حراس الشريعة - العدد الثاني - لتبيننه للناس

Page 1


‫ﭘﭙ ﭚﭛ‬

‫بقلم‬

‫محمد عبد الواحد‬ ‫األزهري الحنبلي‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ﭑ ﭒﭓﭔ‬ ‫احلمد هلل وحده‪ ،‬والصالة والسالم على من ال نيب بعده‪ ،‬وعلى‬ ‫آله وصحبه‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫فإن من األمور املستقرة يف شريعة اهلل جل وعال أن اهلل سبحانه‬ ‫أخذ امليثاق على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس وأن ال يكتموه‬ ‫وأن ال يلبسوا الحق بالباطل‪ ،‬وأحال اهلل تعاىل العامة على أهل‬ ‫العلم ليسألوهم عن شرع اهلل‪ ،‬فقال‪ :‬ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬ ‫ﭟ ﭠﮊ [النحل‪]٣٤ :‬‬

‫فجعل العلماء هم الواسطة بني اهلل وخلقه‬

‫يف البيان والتبليغ‪.‬‬ ‫فكما أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم هو الواسطة بني اهلل وخلقه‬ ‫يف البيان والتبليغ والتعريف باهلل ومبراده وحمابه ومراضيه ومساخطه‪،‬‬ ‫ولذلك أمره اهلل بالبيان التام فقال‪ :‬ﮋ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬ ‫ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ‬ ‫ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮊ[املائدة‪]٧٦ :‬‬

‫=فكذلك‬

‫ورثته من أهل العلم جيب أن يبينوا بيانا واضحا شافيا ال لبس فيه وال‬ ‫‪2‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫كتمان وال غموض؛ إذ لو كتم هؤالء أو أبهموا =مل يكن سبيل‬ ‫لعموم املكلفني أن يتبينوا مراد اهلل ورسوله يف معظم التكاليف‪.‬‬ ‫وهلذا اال اهلل سبحانه‪ :‬ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬ ‫ﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ‬ ‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﮊ [آل عمران‪]٧٨٦ :‬‬

‫وكان احلسن يفسر اوله تعاىل‪ :‬ﮋﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ‬ ‫فيقول‪" :‬لتتكلمن باحلق‪ ،‬ولتصدِّانه بالعمل"‪.‬‬ ‫واال تعاىل‪ :‬ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬ ‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬ ‫ﯕ ﮊ [البقرة‪]٧٥١ :‬‬

‫اال ابن جرير رمحه اهلل‪" :‬يعين تعاىل ذكره‬

‫بقوله‪ :‬ﮋﮰ ﮱ ﯓﮊ هؤالء الذين يكتمون ما أنزله اهلل من‬ ‫أمر حممد صلى اهلل عليه وسلم وصفته وأمر دينه أنه احلق ‪-‬من بعد‬ ‫ما بيَّنه اهلل هلم يف كتبهم‪ -‬يلعنهم بكتماهنم ذلك‪ ،‬وتركهم تبيينه‬ ‫للناس"‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫فالواجب على أهل العلم البالغ املبني‪ ،‬وكل كالم مجمل ال بيان‬ ‫فيه =فهو من الكتمان المحرم املتوعد عليه بالعذاب واللعنة؛ اال‬ ‫تعاىل‪ :‬ﮋﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬ ‫ﮙﮊ[البقرة‪]٣٤ :‬‬

