جمعية الإم�����ام ال�����ص��ادق لإح����ي����اء ال����ت����راث ال��ع��ل��م��ائ��ي
Q
السيد محمد رضا فضل الله
الحكيم والمصلح
تقديم و�إعداد: ال�شيخ ح�سن البغدادي العاملي
ال � � � � � �ك � � � � � �ت� � � � � ��اب:
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل -الحكيم والم�صلح
إ�� � � � � � � � � �ص� � � � � � � � ��دار:
جمعية الإمام ال�صادق Qلإحياء التراث العلمائي
ت� ��اري� ��خ الإ�� � �ص � ��دار:
2017م 1438 -هـ
2
ةمدقملا
المقدمة
عندما نو ّثق ل�شخ�صية علمية و�إ�صالحية ،كالعالمة الحجة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الح�سني (طاب ثراه)� ،إ ّنما نو ّثق لمرحلة كانت غاي ًة في الأهمية ،و�أحوج ما تكون �إلى عالم ،قد اجتمعت فيه موا�صفات �إ�ستثنائية؛ من الذكاء و�صفاء النف�س وطهارة القلب ،وقادر على الإم�ساك بزمام العلوم على اختالف م�شاربها ،وبلوغ الكماالت في �أعلى مراتبها. تلك المرحلة كانت مليئة بالأحداث ،ولم ْ تزل تعي�ش تداعيات النكبة الكبرى التي م ّرت على جبل عامل ،عندما حرق العثمانيون الأخ�ضر والياب�س �سنة 1781م 1195/هـ، و�ش ّردوا العلماء والنا�س ،و�أحرقوا الكتب والمخطوطات ،وقتلوا بع�ض العلماء ،ونكلوا بالآخرين .فاعتدوا على كرامة المجتمع العاملي ،ولم ي�سلم من �شرهم �أحد ،حتّى الذي تنجل هذه (الغبرة) �إال بهالك الوالي كان ُيحكم بالإعدام ،كان يموت تحت التعذيب ،ولم ِ العثماني (�أحمد با�شا الجزار) �سنة 1804م الموافق ل�سنة 1219هـ ،وجد العثمانيون �أنف�سهم م�ضطرين لتغيير �سيا�ستهم ،بعدما َق ّ�ض ْت م�ضاجعهم حركة (الطياح)(((، ((( الطياح �أو حركة الطياح :حركة مقاومة ت� ّأ�س�ست بعد نكبة جبل عامل على يد الوالي العثماني �أحمد با�شا الجزار وا�ست�شهاد الأمير في جبل عامل نا�صيف الن�صار ،حيث عمد العثمانيون على التفكير الجدّي بو�ضع جبل عامل تحت الو�صاية المبا�شرة، وكانت النكبة من �سنة 1781م ــ 1804م 1195 /هـ ــ 1219هـ ،وكان لهذه الحركة �إيجابياتها و�سلبياتها.
3
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
فت�شكلت قناعة لديهم من عدم جدوى الإبقاء على هذا الو�ضع المزري لجبل عامل ،الذي عد منتج ًا على ال�صعيد الإقت�صادي ،وهو يتنافى مع الج�شع العثماني وح ّبهم للمال. لم َي ْ ال�سيد محمد ر�ضا من الذين �ساهموا في �إعادة الح�ضور العلمي ،و�إعادة الحياة الطبيعية �إلى جبل عامل ــ كما �سنب ّين ــ كما كان له دور وا�ضح في المرحلة التي عا�شتها المنطقة ،عندما الحت في الأفق �إرها�صات الحرب العالمية الأولى ،وا�ست�شعر العثمانيون معها الوهن ،والنا�س في جبل عامل بد�أوا يميلون نحو الإ�ستقالل ،وبدل من �أن يعمدوا �إلى التو�سعة على النا�س ،و�إ�شعارهم بمزيد من الحرية ،عملوا على الت�ش ّدد وعقاب النا�س ،من خالل �إطالق يد ال�سفاح (جمال با�شا)((( ،مما ا�ستدعى اعترا�ض ًا من ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،ومعه �إخوانه العلماء ،ف�أر�سلوا كتاب ًا �إلى ال�سلطة العليا في ا�سطنبول ،كما ذكر ــ رحمه اهلل ــ في كتابه بغية الراغبين(((. ا�ستمرت الحرب العالمية الأولى �أربع �سنوات من �سنة 1914م �إلى �سنة 1918م ،وكانت مرحلة قا�سية على النا�س ،وكان وجود علماء الدين ،عام ًال �أ�سا�سي ًا في رفع الأعباء عن كاهل الفقراء والمعدومين ،وم�ضاف ًا لهذا الت�صدي في رفع الأعباء الإقت�صادية ،كان المجتمع العاملي بحاجة �إلى من ُيث ِّبت عقيدته و ُيذ ّكرهم بالآخرة ،و ُيو ّلد عندهم حالة الأمل ،وهنا لعبت المدار�س الدينية دور ًا مركزي ًا ،في ن�شر الوعي ،كما عملت على توليد الطاقات الفكرية والأدبية ،كعامل م�ساعد في الإ�ستقرار ،و�إعطاء الأمل كي تبقى هذه المنطقة (جبل عامل) �إحدى المراكز الأ�سا�سية التي ُيعتمد عليها في �إحياء هذا الدين ون�شر �شريعة �س ّيد المر�سلين .P و�إذا كان ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل قد توفي �أثناء الحرب العالمية الأولى ،ولم (( ( ال�سفاح جمال با�شا� :أحد �أركان جمعية الإتحاد والترقي التي قامت بالإنقالب العثماني على ال�سلطان عبد الحميد ،ولد �سنة 1872هـ ،وقتل �سنة 1922م على يد �أرمني في تفلي�س ،ولقب بال�سفاح لقيامه ب�أعمال العنف والق�سوة على العرب� ،صار وزير ًا للجي�ش الرابع العثماني في �سوريا ولبنان عند ن�شوب الحرب العالمية الأولى ،وقد عانى من ظلمه وتع�سفه جميع �أهالي بالد ال�شام (لبنان و�سوريا) ،حيث قام بفر�ض نظام ال�سخرة والتجنيد الإجباري ،وقام �أي�ض ًا ،بتعليق الم�شانق و�إ�صدار الأحكام العرفية لجماعة من الوطنيين في �ساحة ال�شهداء في بيروت و�ساحة المرجة في دم�شق. (( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،بغية الراغبين ،ج� ،2ص.142
4
ةمدقملا
ي�شهد ُخ ّلو المنطقة من العثمانيين� ،إال �أنه كان �أحد الأعالم الذين �ساهموا في مواجهة تداعيات هذه الحرب ،و�إر�ساء قواعد النه�ضة العلمية في جبل عامل ،فعمل على ن�شر العلم والأدب وال�شعر ،والإبقاء على جبل عامل حا�ضرة علمية وفكرية و�أدبية وجهادية، كانت ُت�شكل �ضمانة البقاء والمواجهة في العهد العثماني ،كما ُت�شكل قوة جبل عامل، لمرحلة ما بعد العثمانيين ،وهذا ما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ،حيث تمكن جبل عامل من ال�صمود والمواجهة لمرحلة الإنتداب الفرن�سي .وال�سيد محمد ر�ضا في تلك المرحلة� ،ش ّكل مع بقية العلماء �ضمانة ا�ستمرار النه�ضة العلمية والأدبية التي � ّأ�س�س لها عميق ًا في جبل عامل العمالق ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بال�شهيد الأول ،والذي قتله المماليك في دم�شق �سنة 786هـ ،و�أُحرقوا ج�سده الطاهر بعد القتل وال�صلب((( ،وكما نه�ض ال�شهيد الأول على الم�ستوى العلمي ،كذلك حمل لواء الوحدة وعاظ ال�سالطين، الإ�سالمية والتقريب بين المذاهب من جاد بعده ،لقطع الطريق على ِ ولجمهم من العبث بالأمن والإ�ستقرار القائم على الجهل والتع�صب ،في قبال الح�صول على المال والمنا�صب ،ولو كان ذلك على ح�ساب دماء الم�سلمين وهتك �أعرا�ضهم. و�سار على نف�س الخطى حام ًال م�شروع اال�ستمرار بالنه�ضة العلمية ،والتقريب بين المذاهب الإ�سالمية ال�شيخ زين الدين بن علي (الجباعي) والمعروف بال�شهيد الثاني((( ،والذي �أ�ص ّر على البقاء في جبل عامل رغم الخطر الذي �أحدق به ،حيثُ �أدى �إلى مقتله في عا�صمة الدولة العثمانية �أمام الوزير الأعظم في � 8شعبان من �سنة (( ( �شم�س الملة والدين �أبو عبد اهلل ال�شيخ محمد بن ال�شيخ جمال الدين مكي �إبن ال�شيخ �شم�س الدين محمد بن حامد بن �أحمدالجزيني العاملي المعروف بال�شهيد الأول� ،صاحب كتاب اللمعة الدم�شقية ،كان عالم ًا ماهر ًا فقيه ًا محدث ًا مدقق ًا ثقة متبحر ًا كام ًال جامع ًا لفنون العقليات والنقليات زاهد ًا عابد ًا ورع ًا �شاعر ًا �أديب ًا من�ش�أً ،فريد دهره ،عديم النظير في زمانه، ا�ست�شهد �سنة 786هـ في اليوم التا�سع من جمادى الأولى في دم�شق في دولة بيدر و�سلطنة برقوق بفتوى القا�ضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة ال�شافعي بعد ما حب�س �سنة كاملة في قلعة ال�شام�( .أعيان ال�شيعة ،ج� ،14ص.)370 ((( ال�شيخ زين الدين بن نور الدين علي بن �أحمد ابن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن �صالح ابن م�شرف العاملي الجبعي المعروف وال�شهير بال�شهيد الثاني ،قتله العثمانيون �سنة 965هـ في (ا�سطنبول) بعد اعتقاله من الم�سجد الحرام ،ولد في � 13شوال �سنة 911هـ ،وكان عالم ًا جليل القدر عظيم ال�ش�أن رفيع المنزلة تقي ًا نقي ًا ورع ًا زاهد ًا عابد ًا حائز ًا �صفات الكمال وح�سنة من ح�سنات الزمان ،فقيه ًا ماهر ًا في الدرجة العليا بين الفقهاء محدث ًا �أ�صولي ًا م�شارك ًا في جميع العلوم الإ�سالمية.
5
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
965هـ� ،أو ما قام به علماء جبل عامل في العهد ال�صفوي في �إيران ،فعملوا على ن�شر الفقه والأ�صول والحديث والتف�سير ،كما �ش ّيدوا المدار�س والم�ساجد ،و�أر�سوا م�شروع الوكالء ،وت�صدوا لم�شيخة الإ�سالم ،والق�ضاء والإفتاء ،والإ�صالحات العامة ،وتثبيت العقيدة ،وبهذا و�ضعوا حد ًا للحركة ال�صوفية ،وهذا ما ع ّبر عنه ال�شهيد مطهري بقوله: « لوال ما قام به علماء جبل عامل في العهد ال�صفوي ،من ن�شر الفقه والحديث والتف�سير، وت�شييد المدار�س والم�ساجد ،لكان �آل �أمرنا في �إيران كما هو حال العلويين في �سوريا». ال�سيد محمد ر�ضا من علماء النه�ضة العلمية الثانية في جبل عامل ،التي ت�شكلت بعد نهاية النكبة ،حيث انطلقت فيها المدار�س الدينية مجدد ًا في مختلف القرى العاملية، وكانت المدر�سة الأولى في (كوثرية ال�سياد) التي �ش ّيدها ال�شيخ ح�سن القبي�سي ،بعدما عاد من النجف الأ�شرف �سنة 1213هـ ،حيث �شجعه علماء النجف على �ضرورة التوجه نحو جبل عامل لإعادة الحياة العلمية ،وان�ضم �إليها العديد من الطالب ،و�أبرزهم العالمين الجليلين ال�شيخ عبد اهلل نعمة وال�سيد علي �إبراهيم ،حيث لم يكتفيا بما حازا عليه في جبل عامل ،و�إ ّنما ذهبا �إلى النجف الأ�شرف للدر�س والتح�صيل ،وبعد در�سهما على الأ�ساطين في النجف عادا �إلى جبل عامل عالمين كبيرين ،ف�ش ّيد ال�شيخ عبد اهلل مدر�سة في (جباع) ،وال�سيد علي �إبراهيم� ،ش ّيد مدر�سة في (النميرية) ،وتخ ّرج عليهما طالب كثيرون ،كانت لهم م�ساهمات �أ�سا�سية في �إعادة الحياة العلمية :كال�شيخ محمد علي عز الدين ،وال�سيد يو�سف �شرف الدين ،وال�شيخ مهدي �شم�س الدين ،وال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة وغيرهم ،م ّمن تخ ّرج على �أيديهم جيل من العلماء ،كال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،وال�سيد مح�سن الأمين ،وال�شيخ ح�سين مغنية وغيرهم ،فقر�أوا في (حناويه) و(بنت جبيل) و(طورا)� .إذ ًا ،هذه النخبة من الجيل الثاني ،التي ثبتت الح�ضور العلمي في ع�صر النه�ضة العلمية الثانية ،الذي واكب تلك المرحلة ،وبذلوا جهود ًا كبيرة في ن�شر العلم والأدب ،ومواجهة المخاطر التي مار�سها العثمانيون ،من التع�صب والج�شع تم�سك ه�ؤالء الأعالم بالمقابل ،بالوحدة الإ�سالمية والتقريب بين والظلم ،حيث ّ المذاهب ،والوقوف �إلى جنب المجتمع العاملي في معاناته. 6
ةمدقملا
ولم ينته هذا الح�ضور العثماني �إال بالحرب العامة التي ا�ستمرت �أربع �سنوات ،والم�ؤلم بالمو�ضوع �أنّ المنطقة لم تذهب �إلى الإ�ستقالل كما وعد الحلفاء ،و�إ ّنما كان البديل االنتداب البريطاني على العراق وفل�سطين ،واالنتداب الفرن�سي على �سوريا ولبنان. �إذ ًا ،المرحلة التي عا�شها ال�سيد محمد ر�ضا ،كانت �شديدة الخطورة على م�ستقبل جبل عامل والمنطقة ،لهذا كان المجتمع العاملي يحتاج �إلى �صمام �أمان ،ي�ضمن له عقيدته ،ويحفظ له لغته التي هي الطريق المو�صل �إلى ال�شريعة المقد�سة ،و�إلى كتاب اهلل العزيز ،م�ضاف ًا لتثبيتهم في الأر�ض ،وح ّثهم على الت�ضحية في �سبيل تحقيق تلك الأهداف ،بما ُي�شكل بمجموعه المحافظة على الهوية. وال �شك وال ريب� ،أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل كان �أحد الأعمدة الأ�سا�سية في �إطالق ما ُ�س ّمي بالنه�ضة اللغوية والأدبية ،و�إن ا�شتهر في تلك المرحلة ،ال�شيخ �أحمد ر�ضا وال�شيخ �سليمان ظاهر ،وال�شيخ عبد اهلل العاليليّ � ،إل �أنّ ما ق ّدمه علماء جبل عامل ،في ع�صور مختلفة ،وفي مختلف العلوم يفوق الت�ص ّور والخيال ،فما كتبه ال�سيد محمد ر�ضا من �شعر و�أدب ونثر ،يحتاج القارئ معها �إلى (قامو�س لغوي) ،كي ُيدرك المعاني لتلك الألفاظ التي �أطلقها ال�سيد على تلك الأفكار ،وخ�صو�ص ًا �أن ال�سيد ف�ضل اهلل جمع �إلى اللغة والأدب ،العلوم الأخرى من الفقه والأ�صول والفل�سفة وعلم الكالم ،في الوقت الذي لم ُتتح الفر�صة لبع�ض علماء النه�ضة من الح�صول على هذه المكانة العلمية والح�صول على هذه العلوم المختلفة ،فال�شيخ �سليمان ظاهر وال�شيخ �أحمد ر�ضا ،حازا على �شيء من الف�ضيلة العلمية في الفقه والأ�صول عبر مدار�س جبل عامل ،وبالأخ�ص المدر�سة الدينية في النبطية التي �ش ّيدها العالمة ال�سيد ح�سن يو�سف مكي(((. (( ( ال�سيد ح�سن بن ال�سيد يو�سف بن ال�سيد ابراهيم بن ال�سيد علي الح�سيني الحبو�شي المعروف بالمكي ،ولد في حبو�ش �سنة 1260هـ ،وتوفي في النبطية التحتا �سنة 1324هـ ،كان عالم ًا فا�ض ًال متقن ًا محمود ال�سيرة غاية في ح�سن الخلق و�سخاء النف�س وعلو الهمة وال�سعي في ق�ضاء حوائج الم�ؤمنين والتوا�ضع يخدم �أ�ضيافه بنف�سه ،قر�أ المقدمات في جبل عامل في مدر�سة ال�شيخ عبد اهلل نعمة في جباع ،ثم هاجر �إلى النجف وتتلمذ على ال�شيخ محمد ح�سين الكاظمي ،وال�شيخ محمد طه نجف ،وال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني وغيرهم ،عاد �إلى جبل عامل وقام بت�أ�سي�س مدر�سة دينية في النبطية ،وبالإ�ضافة �إلى ن�شاطه التبليغي كان له دوره في الجهاد الوطني حيث عرف بجر�أته في مقارعة المحتلين العثمانيين.
7
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ولع ّل ميزة ال�سيد محمد ر�ضا �أ ّنه كان عالم ًا مقتدر ًا و�شاعر ًا محترف ًا ،وعندما عالج بع�ض الأمور ،تراه عميق ًا في �أفكاره ،ومت�سلط ًا على المفاهيم ،وقد خرج من الروتين الموروث �إلى معالجة الأفكار بعمق ،وبما ين�سجم مع م�صلحة وتطلعات المجتمع ،فعلى �سبيل المثال :مو�ضوع الإمامة ،من خالل كتاب (الإمامة)((( ،نجده لم يقت�صر في معالجة هذه الق�ضية الكبرى المرتبطة بم�صير الإ�سالم ،وعقائد الم�سلمين بالروايات فقط التي وردت عن ر�سول اهلل ،Pو�إنما م�ضاف ًا �إليها عالج هذه الق�ضية من ناحية فل�سفية واجتماعية ،وحاجة النا�س �إلى الإمامة ،كي ُيثبت �ضرورة �أن تفي هذه الحاجة بالغر�ض ،فيكون هناك تنا�سب بين حاجة الم�سلمين ،وبين اختيار ال�شخ�ص المنا�سب. ولع ّل كتاب (الإمامة ــ الأدلة العقلية والنقلية) للعالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،{ كان مخطوطة قام بتحقيقها م�ؤخر ًا ال�سيد معروف محمد تقي ف�ضل اهلل في �إطار �إحياء تراث العالمة { ،وهو ر�سالة يحاول فيها �سماحته �إثبات الإمامة من وجوه مختلفة ،والر�سالة تقع في ق�سمين ،مع مالحظة عدم وجود ترتيب وتبويب للكتاب، وعدم وجود مقدمة تم ّهد للمو�ضوع على خالف ما درج عليه �سماحة ال�سيد في بقية م�ؤلفاته .ولع ّل ذلك ي�ؤ�شر على �إمكانية �ضياع جزء من هذه المخطوطة ،ومما يق ّوي هذه الفر�ضية هو عدم ذكر الأدلة من ال�سنة النبوية على وجوب بعثة الأنبياء رغم الإ�شارة �إليها ،مقت�صر ًا فقط على ذكر �أدلة الكتاب الكريم. يتم ّيز ال�سيد في ر�سالته بالعمق وقوة الإ�ستدالل ومتانة البيان� ،أ�ضف �إلى كونه كان �أديب ًا وبليغ ًا حاله حال �أكثر علماء جبل عامل. لقد قام محقق هذا الكتاب بتق�سيمه وجعله في بابين :الباب الأول تحت عنوان: «الأدلة العقلية والنقلية» وهو من �سبعة ف�صول ق�صيرة. في الق�سم الأول من الكتاب ،يعمد �سماحته في الف�صول ال�ستة الأولى �إلى ذكر الآيات (( ( كتاب الإمامة للعالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل { المتوفى �سنة 1336هـ1917 /م .كان مخطوطة ،قام بتحقيقها م�ؤخر ًا ال�سيد معروف محمد تقي ف�ضل اهلل في �إطار �إحياء تراث العالمة.{
8
ةمدقملا
ك�شاهد على مبتغاه ،مكتفي ًا بال�شرح في الف�صل ال�سابع فقط. القر�آنية من دون �شرح، ٍ في الف�صل الأول يذكر �أنّ العلة الداعية �إلى بعث الأنبياء ،و�إر�سال الر�سل هي �إزاحة علل الخلق ،وقطع معاذير العباد ودح�ض حججهم �إذا �أراد �أن يجازيهم ب�أعمالهم يوم الجزاء� ،أما الدليل العقلي فوا�ضح ب ّين لقبح العقاب من غير بيان ،و�أما النقلي فالآيات متكاثرة وال�سنة مت�ضافرة .وقد اكتفى بذكر الآيات دون الأحاديث في هذا الف�صل وبق ّية الف�صول. في الف�صل الثاني يذكر �أنّ الأدلة النقلية على ثبوت الإختيار من اهلل �سبحانه على حججه على عباده و�أمنائه في بالده ،و�أنّ الإختيار هلل ال للخلق والعباد لعدم معرفتهم وق�صور عقولهم. وفي الف�صل الثالث يذكر الآيات الدالة على وجود الدليل وقيام الحجة. �أما في الف�صل الرابع ،فيذكر الآيات الدالة على وجوب اتباع الأئمة الدعاة �إلى اهلل الأدالء على مر�ضاته. وفي الف�صل الخام�س يذكر الآيات التي ت�شير �إلى من ا�ستحق الإمامة من ذرية �إبراهيم .Q وفي الف�صل ال�ساد�س يذكر الآيات الدالة على �أنّ الإختيار منه ،و�أ ّنه في كل زمان ال ب ّد من حجة هلل في �أر�ضه على عباده وخلقه. �أما في الف�صل ال�سابع ،فيعمد �إلى �شرح الآيات الدالة على �أنّ الخلق محتاج �إلى من يقوم به �صالحه ويرتفع ف�ساده ويب ّين به ر�شده ويمحي غ ّيه و�ضالله. يعر�ض �سماحته مجموعة من الآيات القر�آنية ذات ال�صلة بالمو�ضوع ،ويقوم ب�شرح أ�سلوب يت�ض ّمن قلت ُ علمي على قاعدة (�إن َ كل �آية على حدى ب� ٍ قلت)ٌ � ، أ�سلوب ا�ستداللي ّ مفاهيم علم ّية ذات �أبعاد عميقة .يخل�ص في نهاية هذا الف�صل �إلى �أنه يجب على اهلل وخا�صه ن�صب ق ّيم ًا على كتابه ،عالم ًا بك ّل ما ت�ض ّمنه ،عارف ًا بما حواه ،خبير ًا بعا ّمه ّ �أن ُي ّ ون�صه ونا�سخه ومن�سوخه ،ومحكمه ومت�شابهه ،ومجمله ومب ّينه ،ومطلقه ومق ّيدهّ ، 9
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وظاهره ،ومنطوقه ومفهومه ،وجل ِّيه وم�ؤوله ،علم ًا هادي ًا و�إمام ًا مر�شد ًا ونور ًا �ساطع ًا و�ضيا ًء المع ًا :يب ّين للعباد منه �أحكامها ،وحاللها وحرامها ،وق�صا�صها ودياتها ،وغير ذلك من الحدود التي ح ّدها ،والغايات التي لزم العباد بالوقوف عندها. حب الجاه والريا�سة كما يخل�ص �إلى نتيجة مفادها �أنه بما «�أنّ النفو�س مجبولة على ّ وحب الهوى واللذات والميل والت�أ ّمر والرفعة والإ�ستيالء والغلبة من جهة القوة الغ�ضبيةّ ، �إلى ال�شهوات والطيبات ،فلو فر�ضنا �أنّ اهلل ترك عباده بعد نب ّيهم هم ًال ،و�أبقاهم بال �سائ�س ي�سو�سهم ،وال �إمام لل�صالح يقودهم� ،إنت�شر الف�ساد واخت ّل نظام �أمورهم ،لأنّ كل يحب وي�شتهي �أن تكون الإمارة وال�سلطنة مق�صورة عليه ،كما هو الم�شاهد واحد منهم ّ من الملوك وال�سالطين ،وهذا ي�ؤدي �إلى �أمرين� :إما �أنّ اختالفهم يعفيهم من رئي�س، و�إما �أن تكون الرئا�سة بالغلبة والقهر ،وفي كال الأمرين من الف�ساد وخراب الكون وهالك الحرث والن�سل ،ما ال يخفى على كل عقل. فحينئذ �إذا علم العقل �أوجب على اهلل �أن ين�صب لهم بعد نب ّيهم رئي�س ًا مطلق ًا ودلي ًال ٍ متبع ًا و�إمام ًا هادي ًا ،يكون تم ّيز عنهم في ال�صفات الكاملة ،وفاقهم في المعارف الدينية والدنيوية.»... وي�صل �إلى النتيجة �أنّ الإمام ال ب ّد �أن يكون �أكمل الخلق في جميع ال�صفات ،كما �أنّ النبي Pكذلك ،لأنه بمنزلته ،وقائم مقامه في حفظ الدين ،ورعاية الم�سلمين لأنه �إذا كان كذلك كانوا �أقرب �إلى طاعته ،و�أبعد عن مع�صيته ...و ُيكمل �أنه ال ب ّد �أن يكون في الإمام �أربع خ�صال ،وبدون واحدة منها يبطل كونه �إمام ًا ،وهي :الع�صمة� ،أعلم النا�س� ،أ�شجع النا�س ،و�أ�سخى النا�س. �أما الق�سم الثاني من الر�سالة ،وهو الباب الثاني من الكتاب ــ ح�سب تبويب المحقق أبيات مختارة من ــ وقد جعله تحت عنوان« :الإمامة من�صب �إلهي» ،ي�سته ّله رحمه اهلل ب� ٍ �شرح جميل فيه نكات ق�صيد ٍة طويلة له في مدح الإمام المهدي | ،ثم يعمد �إلى تقديم ٍ عقلي متين علمية وفل�سفية و�أخالقية وكالمية وق�ص�ص عقائدية ،وب� ٍ أ�سلوب ا�ستداللي ّ 10
ةمدقملا
يحاول من خالله �إثبات الإمامة من وجو ٍه مختلفة وزوايا متعددة ،و�أنّ كل ما في الكون يحتاج �إلى مدير ومر�شد. فيبد�أ �شرحه ب�أنّ كل ذوي التكاليف من هذا العالم محتاجة �إلى رئي�س يق ّوم زيفها، وي�صلح اعوجاجها ،وعليم عارف يب ّين ما �أخط�أه عقلها ،ويو�ضح ما �أخفاه جهلها ،ويجب �أن يكون موجود ًا بين �أظهرها ،لئال يكون على اهلل حجة لها ،وتكون لها الحجة البالغة عليها ...ثم يربط بين هذا الإ�ستدالل وما يرمي الو�صول �إليه؛ ب�أنّ وجه الإحتجاج هو �أ ّنا نقول� :إنّ الجهة الداعية لإثبات �صانع لهذه المحدثات هي بعينها داعية لإثبات مفزع �إمام للأمة ،ومرجع رئي�س للخا�صة والعامة ،والجهة الداعية لإثبات ال�صانع كون هذا العالم ممكن ،وكل ممكن مفتقر �إلى غيره بال�ضرورة ،و�إال لكان واجب ًا ال ممكن ًا والثاني بال�ضرورة عند الملة الإ�سالمية. فافتقار هذا العالم �إلى غيره� ،أثبت له �صانع ًا متقن ًا ومد ّبر ًا حكيم ًا ،كذلك نقول: �إنّ افتقاره يثبت �أنه ال ب ّد من رئي�س عام َمفزع للخا�ص والعام ،ير�شده �إلى ما به نفعه و�صالحه ،ويج ّنبه عاقبة �ض ّره وف�ساده ،و�إن كنا لم ن�شاهده ولم نره ،كما �أننا �أثبتنا له �صانع ًا من جهة افقتاره �إليه ،و�إن كنا لم ن�شاهده ولم نره ،بل بافتقاره �إليه حكمنا بوجوده ،و�إال لكان الموجود للخلق غير حكيم. بعد ذلك يعمد � Mإلى تق�سيم العالم المح�سو�س �إلى �أق�سام ثالثة (جماد ،نام وح�سا�س بق�سميه ال�صامت والناطق) ،وي�شرع في ذكر و�شرح حاجة هذه المح�سو�سات ّ وافتقارها �إلى غيرها من جهات مع ّينة ،ويب ّين �أنّ الناطق من جملة ما يفتقر �إليه المر�شد �إلى �أن ال يكون هاتك ًا لحرمة مبدعه ،مرتكب ًا لما ي�ضا ّد �إرادة موجده. وهذا المر�شد هو الق ّيم والرئي�س الذي يد ّبر �أمر الأ ّمة ،وي�صلح فا�سدها ،والدليل ا�ستقرائي ،يعني �أننا ا�ستقر�أنا المدركات من الموجودات ،فوجدنا �أنّ لها على ذلك ّ رئي�س ًا ت�صدر منه ومرجع ًا ت�ؤوب �إليه قد جعلت فطرتها على الإنقياد �إليه واتباعه. ثم يذكر علة �أخرى لوجود رئي�س ومر�شد ،وهذه العلة م�شتركة بين الحيوانات 11
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ال�صامتة والناطقة ،ووجه الإ�ستدالل بها� :أن ال�صانع ل�شيء والمبدع له� ،إذا كان حكيم ًا ال ب ّد �أن يكون متقن ًا لما �صنعه محكم ًا لما �أبدعه ...والحكيم ال يكون حكيم ًا ،وال يو�صف بالحكمة �إال الذي يحظر الف�ساد ،وي�أمر بال�صالح ويزج عن الظلم وينهى عن الفح�شاء، وال يكون ذلك �إال بمن تخ�شى �سطوته وتهاب �صولته ،ويهاب ب�أ�سه و�ض ّره ،ويرجى نفعه وخيره ،وهو الرئي�س المالك لأز ّمة �أمورها ،والمذعنة لطاعته متم ّرداتُ نفو�سها... بمطلب من المطالب الحكمية وهو رئا�سة العقل بعد ذلك ،يب�سط الكالم بالجملة ٍ على القوى الباطنة للنف�س ،فالعقل بمنزلة الرئي�س المر�شد والملك المد ّبر ،فمرجع مدركات هذه القوى �إليه ...ثم ي�ست�شهد باحتجاج ه�شام بن الحكم على عمرو بن عبيد حول �أ ّنه كيف �أن اهلل تعالى لم يترك الجوارح حتى جعل لها �إمام ًا وهو القلب ،فهل يمكن �أن يترك الخلق كلهم في حيرتهم و�شكهم واختالفهم ،فال يقيم لهم �إمام ًا ير ّدون �إليه حيرتهم و�ش ّكهم واختالفهم؟! �أردت من هذا العر�ض الموجز عن كتاب الإمامة لل�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل� ،أن �أب ّين قدرة ال�سيد على تبيين المطالب ،و�إي�صال الفكر �إلى الآخرين ،و�أ ّنه يمتلك ذهن ّية وقادة ،ولو �أتيحت له الفر�صة في العمر والعمل ،لق ّدم ال�سيد محمد ر�ضا من الأفكار ما �أغنى به فهر�ست جبل عامل ،ولربما كتب و�ضاع �أو تلف ب�سبب الأو�ضاع الأمن ّية وخوف النا�س على هذا التراث ،فهناك الكثير من المخطوطات ،وجدت تالفة ب�سبب الحر�ص عليها ،ومنع و�صول �أهل البغي �إليها. وهذا المقدار ،مما و�صل �إلينا عن ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،يكفي للداللة على مكانته العلمية والأدبية ،م�ضاف ًا المتالكه القلم والجر�أة في التعبير ،وال�شجاعة في �أخذ المواقف.
12
���������������������� االفتتاحية
السيد هاشم صفي الدين
(((
ó
َّ ٓ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ٗ َ َ ٗ َ ّ َ ٗ َ َ َ َ َ ّ َ َ ۡ ُ َ َ ُ َ ٞ ٱلس َماءِ ت َوف ۡرع َها ِف ﴿ألم تر كيف ضب ٱلل مثل ك ِمة طيِبة كشجرة ٖ طيِب ٍة أصلها ثاب ِ ۡ َ ّ َ َ َ ۡ ُ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ ۡ ٓ ُ ُ َ َ ُ َّ َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ َ ((( ٱلل ٱل ۡمثال ل َِّلن ِ ك ٢٤تؤ ِت أكلها اس لعلهم يتذكرون ﴾ ضب ي و اۗ ه ب ر ن ذ إ ب ِيِۢن ح ِ ِِ ِ ِ
الكلمة الطيبة قبل �أ ن تكون حروف ًا ومعاني هي هداية و�أنوار تخرق حجاب القلب فت�ستقر في �أ�صول الفطرة وتنبت في ربوع التوحيد وتنفرج عن حقائق معارف تتكاثر وتنمو فروع ًا ال يت�سع لها المكان وال يقف عطا�ؤها عند حد ويطيب جناها ذكر ًا ي�أبي التال�شي ويزهر ثمرها فوح ًا ون�سيم ًا وعطر ًا �ألطف من الزمن و�أرق من خواطر الفكر لت�شق طريقها في م�سارب الحياة متعاظمة ومتجددة مع كل جديد فك�أنها تنبعث للتو فال تبلى مع االبدان وال تطوى في �صفحات التاريخ وق�ساوة �أيامه ووقائعه بل ان القهر واالجحاف والتنكر يزيدها اختمار ًا بقدر اندماجها مع الحق واالخال�ص وبم�ستوى قدرتها على غزل الفكر والروح والعلم واالدب والجمال والفن لتحيك من هذا كله �سمو ًا ي�شتد جالء و�سطوع ًا ويحفر في االن�سانية تجربة م�ضافة تراكم االكتمال االن�ساني نحو َ َ ُّ َ ۡ َ َ َ َ ٱل َ ٰ الكمال ٰٓ نس ُن إِنَّ َك كد ٌِح إِ ٰل َر ّب ِ َك ك ۡد ٗحا َف ُملٰقِيهِ﴾(((. ﴿يأيها ِ (( ( رئي�س المجل�س التنفيذي في حزب اهلل (( ( �سورة ابراهيم ،الآيتان .25/ 24 (( ( �سورة الن�شقاق ،الآية .6
13
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ه�ؤالء هم الطيبون المت�أ�صلون والمتجذرون في منابت المعرفة واالخال�ص ال ينتهون وال يقفون عند حدود لقائهم لربهم والتحاقهم بمع�شوقهم .حين يحققون غاياتهم و�أمانيهم في�سعدون في مقعد �صدق عند مليك مقتدر ذلك ان جوهرهم الحي والمتلألأ يت�ساقط على الب�شرية رحمة وحياة وا�ستقامة كماء المطر ال ينق�صه الهطول وال يوقف جريانه الزمن وال تن�أى به توارد االحداث وم�ضي ال�سنين وتعاقب االجيال فهم باقون ما بقي الدهر �أعيانهم مفقودة و�أمثالهم في القلوب موجودة. �إنهم العلماء الربانيون والحجج الظاهرة والنعم الوافرة واالنوار الهادية بهم ا�ستقام �أمر الدين وعلى �أيديهم حفظت ال�شريعة وانت�صبت اعالم االيمان ورايات الحق واال�صالح ،هم �أوتاد الحقيقة الرا�سخة ومدار المعرفة الأ�صيلة ،ودوام الذكر الجميل وتوازن الطباع وال�سجايا وميراث ال�شجاعة والعدل وال�شهامة وفي �أي مجتمع وجدوا �أو �أر�ض زرعوا تطيب الحياة وتعمر القلوب وتحيا االنف�س وتزهر العقول ولو بعد حين. لجبل عامل حظ وافر من ه�ؤالء االفذاذ فامتاز بهم علم ًا و�أدب ًا و�أخالق ًا وطيب ًا و�شهامة فجاوز ح�ضوره االفاق بف�ضل معدنهم ال�صافي ور�سوخهم في ميادين العلوم التي ق ّلبوها وجوه ًا وزرعوا فيها بذور ًا وانتجوا منها الآلىء وفيو�ضات غمرت �أجيالهم المتعاقبة ما �أن�ساهم ظلم القريب والبعيد وغالبوا قهرهم بالقناعة والتوا�ضع وال�صبر وتناقلوا القيم �إرث ًا باالنفا�س الطاهرة الممزوجة بوجع التاريخ وحب الآخر حتى لو كان من الذين ما انكف�أوا يوم ًا عن توجيه �سهامهم �إليهم فاحتملوها ت�ضحية واحت�ساب ًا و�أم ًال في ان ُيورق �شجرهم يوم ي�سفر الحق عن وجهه المنير كا�شف ًا عن مخبوئهم الر�صين ومحارهم المدخر والثمين مم�سوح ًا بلفحة الحب والحنين. ان عالمتنا المقد�س ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل{ �أحد ه�ؤالء االعالم العاملين بع�ض من مكنون علمه الذين �شاءت االقدار و�سنن اظهار وجه الحقيقة ان نتعرف على ٍ الغزير و�أدبه الوافر وفرادة قلمه بعد م�ضي قرن كامل لنكت�شف في �شخ�صيته هذا الجوهر المكتنز لأبعاد عديدة وعميقة و�ضعته في م�صاف العلماء الربانيين الذين مثلوا القدوة والنموذج واال�سوة. 14
����������������������
قبل ان اتطرق الى بع�ض المميزات التي طبعت �شخ�صية و�إرث هذا العالم االلهي من ال�ضروري اال�شارة الى الظروف ال�سيا�سية واالجتماعية والمعي�شية التي رافقت مرحلة حياته وعطائه فكانت �صعبة و�شائكة و�ضاغطة ومعاك�سة تقت�ضي ان�صراف العلماء في جبل عامل الى اولويات وهموم وم�شاغل تفر�ض التقوقع واالنكفاء نتيجة الظلم المتالحق الذي ما غادرهم يوم ًا �أبد ًا في ظل متغيرات فكرية ودولية و�سيا�سية وارها�صات الحروب الكونية ،ايذان ًا بتبدل خارطة المنطقة لح�ساب م�صالح الدول الكبرى ،ففي مثل هذه الظروف نرى المقد�س ال�سيد محمدر�ضا{ حا�ضر ًا في مجاالت عديدة ،ومهمة مثبت ًا ف�ضائله وفار�ض ًا لخ�صو�صياته ومقتحم ًا ل�ساحات ذهل عنه كثيرون وهذا ما يجعلنا نحتار �أمام قدرة �أمثاله على االبتكار والتميز. ومن خالل مراجعة ما ن�شر وكتب وعلم عن حياته �س�أتوقف عند ما يلي: في العلم:من خالل الت�أمل في م�ساره العلمي في اطار العائلة واال�ساتذة في لبنان وخارجه يمكن ان ن�ضع ايدينا على الم�ستوى العلمي الراقي الذي عا�ش في ظله فاذا ان�ضم الى هذا كله ذكا�ؤه الوقاد واخال�صه ال�صافي وقريحته المتفتقة فانه مدعاة النتاج فاخر من الطراز الرفيع الذي يح�ضر قوي ًا في م�صنفاته القليلة التي �سلمت وو�صلت �إلينا و�س�أكتفي في هذا المجال بالتوقف عند الكتاب الذي ن�شر تحت عنوان االمامة لنعرف ب�سهولة �أننا �أمام �شخ�صية ممتلئة وم�شبعة بالمعارف والعلوم النقلية والعقلية فطريقة اال�ستدالل التي اعتمدها تعتبر فريدة في �إحكامها حيث قدم لمق�صوده بذكر عدد كبير من االيات القر�آنية وا�ستخل�ص م�ضامينها وغاياتها بحذاقة ل ُيحكم عراها بالعقل والحكمة والفل�سفة والنظام العام و�سيرة العقالء واالمراء فينتج من ر�صف المقدمات ومحاكاتها للبديهيات ببراعة الو�صول الى مراده في اثبات البدية وحتمية االمامة ودورها وموقعها الديني ك�أ�صل ديني وقر�آني يغني الدليل عن كثير الحاجة ل�سلوك الطرق التقليدية المتبعة في تحقيق م�س�ألة عقائدية وتاريخية ومف�صلية و�أظن �أن هذا النمط غير م�سبوق و�أظن ان كتاب ًا كهذا جدير باالعتماد عليه در�س ًا وبحث ًا في 15
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
الحوزات والمعاهد العلمية ثم ان هذا التعمق ومالحقة المو�ضوع من زوايا عديدة ي�ؤ�س�س لمنهجية علمية نراها جلية في مختلف ابحاثه وقاعدة متينة تبنى عليها نتائج جليلة كمعالجته لمو�ضوع االجتهاد والعلماء وادوارهم ت�أ�سي�س ًا على فهم وا�سع وممتد لمو�ضوعة االمامة. في ال�سلوك والعرفان :على ما يبدو من ن�صو�صه الجلية في مقا�صدها والم�شرقة في دالالتها م�ضاف ًا الى ما حظي به من ا�ساتذة لهم باع في هذا ال�ش�أن وما انطوت عليه نف�سه الهادئة وال�ساكنة جعلت اهتماماته من�صبة على غايات روحية وايمانية لم تغب عن ر�ؤيته ال�صافية لالمور كافة فتحلى بب�صيرة متيقظة اعانته على معالجة ادق و�أخطر الم�سائل االخالقية والحكمية وما يرتبط منها بتهذيب النف�س في كتابه (ميزان العدل) ال�سمكية) الذي يف�صح عن غور عميق وفهم دقيق وتجربة �صادقة في َ�سوق النف�س نحو التقوى والقناعة والزهد والتطلع دوم ًا الى ما بعد الموت وقد اعانه في ذلك ح�سن بيانه وعذب كالمه في ...المعنى وافا�ضة النف�س عما يختلج فيها وما ي�ساورها حب ويحك يا نف�س هذا عقلك �أطف�أ و�س�أكتفي بذكر مقطع واحد حين يقولِ : م�صابيحه ُ َ وفكرك َك َّل من الخو�ض في مذاهب ال�شهوات وتراكمت عليها من الو�ساو�س الظلماتُ ِ ري لوارده الدنيا بخائبه و�أظلمت عليه الى الآخرة مذاهبه ِ إياب ل�شارده وال َّ ووهمك ال � َ وخيالك على تكرر الآناء يخبط الع�شواء ويت�سنم الظلماء .ومالحظة ا�شعاره في هذا الم�ضمار تو�ضح مراداته اكثر فمن جملة ما يقول: ي�سكر ال�شباب وحر�ص ال�شيب واالم��ل ق��د �أ��ش�ك�ل��ت ع�ن��ده��ا ال �غ��اي��ات وال�سبل ك ��م م ��دل � ٍ�ج �� �س ��اد ٍر ف ��ي ف�ج�ه��ا فم�ضى ت �ه��وي ب��ه ف��ي ال �م �ه��اوي الأن��ي ��قُ ال�ب��زل الى �أن يقول: ��ض�ل��ت م�ساعيك ي��ا م��ن راح يطلبها �إل � � ِو ال ���ُ�س��رى ق�ب��ل �أن ي�ل��وي ب��ك الأج ��ل ف��أم�ه��د لنف�سك م��ا دام ال �ح��راك بها م��ن ق�ب��ل ان ُتقب�ض اال� �س �م��اع والمقل ت�ل��ك ال �ق��رون ال�م��وا��ض��ي قبلنا درج��ت ع �ل��ى ال �م �ن��ون وف �ي �ه��ا ي �� �ض��رب ال�م�ث��ل 16
����������������������
في االدب :حين ت�أملت في ما ن�شر له من م�ؤلفات علمية �أو �شعرية �أو ر�سائل متعددة ادركت انه والبيان �صنوان فالبالغة العالية والف�صاحة البينة �أ�شربتا في مطالبه العلمية المتخ�ص�صة فهو �صاحب قلم ال يجري اال وزن ًا وايقاع ًا فا�ضاف الى �إحكام العقل وترا�صه متانة التعبير وجماله فال يكاد َيخرج من جعبته اال اللآلئ الفاخرة مع مقدرة نادرة على الجمع بين فنون الكالم وا�ساليبه ففي مو�ضوع واحد ينقلك من �شعر م�سبوك وافر وغزير على طريقة المتنبي �أو ابوالعتاهية الى نثر م�سجوع تتالطم فيه المعاني ازدحام ًا وااللفاظ فرادة على طريقة نهج البالغة ل�سيد البلغاء ،Qفترى في كالمه �أن�س ًا وجذب ًا وات�ساق ًا وان�سياب ًا يحبب �إليك المعنى ويربطك بالمق�صد وت�شعر معه انه قادر على اال�ستمرار الى ما �شاء اهلل لأن �أدبه اتك�أ على مخزون علمه وثقافته الغنية والوا�سعة. فلي�س بيانه عجيب ًا لأمثاله ،اذ وجدته ثاوي ًا في العلم عند محرابه ،يلثم من رحيق ن�شوه ما �صفى ،يخرج من فم عقله �سحر ر�ضابه ،يلوي الحرف ا�شكا ًال لمراده ،يغزل المعنى في�ض ًا في �سبك جوابه ،هلل دره في جمع ما بان وخفي ،ك�أنه �سلطان الكالم في ذهابه و�إيابه. في دور الفقهاء والعلماء :لقد ك ّون هذا العالم الرباني فهم ًا متقدم ًا وت�شخي�ص ًا كام ًال و�صائب ًا لدور ووظيفة الفقهاء والعلماء في زمن الغيبة الكبرى متجاوز ًا في ذلك الطابع التقليدي الذي �ساد في مراحل واجواء ح�شرت دور العلماء في زوايا محدودة وا�ستند { في ر�ؤيته على ادراكه الوا�سع ب�ضرورة حفظ ال�شريعة باالجتهاد والتبحر من�ضمين الى التقوى و�سالمة النف�س واالعرا�ض عن الدنيا وان يج�سد العالم القدوة للعمل والهداية وهذا بحد ذاته يتطلب ت�صدي ًا وح�ضور ًا في المجتمع وبين النا�س لبيان الحكم ال�شرعي ومواجهة الف�ساد والظلم والحيف ون�صرة المظلوم واقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها بنظره تعبر عن الوظيفة المتكاملة التي ال تقبل التفكيك كما ان النكو�ص والتراجع عن هذه الم�س�ؤولية �سيكون �سبب ًا ل�شيوع البدع 17
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وهيمنة الظالمين وتمزق الأمة و�ضياعها ،ان هذا الفهم يعد �سباق ًا وقادر ًا على مواكبة التحديات التي ال تجيز للعالم ان يقف منها وفيها موقف الحياد والمراقب فح�سب. الوعي والمواقف� :أهل جبل عامل في تلك الحقبة فقراء ومعدمو الحال تتالت عليهم النكبات والمجازر و�أريد لهم ان يقبعوا في زاوية معتمة من زوايا التاريخ وظلمه وق�سوته ولم يكن لهم حظ في ال�سلطة وال مكانة �أو اعتراف لهم بحقوقهم وال ب�أدوارهم ولم تكن �آنذاك و�سائل ات�صال واعالم ،ال�سائد عندهم هو القهر والجوع واالوجاع وال�سالطين واالمراء يتخطفونهم ل�سبب �أو من دون �سبب ففي مثل هذه االحوال القا�سية اقتحمت العالم العربي واال�سالمي م�شاريع اال�ستعمار والهيمنة واالحتالل ،في مثل هذه االجواء يتوجه العالمة المقد�س { بر�سالة الى ال�سلطة العثمانية م�ستنه�ض ًا و�صارخ ًا بوجه االحتالل االيطالي لليبيا ومحذر ًا من التهاون ومخاطره على االمة ووحدتها ومنبه ًا الى الغرب واطماعه: ف �ن �ه �� �ض � ًا ي� ��ا ل� �ي ��وث ال � �ع� ��رب ن �ه �� �ض � ًا ل� �ن ��ا ق � ��د ا� � �ض � �م� ��رت �� � �ش � ��ر ًا اوروب � � ��ا �ألي�س من حقنا ان ن�س�أل ما �ش�أن عالم في جبل عامل بما يجري في ليبيا ،بل لنا �أن ن�س�أل كيف عرف طبيعة المخطط اال�ستعماري �آنذاك ؟ وهل كان �سالطين الدولة العثمانية الغارقون بظلمهم لجبل عامل قد �سمعوا ب�إ�سم هذا ال�سيد الجليل؟ نحن �أمام م�شهد عظيم من م�شاهد الوعي المبكر والتعالي والت�ضحية من �أجل الأمة ووحدتها ففي الوقت الذي ا�ست�شهد فيه اخوه على �أيدي االتراك كما اعدموا ابن عمه وكثيرين من �أهله واحبائه ف�إنه يهب لنجدة الأمة ووحدتها ،انه �صوت العلم والمعرفة والوعي واالخال�ص الذي لو تمت اال�ستجابة له لما تجرعت االمة ما تجرعته من ك�ؤو�س الذل والهوان والت�شتت ولما كنا اليوم في عالمنا العربي واال�سالمي نترع الغ�ص�ص واالالم والهزائم والعلقم وال�شوك وال�شجى. هذا الوعي هو ارث ومنهج المدر�سة العاملية اال�صيلة وهو ال�سيرة التي اقتدى فيها ال�سيد محمدر�ضا ب�أجداده واعمامه من العلماء وال�شعراء والمجاهدين ف�أحدهم الذي عمل على ح�شد الطاقات لمواجهة جي�ش �أبي الذهب المعري الذي حاول احتالل جبل 18
����������������������
عامل كما وقف الى جانب ال�شيخ نا�صيف ن�صار بوجه احمد با�شا الجزار وهو ال�سيد فخرالدين الذي تحدث عن المقاومة في �سنة 1775م: ه��ي البي�ض ي ��روي ك��ل � �ص��اد �شرابها ك �م��ا ال �ن �م��ر ي� ��ردي ك ��ل ع� ��اد �شهابها وه� ��ل �أزه� � ��رت ب��ال �م �ج��د �أي � ��ام م��اج��د وم��ا ك��ان م��ن ب��رق الموا�ضي �سحابها �أب ��ت همتي �أن تقبل ال�ضيم �صاحب ًا ك � � ��أن ن �ع �ي��م ال �خ �ف ����ض ف �ي ��ه ع��ذاب �ه��ا الى �أن يقول: دع ال�ع�ي����ش ذ ًال ف��ال�م�ع��ال��ي وان ن���أت ل� �ك ��ل �أب� � � ��ي ف � ��ي ال� � ��رج� � ��ال �إي ��اب� �ه ��ا هذا هو خطاب المقاومة اليوم وهذه هي جذورها المت�أ�صلة وهذا هو التاريخ الذي يحكي علماءنا االطهار وينعك�س في مر�آة واقعنا مقاومة �صادقة في انتمائها بالعلم واالدب وال�شجاعة والت�ضحية والوعي والوحدة فمقاومتنا اليوم على �صورة العالم الرباني ال�سيد محمدر�ضا { هي مقاومة العلم والوعي والحكمة وتحمل الم�س�ؤولية بوجه المترب�صين بالأمة �شر ًا �سواء كانوا �صهاينة �أو ا�ستكبار غربي �أو ممن �أعمى اهلل قلوبهمو�أع�شى اب�صارهم و�سد نوافذ عقولهم فجعلهم يد ًا ب�أيدي اعدائهم يحركونهم لأهوائهم ي�شتدون على من اراد بها �شر ًا وتفتيت ًا وتق�سيم ًا. �إن الوفاء لتاريخ علمائنا الأطهار ي�ضعنا دائم ًا في موقع تحمل الم�س�ؤولية مهما كانت الت�ضحيات فيها ج�سيمة ويفر�ض علينا �أن نبقى على خط الإ�ستقامة والوعي فال تحرفنا درب خطه التهم واحفادها عن �سلوك ٍ الأحداث وق�ساوتها وال المظالم واوجاعها وال ُ �سلفنا ال�صالح بالمعرفة وااليمان واالخال�ص والكلمة ال�صادقة وعبروا عن كل ذلك وفن جميل ورفيع ليبقى الذكر الح�سن دائم العطاء واال�ستمرار مع كل جيل ب� ٍ أدب ر�صين ٍ فللعلم بيوت كما للأدب �شاهقات تزدان جما ًال وقبابا والقلوب �أوعي ٌة ال يت�سع منها لعلم �آل البيت �إال ما طهر وطابا ،انه التوفيق ن�صيب من �أخل�ص وج ّد في العلم وابتغى �إلى ربه م�آبا هكذا يخلد ذكر من �أح�سن �صنع ًا ف�سطر في الملكوت كتاب ًا. والحمد هلل رب العالمين. 19
������������������������
الشيخ عبد الحليم الزهيري
(((
ó ...و�سجل بطوالتها المفتوح يوم ًا و�أبد ًا. ...لبنان مدينة ق�صيرة الأطراف مترامية الأو�صاف ،فحين تدنو للكالم عنها ترتدو حيا ًء من ف�صاحة �أهلها و�سمو �أرزها البا�سق ،على الرغم من عتو الرياح القادمة من كل الجهات ،لبنان مزيج من ال�سحر وال�شعر ،ومنهل للعلم والمقاومة. جئتكم من العراق ،وب�أطراف عبائتي غبا ُر الحرب ،ودخان المفخخات و�أبخرة ال�سيا�سية ،كما قال �شاعرنا ال�سيد م�صطفى جمال الدين ــ رحمه اهلل ــ في ق�صيدته من الجنوب �إلى الجنوب: �اب م ��ن ج �ن��وب ال� �ع ��راق ج�ئ�ت��ك ي ��ا لبنان وال � � �ظ � � �ل� � ��م ب � �ي � �ن � �ن� ��ا �أن � � �� � � �س� � � ُ ل �ك��م ف ��ي � �س �ه��ول �أه � ��وارن � ��ا ��ص��رع��ى ن � � �ح� � ��ول م � ��ري� � ��� � �ض � ��ة واح � � � �ت� � � ��راب ول��ن ��ا ف ��ي ت �ل�ال (ج �ب �� �ش �ي��ت) ج��رح��ى دم � � �ه� � ��م ف � � ��ي ع � ��روق� � �ن � ��ا �� �س� �ك ��اب �اب وم� � �ت � ��ى �أح� � � � ��رق ال� ��� �ص� �ن ��وب ��ر غ� ��از �� �ش � َّ�ب ف� ��ي ب ��ا���س ��ق ال �ن �خ �ي��ل ال��ل��ه � ُ ((( �اب �اب م�����ص � ُ م� ��ن ج� �ن ��وب ال � �ع� ��راق ج� �ئ � ُ�ت وه��م � ّ�ي ه � � ُّم ل �ب �ن��ان وال��م�����ص � ُ م�صاب واحد... ٌ (( ( م�ست�شار رئي�س الوزراء العراقي ((( هذه �أبيات من ق�صيدة لل�شاعر الأديب الدكتور م�صطفى جمال الدين ،التي جاءت تحت عنوان -من الجنوب �إلى الجنوب.
