نماذج بشرية أحمد رضـا حوحو تقديم :األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين
39 يوزع مجانا ً مع العدد 83من مجلة الدوحة سبتمبر 2014
نماذج بشرية أحمد رضا حوحو تقديم:األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين
الناشر : وزارة الثقافة والفنون والتراث -دولة قطر رقم اإليداع بدار الكتب القطرية : الترقيم الدولي (ردمك) : العمل الفني للغالف :سلمان املالك -قـطـر اإلخراج والتصميم :عالء األلفي -مجلة الدوحة
المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة.
فهرس الكتاب
مقدمة
5
الكتَّاب إلى ُ
24
الشيخ رزُّ وق
29
العِصامي
49
إلى القُ رّاء عائشة
25 39
العمُّ نتيش
59
رجل من الناس
73
الشخصيات المرتجلة
85
سيدي الحاج
105
الس ِ ّكير ِّ
فقاقيع األدب األستاذ
67 81 93
الضيف يحيى َّ
111
التلميذ
129
سي زعرور
119
6
مقدمة
نبذة عن حياة الكاتب اسمه الحقيقي أحمد حوحو ،وقد أضيف له اسم رضا ،في الـحـجـاز ،للتمـييز بيـنـه وبيـن أحــد أفــراد بنــي عمـومـتـه.
ُو ِلد رائــــد القـصة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالعربية بتاريخ
1910-12-15في والية بسكرة ،إحدى حواضر الحركة اإلصالحية الوطنية الجزائرية ،وتحديد ًا في قرية سيدي عقبة
حيث ينام الفاتح اإلسالمي الشهير عقبة بن نافع الذي ما زال باب المسجد الذي يؤوي ضريحه يحمل عالمة من العالمات
المميزة :الباب القديم الذي يعود تاريخه إلى فترة المع ّز لدين ّ الله الفاطمي.
َأ َّم أحمد حوحو ُ سن مبكرة ،شأنه شأن أطفال الك ّتاب في ّ
األرياف الجزائرية التي عوَدت األبناء على حفظ القرآن
7
وبعض التفسير ألسباب تربوية ودينية ولغوية وسياسية .لقد كانت فرنسا االستعمارية تعمل على محو الهوية والمرجعيات
األساسية التي ت ّتكئ عليها األمة حتى يتس ّنى لها تشتيتها ُّ التحكم فيها وفق مشيئتها ،إذ إن وتبديد مقوماتها ،ومن ثم
تؤهلها يسهل عليها فرض مرجعيات جديدة ِ ّ تحييد المرجعيات ّ
لتوجيه الناس دون مقاومة مقاصدها ومفاسدها المتعاظمة.
وكان المرور على الكتاتيب نوع ًا من تحصين الذات.
في السادسة من عمره التحق بالمدرسة االبتدائية ،والواقع أنه كان محظوظ ًا مقارنة بأولئك األطفال الذين ُو ِلدوا في القرى النائية وفي األرياف الفقيرة والصحاري الفقيرة التي اكتفت
بحفظ المصحف الكريم وتلقينه كمكسب كبير لذلك الجيل،
عصي ًا في حاالت ال حصر كما أن االلتحاق بالمدرسة ظل ّ ّ السكان ،إضافة لها بالنظر إلى انعدام المدارس القريبة من ّ السكان من الفرنسية نفسها كلغة استعمارية دخيلة إلى موقف
وجب االستغناء عنها ألنها لسان حال الغزاة الذين ال يؤتمنون.
سافر الشاب أحمد إلى مدينة سكيكدة بشرق الوطن عام 1928من أجل إكمال دراسته والحصول على األهلية ،بيد أن
ذلك لم يكن سه ً ال في ظل هيمنة السياسة الفرنسية التفاضلية التي حرمت «األهالي» من الدراسة والمناصب العتبارات
8
عنصرية .وهكذا ذهب إلى الحجاز عام .1935وكان ذلك
من المنافذ القليلة التي أنقذت كثير ًا من الجزائريين الذين
ساعدهم الحظ ،مع ضرورة التأ كيد على الخدمات الجليلة التي قدمها جامع الزيتونة بتونس لمجموعة من المواطنين ِّ ومفكرين ومع ِّلمين ُ وك ّتاب ًا مرموقين، الذين أصبحوا سياسيين
بصرف النظر عن طبيعة الدروس وطريقة تقديمها.
ثم َس َّجل في كلية الشريعة سنة ،1937وألنه عرف النضال والحركة اإلصالحية قبل سفره إلى الحجاز طالب ًا العلم ،فقد
اهتم بالكتابة منذ البدايات األولى ،ونشر أول مقال له في َّ
مجلة الرابطة العربية يدين فيه الطرقية التي كانت ،من منظور
فئة معتبرة من المثقفين ورجال الدين ،فقيرة إلى الوعي الالزم ،وفاقدة لروح النضال الحقيقي الذي تحتاج إليه تمس ،في جزء من معتقداتها وممارساتها، الجزائر .كما أنها ّ
واقع العقيدة وجوهرها ،وكان المقال بعنوان« :الطرقية في خدمة االستعمار» .والحال أن ذلك كان موقف رائد الحركة شن عليها اإلصالحية اإلمام عبد الحميد بن باديس الذي َّ
حرب ًا كادت تودي بحياته في إحدى مدن الغرب الجزائري، في الثالثينيات من القرن الماضي.
تخ َّرج أحمد رضا حوحو في كلية الشريعة سنة ،1938 9
وألنه كان طالب ًا متف ِّوق ًا في دراساته فقد ُع ِ ّين أستاذ ًا بالكلية مهمة أخرى تتمثَّل في سكرتاريا مجلة نفسها ،كما ُأسندت له ّ
«المنهل» ،وهي مسؤولية أخرى ال ّ أهمية عن األولى ،إال تقل ّ
ويمم شطر مكة ليلتحق بمصلحة أنه استقال من منصبه ذلكَّ ، البرق ،الوظيفة ذاتها التي شغلها في مدينة بسكرة بداية .1928لكننا لم نجد مس ِّوغ ًا كافي ًا لذلك ،فكان التخ ّلي عن الك ّل ّية وااللتحاق بمصلحة البرق أمر ًا غامض ًا.
عاد إلى الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية في ،1946وقد شحذته التجربة بفعل اكتسابه معارف جديدة واحتكاكه بعلماء
وأساتذة وباحثين ِ ّ واطالعه الواضح على كتب عربية وأجنبية أهلته للنظر إلى واقعه وواقع بلده بعمق ،وبمسؤولية من يشعر َّ بأن عليه المساهمة الفعلية في تغيير المسار العام للوضع في
الوطن األسير .هكذا انخرط في جمعية العلماء المسلمين تضم نخبة فاضلة من خيرة رجال ذلك الجزائريين التي كانت ّ
الوقت ،وما هي إال أعوام قليلة حتى أصبح عنصر ًا بارز ًا فيها، وموازاة مع ذلك ظل قريب ًا من مجاله األصلي .لقد ت ََّم تعيينه مدير ًا لمدرسة التربية والتعليم ،كما أدار مدرسة التهذيب ،قبل أن ي َُع َّين -الحق ًا -كاتب ًا عام ًا لمعهد ابن باديس.
نشر أول مقال له في جريدة «البصائر» في 25سبتمبر/أيلول 10
،1946وكان بادي ًا للعيان أن له اهتمامات صحافية مثيرة،
بالعودة إلى عددها وإلى طبيعتها وطريقة تعاملها مع الموضوعات االجتماعية والسياسية والثقافية والدينية ،وهي-
في مجملها -ال تتجاور كثير ًا مع ما كان ينشر آنذاك ،أسلوب ًا مرده طريقة تكوينه وقراءاته ومعجم ًا وفكر ًا ورؤية ،ولعل ذلك ّ
يؤسس عليها في وبصيرته والمرجعيات المختلفة التي كان ّ ّ تدل على ذلك بعض آرائه التي بدت مفارقة كتاباته ،كما
لما كان قائم ًا وقتذاك ،أو لما كان متداو ً ال في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
َمثَّل الكاتب الساخر ،والملتزم في آن واحد ،بلده الجزائر في
مؤتمر باريس للسالم في مايو/أيار من سنة .1949وفي السابع
والعشرين من أ كتوبر أنشأ جمعية «المزهر القسنطيني» التي
كانت تعرض مسرحيات متن ِّوعة ،ومنها :ملكة غرناطة ،بائعة
الورود ،البخيل .وفي الخامس عشر من ديسمبر/كانون األول أسس جريدة «الشعلة» التي َّ ترأس تحريرها .وقد كان َّ 1949 يسعى دائم ًا إلى مهاجمة مكامن األلم والشر ،ما سيتسبب له
جمة مع المستعمرين ،ومع فئات أخرى مناوئة في متاعب ّ
لموضوعاته ورؤاه.
كما زار االتحاد السوفياتي ويوغوسالفيا سنة 1950رفقة 11
الروائي والمسرحي كاتب ياسين ،صاحب رائعة «نجمة» الذي
ذاع صيته في العالم كسارد كبير ويساري متم ِّرد ،وقد مكث ِّ المشككين ي َّتهمونه بالشيوعية هناك شهرين ،ما جعل بعض رغم انتمائه إلى جمعية العلماء المسلمين .والواقع أنه كان
متعاطف ًا مع األنظمة االشتراكية ،مناوئ ًا لألنظمة الرأسمالية
والثقافة األحادية والخطاب المعياري ،كما تشير إلى ذلك مقاالته ومالحظاته التي ال تخلو من الدعوة إلى التجديد
ّ واالطالع على مختلف الفنون واآلداب العالمية .لقد كان، ِّ يشكل مفارقة ،ليس بأفكاره فحسب ،بل في واقع األمر، بهندامه وهزله وفكره وسيجارته وعزفه على العود واهتمامه
بالمسرح والفن والترجمة والشعر والقصة والرواية والموسيقى،
األمر الذي لم يكن معهود ًا في جمعية العلماء المسلمين التي
اتَّسمت بالصرامة واالستقامة.
كان أحمد رضا حوحو وراء تجنيد وتوعية عدد كبير من الطلبة الجزائريين الذين سي ّتخذون موقف ًا صارم ًا ونهائي ًا من االستعمار ،كما عرف بمناهضة االحتالل والدعوة المستمرة إلى محاربته ،وكانت مقاالته سالح ًا ال يمكن إغفال مفعوله التدريجي ،شأنه شأن أشعار مفدي زكريا التي ستقوم بدور
مهم في الثورة التحريرية .لكن النظام الفرنسي ظل يراقبه ّ 12
ِّ يشكل خطر ًا فعلي ًا على كيانه في الجزائر لوثوقه الكبير بأنه
المستعمرة ،شأنه شأن َّ مثقفين وك ّتاب آخرين ،ومنهم الكاتب
المفرنس مولود فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري اإلرهابية بتاريخ 15مارس/آذار .1962
اخ ُت ِطف الكاتب الساخر في التاسع عشر من مارس 1956من
ِق َبل منظمة «اليد الحمراء» ،إحدى األذرع السرية للمستعمر
وس ِجن في حبس الكدية بقسنطينة ،ثم ُح ِّول إلى الفاشيُ ، جبل الوحش بأعالي المدينة حيث ُأ ِ عدم هناك بشكل ظل
غامض ًا إلى اليوم ،لكنه وحشي بالتأ كيد ،إذ ُع ِثر على رفاته
مصادفة بعد ،1962تاريخ استقالل الجزائر عن استعمار حاقد ومدمّر ،وكان مدفون ًا في قبر جماعي بإحدى الثكنات الفرنسية القديمة.
مهم للقارئ هكذا انطفأ نجم كان َي ِع ُد بتقديم منجز سردي ّ لو كتب له أن يعيش سنوات أخرى ،لكن الفاشيين كانوا ِّ يخططون لمصير آخر مذ سطع نجمه ،واتضحت مواقفه من
كيان غريب .لقد َقوَّض وعيه طمأنينة المستعمرين ،وكان يجب التخ ُّلص منه.
13
أعماله ومواقفه عرف الكاتب الشهيد بكتاباته المتن ِّوعة .ويمكن أن تكون أدت إلى اختطافه مقاالته الصحافية الحادة من األسباب التي ّ وتصفيته .لقد كانت له سلسلة من المقاالت تحمل عنوان: «تحت السياط نغ ّني» ،وسلسلة أخرى بعنوان« :مسامير»
كان ينشرها في جريدة الشعلة ،إضافة إلى كتاباته األخرى في جريدة البصائر ،ومنها« :مع حمار الحكيم» ،و«الميزان»،
وهي المقاالت الساخرة التي َأ ّلبت عليه مجموعة من لخطه الذي كان مختلف ًا عن ّ ِّ خط جمعية العلماء المعارضين المسلمين الجزائريين ،من حيث االنضباط والصرامة ،ومن
حيث االستراتيجية والمعالجة ،إضافة إلى ذلك فقد ظل نقده
الذع ًا رادع ًا ،ما أثار حفيظة بعض المحافظين واالتّباعيين
أحسوا بأنهم موضوع كتاباته ،أو مكمن الداء. وأولئك الذين ّ
المتعددة -بترجمة بعض قام أحمد حوحو -إضافة إلى نشاطاته ِّ األعمال إلى العربية ،ومنها :مالحظات مستشرق مسلم ،حيوية اهتم بالمسرح والموسيقى اللغة العربية ،وأهرام مصر ،كما ّ
والنقد ،إذ كان عازف ًا على آلة العود وعضو ًا في فرقة .كما كان لنقده الالذع أثر كبير ،ما لم تستسغه فئة معتبرة من الوسط
14
الثقافي ،إضافة إلى ذلك فقد كان من دعاة التجديد والثورة على التقاليد األدبية الباهتة ،مع إلحاحه الشديد على ضرورة ترقية اللغة العربية بتخليصها من الشوائب والتبعية والخطاب اليقيني والمعجم المتواتر الذي يحمل دالالت مك َّررة ال تفي بغرض العصر ومشكالته الحقيقية.
كما ظل ينادي بضرورة االغتراف من اآلداب واألفكار الغيرية
التي تسهم في تغذية الموروث وتطويره حتى يصبح دا ّل ًا
ومعبر ًا عن روح العصر .يقول في هذا الشأن« :هناك مذاهب ِّ
عديدة جديدة في اآلداب والفنون من الواجب معالجتها
ودراستها والسير على غرارها ،ومن العبث إهمالها ألنه لم التعصب الذميم أن يكن لنا حظ في إيجادها وخلقها ،ومن ُّ
ننكر النافع الجيد من مذاهب الغير» .لقد كان في صميم
مفاهيم االتّباع واإلبداع ،أو النقل والعقل ،كما سنجدها عند
أدونيس وبعض الحداثيين المعاصرين.
وكان الكاتب ينظر إلى األدب والفن نظرة جديدة بحكم يحمل ُ الك ّتاب مسؤولية المجتمع ثقافته وتكوينه ،إذ ما فتئ ّ
وعوالم القيم المثلى التي وجب الدفاع عنها وترقيتها ،ذلك أن
نظرته ارتبطت بالجانب المثالي ،ولذلك َع َّد اآلداب والفنون مرايا عاكسة لكيان األمة وجوانبها اإلنسانية والروحية التي
15
أهم قضية ظلت تشغله ،من ّ تحصنها وتمثّلها أحسن تمثيل .أما َ
الناحية األدبية ،فتتمثّل في طبيعة الكتابة نفسها .ربما الحظ
شيئ ًا من المحاكاة الساذجة في ما ينشر آنذاك ،ولذا أعلنها صراحة ،وبجرأة لم يستسغها بعض معاصريه الذين نظروا إليه ببعض الريب واالزدراء« :أمّا هذه الجثث الفاقدة الروح التي اصطلح الناس على تسميتها أدب ًا وفن ًا ،فيجب أن ننزل عليها
بمعاولنا دون شفقة وال رحمة ،وننشئ بدلها أدب ًا وفن ًا َح َّي ْين».
ويضيف بنوع من اليقين« :إن المرء ليزدهي بآدميته حين يلقي بنفسه في غمار هذه اآلداب العالمية» .ما يجعلنا نستنتج
أن قراءاته لآلداب األوروبية واألميركية هي التي جعلته ي ّتخذ
موقف ًا مماث ً ال.
خ َّلف أحمد رضا حوحو أعما ً ال أدبية اختلف حولها
ّ النقاد والدارسون من حيث التصنيف والقيمة ،بحسب
منطلقاتهم وأدواتهم ورؤاهم الجمالية والفنية ،لكنه من الصعب
تجاهل مكانتها إن ُأ ِخذت في إطار سياق إنتاجها ،وما َق َّدمته من إضافات نوعية للتجارب السابقة ،أو لما ُس ِ ّمي (إرهاصات
القصة) ،ومن هذه العناوين النثرية:
-غادة أم القرى (قصة طويلة) ــ 1947ــ
-مع حمار الحكيم (مقاالت قصصية) 1953ــ
16
صاحبة الوحي (قصص) 1954ـــ -نماذج بشرية (قصص) 1955ــ
كما ترك إرث ًا من المقاالت النقدية والصحافية
ومسرحيات لم تُجمع في كتب مستقلة رغم قيمتها وفائدتها، مع أن هناك محاوالت لجمعها وطبعها من ِق َبل بعض األفراد
والمؤسسات ،كما أوصت بذلك شخصيات أدبية وهيئات َّ علمية في مناسبات كثيرة ،وقد تساهم هذه النصوص -إن
ُك ِتب لها الظهور في وقت ما -في إضاءة جوانب كثيرة من
حياة الكاتب ومواقفه السياسية والفنية ،كما يمكن أن تضيف قبس ًا للمرحلة التي عاش فيها جيل بأ كمله. نماذج بشرية
ُك ِتبت هذه النصوص المتن ِّوعة منذ قرابة ستين سنة،
وهو وقت ٍ كاف لتغ ُّير األذواق واألدوات النقدية والمقاربات،
لذلك من األنسب أن نأخذ في الحسبان نقاط ًا مفصلية قبل
تقديمها للقارئ الكريم :زمان الكتابة وزمان القراءة ،إضافة
والمقيس عليه ،وذلك تفادي ًا المقيس إلى السياق وثنائية ُ َ
ألي إسقاط أو إجحاف قد يلحقان ضرر ًا بكتابة َع َّبرت عن
انشغاالت ،باألدوات التي كانت متاحة في زمانها.
17
كانت الجزائر في تلك الفترة المظلمة تحت حكم احتالل
عمل على تعميم الجهل ومحاولة محو اللغة العربية من
الخارطة الجغرافية للبلد؛ ومن ث ََّم كان ظهور كاتب يكتب ّ يتعذر أن تتك ّرر دائم ًا. بالعربية هبة من الخالق وسعادة مباركة
الكتابة نفسها لم تكن متاحة إ َ ال لفئة قليلة ممن نجوا -ولو
نسبي ًا ومرحلي ًا -من الحصار الذي ُض ِرب على الجزائريين .لذا
يمكن اعتبار نصوص «نماذج بشرية» كرامة من الكرامات التي جاءت في وقتها ،أو قبل الوقت بسنين ،ورغم أننا قد
ننظر إليها اليوم من زوايا أخرى ،ومن منطلقات جمالية مختلفة للوصول إلى أحكام مختلفة ،إ َ أهميتها ال أن ذلك لن يق ِ ّلل من ّ
التاريخية وريادتها في فترة كانت فيها الكتابة معجزة ّ حقة.
مقدمة الكتاب مالحظات ثمينة أوردها الكاتب هناك في ّ نفسه ،وقد ت َُع ّد بمثابة فواتح تشير إلى الكيفية السردية التي
أرادها أحمد رضا حوحو .وبصرف النظر عن أي تقييم أو استثمار لما ورد فيها من مواقف قد تكون مصدر خالف
مفسرة وجدال ،فإن وجودها يظل ذا داللة من حيث إنها ّ ّ للمتلقي .يقول الكاتب« :لم أعمد وموجهة للكيفية السردية ّ
في عرض هذه النماذج على الخيال فأستخدمه في التنميق فأسخره إلثبات فكرة أو والتزويق ،أو إلى التحليل النفسي ِّ
18
إدحاض أخرى ...أجل ،إني لم ألجأ إلى كل ذلك ،وإنما التجأت إلى المجتمع ،وانتزعت من مختلف طبقاته نماذج
عشت مع بعضها وسمعت عن بعضها».