‫اال ابن جرير رمحه اهلل‪" :‬يعين بقوله‪ :‬ﮋﮒ‬

‫ﮓﮊ ال ختلطوا‪ ،‬واللَّْبس هو‪ :‬اخللط‪ ،‬يقال منه‪ :‬لبست عليه‬ ‫هذا األمر ألبسه لبسا‪ :‬إذا خلطته عليه"‪.‬‬ ‫وإن خاصة أهل السنة بيان الحق بالعبارات الواضحة التي ال‬ ‫لبس فيها وال غموض وال اشتراك يوقع السامع في االلتباس‬ ‫والخلط‪ ،‬وخاصة أهل البدع استعمال األلفاظ المشتركة‬ ‫والمجملة والغامضة ليزينوا بها بدعتهم وليَلبسوا على العامة‬ ‫دينهم‪.‬‬ ‫اال اإلمام أمحد رمحه اهلل يف وصف أهل احلق وأهل البدع‬ ‫واألهواء‪" :‬احلمد هلل الذي جعل يف كل زمان فرتة من الرسل بقايا‬ ‫من أهل العلم؛ يدعون من ضل إىل اهلدى‪ ،‬ويصربون منهم على‬ ‫ويبصرون بنور اهلل أهل العمى؛‬ ‫األذى‪ ،‬حييون بكتاب اهلل املوتى‪ِّ ،‬‬ ‫فكم من اتيل إلبليس اد أحيوه‪ ،‬وكم من ضال تائه اد هدوه‪ ،‬فما‬ ‫‪4‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫أحسن أثرهم على الناس‪ ،‬وما أابح أثر الناس عليهم‪ ،‬ينفون عن‬ ‫كتاب اهلل حتريف الغالني‪ ،‬وانتحال املبطلني‪ ،‬وتأويل اجلاهلني الذين‬ ‫عقدوا ألوية البدعة‪ ،‬وأطلقوا عنان الفتنة‪ ،‬فهم خمالفون للكتاب‬ ‫خمتلفون يف الكتاب جمتمعون على مفاراة الكتاب‪ ،‬يقولون على اهلل‬ ‫ويف اهلل ويف كتاب اهلل بغري علم‪ ،‬يتكلمون بالمتشابه من الكالم‪،‬‬ ‫ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم‪ ،‬فنعوذ باهلل من فنت‬ ‫املضلني"‪.‬‬ ‫ف َّبني رمحه اهلل أن أهل البدع واألهواء يتكلمون باملتشابه من‬ ‫الكالم وخيدعون جهال الناس مبا يشبهون عليهم‪.‬‬ ‫وهذا الكالم املتشابه الذي خيدعون به جهال الناس هو الذي‬ ‫يتضمن األلفاظ املتشاهبة اجململة اليت يعارضون هبا نصوص الكتاب‬ ‫والسنة‪ ،‬وتلك األلفاظ تكون موجودة مستعملة يف الكتاب والسنة‬ ‫وكالم الناس لكن مبعان أخر غري املعاين اليت اصدوها هم هبا‪،‬‬ ‫فيقصدون هم هبا معاين أخر فيحصل االشتباه واإلمجال!‬ ‫ومن األصول الكلية أن يعلم أن األلفاظ نوعان‪:‬‬ ‫‪5‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫‪ /1‬نوع جاء به الكتاب والسنة؛ فيجب على كل مؤمن أن يقر‬ ‫مبوجب ذلك‪ ،‬فيثبت ما أثبته اهلل ورسوله وينفي ما نفاه اهلل ورسوله‪،‬‬ ‫فاللفظ الذي أثبته اهلل ورسوله أو نفاه اهلل ورسوله =حق؛ فإن اهلل‬ ‫يقول احلق وهو يهدي السبيل‪.‬‬ ‫ومن متام العلم أن يبحث عن مراد رسوله هبا ليثبت ما أثبته وينفي‬ ‫ما نفاه من املعاين‪.‬‬ ‫‪ /2‬والنوع الثاين‪ :‬األلفاظ اليت ليست يف الكتاب والسنة وال اتفق‬ ‫السلف على نفيها أو إثباهتا؛ فهذه ليس على أحد أن يوافق من‬ ‫نفاها أو أثبتها حىت يستفسر عن مراده؛ فإن أراد هبا معىن يوافق خرب‬ ‫الشارع احلكيم =أار هبذا املعىن‪ ،‬وإن أراد هبا معىن خيالف ذلك‬ ‫=أنكره‪.‬‬ ‫ويبقى بعد ذلك النظر يف التعبري عن املعاين الصحيحة املرادة‬ ‫بتلك األلفاظ؛ فإن كان في هذه األلفاظ اشتباه أو إجمال‬ ‫=فالواجب أن يعبر بغيرها‪ ،‬أو ي َّبني املراد الصحيح هبا‪ ،‬حبيث‬ ‫حيصل تعريف احلق بالوجه الشرعي؛ ألن استعمال اجملمالت‬ ‫واملبهمات يف هذا املقام من أسباب واوع الفراة واالختالف بني‬ ‫األمة‪ ،‬وهو مما هنينا عنه؛ فإن كثريا من نزاع الناس سببه ألفاظ جمملة‬ ‫‪6‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫مبتدعة ومعان مشتبهة؛ حىت جتد الرجلني يتخاصمان ويتعاديان على‬ ‫إطالق ألفاظ ونفيها‪ ،‬ولو سئل كل منهما عن معىن ما االه مل‬ ‫يتصوره فضال عن أن يعرف دليله‪ ،‬ومع ذلك فال يلزم أن من خالفه‬ ‫يكون خمطئا؛ بل اد يكون يف اوله نوع من الصواب‪ ،‬واد يكون هذا‬ ‫مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه‪ ،‬واد يكون الصواب يف اول‬ ‫ثالث‪.‬‬ ‫وقد قيل‪ :‬أكثر اختالف العقالء من جهة اشتراك األسماء!‬ ‫وكثريا ما ختفى آثار الرسالة يف بعض األمكنة واألزمنة حىت ال‬ ‫يعرف ما جاء به الرسول صلى اهلل عليه وسلم؛ إما لفظا وإما معىن‪،‬‬ ‫فحينئذ يصري من جهل ذلك يف نوع جاهلية بسبب عدم نور النبوة‪،‬‬ ‫ومن ههنا يقع الشرك وتقع البدع ويتفرق الدين شيعا؛ فالفنت القولية‬ ‫والعملية هي من اجلاهلية بسبب خفاء نور النبوة؛ كما اال اإلمام‬ ‫مالك‪" :‬إذا ا َّل العلم ظهر اجلفاء‪ ،‬وإذا الت اآلثار ظهرت األهواء"‪.‬‬ ‫وهلذا شبهت الفنت بقطع الليل املظلم‪.‬‬