21
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
...نعم جئت من العراق ،ومن الجنوب ،ومن النجف ،ومن الحلة (الفيحاء)، باعتباري من �أهل (الحلة)� ،إلى لبنان و�إلى جبل عامل. جبل عامل �شقيقة �أمي (الحلة) (بابل) ،ا�سمها التاريخي والح�ضاري الممت ُّد لآالف ال�سنين من الح�ضارة والنور والعطاء ،الحلة ت�شبه جبل عامل ،كما العراق ي�شبه لبنان، وبغداد ت�شبه بيروت ،ولكن وجه ال�شبه مختلف ،الحلة وجبل عامل مدينتان عالمتان مجتهدتان ،فبين المحقق الحلي والعالمة الحلي وال�شهيدين العامليين ،عالمة �شبه ت�صل �إلى حد التنا�سخ ،تجمعهما مدر�سة �أهل البيت ،ويلتقيان في بحر من العلم والفقه والأدب ،هذه المدر�سة التي ز ّودت العالم �أجمع ب�آالف الفقهاء والمجتهدين ،وتخ ّرج منها :الإمامان ال�شهيدان الأول والثاني اللذان ينحدران ن�سب ًا من هذه الأر�ض الطيبة، فورثا منها علم ًا ومقاوم ًة وت�ضحية. �أما �شبه العراق بلبنان ،فهما وجهان با�ستهداف واحد ،وعدو م�شترك ،ي�شتركان في م�صير واحد ،لأننا ن�شم رائحة البارود في الأزقة والبيوت هنا وهناك. تواجه �أيها الأخوة� ،أمتنا الإ�سالمية �أخطار ًا كبيرة وم�شتركة ،علينا �أن نع َّد لها م�شتركين ما ن�ستطيع من عزم وقوة ومقاومة وتخطيط ًا ،لأنّ الم�ؤامرة تريد م�سخ هويتنا من داخلنا ،ومن ت�شويه دين �إ�سالمي مت�سامح الذي جاء به ر�سول اهلل ،Pرحمة للعالمين ،يريدون �أن يلطخوا قبابه الخ�ضراء بلون الدم لكي ي�سلبوا منه لون الحياة ورائحة الربيع ،ال يريدون لنا �أن ننطلق من جوهر هذا الدين لنحاور به الآخرين ،كما علمتنا مدر�سة لبنان والعراق الحوزوية ،اللتان تع ّلما ذلك من مدر�سة �أهل البيت Q التي عا�صرت وعاي�شت وتعاي�شت مع جميع المذاهب والأديان. نحن في العراق ،و�أنتم في لبنان ،بل نحن في لبنان ،و�أنتم في العراق ،ال فرق، وجميعنا في العالم الإ�سالمي والعربي ،نتعر�ض لهجمة �شر�سة ومنظمة وممنهجة بطم�س هويتنا ،وا�ستالب المنظومة القيمية والأخالقية من ديننا ،وت�شويه �صورته ،وهي وجه �آخر من المواجهات ،التي تتعر�ض لها الأمة ،من التحديات الخارجية من خالل الإ�ستعماري 22
������������������������
والإحتاللي ،والأ�شكال الأخرى للمواجهة ،فهناك �أ�صابع مجهولة �أو معلومة ،اختطفت فجر تحت غطاء الإ�سالم ،وعباءة الإ�سالم. هجر و ُت ّ الدين من داخله ،و�أ�صبحت تقتل و ُت ّ ا�شتدت الهجمة في العراق ،فت�صدى لها علماء الدين والمجاهدون ،بقيادة المرجعية العليا في النجف الأ�شرف ،التي نبهت وتنبهت من هذا الخطر الكبير من خالل بياناتها وتوجيهاتها ،التي تحثّ على الإلتزام بالد�ستور والم�شاركة في الإنتخابات ،وبناء الدولة، و�إقامة الحوار مع الجميع ،لأن البناء الح�ضاري والد�ستوري يق�ضي على الف�ساد ،والإرهاب، و�أخير ًا �صدرت الفتوى الجهادية الت�أريخية من قبل �سماحة �آية اهلل العظمى المرجع هب �أبناء العراق من كل الأعلى ال�سيد ال�سي�ستاني (حفظه اهلل) ،لمحاربة الإرهاب ،وقد ّ البقاع ،تلبي ًة لهذا النداء معلنيين ا�ستعدادهم لل�شهادة ،دفاع ًا عن الدين وعن اهلل. �أيها الأخوة الأعزاء� ،إنّ هناك خطة لإعادة ت�شكيل خارطة جديدة للمنطقة ،وقد و�ضعت لها مالمح هنا ،وهناك لت�شويه هويتنا ،ولذا ي�أتي هذا الم�ؤتمر التكريمي للعالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل { في �إطار الدفاع عن الهوية في �إحياء الرموز وتكريم العلماء ،لأن ا�ستعادة ذكرى العالمة الفقيه والأديب ال�شاعر ال�سيد ف�ضل اهلل هي ا�ستعادة ذكرى لجيل ثامن من العلماء والعظماء ،وا�ستعادة لذكرى ال�شهادة وال�شهداء، ولل�شهيدين العامليين الذين رووا لنا بدمائهم ومدادهم ،م�سيرتنا العلمية والجهادية، وهو تكريم لآل ال�صدر ،هذه الأ�سرة التي تركت عالمات فارقة في جبين الع�صر الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر ،والإمام ال�سيد محمد باقر ال�صدر ،وال�شهيد محمد �صادق ال�صدر (ر�ضوان اهلل تعالى عليهم) ،وغيرهم من �أفذاذ هذه الأ�سرة ،وهو تكريم لآ�سرة �آل (ف�ضل اهلل) التي �أ�سهمت في تطوير الحركة الفقهية والأدبية والحركي وتكريم ًا ،لكل هذا الجيل الطيب المبارك. �أيها الأخوة الأعزاء ،بين والدة ال�سيد ف�ضل اهلل ،وهذا الم�ؤتمر قدر كامل من الزمن والمتقلبات والتحوالت من �شتى مجاالت الحياة .لن ت�ستطيع هذه التلقبات� ،أن تمحوا ذكره وتجعل القائمين على عقد هذا الم�ؤتمر ،ين�شغلون عنه في غيره من التحديات 23
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
في ظل الواقع المهزوم ،من هنا نتقد بال�شكر الجزيل للقائمين على هذا الم�ؤتمر، و�أخ�ص بالذكر الم�شرف على جمعية الإمام ال�صادق Qلإحياء التراث العلمائي �سماحة ال�شيخ ح�سن بغدادي ،وم�س�ؤوله ال�سيد ها�شم �صفي الدين (حفظه اهلل) على هذه المبادرة .لأن العالمة لم يفارق الحياة بعد ،فهم يحيون رمز ًا من رموزنا لإحياء هويتنا ،وهذا هو ديدن كل الذين �ساهموا في رفد الحياة بقيمها علم ًا و�أدب ًا و�إبداع ًا، ومواقف ال تن�سى ،كما يقول العالمة ال�سيد مح�سن الأمين: ك � ��ذا �إذا ان �ح �� �س��ر ال �ع �م ��ر اب � �ت� ��د�أت ك �م��ا ل ��و �أن ح �ي��ن ي�ح�ب��و ي��ب ��د�أ العمر وال��م��ب ��دع ��ون م �ن��اي��اه��م ت���ض��اع�ف�ه��م ف �ك �ل �م��ا ق� ��ل م� ��ن �أع � �م� ��اره� ��م ك��ث ��روا من �أر�ض والدته ،هنا في جبل عامل� ،إلى النجف الأ�شرف التي عاد منها ،ومعه جبل من العلم والأدب والفقه ،جاء بهذا الجبل من العلم ،ولي�س بمقدور كل �أحد من الذين ق�صدوا النجف ،لأن النجف ال تعطي ،لمن يبخل عليها �إال للتلقي الإ�ستعداد كثير ًا، الذين در�سوا ،لم يح�صلوا على ما ح�صل عليه ،كما هو مدون في �سيرته فقد ا�شتهر بال�شعر والمعرفة والبالغة ،وقال عنه ال�سيد ح�سن ال�صدر ،الم�ؤرخ الم�شهور في كتاب تكملة �أمل الآمل�« :إنه ذو علم ،و�أدب و�شعر ،ونثر ،وقلم ح�سن ،وهو �أحد ح�سنات هذا الع�صر»� ،أ ّما الم�ؤرخ علي الخاقاني في كتابه �شعراء الغري ،فقال عنه�« :شاعر �شهير، وكاتب مبدع ،وله نثر ،ترك لنا ال�سيد �آثار ًا ي�ست�ضاء بها ،وعلى الرغم من الظروف ال�سيا�سية القاهرة ،والمعي�شية التي كان وكانوا يعي�شونها مع ًا ،فقال �شاعرهم في تلك الفترة المظلمة: ق �ل��ب ال �ج �ن ��وب م ��ن ال �ظ �م��ا ق ��د ذاب ��ا وال��ط��ف ��ل ف �ي��ه م ��ن ال � �ح� ��وادث ��ش��اب��ا وال� �ف� �ق ��ر ح� �ك ��م ف� ��ي ج �م �ي ��ع ج �ه��ات��ه م � ��ن ج � �ل� ��ده الأظ � � �ف� � ��ار والأن � �ي� ��اب� ��ا �أول� � �ئ � ��ك �آب � ��ائ � ��ي ف �ج �ئ �ن ��ي ب �م �ث �ل �ه��م �إذا ج �م �ع �ت �ن��ا ي� ��ا ج ��ري ��ر ال �م �ج��ام��ع وال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته. 24
�����������������
الشيخ أحمد مبلغي
(((
عالم مجدد ،م�صلح ،جمع بين الفقه والفل�سفة ،وجمع بين النظرية والتطبيق. في الأدبيات الدينية نجد كلم ًة ال بد في العلوم من �أن ننطلق منها؛ وهي العلم النافع. الإ�سالم ال يريد العلم لكي يطرح ،وال ينزل �إلى الواقع ،وال يطبق على الواقع ،بل دائم ًا يريد �أن يحذف الو�سائط بين العلم والعمل ،و�أن يجعل المجتمع والعلماء يحاولون تطيبق العلم ب�سرعة على ق�ضايا المجتمع. الإ�سالم عندما يطرح الفقه ،ال يريد �أن يكون هناك فقهاء يجل�سون في بيوتهم ،وهم غافلون عن واقع المجتمع ،ف�أورثوا فقه ًا و�أوجدوا ق�ضايا فقهية التنفع المجتمع ،الفقه ّ َ َ َ َّ ُ ْ ّ ِين ﴾ ،ثم بعده في الإ�سالم فقه هادف ،ولذلك نجد في القر�آن الكريم ﴿ ِلتفقهوا ِف ٱدل ِ ْ ﴿ َو ِلُنذ ُِروا قَ ۡو َم ُه ۡم ﴾ ،هنا تتب ّين الهدفية من الفقه ،الهدف هو �إيجاد الأثر ،هو الت�أثير على المجتمع ،هو جعل المجتمع ينتفع بهذا العلم وهذا الفقه� .أما مج ّرد الفقه ،هو مج ّرد كلمات ،تُبثّ في الف�ضاء ،وهي ال تنفع �أ�ص ًال ،والهادفية للفقه� ،إنما ُيعلم حالها من القوم الذين هم الهدف ،لأن الفقيه ،ال ب ّد �أن ي�أتي �إلى القوم وينذرهم ،فال ب ّد من �أن ينظر �إلى القوم. (( ( ع�ضو مجل�س الخبراء في الجمهورية الإ�سالمية في �إيران
25
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وهنا �شيء لطيف ال بد من الإلتفات �إليه ،وهو �أنّ القوم ال �سيما في هذا الع�صر، وجملة من الع�صور الما�ضية المتقدمة علينا ،القوم قد يتك ّونوا من ال�سنة وال�شيعة ،وقد يتكونوا من الم�سلم وغير الم�سلم ،فالفقيه �سواء كان فقيه ًا من ال�سنة �أو كان فقيه ًا من ال�شيعة ،ال ب ّد �أن ينظر �إلى القوم ،و�أن يوجه ويخاطب هذا القوم ،و�أن يفهم هذا القوم ،ولذلك نجد �أنّ الكثير من فقهائنا كانوا ينظرون �إلى واقع المجتمع ،فال�شهيد الأول وال�شهيد الثاني ،هما المثاالن البارزان لنا ،هذان ال�شهيدان ،كانا فقيهين بارزين، ولكنهما لما ر�أوا �أنّ المجتمع مك ّون من ال�سنة وال�شيعة ،دخلوا في فقه المذهب� ،أي في مذهبهما (مذهب ال�شيعة) ،كما دخلوا في فقه مذهب �أهل ال�سنة ،ود ّر�سا هذا المذهب �أي�ض ًا ،بل كانا عالمين ،وفقيهين في جميع المذاهب ،وكانا قد � ّأ�س�سا الفقه المقارن ،مع لونه الخا�ص ،وكانا قد �أعطيا هذا الفقه مرحلة متقدمة ،بحيث ننتفع نحن اليوم من �آثار و نتائج فقههما في مجال الفقه المقارن. لبنان منطقة ،خا�صة لل�شيعة وال�سنة مع ًا ،مناخ لبنان مناخ خا�ص ،ينتج الفقه وي�صرف ب�سرعة في المجتمع ،هذا امتياز�ُ ،س ّجل لكم في التاريخ ،علما�ؤكم لم يكونوا فقهاء منعزلين عن المجتمع ،بل كانوا فقهاء يدخلون في الميادين الإجتماعية ،ويب ّثون �أفكارهم .ق ّلما يوجد فقيه لبناني ،وهو غير م�صلح ،وال�شيعة بل جميع العالم الإ�سالمي يلتفت لما ترك الفقهاء اللبنانيين على م ّر الزمن .و�أنا �أقول :حتى في الزمن المعا�صر، نجد �أن هذا المناخ ،الم�ستعد للإ�ستفادة من العلوم ،ل�صرف العلوم في مواقعها ،وفي الق�ضايا الإجتماعية ،هذا المناخ حتى في هذا الع�صر ،قد كان له �أثره البارز والمميز في الجمع بين العلم والعمل. الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر (�أعاده اهلل) ،عندما جاء �إلى هنا� ،صحيح �أنه كان م�صلح ًا ،وذا ر�أي بالعالقات الإجتماعية ،ب�صورة متم ّيزة� ،إال �أنّ �شخ�صية الإمام مو�سى ال�صدر ،لي�ست كلها منه ،بل �أي�ضا من هذا المناخ العلمي الجاد اللبناني .ولذلك هو جاء ،و�أحدث ثورة فكرية ق ّلما يوجد مثل هذه الأفكار التي تركها على هذه ال�ساحة. 26
�����������������
بالن�سبة للتعاي�ش الإ�سالمي ،العالم دائم ًا بحاجة �إلى مثل درا�سة �أفكار الإمام مو�سى ال�صدر ،لأن ما تركه لكم ،وبف�ضل مناخكم الم�ستعد ،هو المثال الأعلى حقيق ًة. حزب هو حركة ،يمثل �إرادتكم لإبراز الفقه والعلوم الإ�سالمية ب�سرعة �إلى المجتمع، ف�إنّ الكثير من العلوم الإ�سالمية في هذه الحركة تتجلى وتتج�سد ،وهذا بف�ضل العلماء، ولذلك نجد اليوم لبنان بف�ضل �إرادتكم يلمع نج ُمه في العالم الإ�سالمي ،نحن نك ّرم هذا العالم ،من ال�ساللة اللبنانية ،وهوعال ٌم م�صلح ،عال ٌم مج ّدد ،عندما تقر�أ كتبه ترى �أنه لم يكن فقط فيل�سوف ًا ،بل كان يحاول الإنطالق من الفل�سفة �إلى ما ينفع المجتمع. من خالل قراءتي لكتابه (ميزان العدل) ،ر�أيت �أنه يمتلك ر�ؤية فل�سفية قوية ،تعادل ما قاله الفال�سفة الما�ضون� ،إال �أنه قد حاول ت�سوية هذه المبادئ الفل�سفية �إلى واقع العمل. �أنا �أ�شكر هذا الحفل الكريم ،و�أتقدم بال�شكر �إلى �سماحة ال�شيخ ح�سن بغدادي، لمحاولته عقد مثل هذه الندوات والم�ؤتمرات الق ّيمة ،و�أتقدم بال�شكر � ً أي�ضا �إلى �سماحة ال�سيد ها�شم �صفي الدين والعلماء الآخرين ،و�أ�شكركم جميع ًا وال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته.
27
�����������������
الشيخ حسن بغدادي
(((
�أ ّيها الحفل الكريم.. ي�أتي م�ؤتمرنا هذا تكريم ًا لأهل العلم ،ولعطاءاتهم الم�ضيئة ،التي ا�ستنار �أهل الجهل بنور علمهم ،ف�أخرجوهم من الظلمات �إلى النور ،و�أخرجوا من عقولهم ال�شبهات التي زرعها ال�شياطين ،ور�سموا لهم طريق الخير ،فكانوا الأدالء على اهلل تعالى ،وهداة الدرب والحجة الظاهرة على الخلق في زمن غيبة المع�صوم | ،فكان الراد عليهم را ًّدا على الأئمة الأطهار ،Rوبالتالي هو را ٌّد على اهلل عز وجل. من هذا النور خرج عل ٌم من جبل عامل ،هو ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل� ،صاحب المواهب المتعددة في الفقه والأ�صول والأدب والفل�سفة ،من قرية (عيناثا) المتن ّورة، والتي خرج منها علماء وفطاحل ،منذ النه�ضة العلمية الأولى التي ت� ّأ�س�ست في هذا الجبل على يد �شهيدنا الأول ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني(((� ،إلى عهد النه�ضة العلمية الثانية التي انطلقت بعد نهاية النكبة �سنة 1804م1219/هـ(((. (( ( ع�ضو المجل�س المركزي في حزب اهلل ،والم�شرف على �أعمال الم�ؤتمر ((( �أبو عبد اهلل محمد بن ال�شيخ جمال الدين مكي �إبن ال�شيخ �شم�س الدين محمد بن حامد بن �أحمد المطلبي ن�سب ًا الحارثي الهمداني �أم ًا النباطي الجزيني العاملي موطن ًا المعروف بال�شهيد الأول� ،صاحب كتاب اللمعة الدم�شقية ،كان عالم ًا ماهر ًا فقيه ًا محدث ًا مدقق ًا ثقة متبحر ًا كام ًال جامع ًا لفنون العقليات والنقليات زاهد ًا عابد ًا ورع ًا �شاعر ًا �أديب ًا من�شئ ًا ،فريد دهره، عديم النظير في زمانه ،ا�ست�شهد �سنة 786هـ في اليوم التا�سع من جمادى الأولى في دم�شق في دولة بيدر و�سلطنة برقوق بفتوى القا�ضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة ال�شافعي بعد ما حب�س �سنة كاملة في قلعة ال�شام. (( ( المق�صود بها ،نكبة جبل عامل على يد الوالي العثماني �أحمد با�شا الجزار وا�ست�شهاد الأمير نا�صيف الن�صار ،حيث عمد العثمانيون �إلى التفكير الجدي بو�ضع جبل عامل تحت الو�صاية المبا�شرة ،وكانت النكبة من �سنة 1781م ــ 1804م 1195 /هـ ــ 1219هـ.
29
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
(عيناثا) ،كانت �إحدى الحوا�ضر العلمية في هذا الجبل ال�شامخ ،فلم تكن مج ّرد قرية ي�سكنها �أحد العلماء� ،إنما كانت م�شروع توليد لهذه الطاقات ،في م�شروع ا�ستقطاب لح�ضور العلماء والطالب �إليها من خارج حدودها الجغرافية ،فعلى �سبيل المثال :ح�ضر �إلى (عيناثا) في �أيام �شبابه ،ال�شيخ نا�صر بن �إبراهيم البويهي ،وهو من �ساللة ملوك البويهيين((( ،وبقي في (عيناثا) �إلى �أن توفي �سنة 853هـ ،ودر�س فيها على ف�ضالئها ،منهم :ال�شيخ ظهير الدين العاملي ،و�أ�صبح من ف�ضالء جبل عامل ،ومن �أدبائه المعروفين ،وهناك العديد من ال�شهادات بحقه. ومن الذين قدموا �إلى (عيناثا) ال�شريف ح�سن ــ ج ّد ال�سادة �آل ف�ضل اهلل الح�سني ــ قدم من مكة المكرمة ،بداعي العالج ،وكان على �صلة بعلماء (�آل خاتون) ،حيث تع ّرف �إليهم عندما كانوا يذهبون لأداء منا�سك الحج والعمرة ،حيث كانت زيارة الأماكن المقد�سة في ذلك الزمن ،تختلف عن اليوم من حيث م ّدة البقاء ،و�إن�شاء العالقات مع �أهالي و�أعيان تلك البالد. ال�سيد محمد ر�ضا ،ولد في هذه القرية المتنورة ،ومن هذه العائلة ال�شريفة وذلك �سنة 1281هـ ــ 1864م ،ويعود ن�سبه �إلى الإمام الح�سن المجتبى .Q �شاءت الإرادة الإلهية �أن يتوجه هذا ال�شاب نحو طلب العلم ،مع �أنّ والده لم يكن من �أهل العلم ،و�إنما وقع في قلبه ،توجيه ولده نحو هذا الطريق ،حيث تو ّقع له �أن يكون له أحد الذين �سينه�ضون أحد رجاالت الإ�صالح ،وي�صبح � َ �ش�أ ٌن في يوم من الأيام ،و ُي�صبح � َ بجبل عامل مجدد ًا ،على ال�صعيدين العلمي والأدبي ،م�ضاف ًا لمهام �إ�صالحية �أخرى في ال�ش�أن الإجتماعي وال�سيا�سي. لم يكن جبل عامل في تلك الفترة مه ّي ًئا لتوليد الطاقات العلمية ،والإ�ستغناء عن مراكز العلم في الخارج ،ب�سبب ق ّلة عدد العلماء المتم ّكنين من المتابعة في الدرجات (( ( ال�شيخ محمد بن الح�سن الحر (الحر العاملي)� ،أمل الآمل ،ج� ،1ص.187
30
�����������������
العليا ،م�ضاف ًا للإن�صراف �إلى �أعمال �أ�سا�سية ،كانت تقت�ضيها الم�صلحة بعد نهاية النكبة؛ فالتبيليغ الديني ،و�إحياء المنا�سبات وتثبيت عقيدة النا�س ،وبناء المدار�س، و�إعادة الحياة �إلى طبيعتها ،تحتاج �إلى الكثير من بذل الجهد والوقت ،لهذا كانت الم�صلحة تقت�ضي ا�ستنها�ض من يجدون فيهم الكفاءة �إلى طلب العلم ،وتدري�سهم المقدمات ب�إتقانّ ،ثم �إر�سالهم �إلى النجف الأ�شرف ،للتفرغ الكامل والدر�س على الأفا�ضل والأ�ساطين الذين �أعطوا ك ّل وقتهم للتدري�س والت�صنيف. كان ال�سيد محمد ر�ضا من هذه الثلة الطيبة التي انت�سبت �إلى المدار�س الدينية في (عيناثا) و(حناويه) و(بنت جبيل)((( ،وبعد رحيل العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة �سنة 1304هـ ،تف ّرق الطالب ،وبع�ضهم انت�سب �إلى مدر�سة ال�سيد يو�سف �شرف الدين في (طورا)((( ،من �سنة 1305هـ �إلى �سنة 1308هـ ،حيث ق ّرروا ترك جبل عامل، والتوجه �إلى النجف الأ�شرف. لم يكن قرار الهجرة �إلى العراق ،بالأمر ال�سهل ،فم�ش ّقة الطريق والمخاطر ال�صحية والأمنية ،هذا ناهيك عن الحياة ال�صعبة في النجف ،لكن هذه المعاناة كانت تنتهي عند م�شاهدة الق ّبتين ال�شريفتين للإمامين مو�سى الكاظم وحفيده محمد الجواد،L عرجون على فبعد الزيارة والدعاء والتو�سل باهلل تعالى للتوفيق في هذا الطريقُ ،ي ّ كربالء حيث المرقد المط ّهر ل�سيد ال�شهداء الإمام الح�سين ،Qو�أخيه قمر بني ها�شم �أبي الف�ضل العبا�س .Q المحطة الأخيرة ،تكون (النجف الأ�شرف) ،حيث مرقد �أمير الم�ؤمنين ،Q (( ( مدر�سة (عيناثا) وكان ت�أ�سي�سها على يد ال�سيد نجيب الدين ف�ضل اهلل ،ومدر�سة (حناويه) ت�أ�س�ست على يد ال�شيخ محمد على عز الدين ،ومدر�سة (بنت جبيل) ت�أ�س�ست على يد ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة. ((( ال�سيد يو�سف بن ال�سيد جواد بن ال�سيد �إ�سماعيل بن ال�سيد محمد الثاني بن ال�سيد محمد الكبير بن ال�سيد �شرف الدين المتوفى في ذي الحجة من �سنة 1334هـ ،وهو والد ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين العالم العاملي ال�شهير ،وكان عالم ًا فا�ض ًال تقي ًا نقي ًا و�شاعر ًا �شهم ًا كريم الأخالق� ،سخي اليد تلوح عليه �آثار النجابة وال�سيادة. وبعد رحيل ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة� ،أ�شاد على ال�سيد يو�سف ال�شيخ محمد مغنية ،ب�أن ي�شيدوا مدر�سة في و�سط البالد، فكانت (طورا) ،وبالفعل انت�سب ال�سيد محمد ر�ضا �إليها مع بع�ض �إخوانه من �سنة 1305هـ �إلى �سنة 1308هـ.
31
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والحوزة العلمية ال�شريفة ،وين�سى معهما طالب العلم معاناته و�آالمه ،فل ّذة المجاورة للحرم ال�شريف ،ول ّذة الح�صول على المراتب العلمية وكماالت النف�سُ ،تن�سيه جوعه وعط�شه ،وبرد وح ّر تلك البالد التي ال ُتطاق. وكان ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل يتمثل قول ال�شاعر: لأ�ست�سهلن ال�صعب �أو �أدرك المنى ف �م��ا ان � �ق� ��ادت الآم � � ��ال �إال ل���ص��اب��ر بقي ال�سيد محمد ر�ضا في النجف ،منك ّب ًا عل الدر�س وتربية النف�س ،وفي الغالب يهتم طالب العلم بعلمي الفقه والأ�صول ،ويحوز على كثير من المعارف ب�شكل عام �سواء في الفل�سفة �أو علم الكالم والتف�سير �أو الأدب ،من دون التركيز والخو�ض في تفا�صيلها ،بينما نجد ال�سيد محمد ر�ضا ،قد �أعطى الأمر ح ّيز ًا من وقته للح�صول على مالكات علوم مختلفة ،من :فل�سفة ،وعلم كالم و�أدب ،ومنهج �إ�صالحي وتربوي متكامل ،وك�أنه كان َيع ّد نف�سه لمرحلة �سيكون فيها �أحد الذين يمتلكون القدرة على الن�صيحة للعلماء ،والتوجيه للنا�س ،وهذا ما ظهر في النجف الأ�شرف قبل العودة �إلى (لبنان) .وهذه ميزة كبيرة، ففي النجف غالب ًا ال يت�صدى طالب العلم �إلى ال�ش�أن العام ،فالمبادرة للإ�صالح والتوجيه، دل على �شيء َي ّ له هيبته وخ�شيته� ،أمام �أولئك الأعالم والأ�ساطين .وهذا �إن ّ دل على مكانته العلمية والأدبية ،وعلى قوة ح�ضوره ال�شخ�صي في عقول وقلوب ه�ؤالء الأعالم. الوقت هنا ال يتّ�سع لذكر تفا�صيل حول تلك المرحلة ،ولكن �إن �شاء اهلل �سوف �أذكر بع�ض تفا�صيل تلك المرحلة في بحث -محطات م�ضيئة من حياته ال�شريفة(((. ولن �أتع ّر�ض في هذا المقام �إلى درا�سته في النجف الأ�شرف ،و�إلى مكانته العلمية، و�إلى �أ�ساتذته ،و�سلوكه التربوي ،و�أترك الحديث عن هذه التفا�صيل �إلى ذلك البحث الذي �أ�شرت �إليه ،مقدمة (الكتاب) ،لكن في هذا اللقاء �س�أذكر نقطتين �أ�سا�سيتين ،في �شخ�صية ال�سيد محمد ر�ضا ،هما: (( ( بحث ال�شيخ ح�سن بغدادي
32
�����������������
الأولى :ما �أطلقه في كتاباته من ر�سائل وق�صائدُ ،تد ّلل على ر�ؤيته لموقع الفقيه العادل في قيادة الأمة الذي هو �إمتداد لموقع الإمام المع�صوم Qفي زمن الغيبة، و�أنّ العالم الديني الجامع لل�شرائط ،هو الم�س�ؤول الأول عن حفظ هوية وق�ضية هذه الأمة ،فعندما تفقد الأمة هويتها وق�ضيتها� ،سوف تتع ّر�ض للتمزيق والت�شتت ،و�سيح ّل مكان عقالئها �صبيا ُنها ،ونحن نتحدث عن عالم ينتمي �إلى مدر�سة ،لم تتخ َّل يوم ًا عن دورها في �إ�صالح الأ ّمة ،وحفظ كيانها ،مهما كان الجور �ضاغط ًا عليهم ،ومهما كانت المخاطر محدقة بهم،فهل كان يتخ ّيل �أح ٌد م ّنا� ،أنّ عالم ًا من قرية (جباع) في جبل عامل ،يذهب �إلى عا�صمة الدولة العثمانية ليلتقي فقهاء البالط �سنة 952هـّ ،ثم يعود معزّز ًا مك ّرم ًا ،هل هذا يمكن تحقيقه ،لوال الإمكانيات العلمية المتعددة ،وال�شجاعة الفريدة من نوعها ،والدافع له هو الدفاع عن الدين ،وعن الأ ّمة الإ�سالمية ،ثم ي�سكن بعلبك ليد ّر�س طبق المذاهب الإ�سالمية الخم�سة� ،إ ّنه ال�شهيد الثاني ،ال�شيخ زين الدين الجباعي ،الذي قتله العثمانيون في عا�صمتهم (�إ�سطنبول) �سنة 965هـ. كذلك نجد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الذي �سمع وعا�ش ك ّل هذا الظلم العثماني، ومع ذلك ال نجده يح ّر�ض عليهم في لحظة كان ُيمكن له الإنتقام منهم ،والفر�صة م�ؤاتية ،ومع ذلك لم يفعل ال هو ،وال �إخوانه من العلماء ،بل حاولوا ن�صرتهم �أمام الخطر الأكبر .كان خائف ًا على هذه الأ ّمة من التمزّق ،لذا كان التوجه مع �إخوانه العلماء على م�ساندة الدولة العثمانية ،ومنعها �أن ت�سقط �أمام الغرب ،عندما ظهرت مالمح أ�سوف عليها ،لما ارتكبته من �سقوطها ،وبوادر الحرب العالمية العامة ،مع �أ ّنه غير م� ٍ وتع�ص ٍب طيلة قرون ،وبالخ�صو�ص تلك الحقبة الم�ش�ؤومة ،والتي لم تكن ٍ بط�ش وجهلّ ، بعيدة زمن ًا عن ال�سيد محمد ر�ضا ،وهي نكبة جبل عامل على �أيدي �أحمد با�شا الجزار �سنة 1195هـ1781/م. وعندما �شنّ الطليان غزوتهم على مدينة طرابل�س الغرب في ليبيا في �شوال �سنة 1329هـ1911/م ،وهتكوا فيها كرامة الم�سلمين ،وقف ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل 33
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
مح ّر�ض ًا على الطليان ،وم�ستنه�ض ًا الأمة حكومات و�شعو ًبا في �سبيل ن�صرة الم�سلمين، من خالل ق�صيدة ال زال �صداها �إلى اليوم ،وم ّما جاء فيها: أرواح ن �ه �ب��ا �أث� � �ي � ��روه � ��ا ع� �ل ��ى ال� �ط� �ل� �ي ��ان ح ��ر ًب ��ا ع� � ��وا ًن� � ��ا ت � �ن � �ه� � ُ�ب ال َ �أث � �ي� ��روه� ��ا وغ� � ��ى ه��ي��ج ��ا ���ض ��رو���س�� ًا ت � �� � �ش� � ُّ�ب ب � �ح� ��وم� ��ة ال � �ط � �ل � �ي� ��ان ���ش�� ّب ��ا ع �ل �ي �ه��م ف ��ا�� �ض ��رب ��وا �� �س ��ور ال �م �ن��اي��ا ب� �ج� �ي� �� � ٍ�ش ي� � �م �ل ��أ الأك � � � � � ��وان رع � � ًب� ��ا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا ه � �ي� ��اج � � ًا ف� �م ��ا غ� �ي ��ر ال� ��� �س� �ي ��وف ل � �ه� ��نّ ِط� � ّب ��ا ل� �ن ��ا �إن �أرغ � � � ��م الآن� � � � � � َ �اف � �ض �ي � ٌم ع� ��ران � �ي� ��نٌ ���ش��م��ي � َ�م ال� �� َّ��ض� �ي ��م ت� ��أب ��ى ل � �ن� ��ا ال � � � �غ� � � ��ارات �� � �ش � ��اه � ��دة ب� � ��أ ّن � ��ا ر�أي � �ن� ��ا ال � �م� ��وت ف� ��ي ال� � �غ � ��ارات ع��ذب��ا �إذا ف� �ط ��م ال� ��ر� � �ض� ��اع ل� �ن ��ا ول � �ي� ��د ًا ع� �ل ��ى ال � � �غ� � ��ارات وال � � �غ� � ��زوات � �ش � ّب��ا الثانية :كان ال�سيد محمد ر�ضا خائف ًا على (اللغة) من الت�ش ّوه ،وبالتالي الخوف على (الهوية) ،حيث الإحتالالت والثقافات المختلفة التي تعاقبت على منطقتنا ،فكان ال ُب ّد من تح�صين اللغة من خالل ن�شر الأدب وال�شعر ،وكيف ال يكون كذلك وهو من تالميذ تلك المدر�سة التي �ش ّيدها العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ،في (بنت جبيل) ،حيث �أطلق العنان للأدب وال�شعر ،والم�شروع الإ�صالحي الذي ع ّبر عنه ال�سيد مح�سن الأمين الذي كان �أحد تالميذ تلك المدر�سة ،فقال« :لقد قام �سوق العلم والأدب في عهد ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة»(((. لم يكن ال�سيد ف�ضل اهلل من ال�شعراء العاديين الهاوين لل�شعر ،بل كان �أديب ًا �شاعر ًا محترف ًا ،وق�صائده ال تحتاج �إلى دليل وم�ؤيد. م�سارات هذه الإنجازات التي قام بها �أو ق ّدمها ك�أفكار في لبنان ،ت�صلح في ر�سم ٍ �أخالقية وتربوية ،و�إلى تح ّمل الم�س�ؤولية ،وما كان هذا ليتم لوال �أن التفت �إلى نف�سه في النجف الأ�شرف ،ف�أ ّدبها وعاقبها ،ونمت فيها المالكات التي ُت�شكل �ضمانة عدم (( ( ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،15ص.53
34
�����������������
الوقوع في الرذيلة بلحظة غ�ضب �أو �شهوة ،فع�صمها عن الخط�أ من دون ع�صمة ،وهذا يمكن فه ُمه من خالل كتابه (ال�سمك ّية) ،حيث تلك الحادثة التي حدثت معه في النجف، وهي �أكلة �سمك� ،سقط في �شهوة �أكلها ُ بع�ض الطلبة تحت عنوان (المزاح الغليظ)، فتن ّبه� M إلى مكامن ال�شيطان الخف ّية ،عند من يرون �أنف�سهم بعيدين عن مكائده وحبائله ،ف�ص ّنف كتاب ًا �سماه (ال�سمك ّية) ن�سب ًة �إلى الحادثة .عالج المو�ضوع التربوي والأخالقي ،من خارج الم�ألوف والمتعارف .فالك ّل يعرف �أذ ّية الم�ؤمن حرام ،والغيبة حرام ،والكذب حرام ،و�إنما عالج الخلفيات وال�سلوك الذي يو�صل �صاح َبه �إلى ارتكاب الح�س الإن�ساني ،في مواجهة الرذائل الخفية التي ُتوقع هذه الرذائل ،من خالل تنمية ّ بالإن�سان .وهذه الرذائل ،ال يرتدع �صاح ُبها عنها لمج ّرد معرفته الحالل والحرام ،بل هو ٌ �سلوك يمنع من الوقوع في �أمثال هذه المح ّرمات ،التي ت�صبح معها المالكات حاكمة على مو�ضوع المح ّرمات ،فال يعود معها مكا ٌن للتفكير بالحرام ،ف�ض ًال عن الوقوع به. في الختام: �شخ�صيات علمائية من ن�سيج ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل، ما �أحوجنا اليوم �إلى ٍ العالم الواعي والر�ؤوف ،والقادر على معالجة الكثير من الق�ضايا ،ذات ال�صلة بالتطور العلمي ،وبالمنهج العقلي ،وبتح ّمل الم�س�ؤولية من دون قلق وال وجل ،وعلى �سبيل المثال: أهم العناوين المالزمة للإبقاء على الأ ّمة معالجته ق�ضية (الإمامة) ،التي هي من � ّ مرتبطة بدينها وبنب ّيها P وبمعتقداتها ،ف�س ّلط ال�ضوء عليها� ،إثبات ًا لها من خالل الن�صو�ص ال�شريفة ،وحاجة الأمة �إليها ،من خالل المنهج العقلي ،لكونها حاجة �إن�سانية واجتماعية. إر�شاد وعظ و� ٍ كما كان ــ رحمه اهلل ــ �أحد مراجع جبل عامل ،عام ًال بالتبليغ من ٍ و�إ�صالح ذات البين ،وف�صل الخ�صومات ،و�إحياء المنا�سبات الدينية ،كما كان مت�ص ّدي ًا للم�س�ؤوليات العامة ،من دون �أن يح�صر دوره بالحدود الجغرافية لجبل عامل� ،إ ّنما تعداه 35
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وحكامها ،ولو ُقدِّ َر �أن �أعطاه ُ اهلل تعالى ف�سح ًة لتكون م�س�ؤولي ًة تحاكي �شعوب المنطقة ُ من العمر ،لربما ق ّدم الكثير من المطالب الفقهية والأ�صولية ،وعناوين �أخرى مختلفة. لكن القدر ،والع�شق الالمتناهي ل�سيد �شهداء �أهل الجنة الإمام الح�سين Qكان ال�سبب في تعجيل رحيله ،فخ ّر يوم العا�شر من المحرم وهو يتلو الم�صرع على ُم�صاب �أبي عبد اهلل الح�سين ،Qمن على المنبر ،و�أ�صيب بر�أ�سه ال�شريف ،معت ًال ع ّدة �أيامّ ،ثم فارقت روحه الدنيا ،وهي تلهج بحب الح�سين Qوال�شوق �إلى لقياه.
36
������������� األبحاث:
أد.طراد حمادة
(((
«الفلسفة والعرفان في أدب العالمة الفقيه السيد محمد رضا فضل اهلل»
ذهبت التر�سيمة التقليد ّية لميادين الفكر الإن�ساني �إلى �إقامة فا�صل بين الفل�سفة والأدب ،لإعتبار �أن الفل�سفة �إنتاج عقلي ي�ستوجب تقديم الدليل العقلي لإثبات الحقائق �أو اكت�شافها والغو�ص �إلى حقيقة ال�شيء في ذاته فيما الأدب �إنتاج القلب وعند �آخرين الخيال وعليه ال فر�صة لقيام ما ي�س َّمى الأدب الفل�سفي �أو الفل�سفة في الأدب وعندهم �أن الفل�سفة هي الفل�سفة والأدب هو الأدب. وتذهب التر�سيمة التقليدية (الر�سم ّية) للقول �أن �أداة الإف�صاح الم�شتركة بين الفل�سفة والأدب وهي اللغة ،تمثل بدورها عامل الإت�صال والإنف�صال� ،إن للغة الفل�سفة خ�صائ�ص تختلف عن خ�صائ�ص لغة الأدب ،وعليه يكون هذا الم�شترك في الإف�صاح عن الفكرة هو بدوره عامل الإئتالف والإختالف. ويذهب �أن�صار الفل�سفة �إلى �أن �أ�صولها وهي الده�شة وال�شك والقلق والت�أمل هي �أ�صول م�شتركة بين كل من التجربة الفل�سفية والتجربة الأدبية فيما تختلف النتائج والغايات بينهما� .إن غاية الفل�سفة الإنتقال من الده�شة �إلى المعرفة ،فيما يغلب على (( ( وزير لبناني �سابق� ،أ�ستاذ الفل�سفة والت�صوف في الجامعة اللبنانية
37
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
الأدب حب البقاء في حالة الده�شة ،ويجعل من المعرفة هدف ًا ثانوي ًا� ،إن التجربة الأدب ّية تجربة ذاتية ،ت�شغلها معاناة الحال والبقاء فيه ،فيما التجربة الفل�سفية حركة في البحث حلول لأبعاد التجربة الإن�سانية على تعدد جهاتها ..مقبولة لدى العقل وكذلك الأمر عن ٍ بالن�سبة لأ�صول القلق وال�شك والت�أمل �إن �شك هاملت لي�س �شك ًا فل�سفي ًا ،بل �شك في تجربة القلق الأبدية التي ال خروج منها من ال�شك �إلى اليقين .لقد طرح هاملت كل �أ�سباب ال�شك الفل�سفي ،لكنه لم يخرج من دائرة القلق الوجودي ،وكذلك �أبو العالء المعري الذي يختلف ال�شك عنده ،عما هو في فل�سفة الإمام الغزالي �أو رينيه ديكارت. والقلق الهيدغري الوجودي ال يجد حله �إال في النف�س المطمئنة لأنه قلق ناتج عن وجود الموت� .إن �أ�سا�س كل هذه الأ�صول وجود الجهل الذي يطرده العقل بالمعرفة وهي هدف الفل�سفة في الو�صول �إلى الحقيقة ولعل ال�صراع بين جنود الجهل وجنود العقل يتفق مع هذا الأ�صل الفل�سفي. لنا على هذه المقدمات التي ن�سبناها (جد ً ال) �إلى ما �أ�سميناه التر�سيمة shema بوجود واقعي للأدب الفل�سفي التقليدية .مالحظات نقدية �أ�سا�سية ت�سمح لنا ،بالقول ٍ وتكون مدخ ًال لدرا�سة الأبعاد الفل�سفية والعرفانية في �أدب العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل. �إن التجربة الفل�سفية والأدب ّية ت�شتركان في الأ�صول وفي �أداة الإف�صاح ،و�أن الإن�سان نف�سه محل هذه التجربة وهو يملك العقل ،والقلب والذاكرة والخيال ،وي�ستخدم اللغة على تعدد مواردها في الإف�صاح عن هذه التجربة. �إن الفل�سفة تقدم نف�سها م�ؤ�س�سة للعلوم وعليه ال يكون الأدب في من�أى عن اهتمامها ولكن كلما اقتربت الفل�سفة من الأدب �صبغها ب�ألوانه الذاتية حتى تغلب هذه الألوان �ألوان الفل�سفة نف�سها. و�إذا �أردنا �أن نح ّول هذه المقدمة �إلى الأ�سئلة الإ�شكالية في مقدمة بحثنا نطرح ما يلي منها: 38
�������������
هل يمكن �أن نع ِّبر عن مو�ضوعات فل�سفية ،مثل :الوجود والنف�س ،والعالم ،والحرية، والموت والحب ،في �إنتاج �أدبي ،ت�شترك فيها الأنواع الأدبية من �شعر ورواية وم�سرح وق�صة ،وخاطرة ،وحكاية ،وملحمة ،و�سواها� ،إ�ضافة �إلى الفنون الأخرى الوثيقة ال�صلة كفن �إن�ساني؟ بالأدب ٍ هل تن�سب هذه الأعمال عند �إنتاجها �إلى الأدب �أو �إلى الفل�سفة ،ومن هو الأ�صيل في ن�سبتها �إليه؟ هل يتخلى الأدب عن خ�صائ�صه ليكون �أدب ًا فل�سفي ًا وهل تتخلى الفل�سفة عن قواعدها لتلب�س ثوب الأدب؟ هل عرف الإنتاج الإن�ساني هذا النوع من الإنتاج الم�شترك بين الفل�سفة والأدب والذي ندعوه الأدب الفل�سفي �أو الفل�سفة في الأدب؟... �إن الأجوبة عندنا على هذه الأ�سئلة ،الإ�شكالية� ،إيجابية بمعنى ثبوت القول عندنا بوجود العالقة الوثيقة وال�صلة الل�صيقة بين الأدب والفل�سفة ،و�أنه ثمة �أدب فل�سفي في تعبير التجربة الإن�سانية عن نف�سها. ل�ست بحاجة لتقديم الدليل النظري على ما �أقول ،النتفاء الحاجة في هذا المحل، ولتحقيق المراد فيه والمطلوب منه وذلك من خالل درا�سة الفل�سفة والعرفان في �أدب العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل. وعليه تكون درا�ستنا للأدب الفل�سفة عند فيل�سوفنا الأديب و�شاعرنا الفيل�سوف هي الدليل والذي يقدم الأجوبة على الأ�سئلة الإ�شكالية محل البحث. العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل Mعالم فقيه� ،أديب �شاعر ،فيل�سوف متك ِّلم ،يعني م�شتغل في م�سائل الكالم الفل�سفي وعنده منحى عرفاني �صريح ،و�إذا �أردنا تعيين مدر�سته الفكرية ومكانته في هذه المدر�سة بعد قراءة لإنتاجه القيم �أمكننا القول �أنه يمثل مدر�سة جبل عامل في تيارها النجفي. في فقهه عنا�صر المدر�سة العاملية ذات الأ�صول النجف ّية مع منحى تجديدي �صريح 39
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وفي �أدبه تراث جبل عامل معطوف على �أدب النجف المتنوع الجمال. هو ذلك المزيج الرائع بين عاملة والنجف ،حتى يمكن القول �أن في ثوب مدر�سة النجف �ألوان وخيوط عاملية المظهر نجدها ب�شكل وا�ضح في �إنتاج العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل. يت�صف �شعر و�أدب الفقهاء بالبعد الفل�سفي ويندرج من حيث مو�ضوعاته في مجال الأدب الفل�سفي وذلك لأنه ي�شارك الفل�سفة مو�ضوعات �أ�سا�سية في البحث عن اهلل وفي اهلل ،وم�سائل العالم والكون Cosmosوالإن�سان وم�سائل النف�س الإن�سانية وهي مو�ضوعات م�شتركة في الواقع بين الفل�سفة والدين يمكن الإف�صاح عنها بالأدب على �أنواعه. و�إذا كان �شعر الفقهاء في بع�ض �أنواعه خ�سر بريقه الإبداعي ل�صالح الإتجاه التعليمي �أو الجدل الكالمي كالمناظرة والحكاية والأمثال ف�إنه يختلف في م�ستوى �إبداعه باختالف �أ�صحابه وعليه ف�إننا ال يمكن �أن ندرج �أدب ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في هذا المحل باعتباره نموذج لأدب الفقهاء. درا�ستنا للفل�سفة والعرفان في �شعر العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ت�ستند �إلى كتابيه: ( .1ميزان العدل) الم�شهور «بال�سمك ّية». .2ديوانه المطبوع تحت عنوان (المجموعة) الق�صائد والر�سائل. كل من هذين الكتابين يت�ضمن ن�صو�ص �شعرية ونثرية مع مالحظة �أن الن�ص النثري عند ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،في الكتابين له خ�صائ�ص النثر المفعم بال�شاعرية ال�صريحة .لغة من�سوجة من خيوط عربية �أتقنت خياطتها ثوب ًا ّ مو�شى ب�ألوان الأدب الفل�سفي. تنوع الإنتاج في الكتابين الن�صو�ص النثرية ،والإقتبا�سات ال�شعرية ،والإنتاج ال�شعري والر�سائل �إلى جانب الق�صائد التي نظمت في �أبواب الغزل والرثاء ،والمديح، 40
�������������
والمنا�سبات ،والإخوانيات وال�شعر ال�صوفي العرفاني (�شعر التجليات ،والع�شق الإلهي، وحب الوالية) كطريق �إلى حب الذات الإلهية المع�شوق الأول والأزلي. �إنه حديقة عامرة بالورد الجميل والثمار الطيبة و�إذا �أردت المتعة والفائدة ذهبت �إلى الت�أمل والقطاف ،لكن يلزمك الوقت والبحث عن الدر المنثور في ب�ستان الجمال. و�إذا كان هذا الأمر ي�ستلزم ا�شتغا ًال وافي ًا ،ف�إن حدود المقالة في هذا الم�ؤتمر تحمل على الإقت�صار في تبيان الأبعاد الفل�سفية والعرفانية لل�سمك ّية على وجه الإجمال ،وفي ق�صائد مختارة من المجموعة الق�صائد والر�سائل ومنها: كمال التجلي (في العرفان) �ص.159 وا�ضح النهج (غزل عرفاني) �ص.236 المهدي | ،و�أعقبها ب�شرح نظري في كتابه (الإمامة). البعد الفل�سفي والعرفاني في ال�سمك ّية: ال�سمك ّية ،ر�سالة في النف�س الإن�سانية .وحكاية رحلتها مع قواها ،و�سيرها و�سلوكها من مبد�أها �إلى معادها ،وال�سمك ّية رواية تف�صح عن فل�سفتها في لغة تجمع ال�شعر والحكاية والأمثال� ،إلى جانب القر�آن والحديث وخبرة الحكماء وتجربة الأولياء .و�إذا و�ضعناها في ميزان الإنتاج الأدبي الفل�سفي وجدنا �أنها قريبة من الق�ص�ص الأدبي، و�أدب الرحالت الميتافيزيقية التي تدور في عالم النف�س. وكذلك ما اعتمده فال�سفة الإ�شراق من �أ�سلوب القر�آن في التعلم من �ضرب الأمثلة للنا�س. لي�س ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في الر�سالة عرفاني ًا من �أهل الإ�شراق ،وال من مدر�سة ت�صوف التجليات بل يندرج في ت�ص ّوف المعامالت ،قريب فيها من مدر�ستين �شهيرتين الت�صوف المعامالتي للغزالي ،والت�ص ّوف العقلي لل�شيخ الرئي�س �إبن �سينا. أر�سطي �سينوي ،النف�س النباتية والحيوانية ،والناطقة، تق�سيم قوى النف�س عنده � ّ 41
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وقوى النف�س )1 :ال�شهوان ّية )2والغ�ضب ّية ،والعاقلة (الحكمة) ،لكن م�شرب ال�سيد في ال�سمك ّية يذهب �إلى �أبعد من هذا .ي�شرح في الر�سالة �أبعاد ومراحل ال�صراع بين ال�شيطان والإن�سان و�أدوار النف�س الإن�سانية في هذا ال�صراع من :النف�س الأمارة� ،إلى الل ّوامة� ،إلى المطمئنة ويجعل ال�صراع بين جنود العقل وجنود الجهل ثم ي�شبك كل هذا الم�سرح في �أحوال النف�س وم�صائرها ب�إف�صاح �أدبي متنوع فيه من كل ب�ستان زهرة �أو ثمرة. يلفتنا في الر�سالة �أنها بد�أت من حكاية (حفلة ال�سمك) واتفاق الأ�صحاب على تح�ضير مائدتها ،في يوم له �أبعاد رمزية بدوره ،هو يوم الخمي�س ،وي�سرق ل�صو�ص ال�سمك طعام ال�صحبة كما ي�سرق ال�شيطان جهد الإن�سان في ال�سفر �إلى اهلل �سبحانه وهذه تعني في الأدب الفل�سفي �أن الأديب وال�شاعر ينطلق من رموز وحكاية ذات بعد �شبه �أ�سطوري محلي ،ليبني �أفكاره على ركائز متح�صلة في التجربة الإن�سانية ال يبد�أ فيها من نقطة ال�صفر ،والثانية �أنه يقدم الحكاية م�ستفيد ًا من الأ�سلوب الق�ص�صي القر�آني و�أ�سلوب «�ضرب الأمثال للنا�س». يذكرني مو�ضوع ال�شيطان و�صراعه مع الإن�سان ،في م�سرحية د .فاو�ست لل�شاعر الألماني غوته �أن �أ�شخا�ص م�سرحية د .فاو�ست ب�ش ٌر واقعيون فيما �أ�شخا�ص ال�سمكية قوى نف�سية تجد م�صاديقها في ب�شر واقعيين� ..إن �صراع ال�شيطان مع الإن�سان وم�سرحة النف�س الإن�سانية وقواها ،وجنود الإن�سان الفعل وجنود ال�شيطان الجهل مدرجة في �إطار حكاية رمزية ،معبرة ،معطوفة على رموز �أخرى منها يوم الخمي�س و�صباحه يقول: ذاك ي� � ��وم �أ� � � �ض� � ��اء ل �ل��إن � ��� ��س ف �ي��ه � �ش �ع �ل��ة �أخ � �م� ��دت ���ش��ع ��اع ال �� �ش �م��و���س وب � � � � ��ه ل � � �ل � � �� � � �س� � ��رور ب � � � � ��در ع� � �ل � � ّ�ي � � �ش� ��ق ل � �ل � �ه� � ِّ�م ظ� �ل� �م ��ه ال �ح �ن ��دل �ي �� ��س في هذه الق�صيدة ا�ستخدم لغة النور وهي (لغة عرفانية بامتياز) �إ�شراقية لك�شف محا�سن يوم الخمي�س ثم يعقبها برمز الخمرة ولغة ال�شعر الخمري لبيان بهجته ولذته، فالندامى تحت�سي �صافي الك�ؤو�س مثل العقيق في الخمر (الخندري�س) .لنخل�ص �أن 42
�������������
الخمي�س و�صباحه �أنوار في ظلمة الزمان (النور والظلمة) ،هذا قامو�س ال�شعر ال�صوفي ال�صريح وا�ستخدام �أ�صرح لرموزه. كان ال�سيد قد �أخبرنا في مقدمة الر�سالة �أنه يبحث في �أ�صالة اللذة عند النف�س الإن�سانية �أو اعتباريتها ،وهو لعمري بحث فل�سفي عالي القيمة ،وقبلها كان يق ّدم النف�س كما هي عليه في مفاهيم �أحوالها عند كل من: المت�شرعة �أهل الفل�سفة وال�صوفية من المت�شرعة. وهذا تق�سيم جديد لم ي�أت غيره على �صريحة عبارته ،كان التق�سيم يقوم بين الفقهاء من �أهل الظاهر ،والعرفاء من �أهل الباطن ،لكن ال�سيد بنوع من الم�شرب ال�صوفي والعرفاني في الفقه (المت�شرعة). ثمة مت�شرعة مح�ض وح�سب و�أهل الت�ص ّوف والعرفاء من المت�شرعة ،وهو ي�شير ب�شكل �صريح ال لب�س فيه �أنه واحد منهم. لن �أقف عند منهجية ال�سيد ف�ضل اهلل في �صياغة الإ�شكالية في �أ�سئلة تجعلها منهجية فل�سفية بامتياز مقولة :هل هناك �أدلة وا�ضحة وحجج معتمدة تق�ضي برجحان التلب�س في لذات الدنيا �أم ال؟ وهذا قريب من منهج ّية �إبن ر�شد؛ في محاكمة الفقيه لمو�ضوعات الفل�سفة في ف�صل المقال. ثم يرتفع �إلى الأدب الفل�سفي �ص(� ،)39أن الغر�ض من ذكر ال�سمكية مجرد مثال للمق�صود للمطلوب ،وقديم ًا كانت الحكمة �أمثا ًال ت�ضرب و�سير ًا تق�ص واقتفت الحكماء ذلك. طريق الحكماء ،طريق المثل والق�صة وال�سيرة والرواية ،وهي �أ�شكال و�أنواع �أدبية بامتياز �صالحة للك�شف عن �أ�سرار الحكمة. �س�أحاول �أن �أ�شير ب�إيجاز �إلى الأبعاد الفل�سفية والعرفانية في �شعره في ال�سمك ّية. التخلي عن ال�س ّوى :وفيه �أن التخلي عن ملذات الدنيا وعن ما �سوى اهلل مح�صللل�سعادة الروحية الحقيقية. 43
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
يبد�أ رحلته في الت�ص ّوف والعرفان ،بالزهد ،وهو الخطوة الأولى على الطريق ،عند كل العرفاء والزهد عنده انقالب من �شيء �إلى �آخر ،زه ٌد في الدين ورغبة في الآخرة، وهو في ذلك قريب من مفهوم الزهد عند الغزالي؛ ويدعو �إلى اتباع منهج الزهد ال�صوفي بقوله ال�صريح. م ��ن ك� ��ان ي��ه ��واه ��م ي ��دل ��ف بنهجهم م��ا �أخ��ط���أ ال�ق���ص��د ف��ي نهجهم دلفا ويق ّدم للزهد تعريف لعله ينفرد به الرتباطه بمفهوم فل�سفة اللذة عنده في �سمكيته. ف �ل�ا ت � ��أ�� ��س ع �م ��ا ف � ��ات م� ��ن ك� ��ل ل � � ّذة وال �إن �أي ط �ب��ق ال �م �ن��ى �أن� ��ت ت�ف��رح يعني من يت�ساوى عنده ح�صول ال�شيء �أو حرمانه ،وهو �صنف من الزهد ،يجعلك �سيد ًا لنف�سك عبد ًا هلل وحده �سبحانه. �إن اختياره للت�ص ّوف ال يعني الإنقطاع عن الدنيا ،وال عن الحديث بنعمة ربه ولذلك تناول ب�إ�سهاب في نقد غير مبا�شر لل�صوفية الذين ينكفئون عن الحياة ويلج�أون �إلى حرمان �أنف�سهم من نعم اهلل التي ال تح�صى ،ولعله ي�شرح الأمر بطريقة �إيجابية من خالل مديح الإقبال على الدنيا� ،إنه الزاهد الذي ال تحكمه متاع الدنيا ولكن ال يحرم نف�سه منها ،وتلك ت�ستلزم تزكية نف�سية عالية. نقد زيف ال�صوفية الظاهري ،وهذا ما كان الإمام الخميني { قد انتقده ب�شدة، بقوله :تح�سب نف�سك �إبن المن�صور ،و�أنت لم ت�شق في الع�شق طرف ثوبك. هذا النقد لل�صوفية ال يتفق مع حرب الفقهاء على ال�صوفية لكنه ت�صحيح في الم�سلك ال�صوفي وما علق به من �شوائب الطرق و�شيوخها. في الحديث عن �أبي م ّرة (وهو ال�شيطان) يقدمه ب�شكل معا�صر رج ًال لكل المواقف والمنا�سبات ،يلب�س لبو�سها لينفذ �إلى غاياته ..كان �شيطان فاو�ست قد ظلم على �شكل رجل يفاو�ض فاو�ست كلب �أو خنزير وعندما اجتاز عتبة النجمة ال�سدا�سية يتح ّول �إلى ٍ على توقيع العقد بينهما ،كان �شيطان فاو�ست يمنيه بال�شباب والخلود وال�سلطة والمال والن�ساء ،وهي عنا�صر تتج َّمع في �أحوال قوى النف�س ،التي يتوجه �إليها �إبن م ّرة في 44
�������������
ال�سمك ّية� ،إن �إبن م ّرة يخاطب القوى الغ�ضب ّية وال�شهوية الحيوانية والنبات ّية ،ويعمل على �إ�ضعاف القوى العقلية والحكم ّية الفا�ضلة ،وهو ي�ستخدم جنود الجهل للو�صول �إلى غايته� ،إنه يخرب النف�س الإن�سانية ويو�سو�س لقواها ويقودها ،ت�سانده النف�س الأمارة عن يمينه والنف�س الل ّوامة عن �شماله والح�سية الحيوانية بين يديه والنباتية النامية من خلفه ويكون مركز الدائرة في �إدارة هذه النفو�س وتوجيه قواها. في هذا المحل كان �شيطان فاو�ست قادر ًا على ال�سيطرة على روح �إن�سان ولي�س روح الإن�سان Un home et pas l’homeلأن ال�صراع في د .فاو�ست عند غوته يبد�أ أر�ضي ،ال�صراع بين ال�شيطان والإن�سان في بالرهان في ال�سماء ويجري في العالم ال ّ ال�سمكية يقوم داخل النف�س الإن�سانية ،في عالم النف�س تحيط بها �أ�سباب ال�شقاوة و�أ�سباب ال�سعادة ،وعليه ف�إذا كان غوته يريد ،على ما ذهب النقاد من دار�سيه� ،إلى محاكمة العقل الأوروبي ،ف�إن ال�سيد ف�ضل اهلل يريد تنبيه النف�س الإن�سانية وقيادتها �إلى خال�صها في الدارين :الدنيا والآخرة ،ولذلك ف�إن ال�شيطان غير قادر على تدمير النف�س الإن�سانية وال�سيطرة عليها ،بل تحمل هذه النف�س كل �أ�سباب خال�صها و�سعادتها. و�إذا كانت الحياة المديدة ،وال�شباب ،وال�سلطة ،والمال والن�ساء وهي ابتالءات ع�صر غوته جنود ال�شيطان مف�ستوفيك�س ف�إن جنود �إبن م ّرة من عالم النف�س بتعبير فل�سفي :المائز بين الإثنين �أن ال�صراع يدور في فاو�ست في العالم الأكبر (العالم الإن�ساني ،الإجتماع الإن�ساني) فيما ال�صراع يدور عند ف�ضل اهلل في العالم الأ�صغر (النف�س الإن�سانية). �أت � �ح � �� � �س� ��ب �أن� � � � ��ك ج� � � ��رم � �ص �غ �ي��ر وب � � ��ك ان � � �ط� � ��وى ال� � �ع � ��ال � ��م الأك� � �ب � ��ر من ال�صعب متابعة الأبعاد الفل�سفية والعرفانية لل�سمكية في مقالة واحدة ،لأنها ن�ص كثيف المبنى والمعنى. ا�ستطاع الكاتب فيه �أن يجمع �سعة الر�ؤيا في �ضيق العبارة وكل عملية تحليلية �أو تفكيكية ،للن�ص �أو كل �شرح وتعليق عليه يحتاج �إلى �سعة وتدبير. 45
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�أقول� :أن م�صير ال�صراع بين ال�شيطان �إبن م ّرة والإن�سان ،ل�صالح الإن�سان الذي يغلب عنده جنود العقل على جنود الجهل ،وتتمتع النف�س المطمئنة بما �أورده ال�سيد ف�ضل اهلل في ن�ص لل�شهيد الثاني في غاية الروعة يك�شف عن تراث عرفاني عاملي: وتت�سل�سل مراحل الطريق من ال�شوق والذوق �إلى الدخول في الطريقة بعد �صبر و�شكر وزهد وت�صفية للروح ،و�س ّر الفقر والذكر والتالوة والخ�ضوع والتذلل والوقوف على عرفه والدخول في الطريقة ،لتختم في خمرية عرفانية فيها: ف� � ��إن � �س �ق��اك م ��دي ��ر ال� � ��راح م ��ن ي��ده ك��أ���س التجلي فخذ بالك�أ�س واغ�ت��رف ري ف � ��وا �أ� �س �ف��ي وا� �ش��رب وا��س�ق��ي وال تبخل ع�ل��ى ظم�أ و�إن رج� �ع ��ت ب �ل�ا ّ �شرح ال�سيد ف�ضل اهلل �أحوال ال�سعادة بعدما �شرح لمرة ثانية قوى النف�س وفق المذهب الأر�سطي ال�سينوي وتعبير ًا عن انت�صار النف�س الإن�سانية على �إبن م ّرة (ال�شيطان)، ي�شرح خطة هجوم ال�شيطان وحنقه وانهزامه ،وكان قد �سبقها �شرح الخطاب ويبد�أ: خطاب القنوع. خطاب العفه. خطاب الزهد. خطاب التقوى. تذكرنا م�س�ألة الخطاب بمنطق الطير للعطار ،وتعاقب الطيور على الخطاب والكالم قبل الرحلة ،وفي رواية لي ،الجزء الثاني من قمة الرجال الع�شرة� ،أترك رجال الرحلة يقدم كل واحد منهم خطابه ،لكن الخطبة عند ال�سيد لقوى النف�س والمعاني ،ولي�ست للطير وهو رمز للنف�س� ،أو للرجال وهم قادة القافلة ،لمعة لعلها تتفق مع المعنى المجرد في الفقه ال�صوري عند بع�ض العلماء �أبى محاكمة القول على القول بالقول وهذه �أفالطونية �صريحة �إلى جانب �إتفاقها مع الف�ضائل ال�شهيرة في النظرية الأر�سطية القائمة على الو�سطية �أو التو�سط ما بين حدي الإفراط والتفريط. �أختم ،بذكر ما وجدته تالقي ًا مع �أبو العالء المعري في كتابه ر�سالة الغفران ومع 46
�������������
الكوميديا الإلهية لـ»دانته» مع وجود �أ�صول م�شتركة ،مرتبطة بو�صف الجنة والنار في القر�آن الكريم وفي الحديث ال�شريف وتراث الأدب الإ�سالمي ،ومع اختالف مقاربات كل من الكتب المذكورة و�أ�ساليبها ،لكنها ت�شترك من ناحية النوع باعتبارها جزء من الأدب الفل�سفي �إن درا�سة �أبواب النار و �أبواب الجحيم معطوفة على فئات النا�س وك�أن لكل باب دخوله كما يحمل كل �إن�سان كتابه بيمينه وفيها مراتب درجات �أ�سفار النف�س التي ي�سلكها ال�صابرون وال�صادقون والمق َّربون و�أ�صحاب اليمين والأبرار �إن درا�سة المقارنة في هذا المو�ضع في غاية المتعة والفائدة الفل�سفية والأدبية. كان من المقرر �أن �أدر�س الأبعاد العرفانية في �شعره ،وهذا ما �س�أكمله في بحث م�ستقل لأن المقالة ال تت�سع له .ولأنني وقعت فيه على در ٍر مخب�أة.. �أقول� :إن العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،عالم ًا فقيه ًا �شاعر ًا عارف ًا وقد �أح�سنت دار البالغة و�أهله على ن�شر م�ؤلفاته و�أن�صح �أهل العلم وخا�صة طالب الفل�سفة والأدب بدرا�ستها والغو�ص �إلى بحرها الزاخر لأنهم �سيجدون فيها كل ما يليق بالبحث والمعرفة والمتعة والفائدة. �إن مدر�سة جبل عامل (وهي رمز للمدر�سة الفكرية ال�شيعية في بالد ال�شام) َّ تتك�شف كل يوم عن عالم �شاعر عارف وفقيه مجتهد. رعى اهلل حوزتنا وعلمائنا و�س ّدد الخطى في ن�شر �إنتاجهم والعناية به حق العناية رحم اهلل ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل.
