ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼرية ﺟﺪٍّا
ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻣﺎﻳﻜﻞ ﺗﺎﻧﺮ
ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺮوة ﻋﺒﺪ اﻟﺴﻼم ﻣﺮاﺟﻌﺔ ﻫﺒﺔ ﻋﺒﺪ املﻮﱃ
ﻧﻴﺘﺸﻪ
Nietzsche
ﻣﺎﻳﻜﻞ ﺗﺎﻧﺮ
Michael Tanner
اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ٢٠١٥م رﻗﻢ إﻳﺪاع ٢٠١٤ / ١٧٦٥٣ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻟﻠﻨﺎﴍ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﺸﻬﺮة ﺑﺮﻗﻢ ٨٨٦٢ﺑﺘﺎرﻳﺦ ٢٠١٢ / ٨ / ٢٦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره وإﻧﻤﺎ ﱢ ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ ٥٤ﻋﻤﺎرات اﻟﻔﺘﺢ ،ﺣﻲ اﻟﺴﻔﺎرات ،ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻧﴫ ،١١٤٧١اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻣﴫ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺎﻛﺲ+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣ : ﺗﻠﻴﻔﻮن+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢ : اﻟﱪﻳﺪ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhindawi@hindawi.org : املﻮﻗﻊ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhttp://www.hindawi.org : ﺗﺎﻧﺮ ،ﻣﺎﻳﻜﻞ. ﻧﻴﺘﺸﻪ :ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼرية ﺟﺪٍّا/ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻣﺎﻳﻜﻞ ﺗﺎﻧﺮ. ﺗﺪﻣﻚ٩٧٨ ٩٧٧ ٧٦٨ ١٢١ ٦ : -١اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن -٢ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ١٩٠٠–١٨٤٤ ، أ -اﻟﻌﻨﻮان ٩٢١٫١ ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف :إﻳﻬﺎب ﺳﺎﻟﻢ. ﻳُﻤﻨَﻊ ﻧﺴﺦ أو اﺳﺘﻌﻤﺎل أي ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺑﺄﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﺼﻮﻳﺮﻳﺔ أو إﻟﻜﱰوﻧﻴﺔ أو ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ، وﻳﺸﻤﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﰲ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻋﲆ أﴍﻃﺔ أو أﻗﺮاص ﻣﻀﻐﻮﻃﺔ أو اﺳﺘﺨﺪام أﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﴩ أﺧﺮى ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺣﻔﻆ املﻌﻠﻮﻣﺎت واﺳﱰﺟﺎﻋﻬﺎ ،دون إذن ﺧﻄﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﴍ. ﻧُﴩ ﻛﺘﺎب ﻧﻴﺘﺸﻪ ً أوﻻ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻋﺎم .٢٠٠٠ﻧُﴩت ﻫﺬه اﻟﱰﺟﻤﺔ ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ اﻟﻨﺎﴍ اﻷﺻﲇ. Arabic Language Translation Copyright © 2015 Hindawi Foundation for Education and Culture. Nietzsche Copyright © Michael Tanner 1994. Nietzsche was originally published in English in 2000. This translation is published by arrangement with Oxford University Press. All rights reserved.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
-١ﺻﻮرة ﻧﻴﺘﺸﻪ -٢املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ -٣اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻻﻧﺴﺤﺎب -٤اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ -٥اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة -٦اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة -٧اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ -٨ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺴﺎدة واﻟﻌﺒﻴﺪ -٩ﺗﻌﺎﻃﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗﺮﻋً ﺎ ﺑﺎملﻄﺮﻗﺔ ﺧﺎﺗﻤﺔ املﺮاﺟﻊ ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
9 15 27 35 49 59 73 85 93 97 109 111
إﱃ واﻟﺪي ،وإﱃ ذﻛﺮى واﻟﺪﺗﻲ.
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ﺻﻮرة ﻧﻴﺘﺸﻪ
ُ ﺑﺘﺠﺎﻫ ٍﻞ ﺷﺒﻪ ﺗﺎ ﱟم ﺧﻼل ﻓﱰة ﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ ﻧﻴﺘﺸﻪ ) (١٩٠٠–١٨٤٤ﻓﻴﻠﺴﻮف أملﺎﻧﻲُ ،ﻗﻮ ِﺑﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻠﻴﻢ اﻟﻌﻘﻞ ،واﻟﺘﻲ اﻧﺘﻬﺖ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﻔﺎﺟﺌﺔ وﻣﺒﻜﺮة ﺑﺎﻟﺠﻨﻮن ﻋﺎم ً ﻧﺤﻮ .١٨٨٩ﻛﺎن »ﻧﻴﺘﺸﻪ« ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻌﻰ أﻧﺎس ذوو آراءٍ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ وﻣﺘﻌﺎرﺿﺔ ﻋﲆ ٍ ﻣﺬﻫﻞ إﱃ أن ﻳﺠﺪوا ﰲ اﺳﻤﻬﺎ ﺗﱪﻳ ًﺮا ﻷﻓﻜﺎرﻫﻢ .وذﻛﺮت دراﺳﺔ ﻣﻤﺘﺎزة )أﺷﻬﺎﻳﻢ،(١٩٩٢ ، ﺼﺼﺖ ﻟﺘﻨﺎول ﺗﺄﺛريه داﺧﻞ أملﺎﻧﻴﺎ ﺑني ﻋﺎﻣﻲ ١٨٩٠وٍّ ،١٩٩٠ ُﺧ ﱢ ﻛﻼ ﻣﻦ »اﻟﻼﺳﻠﻄﻮﻳني، وأﻧﺼﺎر اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻨﺴﺎﺋﻴﺔ ،واﻟﻨﺎزﻳني ،وأﻋﻀﺎء اﻟﻄﻮاﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،واﻻﺷﱰاﻛﻴني ،واملﺎرﻛﺴﻴني، واﻟﻨﺒﺎﺗﻴني ،واﻟﻔﻨﺎﻧني اﻟﻄﻠﻴﻌﻴني ،وﻣﺆﻳﺪي اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ ،وأﻧﺼﺎر اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ املﺤﺎﻓﻈﺔ« ﻣﻦ ﺑني أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ وﺟﺪوا إﻟﻬﺎﻣً ﺎ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ .وﻫﺬا ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻻ اﻟﺤﴫ .وﻛﺎن اﻟﻐﻼف ً ﻣﻠﺼﻘﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺎب ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﻋﺎم ١٩٠٠ﻳﺼﻮﱢر ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﺮﺗﺪﻳًﺎ ُﻈﻬﺮ ﰲ ﺗﺒﺎ ٍه اﻷﻣﺎﻣﻲ ﻟﻠﺪراﺳﺔ ﻳ ِ ً إﻛﻠﻴﻼ ﻣﻦ اﻷﺷﻮاك .أﻣﺎ اﻟﻐﻼف اﻟﺨﻠﻔﻲ ﻓﻴﺼﻮﱢره ﻋﺎرﻳًﺎ ،ﺑﻌﻀﻼت راﺋﻌﺔ ،ﻣﺘﻤﻮﺿﻌً ﺎ ﻓﻮق أﺣﺪ ﺟﺒﺎل اﻷﻟﺐ .وﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﻮﺟﺪ ﺷﺨﺼﻴﺔ أملﺎﻧﻴﺔ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ أو ﻓﻨﻴﺔ ﺧﻼل اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﺴﻌني ً ً ووﺻﻮﻻ إﱃ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ. ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ ﺗﻮﻣﺎس ﻣﺎن ،ﻣﺮو ًرا ﺑﻴﻮﻧﺞ، املﺎﺿﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻌﱰف ﺑﺘﺄﺛريه، ﱠ إن اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻮاردة ﰲ »اﻷﻧﺠﻠﻮﺳﺎﻛﺴﻮﻧﻴﺔ« ،إذا اﺳﺘﻌﻨﱠﺎ ﺑﺎملﺼﻄﻠﺢ املﺴﺘﺨﺪم ﰲ ﻋﻨﻮان اﻟﻐﺮﺑﻲ املﺘﺤﺪث ﺑﺎﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻛﺘﺎب ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،واﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﻔﻲ ﺗﺄﺛريه ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱢ ٍ ٌ ٌ )ﺑﺮﻳﺪﺟﻮوﺗﺮ(١٩٧٢ ،؛ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﺬﻟﻚ .ﻓﻘﺪ ﺗﻮاﻟﺖ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻮﺟﺔ ﺗﻠﻮ أﺧﺮى ﻣﻦ ٌ ﻓﱰات ﺗﻮارى ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺴﺒﺐ اﻋﺘﺒﺎره ﻣﺼﺪ َر اﻹﻟﻬﺎم ﻟﻠﻨﺰﻋﺔ ﻣﺬﻫﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻣﺮت اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ اﻧﺘﻘﺼﺖ دول اﻟﺤﻠﻔﺎء ﻣﻦ َﻗﺪْره .ﺗُﺮﺟﻤَ ﺖ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ وﺑﺄﺳﻠﻮب ﻏري دﻗﻴﻖ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،أو إﱃ ﺷﻜﻞ ﻋﺠﻴﺐ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،ﰲ اﻟﺴﻨﻮات اﻷوﱃ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ .ورﻏﻢ ﻏﺮاﺑﺔ أﻟﻔﺎﻇﻬﺎ املﻬﺠﻮرة ،أو
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺑﺴﺒﺐ ذﻟﻚ وﻟﻮ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺼﻔﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﱰﺟﻤﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻘﺮاﺑﺔ ﺧﻤﺴني ﻋﺎﻣً ﺎ. وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻪ ﺳﻤﻌﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أﺣﻂ ﻣﺴﺘﻮًى ﻟﻬﺎ ﰲ إﻧﺠﻠﱰا واﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ﴍع ﻓﺎﻟﱰ ﻛﺎوﻓﻤﺎن ،أﺳﺘﺎذ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻐﱰب ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺮﻧﺴﺘﻮن ،ﰲ إﻋﺎدة ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺑﻜﺘﺎب ﻛﺎن ﻟﻪ ﺗﺄﺛري ﺣﺎﺳﻢ ﻟﻌﺪة ﺳﻨﻮات ،ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﻫﻢ أﻋﻤﺎﻟﻪ ،واﺳﺘﻬ ﱠﻞ ﻣﴩوﻋﻪ ٍ ﻇﻬﻮره ﻷول ﻣﺮة ﻋﺎم ١٩٥٠ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ ﺑﻬﺎ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ )ﻛﺎوﻓﻤﺎن.(١٩٧٤ ، ﻗﺪﱠم ﻛﺎوﻓﻤﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﺻﻮرة اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻔﻜ ًﺮا ﺗﻘﻠﻴﺪﻳٍّﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﻣﺼﺪر إﻟﻬﺎم ﱠ ً ﻟﻼﺳﻠﻄﻮﻳني واﻟﻨﺒﺎﺗﻴني وﻏريﻫﻢ .وﻣﻤﺎ أﺛﺎر اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺸﺔ ،وﻟﻢ َ ﻗﺒﻮﻻ ﻣﺤﺪود ﻳﻠﻖ إﻻ ً رﺟﻼ ﺻﺎﺣﺐ ﻣﻨﻄﻖ ،ﺑﻞ وﻛﺎن ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ اﻟﻨﻄﺎق إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ،أﻧﻪ اﺗﻀﺢ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ً أﻳﻀﺎ .وﻗﺪ ﺳﻌﻰ ﻛﺎوﻓﻤﺎن ﺑﺎﺳﺘﻔﺎﺿﺔ إﱃ إﺛﺒﺎت ﺑُﻌﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﺎم ﻋﻦ اﻟﻨﺎزﻳني ،وﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﺮﻛﺎت ﻏري اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ادﱠﻋﺖ أﻧﻪ راﺋﺪﻫﺎ ،وﻋﻦ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻔﻨﻮن .وأﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ،ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺳﺒﺐ ﻛ ﱢﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻠﺒﺔ اﻟﺘﻲ أُﺛريَت ﺣﻮﻟﻪ .وﻫﻜﺬا ﺑﺪأ اﻟﺘﻨﺎول اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ملﺬﻫﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻛﻔﻴﻠﺴﻮف ﺿﻤﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ،ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ أوﺟﻪ اﻟﺸﺒﻪ واﻻﺧﺘﻼف ﺑﻴﻨﻪ وﺑني إﺳﺒﻴﻨﻮزا وﻛﺎﻧﻂ وﻫﻴﺠﻞ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﻤﺎء اﻟﺮاﺋﺪة ﰲ اﻟﻔﻜﺮ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻟﻐﺮﺑﻲ .وﺑﻌﺪ اﻃﻤﺌﻨﺎن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني — وﻣِﻦ ﺑﻌﺪِﻫﻢ ﻋﲆ ٍ ُ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ — إﱃ اﺗﺴﺎع ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﺎوﻓﻤﺎن ،اﺗﺨﺬوه ﻧﻘﻄﺔ اﻧﻄﻼق ﻟﺪراﺳﺎﺗﻬﻢ ﻋﻦ ﱢ اﻟﺤﻖ وﻋﻼﻗﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ وﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺬات، ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﻮل املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ وﻃﺒﻴﻌﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﺴﺒﱢﺐ ﴐ ًرا ﺑﺄيﱢ ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ﰲ ﻛﺘﺒﻬﻢ وﻣﻘﺎﻻﺗﻬﻢ. ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﺛﻨﺎء ﰲ أوروﺑﺎ ،وﺗﺤﺪﻳﺪًا ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،أﺻﺒﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ — اﻟﺬي ﻟﻢ ﺗُﺸﻮﱠه ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻫﻨﺎك ﻗﻂ — ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻣﺴﺘﻤ ٍّﺮا ﻟﻠﺪراﺳﺔ واﻻﺳﺘﻬﺪاف ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻮﺟﻮدﻳني ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ ،ﰲ اﻟﻔﱰة ﻣﺎ ﺑني وﻣﻌﺘﻨﻘﻲ املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﻨﻮﻣﻴﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،إﱃ أن أﺻﺒﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ ٍ ﺳﺘﻴﻨﻴﺎت وﺳﺒﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﻣﺤ ﱠ ﻂ أﻧﻈﺎر ا ُملﻨ ﱢ ﻈﺮﻳﻦ اﻟﻨﻘﺪﻳني وﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺒﻨﻴﻮﻳني واﻟﺘﻔﻜﻴﻜﻴني .وﻋﻨﺪﻣﺎ اﻛﺘﺴﺒﺖ اﻟﺤﺮﻛﺘﺎن اﻷﺧريﺗﺎن — ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺒﻨﻴﻮﻳﺔ واﻟﺘﻔﻜﻴﻜﻴﺔ — ﻷول ﻣﺮة ﻣﻜﺎﻧﺔ ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ﺛﻢ ﺳﺎدﺗﺎ ﰲ أﻧﺤﺎء اﻟﺒﻼد ،ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣُﺠَ ﱠﺪدًا ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻋﱰف ﺑﻪ ﻣﺼﺪ ًرا رﺋﻴﺴﻴٍّﺎ ﻷﻓﻜﺎرﻫﻤﺎ .وﻛﺬﻟﻚ ،اﻛﺘﺸﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴني أﻧﻪ ﻟﻢ ُِ ﻳﺒﺘﻌﺪ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﻢ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ اﻓﱰﺿﻮا ،وﺑﺘﻠﻚ اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺘﺒﺎدﻟﺔ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ،ﻫﻨﱠﺌﻮه ﻋﲆ إﻳﻤﺎﻧﻪ املﺒﺪﺋﻲ ﺑﺒﻌﺾ أﻓﻜﺎرﻫﻢُ ،ﻣ َ ﻄﻤْ ﺌﻨني أﻧﻔﺴﻬﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ 10
ﺻﻮرة ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺸﺄن ﺗﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﺳﺘﻨﺎد إﱃ ﺳﻠﻄﺘﻪ .ﻟﻘﺪ ﻇﻬﺮت اﻵن ﺻﻨﺎﻋﺔ ﻣﺰدﻫﺮة ﻧﺤﻮ ﺷﺒﻪ ﻣﺆ ﱠﻛﺪ ،ﺗﻈﻬﺮ ﻛﺘﺐٌ ﻛ ﱠﻞ ﻋﺎم ﻋﻨﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أيﱢ ﻣﻔﻜﺮ آﺧﺮ، ﻗﻮاﻣﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻋﲆ ٍ ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﻳﺜريه ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎم ﻟﺪى اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺪارس املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻔﻜﺮ واﻟﻔﻜﺮ املﻨﺎﻗﺾ. ﻣﻦ ﻏري املﺠﺪي ادﻋﺎء أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﺳﻴﺴﺘﺎء ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة .ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺧﻼل ﺣﻴﺎﺗﻪ )اﻟﺘﻲ ﺳﺄﻗﺼﺪ ﺑﻬﺎ دوﻣً ﺎ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﻬﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ أُﺻﻴﺐ ﺑﺎﻟﺠﻨﻮن ﻋﺎم ١٨٨٩؛ أي ﻗﺒﻞ وﻓﺎﺗﻪ ﺑﺄﺣﺪ ﻋﴩ ﻋﺎﻣً ﺎ ،ﻣﺎ ﻟﻢ أﻗﻞ ﺧﻼف ذﻟﻚ( ﻣُﻬﻤَ ًﻼ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ورﻏﻢ أن ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻀﺎﻳﻘﻪ ،ﺷﺄﻧﻪ ﺷﺄن أيﱢ ﳾء آﺧﺮ ،ﻓﻘﺪ ﺳﺒﱠﺐ ﻟﻪ اﻟﺤﺰن؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﻧﺤﻮ ﺳﻴﻜﻠﻔﻬﻢ ﻟﺪﻳﻪ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻬﻤﺔ ﻳﺮﻳﺪ ﻧﻘﻠﻬﺎ إﱃ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺠﺎﻫﻠﻮﻧﻬﺎ ﻋﲆ ٍ ﻋﻮاﻗﺐ وﺧﻴﻤﺔ ،وﻫﺬه إﺣﺪى ﻧﺒﻮءاﺗﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪة اﻟﺪﻗﺔ .وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﺳﻴﻨﻈﺮ ﺑﺎزدراء إﱃ ﻛ ﱢﻞ ﳾء ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ُﻛﺘِﺐ أو ُﻓﻌِ ﻞ ﺗﺤﺖ ﻣﻈﻠﺘﻪ ،وﺗﻠﻚ اﻻﺳﺘﺒﺎﺣﺔ اﻟﻨﺎﺟﺤﺔ ﻷﻋﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ — رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُ َ ﻀﺎﻫﻰ ﰲ ﻓﺪاﺣﺘﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ اﻻﻋﺘﺪاءات اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻋﺎﻧﻰ ﻣﻨﻬﺎ ً ﻫﺰﻳﻤﺔ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ أراد ﺑﺄيﱢ ﺛﻤﻦ أﻻ ﻳﻜﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺘﻌ ﱡﻠﻢ — رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﺒﺪو ﻟﻪ اﻟﺬي ﻳ ِ ُﻤﴘ ﻓﻴﻪ ﻛ ﱡﻞ ﳾء ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻟﻠﻤﻨﺎﻗﺸﺔ وﻟﻴﺲ ﻟﻠﻔﻌﻞ. ﻗﺒﻞ أن ﻧﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻋﺮض آراﺋﻪ ،ﺣﺮيﱞ ﺑﻨﺎ اﻟﺘﻮﻗﻒ ً ﻗﻠﻴﻼ وﺗﺄﻣﱡ ﻞ ﻣﺎ اﺗﺴﻤﺖ ﺑﻪ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﺳﺒﺒًﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﰲ ﺟﺬب ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺮﻛﺎت وﻣﺪارس اﻟﻔﻜﺮ املﺘﻨﻮﻋﺔ .ﻟﻦ ﺗﻈﻬﺮ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺑﺼﻮرة أوﺿﺢ ﱠإﻻ ً ﻻﺣﻘﺎ .وﻟﻜﻦ ﻛﺘﻔﺴري ﻣﺒﺪﺋﻲ ،ﻳﺒﺪو أن ﻏﺮاﺑﺔ ﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻪ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﱰﻋﻲ اﻻﻫﺘﻤﺎ َم ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺘﺒﻪ ،اﻟﺘﻲ أﻋﻘﺒﺖ ﻛﺘﺎﺑﻴﻪ املﺒﻜﺮﻳﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ) (١٨٧٢و»ﺗﺄﻣﻼت ﰲ ﻏري أواﻧﻬﺎ« ) ،(١٨٧٦–١٨٧٣ﺗﺘﻜﻮن ﰲ اﻟﻌﺎدة ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻻت ﻗﺼرية ،ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻃﻮﻟﻬﺎ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻋﻦ ﺻﻔﺤﺔ واﺣﺪة وﺗﻜﻮن أﻗﺮب إﱃ اﻷﻗﻮال املﺄﺛﻮرة، ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ رﻏﻢ أﻧﻬﺎ — ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى — ﺗﺨﺘﻠﻒ وﺗﻘﺪﻳﺮﻫﺎ ﰲ اﻟﻌﺎدة :ﺣﻴﺚ ﺗﻀﻢ ﻣﻘﻮﻟﺔ ﻣﻦ ﺳﻄﺮ واﺣﺪ أو ﺳﻄﺮﻳﻦ ﱢ ﺗﻠﺨﺺ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ً ﻗﺒﻮﻻ ﺑﻴﻘﻴﻨﻬﺎ اﻟﺘﺎم .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﺪد املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺎﻗﺸﻬﺎ ﻛﺒريًا، ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﻨﻔﺎﺟﺄ ﺑﺘﻨﺎول ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ،ﻣﺜﻞ اﻟﻄﻘﺲ واﻟﻨﻈﺎم اﻟﻐﺬاﺋﻲ واﻟﺘﻤﺮﻳﻨﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ وﻣﺪﻳﻨﺔ اﻟﺒﻨﺪﻗﻴﺔ .ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻻ ﺗﺨﻀﻊ ﺗﺄﻣﻼﺗﻪ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻤﻌﻈﻢ ﻟﱰﺗﻴﺐ ﻣُﺤﺪﱠد؛ وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن دراﺳﺔ ﻣﻘﺘﻄﻔﺎت ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺳﺘﻜﻮن أﺳﻬﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻐﻀﻪ ﻟﻸﻧﻈﻤﺔ اﻟﺬي ﻳﻌﻠﻨﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻤﻞ ذﻟﻚ ً ﻣﺘﻄﺮﻓﺎ ،وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺑﻀﻤري ﻣﺴﱰﻳﺢ .ﻳﻀﻢ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﻗﻮاﻟﻪ ﺷﺒﻪ املﺄﺛﻮرة ﻣﺤﺘﻮًى أن املﺮء ﻗﺪ ﻳﺴﺘﺸﻒ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﺆ ﱠﻛﺪ ﻣﺎ ﻳﺤﺒﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﻜﺘﺸﻒ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻗﺪ ًرا 11
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻛﺒريًا ﻣﻤﺎ ﻳﻜﺮﻫﻪ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﱢ آن واﺣﺪ .إن ﻣﺎ ﻳﻌﱪ ﻋﻨﻪ ﺑﻤﻔﺮدات ذﻛﻴﺔ وﺣﺎدة ﰲ ٍ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﺣﻀﺎرة اﻷملﺎن، ﻳﻜﺮﻫﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻫﻮ ﻛ ﱡﻞ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ، وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬا أﻣ ًﺮا ﺻﺎدﻣً ﺎ ﻟﻠﻘﺎرئ .وﺟﻮﻫﺮ رأﻳﻪ أﻧﻨﺎ إذا ﻟﻢ ﻧﺼﻨﻊ ﺑﺪاﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻓﺈﻧﻨﺎ ً أﺳﺎﺳﺎ ﺣﻮل ﻛ ﱢﻞ ﻫﺎﻟِﻜﻮن ،ﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﻴﺶ وﺳﻂ ﺑﻘﺎﻳﺎ أﻟﻔﻲ ﻋﺎم وأﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر املﻐﻠﻮﻃﺔ اﻷﻣﻮر املﻬﻤﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ووﺳﻂ اﻧﺤﻼل ﳾء ﻛﺎن ﻣُﻬ ِﻠ ًﻜﺎ ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎل ،إذا ﺟﺎز اﻟﺘﻌﺒري .وﻫﻮ رأي ﻳﺘﻴﺢ املﺠﺎل أﻣﺎم اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﺪﱢﺳﻮن ﻓﻜﺮة اﻻﻧﻔﺼﺎل اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻋﻦ ﻣﻮروﺛﻬﻢ اﻟﺜﻘﺎﰲ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ .ﻏري أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻳﺒﺪو أن اﻟﺘﻨﻮع ﰲ ﺗﻔﺴري أﻋﻤﺎﻟﻪ ،واﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻨﺤﴪ ﻗﻂ ﺑﻤﺮور اﻟﺴﻨﻮات ،ﻻ ﻳﺰال ﰲ ﺗﺰاﻳﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮ ،وإن ﻛﺎن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻗﻞ ﺗﺸﺎؤﻣً ﺎ ﻋﻦ ذي ﻗﺒﻞ ،وﻳﺤﺘﺎج ً ً ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺷﺨﺼﺎ إﱃ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﴩح .وﻫﻮ ﻳﻮﺣﻲ ﻟﻐري ا ُملﻄﻠِﻊ ﻋﲆ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ً ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺎ .ﻳﻨﻄﻮي ﻛﻼ اﻻﺗﻬﺎﻣني ﻋﲆ َﻗﺪ ٍْر ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ أﻣﺮ ﺳﻴﺒﺪو اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ،ورﺑﻤﺎ أﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا وإداﻧﺔ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إذا ﻟﻢ ﻳﺪرك املﺮء وﻳﺘﺬ ﱠﻛﺮ داﺋﻤً ﺎ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺧﻼل ً ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« وﻣﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ؛ اﻷﻋﻮام اﻟﺴﺘﺔ ﻋﴩ اﻟﺘﻲ َﻛﺘﺐ ﻓﻴﻬﺎ أﻧﻀﺞ أﻋﻤﺎﻟﻪ، ﻛﺎن ﻳﻄﻮﱢر آراءه ﺑﻤﻌﺪ ٍﱠل ﻏري ﻣﺴﺒﻮق ،وأﻧﻪ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻜﱰث ﺑﺘﻮﺿﻴﺢ آراﺋﻪ املﺘﻐرية. ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻋﺎد ًة ﻫﻮ ﻣﺤﺎوﻟﺔ رؤﻳﺔ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻷوﱃ ﰲ ﺷﻜﻞ ﺟﺪﻳﺪ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﺘﺄﻣﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﺎﻋﺘﻘﺎده أن املﺮء ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻬﻢ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ؛ ﻟريى ﻛﻴﻒ ﺗﻄﻮﱠر .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻞ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻳﻮﺿﺢ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﺣﺒﻴﺲ ﺛﻘﺎﻓﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ اﻟﻔﺎﺳﺪة ،ﻣﻦ اﻻﻧﺼﻴﺎع ﻟﻬﺎ إﱃ اﻟﺘﻤﺮد ﻋﻠﻴﻬﺎ وﺗﻘﺪﻳﻢ اﻗﱰاﺣﺎت ﻹﺣﺪاث ﺗﻐﻴري ﺟﺬري. وﰲ ﻋﺎم ١٨٨٦ﺗﺤﺪﻳﺪًا ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﲆ أﻋﺘﺎب آﺧﺮ ﻣﺮاﺣﻠﻪ اﻹﺑﺪاﻋﻴﺔ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻮﺳﻌﻪ اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﻬﺬا — ﺑﺬل ﻣﺠﻬﻮدًا ﻛﺒريًا ﰲ ﻣﺮاﺟﻌﺔ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،ﻃﺎرﺣً ﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﻻذع ،وﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻛﺘﺎب »اﻟﻌِ ﻠﻢ املﺮح« أ ﱠﻟﻒ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻣﻘﺪﻣﺎت ﺟﺪﻳﺪة ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻧﺘﻘﺎدﻳﺔ ﻋﲆ ٍ ً وﻃﻮﻳﻼ ﰲ ﺻﻮرﺗﻪ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ .ﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬا ﻛﺎن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺧﻄﺘﻪ ﻹﺛﺒﺎت أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪًا ﱠ ً ﳾء ﰲ ﻣﺎﴈ املﺮء ﻳﺠﺐ اﻟﻨﺪم ﻋﻠﻴﻪ ،وأﻧﻪ ﻳﺠﺐ أﻻ ﻧﻬﺪر ﺷﻴﺌﺎ .وﻟﻜﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﱢ املﻔﴪﻳﻦ أﺧﻄﺌﻮا ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻓﱰﺿﻮا أن ﻫﺬا ﻳﻌﻄﻴﻬﻢ ﺗﴫﻳﺤً ﺎ ملﻌﺎﻣﻠﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أﻧﻬﺎ ﻗﺪ أُﻧﺘﺠَ ﺖ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ. ﻛﺎن اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻵﺧﺮ اﻟﺬي أدﱠى إﱃ اﻟﺘﻔﺴريات املﻐﻠﻮﻃﺔ واﻟﺘﺤﺮﻳﻔﺎت اﻟﺼﺎدﻣﺔ ﻧﺎﺗﺠً ﺎ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﴤ ﻣﻌﻈﻢ وﻗﺘﻪ ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﻣﻨﺬ ﻋﺎم ١٨٧٢ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ورﺑﻤﺎ ً أﻳﻀﺎ 12
ﺻﻮرة ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ .إن إﺟﻤﺎﱄ ﻛﺘﺒﻪ املﻄﺒﻮﻋﺔ ﻣﺜري ﻟﻺﻋﺠﺎب ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ دوﱠن ﻣﻦ آراﺋﻪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أ ﱠﻟﻒ ﻣﻦ ﻛﺘﺐ ،وﻟﻸﺳﻒ ﻓﺈن ﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻏري املﻄﺒﻮﻋﺔ )اﻷﻋﻤﺎل ﻏري املﻨﺸﻮرة( ﻟﻢ ﻳﺰل ﺑﺎﻗﻴًﺎ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ املﺮء ﻣﻨﺎ ﻟﻴﺠﺪ ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻸﺳﻒ ﰲ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻟﻮ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﻣﺒﺪأ ﻣﻨﻬﺠﻲ ﻣﻘﺒﻮل ﻋﺎملﻴٍّﺎ ﻳﻔﻴﺪ ﺑﺄن ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﴩه ﻳﺠﺐ ﻓﺼﻠﻪ ﺑﻮﺿﻮح ﺗﺤﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﺮوف ﻋﻤﱠ ﺎ ﻧﴩه ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻳﻼﺣﻆ ﻫﺬه اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ .ﺣﺘﻰ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ اﻗﺘﺒﺎس ﻏري ﻣﻨﺴﻮب املﺼﺪر ﻣﺄﺧﻮذ ﻳﺪﱠﻋﻮن أﻧﻬﻢ ﺳﻴﻔﻌﻠﻮن ﻫﺬا ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﻨﺠﺮﻓﻮن وراء ٍ ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻀﺨﻤﺔ ﻏري املﻨﺸﻮرة ،ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻻﻗﺘﺒﺎس ﺳﻴﺜﺒﺖ ﻣﺎ ﻳﺘﻬﻤﻮﻧﻪ ﺑﻪ .وﻣﺎ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﺧﻄﻮرة املﴤ ُﻗﺪُﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ أن ﻓﻜﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻇ ﱠﻞ ﻏري ﻣﺘﻄﻮر ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺒﻌﺾ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺤﻮرﻳﺔ ،وﻟﻌﻞ »إرادة اﻟﻘﻮة« و»اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي« اﻷﻫﻢ ﺑﻴﻨﻬﺎ .وﰲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن، ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻮﻗﻨًﺎ ﺗﻤﺎم اﻟﻴﻘني ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺪ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ أﺛﻤﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ دوﱠن َ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر دون أن ﱢ ﱢ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﺒﱡﻊ اﻷﻓﻜﺎر املﺘﻼﺣﻘﺔ ﻟﻠﻤﻔﴪﻳﻦ ﻳﻨﻘﺤﻬﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻴﺢ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺴﺒﻮﻧﻬﺎ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ دون أن ﺗﻌﻮﻗﻬﻢ ﺗﴫﻳﺤﺎت ﻣﺤﺪدة .ﺣﺘﻰ إن اﻟﺒﻌﺾ اﻗﺘﻨﻊ ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ »اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« ﻣﻮﺟﻮد ﰲ املﻔﻜﺮات ،وأن اﻷﻋﻤﺎل املﻨﺸﻮرة ﻫﻲ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺘﻴﻤﺎت املﻌﻘﺪة — ﺑﻞ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ املﻌﻘﺪة ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .ﺗﺒﻨﱠﻰ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﻏري املﻨﻄﻘﻲ ،ﻓﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﱰوﻳﺞ ﻟﻔﻠﺴﻔﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺴﺘﻮﺣﺎة ﻣﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ وﻣﻨﺘﻘِ ﺪة إﻳﺎه ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ. ﺳﻮف أﻗﺘﺒﺲ ﻣﻦ ﺣني إﱃ آﺧﺮ ،ﻣﺜﻞ ﺑﻘﻴﺔ ﱢ ﻣﻔﴪﻳﻪ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﻣﻦ »اﻷﻋﻤﺎل ﻏري املﻨﺸﻮرة« ،وﻟﻜﻨﻨﻲ ﺳﺄﺷري إﱃ ﻫﺬا ﻋﻨﺪ ﺣﺪوﺛﻪ .ﻟﻘﺪ ﺑﺬل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﺠﻬﻮدًا ﻣﻀﻨﻴًﺎ ﻟﻴﺨﺮج إﻟﻴﻨﺎ ﺑﺎﻟﺼﻮرة املﻨﻘﺤﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ املﻨﺸﻮرة ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﻃﺒﻌﻪ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻋﺪم اﻻﻛﱰاث ﺑﺎﻷﺳﻠﻮب أو اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ إﺿﺎﻓﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ .وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺐ أﺳﻠﻮب ً ﻣﺬاﻗﺎ ﻣﺸﻮ ًﱢﻗﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ املﻄﺒﻮﻋﺎت ﱠ املﻨﻘﺤﺔ ملﻌﻈﻢ ﺑﻔﻄﺮﺗﻪ ،ﻓﺈن ﻗﺮاءة ﺗﺪوﻳﻨﺎﺗﻪ ﺗﺤﻤﻞ ﻳﻘﺎرن املﺮء أﻓﻜﺎ َره املﻨﺸﻮرة ﺑﻤ َُﺴﻮﱠداﺗﻪ اﻷوﻟﻴﺔ ﻟﻬﺎ ،ﻳﺠﺪ اﻟﺒَﻮْن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ .وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ِ ﺷﺎﺳﻌً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺠﻌﻞ أيﱠ ﺷﺨﺺ ﻳﺤﱰس ﻣﻦ وﺿﻌﻬﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ املﻨﺰﻟﺔ ،أو ﻫﻜﺬا ﺳﻴﻔﻜﺮ املﺮء. ً ﻋﺎﻣﻼ أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ إﻧﻨﻲ أﺷﺪﱢد ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ؛ ﻷن اﻟﺘﻼﻋﺐ ﺑﻤﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ،ﻛﺎن ﰲ اﺧﺘﻼق اﻷﻛﺎذﻳﺐ ﻋﻠﻴﻪ. ﻻ ﳾء ﻣﻦ ﻫﺬا ﱢ ﻳﻔﴪ ﺑﺪﻗﺔ ﺳﺒﺐ ﺗﺼﻮﻳﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄﻧﻪ رﺟﻞ اﻷﺣﺰان ،أو ﺣﺘﻰ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻮر اﻟﻌﺪﻳﺪة .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻐﻤﻮض اﻟﺬي ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﻪ ورﻓﻀﻪ اﻟﻌَ ﻤﺪي ﻟﻮﺟﻮد ﻣَ ﺜ َ ٍﻞ أﻋﲆ ،ﻓﻘﺪ ﻳﻌﺘﻘﺪ املﺮء ﰲ وﺟﻮد ﺣﺪو ٍد ملﺪى اﻟﺘﺤﺮﻳﻔﺎت املﺤﺘﻤَ ﻠﺔ .ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن 13
ﻧﻴﺘﺸﻪ
أﻗﻮﻟﻪ ﻫﻨﺎ ﻣﱰددًا :إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﺪود ﺗﻜﺒﺢ زﻣﺎم اﻟﺸﻬﺮة .ﻟﻮ ﺑﻠﻐﺖ ﺷﻬﺮة إﻧﺴﺎن ﻧﻔﺲ اﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺑﻠﻐﺘﻪ ﺷﻬﺮة ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻗﺎد ًرا ﻓﻴﻪ ﻋﲆ أن ﻳﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﻴﺎﻟﻬﺎ ،ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺳﻴُﺴﺘﺨﺪم دون وﻋﻲ ﻣﻨﻪ ﻟﺪﻋﻢ أﻳﺔ ﺣﺮﻛﺔ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ رﻣﺰ ﺗُ َ ﻨﺴﺐ إﻟﻴﻪ .وﻫﻨﺎ ،ﻛﻤﺎ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ أﺧﺮى ،ﺳﻴﺼري ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﻔﺎرﻗﺔ املﺮﻳﺮة أﺷﺒﻪ ﺑﻨﻘﻴﻀﻪ؛ »املﺼﻠﻮب« .ﻛﺎﻧﺖ آﺧﺮ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻫﻲ» :أﺣﻤﻞ واﺟﺒًﺎ ﺗﺘﻤﺮد ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﺼﻤﻴﻢ ﻋﺎداﺗﻲ ،ﺑﻞ وﺣﺘﻰ ﻛﱪﻳﺎء ﻏﺮاﺋﺰي .اﺳﻤﻌﻮﻧﻲ! ﻓﺄﻧﺎ ﻓﻼن اﻟﻔﻼﻧﻲ. وﻟﻜﻦ اﻷﻫﻢ أﻻ ﺗﺨﻠﻄﻮا ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﺷﺨﺺ آﺧﺮ!« )»ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن« ،اﻟﺘﻤﻬﻴﺪ .(١ ،وﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻘﺮن اﻟﺬي اﻧﻘﴣ ﻣﻨﺬ أن ﻛﺘﺐ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت ،ﻧ َ ُﺪ َر ﻣﻦ ﺑني ﻗﺮاﺋﻪ ،وﻣﻦ ﺑني اﻟﻘﻠﺔ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﺑﻪ ،ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺬا.
14
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
اﳌﺄﺳﺎة :اﳌﻴﻼد ،واﳌﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻟﻌﴫه ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻛﺘﺐ ﺑﻐﺰارة ﻣﻨﺬ ﱟ ﺳﻦ ﻣﺒﻜﺮة، ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻓﺈن ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷول »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،أو »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة ﻣﻦ روح املﻮﺳﻴﻘﻰ« ﻛﻤﺎ ﻇﻬﺮ ﰲ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﻠﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ،ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻠﻨﻮر إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮه. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻔﱰَض أن ﻳﻔﺎﺟﺌﻪ اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل اﻟﻌﺪاﺋﻲ ﻟﻠﻜﺘﺎب داﺧﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺪ ﱠ ﺗﻠﻘﻰ ﺗﺮﻗﻴﺔ ﻣﺒﻜﺮة ﻟﻴ ﱠ ُﻌني أﺳﺘﺎذًا ﻟﻔﻘﻪ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺎزل وﻫﻮ ﰲ اﻟﺮاﺑﻌﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ،ﻟﻜﻨﻪ ﻓﺎﺟﺄه ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو .ﻓﺎﻟﻜﺘﺎب ﻻ ﻳﻔﻲ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ املﻌﺎﻳري املﻌﺘﺎدة ﰲ دراﺳﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﻘﺪاﻣﻰ. ﺑﺄي ﻣﻌﺎﻳري ﻣﺘﺼﻮﱠرة ﻟﻠﴫاﻣﺔ، وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻫﺠﺎء ﻟﻼﺳﻢ ﻣﻦ أﺣﺪ أﻋﺪاﺋﻪ اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم اﻟﺪراﺳﺔ ،وﻫﻮ أوﻟﺮﻳﺶ ﻓﻮن ﻓﻴﻼﻣﻮﻓﻴﺘﺰ-ﻣﻮﻟﻴﻨﺪورف ،اﻟﺬي اﺗﻬﻤﻪ ﺑﺎﻟﺠﻬﻞ وﺗﺤﺮﻳﻒ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ واملﻘﺎرﻧﺎت اﻟﻘﺒﻴﺤﺔ ﺑني اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .ر ﱠد إرﻓني رودا ،وﻫﻮ ﺻﺪﻳﻖ وﰲ ﱞ ،ﺑﻜﻼم ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﴩاﺳﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﺗﻼ ذﻟﻚ ﻧﻤﻂ اﻟﻨﺰاع املﺄﻟﻮف ﰲ اﻟﺪواﺋﺮ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ واملﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻔﺮون ﺑﴩاﺋﻌﻬﻢ .اﻛﺘﺴﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺳﻤﻌﺔ ﻣَ ﺸﻴﻨﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻔﱰة ﻗﺼرية، وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻤﻌﺔ ﻫﻲ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي اﺷﺘُﻬﺮ ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. اﻧﻘﺴﻢ اﻟﻘﺮاء ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني إﱃ ﻓﺮﻳﻘني :ﻓﺮﻳﻖ ﻳﺠﺪ إﻣﺘﺎﻋً ﺎ ﰲ أﺳﻠﻮب اﻟﻜﺘﺎب اﻟﻌﺎﻃﻔﻲ واملﺤﺘﻮى اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻠﺰﻣﻪ ،وﻓﺮﻳﻖ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﻪ ﺑﺎزدراء ﻳﻌﱰﻳﻪ املﻠﻞ ،وﻛﻼﻫﻤﺎ ُ ﻛﺘﺎب ﻳﺨﻀﻊ ﻟﺘﺄﺛري أﻓﻜﺎره اﻟﺤﻤﺎﺳﻴﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ورﻏﺒﺘﻪ زوﺑﻌﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻬﱡ ﻤﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ .إﻧﻬﺎ ٍ ﰲ ﺗﻨﺎول أﻛﱪ ﻋﺪد ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻣﺤﺪودة ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣُﺘﻨ ﱢﻜﺮ ﰲ ﺻﻮرة ﱢ ْ وﻳﻮﺿﺢ أﻧﻬﺎ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﺴﺒﺐ وراء اﺳﺘﻤﺮار املﺄﺳﺎة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﻟﻔﱰة وﺟﻴﺰة ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ، وﺻﻒ ﱟ ﱢ املﺘﻌﺼﺒني ﺑُﻌﺜﺖ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﰲ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻨﺎﺿﺠﺔ ﻟﺮﻳﺘﺸﺎرد ﻓﺎﺟﻨﺮ .ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ا ُملﻌﺠَ ﺒني ﻟﺒﻌﺾ أﻋﻤﺎل ﻓﺎﺟﻨﺮ اﻟﺪراﻣﻴﺔ ﻣﻨﺬ أن ﺳﻤﻊ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ »ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن وإﻳﺰوﻟﺪ« ،اﻟﺘﻲ ﻋﺰﻓﻬﺎ
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻫﻮ وﺑﻌﺾ اﻷﺻﺪﻗﺎء ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ وﻏﻨﱠﺎﻫﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺴﺎدﺳﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮه )»ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن« ،اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ ،ص٦؛ وﻟﻜﻦ اﻧﻈﺮ ً أﻳﻀﺎ »اﻟﺤﺐ«.(١٩٦٣ ، وﻗﺪ ﻗﺎﺑﻞ املﻮﺳﻴﻘﺎر وﺧﻠﻴﻠﺘﻪ آﻧﺬاك ﻛﻮزﻳﻤﺎ ،اﺑﻨﺔ ﻟﻴﺴﺖ ،ﻋﺎم ،١٨٦٨ﻟﻴﺼﺒﺢ ﺻﺪﻳﻘﻬﻤﺎ املﻘ ﱠﺮب ﰲ ﻋﺎم ،١٨٦٩وﻳﺰورﻫﻤﺎ ﻣﺮا ًرا ﺧﻼل اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﺎﻫﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﺮﻳﺒﺸﻦ املﻄﻠﺔ ﻋﲆ ﺑﺤرية ﻟﻮﺳرين .وﻣﺎ ﻣﻦ ﺷﻚ ﰲ أن املﻮﺿﻮع ﺑﺮﻣﺘﻪ املﻄﺮوح ﰲ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻗﺪ ﻧُﻮﻗِﺶ ﻣﺮا ًرا ﺧﻼل ﺗﻠﻚ اﻟﺰﻳﺎرات ،وأن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻗﺪ ﺳﺎﻫﻢ ﻣﺴﺎﻫﻤﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﺑﻌﺾ ﻓﺮﺿﻴﺎﺗﻪ املﺤﻮرﻳﺔ )ﺳﻴﻠﻚ وﺳﺘرين :١٩٨١ ،اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ( .وﻟﻜﻦ اﻟﺬﻫﻮل اﻋﱰاه ﻫﻮ وﻛﻮزﻳﻤﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺳﺘﻠﻤﺎ ﻧﺴﺨﺘﻬﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻛﻢ اﻟﺘﺄﺛري اﻟﺬي أﺣﺪﺛﻪ ﻓﺎﺟﻨﺮ ،اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻌﺸﻖ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﺷﺒﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،ﻓﻘﺪ وﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة َﻌﺘﱪ اﻟﻜﺘﺎب وﺣﻴًﺎ ﻟﻪ. ﰲ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳ ِ ﱠ ﺗﺤﴪ ُﻗ ﱠﺮاء اﻟﻜﺘﺎب املﺘﻌﺎﻃﻔﻮن ﻣﻌﻪ ﻋﲆ ﺗﺨﺼﻴﺺ اﻷﺟﺰاء وﻋﻤﻮﻣً ﺎ ،ﻓﻜﺜريًا ﻣﺎ اﻟﻌﴩة اﻷﺧرية ﻣﻨﻪ ﻟﻠﱰوﻳﺞ ﻟﻔﻜﺮة أن ﱠ ﻓﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ٍ ﺑﻌﺚ ﻟﻠﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ .وﻟﻢ ً ﺳﺨﻴﻔﺎ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﻓﺤﺴﺐ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﺷﻌﺮوا ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻳﺒ ُﺪ ﻫﺬا اﻻدﻋﺎء ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻬﻢ ﻳﻨﺘﻘﺺ ﻣﻦ وﺣﺪة اﻟﺜﻠﺜني اﻷوﻟني ﻣﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« وﻳﴫف اﻻﻧﺘﺒﺎه ﻋﻨﻬﻤﺎ .وﻛ ﱡﻞ ﻫﺬا ً ﻣﺤﺎوﻻ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻳﻀﻴﱢﻊ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ وراء املﺠﻬﻮد املﺒﺬول ﰲ اﻟﻜﺘﺎب ،وﻣﺎ ﻗﴣ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻋﻤﻠﻪ؛ ﻷن ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ أن ﻳﻜﻮن »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻫﻮ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ زاول ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻣﻦ ﻳﺮﻳﺪون أن ﻳﻔﻬﻤﻮا اﻟﻮﺣﺪة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ ،ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪأ ﺑﻬﺎ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺤﺎﴐ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻜﺸﻒ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻋﻦ أن اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻫﻮ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ،وﻇﺮوﻓﻬﺎ املﺘﻮاﺗﺮة ،واﻷﻋﺪاء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻔﻮن ﰲ ﻃﺮﻳﻖ ﻧﴩﻫﺎ. ﻳﺒﺪأ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﺑﺈﻳﻘﺎع ﴎﻳﻊ ،وﻻ ﻳﺘﻮﻗﻒ زﺧﻢ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻓﻴﻪ أﺑﺪًا .ﻣﻦ املﻔﻴﺪ ً ﻣﺘﺠﺎﻫﻼ اﻷﻣﻮر اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ واﻻﻧﺤﺮاﻓﺎت ﻗﺮاءﺗﻪ ﻷول ﻣﺮة ﺑﺄﻗﴡ ﴎﻋﺔ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻬﺎ املﺮء، اﻟﻮاﺿﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﻘﻀﻴﺔ املﺤﻮرﻳﺔ )وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ أﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﺑﻤﻌﻨًﻰ ﺷﺎﻣﻞ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ( .ﺗﻌﺘﻤﺪ ﱠ وﻟﻜﻦ إﺧﻀﺎﻋﻬﺎ ﻟﻠﺘﺪﻗﻴﻖ اﻟﻨﻘﺪي ﻫﺬه اﻟﻘﺮاءة اﻷوﻟﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺔ، ﻣﻨﺬ املﺮة اﻷوﱃ ﺳﻴﺜري اﻟﻐﻀﺐ واملﻠﻞ .ﻣﻦ املﻬﻢ اﺳﺘﻴﻌﺎب ﱢ ﺣﺲ اﻟﺘﺪﻓﻖ اﻟﺬي ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﻪ ُﻌﺘﱪ ً اﻟﻜﺘﺎب ،واﻟﺬي ﻳ َ أﻳﻀﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﺎ .ﺑﻌﺪ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻣﻘﺪﻣﺔ إﱃ رﻳﺘﺸﺎرد ﻓﺎﺟﻨﺮ« اﻟﺬي ﺗﻨﺎول ﻓﻴﻪ ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ »املﺸﻜﻠﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺨﻄرية اﻟﺘﻲ ﻧﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﺎ« واﻹﻳﻤﺎن ﱠ »اﻟﻔﻦ ﻫﻮ املﻬﻤﺔ اﻷﺳﻤﻰ واﻟﻨﺸﺎط املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة«، اﻟﺮاﺳﺦ ﺑﺄن 16
املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
اﺳﺘﻬ ﱠﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺑﺒﺪاﻳ ٍﺔ ﺗﻠﻴﻖ ﺑﺎدﱢﻋﺎﺋﻪ »إﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﺳﻨﻔﻴﺪ ﻛﺜريًا ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل إذا ﻛﻨﺎ ﻗﺪ ﻧﺠﺤﻨﺎ ﰲ أن ﻧﺪرك ﻓﻮ ًرا ،وﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﻔﻜري املﻨﻄﻘﻲ ،أن ﱠ اﻟﻔﻦ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﺗﻄﻮره املﺴﺘﻤ ﱠﺮ ﻣﻦ ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ »اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ واﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ« «.وﻫﻜﺬا ،أوﺿﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﱪ ﺳﻄﻮر ﻗﻼﺋﻞ أﻧﻪ ﺳﻴﺘﺤﺮك ﻋﲆ ﺛﻼث ﺟﺒﻬﺎت؛ اﻷوﱃ :ﻫﻲ اﻷزﻣﺔ املﻌﺎﴏة ﰲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ادﱢﻋﺎء ﺟﺮيء ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ،واﻟﺜﺎﻟﺜﺔ :اﻫﺘﻤﺎم ﺑ »ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل«) .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻠﻢ ،Scienceﻳﺴﺘﺨﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﻠﻤﺔ ،Wissenschaftاﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﺑﺎﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺑﺤﺜًﺎ ﻣﻨﻬﺠﻴٍّﺎ، وﻻ ﻳﻘﺼﺪ ﺑﻬﺎ املﻌﻨﻰ املﺴﺘﺨﺪم ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻟﻜﻠﻤﺔ — Scienceﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺗﺬﻛﺮ ﻫﺬا ﻋﲆ ﻣﺪار أﻋﻤﺎﻟﻪ ،أو ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ﺧﻼل أﻳﺔ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ(. وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻟﺘﻨﺎول »اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ« ﺑني اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ واﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻧﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا أﻧﻬﻤﺎ ﻋﺪوان! ﻓﺤﺴﺒﻤﺎ ﱠ ﻳﺘﺒني ﻣﻦ ﴍﺣﻪ ،ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﺘﻀﺢ أن »ﻫﺎﺗني ﺗﻨﺎﻗﺾ ﺻﺎرخ ﻋﺎد ًة ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ اﻟﻨﺰﻋﺘني املﺨﺘﻠﻔﺘني ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺗﺴريان ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ،ﰲ ٍ ﱡ وﺗﺤﺚ إﺣﺪاﻫﻤﺎ اﻷﺧﺮى ﻋﲆ إﻧﺘﺎﺟﺎت أﻛﺜﺮ ﻗﻮة« ،إﱃ أن ﻳﺒﺪو »أﺧريًا أﻧﻬﻤﺎ ﻣﻊ اﻷﺧﺮى، ﺗﻨﺘﺠﺎن ً ﻋﻤﻼ ﻓﻨﻴٍّﺎ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴٍّﺎ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻫﻮ أﺑﻮﻟﻮﻧﻴٍّﺎ ،وﻫﺬه ﻣﺄﺳﺎة إﻏﺮﻳﻘﻴﺔ «.وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄيﱢ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ ﻧﺤﻮ ﻫﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ اﻟﺬي ﻳﺼري — رﻏﻢ ذﻟﻚ — ﻣﺜﻤ ًﺮا ﻋﲆ ٍ إﻧﺘﺎﺟﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل أيﱟ ﻣﻦ اﻟﺨﺼﻤني ﻣﻨﻔﺮدًا ،ﻫﻮ ﺳﻤﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﺑﻤﻤﺜﻠﻬﺎ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻫﻴﺠﻞ ،اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺬي ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻌﺎدﻳﻪ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ ﺑﺸﺪة ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﺑﻼ ﺷﻚ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ إﱃ ارﺗﺒﺎط ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺸﻮﺑﻨﻬﺎور اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺮاﻫﻴﺘﻪ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻣﻌﺮوﻓﺔ .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﺘﻌﻤﻖ ﰲ املﻌﺎرﺿﺔ واﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻻ ﻳﺤﺘﺎج ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ أيﱟ ﻣﻦ اﻷدوات اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻋﺎق ﻫﻴﺠﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻬﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ إﻋﺪاد ﺧﻄﺘﻪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺼﻮر املﺠﺎزﻳﺔ واﻷﻣﺜﻠﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗُﺴﺘﺨﺪم ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺤﻴﱢﺰ. ﱠ اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ ﻫﻮ ﱡ ﱠ ﻓﻦ املﻈﻬﺮ ،ﺑﻞ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ »ﻫﻮ« املﻈﻬﺮ. ﺗﺘﻤﺜﻞ اﻟﻔﻜﺮة ﰲ أن ﱠ اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ ﰲ أﺑﻠﻎ ﺻﻮره ﻳﺘﱠﺴﻢ ﻳﺴﺘﺤﴬ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﺣﻼم ﻟﻴُﺜ ْ ِﺒﺖ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه ﺑﺄن اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ،ﻣُﺒﻴﱢﻨًﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺟﲇ ﱟ ﻣﺎ ﻳﺮﺻﺪه ،وﻳﴬب ً ﻣﺜﻼ ﺑ »ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﻔ ﱡﺮد« اﻟﺬي ﺑﻮﺿﻮح ﱟ وﺻﻔﻪ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﺑﺄﻧﻪ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺮﺋﻴﴘ اﻟﺬي ﻧﻌﺎﻧﻲ ﻣﻨﻪ ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺪرك اﻟﻌﺎﻟﻢ ً أﺷﺨﺎﺻﺎ ﻣﻨﻔﺼﻠني .وﺑﺼﻔﺘﻨﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺗﻤﻠﻚ وﻧﻔﻬﻤﻪ ﰲ ﺻﻮرة ﻛﻴﺎﻧﺎت ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ،ﺗﻀ ﱡﻢ أﻋﻀﺎءً ﺣﺴﻴﺔ وﺟﻬﺎ ًزا إدراﻛﻴٍّﺎ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﻌﻴﺒﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻫﺎﺋﻞ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ وﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮى ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور أﻧﻬﺎ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ 17
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺧﻴﺎﻻﺗﻨﺎ وﺗﺠﺎرﺑﻨﺎ اﻷﻛﺜﺮ إﻳﻼﻣً ﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ إن ﻛﺎن اﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻴﺠﻌﻞ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ أﻗﻞ ﺗﺮوﻳﻌً ﺎ أم ﻻ. اﺳﺘﻐ ﱠﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« اﻻﻟﺘﺒﺎﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻓﻜﺮ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻣﻮﺿﻊ ﱢ ﻳﺒني أﻧﻪ ﻛﺎن أﻛﺜﺮ إدرا ًﻛﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻧﻔﺴﻪ — ﻟﻴﻨﺘﺞ »ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﻔﻨﺎﻧني« اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ ،واملﺴﺘﻘﻠﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﺸري ﺑﺎزدراء إﱃ ﻣﻨﻬﺠﻪ ﰲ »ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺬات« ،ﺗﻠﻚ املﻘﺪﻣﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﻟﻠﻄﺒﻌﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﺎم ،١٨٨٦وﻫﻮ ﻋﺎم ﻣﺮاﺟﻌﺔ اﻟﺬات .ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪ ﺑﻌﺒﺎرة »ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﻔﻨﺎﻧني« ً ً ﺧﺼ َ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻣُﺼﻤﱠ ﻤﺔ ﱢ ﻻﺣﻘﺎ ﻣﻨﺎﻓﻴﺔ أﻫﻤﻴﺔ اﻋﺘﱪﻫﺎ ﻴﴡ ﻟﺘﻤﻨﺢ اﻟﻔﻦ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ؛ وأﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى اﺳﺘﺨﺪا ٌم ﻟﻸﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻔﻨﻴﺔ أو ﺷﺒﻪ اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻹﻧﺘﺎج آراءٍ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ،واﺧﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ وﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺻﺤﺘﻬﺎ .ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﺟﺪﻟﻴٍّﺎ ﻣﺘﺴﺎﻣﻴًﺎ ،ﺣﺴﺐ ﻣﻨﻄﻖ ﻛﺎﻧﻂ .وﻳﻨﺘﺞ ﻋﻦ ﻫﺬا ﻋﻤﻮﻣً ﺎ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺘﺎﱄ) :س( ﻫﻲ اﻟﻘﻀﻴﺔ ،أو املﻌﻄﻴﺎت ،ﻓﻤﺎ اﻟﺬي ﻳﻨﻘﺺ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻟﺘﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟ )س( ﻣﻤﻜﻨﺔ؟ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻌﻄﻴﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺜريًا ﻋﻦ املﻌﻄﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻟﺪى أيﱢ ﻓﻴﻠﺴﻮف آﺧﺮ؛ إذ إﻧﻬﺎ ﺗﻌﻄﻲ اﻷوﻟﻮﻳﺔ ﻟﺘﺠﺮﺑﺘﻨﺎ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ذﻳﻞ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻷوﻟﻮﻳﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻫﺬا إذا ﺗﻀﻤﻨﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .وﻫﻮ ﻳﺴﺘﻌني ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرب اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ )اﻟﻨﺤﺖ واﻟﺮﺳﻢ ،وﻋﲆ رأﺳﻬﻤﺎ املﻠﺤﻤﺔ( واﻟﻔﻦ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ )املﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ( ﻛﻤﻌﻄﻴﺎت ﻟﻪ ،وﻳﺴﺄل ﻋﻦ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺷﻜﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻜﻲ ﻧﺤﻈﻰ ﺑﻬﺬه اﻟﺘﺠﺎرب .ﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ أﻧﻪ ﻳﻘﺎرن اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ ﺑﺎﻷﺣﻼم؛ أﻣﺎ اﻟﻔﻦ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ ﻓﺈﻧﻪ ﻳ َ ُﻀﺎﻫﻰ — ﻛﺪﻻﻟﺔ أوﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ — ﺑﺎﻟﻨﺸﻮة؛ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺘﺪﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ َ ُﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﻔ ﱡﺮد ،وﻓﻘﺪان اﻟﻮﺿﻮح، واﻧﺪﻣﺎج اﻟﻜﻴﺎﻧﺎت اﻟﻔﺮدﻳﺔ. ملﺎذا ﻧﺤﺘﺎج إﱃ ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻧﻔﻬﻢ أن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﱢ ﻳﺠﺴﺪ املﻈﻬﺮ اﻟﱪﱠاق ،ﰲ ﺣني ﻳُﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻟﻮاﻗﻊ ﻗﺪر ﻣﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ دون أن ﻳﺪﻣﺮﻧﺎ؟ ﻷن ﺗﺮﻛﻴﺒﺘﻨﺎ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺪﱠﺧﺮ ٍ ﺟﺮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ ﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ،ﻛﺎﻻﺣﺘﻔﺎﻻت ﻣﺜﻠﻤﺎ أدرك اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن )ﻛﺎن ﺣﺘﻤً ﺎ ﻳﺠﺮي اﻟﺘﺨﻄﻴﻂ ملﻬﺮﺟﺎن ﺑﺎﻳﺮوﻳﺖ اﻷول ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻜﺘﺐ ﻓﻴﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻨﻄﻠﻖ ﺣﺘﻰ ﻋﺎم .(١٨٧٦ﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﻣﻦ ﻫﺬا؛ ﻓﻼ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﰲ املﻈﺎﻫﺮ ،ﻣﺎ دﻣﻨﺎ ﻧﺪرك أن ﻫﺬه ﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ )ﺳﻴﻈﻞ ﻫﺬا داﺋﻤً ﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ رﺋﻴﺴﻴٍّﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ( .ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﺗُ َ ﻌﺘﱪ املﻠﺤﻤﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺻﻮرة ﻣﻦ اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ ،وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺗﺘﻤﺜﻞ 18
املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
ﺑﻮﺿﻮح أﺳﻠﻮﺑﻪ وﺳﻼﺳﺘﻪ .ﻛﺎن ﻓﻨﻲ ﻳﻤﺘﱢﻌﻨﺎ أﺑﻬﻰ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ ﰲ »اﻹﻟﻴﺎذة« ،وﻫﻲ ﻋﻤﻞ ﱞ ِ ً ﻗﺼﺼﺎ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﺷﻮﻫﺎ ﺳﻌﺪاء ﺑﺄﻧﻬﻢ ﺻﻨﻌﻮا ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ ﺗُﻤﺘﱢﻊ أﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﺴﺎﺑﻬﻢ؛ وﻫﻲ »اﻟﺼﻮرة اﻟﻮﺣﻴﺪة ا ُملﻘﻨِﻌﺔ ﻹﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ«، ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﻘﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻌﻠﻴﻘﻪ اﻟﺨﺎﻟﺪ )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« .(٣ ،وﻋﻨﺪ ﻫﺬا املﺴﺘﻮى ﺗﻌﻤﻞ املﻌﺎدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﻣﺮﺗني ﰲ اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ،وﺗﻜﺮرت ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺴﺘﺴﺎغ ﰲ »ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺬات«» :ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ إﻻ ﺑﻜﻮﻧﻪ ﻇﺎﻫﺮة ﺟﻤﺎﻟﻴﱠﺔ ﻓﻘﻂ« )وﺗﺘﻨﻮع اﻟﺼﻴﻎ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء( .وﺑﻤﺎ أن اﻟﻮﺟﻮد ﰲ أﺑﺴﻂ ُ ﺻﻮَره ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻹﻏﺮﻳﻖ املﻨﺘﻤني ﻟﻌﴫ ﻫﻮﻣريوس ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻣﺤﺘﻤَ ًﻼ ،ﻓﻘﺪ أﻇﻬﺮوا ﻏﺮﻳﺰة ﻓﻨﻴﺔ ﺑﻄﻮﻟﻴﺔ ﺑﺘﺤﻮﻳﻞ ﺣﻴﺎة املﻌﺎرك اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺸﻮﻧﻬﺎ إﱃ ﻋﺮض ﻣﴪﺣﻲ .ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺤﺘﺎﺟﻮن إﱃ اﻵﻟﻬﺔ؛ ﻻ ﻟﻴﻮاﺳﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻔﻜﺮة وﺟﻮد ﺣﻴﺎة أﻓﻀﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺎﻓﺰ املﻌﺘﺎد ﻻﻓﱰاض وﺟﻮد ﻋﺎﻟﻢ آﺧﺮ ،وإﻧﻤﺎ ﻟﻴﻤﻴﱢﺰوا ﺑني أيﱢ ﺣﻴﺎة ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻌﻴﺸﻮﻫﺎ واﻟﺤﻴﻮات اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻟﻶﻟﻬﺔ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﻖ ﻟﻬﻢ ملﺠﺮد ﻛﻮﻧﻬﻢ ﺧﺎﻟﺪﻳﻦ أن ﻳﺘﺴﻤﻮا ﺑﺎﻟﻄﻴﺶ واﻻﺳﺘﻬﺘﺎر ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺼﻮﱢرﻫﻢ ﻫﻮﻣريوس ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺻﺎدم ﻟﻨﺎ .ﱠ »إن ﻛ ﱠﻞ ﻣﻦ ﻳﻘﱰب ﻣﻦ ﻫﺬه اﻵﻟﻬﺔ اﻷوملﺒﻴﺔ وﻫﻮ ﻳﺤﻤﻞ إﻳﻤﺎﻧًﺎ ﻏري إﻳﻤﺎﻧﻬﺎ، وﻣﺘﻄﻠﻌً ﺎ إﱃ اﻷﺧﻼق اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ،ﺑﻞ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺪاﺳﺔ ،واﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ،واﻹﺣﺴﺎن واﻟﺮﺣﻤﺔ ،ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳ َ ُﺠﱪ ﻋﲆ ﻫﺠﺮاﻧﻬﺎ ،ﻣﺜﺒﻂ اﻟﻬﻤﺔ وﺧﺎﺋﺐ اﻷﻣﻞ« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«.(٣ ، إذا اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ أن ﻧﻀﻔﻲ ﻣﻌﻨًﻰ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺒﻄﻮﻟﺔ — وﻫﻮ ﳾء ﻃﺎملﺎ ﺷ ﱠﻜﻚ ﻓﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ — ﻓﺴﻴﻜﻮن ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﻦ ﺧﻼل إدراكٍ وﻫﻤﻲ ﻟﻬﺬه ﱟ اﻟﺮؤﻳﺔ .وﻫﺬه ﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷوﱃ ﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﻋﺒﺎر ٍة أدﻣﻨﻬﺎ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،أﻻ وﻫﻲ ً ﻣﺘﻔﺎﺋﻼ ،أو ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻌﺘﻘﺪ »ﺗﺸﺎؤم اﻟﻘﻮة« .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﻠﻴﻞ اﻟﺨﱪة ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻪ أن اﻟﺤﻴﺎة ﺳﺘﺼﺒﺢ راﺋﻌﺔ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ،ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺰﻳﺪ ﰲ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﻼﺑﻄﻞ. ً أﺑﻄﺎﻻ ،ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻘﻂ أن ﻧﺸﻐﻞ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﺑﺘﺤﺴني »ﻧﻮﻋﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة« )ﻳﺘﻤﻨﱠﻰ وﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ املﺮء ﻟﻮ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻟﻴﻘﺪم ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻴﺼﺒﺢ اﻟﺘﻌﻠﻴﻖ املﻨﺎﺳﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺒﺎرة املﺮوﻋﺔ( .وﻟﻮ ﺷﻌﺮﻧﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﺴني ﻧﻮﻋﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺼﺒﺢ ﻣﺘﺸﺎﺋﻤني، ﺑﻞ ﻋﺎﻃﻔﻴني ،أو ﻛﻤﺎ ﻳﺼﻔﻨﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ »روﻣﺎﻧﺴﻴني« ،ﻧﻨﻮح ﻋﲆ ﻣﺂﳼ اﻟﺤﻴﺎة ،ورﺑﻤﺎ ﻧﻀﻊ ﻣﻨﺎﺣﺎﺗﻨﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺷﻌﺮﻳﺔ ﻣﻬﺪﺋﺔ وﻣﻼﺋﻤﺔ. ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﺣﺘﻔﺎء ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻬﻮﻣريوس واﻷﺑﻄﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﺧ ﱠﻠﺪﻫﻢ ﺑﻜﺘﺎﺑﺘﻪ »اﻹﻟﻴﺎذة« ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻴﱪﻫﻦ ﻋﲆ أﻧﱠﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻳﻌﻴﺐ اﻟﻔﻦ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ اﻟﻮﻫﻢ، وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻣﺘﻘﻠﺐ ﺑﺎﻟﻔﻄﺮة ،وﻗﺎﺑﻞ ﻟﻼﻧﺤﻄﺎط إﱃ ﳾء أدﻧﻰ ﻗﻴﻤﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ أﺻﺒﺢ 19
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻹﻏﺮﻳﻖ أﻛﺜﺮ وﻋﻴًﺎ ﺑﻌﻼﻗﺘﻬﻢ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ؛ أدﱠى ﻋﴫ اﻟﺒﻄﻮﻻت املﻠﺤﻤﻴﺔ — اﻟﺬي ﻳﺮﻓﺾ أن ٌ ﻣﺸﻜﻼت — إﱃ ﻧﺸﻮء ﻋﴫ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ .ﺛﻤﱠ ﺔ ﻃﺮق ﻳﺴﺘﻜﺸﻒ ﺟﻮاﻧﺐَ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺘﺞ ﻋﻨﻬﺎ ﻋﺪة ﱢ ﻳﻌﱪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻮل املﻬﻢ ،وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﺘﺄﺛﺮ ﺑﺘﺒﻌﻴﺘﻪ ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور اﻟﺘﻲ اﺗﱠﺴﻤﺖ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﺳﻴﺔ وﻗِﴫ اﻟﻌﻤﺮ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ .ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﻣﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻘﻮل» :ﻟﻢ ﻳﻌ ِﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻨﱠﺎﻧًﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻨﺪ اﺑﺘﻜﺎره اﻵﻟﻬﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﱠ أﺻﺒﺢ ً ﺗﺘﺠﲆ ﻣُﻌﱪ ًة ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻤﻼ ﻓﻨﻴٍّﺎ؛ ﻓﺎﻟﻘﻮة اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻠﻬﺎ اﻷﺳﻤﻰ ﻟﻠﻮﺣﺪوﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ وﺳﻂ ﻧﻮﺑﺎت اﻟﻨﺸﻮة «.ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺰل ﻣﺒﻜﺮة ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻳﻨﺘﺎﺑﻨﺎ ﺷﻌﻮر ،ﺗﻌﱰﻳﻪ اﻹﺛﺎرة أو اﻟﺴﺨﻂ ﺣﺴﺐ ﺣﺎﻟﺘﻨﺎ املﺰاﺟﻴﺔ ،ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺨﺘﻠﻖ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬا ﺧﻼل ﻣﺴريﺗﻪ .ﻟﻘﺪ ﻣ ﱠﺮ ﺑﻌﺪدٍ ﻫﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرب اﻟﻔﻨﻴﺔ املﺆﺛﺮة ً ﺗﺠﺎرب ﻣﻦ ﻧﻮع آﺧﺮ ،وﻫﻮ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة واﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄيﱢ ِ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ﺑﻬﺎ ﻧﺎﻗﺪ ﻋﻈﻴﻢ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﻨﺬ اﻧﻬﻴﺎر اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ﰲ اﻟﻨﻘﺪ، اﻟﺘﺠﺎرب ﻋﻤﻞ ﻳﺒﺪو ،ﰲ ﺳﻴﺎﻗﻪ اﻟﺠﻮﻫﺮي ،أﻧﻪ ﻳﻄﺎﺑﻖ ﻗﻮة ﺗﻠﻚ وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺄﻟﻴﻒ ٍ ِ وﺛﺮاءﻫﺎ. ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻄﻠﻖ ،ﺗﺤﺘﻞ اﻟﻜﻠﻤﺎت واﻟﻌﺒﺎرات املﻘﺎم اﻷول ،ﺛﻢ ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﺼﺪه ﺑﻬﺎ .إﻧﻪ أﺳﻠﻮب اﺗﱠﺒﻌﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻃﻮا َل اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ زاول ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ٍ ﺑﺤﺚ ذي ﻣﻮﺿﻮع واﺣﺪ وﻳﺘﻤﺘﻊ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ أدرك أﻧﻪ ﻻ ﻳﻼﺋﻢ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻌﺒري املﻌﺘﺎدة ﰲ ﺑﺎﻣﺘﻴﺎزات اﻟﺒﺤﺚ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ .واﻟﻔﻘﺮة اﻟﺘﻲ اﻗﺘﺒﺴﺘﻬﺎ أﻋﻼه ﻣﺜﺎل ﺟﻴﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ؛ ﻓﺒﻌﺪ أن ﻳَﺼﻒ اﻹﻏﺮﻳﻖ املﻨﺘﻤني إﱃ ﻋﴫ ﻫﻮﻣريوس ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻓﻨﺎﻧﻮن ،ﺑﻔﻀﻞ ﻗﺪراﺗﻬﻢ اﻹﺑﺪاﻋﻴﺔ ﻋﲆ اﺧﺘﻼق آﻟﻬﺔ ﻣﺘﻘﻠﺒﺔ اﻷﻫﻮاء )وﻫﻲ ﻗﺪرات ﻛﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺤ ﱠﻠﻮا ﺑﻬﺎ ﻛﻲ ﻳﻄﻴﻘﻮا اﻟﺤﻴﺎة(، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻓﻜﺮة أﻧﻬﻢ ﻫﻢ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻳﺘﺤﻮﻟﻮن إﱃ أﻋﻤﺎل ﻓﻨﻴﺔ ،ﱠ ﻟﻜﻦ اﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻳﺘﻢ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﻠﻌﺐ ﺑﺎﻟﻜﻠﻤﺎت ﻣﻦ أﺟﻞ ﻏﺮض ﺟﺎدﱟ ،ﺛﻢ ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﱪره ،ﺑﻌﺪ أن ﻳﴩح ﻣﻌﻨﺎه ً أوﻻ .وﻳﻨﻘﺬه ﻣﻔﻬﻮم ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور )اﻟﺬي ﻗﺪﱠم إﻃﺎ ًرا ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻪ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻓﻜﺮه( اﻟﺬي ﻳﺪور ﺣﻮل أﻧﻪ ﺧﻠﻒ ﺟﻤﻴﻊ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﺗﻮﺟﺪ وﺣﺪوﻳﺔ واﺣﺪة ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﺳﺎﳼ ،ﻓﻴﺤﺘﻔﻲ ﺑﺎﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺘﺠﻮن اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﺣﻮﱠﻟﻮا اﻟﺮﺟﺎل إﱃ أﻋﻤﺎل ﻓﻨﻴﺔ، أو ﺑﺼﻴﻐﺘﻪ اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ »ﻣﺒﺘﻜﺮي ﺣﻴﺎة« .ﻓﻬﻢ ﻳﺪرﻛﻮن أﻧﻬﻢ ﻟﻜﻲ ﻳﻮاﺟﻬﻮا اﻟﻮاﻗﻊ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻮﻟﻊ ﺑﺎملﻈﺎﻫﺮ اﻟﱪاﻗﺔ ،ﻓﺈن ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﺘﺄﻗﻠﻤﻮا ﻣﻊ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺤﻴﺎة »ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ« ﺗﺪﻣﱢ ﺮ اﻟﻔﺮد ﻋﲆ ﻧﺤﻮ داﺋﻢ ،وأن ﻳﺘﻴﺤﻮا ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻧﺒْﺬَ اﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺘﻬﻢ ،واﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﺎﻟﻔﻦ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ اﻟﺬي ﻛﺎن املﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺼﻨﻮن ﺑﻪ ﻣﻦ املﻬﺮﺟﺎﻧﺎت اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴﺔ ﻟﻠﱪﺑﺮ اﻟﻬﻤﺠﻴني، 20
املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪور ﰲ ﻣﺤﻮرﻫﺎ ﺣﻮل »اﻟﻨﻘﺺ املﻔﺮط ﰲ اﻻﻧﻀﺒﺎط اﻟﺠﻨﴘ ،اﻟﺬي ﻏﻤﺮت أﻣﻮاﺟﻪ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻘﻮاﻋﺪ املﺒﺠﻠﺔ املﻨ ﱢ ﻈﻤﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻷﴎﻳﺔ .وﻫﻨﺎ أﻓﻠﺖ ﻣﻦ اﻷ ُ َﴎ أﻛﺜﺮ وﺣﻮش اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﴐاوة ،ﺣﺘﻰ ذﻟﻚ املﺰﻳﺞ ﱢ املﻨﻔﺮ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ واﻟﻘﺴﻮة اﻟﺬي ﻃﺎملﺎ اﻋﺘﱪﺗﻪ »ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﺷﻴﻄﺎﻧﻴٍّﺎ«« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«.(٢ ، ﺑﺸﻜﻞ ﺧﺎص ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﻤﻴﺰ اﻟﻔﻦ داﺋﻤً ﺎ ،ﺣﺘﻰ ﰲ ﺻﻮرﺗﻪ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴﺔ، ٍ ﻳﺰﻳﱢﻒ — ﺣﺘﻰ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ — ﻣﻮﺿﻮﻋَ ﻪ ،اﻟﺬي ﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ دواﻣﺔ ﻣﻌﺪوﻣﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ املﺘﺼﻞ ﺑﺎملﺘﻌﺔ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻟﻸﻟﻢ .وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻤﺎرس ﻫﺬا اﻟﺘﺰﻳﻴﻒ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ دوﻧﻪ ﺳﻨﺠﺪه ﻏري ﻣﺤﺘﻤَ ﻞ .ﻟﺬﻟﻚ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ ﻻﺣﻖ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﺎﻗﺶ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻘﻄﻮﻋﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ »ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن وإﻳﺰوﻟﺪ« ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺪﱠﻋﻲ أﻧﻬﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻣﴪﺣﻴﺔ دراﻣﻴﺔ؛ ﻷن ٍ ﺷﺨﺼﻴﺎت ،أي أﻓﺮادًا ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن أﺑﻮﻟﻮ ﺳﻴﻠﻌﺐ دوره. املﴪﺣﻴﺎت اﻟﺪراﻣﻴﺔ ﺗﻀﻢ وﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻦ املﴪﺣﻴﺔ ،ﺗُﻘﺤِ ﻢ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ وﺑني ﻣﻘﻄﻮﻋﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ؛ ﺣﻴﺚ ﻳُﺸﻌِ ﻞ ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن ﻓﺘﻴ َﻞ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻮدي ﺑﺤﻴﺎﺗﻪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺒﻘﻰ ﻧﺤﻦ ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة ،ﺑﻌﺪ أن ﻧﻘﱰب ﻗﺪر املﺴﺘﻄﺎع ﻣﻦ اﻟﺘﻮاﺻﻞ املﺒﺎﴍ ﻣﻊ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺒﺪاﺋﻲ .وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ،ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﻷﺑﻄﺎل اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﻮن ﺿﺤﺎﻳﺎ ُﻗﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺒﻠﻎ ﻧﺤﻦ »اﻟﺨﻼص« ،وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻣُﺤﺒﱠﺐ إﱃ ﻓﺎﺟﻨﺮ وﻛﺬﻟﻚ إﱃ املﺴﻴﺤﻴني ،واﻟﺬي ﺳﻴﻨﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻌﺪ ﻓﱰة ﻗﺼرية ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﺣﻘﻖ اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻪ ﰲ ﺳﻴﺎﻗﺎت أﺧﺮى. ﻟﻘﺪ ﺗﺨ ﱠ ﻄﻴﺖ اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﻠﻞ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻟﻜﻲ ﱢ أﺑني ﻛﻴﻒ ﻳﺤﺎول ﻧﻴﺘﺸﻪ أن ﻳﻌﻘِ ﺪ ﺻﻠﺔ ﺑني اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ واﻟﺪراﻣﺎ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﻟﻔﺎﺟﻨﺮ .ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ ﻟﻨﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ اﻷوﱃ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻐﻴﺎب املﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻌ َﺰف ﰲ املﴪﺣﻴﺎت ٍ أوﺻﺎف ﺣﻮل اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺨﻤني ﺗﺄﺛرياﺗﻬﺎ ﱠإﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﺟﻤﺎﻫريﻫﺎ ﻟﻬﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺨﻀﻌﻮن ﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ »اﻟﻨﺸﻮة« اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗُﺘَﺢ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﱠإﻻ اﻵن .وﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺑﻠﻮغ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﱠإﻻ ﻟﺪى ﺟﻤﻊ ﻣﻦ املﺘﻔﺮﺟني اﻟﺬﻳﻦ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ إﺣﺴﺎﺳﻬﻢ ﺑﻔﻘﺪان اﻟﻬﻮﻳﺔ ﺻﻮر ًة أﺟﻮد ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﺟﻤﻬﻮر ﻛﺮة اﻟﻘﺪم ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ .وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺮﻛﺰ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ إﻧﺘﺎج ﺗﻠﻚ اﻟﻨﺸﻮة ،ﱠ وإﻻ ﻓﻠﻦ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﺎرق ﻧﻮﻋﻲ ﺑني ﺟﻤﻬﻮر ﻛﺮة اﻟﻘﺪم وﺟﻤﻬﻮر املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ .وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺷﻌﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻷﺳﺒﺎب ﻣﻌﻘﺪة ،أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﺎرق ﻣﻠﺤﻮظ ﺑني ﺟﻤﻬﻮر ﻓﺎﺟﻨﺮ وﺟﻤﻬﻮره املﻘﺎﺑﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺳﻜﺎرى ﺣﺎدﱢي املﺰاج .ﺑﻴﺪ أن ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﺳﻮف ﺗﻈﻬﺮ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ اﻷﻟﻴﻢ .أﻣﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﺼﻤﱢ ﻤً ﺎ ﻋﲆ إﻋﺎدة إﺣﻴﺎء روح املﺠﺘﻤﻊ ﺑﻔﻀﻞ ﺗﻼﺣﻢ أﻋﻀﺎﺋﻪ 21
