عمر فاخوري
الفصول األربعة
4
عمر فاخوري
الفصول األربعة النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : �إخراج وتنفيذ :الق�سم الفني -جملة الدوحة لوحة الغالف :تف�صيل من خوان مريو � -إ�سبانيا ن�رشت الطبعة الأوىل من هذا الكتاب يف «من�شورات دار املك�شوف -بريوت »1941
عمر فاخوري
الفصول األربعة
فهرس الكتاب
تقدمي
9
مقدمة
15
دعــاء
19
الأول :يف �أ�صول الإن�شاء
21
الثاين� :أ�ساليب يف در�س الأدب
41
الثالث :عود �إىل ال�شعر
55
الرابع :اجلمال بني احلركة وال�سكون
67
خامتة
89
ابن الربيع العربي الأول «الف�صول الأربعة» عنوان الكون�شريتو العذب للإيطايل �أنطونيو فيفالدي ( 4مار�س 1678ـ 28يوليو )1741ال ميكن �إال �أن يكون قد عرب ذهن عمر فاخوري عندما عنون كتابه بـ «الف�صول الأربعة». �صلة القربى وا�ضحة بني ف�صول الكتاب وبني العمل املو�سيقي العذب ،الذي رمبا يكون الأعذب والأكرث خفة بني �أعمال عباقرة النه�ضة املو�سيقية الأوروبية. و�سواء كانت لف�صول فاخوري الأربعة عالقة بف�صول ال�سنة ،فامل�ؤلف نف�سه واحد من �أبناء الربيع العربي من �أدباء ومفكرين وفنانني عرب �رشفوا الدنيا مبولدهم يف القرن التا�سع ع�رش ،ودخلوا �إىل القرن الع�رشين كهو ًال وفتيان ًا حاملني �شعلة نه�ضة عربية مل ي�سمح الواقع العربي والإقليمي والدويل با�ستمرارها. مفكرون و�أدباء من �أمثال الكواكبي ،حممد عبده ،فاخوري ،الطاهر احلداد ،قا�سم �أمني ،جميل �صدقي الزهاوي ،الر�صايف ،طه ح�سني ،علي وم�صطفى عبدالرازق ،امل ّثال حممود خمتار والر�سام حممود �سعيد، 9
تقدمي
وقائمة كبرية �شكلت الربيع العربي الأول. وقد �آلت جملة «الدوحة» على نف�سها �أن تقدم �أعالم الربيع الأول الذين ي�صنعون بب�سالة تامة مالمح ربيع عربي جديد ،يتعرث ويلقى مقاومة �رش�سة من الأنظمة املتداعية وامل�ستفيدين منها ،لكنه �سينت�رص يف النهاية .هكذا يقول املنطق ،وهذا هو ما �أثبته عزم ال�شباب ال�صامد يف �ساحات احلرية العربية. ي�شرتك عمر فاخوري ( 1895ـ )1946مع جمايليه يف االنفتاح على جتارب الأمم الأخرى ،ويف الدعوة �إىل ا�ستلهام �أ�سباب النه�ضة من الثقافات املجاورة من دون �إح�سا�س بالنق�ص يف مواجهة تلك احل�ضارات ،ذلك لأن الأيام دول و�رصح احل�ضارة الإن�ساين مل تتعهده ثقافة واحدة ،ولكن كانت لكل ثقافة لبنتها ،ولكل �أمة رايتها التي قادت بها الإن�سانية حين ًا من الدهر ثم �سلمتها �إىل غريها. ي�شرتك فاخوري كذلك مع جمايليه من �أبناء الربيع العربي الأول يف ترابطهم املده�ش وتوا�صلهم الفكري على الرغم من �صعوبة و�سائل االت�صال يف ذلك الوقت ،كما يتفقون يف قدرتهم على االختالف واالحرتام والقبول املتبادل ،وعلى ما يبدو من فروق فكرية بني الليربايل طه ح�سني واال�شرتاكي عمر فاخوري ،ها هو عميد الأدب العربي ي�صف اللحظة التي تلقى فيها خرب رحيل فاخوري« :مل �أقل �شيئ ًا ومل يقل �أ�صحابي �شيئ ًا ،و�إمنا اتخذت لهذا الأديب اللبناين العظيم قرباً يف ناحية من نواحي قلبي ،كما اتخذ اللبنانيون له قبوراً يف قلوبهم ،وكما حفروا له قرباً يف ناحية ما من �أر�ض لبنان». و�أما ما يختلف فيه فاخوري عن معظم �أبناء ذلك اجليل ،فهو انفتاحه على ال�شيوعيني العرب وعلى التجربة الرو�سية على عك�س كثريين انفتحوا على القيم الليربالية الأوروبية وحدها. مل يكن وحيداً متام ًا يف ذلك الوقت ،بل واحداً من تيار يرى ت�أ�سي�س 10
نهو�ض الأمة العربية على الفكر اال�شرتاكي ،من �أمثال �سالمة مو�سى، رئيف خوري ،مازن عبود وحممد مندور .لكنه كان الوحيد من بني الليرباليني واال�شرتاكيني الذي اهتم ب�شكل وا�ضح مبا ن�سميه اليوم «�س�ؤال التلقي» فلم يكن يلقي ب�أفكاره لت�صادف قارئها م�صادفة ،لكنه �ألح على دعوة الأدباء واملفكرين �إىل كتابة ما يفهمه النا�س بد ًال من مطالبتهم بفهم ما يكتب ،وقد بد�أ بنف�سه يف تطبيق دعواه ،م�ستخدم ًا �أ�سلوب ًا �شديد الب�ساطة والإيجاز ،وهو يف�صح يف مقدمة «الف�صول الأربعة» ب�شكل وا�ضح عن وعيه ب�رضورة ال�رشاكة الفعالة بني الكاتب والقارئ�« :إذا �أراد �سمح اخلاطر �أن يجد غري هذا �أي�ض ًا ،فهو و�ش�أنه .و�أنا م�ؤمن بالذي يقر�أ ،كمثل �إمياين بالذي ي�ؤلف :بدا يل ذات يوم �أن �أت�صور الكمال يف م�ؤلف وقارئه -حبذا لو اجتمعا! -فتمثل لنا يف �صورة رفي َق ْي �سفر على البد �أن يرتادفا ،فهما عن طيب نف�س يرتادفان� ،إىل حيث راحلة واحدةّ ، ال غاية» .وال ي�شبه هذا القول �إال قول الق�س بريكلي ،الذي ينقله خورخي لوي�س بورخي�س يف كتابه «�صنعة ال�شعر» ،حيث يقول�« :إن طعم التفاحة لي�س يف التفاحة نف�سها ،ولي�س يف فم �آكلها ،و�إمنا يف اجتماعهما». رمبا كانت ميوله اال�شرتاكية وبالتايل الإميان باجلماهري العري�ضة، ال�سبب الذي جعل عمر فاخوري حري�ص ًا على ا�ستخدام �أ�سلوب مفهوم من �أكرب عدد ممكن من القراء ،لهذا كتب «�أديب يف ال�سوق» ،ومن عنوان تلك الكتابة املنا�ضلة التهكمية ن�ستطيع �أن نقر�أ اللوم املبطن لأدباء الق�صور العاجية املنف�صلني عن الواقع ،كما ال ن�ستطيع �أن نغفل عالقة العنوان بالآية الكرمية« :وما �أر�سلنا قبلك من املر�سلني �إال �إنهم لي�أكلون الطعام ومي�شون يف الأ�سواق». ال ينبغي للأديب �أن يتجاهل حركة احلياة لأن الأنبياء مل يتجاهلوها. وعليه م�س�ؤولية جتاه تثوير الواقع ،حتى ال نتحدث عن «تنوير» وقد �صارت كلمة م�سفة وبذيئة من كرثة ما تداولها مفكرو ال�سالطني اجلدد 11
تقدمي
الذين كانوا يرددونها بال كلل ،بينما يعملون ب�صمتهم وتواطوئهم على �إدامة ا�ستبداد ي�سبه بع�ضهم اليوم ،بل ويجد له بع�ضهم الأعذار! كان من املمكن �أن نختار «كيف ينه�ض العرب؟» كتاب عمر فاخوري الأول ،الذي كتبه يف �سن الثامنة ع�رشة ،فهو يك�شف عن التوجه الفكري الذي �سي�صري �إليه ذلك املراهق ،من تطلع �إىل نه�ضة عربية مبنية على احلرية والعدالة ونبذ االجتاهات الفا�شية واملتطرفة ،لكننا �آثرنا «الف�صول الأربعة» الذي ي�ضم مراجعات �أدبية وفنية عادية و�شديدة الب�ساطة ،ذلك لأن الكتاب يو�ضح م�ساهمة عمر فاخوري يف �إنقاذ النرث العربي من ال�سجع والتكرار اململ الذي �ساد ع�صور االنحطاط اللغوي يف ظل حكم املماليك والعثمانيني. والفن يف جوهره �أ�سلوب ،فلي�س مهم ًا يف الأدب والر�سم واملو�سيقى و�سائر الفنون ماذا نقول ولكن املهم هو كيف نقول .وكتاب «الف�صول الأربعة» يك�شف عن �أ�سلوب عمر فاخوري الذي ي�ستحق �أن ُي�ستعاد .كما �أن اختياره اليوم للن�رش هو رد اعتبار لكل الكتابة التي تعتمد على ثقافة كاتبها وانطباعاته ال�شخ�صية عن الأعمال الفنية التي يتناولها ،بعد �أن كان هذا النوع من املراجعات حمت ِقراً. ومرة �أخرى ال جند غ�ضا�ضة من التوجه �صوب الغرب ،لرنى بداية االنتباه �إىل خطورة ما جنته املدار�س النقدية احلديثة على الأدب ،وها هو تزفيتان تودوروف الفرن�سي البلغاري يكتب منذ �سنوات قليلة «الأدب يف خطر» مطالب ًا بعودة الروح �إىل القراءات االنطباعية التي جتمع النا�س حول الأدب وال تنفرهم منه. ولي�ست م�صادفة �أن ترعى اجلهات والدول الأكرث حمافظة مطبوعات تهرب للأمام وتنخرط يف «احلداثة» و«ما بعد احلداثة» ،وكان هذا الهروب �سبب ًا يف اقرتاب الأدب العربي من الغيبوبة. م�ضت عقود طويلة تخ ّفى فيها النقاد وراء الرطانة النقدية امللغزة 12