47
�����������������
أ.د سالم المعوش
(((
«ميزان العدل «السمكية»
(((
رحلة إلى الداخل في محاولة سردية
الإنتماء ال�صوغي لـ»ميزان العدل»:ميزان العدل «ال�سمكية» �أثر يعود �إلى النه�ضة العربية المن�شغلة ب�إعادة بناء المجتمع العربي في القرن التا�سع ع�شر ،مرتكز ًا على �أمرين رئي�سين :التراث العربي والإ�سالمي من جهة ،و�إ�ستلهام تجارب الغرب وعلومه ومبتكراته لتوظيفها في تلك النه�ضة. وقد عمد الر ّواد العرب �إلى تقديم �آرائهم ومقترحاتهم في �سبيل هذا النهو�ض، و�إعتمد بع�ضهم على الأ�شكال الأدبية لإي�صال تقديماتهم �إلى النا�س ،في قوالب الق�ص والرحلة ي�ست�سيغونها وت�ساعد على تقريب المق�صود من المفهوم ال�شعبي ،وكان ّ و�سيلتين معتمدتين لبلوغ هذا الهدف البنائي :ال�سيا�سي والإجتماعي والإقت�صادي والتربوي والتعليمي والعمراني والأخالقي... و�إذا كان البع�ض �أمثال الطهطاوي وعلي مبارك و�سليم الب�ستاني ومحمد المويلحي وفرن�سي�س مرا�ش و�أحمد فار�س ال�شدياق وخير الدين التون�سي ..قد �إعتمدوا الرحلة �إلى ((( �أ�ستاذ الدرا�سات العليا في الجامعة اللبنانية ((( ميزان العدل :ال�سمكية للعالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،دار البالغة بيروت .2013
49
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
الخارج لتقديم المعارف والعلوم والآداب والفل�سفات وغيرها من مقومات النهو�ض، ف�إن �آخرين قد �إعتمدوا الرحلة �إلى الداخل ،داخل بالد العرب لتقديم المعارف العربية والإ�سالمية ،ومن ه�ؤالء العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في مجموعة كتبه وجرجي زيدان في مجموعة رواياته التاريخية العربية ،و�شكيب �إر�سالن ومعروف الأرنا�ؤوط و�سواهم كثير. ومن يعد �إلى �إ�صدارات القرن التا�سع ع�شر يجدها �شديدة التنوع �إلى الحد الذي ملأ فراغات كثيرة في الثقافة العربية �آنذاك ،وهي �إ�صدارات في العلم والمعرفة والدين وال�سيا�سة والإقت�صاد والإجتماع والفل�سفة � ...إ�صدارات طغت عليها النزعة الإ�صالحية ،وتناوب عليها الت�أليف والترجمة و�إعادة ال�صوغ ،الأمر الذي جعلها تغطي معظم الميادين التي يحتاجها البناء الإجتماعي. وكان الدين والتم�سك بما لدى العرب م�س�ألة رئي�سية ،بالإ�ضافة �إلى الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها وتطويعها من طريق ال�صحافة والدربة و�إختيار الأ�ساليب التعبيرية المالئمة. وبالمقابل كانت الدعوة �إلى الإنغما�س بالغرب وما لديه �شديدة ،في زمن كانت تحتاج النه�ضة �إليه ،وقد تحولت الثقافة العربية �إلى ميدان وا�سع ت�صب فيه التيارات الفكرية والعلمية والتربوية ،ولقد ظهرت في ميدان اللغة� ،إختبارات تراوحت بين المحافظة على القديم وبين التجديد المعتمد على الحياة الع�صرية والم�ستجدات الأ�سلوبية التي �إعتمدت على الواقع التعبيري الجديد في حياة العرب ،و�صوغهم النه�ضة على �أ�س�س ع�صرية.. ولقد تم ّيزت المدر�سة البيانية من بين هذه الإختيارات والإتجاهات ،فحاولت الإرتكاز على نظرية البيان العربية عند ال�سلف ،ولم تفتها الإ�ستفادة من الجديد في الأ�ساليب، بنثر مالئم متحلل من كثير من القيود اللغوية القديمة. والذي يطمح �إلى التعبير ٍ ولع ّلنا ال نخطىء �إذا حددنا �إنتماء ال�سيد ف�ضل اهلل الأ�سلوبي �إلى هذه المدر�سة 50
�����������������
البيانية التي كان من �أعالمها م�صطفى المنفلوطي والأمير �شكيب �إر�سالن وغيرهما كثير ...وه�ؤالء جميعهم متعا�صرون ،ومن رواد الكتابة العربية الرفيعة والأنيقة والمحافظة على الأ�سلوب البياني من دون �أن تحرمه م�ستج ّدات الع�صر ،وقد ع ّبر ال�سيد ف�ضل اهلل عن هذا الإنتماء البياني في الغر�ض من كتابة ر�سالته (ال�سمكية) ب�أن «الكالم فيه تزيين من �ضروب البالغة ما تخر�س الأقالم عن نعته ،وت�ستعجم العبائر عن و�صفه ،مع كمال الإي�ضاح عن حقيقة مق�صده وتمام الك�شف ع ّما هو ب�صدده.(((».. وكان من الطبيعي �أن ين�ش�أ �صراع بين الداعين �إلى النه�ضة حول الطرق والأفكار والأ�ساليب التي من �ش�أنها �أن تقيم �صرح هذا البناء النه�ضوي على غير �صعيد ،وقد و�صل هذا ال�صراع �إلى الحد الذي �أبرز مجموعة من المواقف �أبرزها: المحافظة على ما لدى العرب بقوة من دون الإلتفات �إلى �سواهم. الأخذ الكلي عن الغرب ،في ح�سبان �أن ما لدى العرب غير نافع لبناء المجتمع الجديد. الموقف المعتدل الذي يرى �أن ما لدى العرب غير كاف لهذا البناء .وما يمكن �أخذهمن الغرب يكمل النق�ص� ،شرط �أال يتعار�ض مع الموروث والواقع العربيين. وكما �أن الأو�ضاع العربية والعالمية الراهنة في حالة مميزة يمر بها العالم لإعادة بنائه ،كذلك كانت �أو�ضاعه في تلك المراحل من النه�ضة ي�سودها القلق من كل ما يجري في خريطة العالم ،خ�صو�ص ًا بالد العرب ،حيث �أ�صبح الإنفتاح على الآخرين يحتاج �إلى �ضوابط تعقله وتوجهه التوجيه ال�صحيح. �صحيح �أن العلم والمعرفة والفكر والثقافة ...عوامل �ضرورية في البناء� ،إال �أنها قد تدمر العالم �إن لم يكن هناك رادع �أخالقي يردعه ويوظف المعارف في خدمة الإن�سانية. في �ضوء ذلك كله ينبغي �إعادة قراءة «ميزان العدل» لل�سيد ف�ضل اهلل ،وهو كتاب ال يخرج عن م�سار ال�سل�سلة الطويلة من الإ�صدارات التي � ّأ�س�ست للتربية والتعلم ،وارتكزت على الأخالق الدينية التي كان المجتمع بحاجة ما�سة �إليها ل�ضبط الإنفالت على غير ((( ال�سمكية �ص 217
51
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�صعيد ،خ�صو�ص ًا الفكرة القائلة� :إن العلوم والمعارف والمبتكرات والح�ضارات ...ال تفيد من دون �أخالق خوف ًا من توجهها ب�إتجاه ال�شر. �إذ ًا هو كتاب يملأ هذا الفراغ ،وميزته عن الم�ؤلفات التي و�ضعت في ع�صر النه�ضة، ب�أن هذا الجانب الأخالقي كان موجود ًا ،لكنه قلما �أفردت له ت�آليف تقت�صر عليه منفرد ًا. هوية الكتاب:و»ميزان العدل» �أو «ال�سمكية» يعتمد على الحكاية في مجمله ،ويجعل بنيته تقوم على الق�ص الذي ت�صرف به م�ؤلفه بما يالئم مق�صده. ّ وعلى الرغم من ترداد لفظة «ر�سالة» في متن الكتاب غير مرة ،مثل قوله« :ولما كانت الغاية الق�صوى والغر�ض المهم من هذه الر�سالة �أنه هل هناك �أدلة وا�ضحة وحجج معتمدة تق�ضي برجحان التلب�س في لذات الدنيا على تركها �أم ال؟»((( ،وقوله« :والغر�ض من �إيراد هذا الكالم ،وبديع هذا القول ،تزيين هذه الر�سالة به.(((».... على الرغم من ذلك كله� ،أي �أن الكاتب يح�سب كتابه «ر�سالة» ،ف�إن م�سالك �أخرى يتبعها ،وفي ظنه ،كما يقول �إنه �إعتمد الق�ص طريقة لأن «النف�س لإ�ستماع ال�سير والأمثال �أرغب و�إلى الوقوف عليها �أحب ،وفي ذلك لهو للعامة وتذكرة لأولي الألباب، واهلل الهادي �إلى منهج ال�صواب»(((. وفي ذلك يكون ال�سيد ف�ضل اهلل قد �إقتفى �أثر القر�آن الكريم في عر�ض الأمثال والق�ص�ص «�أمثا ًال ت�ضرب و�سير ًا تق�ص»((( ،ومن ثم الإن�صراف �إلى الحكم والمواعظ َۡ َُ َ َ وال�شروح الم�ستفي�ضة حول ق�ضاياتهم الإن�سان في مجمل حياته﴿ :ن ُن نق ُّص َعل ۡيك َ ۡ أ ۡح َس َن ٱل َق َص ِص﴾(((. (( ( ميزان العدل :ال�سميكة� -ص.39 ((( (م.ن) �ص.217 ((( (م.ن) �ص .40 ((( (م.ن) �ص .40 ((( �سورة يو�سف الآية.3 :
52
�����������������
بالإ�ضافة �إلى م�سرحة بع�ض الم�شاهد والحوادث ،و�إ�ضفاء الخيال على ما يذهب �إليه ،حيث يبدو كتابه خليط ًا من الق�ص الحكائي والم�سرحي والخطابي والمفارقات الموزعة على الخير وال�شر من جهة ،وتجويد �أ�ساليب اللغة �إلى حد الف�صاحة العليا من جهة ثانية. ويبدو للدار�س �أن �صاحب الكتاب قد مال ب�صوغه ب�إتجاه ق�ص�ص الرومان�س المليء با�ستعمال الخيال والمبالغة ،و�إهالة �أقبا�س الروح على العمل حتى �إقترب من الخيال العلمي في مكان والروحي في مكان �آخر ،ويمكن تناول الكتاب على �أنه ر�سالة م�صوغة على هذا الأ�سا�س الق�ص�صي الذي يهدف �إلى الوعظ والإر�شاد الديني ،والتوجيه الأخالقي والتربوي والتعليمي. تماثل الأنماط: �إن المطلع على فكر النه�ضة و�أدبها �سيجد مثي ًال لعمل ال�سيد ف�ضل اهلل ،حيث كان الهدف التعليم والتوجيه ،وقد كتب رفاعة الطهطاوي «تخلي�ص الإبريز في تلخي�ص باري�س» على هذا الأ�سا�س ،وكان كتابه قد �سمي تجوز ًا رواية ل�ضعف العن�صر الروائي فيه، وكذلك فعل المف ّكر الم�صري علي مبارك في روايته «علم الدين» ،عندما قام برحلتين متعاك�ستين :واحدة �إلى ال�شرق و�أخرى �إلى الغرب ،وقد �أعلن في مق ّدمة الرواية كما �أعلن ال�سيد ف�ضل اهلل في م�ستهل «ميزان العدل» ،بقول قريب «لقد ر�أيت النفو�س كثير ًا ال�س َير والق�ص�ص وملح الكالم .»..فحداني هذا عمل كتاب �أ�ضمنه كثير ًا من ما تميل �إلى ّ الفوائد في �أ�سلوب حكاية لطيف «ين�شط الناظر �إلى مطالعتها»(((. وكذلك فعل محمد المويلحي في روايته «عي�سى بن ه�شام» ،معتمد ًا �أي�ض ًا على الخيال الأ�سطوري في �إخراج �أحد البا�شوات من القبر ،وقد م�ضى على موته ثالثمائة �سنة، ((( رواية «علم الدين» علي مبارك �ضمن المجموعة الكاملة لأعمال علي مبارك �ص ( 126الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر) القاهرة .1883
53
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ليقوما برحلتين :واحدة �إلى �أرجاء م�صر ،و�أخرى �إلى �إنكلترا ،وليكون تف�صيل الرواية قائم ًا على المقارنة بين الما�ضي والحا�ضر �أو ًال ،وبين ال�شرق والغرب ثاني ًا ،في قالب �إ�ستك�شافي حواري هدفه التعليم والمعرفة والإ�ستك�شاف. ولعل رواية فرن�سي�س م ّرا�ش(((« ،)1873-1836( ،غابة الحق» تكون المثيل الأقرب لعمل ال�سيد ف�ضل اهلل ،فقد جعل الم ّرا�ش الحلم بنية روايته ،حيث يحلم في غفلة منه ،فيتخ ّيل �أ ّنه يطوف الدنيا منذ البدء ،وحيث كان العمران يغ�شاها �إلى �أن �أ�صبحت دو ًال متنازعة ومت�صارعة تتقاتل ويغلب القوي ال�ضعيف وي�سود بع�سفه على الأر�ض قاطبة ،وخالل تطوافه يتخيل باب ًا رحب ًا ينفتح لب�صيرته ،قر�أ على قنطرته «والعقل يحكم» ،وراءه ف�سحة وا�سعة عبارة عن ب ّرية ،ثم يم�ضي ليلوح له على �أحد البيارق كتابة قر�أها« :العلم يغلب» ،ووراءه تنب�سط جيو�ش من التمدن الزاهر تمتطي متون الإختراعات العجيبة والمعارف الكاملة ،تخطر متموجة ب�أنوار �أ�سلحة الحكمة والعدل ،متد ّرعة بدروع الحرية الإن�سانية ...ويلمح ممالك الظالم تندحر �أمام الحكمة والعدل والحرية ،حيث ي�سيطر العدل وينت�شر ال�سالم في الكون ،ثم يب�صر عر�شين قرب �صخرة ين�سل منها غدير ،كتب على العر�ش الأول« :يعي�ش ملك الحرية»، وعلى العر�ش الثاني جل�ست �إمر�أة كتب على �إكليلها الذهبي �سطر من �أحرف نارية «تحيا ملكة الحكمة» ،ويظهر ملك الحرية غا�ضب ًا يحاول تحطيم مملكة العبودية، فيت�س َّنى له ذلك ،لين�صرف الم ّرا�ش بعد ذلك �إلى التغني بنتائج ال�سالم من عمران ومعارف ،وليبين م�ساوىء الحرب من تدمير وهالك ،فيرجح لديه الإنتقام من ملوك ال�ش ّر ،في�أتي بفيل�سوفه القا�ضي في «مدينة النور» ،فيب�سط �آراءه العظيمة فيقنع الملك ب�إقامة العدل ،فين�صرف عن �إنتقامه من «مملكة الروع»(((. ((( «غابة الحق» (فرن�سي�س م ّرا�ش)»المكتبة العمومية» حلب .1961 ((( �أنظر تف�صيل ذلك في كتاب «�صورة الغرب في الرواية العربية» -للدكتور �سالم المعو�ش � -ص 220وما بعدها -م�ؤ�س�سة الرحاب الحديثة -بيروت.1980 -
54
�����������������
تقترب بنية «ميزان العدل «من بنية»« ،غابة الحق» في قيامهما على التخ ّيل ،وا�ستعمال الكلمات المفاتيح في العملين(العقل والحكمة والنور والظالم والظلم والعبودية وال�ش ّر، والجنود ،والعلم والجهل وال�سعادة والقنوع والأبواب والقناطر والحق والأتباع.)... وتختلفان في الرحلة ،فالم ّرا�ش �أقام رحلته �إلى فرن�سا� ،أي �إلى الخارج ،وتع ّرف على د�ساتيرها وقوانينها وعاداتها ..خ�صو�ص ًا تعاليم الثورة الفرن�سية (� ،)1789أما ال�سيد ف�ضل اهلل فقد �أقام رحلته �إلى الداخل ،وهو هنا داخالن :داخل التراث الديني وداخل حالتي الإيجاب وال�سلب. النف�س الإن�سانية بما فيها من نوازع وميول ورغبات في ّ والعمالن ي�ستعمالن تقنية ح�شد الجيو�ش للمعارك الوهمية ،حيث تبرز م ّيزة ال�صراع جلي دالالته على ال�ض ّدية ال�سائدة في معترك الحياة بين قوى ال�ش ّر وقيم الخير، ب�شكل ّ والمنق�سمين �إلى مع�سكرين عنيفي التفاعل. «ميزان العدل» :ال�سمكية: داللة العنوان:ثالث مفردات ،تلخ�ص مجمل ما جاء في الكتاب ،والمق�صود هو «العدل» و�إقامته، ولن يت�سنى ذلك �إال بوزن الأمور بميزان خا�ص �إتفق على ت�سميته بـ «ميزان العدل» ،وهو الر�سم المرفوع على �أبواب المحاكم �إ�شارة �إلى �أنه :هنا يتحقق العدل. وال�سمكية :من ال�سمك ،المخلوق المائي الذي ي�ستعمل طعام ًا للنا�س ،والياء للن�سبة، والداللة هي �أن ما ينوى الحديث عنه هو �شيء ين�سب �إلى ال�سمك ،وتف�سير ميزان العدل بال�سميكة يعني �أنّ هناك ترابط ًا بين التعبيرين. وقد تو�ضح العبارة التي تف�صل بينهما بع�ض العالقة :ميزان العدل ،في المحاكمة بين جنود العقل والجهل ،فثمة فريقان مت�ضادان :العقل والجهل «ولكل منهما جنود مج ّندون للإنت�صار لهما ،لكنّ الح�صيلة تلخ�ص بلفظة «ال�سمكية» ،التي تبتعد في مدلولها من العنوان الطويل ،من دون �أن يوحي �إ�ستعمالها بعالقة ما بينهما ،ومن دون �أن يو�ضع حرف العطف الإ�ستبدالي «�أو» ،لكنّ الإنطباع العام ّ يدل على �أنّ �صاحب الق�صة �سوف 55
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
يتح ّدث عن العدل هدف ًا رئي�س ًا له ،وكان على القارىء �أن ينتظر للتع ّرف على فكرة الق�صة كي يت�ضح مرمى العنوان. فكرة الق�صة:لم ال�سمكية �إذ ًا؟ تغدو لفظة ال�سمكية �سبب ًا رئي�سي ًا لت�أليف الكتاب ،ومن هذا ال�سبب ينطلق الحكي وعظ ت�أتّى من نتيجة م�سوغ ًا للكاتب �أن ي�ضع حكايته ،ويجعل بنيتها الأ�سا�سية تدور حول ٍ فعل م� ٍؤذ قام به البع�ض ،ومفاده �أن مجموعة من ال�صحاب �إتفقت على �أن يكون غدا�ؤها �سمك ًا على نهر دجلة ،فيتم �شراء ال�سمك و�إعداده للطعام� ،إال �أن مجموعة �أخرى من ال�صحاب ممن عرفت بالأمر �أخفت ال�سمك وحرمت المجموعة الأولى من �أطايبه. أحب �أن يترجم «هذه الواقعة ب�أنثار فائقة وقد �أ ّثرت هذه الحادثة في الكاتب ،و� ّ و�أ�شعار رائقة ،لما �إ�شتملت عليه من خيبة الظنّ وكذب الأمل ،والغر�ض ما وراء �ألفاظها من المعنى ،وما هو جدير �أن يق�صد ويعنى ،من �أ ّنه كم يكدح المرء في جمع �شيئه ووزره عليه ومهنئوه لغيره ،يتن َّعم به من لم ت�سع �أقدامه في مذاهب طلبه»(((. وهي حالة متفاقمة في المجتمع ،حيث يعي�ش كثيرون على ح�ساب الآخرين ،في�سلبون �أتعابهم وين�سبونها �إلى �أنف�سهم ،وهو مو�ضوع نجده م�ست�شري ًا بين النا�س ،فيعم الإ�ستغالل ،ونهب الثروات وم�ضغ لحوم الأخرين. يلم فيه �شتات المحامد ولع ّل الكاتب قد �إرتفع في تناوله هذا المو�ضوع �إلى م�ستوى ٍ راق ّ وال�شرور الرائدة في زمنه و� ّأي زمن �آخر ،لين ّبه �إلى مخاطر الزلل ويظهر ت�أثيرها في ما�سة ،وهو ال�سلوك الإن�ساني� ،إن لم تجد �ضوابط تعقلها ،وهذا الكالم حاجة كونية ّ ما ينطبق على زمن الكاتب �إ ّبان الحكم التركي في مرحلته الأخيرة حيث كان �أفوله �سبب ًا في �إ�ست�شراء الف�ساد والل�صو�صية والر�شوة ،كما كان �سبب ًا في تكالب بع�ض الدول الغربية وت�سابقها للإ�ستيالء على ال�شرق ونهب ثرواته. (( ( ميزان العدل � - .....ص .35
56
�����������������
وبناء على ذلك يم�ضي ال�سيد ف�ضل اهلل في مخ ّيله ال�سردي في خليط من النثر وال�شعر له ول�سواه من�صرف ًا عن ال�سمك� ،إال في بع�ض الموا�ضع ،مقيم ًا حبكته على جوانب �صراعية في نف�س الإن�سان و�سلوكه ،فيكون لهذا ال�صراع �أطراف متقاتلة ووقعات عديدة عنا�صرها الرئي�سة �أنواع النف�س :من �أ ّمارة بال�سوء� ،إلى مطمئنة ،جاع ًال لك ّل منهما جنود ًا تح�شد في القتال ،جنود ًا موزعة على العقل والجهل والخير وال�ش ّر ،وال�شيطان العد ّو ،والإيمان الحامي الإن�سان من الزلل ،ومو�صله �إلى ب ّر الأمان :الج ّنة وما يوعد الم�ؤمنون به ،في �أحاديث مط ّولة ،عن الج�سد وال�شهوات والقنوع والعفة والزهد والتقوى والعلم ،و�صو ًال �إلى الحديث عن م�صير كل واحدة منها ،وبالتالي م�صير الإن�سان وطريقه �إلى الآخرة� :أهو في الجنة �أم في النار نتيجة لأعماله؟ ويبدو للقارىء �أنّ هذا الأثر هو نوع من الق�ص�ص الذي ي�ستقى منابعه من القر�آن الكريم بهدف الوعظ الديني :يبد�أ بعر�ض �أحوال الدنيا وما �أفا�ض به اهلل من طيبات وما ح ّدده من ممنوعات ،لي�صل �إلى �أنّ الإن�سان ينحرف عن الطيب ويلج�أ �إلى الخبيث ،وعن مف�صل :حكمي وعظي في العقل �إلى الجهل ،وعن الإيمان �إلى الع�صيان ،في �شبه عر�ض ّ مجمل وقائعه قائم على ال�صراع بين الميول والرغبات ،تلك ال�صادرة عن �أنواع النف�س الإن�سانية ،ال �سيما الأمارة بال�سوء من جهة والمطمئنة من جهة ثانية ،لي�صل �إلى بع�ض الحلول الكامنة في التعاليم الدينية والتوجيهات ال�صائبة من خالل تبيان الإيجابيات للملتزم وال�سلبيات للعا�صي. بنية الحكاية: البنية الكلية:تقوم الحكاية �إذ ًا على فكرة �سرقة ال�سمك وم�صير ال�سارق وعلى �أنّ ال�سرقة من مفاعيل الجهل الذي يقابله العلم والعقل ال�ضابطين الرئي�سين �سلوك النا�س في �ضوء التعاليم الدينية التي تتع ّمق في �أحوال النا�س وما فيها من ميول ونوازع و�إنحرافات و�إ�ستقامات... 57
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
البنى الجزئية:وتندرج في �سياق البنية الكلية بنى �أخرى جزئية ت�ش ّكل مفا�صل رئي�سية في ال�سياق العام ،و�أكثر هذه البنى �أهمية: المقدمة التي ت�س ّوغ ال�سبب لكتابة الحكاية ،وهي عقد العزم على تناول ال�سمكغدا ًء ،ومن ثم �سرقة ال�سمك. المف�صل الأول :وفيه عودة �إلى �سبب ال�سرقة وهو الجهل ،يت�ضمن هذا المف�صلحديث ًا مطو ًال عن الجهل الذي مر ّده في هذه الحكاية �إلى ف�ساد النفو�س �إ�ستجاب ًة لرغبة الج�سد في ال�شهوات ،حيث يتب ّدى �أنه ينبني على لوازم ينبغي مراعاتها في حدود الحاجة والإكتفاء من غير �إ�ضطرار �إلى اللجوء �إلى العادات المقيتة التي يجب تجنبها، ومنها ال�سرقة ،وذلك ال يكون � ّإل في نطاق خداع النف�س والتزيين لها ب�أن الحرام ي�صبح حال ًال ،وال�سعادة الآنية زيف �إن قامت على فعل ال�سوء .وذلك ك ّله من منتجات النف�س الح�سية الحيوانية ،والتي يمكن الإ�ستغناء عنها الأ ّمارة بال�سوء التي تقوم على ال�شهوات ّ �أو تنظيمها ليكون �أدا�ؤها �أف�ضل �ضمن العقل والمنطق ،وما عمل الأمارة بال�سوء � ّإل من خداع ال�شيطان الذي يرمز �إليه الكاتب «ب�أبي مرة» ،وهو �أحد قطبي ال�صراع في الحكاية ،وقائد جنود الجهل ،ومو�صلها �إلى الطمع وال�شهوة ّ وال�شدة والمفا�سد والآثام وال�شرور(((. المف�صل الثاني :وفيه تحذير من �أنّ جنود الجهل ال تت�ص ّرف بح ّرية تامة ،بل �إنهناك نقي�ض ًا �أ�سا�سي ًا لها يق ّيدها وي�ضبط �أعمالها ويمنعها من التمادي في �أعمالها ومح�صنة ومدعومة ال�سيئة ،وقد رمز �إليه الكاتب «بالعقل» الذي بدوره له جنود مج ّندة ّ من قبل اهلل ع ّز وج ّل. والفكرة الرئي�سية هنا هي الإنطالق من العقل الإنفعالي الذي يجعل النف�س المطمئنة ال�سمكية� ,ص (.)82 - 37 ((( ّ
58
�����������������
قوامه الرئي�س ،تلك النف�س المنوط بها عقل الإنحراف ومنعه ،ولها �أدواتها المرجعية �صدر �إال فع ًال نبي ًال ي�س ّور الإن�سان ويقوده �إلى ال�سعادة الروحية في ذلك ،وهي ال ُت ِ الحقيقية الأبدية في رحاب اهلل ،لذلك فهي تقود الفكر والنوازع �إلى الخير ،ي�ؤازرها العقل بقواه ال�صارمة التي ال تت� ّأخر في المواجهة لتحقّ الحق ،لذلك تجري المعارك بين جنود العقل وجنود الجهل ،وينبري «�أبو م ّرة» (ال�شيطان) لمالقاة خ�صمه ،وينك�شف الم�شهد عن �إنت�صار العقل المعتمد على �أمرين �أ�سا�سيين. الأمر الأول :على بنية النف�س المطمئنة الم�ستعينة دائم ًا باهلل ،فيم ّدها بروحالقد�س وين�صرها وي�ضيء لها م�صابيح الحكمة ،وما ذلك � ّإل لأنّ المطمئنة مجبولة بجملة من المك ّونات التي هدفها فعل ال�صواب و�صالح العالم ،فتبرز هذه المك ّونات من النور والمواعظ والطاعة والتعالي عن ال�شهوات والم�ساوىء والإيمان العميق الواثق باهلل ،والإبتعاد من الإغترار بالنف�س ،والتفكير بم�صير الإن�سان ،ال �سيما ج�سده الذي هو �إلى الزوال ...لذلك هي منت�صرة دائم ًا على «داء الجهل» ،وعالمة «بم�صير �أحوال الأمم والقادة الغابرين ونتائج �أعمالهم البائرة» ،و�أنّ م�صير الجميع �إلى القبور ،و�أنّ النف�س الأ ّمارة تلقى الم�صير نف�سه ...لذلك يدفع الكاتب بالعقل �إلى الواجهة ويجعله دائم ًا منت�صر ًا. في هذا الأمر يعطي الكاتب النف�س المطمئنة الإمكانات الوا�سعة والمطلقة ،ويمنحها منبر ًا خا�ص ًا متمكن ًا من الثقافة الدينية الإ�سالمية ،حيث ي�صبح العدل والحق والهدي وروح القد�س والأمثال والقبر والطوايا الح�سنة �أ�سلحة ما�ضية في تتفيه �آراء ومواقف النف�س الأ ّمارة بال�سوء ،تلك التي ت�أتمر ب�أوامر �أبي م ّرة ،فتحيد عن ال�صواب وتع�صي الرحمن ،فهي لذلك ت�صاب بالخيبة والإخفاق ،وتتع ّر�ض للتقريع والت�أنيب والهزيمة، وخ�سارة ال�سعادة الأبدية التي جعل الكاتب خطابها تف�سيري ًا لحقيقة الوجود الإن�ساني. ويتجلى ذلك بقوله: «الحمد هلل الذي عدل بين خلقه و�ساوى بين عباده ،فجعل الدنيا ج ّنة ن�ضرة لمن 59
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
كفر به ،وخميلة عطرة لمن َع َن َد عن طاعته ،وبهجة مونقة لمن �أ�شرك بربوبيته ،يتقلبون في نعيمها ،ويبتهجون في زخارفها ،ويعجبون بمناظرها ،ويزدهون بزبرجدها ،م�شغوفة �أنف�سهم بلذاتها ،ومق�صورة �أب�صارها على ط ّيباتها ،ي�أكلون ويتمتعون ،ويلهيهم الأمل الكاذب ،والغرور الحائل ،كال ّنعم المهملة والإبل ال�ساهمة ،ولو �شاء اهلل لزادهم فيها ب�سطة.»... والأمر الثاني :هو �إ�سهابه في الحديث عن الدار الآخرة ،على ل�سان النف�سالمطمئنة ،وهي التي تحذر من نتائج �أعمال �أهل الع�صيان ،و�أنّ عذاب القبر ينتظرهم، و�أبواب النار تفتح �أ�شداقها لتبتلعهم ،وهي �أ�شداق تنفتح على �أخرى ،وهي �سبعة �أبواب: جهنم واللظى والحطمة وال�سعير و�سقر والجحيم والهاوية((( ،و�سبعة قناطر :الح�ساب عن ال�صالة ،وح�ساب عن الأمانة وعن �صلة الرحم وب ّر الوالدين وحفظ الل�سان وحفظ الجار وال�صدق(((. المف�صل الثالث :ويتر ّكز حول ر ّدة فعل جنود العقل الذين ينبرون للدفاع عن القيم التي ينبغي �أن تكون ثابتة في ال�شخ�صية الإن�سانية ،في هذا المف�صل عر�ض واثق من ح�سية الإنت�صار الحتمي لل�صحيح والباقي في �إدارة الكون ،يقيمه الكاتب على مدركات ّ ومعنوية ،تنتمي في مجملها �إلى الأر�ض الخ�صبة التي تكتنف عالم الإن�سان الباطني، وهي منطلقات تقود الإن�سان في الظاهر من خالل مح ّركات �سلوكية قوامها :الوحدة و�صراع الأ�ضداد ،ف�إلى جانب التكوين المتح ّرك ،وغير الثابت للقوى الم�ؤقتة الناتجة عن المطامع والنوازع والميول والرغبات والإنحراف ب�إتجاه ال�ش ّر والمعا�صي والم�آتم وال�شرور ...ثمة قوى �أخرى �أكثر ثبوت ًا وديمومة ،و�أكثر فاعلية ،و�أقوى منطق ًا ،تقف في النقي�ض من القوى الأولى العابرة ،وهي ت�شكل الأر�ضية ال�صحيحة والحقيقية التي ُجبل عليها الإن�سان ،وفي مقدمتها ي�أتي العقل ب�أ�سلحته اليقينية ،والتي ي�سميها الكاتب «جنود ((( ال�سمكية �ص .23 ((( ال�سمكية �ص .128
60
�����������������
العقل» ،وهي القائمة على الإيمان ال�صحيح المعتمد على القنوع والع ّفة والزهد والتقوى، و�إذا كانت هذه الأ�سلحة معنوية ،من متعلقات النف�س المطمئنة الآيلة �إلى الإ�ستقرار الآدمي ،ف�إ ّنها م�س ّورة ب�أبنية العلم القائمة على الأدلة والبراهين ال�ساطعة التي ال مهرب منها� ،إال بالإنحراف الب ّين عن جادة ال�صواب. يقوم هذا المف�صل �إذ ًا على هجوم جنود العقل على جنود الجهل ،في نزال مميت ي�ؤدي �إلى تبيان حقائق الأفعال ونهاياتها ،حيث ينه�ض العلم «و�سبحات �أنوار الهدى تتلألأ في جبينه ،و�أ�شعة م�صابيح الر�شاد ي�ش ُع من �صفحات وجهه ،وكواكب هممه تبزغ مزهرة من رجع لهواته ،وتفي�ض جداولها من جوانبه ،وتنطلق �أل�سنتها من نواحيه منحدر ًا في مقوله �سائ ًال في تر�سله ،راكب ًا من البيان ثبج لجيه ،ممتطي ًا كواهل غواربه، وق�صر �أعنة مقوله �ساطع ًا ب�صبح الإي�ضاح ،و�شمو�س الك�شف ،وقد ّقد �سوابق منطقهّ ، وبنى مطالب مقا�صده على نظم مق ّدمات ،وترتيب مقامات ببيانها ترتفع الغ�شاوات وت�ستنير الظلمات»(((. في هذا المقطع التقديمي للعقل ،تنجلي حقيقة التعبير البياني الذي يعيد ال�سيد ف�ضل اهلل في �إنتمائه الأ�سلوبي �إلى المدر�سة البيانية في النثر ،حيث نالحظ العبارة المج ّنحة والخيال الث ّر يهيمن على الأداء اللغوي�« :سائ ًال في تر�سله» وراكب ًا من البيان ثبج لجيه في هالة من الأ�ضواء التي تك�شف منطق القول القائم على جملة من الأمور التي يرتبها الكاتب ،ويحيل �صدورها من ينابيع «�إرادة الإبداع» ،وتناقلها �إلى «يد الإن�شاء»، في ظل �إكتناف نوراني فيه من ال�شفافية والأج�سام الروحانية ال�شيء الكثير(((. �أما هذه الأ�ضواء فجوهرها يف�صح عن تنبيه العقول ال�ساهية �إلى كبرياء اهلل ع ّز وج ّل وتوحيده و�أزليته و�سببية خلقه ،وما و�ضعه في الب�شر من طبائع مت�ضادة و�صفات مختلفة ،جعلها تنتقل بالوراثة عبر ال�ساللة الإن�سانية .ذلك كله في �سلك منطقي قوامه ((( ال�سمكية �ص .203 ((( ال�سمكية �ص .203
61
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
البرهان العقلي على �صحة النتائج الكامنة في �صحة المقدمات((( ،لي�صل في خال�صته �إلى القول� »:إن حقيقية النعيم �إنما هو بالمعارف الإلهية ،والذات العقلية ،ال بالعلوم الج�سدية واللذات الح�سية»((( ،من دون �أن يغمط العلم ح ّقه في الإ�ستدالل على حقيقة اهلل والوجود ،في �سل�سلة من ال�شواهد التي هي من �إنتاج العقل. في المف�صل الرابع: يوحي الكاتب ب�أن ال�صراع بين الخير وال�ش ّر �سي�ستمر ما دام «�أبو م ّرة» (ال�شيطان) موجود ًا يعيث في الأر�ض ف�ساد ًا .فعلى الرغم من الأدلة الدامغة التي يتقدم بها العقل ،وعلى الرغم من �إنت�صاره وق ّوة الحجج العلمية التي تقدمها النف�س المطمئنة ...فال�صراع يجد �سبيله الدائم �إلى ال�شقاق والنفاق ،والأمر بال�سوء ،و�إغواء النفو�س، والميل بها ب�إتجاه الع�صيان والمجادلة من �أجل المجادلة و�إ�ستمرار النزاع. في هذا المف�صل نجد الهزيمة على ل�سان ال�شيطان ،يع ّبر بها الكاتب �شعر ًا م�ستقى من ال�شاعر العبا�سي �أبي تمام: �وب �إذا الق� �ي� �ت� �ه ��ن رددن� �ن ��ي ج ��ري� �ح� � ًا ك � ��أ ِّن� ��ي ق ��د ل �ق �ي��ت ك�ت��ائ�ب��ا خ � �ط� � ٌ وم ��ن ل ��م ُي �� �س �ل� ِّ�م ل �ل �ن��وائ��ب �أ��ص�ب�ح��ت خ �ل��ائ� � �ق � ��ه ط� � � ��را ع � �ل � �ي� ��ه ن � � َوائ � �ب� ��ا وق� ��د ي��ك ��ون ال �� �س �ي��ف ال �م �� �س �م��ى منية وق ��د ي��رج��ع ال���س�ه��م ال �م �ظ � َّف � ُر خائبا ((( و�آف � � ��ه ذا �أ ّال ي� ��� �ص ��ادف رام� �ي� � ًا و�آف� � � � ُة ذا �أ ّال ي�����ص ��ادف �� �ض ��ارب ��ا و�أبرز ما في هذا المقطع هو �إحتدام الجدال ،في حوار �صدامي تعتلي فيه الحجج ٍّ لكل من جنود الجهل وجنود العقل .وقد �س ّماه الكاتب بـ«الهجوم الم�ضاد» ،وهو الذي حاولت فيه النف�س الأ ّمارة بال�سوء �إنقاذ ما يمكن �إنقاذه من �أفعال �إنحرافية تل�صقها بالإن�سان، وك�أ ّني بال�شيطان (�أبو م ّرة) يتج ّدد وينه�ض من خيبته وي�ؤكد م�سيرته الإغوائية في عالم النا�س .يقول: ((( ال�سمكية �ص .204 (( ( الم�صدر نف�سه � -ص .204 ((( الم�صدر نف�سه .243
62
�����������������
�أن� � ��ا �أب� � ��و م � � � � ّرة �إن ج � � � ّد ال ��وه ��ل خ � �ل � �ف� ��ت غ� � �ي � ��ر زم� � � � ��ل وال وك � ��ل َ ((( ذو خ � ��دع � ��ة وذو ده� � � � ��اء وخ� �ت ��ل �إن م � َّل �ن��ي ال �� �ش � ّر ف � ��إ ّن� ��ي ال �أَم� � � ��ل وهو ما �أحيا جنود الجهل ودفع بالنف�س الأ ّمارة الى �أن تعود �إلى حلبة ال�صراع ،وهكذا حتى ما ال نهاية :يقوم ال�صراع فتنخفق ،ثم تجد بواعث جديدة ،فينق�ضي الزمان، وهي ال تغادر النفو�س وال الأمكنة ،وها هي ذي اليوم في «ميزان العدل» ،تعود في «هيئة ال�سمك» لتغوي الإن�سان وتدفعه �إلى ال�سرقة وفعل الموبقات. �أ ّما المف�صل الخام�س والأخير ،في�أتي لي�ؤ ّكد حال الوجود منذ الأزل ،و�أنّ النهايات م�آلها �إلى اهلل ع ّز وج ّل ،و�أنّ هذه الدنيا مليئة بالأماني الكاذبة ،وال ح ّل �إال ب�صحوة الروح. ذلك ك ّله ي�أتي في �شبه خاتمة للحكاية �س ّماها الكاتب «العبرة» ،وهي خال�صة �ألآراء المتنوعة ،ت�أتي على ل�سان مجموعة من ال�شخ�صيات عبر �أ�صوات تتناوب القول ،ويدلي ك ٌّل منها بنوع تفكيره ،كخال�صة م�ستفادة من التجارب العديدة التي يقوم بها �أ�شتات النا�س .هذا المف�صل يبد�أ بمدخل للكاتب موجه ًا �إلى «الع�صابة المنغم�سة في لهوها» وهي تلك المجموعة من ال�صحاب التي �سرقت ال�سمك .فيكون ر�أي الكاتب �أن �أماني هذه المجموعة هي كاذبة وواهمة وغ ٌّم وبالء ،و�أنّ اللذات �سرعان ما تزول ،وال يبقى التم�سك بطاعة اهلل .وقد ع ّبر عن ذلك بقول م ّنها �إال الندم .وال�صحيح الدائم هو ّ ال�شاعر لبيد ين ربيعة العامري(((: �أال ك� ��ل �� �ش ��يء م� ��ا خ �ل�ا اهلل ب��اط��ل وك � � � ��ل ن � �ع � �ي� ��م ال م� � �ح � ��ال � ��ة زائ � � ��ل ((( ���س ��وى ج�� ّن ��ة ال� �ف ��ردو� ��س �إنّ نعيمها �سيبقى و�إنّ ال �م��وت ال ��ش��ك ن� ��ازل و�أتاح الفر�صة لجمع الحا�ضرين �أن يع ّبروا ،ك ٌّل بح�سب تجربته ،عن حال الدنيا، ((( ال�سمكية �ص .246 (( ( �شاعر مخ�ضرم (جاهلي �إ�سالمي) . ((( ال�سمكية �ص .274
63
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
فير ّد الأول ال�سوء في الكون �إلى المطامع ،وي�ؤ ّكد الثاني مذهبه ب�إ�ضافة �سبب الزلل �إلى الميول ال�ش ّريرة ،وير ّد الثالث ال�سبب �إلى نق�صان العقل وعدم ال�سعي �إلى الرزق والر�ضى بما ق�سمه اهلل من �أرزاق ،وي�ؤ ّكد الرابع على الرزق المخ�ص�ص لك ّل �إن�سان، ويح�سب الخام�س �أن الف�ضل والتك ّرم عماد الحياة ،و�أ ّنهما خير من الف�ضول ،وال�ساد�س ي ّلخ�ص ر�أيه في القول ال�شعري التالي: ق� ��د وزع اهلل ب��ي ��ن ال��خ��ل ��ق رزق��ه ��م ل� ��م ي �خ �ل��ق اهلل م� ��ن خ� �ل ��ق ي �� �ض � ّي �ع��ه وفي المح�صلة نجد «العبرة» الخاتمة ،نوع ّا من الو�صايا ،وتلخي�ص ًا لمجمل ما ورد في أكيد على القيم والتم�سك بالتقوى ،وهو ما يبقى للإن�سان ،بينما ال�شرور الر�سالة من ت� ٍ والمعا�صي هي غ ٌّل للإن�سان في الدنيا والآخرة. «ميزان العدل» بو�صفه محاولة �سردية:
ح�ضور ال�سرد العربي القديم:ما ورد �آنف ًا من تتبع المفا�صل يوحي ب�أنّ الكتاب قامت بنيته على ال�سرد الذي �إ�ستفاد من رافد الق�ص�ص العربي القديم ،و�ش ّكل ،هو ومجموعة الإ�صدارات في الزمن الأول للنه�ضة ،توا�ص ًال فيما بين الق�ص�ص القر�آني والتراث الحكائي العربي ،بما يالئم �أحد الإتجاهات القائلة ب�ضرورة ح�ضور هذا التراث من جهة ،وما يت�ضمنه من قيم �أخالقية ،معظمها ديني ،من جهة ثانية .فقد �إ�ستعار الم�ؤلف من الما�ضي الأ�سلوب وال�صورة والأجواء الق�ص�صية العامة ،ولم يحاول الإ�ستفادة من الفنّ الق�ص�صي الحديث الذي �أخذ يتدفق ،في تلك الآونة� ،إلى المجتمع العربي ،فبقي يه ّوم في �سماءات خا�صة معنوية قيمية تهدف �إلى الوعظ وتقويم ال�سلوك الإن�ساني ،م�ستفيدة مما يحتويه الق�ص�ص من عنا�صر ت�شويقية ت�سهل على القارىء عملية الدخول في الأجواء الفكرية والقيمية وال�سلوكية ،لأنّ النفو�س ،كما �أ�شار ال�سيد ف�ضل اهلل ،تميل �إلى �إلتقاط المعارف على �شكل حكايات و�سير. 64
�����������������
تعليمية المحاولة:وقد كان ال�سيد ف�ضل اهلل يعلن في تجربته عن �إمكانية تواجد هذا القديم في ع�صره، بو�صفه در�س ًا تعليمي ًا وتربوي ًا محدد ًا ،م�ستفي�ض ًا في الحكي عنه على ح�ساب العن�صر الق�ص�صي �شك ًال وم�ضمون ًا ،والجئ ًا �إلى الباطن في مهمة توجيهية تك�شف خبايا النفو�س وما �إنطوت عليه من ميول ورغبات و�أوهام و�إنحرافات ..من جهة ،وما ق ّر فيها من �ضوابط وموانع تقف حائ ًال من دون �إنفالت ال�شهوات والآثام وال�شرور ،من خالل العقل الإنفعالي المجلبب بالحلة الدينية الم�سهمة في تقويم ال�سلوك من جهة ثانية. لذلك �أخ�ضع ال�سيد ف�ضل اهلل ق�صته للفكر والوعظ ،محاو ًال تقديم بع�ض منافع الأخالقيات و�سواها من العلوم المعروفة لدى العرب ،خ�صو�ص ًا حول �إ�ستعمال العقل والمنطق ،وحول الج�سد ول ّذاته الح�سية (�ص )239-233والعنا�صر الطبيعية التي يتك ّون منها ،كالماء والطين (�ص220و ،)221وجعل �أدوات الج�سد في خدمة الروح (�ص.. )227 كما ي�سهب في ب�سط الحديث عن المدركات النف�سية ويجعلها باطنية وظاهرية، الح�س الم�شترك والخيال والوهم والحافظة والفكر ،والظاهرية هي فالباطنية هي ّ وال�شم واللم�س والذوق�( .ص.)221 ال�سمع والب�صر ّ بالإ�ضافة �إلى الحديث الم�ستفي�ض عن الطبائع (�ص ،)219والعلم ومظاهره في القر�آن الكريم (�ص )232-230وكنوزه وطرقه (�ص.)219 وغير ذلك من الأمور المعرفية التي يتوجب على الإن�سان الت�س ّلح بها في �إقدامه على مبا�شرة حياته القديمة. الواقع والرموز:وفي حديثه ،بهذه الطريقة يقترب ال�سيد ف�ضل اهلل من الواقعية ،حيث يكتمل لديه المعطيان :الواقعي والمعنوي في �شبه تالحم ال يوحي ب�أ ّننا يجب � ّأل نبحث عنهما في مكانين مختلفين ،وفي �سلوكين مختلفين ،و�إ ّنما هما في ح ّيز واحد ،ينطلقان مع ًا 65
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ويح ّددان تجارب الإن�سان و�سلوكه .كما يعتمد ال�س ّيد الرمز ب�شكل وا�سع .فقد �إ�ستطاع ومعان ومدركات ...جعلها تم�شي على قلمه �أن يخلق عالم ًا من الرموز لقيم و�سلوكات ٍ الأر�ض وتتخاطب كما يتخاطب النا�س ،وتغ�ضب وتر�ضى وتثور وت�شنّ الهجومات ...كما يفعل الب�شر تمام ًا. والرمز المق�صود هنا ،ال يعني بال�ضرورة اللغز والتخ ّفي والمعاياة والمحاجاة .. بل يعني ما كان يت�ضمن حكاية لها غاية �أو وظيفة معينة ،وهو �شكل مقنع من �أ�شكال الكتابة ،يهدف �إلى غايات تعليمية ودينية و�سيا�سية و�أخالقية ...وهو يكثر في الأمثال وق�ص�ص الحيوان والق�ص�ص الديني في التوراة والإنجيل والقر�آن((( ...ولعل «ر�سالة الغفران» لأبي العالء المعري ومقامات ال�سيوطي تكونان الأقرب �إلى هذا المفهوم. �إطالالت فل�سفية وت�ضمينات دينية:�إن قارىء الر�سالة ال يفوته �أمران رئي�سيان في نزوع الكاتب ،وهما الإ ِّتكاء على الفل�سفة والفقه الديني� .صحيح �أن �أدب النه�ضة قد زخر بهاتين ال�سمتين ،كما �ألمحنا لدى فرن�سي�س مرا�ش وفرح �أنطون و�أحمد فار�س ال�شدياق في نزوعهم �إلى الفل�سفة ك ّل من زاويته الخا�صة ومعتقده الفكري� ،إ ّال �أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل قد غا�ص بها ب�شكل وا�ضح، و�أثقل �شخ�صياته الرمزية بها� ،إلى ح ّد ح ّولها �إلى منابر كالمية خطابية ،حول الدين والفل�سفة وعلم النف�س وعلم الأخالق وغيرها من المعارف والعلوم التي قامت حول الإن�سان ظاهر ًا وباطن ًا. بين الذات والمجموع:وال ريب في �أن �إ�ستقاء الحدث من الواقع ال يحتّم �أن يكون الأثر المكتوب واقعي ًا �شك ًال وم�ضمون ًا .وهي ميزة تواجدت في ثنايا الر�سالة عن طريق �إتباع تقنية الت�شخي�ص: ((( نورثرب فراي -ت�شريح النقد (محاوالت �أربع) -ترجمة محمد ع�صفور �ص -122عمادة البحث العلمي -الجامعة الأردنية- .1991
66
�����������������
فجاءت الأفكار واقعيةّ � ،إل �أنها �سبحت في فلوات �أخرى ،فكانت �أرجلها على الأر�ض ور�أ�سها في ال�سماء .وهي �سمة م ّيزت الأعمال الروائية في ذلك الزمن عبر الحديث عن الذات والتوغل في تجاربها ..وهي ذات تتقا�سمها تلك الخا�صية الأناوية والأخرى الجماعية .فك�أنك تقتنع ب�أن ال�سيد ف�ضل اهلل يم�شي وحيد ًا لك ّنه مع الجميع .تلك هي تجربته التي جعلها م�صب ًا لتجارب الآخرين ،على الرغم من �أننا ن�سمع �صوت ًا واحد ًا مو ّزع ًا على �أ�صوات مختلفة لتع ّبر عن المختلف في النوازع والتفكير. المتخ ّيل ال�سردي والبدايات الف ّنية:قد يميل القارىء �إلى ت�سمية «ميزان العدل» تج ّوز ًا رواية ،وذلك لي�س غريب ًا بالن�سبة �إلى الع�صر الذي ولدت فيها كمثيالتها ناق�صات في الإنتاج الروائي العربي المبكر ،لأن الفن الق�ص�صي كان يحبو في مدارجه الأولى ،حيث �إنف�صل �أ�سلوب الكاتب عن م�ضمونه، ولم ي�ستطع �أن ينه�ض بف ّنه الق�ص�صي �إلى م�ستوى عباراته ،لذلك جاءت �أو�صافه �إلى ال�شكلية �أقرب ،و ُو ِ�س َم ب�أ ّنه مز ّوق ومن�شىء� ،أو �أنه «جدول يخرخر ونهر ثرثار تقطعه غير خالع نعليك» ،كما يقول مارون عبود((( ،تتك ّرر الأحداث من دون ترابط في �سياق البناء العام للرواية ،حيث تغلب عليها نزعة الوعظ والخطابية والخروج بعبرة من كل حدث، تتالءم مع ظروف الموقف بغ�ض النظر عن الأبعاد الفنية. لقد تغ ّلب الوعي الديني على الع ّن�صر الفني ف�أ�ضعف بنيته الف ّنية ،ف�أن�ضجه توجيه ًا ديني ًا ولم ين�ضجه وعي ًا فني ًا ،فظ ّل في نطاق الذات التي هي ،في ذلك الزمن ،تتمحور حول الوعي الجماعي الذي ر�أى في الدين �سبي ًال �إلى �إعادة الإن�سجام �إلى الحياة الإجتماعية. وعدم القب�ض على ف ّنية العمل الق�ص�صي جعل �أثر ال�سيد ف�ضل اهلل خليط ًا من العديد من الفنون والإتجاهات .لذلك كان «ميزان العدل» يحتوي على بع�ض العنا�صر الروائية (( ( جدد وقدماء -مارون عبود� -ص -223دار الثقافة -بيروت -ط .1975 -4
67
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والأخرى الم�سرحية ،ويقيم �أداءه على الخطابية ،وير�صعه بالآيات القر�آنية ،ويدمجه بال�شعر في محاولة تركيبية تذ ّكر بال�سير ال�شعبية القديمة التي يختلط فيها النثر بال�شعر ،ويحاول �أن يكون قريب ًا من المنطق والفل�سفة والعلمية ،في نثر يقدم المزيد من المعلومات والمعارف ،و�شعر ي�أتي وك�أنه يدعم بحث ًا �أكاديمي ًا للتدليل على �صحة القول، �أو ر�سم �سياق يحتاجه المقطع �أو المقام ال�سردي. لذلك كان عمل ال�سيد ،في هذا الكتاب يقترب من ال�سردية ،لك ّننا نلمح فيه �إفراط ًا في الو�صف الإن�شائي المنف�صل عن ال�سياق الع�ضوي للرواية ،وعلو ًا لأ�صوات الوعظ الأخالقي الذي يقطع ال�سرد ،بالتدخل الذاتي والخطابية المبا�شرة الوا�ضحة ،وعدم تطابق الت�سل�سل المنطقي الروائي للزمن المو�ضوعي ،وتواتر الأحداث والت�ضمينات المفتعلة ،وتغليب للآراء والأحا�سي�س ،ومبالغة في الحوار والوقائع وتقديمها على الحالة هم الأمانة والجو والتحليل والف�ضاء الروائي ،وغل ّو ًا في الأخالقية المفرطة �إنطالق ًا من ّ الدينية التي غدت مق�صد الكاتب الرئي�س. وفي عمل ال�سيد ف�ضل نالحظ غياب العن�صر الزمنيّ � ،إل �أننا نلمح وجوده في مكانين للق�ص :الأول حادثة �سرقة ال�سمك التي ت ّمت في حياة الكاتب يخرجان عن ال�سياق العام ّ بين عامي 1864و .1917والثاني ت�أريخ فراغه من كتابة الر�سالة في العام 1315هجرية. وهاتان الإ�شارتان ال عالقة لهما بالوحدة الع�ضوية والأخرى المو�ضوعية للعمل. الأدوات الفنية في «ميزان العدل»:
الع�صر والرواية:وبما �أن الكاتب ال�سيد ف�ضل اهلل �أراد من كتابه تبيان العدل على حقيقته ،ف�إنّ هذا العدل نف�سه يدعونا �إلى الإبتعاد من الإ�سقاط على عمله ،ووزنه بميزان الزمن الذي �أبدعه �صاحبه فيه .وهو زمن كان الفن الق�ص�صي فيه ي�شهد والدته الجديدة ،ويتنازعه 68
�����������������
