نماذج بشرية أحمد رضا حوحو كتاب الدوحة

Page 1



‫نماذج بشرية‬ ‫أحمد رضـا حوحو‬ ‫تقديم‪ :‬األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين‬


‫‪39‬‬ ‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 83‬من مجلة الدوحة سبتمبر ‪2014‬‬

‫نماذج بشرية‬ ‫أحمد رضا حوحو‬ ‫تقديم‪:‬األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين‬

‫الناشر ‪:‬‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬ ‫العمل الفني للغالف‪ :‬سلمان املالك ‪ -‬قـطـر‬ ‫اإلخراج والتصميم ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬


‫فهرس الكتاب‬

‫مقدمة‬

‫‪5‬‬

‫الكتَّاب‬ ‫إلى ُ‬

‫‪24‬‬

‫الشيخ رزُّ وق‬

‫‪29‬‬

‫العِصامي‬

‫‪49‬‬

‫إلى القُ رّاء‬ ‫عائشة‬

‫‪25‬‬ ‫‪39‬‬

‫العمُّ نتيش‬

‫‪59‬‬

‫رجل من الناس‬

‫‪73‬‬

‫الشخصيات المرتجلة‬

‫‪85‬‬

‫سيدي الحاج‬

‫‪105‬‬

‫الس ِ ّكير‬ ‫ِّ‬

‫فقاقيع األدب‬ ‫األستاذ‬

‫‪67‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪93‬‬

‫الضيف‬ ‫يحيى َّ‬

‫‪111‬‬

‫التلميذ‬

‫‪129‬‬

‫سي زعرور‬

‫‪119‬‬


6


‫مقدمة‬

‫نبذة عن حياة الكاتب‬ ‫اسمه الحقيقي أحمد حوحو‪ ،‬وقد أضيف له اسم رضا‪ ،‬في‬ ‫الـحـجـاز‪ ،‬للتمـييز بيـنـه وبيـن أحــد أفــراد بنــي عمـومـتـه‪.‬‬

‫ُو ِلد رائــــد القـصة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالعربية بتاريخ‬

‫‪ 1910-12-15‬في والية بسكرة‪ ،‬إحدى حواضر الحركة‬ ‫اإلصالحية الوطنية الجزائرية‪ ،‬وتحديد ًا في قرية سيدي عقبة‬

‫حيث ينام الفاتح اإلسالمي الشهير عقبة بن نافع الذي ما زال‬ ‫باب المسجد الذي يؤوي ضريحه يحمل عالمة من العالمات‬

‫المميزة‪ :‬الباب القديم الذي يعود تاريخه إلى فترة المع ّز لدين‬ ‫ّ‬ ‫الله الفاطمي‪.‬‬

‫َأ َّم أحمد حوحو ُ‬ ‫سن مبكرة‪ ،‬شأنه شأن أطفال‬ ‫الك ّتاب في ّ‬

‫األرياف الجزائرية التي عوَدت األبناء على حفظ القرآن‬

‫‪7‬‬


‫وبعض التفسير ألسباب تربوية ودينية ولغوية وسياسية‪ .‬لقد‬ ‫كانت فرنسا االستعمارية تعمل على محو الهوية والمرجعيات‬

‫األساسية التي ت ّتكئ عليها األمة حتى يتس ّنى لها تشتيتها‬ ‫ُّ‬ ‫التحكم فيها وفق مشيئتها‪ ،‬إذ إن‬ ‫وتبديد مقوماتها‪ ،‬ومن ثم‬

‫تؤهلها‬ ‫يسهل عليها فرض مرجعيات جديدة ِ ّ‬ ‫تحييد المرجعيات ّ‬

‫لتوجيه الناس دون مقاومة مقاصدها ومفاسدها المتعاظمة‪.‬‬

‫وكان المرور على الكتاتيب نوع ًا من تحصين الذات‪.‬‬

‫في السادسة من عمره التحق بالمدرسة االبتدائية‪ ،‬والواقع أنه‬ ‫كان محظوظ ًا مقارنة بأولئك األطفال الذين ُو ِلدوا في القرى‬ ‫النائية وفي األرياف الفقيرة والصحاري الفقيرة التي اكتفت‬

‫بحفظ المصحف الكريم وتلقينه كمكسب كبير لذلك الجيل‪،‬‬

‫عصي ًا في حاالت ال حصر‬ ‫كما أن االلتحاق بالمدرسة ظل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السكان‪ ،‬إضافة‬ ‫لها بالنظر إلى انعدام المدارس القريبة من‬ ‫ّ‬ ‫السكان من الفرنسية نفسها كلغة استعمارية دخيلة‬ ‫إلى موقف‬

‫وجب االستغناء عنها ألنها لسان حال الغزاة الذين ال يؤتمنون‪.‬‬

‫سافر الشاب أحمد إلى مدينة سكيكدة بشرق الوطن عام‬ ‫‪ 1928‬من أجل إكمال دراسته والحصول على األهلية‪ ،‬بيد أن‬

‫ذلك لم يكن سه ً‬ ‫ال في ظل هيمنة السياسة الفرنسية التفاضلية‬ ‫التي حرمت «األهالي» من الدراسة والمناصب العتبارات‬

‫‪8‬‬


‫عنصرية‪ .‬وهكذا ذهب إلى الحجاز عام ‪ .1935‬وكان ذلك‬

‫من المنافذ القليلة التي أنقذت كثير ًا من الجزائريين الذين‬

‫ساعدهم الحظ‪ ،‬مع ضرورة التأ كيد على الخدمات الجليلة‬ ‫التي قدمها جامع الزيتونة بتونس لمجموعة من المواطنين‬ ‫ِّ‬ ‫ومفكرين ومع ِّلمين ُ‬ ‫وك ّتاب ًا مرموقين‪،‬‬ ‫الذين أصبحوا سياسيين‬

‫بصرف النظر عن طبيعة الدروس وطريقة تقديمها‪.‬‬

‫ثم َس َّجل في كلية الشريعة سنة ‪ ،1937‬وألنه عرف النضال‬ ‫والحركة اإلصالحية قبل سفره إلى الحجاز طالب ًا العلم‪ ،‬فقد‬

‫اهتم بالكتابة منذ البدايات األولى‪ ،‬ونشر أول مقال له في‬ ‫َّ‬

‫مجلة الرابطة العربية يدين فيه الطرقية التي كانت‪ ،‬من منظور‬

‫فئة معتبرة من المثقفين ورجال الدين‪ ،‬فقيرة إلى الوعي‬ ‫الالزم‪ ،‬وفاقدة لروح النضال الحقيقي الذي تحتاج إليه‬ ‫تمس‪ ،‬في جزء من معتقداتها وممارساتها‪،‬‬ ‫الجزائر‪ .‬كما أنها‬ ‫ّ‬

‫واقع العقيدة وجوهرها‪ ،‬وكان المقال بعنوان‪« :‬الطرقية في‬ ‫خدمة االستعمار»‪ .‬والحال أن ذلك كان موقف رائد الحركة‬ ‫شن عليها‬ ‫اإلصالحية اإلمام عبد الحميد بن باديس الذي َّ‬

‫حرب ًا كادت تودي بحياته في إحدى مدن الغرب الجزائري‪،‬‬ ‫في الثالثينيات من القرن الماضي‪.‬‬

‫تخ َّرج أحمد رضا حوحو في كلية الشريعة سنة ‪،1938‬‬ ‫‪9‬‬


‫وألنه كان طالب ًا متف ِّوق ًا في دراساته فقد ُع ِ ّين أستاذ ًا بالكلية‬ ‫مهمة أخرى تتمثَّل في سكرتاريا مجلة‬ ‫نفسها‪ ،‬كما ُأسندت له ّ‬

‫«المنهل»‪ ،‬وهي مسؤولية أخرى ال ّ‬ ‫أهمية عن األولى‪ ،‬إال‬ ‫تقل ّ‬

‫ويمم شطر مكة ليلتحق بمصلحة‬ ‫أنه استقال من منصبه ذلك‪َّ ،‬‬ ‫البرق‪ ،‬الوظيفة ذاتها التي شغلها في مدينة بسكرة بداية‬ ‫‪ .1928‬لكننا لم نجد مس ِّوغ ًا كافي ًا لذلك‪ ،‬فكان التخ ّلي عن‬ ‫الك ّل ّية وااللتحاق بمصلحة البرق أمر ًا غامض ًا‪.‬‬

‫عاد إلى الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية في ‪ ،1946‬وقد‬ ‫شحذته التجربة بفعل اكتسابه معارف جديدة واحتكاكه بعلماء‬

‫وأساتذة وباحثين ِ ّ‬ ‫واطالعه الواضح على كتب عربية وأجنبية‬ ‫أهلته للنظر إلى واقعه وواقع بلده بعمق‪ ،‬وبمسؤولية من يشعر‬ ‫َّ‬ ‫بأن عليه المساهمة الفعلية في تغيير المسار العام للوضع في‬

‫الوطن األسير‪ .‬هكذا انخرط في جمعية العلماء المسلمين‬ ‫تضم نخبة فاضلة من خيرة رجال ذلك‬ ‫الجزائريين التي كانت‬ ‫ّ‬

‫الوقت‪ ،‬وما هي إال أعوام قليلة حتى أصبح عنصر ًا بارز ًا فيها‪،‬‬ ‫وموازاة مع ذلك ظل قريب ًا من مجاله األصلي‪ .‬لقد ت ََّم تعيينه‬ ‫مدير ًا لمدرسة التربية والتعليم‪ ،‬كما أدار مدرسة التهذيب‪ ،‬قبل‬ ‫أن ي َُع َّين‪ -‬الحق ًا‪ -‬كاتب ًا عام ًا لمعهد ابن باديس‪.‬‬

‫نشر أول مقال له في جريدة «البصائر» في ‪ 25‬سبتمبر‪/‬أيلول‬ ‫‪10‬‬


‫‪ ،1946‬وكان بادي ًا للعيان أن له اهتمامات صحافية مثيرة‪،‬‬

‫بالعودة إلى عددها وإلى طبيعتها وطريقة تعاملها مع‬ ‫الموضوعات االجتماعية والسياسية والثقافية والدينية‪ ،‬وهي‪-‬‬

‫في مجملها‪ -‬ال تتجاور كثير ًا مع ما كان ينشر آنذاك‪ ،‬أسلوب ًا‬ ‫مرده طريقة تكوينه وقراءاته‬ ‫ومعجم ًا وفكر ًا ورؤية‪ ،‬ولعل ذلك ّ‬

‫يؤسس عليها في‬ ‫وبصيرته والمرجعيات المختلفة التي كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫تدل على ذلك بعض آرائه التي بدت مفارقة‬ ‫كتاباته‪ ،‬كما‬

‫لما كان قائم ًا وقتذاك‪ ،‬أو لما كان متداو ً‬ ‫ال في جمعية العلماء‬ ‫المسلمين الجزائريين‪.‬‬

‫َمثَّل الكاتب الساخر‪ ،‬والملتزم في آن واحد‪ ،‬بلده الجزائر في‬

‫مؤتمر باريس للسالم في مايو‪/‬أيار من سنة ‪ .1949‬وفي السابع‬

‫والعشرين من أ كتوبر أنشأ جمعية «المزهر القسنطيني» التي‬

‫كانت تعرض مسرحيات متن ِّوعة‪ ،‬ومنها‪ :‬ملكة غرناطة‪ ،‬بائعة‬

‫الورود‪ ،‬البخيل‪ .‬وفي الخامس عشر من ديسمبر‪/‬كانون األول‬ ‫أسس جريدة «الشعلة» التي َّ‬ ‫ترأس تحريرها‪ .‬وقد كان‬ ‫‪َّ 1949‬‬ ‫يسعى دائم ًا إلى مهاجمة مكامن األلم والشر‪ ،‬ما سيتسبب له‬

‫جمة مع المستعمرين‪ ،‬ومع فئات أخرى مناوئة‬ ‫في متاعب ّ‬

‫لموضوعاته ورؤاه‪.‬‬

‫كما زار االتحاد السوفياتي ويوغوسالفيا سنة ‪ 1950‬رفقة‬ ‫‪11‬‬


‫الروائي والمسرحي كاتب ياسين‪ ،‬صاحب رائعة «نجمة» الذي‬

‫ذاع صيته في العالم كسارد كبير ويساري متم ِّرد‪ ،‬وقد مكث‬ ‫ِّ‬ ‫المشككين ي َّتهمونه بالشيوعية‬ ‫هناك شهرين‪ ،‬ما جعل بعض‬ ‫رغم انتمائه إلى جمعية العلماء المسلمين‪ .‬والواقع أنه كان‬

‫متعاطف ًا مع األنظمة االشتراكية‪ ،‬مناوئ ًا لألنظمة الرأسمالية‬

‫والثقافة األحادية والخطاب المعياري‪ ،‬كما تشير إلى ذلك‬ ‫مقاالته ومالحظاته التي ال تخلو من الدعوة إلى التجديد‬

‫ّ‬ ‫واالطالع على مختلف الفنون واآلداب العالمية‪ .‬لقد كان‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يشكل مفارقة‪ ،‬ليس بأفكاره فحسب‪ ،‬بل‬ ‫في واقع األمر‪،‬‬ ‫بهندامه وهزله وفكره وسيجارته وعزفه على العود واهتمامه‬

‫بالمسرح والفن والترجمة والشعر والقصة والرواية والموسيقى‪،‬‬

‫األمر الذي لم يكن معهود ًا في جمعية العلماء المسلمين التي‬

‫اتَّسمت بالصرامة واالستقامة‪.‬‬

‫كان أحمد رضا حوحو وراء تجنيد وتوعية عدد كبير من‬ ‫الطلبة الجزائريين الذين سي ّتخذون موقف ًا صارم ًا ونهائي ًا من‬ ‫االستعمار‪ ،‬كما عرف بمناهضة االحتالل والدعوة المستمرة‬ ‫إلى محاربته‪ ،‬وكانت مقاالته سالح ًا ال يمكن إغفال مفعوله‬ ‫التدريجي‪ ،‬شأنه شأن أشعار مفدي زكريا التي ستقوم بدور‬

‫مهم في الثورة التحريرية‪ .‬لكن النظام الفرنسي ظل يراقبه‬ ‫ّ‬ ‫‪12‬‬


‫ِّ‬ ‫يشكل خطر ًا فعلي ًا على كيانه في الجزائر‬ ‫لوثوقه الكبير بأنه‬

‫المستعمرة‪ ،‬شأنه شأن َّ‬ ‫مثقفين وك ّتاب آخرين‪ ،‬ومنهم الكاتب‬

‫المفرنس مولود فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري‬ ‫اإلرهابية بتاريخ ‪ 15‬مارس‪/‬آذار ‪.1962‬‬

‫اخ ُت ِطف الكاتب الساخر في التاسع عشر من مارس ‪ 1956‬من‬

‫ِق َبل منظمة «اليد الحمراء»‪ ،‬إحدى األذرع السرية للمستعمر‬

‫وس ِجن في حبس الكدية بقسنطينة‪ ،‬ثم ُح ِّول إلى‬ ‫الفاشي‪ُ ،‬‬ ‫جبل الوحش بأعالي المدينة حيث ُأ ِ‬ ‫عدم هناك بشكل ظل‬

‫غامض ًا إلى اليوم‪ ،‬لكنه وحشي بالتأ كيد‪ ،‬إذ ُع ِثر على رفاته‬

‫مصادفة بعد ‪ ،1962‬تاريخ استقالل الجزائر عن استعمار‬ ‫حاقد ومدمّر‪ ،‬وكان مدفون ًا في قبر جماعي بإحدى الثكنات‬ ‫الفرنسية القديمة‪.‬‬

‫مهم للقارئ‬ ‫هكذا انطفأ نجم كان َي ِع ُد بتقديم منجز سردي‬ ‫ّ‬ ‫لو كتب له أن يعيش سنوات أخرى‪ ،‬لكن الفاشيين كانوا‬ ‫ِّ‬ ‫يخططون لمصير آخر مذ سطع نجمه‪ ،‬واتضحت مواقفه من‬

‫كيان غريب‪ .‬لقد َقوَّض وعيه طمأنينة المستعمرين‪ ،‬وكان‬ ‫يجب التخ ُّلص منه‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫أعماله ومواقفه‬ ‫عرف الكاتب الشهيد بكتاباته المتن ِّوعة‪ .‬ويمكن أن تكون‬ ‫أدت إلى اختطافه‬ ‫مقاالته الصحافية الحادة من األسباب التي ّ‬ ‫وتصفيته‪ .‬لقد كانت له سلسلة من المقاالت تحمل عنوان‪:‬‬ ‫«تحت السياط نغ ّني»‪ ،‬وسلسلة أخرى بعنوان‪« :‬مسامير»‬

‫كان ينشرها في جريدة الشعلة‪ ،‬إضافة إلى كتاباته األخرى في‬ ‫جريدة البصائر‪ ،‬ومنها‪« :‬مع حمار الحكيم»‪ ،‬و«الميزان»‪،‬‬

‫وهي المقاالت الساخرة التي َأ ّلبت عليه مجموعة من‬ ‫لخطه الذي كان مختلف ًا عن ّ‬ ‫ِّ‬ ‫خط جمعية العلماء‬ ‫المعارضين‬ ‫المسلمين الجزائريين‪ ،‬من حيث االنضباط والصرامة‪ ،‬ومن‬

‫حيث االستراتيجية والمعالجة‪ ،‬إضافة إلى ذلك فقد ظل نقده‬

‫الذع ًا رادع ًا‪ ،‬ما أثار حفيظة بعض المحافظين واالتّباعيين‬

‫أحسوا بأنهم موضوع كتاباته‪ ،‬أو مكمن الداء‪.‬‬ ‫وأولئك الذين‬ ‫ّ‬

‫المتعددة‪ -‬بترجمة بعض‬ ‫قام أحمد حوحو‪ -‬إضافة إلى نشاطاته‬ ‫ِّ‬ ‫األعمال إلى العربية‪ ،‬ومنها‪ :‬مالحظات مستشرق مسلم‪ ،‬حيوية‬ ‫اهتم بالمسرح والموسيقى‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬وأهرام مصر‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬

‫والنقد‪ ،‬إذ كان عازف ًا على آلة العود وعضو ًا في فرقة‪ .‬كما‬ ‫كان لنقده الالذع أثر كبير‪ ،‬ما لم تستسغه فئة معتبرة من الوسط‬

‫‪14‬‬


‫الثقافي‪ ،‬إضافة إلى ذلك فقد كان من دعاة التجديد والثورة‬ ‫على التقاليد األدبية الباهتة‪ ،‬مع إلحاحه الشديد على ضرورة‬ ‫ترقية اللغة العربية بتخليصها من الشوائب والتبعية والخطاب‬ ‫اليقيني والمعجم المتواتر الذي يحمل دالالت مك َّررة ال تفي‬ ‫بغرض العصر ومشكالته الحقيقية‪.‬‬

‫كما ظل ينادي بضرورة االغتراف من اآلداب واألفكار الغيرية‬

‫التي تسهم في تغذية الموروث وتطويره حتى يصبح دا ّل ًا‬

‫ومعبر ًا عن روح العصر‪ .‬يقول في هذا الشأن‪« :‬هناك مذاهب‬ ‫ِّ‬

‫عديدة جديدة في اآلداب والفنون من الواجب معالجتها‬

‫ودراستها والسير على غرارها‪ ،‬ومن العبث إهمالها ألنه لم‬ ‫التعصب الذميم أن‬ ‫يكن لنا حظ في إيجادها وخلقها‪ ،‬ومن‬ ‫ُّ‬

‫ننكر النافع الجيد من مذاهب الغير»‪ .‬لقد كان في صميم‬

‫مفاهيم االتّباع واإلبداع‪ ،‬أو النقل والعقل‪ ،‬كما سنجدها عند‬

‫أدونيس وبعض الحداثيين المعاصرين‪.‬‬

‫وكان الكاتب ينظر إلى األدب والفن نظرة جديدة بحكم‬ ‫يحمل ُ‬ ‫الك ّتاب مسؤولية المجتمع‬ ‫ثقافته وتكوينه‪ ،‬إذ ما فتئ‬ ‫ّ‬

‫وعوالم القيم المثلى التي وجب الدفاع عنها وترقيتها‪ ،‬ذلك أن‬

‫نظرته ارتبطت بالجانب المثالي‪ ،‬ولذلك َع َّد اآلداب والفنون‬ ‫مرايا عاكسة لكيان األمة وجوانبها اإلنسانية والروحية التي‬

‫‪15‬‬


‫أهم قضية ظلت تشغله‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫تحصنها وتمثّلها أحسن تمثيل‪ .‬أما َ‬

‫الناحية األدبية‪ ،‬فتتمثّل في طبيعة الكتابة نفسها‪ .‬ربما الحظ‬

‫شيئ ًا من المحاكاة الساذجة في ما ينشر آنذاك‪ ،‬ولذا أعلنها‬ ‫صراحة‪ ،‬وبجرأة لم يستسغها بعض معاصريه الذين نظروا إليه‬ ‫ببعض الريب واالزدراء‪« :‬أمّا هذه الجثث الفاقدة الروح التي‬ ‫اصطلح الناس على تسميتها أدب ًا وفن ًا‪ ،‬فيجب أن ننزل عليها‬

‫بمعاولنا دون شفقة وال رحمة‪ ،‬وننشئ بدلها أدب ًا وفن ًا َح َّي ْين»‪.‬‬

‫ويضيف بنوع من اليقين‪« :‬إن المرء ليزدهي بآدميته حين‬ ‫يلقي بنفسه في غمار هذه اآلداب العالمية»‪ .‬ما يجعلنا نستنتج‬

‫أن قراءاته لآلداب األوروبية واألميركية هي التي جعلته ي ّتخذ‬

‫موقف ًا مماث ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫خ َّلف أحمد رضا حوحو أعما ً‬ ‫ال أدبية اختلف حولها‬

‫ّ‬ ‫النقاد والدارسون من حيث التصنيف والقيمة‪ ،‬بحسب‬

‫منطلقاتهم وأدواتهم ورؤاهم الجمالية والفنية‪ ،‬لكنه من الصعب‬

‫تجاهل مكانتها إن ُأ ِخذت في إطار سياق إنتاجها‪ ،‬وما َق َّدمته‬ ‫من إضافات نوعية للتجارب السابقة‪ ،‬أو لما ُس ِ ّمي (إرهاصات‬

‫القصة)‪ ،‬ومن هذه العناوين النثرية‪:‬‬

‫‪ -‬غادة أم القرى (قصة طويلة) ــ‪ 1947‬ــ‬

‫‪ -‬مع حمار الحكيم (مقاالت قصصية) ‪ 1953‬ــ‬

‫‪16‬‬


‫ صاحبة الوحي (قصص) ‪ 1954‬ـــ‬‫‪ -‬نماذج بشرية (قصص) ‪ 1955‬ــ‬

‫كما ترك إرث ًا من المقاالت النقدية والصحافية‬

‫ومسرحيات لم تُجمع في كتب مستقلة رغم قيمتها وفائدتها‪،‬‬ ‫مع أن هناك محاوالت لجمعها وطبعها من ِق َبل بعض األفراد‬

‫والمؤسسات‪ ،‬كما أوصت بذلك شخصيات أدبية وهيئات‬ ‫َّ‬ ‫علمية في مناسبات كثيرة‪ ،‬وقد تساهم هذه النصوص‪ -‬إن‬

‫ُك ِتب لها الظهور في وقت ما‪ -‬في إضاءة جوانب كثيرة من‬

‫حياة الكاتب ومواقفه السياسية والفنية‪ ،‬كما يمكن أن تضيف‬ ‫قبس ًا للمرحلة التي عاش فيها جيل بأ كمله‪.‬‬ ‫نماذج بشرية‬

‫ُك ِتبت هذه النصوص المتن ِّوعة منذ قرابة ستين سنة‪،‬‬

‫وهو وقت ٍ‬ ‫كاف لتغ ُّير األذواق واألدوات النقدية والمقاربات‪،‬‬

‫لذلك من األنسب أن نأخذ في الحسبان نقاط ًا مفصلية قبل‬

‫تقديمها للقارئ الكريم‪ :‬زمان الكتابة وزمان القراءة‪ ،‬إضافة‬

‫والمقيس عليه‪ ،‬وذلك تفادي ًا‬ ‫المقيس‬ ‫إلى السياق وثنائية ُ‬ ‫َ‬

‫ألي إسقاط أو إجحاف قد يلحقان ضرر ًا بكتابة َع َّبرت عن‬

‫انشغاالت‪ ،‬باألدوات التي كانت متاحة في زمانها‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫كانت الجزائر في تلك الفترة المظلمة تحت حكم احتالل‬

‫عمل على تعميم الجهل ومحاولة محو اللغة العربية من‬

‫الخارطة الجغرافية للبلد؛ ومن ث ََّم كان ظهور كاتب يكتب‬ ‫ّ‬ ‫يتعذر أن تتك ّرر دائم ًا‪.‬‬ ‫بالعربية هبة من الخالق وسعادة مباركة‬

‫الكتابة نفسها لم تكن متاحة إ َ‬ ‫ال لفئة قليلة ممن نجوا‪ -‬ولو‬

‫نسبي ًا ومرحلي ًا‪ -‬من الحصار الذي ُض ِرب على الجزائريين‪ .‬لذا‬

‫يمكن اعتبار نصوص «نماذج بشرية» كرامة من الكرامات‬ ‫التي جاءت في وقتها‪ ،‬أو قبل الوقت بسنين‪ ،‬ورغم أننا قد‬

‫ننظر إليها اليوم من زوايا أخرى‪ ،‬ومن منطلقات جمالية مختلفة‬ ‫للوصول إلى أحكام مختلفة‪ ،‬إ َ‬ ‫أهميتها‬ ‫ال أن ذلك لن يق ِ ّلل من ّ‬

‫التاريخية وريادتها في فترة كانت فيها الكتابة معجزة ّ‬ ‫حقة‪.‬‬

‫مقدمة الكتاب مالحظات ثمينة أوردها الكاتب‬ ‫هناك في‬ ‫ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬وقد ت َُع ّد بمثابة فواتح تشير إلى الكيفية السردية التي‬

‫أرادها أحمد رضا حوحو‪ .‬وبصرف النظر عن أي تقييم أو‬ ‫استثمار لما ورد فيها من مواقف قد تكون مصدر خالف‬

‫مفسرة‬ ‫وجدال‪ ،‬فإن وجودها يظل ذا داللة من حيث إنها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للمتلقي‪ .‬يقول الكاتب‪« :‬لم أعمد‬ ‫وموجهة‬ ‫للكيفية السردية‬ ‫ّ‬

‫في عرض هذه النماذج على الخيال فأستخدمه في التنميق‬ ‫فأسخره إلثبات فكرة أو‬ ‫والتزويق‪ ،‬أو إلى التحليل النفسي‬ ‫ِّ‬

‫‪18‬‬


‫إدحاض أخرى‪ ...‬أجل‪ ،‬إني لم ألجأ إلى كل ذلك‪ ،‬وإنما‬ ‫التجأت إلى المجتمع‪ ،‬وانتزعت من مختلف طبقاته نماذج‬

‫عشت مع بعضها وسمعت عن بعضها»‪.‬‬

‫تعالج النصوص الواردة في الكتاب قضايا اجتماعية‬

‫وثقافية وسياسية ودينية متن ِّوعة تأسيس ًا على خيار سردي‬ ‫يتراوح بين التمثيل والعرض‪ ،‬ويبدو أنها جاءت لتقوم بوظيفة‬ ‫ما من حيث ابتعادها عن التنميق‪ ،‬أي أنها ملتزمة بقضايا‬

‫اجتماعية أ كثر من التزامها بالترف الذهني‪ .‬لهذا اتَّسم أغلب‬

‫السرد بالتسجيل والتبطئة ووضوح اللفظ والعبارة والمقصد‪،‬‬ ‫على غرار السرد العربي الكالسيكي الذي ُع ِرف في التجارب‬

‫األولى‪ ،‬سواء مع محمود تيمور أو قبله‪ ،‬كحال المقامات التي‬ ‫كانت من التجارب القصصية الرائدة التي ستؤ ِ ّثر الحق ًا في‬ ‫المنجز السردي برمّته‪ ،‬رغم أنها سلكت طريق ًا مختلف ًا في‬

