفي .فاجأتني بسؤالها المعهود: لماذا تنظر لي هكذا؟اقلت وأنا ااقفز من مكاني: سأاقول لك.لم أستغرق واقتا يذكر حتى انسابت الموسيقى .واقطعت مسافة العودة في اقفزات معدوده. وجدتها تحكم حول نفسها الغطاء ،وتهز رأسها هزات خفيفة ذات اليمين وذات اليسار بما يعني انها تمتنع .لكن ابتسامتها الخفيفة ،وهي ترمقني من أعلى إلى أسفل وبالعكس ،جعلتني أفهم أنها تضع شروطا لعودتي .واقفت حائرا مترددا ،محاول أن أفك رموز الرسالة التي وصلتني. 265
حاولت أن تبدد حيرتي بأن اقالت بشيء من الدلل: أظن أنه ليس من العدل.. ..وجدتني أاقف أكثر حيرة وترددا. كدت أن أسمعها تصرخ بي لأكف عن خجلي .لكنها لم تفعل .كانت نظراتها لي تنطق بذلك. ل بد إذن مما ليس منه بد .خلعت الجزء العلى من المنامة .تواقفت اقليل كأنما كنت أتواقع أن تكتفي بذلك. ثم تخلصت من اقميصي الداخلي بسرعة ،وواقفت أمامها برهة عاري الصدر .لكنها كانت تصرعلى مواقفها. درت حول السرير لتجنب نظراتها ،فأغراقت في الضحك. خلعت سراويل المنامة بسرعة واقفزت إلى السرير. كفت عن الضحك .احتوتني تحت الغطاء .كنت ألهث .احتضنت وجهي بكفيها برفق: إلتقط أنفاسك أول ،ثم أجبني عن سؤالي .أم أنك اقد نسيت؟كادت خصلة من شعرها السود أن تغطي إحدى عينيها المتسائلتين. مددت يدي لعيدها إلى مكانها .حركت كتفها ،الذي انحسرعنه الغطاء ،وضغطت به على يدي لتستبقيها في مكانها. استجمعت أفكاري وأنا أتأمل وجهها ،وسرعان ما أخذت الكلمات تتدحرج وتتعثر. في البداية ،كنت أراك ككل .أعني..أنني لم أكن أرى التفاصيل.هزت رأسها وهي ترهف السمع .ودار لسانها يبلل شفتيها. وجدت البقيه: ..شفتاك ..مثل ...هزت رأسها مرات أخرى وهي تبتسم مشجعة ،كأنما كانت تخشى أن تضيع مني ،كعادتي ،الكلمات. ..لم أكن أعرف أن الشفاه ..ممكن..أن تكون...266
وتعصاني الكلمة النجليزيه ،مع أنها من المفردات التي كنت أعرفها. ولكن سرعان ما بدر منها ما ذكرني بعجز بيت الشعرالغزلي الذي يقول"..وعضت على العرناب بالبرد" .ولم أتردد باستبدال العناب بالكرز ،لجهلي بمعنى كلمة "العناب" باللغة النجليزية ،وأكملت: في لغتنا العربية ،يتغزل شعرامؤنا بشفاه المرأة ويشبهونهابالكرز ،تلك الفاكهة الـ ...ل أعني الـ"حلوه" ..هناك كلمة أخرى تعني أنها تغري على التذوق. لذيذه؟ تقريبا ..ولكن هناك كلمة أخرى..أعني اقبل أن يكتشف المرءأنها لذيذه ..إنها الصفة التي توحي بأنها لذيذة شهيه؟ نعم ،شهيه..هذا ما أاقصده. وبعد؟ هذا ما كنت أريد أن أاقوله. ما الذي كنت تريد أن تقوله؟ ما اقلته لك. اقله مرة أخرى.ترددت اقليل .مازالت شفتاها الرطبتان ترسلن نداءهما .استجمعت شجاعتي واقلت: شفتاك شهيتان.أخذت تتأمل وجهي وكفاها ما زال يحتضنانه .مرت بإبهامها على شفتري .أصابتني اقشعريرة لذيذه .أغمضت عينري. أحسست بأنفاسها تلهب وجهي ،ثم بشفتيها وهما تغمران جفنري بالقبلت .ضربات اقلبي تتزايد سرعتها .كدت أغيب عن الوعي. سمعت همسات ،كأنها تأتيني من بعد .لم أستطع أن أدرك ما تعنيه. ماذا؟همست مرة أخرى .كرر ُ ت سؤالي: ماذا؟أبعدت وجههاعني شيئا .فتحت عينري .أعادت: 267
-