تياران رئي�سان :الأول الوفاء للما�ضي الق�ص�صي العربي ،والثاني :الإ�ستجابة لنداءات الزمن الحديث(بالن�سبة �إلى ذلك الوقت) ،والذي �أخذ بالإنفتاح على منتجات الغرب متم�سك ب�أ�صالته العربية والدينية ،وموقن ب�أ ّنه يخدم الأمة الق�ص�صية ...وال�س ّيد ّ بتعزيز �إبداعها الأ�صيل وطرحه �أنموذج ًا في بناء الحياة الجديدة. ويبدو �أنّ ما ا�ستعمله الكاتب من عنا�صر ف ّنية ال تخرج عن نطاق الع�صر ،وثقافته الف ّنية ،حيث مقيا�س النجاح هو الإلتزام بهذا المحدود المتعارف عليه .وفي تقديري �أنّ هذا المقدار من الإ�ستعمال الأدواتي الف ّني كان حاجة ع�صرية �أكثر مما هو حاجة ع�صر �آخر .فما ُكتب كان مالئم ًا للثقافة الف ّنية التي ّ تف�شت في المجتمع وتق ّبل بع�ضها، لأنّ الرواية ،و�سواها من الفنون الق�ص�صية ،لم تكن رائجة كثير ًا �أو ًال ،ولم تكن قراءة الروايات م�ست�ساغة لدى المحافظين .وللتدليل على ذلك �أورد هذين المقطعين عن التحذير من قراءة الروايات ،الأول في نطاق الن�صيحة لإحدى ال�س ِّيدات ورد فيها»:ال �أ�شير عليك �أن تقر�أي الروايات الخيالية لأ ّنها غالب ًا ما تح ّرك القلب حراك ًا �شديد ًا يخرجه عن طور المحبة المعتدل �إلى الإح�سا�س ال�شديد»((( .والثانية تقويم عام للقراءة الروائيةّ �« :إل �أنّ بع�ضهم (�أي القراء) �شغفوا بما يخالف الغاية المحمودة ،ف�أخذوا ((( يطالعون الم�صنفات التي ت�ؤدي �إلى مهاوي الف�ساد والعار وال�شنار» وهذا ما ي�شير �إلى التر ّدد في الإقبال على الرواية ،و�أن الف�ضالء � ،أمثال ال�سيد ف�ضل اهلل ،كانوا يحتاطون في خروجهم عن الم�ألوف. عنا�صر ال�سرد في «ميزان العدل»:�سبقت الإ�شارة �إلى مق�صد الكاتب من �إخراج كتابه على �شكل ر�سالة .وهذا يقت�ضي الوقوف قلي ًال عند هذه الت�سمية. (( ( مجلة «�صدى بابل» -عام ( -1909عن مجلة الطريق :عدد 3و 4بيروت� -1981 -ص .44 (( ( مجلة «لغة العرب» عام (1913عن مجلة الطريق -عدد 3و -4بيروت � -1981ص .44
69
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
فالر�سالة نو ٌع من الإبالغ يت�ض ّمن معنى ُيراد �إي�صاله �إلى الآخرين .و�إن كان �سارقو ال�سمك هم المثيرون لكتابة الر�سالة ،ف�إنّ الهدف تخطاهم �إلى المجتمع ب�أ�سره ،لأن يهم الجميع. م�ضمونها ّ ق�صة مفادها النهي عن ال�سلوك الإنحرافي با�ستعمال �أدوات وهي ر�سالة تت�ض ّمن ّ خا�صة ،رمزية في �أكثر الأحيان� ،أتت على �شكل الفتات يحمل ك ٌّل منها جانب ًا قائم ًا في الحياة العامة :الجهل والعقل والعلم والنف�س المطمئنة والنف�س الأمارة بال�سوء و�أبو م ّرة (ال�شيطان) وحاجات الج�سد ومل ّذاته وميوله ...ويمكن للدار�س �أن يالحظ في هذا العمل الق�ص�صي جملة من الأدوات الم�ستعملة ،ح ّركت ف ّنية العمل ،و�ساعدت على نم ِّو الأحداث وتقدمها .. العر�ض:وال ريب في �أنّ الم�ؤلف قد وعى م�س�ألة التدرج في العمل الق�ص�صي ،فجعل ق�صته تبد�أ ب�سرد الواقعة (�سرقة ال�سمك) ،وتن�صرف �إلى تبيان وقائعها .فهي من نتائج الجهل المحاط بجنوده و�أدواته ،وهي لي�ست وحيدة في الميدان ،و�إ ّنما يقابلها العقل الذي له جنوده �أي�ض ًا .ونتيجة لإ�شتداد الجدال بين الجهل والعقل يت�أزم الموقف وت�صل الأمور �إلى ما ي�سمى العقدة القائمة على �س�ؤال :من �سينت�صر في المواجهة بين الفريقين؟ وت�أتي الإجابة ب�إتجاه الحل الذي يركن �إلى منطق الحياة نف�سها ،تلك التي تقوم على ثنائية الخير وال�ش ّر ،وهي التي تتواجد على �شكل �صراع ال ينهيه الإ الموت والإنتقال �إلى الآخرة .مرور ًا ب�أيام الح�ساب في عهدة اهلل �سبحانه وتعالى .فتكون الهزيمة لقوى ال�ش ّر في نقطة النهايات هذه ،من دون �أن يح�سم ال�صراع في الدنيا المبتد�أ. م�ضامين ال�سرد:ولقد �إقت�ضى ال�سرد وجود �أ�شياء كثيرة من لوازم المكونات الإن�سانية ،وهي المنق�سمة بدورها �إلى لوازم نافعة و�أخرى غير نافعة ،و�إلى مواقف عقلية ونف�سية 70
�����������������
ت�ستغرق الأحاديث ك ّلها .لذلك كان الحديث مطو ًال عن النف�س و�أنواعها(�ص )38ولوازم الروح(�ص )39وك ّل من النف�س المطمئ ّنة والأخرى الأ ّمارة اللتين ت�ش ّكالن عن�صرين رئي�سيين من عنا�صر ال�صراع ،و�إلى جانب ٍّ كل منهما قوى ت�ساعدها .فالمطمئنة قوامها الزهد(�ص ،)51-49وهي من جنود العقل ،لج�أ �إليها المحتكمون ،وهي تقيم في مدينة كلها �أبواب وح ّرا�س و�أجناد ،ولها �صفات ،وفي ح�ضرتها يخ�شع �أ�ضراب النا�س .في بابها حاجب �سديد الر�أي ،مكانه في مواجهة النف�س الأ ّمارة ،مز ّودة بع�شرة من الجند هم: التوكيل والعفاف والحياء والرحمة والإ�ستقامة والبذل وال�سخاء والي�أ�س وذكر الموت والن�شاط في العمل(�ص.)85 حب الدنيا، وقد جعلت هذه النف�س الزهد نديمها واو�صته ب�أن يكون في مواجهة ّ كما جعلت العلم في مواجهة الجهل (�ص )86والقنوع في مواجهة الطمع (�ص ... )86 وجعلت الجميع في مراكز دفاعية �إ�ستعداد ًا للمعركة مع الجهل ... وفي هذا العر�ض ،و�ضمن الف�صل الأول ،نجد �أي�ض ًا حديث ًا مط ّو ًال عن الج�سد ول ّذاته(�ص )37ون ّموه (�ص )39وجنوده وحاجته وم�ساوىء الزيادة في متطلباته، وبواعث اللذات المت�صلة بال�شهوات (�ص .)39 يتابع الكاتب هذا العر�ض في المف�صل الثاني ،جاع ًال من ال�سرد طريقة في تقديم المعلومات والمعارف والن�صائح والوقائع المتخ ّيلة ،حيث ي�صبح الحديث عن الدار الآخرة �أ�سا�س ًا ،وت�ستكمل النف�س المطمئنة دورها الوعظي في المقارنة بين الحياة الدنيا والآخرة ،مر ّكزة على المعا�صي وم�صائر �أهلها و�إنق�سامهم في تو ّزعهم على الجنة �أو النار .بينما يكون م�صير �أهل الطاعات �إلى الجنة نظر ًا لأنهم تز ّودوا من الدنيا بخير زاد ليقيموا في خير دار (�ص 134و ،)135حيث ال�سعادة الأبدية التي لها مق ّوماتها و�أ�سبابهاّ .ثم ينتقل الكاتب �إلى ت�سجيل وقائع ال�صراع بين الجهل والعقل في حركة فاعلة من جنود العقل ب�إتجاه جنود الجهل ..وهو �صراع كالمي قوامه الجدال العقيم الذي يف�ضي �إلى قلة حجة جنود الجهل ،حيث ينبري القنوع والعفة والزهد والتقوى والعلم 71
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
بتقديم مرافعاتهم الطويلة على �شكل خطابات تف ّند �آراء الجهل ومواقفه (�ص 159و173 و 180و 191و ،)202فيكتب لها الن�صر الذي يغيظ ال�شيطان (�أبو م ّرة) ،في�ستعد للنزال والهجوم ،حا�شد ًا ما تبقى له من و�سائل �إغوائية ،ب�أداء �ضعيف ال يقوى على المواجهة، لك ّنه يبقى خبيث ًا مختبئ ًا في �شقوق النفو�س :يعاود �إغواءها م ّرة تلو الأخرى .. توجه نحو النهاية� ،إلى رحاب اهلل القادر على ك ّل �شيء. وبذلك يكون العر�ض قد ّ ال�شخ�صيات:
جبهات ورموز:عمد الكاتب �إلى الرمز في ر�سم �شخ�صياته الوهمية المعنوية التي �ألب�سها لبو�س الب�شر، ّ و�شخ�صها لتكون �أدوات فاعلة ،منق�سمة ق�سمين رئي�سين :جنود الخير وجنود ال�ش ّر. فمن خالل العر�ض ال�سابق تب ّين �أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل قد ح ّدد فريقي ال�صراع، وح�شدهما في �سلك ّ منظم ومو ّزع على جبهتين: -1جبهة العقل ،وفيها النف�س المطمئنة ،و�إلى جانبها التقوى وله جنوده وهم :التوكيل والعفاف والحياء والرحمة ... والزهد وله جنوده وهم :الإخال�ص والإحتفاء وال�شكر والقوام والخوف من عذاب اهلل والج ّد والقناعة وال�صدق وال�سالمة والنظر في العواقب ... وكذلك كان العلم والقنوع وال�سعادة الأبدية ..جنودها الم�ستع ّدة دائم ًا للدفاع والهجوم. -2وجبهة الجهل وقائدها �أبو م ّرة (ال�شيطان) و�أداته النف�س الأ ّمارة بال�سوء ،و�أهل المع�صية و�سارقو ال�سمك ... وهي �شخ�صيات رموز ينطقها الكاتب بما يريد ،ويهيل عليها من ال�صفات الإن�سانية �إلى ح ّد الت�شخي�ص .حيث تغدو ال�شخ�صية بحث ًا في مو�ضوع مع ّين مكتنزة بالمعلومات، في تر�سيمات خيالية وجدلية و�إجتماعية ،تنهل من التراث الديني خطوطها و�ألوانها، 72
�����������������
وتقيم ال�صراعات فيما بينها ،ك�أ ّنها تدل على ما يجري من �إنق�سام النا�س في تعاملهم ول�ص ...وهو كثير في الحياة الإجتماعية، ومعتد بين خ ّير و�ش ّرير، ٍ وم�سالم و�أمين ّ ٍ و�أكثره بروز ًا تلك الحالة ال�سيئة التي �إ�ست�شرت في نهايات حكم الأتراك ،فع ّمت الفو�ضى وكثرت الفتن و�إنت�شرت الر�شوة ،وطمع البا�شوات الأتراك في جمع المال ب�أي طريقة كانت ،وفتحت البالد �أمام المطامع الأجنبية فكثرت الإمتيازات ،و�إنق�سم النا�س في تبعيتهم ال�سيا�سية ،و�أقيم عهد المت�صرفية نتيجة للم�شكالت الحادة بين بع�ض الطوائف اللبنانية ،خ�صو�ص ًا في العام � ،1864سنة والدة الكاتب ال�سيد ف�ضل اهلل. وهو �أمر ي�سترعي الإنتباه في اللجوء �إلى الرمز والت ّقية في مهاجمة القوى الأجنبية والإحتالل التركي الذي بد�أت �شم�سه تغيب .وما يلفت في هذا ال�صدد �أنّ الكاتب غ ّيب �شخ�صية القا�ضي الذي يف�صل بين النزاعات ،تارك ًا الحكم هلل على المذنبين والع�صاة. ولقد �إنعك�ست هذه الأحوال ال�سيا�سية العامة على لبنان ،موطن ال�سيد ف�ضل اهلل، ف�ساد التقاتل بين الأمراء على الم�صالح الخا�صة ،ون ّكلوا ببع�ضهم ،و�أ ّدى ذلك �إلى فقدان الأمن و�سوء الإدارة و�إنت�شار الر�شوة والف�ساد وال�سرقة والنهب .. ال�شخ�صية بين الواقع والرمز:لذلك ف�إنني �أرى �أنّ �شخ�صيات «ميزان العدل» �أتت لتك�شف هذا الإختالل في �شجع عليه الأتراك و�أ�صحاب الإمتيازات الأجنبية ،الأمر الذي الميزان الق�ضائي الذي ّ دفع ال�سيد ف�ضل اهلل �إلى �إ�ستعمال الرموز ل�شخ�صياته. ف «ميزان العدل» هو المق�صود �إيجاده في زمن ال يراعي عد ًال وال يقيم وزن ًا للقيم الأخالقية الدينية وغير الدينية. وال�سمكة �أو ال�سمكية لي�ست �إال رمز ًا للمطامع والم�صالح الدنيوية التي تراعي الج�سد وال تراعي العقل والإيمان ،تنطلق من الجهل وتبعد العلم من دائرة ال�ضوء كي يف�سح في المجال لل�سرقة والف�ساد والإنحراف. 73
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وما القوانين الجائرة التي يحميها الجهل و�أبو م ّرة(ال�شيطان) � ّإل �صورة الختالل التعاطي الإن�ساني. رمز لإنق�سام الحياة نف�سها بين الأخيار وما الجنود المنق�سمون على جبهتين �سوى ٍ الأ�شراف ،وبين الم�ستب ّدين والل�صو�ص المت�سلطين على النا�س من غير رادع. وما ح�ضور الحكم الإلهي � ّإل دليل على العجز الإن�ساني في ح ّل مع�ضالته الإجتماعية وال�سيا�سية والإقت�صادية ...فهو القا�ضي الذي ب�إمكانه تفعيل «ميزان العدل». لذلك نجد هذا الت�شابه بين رموز ال�شخ�صيات وحاالت الواقع القائمة في المجتمع، �سواء �أكانت حاكمة �أم فئات �شعبية �ضالة ،وجدت في �أن �إقتنا�ص ن�صيبها المزعوم ال ي�ؤخذ �إال بهذه الطريقة. وفي «ميزان العدل» (ال�سمكية) يكفي �أن يكون الرمز م�شير ًا �أدنى �إ�شارة �إلى المرموز له لنكت�شف المخ ّفي المق�صود من عر�ض الظواهر. وفي الواقع ث ّمة �سا�سة و�أمراء يتناف�سون على نيل الم�صالح ،يتناحرون من �أـجل ال�سيطرة وتوجيه الحياة �إلى ما يرغبون .وهم يدركون �أن فرديتهم لن تو�صلهم �إلى المبتغى ،فيجي�شون الجيو�ش ويك ّد�سون الأن�صار �إعتماد ًا على الإغراءات ،ال �س ّيما المال والأطماع الج�سدية ،لذلك �شاعت لفظة «مرتزقة» في ذلك الزمن و�س ّهلت لهواة ال�صراع ح�شد الجيو�ش ب�إ�ستعمال الدوافع الرخي�صة. وفي «ميزان العدل» لم يمثل الخليفة العثماني حكم اهلل ،وترك الأمر على غاربه هو و�أتباعه والمتعاونون الطامعون من الأجانب ...وهي �إ�شارة من ال�سيد ف�ضل اهلل �إلى �أن ه�ؤالء الحكام قد �إنحرفوا عن ما �أمر به الدين و�إبتعدوا من تعاليمه ،ولم يحققوا ال�سعادة الم�ؤقتة على الأر�ض ،وال الأبدية في الدنيا والآخرة .لذلك كان الح�ساب ينتظرهم. ال�شخ�صية ونظام الكون:وهو ما حاول ال�سيد �إظهاره في ح�شد الجيو�ش وتبيان المطامعّ � ،إل �أنه �أو�ضح من 74
�����������������
خالل الجدل القائم في الق�صة� ،أنّ حجة جبهة الجهل هي دائم ًا �ضعيفة وال تقوى على الدفاع عن نف�سها في محفل القول وال�صراع -الكالم .من �أجل هذا كان لجو�ؤها �إلى الأعمال الخبيثة وذ ّر التفرقة بين النا�س كي ت�سود ويختل ميزان العدل. � ّإل �أن ال�سيد كان يدرك تمام الإدراك �أنّ ثنائية الخير وال�ش ّر في الوجود الآدمي لن تنتهي على الأر�ض .لذلك لم تحقق هزيمة الجهل الإنت�صار الدائم للعقل في الدنيا. وهي �إ�شارة نجدها بعد ال�صدام المنتظر بين الجبهتين (العقل والجهل) في عنوان: «هجوم م�ضاد» عماده «كيد ال�شيطان» والتبا�س الأمر لدى جنود الجهل وتم ّثل النف�س الأ ّمارة في هيئة ال�سمك ،وحنق �إبلي�س الذي �أخذ يع ّد الع ّدة للهجوم من جديد .كما نجده في الموقف الديني الأخالقي المتثمل في عنوان «العبرة» ،حيث تع ّدد الأ�صوات والآراء حول الوجود الإن�ساني ،و�سلوك النا�س و�إختالف تعبير المتكلمين عن ما يجري في الواقع .لذلك كانت كلها �أماني كاذبة ،وال ح ّل �إال ب�صحوة الروح وا�ستفاقة ال�ضمير والخلو�ص هلل ع ّز وج ّل. وعلى الرغم من �إكثار ال�سيد ف�ضل اهلل في الحديث عن العلم والمعارف ،ف�إنّ ال�شخ�صية المرموز �إليها بالعلم المعتمد على الإيمان ظهرت هي الأقوى ،وهي التي لم ي�ستطع المتجادلون �أن يدح�ضوا براهينها المكثفة .لذلك كانت �سبب ًا في تراجعهم ولجوئهم �إلى المكر والخداع وتزييف الحقائق بالر ّد على منتجات العقل المعرفية ... على الرغم من ذلك ك ّله ف�إنّ ال�سيد �أراد �أن ي�شير �إلى حقيقة واقعية وهي� :أنّ وجود العلم من غير �إ�ستعمال وتطبيق قد ي� ّؤجل ح�سم النزاعات بين النا�س� ،أو قد ي�ستعمل العلم في غير ما و�ضع له في الحقيقة. وبذلك تكون ال�شخ�صية هي وقائع الحياة نف�سها ،مح ّولة �إلى منطق نظام الكون القائم على ال�صراع في ثنائية الوجود ال�ض ّدية التي تدرك ال�س�ؤال الأبدي� :إلى �أين م�صير الإن�سان؟ لتكون الإجابة في الموت ،عند بارىء الدنيا وم�ص ّنف �أهلها بين الثواب والعقاب. 75
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ال�شخ�صية بين الباطن والظاهر:يبني ال�سيد ف�ضل اهلل �شخ�صياته الرمزية على قاعدة التوازن بين الداخل الإن�ساني وخارجه .ولقد نجح في التوفيق بينهما عبر متخ ّيل يوهم �أنّ ال�شخ�صيات واقعية ،ت�سلك �سلوك الإن�سان الواقعي في قيامه بمه ّماته الوجودية .وقد كان غياب المالمح المادية الخا�صة بال�شخ�صية م�ساعد ًا له على الإيفاء بالحركة ال ّفنية التي �أهالها على موجوداته هي مالمح قيمية ولي�ست ما ّدية ،من خاللها �إ�ستطاع �أن ير ِّكب رمزه الذي بدا متمارد ًا في الزمان والمكان والفعل .ف�شخ�صية الجهل قابلة للزيادة والنق�صان والمبالغة والتحجيم ...في�ض المعلومات �أو �إخت�صارها هو ما يح ّدد مالمح ال�شخ�صية .لذلك �إ�ستطاع ال�س ّيد �أن ي�ضيف �إلى هذه ال�شخ�صية ما حوته ثقافته الوا�سعة عن الم�آثم وال�شرور والف�ساد والإنحراف والع�صيان. ال�شخ�صيات �إذ ًا مالمحها مفتوحة على الإ�ضافات ،وهي �إ�ضافات تم ّثل واقع الفعل تح�س و�أنت تقر�أ عن جنود الجهل الإن�ساني مرموز ًا �إليه �إ ّما بال�ش ّر و�إم ّا بالخير .لذلك ُّ وجنود العقل والنف�س� ،سواء �أكانت مطمئنة �أم �أمارة بال�سوء ...وك�أنك تقر�أ عن مثل تعرفه ،يعي�ش بين ظهرانيك ،ويبادلك الفعل ،ويحاول �أن يكون واقعي ًا بما هو عليه .ومن جهة ثانية يخالجك �شعور ب�أ ّنك تقر�أ عن جماع ال�صفات الحميدة� ،أو �شتات ال�صفات يلم ما قيل عنه. ال�ش ّريرة ،بحث ًا مكثف ًا ّ والأثر الب ّين في «ميزان العدل» �أنّ الحوادث تجري في �شعاب النف�س التي لها جغرافيا وا�ضحة ،وهو المكان الذي تتخ ّيل �أن ّها موجودة فيه .فالم�ؤمن يجد رحابه في زوايا الم�ساجد ومع الأتقياء وفي الج ّنة التي يوعد بها الم�ؤمنون ...بينما العا�صي لقاءات مكانها يتواجد في �أماكن ينفر منها الإن�سان (الجحيم والنار و�سقر )...وفي ٍ بعيد من التجمع الإن�ساني ال�صائب .وتراها تف ّكر بالإ�ستيالء على �أماكن الآخرين ومحو جغرافيتهم. 76
�����������������
هذ البناء العام لل�شخ�صيات تطفو على جدرانه �آثار النف�س وطواياها ...وما تح ّدث عنه الكاتب ب�إ�سهاب هو النف�س في مختلف �أحوالها ،فجعل هذه الأحوال في قطاعين من هذه القاعدة: -1النف�س المطمئنة وما يدور في فلكها من قيم و�آراء وعقل وم�شاعر و�أحا�سي�س وتقى وزهد ...وما ّ يلتف حولها من رموز للقادة والجنود ...و�إتجاهها الدائم نحو الخير . -2والنف�س الأ ّمارة بال�سوء وما يت�ش ّكل فيها من �أفكار ومواقف و�آراء وميول ورغبات مقيتة. وال�صراع في الق�صة :نف�سي ب�إمتياز ،طرفاه الخير وال�ش ّر ،وما ي�صدره ك ّل طرف من قول وفعل .هذا ال�صراع مداه الداخل� .أ ّما �إطاللته على الخارج فكنايات مر�سومة للتدليل الإ�شاري �إلى حقيقة الواقع. الت�شخي�ص:وهو �أن تهيل �صفات �إن�سانية على موجود غير ب�شري .وهي �سمة عامة في �أدب ال�سيد ف�ضل اهلل ،حيث تتحول الرموز عنده �إلى �شخ�صيات ي�شعرك ب�أ ّنك تعاينها في الواقع. فهو ي�شخ�ص العفة ،كما ّ �شخ�ص بقية رموزه (�ص ،)173حيث نراها تبادر وتقيم وتلب�س وتتلو وترمق وتتك ّلم وتلوم وتو�ضح مواقفها ،وتخاطب الآخرين ب�أدوات الخطاب (الكاف و�أنتم و�أ ّنكم ،)...وتقيم الحوار مع النف�س الأ ّمارة التي تجادلها وت�صارعها حول الأفعال وال�سلوك والنوايا والتجارب (�ص 174وما بعدها). وكذلك هو الزهد :يخطب ويروي ويتبادل التهم �( ...ص )180ف�إذا به ينه�ض وله جبين يظهر عليه النور ،ومنطقه ينبوع ،ويحمد اهلل دائم ًا ،وين�شد ال�شعر (�ص)182 ويميل بعنقه نحو الأ ّمارة ويهاجمها قائ ًال»:ويحك»(�ص... )182 بينما العفة ت�شرح وتناق�ش (�ص ،)199والعلم �أي�ض ًا يحاور وينه�ض (�ص )203وله هيئته الوقورة ال ّمميزة (�ص )203وي�ؤثر في الحا�ضرين فيقنعهم (�ص )207ويفي�ض 77
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
بالمعلومات وي�س ّبح الخالق (�ص )209ويعطي البراهين والأدلة (�ص )211-209ويب�سط في حديثه العلمي (عن الأر�ض مث ًال) (�ص... )215 وهكذا تت�شابه ال�شخ�صيات ،ك ّل في قطاعها من القاعدة ،فالخ ّيرة هي على العموم �شخ�صيات راوية ومثقفة وواثقة وجديرة بالإحترام ،يجل�سها الكاتب في �أماكن نبيلة لأنها ت�صدر من نفو�س نبيلة ،وفعلها �إيجابي و�أهدافها تثقيفية ووعظية من وحي الدين .. قارئة التاريخ وعارفة بالجغرافيا (�ص )200-199وحافظة ال�شعر (�ص )202وحافظة القر�آن وعاملة بموجبه ...وهي تجيد القول وتح�سن �إ�ستعمال اللغة ..لذلك هي تت�شابه، وكالمها ي�صدر من منبع واحد هو الكاتب ،بحيث �أ ّنك لو �إ�ستبدلت ال�شخ�صية الرمزية ب�سواها لوجدت فروقات طفيفة بين �سكان القطاع الواحد من القاعدة .وهو ما يمكن مالحظته من �أنّ الكاتب يلب�س �شخ�صيته لبا�سه الخا�ص فيح ّملها معارفه ،فتغدو �أ�صوات ًا متنوعة ب�أداء خا�ص يعود �إلى الكاتب نف�سه. الحوار ومنازل القول:يقيم ال�سيد ف�ضل اهلل بنيته الكالمية على الحوار المت�شعب والطويل والمتن ّوع، والمثقل بالمعلومات الفقهية والقيمية والتراثية والإن�سانية ،يح�شد الأقوال على �أل�سنة ال�شخ�صيات الرمزية ،وك�أ ّنها ت�ؤدي �أمانة ما� ،أو تبعث الإبالغ تلو الآخر من المكان نف�سه والمنبر نف�سه والأداء الكالمي نف�سه ... وهو حوار م�شتق من تفاعالت النف�س مع القيم ،لذلك ال تخرج من نطاقها .والنف�س هنا هي نف�س الكاتب في ما تحب وما تكره ،فيما تحبه من قيم ومواقف ينبغي �أن ت�سود، وفي ما تكرهه من مفا�سد و�شرور ينبغي �أن تحذف من قائمة العمل الإن�ساني ... لذلك �إختزل هذا الحوار ليكون مبعثه ع ّدة نفو�س في الظاهر ،ونف�س واحدة هي نف�س الكاتب في الباطن. وهو حوار طويل في موا�ضع ،ومقت�ضب في �أخرى ،لك ّنه يغلب عليه الإ�سهاب وح�شد 78
�����������������
المعلومات والبطء في الأداء ،والخطابية في الأ�سلوب ،والإ�ستغراق في النعوت والأو�صاف وال�ضروب البالغية والبيانية. ومن �ش�أن هذا �أن يبطىء الحدث وي�ؤخر التتابع الق�ص�صي بما يخلقه من فراغات تملأ بالوقفات الكالمية .ولع ّلنا نعذر الكاتب في ذلك لع ّدة �أ�سباب: �أو ّلها :مجاراة الأ�ساليب العامة الحياتية للع�صر ،قبل �أن تح�سم م�سائل فنية �أدبية، ولغوية كثيرة في ال�صوغ العربي النا�شىء في النه�ضة. وثانيها :الهدف من الكتاب الذي هو ر�سالة ابالغية عن حقائق �إ�صالحية ووعظية، في زمن التح ّول العربي من الإنحطاط �إلى النه�ضة والحديث. وثالثها :عدم ن�ضج الفن الروائي في بالد العرب في هذا الزمن المبكر من النه�ضة. ورابعها :عدم خروج ال�سيد ف�ضل اهلل في تحريراته عن ال�سائد. وخام�سها :موقعه الديني الذي يحتم عليه �أن يكون واعظ ًا ومبين ًا ومذكر ًا بالدين وفوائده في زمن كان يحتاجه النا�س. الحوار -الراوي:�ضم �شيئ ًا لذلك �شغل ال�س ّيد بتقديم العلم والمعرفة ،ف�أفرغها في هذا القالب الذي ّ والتر�سل والإهتمام ب�إخراج الق�ص والم�سرحة والخطابة من الفنون الأدبية ،ومنها ّ ّ ال�صورة الم�شرقة للغة العربية .وهي جميعها تعتمد على الحوار و�سيلة لإبالغ ر�سالة الكاتب. �إنّ �أبرز ما في هذا الحوار بنا�ؤه على الثنائيات ال�ض ّدية .فالإنق�سام الحاد بين طرفي القاعدة البنائية جعل هذا الحوار يتو ّزع على ثالثة محاور رئي�سة ،من حيث الراوي ومنظوره: الأول :محور الكاتب ،والمتجلي في �شروحه وتعليقاته و�إ�ستنتاجاته و�إ�ضافاته في غير مجال ،وهو محور ي�ش ّد �أزر م�سالك الخير. 79
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والثاني :محور قطاع الخير(العقل والنف�س المطمئنة والعلم).... والثالث :محور قطاع ال�ش ّر (الجهل والف�ساد و�إبلي�س )....... وتتج ّلى هذه الثنائية في جملة مظاهر منت�شرة في ت�ضاعيف الر�سالة ..وقد �إ�ستوفى الكاتب بنيتها وحافظ على وجودها حتى النهاية التي تمثلت على �شكل ر�أ�س حا ّد يجمع ال�ض ّدين في نقطة واحدة ،هي تعبير عن وحدانية اهلل ،كما تظهر في �أعلى الرمح على ر�ؤو�س الم�آذن. هذه الثنائية هي طرفا الحوار الذي غلب عليه الجدال والنقا�ش في معظم الأحيان... والإ�سالم ،كما يقول �سماحة ال�شيخ محمد ح�سين ف�ضل اهلل« ،هو دين الحوار الذي يطلق للفكر �أن يفكر في كل �شيء ،ليتح ّدث عن كل �شيء ،وليحاور الآخرين على �أ�سا�س الحجة والبرهان والدليل ،ليع ّلمهم كيف ي�صلون �إلى قناعاته و�آفاقه بالكلمة الحلوة والأ�سلوب ((( الط ّيب والموعظة الح�سنة والجدال بالتي هي �أح�سن» وهو الحوار الذي �أراده الكاتب في «ميزان العدل» ،قائم ًا على البراهين والأد ّلة،منطلق ًا من المنطق الواثق ،هادئ ًا هدوء الماء الرقراق ين�ساب الى م�ستق ّره من دون �صخب وتالطم. بينما اكتنف الثنائية الحوارية نوع من الجدل يجيئ على ل�سان المعاندين والع�صاة �أن�صار الجهل الذين ي�سعون الى فر�ض �آرائهم من دون منطق. وعلى الرغم من �أن لفظة «جدل» قد وردت في القر�آن الكريم في معر�ض مراوغة الك ّفار وتهر ّبهم من االقتناع بما يطرح �أمامهم ،ف�إن اهلل �أو�صى الر�سول � Pأن يكون َ َ َ ۡ ُ َّ ٱلت ِ َ ه أ ۡح َس ُنۚ﴾(((. جداله مقرون ًا بالن�صيحة﴿ :وجٰدِلهم ب ِ ِ وك�أني بال�سيد ف�ضل اهلل في «ميزان العدل» يتبع الآية الكريمة في �سياق الموقف المت�شدّد (( ( الحوار في القر�آن الكريم :قواعده� ،أ�ساليبه ،معطياته� ،سماحة ال�سيد محمد ح�سين ف�ضل اهلل� -ص(ط) -دار التعاون للمطبوعات -بيروت -ط.987 -5 ((( �سورة النحل ،الآية .125
80
����������������� َ َ ُ َ ٰ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ َ َ ُ ِين ي َتانون أنف َس ُه ۡ ۚم الذي يبغي النيل من الدين .يقول اهلل �سبحانه وتعالى﴿ :ول تجدِل ع ِن ٱل َ ُۡ َ ُۡ َ َّ ُ ٱلل َل ُي ُِّب َمن َك َن َخ َّوانًا أَث ٗ إ َّن َّ َ ِيما ١٠٧ي َ ۡس َتخفون م َِن ٱنلَّ ِ اس َول ي َ ۡس َتخفون م َِن ٱللِ َوه َو َم َع ُه ۡم ِ َ ۡ َ َ ۡ ٓ ُ َ ۡ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ٰٓ ُ ۡ ٰٓ ُ ٱلل ب َما َي ۡع َملون م ً ض م َِن ٱلق ۡول َوكن َّ ُ إِذ يُبَ ّي ِ ُتون َما ل يَ ۡر ٰ هؤلءِ َج ٰ َدلُ ۡم ع ۡن ُه ۡم ِيطا ١٠٨هأنتم ِۚ ِ ٗ ۡ َ َ ٰ ُّ ۡ َ َ َ ُ َ ٰ ُ َّ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َّ َ ُ ُ َ ِف ٱليوة ِ ٱدلنيا فمن يجدِل ٱلل عنهم يوم ٱل ِقيٰمةِ أم من يك ون َعل ۡي ِه ۡم َوك ِيل﴾ (((.
وهو �إتباع ي�سهم في بناء الق�صة من البداية �إلى النهاية :الجدال الذي ال ينتهي الكالم فيه � ّإل عند اهلل في الآخرة ،كما ي�سهم في �إقامة الثنائية الحوارية بين الجهل من جهة ،والعقل والعلم من جهة ثانية ،فال يتو�صل المجادل �إلى �إنهاء الكالم حتى النهاية المحتومة بالموت. ولقد �إت�سم حوار «جبهة العقل» بالمنطق والهدوء وتقديم الأدلة والبراهين ،فكان لأركانها «منابر (الإيمان منبر المطمئنة� ،ص )101كما كان لهذه الأركان �سياقات �أقوال (قول ال�سعادة الأبدية (�ص ،)113كما لها ت�سا�ؤالت مط ّولة عن مو�ضوعات مختلفة (الهداية والدراية والألباب والنهى ...مث ًال (�ص ،)139وفيها تر�صيع الكالم بالآيات القر�آنية(�ص ،139وفي مجمل الكتاب) وفيها كالم للر�سول Pمث ًال (�ص،)144 وينت�شر فعل قال ويقول في موا�ضع ال تح�صى ،مث ًال قالت ال�سعادة (�ص )158وقال العلم (�ص )205والعلم يخطب (�ص.)206 الراوي:يتفق الدار�سون على �أن تن ّوع ال�شخ�صيات في العمل الروائي ي�ؤدي �إلى تع ّدد الأ�صوات والرواة .و�صحيح �أنّ الكاتب هو الذي يروي ويو ّزع الحوار ،لي�س كما ي�شاء ،بل كما ت�شاء طبيعة ال�شخ�صيات ذاتها .لذلك كان تع ّدد الأ�صوات في الرواية دلي ًال على الإبتعاد من ذات الم�ؤلف ورغباته و�أفكاره ،و� ّإل غرق العمل في د ّوامة �سيطرة الروائي على �شخ�صياته وجعلها تقول ما يريد قوله. ((( �سورة الن�ساء.109-107 :
81
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وفي الحقيقة �إنّ وجود الحوار في «ميزان العدل» قد �أ�سهم في تقريبه من الفنّ وحد هذه ال�شخ�صيات ،وح ّملها من الحوار ما يريد الروائي .لكن ال�س ّيد ف�ضل اهلل ّ �إي�صاله في ر�سالة �أرادها �أن ت�صل �إلى النا�س .لذلك ،لي�س من ال�صعب �إكت�شاف �أنّ الراوي فيها هو واحد ،على الرغم من تعدد الرواة ،و�أنّ ال�صوت واحد ،على الرغم من تع ّدد الأ�صوات وتن ّوع م�صادر القول. ولقد �أ�سهم ذلك الأ�سلوب في �إ�ضفاء التن ّوع على العمل و�إخراجه من الرتابة العلمية وجعل القارىء يتابع �أخبار المعارك الكالمية بين المت�صارعين ،بالإ�ضافة �إلى �أنّ هذا الحوار الجاري بين ال�شخ�صيات الرمزية قد �أ�ضفى من الحيوية ما ال نجده في الكتب الفقهية �أو العلمية عموم ًا. في هذا العمل �إذ ًا ث َّمة تع ّدد للرواة ،ك ٌّل يروي ما ح ّمله الكاتب ،فالنف�س المطمئنة تروي(�ص 101وغيرها) وال�سعادة الأبدية(�ص 113و 138وغيرها) ،والكاتب (�ص139 و 138و 141وغيرها) والقنوع يروي(�ص )169-159والنف�س الأمارة تروي(172 وغيرها) ،وكذلك العفة(�ص )173والزهد(�ص )180والتقوى( )191والعلم (.)202 وغير ذلك كثير من المواقع التي يتناوب الرواة فيهاالكالم .بالإ�ضافة �إلى م�صادر ومراجع كثيرة ي�ستعملها الكاتب ويورد �إقتبا�سات منها نثر ًا و�شعر ًا ،تخدم الهدف الذي يريد �إبالغه. ال�صوت اللغوي الواحد:والدليل القاطع على توحد م�صدر الرواية هو ال�صوت اللغوي الواحد المع ّبر عن م�ضمون الر�سالة .ف�أنت ال تكاد تم ّيز تعبير ًا جاء على ل�سان را ٍو عن �آخر ،حيث نجد الإن�سجام ي�سود المقاطع ك ّلها ،في ت�ساوق الكالم في م�ساواة ت�ضفي �إيقاع ًا ملحوظ ًا في تتابع الجمل المت�ساوية ،و�إ�ستعمال ال�سجع ذي الرنين الممتد من دون تك ّلف ي�ؤذي الأذن. وال عجب في ذلك ،فال�س ّيد ف�ضل اهلل ينتمي �إلى جيل جعل الكتابة البيانية منهج ًا 82
�����������������
ي�سير عليه ،وك� ّأني به يعت ّز بف�ضائل العربية ومن�شئيها القدماء ك�إبن العميد وال�صابي. لذلك جاءت عباراته في ح ّلة من الت�أ ّنق البياني المليء بال�صور الراكنة �إلى الإ�ستعارة والت�شبيه والمجاز ب�ضروبه المختلفة .وقد تعجب بمهارة ت�صويره،و�إحاطته بالمعنىمن ك ّل جانب وتتبعه اللفظة �إلى مظا ّنها ،وبعر�ضه المو�ضوعي القائم على ال�سببية والتعليل والت�سويغ ،وغزارة الأو�صافلل�شيء الواحد حتى ي�أتي على جوانبه ك ّلها ،وتلفتك ظاهرة أح�س يغمو�ض المعنى ،كما تلفتك �إختياراته الإقتبا�سية من حر�صه على التف�سير �إذا � ّ ال�شعر الذي تغرق فيه الر�سالة ،حتى ي�ستغرق ن�صفها� .إقتبا�س يتبع قاعدة لك ّل مقام مقال ،فيورد الأبيات في مقطوعات وق�صائد ،له ول�سواه� ،شديدة المالءمة لما يذهب محطات متعددة المهمة :فهو يدعم بها �أقواله� ،أو يف�سرها ويو�ضح �إليه ،وك�أني به يريدها ٍ ما ا�ستغلق منها ،كما ت�ش ّكل �إ�ستراحةوجدانية ينعم بها القارىء بعد تجواله ال�صارم في المعلومات المكثفة التي تحت�شد حول المو�ضوع الواحد. وفي ذلك يظهر ال�س ّيد متع ّدد المواهب ،ومن ّوع الم�صادر ،يملأ قلبه الإيمان وت�ستولي عليه الرحمة ،فينظر �إلى الإن�سانية بقلب �شفيق� ،شغوف بالعلم والإيمان ،متطلع �إلى خال من الأ�سباب الم�ؤدية �إلى الآثام وال�شرور ،ومن الجدل العقيم مجتمع ي�سوده العدلٍ ، الذي يربك قافلة الحياة ويجعلها في مراوحة ،بعيدة من التق ّدم وقريبة من الجهل الذي يحرق نف�سه في حرقه الآخرين. لذلك كان «ميزان العدل» (ال�سمكية) م�شروع ًا تنويري ًا جامع ًا مزايا كثيرة :فيه الإيجابي الذي ينبغي �أن يبقى ويتطور ،وفيه تحذير من ال�سلبي الذي يجب �أن يختفي ويموت .ولع ّل الكاتب في زمنه ،وفي غير زمنه ،يكون مفتاح ًا للمعارف والعلوم ،كما يكون خ�ضم التغ ّيرات المحلية وثيقة �إن�سانية تر�سم خطى الإن�سان ال�سائر نحو المجهول ،في ّ والعالمية التي ال تعير �أيه �أهمية لحماية الإن�سان ،وتتجاهل الأخالق والقيم ،وتم�ضي في ح�سبانها النا�س �أرقام ًا من غير �أرواح .هذا هو الذي ر�آه ال�سيد ف�ضل اهلل و�أراده �أن يكون. 83
����������������
أ .د .أحمد حطيط
(((
السيد محمد رضا فضل اهلل الحسني» «اإلمامة في فكر العالّمة ّ
�أو ًال :مدخل
من ف�ضل اهلل على الأمة �أن يهب لها �إبـّان يقظتها وا�ستقامة الأمر فيها� ،صفوة من �أبنائها ال�صالحين ،من �أولي الكفاية الفائقة ،والموهبة البارعة في العلوم ،فتتق�سمهم بينها مطالب الحياة فيها ،ومنازع الع�صر الذي يظلها ،كل في الموقع الذي هو به �أحق وله �أ�صلح ،ف�إذا هم هنا وهناك ،م�شارق نور وروافد خير و�صالح ،تجري في النا�س بما ينير العقول ،ويعمر القلوب ،فيتهي�أ للحياة �أن تتوازن ،ولركبها �أن يوا�صل م�سيرته �إلى الغاية المرجاة. ولقد وهب اهلل جبل عامل والأمتين العربية والإ�سالمية من ه�ؤالء نخبة من العلماء، كانوا رجا ًال لهم وزنهم في بيئتنا العاملية واللبنانية والعربية والإ�سالمية دين ًا وعلم ًا وثقاف ًة وفكر ًا و�أدب ًا. واليوم نلتقي في م�ؤتمر لتكريم رائد كبير من ه�ؤالء الرواد ،عنيت به الح�سيب الن�سيب (( ( عميد كلية الآداب والعلوم الإن�سانية ،في الجامعة الإ�سالمية في لبنان
85
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�إبن الأ�سرة العلمائية ،العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل� ،إنه مث ٌل من علماء الرعيل الأول في النه�ضة العلمية في جبل عامل مترافقة مع ن�شوء المـدار�س الحديثة في بالد عاملـة ،منذ ال�سلم درجة درجة في خدمة العلم ،والدين ،والعقيدة، العـام1300هـ 1882/م((( ،ف�صعد ّ حتى بلغ القمة ،وعكف على التح�صيل ،يطرق �إليه كل باب ،ويتتبع كل مورد عذب ،ينهل منه ما يروي ظم�أه ،حتى �صار بحر ًا تتالطم �أمواجه ،ويحتفظ في قراره المكين بدرر من طرائف الأدب و�شوارد الحقائق التي تتطلب �سعي ًا حثيث ًا ،وبحث ًا عميق ًا وتوفر ًا على الإطالع. ولد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل عام1281هـ 1864 /م ،في بلدة (عيناثا)� ،إحدى الحوا�ضر العلمية والأدبية العريقة في جبل عامل ،وتوفي في بلدة (قانا)1336 ،هـ / 1917م ،ودفن فيها ،وهو فقيه ،و�شاعر ،و�أديب. ترعرع ال�س ّيد في رحاب عائلة علمائية عريقة ،م�شهود لها في ميدان العلم وال�شعر والأدب ،كما نهل من بيئته العاملية علم ًا وثقافة ما تزخر به من تراث علمي� ،إ�ضافة �إلى ما اكت�سبه من بيئة النجف الأ�شرف وحوزته العلمية ،منذ العام 1308هـ 1890/م ،من ّ ترق في ميادين الفقه والأ�صول والفل�سفة ،ليبلغ مرتبة عالية من الإجتهاد((( ،ولم يكتف بما حازه من المراتب العلمية المرموقة ،بل قرن العلم بالعمل من خالل انخراطه في ال�ش�أن العام ،ورفعه لواء محاربة الف�ساد ،و�إ�صالح المجتمع ،والنهو�ض بالأمة ،وتناوله دور العلماء و�صالحياتهم ومرجعيتهم في الوالية على النا�س((( ،م�سهم ًا بذلك ،في حركة التجديد في العقيدة وفي علوم �أ�صول الفقه تت�صل بمحتواها وبطريقة تدري�سها التي حققها بع�ض علماء جبل عامل في الن�صف الثاني من القرن التا�سع ع�شر ،وقد �ش َّكل ذلك �إطار ًا فكري ًا جديد ًا لدى علماء ال�شيعة� ،سمح لهم بعد ذلك بتو�سيع دورهم في المجتمع ،وال �سيما في �إن�شاء موقف �سيا�سي والدفاع عنه ،كان �سماحة ال�سيد من الرواد في هذا المجال(((. ((( محمد جابر �آل �صفا ،تاريخ جبل عامل ،دار النهار للن�شر ،الطبعة الثالثة ،بيروت� ،1998 ،ص 240وما بعدها. (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الإمامة ،دار المحجة البي�ضاء ،تقديم وتحقيق معروف محمد تقي ف�ضل اهلل ،الطبعة الأولى ،بيروت، ،2013مقدمة التحقيق� ،ص �ص .12-10 (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الم�صدر نف�سه� ،ص .14-12 (( ( �صابرينا ميرفانا ،حركة الإ�صالح ال�شيعي ،ترجمه عن الفرن�سية الدكتور هيثم الأمين ،الطبعة الأولى ،دار النهار للن�شر، بيروت� ،ص .143
86
����������������
�ص ّنف العالمة ال�سيد مجموعة من الكتب في العقائد والأ�صول والفل�سفة والحكمة والأدب وال�شعر ،طبع منها: ميزان العدل في المحاكمة بين جنود العقل والجهل ،عـرف بـ»ال�سمكية». المجموعة ،الق�صائد والر�سائل. الإمامة ،الأدلة العقلية والنقلية. �إ�ضافة �إلى جملة من الر�سائل في مو�ضوعات ومنا�سبات مختلفة ال تزال مخطوطة. ثانيا -قراءة في كتاب «الإمامة» لئن اخترت كتاب «الإمامة» من بين م�ؤلفات ال�س ّيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل� ،آنفة الذكر ،مو�ضوع ًا لدرا�ستي ،ف�إني �س�أ�سعى ،جهد ا�ستطاعتي ،لمقاربة مفهوم الإمامة في فكر �سماحة ال�سيد من جهة ،و�إجراء مقارنة بين مفهوم الإمامة عند ال�شيعة والفرق الإ�سالمية الأخرى. فالإمامة كانت وال تزال ،من الق�ضايا ذات ال�ش�أن في الفكر الإ�سالمي ،بل �شكلت ق�ضية كبرى اختلف الم�سلمون ب�ش�أنها ،بعيد وفاة الر�سول ،Pلت�ستمر في مقدمة الم�سائل التي ف ّرقت كلمتهم ،كما �أنها تعتبر �سبب ًا رئي�س ًا من �أ�سباب ن�شوء الفرق الكالمية والمذاهب الفقهية. ال�سقيفة: وفاة الر�سول وتداعيات حدث ّ وقبل �أن نتط ّرق �إلى مفهوم الإمامة في فكر الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل، نرى �أن نم ّهد لذلك بعـر�ض موجز للـظروف والمالب�سات ،التي �أ ّدت �إلى الـخالف بين الم�سلمين حول �أحقـ ّية خالفة الر�سول.P ُق ِب َ�ض الر�سول محمد Pفي الحادية ع�شرة للهجرة ،وهو مطمئن �إلى اكتمال الدعوة ور�سوخها في �شبه الجزيرة على ح�ساب الوثنية ،م�ؤ�س�س ًا دول ًة للإ�سالم في المدينة المن ّورة تولى قيادتها بنف�سه .بيد �أن م�شكلة خالفة الر�سول �سرعان ما ظهرت �إلى العلن ،حتى قبيل دفنه ،حين تنادى جمع من �أعيان ال�صحابة من الأن�صار(الأو�س 87
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والخزرج) �إلى عقد اجتماع عاجل في �سقيفة بني �ساعدة الخزرجية ،الواقعة �شمال غرب الم�سجد النبوي لبحث م�س�ألة الخالفة ،ف�أدركهم جمع من �أعيان المهاجرين قوامه �أبو بكر وعمر بن الخطاب و�أبو عبيدة بن الج ّراح ،ان�سلوا من بين جموع الم�ؤمنين الحافين بجثمان النبي ،وناق�شوهم في الأمر ،ونفذوا منه �إلى �إقناع ه�ؤالء بمبايعة �أبي بكر بالخالفة ،متذ ّرعين بحديث من�سوب �إلى الر�سول ،Pمفاده« :الأئمة من قري�ش»، وقيل« :الإمامة ال ت�صلح �إ ّال في قري�ش». ح�صل ذلك في وقت كان علي بن �أبي طالب و�آل بيته ،Rوجموع من ال�صحابة والم�سلمين ،متح ّلـقين حول جثمان الر�سول ،Pوحين �أت ّـم ه�ؤالء غ�سل الر�سول ودفنه، ال�سقيفة ،وطالبوا وعلموا بما جرى ،ا�ستنكروا الأمر ،و�أعلنوا رف�ضهم لنتائج اجتماع ّ ب�أحقية �أهل بيت الر�سول بالخالفة ،و�أجمعوا ب�أن علـّي ًا �أولى بالخالفة من �أبي بكر ،و�أنه الم� ّؤهل �شرع ًا لإمامة الم�سلمين وم�سك زمام �أمورهم بعد الر�سول. وعلى الأثر �إنق�سم القر�شيون ومعهم �سائر الم�سلمين� ،إلى فريقين اثنين :فريق �شايع علي بن �أبي طالب� ،إبن عم الر�سول ،وزوج ابنته فاطمة بذريعة �أن الر�سول ،قد ت� ّأ�س�س هو من ن�ص على علي خلف ًا له ،و�أن هذا الن�ص قد ت� ّأ�س�س بموجب �أمر �إلهي ك�شف عنه النبي في غدير خم ،قبيل وفاته بوقت ق�صير ف�سمي ه�ؤالء عموم ًا بـ «�شيعة» علي� ،أو «ال�شيعة» على �سبيل الإخت�صار ،فيما �أمر الفريق الآخر ب�شرعية خالفة �أبي بكر وخليفته التال ّيين عمر وعثمان ،لت�ستحيل �إمامة الم�سلمين مع مرور الزمن م�شكلة �شرعية وفقهية �شائكة ق�ضت م�ضاجع الدولة الإ�سالمية الفتية ،ونالت من هيبتها ووحدتها ،فتع ّر�ضت بين الحين والحين لخطر الإنق�سام والت�شرذم(((. ما �أبرز محتويات كتاب الإمامة ،و�أين وقف ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل منها وكيف �صاغ �أفكاره الخا�صة بها؟ (( ( مادلونغ ،مقالة « ال�شيعة « ،دائرة المعارف الإ�سالمية ،المجلد � ،9ص �ص .424-420
88
����������������
ي�شـ ّكـل كتاب «الإمامة» محاولة ر�صينة للت�صدي لمو�ضوعات المعرفة ومع�ضالت الوجود ،وتف�سير الن�ص الديني ،التي كانت تنطرح �أمام المجتهد ،وتت�صادم معه لت�ؤلف �إ�شكالية معقدة ت�ستوجب مقاربتها بالحجة والقرينة. ق�سـم الم�ؤلف كتابه �إلى بابين اثنين(((: ّ تناول في الباب الأول «الأدلة العقلية والنقلية» ،مب ّين ًا �أنَّ العلة الداعية �إلى بعث الأنبياء و�إر�سال ال ّر�سل هي �إزاحة علل الخلق ،وقطع محاذير العباد ،ودح�ض حججهم، �إذا �أراد �أن يجازيهم ب�أعمالهم يوم الجزاء. �أما الدليل العقلي ،فوا�ضح بيـّـن لقبح العقاب من غير بيان. و�أما النقلي ،فالآيات متكاثرة وال�سـُـنـّة مت�ضافرة»((( ،ويردف هذه المقدمة ب�آيات من القر�آن الكريم� ،شواهد على ما �أراد تبيانه والت�أكيد عليه ،ثم يذكر الأدلة النقلية التي ت�ص ّر على الإختيار من اهلل تعالى على حججه على عباده و�أمنائه في بالده ،و�أن الإختيار هلل ال للخلق والعباد لعدم معرفتهم وق�صور عقولهم ،كما الآيات الدالة على وجود الدليل ،وقيام الحجة ،وعلى وجوب �إتباع الأئمة الدعاة �إلى اهلل الأدالء على مر�ضاة اهلل ،والآيات التي ت�شير �إلى من ا�ستحق الإمامة من ذ ّرية �إبراهيم ،وعلى �أن الخلق محتاج �إلى من يقوم به �صالحه ويرتفع ف�ساده ،ويب ّيـن به ر�شده ويمحي غيه و�ضالله. ويذكر ال�سيد ف�ضل اهلل �ست �صفات للأنبياء نذكرها باخت�صار: الأولى� :أن اهلل تعالى لما �أوجد خلقه وفطر عباده ،وجب عليه �أن يقيم لخلقه �سفراء بينه وبين عباده. والثانية� :أنه لما �أر�سل ر�سله �إلى خلقه �أقامها من جن�س الخلق ال من جن�س المالئكة. والثالثة� :أن الأنبياء الذين �أر�سلهم كانوا باختياره ال باختيار عباده وخلقه. (( ( تجدر الإ�شارة �إلى �أن تبويب كتاب «الإمامة» هو من عمل المحقق. راجع مقدمة تحقيق الكتاب� ،ص .14-13 (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الإمامة� ،ص .80 -23
89
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والرابعة� :أنه لما �أقامهم بين ظهراني الب�شر ع ّرفهم كل ما يحتاجون �إليه. وال�صفة الخام�سة� :أنه �أرادهم مع�صومين((( من الخط�أ ،والخطل ،وال�سهو ،والزلل. �أما ال�صفة ال�ساد�سة :ف�أنه �أجرى على �أيدهم المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة والحجج الكافية(((. ويب ّين �سماحة ال�س ّيد ،بالحجج العقلية� ،أن الأنبياء من جن�س الب�شر ،فلو لم يكونوا غير ذلك لكانوا من المالئكة� ،أو من الجن� ،أو من عالم �آخر مغاير للعوالم الثالثة، المالئكة والأن�س والجن(((. وبناء على ما تقدم ،يرى ال�س ّيد ف�ضل اهلل �أن النا�س بحاجة �إلى �إمام يخلف الر�سول، يكون م�ؤتمن ًا على دينهم ودنياهم((( ،ولما كان الخلق يتظالمون فيما بينهم ،ف�إنهم يحتاجون �إلى �إمام يقيم العدل فيهم ،وينظر في نزاعاتهم ،لعجزهم عن حلها من دون الإ�ستعانة بحاكم� ،أو �إمام مت�أت عن جماع طبائعهم وغلبة �شهواتهم وكثرة جهلهم و�شدة نزاعاتهم((( ،م�ستند ًا �إلى الآيات التي تدل على �أن النا�س بحاجة �إلى «من يقوم به �صالحه ،ويرتفع ف�ساده ،ويبين به ر�شده ،ويمحى غيه و�ضالله»((( ،منها قوله تعالى: َ َ َ َ َّ ُ ُ َّ َ ۡ َ ۢ َ ۡ َ ۡ َ َ ٰ ُ ۡ َ َّ ٰ َ ّ َ َ َّ َّ ُ َ ضل قوما بعد إِذ هدىهم ح ون ﴾((( ،ناهيك ب�أن الأمة ت يُب ِي ل ُهم ما َيتق ۚ ﴿ وما كن ٱلل ِل ِ (( ( الع�صمة لغة هي المنع والوقاية . جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ( ت711.هـ) ،ل�سان العرب ،مادة «ع�صم» ،المجلد ،12دار �صادر ،بيروت ،ال ت� .ص .408 -403 �أما الع�صمة في الإ�صطالح الكالمي ،فهي لطف يفعله اهلل بالمكلف ال يكون معه داع �إلى ترك الطاعة وارتكاب المع�صية مع قدرته على ذلك ،وقد �أجمع العلماء الم�سلمون على القول بع�صمة الأنبياء عن تع ّمـد الكذب في ما يبلغونه من الر�ساالت ال�سماوية ،واختلفوا بعد ذلك في �صدور ما ينافي الع�صمة منهم على �سبيل ال�سهو �أو الن�سيان؛ فذهب بع�ض �أئمة ال�سنة �إلى جواز وقوع كل ذنب من الأنبياء� ،صغير ًا كان �أو كبير ًا حتى الكفر ،بينما قال ال�شيعة بع�صمة الأنبياء مطلق ًا ،قبل البعثة وبعدها. �أحمد �صبحي محمود ،نظرية الإمامة� ،ص .112-111 (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الإمامة� ،ص .165 -164 ((( الإمامة� ،ص 165وما بعدها. (( ( الم�صدر نف�سه� ،ص .42 (( ( الم�صدر نف�سه� ،ص .43 (( ( الم�صدر نف�سه وال�صفحة نف�سها. (( ( �سورة التوبة ،الآية رقم .115