تعالج النصوص الواردة في الكتاب قضايا اجتماعية
وثقافية وسياسية ودينية متن ِّوعة تأسيس ًا على خيار سردي يتراوح بين التمثيل والعرض ،ويبدو أنها جاءت لتقوم بوظيفة ما من حيث ابتعادها عن التنميق ،أي أنها ملتزمة بقضايا
اجتماعية أ كثر من التزامها بالترف الذهني .لهذا اتَّسم أغلب
السرد بالتسجيل والتبطئة ووضوح اللفظ والعبارة والمقصد، على غرار السرد العربي الكالسيكي الذي ُع ِرف في التجارب
األولى ،سواء مع محمود تيمور أو قبله ،كحال المقامات التي كانت من التجارب القصصية الرائدة التي ستؤ ِ ّثر الحق ًا في المنجز السردي برمّته ،رغم أنها سلكت طريق ًا مختلف ًا في
تعاملها مع الزخرفة.
كان الكاتب -من وراء بعض حكاياته القريبة من
التقرير في حاالت كثيرة -يريد اإلشارة إلى مظاهر سلبية َم َّيزت محيطه في فترة ما ،ومن ثم معالجتها بالطريقة المناسبة،
ومن هذه السلبيات المهيمنة التي كانت تحتاج إلى ضرورة التنبيه إلى مخاطرها :مسألة الدجل والشعوذة (الشيخ رزوق)،
19
واالنحرافات األخالقية (عائشة)( ،السكير) ،والحيلة (العم نتيش) ،والجهل (سيدي الحاج) ،والهذيان (األستاذ)،
والتدهور (سي زعرور) ،والكنود (رجل من الناس) ،والغرور
(فقاقيع األدب) ،والزعامة المغشوشة (الشخصيات المرتجلة)، وعبقرية الشارع (يحيى الضيف) ،واإلرادة (التلميذ).
وهي موضوعات يمكن أن تكون متواترة ومشتركة بين الك ّتاب في كل زمان ومكان ،بيد أن شكل معالجتها يظل نواة أساسية، من حيث إن الكيفية مسألة جوهرية في تعزيز الفرادة وتقوية
االستثناء .لذلك يمكن القول إن قيمة «نماذج بشرية» -إن احتكمنا إلى تاريخ وسياق إنتاجها -تكمن في الخيارات
والمتغيرات السردية الجديدة التي راهن عليها الموضوعاتية ِّ الكاتب ،إضافة إلى خاصية قاعدية تتمثَّل في الرؤية المفارقة للنموذج المتواتر آنذاك.
ال يمكن القول -بطبيعة الحال -إن نصوص أحمد
رضا حوحو استثنائية من ناحية الشكل ،جديدة كلها وخارقة، ذلك أن هناك نصوص ًا عربية سبقتها إلى التحديث والتثوير
الستفادتها من الكتابة المح ّلية والغيرية ،وخاصة في التجربة
المشرقية مع الكاتب محمود تيمور الذي اقتبس زاد ًا معتبر ًا من التقنيات القصصية للكاتب الفرنسي موباسان ،محاو ً ال
20
بذلك تطعيم السرد القائم في المنجز القصصي السابق .غير
أن تجربة حوحو ت َُع ّد ،بدورها ،إضافة نوعية للجهد السردي
الجزائري ،ولبعض ما ُك ِتب في البالد العربية كذلك.
تمفصل نشير في سياق هذا التقديم إلى أن دراسة كيفيات ّ
المعنى في مختلف النصوص تستدعي مراعاة اعتبارات كثيرة
ال يمكن دونها أن َن ِف َي الكاتب ّ َجه إلى تجربته، حقه .قد ُتو َّ
القصيرة نوع ًا ما ،تأسيس ًا على الذائقة والمسارات السردية
تخص مسائل تتع ّلق بالرومانسية والواقعية الحالية ،مالحظات ّ اإلمالئية التي م َّيزت بعض القصص والمقاالت القصصية،
أو بعض المقدمات التوضيحية غير الضرورية للمتن الحكائي الذي يستطيع تجاوزها دون المساس بالبنية والمتون ،إن نحن انطلقنا من منظورات نقدية جديدة ،الشيء نفسه يتع َّلق ببعض
الخواتم المفاجئة التي لم ت ُْب َن على حبكة مكتملة النسيج ،أو على عالقات سببية منطقية تسوَغ النهايات السريعة التي توحي
ّ بأقل التكاليف السردية بأنه كان يريد التخ ُّلص من القصة
الممكنة ،إن لم يكن بعض التقليد األدبي هو الذي فرض عليه تلك الخيارات التي قد ال يستسيغها الموقف النقدي.
مؤسسة لكن هذه المواقف من نصوص عمرها ستون سنة، ّ للقصة القصيرة في الجزائر ،مؤثّثة ثقافي ًا ومعرفي ًا ،كما تعكسه 21
تتبدد عند مراعاة التناصات الخارجية الكثيرة ،سرعان ما َّ الجهد الذي بذله الكاتب في فترة تم َّيزت بالجهل وانتشار المد األ ّم ّية في بلد شهيد كانت فيه العربية تنحسر باستمرار أمام ّ
اللساني الفرنسي ،وأمام تراجع لغة المواطن .ثم إن اإلضافات التي جاء بها في تلك الفترة ليست باله ِ ّينة أو الباهتة بحيث
يمكن القفز عليها أو تجاهلها .لقد أحدث الكاتب الشاب
ثورة حقيقية على األساليب المتوارثة الغارقة في الوعظ ،كما نصب عداء لألساليب المستهلكة ،كما يشير إلى ذلك ،وكما
ِّ يؤكد النقاد واأل كاديميون الذين بنوا آراءهم على الموازنة مهمة تعمل على إبراز الجوانب التفاضلية. كآلية ّ ّ
إضافة إلى ذلك فقد أعاد النظر في البناء القصصي الكالسيكي الذي كان مهيمن ًا على بعض اإلرهاصات األولى ،كما تعامل مع اللغة من زاوية أ كثر وعي ًا بحقيقتها ووظيفتها األدبية
والحضارية ،إذ اعتبرها عنصر ًا نووي ًا وجب خرقه من الداخل
من أجل فسح مجال أوسع للدالالت واألفكار التي ال تنبني
بالضرورة على حقل معجمي مُ َح َّدد محدود ،نقلي ويقيني، مع ما ينج ّر عن ذلك من استنساخ آلي وغير ضروري للمرحلة،
وللتجارب الماضية التي وجب غربلتها .لقد كانت رؤيته تلك متقدمة من حيث إن اللغة كانت عائق ًا فعلي ًا أمام التنويعات ِّ
22
والمتخ َّيل الذي ظل حبيس االستعماالت الثابتة والمعاودات
التي غدت قاعدة ومرجع ًا يقيني ًا ،ما جعل العناصر الفنية
تتقهقر أمام النقل والنموذج المتوارث عبر العصور .إضافة تقدم فإن الكاتب يكون قد ارتقى بالسرد إلى درجة إلى ما َّ
أعلى مقارنة بسابقيه ،وربما كان أ كثر إدراك ًا ألنواعه ووظائفه، رغم غلبة السرد التمثيلي.
«نماذج بشرية» ،في واقع األمر ،هي تحيين ملموس
لمنظورات أحمد رضا حوحو النقدية ومواقفه الفعلية من مسائل
آمن بها أيّما إيمان ،وكتب عنها مقاالت صحافية نشرها هنا وهناك في فترات متباعدة ،سواء أكانت مواقف من المجتمع أم كانت من الثقافة والكتابة والفن واللغة والرؤى واألشكال التعبيرية المهيمنة على تقليد أدبي ،كان بحاجة إلى تحديث
جذري لتطعيمه وتقوية كيانه درء ًا ألي تبديه أو فجاجة ،أم
من العقيدة نفسها كمرجعية استثمرت في سياقات تاريخية ضيق ذي عالقة بالجانب النفعي الصرف، لمقاصد ذات بعد ِ ّ أدى إلى ظهور الشعوذة والدجل والخرافات والسحر ،وهي ما ّ
عناصر أفسدت النص بتأويالت ال عالقة لها به .وكان أن أعلن الكاتب حرب ًا على تلك الفئة المنتفعة من ممارسات تش ِّوه العقيدة.
23
يجب التنبيه -أخير ًا -إلى أن ما ورد في كتاب «نماذج بشرية» لألديب الشهيد أحمد رضا حوحو ال ينتمي كله إلى فن القصة
القصيرة كنوع له خصوصياته وهويته ولغته وتقنياته .هناك، في حقيقة األمر ،عدة أنواع متفاوتة :فصل من مسرحية:
(األستاذ) ،مقال قصصي (يحيى الضيف) ،التلميذ (مقال توفيقي) ،فقاقيع األدب (مقال نقدي) ،الشخصيات المرتجلة
(مقال نقدي) ،سيدي الحاج (مقال قصصي) ،وأما المواد األخرى فيتوافر أغلبها على تقنيات القصة المتعارف عليها عربي ًا وعالمي ًا ،بصرف النظر عن طبيعة السرد وبنائه وكيفياته
ّ التلقي وبالخلفيات ومستواه ،ألن ذلك يرتبط بمستويات يتم التأسيس عليها في المقاربات النقدية ،وهي الجمالية التي ّ
كثيرة ومتفاوتة بالنظر إلى مرجعياتها.
ّ يستحق أن يُقرأ بسبب مجموعة «نماذج بشرية» كتاب
المميزة له ،ذلك أن الكاتب قام بجهود كبيرة من أفضاله ِّ
مضاعفة لمراجعة جماليات القصة وجوانبها اللغوية كما عرفت في الجزائر .وهناك -إضافة إلى تجاوز المتواتر- رغبته في خدمة قضيته النضالية التي تبوّأت انشغاالته مذ كان
صغير ًا :هناك ،عبر العصور واألمصار ،أدباء على المستوى
ضحوا ببعض القيم الفنية لإلعالء من شأن قضاياهم الدولي ّ 24
االجتماعية والسياسية والوطنية واإلنسانية ،وهم كثيرون .لذا،
المهم أن نولي اهتمام ًا خاص ًا لهذه االعتبارات ،ثم إن من ّ المؤ ِّلف عاش في فترة َق َّل فيها من يعرف القراءة والكتابة.
والمتخيل والترف البالغي وإذا كانت هناك تضحية باالستعارة ّ والذهني فلهذا النهج السردي أسبابه السياقية المشار إليها، ومع ذلك ،فإن لهذا الكتاب منافعه الكثيرة كمدوّنة عكست تقليد ًا أدبي ًا ظهر في شمال إفريقيا في الخمسينيات ،وفي ظل
حصار استعماري كاد يقضي على مقوّمات األمة بعد احتالل
دام 132سنة من التعذيب والتقتيل والتدمير والمحو :الكتابة في ذلك الوقت المؤلم هي -في َح ّد ذاتها -إنجاز وانتصار كبيران ليس من السهل تحقيقهما ،وهنا مكمن قوة األديب
الشهيد رضا حوحو رحمه الله ،وكل الذين كتبوا عن قضيتهم، ّ المحتل تنتظر الوقت المناسب لتنتزع الحياة منهم .أمَا وعيون
الكتابة باللغة العربية ،وبذلك الوقار ،وبتلك المعرفة والملكة، فلم تكن سوى حلم بعيد ،أو ما يشبه الكرامة والمعجزة.
األستاذ الدكتور :السعيد بوطاجين الجزائر ،أوغسطس/آب 2014
25
إلى ُ الكتَّاب
يجب أن نتك َّلم كالم ًا صادق ًا ،وأن ِ ّ نفكر تفكير ًا صائب ًا ،دون أن نحاول جلب اآلخرين إلى أذواقنا وعواطفنا...
إن ذلك َل ُه َو العمل الجليل...
البرويار
26
القراء إلى ّ
يقول بعض الفالسفة :إن العقول سواء من حيث الخلقة ،وإنما يمتاز بعضها عن بعض بالتك ُّيف والتوجيه ،فيسمو البعض
منها إلى أن يصل ذرى الرفعة والسمو ،وينحدر البعض إلى أن
يصل الدرك األسفل من الجمود واالنحطاط .ونحن ال تعنينا هذه العقول ،أ كانت سواسية أم لم تكن؛ ألننا لسنا بصدد تحليل العقول وإثبات مقاييسها ،وإنما الذي يعنينا هنا هو
عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية ،في مجموعة من البشر منتقاة من صميم المجتمع.
ّ نشك في أن هذه الطباع ليست سواء ،وإال لكانت وإننا ال
ُسيرها خاضعة خضوع ًا أعمى لتأثيرات البيئة والنشأة والتعليم ،ت ِ ّ
طبق ًا لهذه التأثيرات ،وتتك َّيف وفق ًا لهذه النشأة التي فرضها 27
عليها المجتمع .وإننا ال نجد هذه الطباع تَسير في طريق مفروض من بيئة ،أو ت ّتجه ا ِ ّتجاه ًا مفروض ًا من نشأة ،إال بقدر
ما توجبه الضرورة .وكثير ًا ما تتم َّرد فتكسر القيود ،وتنطلق في
أجواء رحبة ال تلوي على شيء ،تدفعها غرائزها إلى تحقيق أمانيها المختلفة غير مبالية بقوانين البيئة وتعاليم النشأة .ولو لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين تتمتع بشيء من الح ّرية ،لخال المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة ،ولما
وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسرقيود بيئتها، وت ّتخذ من الوطنية دين ًا يهديها سواء السبيل ،و َلما تع ّرفنا إلى
السن الذي ي ّتخذ من شرع الله حانوت ًا هذا الفقيه الطاعن في ّ نقدمها لبيع الجرائم ،ولما كانت هذه النماذج البشرية التي ِ ّ
للقراء.
ثم ماذا؟ ثم إني لم أعمد -في عرض هذه النماذج -إلى الخيال فأستخدمه في التنميق والتزويق ،أو إلى التحليل
فأسخره إلثبات فكرة أو إدحاض أخرى .أجل ،إني النفساني ِّ لم ألجأ إلى كل ذلك ،وإنما التجأت إلى المجتمع ،وانتزعت
من مختلف طبقاته نماذج عشت مع بعضها ،وسمعت عن تفهم أقدمها للقارئ لعله حية ّ يتوصل بها إلى ُّ ّ بعضها .نماذج ّ
بعض طباع مجتمعه ،فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية،
28
ّ الضال ،والزيغ واإللحاد ويلمس اإليمان القوي في قلب الرجل تحت عمامة رجل الشرع .إن المجتمع البسيط هو خير من
يص ِّور الطباع على فطرتها؛ ألنه خاضع للطبيعة ،والطبيعة
يسيره ناموس الفطرة وحده ،ال يعرف التوجيه المقعد وحدهاّ ِ ، َّ المهذب. وال التسيير
ولهذا سنجد شخصيات نماذجنا يفهمون بعض الحقائق على طريقتهم الخاصة ،ويستنتجون بعض النتائج على أسلوبهم تفهمهم للحقائق خاطئ ًا واستنتاجهم الخاص أيض ًا ،وقد يبدو لنا ُّ
تفهمهم واستنتاجهم للنتائج ضعيف ًا؛ وذلك ألننا سنقيس ُّ
َّ المهذب ،وسنحكم عليهم حكم ًا بمقاييس العلم والعقل خاطئ ًا ألننا سنخضع في حكمنا إلى قواعد وأصول تع َّلمناها،
َّ المثقف ،مع أن هذه الشخصيات وفرضها علينا العلم والعقل توصلت إليه على ضوء فطرتها ،وهضمته بجهاز توصلت إلى ما َّ َّ
طبيعتها في محيطها الضيق وبيئتها المحدودة ،مدفوعة بدافع
الغريزة إلى إبراز البكر من كوامن النفوس وألوان الطباع.
أحمد رضا حوحو
قسنطينة في 1955/9/30
29
رزوق الشيخ ُّ
الشيخ رزُّ وق رجل في العقد السادس من عمره ،ضخم الجثّة،
كثيف اللحية ،أسمر اللون ،ذو مهابة ووقار ،يخشاه الناس ويحترمونه ،تدور حول سيرته شبهات لم يصدقها إال نفر قليل؛
حيث ي ّتهمونه بالقيام بأعمال مالية غير مشروعة ،ويقولون إن
قدم له مبلغ في استطاعته أن يحرم االبن من إرث أبيه إذا ما ّ من األوراق المالية ...ولكن أغلبية مواطنيه تعتقد أنها مُ َج ّرد إشاعات كاذبة ير ِّوجها ُح ّساد الشيخ وناكرو فضله ،فهو ال
يعرف سوى داره ،والمسجد ،والطريق بينهما.
31
تناول الشيخ طعام إفطاره على عجل وهو ال يزال يتمتم بالبقية يومي ًا عقب الباقية من تسابيح ِورْد الصباح الذي اعتاد أن يتلوه ّ
صالة الصبح .ثم أحضرله الخادم فنجان ًا من القهوة الساخنة ّ يحث الخادم على إحضار بقية أخذ يحسوه بسرعة ،وهو وسجادة الصالة التي ال تفارقه في ِح ّله وفي ترحاله. مالبسه ّ
وأخذ يستعد لمبارحة المنزل وقد تناول عصاه ومسبحته ،وما
كاد يبارح غرفته حتى أدركته زوجته متذ ِ ّمرة :ما هذا! أال تستطيع حتى أن تتناول طعام إفطارك في راحة؟ أدائم ًا أعمال
الناس؟ ال أدري أية فائدة تجنيها من وراء هذه المتاعب كلها صدتك عن العناية بأهلك وأوالدك؟! التي ّ
حادة ،وأجابها والغضب وما كان من الشيخ إال أن رمقها بنظرة ّ
ٍ باد على قسمات وجهه :أي شيء أستفيده من الناس؟! أتخالين زوجك مثل أولئك الغافلين الذين ألهتهم أوضار المادة الدنسة عن أعمالهم الربانية ،وأشغلتهم بطونهم عن اآلخرة؟ أنا ِ أخدم
الناس لوجه اللهِ : أخدم الحق الضائع ،وأحاول جهدي إرجاعه
إلى نصابه.
ثم حوقل الشيخ واستغفر ربه واسترسل يقول :ال ت ُْد ِخ ِلي على نفسي الرياء أيتها المرأة ،اتقي الله ،أتريدين أن تضيعي أجر
32
تبدلي ثوابي عقاب ًا بأحاديثك هذه؟ عملي ،وأن ّ
وما كادت زوجه الساذج تعي هذه المواعظ حتى تأثرت صدت هذا الرجل الصالح وخشيت بطش ر ِ ّبها ونقمه إذا ما َّ
تقبلها وهي عن القيام بأعماله الربّانية ،وانهالت على يده ِ ّ تردد :ربنا يبقيك ويحيطك بعنايته يا سيديّ ، حق ًا إن هذه ِّ
واطمأن الدنيا ال تساوي جناح بعوضة .وكأن الشيخ استراح ّ وتوجه قلبه إلى هذه النتيجة فأبدل قطوبه بابتسامة عريضة، َّ
حبات مسبحته التي ال تفارقه لفوره إلى الشارع وهو يداعب ّ لحظة واحدة في غدوه وفي رواحه ،وذهب يتأرجح في مشيته
يسميه وهو في طريقه إلى ركنه المنعزل في المسجد الذي ّ
نكبة مكتب أعماله الخيرية ،والناس تقصده من كل جانب مُ ّ
على تقبيل يده التي يجود عليهم بها بكل سخاء ،طالبين منه الدعوات الصالحات ،والنساء يرمقنه من وراء شبابيكهن
الضيقة مبتهالت إلى الله أن يقضي حوائجهن ببركة هذا
الرجل الصالح الذي يقضي ّ جل حياته في المسجد ما بين
العبادة وإرشاد الناس إلى ما فيه الخير والصالح.
سجادته بعد ما قام ببعض الصلوات، تربَّع الشيخ رزُّ وق على ّ شاب في ربيع تقدم نحوه وما كاد يستق ّر به المقام حتى َّ ّ
33
وانكب الشاب على يده يلثمها ،وفي رحب به الشيخ، الحياةَّ ، ّ
دس فيها شيئ ًا ،رمقه الشيخ بنظرة فاحصة حتى الوقت نفسه َّ طيات إذا ما تأ َّكد من ارتفاع قيمته أسرع إلى إخفائه في ّ جبته الفضفاضة ،وقابل هذه التحية بابتسامة لطيفة ،وأقبل ّ
يتوسم الخير العميم من ورائه، على الزائر يسأله ويمازحه وهو َّ
وبادره قائ ً ال :خير إن شاء الله يا ابني ،ماذا تريد؟
-المسألة األولى نفسها يا سيدي ،التي أخبرتك عنها سابق ًا.