‫تعاملها مع الزخرفة‪.‬‬

‫كان الكاتب‪ -‬من وراء بعض حكاياته القريبة من‬

‫التقرير في حاالت كثيرة‪ -‬يريد اإلشارة إلى مظاهر سلبية‬ ‫َم َّيزت محيطه في فترة ما‪ ،‬ومن ثم معالجتها بالطريقة المناسبة‪،‬‬

‫ومن هذه السلبيات المهيمنة التي كانت تحتاج إلى ضرورة‬ ‫التنبيه إلى مخاطرها‪ :‬مسألة الدجل والشعوذة (الشيخ رزوق)‪،‬‬

‫‪19‬‬


‫واالنحرافات األخالقية (عائشة)‪( ،‬السكير)‪ ،‬والحيلة (العم‬ ‫نتيش)‪ ،‬والجهل (سيدي الحاج)‪ ،‬والهذيان (األستاذ)‪،‬‬

‫والتدهور (سي زعرور)‪ ،‬والكنود (رجل من الناس)‪ ،‬والغرور‬

‫(فقاقيع األدب)‪ ،‬والزعامة المغشوشة (الشخصيات المرتجلة)‪،‬‬ ‫وعبقرية الشارع (يحيى الضيف)‪ ،‬واإلرادة (التلميذ)‪.‬‬

‫وهي موضوعات يمكن أن تكون متواترة ومشتركة بين الك ّتاب‬ ‫في كل زمان ومكان‪ ،‬بيد أن شكل معالجتها يظل نواة أساسية‪،‬‬ ‫من حيث إن الكيفية مسألة جوهرية في تعزيز الفرادة وتقوية‬

‫االستثناء‪ .‬لذلك يمكن القول إن قيمة «نماذج بشرية»‪ -‬إن‬ ‫احتكمنا إلى تاريخ وسياق إنتاجها‪ -‬تكمن في الخيارات‬

‫والمتغيرات السردية الجديدة التي راهن عليها‬ ‫الموضوعاتية‬ ‫ِّ‬ ‫الكاتب‪ ،‬إضافة إلى خاصية قاعدية تتمثَّل في الرؤية المفارقة‬ ‫للنموذج المتواتر آنذاك‪.‬‬

‫ال يمكن القول‪ -‬بطبيعة الحال‪ -‬إن نصوص أحمد‬

‫رضا حوحو استثنائية من ناحية الشكل‪ ،‬جديدة كلها وخارقة‪،‬‬ ‫ذلك أن هناك نصوص ًا عربية سبقتها إلى التحديث والتثوير‬

‫الستفادتها من الكتابة المح ّلية والغيرية‪ ،‬وخاصة في التجربة‬

‫المشرقية مع الكاتب محمود تيمور الذي اقتبس زاد ًا معتبر ًا‬ ‫من التقنيات القصصية للكاتب الفرنسي موباسان‪ ،‬محاو ً‬ ‫ال‬

‫‪20‬‬


‫بذلك تطعيم السرد القائم في المنجز القصصي السابق‪ .‬غير‬

‫أن تجربة حوحو ت َُع ّد‪ ،‬بدورها‪ ،‬إضافة نوعية للجهد السردي‬

‫الجزائري‪ ،‬ولبعض ما ُك ِتب في البالد العربية كذلك‪.‬‬

‫تمفصل‬ ‫نشير في سياق هذا التقديم إلى أن دراسة كيفيات‬ ‫ّ‬

‫المعنى في مختلف النصوص تستدعي مراعاة اعتبارات كثيرة‬

‫ال يمكن دونها أن َن ِف َي الكاتب ّ‬ ‫َجه إلى تجربته‪،‬‬ ‫حقه‪ .‬قد ُتو َّ‬

‫القصيرة نوع ًا ما‪ ،‬تأسيس ًا على الذائقة والمسارات السردية‬

‫تخص مسائل تتع ّلق بالرومانسية والواقعية‬ ‫الحالية‪ ،‬مالحظات‬ ‫ّ‬ ‫اإلمالئية التي م َّيزت بعض القصص والمقاالت القصصية‪،‬‬

‫أو بعض المقدمات التوضيحية غير الضرورية للمتن الحكائي‬ ‫الذي يستطيع تجاوزها دون المساس بالبنية والمتون‪ ،‬إن نحن‬ ‫انطلقنا من منظورات نقدية جديدة‪ ،‬الشيء نفسه يتع َّلق ببعض‬

‫الخواتم المفاجئة التي لم ت ُْب َن على حبكة مكتملة النسيج‪ ،‬أو‬ ‫على عالقات سببية منطقية تسوَغ النهايات السريعة التي توحي‬

‫ّ‬ ‫بأقل التكاليف السردية‬ ‫بأنه كان يريد التخ ُّلص من القصة‬

‫الممكنة‪ ،‬إن لم يكن بعض التقليد األدبي هو الذي فرض‬ ‫عليه تلك الخيارات التي قد ال يستسيغها الموقف النقدي‪.‬‬

‫مؤسسة‬ ‫لكن هذه المواقف من نصوص عمرها ستون سنة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للقصة القصيرة في الجزائر‪ ،‬مؤثّثة ثقافي ًا ومعرفي ًا‪ ،‬كما تعكسه‬ ‫‪21‬‬


‫تتبدد عند مراعاة‬ ‫التناصات الخارجية الكثيرة‪ ،‬سرعان ما‬ ‫َّ‬ ‫الجهد الذي بذله الكاتب في فترة تم َّيزت بالجهل وانتشار‬ ‫المد‬ ‫األ ّم ّية في بلد شهيد كانت فيه العربية تنحسر باستمرار أمام‬ ‫ّ‬

‫اللساني الفرنسي‪ ،‬وأمام تراجع لغة المواطن‪ .‬ثم إن اإلضافات‬ ‫التي جاء بها في تلك الفترة ليست باله ِ ّينة أو الباهتة بحيث‬

‫يمكن القفز عليها أو تجاهلها‪ .‬لقد أحدث الكاتب الشاب‬

‫ثورة حقيقية على األساليب المتوارثة الغارقة في الوعظ‪ ،‬كما‬ ‫نصب عداء لألساليب المستهلكة‪ ،‬كما يشير إلى ذلك‪ ،‬وكما‬

‫ِّ‬ ‫يؤكد النقاد واأل كاديميون الذين بنوا آراءهم على الموازنة‬ ‫مهمة تعمل على إبراز الجوانب التفاضلية‪.‬‬ ‫كآلية ّ‬ ‫ّ‬

‫إضافة إلى ذلك فقد أعاد النظر في البناء القصصي الكالسيكي‬ ‫الذي كان مهيمن ًا على بعض اإلرهاصات األولى‪ ،‬كما تعامل‬ ‫مع اللغة من زاوية أ كثر وعي ًا بحقيقتها ووظيفتها األدبية‬

‫والحضارية‪ ،‬إذ اعتبرها عنصر ًا نووي ًا وجب خرقه من الداخل‬

‫من أجل فسح مجال أوسع للدالالت واألفكار التي ال تنبني‬

‫بالضرورة على حقل معجمي مُ َح َّدد محدود‪ ،‬نقلي ويقيني‪،‬‬ ‫مع ما ينج ّر عن ذلك من استنساخ آلي وغير ضروري للمرحلة‪،‬‬

‫وللتجارب الماضية التي وجب غربلتها‪ .‬لقد كانت رؤيته تلك‬ ‫متقدمة من حيث إن اللغة كانت عائق ًا فعلي ًا أمام التنويعات‬ ‫ِّ‬

‫‪22‬‬


‫والمتخ َّيل الذي ظل حبيس االستعماالت الثابتة والمعاودات‬

‫التي غدت قاعدة ومرجع ًا يقيني ًا‪ ،‬ما جعل العناصر الفنية‬

‫تتقهقر أمام النقل والنموذج المتوارث عبر العصور‪ .‬إضافة‬ ‫تقدم فإن الكاتب يكون قد ارتقى بالسرد إلى درجة‬ ‫إلى ما َّ‬

‫أعلى مقارنة بسابقيه‪ ،‬وربما كان أ كثر إدراك ًا ألنواعه ووظائفه‪،‬‬ ‫رغم غلبة السرد التمثيلي‪.‬‬

‫«نماذج بشرية»‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬هي تحيين ملموس‬

‫لمنظورات أحمد رضا حوحو النقدية ومواقفه الفعلية من مسائل‬

‫آمن بها أيّما إيمان‪ ،‬وكتب عنها مقاالت صحافية نشرها هنا‬ ‫وهناك في فترات متباعدة‪ ،‬سواء أكانت مواقف من المجتمع‬ ‫أم كانت من الثقافة والكتابة والفن واللغة والرؤى واألشكال‬ ‫التعبيرية المهيمنة على تقليد أدبي‪ ،‬كان بحاجة إلى تحديث‬

‫جذري لتطعيمه وتقوية كيانه درء ًا ألي تبديه أو فجاجة‪ ،‬أم‬

‫من العقيدة نفسها كمرجعية استثمرت في سياقات تاريخية‬ ‫ضيق ذي عالقة بالجانب النفعي الصرف‪،‬‬ ‫لمقاصد ذات بعد ِ ّ‬ ‫أدى إلى ظهور الشعوذة والدجل والخرافات والسحر‪ ،‬وهي‬ ‫ما ّ‬

‫عناصر أفسدت النص بتأويالت ال عالقة لها به‪ .‬وكان أن‬ ‫أعلن الكاتب حرب ًا على تلك الفئة المنتفعة من ممارسات‬ ‫تش ِّوه العقيدة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫يجب التنبيه‪ -‬أخير ًا‪ -‬إلى أن ما ورد في كتاب «نماذج بشرية»‬ ‫لألديب الشهيد أحمد رضا حوحو ال ينتمي كله إلى فن القصة‬

‫القصيرة كنوع له خصوصياته وهويته ولغته وتقنياته‪ .‬هناك‪،‬‬ ‫في حقيقة األمر‪ ،‬عدة أنواع متفاوتة‪ :‬فصل من مسرحية‪:‬‬

‫(األستاذ)‪ ،‬مقال قصصي (يحيى الضيف)‪ ،‬التلميذ (مقال‬ ‫توفيقي)‪ ،‬فقاقيع األدب (مقال نقدي)‪ ،‬الشخصيات المرتجلة‬

‫(مقال نقدي)‪ ،‬سيدي الحاج (مقال قصصي)‪ ،‬وأما المواد‬ ‫األخرى فيتوافر أغلبها على تقنيات القصة المتعارف عليها‬ ‫عربي ًا وعالمي ًا‪ ،‬بصرف النظر عن طبيعة السرد وبنائه وكيفياته‬

‫ّ‬ ‫التلقي وبالخلفيات‬ ‫ومستواه‪ ،‬ألن ذلك يرتبط بمستويات‬ ‫يتم التأسيس عليها في المقاربات النقدية‪ ،‬وهي‬ ‫الجمالية التي ّ‬

‫كثيرة ومتفاوتة بالنظر إلى مرجعياتها‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يستحق أن يُقرأ بسبب مجموعة‬ ‫«نماذج بشرية» كتاب‬

‫المميزة له‪ ،‬ذلك أن الكاتب قام بجهود‬ ‫كبيرة من أفضاله‬ ‫ِّ‬

‫مضاعفة لمراجعة جماليات القصة وجوانبها اللغوية كما‬ ‫عرفت في الجزائر‪ .‬وهناك‪ -‬إضافة إلى تجاوز المتواتر‪-‬‬ ‫رغبته في خدمة قضيته النضالية التي تبوّأت انشغاالته مذ كان‬

‫صغير ًا‪ :‬هناك‪ ،‬عبر العصور واألمصار‪ ،‬أدباء على المستوى‬

‫ضحوا ببعض القيم الفنية لإلعالء من شأن قضاياهم‬ ‫الدولي‬ ‫ّ‬ ‫‪24‬‬


‫االجتماعية والسياسية والوطنية واإلنسانية‪ ،‬وهم كثيرون‪ .‬لذا‪،‬‬

‫المهم أن نولي اهتمام ًا خاص ًا لهذه االعتبارات‪ ،‬ثم إن‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫المؤ ِّلف عاش في فترة َق َّل فيها من يعرف القراءة والكتابة‪.‬‬

‫والمتخيل والترف البالغي‬ ‫وإذا كانت هناك تضحية باالستعارة‬ ‫ّ‬ ‫والذهني فلهذا النهج السردي أسبابه السياقية المشار إليها‪،‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإن لهذا الكتاب منافعه الكثيرة كمدوّنة عكست‬ ‫تقليد ًا أدبي ًا ظهر في شمال إفريقيا في الخمسينيات‪ ،‬وفي ظل‬

‫حصار استعماري كاد يقضي على مقوّمات األمة بعد احتالل‬

‫دام ‪ 132‬سنة من التعذيب والتقتيل والتدمير والمحو‪ :‬الكتابة‬ ‫في ذلك الوقت المؤلم هي‪ -‬في َح ّد ذاتها‪ -‬إنجاز وانتصار‬ ‫كبيران ليس من السهل تحقيقهما‪ ،‬وهنا مكمن قوة األديب‬

‫الشهيد رضا حوحو رحمه الله‪ ،‬وكل الذين كتبوا عن قضيتهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المحتل تنتظر الوقت المناسب لتنتزع الحياة منهم‪ .‬أمَا‬ ‫وعيون‬

‫الكتابة باللغة العربية‪ ،‬وبذلك الوقار‪ ،‬وبتلك المعرفة والملكة‪،‬‬ ‫فلم تكن سوى حلم بعيد‪ ،‬أو ما يشبه الكرامة والمعجزة‪.‬‬

‫األستاذ الدكتور‪ :‬السعيد بوطاجين‬ ‫الجزائر‪ ،‬أوغسطس‪/‬آب ‪2014‬‬

‫‪25‬‬


‫إلى ُ‬ ‫الكتَّاب‬

‫يجب أن نتك َّلم كالم ًا صادق ًا‪ ،‬وأن ِ ّ‬ ‫نفكر تفكير ًا صائب ًا‪ ،‬دون أن‬ ‫نحاول جلب اآلخرين إلى أذواقنا وعواطفنا‪...‬‬

‫إن ذلك َل ُه َو العمل الجليل‪...‬‬

‫البرويار‬

‫‪26‬‬


‫القراء‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬

‫يقول بعض الفالسفة‪ :‬إن العقول سواء من حيث الخلقة‪ ،‬وإنما‬ ‫يمتاز بعضها عن بعض بالتك ُّيف والتوجيه‪ ،‬فيسمو البعض‬

‫منها إلى أن يصل ذرى الرفعة والسمو‪ ،‬وينحدر البعض إلى أن‬

‫يصل الدرك األسفل من الجمود واالنحطاط‪ .‬ونحن ال تعنينا‬ ‫هذه العقول‪ ،‬أ كانت سواسية أم لم تكن؛ ألننا لسنا بصدد‬ ‫تحليل العقول وإثبات مقاييسها‪ ،‬وإنما الذي يعنينا هنا هو‬

‫عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية‪ ،‬في مجموعة من‬ ‫البشر منتقاة من صميم المجتمع‪.‬‬

‫ّ‬ ‫نشك في أن هذه الطباع ليست سواء‪ ،‬وإال لكانت‬ ‫وإننا ال‬

‫ُسيرها‬ ‫خاضعة خضوع ًا أعمى لتأثيرات البيئة والنشأة والتعليم‪ ،‬ت ِ ّ‬

‫طبق ًا لهذه التأثيرات‪ ،‬وتتك َّيف وفق ًا لهذه النشأة التي فرضها‬ ‫‪27‬‬


‫عليها المجتمع‪ .‬وإننا ال نجد هذه الطباع تَسير في طريق‬ ‫مفروض من بيئة‪ ،‬أو ت ّتجه ا ِ ّتجاه ًا مفروض ًا من نشأة‪ ،‬إال بقدر‬

‫ما توجبه الضرورة‪ .‬وكثير ًا ما تتم َّرد فتكسر القيود‪ ،‬وتنطلق في‬

‫أجواء رحبة ال تلوي على شيء‪ ،‬تدفعها غرائزها إلى تحقيق‬ ‫أمانيها المختلفة غير مبالية بقوانين البيئة وتعاليم النشأة‪ .‬ولو‬ ‫لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين تتمتع بشيء من‬ ‫الح ّرية‪ ،‬لخال المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة‪ ،‬ولما‬

‫وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسرقيود بيئتها‪،‬‬ ‫وت ّتخذ من الوطنية دين ًا يهديها سواء السبيل‪ ،‬و َلما تع ّرفنا إلى‬

‫السن الذي ي ّتخذ من شرع الله حانوت ًا‬ ‫هذا الفقيه الطاعن في‬ ‫ّ‬ ‫نقدمها‬ ‫لبيع الجرائم‪ ،‬ولما كانت هذه النماذج البشرية التي ِ ّ‬

‫للقراء‪.‬‬

‫ثم ماذا؟ ثم إني لم أعمد‪ -‬في عرض هذه النماذج‪ -‬إلى‬ ‫الخيال فأستخدمه في التنميق والتزويق‪ ،‬أو إلى التحليل‬

‫فأسخره إلثبات فكرة أو إدحاض أخرى‪ .‬أجل‪ ،‬إني‬ ‫النفساني‬ ‫ِّ‬ ‫لم ألجأ إلى كل ذلك‪ ،‬وإنما التجأت إلى المجتمع‪ ،‬وانتزعت‬

‫من مختلف طبقاته نماذج عشت مع بعضها‪ ،‬وسمعت عن‬ ‫تفهم‬ ‫أقدمها للقارئ لعله‬ ‫حية ّ‬ ‫يتوصل بها إلى ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بعضها‪ .‬نماذج ّ‬

‫بعض طباع مجتمعه‪ ،‬فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية‪،‬‬

‫‪28‬‬


‫ّ‬ ‫الضال‪ ،‬والزيغ واإللحاد‬ ‫ويلمس اإليمان القوي في قلب الرجل‬ ‫تحت عمامة رجل الشرع‪ .‬إن المجتمع البسيط هو خير من‬

‫يص ِّور الطباع على فطرتها؛ ألنه خاضع للطبيعة‪ ،‬والطبيعة‬

‫يسيره ناموس الفطرة وحده‪ ،‬ال يعرف التوجيه المقعد‬ ‫وحدها‪ّ ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫المهذب‪.‬‬ ‫وال التسيير‬

‫ولهذا سنجد شخصيات نماذجنا يفهمون بعض الحقائق على‬ ‫طريقتهم الخاصة‪ ،‬ويستنتجون بعض النتائج على أسلوبهم‬ ‫تفهمهم للحقائق خاطئ ًا واستنتاجهم‬ ‫الخاص أيض ًا‪ ،‬وقد يبدو لنا ُّ‬

‫تفهمهم واستنتاجهم‬ ‫للنتائج ضعيف ًا؛ وذلك ألننا سنقيس‬ ‫ُّ‬

‫َّ‬ ‫المهذب‪ ،‬وسنحكم عليهم حكم ًا‬ ‫بمقاييس العلم والعقل‬ ‫خاطئ ًا ألننا سنخضع في حكمنا إلى قواعد وأصول تع َّلمناها‪،‬‬

‫َّ‬ ‫المثقف‪ ،‬مع أن هذه الشخصيات‬ ‫وفرضها علينا العلم والعقل‬ ‫توصلت إليه على ضوء فطرتها‪ ،‬وهضمته بجهاز‬ ‫توصلت إلى ما َّ‬ ‫َّ‬

‫طبيعتها في محيطها الضيق وبيئتها المحدودة‪ ،‬مدفوعة بدافع‬

‫الغريزة إلى إبراز البكر من كوامن النفوس وألوان الطباع‪.‬‬

‫أحمد رضا حوحو‬

‫قسنطينة في ‪1955/9/30‬‬

‫‪29‬‬



‫رزوق‬ ‫الشيخ ُّ‬

‫الشيخ رزُّ وق رجل في العقد السادس من عمره‪ ،‬ضخم الجثّة‪،‬‬

‫كثيف اللحية‪ ،‬أسمر اللون‪ ،‬ذو مهابة ووقار‪ ،‬يخشاه الناس‬ ‫ويحترمونه‪ ،‬تدور حول سيرته شبهات لم يصدقها إال نفر قليل؛‬

‫حيث ي ّتهمونه بالقيام بأعمال مالية غير مشروعة‪ ،‬ويقولون إن‬

‫قدم له مبلغ‬ ‫في استطاعته أن يحرم االبن من إرث أبيه إذا ما ّ‬ ‫من األوراق المالية‪ ...‬ولكن أغلبية مواطنيه تعتقد أنها مُ َج ّرد‬ ‫إشاعات كاذبة ير ِّوجها ُح ّساد الشيخ وناكرو فضله‪ ،‬فهو ال‬

‫يعرف سوى داره‪ ،‬والمسجد‪ ،‬والطريق بينهما‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫تناول الشيخ طعام إفطاره على عجل وهو ال يزال يتمتم بالبقية‬ ‫يومي ًا عقب‬ ‫الباقية من تسابيح ِورْد الصباح الذي اعتاد أن يتلوه‬ ‫ّ‬

‫صالة الصبح‪ .‬ثم أحضرله الخادم فنجان ًا من القهوة الساخنة‬ ‫ّ‬ ‫يحث الخادم على إحضار بقية‬ ‫أخذ يحسوه بسرعة‪ ،‬وهو‬ ‫وسجادة الصالة التي ال تفارقه في ِح ّله وفي ترحاله‪.‬‬ ‫مالبسه‬ ‫ّ‬

‫وأخذ يستعد لمبارحة المنزل وقد تناول عصاه ومسبحته‪ ،‬وما‬

‫كاد يبارح غرفته حتى أدركته زوجته متذ ِ ّمرة‪ :‬ما هذا! أال‬ ‫تستطيع حتى أن تتناول طعام إفطارك في راحة؟ أدائم ًا أعمال‬

‫الناس؟ ال أدري أية فائدة تجنيها من وراء هذه المتاعب كلها‬ ‫صدتك عن العناية بأهلك وأوالدك؟!‬ ‫التي ّ‬

‫حادة‪ ،‬وأجابها والغضب‬ ‫وما كان من الشيخ إال أن رمقها بنظرة ّ‬

‫ٍ‬ ‫باد على قسمات وجهه‪ :‬أي شيء أستفيده من الناس؟! أتخالين‬ ‫زوجك مثل أولئك الغافلين الذين ألهتهم أوضار المادة الدنسة‬ ‫عن أعمالهم الربانية‪ ،‬وأشغلتهم بطونهم عن اآلخرة؟ أنا ِ‬ ‫أخدم‬

‫الناس لوجه الله‪ِ :‬‬ ‫أخدم الحق الضائع‪ ،‬وأحاول جهدي إرجاعه‬

‫إلى نصابه‪.‬‬

‫ثم حوقل الشيخ واستغفر ربه واسترسل يقول‪ :‬ال ت ُْد ِخ ِلي على‬ ‫نفسي الرياء أيتها المرأة‪ ،‬اتقي الله‪ ،‬أتريدين أن تضيعي أجر‬

‫‪32‬‬


‫تبدلي ثوابي عقاب ًا بأحاديثك هذه؟‬ ‫عملي‪ ،‬وأن ّ‬

‫وما كادت زوجه الساذج تعي هذه المواعظ حتى تأثرت‬ ‫صدت هذا الرجل الصالح‬ ‫وخشيت بطش ر ِ ّبها ونقمه إذا ما َّ‬

‫تقبلها وهي‬ ‫عن القيام بأعماله الربّانية‪ ،‬وانهالت على يده ِ ّ‬ ‫تردد‪ :‬ربنا يبقيك ويحيطك بعنايته يا سيدي‪ّ ،‬‬ ‫حق ًا إن هذه‬ ‫ِّ‬

‫واطمأن‬ ‫الدنيا ال تساوي جناح بعوضة‪ .‬وكأن الشيخ استراح‬ ‫ّ‬ ‫وتوجه‬ ‫قلبه إلى هذه النتيجة فأبدل قطوبه بابتسامة عريضة‪،‬‬ ‫َّ‬

‫حبات مسبحته التي ال تفارقه‬ ‫لفوره إلى الشارع وهو يداعب ّ‬ ‫لحظة واحدة في غدوه وفي رواحه‪ ،‬وذهب يتأرجح في مشيته‬

‫يسميه‬ ‫وهو في طريقه إلى ركنه المنعزل في المسجد الذي‬ ‫ّ‬

‫نكبة‬ ‫مكتب أعماله الخيرية‪ ،‬والناس تقصده من كل جانب مُ ّ‬

‫على تقبيل يده التي يجود عليهم بها بكل سخاء‪ ،‬طالبين‬ ‫منه الدعوات الصالحات‪ ،‬والنساء يرمقنه من وراء شبابيكهن‬

‫الضيقة مبتهالت إلى الله أن يقضي حوائجهن ببركة هذا‬

‫الرجل الصالح الذي يقضي ّ‬ ‫جل حياته في المسجد ما بين‬

‫العبادة وإرشاد الناس إلى ما فيه الخير والصالح‪.‬‬

‫سجادته بعد ما قام ببعض الصلوات‪،‬‬ ‫تربَّع الشيخ رزُّ وق على ّ‬ ‫شاب في ربيع‬ ‫تقدم نحوه‬ ‫وما كاد يستق ّر به المقام حتى‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫‪33‬‬


‫وانكب الشاب على يده يلثمها‪ ،‬وفي‬ ‫رحب به الشيخ‪،‬‬ ‫الحياة‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫دس فيها شيئ ًا‪ ،‬رمقه الشيخ بنظرة فاحصة حتى‬ ‫الوقت نفسه َّ‬ ‫طيات‬ ‫إذا ما تأ َّكد من ارتفاع قيمته أسرع إلى إخفائه في ّ‬ ‫جبته الفضفاضة‪ ،‬وقابل هذه التحية بابتسامة لطيفة‪ ،‬وأقبل‬ ‫ّ‬

‫يتوسم الخير العميم من ورائه‪،‬‬ ‫على الزائر يسأله ويمازحه وهو‬ ‫َّ‬

‫وبادره قائ ً‬ ‫ال‪ :‬خير إن شاء الله يا ابني‪ ،‬ماذا تريد؟‬

‫‪ -‬المسألة األولى نفسها يا سيدي‪ ،‬التي أخبرتك عنها سابق ًا‪.‬‬

‫ّ‬ ‫قطب الشيخ جبينه كعادته كلما انتقل من الدعابة والمزاح‬ ‫الجدي وقال‪ :‬إن أشغالي كثيرة يا ابني‪ ،‬وأجدني‬ ‫إلى العمل‬ ‫ّ‬

‫حدثَتني به سابق ًا‪ ،‬فهل تسمح وتعيد‬ ‫معذور ًا إذا ما نسيت ما َّ‬

‫على مسامعي حديثك دون أن تهمل أدنى تفصيل‪ ،‬فإنه كثير ًا‬ ‫أهم ّية كبرى ال ِ‬ ‫يدرك كنهها إال‬ ‫ما يكون للتفصيل الضئيل‬ ‫ّ‬

‫ملي ًا‪ ،‬ثم تك َّلم بصوت‬ ‫الراسخون في المعرفة‪ .‬سكت الشاب ّ‬ ‫تشوبه رجفة‪ :‬كنت أخبرتك‪ -‬يا سيدي‪ -‬أن ألختي طف ً‬ ‫ال من‬ ‫زوج أجنبي عن أسرتنا‪ّ ِ ،‬‬ ‫توفي والده منذ زمن‪ ،‬ولم يترك له‬ ‫شيئ ًا يُذكر من متاع الدنيا‪ ،‬مع أن المرحوم والدي ترك ثروة‬