واملقايي�س ال�صارمة ملدار�س نقدية م�ستوردة مل يه�ضموها جيداً ،ومل يح�سن ا�ستريادها �إىل �أدبنا وفننا ،لكنه �أح�سن �إىل من تخفوا وراء الفتاتها وجعلهم يف �أمان ،لأنهم يطحنون كالم ًا ال يفهمه امل�ستبد ويعرف �أن الرعية ال تفهمه. وقد �آن الآوان لالحتفاء بعمر فاخوري بو�صفه رمزاً من رموز الربيع العربي الأول ،الذين كانوا يقولون ما يفعلون ،ويكتبون ما نفهم. عزت القمحاوي
13
ف�صول الكتاب :ال ف�صول العام وال ف�صول العمر .لي�س بينها من �صلة �إال بقدر ما تتوا�صل الف�صول� ،إذ يتولد �أحدها من �آخر� ،أو يتال�شى بع�ضها يف بع�ض .وال�شتاء هنا �صيف هنالك .وهي -بعد -كليايل �أبي الطيب «�شكول». �إذا �أراد �سمح اخلاطر �أن يجد غري هذا �أي�ض ًا ،فهو و�ش�أنه .و�أنا م�ؤمن بالذي يقر�أ ،كمثل �إمياين بالذي ي�ؤلف :بدا يل ذات يوم �أن �أت�صور الكمال يف م�ؤلف وقارئه -حبذا لو اجتمعا! -فتمثل لنا يف �صورة البد �أن يرتادفا ،فهما عن طيب نف�س رفي َق ْي �سفر على راحلة واحدةّ ، يرتادفان� ،إىل حيث ال غاية. �أو -ال ،فعدوه ا�سم ًا ك�سائر الأ�سماء التي يدمغون بها جباه اخللق، ويل�صقونها ب�أقفية النحل والأوثان والأو�ضاع والأهواء ،ك�صنوف الب�ضاعة ،وق ّل مل�سمى من ا�سمه ن�صيب .وما يدريك؟ لعل خديعة العناوين والألقاب والكنى والأن�ساب� ،أعظم مايف حياتنا ،بل يف هذا الوجودْ �« :إن هي �إال �أ�سماء �سميتموها �أنتم و�آبا�ؤكم ،ما �أنزل اهلل بها 15
مقدمة
من �سلطان� :إن يتبعون �إال الظن وما تهوى الأنف�س» (�سورة النجم). لنقل �إذن على التعميم :خديعة العبارة �أو «البيان» يف خمتلف رموزه و�إ�شاراته ،و�أ�صواته ولهجاته ،وذرائعه و�أدواته ،يخالونها طريق �سولت مل�سيلمة نف�س ُه الطماحة �أن يرفع احلقيقة �أو «اليقني» وقدمي ًا َّ الكذب �إىل مقام النبوة .وما كان البيان قط �سوى مداورة لفظ يف خماتلة معنى ،ق�صارانا �أن نت�صيد به من الوجود � -رسابه. هم الكاتب� ،أو يف وهمه� ،إال �أن ينجو بكلمتي على �أنه مل يكن من ّ «الدعاء» و«اخلتام» من مدار الف�صول ،ع�سى �أن ت�سلما له على الأيام، �إىل حني. (كانون الثاين )1941
16
17
دعــاء
18
دعاء اللهم ! بال�شعر ،بل ببيان �أبلغ من ال�شعر ،كنت تخاطب القرون اخلالية، على ل�سان ر�سلك و�أنبيائك. وبالفن ،بل بقدرة �أعظم من الفن� ،صورت يف لوح الوجود ،هذه الدنيا� :أر�ضها و�سماءها ،مهادها و�أطوادها ،بحارها و�أنهارها، �أزهارها و�أطيارها .وخلقت فيها اخلري وال�رش ،وال�صحة واملر�ض، والغنى والفقر ،والهناء وال�شقاء ،وكذلك احلرب وال�سلم و�شيئ ًا بينهما كانوا يدعونه تارة ال�سلم احلربي ،وتارة احلرب ال�سلمية ،وعجائب �أخرى كثرية. وه�ؤالء خلقك� ،إذا ما ا�شتد حنينهم �إىل وطنهم الأول الذي �أخرجت منه �أباهم �آدم و�أمهم حواء ،يلوذون بواحة ال تعرف خرياً �أو �رشاً ،وال لكن فيها �أحلان من و�ضع املو�سيقيني، غنى �أو فقراً ،وال حرب ًا �أو �سلم ًاْ .. 19
دعــاء
و�أ�شكال من تخييل امل�صورين ،و�أوزان من وحي ال�شعراء. اللهم ! �أولئك هم �آلك الغر امليامني. اللهم ! فاجعل هذه الواحة جزءاً من فردو�سك املفقود الذي وعدته املتقني. اللهم ! هب لنا �شعرنا اليومي ،تباركت يا �أح�سن اخلالقني !
20
يف �أ�صول الإن�شاء
1 لي�س يف الأدباء واملت�أدبني من مل ي�سمع ،على الأقل ،بكتاب «املثل ال�سائر يف �أدب الكاتب وال�شاعر» واملعروف �أنه من �أمهات كتب الأدب العربي .لكن ق َّل فيهم �أي�ض َا ،حتى الذين تدار�سوه ،من حفظ ا�سم م�ؤلفه. كذلك �أنا :لقد قر�أت الكتاب يف ليال معدودات ،متحدث ًا �إىل �صاحبه ك�أين �أعرف من هو ،ثم ال �أدري كيف رجعت �إىل ال�صفحة الأوىل لت�أخذ عيناي هذا اال�سم الكرمي� :ضياءالدين �أبي الفتح ن�رص اهلل بن حممد بن حمد بن� ..إلخ .فقلت :لأمر ما ُجدع ا�سم الرجل -رحمه اهلل -وعرف ب�صاحب املثل ال�سائر. من ف�صول «املثل ال�سائر» ت�أليف ..ذلك العالمة الفا�ضل ،ف�صل 21
يف �أ�صول الإن�شاء
يف الطريق �إىل تعلم الكتابة نقتطف منه هذه النبذة( :فيقوم � -أي الكاتب -ويقع ،ويخطئ وي�صيب ،وي�ضل ويهتدي ،حتى ي�ستقيم على أخلق بتلك الطريقة �أن تكون مبتدعة غريبة طريقة يفتتحها لنف�سه .و� ْ ال �رشكة لأحد من املتقدمني فيها :هي طريق االجتهاد ،و�صاحبها عد �إمام ًا يف فن الكتابة ،كما يعد ال�شافعي و�أبوحنيفة ومالك من ُي ّ الأئمة املجتهدين يف علم الفقه� ،إال �أنها م�ستوعرة جداً وال ي�ستطيعها �إال من رزقه اهلل ل�سان ًا هجام ًا ،وخاطراً رقام ًا )..يذكرين هذا القول مبا الر ْود الرحبة املطمئنة ،وهنالك يف اجلبل من الطرق :هنالك الطريق َ الطريق ال�صعبة ال�ضيقة امل�ستوعرة .وال خالف يف �أن الذين ي�سلكون قودمون». َ اجلدد هم �أكرث من الذين ُ «ي ْ يزعم �صاحب املثل ال�سائر �أنه تو�صل ،بعد العناء ال�شديد� ،إىل الطريق ال�صعبة ،ف�سلكها �آمن ًا العثار .واحلق �أين مل �أجد يف الكالم الكثري -كالمه -الذي ي�ؤيد به زعمه ،ما يكفي لإقناعي .لكن هذا ال يقدح يف ر�أيه اجليد الذي �أتيت على ذكره ،ف�إن مدح الرجل نف�سه �شيء ،ومدحنا ر�أيه �شيء �آخر ،كما يقولون. وبعد ،فماذا عنى بقوله( :ل�سان هجام وخاطر رقام)؟ ال �إخاله عنى غري اجلر�أة على الألفاظ واملعاين ،ف�إن مل يكن كذلك فهو مل يجئ �إذن ببدع من القول .بيد �أن اجلر�أة على الألفاظ وتراكيبها� ،سواء يف ٍ عارف باللغة ال�شعر �أم يف النرث ،ال تكون (�أو ال ت�صح �أن تكون) �إال من عريق يف �أ�ساليبها ،وذلك هو الكاتب �أو ال�شاعر الذي نقول ،حينما نقر�أ له ،معجبني« :ما لهذه اللغة يف يده كالعجينة ي�صنع منها ما ي�شاء، ليعطينا خبزنا اليومي نحن الفقراء!» و�أما اجلر�أة على املعاين فال تكون �إال من امرئ ي�أتي �إىل هذه الدنيا وك�أنه لي�س من �أهلها ،فيقول 22