‫فالواجب إذا أن تفسر األلفاظ اجململة باأللفاظ املفسرة املبينة‪،‬‬ ‫وكل لفظ حيتمل حقا وباطال فال يطلق إال مبينا به املراد احلق دون‬ ‫الباطل‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫وإن من الباليا العظيمة في هذا الزمان أن يتكلم بعض أهل‬ ‫العلم في خطاب العامة بكالم مجمل يستعمله السياسيون‬ ‫معاني فيها مضادة للشرع ومحادة‬ ‫كثيرا‬ ‫والمبطلون ويريدون به ً‬ ‫َ‬ ‫هلل ورسوله‪ ،‬ثم يقع بعض المتشرعة في استعمال هذه األلفاظ‬ ‫وهم يريدون بها المعاني الصحيحة التي تحتملها‪ ،‬فيبقى العامة‬ ‫في اختالط والتباس‪ ،‬وتبقى مرادات اهلل ورسوله غير واضحة‪،‬‬ ‫وتبقى هذه األلفاظ تكئة للمبطلين أن يستعملوها في معانيها‬ ‫الباطلة ليضلوا الناس بغير علم‪.‬‬ ‫اال ابن القيم‪" :‬إن هؤالء املعارضني للكتاب والسنة إمنا يبنون‬ ‫أمرهم يف ذلك على أاوال مشتبهة حمتملة حتتمل معاين متعددة‪،‬‬ ‫ويكون ما فيها من االشتباه يف املعىن واإلمجال يف اللفظ يوجب‬ ‫تناوهلا حبق وباطل؛ فبما فيها من احلق يقبل من مل حيط هبا علما ما‬ ‫فيها من الباطل؛ ألجل االشتباه وااللتباس‪ ،‬مث يعارضون مبا فيها من‬ ‫الباطل نصوص األنبياء‪ ،‬وهذا منشأ ضالل من ضل من األمم ابلنا‪،‬‬ ‫وهو منشأ البدع كلها؛ فإن البدعة لو كانت باطال حمضا ملا ابلت‪،‬‬ ‫ولبادر كل أحد إىل ردها وإنكارها‪ ،‬ولو كانت حقا حمضا مل تكن‬ ‫بدعة وكانت موافقة للسنة‪ ،‬ولكنها تشتمل على حق وباطل ويلتبس‬ ‫‪8‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫فيها احلق بالباطل كما اال تعاىل‪ :‬ﮋﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬ ‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮊ؛ فنهى عن لبس احلق بالباطل‬ ‫وكتمانه‪ ،‬ولبسه به‪ :‬خلطه به‪ ،‬حىت يلتبس أحدمها باآلخر‪ .‬ومنه‬ ‫التلبيس وهو‪ :‬التدليس والغش الذي يكون باطنه خالف ظاهره؛‬ ‫فكذلك احلق إذا لبس بالباطل يكون فاعله اد أظهر الباطل يف‬ ‫صورة احلق وتكلم بلفظ له معنيان؛ معىن صحيح ومعىن باطل‪،‬‬ ‫فيتوهم السامع أنه أراد املعىن الصحيح‪ ،‬ومراده الباطل‪ ،‬فهذا من‬ ‫اإلمجال يف اللفظ‪ .‬وأما االشتباه يف املعىن؛ فيكون له وجهان‪ ،‬هو‬ ‫حق من أحدمها وباطل من اآلخر‪ ،‬فيوهم إرادة الوجه الصحيح‪،‬‬ ‫ويكون مراده الباطل؛ فأصل ضالل بين آدم من األلفاظ اجململة‬ ‫واملعاين املشتبهة‪ ،‬وال سيما إذا صادفت أذهانا خمبطة‪ ،‬فكيف إذا‬ ‫انضاف إىل ذلك هوى وتعصب؟! فسل مثبت القلوب أن يثبت‬ ‫البك على دينه وأن ال يواعك يف هذه الظلمات"‪.‬‬

‫[الصواعق املرسلة‬

‫(‪])١٤٧/٤‬‬

‫ومن بديع كالم أهل العلم يف ذلك ما االه ابن القيم أيضا‪" :‬إن‬ ‫هؤالء يف معارضتهم للوحي سلكوا طريقا سحروا هبا عقول ضعفاء‬ ‫الناس وبصائرهم‪ ،‬فشبهت عليهم وخيل إليهم أهنا حق‪ ،‬فأصاهبم يف‬ ‫‪9‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ذلك مثل ما أصاب السحرة حني عارضوا عصى موسى مبا خيل إىل‬ ‫أبصار الناظرين أنه حق؛ فإن هؤالء عمدوا إىل ألفاظ جمملة حتتها‬ ‫معان مشتبهة حتتمل يف لغات األمم معاين متعددة‪ ،‬وأدخلوا فيها من‬ ‫املعاين غري املفهوم منها يف لغات األمم‪ ،‬مث ركبوها وألفوها تأليفا‬ ‫طويال بنوا بعضه على بعض‪ ،‬ففكروا فيه وادروا وأطالوا التفكري‬ ‫وهولوه يف نفوس من مل يفهمه‪ ،‬وال ريب‬ ‫والتقدير‪ ،‬مث عظَّموا اوهلم َّ‬ ‫أن فيه داة وغموضا ملا فيه من األلفاظ اجململة واملعاين املشتبهة‪ ،‬فإذا‬ ‫دخل معهم الطالب وسع منهم ما تنفر عنه فطرته فأخذ يعرتض‬ ‫عليهم =االوا له‪ :‬أنت ال تفهم هذا‪ ،‬وهذا ال يصلح لك‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫اد صقلته األذهان على تطاول األزمان‪ ،‬وتلقته العقول بالقبول‬ ‫والتسليم‪ ،‬وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم؛ فيبقى ما يف النفوس‬ ‫من احلمية واألنفة حيملها على تسليم تلك األمور ابل حتقيقها‪،‬‬ ‫وعلى ترك االعرتاض عليها خشية أن ينسبوه إىل نقص العلم والعقل‪،‬‬ ‫فيأخذها مسلَّمة‪ ،‬فإذا جاءت لوازمها مل جيد بدا من التزامها‪ ،‬ويرى‬ ‫أن التزام تلك اللوازم أهون عليه من القدح يف تلك القواعد‬ ‫وإبطاهلا؛ فهذا أصل ضالل من ضل من أهل النظر والبحث يف‬ ‫املعقوالت‪ ،‬وأما األعمى املقلد فليس معه أكثر من‪ :‬هكذا اال‬ ‫العقالء!"‪.‬‬

‫[الصواعق املرسلة (‪])١١٥/٤‬‬ ‫‪01‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫"فمن طلب األمور العلية ‪-‬كما اال ابن تيمية‪ -‬من غري الطرق‬ ‫النبوية =اادته اسرا إىل املناهج الفلسفية‪ ،‬ومن طلب أمرا عاليا من‬ ‫غري طريقه مل حيصل إال على ضده‪ .‬فالواجب على من يريد كشف‬ ‫ضالل هؤالء وأمثاهلم أن ال يوافق على لفظ جممل حىت يتبني معناه‬ ‫ويعرف مقصوده‪ ،‬فيكون الكالم يف معىن معقول يتوارد النفي‬ ‫واإلثبات فيه على حمل واحد‪ ،‬ال يف لفظ جممل مشتبه املعىن‪ ،‬وهذا‬ ‫نافع يف الشرع والعقل والدين والدنيا"‪.‬‬