‫كبيرة تعرفونها جيد ًا‪.‬‬

‫ أجل‪ ...‬إني أعرف المرحوم والدك ّ‬‫حق المعرفة‪ ،‬وأعرف‬ ‫‪34‬‬


‫جيد ًا ثروته‪ ،‬رحمه الله فقد كان رج ً‬ ‫ال صالح ًا‪ ،‬وكان من أع ّز‬

‫أصدقائي‪ .‬استمِ َّر في حديثك‪ .‬ثم ماذا؟ واستم ّر الشاب يقول‪:‬‬

‫ورثت أختي قسط ًا وافر ًا من مخ َّلفات الوالد‪ ،‬وهي اآلن تنفق‬

‫من ريعها على ابنها‪ .‬وال مانع لدي في ذلك‪ ،‬ولكن إذا ما‬

‫أدركتها الوفاة يوم ًا ‪ -‬وهي مصابة بمرض خطير استعصى‬

‫عالجه على األطباء ‪ -‬فإن ابنها يرثها؟‬

‫ ما في ذلك شك‪ ،‬يرثها‪ّ ،‬‬‫حقه يا بني‪ ،‬ال يمنعه مانع‪.‬‬

‫ وبهذا يستولي هذا األجنبي على جانب كبير من ثروتنا‬‫شدة‬ ‫ومخ َّلفات والدنا‪ .‬وسكت الشاب‪ ،‬فقد اختنق صوته من ّ‬

‫تشجع أخير ًا وقال‪ :‬إني أريد منع هذا الولد‬ ‫االضطراب‪ ،‬ولكنه‬ ‫َّ‬

‫لجة من التفكير دامت بعض‬ ‫من إرثنا‪ ...‬استغرق الشيخ في ّ‬ ‫ثوان‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنك مقدم على عمل خطير‪ .‬إنك مقدم على‬ ‫ٍ‬ ‫منع وارث شرعي من إرثه الشرعي!‬

‫مستعد‬ ‫ نعم يا سيدي‪ ،‬أنا أعرف جيد ًا ما أنا قادم عليه‪ ،‬وإني‬‫ّ‬ ‫لدفع الالزم‪ ،‬لذلك‪...‬‬

‫أجنبي ًا دخي ً‬ ‫ال على أسرتكم‪.‬‬ ‫ الحقيقة أن هذا الطفل ي َُع ّد‬‫ّ‬ ‫‪ -‬نعم يا سيدي إنه كذلك‪...‬‬

‫ لقد افتكرتك اآلن‪ .‬إنك حدثتني منذ أيام في هذا الموضوع‪،‬‬‫‪35‬‬


‫وكنت طلبت منك تأخيره إلى أن تحين الفرصة المناسبة‪.‬‬

‫ لقد حانت الفرصة يا سيدي‪ ،‬وسا َفرت أختي مع طفلها إلى‬‫زيارة بعض األقارب‪ ،‬وستمكث شهر ًا كام ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫ أسافرت ّ‬‫حق ًا؟‬

‫‪ -‬نعم‪ -‬يا سيدي‪ -‬سافرت‪.‬‬

‫واستغرق الشيخ مرة ثانية في تفكير عميق‪ ،‬وهو يقوم ببعض‬ ‫اطمأن قلبه إلى‬ ‫بحبات مسبحته‪ ،‬إلى أن‬ ‫يسجلها‬ ‫الحسابات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫النتيجة‪ .‬رفع رأسه وقال بصوت خافت‪ :‬خمسمئة ألف فرنك‪.‬‬

‫وعموم المصاريف الالزمة عليك‪ ،‬وهذا التخفيض من أجل‬

‫علي أن أرى شخص ًا‬ ‫المرحوم والدك‪ ،‬فقد كان صديقي‪ ،‬ويع ّز‬ ‫ّ‬

‫أجنبي ًا يتم َّتع بمال تعب عليه ليتركه ألوالده خاصة‪ ،‬ال يشاركهم‬ ‫ّ‬ ‫فيه مشارك‪.‬‬

‫‪ -‬ولكن المبلغ كبير يا سيدي!‬

‫ أبد ًا‪ ...‬أبد ًا‪( ...‬صرخ الشيخ) أنسيت ما ستجنيه من ذلك؟‬‫فإنني س ُأملكك مناب أختك الذي ورثته من أبيك بهذا المبلغ‪.‬‬

‫‪ -‬حسن ًا يا سيدي َق ِب ْل ُت‪.‬‬

‫َ‬ ‫قبلت‪ ،‬إذن‪ ،‬أحضرلي النقود وافية‪ ،‬فأنا دائم ًا‬ ‫‪ -‬أحسنت إذ‬

‫‪36‬‬


‫تنس ما قاله الرسول (صلى الله‬ ‫مقدم ًا‪ .‬ثم ال‬ ‫أستوفي أجري‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫عليه وسلم)‪« :‬استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»‪.‬‬

‫‪ -‬هذا حق‪ ...‬وإني مستعد بالمبلغ‪ ،‬ولكن‪...‬‬

‫‪ -‬لكن ماذا؟ تك َّلم‪.‬‬

‫‪ -‬أقصد إذا ما كنت واثق ًا من النجاح‪...‬‬

‫ النجاح! هذا أمر ليس فيه أدنى ّ‬‫شك وال ريب‪ ،‬أنا ال ُ‬ ‫أقدم‬

‫إال على القضايا الناجحة‪ .‬لم أع ِّود عمالئي الفشل ولو مرة‬

‫واحدة‪ .‬فأنا‪ ،‬في هذه األيام القريبة‪ ،‬م َّلكت زوج ًا من ثروة‬ ‫زوجته بعملية بسيطة‪ ،‬ثم ط ّلقتها منه‪ ،‬وهو اليوم ينعم بالمال‬

‫والح ّرية‪ ،‬ولكنه دفع لي ضعف ما طلبت منك تقريب ًا‪ ،‬والحديث‬ ‫بني‪ -‬أعمالي مُ تقنة والحمد لله‪...‬‬ ‫بيننا طبع ًا‪ ...‬فأنا‪ -‬يا ّ‬

‫غاب الشاب لحظة‪ ،‬ثم عاد يحمل رزمة من األوراق المالية‬ ‫ناولها للشيخ بيد مرتجفة‪ ،‬وأخفاها هذا في لمح البصر تحت‬

‫يتحدث‪ .‬وللشيخ مقدرة عجيبة‬ ‫يعدها وهو‬ ‫جبته‪ ،‬وأخذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫بمهمة الحساب والمحادثة في آن واحد؛ فقد‬ ‫على القيام‬ ‫ّ‬

‫كان أعجوبة زمانه في اتّقاد الفكر‪ ،‬وسعة العقل‪ .‬وبعد ما‬

‫صحة عددها ألقى عليها نظرة فاحصة‪ ،‬سرى‬ ‫استوثق من‬ ‫ّ‬ ‫‪37‬‬


‫تيارها السحري في نفسه‪ ،‬ولم يستطع إخفاء سروره‪ ،‬وعلت‬ ‫ّ‬

‫شفتيه ابتسامة د ّلت على غبطته ورضاه‪ ،‬وللمال س ّر عجيب في‬

‫نفس الشيخ‪ .‬ثم ما كان منه إال أن جذب الشاب من طرف‬ ‫ثوبه وهمس في أذنه‪ :‬اسمع‪ ...‬اذهب حا ً‬ ‫وأخ ِل‬ ‫ال إلى منزلك ْ‬ ‫حي‪ .‬أسامع! ال أريد كائن ًا من كان‪ ،‬أرسل‬ ‫الدار من كل كائن ّ‬ ‫والدتك عند بعض األقارب‪ ،‬وسآتي بجهازي التام المكوَّن‬

‫من والدتك وأختك والشهود المعروفين‪.‬‬

‫‪ -‬والدتي وأختي؟‬

‫ أجل ‪،‬ال أعني والدتك وأختك الحقيقيتين‪ ،‬بل أعني اللتين‬‫تقومان بدور الوالدة واألخت أمام القاضي‪ ،‬وستبيع لك أختك‬ ‫منابها‪ ،‬وتعترف أنها تس َّلمت النقود كاملة‪ ،‬وسيشهد الشهود‪،‬‬

‫وينتهي كل شيء‪ ،‬وحينما ينتقالن إلى دار البقاء يمكنك إبراز‬ ‫حججك واالستيالء على أمالكك دون أن يعارضك معارض‪.‬‬

‫أفهمت؟ انهض‪ ،‬وأسرع إلى عملك‪ ،‬سألحق بك بعد صالة‬

‫العصر‪ ...‬نهض الشاب متأ ِ ّلم ًا مضطرب ًا‪ ،‬وبقي الشيخ مسرور ًا‬

‫يعد نقوده مرة ثانية‪ ،‬وما كاد ينتهي‬ ‫يذكر الله‬ ‫ويوحده‪ ،‬ثم قام ّ‬ ‫ِّ‬

‫حتى دوّى في المسجد صوت أذان الظهر‪ ،‬فأسرع الشيخ في‬

‫‪38‬‬


‫يستعد‬ ‫إخفاء تلك الرزمة من األوراق في جيب محكم‪ ،‬وقام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويقدر‪-‬‬ ‫يتذكر ما بقي لديه من المعامالت‬ ‫لصالة الظهر‪ ،‬وهو‬ ‫ِّ‬

‫في الوقت نفسه‪ -‬ما ستد ّر عليه من األرباح‪...‬‬

‫***‬

‫‪39‬‬


40


‫عائشة‬

‫عائشة امرأة ككل النساء الجزائريات‪ ،‬واحدة من آالف النساء‬ ‫الالئي يموج بهن المجتمع الجزائري المظلم‪ ،‬لم تتخ ّرج في‬ ‫َّ‬ ‫تتلق أية تربية خاصة أو نشأة‬ ‫مدرسة الشرقية وال غربية‪ ،‬ولم‬ ‫معينة‪ ،‬عدا التربية الفطرية والنشأة المحافظة المفروضتين من‬

‫هذه البيئة الجزائرية الوحيدة التي ال تعرف التطوُّر وال التغ ُّير‪.‬‬

‫وعاشت عائشة في محيطها الضيق المظلم ال تعرف عن العالم‬ ‫الخارجي شيئ ًا‪ ،‬وال تعرف عن نفسها إال أنها عورة يستحي‬

‫وعمتها‪ ،‬فهن جميع ًا‬ ‫واسم ْي والدتها‬ ‫ذووها من ذكر اسمها‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫خاص ًا من المخلوقات لم تفهم كنهه‪ ،‬ولم تحاول‬ ‫يك ِّو َّن نوع ًا‬ ‫ّ‬ ‫‪41‬‬


‫أن تدرك كنهه‪ ،‬ولكنها تعلم ّ‬ ‫حق العلم أن والدها وغيره من‬

‫رجال األسرة ال يتلفظون بهذا االسم إال مقرون ًا بكلمة اعتذار‪،‬‬

‫«العباد» يطلقون عليهن جميع ًا اسم يقصد جميع نساء‬

‫يتحدث مع جاره‬ ‫«عبادي حشاك»‪ .‬وكثير ًا ما سمعت والدها‬ ‫ّ‬

‫فيقول‪ :‬األسرة‪ ،‬فيعتذر عن ذكر أسمائهن كما يعتذر حينما‬ ‫ّ‬ ‫يتلفظ بلفظ قذر أمام شخص محترم‪.‬‬

‫تعودت عائشة هذه النشأة‪ ،‬وألفت هذه المكانة الخاصة في‬ ‫المجتمع‪ ،‬أو ُق ْل إنها ورثت هذه المكانة كما ورثتها والدتها‬

‫عن السابقات من النساء منذ عهد قديم‪ .‬هي‪ -‬إذ ًا‪ -‬كائن‬ ‫تافه ال مسؤولية له في الحياة‪ ،‬بل إنها أتفه من أي حيوان‬ ‫من الحيوانات التي يملكها والدها الذي ال يستحي من ذكر‬

‫حماره أمام الناس‪ ،‬ويفتخر بذكر حصانه والحديث عنه‪ ،‬ولكل‬ ‫منهما مسؤوليته في الحياة‪ ،‬وبعض الحرية في تصرفاته وشؤونه‬ ‫الخاصة‪ .‬أما عائشة فإنها دوالب بشري تديره يد ذويها‪ ،‬فال‬ ‫تتح ّرك وال تسكن إال بإرادتهم ووفق ًا لرغباتهم‪ ،‬وكل هذا‬

‫ال يعنيها‪ ،‬ولم تفكر فيه‪ ،‬بل إنها ال تملك ّ‬ ‫حق التفكير فيه‪،‬‬

‫فهي تسير في طريق مرسوم محدود‪ ،‬كما سارت وستسير بنات‬ ‫بجدتها في الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬ال يعرفن الجديد‬

‫‪42‬‬


‫وال القديم‪ ،‬وإنما يعرفن حياة يومية متشابهة ال يختلف فيها‬

‫يوم عن يوم‪.‬‬

‫وهكذا تتابعت أيام عائشة في قريتها إلى أن حدث الحادث‬ ‫الجليل الذي خرج بها عن المألوف‪ ،‬وجعل من حياتها صورة‬

‫تختلف عن صور بنات جنسها‪ .‬وما الحادث إال شاب من‬

‫َّ‬ ‫أبناء القرية عاد من أوروبا التي قضى فيها سنين طوا ً‬ ‫وحل‬ ‫ال‪،‬‬ ‫بين سكان البلدة كالنجم المتأ ِ ّلق في ح ّلته اإلفرنجية األنيقة‪،‬‬

‫ّ‬ ‫المصفف الب ّراق‪ ،‬وحذائه األسود الالمع‪ .‬وسمعت به‬ ‫وشعره‬

‫عائشة كما سمعت به بقية الفتيات‪ ،‬وطرق أذنها الكثير مما‬ ‫يتحدث به من غرائب األحاديث عن أشياء لم تسمع بها من‬ ‫ّ‬

‫قبل‪ ،‬ولم يهضمها عقلها اآلن‪ ،‬وما برحت هذه األحاديث‬ ‫حتى أصبحت مبعث العجب بهذا الشاب‪ ،‬واالفتخار بحفظ‬ ‫ُّ‬ ‫التلفظ بكلمة من ألفاظه الغريبة‪،‬‬ ‫شيء من حديثه العذب‪ ،‬أو‬

‫حدث به الكبار فنقلوه إلى الصغار‪،‬‬ ‫أو رواية حادثة غريبة مما َّ‬

‫ورواه إلى الرجال فنقلوه إلى النساء‪ .‬و ُأعجبت الفتاة‪ ،‬كما‬

‫ُأعجبت غيرها‪ ،‬بهذا الشاب‪ ،‬أو بهذا الحادث الجديد الذي‬

‫َّ‬ ‫وتحدثت عنه‪ ،‬وحفظت شيئ ًا من أحاديثه أسوة‬ ‫حل بالقرية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫باألخريات‪ ،‬واكتفت بهذا الحديث‪ ،‬فلم ِ ّ‬ ‫تفكر في أ كثر من‬ ‫‪43‬‬


‫ذلك؛ ألنها ال تملك ّ‬ ‫حق التفكير أ كثر من ذلك‪ .‬فحتى خيالها‬

‫يبدو أنه محجوز عنها ال تستطيع االنطالق في أجوائه الرحبة‬ ‫الجميلة‪.‬‬

‫توجهت عائشة ذات يوم إلى منزل خالتها ألن والدها وذويها‬ ‫ّ‬ ‫تتوجه إلى ذلك المنزل‪ .‬فهي مُ َس َّي َرة في كل‬ ‫أرادوا منها أن‬ ‫ّ‬

‫شيء‪ ،‬ال تعرف االستقالل في قليل أو في كثير من حياتها‬ ‫العامة والخاصة على السواء‪ ،‬وصادف أن قابلت ذلك الشاب‬

‫ٍ‬ ‫خال‪ ،‬وهو يتأرجح في مشيته‪ ،‬والتقت نظرتها‬ ‫في طريق‬

‫الحسن‬ ‫بنظرته‪ ،‬وراقت للشاب‪ ،‬وهي تتم َّتع بشيء غير قليل من ُ‬

‫والجمال‪ ،‬فابتسم لها ولكنها لم تفهم لماذا ابتسم‪ ،‬ولم ِ‬ ‫تدر أن‬

‫موجهة لها محمل زيادة على معنى اإلعجاب‬ ‫هذه االبتسامة‬ ‫ّ‬ ‫بحسنها‪ ،‬معاني أخرى لم تفهم حقائقها إال بعد أن دفعت‬ ‫الثمن غالي ًا غالء فاحش ًا‪ .‬ونظرت هي بدورها إليه‪ ،‬ولكن نظرة‬

‫بريئة‪ ،‬نظرة كتلك التي تعوَّدت أن ترسلها إلى القمر الساطع‬

‫في السماء‪ ،‬أو النجم المتأ ِّلق في األفق‪ .‬نظرة وكفى‪ ،‬ال تحمل‬

‫أي معنى‪ ،‬وال تنطوي على ّ‬ ‫ِ‬ ‫يكتف‬ ‫أي مقصد‪ .‬ولكن الشاب لم‬

‫ّ‬ ‫الح ّد‪ ،‬بل حاول اال ِ ّتصال بها‪.‬‬ ‫بهذا‬ ‫الحل‪ ،‬ولم يقف عند هذا َ‬ ‫وت ََّم له ذلك بواسطة عجوز استأجرها لهذا الغرض‪ ،‬لم تعوزها‬

‫‪44‬‬


‫الحيل لالستيالء على عقل هذه المخلوقة العجماء‪ .‬وما كاد‬

‫ي ّتصل بها حتى فتح لها‪ ،‬بأحاديثه المعسولة‪ ،‬أبواب ًا كانت‬ ‫فحدثها عن بنات أوروبا وح ّريّتهن‪ .‬كما َّ‬ ‫وضح‬ ‫موصودة دونها‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ادخره لها القانون‬ ‫لها حقوقها في الحياة‪ ،‬ولم‬ ‫ينس ِذكر ما ّ‬ ‫َ‬ ‫من الحقوق والمحافظة على رغبتها‪ .‬ثم عرض عليها أن تف ّر‬

‫معه لتعيش صحبته في عيش رغد محفوفة بالحرية والحب‬

‫والسعادة‪ ،‬وأفهمها أن هذه حقوقها الشرعية ال ينازعها فيها‬ ‫منازع‪ ...‬انخدعت عائشة بحديث فتاها‪ ،‬وانقادت لرغباته‬

‫بثقة عمياء‪ ،‬ففارقت منزل والدها خلسة في ليلة ظلماء‪،‬‬

‫وس َرها‪ -‬أول األمر‪ -‬أن‬ ‫وسافرت مع‬ ‫ّ‬ ‫الشاب إلى مدينة بعيدة‪َ ،‬‬

‫ترى نفسها ح ّرة تركب القطار‪ ،‬وتعيش في المدن في أحضان‬

‫يدم طوي ً‬ ‫ال‬ ‫شاب أنيق لم تكن تحلم به‪ .‬ولكن هذا السرور لم ُ‬

‫َ‬ ‫وهتك ِستر شرفها حتى‬ ‫ألن الفتى ما إن ستولى على عفافها‪،‬‬

‫تركها و َف َّر قاف ً‬ ‫ال إلى أوروبا من حيث أتى‪...‬‬

‫هامت الفتاة على وجهها في هذه المدينة المترامية األطراف‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تتعقب خطاها‪ ،‬فاصطادوها‬ ‫وكانت ذئاب البشرية لها بالمرصاد‬ ‫في رمشة عين‪ ،‬ودفعوا بها إلى طريق الغواية‪ ،‬فاحترفتها‪ ،‬وقد‬ ‫وجدت مثيالتها في بؤرتها يبعن أجسادهن مقابل لقمة من‬ ‫‪45‬‬


‫الخبز‪ .‬انتقلت عائشة من بلد إلى بلد ومن بؤرة إلى أخرى‪،‬‬

‫المسكرات‬ ‫واندفعت بحكم المهنة الشائنة إلى تعاطي‬ ‫ُ‬

‫والمخدرات‪ ،‬وتفوَّقت في هذا الميدان حتى أصبحت قطب ًا‬

‫فيه ال يباريها فيه رجل وال امرأة‪ ،‬وبعث ذلك التفوُّق في‬

‫نفسها شيئ ًا من الغرور‪ ،‬فأخذت ترى نفسها أسمى مقام ًا من‬

‫وتتخيل نفسها من طينة تخالف طينتهن‪ ،‬ولهذا‬ ‫زميالتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يجب أن تسمو بأفكارها عنهن‪ ،‬يجب أن تكون لها فكرة أوسع‬

‫من أفكارهن وأحاديث تختلف عن هذه األحاديث البسيطة‬ ‫الضيق الذي‬ ‫المتك ِّررة‪ .‬فخرجت بفكرها من ذلك المحيط‬ ‫ِّ‬

‫تعيش فيه إلى محيط أوسع تبحث عن شيء ما‪ ،‬أي شيء‬ ‫كان يم ِ ّيزها عن األخريات‪ ،‬شيء جديد وكفى‪ .‬وشاء القدر‬

‫أن تطرق سمعها أحاديث سياسية وأفكار وطنية‪ ،‬وشاعت‬

‫أحاديث السياسة والوطن في تلك األيام حتى عمت األوساط‬ ‫المختلفة ووصلت إلى بيئتها‪ ،‬فرحبت بها واعتنقتها مدفوعة‬

‫حب السموّ‪ ،‬ورغبة في أن تكون لها أفكار وأحاديث‬ ‫بدافع‬ ‫ّ‬ ‫ترتفع عما ِ ّ‬ ‫تفكر فيه‪ ،‬وتتحدث به األخريات‪ .‬اشتهرت عائشة‬

‫بأفكارها الوطنية‪ ،‬وسخر منها الناس‪ ،‬فزادها ذلك إصرار ًا‬ ‫وتمسك ًا بالفكرة‪ ،‬وحاولت مرار ًا أن تشارك بدريهماتها‬ ‫وعناد ًا‬ ‫ُّ‬

‫‪46‬‬


‫القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي‬ ‫إلى الوطنية والتحرير‪ .‬والتحرير في فهمها هو خروجها من‬

‫هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون‬ ‫االضطرار إلى بيع جسدها‪ .‬والوطنية عندها هي أن يكون لها‬ ‫فتمسكت‬ ‫منزل وبعل محترمان‪ .‬استولت عليها هذه األفكار‬ ‫َّ‬

‫يتمسك الغريق بحبل النجاة‪.‬‬ ‫بها بشدة كما‬ ‫ّ‬

‫قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية‪ ،‬وآمنت بذلك إيمان ًا راسخ ًا‪،‬‬

‫واعتقدت اعتقاد ًا قو ّي ًا أنها ال بد من أن تجني ثمرة ذلك‬

‫ال‪ .‬وشاء ربّك أال تنتظر طوي ً‬ ‫عاج ً‬ ‫ال‪ ،‬فقد انتشلتها هذه العقيدة‬

‫المقدسة من خضم رذائلها‪ ،‬فأقلعت‪ -‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬عن تعاطي‬ ‫َّ‬

‫المخدرات ألن عقلها أوحى لها أن من يتح ّلى بهذه األفكار‬ ‫ِّ‬

‫يجب أن يقلع عن ذلك‪ ،‬ثم أعقبت المخدرات باالنقطاع عن‬ ‫ضج منها محيطها الموبوء‪،‬‬ ‫الم ْسكرات‪ ،‬ولم تكد تفعل حتى ّ‬ ‫ُ‬

‫يتحملها‪ ،‬وال يقوى على احتمال نزعتها الجديدة‬ ‫وأصبح ال‬ ‫ّ‬ ‫التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها‪،‬‬

‫فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع إلرادتها‪ ،‬ولم تشأ هي أن‬ ‫تنثني عن فكرتها وتتخ ّلى عما اعتقدته منقذها األوحد‪ .‬وكثر‬

‫واشتد الخصام‪ ،‬ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إال وهي‬ ‫الجدل‬ ‫َّ‬

‫‪47‬‬


‫في الشارع تبحث عن عمل ح ّر طاهر تتعيش منه‪ ،‬ولم ي ْ‬ ‫ُخفها‬

‫الم ّرة خبرة‪ ،‬ولم يطل بها‬ ‫الشارع‪ ،‬فقد أكسبتها التجارب ُ‬

‫فتحصلت على عمل (خادم) في فندق محترم‪ ،‬ثم‬ ‫البحث‪،‬‬ ‫َّ‬

‫ُو ِّفقت في االهتداء إلى زوج متواضع صالح‪ ،‬بنى بها دون‬

‫أن يسألها عن ماضيها‪ ،‬ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله‪ ،‬وإنما‬ ‫اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر‪،‬‬

‫تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب‪ ،‬وفي‬

‫وجهها الخجل‪ ،‬كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء‪ .‬ولكنه‬ ‫مرهم النسيان سريع ًا ما فعل مفعوله‪ ،‬فاندمل الجرح‪ ،‬وانمحى‬ ‫ُ‬

‫الرسم‪ ،‬ولم َ‬ ‫يبق من تلك اإلحن والمحن إال بصيص ضئيل من‬ ‫الذكريات المريرة‪.‬‬

‫***‬

‫‪48‬‬


49


50


‫العصامي‬ ‫ِ‬

‫ال تنتظر مني‪ -‬أيها القارئ‪ -‬أن أعرض عليك هنا شخصية من‬ ‫الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ‪ ،‬فارتفعت إلى الذرى‬

‫في ميادين المال واألعمال‪ ،‬وأقول لك‪ -‬أيها القارئ‪ :-‬ال‬ ‫تنتظر مني ذلك ألني أعرف أنك تعوَّدت أن ترى مجتمعك‬

‫ال يصف بالعصامية إال هذا الصنف من الرجال‪ ،‬فكل فقير‬ ‫أثرى‪ ،‬وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من‬ ‫ّ‬ ‫يستحقان منا كل‬ ‫جد) هما عصاميان عندنا‪،‬‬ ‫السماء دون َك ّد أو ّ‬

‫التبجيل واالحترام‪ .‬وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى‬

‫تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة‪،‬‬ ‫كادت‬ ‫ّ‬ ‫‪51‬‬


‫أعم وأشمل‪ ،‬وهي اإلرادة الحديدية والعزم‬ ‫مع أن العصامية ّ‬

‫القوي واالعتماد على النفس‪ ،‬وعدم االستسالم لإلخفاق‪ ،‬وما‬ ‫يج ّره من يأس‪ ،‬والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي‬

‫ينشده‪ ،‬والمثل األعلى الذي يأمله‪ ،‬مهما كان نوع هذا العمل‪،‬‬

‫عصامينا هذا لم يصل إلى‬ ‫ومهما كان كنه هذا النجاح‪ .‬إن‬ ‫ّ‬ ‫توصل إلى ما اعتقده مث ً‬ ‫ال‬ ‫الثروة‪ ،‬ولم يصل إلى الزعامة‪ ،‬وإنما ّ‬ ‫وتوصل إلى ما أراده وتم ّناه باذ ً‬ ‫ال جهود ًا جبارة وعزيمة‬ ‫أعلى‪،‬‬ ‫َّ‬

‫فوالذية ال تق ّلان عن عزيمة وجهود ّ‬ ‫أي من عظماء العالم‪ .‬كان‬

‫صاحبنا‪ -‬واسمه عبد الباقي‪ -‬عام ً‬ ‫ال فالح ّي ًا بسيط ًا‪ ،‬يستأجره‬ ‫أصحاب الحقول والبساتين لخدمة األشجار‪ ،‬ويكاد ال يعرف‬ ‫البطالة طيلة السنة‪ ،‬وذلك لما ُعرف به من النصح في العمل‪،‬‬

‫وصحة الجسم والعقل‪ .‬التحق‬ ‫و ِلما منحه الله من قوّة البنية‬ ‫ّ‬

‫عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تع َّلم فيه الكتابة والقراءة‪،‬‬

‫وحفظ أجزاء قليلة من القرآن‪ ،‬ولم يستطع مواصلة التعليم؛‬ ‫ألن والده انتقل إلى رحمة الله‪ ،‬واضطرته لوازم العيش إلى‬ ‫احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد‪.‬‬

‫عصامي ًا‪ ،‬له مَثل أعلى في الحياة يريد أن‬ ‫ولكن الرجل ُخلق‬ ‫ّ‬ ‫يود تحقيقها مهما ك َّلفه‬ ‫يصل إليه‪ ،‬وله رغبات نفسانية شريفة ُّ‬ ‫‪52‬‬


‫ٍ‬ ‫مبال بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه‪.‬‬ ‫من الجهد‪ ،‬غير‬ ‫يسميه مواطنوه‪-‬‬ ‫كان لعبد الباقي ‪ -‬أو للشيخ عبد الباقي كما‬ ‫ّ‬