النا�س �إنه �ساحر �أو � ّأن به م�س ًا من ال�شيطان .وما «عبقر» �إال مو�ضع يكرث اجلن فيه ،ثم ن�سب العرب �إليه كل �شيء تعجبوا من قوته وجودته «العبقري والعبقرية». وح�سنه ،فقالوا: ّ ين�صح �صاحب املثل ال�سائر متعلم الكتابة بحفظ القر�آن الكرمي والأحاديث النبوية وعدة من دواوين فحول ال�شعراء .و«احلفظ» هذا كان له يف ثقافة الع�صور ال�سالفة �ش�أن عظيم .وقد وجد �أي�ض ًا يف علماء البيان املتقدمني من �أ�شاروا على متعلم الكتابة ب�أن ين�سى ما حفظه لئال يغلب عليه التقليد ،فال يظهر طبعه وال ُيعرف �إبداعه. ورب قائلٍ �إن العبقرية هبة من الطبيعة ،ال يجدي املحروم منها ّ حفظه مهما ات�سع ،ودر�سه مهما عمق .بل �إن كرثة احلفظ والدر�س قد تقتل ملكة االبتكار والتوليد ،وجتعل منه رج ًال من حرب وورق ،ال من حلم ودم. هذا قول حق ال جنادل فيه ،ف�إن كثرياً من كتابنا هم ذلك الرجل امل�سيخ الذي لو قطعت �رشايينه ملا �أخرجت �إال حرباً ،ولو مزقت حلمه ملا �أخذت �إال ورق ًا .ولكن لي�س بالفنان العبقري كل من �أراد �أن يكون كذلك ،والعبقري نف�سه مدين للذين تقدموه �أجمعني ،بل لعله �أكرث النا�س دين ًا كما �أنه �أكرثهم غنى .وهو ما عناه �أحد كتاب الفرن�سي�س بقوله ،ناظراً من هذه الناحية« :النبوغ �أو العبقرية �صرب طويل». بيد �أن هذا ال مينع من �أن الكتابة فن له قواعد و�أ�صول و�ضعت بعد االختبار الطويل ،ينبغي �أن تدر�س وجتاد معرفتها للعمل مبقت�ضاها، ومن �أن للكتابة مناذج باقية على الزمان ،ينبغي �أن ُينظر فيها بتذوق وروية و�إمعان. وال�رشط الأ�سا�سي� ،أو ًال و�آخراً ،هو �أن ي�ستمد املرء عنا�رص فنه 23
يف �أ�صول الإن�شاء
ي�شح �سل�سبيلهما �أبداً� ،أعني الكون و�أدبه من الينبوعني اللذين ال ّ كون ال تنفد روائعه وال حُت ّد �صوره ،وحياة ال تزال متطورة واحلياةٌ : متحولة ،فك�أنه بعث م�ستمر يف خلق جديد. يقول �أناتول فران�س« :ال ينبغي لل�صغار �أن يقر�أوا يف الكتب .يوجد �أ�شياء كثرية جديرة ب�أن يروها ومل يروها :البحريات واجلبال والأنهار، واملدن والأرياف ،والبحر ومراكبه ،وال�سماء وكواكبها» .ولي�ست ن�صيحته هذه لل�صغار وحدهم بل للكبار �أي�ض ًا .من منا ي�ستطيع �أن كربت على هذا الكون وعلى هذه احلياة ..هما كتابان ال يقول« :لقد ُ ب�أ�س بهما ،لكن انتهيت من قراءتهما .ماذا تريد؟ �إين (ختمت) ،»..من ي�ستطيع -باهلل عليك� -أن يقول هذا� ،إال رجل من ورق وحرب!
2 �أكرث �أدبائنا -وال �أغايل -حقيقون �أن يبيتوا ك�شافة قبل �أن ي�صبحوا �أدباء ،الكتاب منهم وال�شعراء .بل �إين �أذهب �إىل �أبعد من هذا ف�أقول :من الواجب عليهم� ،إذا �أرادوا حق ًا �أن يكونوا كتاب ًا و�شعراء� ،أن يجتازوا �أو ًال مدر�سة الك�شاف ،ف�إنهم يف هذه املدر�سة قد يكت�سبون ال�صفات واملزايا الالزمة لكل �أهل الفنون �أو ينمون هذه ال�صفات واملزايا �إن تك كامنة فيهم. لو �شئت يوم ًا �أن �أمتثل الأديب يف بالدنا� ،أو �أن �أتخيل �أمنوذج ًا و�سط ًا لأدبائنا ،ملا قامت يف ذهني �إال �صورة واحدة ،هي �صورة رجل جتد فرق ًا �إال يف لون احلرب ونوع الورق� .س ْل من ورق وحرب ،وال تكاد ُ 24
هذا «الآدمي» الآن عن حوا�سه اخلم�س وعن يقظتها ،وعن نهمها وعن حد ظمئها ،و�سط جمايل الطبيعة و�أحداث احلياة ،يق ْل لك ب�سذاجة ال ّ لها« :هل غادر ال�شعراء؟»� .أو هو ،يف الأغلب ،ال يجيبك ب�شيء ،لأنه مل يفهم ما �أردت .وال�سعيد ال�سعيد من وجد حتت �إبطه بيت ًا من ال�شعر �أو مث ًال �سائراً ،فتناوله بخفة ور�شاقة ،فال ي�سعك �إال �أن تقول معجب ًا رغم �أنفك« :اهلل ،ما �أ�رسع خاطره وما �أجود حافظته!» ثم ت�صافحه مودع ًا، فال ي�سعك �إال �أن تقول�« :أُ ٍّف له! لقد ترك يف يدي �أثراً من حربه وريح ًا من ورقه» .بيد �أنه غداً ،ومن يجرينا من الغد؟ �سيطلع علينا بق�صيدة من نظمه� ،أو يهبط مبقالة من نرثه ،فيطعننا بها طعنة مميتة -لوال لطف اهلل بعباده. �إن الكاتب �أو ال�شاعر احلقيقي ي�ستمد من الطبيعة واحلياة� ،أو ًال ي�شح ما�ؤه وال تنفد مادته ،فذلك هو ،ال و�آخراً .ف�إذا كان ثمة مع ٌ ني ال ُّ مراء� .أما الأديب �أو املت�أدب الذي يح�سب �أن يف درا�سة الكتب و�سعة الرواية ،ما يكفي جلعله �شاعراً مغلق ًا وكاتب ًا مبدع ًا ،فقد �ض ّل �سبي ًال، �إذ �أن هذا دون الكفاية .والأديب حق ًا من كان على ات�صال دائم يقظ يحدث عنه ،وبه�ؤالء النا�س الذين يتحدث عنهم - بهذا الوجود الذي ّ �إليهم ،وهل الأدب �إال حديث عن النا�س وعن الوجود؟ ذلك هو الأديب عرفته ع�صور ال�صناعة ب�أنه راوية لل�شعر ،حافظة حق ًا و�صدق ًا ،ال كما ّ جرا .ليكن يف فن بطرف، للأمثال ،حميط بالأخبار� ،آخذ من كل ّ ّ وهلم ّ �إحاطته بالأخبار كالأوقيانو�س ،ويف روايته لل�شعر ك�ألف ديوان ،ويف حفظه الأمثال كمجموعة امليداين ،ويف �أخذه ب�أطراف الفنون ك�شبكة ال�صياد ،فهو و�ش�أنه .لكن هذا كله ال ي�ساوي عندي قلي ًال من اخلربة املبا�رشة ال�شخ�صية باحلياة والنا�س ،و�شيئ ًا من االت�صال احلقيقي 25
يف �أ�صول الإن�شاء
احلي بالطبيعة والوجود. ّ ومن هنا ر� ُأي عامة النا�س يف الأديب وا�ستخفافهم به حتى ليكادوا ينظرون �إليه نظرهم �إىل طفل ال يعرف من احلياة قلي ًال �أو كثرياً، ف�إذا قذفت به الأقدار يوم ًا يف ذلك البحر الزاخر كان ،ال حمالة ،من املغرقني .وهو ر�أي عامة النا�س ،ال �سيما �أولئك الذين ت�ستغرقهم حياة الك�سب والعمل ،كالتجار و�أرباب ال�صناعات .ف�إن ه�ؤالء ال يتحدثون �إىل �شاعر ،بل ال ينظرون �إليه� ،إال �أزهرت على �شفاههم ب�أ�رسع من ملح الب�رص ،ابت�سامة ذات مغزى« :هذا خملوق عجيب يعي�ش يف قافية كما تعي�ش دودة احلرير يف �رشنقتها!». يف مدر�سة الك�شاف يتعلم الأديب � -إن �شاء اهلل � -أن الطبيعة عد العناية واحلياة والنا�س �أ�شياء لها وجود حقيقي ،ولها قيمة ،فال ُت ّ بها عبث ًا ولهواً و�إنفاق ًا للعمر يف غري طائل. وفيها يتعلم �أن احلياة يف الطبيعة ومع النا�س -على الأقل بقدر ما يعي�ش يف الكتب -حياة جديرة ب�أن يحياها :ح�سبه منها �أنها حتول دون م�سخه رج ًال قرطا�سي ًا ،بل ح�سبه منها �أنه �إذا مل ُيقدر له �أن ينفع ب�أدبه ،فقد انتفع هو بعمره. ال ب�أ�س ..ال ب�أ�س ب�أن يظل «الأديب» رج ًال من حلم ودم!