90
����������������
اتفقت ب�أجمعها على �أن الأر�ض ال يجوز �أن تخلو من �إمام قائم بالأمر(((. ما �سبق ي�شكل نقطة ارتكاز في فكر �سماحة ال�س ّيد ،لوجوب الإمام والحاجة ال�ضرورية �إلى معرفته وتن�صيبه ،فمعرفة الإمام واجبة ،فقد نقل عن النبي محمد Pفي عاقبة عدم المعرفة هذه ،قوله« :من مات ال يعرف �إمامه ،مات ميتة جاهلية»((( ،غير �أن معرفة �أ�سماء الأئمة Rو�أ�شخا�صهم ،وكونهم �أرحاما للنبي Pال يكفي ،بل ال بد من الدفاع عن �شرعيتهم وح ّقهم في الإمامة(((. �أما الباب الثاني من الكتاب :فيفرده ال�س ّيد للحديث عن «الإمامة من�صب �إلهي»، وي�ستهله بعر�ض ع�شرين بيت ًا مختارة من ق�صيدة طويلة ،نظمها في مدح الإمام المهدي| ،ذات منحى فل�سفي وحكمي ،ثم ي�سهب في �شرحها في �إطار ر�ؤية متكاملة متما�سكة ،ترتكز �إلى �أ ّدلة عقلية ،و�شواهد من واقع الحياة نف�سها ،مق ّرر ًا �أن كل ما في الكون من موجودات يحتاج �إلى مر�شد هاد ،وقائد مد ّبـر يخلف الر�سول Pويقتدي به فيحفظ دينهم ويهديهم �إلى طريق الحق وال�صواب ،ويرعى �ش�ؤون دنياهم ،ويق ّوم الزيغ وي�صلح الإعوجاج. ويتوقف �سماحته مطو ًال عند �صفات الإمام ،فيذكر((( قو ًال م�سند ًا عن الإمام ال�صادق � ،Q أنه قال « :والإمام الم�ستحق للإمامة له عالمات»: الأولى� :أن يعلم �أنه مع�صوم من الذنوب كلها� ،صغيرها وكبيرها ،ال ّ يزل في الفتيا، وال يخطئ في الجواب ،وال ي�سهو وال ين�سى ،وال يلهو ب�شيء من �أمور الدنيا. والثانية� :أن يكون �أعلم النا�س بحالله وحرامه ،و�ضروب �أحكامه ،و�أمره ونهيه، وجميع ما يحتاج �إليه النا�س ،فيحتاج النا�س �إليه وي�ستغني عنه. (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،المرجع ال�سابق� ،ص .175 (( ( محمد �صالح المازندراني� ،شرح �أ�صول الكافي ،تعليق الميرزا �أبو الح�سن ال�شعراني ،دار �إحياء التراث العربي ،الطبعة الأولى، ج ،1بيروت� ،2000 ،ص ،377الحا�شية رقم .3 (( ( المازني� ،شرح �أ�صول الكافية ،ج� ،1ص ،26الحا�شية رقم 10؛ محمد باقر المجل�سي ،بحار الأنوار الجامعة لدرر الآئمة الأطهار ،ج ،97م�ؤ�س�سة العرفان ،بيروت� ،ص ،122الحا�شية رقم .26 ((( االمامة� ،ص .20انظر �أي�ضا :المجل�سي ،المرجع نف�سه ،ج� ،25ص .164
91
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
والثالثة� :أن يكون من �أ�شجع النا�س ،لأن فئة الم�ؤمنين التي يرجعون �إليها� ،إن انهزم في الزحف انهزم النا�س النهزامه. وال�صفة الرابعة� :أن يكون �أ�سخى النا�س ،و�إن بخل �أهل الأر�ض كلهم ،لأنه �إن ا�ستولى �شح بما في يديه من �أموال الم�سلمين». ال�شح عليه ّ ّ ي�س ّوغ �سماحة ال�س ّيد ما تقدم من �صفات للإمام بقوله�« :أما الع�صمة من جميع الذنوب فبها يتميز الإمام عن جميع الم�أمورين الذين هم غير مع�صومين؛ فلأنه لو لم يكن مع�صوم ًا لم ي�ؤمن عليه في ما دخل فيه النا�س من موبقات الذنوب المهلكات وال�شهوات والل ّذات ،ولو دخل في هذه الأ�شياء الحتاج �إلى من يقيم عليه الحدود ،فيكون �إمام ًا م�أموم ًا ،وال يجوز �أن يكون الإمام بهذه ال�صفة»((( ،كما �أن ع�صمة الإمام في ر�أي �سماحته م�ستم ّدة من كونه مترجم ًا عن القر�آن و�أخبار النبي ،لهذا وجب �أن يكون مع�صوم ًا ليجب القبول منه((( ،م�ستند ًا في ذلك �إلى ما نقله المجل�سي((( عن كتاب «معاني الأخبار»((( ،حيث ذكر �أنه لما كان �أكثر الكتاب وال�س ّنة محتمل لوجوه الت�أويل وجب �أن يكون مع ذلك ،مخبر �صادق مع�صوم من تعمد الكذب والغلط منبئ عما عنى الباري تعالى ور�سوله في القر�آن وال�س ّنة على حق ذلك و�صدقه ،لأن النا�س مختلفون في الت�أويل كل فرقة تميل مع القر�آن وال�سنة �إلى مذهبها ،ويردف �سماحته فيقول« :و�أما وجوب كونه �أعلم النا�س ف�إنه لو لم يكن عالم ًا لم ي�ؤمن �أن يق ّلـب الأحكام والحدود وتختلف عليه الق�ضايا الم�شكلة فال يجيب عنها ثم يجيب بخالفها ،و�أما وجوب كونه �أ�شجع النا�س لأنه ال ي�صح �أن ينهزم فيبوء بغ�ضب من اهلل تعالى وهذا ال ي�صح �أن يكون �صفة الإمام و�أما وجوب كونه �أ�سخى النا�س فلأن البخل ال يليق بالإمام»(((. (( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،الإمامة� ،ص .205 (( ( الم�صدر نف�سه� ،ص .204 (( ( المجل�سي ،بحار الأنوار ،ج � ،25ص .164 ((( محمد علي بن علي بن بابويه القمي ،المعروف بال�صدوق( ت381 .هـ) ،معاني الأخبار ،تحقيق علي �أكبر الغفاري ،م�ؤ�س�سة الن�شر الإ�سالمي ،قم -طهران1379-1378 ،هـ� ،ص .136 (( ( الإمامة ،المرجع ال�سابق� ،ص �ص ..206-205
92
����������������
ويذكر �سماحته �أن الإختيار في الر�سالة �إنما هو هلل ال للأ ّمة ،فكذلك الإمامة لأنها في منزلتها فكما �أن العقل حكم ب�أن الإختيار هلل هناك ،كذلك يحكم هنا لإتحاد الع ّلة، «و�أن كل زمان ال بد فيه دليل مر�شد ،وقائد متـّبع»((( ،م�ستند ًا �إلى الآيات الدالة على ذلك ،منها: َ َ ُّ َ َ ۡ ُ ُ َ َ َ ٓ ُ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ َ ُ ُ ۡ َ َ ُ ُ ۡ َ ٰ َ َّ َ َ َ ٰ َ ٰ َ َّ ُ ۡ ُ َ ون.(((﴾ شك ﴿ وربك يلق ما يشاء ويختار ۗما كن لهم ٱلِية ۚ سبحن ٱللِ وتعل عما ي ِ
َّ ُ َ َ ُ ُ ُ ٓ َ ۡ ً َ َ ُ َ َ ُ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َ َ ٱل َ َ ِيةُ م ِۡن ﴿ و َما كن ل ُِمؤم ِٖن َول ُمؤم َِن ٍة إِذا قض ٱلل ورسولۥ أمرا أن يكون لهم َ أ ۡم ِره ِۡمۗ.(((﴾
ويق ّرر �سماحته �أن �صفات الإمام �آنفة الذكر تجعل منه بال�ضرورة �أكمل الخلق في جميع ال�صفات ،فهو قائم مقام النبي Pفي حفظ الدين ورعاية الم�سلمين ما يجعلهم �أقرب �إلى طاعته و�أبعد عن مع�صيته« ،ولي�س في مقدور العباد �أن يعرفوا �أكملهم حتى ين�صبونه �إمام ًا لهم ،لأن الكمال النف�ساني من الأمور الخف ّيـة الباطنة م�ستورة بحجب الغيب ع ّنـا؛ ف�إذا كان الأمر كذلك ،وجب على العالم بالغيوب �أن يختاره وين�صبه �إمام ًا للعالم ،وعلم ًا للعباد ،ولو �أهمل كان قد �ض ّيـع خلقه ،وفي ذلك منافاة للحكمة ،...،وهذا من �شرائط النبوة ،وال فرق بين النبوة والإمامة� ،إذ كل منها ريا�سة عامة في �أمر الدين والدنيا»((( ،والإمام في اعتقاد ال�س ّيد ف�ضل اهلل مع ّيـن في الن�ص ال بالإختيار ،كما عند لعلي بن �أبي طالبQ �سائر ال�شيعة الإثني ع�شرية ،و�أن النبي محمد ًا Pقد �أو�صى ّ من بعده بالخالفة ،بمعنى �أن علي ًا لي�س الإمام بطريق الإنتخاب ،بل بطريق الن�ص، َ ﴿و َأنْذ ِْر َ َ َ َ ْ ْ َ َ ((( �سند ًا �إلى الآية الكريمةَ : فعلي هو �أف�ضل الخلق وبالتالي ، ﴾ ني ب ر ق ال ك ت ري ع شِ ّ ِ بعد الر�سول ،ومن حقه �أن يو�صي لمن بعده. (( ( المرجع نف�سه� ،ص .206 (( ( �سورة الق�ص�ص ،الآية رقم .68 (( ( �سورة الأحزاب ،الآية رقم .36 ((( الإمامة� ،ص .79 (( ( �سورة ال�شعراء ،الآية رقم .214
93
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
بالن�ص ،ويذكر �أن ال�سبب في وي�س ّوغ ال�شهر�ستاني �إعتقاد ال�شيعة الإمامية بالقول ّ ذلك �إنما يعود �إلى عدم جواز مفارقة النبي Pللأمة مع ترك �أمرهم �إلى الإختالف والفرقة ،ما ي�ستوجب وجود �شخ�ص موثوق به من�صو�ص عليه بوا�سطة الر�سول للرجوع �إليه ،وهذا ما �صرح به الر�سول في المبايعة مثل ما جرى في غدير خم �إذ عندما نزلت َ َ َ ُّ َ َّ ُ ّ َّ َّ ُ َ َ َ ْ الآية﴿ :يا أيها الر ُسول بَلِ ْغ َما أ ِنزل إِلْك ِم َّرن ّب ِ َك ِإَون ل ْم َت ْف َعل َف َما بَل ْغ َت رِ َسالَ ُه﴾((( ،قال الر�سول« :Pمن كنت مواله فعلي مواله ،اللهم وال من وااله وعاد من عاداه وان�صر من ن�صره واخذل من خذله ،و�أدر الحق معه حيث دار الآل». ن�ص ًا مه ّم ًا ،فيقول�« :أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك ويذكر الكليني في كتابه «الكافي» ّ له ،و�أن محمد ًا عبده ور�سوله �سيد النبيين ،و�أن علي ًا �أمير الم�ؤمنين �سيد الو�ص ِّيين»(((، وي�ضيف �إبن خلدون� :أن ال�شيعة يعتقدون «�أن الإمامة لي�ست من الم�صالح العامة التي تفو�ض �إلى نظر الأمة ،ويتع ّين القائم بها بتعيينهم ،بل هي ركن الدين وقاعدة الإ�سالم، وال يجوز لنبي �إغفاله وال تفوي�ضه �إلى الأمة ،بل يجب عليهم تعيين الإمام لهم ويكون ((( مع�صوم ًا من الكبائر وال�صغائر ،و�أن علـّي ًا هو الذي عـ ّيـنه �صلوات اهلل و�سالمه عليه»...، الإمامة بين ال�شيعة وبع�ض الفرق الإ�سالمية: ولعل ما تمحورت حوله �أفكار ال�سيد ف�ضل اهلل ومعه �أهل ال�شيعة في م�س�ألة وجوب الإمام والحاجة ال�ضرورية �إلى تن�صيبه يبدو مناق�ض ًا لن�ص �أورد ال�شهر�ستاني ،حيث يقول« :قالت النجدات ،من الخوارج وجماعة من القدرية� :أن الإمامة غير واجبة في ال�شرع وجوب ًا ،لو امتنعت الأمة عن ذلك ا�ستحقوا اللوم والعقاب ،بل هي مبنية على معامالت النا�س؛ ف�إن تعادلوا وتعاونوا وتنا�صروا على الـ ّبر والتقوى ،وا�شتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه ا�ستغنوا عن الإمام ومتابعته ،ف�إنّ كل واحد من المجتهدين (( ( �سورة المائدة ،الآية رقم .67 ((( محمد بن يعقوب الكليني( ت329 .هـ) ،الكافي ( هو �أحد الكتب ال�صحاح الأربعة المعتمدة عند ال�شيعة الإثني ع�شرية)، المجلد الأول ،باب تربيع القبر ور�شه بالماء ،م�ؤ�س�سة الن�شر الإ�سالمي ،قم -طهران1416 ،هـ. (( ( عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت808 .هـ) ،المقدمة ،دار الرائد العربي ،بيروت� ،1982 ،ص.108 -197
94
����������������
مثل �صاحبه في الدين والإ�سالم والعلم والإجتهاد ،والنا�س ك�أ�سنان الم�شط ،...،فمن �أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله؟»(((. تعليق ًا على هذا الن�ص نرجح �أنه يحوي في م�ضمونه �صورة مثالية لمجتمع خال من التناق�ضات ،وتديره رعية تعاونت على البـّر والتقوى ،والعدل القائم على الم�ساواة، ن�ص فيزول الظلم والقلق ،وي�سود الإطمئنان لدى الفرد والجماعة ،بمعنى �آخر ف�إن ّ ال�شهر�ستاني ي�ستبطن ما مفاده �أن تحقيق هذه الأمور مجتمعة ال يتم �إال بوجود حاكم �أو �إمام يتدبر �ش�ؤون الرعية وي�ؤمن لها �سعادتها ،وعندما ت�صان حقوق الفرد والأمة تنتفي الحاجة �إلى الإمام. وثمة من �أوجب الإمامة بالعقل وال�شرع مع ًا ،ك�أبي الح�سين الخياط والماوردي من المعتزلة؛ ومن وقف في �صف �أهل ال�س ّنة من العلماء ،ف�أق ّرها على ر�أيها في �أمر الوجوب ال�شرعي ،كالمعتزلة عموم ًا ،وب�شكل خا�ص القا�ضي عبد الجبار الذي ب�سط ر�أيه في هذه الق�ضية ،ونق�ض �آراء المخالفين فيها ،وا�ستهدف اعترا�ضه ال�شيعة الإمامية ،فيقول »:لو افتر�ضنا مبد�أ الوجوب ال�شيعي للإمامة لوجب �أن يكون لها تف�سير لهذا الوجوب»، وح�سب ر�أيه ف�إن ما يبطل دعوى الوجوب هو �أن وظيفة الإمامة ذاتها وظيفة �شرعية، ويراد بها �أمور �سمعية ،ك�إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وما �شاكلها؛ فهي عنده ت�ستهدف حماية الدين وتنفيذ �أحكامه ،و�أداة لتحقيق العدل والموازنة بين م�صالح النا�س في دينهم ودنياهم ،غير �أن هذا الر�أي ي�صادر مبد�أ الع�صمة ويلغيه ،باعتبار �أن الحاكم �إن�سان يجوز عليه الخط�أ ،وبالتالي �إ�سقاط الو�صاية المتوهمة والنظر �إلى الحاكم بمقيا�س ب�شري مح�ض؛ فمهام الإمام «كلها من م�صالح الدنيا»(((� ،إذ يجوز على الإمام الخط�أ (والكالم للقا�ضي عبد الجبار) فينبغي �أن يكون هناك من ين ّبهه ويقـ ّومه ،وهم (( ( محمد بن عبد الكريم ال�شهر�ستاني( ت ،)548 .نهاية الأقدام في علم الكالم ،طبعة �أك�سفورد1934 ،م� ،ص .481-480 (( ( حول هذا ح�صر مهام الإمام بم�صالح الدنيا ،انظر :فخر الدين محمد بن عمر بن الح�سن التيمي الرازي ( ت606 .هـ): مح�صل �أفكار المتقدمين والمت�أخرين من العلماء والمتكلمين ،م�صر ،ال ت� ،.ص .176
95
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
الأمة وعلما�ؤها ،يب ّيـنون له مو�ضع الخط�أ ويعدلون به �إلى ال�صواب(((. غير �أن الفكر ال�سيا�سي للمعتزلة �أوجب من�صب الإمام بهدف قيام �سلطة تدير الأمة(((. وفي مقابل ذلك فر�ض على الإمام �أن يحيطه عامة النا�س بالحرا�سة والذود عنه ما دام يهتم ب�ش�ؤون الأمة« ،بر ّد قويها عن �ضعيفها ،وجاهلها عن عالمها ،وظالمها عن مظلومها، و�سفيهها عن حليمها؛ فلوال ال�سائ�س �ضاع الم�سو�س ،ولوال الراعي لهلكت الرعية»(((. يتم اختيار الإمام بر�ضى الأمة �إن جعل المعتزلة الإمام من�صب ًا دنيوي ًا ،حتّـم �أن ّ وجمهورها؛ فالإختيار والبيعة طريق الإمامة و�شرعيتها ،باعتبارها حكم ًا �شرعي ًا(((، بخالف الإمامية التي جعلت الن�ص محور ًا مركزي ًا في عقيدتها ،وطريق ًا لإثبات الإمامة وتن�صيب الإمام علي Qلها و�أبنائه من ال�سيدة فاطمة من بعده ،ما �أدى �إلى رف�ض المعتزلة لمبد�أ التعيين بالن�ص ،لأنه ي�شكل تهديد ًا لجملة الفكر ال�سيا�سي الإعتزالي ونظريته في الإختيار ،ما جعل �شيخ المعتزلة ،القا�ضي عبد الجبار ،يتّـبع مختلف الو�سائل وال�صياغات النقلية والعقلية لإ�سقاط «الن�ص ال�شيعي»(((. وا�ستكما ًال لمنظومتهم ال�سيا�سية ،طرح المعتزلة ت�صوراتهم في تقاليد الإمامة و�شروطها ،وكيفية قيامها ،وطبيعة العقد و�صفات عاقديه ،وم�ؤهالتهم المميزة ،حتى يت�سنى للإمام �أن يكت�سب �صفة ال�شرعية كحاكم �أعلى للدولة ،ويت�سلم مقاليد ال�سلطة و�إدارتها بمعرفته(((. (( ( القا�ضي عبد الجبار الأ�سد �آبادي( ت415 .هـ) ،المغني في �أبواب التوحيد والعدل تحقيق الدكتور محمود محمد قا�سم ،ج ،15 القاهرة� ،1952 ،ص .253-252 (( ( ثمة من المعتزلة من �أوجب الإمامة عق ًال وهم قلة ،ولكن ايجابها على الخلق والنا�س ال على الخالق ،لأن �أمرها دنيوي ال ديني، �أي على خالف مفهوم ال�شيعة للإمامة. عز الدين عبد الحفيظ،ابن �أبي الحديد( ت656 .هـ)� ،شرح نهج البالغة ،تحقيق محمد �أبو الف�ضل ابراهيم ،دار احياء الكتب العربية ،الطبعة الأولى ،القاهرة� ،1959 ،ص .308 ((( �أبو عثمان عمرو بن بحر الب�صري ،المعروف بالجاحظ ( ت255 .هـ) ،ر�سائل الجاحظ ،ج ،1تحقيق و�شرح عبد ال�سالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،ال ت� ،.ص .31 ((( القـا�ضي عـبد الجبـار� ،شـرح الأ�صـول الخــم�سة ،تحـقيـق عـبد الكـريم عـثمان ،القـاهـرة� ،1966 ،ص .755-754 ((( عـبد ال�ستار الـراوي ،الـعقـل والحـرية ،الـم�ؤ�س�سة الـعربية للـدرا�سات والـن�شر ،بـيروت� ،1980 ،ص .416 -414 (( ( القا�ضي عبد الجبار ،المغني ،الق�سم الأول ( الإمامة )� ،ص 351وما بعدها.
96
����������������
خـاتـمة:
ت�ستدعي التباينات �آنفة الذكر حول مو�ضوعة الإمامة ،بين ال�شيعة وبع�ض الفرق الإ�سالمية الأخرى ،قراءة مت�أنية في هذه الم�س�ألة الخالفية المزمنة التي ما انف ّكت ت�سهم في تكري�س التباعد حين ًا ،والتنابذ �أحيان ًا بين �أطياف الم�سلمين؛ فالظروف الملتب�سة التي رافقت مبايعة �أبي بكر بالخالفة� ،أ�سفرت عن اختالف الم�سلمين في الحديث عنها والإجتهاد فيها .فقد كانت البيعة لأبي بكر �إحدى فلتات التاريخ ،لم ت�أخذ بعدها الجدي �إال مع تحو ّلـها �إلى �أمر واقع؛ فحدث ال�سقيفة كان في حد ذاته �أقرب �إلى الإنقالب ال�سيا�سي منه �إلى �إجراء �إنتخابي ،بخالف ما تزعم الفرق الإ�سالمية القائلة ب�شرعية �إختيار الإمام ال ب�أحقية تعيينه بالن�ص؛ و�أن بيعة الخالفة لأبي بكر عند هذه ََ ُ ﴿وأ ۡم ُره ۡم الفرق جاءت متوافقة ومبد�أ ال�شورى ح�سب الم�ؤ�شرات الواردة في التنزيل ُش َ ور ٰى بَ ۡي َن ُه ۡم﴾(((. وتعليق ًا على ما تقدم نقول� :إن المالب�سات التي رافقت البيعة والتطورات التي �أ�سفرت عنها ،لم تكن متالئمة وتقرير �أمر م�صيري بحجم خالفة الر�سول ،Pحيث جرى عمد ًا تجاهل ر�أي �أهل البيت Rومعهم فئة من �أوثق ال�صحابة ممن لهم �سبق الف�ضل في الإ�سالم ،وكذلك الممار�سات التي ا�ستهدفت الأن�صار� ،أ�صحاب المبادرة �إلى ال�سقيفة ،احتواء وتطويع ًا ،ما يدل ّل على الخلل الذي اعترى مبد�أ ال�شورى ،والنيل من الإجماع على البيعة .وقد �أدى ذلك �إلى جدال بين الم�سلمين حول �أحقية الخالفة، كان من تداعياته الالفتة ما ُ�س ّمـي بـ«الفتنة الكبرى» المتمثلة بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ،واهتزاز �صورة الخالفة نف�سها(((. فالإمامة عند ال�شيعة تختلف عما هي عليه عند �أهل ال�س ّنـة ،كما بيناه في ما �سبق من هذه الدرا�سة ،و�أن هذا الإختالف يكمن �أ�سا�س ًا في كون الإمام الخليفة في مذاهب �أهل (( ( �سورة ال�شورى ،الآية رقم .38 ((( �إبراهيم بي�ضون ،مالمح التيارات ال�سيا�سية في القرن الأول الهجري ،دار النه�ضة العربية ،بيروت� ،1979 ،ص .20-19
97
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ال�س ّنة ،هو نائب عن �صاحب ال�شريعة في حفظ الدين دون �أن يكون له �سلطة ت�شريعية �إال تف�سير ًا لأمر �أو اجتهاد في ما لي�س فيه ن�ص� ،أما عند ال�شيعة فالإمامة قاعدة الإ�سالم وال يجوز لنبي �إغفالها وتفوي�ضها �إلى الأمة ،بل يجب عليه �إختيار الإمام لها ،لأن الإمام وارث لعلوم النبي وم�ؤتمن على وظيفة روحية رئي�سة تخ ّوله حق ًا ديني ًا ب�شرح ر�سالة الإ�سالم وتو�ضيحها ،وهو �أمر ال ي�ستطيع النهو�ض به �إال �أهل بيت النبي لكونهم ورثة علومه. لذلك ف�إن الإمام عند ال�شيعة لي�س �شخ�ص ًا عادي ًا بل هو فوق النا�س لأنه مع�صوم من الخط�أ ،و�إن الإعتراف به والطاعة له جزء من الإيمان((( ،وبالتالي فلي�س لأحد �أن يخطـّئ الإمام بل يجب على النا�س �أن ي�ص ّدقوا �أن كل ما يفعله �إنما هو خير ال �شر فيه ،فعند الإمام من العلم ما ال قبل لأحد معرفته ،و�أن اهلل �أفا�ض عليه بنور المعرفة ،و�أ�شرق عليه بنورها، لعلي Qنوعين من العلم :ع ّلـمه باطن القر�آن وظاهره ،و�أطلعه على فالنبي Pع ّلـم ّ �أ�سرار الكون وخفايا الغيبيات ،وكل �إمام و ّرث هذه الذخيرة العلمية لمن بعده(((. حد بعيد في تحديد �إ�شكالية وبعد لقد نجح الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل �إلى ٍّ تفح�صها ودرا�ستها معتمد ًا في ذلك بحثه ،وو�ضع لها فر�ضيات مالئمة �أجاد في ّ منهج ًا علمي ًا قوامه ا�ستقراء الآيات القر�آنية ،والأحاديث الجياد التي تحظى بثقة ّ وا�ستدل بها لدعم مفهومه للإمامة و�أحقية �أهل العلماء الم�سلمين من �س ّنة و�شيعة، الحجة متو�س ًال ّ البيت في الخالفة فجاءت درا�سته على �صورة بناء مترابط ومتما�سك ّ والقرينة في ما ذهب �إليه ب�أ�سلوب علمي ر�صين فق ّدم بذلك جديد ًا في مو�ضوع خالفي �شائك وملتب�س ،ما جعل كتابه في منزلة مق ّدرة في بابه ،ومرجع ًا ال غنى عنه للباحثين والمهتمين بدرا�سة م�س�ألة الإمامة في الإ�سالم. (1) Cf.: Sami Nasib Makarem, The Political Doctrine of the Ismailis(The Imamate), Caravan Books, N.Y., 1977.
(( ( من المفيد في هذا المجال مراجعة :محمد �أبو زهرة� ،إبن تيمية ،حياته وع�صره و�آرا�ؤه وفقهه ،دار الفكر العربي ،القاهرة ،ال ت� ،ص .172
98
�����������������
الشيخ حسن بغدادي
(((
محطات مضيئة في حياة السيد محمد رضا فضل اهلل
�إنّ عر�ض وتوثيق �سيرة ه�ؤالء الأعالمُ ،تمثل لنا قيمة ح�ضارية وتجربة �إجتماعية ،ال يمكن الإ�ستغناء عنها ،فهي لي�ست من باب �إظهار المك ُرمات ،بقدر ما هي ثروة معرفية، يمكن �إ�سقاطها والإ�ستفادة منها في محطات معا�صرة ،تت�شابه مع الما�ضي ،وهذا ما دعا بع�ض ال�شخ�صيات العلمائية �إلى كتابة تجاربهم و�سيرتهم الخا�صة ،ب�أيديهم ،كي ُتكتب بحيثياتها وتفا�صيلها التي يكون �صاحبها �أكثر �إدراك ًا لها من غيره ،كال�شهيد الثاني ،وال�سيد مح�سن الأمين ،وال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،وال�شيخ حبيب �آل �إبراهيم وغيرهم. ال�سيد محمد ر�ضا ،هو �إحدى ال�شخ�صيات الأ�سا�سية المربية والم�ستنه�ضة في القرن الرابع ع�شر هجري ،و�أنا �إذ �أ�شكر الأخ الدكتور معروف محمد تقي ف�ضل اهلل ،والم�س ّدد له الأخ النائب الدكتور ال�سيد ح�سن ف�ضل اهلل ،من العمل على جمع ما �أمكن من �أثاره العلمية والأدبية ،وما تحتاجه هذه من �صبر ومعاناة. (( ( ع�ضو المجل�س المركزي في حزب اهلل ،الم�شرف على �أعمال الم�ؤتمر
99
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�ضم �أبحاث الم�ؤتمر الفكري الذي نظمته ونحن �أردنا من خالل هذا الكتاب الذي ّ جمعية الإمام ال�صادق Qلإحياء التراث العلمائي ،حول �شخ�صية العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل� ،أن يكون مدخ ًال للتعرف على �شخ�صية هذا العالم الفا�ضل، وعلى فهم مطالبه العلمية والأدبية. والدته ون�سبه:
ولد العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في قرية (عيناثا) من جبل عامل((( �سنة 1864م1281/هـ ،فيكون �أكبر من ال�سيد مح�سن الأمين �إما ب�سنة �أو بثالث �سنوات ،على رواية. ن�سبه ال�شريف ينتهي �إلى الإمام الح�سن المجتبى ،Qو(�آل ف�ضل اهلل) �سادة ح�سنيون ،وال �شبهة في ن�سبهم ،وهذا ما ذهب �إليه �أهل التراجم ومنهم ال�سيد الأمين(((. ((( عيناثا:من قرى جبل عامل ،تتبع لق�ضاء (بنت جبيل) ،وترتفع حوالي 700م عن �سطح البحر ،فيها مجل�س بلدي �أن�شئ �سنة 1962م ،من علمائها :ال�شيخ ظهير الدين بن علي بن زين العابدين بن الح�سام العيناثي الذي تتلمذ عليه ال�شيخ نا�صر بن �إبراهيم البويهي (كان مقيم ًا في عيناثا) ،العالمة الأديب ال�سيد محيي الدين ف�ضل اهلل ،ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل (ت 1900م) �إبن ال�سيد محيي الدين ،ال�سيد �صدر الدين ف�ضل اهلل ،ال�سيد محمد ح�سن ف�ضل اهلل ،ال�سيد محمد �سعيد ف�ضل اهلل ،ال�سيد عبد الر�ؤوف ف�ضل اهلل ،ال�شيخ �أحمد بن يو�سف العينثاني (من تالميذ ال�شيخ محمد بن ال�شيخ ح�سن �صاحب المعالم نجل ال�شهيد الثاني) ،ال�شيخ �أحمد بن خاتون العيناثي (معا�صر للمحقق الثاني) ،ال�شيخ �أحمد بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شيخ ح�سن �صاحب المعالم) ،ال�شيخ �أحمد بن علي العيناثي (من الم�شايخ الأجالء ،يروي عن جعفر بن الح�سام العاملي وعنه محمد بن خاتون العاملي) ،ال�شيخ �أحمد بن محمد بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شهيد الثاني) ،ال�شيخ �أحمد بن نعمة اهلل بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شهيد الثاني وله كتاب مقتل الح�سين»ع») ،جعفر بن الح�سام العيناثي من الم�شايخ ال ّ أجلء، جمال الدين بن يو�سف بن �أحمد بن نعمة اهلل بن خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل ،ال�شيخ ح�سن بن علي الظهيري العيناثي المعا�صر ل�صاحب الو�سائل (�سكن النجف ومات ب�أ�صفهان) ،ال�شيخ ح�سن بن علي بن خاتون العيناثي المعا�صر ل�صاحب الو�سائل ،ال�شيخ ح�سين بن جمال الدين بن يو�سف بن خاتون العيناثي (المعا�صر ل�صاحب الو�سائل) ،ال�شيخ ح�سين بن الح�سن الظهيري العيناثي (�أحد م�شايخ �صاحب الو�سائل� ،سكن جباع ومات فيها) ،ال�شيخ ح�سين بن �شرف العيناثي (يروي عن ال�شهيد الثاني) ،ال�شيخ علي بن �أحمد بن نعمة بن خاتون ،محمد بن الح�سام كان من الم�شايخ الأجالء ،ال�شيخ محمد بن خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل (يروي عن المحقق الثاني) ،ال�شيخ محيي الدين بن خاتون معا�صر ل�صاحب الو�سائل، ال�شيخ نعمة اهلل بن �أحمد بن محمد بن خاتون العاملي العيناثي من �أجالء العلماء وتالمذة المحقق الكركي ،ال�شيخ يو�سف بن �أحمد نعمة اهلل بن خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل . ال�سيد مح�سن الأمين ،خطط جبل عامل �ص .269 ال�شيخ �سليمان ظاهر ،معجم قرى جبل عامل ج � 2ص .116 ال�شيخ �إبراهيم �سليمان ،بلدان جبل عامل �ص .317 (( ( ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،14ص.60
100
�����������������
�أ�صل العائلة من مكة المكرمة ،فج ّدهم الأعلى ال�شريف ح�سن((( ،قدم من مكة المكرمة بداعي العالج ،و�سكن في (عيناثا) ،وبقي فيها ،وكانت تربطه عالقة وثيقة بعلماء (�آل خاتون) عندما كانوا يذهبون �إلى الحج والعمرة ،وفي ذلك الزمان كانت الظروف تختلف ،والحج لم يكن �أيام ًا معدودات كما اليوم ،بل كان يبقى العلماء �شهور ًا �أو ربما �سنةُ ،يد ّر�سونْ و ُي�ص ّنفون ،ويلتقون بعلماء و�أعيان تلك البالد ،وبالذين هم من خارج مكة ،وقد قدموا �إليها لنف�س الغر�ض. لم تكن هذه العائلة الكريمة الوحيدة التي قدمت �إلى جبل عامل ،فهناك العديد م ّمن قدموا وبقيت ذراريهم ،فـ (�آل يحيى) وهم اليوم يعرفون بـ (�آل �صادق) ،ج ّدهم الأعلى قدم من مكة المكرمة(((. وال�شيخ حبيب البغدادي �أ�صله من بني (�شيبه)((( ،وال�شيخ �إبراهيم البالغي((( ،قدم من العراق ،وال�سيد �إبراهيم الح�سيني((( الج ّد الأعلى لـ (�آل الأمين) ،قدم من مدينة بداع واحد ،فبع�ضهم �أتى للدر�س الحلة بالعراق ،ولم يكن ح�ضور ه�ؤالء �إلى جبل عامل ٍ والتح�صيل كال�شيخ نا�صر �إبراهيم البويهي((( ،وهناك من جاء بداعي العالج كال�شريف (( ( ال�شريف ح�سن :من الأجالء الف�ضالء. ((( يوجد �إجماع لدى �أ�صحاب التراجم� ،أن �أ�صل العائلة يعود �إلى مكة المكرمة ،و�إلى قبيلة (بني مخزوم). (( ( ال�شيخ حبيب بن طالب بن علي بن �أحمد بن جواد البغدادي الكاظمي م�سكن ًا ال�شيبي المكي �أ�ص ًال نزيل جبل عامل� ،شاعر مجيد متفنن خفيف الروح� ،أ�صله من العراق من بلد الكاظمين عليهما ال�سالم ،وكان حي ًا �سنة 1269هـ . ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج � ،7ص .262 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،10ص.292 ((( ال�شيخ �إبراهيم بن ح�سين بن عبا�س بن ح�سن بن عبا�س بن محمد علي البالغي النجفي العاملي المتوفى �سنة 1246هـ ،وهو ج ّد البالغيين العامليين جميعهم ،كان فقيه ًا متبحر ًا و�أديب ًا �شاعر ،قليل النظم ،من تالميذ ال�شيخ جعفر كا�شف الغطاء . ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ج � 3ص .77 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،10ص.16 (( ( ال�سيد مح�سن الأمين ،خطط جبل عامل� ،ص .8 ((( ال�شيخ المحقق نا�صر بن �إبراهيم البويهي الأ�صل ،الإح�سائي المن�ش�أ العاملي الخاتمة ،من �أعقاب ملوك بني بويه ملوك العراقيين والعجم ،وهم م�شهورون .كان فا�ض ًال محقق ًا مدقق ًا �أديب ًا و�شاعر ًا فقيه ًا ،له حوا�ش كثيرة على كتب الفقه والأ�صول وغيرها ،هاجر �إلى جبل عامل في زمان �شبابه ،و�سكن (عيناثا) حتى مات بها ،وا�شتغل بطلب العلم ،وكان من تالمذة ال�شيخ ظهير الدين العاملي . ال�سيد ح�سن ال�صدر ،تكملة �أمل الآمل� ،ص .412 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،6ص.143
101
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ح�سن ،و�آخرون طلبهم النا�س ليكونوا علماء في قراهم ،كال�سيد �إبراهيم الح�سيني وال�شيخ �إبراهيم البالغي ،وال�شيخ عبد النبي الكاظمي نزيل (جويا)((( من جبل عامل. وعليه فال�سيد محمد ر�ضا �أ�صله من مكة المكرمة ،وينت�سب �إلى الإمام الح�سن المجتبى ،Qون�سبه على ال�شكل الآتي :ال�سيد محمد ر�ضا بن ر�ضا بن ن�صر اهلل بن محمد الملقب ب�سلطان العلماء بن علي بن يو�سف بن محمد بن ف�ضل اهلل بن محمد بن يو�سف بن بدر الدين ح�سن بن �أبي الح�سن علي بن �أبي علي محمد بن �أبي محمد جعفر بن �أبي الح�سن جمال الدين يو�سف بن �شم�س الدين محمد بن �أبي محمد الح�سن بن �أبي الح�سن عي�سى بن زين الدين فا�ضل بن جمال الدين يحيى بن �شرف الدين جوبان بن جمال الدين الح�سن بن �أبي الح�سن ذياب بن �أبي ذياب عبد اهلل بن �أبي عبد اهلل بن �أبي عبد اهلل محمد بن �أبي محمد يحيى بن �شم�س الدين محمد بن �أبي محمد ال�شجاع الكريم داود ابن الأمير �إدري�س بن �أبي الح�سين داود بن �أحمد الم�ستور بن ال�صالح ويلقب بالر�ضي بن عبد اهلل بن �أبي الح�سن مو�سى بن عبد اهلل المح�ض بن الح�سن المثنى ابن الإمام ال�سبط المنتجب �أبي محمد الح�سن ابن �أبي الح�سن الإمام �أبي االئمة ليث بني غالب ومظهر العجائب ومفرق الكتائب علي بن �أبي طالب .Q ن�ش�أته ودرا�سته:
ن�ش�أ ال�سيد محمد ر�ضا في قرية (عيناثا) ،وقر�أ على ف�ضالئها ،بعدما تع ّلم القراءة والكتابة ،وحاز على عناية خا�صة من والده ال�سيد ر�ضا ،الذي لم يكن من �أهل العلم، ولكن كانت له نظرة خا�صة بولده الذي �سيكون له �ش�أن في يوم من الأيام. ((( ال�شيخ عبد النبي الكاظمي نزيل جويا (�صاحب تكملة نقد الرجال) المتوفى �سنة 1256هـ في بلدة (جويا) من جبل عامل ،كان عالم ًا فا�ض ًال محقق ًا مدقق ًا متبحر ًا خبير ًا بالأ�صول والفقه والحديث والرجال له ت�صانيف ح�سنة مفيدة محدث متك ّلم عارف بالرجال .ولد �سنة 1198هـ بمدينة الكاظمية المقد�سة ،ودر�س على كل من :ال�شيخ خليل القزويني المعروف بزرك�ش ،ال�شيخ �أ�سد اهلل الت�ستري الكاظمي ،ال�شيخ محمد ر�ضا �شبر ،ال�شيخ �أحمد الأح�سائي ،ال�سيد عبد اهلل �ش ّبر . ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،12ص .146 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،11ص.800
102
�����������������
ج ّده لأبيه ال�سيد ن�صر اهلل((( �أعقب �أربعة �أوالد ،منهم :ال�سيد ر�ضا (والد ال�سيد محمد ر�ضا) ،وال�سيد محيي الدين((( (والد ال�سيد نجيب) ،وكان ال�سيد محيي الدين من �أعالم جبل عامل ،وله عالقة مميزة بال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري((( ،وكان ُيرجع النا�س �إليه في جبل عامل بالفتيا وف�صل الخ�صومات. بعدما �أنهى ال�سيد محمد ر�ضا المبادئ العامة للعلوم العربية ،وبع�ض المقدمات في ((( (عيناثا) ،انتقل �إلى بلدة (حناويه) ،التي �سكنها العالمة ال�شيخ محمد علي عز الدين بعدما عاد من العراق �سنة 1266هـ ،وطلبه �أهالي (حناويه) ،و�ش ّيد فيها مدر�سة ،اجتمع عليه الطالب من مختلف المناطق ،وقر�أوا عليه وا�ستفادوا من علمه و�أدبه وتجربته في كيفية الجمع بين التبليغ الديني وتدري�س الطالب والت�صنيف ،وا�ستمروا معه حتى �سنة 1298هـ� ،إلى �أن عاد من النجف الأ�شرف العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ،على �إثر �إ�صابته بمر�ض �صدري� ،إقترح عليه الأطباء مغادرة النجف والتوجه فور ًا �إلى بالده، لكون هوائه ي�صلح لمعالجة الأمرا�ض ال�صدرية ،وبالفعل بقي ال�شيخ مو�سى في بنت جبيل �ست �سنوات ،وارتحل �سنة 1304هـ ،ولكنه ا�ستطاع �أن ي� ّؤ�س�س لم�سار علمي و�أدبي وعب ّر عن في جبل عامل خالل هذه ال�ست �سنوات ،فكان عالم ًا كبير ًا وم�صلح ًا ومربي ًاَ ، (( ( ال�سيد ن�صر اهلل كان حي ًا �سنة 1224هـ1809/م ،وكان من العلماء المعروفين بن�شاطهم في جبل عامل ،ومعا�صر ًا لمرحلة �إعادة الحياة العلمية في جبل عامل بعد نكبتها على يد الجزار. (( ( ال�سيد محيي الدين بن ف�ضل اهلل الح�سني العاملي العيناثي ،كان من م�شاهير العلماء في ع�صره ،قر�أ في جبل عامل على ال�شيخ مهدي مغنية في مدر�سة (طيردبا) ،وتزوج من كريمة ال�شيخ مهدي ،ثم هاجر �إلى العراق لطلب العلم ،وكان على توا�صل مع ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري ،الذي �أوكل �إليه مهمة الفتيا وح ّل الخ�صومات. ((( ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري :ولد �سنة 1214هـ ،وكان من �أعالم الطائفة و�أحد كبار �أ�ساتذة الفقه والأ�صول ،انتهت �إليه ريا�سة الإمامية في العلم والعمل والورع والإجتهاد ،توفي في النجف الأ�شرف �سنة 1281هـ ،ودفن على الي�سار من باب القبله من ال�صحن ال�شريف ،وكانت مرجعيته ب�إ�شارة من ال�شيخ محمد ح�سن النجفي (�صاحب الجواهر) ،وهذه الإ�شارة منه رحمه اهلل تنم عن مدى الوعي والإدراك وتح ّمل الم�س�ؤولية ،والنظر �إلى البعيد. ّ (( ( ال�شيخ محمد علي عزالدين :من علماء جبل عامل في القرن الثالث ع�شر هجري ،ولد في (كفرا) في جبل عامل ،و�أ�س�س مدر�سة دينية في (حناويه) ،وكانت �إحدى مدار�س النه�ضة العلمية الثانية ،وجمعت الكثير من الطالب ،وكان عالم ًا فقيه ًا زاهد ًا عابد ًا ورع ًا ثقة م�ؤلف ًا م�صنف ًا �أديب ًا �شاعر ًا ظريف ًا ح�سن الأخالق كريم الطباع لم يوجد له نظير في ع�صره في جبل عامل في المواظبة على المطالعة والتدري�س والت�أليف والت�صنيف والدعاء والعبادة وتالوة القر�آن ،توفي �سنة 1301هـ . ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،14ص .287 ال�شيخ مو�سى عز الدين ،التذكرة� ،ص.57
103
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
مرحلته ال�سيد الأمين « :ف�إن �سوق العلم والأدب قام في جبل عامل بعهد ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة»(((. وبما �أنّ �صيته العلمي قد �سبقه �إلى جبل عامل ،وعلى قاعدة لكل جديد بهجة ،التحق طالب مدر�سة حناويه بمدر�سة (بنت جبيل) ،وا�ستمروا فيها حتى رحيل ال�شيخ مو�سى �سنة 1304هـ. في (بنت جبيل) ،لم يكن الطالب بم�ستوى واحد ،و�إنما كانوا يختلفون بالعمر وبالف�ضيلة العلمية ،فكان ال�سيد محمد ر�ضا وال�شيخ ح�سين مغنية ،وال�سيد مح�سن الأمين ،وال�شيخ محمد خليل دبوق وغيرهم ،يدر�سون المقدمات على ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل ،وبتقديري ا�ستفاد الطالب كثير ًا من تلك الحقبة الزمنية ،فقد �شاهدوا العالمة ال�شيخ مو�سى �شرارة ،كيف يهتم بالأدب والإ�صالح ،فهو الذي دعا �إلى �إ�صالح المنبر الح�سيني ،كما عمل على التقريب بين المذاهب ،وهذا ما انعك�س على �شخ�صية الطالب ،فقد َعلقت في �أذانهم فكرة الإ�صالح ،وهنا نجد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل، كيف حمل الفكر الإ�صالحي في مختلف العناوين ،و�إن كان �أ�سلوبه يختلف عن ال�سيد مح�سن الأمين ،من حيث ال�شكل ،م�ضاف ًا للم�شروع التربوي الذي هو مرتبط بتربية النف�س و�صفائها ،فكان الطالب يت�أثرون بال�شيخ مو�سى �شرارة ،كما كانوا ي�ستفيدون من ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل .ومن بع�ض الحوادث ذات ال�صلة بالمنهج التربوي ،التي كانت تقع �أمامهم ،على �سبيل المثال :ذات يوم ا�ست�أجر الطالب بيت ًا بعيد ًا عن بيوت القرية في (بنت جبيل) ،مما ا�ضطروا لأن ي�ست�أجروا من يجلب لهم الماء لل�شرب من (العين) ،ف�أ�شاروا على ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل� ،أنَّ رج ًال من (�آل قليط) ،عنده بنت تعمل بالأجرة ،فذهب �إليه ال�سيد نجيب ومعه الطالب ،وبعدما �س ّلموا عليه وخطب به ال�سيد نجيب ،وذ ّكره بالآخرة ،وجاء له بالروايات التي تحثّ على خدمة الم�ؤمنين، (( ( ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،15ص.53
104
�����������������
وبالخ�صو�ص طالب العلوم الدينية ،وعندما انتهى ال�سيد من خطابه ،قال له الرجل: «ما عندي بنات للأجار» ،وعندما �أعاد عليه ال�سيد الكالم والموعظة وزاد من الروايات، التفت �إليه الرجل ،وقال�« :شايفني طبل حتى تنفخني ،قلتلك ما عندي بنات للأجار»(((، وهنا نالحظ كيف �أنّ ال�شيخ محمد خليل دبوق ،والذي كان �أكبر منهم �سن ًا بع ّدة �سنوات، قد بادر بجلب ج ّرة الماء من العين ،وتك ّرر هذا العمل منه كل يوم .هذا النوع من تربية النف�س وال�سلوك ت�أثر به الطالب ،وبقى عالق ًا في �أذهانهم ،وانعك�س على �شخ�صيتهم، وظهر في �سلوكهم ،منذ لحظة و�صولهم �إلى النجف الأ�شرف ،فال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في النجف الأ�شرف� ،أ�صبح من كبار العارفين والمربين ،وكتابه ال�سمك ّية ،يك�شف الموجهين لطالب العلوم عن مدى الروحية العالية التي و�صل �إليها ،وكيف �صار من ّ الدينية ،كما حجز لنف�سه مكان َة �أن يكون نا�صح ًا للعلماء. وفي �سنة 1304هـ ،التحق ال�شيخ مو�سى �شرارة بالرفيق الأعلى ،فتف ّرق الطالب، وعادوا �إلى بالدهم ،وجاء من يقترح على ال�سيد يو�سف �شرف الدين((( �أن ي�ش ّيد مدر�سة في قرية (طورا) ،لكونها منطقة تقع في و�سط البالد ،وال�سيد يو�سف كان قد اجتمع عليه الطالب في قرية (�شحور) ،قبل �أن ينتقل �إلى (طورا). فتحت المدر�سة �أبوابها �سنة 1305هـ ،واجتمع فيها العديد من الطالب ،ومنهم ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،وعادت و�أغلقت �أبوابها �سنة 1308هـ ،لأ�سباب ال نعرفها، ولع ّل واحد ًا منها :ذهنية ال�سيد يو�سف �شرف الدين ،حيث كان يعتقد ب�ضرورة ذهاب الطالب �إلى النجف الأ�شرف ،بعد نهاية مرحلة المقدمات. قرار الذهاب �إلى النجف ،كان �سنة 1308هـ ،ولع ّل المحفز لجمع من الطالب على الذهاب �إلى النجف ،هو ال�سيد محمد ر�ضا ،فخرج �سوي ًا مع ال�سيد مح�سن الأمين، (( ( ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،15ص.313 (( ( اقترح ال�شيخ محمد مهدي مغنية على ال�سيد يو�سف �شرف الدين ،والد ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،وكان ال�سيد ي�سكن في (�شحور) ومات فيها �سنة .1334
105
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وال�شيخ ح�سين مغنية و�آخرين ،متجاوزين م�شقة الطريق والحياة ال�صعبة في العراق، فالفقر المدقع والمناخ ال�سيء والبعد عن الأوطان ،هذه الأمور لم يكن من ال�سهل تجاوزها لوال الإخال�ص وال�شوق �إلى العلم ومجاورة الإمام علي ،Qفمق ّومات الحياة �سيئة ب�شكل فظيع ،وال ي�صبر عليها �إال من بات ال ي�شعر بمرارتها ،فحالوة المجاورة للإمام علي ،Qولذة الح�صول على المراتب العلمية،ال يبقَ معهما مجال لل�شعور بالآالم و�ضنك العي�ش ،وخ�صو�ص ًا �أنهم غير مجبرين على ذلك ،وال هم مطرودون من بالدهم وب�إمكانهم البقاء في بالدهم الجميلة ،ذات المناخ الرائع ،والعي�ش مع الأهل، لوال ذلك الدافع الذي �أ�شرنا �إليه� .إال �أنّ الحنين �إلى الأهل ،و�إلى جبل عامل ،لم ينقطع، رغم ذلك الع�شق لمرقد موالنا الإمام علي ،Qوللحوزة العلمية يبقى الحب وال�شوق لتلك البالد ،التي طالما �أطلق العلماء ق�صائدهم ،وهم في العراق تعبير ًا عن ذلك ال�شوق ،ومنهم عالمتنا ال�سيد محمد ر�ضا الذي هزّه ال�شوق وهو ُي�شاهد تلك القافلة ت�سير نحو بالد ال�شام ،ف�أن�ش�أ قائ ًال: ((( �أَق � � ُ �ام وال�� َّرك � ُ�ب � َ��س��ا ِن� ُ�ح ول ��م ت�ث�ن��ه ع �ف � ُر ال �ظ �ب��اء ال �� �س��وان��ح �ول ِل��رك� ِ�ب ال ��� ّ�ش� ِ ((( �ادى ب�ه��ا الأغ � ��وا ُر وه ��ي َط�ل�ائ � ُ�ح وق� ��د �أط �ل �ق��وه��ا ُم ��د ِل � ِ�ج �ي ��ن َط�لا ِئ �ح � ًا َت��ه � َ ((( حا�ص ُح ي�س �إنُ ُج��زت� ُ�م ا ِل َ ال�ص ِ لوى َو�ض َمت ّك ُم ِع َند الأَ ِ �أَم�ي�ل� ُوا ِر َق � َ �صيل َ �اب ال ِع ْ �وه��ا �أَر� َ��ض ِج �ي � ُرون((( فالنقا �رب ِج � �ي� ��ر ُونَ ال ِئ� � ُ�ح و�أَو َرد ُت � ْم� َ والح َل� � َه ��ا م ��ن غ� � ِ َ �ام � ُ�ح �واك��ب َط � ِ �إل � � َ�ى ُوه� � ��د ٍة ف ��ي ��َ�س �ف� ِ�ح َت� � ٍّ�ل ��َ�س � َم��ا به �إل� ��ى ال��ج�� ِّو َط� � � ْر ٌف ل �ل �ك� ِ �أل� � ّم ��وا ع� َل�ي� َه��ا ��َ�س��ا ِئ �ل �ي��نَ َف �ه� ْ�ل � َ��س� َ�خ� ْ�ت ِب � َن��ا((( بعدما ِب� َّن��ا ال� ُّن�ف��و�� ُ�س َّ حائح ال�ش ُ ((( عفر الظباء :نوع من الغزالن .ال�سوانح� :سنح الظبي ،م ّر من اليمين �إلى الي�سار. (( ( الإدالج :ال�سير في الليل /.تهادى هي تتهادى نحذف التاء للوزن /.طالئح الأولى ،ج .طليحة :هزيلة والثانية بمعنى المتعبة من ال�سير. (( ( ال�صحا�صح :ال�صحارى. ((( �أر�ض جيرون ،كانت تطلق على دم�شق قديم ًا ،ويقال �أن جيرون منطقة من �أ�سبانيا ،قاتل �أهلها نابليون ،وعندما �شاركوا في الحمالت ال�صليبية� ،أطلقوا على منطقة من ال�ضنية من ال�شمال اللبناني هذا اال�سم عليها لت�شابههما. (( ( ب ّنا :فارقنا وابتعدنا ،وفيه تعري�ض ببع�ض �أ�صحابه الذين تخلوا عنه. مالحظة :اعتمدت في هذا البحث على نقل بع�ض الق�صائد والر�سائل ،كما جاء في كتاب «مجموع الر�سائل والق�صائد لل�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،التي جمعها و�شرح بع�ض مفرداتها الدكتور معروف محمد تقي ف�ضل اهلل ،كي ال نقع بالتكرار.