‫فكرة تُخامر ذهنه منذ الصغر‪ :‬وهي أن يتزعم حركة التربية‬ ‫والتعليم القرآني في بلدته‪ .‬وشيخ ُ‬ ‫الك ّتاب في بلدته هو كل‬ ‫لح ّل مشاكلهم‪،‬‬ ‫ويبجلونه‪،‬‬ ‫شيء‪ ،‬يحترمه السكان‬ ‫ويلجأون إليه َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫يعيش في شرف وعزّ‪ ،‬تقف دونهما سلطة القضاء والحكم‬ ‫خاضعة ذليلة‪...‬‬

‫استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها‪ ،‬ولم يقف‬ ‫الفقر وال حاجته إلى العمل َح َجر عثرة في طريقه‪ ،‬فاشترى‬

‫انكب على‬ ‫خشبي ًا وقلم ًا ودواة‪ ،‬ثم‬ ‫مصحف ًا‪ ،‬واشترى لوح ًا‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫حفظ القرآن مع مواصلته العمل‪ ،‬فيعمل شطر ًا من الليل في‬ ‫إعداد لوحه وكتابته‪ ،‬حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه‬

‫ٍ‬ ‫مرتق أعلى األشجار‬ ‫يشاهد وهو‬ ‫وانكب على حفظه‪ .‬وكان‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫أو عام ً‬ ‫ولوحه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما‬ ‫ال في الحقول‬ ‫ُ‬

‫ألزمه األمر إلى مراجعته‪ .‬قضى سنين وهو على هذه الحالة‪،‬‬ ‫فأع ِجب به قوم‪ ،‬وهزئ به آخرون‪ ،‬ولكن‬ ‫إلى أن شاع أمره ُ‬

‫ُعن له إعجاب المعجبين وال سخرية الساخرين‬ ‫الرجل لم ي ِ‬ ‫شيئ ًا‪ ،‬بل استم ّر قدم ًا يتابع سبيله‪ ،‬ويواصل العمل بالعمل‬

‫‪53‬‬


‫والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظ ًا متقن ًا‪ ،‬وص ّلى به صالة‬

‫ّ‬ ‫قرآني ًا‪،‬‬ ‫احتل حجرة في المسجد‪ ،‬وفتح ُك ّتاب ًا‬ ‫التراويح‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫وأخذ يُعلم القرآن‪ ،‬يع ِ ّلمه بشدة وقوة محاو ً‬ ‫ال دائم ًا ابتكار طرق‬

‫جديدة لتعليمه‪ ،‬وأخذ يُع ِ ّلم الصبيان في النهار‪ ،‬والكبار في‬

‫الليل‪ ،‬ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مث ً‬ ‫ال‬ ‫بنفسه‪ ،‬مث ً‬ ‫وتوصل إلى أن‬ ‫حي ًا ناطق ًا‪ ،‬فكثر اإلقبال عليه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ال ّ‬

‫تزعم حركة التعليم في القرية ال ينازعه فيها منازع‪ .‬ارتاح‬ ‫َّ‬

‫التقدم العلمي ج َّرف‬ ‫الشيخ بعض الشيء إلى ذلك‪ ،‬ولكن‬ ‫ُّ‬

‫القرية‪ ،‬فقد نزل بها شبان أتوا يحملون ف ّن ًا جديد ًا تع َّلموه في‬

‫َّ‬ ‫واحتل بعضهم سواري‬ ‫جامع الزيتونة بتونس‪ ،‬اسمه النحو‪،‬‬ ‫وتصدوا إللقاء دروس فيه‪ ،‬وتعليم مباديه لمن يرغب‬ ‫المسجد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫تحدث الناس بهم‪ ،‬ولهجوا بذكر فنهم الجديد‪،‬‬ ‫في ذلك‪.‬‬ ‫َّ‬

‫وقالوا إن الشيخ عبد الباقي ال يحسن النحو‪ ...‬علم الشيخ‬ ‫بذلك وأغاظه أن تُنتزع منه الزعامة العلمية‪ ،‬ينتزعها منه شبان‬

‫سن األطفال الذين يتو ّلى تعليمهم‪ ،‬وص َّرح في مجمع كبير‬ ‫في ّ‬ ‫يتحدى خصومه لتدريسه دون االلتجاء‬ ‫أنه يحسن النحو‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬

‫إلى كتاب ما‪ ،‬وضرب لهم موعد ًا لذلك‪ ،‬وبادر بالتحصيل على‬

‫نسخة منشرح الشيخ خالد على اآلجرومية؛ ألن اآلجرومية متن ًا‬

‫‪54‬‬


‫وانكب على الشيخ‬ ‫وشرح ًا هي البضاعة الوحيدة لخصومه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته‬

‫َّ‬ ‫وحل الموعد‪ ،‬ونزل الشيخ إلى المسجد الذي َض َّم‬ ‫ومعانيه‪،‬‬ ‫جمع ًا غفير ًا من المعجبين والفضوليين‪ ،‬وألقى الشيخ درسه‬

‫بصوت جهوري د َّوى له المسجد‪ ،‬فكان يسرد الفقرات من‬ ‫المتن‪ ،‬ثم يتبعها بما يليه من الشرح‪ ،‬كل ذلك دون االلتجاء‬

‫إلى كتاب‪ ،‬ونجح في االختبار‪ ،‬واستولى من جديد على زمام‬ ‫الزعامة العلمية‪ ،‬وكان هذا الحادث فاتح ًا جديد ًا له‪ ،‬ففتح‬

‫له أبواب ًا كانت موصودة دونه‪ ،‬وعرف أن حفظ القرآن ليس‬

‫هو كل العلم‪ ،‬بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض‬ ‫غمارها‪ .‬ولم ينتظر طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬فبادر‪ -‬لحينه‪ -‬إلى دراسة النحو‬

‫انكب على الفقه المالكي فحفظ خلي ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫دراسة متقنة‪ ،‬ثم‬ ‫َّ‬

‫وطالع‪ ،‬مرار ًا‪ُ ،‬ش ّراحه وحواشيه‪ ،‬كما درس التجويد والقرآن‬

‫والفرائض ومعلومات عديدة‪ ،‬واستعان على ذلك بشيخ ضرير‬ ‫ال يدري أهل القرية من أين أتى به‪ ،‬أنزله عنده‪ ،‬وخدمه‪ ،‬وقام‬ ‫ّ‬ ‫يتخل يوم ًا عن عمله في الك َّتاب‪،‬‬ ‫بجميع لوازمه‪ .‬كل ذلك ولم‬

‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫يكتف‬ ‫يختل يوم ًا برنامجه‪ .‬واتَّسعت دائرة عمله؛ حيث لم‬ ‫أو‬ ‫بتعليم القرآن‪ ،‬بل أخذ يُع ِّلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي‬ ‫‪55‬‬


‫تع َّلمها‪ ،‬وللرجل قدرة غريبة على هضم ما يتع ّلم‪ ،‬وقدرة أغرب‬

‫مبسطة لتعليمه‪ .‬كان الشيخ عبد‬ ‫على ابتكار طرق جديدة‬ ‫ّ‬

‫التحدي وال يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة‬ ‫الباقي ال يقبل‬ ‫ّ‬ ‫وع َظم الهزيمة‪ .‬وله في ذلك نوادر عديدة‪ ،‬منها أن‬ ‫ّ‬ ‫التحدي‪ِ ،‬‬

‫كبار تالميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض األحيان‬ ‫أن يتخ ّلفوا عن ُ‬ ‫الك ّتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب‪ ،‬ولكن‬

‫الشيخ كان دائم ًا يحرمهم من متعهم؛ حيث يأتي بهم ولو كانوا‬

‫في أقصى الحقول والبساتين‪ ،‬وهو يعرفها معرفة جيدة‪ ،‬وقد‬ ‫خطة مُ َ‬ ‫قضى ع ّز شبابه عام ً‬ ‫ال فيها‪ .‬فدبَّروا هذه المرة ّ‬ ‫حكمة‪،‬‬

‫وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم‬ ‫بنقل الركاب صباح ًا لتعود في المساء مارّة بتلك القرية التي‬

‫تبعد عن قريتهم خمسة عشر مي ً‬ ‫تدخل‬ ‫ال‪ ،‬وبهذا فقط يأمنون‬ ‫ُّ‬ ‫الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة‪.‬‬

‫ن ََّف َذ التالميذ َّ‬ ‫خطتهم‪ ،‬وحان موعد القراءة‪ ،‬وتب َّين الشيخ غياب‬ ‫التالميذ‪ .‬وبعد البحث واالستقصاء استجلى الخبر‪ ،‬وعرف‬

‫التفاصيل‪ ،‬وتهامس الحاضرون من التالميذ باستسالم الشيخ‬ ‫لألمر الواقع‪ ،‬وقالوا إنه ال يجد ح ّل ًا للقضية إال أن ينتظر الغد‬

‫يتخيلون العقاب‪ ،‬ويبتسمون ابتسامات خبيثة‬ ‫لعقابهم‪ ،‬وذهبوا‬ ‫ّ‬ ‫‪56‬‬


‫التحدي‬ ‫َف ِه َم الشيخ معناها‪ ،‬ولكن هذا الرجل الذي ال يقبل‬ ‫ّ‬ ‫فاجأهم بما لم يتو َّقعوه‪ ،‬فقام‪ ،‬لحينه‪ ،‬بتكليف أ كبر التالميذ‬ ‫بمراقبة ُ‬ ‫وتوجه إلى القرية المجاورة ماشي ًا على‬ ‫الك ّتاب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫قدميه‪ ،‬وعاد بالتالميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذالن‪.‬‬

‫كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وفع ً‬ ‫تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه‪ ،‬وتز َّوج‬ ‫ال‪ ،‬فقد‬ ‫وأنجب أطفا ً‬ ‫ال‪ ،‬ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن األعمال‬

‫اليدوية‪ ،‬فال زال يباشر خدمة بستانه بيده دون االلتجاء إلى‬

‫مساعدة أحد‪ ،‬والرجل يتم َّتع بقوة‪ ،‬ويتم َّتع بصحة‪ .‬وكان ذات‬

‫يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين‬ ‫من تالميذه؛ ألن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته‬

‫ّ‬ ‫يحل المساء حتى ارتفع الجدار‪ ،‬وكان‬ ‫في أعماله‪ .‬وما كاد‬ ‫الشيخ ال يحسن البناء‪ ،‬ولهذا لم يلبث هذا الجدار أن انهار‪،‬‬

‫الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين‬ ‫لكن الشيخ‬ ‫ّ‬

‫يحاول إمساكه‪ ،‬وأغاظه أن ينهار عمله بين يديه‪ ،‬ولكن قوة‬ ‫ّ‬ ‫وانقض الجدار فوقه‪ ،‬فألزمه الفراش‬ ‫البناء تغ َّلبت على قوته‪،‬‬

‫أيام ًا‪ .‬وكانت آالم الهزيمة في نفسه أقوى من آالمه الجسمانية‬

‫ورضوضه الجسدية‪ ،‬ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى َك َّلف‬ ‫‪57‬‬


‫مساعده بالك ّتاب القرآني‪ ،‬وانقطع لتع ُّلم البناء حتى حذقه‪،‬‬

‫تخص بعض البنايات في‬ ‫بعدة مقاوالت‬ ‫وأتقن فنونه‪ ،‬وقام ّ‬ ‫ّ‬ ‫القرية وخارجها إلى أن قهر البناء‪ ،‬وانتقم من الجدار الذي‬ ‫ألزمه الفراش أيام ًا‪ ،‬ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر‬

‫تعلو شفتيه‪.‬‬

‫تخ َّرج على يد الشيخ عدد وافر‪ ،‬نجحوا ك ّلهم في مختلف‬

‫ميادين الحياة‪ ،‬واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته‬

‫الفوالذية أ كثر من استفادتهم من معلوماته‪ ،‬وكانوا جميع ًا‬ ‫يحبونه ويحترمونه‪ ،‬ويخضعون له‪ ،‬كما كانوا في عهدة التلمذة‬ ‫ّ‬

‫والطفولة‪ ،‬فلم يتغ َّير شيخهم في نظرهم‪ ،‬ولم يتغ َّيروا هم كذلك‬

‫في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوها‪ .‬كان الشيخ‬

‫وتحدث بها‬ ‫جد ًا‪ ،‬اش ُت ِهر بها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عبد الباقي يتم َّتع بنفسية عالية ّ‬

‫ّ‬ ‫همته ألحد‪ ،‬وال يلتجئ إلى كائن‬ ‫العام والخاص‪ ،‬فهو ال‬ ‫يحط ّ‬ ‫من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته‬

‫التوصل إليه بنفسه‪،‬‬ ‫شديدة إلى ذلك‪ ،‬فكل شيء ال يستطيع‬ ‫ُّ‬

‫وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه)‬

‫ويعدها من الكماليات التي ال‬ ‫يلغيها‪ ،‬ويحكم بعدم لزومها‬ ‫ّ‬ ‫‪58‬‬


‫لزوم لها‪ ،‬ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية‪،‬‬ ‫وحاجته إليها ماسة‪ ،‬وعاش بذلك عزيز ًا مُ َك َّرم ًا شامخ ًا بأنفه‬ ‫إلى السماء‪ ،‬وال أدري بماذا كان ِ ّ‬ ‫يفكر حينما أدركه الموت‪،‬‬

‫تحدي عزرائيل‪ .‬ولكن الذين شاهدوه في لحظاته‬ ‫وكيف قابل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تدل على الرضا‬ ‫التحدي بابتسامة‬ ‫األخيرة‪ ،‬قالوا إنه َق ِب َل‬ ‫ّ‬

‫واالطمئنان‪ ،‬ولسان حاله يقول‪ :‬اآلن أخضع وأنحني باحترام؛‬

‫فقد القيت ّ‬ ‫حق ًا من يقهرني‪.‬‬

‫***‬

‫‪59‬‬


60


‫العم «نتيش»‬ ‫ُّ‬

‫عرفت العم «نتيش» وكنت حينذاك أتم َّتع بريعان الشباب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي‬

‫أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫تخطى عتبة الشباب‬ ‫العم الذي ال يتخ َّلف عن مجالسنا قد‬

‫بأعوام‪ ،‬وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس‪،‬‬ ‫فتي التفكير كثير المرح‪ ،‬ال يعبأ بمسؤوليات الحياة‬ ‫ولكنه كان َّ‬ ‫وتكاليفها الثقيلة‪ ،‬يقضي يومه وال ِ ّ‬ ‫يفكر في غده‪ ،‬رغم أنه‬

‫كان متز ِّوج ًا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم وفي‬ ‫مستقبلهم‪.‬‬

‫كان رج ً‬ ‫ال بدو ّي ًا‪ ،‬نشأ في البادية‪ ،‬وتربّى فيها‪ ،‬يكره المدن‪،‬‬ ‫‪61‬‬


‫ُّ‬ ‫المعقدة‪ ،‬بل يكره كل شيء مُ َع َّقد في‬ ‫ويمقت تكاليفها‬

‫الحياة‪ ،‬يهوى العيش البسيط‪ ،‬ويقنع منه بأتفه الزاد‪ ،‬يميل‬

‫الجد والعمل‪ ،‬فقد كان كسو ً‬ ‫ال‬ ‫إلى المرح واللهو‪ ،‬ويتب َّرم من‬ ‫ّ‬

‫موهوب ًا‪ ،‬يعيش في أ كناف َع ّمه الذي استوطن الحاضرة منذ‬ ‫متوسطة من عقار ومزارع‪ ،‬حاول عبث ًا‬ ‫عهد طويل‪ ،‬وكوَّن ثروة‬ ‫ِّ‬

‫استغالل مزارعه وسير أعماله‪ ،‬مقابل ما يقوم به من تكاليف‬

‫عيشه وعيش عائلته‪ ،‬فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك‬

‫عمه ذا حزم وعزم ونشاط‬ ‫ال تعرف االنتهاء‪ ،‬فبقدر ما كان ّ‬ ‫يستوجبها ثراؤه وأعمال مزارعه‪ ،‬كان نتيش كسو ً‬ ‫ال ب َِرم ًا بكل‬

‫جدي مثمر‪ .‬يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب‬ ‫عمل ّ‬ ‫الورق و«الدومنة» في ج ّو من المرح والمزاح‪ .‬كان نتيش‬ ‫ّ‬ ‫نحبه ونستأنس به‬ ‫تقدم سنه‪ ،‬وكنا‬ ‫يحتل مكانته الفتية رغم ُّ‬ ‫ّ‬

‫نشجعه على التم ُّرد على‬ ‫للطفه وظرفه‪« .‬نتيش» كان وكنا‬ ‫ِّ‬

‫عمه‪ ،‬ونحثّه على عدم القيام بأي عمل يك ِّلفه به‪ ،‬وكم كان‬ ‫ِّ‬ ‫عمه بإنجاز‬ ‫يس ّره ذلك منا‪ ،‬ولهذا كان يلجأ إلينا ك ّلما ك ِّلفه ّ‬ ‫عمل‪ ،‬وسريع ًا ما نجد له ح ّل ًا لمشكله (ح ّل ًا يرضيه طبع ًا)‪،‬‬

‫عمه‪ ،‬وينتهي كل شيء في رمشة‬ ‫ونجد له عذر ًا‬ ‫َّ‬ ‫يتقدم به إلى ِ ّ‬ ‫يقص علينا‬ ‫عين‪ ،‬وننتقل فور ًا إلى المزاح واللعب‪ ،‬ويروح‬ ‫ّ‬

‫‪62‬‬


‫يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته‬ ‫عمه‪ّ ،‬‬ ‫مغامراته الكثيرة مع ّ‬

‫ونشجعه على االستمرار‬ ‫البدوية‪ ،‬فكنا نضحك لها‪ ،‬ونطرب‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫في مناوءة عمه والتم ُّرد على أوامره‪.‬‬

‫إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه‪ ...‬وذات صباح‪ ،‬بينما‬ ‫ك َّنا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف األحاديث‬

‫والنكات‪ ،‬إذ قدم علينا العم نتيش بقامته فارعة الطول وهيكله‬ ‫الم َج َّرد من اللحم‪ ،‬وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى‬ ‫النحيل ُ‬

‫عمه‪ ،‬وابتسم‬ ‫ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع ِ ّ‬

‫«نتيش»‪ :‬ابتسامة عريضة وقال‪« :‬الدعوة مط ّينة يالوالد‪.»..‬‬

‫«المطينة» فقال‬ ‫وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة‬ ‫ّ‬

‫بهدوء وبساطة‪ :‬زارني البارحة جماعة نصف الليل! وجماعة‬ ‫العم هم اللصوص‪ ،‬قال‪ :‬كنت البارحة‬ ‫نصف الليل في لغة‬ ‫ّ‬ ‫وحدي في المنزل‪ ،‬حيث قضت زوجتي واألطفال ليلتهم عند‬ ‫عمي‪ ،‬كنت مستلقي ًا في فراشي أتص َّيد الكرى‪ ،‬إذ الحظت في‬ ‫عما غال ثمنه‪،‬‬ ‫غسق الليل َّ‬ ‫لص ْي ِن يتجوّالن في غرفتي باحث َْين ّ‬

‫وخ ّ‬ ‫ف وزنه‪ .‬ولكن‪ ،‬مع األسف ماذا يملك نتيش سوى قدر‬ ‫َ‬ ‫من الطين وقصعة من خشب‪ ،‬والمؤونة تأتينا يوم ًا بعد يوم‬

‫من دار عمي موزونة بميزان الذهب‪ ،‬ال تزيد درهم ًا واحد ًا‬ ‫‪63‬‬


‫عن حاجتنا‪ .‬وكنت أنظر إليهما ‪ -‬وضوء المنور ساطع على‬

‫وجهيهما ‪ -‬فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خالي ًا‪ ،‬ولكن‬

‫عالمات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح‪ ،‬وأغاظني أن‬

‫يعودا من حيث أتيا ُ‬ ‫بخ ّفي حنين‪ ،‬فن َّبهتهما إلى ملحفة جديدة‬

‫من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها‬

‫ُ‬ ‫وطلبت منهما أال يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫الخالية‪ ،‬ومنزل عمي‪ ،‬على مقربة من هنا‪ ،‬زاخر بمختلف‬ ‫لص ْين‬ ‫األرزاق والخيرات‪ ...‬قلنا له‪ :‬كيف تفعل ذلك وتُناول ّ‬

‫عمي استعرته‬ ‫غطاءك وغطاء أهلك؟ فضحك وقال‪ :‬إنه ملك ّ‬ ‫منه‪ ،‬وما يضيره أن يصير في يد غيره‪ ،‬وألي شيء تنفع أمواله!‬

‫عمه تعلو شفتيه‪.‬‬ ‫قالها بكل بساطة‪ ،‬وابتسامة االنتصار على ّ‬

‫كان لنتيش غريم اسمه زيان‪ ،‬يكرهه كل الكره‪ ،‬ال لسبب أو‬ ‫داع‪ ،‬وإنما كان يكرهه لوجه الله‪ ،‬كما يقول حينما نسأله عن‬ ‫ٍ‬

‫األسباب والدواعي‪ .‬كانت إحدى سا َق ْي زيان مستعارة من‬ ‫خشب؛ إذ فقد ساقه األصلية في حادث اعتداء لصوص على‬ ‫مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها‪ ،‬وكان السبب الحقيقي‬

‫لكره نتيش له‪ ،‬أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه‪ ،‬ولهذا‬ ‫ينتقده‪ ،‬ويصفه بال َب َله‪ ،‬ويقول‪ :‬إني‪ -‬والله‪ -‬ال أسمح بضياع‬

‫‪64‬‬


‫شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها‪ .‬ويستم ّر في انتقاد‬ ‫زيان فيقول‪ :‬أتظنوني مثل ذلك األبله الذي فقد ساقه من‬ ‫أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟ فماذا كانت فائدته‪،‬‬ ‫سوى ساق من الخشب‪ ،‬يكسر بها بالط المساجد‪ ،‬ويزعج بها‬

‫عباد الله اآلمنين؟! قلنا‪ :‬لو كنت مكانه‪ ،‬أال تفعل مثله؟ قال‪:‬‬

‫عمي‪ -‬في السنة‬ ‫هيهات! وال أذهب بكم بعيد ًا‪ ،‬فقد أرغمني ّ‬ ‫عماله في حراسة الحبوب في البيدر‪،‬‬ ‫الماضية‪ -‬على مشاركة ّ‬

‫وكان بعضها صافي ًا نق ّي ًا‪ ،‬ينتظر نقله إلى المخازن‪ ،‬والبعض‬ ‫مختلط ًا ِب ِت ْب ِنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته‪ .‬وكنا نتناوب‬

‫الحراسة‪ .‬وجاء دوري‪ ،‬وكأن اللص لم يكن ينتظر إال ذلك‪.‬‬

‫قلنا مقاطعين‪ :‬إن اللصوص يعرفون‪ -‬من دون شك‪ -‬تقديرك‬ ‫لهم وعطفك عليهم؟ ابتسم واسترسل يقول‪ :‬وما كاد يستغرق‬

‫لص ًا‬ ‫اآلخرون في النوم حتى شاهدت ‪ -‬على ضوء النجوم ‪ّ -‬‬ ‫يتقدم بخطوات بطيئة نحو البيدر‪ ،‬ولبالهته ترك القمح النقي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المصفى‪ ،‬وقصد كوم ًا من الشعير المختلط بالتبن‪ ،‬فقلت له‪:‬‬

‫ال تنزعج! دونك القمح النقي‪ ،‬امأل منه كيسك واذهب بسالم‪.‬‬

‫وال أدري كيف انتبه أحد النائمين إلى ذلك‪ ،‬فأيقظ اآلخرين‬ ‫واضط ّر المسكين إلى الفرار خالي الوفاض‪ .‬قلنا‪ :‬وكيف كان‬ ‫‪65‬‬


‫علي‪ ،‬ولكني أجبته‬ ‫عمك من عملك هذا؟ قال‪ :‬سخط‬ ‫ّ‬ ‫موقف ّ‬

‫إني ال أريد أن أشارك زيان األبله في إزعاج خلق الله بساق‬ ‫من الخشب‪ ،‬أجني لعنات الناس من أجل كيس من القمح‬

‫ينفع هذا المسكين‪ ،‬وال يؤ ِ ّثر على ثروته شيئ ًا‪ .‬قلنا له‪ :‬إنك‬ ‫وتشجعهم على أعمالهم الشائنة‪ ،‬وهذا‬ ‫تعطف على اللصوص‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫ال يليق بك‪ .‬وكان جوابه‪ :‬إن اللصوص مخلوقات مثلنا‪ ،‬لهم‬ ‫ّ‬ ‫الحق في الحياة والعيش‪ ،‬جعل الله رزقهم من أموال الذين ال‬

‫يدفعون ّ‬ ‫حق الله من الزكاة‪ .‬وكان نتيش يعتقد اعتقاد ًا جازم ًا‬

‫أنه ال يُس َرق إال الذي ال يدفع ّ‬ ‫حق لله من ماله‪ .‬قلنا له‪ :‬لكنها‬ ‫مهنة غيرشريفة وغير مشروعة‪ .‬قال‪ :‬وما ذنبهم؟ إن الله خلقهم‬

‫وخلقها وجمع بينهم‪ .‬قلنا‪ :‬ستستم ّر‪ -‬إذ ًا‪ -‬في الدفاع عنهم‬ ‫سأشجعهم على‬ ‫والعطف عليهم وتشجيعهم؟ قال ضاحك ًا‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫عمي كلها‪ ،‬ما دام ال يحسن االنتفاع بها‪.‬‬ ‫نهب أموال ّ‬

‫عمه قادر ًا على‬ ‫عمه‪ ،‬فلم يعد ّ‬ ‫وساءت األحوال بينه وبين ّ‬

‫احتماله‪ ،‬ففارقه‪ ،‬وعاد نتيش إلى باديته يعيش بين عشيرته‬

‫كما يحلو له أن يعيش تارك ًا لنا فراغ ًا عظيم ًا‪ ،‬وذكريات عذبة‪.‬‬

‫***‬ ‫‪66‬‬


67


68


‫الس ِّكير‬ ‫ِّ‬

‫إنه َل ِس ّكير عجيب‪ ،‬ال يشبه غيره من مدمني الخمور؛ ألن الخمر‬

‫ال تبعث في نفسه الغبطة والسرور‪ ،‬كما تفعله عادة في نفوس‬ ‫ّ‬ ‫السكيرين‪ ،‬بل تثير في نفسه الحسرة والندم‪ ،‬فيغدو‬ ‫غيره من‬ ‫يتوجع وينتحب‪ ،‬ودمعه منهمر على خديه كالطفل المذنب‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تع ّرفت إلى هذا الرجل بعد هذه الحرب األخيرة‪ ،‬وقد كنت‬

‫أهلية‪ ،‬وكانت صلة الوصل‪ ،‬بيني وبينه‪ ،‬ابنته‬ ‫مدير ًا لمدرسة‬ ‫ّ‬ ‫التي كانت تتع َّلم في مدرستي‪ .‬كان الرجل والد ًا‪ ،‬والد ًا‬ ‫رحيم ًا‪ ،‬إذ كانت له طفلة جميلة في الثامن من عمرها‪ ،‬كأنها‬

‫يحبها‬ ‫مالك‪ ،‬يفيض وجهها الصبوح بأنوار الطهر والبراءة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪69‬‬


‫يحبها َح ّد العبادة‪ ،‬ولهذا كانت سبب‬ ‫حب ًا عنيف ًا طاغي ًا‪ّ ،‬‬ ‫والدها ّ‬

‫سعادته وسبب شقائه في الوقت نفسه‪ .‬كانت تلك الطفلة ‪-‬‬ ‫واسمها حورية ‪ -‬سبب سعادة لوالدها؛ ألنه كان يعيش لها‬

‫وحدها‪ ،‬يعيش من أجلها‪ ،‬يحيا لها وبها‪ ،‬ال يشاركها في قلبه‬ ‫وعواطفه شريك ال بعيد وال قريب‪ ،‬فهي كل آماله وأمانيه‬ ‫في الحياة‪ .‬فقدت حورية والدتها وهي صبية في المهد‪،‬‬