3 يقول �أحد كتاب الفرن�سي�س �إن للأديب قدي�سني �أخياراً �ضحوا من �أجله بحياتهم كلها� ،أمثال بلزاك وفلوبري ،و�إن له �شهداء �أبراراً، 26
�أمثال ال�شاعرين بودلري وفرلني ،و�إن يف �ساحته املن�صورين الأجماد، �أمثال كورناي ورا�سني و�شاتوبريان وهوغو .فيجب �أن نحتفل يف كل فر�صة ،تكرمي ًا لف�ضائل رجال الطبقة الأوىل -طبقة القدي�سني الأخيار ،ول�رضوب العذاب التي لقيها رجال الطبقة الثانية -طبقة ال�شهداء الأبرار ،ولعظمة الطبقة الثالثة -طبقة املن�صورين الأجماد. ويريد الكاتب الفرن�سي بهذا ت�شجيع الأدباء الأحياء ،وتثبيت قلوبهم يف معمعان احلياة الأدبية ،لي�صربوا على ال�شدائد ولي�ؤملوا خرياً من امل�ستقبل� ،إذا بخ�سهم احلا�رض حقهم يف ذيوع ال�صيت ورفعة املقام. أ�شده عند الغربيني ،فال يفوز ذلك �أن تنازع البقاء يف عامل الأدب بالغ � ّ يف م�ضماره �إال نفر قالئل ،يف حني �أن املغمورين ال يح�صيهم العد. ويقول الكاتب الفرن�سي �أي�ض ًا« :ينبغي �إذن �أن يكون لطائفة الأدباء دين ،فلوال �إميانهم بالفن واجلمال لكانوا يرزحون ب�أعباء احلياة وي�ضيقون ذرع ًا مبا يعانون من ب�أ�سائها». وقدمي ًا �شكا �أدباء العرب من حرفة الأدب ،ولعنوا «�شق القلم» الذي يقطر منه الرزق ال�شحيح مبا ال يقيم الأود� ..شكوا ،لكنهم ظلوا �أدباء ال ينتقلون من هذه احلرفة امل�ش�ؤومة �إىل غريها من احلرف املباركة. فك�أمنا يف الأدب �سحر ال رقية منه -كدت �أقول :ك�أنه داء لي�س يرب�أ امل�صاب به .وال ريب �أن الأديب يجد يف اال�شتغال بالأدب لذة ونعيم ًا هما كل ن�صيبه من لذات العي�ش ونعيم الدنيا� ،أو هما �أف�ضل ن�صيبه، �إن يك مقدراً له �أن يجد اللذة والنعيم فيما �سوى الأدب. يتيم بل ما يل ال �أقول �إنه داء ،وهو ع�شق ك�سائر �أنواع الع�شقِّ ، املرء وميلك عليه لبه وم�شاعره ،وي�ستغرق قواه جميع ًا؟ و�إذا كنت، يف ف�صل �سابق� ،سخرت من ال�شاعر الذي يعي�ش يف قافية كما تعي�ش 27
يف �أ�صول الإن�شاء
دودة احلرير يف �رشنقتها ،وانحيت على الأديب بالالئمة ال�شديدة لأنه ال يكاد ي�صلح لهذه احلياة العملية فهو فيها حا�رض كالغائب، ولأنه يف غفلة عن الدنيا وما فيها ،كالنائم املفتوح العني ال�شاخ�ص الب�رص ،فقد رميت �إىل غري ما نحن يف �صدده الآن� .أردت حينذاك �أن �أدباءنا� ،إال ما ندر ،ال يعنون مبادة �أدبهم العناية املطلوبة ،وما تلك املادة �إال م�شاهدات الأديب واختباراته ملا حوله وملا يف نف�سه .ف�إن انفعاالته و�سط جمايل الطبيعة و�أحداث احلياة ،وال�صور والأفكار التي تقوم يف ذهنه لدى كل م�شهد وكل حادث ،كنوز غالية تخزنها الأيام يف حافظته ،وقيمتها يف �أنها ال�صلة الناب�ضة بني �أدبه وبني الطبيعة واحلياة� .إن �أدباءنا ال يعنون مبادة �أدبهم ،وال يكنزون امل�شاهدات واالختبارات ،وال يهتمون ب�أن ي�صلوا ما بني �أدبهم وحياة النا�س الذين عندهم ينفق هذا الأدب �أو يك�سد ولي�س يف املريخ� .إن �أدباءنا ن�سخ يوفرون عنايتهم على الألفاظ الطنانة ،والرتاكيب اجلاهزة ،فهم ٌ ال تكاد تختلف -ن�سخ عن كتاب واحد ،ن�سخ مت�شابهة .هذا ما �أردته حينذاك. �أما كون الأديب قد يحب �أدبه �أو فنه حب ًا ي�ستغرق قواه جميع ًا وي�ستنفدها ،حب ًا ميلك عليه لبه وم�شاعره حتى لي�ضحي من �أجله بحياته كلها �سعيداً ناعم البال ،وال يهمه �إال �أن يخرج للنا�س �آية فن باقية على الزمان ،فطوبى لأمة تنجب مثل هذا الأديب .والكاتب ّ الفرن�سي جو�ستاف فلوبري الذي ذكر ا�سمه يف ر�أ�س هذا الف�صل بني قدي�سي الأدب هو ذلك الرجل :كان له �إله واحد عكف على عبادته وعلى خدمته �آناء الليل و�أطراف النهار ،وكان الأدب �إلهه املعبود .لكنه كذلك عا�ش كثرياً ورحل رحالت كثرية دام بع�ضها �شهرين كاملني -م�شي ًا 28
�سوده على قدميه ،وكان يحمل هراوة وكي�س ًا ودفرتاً من الورق الأبي�ض ّ ب�رسعة( .هذه رحلة �أديب -رحلة يف �سبيل الأدب ،وهذا فلوبري من �أئمة الأدب الفرن�سي «يف مدر�سة الك�شاف») .فلما عاد من رحلته اعتكف يف داره مرتهب ًا ،خمل�ص ًا وجهه لفنه احلبيب وللطرفة الأدبية التي يريد �إخراجها .ولدينا من ذلك العهد ر�سالة كتبها �إىل �إحدى �صواحبه يقول فيها�( :أنفقت ثماين �ساعات على تنقيح خم�س �صفحات ،و�أرى �أين ا�شتغلت جيداً) .لقد جمعت ر�سائل جو�ستاف فلوبري يف �أربعة �أجزاء �ضخمة ،وغالب ًا ما يقع القارئ على مثل هذه اجلملة التي �أزفها �إىل كتابنا و�شعرائنا العباقرة اجلبابرة ،راجي ًا �أن ال يبالغوا يف احتقار ذلك املجتهد امل�سكني الذي عا�ش كثرياً ،وجرب كثرياً ،ورحل رحالت أقر ،يف غري خجل ،ب�أنه �أنفق ثماين �ساعات على تنقيح كثرية ،ثم � ّ خم�س �صفحات.
4 الآن ،و�أنا لأول مرة يف ح�رضة هذه الآلة العجيبة التي ي�سمونها يل �أين �أوتيت ،ب�رضب من ال�سحر ،قدرة خارقة ال «الراديو» يخيل �إ ّ عهد يل بها من قبل ،كجبار من جبابرة الأ�ساطري ت�أخر ع�رصه ،فهو ماثل على �شفري الأبعاد ،بني �سمع الزمان وب�رصه ،ير�سل �صوته يف املجهول ..فهذا ال�صوت ،وك�أنه كائن ذو وجود ذاتي ،تركني وراءه يطوف ،وحده ،يف الآفاق ،على غوارب الأثري ،طوي ًال كامل�شدوه ،و�أخذ ّ عري�ض ًا� ،سمين ًا هزي ًال ،متبدد متجدداً ،متقطع ًا مت�ص ًال ،وك�أنها نفخة 29
يف �أ�صول الإن�شاء
ال�صور .قلنا �إنه �رضب من ال�سحر ،فهل �أنتم م�صدقون؟ قا�صت! ،وما �أبلغ نكاية الأقدار وهلل ،ما �أ�شد ق�صا�ص احلياة �إذا َّ حني ُتغري بالنكاية! فكثرياً ما طبت نف�س ًا بالهم�س اخلفيف والتورية اخلفية وحلن الكالم الذي مدحه ب�شار بقوله:
«وخري الكالم ما كان حلنا.».. فها �أنا �أقف هذا املوقف ،على �شفري الأبعاد ،و�أر�سل ذلك ال�صوت يف غيابة املجهول ،و�أم�سي يف خرب كان من �أ�ساطري الأولني .وهذا جزء أخ�ص ما بي ،ينف�صل عني وي�ستقل بوجوده ،كالرجل مني ،قد يكون � ّ الذي يرتكه ظله يف قارعة الطريق ،حردان غري واقف لوقوفه ،وال متحرك حلركته .وهذه الآلة اخلبيثة املاجنة تطول ال�صوت وتعر�ضه، وت�سمنه وتهزله ،وتبدده وجتدده ،وتقطعه وترقعه ،و�أنتم ت�سمعون ! ولكن ال ب�أ�س علينا ،ف�أنا �أعرف كيف �أث�أر لنف�سي� ،إذ �أجعل �أول ر�سالة (�أو �ألوكة) يحملها عني الراديو �إىل �أبناء ال�ضاد ،يف حتية الكتاب ،و�أعني القراءة .ذلك �أن نفراً من �أدباء الغرب وحكمائه يزعمون �أن من الراديو خطراً على الكتاب ،كما كان من ال�سينما خطر على امل�رسح ،فهم ينادون بالويل والثبور ،وعظائم الأمور. لي�س من �ش�أننا يف هذا ال�رشق الأدنى الف�صل يف تلك الق�ضية املركبة و�أمثالها التي تثار يف ديار الغرب جي ًال بعد جيل ،ف�إن ق�ضايانا ،وهلل احلمد ،مازالت ب�سيطة .ودليل ذلك �أن يف الغرب �أنا�س ًا ينعون ال�شعر كل عام ،ويقيمون حول قربه املناحات ،مرتاعني من طغيان املادة على الروح ،ونحن ن�شهد �أن ال�شعر عندنا حي يرزق، رغم �أن �أهله ال يرزقون .وقد غال بع�ضهم يف هذا الزعم غلواً كبرياً، 30