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺑﺸﻌﻮر ﻣﺸﱰك ﺑﺎﻟﻨﺸﻮة .ﺗﻠﻚ ﻫﻲ »املﺸﻜﻠﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺨﻄرية اﻟﺘﻲ ﻧﻮاﺟﻬﻬﺎ« ،وﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻳﻌﺘﱪ أن اﻷملﺎن ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺤﺴﺎﺳﻴﺔ ﺗﺠﺎه اﻟﻘﻴﻢ واﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻄﻠﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺣُ ﺮﻣَ ﺖ ﻣﻨﻬﺎ أﻣﻢ أﺧﺮى ،ﺑﻔﻀﻞ ﺛﺮاء املﻮروث املﻮﺳﻴﻘﻲ ﻟﻸملﺎن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﺳﺎﳼ. وﺳﻂ ﺗﴫﻳﺤﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻻﻓﺘﺘﺎﺣﻴﺔ ﺣﻮل ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ أﺑﻮﻟﻮ ودﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس واﻟﺠﺪل املﺘﻀﻤﻦ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ،واﻟﺬي ﻳﻠﻘﺢ ﻓﻴﻪ أﺣﺪﻫﻤﺎ اﻵﺧﺮ ﰲ اﻷﻗﺴﺎم اﻟﺨﺘﺎﻣﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب ،ﻧﺠﺪ ﺻﻮرة ﻧﻴﺘﺸﻪ املﻌﺮوﺿﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ ،إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺴﺘﻐﺮﺑًﺎ ،ﻋﻦ ﺳﻤ ﱢﻮ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ )أﺳﺨﻴﻠﻮس وﺳﻮﻓﻮﻛﻠﻴﺲ( واﻧﺤﻄﺎﻃﻬﺎ )ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ( .دارت ﻓﺮﺿﻴﺘﻪ املﺤﻮرﻳﺔ ﺣﻮل ﻏﻠﺒﺔ اﻟﻜﻮرس اﻟﻐﻨﺎﺋﻲ ﰲ ﺣﺎﻻت اﻟﺴﻤﻮﱢ ،ﻓريى اﻟﺠﻤﻬﻮ ُر ﻋﲆ املﴪح ﺻﻮر ًة ﻣﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻪ ،ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ إﱃ ﻗﻤﻢ ﺳﺎﺣﻘﺔ ﻣﻦ املﻌﺎﻧﺎة واﻟﺘﺠﲇ .وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﻞ إﱃ املﺸﻬﺪ ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ، اﻟﺬي ﺗﺪوم ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ ﻟﻸﺳﻒ ﺑﺄﻋﺪاد أﻛﱪ ﻣﻦ أﺳﻼﻓﻪ اﻷواﺋﻞ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﺪي اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻷﻓﺮاد وﺑﻌﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ ،واﻷﺳﻮأ ﻣﻦ ﻫﺬا ﺑﺎﻵﺛﺎر املﻔﻴﺪة ﻟﻠﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ،أو »اﻟﺠﺪل« ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﻤﻴﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ ﺗﺴﻤﻴﺘﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﺸﻚ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أن ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺘﺄﺛري ا ُمل ِ ﻔﺴﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ ﺳﻘﺮاط ،اﻟﺬي اﺳﺘﺤﻖ ً ﻓﻌﻼ املﻮت ُ ﺑﺴ ﱢﻢ اﻟﺸﻮﻛﺮان ،ﻟﻴﺲ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺄﺛريه ﻋﲆ ﺷﺒﺎب أﺛﻴﻨﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺄﺛريه ﻋﲆ ﴎ ﻋﻈﻤﺘﻬﺎ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ املﺴﺘﻤﺮة» .ﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ ﺷﺎﻋﺮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ ﱠ اﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«.(١٢ ، ﱠ إن اﻟﺴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ ﺳﻘﺮاط ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺟﺬري ﻫﻲ إﻳﻤﺎﻧﻪ ﺑﺎﻟﻘﺪرة املﻄﻠﻘﺔ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن املﺮء ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﱢ ﻳﺒني أن ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن — اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﱪﻫﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﰲ أﻏﻠﺐ اﻟﻈﻦ ﺗﻔﺴريات ﻵراء ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ — ﻟﻢ ﺗﺤﻘﻖ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪم ،إﻻ ﺑﻤﻨﺤً ﻰ ﺳﻠﺒﻲ .وﻟﻜﻦ ﺗﺼﻮﻳﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻪ ﻳﺘﻨﺎول ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ: ﰲ ﻫﺬه اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺗﻈﻬﺮ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻐﺮﻳﺰﻳﺔ ﻓﻘﻂ ﻟﻜﻲ »ﺗﻌﻮق« املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻮاﻋﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﻣﻮاﺿﻊ ﻣﺤﺪدة .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻐﺮﻳﺰة ﺗُ َ ﻌﺘﱪ ﻋﻨﺪ اﻷﺷﺨﺎص اﻷذﻛﻴﺎء ﻣ َﻠﻜﺔ إﺑﺪاﻋﻴﺔ وﺗﺄﻛﻴﺪﻳﺔ ،وﻳﺆدي اﻟﻮﻋﻲ دو ًرا ﻧﻘﺪﻳٍّﺎ ورادﻋً ﺎ؛ ﻓﺈن اﻟﻐﺮﻳﺰة ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط ﺗﻤﺎرس دو ًرا ﻧﻘﺪﻳٍّﺎ وﻳﺘﺤﻮل اﻟﻮﻋﻲ إﱃ ﻣُﺒﺪِع ،ﻓﻴﺘﻜﻮﱠن ﻣﺴﺦ »ﻧﺎﻗﺺ«! »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«١٣ ، ﻟ ْﻢ ﺗﻔﺎرق ﺻﻮرة ﺳﻘﺮاط ﺧﻴﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ؛ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ املﻌﺒﺪ وﻧﻘﻴﻀﻪ ،وﺗﻈﻞ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻪ ﺗﺘﱠﺴﻢ ﺑﺘﻨﺎﻗﺾ ﺻﺎرخ؛ ﻷن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ 22
املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
أن اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻐﺮﻳﺰة واﻟﻮﻋﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ ﺑﻬﺎ ﻫﻨﺎ .ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﺘﺄﻛﺪًا ﻣﻨﻪ ﻫﻮ: ً ﻣﻬﻠﻼ ﻷﻳﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺘﻨﻔﺲ اﻟﻌﻨﴫ اﻹﻳﺠﺎﺑﻲ ﰲ اﻟﺠﺪل ،اﻟﺬي ﻳﺮﻗﺺ إﻻ ﰲ اﻷﺟﻮاء اﻟﺼﺤﻮة اﻟﴫﻳﺤﺔ وﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻮﻋﻲ؛ ذﻟﻚ اﻟﻌﻨﴫ املﺘﻔﺎﺋﻞ ،اﻟﺬي ﻏﺰا ذات ﻳﻮم ﻋﺎﻟﻢ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ،ﻗﺪ ﻧﻤﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ﺣﺘﻰ ﻏ ﱠ ﻄﻰ ﻋﲆ أﺻﻮﻟﻪ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴﺔ ،وأﺟﱪ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ اﻻﻧﺘﺤﺎر ﺑﺎﻧﺘﻘﺎﻟﻪ إﱃ املﴪح اﻟﱪﺟﻮازي .ﻫﻨﺎ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﻘﻮل ﺳﻘﺮاط املﺄﺛﻮر» :اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﺠﻤﻴﻊ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﻟﺠﻬﻞ ،واﻹﻧﺴﺎن اﻟﻔﺎﺿﻞ ﺷﺨﺺ ﺳﻌﻴﺪ «.ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺜﻼث املﺘﻔﺎﺋﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﰲ ﻃﻴﱠﺎﺗﻬﺎ ﻣﻮت اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ. »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«١٤ ، إﻧﻪ اﺗﻬﺎم ﻋﺒﻘﺮي ،ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﻴﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ .ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﻗ ِﺒﻴﻞ املﺼﺎدﻓﺔ أن ﻳﺘﻼﳽ ﻓﻜﺮ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺑﺘﻔﺎؤل ﻣﻤﺎﺛﻞ ﻣﺬﻫﻞ ،وﻟﺴﻨﺎ ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻣﺘﺸﺎﺋﻤً ﺎ ،وﻳﺘﻘﺒﻞ ذﻟﻚ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻣﻀﻄﺮﻳﻦ إﱃ اﻻﻧﺘﻈﺎر ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺎدف ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻻﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ ،ﻣﺆﻣﻨًﺎ ﺑﺄوﻟﻮﻳﺔ اﻹرادة اﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻌﺎدﻳًﺎ ﻟﻠﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘﻌﺎون ﺑني اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ واملﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻗﺪ أُﻟﻐﻴَﺖ ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﺷﻜﺴﺒري وراﺳني — ﻷﺳﺒﺎب ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ أو ﻟﺼﻠﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ — اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺜري ﻟﻠﻘﻠﻖ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺎدر ﻋﲆ اﻻﻋﱰاف ﺑﺸﻜﺴﺒري ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻛﺎﺗﺒًﺎ ﺗﺮاﺟﻴﺪﻳٍّﺎ ذا ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺴﺒﺐ ﻏﻴﺎب املﻮﺳﻴﻘﻰ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻀﻌﻪ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﺣﺮج ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻪ ﺑﺘﺠﺎﻫﻞ ﺷﺒﻪ ﺗﺎم .واﻟﻔﻘﺮة اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ ﺑﺈﻳﺠﺎز ﻋﻦ ﺷﻜﺴﺒري ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﺗﺘﻨﺎول ﻫﺎﻣﻠﺖ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺑﺎرع ،ﺑﺼﻔﺘﻪ ً رﺟﻼ ﻳﺪرك — ﺑﻌﺪ أن ﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﻬﻮة اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴﺔ — ﻋﺒﺜﻴﺔ أيﱢ ﻓﻌﻞ؛ ﻓﻬﻮ ﻏري ﻣﺘﻘﺎﻋﺲ وإﻧﻤﺎ ﻳﺎﺋﺲ )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«.(٧ ، وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺘﻨﺎول اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆدﱢي ﺑﻬﺎ ذﻟﻚ إﱃ ﺧﻠﻖ اﻷﺛﺮ املﺄﺳﺎوي اﻟﻜﺎﻣﻞ ،ﻟﻮ ﺗﺤﻘﻖ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس. ﱠ وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻓﺎﻷﻣﺮ اﻷﻛﺜﺮ ﺳﻠﺒﻴﺔ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳﺤﺎول أن ﻳﴩح ﺳﺒﺐ ﻗﻠﺔ املﴪﺣﻴﺎت اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ؛ ﻓﻴﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﺴ ﱢﻠﻢ ً ﺟﺪﻻ ﺑﺄن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻛﺘﺐ ﻣﴪﺣﻴﺎت ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع، وإن ﻛﺎن ﻳﺒﺪو ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱄ ﱠ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺘُﺒْﻬﺎ .ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ،ﻟﻘﺪ ﻋﻤﺪ ﻣﻮﺳﻴﻘﺎر 23
ﻧﻴﺘﺸﻪ
وراء آﺧﺮ إﱃ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻘﻮى املﻬﻴﻤﻨﺔ ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﻟﻴﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻣﻬﻤﺎ ﺳﺎءت اﻷﻣﻮر ﻋﲆ ﺧﺸﺒﺔ املﴪح ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻘﺎذﻫﺎ .وﻣﺎ أﺛﺎر إﻋﺠﺎب ﻧﻴﺘﺸﻪ ٍّ ﺣﻘﺎ ﻫﻮ درﺟﺔ اﻟﻨﺸﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ املﻮﺳﻴﻘﻰ أن ﺗُﻨﺘِﺠﻬﺎ ،ﺑﺨﻼف أيﱢ ﱟ ﻓﻦ آﺧﺮ .وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻨﺢ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺗﻘﻠﻴﺪي ،ﺑﺼﻔﺘﻬﺎ اﻟﺼﻮرة اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ﱢﺒني ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺼﻤﺪ أﻣﺎم ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﰲ ﻇﺎﻫﺮه ﻟﻨﺎ ﻏري ﻣﺤﺘﻤَ ﻞ ،ﻓﻘﺪ ﱠ ﺣﻘﻖ دﻣﺠً ﺎ ﺑني اﻻﺛﻨﺘني. ﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻳﺼﺒﺢ وﻻؤه ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ذا ﺗﺄﺛري أﺷ ﱠﺪ ﺳﻠﺒﻴﺔ؛ ﻷن ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ً أﻳﻀﺎ ً ﺳﺒﻴﻼ ﻣﺒﺎﴍً ا إﱃ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻹرادة ،ﺑﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻏري ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﻗﺪ آﻣﻦ أن املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗَﻤْ ﻨَﺤﻨﺎ ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ .وﻟﻜﻦ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﴍﺣﻪ اﻟﻌﺎم ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻹرادة ،اﻟﺘﻲ ﻃﺎملﺎ ﻛﺎﻓﺢ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ دون أن ﻳﺒﻠﻐﻬﺎ ﺑﺎﻟﴬورة ،ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻧﺮى ﻛﻴﻒ أو ملﺎذا ﻳﺠﺐ أن ﻧﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﻔﻦ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺤﺘﻚ اﺣﺘﻜﺎ ًﻛﺎ ﻣﺒﺎﴍًا ﺑﻬﺎ .وﻗﺪ ﻳﻔﻜﺮ املﺮء أﻧﻪ ﻛﻠﻤﺎ زادت املﺴﺎﻓﺔ ﺑﻴﻨﻨﺎ وﺑني اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻗ ﱠﻞ إﺣﺴﺎﺳﻨﺎ ﺑﺎﻟﺸﻘﺎء. ﻳﻨﻘﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻓﻜﺎر ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﺑﺎدﱢﻋﺎﺋﻪ أن اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﻫﻮ ﻣﺰﻳﺞ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ واملﺘﻌﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ وذﻛﺮﻧﺎ ،ﻓﺈن اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻟﻸﻟﻢ .وﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﺆال اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي :ملﺎذا ﻧﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ؟ وﻫﻮ ْ ﻳﻔ ِﺼﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ اﻹﺟﺎﺑﺎت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﺴﺒﺐ ﻣﻘﻨﻊ ،ﻣﻌﺘﱪًا إﻳﺎﻫﺎ ﺳﻄﺤﻴﺔ وﻣُﺴ ﱢﻜﻨﺔ .وﻟﻜﻦ ﰲ أﺛﻨﺎء ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﺗﺤﻮﻳ َﻞ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻋﺎﻣﻞ ﻳُﺒﺪﱢل ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻏري ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﺒﺪﻳﻞ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺠﺎوز ﻫﺪﻓﻪ ،ﻟﻴﻘﻊ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو إﱃ ٍ ﻓﺦ املﺴﺎواة ﺑني اﻟﺤﻖ واﻟﺠﻤﺎل ،وﻫﻮ ﳾء ﻳﻨﺘﻘﺪه ً ﰲ ﱢ ﻻﺣﻘﺎ ﺑﺤﺪﱠة ﻛﺎﻓﻴﺔ .وﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻄﺮح ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻄﺮﺣﻪ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﻣﺎ ﻳﺘﺠﺎوز ﻋﻘﺪًا ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن: ملﺎذا اﻟﺤﻖ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻃﻞ؟ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﺤﻔﺰﻧﺎ داﺋﻤً ﺎ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؟ ﻟﻴﺴﺖ اﻟﻔﻜﺮة أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺪم أﺟْ ِﻮﺑﺔ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻜﺮة أن ﺗﻠﻚ اﻷﺟﻮﺑﺔ ﺗﻈﻞ ﻏﺎﻣﻀﺔ .وﻟﻦ ﻧﺠﺪه ﻳﺘﻨﺎول ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت ﺑﻌﻤﻖ ﺣﺘﻰ ﻣﺮﺣﻠﺘﻪ اﻷﺧرية .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻓﺎﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أﻫﻢ ﺑﺤﺚ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ :ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻮﺟﻮد ﻣﺤﺘﻤَ ًﻼ ،ﺑﻤﺠﺮد أن ﻧﺪرك ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ؟ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻨﺎول ﺑﻬﺎ ً ﻗﺼﺔ ﻋﻦ ﺳﻴﻠﻴﻨﻮس ،ﺻﺪﻳﻖ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ،اﻟﺬي ﻗﺎل: املﻮﺿﻮع ﻫﻨﺎ ﻫﻲ اﻗﺘﺒﺎﺳﻪ ﻣﺒﻜ ًﺮا »أﻳﱡﻬﺎ اﻟﺒﴩ اﻟﺰاﺋﻠﻮن اﻟﺘﻌﺴﺎء ،ﻳﺎ أﺑﻨﺎء املﺨﺎﻃﺮ واﻟﺸﺪاﺋﺪ! ملﺎذا ﺗﺠﱪوﻧﻨﻲ ﻋﲆ ﻗﻮل ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻷﻓﻀﻞ ﻟﻜﻢ ﱠأﻻ ﺗﺴﻤﻌﻮه؟ إن أﻓﻀﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﻫﻮ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﻮﺟﺪ ﺧﺎرج ﻗﺒﻀﺘﻜﻢ ً ﻛﻠﻴﺔ :ﱠأﻻ ﺗُﻮﻟﺪوا ،ﱠأﻻ ﺗﻜﻮﻧﻮا ،أن ﺗﻜﻮﻧﻮا ﻻ ﳾء .وﻟﻜﻦ ﺛﺎﻧﻲ أﻓﻀﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻜﻢ ﻫﻮ أن ﺗﻨﺪﺛﺮوا ﰲ أﻗﺮب وﻗﺖ« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« .(٣ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺳﻴﻠﻴﻨﻮس »ﺣﻜﻴﻢ«، 24
املﺄﺳﺎة :املﻴﻼد ،واملﻮت ،واﻟﺒﻌﺚ
ﺗﺘﻤ ﱠﻜﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﱠﺔ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻮق ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ ﺷﺨﺼﻴٍّﺎ )ﻳﻘﺎرن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﺑني » Wissenschaftاملﻌﺮﻓﺔ ،اﻟﻌﻠﻢ« و Weisheitاﻟﺤﻜﻤﺔ( .وﻫﻲ ﺗﻔﻌﻞ ﻫﺬا ،ﺣﺴﺐ ﺑﻌﺾ املﻨﺎورات اﻟﺨﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ﱠ ﻨﻔﺬ ﰲ ﺟﺰء ﻻﺣﻖ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻔﺎﻋُ ﻞ ﻣﺪروس ﺑني اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ واﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ .ﺛﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﺗﻌﻠﻴﻘﻪ اﻷﻛﺜﺮ إﻳﺤﺎءً» :إن املﺘﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﻓﺮﻫﺎ ﻟﻨﺎ املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ املﺼﺪر اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻨﻪ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﺎﺳﺘﻴﻌﺎب اﻟﺘﻨﺎﻓﺮ املﻮﺳﻴﻘﻲ .واﻟﻔﻦ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﳼ ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺘﻌﺔ ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺣﺘﻰ ﰲ ﻇﻞ اﻷﻟﻢ ،ﻫﻮ اﻟﺮﺣﻢ املﺸﱰﻛﺔ ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ واملﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«.(٢٤ ، ﻗﺪ ﻳﺸﻌﺮ املﺮء أن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﺳﻤﱠ ﺎه ﺷﻮﻧﱪج ً ﻻﺣﻘﺎ ﺑ »اﻧﻌﺘﺎق اﻟﺘﻨﺎﻓﺮ« ﺑﻔﻌﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎم؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ إﺣﺴﺎﺳﻨﺎ ﺑﺄن املﻮﺳﻴﻘﻰ املﻔﺘﻘﺮة إﱃ ﺗﻨﺎﻓﺮات واﺟﺒﺔ اﻟﺤﺴﻢ ﻫﻲ ً ﻣﺘﻮاﺻﻼ، ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ﻋﺪﻳﻤﺔ اﻟﻄﻌﻢ وﻏري ﻣﺴﺘﺴﺎﻏﺔ ،ﻓﺈن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺒﺪو وﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﺪم ﻟﻨﺎ ﺗﻨﺎﻓ ًﺮا ﻣﻊ ﻟﺤﻈﺎت ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﺟﻴﻞ .وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ا ُملﺠْ ﺪي اﻟﱰﻛﻴ ُﺰ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺧﻼل ﻳﻌﺘﱪ اﺳﺘﻌﺼﺎء املﺎد ِة ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ .ﻳﻘﺪم ﻟﻨﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﻔﻨﺎن ،ﺣﻴﺚ ِ املﻄﻠﻮب ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ ﺣﺎﻓ ًﺰا ﻷﻋﻤﺎل إﺑﺪاﻋﻴﺔ أﻋﻈﻢ ،وﻟﻜﻨﻪ إﺑﺪاع ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﺗﻘﻠﻴﺪًا ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻮﻗﺖ، ً ﺷﻜﻼ. وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻘﻮل :إﻧﻨﺎ ﻧﻮاﺟﻪ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﺑﻴﺪ أﻧﻪ ﻳﺘﺒﺪل ﻣﻦ ﺧﻼل إﻛﺴﺎﺑﻪ ﰲ ﻣﺴﺘﻬﻞ »ﻣﺮﺛﻴﺎت دوﻳﻨﻮ« ،ﻛﺘﺐ رﻳﻠﻜﻪ ﻳﻘﻮل» :ﻓﺎﻟﺠﻤﺎل ﻻ ﳾء/ﺳﻮى ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺮﻋﺐ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻧﺰل ﺑﺎﻟﻜﺎد ﻧﺘﺤﻤﻠﻪ/وﻧﻤﺠﺪه؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺄﻧﻒ أن ﻳﺪﻣﺮﻧﺎ« )ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺳﺘﻴﻔﻦ ﻣﻴﺘﺸﻴﻞ ،ﺑﺘﴫف ﺑﺴﻴﻂ( .ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﻮل املﺮء ﺑﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ :إن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« .ﻓﻬﻲ ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﻣﺰﻋﺠﺔ ،وﻗﺪ ﻧﺤﺴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻣﻘﺰزة )ﻳﻮﻧﺞ:١٩٩٢ ، ً َ ﺟﺎﻋﻠﺔ اﻟﻔﺎرق اﻟﺮاﺳﺦ ﺑني اﻟﺴﺎﻣﻲ واﻟﺠﻤﻴﻞ، .(٥٥-٥٤وﻫﻲ ﺗﻄﻤﺲ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺣﺎﺳﻢ اﻷول ﻋﻨﴫًا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﻟﻠﺜﺎﻧﻲ .وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻷﻗﻞ إﺛﺎرة ﻟﻠﺪﻫﺸﺔ ﰲ إﺑﺪاﻋﺎﺗﻪ. واﻷﻫﻢ أﻧﻪ ﻳﻌﻜﺲ اﻹﴏار اﻟﺬي ﺣﺎﻓﻆ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ ،وأﺑﺪاه ﺑﻜ ﱢﻞ ﺑﻄﻮﻟﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،ﱠ ﺗﻠﻘﺎﺋﻲ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻫﻮ اﻷﻣﺮ ﺑﺄﻻ ﻳﻌﻄﻲ اﻷﻟﻢ دو ًرا ﺳﻠﺒﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﱟ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄي ﳾء آﺧﺮ .ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﺷﻌﺮ أﻧﻪ أرﻫﻘﻪ ﺧﻼل املﺸﻬﺪ املﻌﺎﴏ ٌ رؤﻳﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﻘﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺐ ﻟﺪرﺟﺔ أن ﺳﻴﻄﺮت ﻋﻠﻴﻪ ٍ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻹﻛﺴﺎﺑﻪ ﻣﻌﻨًﻰ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻫﻲ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ .ﻟﻬﺬا ،ﻓﺈﻧﻪ ﰲ أﻳﱠﺔ »ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺬات« ،ﺑﻌﺪ أن اﻧﺘﻘﺪ اﻟﻜﺘﺎب ﺑﺸﺪ ٍة أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻓﻌﻞ أيﱡ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ، ً روح ﺗﻮاﺟﻪ ﺟﻤﻴﻊ ﻣُﻌ ِﻠﻨًﺎ أﻧﻪ ﻗﺪ وﺟﺪه »ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ« ،ﻟﻢ ﻳﺰل ﻳﺠﺪ أﻧﻪ »ﻳﻜﺸﻒ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﻦ ٍ ِ ﻣﻌﺎرﺿﺔ اﻟﺘﻔﺴري »اﻷﺧﻼﻗﻲ« واملﻌﻨﻰ وراء اﻟﻮﺟﻮد« )»ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«، املﺨﺎﻃﺮ ﻣﻦ أﺟﻞ 25
ﻧﻴﺘﺸﻪ
»ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺬات« .(٥ ،وﺑﻌﺪ ﻋﺪة أﺳﻄﺮ ﻗﻼﺋﻞ ،ﻳﺼﻒ »املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ أﻛﺜﺮ ً ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻟﻠﻤﻮﺿﻮع اﻷﺧﻼﻗﻲ «.ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻔﺎﺿﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﺑﻬﺎ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻳﻮﻣً ﺎ ً ﺣﺴﺎﺳﺎ ﺗﺠﺎه املﻌﺎﻧﺎة )ﻣﻌﺎﻧﺎة أن اﻹدراك املﺘﺄﺧﺮ واﺿﺢ ﻫﻨﺎ ،ﻓﺒﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺒﺎل إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﻤﻌﺎﻧﺎﺗﻪ( ﻟﻴﺠﺪ »ﺗﻔﺴريًا« ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﺘﻲ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﻛﺎن ﻏري ٍ ﺗﺤﻘﻘﻬﺎ ﻟﻨﺎ ،واﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺟﺰاءً ﻟﻨﺎ ﻋﲆ ﺧﻄﺎﻳﺎﻧﺎ ،وﺑﻘﻴﺔ املﻬﺎﺗﺮات اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺮت ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻘﺮون ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﺤﺘﻤَ ﻞ. ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« أﻛﺜﺮ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮﻫﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﱠﻬ َﻢ ﺑﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ وآﺧﺮون َ ﱠ وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب أﺛﺒﺖ أﻧﻪ ﻣﺼﺪر ﺧﺼﺐ ﻹﻟﻬﺎم ﻋﻠﻤﺎء اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ، ﻏريُه واﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴني .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻪ ﺗﺄﺛري ﻗﻮي ﻋﲆ اﻟﺨﻴﺎل اﻟﻌﺎم ،ﺑﻔﻀﻞ ﺗﺮﻛﻴﺰه ﻋﲆ اﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺔ اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻴﺔ واﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮﺳﻴﺔ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺘﺎب ﻣﺜﻤﺮ ﰲ ﻗﺮاءاﺗﻪ؛ ﻓﻤﺎ إن ﺗﺘﻀﺢ ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﻧﺠﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺮؤى املﺘﻤﻴﺰة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﻮﺟَ ﺪ ﰲ أيﱢ ﻋﻤﻞ آﺧﺮ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ. وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗُﻐﻨﻲ ﻋﻦ ﻧﻮع ﻣﻌني ﻣﻦ اﻟﻘﺮاءة املﺘﻌﻤﻘﺔ؛ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺮاءة اﻟﺮاﺋﺠﺔ اﻟﻴﻮم وﺗﺒﺤﺚ ﱠ واﻟﺼﺪْع وﺗﺪﻣري اﻟﺬات ،وﺑﻘﻴﺔ أدوات اﻟﺘﻔﻜﻴﻜﻴني .ووﺣﺪﻫﺎ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﻋﻦ اﻻﻟﺘﺒﺎس أﻧﻬﺎ ﺗﺤﻘﻖ وﺣﺪة اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﻲ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﺳﺘﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﻼ ﺟﺪال. ﺗﻈﻬﺮ ﺗﻠﻚ اﻟﻮﺣﺪة ﻓﻘﻂ ﰲ اﻟﺤﻤﺎس اﻟﺬي ﻳﺼﻤﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ رﺑﻄﻪ ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺄﻫﻢ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ ،وﺗﺠﺴﺪﻫﺎ ﻣُﺜﻠﻪ اﻟﻌﻠﻴﺎ .وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺘﺎب ﺷﺎبﱞ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ أﻗﻞ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻜﺘﺒﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻘﺮﺑﻪ ﻣﻦ ﻣﺆﻟﻔﻪ .ورﺑﻤﺎ اﻟﻼﻓﺖ أﻧﻪ أﺷﺪ ﺗﻌﺒري ﻣﺘﻔﺎءل ُﻛﺘِﺐ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻋﻦ رؤﻳﺔ ﻛﻮﻧﻴﱠﺔ ﻣﺘﺸﺎﺋﻤﺔ.
26
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻻﻧﺴﺤﺎب
ﱠ إن اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﻲ ُﻛ ﱢﻠﻠﺖ ﺑﻜﺘﺎﺑﺔ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻲ اﻷﺳﻌﺪ ﰲ ﺣﻴﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺑﻞ وﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺧرية ﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﻴﺒﻪ املﺮض واﻟﻮﺣﺪة واﻟﻨﺒْﺬ .ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻏﺎدر آل ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﺮﻳﺒﺸﻦ واﻧﺘﻘﻠﻮا إﱃ ﺑﺎﻳﺮوﻳﺖ ﻋﺎم ،١٨٧٢اﻧﺘﻬﺖ ﻋﻼﻗﺔ )ﻋﻼﻗﺎت( ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻷ َ ْد َو ُم ﰲ دﻓﺌﻬﺎ وإﺛﻤﺎرﻫﺎ .وﰲ ﻏﻴﺎب ﻓﺎﺟﻨﺮ ،ﺑﺪأ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺸﻜﻚ ﰲ ﺟﻮدة ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ وﻏﺎﻳﺘﻬﺎ؛ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻇ ﱠﻞ ﻳﺘﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ .وﻟﻜﻨﻪ ﻇ ﱠﻞ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﺎﺟﻨﺮي اﻟﻄﺎﺑﻊ ﻟﺪى اﻟﻨﺎس ،ﻣﺠﻨﺪًا ﻟﺸﻦ دﻋﺎﻳﺔ ﻟﺼﺎﻟﺢ ﻗﻀﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﱢ أﻣﺲ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ذﻟﻚ .وﺑﺴﺒﺐ ﻗﻠﻖ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ وﺿﻊ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺑﺪأ ﻳﺸﻌﺮ أﻧﻪ ﺑﺎ َﻟﻎ ﻛﺜريًا ﰲ ﺗﻘﺪﻳﺮﻫﺎ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﻋﻜﻒ ﻋﲆ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻷوراق ﻟﻠﺰﻣﻦ؛ ﻟﻬﺬا أﺳﻤﺎﻫﺎ »ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﰲ ﻏري أواﻧﻬﺎ« .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﺧﻄﻂ ﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﺛﻼث ﻋﴩة ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ً ﺻﻔﺤﺔ وﻧَﻴ ًﱢﻔﺎ ،ﻛﺎملﻘﺎﻻت ﻳﻜﺘﺐ ﺳﻮى أرﺑﻊ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَ ْﻜﻔِ ﻴﻪ اﺛﻨﺘﺎن .ﻓﺒﺒﻠﻮﻏﻬﺎ ﺧﻤﺴني ﻗﺎﻟﺐ ﻳﻨﺎﺳﺐ ﻣﻮاﻫﺒﻪ؛ إذ إﻧﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُ ﱢﺒني ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﺎﺟ ًﺰا ﻋﻦ اﻛﺘﺸﺎف ٍ ً ﺣﻤﺎﺳﺎ ﻣﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﻳﻠﺠﺄ ﻟﻠﻤﺮة ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﻟﻌﺮض ﺣﺠﺔ وﺑﺴﻄﻬﺎ ﺑﺄﺳﻠﻮب أﻗﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ إﱃ اﻟﺒﻌﺜﺮة واﻟﺤﺸﻮ. وﻟﻜﻦ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺸﻜﻠﺔ أﻫﻢ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﰲ »ﺗﺄﻣﻼت ﰲ ﻏري أواﻧﻬﺎ« ،ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻳﻮﺟﱢ ﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﺤﻮ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻣﺪى ازدﻫﺎر اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﻌﺎﴏة ،ﻣﻊ ﻫﺠﻮ ٍم ﻋﲆ اﻟﻌﺠﻮز دﻳﻔﻴﺪ ﺷﱰاوس — ﻣﺆ ﱢﻟﻒ »ﺣﻴﺎة املﺴﻴﺢ« ،و»اﻹﻳﻤﺎن اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺠﺪﻳﺪ«؛ اﻟﻜﺘﺎب اﻷﺧﻄﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ — وﻧﺤﻮ ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﺛﻢ ﻧﺤﻮ اﻻﺣﺘﻔﺎء ﺑﻌﺒﻘﺮﻳﺔ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور وﻓﺎﺟﻨﺮ ،ﻓﺈﻧﻪ — ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ» ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻔﻮاﺋﺪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﻋﻴﻮﺑﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﺤﻴﺎة« — ﻟﻢ ً ﺗﻮاﻓﻘﺎ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻣﻊ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ .ﻓﻜﺘﺎب ﺷﱰاوس اﻟﺬي اﺧﺘﺎره ﻟﻠﻨﻘﺪ ﰲ ﻳﺠﺪ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺗﺘﻮاﻓﻖ اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻷول ﻳُﻌَ ﺪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﺳﻬﻞ اﻟﻘﺮاءة ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻓﻬﻮ ﻣﺎدة ﻟﻼزدراء اﻟﺬﻛﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻘﺎوﻣﺘﻬﺎ،
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻟﺪرﺟﺔ أن املﺮء ﻳﺘﻌﺠﺐ ملﺎذا ﻳﻌﺒﺄ ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺒﺪو واﺿﺤً ﺎ أﻧﻪ ﻳﻔﻌﻠﻪ .وﻣﻊ ﻫﺬا، ً ﻛﺎﻣﻼ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻨﺎول املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻨﺎوﻟﻬﺎ ﻛﺘﺎب ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻖ أن ﻳُﻘ َﺮأ ﻣﺎﺛﻴﻮ أرﻧﻮﻟﺪ »اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻼﺳﻠﻄﻮﻳﺔ« ،واﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻷﺟﺪى ﻟﻘﺮاءﺗﻪ ﻫﻲ أن ﻳُﻘ َﺮأ ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ﻣﻊ اﻟ ُﻜﺘﻴﱢﺐ اﻟﺴﻄﺤﻲ واملﺆﺛﺮ اﻟﺬي ﻳﺸﱰك ﻣﻌﻪ ﰲ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎﺗﻪ ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﺪﻫﺸﺔ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ أﺣﺪ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻷﻛﺜﺮ إﻟﻬﺎﻣً ﺎ اﻟﺘﻲ ﺻﺎﻏﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻏري املﺘﺄﺛﺮ ﺑﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ«؛ أي اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﻌﺮف ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻌﺮﻓﻪ ،وﻳﺤﺮص ﻋﲆ ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﻟِﻤﺎ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺗﺄﺛري ﻋﻠﻴﻪ. ﻳﻌﺘﱪ اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ً ﻋﻤﻼ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ،ﻓﻬﻮ ﺗﺄﻣﻞ ﺣﻘﻴﻘﻲ ملﺪى ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ ﻋﺐء املﻌﺮﻓﺔ؛ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ،ﻣﻊ ﺗﻤﻜﻨﻨﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺬاﺗﻲ اﻟﺘﺎم .وﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﻤﻨﺎﺷﺪ ٍة ﻣﺤ ﱢﺮﺿﺔ ﻟﻨﺎ ﻻﻋﺘﻨﺎق املﻔﻬﻮم اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واملﻨﺎﻗﺾ ﻟﻠﻤﻔﻬﻮم اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أن اﻷول ﻳﺪور »ﺣﻮل اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺟﺪﻳﺪة وﻣﺘﻄﻮرة ،دون ً ﺗﻮاﻓﻘﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة واﻟﻔﻜﺮ واملﻈﻬﺮ ﻇﺎﻫﺮ أو ﺑﺎﻃﻦ ،دون رﻳﺎء وأﻋﺮاف ،اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ واﻹرادة« )»ﺗﺄﻣﻼت ﰲ ﻏري أواﻧﻬﺎ« ،اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ .(١٠ ،ﻫﺬا أﻣﺮ ﻋﻈﻴﻢ ،ﱠ ﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﺸﺎﻋﺮ ﱢ ﻧﺤﻮ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﺴﻤﺔ اﻟﺨﻄﺎﺑﻴﺔ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﰲ ﻣﺘﻦ اﻟﻨﺺ ﻳﺠﻴﺐ ﻋﻨﻬﺎ ﻋﲆ ٍ ُﺮض. ﻣ ٍ ٍ ﺑﺼﻔﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ إﱃ ﻳﺘﺴﻢ اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ؛ »ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻣﻌ ﱢﻠﻤً ﺎ« ،ﺑﺄﻧﻪ ﻣُﺮ ِﺑﻚ ،وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ ﻋﺪم ﻋﻨﺎﻳﺘﻪ ﺑﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ﻛﺜريًا .ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﻌﻴﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور املﺘﺸﺎﺋﻢ املﻨﻘﻮص ﺗﺘﻀﺎءل، وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﺪﺣﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻷﻏﻠﺐ ﻫﻮ ازدراؤه ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﻴني ،وﻟﻜﻦ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻛﺎن ﻗﺪ ﻓﻌﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻓﻀﻞ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺗﺄﻣﻼﺗﻪ »زﻳﺎدات وﻣﺤﺬوﻓﺎت« .أﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻷﺧري؛ »رﻳﺘﺸﺎرد ﻓﺎﺟﻨﺮ ﰲ ﺑﺎﻳﺮوﻳﺖ« ،ﻓﻬﻮ ﻗﺮاءة ﻣﺆملﺔ .ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻓﻜﺮة ً أﺳﺌﻠﺔ ﺧﻄرية ﻋﻦ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن — ﰲ ﻧﻔﺲ وﻗﺖ ﻛﺘﺎﺑﺘﻪ — ﻳﻄﺮح ﰲ دﻓﺎﺗﺮ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ ،ﻛﻨﺎ ﺳﻨﺴﺘﺸﻌﺮ وﺟﻮد ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﺎ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ املﻨﺎﺳﺒﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ً ﻣﺤﺎوﻻ اﺳﺘﻌﺎدة ﺣﺎﻟﺔ ﻋﻘﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ راﺋﻌﺔ وﻗﺖ اﺳﺘﻤﺮارﻫﺎ، ﺑﺪا ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻏري ﺻﺎدق، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺪﻓﻊ ﺑﴪﻋﺔ رﻫﻴﺒﺔ ﻧﺤﻮ املﺎﴈ .ﱠ ﻟﻜﻦ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﺤﻤﺎس ﻓﺎﺟﻨﺮ ً ﻣﻨﺸﻐﻼ ﺟﺪٍّا ﻋﻦ ﺗﺠﺎﻫﻬﺎ ،ﺣني ﻗﺎل» :ﺻﺪﻳﻘﻲ ،ﻛﻴﻒ ﻋﺮﻓﺘﻨﻲ ﺟﻴﺪًا ﻫﻜﺬا؟« ﻫﻮ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻗﺮاءﺗﻬﺎ .وﻫﻲ ﺗُ َ ﻌﺘﱪ ،ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻣﻼﺋﻤﺔ ﻟﻠﺤﺪث اﻟﺤﺎﺳﻢ اﻟﺘﺎﱄ )أو أﺣﺪ اﻷﺣﺪاث اﻟﻘﻼﺋﻞ( ﰲ ﺣﻴﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ :ﺣﻀﻮره ﻣﻬﺮﺟﺎن ﺑﺎﻳﺮوﻳﺖ اﻷول ﻋﺎم ،١٨٧٦واﻧﻔﺼﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ. 28
اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻻﻧﺴﺤﺎب
رﺣﱠ ﺐ ﻣﻌﻈﻢ ا ُمل ﱢ ﻔﴪﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻨﺎوﻟﻮا أﻋﻤﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻻرﺗﻴﺎح ﺑﻌﺪاﺋﻪ ﻟﻔﺎﺟﻨﺮ؛ رﺑﻤﺎ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﻫﺬا ﻳﻌﻔﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ املﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ .وﻟﻜﻨﻪ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻖ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻫﺬا ،ﺑﻤﺎ أن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻫﻮ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻤﺮ وﺟﻮده ﻛﺜريًا ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄيﱢ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ،ﺑﻤﻦ ﰲ ذﻟﻚ ﺳﻘﺮاط أو املﺴﻴﺢ أو ﺟﻮﺗﻪ .وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪ ﻣﺴﺘﻮًى ﻣﻌﻘﺪٍ، ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻌﺠﺒًﺎ ﺑﻔﺎﺟﻨﺮ ،ﺛﻢ أﺻﺒﺢ ﻗﺪ ﻳﺸﻌﺮون أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺈﺣﺪاث ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل املﺆﻟﻢ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳَﻌِ ﻪ ﻓﺎﺟﻨﺮ ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻓﺈن ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻌﻮاﻣﻞ ،ﺑﱰﺗﻴﺐ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ،اﻟﺘﻲ أدت إﱃ ﻫﺬه اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ. ﻻ ﺷﻚ أن ﺗﻮﻗﻌﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺴﺎذﺟﺔ ﻋﻤﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻜﻞ ﻣﻬﺮﺟﺎن ﺑﺎﻳﺮوﻳﺖ ﺟﺎءت ﻣﺨﻴﱢﺒﺔ ﻵﻣﺎﻟﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺪﻣﱢ ﺮ؛ وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﻗﻌﺎت ﻓﺎﺟﻨﺮ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻼﺑﺴﺎت املﻮﻗﻒ .ﻛﺎن ﻳﺠﺐ ﺗﺼﻔﻴﺔ اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﱠ أن ﻫﺬا ﻟﻸﺳﻒ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ؛ وﻟﻜﻦ املﺤﺎوﻟﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺪف إﱃ اﻟﺘﻮدﱡد ﻟﻠﺜﺮيﱢ ،وﺗﺤﻮﻳﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻬﺮﺟﺎﻧًﺎ ﻳﺤﺘﻔﻞ ﻓﻴﻪ املﺠﺘﻤﻊ ﺑ ِﻘﻴَﻤﻪ املﺸﱰﻛﺔ ﺑﺄﻗﻞ اﻟﺘﻜﺎﻟﻴﻒ إﱃ ﳾء ﱠ ﺗﺠﲆ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﺛﺮﻳﺎء ﻣﻦ ﻣﺘﺠﺎﻫﲇ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ املﻨﺘﻤني إﱃ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ وﻏريﻫﻢ ﻣﻤﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﻢ ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﺤﺪث. ﺑﻌﺪ اﻟﻔﺰع اﻟﺬي ﺷﻌﺮ ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﺠﺎه ﻫﺬه ﱡ اﻟﺼﺤﺒﺔ ،ﻓ ﱠﺮ إﱃ املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺮﻳﻔﻴﺔ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻟﻴﺘﻌﺎﰱ ﻣﻦ أوﺟﺎع رأﺳﻪ املﺘﺰاﻳﺪة .ﻫﻨﺎك ،وﰲ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ ،ﺗﺄﻣﱠ ﻞ ﺑﺈﻣﻌﺎن ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻔﺎﺟﻨﺮ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻔﻨﺎن .ﻟﻘﺪ ﺻﺎر ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﰲ ﻣﺰاج ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﺮﻓﺾ أن ﻳﻜﻮن ﺗﺎﺑﻌً ﺎ ﻷيﱢ ﺷﺨﺺ، ً وﻻ ﺑﺪ ﱠ ﻋﺎﻣﻼ رﺋﻴﺴﻴٍّﺎ .رﺑﻤﺎ ﻛﺎن واﻗﻌً ﺎ ﰲ ﻏﺮام ﻛﻮزﻳﻤﺎ؛ اﻟﺪﻟﻴﻞ ﻏريُ ﺣﺎﺳﻢ أن ﻫﺬا ﻛﺎن وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ .أﻣﺎ اﻟﺘﻔﺴري اﻷﻗﻞ إﻗﻨﺎﻋً ﺎ ،ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ر ﱠﻛﺰ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻼﻧﻴﺔً ﺑﺄن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻗﺪ اﻋﺘﻨﻖ املﺴﻴﺤﻴﺔ .وﻛﺎن اﺳﺘﻘﺒﺎل ﻗﺼﻴﺪة »ﺑﺎرﺳﻴﻔﺎل« ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻫﻮ اﻟﻘﺸﺔ ً ﻋﻼﻧﻴﺔ ﻣُﺴﻮﱠدة اﻟﺘﻲ ﻗﺼﻤﺖ ﻇﻬﺮ اﻟﺒﻌري .وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﺣﺎﴐً ا ﻋﺎم ١٨٦٩ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺮأ ﻓﺎﺟﻨﺮ اﻟﻘﺼﻴﺪة ،وﺳﻤﻊ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ املﻮﺿﻮع ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻘﺼﻴﺪة َ اﻟﻘﻨﺒﻠﺔ اﻟﺘﻲ ادﱠﻋﻰ أﻧﻬﺎ اﻟﺴﺒﺐ .وﻻ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﻧُﺴﻘﻂ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻃﻤﻮﺣﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻲ ﻛﻤﻮﺳﻴﻘﺎر ،وﻫﻲ أﻛﺜﺮ إﺣﺒﺎﻃﺎﺗﻪ إﺣﺮاﺟً ﺎ .ﻓﻬﻮ رﺟﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻌﺰف ﺑﻼ اﺣﱰاف ﻣﻘﻄﻮﻋﺎت اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ أﻣﺎم ﻓﺎﺟﻨﺮ ،وﻳﺴﺘﻄﻴﻊ — ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ — ﻣﻮاﺻﻠﺔ ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻣﻘﻄﻮﻋﺎت ﻛﻮراﻟﻴﺔ ﺗﺒﺪو ﻣﺜﻞ ﺗﺮاﻧﻴﻢ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻄﺎﺋﻔﻴﺔ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻐﻤﺎت اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺗﺮﻧﻴﻤﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة« أو »ﺗﺮﻧﻴﻤﺔ ﻟﻠﺼﺪاﻗﺔ« ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻏري ﻗﺎدر ﻋﲆ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻣﻮاﻫﺒﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن. وﻟﻢ ﻳﺸﻌﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻹﺣﺒﺎط ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻣﻮﺳﻴﻘﺎ ًرا ﻓﺤﺴﺐ .ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻓﻨﺎﻧًﺎ َ ً اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺘﻌﺠﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﻊ »ﻓﺎﺷﻼ« .وﻫﺬا ﻳﻔﴪ ﺑﺼﻮرة ﻛﺒرية ﻣﺒﺪﻋً ﺎ 29
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﻔﻨﺎﻧني اﻟﻌﻈﻤﺎء ،ﺣﺘﻰ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌﺠَ ﺐ ﺑﻬﻢ ﻛﺜريًا ،ﻋﲆ ﻣﺪار أﻋﻤﺎﻟﻪ .وﻫﻮ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﻟﻌﻀﻮ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻤﻴ ًﺰا ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﺌﺔ ﻣﻦ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب؛ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﻔﺮاﺳﺔ ﻻ ﺗُ َ ﻀﺎﻫﻰ ﰲ أﻓﻀﻞ ﺣﺎﻻﺗﻬﻢ ،وﰲ أﺳﻮأ ﺣﺎﻻﺗﻬﻢ ﻳﺘﺴﻤﻮن ﺑﺎﻟﻌﺠﺮﻓﺔ واﻟﺘﺤﺮﻳﻒ؛ واﻟﺬﻳﻦ ﻳﺒﺤﺜﻮن ﰲ ﱢ ﻓﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺑﺴﺒﺐ ﻋﺠﺰﻫﻢ ﻋﻦ إﻧﺘﺎج اﻟﻔﻦ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ؛ ﻟﻜﻲ ﻳﺒﻠﻮروا رؤﻳﺘﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ .ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﻘﺎد اﻟﻌﻈﻤﺎء )أو ﻓﺌﺔ ﺻﻐرية ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل( ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ .ﻓﺎملﺮء ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻻ ﻳﻠﺠﺄ إﻟﻴﻬﻢ ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ ﺗﻔﺴريات دﻗﻴﻘﺔ ﻟﻸﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻨﺎوﻟﻮﻧﻬﺎ؛ إذ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺮك ﻫﺬا ﻟﻠﻨﻘﺎد ا ُملﺠﻴﺪﻳﻦ وﺣﺴﺐ .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ املﺒﻬﺞ رؤﻳﺔ اﻟﻔﻨﺎﻧني اﻟﻌﻈﻤﺎء ،اﻟﺬﻳﻦ ﺗﱪز ﺻﻮرﻫﻢ ﺧﻴﺎل ﻣﺘﱠﻘﺪ ﻳﻘﺪﱢم ﻋﻨﻬﻢ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ »ﻣﺘﺤﻴﱢﺰة« ﻋﲆ ﻋﺎد ًة ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ »ﻛﻼﺳﻴﻜﻴني« ،ﰲ ﺿﻮء ٍ ﻧﺤﻮ ﻏﺮﻳﺐ وﻣﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ .ورﺑﻤﺎ ﺗﻔﴪ ،أﻓﻀﻞ ﻣﻦ أي ﳾء آﺧﺮ ،اﻷﺛ َﺮ املﺴﺘﻤﺮ ﻷﻋﻤﺎل ﻣﺜﻞ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«. رﺑﻤﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﻓﺎﺋﺪة ﰲ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل ﻫﻲ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻟﻠﻤﺮة اﻟﻮﺣﻴﺪة ً ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« وﻣﺎ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﻗﺎﺑﻞ أﺣﺪ رﻣﻮزه ﺑﺸﺤﻤﻪ وﻟﺤﻤﻪ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﺑﻌﺪﻫﺎ أن ﺟﻤﻴﻊ أﺳﻤﺎء اﻷﻋﻼم ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﰲ ﻧﺼﻮﺻﻪ ﻻ ﺗﻤﺜﱢﻞ اﻷﻓﺮاد ،ﺑﻞ ﺗﻤﺜﻞ اﻟﺤﺮﻛﺎت واملﻴﻮل وأﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺤﻴﺎة .ﻫﺬه اﻟﺴﻤﺔ ﰲ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﻠﻬﻤﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻓﺎﺳﺪة وﻣﻀﻠﻠﺔ .وﻳﺮﺟﻊ ﺳﺒﺐ اﻻﻟﺘﺒﺎس املﺘﻌﻠﻖ ﺑﺤﺎﻟﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ إﱃ أن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻛﺎن ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ، ً ﰲ املﻘﺎم اﻷول، ﺷﺨﺼﺎ ﺗﺮﺑﻄﻪ ﺑﻪ »ﻋﻼﻗﺔ ﻣﺘﺄﻟﻘﺔ« )ﻛﺘﺎب »اﻟﻌﻠﻢ ا َمل ِﺮح«( ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺎد ًرا َ ﻋﲆ أن ﻳﻔﺼﻞ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﺑني ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺎﺟﻨﺮ وﻣﺎ أﺻﺒﺢ ﻳُﻤﺜﻠﻪ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈن درﺟﺔ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪﻳﻬﺎ ﺗﺠﺎﻫﻪ ﺗَ ُﻔﻮق ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪﻳﻬﺎ ﺗﺠﺎه ﺑﻘﻴﺔ أﺑﻄﺎﻟﻪ اﻷﴍار .وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻘﺎ ِﺑﻞ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻗﻂ ،ﻷﻋﻄﺎه ﻣﻊ ﻫﺬا ﺣﺘﻤً ﺎ دو ًرا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ؛ ﻷن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ ٍ ﺻﻔﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﰲ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻛﺎن ﻳﺠﻤﻊ ،ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺮﻳﺤﺔ ،ﺑني ﱠ وﻟﻜﻦ ﺧﺴﺎرة اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻨﺎﻗﻀﻬﺎ ﺑﻤﺮارة ،وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻬﺪف ﻣُﺤﺪﱠد ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ. ً ﺻﺪﻳﻘﺎ وﻣﻌﻠﻤً ﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﴐورﻳﺔ ،ﻛ ﱠﻠﻔﺖ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻛﺜﺮ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ ﺗﺤﻤﱡ ﻠﻪ. ﺗﻌﺎﻣﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻊ ﻣﺸﻜﻼﺗﻪ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻃﺎملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﻟﻪ؛ ﻛﺎن ﻧﺤﻮ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ،ﻓﻴﻨﺘﺞ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻳﻌﻜﺲ ﺑﺠﻤﻴﻊ املﻘﺎﻳﻴﺲ ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﴪﻳﻌﺔ ﻳﻜﺘﺐ ﻋﲆ ٍ اﻟﻨﻤﻮ ،وﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺘﱠﺒﻌﻬﺎ ﻣﻦ اﻵن ﻓﺼﺎﻋﺪًا ﻣﻊ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﺆ ﱢﻟﻔﻪ .ﻓﻜﺘﺎﺑﻪ »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،اﻟﺬي وﺿﻊ ﻟﻪ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻔﺮﻋﻲ »ﻛﺘﺎب ﻟﻠﻌﻘﻮل اﻟﺤ ﱠﺮة« ،اﻧﻘﺴﻢ إﱃ ﺗﺴﻌﺔ ﻛﺘﺐ ،ﺗﺤﻤﻞ ﻋﻨﺎوﻳﻦ ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،و ٦٣٨ﺟﺰءًا ﻣ ﱠ ُﺮﻗﻤً ﺎ ،ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻨﺎوﻳﻨﻪ 30
اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻻﻧﺴﺤﺎب
ً ﻻﺣﻘﺎ ﺟﺰأﻳﻦ ﻣﺘﻤﱢ ﻤَ ني ﻣﻬﻤﱠ ني ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻳُﻌَ ﺪ املﺠﻠﺪ اﻟﺨﺎﺻﺔ )ﻛﺎن ﻳﻨﻮي أن ﻳﻨﴩ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ ﻫﻮ اﻷﺿﺨﻢ ﺑني ﻛﺘﺒﻪ( .ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗُﺼﺎغ ﺑﻬﺬا اﻷﺳﻠﻮب، ﻓﺈن ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ﻣﺠﻬﺪة .ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻷﺟﺰاء ﻣﺼﻨﱠﻔﺔ ﻣﻌً ﺎ ﺣﺴﺐ ﻣﻮﺿﻮﻋﻬﺎ ،ﺳﻤﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻨﻬﺎل ﻋﲆ املﺮء أﻓﻜﺎر ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺤ ﱡﻞ ﻣﺤﻠﻬﺎ أﻓﻜﺎر أﺧﺮى ﺑﻨﻔﺲ املﻌﺪل ﻟﺪرﺟﺔ أن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻻ ﺗُﺬ َﻛﺮ؛ وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﺒﺐ اﻻرﺗﻴﺎع ﻟﻠﻤﺮء .واﻟﺤﻞ ً ٍّ ﻻﺣﻘﺎ .وﻳُﻌَ ﺪ ﻫﺬا ﻋﻨﴫًا ﺧﺎﺻﺎ ،واﻟﻌﻮدة إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻷﺟﺰاء اﻟﺘﻲ ﺗﱰك أﺛ ًﺮا ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ﰲ اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﱠﺒﻌﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺧﻄﻮرﺗﻬﺎ .واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﺑﺈﻓﺮاط ﺷﺪﻳﺪ وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻔﺎﺟﺊ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻫﻮ ﺗﻌﺒري ﻋﻦ ﻧﻔﻮره ﻣﻦ ﺷﺒﻪ اﻟﻘﺼﺔ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،وﻫﻮ ﻛﺘﺎب ﻳَﺴﻬُ ﻞ ﺗﺬﻛﺮه ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺑﻬﺮﺟﺘﻪ اﻟﺒﻼﻏﻴﺔ ،واﻟﺴﺒﺐ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ أﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﺣﻠﻘﺔ وﺻﻞ. وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺪاﺛﺔ اﻟﺪاﺋﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻛﺘﺎب »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،ﻓﺜﻤﺔ ﳾء ﻳﻤﻴﺰه ﻳﺪﻓﻊ املﺮءَ إﱃ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﺎملﺴﺘﻮى اﻟﺬي اﻋﺘﺎد ﻋﻠﻴﻪ .واﻹﻫﺪاء اﻟﺬي ﱠ ﺧﺼﺼﻪ ﻟﻔﻮﻟﺘري ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺤﺬﻳﺮ .ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺳﻄﺤﻴﺔ ﻓﻮﻟﺘري املﺮﺣﺔ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن اﻷﻣ َﺮ اﻟﺬي ﺷﻌﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪه ﺑﻌﺪ املﺠﻬﻮد املﺘﻮاﺻﻞ اﻟﺬي ﺑُﺬِل َ ﻟﺴ ْﱪ أﻏﻮار اﻟﺘﺸﺎؤم اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ،ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ِﻣﺰاﺟني ﻣﺘﻌﺎرﺿني ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺟﻮﻫﺮي .ورواﻳﺔ »ﻛﺎﻧﺪﻳﺪ« ،اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﱢﻞ ﻧﻘﺪ ﻓﻮﻟﺘري ﻟﻠﺘﻔﺎؤل ،ﻫﻲ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻛﺘﺎب ﻣﺘﻔﺎﺋﻞ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺎﻫﻠﻪ .وﻣﺎ أﺛﺎر إﻋﺠﺎبَ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻔﻮﻟﺘري ،ﻋﲆ ﻏﺮار إﻋﺠﺎﺑﻪ ﺑﺼﺎﺋﻐﻲ اﻷﻣﺜﺎل اﻟﻔﺮﻧﺴﻴني املﻨﺘﻤني إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﻫﻮ ﴏاﻣﺔ اﻷﺳﻠﻮب ،وﻫﻲ ﺳﻤﺔ أﺑﻮ ﱡﻟﻮﻧﻴﺔ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﺄن اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻐﻠﻴﻔﻬﺎ ﰲ ﺣُ َﺰم ﺻﻐرية ﺟﺬاﺑﺔ وأﻧﻴﻘﺔ .ﻛ ﱡﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻷﻣﺜﺎل اﻟﺠﻴﺪة ﻳﺼﻌﺐ ﻗﺮاءﺗﻬﺎ؛ ﻷن اﻟﻘﺎرئ ﻳﻀﻄﺮ أن ﻳﺘﻮﱃ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻋﻤﻞ ً ﻧﻴﺎﺑﺔ ﻋﻨﻪ .ﻓﺎﻟﻜﺎﺗﺐ ﻳﻘﺪم ﺟﻤﻠﺔ ،ﻳﺤﻮﻟﻬﺎ اﻟﻘﺎرئ إﱃ ﻓﻘﺮة .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻘﻮل اﻟﻜﺎﺗﺐ إﻧﻪ أراد أن ﱢ ﻳﻌﱪ ﰲ ﺻﻔﺤﺔ واﺣﺪة ﻋﻤﱠ ﺎ ﻗﺪ ﻳﺤﺘﺎج ﺷﺨﺺ آﺧ ُﺮ إﱃ ﻛﺘﺎب ﻛﺎﻣﻞ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻨﻪ — وﻣﺎ ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺣﺘﻰ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻨﺠﺎحَ ﰲ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻨﻪ .وﻟﻜﻦ ﻧﻮع اﻷﻣﺜﺎل وأﺷﺒﺎه اﻷﻣﺜﺎل اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺘﻄﻠﻊ إﱃ ﻛﺘﺎﺑﺘﻬﺎ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺳﻴﺼﺒﺢ ﺗﺄﺛريﻫﺎ ﺗﺒﺪﻳ َﻞ ﻋﻜﴘ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺻﺎﻏﻬﺎ ﻻروﺷﻔﻮﻛﻮ، وﻋﻲ اﻟﻘﺎرئ .ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى :ﻛﺎن ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛري ﱞ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل .داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻨﺘﺞ ،ﰲ أﻓﻀﻞ ﺣﺎﻻﺗﻪ وﺳﻤﺎﺗﻪ ،ﻧﻘﻴﺾ ﻣﺎ ﻳُﻐ ﱢﻠﻒ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ؛ ﻓﴬﺑﺎﺗﻪ وﻣﻀﺎﻳﻘﺎﺗﻪ وإﻫﺎﻧﺎﺗﻪ ﻣﻮﺟﱠ ﻬﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺨﺰي ،ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﺗﺠﺎه أﻧﻔﺴﻨﺎ ،وﻟﻜﻦ ً أﻳﻀﺎ ﺗﺠﺎه رﺿﺎﻧﺎ ﻋﻦ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري ﰲ أﻧﻨﺎ ﻧﻤﻠﻚ أﻓﻀﻞ 31
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ إدراك ﻣﺎ ﻗﺪ ﻧﻜﻮﻧﻪ .وﻫﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺮﻫِ ﻘﺔ ،وﻻ ﺗﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺐ؛ ِ ﺑﺎﺣﺘﻤﺎﻻت اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ روﺗني ﻛﻴﻨﻮﻧﺘﻨﺎ .وﻗﺪ اﺗﱠﺴﻢ ﻣﺘﺒﻌﻮ إﺣﺴﺎس أﻓﻀﻞ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻘﻮدﻧﺎ إﱃ ٍ املﺬﻫﺐ اﻷﺧﻼﻗﻲ ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻔﺮﻧﴘ ﺑﻘﻮة املﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﺑﻜﻴﺎﺳﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ »إﺣﺴﺎﺳﺎ« ﺑﺎﻟﺨﺰي ﻟﺪى اﻟﻘﺎرئ ،وﻟﻜﻦ دون أيﱢ ﱡ ً ﺗﻮﻗﻊ ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺪ اﻟﴪﻣﺪﻳﺔ .وﻫﻢ ﻳُﻮ ﱢﻟﺪون ً ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻳﺘﻐري ﻟﺬﻟﻚ ،ﻓﺈن ﺗﻮدﱡد ﻧﻴﺘﺸﻪ املﻄﻮﱠل ﻟﻬﻢ ﻛﺎن ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻟﻮن ﺑﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء وﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻪ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﻮﺣﻲ ﺑﴚء ﻏﺮﻳﺐ؛ ﻓﻬﻮ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﻌﺪم اﻧﺤﻼل اﻟﺸﻜﻞ واملﻀﻤﻮن ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ إﱃ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .ﻛﻴﻒ ﻛﺎن ﺳﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻐري ذﻟﻚ ﺗﻮﺟﻴ َﻪ ﻛ ﱢﻞ ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻧﺤﻮ اﻟﻨﻮع اﻷدﺑﻲ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﺣﻴﺚ أدت ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻋﺘﺒﺎر ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ دراﻣﻴٍّﺎ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻗﺼﻴﺪ ًة ﻣﻠﺤﻤﻴﺔ إﱃ إﺣﺪاث ﺗﺄﺛري ﻣﺨﺘﻠﻒ ً ً ﻛﻠﻴﺔ؟ واﻷﻣﺮ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻪ ﺗﻔﺴري ذﻟﻚ ﻫﻮ اﺑﺘﻌﺎد ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﺎم ﻋﻦ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ؛ ﻛﻞ ﳾء اﻵن ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻨﻬﺎر اﻟﺴﺎﻃﻊ ،وﻳﺠﺐ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻣﻮﺣﻴًﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .ﰲ »إﻧﺴﺎن ً اﻧﺸﻐﺎﻻ ﺑﺎﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ ﻋﻦ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن املﺮء ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،ﻧﺠﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻛﺜﺮ ِ ﻣﺴﺘﻜﺸ ًﻔﺎ املﺸﻬﺪ — أي اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺸﻌﺮ ،ﺣﺘﻤً ﺎ ﰲ ﺿﻮء ﻋﻤﻠﻪ اﻟﻼﺣﻖ ،أﻧﻪ ﻳﻘﻴﱢﺪ ﻧﻔﺴﻪ، اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺗﺠﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ﻛﺤﻴﺎة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺸﻐﻒ وﻧﻔﺴﻴﺔ اﻟﻔﻨﺎﻧني واﻟﻌﺰﻟﺔ — دون اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﻌﺘﱪ ِﺳﻤﺘَﻪ املﻤﻴﺰة .وﻫﻜﺬا ،إذا ﺗﻨﺎوﻟﻨﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻋﺸﻮاﺋﻲ إﺣﺪى »رؤاه«: ً ﻏﺎﻣﻀﺎ »اﻟﺘﻌﻄﺶ ﻟﻸﻟﻢ اﻟﻌﻤﻴﻖ« ،ﺣني ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻻﻧﻔﻌﺎل ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﱰك ﻓﻴﻨﺎ ﺣﻨﻴﻨًﺎ إﻟﻴﻪ وﻳﻠﻘﻲ ﻋﻠﻴﻨﺎ ،وﻫﻮ ﻳﺨﺘﻔﻲ ،ﻧﻈﺮة ﻣﺨﺎدِ ﻋﺔ .ﻻ ﺷﻚ أن املﺮء ﻗﺪ وﺟﺪ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻠﺬة ﰲ أن ﻳُﴬَ ب ﺑﻤﻘﺎرع ذﻟﻚ اﻻﻧﻔﻌﺎل .أﻣﺎ اﻷﺣﺎﺳﻴﺲ املﻌﺘﺪﻟﺔ ﻓﺘﺒﺪو ﱢ ﺳﻴﻔﻀﻠﻮن داﺋﻤً ﺎ ﻛﺪ ًرا ﺷﺪﻳﺪًا ﻋﲆ ﻟﺬة ﺑﺎﻫﺘﺔ ﺑﺎملﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻪ ،وﻳﺒﺪو أن اﻟﻨﺎس واﻫﻨﺔ. »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،اﻟﺠﺰء اﻷول٦٠٦ ، ً إﺣﺴﺎﺳﺎ ﺑﺎﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ،ﻻ اﻟﺼﺪﻣﺔ .وﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ،ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﺬا ﻗﻮل ﻋﻤﻴﻖ ،وﻳﺜري ً ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺎ ﻳﺠﱪ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺪﻗﺔ ﻣﺆملﺔ»» :إﺟﺒﺎر اﻟﻨﻔﺲ ﻋﲆ اﻹﺻﻐﺎء« ،ﺑﻤﺠﺮد أن ﻧﻼﺣﻆ أن ﻋﲆ اﻹﺻﻐﺎء إﻟﻴﻨﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻮاﺻﻞ واﻟﺘﺤﺪث ﻣﻌﻨﺎ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﻟﺪﻳﻨﺎ دﻟﻴﻞ ﻗﺎﻃﻊ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺒﻨﺎ ﺑﺎملﺮة أو ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺤﺒﱡﻨﺎ« )»إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ.(٢٤٧ ، 32
اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻻﻧﺴﺤﺎب
ﱠ إن ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻛﺘﺎب »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻗﺎل ﻋﻨﻪ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻋﻨﺪ اﺳﺘﻼم ﻧﺴﺨﺘﻪ ﱠ املﻮﻗﻌﺔ ﻣﻨﻪ إن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺳﻴﺸﻜﺮه ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻋﲆ ﻋﺪم ﻗﺮاءﺗﻪ ،ﻗﺪ ﻛﺸﻒ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﺟﻮاﻧﺐ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺑﺪ وأﻧﻪ ﻛﺎن ﺳﻌﻴﺪًا ﺑﺎﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎً . ﻓﺄوﻻ :أﻧﻪ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﻨﺎدرة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﻐﻔﻞ ﺷﻴﺌًﺎ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻧﻄﺎق ﺧﱪﺗﻪ ﻛﺎن اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻛﺜرية ،ﻓﺈﻧﻪ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺪرس ﺛﻘﺎﻓﺘﻪ وﻣﻌﺎرﻓﻪ ﻣﺤﺪودًا ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﱟ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻼﺋﻢ وأن ﻳ ِ ُﻌﻄﻲ ﺗﻔﺴريات ﻋﺎﻣﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﺟﺮيء .وﰲ »ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«، اﻟﺬي ﻳﻌﺘﱪ ﺳريﺗﻪ اﻟﺬاﺗﻴﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﱰاوح ﻓﻴﻬﺎ املِ ﺰاج ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﻘ ﱢﻠﺐ ﺑني اﻟﺪراﻣﺎ أن ﻟﻪ ً ً واﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ،ﻳﻬﻨﱢﺊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﱠ ﺟﻤﻴﻼ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻻﻓﺖ ،وﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻌﻀﻮ أﻧﻔﺎ اﻟﺬي ﻣﺎل اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ إﱃ ﺗﺠﺎﻫﻠﻪ .وﻳﻮﺟﺪ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺼﺎدم اﻷول ﻋﲆ ﺣﺪﺗﻪ ﰲ »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« .ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻛﺸﻒ ﻟﻪ أﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﰲ ﻇﺮوف اﻟﺒﺆس واﻟﺤﺮﻣﺎن اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﻬﺎ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻤﺴﺘﻮًى ﻣﺘﺄﻟﻖ أﻧﺘﺞ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ .وﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﻳﺸﻌﺮ املﺮء أن زﺧﻢ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻫﻮ ﺳﺒﺐ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﺜري اﻹﻋﺠﺎب ﻓﻴﻬﺎ .ﺛﺎﻟﺜًﺎ ،واﻷﻫﻢ :ﻛﺎن ﻗﺎد ًرا ُﻈﻬﺮ أﻗﻞ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺪ؛ ﻟﻘﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﻤﻖ ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺳﺒﱠﺒﺖ آﻻﻣً ﺎ ﻣﻔﺰﻋﺔ دون أن ﻳ ِ ﻋﻤﻼ ﱠ ﻛﺎن ﻛﺘﺎب »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ً وﺿﺢ ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪ؛ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﻈﺮوف اﻟﻌﺼﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث إﱃ أﻫﺪاف إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ،وإﻇﻬﺎر اﻟﺮوح املﻌﻨﻮﻳﺔ املﺮﺗﻔﻌﺔ دون أن ﻳﻌﻠﻦ ﻟﻨﺎ أن ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ،وﻫﻲ ﻧﺰﻋﺔ ﻣﺮﻫِ ﻘﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ. ﻳﻮاﺻﻞ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﻼﺣﻖ» ،اﻟﻔﺠﺮ« ،اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻔﺮﻋﻲ »ﺗﺄﻣﻼت ﺣﻮل اﻷﻓﻜﺎر ً اﻧﺤﺮاﻓﺎ ﺧﻄريًا ﻋﻦ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ« ،أﺳﻠﻮب »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻨﺤﺮف ً ﻣﻀﻤﻮﻧﻪ ،وﻳ َ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ .ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻋﺎم ،١٨٧٨اﻟﺬي ُﻌﺘﱪ ﻛﺘﻴﱢﺒًﺎ ﺻﻐريًا ﻧ ُ ِﴩ ﻓﻴﻪ »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،وﺳﻂ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻋﺎملﻲ ،وﻋﺎم ،١٨٨٠اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﻓﻴﻪ ﺗﻐري ﻧﻤﻂ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﱡ »اﻟﻔﺠﺮ« ،ﱠ ﺗﻐريًا ﺑﺎﻟﻎ اﻷﺛﺮ ،وﺑﺪأ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺬي ﺳﻴﻌﻴﺶ ﺑﻪ ﺧﻼل اﻟﻌﻘﺪ اﻟﻘﺎدم .اﺣﺘﺎر ﻣﻌﻈﻢ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﰲ ﺳﺒﺐ ﺗﻐﻴري اﺗﺠﺎﻫﻪ ،واﻧﻌﺰل ﻋﻦ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻷوﻓﻴﺎء .وﰲ ﻋﺎم ،١٨٧٩ﺑﻌﺪ ﻓﻮات اﻷوان ﺑﺒﻀﻊ ﺳﻨﻮات ،ﱠ ﺗﺨﲆ ﻋﻦ أﺳﺘﺎذﻳﺘﻪ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺎزل ،ﺑﻌﺪ أن ﻓﻘﺪ ﻃﻼﺑُﻪ أيﱠ ﺣﻤﺎس ﺗﺠﺎه ﻣﺎ ﻳﻠﻘﻴﻪ .وﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎم ً أﻳﻀﺎ ،أُﺻﻴﺐ ﺑﺎﻟﺼﺪاع اﻟﻨﺼﻔﻲ اﻟﺤﺎد ملﺪة ١١٨ﻳﻮﻣً ﺎ ،ﻣﻤﺎ أﻗﻌﺪه ﻋﻦ اﻟﻌﻤﻞ .وﺗﺪﻫﻮرت ﺻﺤﺘﻪ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﻨﻮﺑﺎت املﺠﺘﻤﻌﺔ ﻣﻦ اﻟ ﱡﺰﺣﺎر واﻟﺪﻓﱰﻳﺎ اﻟﻠﺬﻳﻦ أُﺻﻴﺐ ﺑﻬﻤﺎ ﻋﺎم ،١٨٧٠ﺧﻼل ﺳﻨﻮات ﺧﺪﻣﺘﻪ ً ﻣﻤﺮﺿﺎ ﻣﺴﺎﻋِ ﺪًا ﰲ اﻟﺤﺮب اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ اﻟﱪوﺳﻴﺔ؛ وﻋﲆ اﻷرﺟﺢ أن ﻣﺮض اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺮي ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻗﺪ اﻧﺘﻘﻞ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ إﺣﺪى اﻟﺪاﻋﺮات ﰲ وﻗﺖ ﻣﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎت ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ 33
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻋﴩ ﺧﻼل إﻗﺎﻣﺘﻪ ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺎده ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ اﻟﺠﻨﻮن واﻟﺸﻠﻞ .ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني ﱢ ﻣﺘﻨﻘﻼ ،ﺑﺎﺣﺜًﺎ ﻋﻦ أﻣﺎﻛﻦ ﱢ ً وﺗﻮﻓﺮ ﻟﻪ أﻗﴡ ﺗﺨﻔﻒ ﻋﻨﻪ آﻻم ﻣﺮﺿﻪ، ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﻋﺎش ﺣﻴﺎﺗﻪ ﱠ املﻔﻀﻠﺔ ﻫﻲ ﻣﺪن ﺷﻤﺎل إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﰲ اﻟﺸﺘﺎء، درﺟﺎت اﻟﻌﺰﻟﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﺘﺐ .وﻛﺎﻧﺖ أﻣﺎﻛﻨﻪ وﺟﺒﺎل اﻷﻟﺐ اﻟﺴﻮﻳﴪﻳﺔ ﰲ اﻟﺼﻴﻒ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻫﺬه ﻟﻢ ﺗﺼﺒﺢ ﻋﺎدة ﺳﻨﻮﻳﺔ ﻟﺪﻳﻪ ﺣﺘﻰ ﻋﺎم .١٨٨٢ ﻳﻘﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻗﺮاءة ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ« ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻜﺘﺎب؛ »ﻟﻢ أﻛﺘﺐ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺣﺘﻰ ﻳُﻘ َﺮأ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ إﱃ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﺮاء ًة ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﴎﻳﻌﺔ ،وﻻ ﻟﻴُﻘ َﺮأ ﺑﺼﻮت ﻣﺴﻤﻮع ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﻘﺎرئ أن ﻳﻘﺮأ أﺟﺰاءً ﺻﻐرية ﻣﻨﻪ، ً ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ« )»اﻟﻔﺠﺮ«، ﰲ ﺗﻨﺰﻫﻪ أو ﺳﻔﺮه ،وﻳﻐﻮص ﰲ أﻋﻤﺎﻗﻪ ،ﺛﻢ ﻳﻨﻈﺮ ﺣﻮﻟﻪ ﻓﻼ ﻳﺮى ﺷﻴﺌًﺎ اﻟﺠﺪ ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﺪﻓﻊ املﺮء إﱃ ﻋﺪم ﻗﺮاءﺗﻪ .(٤٥٤ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ﺟﻴﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻮ أﺧﺬﻧﺎه ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻞ ِ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ .ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﻦ اﻟﺠﻴﺪ ﻗﺮاءﺗﻪ ﺑﺎﻋﺘﺪال ،ﺛﻢ اﻷﺧﺬ ﺑﻨﺼﻴﺤﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،إذا ﻛﻨﺎ ﻧﺮﻏﺐ ﰲ ذﻟﻚ .وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﺼﻴﺤﺔ ﺟﻴﺪة ً ﻓﻌﻼ ،ﺑﻞ إﻧﻪ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪ ﺑﻬﺎ اﻟﺘﻬﻜﻢ. ﻓﻬﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،اﻟﺬي ﻳ َ ُﻌﺘﱪ أﺣﺪ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﻗﻞ دراﺳﺔ ،ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻌﻮد ﻓﻴﻪ إﱃ ﻣﺴﻌﻰ ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﺒﺪأ ﻓﻴﻪ ﻣﺴﻌﺎه ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﻧﻐﻔﻞ ﻣﺪى ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ملﺴﺎر ﺣﻴﺎﺗﻪ.