‫فقام والدها مقام األم واألب‪ ،‬فأحاطها بح ّبه وعطفه وحن ِّوه‪،‬‬ ‫البنية كل جزء من قلبه وروحه‪ ،‬فأصبحت تشغل كل‬ ‫واحت َّلت‬ ‫ّ‬

‫َّ‬ ‫ويتعذب ألقل ألم يصيبها‪ ،‬كانت تمأل‬ ‫حياته‪ ،‬ي َُس ّر البتسامتها‪،‬‬

‫دنياه بالسعادة والسرور‪ .‬يقودها كل يوم بنفسه إلى المدرسة‪،‬‬

‫ويعود بها عقب الدرس صباح ًا ومساء في مواعيد محدودة‬ ‫دقيقة ال يتخ َّلف عنها أبد ًا‪ ،‬وال يعوقه عائق‪ -‬مهما كان‬

‫جسيم ًا‪ -‬عن مرافقتها في غدوّها وفي رواحها‪ .‬كان هذا الوالد‬ ‫بحب ابنته ّ‬ ‫سكير ًا مدمن ًا على شرب الخمور‪ ،‬ال‬ ‫الرحيم المد ّله‬ ‫ّ‬

‫يكاد يفارق عمله مساء كل يوم حتى تقوده رجاله إلى أقرب‬ ‫فيعب من الخمر إلى أن تمتلئ بطنه‪ ،‬ويغيب عقله‪،‬‬ ‫خمارة‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫ويفتكر حينئذ بنته وهي في مدرستها تنتظر قدومه ليعود بها‬ ‫إلى المنزل‪ ،‬فيثور ضميره مؤنّب ًا‪ ،‬ويستعظم جرمه‪ ،‬ويصير‪ -‬وهو‬

‫‪70‬‬


‫تحت تأثير الخمر‪ -‬ينتحب كالطفل الصغير‪ ...‬كيف يقابل‬

‫ابنته المحبوبة ومالكه الطاهر وهو على ما هو عليه من الخزي‬

‫والعار؟‬

‫شاهدته ألول مرة وقد كان جالس ًا على مقربة من مديري إدارة‬ ‫المدرسة‪ ،‬جالس ًا في هدوء وسكون‪ ،‬وعيناه تذرفان الدموع‪،‬‬

‫فأدهشني أمره‪ ،‬وكأنه انتبه لما أنا فيه من الدهشة والحيرة‪،‬‬ ‫فابتدرني قائ ً‬ ‫ال‪ :‬أنا والد حورية‪ .‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬مرحب ًا بك‪ .‬قال‪،‬‬

‫وهو مسترسل في البكاء‪ :‬هل يجوز لمن كانت له ابنة مثل‬ ‫ُ‬ ‫حرت في‬ ‫حورية تدرس العلم الشريف‪ ،‬أن يشرب الخمر؟‬ ‫الجواب‪ ،‬وعلمت أني أمام رجل مخمور‪ .‬ولم ينتظر جوابي‪،‬‬

‫ِّ‬ ‫متقطع يشوبه البكاء والنحيب‪:‬‬ ‫بل استرسل يتك َّلم بصوت‬

‫كيف أقابلها؟ هل أجرؤ على رؤيتها ومقابلتها وأنا على هذه‬ ‫الحالة اللعينة؟ ال‪ ...‬ال أستطيع أن ألمس يدها الطاهرة بيدي‬ ‫تحمل‬ ‫النجسة‪ .‬ما أشقاني‪ ،‬وما أتعسني! إني ال أقوى على‬ ‫ُّ‬

‫المقدسة‪ ،‬وأنا كالخنزير تفوح رائحة الخمور‬ ‫نظرتها الطاهرة‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫أخفف عنه آالمه‪ ،‬وأه ِّون عليه خطبه‪،‬‬ ‫من فمي‪ .‬أخذت‬

‫ودعوته لالنصراف إلى منزله ما دام ال يرغب في رؤية ابنته‬

‫وهو على هذه الحالة‪ ،‬ووعدته بتكليف أحد التالميذ الكبار‬ ‫‪71‬‬


‫بمرافقتها‪ ،‬فما عليه إال أن يك ّلف من يستقبلها من جيرته‬ ‫وذويه‪ ،‬وصاح الرجل قائ ً‬ ‫أطمئن عليها‬ ‫ال‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬إني ال‬ ‫ّ‬

‫وهي برفقة تلميذ‪ ،‬إني أخشى عليها من السيارات‪ .‬وما كان‬ ‫مني إال أن طمأنته‪ ،‬ووعدته بمرافقتها بنفسي إلى المنزل‪.‬‬

‫فرح الرجل‪ ،‬وأخذ يهذي بخليط من كلمات الشكر والحمد‪،‬‬

‫وانصرف يتأرجح في مشيته‪.‬‬

‫استم ّر الرجل على هذه الحالة جاع ً‬ ‫ال من نفسه ميدان ًا لمعركة‬ ‫فتشن‪ ،‬تارة‪ ،‬جيوش الخير‬ ‫عنيفة بين عوامل الخير والشر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ويكف الرجل عن‬ ‫البنية‪ ،‬فتنتصر‬ ‫حب هذه‬ ‫غارتها يقودها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تناول الخمر أيام ًا يقضيها سعيد ًا بابنته راضي ًا عن نفسه‪ ،‬ثم‬ ‫ِّ‬ ‫المتمكن‬ ‫تعيد جيوش الشر غارتها‪ ،‬يناصرها جرثوم الخمر‬

‫ويشجعها رفقة السوء من روّاد الحانات وعشّ اق‬ ‫من نفسه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الس ْكر‪ ،‬ويعود إلى البكاء والنحيب‪ ،‬ويعود‬ ‫الرحيق‪ ،‬فيعود إلى ُّ‬

‫يحبها‬ ‫ضميره إلى التأنيب‪ ،‬وكل ذلك من أجل ابنته التي‬ ‫ّ‬ ‫إلى َح ّد العبادة‪ ،‬ويسوءه أن تنتسب إلى والد ّ‬ ‫سكير قذر‪ ،‬إنه‬

‫الس ْكر‪ ،‬ال خوف ًا من الله‪ ،‬وال حياء‬ ‫يريد أن يقلع عن رذيلة ُّ‬

‫ّ‬ ‫يحط من‬ ‫البنية؛ ألن ذلك‬ ‫من المجتمع‪ ،‬ولكن من أجل هذه‬ ‫ّ‬ ‫كرامتها‪ ،‬ويُنقص من قيمتها‪ .‬وهو يريدها كاملة ال تشوبها‬

‫‪72‬‬


‫شائبة نقص‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السكير في‬ ‫وتركت‬ ‫تركت المدرسة في نهاية السنة الدراسية‬ ‫صراعه العنيف مع نفسه‪ ،‬وإني ال أدري إذا ما تغ َّلب جانب‬ ‫تشعه من أنوراها في‬ ‫الفضيلة الذي تحميه ابنته حورية بما‬ ‫ّ‬

‫دنياه المظلمة‪ ،‬أو تغ ّلب جانب الرذيلة الذي تناصره شهوة‬

‫النفس وإغراء رفقة السوء‪.‬‬

‫***‬

‫‪73‬‬


74


‫رجل من الناس‬

‫يسمون أنفسهم ‪ -‬هم عبارة عن نفر‬ ‫«زمرة األصدقاء» كما‬ ‫ّ‬

‫وحدت بينهم فضائلهم‪ ،‬ألن‬ ‫من الشبان من أوساط الشعب‪َّ ،‬‬

‫توحد بين القلوب‬ ‫الفضائل‪ -‬وحدها‪ -‬هي التي تستطيع أن ِ ّ‬ ‫توحيد ًا متين ًا ال يقوى االنفصام على زعزعة أركانه‪ ،‬وجمعهم‬

‫اتّحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم‪ ،‬وآخى بينهم صفاء قلوبهم‬ ‫ورقة عواطفهم‪ ،‬فأصبحوا مث ً‬ ‫ّ‬ ‫ال لألخوّة الصادقة‪ ،‬والصداقة‬

‫الخالصة‪ ،‬ورمز ًا عظيم ًا للمحبة والوفاء‪ ،‬تجمعهم كل يوم بعد‬

‫انتهاء أعمالهم‪ ،‬مجالس األنس والسرور‪ ،‬ال يكاد يغيب واحد‬ ‫ّ‬ ‫وتفقدوه‪ .‬كان خالد ‪ -‬الذي ال يفارقهم‬ ‫منهم إال افتقدوه‬

‫‪75‬‬


‫أبد ًا‪ ،‬وال يتخلف عن مجلسهم ‪ -‬رج ً‬ ‫ال غريب الديار يعرفون‬ ‫أنه نزح إلى هذه البالد منذ سنين بمفرده‪ ،‬وكل ما يعرفون‬ ‫يحدثهم عنها‬ ‫عنه أنه أعزب‪ ،‬وجاء من بالد نائية لم يشأ أن‬ ‫ِّ‬

‫طيلة ا ِ ّتصاله بهم‪ ،‬وأنه «رجل من الناس» ال أكثر وال أقل‪،‬‬ ‫كما يقول عن نفسه‪ ،‬كلما سأله أحد عن أصله وموطنه‪ .‬ولم‬ ‫يلح عليه في الكشف عن‬ ‫يخطر يوم ًا على بال أحدهم أن ّ‬ ‫ماضيه‪ ،‬مكتفي ًا بحاضره‪ ،‬وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم‬

‫بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه‪ ،‬وأنه «رجل من الناس»‪ ،‬وحس ُبهم‬

‫ذلك‪ ،‬ويعلمون‪ -‬فوق ذلك‪ -‬أنه عامل مثلهم‪ ،‬يشتغل بالكتابة‬ ‫عند تاجر جشع بمرتَّب زهيد‪ ،‬رغم سعة معلوماته وكرم أخالقه‬

‫ويحس الجميع بتأ ّلمه من حقارة‬ ‫وإخالصه في عمله الكثير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزِّ ع ج ّله على الفقراء والمساكين‪،‬‬

‫ولم يعرفوه يوم ًا ر ََّد سائ ً‬ ‫ال‪ ،‬أو اشتكى لهم الفاقة واالحتياج‪،‬‬

‫فاالبتسامة ال تكاد تفارق شفتيه‪ ،‬فهو دائم ًا في مرح وسرور‪،‬‬ ‫يمازح هذا‪ ،‬ويحادث هذا‪ ،‬يسأل ذا‪ ،‬ويجيب اآلخر‪ .‬وهكذا‬

‫ّ‬ ‫يلتفون حوله كل مساء‬ ‫كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم‪،‬‬

‫ّ‬ ‫ويظل يحادثهم ويباسطهم‪ ،‬والجميع سابحون‬ ‫فيتصدر جمعهم‪،‬‬ ‫َّ‬

‫في ج ّو مرح‪ ،‬كله غبطة وسرور‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من األصدقاء نظرات مختلفة؛‬ ‫فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا االئتالف‪ ،‬ومنهم الحاسد‬

‫المودة‪ ،‬وكم حاولت جيوش الحسد‪-‬‬ ‫على هذا الصفا وهذه‬ ‫ّ‬ ‫بغارتها الشعواء‪ -‬أن ِ ّ‬ ‫تفكك عرى صداقتهم! وكم حاولت ألسنة‬ ‫السوء أن تش ِ ّتت جمعهم دون جدوى! ولم يزدهم كالم الناس‬

‫إال ابتعاد ًا عن الناس وصحب ًة وارتباط ًا‪ ،‬ولم تزدهم محاوالت‬

‫والمودة‪.‬‬ ‫الحساد إال توطيد ًا لدعائم الصداقة‬ ‫ّ‬

‫شاب في العقد الثالث من عمره‪ ،‬يتم َّتع بثقافة‬ ‫«خالد»‬ ‫ّ‬ ‫متوسطة جامعة‪ ،‬أخذ من كل فن ّ‬ ‫حظ ًا وافر ًا‪ ،‬سليم الطبع‪ ،‬حلو‬ ‫ّ‬

‫همة عالية وأخالق فاضلة‪ ،‬تعلو‬ ‫الفكاهة‪ ،‬كريم النفس‪ ،‬ذو ّ‬ ‫شفتيه ابتسامة عذبة ال تكاد تفارقه إال إذا خال إلى نفسه‪،‬‬

‫وتعمق في بحور أفكاره‪ ،‬فتغمره سحابة من الكآبة والحزن‬ ‫َّ‬ ‫أشد حاالت‬ ‫ال يعرف أحد مصدرها‪ .‬وكثير ًا ما تجده في‬ ‫ّ‬ ‫السرور‪ ،‬إذا به ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة‪ ،‬ويغيب‬

‫بفكره عن جماعته‪ ،‬فينتبهون لذلك‪ ،‬ويصيح الجميع مازحين‪:‬‬ ‫كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد؟ َع ّلها‬

‫كانت تحمل بضاعة كثيرة؟ وينتبه خالد من غفوته‪ ،‬ويعود‬ ‫فيرد على النكتة بأحسن منها‪ ،‬ثم تسمع‬ ‫إلى نفسه ومجلسه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪77‬‬


‫ّ‬ ‫«صفارة‬ ‫سعلته الخفيفة المعتادة‪ ،‬التي يسميها جماعته‬

‫اإلنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم‪ ،‬فينقلب‬ ‫الجد‪ ،‬ويفتح الجميع قلوبهم‬ ‫المجلس بغتة من المزاح إلى‬ ‫ّ‬

‫وآذانهم كأنهم تالميذ ُس ّذج‪ ،‬ويبتدرهم خالد بقوله‪ :‬إني ال‬ ‫أ كاد ّ‬ ‫وأهتم بأموري الخاصة‬ ‫أفكر في نفسي‪ -‬يا إخواني‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة‪ ،‬فكل شيء‬ ‫في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآالمي‪ ،‬تحزنني هذه الفضيلة‬

‫لب‪ ،‬مظهر ًا دون مخبر‪ ،‬أصبحت ز ّي ًا‬ ‫التي أصبحت قشور ًا دون ّ‬

‫يتزيّن به اإلنسان أمام الناس‪ ،‬ويخلعه إذا ما خال إلى نفسه‪،‬‬

‫وبذلك أضاف اإلنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة؛‬ ‫أصبحت الفضيلة أثاث ًا ماد ّي ًا يرثه االبن عن أبيه‪ ،‬ويشتريه ذو‬

‫يردده كل‬ ‫المال بثمن زهيد‪ ،‬فلم تعد الفضيلة شعار ًا سامي ًا ِ ّ‬

‫من عصمه الله من الرذائل‪ ،‬فمسخت الفضيلة غير الفضيلة‬ ‫وانتزعت روحها‪ ،‬فلم َ‬ ‫يبق سوى جثمانها جثة هامدة ال روح‬

‫لها وال إحساس‪ ...‬وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ‬ ‫المجتمع ونقده‪ ،‬وإبداء نظرته إلى الحياة‪ ،‬وجماعته يؤمنون‬

‫بقوله‪ ،‬وبدا‪ ،‬بذلك‪ّ ،‬‬ ‫شاذ ًا عن هذه البيئة التي ُق ِ ّدر له أن يعيش‬ ‫فيها‪ ،‬وزد على ذلك صراحته التي ُعرف بها‪ ،‬والتي كثير ًا ما‬

‫‪78‬‬


‫تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم‪ ،‬رغم‬

‫محاوالته‪ -‬دائم ًا‪ -‬االبتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين‬

‫ال تحلو لهم الحياة إال في َج ّو من النفاق والكذب‪ ،‬وربما‬

‫خرجت به هذه الصراحة إلى َح ّد أنها سببت له متاعب مادية‬ ‫وأدبية ال يُح َتفل بها وال يُل َت َفت إليها‪ .‬هكذا عاش هذا «الرجل‬

‫من الناس» مع الناس وشاع خبره بينهم‪ ،‬فرغب البعض في‬

‫التعرف إليه واالتصال به‪ ،‬بينما زهد آخرون في االجتماع‬

‫به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر‪ ،‬أما هو فقد اكتفى‬ ‫بجماعته البسيطة ال يريد عنهم بدي ً‬ ‫ال‪ ،‬ولكن كل ذلك لم يمنع‬

‫الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب‪ ،‬مدفوعين‬

‫بدافع الفضول‪ ،‬فمن أين أتى؟ وإلى ّ‬ ‫أي عائلة ينتمي؟ وفي‬

‫ّ‬ ‫حدة‬ ‫أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله‪ ،‬فإن ّ‬

‫وحدة أعصابه أخرستا ألسنة الفضوليين‪ .‬وعاش خالد‬ ‫لسانه‬ ‫ّ‬ ‫في أ كناف هذا الغموض كما أراد واشتهى‪ ،‬واستمرت حياته‬ ‫متتالية متشابهة ال يكاد يختلف يومه عن غده‪ ،‬راضي ًا بمصيره‬

‫ال يتب َّرم وال يشتكي‪ ،‬قانع ًا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة‬ ‫ومجتمعه البسيط‪ .‬وذات يوم زار زائر أجنبي خالد ًا‪ ،‬علم به‬

‫كل من في البلدة‪ ،‬رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة‬ ‫‪79‬‬


‫مقتضبة وفي ليلة حالكة الظالم‪ ،‬أشاع خبرها جار لخالد‪ ،‬لم‬ ‫يتعوّد منه استقبال زوار في حجرته ال لي ً‬ ‫ال وال نهار ًا‪ ،‬وذهب‬

‫الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته‪ ،‬ولزم خالد‬ ‫الصمت فلم يذكر شيئ ًا قلي ً‬ ‫ال أو كثير ًا عن هذه الزيارة‪ ،‬ولم‬

‫يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو‬

‫في الكتمان‪ ،‬ثم إنهم لم يتعوَّدوا منه أن يدخلهم في شؤونه‬

‫الخاصة‪ .‬رغم أنهم الحظوا عليه تبدي ً‬ ‫ال واضح ًا‪ ،‬حيث أصبح‬

‫الرجل في وجوم متواصل‪ ،‬يتك َّلف االبتسام والدعابة‪ .‬وبدأ‬

‫جلي ًا‪ ،‬مما يدل على أنه يقاسي‬ ‫الشحوب على قسمات وجهه ّ‬

‫أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع‪ ،‬ولكن‪ ،‬راعهم منه أنه‬ ‫يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئ ًا‪ ،‬واستم ّر على هذه‬ ‫لم ِ ّ‬

‫الحالة أيام ًا عديدة كانت بالنسبة له قرون ًا طويلة ال نهاية لها‪،‬‬

‫يعد دقائقها وثوانيها‪ .‬وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر‬ ‫ّ‬

‫الشرطي الس ّري الذي ألقى القبض على خالد‪ ،‬ونقله معه في‬

‫يتكهنون‬ ‫سيارته إلى حيث ال يدرون‪ .‬وغدا الناس أيام ًا‪ ،‬وهم‬ ‫َّ‬ ‫محاولين كشف السر ومعرفة جرمه‪ :‬فمن قائل إنه جاسوس‬

‫يعمل لحساب دولة أجنبية‪ ،‬وأجاب آخرون‪ :‬إن الجاسوس‬ ‫ال يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة‪ ،‬لم يُعرف عنه أنه فارقها‬

‫‪80‬‬


‫منذ استوطنها‪ .‬وقال آخرون إنه مجرم أثيم‪ ،‬يتس َّتر تحت رداء‬

‫الفضيلة وحمايتها‪ .‬غير أن الذين عرفوه واتَّصلوا به عن كثب‬

‫ردوا عنه هذه التهمة‪ ،‬واستبعدوا منه صدور الجريمة‪ ،‬وذلك‬

‫لما يعرفون فيه من األخالق الفاضلة والعواطف السامية‪.‬‬

‫التكهنات والتخ ُّيالت‪ ،‬ولكن أحد ًا لم يستطع أن‬ ‫وهكذا كثرت‬ ‫ُّ‬

‫وتوصل إلى معرفة الس ّر الخفي‪.‬‬ ‫يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫سدل النسيان ستائره على حادث خالد‪ ،‬فنسيه‬ ‫ومرت األيام‪ ،‬و َأ َ‬

‫الناس‪ ،‬حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه‪ ،‬وانتقل الجميع‬ ‫جدة وطرافة‪ .‬وهكذا‬ ‫من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أ كثر ّ‬ ‫عاش «رجل من الناس» بينهم لغز ًا غامض ًا دون أن يترك لهم‬

‫لح ّل طلسمه الغامض الخفي‪.‬‬ ‫مفتاح ًا َ‬

‫***‬

‫‪81‬‬


82


‫فقاقيع األدب‬

‫من نكد العربية واألدب العربي في هذه البالد أن ن َ​َك َبهما‬

‫ِّ‬ ‫المتطفلين المغرورين‪ ،‬وجدوا الميدان خالي ًا‬ ‫الزمان ببعض‬

‫ال حسيب وال رقيب‪ ،‬واتَّسعت لهم أعمدة الصحف تشجيع ًا‬ ‫لهم‪ ،‬فغ َّرهم هذا التشجيع وظ ّنوها عروش األدب وقد اعتلوها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فتنكبوا عن جادة األدب الصحيح‪ ،‬وانحرفوا عن صراطه‬ ‫َّ‬ ‫وعكروا منهله الصافي‪ .‬حيث ذهبوا يف ّلون قمامات‬ ‫المبين‪،‬‬

‫الصحف والمجالت‪ ،‬يلتقطون منها بعض التعاريف الشاذة‪،‬‬

‫والرطانات النابية‪ ،‬يتشدقون بها في مجالسهم ثم يقحمونها‬ ‫في مقاالت يش ِّوهون بها صحائف األدب الناصعة‪ ،‬وينكبون‬ ‫‪83‬‬


‫بها القراء‪ ،‬ويأخذ القارئ البسيط يقرأ ويعيد‪ ،‬وهو ال يفهم‬

‫شيئ ًا‪ ،‬في ّتهم فهمه‪ ،‬وي ّتهم ذوقه وهو ال يدري أن هؤالء الك َّتاب‬

‫طياتها ما‬ ‫أنفسهم ال يفهمون مما يكتبون شيئ ًا‪ ،‬وال يوجد في ّ‬ ‫يتط َّلب الفهم‪.‬‬

‫األدب العربي أدب األسلوب السلس والمعنى المتين‪ ،‬أدب‬ ‫ّ‬ ‫صلة إلى هذه الشقشقة الغامضة‬ ‫البيان والتبيين‪ ،‬ال‬ ‫يمت ِب ِ‬

‫وأقدم إلى‬ ‫المخ َّنثة التي ُأغرم بها هؤالء الفقاقيع أيّما غرام‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫القارئ أنموذج ًا من هذا اللون من األدب الملتوي‪ .‬وال تحاول‬

‫أيها القارئ أن تفهم منه شيئ ًا‪ ،‬فهو فارغ ال يحتوي على مادة‬ ‫ت َ‬ ‫ُفهم‪.‬‬ ‫ُهضم أو معنى ي َ‬

‫قال أحد فقاقيع األدب لزميله‪ ،‬وقد جمعتهما ندوة ندية‪،‬‬ ‫كتشدقه‬ ‫يتشدق بمضغها‬ ‫وكان كل منهما يلوك ِلبانة أميركية‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بمضغ كلماته‪ :‬ما قولك في السم ّو الفني يا عزيزي؟ فأجابه‬ ‫عزيزه قائ ً‬ ‫ال‪ :‬ال يستقيم السم ّو الفني في خمائله الفينانة إال‬

‫إذا كان نتيجة إيجابية مشرقة الجانب التصويري‪ ،‬تمتاز بروح‬ ‫التعمق‪ ،‬بعيدة عن طابع السطحية‪ ،‬ال سيما إذا كان الصدق‬ ‫ُّ‬

‫العاطفي أبرز معانيه‪ ،‬والطابع النفسي هو مقياس الجمال‬ ‫في فلسفته الماورائية‪ .‬أما التج ّلي الالمع الذي تبدو طقوسه‬

‫‪84‬‬


‫جلية في معبد الجمال فال تستقيم قدسيته إال إذا اتّصل‬ ‫الب ّراقة ّ‬

‫طرفه بالذوق الذاتي‪ ،‬وإن كان هذا األخير إكالسيكية حديثة‬ ‫من أبرز معاني «الرصيد الفني» الذي ي َُع ّد اليوم من أخصب‬ ‫عناصر األدب الحديث وخصائصه األصلية‪ .‬ورفع الثاني طرف‬ ‫جبته‪ ،‬واستوى في مقعده وقال‪ :‬هذا ّ‬ ‫حق يا عزيزي‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫الرومنتيكية التي تتج ّلى بوضوح في نفثات بعض ك ّتابنا‪ ،‬يبدو‬

‫لي أن الجانب الرمزي فيها ينقصه محراب الفن ليتب َّرز في‬

‫إطار روحي‪ ،‬أبدعته ريشة الفنان المطبوع‪ ،‬هذا وحده هو‬ ‫التعمق في البحث إذا ما أردنا أن تستقيم لنا ذاتية‬ ‫جانب‬ ‫ُّ‬

‫التعمق الفكري‬ ‫الهيكل‪ ،‬وتنسجم لنا ألوان الرسم‪ ،‬ويخضع لنا‬ ‫ُّ‬

‫تشع أحالمه الذهبية في منعرجات‬ ‫في معانيه البارزة حيث‬ ‫ّ‬

‫أنغامه الموسيقية فيبدو في إشراقة الفجر‪ ،‬وقد تخ َّلص من‬

‫ّ‬ ‫الندي في‬ ‫الجفاف الفكري‪ ،‬وتح ّلى بطابع السمو والمعنى‬ ‫أعماق التجربة الشعورية‪.‬‬

‫تنس أن األصالة في اإلشعاع‬ ‫أنا أوافقك إلى َح ّد يا أستاذ‪ ،‬ولكن ال َ‬ ‫الذوقي فرع من الالشعورية القارّة‪ ،‬وذاتية األدب ال تقوم جوانبها‬ ‫َّ‬ ‫وتحككت بموضوعية العلم‪،‬‬ ‫إال إذا اعتمدت على تركيز النقد‪،‬‬

‫ولو من بعيد‪ ،‬دون أن تخلو من أشعة األداء النفسي‪.‬‬

‫‪85‬‬


‫ ّ‬‫التعمق في البحث الحديث يجب‬ ‫حق ًا‪ ،‬تلك هي أسس‬ ‫ُّ‬ ‫على ُ‬ ‫الك ّتاب أال يهملوها إذا ما أرادوا التحليق في أجواء‬ ‫اإلبداع الفني‪ ،‬وأرادوا أن يستقيم لهم التجاوب الفعال ذو‬

‫األصداء الحالمة في صفته االنطوائية الصاخبة بالحيوية‬ ‫العارمة المنسابة من ينابيع العبقرية الجامحة‪ ،‬التي ال تخضع‬

‫إال لألسلوب الحديث المتم ِّرد عن األوضاع البيئية‪ ،‬المتع ِّلقة‪،‬‬

‫دوم ًا‪ ،‬بالمه ّية الك ّل ّية‪.‬‬

‫سطحيون‪ ،‬ابتعدوا كل البعد عن‬ ‫ فإن كتابنا يا أستاذي‪،‬‬‫ّ‬

‫تبدد أنواره الالهوتية تلك‬ ‫األدب الوجداني الملتزم الذي ِ ّ‬ ‫الحسية‪ ،‬فتفقدها‬ ‫الظلمة الكثيفة التي تكشف الروحانية‬ ‫ِّ‬ ‫المستم ّدة من قبس اإلبداع الفني الرائع‪.‬‬ ‫الحرارة األثيرية‬ ‫َ‬

‫ نعم‪ ،‬نعم‪ ...‬أنا ال أشك في أن هذا‪ -‬وحده‪ -‬هو الطرف‬‫سطحي ال يستند‬ ‫اإليجابي في السم ّو الفني‪ ،‬وما عداه فك ّله‬ ‫ّ‬

‫التعمق المرتكز‪ ،‬وال يرتكز على السم ّو العميق‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫ُّ‬

‫وبعد‪ ،‬فهذا أنموذج من أدب «السونيق» الحديث وقد راجت‬

‫سوقه بين أدباء المظهر في الشرق قبل سنوات‪ ،‬ولكن الشرق‬ ‫وجهها‬ ‫تخ َّلص منه بعض الشيء‪ ،‬بعد الضربات القاسية التي َّ‬

‫له الزيات وحسين شفيق المصري وغيرهما‪ ،‬وكنا نظن أن‬ ‫‪86‬‬


‫العربية تخ َّلصت منه إلى األبد‪ ،‬وإذا بنا نرى بوادره في أدبنا‬

‫وقد بدت في صور أ كثر انحال ً‬ ‫وأشد غموض ًا‪ ،‬ولكننا له‬ ‫ال‬ ‫ّ‬

‫بالمرصاد‪ ،‬وسنقضي على بذوره قبل استفحالها‪ ،‬وال نقبل في‬ ‫عربي ًا مبين ًا‪ ،‬أخذ من الماضي متانته‪،‬‬ ‫شمالنا اإلفريقي إال أدب ًا‬ ‫ّ‬

‫شعبي ًا مفيد ًا‪ .‬وليذهب الرصيد‬ ‫ومن الحاضر سالسته‪ ،‬أدب ًا‬ ‫ّ‬ ‫الفني والشعورية القارّة وفقاقيع األدب إلى الجحيم‪.‬‬

‫***‬

‫‪87‬‬


88


‫المرتجلة‬ ‫الشخصيات‬ ‫َ‬

‫جاء في معجم اللغة‪ :‬ارتجل الطعام أي‪ :‬طبخه في المرجل‪،‬‬ ‫وارتجل الكالم أي‪ :‬ألقاه دون رويّة أو تحضير‪ .‬أما الشخصية‬

‫المرتجلة في معجم الحقيقة المرة‪ ،‬فقد جمعت بين المعنيين‬

‫لهذه الكلمة‪ :‬الطبخ‪ ،‬وعدم اإلعداد والتحضير‪ .‬وإذا أمعنت‬ ‫النظر‪ ،‬ود َّققت الفهم في الطبخ واالرتجال‪ ،‬ي ّتضح لك‪ ،‬بجالء‪،‬‬

‫أنهما متقاربان في المعنى‪ ،‬حتى أننا نجد كثير ًا من الك َّتاب‬

‫يطلقون كلمة (الطبخ) على معنى االرتجال‪ ،‬فيقولون‪ :‬طبخ‬

‫ّ‬ ‫مشقة‬ ‫فالن كتابه‪ ،‬أي أ ّلفه بسرعة دون عناء في التدقيق أو‬ ‫بأتم معناه‪ .‬أما الشخصية‬ ‫في البحث‪ ،‬وذلك هو االرتجال‬ ‫ّ‬ ‫المرتجلة‪ ،‬فهي تلك الشخصية التي تُط َبخ على عجل في‬ ‫‪89‬‬


‫وحب الذات‪ ،‬فلم ينضج منها إال ظاهرها‪ ،‬ثم‬ ‫مرجل األنانية‬ ‫ّ‬ ‫تغمس في سائل كيمياوي عجيب ر ِ ُّكب من الدجل والغرور‬

‫والشهوات الجائعة‪ ،‬فهو يشبه العسل في مظهره‪ ،‬ولكنه يخالفه‬ ‫في مخبره‪ .‬وبعد هذا الطبخ السريع‪ ،‬والطالء الزائف تنزل‬ ‫المرتجلة‪ ،‬على المجتمع كجنود المظالت‬ ‫هذه الشخصيات‬ ‫َ‬

‫تحب‬ ‫دون سابق إنذار‪ ،‬لتفرض نفسهاضريبة ثقيلة على األمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرئاسة وتريد القيادة‪ ،‬وتهيم بالزعامة‪ ،‬ولكن‪ ،‬ليس لديها من‬ ‫المؤهالت سوى ذلك الطالء الزائف الذي ال يوجد تحته‬ ‫ّ‬

‫سوى مطامع دنيئة ودعوى خاوية‪.‬‬

‫المرتجلة تتبختر في مظاهرها الزاهية‬ ‫وتغدو هذه الشخصيات‬ ‫َ‬ ‫ومخابرها القاتمة‪ ،‬وهي تصرخ بوقاحة في وجه األمة‪ :‬س ِّلميني‬ ‫زمام القيادة! ّ‬ ‫رقيني إلى منبر الزعامة! أجلسيني على عرش‬ ‫العظمة!‬

‫واألمم‪ -‬وإن اختلفت في درجات الثقافة والجهل‪ ،‬وتفاوتت‬ ‫في مقدار الرقي واالنحطاط‪ -‬لم تختلف أبد ًا في فهم‬ ‫الزعيم الحق‪ ،‬ولم تخطئ أبد ًا في اختيار القائد الصالح‪.‬‬

‫فهي كلها تحسن اختيار القائد‪ ،‬وتصيب في تزعيم الزعيم‪،‬‬ ‫وتدرك إلى من تنقاد وتطيع‪ ،‬وذلك عائد إلى حواس فطرية‬

‫‪90‬‬


‫ضد االنحالل واالنحدار‪،‬‬ ‫وإدراك طبيعي‪ ،‬وهو عنصر المناعة ّ‬ ‫خلقه الله في جسم األمة‪ ،‬ال دخل للعلم واالكتساب فيه‪.‬‬ ‫ولم نجد أمة انخدعت في اختيار زعيم‪ ،‬ولم نجدها كذلك‬

‫ّ‬ ‫يستحق الخذالن‪ ،‬ولهذا كان حكمها دائم ًا‬ ‫خذلت شخص ًا ال‬

‫التقدم‬ ‫هو أصدق األحكام‪ .‬وبينما نجد األمة تتس ُّلق درجات‬ ‫ُّ‬ ‫تطن في سمائها‬ ‫بصعوبة وعناء‪ ،‬إذا بهذه الشخصيات‬ ‫المرتجلة ّ‬ ‫َ‬

‫كالذباب‪ ،‬فال تلتفت إليها حتى إذا ما أزعجتها وأقلقتها‪،‬‬

‫أعارتها التفاتة بسيطة‪ ،‬ال لتسمع إلى دعوتها‪ ،‬أو تنخدع إلى‬ ‫حيلها‪ ،‬وإنما لتلقي بها في مهاوي الحضيض‪ ،‬لتتخ َّلص من‬

‫وقاحتها وعرقلتها‪ ،‬ثم تمضي ُق ُدم ًا في طريقها‪ ،‬ال تلوي على‬ ‫شيء‪ .‬يظلم بعض الناس هذه الشخصيات‪ ،‬فيقولون عنها‪:‬‬

‫«إنها مصابة بداء العظمة»‪ .‬وكما أنني ذكرت هنا ما على‬ ‫هذه الشخصيات‪ ،‬يجمل بي أن أذكر ما لها‪ ،‬فأعترف أنها‬ ‫مظلومة في هذه الوصمة كل الظلم‪ .‬فإن داء العظمة‪ ،‬هو ذلك‬

‫الداء الخطير الذي أصيب به المتنبي شاعر العربية وفيلسوفها‪،‬‬ ‫وأصيب به قرينه «فولتير» شاعر الفرنسية وفيلسوفها‪ ،‬وأصيب‬

‫به كثيرون غيرهم في مختلف العصور والبيئات‪ ،‬فجميعهم‬ ‫يختلفون كل االختالف عن هذه الشخصيات المرتجلة‪،‬‬ ‫‪91‬‬


‫والبون بينهما بعيد‪ ،‬والفارق شاسع كبير؛ فهما يجتمعان في‬ ‫حب العظمة‪ ،‬ولكن دافعه عند أولئك طموح سام‪ ،‬وعلم غزير‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وبيان قوي‪ ،‬ونفس عزيزة‪ ،‬وشجاعة جبارة‪ ،‬وتضحية غالية‪.‬‬ ‫ويع ِ ّززها عند هؤالء غرور سافل‪ ،‬وجهل َّ‬ ‫مركب‪ ،‬ووعي قبيح‪،‬‬

‫ونفس وضيعة‪ ،‬ومطمع دنيء‪.‬‬

‫أما زعيم األمة وقائدها فيختلف كل االختالف عن هؤالء‬

‫مدجج ًا‬ ‫جميع ًا‪ ،‬فهو يخلقه الله متح ِ ّلي ًا بصفات الزعامة‪،‬‬ ‫َّ‬

‫بسالح القيادة‪ :‬صفات ال يراها هو في نفسه‪ ،‬ولكنها تُرى من‬

‫يتبينها هو في نفسه‪ ،‬ولكن‪ ،‬تلمسها‬ ‫ِق َبل األمة فيه‪ ،‬وخصال ال ّ‬ ‫األمة فيه‪ .‬يقوم بأعمال جليلة سامية‪ ،‬يقوده إليها إلهام من‬ ‫يقدر هو سموّها‪ ،‬بل يراها أعما ً‬ ‫ال عادية‪ ،‬ولكن األمة‬ ‫الله ال ِ ّ‬

‫سموها‪ ،‬وتدرك عظيم فائدتها‪ ،‬ومن دون أن يشعر يجد‬ ‫ِّ‬ ‫تقدر َّ‬

‫نفسه مساق ًا قهر ًا‪ ،‬واألمة من ورائه تدفعه إلى قمة الزعامة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ارتق! وتأتيه‬ ‫حيث تضع له ُس َّلم ًا من قلوبها وأفئدتها وتقول‪:‬‬

‫بزمام القيادة مصنوع ًا من أمانيها الغالية وتقول له‪ :‬أمسك‪.‬‬

‫المرتجلة التي ال يُع َرف لها‬ ‫أما هذه اإلمَّعات من الشخصيات‬ ‫َ‬

‫ماض‪ ،‬وال حاضر‪ ،‬وال حتى المراجل التي ُطبخت فيها‪ ،‬ف َت ْنبت‬ ‫ٍ‬

‫بسرعة كالفقاقيع‪ ،‬وتأتي تنفخ أوداجها وهي تحاول التس ُّلق‬

‫‪92‬‬


‫بمنابر الزعامة الخطيرة‪ ،‬والتشبث بقمم العظمة‪ ،‬حتى إذا ما‬

‫حاولت األمة إبعادها في رفق ولين صرخوا في وجهها‪ ،‬وذهبوا‬ ‫يشتمونها ويصمونها بالجهل واالنحطاط ألنها لم تنخدع لهم‬ ‫ولدجلهم‪.‬‬

‫وهناك تغضب األمة غضبتها‪ ،‬فتلقي بهم في الدرك السافل‪،‬‬ ‫مرتجلة في كلتا‬ ‫فتنطفئ هذه الشخصيات بسرعة‪ ،‬وهي‬ ‫َ‬

‫الحالتين‪ ،‬وتُطوى‪ ،‬هذه الشخصيات وصحائفها إلى األبد‬ ‫مُ َك َّللة بالخزي والعار‪ ،‬إكليل كل امرئ ال يعرف قدر نفسه‪.‬‬

‫***‬

‫‪93‬‬


94


‫األستاذ‬ ‫مرسحية يف فصل واحد‬

‫«كان عبد الحق عام ً‬ ‫َّ‬ ‫يتلق‬ ‫ال بسيط ًا من عامة الناس‪ ،‬أم ّ​ّي ًا‪ ،‬لم‬ ‫من العلوم شيئ ًا‪ ،‬ال قلي ً‬ ‫ال وال كثير ًا‪ .‬ال يعرفه أحد سوى زمالئه‬

‫في العمل وبعض جيرانه في الحي المتواضع الذي يسكنه‬

‫بالكد في‬ ‫لضآلة مركزه االجتماعي‪ ،‬والنصرافه عن الناس‬ ‫ّ‬ ‫سبيل العيش‪.‬‬

‫وذات يوم ِّ‬ ‫عمه الثري ‪ -‬وكان وارثه الوحيد ‪ -‬فاستولى‬ ‫توفي ّ‬

‫على جميع أمواله وثروته الطائلة‪ ،‬وأصبح من كبار األثرياء‪،‬‬ ‫يُشار له بالبنان‪ ،‬وما كاد يشيع الخبر حتى تجمهر الزوار على‬

‫باب داره من مه ِ ّنئين‪ ،‬ومتس ِّولين‪ ،‬وفضوليين»‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫(املنظر‪ :‬قاعة فسيحة يف دار ع ّمه التي ورثها‪ ،‬مؤ ّثثة بأثاث رشقي‬ ‫من زرايب وأرائك‪ .‬يبدو عبد الحق يف صدر القاعة‪ ،‬وهو رجل‬ ‫يف العقد الخامس من عمره ضخم الجثة يرتدي أثواباً جديدة‬ ‫فضفاضة‪ ،‬لبسها عىل عجل دون ترتيب أو نظام‪.).‬‬ ‫(عبدالحق‪« -‬سلامن الخادم»)‬ ‫عبد الحق‪ :‬سلمان!‪ ...‬سلمان‪.‬‬

‫سيدي‪ ...‬أمرك؟‬ ‫سلمان‪ :‬نعم ّ‬

‫سيدي‪ ...‬أمرك‪ ...‬ما أعذبها من‬ ‫عبد الحق (وحده)‪ :‬نعم ِ ّ‬ ‫كلمات! (لسلمان)‪ :‬سلمان‪ ،‬أنت الذي قضيت ّ‬ ‫جل حياتك‬

‫علي‬ ‫مع عمي‪ -‬رحمه الله‪ ،-‬وفي خدمته‪ ،‬أرشدني لما يجب‬ ‫َّ‬ ‫عمله من لباس وأحاديث وغير ذلك‪ ،‬فإني ال أريد أن أظهر‬

‫بمظهر الغباء أمام الناس‪ ،‬وأنت‪ -‬على كل حال‪ -‬لك خبرة‬ ‫بحياة القصور وحياة كبار األثرياء مثلي‪ ،‬وال يخفى عنك هذه‬

‫الجموع الغفيرة من الزوّار!‬

‫إلي يا سيدي‪ ،‬واسترشدتني‪ ،‬فإن‬ ‫سلمان‪ :‬ما دمت قد لجأت َّ‬ ‫نصيحتي إليك هي أن تغلق بابك في وجوه هؤالء الزوّار‪ ،‬وال‬

‫حاجة لك بهم‪ ،‬فإنك لن تستفيد منهم شيئ ًا يعود عليك بالنفع‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬ال داعي إلى ر ِ َّدهم‪ ،‬فإنهم لن يكلفوني‬ ‫‪96‬‬


‫أ كثر من فنجان من القهوة وقطعة من الحلوى‪ ،‬ثم إن الخير‬ ‫كثير‪ ...‬إني ال أوافقك على ذلك‪ .‬ال تغلق الباب‪ ،‬دعهم‬

‫يأتون‪ ،‬فإني في حاجة إليهم‪ ،‬أتع َّلم عليهم الحياة الجديدة‪،‬‬

‫حياة األثرياء وخيرة الناس‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬إن خيرة الناس يا سيدي عبد الحق‪ ،‬ال يأتون إليك‪،‬‬ ‫يهتم بك إال ذوو‬ ‫وال يعبؤون بك وال بمالك‪ ،‬و ِث ْق بأنه ال‬ ‫ّ‬ ‫المطامع المختلفة في أموالك‪.‬‬

‫( ُيسمع طرق عىل الباب)‬ ‫عبد الحق (يعتدل يف جلسته ويصلح من هندامه)‪ :‬سلمان!‪...‬‬ ‫وأعد لهم القهوة‬ ‫أسرع‪ ...‬افتح الباب لهؤالء الزوار‪،‬‬ ‫ّ‬

‫والحلويات‪ .‬أسرع‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬أمرك يا سيدي‬

‫(يخرج ويعود صحبة ثالثة‬

‫شبان)‪:‬‬

‫السالم عليكم؛ هذا وفد األدب والفن يا حضرة األستاذ‪،‬‬

‫جاءك زائر ًا ومه ِ ّنئ ًا‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬أه ً‬ ‫ّ‬ ‫تفضلوا‪ .‬سلمان‪ ،‬أحضرالقهوة‬ ‫ال ومرحب ًا بكم‪.‬‬ ‫والحلويات للسادة‪( .‬سلامن يخرج)‪.‬‬

‫عبدالحق‪ :‬ما مهنتكم؟‬

‫زكي‪ :‬نحن أدباء يا حضرة األستاذ الجليل‪...‬‬ ‫‪97‬‬


‫عبد الحق‪ :‬إنكم تجهلون اسمي على ما أظن‪ ،‬فإن اسمي‬ ‫«عبدالحق»‪ ،‬وليس اسمي «األستاذ»‪.‬‬

‫وخاصتهم‪.‬‬ ‫زكي‪ :‬إن اسمكم مشهور عند عامّة الناس‬ ‫ّ‬ ‫عبد الحق (يلمس رأسه)‪ :‬يا لطيف! في رأسي نار!‬

‫المبجل‪،‬‬ ‫زكي‪ :‬وإنما لفظة األستاذ‪ ،‬تعبير األدباء ولقبهم‬ ‫َّ‬

‫َّ‬ ‫والمثقفين‪ ،‬وال ريب عندنا‬ ‫يلقبون به من شاؤوا من األفاضل‬

‫في أنكم من كبارهم‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬من كبارهم! هيه‪ ..‬من كبارهم‪ .‬الخير كثير‪ .‬هيه‪،‬‬ ‫وما معنى أدباء هذه؟‬

‫زكي (متلعث ً‬ ‫ام)‪ :‬أدباء؟ يعني‪ ...‬أدباء! يعني أناس ًا كبار ًا‪...‬‬

‫عبد الحق‪ :‬ما ألطفكم! وما أعذب كالمكم من كالم! وهل‬ ‫لدي ما ً‬ ‫َّ‬ ‫ال كثير ًا!‬ ‫يمكنكم أن تجعلوا مني أديب ًا مثلكم؟ إن‬

‫زكي‪ :‬يا سالم‪ ...‬مال كثير! نتش ّرف‪ ...‬نتش ّرف‪ -‬يا سعادة‬ ‫األستاذ الجليل‪ -‬أن نجعلكم رئيس ًا علينا‪ ،‬وإن اآلداب والفنون‬ ‫تتشرف وتفتخر اليوم بسعادتكم‪ .‬ومن ذا الذي ينهض بها‬ ‫غيركم؟‬

‫علي‪ .‬يكون‬ ‫عبد الحق‪ :‬الخير كثير‪ .‬تستطيعون أن تعتمدوا‬ ‫ّ‬ ‫خير ًا إن شاء الله‪ .‬وماذا أعمل؟‬

‫‪98‬‬


‫زكي‪ :‬يا سالم! السؤال الجميل‪ ...‬أو ً‬ ‫ال‪ :‬بلغنا يا حضرة‬

‫األستاذ‪ ،‬أنكم تنوون ‪ -‬في هذه األيام ‪ -‬زفاف ابنتكم على‬ ‫ّ‬ ‫صلة‪.‬‬ ‫شخص من عامّة الناس‪ ،‬ال‬ ‫يمت لألدب والفن ِب ِ‬

‫عبد الحق‪ :‬هذا صحيح‪ .‬إنه قريبي‪ ،‬يدعى ناصر‪ ،‬سيتخرج‬ ‫قريب ًا في مدرسة الصنائع‪ .‬إنه قريبي وليس من عامة الناس‪.‬‬

‫زكي‪ :‬مدرسة الصنائع! رجل عمل! رجل غليظ! رجال‬ ‫األعمال‪ -‬يا سعادة األستاذ‪ -‬ال يصلحون لألدب‪ .‬وال يخفى‬

‫عنك أن بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا مثله‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬عجيب‪ ،‬بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا؟!‬

‫أحد الشبان‪ :‬أجل‪ ،‬ذلك هو قانون األدب كما ال يخفى عنك!‬ ‫عبد الحق‪ :‬فاتني ذلك‪ .‬وكيف العمل اآلن؟‬

‫أحد الشبان‪ :‬األولى أن تعدلوا عن هذا الزواج‪ ،‬وتبحثوا‬ ‫البنتكم َع َّمن يليق بها من رجال اآلداب البارزين‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬هذا حق‪ .‬أبحث لها عمن يليق بها من رجال‬ ‫اآلداب البارزين‪ .‬سأفعل ذلك‪.‬‬

‫أحد الحاضرين‪ :‬إن األستاذ زكي َل َأوْلى بها من غيره‪ ،‬وهو‬

‫أديب بارز‪ ،‬فاضل‪ ،‬ذو مركز اجتماعي عظيم‪ ،‬يش ِّرفها‪ ،‬ويرفع‬

‫من مقامها‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫غني ًا‪ ،‬وال أظن نفسي‬ ‫زكي (يف تواضع)‪ :‬أستغفر الله‪ .‬أنا لست ّ‬ ‫كفئ ًا لها‪ ،‬ألن هذا العصر عصر المادة والمال‪.‬‬

‫أحد الحاضرين‪ :‬وأي شيء يكون المال بالنسبة لثروتكم‬ ‫األدبية الطائلة يا أستاذ زكي؟‬

‫زكي‪ :‬أنا ال أقول شيئ ًا الكلمة لألستاذ عبد الحق‪.‬‬

‫يهمك المال‪.‬‬ ‫عبد الحق‪ :‬الحق مع السيد‪ .‬الخير كثير‪ .‬ال‬ ‫ّ‬ ‫الخير كثير‪.‬‬

‫زكي‪ :‬الخير كثير‪ .‬ما أحلى هذا الكالم من فمك يا سيدي‬ ‫األستاذ! الخير كثير‪ .‬كلمة عذبة‪ ،‬وعليه فإنني أشكركم على‬ ‫ّ‬ ‫أجل المساعدات‬ ‫حسن ظنكم بي‪ ،‬وإن هذا ‪ -‬لعمري ‪ -‬لمن‬ ‫ّ‬ ‫برقي رجاله‪.‬‬ ‫يترقى إال‬ ‫لآلداب والفنون! ألن األدب لن‬ ‫ّ‬

‫وال يسعنا إال أن نستأذنكم في االنصراف‪ ،‬ونحن منتظرون‬ ‫إشارتكم لعقد القران‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬بارك الله فيكم‪ .‬سأخبركم بذلك في الوقت‬

‫المناسب‪( .‬يس ِّلمون عليه وينرصفون)‬

‫عبد الحق‪ :‬سلمان يا سلمان!‬

‫سلمان (يظهر)‪ :‬نعم سيدي‪ ،‬ماذا تريد؟‬

‫عبد الحق (يف‬

‫‪100‬‬

‫تعاظم)‪ :‬ماذا أريد؟ قبل أي شيء‪ ،‬ال أسمح‬


‫لك من اليوم أن ِّ‬ ‫تلقبني بهذه األلقاب البالية! ألقاب عامة‬ ‫الناس‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬حسن ًا يا سيدي‪ّ ،‬‬ ‫بأي اسم تريد أن أدعوك؟‬

‫عبدالحق‪« :‬باألستاذ» ادعني باألستاذ‪ .‬قل «ماذا يريد‬ ‫األستاذ»‪ ،‬هذا هو لقبي‪ ،‬لقب كبار الناس‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬أستاذ‪ .‬لقب جديد‪ ،‬إني لم أفهم يا سيدي‪ ،‬ماذا‬ ‫تعني؟‬

‫عبد الحق‪ :‬أجل إنك ال تفهم‪ .‬وقد قضيت طول حياتك‬ ‫خادم ًا‪ ...‬لقد كان وفد األدباء ‪ -‬كبار الناس ‪ -‬عندي هنا‪،‬‬

‫وقد َّ‬ ‫لقبوني بهذا اللقب‪ ،‬وجعلوني رئيس ًا لهم‪.‬‬

‫سلمان (ضاحكاً)‪ :‬أولئك المحتالون النصابون‪ ...‬إني أعرفهم‬ ‫جيد ًا ياسيدي‪ ،‬وأعرف أعمالهم‪.‬‬

‫عبد الحق (صارخاً)‪ :‬اخرس! أيها الوقح‪ ،‬تصف األدباء كبار‬ ‫الناس باالحتيال؟ إذ ًا‪ ،‬أنا محتال مثلهم ما دمت رئيس ًا لهم؟‬

‫سلمان (يف حرية)‪ :‬عفوك يا سيدي‪ .‬سامحني أخطأت‪.‬‬

‫عبد الحق (هازئاً)‪ :‬عفوك يا سيدي! ألم أمنعك اآلن من‬ ‫تلقيبي بهذا االسم؟‪ .‬قل «عفوك يا أستاذ»‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬نعم‪ ...‬نعم‪ ...‬نسيت‪ ،‬عفوك يا أستاذ! سامحني يا‬ ‫‪101‬‬


‫أستاذ‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬أحسنت‪ ،‬لقد سامحتك هذه المرة‪ ،‬على أال تعود‬ ‫إلى مثله‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬ثم ماذا؟ يا‪ ...‬يا أستاذ‪!...‬‬

‫عبد الحق‪ :‬ثم إني سأزُ ِّوج زينب باألستاذ زكي؛ ألن بنت‬ ‫األديب ال تتز َّوج إال أديب ًا مثله‪ ،‬هذا هو قانون األدب‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬لكن‪ ،‬يا سيدي‪...‬‬

‫عبد الحق‪ :‬لكن‪ ...‬ماذا؟!‬

‫سلمان‪ :‬لكن يا أستاذ! و«ناصر» قريبك وخطيبها؟‬

‫عبد الحق‪ :‬ناصر‪ .‬رجل أعمال‪ .‬قانون األدب يمنعه من‬ ‫التزوُّج بها‪ .‬ذلك هو قانون األدب‪.‬‬

‫سلمان‪ :‬إنك مخطئ‪ -‬يا سيدي‪ -‬فيما عزمت عليه‪ ،‬وستندم‪.‬‬

‫علي‪ -‬أيها‬ ‫عبد الحق‪ :‬يا للوقاحة! يا لق ّلة األدب! أتجرؤ‬ ‫ّ‬

‫الخادم‪ -‬وتقول مثل هذا الكالم في حضرتي‪ ،‬أنا األستاذ؟‬ ‫اغ ُرب عن وجهي‪.‬‬

‫(زوجته «رتيبة» تسمع الصياح والضوضاء‪ ،‬فتدخل مستفرسة‪).‬‬

‫رتيبة‪ :‬ما هذا الصياح؟ ماذا جرى؟‬

‫سلمان‪ :‬تعالي‪ -‬يا سيدتي‪ -‬لتسمعي العجائب! أظن أن‬

‫‪102‬‬


‫سيدي ُأصيب في عقله! إنه يهذي منذ لحظة‪ ،‬يقول‪ :‬إنه‬

‫أستاذ‪ ،‬وأديب‪ ،‬وقال إنه يريد أن يز ِّوج زينب من رجل محتال‪،‬‬ ‫أعرفه جيد ًا‪ ،‬يقول عنه سيدي إنه أديب كبير‪ ،‬وال أدري ما لنا‬

‫ولهؤالء األدباء!‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬أما تنتهي‪ -‬أيها الوقح‪ -‬من إهانتي‪ ،‬وجرح‬ ‫تدعني بغير لقب األستاذ؟ ثم بأي‬ ‫كرامتي‪ ،‬ألم آمرك بأن ال ُ‬

‫حق تتطاول بكالمك هذا على رجال األدب؟‬

‫رتيبة (لزوجها)‪ :‬ماذا يا عبد الحق؟ أصحيح ما قاله سلمان؟‬

‫عبد الحق‪ :‬ال تقولي عبد الحق‪ ،‬أيتها المرأة‪ ،‬قليلة األدب!‬ ‫قولي «األستاذ»‪.‬‬

‫رتيبة (صارخة باكية)‪ :‬وا مصيبتاه! ّ‬ ‫حق ًا‪ ،‬لقد ُأصيب الرجل في‬ ‫عقله!‬

‫(تظهر ابنتها زينب‪).‬‬

‫زينب‪ :‬ماذا جرى يا أمّاه؟ َأ ُأصيب أبي بمكروه؟‬

‫عبد الحق‪ :‬لماذا تقولين أبي‪ -‬أيتها الشقية‪ -‬وال تقولين‬ ‫المبجل‪،‬‬ ‫«األستاذ»؟ اتفقتم ك ّلكم على تجريدي من لقبي‬ ‫َّ‬