‫[الصواعق املرسلة (‪])١١٧/٤‬‬

‫وهو باب عظيم اخلطر إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب‪،‬‬ ‫وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف‪.‬‬ ‫وحينئذ فاملتعني على أهل العلم أن جيعلوا ما أنزله اهلل من الكتاب‬ ‫واحلكمة أصال يف مجيع هذه األمور‪ ،‬مث ي ردوا ما تكلم فيه الناس إىل‬ ‫ذلك‪ ،‬ويبينوا ما يف األلفاظ اجململة من املعاين املوافقة للكتاب والسنة‬ ‫فتقبل‪ ،‬وما فيها من املعاين املخالفة للكتاب والسنة فرتد‪.‬‬ ‫وأما األلفاظ المجملة فالكالم فيها بالنفى واإلثبات دون‬ ‫االستفصال =يوقع في الجهل والضالل والفتن والخبال والقيل؛‬ ‫ألن يف استعمال العبارات اجململة املتشاهبة املشتملة علي حق وباطل‬ ‫=إثبات حق وباطل‪ ،‬ويف نفيها نفي حق وباطل‪ ،‬ولذلك ينع من‬ ‫كال اإلطالاني؛ خبالف النصوص اإلهلية؛ فإهنا فراان فرق اهلل هبا بني‬ ‫‪00‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫احلق والباطل؛ وهلذا كان سلف األمة وأئمتها جيعلون كالم اهلل‬ ‫ورسوله هو اإلمام والفراان الذي جيب اتباعه‪ ،‬فيثبتون ما أثبته اهلل‬ ‫ورسوله وينفون ما نفاه اهلل ورسوله‪ ،‬وينعون من إطالق العبارات‬ ‫احملدثة اجململة املتشاهبة نفيا وإثباتا‪ ،‬وال يطلقون اللفظ وال ينفونه إال‬ ‫بعد االستفسار والتفصيل؛ فإذا تبني املعين أثبت حقه ونفي باطله‪،‬‬ ‫خبالف كالم اهلل ورسوله فإنه حق جيب ابوله وإن مل يفهم معناه‪،‬‬ ‫وكالم غري املعصوم ال جيب ابوله حىت يفهم معناه‪.‬‬ ‫وانظر ‪-‬رحمك اهلل‪ -‬إلى تلك العبارات المجملة الموهمة‬ ‫تأثرا بجو‬ ‫التي صار كثير من أهل العلم يعبرون بها في بالدنا ً‬ ‫الثورات ومطالبات الطوائف المنحرفة من العلمانيين والليبراليين‬ ‫وأشباههم‪ ،‬واستثارة لعواطف العامة؛ من مثل‪ :‬الحريات‪،‬‬ ‫والمواطنة‪ ،‬والمساواة‪ ،‬وحق التظاهر واالعتصام‪ ،‬وحق التعبير‪،‬‬ ‫وحق المعارضة‪ ،‬وأشباه هذه العبارات المجملة المتشابهة التي‬ ‫نجزم أن مراد أعداء الدين بها مضاد لشريعة اهلل‪ ،‬ومع ذلك يقع‬ ‫كثير من الدعاة والمتشرعة في استعمالها من غير نص صريح‬ ‫على المراد الصحيح منها‪ ،‬حتى استقر في نفوس كثير من العامة‬ ‫صحة استعمالها‪ ،‬ورأوا ذلك مواف ًقا للشرع‪ ،‬ولو استمر الوضع‬ ‫‪02‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫كذلك=فسينشأ الناشئ بعد ذلك على إلف هذه األلفاظ‬ ‫بمعانيها الشائعة ويراها هي الحق الذي ترد به النصوص الشرعية‬ ‫والقواعد المرعية ويتهم دعاة الحق –إن خالفوا تلك األهواء‪-‬‬ ‫بالتخلف والرجعية!‬ ‫اال ابن تيمية‪" :‬واد تقدم التنبيه على منشأ الضالل يف هذا‬ ‫السؤال وأمثاله‪ ،‬وما يف ذلك من العبارات املتشاهبات اجملمالت‬ ‫املبتدعات سواء كان احملدث هو اللفظ وداللته‪ ،‬أو كان احملدث هو‬ ‫استعمال ذلك اللفظ يف ذلك املعين ‪ ...‬وأنه إذا منع إطالق هذه‬ ‫اجملمالت احملدثات يف النفي واإلثبات وواع االستفسار والتفصيل‬ ‫=تبني سواء السبيل‪ .‬وبذلك يتبني أن الشارع عليه الصالة والسالم‬ ‫نص على كل ما يعصم من املهالك نصا ااطعا للعذر‪ ،‬واال تعاىل‪:‬‬ ‫ﮋﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬ ‫ﮚ ﮛ ﮜﮊ واال تعاىل‪ :‬ﮋﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬ ‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮊ واال تعاىل‪:‬‬ ‫ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ ﮋﭥ ﭦ‬ ‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ واال‪ :‬ﮋﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬ ‫ﭤ ﭥﮊ واال تعاىل‪ :‬ﮋﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫‪03‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ‬ ‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﮊ واال تعاىل‪ :‬ﮋﭽ‬ ‫ﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅ‬ ‫ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ‬ ‫ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ‬ ‫ﮖﮗ ﮊ‬ ‫واال أبو ذر رضي اهلل عنه‪" :‬لقد تويف رسول اهلل صلي اهلل عليه‬ ‫وسلم وما طائر يقلب جناحيه يف السماء إال ذكر لنا منه علما"‪.‬‬ ‫واال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ال‬ ‫يزيغ عنها بعدي إال هالك"‪ .‬واال‪" :‬ما بعث اهلل من نبي إال كان‬ ‫خيرا لهم‪ ،‬وينهاهم عن‬ ‫حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه ً‬ ‫شر ما يعلمه شرا لهم"‪.‬‬