فتنب�أوا ب�أن الراديو �سيال�شي حتى ال�صحف ال�سيارة ،والعياذ باهلل� ،إذ يعي�ضنا عن اجلريدة التي تقر�أ ،باجلريدة التي ت�سمع .ولكن �أكرب الظن �أن هذا الراديو ال ت�سول له النف�س الأمارة ارتكاب تلك اجلرائم ،كل تلك اجلرائم ،و�أنه لن يال�شي �شيئ ًا� .إن هي �إال حاجة جديدة ي�ضيفها الإن�سان �إىل حاجاته الأوىل ،وقد ال تكون هذه املدنية التي ننعم فيها ون�شقى ،غري م�صنع دائم حلاجات جديدة و�آالت م�ستحدثة. بعد هذه املقدمة التي �أقول �إنه البد منها ،وتقولون �إنكم يف غنى عنها -بعد هذه املقدمة املختلف فيها ،وقبل ولوج املو�ضوع املتفق عليه� ،أحب �أن �أذكر لكم ا�سم كاتب يكاد يكون من�سي ًا ،ال لأنه عا�ش منذ �ألف عام ،بل لأنه فيما عدا ذلك ،كتب يف موا�ضيع خا�صة ال يقبل عليها عامة القراء ،وهي �أ�صول الإن�شاء ،ولأبي الفرج قدامة بن جعفر كتيبان� ،أحدهما يف «نقد ال�شعر» والآخر يف «نقد النرث» يت�ضمنان ب�ضعة ع�رش ر�أي ًا جديرة بالروية ،لكنها مطوية قلما يعنى بها �أدباء هذا الع�رص .فهي كقطع الذهب القدمية الدفينة يف بطن الأر�ض ،بل يف خزائن ال�صيارفة ،والنا�س حمرومون تداولها .وك�أين بها تنتظر من يكلف نف�سه عناء ا�ستخراجها ،و�إظهار رونقها و�صفائها ،وطرحها يف ال�سوق .بل ميكن القول �إن كثرياً من الآراء الغريبة �شك ًال ،اجلديدة زي ًا ومظهراً ،التي نتلقفها من كتب الغرب ،قد جند لها �أ�صو ًال يف كتب ال�سلف املهجورة ،مبعنى �أنه �إذا راقتنا و�أعجبتنا ،فهل ي�ؤذينا �أن ن�صل بينها ،يف زيها الع�رصي احلديث ،وبني ما يف تقليدنا من نوعها� ،أم تكون ،بال�ضد� ،أجدى علينا ،و�أمثل بنا؟ �إن قدامة بن جعفر ي�ستهل ر�سالته يف «نقد ال�شعر» بقوله( :ومما يجب تقدمته وتوطيده ،قبلما �أريد �أن �أتكلم فيه� ،أن املعاين كلها 31
يف �أ�صول الإن�شاء
معر�ضة لل�شاعر ،وله �أن يتكلم منها فيما �أحب و�آثر .وعلى ال�شاعر �إذا ّ �رشع يف �أي معنى كان من الرفعة وال�ضعة ،والرفث والنزاهة ،والبذخ والقناعة ،وغري ذلك من املعاين احلميدة والذميمة� ،أن يتوخى البلوغ من التجويد يف ذلك �إىل الغاية املطلوبة). �أال ترون يف هذا ال�رشح املوجز خال�صة ح�سنة� ،أو بالأقل� ،إ�شارة �رصيحة �إىل نظرية «الفن للفن» التي قام لها �أهل الفكر ،يف ديار الغرب ،وقعدوا ،من زمن غري بعيد ،ال �سيما ما قد ي�ستنتج من هذا الر�أي ،وهو �أن الفنون ويف جملتها الأدب ،تكون بالأ�صل جمردة خلواً من كل هم �أخالقي �أو وعظي �أو تعليمي؟ لل�شاعر وللناثر �أن يتناوال �أي املعاين �شاءا و�أي املوا�ضيع �أحبا ،ب�رشط �أن يتوخيا الإجادة و�أن يجيدا. يقول قدامة بن جعفر �أي�ض ًا يف مو�ضع �آخر من كتابه «نقد ال�شعر»: (�إن ال�شاعر لي�س يو�صف ب�أن يكون �صادق ًا ،بل �إمنا يراد منه �إذا �أخذ يف معنى من املعاين ،كائن ًا ما كان� ،أن يجيده يف وقته احلا�رض ،ال �أن ين�سخ ما قاله يف وقت �آخر). ولعمري �إذا مل يكن الأمر كذلك فكيف تريدون �أن يكون �شك�سبري عطي ًال وديدمونة وكا�سيو وياغو على ال�سواء ،يف ق�صة واحدة؟ ثم كيف ،وال�شاعر الإنكليزي خلق يف ق�ص�صه امل�رسحية عامل ًا برمته، ح�شد يف ال�شخ�صيات املتنوعة املت�ضادة ،حتى قال �إ�سكندر دوما�س الأب�( :إن �شك�سبري ،بعد اهلل �سبحانه ،هو �أكرثنا خلق ًا). وهذه النظرية ،نظرية الكذب يف الفنون والآدابُ ،عني بها يف الزمن الأخري �أو�سكار وايلد حتى جعل منها مذهب ًا قائم ًا بذاته ،وهو ي�ؤكد لنا �أن وظيفة �أهل الفن �أن يخرتعوا ال �أن ي�ؤرخوا ،و�أنهم لي�سوا 32
مطالبني ب�أن ي�صفوا لنا الوقائع كما هي ،على عالتها ،فهذا �أمر يطلب من خمربي ال�صحف و�شهود املحاكم و�أ�رضابهم. يقول وايلد �إن ثمة عاملني اثنني� :أحدهما موجود وال ينبغي لنا �أن نتكلم عنه كي نراه ،لأننا فيه نعي�ش ،والآخر هو عامل الفن الذي ينبغي �أن نتحدث عنه ،و�إال مل يكن له وجود .ذلك �أن وايلد عا�رص دعاة املذهبني الواقعي والطبيعي يف الآداب والفنون ،وكان همهم ت�صوير الواقع ت�صويراً �شم�سي ًا ،وتقليده تقليداً �رصف ًا ،فهاله يومذاك وح ّز يف نف�سه ما ي�سميه «انحطاط الكذب يف الفنون» و�أخذ يدعو ال�شعراء والكتاب ،وباجلملة �أهل الفن� ،إىل �إحياء «فن الكذب الذي �أ�ضاعه �أهله» .ويقول اتيان راي« :الكذب َخ ْل ٌق» �أو �إبداع .وهو بهذه الكلمة املوجزة الكلية يبد�أ كتيبه يف ف�ضل الكذب ،ك�أمنا مزية اخللق هذه ر�أ�س املحا�سن التي ترفع من �ش�أنه� .أ�ضف �إليه تعريفه الكذب ،ذلك التعريف اجلامع املانع« :هو �إخبار بغري الواقع ،عن ق�صد وروية». وقد ا�ستعمل العرب «اختلق» يف املعنى ذاته ومن املادة عينها ،وقال �شاعرهم:
من كان يخلق ما يقو
ل فحيلتي فيه قليلة !
وكان نقدة الأدب من العرب يقولون« :من ف�ضائل ال�شعر �أن الكذب ح�سن الكذب وانتفر الذي �أجمع النا�س على قبحه ح�سن فيه .وح�سبك ما ّ له قبحه» .ولعلهم كانوا يعنون بهذا القول غلبة املديح الكاذب على �سائر �أنواع ال�شعر يف ع�صور الزلفى �إىل امللوك والأمراء ،بينما يرمي دعاة هذا املذهب يف الغرب �إىل �أبعد من ذلك� ،إذ يعنون �أن الأديب الذي ينظم ق�صيدة �أو ي�ؤلف ق�صة� ،إمنا يخلق عامل ًا خيالي ًا خمتلف ًا 33
يف �أ�صول الإن�شاء
عن عاملنا احلقيقي على وجه ما ،و�أ�شخا�ص ًا غري الأ�شخا�ص الذين يروحون ويغدون يف هذه الدنيا على م�شهد منا ،وبعبارة �أو�ضح �أن العامل الذي ينقلنا �إليه �أهل الفن ،ال يعدو �أن يكون من باب االيهام والتخييل ،فهي خدعة من قلم الأديب �أو من ري�شة امل�صور .ولكن �إذا ذكرنا الآن احلديث النبوي�« :إن من البيان ل�سحراً» وقول ر�ؤبة الراجز:
لقد خ�شيت �أن تكون �ساحراً
ومراً �شاعراً راوية َمراًَ ،
وهو ،كما ترون ،يقرن ال�شعر بال�سحر �أي�ض ًا ،ثم رجعنا �إىل كتاب «العمدة يف ال�شعر وفنونه» وجدنا ت�أويل ذلك عند ابن ر�شيق الذي يقول�« :إن ال�سحر للطافته وحيلة �صاحبه ،يخيل للإن�سان ما مل يكن. وكذلك البيان يت�صور فيه احلق ب�صورة الباطل ،والباطل ب�صورة احلق» .فنقدة الأدب من العرب� ،إذا قرنوا ال�شعر بالكذب ،ذهبوا هم �أي�ض ًا ،على ما نرجح� ،إىل معنى �أبعد غوراً و�أو�سع مدى من غلبة املديح الكاذب على �سائر �أنواع ال�شعر .وهذا البحرتي يقول بل�سان ال�شعراء، خماطب ًا غري ال�شعراء ،ك�أن �أولئك �صنف من اخللق ،وجميع من عداهم �صنف �آخر:
كلفتمونا حدود منطقكم
يف ال�شعر يكفي عن �صدقه كذبه!