‫لقب األدباء وكبار الناس‪.‬‬

‫زينب‪ :‬أدباء؟ ّ‬ ‫أي شيء «أدباء» هذه؟‬ ‫‪103‬‬


‫عبد الحق‪ :‬أدباء‪ ...‬ال تعرفين األدباء!؟ هم الذين أريد أن‬ ‫أز ِّوجك أحدهم؛ ألن بنت األديب ال تتز َّوج إال بأديب؛ هذا‬

‫هو قانون األدب‪.‬‬

‫(يدخل نارصخطيب زينب‪ ،‬فترسع رتيبة نحوه باكية)‬

‫رتيبة‪ :‬الحقنا يا ناصر‪ ،‬يا ابني‪ ،‬إن عمك ُأصيب في عقله‪،‬‬ ‫فإنه لم يفتر عن الهذيان منذ ساعة‪ ،‬يقول عن نفسه إنه من‬ ‫رجال األدب‪ ،‬وإنه يريد تزويج زينب من أديب مثله‪ ،‬ويأبى أن‬

‫ندعوه بغير «األستاذ »‪.‬‬

‫ناصر (يطمنئ ع ّمته‪ ،‬ويتقدّم من عبد الحق)‪ :‬ما هذا يا سيدي‬ ‫األستاذ؟ هل من جديد؟‬

‫عبد الحق (مرس ًال‬

‫زفرة)‪ :‬الحمد لله‪ ...‬ها قد أتى أخير ًا من‬

‫َ‬ ‫تعال‪ -‬يا ابني‪ -‬انظر إلى هؤالء‬ ‫يقدرني‪ ،‬ويعرف مقامي‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫الجهالء! جعلوني مصاب ًا في عقلي ألني منعتهم من إهانتي‪،‬‬ ‫وأرغمتهم على احترام لقبي المش ّرف الذي أهداني إياه وفد‬

‫األدباء هذا الصباح!‬

‫ناصر‪ :‬اعذرهم يا أستاذ‪ ،‬إنهم ال يعرفون قيمة األدب‪ ،‬وال‬ ‫يعرف قيمة األدب إال أهله!‬

‫عبد الحق‪ :‬وهل أنت أديب يا ناصر؟‬ ‫‪104‬‬


‫ناصر‪ :‬بالتأ كيد‪ ...‬ومن الكبار‪.‬‬

‫عبد الحق‪ :‬حمد ًا لله‪ .‬كنت أظنك غير ذلك‪ ،‬ولهذا عزمت‬ ‫على أن أز ِّوج زينب من غيرك؛ ألن قانون األدب ‪ -‬كما ال‬

‫يخفى عنك ‪ -‬يمنع أن تتز َّوج بنت األديب بغير األديب‪.‬‬

‫ناصر‪ :‬هذا ّ‬ ‫حق‪ ...‬إني أعرف ذلك‪ ،‬ودرسته جيد ًا‪.‬‬

‫ثم هل يمكن أن يكون قريب األديب‪ ،‬أو زوجه‪ ،‬أو ابنته وحتى‬ ‫خادمه قليلي األدب؟‬

‫عبد الحق‪ :‬صحيح‪ ،‬لقد فاتني ذلك‪ .‬إذ ًا‪ ،‬كلنا أدباء؟‬

‫ّ‬ ‫يشك في ذلك؟ كلنا أدباء وأنت السبب في ذلك‪.‬‬ ‫ناصر‪ :‬ومن‬

‫عبد الحق‪ :‬أنا السبب‪ ...‬أجل أنا السبب‪ ...‬اذهب‪-‬إذ ًا‪-‬‬ ‫وادع القاضي ليعقد قرانكما‪ ،‬وليبارك الله فيكما وفي‬ ‫ُ‬

‫أبنائكما‪ ،‬ويجعلهم من كبار األدباء واألساتذة‪.‬‬

‫***‬

‫‪105‬‬


106


‫الحاج‬ ‫س ّيدي‬ ‫ّ‬

‫كان ذلك إبان الحرب العالمية األخيرة‪ ،‬وكنت يومئذ مستق ّر ًا‬

‫مبرح ًا‪ ،‬وحنين ًا عارم ًا إلى الوطن‬ ‫في مكة المك َّرمة‪ ،‬أعاني شوق ًا ِ ّ‬

‫واألهل واألصحاب‪ .‬كانت أخبار الشمال األفريقي شحيحة‬ ‫جد ًا؛ الرسائل نادرة‪ ،‬وحركة الحجيج منقطعة تمام ًا عدا وفود‬ ‫ّ‬ ‫صغيرة كانت تأتي على نفقة الحكومة في طائرة خاصة‪،‬‬

‫وكانت هذه الوفود تجمع خليط ًا عجيب ًا من مختلف الطبقات‬ ‫تضم الطبيب‪ ،‬والمفتي‪ ،‬والتاجر‪ ،‬والقائد‪ ،‬تجمع‬ ‫والهيئات‪،‬‬ ‫ّ‬

‫العا ِلم والجاهل‪ ،‬الشباب والشيوخ‪ ،‬كما كانت هذه الرحلة‬

‫يهمهم اإلسالم‬ ‫المجانية تغري بعض الفضوليين الذي ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪107‬‬


‫وال مناسك الحج‪ ،‬وإنما يأتون للسياحة والتف ُّرج على أرض‬

‫الحجاز‪ .‬وكنت أبذل كل الجهود لالتّصال بهم‪ ،‬وهم الصلة‬

‫أتنسم من أحاديثهم رائحة‬ ‫الوحيدة بيني وبين أرض الوطن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫البالد وعبير األهل واألصحاب‪ ،‬ولذلك كنت أستأنس بهم‬ ‫رغم التباين الكبير بيننا؛ تباين في النشأة والتفكير‪ ،‬في الثقافة‬

‫واالتجاه‪ ،‬ولكن رابطة الوطن كانت كافية لجمعنا وإزالة‬ ‫الفوارق بيننا‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يحتل‬ ‫بحاج من هؤالء الحجيج‪ ،‬وكان الرجل‬ ‫اتصلت ذات يوم‬ ‫ّ‬ ‫أمي ًا ال يحسن‬ ‫مكان ًا مرموق ًا في اإلدارة الحكومية رغم أنه كان ّ‬

‫العربية وال الفرنسية‪ ،‬أما اإلسالم وقواعده األولية فلم يسمع‬

‫المتقدمة‪ ،‬وإن كانت لحيته الكثيفة‬ ‫بها طيلة حياته رغم س ّنه‬ ‫ِّ‬ ‫وهندامه العربي يخدعان الناظر إليه‪ ،‬فيظنه شخصية إسالمية‬

‫ممتازة من كبار رجاالت الدين في المغرب العربي‪.‬‬

‫زرته يوم ًا في منزله فرغب أن أرافقه في جولة قصيرة في أسواق‬

‫ّ‬ ‫يتوضأ استعداد ًا لصالة المغرب‪ ،‬حتى‬ ‫أم القرى‪ ،‬وطلبت منه أن‬ ‫إذا ما أدركنا وقتها أخذنا سبيلنا إلى الحرم دون أن نضط ّر إلى‬

‫العودة إلى المنزل‪ ،‬وطلب الحاج إبريق ًا من الماء‪ ،‬وجلس‬

‫للوضوء‪ ،‬وبدأ يغسل رجليه‪ ،‬وكنت أنظر إليه مشدوه ًا‪ ،‬لم ِ‬ ‫أدر‬

‫‪108‬‬


‫كيف أجعله يالحظ خطأه‪ ،‬ولكن الخادم الذي كان مك َّلف ًا‬ ‫بخدمته‪ ،‬والذي كان معتاد ًا ‪ -‬دون شك ‪ -‬على هذا النوع‬

‫من الحجيج‪ ،‬ابتدره قائ ً‬ ‫ال‪ :‬ما هذا الوضوء يا سيدي الحاج؟‬

‫ّ‬ ‫أتتوضأ من رجليك؟‬

‫وأجابه سيدي الحاج بكل بساطة‪ ،‬وهو مسترسل في غسل‬ ‫بقية أعضائه بالجملة والتفصيل دون ترتيب‪ :‬ماذا نعمل هكذا‬ ‫ع َّلمنا سادتنا!‬

‫َ‬ ‫وسكت الخادم‪ ،‬ولعله ظن أن مذهبه الفقهي يجيز هذا الوضوء‬ ‫ُّ‬ ‫وسكت أنا أيض ًا‪ ،‬وانتهى صاحبي‬ ‫الذي يبتدئ من الرجلين‪.‬‬

‫من وضوئه‪ ،‬ثم ارتدى مالبسه وخرجنا إلى األسواق‪.‬‬

‫كان منظرنا مضحك ًا‪ :‬صاحبي بجثّته الضخمة‪ ،‬وعمامته‬

‫الكبيرة‪ ،‬وقامته فارعة الطول‪ ،‬ولباسه الجزائري العتيق‪ ،‬وأنا‬

‫إلى جنبه بلباسي الحجازي وجسمي النحيل‪ ،‬ولذلك كنا عرضة‬ ‫أتحمل كل ذلك في سبيل‬ ‫لتنكيت المارة وروّاد السوق‪ .‬وكنت‬ ‫َّ‬

‫علي‪.‬‬ ‫النزر اليسير من أخبار البالد التي كان صاحبي يجود بها‬ ‫ّ‬

‫كانت جولتنا حافلة بالمشاكل والمعارك مع مختلف الباعة‬ ‫والتجار؛ ألن صاحبي كان حديد األعصاب‪ ،‬كلمة ونصفها‪،‬‬ ‫تيسر من الشتائم‬ ‫ثم يلجأ إلى قاموسه الخاص يُخرج منه ما َّ‬ ‫‪109‬‬


‫والسباب‪ .‬ولم ينقذنا من مشاكلنا سوى أذان المغرب الذي‬

‫أخذ يدوّي في الفضاء‪ ،‬ورجال األمر بالمعروف يصيحون‪:‬‬

‫الصالة‪ ...‬الصالة‪ ...‬وهم يسوقون الناس إلى المسجد‪.‬‬

‫علي صاحبي‪ ،‬ونحن في‬ ‫توجهنا لفورنا إلى المسجد‪ ،‬وانحنى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫طريقنا‪ ،‬وسألني قائ ً‬ ‫ال‪ :‬موالنا! وهذه آش حال فيها؟‬

‫قلت‪ :‬كم فيها؟ في أي شيء؟‬

‫قال‪ :‬هذه الصالة‪ ،‬التي سنص ّليها اآلن! كم عدد ركعاتها؟‬

‫وفهمت‪ ...‬فإن الرجل يجهل عدد ركعات الصالة‪ ،‬وخاف أن‬ ‫فتشجع واسترشدني‪َ ،‬س َّرني منه ذلك‪ ،‬وألقيت‬ ‫يقع في خطئها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عليه درس ًا مختصر ًا في عدد ركعات كل صالة‪ ،‬ومتى يجلس‬

‫ومتى يقوم‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنعه من سؤالي عن عدد الركعات‬ ‫توجهنا إلى الصالة‪ ...‬ووجد صاحبي صالة العشاء طويلة‬ ‫كلما َّ‬

‫جد ًا‪ ،‬ولهذا ق َّرر حذفها من برنامجه وإبدالها براحة في المنزل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المكي‬ ‫وانتهينا من صالة المغرب‪ ،‬وأخذنا نتجوَّل في الحرم‬

‫الذي كان حاف ً‬ ‫ال بحلقات الدروس المختلفة‪ ،‬ووقف صاحبي‬ ‫أمام شاب شنقيطي كان يُد ِّرس مبادئ اآلجرومية لنفر من‬

‫الصبيان‪ ،‬وما كاد المد ِّرس الشاب يشاهد صاحبي يقف عند‬

‫رأسه حتى اعتراه اضطراب‪ ،‬وقد ظنه عالم ًا جلي ً‬ ‫ال من كبار‬

‫‪110‬‬


‫يردد لتالميذه‬ ‫علماء المغرب العربي‪ ،‬فتلعثم في تقريره‪ ،‬وأخذ ِ ّ‬

‫هذه الجملة‪ :‬قام زيد‪ ...‬قلنا‪ :‬قام زيد‪ ...‬قام زيد‪.‬‬

‫وقاطعه صاحبي قائ ً‬ ‫ال‪ :‬يا شيخ!‪ ...‬وإذا كانت امرأة تقول‬ ‫«قامت زيدة؟»‬

‫تبسم المد ِّرس‪ ،‬واستغرق تالميذه في الضحك‪ ،‬ولكن صاحبي‬ ‫َّ‬

‫لم يعجبه موقفهم فقال لي‪ :‬لماذا يضحكون؟ ألم يُع ِّلمهم‬

‫شيخهم قوله تعالى‪« :‬اسأل عن دينك حتى يقولوا‪ :‬بهلول»؟‬

‫قلت لنفسي‪ :‬أال في سبيل أخبار الوطن ما أنا متحمل‪.‬‬

‫الحاج إلى بالده‬ ‫سيدي‬ ‫انقضت أيام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحج بسالم‪ ،‬ورجع ّ‬ ‫بحجه المبرور وذنبه المغفور‪ ،‬حام ً‬ ‫ال معه مختلف التحف‬ ‫ّ‬

‫والهدايا لألهل والخ ّلان‪ ،‬متوّج ًا اسمه بلقب «الحاج»‪ ،‬تارك ًا‬

‫هذه الذكريات الطريفة التي خ َّلدته في ذاكرتي‪ ،‬وجعلت منه‬ ‫أنموذج ًا بشر ّي ًا ممتاز ًا‪.‬‬

‫***‬ ‫‪111‬‬


112


‫يحيى َّ‬ ‫الضيف‬

‫«لو قرأ يحيى في صغره ألتعبنا في كبره‪».‬‬ ‫الشيخ اإلبراهيمي‬

‫يوم أزمعت أن أدرج «يحيى الضيف» في سلسلة مقاالت‬ ‫الميزان التي كنت أنشرها في جريدة البصائر‪ .‬تساءل بعض‬

‫قيم‬ ‫الناس من الخاصة والعامة قائلين‪ :‬ما شأن يحيى الضيف‪ّ ِ ،‬‬ ‫مركز جمعية العلماء وهذه السلسلة من المقاالت في رجال‬

‫العلم واألدب‪ ،‬وليس هو بعالم من العلماء‪ ،‬وال هو أديب من‬

‫األدباء؟‬

‫‪113‬‬


‫وقلت لهؤالء‪ :‬إن لم يكن يحيى عالم ًا يحمل فوق رأسه عمامة‬ ‫وتحت إبطه كتاب ًا‪ ،‬وهو إن لم يكن خطيب ًا في المنابر وال‬

‫واعظ ًا في المجالس وال كاتب ًا في الجرائد‪ ،‬فإن له قيمته في‬ ‫المجتمع‪ ،‬وله مركزه في دنيا العلم واألدب‪ ،‬ألنه فيلسوف‪...‬‬

‫علي بالالئمة يومئذ‪،‬‬ ‫سيضحك مني أولئك الذين أنحوا‬ ‫َّ‬

‫وسيقولون! أين درس يحيى الضيف الفلسفة؟ وفي أية جامعة‬ ‫ّ‬ ‫الحقة ال تُدرَّس‪ ،‬وأن جامعتها‬ ‫تخ َّرج؟ والجواب أن الفلسفة‬

‫تعمقوا‬ ‫الحياة‪ ،‬وأستاذها الزمن‪ ،‬فهو من أولئك الفالسفة الذين َّ‬

‫في درس أنفسهم‪ ،‬ووقفوا على نواحي الضعف والقوة فيها‪،‬‬ ‫ولمسوا فيها نواحي الخير والشر‪ ،‬والنفس البشرية واحدة‪ ،‬وإن‬ ‫اختلفت الهياكل التي تحملها واألسماء التي تعرفها‪ .‬ثم‪ ،‬ألم‬

‫يجد المرحوم الرافعي في أشيب زبّال أعظم فيلسوف ينقل‬ ‫الح َكم؟‬ ‫عنه بدائع الفلسفة وروائع ِ‬

‫حاول أن تسأل يحيى الضيف عن حياته‪ ،‬واستمع إليه بإمعان‬ ‫يتردد في‬ ‫وهو يح ِّلل لك حياته بفلسفة عميقة‪ ،‬وسوف تجده ال َّ‬

‫ذكر الحقيقة عن نفسه‪ ،‬ولو كانت مُ ّرة جارحة؛ ألن الحقيقة‬ ‫عنده جوهرة ثمينة يجب أن تبرز‪ ،‬ونفسه شيء تافه‪ ،‬ال حق لها‬

‫في أن تقف حجر عثرة في طريق الحقيقة‪ .‬ومن منا يستطيع‬ ‫‪114‬‬


‫أن يح ِّلل نفسه‪ ،‬ويذكر خيرها وشرها وعيوبها ومحاسنها؟ إننا‬ ‫ال نستطيع‪ ،‬ألننا نعيش في إطار المظاهر واألنانية؛ وذلك ألننا‬

‫لسنا فالسفة! أما يحيى الفيلسوف فإنه ال يشعر بهذه األنانية‪،‬‬ ‫وشخصيته ال تساوي في نظره طمس حقيقة من الحقائق مهما‬

‫مستعد أن يذكر لك عن نفسه‬ ‫كانت هذه الحقيقة صغيرة‪ .‬وهو‬ ‫ّ‬

‫كل ما يعرف عنها‪ .‬وهو دوم ًا مشغول بالبحث عن عيوب نفسه‬

‫وتحليل هذه العيوب‪ ،‬وما نفسه إال أنموذج لكل نفس بشرية‬ ‫نوجه إليه سؤا ً‬ ‫ال‪ ،‬ولنستمع إلى‬ ‫يُجري عليها تجاربه‪ .‬دعنا ِ ّ‬

‫جوابه‪ ،‬ها هو أمامنا بجثّته الضخمة وابتسامته العريضة التي‬ ‫تشبه ابتسامة حمار الحكيم ومكنسته في يده‪.‬‬

‫‪ -‬كيف جئت إلى هذه الدنيا يا يحيى؟‬

‫ ال أذكر كيف جئت إلى هذه الدنيا ألنني كنت صغير ًا‪.‬‬‫ولكن‪ ،‬سمعت والدتي تقول‪ :‬إني جئت إليها والشمس في‬ ‫علي أشعتها منعكسة في سعدية المشتري‬ ‫برج القوس ترسل‬ ‫ّ‬

‫ونحسية عطارد‪ ،‬ولهذا فال غرابة‪ -‬إذ ًا‪ -‬في أن تبدو لكم‬

‫حياتي كلها سلسلة من المتناقضات‪ :‬عالم مع العلماء‪ ،‬وأديب‬ ‫مع األدباء‪ ،‬جاهل مع الجهالء‪ ،‬فنان في أوساط الفنانين‪،‬‬ ‫الجهال‪ ،‬وجاهل بين العباقرة تواضع ًا‪ ،‬وأنا‬ ‫عبقري في دنيا‬ ‫ّ‬

‫‪115‬‬


‫مع كل ذلك فيلسوف بطبعي‪ .‬وكل هذه الصفات تغمرها‬

‫لطافة في نوع من الدهاء يحيط به نفاق كبير‪ ،‬أفهم المجتمع‪،‬‬ ‫وأعرف أن ش َّره أ كثر من خيره‪ ،‬أعرف أن الحياة كلها آالم‬

‫وآثام‪ ،‬ولهذا تجدني دائم ًا أضحك منها‪ ،‬وأضحك من الذين‬

‫ينظرون إليها بعين االهتمام واإلجالل‪.‬‬

‫‪ -‬إنك تفهم الحياة على حقيقتها‪.‬‬

‫ نعم أفهم باطنها وظاهرها مع أن درجتي ال تعدو درجة‬‫ك ّناس من الدرجة الثالثة‪.‬‬

‫‪ -‬إنك كثير التواضع يا حضرة الفيلسوف!‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬ال يا موالي‪ ،‬ليس هناك تواضع‪ ،‬وإنما هذه هي الحقيقة‪.‬‬

‫‪ -‬هل أنت سعيد في الحياة؟‬

‫ وهل في الحياة سعادة؟ وإنما أستطيع أن أقول لكم إن أسعد‬‫أيامي هي التي أقضيها في معاشرة العلماء وخدمة جمعيتهم‪،‬‬

‫وال سيما الشيخ عبد اللطيف سلطاني رئيس المركز الذي‬

‫أخشاه أ كثر من عذاب النار‪.‬‬

‫‪ -‬وهل استفدت من مصاحبتك للعلماء شيئ ًا يُذكر؟‬

‫ أجل‪ ،‬فقد استفدت من الشيخ البشير حكمته وتواضعه‬‫وتفانيه في كل ما يباشر من األعمال‪ ،‬واستفدت من الشيخ‬

‫‪116‬‬


‫ّ‬ ‫ودقة مالحظته‪ ،‬ونلت من الشيخ‬ ‫خير الدين فراسته ودهاءه‬

‫عبد اللطيف حسابه العسير لحركات وسكنات العاملين معه‪،‬‬

‫يعينه «أ كسبيرا» لتصفية حساباتي يوم‬ ‫حتى إني أرجو الله أال ِ ّ‬

‫القيامة‪ ،‬وقد أصبحت بطني وعاء لكل هذه الفوائد‪ ،‬وتستطيع‬ ‫تفسر ضخامتها بعدم هضم ما استفدت؛ ألن معدتي ال‬ ‫أن ِ ّ‬

‫تقوى على الهضم وإن كانت تهضم «شخشوخة ‪ -‬شكشوكة»‬ ‫عثمان بوقطاية المذيع المشهور‪ ،‬التي أحبها إلى َح ّد أني أبيع‬

‫ديني ودنياي في سبيلها‪.‬‬

‫وإذا سألت يحيى الضيف عن هذه السرعة التي يعيش فيها‬ ‫وعن هذه الحركة الدائمة التي تغمره‪ ،‬أجابك أن مبعثها القلق‪،‬‬ ‫وأنه يتعب نفسه كثير ًا ليلحق بركب المعالي‪ ،‬ولهذا تجده يقرأ‬ ‫ويعيد‪ ،‬ويقرأ‪ ،‬ويعيد‪ ،‬إلى أن يتب َّلد ذهنه‪ ،‬فال يحسن كيف‬

‫يقرأ‪ ،‬وال يستفيد مما يقرأ‪ ،‬ثم يبتسم لك ابتسامته المعروفة‬

‫ويقول لك‪ :‬إني أريد أن أعرف كل شيء‪ ،‬وأنا مع ذلك ال‬ ‫أعرف شيئ ًا‪ ،‬وإني إلى اآلن عاجز عن كتابة رسالة ولو قصيرة‪،‬‬

‫وقادر على تأليف كتاب بأ كمله من حيث ال أشعر‪.‬‬

‫لقد قضت على صاحبنا فلسفته‪ ،‬فأنكر نفسه‪ ،‬وأنكر معارفه‪،‬‬ ‫وهو محتاج إلى قليل من اإليمان بنفسه وعقله ل ُيخرج للناس‬ ‫‪117‬‬


‫روائع ستبقى خالدة ألنها ستكون مطبوعة بطابع الصدق وطابع‬

‫الصراحة‪ ،‬ذلك الطابع الذي يمتاز به يحيى عن غيره‪ ،‬والذي‬

‫جعله محبوب ًا من الجميع ال يكره أحد ًا‪ ،‬وال يكرهه أحد‪ .‬يعرف‬

‫بعض الناس يحيى َق ِ ّيم مركز جمعية العلماء؛ ألنهم ال يرونه‬

‫إال دائب ًا على تنظيف قاعات المركز ومكاتبه‪ ،‬ويعرفه آخرون‬ ‫مم ِ ّث ً‬ ‫ال موهوب ًا ألنهم ال يشاهدونه إال على خشبة المسرح‪ ،‬أو‬

‫يسمعونه على أمواج األثير يم ِ ّثل بالعامية والفصحى‪ ،‬ينتقل‬

‫من شخصية إلى شخصية‪ ،‬فيحسن االنتقال‪ ،‬ويحسن التمثيل‪.‬‬

‫ويعرفه آخرون مؤ ِّلف روايات مسرحية وطرائف أدبية وناقد ًا‬

‫حصيف ًا‪ ،‬وأعرفه أنا فيلسوف ًا عميق ًا وكاتب ًا مجيد ًا‪ ،‬تعجبني‬

‫فلسفته‪ ،‬ويعجبني نثره الفصيح وشعره الملحون‪ ،‬ويعجبني‪-‬‬

‫تفهمه للحياة ورضاؤه بنصيبه الضئيل منها دون‬ ‫فوق كل ذلك‪ُّ -‬‬ ‫ٍّ‬ ‫تشك‪ ،‬وتلك‪ -‬لعمري‪ -‬الفلسفة‪ ،‬وكذلك حقيقتها‪.‬‬ ‫تب ُّرم أو‬

‫هذا هو يحيى الضيف الذي بلغت ضخامة جثته وزن الفيل‪،‬‬ ‫وبلغت ّ‬ ‫خفة روحه وزن الريشة‪ .‬وإذا أردت أيها القارئ أن‬

‫تعرفه عن كثب فما عليك إال أن تقوم بزيارة لمركز جمعية‬

‫العلماء بمدينة الجزائر قبل حضور المدير أو بعد انصرافه‪،‬‬ ‫‪118‬‬


‫اقترب منه وال‬ ‫وستجد يحيى الضيف يزأر كأنه أسد في قفص‪.‬‬ ‫ْ‬

‫تخ ْ‬ ‫ليقدم‬ ‫ف فستجده‬ ‫َ‬ ‫مستعد ًا الستدعائك إلى صالونه الجميل ِ ّ‬ ‫ّ‬

‫لك فنجان ًا من القهوة وقطعة من الحلوى وطرائف من األدب‬

‫والفلسفة‪ ،‬وإذا لم يستدعك بنفسه اطلب ذلك منه فسيس ّره‬

‫ذلك كثير ًا‪ ،‬ألنه رجل كريم مفتون بهذا الكرم إلى َح ّد العبادة‪.‬‬

‫***‬

‫‪119‬‬


120


‫سي زعرور‬

‫(مالحظة‪ :‬اقتبست هذه الشخصية من الفرنسية‪ ،‬وأثب ُّتها هنا‬ ‫حي ًا خالد ًا يوجد في كل مكان‬ ‫ألني وجدت فيها أنموذج ًا ّ‬

‫وفي كل زمان‪ .‬كما أخرجت منها مسرحية في ثالثة فصول‬ ‫تحت عنوان «النائب المحترم»)‪.‬‬

‫يسميه زمالؤه‪ ،‬مع ِ ّلم ًا‬ ‫كان الشيخ زعرور‪ ،‬أو سي زعرور‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫بسيط ًا في مدرسة ابتدائية حرة‪ ،‬قانع ًا بالحياة‪ ،‬وبنصيبه منها‪،‬‬

‫ال تق ّي ًا فاض ً‬ ‫راضي ًا عن نفسه وعن عمله؛ ألنه كان رج ً‬ ‫ال نزيه ًا‪،‬‬ ‫يعتقد الخير في الدنيا‪ ،‬ويعتقد الصالح في البشر‪ ،‬ال يعرف‬ ‫‪121‬‬


‫الش ّر‪ ،‬وال يتصوّر صدوره من الناس‪ .‬كان يعيش في برجه‬

‫العاجي‪ ،‬في دنيا فاضلة ال تطرق أبوابها الرذيلة‪ ،‬وال يطأ‬ ‫طيبة من‬ ‫أرضها الفساد‪ .‬وكان يعيش‪ ،‬مع سي زعرور‪ ،‬رفقة ِ ّ‬

‫الزمالء يشاركونه عمله‪ ،‬ويقاسمونه بؤسه‪ ،‬ولكنهم ال يشاركونه‬

‫نظرته إلى الحياة‪ ،‬وال يعتقدون عقيدته في البشرية‪.‬‬

‫كانت تلك المدرسة التي يع ِ ّلم بهاسي زعرور ِملك ًا لمديرها‬ ‫الجشع‪ ،‬يستغ ّلها استغال ً‬ ‫يومي ًا عن تنمية‬ ‫ال ماد ّي ًا فظيع ًا‪ ،‬يبحث‬ ‫ّ‬ ‫موارده بشتى الوسائل والطرق؛ فقد كان على طرف نقيض من‬ ‫سي زعرور الذي يرى المادة عرض ًا زائ ً‬ ‫ال من أعراض الدنيا‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫يستحق العناية واالهتمام‪.‬‬