‫وهذه اجلملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع واالستقراء‬ ‫والطلب لعلم هذه املسائل يف الكتاب والسنة؛ فمن طلب ذلك وجد‬ ‫يف الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر يف هذه املسائل ما‬ ‫فيه غاية اهلدى والبيان والشفاء‪.‬‬ ‫‪04‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫وذلك يكون بشيئني‪ :‬أحدمها‪ :‬معرفة معاين الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫والثاين‪ :‬معرفة معاين األلفاظ اليت ينطق هبا هؤالء املختلفون‪ ،‬حىت‬ ‫حيسن أن يطبق بني معاين التنزيل ومعاين أهل اخلوض يف أصول‬ ‫الدين فحينئذ يتبني له أن الكتاب حاكم بني الناس فيما اختلفوا‬ ‫فيه"‪.‬‬

‫[درء التعارض (‪])٤٦/٧‬‬

‫"وهلذا جيب على من يريد كشف ضالل هؤالء وأمثاهلم‪ :‬أن‬ ‫يوافقهم على لفظ جممل حىت يتبني معناه ويعرف مقصوده ويكون‬ ‫الكالم يف املعاين العقلية املبينة ال يف معان مشتبهة بألفاظ‬ ‫جمملة‪...‬فعلينا أن نؤمن مبا االه اهلل ورسوله‪ ،‬فكل ما ثبت أن الرسول‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم االه فعلينا أن نصدق به وإن مل نفهم معناه؛‬ ‫ألنا اد علمنا أنه الصادق املصدوق الذي ال يقول على اهلل إال‬ ‫احلق‪ .‬وما تنازع فيه الناس من األلفاظ اجململة فليس على أحد أن‬ ‫يقبل مسمى اسم من هذه األساء ال يف النفي وال يف اإلثبات حىت‬ ‫يتبني له معناه‪ ،‬فإن كان املتكلم بذلك أراد معىن صحيحا موافقا‬ ‫لقول املعصوم =كان ما أراده حقا‪ ،‬وإن كان أراد به معىن خمالفا‬ ‫لقول املعصوم =كان ما أراده باطال‪ .‬ويبقى النظر يف إطالق ذلك‬ ‫اللفظ ونفيه وهي مسألة مهمة‪ ،‬فقد يكون المعنى صحي ًحا ويمنع‬

‫مشروعا‬ ‫من إطالق اللفظ لما فيه من مفسدة‪ ،‬وقد يكون اللفظ‬ ‫ً‬ ‫‪05‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل؛ كما اال علي رضي اهلل‬ ‫عنه ملن اال من اخلوارج املاراني‪" :‬ال حكم إال هلل"‪ :‬هذه كلمة حق‬ ‫أريد هبا باطل"!‬

‫[درء التعارض (‪])٤١٧/٧‬‬

‫وأما إطالق األلفاظ غري واضحة املعاين يف مقام التبليغ والبيان‬ ‫فهو حال أهل البدع؛ كما سبق‪.‬‬ ‫اال ابن تيمية يف بيان حال الفراة الناجية‪" :‬فال ينصبون مقالة‬ ‫وجيعلوهنا من أصول دينهم ومجل كالمهم إن مل تكن ثابتة فيما جاء‬ ‫به الرسول؛ بل جيعلون ما بعث به الرسول من الكتاب واحلكمة هو‬ ‫األصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه‪ ،‬وما تنازع فيه الناس من مسائل‬ ‫‪ ...‬يردونه إىل اهلل ورسوله‪ ،‬ويفسرون األلفاظ اجململة اليت تنازع فيها‬ ‫أهل التفرق واالختالف؛ فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة‬ ‫أثبتوه؛ وما كان منها خمالفا للكتاب والسنة أبطلوه‪ ،‬وال يتبعون الظن‬ ‫وما هتوى األنفس؛ فإن اتباع الظن جهل‪ ،‬واتباع هوى النفس بغري‬ ‫هدى من اهلل ظلم‪ .‬ومجاع الشر‪ :‬اجلهل والظلم"‪.‬‬ ‫ولقد راجت اصطالحات كثيرة بين الناس اليوم‪ ،‬وأريد للشريعة‬ ‫أن تحمل على َوفقها‪ ،‬بل أن تجعل معانيها هي مقاصد الشريعة‪،‬‬ ‫ولما استعمل المتشرعة تلك االصطالحات واأللفاظ المجملة‬ ‫‪06‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫كثيرا من أتباعهم المخلصين‪ ،‬وفوق‬ ‫تفرق الناس؛ فخسروا هم ً‬ ‫ذلك ‪-‬وألنهم لم يحسنوا مجاراة المبطلين وتأثروا بكثير من‬ ‫كثيرا من العامة‪ ،‬وكان‬ ‫الباطل ووقعوا في تناقضات‪ -‬خسروا ً‬ ‫بعض المتشرعة يقولون‪ :‬ال نريد أن نفرق الناس لو استعملنا‬ ‫المصطلحات الشرعية المحضة في واقع غير مهيأ لذلك‪ ،‬فوقعوا‬ ‫في عين ما هربوا منه‪ ،‬ولكن وقعت تلك الفرقة على غير نور‬ ‫وبصيرة وهدى من اهلل‪ ،‬وفي كل مرة وكل جولة تتفتت الوحدة‬ ‫وتتشرذم األمة وي ّدعى مع ذلك الحفاظ على الثوابت والسعي‬ ‫عامل كثير من المعارضين لهؤالء المتشرعة‬ ‫إلى إعادة الهوية! ثم ي َ‬ ‫على أنهم معارضون للشريعة‪ ،‬مع أن الدعوة لم تكن للشريعة‬ ‫المحضة‪ ،‬بل هي ألمور مختلطة وألفاظ محدثة ملتبسة ال يصلح‬ ‫أن تكون معقد والء وبراء‪ ،‬وال سبب تفريق بين الناس‪،‬‬ ‫والمؤسف أن تدغدغ عواطف العامة من المتدينين بأمور ال‬ ‫تحققها تلك الدعاوى‪ ،‬ونظل في حالة استقطاب وتفريق أدت‬ ‫بنا إلى ما نعيشه اليوم من صراع وفرقة وتربص بالتيار اإلسالمي‬ ‫وسوء ظن به وتكذيب له‪.‬‬ ‫‪07‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫اال ابن تيمية‪" :‬وليس ألحد أن يتحن الناس بلفظ جممل ابتدعه‬ ‫هو من غري بيان ملعناه"‪.‬‬