34
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
اﻷﺧﻼق ِ وﻧ ْﻘﲈﲥﺎ
ﻛﺎن اﻫﺘﻤﺎم ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻋﲆ ﻣﺪار ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻣﻨﺼﺒٍّﺎ ﻋﲆ رﺳﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني املﻌﺎﻧﺎة واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ،أو اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت .وﻫﻮ ﻳﺼﻨﱢﻒ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت وﻳﻔﺮزﻫﺎ ﺣﺴﺐ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺄﻗﻠﻤﻬﺎ ﻣﻊ املﻌﺎﻧﺎة ﻛﻠﻴﺔ اﻟﻮﺟﻮد ،وﻳﻘﻴﱢﻢ اﻷﺧﻼق ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ املﻌﻴﺎر ﻧﻔﺴﻪ .وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ، ﻟﻜﻨﻪ ﻓﻘﺪ ﻫﺬا اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ ﻳﺸﻌﺮ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺧﻴﺎ ًرا ﻋﴫﻳٍّﺎ .وﻟﻬﺬا ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻎ ﺑﺎﻟﺒﻄﻞ ،ﰲ اﻟﺤﻴﺎة أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﻔﻦ ،واﺣﺘﺎج ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻣﺸﻐﻮل اﻟﺒﺎل ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ٍ إﱃ إﻋﺎدة ﺗﻄﻬري ﻧﻔﺴﻪ روﺣﻴٍّﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره إﻧﺴﺎﻧًﺎ أﺳﻤﻰ ) Übermenschﻟﻦ ﻧﱰﺟﻤﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ »اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺨﺎرق« ﺗﻔﺎدﻳًﺎ ﻟﻠﺴﺨﺎﻓﺔ واﻟﻼﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ،وﻻ »اﻹﻧﺴﺎن اﻷﻋﲆ« اﺗﻘﺎءً ﻟﻠﺘﻜ ﱡﻠﻒ(. ﻫﺬا ﻫﻮ أﺳﺎس ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻋﲆ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ،وﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ اﻷدﻳﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻔﱰض وﺟﻮد ﺣﻴﺎة ﺑﻌﺪ املﻮت .وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،ﻛﺎن ﻫﺬا ذا أﻫﻤﻴﺔ »وﺟﻮدﻳﺔ« أﺳﺎﺳﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﺎﻧﻲ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ. ﱠ إن ﻫﺬا اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﻨﻈﺮة اﻹﻧﺴﺎن إﱃ املﻌﺎﻧﺎة ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﻌﻈﻤﺔ ﻻ ﻗﺪر ﻫﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ ﺑﺎﻟﺠﻮدة؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﻈﻤﺔ دون اﺳﺘﻌﺪاد وﻗﺪرة ﻋﲆ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ ٍ واﺳﺘﻴﻌﺎﺑﻪ واﺳﺘﺜﻤﺎره ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻣﺜﻞ .ﻗﺪ ﻳﺘﺨﻴﱠﻞ املﺮء أن اﻟﻌﻈﻤﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ اﻷﻟﻢ ،وأن اﻟﺠﻮدة ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻨﻪ .وﻳﻜ ﱢﺮس ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺟﻤﻴﻊ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻻﺳﺘﻜﺸﺎف ﻫﺬا اﻟﻔﺎرق اﻟﻌﻮﻳﺺ .ﻓﻔﻲ »اﻟﻔﺠﺮ« ،ﻗﺪﱠم ﺗﺤﻠﻴﻼﺗﻪ اﻷوﱃ — اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ — ﻵﻟﻴﺎت اﻷﺧﻼق ،وﻟﻨﻮع اﻟﻨﻔﻮذ اﻟﺬي ﺗﺴﺘﺤﴬه. ﺗﻜﻦ ﺗﺠﺮﻳﺒﻴﱠﺔ
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺗﻔﺎدﻳًﺎ ﻟﺴﻮء اﻟﻔﻬﻢ ،ﻟﻌﻞ ﻣﻦ املﻔﻴﺪ أن ﻧﻘﺘﺒﺲ ﺑﺎﺳﺘﻔﺎﺿﺔ ﻓﻘﺮة ﻣﻦ »اﻟﻔﺠﺮ« ،واﻟﺘﻲ ﺗُﻀﻌِ ﻒ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻻﻧﺘﻘﺎدات اﻟﺘﻲ ﻛﺜريًا ﻣﺎ وُﺟﱢ ﻬَ ﺖ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ: ﺛﻤﺔ ﻃﺮﻳﻘﺘﺎن ﻹﻧﻜﺎر اﻷﺧﻼق .ﻓﻘﺪ ﻳﻌﻨﻲ »إﻧﻜﺎر اﻷﺧﻼق« ً أوﻻ :إﻧﻜﺎر أن ﺗﻜﻮن اﻟﺒﻮاﻋﺚ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻒ ٍّ ﺣﻘﺎ وراء أﻓﻌﺎﻟﻬﻢ، وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻷﺧﻼق ﻣﺠﺮد ﻛﻼم وأﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺪع اﻟﻔﻈﺔ أو املﻌﻘﺪة ً ﺧﺼﻮﺻﺎ أوﻟﺌﻚ اﻟﺮﺟﺎل املﺸﻬﻮرﻳﻦ ﺑﻔﻀﻴﻠﺘﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺎرﺳﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ،ورﺑﻤﺎ )وﻫﻲ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﺧﺪاﻋً ﺎ ﻟﻠﻨﻔﺲ( .وﻗﺪ ﻳﻌﻨﻲ ﺛﺎﻧﻴًﺎ :إﻧﻜﺎر أن ﺗﻜﻮن اﻷﺣﻜﺎم اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺣﻘﺎﺋﻖ .وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻧﺴ ﱢﻠﻢ ﺑﺄن ﻫﺬه اﻷﺣﻜﺎم ﻫﻲ اﻟﺒﻮاﻋﺚ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻸﻓﻌﺎل ،وﺑﺄن اﻷﺧﻄﺎء ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺳﺎس ﻛ ﱢﻞ اﻷﺣﻜﺎم اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻒ وراء أﻋﻤﺎل اﻟﻨﺎس اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .ﻫﺬا اﻟﺮأي اﻷﺧري ﻫﻮ رأﻳﻲ؛ ﻟﻜﻨﻨﻲ ﻻ أﻧﻔﻲ أﻧﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻻت ﻳﻜﻮن اﻻرﺗﻴﺎب ﰲ اﻟﺮأي اﻷول — أي ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻻروﺷﻔﻮﻛﻮ وﻏريه ﻣﻤﻦ ﻳﻔﻜﺮون ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻪ — ﺷﻴﺌًﺎ ﰲ ﻣﺤ ﱢﻠﻪ وﻟﻪ ﻓﺎﺋﺪة ﻛﺒرية ﻋﻤﻮﻣً ﺎ .أﻧﺎ إذن أُﻧﻜِﺮ اﻷﺧﻼق ﻛﻤﺎ أُﻧﻜِﺮ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎء ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻨﻲ أﻧﻜﺮ ﻓﺮﺿﻴﺎﺗﻬﺎ، ﻟﻜﻨﻲ ﻻ أﻧﻜﺮ أﻧﻪ ﻗﺪ و ُِﺟﺪ ﺧﻴﻤﻴﺎﺋﻴﻮن آﻣﻨﻮا ﺑﻬﺬه اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت وارﺗﻜﺰوا ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻜﺮ اﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ :ﻟﻴﺲ ﻷن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻳﺸﻌﺮون ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻏري أﺧﻼﻗﻴني؛ ﺑﻞ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺳﺒﺐ ﻳﺪﻋﻮﻫﻢ ﻟﻺﺣﺴﺎس ﺑﻜﻮﻧﻬﻢ ﻛﺬﻟﻚ .ﻛﻤﺎ ﻻ أﻧﻜﺮ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺪﻳﻬﻲ — إذا ﺳ ﱠﻠﻤﻨﺎ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻟﺴﺖ أﺧﺮق — ﺗﻔﺎدي اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ وﻣﺤﺎرﺑﺘﻬﺎ؛ وأﻧﻪ ﻳﺠﺐ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺘﺸﺠﻴﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ — وﻟﻜﻨﻨﻲ أﻋﺘﻘﺪ أﻧﻨﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺸﺠﻊ ﻫﺬا وﻧﺘﻔﺎدى ذاك ﻷﺳﺒﺎب ﻏري اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ وراء ﻗﻴﺎﻣﻨﺎ ﺑﻬﻤﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن .ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻐري ﻃﺮﻳﻘﺘﻨﺎ ﰲ ٍ ﱠ ﻟﻨﺘﻮﺻﻞ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ،رﺑﻤﺎ ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺘﺄﺧﺮة ﺟﺪٍّا ،إﱃ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﻣﻮر — ﺗﻐﻴري ﻃﺮﻳﻘﺘﻨﺎ ﰲ اﻟﺸﻌﻮر. »اﻟﻔﺠﺮ«١٠٣ ، ﻣﻦ املﺆﺳﻒ ﱠ أن ﻣﺎ ﻳﺼﻔﻪ ﻟﻨﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄﻧﻪ »ﺑﺪﻳﻬﻲ« ﻫﻮ ﳾء ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻛ ﱠﻠﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎء ﺗﻜﺮاره ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ املﻌﺮوف ﻋﲆ ﻧﺤﻮ دارج وﺷﺎﺋﻊ أﻧﻪ أﻧﻜﺮ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ »ﺗﻔﺎدي اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ وﻣﺤﺎرﺑﺘﻬﺎ« … إﻟﺦ .ﻻﺣﻆ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ، 36
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺪﻗﺔ — وﻫﻮ ﻣﻠﻤﺢ ﻣﺘﻜﺮر ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ« ﺗﺪﻫﺸﻨﺎ ﻛﺜريًا ﻧﺪرة اﻹﺷﺎرة إﻟﻴﻪ — أﻧﻪ ﻳﻘﻮل» :اﻟﻜﺜري« ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺤﺪدﻫﺎ .وﺣﺴﺐ اﻋﺘﻘﺎدي، ﻳﺮﺟﻊ ﻫﺬا ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ إﱃ ﺧﻀﻮع آراﺋﻪ ﻟﺘﻄﻮﱡر ﺟﺬري ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺮﻏﺐ ﰲ إﻟﺰام ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺤﺎﻻت ﻣﻌﻴﻨﺔ .وﻟﻜﻨﻪ ﻣﱰدﱢد ً أﻳﻀﺎ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﺣﻮل إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﺳﻴﺆدي ﺳﺤﺐ »اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت« اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ إﱃ ﺗﻐﻴري اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ .وﻣﻦ ﺑني اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻮاﺻﻞ ﻓﻮ ًرا َ ﻫﺪف اﻷﺧﻼق ﺑﺄﻧﻪ ﻳُﻌﻨَﻰ ﺑ »اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﻬﺎﺟﻤﺘﻬﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢد ﺗﻘﺪﻣﻬﺎ« ،واﻟﺘﻲ ﻳﺴﺄل ﻋﻨﻬﺎ ً ﻗﺎﺋﻼ: ﻳﻘني ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻮاﺟﺐ إﻃﺎﻟﺔ ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﻦ ٍ وﺟﻮد اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻷﻣ ٍﺪ أﻃﻮل ،أم إﺧﺮاج اﻹﻧﺴﺎن — ﻣﺎ أﻣﻜﻦ ذﻟﻚ — ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ؟ ﻻ ﺷﻚ أن اﺧﺘﻼف اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ،وأﻗﺼﺪ اﻷﺧﻼق اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ،ﺳﻴﻜﻮن ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺘني … أو إذا ﺳ ﱠﻠﻤﻨﺎ ﺑﺄن اﻟﻬﺪف ﻫﻮ »اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﻜﱪى« ﻟﻺﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﺈﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﺳﺆال »ﻋﲆ ﻣﺎذا« و»ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎذا« ،ﻓﻬﻞ ﻓ ﱠﻜﺮﻧﺎ ﰲ أﻋﲆ درﺟﺎت اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﺮاد؟ أو ﰲ اﻟﺴﻌﺎدة املﺘﻮﺳﻄﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺎﻟﴬورة ﺗﺤﺪﻳﺪﻫﺎ ،واﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف؟ وملﺎذا ﺳﻴﺨﺘﺎرون اﻷﺧﻼق ﻟﻴﺒﻠﻐﻮا ذﻟﻚ اﻟﻬﺪف؟ »اﻟﻔﺠﺮ«١٠٦ ، ﱢ املﻔﴪ اﻟﺒﺎﺋﺲ ﰲ ﺣرية ﻣﻦ أﻣﺮه ﺣﻮل ﻣﺎ وﻳﻮاﺻﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺈﻳﻘﺎﻋﻪ اﻟﻬﺎﺋﺞ ،ﺗﺎر ًﻛﺎ إن ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﴩح اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ أم ﻻ ،وﻫﻮ ﻋﻤﻞ ﻗﻴﱢﻢ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﺆدﱢي ﻛﺘﺎب ﺿﺨﻢ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ أﺿﺨﻢ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺣﺎزت ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا إﱃ إﻧﺘﺎج ٍ اﻟﻌﺪﻳ َﺪ ﻣﻦ اﻟﺠﻮاﺋﺰ ﻋﻦ أﻋﻤﺎل ﺑﻼ ﻗﻴﻤﺔ ،ﻣﺜﻞ ﻛﺘﺎب ﻛﺎﻧﻂ »ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻌﻤﲇ« ،وﻫﻮ ﺑﻼ ً ﻓﺠﺎﻋﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،واﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻌﺪ »ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺨﺎﻟﺺ«، ﺷﻚ أﻛﺜﺮ ﺧﻴﺒﺎت اﻷﻣﻞ أﺣﺪ أﻋﻈﻢ أﻣﺠﺎده .ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻫﺬا ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﻫﻨﺎ .ﻓﺎﻟﻬﺠﻮم اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻜﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ«، اﻟﺬي ﺣﻤﻞ ً أﻳﻀﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل داﺋﻤً ﺎ ،ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﺣﻮل ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻛﺜرية وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﺗﺸﻐﻞ املﻮﺳﻴﻘﻰ املﻌﺎﴏة ﺣﻴﱢ ًﺰا ﻛﺒريًا ﻣﻨﻬﺎ؛ ﻛﺎن ﻳﻬﺪف إﱃ ﺗﻮﺿﻴﺢ اﻷزﻣﺔ اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ اﻷﺧﻼق ً ﻣﺘﺸﺎﺑﻜﺔ ﰲ اﻷﻣﻮر ﻓﻴﻬﺎ .ﻓﺤﺴﺒﻤﺎ ﻳﺼﻔﻬﺎ ﺑﺎﻗﺘﻀﺎب»» :املﻨﻔﻌﺔ« ،أﺿﺤﺖ املﺸﺎﻋ ُﺮ اﻟﻴﻮ َم اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ إﱃ ﺣ ﱢﺪ أﻧﻪ ﰲ ﻧﻈﺮ أﺣﺪﻫﻢ ﺗَﺜﺒُﺖ اﻷﺧﻼﻗﻴﺎت ﻣﻦ واﻗﻊ ﻣﻨﻔﻌﺘﻬﺎ ،ﻓﻴﻤﺎ ﺗُﺪﺣَ ﺾ ﻟﺪى آﺧﺮ ﺑﺴﺒﺐ املﻨﻔﻌﺔ ذاﺗﻬﺎ« )»اﻟﻔﺠﺮ«.(٢٣٠ ، 37
ﻧﻴﺘﺸﻪ
إن املﻠﺤﻮظ ﺑﺸﺄن ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ« ﻫﻮ ﻣﺤﺪودﻳﺔ ﻓﺮﺿﻴﺎﺗﻪ وﺗﻮاﺿﻌﻬﺎ .ﻓﻤﺎ ﻣﻦ إﺷﺎرة إﱃ أن زرادﺷﺖ ﺳﻴﻨﺰل ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻓﻮق اﻟﺠﺒﻞ ﻟﻴﺤﻄﻢ ﺟﻤﻴﻊ أوﺛﺎﻧﻨﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .إن ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﺒﺪو ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱄ ﱠ ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺠﺪل ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﺠﻤﻴﻊ .وﻫﻜﺬا ﻣﺎ زﻟﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص ،وﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ، ﻳﺪﱠﻋﻮنً ، ﻣﺜﻼ ،أن اﻷﺧﻼق ﻧﻈﺎم ﻳﺪﻋﻢ َ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،وﻻ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ أيﱢ ﳾء ﺧﺎرﺟﻪ، وأن اﻷﺧﻼق ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ املﻨﻄﻖ ،وأن أﺳﺎس اﻷﺧﻼق واﺿﺢ؛ أي إن اﻷﺧﻼق ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺗﺜﺒﺘﻬﺎ ﻣﻨﻔﻌﺘﻬﺎ أو ﺗﺪﺣﻀﻬﺎ ﻧﻔﺲ املﻨﻔﻌﺔ .ﻣﻦ املﻬﻢ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت ﺑﺎﺳﺘﻔﺎﺿﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺳﻴﻜﻮن أﻣ ًﺮا ﺧﺎرج اﻟﺴﻴﺎق ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺗﻄﻮر ﻧﻴﺘﺸﻪ؛ ﻷن ﺟﻤﻴﻊ املﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺘﺤﺪﱢث ﺑﺎﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،ﺗﻔﱰض ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ إﻧﻜﺎر ﻧﻴﺘﺸﻪ .وﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ،ﻋﲆ ﺣ ﱢﺪ ﻋﻠﻤﻲ ،ﻣﺴﺘﻌﺪة ﻷن ﺗﺮى ﻛﻴﻒ أن ﻗﻮاﻧني اﻷﺧﻼق املﺘﻨﻮﻋﺔ واملﺘﺒﺎﻳﻨﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ اﻟﺘﻲ ﻧﺼﺎدﻓﻬﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ آراء ﻣﺘﻀﺎرﺑﺔ ﺣﻮل ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ. إﻧﻪ ملﻦ املﺜري ﻟﻠﻌﺠﺐ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،أن ﻧﺴﻤﻊ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﻋﻦ »ﺣَ ﺪْﺳﻬﻢ« ﻛﴚء ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺛﻮق ﺑﻪ دون رﻗﺎﺑﺔ ،ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻌﺎرض ﺣَ ﺪْس ﻣﻊ آﺧﺮ» .ﺣَ ﺪْﳼ ﻳﺨﱪﻧﻲ أن …« ﻫﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺷﺎﺋﻌﺔ ﻟﺒﺪء ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أن ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ ﱢ ﻳﺠﺴﺪ اﻟﺼﻮت اﻟﺨﺎﻟﺪ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ! وﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻄﻠﻖ ً أﻳﻀﺎ ،اﻟﺬي إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻧﺎﺑﻌً ﺎ ﻣﻦ ﺣﺪْس املﺮء ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻬﻮ ﻧﺎﺑﻊ إذن ﻣﻦ ﺣﺪْس اﻟﺬﻳﻦ »ﻧﺸﺎرﻛﻬﻢ« ﺣﺪ َْﺳﻬﻢُ ،ﻗﻮﺑ َﻠﺖ داﺋﻤً ﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎﻫﻞ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ »ﻧﺨﺒﻮﻳﺔ« و»ﻣﻨﺎﻫﻀﺔ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ« ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺳﺒﺎب ﱢ ﻣﻔﴪ ﻟﻔﻜﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﺳﺄﻗﺘﺒﺲ أﺧﺮى .إﻧﻪ ﻣﻮﺿﻮع ﺣﻴﻮي ،وﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻌﻪ أيﱡ ﻫﻨﺎ ،ﺑﺎﺳﺘﻔﺎﺿﺔ ً أﻳﻀﺎ ،ﻣﻦ ﻫﻨﺮي ﺳﺘﺎﺗني ،اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﻣﺎ أﻋﺘﱪه أﻛﺜﺮ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ: ﻟﻢ ﺗﺴﻘﻂ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻨﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺴﻮﱢﻏﺎت ﻟﻜﻲ ﻧﻤﺮق إﱃ ﺗﺄﺳﻴﺲ اﺳﺘﻘﺎﻣﺘﻨﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .ﻓ ﱢﻜﺮ ﰲ ﺑﻘﻴﺔ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻌﻈﻢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ .ﻛﻴﻒ ﻧﱪﱢر ﻫﺬا املﺸﻬﺪ اﻟﻄﺎﻏﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻮة واﻟﻐﺒﺎء واملﻌﺎﻧﺎة؟ ﻣﺎ املﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﻧﺘﺒﻨﱠﺎه ﺗﺠﺎه اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻣﺎ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺼﺪره؟ ﻫﻞ اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﺧﻄﺄ ﻛﺒري؟ ﻟﻘﺪ ﺣﺎوﻟﺖ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻃﺮﻳﻖ ْ وﺿ ِﻊ ﺧﻄﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﻫﺎدﻓﺔ ﰲ املﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن ﻋﻼج ﻣﻌﺎﻧﺎة اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﻦ ِ اﻟﺤﺎﴐَ ﻳ ِْﻦ وﺗﻘﺪﻳﻢ املﻜﺎﻓﺄة ً ﻻﺣﻘﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻠﻴﱪاﻟﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺷﺪﻳﺪة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺤﻴﺚ 38
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺗﻘﺒﱡﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري .ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﻔﺴري ،ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻘﻂ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ا ُمل ﱠﺮة .وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ا ُمل ﱠﺮة اﻟﺘﻲ ﻧﻮاﺟﻬﻬﺎ أﺷﺪ ﻗﺴﻮ ًة ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﻟﺬﻟﻚ ﺗﺼﻮﻏﻬﺎ اﻟﻠﻴﱪاﻟﻴﺔ اﻟﻴﺴﺎرﻳﺔ ﰲ ﻗﺼﺔ ﺟﺪﻳﺪة ،ﻗﺼﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﺗﻨﺪﻣﺞ ً ﻃﺒﻘﺎ ﻟﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﻮات ﰲ آﻟﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺗﺘﺨﺬ دو ًرا واﺿﺤً ﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺿﺤﺎﻳﺎ اﻟﻘﻤﻊ واﻟﻈﻠﻢ. ﺛﻤﺔ ﻏﺎﺋﻴﺔ ﺿﻤﻨﻴﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺮأي؛ ﻓﺎﻟﻠﻴﱪاﻟﻴﺔ اﻟﻴﺴﺎرﻳﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﺘﻲ ً ﺗُ ِ ﺷﻜﻼ وﻣﻌﻨًﻰ ﻟﺒﻘﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .وﻣﺆﺧ ًﺮا ﻓﻘﻂ أﺻﺒﺢ ﺑﺈﻣﻜﺎن ﻛﺎﺗﺒﺔ ﻣﺜﻞ ﻌﻄﻲ أوﻓﻴﻠﻴﺎ ﺷﻮت — اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻘﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺸﺪة ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻬﺎ »ﻣﺎ وراء اﻟﻌﺪﻣﻴﺔ :ﻧﻴﺘﺸﻪ دون أﻗﻨﻌﺔ« ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺴﻠﻄﻪ — أن ﺗﻜﺘﺐ ﺑﺤُ ﱢﺮﻳﺔ ،وﺑﺜﻘﺔ ﻛﺒرية ﺑﺄن اﻟﺘﻘﺪﻳﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﻔﱰﺿﻬﺎ ﺳﻮف ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻬﺎ اﻟﺠﻤﻬﻮر اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ﻛﺄﻣﺮ ﻣﻔﺮوغ ﻣﻨﻪ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻮاﻋﻆ املﺴﻴﺤﻲ اﻟﺬي ﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺟﻤﻬﻮر ﻣﺘﺪﻳﻦ .وﻓﻘﻂ ﰲ إﻃﺎر اﻟﺘﻄﻮﻳﻖ اﻟﻮﻗﺎﺋﻲ ﻟﻬﺬا املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪي ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻠﻮغ اﻟﺮﺿﺎ ﺑﺄداء ﻫﺬه اﻟﺨﻄﺒﺔ؛ أي اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺄن أيﱠ ﳾء ذي ﻗﻴﻤﺔ ﻗﺪ ﺗﺤﻘﻖ ﺑﻔﻀﻞ ﻫﺬا اﻹﻟﻘﺎء .ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳ ِ ُﻄﻤﱧ ً ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺧﻼﻗﻲ َ ﻣﺘﻨﻔﺴﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﺠﺎه ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﺬا اﻹﻟﻘﺎء ،ﻳﺼﺒﺢ ملﻌﻨﻰ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره املﻮﺿﻊ اﻟﺬي ﻗﺪ ﻳﺸﻐﻠﻪ املﺮء ﻟﻜﻲ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﻳﺼﺪر ﺣﻜﻤﻪ ﻋﻠﻴﻪ دون أن ﻳﻴﺄس أو ﻳﻐﻠﻖ ﻋﻴﻨﻴﻪ وﻳﺴﺪ أذﻧﻴﻪ .رﺑﻤﺎ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﻳﺔ ﺧﻄﺔ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ،وﻻ أﻳﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺘﻌﻮﻳﺾ اﻟﺨﺴﺎﺋﺮ ﻟﻠﻤﻮﺗﻰ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺮﺳﻢ ﺧ ٍّ ﻣﺮﺋﻲ ﻟﺴﺪاد اﻟﺤﻜﻢ ﻋﱪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﺘﻔﻮق ﻄﺎ ﻏري ﱟ ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻋﺒﺎرة »ﻫﻜﺬا ﻛﺎن« املﺨﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻧﺴﺘﺨﺪم ﻋﻠﻴﻪ. اﻟﻌﻈﻤﺔ املﻬﻴﺒﺔ ﻟﻌﺒﺎرة »ﻫﻜﺬا ﻛﺎن »ﻳﺠﺐ« أن ﻳﻜﻮن«. ﻟﻜﻦ ﻟﻴﱪاﻟﻴﺘﻨﺎ ﳾء ﻧﺸﺄ ﺑﺎﻷﻣﺲ وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺨﺘﻔﻲ ﻏﺪًا .أول أﻣﺲ ﻛﺎن اﻵﺑﺎء املﺆﺳﺴﻮن ﻳﺴﺘﻌﺒﺪون اﻟﺴﻮد .ﻣﺎ اﻷﻣﻞ اﻟﻀﺌﻴﻞ اﻟﺬي ﻧﺸﻐﻞ ﺑﺎﻟﻨﺎ ﺑﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺘﻪ وﻫﺸﺎﺷﺔ وﺟﻮده ،وﻳﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ إﺿﺎءة ﺟﻤﻴﻊ املﺎﴈ ورﺑﻤﺎ املﺴﺘﻘﺒﻞ ً أﻳﻀﺎ؟ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻣﺠﺘﻤﻌﻨﺎ املﺘﺪﻳﱢﻦ ﻗﺪ ﻳﻨﺪﺛﺮ ،ﻓﻠﻦ ﻳﺆﺛﺮ ﻫﺬا ﻋﲆ ﴍﻋﻴﺔ ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات .ﺳﻴﻈﻞ ﺧﻂ اﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﻳﻘﻄﻊ اﻟﺘﺎرﻳﺦ. ﺳﺘﺎﺗني٧٩-٧٨ :١٩٩٠ ،
39
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻳﺠﺘﻬﺪ ﺳﺘﺎﺗني ﻟﻴﻮﺿﺢ ،ﺑﻌﺪ ﻓﻘﺮﺗﻪ املﺜرية ﻟﻺﻋﺠﺎب اﻟﺸﺪﻳﺪ ،أﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﺘﻘﺪ اﻟﻠﻴﱪاﻟﻴﺔ ﻧﺴﺒﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻓﻘﻂ ﻳﺪﻋﻢ ﻓﻜﺮة ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﻮل اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻣﻮﻗﻔﻨﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،وﻣﻦ ﻋﲆ أﺳﺎس ﱟ ﻃﻘﻮس اﻹرﻫﺎب ﰲ آراﺋﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻗﻴﻤﻨﺎ .ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﺗﻨﻔﻴﺬ ِ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ رؤﻳﺘﻬﺎ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﺗﺪﺑري ﻗﻴﻤﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ وﺣﺪَه ﻟﻠﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ اﻟﺤﻴﺎة ،ﺑﻨﱪة ﻣﺘﻜﺮرة وﺣﺎدة ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار. ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﺑﻌني املﺘﻔ ﱢﺮج ،وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻳﺮﺟﻊ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ إﱃ أﻧﻪ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺪراﻣﻲ وﻟﻴﺲ ﻣﻊ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﺪو ﻛﺎف أﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗُ َ ﺑﻮﺿﻮح ٍ ﻌﺘﱪ ﻓﻈﺎﻋﺔ اﻟﻮﺟﻮد ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺪوام» .ﻻ ٍ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ ﻇﺎﻫﺮة ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻓﻘﻂ« ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺘﺬﻛﺮ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻘﻮل ً أﻳﻀﺎ ،ﰲ اﻟﻜﺘﺎب ﻧﻔﺴﻪ ،إﻧﻨﺎ ﻧﺤﻦ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﺟﺰءٌ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة .ﻓﻼ »ﺣﻴﺎ َة« ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﺟﺎﻟﺴﻮن ﻟﻨﺘﻔﺮج .وﻟﻮ ﻛﺎن ﻗﺪ ﻓﻜﺮ ﰲ ﻫﺬا ﻋﺎم ،١٨٧١ﻟﻌﺮف ﺧﻄﺄه ﻓﻮ ًرا ﺑﺄﻗﴗ اﻟﻄﺮق. ﻫﻞ ﺗﻌﻨﻲ اﻷﺧﻼق ﺗﻨﻮﱡع املﻮاﻗﻒ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﻨﻘﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ﺑﺼﻮرة رﺳﻤﻴﺔ ﻣُﻌﻠﻨَﺔ؟ إﻧﻬﺎ ﺗﺤﻘﻖ رﺧﺎءﻧﺎ ،ﰲ ﺻﻮرﺗﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻧﺸﻌﺮ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺎﻷﻣﺎن ﻋﻨﺪﻣﺎ ﱢ ﻧﻮﱄ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻇﻬﻮرﻧﺎ .ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻨﻜﺮ ﻫﺬا ،ﻓﻬﺬا ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ إﻧﻪ ﻻ ﻳُﻨﻜِﺮ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ ﻳﺠﺐ ﺗﻔﺎدﻳﻬﺎ وﻣﺤﺎرﺑﺘﻬﺎ … إﱃ آﺧﺮ ﻗﻮﻟﻪ .ﻟﻜﻦ أﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻣﺠﺮد ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺣﺼﺎﻓﺔ؟ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ،ﺣﺴﺐ ﻗﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ .واﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ روﱠج ﻟﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ً ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن ،ﺑﺄن اﻟﺤﺼﺎﻓﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ )أﻗﻞ أﻫﻤﻴﺔ( ،واﻷﺧﻼق اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — ﻣﻮﺟﻮدة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى )أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ( ،واﻟﺘﻲ ﺗُﺨﺼﺺ ﻟﻬﺎ ﻋﻘﻮﺑﺎت ﻣﺘﺴﺎﻣﻴﺔ اﻟﻨﻮع — ﺗﺼﺪﻣﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﻔﺎﻫﺎت أﺧﻼﻗﻴﺔ .وﻫﻜﺬا ،ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺴﺘﻮًى ﻣﻦ اﻷﺧﻼق ﻳﺨﺪم ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻔﻴﺪة، وﻳﺤﺘﺎﺟﻪ أيﱡ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻟﻴﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﺳﺘﻤﺮاره — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻚ ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﺻﺎﺣﺐ ﻧﻔﻮذ، ﻓﺴﻮف ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ اﻟﺘﻨﺼﻞ ﻣﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﺮاﺋﻢ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا وﺿ ٌﻊ ﺳﻴﺤﺪث ﻣﺎ ً وﻫﺪﻓﺎ ﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻫﺬا املﺪى؟ داﻣﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺴﺘﻤﺮة .ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ ﻧﻌﻄﻲ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻣﻌﻨًﻰ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳ َ ُﺴﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻷﺧﻼق« ﻟﺘﻐﻄﻴﺔ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ً أﻳﻀﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺑﻌﺾ اﻷﺷﺨﺎص ﱢ أﺳﺎﳼ ﻳﻔﻀﻠﻮن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ »ا ُملﺜُﻞ اﻟﻌﻠﻴﺎ« اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻟﻮن إﻧﻬﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﱟ ﻣﻦ ﺷﺨﺺ إﱃ آﺧﺮ .ﻻ ﻳﺒﺤﺚ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر اﻻﺻﻄﻼﺣﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪﻳﻦ اﻷﺧﻼق أو أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻓﺎﺳﺪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻀﻊ ﰲ اﻋﺘﺒﺎره ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻴﺎة واﻟﻬﺪف ﻣﻨﻬﺎ. 40
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
ٍ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘﺒﺴﻴﻄﻬﺎ ﻗﺪ َر اﻹﻣﻜﺎن ،ﺳﺄﺣﺎول أن أﺣﻴﺪ ﻫﻨﺎ ﺗﺒﺪأ اﻷﻣﻮر ﰲ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ .وﰲ ً ﻣﻘﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﻋﻦ اﺗﺒﺎع اﻟﱰﺗﻴﺐ اﻟﺰﻣﻨﻲ ﰲ ﻋﺮض ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وأن أﻋﺘﻤﺪ ﻛﺜريًا أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ٍ ﻛﺘﺒﻪ ﻓﺮﻳﺘﺠﻮف ﺑﺮﺟﻤﺎن ،ﻋﻦ »ﻧﻘﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻸﺧﻼق« )ﺳﻮﻟﻮﻣﻦ وﻫﻴﺠﻨﺰ .(١٩٨٨ ،وﻟﻜﻦ ﱢ املﻔﴪون إﱃ درﺟﺔ اﻋﺘﻨﺎق ﻧﻔﺲ ﻣﺎ ﻳﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ أﻧﻪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻳﺘﻔﻖ ً رﻓﺎﻫﻴﺔ واﻷﺧﻼق ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻵراء .وﰲ ﻣﻌﺮض ﺣﺪﻳﺜﻲ ،ﻓﺈن اﻟﻔﺎرق ﺑني اﻷﺧﻼق ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣَ ً أﻣﻮر أﺧﺮى ﻛﺜرية. ﺜﻼ أﻋﲆ ﺳﻴﺘﻼﳽ ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ،إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ٍ أول أﻣﺮ ﻳﺠﺐ وﺿﻌﻪ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻫﻮ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳُﻨﻜِﺮ )إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ( وﺟﻮد اﻟﻘِ ﻴَﻢ. إﻧﻪ ﻟﺨﻄﺄ ﺷﺎﺋﻊ وﻋﺠﻴﺐ أن ﻧﺘﺼﻮر ﻫﺬا ﻋﻨﻪ .وﻟﻜﻦ إﻧﻜﺎر اﻟﻘﻴﻢ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺪه ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﺑﺤﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ »اﻟﻌَ ﺪَﻣﻴﺔ« ،اﻟﺘﻲ ﻳﻜﺮه ورودَﻫﺎ أﻛﺜ َﺮ ﻣﻦ أيﱢ ﳾء آﺧﺮ .ﻟﻮ ﻧﻈﺮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﺄﻣﺮ ﻳﺠﺐ اﻻﺣﺘﻔﺎء ﺑﻪ، ﻧﺒﻲ اﻟﻌﺪﻣﻴﺔ ،ﻓﻬﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻳُﻌﻠِﻦ وﺻﻮ َﻟﻬﺎ إﱃ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﱠ ٍ وﻟﻜﻦ ﺑﻨﻔﺲ ﻣﻌﻨﻰ أن إرﻣﻴﺎ ﻛﺎن اﻟﻨﺒﻲ اﻟﺬي ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﺎﻟﺪﻣﺎر ﻟﺒﻴﺖ املﻘﺪس .وﻣﺎ ﻳﺼﻮره ،ﰲ ﻛﺘﺎب ﺗﻠﻮ اﻵﺧﺮ ،ﻫﻮ اﻻﻧﺤﺪار اﻟﺘﺪرﻳﺠﻲ واملﺘﺴﺎرع ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﻳﻤﺮ ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن ً ٍ ﺣﺎﻟﺔ ﻻ ﺗﱰك اﻟﻘِ ﻴَ ُﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﺛ ًﺮا ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻋﻠﻴﻪ ،أو ﻳﺘﺸﺪق ﺑﻬﺎ وﻟﻜﻨﻪ وﺻﻮﻻ إﱃ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﺎ ﻋﺎد ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ .وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺮاه وﺷﻴﻚ اﻟﺤﺪوث .ﻛﻴﻒ وﻗﻌﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺎرﺛﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺒ ُﺪ أن أﺣﺪًا ﻣﻦ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ ﻗﺪ ﻻﺣﻈﻬﺎ ،وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﻼﺟﻬﺎ؟ ﺗﻘﺘﴤ اﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺟﺎﻧﺒني ﻣﻦ اﻷﺧﻼق؛ اﻷول :ﻫﻮ ﻣﻨﺒﻌﻬﺎ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻫﻮ ﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ .ﺗﻨﺒﻊ اﻷﺧﻼق ﺑﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗُﻤﺎ َرس ﺑﻬﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ املﺴﻴﺤﻲ-اﻟﻌﱪي ،ﰲ اﻟﺠﺰء اﻷﻛﱪ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺟﺬورﻫﺎ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ إﻣﻼءات اﻟ ﱠﺮب ﻟ َِﻘ ٍ ﺒﻴﻠﺔ ﺻﻐرية ﴍق أوﺳﻄﻴﺔ ،وأن ﻣﻀﺎﻣﻴﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺰل ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ .وﻫﺬا ﻳﺴﻤﻮ ﺑﻬﺎ ﻓﻮ ًرا ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني؛ ُ ً ﻓﺮوض ﻻ ﺟﺪال ﻓﻴﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻋﻘﺎب ﻣﺨﺎﻟﻔﺘﻬﺎ ﰲ ٍ وﻗﺖ ﻣﻦ ﻣﺴﺄﻟﺔ أوﻻ :أن ﺗﻨﻔﻴﺬﻫﺎ ﻫﻮ ٍ َ ﺧﺼﻴﴡ ﻟﻴﻀﻤﻦ اﺳﺘﻤﺮار اﻷوﻗﺎت ﺟﺰاءً إﻟﻬﻴٍّﺎ ﻓﻮرﻳٍّﺎ .وﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﺑﻤﺎ أن املﻀﻤﻮن ﻛﺎن ﻣُﺼﻤﱠ ﻤً ﺎ ﻧﻮاح ﻋﺪة ﻋﻦ ﻇﺮوﻓﻨﺎ اﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ، اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻇﺮوﻓﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ٍ ً واﻧﻔﺼﺎﻻ ﻋﻦ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﻧﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ .وﻛﺎﻧﺖ إذن ﻛﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن أﻛﺜ َﺮ ﺗﺠﺮﻳﺪًا ً ً اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن اﻷﺧﻼق ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻏﺎﻣﻀﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى أﻳﻀﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺐ ُ ُ اﻷﺧﻼق ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﻘﻼﻧﻴﺔ، ﻓﺮض ﺻﻠﺘﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺤﻮﻳﻠﻨﺎ إﱃ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻳﺼﻠﺢ أن ﺗُﻄﺒﱠﻖ ﻧﻮاح ﻋﺪة. ﺣﺘﻰ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﺮف أن ﻫﺬا ﻏري ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻣﻦ ٍ ﱠ ﻳﺘﻌﻘﺪ اﻷﻣﺮ أﻛﺜ َﺮ ﺑﺎﻟﺘﻌﺎرض ﺑني اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﻌﻬﺪ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﻛﺬب املﺴﻴﺢ ﺑﺎدﱢﻋﺎﺋﻪ »ﻻ ﺗَ ُ ﻈﻨﱡﻮا أَﻧﱢﻲ ِﺟﺌْ ُﺖ ﻷَﻧ ْ ُﻘ َﺾ اﻟﻨﱠﺎﻣ َ ُﻮس! ﻣَ ﺎ ِﺟﺌْ ُﺖ ﻷَﻧ ْ ُﻘ َﺾ ﺑَ ْﻞ ِﻷ ُ َﻛﻤﱢ َﻞ« )إﻧﺠﻴﻞ ﻣﺘﱠﻰ ،اﻹﺻﺤﺎح 41
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﺨﺎﻣﺲ ،اﻵﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﴩة( .ﺑﻤﺎ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﺒﺎدﺋﻪ املﺜرية ﻟﻺﻋﺠﺎب ﺗﺘﻌﺎرض ً اﻟﴩ «.وإن ﻛﺎن اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﻘﻲ ﺟﺰءًا ﺗﻌﺎرﺿﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ﻣﻊ اﻟﻨﺎﻣﻮس ،ﻣﺜﻞ» :ﻻ ﺗُ َﻘ ِﺎوﻣُﻮا ﱠ ﱠ ﻣﻦ ﴍﻳﻌﺔ اﻟﻨﺼﻮص املﻘﺪﺳﺔ ،ﻓﺪاﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺗﻮاﺟﻪ َ أزﻣﺔ ُﻫﻮﻳﱠﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ .وﻋﲆ ً ﻋﺎﻣﻼ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ اﻻﻟﺘﺒﺎس اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻟﻠﻐﺮب ،ﻓﺈﻧﻪ ﻏريُ ﻣﻬ ﱟﻢ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻮن ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺬي اﻧﺼﺐﱠ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻋﲆ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﻘﻮﺑﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ. اﻫﺘ ﱠﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ،ﻷﺳﺒﺎب ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺧﻼل اﻟﺜﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم املﺎﺿﻴﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﺑﻤﺴﺎﻧﺪة املﺒﺎدئ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ورﺛﻮﻫﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺤﺎوﻟﻮن ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ أﺳﺲ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻬﺎ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺪاﻓﻊ املﺤﺪود ﻹﻧﻜﺎر ﺣﺎﺟﺘﻬﺎ إﱃ أﺳﺲ .وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻤﻦ املﺆﺳﻒ أن ً أﺻﻼ إﱃ ﻛﺮاﻫﻴﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻺﻧﺠﻠﻴﺰ ﻗﺪ ﻗﺎدﺗﻪ إﱃ ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ ﺟﻮرج إﻟﻴﻮت ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻬﺪف ﱠ وﻳﺘﺠﲆ ﻫﺬا اﻟﻬﺠﻮم ﰲ »أﻓﻮل اﻷﺻﻨﺎم«، ري ﻣﺤﻮريﱟ . ﻓﻜﺮ ﺗﻠﻌﺐ ﻫﻲ ﻓﻴﻪ دو ًرا ﻏ َ ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ ٍ أﺣﺪ أواﺧﺮ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﱢ ﻳﻠﺨﺺ — ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪة اﻟﺬﻛﺎء واﻟﺤﺪة — ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻮﻟﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻋﲆ ﻣﺪار ﻋﻘﺪ ﻛﺎﻣﻞ: ﻟﻘﺪ ﺗﺨ ﱠﻠﺼﻮا ﻣﻦ إﻟﻪ املﺴﻴﺢ ،وﻳﻌﺘﻘﺪون أﻧﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻵن أن ﻳﻈﻠﻮا ﻣﺘﻤﺴﻜني ﺑﺎﻷﺧﻼق املﺴﻴﺤﻴﺔ .إﻧﻪ ﺛﺒﺎت إﻧﺠﻠﻴﺰي ،وﻻ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻠﻮﻣﻬﻢ ﻋﲆ اﻷﺧﻼق اﻷﻧﺜﻮﻳﺔ ﻋﲆ املﻨﻮال اﻹﻟﻴﻮﺗﻲ .ﻓﻔﻲ إﻧﺠﻠﱰا ،ﻋﲆ املﺮء ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻛ ﱢﻞ ﺗﺤ ﱡﺮ ٍر ﱡ ﻣﻔﺰع. ﺻﻐري ﻣﻦ اﻟﻼﻫﻮت أن ﻳُﻌِ ﻴﺪ اﻻﻋﺘﺒﺎر إﱃ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺘﺒﻨﱢﻲ ﺗﻌﺼ ٍﺐ أﺧﻼﻗﻲ ِ إﻧﻬﺎ ﱠ اﻟﻜﻔﺎرة اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﺪﻓﻊ ﻫﻨﺎك ﺛﻤﻨًﺎ ﻟﺬﻟﻚ. ﱠ ﻧﺘﺨﲆ ﻋﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ أﻣﺎ ﻋﻨﺪﻧﺎ ،ﻧﺤﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﻓﺎﻷﻣﻮر ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻋﻨﺪﻣﺎ ﱠ ﱢ ﻧﺘﺨﲆ ً اﻟﺤﻖ ﰲ اﻷﺧﻼق املﺴﻴﺤﻴﺔ .ﻏري أﻳﻀﺎ ﻋﻦ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻨﺎ أن أن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺑﺪﻳﻬﻴٍّﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ﻋﲆ املﺮء أن ﻳﻈ ﱠﻞ ﻳﻌﻴﺪ ﻃﺮح ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ إﱃ اﻟﻨﻮر ،رﻏﻢ أﻧﻒ اﻟﺮءوس املﺴﻄﺤﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ .إن املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻧﻈﺎم ورؤﻳﺔ ﻛﻠﻴﱠﺔ وﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ،وإن اﻧﺘﺰﻋﻨﺎ ﻓﻜﺮة أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻧﻘﺼﺪ ﺑﺬﻟﻚ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎهلل ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻜﻮن ﻗﺪ ﺣ ﱠ ﻄﻤﻨﺎ اﻟﻜ ﱠﻞ ،وﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﺑني ﻳﺪﻳﻨﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﳾء ﴐوري .ﺗﻔﱰض املﺴﻴﺤﻴﺔ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻳﻌﺮف ،وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻌﺮف ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧري ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ وﻣﺎ ﻫﻮ ﴍ؛ إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎهلل اﻟﺬي ﻟﻪ وﺣﺪه اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺬﻟﻚ. ﻣﺘﻌﺎل ،وﻫﻲ ﺗﻘﻊ ﻓﻮق ﻛ ﱢﻞ ْ ٌ ﻧﻘﺪ ،وﻓﻮق ﻛ ﱢﻞ ﻓﺮض ،وﻣﻨﺒﻌﻬﺎ اﻷﺧﻼق املﺴﻴﺤﻴﺔ ٍ 42
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
ﱟ ﺣﻖ ﰲ اﻟﻨﻘﺪ ،وﻻ ﺗﺤﺘﻮي ﱠإﻻ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،إذا ﻛﺎن ﷲ ﻫﻮ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺘﻘﻴﻢ وﺗﻨﻬﺎر ﻣﻊ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎهلل. إذا ﻛﺎن اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﻳﻌﺘﻘﺪون ً ﻓﻌﻼ أﻧﻬﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮن »ﺑﺎﻟﻔﻄﺮة« ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧري وﻣﺎ ﻫﻮ ﴍ ،وإذا ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻘﺪون ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ذﻟﻚ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻌﻮدوا ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻛﻀﻤﺎن ﻟﻘِ ﻴﺎم اﻷﺧﻼق ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺴﻴﺎدة اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻘﻴﻤﻲ املﺴﻴﺤﻲ ،وﺗﻌﺒريًا واﺿﺤً ﺎ ﻋﻦ ﻗﻮة ﻫﺬه اﻟﺴﻴﺎدة وﻋﻤﻘﻬﺎ ،ﺑﻤﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﺒﻊ اﻷﺧﻼق اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻳﺘﻮارى ﺑني ﻃﻴﱠﺎت اﻟﻨﺴﻴﺎن ،وﺑﻤﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺸﻌﺮون اﻟﺒﺘﺔ ﺑﴬورة ارﺗﺒﺎﻃﻬﺎ اﻟﻮﺛﻴﻖ ﺑﻤﱪرات ﱢ ﺣﻘﻬﺎ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد .ﻓﺎﻷﺧﻼق ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻻ ﺗﻤﺜﱢﻞ أﻳﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺑﻌﺪُ. »أﻓﻮل اﻷﺻﻨﺎم ،ﺗﺴﻜﻌﺎت رﺟﻞ ﻏري ﻣﻮاﻓﻖ ﻟﻠﻌﴫ«٥ ، إذا اﺳﺘﺒﺪﻟﺖ »اﻟﻐﺮب« ﺑ »اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ« ،ﻓﺴﺘﺠﺪ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻛ ﱠﻠﻪ ﻣُﻔﺤِ ﻤً ﺎ .وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن املﺴﻴﺤﻴني ﻫﻢ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ اﻟﻮﺣﻴﺪون اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﻔﻘﻮن ﻣﻌﻪ ،ﺛﺎ ِﺑﺘِني ﺑﻮﺿﻮح ﻋﲆ إﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره »ﻧﻈﺎﻣً ﺎ« )ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻣﺎ( .واﻟﺴﻨﺪ اﻷﻛﺜﺮ إﺛﺎرة ﻟﻠﻌُ ﺠْ ﺐ ﰲ ﺣﺠﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻨﺎ ،واﻷﻛﺜﺮ إﺛﺎرة ﻟﻺﻋﺠﺎب ﻧﻈ ًﺮا ﻷﻧﻪ ُﻛﺘِﺐ ﻋﻦ ﺟﻬﻞ واﺿﺢ ﺑﻪ ،ﻇﻬﺮ ﰲ ﻣﻘﺎل ﺷﻬري )ﰲ اﻷوﺳﺎط اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ( ﻗﺪﱠﻣﺘﻪ ﺟﻲ إي إم أﻧﺴﻜﻮﻣﺐ ﺑﻌﻨﻮان »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﻌﴫﻳﺔ« )ﻃﻮﻣﺴﻮن ودورﻛني .(١٩٦٨ ،وﺑﻨﻤﻂ ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻲ روﻣﺎﻧﻲ ﺗﻘﻠﻴﺪي ،ﺗﻜﺘﺐ ﻗﺎﺋﻠﺔ: ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻻﻟﺘﺰام واﻟﻮاﺟﺐ — وأﻗﺼﺪ ﺑﺬﻟﻚ اﻻﻟﺘﺰام اﻷﺧﻼﻗﻲ واﻟﻮاﺟﺐ اﻷﺧﻼﻗﻲ — وﻣﺎ ﻫﻮ ﺻﻮاب أو ﺧﻄﺄ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،وﻣﺎ »ﻳﺠﺐ« ﻋﻤﻠﻪ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ؛ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﻫﺠﺮﻫﺎ ﻟﻮ أﻣﻜﻦ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺑﺎﻗﻴﺔ ،أو ﻣﺸﺘﻘﺔ ﻣﻤﺎ ﺑﺎق ،ﻣﻦ ﻣﻔﻬﻮ ٍم أﻗﺪم ﻟﻸﺧﻼق ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻣﻮﺟﻮدًا ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،وﻟﻬﺬا ﺗﻌﺘﱪ ﻫﻮ ٍ ﻣﺠﺤِ ﻔﺔ ﻣﻦ دوﻧﻪ. ﻃﻮﻣﺴﻮن ودورﻛني١٨٦ :١٩٦٨ ، ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻣﻘﱰﺣﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﺜﺒﺖ أﻧﻪ »ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ« ،ﻣﺜﻠﻤﺎ أدرﻛﺖ ﺑﻼ ﺷﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺒﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﻠﻤﺎت ،وﻟﻨﻔﺲ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﻧ ُ ِﻈﺮ ﺑﻪ إﱃ ادﱢﻋﺎءات ﻧﻴﺘﺸﻪ 43
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ »ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ« ،وﻫﻮ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ أدﻧﻰ ﻓﻜﺮة ﺑﻤﺎذا ﻧﺴﺘﺒﺪل ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ »ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﻫﺠﺮﻫﺎ«. وﻣﻊ ﻣﻮاﺻﻠﺔ املﺮء ﻗﺮاءة ﻣﻘﺎل أﻧﺴﻜﻮﻣﺐ ،ﺳﻴﻨﺪﻫﺶ ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ﺑﺎﻟﻨﱪة اﻟﻨﻴﺘﺸﻴﺔ ً ﻓﻤﺜﻼ: ﻟﻬﺬه ا ُملﺮﻳﺪة اﻟﻐﺎﻓﻠﺔ. إن اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﺧﻼق ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ »ﻗﺎﻧﻮﻧًﺎ« ﻳﻌﻨﻲ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﴐوري … وﻣﻄﻠﻮب ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻹﻟﻬﻲ … ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل أن ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻚ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺎهلل ﻣُﴩﱢﻋً ﺎ ،ﻣﺜﻞ اﻟﻴﻬﻮد واﻟﺮواﻗﻴني واملﺴﻴﺤﻴني … اﻷﻣﺮ أﺷﺒﻪ ﺑﺎﺳﺘﺒﻘﺎء ﻓﻜﺮة »املﺠﺮم« ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ إﻟﻐﺎء اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺠﻨﺎﺋﻲ وﻣﺤﺎﻛﻢ اﻟﺠﻨﺎﻳﺎت وﻧﺴﻴﺎﻧﻬﻤﺎ. ﻃﻮﻣﺴﻮن ودورﻛني١٩٣-١٩٢ :١٩٦٨ ، ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻟﻜﻦ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﺤرية واﻻﺣﺘﻘﺎر اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﻤﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ وأﻧﺴﻜﻮﻣﺐ — ﻫﺬا ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻟﻨﺘﺤﺎﻳﻞ ﻋﲆ اﻷﻣﺮ وﻧﻮاﺻﻞ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ،ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻏري ﻣﻬﻤﻮﻣني ﺑﺎﻟﻔﻮﴇ املﻔﺎﻫﻴﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﻣﺮ ،وﺑﺎﻟﻜﺎد ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺘﱰة. ً ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺟﻮﻫﺮي ﺗﺠﺎه ﻣﺎ ﻳﻤﺜﻠﻪ ﻫﺬا ﻣﻮﻗﻔﺎ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل، ﻋﲆ املﺪى اﻟﻄﻮﻳﻞ ،ﺣﻮل اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﺘﺎرﻳﺦ .ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،اﻟﺬي أ ﱠﻟﻔﻪ ﻋﺎم ،١٨٨٥ﻳﻀﻊ اﻷﻣﺮ ﰲ ﺳﻴﺎق أﻋﻢ: ﻳَﻌُ ﻮد اﻟﻘﺼﻮر اﻟﻐﺮﻳﺐ ﰲ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺒﴩي ،ﺑﻜ ﱢﻞ ﺗﺮدﱡده وﺑﻄﺌﻪ — ﺑﻞ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺗﻘﻬﻘﺮه ودوراﻧﻪ ﻋﲆ ذاﺗﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار — إﱃ أن ﻏﺮﻳﺰة اﻟﻘﻄﻴﻊ ﻟﻼﻧﺼﻴﺎع ﺗﺘﻮارث ﻋﲆ أﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن وﻋﲆ ﺣﺴﺎب ﱢ ﻓﻦ إﺻﺪار اﻷواﻣﺮ وﻓﺮض اﻟﺴﻴﻄﺮة. وإذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻳﺰة ﺑﻠﻐﺖ ذات ﻣﺮة أوْج ذروﺗﻬﺎ ،ﻓﺈن اﻵﻣﺮﻳﻦ واملﺴﺘﻘﻠني ﺳﻴﻨﺪﺛﺮون ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،أو ﻗﻞ إﻧﻬﻢ ﺳﻴﻌﺎﻧﻮن ﻣﻦ ﺗﺄﻧﻴﺐ اﻟﻀﻤري وﺳﻴﺤﺘﺎﺟﻮن إﱃ اﻟﺘﺤﺎﻳﻞ ﻋﲆ اﻟﺬات ﻛﻲ ﻳُﻤﻜِﻦ ﻟﻬﻢ أن ﻳﺄﻣﺮوا؛ أي ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أﻧﻬﻢ ،ﻫﻢ ً أﻳﻀﺎ ،ﻳﻨﺼﺎﻋﻮن ﻓﺤﺴﺐ .وﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﻴﻮم ﰲ ً ﺳﺒﻴﻼ أوروﺑﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،وأﺳﻤﱢ ﻴﻬﺎ :رﻳﺎء اﻵﻣﺮﻳﻦ اﻷﺧﻼﻗﻲ .ﻓﻬﻢ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﱢ ﻛﻤﻨﻔﺬﻳﻦ ﻷواﻣﺮ إﱃ ﺣﻤﺎﻳﺔ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻦ ﺗﺄﻧﻴﺐ اﻟﻀﻤري ﱠإﻻ وﻫﻢ ﻳﺘﴫﻓﻮن أﻗﺪم أو أﻋﲆ )أواﻣﺮ اﻷﺳﻼف ،واﻟﺪﺳﺘﻮر ،واﻟﺤﻖ ،واﻟﻘﻮاﻧني ،وﺣﺘﻰ ﷲ( ،أو 44
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
ٍ ﺷﻌﺎرات ﻗﻄﻴﻌﻴﺔ ،وﻳﺒﺪون ،ﻋﲆ ﻳﺴﺘﻌريون ﺑﺪورﻫﻢ ﻣﻦ ﻧﻤﻂ ﺗﻔﻜري اﻟﻘﻄﻴﻊ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ »أﻓﻀﻞ ﺧﺪﱠام ﻟﺸﻌﺒﻬﻢ« ،أو »أدوات اﻟﺨري اﻟﻌﺎم« .ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ،ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ إﻧﺴﺎن اﻟﻘﻄﻴﻊ اﻟﻴﻮم ﰲ أوروﺑﺎ ﺑﺄﻧﻪ اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺒﴩي اﻟﻮﺣﻴﺪ املﺴﻤﻮح ﺑﻪ ،وﻳﻤﺠﱢ ﺪ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ً أﻟﻴﻔﺎ وﻣﺴﺎ ًملﺎ وﻣﻔﻴﺪًا ﻟﻠﻘﻄﻴﻊ، ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ؛ وﻫﻲ :اﻟﺤﺲ اﻟﺠَ ﻤْ ﻌﻲ ،واﻟﻄﻴﺒﺔ ،واﻟﺮﻓﻖ، واﻻﺟﺘﻬﺎد ،واﻻﻋﺘﺪال ،واﻟﺘﻮاﺿﻊ ،واﻟﺘﺴﺎﻣﺢ ،واﻟﱰاﺣﻢ .أﻣﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو ﻓﻴﻬﺎ اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء ﻋﻦ اﻟﻘﺎدة وأﻛﺒﺎش اﻟﻘﻄﻴﻊ ﻣﻤﺘﻨﻌً ﺎ ،ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻠﻮ اﻷﺧﺮى ﻟﺠﻤﻊ أﻓﺮادٍ ﻗﻄﻴﻌﻴني أذﻛﻴﺎء ﻳﺤ ﱡﻠﻮن ﻣﺤ ﱠﻞ أﺻﺤﺎب اﻷﻣﺮ؛ ذاك ﻫﻮ، ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،أﺻﻞ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺪﺳﺎﺗري اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﱠﺔ .ﻟﻜﻦ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،أيﱡ ﻧﻌﻤﺔ ﺳﺘﻬﺒﻂ ﻋﲆ أوروﺑﻴﻲ اﻟﻘﻄﻴﻊ ﻫﺆﻻء ،ﺑﻞ أيﱡ اﻧﻌﺘﺎق ﻣﻦ ﺿﻐﻂ ﻳﻜﺎد ﻻ ﻳُﻄﺎق ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻬﻢ ﻣﻊ ﻇﻬﻮر ِ اﻵﻣﺮ املﻄﻠﻖ! واﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﻜﺒري اﻷﺧري ﻋﲆ ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺘﺄﺛري اﻟﺬي أﺣﺪﺛﻪ ﻇﻬﻮر ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن؛ إن ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﺄﺛري ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن ﻳﻜﺎد ﻳﻜﻮن ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﻘﺼﻮى اﻟﺘﻲ ﺑﻠﻐﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﺑﺄﴎه ﰲ أﻛﺜﺮ أﻓﺮاده وﻟﺤﻈﺎﺗﻪ ﻗﻴﻤﺔ. »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ«١٩٩ ، أﻓﻌﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ. ﻗﺪ ﺗﺴﺘﺜري ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة املﻘﺘﺒَﺴﺔ ﻣﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄﺳﻠﻮﺑﻪ ا ُملﻤﻴﱠﺰ ردو َد ٍ ﻓﻬﻲ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﺑني ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺷﺪﻳﺪة اﻹﻗﻨﺎع ،وﻣﺼﺎﻏﺔ ﺑﺄﺳﻠﻮﺑﻪ اﻟﺠﺪﱄ اﻟﺒﻼﻏﻲ اﻟﻔﺼﻴﺢ ،وﺑني اﺳﺘﻌﻤﺎل املﻔﺮدات اﻟﺼﺎدﻣﺔ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ — ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻻ ﺑ ﱠﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﺘﻮﻳﻪ ﺠﱪ ﻣﻌﻈ َﻢ ُ اﻟﻘ ﱠﺮاء ﻋﲆ اﻟﻨﻔﻮر ﻣﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ .ﻓﻬﺬا اﻻﺳﺘﻌﻤﺎل ﻟﻜﻠﻤﺔ ﻟﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُ ِ »اﻟﻘﻄﻴﻊ« وﺷﺒﻴﻬﺎﺗﻬﺎ ﻣُﺰﻋِﺞ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺎل ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﺨِ ﺼﺎل اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ »اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻘﻄﻴﻌﻲ«؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ :اﻟﺤِ ﺲ اﻟﺠَ ﻤْ ﻌﻲ ،واﻻﺟﺘﻬﺎد ،واﻟﺘﻮاﺿﻊ ،وﻏريﻫﺎ .وﻧﺤﻦ ﻧﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻗﻄﻴﻌﻴﻮن ،وﻟﺴﻨﺎ ﻣﻘﺘﻨﻌني ﺑﺘﺎﺗًﺎ أﻧﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺼﺒﺢ أيﱠ ﳾء آﺧﺮ، أو إذا ﻣﺎ ﻛﻨﺎ ﺳﻨﺮﻳﺪ ذﻟﻚ ﻟﻮ أﻣﻜﻨﻨﺎ .وﻣﻊ ﻫﺬا ﻳﺼﻴﺒﻨﺎ اﻟﻘﻠﻖ ،ﺑﻤﺎ أن ﻣﻮﺿﻮع اﻻﻧﺼﻴﺎع ﺑﺮﻣﺘﻪ ﻗﺪ أُﺛري .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻗﺎﻧﻌﻮن ﺑﺎﻻﻧﺼﻴﺎع ملﺎ ﻧﺆﻣﻦ أﻧﻪ ﺻﻮاب ،ﻓﺈن املﺴﺄﻟﺔ ﻫﻲ :ملﺎذا ﻧﻘﻨﻊ ﺑﻬﺬا اﻹﻳﻤﺎن ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ أﻟﻐﻴﻨﺎ ِ اﻵﻣﺮ؛ أو ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻟﻬﻢ ِآﻣﺮ؟ وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،ﻓﺈن ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻗﻨﺎﻋﺎﺗﻨﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺗﻨﺒﻊ ﰲ اﻷﺳﺎس ﻣﻦ إرادة اﻹﻟﻪ ﻻ ﺗﻌﻨﻲ أن ﻫﺬه اﻟﻘﻨﺎﻋﺎت ﺧﺎﻃﺌﺔ ،ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻹﻟﻪ ﻣﻮﺟﻮدًا .ﻓﺘﻠﻚ »ﻣﻐﺎﻟﻄﺔ املﻨﺒﻊ« ،وﻫﻲ أداة ﻣﻌﺮوﻓﺔ وﻣﻮﺻﻮﻣﺔ ﺑﺘﺸﻮﻳﻪ املﻌﺘﻘﺪات وزﻋﺰﻋﺔ اﻟﺜﻘﺔ ﺑﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ،ﺳﻴﻜﻮن 45