106
�����������������
وه � ْ�ل ��ش�ع� ُ�ب َ �اق و��ص� ْف��و ُه زالل �أم الأي� � � � ��ام ف� �ي ��ه َب� � � � � ��وا ِر ُح؟ ذاك ال �ح� ّ�ي َب� � ٍ �اوى وك ��أ�� ُ�س ال�ل�ه� ِو بالله ِو َط��ا ِف� ُ�ح؟ �رب َدا ِره� � ْ�م َن �� �ش� َ وه � ْ�ل �أَه�� ُل�� ُه ف� ِي�ه� ْ�م ع�ل��ى ُق� � ِ يج ُّرون ف�ضل ال َّريط((( لم َي ُ ب�سطوا ُ الخ َطى و َزن � ��دهُ � � ُ�م ف� � ِ�ي َن � � ��دو ِة ال� �ح � ّ�ي ق � ��ا ِد ُح �أق��ا ُم��وا ب��ذاك ّ ملى ُجف ُون ُه ْم وح�س ِبي ِم�ن� ُه� ْ�م م��ا ت �ج��نَّ ((( ال�ج��وا ِن� ُ�ح ال�ش ْ عب َث َ �وارح �وم ال � � َ�ج � � ُ َج ��وا ِن � ُ�ح� �ه � ْ�م َم� �ب� � ُل ��و َل ��ة ِب� ��� �س� � ُرو ِر ِه � ْ�م وم � �ن� � َ�ي ُب � � َّل� � ْ�ت ب ��ال� �ه� �م � ِ الج ْفنَ ِمن ُه ْم على ال َق َذ َى ت � ِن � ُّم ب�م��ا �أُغ �� �ض��ي ال �ج � ُف��ونُ ال ���ّ�س��وا ِف� ُ�ح � َإذا ُ رحت �أُغ�ضي َ �زح� � ًا وال َك� ��انَ َغ �ي��ر ُه َف� � َي ��ا ر ّب � � َم� ��ا ق ��د ج � � َّد ب� ��الأم� � ِ�ر َم� � ��از ُِح َل�� ِئ ��نْ َك� ��انَ َذا َم � َ در�س ال�سيد ف�ضل اهلل في النجف الأ�شرف على ف�ضالء و�أ�ساطين الحوزة العلمية، فح�ضر بحث الخارج على فقهاء تلك المرحلة ،منهم :ال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني (�صاحب كفاية الأ�صول)((( ،وال�شيخ محمد طه نجف((( ،وال�شيخ ميرزا ح�سين
(( ( الريط :كل ثوب ي�شبه الملحفة. ((( تجنّ :تخفي. ((( ال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني (�صاحب كفاية الأ�صول) ال�شهير بالآخوند المتوفى �سنة 1329هـ ،من كبار �أ�ساتذة الجامعة النجفية ،انتهت �إليه زعامة الحوزة في كل مكان و�صارت الرحلة �إليه من �أقطار الأر�ض وعمر مجل�سه بمئات من العلماء والمجتهدين .قاد الحركة الد�ستورية في �إيران التي دعت �إلى تقييد ال�شاه بمجل�س نيابي .ولد في م�شهد خرا�سان ،وقر�أ المبادئ و�أكمل العلوم العربية والمنطق فيها ثم انتقل بعدها �إلى طهران و�أقام فيها �ستة �أ�شهر ،در�س خاللها بع�ض العلوم الفل�سفية وفي عام 1278هـ ترك طهران وتوجه �إلى النجف ودر�س على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري وال�سيد محمد ح�سن ال�شيرازي وال�شيخ را�ضي النجفي .وله من الم�صنفات :الإجازة ،الإجتهاد والتقليد ،التكملة في تلخي�ص التب�صرة ،حا�شية الأ�سفار ،كفاية الأ�صول . الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب ،ج� ،1ص .39 ال�شيخ محمد حرز الدين،معارف الرجال ،ج.323 ،2 (( ( ال�شيخ محمد طه بن ال�شيخ مهدي بن ال�شيخ محمد ر�ضا بن ال�شيخ محمد بن الحاج نجف الحكم �آبادي التبريزي النجفي مرجع كبير من م�شاهير علماء ع�صره ،ولد �سنة 1241هـ،وتوفي يوم الأحد في � 13شوال 1323هـ ،تتلمذ في بادئ �أمره على والده ثم در�س على ال�شيخ عبد الر�ضا الطفيلي وعلى خاله ال�شيخ جواد نجف وال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري وال�شيخ مح�سن خنفر وغيرهم من العلماء والأ�ساطين ،رجع �إليه النا�س في التقليد بعد وفاة الحجتين ال�شيخ محمد ح�سين الكاظمي وال�سيد المجدد ال�شيرازي ،وقد ترك وراءه الكثير من الم�صنفات منها�(:إتقان المقال في علم الرجال)(احياء الموات في �أ�سماء الرواة) (غناء المخل�صين) وغيرها . الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأ�شرف ج� 3ص .1269 ال�شيخ جعفر باقر �آل محبوبة ،ما�ضي النجف وحا�ضرها ،ج� ،3ص .431
107
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
الخليلي((( وال�شيخ محمد ال�شربياني(((. ولم نعثر على �إجازات بالإجتهاد ،لأي من ه�ؤالء المراجع ،بحق ال�سيد محمد ر�ضا، مع العلم �أنّ �أقرانه بالدرا�سة ،قد حازوا على هذه ال�شهادات ،م ّما ُيد ّلل على �أنّ �شهادات قد �صدرت ،ولكنها �ضاعت� ،أو تلفت ،كما تلف الكثير من تراث علماء جبل عامل ،ب�سبب ال�ضغوط العثمانية والفرن�سية التي لم ترا ِع حرمة لأهل العلم وال لم�صنفاتهم ،وعلى هذا الكثير من ال�شواهد ،والذي يدعونا �إلى القول باجتهاده ،بع�ض ال�شهادت التي قيلت بحقه� ،إ�ضافة �إلى ما قاله ،هو ــ رحمة اهلل ــ بحق الآخرين ،وما لها من داللة على مكانته العلمية ،حيث ال ت�صدر �إال عن مقامات �شامخة ،كما �سنب ّين ،مع ما و�صل �إلينا من بع�ض �إنجازاته العلمية ،بمجموعها ت�شكل ظن ًا معتبر ًا� ،أنّ الإجازات باجتهاده ،قد �ضاعت ،كما ف�سر بحثه في الأ�صول؟ و�إن وجد ناق�ص ًا؟! �ضاع ق�سم من تراثه ،و�إ ّال كيف ُن ّ من هذه الأقوال التي �صدرت بحقه :M ال�سيد ال�صدر في التكملة ،قال« :ال�سيد محمد ر�ضا من الأفا�ضل ،ذو علم و�أدب و�شعر ونثر وقلم ح�سن� ،أحد ح�سنات هذا الع�صر»(((. ((( ال�شيخ ميرزا ح�سين الخليلي المتوفى �سنة 1326هـ ،انتهت �إليه رئا�سة الإمامية في ع�صره ،وكان �أفقه �أهل زمانه وهو �أحد �أركان النه�ضة الإيرانية ،كان فقيه ًا �أ�صولي ًا مجتهد ًا ،و�أ�ستاذ ًا في الفقه والأ�صول عابد ًا زاهد ًا .وكان عميم النفع �سخي ًا يتفقد الفقراء في بيوتهم ابتدا ًء منه وكان مجل�س بحثه يزدحم بالعلماء والف�ضالء الأعالم ،وكان له الباع الطويل في التدري�س والفن الجديد في التنميق الذي امتاز به عن غيره في الفقه والأ�صول.له من الم�صنفات :كتاب في الإجازة ــ كتاب في الغ�صب ــ �شرح نجاة العباد .الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب في النجف ج� 2ص .518 ال�شيخ جعفر باقر �آل محبوبة ،ما�ضي النجف وحا�ضرها ،ج� ،2ص .226 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،14ص.573 ((( ال�شيخ محمد ال�شربياني المتوفى �سنة 1322هـ ،من كبار المجتهدين والفقهاء ،ولد �سنة 1245هـ ،ثم هاجر �إلى النجف الأ�شرف في �سنة 1272هـ ،وتتلمذ على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري ،وال�سيد ح�سين الكوه كمري ،ولل�شيخ محمد ال�شربياني في النجف الأ�شرف ،مدر�سة علمية ،تعرف بمدر�سة ال�شربياني ،وهي من المدار�س ال�شهيرة ،لما �ضمت من الف�ضالء والعلماء البارزين في الحوزة العلمية ،وتقع في محلة الحوي�ش في �آخر ال�شارع من مدر�سة ال�سيد محمد كاظم اليزدي ،والمعروف �سابق ًا (ب�شارع الهنود) .وفي المدر�سة مكتبة فيها من نوادر المخطوطات ونفائ�س المطبوعات ،وله من الم�صنفات :حا�شية فرائد الأ�صول ،حا�شية المكا�سب� ،شرح المعلقات ال�سبع ،كتاب في �أ�صول الفقه ،ر�سالة عملية ،كتاب المتاجر ،كتاب ال�صالة . الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأ�شرف خالل �ألف عام ،ج� ،2ص .730 ال�شيخ محمد حرز الدين ،معارف الرجال ،ج� ،2ص.372 (( ( ال�سيد ح�سن ال�صدر ،تكملة �أمل الآمل� ،ص.319
108
�����������������
كالم ال�سيد ال�صدر عن ال�سيد محمد ر�ضا جاء في معر�ض ترجمته لل�سيد ف�ضل اهلل الح�سني .وهذه ال�شهادة ،م�ضاف ًا لإظهار مكانته العلمية ،هي �شهادة ل�سلوكه وبلوغه مراتب الكمال والمعرفة ،وبلوغ مرتبة العالم (القدوة). �أما ال�شيخ محمد مغنية في كتابه (جواهر الحكم) ،وهو الخبير بعلماء تلك المرحلة، إن�ضم وهو الذي �أ�شار على ال�سيد يو�سف �شرف الدين �أن ي�ش ّيد مدر�سة في (طورا)ّ � ، �إليها ال�سيد محمد ر�ضا �سنة 1305هـ ،ومما قاله بحقه« :قد جمع ال�سيد محمد ر�ضا بين رئا�ستي العلم والأدب». وقال عنه� ،صاحب رجال الفكر والأدب في النجف« :عالم فقيه� ،أ�صولي ،من ال�شخ�صيات الالمعة ومن الأفذاذ»((( ،وهذه ال�شهادة المتينة ت�صدر عن رجل عارف ومتتبع ،وهو يتحدث عن �شخ�صية ا�شتهرت في الحوزة العلمية ،وبان ف�ضلها ومكانتها. ال�سيد الأمين في الأعيان ،قال« :كان عالم ًا فا�ض ًال �أديب ًا من�شئ ًا ،قر�أ في جبل عامل، ثم هاجر �إلى العراق لطلب العلم ،وقد خرجنا من النجف ،وبقي هو»(((. وهناك بع�ض الق�صائد التي ُتظهر مكانة ال�سيد محمد ر�ضا من قبل بع�ض الأعالم، ((( كال�سيد عبد الح�سين نور الدين � َ��س� � َق ��ى � َ��ص� � ِّي � ُ�ب ال � � � � � ُو ْد ِق �أَ َ وط� ��ا َن � �ه� ��ا م� �ح ��ان ��ي ال � ���َّ ��ص� ��ري� ��م((( وك �ث �ب��ان �ه��ا �ات وال َر َّو َع ال� � �ب� � � ْي � ��نُ �� ُ��س � � َك� ��ا َّن � �ه� ��ا وال َل� � َم� ��� �س� �ت� � َه ��ا َي � � � � ُد ال� � �ح � ��ادث � � ِ (( ( الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب ،ج.942 ،2 (( ( ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،14ص.60 (( ( ال�سيد عبد الح�سين ابن ال�سيد محمد ابن ال�سيد �إبراهيم النباطي نور الدين المتوفى �سنة 1370هـ ،عالم فقيه ،و�أديب �شاعر ،من �أعالم الدين والأدب ،تتلمذ في النجف على ال�شيخ محمد طه نجف وال�سيد محمد كاظم اليزذي وال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني ،و�شيخ ال�شريعة الأ�صفهاني ،ثم عاد �إلى بالده في جبل عامل ،وت�صدى للتوجيه والإمامة ،والأمور الح�سبية والت�صنيف والإر�شاد .له من الم�صنفات :عقود الدار والجوهر (ديوان �شعر) ،الكلمات الثالث ،عمر والإ�سالم ،الرد على هيكل في كتابه محمد ،Pكما �شارك في م�ؤتمر وادي الحجير الذي انعقد في ني�سان 1920م ،وكان من اللجنة التي ذهبت �إلى �سوريا للقاء الملك في�صل �إلى جنب ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين وال�سيد مح�سن الأمين . ال�سيد مح�سن الأمين� ،أعيان ال�شيعة ،ج� ،11ص .496 ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،15ص.1075 (( ( ال�صريم :القطعة من الرمل.
109
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ُرب � � � � ��و ٌع �أال َح� � � � ِّ�ي ِت� � �ل � � َ�ك ال� � ��ر ُب� � ��و َع َ ((( �رب م�شي ال �ق��ط��ا وتم�شي بها ال ���ِّ�س� ُ َي� �م� �ي� �� � ُ�س ب� �ه ��ا ال � � � � َ�د ُّل م �ه �م ��ا م���ش��ت َت��ل��ف��ت ��نَ ُذع� � � � � ًرا ف��خ��ل � ُ�ت ا���س�� َت ��رق ��نَ ِوم� �� ْ��س ��نَ اخ� �ت� �ي ��ا ًال ف �ق �ل� ُ�ت ا� �س �ت �ع � ْرنَ ب� � � ��دو ُر م � � ًه� ��ا م� ��ا ع� ��راه� ��ا الأُف� � � � � ُ �وال ع � �ل � �ق� � ُ�ت ب � �ه� ��ا �أه � � �ي � � � ًف� � ��ا �أغ � � �ي� � ��دً ا ف� ��دي � � ُت� ��ك ق� � � ْ�م غ� � ��نِّ ل � ��ي وا���س��ق��ن ��ي ف� �ط� �ي� � ُر ال� � �� � ُّ��س � ��رو ِر ل� �ق ��د �أ� �ص �ب �ح��ت وه� � � ��ذي ال � �ل � �ي� ��ال� ��ي ل � �ق� ��د �أ� � �ش� ��رق� ��ت �ام ف � � ًت� ��ى ب� ��ال � �ن� � َ�دى ع� � � َّ�م ك� � � َّ�ل الأن � � � � ِ ف � �ك � �ه �ل� ًا �إل� � �ي � ��ه ال� �م� �ع ��ال ��ي ان �ت �ه��ت �دت ب � � ��أك� � � ِّ�ف ال � �ف � �خ� ��ا ِر وق � � ��د ع � � �ق� � � ْ ل � � ��ك ُ �ارف اهلل م � � ��ن ع � � ��ال � � � ٍ�م ع � � � � ٍ �ات ف � �ل � �ل� � َ�ت ب � �ف � �ك� ��رت� � َ�ك ال� �م� ��� �ش� �ك�ل ِ ف � � ُرح� � َ�ت م� ��ن ال �ع �ل ��م ق� �ط � َ�ب ال� � َّرح ��ى ي� �م� �ي� � ًن ��ا ل� �ي� �م� �ن ��اك غ� � �ي � ��ثُ ال � � ��ورى �ات وع� ��ز ُم� ��ك �أم�����ض ��ى م ��ن ال� �م � َ �ره� � َف � ِ �ام �ه��ا ف ��� ُ�س �م �ي� َ�ت ف� ��ي ال� � �ج � � ْ�د ِب ِم �ط �ع� َ ف � �ك� ��م ح � �ل � �ب � � ٍة ن� � �ل � � َ�ت غ� ��اي� ��ا ِت � � َه� ��ا
ت � �ق � � َّي � �ل� ��ن ف � �ي � �ه� ��ا ال� � � َم� � � َه � ��ا ب� ��ا ُن � �ه� ��ا ت � � � � ��ؤ ُّم ل � � ��دى ال� � � � � � � ِور ِد غ� ��دران � � َه� ��ا ك� �م ��ا ه � � � �زَّت ال � � � ِّري� � � ُ�ح �أغ� ��� �ص ��ان� �ه ��ا �اب ال � � �ظ � � �ب� � ��ا ِء و�أج� � �ف � ��ان� � � َه � ��ا رق� � � � � � َ أراك و�أف � �ن� ��ا َن � �ه� ��ا غ� � ��� � �ص � ��ونَ ال ِ وال ح � � � ُ �ادث ال� �خ� �� ْ��س � ِ�ف ق� ��د � �ش��ا َن �ه��ا م� ��ري � ��� َ��ض ال� � �ل � ��واح � � ِ�ظ ن� ��� �ش ��وا َن� �ه ��ا ون� � � � ّب � � ��ه ب� � �ك� � ��أ�� � �س � ��ك ُن � ��دم � ��ا َن� � �ه � ��ا ُت� � � � � � � ��ر ِّد ُد ب� ��ا ِل � �ب � �� � �ش� � ِ�ر أ�ل � �ح� ��ان � � َه� ��ا ب� � � ُع � ��ر� � ِ��س ف� � � ًت � ��ى ب� ��ال � �ه � � َن� ��ا زان� � � َه � ��ا وق� � ��د خ � ��� َّ��ص ب ��ال� �ف� �ج � ِ�ر ع ��دن ��ان� � َه ��ا وف � � ��ي ال � �م � �ه� � ِ�د غ � � َّ�ذت � ��ه �أل � �ب� ��ان � � َه� ��ا ع � �ل � �ي� ��ه ال� � ��رئ� � ��ا� � � �س � � � ُة ت� �ي� �ج ��ان� � َه ��ا ب � �ح � �ك � �م � �ت� ��ه ف� � � � � � � َ �اق ل � �ق � �م� ��ان � � َه� ��ا و�أو� � �ض � �ح� � َ�ت ك��ال �� �ش �م ��� ِ�س ب��ره��ان � َه��ا ((( وم � ��ن م �ق �ل�� ِة ال �ف �� �ض��ل �إن� ��� �س ��ان� � َه ��ا ((( �إذا ك � � ّف� � ِ�ت ال � � � ُم� � ��زنُ ه � � َّت� ��ان � � َه� ��ا ((( �إذا ن � �ث� ��ر ال � �ط � �ع� ��نُ م � � � ّرا َن � � �ه� � ��ا و ُل� � � ِق� � �ب � � َ�ت ف � ��ي ال� � �ك� � � ِّر ِم��ط��ع ��ان�� َه ��ا وخ � � � َّل � � �ف� � � َ�ت خ � �ل � �ف� � َ�ك ف� ��ر� � �س� ��ان � � َه� ��ا
(( ( القطا :نوع الحمام. ((( �إن�سانها� :سواد العين. (( ( كفت :توقفت عن الهطول /.المزن :ال�سحاب /.الهتّان :المطر الغزير. ((( م ّرانها :رماحها.
110
�����������������
�أم� �ب� �ت� �غ� � ًي ��ا � � � � �ش � � � ��أو ُه((( ف � ��ي ال�� ُع��ل ��ى �ام �أال ار َب � � ��ع((( زع��م � َ�ت ُت� �ب ��ارى ال � َغ �م� َ ف � �ه� ��ذا م � � �ح � � � َّم � � � ُد((( م � ��ن َّ �دت وط� � � � ْ �ده� ��ا و�أل� � � � �ق � � � ��ت �إل � � � �ي� � � ��ه م � �ق� ��ال � �ي� � َ �اح ف � � �ج � � � ّدك �أج� � � � � ��د ُر ف � �ي� ��ه ال � �ن � �ج� � ُ ه� ��و ال� �ب� �ح ��ر ع� �ل� � ًم ��ا وم � �ن� ��ه اغ� �ت ��دت وارو ُع ت � � ��رت � � ��ا ُع م � �ن� ��ه الأ�� � � �س � � ��و ُد ي� � ��� � �ض� � � ُّم ب � � �ب� � ��ردي� � ��ه ذا ل� � �ب � ��د ًة �اح � ��ا((( ب� �ي ��وم ال� �ن ��وال ي��م��ي�� ُل ارت� � �ي � � ً ف �ل�ا ع� �ج � ٌ�ب �إن وط� � � � ��أتَ ال� �� ُّ��ض ��راح �دت ف� � � ��إ ّن � � ��ك م� � ��ن م � �ع � �� � �ش� � ٍ�ر �أوق� � � � � � ْ ن� � �ج � ��و ٌم ب� �ه ��ا ي� �ه� �ت ��دي ال � � ُم� ��د ِل � �ج� ��ون وان � � �ت� � ��م ل� � �ه � ��ذا ال � � � � ��ورى �� �س ��ا�� �س� � ٌة ف� �ل��ا زل � � �ت� � � ُ�م � َآل ف � �� � �ض� � ِ�ل الإل� � � ��ه �ام ف� � � ْ �دم � �س � ِّي ��د ال� �ن ��ا� � ِ�س ك� �ه � َ�ف الأن � � � ِ
(( ( �ش�أوه :مكانته الرفيعة. ((( ار َبع :قف عند قدرك. (( ( مح ّمد :الممدوح ال�سيد محمد ر�ضا. ((( �شانيك :مبغ�ضك. ((( �سجف� :ستر. (( ( ارتياح ًا :الأريحية الن�شاط �إلى المعروف والإح�سان. ((( كيوان :ا�سم زحل. (( ( المندل :عود طيب الرائحة.
111
َر�� � � � �ص � � � � َ�دتَ ل� �ن� �ف� ��� �س ��ك خ� ��ذالن � � َه� ��ا �ام وق� � ��ر�آن � � � َه� � ��ا وك� � � �ه � � � َ�ف الأن� � � � � � � � � ِ ع � �ل � �ي� ��ه ال� � ��� � �ش � ��ري� � �ع� � � ُة �أرك� � ��ان � � � َه� � ��ا ف� � ��� � �ش� � � ّي � � َ�د ب� � ��ال � � �ع� � � ِّ�ز ب � �ن � �ي� ��ان � � َه� ��ا و� � �ش� ��ان � �ي� ��ك((( ي � ��رب � � ُ�ح خ�����س ��ران�� َه ��ا ب� �ن ��و ال � � َغ� ��و�� ِ��ص ُت � � �خ� � � ِ�ر ُج ع �ق �ي��ان � َه��ا �إذا �� َ��س� � ِ�ج� ��ف((( ال� �ن� �ق� � ُع م �ي��دان � َه��ا خ��م��ي��� ��ص ال� �ح� ��� �ش ��ا�� �ش� � ِة ط� � ّي ��ان� � َه ��ا وف� � ��ي ال� � َ�خ � �ط� � ِ�ب َي � � �ع� � � ُ �دل ث �ه�لان �ه��ا ((( وج� � � ��زت ال � �� � �س � �م� ��اء وك � �ي� ��وان � �ه� ��ا م ��ن ال � �م � �ن� � َ�د ِل((( ال � � ّرط� � ِ�ب ن �ي��ران � َه��ا �إذا م � ��ا ال� � � َّدل� � �ي � � ُ�ل ل � �ه� ��ا خ ��ان� � َه ��ا ب� � �ك � ��م َح � � � � ِف� � � � َ�ظ ُ اهلل �أدي� � ��ان � � � َه� � ��ا �إذا ال� �ت� �ب� �� ��س ال� � �ح� � � ُّق م� �ي ��زان� � َه ��ا م � ��ا ه � � � �زَّت ال� � � � ِّري � � � ُ�ح �أغ� ��� �ص ��ا َن� �ه ��ا
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
و�أي�ض ًا ،نورد الق�صيدة التي قالها ال�سيد �أمين الح�سني((( ،وهي: �رب �اح وت� � � �غ� � � � َّن � � ��ى ط� � � ��ر َب � � � � ًا ف � � ��ي ط � � � ْ رق � ��� َ��ص ال� � � َّده� � � ُر �� � �س � ��رور ًا وارت � �ي� � ْ �اح ف� � � � � ��أدر ي� � ��ا � � �س � �ع � � ُد ب � �ن� ��ت ال� �ع� �ن � ْ�ب وا� �س �ت �ح ��ال ال��ل��ي�� ُل ب��ال � ِب �� �ش� ِ�ر � �ص �ب� ْ ع ��اط �ن �ي �ه ��ا ت �ت �ج �ل��ى ف� ��ي ال � �ك � ��ؤو�� � ْ�س راح � � � � � َة ال� � � � � � � ُّر ِوح ح� � �ي � ��ا َة ال � � ُم � �ه� � ْ�ج �رج خ� �م ��ر ٌة ت �ج �ل��و ع ��ن ال �ق �ل��ب ال��ب���ؤو� ��س م� � ��ا ع � �ل� ��ى � � �ش� ��ارب � �ه� ��ا م� � ��ن َح� � � � ْ ق � ��د �أب � �ح � �ن� ��ا ل� �ح� �م� � َّي ��اك ال��ن��ف ��و� ��س ف� ��ا� � �ش � �ف� ��ع ال� � � � � � � َّراح ب� �ل� �ح ��ظ غ � � ِن� � ْ�ج ح�� ّي��ه � ْ�ل ف �ي �ه��ا ودع ع �ن��ك ال � �ل� ��واح((( ال ت� � � � � ِع ال� � � �ل � � ��وم ب � � � � ��ذات ال� �ح� �ب ��ب ((( �اق وا� �ص �ط �ب��اح واف� ��رخ � �ي � �ه� ��ا ب � �ل � �م� ��اك ال � �� � �ش � �ن� ��ب وا� �س �ق �ن �ي �ه��ا ب ��اغ� �ت� �ب � ٍ ط� � ��اف ف��ي��ه ��ا �� � �ش � ��اد ٌن ح � �ل � � ُو ال �ل �م��ى ق��د ح�ك��ى ف��ي ق� ��دِّ ه ال�غ���ص��نَ ال َّن�ضي ْر �أغ � � �ي � � � ٌد ي � �ن � ��� ِ��ش � � ُد �أل� � � �ح � � ��انَ ال� � ِغ� �ن ��ا ق� ��ائ �ل� ًا وال� � �ك� � ��أ� � ُ��س ع � � َّب� ��اق ال �ع �ب �ي��ر �اف ال ��� ّ�ش �م ��� ِ�س ل �ل �ب��در ال�م�ن�ي��ر ُم� � �ل � ��ئ ال� � � �ك � � ��ونُ � � � � �س� � � ��رور ًا وه � � َن� ��ا ِب � � ِ�ز َف � � ِ �ات ال� � �ه� � �ن � ��ا وال � � �ط� � ��رب وزه� � � ��ت �أر ُب� � � � � � � ُع ه� ��ات � �ي� ��ك ال� � � َن � ��واح ب� � �خ� � �م� � �ي �ل� ِ �� �ض ��اع((( ف ��ي �أرج ��ائ��ه ��ا ن �� �ش � ُر الأق� ��اح ب � �ي� ��ن ه� ��ات � �ي� ��ك ال� � � � ُرب � � ��ى وال� �ك� �ث ��ب �ود ف ��ي ال � ��ورى ه� ��ا ٌم َه �ط� ْ �ول � � �س � � ْي � � ُب� ��ه((( ُي� �ط� �ف ��ئ ن � � ��ا َر ال� �ط� � ْم� � ِع َغ��ي ��ثُ ج� � ٍ ((( �أ�� �ص� �ي� � ٌد ي� ��أن ��ف م ��ن ع �ي ��� ِ�ش ال � َ�ج��ه � ْ �ول �أن � �ف � � ُه ي � ��أب� ��ى � َ��ش��م��ي � َ�م ال� � �� �َّ ��ض� � � َر ِع ث��اب� ُ�ت ال �ج ��أ�� ِ�ش ل��دى ال� َ�خ�ط� ِ�ب ال َمهول �إن َث��ب ��ت �أ�� ْ��س � � ُد ال� �� َ�ّ�ش ��رى ف ��ي ج� ��زَ ِع �رب ر�أ ُي � ��ه �أم �� �ض��ى م��ن ا ِل �ب �ي ���ِ�ض ال� ِ���ص�ف��اح �إن ع� ��را ف ��ي ال ��ده ��ر داج � ��ي ال��ك � ِ (( ( ال�سيد محمد �أمين ابن ال�سيد علي �أحمد الح�سني المتوفى �سنة 1382هـ ،عالم فا�ضل و�أديب كامل ،و�شاعر مجيد ،تتلمذ في النجف الأ�شرف ،ثم عاد �إلى وطنه ،وت�صدى للوظائف ال�شرعية والت�أليف .له من الم�صنفات :تنبيه الأفكار �إلى دار القرار، ديوان �شعر ،الم�أمنة.. ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني ،طبقات �أعالم ال�شيعة ،ج� ،13ص.181 الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب في النجف خالل �ألف عام ،ج� ،2ص.881 (( ( اللواح :اللوم والعتاب. (( ( افرخيها :امزجيها بلماك العذب /.ال�شنب :البارد الطيب. (( ( �ضاع :فاح وانت�شر. ((( �سيبه :عطا�ؤه. ((( ال�ضراح :بيت في ال�سماء مقابل الكعبة� ،أو ّ ال�شم�س.
112
�����������������
�زم� ��ه ���س��م�� ُر ال ��ري ��اح ال وال ال� � ِب� �ي� �� ��ض ب � �ي� ��وم ال��غ�����ص � ِ�ب ل �ي ����س ت �ث �ن��ي ع� � َ ز ّم ل��ل��ف�����ض ��ل ول� �ل� �م� �ج ��د ال � � ِّن � �ي� ��اق وح � � � ��داه � � � ��ا ب� � ��� � �س� � �ي � ��اط ال � � ِ�ه� � �م � ��م �وب ال � � َن � ��� َ��س� ��م ق��د َح �ك� ْ�ت ف��ي َع � ْ�د ِوه ��ا ��س�ي� َر ال � ُب��راق ال ت � �ب� ��اري � �ه� ��ا ه � � �ب� � � ُ ح � َّل �ق ��ت ف �ي ��ه �إل� � ��ى ال �� �س �ب � ِع ال � ِ�ط �ب ��اق ف � ��وط � ��ا ب � ��ال� � �ج� � � ّد ه� � � ��ام الأن � � �ج� � � ِ�م وب� �ن ��ى ب��ال �م �ج� ِ�د م ��ن ف� ��وق ال��� ُّ��ض ��راح م� � �ن � ��زال ل� �ل� �ع� �ل ��م � � �س� ��ام� ��ي ال � � � ُر َت� � � ِ�ب ع � � َّم� ��ت الأق � � �ط� � ��ا َر ج� � � ��ود ًا و� َ��س� �م ��اح ك� � �ف� � � ُه م� � ��ن ُع � �ج� � ِ�م � �ه� ��ا وال� � � �ع� � � � َر ِب ق � ��د ع �ل��ا ب ��ال� �ع� �ل ��م م � ��ا ل � ��م ي� �ع� � ُل� � ُه ف� � ��ي ال� � �ب � ��راي � ��ا ق� �ب� �ل ��ه م� � ��ن �أح� � � � ِ�د ل� � ��و غ� � � ��دا ال � � �ع� � ��ا َل� � � ُ�م ُط � � � � � � ًّرا ك �ل��ه ِرف� � � � � � َ�ده((( �أو�� � �س� � � َع ب ��ال� �ك � ِّ�ف ال��ن ��دي و ِل � �خ � �ي� � ِ�ر ال � � ُر� � �س� � ِ�ل ُي� �ن� �م ��ى �أ�� �ص� � ُل� � ُه ق � ��د زك� � ��ا ف � ��رع� � � ًا ب� �ط� �ي ��ب ال �م �ح �ت��د ب ��ال��ه ��دى وال��ع��ل ��م ق ��د ح� ��از ال �ن �ج��اح غ� � � �ي� � � � ُر ُه م� � ��ا ن� � � ��ال غ� � �ي� � � َر ال � �ت � �ع� � ِ�ب و� �س �م��ا ب��ال�ف���ض��ل وال �م �ج��د ال ��ُ��ص��راح ورواه ع� � � ��ن �أب ب � � �ع� � ��د �أب ب� � �ح� � � ُر ع � �ل� ��م ط � � ��ود ح� � �ل � � ٍ�م ح � ��ا َت� � � ٌم ب� ��ال � �ن� � َ�دى ط � � ّب� ��ق ج � � � ��دواه ال �ف �� �ض��ا ِم � �� � �ص � � ِق � � ُع((( ِق� �� ��س ال � ��ذك � ��اء ع ��ال� � ٌم ق ��د ع�ل�ا ب��ال�ف���ض��ل م ��ن ت �ح��ت ال�سما �ام ال� � �م� � �ج � � ِ�د ف � �ي� ��ه ق� ��ائ � � ٌم � � �ش� ��اد ب� �ي� �ت� � ًا ل �ل �ع �ل��ى َرح� � � � َ�ب ال�� ِف��ن ��ا و َدع� � � � � � � � ُ ف � �ه� ��و ِظ� � � � � ٌّل ل � �ل � � ُع � � َف� ��اة وال � �� � �ض� ��واح ف � � �� � � �س� � ��واه م � �ع � �ق �ل�ا ل� � � ��م ي � �ط � �ل� � ِ�ب �ان ال � �م � �ج� � ِ�د ِب ه� � ��ذه � � �س� ��اح� ��اتُ م� �غ� �ن ��ا ُه ِم � � � ��راح((( وم� � �ح � � ٌ�ط ف � ��ي ال� � ��زم� � � ِ �أ ّما ما �صدر من ال�سيد محمد ر�ضا بحق الآخرين ،فهو ال ي�صدر عن عالم عادي، ال يرى لنف�سه المكانة العلمية والإجتماعية التي ت�ؤهله� ،أن يتح ّدث عن الآخرين بهذه الكلمات ،وهنا على �سبيل المثال :نورد الر�سالة التي تحدث فيها عن رحيل المج ّدد
((( رفده :عطا�ؤه. ((( م�صقع :بليغ ف�صيح. (( ( مراح :خ�صبه ممرعة.
113
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
المرجع ال�سيد محمد ح�سن ال�شيرازي (طاب ثراه)((( ،وهي ر�سالة كبيرة نقلها �أكثر الذين ترجموا للإمام ال�شيرازي ،ومنهم (�صاحب �سبائك التبر) ،و�أي�ض ًا نقل مقطع ًا منها ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين في كتابه (بغية الراغبين) في ترجمته لل�سيد �إ�سماعيل ال�صدر(((. ومما قاله ال�سيد محمد ر�ضا :بعد �أن ا�ستهل ر�سالته بالحمد والثناء لرب العالمين ،وتو�صيف الموت ،وتو�صيف العلماء ومكانتهم عند اهلل عز وجل ،فقد جعل لهم ال�شفاعة يوم القيامة بعد الأنبياء ،وكيف كان مقامهم في الدنيا ،الذي هو امتداد �شاهدت ُه في النجف الأ�شرف لدور المع�صوم ...« :Q وها �أنا ذا �أذك ُر لك ب ْع�ض ما ْ و�صفي �شذ َرة منَ ْبد َرة� ،أو قطرة من لجج، عند ورود ن ْعي ِه �إليه فتعلم �أنّ ما تق ّدم من ْ خا�صته وذوي �س ّره، �أ ّما نعيه فورد ل�صاحب التلغراف لي ًال فما تجاهر به �إال لبع�ض ّ لعلمه ب�أنّ الذي طرق المدينة �ش ٌر عظي ٌم ّ فتم�شى الخب ُر في النا�س �س ّر ًا ونجوى� ،إلى �أن انق�ضى معظم النهار ،و�أوردهم مناهل ّ ال�شك وبلغ بع�ض الم�شاهير من علماء الأتراك خا�صته على الفور با�ستنطاق ل�سان البرق من بغداد عن ذلك ف�أف�صح على ف�أمر بع�ض ّ وتك�شف عن خبيئته ،فمذ انقلب ّ ُعجمتهّ ، والخفي عاد جل ّي ًا ،ت�ضع�ضع له ال�شك يقين ًا ّ النجف وارتجت بيدا�ؤه ،و�أظلمت �أرجا�ؤه ،فكم فيه من �شيخ منحن زاد انحنا�ؤه ،وانتق�ض بنا�ؤه و�شيخ ٍة قعيد ٍة في ك�سر بيتها ن�شيدة: �اع��ي ِح� َم��ى ال�ث��اوي و ُر��ْ�ش� ِ�د ال ُم َ�سا ِفر ب�ف�ي� َ�ك ال �ث � َرى ن��اع��ي ال � َم �ك��ا ِرم وال� ُع�ل��ى ون� ِ فاغر» ن��ع�� ْي � َ�ت ل �ن��ا غ �ي �ث � ًا وغ � � ْوث � � ًا �إذا َب� � َ�دا لنا ال َع ُام في ِ�ش ْدق منَ ْ الجدب ِ ((( ال�سيد محمد ح�سن ابن ال�سيد محمود ابن ال�سيد �إ�سماعيل ابن ال�سيد مير فتح اهلل ال�شيرازي المتوفى �سنة 1312هـ ،المعروف بالمجدد ال�شيرازي ،من كبار مراجع التقليد وعظام علماء الإمامية ،و�أ�ساتذة الفقه والأ�صول ،ولد في �شيراز �سنة 1230هـ، وتتلمذ على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري ،وال�شيخ محمد ح�سن �صاحب الجواهر ،وال�شيخ ح�سن كا�شف الغطاء .هاجر �إلى مدينة �سامراء وفتح �أبواب التدري�س فيها .له من الم�صنفات :تلخي�ص �إفادات �أ�ستاذه الأن�صاري ،حا�شية نجاة العباد ،حا�شية النخبة ،ر�سالة في اجتماع الأمر والنهي ،ر�سالة في الر�ضاع ،كتاب الطهارة ،كتاب في الفقه. الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني ،معجم رجال الفكر والأدب في النجف خالل �ألف عام ،ج� ،2ص.769 (( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،بغية الراغبين ،ج� ،1ص 196و.197
114
�����������������
ثم ي�صف ال�سيد ف�ضل اهلل حال �أهل العلم عندما و�صلهم خبر رحيل الإمام ال�شيرازي، و�أنّ هذا الخبر بالن�سبة �إليهم ،من الأخبار الم�ؤلمة التي نزلت كال�صاعقة على ر�ؤو�سهم، وكان يوم عزاء وم�صيبة ،فقال: «و�أ ّما ر ّواد العلم وطالب الف�ضل فغ�شيهم لبو�س اال�ستكانة ،و�شملهم �ضرع اال�ست�سالم والذلة ،تكاد تخرج �شظايا قلوبهم في �أنفا�سهم و�أب�صارهم ال تتجاوز مواقع �أقدامهم: �اب ك ��أن �ه��م َن� � �ب � � ٌ�ت ت��م��ي ��ل ب � ��ه ال � ��ري � ��اح وت��ل��ع � ُ�ب ُم �ت �ه��ال �ك �ي��نَ م ��ن ال�� ُم�����ص � ِ �وع� �ه ��م ب �ح � َي��ا ال � �غ� ��وادي َت �� �س � ُك� ُ�ب م� ��� �س� �ت� ��� �ش� �ع ��ري ��ن ك� � � ��آب� � � � ًة وم � ��ذل� � � ًة ودم � ُ الحي َرة ،لم ُي ِ�ص ْيبوا لغلق مفتاح ًا ،وال لظلمه وا�ست ْهلكت ُهم َ قد ا�ستد َر َج ُه ُم ال َول ُه ْ ِم�صباحا: �اده��ا ِم��ن ُف� � ْرط َح ْي َر ِتها وال ل�ه��ا غ � ْي � ُر ن�ف� ِ�ث ال � َو ْج ��د ِم ��ن � ُ��ش� ُغ��ل» ل��م َت�ه� ِ�د ق� َّ���ص� َ ثم ي�صف ال�سيد ح�ضور عالمين كبيرين �إلى ال�صحن ال�شريف ،وكيف �ضاق المكان بهما على �سعته ،وقدومهما �إلى ال�صحن ال�شريف ،الذي هو الملج�أ عند النائبات ،وفيه يجتمع �أهل العلم ،فيلوذون ب�صاحب هذا المقام ،ويفو�ضون �أمرهم �إلى اهلل تعالى، فقال« :وكان ال�صحن ال�شريف على َ�سعة عظمه لم تنه�ض �سعته بغير َم ْجل�سينَ :م ْج ِل�س ُ والناه�ض بثقل �أعبائها وه�ضبتها الرفيعة ر ُّبه و�أبو ُعذرته َ�سنام ال ّدين وع ّز ال�شريعة �شيخنا الأعظم ال�شيخ الجليل ال�شيخ محمد ال�شربياني وهو من �أعاظم علماء الأتراك وجهابذة فحولها ،ومجل�س َجديل ُه ال ُم َحكك ،بحر العلم الزّاخر ،و�سحاب الف�ضل الهامر، ال�شيخ المولى الأجل مال محمد كاظم الخرا�ساني ،ولقد ُن�صب بمجل�سه منب ُر الح�ضرة ال�شريفة ،وذلك لم ُيعهد لغير فاتحة ال�سيد المقد�س �إذ هو غالي الثمن خطر القيامة، وفي عوده و�إتقان �صنعته معدوم المثيل». ويتابع قائ ًال« :ولقد انت�ضد المجل�سان بذوي ال ّرتب العالية والمنا�صب الجليلة، بح َملة الكتاب وحفاظ ال�شريعة وخزنة العلم و�شيوخ ال�شيعة ،وانتظموا في دوائر و�أ�شرق َ حلقتيهما انتظام ال ُّدرر ،وبزغوا في �آفاق حوا�شيهما بزوغ ال�شم�س والقمر واحت�شدا 115
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
بال�سواد من عا ّمة النا�س ،فطفق المجل�سان يتدفقان وقار ًا ويطفحان مهابة، و�سطهما ّ ال�صرخة ،وت�ستولي وير�سبان �سكينة ويطفوان مما ينك�أ القرحة ،ويثير الزّفرة حتى تعلو ّ ُ الفجعة من التذكير بم�صاب المنتخب والدليل العالم ،فما نرى من ط ْرف �إال وهو بالدمع �ساجم .ف�إذا هد�أت الفورة و�سكنت الح ّنة ،واطم�أ ّنت الأ ّنة ،وهمدت ال ّر ّنة ،ذكرهم م�آثر لج ُمد، ال�صلد ل�سال �أو ال�سائل َ ال�سيد ومناقبه وف�ضائله وفوا�ضله ،ونعاه بما لو �سمعه ّ وندبه المجل�س ن�شيج ًا ويطفح عوي ًال ،وهذه م�أثرة لم تكن لأحد قبله. هذا على �صعيد �أهل العلم والحوزة العلمية� ،أ ّما بقية النا�س من التجار والبزازين، والعطارين والبقالين وغيرهم ف�إنها �أغلقت �أ�سواقها وعطلت دكاكينها �إال الي�سير منها لق�ضاء حوائج الم�ضطرين ،وبقيت م ّدة من الزمان مظمئة هواجرها ،متجلية حناد�سها، م�ست�شعرة �أحزانها ،م�ستفرغة مدامعها ،متر ّودة في ال�شكك ،جائلة في الأزقة والأ�سواق مك�شوفة ر�ؤر�سها عارية �إلى �أو�ساطها مع ْلدم هائل ل�صدورها ،ولطم فظيع لجباهها ال�شم زج َل الرواعد وع�صف القوا�صف ،وق�صف العوا�صف ،وحنين ًا يذيب ّ ت�سمعك به َ وال�صم الروا�سخ ،لم يتركوا للحزن غاية �إال �أ ُّموها ،وال جا ّدة �إال ركبوها، ال�شوامخ، َّ يتجاوبون في ن�شيدهم الذي لو ت�صغي �إليه ال ّريح الزدادت حنين ًا ورقة ،و�أحدث �شجو ًا في بكاء الحمائم ،و�أ ّما العوائق من الن�ساء ذوات الخدور الم�سدلة والأ�ستار المرخ ّية ال�صون حا�شدة، ف�إنها �أقامت العزاء في دورها تندب وراء �ستورها في مجال�س من ر ّبات ّ َ ومحافل من بي�ضات الخدور ملتفة تنعاه وتندبه على رقة �صوتها و�شجى نغمتها ،بقول لو �سمعه المعاقر لقدحه (�شرب الدمع وعاف القدحا) وبلغة الحال �أن�ش�أت المقال: �أ�� �ص ��اتَ ن��اع �ي� َ�ك ف ��ارت � َّ�ج ال�ب���س�ي� ُ�ط له وال �� �ش �م��خُ ال � ُه �� �ض� ُ�ب م �ن � ٌّ �دك وم�ن�ف� ِ�ط� ُر �وم ال�ن�ف��خ ق��د َ�ص ِعقت ف��ي ��ه ال � � َب� ��راي� ��ا ف� �م� �ط ��رو ٌح و ُم��ن��ع�� ِف�� ُر �وم � َ�ك ي� � ُ ك � ��أنّ ي � َ ف � ��الأر� � ُ��ض راج � �ف � � ٌة وال� �� �ُّ�ش � ُّ�م واج��ف�� ٌة وال ���َّ�ش �م ��� ُ�س ك��ا��س�ف� ٌة وال� � ُّزه� � ُر ت�ن�ت�ث� ُر». ويتابع ال�سيد تو�صيفه للمرا�سم التي تلت وفاته ،وكيف �أخذوا الجثمان الطاهر �إلى زيارة المراقد المقد�سة للأئمة الأطهار Rفي العراق ،و�أ ّنه مهما بلغ ه�ؤالء العظام 116
�����������������
من مكانة علمية واجتماعية ،ف�إنه من بركات �أ�صحاب هذه القبب ال�شامخة ،وكما كانوا لهم عون ًا في حياتهم ،فهم �أكثر حاجة �إليهم بعد مماتهم ،وكما الذوا بقبورهم في حياتهم ،طالبين منهم العون والعناية ،كذلك هم بحاجة �إليهم بعد رحيلهم ،الجئين �إلى كرمهم ،متو�سلين �إلى اهلل ب�شفاعتهم ،فيقول ...« :وما زالوا به حتى �أنزلوه ح�ضرة كوكب �أو ط َرفت عينٌ ،فبات ليلته عائذ ًا بهما ،الئذ ًا الإمامين الجوادين Lما الح ٌ إظالم عن الأغ ِّر الأبلج ،وذ ّر قرنُ الغزالة على ِّ كل مهمه ب�ضريحهما ،فلما انفجر ال ُ وفج� ،أ�سرع لت�شييعه من الرجال ُغل ُبها ،ومن القبائل �أ�شرفها ،وتتابعت �أفواج النا�س مع ّ ّ وملتف الع�ساكر ،و�سائر الفرق الدانية وزراء الدول و�شرطة الخمي�س و�أمراء الأجناد والقا�صية حتى ر ّبات البراقع من الن�سوان ،و�أمهات التمائم من الوالئد والولدان� ،إلى �أن �ساكنُ وتعطلت الأ�سواق ،و�أقفرت ال َع َر َ�صات من بغدا َد والك ْرخ وما واالهما من خلت ال َم ِ وتغ�ص بجموعهم لهوات �أهل الطنب َ والق�صب فكادت �أن تملأ بكثرتهم بطون البيداءّ ، الأر�ض وت�ضيق �صدور الفيافي وتن�س ّد رحاب الفدافد ،وازدحموا على �سريره ازدحام فج َعة وا ْد َهاها الهيم ،وح�شدوا ح�شد ال�صاديات الخما�س ،و�ساروا به ولكن على � َأم ِّ�ضها ْ نكبة ،و�أنكاها ق ْر َحة وبالحال جدي ٌر �أن يقال: �وم َت� ��و َّل� ��ى ه � � � َّد رك� � �ن� � � ًا م � ��ا ك� � � ��انّ ب ��ال� �م� �ه ��دو ِد �إنّ ه� � ��ذا ال � ��� ّ��ش� ��ري� � َ�ف ي � � � َ وج� ��و ِد». م� � ��ا درى ن � �ع � ��� ُ��ش � � ُه وال ح ��ام� �ل ��وه م��ا ع�ل��ى ال� َّن� ْع����ش م��ن َع �ف� ٍ �اف ُ الخطيب المنبر وال ُ كاظ َمة «ف�صعد ويتابع �أي�ض ًا: َ أعناق �إليه مثن ّية والأ�صواتُ ِ ُ فحذرهم �إثارة الفتنة ،وخ َّوفهم عواقب ال�ش ّر والف�ساد ،ووعظهم بما �س ّكن به جامحتهم ال�س ِّيد والنكبة به والطا ّمة بموته، و�أقلع نخوتهم ،وذلل �أنفتهم ،و�أخ َم َد ج ْمرتهم وذكرهم َّ وعظم البل ّية بفقده ،فانقادوا لأمره و�أذعنوا لطاعته و�شغلهم عن هيجان غلهم ،و�إثارة ِ ووجد الزم ،وثكل ثاكل وده�ش �شامل ،ولقد كانوا دم ٌع ِ �أحقادهم ،وطلب ثاراتهمْ . �ساجمْ ، ما يزيدون على الثالثين �ألف ًا فخرجوا به مع جمع من جاء معه و�صحبه في طريقه، وخرجت معهم كربالء ِّ بق�ضها وق�ضي�ضها� ،أحدا ِثها و�شيوخها ،ذكورها و�إنا ِثها� ،أحرارها 117
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ومماليكها مع نواب ال ُّدول و�أمراء ال�شرط وجموع الع�ساكر حتى خلت كربال ُء من قاطن وزائر ،و�أنّ الرجل ّ ليلط به الجوع فيجهد في تح�صيل ما يقتات به من الأ�سواق ،فال يجد �شيئ ًا �إذ الأ�سواق ُمعطلة وال ّدكاكين مغلقة. ويتابع ال�سيد ف�ضل اهلل تو�صيفه لذلك الت�شييع المهيب ،وك�أنه من م�شاهد يوم القيامة، م�ستفيد ًا من �سورة الواقعة التي تتحدث عما يحدث في قيام ال�ساعة ،وال غرابة في هذا الو�صف ،فحال النا�س كان في ذهول وحيرة ،م ّما �أ�صابهم وفجعوا به ،فقال« :فم�ضوا ب�س ًا ،فكادت �أن تكون هبا ًء رجت الأر�ض من كثرتهم و�أ�صواتهم ّ وقد ّ رج ًا ،و ُب�ست الجبال ّ منبث ًا ،فهرعت ال�ستقبالهم من النجف الأ�شرف حفظة ال�شريعة وخ ّرانها ،و�شيوخ ال�شيعة و�ش ّبانها ،وذوات البراقع و�أخدانها ،ووالئد بي�ضات الخدور وولدانها والأرامل في �أيتامها والعجائز على ِع�ص ّيها ،وال�شا ِئخات في انحنائها ،ولم يبق �إال الز ِّمنُ ال ُمقعد ،والمري�ض الذي ال ي�ستطيع النهو�ض ،و�سبقهم مدلج ًا في ُحند ُِ�سه ُ الملة �شيخنا الجلي ُل الفقي ُه حب ُر ِ ال�شيخ مح ّمد طه نجف ،فا�ستقبل الجم َع على فرا�سخَ من منزله وتتابعت النا�س من أفج والف�ضاء ورائه على تفاوت طبقاتها وترتُّب درجاتها ،وانت�شرت في ذلك الب ّر ال ّ الهاب والفج العري�ض فمنهم ال ُمرهف في عزمته ،وال ُم�س ْرع في ِم�شيته ،ومنهم ُّ المنفرج ّ واكب بق َّوته والالحق براحلته ،ومنهم المتم ِّه ُل لفجره والمنتظ ُر ل�ضعفه. مواكب تتب ُعها َم ِ ُ وزم ٌر ت�شت ّد في �أقا�صي الب ِّر ب ْع َد زمره فخرجت في و ِرعا ٌل تجري على �أعقابها رعالَ ، المزني ال�شم�س �إلى ميلها جنحت ال�سرير فما َ �أعقاب النا�س مع جماعة تنتظر َ ُ قدوم َّ ّ ال�سود ك�أنها ِقط ُع الليل المظلم ال�سماء �إال وقد الحت لنا الراياتُ ُّ بعد �أن تغلغلت في كبد ّ الق�صب �أو غابات ال ِّرماح ،تخفقُ ال�سحاب ال ُمكفه ّر َمن�شو َرة على َع ِ وام َل ك�أنها � ُ آجام َ �أو ّ بحزن ُم ِم ٍّ�ض ونكد ُم ْج ِه�ض ،وتهفو منها ال ِعذبات ب�ش�آبيب العبرات ،وتراوحها �ألويتها ُ الرياح ال ُمرنات بحنين نوح النائحات ،ورنين ولولة الثاكالت ،وك�أنّ �أجنحتها �أجنحة ُ يقدم ال�سري َر من بينها لوا ٌء من الحرير الغربان الناعبة في فج بلقعة ،لأهلها نادبةُ ، و�سط ُه بالبيا�ض وحوا�شيه بالأحمر وحوله �أعال ٌم ملتفة من من�شو ٌر �أخ�ض ُر ،قد ط ِّرز َ 118