ّ قطب الشيخ جبينه كعادته كلما انتقل من الدعابة والمزاح الجدي وقال :إن أشغالي كثيرة يا ابني ،وأجدني إلى العمل ّ
حدثَتني به سابق ًا ،فهل تسمح وتعيد معذور ًا إذا ما نسيت ما َّ
على مسامعي حديثك دون أن تهمل أدنى تفصيل ،فإنه كثير ًا أهم ّية كبرى ال ِ يدرك كنهها إال ما يكون للتفصيل الضئيل ّ
ملي ًا ،ثم تك َّلم بصوت الراسخون في المعرفة .سكت الشاب ّ تشوبه رجفة :كنت أخبرتك -يا سيدي -أن ألختي طف ً ال من زوج أجنبي عن أسرتناّ ِ ، توفي والده منذ زمن ،ولم يترك له شيئ ًا يُذكر من متاع الدنيا ،مع أن المرحوم والدي ترك ثروة
كبيرة تعرفونها جيد ًا.
أجل ...إني أعرف المرحوم والدك ّحق المعرفة ،وأعرف 34
جيد ًا ثروته ،رحمه الله فقد كان رج ً ال صالح ًا ،وكان من أع ّز
أصدقائي .استمِ َّر في حديثك .ثم ماذا؟ واستم ّر الشاب يقول:
ورثت أختي قسط ًا وافر ًا من مخ َّلفات الوالد ،وهي اآلن تنفق
من ريعها على ابنها .وال مانع لدي في ذلك ،ولكن إذا ما
أدركتها الوفاة يوم ًا -وهي مصابة بمرض خطير استعصى
عالجه على األطباء -فإن ابنها يرثها؟
ما في ذلك شك ،يرثهاّ ،حقه يا بني ،ال يمنعه مانع.
وبهذا يستولي هذا األجنبي على جانب كبير من ثروتناشدة ومخ َّلفات والدنا .وسكت الشاب ،فقد اختنق صوته من ّ
تشجع أخير ًا وقال :إني أريد منع هذا الولد االضطراب ،ولكنه َّ
لجة من التفكير دامت بعض من إرثنا ...استغرق الشيخ في ّ ثوان ،ثم قال :إنك مقدم على عمل خطير .إنك مقدم على ٍ منع وارث شرعي من إرثه الشرعي!
مستعد نعم يا سيدي ،أنا أعرف جيد ًا ما أنا قادم عليه ،وإنيّ لدفع الالزم ،لذلك...
أجنبي ًا دخي ً ال على أسرتكم. الحقيقة أن هذا الطفل ي َُع ّدّ -نعم يا سيدي إنه كذلك...
لقد افتكرتك اآلن .إنك حدثتني منذ أيام في هذا الموضوع،35
وكنت طلبت منك تأخيره إلى أن تحين الفرصة المناسبة.
لقد حانت الفرصة يا سيدي ،وسا َفرت أختي مع طفلها إلىزيارة بعض األقارب ،وستمكث شهر ًا كام ً ال.
أسافرت ّحق ًا؟
-نعم -يا سيدي -سافرت.
واستغرق الشيخ مرة ثانية في تفكير عميق ،وهو يقوم ببعض اطمأن قلبه إلى بحبات مسبحته ،إلى أن يسجلها الحسابات ّ ّ ّ
النتيجة .رفع رأسه وقال بصوت خافت :خمسمئة ألف فرنك.
وعموم المصاريف الالزمة عليك ،وهذا التخفيض من أجل
علي أن أرى شخص ًا المرحوم والدك ،فقد كان صديقي ،ويع ّز ّ
أجنبي ًا يتم َّتع بمال تعب عليه ليتركه ألوالده خاصة ،ال يشاركهم ّ فيه مشارك.
-ولكن المبلغ كبير يا سيدي!
أبد ًا ...أبد ًا( ...صرخ الشيخ) أنسيت ما ستجنيه من ذلك؟فإنني س ُأملكك مناب أختك الذي ورثته من أبيك بهذا المبلغ.
-حسن ًا يا سيدي َق ِب ْل ُت.
َ قبلت ،إذن ،أحضرلي النقود وافية ،فأنا دائم ًا -أحسنت إذ
36
تنس ما قاله الرسول (صلى الله مقدم ًا .ثم ال أستوفي أجري َّ َ عليه وسلم)« :استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
-هذا حق ...وإني مستعد بالمبلغ ،ولكن...
-لكن ماذا؟ تك َّلم.
-أقصد إذا ما كنت واثق ًا من النجاح...
النجاح! هذا أمر ليس فيه أدنى ّشك وال ريب ،أنا ال ُ أقدم
إال على القضايا الناجحة .لم أع ِّود عمالئي الفشل ولو مرة
واحدة .فأنا ،في هذه األيام القريبة ،م َّلكت زوج ًا من ثروة زوجته بعملية بسيطة ،ثم ط ّلقتها منه ،وهو اليوم ينعم بالمال
والح ّرية ،ولكنه دفع لي ضعف ما طلبت منك تقريب ًا ،والحديث بني -أعمالي مُ تقنة والحمد لله... بيننا طبع ًا ...فأنا -يا ّ
غاب الشاب لحظة ،ثم عاد يحمل رزمة من األوراق المالية ناولها للشيخ بيد مرتجفة ،وأخفاها هذا في لمح البصر تحت
يتحدث .وللشيخ مقدرة عجيبة يعدها وهو جبته ،وأخذ ّ ّ ّ
بمهمة الحساب والمحادثة في آن واحد؛ فقد على القيام ّ
كان أعجوبة زمانه في اتّقاد الفكر ،وسعة العقل .وبعد ما
صحة عددها ألقى عليها نظرة فاحصة ،سرى استوثق من ّ 37
تيارها السحري في نفسه ،ولم يستطع إخفاء سروره ،وعلت ّ
شفتيه ابتسامة د ّلت على غبطته ورضاه ،وللمال س ّر عجيب في
نفس الشيخ .ثم ما كان منه إال أن جذب الشاب من طرف ثوبه وهمس في أذنه :اسمع ...اذهب حا ً وأخ ِل ال إلى منزلك ْ حي .أسامع! ال أريد كائن ًا من كان ،أرسل الدار من كل كائن ّ والدتك عند بعض األقارب ،وسآتي بجهازي التام المكوَّن
من والدتك وأختك والشهود المعروفين.
-والدتي وأختي؟
أجل ،ال أعني والدتك وأختك الحقيقيتين ،بل أعني اللتينتقومان بدور الوالدة واألخت أمام القاضي ،وستبيع لك أختك منابها ،وتعترف أنها تس َّلمت النقود كاملة ،وسيشهد الشهود،
وينتهي كل شيء ،وحينما ينتقالن إلى دار البقاء يمكنك إبراز حججك واالستيالء على أمالكك دون أن يعارضك معارض.
أفهمت؟ انهض ،وأسرع إلى عملك ،سألحق بك بعد صالة
العصر ...نهض الشاب متأ ِ ّلم ًا مضطرب ًا ،وبقي الشيخ مسرور ًا
يعد نقوده مرة ثانية ،وما كاد ينتهي يذكر الله ويوحده ،ثم قام ّ ِّ
حتى دوّى في المسجد صوت أذان الظهر ،فأسرع الشيخ في
38
يستعد إخفاء تلك الرزمة من األوراق في جيب محكم ،وقام ّ ّ ويقدر- يتذكر ما بقي لديه من المعامالت لصالة الظهر ،وهو ِّ
في الوقت نفسه -ما ستد ّر عليه من األرباح...
***
39
40
عائشة
عائشة امرأة ككل النساء الجزائريات ،واحدة من آالف النساء الالئي يموج بهن المجتمع الجزائري المظلم ،لم تتخ ّرج في َّ تتلق أية تربية خاصة أو نشأة مدرسة الشرقية وال غربية ،ولم معينة ،عدا التربية الفطرية والنشأة المحافظة المفروضتين من
هذه البيئة الجزائرية الوحيدة التي ال تعرف التطوُّر وال التغ ُّير.
وعاشت عائشة في محيطها الضيق المظلم ال تعرف عن العالم الخارجي شيئ ًا ،وال تعرف عن نفسها إال أنها عورة يستحي
وعمتها ،فهن جميع ًا واسم ْي والدتها ذووها من ذكر اسمها َ ّ
خاص ًا من المخلوقات لم تفهم كنهه ،ولم تحاول يك ِّو َّن نوع ًا ّ 41
أن تدرك كنهه ،ولكنها تعلم ّ حق العلم أن والدها وغيره من
رجال األسرة ال يتلفظون بهذا االسم إال مقرون ًا بكلمة اعتذار،
«العباد» يطلقون عليهن جميع ًا اسم يقصد جميع نساء
يتحدث مع جاره «عبادي حشاك» .وكثير ًا ما سمعت والدها ّ
فيقول :األسرة ،فيعتذر عن ذكر أسمائهن كما يعتذر حينما ّ يتلفظ بلفظ قذر أمام شخص محترم.
تعودت عائشة هذه النشأة ،وألفت هذه المكانة الخاصة في المجتمع ،أو ُق ْل إنها ورثت هذه المكانة كما ورثتها والدتها
عن السابقات من النساء منذ عهد قديم .هي -إذ ًا -كائن تافه ال مسؤولية له في الحياة ،بل إنها أتفه من أي حيوان من الحيوانات التي يملكها والدها الذي ال يستحي من ذكر
حماره أمام الناس ،ويفتخر بذكر حصانه والحديث عنه ،ولكل منهما مسؤوليته في الحياة ،وبعض الحرية في تصرفاته وشؤونه الخاصة .أما عائشة فإنها دوالب بشري تديره يد ذويها ،فال تتح ّرك وال تسكن إال بإرادتهم ووفق ًا لرغباتهم ،وكل هذا
ال يعنيها ،ولم تفكر فيه ،بل إنها ال تملك ّ حق التفكير فيه،
فهي تسير في طريق مرسوم محدود ،كما سارت وستسير بنات بجدتها في الماضي والحاضر والمستقبل ،ال يعرفن الجديد
42
وال القديم ،وإنما يعرفن حياة يومية متشابهة ال يختلف فيها
يوم عن يوم.
وهكذا تتابعت أيام عائشة في قريتها إلى أن حدث الحادث الجليل الذي خرج بها عن المألوف ،وجعل من حياتها صورة
تختلف عن صور بنات جنسها .وما الحادث إال شاب من
َّ أبناء القرية عاد من أوروبا التي قضى فيها سنين طوا ً وحل ال، بين سكان البلدة كالنجم المتأ ِ ّلق في ح ّلته اإلفرنجية األنيقة،
ّ المصفف الب ّراق ،وحذائه األسود الالمع .وسمعت به وشعره
عائشة كما سمعت به بقية الفتيات ،وطرق أذنها الكثير مما يتحدث به من غرائب األحاديث عن أشياء لم تسمع بها من ّ
قبل ،ولم يهضمها عقلها اآلن ،وما برحت هذه األحاديث حتى أصبحت مبعث العجب بهذا الشاب ،واالفتخار بحفظ ُّ التلفظ بكلمة من ألفاظه الغريبة، شيء من حديثه العذب ،أو
حدث به الكبار فنقلوه إلى الصغار، أو رواية حادثة غريبة مما َّ
ورواه إلى الرجال فنقلوه إلى النساء .و ُأعجبت الفتاة ،كما
ُأعجبت غيرها ،بهذا الشاب ،أو بهذا الحادث الجديد الذي
َّ وتحدثت عنه ،وحفظت شيئ ًا من أحاديثه أسوة حل بالقرية، ّ باألخريات ،واكتفت بهذا الحديث ،فلم ِ ّ تفكر في أ كثر من 43
ذلك؛ ألنها ال تملك ّ حق التفكير أ كثر من ذلك .فحتى خيالها
يبدو أنه محجوز عنها ال تستطيع االنطالق في أجوائه الرحبة الجميلة.
توجهت عائشة ذات يوم إلى منزل خالتها ألن والدها وذويها ّ تتوجه إلى ذلك المنزل .فهي مُ َس َّي َرة في كل أرادوا منها أن ّ
شيء ،ال تعرف االستقالل في قليل أو في كثير من حياتها العامة والخاصة على السواء ،وصادف أن قابلت ذلك الشاب
ٍ خال ،وهو يتأرجح في مشيته ،والتقت نظرتها في طريق
الحسن بنظرته ،وراقت للشاب ،وهي تتم َّتع بشيء غير قليل من ُ
والجمال ،فابتسم لها ولكنها لم تفهم لماذا ابتسم ،ولم ِ تدر أن
موجهة لها محمل زيادة على معنى اإلعجاب هذه االبتسامة ّ بحسنها ،معاني أخرى لم تفهم حقائقها إال بعد أن دفعت الثمن غالي ًا غالء فاحش ًا .ونظرت هي بدورها إليه ،ولكن نظرة
بريئة ،نظرة كتلك التي تعوَّدت أن ترسلها إلى القمر الساطع
في السماء ،أو النجم المتأ ِّلق في األفق .نظرة وكفى ،ال تحمل
أي معنى ،وال تنطوي على ّ ِ يكتف أي مقصد .ولكن الشاب لم
ّ الح ّد ،بل حاول اال ِ ّتصال بها. بهذا الحل ،ولم يقف عند هذا َ وت ََّم له ذلك بواسطة عجوز استأجرها لهذا الغرض ،لم تعوزها
44
الحيل لالستيالء على عقل هذه المخلوقة العجماء .وما كاد
ي ّتصل بها حتى فتح لها ،بأحاديثه المعسولة ،أبواب ًا كانت فحدثها عن بنات أوروبا وح ّريّتهن .كما َّ وضح موصودة دونها. َّ
ادخره لها القانون لها حقوقها في الحياة ،ولم ينس ِذكر ما ّ َ من الحقوق والمحافظة على رغبتها .ثم عرض عليها أن تف ّر
معه لتعيش صحبته في عيش رغد محفوفة بالحرية والحب
والسعادة ،وأفهمها أن هذه حقوقها الشرعية ال ينازعها فيها منازع ...انخدعت عائشة بحديث فتاها ،وانقادت لرغباته
بثقة عمياء ،ففارقت منزل والدها خلسة في ليلة ظلماء،
وس َرها -أول األمر -أن وسافرت مع ّ الشاب إلى مدينة بعيدةَ ،
ترى نفسها ح ّرة تركب القطار ،وتعيش في المدن في أحضان
يدم طوي ً ال شاب أنيق لم تكن تحلم به .ولكن هذا السرور لم ُ
َ وهتك ِستر شرفها حتى ألن الفتى ما إن ستولى على عفافها،
تركها و َف َّر قاف ً ال إلى أوروبا من حيث أتى...
هامت الفتاة على وجهها في هذه المدينة المترامية األطراف. َّ تتعقب خطاها ،فاصطادوها وكانت ذئاب البشرية لها بالمرصاد في رمشة عين ،ودفعوا بها إلى طريق الغواية ،فاحترفتها ،وقد وجدت مثيالتها في بؤرتها يبعن أجسادهن مقابل لقمة من 45
الخبز .انتقلت عائشة من بلد إلى بلد ومن بؤرة إلى أخرى،
المسكرات واندفعت بحكم المهنة الشائنة إلى تعاطي ُ
والمخدرات ،وتفوَّقت في هذا الميدان حتى أصبحت قطب ًا
فيه ال يباريها فيه رجل وال امرأة ،وبعث ذلك التفوُّق في
نفسها شيئ ًا من الغرور ،فأخذت ترى نفسها أسمى مقام ًا من
وتتخيل نفسها من طينة تخالف طينتهن ،ولهذا زميالتها، ّ يجب أن تسمو بأفكارها عنهن ،يجب أن تكون لها فكرة أوسع
من أفكارهن وأحاديث تختلف عن هذه األحاديث البسيطة الضيق الذي المتك ِّررة .فخرجت بفكرها من ذلك المحيط ِّ
تعيش فيه إلى محيط أوسع تبحث عن شيء ما ،أي شيء كان يم ِ ّيزها عن األخريات ،شيء جديد وكفى .وشاء القدر
أن تطرق سمعها أحاديث سياسية وأفكار وطنية ،وشاعت
أحاديث السياسة والوطن في تلك األيام حتى عمت األوساط المختلفة ووصلت إلى بيئتها ،فرحبت بها واعتنقتها مدفوعة
حب السموّ ،ورغبة في أن تكون لها أفكار وأحاديث بدافع ّ ترتفع عما ِ ّ تفكر فيه ،وتتحدث به األخريات .اشتهرت عائشة
بأفكارها الوطنية ،وسخر منها الناس ،فزادها ذلك إصرار ًا وتمسك ًا بالفكرة ،وحاولت مرار ًا أن تشارك بدريهماتها وعناد ًا ُّ
46
القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي إلى الوطنية والتحرير .والتحرير في فهمها هو خروجها من
هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون االضطرار إلى بيع جسدها .والوطنية عندها هي أن يكون لها فتمسكت منزل وبعل محترمان .استولت عليها هذه األفكار َّ
يتمسك الغريق بحبل النجاة. بها بشدة كما ّ
قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية ،وآمنت بذلك إيمان ًا راسخ ًا،
واعتقدت اعتقاد ًا قو ّي ًا أنها ال بد من أن تجني ثمرة ذلك
ال .وشاء ربّك أال تنتظر طوي ً عاج ً ال ،فقد انتشلتها هذه العقيدة
المقدسة من خضم رذائلها ،فأقلعت -أو ً ال -عن تعاطي َّ
المخدرات ألن عقلها أوحى لها أن من يتح ّلى بهذه األفكار ِّ
يجب أن يقلع عن ذلك ،ثم أعقبت المخدرات باالنقطاع عن ضج منها محيطها الموبوء، الم ْسكرات ،ولم تكد تفعل حتى ّ ُ
يتحملها ،وال يقوى على احتمال نزعتها الجديدة وأصبح ال ّ التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها،
فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع إلرادتها ،ولم تشأ هي أن تنثني عن فكرتها وتتخ ّلى عما اعتقدته منقذها األوحد .وكثر
واشتد الخصام ،ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إال وهي الجدل َّ
47
في الشارع تبحث عن عمل ح ّر طاهر تتعيش منه ،ولم ي ْ ُخفها
الم ّرة خبرة ،ولم يطل بها الشارع ،فقد أكسبتها التجارب ُ
فتحصلت على عمل (خادم) في فندق محترم ،ثم البحث، َّ
ُو ِّفقت في االهتداء إلى زوج متواضع صالح ،بنى بها دون
أن يسألها عن ماضيها ،ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله ،وإنما اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر،
تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب ،وفي
وجهها الخجل ،كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء .ولكنه مرهم النسيان سريع ًا ما فعل مفعوله ،فاندمل الجرح ،وانمحى ُ
الرسم ،ولم َ يبق من تلك اإلحن والمحن إال بصيص ضئيل من الذكريات المريرة.
***
48
49
50
العصامي ِ
ال تنتظر مني -أيها القارئ -أن أعرض عليك هنا شخصية من الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ ،فارتفعت إلى الذرى
في ميادين المال واألعمال ،وأقول لك -أيها القارئ :-ال تنتظر مني ذلك ألني أعرف أنك تعوَّدت أن ترى مجتمعك
ال يصف بالعصامية إال هذا الصنف من الرجال ،فكل فقير أثرى ،وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من ّ يستحقان منا كل جد) هما عصاميان عندنا، السماء دون َك ّد أو ّ
التبجيل واالحترام .وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى
تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة، كادت ّ 51
أعم وأشمل ،وهي اإلرادة الحديدية والعزم مع أن العصامية ّ
القوي واالعتماد على النفس ،وعدم االستسالم لإلخفاق ،وما يج ّره من يأس ،والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي
ينشده ،والمثل األعلى الذي يأمله ،مهما كان نوع هذا العمل،
عصامينا هذا لم يصل إلى ومهما كان كنه هذا النجاح .إن ّ توصل إلى ما اعتقده مث ً ال الثروة ،ولم يصل إلى الزعامة ،وإنما ّ وتوصل إلى ما أراده وتم ّناه باذ ً ال جهود ًا جبارة وعزيمة أعلى، َّ
فوالذية ال تق ّلان عن عزيمة وجهود ّ أي من عظماء العالم .كان
صاحبنا -واسمه عبد الباقي -عام ً ال فالح ّي ًا بسيط ًا ،يستأجره أصحاب الحقول والبساتين لخدمة األشجار ،ويكاد ال يعرف البطالة طيلة السنة ،وذلك لما ُعرف به من النصح في العمل،
وصحة الجسم والعقل .التحق و ِلما منحه الله من قوّة البنية ّ
عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تع َّلم فيه الكتابة والقراءة،
وحفظ أجزاء قليلة من القرآن ،ولم يستطع مواصلة التعليم؛ ألن والده انتقل إلى رحمة الله ،واضطرته لوازم العيش إلى احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد.