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻣﻦ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ أﻻ ﻧﻮاﻓﻖ ﻋﲆ أﻧﻨﺎ ﻟﻮ ﺗﺨﻠﻴﻨﺎ ﻋﻦ اﻹﻳﻤﺎن اﻟﴩﻋﻲ اﻷﺻﲇ ،ﻓﺴﻨﻜﻮن ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻴﺤ ﱠﻞ ﻣﺤ ﱠﻠﻪ؛ إذ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ ﺟﺪٍّا أن ﻧﻜﻮن ﻣﺜﻞ »اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ« وﻧﻌﺘﻘﺪ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﺮف »ﺑﺎﻟﻔﻄﺮة« ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧري وﻣﺎ ﻫﻮ ﴍ .وﺳﻴﻜﻮن ﻫﺬا راﺋﻌً ﺎ ﻟﻮ ﺣﻘﻘﻨﺎه ،ﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ أﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻓﻄﺮﻳﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أﺧﺮى. ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ،ﻻ أرﻳﺪ أن أﺗﻮﻏﻞ ﰲ آراء ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺤﺪدة ﺣﻮل ﻣﻀﻤﻮن اﻷﺧﻼق ،إﻻ ﺑﻘﺪر ارﺗﺒﺎﻃﻬﺎ ﺑﺎدﱢﻋﺎءاﺗﻪ ﺣﻮل اﻟﻨﻈﺎم ﻛﻜ ﱟﻞ. ﻣﺎ ﻳﺒﺪأ ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ« ﻳﻮاﺻﻠﻪ ﺑﻤﻬﺎرة ﺑﺎﻟﻐﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺘﺎﱄ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ﺑﻮﺿﻮح أﻛﱪ ﻟﺘﻮﻏﻠﻪ ﰲ املﺮح« .ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ،ﻳﻤﻬﱢ ﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ِ ٍ ُﻔﺮد ﻟﻬﺎ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث زرادﺷﺖ« .ﻳ َ ُﻌﺘﱪ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﻴﻢ ،اﻟﺘﻲ ﻳ ِ املﺮح« أﻛﺜﺮ ﻛﺘﺒﻪ إﻣﺘﺎﻋً ﺎ؛ إذ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺜﻖ ﰲ ﻛﻮﻧﻪ ﻳﺘﺨ ﱠ ﻄﻰ اﻟﺘﻠﻤﻴﺤﺎت اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ِ وردت ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻴﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘني ،دون أن ﻳﺤﻤﻞ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻘﻪ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا — اﻟﻌﺐْ ء اﻟﺘﻨﺒﱡﺌﻲ اﻟﺬي ﺗﻜﺒﱠﺪه ﺧﻼل ﺗﺄﻟﻴﻔﻪ ﻛﺘﺎب »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث زرادﺷﺖ« .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﺳﺘﻤﺮار اﻻﻧﺘﻘﺎد اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﻟﻔﱰﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ »اﻟﻔﱰة اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ« ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺸﻌﺮ املﺄزق اﻟﺬي ﺳﻘ َ ﺑﻘﺪرة أﻛﱪ ﻋﲆ اﺳﺘﻴﻌﺎب ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺪه .إن َ ﻂ إﻧﺴﺎ ُن ﻣﺎ ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻋﻤﻖ ِ ً ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﻪ ﻫﻮ اﻟﺴﻤﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﺑﺮو ًزا ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ،اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ ﰲ اﻟﺠﺰء رﻗﻢ ١٢٥أﺷﻬﺮ ﺗﴫﻳﺤﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄن اﻹﻟﻪ ﻗﺪ ﻣﺎت. َ ﻋﻨﻮان »املﺨﺒﻮل« .ﻓﺠﻤﻴﻊ ﻣَ ْﻦ ﻳﺴﻤﻌﻮﻧﻪ ﰲ اﻟﺴﻮق ﻳﻌﺘﱪوﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﺰءُ ﻣﺠﻨﻮﻧًﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ أدﻧﻰ ﻓﻜﺮة ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﺤﺪث .ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺘﻞ املﺮء اﻹﻟﻪ؟ ﻫﺬا ﺗﻌﺒري ﻋﻦ ﻣﻌﺎﻧﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺠﺴﻴﻤﺔ ،ﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺮى — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻵﺧﺮﻳﻦ — ﺗﺒﻌﺎت ﻣﻮت اﻹﻟﻪ ،وﻳﺮى ﺗﺄﺛري ذﻟﻚ ﻋﲆ املﺪى اﻟﻄﻮﻳﻞ ،وﻳﺼﻴﺒﻪ اﻟﻬﻠﻊ ملﺠﺮد اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺘﴫف ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس إذا ﻣﺎ اﺳﺘﻮﻋﺒﻮا ﻣﻌﻨﻰ أﻻ ﻳﻜﻮن اﻹﻟﻪ ﺑﻌﺪ اﻵن ﻫﻮ ﻣﺤﻮر ﻋﺎملﻬﻢ .ﻻ ﻳﻬﻢ إن ﻛﺎن اﻹﻟﻪ ﻣﻮﺟﻮدًا أم ﻻ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮ ﻗﻀﻴﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ .املﻬﻢ ﻫﻮ إن ﻛﻨﺎ ﻧﺆﻣﻦ ﺑﻮﺟﻮده أم ﻻ .ﺑﻤﺮور اﻟﻘﺮون ،ﺗﺂﻛﻞ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻹﻟﻪ دون أن ﻳﻼﺣﻆ اﻟﻨﺎس ﻣﺎ ﻳﺤﺪث .وﺳﻮف ﱡ ﺗﻤﺲ اﻟﺘﺒﻌﺎت اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا اﻟﻘﻴﻢ؛ ﻷﻧﻪ — ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻌﱪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ اﻷﻣﺮ ﰲ ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ ﻏري ﻣﻨﺸﻮرة» :ﻣَ ْﻦ ﻻ ﻳﺠﺪ اﻟﻌﻈﻤﺔ ﰲ اﻹﻟﻪ ﻻ ﻳﺠﺪﻫﺎ ﰲ أيﱢ ﻣﻜﺎن .ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ إﻣﺎ أن ﻳﻨﻜﺮﻫﺎ أو ﻳﺴﺘﺤﺪﺛﻬﺎ «.وإذا ﺣﻤﻠﻨﺎ ﻋﲆ ﻛﻮاﻫﻠﻨﺎ ﻋﺐء اﺳﺘﺤﺪاث اﻟﻌﻈﻤﺔ ،إذن ﻓﻤﻌﻈﻤﻨﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﺟﻤﻴﻌﻨﺎ ،ﺳﻴﻨﻬﺎر ﺗﺤﺖ وﻃﺄة ﻫﺬا اﻟﻌﺐء .ودون اﻟﻌﻈﻤﺔ ﻟﻴﺲ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻣﻌﻨًﻰ ،ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻈﻤﺔ ﺑﻌﻴﺪة املﻨﺎل .وﺳﻮف ﻧﺴﺘﻌﺮض ً ﻻﺣﻘﺎ املﻨﻄﻖ اﻟﺬي ﻳﻨﺴﺐ 46
اﻷﺧﻼق وﻧ ِْﻘﻤﺎﺗﻬﺎ
أﺳﺎﺳﺎ ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ .أﻣﺎ اﻵن ،ﻓﺎملﻬﻢ ﻫﻮ ﱠ ً أن ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻮت اﻹﻟﻪ إﱃ املﻴﻮل املﺘﻨﺎزﻋﺔ ﻧﺘﻴﺠﺘﻬﺎ ﻗﺪ وﻗﻌﺖ ،وأن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺪرﻛﻮن ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ،وأﻧﻬﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪرﻛﻮن ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ﻟﻦ ﻳﺠﺪوا اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪ اﻵن. ﻛﺎن ﻣﻮﻗﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﺠﺎه املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﻮﻗﻔﻪ ﺗﺠﺎه ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ اﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﻬﺎ ،ﻣﻨﻘﺴﻤً ﺎ ﰲ اﻟﺼﻤﻴﻢ .وﻗﺪ وﺻﻔﻨﺎ ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﺼﻔﺤﺎت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ازدراءه ﻟﻸﺧﻼق اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻋﺎﻫﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻧﻤﺎ ﻫﺬا اﻻزدراء ﺑﻤﺮور اﻟﺴﻨني .وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻜﺮه ﻌﺘﱪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﺿﺂﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﻌﺘﱪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻛﺎن ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ واﻋﻴًﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻹﻧﺠﺎزات اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﻓﻀﻠﻬﺎ ﱠإﻻ إﱃ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ .ﻓﻠﻦ ﺗُﺒﻨَﻰ أﺑﺪًا ﻛﻨﻴﺴﺔ ﻋﲆ ﻏﺮار ﻛﺎﺗﺪراﺋﻴﺔ ﺷﺎرﺗﺮ اﻟﻘﻮﻃﻴﺔ ﻟﻼﺣﺘﻔﺎل ﺑﺎﻟﻘﻴﻢ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ا ُمل ﱢ ﺘﺤﴬة ،وﻟﻦ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻤ ٌﻞ ﻣﻮﺳﻴﻘﻲ ﻛﺒري ﻣﺜﻞ »ﻗﺪاس ﻣﻘﺎم ﺑﻲ اﻟﺼﻐري« ﻟﺒﺎخ ﻹﺛﺒﺎت اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻬﺎ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﺒﺪو أن ﻓﱰة ﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺳﺘﺘﺴﻢ ﺑﻮﺟﻮد رﺟﺎل أﺷﺪ ﺿﺂﻟﺔ ﻣﻦ املﺴﻴﺤﻴني اﻟﺼﻐﺎر اﻟﺬﻳﻦ ﺣ ﱡﻠﻮا ﻣﺤ ﱠﻠﻬﻢ .ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن اﻷﺧﻼق ﺷﺎﻗﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ املﻌﻘﻮل ﺗﺨﻴﱡﻞ اﺳﺘﺒﺪاﻟﻬﺎ؟
47
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة
ﺗُﺸ ﱢﻜﻞ اﻟﻜﺘﺐ اﻷرﺑﻌﺔ اﻷوﱃ ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ﻣﺴﺎ ًرا ﺻﺎﻋﺪًا ﻟﻠﻌﺒﻘﺮﻳﺔ واﻟﺬﻛﺎء .ﻳﺒﺪأ اﻟﻜﺘﺎب ﺑﻘﺮار ﺛﻮري ﻣﻦ ﻧﻮﻋﻴﺔ ﻗﺮارات اﻟﻌﺎم اﻟﺠﺪﻳﺪ ،واﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﺼريه ﻛﻤﺼري ﺳﺎﺑﻘﺘﻪ اﻟﺮاﺑﻊ ٍ َ ِ ﻣﻮﺟﺔ اﻹﻗﺮار اﻟﺘﻲ ﻗﺎدت ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث ﺑﺪاﻳﺔ داﺋﻤً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻳﻤﺜﱢﻞ زرادﺷﺖ«: أرﻳﺪ أن أﺗﻌ ﱠﻠﻢ أﻛﺜﺮ ﻓﺄﻛﺜﺮ أن أرى اﻟﴬورة ﰲ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎل ﰲ ْ ﻟﻴﻜﻦ ﺣﺒﱢﻲ ﻣﻨﺬ اﻵن: ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،وﻫﻜﺬا أﻛﻮن واﺣﺪًا ﻣﻤﻦ ﻳﺠﻤﱢ ﻠﻮن اﻷﺷﻴﺎء. »ﺣﺐﱠ اﻟﻘﺪر« !Amor Fatiﻻ أرﻳﺪ أن أﺧﻮض ﺣﺮﺑًﺎ ﺿﺪ ُ اﻟﻘﺒﺢ .ﻟﻦ أُﻟﻘِ ﻲ اﻟﺘﱡﻬﻢ ً إﻃﻼﻗﺎ ،وﻟﻦ أﺗﱠﻬﻢ ﺣﺘﻰ املﺘﱠ ِﻬ ِﻤني .ﻟﻴﻜﻦ إﻧﻜﺎري اﻟﻮﺣﻴﺪ :ﴏف اﻟﻨﻈﺮ .وﺑﻮﺟﻪ ً إﻃﻼﻗﺎ ﺳﻮى إﻗﺮار ﺗﺎمﱟ. ﻋﺎم :أرﻳﺪ ،اﺑﺘﺪاءً ﻣﻦ اﻟﻴﻮم ،ﱠأﻻ أﻛﻮن »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«٢٧٦ ، ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة املﺸﺤﻮﻧﺔ ﺑﺎملﺸﺎﻋﺮ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻳﻤﻜﻦ أن ِ ﻳﺄﴎ ﻟﺐﱠ املﺮء ،ورﺑﻤﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ ا ُملﺠﺤِ ﻒ اﻟﻨﻈ ُﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻗﺮب .وﻓﻜﺮة أن ﻧﻴﺘﺸﻪ — اﻟﺨﺒري اﻟﺘﺸﺨﻴﴢ اﻟﻌﺮﻳﻖ ﱠ ﻳﻐﺾ ﺑﴫه ،وأﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﺳﻨﺨﴪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻘﻴﱢﻤﺔ ﻟﻮ ﻓﻌﻞ — ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أﺑﺪًا أن ذﻟﻚ؛ ﺗُﻠ ﱢ ﻄﻒ ﺣﺪﱠة اﻟﺘﻬﻤﺔ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﺼ ِﺒﺢ ﻗﻂ ﻣﻤﻦ ﻳﻘ ﱡﺮون اﻷﻣﻮر وﻳﺆﻳﺪوﻧﻬﺎ ﻋﲆ ﻋِ ﱠﻼﺗﻬﺎ، وﺗﻠﻄﻒ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ أواﺧﺮ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺨﻤﺴﺔ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻬﺠﻮﻣﻴﺔ ،اﺛﻨﺎن ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻬﺎﺟﻤﺎن ﻓﺎﺟﻨﺮ واﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳﻬﺎﺟﻢ املﺴﻴﺢ ،واﻟﻜﺘﺎب اﻹﻗﺮاري اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻛﺎن ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ.
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺣﺘﻰ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻳﻈﻞ ِﻣﺰاﺟﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ املﺸﺤﻮﻧﺔ .ﺛﻢ ﻧﺼﻞ ،ﰲ اﻟﺠﺰء َ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻠﻤﻴﺤﺎت اﻟﴫﻳﺤﺔ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﺨﺎص ،٢٩٠إﱃ ﻧﻘﻄﺔ ﻳﻘﺪﱢم ﻓﻴﻬﺎ ﻷول ﻣﺮة اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺄﻣﻞ أن ﻳﺤ ﱡﻠﻮا ﻣﺤ ﱠﻞ اﻟﺒﴩ اﻟﻀﺌﻴﻠني ﰲ املﺮﺣﻠﺔ اﻷﺧرية ﻣﻦ املﺴﻴﺤﻴﺔ وﻣﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ: »اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﴬوري« أن »ﻧﻀﻔﻲ ﻃﺎﺑﻌً ﺎ ﻣﻦ اﻹﺑﺪاع اﻟﻔﻨﻲ« ﻋﲆ ﻃﺒﻌﻨﺎ، ﻫﺬا ﻓﻦ ﻋﻈﻴﻢ وﻧﺎدر! ﻓﻦ ﻳﻤﺎرﺳﻪ ﻣَ ﻦ ﻳﻌﺎﻧﻖ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻨﺤﻪ ﻃﺒﻌ ُﻪ ﻣﻦ ﻗﻮة ﻓﻨﻲ ﻳﺒﺪو ﻣﻌﻪ ﻛ ﱡﻞ ﻋﻨﴫ وﻣﻦ ﺿﻌﻒ ،وﻳﺪﻣﺠﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﴩوع ٍ ﻋﻤﻞ ﱟ ﻣﺜﻞ ﻗﻄﻌﺔ ﻓﻨﻴﺔ وذﻫﻨﻴﺔ ،وﻳﻜﻮن ﺣﺘﻰ ﻟﻠﻀﻌﻒ ﻓﻀﻴﻠﺔ اﺳﺘﻬﻮاء اﻟﻨﻈﺮ .ﻫﻨﺎ َ املﻜﺘﺴﺒﺔ ،ﰲ ﺣني ﻳﻨﻘﺺ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ — وﰲ ﻳﺰﻳﺪ ﻛ ﱡﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻳﺘﻢ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺼﺒﻮرة واﻟﺠﻬﺪ اﻟﻴﻮﻣﻲ .ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻊ َﺳ َﱰْﻧﺎ ﻗﺒﺤً ﺎ ﻟﻢ ﻧﺴﺘﻄﻊ اﻗﺘﻼﻋﻪ ،وﰲ املﻮﺿﻊ اﻵﺧﺮ ﺗﺤﻮﱠل إﱃ ﺟﻤﺎل رﻓﻴﻊ .ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ا ُملﺒﻬَ ﻤﺔ واﻟﻌﺼﻴﱠﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ اﺳﺘُﺒﻘﻴﺖ واﺳﺘُﻐﻠﺖ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺄﺛريات املﻨﻈﻮر ،وﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﻫﻲ إﺑﺮاز اﻷﺑﻌﺎد واﻟﻔﻀﺎءات اﻟﺘﻲ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﺎ .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ذوق وﺣﻴ ٍﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن املﻄﺎف ،ﺣني ﻳﻜﺘﻤﻞ اﻟﻌﻤﻞ ،ﻳﺘﻀﺢ أن إﻛﺮاه ٍ ﺳﺎﺋﺪًا ﰲ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺼﻐرية واﻟﻜﺒرية وﻳﻬﻴﱢﺌﻬﺎ ،وﺳﻮاء أﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺬوق ﺳﻠﻴﻤً ﺎ أم ﻏري ﺳﻠﻴﻢ ﻻ ﻳﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻛﻨﺎ ﻧﻈﻨﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ذوق! »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«٢٩٠ ، ﻫﺬه اﻟﻘﻄﻌﺔ ﻟﻴﺴﺖ اﻟﺠﺰء ﻛ ﱠﻠﻪ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﻨﻮاﺻﻞ ﺑﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ. ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة أﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻧﺼﺒﺢ »ﻣﺒﺘﻜﺮي ﺣﻴﺎة« ﻣﺤ ﱠﻞ ﻧﻘﺎش ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺳﻴﺎق ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﺠﻌﻞ ﻓﻜﺮة اﻻﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ ﺧﺎدﻋﺔ .ﻣﺎ ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ﰲ ٍ إﻃﺎر ﻻ ﻳﺆدي إﱃ املﺬﻫﺐ اﻟﺬريﱢ اﻟﺬي ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﻜﻮن واﺿﺤً ﺎ ﻫﻮ اﻟﻔﺮدﻳﺔ املﻔﺮﻃﺔ ،ﰲ ٍ واﻟﺬي ﻣﻔﺎده أن اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺘﺄﻟﻒ ﻣﻦ ﺟﺰﺋﻴﺎت أو ﻛﻴﺎﻧﺎت ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻻ ﺗﻨﻘﺴﻢ ،وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه ﻣﺎدﻳﺔ أو روﺣﻴﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت ﻣﺎدﻳﺔ ،ﺗُﻌَ ﺪ ﰲ اﻟﻌﺎدة دﻗﻴﻘﺔ إﱃ أﺑﻌﺪ ﺣﺪﱟ، ﻻ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺪد .وﻟﻜﻦ ﻣﺎ إن ﻧُﻌﺠَ ﺐ ﺑﺮؤﻳﺘﻪ ،ﺣﺘﻰ ﻧﺒﺪأ ﰲ اﻟﺘﺴﺎؤل ً أﻳﻀﺎ .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﻘﻴﺎس اﻟﺘﺸﺒﻴﻬﻲ ﻣﻊ اﻟﻔﻦ ،أو ﻓﻦ ﻫﻨﺪﺳﺔ املﻨﺎﻇﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﺤﺪاﺋﻖ ،اﻟﺬي ﻳُﺸﺎر ً ٌ ﺗﻨﺎوﻻ ﻣﺒﺎﴍًا ،ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻗﻴﺎس ﺗﺸﺒﻴﻬﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻨﺎوﻟﻪ وﺿﻮح إﻟﻴﻪ ﻫﻨﺎ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺑﻜ ﱢﻞ ٍ ً ﻻﺣﻘﺎ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ،اﻟﺬي ﻟﻦ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻫﻨﺎ ﻋﲆ ﻳﻌﻴﺶ إﻻ ﻣﺮة واﺣﺪة) .ﺳﻮف أﻧﺎﻗﺶ 50
اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة
ﱠ وﻟﻜﻦ أﻳﺔ ﺣﺎل؛ ﺣﻴﺚ إن اﻷﺧﻄﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﺮﺗﻜﺒﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ،وﺳﺘﻈﻞ ،ﺗﺘﻜﺮر إﱃ أﺑﺪ اﻵﺑﺪﻳﻦ(. ٍ اﺳﺘﺜﻨﺎءات ﻧﺎدرة، أﺟﻞ ﻏري ﻣﺴﻤٍّ ﻰ ،ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا اﻟﻔﻨﺎن ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ أﻋﻤﺎﻟﻪ إﱃ ٍ ً ﺗﺤﻠﻴﻼ إﱃ أن ﻳﺸﻌﺮ أﻧﻪ أﺟﺎد اﻷﻣﺮ ﻗ ْﺪ َر اﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ .وﻣﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ أن ﻧُﺠْ ِﺮي ً دﻗﻴﻘﺎ ﻟﺸﺨﺼﻴﺘﻨﺎ ،وﻧﻘﻴﱢﻤﻬﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻌﺎﻳريَ اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ ُﺤﺴﺐ ﻛﻤﻮﻃﻦ ﻗﻮة وﻣﺎ اﻟﺬي ﻳ َ — ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳ َ ُﺤﺴﺐ ﻛﻨﻘﻄﺔ ﺿﻌﻒ — ﺛﻢ ﻧﻀﻔﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﻮﺣﺪة اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ اﻷﺳﻠﻮب .ﱠ إن دﻣْ ﺞَ ﻋﻨﺎﴏ ﺗﻜﻮﻳﻨﻨﺎ ﰲ »ﻋﻤﻞ ﻓﻨﻲ« ﻳﻘﺪﱢم ﺑﺎﻷﺣﺮى ً ﻋﺮﺿﺔ ﻟﻠﻈﺮوف اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺤﺪث ﻷيﱢ إﻧﺴﺎن ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء إﻳﺤﺎءً ﺑﺄﻧﻨﺎ أﻗﻞ ِ اﻟﻨﺎﺳﻚ. اﻟﺰاﻫِ ﺪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺸﻜﻮك اﻷوﻟﻴﺔ ،ﺛﻤﺔ ﳾء ﻻﻓﺖ ﰲ ﺗﻠﻤﻴﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﻓﻬﻮ ﻳﻤﻬﱢ ﺪ ً ﻫﻴﻤﻨﺔ ﻟﺸﻜﻞ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ »ﺳﺘﻜﻮن اﻟﻄﺒﺎﺋﻊ اﻷﻗﻮى واﻷﻛﺜﺮ اﻟﻄﺮﻳﻖ ٍ ﱟ ﺧﺎص ﻗﺎﻧﻮن ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ وﺳﻂ ﻫﺬه اﻟﻘﻴﻮد واملﺜﺎﻟﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﻣﻈﻠﺔ ٍ ﺑﻬﺎ« ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ »اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺳﻠﻄﺔ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﺎ واﻟﺘﻲ ﺗﻜﺮه ﻗﻴﻮد اﻷﺳﻠﻮب« )أي اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴني( .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺒﺎﻟﻎ ﰲ ﻋ ْﺮض ﻓﻜﺮة اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻔﺮدي ،ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ ﻣﻔﻬﻮم اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺬي ﻳُﻮﺟَ ﺪ ﺑﻤﻌﺰل ﻋﻦ اﻟﻔﺮد .إذ إﻧﻪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻌﺎﻳري ﺧﺎرﺟﻴﺔ ،ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻟﻜ ﱢﻞ ﺷﺨﺺ أﺳﻠﻮﺑﻪ اﻟﺨﺎص ﻣﺎ دام ﻣﻤﻴ ًﺰا ﻋﻦ ﻃﺮ ﻣﺤﺪدة ﻳﻌﻤﻞ ﰲ اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻳﻜﻔﻲ اﻻﺳﺘﺨﺪام املﺠﺮد ملﻔﻬﻮم اﻷﺳﻠﻮب ﻟﻴﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻔﻜﺮ ﰲ أ ُ ٍ ﻇ ﱢﻠﻬﺎ اﻷﻓﺮاد ،وﻳﺤﻘﻘﻮن اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﺑﻔﻀﻞ اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺬي ﻳﻘﺪﻣﻪ ﻫﺬا اﻹﻃﺎر .وﻟﻌﻞ أوﺿﺢ ﻣﺜﺎل ً ً وﺻﻮﻻ إﱃ ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ ﻫﺎﻳﺪن ﻋﲆ ﻫﺬا ﻫﻮ اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ﰲ املﻮﺳﻴﻘﻰ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ٍ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺎ ﻏري ﻣُﺤﺪﱠدة .ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻴﻮد ذﻟﻚ اﻷﺳﻠﻮب ﺻﺎرﻣﺔ، ﻣﻮﺗﺴﺎرت وﺑﻴﺘﻬﻮﻓﻦ ،ﻣﻨﺘﻬﻴًﺎ ﻋﻨﺪ وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺘﺨﻴﱠﻞ ﱠ أن أﺣﺪًا ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ا ُملﻠﺤﱢ ﻨني اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻘﻖ اﻟﻨﺠﺎح دوﻧﻬﺎ .ﻟﻘﺪ ﻧﺠﺤﻮا ﰲ إﺛﺒﺎت وﺟﻮدﻫﻢ؛ ﻷن ﻋﻨﺎﴏَ ﻛﺜري ًة ﻗﺪ ﺗﻮاﻓﺮت ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺮﺻﺪ أﺑﺮ َز إﻧﺠﺎزات ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ ﰲ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﰲ ﻇ ﱢﻞ ﻫﺬا اﻟﴫاع ﺑني اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﺘﺎﺣً ﺎ ﻷيﱢ ﺷﺨﺺ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ — واﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺮاه ﻳﻌﻤﻞ أﻋﻤﺎل ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﻋﲆ ﻳﺪ ﻫﺎﻣﻞً ، ﻣﺜﻼ ،اﻟﺬي ﻳَﺪِﻳﻦ ﺑﻨﺠﺎﺣﻪ إﻧﺘﺎج ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ُﻣ ْﺮ ٍض ﺗﻤﺎﻣً ﺎ دون ٍ ِ ﻛ ﱢﻠﻪ ﻟﻸﺳﻠﻮب اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﺘﺎﺣً ﺎ ﻟﻪ — وﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺴﻤﺎت اﻟﻔﺮدﻳﺔ ا ُملﺤﺪﱠدة ﺑﺪﻗﺔ ﻟﺪى أﺳﺎﺗﺬة ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻌﻈﻤﺎء. ﻟﻜﻦ ا َملﺴﺎق اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ ﻳﺴﺘﻤﺮ ،ﻛﺎن ﻫﺬا ﺣﺴﺐ ﻣﻌﺎﻳري ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،أﻣﺎ اﻵن ﻓﺎﻟﻮﺿﻊ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء .ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﻮﺟﺪ أﺳﻠﻮب ﻣﺸﱰك ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﻤﻞ 51
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﱠ اﻟﺨﻼق؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺠﺪ أﺳﻠﻮﺑﻨﺎ اﻟﺨﺎص .ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه ﺑﻪ ﰲ ﻇ ﱢﻞ اﻟﴫاع اﻟﻈﺮوف أن ﻣﺠﺮد ﻓﻜﺮة اﻷﺳﻠﻮب ﻣﺴﻬﺒﺔ إﱃ أﻗﴡ درﺟﺔ .وﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻳﻘﻮل» :ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺬوق ﺳﻠﻴﻤً ﺎ أم ﻏري ﺳﻠﻴﻢ ﻻ ﻳﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻛﻨﺎ ﻧﻈﻨﻪ ،إﻧﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ذوق!« ﺗﻮﺣﻲ ﺑﺄن املﻌﺎﻳري اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻓﻘﻂ ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺷﻜﻠﻴﺔ ً ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺘﺸﻜﻴﻠﻬﺎ .وﻗﺪ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻫﺬا ﻧﺘﺴﺎءل، أﻳﻀﺎ .ﺗﺤﺘﻞ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ ا َمل ْﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﺠﺪدًا ،إذا ﻛﺎن ﻣﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻨﻪ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ اﻷﺳﺎس ،وﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﱠ ﻇﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ أن ﻫﺬا ﻣﻬﻢﱞ .ﻓﻔﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺠﺰء ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل» :ﻳﻠﺰم ﳾء وﺣﻴﺪ؛ أن ﻳﺘﻮﺻﻞ املﺮء إﱃ أن ﻳﻜﻮن راﺿﻴًﺎ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،ﺳﻮاء أﻛﺎن ﺑﺎﻟﻨﻮع ﻛﺬا أم ﺑﺎﻟﻨﻮع ﻛﺬا ﻣﻦ اﻟﻔﻦ أو ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ،ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﺒﺪو اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻤﻈﻬﺮ ﻣﺤﺘﻤَ ﻞ «.وﻟﻜﻦ ﺑﻠﻮغ اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻔﺲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﰲ أﺣﺴﻦ اﻟﺤﺎﻻت ﴍ ً ﻃﺎ ﴐورﻳٍّﺎ .وﺛﻤﺔ أﺷﺨﺎص ُﻛﺜﺮ ﺑﻠﻐﻮا اﻟﺮﺿﺎ وﻇﻠﻮا دون ﻣﻈﻬﺮ ﻣﺤﺘﻤَ ﻞ؛ ﺑﻞ وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﺗﺤﺪﻳﺪًا. ٍ ﻓﻘﺮات ﻣﺜﻞ ﻫﺬه ﺗﺜري ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻟﺘﺴﺎؤل ﺣﻮل ﻣﺪى إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻀﻐﻂ ﻋﲆ ﻧﻴﺘﺸﻪ. إن ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﰲ ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻴﻮﻟﻪ ﻧﺤﻮ ﺗﻄﺮﻓﺎت اﻟﺘﻌﺒري وﻣﺒﺎﻟﻐﺎﺗﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺠﺢ اﻧﺘﻬﺎج اﻟﻠﺒﺎﻗﺔ ﱠ ﺑﺄﻻ ﻳﺴ ﱢﻠﻂ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ املﻮاﺿﻊ ﻏري املﻼﺋﻤﺔ .وﻟﻜﻦ اﻟﺨﻄﺮ املﻘﺎﺑﻞ أﻧﻨﺎ ﻧﺼﻔﻪ ﺑﺄﻧﻪ »ﺗﺤﻔﻴﺰيﱞ «؛ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑﺠﺪﻳﱠﺔ .ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ،ﻗﺪ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ املﻨﺎﺳﺐ املﺨﺎﻃﺮة ﺑﻘﺪر ﻣﻦ ﻋﺪم اﻟﻠﺒﺎﻗﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺤﻮي أﻓﻜﺎ ًرا ﻣﺎ زاﻟﺖ ﰲ ﻃﻮر اﻟﺘﺸﻜﻴﻞ وﺳﺘﻜﻮن ﻣﺤﻮرﻳﺔ ﻟﻌﻤﻠﻪ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن أﻛﺜﺮ روﻋﺔ ﻣﻦ وﺟﻮده ﻫﻨﺎ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ رؤﻳﺘﻪ ﺑﺄﺑﻌﺎده اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أﺑﻌﺎده ﻓﻮق اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ. وﻫﻜﺬا ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﱰك املﺴﺄﻟﺔ ﻣﻔﺘﻮﺣﺔ ﺣﻮل ﻣﺎ إن ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺻﺎﺣﺐ ً ً ﻣﻄﻠﻘﺎ ﰲ املﻮﺿﻮع املﺘﻌﻠﻖ ﺑﻌﻨﺎﴏ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﻔﻖ ﺗﻔﻮﻳﻀﺎ اﻷﺳﻠﻮب املﻤﻴﱠﺰ ً ﱠ أن أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻌﻨﺎ إﱃ أن ﻧﻘﻮل إن اﻣﺮأ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﻤﻴ ٍﱠﺰ ﻫﻮ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ ﺑﻨﺠﺎح ،ودﻣْ ﺞ ﺗﺠﺎرب ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﺳﺘﻜﻮن ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻷﻣﻮر اﻟﺼﻌﺒﺔ ٍ اﻟﻨﺎس ﻣﺤﺮﺟﺔ أو ﻣﻬﻴﻨﺔ وﺟﻌﻠﻬﺎ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺧﻄﺔ أﻛﱪ .ﺛﻤﺔ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﺆﺛﺮة وﻣﻤﺘﻌﺔ وﺑﺎرزة ﻧﺎر ﺻﺎدﻣﺔ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻓﻴﻠﻢ ﺟﺎن رﻳﻨﻮار »ﻗﻮاﻋﺪ اﻟ ﱡﻠﻌﺒﺔ« اﻟﺬي ﻓﻴﻪ — ﺑﻌﺪ ﺣﺎدﺛﺔ إﻃﻼق ٍ ِ ﻳُﻘﺘَﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻃﻴﱠﺎر ﺧﻼل ﻗﻀﺎﺋﻪ اﻟﻌﻄﻠﺔ ﰲ ٍ ﺑﻴﺖ رﻳﻔﻲ — ﻳﺘﺤﺪث ا ُملﻀﻴﻒ إﱃ اﻟﻀﻴﻮف املﺠﺘﻤﻌني املﺬﻫﻮﻟني ﺑﺬوق رﻓﻴﻊ وﺑﻜﻠﻤﺎت ﻣﺨﺘﺎرة ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﻟﺪرﺟﺔ أن أﺣﺪ اﻟﻀﻴﻮف ﻳﻘﻮل ﻟﻶﺧﺮ» :ﻟﻘﺪ وﺻﻔﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﺎدﺛﺔ .ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺟﺪﻳﺪ!« وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻌﺮض ﻟﻠﺘﻮﺑﻴﺦ» :إﻧﻪ ﻳﺘﻤﺘﻊ راق ،وﻫﺬا ﳾء ﻧﺎدر ﻫﺬه اﻷﻳﺎم!« وﻫﺬا ﺻﺤﻴﺢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻟﻘﺪ ﺣﺎﻓﻆ اﻟﺨﻄﺎب ﺑﺄﺳﻠﻮب ٍ 52
اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة
اﻟﺮاﻗﻲ ﻋﲆ اﻟﻠﺒﺎﻗﺔ واﻟﻠﻴﺎﻗﺔ ،وأﺑﻘﻰ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﺑﻮﺿﻮح أﻧﻪ ﻣﻈﻬﺮ ﻣﺘﺤﴬ ﻋﺎﺑﺮ ،وﺟﻌﻞ أﴎﺗﻬﻢ ﺑﻤِ ﺰاج رﺛﺎﺋﻲ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ املِ ﺰاج اﻻﻧﺘﻘﺎدي أو املﺠﺘﺰئ .وﺛﻤﺔ اﻟﻀﻴﻮف ﻳﺘﻮﺟﱠ ﻬﻮن إﱃ ﱠ ﻣﻮﻃﻦ ﻗﻮة ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺪرة ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺣُ ْﺴﻦ اﻟﺘﻌﺒري ،واﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ — ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ أيﱢ ﺷﺨﺺ ﻣﻌﻘﺪ — ﺗﺠﺎرب ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺆدﱢي إﱃ اﻻﻧﺤﻼل ،أو إﱃ ﻛﺮاﻫﻴﺔ اﻟﻨﻔﺲ ،ﻋﲆ أﻗ ﱢﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ. ﻳﺘﺴﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﴫاﺣﺘﻪ ﰲ اﻟﻜﺸﻒ ﻋﻤﺎ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ اﻷﻣﺮ .ﻓﺒﻌﺪ ﺑﻀﻊ ﻓﻘﺮات ﻳﻄﺮح ً ﺳﺆاﻻ: ﻛﻴﻒ ﻳﺘﺴﻨﱠﻰ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺠﻌﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻴﻠﺔ وﺟﺬاﺑﺔ وﻣﺮﻏﻮﺑﺔ ﺣني ﻻ ﺗﻜﻮن ﻛﺬﻟﻚ؟ ﻳﺒﺪو ﱄ أﻧﻬﺎ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق … اﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺘﻔﻲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻬﺎ … ﻫﺬا ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻌﻠﻤﻪ ً ً ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﰲ أﻣﻮر أﺧﺮى؛ إﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻧﻪ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻜﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني، ﻷن ﻗﻮﺗﻬﻢ اﻟﺸﺪﻳﺪة ﺗﺘﻮﻗﻒ ﻋﺎد ًة ﺣﻴﺚ ﻳﺘﻮﻗﻒ اﻟﻔﻦ وﺗﺒﺪأ اﻟﺤﻴﺎة .أﻣﱠ ﺎ ﻧﺤﻦ، ﻓﻨﺮﻳﺪ أن ﻧﻜﻮن ﺷﻌﺮاء ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ،ﰲ أﺗﻔﻪ أﻣﻮر ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻗﺒﻞ ﻛ ﱢﻞ ﳾء. »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«٢٩٩ ، ً وذوﻗﺎ :ﻻ ْ ﺗﻜﻦ ﻛﺜري اﻟﺸﻚ ﰲ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺸﺄن ﻓﻬﻤﻚ اﻟﺘﺎم ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،أﻗﻞ ﻟﺒﺎﻗﺔ ﻟﻸﻣﻮر .ﻫﺬا ﺣﻘﻴﻘﻲ؛ ﻓﺎﻷﻫﻢ أن ﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﺟﻤﻴﻠﺔ ﻋﲆ أﺣﺴﻦ ﺗﻘﺪﻳﺮ. أﻇﻦ أن ﻣﺎ ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ أﻣ ٌﺮ أﻛﺜﺮ ﻏﺮﻳﺰﻳﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﻘﱰﺣﻪ؛ ﺑﻤﺎ أن ﱢ وﻧﻨﻔﺬه .إﻧﻪ ﻣﺄزق ﻳﺠﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ أن ﻳﺘﻔﻮﱠه ﺑﻤﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻨﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن ﻧﻌﺮﻓﻪ واﻗﻌً ﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا؛ ﻫﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳ ِ ُﺮﴈ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺈﺑﺪاء اﻟﺘﻠﻤﻴﺤﺎت ،أم ﻳﺠﺐ أن ﻳﻘﻮل ﻣﺎ ﻳﺮى أﻧﻪ ﴐوري ﻟﻨﺎ أن ﻧﻌﺮﻓﻪ ﰲ ﺻﻮر ٍة ﴎﻳﻌﺔ اﻟﺰوال؟ إﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪﻧﺎ أن ﻧﻜﻮن ذﻟﻚ اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺟﻮن ﱠإﻻ إﱃ ﺗﻠﻤﻴﺤﺎت ﻷﻧﻨﺎ ﺷﺪﻳﺪو اﻟﺬﻛﺎء ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﱢ ﻣﺼﺎف اﻟﻜﻮارث؛ ﺛﻢ ﻧﺘﻬﻤﻪ ﺑﺈﺣﺪاث ﻛﺜري ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﺳﻨ ُ ِﺼ ﱡﻢ آذاﻧﻨﺎ ﻋﻦ أيﱢ ﳾء ﻻ ﻳﺮﻗﻰ إﱃ أﻣﺮ ﺗﺎﻓﻪ .ﺧﻼل ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻛﺘﺎب »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ﻛﺎن ﻻ ﻳﺰال ﻳﺤﺎول اﺳﺘﺨﺪام ﺻﻴﻎ اﻟﺠﻠﺒﺔ ﻋﲆ ٍ رﻣﺰﻳﺔ وﺗﺤﻔﻴﺰﻳﺔ ،ﺗﺎر ًﻛﺎ إﻳﺎﻧﺎ ْ ﻟﻌﻘﺪ اﻟﺮواﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺪ أوﺟﻌﻪ ﺑﻌ ُﺪ اﻟﻀﺠﺮ اﻟﺬي ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺳﻴﻌﺎﻧﻲ ﻣﻨﻪ زرادﺷﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪرك أﻧﻪ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺳﻴُﺴﺎء ﻓﻬﻤﻪ .وﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﺘﺄﻛﺪًا، ً أﻳﻀﺎ ،ﻣﻦ ﻛﻮن املﺮء ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻘﻂ أن ﻳﻌ ﱢﻠﻢ اﻟﻨﺎس اﻟﺬوق ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﺟﻬﻼء وﺣﺴﺐ ،أو ﻣﻦ 53
ﻧﻴﺘﺸﻪ
إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ إﻋﺎدة ﺗﺜﻘﻴﻒ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺸ ﱠﻜﻞ اﻟﺬوق ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ وﻟﻜﻨﻪ ذوق ﻓﺎﺳﺪ .ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﻛﺘﺎب »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ،ﰲ اﻷﺳﺎس ،ﻛﺘﺎب رﺟﻞ ﻣﺘﻔﺎﺋﻞ؛ ﻓﻬﻮ آﺧﺮ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﻲ ووﻋﻲ ﺣﺎﴐ. ﺑﻀﻤري ﱟ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻬﺎدئ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﻟﺪى ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ وﺻﻔﻪ ﺟﻲ ﺑﻲ ﺳﺘرين ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﱪﱠر »ﺑﺎﻟﻔﺎﺿﻞ ا ُملﻜﺪﱢ«؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﻇﻬﺮت أﻳﺔ إﺷﺎرة ملﺠﻬﻮ ٍد ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺔ أﺣ ٍﺪ — ﻟﻮ ﺑﺪا أﻧﻪ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺟﺎذﺑﻴﺘﻪ وﺣﻨﺎﻧﻪ وﻫﺪوءه وﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺘﻪ ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ — إذن ﻓﻬﺬا ﻓﺸﻞ ﺧﻄري ﰲ اﻷﺳﻠﻮب .ﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪ ﺗﺤ ﱡﺮرﻧﺎ اﻟﺸﻨﻴﻊ ﻣﻦ ﻗﻴﻮد اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ املﺮﺣﱠ ﺐ ﺑﻬﺎ ،وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﺪد اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ أﺳﺎﻟﻴﺐ املﻌﻴﺸﺔ اﻟﺘﻲ »ﺗﺒﺪو« ﻣﺘﺎﺣﺔ ﻟﻨﺎ ،واﻟﺘﻲ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﻛﺜري ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﺤﺘﻤَ ﻞ أن ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻨﻈﻴﻢ »اﻟﻔﻮﴇ املﻮﺟﻮدة ﰲ داﺧﻠﻨﺎ« دون ِ ﱢ ﻳﺠﺴﺪ ﻓﻜﺮة ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ ﺗﻨﻈﻴﻢ إﺷﺎرات اﻟﺠﻬﺪ املﺮﺋﻴﺔ .ﺣﺘﻰ ﺟﻮﺗﻪ ،اﻟﺬي ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺬات ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ إﺧﻔﺎء املﺠﻬﻮد اﻟﺬي ﺗﻜﺒﱠﺪه ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ،ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ، ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻘﻴﱢﺪة ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪة املﻔﺮوﺿﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻨﻮع؛ ﺗﻨﻮع اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت واﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﱰك ﻣﻌﻈﻤﻨﺎ ﻋﺎﺟﺰﻳﻦ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ادﱢﻋﺎء ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄن إﻛﺴﺎب ﺷﺨﺼﻴﺔ املﺮء أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﻣﻤﻴ ًﺰا ﻫﻮ »اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﴬوري« )ﻋﺒﺎرة رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺪف إﱃ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ ،اﻟﺬي ﺗﺸﻐﻞ ﺑﺎ َل ﺷﺨﺼﻴﺎﺗﻪ ٌ ﺣﺎﺟﺔ ﻣُﻠﺤﱠ ﺔ(؛ ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻃﻴﺎﺗﻪ ﺳﻠﻮ ًﻛﺎ ﻏري ﻣﺘﻮﻗﻊ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻨﻘﺪه ﻟﻠﺸﻔﻘﺔ ،أﺣﺪ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ أﺷﻬﺮ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺗﻪ ا ُملﻠﺤﱠ ﺔ ،واﻟﺘﻲ أﺑﻘﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎم .ﰲ أﺣﺪ ﻧﺼﻮﺻﻪ اﻟﻨﺜﺮﻳﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة ً ﻛﺎﻣﻼ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻄﻮﻟﻪ اﻟﺒﺎﻟﻎ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﻈﺮ اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ ،واﻟﺬي ﻟﻸﺳﻒ ﻳﺘﻌﺬر ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻗﺘﺒﺎﺳﻪ ﻫﻨﺎ ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر إﱃ »إرادة املﻌﺎﻧﺎة وأوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺸﻌﺮون ﺑﺎﻟﺸﻔﻘﺔ« .وﻫﻮ ﻳﺴﺄل إن ﻛﺎن ﰲ َ ﱢ وﻳﺒني ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺤﺴﺎﺳﺔ املﺸﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻨﺪﻣﺠﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ، ﺻﺎﻟﺢ املﺸﻔِ ﻖ أو اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻘﺐ ذﻟﻚ ﱠ أن ﺑﻐﻀﻪ ﻟﻠﺸﻔﻘﺔ ﻻ ﱡ ﻳﻤﺖ ﺑﺼﻠﺔ ،ﺑﺄيﱢ ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﻟﺘﺤﺠﱡ ﺮ َ املﺸﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺸري إﱃ اﻟﻘﻠﺐ أو اﻟﻘﺴﻮة أو ﺗﺒ ﱡﻠﺪ اﻹﺣﺴﺎس .وﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻳﻬ ﱡﻢ اﻟﺸﺨﺺ أن ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺣﺎﻻﺗﻪ اﻟﺮوﺣﻴﺔ أﻣ ٌﺮ ﺣﺴﺎس ،وأن ﻣَ ْﻦ ﻳﻼﺣﻈﻮن أﻧﻪ ﰲ ﻣﺤﻨﺔ وﻣِﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﻬﺮوﻟﻮن إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻪ »ﻳﺘﺒﻨﱠﻮن دوْر اﻟﻘﺪَر« ،وأﻧﻪ ﻻ ﻳﺨﻄﺮ ﻋﲆ ﺑﺎﻟﻬﻢ أﺑﺪًا ﱠ أن ﻣَ ْﻦ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻗﺪ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻪ ،املﻤﺘﺰﺟﺔ ﺑﻔﺮﺣﺘﻪ» ،ﻛﻼ ،ﻓ »دﻳﻦ اﻟﺸﻔﻘﺔ« )أو »اﻟﻘﻠﺐ«( ﻳﺄﻣﺮﻫﻢ ﺑﺎﻟﻨﺠﺪة ،وﻫﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن أﻓﻀﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪة ﻫﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﰲ أﴎع وﻗﺖ!« )»اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«.(٣٣٨ ، ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب إﱃ ﺷﺨﺺ ﻳﺘﻀﻮﱠر ﺟﻮﻋً ﺎ ،أو ﺗﺨﺪﻳﺮ ﺷﺨﺺ ﻋﲆ وﺷﻚ اﻟﺨﻀﻮع ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺟﺮاﺣﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻣﺴ ﱠﻠﻂ ﻋﲆ 54
اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة
اﻟﺸﻔﻘﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺷﻐﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺸﺎﻏﻞ ﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺣﻴﺎة اﻵﺧﺮﻳﻦ ،وﺗﺠﺎﻫﻠﻪ اﻟﻨﺒﻴﻞ — ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻧﻔﻬﻢ — ﻟﺸﺌﻮﻧﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻮﻗﺎﺣﺔ )ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﻋﻬﺎ( إﺳﺎءة ﺗﻔﺴري ﻣﻘﺼﺪه ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺤﺚ ﻋﲆ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻵﺧﺮﻳﻦ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﱢ ﺗﻮﺿﺢ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻣﺒﺎﴍ ًة ﻋﻦ آﺛﺎر اﻟﺸﻔﻘﺔ ﻋﲆ املﺸﻔِ ﻖ» :أﻋﻠﻢ ذﻟﻚ ﺟﻴﺪًا ،ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺎﺋﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﴍﻳﻔﺔ وﺣﻤﻴﺪة ٌ ﻃﺮق ﺟ ﱡﺪ »أﺧﻼﻗﻴﺔ«! وﻳﻤﴤ رأي دﻋﺎة أﺧﻼق ﻟﺘﻀﻠﻴﲇ وإﺛﻨﺎﺋﻲ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻲ ،وﻫﻲ اﻟﺸﻔﻘﺔ اﻟﻴﻮم إﱃ ﺣ ﱢﺪ ادﱢﻋﺎء أن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ،وﻻ ﳾء ﻏريه ،ﺳﻴﻜﻮن أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ؛ أن ﻳﻀﻞ املﺮء ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ وﻳﺴﺎرع إﱃ ﻧﺠﺪة اﻵﺧﺮﻳﻦ« )»اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« .(٣٣٨ ،وﻫﻮ ﻳﻮاﺻﻞ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﺑﻄﻼﻗﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﺴﻮة اﻟﺘﻲ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳري اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ اﻟﺨﺎص ،وﻣﺎ ْ اﻟﺪفء .وﻳﺨﺘﺘﻢ ،ﺑﱪاﻋﺔ، ﻳﺴﺒﺒﻪ ذﻟﻚ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪة وﻏﻴﺎب اﻟﻌِ ﺮﻓﺎن ﺑﺎﻟﺠﻤﻴﻞ واﻧﻌﺪام ً ﻣﻨﻌﺰﻻ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﻴﺶ ﻟﻨﻔﺴﻚ«. ﺑﻘﻮﻟﻪ» :أﺧﻼﻗﻲ ﺗﻘﻮل ﱄ ﻫﺬا :ﻋِ ْﺶ ﺳﻴﺸﻌﺮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص أن اﻷﺧﻼق اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺤﺜﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺴري ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ »ﻃﺮﻳﻖ« اﻟﺨﺎص ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ اﻧﺘﻬﺎﺟﻬﺎ؛ ﻟﺴﺒﺐ واﺿﺢ وﻫﻮ أﻧﻬﻢ ﻳﻔﺘﻘﺮون إﱃ وﺟﻮد ٍ ﱟ ﺧﺎص ﺑﻬﻢ؛ ﻓﻠﺪﻳﻬﻢ اﻟﻜﻔﺎءات واﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت واملﺨﺎوف واملﺸﻜﻼت ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻳﻤﺜﱢﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻬﻢ ً ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻦ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻫﺪﻓﺎ ﻓﺮدﻳٍّﺎ .ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻗﱰح ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄن ﻳﺼﺒﺢ ﻛ ﱡﻞ ﻓﺮد ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ رﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﻌني ﺑﺮؤﻳﺘﻪ املﻠﺤﱠ ﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺒﻨﱠﺎﻫﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ،أو ﻛﻨﱠﺎ ﻧﺘﺒﻨﱠﺎﻫﺎ ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻗﺮﻳﺐ ،ﺣﻮل ﻣﺎ ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ً ﻋﻤﻼ ﻓﻨﻴٍّﺎ ،ﻣﻊ اﺣﺘﻼل اﻷﺻﺎﻟﺔ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺼﺪارة ﺑني ﺳﻤﺎﺗﻪ املﺮﻏﻮﺑﺔ، ً ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﺳﺨﻴﻔﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره أُﻣﻨﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺒﴩﻳﺔ، أو ﺣﺘﻰ اﻟﴬورﻳﺔ .وﻫﺬا ﻳﺒﺪو وﺻﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﻔﱰض ً ﺑﻘﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺘﻔ ﱡﺮد، ﺳﻠﻔﺎ أن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﻳﺘﺴﻤﻮن ﻓﻄﺮﻳٍّﺎ ٍ وﻫﻮ اﻓﱰاض ﻛﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻌﻄﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷوﻟﻮﻳﺔ ،ﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﺆﻣﻨًﺎ ﺑﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ إﻧﻪ ﻳﻔﻜﺮ ،ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ ،ﰲ ﻫﺆﻻء اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻗﺮاءﺗﻪ ﺑﺘﻔﻬﱡ ﻢ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﻞ ﻫﺬا ﻋﲆ ﺣﺪ ﻋﻠﻤﻲ .وﻟﻜﻦ إذا ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ املﺮء ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ، ﻓﺈن ﻓﺮص ﺷﺤﺬ اﻟﻄﺎﻗﺎت املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻟﻜﻲ »ﻳﺘﺒﻊ املﺮء ﻃﺮﻳﻘﻪ اﻟﺨﺎص« ﺳﺘﻜﻮن ﺑﻼ ﻗﻴﻤﺔ. وﻳﻘ ﱢﻠﺺ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﺪد اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﻢ ﻟﻴﺼﺒﺤﻮا ﻧﺴﺒﺔ ﻣﺤﺪودة ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن .ﻓﻤﺎذا ﻋﻦ اﻟﺒﺎﻗني؟ ﻛﻴﻒ ﻳُﺪﻳﻦ ﻣﻨﺘﻬﺠﻲ ﺳﻴﺎﺳﺔ اﻟﻘﻄﻴﻊ وﻫﻢ ﻻ ﻳﻤﻠﻜﻮن اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ أن ﻳﺼﺒﺤﻮا أيﱠ ﳾء آﺧﺮ؟ وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳُﺪﻳﻨﻬﻢ ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻘﻂ ﻏري ﻣﻬﺘ ﱟﻢ ﺑﻬﻢ. وﻳﺜري ﻫﺬا ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺳﻴﺎﺳﺎﺗﻪ ،أو ﻏﻴﺎﺑﻬﺎ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إﱃ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎء وﺳﻂ ﱢ ﻣﻔﴪﻳﻪ ً ً ﻻﺣﻘﺎ .وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻋﻤﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄﻳﺔ ﺳﻤﺔ أﺧﺮى ﰲ ﻓﻜﺮه .ﺳﺄﺗﻨﺎول ﻫﺬا ﻗﺮاءﺗﻪ ﺑﺘﻔﻬﱡ ﻢ وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻣﺎ زاﻟﻮا ﻳﺸﻌﺮون ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺧﺎص ﺑﻬﻢ؟ ﻫﻞ ﻳﺮى 55
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻧﻬﻢ ﻳﺨﺪﻋﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻟﻜﻲ ﻳﺮﻳﺤﻮا ﺑﺎﻟﻬﻢ ،أم أﻧﻬﻢ ﻣﺤﻘﻮن؟ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ ﻫﻲ اﻟﺼﻮاب ،ﻓﻴﺒﺪو أﻧﻪ أﻣﺎم ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻘﻴﱢﻢ إﻣﻜﺎﻧﺎت اﻷﺷﺨﺎص ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺬﻫﻞ .وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺼﻮاب ،ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ إذن ﺑﺸﺄن إﻛﺴﺎب ﺣﻴﺎة املﺮء أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﻣﻤﻴ ًﺰا ﻏري ﻣﻬﻢﱟ ،وﻗﺪ ﻳﺘﺴﺎءل املﺮء ﻋﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ اﻵن ،وﻫﻮ ذﻟﻚ املﻮﻫﻮب واﻟﺬﻛﻲ واملﺜﻘﻒ واﻟﺤﺴﺎس واملﺘﻔﺘﺢ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻨﺰع إﱃ اﻟﺸﻬﺮة؛ ﻷﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻣﻮاﻫﺒﻪ ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻠﺒﻲ .أم ﻣﺎ ﻣﻦ أﺷﺨﺎص ﺳﻠﺒﻴني؟ ﻣﺰﻳ ٌﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻧﺴﺘﻜﺸﻒ إﺟﺎﺑﺎﺗﻬﺎ ً ﻻﺣﻘﺎ. ﺛﻤﺔ ﺳﺆال آﺧﺮ ﻣﻬ ﱞﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧُﻤﻌِ ﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻧﱰك ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻈﻞ ﻣﺜﺎر ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ داﺋﻤً ﺎ .أﺛﺎر ﻫﺬا اﻟﺴﺆا َل أﺣ ُﺪ أﺑﺮز ﱢ ﻣﻔﴪي ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻫﻮ أﻟﻜﺴﻨﺪر ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس )ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس ،(١٩٨٥ ،وﻓﺸﻞ ﰲ اﻹﺗﻴﺎن ﺑﺈﺟﺎﺑﺔ ﻣﻘﻨﻌﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ .واﻟﺴﺆال ﻫﻮ: ﻫﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺷﺨﺺ ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ ﺑﺎﺋﺴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ — ﺣﺴﺐ ﻣﻌﺎﻳري ﻻ ﻳﺘﺨﻴﻞ املﺮء أن ﻳﺮﻓﻀﻬﺎ إﻻ ﻗﻠﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ — أن ﻳﺠﺘﺎز اﺧﺘﺒﺎرات اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻔﺮدي املﻤﻴﺰ؟ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﺎﻳري ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺷﻜﻠﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ أي إن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﻣﺘﻮاﻓﻘﺔ ﻣﻌً ﺎ وﻻ ﻳﻬﻢ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻛ ﱞﻞ ﻋﲆ ﺣﺪة ،إذن ﻓﻔﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﺳﺘﻜﻮن اﻹﺟﺎﺑﺔ املﺮوﱢﻋﺔ ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب. ﻛﺘﺐ ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس ﻳﻘﻮل» :أﻋﺘﻘﺪ أن ﺛﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺜري اﻹﻋﺠﺎب ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻻﺗﺴﺎم ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ أو ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﻤﻴﺰ« )ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس .(١٩٢ :١٩٨٥ ،ﻣﺎذا ﻋﻦ ﺟﻮرﻳﻨﺞ؟ أﺳﻠﻮﺑﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻜﺎره أو إﻏﻔﺎﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺄﻣﻞ املﺮء أﻻ ﻳﻌﺠﺐ ﺑﻪ ﺳﻮى اﻟﻘﻠﻴﻞ .ﻳﻘﻮل ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس: ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱄ ﱠ إن ﻛﺎن اﻟﺸﺨﺺ اﻟﴩﻳﺮ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ داﺋﻢ وﻏري ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻺﺻﻼح ﻳﻤﺘﻠﻚ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺷﺨﺼﻴﺔ أم ﻻ؛ ﻓﺘﻠﻚ اﻟﺴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻔﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﺑﻬﻴﻤﻴﺔ« رﺑﻤﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ .وﺑﺼﻮرة ﻣﺎ ،ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺜﻨﺎء ﺿﻤﻨﻴٍّﺎ ﰲ اﻻﺗﺴﺎم ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ أو ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﻤﻴﺰ ،وﺗَﺤُ ﻮل اﻟﺤﺎﻻت املﺘﻄﺮﻓﺔ ملﺮﺗﻜﺒﻲ ﱢ ﺑﺤﺲ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺸﻜﲇ. اﻟﺮذﻳﻠﺔ دون اﻟﺜﻨﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس١٩٣ :١٩٨٥ ، ﻫﺬا أﻣﺮ ﻣ ﱢ ُﺤري؛ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻬﺎ ﻧﻴﻬﺎﻣﺎس إﺛﺒﺎت ادﻋﺎﺋﻪ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺷﱰاط اﻟ ﱡﻠﻐﻮي اﻟﴫﻳﺢ ،اﻟﺬي أﺗﺖ ﻣﻨﻪ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة. ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري اﻟﺘﻤ ﱡﻠﺺ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﻓﻜﻤﺎ ﻗﻠﺖ ،ﻣﺎ ﻫﺪف ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ً ٍ واﺛﻘﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ﻳﺠﺐ ﺗﺒﻨﱢﻴﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﺧﻄﻮات ﺗﻤﻬﻴﺪﻳﺔ ﻧﺤﻮ 56
اﻟﴬورة اﻟﻮﺣﻴﺪة
ﻣﻨﻪ ﺑﻌﺪ .وﻫﻮ ﻳﻔﺘﺨﺮ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﺑﻔﻀﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﺤﻔﺔ اﻟﻔﻨﻴﺔ ،ﻓﺎﻟﻘﺴﻤﺎن اﻷﺧريان ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺮاﺑﻊ ،اﻟﻠﺬان ﻳﻤﺜﻼن ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ،ﻣُﺤﻤﱠ ﻼن ﺑﺄﻓﻜﺎر اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي راﻫﻦ ﻋﲆ ﻧﺠﺎﺣﻪ .ﻳﻄﺮح اﻟﻘﺴﻢ ﻗﺒﻞ اﻷﺧري »اﻟﻮزن اﻷﺛﻘﻞ« ،ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻓﻜﺮة ﻣﺮﻋﺒﺔ ﻻ ﻳﺤﺘﻤﻠﻬﺎ أيﱡ ﺷﺨﺺ ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﻘﻮي .وﻟﻜﻦ ﺳﻴﺴﻌﺪ ﺑﻬﺎ أوﻟﺌﻚ ً ﻣﻨﻘﻮﻻ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺴﻤﻮن ﺑﺎﻟﻘﻮة ،ﺛﻢ ﻧﺠﺪ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﺧري» ،ﻣﺴﺘﻬﻞ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ«، ً ﻣﻘﺘﻄﻔﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻐﻤﻮض، اﻓﺘﺘﺎﺣﻴﺔ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث زرادﺷﺖ« ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺬه اﻟﻘﺪرة .وﻳﺠﺐ أن ﻳﺴ ﱢﻠﻢ املﺮء ﺑﺄن اﻟﻜﺘﺎب ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﻷﻗﻞ وﺣﺪ ًة ﺑني ﻣﺠﻬﻮدات ﻧﻴﺘﺸﻪ املﻌﻘﺪة ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ.