‫[الفتاوي الكربى (‪])٤٣٧/٧‬‬

‫وكذلك تفريق الناس بأساء أحزاب وطوائف ووالءات على غري‬ ‫املتربأ من فاعله‪.‬‬ ‫اإلسالم والسنة =من التفريق املنهي عنه َّ‬

‫اال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬واهلل تعاىل اد سانا يف القرآن‬

‫املسلمني املؤمنني عباد اهلل‪ ،‬فال نعدل عن األساء اليت سانا اهلل هبا‬ ‫إىل أساء أحدثها اوم وسوها هم وآباؤهم ما أنزل اهلل هبا من‬ ‫سلطان؛ بل األساء اليت اد يسوغ التسمي هبا مثل انتساب الناس‬ ‫إىل إمام كاحلنفي واملالكي والشافعي واحلنبلي‪ ،‬أو إىل شيخ كالقادري‬ ‫والعدوي وحنوهم‪ ،‬أو مثل االنتساب إىل القبائل كالقيسي واليماين‪،‬‬ ‫وإىل األمصار كالشامي والعرااي واملصري =فال جيوز ألحد أن يتحن‬ ‫الناس هبا‪ ،‬وال يوايل هبذه األساء وال يعادي عليها؛ بل أكرم اخللق‬ ‫عند اهلل أتقاهم من أي طائفة كان"‪.‬‬

‫[جمموع الفتاوي (‪])٣٧٥/٤‬‬

‫إن الواجب على الدعاة واملصلحني أن يسلكوا مسلك رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يف دعوة الناس ويف مجعهم‪ ،‬فرسول اهلل صلى‬ ‫اهلل عليه وسلم قد أعلن حقيقة دعوته للناس من أول يوم‪،‬‬ ‫وهكذا أنبياء اهلل ورسله‪ ،‬من الدعوة إلى توحيد اهلل واتباع رسوله‬ ‫‪08‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫والبراءة من الشرك وأهله‪ ،‬ولم يقل أحد منهم للناس‪ :‬إننا جئنا‬ ‫بإصالح األوضاع االجتماعية وال بنهضة وال بتحقيق رفاه‪ ،‬وذلك‬ ‫وإن كان قد يتحقق =فليس هو مما يقصد باألصالة بل بعضه ال‬ ‫يقصد حتى بالتبَع‪ ،‬فجذب العامة إلى الشريعة بما لم تأت‬ ‫الشريعة لتحقيقه وال يملك المتشرعة مفاتحه =ضرب من اللبس‬ ‫وحملته‪ ،‬والتكذيب‬ ‫والخيانة وإيقاع الناس في سوء الظن بالشرع َ‬ ‫بوعد اهلل تعالى لعباده المؤمنين بنصرتهم وعزتهم‪.‬‬