عصامي ًا ،له مَثل أعلى في الحياة يريد أن ولكن الرجل ُخلق ّ يود تحقيقها مهما ك َّلفه يصل إليه ،وله رغبات نفسانية شريفة ُّ 52
ٍ مبال بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه. من الجهد ،غير يسميه مواطنوه- كان لعبد الباقي -أو للشيخ عبد الباقي كما ّ
فكرة تُخامر ذهنه منذ الصغر :وهي أن يتزعم حركة التربية والتعليم القرآني في بلدته .وشيخ ُ الك ّتاب في بلدته هو كل لح ّل مشاكلهم، ويبجلونه، شيء ،يحترمه السكان ويلجأون إليه َ َ ِّ
يعيش في شرف وعزّ ،تقف دونهما سلطة القضاء والحكم خاضعة ذليلة...
استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها ،ولم يقف الفقر وال حاجته إلى العمل َح َجر عثرة في طريقه ،فاشترى
انكب على خشبي ًا وقلم ًا ودواة ،ثم مصحف ًا ،واشترى لوح ًا َّ ّ حفظ القرآن مع مواصلته العمل ،فيعمل شطر ًا من الليل في إعداد لوحه وكتابته ،حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه
ٍ مرتق أعلى األشجار يشاهد وهو وانكب على حفظه .وكان َ َّ أو عام ً ولوحه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما ال في الحقول ُ
ألزمه األمر إلى مراجعته .قضى سنين وهو على هذه الحالة، فأع ِجب به قوم ،وهزئ به آخرون ،ولكن إلى أن شاع أمره ُ
ُعن له إعجاب المعجبين وال سخرية الساخرين الرجل لم ي ِ شيئ ًا ،بل استم ّر قدم ًا يتابع سبيله ،ويواصل العمل بالعمل
53
والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظ ًا متقن ًا ،وص ّلى به صالة
ّ قرآني ًا، احتل حجرة في المسجد ،وفتح ُك ّتاب ًا التراويح ،ثم ّ وأخذ يُعلم القرآن ،يع ِ ّلمه بشدة وقوة محاو ً ال دائم ًا ابتكار طرق
جديدة لتعليمه ،وأخذ يُع ِ ّلم الصبيان في النهار ،والكبار في
الليل ،ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مث ً ال بنفسه ،مث ً وتوصل إلى أن حي ًا ناطق ًا ،فكثر اإلقبال عليه، َّ ال ّ
تزعم حركة التعليم في القرية ال ينازعه فيها منازع .ارتاح َّ
التقدم العلمي ج َّرف الشيخ بعض الشيء إلى ذلك ،ولكن ُّ
القرية ،فقد نزل بها شبان أتوا يحملون ف ّن ًا جديد ًا تع َّلموه في
َّ واحتل بعضهم سواري جامع الزيتونة بتونس ،اسمه النحو، وتصدوا إللقاء دروس فيه ،وتعليم مباديه لمن يرغب المسجد، ّ
تحدث الناس بهم ،ولهجوا بذكر فنهم الجديد، في ذلك. َّ
وقالوا إن الشيخ عبد الباقي ال يحسن النحو ...علم الشيخ بذلك وأغاظه أن تُنتزع منه الزعامة العلمية ،ينتزعها منه شبان
سن األطفال الذين يتو ّلى تعليمهم ،وص َّرح في مجمع كبير في ّ يتحدى خصومه لتدريسه دون االلتجاء أنه يحسن النحو ،وهو ّ
إلى كتاب ما ،وضرب لهم موعد ًا لذلك ،وبادر بالتحصيل على
نسخة منشرح الشيخ خالد على اآلجرومية؛ ألن اآلجرومية متن ًا
54
وانكب على الشيخ وشرح ًا هي البضاعة الوحيدة لخصومه. ّ
خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته
َّ وحل الموعد ،ونزل الشيخ إلى المسجد الذي َض َّم ومعانيه، جمع ًا غفير ًا من المعجبين والفضوليين ،وألقى الشيخ درسه
بصوت جهوري د َّوى له المسجد ،فكان يسرد الفقرات من المتن ،ثم يتبعها بما يليه من الشرح ،كل ذلك دون االلتجاء
إلى كتاب ،ونجح في االختبار ،واستولى من جديد على زمام الزعامة العلمية ،وكان هذا الحادث فاتح ًا جديد ًا له ،ففتح
له أبواب ًا كانت موصودة دونه ،وعرف أن حفظ القرآن ليس
هو كل العلم ،بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض غمارها .ولم ينتظر طوي ً ال ،فبادر -لحينه -إلى دراسة النحو
انكب على الفقه المالكي فحفظ خلي ً ال، دراسة متقنة ،ثم َّ
وطالع ،مرار ًاُ ،ش ّراحه وحواشيه ،كما درس التجويد والقرآن
والفرائض ومعلومات عديدة ،واستعان على ذلك بشيخ ضرير ال يدري أهل القرية من أين أتى به ،أنزله عنده ،وخدمه ،وقام ّ يتخل يوم ًا عن عمله في الك َّتاب، بجميع لوازمه .كل ذلك ولم
ّ ِ يكتف يختل يوم ًا برنامجه .واتَّسعت دائرة عمله؛ حيث لم أو بتعليم القرآن ،بل أخذ يُع ِّلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي 55
تع َّلمها ،وللرجل قدرة غريبة على هضم ما يتع ّلم ،وقدرة أغرب
مبسطة لتعليمه .كان الشيخ عبد على ابتكار طرق جديدة ّ
التحدي وال يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة الباقي ال يقبل ّ وع َظم الهزيمة .وله في ذلك نوادر عديدة ،منها أن ّ التحديِ ،
كبار تالميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض األحيان أن يتخ ّلفوا عن ُ الك ّتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب ،ولكن
الشيخ كان دائم ًا يحرمهم من متعهم؛ حيث يأتي بهم ولو كانوا
في أقصى الحقول والبساتين ،وهو يعرفها معرفة جيدة ،وقد خطة مُ َ قضى ع ّز شبابه عام ً ال فيها .فدبَّروا هذه المرة ّ حكمة،
وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم بنقل الركاب صباح ًا لتعود في المساء مارّة بتلك القرية التي
تبعد عن قريتهم خمسة عشر مي ً تدخل ال ،وبهذا فقط يأمنون ُّ الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة.
ن ََّف َذ التالميذ َّ خطتهم ،وحان موعد القراءة ،وتب َّين الشيخ غياب التالميذ .وبعد البحث واالستقصاء استجلى الخبر ،وعرف
التفاصيل ،وتهامس الحاضرون من التالميذ باستسالم الشيخ لألمر الواقع ،وقالوا إنه ال يجد ح ّل ًا للقضية إال أن ينتظر الغد
يتخيلون العقاب ،ويبتسمون ابتسامات خبيثة لعقابهم ،وذهبوا ّ 56
التحدي َف ِه َم الشيخ معناها ،ولكن هذا الرجل الذي ال يقبل ّ فاجأهم بما لم يتو َّقعوه ،فقام ،لحينه ،بتكليف أ كبر التالميذ بمراقبة ُ وتوجه إلى القرية المجاورة ماشي ًا على الك ّتاب، ّ
قدميه ،وعاد بالتالميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذالن.
كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم، َّ وفع ً تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه ،وتز َّوج ال ،فقد وأنجب أطفا ً ال ،ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن األعمال
اليدوية ،فال زال يباشر خدمة بستانه بيده دون االلتجاء إلى
مساعدة أحد ،والرجل يتم َّتع بقوة ،ويتم َّتع بصحة .وكان ذات
يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين من تالميذه؛ ألن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته
ّ يحل المساء حتى ارتفع الجدار ،وكان في أعماله .وما كاد الشيخ ال يحسن البناء ،ولهذا لم يلبث هذا الجدار أن انهار،
الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين لكن الشيخ ّ
يحاول إمساكه ،وأغاظه أن ينهار عمله بين يديه ،ولكن قوة ّ وانقض الجدار فوقه ،فألزمه الفراش البناء تغ َّلبت على قوته،
أيام ًا .وكانت آالم الهزيمة في نفسه أقوى من آالمه الجسمانية
ورضوضه الجسدية ،ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى َك َّلف 57
مساعده بالك ّتاب القرآني ،وانقطع لتع ُّلم البناء حتى حذقه،
تخص بعض البنايات في بعدة مقاوالت وأتقن فنونه ،وقام ّ ّ القرية وخارجها إلى أن قهر البناء ،وانتقم من الجدار الذي ألزمه الفراش أيام ًا ،ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر
تعلو شفتيه.
تخ َّرج على يد الشيخ عدد وافر ،نجحوا ك ّلهم في مختلف
ميادين الحياة ،واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته
الفوالذية أ كثر من استفادتهم من معلوماته ،وكانوا جميع ًا يحبونه ويحترمونه ،ويخضعون له ،كما كانوا في عهدة التلمذة ّ
والطفولة ،فلم يتغ َّير شيخهم في نظرهم ،ولم يتغ َّيروا هم كذلك
في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوها .كان الشيخ
وتحدث بها جد ًا ،اش ُت ِهر بها، ّ عبد الباقي يتم َّتع بنفسية عالية ّ
ّ همته ألحد ،وال يلتجئ إلى كائن العام والخاص ،فهو ال يحط ّ من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته
التوصل إليه بنفسه، شديدة إلى ذلك ،فكل شيء ال يستطيع ُّ
وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه)
ويعدها من الكماليات التي ال يلغيها ،ويحكم بعدم لزومها ّ 58
لزوم لها ،ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية، وحاجته إليها ماسة ،وعاش بذلك عزيز ًا مُ َك َّرم ًا شامخ ًا بأنفه إلى السماء ،وال أدري بماذا كان ِ ّ يفكر حينما أدركه الموت،
تحدي عزرائيل .ولكن الذين شاهدوه في لحظاته وكيف قابل ّ ّ تدل على الرضا التحدي بابتسامة األخيرة ،قالوا إنه َق ِب َل ّ
واالطمئنان ،ولسان حاله يقول :اآلن أخضع وأنحني باحترام؛
فقد القيت ّ حق ًا من يقهرني.
***
59
60
العم «نتيش» ُّ
عرفت العم «نتيش» وكنت حينذاك أتم َّتع بريعان الشباب. ّ احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي
أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء ،وكان ّ تخطى عتبة الشباب العم الذي ال يتخ َّلف عن مجالسنا قد
بأعوام ،وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس، فتي التفكير كثير المرح ،ال يعبأ بمسؤوليات الحياة ولكنه كان َّ وتكاليفها الثقيلة ،يقضي يومه وال ِ ّ يفكر في غده ،رغم أنه
كان متز ِّوج ًا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم وفي مستقبلهم.
كان رج ً ال بدو ّي ًا ،نشأ في البادية ،وتربّى فيها ،يكره المدن، 61
ُّ المعقدة ،بل يكره كل شيء مُ َع َّقد في ويمقت تكاليفها
الحياة ،يهوى العيش البسيط ،ويقنع منه بأتفه الزاد ،يميل
الجد والعمل ،فقد كان كسو ً ال إلى المرح واللهو ،ويتب َّرم من ّ
موهوب ًا ،يعيش في أ كناف َع ّمه الذي استوطن الحاضرة منذ متوسطة من عقار ومزارع ،حاول عبث ًا عهد طويل ،وكوَّن ثروة ِّ
استغالل مزارعه وسير أعماله ،مقابل ما يقوم به من تكاليف
عيشه وعيش عائلته ،فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك
عمه ذا حزم وعزم ونشاط ال تعرف االنتهاء ،فبقدر ما كان ّ يستوجبها ثراؤه وأعمال مزارعه ،كان نتيش كسو ً ال ب َِرم ًا بكل
جدي مثمر .يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب عمل ّ الورق و«الدومنة» في ج ّو من المرح والمزاح .كان نتيش ّ نحبه ونستأنس به تقدم سنه ،وكنا يحتل مكانته الفتية رغم ُّ ّ
نشجعه على التم ُّرد على للطفه وظرفه« .نتيش» كان وكنا ِّ
عمه ،ونحثّه على عدم القيام بأي عمل يك ِّلفه به ،وكم كان ِّ عمه بإنجاز يس ّره ذلك منا ،ولهذا كان يلجأ إلينا ك ّلما ك ِّلفه ّ عمل ،وسريع ًا ما نجد له ح ّل ًا لمشكله (ح ّل ًا يرضيه طبع ًا)،
عمه ،وينتهي كل شيء في رمشة ونجد له عذر ًا َّ يتقدم به إلى ِ ّ يقص علينا عين ،وننتقل فور ًا إلى المزاح واللعب ،ويروح ّ
62
يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته عمهّ ، مغامراته الكثيرة مع ّ
ونشجعه على االستمرار البدوية ،فكنا نضحك لها ،ونطرب، ِّ
في مناوءة عمه والتم ُّرد على أوامره.
إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه ...وذات صباح ،بينما ك َّنا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف األحاديث
والنكات ،إذ قدم علينا العم نتيش بقامته فارعة الطول وهيكله الم َج َّرد من اللحم ،وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى النحيل ُ
عمه ،وابتسم ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع ِ ّ
«نتيش» :ابتسامة عريضة وقال« :الدعوة مط ّينة يالوالد.»..
«المطينة» فقال وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة ّ
بهدوء وبساطة :زارني البارحة جماعة نصف الليل! وجماعة العم هم اللصوص ،قال :كنت البارحة نصف الليل في لغة ّ وحدي في المنزل ،حيث قضت زوجتي واألطفال ليلتهم عند عمي ،كنت مستلقي ًا في فراشي أتص َّيد الكرى ،إذ الحظت في عما غال ثمنه، غسق الليل َّ لص ْي ِن يتجوّالن في غرفتي باحث َْين ّ
وخ ّ ف وزنه .ولكن ،مع األسف ماذا يملك نتيش سوى قدر َ من الطين وقصعة من خشب ،والمؤونة تأتينا يوم ًا بعد يوم
من دار عمي موزونة بميزان الذهب ،ال تزيد درهم ًا واحد ًا 63
عن حاجتنا .وكنت أنظر إليهما -وضوء المنور ساطع على
وجهيهما -فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خالي ًا ،ولكن
عالمات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح ،وأغاظني أن
يعودا من حيث أتيا ُ بخ ّفي حنين ،فن َّبهتهما إلى ملحفة جديدة
من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها
ُ وطلبت منهما أال يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة إليها، الخالية ،ومنزل عمي ،على مقربة من هنا ،زاخر بمختلف لص ْين األرزاق والخيرات ...قلنا له :كيف تفعل ذلك وتُناول ّ
عمي استعرته غطاءك وغطاء أهلك؟ فضحك وقال :إنه ملك ّ منه ،وما يضيره أن يصير في يد غيره ،وألي شيء تنفع أمواله!
عمه تعلو شفتيه. قالها بكل بساطة ،وابتسامة االنتصار على ّ
كان لنتيش غريم اسمه زيان ،يكرهه كل الكره ،ال لسبب أو داع ،وإنما كان يكرهه لوجه الله ،كما يقول حينما نسأله عن ٍ
األسباب والدواعي .كانت إحدى سا َق ْي زيان مستعارة من خشب؛ إذ فقد ساقه األصلية في حادث اعتداء لصوص على مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها ،وكان السبب الحقيقي
لكره نتيش له ،أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه ،ولهذا ينتقده ،ويصفه بال َب َله ،ويقول :إني -والله -ال أسمح بضياع
64
شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها .ويستم ّر في انتقاد زيان فيقول :أتظنوني مثل ذلك األبله الذي فقد ساقه من أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟ فماذا كانت فائدته، سوى ساق من الخشب ،يكسر بها بالط المساجد ،ويزعج بها
عباد الله اآلمنين؟! قلنا :لو كنت مكانه ،أال تفعل مثله؟ قال:
عمي -في السنة هيهات! وال أذهب بكم بعيد ًا ،فقد أرغمني ّ عماله في حراسة الحبوب في البيدر، الماضية -على مشاركة ّ
وكان بعضها صافي ًا نق ّي ًا ،ينتظر نقله إلى المخازن ،والبعض مختلط ًا ِب ِت ْب ِنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته .وكنا نتناوب
الحراسة .وجاء دوري ،وكأن اللص لم يكن ينتظر إال ذلك.
قلنا مقاطعين :إن اللصوص يعرفون -من دون شك -تقديرك لهم وعطفك عليهم؟ ابتسم واسترسل يقول :وما كاد يستغرق
لص ًا اآلخرون في النوم حتى شاهدت -على ضوء النجوم ّ - يتقدم بخطوات بطيئة نحو البيدر ،ولبالهته ترك القمح النقي ّ ّ المصفى ،وقصد كوم ًا من الشعير المختلط بالتبن ،فقلت له:
ال تنزعج! دونك القمح النقي ،امأل منه كيسك واذهب بسالم.
وال أدري كيف انتبه أحد النائمين إلى ذلك ،فأيقظ اآلخرين واضط ّر المسكين إلى الفرار خالي الوفاض .قلنا :وكيف كان 65
علي ،ولكني أجبته عمك من عملك هذا؟ قال :سخط ّ موقف ّ
إني ال أريد أن أشارك زيان األبله في إزعاج خلق الله بساق من الخشب ،أجني لعنات الناس من أجل كيس من القمح
ينفع هذا المسكين ،وال يؤ ِ ّثر على ثروته شيئ ًا .قلنا له :إنك وتشجعهم على أعمالهم الشائنة ،وهذا تعطف على اللصوص، ِّ
ال يليق بك .وكان جوابه :إن اللصوص مخلوقات مثلنا ،لهم ّ الحق في الحياة والعيش ،جعل الله رزقهم من أموال الذين ال
يدفعون ّ حق الله من الزكاة .وكان نتيش يعتقد اعتقاد ًا جازم ًا
أنه ال يُس َرق إال الذي ال يدفع ّ حق لله من ماله .قلنا له :لكنها مهنة غيرشريفة وغير مشروعة .قال :وما ذنبهم؟ إن الله خلقهم
وخلقها وجمع بينهم .قلنا :ستستم ّر -إذ ًا -في الدفاع عنهم سأشجعهم على والعطف عليهم وتشجيعهم؟ قال ضاحك ًا: ِّ عمي كلها ،ما دام ال يحسن االنتفاع بها. نهب أموال ّ
عمه قادر ًا على عمه ،فلم يعد ّ وساءت األحوال بينه وبين ّ
احتماله ،ففارقه ،وعاد نتيش إلى باديته يعيش بين عشيرته
كما يحلو له أن يعيش تارك ًا لنا فراغ ًا عظيم ًا ،وذكريات عذبة.