57
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
اﻟ ﱡﻨ ُﺒﻮءَة ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻇ ﱠﻞ ﻛﺘﺎبُ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث زرادﺷﺖ« ﻛﺘﺎبَ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﺷﻬﺮ .وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻛﺬﻟﻚ، وﻫﺬا ﺣﺴﺐ ﻇﻨﻲ ﺗﻄﻮ ٌر ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻹﺷﺎدة ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ .ﻳﻌﺮض اﻟﻜﺘﺎب ﺑﻮﺿﻮح ،ﻣﻦ ﺧﻼل ﻛﺘﺎﺑﺘﻪ ﰲ ﺻﻮرة أﺳﻄﺮ ﻗﺼرية ﻣﻠﻬﻤﺔ ،أﺳﻮأ دﻻﻻت ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ أﻓﻀﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ .ﻣﺎ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺤﺎول ﻋﻤﻠﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ،وﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض اﺳﺘﺨﺪم ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎرات ﻫﻮ إﺛﺒﺎت ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﺷﺎﻋ ًﺮا ُﻔﺠﻊ ﻓﻜﺮﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﺸﻌﺮ .ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻛﻤٍّ ﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻻﺻﻄﻼﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﺸﻒ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣ ِ اﻟﺼﻮر املﺠﺎزﻳﺔ واﻻﺳﺘﻌﺎرات ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ً أﻳﻀﺎ ،وﺑﺘﺄﺛري أﻓﻀﻞ ﺑﻜﺜري .واﻻﻧﻄﺒﺎع اﻷول اﻟﺬي ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻟﺪى املﺮء ﻫﻮ ﻋﻦ املﺨﺘﺎرات اﻷدﺑﻴﺔ؛ ﻓﻤﻌﻈﻤﻬﺎ ﻳﺘﻀﺢ أﻧﻪ ﻣﺨﺘﺎرات إﻧﺠﻴﻠﻴﺔ ،ﺗﺘﻨﻮع ﺑني اﻷﺻﺪاء املﺒﺎﴍة ﻟﻺﻧﺠﻴﻞ واملﺤﺎﻛﺎة اﻟﺴﺎﺧﺮة ،وﻳﺴﻬﻞ ﻋﲆ اﻟﻘﺎرئ اﻟﺬي ﻳﺘﺨﺪﱠر ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻜﺮار ﺟﻤﻠﺔ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻛ ﱢﻞ ﻗﺴﻢ أن ﻳﺘﻐﺎﴇ ﻋﻦ ﺗﻨﻮﱡع اﻷﻣﺰﺟﺔ .ﻳﺤﺘﻮي اﻟﻜﺘﺎب ﻋﲆ ﻗﺼﺎﺋﺪ ،ﺑﻌﻀﻬﺎ أﺻﺒﺢ ﻣﺸﻬﻮ ًرا واﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﻋﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺆﻟﻔني املﻮﺳﻴﻘﻴني ،وﻟﻌﻞ أﻧﺠﺤﻬﻢ ﻛﺎن ﻣﺎﻟﺮ ودﻳﻠﻴﻮس .وﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﻣﻼﺣﻈﺔ اﻟﺴﺒﺐ وراء إﻋﺠﺎب ﻫﺬﻳﻦ املﻮﺳﻴﻘﻴني ﺑﺼﻔﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ؛ ﻓﻬﻤﺎ رﺟﻼن ﻳﺘﻤﺘﻌﺎن ﺑﻘﻮة إراد ٍة ﻫﺎﺋﻠﺔ واﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ،وﻗﻀﻴَﺎ ﻣﻌﻈﻢ وﻗﺘﻬﻤﺎ ﰲ ﺗﺼﻮﻳﺮ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻜ ﱢﻞ ﺣﻴﻮﻳﺘﻬﺎ وﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ،وﻫﻤﺎ ﻗﺎدران ﻋﲆ اﻟﺼﻤﻮد ،ﺑﻌﻜﺲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺰوال املﺤﺰﻧﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻨﴫ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺼرية .ﱠإﻻ أن ﻧﺠﺎﺣﻬﻤﺎ ﻳﻨ ﱡﻢ ﻋﻦ ٍ زرادﺷﺖ اﻟﺘﻲ اﺑﺘﺪﻋﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻋﻨﴫ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول ﺟﺎﻫﺪًا إﻧﻜﺎره ،أﻻ وﻫﻮ اﻟﺤﻨني.
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﱠ إن اﻟﻨﱪة اﻷﺻﺪق ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،واﻟﺘﻲ ﺗﻠﻮح ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ ﻣﻔﺎﺟﺌﺔ ،ﻫﻲ ﻧﱪة اﻟﻨﺪم .واﻟﻨﱪة اﻷﻗﻞ إﻗﻨﺎﻋً ﺎ ﻫﻲ ﻧﱪة اﻹﺟﻼل واﻹﻗﺮار ،وﻫﻤﺎ ِﺳﻤَ ﺘﺎن ﻳﺤﺎول زرادﺷﺖ ﺟﺎﻫﺪًا ﻏ ْﺮﺳﻬﻤﺎ ﰲ اﻷذﻫﺎن ،ﺑﻤﺎ أﻧﻬﻤﺎ ﴐورﻳﺘﺎن ﻟﺘﻤﻬﻴﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻣﺎم وﺻﻮل »اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ« ،اﻟﺬي ﻳ َ ﻧﺒﻲ ﻣﺼﻤﱢ ﻢ ﻋﲆ ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﻣﺮﻳﺪون ،وﻫﻲ ُﻌﺘﱪ زرادﺷﺖ ﻧﺒﻴﱠﻪ .وﻟﻜﻨﻪ ﱞ رﻏﺒﺔ ﻧ َ ِﺠﺪُه ﺷﺪﻳ َﺪ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﺑﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﻤﻴﱢﺰه ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻷﻧﺒﻴﺎء .وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﻳﺴﺄل املﺮء ﻛﻴﻒ ﻳﻌﺰف ﺷﺨﺺ ﻳﻘﻮل اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻪ أﻛﱪ ﻋﺪدٍ ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ املﺮﻳﺪﻳﻦ .واﻹﺟﺎﺑﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو أن زرادﺷﺖ ﻟﻴﺲ ﻣﺘﺄﻛﺪًا ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﱪه ﻋﲆ ﺗﺮك ﺟﺒﻠﻪ و»اﻟﻨﺰول« أو »اﻟﻬﺒﻮط« ،وﻫﻮ اﻟﺘﺒﺎس ﰲ املﻌﻨﻰ ﻣﺤﺴﻮب ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﱢ ﻳﻌﱪ اﻟﺴﺎﺣﺮ ﰲ اﻟﺠﺰء اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﻦ اﻟﻜﺂﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ رﻓﻴﻖ زرادﺷﺖ املﻼزم ﺷﺎﻋﺮ!« وﻣﺮة ﻟﻪ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻐﻨﻲ» :ﻟﻮ اﺑﺘﻌﺪت ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺴﺄﻛﻮن أﺣﻤﻖ! ﺳﺄﻛﻮن ﻣﺠﺮد ٍ ﺛﺎﻧﻴﺔ ،ﰲ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﺧري ﻣﻦ اﻟﺠﺰء اﻷول» ،اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﻮاﻫﺒﺔ« ،ﻳﺘﺤﺪث زرادﺷﺖ إﱃ ﻣﺮﻳﺪﻳﻪ ٍ ﺑﻜﻠﻤﺎت ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻓﺨﻮ ًرا ﺑﺎﺧﺘﻴﺎرﻫﺎ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻳﻘﺘﺒﺴﻬﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﻘﺪﻣﺘﻪ ﻟﻜﺘﺎب »ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«: ﺑﺼﺪق أﻧﺼﺤﻜﻢ :اﻧﴫﻓﻮا ﻋﻨﻲ واﺣﱰﺳﻮا ﻣﻦ زرادﺷﺖ! ﺑﻞ وأﻓﻀﻞ ﻣﻦ ذﻟﻚ: اﺧﺠﻠﻮا ﻣﻨﻪ! ﻓﻠﻌﻠﻪ ﻗﺪ ﺧﺪﻋﻜﻢ … إﻧﻬﺎ ملﻜﺎﻓﺄة ردﻳﺌﺔ ﻟﻠﻤﻌﻠﻢ أن ﻳﻈﻞ املﺮء ﻋﲆ اﻟﺪوام ﻣﺠﺮد ﺗﻠﻤﻴﺬ .ﻓﻠ َﻢ ﻻ ﺗﺮﻳﺪون ﺗﻤﺰﻳﻖ إﻛﻠﻴﲇ؟ … ﺗﻘﻮﻟﻮن إﻧﻜﻢ ﺗﺆﻣﻨﻮن ﺑﺰرادﺷﺖ؟ ﻟﻜﻦ ﻣﺎ أﻫﻤﻴﺔ زرادﺷﺖ؟ وإﻧﻜﻢ ﺗﺆﻣﻨﻮن ﺑﻲ ،ﻟﻜﻦ ﻣﺎ أﻫﻤﻴﺔ ﻛ ﱢﻞ املﺆﻣﻨني؟ أﻧﺘﻢ ﻟﻢ ﺗﺒﺤﺜﻮا ﺑﻌﺪ ﻋﻦ أﻧﻔﺴﻜﻢ :ﻫﻜﺬا وﺟﺪﺗﻤﻮﻧﻲ .ﻫﻜﺬا ﻳﻔﻌﻞ ﻛ ﱡﻞ املﺆﻣﻨني ،وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﴚء ذي ﺑﺎل. إﻧﻬﺎ ﻓﻘﺮة ﻗﻮﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﱰﻋﻲ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﺈﻧﻪ ملﻦ ﻧﺒﻲ؛ ﻷن اﻷﻧﺒﻴﺎء ﻻ ﻳﺠﺎدﻟﻮن ،وإﻧﻤﺎ ﻳُﻨﺒﺌﻮن .وﻫﻜﺬا ﻓﺒﺄي اﻟﻄﺮق اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﺗﺼﺪر ﻋﻦ ﱟ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮﻳﺪون اﻛﺘﺸﺎف ﻣﺎ ﻫﻮ ﺣﻖ وﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻃﻞ ﰲ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ زرادﺷﺖ؟ إن رﻓﻀﻪ ﻗﺒﻮل املﺒﺎﻳﻌﺔ وﺗﻘﺪﻳﻢ ﻓﺮوض اﻟﻮﻻء واﻟﻄﺎﻋﺔ — ذﻟﻚ اﻟﺮﻓﺾ اﻟﺬي ﻻ ﺗﱪﱢره املﺆﴍات املﻨﻔﺼﻠﺔ ﻟﻠﺤﻖ — ﻫﻮ أﻣﺮ ﻳﺜري اﻹﻋﺠﺎب ،وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻳﻬﺪف إﱃ أن ﻳﻜﻮن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﱢ ﻣﺘﺤريﻳﻦ ﺣﻴﺎل ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺪاﺋﺮة ﻣﻊ املﺴﻴﺢ .وﻟﻜﻨﻪ ﻳﱰﻛﻨﺎ ﻣﻮﺿﻊ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻨﺎ ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ. زرادﺷﺖ ،ﻓﺒﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻓﺎﺳﺪون ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﰲ ٍ ﻣﺸﻜﻠﺔ أن ﻧﺒﻴٍّﺎ ﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻳﻨﺼﺢ ﺑﺎﺗﺨﺎذ اﻟﺤﺬر ﺣﻴﺎل ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ،ﻛﺒرية ﱢ ﻣﺘﺠﺴﺪﻳﻦ .ﻟﻜﻦ املﺨﺎﻃﺮ اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﺑﺼﺪد اﺟﺘﻤﺎع أﻣﺮﻳﻦ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀني 60
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
َ ﻧﺒﻴٍّﺎ ،واﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ زرادﺷﺖ أول ﻣﻦ ﻳﻨﺒﻬﻨﺎ إﻟﻴﻬﺎ ،ﺗُ ﱢ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻀﺨﻢ ﻓﻘﻂ ﻣﻊ ﻓﻨﱠﺎن ﻓﻴﻠﺴﻮف ،واﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻣﺤﻞ اﺷﺘﺒﺎه ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ .ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻋﻤﻠﻪ ﰲ ﻇﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف املﺸﺌﻮﻣﺔ أن ﻧﺤﺎول ﻣﺸﺎرﻛﺔ رؤى زرادﺷﺖ ،وأن ﻧﻼﺣﻆ إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﲆ ﻣُﺨﻴﱢﻼﺗﻨﺎ ،ﴍﻳﻄﺔ أن ﻧﺘﺬﻛﺮ داﺋﻤً ﺎ أﻧﻬﺎ ﻓﺎﺳﺪة .وﻟﻜﻦ ﻟﻮ اﺗﻀﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أن اﻟﺮؤﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻏﺎﻣﻀﺔ وﻣﺒﻬﻤﺔ ،ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻔﻌﻞ ﻣﺎ أﻧﺎ ﻣﻘﺘﻨﻊ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﺑﺄﻧﻪ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،وﻫﻮ أن ﻳﺘﺬوﻗﻪ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻋﺒﺜﻲ ﻣﺮاوغ. ﻳﺤﺘﻮي اﻟﻜﺘﺎب ﻋﲆ أﻣﻮر ﻣﻤﺘﻌﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺘﺤﺬﻳﺮات اﻟﺘﻲ ْأﻗﺤﻤﺘُﻬﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺤ ِﺒﻂ ،ﻷﺟﻌﻞ ﻗﺮاءﺗﻪ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﻻ ﺗُ َ ﻨﴗ .وﻫﻮ ﻳﺒﺪأ ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﺜرية ﻟﻺﻋﺠﺎب، ﺑﻨﺰول زرادﺷﺖ ﻋﻦ ﺟﺒﻠﻪ ،وﻛﺘﺎﺑﺔ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻃﻘﻮس ﻧﺰوﻟﻪ ﻋﻦ اﻟﺠﺒﻞ ﺑﺈﻟﻬﺎم ﺻﺎدق .وﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻘﻞ زرادﺷﺖ إﱃ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ املﺤﻮري» :اﺳﻤﻌﻮا! ﻟﻘﺪ أﺗﻴﺘﻜﻢ ﺑﻨﺒﺄ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ .إﻧﻪ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه اﻷرض .ﻓ ْﻠﺘﺘﺠ ْﻪ إرادﺗﻜﻢ إﱃ ﺟﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻬﺬه اﻷرض .أﺗﻮﺳﻞ إﻟﻴﻜﻢ أﻳﱡﻬﺎ اﻹﺧﻮة ﺑﺄن ﺗﺤﺘﻔﻈﻮا ﻟﻸرض ﺑﺈﺧﻼﺻﻜﻢ ،ﻓﻼ ﺗﺼﺪﻗﻮا ﻣﻦ ﻳﻤﻨﱡﻮﻧﻜﻢ ﺑﺂﻣﺎل ﺗﺘﻌﺎﱃ ﻓﻮﻗﻬﺎ« )»ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،اﻟﺠﺰء اﻷول ،املﻘﺪﱢﻣﺔ .(٣ ،ﻳﻘﺪم ﻫﺬا اﻻﻗﺘﺒﺎس أول ﻣﻔﻬﻮم ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﺪى زرادﺷﺖ .ووﺻﻴﺘﻪ ﻟﻬﻢ ﺑﺄن ﻳﺤﺘﻔﻈﻮا ﻟﻸرض ﺑﺈﺧﻼﺻﻬﻢ ﻫﻲ أﺣﺪ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ املﺘﻜﺮرة ،واﻟﺘﻲ أﺷﻌﺮ ﻧﺤﻮﻫﺎ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎﻃﻒ .وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻧﻨﺘﻈﺮه اﻵن ﻫﻮ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺟﻌْ ﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻬﺬه اﻷرض ،واﻟﺨﻄﻮات اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺘﺨﺬﻫﺎ ﻟﻨﻀﻤﻦ وﺻﻮﻟﻪ، واﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﺳﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﻞ .ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻟﻸﺳﻒ ﻻ ﻧﺤﺼﻞ ﱠإﻻ ﻋﲆ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺣﻮل أيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر .ﺛﻤﺔ ﺳﻮء ﻓﻬﻢ ﺑﺴﻴﻂ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻮﺿﻴﺤﻪ ﴎﻳﻌً ﺎ ،ﻣﺜﻞ أن اﻹﻧﺴﺎن داع ﻟﻠﺘﻔﻜري ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﰲ ﻫﻴﺌﺔ إﻧﺴﺎن، اﻷﺳﻤﻰ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻇﺎﻫﺮة ارﺗﻘﺎﺋﻴﺔ .وﻣﺎ ﻣﻦ ٍ وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻴﺲ واﺿﺤً ﺎ ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﻜﺎﰲ .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳُﻌ ﱠﺮف ﻋﻤﻮﻣً ﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل إﻋﻼن زرادﺷﺖ ﺑﺎﺑﺘﻬﺎج أن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي :اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻫﻮ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ٍ ﻳﻌﺘﻨﻖ ﻫﺬه اﻟﻌﻘﻴﺪة؛ ﻷن ﻫﺬا ﻫﻮ ﺣﺎل اﻟﻌﻘﻴﺪة أو املﺒﺪأ .وﺛﺎﻟﺚ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ زرادﺷﺖ ﻫﻲ »إرادة ﱠ ﻳﺘﺠﺴﺪ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﰲ أﻧﻘﻰ اﻟﻘﻮة« ،أو »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد« .وﻣﺮة أﺧﺮى، ﺻﻮره وأﻛﺜﺮﻫﺎ إﺛﺎرة ﻟﻺﻋﺠﺎب؛ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺘﻐ ﱢﻠﺐ ﻋﲆ ذاﺗﻪ ،ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﺆدﱠى ذﻟﻚ. ﺗﺘﻀﺢ إﺣﺪى اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ املﱰﺗﺒﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺧﻼل ﻣﺴرية زرادﺷﺖ .وﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﺠﺪر اﻹﺷﺎرة إﻟﻴﻪ أن زرادﺷﺖ ﻫﻮ ﺑﺸري اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ 61
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻳﺸﱰﻛﺎن ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺨِ ﺼﺎل ،وﻳﺒﺪو أن أﻓﻀﻞ ﻓﻬ ٍﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﺨﺼﻮص اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻫﻮ أﻧﻪ ﺻﻮرة ﻣ ﱠ ُﻔﺨﻤﺔ ﻣﻦ زرادﺷﺖ. ﰲ اﻟﺠﺰء اﻟﺮاﺑﻊ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺨﱪ اﻟﻌ ﱠﺮاف زرادﺷﺖ ﺑﺨﻄﻴﺌﺘﻪ اﻷﺧرية، ُﺪرك دون إﻏﻮاء ﻳﺘﻀﺢ أﻧﻬﺎ ﺷﻔﻘﺘﻪ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن .وﺳﻴﻔﻬﻢ املﺮء أن اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﺳﻴ ِ أن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻔﺘﻨﺔ اﻷﺧرية .وﺳﻴﻜﻮن ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ ﻗﺒﻮل ﻣﻌﺎﻧﺎة اﻹﻧﺴﺎن ،ﻟﻜﻦ ﻟﻦ ﻳﺪﻓﻌﻪ ﻫﺬا إﱃ املﻌﺎﻧﺎة ،وﻟﻮ ﺷﻌﺮ ﺑﻬﺎ ،ﻓﺈﱃ أﻳﺔ درﺟﺔ؟ ﻟﻘﺪ اﻣﺘﻸﻧﺎ ﺑﺎملﻌﺎﻧﺎة ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ أﻧﻬﺎ اﻟﻌﻨﴫ اﻷﺻﻌﺐ ﰲ اﺳﺘﺌﺼﺎﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد ،وﻫﻲ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻨﺎ ،وﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﺎ أﻋﻤﻖ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻮﺟﻮدة .وﺑﻤﺎ أن اﻟﺴﻌﺎدة داﺋﻤً ﺎ ﴎﻳﻌﺔ اﻟﺰوال ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻌﺘﱪﻫﺎ ﺳﻄﺤﻴﺔ ً أﻳﻀﺎ ،أو ﻧﻌﺘﱪ أﻧﻬﺎ اﻹﻏﻮاء .واﻟﺴﻌﺎدة اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻷﺑﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﻋﻨﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺴﻌﺎدة املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﺧﺮ ،اﻟﺬي ﻟﻢ ﻧﺼﻞ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺪ .وﻷﺳﺒﺎب ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻌﺘﱪ اﻟﺴﻌﺎدة ،أو املﺘﻌﺔ ،ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻣﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻜﻮن اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ ﻏري ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ ﺑﻤﺠﺮد أن ﺗﺒﺪأ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،أو املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ .وإﱃ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻧ ُ َ ﻌﺘﱪ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺻﻮرة ﻣُﻌﺪﱠﻟﺔ ﻣﻦ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ،ﺑﻤﺎ أن ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﺗﺒﻨﱠﻰ اﻻﺗﺠﺎه املﺘﻄﺮف ﺑﺄن املﺘﻌﺔ »ﻟﻴﺴﺖ« ﱠإﻻ ﱡ ً ﻣﻌﺎرﺿﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺗﻮﻗ ًﻔﺎ ﻣﺆﻗﺘًﺎ ﻟﻸﻟﻢ .وﺑﺤﻠﻮل ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ املﻬﻨﻴﺔ ،ﻛﺎن ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ،اﻟﺬي ﻛﺎن — إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻌﺒﻮده اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﺎﺟﻨﺮ — أﺣﺪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﺴﺨﻴﻔﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻜﺮت ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺳﻬﻞ اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« .إﻧﻬﺎ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ زرادﺷﺖ — وﻫﻞ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﺮﻳﺪﻳﻪ أن ﻳﻌﺎرﺿﻮه؟ — اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﺑﺄن اﻟﺴﻌﺎدة أﻋﻤﻖ ﻣﻦ املﻌﺎﻧﺎة ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻧﻌﺮف ﰲ ﻓﺼﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﺰء اﻟﺮاﺑﻊ ﺑﻌﻨﻮان »ﻧﺸﻴﺪ اﻟﺜﻤﻞ« )ﻫﺬا ،ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ،ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﰲ اﻟﱰﺟﻤﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ،The Drunken Songأﻣﺎ اﻟﻌﻨﻮان اﻷملﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻓﻬﻮ ،Das Nachtwandlers-Liedأو »ﻧﺸﻴﺪ اﻟﺴﺎﺋﺮ أﺛﻨﺎء اﻟﻨﻮم«(: إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻤﻴﻖ، ﻓﻬﻮ أﻋﻤﻖ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻈﻦ اﻟﻨﻬﺎر .وآﻻﻣﻪ ﻋﻤﻴﻘﺔ، واﻟﻠﺬة ،أﻋﻤﻖ ﻣﻦ اﻵﻻم؛ واﻧﻘﺾ! ﻳﻘﻮل اﻷﻟﻢُ :ﻣ ﱠﺮ ﻳﺎ ﻫﺬا ِ وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻟﺬة ﻻ ﺗﻄﻠﺐ اﻟﺨﻠﻮد؛ ﺧﻠﻮدًا ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ. 62
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﺷﻌ ًﺮا ﻣﻤﻴﱠ ًﺰا ،وﻻ ﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﻨﺴﺨﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﻋﺎﻃﻔﺘﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﺆﺛﺮة، ً ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي .وﰲ ﻣﻮﺿﻊ ﺳﺎﺑﻖ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ وﻫﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ زرادﺷﺖ اﻷﻗﺮب اﻟﻘﺴﻢ أوﺿﺢ زرادﺷﺖ ذﻟﻚ ً ﻗﺎﺋﻼ: ﻫﻞ ﻗﻠﺘﻢ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻧﻌﻢ ﻟ َﻠﺬﱠة واﺣﺪة؟ ﻳﺎ أﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ،إذن ﻓﻘﺪ ﻗﻠﺘﻢ ﻧﻌﻢ ﻟ »ﺟﻤﻴﻊ« اﻵﻻم! ﻓﺠﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺘﺴﻠﺴﻠﺔ وﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ وﻣﺘﻌﺎﺷﻘﺔ .أﻓﻤﺎ اﺷﺘﻬﻴﺘﻢ أن ﺗﻌﻮد امل ﱠﺮة ﻣﺮﺗني ﻓﻬﺘَ ْﻔﺘُﻢ» :رﺟﺎءً أﻳﺘﻬﺎ اﻟ ﱠﻠﺬة ،اﺑ َْﻘ ْﻲ ﻟﺤني ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺮ!« إﻧﻜﻢ ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻤﻨﻲ وددﺗﻢ ﻟﻮ ﺗﻌﻮد اﻷﺷﻴﺎء »ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ« ،ﻣﺠﺪدًا وﻟﻸﺑﺪ ،ﻣﺘﺴﻠﺴﻠﺔ وﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ وﻣﺘﻌﺎﺷﻘﺔ ،وﻫﻜﺬا »أﺣﺒﺒﺘﻢ« اﻟﻌﺎﻟﻢ .أﻳﻬﺎ اﻟﺨﺎﻟﺪون ،ﻛﺎن ﺣﺒﻜﻢ أﺑﺪﻳٍّﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ .ﻗﻠﺘﻢ ﻟﻶﻻم أن ﺗﻨﻘﴤ وﻟﻜﻨﻜﻢ دﻋﻮﺗﻤﻮﻫﺎ ﻟﺘﻌﻮد! ﻷن »ﻛ ﱠﻞ ﻟﺬﱠة ﺗﻄﻠﺐ اﻟﺨﻠﻮد«. ﻫﺬا ﻫﻮ ﺗﻨﺎول ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻐﻨﺎﺋﻲ واﻟﻔﻴﱠﺎض ﺑﺎملﺸﺎﻋﺮ ﻟﺮأﻳﻪ اﻟﺬي ﱠ ﻋﱪ ﻋﻨﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻛﺜﺮ ﺗﺸﺪدًا ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ،واﻟﺬي ﻳﺪور ﺣﻮل ﱠ أن ﺗﻤﻨﱢﻲ ﳾءٍ واﺣﺪ ﻳﻌﻨﻲ ﺗﻤﻨﱢﻲ ﻛ ﱢﻞ ﳾء، ﺑﻤﺎ أن اﻟﺸﺒﻜﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻓﻴﻬﺎ أﻳﺔ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﲆ ﺑﻘﺎء ﺑﻘﻴﺔ ﺣﺎﻻت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ وﺿﻌﻬﺎ. وﻫﺬا ﻫﻮ رأﻳﻪ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ،ﻋﻦ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي اﻟﺬي ﻳﺮوﱢج ﻟﻪ .اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻫﻮ اﻟﻜﺎﺋﻦ املﺴﺘﻌِ ﱡﺪ ﻷن ﻳﻘﻮل ﻧﻌﻢ ﻷيﱢ ﳾء؛ ﻷن اﻟ ﱠﻠﺬة واﻷﻟﻢ ﻻ ﻳﻨﻔﺼﻼن ،ﻛﻤﺎ ﱢ ﻳﻌﱪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ً ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« وﻣﺎ ﻳﻠﻴﻪ .وﻟﻬﺬا ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻋﲆ اﻟﺪوام، ﻣﻦ ﻫﻮل اﻟﻮﺟﻮد ﺣﺘﻰ اﻵن ،ﻓﺈﻧﻪ ﻣُﺴﺘﻌِ ﱞﺪ ﻹﻗﺮار ﻫﺬا ﻛﻠﻪ .وﻫﺬا ،ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻓﻬﻤﻲ ﻟﻸﻣﺮ ،وﻟﻪ. وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه إﻻ ﺑﺪاﻳﺔ ﻟﺘﻔﺴري اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ؛ ﻷﻧﻪ ﺑﻌﺪ أن ﱠ ﻋﱪ ﻋﻦ ﻗﺒﻮﻟﻪ ﻏري املﴩوط ﻟﻠﻮﺟﻮد إﱃ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﺐ ﻓﻴﻬﺎ أن ﻳﺘﻜﺮر ﻛ ﱡﻞ ﳾء ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﰲ دورات أﺑﺪﻳﺔ ،ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﺑﻮﻗﺘﻪ .ﻣﻦ املﺤﺘﻤَ ﻞ أن ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻤﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎدي ،اﻟﺬي ﺗ ﱠﻢ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻳﻜﻮن ﺷﻴﺌًﺎ »ﺣﺒﻼ ﻣﺸﺪودًا ﺑني اﻟﺤﻴﻮان واﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ؛ ً ً ﺣﺒﻼ ﻣﺸﺪودًا ﻓﻮق ﻫﻮة ﺳﺤﻴﻘﺔ« )»ﻫﻜﺬا ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻋﻨﱠﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻧﺨﺘﻠﻒ ﻧﺤﻦ ﻋﻦ ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،اﻟﺠﺰء اﻷول ،املﻘﺪﱢﻣﺔ .(٤ ،ﺳﻴﻜﻮن اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻓﺴﻴﻔﻌﻠﻪ ﺑﺮوح اﻟﻘﺒﻮل واﻹﻗﺮار ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﺳﻴﻜﻮن ﺷﻜﻠﻪ؟ ﻧﻌﻠﻢ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ َ ُﻨﺘﻔﻰ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ أي ﺷﻴﺌًﺎ ﺿﺌﻴﻞ اﻟﺤﺠﻢ ،وﺗﻔﺎﻋﻠﻴٍّﺎ ،وﻣﻤﺘﻌِ ًﻀﺎ. وﺛﻤﺔ ملﺤﺔ ﻣﻦ ﻧﻘﺾ اﻟﻘﻮاﻧني ﻟﺪى زرادﺷﺖ ﺗﺸري إﱃ أﻧﻚ إذا ﻛﻨﺖ ﺻﺎﺣﺐ املﻮﻗﻒ اﻷﺳﺎﳼ 63
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻓﺒﺈﻣﻜﺎﻧﻚ أن ﺗﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ .وﻳﻈﻬﺮ ﻫﺬا ﺑﻮﺿﻮح ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان »ﻋﻦ ﱠ اﻟﻌﻔﺔ« ،ﺣﻴﺚ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل: ﱢ وﺟﺒﻪ إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻃﻬﺎرة ﻫﺬه اﻟﺤﻮاس. ﻫﻞ أﺷري ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺑﻘﺘﻞ ﺣﻮاﺳﻜﻢ؟ إن ﻣﺎ أ ُ ِ ﱠ ﺑﺎﻟﻌﻔﺔ؟ إﻧﻬﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻌﺾ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﺘﻜﺎد ﺗﻜﻮن ﻫﻞ أﺷري ﻋﻠﻴﻜﻢ ﱠ رذﻳﻠﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﺜريﻳﻦ .وﻟﻌﻞ ﻫﺆﻻء ﻳ ِ ﻳﺘﺠﲆ ﰲ ُﻤﺴﻜﻮن ﻋﻦ اﻟﺘﻤﺘﻊ ،ﻏري أن ﺷﺒﻘﻬﻢ ﻛ ﱢﻞ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺎﺗﻬﻢ .إن ﻛﻼب اﻟﺸﻬﻮة ﺗﺘﺒﻊ ﻫﺆﻻء اﻟﺰاﻫﺪﻳﻦ ﺣﺘﻰ إﱃ ذُرى ﻓﻀﻴﻠﺘﻬﻢ ،ﻓﺘﻨﻔﺬ إﱃ أﻋﻤﺎق ﺗﻔﻜريﻫﻢ اﻟﺼﺎرم ﻟﺘﺸﻮﱢش ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻜﻴﻨﺘﻪ .وﻟﻜﻼب اﻟﺸﻬﻮة ﻣﻦ املﺮوﻧﺔ ﻣﺎ ﺗﺘﻮﺳﻞ ﺑﻪ ﻟﻨﻴﻞ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ ا ُملﻔ ﱢﻜﺮ إذا ُﻣﻨِﻌﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ. ً ﺧﺼﻮﺻﺎ اﻟﺠﻤﻠﺔ اﻷﺧرية ،وﻫﻲ ﺑﺎﻟﻨﱪة ﺛﻤﺔ ﻣﺴﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺰﻣﱡ ﺖ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺎﺳﻴﺔ، ْ ِ وﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﺳﻄﺮ اﻵﻣﺮة ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﺗﻤﺜﱢﻞ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺮاﺣﺔ. ﻣﻬﻴﻤﻦ ،ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﱪة ،ﻳﺪﻓﻊ ﰲ اﻻﺗﺠﺎه املﻀﺎد ،وﻫﻮ ﻟﻴﺲ ذا ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻗﻤﻌﻴﺔ، وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﺤﺎﻟﺔ واﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ،ﻣﻊ اﻟﻨﻔﺲ ﻗﺒﻞ ﻛ ﱢﻞ ﳾء .ﻫﺬا ﻣﺎ ﻧﺘﻮﻗﻌﻪ ،ﺑﻤﺎ أن اﻫﺘﻤﺎم ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷول ﻳﻨﺼﺐﱡ ﻋﲆ اﻟﻌﻈﻤﺔ .أﻣﺎ اﻟﺮاﺣﺔ واﻟﺮﺿﺎ واﻹﺷﺒﺎع اﻟﺠﺴﺪي ،ﻓﻬﻲ أﻣﻮر ﻣﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻌﻈﻤﺔ .وﺑﺄﻳﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺳﺘُ َ ﻨﺴﺐ اﻟﻌﻈﻤﺔ إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ؟ ﻳﻮﺟﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﱠ ﻳﺘﻮﻗﻊ املﺮء ﻣﻨﻪ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻌﺾ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻋﲆ اﻷﻗﻞ إﱃ اﻹﻧﺠﺎز اﻟﻔﻨﻲ اﻹﺑﺪاﻋﻲ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻗﺪ ً أﻋﻤﺎﻻ ﻓﻨﻴﺔ ﻣﺬﻫﻠﺔ ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ،ﻛﺎن ﻛﺘﺎب »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﺧﺎوﻳًﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. أﻋﻤﺎل ﻓﻨﻴﺔ ﻟﻢ ﺗُﺒﺪَع ﺑﻌﺪُ ،ﺑﻌﻜﺲ ﺗﻨﺎول اﻹﻧﺠﺎزات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﻏري املﺠﺪي ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ٍ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺑﻌﺪُ ،ﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻧﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻧﺮﻳﺪ ﻣﻦ إﺟﺎﺑﺎت ﻋﻨﻪ .وﻟﻜﻦ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻔﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﺳﺌﻠﺔ ﺑﻬﺬا املﻌﻨﻰ .ﻋﻼو ًة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ »اﻟﺒﴩ اﻟﺴﺎﻣني« ﻛﻠﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني ﺗﺒﺪو ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺳﺨﻴﻔﺔ .وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﺳﻴﻜﻮن ﺷﻜﻠﻬﻢ؟ ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻦ اﻟﺘﺨﻤني أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا؛ ﻷن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﻟﻨﺎ أﻳﺔ إﺷﺎرات ﺑﻬﺬا اﻟﺨﺼﻮص. ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ،ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻛﺎن ﻋﺎﺟ ًﺰا ﻋﻦ إﺣﺮاز أيﱢ ﺗﻘﺪﱡم ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ،وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ اﺷﺘُﻬﺮ ﺑﺼﻴﺎﻏﺘﻪ املﺼﻄﻠﺢ ﻣﺜﻠﻤﺎ اﺷﺘُﻬﺮ ﺑﺄﻣﻮر أﺧﺮى ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻻ ﻳﺘﻜﺮر ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ، ُﻔﺮد ﻟﺤﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻻﺣﺘﻔﺎء ﺑﺎﻟﺬات ﰲ »ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن« ،ﺣﻴﺚ ﻳ ِ زرادﺷﺖ« وﻗﺘًﺎ أﻃﻮل ﻣﻦ ﺑﻘﻴﺔ ﻛﺘﺒﻪ اﻷﺧﺮىً ، ﻗﺎﺋﻼ» :ﻫﻨﺎ ﻳﺠﺮي ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻟﺤﻈﺔ ﺗﺨﻄﻲ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻫﻨﺎ أﺻﺒﺢ ﻣﻔﻬﻮم اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻈﻤﻰ« )»ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«، »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ«.(٦ ، 64
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
ﱠ ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺗﻔﻜري ﻣُﺤْ ِﺰن ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ اﻟﺘﻤﻨﻲ .ﻟﻘﺪ ﺧﻀﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻺﻏﻮاء ا ُملﺤﺪِق ﺑﻪ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺻﻨﺎع ا ُملﺜُﻞ؛ واملﺜﻞ اﻷﻋﲆ ﺑﻌﻴﺪ ﻛ ﱠﻞ اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺒﺎﺋﺲ ﻟﺪرﺟﺔ أن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﻤﻠﻪ ﻫﻮ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻫﻮل اﻟﻮاﻗﻊ واﻟﺘﻔﻮﱡه ﺑﺄن املﺜﻞ اﻷﻋﲆ ﻟﻴﺲ ﻫﻜﺬا .وﻫﻨﺎ ﻳﺘﺬﻛﺮ املﺮء ﺗﺠﺴﻴﺪ ﺳﻮﻳﻔﺖ ،ﰲ رواﻳﺘﻪ »رﺣﻼت ﺟﺎﻟﻴﻔﺮ« ،ملﻌﴩ اﻟﻴﺎﻫﻮ املﻘﺰزﻳﻦ )ﻧﺤﻦ( وﻣﻌﴩ اﻟﻬﻮﻧﻴﻨﻢ املﺴﺘﺤِ ﱢﻘني ﻟﻠﺘﻘﺪﻳﺮ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌ ﱢﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻟﻴﻔﻴﺰ ﻋﻦ اﺳﺘﺤﻘﺎق ﺑﺄﻧﻬﻢ »ﻗﺪ ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺎﻟﻘﺪرة اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ،وﻟﻜﻦ ﻣﻌﴩ اﻟﻴﺎﻫﻮ ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة … اﻟﺒﴩة اﻟﻨﻈﻴﻔﺔ ﻟﺪى اﻟﻬﻮﻧﻴﻨﻢ ،ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﻣﺸﺪودة ﻓﻮق ﻓﺮاغ؛ أﻣﺎ اﻟﻐﺮاﺋﺰ واملﺸﺎﻋﺮ واﻟﺤﻴﺎة ،اﻟﺘﻲ ﱢ ﺗﻌﻘﺪ ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﻨﻈﺎﻓﺔ واﻻﺣﺘﺸﺎم ،ﻓﻤﱰوﻛﺔ ملﻌﴩ اﻟﻴﺎﻫﻮ ﺑﻘﺬارﺗﻬﻢ وﻋﺪم اﺣﺘﺸﺎﻣﻬﻢ «.ﺛﻤﺔ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻏﺮﻳﺐ ﻫﻨﺎ ﺑني اﻹﻧﺴﺎن واﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻔﺎﺟﺌًﺎ؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﺼﻌﺎب اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺼﺎدﻓﻬﺎ ﺣﺘﻤً ﺎ أيﱡ ﺷﺨﺺ ﻳﺤﺎول اﻹﺷﺎرة إﱃ ﻣﺜﻞ أﻋﲆ ﻳﺴﻤﻮ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﻳﺮﻓﻀﻬﺎ. ﰲ ﺟﺰء ﺳﺎﺑﻖ ﻣﻦ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﻇﻬﺮ ﺑﺪﻳﻞ ،أو رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻪ ﻫﻮ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺗﻔﺴري ﺗﻜﻤﻴﲇ ﻟﺘﻘﺪﱡم ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب »اﻟﺮوح« .إﻧﻬﺎ أوﱃ ﺧﻄﺐ زرادﺷﺖ، اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺰل ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻏري ﻣُﺮﺗﺎح إﱃ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺒﻼﻏﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻧﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ رﻛﺎﻛﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺤِ ﱡﺚ ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﻌﻠﻖ إﻳﺮﻳﻚ ﻫﻴﻠﺮ» ،ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻹزﻋﺎج اﻟﺮوﺣﻲ واﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ املﻔﺮط« )»ﻫﻴﻠﺮ« .(٧١ :١٩٨٨ ،ﺗﺒﺪأ اﻟﺮوح ﻫﻨﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺟَ ﻤَ ﻞ ،واﻟﺬي ﻳﻘﺼﺪ ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﴫي ،أرﻫﻘﻪ ﺗﺮاﻛ ُﻢ اﻟﻘِ ﻴَﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻤﻠﻬﺎ ﻓﻮق ﻇﻬﺮه ،وﻫﻮ ﺗﺮاث ﻗﻤﻌﻲ ﻣﻦ اﻻﻟﺘﺰاﻣﺎت واﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﺬﻧﺐ املﺮﻫﻮن ﺑﺤﺘﻤﻴﺔ اﻧﺘﻬﺎك اﻟﺬﻧﻮب .ﻳﱰﻧﱠﺢ اﻟﺠﻤﻞ وﻫﻮ ﻳﻤﴤ ﻣﴪﻋً ﺎ ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻤ ﱠﺮد ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف وﻳﺘﺤﻮل إﱃ أﺳﺪ ،ﺑﻨﻴﱠﺔ ﻣﺤﺎرﺑﺔ اﻟﺘﻨني. ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺘﻨني »ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻚ«؛ وﻫﻮ ﻟﺬﻟﻚ ﺳﺒﺐ اﻟﻌﺐء اﻟﺜﻘﻴﻞ اﻟﺬي ﻻ ﻳُﺤﺘﻤَ ﻞ ﻓﻮق ﻇﻬﺮ اﻟﺠﻤﻞ .وﻫﻮ ﻳﺪﱠﻋﻲ أن »ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻘﻴﻢ ُﺧﻠِﻘﺖ ﻣﻨﺬ أﻣ ٍﺪ ﺑﻌﻴﺪ ،وأﻧﺎ ﻛ ﱡﻞ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻲ ُﺧﻠِﻘﺖ«. ﻳﻘﺎوم اﻷﺳﺪ ،ﻣﺼﻤﱢ ﻤً ﺎ ﻋﲆ اﺳﺘﺒﺪال »ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻚ« ﺑ »أرﻳﺪ« .وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻗﺪرة اﻷﺳﺪ ﻋﲆ اﻟﻘﺘﺎل ،ﻓﺈن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺤﻘﻘﻪ ﻫﻮ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ إﺑﺪاع ﻗِ ﻴَ ٍﻢ ﺟﺪﻳﺪة؛ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺼﻨﻊ اﻟﻘﻴﻢ ﻧﻔﺴﻬﺎ .إﻧﻪ ﻳﻘﻮل »ﻻ« ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺠﺪل ،وﺗﻜﻮن ﻫﺬه ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺣﻘﻖ اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻬﺎ .وﻫﺬا واﺿﺢ ﺣﺘﻰ اﻵن .ﻟﻜﻦ اﻟﺘﺤﻮﱡل اﻷﺧري ﻣﻔﺎﺟﺄة؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺼري ً ﻃﻔﻼ: ملﺎذا ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺤﻮﱠل اﻷﺳﺪ املﻔﱰس إﱃ ﻃﻔﻞ؟ ذﻟﻚ أن اﻟﻄﻔﻞ ﺑﺮاء ٌة وﻧﺴﻴﺎن، ٌ ﻋﺠﻠﺔ ﺗﺪﻓﻊ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ،ﺣﺮﻛﺔ أوﱃ ،ﻋﻘﻴﺪة ﻣﻘﺪﺳﺔ .إن ﺑﺪءٌ ﺟﺪﻳﺪ ،ﻟﻌﺐ، 65
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻟﻌﺒﺔ اﻻﺑﺘﻜﺎر ،أﻳﱡﻬﺎ اﻹﺧﻮة ،ﺗﺴﺘﻠﺰم ﻋﻘﻴﺪة ﻣﻘﺪﺳﺔ ،ﻓﺎﻟﺮوح اﻵن ﺗﻄﻠﺐ إرادﺗﻬﺎ، وﻣَ ْﻦ ﻫﻮ ﻏﺮﻳﺐ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻻﻧﺘﻤﺎء إﻟﻴﻪ ،ﻳﺮﻳﺪ اﻵن أن ﻳﺠﺪ ﻋﺎملﻪ اﻟﺨﺎص. ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ،ﻣﻦ ﺑني أﻣﻮر أﺧﺮى ،ﻧﺴﺨﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ﻗﻮل املﺴﻴﺢ» :إ ِ ْن َﻟ ْﻢ ﺗَ ْﺮ ِﺟﻌُ ﻮا وﺗَ ِﺼريُوا ِﻣﺜ ْ َﻞ اﻷَوْﻻدِ َﻓ َﻠ ْﻦ ﺗَﺪ ُ ْﺧﻠُﻮا ﻣَ َﻠ ُﻜ َ ِ ﻮت ﱠ ﻤﺎوات« )إﻧﺠﻴﻞ ﻣﺘﱠﻰ ،اﻹﺻﺤﺎح اﻟﺴ اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،اﻵﻳﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻋﴩة( .وﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﺒﺎرة »ﺑﺮاءة اﻟﺘﺤﻮﱡل« .ﰲ اﻟﻠﺤﻈﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻌﱰﻳﻪ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﺟﻬﺎد أﺛﻨﺎء اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﻛﺎن ﻳﻠﺠﺄ أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﱃ ﺻﻴﻎ ﻟﻔﻈﻴﺔ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ أو ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ ﻷﻗﴡ درﺟﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ أن ﻋﻨﴫًا واﺣﺪًا ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ ﱢ ﻣﱰﺳﺦ ﺑﻌﻤﻖ داﺧﻠﻨﺎ ﻟﺪرﺟﺔ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ ﴏﻓﻪ ،ﰲ ﺣني أن اﻵﺧﺮ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻴﺤﺮره، ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﻌﺎرﺿﻪ اﻟﻮاﺿﺢ .ﻟﻬﺬا ﻓﻤﻨﺬ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ﻧﺴﻤﻊ ﻋﻦ »ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ﻳﻌﺰف املﻮﺳﻴﻘﻰ« ،ﰲ ﺣني أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺼﻮﱢر ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺟﻮﻫﺮه ﺑﺄﻧﻪ ﻣﻌﺎدٍ ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ .وﰲ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﻟﻢ ﺗُ َ ﻨﴩ ﻛﺘﺐ ﻋﻦ »اﻟﻘﻴﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ روح املﺴﻴﺢ«. ﻫﻞ ﻫﺬه ﻣﺠﺮد ﻣﺤﺎوﻻت ﻣﺆﺛﱢﺮة ﻟﺘﻐﻴري املﺄﻟﻮف وﺗﺤﻘﻴﻖ املﺴﺘﺤﻴﻞ ،أم ﺗﺮاﻫﺎ ﺗﻌﻨﻲ ً رﺟﻼ ﻣﻨﻘﺴﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺷﻴﺌًﺎ؟ ﺛﻤﺔ أﺳﺒﺎب ﻣﻘﻨﻌﺔ ﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ؛ ﻷن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﻳﺎﺋﺲ .وﻟﻢ َ ﻳﺴﻌْ ﻪ ﱠإﻻ أن ﻳُﻌﺠَ ﺐ ﺑﺄﻣﻮر ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ .وﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى، ﻓﺈن ﻛﺘﺎب »ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« ﻳﺨﺮج ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻦ ﻧﻄﺎق اﻟﺴﻴﻄﺮة ﺑﻌﺪ أن اﺗﱠﺨﺬ ﺗﺼﻮﻳﺮه ﻟ »اﻟﻔﺎﺳﺪ املﺜﺎﱄ« املﺰﻋﻮم ﻣﻨﺤً ﻰ ﻏﻨﺎﺋﻴٍّﺎ .وإذا ﻋُ ﺪﻧﺎ إﱃ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،ﻓﺈن ﻣﻮﻗﻔﻪ اﻟﻌﺎم ﺗﺠﺎه اﻟﺤﻴﺎة ﻛﺎن ﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﺎ ﺗﺴﻤﱢ ﻴﻪ ﻧﻮادي اﻟﻔﻴﺪﻳﻮ اﻵن »ﻟﻠﻜﺒﺎر ﻓﻘﻂ« ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻬﻮ ﻣُﻔﺘﺘَﻦ ﺑﻔﻜﺮة ﻃﻔﻞ ﻣﺴﺘﻐﺮق ً ً ﻣﻨﺸﻐﻼ وﻣﻨﻬﻤ ًﻜﺎ؛ ﺑﺮﻳﺌًﺎ ﻛﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﻠﻌﺐ ،ﻓﻴﻜﻮن ً وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ً ﺟﺎﻫﻼ .ﻫﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﺋﺰ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ أﻳﻀﺎ ﻣﺜﻞ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻴﺠﻔﺮﻳﺪ ﰲ أوﺑﺮا ﻓﺎﺟﻨﺮ ،ﺗﻠﻚ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﱠﺖ دون ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ، وﻣُﻨﻴَﺖ ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ ﻟﺮﻏﺒﺘﻬﺎ إﻳﺎه؟ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا أﻣ ًﺮا ﻣﺴﺘﺒﻌﺪًا .ﻓﻬﺬه اﻟﻌﺒﺎرة »ﺑﺪءٌ ﺟﺪﻳﺪ« ﺧﻄرية؛ ﻷن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ — ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺧﺒريًا ﺑﺎﻟﻔﺴﺎد — ﺑﺈدراك أن اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻦ ﻋﺜﺮات املﺎﴈ وأﺧﻄﺎﺋﻪ وﺑﺪء ﺻﻔﺤﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺑﻴﻀﺎء ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺑني اﻟﺨﻴﺎرات املﻄﺮوﺣﺔ أﻣﺎﻣﻨﺎ .إذ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻨﺎ ٌ ذات ﻟﻨﺘﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻧﻜﺒﺢ ﺟﻤﺎﺣﻬﺎ ،وﻫﺬه اﻟﺬات ﺳﺘﻜﻮن ﺛﻤﺮة اﻟﻔِ ﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻛﻠﻪ ،اﻟﺘﻲ ﺳﺘﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ »اﻹﻟﻐﺎء« ،وﻫﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻳﻤﻘﺖ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ، ﺑﺴﺒﺐ اﻧﺘﻤﺎﺋﻬﺎ اﻟﻔﻌﲇ إﱃ ﻫﻴﺠﻞ ،واﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ »املﺤﻮ« ،و»اﻻﺳﺘﺒﻘﺎء«، ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﻠﻴﻨﺎ و»اﻟﺼﻌﻮد« .أﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳُﻄﺎ َﻟﺐ ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،أو إذا أﺳﻘﻄﻨﺎه ،ﻣﺎ 66
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
ﻋﻤﻠﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻧﺘﻘﺎﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺘﻨﺎ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻜﻲ ﻧﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ »اﻟﺨﻼص«؟ ﺗﺘﺴﻢ ﻓﻜﺮة اﻟﻄﻔﻞ ،أو ﺻﻔﺔ اﻟﻄﻔﻞ ،ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ارﺗﺒﺎﻃﺎﺗﻬﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﺑﺠﻮاﻧﺐ روﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻧﺴﺘﻐﺮب أن ﻳﻮاﻓﻖ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻠﻴﻪ .أﻣﺎ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻴﻪ ،وأزﻋﻢ ﱡ ﺗﻴﻘﻨﻲ ﻣﻨﻪ ،ﻓﻬﻮ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﺪم اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﺬات اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ اﻷﻃﻔﺎل .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻨﺎ ،أو ﻣﺎ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻨﺎ ،ﻓﺈن ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ اﻵن أﻣ ٌﺮ ﻳﺼﻌﺐ ﺗﺨﻴﱡﻠﻪ وﻫﻜﺬا ﻧﻌﻮد إﱃ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻪ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي .وﻗﺪ ﺛﺒﺖ أن ﻏﻤﻮﺿﺎ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ آراء ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﻓﻬﻞ ﻳُﻨ َ ً ﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻛﺎﺣﺘﻤﺎل، ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻫﻮ اﻷﻛﺜﺮ أم ﻛﻔﺮﺿﻴﺔ ﺟﺎدة ﺣﻮل ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﻛﻮان؟ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻫﻲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﺘﻀﺢ ﰲ اﻟﻘﺴﻢ ﻗﺒﻞ اﻷﺧري ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺮاﺑﻊ ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« .وﻟﻜﻦ ﰲ دﻓﺎﺗﺮ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ﱢﻘﺤَ ﺖ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﺑﻌﻨﻮان »إرادة اﻟﻘﻮة« ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺤﺎول إﺛﺒﺎﺗﻬﺎ ﻛﻨﻈﺮﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ واﻗﻊ أﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻋﺪد اﻟﺬرات ﰲ اﻟﻜﻮن ﻣﺤﺪودًا ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺷﻜﻼ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ً ً ﻗﺒﻼ ،وﻫﺬا ﺳﻴﺆدي ﺣﺘﻤً ﺎ إﱃ أن ﻳُﻜ ﱢﺮر ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺄﺧﺬ َ ﻧﻔﺴﻪ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬا ﻣﻦ أﻗﻞ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ﻓﺎﺋﺪة ﰲ ﺗﺄﻣﱡ ﻼﺗﻪ ،وﻓﺸﻠُﻪ ﰲ ﻧﴩ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻣَ ﺪْﻋﺎة ﻟﻼﺑﺘﻬﺎج ،أو ﻛﺎن ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺼﻤﱢ ﻢ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻋﲆ دراﺳﺘﻬﺎ ﺑﺪﻗﺔ؛ ﺑﺤﺜًﺎ ٍ ﺗﻠﻤﻴﺤﺎت ﺣﻮل ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وﻗﺪ ﺷﺠﱠ ﻌﻬﻢ واﺳﺘﺤﺜﱠﻬﻢ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻧﻔﻌﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺧﻄﺮت ﻟﻪ ﰲ وادي إﻧﺠﺎدﻳﻦ اﻟﺴﻮﻳﴪي» ،ﺳﺘﺔ آﻻف ﻗﺪم ﻓﻮق اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺰﻣﺎن« واﻟﺘﻲ اﻋﺘﱪﻫﺎ ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ،إﺣﺪى ﺗﻠﻚ اﻟﺮؤى اﻟﺤﺪﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺘﻨﻊ املﺮء ﺑﻌﻤﻘﻬﺎ وﺻﺪﻗﻬﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺤﺪﱢد ﻣﺎﻫﻴﱠﺘﻬﺎ ﺑﺪﻗﺔ. ُ ﺣﻤﺎس ﻟﻢ ﻳُﻨﻈﺮ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ إﱃ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ ﺑﺎﺳﺘﺤﺴﺎن .وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻘﺪ أﺛﺎر ﱢ املﺬﻫﺐ إﻋﺠﺎبَ املﻔﴪﻳﻦ ﻛﺜريًا ،أو ﺣﺘﻰ اﺳﻤﻪ ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻬﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﺠﺎه ِ ﻳﻌﺘﻤﺪون ﻋﲆ ﺑﺮاﻋﺘﻬﻢ ﰲ ﴍح ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪه ﺑﻪ ً ﻓﻌﻼ .وﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﻌﻨﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﻫﻨﺎ أﻧﻬﻢ ﰲ أﺛﻨﺎء ﻣﺤﺎوﻟﺘﻬﻢ ﴍح ﻫﺬا املﺬﻫﺐ وﺗﻘﺪﻳﻤﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻓﻜﺮ ًة ﻣﺜرية ﻟﻺﻋﺠﺎب ،ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﻨﺘﺠﻮﻧﻪ ﻳﺠﻌﻞ املﺮء ﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي دﻓﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ إﻋﻄﺎﺋﻪ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ املﻀ ﱢﻠﻠﺔ .ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر :إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻘﺼﺪ ﺑ »اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي« ﺗﻜﺮا ًرا أﺑﺪﻳٍّﺎ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻟﻢ ﻳﺴﻤﱢ ﻪ ﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ؟ وﻫﻜﺬا ﻧﺠﺪ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻊ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﺣﺘﻤﺎل .ﻛﺎن ر ﱡد ﻓﻌﲇ اﻷوﱠﱄ اﻟﺘﴫﻳﺢ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻻ أﻛﱰث ﺑﺎﻻرﺗﻘﺎء ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻔﺎﺟﺊ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺘﺎﱄ :إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻛ ﱡﻞ دورة ،ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ،ﻫﻲ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻣﺜﻞ ﺳﺎﺑﻘﺘﻬﺎ وﻣﺜﻞ ﺗﺎﻟﻴﺘﻬﺎ ،إذن ﻓﻠﻦ 67
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ً وﺧﺼﻮﺻﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻌﻠﻨﺎه ،ﰲ آﺧﺮ ﺗﻜﺮار ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻤﺎ ﺣﺪث، أن ﻧﺨﻄﻮ ﺧﻄﻮة ﻧﺤﻮ ﺗﻔﺎدي ﺗﺒﻌﺎت ﻣﺎ ﻛﺎن ﻛﺎرﺛﻴٍّﺎ ،وﻻ أن ﻧﻔﻜﺮ ﺑﻔﺰع أو ﻓﺮح ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﺎ ﺗﺎﻟﻴًﺎ .ﻟﻮ ﻛﺎن اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ،ﻓﺴﺘﻜﻮن ﻫﺬه املﺮة اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻛﺘﺐ ً ﻓﺎرﻗﺎ ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ إﱃ ﺗﻐﻴري ﻣﺤﺘﻮﻳﺎﺗﻪ! ﻫﻜﺬا ﺳﻴﺒﺪو ﻓﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،وﻟﻜﻦ ﻟﻦ ﻳُﺤﺪِث ﻫﺬا ُ ﻧﺎﻗﺸﺖ اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻌﻬﻢ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﻢ ﻳﻮاﻓﻘﻮن اﻷﻣﺮ .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻤﻦ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗُﺤﺪِث ً ﻓﺎرﻗﺎ ﰲ أيﱢ ﳾء ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻣﺎ زاﻟﻮا ﻳﺮﻓﻀﻮن اﻟﺘﴫﻳﺢ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺆﺛﺮ ﻋﲆ ﺷﻌﻮرﻫﻢ ﺗﺠﺎه اﻷﺷﻴﺎء .وﺣﺴﺒﻤﺎ ﺳﺄﻟﻨﻲ أﺣﺪﻫﻢ ﻣﺆﺧ ًﺮا :أﻳﻬﻤﺎ أﺳﻮأَ ،ﻛ ْﻮ ٌن ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺴﻜﺮ أوﺷﻔﻴﺘﺰ ﻣﺮ ًة ،أم َﻛ ْﻮ ٌن ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ املﻌﺴﻜﺮ ﻋﺪدًا ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﺮات؟ ﻳﺒﺪو أن اﻷﻣﺮ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﺷﺨﺺ ﻋﺪﻳﻢ اﻟﺸﻌﻮر ﻟﻴﻘﻮل إﻧﻪ ﻻ ﻳﻬﻢ ،وﻫﺬا أﻗﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﺎل .ﻓﺎﻟﺘﻜﺮار، ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺰل ﻳﺴﺘﺜﻤﺮ ﺑﻌﺐءٍ ﺷﺪﻳ ٍﺪ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث »ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ«. ﻟﻘﺪ ﺟﻌﻞ ﻛﻮﻧﺪﻳﺮا ﻣﻦ ﻫﺬا املﺬﻫﺐ — ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﻌﺘﱪ اﻵن ﻓﻘﺮة ﺷﻬرية ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ رواﻳﺘﻪ »اﻟﺨﻔﺔ ﻏري املﺤﺘﻤَ ﻠﺔ ﻟﻠﻜﻴﻨﻮﻧﺔ« — ﺟﻮﻫ َﺮ أﻓﻜﺎره املﺨﺘﴫة ،واﻟﺜﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻋﻦ املﻮﺿﻮع: ﺑﻤﻨﻈﻮر ﺗَﻈﻬَ ﺮ ﻣﻦ دﻋﻮﻧﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻧﺘﻔﻖ ﻋﲆ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ﺗﻮﺣﻲ ٍ ﺧﻼﻟﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺨﻼف ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﻦ دون اﻟﻈﺮوف املﻠ ﱢ ﻄﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ اﻟﻌﺎﺑﺮة .وﺗﻤﻨﻌﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف املﻠ ﱢ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻄﻔﺔ ﻣﻦ ﺣﻜﻢ .ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧُﺪﻳﻦ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﺎﺑ ًﺮا وﴎﻳﻊ اﻟﺰوال؟ وﻣﻊ ﻏﺮوب اﻻﻧﺤﻼل وأﻓﻮﻟﻪِ ، ﻳﺸ ﱡﻊ ﻛ ﱡﻞ ﳾء ﺑﻬﺎﻟﺔ اﻟﺤﻨني ،ﺣﺘﻰ املِ ْﻘ َ ﺼﻠﺔ. ﻛﻮﻧﺪﻳﺮا٤ :١٩٨٤ ، ﱠ إن املﻔﺘﺎح ،أو اﻟﻌﺒﺎرة اﻟﻜﺎﺷﻔﺔ ﻫﻨﺎ ،ﻫﻲ اﻟﻌﺒﺎرة اﻷوﱃ .واﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺳﻴﻄﺮة ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻋﲆ ﺧﻴﺎﻻت اﻟﻨﺎس أﻧﻬﻢ ﻳﺘﺒﻨﻮن ﻣﻨﻈﻮ ًرا ﺧﺎرج ﻧﻄﺎق أﻳﺔ ﺣﻠﻘﺔ ﺗﻜﺮارﻳﺔ ،ﻟﻜﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮا أن ﻳﺘﺼﻮروه وﻫﻮ ﻳﺘﻜﺮر ﻣﺮات وﻣﺮات .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ رؤﻳﺔ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﺤﺒﻮﺳﺔ ﰲ اﻟﺤﻠﻘﺔ اﻟﺘﻜﺮارﻳﺔ ،ورؤﻳﺔ اﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر إﻟﻬﻲ ،ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻮ ﱢﻟﺪ اﻟﺤﻤﺎس، وإﺣﺴﺎس اﻟﻌﺐء املﻔﺮط ،أو ﻧﺸﻮة اﻟﺮﺟﻮع ،إن ﻛﺎن املﺮء ﻣﻘ ٍّﺮا ﺑﻮﺟﻮده ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺼريورة وأﻧﻪ ﻻ ﻣﻔﺮ ﻣﻨﻪ. 68
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
ﻣﺎ زﻟﺖ أﻧﺰع إﱃ اﻟﺸﻚ .ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ ﻻ ﻳﺤﻘﻖ ﱄ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﻲ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻗﺪﱢر اﻹﻟﻬﺎ َم اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ إﱃ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني اﻟﻌﻈﻤﺎء ،ﻣﺜﻞ ﻳﻴﺘﺲ ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ »ﺣﻮار اﻟﺬات واﻟﺮوح«: راض ﺑﺄن أﻋﻴﺸﻬﺎ ﻛ ﱠﻠﻬﺎ ﻣﺠﺪدًا، أﻧﺎ ٍ ٍ وﻣﺮات وﻣﺮات … راض ﺑﺄن ﱠ أﺗﻌﻘﺐ ﻛ ﱠﻞ ﺣﺪث أﻧﺎ ٍ ﺣﺘﻰ ﻣﻨﺒﻌﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أو ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري؛ أﻗﻴﺲ اﻟﻜﺜري ،وأﺳﺎﻣﺢ ﻧﻔﴘ ﻋﲆ اﻟﻜﺜري! ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻃﺮد اﻟﻨﺪم ﺗﴪي ﻋﺬوﺑﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ اﻟﻘﻠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻀﺤﻚ وأن ﻧﻐﻨﻲ، ﻧﺤﻦ ُﻣﺒَﺎ َرﻛﻮن ﺑﻜ ﱢﻞ ﳾء، ﻛﻞ ﳾء ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ُﻣﺒَﺎ َرك. ﻫﺬه اﻷﺑﻴﺎت ،اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻴﺘﺲ ﻟﻴَﻨ ْ ِﻈﻤَ ﻬﺎ ﻟﻮﻻ ﻗﺮاءﺗﻪ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ وﺗﺄﺛﺮه ﺑﻪ ﻛﺜريًا ،ﻫﻲ ً أﻳﻀﺎ ﻣﺜﺎل ﺟﻴﺪ ﱢ ﻳﺒني ﻣﺪى اﻟﺘﺄﺛري اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﱰﻛﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﺘﻰ ﻓﻴﻤﻦ ﻻ ﻳﻤﻠﻜﻮن ﺳﻮى ﻓﻜﺮ ٍة ﻏﺎﻣﻀﺔ وﻏري دﻗﻴﻘﺔ ﻋﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ،وذاك أﻣﺮ ﻳﺸ ﱡﻚ املﺮء ﰲ وﺟﻮده ﻟﺪى ﻧﻴﺘﺸﻪ ً ﺣﻤﺎﺳﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻟﻠﺪﻓﺎع ﻋﻨﻪ ،وﻻ ﻧﻔﺴﻪ .ﻛﻤﺎ ﺗﺤﻮي ﻫﺬه اﻷﺑﻴﺎت اﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﻳُﺒﺪِي ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﻓﻜﺮة ﻃﺮد اﻟﻨﺪم .وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻮﺻﻞ إﱃ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ ﻫﺬه ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،ﻟﻴﺲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ،وإﻧﻤﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺤﻠﻴﻼت اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ املﺘﻌﻤﱢ ﻘﺔ ﻵﺛﺎر اﻟﻨﺪم واﻟﻨﻈﺮ إﱃ املﺎﴈ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ. ﺛﻤﺔ أﻣﺮ آﺧﺮ ﻳﺴﺘﺤﻖ ذﻛﺮه ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﻋﻦ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ املﺰاح ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻻ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ﻣﻦ أﻓﻀﻞ أﻓﻜﺎر ﻧﻴﺘﺸﻪ .وﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻫﻮ أن اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ﻣﺤﺎﻛﺎ ٌة ﺳﺎﺧﺮة ﻟﺠﻤﻴﻊ ﻣﻌﺘﻘﺪات ﻋﺎﻟ ٍﻢ آﺧﺮ ﺗﺘﺴﻢ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ — ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ »اﻟﺤﻴﻮاﻧﻲ اﻟﱪاﺟﻤﺎﺗﻲ ﻏري املﻌﻘﻮل« ،إذا اﻗﺘﺒﺴﻨﺎ ﻳﻴﺘﺲ ﻣﺠﺪدًا ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺔ واﻟﻨﺎر ،أو ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺼﻮر — ﺑﺎﻻﺳﺘﻌﻼء اﻷﻛﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻲ واﻷﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻲ. اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﻼﻣﺘﻐرية ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺄن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ أﺻﺒﺢ ﺧﺎﻟﺪًا ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﻜﺮار ٌ ﻣﻌﺘﻘﺪات ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ آﺧﺮ أن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﻜﺘﺴﺐ ﻗﻴﻤﺘﻪ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ اﻟﻼﻫﺎدف .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺰﻋﻢ 69
ﻧﻴﺘﺸﻪ
واﻗﻊ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﻌﺎﻟﻢ آﺧﺮ ،ﻳﻘﱰح اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣُﺴﺘﻔِ ﺰ أن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ٌ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﺎ إﱃ أن ﺗﺼﺒﺢ ﻣُﺠ ﱠﺮ ٌد ﻣﻦ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﺮر ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺠﺮ َد ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺟﻌﺠﻌﺎت ﻣﺰﻋﺠﺔ .إذا ﻋﺪﻧﺎ إﱃ ﻛﻮﻧﺪﻳﺮا :ﻳﻨﺒﻊ اﻟﻌﺐء املﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻷﺣﺪاث ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺪث أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺮة ،ﰲ ﺣني أن »املﺮة ﺗﺴﺎوي ﻻ ﳾء« )أو اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻫﺬا، »ﺟ ﱢﺮب أيﱠ ﳾء ﻣﺮﺗني«( .ﻟﻜﻦ اﻟﻌﺐء ﳾء ،واﻟﻘﻴﻤﺔ ﳾءٌ آﺧﺮ .ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻛﻮﻧﺪﻳﺮا ،وﻫﻮ ﰲ ذﻛﻲ ﺑني اﻟﺨﻔﺔ واﻟﺜ ﱢ َﻘﻞ؛ أي ﺑني ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻣﻦ ﻣﺮﻳﺪي ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺨﻠﺼني ،ﻣﻦ ﻋﻘﺪ ﺟﺪال ﱟ املﻌﻨﻰ أو اﻟﻘﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ واﻟﺠﺪوى ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ .ﻫﻞ ﻧﻘﺪﱢر ،أو ﻫﻞ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻘﺪﱢر ،أو ﻫﻞ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻟﻮ ﺳﺄﻟﻨﺎ إن ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻘﺪﱢر ،ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻛﱪ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻔ ﱡﺮده أم ﻷﻧﻪ ﻧﻤﻮذج ﻳﺘﻜﺮر ﺑﺤﺪود ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻲ؟ اﻹﺟﺎﺑﺔ اﻷﻗﴫ ﻫﻲ أن اﻷﻣﺮ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺘﻚ املِ ﺰاﺟﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺑﻤِ ﺰاﺟﻪ املﺘﻘ ﱢﻠﺐ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻣﻴ ًﱠﺎﻻ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺑﺈﻗﺮار »ﻛﻼ ً وأﻳﻀﺎ ﺑﻨﻔﻲ »أيﱟ ﻣﻨﻬﻤﺎ«. اﻷﻣﺮﻳﻦ« ﺗﺮ ُد ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺗﺪور ﺛﺎﻟﺚ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ زرادﺷﺖ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺣﻮل »إرادة اﻟﻘﻮة« ،اﻟﺘﻲ ِ ﻓﺼﻞ ﺑﺎﻟﺠﺰء اﻷول ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان »ﻋﻦ أﻟﻒ ﻫﺪف وﻫﺪف« ،اﻟﺬي ﻳﺮوي ﻛﻴﻒ زار زرادﺷﺖ ٍ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب ،ووﺟﺪ أن ٍّ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﻣﻦ ﻳﺠﺎوره ﻛﻼ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ٍ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮب .وﻣﻦ ﺛﻢﱠ ،ﻳﻘﻮل: ﻋ ﱠﻠﻖ ﻛ ﱡﻞ ﺷﻌﺐ ﻓﻮق رأﺳﻪ ﻟﻮحَ ﴍﻳﻌﺘﻪ ،وﺳ ﱠ ﻄﺮ ﻓﻴﻪ ﻣﺎ اﺟﺘﺎز ﻣﻦ ﻋﻘﺒﺎت وﻣﺎ ﺗُ ْﻀ ِﻤﺮ إرادﺗﻪ ﻣﻦ ﻗﻮة .ﻓﻤﺎ ﺗﺮاءى ﻟﻪ ﺻﻌﺐَ املﻨﺎل ﻓﻬﻮ ﻣﻮﺿﻮع ﺗﻤﺠﻴﺪه واملﺤﻤﻮد ﻟﺪﻳﻪ ،وﻣﺎ ﺧريُه إﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﻣﻠﺤﺔ ﻋ ﱠﺰ ﻣﻄﻠﺒﻬﺎ ،ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺪس ﻛ ﱠﻞ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﻤ ﱢﻜﻨﻪ ﻣﻦ اﻟﻈﻔﺮ ﺑﻬﺬه اﻟﺤﺎﺟﺔ. ً ﻻﺣﻘﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻔﺼﻞ ،ﻳﺮ ﱢﻛﺰ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻘﻮة ﺑﺎﻟﻘﻴﻤﺔ» :ﻣﺎ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ إﻻ اﻹﺑﺪاع ﺑﻌﻴﻨﻪ، ﻓﺄﺻﻐﻮا إﱄ ﱠ أﻳﱡﻬﺎ املﺒﺪﻋﻮن! ﻣﺎ اﻟﻜﻨﻮز إﻻ أﺷﻴﺎء أرادﻫﺎ ﺗﻘﺪﻳﺮﻛﻢ ﻛﻨﻮ ًزا .ﻋﱪ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ﻓﻘﻂ ﺗﻐﺪو ﻫﻨﺎك ﻗﻴﻤﺔ ،وﻟﻮﻻ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ملﺎ ﻛﺎن اﻟﻮﺟﻮد إﻻ ﻗﺸﻮ ًرا ﻻ ﻧﻮاة ﻓﻴﻬﺎ «.وﻟﻜﻦ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﺼﻞ ﻳﻘﻮل» :ﻟﻢ ﺗﻌﺮف اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﻟﻬﺎ ً ﻫﺪﻓﺎ ،وﻟﻜﻦ أﺧﱪوﻧﻲ أﻳﱡﻬﺎ اﻹﺧﻮة إذا أﻳﻀﺎ إﱃ ذاﺗﻬﺎ؟« ﺳﻨﻨﺎﻗﺶ ً ﻛﺎﻧﺖ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺗﻔﺘﻘﺮ ﺑﻌ ُﺪ إﱃ اﻟﻬﺪف ،أﻓﻼ ﺗﻔﺘﻘﺮ ً ﻻﺣﻘﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺗﻔﺼﻴﲇ ارﺗﺒﺎط »إرادة اﻟﻘﻮة« ﺑﺎﻟﻘﻴﻤﺔ .ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺰل ﻫﺬا أوﺿﺢ ﻣﻦ اﻟﺬﻛﺮ املﺨﺘﴫ ﻓﺼﻞ ﺑﺎﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻌﻨﻮان »اﻻﻧﺘﺼﺎر ﻋﲆ اﻟﺬات«، »ﻹرادة اﻟﻘﻮة« ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ ،ﰲ ٍ َ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻗﺎل ﺑ »إرادة اﻟﻮﺟﻮد«؛ وﻓﻴﻪ ﻳﻘﻮل زرادﺷﺖ» :ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻟﻢ ﻳ ُِﺼ ِﺐ 70
اﻟﻨﱡﺒُﻮءَة
ﻓﻬﺬه اﻹرادة ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺎ ]وﻫﺬه ﴐﺑﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ إﱃ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور[ … وﻻ إرادة إﻻ ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻴﺎة ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ أدﻋﻮ إﻟﻴﻪ ْ إن ﻫﻮ إﻻ إرادة اﻟﻘﻮة ،ﻻ إرادة اﻟﺤﻴﺎة«. ﻫﺬا ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« .وﻣﺮ ًة ﺑﺈﺑﻼغ ﻣﺎ ﺳﻴﻜﺘﺒﻪ ﻣﺆ ﱢﻟﻔﻪ ﻻ ﻧﺒﻲ ﻣﺤﻜﻮم ﺛﺎﻧﻴﺔ ،ﻧﺠﺪ — ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى — أن زرادﺷﺖ ﱞ ِ ﻧﺤﻮ ﺟﺎد .وﻣﺸﻜﻠﺘﻪ أﻧﻪ ﻳﻌﺎرض ﺑﺈﴏار ﺑﺈﺑﻼغ ﳾء ِﺻﻴﻎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ وﻳﻤﻜﻦ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻋﲆ ٍ وﻋﺰم اﻷﻧﻈﻤﺔ وواﺿﻌﻲ اﻷﻧﻈﻤﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺒ ﱢَني اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت .ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻣﻦ ﻏري ﺟﺪول ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﻘﻴﻢ .وﺗﺪﻓﻌﻪ ﻫﺬه املﻌﻀﻠﺔ اﻟﻮاﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﻔﺎدي ﻧﻈﺎ ٍم ﻟﻮ أراد ﻧﴩَ ٍ إﱃ ارﺗﻜﺎب أﺳﻮأ اﻷﻣﻮر ﻗﺎﻃﺒﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺪم ﺗﻠﻤﻴﺤﺎت ﺻﻌﺒﺔ ﻣﻤﺘﻨﻌﺔ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻣﺴﺘﺒﺎﺣً ﺎ ﻟﺘﻔﺴريات ﻋﺪة وﻣﻌ ﱠﺮ ً ري ﻣﻦ ﺳﻮء اﻟﻔﻬﻢ .وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺘﻠﻤﻴﺤﺎت ﺗُﻮﺣِ ﻲ ﺿﺎ ﻟﻜﺜ ٍ ﺑﺜﺮاءٍ ﻓﻜﺮيﱟ ﻣ ِ ﻧﻌﺎرض ،إن اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ ،اﻷﻓﻜﺎ َر ُﺴﺘﱰ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُﺤ ﱠﺮم ﻋﻠﻴﻨﺎ وﻧُﻌ َﻠﻢ ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻳﺠﺐ أن ِ ﻌﱪ ﻋﻨﻬﺎ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣُﺘﻘ ﱢ ا ُمل ﱠ ﻄﻊ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻣﺎ ﻧﻌﱰض ﻋﻠﻴﻪ .ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻷﺷﺪ ﻗﺴﻮة ﻟ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« .وﺛﻤﺔ ﺗﻘﻴﻴﻤﺎت أﺧﺮى أﻗﻞ ﻗﺴﻮة و ُﻣﱪﱠرة ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻬﺎ .وﻟﻜﻨﻲ ﱢ أﻋﻤﺎل ﺑﻌﺪ »زرادﺷﺖ« ،ﺣﻴﺚ أﻓﻀﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ ﻣﺎ أ ﱠﻟﻔﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ٍ ﺑﻠﻐﺖ ﻗﻮﺗُﻪ ﻋﻨﻔﻮاﻧَﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻣﻀﻄ ٍّﺮا إﱃ أن ﻳﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ اﻟﻈﻬﻮر ﺑﻤﻈﻬﺮ ﻣﺒﺠﻞ ﰲ ﻋﺒﺎءﺗﻪ اﻟﻨﱡﺒُﻮﺋﻴﺔ.