أسألك ..هل اقببل ي ك إحداهن؟ ت أو اقبلتت ي أظنني فعلت ..بعض المرات. اقبلة حقيقيه؟ طبعا! وهل هناك اقبلة حقيقية وأخرى غير حقيقيه؟
أغلقت عينيها وهي تقول ،بينما انزلق أحد كفيها ليستقرعلى ظهري: إذن ،اقبلني!اقبلت شفتيها عدة مرات .ثم اقلت: ..لكن ..لشفتيك طعم آخر.كدت أرى الرثاء يرتسم على وجهها .ثم ابتسم ت ت واقالت بما يشبه العتاب: ما هكذا يقبل الرجل امرأة تحبه ،وهي عارية في أحضانه.كانت كلماتها مبطنة بشيء من السخريه .اقررت أن أدافع عن رجولتي. لم أنجح في احتضانها بذراعير إل بعد أن رأت هي أنه ل بد من مساعدتي. وكأنما اقد أشفقي ت ت علي من ذلك المتحان الصعب .أو كأنها خشيت أن أشعرأنها اكتشفت جهلي الذي حاولت أن أداريه. بدأت يدها تعبث بشعري بحنان ،والخرى تنزلق فوق ظهري نزول وصعوديا. انفرجت شفتاها ،ثم أطبقـتا برفق على شفتي السفلى .فأحسست بمتعة في الطباق بشفتري على شفتها العليا. بدأت النشوة تتسرب إلى أنحاء جسدي من جديد ،خصوصا عندما بدأت شفتاها تعبثان بشفتري .ثم زاد إحساسي بالمتعة وأنا أشاركها ما تفعل. شعرت بطرف لسانها يلمس شفتي ،يداعبها .أصابتني اقشعريرة أمتع وألذ من تلك التي شعرت بها عندما مرت بإبهامها على شفتري اقبل لحظات .وعادت أنفاسها تلفح وجهي .وأخذت أصابعها تدلك ظهري، 268
بينما أصابع اليد الخرى تتخلل شعر مؤخرة رأسي .ندت عني تنهيدة طويله ،كأنما خارت اقواي ،فضمتني بقوة .تمنيت أن أحظى بثوان ألتقط فيها أنفاسي. كأنما أحست بي .ابتعدت برفق .أخذت ترمقني بنظرات حانيه. اقلت بصدق: هذه هي اقبلتي الولى! سعيد؟ ..ل توصف. أما أنا فقد ذكرتني بقبلتي الولى .كنت في مثل عمرك أو أاقل. وهو؟ابتسمت واقالت: ل ،كان يكبرني بثلث سنوات فقط.اقلت متسائل ببراءه: "ريك"؟أجابت بسرعة ،مستنكرة ،متداركة: "ريك"!ما هذا الهراء؟ "ريك" هو أخي..أخي..ألم تعرف ذلك؟! ثم أكملت بما يشبه الهمس ،بينما كانت عيناها تبحثان عن شيء في فضاء الغرفة ونورها الخافت: كان صديقا لـ ل "ريك" .ومات .و"ريك " ،الخ ..والصديق الوفي،يحاول أن يجد لي عزاء بدعوتي إلى الماكن التي يتنقل بينها بحكم عمله.. ثم ،كمن يطوي صفحة بدون أن يكمل اقراءتها ،ويواصل القراءة في فصل آخر ،اقالت ساءلة: ..لم تقل لي رأيك في القبلة الولى ..كيف كانت؟ابتسمت وأنا أتذكر الستاذ "عابدين" مدرس اللغة العربية الذي أخذ يلف ويدور حول الجابة على سؤالي الذي وجهته له أثناء الحصة، 269
وهوعن معنى كلمة "الورضاب" ،ووصفه بالعذوبة ،ووصف الشعراء للحبيب بأنه "عذب اللمى". ها اقد اكتشفت ذلك بنفسي ،وذاقت حلوة شهد الرضاب ،وعرفت، ب لماها. عن تجربلة ،معنى أن تكون الشفاه ..شهيه..عذ م لست على يقين إن كنت اقد وفقت في ترجمة خواطري لها. لكن الذي أذكره جيدا ،أنني لم أتردد في التعبيرعن رغبتي في مواصلة التجربة والكتشاف. وعدت أرتشف ،بنهم وبدون تواقف ،عساي أن أرتوي من عذوبة لماها ..وشهد رضابها. ثم عرفت يداي طريقهما لكتشاف معالم جسدها اللميس. وأخذت أناملي تتلمس طريقها ،كأنها تلملم اللذات المبعثرة على أديمه. وعرفت هي كيف تجعلني أتنقل بشفتي على أنحاء وجهها ،وجيدها، وكتفها.. و ................................................................................ .................................................................................. . ........................................ هكذا تعلمت من بعض من كنت أاقرأ لهم ،في ذلك الواقت ،أن أترك سطورار ل تحتوي على أكثر من نقط. فأنت ،إن لم تكن اقادرار على مواصلة السرد والوصف ،أو إن شئت الحتفاظ بتلك التفاصيل أو كتمانها ،فما عليك إل أن تترك ذلك للمخيلة وفنونها. * * * في الصباح الباكر ،أفقت من نومي فلم أجدها إلى جانبي. إكتشفت أنني أراقد تحت الغطاء ،عاريا ،بالرغم من يقيني بأني اقد احتفظت بآخر اقطعة من ملبسي الداخليه. لن أفكر بالتفاصيل الن .سوف أعود لستذكار تلك التفاصيل آج ر ل، وسوف يكون أمامي من الواقت ما يكفي لذلك .المهم أن الواقت هو واقت صحوي للذهاب إلى المدرسه. 270
سمعت صوت تنقلتها خارج الغرفه .واقبل أن أنتهي إلى اقراري بتجميع اقطع ملبسي من هنا وهناك ،بعد أن تمكنت من تحديد أماكنها ،كانت سيدتي الجميلة تدخل الغرفة وهي تدفع أمامها عربة عليها ما أعرفه وما ل أعرفه من الطيبات. *
*
*
كان "حسين" في انتظاري عند أول منعطف للطريق .فمه ينفرج عن السن الماميه المفقوده ،وهو يسأل بإلحاح عن سبب تأخري. لم يتمالك نفسه من إتهامي بـ"الفشر" ،وأنا لم أبدأ بعد برواية ما يستدعي ،بحق ،التهام بهذه التهمه .تظاهرت بالغضب ،واقاطعته طوال اليوم .لكنه في النهاية لم يحتمل مقاطعتي له .اقبلت اعتذاره بشرط أن يأتيني في المساء ليدعوني لستكمال المذاكرة سويا في بيتهم لليلة الثانيه )!( اقبل هو شروطي بعد أن وعدته بأن أاقص عليه ما جرى في الزيارتين الخيرتين للسيدة الجميله ،حسب طلبه ،بالتفصيل المفصل. ليس هناك أي أهمية لما جرى أو ما دار من الحديث بيني وبين "حسين" منذ أن وصلنا إلى دارنا حتى مغادرتنا لها سويا ،اقبيل الغروب. عند مفترق طريقنا اليومي ،انتظرت حتى اختفى "حسين" في المنعطف المؤدي إلى دارهم. وعندما شارفت على الوصول ،كانت الشمس اقد مالت إلى الغروب. وأول ما جذب انتباهي هو الظلم الذي يكتنف البيت .فقد سبق أن لحظت أنها تضيء النوار بمجرد جنوح الشمس للمغيب. ل بأس ،فكثيرا ما كنا نتعرض لنقطاع التيار الكهربائي في تلك المنطقه ،لبعض الواقت. تراءى لي ،عن بعد ،شخص يجلس على الدرجات المؤدية إلى المدخل .وعندما وصلت إلى مدخل الحديقة ،نهض الرجل وااقترب مني على عجل .و بادرني البستاني العجوز ،وهو يناولني مظروفا: مساء النور يا ولدي .هل هذه الرسالة لك؟271
استطعت أن أتبين ،على بقايا نور الشفق ،إسمي مكتوبا باللغة النجليزية .لم أكد أجيبه باليجاب حتى تركني وهو يستمهلني راجيا أن أنتظره. عاد الرجل وفي يده شيء سرعان ما عرفته.. أسطوانة "كونشيرتو أرانخيز". أضاف ببساطة أن "الضابط" حضر مستعجل ،وأن السيدة اقد سافرت معه ..وتركت لي هذا الغرض. في دار صديقي "حسين" ،اقرأنا في الرسالة ما يلي: " أتمنى لك أن تحقق كل أحلمك .وداعا!" كارولين !May all your Dreams come true . Adieus Caroline
Gaza , 24.2.1951
WORD 2003
272