*** 66
67
68
الس ِّكير ِّ
إنه َل ِس ّكير عجيب ،ال يشبه غيره من مدمني الخمور؛ ألن الخمر
ال تبعث في نفسه الغبطة والسرور ،كما تفعله عادة في نفوس ّ السكيرين ،بل تثير في نفسه الحسرة والندم ،فيغدو غيره من يتوجع وينتحب ،ودمعه منهمر على خديه كالطفل المذنب. ّ
تع ّرفت إلى هذا الرجل بعد هذه الحرب األخيرة ،وقد كنت
أهلية ،وكانت صلة الوصل ،بيني وبينه ،ابنته مدير ًا لمدرسة ّ التي كانت تتع َّلم في مدرستي .كان الرجل والد ًا ،والد ًا رحيم ًا ،إذ كانت له طفلة جميلة في الثامن من عمرها ،كأنها
يحبها مالك ،يفيض وجهها الصبوح بأنوار الطهر والبراءة، ّ
69
يحبها َح ّد العبادة ،ولهذا كانت سبب حب ًا عنيف ًا طاغي ًاّ ، والدها ّ
سعادته وسبب شقائه في الوقت نفسه .كانت تلك الطفلة - واسمها حورية -سبب سعادة لوالدها؛ ألنه كان يعيش لها
وحدها ،يعيش من أجلها ،يحيا لها وبها ،ال يشاركها في قلبه وعواطفه شريك ال بعيد وال قريب ،فهي كل آماله وأمانيه في الحياة .فقدت حورية والدتها وهي صبية في المهد،
فقام والدها مقام األم واألب ،فأحاطها بح ّبه وعطفه وحن ِّوه، البنية كل جزء من قلبه وروحه ،فأصبحت تشغل كل واحت َّلت ّ
َّ ويتعذب ألقل ألم يصيبها ،كانت تمأل حياته ،ي َُس ّر البتسامتها،
دنياه بالسعادة والسرور .يقودها كل يوم بنفسه إلى المدرسة،
ويعود بها عقب الدرس صباح ًا ومساء في مواعيد محدودة دقيقة ال يتخ َّلف عنها أبد ًا ،وال يعوقه عائق -مهما كان
جسيم ًا -عن مرافقتها في غدوّها وفي رواحها .كان هذا الوالد بحب ابنته ّ سكير ًا مدمن ًا على شرب الخمور ،ال الرحيم المد ّله ّ
يكاد يفارق عمله مساء كل يوم حتى تقوده رجاله إلى أقرب فيعب من الخمر إلى أن تمتلئ بطنه ،ويغيب عقله، خمارة، ُّ
ويفتكر حينئذ بنته وهي في مدرستها تنتظر قدومه ليعود بها إلى المنزل ،فيثور ضميره مؤنّب ًا ،ويستعظم جرمه ،ويصير -وهو
70
تحت تأثير الخمر -ينتحب كالطفل الصغير ...كيف يقابل
ابنته المحبوبة ومالكه الطاهر وهو على ما هو عليه من الخزي
والعار؟
شاهدته ألول مرة وقد كان جالس ًا على مقربة من مديري إدارة المدرسة ،جالس ًا في هدوء وسكون ،وعيناه تذرفان الدموع،
فأدهشني أمره ،وكأنه انتبه لما أنا فيه من الدهشة والحيرة، فابتدرني قائ ً ال :أنا والد حورية .قلت :نعم ،مرحب ًا بك .قال،
وهو مسترسل في البكاء :هل يجوز لمن كانت له ابنة مثل ُ حرت في حورية تدرس العلم الشريف ،أن يشرب الخمر؟ الجواب ،وعلمت أني أمام رجل مخمور .ولم ينتظر جوابي،
ِّ متقطع يشوبه البكاء والنحيب: بل استرسل يتك َّلم بصوت
كيف أقابلها؟ هل أجرؤ على رؤيتها ومقابلتها وأنا على هذه الحالة اللعينة؟ ال ...ال أستطيع أن ألمس يدها الطاهرة بيدي تحمل النجسة .ما أشقاني ،وما أتعسني! إني ال أقوى على ُّ
المقدسة ،وأنا كالخنزير تفوح رائحة الخمور نظرتها الطاهرة َّ ِّ أخفف عنه آالمه ،وأه ِّون عليه خطبه، من فمي .أخذت
ودعوته لالنصراف إلى منزله ما دام ال يرغب في رؤية ابنته
وهو على هذه الحالة ،ووعدته بتكليف أحد التالميذ الكبار 71
بمرافقتها ،فما عليه إال أن يك ّلف من يستقبلها من جيرته وذويه ،وصاح الرجل قائ ً أطمئن عليها ال :ال ...ال ...إني ال ّ
وهي برفقة تلميذ ،إني أخشى عليها من السيارات .وما كان مني إال أن طمأنته ،ووعدته بمرافقتها بنفسي إلى المنزل.
فرح الرجل ،وأخذ يهذي بخليط من كلمات الشكر والحمد،
وانصرف يتأرجح في مشيته.
استم ّر الرجل على هذه الحالة جاع ً ال من نفسه ميدان ًا لمعركة فتشن ،تارة ،جيوش الخير عنيفة بين عوامل الخير والشر، ّ
ّ ويكف الرجل عن البنية ،فتنتصر حب هذه غارتها يقودها ّ ّ تناول الخمر أيام ًا يقضيها سعيد ًا بابنته راضي ًا عن نفسه ،ثم ِّ المتمكن تعيد جيوش الشر غارتها ،يناصرها جرثوم الخمر
ويشجعها رفقة السوء من روّاد الحانات وعشّ اق من نفسه، ّ الس ْكر ،ويعود إلى البكاء والنحيب ،ويعود الرحيق ،فيعود إلى ُّ
يحبها ضميره إلى التأنيب ،وكل ذلك من أجل ابنته التي ّ إلى َح ّد العبادة ،ويسوءه أن تنتسب إلى والد ّ سكير قذر ،إنه
الس ْكر ،ال خوف ًا من الله ،وال حياء يريد أن يقلع عن رذيلة ُّ
ّ يحط من البنية؛ ألن ذلك من المجتمع ،ولكن من أجل هذه ّ كرامتها ،ويُنقص من قيمتها .وهو يريدها كاملة ال تشوبها
72
شائبة نقص.
ّ ُ ُ السكير في وتركت تركت المدرسة في نهاية السنة الدراسية صراعه العنيف مع نفسه ،وإني ال أدري إذا ما تغ َّلب جانب تشعه من أنوراها في الفضيلة الذي تحميه ابنته حورية بما ّ
دنياه المظلمة ،أو تغ ّلب جانب الرذيلة الذي تناصره شهوة
النفس وإغراء رفقة السوء.
***
73
74
رجل من الناس
يسمون أنفسهم -هم عبارة عن نفر «زمرة األصدقاء» كما ّ
وحدت بينهم فضائلهم ،ألن من الشبان من أوساط الشعبَّ ،
توحد بين القلوب الفضائل -وحدها -هي التي تستطيع أن ِ ّ توحيد ًا متين ًا ال يقوى االنفصام على زعزعة أركانه ،وجمعهم
اتّحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم ،وآخى بينهم صفاء قلوبهم ورقة عواطفهم ،فأصبحوا مث ً ّ ال لألخوّة الصادقة ،والصداقة
الخالصة ،ورمز ًا عظيم ًا للمحبة والوفاء ،تجمعهم كل يوم بعد
انتهاء أعمالهم ،مجالس األنس والسرور ،ال يكاد يغيب واحد ّ وتفقدوه .كان خالد -الذي ال يفارقهم منهم إال افتقدوه
75
أبد ًا ،وال يتخلف عن مجلسهم -رج ً ال غريب الديار يعرفون أنه نزح إلى هذه البالد منذ سنين بمفرده ،وكل ما يعرفون يحدثهم عنها عنه أنه أعزب ،وجاء من بالد نائية لم يشأ أن ِّ
طيلة ا ِ ّتصاله بهم ،وأنه «رجل من الناس» ال أكثر وال أقل، كما يقول عن نفسه ،كلما سأله أحد عن أصله وموطنه .ولم يلح عليه في الكشف عن يخطر يوم ًا على بال أحدهم أن ّ ماضيه ،مكتفي ًا بحاضره ،وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم
بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه ،وأنه «رجل من الناس» ،وحس ُبهم
ذلك ،ويعلمون -فوق ذلك -أنه عامل مثلهم ،يشتغل بالكتابة عند تاجر جشع بمرتَّب زهيد ،رغم سعة معلوماته وكرم أخالقه
ويحس الجميع بتأ ّلمه من حقارة وإخالصه في عمله الكثير، ّ مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزِّ ع ج ّله على الفقراء والمساكين،
ولم يعرفوه يوم ًا ر ََّد سائ ً ال ،أو اشتكى لهم الفاقة واالحتياج،
فاالبتسامة ال تكاد تفارق شفتيه ،فهو دائم ًا في مرح وسرور، يمازح هذا ،ويحادث هذا ،يسأل ذا ،ويجيب اآلخر .وهكذا
ّ يلتفون حوله كل مساء كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم،
ّ ويظل يحادثهم ويباسطهم ،والجميع سابحون فيتصدر جمعهم، َّ
في ج ّو مرح ،كله غبطة وسرور. 76
كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من األصدقاء نظرات مختلفة؛ فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا االئتالف ،ومنهم الحاسد
المودة ،وكم حاولت جيوش الحسد- على هذا الصفا وهذه ّ بغارتها الشعواء -أن ِ ّ تفكك عرى صداقتهم! وكم حاولت ألسنة السوء أن تش ِ ّتت جمعهم دون جدوى! ولم يزدهم كالم الناس
إال ابتعاد ًا عن الناس وصحب ًة وارتباط ًا ،ولم تزدهم محاوالت
والمودة. الحساد إال توطيد ًا لدعائم الصداقة ّ
شاب في العقد الثالث من عمره ،يتم َّتع بثقافة «خالد» ّ متوسطة جامعة ،أخذ من كل فن ّ حظ ًا وافر ًا ،سليم الطبع ،حلو ّ
همة عالية وأخالق فاضلة ،تعلو الفكاهة ،كريم النفس ،ذو ّ شفتيه ابتسامة عذبة ال تكاد تفارقه إال إذا خال إلى نفسه،
وتعمق في بحور أفكاره ،فتغمره سحابة من الكآبة والحزن َّ أشد حاالت ال يعرف أحد مصدرها .وكثير ًا ما تجده في ّ السرور ،إذا به ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة ،ويغيب
بفكره عن جماعته ،فينتبهون لذلك ،ويصيح الجميع مازحين: كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد؟ َع ّلها
كانت تحمل بضاعة كثيرة؟ وينتبه خالد من غفوته ،ويعود فيرد على النكتة بأحسن منها ،ثم تسمع إلى نفسه ومجلسه، ّ 77
ّ «صفارة سعلته الخفيفة المعتادة ،التي يسميها جماعته
اإلنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم ،فينقلب الجد ،ويفتح الجميع قلوبهم المجلس بغتة من المزاح إلى ّ
وآذانهم كأنهم تالميذ ُس ّذج ،ويبتدرهم خالد بقوله :إني ال أ كاد ّ وأهتم بأموري الخاصة أفكر في نفسي -يا إخواني- ّ بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة ،فكل شيء في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآالمي ،تحزنني هذه الفضيلة
لب ،مظهر ًا دون مخبر ،أصبحت ز ّي ًا التي أصبحت قشور ًا دون ّ
يتزيّن به اإلنسان أمام الناس ،ويخلعه إذا ما خال إلى نفسه،
وبذلك أضاف اإلنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة؛ أصبحت الفضيلة أثاث ًا ماد ّي ًا يرثه االبن عن أبيه ،ويشتريه ذو
يردده كل المال بثمن زهيد ،فلم تعد الفضيلة شعار ًا سامي ًا ِ ّ
من عصمه الله من الرذائل ،فمسخت الفضيلة غير الفضيلة وانتزعت روحها ،فلم َ يبق سوى جثمانها جثة هامدة ال روح
لها وال إحساس ...وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ المجتمع ونقده ،وإبداء نظرته إلى الحياة ،وجماعته يؤمنون
بقوله ،وبدا ،بذلكّ ، شاذ ًا عن هذه البيئة التي ُق ِ ّدر له أن يعيش فيها ،وزد على ذلك صراحته التي ُعرف بها ،والتي كثير ًا ما
78
تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم ،رغم
محاوالته -دائم ًا -االبتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين
ال تحلو لهم الحياة إال في َج ّو من النفاق والكذب ،وربما
خرجت به هذه الصراحة إلى َح ّد أنها سببت له متاعب مادية وأدبية ال يُح َتفل بها وال يُل َت َفت إليها .هكذا عاش هذا «الرجل
من الناس» مع الناس وشاع خبره بينهم ،فرغب البعض في
التعرف إليه واالتصال به ،بينما زهد آخرون في االجتماع
به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر ،أما هو فقد اكتفى بجماعته البسيطة ال يريد عنهم بدي ً ال ،ولكن كل ذلك لم يمنع
الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب ،مدفوعين
بدافع الفضول ،فمن أين أتى؟ وإلى ّ أي عائلة ينتمي؟ وفي
ّ حدة أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله ،فإن ّ
وحدة أعصابه أخرستا ألسنة الفضوليين .وعاش خالد لسانه ّ في أ كناف هذا الغموض كما أراد واشتهى ،واستمرت حياته متتالية متشابهة ال يكاد يختلف يومه عن غده ،راضي ًا بمصيره
ال يتب َّرم وال يشتكي ،قانع ًا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة ومجتمعه البسيط .وذات يوم زار زائر أجنبي خالد ًا ،علم به
كل من في البلدة ،رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة 79
مقتضبة وفي ليلة حالكة الظالم ،أشاع خبرها جار لخالد ،لم يتعوّد منه استقبال زوار في حجرته ال لي ً ال وال نهار ًا ،وذهب
الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته ،ولزم خالد الصمت فلم يذكر شيئ ًا قلي ً ال أو كثير ًا عن هذه الزيارة ،ولم
يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو
في الكتمان ،ثم إنهم لم يتعوَّدوا منه أن يدخلهم في شؤونه
الخاصة .رغم أنهم الحظوا عليه تبدي ً ال واضح ًا ،حيث أصبح
الرجل في وجوم متواصل ،يتك َّلف االبتسام والدعابة .وبدأ
جلي ًا ،مما يدل على أنه يقاسي الشحوب على قسمات وجهه ّ
أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع ،ولكن ،راعهم منه أنه يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئ ًا ،واستم ّر على هذه لم ِ ّ
الحالة أيام ًا عديدة كانت بالنسبة له قرون ًا طويلة ال نهاية لها،
يعد دقائقها وثوانيها .وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر ّ
الشرطي الس ّري الذي ألقى القبض على خالد ،ونقله معه في
يتكهنون سيارته إلى حيث ال يدرون .وغدا الناس أيام ًا ،وهم َّ محاولين كشف السر ومعرفة جرمه :فمن قائل إنه جاسوس
يعمل لحساب دولة أجنبية ،وأجاب آخرون :إن الجاسوس ال يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة ،لم يُعرف عنه أنه فارقها
80
منذ استوطنها .وقال آخرون إنه مجرم أثيم ،يتس َّتر تحت رداء
الفضيلة وحمايتها .غير أن الذين عرفوه واتَّصلوا به عن كثب
ردوا عنه هذه التهمة ،واستبعدوا منه صدور الجريمة ،وذلك
لما يعرفون فيه من األخالق الفاضلة والعواطف السامية.
التكهنات والتخ ُّيالت ،ولكن أحد ًا لم يستطع أن وهكذا كثرت ُّ
وتوصل إلى معرفة الس ّر الخفي. يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة، َّ سدل النسيان ستائره على حادث خالد ،فنسيه ومرت األيام ،و َأ َ
الناس ،حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه ،وانتقل الجميع جدة وطرافة .وهكذا من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أ كثر ّ عاش «رجل من الناس» بينهم لغز ًا غامض ًا دون أن يترك لهم
لح ّل طلسمه الغامض الخفي. مفتاح ًا َ
***
81
82
فقاقيع األدب
من نكد العربية واألدب العربي في هذه البالد أن ن ََك َبهما
ِّ المتطفلين المغرورين ،وجدوا الميدان خالي ًا الزمان ببعض
ال حسيب وال رقيب ،واتَّسعت لهم أعمدة الصحف تشجيع ًا لهم ،فغ َّرهم هذا التشجيع وظ ّنوها عروش األدب وقد اعتلوها، َّ فتنكبوا عن جادة األدب الصحيح ،وانحرفوا عن صراطه َّ وعكروا منهله الصافي .حيث ذهبوا يف ّلون قمامات المبين،
الصحف والمجالت ،يلتقطون منها بعض التعاريف الشاذة،
والرطانات النابية ،يتشدقون بها في مجالسهم ثم يقحمونها في مقاالت يش ِّوهون بها صحائف األدب الناصعة ،وينكبون 83
بها القراء ،ويأخذ القارئ البسيط يقرأ ويعيد ،وهو ال يفهم
شيئ ًا ،في ّتهم فهمه ،وي ّتهم ذوقه وهو ال يدري أن هؤالء الك َّتاب
طياتها ما أنفسهم ال يفهمون مما يكتبون شيئ ًا ،وال يوجد في ّ يتط َّلب الفهم.
األدب العربي أدب األسلوب السلس والمعنى المتين ،أدب ّ صلة إلى هذه الشقشقة الغامضة البيان والتبيين ،ال يمت ِب ِ
وأقدم إلى المخ َّنثة التي ُأغرم بها هؤالء الفقاقيع أيّما غرام. ِّ
القارئ أنموذج ًا من هذا اللون من األدب الملتوي .وال تحاول
أيها القارئ أن تفهم منه شيئ ًا ،فهو فارغ ال يحتوي على مادة ت َ ُفهم. ُهضم أو معنى ي َ
قال أحد فقاقيع األدب لزميله ،وقد جمعتهما ندوة ندية، كتشدقه يتشدق بمضغها وكان كل منهما يلوك ِلبانة أميركية ُّ ّ بمضغ كلماته :ما قولك في السم ّو الفني يا عزيزي؟ فأجابه عزيزه قائ ً ال :ال يستقيم السم ّو الفني في خمائله الفينانة إال
إذا كان نتيجة إيجابية مشرقة الجانب التصويري ،تمتاز بروح التعمق ،بعيدة عن طابع السطحية ،ال سيما إذا كان الصدق ُّ
العاطفي أبرز معانيه ،والطابع النفسي هو مقياس الجمال في فلسفته الماورائية .أما التج ّلي الالمع الذي تبدو طقوسه
84
جلية في معبد الجمال فال تستقيم قدسيته إال إذا اتّصل الب ّراقة ّ
طرفه بالذوق الذاتي ،وإن كان هذا األخير إكالسيكية حديثة من أبرز معاني «الرصيد الفني» الذي ي َُع ّد اليوم من أخصب عناصر األدب الحديث وخصائصه األصلية .ورفع الثاني طرف جبته ،واستوى في مقعده وقال :هذا ّ حق يا عزيزي ،ولكن ّ الرومنتيكية التي تتج ّلى بوضوح في نفثات بعض ك ّتابنا ،يبدو
لي أن الجانب الرمزي فيها ينقصه محراب الفن ليتب َّرز في
إطار روحي ،أبدعته ريشة الفنان المطبوع ،هذا وحده هو التعمق في البحث إذا ما أردنا أن تستقيم لنا ذاتية جانب ُّ
التعمق الفكري الهيكل ،وتنسجم لنا ألوان الرسم ،ويخضع لنا ُّ
تشع أحالمه الذهبية في منعرجات في معانيه البارزة حيث ّ
أنغامه الموسيقية فيبدو في إشراقة الفجر ،وقد تخ َّلص من
ّ الندي في الجفاف الفكري ،وتح ّلى بطابع السمو والمعنى أعماق التجربة الشعورية.
تنس أن األصالة في اإلشعاع أنا أوافقك إلى َح ّد يا أستاذ ،ولكن ال َ الذوقي فرع من الالشعورية القارّة ،وذاتية األدب ال تقوم جوانبها َّ وتحككت بموضوعية العلم، إال إذا اعتمدت على تركيز النقد،
ولو من بعيد ،دون أن تخلو من أشعة األداء النفسي.
85
ّالتعمق في البحث الحديث يجب حق ًا ،تلك هي أسس ُّ على ُ الك ّتاب أال يهملوها إذا ما أرادوا التحليق في أجواء اإلبداع الفني ،وأرادوا أن يستقيم لهم التجاوب الفعال ذو
األصداء الحالمة في صفته االنطوائية الصاخبة بالحيوية العارمة المنسابة من ينابيع العبقرية الجامحة ،التي ال تخضع
إال لألسلوب الحديث المتم ِّرد عن األوضاع البيئية ،المتع ِّلقة،
دوم ًا ،بالمه ّية الك ّل ّية.
سطحيون ،ابتعدوا كل البعد عن فإن كتابنا يا أستاذي،ّ
تبدد أنواره الالهوتية تلك األدب الوجداني الملتزم الذي ِ ّ الحسية ،فتفقدها الظلمة الكثيفة التي تكشف الروحانية ِّ المستم ّدة من قبس اإلبداع الفني الرائع. الحرارة األثيرية َ
نعم ،نعم ...أنا ال أشك في أن هذا -وحده -هو الطرفسطحي ال يستند اإليجابي في السم ّو الفني ،وما عداه فك ّله ّ
التعمق المرتكز ،وال يرتكز على السم ّو العميق .ا.هـ. إلى ُّ
وبعد ،فهذا أنموذج من أدب «السونيق» الحديث وقد راجت
سوقه بين أدباء المظهر في الشرق قبل سنوات ،ولكن الشرق وجهها تخ َّلص منه بعض الشيء ،بعد الضربات القاسية التي َّ
له الزيات وحسين شفيق المصري وغيرهما ،وكنا نظن أن 86
العربية تخ َّلصت منه إلى األبد ،وإذا بنا نرى بوادره في أدبنا
وقد بدت في صور أ كثر انحال ً وأشد غموض ًا ،ولكننا له ال ّ
بالمرصاد ،وسنقضي على بذوره قبل استفحالها ،وال نقبل في عربي ًا مبين ًا ،أخذ من الماضي متانته، شمالنا اإلفريقي إال أدب ًا ّ
شعبي ًا مفيد ًا .وليذهب الرصيد ومن الحاضر سالسته ،أدب ًا ّ الفني والشعورية القارّة وفقاقيع األدب إلى الجحيم.