ويقول الإمام اجلرجاين يف التعليق على هذا البيت�( :أراد :كلفتمونا �أن جنري مقايي�س ال�شعر على حدود املنطق ،ون�أخذ نفو�سنا فيه بالقول املحقق ،حتى ال ندعي �إال ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجئ �إىل موجبه) .فك�أنه خطاب من ال�شعر �إىل النرث� ،أو �إىل كل ما 34
لي�س ب�شعر ..وهكذا نرى �أن ال�شقة لي�ست بعيدة بني الر�أيني الغربي والعربي ،يف البيان وال�شعر ،ويف وظيفة الفن وعمله ،بل ق�صارانا نف�صل بلغة الع�رص وا�صطالحه ،حقيقة عرفها العرب من قدمي �أن ّ الزمان. مر بنا �أن الفن يف جوهره حم�ض كذب واختالق �أو �إيهام وتخييل، ّ و�أن دنياه خدعة من قلم الأديب �أومن ري�شة امل�صور .فهل �أتاك �أي�ض ًا �أن الكذب حاجة يف نف�س الإن�سان ،حاجة ال دافع لها ،فيكون من وظائف الفن ،بل من �أج ّل وظائفه �ش�أن ًا ،كفاية تلك احلاجة؟ يزعم نيت�شه �أن الأوهام وال�ضالالت كانت ،ومل تزل ،القوى املعنوية للإن�سان ،امل�سلية �إياه ،و�أن احلقائق كانت ،ومل تزل ،عاجزة عن ت�أدية هذه اخلدمة الواجبة ،بتعزيته يف �أتراحه وت�سليته عن همومه .وقد أم�س حاجة يح�سها الب�رش ،حاجتهم �إىل ن�ش�أ عن ذلك �أن �أ�صبحت � ّ الفرار من الواقع الذي هم فيه ،والنجاة منه .فكان خري ما ُوفقوا �إليه من الو�سائل لبلوغ هذه الغاية« :احلب والفن» وكالهما ي�صدر عن اخليال ،معلم اخلط�أ وال�ضالل� ،أي امللكة النف�سية التي ال ي�سعها �أن جتعل جمانني الب�رش عقالء ،فهي �إذن تعمل على �أن جتعلهم �سعداء. ل�سنا ننكر �أن ثمة فن ًا يقوم بتقليد الطبيعة ،ويدعو �إىل «�أخذ ن�سخ أف�ضل من هذا الفن، طبق الأ�صل» عن هذا الواقع الذي نحن فيه ،ولكن � ُ يف كفاية احلاجة التي و�صفها نيت�شه وكثريون غريه من املفكرين واحلكماء ،ذلك الفن الآخر الذي ال ي�ست�سلم �إال خلطرات اخليال ،في�سحر النا�س باخرتاعاته اجلميلة وتلفيقاته الأنيقة .كل ما يف هذا الفن حم�ض كذب ،وال �شيء فيه بق�صد احلقيقة .فهو ال يكون تبع ًا لبيئته وع�رصه ،وال للنامو�س الأخالقي والأو�ضاع االجتماعية ،وال ل�صدق 35
يف �أ�صول الإن�شاء
النظر و�صحة الفكر ،بل �إنه -كما يقول �إتيان راي �أي�ض ًا -ي�سكن عامل ًا حم�سوراً ال تلج بابه احلقيقة اململة املحزنة ،بل فيه ت�رسح الأ�ساطري واخلرافات والأوهام والرموز ،حرة طليقة ،حتت �سماوات خيالية تزينها الكواكب الدرية. وهلل ،ما عند ال�شعراء من �أكاذيب م�ستحبة ! كذب ،لي�ست احلقيقة من همومه وال �إذا ّ �صح �أن الفن يف جوهره ٌ �إظهار احلقيقة من غاياته ،و�أن الفن ب�أكاذيبه امل�ستحبة ي�ؤدي للإن�سان خدمة من �أج ّل اخلدم ،بتعزيته يف �أتراحه وت�سليته عن واقعه اململ، فهاكم ق�ضية ثالثة ن�أتي الآن على ذكرها ،وهي �أن احلقيقة يف الفنون هينة مي�سورة ،على حني �أن الأكاذيب اجلميلة التي ت�ستهوي الأفئدة وت�سحرها ،لي�ست هينة وال مي�سورة .وباحلقيقةُّ � ،أي الأمرين �أي�رس على الفنان� :أن ي�صف لك �رشطي ًا بلبا�سه الر�سمي ،على من�صة يف �ساحة ال�شهداء ،بيده هراوة لي�ست كع�صا مو�سى فيوهمك �أنه ب�سحرها يحرك ال�سيارات� ،أم �أن ي�صف �إحدى اجلنيات احل�سان والكواعب الأتراب؟ ب�رشط �أن يجيد الو�صف يف احلالني ،و�إجادة الو�صف لي�ست تنال �إال بقوة الإيهام والتخييل ،تلك القوة التي حتملك من دنيا الواقع �إىل دنيا الفن .ثم �أي الأمرين �أي�رس على الفنان؟ �أن ي�صف رو�ضة موجودة فع ًال، وي�ؤذن لنا بالتنزه فيها كل م�ساء� ،أم �أن ي�صف لك جنات النعيم التي ُو ِعد املتقون؟ ويف هذا املعنى �أي�ض ًا يقول �أناتول فران�س« :لي�س مو�ضوع الفن احلقيقة .ينبغي �أن تطلب احلقيقة يف العلوم لأن مو�ضوعها احلقيقة، وال يجوز �أن تطلب يف الأدب الذي ال ي�صح �أن يكون مو�ضوعه �شيئ ًا غري اجلمال». 36
فما هو هذا اجلمال الذي جعله �أناتول فران�س مو�ضوع ًا للأدب ول�سائر الفنون؟ �أهو جمال الطبيعة� ،أم ثمة نوع �آخر من اجلمال، م�ستقل متميز ،ت�سميه ،جمال الفن؟ �إن العامة وكثرياً من اخلا�صة ال يفرقون بني هذين النوعني ،رغم �أنهما خمتلفان جداً .فهم يطلبون يف الفن ما يروقهم يف احلياة� ،أعني �أنهم ي�س�ألون امل�صور �أن ي�صور لهم ،واملثال �أن مي ِّثل � -أنا�س ًا كالأنا�س الذين ُيعجبون بهم يف هذه الدنيا ،و�أ�شياء كالأ�شياء التي يحبونها يف الق�صا�ص �أن يختار لق�ص�صه �أبطا ًال الواقع وي�شتمونها .وهم ي�س�ألون ّ من ذلك الطراز ،جديرين ،لو كانوا من حلم ودم ،باحلب والعطف والتجلة والإعجاب ،ثم �أن يحدثهم يف النهاية -والأمور بخواتيمها عن غلبة احلق على الباطل ،والف�ضيلة على الرذيلة ،و�إال ف�إن هذاامل�ؤلف ال يقوم بواجب فنه .يريد العامة �أن تكون الفنون ،ويف جملتها الأدب ،مر�آة تنعك�س على �صفحتها ال�صقيلة ،املثل العليا التي تقوم يف �أذهانهم :لي�س ثمة �إال جمال واحد هو اجلمال الذي يعرفونه يف الطبيعة واحلياة� ،سواء �أكان مادي ًا وهو جمال اجل�سد� ،أم معنوي ًا وهو فقبح (مادي �أو معنوي �أي�ض ًا) ال ي�ستطيع الفن، جمال الروح ،وما عداه ٌ مهما �أوتي من قوة ال�سحر� ،أن يقلبه جما ًال ي�ستهوي الأب�صار ويخلب الأفئدة .ف�إذا نحن قلنا �إن الفن قادر على �أن يجعل تلك ال�صور املنكرة القبيحة يف الطبيعة� ،صوراً جميلة م�ستحبة فيه ،فقد قلنا �إذن قو ًال �إداً، وخبطنا على غري هدى .وهلل ،ما �أكرث الق�ص�ص التي ت�ستغل يف العامة هذا الذوق الآفن ،ومتدهم يف �ضاللهم! ف�إنها ت�ؤلف نوع ًا على هام�ش الأدب ،هو الأدب التجاري ال�رصف الذي ال هموم فنية فيه ،وال قيمة له غري الثمن الذي ي�رشى به. 37
يف �أ�صول الإن�شاء