71
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ اﳌﺮﺗﻔﻌﺔ
أ ُ ﱢﻟﻒ ﻛﺘﺎب »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﰲ أﻋﻘﺎب اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺪﻣريًا ﰲ ﺣﻴﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ؛ وﻫﻲ رﻓﺾ ﻟﻮ ﺳﺎﻟﻮﻣﻲ إﻳﺎه ،ﺑﻌﺪ أن ﺗﻘﺪﱠم ﻟﻠﺰواج ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺻﺪﻳﻘﻪ ﺑﻮل ري؛ ﻟﻴﻜﺘﺸﻒ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﻧﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻗﺮﻳﺒني أﺣﺪﻫﻤﺎ إﱃ اﻵﺧﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﻨﻪ .ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻮ ﺳﺎﻟﻮﻣﻲ ً ﻻﺣﻘﺎ واﺣﺪة ﻣﻦ أﻫﻢ اﻣﺮأة ﻣﻮﻫﻮﺑﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻋﺸﻴﻘﺔ رﻳﻠﻜﻪ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺼﺒﺢ ﻣﺮﻳﺪي ﻓﺮوﻳﺪ ،اﻟﺬي ﻳ ﱢ ُﻌﱪ ﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻳﺮه ﺑﻌﺒﺎرات ﺛﺮﻳﺔ ﻏري ﻣﻌﺘﺎدة ﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎﺗﻬﺎ ﰲ ﻣﺠﺎل ﺑﺎﻗﺘﻀﺎب ﻋﻼﻗﺔ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﰲ إﻃﺎرﻫﺎ ﻣﻮاﺻﻠﺔ ﻋﻤﻠﻪ ،ﻋﻼﻗﺔ اﻹﺛﺎرة اﻟﴩﺟﻴﺔ .ﺗﺼﻮﱠر ﻧﻴﺘﺸﻪ ٍ ﺗﻔﻬﻤﻪ وﺗﺴﺎﻋﺪه ﻓﻴﻬﺎ اﻣﺮأ ٌة ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻌﺘﱪﻫﺎ ﻧﺪٍّا ﻟﻪ .وﺛﻤﺔ ﺻﻮرة ﻓﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻴﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ، اﻟﺘُﻘِ ﻄﺖ ﺑﺈﴏار ﻣﻨﻪ ،ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻊ ري وﻫﻤﺎ ﻳﺠ ﱠﺮان ﻋﺮﺑﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻘﻒ ﻟﻮ داﺧﻠﻬﺎ ﺗﻠﻮﱢح ﺑﺴﻮﻃﻬﺎ ﺗﺠﺎﻫﻬﻤﺎ .ﺗﻘﺪﱢم ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﺗﺸﻮﻳﻬً ﺎ ﻏري ﻣﺘﻮﻗﻊ — ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ أﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻗﺪ ﺧﻄﺮت ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ أم ﻻ — ﻟﺘﻠﻚ املﻼﺣﻈﺔ اﻟﺸﻬرية اﻟﻮاردة ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻘﻮل اﻣﺮأة ﻋﺠﻮز ﻟﺰرادﺷﺖ» :ﻫﻞ أﻧﺖ ذاﻫﺐ إﱃ اﻣﺮأة؟ إذن ﻻ َ ﺗﻨﺲ ﺳﻮﻃﻚ!« ُ اﻟﺮﻓﺾ ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ درﺟﺔ اﻟﻴﺄس اﻟﺘﺎم .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل ﻷﺣﺪ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ املﻘ ﱠﺮﺑني، أﻫﺎن ﻓﺮاﻧﺰ أوﻓﺮﺑﻴﻚ ﰲ أﻋﻴﺎد املﻴﻼد ﻋﺎم :١٨٨٢ ﻫﺬه »اﻟﻠﻘﻤﺔ« اﻷﺧرية ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﺎﻧﺖ أﺻﻌﺐ ﻣﺎ اﺿ ُ ﻄﺮرت إﱃ ﻣﻀﻐﻪ ﺣﺘﻰ اﻵن ،وﻣﺎ زال ﻣﻦ املﺤﺘﻤَ ﻞ أن »أﺧﺘﻨﻖ« ﺑﻬﺎ .ﻟﻘﺪ ﻋﺎﻧﻴﺖ ﻣﻦ اﻟﺬﻛﺮﻳﺎت ا ُملﻬﻴﻨﺔ ﻮﺟﻌﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﻴﻒ ﻛﺎملﻌﺎﻧﺎة ﻣﻦ ﻧﻮﺑﺔ ﺟﻨﻮن ،وﻣﺎ أﴍت إﻟﻴﻪ ﰲ ﺑﺎزل وا ُمل ِ وﰲ ﺧﻄﺎﺑﻲ اﻷﺧري أﺧﻔﻰ أﻫ ﱠﻢ ﳾء .وﻫﻮ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﴏاع ﺑني ﻋﺎﻃﻔﺘني ﻣﺘﻌﺎرﺿﺘني ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻌﻬﻤﺎ .أﻗﺼﺪ ﻣﻦ ﻫﺬا أﻧﻨﻲ أﺑﺬل ﻛ ﱠﻞ ﺟﻬ ٍﺪ ﻟﺪيﱠ ،
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ً ﻃﻮﻳﻼ ﻋﲆ »دﻫﻮﻧﻲ« ،وﻟﻬﺬا وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ أﻋﻴﺶ ﰲ ﻋﺰﻟﺔ ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ وﺗﻐﺬﱠﻳﺖ أﻧﺎ اﻵن ﻣﺤ ﱠ ﻄﻢ ،ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳﻄﻴﻘﻪ إﻧﺴﺎن ،ﻋﲆ ﻋﺠﻼت ﻋﻮاﻃﻔﻲ اﻟﺨﺎﺻﺔ … وﻟﻮ ﻟﻢ أﻛﺘﺸﻒ اﻟﺨﺪﻋﺔ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﻫﺬا اﻟﺴﻤﺎد إﱃ ذﻫﺐ ،ﻟﻀﻌﺖ .إﻧﻨﻲ ﻫﻨﺎ أﻣﺎم أﻓﻀﻞ ﻓﺮﺻﺔ ﻹﺛﺒﺎت أﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱄ ﱠ ﻓﺈن »ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺘﺠﺎرب ﻣﻔﻴﺪة، وﺟﻤﻴﻊ اﻷﻳﺎم ﻣﻘﺪﺳﺔ ،وﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﺨﺎص راﺋﻌﻮن!« ﻣﻴﺪﻟﺘﻮن ،١٩٩-١٩٨ :١٩٦٩ ،اﻟﺠﻤﻠﺔ اﻟﻮاردة ﺑني ﻋﻼﻣﺘﻲ اﻟﺘﻨﺼﻴﺺ ﻣﺄﺧﻮذة ﻣﻦ اﻗﺘﺒﺎس ﰲ اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ﻣﻦ إﻣﺮﺳﻮن وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬا ﺑﺪأ ﻛﺘﺎﺑﺔ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،وﺳﺎﻫﻤﺖ آﻻﻣﻪ ﺑﻼ ﺷ ﱟﻚ ﰲ ﺗﻠﻚ ﱢ املﺘﻀﺨﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ اﻟﻜﺘﺎب .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺧﻴﺒﺔ اﻟﺤﺎﻟﺔ أﻣﻠﻪ ووﺣﺪﺗﻪُ ،ﻛ ﱢﻠ َﻞ ﻣﺠﻬﻮده ﰲ أداء اﻟﺨﺪﻋﺔ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺠﺎح املﺜري ﻟﻺﻋﺠﺎب .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺬاﺑﺎﺗﻪ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ً أﻳﻀﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﱪة ﻏري اﻟﺤﺎﺳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻃﻐﺖ ﻋﲆ ﺟﺰء ﻛﺒري ﻣﻦ ﻛﺘﺎب ُ ﻟﻖ إﻟﻴﻬﺎ ً ﺑﺎﻻ ﺧﻼل ﻣﻌﺮض ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻲ ﻋﻨﻪ .وﻟﻜﻦ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،واﻟﺘﻲ ﻟﻢ أ ِ زرادﺷﺖ ﻋُ ﺮﺿﺔ ﻟﻠﻜﺂﺑﺎت واﻻﻧﻬﻴﺎرات واﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ واﻟﺸﻌﻮر ا ُملﻌﺮﻗِﻞ ﻣﻦ ﻋﺪم اﻟﺜﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ، وﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﺳﻤﺎت ﺗﺠﻌﻞ اﻟﺘﻤﺎﺛُﻞ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﻣﺆﻟﻔﻪ أﻣ ًﺮا ﻻ ﻣﺮ ﱠد ﻟﻪ. ﺗﺸري اﻟﺘﻮﺻﻴﻔﺎت اﻟﺘﻲ أﻃﻠﻘﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره أﻫﻢ ﻛﺘﺎب ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ُﻗﺪﱢم ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ ﺣﺘﻰ وﻗﺘﻪ ،إﱃ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻳﻨﺘﻬﺞ اﻷﺳﻠﻮب اﻻﻧﺘﻘﺎدي ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ إﱃ ﻣﺮﻳﺪﻳﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﻄﺒﻘﻮﻫﺎ ،ﻓﺈن ﻧﻘﺪ اﻟﺬات ﻟﻢ ﻳﺮد ﰲ ﻛﻼﻣﻪ، أن ْ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ وﻗﺘﺬاك .واﻷﻛﺜﺮ إزﻋﺎﺟً ﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا ﱠ ﻧﴩ اﻷﺟﺰاء اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻷوﱃ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﺪﺛًﺎ ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺑﺄوروﺑﺎ ،وأن اﻟﺠﺰء اﻟﺮاﺑﻊ ﺻﺪر ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻋﺎم .١٨٨٥وﻫﺬا ﱢ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻓﻬ ٍﻢ دﻗﻴﻖ ﻳﺒني إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ أﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻦ ﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺴﱰﻋﻲ اﻧﺘﺒﺎﻫﻪ ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ .ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻌﻤﻞ ﻛﺎن ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻗﺪ ﺷﻬﺪت اﻧﻬﻴﺎ ًرا ﴎﻳﻌً ﺎ ﻣﺪ ﱢوﻳًﺎ ،ﻓﻤﺎذا ﻛﺎن ﻋﺴﺎه أن ﻳﺤﺪث ٍ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄيﱢ ﳾء أﻧﺘﺠﻪ »ﻓﻴﻠﺴﻮف« أﻛﺜﺮ إﺑﺪاﻋً ﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وأﻛﺜﺮ ﻗِ ﺪَﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ ﺑﻌﺪ أﻓﻠﻮﻃني؟ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻫﻮ أن ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻇ ﱠﻠﺖ ﻣﺴﺘﻤﺮة ،وﻟﻜﻦ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﺘﻬﺎ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻘﺖ ﻛﺘﺎب »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« .وﻗﺪ أﴏﱠ ﻋﲆ أن ً وﺗﻌﻠﻴﻘﺎ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻛ ﱠﻞ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﺑﻌﺪ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﺴريًا ﻟﻪ 74
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ
ﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻄﻤﺄﻧﺔ اﻟﺬات ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻘﻴﻴ ٍﻢ ﺻﺎدق ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل أو ﺟﻮدﺗﻬﺎ .ﻓﻤﻦ ﺟﺎﻧﺐ ،ﻟﻢ ِ ﻳﺄت ﻋﲆ ذﻛﺮ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻣﺠﺪدًا ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ،أﻣﺎ إرادة اﻟﻘﻮة ﻓﺘﻈﻬﺮ ﻣﻦ وﻗﺖ إﱃ آﺧﺮ .وﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ ،ﻓﺈن اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﺎدث ﻣﻨﺬ ﺻﺪور أول ﻛﺘﺎب ﻟﻪ ﺑﻌﺪ زرادﺷﺖ ،وﻧﻘﺼﺪ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،ﻣﺮو ًرا ً ووﺻﻮﻻ إﱃ ﻣﻨﺸﻮراﺗﻪ املﺘﺪﻓﻘﺔ ﺧﻼل اﻟﻌﺎم اﻷﺧري ،ﻟﻢ ﺑﺮاﺋﻌﺘﻪ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ«، ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺐ أو ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺄيﱢ ﳾء ﻣﺬﻛﻮر أو ﻣﺸﺎر إﻟﻴﻪ ﰲ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ«. ﱠ إن ﻣﺎ ﻳﺪﻫﺸﻨﻲ ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻫﻮ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺘﺄﻟﻴﻔﻪ ﻛﺘﺎب »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﻗﺪ ً ﱠ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة ،وﻫﺬا ﻣﻦ ﺣﺴﻦ اﻟﺤﻆ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻋﱪ ﻋﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﺑﺪاﺧﻠﻪ ﻣﻦ ﺻﻌﻮﺑ ٍﺔ ﰲ ﺗﱪﻳﺮ املﺤﺎﻛﺎة اﻟﺴﺎﺧﺮة اﻟﺼﺎدﻗﺔ واﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﻲ ﺷ ﱠﻜﻠﺖ ﻣﻮاﺿﻊ اﻹﻋﺠﺎب اﻟﺘﻲ أﴍت إﻟﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻷول ،ﻓﺈﻧﻬﺎ اﺳﺘُ ِﻠﻬﻤﺖ ﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻤﻜﻨًﺎ أن ﺗُﺴﺘﻠﻬَ ﻢ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻷﺧﺮى ،ﺣﻴﺚ ﺗﻤﻨﻊ ﻧ َ ْﱪﺗﺎ اﻟﺘﻬﻜﻢ واﻟﱰدد اﻟﻠﺘﺎن ﺗﺴﺘﻤﺮان َ ﺣﺘﻰ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ وﺳﻂ ﱢ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻇﻬﻮر ﻣﻌﺘﻘ ٍﺪ ﻣﺎ .ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﺲ اﻟﻘﺴﻮة واﻟﺸﺠﺐ، ً ً ﻛﺎﻣﻼ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻼﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﻳﺤﺘﺎج املﺮء اﻧﺘﺒﺎﻫﺎ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎملﺮوﻧﺔ واﻟﻴﻘﻈﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻦ ﻳﻘﺪر ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻮى ﻗِ ﻠﺔ ﻣﻦ ُ ﱠ اﻟﻘﺮاء ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ إﱃ أن اﻟﺘﻘﻮا ﺑﻪ ﻣﻦ ﺗﴫﻳﺤﺎت ﻣﺪوﱢﻳﺔ ﰲ اﻟﺼﻔﺤﺎت اﻷوﱃ .وﻟﻮﻻ اﻟﻨﺒﻲ اﻟﺬي اﺑﺘﻜﺮه ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ملﺎ أُﺗﻴﺤَ ﺖ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﺸﻘﻴﻘﺘﻪ إﻟﻴﺰاﺑﻴﺚ ﻹﻟﺒﺎﺳﻪ رداءً أﺑﻴﺾ ﻟﻌﺮﺿﻪ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﱠﺎح ﺑﺼﻔﺘﻪ »اﻟﻨﺒﻲ املﻤﺠﱠ ﺪ« ،ﺑﻌﺪ أن ﺑﻠﻎ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻮن ،وملﺎ اﺳﺘﻄﺎع ً أﻳﻀﺎ ﺻﺪﻳﻘﻪ ﺑﻴﱰ ﺟﺎﺳﺖ أن ﻳﻘﻮل ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻳُﻮارى ﺟﺜﻤﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﺤﺖ اﻟﺜﺮى» :ﻟِﻴﺘﻘﺪﱠس اﺳﻤﻚ ﻟﺪى ﺟﻤﻴﻊ أﺟﻴﺎل املﺴﺘﻘﺒﻞ!« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻷﺧري ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«» :ﻳﺘﻤﻠﻜﻨﻲ ﺧﻮف ﻓﻈﻴﻊ ﻣﻦ أن ﺗُ َ ﻨﺴﺐ إﱄ ﱠ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﺻﻔﺔ »اﻟﻘﺪاﺳﺔ« ،وﺑﺈﻣﻜﺎن املﺮء أن ﻳﺨﻤﱢ ﻦ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ إﱃ ﻧﴩ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب »ﻗﺒﻞ أن ﻳﺤﺼﻞ ذﻟﻚ اﻷﻣﺮ« … ﻻ أرﻳﺪ أن أﻛﻮن ﻗﺪﻳﺴﺎ ،ﺑﻞ أ ُ ﱢ ً ﻓﻀﻞ أن أﻛﻮن ﻣُﻬ ﱢﺮﺟً ﺎ« )»ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«» ،ﻟ َﻢ أﻧﺎ ﻗﺪر«.(١ ، ﻟﻘﺪ ﺗﻌﻤﱠ ﺪ أن ﻳﻌﻄﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷول ﺑﻌﺪ »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ﻋﻨﻮاﻧًﺎ ﻣُﻀ ﱢﻠ ًﻼ» :ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻘﺎل ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ أو ﱢ ﻣﻔﴪﻳﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺈﻋﺎدة إﻧﺴﺎن ﻳﺴﺘﻌﺪ ﻹﺣﻼل ﻗﻴ ٍﻢ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﺤ ﱠﻞ اﻟﻘﻴﻢ ﺗﻘﻴﻴﻢ »ﺟﻤﻴﻊ« اﻟﻘﻴﻢ ،وﻻ ﻳﺸري ﻓﻘﻂ إﱃ ٍ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺘﻨﻘﻬﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﻄﺮف ﻫﺬا اﻟﻘﻮل .ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺪﱢم اﻟﺤﺠﺔ املﺰﻋﻮﻣﺔ )اﻟﻐﺎﺋﺒﺔ ،إن ﻗﺮأه املﺮء ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ( ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﻣﺼﻤﱢ ﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻘﻴﻢ 75
ﻧﻴﺘﺸﻪ
املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻓﻼ ﺗﻮﺟﺪ ﻗﻴﻤﺔ ﻳﻤﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻳﺠﺐ إﻛﺴﺎﺑﻪ ﻗﻴﻤﺔ .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ؟ ﻟﻄﺎملﺎ ﻓﻌﻠﻨﺎ ذﻟﻚ ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﴫﱡ ﻧﻴﺘﺸﻪ، وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻧﻌﺘﻘﺪ أﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ .وﻳﺠﺐ إدارة اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﺗﺼﻮﱡرﻧﺎ ﺑﺄﻧﻨﺎ اﻛﺘﺸﻔﻨﺎ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻣﺎ ﻧﺼﻨﻌﻪ ،إﱃ اﻹدراك اﻟﺘﺎم ﺑﺄن ﻫﺬا ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ ،ﺑﺄﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﺤﺬر واﻟﺬﻛﺎء ﻟﻜﻲ ﻧﺘﺠﻨﱠﺐ اﻟﺴﻘﻮط اﻟﴪﻳﻊ ﰲ ﻣﺘﺎﻫﺔ اﻟﻌَ ﺪ َِﻣﻴﺔ. ُ ﺻﻤﻤَ ﺖ اﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﻔﻜﺮ اﻷوﻟﻴﺔ ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ﺑﺬﻛﺎء ﻣﻦ أﺟﻞ ﺑﻠﻮغ أﻗﴡ درﺟﺎت ﻋﺪم اﻻرﺗﻴﺎح ﺗﺠﺎه ﻣﻮﻗﻔﻨﺎ ﻣﻤﺎ ﻧﻌﺘﱪه ﻗﻴﻤﺘﻨﺎ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ،أﻻ وﻫﻮ :اﻟﺤﻖ. ً ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ ﺷﻜﻮﻛﻪ ﺣﻮل ﻣﺼري إرادة اﻟﺤﻖ ﻟﺪﻳﻨﺎ، إذا اﺳﺘﻄﺎع ﻧﻴﺘﺸﻪ أن ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺸﺎرﻛﻪ ﻓﺴﻨﻜﻮن ﻃﻮع ﺑﻨﺎﻧﻪ ﱢ ﻧﻨﻔﺬ ﻣﺸﻴﺌﺘﻪ دون ﺳﺆال؛ ﻷﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء آﺧﺮ رﺋﻴﴘ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻻﺣﺘﻜﺎم إﻟﻴﻪ .إﻧﻪ أﺳﻠﻮب ﻣﻌﺘﺎد ﻟﺪﻳﻪ ﰲ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻟﺤﻖ إﱃ إرادة اﻟﺤﻖ ،أو ﺗﻔﺴري ﻋﻼﻗﺎﺗﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ .وﻫﻮ ﻳﺼﻮغ اﻷﻣﺮ ﰲ ﺻﻮرة ﻟﻐﺰ؛ إذ ﻳﻌﱰف ﺑﻘﻮﻟﻪ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني أودﻳﺐ وﺳﻔﻴﻨﻜﺲ ﻫﻨﺎ» .ﻟﻘﺪ ﺳﺄﻟﻨﺎ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﻦ »ﻗﻴﻤﺔ« ﻫﺬه اﻹرادة .اﻓﱰض أﻧﻨﺎ ﻧﺮﻳﺪ اﻟﺤﻖ» :ملﺎذا ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻪ« اﻟﺒﺎﻃﻞ؟ وﻋﺪم اﻟﻴﻘني؟ وﺣﺘﻰ اﻟﺠﻬﻞ؟« ﻻ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻐﺮاﺑﺔ ﻓﻘﻂ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻗﻴﻢ راﺳﺨﺔ ﻋﲆ ﻣﺪار آﻻف اﻟﺴﻨﻮات؛ إذ إن ﻣﺠﺮد ﻓﻜﺮة اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺒﺎﻃﻞ ،أي ﻣﻌﺮﻓﺔ أن املﺮء ﻳﺮﻏﺐ ﻓﻴﻪ ،ﺗﺘﺴﻢ ً ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﻗﺔ .ﻣﻦ املﻘﺒﻮل ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ أن ﻧﻘﻮل :إن املﺮء ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺒﻘﻰ ﺑﺄﻣﺮ ﻣﺎ ،أو ﻏريَ ﺟﺎﻫﻼ ٍ ﻣﻬﺘ ﱟﻢ ﺑﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﺻﻮرة اﻟﺤﻖ ﻓﻴﻪ ،ﻓﻜﺜريًا ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻞ ذﻟﻚ .وﻟﻜﻦ اﻟﻘﻮل أو اﻻدﻋﺎء ً ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ .إﻧﻪ ﻟﺸﺄن ﻳﺨﺘﻠﻒ أﻣﺮ ﻣﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻃﻴﱠﺎﺗﻪ ﺑﺄن املﺮء ﻳﺮﻳﺪ اﻟﺒﺎﻃﻞ ﺑﺸﺄن ٍ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﺮﺿﺎ اﻟﺨﺎﻧﻊ ﺑﻐﻴﺎب اﻟﴫاﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺤﺚ ﺑﻬﺎ املﺮء ﻋﻦ اﻟﺤﻖ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺎل اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﻣﻮر املﻬﻤﺔ ﻛﺎﻓﺔ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﺗﺼﺪﻳﻖ ﻣﺎ ﻫﻮ زاﺋﻒ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﻠﻢ ذﻟﻚ .ﻓﻼ ﻏﺮاﺑﺔ ﰲ ﻗﻮل» :اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻲ زاﺋﻒ« ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺳﻴﺘﻔﻖ ﻣﻌﻪ أي ﺷﺨﺺ ﻋﺎﻗﻞ .وﻟﻜﻦ ،ﺛﻤﺔ ﻏﺮاﺑﺔ أﺧﺮى ﰲ ﻗﻮل» :اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻲ زاﺋﻒ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻵﺗﻲ «… :ﺛﻢ ﻳﴪد ﻗﺎﺋﻤﺔ؛ ذﻟﻚ ﻷن املﺮء ﺣني ﻳﻘﻮل إن ﺷﻴﺌًﺎ زاﺋﻒ ،ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻪ. ﺳﺄُﺳﻬﺐ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺒﺪو ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻘﱰح أﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ملﺎذا ﻧﻤﻠﻚ إرادة اﻟﺤﻖ ،أي :إرادة املﻮاﻓﻘﺔ ﻋﲆ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻗﺪ ﺗﺄ ﱠﻛﺪﻧﺎ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ،أو ﻧﻌﺘﻘﺪ أﻧﻨﺎ ﻓﻌﻠﻨﺎ ذﻟﻚ .ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،ﻓﻘﺪ اﻟﺘﺒﺲ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﻣﺮ .وﻟﻮ 76
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ
اﻓﱰﺿﻨﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻨﻴﻪ ،ﻓﻤﺎذا ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻲ؟ إﻧﻪ ﻳﻮاﺻﻞ )ﺑﺪﻫﺎءٍ ﻣﻤﻴﱠﺰ( ﺗﻐﻴري املﻮﺿﻮع ﺑﻤﻌﺪل ﻗﺪ ﻳﻔﻘﺪﻧﺎ ﺗﺮﻛﻴﺰﻧﺎ ،ﻟﻮ ﻟﻢ ﻧﺤﱰس ،ﺗﺠﺎه ﻣﺎ ﻳﺘﻨﺎوﻟﻪ .وﻣﻦ ﺛﻢﱠ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﰲ اﻟﺠﺰء ٍ ً اﻟﺜﺎﻧﻲ إﱃ ﻧﻄﺎق أوﺳﻊ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت ،اﻟﺘﻲ أﻛﺜﺮﻫﺎ ﺑﺤﺜﺎ ﻫﻮ »اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻘﻴ ٍﻢ ﻧﻘﻴﻀﺔ« ﻟﺪى املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ .وﻫﻮ ﻳﺸري ﺑﺬﻛﺎء إﱃ أن املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴني ،اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎن ﻳﻬﺎﺟﻤﻬﻢ ﻣﻨﺬ اﻧﻔﺼﺎﻟﻪ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﻢ ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ اﻻدﻋﺎء ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻳﺸﻜﻮن ﰲ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻛ ﱢﻞ ﳾء ،ﻻ ﻳﺤﻘﻘﻮن ﰲ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ اﺷﺘﻘﺎق اﻟﴚء ﻣﻦ ﻧﻘﻴﻀﻪ .وﺑﻤﺎ أﻧﻬﻢ، ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﻨﻜﺮون أن ﺣﺐﱠ اﻟﻐري ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﺣﺐﱢ اﻟﺬات ،وﻧﻘﺎء اﻟﻘﻠﺐ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﻮة ،واﻟﺤﻖ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻃﻞ ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻀﻌﻮن ﻓﺮﺿﻴﺔ »ﺣﻀﻦ اﻟﻜﻮن ،اﻟﻼﻓﺎﻧﻲ ،اﻹﻟﻪ املﺨﻔﻲ» ،اﻟﴚء ﰲ ذاﺗﻪ«« ،إذ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء أﻗﻞ ﻗﻮة ﺳﻴﻜﻮن ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻴﻜﻮن ﻣﺼﺪر ﻗﻴﻤﻨﺎ. ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺈن ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ،ﺗﺮﺟﻊ ﰲ اﻷﺻﻞ إﱃ أﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻬﻨﺎك اﻟﺰﻳﻒ ،واﻟﻘﺒﺢ ،واﻟﴩ )اﻟﺸﻬﻮة( ﰲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻻ ﺑﺪ أن ﺗﻨﺒﻊ ﻧﻘﺎﺋﻀﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻓﻮق اﻟﺪﻧﻴﻮي. ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻳﺸﻜﻚ ﻧﻴﺘﺸﻪ: ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﺛﻤﺔ أﺿﺪاد ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،وﺛﺎﻧﻴًﺎ ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻘﻴﻴﻤﺎت وأﺿﺪاد اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺮاﺋﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﻃﺒﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﻮن ﺑﺨﺎﺗﻤﻬﻢ ،رﺑﻤﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد ﺗﺨﻤﻴﻨﺎت ﺳﻄﺤﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻣﺠﺮد ﻣﻨﻈﻮرات ﻣﺆﻗﺘﺔ … ﻣﻨﻈﻮرات أﺷﺒﻪ ﺑﻤﻨﻈﻮر اﻟﻀﻔﺪﻋﺔ املﺤﺪود إن ﺻﺢﱠ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺒري املﺴﺘﻌﺎر ﻣﻦ ﱠ اﻟﺮﺳﺎﻣني اﻟﺬﻳﻦ درﺟﻮا ﻋﲆ اﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻪ .وﻣﻊ اﻹﻗﺮار ﺑﻜﻞ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﺴﺘﺤﻘﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﱠ واﻟﺤﻘﺎﻧﻲ واﻹﻳﺜﺎري ،ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﻈﻞ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛ ﱢﻞ ﺣﻴﺎة أن ﻧﻀﻔﻲ ﻗﻴﻤﺔ ً ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻈﺎﻫﺮ وإرادة اﻟﺨﺪاع واملﺼﻠﺤﺔ اﻟﺬاﺗﻴﺔ واﻟﺸﻬﻮة ،ﺑﻞ أﻋﲆ وأﻛﺜﺮ ﻳﺠﺴﺪ ﻗﻴﻤﺔ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﱢ ﱢ اﻟﺨرية واملﺤﱰﻣﺔ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ أن ﻳﻜﻮن ﻗﻮام ﻣﺎ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﻗﺮﻳﺒﺔ وﻣﻘﱰﻧﺔ وﻣﺘﺠﺎﻧﺴﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎﻛﺮ ﻣﻊ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮدﻳﺌﺔ واملﻀﺎدﱠة ﻟﻬﺎ ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ ،أو ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﻬﺎ رﺑﻤﺎ .رﺑﻤﺎ! »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،اﻟﻔﺼﻞ اﻷول٢ ، ﱠ إن اﻟﺘﺨﻤني ﺑﻬﺬا املﺴﺘﻮى ﺧﻄري ،وﻧﻴﺘﺸﻪ ﻻ ﻳﻜﻒ .إذا ﻋﺪﻧﺎ ﻟﻠﻮراء ،ﻓﺪﻋﻮﻧﺎ ﻧﻼﺣﻆ إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﻗﺪ ﱠ ﻏري ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺗﺮﻛﻴﺰه ﻣﻨﺬ اﻟﺠﺰء اﻻﻓﺘﺘﺎﺣﻲ .ﻓﻔﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﱄ ،ﻧﺠﺪه ﻳﻤﻌﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﻟﻴﺲ ﰲ إرادﺗﻨﺎ ﻟﻠﺤﻖ ،وإﻧﻤﺎ ﰲ إرادﺗﻨﺎ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﺑﺄن أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﴫﻳﺤﺎت 77
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ً ﱟ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧُﻌﲇ ﺑﺘﺪن ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ،ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﻓﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ .وﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻫﻮ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻷﻣﺜﻠﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻳﺄﻣﻞ أن ﻧﻌﺘﱪﻫﺎ ﻣﺮﻓﻮﺿﺔ وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ دﺣﻀﻬﺎ ،ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ أن ﻣﺎ ﻧﻌﺘﱪه اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺤﻖ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻣﺸﺘﻖ ﻣﻦ ﻗﻴﻢ أﺧﺮى أﻛﺜﺮ ﻏﺮﻳﺰﻳﺔ .إﻧﻨﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﻖ — ﻃﺒﻌً ﺎ ﻟﻮ ﻛﻨﺎ ﻓﻼﺳﻔﺔ — ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻟﻠﺘﺄﻣﻞ اﻟﻮاﻋﻲ .وﻟﻜﻦ ،إذا اﻧﺘﻘﻠﻨﺎ إﱃ ﻓﻜﺮة ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﱢ ﻳﺮﺳﺦ اﻟﺠﺰء اﻷﻛﱪ ﻣﻦ ُ ﻧﺸﺎط اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻋﻨﺪ املﺴﺘﻮى اﻟﻐﺮﻳﺰي ،وﻳﺪﱠﻋﻲ أن اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻮاﻋﻴﺔ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ ﺗﻤْ ﻠِﻴﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ أﻫﻮاؤﻫﻢ ،أو »ﺗﺨﻤﻴﻨﺎﺗﻬﻢ ،أو ﺑﻌﺒﺎرة أوﺿﺢ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﻓﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﻧﻮع ً ﻣﺆﺳﻔﺎ، ﻣﻌني ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة« )»ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،اﻟﻔﺼﻞ اﻷول .(٣ ،ﻳﺒﺪو ﻫﺬا أﻣ ًﺮا وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻳﻮاﺻﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻓﻜﺮﺗﻪ ﰲ ﺟﺰء آﺧﺮ ﻣُﺜﺒﱢﻂ ﻟﻠﻔﻜﺮ ﺑﻘﻮﻟﻪ: إن ﺧﻄﺄ َ ﺣُ ﻜ ٍﻢ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﺑﺎﻟﴬورة ﻣَ ﺄْﺧﺬًا ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ .وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻷﻏﺮب وﻗﻌً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺴﻤﻊ ﰲ ﻟﻐﺘﻨﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة .ﻓﺎملﺴﺄﻟﺔ ﻫﻲ ﺑﺎﻷﺣﺮى إﱃ أيﱢ ﻈﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻣﺤﺎﻓ ً ﻣﺪًى ﻳﻜﻮن اﻟﺤﻜﻢ ﻣﻨﻤﱢ ﻴًﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﻣﺤﺎﻓ ً ﻈﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﻮع، ﻣﺤﺴﻨًﺎ ﻟﻠﻨﻮع؟ … ﻓﺄن ﻧُﻘ ﱠﺮ ﺑﺎﻟﻼﺣﻘﻴﻘﺔ ﴍ ً ﱢ ﻃﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻳﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺑﻞ ورﺑﻤﺎ ً ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﺿ ﱠﺪ ﻣﺎ اﻋﺘﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻋﺮ ﻗﻴﻤﻴﱠﺔ. أن ﻧﺒﺪي وﺑﺼﻮرة ﺧﻄرية واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺎزف ﺑﻬﺬا ،ﺗﻄﺮح ﻧﻔﺴﻬﺎ — ﺑﻬﺬا وﺣﺪه — ﻓﻴﻤﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ. »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،اﻟﻔﺼﻞ اﻷول٤ ، ﺗﻄﺮح ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ ﺑﻘﻮ ِة ﻧﻜﺮاﻧﻬﺎ ﻟﻸﺳﺲ اﻟﺘﻲ ﻧﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﻜﺎﻣﻨﺎ اﻟﻘﻴﻤﻴﱠﺔ .ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ — أﻋﺘﻘﺪ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﻧﻴﱠﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻠﺘﻠﻤﻴﺢ — ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻋﻠﻤﺎء أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ ﻧﻈﺮﺗﻨﺎ إﱃ املﺸﻬﺪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ ،ﻛﻲ ﻧﻜﻮن ﻓﻴﻤﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ ﺑﺎﻟﺼﻮرة ذاﺗﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﺨﺘﺼﻮن ﺑﺪراﺳﺔ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ »ﻓﻴﻤﺎ وراء« ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﺪرﺳﻮﻧﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﺮﻓﻌﻨﺎ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إﱃ ﻣﻜﺎﻧﺔ أﻋﲆ ﺷﺄﻧًﺎ ،ﻧﺤﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺠﺪد ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﺼﻨﱢﻔﻨﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ وﻳﺼﻨﱢﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻔﺮﻋﻲ »ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺴﺘﻘﺒﻞ« .أيﱡ ﺷﺨﺺ ﺑﻌﻤﻞ ﺑﻌﻴﺪ املﻨﺎل ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﻣﻨﺬ أن ﺑﺪأ »أﻓﻜﺎر ﺣﻮل ﺗﺤﻴﱡﺰات ﻣﻬﺘﻢ ٍ اﻷﺧﻼق« ﰲ »اﻟﻔﺠﺮ« ﺳﻴﺸﻌﺮ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻳﺸﻐﻞ ﻣﻜﺎﻧًﺎ أﻋﲆ وأﻋﲆ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺪرك أن ﻛ ﱠﻞ ﳾء ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﺧﻼق ﻣﺘﺤﻴﱢﺰ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﺨﻠﻖ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﺸﺎﻛﻞ ﺧﻄرية ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ ﺑﻠﻮغ 78
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ
ﻫﺬا املﻨﻈﻮر اﻟﺴﺎﻣﻲ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﺛﻢ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﻠﻴﻪ .ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺼﻮرة ﻣﺎ اﻟﻮﺿﻊ اﻟﻌﻜﴘ ملﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﺑ »ﻣﻌﻀﻠﺔ ﻋﺎﻟِﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« .وﻫﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﻤﺮء ﻓﻬﻢ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻻ ﻳﺸﺎرﻛﻬﺎ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻬﺎ؛ إذ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻔﻬﻢ ﰲ ﺟﺰءٍ ﻣﻨﻪ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﻧﻔﺲ املﻔﺎﻫﻴﻢ ﰲ ﻧﻔﺲ املﻮاﻗﻒ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻋﱰاﺿﺎت اﻣﺮئ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻨﻔﺲ ﺷﻤﻮﻟﻴﺔ اﻋﱰاﺿﺎﺗﻨﺎ ﻋﲆ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺗﻤﺎرس اﻟﺸﻌﻮذة ،ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻵراء ﺣﻮل اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﺑني املﻨﺎﻫﺞ واﻟﻄﻘﻮس اﻟﺘﻲ ﻳﺆدﱢﻳﻬﺎ ﺑﻌﺾ أﻓﺮاد اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ،واﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﺮاد اﻵﺧﺮﻳﻦ، إذن ﻓﻴﺒﺪو ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أﻧﻨﺎ ﺑﺼﻮر ٍة ﻣﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﺠﺮي ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻓ ﱠﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻤﺎء اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وا ُملﻨ ﱢ ﻈﺮﻳﻦ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع. ﺑﻴْ َﺪ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﰲ أﺛﻨﺎء ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﻻﺗﺨﺎذ ﻣﻮﻗﻒ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﺗﺠﺎه ﻣﺠﺘﻤﻌﻪ واﻟﻌﺎدات ً ﻣﺤﻨﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن أﺷﺪ إزﻋﺎﺟً ﺎ؛ إذ إﻧﻪ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،ﻳﻮاﺟﻪ أول ﻣﻦ ﻳﴫﱡ ﻋﲆ ﻋﺪم وﺟﻮد ﻣﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﺑﺎﻟﺬات اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺮى اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻨﺰاﻫﺔ ،ﻏري ﻣﺘﺄﺛﺮة ﺑﺒﻴﺌﺘﻬﺎ .وﻫﻮ أﺷ ﱡﺪ ﺗﻠﻬﱡ ًﻔﺎ ﻟﻴﻮﺿﺢ أﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﺳﻮى دواﻓﻌﻨﺎ وذﻛﺮﻳﺎﺗﻨﺎ واﻟﺤﺎﻻت واملﻴﻮل اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮدﻧﺎ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﺤﻮ )وﻣﺎ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﺤﻮ ،واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ، واﻟﻼﻫﻮت( إﱃ أن ﻧﻨﺴﺒﻬﺎ إﱃ ﻓﺎﻋﻞ ﻣﺎ ،واﻟﺬي ﻳﺘﻀﺢ أﻧﻪ أﺳﻄﻮري .وﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ً ٍ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ أن ﻧﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ ذواﺗﻨﺎ وﺻﻮﻻ إﱃ ﻳﺤﺪدﻫﺎ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﻧﻨﺸﺄ ﻓﻴﻪ، ﻟﻨﻠﻘﻲ ﻧﻈﺮة ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻮ اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ اﻻﻧﻔﺼﺎل ﻋﻤﺎ ﻳﺸ ﱢﻜﻠﻨﺎ .وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻪ ﻣﻦ إﻟﻘﺎء ﻧﻈﺮة ﺑﺎﻧﻮراﻣﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﺿﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،ﺑﻤﺎ ﻳﺨﻮﱢل ﻟﻪ إﺻﺪار أﺣﻜﺎم ﻓﻴﻤﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ؟ ً إﺟﺎﺑﺔ ﻣﺒﺎﴍة ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ إﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻴﺐ أﺑﺪًا ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال دراﻳﺔ ﺑﻪ .وﻳﻜﻤﻦ اﻟﺤﻞ اﻟﺬي ﻳﻄﺮﺣﻪ ،أو ﻣﺎ ﻳﻬﺪف إﱃ أن ﻳﻜﻮن ٍّ ﺣﻼ ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ،ﻓﻴﻤﺎ أﺻﺒﺢ ﺧﻼل اﻟﺴﻨﻮات اﻷﺧرية أﺣﺪ أﺷﻬﺮ آراﺋﻪ ،ﺑﻔﻀﻞ ﻣﻼءﻣﺘﻪ ﻟﻠﺘﻔﻜﻴﻜﻴني .ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻮﺟﻮد ﺣﻘﺎﺋﻖ دون ﺗﻔﺴرياﺗﻬﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن أﻗﻮى ادﱢﻋﺎءاﺗﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻣﻮﺟﻮد ﰲ دﻓﺎﺗﺮ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ )اﻟﺘﻲ ُ ﻃ ِﺒﻌﺖ ﰲ اﻟﻘﺴﻢ ٤٨١ﰲ »إرادة اﻟﻘﻮة«( .وﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ املﻨﺸﻮرة ،ﻛﺎن أوﺿﺢ ﺗﴫﻳﺤﺎﺗﻪ أن »ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ وﺟﻮد ﱠ »إﻻ« ﻟﺮؤﻳﺔ ﻣﻦ زاوﻳﺔ ﻣُﻌﻴﱠﻨﺔ» ،ملﻌﺮﻓﺔ« ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﱠ ﻣﻌني .وﻛﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﺤﺎﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ دو ٌر ﺣﻴﺎل ﳾء ﻣﺎ ،ﻛﺎن »املﻔﻬﻮم« اﻟﺬي ﻧﻜﻮﱢﻧﻪ ﻋﻦ ً اﻛﺘﻤﺎﻻ ،وﻛﺬﻟﻚ »ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺘﻨﺎ« ﺗﺠﺎﻫﻪ« )»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ ﻫﺬا اﻟﴚء أﻛﺜﺮ ُﻔﴪ وﻣﺎ ﻳ ﱠ اﻟﺜﺎﻟﺚ .(١٢ ،وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳ ﱢ ٍ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻤﺎ ﺗﻨﺴﺒﻪ إﻟﻴﻬﻤﺎ ُﻔﴪ ﻛﻼﻫﻤﺎ ﰲ ٌ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﺳﺎذﺟﺔ .إﻧﻨﺎ ﻣﻠﺰﻣﻮن ﺑﺮؤﻳﺔ اﻷﻣﻮر ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻧﺎ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻣﻦ املﻔﻴﺪ 79
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺗﺒﻨﱢﻲ أﻛﱪ ﻋﺪد ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ وﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ .وﻟﻦ ﻧﺒﻠﻎ أﺑﺪًا »اﻷﻣﻮر ﻧﻔﺴﻬﺎ«؛ وذﻟﻚ ﺑﺴﺒﺒﻨﺎ، وﻛﺬﻟﻚ ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ ﺳﺒﺒًﺎ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﰲ أن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻣﻮﺟﻮدة ،ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳ َ ُﻨﺴﺐ ﻋﺎد ًة إﱃ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرة. ﻟﻢ ﻳ ُ َﺼ ْﻎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻗﻂ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ املﻌﺮﻓﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺳﺒﺐ ﻳﺪﻓﻌﻨﺎ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ أﻧﻪ أراد ذﻟﻚ ﺗﺤﺪﻳﺪًا .ﻓﻜﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﺎدﺗﻪ ،ﻳﻨﺼﺐﱡ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، ﴍح ﻏري وﻫﻮ ﻳﻘﻮل ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﺸﺄن وﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ — وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﺘﻮﻓري ٍ ﺟﺪﱄ ﱟ ملﻨﻈﻮره — ﻟﻜﻲ ﻳﺆﻛﺪ أن ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻨﺎ ،وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﻘﻴﻢ ،ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮدة ﻣﻦ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻧﺸﻐﻠﻪ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻟﻮ ﺣﺎول اﻣﺮؤ أن ﻳﻔﺮض ﻣﻨﻈﻮره أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﺴﻴﺒﺪو ﻫﺬا ﻣﺮﻳﺒًﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .وﻫﺬا ﺑﻼ ﺷﻚ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ وراء وﻓﺮة ﻋﻼﻣﺎت اﻟﺘﻨﺼﻴﺺ املﻮﺟﻮدة ﺣﻮل ﻛﻠﻤﺎت ﻣﺨﺎدﻋﺔ ﰲ اﻻﻗﺘﺒﺎس ﻋﺎﻟﻴﻪ املﺄﺧﻮذ ﻣﻦ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« .وﻟﻜﻦ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻘﻴﻢ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻮﺿﺢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻋﺪ َة ٍ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﺤﺪدة ،دون أن ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ أﺑﺪًا ﻣﻦ ﺑﻠﻮغ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ ﻣﻮاﻗﻒ ﺗﺠﺎه َ اﻓﱰاض أﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻘﻴﻢ ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ — ً أﻳﻀﺎ — إﻋﻄﺎء ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻣﻤﻴﺰة ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﴫﱡ ﻋﲆ املﺠﺎدﻟﺔ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ. وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺛﻤﺔ ﻣﻌﻴﺎ ًرا واﺣﺪًا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻳﻈﻬﺮ ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷول وﻳﺴﺘﻤﺮ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ أﻋﻤﺎﻟﻪ ،واﻟﺬي ﻳﺤﻜﻢ ﺑﻪ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﳾء آﺧﺮ؛ أﻻ وﻫﻮ :اﻟﺤﻴﺎة. ﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎه ﻳﻘﻮل ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« :إن ﺧﻄﺄ َ ﺣُ ﻜ ٍﻢ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﺑﺎﻟﴬورة ﻣَ ﺄْﺧﺬًا ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ ،ﻓﺎملﺴﺄﻟﺔ ﻫﻲ إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﻳﻜﻮن اﻟﺤﻜﻢ ﻣﻨﻤﱢ ﻴًﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﻣﺤﺎﻓ ً ﻈﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻌﺎم اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻓﻴﻪ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ﻛﺘﺐ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻘﺪﻣﺎت ﻟﺒﻌﺾ ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻛﺘﺎب »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،اﻟﺬي ذُﻛﺮت ﻓﻴﻪ املﺨﺘﻠﻔﺔ ٍ ً ﻣﻘﻴﺎﺳﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ ﳾء :إن »اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻤﻨﻈﻮر اﻟﻔﻨﺎن ،وإﱃ »اﻟﺤﻴﺎة« ﻣﺠﺪدًا ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﻔﻦ ﺑﻤﻨﻈﻮر اﻟﺤﻴﺎة« ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﻮل ﻋﻨﻪ ﰲ »ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺬات« أﻧﻪ »املﻬﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺎﴎ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺠﺮيء ﻋﲆ ﺗﻨﺎوُﻟﻬﺎ ﻷول ﻣﺮة «.وﻟﻜﻦ اﻟﺴﺆال ﻫﻨﺎ ﻫﻮ :اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻣﺎذا؟ ﻫﺬا أﻣﺮ ﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﻟﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﺑﺪًا إﺟﺎﺑﺔ واﺿﺤﺔ ،ﻟﻴﺲ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻓﻨﺎﻧﻮن وﻓﻼﺳﻔﺔ آﺧﺮون ﻣﺘﻤﻴﺰون .إﻧﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻏري ﻣﻬﺘﻢ ﺑ »ﺣﺠﻢ« اﻟﺤﻴﺎة .إﻧﻪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻛﺎن ﻳ ﱢ ُﻔﻀﻞ ﻗﺪ ًرا أﻗﻞ ،وﻣﻜﺎﻧﺔ أﺳﻤﻰ .وﻟﻜﻦ ﻣﺎ املﻜﺎﻧﺔ اﻷﺳﻤﻰ ﻟﻠﺤﻴﺎة؟ ﺣﺴﻨًﺎ ،ﺳﻴﺘﺨﻴﱠﻞ املﺮء اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ .وﻟﻜﻨﻨﺎ رأﻳﻨﺎ أن املﺮء ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺨﻴﱠﻞ اﻟﻜﺜري ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،ذﻟﻚ اﻟﺸﻴﻚ املﺼﺪﱠق ﻋﻠﻴﻪ ﻋﲆ ﺑﻴﺎض اﻟﺬي ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ زرادﺷﺖ دون أيﱢ ﺗﻮﺟﻴﻬﺎت ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﴏﻓﻪ 80
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ
ﻟﻨﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻨﻪ .اﻟﻘﻮة؟ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺟﺰء ﻣﻬﻢ ،ﺑﻤﺎ أن اﻟﺤﻴﺎة ﻫﻲ إرادة اﻟﻘﻮة .وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻛ ﱡﻞ اﻟﻘﻮة ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ذﻟﻚ ﱠ وإﻻ ﻟﻮاﻓﻖ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﳾء .واﻟﻘﻮة واﻟﺤﻴﺎة، ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ،ﻣﺼﻄﻠﺤﺎن ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﻘﻌﺎن ﰲ ﻧﻔﺲ اﻹﻃﺎر املﻔﺎﻫﻴﻤﻲ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﱢ ﻳﻮﺿﺢ أﺣﺪﻫﻤﺎ اﻵﺧﺮ ،ﻳﺒﺪو أن ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﴩح املﻨﻔﺼﻞ. ً ﻣﻄﻠﻘﺎ — وﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﺗﺴﻢ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻌﻈﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ داﻓﻌﻮا ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﻌﻴﺎ ًرا ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻻ اﻟﺤﴫ املﺴﻴﺢ وﺑﻠﻴﻚ وﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻔﺎﻳﺘﺰر ودي إﺗﺶ ﻟﻮراﻧﺲ — ﻟﻘﺪر ﻛﺒري ﻣﻨﻬﺎ ،ﻟﺼﺎﻟﺢ ﺻﻮر أو ﺗﻨﻮﻳﻌﺎت أﺧﺮى أﻛﱪ ﻗﻴﻤﺔ. ﺑﺎﻟﺤﻤﺎس اﻟﺒﺎﻟﻎ ﰲ إداﻧﺘﻬﻢ ٍ وﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ،ﻳﻔﻬﻢ املﺮء ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺪوﻧﻪ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺒﻜﺘريﻳﺎ ﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ أن ﺗﺘﻜﻠﻢ ﻟﻄﺎﻟﺒﺖ ﺑﻼ ﺷ ﱟﻚ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺣﻘﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜﻞ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻷﻛﱪ ﺣﺠﻤً ﺎ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺷﻔﺎﻳﺘﺰر ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺒﻜﺘريﻳﺎ ﻟﺼﺎﻟﺤﻬﺎ .وﻣﺎ اﻋﺘﱪه اﻷﺷﺨﺎص اﻟﺨﻤﺴﺔ اﻟﺬﻳﻦ ذﻛﺮﺗﻬﻢ أﻧﻪ »ﻣﺘﺤﻴﱢﺰ ﻟﻠﺤﻴﺎة« أو »ﻣﻨ ِﻜﺮ ﻟﻠﺤﻴﺎة« ﻳﺘﺒﺎﻳﻦ ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻮاﺣﻲ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻼ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﻢ ﻳﺘﺸﺪﻗﻮن ﺑ »ﻛﻼم ﺗﺎﻓﻪ« ﻋﻨﺪ ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﻐﻤﻮض اﻟﺬي ﻳﻌﱰﻳﻬﻢ واﻟﺬي ﻻ ﻳﻔﻴﺪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﰲ اﺗﺨﺎذ أيﱢ ﻗﺮارات .ﻓﻤﺎ ﻳﻘﺼﺪه ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻫﻮ ﳾء أﻗﺮب إﱃ اﻟﻨﺸﺎط أو ﺣﺘﻰ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ .وﻳﺘﻀﺢ ﻫﺬا ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﰲ أﺣﻜﺎﻣﻪ ﻋﻦ اﻟﻔﻦ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻜﻮن املﻘﻴﺎس ،ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ واﻷﺧرية ،ﻣﺎ إن ﻛﺎن اﻟﻔﻦ ﻳﻌﻜﺲ إﻓﺮا ً ﻃﺎ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺻﺎﻧﻌﻪ ،أو ﻣﺎ إن ﻛﺎن ﻧﺎﺗﺠً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺤﺎﺟﺔ واﻟﺤﺮﻣﺎن .وﻧﻈ ًﺮا ﻷن ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻟﻠﺤﺎﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻣﺪان ،إذا ﺗﺒﻨﱠﻴﻨﺎ اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ. إﻧﻪ ملﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ أن اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﴍط ﴐوري ،إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ،ملﻮاﻓﻘﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ أيﱢ ﳾء ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ .ﻓﺸﺨﺼﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﺟﻮﺗﻪ )ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻷﺳﺎﻃري اﻟﺘﻲ اﺑﺘﺪﻋﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل( ﻣُﺒﺠﱠ ﻠﺔ ﺑﺴﺒﺐ ﻛ ﱢﻢ اﻟﺪواﻓﻊ املﺘﻨﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺈﻧﺘﺎج ﻣﻨﻘﻄﻊ اﻟﻨﻈري ﰲ ﻣﺠﺎﻻت اﺳﺘﻄﺎع ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ واﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ ،ﺧﻼل ﺣﻴﺎ ٍة ﺗﺘﺴﻢ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ٍ ﺷﺘﱠﻰ وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ .وﻣﻊ ﻫﺬا )إذا ﻋﺪﻧﺎ ﻟﻠﺤﻈﺔ إﱃ أﺳﻠﻮﺑﻪ( ،ﻓﺈن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ أﻧﺠﺰه ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﺑﺼﻤﺘﻪْ . ﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﴏاع ﻗﻮي وﻣﺰﻋﺞ ﻳﺮﺑﺾ أﺳﻔﻞ ﺳﻄﺢ املﻌﻴﺎر اﻟﺬي وﺿﻌﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ. ﻳﺬﻛﺮ ﻫﻨﺮي ﺳﺘﺎﺗني — اﻟﺬي ﻳﺘﻤﺤﻮر ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺮاﺋﻊ اﻟﺬي ﺳﺒﻖ أن اﺳﺘﻌﺮﻧﺎ ﻣﻨﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ً اﻗﺘﺒﺎﺳﺎ ﻣﻄﻮ ًﱠﻻ — ﺟﺰءًا ﺧﻄريًا ﻣﻨﻪ ﺑﺎﻗﺘﻀﺎب: ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،ﺛﻤﺔ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﻋﺎم ﻳﻀ ﱡﻢ ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ واملﺮض ،وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ،ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ أن ﻳﺤﺮم ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ إﺣﺴﺎس اﻟﺮﺿﺎ ﺑﻌﺰف ﺳﻴﻤﻔﻮﻧﻴﺔ اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ 81
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻋﲆ ﻗﻮى املﺮض .وﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻫﺬه اﻟﻘﻮى ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ً أﻳﻀﺎ ﺑﻤﺴﺄﻟﺔ ُﻫﻮﻳﱠﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ. ﺳﺘﺎﺗني٣٠ :١٩٩٠ ، املﻘﺼﻮد ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻨﺠﺬب إﱃ ﻧﻬﺞ اﻹﻗﺮار اﻟﻌﺎم ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﱢ ﻳﺒني اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي، ﻟﻮ ﻛﺎن ﱢ ﻣﺴﺘﻌﺺ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺒني أيﱠ ﳾء .وﻟﻜﻦ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻳﺠﺎﺑﻬﻬﺎ ﺑﻘﻮة ﻧﻔﻮ ٌر ٍ ﻳﺼﺎدﻓﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻳﻘﻴﻨًﺎ وﺳﻂ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ .وﻳﺸﺒﻪ ﻫﺬا اﻟﴫاع إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ اﻟﴫاع املﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة :ﻛﻞ اﻟﺤﻴﺎة ،أم ﻓﻘﻂ اﻟﻨﻮع اﻷﻗﻮى واﻷﻓﻀﻞ واﻷﻧﺒﻞ؟ إﻧﻪ ملﻦ املﺪﻫﺶ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ — ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن ﱠ أﺗﺒني — ﻟﻢ ﻳﻠﺤﻆ ﻗﻂ ﻫﺬا اﻻﻧﻘﺴﺎم ٍ ً أزﻣﺎت ﺧﺎﺿﻬﺎ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﻟﻠﺘﺄﻗﻠﻢ ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻌﻜﺲ اﻟﻔِ ﺞﱠ ﰲ ﻋﻤﻠﻪ، ﻣﻊ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪة اﻷﻟﻢ .وﻳﻤﻜﻦ رؤﻳﺘﻪ ً أﻳﻀﺎ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺗﺨﻤﻴﻨًﺎ ﻣﻦ أﺑﻮﻟﻠﻮ ودﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«؛ إذ ﻳﻤﺜﱢﻞ أﺑﻮﻟﻠﻮ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ وﻣﺤﺘﻤَ ﻠﺔ ،ﻣﻦ ﺧﻼل إﻗﺼﺎء أﻋﻤﺎق اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺴﻔﲇ ،ﰲ ﺣني ﻻ ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺷﻴﺌًﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﱪﻧﺎ ﻋﲆ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻷﻫﻮال اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد .ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻀﻄ ٍّﺮا ،ﻷﺳﺒﺎب ﻛﺜرية ،إﱃ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﻔﻨﺎن ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،ﻷﻧﺸﺄ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻳﺤﻘﻖ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻟﻠﺪواﻓﻊ املﺘﻀﺎرﺑﺔ ري ﻟﺴﺒﺐ اﻣﺘﻼﻛﻪ إﻳﺎﻫﺎ. املﻮﺟﻮدة ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺗﻔﺴ ٍ وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻤ ﱠﺮ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻔﻬﻮم »اﻷﺳﻮأ« — اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻰ ﺑﻪ اﻷﻣﻮر ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺎﻟﻜﺎد ﻧﻄﻴﻖ أن ﻧﺘﺤﻤﻠﻬﺎ — ﻟﻪ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺘﻠﻚ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﴩ ﺑﻬﺎ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« .ﻓﻬﺬا املﻔﻬﻮم ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻜﺘﺎب دراﻣﺎﺗﻴﻜﻲ ،أو ﳾء ﻣﺘﻌﻠﻖ ﰲ اﻟﻌﺎدة ﺑﺎملﻌﺎﻧﺎة ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة ،ﻋﲆ ﻧﻄﺎق ﺑُﺪاﺋﻲ .وإﻗﺮاره أﻣﺮ راﺋﻊ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،إﻻ ﻟﺪى اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳني اﻟﻌﻈﻤﺎء .وﻫﻨﺎ ﻳﻜﺸﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺳﺎﻓﺮ ﻋﻦ ﻓﺠﺎﺟﺘﻪ و ِﻗ ﱠﻠﺔ ﺧﱪﺗﻪ .وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ اﻛﺘﺴﺎب اﻟﺨﱪات ،ﺑﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺨﱪات ﰲ وﻗﺖ ﻗﺼري ،اﺗﻀﺢ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻛﺎن ﻣﺮوﱢﻋً ﺎ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ، دون ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻛﺒرية ،ﺑﺮﻋﺎﻳﺔ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس؛ ﻓﺈن اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻌﻈﻤﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻨﻮع ﱢ ﻣﺘﺤريًا؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺎدﻳﺔ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺴﻤﻮﺣً ﺎ ﺑﻪ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« ،واﻟﺬي ﺗﺮك ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺻﻐرية وﻟﻴﺴﺖ أﺿﺨﻢ ﻣﻦ املﻌﺎﻧﺎة اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ ﻟﺴﻌﺎت اﻟﺤﴩات .واﺗﻀﺢ أن أﺻﻌﺐ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻮاﺟﻬﺘﻪ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻟﻮ َ ﻛﻨﺖ ﻣﻜﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻫﻮ اﻻﺑﺘﺬال ،ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﱢ ﺑﺎﻟﺤﺲ اﻟﻔﻨﻲ ﻟﻮ ﻧ ُ ِﺴﺐ إﱃ أيﱟ ﻣﻨﻬﻢ .وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻋﺎﺟﺰ إﻫﺎﻧﺔ ﻣﻮﺟﱠ ﻬﺔ إﱃ اﻵﻟﻬﺔ املﺘﻤﺘﻌﺔ 82
اﻋﺘﻼء اﻷراﴈ املﺮﺗﻔﻌﺔ
ﻋﻦ وﺿﻊ اﻟﺼﻮرة اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة »ﺑﻼ ﻣﻨﺎزع« ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،وأﻗﺼﺪ اﻟﺮواﻳﺔ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ،ﺿﻤﻦ أيﱢ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻓﻨﱢﻲ .ﻛﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ،ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،ﻧﻘﻴﺾ اﻟﺮواﻳﺔ ،وأﻗﺼﺪ املﻮﺳﻴﻘﻰ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ وﻋﲆ ﻧﻄﺎق ﻏري ﻣﺴﺒﻮق ﰲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ .ﺑﻴﺪ أن ﻏري اﻟﻐﻨﺎﺋﻴﺔ ،املﺰدﻫﺮة املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻗﺪ ﻟﻌﺒﺖ دورﻫﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ .اﻵن ﻧﺠﺪ اﻧﻔﺼﺎﻣً ﺎ ﻣﺮوﱢﻋً ﺎ ﺑني اﻟﺪﻧﻴﻮي ،اﻟﺬي ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻏري ﻋﺮﺿﺔ ﻷي ﺻﻮرة ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻮل اﻟﻔﻨﻲ، واملﻮﺳﻴﻘﻰ »اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ« اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺘﻠﻮث روﻋﺘﻬﺎ وﺑﺆﺳﻬﺎ ﺑ »اﻟﻮاﻗﻊ« .وﻗﺪ أدت ﻣﺤﺎوﻟﺔ ً ﺗﻀﻠﻴﻼ ،ﰲ اﻟﻈﻮاﻫﺮ دﻣﺠﻬﻤﺎ ﻣﻌً ﺎ إﱃ ﺧﺪاع ﻓﺎﺟﻨﺮ ،وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻷﺷﺪ إﻳﻼﻣً ﺎ؛ ﻷﻧﻪ اﻷﻛﺜﺮ املﻌﺎﴏة .وﻻ ﻳﻈﻬﺮ أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﰲ اﻷﻓﻖ ﻟﻴﻮﺣﱢ ﺪ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳﻨﻔﺼﻞ أﺑﺪًا) .ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ً ﺳﺨﻴﻔﺎ ،ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺗﴫﻳﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻷﺧرية ﻋﻦ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﺑﻴﺰﻳﻪ ﰲ أوﺑﺮا »ﻛﺎرﻣﻦ« ﻋﻤﻞ ﻳَﻤﻮج ﺑﺎﻷﻫﻤﻴﺔ واﻟﺪﻻﻟﺔ ،ﰲ ﺣني أن »ﻛﺎرﻣﻦ« ﺟﺪﻳﱠﺔ املﻮﻗﻒ .ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ٍ — ﺣﺴﺐ ﻣﺎ ﻳﺮى أدوﻣﻮ — ﺗﺮﻓﺾ ﺑﻌﻨﺎد ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻌﻨًﻰ إﱃ أيﱢ ﺣﺪث(. ٍ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻟﺚ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﻮد ﻣﺆﻗﺘًﺎ إﱃ ﻣﻮﻃﻨﻪ اﻟﺠﺒﲇ ﻳﻘﻮل زرادﺷﺖ ﰲ ﻻﺳﺘﻌﺎدة ﻧﺸﺎﻃﻪ: أﻣﺎ ﻫﻨﺎﻟﻚ ﰲ اﻷﺳﻔﻞ ﻓﻜ ﱡﻞ ﻗﻮل ﻋﺒﺚ .وﻫﻨﺎﻟﻚ ،ﺧري ﺣﻜﻤﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﺴﻴﺎن وﴏف اﻟﻨﻈﺮ» ،وﻫﺬا« ﻣﺎ ﺗﻌﻠﻤﺘﻪ اﻵن .وإذا ﻣﺎ أراد أﺣﺪﻫﻢ أن ﻳﻔﻬﻢ ﻛ ﱠﻞ ﳾء ﻣﺘﻌﻠﻖ ْ وﻟﻜﻦ ﻳﺪايَ اﻟﻄﺎﻫﺮﺗﺎن أﻧﻘﻰ ﻣﻦ أن ﺑﺎﻟﺒﴩ ،ﻓﺈن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﺸﺒﺚ ﺑﻜﻞ ﳾء، ﺗﻤﺘﺪ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء .ﻟﻘﺪ ﺗﻤﻠﻜﻨﻲ اﻻﺷﻤﺌﺰاز ﻣﻦ راﺋﺤﺔ أﻧﻔﺎﺳﻬﻢ ،ﻓﻮا أﺳﻔﺎه ﻋﲆ زﻣﻦ ﻃﻮﻳﻞ َﻗ َﻀﻴْﺘُﻪ ﺑني َ ﺻﺨ ِﺒﻬﻢ وأﻧﻔﺎﺳﻬﻢ اﻟﻜﺮﻳﻬﺔ! »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻟﺚ» :اﻟﻌﻮدة ﻟﻠﻮﻃﻦ« وﻳﻮاﺻﻞ ﺣﺪﻳﺜﻪ املﺮ ﱢوع ﻋﻦ اﻟﺜﺮﺛﺮة اﻟﻔﺎرﻏﺔ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﺎدﻓﻬﺎ أﺳﻔﻞ اﻟﺠﺒﻞ. وﻛﺎن ﻫﺬا ر ﱠد ﻓﻌﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ املﻌﺘﺎد — وأﻧﺎ ﻣﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ — ﺗﺠﺎه اﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺤﴬﻳﺔ املﺤﻴﻄﺔ ﺑﻪ .وﻟﻜﻦ إﻗﺼﺎء اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺧﻄﻮة ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ا ُملﻘِ ﺮ ﱠ املﺆﻫﻞ .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﺤﺎول ﺗﺠﻨﱡﺐ ﻣﺎ ملﺤﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺗﻀﺎرﺑًﺎ ﰲ ﻣﻨﻈﻮره ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻏري »اﻟﻨﺴﻴﺎن وﴏف اﻟﻨﻈﺮ« ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻗﺎل ﰲ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺮاﺑﻊ ﻣﻦ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«: »ﻟِﻴﻜﻦ إﻧﻜﺎري اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ »ﴏف اﻟﻨﻈﺮ« «.وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﴫف ﻧﻈﺮك ﱠ ﺗﺘﺨﲆ ﻋﻦ ﻋﻨﻪ ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻜﺎن ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻚ ﺳﺘﻀﻄﺮ إﻣﺎ أن ﺗﻌﻴﺶ ﰲ زﻧﺰاﻧﺔ أو أن اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﺼﻌﺪ إﱃ ﻛﻬﻔﻚ اﻟﺠﺒﲇ؟ ﱢ ﻳﺒني ﻫﺬا ﻳﺄ ْ ًﺳﺎ أﺷ ﱠﺪ ﴐاو ًة ﻣﻦ اﻻﺧﺘﻼط ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻫﺎت 83
ﻧﻴﺘﺸﻪ
وﺷﺠﺒﻬﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ وردت ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﰲ ذﻫﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،أو ﻣﺎ ﻳﺸﺎﺑﻬﻬﺎ ،ﻗﺮر ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى ﺳﻴﻘ ﱡﺮ ﻛ ﱠﻞ ﳾء وﻳﻘﺒﻠﻪ ﻋﲆ ﻋﻠﺘﻪ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻼ ﳾء ﻳﺴﱰﻋﻲ اﻹﻋﺠﺎب ٍ ٍ إﻗﺮارات ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ واﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪأ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺄﻧﻬﺎ أﻣﻮر ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ ﰲ ﻣﺤﻈﻮر اﻟﺨﻮض ﻓﻴﻬﺎ .ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺪرﻛﻪ زرادﺷﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل :إن اﻻﻋﱰاض اﻷﻛﱪ ﻋﲆ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ﻫﻮ ﻓﻜﺮة أن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻀﺌﻴﻞ ﺳﻮف ﻳﺘﻜﺮر .وﻳﺼﻮغ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﺬا ﺑﺒﺼﻤﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ املﺤﻤﱠ ﻠﺔ ﺑﺎﻟﺴﺨﺮﻳﺔ اﻟﻴﺎﺋﺴﺔ ﰲ ﻛﺘﺎب »ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن« ،ﺣﻴﺚ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل» :أﻗ ﱡﺮ ﺑﺄن اﻻﻋﱰاض اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻋﲆ اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي ،وﻫﻮ ﻓﻜﺮﺗﻲ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ،ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ داﺋﻤً ﺎ ﰲ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ« )»ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن«ِ » ،ﻟ َﻢ أﻧﺎ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ« ،٣ ،أﺧﻔﺖ إﻟﻴﺰاﺑﻴﺚ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة وﻟﻢ ﺗُ َ ﻨﴩ ﱠإﻻ ﰲ ﺳﺘﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ(. ﺗﻮﺟﺪ ً أﻳﻀﺎ ﻣﺸﻜﻠﺔ أﺧﺮى ﺣﻮل إﻗﺮار ﻛ ﱢﻞ ﳾء وﻗﺒﻮﻟﻪ ﻋﲆ ﻋِ ﱠﻠﺘﻪ .ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﺬﺑﻪ ِﺻﻴَﻎ ﻣﺜﻞ »ﺣﺐ اﻟﻘﺪر« ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ً أﻳﻀﺎ واﻋﻴًﺎ ﺑﻔﺘﻮرﻫﺎ ﺷﺒﻪ اﻟﺤﺘﻤﻲ. إذ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻓﺎرق ْ ﻳﺴﻬُ ﻞ رﺻﺪه ﺑني اﻹﻗﺮار واﻻﺳﺘﺴﻼم؛ أو ﺑﺎﻷﺻﺢ ،ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻘﻮل إن وﺳﻴﻠﺘﻬﻤﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻟﻜﻦ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻋﻤﲇ .ﻫﻞ ﻫﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻫﺘﻤﺎم ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻟﻼﻣﺒﺎﻻة؟ وﻫﻞ ﻫﺬا ﻳﻜﻔﻲ؟ إن إﻗﺮار اﻟﺤﻴﺎة وﻗﺒﻮﻟﻬﺎ ﺑﻜ ﱢﻞ ﻋﻤﻞ أيﱢ ﺛﺮاﺋﻬﺎ ،واﻟﺬي ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ﻛ ﱠﻞ ﻓﻘﺮﻫﺎ ،ﻻ ﻳﻨﻄﻮي — ﺣﺴﺒﻤﺎ أرى — ﻋﲆ ِ ﳾء ﻣﺤﺪﱠد ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وإﻧﻤﺎ ﻳﻨﻄﻮي ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﲆ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﺮﺣﱢ ﺐ ﺑﺄيﱢ ﳾء ﻳﺼﺎدﻓﻪ وﻳﻘﺒﻠﻪ .وﻟﻜﻦ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﺎ ﺗﺠﺪه ﺑﻮﻓﺮة ﻫﻮ اﻟﻀﺂﻟﺔ واﻟﻘﺬارة اﻟﺮوﺣﻴﺔ ،ﻓﺴﻴﺒﺪو أﻧﻪ ﻣﻄﻠﻮب ﻣﻦ ا ُملﻘِ ﱢﺮ اﻟﺘﺪﺧﻞ وﺗﺤﺴني إﻳﻘﺎع اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻫﺬا ﻫﻮ أﺳﺎس اﻟﺘﻬﻤﺔ ﰲ اﻋﱰاض أدورﻧﻮ اﻟﺬي ﱠ ﺑﺎﻗﺘﻀﺎب ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ )أدورﻧﻮ .(٩٨-٩٧ :١٩٧٤ ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﺘَﻤﻞ ﰲ ﻋﱪ ﻋﻨﻪ ٍ ٍ ﺻﻔﻘﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺗﻀﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻟﻢ ﻳ ﱢ ُﻌﱪ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺬﻛﺎء ﰲ ﻋﻤﻞ آﺧﺮ ﺳﻮى »ﻣﺎ ﺧﻠﻔﻴﺔ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« .وﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻣﻀﻄﺮ إﱃ اﻟﺘﺤﺮك ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻣﺪﻓﻮﻋً ﺎ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﻗﺾ املﻄﺮوح ﰲ أﺣﺪ اﻟﻜﺘﺐ ﻟﻴﺘﺨﺬ ﻗﺮا ًرا ﺑﺸﺄﻧﻪ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺘﺎﱄ؛ وﻫﻲ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻨﻤﻄﻴﺔ اﻟﺘﻲ دﻓﻌﺘﻪ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ إﱃ آﺧﺮ )راﺟﻊ ﺑﻴﱰ ﻫﻴﻠﺮ .(١٩٦٦ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺘﺎﱄ ﻫﻮ اﻷﻋﻈﻢ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻔﺸﻞ ﰲ ﺗﺨﻔﻴﻒ وﻃﺄة اﻟﴫاع ،ﺑﺴﺒﺐ ﴏاﺣﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻌﻨﻴﺪة ،ﺑﻞ وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺰﻳﺪ اﻷﻣﺮ ﺳﻮءًا ،وﻳﱰك اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ أ ُ ﱢﻟﻔﺖ ﰲ اﻟﻌﺎم اﻟﺴﺎﺑﻖ ) (١٨٨٨ﻟﺘﺘﺄرﺟﺢ ﺑني اﻟﻠﻌﻨﺎت ﻏري املﺴﺒﻮﻗﺔ واﻟﺘﻤﺠﻴﺪ اﻟﺠﻨﻮﻧﻲ.