***
87
88
المرتجلة الشخصيات َ
جاء في معجم اللغة :ارتجل الطعام أي :طبخه في المرجل، وارتجل الكالم أي :ألقاه دون رويّة أو تحضير .أما الشخصية
المرتجلة في معجم الحقيقة المرة ،فقد جمعت بين المعنيين
لهذه الكلمة :الطبخ ،وعدم اإلعداد والتحضير .وإذا أمعنت النظر ،ود َّققت الفهم في الطبخ واالرتجال ،ي ّتضح لك ،بجالء،
أنهما متقاربان في المعنى ،حتى أننا نجد كثير ًا من الك َّتاب
يطلقون كلمة (الطبخ) على معنى االرتجال ،فيقولون :طبخ
ّ مشقة فالن كتابه ،أي أ ّلفه بسرعة دون عناء في التدقيق أو بأتم معناه .أما الشخصية في البحث ،وذلك هو االرتجال ّ المرتجلة ،فهي تلك الشخصية التي تُط َبخ على عجل في 89
وحب الذات ،فلم ينضج منها إال ظاهرها ،ثم مرجل األنانية ّ تغمس في سائل كيمياوي عجيب ر ِ ُّكب من الدجل والغرور
والشهوات الجائعة ،فهو يشبه العسل في مظهره ،ولكنه يخالفه في مخبره .وبعد هذا الطبخ السريع ،والطالء الزائف تنزل المرتجلة ،على المجتمع كجنود المظالت هذه الشخصيات َ
تحب دون سابق إنذار ،لتفرض نفسهاضريبة ثقيلة على األمة، ّ الرئاسة وتريد القيادة ،وتهيم بالزعامة ،ولكن ،ليس لديها من المؤهالت سوى ذلك الطالء الزائف الذي ال يوجد تحته ّ
سوى مطامع دنيئة ودعوى خاوية.
المرتجلة تتبختر في مظاهرها الزاهية وتغدو هذه الشخصيات َ ومخابرها القاتمة ،وهي تصرخ بوقاحة في وجه األمة :س ِّلميني زمام القيادة! ّ رقيني إلى منبر الزعامة! أجلسيني على عرش العظمة!
واألمم -وإن اختلفت في درجات الثقافة والجهل ،وتفاوتت في مقدار الرقي واالنحطاط -لم تختلف أبد ًا في فهم الزعيم الحق ،ولم تخطئ أبد ًا في اختيار القائد الصالح.
فهي كلها تحسن اختيار القائد ،وتصيب في تزعيم الزعيم، وتدرك إلى من تنقاد وتطيع ،وذلك عائد إلى حواس فطرية
90
ضد االنحالل واالنحدار، وإدراك طبيعي ،وهو عنصر المناعة ّ خلقه الله في جسم األمة ،ال دخل للعلم واالكتساب فيه. ولم نجد أمة انخدعت في اختيار زعيم ،ولم نجدها كذلك
ّ يستحق الخذالن ،ولهذا كان حكمها دائم ًا خذلت شخص ًا ال
التقدم هو أصدق األحكام .وبينما نجد األمة تتس ُّلق درجات ُّ تطن في سمائها بصعوبة وعناء ،إذا بهذه الشخصيات المرتجلة ّ َ
كالذباب ،فال تلتفت إليها حتى إذا ما أزعجتها وأقلقتها،
أعارتها التفاتة بسيطة ،ال لتسمع إلى دعوتها ،أو تنخدع إلى حيلها ،وإنما لتلقي بها في مهاوي الحضيض ،لتتخ َّلص من
وقاحتها وعرقلتها ،ثم تمضي ُق ُدم ًا في طريقها ،ال تلوي على شيء .يظلم بعض الناس هذه الشخصيات ،فيقولون عنها:
«إنها مصابة بداء العظمة» .وكما أنني ذكرت هنا ما على هذه الشخصيات ،يجمل بي أن أذكر ما لها ،فأعترف أنها مظلومة في هذه الوصمة كل الظلم .فإن داء العظمة ،هو ذلك
الداء الخطير الذي أصيب به المتنبي شاعر العربية وفيلسوفها، وأصيب به قرينه «فولتير» شاعر الفرنسية وفيلسوفها ،وأصيب
به كثيرون غيرهم في مختلف العصور والبيئات ،فجميعهم يختلفون كل االختالف عن هذه الشخصيات المرتجلة، 91
والبون بينهما بعيد ،والفارق شاسع كبير؛ فهما يجتمعان في حب العظمة ،ولكن دافعه عند أولئك طموح سام ،وعلم غزير، ّ
وبيان قوي ،ونفس عزيزة ،وشجاعة جبارة ،وتضحية غالية. ويع ِ ّززها عند هؤالء غرور سافل ،وجهل َّ مركب ،ووعي قبيح،
ونفس وضيعة ،ومطمع دنيء.
أما زعيم األمة وقائدها فيختلف كل االختالف عن هؤالء
مدجج ًا جميع ًا ،فهو يخلقه الله متح ِ ّلي ًا بصفات الزعامة، َّ
بسالح القيادة :صفات ال يراها هو في نفسه ،ولكنها تُرى من
يتبينها هو في نفسه ،ولكن ،تلمسها ِق َبل األمة فيه ،وخصال ال ّ األمة فيه .يقوم بأعمال جليلة سامية ،يقوده إليها إلهام من يقدر هو سموّها ،بل يراها أعما ً ال عادية ،ولكن األمة الله ال ِ ّ
سموها ،وتدرك عظيم فائدتها ،ومن دون أن يشعر يجد ِّ تقدر َّ
نفسه مساق ًا قهر ًا ،واألمة من ورائه تدفعه إلى قمة الزعامة، ِ ارتق! وتأتيه حيث تضع له ُس َّلم ًا من قلوبها وأفئدتها وتقول:
بزمام القيادة مصنوع ًا من أمانيها الغالية وتقول له :أمسك.
المرتجلة التي ال يُع َرف لها أما هذه اإلمَّعات من الشخصيات َ
ماض ،وال حاضر ،وال حتى المراجل التي ُطبخت فيها ،ف َت ْنبت ٍ
بسرعة كالفقاقيع ،وتأتي تنفخ أوداجها وهي تحاول التس ُّلق
92
بمنابر الزعامة الخطيرة ،والتشبث بقمم العظمة ،حتى إذا ما
حاولت األمة إبعادها في رفق ولين صرخوا في وجهها ،وذهبوا يشتمونها ويصمونها بالجهل واالنحطاط ألنها لم تنخدع لهم ولدجلهم.
وهناك تغضب األمة غضبتها ،فتلقي بهم في الدرك السافل، مرتجلة في كلتا فتنطفئ هذه الشخصيات بسرعة ،وهي َ
الحالتين ،وتُطوى ،هذه الشخصيات وصحائفها إلى األبد مُ َك َّللة بالخزي والعار ،إكليل كل امرئ ال يعرف قدر نفسه.
***
93
94
األستاذ مرسحية يف فصل واحد
«كان عبد الحق عام ً َّ يتلق ال بسيط ًا من عامة الناس ،أم ّّي ًا ،لم من العلوم شيئ ًا ،ال قلي ً ال وال كثير ًا .ال يعرفه أحد سوى زمالئه
في العمل وبعض جيرانه في الحي المتواضع الذي يسكنه
بالكد في لضآلة مركزه االجتماعي ،والنصرافه عن الناس ّ سبيل العيش.
وذات يوم ِّ عمه الثري -وكان وارثه الوحيد -فاستولى توفي ّ
على جميع أمواله وثروته الطائلة ،وأصبح من كبار األثرياء، يُشار له بالبنان ،وما كاد يشيع الخبر حتى تجمهر الزوار على
باب داره من مه ِ ّنئين ،ومتس ِّولين ،وفضوليين».
95
(املنظر :قاعة فسيحة يف دار ع ّمه التي ورثها ،مؤ ّثثة بأثاث رشقي من زرايب وأرائك .يبدو عبد الحق يف صدر القاعة ،وهو رجل يف العقد الخامس من عمره ضخم الجثة يرتدي أثواباً جديدة فضفاضة ،لبسها عىل عجل دون ترتيب أو نظام.). (عبدالحق« -سلامن الخادم») عبد الحق :سلمان! ...سلمان.
سيدي ...أمرك؟ سلمان :نعم ّ
سيدي ...أمرك ...ما أعذبها من عبد الحق (وحده) :نعم ِ ّ كلمات! (لسلمان) :سلمان ،أنت الذي قضيت ّ جل حياتك
علي مع عمي -رحمه الله ،-وفي خدمته ،أرشدني لما يجب َّ عمله من لباس وأحاديث وغير ذلك ،فإني ال أريد أن أظهر
بمظهر الغباء أمام الناس ،وأنت -على كل حال -لك خبرة بحياة القصور وحياة كبار األثرياء مثلي ،وال يخفى عنك هذه
الجموع الغفيرة من الزوّار!
إلي يا سيدي ،واسترشدتني ،فإن سلمان :ما دمت قد لجأت َّ نصيحتي إليك هي أن تغلق بابك في وجوه هؤالء الزوّار ،وال
حاجة لك بهم ،فإنك لن تستفيد منهم شيئ ًا يعود عليك بالنفع.
عبد الحق :ال ...ال ...ال داعي إلى ر ِ َّدهم ،فإنهم لن يكلفوني 96
أ كثر من فنجان من القهوة وقطعة من الحلوى ،ثم إن الخير كثير ...إني ال أوافقك على ذلك .ال تغلق الباب ،دعهم
يأتون ،فإني في حاجة إليهم ،أتع َّلم عليهم الحياة الجديدة،
حياة األثرياء وخيرة الناس.
سلمان :إن خيرة الناس يا سيدي عبد الحق ،ال يأتون إليك، يهتم بك إال ذوو وال يعبؤون بك وال بمالك ،و ِث ْق بأنه ال ّ المطامع المختلفة في أموالك.
( ُيسمع طرق عىل الباب) عبد الحق (يعتدل يف جلسته ويصلح من هندامه) :سلمان!... وأعد لهم القهوة أسرع ...افتح الباب لهؤالء الزوار، ّ
والحلويات .أسرع.
سلمان :أمرك يا سيدي
(يخرج ويعود صحبة ثالثة
شبان):
السالم عليكم؛ هذا وفد األدب والفن يا حضرة األستاذ،
جاءك زائر ًا ومه ِ ّنئ ًا.
عبد الحق :أه ً ّ تفضلوا .سلمان ،أحضرالقهوة ال ومرحب ًا بكم. والحلويات للسادة( .سلامن يخرج).
عبدالحق :ما مهنتكم؟
زكي :نحن أدباء يا حضرة األستاذ الجليل... 97
عبد الحق :إنكم تجهلون اسمي على ما أظن ،فإن اسمي «عبدالحق» ،وليس اسمي «األستاذ».
وخاصتهم. زكي :إن اسمكم مشهور عند عامّة الناس ّ عبد الحق (يلمس رأسه) :يا لطيف! في رأسي نار!
المبجل، زكي :وإنما لفظة األستاذ ،تعبير األدباء ولقبهم َّ
َّ والمثقفين ،وال ريب عندنا يلقبون به من شاؤوا من األفاضل
في أنكم من كبارهم.
عبد الحق :من كبارهم! هيه ..من كبارهم .الخير كثير .هيه، وما معنى أدباء هذه؟
زكي (متلعث ً ام) :أدباء؟ يعني ...أدباء! يعني أناس ًا كبار ًا...
عبد الحق :ما ألطفكم! وما أعذب كالمكم من كالم! وهل لدي ما ً َّ ال كثير ًا! يمكنكم أن تجعلوا مني أديب ًا مثلكم؟ إن
زكي :يا سالم ...مال كثير! نتش ّرف ...نتش ّرف -يا سعادة األستاذ الجليل -أن نجعلكم رئيس ًا علينا ،وإن اآلداب والفنون تتشرف وتفتخر اليوم بسعادتكم .ومن ذا الذي ينهض بها غيركم؟
علي .يكون عبد الحق :الخير كثير .تستطيعون أن تعتمدوا ّ خير ًا إن شاء الله .وماذا أعمل؟
98
زكي :يا سالم! السؤال الجميل ...أو ً ال :بلغنا يا حضرة
األستاذ ،أنكم تنوون -في هذه األيام -زفاف ابنتكم على ّ صلة. شخص من عامّة الناس ،ال يمت لألدب والفن ِب ِ
عبد الحق :هذا صحيح .إنه قريبي ،يدعى ناصر ،سيتخرج قريب ًا في مدرسة الصنائع .إنه قريبي وليس من عامة الناس.
زكي :مدرسة الصنائع! رجل عمل! رجل غليظ! رجال األعمال -يا سعادة األستاذ -ال يصلحون لألدب .وال يخفى
عنك أن بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا مثله.
عبد الحق :عجيب ،بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا؟!
أحد الشبان :أجل ،ذلك هو قانون األدب كما ال يخفى عنك! عبد الحق :فاتني ذلك .وكيف العمل اآلن؟
أحد الشبان :األولى أن تعدلوا عن هذا الزواج ،وتبحثوا البنتكم َع َّمن يليق بها من رجال اآلداب البارزين.
عبد الحق :هذا حق .أبحث لها عمن يليق بها من رجال اآلداب البارزين .سأفعل ذلك.
أحد الحاضرين :إن األستاذ زكي َل َأوْلى بها من غيره ،وهو
أديب بارز ،فاضل ،ذو مركز اجتماعي عظيم ،يش ِّرفها ،ويرفع
من مقامها.
99
غني ًا ،وال أظن نفسي زكي (يف تواضع) :أستغفر الله .أنا لست ّ كفئ ًا لها ،ألن هذا العصر عصر المادة والمال.
أحد الحاضرين :وأي شيء يكون المال بالنسبة لثروتكم األدبية الطائلة يا أستاذ زكي؟
زكي :أنا ال أقول شيئ ًا الكلمة لألستاذ عبد الحق.
يهمك المال. عبد الحق :الحق مع السيد .الخير كثير .ال ّ الخير كثير.
زكي :الخير كثير .ما أحلى هذا الكالم من فمك يا سيدي األستاذ! الخير كثير .كلمة عذبة ،وعليه فإنني أشكركم على ّ أجل المساعدات حسن ظنكم بي ،وإن هذا -لعمري -لمن ّ برقي رجاله. يترقى إال لآلداب والفنون! ألن األدب لن ّ
وال يسعنا إال أن نستأذنكم في االنصراف ،ونحن منتظرون إشارتكم لعقد القران.
عبد الحق :بارك الله فيكم .سأخبركم بذلك في الوقت
المناسب( .يس ِّلمون عليه وينرصفون)
عبد الحق :سلمان يا سلمان!
سلمان (يظهر) :نعم سيدي ،ماذا تريد؟
عبد الحق (يف
100
تعاظم) :ماذا أريد؟ قبل أي شيء ،ال أسمح
لك من اليوم أن ِّ تلقبني بهذه األلقاب البالية! ألقاب عامة الناس.
سلمان :حسن ًا يا سيديّ ، بأي اسم تريد أن أدعوك؟
عبدالحق« :باألستاذ» ادعني باألستاذ .قل «ماذا يريد األستاذ» ،هذا هو لقبي ،لقب كبار الناس.
سلمان :أستاذ .لقب جديد ،إني لم أفهم يا سيدي ،ماذا تعني؟
عبد الحق :أجل إنك ال تفهم .وقد قضيت طول حياتك خادم ًا ...لقد كان وفد األدباء -كبار الناس -عندي هنا،
وقد َّ لقبوني بهذا اللقب ،وجعلوني رئيس ًا لهم.
سلمان (ضاحكاً) :أولئك المحتالون النصابون ...إني أعرفهم جيد ًا ياسيدي ،وأعرف أعمالهم.
عبد الحق (صارخاً) :اخرس! أيها الوقح ،تصف األدباء كبار الناس باالحتيال؟ إذ ًا ،أنا محتال مثلهم ما دمت رئيس ًا لهم؟
سلمان (يف حرية) :عفوك يا سيدي .سامحني أخطأت.
عبد الحق (هازئاً) :عفوك يا سيدي! ألم أمنعك اآلن من تلقيبي بهذا االسم؟ .قل «عفوك يا أستاذ».
سلمان :نعم ...نعم ...نسيت ،عفوك يا أستاذ! سامحني يا 101
أستاذ.
عبد الحق :أحسنت ،لقد سامحتك هذه المرة ،على أال تعود إلى مثله.
سلمان :ثم ماذا؟ يا ...يا أستاذ!...
عبد الحق :ثم إني سأزُ ِّوج زينب باألستاذ زكي؛ ألن بنت األديب ال تتز َّوج إال أديب ًا مثله ،هذا هو قانون األدب.
سلمان :لكن ،يا سيدي...
عبد الحق :لكن ...ماذا؟!
سلمان :لكن يا أستاذ! و«ناصر» قريبك وخطيبها؟
عبد الحق :ناصر .رجل أعمال .قانون األدب يمنعه من التزوُّج بها .ذلك هو قانون األدب.
سلمان :إنك مخطئ -يا سيدي -فيما عزمت عليه ،وستندم.
علي -أيها عبد الحق :يا للوقاحة! يا لق ّلة األدب! أتجرؤ ّ
الخادم -وتقول مثل هذا الكالم في حضرتي ،أنا األستاذ؟ اغ ُرب عن وجهي.
(زوجته «رتيبة» تسمع الصياح والضوضاء ،فتدخل مستفرسة).
رتيبة :ما هذا الصياح؟ ماذا جرى؟
سلمان :تعالي -يا سيدتي -لتسمعي العجائب! أظن أن
102
سيدي ُأصيب في عقله! إنه يهذي منذ لحظة ،يقول :إنه
أستاذ ،وأديب ،وقال إنه يريد أن يز ِّوج زينب من رجل محتال، أعرفه جيد ًا ،يقول عنه سيدي إنه أديب كبير ،وال أدري ما لنا
ولهؤالء األدباء!.
عبد الحق :أما تنتهي -أيها الوقح -من إهانتي ،وجرح تدعني بغير لقب األستاذ؟ ثم بأي كرامتي ،ألم آمرك بأن ال ُ
حق تتطاول بكالمك هذا على رجال األدب؟
رتيبة (لزوجها) :ماذا يا عبد الحق؟ أصحيح ما قاله سلمان؟
عبد الحق :ال تقولي عبد الحق ،أيتها المرأة ،قليلة األدب! قولي «األستاذ».
رتيبة (صارخة باكية) :وا مصيبتاه! ّ حق ًا ،لقد ُأصيب الرجل في عقله!
(تظهر ابنتها زينب).
زينب :ماذا جرى يا أمّاه؟ َأ ُأصيب أبي بمكروه؟
عبد الحق :لماذا تقولين أبي -أيتها الشقية -وال تقولين المبجل، «األستاذ»؟ اتفقتم ك ّلكم على تجريدي من لقبي َّ
لقب األدباء وكبار الناس.
زينب :أدباء؟ ّ أي شيء «أدباء» هذه؟ 103
عبد الحق :أدباء ...ال تعرفين األدباء!؟ هم الذين أريد أن أز ِّوجك أحدهم؛ ألن بنت األديب ال تتز َّوج إال بأديب؛ هذا
هو قانون األدب.
(يدخل نارصخطيب زينب ،فترسع رتيبة نحوه باكية)
رتيبة :الحقنا يا ناصر ،يا ابني ،إن عمك ُأصيب في عقله، فإنه لم يفتر عن الهذيان منذ ساعة ،يقول عن نفسه إنه من رجال األدب ،وإنه يريد تزويج زينب من أديب مثله ،ويأبى أن
ندعوه بغير «األستاذ ».
ناصر (يطمنئ ع ّمته ،ويتقدّم من عبد الحق) :ما هذا يا سيدي األستاذ؟ هل من جديد؟
عبد الحق (مرس ًال
زفرة) :الحمد لله ...ها قد أتى أخير ًا من
َ تعال -يا ابني -انظر إلى هؤالء يقدرني ،ويعرف مقامي. ِّ
الجهالء! جعلوني مصاب ًا في عقلي ألني منعتهم من إهانتي، وأرغمتهم على احترام لقبي المش ّرف الذي أهداني إياه وفد
األدباء هذا الصباح!