‫وذات يوم‪ ،‬بينما كان سي زعرور يقوم ‪ -‬قبل حلول موعد‬ ‫المتأخرين‪ ،‬إذ دخل عليه‬ ‫الدرس‪ -‬بتسبيق درس ألحد تالميذه‬ ‫ِّ‬

‫المدير ببطنه المنتفخة‪ ،‬وسمة الغضب تعلو وجهه‪ ،‬وابتدره‬

‫بسرد المادة السابعة والعشرين من الئحة المدرسة الداخلية‪،‬‬ ‫التي توجب على كل مع ِ ّلم من مع ِّلمي المدرسة‪ ،‬يقوم بإعطاء‬

‫دروس خاصة‪ ،‬أن يدفع للمدير ُخمس مدخول هذه الدروس‪.‬‬

‫واتهم المدير سي زعرور بإخفائه أمر هذه الدروس الخاصة‬ ‫واستغالله لمدخولها وحده دون سواه‪ ...‬وعبث ًا حاول سي‬

‫مجانية ّ‬ ‫مؤقتة يروم منها إلحاق‬ ‫زعرور إفهامه أنها دروس خاصة ّ‬

‫‪122‬‬


‫التلميذ بزمالئه في فن متأخر فيه؛ ألن الرجل ال يفهم غير‬

‫«المجانية» أثر ًا في قاموسه‪ .‬ولهذا‬ ‫المادة‪ ،‬وال يعرف لكلمة‬ ‫ّ‬

‫اشتد به الغضب‪ ،‬واتَّهم المعلم ّ‬ ‫ببث روح التم ُّرد في التالميذ‬ ‫ّ‬

‫ومحاوالته إفالس صندوق المدرسة‪ ،‬وما كان منه إال أن ألزمه‬

‫وقدر له مدخولها الخيالي‬ ‫بدفع ُخمس أجرة هذه الدروس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بنفسه‪ .‬وأراد زعرور استعطاف مديره‪ ،‬وهو يعرف جيد ًا أنه‬ ‫ي َُس ُّر كثير ًا النخراط تالميذ جدد في مدرسته‪ ،‬فقال له‪ :‬سيدي‬

‫دخل تلميذ ًا جديد ًا في مدرستنا‪.‬‬ ‫المدير‪ ،‬أظن أني س ُأ ِ‬

‫وكان لهذا النبأ سحره الفعال في نفس المدير‪ ،‬فانفرجت شفتاه‬ ‫عن ابتسامة عريضة مسحت عقد الغضب من فوق جبينه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أحق ًا؟ أرجو أال يكون من نوع تلميذك هذا‬ ‫وابتدره صارخ ًا‪:‬‬

‫الذي َّ‬ ‫تلقنه درس ًا دون مقابل؟‬

‫‪ -‬ال يا سيدي المدير‪ ،‬إنه تلميذ ذكي مجتهد‪.‬‬

‫غني ًا وأهله‬ ‫ ال‪ ...‬ال‪ ...‬ال أقصد ذلك‪ ،‬وإنما أقصد إذا ما كان ّ‬‫يقبلون شروط المدرسة‪.‬‬

‫‪ -‬طبع ًا‪ ،‬يا سيدي المدير‪ ،‬ما في ذلك شك‪.‬‬

‫ اكتب‪ -‬إذ ًا‪ -‬الشروط‪ ،‬سأمليها عليك‪ ،‬وإنني أعتمد على‬‫لباقتك في عرضها عليهم‪ :‬خمسمئة فرنك للشهر الدراسي‪،‬‬ ‫مقدم ًا‪ .‬وطبع ًا ّ‬ ‫علي أنا دروس ًا خاصة‪ ،‬وأجرة‬ ‫وثالثة أشهر ّ‬ ‫يتلقى ّ‬ ‫‪123‬‬


‫الحصة الواحدة من هذه الدروس مئتان من الفرنكات‪ ،‬مئة‬

‫فرنك شهر ّي ًا مقابل ما يستهلكه من الماء للشرب وخالفه‪ ،‬ومئة‬

‫أخرى مقابل األدوية التي ربما احتجنا إلى إسعافه بها»‪.‬‬

‫أظن أن هذه الشروط مقبولة‪.‬‬

‫ دون ّ‬‫شك يا سيدي المدير‪.‬‬

‫سأعد له أحسن البقاع في مدرستي‪.‬‬ ‫إلي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬أسرع به‪ -‬إذ ًا‪ّ -‬‬

‫وكان سي زعرور قد َق َّدم مطلب ًا منذ عهد بعيد‪ ،‬يطلب فيه‬ ‫ّ‬ ‫يستحقه عن جدارة‪ ،‬وبقي‬ ‫وسام المعارف الذي يرى نفسه‬ ‫مطلبه دون جواب‪ ،‬وكان مديره على علم بذلك‪ ،‬وأراد أن‬

‫يبادله جمي ً‬ ‫ال بجميل‪ ،‬وم ّنة بأختها‪ ،‬فقال له‪ :‬لقد قابلت‬

‫وحدثته في شأن طلبك لوسام المعارف‪،‬‬ ‫شخص ًا عظيم ًا اليوم‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وأفادني أنهم منحوك الوسام‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أحق ًا منحوني الوسام؟‬ ‫‪ -‬ماذا تقول؟‬

‫حقيقي ًا‪،‬‬ ‫ نعم‪ ...‬لكنهم ال يستطيعون أن يمنحوك وسام ًا‬‫ّ‬

‫ولهذا فقد منحوك وسام ًا معنو ّي ًا‪ .‬وحا َر سي زعرور في هذه‬

‫العبارة‪ ،‬ولم يدرك كنه هذا الوسام المعنوي‪ ،‬ولكن مديره‬ ‫أسعفه بالشرح والتحليل وأفاده بقوله‪ :‬معنو ّي ًا‪ ،‬يعني أنهم‬

‫منحوك هذا الوسام دون أن يمنحوك إياه‪ .‬هل فهمت؟‬

‫ أجل فهمت‪ .‬منحوني دون أن يمنحوني‪ ،‬فهو عندي في‬‫‪124‬‬


‫المعنى دون أن يكون عندي في الحقيقة‪.‬‬

‫‪ -‬أحسنت‪ ...‬وهذا شرف عظيم يعود فضله إلى الجهود التي‬

‫بذلتها أنا في هذا الشأن‪.‬‬ ‫وودعه إلى الباب‪ ،‬وبقي وحده تغمره‬ ‫َش َكر سي زعرور مديره‪َّ ،‬‬ ‫نشوة السرور والبهجة بوسامه المعنوي الجديد‪ .‬وسارت‬ ‫األيام تباع ًا‪ ،‬وساءت األحوال بين المدير وزعرور؛ ألن هذا‬

‫األخير لم يب ّر بوعده‪ ،‬ولم يدخل التلميذ الجديد الذي وعد‬

‫وأس َّر المدير في نفسه‪ ،‬وبقي يتربَّص الفرص‬ ‫به إلى المدرسة‪َ ،‬‬ ‫لالنتقام منه‪.‬‬

‫كان المدير في مكتبه ذات صباح إذ دخل عليه والد تلميذ‪،‬‬ ‫وبيده ورقة اختبار ابنه‪ ،‬وهو يُرغي ويُزبد ساخط ًا على النتائج‬

‫السيئة التي أحرزها ابنه في اختباره الثالثي‪ ،‬وخشي المدير‬

‫أن تخسر ‪ -‬من جراء ذلك ‪ -‬مدرسته تلميذ ًا‪ ،‬أو باألحرى أن‬ ‫حدة غضب الرجل‪ ،‬وأفاده أن‬ ‫يخسر جيبه مورد ًا‪َ ،‬‬ ‫فخ َّفف من ّ‬ ‫ابنه من خيرة تالميذ المدرسة وأذكاهم‪ ،‬يمثل المكانة األولى‬

‫من قسمه‪ ،‬وإنما أخطأ الكاتب في نقل النتيجة عن السجل‬

‫األساسي‪ ،‬ووعده بإصالح هذا الخطأ حا ً‬ ‫توجه االثنان‬ ‫ال‪.‬‬ ‫َّ‬

‫إلى قسم سي زعرور‪ ،‬وحاول المدير‪ -‬بلباقته‪ -‬أن يُفهم هذا‬

‫األخير الغرض من زيارته‪ ،‬ولكنه خ َّيب ظنه وفاجأه بقوله‪ :‬إن‬ ‫‪125‬‬


‫التأخر‪ ،‬قليل العمل‪ ،‬ولهذا فال غرابة إذا‬ ‫هذا التلميذ بليد‪ ،‬كثير‬ ‫ُّ‬ ‫ما أحرز هذه النتيجة السيئة‪.‬‬

‫فقاطعه مديره قائ ً‬ ‫ال‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬إنك مخطئ‪ ،‬فمن دون شك‬ ‫أن الكاتب أخطأ في نقل النتيجة عن السجل‪ ،‬وال بد أن‬

‫هذه األصفار عشرات‪ ،‬وغمزه بعينه‪ ،‬ولكن زعرور الساذج لم‬ ‫يفهم مراده‪ ،‬وأفاده أنه ال يعرف هذا الكاتب الذي يعنيه‪ ،‬وأنه‬ ‫ّ‬ ‫السجل الذي كان فوق‬ ‫ينقل النتائج بنفسه‪ ،‬وأطلع الوالد على‬ ‫مكتبه وأراه األصفار المثبتة بالحبر األحمر أمام اسم التلميذ‪،‬‬

‫حدة هذا الوالد المفجوع في ابنه‪ ،‬ورفع من‬ ‫األمر الذي أعاد ّ‬

‫درجة حرارة غضبه‪ ،‬فتب َّرع للمعلم والمدير والمدرسة بنصيب‬

‫وافر من الشتائم‪ ،‬وأقسم بأغلظ األيمان أال يعود ابنه إلى هذه‬ ‫المدرسة‪ .‬وطبع ًا‪ ،‬ما كان من حضرة المدير إال أن طرد سي‬ ‫زعرور من عمله وهو يقسم‪ -‬أيض ًا‪ -‬بأغلظ األيمان أال تطأ‬

‫رجاله مدرسته بعد اآلن‪.‬‬

‫خاصة لطفل‬ ‫كان سي زعرور يقوم بإعطاء دروس باللغة العربية‬ ‫ّ‬ ‫أوروبي كان يعيش مع خالته‪ ،‬وكانت هذه السيدة تعيش مع‬

‫نائب تساعده في نصب «أصيل» من نوّاب المجلس البلدي‬

‫تساعده في نصب حبائله القتناص أموال الشعب وخزينة‬ ‫البلدية‪ ،‬وتقاسمه األرباح دون المسؤوليات‪ .‬كان االثنان‬

‫‪126‬‬


‫يتوسمان من ورائه أرباح ًا‬ ‫جالسين في خلوة يد ِ ّبران أمر ًا‬ ‫َّ‬ ‫يتقدم إلبرام‬ ‫جزيلة‪ ،‬واحتاج األمر إلى شخص ثالث‪ ،‬شخص‬ ‫َّ‬

‫الصفقة بناء على تزكية النائب المحترم‪ .‬حار االثنان في إيجاد‬ ‫الشخص‪ ،‬وقد طلب منهما عمالؤهم السابقون أجور ًا باهظة‬

‫َ‬ ‫يرض العمالء غيرها‪.‬‬ ‫لم يرضيا بها‪ ،‬ولم‬

‫كان النائب وزميلته في حيرة من أمرهما إذ دخل سي زعرور‬ ‫يج ّر أذياله قاصد ًا حجرة الطفل لتلقينه درسه المعتاد‪ ،‬وما‬

‫كادت السيدة تشاهده حتى هبط عليها الوحي‪ ،‬وعرضت على‬

‫صديقها استخدامه لهذا الغرض وسواه من األمور واألعمال‪،‬‬ ‫وذهبت تطري سذاجته‪ ،‬وتثني على جهله بالحياة ودقائقها‪.‬‬ ‫واس ُتدعي المع ِّلم الساذج إلى حظيرة الذئاب‪ ،‬وعرضا عليه‬

‫العمل معهما‪ ،‬وأغرياه براتب شهري مضاعف عما كان‬

‫يتقاضاه سابق ًا في مدرسته‪ُ .‬س َّر سي زعرور لألمر‪ ،‬وحمد الله‬ ‫الذي عوَّضه بدل درهمه دينار ًا‪ ،‬واستفسر عن نوع العمل‬

‫فأفاداه أنه عمل إداري بسيط ال يعدو توقيع العقود التجارية‬ ‫وتس ُّلم المبالغ المالية من إدارة البلدية والشركات التجارية‪.‬‬

‫وتمت الصفقة التي كان‬ ‫و َّقع سي زعرور على أول عقد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النائب وزميلته ينتظران إنهاءها بفارغ الصبر‪ .‬توالت األعمال‬

‫وتبعتها األرباح‪ ،‬وشاء القدر أن ّ‬ ‫يطلع زعرور على أسرار القوم‪،‬‬ ‫‪127‬‬


‫وأن يعرف كنه العمل الشائن الذي هو قائم به‪ ،‬فثار ضميره‬ ‫مؤ ِ ّنب ًا‪ ،‬وحرمه ّ‬ ‫لذة العيش‪ ،‬وأغاظه أن يفقد شرفه‪ ،‬ويخسر فضله‬

‫ضحى في سبيلهما بكل شيء‪،‬‬ ‫وتحمل من أجلهما الفاقة‬ ‫وقد ّ‬ ‫َّ‬ ‫واالحتياج‪ .‬وعاد بذاكرته إلى مدرسته‪ ،‬فبدت له جنة‪ ،‬وإلى‬

‫وهددهما‬ ‫مديره وزمالئه فبدوا له مالئكة‪ ،‬فثار على رفيقيه‪،‬‬ ‫َّ‬

‫ّ‬ ‫فكل‬ ‫هدداه بإلقائه في غياهب السجن‪،‬‬ ‫بالفضيحة‪ ،‬ولكنهما َّ‬

‫شيء باسمه حتى الرصيد المالي المودع في المصرف‪.‬‬

‫وه ّم َ‬ ‫وغ ّم عظيمين‪،‬‬ ‫عاش سي زعرور في اضطراب متواصل َ‬ ‫كادت كلها تذهب به إلى الجنون‪ ،‬وق َّرر أخير ًا أن يشرب الكأس‬

‫إلى الثمالة‪ ،‬فاستولى على المكتب‪ ،‬واستولى على األموال‪،‬‬

‫وأعلن انفصاله عنهما‪ ،‬وكل شيء باسمه وتحت مسؤوليته‪.‬‬

‫وانقلب الحمل الوديع ذئب ًا خطير ًا‪ ،‬فكشَّ ر عن أنيابه‪ ،‬وطرد‬

‫وح َّرم عليهما دخوله غير عابئ‬ ‫النائب وصديقته من مكتبه‪َ ،‬‬

‫بالتهديد والوعيد‪.‬‬

‫سارت أمور زعرور في مجراها المادي المعتاد على خير ما‬ ‫وص َهرته األيام في بوتقتها‪،‬‬ ‫يرام‪ ،‬وقد اكتسب خبرة وتجربة‪َ ،‬‬

‫وص َّبته في قالب الحياة‪ ،‬فخرج إنسان ًا جديد ًا ال يشبه َخ َلفه‬ ‫َ‬

‫في شيء إال في االسم أو بقية ضمير مثقل بالذنوب وشرف‬ ‫َّ‬ ‫يتصفح‬ ‫مدنَّس بالرذائل‪ .‬كان زعرور جالس ًا في مكتبه ذات يوم‬

‫‪128‬‬


‫بريده إذ لفتت نظره علبة صغيرة كانت ضمن الرسائل والرزم‪،‬‬

‫ففتحها قبل سواها‪ ،‬وإذا به يجد داخلها وسام ًا بنفسجي اللون‬

‫يحمل إشارة المعارف‪ ،‬تصحبه رسالة رقيقة تثني على معارفه‬

‫وشرفه‪ ،‬وتطري أخالقه وفضله‪ ،‬ومع الرسالة تقرير يمنحه وسام‬ ‫المعارف‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يتصفح بريده‪ ،‬وإذا‬ ‫ألقى وسامه في درج مهمل‪ ،‬واستم َّر‬

‫يتقدم نحوه في خشوع وإذالل‬ ‫بالباب يُفتح‪ ،‬وبمديره السابق‬ ‫ّ‬ ‫راجي ًا منه أن يش ِّرف المدرسة برئاسة حفلتها السنوية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يستحق الوسام‪،‬‬ ‫ُفهم الناس أنه ال‬ ‫عبث ًا حاول زعرور أن ي ِ‬ ‫ّ‬ ‫يستحق مجالس الشرف التي يعرضونها عليه بين الفينة‬ ‫وال‬ ‫والفينة؛ ألنه سارق محتال ينهب أموال األمة والدولة بشتى‬

‫عدوه‬ ‫طرق االحتيال‪ .‬ولكن الناس لم يعبؤوا بقوله‪ ،‬بل ّ‬

‫وسجلوه في جملة مناقبه الفاضلة‪ ،‬وحسبهم منه أن‬ ‫تواضع ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يربح كثير ًا‪ ،‬ورصيده في المصرف يتضاعف كل يوم‪ ،‬والمال‬

‫في عرف البشر هو الفضيلة‪ ،‬وهو الشرف‪ ،‬وهو العلم واألدب‪.‬‬

‫***‬ ‫‪129‬‬


130


‫التلميذ‬

‫«دروت» الذي كان قائد ًا عظيم ًا في جيش نابليون األول‪ ،‬كان‬ ‫خباز فقير في مدينة «نانسي» بفرنسا‪ ،‬اجتاز‬ ‫في طفولته ابن ّ‬

‫أطواره المدرسية في ظروف قاسية وأيام شديدة‪ ،‬حيث كان‬ ‫أبواه في غاية الفاقة وشدة االحتياج‪ ،‬فلم يسمحا له بالذهاب‬ ‫إلى المدرسة إال على شرط أن يقوم بجميع أعماله اليومية خير‬

‫قيام عند عودته منها‪ .‬ولهذا فقد كان حتم ًا عليه‪ ،‬بعد الرجوع‬ ‫من المدرسة‪ ،‬أن يقوم بتوزيع الخبز على عمالء أبويه‪ ،‬وأن‬

‫يساعدهما في بقية األعمال‪ ،‬وكان يقضي بقية يومه وشطر ًا‬

‫من ليله في إنجاز أعمال كثيرة ّ‬ ‫شاقة‪ ،‬وال يجد فرصة ألعماله‬ ‫يشاهد فيها‬ ‫متأخرة من الليل‪،‬‬ ‫المدرسية‪ ،‬سوى بضع سويعات‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫‪131‬‬


‫منكب على دروسه‪ ،‬يلتهمها على ضوء‬ ‫الفتى «دروت» وهو‬ ‫ّ‬

‫نور الموقد‪ .‬ولكن هذه العقبات وهذه العراقيل لم تستطع أن‬ ‫تعوّق هذا الفتى عن النجاح‪ ،‬أو تقف في طريقه إلى بلوغ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫المعالي‪ ،‬فقد تغلب عليها بذكائه‬ ‫الفذ‪ ،‬وقوة‬ ‫المتوقد‪ ،‬وحزمه‬

‫إرادته النادرة‪ ،‬واستطاع هذا الفتى القروي الفقير‪ ،‬الذي َع ِدم‬

‫ّ‬ ‫يشق طريقه الوعر‪ ،‬وأن يصل إلى هدفه‬ ‫وسائل التعليم كلها‪ ،‬أن‬ ‫َ‬ ‫مك َّل ً‬ ‫ال بالنجاح‪...‬‬

‫دعونا نستمع إليه يحدثنا بنفسه عن أول اختبار شارك فيه‪ ،‬وهو‬ ‫مهدت له‬ ‫مسابقة االنخراط في سلك المدرسة العسكرية التي َّ‬ ‫السبيل إلى المجد حتى أصبح قائد ًا عظيم ًا من قوّاد نابليون‬

‫َخ َّل َد ذكره التاريخ‪.‬‬

‫قال‪ :‬حينما كنت ذات يوم‪ ،‬ما ّر ًا في شوارع نانسي ُأوزِّ ع‬

‫الخبز على عمالئنا‪ ،‬لفت نظري منشور كبير مثبت على جدار‬

‫أحد المباني‪ ،‬يحتوي على إعالن للمدرسة الحربية تعلن فيه‬

‫موعد مسابقة االلتحاق بها‪ ،‬الذي س ُيجرى في مدينة «ميتز»‪.‬‬ ‫حدثتني نفسي باالشتراك في هذه المسابقة‪ ،‬وااللتحاق بهذه‬

‫المدرسة الحربية‪ ،‬ولكن كيف يمكن ذلك وقد كان أبواي في‬

‫بسد‬ ‫غاية الفاقة واالحتياج؟! فلم يكن مدخولها اليومي يقوم ِ ّ‬

‫تحصلت‪ -‬مع ذلك‪ -‬على ترخيص‬ ‫حاجاتنا الضرورية‪ ،‬ولكني‬ ‫َّ‬ ‫‪132‬‬


‫وتحصلت كذلك على مبلغ عشرة‬ ‫منهم بالسفر لتأدية االختبار‪،‬‬ ‫َّ‬

‫جد ًا ال‬ ‫فرنكات‪ ،‬وهو كل‬ ‫َّ‬ ‫المد َخر عندنا‪ .‬وكان المبلغ زهيد ًا ّ‬

‫يكفي ألجرة الركوب‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن المصاريف الثانوية األخرى‪،‬‬ ‫قدمي‪.‬‬ ‫بد ًا من السفر ماشي ًا على‬ ‫ولم أجد ّ‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫وتوجهت لفوري‬ ‫وصلت مدينة «ميتز» يوم المسابقة نفسها‪،‬‬ ‫َّ‬

‫إلى قاعة االختبار‪ ،‬وما كدت أبدو في القاعة التي كانت‬ ‫حافلة بعدد كبير من التالميذ واألساتذة‪ ،‬حتى ّ‬ ‫تلقاني هذا‬

‫الجمع الغفير بعاصفة شديدة من الضحك والسخرية‪ .‬والحق‬

‫أن حالتي كانت تدعو إلى أ كثر من ذلك‪ ،‬فقد كنت نحيف ًا‬ ‫ضعيف ًا‪ ،‬تكسو مالبسي الريفية المر َّقعة طبقة كثيفة من غبار‬

‫الطريق‪ ،‬أحمل في يميني عصا غليظة‪ ،‬منت ِع ً‬ ‫ال حذا ًء ريفي ًا‬

‫خشن ًا تحيط به طبقة من األوحال‪.‬‬

‫وقفت مضطرب ًا في وسط القاعة بين ضجيج الضحك والسخرية‪،‬‬ ‫ولم أنتبه إال على أحد المختبرين يخاطبني ّ‬ ‫ردت‬ ‫برقة وشفقة‪َّ ،‬‬

‫إلي بعض جأشي‪ :‬ضللت سبيلك‪ ،‬من دون شك يا صديقي!‬ ‫َّ‬

‫ماذا تريد؟ قال لي الرجل طيب القلب هذا الكالم‪ ،‬فأجبته‬ ‫على الفور‪ :‬أريد أن أشارك في المسابقة يا سيدي! وما كدت‬

‫أنطق بهذه الكلمات حتى ارتفع ضجيج الضحك والسخرية‬

‫من جديد في جميع أركان القاعة‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫ ولكن‪ ،‬هل تدري أنها مسابقة المدرسة الحربية؟ (قال‬‫المختبر بلطف) وأنت على علم بدون ريب‪ ،‬بالشروط والمواد‬ ‫ِ‬

‫المعلنة في البرنامج‪.‬‬

‫‪ -‬سيدي‪ ،‬درستها كلها! (أجبته متلعثم ًا)‪.‬‬

‫بني وانتظر‪ ،‬فعندما‬ ‫وأجابني السيد‪ :‬إذن‪ ،‬تفضل اجلس‪ ،‬يا ّ‬ ‫يأتي دورك أدعوك!‬

‫ذهبت أنزوي بعيد ًا في أحد األركان‪ ،‬ولكن الضحك‬ ‫والسخرية الالذعة كانا يالحقاني أينما حللت‪ ،‬ورغم ما كنت‬

‫فيه من الخجل واالضطراب أخذت أنصت بإمعان إلى أسئلة‬ ‫المختب ِرين وأجوبة الطلبة‪ ،‬وما هي إال لحظة حتى أحسست‬ ‫ِ‬

‫تدب في جسمي النحيل‪ ،‬حيث تب َّين لي أنه‬ ‫بروح جديدة‬ ‫ّ‬

‫في استطاعتي اإلجابة على هذه األسئلة كلها‪ .‬وأخير ًا جاء‬ ‫المختبر ينطق باسمي‪ ،‬وما كدت أقف أمام‬ ‫دوري‪ ،‬وسمعت‬ ‫ِ‬

‫لجنة االختبار‪ ،‬حتى امتألت القاعة بالفضوليين الذين أتوا من‬

‫المختبر‬ ‫هنا وهناك لمشاهدة اختبار الفتى القروي‪ .‬ابتدرني‬ ‫ِ‬

‫يسألني في قواعد الحساب‪ ،‬وكانت أجوبتي متتابعة‪ ،‬بدون‬

‫متعجب ًا‪:‬‬ ‫المختبر وسألني‬ ‫انقطاع وال اضطراب‪ ،‬حتى سكت‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫أين درست الحساب؟‬

‫ درسته منفرد ًا يا سيدي! على ضوء موقد مخبزنا‪ ،‬وإذا‬‫‪134‬‬


‫َّ‬ ‫مستعد ًا‬ ‫تفضلتم بسؤالي في بقية البرنامج‪ ،‬سوف تجدوني‬ ‫ّ‬ ‫لإلجابة!‬

‫وامتد اختباري ما يقرب من الساعتين‪ ،‬وما كدت أنتهي حتى‬ ‫َّ‬ ‫ضمني إلى صدره‬ ‫قام الرجل من مقعده‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وتوجه نحوي حيث َّ‬

‫بني! وأعتقد تمام ًا‬ ‫وهو ّ‬ ‫يردد‪ّ ِ :‬‬ ‫أقدم إليك تهنئتي وإعجابي يا ّ‬ ‫أنك ستكون أحد طلبة المدرسة الحربية النجباء!‬

‫ال يستطيع أحد أن يتصوَّر السرور الذي غمر قلبي في تلك‬

‫الساعة! ولكن سرور ًا أعظم منه كان ينتظرني‪ ،‬وشرف ًا لم‬

‫مستعد ًا للقائي‪ :‬وهو أن جميع الطلبة الذين‬ ‫أ كن أتو َّقعه كان‬ ‫ّ‬ ‫تقدموا نحوي‪ ،‬وحملوني على أعناقهم‬ ‫ضحكوا وسخروا مني‪َّ ،‬‬

‫في موكب مهيب‪ ،‬حيث طافوا بي مدينة «ميتز» كلها هاتفين‬

‫باسمي‪ .‬كان ذلك اليوم أسعد يوم في حياتي!‬

‫***‬

‫‪135‬‬


‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪136‬‬

‫طبائع االستبداد‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫الغربال‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫الشيخان‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫ثورة األدب‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫عن َ‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫غسان كنفاين‬ ‫سليامن فياض‬ ‫عمر فاخوري‬ ‫عيل عبدالرازق‬ ‫نبي‬ ‫مالك بن ّ‬ ‫محمد بغدادي‬ ‫أبو القاسم الشايب‬ ‫سالمة موىس‬ ‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الشيخ محمد عبده‬ ‫بدر شاكر السياب‬ ‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫الطاهر الحداد‬ ‫طه حسني‬ ‫محمود درويش‬ ‫توفيق الحكيم‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫ميخائيل الصقال‬ ‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ريجيس دوبريه‬ ‫اإلمام محمد عبده‬ ‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫روحي الخالدي‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫يحيى حقي‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫خالد النجار‬ ‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫ابن طفيل‬ ‫ميشال سار‬ ‫محمد إقبال‬ ‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬


137


138




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.