84
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺴﺎدة واﻟﻌﺒﻴﺪ
وﺿﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻨﻮاﻧًﺎ ﻓﺮﻋﻴٍّﺎ ﻟﻜﺘﺎب »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﺑﺎﺳﻢ »ﻣﻨﺎﻇﺮة ﺟﺪﻟﻴﺔ« ،وﰲ اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ أﻋﻠﻦ أﻧﻪ »ﺗﻜﻤﻠﺔ ﻟﻜﺘﺎﺑﻲ اﻟﺴﺎﺑﻖ» ،ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،ﺗﻬﺪف إﱃ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻋﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻷﺧﺮى ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻹﺿﺎﻓﺔ واﻟﺘﻮﺿﻴﺢ «.وﻫﻮ ﻳﺘﺨﺬ ﻃﺎﺑﻌً ﺎ ﱠ وﻣﻘﺴﻤﺔ إﱃ أﻗﺴﺎم ﻃﻮﻳﻠﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ،ﻣﻦ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﺒﺎﺣﺚ ﻣُﻌﻨﻮَﻧﺔ، إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن .وﻫﻮ ﻳﺸﺒﻪ املﻘﺎل اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺪف ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻫﻮ إﺛﺎرة ﺣﻔﻴﻈﺘﻨﺎ .واﻷﻓﻀﻞ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﺤﺎﻛﺎة ﺳﺎﺧﺮة ﻟﻺﺟﺮاءات اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ، ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻋﻤﻞ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺠﺪﻳﱠﺔ ،إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﻣﺤﺘﻮاه .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﺑﺎملﺒﺤﺜني اﻷوﱠﻟني، ﺑﻮﺻﻔﻪ أﻛﺜﺮ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺘﻲ أ ﱠﻟﻔﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ِ ﺑﻤﻌﺪل ﻟﻴﺲ ﺑﻮﺳﻌﻪ ﱠإﻻ أن ﻳﻤﻨﻊ املﺒﺪع ﻣﻦ اﻟﺴﻘﻮط ﰲ ﻓﺦ ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺮض ﺗﺤﻮﻻت ﺟﺪﻟﻴﺔ ٍ اﻟﻔﻮﺿﻮﻳﺔ. ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أن ﻓﺮوﻳﺪ ،ﺑﻌﺪ أن ﺳﻤﻊ إدوارد ﻫﻴﺘﺸﻤﺎن ﻳﻘﺮأ ﻣﻘﺘﺒﺴﺎت ﻣﻦ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﻋﺎم ،١٩٠٨ﻗﺎل :إن ﻧﻴﺘﺸﻪ »ﻳﻤﻠﻚ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺛﺎﻗﺒﺔ ﺑﺬاﺗﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أيﱢ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻋﺎش أو ﺳﻴﻌﻴﺶ ﻋﲆ اﻷرض« )ﺟﻮﻧﺰ :١٩٥٥ ،اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ .(٣٨٥ ،وﺑﻤﺎ أن »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﻋﻤﻖ واﻷدوم ﻟﻔﻬﻢ املﻌﺎﻧﺎة واﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول ﺑﻬﺎ اﻵﺧﺮون ﻓﻬﻤﻬﺎ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﺴﺘﻐﺮب أن ﻳﺘﱠﻘﺪ ﺣﻤﺎس ﻓﺮوﻳﺪ ﺗﺠﺎه ﻫﺬا اﻹﻃﺮاء اﻟﺮاﺋﻊ ،وﻫﻮ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻛ ﱠﺮس ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺟﺬرﻳٍّﺎ ﻟﻨﻔﺲ اﻟﻬﺪف. ﱠ وﺗُ َ ﺗﺘﺠﲆ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺘﻨﺎﻗﺾ ﺻﺎرخ، ﻌﺘﱪ اﻟﺘﺪاﺧﻼت املﺬﻫﻠﺔ ﰲ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎج ﺗﻔﻜري ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺪاﺋﻢ ﰲ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ املﺘﻨﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ اﺑﺘﺪﻋﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﻟﻠﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ املﻌﺎﻧﺎة.
ﻧﻴﺘﺸﻪ
وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ )إذا اﺳﺘﺒﻘﻨﺎ أﺣﺪ أﺳﺎﻟﻴﺒﻪ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري( ،ﻳﻔﺮض اﻟﺰاﻫﺪ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ املﻌﺎﻧﺎة ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﻬﺮب ﻣﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻧﻮاع اﻷﺧﺮى .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ .وﻟﻜﻨﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺒﺪأ ﰲ املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ ،ﺑﻌﻨﻮان »ﻣﺎذا ﺗﻌﻨﻲ ا ُملﺜﻞ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِﻳﺔ؟« ﰲ ﻓﺤﺺ أﻧﻮاع اﻟﺰﻫﺪ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺎرﺳﻬﺎ اﻟﻔﻨﺎﻧﻮن واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ وأﺗﺒﺎﻋﻬﻢ ،ﺗﻜﺜﺮ اﻟﺘﻘﻴﻴﻤﺎت وﺗﺘﺪاﺧﻞ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻮﺣﻲ ﺗﻌﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺪ وﺻﻞ إﱃ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺪﻫﺎء ،املﺘﻨ ﱢﻜﺮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ وراء ﻗﻮة اﻟﺘﻌﺒري اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺜﺒﺖ أن اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﱰﺗﻴﺐ املﻌﻘﻮل. ﻳﻨﺘﻘﻞ اﻟﻜﺘﺎب ﻛﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ ﺑﺴﺎﻃﺔ اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻊ — ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺸﻜﻞ واملﻀﻤﻮن — إﱃ اﻟﺸ ﱢﻚ ،إﱃ اﻧﻬﻴﺎر اﻟﺘﺼﻨﻴﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮم ﺣﻮل اﻟﻐﻤﻮض .ﺗﺪور اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﻷوﻟﻴﱠﺔ؛ »اﻟﻄﻴﺐ واﻟﺨﺒﻴﺚ« ،ﰲ املﺒﺤﺚ اﻷول ﺑﻌﻨﻮان »اﻟﺨري واﻟﴩ« ،ﺣﻮل »اﻟﻨﺒﻼء«؛ أوﻟﺌﻚ املﺨﻮﱠل ﻟﻬﻢ أن ﻳﺼﺒﺤﻮا ﻣﴩﱢﻋني ﻟﻠﻘﻴﻢ ﺑﻤﻮﺟﺐ وﺿﻌﻬﻢ ،واﻟﺬﻳﻦ »اﻋﺘﱪوا أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻃﻴﺒني وﺣﻜﻤﻮا ﻋﲆ أﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻃﻴﺒﺔ؛ أي إﻧﻬﺎ أﻓﻌﺎل ﻣﻦ اﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ ،ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻨﺤ ﱞ ﻂ ودﻧﻲء وﻣﺒﺘﺬل وﺳﻮﻗﻲ .وﻫﻢ إﻧﻤﺎ اﻧﺘﺤﻠﻮا ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺤﻖ ﰲ اﺑﺘﺪاع اﻟﻘﻴﻢ وﺻﻴﺎﻏﺔ أﺳﻤﺎءٍ ﻟﻬﺎ ،ﻣﻦ ﻋﻠﻴﺎء ذاك »اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﻔﻮارق« ﺑﻴﻨﻬﻢ وﺑني اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ إذ ﻣﺎذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﻤﻬﻢ املﻨﻔﻌﺔ!« )»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻷول .(٢ ،ﻫﻨﺎ ﻳﻮﺿﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻗﻮ ًة أﺧﺮى ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻋﺒﺎرة »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ«؛ إذ ﻳُﻘﺎل ﻋﻨﻬﻢ اﻵن :إﻧﻬﻢ ﻣﻨﺪرﺟﻮن ﺗﺤﺖ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻟﻌﺒﻴﺪ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﻈﺮون إﱃ أﺳﻴﺎدﻫﻢ ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ أﴍا ًرا ،وﻳﺤﺪدون »اﻟﻄﻴﺐ« ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﻢ .ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻳُﻌ ﱢﺮف اﻟﻨﺒﻼء اﻷﺻﻠﻴﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ً أوﻻ ،ﺛﻢ ﻳﻨﻌﺘﻮن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﱃ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ ﺑ »اﻟﺨﺒﻴﺚ« .ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺮى أن اﻹﺟﺮاء اﻟﺜﺎﻧﻲ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻷول ،وﻫﻮ ﺑﺎﻟﴬورة ر ﱡد ﻓﻌﻞ ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ اﻹﻧﻜﺎر .وﻣﺎ ﻳﻌﻴﺐ ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺒﻼء اﻟﺒُﺪاﺋﻴني ﻫﻮ أن ﺑﺴﺎﻃﺔ ﺗﻌﺎﻣﻠﻬﻢ ﻣﻊ اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻣُﻤ ﱢﻠني .ﻓﺒﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻣﻮﻓﻮرو اﻟﺼﺤﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣ ِ ُﻔﺴﺪ ﻟﻸﺧﻼق ،وﻏري ﻣﺒﺎﻟني ﺑﺎملﻌﺎﻧﺎة ،وﻏري ﻣﻬﺘﻤني ﺑﺈداﻧﺔ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺎﻗﻀﻮﻧﻬﻢ ،ﻳﺼﺒﺤﻮن ﻣﺒﺘﺪﻋﻲ ﻗﻴﻢ دون أن ﻳﺘﻤﺘﻌﻮا ﺑﺄيﱟ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻟﺠﻌﻞ اﻟﺘﻘﻴﻴﻤﺎت أﻣ ًﺮا ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﻌﻨﺎء. ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ،ﺷﺪﱠد ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻟﻴﻘﻆ؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﺎة ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﺤﻘﻖ ﻓﺎﺋﺪﺗﻪ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻮﺟﻮد اﻹﻗﺮار ﻏري املﻘﻴﱠﺪ اﻟﺬي ﻳﺒﺪو أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﻧﻪ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ،واﻟﺬي اﻗﱰب ﻣﻨﻪ اﻟﻨﺒﻼء ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻗﺒﻞ؟ ﻳﻌﻮد ﺑﻨﺎ ﻫﺬا ،ﺣﺴﺒﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺤﺪث ،إﱃ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﰲ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« .ﻓﺎﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ دون ﻧﺪم أو ﺣﻨني ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﺗﺒﺪو راﺋﻌﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻛﻴﻒ ﻻ ﻳﻨﺪم 86
ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺴﺎدة واﻟﻌﺒﻴﺪ
املﺮء ﻋﲆ اﻟﻮﻗﺖ املﻬﺪَر واﻟﻔﺮص اﻟﻀﺎﺋﻌﺔ واﻟﻔﺸﻞ ،ﻋﻼوة ﻋﲆ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻬﺎ ﻣﺠﺪدًا؟ وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺘﺠﻨﱠﺐ ،ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﻨﺪم ،اﻟﺨﻮض ﰲ ً ﺑﻌﻀﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻘﺎرﻧﺎت واﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺳﺲ اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ؟ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ،ﻳﺒﺪو أن ﻣﻦ أﻛﺜﺮ ﻛﻠﻤﺎت زرادﺷﺖ ﺛﺮاءً ﺑﺎملﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺴﻢ ﺗﻠﻚ املﺴﺄﻟﺔ: وﺗﻘﻮﻟﻮن ﱄ أﻳﱡﻬﺎ اﻷﺻﺪﻗﺎء :إﻧﻪ ﻻ ﺟﺪال ﰲ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﺬوق واﻷﻟﻮان؟ ﻟﻜﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺄﴎﻫﺎ ﻧﻀﺎل ﻣﻦ أﺟﻞ اﻷذواق واﻷﻟﻮان .وﻣﺎ اﻟﺬوق إﻻ املﻮزون واملﻴﺰان واﻟﻮازن ،ﻓﻮﻳ ٌﻞ ﻟﻜ ﱢﻞ ﺣﻲ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻌﻴﺶ دون ﻧﻀﺎل ﻣﻦ أﺟﻞ املﻮزوﻧﺎت ِ واملﻮازﻳﻦ واﻟﻮازﻧني! »ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪث زرادﺷﺖ« ،اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ» :ﻋﻦ ذوي املﻘﺎم اﻟﺮﻓﻴﻊ« وﻫﻜﺬا ،ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﻨﺒﻼء ،أو »اﻷﺳﻴﺎد« اﻷﺻﻠﻴني ،ﻟﻴﺴﻮا ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ واﺿﺤً ﺎ ﻟﻺﻃﺮاء .وﺑﺎملﺜﻞ ،ﻓﺈن »اﻟﻌﺒﻴﺪ« ،أوﻟﺌﻚ اﻟﺤﺎﻧﻘني ﻋﲆ اﻷﺳﻴﺎد ،ﻣﻦ املﺮﺟﺢ ﺑﺪرﺟﺔ أﻛﱪ أن ﻳﻘﺪﱢﻣﻮا إﺟﺎﺑﺎت ﻣﺸﻮﱢﻗﺔ ﺧﻼل اﺳﺘﻔﺴﺎراﺗﻬﻢ املﺠﺪﱠة ﺣﻮل ﻣﺼﺎدر ﺷﻘﺎﺋﻬﻢ. ً ﺗﺸﻮﻳﻘﺎ ،وأيﱡ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﺒﺴﺎﻃﺔ اﻟﺒﻄﻮﻟﻴﺔ ﺗﻀﻴﻊ .وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ وﻟﻜﻦ اﻹﺟﺎﺑﺎت ﺗﺰداد ﺳﺆال ﺳﻮى ذﻟﻚ اﻟﺴﺆال املﻔﻘﻮد ،ﺑﻼ ﻋﻮدة ،ﻓﺈﻧﻨﺎ اﻟﺒﴩ اﻟﻼﺣﻘني اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ ﻳﺠﺐ أن ﱠ ﻧﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺗﺄﺧﺮﻧﺎ وﻧﻮاﺻﻞ اﻟﺠﺪال أﻳﻨﻤﺎ ﻗﺎدﻧﺎ .وﻟﻜﻲ ﻧﺨﺘﴫ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺻﺎرم ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ )إذ ﻣﻦ املﺘﻌﺬر ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﺧﺘﺼﺎر »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق ﺑﻘﺪر أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺘﻬﺬﻳﺐ ﻳﻔﻮق أﺳﻴﺎدﻫﻢ وﻓﺼﻠﻬﺎ«( ﻧﻘﻮل :اﻛﺘﺸﻒ اﻟﻌﺒﻴﺪ أﻧﻬﻢ ﺑﺎﺗﺴﺎﻣﻬﻢ ٍ )وﻫﻮ ﻋﻤﻞ ﻏري ﺻﻌﺐ( ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻣﻤﺎرﺳﺔ إرادة اﻟﻘﻮة ﺑﻄﺮق ﻓﻌﱠ ﺎﻟﺔ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻘرية ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﻨﺒﻼء ،ﺑﻞ وﺣﺘﻰ إﱃ درﺟﺔ إﻗﻨﺎع اﻷﺳﻴﺎد ﺑﻘﻴﻤﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف .وﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻻرﺗﻘﺎء اﻟﺤﺘﻤﻲ ﻣﻦ اﻟﻴﻬﻮد ا ُملﺴﺘﻌﺒَﺪﻳﻦ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،أﻋﻈﻢ اﻧﻘﻼب أﺧﻼﻗﻲ ﺣﺪث ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ رﺻﺪه ،ﻣﻦ ﺑني اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻷﺧﺮى، ﰲ املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻧﻲ»» ،اﻟﺬﻧﺐ« ،و»اﻟﻀﻤري املﺘﻌﺐ« ،وﻣﺎ ﺷﺎﻛﻠﻬﻤﺎ «.ﻋﻨﺪﻣﺎ أدان املﺴﻴﺤﻴﻮن اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻜﱪﻳﺎء واﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ واﻟﺮﺿﺎ ﺗﺠﺎه اﻟﺬات ،واﺳﺘﺒﺪﻟﻮا ﺑﻬﺎ اﻻﺣﺘﺸﺎم واﻟﺘﻮاﺿﻊ وﻏريﻫﻤﺎ ،ﻧﺠﺤﻮا ﰲ ﺟﻌﻞ ﺣ ﱠﻜﺎﻣﻬﻢ ﺑﻨﻔﺲ ﺿﺂﻟﺘﻬﻢ .وﻟﻜﻦ ﻟﻜﻲ ﻳﺤﻘﻘﻮا ﻫﺬا ﻏﺮﺳﻮا ﻗﻴﻤً ﺎ اﺣﺘﻮت ﰲ داﺧﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﺬور دﻣﺎر املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻳﻘﺘﺒﺲ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺮب
87
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻧﻬﺎﻳﺔ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« إﺣﺪى أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻘﺮات إﻗﻨﺎﻋً ﺎ واملﺄﺧﻮذة ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻣﻦ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«: إﻧﻬﺎ اﻷﺧﻼق املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ .ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺼﺪق اﻟﺬي ُ ﻃﺒﱢﻖ ﺑﴫاﻣﺔ أﻛﺜﺮ ﻓﺄﻛﺜﺮ. وﻋﻲ إﻧﻬﺎ دﻗﺔ اﻟﺸﻌﻮر املﺴﻴﺤﻲ وﻗﺪ ﺷﺤﺬﻫﺎ اﻻﻋﱰاف وﺗﺴﺎﻣﺖ أﺧريًا إﱃ ﱟ ﺛﻤﻦ ﻛﺎن .إن اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺑﺮﻫﺎﻧًﺎ ﻋﻠﻤﻲ ،إﱃ وﺿﻮح ﻓﻜﺮي ﺑﺄيﱢ ٍ ٍ ﺳﺒﺐ ﻣﻘﺪﱠس ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻋﲆ ﻃﻴﺒﺔ اﻹﻟﻪ وﻋﻨﺎﻳﺘﻪ ،وﺗﺄوﻳﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﺠﺪ ٍ ﺷﻬﺎدة ﻣﺴﺘﻤﺮة ﻋﲆ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﻠﻨﻈﺎم اﻟﻜﻮﻧﻲ … ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺪ ﱠ »وﱃ« ﻣﻦ اﻵن ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﻫﺬا ﳾء »ﻣﻨﺎﻗﺾ« ﻟﻠﻀﻤري … »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«٣٥٧ ، وﻳﻮاﺻﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﰲ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﺑﺈﺣﺪى أروع ﻓﻘﺮاﺗﻪ: ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﻮر اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ْ ﴐب ﻣﻦ »اﻻﻧﺘﺼﺎر ﺗﻔ ُﺴﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻔﻌﻞ ٍ ﻋﲆ اﻟﺬات« .ﻫﺬه ُﺳﻨﱠﺔ اﻟﺤﻴﺎة؛ ُﺳﻨﱠﺔ »اﻻﻧﺘﺼﺎر املﺤﺘﻮم ﻋﲆ اﻟﺬات« اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة .وﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻟﺤﺎل داﺋﻤً ﺎ ﺑﺎملﴩﱢ ع إﱃ أن ﻳﺴﻤﻊ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ املﱪَم :ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮن اﻟﺬي اﻗﱰﺣﺘﻪ ﺑﻨﻔﺴﻚ. ﻫﻜﺬا أﺳﻘﻄﺖ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻋﻘﻴﺪة ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺗﺤﺖ وﻃﺄة أﺧﻼﻗﻴﺎﺗﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ .ﻫﻜﺬا ﻛﺎن ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺑﺄﺧﻼﻗﻴﺎﺗﻬﺎ أن ﺗﺴﻌﻰ إﱃ ﺣﺘﻔﻬﺎ .وﻫﺎ ﻧﺤﻦ اﻵن ﻋﲆ أﻋﺘﺎب ﻫﺬا اﻟﺤﺪث. »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ٢٧ ، وﺗﺪور ﺗﻌﻠﻴﻘﺎﺗﻪ اﻷﺧرية ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺣﻮل ﺳﻘﻮط اﻷﺧﻼق اﻟﺘﻲ ﺳﻴﻄﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﻣﻊ اﻛﺘﺴﺎب إرادة اﻟﺤﻖ وﻋﻴًﺎ ذاﺗﻴٍّﺎ. ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ :ﻳﺘﺤﺪث ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻨﺎ ﻋﻦ »ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﻮر اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ« ﺛﻢ ﻳﺼﻒ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺪﻣري املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ .ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﻛﺘﺎب »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« أﻛﺜﺮ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﺗﺰاﻧًﺎ ،ﻟﻴﺲ ﺑﻔﻀﻞ رﺻﺎﻧﺔ أﺳﻠﻮﺑﻪ — إذ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺬﻟﻚ — وإﻧﻤﺎ ﺑﻔﻀﻞ ﻛﺜﺮة اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت وإﻋﻄﺎﺋﻬﺎ ﱠ ﺣﻘﻬﺎ ،ﻟﻜﻲ ﻳﺪﻳﺮ ﻣﻌﺮﻛﺔ ،أو ﺑﺎﻷﺣﺮى أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻛﺔ ،ﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﻓﻴﻬﺎ 88
ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺴﺎدة واﻟﻌﺒﻴﺪ
ﻗﺪر ﻣﻤﻜﻦ وﺗﻜﺮﻳﺲ ﻛ ﱢﻞ املﺴﺎﻋﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﺑﺘﺴﻠﻴﺢ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺠﺒﻬﺘني ﺑﺄﻛﱪ ٍ ً وﺻﻮﻻ إﱃ ﺣ ﱟﻞ .وﻫﺬا ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻪ ﻣﻦ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ اﻟﺘﺤﻴﱡﺰ املﺪروس ﻟﻴﻤ ﱢﻜﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎرك ﰲ ﻛﺘﺒﻪ اﻷﺧرية .ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻛﺘﺎب »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« اﺳﱰﺟﺎﻋً ﺎ ﻣﺒﺪِﻋً ﺎ ﻟﻠﻤﺎﴈ وﻧﻘﻄﺔ ﻣﻐﺎدرة ﺗﻨﻘﻠﻪ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺘﻪ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ اﻧﻘﻄﻌﺖ ﻓﺠﺄة. ﻫﺬا اﻟﺒُﻌﺪ اﻻﺳﱰﺟﺎﻋﻲ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳ ِ ُﻜﺴﺐ ﻣﺒﺤﺜﻪ اﻟﺜﺎﻟﺚ »ﻣﺎذا ﺗﻌﻨﻲ ا ُملﺜﻞ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِﻳﺔ؟« ﺑﻨﻴﺘَﻪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ،ﻣﺒﺘﻌﺪًا ﻛﺜريًا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻋﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺜريﻫﺎ ﰲ ٍ ﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﺴﺎﺑﻖ؛ إذ ﻳُﺠﺮي ﻓﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﺳﺘﻄﻼﻋً ﺎ ﺣﻮل ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ا ُملﺜﻞ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﺷﺘﻰ ﻣﻦ اﻷﻓﺮاد ﻣﺎ داﻣﻮا ﻣﻬﻤني ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ ،ﰲ ﺿﻮء ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﺟﻠﺒﻮﻫﺎ ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﻢ .اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺮوﱢﻋﺔ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻧﺰﻳﺪﻫﺎ ﺳﻮءًا ﺑﻤﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺰﻫﺪ ،ﺗﻠﻚ اﻟﺰﻳﺎدة اﻟﻄﻮﻋﻴﺔ ملﺎ ﻗﺪ ﻳﺘﻮﻗﻊ املﺮء أن ﻳﺘﺠﻨﺒﻪ اﻟﻨﺎس؟ إن املﻌﺎﻧﺎة اﻟﻄﺎرﺋﺔ ﻓﻘﻂ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺤ ﱡﻞ ﺑﻨﺎ دون ﺗﻔﺴري ،ﻻ ﺗُﺤﺘﻤَ ﻞ .وﻟﻜﻦ ﻟﻮ ﺳﺒﱠﺒﻨﺎﻫﺎ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ ﻷﻣﻜﻨﻨﺎ ﻓﻬﻤﻬﺎ ،وﺗﻮﺳﻴﻊ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻛ ﱢﻠﻬﺎ. اﻟﻔﻨﺎﻧﻮن ﻫﻢ أول ﻣﻦ ﻳﺘﻢ إﻣﻌﺎن اﻟﻨﻈﺮ ﺑﺸﺄﻧﻬﻢ .ﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﺘﺤﻮل ﻫﺬا إﱃ ﺗﺪﺑﺮ ﻷﻣﺮ ﻓﺎﺟﻨﺮ )وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻔﺎﺟﺊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺜريًا( ،اﻟﺬي ﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ً اﻋﺘﻨﺎﻗﺎ ﱠ ﻟﻠﻌﻔﺔ ﰲ ِﺳﻨﱢﻪ املﺘﻘﺪﻣﺔ .ﺧﻼل ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ» :ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻳ َ ُﻔﺼﻞ اﻟﻔﻨﺎن اﻟﺠ ﱢﺪ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ ﻋﻦ ﻧﺘﺎﺟﻪ إﱃ درﺟﺔ ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ املﺘﻌﺬﱠر اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻞ ِ ً ﻣﺠﺒﻮﻻ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ،ملﺎ ﻛﺎن ﺑﻮﺳﻌﻪ أن ﻳﺘﺼﻮر وﻳﺘﺨﻴﻞ ﻧﺘﺎﺟﻪ … واﻟﺤﻖ أﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن َ ﱢ وﻳﻌﱪ .ﻓﻨﺎن ﻣﺜﻞ ﻫﻮﻣريوس ﻣﺎ ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ أن ﻳﺒﺘﺪع »أﺧِ ﻴﻞ« ،وﻻ ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺔ ﺟﻮﺗﻪ أن ﻳﺒﺘﺪع »ﻓﺎوﺳﺖ« ،ﻟﻮ أن ﻫﻮﻣريوس ﻛﺎن أﺧﻴﻞ أو ﺟﻮﺗﻪ ﻛﺎن ﻓﺎوﺳﺖ« )»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ .(٤ ،اﻟﺨﻼﺻﺔ ﻫﻲ أن اﻟﻔﻨﺎن ﻳﻔﺘﻘﺮ إﱃ اﻟﻀﻤري ،وﻳﺘﺒﻨﱠﻰ أيﱠ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﻨﻤﱢ ﻲ ﺑﻪ ﻋﻤﻠﻪ .وﻫﻮ ﻳﺴﺘﻐﻞ ﺧﱪﺗﻪ ﺑﻬﺪف اﻹﺑﺪاع ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑ »اﻟﺤﻖ«» .ﻣﺎ ﻫﻮ ،إذن ،ذﻟﻚ املﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ ﻛ ﱡﻞ ﺗﻄ ﱡﻠﻊ ﻟﻠﻤﺜﻞ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِﻳﺔ؟ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﻔﻨﺎن ،ﻛﻤﺎ ﻧﺮى ،ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أي ﻣﻌﻨًﻰ!« )»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ، .(٥وﺑﻤﺎ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ ﻣﺴﺘﻬﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ إن »اﻟﻔﻦ ﻫﻮ اﻟﻨﺸﺎط املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة« ﺛﻢ ﻫﺠﺮ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ،ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﻴ ًﱠﺎﻻ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺄن ﺛﻤﺔ أﻳﺔ ﻋﻼﻗﺔ وﻃﻴﺪة ﺑني اﻟﻔﻦ واﻟﻮاﻗﻊ .وﰲ ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ ﻻﺣﻘﺔ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل» :أ َ ْن ﻳﻘﻮل اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف: إن »اﻟﻄﻴﺐ واﻟﺠﻤﻴﻞ ﳾء واﺣﺪ« ﻟﻬﻮ ﻋﻤﻞ ﺷﺎﺋﻦ؛ وإذا واﺻﻞ ﺑﺈﺿﺎﻓﺔ »اﻟﺤﻖ ً أﻳﻀﺎ«، ﻓﻌﲆ املﺮء أن ﻳَﺠﻠِﺪه .ﻓﺎﻟﺤﻖ ﻗﺒﻴﺢ .وﻧﺤﻦ ﻧﻤﻠﻚ اﻟﻔﻦ ﺧﺸﻴﺔ أن »ﻧﻔﻨﻰ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺤﻖ«« 89
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻈﺮ إﱃ اﻟﻔﻦ ﺑﻮﺻﻔﻪ ً )»إرادة اﻟﻘﻮة« .(٨٢٢ ،وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻓﺪاﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳُﻨ َ ﻣﺜﺎﻻ ﻟﻠﻨﺸﺎط اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺒﺪو أن اﻟﻔﻨﺎﻧني — ﻛﺘﻨﺎﻗﺾ آﺧﺮ ﻟﻢ ﻳﺘ ﱠﻢ ﺗﻨﺎوﻟﻪ — ﺷﺨﺼﻴﺎت ﺷ ﱠﻜﺎﻛﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ، ﰲ ﺣني أن اﻟﻔﻦ ﻫﺮوبٌ ﻣﻦ اﻟﺤﻖ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳُﻄ َﺮح — ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﺎﺟﻨﺮ — ﺑﻮﺻﻔﻪ اﻟﺤﻖ .أيﱡ ﻓﻨﺎن ﻳﺤﺎول ﻓﻘﻂ أن ﻳﻘﺪﱢم ﺗﻘﺮﻳ ًﺮا ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻮ ﻣُﺪان ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﴏﻳﺢ .وﻣﺎ ﻋﺪا ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني ،ﻓﺈن اﻟﺒﺎﻗني »ﻛﺎﻧﻮا ﰲ ﻛ ﱢﻞ زﻣﺎن َﺧﺪﻣً ﺎ ﻟﻔﻀﻴﻠﺔ أو ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أو ﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ﻣﺎ« )»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ.(٥ ، وﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ املﺜﻞ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِﻳﺔ» ،دﻋﻮﻧﺎ ﻧﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني« )املﺼﺪر اﻟﺴﺎﺑﻖ(. ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻓﺈﻧﻚ ﺗﻤﺎرس ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ .ﻟﻜﻲ ﺗﻜﻮن اﻟﺰﻫﺪ ملﺼﻠﺤﺘﻚ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وﻟﻜﻦ اﻟﺰﻫﺪ ﻫﻨﺎ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛﻮن املﺮء ،ﰲ املﻘﺎم اﻷول، ٍ ﻫﺪف واﺣﺪ ﻳﺴﺘﻘﻄﺐ ﻛ ﱠﻞ ﻗﻮاه وﻳﺤﺮم ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ُﻣﺘَ ٍﻊ ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ ﻋﺎﻗ َﺪ اﻟﻌﺰم ﻋﲆ أﺟﻞ ﻫﺬا اﻟﻬﺪف املﻨﺸﻮد ﺑﻜ ﱢﻞ ﻋﺰم ،ﰲ ﺣني أن »اﻹﺟﺒﺎر« ﻋﲆ اﻟﺰﻫﺪ ﻫﻮ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺨﻮف ﻣﻦ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة؛ ﻷن املﺮء ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻫﺬا .ﻓﺜﻤﺔ زﻫﺪ ﺑﺎﻻﺧﺘﻴﺎر وزﻫﺪ ﺑﺎﻹﺟﺒﺎر ،وﻛﻼﻫﻤﺎ ﻇﺎﻫﺮة ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺎرﺳﻮﻧﻪ ﺑﺘﻮﺻﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ ﻻ ﻳﻤﺎرﺳﻮﻧﻪ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ أيﱢ ﺧري ﻳ َ ُﻌﺘﱪ ﻣﻄﻠﺒًﺎ أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﻟﻪ؛ وإﻧﻤﺎ ﻷن اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﺬﻧﺐ اﻟﺬي ﻏﺮﺳﻪ اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻳﺪﻓﻌﻬﻢ إﱃ ﻣﻀﺎﻋﻔﺔ املﻌﺎﻧﺎة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺤﻘﻮﻧﻬﺎ؛ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺴﻮة اﻟﺸﻨﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﺗﻔﴪ ﻟﻬﻢ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻛﻮن اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺆملﺔ ﺑﺘﻮﺟﻴﻪ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ ﻟﻬﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻣﺴﺌﻮﻟﻮن ﻋﻦ ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ. ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﺗﺜري دﻫﺸﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺗﺮوﻋﻪ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺪﻫِ ﺸﻪ ﻗﺪر ُة اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻷﻣﺮ ﺑﺮﻣﺘﻪ واﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺆس اﻷرﻋﻦ. »اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ اﻟﺤﻴﻮان املﺮﻳﺾ« ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻌﻼﺟﺎت املﺘﻮاﻓﺮة ﻗﺪ ﺟُ ﱢﺮﺑﺖ وﺛَﺒَﺖ ﻳﻔﴪ ﻧﻔﺎد ْ ﻓﺸﻠُﻬﺎ .وﻫﺬا ﱢ ﱢ واملﺘﺠﺴﺪ ﰲ ﻧﺼﻮﺻﻪ اﻟﻨﺜﺮﻳﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة ﺻﱪ ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺘﺰاﻳﺪ، اﻹﻳﺠﺎز ﰲ ﻋﺎﻣﻪ اﻷﺧري ،وﺗَﻮ َْﻗﻪ ﻟﻠﺜﻮرة اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ .وﻣﻊ اﺷﺘﺪاد ﻗﺴﻮة ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻗﺎدر ﻋﲆ ﺑﻤﻌﺪل ﻣﺨﻴﻒ ﺧﻼل ﻋﺎﻣﻲ ١٨٨٧و ،١٨٨٨ﻋﺎد ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻏري ازدادت ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ٍ ٍ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ أيﱢ رأي ﻳﺤﺎول ﺑﺄﻳﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ إﻛﺴﺎﺑﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ ،وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﺧﻼق ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﱰة ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﻮات املﺘﻜﺮرة اﻟﺒﺎرﻋﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺨﻴﻒ ﻹﻗﻨﺎع اﻟﻨﺎس ﺑﺄن اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻘﻮﻳﻢ واﻟﻨﺠﺎح أﻣﺮان ﻣﺮﺗﺒﻄﺎن .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻛﺘﺎب
90
ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺴﺎدة واﻟﻌﺒﻴﺪ
»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﻳﻤﻨﺢ َ ﻧﻔﺴﻪ اﻷﻣ َﻞ ﺑﺄﻧﻪ »ﻣﺎ ﻣﻦ ﺷﻚ ﺑﺄن اﻷﺧﻼق ﺳﻮف ﺗﺬوي ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ «.وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﺻﺪﱠق ﻫﺬا؛ إذ إن اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻷﻛﱪ ﻣﻦ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ُﺧ ﱢ ﺼﺺ ﻟﻌﺮض اﻟﻄﺮق اﻟﻮاﺳﻌﺔ اﻟﺤﻴﻠﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﺤﺪود اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول ﺑﻬﺎ اﻟﻜﻬﻨﻮﺗﻲ ،اﻟﺬي ﻻ ﻳﺤﺘﺎج ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ أن ﻳﻜﻮن ﰲ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ،أن ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﺳﺘﻤﺮارﻳﺔ اﻷﺧﻼق .وﻛﻠﻤﺎ ﺗﻨﺎﻗﺼﺖ أﻋﺪادﻧﺎ — ﻣﻦ دون املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺛﻤﺔ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﺄن ﺗﺰﻳﺪ أﻋﺪادﻧﺎ، وﻟﻜﻦ اﻻﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ اﻷﻛﱪ أﻧﻨﺎ ﺳﻨﺘﺸﺒﺚ ﺑﺄﺧﻼﻗﻨﺎ املﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﻣﺪﱠﻋني أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج ﻓﻘﻂ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﺪﻳﻼت اﻟﻄﻔﻴﻔﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺠﻨﺔ ﻋﲆ أرض اﻟﻨﻔﻌﻴﺔ — ﻓﻘﺪﻧﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ إدراك اﻟﻌﻈﻤﺔ ،ﻣﻔﱰﺿني أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﻣﻤﻜﻨﺔ .ﻟﻘﺪ اﻧﺘﴫت أﺧﻼق اﻟﻌﺒﻴﺪ! ﱢ وﻳﻠﺨﺺ اﻟﻘﺴ ُﻢ اﻷﺧري اﻟﺮاﺋﻊ وﻧﺤﻦ ﻗﺎﻧﻌﻮن ﺑﺄن ﻧﻜﻮن ﻋﺒﻴﺪًا ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ أﺳﻴﺎد. ﻣﻦ »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ﻫﺬا ﻛ ﱠﻠﻪ دون ﺗﺒﺴﻴﻂ أو ﻓﺠﺎﺟﺔ: اﻹﻧﺴﺎن ،اﻟﺬي ﻫﻮ أﺷﺠﻊ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت وأﺷﺪﻫﺎ ﺗﻤ ﱡﺮ ًﺳﺎ ﺑﺎﻟﺸﻘﺎء» ،ﻻ« ﻳﺮﻓﺾ اﻟﺸﻘﺎء ﺑﺤ ﱢﺪ ذاﺗﻪ؛ إﻧﻪ »ﻳﺮﻳﺪه« ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ ،ﴍﻳﻄﺔ أن ﻳ َ ُﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا اﻟﺸﻘﺎء وﻋﻦ »ﺳﺒﺐ« ﻟﺰوﻣﻪ .ﻓﺎﻟﻠﻌﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺎءت ﺑ َﻜ ْﻠ َﻜﻠِﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻫﻲ ﺧﻠ ﱡﻮ اﻷﻟﻢ ﻣﻦ املﻌﻨﻰ» ،ﻻ« اﻷﻟﻢ ﺑﺤ ﱢﺪ ذاﺗﻪ؛ »واملﺜﺎل اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِي ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻬﺬا اﻷﻟﻢ ﻣﻌﻨًﻰ!« وﻫﺬا املﻌﻨﻰ ﻇ ﱠﻞ ﺣﺘﻰ اﻵن املﻌﻨﻰ اﻟﻮﺣﻴﺪ .ﻳﻈﻞ وﺟﻮد املﻌﻨﻰ ً ﻓﺮﺻﺔ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻋﺪم وﺟﻮد أيﱢ ﻣﻌﻨًﻰ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق … ﻟﻜﻨﻪ ﻗﺪﱠم ﻟﻺﻧﺴﺎن »ﻟﻠﺨﻼص« ،وأﺻﺒﺢ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻣﻌﻨًﻰ ،ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻣﺜﻞ رﻳﺸﺔ ﰲ ﻣﻬﺐ اﻟﺮﻳﺢ … أﺻﺒﺢ ﺑﻮﺳﻌﻪ اﻵن أن »ﻳﺮﻳﺪ« ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ ،ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﻳﺔ أﻫﻤﻴﺔ ملﺎ ﻳﺮﻳﺪ ،إذ ملﺎذا ﻛﺎن ﻟﻪ أن ﻳﺮﻳﺪ ﻫﺬا اﻟﴚء ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذاك؟ ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺎذا ،وﻛﻴﻒ؟ أﻣﺎ اﻵن» ،ﻓﻘﺪ َ أﻧﻘﺬ اﻹرادة ﻧﻔﺴﻬﺎ«. ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﲆ املﺮء أن ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻹرادة وﻣﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﻬﺎ املﺜﺎل ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ اﻟ ﱡﺰ ْﻫﺪِي ﺗﻮﺟﱡ ﻬﻬﺎ؛ ﻫﺬه اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﴩي، وﻓﻀﻼ ً ً أﻳﻀﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻫﻮ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻫﻮ »ﺣﻴﻮاﻧﻲ«، »ﺟﻤﺎد« .ﻫﺬا اﻻرﺗﻌﺎب اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﻮاس ،ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻫﺬا اﻟﺘﺨﻮﱡف ﱡ وﺗﻐري ﻣﻦ اﻟﺴﻌﺎدة وﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎل ،ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﻔﻮر ﱟ وﺗﻤﻦ ورﻏﺒﺔ؛ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ — و ْﻟﻨﺘﺠﺮأ ﻋﲆ اﺳﺘﻴﻌﺎﺑﻪ — »إرادة وﺗﺤﻮﱡل وﻣﻮت ً ً ورﻓﻀﺎ ﻟﻠﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﴩوﻃﻬﺎ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ. وﻣﻮﻗﻔﺎ ﻋﺪاﺋﻴٍّﺎ ﺗﺠﺎه اﻟﺤﻴﺎة، ﻋَ ﺪَﻣﻴﺔ«، 91
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ »إرادة« ﻣﺎ! … وﰲ ﺧﺘﺎم ﺣﺪﻳﺜﻲ أﻛﺮر ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﱄ أن ﻗﻠﺘﻪ ﰲ ﻳﻔﻀﻞ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻪ »إرادة اﻟﻌَ ﺪَم« ﻋﲆ ﱠ اﻟﺒﺪاﻳﺔ :إن اﻹﻧﺴﺎن ﱢ »أﻻ« ﺗﻜﻮن ﻟﻪ إرادة ﺑﺎملﺮة. »أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ،املﺒﺤﺚ اﻟﺜﺎﻟﺚ٢٨ ، ﺑﻬﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻳﺨﺘﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ آﺧﺮ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪة اﻻﺑﺘﻜﺎر اﻟﺘﻲ أ ﱠﻟﻔﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻣﻦ أﻣﻞ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ. املﺜري ﻟﻠﺪﻫﺸﺔ ﻣﺪى اﻟﺒﻬﺠﺔ ﻓﻴﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻋﺪم اﺣﺘﻮاﺋﻪ ﻋﲆ أﻳﺔ رﺳﺎﻟﺔ ٍ ﺑﻴﺪ أن اﻟﺘﺸﺨﻴﺺ املﻄﺮوح ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻳﻔﺎﺟﺊ املﺮء — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ وﻫﻤﻴﺘﻪ — ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻧﺤﻮ اﻟﻌﻼج.
92
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
ﻗﺮﻋﺎ ﺑﺎﳌﻄﺮﻗﺔ ﺗﻌﺎﻃﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً
ﻛﺎن ﻋﺎم ،١٨٨٨وﻫﻮ آﺧﺮ اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺴﻼﻣﺔ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻋﺎﻣً ﺎ ﺧﺼﺒًﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وإن ﻛﺎن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ اﻟﻐﺮاﺑﺔ .ﻟﻘﺪ ﺑﺪأ ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻴ َ ُﻌﺘﱪ أﻫﻢ ﻛﺘﺒﻪ» ،إﻋﺎدة ﺗﻘﻴﻴﻢ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻘﻴﻢ« ،ﺛﻢ ﺗﺮﻛﻪ ،ﻟﻴﺲ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺪﻫﻮر ﻗﻮاه اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ — ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺸﻚ اﻟﺒﻌﺾ — وإﻧﻤﺎ ﻷن ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺟﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﺎﺋﻬً ﺎ .ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﺣﻮل ﻋﻮدة اﻟﱪاءة وﻣﻴﻼد اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪ وﻣﺎ ﺷﺎﺑﻬﻬﺎ ﻗﺪ ﺑﺪت ﻟﻪ ﺟﻮﻓﺎء ﻟﻌﺠﺰه ﻋﻦ ﺗﺠﺴﻴﺪﻫﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻓﻨﻴﺔ .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻛ ﱠﺮس ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﺠﺎدﻻت اﻟﺘﻲ ُﻛﺘﺒﺖ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻮﺿﻮح ﺣﺘﻰ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻘﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ .إﻧﻪ ملﻦ اﻟﺨﻄﺄ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ أن ﻧﺪﱠﻋﻲ ،ﻣﺜﻞ ﺑﻌﺾ ﱢ املﻔﴪﻳﻦ ،أﻧﻪ ﻗﺪ ﻗ ﱠﻠﻞ ﻣﻦ ﻗﺪر ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑﺎﺧﺘﺰاﻟﻪ إﱃ ﺷﻌﺎرات. وﻣﻊ ﻫﺬاُ ،ﺳ ِﺒ َﻐﺖ ﻫﺬه املﺠﺎدﻻت ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ﺑﺼﺒﻐﺔ رﺛﺎﺋﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻳ ﱢ ُﺼﻔﻲ اﻷﺟﻮاء ﻣﻊ اﻷﻋﻼم اﻟﺘﻲ ﺷﻐﻠﺖ ﺑﺎﻟﻪ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ .ﻓﺜﻤﺔ ﻛﺘﻴﱢﺒﺎن ﻋﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ ،اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻗﻂ أن ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺗﺄﺛريه ﻋﻠﻴﻪ ،ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﺸﺨﴢ أم اﻟﻔﻨﻲ .اﺗﱠﺴﻢ أوﻟﻬﻤﺎ، ﺑﻌﻨﻮان »ﻗﻀﻴﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ« ،ﺑﺎﻟﺪﻫﺎء واﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ،وﻛﺎن ﺗﺄﺛريه اﻹﺟﻤﺎﱄ — ﺣﺴﺒﻤﺎ أﺷﺎر أذﻛﻰ ﱠ ﱢ وﻟﻜﻦ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻔﴪﻳﻪ ،ﻣﺜﻞ ﺗﻮﻣﺎس ﻣﺎن — ذا ﻣﺴﺤﺔ ﻣﺪﻳﺤﻴﺔ ﻣﻌﻜﻮﺳﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏﺮﻳﺐ. ً ﻣﻌﻜﻮﺳﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ أﻟﻘﻰ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻈﺮة ﻋﺎﻣﺔ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻞ ﻛﺒريًا ﻣﻦ املﺪﻳﺢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﺧﱪﺗﻪ اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻛﻜ ﱟﻞ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﺪو أن ﻫﺬا اﻟﻜﺘﻴﱢﺐ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻛﺎن اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻳﻬﻤﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريه ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻣﻊ »ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن وإﻳﺰوﻟﺪ« ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« .وﻣﻤﺎ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻗﻂ ﻛﺘﺎﺑﺔ أيﱢ ﳾء أﻛﺜﺮ ﺑﻼﻏﺔ ﻣﻦ وﺻﻒ ﺗﺄﺛرياﺗﻪ ﻋﻠﻴﻪ ،ﺣﺘﻰ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻓﺎﺳﺪًا ،ﻣﺼ ﱢﻮ ًرا ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .وﻳﻤﻜﻦ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﱠ ﺑﺄﺑﻌﺎدٍ أﺳﻄﻮرﻳﺔ ﺷﺨﺼﻴﺎت ﺗﻨﺘﻤﻲ ﻟﻔﻠﻮﺑري ،ﻣﻦ أﺟﻞ »ﻣﻐﺎﻟﻄﺔ اﻟﺸ ْﺨﺼﻨﺔ«» :ﻓﻔﻲ ﺗﺤﻮل ﻓﺎﺟﻨﺮ إﱃ اﻟﻌﻈﻤﺔ ،ﻻ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺄﻳﺔ ﻣﺸﻜﻼت ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺸﻐﻞ اﻵن
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﺑﺎل ﻓﺎﺳﺪي ﺑﺎرﻳﺲ .إﻧﻪ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﺑُﻌﺪ ﺧﻤﺲ ﺧﻄﻮات ﻣﻦ املﺴﺘﺸﻔﻰ .ﺟﻤﻴﻊ املﺸﻜﻼت ﻣﺸﻜﻼت ﻋﴫﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،و»ﻋﺎﺻﻤﻴﺔ« ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .ﻻ ﺷﻚ ﰲ ﻫﺬا« )»ﻗﻀﻴﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ«.(٩ ، وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ؟ إﻧﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻳﺪﻳﺮ اﻹﺟﺮاءات داﺧﻞ املﺴﺘﺸﻔﻰ. املﺠﺎدﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ املﻨﺎﻫِ ﻀﺔ ﻟﻔﺎﺟﻨﺮ ،ﰲ ﻛﺘﺎب »ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻓﺎﺟﻨﺮ« ،ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ً ً ووﺻﻮﻻ ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻦ »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ﻣﻦ اﻷﻗﺴﺎم املﺄﺧﻮذة ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ، ً ٍ وﺻﻔﺎ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﺑﺘﻌﺪﻳﻼت ﺑﺴﻴﻄﺔ .وﻳﺼﻔﻪ ﻓﺎﻟﱰ ﻛﺎوﻓﻤﺎن إﱃ »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ«، »رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن أﺟﻤﻞ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ« ،وﻟﻴﺲ ﻣﻨﺒﻊ اﻻﺳﺘﻐﺮاب ﻫﻨﺎ أﻧﻨﺎ ﻧﻘﺼﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻋﻤﻼ ﻣﻨ ﱠ ﻓﻘﺮات ﺟﻤﻴﻠﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺨﺘﺎرات أدﺑﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ً ﻈﻤً ﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ — ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل — ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻋﴩﻳﻦ ﺻﻔﺤﺔ ﻓﻘﻂ .وﻛﻐريه ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ ،ﻓﻬﻮ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻧﻬﺞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﻧﻔﺴﻪ إﱃ أﺳﻄﻮرة ،واﻟﺬي ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻓﻴﻪ َ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ »ﻣُﺪاﻧًﺎ ﰲ ﻧﻈﺮ اﻷملﺎن«، ﻧﻘﻴﻀﺎ واﺿﺤً ﺎ ﻟﺒﻘﻴﺘﻬﻢ ،إﱃ أن ﻳﺼﻴﺒﻪ ﻫﻮ ً ً أﻳﻀﺎ ﻧﻔﺲ املﺼري ﰲ وﺟﻮد ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره وﻣﻨﻜﴪا ،أﻣﺎم اﻟﺼﻠﻴﺐ املﺴﻴﺤﻲ« )ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻓﺎﺟﻨﺮ» ،ﻛﻴﻒ ﻓ »ﻳﻨﻬﺎر ﻓﺠﺄة ،ﻋﺎﺟ ًﺰا ِ ً ً ُ ﻧﻘﻴﻀﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ﻟﻪ ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن اﻧﻔﺼﻠﺖ ﻋﻦ ﻓﺎﺟﻨﺮ« .(١ ،وﻫﻮ ﻳﺼﻮﱢر ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻳﺼﺒﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﻘﺪرة ﻋﲆ إدراك املﺨﺎﻃﺮ اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻪ روﻣﺎﻧﺴﻴٍّﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. ﺗﺘﺴﻢ ﻛﺜﺎﻓﺔ اﻟﺘﺒﴫ ﺑﺎملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﺪراﻣﺎ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ اﻟﻔﺎﺟﻨﺮﻳﺔ وﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﻓﺎﺟﻨﺮ ﺑﱪاﻋﺔ ﻣﺪﻫﺸﺔ ،وﺟﻤْ ﻊ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮات ﻣﻌً ﺎ ﻳﻀﻴﻒ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري وﻳﺆ ﱢﻛﺪه .وﻟﻜﻦ اﻷﻫﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺷﻬﺎدة ﻋﲆ ﺣﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺪاﺋﻢ ﻟﻸﺷﻴﺎء املﺤﻈﻮرة. ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﰲ »ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« ،اﻟﺬي — وﺳﻂ ﻣﺠﺎدﻻﺗﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺰﻋﻢ ﺑﺼﺤﺔ ﻫﺬا اﻟﺤﺎدة واﻟﻔﻌﺎﻟﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ — ﻳﺼﻮﱢر املﺴﻴﺢ ﺑﻮﺻﻔﻪ »املﺮﻣﱢ ﺰ اﻟﻜﺒري ،ﻣﻦ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﻘﺒﻞ ﻏري اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ »اﻟﺒﺎﻃﻨﻴﺔ« ﻓﻘﻂ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ وﻗﺎﺋﻊ ،أي »ﺣﻘﺎﺋﻖ« ،وأن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ،أي ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻃﺒﻴﻌﻲ وزﻣﻨﻲ وﻣﻜﺎﻧﻲ وﺗﺎرﻳﺨﻲ ،ﻻ ﻳُﻤﺜﱢﻞ ﰲ ﻓﻬﻤﻪ ﱠإﻻ رﻣﻮ ًزا، وﻣﻨﺎﺳﺒﺎت ﻟﻠﺤﻜﺎﻳﺎت اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ« )»ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« .(٣٤ ،وﺗﺒﻠﻎ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ،ﻋﲆ اﻣﺘﺪادﻫﺎ، ﻗﻤﺔ اﻟﻐﻨﺎﺋﻴﺔ اﻟﺸﺎﻃﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ املﺮء ﻳﺘﺴﺎءل ﻛﻴﻒ ﺳﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ أن ﱠ ﻳﺪق ﻃﺒﻮل اﻻﻧﺴﺤﺎب .وﻫﻮ ﻳﺤﺘﺎل ﻟﻸﻣﺮ ﻣﻦ ﺧﻼل ﱢ ﺷﻦ ﻫﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ املﺴﻴﺤﻲ ﻛﺎن ﻛريﻛﺠﺎرد ﱡ ﻳﻨﺸﻖ ﻋﻠﻴﻪ وﻳﺨﺎﻟﻔﻪ ﺑﺎﻗﺘﻨﺎع ﺷﺪﻳﺪ. ﻟﻴﻔﺨﺮ ﺑﻪ ،وﻫﺠﻮم آﺧﺮ ﻋﲆ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺑﻮﻟﺲ اﻟﺬي ﻛﺎن اﻟﻌﺎرم ﺗﺠﺎه ﻣﺎ ﺻﻨﻌﻪ اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ املﺴﻴﺢ ﺑﺪﻳ ٌﻊ ﰲ اﻧﻔﻌﺎﻟﻪ ،وﰲ ﱠإﻻ أن ﻏﻀﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ِ ﺗﻌﺒريه ﻋﻦ اﺷﻤﺌﺰازه ﻣﻦ اﻟﻔﺴﺎد .وﻫﻮ ﻳﴫﱢ ح ً ﻗﺎﺋﻼ»» :املﻤﺎرﺳﺔ« املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ أي اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﻋﺎﺷﻬﺎ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻣﺎت ﻓﻮق اﻟﺼﻠﻴﺐ ،ﻫﻲ وﺣﺪﻫﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﺢﱡ أن ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ. 94
ﺗﻌﺎﻃﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗﺮﻋً ﺎ ﺑﺎملﻄﺮﻗﺔ
واﻟﻴﻮم ً أﻳﻀﺎ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻤﻜﻨﺔ ،ﺑﻞ وﴐورﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻧﻮع ﻣﺤﺪﱠد ﻣﻦ اﻟﻨﺎس؛ ﻓﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ،املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ،ﺳﺘﻈﻞ أﻣ ًﺮا ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷزﻣﺎن« )»ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« .(٣٩ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻷرواح اﻟﻘﻮﻳﺔ؛ ﻷن اﻷﻣﺮ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻹﻳﻤﺎن» .اﻹﻳﻤﺎن ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﺳﻌﺪاء؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﺣﻘﻴﻘﻲ« )»ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« .(٥٠ ،ﻳﺼﺪر ﻫﺬا ﻋﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺘﺰﻣﱢ ﺖ اﻷﺻﻴﻞ ،اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﻳﻔﻜﺮ ﰲ أن »إﻗﺤﺎم أﺣﺎﺳﻴﺲ املﺘﻌﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺴﺆال ﻋﻦ »ﻣﺎ ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ« ﻳﻤﻨﺤﻨﺎ ً ً ﻣﻌﺎﻛﺴﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷﺣﻮال رﻳﺒﺔ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ، دﻟﻴﻼ ﺗﺠﺎه »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ«« )»ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« .(٥٠ ،وﻗﺪ ﻳﺘﻔﻖ املﺮء ﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﺆﺟﻞ ﺗﺸﻜﻴﻜﻪ ﰲ إرادة اﻟﺤﻖ .وﰲ ﺟﺰء ﺳﺎﺑﻖ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ اﻟﻜﺘﺎب ،ﰲ ﺧﻀ ﱢﻢ ﻫﺠﻮ ٍم ﻣﺪﻣﱢ ﺮ ﻋﲆ أﺧﻼﻗﻴﺎت ﻛﺎﻧﻂ ،ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل» :ﻛ ﱡﻞ ﻋﻤﻞ ﺗﻔﺮﺿﻪ ﻏﺮﻳﺰة اﻟﺤﻴﺎة ﻳﺠﺪ ﰲ دﻟﻴﻼ ﻋﲆ ﻛﻮﻧﻪ ً املﺘﻌﺔ ً ﻋﻤﻼ »ﺻﺎﺋﺒًﺎ« .ﻏري أن ذﻟﻚ اﻟﻌﺪﻣﻲ ﻛﺎﻧﻂ ذا اﻷﺣﺸﺎء اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻗﺪ رأى ﰲ املﺘﻌﺔ »ﻋﻴﺒًﺎ« .وأيﱡ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن أﴎع ﺗﺪﻣريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ ﺷﺨﴢ ﻋﻤﻴﻖ ،ودون »ﻣﺘﻌﺔ« واﻟﺘﻔﻜري واﻹﺣﺴﺎس دون ﴐورة داﺧﻠﻴﺔ ،ودون اﺧﺘﻴﺎر ﱟ ﻛﺂﻟﺔ أوﺗﻮﻣﺎﺗﻴﻜﻴﺔ ﻳﺤ ﱢﺮﻛﻬﺎ »اﻟﻮاﺟﺐ«؟« )»ﻧﻘﻴﺾ املﺴﻴﺢ« .(١١ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻋﺪم وﺟﻮد ﺗﻨﺎﻗﺾ ﴏﻳﺢ ﻫﻨﺎ ،ﻳﻮﺟﺪ ذﻟﻚ اﻟﴫاع اﻟﻨﻤﻄﻲ ﺑني ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺼﻤﱢ ﻢ ﻋﲆ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻛ ﱢﻞ ﳾء دون إﺟﻔﺎل ،وﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺴﺎﻋﻲ وراء اﻟﻠﺬة ﺑﻨﻬﻢ ﺷﺪﻳﺪ. ﱠ إن أﻛﺜﺮ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺣﻴﻮﻳﺔ وذﻛﺎءً وﺑﻬﺠﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻫﻮ ﻛﺘﺎﺑﻪ »أﻓﻮل اﻷﺻﻨﺎم« اﻟﺬي ﺻﺪر ﻋﺎم ،١٨٨٨واﻟﺬي ﻳُﻌَ ﺪ ﻋﻨﻮاﻧﻪ ﻣﺤﺎﻛﺎة ﺳﺎﺧﺮة ﻷوﺑﺮا ﻓﺎﺟﻨﺮ املﺸﺤﻮﻧﺔ ﺑﺎﻟﻬﻼك »أﻓﻮل اﻵﻟﻬﺔ« .وﻫﻮ ﻳﻌﻜﺲ اﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﻨﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ اﻹﺗﻘﺎن اﻟﺘﺎم ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ أ ﱠﻟﻔﻪ ً ﺣﻤﺎﺳﺎ اﻟﺘﻲ وﻫﻮ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺔ اﻻﻧﻬﻴﺎر .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ أﻃﻮل أﻏﻨﻴﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﻳﻮﺟﻬﻬﺎ إﱃ ﺟﻮﺗﻪ ،اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ — ﺑﻌﺪ ﺗﺨﲇ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ — اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ ﻟ »اﻹﻧﺴﺎن اﻷﻋﲆ« ،وﻫﻮ ﻣﻔﻬﻮم ﻟﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪ ﱢﻟﻞ ﻋﻠﻴﻪ ،ﰲ ﺣني ﻛﺎن زرادﺷﺖ ﻣﺼﻤﱢ ﻤً ﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ »ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﻗﻂ »إﻧﺴﺎن أﺳﻤﻰ« «.وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛ ﱠﻞ ﻧﻤﻮذج ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺘﺤﻔﻈﺎت املﻔﺮوﺿﺔ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﻔﻬﻢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻔﻲ ﺑﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ .إذن ﻓﺠﻮﺗﻪ »ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺮﻳﺪ ﱠإﻻ »اﻟﻜﻠﻴﱠﺔ« ،وﻗﺪ ﻛﺎﻓﺢ َ اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﺲ واﻟﺸﻌﻮر واﻹرادة )اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺪﻋَ ﻰ إﻟﻴﻬﺎ ﺿﻤﻦ ﺳﻜﻮﻻﺳﺘﻴﻜﻴﺔ ﻣﻔﺰﻋﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ »ﻛﺎﻧﻂ« ،ﻧﻘﻴﺾ ﺟﻮﺗﻪ(؛ وﻗﺪ ﻋﻮﱠد ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﺑﻠﻮغ اﻟﺘﻜﺎﻣﻞ ،و»ﺧﻠﻖ« ﻧﻔﺴﻪ« )أﻓﻮل اﻷﺻﻨﺎم» ،ﺗﺴﻜﻌﺎت رﺟﻞ ﻏري ﻣﻮاﻓﻖ ﻟﻠﻌﴫ«، .(٤٩وﻳﻜﺎﻓﺌﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄﻋﲆ درﺟﺎت اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ» :ﻋﻘﻞ »ﻣﺘﺤﺮر« ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﻳﻘﻒ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ 95
ﻧﻴﺘﺸﻪ
اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ اﻟﺒﻬﻴﺞ اﻟﻮاﺛﻖ ﰲ ﻗﻠﺐ اﻟﻜﻮن» ،راﺳﺦ اﻹﻳﻤﺎن« ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻨﺒﻮذًا ﻏري اﻟﺤﺎﻟﺔ املﻨﻌﺰﻟﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﰲ املﺠﻤﻞ ،ﻛ ﱡﻞ ﳾء ﻳﺤﻈﻰ ﺑﺎﻟﻘﺒﻮل واﻟﺨﻼص — »ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﻨﻔﻲ ﺑﻌﺪ اﻵن« .ﱠ ﻟﻜﻦ إﻳﻤﺎﻧًﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻫﻮ أرﻗﻰ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن: ﻟﻘﺪ ﻋﻤﱠ ﺪﺗﻪ ﺑﺎﺳﻢ »دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس«« )املﺼﺪر اﻟﺴﺎﺑﻖ( .ﺛﻤﺔ اﻧﺤﺮاﻓﺎت ﻻﻓﺘﺔ ﻫﻨﺎ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﻟﻢ ﻧﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أن »ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻨﺒﻮذًا ﻏري اﻟﺤﺎﻟﺔ املﻨﻌﺰﻟﺔ«؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﺴﺎءل ﻋﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺼﻨﻊ ﺑﻬﺬا .وﻟﻜﻨﻨﺎ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﻛﺜريًا ،وإن ﻛﺎن اﻟﺘﺄﺛري ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻋﻦ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻐِ ﺐ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻊ آﻟﻬﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻌﻮد اﻵن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻛﺒري ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎم اﻷﺧري .وﻛﺎﻟﻌﺎدة ،ﻓﻬﻮ إﻟﻪ اﻹﻗﺮار ﻏري املﺤﺪود .وﻟﻜﻦ ﺳﻴﺎق إﻗﺮاره ﻗﺪ ﱠ ﺗﻐري ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن ﻧﻮع اﻹﻗﺮار املﻄﻠﻮب ﻏري ﻣﺘﺸﺎﺑﻪ ﻣﻊ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة«. وﻫﺬا ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﺠﺴﺎرة ﻋﻦ ُﻣﺘَﻊ اﻟﺠﻨﱠﺔ ﻣﻦ ﻣﻮﻗﻊ ﰲ ﺟﻬﻨﱠﻢ ،إذ ﻳﻘﻮل »ﻻ« ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎم اﻷﺧري أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أيﱢ وﻗﺖ ﻣﴣ .وﻗﺪ ﻳﻘﻮل املﺮء :ﺣﺘﻰ إن »إﻗﺮارﺗﻪ« ﻣﺠﺮد ﻧﻔﻲ اﻟﻨﻔﻲ ،وﻫﺬه ﻫﻲ املﺄﺳﺎة اﻟﺘﻲ ﻳﺨﻮﺿﻬﺎ .ﻓﺈﻳﻤﺎﻧﻪ ﻳﺘﻤﺤﻮر — وإن ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻼﻓﺖ أن ً ً ﺷﺨﺼﺎ أﺳﺎﺳﺎ ﺑﻨﱪة إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ — ﺣﻮل إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ أن ﻳﻜﻮن املﺮء ﻧﺠﺪه ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﻟﻴﺲ ﻣﻀﻄ ٍّﺮا إﱃ اﻟﻨﻔﻲ واﻟﻨﻜﺮان ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ .وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺑﺪًا أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ ،وﻛﻠﻤﺎ ﺣ ﱠﺮك اﻟﻌﺠﻠﺔ اﻟﺠَ ﺪَﻟﻴﺔ ،ﺑﻤﻬﺎرة ﺑﺎرﻋﺔ وراﺋﻌﺔ ،ازداد اﺑﺘﻌﺎدًا ﻋﻦ ﻫﺬا املﺜﻞ. إن دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺸﺒﱢﻬﻪ ﺑﻪ ﻫﻮ ذﻟﻚ املﻤ ﱠﺰق إﱃ ﻗﻄﻊ ﻣُﻌ ﱠﺬﺑﺔ ﻻ ﺣﴫ ﻟﻬﺎ.