�����������������
الإبري�سم والحرير الأخ�ضر والأحمر والأ�صفر ،قد ُن ِ�س َج ْت بالل�ؤل�ؤ وط ِّرزت بالذهب». و ُيتابع ال�سيد في نقل ما �شاهده ،وت�صوير ذلك الجمع المهيب ،وك�أنه في يوم الح�شر، والنا�س ت�أتي جماعات ،مذهولة التعرف ماذا يجري ،فيقول« :ول َّما ْامتلأ ب�صري م ّما وال�سبيل� ،أن�ش�أتُ القيل في �صفة هذا الرحيل ،ف�أقبلوا به والنا�س مت�س ِّربة �ضاق عنه الب ُّر َّ أمواج في م�سالكها ،دائبة في مناهجها ك�أنها الجرا ُد ال ُم ِ ال�سا ِئلة وال ُ تراك ُمَ ، والجداول ّ والمائة والمائتين تترا�س ُل بال َع�ش َرة وال ِع�شرين ِ وال�سيول ال ُم َ نح ِد َرة ،وطالئعها َ ال ُمتتا ِب َعةُّ ، يلوح لنا من كبد الب ّر �إال َ أعالم المن�شورة ،وما تلك ال َّراياتُ الخافقة ،وال ُ وما فوقها وما ُ أ�شباح ُ�صو ِرها فبقيت نرى من طالئعها القا�صية والمواكب النائية �إال �سوا َد هياكلها و� َ تن�ساب في مجاريها بما يزي ُد على �ساعتين من النهار فما كان �إال و�أقبلت طالئ ُعها ُ ال�سود الع�شرة والع�شرون فما فوقها ُ كتائب تتلوها كتائب ،ك ُّل كتيبة يقد ُمها من الرايات ُّ نازعة �سرابيلها ،حا�سرة عن ر�ؤو�سها ّ تدق بكامل عزمتها �صدو َرها ب� ٍّ أكف ك�أنها خلقت �صفيح ِقطع ال ّرخام وما عالها من اللحم �صفائح ال َم ْر َمر �أو من زنودها ،وك�أنّ �صدو َرها ُ ُ ك�أنه �أكباد الإبل �أو كالكل الأباعر ،فترا�سلت جملة من الكتائب على هذه الهيئة ك ّل كتيبة �صاحب أعظم من �سابقتها فوقعنا ننتظر ،وكلما م ّر بنا ملأ �أو رعي ٌل قلنا لعظمه �إنه ِتر ُد � ُ ُ ال�سير� ،إلى �أن بقي من النهار �شطره. ال ًم ْح َمل ّ ورب َّ وبال�سماء وقد � ْأمطرت فبينما نحن كذلك و�إذ ك�أننا بالأر�ض �أنبتت رجا ًال عز ًالَّ ، حا�س َرة ،ال ُ تملك ال َب ْ�سط في خطاها ،وال القرار في م�سعاها ك�أنها مقرونة في خالئقَ ِ يموج ُ القوي منها �أن بع�ضها في بع�ض ،ويجه ُد ّ �صفد ال تكا ُد تهبط ِبر ْجل وال ترقى بيدُ ، َ تملك قدماه الأر�ض متدا ّكة حول ال�سرير تداك الهيم ،مزدحمة ازدحام القطاة متهافتة تهافت الفرا�ش رعي ًال �صموت ًا قيام ًا �صفوف ًا ،قد � ْأ�صه َرتهم الهاجرة ،وكاد �أن يلجمهم العرق ،منقو�ضة العزائم َم ْحلولة ال َع َمائم َم ْ�س ُحو َبة الأردية َمجرورة المطارف َم ْرخ ّية ال َم�آزر قد خ ّفت �أحالمها ال ُّر َّجح وطارت �ألبا ُبها ال ُّر�سخ ،وهوت منها الأفئدة وتفطرت الوجل �ألوا ُنها واغب َّرت من الرعب وجوهُ هاَ ، ؤو�سها وهتك محا�سنَ ر� ِ الأكباد وانتفعت من َ 119
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�شح ُبها ،وخ�شعت منها الأ�صواتُ فال ت�سم ُع �إال ه ْم�سا ،ال �ش َعثها ،وغ َّي َر ن�ضارة �أبدا ِنها ْ ن�شيجها ،فلم ت َر غي َر � ْأجفان دلع، رجع ال�صوت في ِ تقدر على موا�صلة بكا ِئها وال على ْ آبيب ُمندفعة كالت ّيار مع زفرات تحكي الغيث ِ الغدق ،وال َغ َم َام ال ُمن َب ِعق ،ب�ش� َ وعيون ه َّمعْ ، كالنار في اله�شيم ،وال�سرير من فوق ر�ؤو�سها قد تكلل بالهيبة ،وتجلل بالوقار وتهادى بالجاللة َّ بال�سكينة ،وقد طرحن عليه حلل الحرير المو�شاة بالل�ؤل�ؤ وحف بال َم َها َبة ود ُِ�سي َّ ال َّرطب والد ِّر والذهب منحنية �أ�صالعه على �أر�سخ ه�ضبة خفت لها �أعالم برقة ثهمد: زم� � � ُر ال��م�ل�ائ � ِ�ك ت� ْ�ح� ِ�م � ُل وك� � ��أن � ��ه ال� � �ت � ��اب � ��وتُ ف� �ي ��ه � َ��س��ك�� ْي��ن�� ٌة � ْأم� ��� �س � ْ�ت ل � � ُه َ وب � �ق � � ّي � � ٌة م � ��ن � ِآل �أح � � �م� � � َ�د خ �ل �ف��ت ف �ي �ن��ا ف � �ب� ��انَ ب �ه ��ا ال� �ط ��ري ��قُ الأم � �ث � � ُل وعوي ًال وولولة ونحيب ًا فما زالوا به وال ّن َ�ساء من ورا ِء ال ِّرجال قد ملأت البيدا َء ُ�صراخ ًا َ ال�ساعة� ،أو �أزف الن�شور �إلى �أن �أنزلوه لدى: داعيات بالويل والثبور ك�أنّ قد اقتربت ّ َم � � ْع � � ِق� � ُ�ل ال �خ ��ائ �ف �ي ��نَ م� ��ن ك� � � ّل َه � � � ْو ٍل �أوف� � � � � � ُر ال� � � � ُع� � � � ْرب ِذ َّم� � � � ��ة �أوف � ��اه � ��ا ال�ساد�سة من الليل ّثم �إ َّنهم ل َّما عز ُموا على مواراته ال�ساعة ّ فبقي في الح�ضرة �إلى ّ َ َ انخف�ض ُّ ال�ضراح الأرفع في ِ�سرداب من وجالله، �شقوا له �ضريح ًا دون غاية َم ْجده َ ال�ص ْحن ّ �شرقي ُركن الباب الذي ُي�س َّمى ال�شمالي ال�شريف المدر�سة ال ُمال�صقة بجانب َّ َ ِّ ّ الطو�س ّي قد بناها �أح ُد نواب الهند على �أح�سن هيئة ،و�آلى على ال�سيد �أنه �إذا نزل بباب ِ خا�صته بدفنه بعد �أن عزم عليهم به الق�ضا ُء �أن يكون مدفن ُه بها ،فانفر َدت طائفة من ّ ق ّيم الح�ضرة ال�شريفة ونائب الدولة العثمانية �أن يدفنوه في � ّأي جانب �أراد من ال ُّرواق الأقد�س فاعتذروا بو�صيته ّثم �أنهم: ج � � � ��ا�ؤوا ب� ��ه َ �ام ال ��� ُ�س �ه��ى وال��ف ��رق � ِ�د وط � � � ��ووه ف� ��ي َم � �ل � �ح� ��و َد ٍة دان � ��ت ل �ه��ا ه � � ُ �اب ذاك ال �م��رق� ِ�د ف � ��ي َم � �ع � �ه� � ٍ�د و ّد الأث � � �ي � � � ُر ل � ��و �أ ّن� � ��ه �أم �� �س��ى ث � � ًرى ل �ج �ن� ِ ك � ��م ق� �ي ��ل ال ت� �ب� �ع ��د ول� �ي� �� ��س ب �ن��اف��ع ف � �ي� ��ه م� � �ق � ��ال� � � ُة واج � � � � � ٍ�د ال ت � � ْب � � ُع� � ِ�د ثم ي�صف { حال العلماء الزهاد ،كيف كان حالهم بعد دفن ال�سيد ال�شيرازي، وك�أنه بالن�سبة �إليهم اليوم الذي مات فيه ر�سول اهلل ،Pوعبروا عن حزنهم العميق 120
�����������������
لهذه الخ�سارة التي ال يعو�ضها �شيءّ � ،إل ال�صبر والم�ضي في هذا الطريق ،ونرى هنا كيف يقدم ال�سيد ف�ضل اهلل و�صف حالهم بعد دفنهم لأ�ستاذهم ،وكبيرهم، َ منازل الكرامة ،و�أخذوا بمجامع ال ّن�سك ومرجعهم ،فقال�« :أ ّما العلما ُء الذين ارتقوا الم َجنّ و�ألقوا َح ْبلها على غاربها فتراها مطرقة وك�أنّ وال ّزهادة ،وقلبوا للدنيا ظه َر ِ وتق�سمت خواط ُرها وغدت ُ تفي�ض �ألوانها بالزعفران ُم َع ْ�صف َرة قد حنت �ضمائ ُرهاّ ، أ�صبح ناطق ًا تب ًا لك �أ َّيتها ال ّدنيا وترح ًا بالحكمة جوا ُنبها ،وفي ِّ ذم ال ُّدنيا ل�سانُ حالها � َ من غ ّوالة �أكالة ،غ ّرارة خ ّداعة�ِ ،ص َّحتُك �إلى َ�سقم و�ش َبا ُبك �إلى ه َرم ،غاية الال ِبث والهموم� ،أجلك الموتُ ،و� ُ إدراك الآمال فيك الكد ُر االنحنا ُء وال َع ْجز ،وقرينه َ فيك ِ ُ و�شم عنها تخ َر ُم الآجال ،هل كم قوم �أ ْرهقت ُه ُم المنايا فيك دون الآمالِّ ، الفوتُ ْ ، ينتظر � ُ ال�ص ّحة �إال ُ أهل ب�ضا�ضة ّ نوازل ال�شباب فيك �إال حواني ال َه َرم ،و�أه ُل غ�ضارة ِ ال�سقم ،و�أه ُل م ّدة البقاء �إال �آونة الفناء». َّ ويتابع �أي�ض ًا: رج َع ْت �إلى النا�س � ِ و�س ِقط ما في �أيديهم من فقدهَ ، أناملها ي�أ�س ًا من ت ْربه ُ «ولما نف�ضت ُ �إقامة العزاء في مجال�سها المع ّدة ومحا ِف ِلها الحا�شد ِة و�أنديتها العامرة بتالوة القر�آن وترتيله ،والإبتهال �إلى اهلل ج ّل جالله ودعائه ،وتذ ّكر ُم�صاب �س ّيد ال�شهداء و�أبي الآئمة الأ ُمناء �إذ ل ُم َ�صا ِبه َي ْ�ض َم ِح ّل ك ّل ُم َ�صاب جليل ،ويهون ك ُّل خطب فادح فابتد�أ ال�شيخان الجليالن والفقيهان الأعظمان �إماما الملة وعمادا الأمة �شيخنا المولى الأعظم ال�شيخ محمد طه نجف و�شيخنا المولى الجليل ال�شيخ ميرزا ح�سين خليل� ،ش ّيد اهلل بهما �أركان ال�شريعة ،و�ش ّد حماية حوزتها المنيعةّ ،ثم تتابعت النا�س من ورائهما �إلى �أن كاد �أن ينق�ضي ِمن رم�ضان عا َّمته� ،إذ كان ورودُه النجف الأ�شرف في �أول يوم منه في ال�سنة َ الثانية ع�شرة بعد الثالثماية والألف هذا ما كان في النجف الأ�شرف على �إيجاز من حاله والحلة فكثرت مجال�س واخت�صار من �أمره و�أ ّما كربال ُء وبلد الكاظم �سا ُّمرا ُء وبغداد ِ وا�س ِت ْعظام الفواتح فيها والتراحيم وما جرى بهنَّ من ل ْب�س َّ ال�سواد وتجلبب الأحزانْ ، 121
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ال ُم�صاب وما ُرئي به من ج ّيد ال�شعر ورائقه مما ي�ضيق المقام عن بيانه ويقف جوا ُد حومة ميدانه.». القلم عن الجوالن في َ ويتابع �أي�ض ًا« :على �أنَّ في تعطيلها الخ�سران العظيم ،وتفويت الأرباح الجليلة، أعالم ُم�صا ِبهم ،وهذا ما تقدمه أيام ُحزْ ِن ِهم ،والتفت � ُ والمنافع الكثيرة �إلى �أن انق�ضت � ُ ال�س ِّيد المق ّد�س طاب ثراه ،هذا لم ُي ْع َه ْد جرى ل ِ أحد من �سادات النا�س و�أ�شرافها غير َّ على �إيجاز من الأمر وبيان الحال ،وهذه ر�سالة اعتمدت فيها على االخت�صار لأنني بع�ض الأرحام في لم �أكنْ ب�صدد �ش ْرح الأحوال وتفا�صيل جملها ،بل �أردت بها �إخبار ِ جبل عامل ،فكانت على نظم الكتب التي تنقلها البردة ،والر�سائل التي تنقل �إلى البالد النائيةّ ،ثم انتدبت �إلى رثائه ال�شعراء ،وثنت �أعنته �إلى نعيه وندبته و�أن�ش�أت ،ف�أكثرت علي ب�أن �أجري في ونظمت ،وكنت قد عزمت على ترك ال�شعر غير �أن بع�ض الإخوان � َّألح َ هذا الم�ضمار ،ول�سان حاله يقول: �ون ل ��م ي � ِف ��� ْ�ض م ��ا�ؤه ��ا ُع ��ذ ُر ال�شع ُر وه ��ل ل �ع �ي� ٍ ل�م��ن ب�ع��د ه ��ذا ال �ط��و ِد ُي�� ّدخ�� ُر ِ �إذ ًا ،في هذه الر�سالة التي ي�صف بها ال�سيد ف�ضل اهلل ،رحيل ذلك المرجع الكبير ال�سيد ال�شيرازي� ،إنما ُيع ّبر عن دقة مالحظاته ،وقدرته على الت�شبيه بين الأحداث، والو�صف الدقيق ،وعن العالقة الحقيقية بين النا�س ،وبين علمائهم الأعالم ،وعن المكانة التي كان يختزنها المرجع ال�شيرازي عند العامة والخا�صة ،و�أنهم هم �صلة الو�صل ما بين النا�س و�أمامهم الغائب |. وفي ر�سالة �أخرى ،يب ّين ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،موقع المجتهد وارتباطه بالإمام | في زمن الغيبةّ ،ثم يتحدث عن �أنّ هذه الأو�صاف تنطبق على ابن عمه ال�سيد نجيب ابن ال�سيد محيي الدين ف�ضل اهلل ،بح�سب ما ر�آه وما خبره منه ،وهي لي�ست �إجازة بالإجتهاد ،ف�إما �أن تكون جواب ًا على �س�ؤال وجه �إليه� ،أو كان يقدمه كنموذج ُيحتذى به من بين ه�ؤالء الأعالم ،وهو ي�شهد له بهذه الموا�صفات التي حاز عليها ال�سيد نجيب ،من العلم والمالكات التي جعله العالم الكامل ،والقدوة والمعتمد ،و�أحد 122
�����������������
المراجع للنا�س في جبل عامل ،الذي ُيرجع �إليه في الأحكام وفي ح ّل الخ�صومات ،وم ّما جاء فيها ... « :ولي�س مج ّرد ال ِعلم بالأحكام ّ رع ّية والوقوف� ،إليها على القواعد ال�ش ِ الأ�صول ّية �سب ّب ًا موجب ًا للفيو�ضات الإله ّية ،والنفحات القد�س ّية التي �أقرحت الأجفان في البكاء عليها العلما ُء الر ّبان ّيون ،و�أظم�أت هواجرها في ابتغاء نيلها العارفون ،وتقطعت الحب لها وتقطعت �أنف�سهم �أنف�سهم ح�سرة عليها المريدون ،وا�ستعجلت مناياها من ّ الحب لها الم�شتاقون ،وا�ضطربت ح�سرة عليها المريدون ،وا�ستعجلت مناياها من ّ �أفئد ُتها ا�ضطراب الأر�شية من الخوف الوجلون ،و�أدميت �أقدامها في مذاهب الطلب لها القا�صدون ،وتنعمت �أرواحهم في حدائق المكا�شفة وريا�ض القرب منها الوا�صلون، أثواب الفناء لها الفائزون. أنف�س ُهم من مالب�سها الطبيع ّية ولب�ست � َ وتج ّردت � ُ ُ والعمل و�سيلة لبلوغ تلك الدرجة العالية والذروة العلم �إال طري ٌق ُن ِ�ص َب للعمل. ما ُ العالم الذي ُ أحكم الفروع ال�سامية .ولي�س ُ ت�سلك جا ّدته من م ّهد القواعد و� ّأ�س�سها و� َ و�أتقنها ،وهو يهوي ب�أودية ّ ال�شهوات �أو يرتع في مراب�ض ال�شبهات؛ ال يعرف باب الهدى فيتب َعهُ ،وال باب العمى في�ص َّد عنه ،فال�سيد في هذه الر�سالة يتح ّدث عن العالم الذي �أ�صبح هو �صلة الو�صل بين النا�س والإمام | ،فال يكفي �أن يحوز على مكامن العلم والمعرفة بالقواعد والأ�صول ،ويخو�ض في لججه ،فهذا ال قيمة له ،من دون �أن يتما�شى ذلك مع تربية النف�س وتهذيبها ،فكلما ارتقى في العلم درجة ،يجب �أن يرتفع في مالكات الكمال �ضعفها ،حتى يحوز على مكانة العالم العامل القدوة ،و�أ�ضاف« :بل الذي �أح ُّق بالإقتداء و�أجد ُر باالهتداء من كان من ع َّم َر الليل في تهجدا ِت ِه ،وكالحنايا للبرية في خلواته ،لم تفتله فاتالت الغرور ،ولم تقم عليه م�شتبهات الأمور .قد تن َّك َب المخالج عن و�ضح ال�سبيل ،و�سلك �أق�صر الم�سالك �إلى النهج المطلوب ،فراح على ما و�صفه ال�صديق َ �سرابيل م�صباح الهدى في قلبه و�أع ّد ِقراه ليومه النازل به قد ظل َع زه َر الأكبر ،وقد َّ ُ ال�شهوات ،وتخلى عن الهموم �إال ه ّما واحد ًا انفرد به ،و�صار من مفاتيح �أبواب الهدى ومغاليق �أبواب الردى فهو من اليقين على مثل �ضوء ال�شم�س. 123
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ن�صب نف�سه هلل في �أرفع الأمور من �إ�صدار ك ّل وارد عليه وت�صيير ك ّل فرع �إلى �أ�صله. قد ّ م�صباح ظلماتُ ، مفتاح ُمبهمات دفاع مع�ضالت دلي ُل فلوات .فهو من �أركان ك�شاف َع�شواتُ . ُ دين اهلل و�أوتاد �أر�ضه ُ ي�صف الحقَّ ويعم ُل به .قد �أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده و�إمامه يح ّل حيث ح ّل ثقله وينزل حيث كان منزله .وم ّمن جرى في �سنن هذه الحلبات ال�شريفة جواد ًا �سابق ًا وجمع بين ورع واجتهاد وفقه و�سداد ،وبذل نف�سه في ا�ستئ�صال �ش�أفة الجهل، ال�س َّنة ،وريا�ض محكم كتابه ،ال َب ُّر حتى وقف على حقائق �أحكامه، َ وا�ستخرجها من �أكمام ُّ الثقة المعت َم ُد ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل الح�سني العاملي((( �ش ّد اهلل به �أ ْز َر الدّين و�أعلى أ�صلح ذاتَ ب ْين الأ ّمة؛ ف�إنا طالما بوجوده منار كلمة التوحيد وج َم َع به على الحقّ الكلمة و� َ وع َج ْمناه و�ساجلناه ْ و�س ُحور ُه من بكوره. غمزناه َ وخ�ض َخ ْ�ضنا ُه وتع َّرفنا خمي َره من فطيرهَ ، اقتن�ص ُه من فرائد العلوم ،وحازه من جواهر المعارف ،وما تل ّب َ�س به من الورع فما َ يعب ماث ُره ،وغمام ًا والزهادة والع ّفة والنزاهة؛ فوجدناه ِخ َ�ض ّم ًا ُ يطفح ت ّياره ،وبحر ًا ُّ يرع ُد زاخ ُره ،وعار�ض ًا يلم ُع بارقهُ .فهو حديقة علوم تفتّحت �س ّد الأفق ماط ُر ُه ،ودالح ًا َ �أزها ُرها ،و�أينعت ثما ُرها. لم يدع لها غاية �إال �أ َّمها ،وال ذروة �إال ت�س َّن ِمها ،وال جا ّدة �إال َر ِك َبها ،حتّى َ وقف على حقائقها ،ونظر في خفايا دقائقها ،وخا�ض ما طغى من لججها ،وركب ما عظم من ونح َر َث َب ِجها ،وعطف واردها على �صادرها ،و�أ ّولها على �آخرها .قد قتل �أر�ضها خ ْبر ًاَ ، ُ المالك لأزمتها، وراح وهو ديمومة مقفراتها معرفة؛ فنظم �شتاتها ،وع ّدل جها ِتهاَ ، والم�ص ّرف لأع َّنتها ،والمرفرفة على ر�أ�سه خافقات �ألويتها ،بعد �أن ورد من ينابيع يت الماه َر، الخ ِّر َ �أ�صولها ،وكرع من �سل�سبيل حيا�ض فروعها �إلى �أن �صار يدعى بها ِ والجد ْي َل ال ُم َحكك.». َ (( ( ال�سيد نجيب الدين ف�ضل اهلل :من �أعالم القرن الرابع ع�شر هجري ،ولد �سنة 1280هـ ،ذهب �إلى النجف الأ�شرف بعد رحيل ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ب�سنتين �أي �سنة 1306هـ ،فدر�س فيها على الأ�ساطين ،وحاز ق�صب ال�سبق في العلم والزهد والمعرفة ،ثم عاد �إلى بالده في جبل عامل ،وهو من الأعالم الكبار ،توفي �سنة 1336هـ.
124
�����������������
مجده ــ ال�سيد نجيب ــ وثم يختم الر�سالة ،بقوله « :وحيث �إنّ ال�سيد الم�ؤ ّيد �أدام اهلل َ ّ حجة من حجج ال�سفا َرة والوالية ،وعا َد َّ م َّمن ث َب َت ل ُه ب�صريح ما ذكرنا ُه النيا َبة ،وت ّمت له ّ �أجداده الطاهرين على �سائر الخلق من العا ّمة �أجمعين ،والر ّد عليه في ما يق�ضيه بين النا�س في اختالفاتهم ومنازعاتهم على ح ّد ال�شرك باهلل واال�ستخفاف ب�أوامره جلت عظمته ،وجب على العا ّمة ثني �أعناقها �إليه ،والعكوف بقلوبها و�أفئدتها عليه ،و�أن تكون م�ؤتمرة لأمره منتهية لنهيه مط ّوقة �أجيادها خا�ضعة لإم�ضاء حكومته �أعناقها ،ملقية وحرامها ،واقفة عند بيانه ،م�ست�ضيئة بن ّير برهانه، �إليه مقاليد �أحكامها ،و�أز ّمة حاللها ِ َ َ َ َ ّ َ َ ُ ۡ ُ َ َ َّ ُ َ ّ ك ُِم َ وك ف َ قال ج ّل جالله مخاطب َا لنب ّيه ﴿ :Pفل وربِك ل يؤمِنون ح ٰ ولقد َ ِيما تي َ َ ْ ّ ْ َ َش َج َر بَ ۡي َن ُه ۡم ُث َّم ل َ ِي ُدوا ِ ٓف أ ُنف ِس ِه ۡم َح َر ٗجا ّم َِّما قَ َض ۡي َت َوي ُ َسل ُِموا ت ۡسل ِٗيما ﴾ ونلتم�س منه �أن َي ْ�س َ لك في ق�ضائه وفتواه جا ّدة الإحتياط؛ �إذ لي�س بناكب عن ال�صراط من �سلك طريق الإحتياط كما نلتم�س الخال�ص الأب ّر من الدعوات ال �سيما في رم�ضان الإجابات واهلل ولي التوفيق». وراء ذلك ّ وم ّما ُيدلل على مكانة ال�سيد محمد ر�ضا ،و�أنه و�صل �إلى مكانة� ،صار معها قادر ًا على �أن يقدم ال�شهادات العلمية ،ويوجه �أهل العلم �إلى �ضرورة الإلتفات �إلى المهام التي تنتظرهم ،و�أنهم حجة اهلل على النا�س ،وهذه المكانة ال ت�أتي بالح�صول على العلم فقط ،و�أن الوظائف الدينية الملقاة على عاتقهم ت�ستلزم اليقظة دائم ًا ،وعدم الغفلة عن النف�س الأمارة بال�سوء ،و�أن النقاء وال�صفاء ،هو الأ�سا�س في رقي الإن�سان ،ولهذا نراه ُيحذر من تلك المخاطر التي قد ُت�صيب علماء الدين ،ما لم ينتبهوا �إلى �أنف�سهم، ويبتعدوا عما تجمع �إليه نفو�سهم ،من هنا نراه يوجه ر�سالة �إلى �أحد العلماء ،الذين مكنهم اهلل تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ولربما وجد ال�سيد منه بع�ض التق�صير في هذه الوظائف الإلهية ،ف�أراد تذكيره من خالل تبيين دور وظائف علماء الدين ،وموقعهم المتقدم ،في حفظ الر�سالة ،وكيف �صاروا نواب ًا للإمام | في زمن غيبته. 125
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
و�أي�ض ًا ،يتناول ال�سيد محمد ر�ضا ،في ر�سالة ،دور عالم الدين ويب ّين الوظائف الملقاة على عاتقه ،ومما جاء فيها�« :أ ّما بعدُ ،ف�إني �أح َمد �إليك اهلل العظيم ،الذي جلت �آال�ؤه، وتواترت نعما�ؤه ،على ما �أوالك من جميل نعمه ،وجزيل ق�سمه ،ب�أن اختارك من بيت �أحكم العلم والتقى � َّأ�س بنيانه ،و�ش َّيد المجد والنهى �شامخ �أركانه ،عل ًما لدينه ،ومنار ًا ل�شريعته ،يهتدي بك التائهون في �أودية الغفالت ،و ُي َ ر�شد بك ال�ضالون عن �سلوك �سبل النجاة ،فنه�ضت غير متلكئ ،وال متلعثم ،دارج ًا في �سنن من م�ضى من قبلك من العلماء الأعالم ،وراكب ًا جا ّدة من تق ّدمك من فقهاء الملة ،و�سادات الأنام ،لم تفتلك عن �سلوك مناهجهم فاتالت الغرور ،ولم تلتب�س عليك في وطء جوادِّهم((( م�شتبهات الأمور ،بل نه�ضت بعبء ما في �أعبائه نه�ضوا ،وحلقت �إلى ما في �أفق �سمائه حلقوا ،وجاريت منهم ال�سبق �إلى غاياتها ،ف�صابرت البزل القناعي�س((( في حلباتها ،و�أطلقت الأع ّنة معهم في ّ علمهم درا�سة حتى نفيت ق�شره عن لبابه ،ورابطت الجد فيه ا�ستدامة ،حتى �أبنت خط�أه من �صوابه ،وا�ستفرغت الو�سع فيه اجتهاد ًا حتى تع َّرى الليل عن �صبحه ،و�ص َّرح المخ�ض عن زبده ،واختمر فطيره ،وراق نميره ،فر ّفت عليك من رايات �أ�صوله عذباتها وخفقت عليك من �أعالم فروعه �ألويتها .لم تخلط رائبه بخائره ،وال جديده بدائره غير مت�سكع في وهدة الحيرة بطرقه ،وال مرتطم في ح ّل �شكوكه ،ورفع غياهب �شبهه ،وال متلكئ فيه تلك�ؤ م�ضطرب الرو َّية ،وال مت�سرع فيه ت�س ّرع من �أغفل في �سنن اليقين ،واقتطعت �أزاهير �أحكامه من ريا�ض �سنة �أو محكم كتاب مبين. وما زلت ت�ش ّكل �أر�ضه الغر�س بعد الغر�س ،وت�ضرب لأ�سدا�سه الخم�س بعد الخم�س ،حتى َّ التف �شجر حدائقه ،و�أينع ثمر رائقه فت�ألقت للمجتدين بارق ًا لماح ًا ي�ستتبه عار�ض ًا دالح ًا، وتجليت فيه للم�ستر�شدين به منار اهتداء ،ولأالء �سناء ،وقمر دجنة� ،إلى �أن ات�ضح المنهج لراكبه ،وال�سبيل ل�سالكه ،فال�ضالل � َّإما عن عمى طرف ال�سالك� ،أو من عمه ب�صيرته: ((( جوادّ :جمع (جادَّة) :الطريق الوا�سع. ((( البزل القناعي�س :البزل هو البعير الذي بلغ التا�سعة من عمره ،والقناعي�س هو الجمل ال�ضخم القوي.
126
�����������������
م ��ا وا�� �ض � ُ�ح ال �ن �ه� ِ�ج ف �ي��ه � �ض � َّل ��س��ال� ُك� ُه �إنّ ال�م���ض�ل�ي��ن �� �س ��اروا ف �ي��ه ع�م�ي��ان��ا وليعلم الأخ �أ ّيده اهلل برعايته ،و�س ّدده بعنايته �أنّ من حباه اهلل هذه المنزلة ال�شريفة و�أحله في هذه الذروة المنيفة ،كان بالجدير �أن يحدث هلل في �أقواله و�أفعاله له حمد ًا و�شكر ًا ،و�أن يوا�صل الحمد وال�شكر �س ّر ًا وجهر ًا ،مع الإ�سراع لإنقاذ �أوامره المفتر�ضة، والمبادرة �إلى �إحياء �سننه المندوبة ،و�إن �أج َّل ما افتر�ضه اهلل تعالى �ش�أنه على العلماء الربانيين الوارثين لر�سله المنتجبين والمخ�صو�صين بال�سفارة والنيابة عن الأئمة الأطيبين الأنجبين بذل الو�سع والطاقة وا�ستفراغ الجد واالجتهاد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من �إحياء �سنة دائرة و�إماتة بدعة قائمة ،وتعديل الأود ،ونفي الزيغ، ولم ال�ش َعث ،ور�أب ال�صدع ،وقمع الف�ساد ،والمنع و�إ�صالح ذات البين ،و�إطفاء النائرةِّ ، عن الفح�شاء والمنكر والبغي ما ظهر منها وما بطن ،ون�صرة المظلوم و�إعزازه ،و�إهانة الظالم و�إذالله ،ولقد قلدت �أجياد العلماء ربقة هذا الغر�ض براهينُ جلت عن الإح�صاء، وكبرت عن اال�ستق�صاء ،وليكفهم �إلزام ًا في ذلك ما �أعلن به �سيد الأو�صياء عليه �أف�ضل الحجة بوجود النا�صر وما ال�سالم و� ّأتم الثناء حيث قال« :ولوال ح�ضور الحا�ضر وقيام ّ �أخذ اهلل على العلماء �أن ال يقا ّروا على كظة ظالم و�سغب مظلوم لألقيت حبل هذه الدنيا على غاربها ،ول�سقيت �آخرها بك�أ�س �أ ّولها ولألفيتم دنياكم عندي �أزهد من عفطة عنز». بعد هذا الموجز يمكن �أن نتبين من خالله موقع ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،و�أن هد مرير. هذه المكانة لم ت� ِأت من فراغ ،و�إنما هي نتاج ُج ٍ في النجف الأ�شرف ،عمل ال�سيد محمد ر�ضا �ضمن محاور ثالث: الأول :التح�صيل العلمي؛ من الفقه والأ�صول ،والفل�سفة وعلم الكالم ،وغيرها... و�إن كان علمي الفقه والأ�صول ،هما الأ�سا�س في طلب العلم ،والباعث نحو طلب العلم والذهاب �إلى المراكز العلمية ،وتح ّمل كل الم�شاق. الثاني :ال�شعر والأدب ،وكانت النجف تعج بمجال�س الأدب ،م�ضاف ًا لكونها حا�ضرة علمية ،فهي �أي�ض ًا حا�ضرة �أدبية ،وتعقد فيها مجال�س الأدب ،وينبري ال�شعراء في �إطالق 127
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
العنان لق�صائدهم ،وفي �إحياء المنا�سبات الدينية والإجتماعية ،وحتى �أنّ كبار العلماء كانوا ينظمون �شعر ًا �أبحاثهم الفقهية والأ�صولية ،وهو ما ُيعبر عنه (بالمنظومة) ،كما عمل العديد من ال�شعراء والأدباء على جمع تلك الق�صائد ،وتلك المحافل بكتب ومجالت ودوريات ،وكان ال�سيد محمد ر�ضا من �أولئك ال�شعراء والأدباء الكبار الذين �أغنوا تلك المجال�س الأدبية ،وله م�شاركات في �أكثر من منا�سبة .وذات يوم توفي نجل �أ�ستاذه كبير فقهاء العرب ال�شيخ محمد طه نجف الذي افتقد ولده الوحيد العالم الجليل ،فقال فيه: ((( وع � � � َّل غ� �ي� � َر ُم���َ��ص�� َّرد � �ص �ف � ًوا ت �� �ص � َّف��قَ ب� ��ال � �زُّالل الأب � � ��ر ِد ن� �ه � َ�ل ال � � َّزم� ��ان َ ((( �ارم ُم ��زب � ِ�د م� ��ن ك � � ِّ�ل ف� � َّي ��ا� ِ��ض ال� �ي ��دي � ِ�ن ب �� �ش �ت��و ٍة غ � �ب� ��را وب� �ح � ٍ�ر ب ��ال� �م� �ك � ِ ((( رح � � ُ�ب ال��م��ق ��اري ل��ل ��وف ��و ِد �إذا غ��دت ن �ك �ب��ا َء ت �ل��وى ب��ال�ن���ض�ي��ر وب ��ال��ن ��دي ْ ((( م � ��ا زال غ� ��رث� ��ان � � ًا ي � �� � �ص � � ّرف ن ��اب ��ه ب � � ُم � �ق� ��ذف ق � � � � ْرم ول � �ي� ��ث ُم � �ل � �ب� ��د وي � �� � �ص� ��ول والآج � � � � � � � ُ �ان وال ال �ي� ِ�د �ال رائ� � � � � ��د ٌة ل��ه ال ط��ائ �� �ش � ًا رع��� � َ�ش ال � َ�ج��ن � ِ ن� �� َ��ص � َ�ب ال��م��ن ��اي ��ا ل �ل��أن� ��ام ح �ب��ائ� ً لا ف ��ال��م��ه��ت ��دي ف� �ي ��ه ك �غ �ي ��ر ال �م �ه �ت��دي ��س��اف��ر ب �ط��ر ِف� َ�ك ه � ْ�ل ت ��رى م��ن �سالم �إنَّ ال �م �ن��ون ع �ل��ى ال � َّن �ف��و���س ب�م��ر�َ��ص� ِ�د �ارب ف � � َ �وق ال��� �َّ�س��م ��اء ق �ب��ا َب��ه � �ش � َرف � ًا و�آخ � ��ر ب��ال�ح���ض�ي�� ِ��ض الأوه � � ِ�د ك� � ْ�م � � �ض� � ٍ ج �ع �ل �ت �ه �م��ا ل �ل �ح �� �ش� ِ�ر ره � � ��نَ ق � � ��رار ٍة � � �س� ��اوت ب� � � ِّ �ذل ال� �ع� �ب � ِ�د ع� � � ََّ�ز ال��� �َّ�س�� ِّي � ِ�د �ام �أج � � ��ر ِد وت �ه��اف �ت��وا ع ��ن ك� � ِّ�ل � �ش��ام �خ��ة ال � � ُّ�ذرى وت� � َّ �رج � �ل� ��وا ع� ��ن ك� � � ِّ�ل � � �س� � ٍ ���س ��اروا ع�ل��ى َع� َ�ج��ل وم ��ا ك ��ان ال��� ُّ�س��رى م �ن �ه��م ب �ل�اح� � ِ�ب((( ن �ف �ن� ٍ�ف �أو َف ��دف � ِ�د �زل م��ت�����ش ��اب�� ِه الأرج � � � � ��ا ِء غ��ي ��ر ُم� � � َو َّط � � ِ�د ن� ��زل� ��وا ب � �م� � َ�درج � � ِة ال� �ف�ل�ا ف� ��ي م �ن � ٍ (( ( غير م�صرد� :شربه غير قليل ،وقد ا�ستعار للزمن ال�شراب بكثرة من ال�صفر للداللة على �أن يده تطال �صفوة النا�س ،وتودي بهم /.ت�صفق :امتلأ. (( ( غبرا :مجدبة وهي غبراء ق�صرها ال�شاعر لل�ضرورة. المرثي كان كريم ًا يطعم المحتاجين في �أيام القحط والجدب التي ينكب فيها النا�س ويفتقرون. ((( المعنى �أن ّ (( ( ي�صرف نابه� :صريف الناب ال�صوت الذي تحدثه الأنياب عند احتكاكها لغ�ضب ونحوه /.المقذف :كثير اللحم /.القرم: �صاحب ال�شهوة �إلى اللحم ،والمعنى �أن الدهر ال ي�شبع من اختطاف النا�س فهو ين�شب �أظفاره فيهم ،وي�صرف �أنيابه عليهم. (( ( اللحب :الطريق الوا�سع.
128
�����������������
� �س �ف��ر �أن� ��اخ� ��وا ل �ي ����س ُي ��رج ��ى م�ن�ه� ُ�م رك� ��� �س ��وا((( ب �ط��ارق � ِة ال �ب �ل��ى ف ��ي هُ ��و ٍة � ُ��ش�� ِغ��ل ��وا ِب� �م ��ا ك �� �س �ب��ت ب �ه��ا �أي ��دي� � ُه � ُ�م ي ��ا خ ��اب � َ�ط ال� �ع� ��� �ش ��وا ِء َي� � َّت� �ب� � ُع ال �ه��وى فالق�ص ُد �أم�سى م��ن ورا ِئ ��ك فالتم�س ْ ال ت� ��رك � �ب� ��نَّ م � ��ن ال� �ل� �ي ��ال ��ي � �ص �ع �ب � ًة ف�خ��ذ ال� ّ�ط��ري��ق ال � َّن �ه� َ�ج واح ��ذره ��ا فقد م � ��ن ك� � ��ان م� �ع� �ت� �ب ��ر ًا ب� �ه ��ا ف �ل �ي �ع �ت �ب��ر � �س �ل �ب �ت��ه ع �� �ض � ًب��ا �أره � �ف� ��ت � �ش �ف��را ِت��ه �وب َي��خ��ت ��ر((( �إنْ رغ��ا وم �ث �ق� ُ�ف الأن � �ب� � ِ ن� ��ادت� ��ه داع� � �ي� � � ُة ال �ق �� �ض ��ا ف���أج ��ا َب��ه ��ا وم���ض��ى ح�م�ي� َ�د ال��ذك��ر ُي �� �ش� ُ �رق وج� ُه��ه ف� � ��ر ٌع ن �م �ت��ه �إل� � ��ى ال� �م� �ك ��ارم ع���ص�ب� ٌة ك � ْ�م را�� َ��ض ِم ��نْ ق � ِّ�ب الف�صائل �صعب ًة و�إذا ال �م �� �س��ائ��ل �أظ �ل �م ��ت ��ش�ب�ه��ات�ه��ا ت � �ج � � َّل� ��ى ب � �ث� ��اق� � ِ�ب ف� � �ك � ��ره ف� �ك� ��أن� �ه ��ا ب �ك ��ر ال� �ن� � ِع � ُّ�ي ب� ��ه ف� � ��أرج � � َ�ف �إذ ن�ع��ى و�أث� � ��اره� � ��ا ده � �ي� ��اء ت��ل��ع ��ب ب��ال � ُّن �ه��ى
ف��ي ال � َّده��ر �أوب � � ُة ُم � ُت� ِ�ه� ٍ�م �أو ُم � ْن� ِ�ج� ِ�د ل �ي �� �س��ت ب� � ��ذات ق� � � ��رار ٍة �أو م �ق � َ���ص� ٍ�د ال م �ن �� �ش � ٌد ُي �� �ص �غ��ي لآخ� � � � َر ُم �ن ���ِ�ش� ِ�د �إث� � � ِ�ن ال � � َّزم� ��ام ف �م��ا ال� � ّدل� �ي ��ل بمهتد ق� ْ���ص��د ًا فما ت �ن� ُ�ح��وه((( غ�ي� ُر المق�صد �وم ت �ع �ث � ُر ف ��ي غ� ِ�د �إن ت �ن � ُ�ج ف �ي��ك ال� �ي � َ �أب� � ��ت ال� �ل� �ي ��ال ��ي �أن ت� �ق ��اد ِب � �م � � َق � � َو ِد ب� ��الأم � ��� ��س ط � ��ارق� � � ٌة ب � ��ر َب� � � ِع م��ح�� َّم � ِ�د �وارب ك� ��ان� ��ت ط� �ل� �ي� �ع� � َة م �ن �ج��د ب� � � �غ � � � ٍ خ� �ط � ٌ�ب ت� �ن� � َّم� � َر ف ��ي ث� �ي ��اب ال �م �ع �ت��دي وال� � �م � ��ر ُء ف� ��ي الأ َّي � � � ��ام غ� �ي� � ُر م �خ � ّل� ِ�د ّلل ف � ��ي ِج� � �ن � � ِ�ح ال� � �ظ �ل��ام الأ�� � �س � ��ود �أخ � � ��ذت ب � ��آف� ��اق ال� � ُع� �ل ��ى وال � �� � �س � ��ؤد ِد ((( غ�ل�ب��ا َء ت ��أن� ُ�ف م��ن خ�شا�ش ال �م �ق��ود ((( وغ� � ��دا الأل � � � � ُّد ب � َ�ح� �ي ��ر ٍة ال� �م� �ت� �ل ��د ِد ُك� �� ِ��س� � َي � ْ�ت ب� ��� �ض ��و ِء ج �ب �ي �ن��ه ال �م �ت��وق��د ورم� � ��ى ال� �ب ��راي ��ا ب��ال � ُم �ق �ي��م ال�م�ق�ع��د ل � ِع� َ�ب ال � َّن �ع��ام��ى((( ف��ي ه�شيم الفدفد (((
(( ( �سفر :م�سافرون� /.أناخوا� :أقاموا. (( ( رك�سوا :رجعوا وارتدوا. ((( تنحوه :تنهجه .والبيت فيه دعوة �إلى �سلوك الطريق الم�ستقيم والبعد عن ال�ضالل. (( ( يختر :الختر الفتور اال�سترخاء والمعنى �أن الخطوب المتواترة التي تفتر�س النا�س تجعل القوي �ضعيف ًا ،فهي توهي جلده ،وتثلم حدّه. قب الف�صائل� :أقواها و�أ�شدها بين الف�صائل /.غلباء :قوية تغلب غيرها في ال�سير. ((( ّ ً (( ( الألدّ :الأ�ش ّد خ�صومة في الجدال /.المتلدد :المتل ِّفت يمينا و�شماال المتحير. (( ( النعامى :رياح الجنوب.
129
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�� �س ��اوا م ��ن الأب � � ��راد ج �� �س �م � ًا ق ��د غ��دا وب �ط �ي��ب ع��اب �ق � ِة ال �� �ش��ذا ق ��د �َ��ض� َّم�خ��وا ق ��د �أدرج � � ��وا م ��ا ب �ي��ن ب ��ردي ��ه ال �ه��دى ح �م �ل��وا � �س��ري��ر ًا � �ض� َّ�م �أر�� �س ��خَ َه�ضبة رع� �� � َ�ش الأك� � ��ف ط ��وائ �� �ش � ًا �أح�لام �ه��م ف��ال �م �� �ش� ُ�ي ه �م ��� ٌ�س وال� � �ن � ��دا ُء �إ� � �ش� ��ا َرة ج� � � � ��ا�ؤوا ب� ��ه وط � � � � � َووه ف� ��ي م��ل��ح ��ودة ف � ��ي م� �ع� �ه � ٍ�د و َّد الأث� � �ي � ��ر ل � ��و �أ َّن� � � ��ه ك� ��م ق� �ي ��ل ال ت� �ب� � ُع � ْ�د ول� �ي� �� � َ�س ب �ن��اف��ع �اك ال � �ط� ��ري� � ِ�ق ل��غ ��اي�� ٍة �أم � � �ن� � ��ا َر هُ � �ل � ِ م � ��اذا �أق� � � ُ �ول و�أن � ��ت وا���س��ط�� ُة ال � ُّن � َه��ى وال � �ط� ��رف م� �ع� �ق ��و ٌد ع �ل �ي��ك ط �م��اح � ُه و�إذا ت �� �ش��اب �ه��ت ال��م��ن ��اه ��ج ل �ل �ه��دى ولأن � � � � ��ت ن� � �ه � � ُ�ج اهلل ب � �ي� ��ن ع � �ب� ��اده ق��ام��ت ب��ك ال ��� ُّ�س �ن��نُ ال�ق��وي�م��ة وارت �ق��ت وب� ��ك ال �� �ش��ري �ع��ة ق ��د ر���س ��ت �أرك ��ان �ه ��ا ن� �ظ ��ر الإل � � � ��ه ل��خ��ل��ق ��ه ف � � � ��ر�آك م ��نْ ف �ح �ب ��اك ف� ��ي م� ��ا ف �ي ��ه ح ��اب ��ى ر� �س �ل��ه و�� �ص ��دع ��ت ب � ��الأم � ��ر ال� � ��ذي ُح � َّم �ل �ت ��ه ف��ا� �س �ل��م ل��ه ��ذا ال ��دي ��ن ت �� �ش��رع نهجه ((( الأعالم :الجبال. ((( برقة ثهمد :مو�ضع. ((( الفنيق :الفحل ّ المدل بنف�سه ال ي�ؤذي وال يركب لقوته وتميزه. ((( �أعطاك ما �أعطى ر�سله فالعلماء ورثة الأنبياء.
130
وري �أح �� �ش��اء ال� َّ���ص��دي ط � ْه � َر ال �م �ي��اه َّ ج �� �س��د ًا ت �� �ض � َّم��خ ف �ي��ه �أرج � � ��ا ُء ال � ّن��دي وال � �م � �ك� ��رم� ��ات وك � � � � َّل م � �ج� ��د �أت � �ل� ��د ((( �ام((( ب��رق��ة ث �ه �م��د خ �ف��ت ل �ه��ا �أع� �ل � ُ ِم� �ي � َ�ل ال � � ِّرق� ��اب ال �غ �ل��ب � �س��اق �ط��ة ال�ي��د وال � �ط� � ُ �رف ب��ي ��نَ ُم� ��� �ص� � ِّوب و ُم �� �ص � ِّع��د �ام ال �� �ُّ�س �ه ��ى وال �ف��رق��د دان � ��ت ل �ه��ا ه � � ُ �أم �� �س��ى ث� � � ًرى ل �ج �ن��اب ذاك ال�م�ع�ه��د ف � �ي� ��ه م� � �ق � ��ال� � � ُة واج � � � � � ٍ�د ال ت � � ْب � � ُع� ��د �وح ��د ق� ��د �أ�� �ش� �ك� �ل ��ت ور�� � �ش � ��ا َد ك � � ِّ�ل م � ِّ وال �ن��ا�� ُ�س خلفك ف��ي َم �� ِ��س �ي� َ �رك تقتدي و�إل� � �ي � ��ك ن� ��وم� ��ي ب ��ال� �ل ��واح ��ظ وال� �ي ��د ف� ��ي خ��ط ��ة ف �ل��أن� ��ت �أه � � ��دى ُم��ر� �ش��د َم� ��نْ راح ي �ن �ه� ُ�ج ف ��ي ��س�ب�ي�ل��ك ي�ه�ت��دي ف �ي��ك ال� �ف ��رائ� �� �ُ�ض ذروة ل ��م ت�صعد وال� � ّدي ��ن ي�خ�ط��و ك��ال �ف �ن �ي��ق((( ال� ُم��زب��د �أه � ��دى ال��ب ��راي ��ا ف ��ي الأم� � ��ور و�أر�� �ش ��د ((( ف �ن �ه �� �ض��ت ف �ي��ه ق ��ائ��م�� ًا ل ��م ت �ق �ع��د ت� �ق� �ف ��و ب � ��ه �أ َث� � � � � � َر ال � �ن � �ب� � ِّ�ي م��ح�� َّم ��د �ذب م ��ورد وال��ن ��ا� ��س ت �ن �ه � ُل م �ن��ك �أع � � � َ
�����������������
�دي ال�ه��دى ع� �ف� � ٌو ت � �� � �ص � � َّو َب م� ��ن ل �ط �ي��ف �أوح � ��د و��س�ق��ى ث � � ًرى ق��د � �ض� َّ�م م��ه � َّ ال َ زال ت �ن �ط� ُ�ف ف ��وق ��ه ِق� �ط� � ُع ال�ح�ي��ا ب� �م� �ج� �ل� �ج ��ل((( ف� �ي ��ه ي � � ��روح وي �غ �ت ��دي الثالث :تربية النف�س ،وتزكيتها من ال�شوائب التي تنمو ب�شكل تدريجي عند الإن�سان، كالأنانية والح�سد ،فال�سيد محمد ر�ضا ،لم يكن مج ّرد عالم ارتقى في �سلم �إ�صالح النف�س ،و�إ ّنما بلغ مرتبة المربي والموجه ،وهذا ما ظهر في كتابه (ال�سمك ّية) ،الذي �صنفه ب�سبب ق�صة حدثت معه ،وهي� :أ ّنه ذات يوم ق ّرر مع مجموعة من الأ�صدقاء� ،أن يتناولوا غداءهم (�سمك ًا) مقلي ًا ،وطلبوا�إلى من له خبرة بالأ�سماك �أن ي�شتريها لهم، ويدفعها للن�سوة كي يح�ضرونها للغداء ،و�إذا بجماعة عرفوا بالأمر ،ف�أر�سلوا �إلى ذلك البيت الم�شرف على تح�ضير الطعام ،لي�أتي به ،و�أوهم �صاحبة المنزل� ،أ ّنه مر�سل خلف الغداء ،وبالفعل �أخذوا الطعام و�أكلوه. ما حدث لم يزعج ال�سيد محمد ر�ضا ب�أنهم �أكلوا طعامهم ،بقدر ما ر�أى في هذا الت�صرف عنوان ًا ي�ؤ�شر لمر�ض ع�ضال على �صعيد النف�س ،حيث تدخل تحته عناوين وحب الذات ،وهذه ال�صفات يجب �أن تكون بعيدة عن طالب العلم، مختلفة ،من الأنانية ّ وتتنافى مع بلوغ المراتب ال�سامية في العلوم� ،إذ يجب �أن تتما�شى مع كماالت النف�س و�صفائها ،وبدونها لن يحقق �صاحب المقام العلمي مراده. لهذا بادر ــ رحمه اهلل ــ �إلى ت�صنيف كتاب �س ّماه (ال�سمك ّية) ن�سبة �إلى الق�صة التي حدثت ،و�أراد منها �أن تكون معبر ًا ،لم�شروعه الإ�صالحي والتربوي ،وليلفت نظر طالب العلوم الدينية �إلى هذه الحقائق التي ال يجوز �أن يغفل عنها طالب العلم. كتاب ال�سمك ّية
�أراد ال�سيد ف�ضل اهلل �أن تكون حادثة (ال�سمك) ،معبر ًا لطرح م�شروعه الأخالقي أ�سلوب ُيحاكي النف�س ال�شيطانية� ،إذ ال يكفي في عملية التغيير الذاتي والتربوي ،ب� ٍ (( ( المجلجل :ال�سحاب الراعد المطبق بالمطر.