ناصر :اعذرهم يا أستاذ ،إنهم ال يعرفون قيمة األدب ،وال يعرف قيمة األدب إال أهله!
عبد الحق :وهل أنت أديب يا ناصر؟ 104
ناصر :بالتأ كيد ...ومن الكبار.
عبد الحق :حمد ًا لله .كنت أظنك غير ذلك ،ولهذا عزمت على أن أز ِّوج زينب من غيرك؛ ألن قانون األدب -كما ال
يخفى عنك -يمنع أن تتز َّوج بنت األديب بغير األديب.
ناصر :هذا ّ حق ...إني أعرف ذلك ،ودرسته جيد ًا.
ثم هل يمكن أن يكون قريب األديب ،أو زوجه ،أو ابنته وحتى خادمه قليلي األدب؟
عبد الحق :صحيح ،لقد فاتني ذلك .إذ ًا ،كلنا أدباء؟
ّ يشك في ذلك؟ كلنا أدباء وأنت السبب في ذلك. ناصر :ومن
عبد الحق :أنا السبب ...أجل أنا السبب ...اذهب-إذ ًا- وادع القاضي ليعقد قرانكما ،وليبارك الله فيكما وفي ُ
أبنائكما ،ويجعلهم من كبار األدباء واألساتذة.
***
105
106
الحاج س ّيدي ّ
كان ذلك إبان الحرب العالمية األخيرة ،وكنت يومئذ مستق ّر ًا
مبرح ًا ،وحنين ًا عارم ًا إلى الوطن في مكة المك َّرمة ،أعاني شوق ًا ِ ّ
واألهل واألصحاب .كانت أخبار الشمال األفريقي شحيحة جد ًا؛ الرسائل نادرة ،وحركة الحجيج منقطعة تمام ًا عدا وفود ّ صغيرة كانت تأتي على نفقة الحكومة في طائرة خاصة،
وكانت هذه الوفود تجمع خليط ًا عجيب ًا من مختلف الطبقات تضم الطبيب ،والمفتي ،والتاجر ،والقائد ،تجمع والهيئات، ّ
العا ِلم والجاهل ،الشباب والشيوخ ،كما كانت هذه الرحلة
يهمهم اإلسالم المجانية تغري بعض الفضوليين الذي ال ّ ّ 107
وال مناسك الحج ،وإنما يأتون للسياحة والتف ُّرج على أرض
الحجاز .وكنت أبذل كل الجهود لالتّصال بهم ،وهم الصلة
أتنسم من أحاديثهم رائحة الوحيدة بيني وبين أرض الوطن، َّ البالد وعبير األهل واألصحاب ،ولذلك كنت أستأنس بهم رغم التباين الكبير بيننا؛ تباين في النشأة والتفكير ،في الثقافة
واالتجاه ،ولكن رابطة الوطن كانت كافية لجمعنا وإزالة الفوارق بيننا.
ّ ُ يحتل بحاج من هؤالء الحجيج ،وكان الرجل اتصلت ذات يوم ّ أمي ًا ال يحسن مكان ًا مرموق ًا في اإلدارة الحكومية رغم أنه كان ّ
العربية وال الفرنسية ،أما اإلسالم وقواعده األولية فلم يسمع
المتقدمة ،وإن كانت لحيته الكثيفة بها طيلة حياته رغم س ّنه ِّ وهندامه العربي يخدعان الناظر إليه ،فيظنه شخصية إسالمية
ممتازة من كبار رجاالت الدين في المغرب العربي.
زرته يوم ًا في منزله فرغب أن أرافقه في جولة قصيرة في أسواق
ّ يتوضأ استعداد ًا لصالة المغرب ،حتى أم القرى ،وطلبت منه أن إذا ما أدركنا وقتها أخذنا سبيلنا إلى الحرم دون أن نضط ّر إلى
العودة إلى المنزل ،وطلب الحاج إبريق ًا من الماء ،وجلس
للوضوء ،وبدأ يغسل رجليه ،وكنت أنظر إليه مشدوه ًا ،لم ِ أدر
108
كيف أجعله يالحظ خطأه ،ولكن الخادم الذي كان مك َّلف ًا بخدمته ،والذي كان معتاد ًا -دون شك -على هذا النوع
من الحجيج ،ابتدره قائ ً ال :ما هذا الوضوء يا سيدي الحاج؟
ّ أتتوضأ من رجليك؟
وأجابه سيدي الحاج بكل بساطة ،وهو مسترسل في غسل بقية أعضائه بالجملة والتفصيل دون ترتيب :ماذا نعمل هكذا ع َّلمنا سادتنا!
َ وسكت الخادم ،ولعله ظن أن مذهبه الفقهي يجيز هذا الوضوء ُّ وسكت أنا أيض ًا ،وانتهى صاحبي الذي يبتدئ من الرجلين.
من وضوئه ،ثم ارتدى مالبسه وخرجنا إلى األسواق.
كان منظرنا مضحك ًا :صاحبي بجثّته الضخمة ،وعمامته
الكبيرة ،وقامته فارعة الطول ،ولباسه الجزائري العتيق ،وأنا
إلى جنبه بلباسي الحجازي وجسمي النحيل ،ولذلك كنا عرضة أتحمل كل ذلك في سبيل لتنكيت المارة وروّاد السوق .وكنت َّ
علي. النزر اليسير من أخبار البالد التي كان صاحبي يجود بها ّ
كانت جولتنا حافلة بالمشاكل والمعارك مع مختلف الباعة والتجار؛ ألن صاحبي كان حديد األعصاب ،كلمة ونصفها، تيسر من الشتائم ثم يلجأ إلى قاموسه الخاص يُخرج منه ما َّ 109
والسباب .ولم ينقذنا من مشاكلنا سوى أذان المغرب الذي
أخذ يدوّي في الفضاء ،ورجال األمر بالمعروف يصيحون:
الصالة ...الصالة ...وهم يسوقون الناس إلى المسجد.
علي صاحبي ،ونحن في توجهنا لفورنا إلى المسجد ،وانحنى َّ َّ
طريقنا ،وسألني قائ ً ال :موالنا! وهذه آش حال فيها؟
قلت :كم فيها؟ في أي شيء؟
قال :هذه الصالة ،التي سنص ّليها اآلن! كم عدد ركعاتها؟
وفهمت ...فإن الرجل يجهل عدد ركعات الصالة ،وخاف أن فتشجع واسترشدنيَ ،س َّرني منه ذلك ،وألقيت يقع في خطئها، َّ عليه درس ًا مختصر ًا في عدد ركعات كل صالة ،ومتى يجلس
ومتى يقوم ،ولكن ذلك لم يمنعه من سؤالي عن عدد الركعات توجهنا إلى الصالة ...ووجد صاحبي صالة العشاء طويلة كلما َّ
جد ًا ،ولهذا ق َّرر حذفها من برنامجه وإبدالها براحة في المنزل. ّ ّ المكي وانتهينا من صالة المغرب ،وأخذنا نتجوَّل في الحرم
الذي كان حاف ً ال بحلقات الدروس المختلفة ،ووقف صاحبي أمام شاب شنقيطي كان يُد ِّرس مبادئ اآلجرومية لنفر من
الصبيان ،وما كاد المد ِّرس الشاب يشاهد صاحبي يقف عند
رأسه حتى اعتراه اضطراب ،وقد ظنه عالم ًا جلي ً ال من كبار
110
يردد لتالميذه علماء المغرب العربي ،فتلعثم في تقريره ،وأخذ ِ ّ
هذه الجملة :قام زيد ...قلنا :قام زيد ...قام زيد.
وقاطعه صاحبي قائ ً ال :يا شيخ! ...وإذا كانت امرأة تقول «قامت زيدة؟»
تبسم المد ِّرس ،واستغرق تالميذه في الضحك ،ولكن صاحبي َّ
لم يعجبه موقفهم فقال لي :لماذا يضحكون؟ ألم يُع ِّلمهم
شيخهم قوله تعالى« :اسأل عن دينك حتى يقولوا :بهلول»؟
قلت لنفسي :أال في سبيل أخبار الوطن ما أنا متحمل.
الحاج إلى بالده سيدي انقضت أيام ّ ّ الحج بسالم ،ورجع ّ بحجه المبرور وذنبه المغفور ،حام ً ال معه مختلف التحف ّ
والهدايا لألهل والخ ّلان ،متوّج ًا اسمه بلقب «الحاج» ،تارك ًا
هذه الذكريات الطريفة التي خ َّلدته في ذاكرتي ،وجعلت منه أنموذج ًا بشر ّي ًا ممتاز ًا.
*** 111
112
يحيى َّ الضيف
«لو قرأ يحيى في صغره ألتعبنا في كبره». الشيخ اإلبراهيمي
يوم أزمعت أن أدرج «يحيى الضيف» في سلسلة مقاالت الميزان التي كنت أنشرها في جريدة البصائر .تساءل بعض
قيم الناس من الخاصة والعامة قائلين :ما شأن يحيى الضيفّ ِ ، مركز جمعية العلماء وهذه السلسلة من المقاالت في رجال
العلم واألدب ،وليس هو بعالم من العلماء ،وال هو أديب من
األدباء؟
113
وقلت لهؤالء :إن لم يكن يحيى عالم ًا يحمل فوق رأسه عمامة وتحت إبطه كتاب ًا ،وهو إن لم يكن خطيب ًا في المنابر وال
واعظ ًا في المجالس وال كاتب ًا في الجرائد ،فإن له قيمته في المجتمع ،وله مركزه في دنيا العلم واألدب ،ألنه فيلسوف...
علي بالالئمة يومئذ، سيضحك مني أولئك الذين أنحوا َّ
وسيقولون! أين درس يحيى الضيف الفلسفة؟ وفي أية جامعة ّ الحقة ال تُدرَّس ،وأن جامعتها تخ َّرج؟ والجواب أن الفلسفة
تعمقوا الحياة ،وأستاذها الزمن ،فهو من أولئك الفالسفة الذين َّ
في درس أنفسهم ،ووقفوا على نواحي الضعف والقوة فيها، ولمسوا فيها نواحي الخير والشر ،والنفس البشرية واحدة ،وإن اختلفت الهياكل التي تحملها واألسماء التي تعرفها .ثم ،ألم
يجد المرحوم الرافعي في أشيب زبّال أعظم فيلسوف ينقل الح َكم؟ عنه بدائع الفلسفة وروائع ِ
حاول أن تسأل يحيى الضيف عن حياته ،واستمع إليه بإمعان يتردد في وهو يح ِّلل لك حياته بفلسفة عميقة ،وسوف تجده ال َّ
ذكر الحقيقة عن نفسه ،ولو كانت مُ ّرة جارحة؛ ألن الحقيقة عنده جوهرة ثمينة يجب أن تبرز ،ونفسه شيء تافه ،ال حق لها
في أن تقف حجر عثرة في طريق الحقيقة .ومن منا يستطيع 114
أن يح ِّلل نفسه ،ويذكر خيرها وشرها وعيوبها ومحاسنها؟ إننا ال نستطيع ،ألننا نعيش في إطار المظاهر واألنانية؛ وذلك ألننا
لسنا فالسفة! أما يحيى الفيلسوف فإنه ال يشعر بهذه األنانية، وشخصيته ال تساوي في نظره طمس حقيقة من الحقائق مهما
مستعد أن يذكر لك عن نفسه كانت هذه الحقيقة صغيرة .وهو ّ
كل ما يعرف عنها .وهو دوم ًا مشغول بالبحث عن عيوب نفسه
وتحليل هذه العيوب ،وما نفسه إال أنموذج لكل نفس بشرية نوجه إليه سؤا ً ال ،ولنستمع إلى يُجري عليها تجاربه .دعنا ِ ّ
جوابه ،ها هو أمامنا بجثّته الضخمة وابتسامته العريضة التي تشبه ابتسامة حمار الحكيم ومكنسته في يده.
-كيف جئت إلى هذه الدنيا يا يحيى؟
ال أذكر كيف جئت إلى هذه الدنيا ألنني كنت صغير ًا.ولكن ،سمعت والدتي تقول :إني جئت إليها والشمس في علي أشعتها منعكسة في سعدية المشتري برج القوس ترسل ّ
ونحسية عطارد ،ولهذا فال غرابة -إذ ًا -في أن تبدو لكم
حياتي كلها سلسلة من المتناقضات :عالم مع العلماء ،وأديب مع األدباء ،جاهل مع الجهالء ،فنان في أوساط الفنانين، الجهال ،وجاهل بين العباقرة تواضع ًا ،وأنا عبقري في دنيا ّ
115
مع كل ذلك فيلسوف بطبعي .وكل هذه الصفات تغمرها
لطافة في نوع من الدهاء يحيط به نفاق كبير ،أفهم المجتمع، وأعرف أن ش َّره أ كثر من خيره ،أعرف أن الحياة كلها آالم
وآثام ،ولهذا تجدني دائم ًا أضحك منها ،وأضحك من الذين
ينظرون إليها بعين االهتمام واإلجالل.
-إنك تفهم الحياة على حقيقتها.
نعم أفهم باطنها وظاهرها مع أن درجتي ال تعدو درجةك ّناس من الدرجة الثالثة.
-إنك كثير التواضع يا حضرة الفيلسوف!
-ال ،ال يا موالي ،ليس هناك تواضع ،وإنما هذه هي الحقيقة.
-هل أنت سعيد في الحياة؟
وهل في الحياة سعادة؟ وإنما أستطيع أن أقول لكم إن أسعدأيامي هي التي أقضيها في معاشرة العلماء وخدمة جمعيتهم،
وال سيما الشيخ عبد اللطيف سلطاني رئيس المركز الذي
أخشاه أ كثر من عذاب النار.
-وهل استفدت من مصاحبتك للعلماء شيئ ًا يُذكر؟
أجل ،فقد استفدت من الشيخ البشير حكمته وتواضعهوتفانيه في كل ما يباشر من األعمال ،واستفدت من الشيخ
116
ّ ودقة مالحظته ،ونلت من الشيخ خير الدين فراسته ودهاءه
عبد اللطيف حسابه العسير لحركات وسكنات العاملين معه،
يعينه «أ كسبيرا» لتصفية حساباتي يوم حتى إني أرجو الله أال ِ ّ
القيامة ،وقد أصبحت بطني وعاء لكل هذه الفوائد ،وتستطيع تفسر ضخامتها بعدم هضم ما استفدت؛ ألن معدتي ال أن ِ ّ
تقوى على الهضم وإن كانت تهضم «شخشوخة -شكشوكة» عثمان بوقطاية المذيع المشهور ،التي أحبها إلى َح ّد أني أبيع
ديني ودنياي في سبيلها.
وإذا سألت يحيى الضيف عن هذه السرعة التي يعيش فيها وعن هذه الحركة الدائمة التي تغمره ،أجابك أن مبعثها القلق، وأنه يتعب نفسه كثير ًا ليلحق بركب المعالي ،ولهذا تجده يقرأ ويعيد ،ويقرأ ،ويعيد ،إلى أن يتب َّلد ذهنه ،فال يحسن كيف
يقرأ ،وال يستفيد مما يقرأ ،ثم يبتسم لك ابتسامته المعروفة
ويقول لك :إني أريد أن أعرف كل شيء ،وأنا مع ذلك ال أعرف شيئ ًا ،وإني إلى اآلن عاجز عن كتابة رسالة ولو قصيرة،
وقادر على تأليف كتاب بأ كمله من حيث ال أشعر.
لقد قضت على صاحبنا فلسفته ،فأنكر نفسه ،وأنكر معارفه، وهو محتاج إلى قليل من اإليمان بنفسه وعقله ل ُيخرج للناس 117
روائع ستبقى خالدة ألنها ستكون مطبوعة بطابع الصدق وطابع
الصراحة ،ذلك الطابع الذي يمتاز به يحيى عن غيره ،والذي
جعله محبوب ًا من الجميع ال يكره أحد ًا ،وال يكرهه أحد .يعرف
بعض الناس يحيى َق ِ ّيم مركز جمعية العلماء؛ ألنهم ال يرونه
إال دائب ًا على تنظيف قاعات المركز ومكاتبه ،ويعرفه آخرون مم ِ ّث ً ال موهوب ًا ألنهم ال يشاهدونه إال على خشبة المسرح ،أو
يسمعونه على أمواج األثير يم ِ ّثل بالعامية والفصحى ،ينتقل
من شخصية إلى شخصية ،فيحسن االنتقال ،ويحسن التمثيل.
ويعرفه آخرون مؤ ِّلف روايات مسرحية وطرائف أدبية وناقد ًا
حصيف ًا ،وأعرفه أنا فيلسوف ًا عميق ًا وكاتب ًا مجيد ًا ،تعجبني
فلسفته ،ويعجبني نثره الفصيح وشعره الملحون ،ويعجبني-
تفهمه للحياة ورضاؤه بنصيبه الضئيل منها دون فوق كل ذلكُّ - ٍّ تشك ،وتلك -لعمري -الفلسفة ،وكذلك حقيقتها. تب ُّرم أو
هذا هو يحيى الضيف الذي بلغت ضخامة جثته وزن الفيل، وبلغت ّ خفة روحه وزن الريشة .وإذا أردت أيها القارئ أن
تعرفه عن كثب فما عليك إال أن تقوم بزيارة لمركز جمعية
العلماء بمدينة الجزائر قبل حضور المدير أو بعد انصرافه، 118
اقترب منه وال وستجد يحيى الضيف يزأر كأنه أسد في قفص. ْ
تخ ْ ليقدم ف فستجده َ مستعد ًا الستدعائك إلى صالونه الجميل ِ ّ ّ
لك فنجان ًا من القهوة وقطعة من الحلوى وطرائف من األدب
والفلسفة ،وإذا لم يستدعك بنفسه اطلب ذلك منه فسيس ّره
ذلك كثير ًا ،ألنه رجل كريم مفتون بهذا الكرم إلى َح ّد العبادة.
***
119
120
سي زعرور
(مالحظة :اقتبست هذه الشخصية من الفرنسية ،وأثب ُّتها هنا حي ًا خالد ًا يوجد في كل مكان ألني وجدت فيها أنموذج ًا ّ
وفي كل زمان .كما أخرجت منها مسرحية في ثالثة فصول تحت عنوان «النائب المحترم»).
يسميه زمالؤه ،مع ِ ّلم ًا كان الشيخ زعرور ،أو سي زعرور ،كما ّ بسيط ًا في مدرسة ابتدائية حرة ،قانع ًا بالحياة ،وبنصيبه منها،
ال تق ّي ًا فاض ً راضي ًا عن نفسه وعن عمله؛ ألنه كان رج ً ال نزيه ًا، يعتقد الخير في الدنيا ،ويعتقد الصالح في البشر ،ال يعرف 121
الش ّر ،وال يتصوّر صدوره من الناس .كان يعيش في برجه
العاجي ،في دنيا فاضلة ال تطرق أبوابها الرذيلة ،وال يطأ طيبة من أرضها الفساد .وكان يعيش ،مع سي زعرور ،رفقة ِ ّ
الزمالء يشاركونه عمله ،ويقاسمونه بؤسه ،ولكنهم ال يشاركونه
نظرته إلى الحياة ،وال يعتقدون عقيدته في البشرية.
كانت تلك المدرسة التي يع ِ ّلم بهاسي زعرور ِملك ًا لمديرها الجشع ،يستغ ّلها استغال ً يومي ًا عن تنمية ال ماد ّي ًا فظيع ًا ،يبحث ّ موارده بشتى الوسائل والطرق؛ فقد كان على طرف نقيض من سي زعرور الذي يرى المادة عرض ًا زائ ً ال من أعراض الدنيا ،ال ّ يستحق العناية واالهتمام.
وذات يوم ،بينما كان سي زعرور يقوم -قبل حلول موعد المتأخرين ،إذ دخل عليه الدرس -بتسبيق درس ألحد تالميذه ِّ
المدير ببطنه المنتفخة ،وسمة الغضب تعلو وجهه ،وابتدره
بسرد المادة السابعة والعشرين من الئحة المدرسة الداخلية، التي توجب على كل مع ِ ّلم من مع ِّلمي المدرسة ،يقوم بإعطاء
دروس خاصة ،أن يدفع للمدير ُخمس مدخول هذه الدروس.