‫وإن من املؤسف أن كثريا من املعاين الفاسدة واأللفاظ املتشاهبة‬ ‫كان أهل العلم والدعاة ينبهون عليها من ابل يف ظل األنظمة‬ ‫الفاسدة السابقة رغم ما كانوا يعانونه من ظلم واضطهاد وفتنة ضراء‪،‬‬ ‫مث اليوم صاروا يستعملون هذه األلفاظ‪َّ ،‬‬ ‫وخفت حدة إنكارهم على‬ ‫كثري من معانيها‪ ،‬ويف ذلك فتنة للعامة وملن كانوا يناوؤوهنم على حد‬ ‫سواء!‬ ‫إن وظيفة العامل هي البيان الواضح والبالغ املبني‪ ،‬وليس التسويغ‬ ‫والتماس احليل واالحتماالت البعيدة لتمرير ما تريده سلطة كائنة ما‬ ‫كانت‪.‬‬ ‫‪09‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫واد يبقى للساسة بعض العذر يف استعمال بعض هذه‬ ‫املصطلحات احملتملة إن ااتضت الضرورة الشرعية ذلك‪ ،‬ولكن بيان‬ ‫أهل العلم ال عالاة له هبذه الضرورة‪ ،‬وال يرفع الواجب عنهم إنكار‬ ‫خفي ال يسمع‪ ،‬أو بيان ليس إال ركزا‪.‬‬ ‫"لقد بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأخصب بالد العرب‬ ‫وأغناها ليست يف يد العرب‪ ،‬إمنا هي يف أيدي الفرس والروم‪ ،‬فبالد‬ ‫الشام كلها يف الشمال خاضعة حلضارة الروم وحكمها‪ ،‬وبالد اليمن‬ ‫كلها يف اجلنوب خاضعة حلضارة الفرس وحكمها‪ ،‬وليس يف أيدي‬ ‫العرب إال احلجاز وجند وما إليهما من الصحاري القاحلة اليت تتناثر‬ ‫فيها الواحات اخلصبة هنا وهناك!‬ ‫واد كان يكن للنيب صلى اهلل عليه وسلم أن يثريها اومية عربية‬ ‫تستهدف جتميع ابائل العرب اليت أكلتها الثارات ومزاتها النزاعات‪،‬‬ ‫فيوجه دعوته وجهة اومية الستخالص أرض العرب املغتصبة من‬ ‫اإلمرباطوريات األخرى وإعالء راية العروبة‪ ،‬ورمبا لو دعا إىل ذلك‬ ‫كانت ستستجيب له معظم ابائل العرب‪ ،‬بدال من أن يعاين ثالثة‬ ‫عشر عاما يف اجتاه معارض ألهواء أصحاب السلطان يف اجلزيرة حىت‬ ‫إذا استجابت له العرب وولته فيها القيادة والسيادة وحاربت حتت‬ ‫لوائه ودانت له بالسمع والطاعة =استخدم ذلك كله يف إارار عقيدة‬ ‫‪21‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫التوحيد اليت بعث هبا لتعبيد الناس لسلطان رهبم بعد حقق هلم‬ ‫مآرهبم الدنيوية‪.‬‬ ‫ولكن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يفعل ذلك‪ ،‬بل دعا إىل كلمة‬ ‫التوحيد وإىل حتقيقه يف الناس‪ ،‬وحتمل األذى يف سبيل ذلك‪،‬‬ ‫وانقسم الناس بدعوته الواضحة إلى شقي وسعيد وكافر ومؤمن؛‬ ‫فاالنقسام واالختالف حيث كان وااعا ال حمالة وادرا مقدورا ال‬ ‫سبيل إىل رفعه وال مفر منه =فليكن على حمجة واضحة وسبيل اومي‪.‬‬ ‫وكذلك فإن النيب صلى اهلل عليه وسلم اد بعث هبذا الدين وإن‬ ‫العرب بعامة يف أسوأ حالة اجتماعية‪ ،‬من الفراة والنزاعات واحتكار‬ ‫الثروات واجلاه‪ ،‬وغياب العدالة يف توزيع األموال عامة وخاصة‪ ،‬وظلم‬ ‫للنساء وللرايق‪ ،‬واد كان يكن أن يرفعها النيب صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫راية اجتماعية‪ ،‬وأن يثريها حربا على طبقة األشراف والسادة‪ ،‬وأن‬ ‫يطلقها دعوة تستهدف تعديل األوضاع اجلائرة‪ ،‬وإعادة توزيع‬ ‫الثروات وحتقيق العدالة االجتماعية وكرامة العيش واحلرية‪ ،‬وكان‬ ‫سيتبعه حينئذ فئام كثرية من الناس ليقفوا يف وجه طغيان املال‬ ‫والشرف واجلاه‪ ،‬وتبقى القلة القليلة معارضة له‪ ،‬بدال من أن يقف‬ ‫اجملتمع كله يف وجه (ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل) اليت مل يقبلها‬ ‫يف ذلك الوات إال القليل من الناس‪ ،‬حىت إذا استجابت له الكثرة‬ ‫‪20‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫وتوىل ايادها‪ ،‬وحقق هلا مرادها‪ ،‬وغلب هبا القلة واادها =استخدم‬ ‫مكانته السامقة يومئذ وسلطانه يف إارار عقيدة التوحيد اليت بعثه هبا‬ ‫ربه‪ ،‬ويف تعبيد الناس لسلطان رهبم بعد أن عبدهم لسلطانه البشري‪.‬‬ ‫ولكن كل ذلك لم يكن؛ بل كانت الدعوة واضحة جلية‬ ‫متمحضة في أن يكون الدين كله هلل‪.‬‬ ‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كذلك واملستوى األخالاي‬ ‫يف اجلزيرة العربية يف الدرك األسفل يف جوانب شىت‪ ،‬حيث كان‬ ‫الظلم فاشيا يف اجملتمع‪ ،‬تعرب عنه حكمة الشاعر اجلاهلي زهري بن‬ ‫أيب سلمى‪:‬‬ ‫ومن مل يذد عن حوضه بسالحه ** يهدَّم ومن ال يظلم الناس يظلم‬ ‫‪ ...‬وكانت اخلمر وامليسر من تقاليد اجملتمع الفاشية‪ ،‬ومن مفاخره‬ ‫كذلك‪ ،‬يعرب عن هذه اخلصال الشعر اجلاهلي جبملته‪...‬وكانت‬ ‫الدعارة يف صور شىت من معامل هذا اجملتمع اجلاهلي املنحرف شأنه‬ ‫شأن كل جمتمع جاهلي ادمي أو حديث‪...‬‬ ‫واد كان يكن للنيب صلى اهلل عليه وسلم أن يعلنها دعوة‬ ‫إصالحية‪ ،‬تتناول تقومي األخالق‪ ،‬وتطهري اجملتمع‪ ،‬وتزكية النفوس‪،‬‬ ‫وكان ال حمالة واجدا نفوسا طيبة يؤذيها هذا الدنس‪ ،‬وتأخذها‬ ‫النخوة لتلبية دعوة اإلصالح والتطهري‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ولو أنه صنع ذلك لكانت اد تبتعه مجهرة صاحلة تتطهر أخالاها‬ ‫وتزكو أرواحها‪ ،‬فتصبح أارب إىل ابول العقيدة ومحلها‪ ،‬بدال من أن‬ ‫تثري دعوة (ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل) املعارضة القوية منذ أول‬ ‫الطريق‪.