131
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
التذكير بالآخرة ،من خالل عر�ض الآيات والروايات فقط ،فهذا النمط يحتاج كما الحديد (المت�صدئ) �إلى ّ حف وطالء .فالطالء على ال�صدء ،يغطيه لمرحلة محدودة، و ُيعطي �صورة عك�س الحقيقة ،و�سرعان مايتبدل الم�شهد ،ويعود ال�صدء �إلى الظاهر، كذلك النف�س التي عا�شت فترة طويلة على الذنوب� ،أو لم يلتفت �أ�صحابها �إلى تربيتها وت�أديبها ،ف�إذا لم ُتطعه نف�سه فيما ُيحب ،فيجب عليه �أن يمنعها ع ّما ترغب ،عقاب ًا لها م�شروع وت�أديب ًا .لذلك �أراد ال�سيد محمد ر�ضا ــ رحمه اهلل ــ �أن يكون كتاب ال�سمكية �إطار ٍ تربوي ُيعالج هذا الإنحراف ،وي�ضع له البدائل ،كي يتمكن طالب العلم بالتحديد ،من الوقوف على مخاطر �إهمال النف�س� ،أو الإ�ستهانة بهذه الت�صرفات التي تك�شف عن وجود مكان عميق لمكائد ال�شيطان فيها ،وما علينا � ّإل التنبه واليقظة قبل فوات الآوان، فنحن ــ ال �سمح اهلل ــ �إذا كنا عاجزين عن تربية �أنف�سنا في الحوزة العلمية ،التي لي�س فيها مغريات دنيوية ،و�أ�صحابها بعيدون عن ال�شهوات وحب الذات والأنانية ،فكيف �سيكون م�صيرنا في الأماكن التي تكون مليئة بمكائد ال�شيطان؟ ولهذا نالحظ علماء الأخالق وقبل �أن يدلوا ِب َدلوهم ،كانوا قدوة في ال�سلوك والتطبيق ،كي تكون الأفكار التي يطرحونها م�ؤثرة ،وتجد لها �أُذن ًا �صاغية ،م�ضاف ًا� ،أنهم لم يقت�صروا في مواعظهم على عر�ض الأحاديث ال�شريفة ،و�إنما كانوا يعر�ضون الم�شكلة وحكمها ال�شرعي ،ثم يطرحون العالج للمري�ض ،كي يتمكن هذا الغافل من معالجة م�شكلته ،والو�صول �إلى النتيجة المر�ضية. ولم يقت�صر ال�سيد ف�ضل اهلل على معالجة الم�شاكل الأخالقية ،و�إنما نراه يت�صدى لمعالجة العديد من العناوين الدينية وال�سيا�سية والإجتماعية ،وهذا يك�شف عن �إحاطة هذه ال�شخ�صية بكل هذه العناوين ،و�أ ّنه ي�صلح ليكون العالم القدوة والمربي والموجه، ومن الموا�ضيع التي عالجها ،نذكر: �إ�صالح الم�ؤ�س�سة الدينية ،التي ت�ضم كبار الفقهاء و�أ�ساتذة الحوزات العلمية ،والمبلغين. وعلى طول التاريخ كانت تتح ّمل هذه الم�ؤ�س�سة �أعباء ج�سيمة في حفظ ون�شر ك ّل ما 132
�����������������
هو متعلق بهذا الدين .من ن�شر الفقه والحديث والتف�سير �إلى العلوم المختلفة� ،أو ما ي�صل �إلى حدود الأمر بالجهاد �أو �إ�ضرام ال�صلح. هذه الم�ؤ�س�سة كانت ،وال زالت ُتعاني الكثير من الم�شاكل ،وكان العلماء المخل�صون الذين يمتلكون وعي ًا مبكر ًاُ ،يق ّدمون مبادرات ع ّلها تدفع في عملية الرقي والتقدم. فال�سيد محمد ر�ضا الذي و�صل �إلى مكانة عالية في العلم و�صفاء النف�س والوعي ،كان من �أولئك القلة الذين التفتوا �إلى �ضرورة تح�صين هذه الم�ؤ�س�سة ،وتبيين ما هو مطلوب منها ،ويمكن تلخي�صها بالعناوين التالية: الحث على طلب العلم ،وهو من العناوين الأ�سا�سية في طريق الإ�صالح ،فمع عدم وجود طالب علوم دينية ،ينتفي م�شروع الإ�صالح ،وي�صبح �سالب بانتفاء المو�ضوع، والذي دعاه للحث على طلب العلم ،المرحلة التي ابتعد فيها النا�س عن طلب العلم، وزهدوا فيه ،ب�سبب الأو�ضاع التي و�صلت �إليها المنطقة ،ولهذا كان الحث على طلب العلم الذي قد يتح ّول من واجب كفائي �إلى واجب عيني ،عندما يتوقف طلب العلم على من يجد في نف�سه الأهلية لهذا المقام ،ولع ّل ال�سيد محمد ر�ضا كان يرى في التعبير (�شعر ًا)� ،أنه الأكثر بالغة وت�أثير ًا ،وخ�صو�ص ًا في تلك المرحلة التي كانت الق�صيدة تنت�شر ب�سرعة �أكثر من النثر .وم ّما قاله في هذا المجال: �ري رواح� � � � � � َ�ل م � �ث� � َ�ل �أع� � � � � ��واد ال� �ق� ��� �س � ّ�ي �أال ح� � � َّث � ��ا �إل � � � ��ى �أر� � � � � ��ض ال� � �غ � � ّ و�أ�� � � � �ش � � � ��وا ًال ن� � ��واف� � ��خَ ف� � ��ي ُب � ��راه � ��ا خ� � � � � � � َ �وارق ك � � � � ّل � � �ش � �ع� ��ب م� �ج� �ه� �ل � ّ�ي �أال ه � � � َّي� � ��ا ب � � �ه� � ��نّ وج� � ��اذب� � ��اه� � ��ا خ � �ط� ��ام � � ًا م� �ث ��ل �أ� � �ش � �ط� ��ان ال� � � َّرك � � ّ�ي �أال اع �ت �� �س �ف��ا ب� �ه ��ا ال � �م� ��وم� ��اة ح�ت��ى ت � �ح� � َّ�ل ب� � � ��ذروة ال � ��� َّ��ش� ��رف ال �ق �� �ص� ّ�ي �أال ان �ت �� �ص �ب��ا ح �� �س��ام � ًا راح �أم �� �ض��ى و�أق � � �ط � � � َع م � ��ن ح� � � ��دود ال��م�����ش ��رف � ّ�ي �وري؟ ف� �م ��ا ه � ��ذا ال � �ق � �ع� ��و ُد ع� �ل ��ى الأم� ��ان� ��ي �أل � �ي � ��� ��س زن� � � ��اد ع� ��زم� ��ك ب� � ��ال� � � ّ وم� � � ��ا دار ال� � � �ه � � ��وان ب� � � � ��دار ح � � ّر �إذا م� � ��ا ك � � ��ان ب � � ��الأ ِن � � ��ف الأب � � � � ّ�ي وم� � ��ا الأق� � � � � ��دار ط� � ��وع ي� ��دي� ��ك ح �ت��ى ت� �ق ��ول ال�����ص��ب � ُ�ح �أو غ��ل��� � ُ�س ال �ع �� �ش� ّ�ي 133
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�أال ف ��ا�� �ص ��رف ب� �ن ��اب ��ك واق��ت��ع ��ده ��ا ن � �ج� ��ائ� ��ب م � �ث� ��ل م� �ن� �ع� �ط ��ف ال� �ح� �ن � َ�ي �ري �أال ف ��ان� �ه� �� ��ض ف �ل �ي ����س ال� �م� �ج ��د �إال ل� � � �م� � � �غ � � ��وار وم� � � � � �ق � � � � ��دام ج � � � � ّ �ري �أال ف� � � ��ارم ال � �ف � �ج� ��اج ب� �ه ��ا ودع� �ه ��ا �� � �س � ��وان � � َ�ح ب � �ي� ��ن ع � ��ام � � َ�ل وال� � �غ � � ّ �راح� ��ا ت � � � ��رود ب � �ن� ��اظ� ��ر ال � � � ّزه� � ��ر ال� �ج� �ن � ّ�ي وف � � ��ي م � �غ � �ن� ��اه �أط � �ل � �ق � �ه� ��ا � � �س� � ً م � � �ح � � � ّرم� � ��ة ع� � �ل � ��ى � � �س � �ب� ��ع وط � �ي� ��ر ب � � �غ� � ��اث �أو ع � � �ق� � ��اب ق� ��� �ش� �ع� �م � ّ�ي �أي�ض ًا ،هناك ر�سالة �أر�سلها ال�سيد محمد ر�ضا �إلى �أحد �إخوانه يحثه فيها على ال�سفر �إلى النجف الأ�شرف لطلب العلم ،ومما جاء فيها: « كبا بنا جواد الأ ّيام برهة ف�أوقفنا عن الجوالن في حلبات طلب العلم ال�شريف ب�سبب بع�ض العلماء ،وكنا ن� ِّؤمل �أنْ نح�ض َر عليه بعد �أن �أتى من العراق �إلى الجبل ،فكنا يحتاج �إليه من بح�ضوره �أ�ش َّد تعطي ًال من زمن غيبته� ،إذ ا�شتغل و�أ�شغلنا ب�أمر دنياه ،وما ُ فكتبت �إلى بع�ض الإخوان �أح ِّر�ضه على الهجرة �إلى النجف الأ�شرف �إذ ال َّدراهم وال ُّدر، ُ عيلم ال ِعلم به يطفو ُعبا ُبه وذلك �سنة 1308للهجرة» ،وك�أنه ي�شير �إلى مرحلة ما بعد ُ ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ،حيث لم يقم البديل بكل المهام التي �أطلقها ال�شيخ مو�سى �شرارة ،و�إنما اكتفى بالتب ّليغ الديني ،من الوعظ والإر�شاد و�إ�صالح ذات البين� ،إلخ. التوا�ضع مع الإخوان ،من العناوين التي حثَّ عليه الإ�سالم ،بين عموم الم�ؤمنين، لما فيه من م�صلحة عامة وتظافر جهود ،وت�أكيد على الم�شروع الإن�ساني الذي جعله اهلل خليفة في الأر�ض ،وهذا يكون بين �أهل العلم ب�شكل �أكبر ،لما �ألقي على عاتقهم من م�س�ؤوليات ج�سام ،وهذا التوا�صل َيحثُّ على العمل ،و ُين ّبه من التق�صير �أو القيام بالأعمال الخاطئة ،وكما قيل :الإن�سان ابن بيئته ،وهذا التوا�صل �ضروري في الحث على تحمل الم�س�ؤولية .وهنا نالحظ الق�صيدة التي �أر�سلها �إلى �أحد �إخوانه العلماءُ ،يهنئه فيها بذهابه �إلى الحج ،وفي الوقت الذي يمتدحه فيها ،و ُيطالب �أن َيكون هكذا نماذج من الأ�صدقاء ،ويحثّ على التوا�صل مع الإخوان ،في نف�س الوقتُ ،يح ّذر من الأ�صحاب الذين يظهرون المودة وي�ضمرون الكيد والح�سد ،ومما قاله: 134
�����������������
ت�م� ّن�ي��ت م ��ن ده� ��ري خ �ل �ي� ً لا م�صافي ًا ف�ك��م م��ن �أخ ت�ل�ق��اه ك��ال���ّ�س�ي��ف مرهف ًا ي ��ري ��ك واداد ًا ظ��ل ��ه ي �غ �م��ر ال � ��ورى ورو�� � �ض� � � ًا ب� � �ن� � � ّوار ال� � �م � ��و ّدة م ��زه ��ر ًا وب� ��رق � � ًا �إذا ا� �س �ت �م �ط��رت��ه راح خ�ل�ب� ًا م� � ��� � �ش � ��ارع و ّد رن � �ق � �ت � �ه� ��ا ط� �ب ��اع ��ه وم ��ا ال �م��رء ك�� ُّل ال �م��رء �إال اب ��نُ نجدة ب �� �ص �ي � ٌر ب� � ��أخ �ل��اق ال � ��زم � ��ان و�أه� �ل ��ه �وب ال� �ع� �ف ��اف وت �ح �ت��ه ف��ك ��م الب� �� ��س ث� � � َ و�آخ� � � ��ر ل� ��و ف��ت�����ش � َ�ت �أ� � � �س� � ��رار ق�ل�ب��ه وراح ف� ��ري� ��د ًا ف ��ي � �ص �ف��ات ل ��و �أ ّن� �ه ��ا ي� �غ� �� �ّ�ض ع� ��ن الأق� � � � ��ذاء ج� �ف� � ّن ��ا لأ َّن � ��ه �إذا ال � ��داء �أم �� �س��ى ل�ل� ُّن�ف��و���س دواءه� ��ا وم��ن �أعظم البلوى على الح ّر �أن يرى قرار العودة �إلى جبل عامل
ك � ��أن� � َ�ي ك�� َّل��ف ��ت ال��ل��ي ��ال ��ي ال �م �ح��ال �ي��ا �إذا �أن� � ��ت ق� ��د ج� � ّرب� �ت ��ه راح ن��اب �ي��ا �إذا م��ا ب��ه ا�ستظلت �أ�صبحت �ضاحيا رم� ��ت م�ن��ه ال �ق� ْ�ط��ف ت�ل�ق��اه ذاوي ��ا �إذا ْ ون� � ��وء ًا غ� ��دا ف ��ي غ �ي��ر وادي � ��ك ه��ام�ي��ا �أ َب � ْي ��ت ال � � ِّروى منها و�إن ك�ن��ت �صاديا ي�ع��اف ال � � ِّروى �ض ْنك ًا و�إن ك��ان ظامي ًا ي ��راه ��ا ب �ع �ي��ن ال �ف �ك��ر غ �ي �ب � ًا ك �م��ا هيا �وب تلقى ال��دواه�ي��ا �إذا م��ا رف �ع� َ�ت ال � َّث� َ ل �ط��اب��ق م �ن��ه ال�����س�� ُّر م ��ا ك� ��ان ب��ادي��ا ُت � َ�ج� ��� �س ��م ل� �ل ��رائ ��ي ل� �ك ��ان ��ت درادي � � ��ا ي��رى ال ��داء ق��د �أع�ي��ا الطبيب المداويا فهيهات �أن تلقى ل ��ذي ال� ��داء �شافيا م� �ن ��اق� � َب ��ه ال � � �غ � � � ّرا ت� � � َع� � � ُّد م�����س ��اوي ��ا
عتد به من العلم ،زهد ًا لم يكن قرار العودة �إلى جبل عامل ،بعد �إنهاء الطالب لق�سط ُم ٍ ت�ضم ذلك المرقد المقد�س بالنجف الأ�شرف ،بما ُتمثل من ر�صيد معنوي كبير ،حيثُ ّ لو�صي ر�سول اهلل Pالإمام علي بن �أبي طالب ،Qوت�أثير ذلك المقام على الروح المعنوية والتربوية لدى الطالب ،م�ضاف ًا لوجود الحوزة العلمية ولذة الإنخراط بها، والح�صول على المراتب العلم ّية التي ُتم ّكن الطالب من ك�سب �أكبر قدر ممكن من العلوم الفقهية والأ�صولية والفل�سفية ،وعلم الكالم والحديث ،وهي تختلف عن بقية المراكز الأكاديمية ،حيث ي�شعر الطالب في النجف ب�أنه كلما ارتقى في العلم درجة ،ارتقى في بلوغ تربية النف�س والقرب من اهلل مثلها. 135
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
هذا الع�شق للنجف الأ�شرف ،لم ُيل ِغ �شعور الطالب بالم�س�ؤولية الكبرى اتجاه جبل عامل ،وك�أن نية العودة �إلى جبل عامل ،تنمو في ذهن الطالب ُ منذ لحظة و�صوله �إلى النجف ،لما لجبل عامل من �أهمية ال تقل عن بقية المراكز العلمية والمناطق ذات ال�صلة بالنه�ضة العلمية والأدبية ،التي ُت�شك ّل بمجموعها ،الإطار الذي يحمي مدر�سة �أهل البيت ،Rوالمدافع عن حيا�ض الإ�سالم وحماية الم�سلمين. �إذ ًا ،قرار العودة لم يكن م�س�ؤولية �شخ�ص محدد� ،أو في زمان ُمح ّدد� ،إ ّنما هي �سيرة علماء هذا الجبل �إقت�ضت ذلك ،منذ اليوم الذي عاد من مدينة (الح ّلة) ذلك الفقيه الكبير ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بال�شهيد الأول ،في �أوا�سط القرن الثامن للهجرة ،وا�ستطاع �أن ينقل جبل عامل من مرحلة ح�ضور لبع�ض العلماء فيه� ،إلى مركز علمي� ،صار ي�ضاهي المركز العلمي لمدينة الح ّلة ،وهذا ما قاله الح ّر العاملي في (�أمل الآمل)�« :أ ّنه �صلى على �إحدى الجنائز في �إحدى القرى في عهد ال�شهيد الأول، �سبعون مجتهد ًا»(((. بنا ًء على هذا تكون ،العودة �إلى جبل عامل م�س�ؤولية �شرعية تقع على عاتق ه�ؤالء العلماء ،وكان ي�شجعهم على ذلك فقهاء النجف ،لما لجبل عامل من مكانة متقدمة لدى ه�ؤالء الأعالم. في �سنة 1320هـ 1902/م ،عاد ال�سيد محمد ر�ضا من النجف الأ�شرف �إلى قريته (عيناثا) ،و ُك ّل ه ّمه موا�صلة ما قام به ال�سلف ال�صالح من النه�ضة العلمية والأدبية، وعظ و�إر�شاد ،و�إحياء منا�سبات ،وتعظيم ال�شعائر الح�سينية، م�ضاف ًا للتبليغ الديني من ٍ بما ُت�شكل بمجموعها عنوان المحافظة على جبل عامل ،كحا�ضرة علم ّية ،وعلى مكوناته الإجتماعية ،التي ت�ضمن له البقاء والإ�ستمرارية ،وال�صمود �أمام الأعا�صير المحدقة به من ك ّل حدب و�صوب ،وخ�صو�ص ًا �أن الح�ضور العثماني ال زال جاثم ًا بك ّل ج�شعه و�أطماعه ،ومرارة النكبة التي �صنعها العثمانيون ،وتداعياتها لم تنت ِه بعد ،وهناك (( ( محمد بن الح�سن الحر (الحر العاملي)� ،أمل الآمل ،ج� ،1ص.15
136
�����������������
الخ�شية من تكرارها في �أي لحظة هم يق ّررون ذلك ،ولع ّل هذا الذي منع علماء تلك المرحلة من الإن�صراف الكامل �إلى التدري�س والت�صنيف ،كما كان في مرحلة ما قبل النكبة ،فالم�س�ؤوليات كبيرة ،والإن�صراف �إلى ال�ش�أن العام ،ومعالجة الم�شاكل الهم الأكبر لدى علماء تلك المرحلة ،فكانوا يقت�صرون الإجتماعية والإقت�صادية ،هو ّ على تدري�س الطالب المقدمات ،وربما ال�سطوح ،ثم ير�سلونهم �إلى النجف الأ�شرف ال�ستكمال تح�صيل المراتب العليا. بقي ال�سيد محمد ر�ضا في (عيناثا) خم�س �سنوات قائم ًا بكل هذه الوظائف الدينية، حتى دعاه الواجب �إلى تركها والتوجه �إلى بلدة (قانا)(((� .إذ لم ُيلزم العلماء �أنف�سهم بالبقاء في قراهم وبين �أهلهم ،و�إنما كانوا يتواجدون حيت تقت�ضي الحاجة� ،سواء التنقل داخل الوطن �أو ال�سفر �إلى خارج البالد ،كما فعلوا في �سوريا ،والعراق ،واليمن، و�إيران ،وم�صر ،وفل�سطين ،ومكة المكرمة ،والهند .وهنا �أُق ّدر عالي ًا عوائلهم ال�شريفة، التي لم تمانع �أو تعرقل لهم هذه المهام والتكاليف الإلهية ،وعلى �سبيل المثال� :أن يترك ال�شيخ حبيب �آل �إبراهيم (المهاجر) ،بلدته (حناويه) الجميلة ،وي�سكن بعلبك في ذلك الزمن ،ال يمكن �أن يقوم بهذا العمل � ّإل من امتلأ قلبه �إيمان ًا ،ولم تعد هناك م�ساحة للح�سابات ال�شخ�صية في نف�سه وعند عائلته(((. ((( قانا :قرية من قرى جبل عامل ،تتبع لق�ضاء �صور ،ومحافظة لبنان الجنوبي ،ترتفع عن �سطح البحر حوالي 300م ،فيها مجل�س بلدي �أن�شئ �سنة 1950م ،وكانت في القديم �إحدى مقاطاعات جبل عامل الثمانية ،اتخذها ال�شكريون ،مدّة حكمهم الإقطاعي �إحدى قواعدهم .وفي قانا نكل علي ال�صغير الوائلي الذي ينت�سب �إليه �آل ال�صغير بمن كان منهم ــ ال�شكريون ــ وذلك �أثناء ا�شتغالهم ب�أعرا�سهم وذلك يعود لث�أر قديم بينهمفي قانا الكثير من الآثار القديمة ،كالآثار الفينيقية والآثار الرومانية .فيها من العلماء ال�شيخ بدر الدين ال�صايغ .وفي قانا عائالت �إ�سالمية وم�سيحية� ،أبرزها� :آل �أيوب� ،آل الخوري� ،آل الحداد� ،آل �سعادة� ،آل جبور� ،آل علي ال�صغير� ،آل البرجي� ،آل عطية� ،آل �صائغ� ،آل حمود. ((( ال�شيخ حبيب بن محمد بن الح�سن بن �إبراهيم المهاجر العاملي المتوفى �سنة 1384هجرية ،كان عالم ًا كبير ًا ،و�أديب ًا جلي ًال، ولد في (حناويه) في جبل عامل �سنة 1304هـ ،ون�ش�أ فيها ،فقر�أ مبادئ العلوم ،ثم هاجر �إلى النجف الأ�شرف ،وح�ضر على �شيخ ال�شريعة الأ�صفهاني وال�شيخ علي بن باقر الجواهري والميرزا محمد ح�سين النائيني ،وال�سيد �أبي الح�سن الأ�صفهاني وغيرهم .له من الم�صنفات :الإ�سالم في معارفه وفنونه ــ الإنت�صار ــ الجواب النفي�س ــ الحقائق في الجوامع والفوارق وغيرها. ال�سيد مح�سن الأمين ،خطط جبل عامل� ،ص 275 ال�شيخ �سليمان ظاهر ،معجم قرى جبل عامل ،ج � 2ص . 184 ال�شيخ �إبراهيم �سليمان ،بلدان جبل عامل� ،ص .337
137
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ففي �سنة 1325هـ 1907 /م ،انتقل ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل �إلى بلدة (قانا)، و�سكنها �إلى �أن توفي فيها ،بعدما طلبه �أهالي البلدة والجوار ليكون �إمامهم ،في�صلح �ش�أنهم ويع ّلمهم �أحكام دينهم ،و ُيحيي المنا�سبات الدينية ،وبالت�أكيد لم يقت�صر في عمله على الوعظ والإر�شاد فقط ،و�إنما ت�ص ّدى ل�ش� ٍؤون عامة .ففي تلك المرحلة كان جبل عامل ،يقترب من ذلك المخا�ض الع�سير الذي بد�أت فيه �إرها�صات الحرب العالمية الأولى ،وما رافقها من �آالم وم�صائب ،الم�س معها النا�س الأمرا�ض والجوع وعدم الإ�ستقرار ،ولم تنته هذه الأالم بنهاية الحرب �سنة 1918م ،و�إنما نتج عنها قيام الإنتداب الفرن�سي على �سوريا ولبنان والإنتداب البريطاني على العراق وفل�سطين، وا�ستمرت هذه المعاناة �إلى ما بعد الإ�ستقالل الموهوم ،وجاءت النكبة على فل�سطين في �أيار 1948م ،وال زالت المنطقة تعي�ش تداعيات تلك النكبة �إلى يومنا هذا. و�شاء القدر �أن يعي�ش ال�سيد محمد ر�ضا مرحلتين ،كانتا قا�سيتين على �أهالي جبل عامل� :إرها�صات الحرب العالمية الأولى ،وما رافقها من حكم ال�سفاح (جمال با�شا) الذي �أعاد �إلى الأذهان تلك المرحلة القا�سية التي عا�شها جبل عامل ،في عهد الوالي العثماني المجرم (�أحمد با�شا الجزار)((( ،والمرحلة الثانية هي الحرب العالمية الأولى التي ن�شبت �سنة 1914م ،وا�ستمرت �أربع �سنوات. ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين� ،أ�شار في كتابه (بغية الراغبين) �إلى تلك المرحلة القا�سية التي عاناها العلماء والنا�س في جبل عامل ،جراء ال�سيا�سة الوح�شية التي مار�سها الوالي العثماني على بالد ال�شام ال�سفاح جمال با�شا ،حيث قال « :وقع العالم ب�أ�سره ــ من هذه الحرب ــ في كبد واخت�صت �سوريا ولبنان وفل�سطين بويالت جمال با�شا ((( �أحمد با�شا الجزار(1734ــ 1804م) :كان حاكم ًا ل�ساحل فل�سطين وال�شام لأكثر من � 30سنة ،ولد في البو�سنة لأ�سرة م�سيحية ثم هرب �إلى الق�سطنطينية ب�سبب ظروف عائلية �أو جريمة قتل كما يرجح الم�ؤرخون ،وو�صل �إلى الباب العالي من خالل �أحد تجار الرقيق الذي قام ببيعه له ،ت�سلم والية (عكا) وكان قا�سي ًا ظالم ًا ال يعرف قلبه الرحمة �أبد ًا ،ذاق منه العامليون الويالت بعد مقتل الأمير نا�صيف الن�صار في وقعة (يارون) ،حيث قام بقتل النا�س وتهجيرهم ،فحرق المكتبات وقتل العلماء و�أ�سر بع�ضهم ،ولم ي�سلم من �أذاه الحجر.
138
�����������������
ــ قائد الجي�ش الرابع ال�شاهاني ــ �إذ ا�ست�شعر منها مي ًال �إلى الحرية واال�ستقالل ،فهمه في انتقامه متجاوز ًا في ذلك كل �أحد. وقد �أمعن في تجنيد الرجال ،و�سوقهم �إلى ميدان القتال ،حتى لم يبق �إال المر�أة وال�صبي وال�شيخ الهرم وال�ضرير والزمن ومن هو في حكمهم ،وقام في ذلك على �ساق، ي�سوق النا�س جميع ًا على اختالف طبقاتهم بع�صا واحدة ،فكانت ال ّروعة �شديدة، والهول هائ ًال ،وركب ر�أ�سه في جباية الأموال با�سم ال�ضرائب والإعانات والتبرعات �سلب ًا ونهب ًا ب�أفظع �صور النهب وال�سلب ،ون�صب الم�شانق ،و�ص ّوب البنادق لإعدام من يف ُّر من التجنيد ،فكان ــ الأونبا�شي ــ من الدرك يملك قتل من ي�شاء ممن يزعم فرارهم ،ال ي�س�أل عن ذلك �أبد ًا. ورمى البالد بالمجاعة المدقعة �إذ قطع الميرة عنها ،ف ّقلت الأقوات ،وغلت الأ�سعار غالء عظيم ًا .فكان الفقراء يطوون اليوم تلو اليوم ،فتراهم خاوين مر�سبين حتى ماتوا جوع ًا ،وكانت الموتى مطروحة في البيوت وفي ال�شوارع العامة وفي البراري ال ي�ؤبه بها. و�أر�صد المجل�س العرفي في عاليه ،وما �أدراك ما فعل ذلك المجل�س ،ونبر�أ �إلى اهلل تعالى مما ارتكب ،وع ّلق بم�شانقه في دم�شق وبيروت �أربعين زعيم ًا من زعماء الأحرار في البلدين ،وجاء بكل �سوءة �شنعاء ،ومعرة دهماء ،ملء الأر�ض وال�سماء.(((»... في تلك المرحلة ،كان لل�سيد محمد ر�ضا ولإخوانه العلماء دو ٌر كبير في التخفيف من �آالم النا�س ،ومعالجة الأو�ضاع الإقت�صادية التي الم�س معها النا�س حدود الجوع ،وكان الفقراء منهم ،لي�س لهم ملج�أ بعد اهلل تعالىّ � ،إل العلماء الذين عملوا مع المي�سورين على ح ّل الم�شاكل الممكنة ،من خالل الأخما�س والزكوات ،م�ضاف ًا لتثبيتهم في �أر�ضهم، من خالل تعميق عالقتهم بربهم عز وجل ،فكان وجود ه�ؤالء العلماء بين ظهرانيهم ُيعطيهم الأمل والطم�أنينة. (( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين ،بغية الراغبين ،ج� ،2ص.139
139
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
ومع كل هذه المراحل التي عا�شها ال�سيد محمد ر�ضا من �ضنك العي�ش في النجف الأ�شرف وجبل عامل ،لم ُتثنه عن القيام بك ّل ما �أمكن من التوجيه والإر�شاد والت�صنيف، و�إطالق العنان لق�صائده ،التي �ساهمت في النه�ضة الأدبية واللغوية و�أرخت لبع�ض المحطات الأ�سا�سية في تلك المرحلة ،كما كانت له م�شاركات �سيا�سية واجتماعية وفي منا�سبات مختلفة ،فعندما توفي العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ،رثاه ال�سيد محمد ر�ضا ،نثر ًا و�شعر ،وم ّما قاله �شعر ًا: خ �ل �ي �ل� َّ�ي ه ��ل م ��ا ف� � � َّرق ال� � َّده ��ر ج��ام��ع وه � ��ل ف� ��ائ� � ٌ�ت ف� ��ي م� ��ا ي� � ��ؤ َّم � ��ل راج� ��ع وه ��ل ينظم ال���َّ�ش�م��ل ال�شتيت كعهدنا وي� �ج� �م ��ع م ��اب� �ي ��ن الأخ� � �ل� ��اء ج ��ام ��ع خ�ل�ي�ل� َّ�ي ن��وح��ا �أ� �س �ع��دان��ي ع �ل��ى البكا وال ت��ع ��ذالن ��ي ف ��ي ال � ��ذي �أن � ��ا ��ص��ان��ع ف�ل�ا ق �ل� َ�ب ل ��ي ح �ت��ى ي �ع� ْ�ي ع� � َ �ذل ع ��اذل وه� ��ا م���س�م�ع��ي ق ��د �أوق� ��رت� ��ه ال�ف�ج��ائ��ع ف� �ط ��رف ��ي �� �س� �ف ��وح وال � � �ف � � ��ؤاد ي� �م� � ُّده ك � �� � �ش � ��ؤب� ��وب ودق و ْب� � �ل � ��ه م �ت �ت ��اب ��ع �أك � �ف � �ك� ��ف دم� � ��ع ال� �ع� �ي ��ن ث� � � َّ�م �أر ُّده �إل�ي�ه��ا ف�ط��رف العين ف��ي القلب دام��ع ونف�سي ق��د ط ��ارت �شعاع َا م��ن الأ��س��ى ل� ��زف� ��رة ه � � ٍّ�م ل� ��م ت �� �س �ع �ه��ا الأ�� �ض ��ال ��ع �أه � �ي� � ُ�م وال �أدري �إل � ��ى �أي � ��ن �أن �ث �ن��ي ك� ��أ ّن ��ي � �ض �ل �ي � ٌل ف ��ي ال �م �ه��اج��ر ��ض��ائ��ع �أج� � ��وب ال �ف �ي��اف��ي ن �ف �ن �ف � ًا ب �ع��د نفنف و�أذرع ع��ر���ض ال �ق �ف��ر وال �ق �ف��ر وا� �س��ع ع �� �ش � ّي��ة ب �ل �ت �ن��ي ال � � ُّدم� ��وع م ��ن ال �ج��وى ل ��داه��ي ��ة ت �� �ص �ط� ُّ�ك م �ن �ه��ا ال �م �� �س��ام��ع خ��ل��ي��ل � ّ�ي ك� ��م م� ��ن ن �ك �ب ��ة �إث � � ��ر ن�ك�ب��ة ت� � ��زول ل��ه ��ا �� �ش � ّ�م ال� �ج� �ب ��ال ال � � َّروات� ��ع غ� ��داة ن �ع��ى ال � َّن ��اع ��ي ب �م��ن ح � َّل �ق��ت به م �ك��ارم ع��ن �إدراك� �ه ��ا ال � َّ�ط ��رف راج��ع م �ج �ي��ب �إل� � ��ى ال� � � َّداع � ��ي ل� �ك� � ّل م �ل � َّم��ة �إذا راع� ��ه م ��ن � �س �ط��وة ال� � َّده ��ر رائ ��ع وه� ��� �ض� �ب ��ة م� �ج ��د ال ي � � ��رام م �ن��ال �ه��ا و� �س �ي��ف �إذا م ��ا ه� � �زّه ال� �ح ��قّ ق��اط��ع �دى ف ��ي ك � � ّل ع� ��ام و�أزم � � � ٍة ون� ��ور ه� ��دً ى ف��ي ج�ب�ه��ة ال��ده��ر �ساطع � �س �ح��اب ن � � ّ �إذا � �ض � ّم��ه د���س ��ت ال��ف��خ ��ار بمع�شر �أ�� � �ش � ��ارت �إل � �ي� ��ه ب � ��الأك � � ّ�ف الأ�� �ص ��اب ��ع 140
�����������������
وم � ��ا رام � �ش��ان �ي��ه ال� �� �ّ�س� �ب ��اق ب�ح�ل�ب��ة ل��ق ��د ك � ��ان ل�ل��إ�� �س�ل�ام �أح � � ��رز م�ع�ق��ل �إذا م��ا ال��� ُّ�س�ن��ون ال�شهب � �ص � ّوح نبتها جال ظلمات الجهل عن وا�ضح الهدى ب� � �ث � ��اق � ��ب �آراء و�أب � � � �ع� � � ��د ه � � َّم� ��ة دع � ��اه �إل � ��ه ال��ع ��ر� ��ش ل �ل �خ �ل��د ف��ان�ث�ن��ى ف ��أ� �ص �ب��ح ق �ل��ب ال ��دِّ ي ��ن ي�خ�ف��ق واج �ب � ًا ف �ي��ا ب �ه �ج��ة ال� � ُّدن� �ي ��ا وزه� � ��رة �سيبها ت� �ق � َّ�ط ��ع ق��ل��ب ��ي ي� � ��وم � � �س� ��رت ل �خ� َّ�ط��ة ل �ق��د �أغ� �م ��دت م �ن��ك ال �ل �ي��ال��ي م�ه�ن��د ًا ل �ق��د غ � َّي �ب��ت م �ن��ه ال ��َّ��ص �ف��ائ��ح م��اج��د ًا رح �ل��ت حميد ال� ِّ�ذك��ر م �ج��د ًا و���س���ؤدد ًا فمن ذا على الإ� �س�لام خلفت والهدى ف �ق��دن��اك ي��ا م��و��س��ى ون �ح��ن ع�ل��ى ظ ًما ف �ق��دن��اك ف��ق ��دان ال� � َّث ��رى وب� � َ�ل ُم��زن��ة وم� ��ال� ��ي ل� ��م �أ� �س �ت �� �س � ِ�ق ل �ل �ق �ب��ر م��زن��ة ف �ك �ي��ف وف� �ي ��ه ال �ب �ح ��ر ي �ط �ف��ح م��وج��ه �س�أرثيك جهدي ما ا�ستطعت على المدى ب�ك�ت��ك ال �ق��واف��ي ب��ال �ق��واف��ي م��ع ال ��ورى ل�ق��د �شغفت فينا ال�ل�ي��ال��ي ف�ك��م �سرى وق �ل �ب ��ت �أح� � � ��وال ال� ��زم� ��ان ف �ل ��م ي�ك��ن (( ( ظالع� :ضعيف ال يقوى على ال�سباق. ((( هامع :منهمر.
141
�إل � ��ى غ ��اي ��ة �إال ان �ث �ن��ى وه� ��و ظ ��ال ��ع �إذا م ��ا رم �ت �ه��م ب��ال �خ �ط��وب ال��ق ��وارع ف� ��راح � �ت� ��ه ف� �ي� �ه ��ا � � �س � �ي� ��و ٌل دواف � � ��ع ف���ض��و ُء ��س�ن��اه ف��ي �سما ال��دي��ن �ساطع ت ��ري ��ك ب �ظ �ه��ر ال��غ��ي ��ب م� ��ا ه� ��و واق� ��ع �إل� � �ي� � �ه � ��ا ف� � �ل� � � َّب � ��ى وه� � � ��و هلل ط ��ائ ��ع ع��ل��ي ��ه ووج � � ��ه ال � � � � َّدر �أق � �ت� ��م � �س��اف��ع ورو�� � �ض� � � ًا ب� ��ه زه � ��ر ال �ف �� �ض��ائ��ل ي��ان��ع وال ق� �ل ��ب �إال م� ��ن م �� �س �ي ��رك ج� ��ازع ب��ه ك��ان يجلى الخطب والخطب واق��ع م� � ��آث � ��ره ك� ��ال � �ز ّْه� ��ر ب��ي��� ��ض ن ��وا���ص ��ع ووج � �ه� ��ك و�� َّ� ��ض� � ��ا ٌح وج � � � � ُّدك ن��ا� �ص��ع وم ��ن ذا ل�شمل ال ��دِّ ي ��ن ب �ع��دك جامع وال �� �ش ��رب �إال ورد ح ��و���ض ��ك ن��اق��ع ت�ج� َّل��ت وف ��ي �أن��وائ �ه��ا ال� � َّرو� �ُ�ض طامع وه� � � َّ�ط� � ��ال� � ��ة و َّك� � ��اف � � �ه� � ��ا م� �ت� �ت ��اب ��ع ((( ال�سحائب ه��ام��ع وم��ن في�ضه ودق َّ و�أب� �ك� �ي ��ك ده � ��ري ك � َّل �م��ا ح� ��نّ ��س��اج��ع ف� �ه ��نّ ع� �ل ��ى ك� � � ّر ال� � � ُّده � ��ور � �س��واج��ع ل � �ه� ��ا ك � � � � َّل �آن ك � ��اه � ��ل ث� � ��م ي ��اف ��ع ل���س�ط��وت��ه ���ش ��ي ٌء � �س��وى ال���ص�ب��ر ن��اف��ع (((
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وتح ّدث عن ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة نثر ًا ،حيث �أراد من خالله �أن ُيب ّين عظمة الخالق ،و�أهمية الر�سالة ال�سماوية ،ومكانة النبي الأعظم ،Pو�أهل بيته الأطهار R في رعاية الب�شر و�إدارة �ش�ؤونهم ،وكيف ورث العلماء هذه المهمة ال�شاقة وال�صعبة .و�أن ه�ؤالء الأعالم لو لم يت�صفوا بالعلم والزهد والتوا�ضع ،وكل المالكات الموجبة لنقاء النف�س ،لما �أمكنهم تبوء هذه الدرجات والت�صدي لهذه المهام ،وبعد ذكر الأو�صاف التي يجب �أن يت�صف بها العلماء �شرع في تطبيق ذلك ،على من له الف�ضل على جبل عامل العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة� .إذ ًا ،هو �أراد �أن يظهر مكانة ال�شيخ مو�سى �شرارة ،وفي نف�س الوقت يوجه من خالله ر�سالة للعلماء باالنتباه �إلى مكانتهم و�إلى النا�س بوجوب طاعتهم وحرمة مخالفتهم ،وم ّما قاله نثر ًا: «�أما بعد ف�إنّ اهلل قد �أحاط بالأ�شياء علم ًا قبل تكوينها ،ومعرفة قبل �إبداعها وت�صويرها ،ف�أن�ش�أها على مقت�ضى حكمته و�إتقان �صنعته .فخلق هذا الخلق ،واختبرهم المحجة، بالحجة ،و�أبان لهم عن وا�ضح ب�سلوك مناهج الحق من بعد �أن �أدلى لهم ّ ّ فاختار لهم الإ�سالم دين ًا ،وا�صطفى لهم من عباده �أولياء دالين عليه ومر�شدين �إليه. نبي الرحمة ،Pوقائد �إلى �أن انتهت النوامي�س الإلهية ،وال�شرائع الربان ّية �إلى نب ّينا ّ الأ ّمة على فترة من الر�سل ،ودرو�س من الدين وانقطاع من الوحي ،ف�أعذر و�أنذر ونهى حجة. وح ّذر ،و�أقام الحجج البالغة والمعجزات الباهرة ،لئال يكون للنا�س على اهلل ّ ثم بعد انق�ضاء النب ّوة ومن كان بعده في �صدر الإ�سالم ،كان قوام الدين ونظام �أمر الم�سلمين في �أيدي العلماء العاملين ،والأخيار الزاهدين مناهج الحق ودالئل ال�صدق، تنق�شع ب�ساطع �أنوارهم غياهب الجهالة ،وتنجلي بم�صابيح حكمهم ظلم ال�ضاللة والغواية ،ح ّفاظ ًا لنوامي�س �شريعته ،وهداة لظالل خليقته ،منارة في �أر�ضه وحجبه على خلقه ،قد �أفنوا في مر�ضاته نفو�سهم و�أذابوا ج�سومهم ،ف�أح ّلوا حالله وح ّرموا حرامه، و�أقاموا الحدود وب ّينوا الأحكام ،فغدى بهم الإ�سالم رفيع الدعائم ثابت القوائم ،مجتمع �شمله منتظم �شتاته ،ولوالهم لأ ّدى حبل الأمة �إلى اال�ضطراب ودينها �إلى الذهاب ،فمن 142
�����������������
ّثم كانت رزيتهم �أعظم الرزايا ،وبليتهم �أفظع الباليا ،ف�إذا دهم �أحدهم ريب المنون ُ وعاجل الق�ضاء الذي ال مر َّد لهَ ،ث ِل َم في الإ�سالم َث ْل ٌم ال ي�سده قيام عالم غيره �إلى يوم القيامة ،لأ ّنه بفقد العلماء ف ْق ُد الدين وا�ضطراب حبل الم�سلمين ،و�إنّ �أحقّ الذاهبين في ا�ستعظام م�صابه وفقده و�إيابه ،و�أن يكون حزنها عليه �سرمد والثك ُل بم�أتمه م�ؤ َّبد ،من �أفنى نف�سه بالمراقبة ،و�أن�صب بدنه في المحا�سبة ،و�أ�سهر عينه في طاعة ر ّبه ،و�أطال فكره في عز دينه و�إقامة كتابه واتّباع ُ�س ّنته� ،س ّيما م�صباح الهدى وعلم التقى حبل اهلل المتين وحكمه المبين ،ال َع َلم ّ العلمة والحبر الفهامة ،ركن الدين وعماد الم�ؤمنين، المرحوم المبرور المقد�س ال�شيخ �شيخ مو�سى �شرارة العاملي تغمده اهلل برحمته و�أ�سكنه �أعلى غرفات جنته ،و�أفا�ض عليه من �ش�ؤبوب((( الر�ضوان عذب ًا �سل�سبيال و�سلك به مناهج العفو والرحمة جا ّدة و�سبيال .فلقد كان بعيد الغاية طويل النهاية ،يقول ف�ص ًال تتفجر ينابيع الحكمة عن ل�سانه ،وتزهر م�صابيحها لأهل زمانه .معر�ض ًا ويحكم عد ًالّ ، عن الدنيا وزهرتها ،منحرف ًا عن مالذها وبهجتهاُ ،ي ْ�ص ُ دق الفعل منه القول .ك ّل ما �سوى اهلل عنده عدم ،وما في الكون خيال �أو وهم ،غفالته ذكر وذكره �شكر .يرى �أنه �إن جاء يوم ًا بغفلة هي الكفر �أو وقد كان من دونها الكفر ،تج ّردت نف�سه عن كثافة هذا الج�سم ولحقت بعالم الملكوت ،فكادت �أن ترفع له ُح ُج ُب العزّة والجبروت. بحر عرفان ال ينزف وحديقة علوم ال تو�صف ،ماذا ع�سى �أني فيه �أقول� :إال �أنه مزج العلم بالحلم والعفو بالقدرة ،والجاللة بالهيبة والوقار بال�سكينة والغنى بالع ّفة ،فكان قيد النواظر ومهوى الب�صائر .مجال�سه بال�سيادة معمورة وبالوقار من دون التِّيه((( مغمورة، ال تطي�ش �أحالمه وال تت�ش ّعب �أوهامه ،ال يخرجه الغ�ضب عن ح ّده وال الهزل عن ج ّده .ح ّل من ال�شرف و�سط ًا ،و�أقدم في الأمر فرط ًا� ،صارم عند ال�شدائد والأناة ،وعف ٌّو عند تزايد الجرم وتكاثر الهناة� ،أ�صاب من المجد لبابه ومن عن�صر الكرم �أطيبه ،حديثه ك ّل عن (( ( �ش�ؤبوب :الدفعة من المطر. والكبر. ال�صلف ِ ((( التّيهّ :
143
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
مغزاه كل مديد بعيد مناط الهمة ،ومنحاه غير بعيد ،ثهالن طما((( ،والقدر عزما� ،أنف الكرم ومخ الأمم .نجم عند تح ّير الدليل ،وبدر لمن فقد النهج وال�سبيل ،كالمه �إجادة للفكر وفي�ض القريحة وعفو الطبع و�إ�صابة حز المف�صل ،كال�سحر الحالل والماء الزالل وبرد ال�شراب و ُب َرد الثياب. له من كل �شيء عقوته((( وعنفوان مكرمه ،لقد قرب حتى �أطع وبعد حتى امتنع، ذكره �شفاء المري�ض وجبر المهي�ض ،وزاد الراحل وبلغة الآمل ،وعندما �أراد اهلل تعالى ا�صطفاءه �إليه من دار الغفلة ومواطن الغربة �إلى دار ال يزول نعيمها وال يظعن مقيمها، دعاه ف�أجاب مطيع ًا ول ّبى �سريع ًا ،فترك عامل و�أهلها نوادب وعيوانها �سواكب و�أح�شا�ؤها ت�ضطرب و�أكبادها تلتهب� .إذ زال طودها ال�شامخ ،وعلمها الباذخ ،وهُ داها �إذا �أ�شكلت ال�سبل و�ض ّل الدليل ،وم�أواها من لفحات هجير الدهر وقد عز المقيل ،و�ضحاها �إذا ُ اغبرت الفجاج والبالد ،واق�ش َعرت الربى والوهاد ،وقد ا�سو َّد وجه العام وتواترت نوائب الأيام ،والغيث قد �أقلع وال�سحاب َّ تق�شع ،فكم له هناك من وابل جود طويل المدى، و�سحائب �أيد مه َّلة نبوء الجدى ،وم�آثر ال تح�صى ،ومحامد ال ت�ستق�صى .فبفقده فقد الدهر غ ّرته ،وطوحت من بعده ريا�ض المعارف والكرم ،وانثلم حد الأدب والقلم وغدت ظالل الهداية دار�سة ،و�أغ�صان الجهالة بالفيء مائ�سة((( ،وربوع المدار�س مطمو�سة الأثر وريا�ض مبانيها كه�شيم محت�ضر ،ولواء العلوم تحطمت معادهن وتب َّددت �أجناده، ّ ولف بعد ما كان من�شور ًا ،وانيح((( بعدما كان للهداية م�شهور ًا ،و ِل َب ْي ِن ِه بان ح�سام ال�شريعة و َث ُلم ،ومال �صدر قناتها ُ وتنف�ست نكبات الع�صر، وحط ْم ،ولموته تطاولت �صروف الدهرّ ، وم ّدت �أ�شطان((( المنايا �إلى ركابها النفو�س ،وثبت في مناهجها حبائل الغدر ،و�أخذت (( ( ثهالن طما :ثهالن ا�سم لجيل وي�ضرب به المثل للرجل الوقور ،وطما بمعنى ارتفع. ((( عقوته� :ساحته. ((( مائ�سة :متبخترة. (( ( انيح :تحرك بثقل �شديد. ((( �أ�شطان :جمع �شطن وهو الحبل الطويل ال�شديد الفتل.
144
�����������������
تق�ضي فيها النذر بعد النذر .ف�أبقت الدنيا نوائح عليه تتجاوب ،و�أح�شاء الأنام بالأرزاء تتجاذب ،م�ستفرغة العبرات م�شبوبة الأح�شاء بالزفرات� .إذ هوى نجم هداها وخبا زند وبدر لياليها قد �سامه الخ�سف وعاجله الحتف ،وانتظم �شمل الهدى في �سلك عالهاْ ، المن ّية والردى ،وتق ّو�ضت عمد المكارم والمفاخر ،ون ّك�ست لفقده ر�ؤو�س المنابر .فه ّيج قرائح الأكباد و� ّأجج زفرات الوجد بالف�ؤاد ،ف�أخذ كل �أديب �إلى غايته طريق وغدى ل�سانه �شعر و�أدب وال متطف ًال �إلى هذه ينفث بما يح ّرك القلب من الوجد والحريق ،فلم يبق ذو ٍ ال�صناعة �إال �أن�شد و�أعرب. ((( ب��ه �سلك ال�ن��ا���س ال�سبيل �إل ��ى ال�ه��دى ف �غ��اب ف �ع� ّ�ج��ت ب��ال �م��راث��ي ك��رام �ه��ا وها �أنا مورد من �آثاره ما يكون لك �شاهد ،وعلى ما قلته م�ساعد من م�آثر تبهر العقول ويح�سر عن �إداركها الطرف ،وف�ضائل تعجز عن و�صفها الأقالم ،وت�ضيق بطون الدفاتر ،وغرر من �أ�شعاره وجملة من زواهر �آثاره ،وما قيل فيه من المديح �أيام حياته، والرثاء بعد وفاته لتالمذته وغيرهم من �أهل الأدب والف�ضل ،بعد تاريخ مولده ولمع من �أخباره و�سيره� .إال �أنني وقفت على ُج َمل �شافية و ُنبذ في حقه وافية ،قد ت�ضمنت جملة من جميل �أخباره ،وا�ستوفت �شذر ًا من بع�ض ف�ضائلة و�آثاره ،ا�ستغنيت بها ع ّمن �سواها لجناب ال�سيد الفا�ضل والعالم العامل ال�سيد نجيب الدين ابن المرحوم المقد�س ال�سيد �سيد محي الدين ف�ضل اهلل الح�سني العاملي تغمده اهلل برحمته ،وهو ممن قد بلفظ � ّ أرق من ن�سمات الأ�سحار تخ ّرج على يده في جملة من العلوم وفنون الأدب ،م�ؤرخ ًا ٍ و�أعذب من نفحات الأطيار .تزدري بقالئد العقبان((( ونثار الل�ؤل�ؤ والمرجان ،وال عجب ف�إنه ممن �ضرب في ال�صناعة وغيرها على عرق وجرى فيها على حق ،فكان له ال�سبق في كل م�ضمار وجواز الغاية في حلبات المجد والفخار ،وناهيك به من �أديب م�صقع(((، (( ( من ق�صيدة لل�شيخ مو�سى �شرارة في رثاء ال�شيخ عبد اهلل نعمة. (( ( العقبان :هنا بمعنى الذهب الخال�ص. (( ( م�صقع :البليغ �أو عالي ال�صوت.
145
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
وبليغ مبدع .كالمه في جمل هذا التاريخ عدا عن �شعره ال�سائر في الأم�صار م�سير ال�شم�س رابعة النهار من ر�صانة لفظه ومتانة معناه يحكي نثر ابن العميد((( وخطب ابن الحميد((( ،وال غرو ف�إنه ممن �ضربت به �أعراق النب ّوة وجراثيم الإمامة ،وال�شيء ال يعرف �إال بف�ضله وكل عرق نزّاع �إلى �أ�صله وها �أنا مورده بتمامه واهلل الم�ستعان». خال�صة ما يمكن قوله في �شخ�صية ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل: �أ ّنه عالم جليل جمع �إلى الفقه والأ�صول ،الحكمة والفل�سفة ،والأخالق ،والأدب وال�شعر ،فكان العالم القدوة والموجه والمربي ،وكان يمتلك القدرة والح�ضور ،على �إبداء الن�صيحة لعلماء الدين ،ولم نجد �أو ن�سمع من ر ّد عليه �أو اعتر�ض ،م ّما ي�ؤكد هيبته في النفو�س ،وقوة �شخ�صيته ،ومكانته العلمية والإجتماعية ،التي ت�ؤهله �إلى هذا الت�صدي الوا�ضح ،حيث كان يرى وجوب ًا عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،في الأمور ال�صغيرة والكبيرة ،ولم يكن ِل ُيدينَ الآخرين ،بل كان ين�صحهم ،وهناك فرق كبير بين الإدانة والن�صيحة ،فعندما ُتدين �أحد ًا ،يبد�أ بالدفاع عن نف�سه ،بينما الجميع يقبلون الن�صيحة الهادفة وال�صادرة ب�شرطها و�شروطها .ففي الوقت الذي �ص ّنف فيه كتاب (ال�سمكية) لمعالجة م�س�ألة �أخالقية ،هو ت�صدى لمعالجة �أمور كبيرة في الحوزة العلمية في النجف الأ�شرف ،ثم قام بكل الواجب في جبل عامل ،فنه�ض به مع �إخوانه العلماء ،على ال�صعيد العلمي والأدبي والأخالقي والإجتماعي ،ووقفوا مدافعين عن دينهم ،وعن �شعبهم� ،أمام الغطر�سة العثمانية من دون خوف وال وجل ،ولي�س لهم معين �إال اهلل عز وجل ،وعندما وجد خطر الغزو الإيطالي يهدد مدينة طرابل�س الغرب في ((( ابن العميد� :أبو الف�ضل ،محمد ابن العميد (ت360 :هـ970/م) ،كان وزير ركن الدولة بن بويه ،وكان متو�سع ًا في علوم الفل�سفة والنجوم ،و�أ ّما الأدب والتر�سل فلم يقاربه فيه �أحد في زمانه ،وكان كامل الريا�سة ،قال الثعالبي في كتاب اليتيمة ،كان يقال بد�أت بعبد الحميد وختمت بابن العميد. ابن خلكان ،وفيات الأعيان ،ج� ،5ص.13 (( ( ابن الحميد :عبد الحميد بن يحيى بن �سعد( ،قتل132 :هـ749/م) الكاتب البليغ الم�شهور ،وبه ي�ضرب المثل في البالغة ،له ر�سائل تقع في نحو �ألف ورقة .هو من �أهل ال�شام ،وكان �أو ًال معلم �صبية ،ينتقل بين البلدان ،وكان كاتب مروان بن محمد �آخر ملوك بني �أمية ،قتل مع مقتل مروان على يد العبا�سيين .ابن خلكان ،وفيات الأعيان ،ج� ،3ص.228
146
�����������������
ليبيا في �شوال �سنة 1329هـ1911/م ،جادت قريحتة بق�صيدة� ،إ�ستنه�ض فيها همم ال�شعوب ،وح ّثهم على مقاومة الإحتالل ،ومما قاله: أرواح ن �ه �ب��ا �أث� � �ي � ��روه � ��ا ع� �ل ��ى ال� �ط� �ل� �ي ��ان ح ��ر ًب ��ا ع� � ��وان� � ��ا ت � �ن � �ه� � ُ�ب ال َ �أث � �ي� ��روه� ��ا ً وغ � � ��ى ه �ي �ج ��ا ���ض ��رو� ً��س ��ا ت � �� � �ش� � ُّ�ب ب � �ح� ��وم� ��ة ال � �ط � �ل � �ي� ��ان � �ش �ب��ا ع �ل �ي �ه��م ف ��ا�� �ض ��رب ��وا �� �س ��ور ال �م �ن��اي��ا ب� �ج� �ي� �� ��ش ي� � �م �ل� ً�ا الأك� � � � � � ��وان رع � �ب � � ًا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا ه � �ي� ��اج � � ًا ف� �م ��ا غ� �ي ��ر ال� ��� �س� �ي ��وف ل � �ه� ��نّ ط �ي �ب��ا ل� �ن ��ا �إن �أرغ � � � ��م الآن� � � � � � َ �اف � �ض �ي � ٌم ع� ��ران � �ي� ��نٌ ���ش��م��ي � َ�م ال� �� ّ��ض� �ي ��م ت� ��أب ��ى ل � �ن� ��ا ال � � � �غ� � � ��ارات �� � �ش � ��اه � ��دة ب� � ��أ ّن � ��ا ر�أي � �ن� ��ا ال � �م� ��وت ف� ��ي ال� � �غ � ��ارات ع��ذب��ا �إذا ف� �ط ��م ال� ��ر� � �ض� ��اع ل� �ن ��ا ول � �ي� ��د ًا ع� �ل ��ى ال � � �غ� � ��ارات وال� � � �غ � � ��زوات � �ش �ب��ا ت� �م� �ي ��د ل �ب �ي �� �ض �ن��ا � � �ش � � ُّم ال� ��روا� � �س� ��ي �إذا ل� �م� �ع ��ت ب� �ل� �ي ��ل ال� �ن� �ق ��ع � �ش �ه �ب��ا �اول م� ��ن م� �غ ��ام ��ده ��ا ان� ��� �س�ل� ً ت� � �ح � � ُ اال �إذا ه� �ت ��ف ال� �� َّ��ص ��ري ��خ ب� �ه ��نّ ن � ْ�دب ��ا وت� ��رق � ��� ��ص ج � ��ردن � ��ا م � ��رح� � � ًا وت��ي��ه�� ًا وت� � �ه� � �ت� � � ّز ال � �ق � �ن� ��ا ط� � ��ر ًب� � ��ا وع� �ج� �ب ��ا ف �ن �ح ��ن ال� �م ��ان� �ع ��ون ال � �ج� ��ار � �ض �ي � ًم��ا ون� �ح ��ن ال��م ��ان��ح ��ون ال� �ج ��دب خ�صبا ون� � �ح � ��ن ال � �ن� ��اه � �� � �ض� ��ون ب � �ك� ��ل ع� � ْ�ب �إذا ع �� �ص �ف��ت ب � ��أف� ��ق الأر�� � � ��ض ن�ك�ب��ا ون� �ح ��ن ال� �م ��ال� �ك ��ون ال� ��� �ش ��رق ق �� �س��ر ًا ون � �ح� ��ن ال� �غ ��ان� �م ��ون ال � �غ� ��رب ك���س�ب��ا �أت � �ع � �ج� ��زن� ��ا ب � �ن� ��و ال � �ط � �ل � �ي� ��ان ق �ت�لا �إذا اح� �ت ��دم ال ��وغ ��ى ط �ع � ًن��ا و� �ض��رب��ا ب �ل��اد ال�����ص��ي ��ن وه � ��ي ع� �ل ��ى م ��داه ��ا م �ل ��أن � ��ا � � �ص� ��دره� ��ا خ � ��و ًف � ��ا ورع � �ب� ��ا ث �ل �ل �ن��ا ع� ��ر�� ��ش ك� ��� �س ��رى ف� ��ي � �س �ي��وف غ � ��دا ال � �م� ��وت ال� � � � ��ز�ؤام ل� �ه ��نّ غ��رب��ا �� �س ��ل ال � �ي� ��رم� ��وك وال � ��� َّ��ش� ��ام� ��ات ل � َّم��ا ب � �ه� ��ا ب � �ح� ��ر ال � �ه � �ي� ��اج ط � �غ� ��ى وع � � َّب� ��ا ت ��رك� �ن ��ا م� ��ن ن �ج �ي �ع �ه � ُ�م ال � �� � �ض� ��واري ت� � � � � ��راوح � � �ش� ��رب � �ه� ��ا ن� � �ه �ل� ً�ا وع � � َّب� ��ا بهذا الملخ�ص حاولت �أن �أقدم للقارئ العزيز وللتاريخ ،هذه الكلمات بحق العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،لأقول �أنّ ما و�صلنا �إليه من ع ّز وكرامة ،لم يكن مف�صو ًال عن تاريخنا وعن جهاد علمائنا ،الذين كانوا الحا�ضن والمربي والم�شجع على ا�ستمرار 147
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
العلم والمعرفة والأدب في جبل عامل ،كي يبقى منارةُ ،ت�ضيئ لأهلها ،وال ينح�صر�شعاعها �ضمن �إطار جبل عامل الجغرافي ،و�إنما و�صل هذا ال�شعاع �إلى كثير من بالد الم�سلمين، وتركت �أثر ًا طيب ًا ،فن�شروا الفقه والحديث والتف�سير ،وت�صدوا للق�ضاء وللوعظ والإر�شاد والإ�صالح ،مع �أنهم كانوا في بالد ال يعرفون لغتها ،مثل� :إيران والهند ،وهذا ي�ؤكد على مدى الذكاء والإخال�ص ،الذي ات�صف به علماء جبل عامل ،فال�شيخ علي الزين((( الذي هرب من نكبة �شحور التي وقعت على �أيدي العثمانيين �سنة 1783م ،وذهب �إلى الهند، �أ�صبح وزير ًا في الحكومة الهندية ،وم�شايخ جبل عامل كانوا �شيوخ ًا للإ�سالم في الدولة ال�صفوية. �إرتحل عن دار الدنيا� ،أثناء الحرب العالمية الأولى �سنة 1336هـ1917/م ،ولم يكن ُيعاني من �أي مر�ض ،فبينما كان ُيحيي ذكرى عا�شوراء ،ويقر�أ بنف�سه (المقتل) المعروف بتالوته قبل ظهر يوم العا�شر من المحرم ،وكان يت�أثر كثير ًا� ،إلى حدود فقدان الوعي ،على م�صاب �أبي عبد اهلل الح�سين ،Qوما جرى على �أهل بيته الطيبين، وفي العا�شر من المحرم لعام 1336هـ ،وبينما هو يتلو الم�صرع ،وقد ت�أثر كثير ًا� ،سقط من على المنبر �إلى الأر�ض ،فحدث معه نزيف بالر�أ�س ،مما �أدى �إلى مفارقته الحياة، عن عمر ثالث وخم�سين �سنة ،ودفن في بلدة (قانا) من جبل عامل. ورغم ق�صر هذا العمر� ،إال �أنه كان مليئ ًا بالعلم والأدب ،وبركاته ال زالت �إلى يومنا هذا.
((( ال�شيخ علي الزين (�صاحب �شحور) :ثار على العثمانيين �سنة 1197هـ ،بم�ساعدة الأمير جمزة من �آل ال�صغير ،حيث ق�صدوا تبنين التي كانت مقر ًا للعثمانيين ،فقتلوا المت�سلم ،لكن الكاتب الأيوبي في القلعة تمكن من الفرار �إلى �صيدا ،ف�أخبر الجزار بما ح�صل .فقام الجزار ،ب�إر�سال �إلى �شحور الذي عاث في الأر�ض ف�ساد ًا ،فقتل ما يزيد على مئتي رج ًال ،و�أخذ الأ�سرى، و�صلب الأمير حمزة بالخازوق ،و�أمام هذا الواقع الجديد لم يجد ال�شيخ علي الزين �سبي ًال للنجاة �إال بالفرار خارج جبل عامل، فق�صد الهند و�صار وزير ًا لأحد ملوكها ،ونال عنده رتبة ،وبقي في الهند حتى وقوعها تحت �أيدي الإنكليز ،حيث عاد �إلى جبل عامل.
148
:ةمتاخلا
الخاتمة:
في خاتمة هذا الكتاب الذي هو عبارة عن جهد مجموعة من ال�سادة الباحثين ،حيث بذلوا ما يمكن في �سبيل ت�سليط ال�ضوء على �أحد علماء جبل عامل ،في مرحلة كانت �شبيهة بمرحلة الت�أ�سي�س التي انطلق بها ال�شهيد الأول ،في �أوا�سط القرن الثامن هجري. ونحن نكون بهذا الجهد حققنا هدفين: الأول :تكريم العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ،وتعريف النا�س به ،من خالل الحديث عن �سيرته والإ�ضاءة على م�ؤلفاته ،وهو �إحدى الكنوز التي كانت مطمورة، و�ساهمنا في الك�شف عنها ،و�إبرازها �إلى عالم النور ،بعدما عتّم عليها ظلم الحكام ؤتمر فكري نظمته جمعية الإمام والوالة ،و�أمراء الجور ،فك�شفنا عنها من خالل م� ٍ ال�صادق Qلإحياء التراث العلمائي. الثاني :توثيق هذه الأبحاث والدرا�سات ،وجمعها في هذا الكتاب ،كي يبقى وثيق ًة على مدى الأجيالُ ،ي�ستفاد منها ،وتَ�ص ُلح لتكون م�صدر ًا للباحثين والمهتمين ،و�أنا باعتقادي� ،أن جمع جهود متعددة ومعالجة �أفكار عديدة حول �شخ�صية واحدة ،قد يكون �أنفع من جهد �شخ�ص واحد ،فلكل باحث منهجه وطريقته ،وهذا يرفع الم ّلل، و ُيح ّفز القارئ على المطالعة .وخ�صو�ص ًا �أن ال�سيد محمد ر�ضا ،Mعالج العديد من 149
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
العناوين التي يحتاجها العلماء والنا�س ،وعلى �سبيل المثال ،نراه عالج: دور رجل الدين في العمل التبليغي. دور الفقهاء في الت�صدي لمن�صب الوالية ،من خالل القيام بالمهام التي كان �سيت�صدى لها الإمام المع�صوم Qلوال غيبته. م�شروع الإمامة ،ولم يعتمد على �إثبات الإمامة من خالل المنهج العقلي ،وحاجة الأمة �إلى الإمامة فقط ،بل عالجها كحاجة �إن�سانية واجتماعية. قدم ال�سيد محمد ر�ضا الأدب وال�شعر ،كلغة ُ تخاطب لإي�صال الفكرة ،بما ين�سجم مع طبيعة تلك المرحلة ،وخ�صو�ص ًا �أن ال�شعر يحفظه الخا�صة والعامة ،و ُيتناقل �أكثر من النثر. �أ�س�أل اهلل تعالى �أن يوفقنا والعاملين للإ�ستمرار ب�إحياء تراث علماء جبل عامل، وتكريم ه�ؤالء الأفذاذ ،الذين لم يبخلوا يوم ًا على هذه الأمة ،ف�صرفوا كل وقتهم، وع ّر�ضوا �أنف�سهم للمخاطر في �سبيل ن�شر العلم والوعي ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
150
������
الفهرس
المقدمة ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 3 االفتتاحية�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 13 ال�سيد ها�شم �صفي الدين������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ 13 ال�شيخ عبد الحليم الزهيري ��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 21 ال�شيخ �أحمد مبلغي�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 25 ال�شيخ ح�سن بغدادي���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 29
الأبحاث37 ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ : �أد.طراد حمادة��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 37 «الفل�سفة والعرفان في �أدب العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل» ������������������������������ 37 �أ.د �سالم المعو�ش ����������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 49 ميزان العدل «ال�سمكية» رحلة �إلى الداخل في محاولة �سردية �������������������������������������������������������� 49 «ميزان العدل» بو�صفه محاولة �سردية ���������������������������������������������������������������������������������������������������� 64 الأدوات الفنية في «ميزان العدل» ������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 68 ال�شخ�صيات��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 72
151
ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح
�أ .د� .أحمد حطيط ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 85 «الإمامة في فكر الع ّ المة ال�س ّيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الح�سني» ������������������������������������������������ 85 �أو ًال :مدخل ���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 85 خـاتـمة�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 97 ال�شيخ ح�سن بغدادي���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 99 محطات م�ضيئة في حياة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ���������������������������������������������������������������������� 99 والدته ون�سبه ���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 100 ن�ش�أته ودرا�سته ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ 102 كتاب ال�سمك ّية�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� 131 قرار العودة �إلى جبل عامل������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ 135 الخاتمة149 ��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������:
152