قد تكون �صورة الغادة احل�سناء غاية يف القبح� ،إذا خرجت من يد ر�سام عاجز �أحمق ،كما تكون �صورة املر�أة الدميمة �آية يف اجلمال، �إذا خرجت من يد ر�سام لبق �صناع� .أل�ست ترى فال�سكيز ورامربند وغريهما من م�شاهري الر�سامني ،تزدان جدران املتاحف بطرفهم الفنية التي متثل �أنا�س ًا ،لو ب�رصت بهم يف الطريق لوليت منهم فراراً، أمر عليهم �أولئك الفنانون ري�شتهم وملئت منهم رعب ًا ،لكنك -الآن وقد � ّ ال�ساحرة -تقف عندهم وتدنو منهم وتقبل عليهم ،معجب ًا م�أخوذاً؟ �إذا مل يكن �إال جمال واحد هو اجلمال الطبيعي ،ومل يكن من عمل للفن �إال �أن ينقل لنا هذا اجلمال الفذ وميثله لأعيننا ،فال ب�أ�س �أن جنعل تلك الآيات �أو الطرف الفنية طعمة للنار ،وبئ�س امل�صري! فال�رشط الأول والآخر �إذن ،هو ذلك التجويد الذي �أو�صى قدامة ابن جعفر ب�أن يتوخاه ال�شاعر ،حينما �أجاز له كل �شيء ومل يلزمه �إال بهذا ال�شيء ،واحلق �أنه ،فيما نحن ب�صدده ،كل �شيء .وال يعني هذا �أن اجلمال الطبيعي واجلمال الفني �ضدان ال يجتمعان ،بل قد يجتمعان فع ًال .فلي�س ما يحظر على الق�صا�ص �أن ي�صور لنا يف ق�صته بط ًال متحلي ًا بال�صفات التي ُتعجبنا يف احلياة� ،أو حديقة غناء نود لو نق�ضي يف ظاللها �ساعة من �ساعات النعيم� ،أو موقف �رشف وكرامة يتمنى �أغلب النا�س �أن يكون لهم مثله .ولكن لي�س ما يحظر عليه �أي�ض ًا �أن ي�صور لنا نقي�ض تلك ال�صور جميع ًا ،ف�إذا �أجاد و�أح�سن كان لزام ًا ل�صور فنٍ جميلة. علينا �أن نقول� :إنها ُ روى م�ؤرخو الآداب الغربية �أن املدر�سيني (�أو الكال�سيني) من الإغريق والالتني والفرن�سي�س ،كانوا يرون اجلبال قبيحة� ،أو �أنها لي�ست على �شيء من اجلمال .فلما جاء الرومانطيون ر�أوا على ال�ضد، 38
�أنها جميلة رائعة ،غاية يف الروعة واجلمال ،و�أنها جديرة ب�أن تكون مادة للآداب والفنون .وكذلك كان املدر�سيون من الفرن�سي�س يرون يف احلدائق املن�ضدة املجملة على الطراز الفرن�سي يف عهد لوي�س الرابع ع�رش ،مث ًال �أعلى يف اجلمال ،فقال الرومانطيون بعدهم� ،إنها غاية يف القبح ،و�إن املثل الأعلى هو يف الطبيعة العذراء التي مل تن�ضد تن�ضيداً، ومل تر�صف ر�صف ًا ،ومل تزينها يد الإن�سان. وهكذا ،يختلف نظر النا�س �إىل الطبيعة وجمالها باختالف الأزمنة، ع�رص ح�سن ًا فتكون �آداب الأمم وفنونها جملى لهذا االختالف .ويرى ٌ مل يره الع�رص الغابر على �شيء من احل�سن .فك�أن للطبيعة وجوه ًا �شتى تبدو وتغيب ،وك�أن الآداب والفنون مر�آة عجيبة حتفظ لنا كل تلك الوجوه الزائلة ،املتجددة �أبداً. (حديث �أذيع من راديو بريوت يف �أول ت�رشين الثاين �سنة )1938
39
�أ�ساليب يف در�س الأدب
40
�أ�ساليب يف در�س الأدب عندنا كلمة عامية وا�ضحة املعنى ،بارزة الداللة ،مثل كثري من الكلمات العامة ،يقولها كل واحد منا حني يلتب�س عليه �أمر من الأمور، وال يهتدي �إىل وجه احليلة فيه ،يقول� :رشبوكة! يقولها يف �إظهار تعر�ض له �أو حريته �أو متحله الأعذار ،لعجزه عن حل امل�شكلة التي ُ ُي�س�أل ر�أيه فيها ،ف�إذا �أعيته احليلة �أهملها و�رصف النظر عنها� ،إال �إذا كانت مما ال منا�ص من حله واخلروج منه ،على �أي وجه كان. �أما القا�ضي الذي ي�س�أل الف�صل يف �إحدى الق�ضايا ،فال ي�سعه �أن يقول ذات يوم ،وهو على من�صة احلكم�« :رشبوكة ! تلك ق�ضية ال تفهمها املحكمة ،فهي �إذن لن تف�صل فيها� ..أيها اخل�صمان ،ان�رصفا وانظرا ماذا ت�صنعان» .للقا�ضي �أن يرد الدعوى بناء على عدم �صالحيته القانونية ،ولكن لي�س له �أن يردها بناء على عدم �صالحيته العقلية: هذا ما ال جدال فيه ،وهو يف الوقت نف�س مدعاة للأ�سف ال�شديد والي�أ�س 41
�أ�ساليب يف در�س الأدب
املطبق� ،إذ القا�ضي ب�رش مثلنا ،وقد تعر�ض عليه ق�ضايا عوي�صة مبهمة مركبة ،ال يعرف لها ر�أ�س من ذنب ،يرى �أنه ال ي�ستطيع �أن يعدل فيها عد ًال تام ًا �أو قريب ًا من الكمال� .إن القا�ضي حاكم حمكوم عليه ب�أن يحكم ،وما يدريكم؟ لعل احلكم الذي ي�ضطره القانون �إىل �إبرامه دائم ًا ومهما يكن من الأمر ،هو ابن عم الظلم ،ومل نقل �إنه الظلم الفاح�ش بعينه ،كي ال نتهم بال�شطط واملبالغة. كان الفيل�سوف الفرن�سي مونتاين يرى من حق القا�ضي �أن يف�صل يف تلك الق�ضايا املع�ضلة امل�شكلة بقرار من هذا النوع�« :إن املحكمة مل تفهم» �أو يفتح رئي�س املحكمة ذراعيه� ،إ�شارة العجز واحلرية واال�ست�سالم ،دون �أن ينب�س ببنت �شفة ،فيكون احلكم �صامت ًا .كان مونتاين يرى �أن يعطى القا�ضي هذا احلق ،و�إال فال مندوحة له عن �أن ي�سلك يف حل ال�رشابيك �أو املع�ضالت ،تلك الطريقة املثلى التي اختطها حد بعيد، قا�ض من ق�ضاة الق�ص�ص والأ�ساطري ،وكان فيها موفق ًا �إىل ّ فقد كان يلج�أ �إىل الرند -هبيك ،دو�ش�ش -وهو �أعدل احلاكمني.. �إذا كان مق�ضي ًا على القا�ضي �أن ي�صدر حكمه دائم ًا ويف كل حال، �سواء �أ َفهِ م �أم مل يفهم ،وعدل �أم مل يعدل ،خمافة �أن يحكم العامة على الق�ضاء نف�سه بالعجز والتق�صري ،فلي�س �أمر الناقد الأدبي ،على ما نظن، كذلك .لي�س ثمة ما ي�ضطر الناقد الذي ينظر يف كتاب �أو كاتب ما، ليحدث عنه القراء� ،إىل �إبرام حكم قطعي جازم على الكاتب �أو كتابه، مهما بلغ منه هو�س احلكم .وبالفعل� ،إن �أغلب اخللق مبتلون بهذا الهو�س املقيم املعقد ،ال تكاد تنتهي من الكالم ،حتى ُيفاجئوك ،وهم أحر من اجلمر ،بهذا ال�س�ؤال املفحم حين ًا ،البليد �أحيان ًا ..يقولون: على � ّ «و�أخرياً؟ ذلك الكتاب� ،أ�سخافة هو �أم �آية يف الفن؟ وذلك الكاتب� ،أنابغ 42
هو �أم رجل �أحمق»؟ وقد �أق�سموا �أن ال يرتكوك �أو جتيب؟ ال مراء يف �أن احلياة وجهادها امل�ستمر يرغمان �أبناءها� ،أكرث الأوقات ،على �إ�صدار �أحكام مربمة ال يت�رسب �إليها ال�شك وال يثنيها الرتدد ،كي يختطوا لأنف�سهم ال�سبل القومية املالئمة لق�ضاء �ش�ؤونهم وبلوغ م�آربهم� -أعني �إذا كانت هذه احلياة التي نحياها ،وهذه الدنيا التي ن�ضطرب فيها ،ال تت�سعان �إال لأهل العزمية النافذة واليقني ال�صارم ،فلي�س الأمر كذلك يف الآداب والفنون .لقد �أعطيتم القا�ضي قانون ًا وقلتم له« :اق�ض بني النا�س وفق ًا لبنود هذا القانون ،وطبق ًا لأوامره ونواهيه» .فماذا �أعطيتم الناقد الأدبي من هذا القبيل؟ وما هي الد�ساتري الأدبية �أو الفنية املجمع عليها �إجماع ًا ال ي�أتيه الباطل؟ مر الزمان و�صقلتها التجربة ،لكن ال ينكر �أن لدينا مبادئ قد�سها ّ االختالف يف تف�سري هذه املبادئ ،ويف فهمها وتطبيقها ،عظيم جداً، �أعظم من اختالف الق�ضاة وعلماء ال�رشيعة يف تف�سري �أحكام القانون، ويف فهمها وتطبيقها ،بطبيعة احلال .و�سبب ذلك ب�سيط غاية يف مرد �أحكام القانون ،ويف النهاية� ،إىل العقل ،بينما الب�ساطة ،هو �أن ّ مرد �أ�صول النقد الأدبي والفني� ،أو ًال و�آخراً� ،إىل الذوق .والنا�س ،كما ال ُّ يخفى ،يتفقون يف امل�سائل العقلية �أكرث مما يتفقون يف �أذواقهم ،حتى �أنهم قالوا ،بل قالت حكمة الأمم« :ال جدال يف الذوق» ف�أغلق الباب، وقطعت جهيزة قول كل خطيب. وال دليل على اختالف النا�س يف ذائقتهم الأدبية� ،أبني و�أن�صع من ال�صعوبة التي ي�صطدم بها �أحدنا ،وك�أنه ي�صطدم بجدار ،كلما حاول �أن يحدد هذه امللكة النف�سية اخلا�صة التي ي�سمونها :الذوق ،وبها ال بعقلنا الراجح �أو القا�رص ،نحكم على الآثار الأدبية ونقدرها قدرها. 43