96
ﺧﺎﲤﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ واﻟﺘﺄﻣني ﺿﺪ أﺣﺪاث اﻟﺤﻴﺎة وﴏوﻓﻬﺎ
١ ً ﻃﻮﻳﻼ ﺑﺼﺤﺒﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﻳﻌﺎﻣﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ أﻋﺘﻘﺪ أن أيﱠ ﺷﺨﺺ ﻳﻘﴤ وﻗﺘًﺎ ﻣﺠﺮد »ﻧﺼﻮص« ﻳﺠﺐ ﴍﺣﻬﺎ وإﻧﻤﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﺠﺎرب ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻳﻜﻮن اﻟﻘﺎرئ ﻣﺪﻋﻮٍّا ﻟﻠﻤﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻨﺘﺎﺑﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﻨﻔﻮر ،اﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎوب ﻣﻌﻪ إﺣﺴﺎس ﺑﺎﻹﺛﺎرة واﻻﻣﺘﻨﺎن اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﻤﺎ املﺮء ﺑﻔﻀﻞ وﻓﺮة آراء ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺣﺪاﺛﺔ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت املﺴﺘﻬﻠﻜﺔ .آﻣُﻞ أن ﺗﻜﻮن اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻗﺪ أوﺿﺤﺖ ﻗﺪ ًرا ﻣﻦ دفء ﺗﺠﺎوﺑﻲ ﺗﺠﺎه ﻧﻴﺘﺸﻪ؛ ﻷﻧﻲ أرﻏﺐ اﻵن ﰲ ﺗﺴﺠﻴﻞ ﺑﻌﺾ ردود اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺜريﻫﺎ داﺧﲇ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻣ ﱡﺮ ﺑﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﻚ واﻟﺮﻳﺒﺔ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ،ﻣﺎ ﺳﺄﻓﻌﻠﻪ ﻫﻮ اﻹﺳﻬﺎب ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻘﺎط اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ أن أﴍت إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﺪو ﱄ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ أﻧﻬﺎ ذات ﻗﻴﻤﺔ أﻛﱪ ﻣﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ ﺑﻬﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،أو أﻛﱪ ﺑﻼ ﺷﻚ ﻣﻤﺎ ﺳﺄﺷﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﻣﺠﺪدًا .وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﺼﻤﱢ ﻢ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — ﺳﻮاء ﻫﻮ وﻣﺘﺤﺪﺛﻪ اﻟﺮﺳﻤﻲ زرادﺷﺖ ،ﻋﲆ ﺿ ﱢﻢ أﻛﺜﺮ املﺮﻳﺪﻳﻦ ﻣﻌﺎرﺿﺔ ،ﻓﺴﻮف ِ أﻋﻤﺪ إﱃ إﺛﺎرة ﺑﻌﺾ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﺣﻮل ﻣﻨﺎﻫﺠﻪ وآراﺋﻪ ،وﻫﻲ ﻣﺴﺎﺋﻞ أوﻟﻴﱠﺔ ﰲ أﻏﻠﺒﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ﻋﺪم إﺧﻔﺎﺋﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد .ﺗﻨﺒﻊ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ املﻨﻬﺠﻴﺔ واﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﻦ اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺄن أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﺰاوﻟﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺎﺗﺐ أﻳﻀﺎ ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﻋُ ً ﻣﺼﻤﱢ ﻢ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﱠأﻻ ﻳُﺨﺪَع ،ﺑﻞ ً ﺮﺿﺔ ﻟﻠﺨﺪاع ،وﻟﻬﺬا ﻳﺸﻌﺮ اﻟﺪارس آﺟﻼ ﻣﺎ ﻳ َ ﻋﺎﺟﻼ أو ً ً ُﻮﻗﻊ ﺑﻪ داﺋﻤً ﺎ اﻟﺠﺎد — ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﻋﻨﺪ ﻗﺮاءة ﻓﻴﺘﺠﻨﺸﺘﺎﻳﻦ — أﻧﻪ ﻛﻜﺒﺶ ﻓﺪاء.
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﱠ إن أﻛﺜﺮ اﻷدوات ﺷﻴﻮﻋً ﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻴﻌﺼﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ أيﱢ اﻧﺘﻘﺎدات ﻫﻲ ادﱢﻋﺎء أﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﺰم ﺑﺄيﱢ ﳾء ﻗﻄﻌً ﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻮاﺿﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ذﻟﻚ؛ وﻫﻲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺄﺣﺎول أن أﺑﺮﻫﻨﻬﺎ واﻟﺘﻲ ﻳﻨﺠﺬب إﻟﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺸﺪة ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ِ ﻣﺴﺘﻜﺸﻒ وﻣُﺠ ﱢﺮب ،ﻣﺼﻤﱢ ﻢ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ أﻧﻨﻲ ﻻ أﺷﻚ ﰲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺳﻴﻨﻜﺮ ذﻟﻚ ﺑﺎﻧﻔﻌﺎل .إﻧﻪ ﻋﲆ أن ﻳﻜﻮن ً ﻣﺜﺎﻻ ﻳُﺤﺘﺬَى ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ »اﻛﺘﺸﺎف املﺮء ﻃﺮﻳﻘﻪ اﻟﺨﺎص« — ﻫﺬا إذا اﺳﺘﻌﺮﻧﺎ اﻟﻌﺒﺎرة املﺬﻛﻮرة ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« — ٣٣٨وﻫﻮ أﻣﺮ ﺻﻌﺐ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻟﺪرﺟﺔ أن املﺪاﻓﻌني ﻋﻦ دﻳﻦ اﻟﺸﻔﻘﺔ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﺪﺧﻠﻮن ﰲ ﺷﺌﻮن اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻟﻜﻲ ﻳﺘﺠﻨﺒﻮا اﻷﻣﻮر اﻷﺷﺪ ﻗﺴﻮة ﰲ ﱠ ﻳﺘﻮﺳﻢ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻌﻈﻤﺔ، ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وﺑﻤﺎ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻬﺘﻢ ﻓﻘﻂ ﺑﺄوﻟﺌﻚ اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ٍ ﺑﺪرﺟﺔ ﻗﺼﻮى ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺮدﻳﺔ .وﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن املﺮء ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺎﻟﴬورة ﻳ ُِﻠﺰم ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳﻜﻮن ﻣ ﱠ ً ﻧﻘﻴﻀﺎ ُﺮﺷﺤً ﺎ ﻟﻠﻌﻈﻤﺔ ﺑﴩط أن ﻳُﻌ ﱢﺮف ﻧﻔﺴﻪ ،ﻣﻦ ﺑني أﻣﻮر أﺧﺮى ،ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻟﻶﺧﺮﻳﻦ .وﻣﻦ ﺛﻢﱠ ،ﺳﻴﻈﻞ املﺮء داﺋﻤً ﺎ — ﻃﻮﻋً ﺎ أو ً ﻛﺮﻫﺎ — واﺿﻌً ﺎ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻧ ُ ْ ﺼﺐَ ﻋﻴﻨﻴﻪ، وﻫﻮ اﻟﺜﻤﻦ اﻟﺬي ﺳﻴﻀﻄﺮ أيﱡ ﺷﺨﺺ ﻣﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﻔﺮدﻳﺔ أن ﻳﺪﻓﻌﻪ ،ﺑﺄي ﻧﺴﺒﺔ ﰲ أي ﻣﺮﺣﻠﺔ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﻣﻦ ﺛﻘﺎﻓﺘﻪ .إﻧﻪ ﻣﻦ دون ﺷﻚ ﺛﻤ ٌﻦ ﺳﻴﻀﻄﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ إﱃ دﻓﻌﻪ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻮﺑﻴﺨﻪ املﻄﻮﱠل ملﻌﺎﴏﻳﻪ دون َﻛ َﻠ ٍﻞ .وﻫﻮ ﻳﺤﺐ أن ﻳﻌﻄﻲ اﻧﻄﺒﺎﻋً ﺎ ﺑﺎﻟﻼﻣﺒﺎﻻة املﺘﻐﻄﺮﺳﺔ ﺗﺠﺎه اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻬﻮ ﻣﻔﺘﻮن ﺑﺼﻮر اﻻﻧﺤﻄﺎط املﺘﻨﻮﱢﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻈﻬﺮوﻧﻬﺎ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻻ ﻳُﺤ ﱢﻠﻞ أﻳٍّﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺪﻗﺔ ،وﻻ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ أﻧﻨﺎ »ﻧﺤﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ« ﻟﺴﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ. ﻣﺎ أﺣﺎول إﺛﺒﺎﺗﻪ ﻫﻮ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو أن ﻣﻨﻬﺠﻴﺘﻪ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ واﻟﻼدوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ ،ﻋﻼو ًة ﻋﲆ اﻻدﻋﺎء اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺬي ﺻﺎﻏﻪ ً ﱢ ﻣﺘﻌﺼﺒًﺎ ﻗﺎﺋﻼ» :إﻧﻨﻲ ﻟﺴﺖ أﺷﻜﺎل اﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻨﻈﺎ ٍم ﻣﺎ ،وﻻ ﺣﺘﻰ ﻟﻨﻈﺎﻣﻲ »أﻧﺎ«« ،ﺗُ ْﻘﺤِ ﻤﻪ ﰲ ِ ٍ املﻨﻈﻮر وﻛﺬﻟﻚ اﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ املﺒﺪأ اﻷﺳﺎﳼ .وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أرى ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ ﱠأﻻ ﻳﻌﺘﻘﺪ املﺮء أن اﻷﻣﺮ ِ أﺳﺎس ﻵراﺋﻪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،وأن ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ أن أﻓﻀﻞ ﳾء ﺑﺎﺳﺘﻨﺒﺎط راﺟﻊ إﻟﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ٍ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ ﻫﻮ أن ﻳﺼﻮغ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ .وإذا ﻟﻢ ﻳﺼﺪﱢق املﺮء ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ً ﺑﺪﻳﻬﻲ أﻧﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن َ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﺟﺬرﻳٍّﺎ ﻋﻦ أيﱢ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ،ﻓﻠﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻳﻜﻮن ﺛﻤﺔ ﺧﻼف ،وﻻ ﺣﺘﻰ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أوﱠﱄ ،ﺣﻮل ﻛﻮن املﺮء ﻓﺮدﻳٍّﺎ واﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن أﻓﻀﻞ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﻋﻤﻠﻪ ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻗﺪوﺗﻪ .ﺳﺘﻈﻞ درﺟﺔ ﺗﺠﻤﻴﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻸﺧﻼق أﻣ ًﺮا ً ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻤﻨﺎﻗﺸﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺗﺒﺪو ﻓﻴﻪ وﺧﻴﻤﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻫﻲ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻣﺜﻠﻤﺎ أن اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻳﺠﺐ اﻵن أن ﺗﻜﻮن أﺻﻠﻴﺔ ﺑﺼﻮرة ﺗﺘﺨ ﱠ ﻄﻰ ﻣﺠﺮد ً ً ﺗﻤﻴﱡﺰﻫﺎ ﻋﻦ ﻏريﻫﺎ ،ﻓﻜﺬﻟﻚ اﻷﻓﺮاد ً ﻣﻔﺮوﺿﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ. ﻣﻤﺎﺛﻼ أﻳﻀﺎ ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻣﻄﻠﺒًﺎ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ 98
ﺧﺎﺗﻤﺔ
وﻣﺜﻠﻤﺎ أﴍت ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ ،ﻓﺈن اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ ،ﻋﲆ أيﱢ ﻧﺤﻮ ﰲ ﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ، ً ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺗﺨﺘﻠﻒ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﺷﺨﺎص .وﻳﺒﺪو أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻷﺷﺨﺎص املﺘﺸﺎﺑﻬني ﺑﺪرﺟﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ﺳﻴﻜﻮﻧﻮن ﻣُﻤ ﱢﻠني وﻏري ﻣُﺠﺪِﻳﻦ ﻣﺜﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ َ أﻟﻘﻴﺖ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻧﻈﺮة ﺑﺎﻧﻮراﻣﻴﺔ ،وﻫﻮ أﻣﺮ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ املﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﺑﺪرﺟﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ .وإذا أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻌﻤﻠﻪ ،ﻓﻘﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن ﻳﻌﱰﻳﻚ اﻟﻀﺠﺮ ﺗﺠﺎه »اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎدي« ،وﻟﻮ ﻛﺎن اﻟﻨﺎس ﺷﺪﻳﺪي اﻟﺸﺒﻪ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﺒﻌﺾ ،إذن ﻓﻘﺪ ﻳﺴﺄم ﻣﻨﻬﻢ أيﱡ ﺷﺨﺺ؛ وﺣﺘﻰ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻟﻮﺿﻊ ً أﻳﻀﺎ أن ﻳﺼري اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺸﺠﻌﻮن وﺣﺪة املﻨﻈﻮر ﻣُﻤ ﱢﻠني .ﻟﻜﻦ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎج املﺮء إﱃ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻫﺬا إﱃ ﺗﻄ ﱡﺮف املﻄﺎﻟﺒﺔ ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﺘﻌﺮﻳﻒ ،ﻓﺈن اﻟﻌﻈﻤﺔ ﺻﻔﺔ ﻧﺎدرة. ﺑﺄن ﻳﺘﺴﻢ ﻛ ﱡﻞ ﺷﺨﺺ ﺑﺄرﻗﻰ ﺻﻮرة ﻣﻤﻜﻨﺔ. ري ﴐورﻳني ﻧﻈ ًﺮا وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻳﺠﺐ ازدراء ﻣﻌﻈ ِﻢ اﻷﻓﺮاد أو اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﻢ ﺑﺼﻔﺘﻬﻢ ﻏ َ إﱃ ﻋﺪم ﺗﺤ ﱢﻠﻴﻬﻢ ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ أو ﻋﺪم ﺗﻄ ﱡﻠﻌﻬﻢ إﻟﻴﻬﺎ. أﺣﺪ أﺳﺒﺎب ﺣﻤﺎس ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﺗﺠﺎه ﻋﺪم ﺗﻐﻴري ﻣﻌﺘﻘﺪات اﻟﻨﺎس ﻫﻮ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ إﻟﺤﺎﺣﻪ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻛﻲ ﻧﻜﻮن أﻧﻔﺴﻨﺎ ،وﻳﻜﻮن ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﺎ ﻃﺎﺑﻌﻪ املﻤﻴﱠﺰ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳ ُِﻠﺰم ﺜﻞ أﻋﲆ ﻳﺠﺐ اﺳﺘﻜﺸﺎﻓﻪ واﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻪ .ﺑﻴﺪ أن املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺄيﱢ ﻣَ ٍ ﰲ ﻣﺪﻳﺤﻪ — ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول أن ﻳﺒﻘﻴﻬﺎ رﺳﻤﻴﱠﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ — ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ اﻧﺘﻘﺎء ُﻈﻬﺮون اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﺤﺪﱢدﻫﺎ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل: أﻓﺮاد ﻣﻌﻴﻨني ﻷﻧﻬﻢ ﻳ ِ ً ﻳ َ »ﻣﻄﻠﻘﺎ« إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ؛ ﻓﻴﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل :إن ﺟﻮﺗﻪ ُﻌﺘﱪ »اﻻﻧﺘﺼﺎر ﻋﲆ اﻟﺬات« ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ اﻧﺘﴫ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﻌﻠﻢ أﻧﻪ ﻣﻦ دون اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻟﺮﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳُﺼ ِﺒﺢ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أﻓﻜﺎر ﻣﺘﻨﺎﺛﺮة ،ﺑﻞ و َﻟ َ ﻔﻘ َﺪ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﺛري ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﺎن ٍّ ﻛﻼ ﻣﺆﺛ ًﺮا ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺪﻫﺶ ،وﻟﻬﺬا ﺗﺄﺛﱠﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻪ ﻛﺜريًا ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،واﻋﺘﱪه ً ً وﺷﺨﺼﺎ ﺗﺠﺐ ﻣﺤﺎﻛﺎﺗﻪ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻔ ﱡﺮده. ﻣﺜﻼ ﻳُﺤﺘﺬَى، وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن رﻓﺾ ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺰﻋﻮم ﺗﺠﺎه اﻟﺬات ﱠ ﺑﺄﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﻟﻨﺎ أﻳﺔ أداة ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ ﺑﺨﻼف أن ﻧﻜﻮن أﻧﻔﺴﻨﺎ — وﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ ﺳﻴﻨﺘﻘﺪ ذﻟﻚ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﻣﻔﺮ ً ﻃﺎ ﰲ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ — ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳُﺨﻔِ ﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﺠﺰم أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﺼﻮﱢر ﻧﻔﺴﻪ .وﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﱢ ﻳﻐري ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار املﻮاﻗﻒ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ واﺛﻖ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻨﻐﻤﺲ ﰲ اﻻدﻋﺎءات اﻟﺘﻲ ﻳﺮوﱢﺟﻬﺎ ﺑﻜﻮﻧﻪ ﺗﺠﺮﻳﺒﻴٍّﺎ .وأﺷﻚ ﰲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻋﺎﺟ ًﺰا ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻓﻄﺮي ﻋﻦ »اﻻﻗﺘﻨﺎع ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﻼﻳﻘﻴﻨﻴﺔ« ،ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﺑﺄﻳﺔ درﺟﺔ املِ ﺰاج اﻟﺸﺎﻋﺮي اﻟﺬي ﻳﺼﻔﻪ ﻛﻴﺘﺲ ﺑﺪﻗﺔ. ﱢ ﻣﺘﻌﺼﺒًﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ وﺗﻨﺒﻊ ﻣﺮوﻧﺘﻪ ﻣﻦ ﺗﺄﻫﺒﻪ املﺴﺘﻤﺮ ﻟﺘﻐﻴري رأﻳﻪ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﻟﻴﺲ 99
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ﱢ ﻣﺘﻌﺼﺒًﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻠﺘﻤﺴﻚ ﺑﺄيﱢ ﻧﻈﺎم. ﻷيﱢ ﻧﻈﺎم ،ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا ،ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،أﻧﻪ ﰲ أﻳﺔ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺳﻴﻄﺮح ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻣﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺻﺒﻮ ًرا ﺑﻤﺎ ﻳُﺘِﻴﺢ ﻟﻪ ﻋﻤﻞ ذﻟﻚ .أو رﺑﻤﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﻘﺼﺪه ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻧﻈﺎم .ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﺗﻘﺼﺪ أﻧﻚ ﺗﺮﻳﺪ اﻻﺗﺴﺎق ﺑني ﺟﻤﻴﻊ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ ،إذن ﻓﻬﺬا ﻣﻄﻠﺐ أوﱠﱄ ﺑﻌﺪم اﻻﺳﺘﺴﻼم ﻟﻠﻔﻮﴇ املﻔﺎﻫﻴﻤﻴﺔ .أﻣﺎ إذا ﻛﻨﺖ ﺗﻘﺼﺪ ﺷﻴﺌًﺎ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﻼ ﺑﺪ ﻣﻦ ذﻛﺮه ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻧﻔﻮره ﻣﻦ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ املﺘﺴﺎﻣﻴﺔ. ﺗﺘﺴﻢ اﻟﻼﺧﻄﻴﺔ املﻔﺮﻃﺔ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻹﻏﺮاءات ،ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ أﻧﻬﺎ ﺗُﻤ ﱢﻜﻦ املﺮء ﻣﻦ اﺗﺒﺎع ﻧﺼﻴﺤﺘﻪ ﺑﻀﻤري ﻣﺴﱰﻳﺢ ﺑﺎﻟﻐﻮص ﰲ أﻋﻤﺎق ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﺠﺮ« — وﻫﻜﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻊ ﺑﻘﻴﺔ ﻛﺘﺒﻪ — ﺣﻴﺜﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻏﺐ املﺮء ﰲ ذﻟﻚ؛ وﺗُﺤ ﱢﺮر املﺮء ﻣﻦ ﻣﺸﻘﺔ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻄﻮﱠﻟﺔ ﻣﻦ املﺠﺎدﻻت واملﻨﺎﻗﺸﺎت املﺠﺮدة .وﻫﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﰲ ﻃﻴﱠﺎﺗﻬﺎ ﺑﺬور دﻣﺎرﻫﺎ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻌﻠﻢ أيﱡ ﻗﺎرئ ﺣﻲ اﻟﻀﻤري وﻣﻨﺠﺬب إﻟﻴﻬﺎ .وﺗﻮﺟﺪ ﻇﺎﻫﺮة اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﺗﺘﻤﺜﻞ ٌ ﻓﻘﺮات ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ املﺮءَ ﺑﺄﻗﴡ ﻗﻮة ،ﺛﻢ ﻳﻨﺴﺎﻫﺎ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪم ﺑﻬﺎ ﺑﻔﱰة وﺟﻴﺰة ،ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻷن ﻓﻘﺮة أﺧﺮى — ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻜﺘﺸﻒ املﺮء — ﻻ ﺗُ َ ﻨﴗ وﻻ ﺗﻘِ ﱡﻞ ﻗﻮة ﰲ ﻣﻮﺿﻮع ﻣﺨﺘﻠﻒ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﻗﺪ ﺣ ﱠﻠﺖ ﻣﺤﻠﻬﺎ .ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻼﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﻏﻴﺎب ﻋﻘﻞ ﺧﺼﺐ ﻛﻌﻘﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ، اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﻋﲆ أﻗﴡ ﺗﻘﺪﻳﺮ ،وﻫﻮ ﳾء ﻏري ﻣﻔﺎﺟﺊ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ٍ ﻗﺎدر ﻋﲆ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﺘﺠﺮﺑﺘﻪ وردود أﻓﻌﺎل اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺗﺠﺎه ﺗﺠﺎرﺑﻬﻢ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻳﺘﺪﻓﻖ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻟﻮ ﺑﺄﻓﻜﺎر ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﻳﻘﻮﻟﻬﺎ ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت أﻛﱪ ﻣﻦ أيﱢ ﻓﻴﻠﺴﻮف آﺧﺮ، أﺧﺬت ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر املﻌﻴﺎر اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ ﻣﺪار ﻋﺪة ﺻﻔﺤﺎت ﺑﻼ اﻧﻘﻄﺎع. ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﺪﻓﻘﺎت ﻣﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ املﻤﺘﺰﺟﺔ ﺑﺎﻟﺮؤﻳﺔ ﺗﻌﻨﻲ أﻧﻚ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺒﺪء ﰲ ً وﺧﺼﻮﺻﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺻﺪرت ﰲ ﻓﱰة ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﻤﺠﺮد اﻧﺘﻬﺎﺋﻚ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﻗﺮاءة ﻛﺘﺒﻪ ً ﺧﺠﻼ ﻣﻦ ﻋﺪم ﻗﺪرﺗﻚ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻴﻌﺎب واﻟﺘﺬﻛﺮ .إﻧﻬﺎ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻻ ﺗﻨﺘﻬﻲ أﺑﺪًا ،وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ً رﻓﻀﺎ ﻧﺤﻦ ﻣﻤﺘﻨﻮن ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن اﻻﺗﺴﺎم ﺑﺎملﻨﻬﺠﻴﺔ ﻣﺒﺠﱠ ًﻼ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻣﺒﺎدئ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﰲ ﺣني أﻧﻪ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﺎ ﻳﺘﻮارد إﻟﻴﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻃﺒﻴﻌﻲ؛ ﻗﺎرن أيﱠ أﺟﺰاء ﻣﻦ »ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﰲ ﻏري أواﻧﻬﺎ« ﺑ »إﻧﺴﺎن ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« وﺳﻮف ﺗﺮى اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻬﺎﺋﻞ ﺑﻤﺠﺮد ﱡ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﺘﺎب .وﺳﻮاء ﻣﺘﺘﺎل ﺑﻄﻮل ﻣﻘﺎل، ﺗﻮﻗﻔﻪ ﻋﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻧﺜﺮ ٍ أﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ دﻓﺎﻋﻴﺔ أم ﻻ ،ﻓﺈن ﻟﻬﺎ ﻧﻔﺲ اﻟﺘﺄﺛري .أﻣﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﺄﻗﻠﻢ ﻣﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻓﻌﲆ ﺣ ﱢﺪ ﻋﻠﻤﻲ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺘ ﱠﻢ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣُﻘﻨِﻊ .اﻗﺮأ أيﱠ ﻛﺘﺎب أو ﻣﻘﺎل ﻋﻨﻪ ،وﻻﺣﻆ ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻤﺤﻮر اﻟﱰﻛﻴﺰ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﺑﻀﻌﺔ ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت ﻣﻌﺪودات ﻟﻪ ،ﻋﲆ 100
ﺧﺎﺗﻤﺔ
اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻋﺪدﻫﺎ اﻟﻬﺎﺋﻞ وﻓﺎﺋﺪﺗﻬﺎ اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ .وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺧﺎص — وﻳﻨﻄﺒﻖ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻋﲆ ٍ ﻓﻘﺮات ﻣﺨﺘﺎرة ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻨﻘﺎش ،رﺑﻤﺎ ﻳﺸﻴﻊ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻟﺒﻀﻊ ﻛﺘﺎﺑﻲ — ﻳﺘﻢ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺳﻨﻮات ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﻊ أيﱢ ﻛﺘﺎب أو ﻧﺤﻮه ﻣﻦ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أﻳﺔ ﻣﺮة؛ ﰲ ﺣني أن اﻟﺠﺰء اﻷﻛﱪ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻻ ﻳﺤﻈﻰ أﺑﺪًا ﺑﺄيﱢ ﺗﻨﺎوُل ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻣﻦ ﺛﻢﱠ ،ﻓﺈن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ اﻟﺨﺎﴎ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻛﻮﻧﻪ اﻟﻔﺎﺋﺰ اﻟﻈﺎﻫﺮي ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻜﺘﻴﻚ ا ُملﺤﺪﱠد .إﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪﻧﺎ أن ﻧﺪﻣﺞ ﻣﺄﺛﻮراﺗﻪ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻳﺪﱠﻋﻲ ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪﻧﺎ أن ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﻌني اﻟﺸﻚ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺰﺣﺰح .إن اﻟﺘﻌﻤﻖ ﱟ ﺑﺤﻖ ﰲ أﺣﺪ ﻣﺄﺛﻮراﺗﻪ اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺳﻴﺴﺘﻐﺮق ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﺣﻴﺎة املﺮء؛ إذ ﻛﻴﻒ ﰲ وﺳﻊ املﺮء أن ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺬا وﻳﺒﻘﻰ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﺑﺎﻟﻘﺪْر اﻟﺬي ﻳﺘﻄﻠﺒﻪ اﻟﺸﻚ؟ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن املﺮء ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ذﻟﻚ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺈن أيﱠ ﺷﺨﺺ ﻳﻜﺘﺐ ﻛﻤﺎ ﻳﻜﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﻗ ﱠﺮاﺋﻪ ﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺔ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻄﻠﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق. ً ﺗﻌﺎﻃﻔﺎ ﻣﻌﻪ ﻣﻤﺎ ﺗﻮﻗﻌﺖ ،وﻫﻮ ﺗﺄﺛري أرى أن اﻧﺘﻘﺎداﺗﻲ ﻷﺳﻠﻮﺑﻪ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ أﻛﺜﺮ ﱢ املﺤري داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﻗ ﱠﺮاﺋﻪ. آﺧﺮ ﻣﻤﻴﱠﺰ ﻳﺤﺪﺛﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ٢ ﺳﻨﻨﺘﻘﻞ اﻵن إﱃ ﻣﺮاﺟﻌﺔ ﻣﺨﺘﴫة ﻟﺒﻌﺾ ﻣﻮاﻗﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ وآراﺋﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ،ﺣﺴﺒﻤﺎ أﻧﻈﺮ ﺗﺮﻛﻴﺰ أﻛﱪ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻫﺬه املﻮاﻗﻒ واﻵراء ﻋﲆ ﺣﻤﺎﻳﺘﻪ إﻟﻴﻬﺎ ،ﻣﻊ ﺗﻮﺟﻴﻪ ٍ ﻣﻦ ﺣﻮادث اﻟﺤﻴﺎة وﻣﻔﺎﺟﺂﺗﻬﺎ ،وﻫﻮ آﺧﺮ ﳾء ﻛﺎن ﺳريﻏﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻌﺼﻮﻣً ﺎ ﻣﻨﻪ .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻳﱰاﺟﻊ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺴﺘﻮى اﻹﻟﻐﺎز ﰲ أﻛﺜﺮ آراﺋﻪ إرﺑﺎ ًﻛﺎ — ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺆدﱠاﻫﺎ وﺳﺒﺐ اﻋﺘﻨﺎﻗﻪ ﻟﻬﺎ — ﻟﻮ ﺗﻘﺒﱠﻞ املﺮء أن ﻃﻤﻮح ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻛﺎن ﻣﻨﺼﺒٍّﺎ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﺠﺮﺑﺘﻪ ﻣﻌﻪ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺰﻋﺠﻪ ﳾء أو ﻳﺮوﱢﻋﻪ أو ﻳﺼﻴﺒﻪ ﺑﺎﻻﺷﻤﺌﺰاز أو ﻳﺠﺮﺣﻪ. وإﻧﻪ ملﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ؛ ﻷن املﺮء ﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع ذﻟﻚ ﻷﺻﺒﺢ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ .وﻗﺪ ﺗﺘﻀﺢ ﺣﺪﱠة اﻷﻣﺮ أﻛﺜﺮ ﺑﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﻣﻮﻗﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﺠﺪدًا ﺗﺠﺎه اﻟﺸﻔﻘﺔ .ﻓﺎﻟﺸﻔﻘﺔ ،ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ، ﻟﺤﺎﻟﺔ أﻛﺜﺮ ً ٍ ً وﺑﺆﺳﺎ ﻣﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ؛ إذ إن املﺮء ،أﻳٍّﺎ ﻛﺎن، ﻋﻤﻘﺎ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﺠﺮد ﻋَ َﺮ ٍض ﻳﺘﺄﺛﺮ ﻛﺜريًا ﺑﺎملﻌﺎﻧﺎة إﱃ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول ﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﺨﻔﻴﻒ ﺗﻠﻚ املﻌﺎﻧﺎة ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ إدراك ﻣﻜﺎن ﺣﺘﻰ إن ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﺨﻔﻴﻔﻬﺎ ﺗُ َ ﻌﺘﱪ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﺬاﺟﺔ .وﻋﲆ املﺮء أﻧﻬﺎ ﻣﻨﺘﴩة ﰲ ﻛ ﱢﻞ ٍ ً ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﺗﺠﺎه اﻟﺤﻴﺎة ،ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺸﻔﻘﺔ أﻣ ًﺮا ﺗﺎﻓﻬً ﺎ .ﻟﻢ ﻳﴫﱢ ح ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﻂ ﻣﻮﻗﻔﺎ أن ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﺑﻤﻮﻗﻔﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﻘﺪْر ﻣﻦ اﻟﴫاﺣﺔ ،رﺑﻤﺎ ﺑﺴﺒﺐ اﺳﺘﻴﺎﺋﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻣﻦ دﻧ ﱢﻮ املﻌﺎﻧﺎة ﻟﺪرﺟﺔ 101
ﻧﻴﺘﺸﻪ
ً ﻣﻬﻮوﺳﺎ ﺑﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﺸﻔﻘﺔ .وﻟﻮ ﻛﺎن اﻹﺷﻔﺎق ﻋﲆ اﻟﻨﺎس أﻧﻪ ﻳﺮﺗﻜﺐ اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ اﻟﻜﱪى ﺑﻜﻮﻧﻪ واﻟﺘﴫف ً ً أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻀﻴﻌﺔ ﻟﻠﻮﻗﺖ وﻟﻠﻤﺠﻬﻮد ،إذن ﻓﺒﻌﺪ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ — وﻓﻘﺎ ﻟﺬﻟﻚ ﻫﻮ ﺗﻠﻚ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺨﻄﺎﻫﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻼ ﺟﺪال — ﻳﺼﺒﺢ ً أﻳﻀﺎ اﺳﺘﻤﺮار اﻟﺤﺪﻳﺚ واﻟﺨﻮض ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻣﻀﻴﻌﺔ ﻟﻠﻮﻗﺖ وﻟﻠﻤﺠﻬﻮد ،وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ أﻣﺎم ﺟﻤﻬﻮر ﻋﻨﻴﺪ .واﻟﺤﻞ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ُﻈﻬﺮ أن ﻳﻨﺘﻘﻞ املﺮء إﱃ ﻣﺴﺘﻮًى ﻻ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ اﻟﺸﻔﻘﺔ أﺣﺪ اﻟﻬﻤﻮم اﻟﺘﻲ ﻳﻜﱰث ﻟﻬﺎ ،وأن ﻳ ِ ذﻟﻚ أﻣﺎم اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ اﻟﻨﻤﻮذج اﻟﺬي ﻣﺎ ﻛﺎن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻴﻌﱰض ﻋﻠﻴﻪ. ﻣﻦ أيﱢ ﻣﻨﻈﻮر ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺄﻣﻞ املﺮء ﻋﻤﻞ ذﻟﻚ؟ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء اﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻫ ﱡﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﺎم ﰲ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ أ ﱠﻟﻔﻬﺎ ﰲ ذروة ﻧﻀﻮﺟﻪ ،ﻗﺒﻞ ﺣﻠﻮل اﻟﻔﱰة اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ. وﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﻟﺠﺰء اﻟﻮارد ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« اﻟﺬي ﻳﺴﺒﻖ ﻣﺒﺎﴍ ًة ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﺷﻬﺮة ﻋﻦ اﻟﺸﻔﻘﺔ وﺗﺄﺛرياﺗﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻳﻮﺿﺢ ﻓﻴﻪ ﻃﻤﻮﺣﻪ ،وإن ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺑﺪاﺋﻴﺔ .ﻛﻤﺎ ﻳﻜﺸﻒ ،ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻋﻔﻮي ،ﻣﺪى ﻳﺄس املﺜﻞ اﻟﺬي ﻳﺼﻔﻪ .ﺳﻮف أﻗﺘﺒﺲ ﻓﻘﻂ ﺟﺰءًا ﻣﻨﻪ؛ إذ إن اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﻤﺠﺮد ﻣﻘﻄﻊ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ ﰲ أﻛﺜﺮ ﺻﻮره اﻟﺒﻼﻏﻴﺔ ﺗﺄ ﱡﻟ ًﻘﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻈ ﱠﻞ ﻟﻪ ﺗﺄﺛري ﻣﺪﻫﺶ: ﻛ ﱡﻞ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺟﻤﻠﺘﻪ ﺑﺼﻔﺘﻪ »ﺗﺎرﻳﺨﻪ اﻟﺨﺎص« ،ﺳﻴﺸﻌﺮ — ﺑﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻤﻴﻢ اﻟﻜﺒري — ﺑﻤﺮارة املﺮﻳﺾ اﻟﺬي ﻳﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﺼﺤﺔ ،ﺑﻤﺮارة اﻟﺸﻴﺦ اﻟﺬي ﻳﻔﻜﺮ ﰲ أﺣﻼم اﻟﺸﺒﺎب ،ﺑﻤﺮارة اﻟﻌﺎﺷﻖ اﻟﺬي اﻧﺘُ ِﺰﻋﺖ ﻣﻨﻪ ﻣﻌﺸﻮﻗﺘﻪ ،ﺑﻤﺮارة اﻟﺸﻬﻴﺪ وﻫﻮ ﻳﺮى ﻣﺜﻠﻪ اﻷﻋﲆ ﻳﻨﻬﺎر … ﻟﻜﻦ أن ﻳﺘﺤﻤﻞ املﺮء ﻫﺬا اﻟﻜ ﱠﻢ اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ املﺮارات ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻷﺻﻨﺎف ،أن »ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ« ﺗﺤﻤﱡ ﻠﻬﺎ … أن ﻳﺘﺤﻤﻞ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬا ﰲ روﺣﻪ ،أن ﻳﺘﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻗﺪﻳﻢ ﺟﺪٍّا ،وﻣﺎ ﻫﻮ ﺟﺪﻳﺪ ﺟﺪٍّا ،أن ﻳﺘﺤﻤﻞ اﻟﺨﺴﺎﺋﺮ واﻵﻣﺎل واﻟﻐﺰوات واﻧﺘﺼﺎرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، أن ﻳﻤﻠﻚ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬا ﰲ روح واﺣﺪة ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ،وﻳﺮﻛﺰه ﰲ إﺣﺴﺎس واﺣﺪ، ﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﺳﻌﺎد ًة ﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻗﻂ ﺣﺘﻰ اﻵن؛ ﺳﻌﺎدة إﻟﻪ ،ﻛﻠﻬﺎ ﻗﻮة وﺣﺐ ،ﻛﻠﻬﺎ دﻣﻮع وﺿﺤﻜﺎت ،ﺳﻌﺎدة ﺗﻮزع ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار، ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻤﺲ ﻋﻨﺪ املﺴﺎء ،ﺛﺮوﺗﻬﺎ ﻻ ﺗﻨﻀﺐ وﺗُﻔ ﱠﺮغ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺸﻌﺮ — ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻤﺲ — أﻧﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﺛﺮاءً ﱠإﻻ ﺣني ﻳُﺠﺪﱢف ﻓﻴﻪ أﻓﻘ ُﺮ ﺻﻴﺎد ﺑﻤﺠﺎدﻳﻒ ﻣ ﱠ ُﺬﻫﺒﺔ! آﻧﺬاك ﺳﻴُﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا اﻹﺣﺴﺎس اﻹﻟﻬﻲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ! »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح«٣٣٧ ، 102
ﺧﺎﺗﻤﺔ
ﻳﺒﺪو إﻣﻌﺎن اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ أﻣ ًﺮا ﺗﺎﻓﻬً ﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ املﺆﺛﱢﺮة. إﻧﻬﺎ ﴐﺑﺔ ﻣُﺤ َﻜﻤﺔ ﺳﺪﱠدﻫﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻜﺘﺎﺑﺘﻪ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ،اﻟﺘﻲ ﺑﻼ ﺷﻚ ﺗﻘﺪﱢم ﺗﻔﺴريًا ﺟﺪﻳﺪًا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ملﻔﻬﻮم »اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ« ،ﻗﺒﻞ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻣﺒﺎﴍ ًة ﻋﲆ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم ﺟﻮﻫﺮي ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺠﻨﺐ املﻌﺎﻧﺎة أو ﺗﺨﻔﻴﻔﻬﺎ .ﻟﻮ ﺧﺎض املﺮء ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺸﺎﻣﻞ ﺣﻴﺎة ﺑﺪﻳﻠﺔ ﻟﺤﻴﺎة اﻟﺸﻔﻘﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬه »اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة« ﻫﻲ ﻣﺎ ﺳﻴﺒﻠﻐﻬﺎ املﺮء. وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻫﻞ ﻳﺒﺪو ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺣﺘﻰ ﺑﺎﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﺑﻠﻮغ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ؟ ﻳُﻌَ ﺪ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﰲ ﺣﺎل اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺧﻮض اﻟﺤﻴﺎة ﺑ »ﻛﻞ« ﺗﺠﺎرﺑﻬﺎ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻮ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ زاول ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وإذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ً ﺗﺤﻤﻼ ﻣﻦ ﺧﻮض ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺨﺘﺎرة ﻣﻦ »اﻟﺨﺴﺎﺋﺮ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ أﺳﻬﻞ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ أﻛﺜﺮ واﻵﻣﺎل واﻟﻐﺰوات واﻧﺘﺼﺎرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ« .ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﺷﻤﺌﺰاز ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ »اﻟﻼﻣﴩوط« وازدراﺋﻪ ﻟﻪ ،ﻓﻘﺪ أدﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ وﺛﻴﻖ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻪ ،وﻫﻮ اﻟﻌﻤﻮﻣﻲ أو اﻟﺸﺎﻣﻞ .ﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع املﺮء أن ﻳﺘﺤﻤﻞ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﻣﻮر ،ﻓﺴﻴﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﺛﻤﺔ أﻣﻮ ًرا ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻤﻠﻬﺎ ،وﻫﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ. ً ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﺗﺮاﺟﻴﺪﻳٍّﺎ ،ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﻳﺘﺤﻤﻞ ﻛ ﱠﻞ ﺷﺨﺼﺎ أو وﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن املﺮء »ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﺎﻹﻟﻪ« ،أو ﳾء .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﺑﻠﻮرة ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة وﺗﻮﺿﻴﺤﻬﺎ ،ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻧﻪ ﻳﻌﺮف أﻧﻬﺎ ﺳﻮف »ﺗﺸ ﱢﻜﻞ ﺳﻌﺎدة ﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻗﻂ ﺣﺘﻰ اﻵن «.أﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،أو ﺣﺘﻰ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻤﻰ ،ﻟﻦ ﻳﻌﺮف ﻫﺬه اﻟﺴﻌﺎدة أو ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ،ﺑﻤﺎ ﺜﻼ ﺗﻨﻈﻴﻤﻴٍّﺎ«؟ إن ﻧﻴﺘﺸﻪً ، أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺣﺘﻰ ﻣﺎ ﺳﻤﱠ ﺎه ﻛﺎﻧﻂ »ﻣَ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻳﻨﺘﴚ ﺑﻘﺪرﺗﻪ اﻟﻔﺬﱠة ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻜﻠﻤﺎت ﺑﺄﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﻐﻨﺎﺋﻴﺔ واﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﻟﺮﺳﻢ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﺳﺘﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺤﺘﻤَ ﻠﺔ ،واﻟﺘﻲ ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻊ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺛﻤﺎ ٌر ﻳﺤﺼﺪﻫﺎ اﻟﺸﺎﻋﺮ ﱠ ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ املﺘﻄﻠﺒﺎت ا ُملﻠﺤﱠ ﺔ ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف. اﻟﺬي ﺛﻤﺔ أﻣﺮ آﺧﺮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺬﻛﺮ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺻﺎرم .ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﱢ ﺗﻮﺿﺢ ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ ﺑني اﻟﺸﻔﻘﺔ — ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﺧﺘﻼ ً ً ﻃﺎ ﰲ املﺸﺎﻋﺮ ﻳﻨﻔﺮ ﻣﻨﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺸﺪة — وﺑني ً ﻣﻮﻗﻔﺎ ،دون إﺷﺎرة إﱃ أن املﺮء ﻫﺬه اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة؛ أن املﺮء ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﺳﻴﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺤﺪدًا .إذا ﺗﻌﺎﻃﻔﻨﺎ ﻣﻊ ﺷﺨﺺ ﻣﻌني ﻣﻜﺮوب ،ﻓﺈﻧﻨﺎ »ﻧﻤﺎرس دور اﻟﻘﺪر«، ﻓﻨﺘﺠﺎﻫﻞ »اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﺪاﺧﲇ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ واﻟﺘﻌﻘﻴﺪات اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻛﺮﺑًﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ »إﱄ ﱠ« أو ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ »إﻟﻴﻚ« «.ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ،إذا ﻟﺠﺄ املﺮء إﱃ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻧﻄﺎق املﺸﺎﻋﺮ اﻷﻛﱪ ،أو ﺑﺎﻷﺣﺮى اﻟﻜﻮﻧﻲ ،ﺗﺠﺎه ﻛ ﱢﻞ ﳾء ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻻ ﻳﺆدي إﱃ ﳾء ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻔﻌﻞ .ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ،ﺛﻤﺔ ﻓﻌﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡره ،ﺳﻴﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﺣﺎﻟﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺮﻏﻮﺑﺔ .وﻟﻜﻦ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ 103
ﻧﻴﺘﺸﻪ
املﺬﻫﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻧﺜ ُﺮه ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﺪو ﱄ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺘﺤﻤﱢ ًﺴﺎ ﺗﺠﺎه ﻓﻜﺮة اﻟﻔﻌﻞ ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﺘﺤﻤﱢ ًﺴﺎ ﺗﺠﺎه ﻓﻜﺮة اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻼ ﺷﻚ ﺟﺰءٌ ﻣﻦ ري ﺳﺒﺐ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﻬﺎ ﻧﺜﺮه .وﻣﺠﺪدًا ،ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳُﻔﱰَض أن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﻘﻴﱠﺘﻨﺎ ﺗﻔﺴ ِ ﺑﺎﻟﻄﺎﻗﺔ واﻟﺤﻴﻮﻳﺔ اﻟﻠﺘني ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺣﺸﺪﻫﻤﺎ؟ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ املﻤﻞ واملﺤ ِﺒﻂ اﻟﺨﻮض ﰲ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻹﻗﺮار ﻧﻴﺘﺸﻪ وإﺛﺒﺎت أﻧﻬﺎ ﺗﻌﻜﺲ درﺟﺔ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻼﺧﺼﻮﺻﻴﺔ واﻟﺘﺸﻮق ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻣﻦ ﻣﻊ ﻛ ﱢﻞ ﳾء؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﰲ أﻳﺔ ﺣﺎﻟﺔ أن املﺮء ﻻ ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻪ أدﻧﻰ ﻓﻜﺮة ﻋﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ »اﻵن«، أو اﻟﺴﺒﺐ ﰲ وﺟﻮب أن ﻳﻔﻌﻞ أيﱠ ﳾء ﺑﺨﻼف أيﱢ ﳾء آﺧﺮ .وﻣﺮ ًة أﺧﺮى ،ﻻ ﻳﺴﻌﻨﺎ ﱠإﻻ أن ﻧﺘﻔﺎﺟﺄ ﺑﺎملﻔﺎرﻗﺔ ﰲ ﺗﺪﻗﻴﻖ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﻋﺪم إﻧﻜﺎر أيﱢ ﳾء ،ﻟﻜﻲ ﻳُﻜﺬﱠب ادﻋﺎء زرادﺷﺖ ﺑﺄن »اﻟﺤﻴﺎة ﻛ ﱠﻠﻬﺎ ﺟﺪال ﻋﲆ اﻟﺬوق واﻟﺘﺬوق« ،ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺑﺴﺒﺐ اﻹﴏار اﻟﺬي ﻧﻘﺮه ﺟﻤﻴﻌً ﺎ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺸﺠﻊ املﺮء ﻣﻮﻗﻒ اﻹﻗﺮار املﺮﻳﺢ ،ﻫﻞ ﻳﻜﺬب ﱢ »ﻳﻐري ﺷﻜﻞ« املﺎﴈ ﺑﴚءٍ ﺧِ ﻼف ذﻟﻚ؟ وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﺤﻮل ﻛ ﱡﻞ »ﻫﻜﺬا ﻛﺎن« إﱃ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ أم »ﻫﻜﺬا أردﺗﻪ« ،ﻓﻬﻞ ﻫﺬا ﺟﺰء ﻣﻦ ﺧﺪاع اﻟﻨﻔﺲ أم ﳾء أﻛﺜﺮ ﺳﻤﻮٍّا؟ ﻳﻤﻴﻞ ﱢ املﻔﴪون ،ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا اﺳﺘﺜﻨﺎءات ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺟﺪﻳﺮة ﺑﺎﻟﺜﻨﺎء ،إﱃ ﻋﺪم ﻃﺮح ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أﻧﻬﺎ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ إﻫﺎﻧﺎت ﻣﻮﺟﱠ ﻬﺔ إﱃ اﻟﺬوق اﻟﺴﻠﻴﻢ. إن اﻟﻔﻘﺮة املﺄﺧﻮذة ﻣﻦ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ،اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل إﻛﺴﺎب ﺣﻴﺎة املﺮء أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﻣﻤﻴ ًﺰا ،ﺗُﺜِري ﻧﻔﺲ املﻮﺿﻮﻋﺎت .وﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ،ﺛﻤﺔ إﻳﺤﺎء ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺄن املﺮء ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻌﻞ واﻟﺘﴫف ،ﻛﺎﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ »املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺼﺒﻮرة واﻟﺠﻬﺪ اﻟﻴﻮﻣﻲ«؛ ﻋﲆ ﺮاﺟﻊ ﻣﻮاﻗﻒ ﺗﺒﺪو أﻫﻢ» :ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻊ ﺳﱰﻧﺎ ﻗﺒﺤً ﺎ ﻟﻢ ﻧﺴﺘﻄﻊ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻣﺠﺪدًا ﺗُ ِ اﻗﺘﻼﻋﻪ ،وﰲ املﻮﺿﻊ اﻵﺧﺮ ﺗﺤﻮﱠل إﱃ ﺟﻤﺎل رﻓﻴﻊ «.وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺘﺬﻛﺮ أن ﺷﺨﺼﻴﺔ املﺮء ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﻣﺤﻞ اﻟﻨﻈﺮ واﻟﺘﻔﻜري ،ﻓﻤﺎذا ﻳﻜﻮن ﻫﺬا »اﻟﺘﺤﻮل« إﻻ ﻛﺬﺑًﺎ ﻋﲆ ً ﺑﻐﻴﻀﺎ وﻣﺨﺰﻳًﺎ وأﺟﺪ ﻟﺬﻟﻚ وﻗﻌً ﺎ اﻟﻨﻔﺲ؟ ﻟﻨﻔﱰض أﻧﻨﻲ ﻗﻠﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﺸﺨﺺ ﻟﻜﻲ أﻫﻴﻨﻪِ ، ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺗﺬﻛﺮه .ﻫﻞ أﺧﱪ ﻧﻔﴘ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻛﺎن ﻟﺪي داﻓﻊ ﺑﺪﻳﻞ؟ ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ داﺋﻤً ﺎ أن أﻗﻨﻊ ﻧﻔﴘ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﺷﺨﺺ ﺻﺎﻟﺢ؟ ﻫﻞ ﺗﴫﰲ ﻫﺬا ﺳﻴﺴﺎﻫﻢ ﰲ ﺗﺤﺴني ﺷﺨﺼﻴﺘﻲ؟ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺘﺴﻌﺔ أﺟﺰاء ،ﰲ ﻋﺒﺎرة ﻣﻤﻴﺰة :إﻧﻨﺎ »ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻜﻮن اﻟﺸﻌﺮاء ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ«، ﱢ ﻣﺘﺨﻔﻴًﺎ وراء ﺷﺨﺼﻴﺔ زرادﺷﺖ» :اﻟﺸﻌﺮاء ﻳﻜﺬﺑﻮن ﻋﲆ ﻧﺘﺬﻛﺮ أﻧﻪ ﻳﻘﻮل ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺘﺎﱄ، ً ﻧﺤﻮ ﻣﻔﺮط ،وﻟﻜﻦ ﻟﻸﺳﻒ ،زرادﺷﺖ أﻳﻀﺎ ﺷﺎﻋﺮ«. وﻫﻜﺬا ﻳﻮاﺻﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺣﺪﻳﺜﻪ ،أو ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﱄ ،ﻓﻴﻈﻞ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺆﻣﻨًﺎ ﺑﺎﻟﻮاﺣﺪﻳﺔ ،ﺑﻜﻴﺎن ﻋﻀﻮي واﺣﺪ ،ﻣﻦ ﻧﻮع ﻣﺎ؛ ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ املﺄﺳﺎة« آﻣﻦ ﺑﺎﻟﻮاﺣﺪ اﻟﺒﺪاﺋﻲ اﻟﺬي ﻳﺪﻋﻢ املﻈﻬﺮ 104
ﺧﺎﺗﻤﺔ
اﻷﺑﻮﻟﻮﻧﻲ .وﺑﻌﺪ ﺗﻮﻗﻔﻪ ﻋﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ وﺟﻮد أيﱢ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎم املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ ،ﻇ ﱠﻞ ﻣﺮﺗﻌﺒًﺎ ﻣﻦ أﻫﻮال اﻟﻮﺟﻮد ،وﻟﻜﻦ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﺟﻤﻴﻊ وﺳﺎﺋﻠﻪ ﻋﲆ اﻹﴏار ﻋﲆ ﴐورة أن ﻧﺮى اﻟﻮﺟﻮد ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ »واﺣﺪ« .ملﺎذا ﻳُﻔﱰَض أن ﻳﺆدي ﻫﺬا إﱃ ﺟﻌﻞ اﻷﻣﻮر أﻓﻀﻞ وأﺳﻬﻞ أو أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪﻫﺎ ﻋﻠﻴﻪ؟ ﻣﻊ ﻫﺬا ،ﺛﻤﺔ ﺟﺰء آﺧﺮ ﻃﻠﺴﻤﻲ ﰲ »اﻟﻌِ ﻠﻢ ا َمل ِﺮح« ،٢٧٦ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل اﻟﺸﺪﻳﺪ ،ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ِ ﻳﺄﴎ ﻟﺐﱠ املﺮء ﻣﻦ ﻛﺜﺮة اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ .ﺗﺘﺤﺪث ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ﻋﻦ ﻋﺪم اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ أن ﻳﺘﻐري أيﱡ ﳾء ﻋﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻋﻦ أن ﴏف اﻟﻨﻈﺮ ﻫﻮ ﱠ املﻔﻀﻠﺘني :ﺣﺐ اﻟﻘﺪر إﻧﻜﺎره اﻟﻮﺣﻴﺪ .وﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﺑﴚء أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﺗﻠﻤﻴﺢ إﱃ ﻓﻜ َﺮﺗَﻴْﻪ واﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي؛ ﻓﺎﻷوﱃ ﻫﻲ ﺻﻴﻐﺔ ﻟﺘﻘﺒﻞ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺪﻣﻪ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻴﻔﻤﺎ ﻳﻜﻮن ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﻳﻨﺤﻮ املﺮء ﻫﺬا املﻨﺤﻰ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ. ً ﻣﻌﱰﺿﺎ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻻ ﰲ ﻛﺘﺎب »إرادة اﻟﻘﻮة« ،اﻟﺬي ﻟﻢ أزل أﻧﻜﺮ أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻘﺮات اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﺔ ،ﻳﻘﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ» :اﻷﺧﻼق :أو »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻻﺷﺘﻬﺎء« … »ﻳﺠﺐ أن ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻷﻣﻮر«»» ،ﺳﻮف« ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻷﻣﻮر« :ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻋﺪم اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺟﺮﺛﻮﻣﺔ اﻷﺧﻼق«: ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء إﻧﻘﺎذ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻨﻬﺎً ، أوﻻ ﺑﺎﻧﺘﻘﺎء اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻨﺘﺎب املﺮء ﻓﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر؛ وﺛﺎﻧﻴًﺎ ﺑﺎﻋﺘﻨﺎق اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺘﻪ وﺳﺨﺎﻓﺘﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻜﻲ ﺗﺮﻏﺐ ﰲ أن ﻳﺨﺘﻠﻒ ﳾء ﻋﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺗﺮﻏﺐ ﰲ أن ﻳﺘﻐري ﻛ ﱡﻞ ﳾء ،وﻫﻮ أﻣ ٌﺮ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻧﻘﺪ اﺳﺘﻨﻜﺎري ﻟﻠﻜ ﱢﻞ .وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻏﺒﺔ! »إرادة اﻟﻘﻮة«٣٣٣ ، ﻫﺬه ﺳﻤﺔ ﻣﻤﻴﺰة ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻜﻮﻧﻪ ﻋﺒﻘﺮﻳٍّﺎ ﺑﺤﻖ .ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﺳﻤﺔ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﺳﺘﺎﺗني ،ﺗﻌﻨﻲ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﱡ ﺗﻐري اﻷﻣﻮر ﻋﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ ،إذن ﻓﻬﻜﺬا ﻫﻲ ً أﻳﻀﺎ ﺣﻴﺎة ﻧﻴﺘﺸﻪ ،ﻫﺬا إذا ﺣﻜﻤﻨﺎ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن »ﺣﺐ اﻟﻘﺪر« ﻫﻮ ﺷﻌﺎره ،ﻓﺈن »ﻗﺪره« ﻫﻮ أن ﻳﺸﺠﺐ ﺑﺎﻧﻔﻌﺎل اﻟﻘﺪر، أو اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺮاﻫﻦ .ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻴﺢ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻫﺬا؟ إذا ﺣﻜﻤﻨﺎ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ اﻟﺠﺰء ١١ﻣﻦ »ﻧﺸﻴﺪ اﻟﺜﻤﻞ« ،اﻟﺬي ﺳﺒﻖ ﱄ اﻗﺘﺒﺎﺳﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ .أن ﺗﻘﻮل ﻧﻌﻢ ﻟﺴﻌﺎدة واﺣﺪة ﻳﻌﻨﻲ أن ﺗﻘﻮل ﻧﻌﻢ ﻟﻜ ﱢﻞ ﳾء .وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻣﺠﺪدًا ﻧﺮى ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﻐﻨﺎﺋﻲ املﺎﻫﺮ ﻟﻪ اﻟﻴﺪ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،إﻧﻪ ﺷﺎﻋﺮ ﻏﻨﺎﺋﻲ ﻳﺨﺪم اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﺆﻣﻦ أﻧﻚ ﻟﻮ رأﻳﺖ اﻟﻮﺟﻮد ﻛﻠﻪ وﺣﺪ ًة واﺣﺪة، 105
ﻧﻴﺘﺸﻪ
َ أﻗﺮرت ﺟﺰءًا واﺣﺪًا ﻓﻴﻪ .وﻟﻜﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻓﻌﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺳﺘُﻘ ﱡﺮه ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺳﺘُﻠ َﺰم ﺑﺈﻗﺮاره ﻛﻠﻪ ﻟﻮ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء »ﻣﺘﺴﻠﺴﻠﺔ وﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ وﻣﺘﻌﺎﺷﻘﺔ« ﻻ ﺗﻌﻨﻲ أن املﺮء ﻳﺤﺐ ذﻟﻚ .إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻴﺎة »ﻫﻲ« اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﱡ ﺗﻐري اﻷﺷﻴﺎء واﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ﻋﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ — وﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﺬي ﻳﻤﻠﻜﻪ اﻟﻨﺎس ﻟﺘﱪﻳﺮ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻮﻧﻪ — إذن ﻓﻤﻦ اﻟﺤﺘﻤﻲ أن ﻳﺮﻳﺪ املﺮء إﺣﺪاث ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت .وﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﻓﻘﺮة ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺣﺎﺳﻢ وﻣﺄﺧﻮذة ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ«، ﻛﻮن ﻣﻐﺎﻳﺮ ﻟﻬﺬه اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؟ أﻟﻴﺴﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻘﺪﻳ ًﺮا » :٩اﻟﺤﻴﺎة؛ أﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ إراد َة ٍ ً وﺗﻔﻀﻴﻼ وﻇﻠﻤً ﺎ وﻣﺤﺪودﻳﺔ وإرادة ﻛﻮن ﻣﺨﺘﻠﻒ؟ و ْﻟﻨﻔﱰض أن ﺷﻌﺎرﻛﻢ ِ اﻵﻣﺮ ﺑ »اﻟﻌﻴﺶ أﺳﺎﺳﺎ »اﻟﻌﻴﺶ ً ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة« ،ﻛﻴﻒ ﺑﻮﺳﻌﻜﻢ ﱠ ً »أﻻ« ﺗﻔﻌﻠﻮا ذﻟﻚ؟ وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻳﻌﻨﻲ وﻟ َﻢ ﺗﺠﻌﻠﻮن ﻣﺎ أﻧﺘﻢ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮﻧﻮا ﻋﻠﻴﻪ ،ﻣﺒﺪأً؟« وﻟﻜﻦ إذا ﻛﻨﺖ ﻣﻀﻄ ٍّﺮا إﱃ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺎ أﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻼ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻦ أن ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ »أيﱢ ﳾء« »ﻣﺒﺪأً« ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ »ﺣﺐ اﻟﻘﺪر« .ﻻ ﻳﻘﺪم ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻨﺎ أﻳﺔ إﺷﺎرة ﺗﺒني ﻛﻴﻒ أن ﻣﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ املﺮء ِروَاﻗﻴﺔ اﻹﻗﺮار ﻻ ﻳﻨﺤﺪر إﱃ ﻣﺎ ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ﺑﺎزدراء ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ ﺑﺼﻔﺘﻪ »اﺳﺘﻜﺎﻧﺔ«. ﱠ إن ادﱢﻋﺎﺋﻲ ﺑﺄن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺤﺎول أن ﻳﺠﻌﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻌﺼﻮﻣً ﺎ ﻣُﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻗﻮﻟﻪ .واملﺜري ﻟﻠﺪﻫﺸﺔ ،ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﺷﺨﺺ ﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﻌﺎراﺗﻪ اﻷﺧﺮى »ﻋِ ْﺶ ﺣﻴﺎة اﻟﺨﻄﺮ!« أﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو أن ﻳﺘﻔﺎﺟﺄ ،وﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻷيﱢ ﺣﺪث ﻃﺎرئ ،إذا ﺟﺎز اﻟﺘﻌﺒري ،ﺑﺎدﱢﻋﺎء أﻧﻪ ﴐوري ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ ﺣﺪﺛًﺎ ﻃﺎرﺋًﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق» .أﻳٍّﺎ ﻛﺎن« ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮﻳﺪه؛ وﺑﺘﻨﺎﻗﺾ ﻋﺠﻴﺐ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺪﱠﻋﻲ أن أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ »ﺣﺪث ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ«، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ أراده .وﻣﻦ ﺧﻼل اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺘﻌﻤﻴﻤﻲ اﻟﺬي ﻳﻜﺘﺐ ﺑﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻀﻄ ٍّﺮا ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻋﻦ اﻟﻬﻤﺠﻲ ﺑﺎدﱢﻋﺎء أﻧﻪ أراد ﺣﺪوث ﻫﺬا. ﻣﻊ ﺣﺎﻻت ﻻ ﻳﺒﺪو ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﻋﲆ وﻫﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ ،ﺑﺈﻋﻼﻧﻪ ﻣﻌﺘﻘﺪات اﻟﴬورة اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة املﻨﺎل ،ﺛﻢ ﺑﺎدﻋﺎﺋﻪ اﻟﺘﻜﺮارﻳﺔ اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ملﺎ ﺗُﻤﻠِﻴﻪ ،أﻧﻪ أوﺿﺢ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻮﺟﺪ أﺑﺪًا ﳾء ﺟﺪﻳﺪ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ أﺑﺪًا ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ،ﺗﺤﺖ اﻟﺸﻤﺲ أو ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺸﻤﺲ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻣﻊ ﻫﺬا ،ﻓﻌﲆ ﻣﺴﺘﻮًى دﻗﻴﻖ، ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ — ﺑﻞ ذﻛﻴٍّﺎ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻣﻀﻄﺮ إﱃ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻳﻈﻞ ﺷﺪﻳ َﺪ اﻟﺬﻛﺎء إﱃ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ املﺘﻄ ﱢﺮف — ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺬه »اﻟﻘﻤﻢ« اﻟﺘﻲ ﻫﻮ ﻣﻮﻟﻊ ﺑﻬﺎ .وﻫﻮ ﻣﺴﺘﻌ ﱞﺪ ﻟﺘﺤﺮي اﻟﺤﺮص واﻟﺪﻗﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ﻟﻴﴩح إﱃ أيﱢ ﻣﺪًى ﺗﻜﻮن اﻷﺷﻴﺎء ﻣُﺮوﱢﻋﺔ وﻏري ﻣﺤﺘﻤَ ﻠﺔ — ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص .وﻣﺎ دام ﻟﻢ ﻳﺰل ﻋﻨﺪ ﻣﺴﺘﻮى اﻷﺷﻴﺎء ﻌﺠﺰ ﺳﻮف ﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﺘﻨﺎﻣﻲ .وﻟﺬا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﻘ ﱡﺮ أﻣ ًﺮا ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ واﻷﺷﺨﺎص ،ﻓﺈن اﻟﺮﻋﺐ ا ُمل ِ 106
ﺧﺎﺗﻤﺔ
أن ﻳﻜﻮن ذﻟﻚ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎر أﺷﻴﺎء ﻣﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ إذ إﻧﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ »ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ« ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳﺒﻐﻀﻪ .ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺄﺧﺬ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﺮﻫﻬﺎ ،وﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﺑ »ﻣﺄﺳﺎوﻳﺔ اﻟﻔﺘﻮر« ،وﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺘﻌﺎل ،وﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﺼﺒﺢ أﺧريًا ﻗﺎد ًرا ،ﺑﻔﻀﻞ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻀﺒﺎﺑﻴﺔ ،ﻋﲆ أن ﻳﻘﻮل ﻧﻌﻢ ﻟﻜ ﱢﻞ ﳾء. ٍ ﱠ وﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺪ ﻓﻴﻪ ﻗﻴﻤﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻈﺎﻫﺮه أﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺪﱢر ﺷﻴﺌًﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ آﺧﺮ .وﻳﺘﻌﺬﱠر اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺴﻤ ﱢﻮ وﺑني ﻋﺪم اﻹدراك.
107
اﳌﺮاﺟﻊ
Adorno, Theodor (1974), Minima Moralia (NLB, London). Aschheim, Steven E. (1992), The Nietzsche Legacy in Germany 1890–1990 (University of California Press, Berkeley and Los Angeles). Bridgwater, Patrick (1972), Nietzsche in Anglosaxony (Leicester University Press, Leicester). Heller, Erich (1988), The Importance of Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago). Heller, Peter (1966), Dialectics and Nihilism (The University of Massachusetts Press, Amherst, Mass). Jones, Ernest (1955), Siegmund Freud, Life and Work, ii (Hogarth Press, London). Kaufmann, Walter (1974), Nietzsche (4th edn., Princeton University Press, Princeton, NJ). Kundera, Milan (1984), The Unbearable Lightness of Being (Faber and Faber, London). Love, Frederick R. (1963), Young Nietzsche and the Wagnerian Experience (University of North Carolina Press, Chapel Hill, NC). Middleton, Christopher (1969) (ed. and trans.), Selected Letters of Friedrich Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago).
ﻧﻴﺘﺸﻪ Nehamas, Alexander (1985), Nietzsche: Life as Literature (Harvard University Press, Cambridge, Mass.). Schutte, Ofelia (1984), Beyond Nihilism: Nietzsche without Masks (University of Chicago Press, Chicago). Silk, M. S. and Stern, J. P. (1981), Nietzsche on Tragedy (Cambridge University Press, Cambridge). Solomon, Robert C. and Higgins, Kathleen M. (1988) (eds.), Reading Nietzsche (Oxford University Press, New York). Staten, Henry (1990), Nietzsche’s Voice (Cornell University Press, Ithaca, NY). Thompson, Judith J. and Dworkin, Gerald (1968) (eds.), Ethics (Harper and Row, Cambridge, Mass.). Young, Julian (1992), Nietzsche’s Philosophy of Art (Cambridge University Press, Cambridge).
110
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
The amount of writing on Nietzsche in English alone is now growing at a rate that is both a tribute and a threat. The most magisterial book on him, by someone deeply sympathetic yet firmly critical, is Erich Heller’s The Importance of Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago, 1988). A book somewhat similar in tone, but following patiently through Nietzsche’s development, is F. A. Lea’s The Tragic Philosopher (Athlone Press, London, 1993). Originally published in 1957, it is a trailblazing work, written, like Heller’s and unlike almost everyone else’s, with notable grace and a Nietzschean passion. Unfortunately Lea uses old and discredited translations for quotation; and he ends surprisingly by finding that Nietzsche rediscovered the teachings of Christ and Paul for our time. Walter Kaufmann’s ill-organized transformation of Nietzsche into a liberal humanist has its place in the history of Nietzsche reception (Nietzsche 4th edn, Princeton University Press, Princeton, NJ, 1974). Of more recent works, the most acclaimed, often setting new standards in detailed analytic working-through of Nietzsche’s positions, is Alexander Nehamas’s Nietzsche: Life as Literature (Harvard University Press, Cambridge, Mass., 1985). It is a demanding but rewarding book, but Nehamas relies too heavily on unpublished notebooks of Nietzsche’s. More impressive still, as I have indicated in the text, is Henry Staten’s
ﻧﻴﺘﺸﻪ Nietzsche’s Voice (Cornell University Press, Ithaca, NY, 1990), a moving and profound series of meditations on some basic themes in Nietzsche. A less demanding and more critical work on an aspect of Nietzsche which has received little in the way of book-length attention is Julian Young’s Nietzsche’s Philosophy of Art (Cambridge University Press, Cambridge, 1992). Young finds a lot to be indignant about, but his criticisms, in their downrightness, are thought-provoking. A full-length book on BT by M. S. Silk and J. P. Stern is Nietzsche on Tragedy (Cambridge University Press, Cambridge, 1981), which leaves no stone unturned, so far as the biographical background, the accuracy of Nietzsche’s account of Ancient Greece, and so on, are concerned. The essence of the work itself, and the source of its fascination, eludes them, but this is a mine of absorbing information. Nietzsche’s politics, or rather his seeming lack of them, are dealt with at length in two overlong but intermittently helpful books, both rather badly written. Tracy Strong’s Friedrich Nietzsche and the Politics of Transfiguration (expanded edn, University of California Press, Berkeley and Los Angeles, 1988) ranges very widely, and contains a particularly bizarre account of the Eternal Recurrence. Mark Warren’s Nietzsche and Political Thought (MIT Press, Cambridge, Mass., 1988) distinguishes between what Nietzsche’s political views, never presented systematically, were, and what they should have been, from the standpoint of the Frankfurt School of Critical Theory. There are many collections of essays by various commentators: one that has some excellent contributions to the reading of particular books is Reading Nietzsche, edited by Robert C. Solomon and Kathleen M. Higgins (Oxford University Press, 1988). The way that Nietzsche tends to be read in France now is usefully illustrated in a book of translations of Derrida, Klossowski, Deleuze, and so on: The New Nietzsche, edited by David
112
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ B. Allison (Delta, 1977). I find Gilles Deleuze’s celebrated Nietzsche and Philosophy (trans. Hugh Tomlinson, Athlone Press, London, 1983) quite wild about Nietzsche, but interesting about Deleuze. Many people swear by it. And we are in for an invasion of works from France, where Nietzsche has been idiosyncratically cultivated since World War II.
113