واتهم المدير سي زعرور بإخفائه أمر هذه الدروس الخاصة واستغالله لمدخولها وحده دون سواه ...وعبث ًا حاول سي
مجانية ّ مؤقتة يروم منها إلحاق زعرور إفهامه أنها دروس خاصة ّ
122
التلميذ بزمالئه في فن متأخر فيه؛ ألن الرجل ال يفهم غير
«المجانية» أثر ًا في قاموسه .ولهذا المادة ،وال يعرف لكلمة ّ
اشتد به الغضب ،واتَّهم المعلم ّ ببث روح التم ُّرد في التالميذ ّ
ومحاوالته إفالس صندوق المدرسة ،وما كان منه إال أن ألزمه
وقدر له مدخولها الخيالي بدفع ُخمس أجرة هذه الدروس، َّ بنفسه .وأراد زعرور استعطاف مديره ،وهو يعرف جيد ًا أنه ي َُس ُّر كثير ًا النخراط تالميذ جدد في مدرسته ،فقال له :سيدي
دخل تلميذ ًا جديد ًا في مدرستنا. المدير ،أظن أني س ُأ ِ
وكان لهذا النبأ سحره الفعال في نفس المدير ،فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة مسحت عقد الغضب من فوق جبينه، ّ أحق ًا؟ أرجو أال يكون من نوع تلميذك هذا وابتدره صارخ ًا:
الذي َّ تلقنه درس ًا دون مقابل؟
-ال يا سيدي المدير ،إنه تلميذ ذكي مجتهد.
غني ًا وأهله ال ...ال ...ال أقصد ذلك ،وإنما أقصد إذا ما كان ّيقبلون شروط المدرسة.
-طبع ًا ،يا سيدي المدير ،ما في ذلك شك.
اكتب -إذ ًا -الشروط ،سأمليها عليك ،وإنني أعتمد علىلباقتك في عرضها عليهم :خمسمئة فرنك للشهر الدراسي، مقدم ًا .وطبع ًا ّ علي أنا دروس ًا خاصة ،وأجرة وثالثة أشهر ّ يتلقى ّ 123
الحصة الواحدة من هذه الدروس مئتان من الفرنكات ،مئة
فرنك شهر ّي ًا مقابل ما يستهلكه من الماء للشرب وخالفه ،ومئة
أخرى مقابل األدوية التي ربما احتجنا إلى إسعافه بها».
أظن أن هذه الشروط مقبولة.
دون ّشك يا سيدي المدير.
سأعد له أحسن البقاع في مدرستي. إلي، ّ -أسرع به -إذ ًاّ -
وكان سي زعرور قد َق َّدم مطلب ًا منذ عهد بعيد ،يطلب فيه ّ يستحقه عن جدارة ،وبقي وسام المعارف الذي يرى نفسه مطلبه دون جواب ،وكان مديره على علم بذلك ،وأراد أن
يبادله جمي ً ال بجميل ،وم ّنة بأختها ،فقال له :لقد قابلت
وحدثته في شأن طلبك لوسام المعارف، شخص ًا عظيم ًا اليوم، ّ
وأفادني أنهم منحوك الوسام.
ّ أحق ًا منحوني الوسام؟ -ماذا تقول؟
حقيقي ًا، نعم ...لكنهم ال يستطيعون أن يمنحوك وسام ًاّ
ولهذا فقد منحوك وسام ًا معنو ّي ًا .وحا َر سي زعرور في هذه
العبارة ،ولم يدرك كنه هذا الوسام المعنوي ،ولكن مديره أسعفه بالشرح والتحليل وأفاده بقوله :معنو ّي ًا ،يعني أنهم
منحوك هذا الوسام دون أن يمنحوك إياه .هل فهمت؟
أجل فهمت .منحوني دون أن يمنحوني ،فهو عندي في124
المعنى دون أن يكون عندي في الحقيقة.
-أحسنت ...وهذا شرف عظيم يعود فضله إلى الجهود التي
بذلتها أنا في هذا الشأن. وودعه إلى الباب ،وبقي وحده تغمره َش َكر سي زعرور مديرهَّ ، نشوة السرور والبهجة بوسامه المعنوي الجديد .وسارت األيام تباع ًا ،وساءت األحوال بين المدير وزعرور؛ ألن هذا
األخير لم يب ّر بوعده ،ولم يدخل التلميذ الجديد الذي وعد
وأس َّر المدير في نفسه ،وبقي يتربَّص الفرص به إلى المدرسةَ ، لالنتقام منه.
كان المدير في مكتبه ذات صباح إذ دخل عليه والد تلميذ، وبيده ورقة اختبار ابنه ،وهو يُرغي ويُزبد ساخط ًا على النتائج
السيئة التي أحرزها ابنه في اختباره الثالثي ،وخشي المدير
أن تخسر -من جراء ذلك -مدرسته تلميذ ًا ،أو باألحرى أن حدة غضب الرجل ،وأفاده أن يخسر جيبه مورد ًاَ ، فخ َّفف من ّ ابنه من خيرة تالميذ المدرسة وأذكاهم ،يمثل المكانة األولى
من قسمه ،وإنما أخطأ الكاتب في نقل النتيجة عن السجل
األساسي ،ووعده بإصالح هذا الخطأ حا ً توجه االثنان ال. َّ
إلى قسم سي زعرور ،وحاول المدير -بلباقته -أن يُفهم هذا
األخير الغرض من زيارته ،ولكنه خ َّيب ظنه وفاجأه بقوله :إن 125
التأخر ،قليل العمل ،ولهذا فال غرابة إذا هذا التلميذ بليد ،كثير ُّ ما أحرز هذه النتيجة السيئة.
فقاطعه مديره قائ ً ال :ال ...ال ...إنك مخطئ ،فمن دون شك أن الكاتب أخطأ في نقل النتيجة عن السجل ،وال بد أن
هذه األصفار عشرات ،وغمزه بعينه ،ولكن زعرور الساذج لم يفهم مراده ،وأفاده أنه ال يعرف هذا الكاتب الذي يعنيه ،وأنه ّ السجل الذي كان فوق ينقل النتائج بنفسه ،وأطلع الوالد على مكتبه وأراه األصفار المثبتة بالحبر األحمر أمام اسم التلميذ،
حدة هذا الوالد المفجوع في ابنه ،ورفع من األمر الذي أعاد ّ
درجة حرارة غضبه ،فتب َّرع للمعلم والمدير والمدرسة بنصيب
وافر من الشتائم ،وأقسم بأغلظ األيمان أال يعود ابنه إلى هذه المدرسة .وطبع ًا ،ما كان من حضرة المدير إال أن طرد سي زعرور من عمله وهو يقسم -أيض ًا -بأغلظ األيمان أال تطأ
رجاله مدرسته بعد اآلن.
خاصة لطفل كان سي زعرور يقوم بإعطاء دروس باللغة العربية ّ أوروبي كان يعيش مع خالته ،وكانت هذه السيدة تعيش مع
نائب تساعده في نصب «أصيل» من نوّاب المجلس البلدي
تساعده في نصب حبائله القتناص أموال الشعب وخزينة البلدية ،وتقاسمه األرباح دون المسؤوليات .كان االثنان
126
يتوسمان من ورائه أرباح ًا جالسين في خلوة يد ِ ّبران أمر ًا َّ يتقدم إلبرام جزيلة ،واحتاج األمر إلى شخص ثالث ،شخص َّ
الصفقة بناء على تزكية النائب المحترم .حار االثنان في إيجاد الشخص ،وقد طلب منهما عمالؤهم السابقون أجور ًا باهظة
َ يرض العمالء غيرها. لم يرضيا بها ،ولم
كان النائب وزميلته في حيرة من أمرهما إذ دخل سي زعرور يج ّر أذياله قاصد ًا حجرة الطفل لتلقينه درسه المعتاد ،وما
كادت السيدة تشاهده حتى هبط عليها الوحي ،وعرضت على
صديقها استخدامه لهذا الغرض وسواه من األمور واألعمال، وذهبت تطري سذاجته ،وتثني على جهله بالحياة ودقائقها. واس ُتدعي المع ِّلم الساذج إلى حظيرة الذئاب ،وعرضا عليه
العمل معهما ،وأغرياه براتب شهري مضاعف عما كان
يتقاضاه سابق ًا في مدرستهُ .س َّر سي زعرور لألمر ،وحمد الله الذي عوَّضه بدل درهمه دينار ًا ،واستفسر عن نوع العمل
فأفاداه أنه عمل إداري بسيط ال يعدو توقيع العقود التجارية وتس ُّلم المبالغ المالية من إدارة البلدية والشركات التجارية.
وتمت الصفقة التي كان و َّقع سي زعرور على أول عقد، ّ النائب وزميلته ينتظران إنهاءها بفارغ الصبر .توالت األعمال
وتبعتها األرباح ،وشاء القدر أن ّ يطلع زعرور على أسرار القوم، 127
وأن يعرف كنه العمل الشائن الذي هو قائم به ،فثار ضميره مؤ ِ ّنب ًا ،وحرمه ّ لذة العيش ،وأغاظه أن يفقد شرفه ،ويخسر فضله
ضحى في سبيلهما بكل شيء، وتحمل من أجلهما الفاقة وقد ّ َّ واالحتياج .وعاد بذاكرته إلى مدرسته ،فبدت له جنة ،وإلى
وهددهما مديره وزمالئه فبدوا له مالئكة ،فثار على رفيقيه، َّ
ّ فكل هدداه بإلقائه في غياهب السجن، بالفضيحة ،ولكنهما َّ
شيء باسمه حتى الرصيد المالي المودع في المصرف.
وه ّم َ وغ ّم عظيمين، عاش سي زعرور في اضطراب متواصل َ كادت كلها تذهب به إلى الجنون ،وق َّرر أخير ًا أن يشرب الكأس
إلى الثمالة ،فاستولى على المكتب ،واستولى على األموال،
وأعلن انفصاله عنهما ،وكل شيء باسمه وتحت مسؤوليته.
وانقلب الحمل الوديع ذئب ًا خطير ًا ،فكشَّ ر عن أنيابه ،وطرد
وح َّرم عليهما دخوله غير عابئ النائب وصديقته من مكتبهَ ،
بالتهديد والوعيد.
سارت أمور زعرور في مجراها المادي المعتاد على خير ما وص َهرته األيام في بوتقتها، يرام ،وقد اكتسب خبرة وتجربةَ ،
وص َّبته في قالب الحياة ،فخرج إنسان ًا جديد ًا ال يشبه َخ َلفه َ
في شيء إال في االسم أو بقية ضمير مثقل بالذنوب وشرف َّ يتصفح مدنَّس بالرذائل .كان زعرور جالس ًا في مكتبه ذات يوم
128
بريده إذ لفتت نظره علبة صغيرة كانت ضمن الرسائل والرزم،
ففتحها قبل سواها ،وإذا به يجد داخلها وسام ًا بنفسجي اللون
يحمل إشارة المعارف ،تصحبه رسالة رقيقة تثني على معارفه
وشرفه ،وتطري أخالقه وفضله ،ومع الرسالة تقرير يمنحه وسام المعارف.
ّ يتصفح بريده ،وإذا ألقى وسامه في درج مهمل ،واستم َّر
يتقدم نحوه في خشوع وإذالل بالباب يُفتح ،وبمديره السابق ّ راجي ًا منه أن يش ِّرف المدرسة برئاسة حفلتها السنوية.
ّ يستحق الوسام، ُفهم الناس أنه ال عبث ًا حاول زعرور أن ي ِ ّ يستحق مجالس الشرف التي يعرضونها عليه بين الفينة وال والفينة؛ ألنه سارق محتال ينهب أموال األمة والدولة بشتى
عدوه طرق االحتيال .ولكن الناس لم يعبؤوا بقوله ،بل ّ
وسجلوه في جملة مناقبه الفاضلة ،وحسبهم منه أن تواضع ًا، ّ يربح كثير ًا ،ورصيده في المصرف يتضاعف كل يوم ،والمال
في عرف البشر هو الفضيلة ،وهو الشرف ،وهو العلم واألدب.
*** 129
130
التلميذ
«دروت» الذي كان قائد ًا عظيم ًا في جيش نابليون األول ،كان خباز فقير في مدينة «نانسي» بفرنسا ،اجتاز في طفولته ابن ّ
أطواره المدرسية في ظروف قاسية وأيام شديدة ،حيث كان أبواه في غاية الفاقة وشدة االحتياج ،فلم يسمحا له بالذهاب إلى المدرسة إال على شرط أن يقوم بجميع أعماله اليومية خير
قيام عند عودته منها .ولهذا فقد كان حتم ًا عليه ،بعد الرجوع من المدرسة ،أن يقوم بتوزيع الخبز على عمالء أبويه ،وأن
يساعدهما في بقية األعمال ،وكان يقضي بقية يومه وشطر ًا
من ليله في إنجاز أعمال كثيرة ّ شاقة ،وال يجد فرصة ألعماله يشاهد فيها متأخرة من الليل، المدرسية ،سوى بضع سويعات ِّ َ 131
منكب على دروسه ،يلتهمها على ضوء الفتى «دروت» وهو ّ
نور الموقد .ولكن هذه العقبات وهذه العراقيل لم تستطع أن تعوّق هذا الفتى عن النجاح ،أو تقف في طريقه إلى بلوغ ّ ِّ المعالي ،فقد تغلب عليها بذكائه الفذ ،وقوة المتوقد ،وحزمه
إرادته النادرة ،واستطاع هذا الفتى القروي الفقير ،الذي َع ِدم
ّ يشق طريقه الوعر ،وأن يصل إلى هدفه وسائل التعليم كلها ،أن َ مك َّل ً ال بالنجاح...
دعونا نستمع إليه يحدثنا بنفسه عن أول اختبار شارك فيه ،وهو مهدت له مسابقة االنخراط في سلك المدرسة العسكرية التي َّ السبيل إلى المجد حتى أصبح قائد ًا عظيم ًا من قوّاد نابليون
َخ َّل َد ذكره التاريخ.
قال :حينما كنت ذات يوم ،ما ّر ًا في شوارع نانسي ُأوزِّ ع
الخبز على عمالئنا ،لفت نظري منشور كبير مثبت على جدار
أحد المباني ،يحتوي على إعالن للمدرسة الحربية تعلن فيه
موعد مسابقة االلتحاق بها ،الذي س ُيجرى في مدينة «ميتز». حدثتني نفسي باالشتراك في هذه المسابقة ،وااللتحاق بهذه
المدرسة الحربية ،ولكن كيف يمكن ذلك وقد كان أبواي في
بسد غاية الفاقة واالحتياج؟! فلم يكن مدخولها اليومي يقوم ِ ّ
تحصلت -مع ذلك -على ترخيص حاجاتنا الضرورية ،ولكني َّ 132
وتحصلت كذلك على مبلغ عشرة منهم بالسفر لتأدية االختبار، َّ
جد ًا ال فرنكات ،وهو كل َّ المد َخر عندنا .وكان المبلغ زهيد ًا ّ
يكفي ألجرة الركوب ،فض ً ال عن المصاريف الثانوية األخرى، قدمي. بد ًا من السفر ماشي ًا على ولم أجد ّ ّ
ُ وتوجهت لفوري وصلت مدينة «ميتز» يوم المسابقة نفسها، َّ
إلى قاعة االختبار ،وما كدت أبدو في القاعة التي كانت حافلة بعدد كبير من التالميذ واألساتذة ،حتى ّ تلقاني هذا
الجمع الغفير بعاصفة شديدة من الضحك والسخرية .والحق
أن حالتي كانت تدعو إلى أ كثر من ذلك ،فقد كنت نحيف ًا ضعيف ًا ،تكسو مالبسي الريفية المر َّقعة طبقة كثيفة من غبار
الطريق ،أحمل في يميني عصا غليظة ،منت ِع ً ال حذا ًء ريفي ًا
خشن ًا تحيط به طبقة من األوحال.
وقفت مضطرب ًا في وسط القاعة بين ضجيج الضحك والسخرية، ولم أنتبه إال على أحد المختبرين يخاطبني ّ ردت برقة وشفقةَّ ،
إلي بعض جأشي :ضللت سبيلك ،من دون شك يا صديقي! َّ
ماذا تريد؟ قال لي الرجل طيب القلب هذا الكالم ،فأجبته على الفور :أريد أن أشارك في المسابقة يا سيدي! وما كدت
أنطق بهذه الكلمات حتى ارتفع ضجيج الضحك والسخرية
من جديد في جميع أركان القاعة.
133
ولكن ،هل تدري أنها مسابقة المدرسة الحربية؟ (قالالمختبر بلطف) وأنت على علم بدون ريب ،بالشروط والمواد ِ
المعلنة في البرنامج.
-سيدي ،درستها كلها! (أجبته متلعثم ًا).
بني وانتظر ،فعندما وأجابني السيد :إذن ،تفضل اجلس ،يا ّ يأتي دورك أدعوك!
ذهبت أنزوي بعيد ًا في أحد األركان ،ولكن الضحك والسخرية الالذعة كانا يالحقاني أينما حللت ،ورغم ما كنت
فيه من الخجل واالضطراب أخذت أنصت بإمعان إلى أسئلة المختب ِرين وأجوبة الطلبة ،وما هي إال لحظة حتى أحسست ِ
تدب في جسمي النحيل ،حيث تب َّين لي أنه بروح جديدة ّ
في استطاعتي اإلجابة على هذه األسئلة كلها .وأخير ًا جاء المختبر ينطق باسمي ،وما كدت أقف أمام دوري ،وسمعت ِ
لجنة االختبار ،حتى امتألت القاعة بالفضوليين الذين أتوا من
المختبر هنا وهناك لمشاهدة اختبار الفتى القروي .ابتدرني ِ
يسألني في قواعد الحساب ،وكانت أجوبتي متتابعة ،بدون
متعجب ًا: المختبر وسألني انقطاع وال اضطراب ،حتى سكت ِ ِّ أين درست الحساب؟
درسته منفرد ًا يا سيدي! على ضوء موقد مخبزنا ،وإذا134
َّ مستعد ًا تفضلتم بسؤالي في بقية البرنامج ،سوف تجدوني ّ لإلجابة!
وامتد اختباري ما يقرب من الساعتين ،وما كدت أنتهي حتى َّ ضمني إلى صدره قام الرجل من مقعده، َّ وتوجه نحوي حيث َّ
بني! وأعتقد تمام ًا وهو ّ يرددّ ِ : أقدم إليك تهنئتي وإعجابي يا ّ أنك ستكون أحد طلبة المدرسة الحربية النجباء!
ال يستطيع أحد أن يتصوَّر السرور الذي غمر قلبي في تلك
الساعة! ولكن سرور ًا أعظم منه كان ينتظرني ،وشرف ًا لم
مستعد ًا للقائي :وهو أن جميع الطلبة الذين أ كن أتو َّقعه كان ّ تقدموا نحوي ،وحملوني على أعناقهم ضحكوا وسخروا منيَّ ،
في موكب مهيب ،حيث طافوا بي مدينة «ميتز» كلها هاتفين
باسمي .كان ذلك اليوم أسعد يوم في حياتي!
***
135
صدر يف سلسلة كتاب الدوحة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39
136
طبائع االستبداد برقوق نيسان األمئة األربعة الفصول األربعة اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم رشوط النهضة صالح جاهني -أمري شعراء العامية نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ الغربال اإلسالم بني العلم واملدنية أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته • فتنة الحكاية جون أيديك -سينثيا أوزيك -جيل ماكوركل -باتريشيا هامبل امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع الشيخان ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية يوميات نائب يف األرياف عبقرية عمر عبقرية الصدّيق رحلتان إىل اليابان لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) ثورة األدب يف مديح الحدود الكتابات السياسية نحو فكر مغاير تاريخ علم األدب عبقرية خالد أصوات الضمري مرايا يحيى حقي عبقرية محمد عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني) مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) عن َ سريت ابن بطوطة وابن خلدون حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل محمد إقبال -مختارات شعرية تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
عبد الرحمن الكواكبي غسان كنفاين سليامن فياض عمر فاخوري عيل عبدالرازق نبي مالك بن ّ محمد بغدادي أبو القاسم الشايب سالمة موىس ميخائيل نعيمة الشيخ محمد عبده بدر شاكر السياب ترجمة :غادة حلواين الطاهر الحداد طه حسني محمود درويش توفيق الحكيم عباس محمود العقاد عباس محمود العقاد عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ ميخائيل الصقال د .محمد حسني هيكل ريجيس دوبريه اإلمام محمد عبده عبد الكبري الخطيبي روحي الخالدي عباس محمود العقاد خمسون قصيدة من الشعر العاملي يحيى حقي عباس محمود العقاد حوار أجراه محمد الداهي ترجمة :رشف الدين شكري خالد النجار ترجمة :مصطفى صفوان د.بنسامل حِ ّميش ابن طفيل ميشال سار محمد إقبال ترجمة :محمد الجرطي
137
138