‬‬ ‫ولكن شيئا من ذلك مل يكن؛ ألن اهلل يعلم أن األخالق ال تقوم‬ ‫إال على أساس متني من عقيدة تضع املوازين وتقرر القيم‪ ،‬كما تقرر‬ ‫السلطة اليت تستند إليها هذه املوازين والقيم‪ ،‬واجلزاء الذي متلكه هذه‬ ‫السلطة‪ ،‬وتواعه على امللتزمني واملخالفني‪ ،‬وأنه ابل تقرير هذه‬ ‫العقيدة وحتديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة‪ ،‬وتظل‬ ‫األخالق اليت تقوم عليها متأرجحة كذلك بال ضابط وال سلطان وال‬ ‫جزاء‪.‬‬ ‫فلما تقررت العقيدة بعد اجلهاد الشاق والدعوة الواضحة وتقررت‬ ‫السلطة اليت ترتكن إليها هذه العقيدة وعرف الناس رهبم وعبدوه‬ ‫وحده وآمنوا برسوله صلى اهلل عليه وسلم وعزروه ونصروه واتبعوا النور‬ ‫الذي أنزل معه =حترروا من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات‬ ‫سواء‪ ،‬وصنعت دعوة التوحيد بأهلها كل شيء صاحل مما يقرتحه‬ ‫املقرتحون‪ ،‬وتطهرت األرض من الرومان والفرس ال ليتقرر فيها‬ ‫سلطان العرب‪ ،‬ولكن ليتقرر فيها سلطان اهلل رب العاملني الذي له‬ ‫‪23‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫اخللق واألمر‪ ،‬فلم يزل طاغوت غربي أو شرقي ليأتي طاغوت‬ ‫عربي‪ ،‬ولم يزل أشخاص نظام ليأتي آخرون يدورون في نفس‬ ‫الفلك وإن تغيرت بعض المظاهر التي ال تغير من الحقيقة شيئًا‪،‬‬ ‫بل تطهر المجتمع من الشرك والظلم االجتماعي بجملته‬ ‫واألخالق السافلة والعادات الباطلة‪ ،‬واام النظام اإلسالمي يعدل‬ ‫بعدل اهلل‪ ،‬ويزن مبيزان اهلل ويرفع راية العدالة االجتماعية باسم اهلل‬ ‫وحده ويسميها راية اإلسالم‪ ،‬اليت ليست شراية وال غربية‪ ،‬فلم يقرن‬ ‫إليها اسا آخر‪ ،‬وتطهرت القلوب واألخالق‪ ،‬وزكت النفوس العليلة؛‬ ‫فغدت يف سعادة وسرور‪ ،‬ورضوان وحبور؛ ألن الراابة اامت هناك‬ ‫يف الضمائر‪ ،‬وألن الطمع يف رضا اهلل وثوابه واخلوف من غضبه‬ ‫وعقابه اد متكن من النفوس‪ ،‬وي زع اهلل بعد ذلك بالسلطان ما ال يزع‬ ‫بالقرآن‪ ،‬وارتفعت البشرية يف نظامها وأخالاها وايمها وحياهتا كلها‬ ‫إىل القمة السامقة اليت مل ترتفع إليها من ابل اط‪ ،‬ومل ترتفع إليها من‬ ‫بعد إال يف ظل اإلسالم‪.‬‬ ‫لقد مت هذا كله ألن الذين أااموا هذا الدين يف صورة دولة ونظام‬ ‫وشرائع وأحكام كانوا اد أااموا هذا الدين من ابل يف ضمائرهم ويف‬ ‫حياهتم‪ ،‬يف صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك‪ ،‬وكانوا اد وعدوا‬ ‫‪24‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫على إاامة هذا الدين وعدا واحدا ال يتعلق بشيء من هذه الدنيا‪،‬‬ ‫هو رضوان اهلل والفوز جبنته‪ ،‬فسواء اام الدين على أيديهم أو ماتوا‬ ‫وهم يسعون إىل إاامته وملا يقم؛ كل ذلك ال يؤثر شيئا‪.‬‬ ‫فلما أن ابتالهم اهلل فصربوا‪ ،‬وملا أن فرغت نفوسهم من‬ ‫حظوظها‪ ،‬وملا أن علم اهلل منهم أهنم ال ينتظرون جزاء يف هذه‬ ‫األرض كائنا ما كان‪ ،‬ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم‬ ‫وايام هذا الدين يف األرض جبهدهم‪ ،‬وملا مل ي عد يف نفوسهم اعتزاز‬ ‫مبجد دنيوي‪ ،‬وال بقومية وال برهط‪ ،‬وال بوطن وال بأرض‪ ،‬ملا أن علم‬ ‫اهلل منهم ذلك كلَّه علم أهنم اد أصبحوا أمناء على هذه األمانة‬ ‫الكربى اليت خلق اهلل اخللق ألجلها‪ ،‬وأمناء على السلطان الذي‬ ‫يوضع يف أيديهم ليقوموا به على شريعة اهلل فينفذوها‪ ،‬وعلى عدل‬ ‫اهلل فيقيموه‪ ،‬دون أن يكون هلم من ذلك السلطان شيء ألنفسهم‬ ‫وال لعشريهتم وال لقومهم وال جلنسهم‪ ،‬إمنا السلطان هلل والدين كله‬ ‫له‪.‬‬ ‫ومل يكن شيء من هذا املنهج املبارك ليتحقق على هذا املستوى‬ ‫الرفيع إال أن تبدأ الدعوة ذلك البدء وترفع هذه الراية وحدها واضحة‬ ‫ال لبس فيها وال غموض‪ ،‬يفهمها املخالف كاملوافق‪ ،‬والعجمي‬ ‫كالعريب"‪.‬‬

‫[معامل يف الطريق‪ ،‬باختصار‪ ،‬ص‪]٤3-٤٤‬‬ ‫‪25‬‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬

‫مث لن يصلح أمر آخر هذه األمة إال مبا صلح به أوهلا‪ ،‬وال طريق‬ ‫للصالح والفالح وسعادة الدارين إال بتحقيق ما كان عليه رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه علما وعمال‪ ،‬مع مراعاة أحوال‬ ‫املخاطبني وحسن دعوهتم‪ ،‬وعدم خلط الوسائل باملقاصد‪ ،‬وتضييع‬ ‫الغايات استغرااا يف وسائلها‪.‬‬ ‫واهلل سبحانه ينصر رسله والذين آمنوا يف احلياة الدنيا ويوم يقوم‬ ‫األشهاد‪ ،‬ﮋﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬ ‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮﮊ‬

‫‪26‬‬

‫[التوبة‪]٤٤ :‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.