�أ�ساليب يف در�س الأدب
فالتعريف يجب �أن يكون جامع ًا مانع ًا ،وماذا -باهلل عليكم -يجمع كل الأذواق� ،أو مينع عنها ما لي�س منها يف �شيء؟ وال نن�سى �أن للعدوى والتقليد �أثرهما البليغ يف رواج تلك الأ�صناف من ال�سلعة الأدبية �أو جمودها يف ال�سوق ،حتى �أنها لت�شبه من وجوه �شتى ،الأ�شكال والأزياء التي ت�شيع اليوم لتغيب غداً ،ثم ال تلبث �أن تعود ،وهكذا دواليك .ينبغي �أن ننتظر طوي ًال كي نرى الزبد يذهب جفاء ،وميكث يف الأر�ض ما ينفع النا�س ..ينبغي �أن نعت�صم بال�صرب الطويل� ،صرب التاريخ .ولكن امل�شكل �أنه حينما يكون «تاريخ» فنحن ال نكون� ..رشبوكة! وهلل ،ما �أكرث الأخطاء التي تعتور الأحكام الأدبية �أو الفنية ! ف�إن جتارب نقاد الأدب وم�ؤرخيه ،حتذرنا من مغبة هو�س احلكم �أن ال نطيعه وال ن�ست�سلم �إليه .وك� ّأي من �أديب غربي رفعه ع�رصه و�أعظم من�سي ،و�آخر مل يحفل به الذين عا�رصوه �ش�أنه ،ف�إذا هو اليوم ن�سي ّ ف�إذا هو يف عليني .و�إمنا ذكرت الأدب الغربي ،لأن ن�شاط احلياة الأدبية هنالك ،وجتددها الدائم ،يجلوان هذه احلقيقة ب�أجلى مظهر. ولكن �أال جتدون طرف ًا من هذا ،يف بيت الذع قاله املتنبي ،قبل �أن يلقبه التاريخ مبالئ الدنيا و�شاغل النا�س ،يف فجر حياته �إذ كان ال يحفل به الذين عاي�شوه؟
�أنا يف �أمة ،تداركها اللّــ
غريب ك�صالح يف ثمود ـه ٌ
ف�أكرب الظن �أن املتنبي ،حني �شكا غربته بني قومه ،مبا نح�سه يف تفجع بليغ ،وحت�سرُّ مذيب ،مل يعن ذلك ال�شيء اجلوهري هذا البيت من ُّ عندنا ،الذي يالزم ا�سم املتنبي ،وهو ال�شعر ،بل عنى �شيئ ًا ال يعنينا نحن البتة� ،أو على الأقل ،ال ميت �إىل ال�شعر �إال ب�سبب بعيد :لقد كان 44
املتنبي يف ذلك العهد مرتدداً بني عبقرية ال�شعر وعبقرية العمل ..لهذا �أنا �أ�ؤثر �أن ال �أعرف يف �أي عهد ،وال لأية منا�سبة قال املتنبي هذا ؤذن البيت من ال�شعر ،كي يوحي �إ ّ يل ما يوحي ،دون �أن ينقطع وحيه .لي� ْ يل �أن �أجتاهل الظرف :ظرف الزمان وظرف املكان ،الذي ُولد فيه بيت من ال�شعر مل يزل بعد �ألف �سنة ،يف ميعة ال�شباب ،حي ًا بحياته ،قوي ًا بقوته ،موجوداً بذاته .لقد حذرتكم وحذرت نف�سي من هو�س احلكم، و�أحب الآن �أن �أحدثكم عن هو�س التاريخ ،فلي�س هذا ب�أقل من ذاك حتكم ًا وا�ستبداداً بالأذهان� ،أذهان امل�ؤلفني والقارئني على ال�سواء. منذ نحو خم�سة �أعوام �أخرج امل�ست�رشق الفرن�سي بال�شري كتاب ًا در�س فيه حياة املتنبي و�شعره ،هو وال مراء� ،أف�ضل ما �ص َّنفه �رشقي �أو غربي يف املو�ضوع ،على كرثة ما كتب الكاتبون فيه ،ال �سيما ملنا�سبة (ذكرى الألف) التي ال �إخالكم ن�سيتموها .وال نكون مبالغني �إذا قلنا �إن هذا البحث القيم يف التاريخ الأدبي ،ب�سعة �إحاطته ،وح�سن طريقته ،ي�صح �أن نعده �أمنوذج ًا ح�سن ًا لهذه املباحث على �إطالقها، بل الأمنوذج الأح�سن الأمثل .وقد ق�سم امل�ؤلف كتابه ق�سمني :يف الق�سم الأول �أتى على �سرية ال�شاعر العظيم ،بتحقيق العامل الذي را�ض نف�سه على �أ�ساليب العلم احلديثة يف بحث التاريخ الأدبي ،ريا�ضة ال نكاد جند لها �أثراً عند علمائنا الأعالم ،حتى الذين تلقوا هذا العلم عن �أهله يف ديار الغرب ،لعلة �أو �سل�سلة من العلل �أدع لكم م�ؤنة تدبرها، �إذ �أنها لي�ست مو�ضوع الكالم ..ويف الق�سم الثاين در�س بال�شري �شعر املتنبي يف العامل العربي ويف �آثار امل�ست�رشقني ،خالل �ألف عام مرت على وفاة ال�شاعر ،ما ترك �شاردة �أو واردة ،خمطوطة �أو مطبوعة، �إال �أح�صاها .لكنه يف هذا الق�سم الأخري ،مل يخرج �أي�ض ًا من التاريخ، 45
�أ�ساليب يف در�س الأدب
فك�أنها �سرية املتنبي بعد موته� ،أو فلنقل� :سرية �شعره الذي قال هو يف «�سريورته»: وما الدهر �إال من رواة ق�صائدي� :إذا قلت �شعراً �أ�صبح الدهر من�شدا ف�ســار بـه من ال ي�ســــري ،مثمراً ،وغنى بـــــه من ال يــــــغني ،مغـردا
وعلى هذا ،يكون املتنبي �صادق ًا يف نبوءته �إن يك قد عنى باملقعدين الذين حملوا �شعره و�ساروا به م�شمرين ،ع�رصاً فع�رصاً، وم�رصاً فم�رصاً ،جمهرة ال�رشاح وامل�ؤرخني� .أما ذلك الآدمي الذي غنى ب�شعره مغرداً ،وكان عهدنا به ينعب كالغراب ،ف�أمهلوين �أحدثكم عنه بعد حني. �أعرف كتاب ًا عن �أبي العالء املعري ،هو �أول ثالثة �أو �أربعة من الكتب� ،أح�سن بها ع�رصنا �إىل ال�شاعر احلكيم الفذ يف �أدبنا العربي، �صدقة لوجه التاريخ .فهذا الكتاب يقع يف نحو �أربعمئة �صفحة من القطع املتو�سط ،مكتوبة بذلك الأ�سلوب املتمطي ب�صلبه كليل امرئ القي�س ،خ�ص امل�ؤلف ب�ستني منها ،ال �أكرث وال �أقل� ،أدب املعري �شعراً ونرثاً ،يف الطور الأول والثاين والثالث من حياته الأدبية ،عار�ض ًا للمديح والفخر والو�صف والرثاء ،ومل يل ُه عن الن�سيب ،متكلم ًا على الدرعيات واللزوميات ،ناظراً يف الر�سائل ور�سالة الغفران بنوع خا�ص .وقد ا�ستطاع �أن يقارن فيها بني �أبي العالء من جانب ،وبني عدي بن زيد و�أبي نوا�س وابن �سينا واملتنبي و�أبي العتاهية وغريهم، يف اجلانب الآخر .ومل ين�س دانتي الطلياين وملنت الإنكليزي ،فك�أنه يوم احل�رش� .أما �شوبنهور الأملاين ،داعي دعاة الت�شا�ؤم ،فكان مذهبه
46
يومذاك ،مل يزل يف الطريق قا�صداً الأقطار العربية ،فتمكن من النجاة بنف�سه .تلك املقالة املعجزة التي و�سعت كل هذه الأ�شياء( ،ومرغليوث �أي�ض ًا) �ألي�س عجيب ًا �أن يظل فيها مت�سع لدر�س �أدب املعري �شعراً ونرثاً؟ �أما بقية ف�صول الكتاب فقد �أُنفقت على التاريخ ويف �سبيل التاريخ ،عن �سعة .فغرق البحث الأدبي ال�رصف يف �أوقيانو�س من البحوث التاريخية على �أنواعها :من التاريخ ال�سيا�سي� ،إىل التاريخ االجتماعي ،فالتاريخ الديني ،حتى التاريخ االقت�صادي؟ وال نن�سى �أن تلك املقالة التي وقفها امل�ؤلف على در�س �أدب املعري ،كانت �أي�ض ًا يف التاريخ الأدبي ..طوفان من التاريخ! �أذكر �إذ كنا يف ال�صف على مقاعد الدرا�سة ،ونحن ب�ضعة ع�رش طالب ًا ،وقد اقرتح علينا معلم الإن�شاء العربي �أن نكتب يف مو�ضوع ل�شد ما كان عجبنا يف اليوم املوعود ،حني �أخذ كل منا يتلو احلريةّ .. على الأ�ستاذ ما جادت به قريحته ،فما من طالب �إال ا�ستهل مقاله هكذا�« :أتى على الإن�سان حني من الدهر مل يكن فيه �شيئ ًا مذكوراً». �ألي�س جمي ًال هذا الإجماع؟ ثم �ألي�س من الطبيعي ،وقد تكلم ال�صف بل�سان واحد عن الإن�سان الأول� ،أن ينتقل هذا ال�صف ،وك�أنه يف نزهة مدر�سية� ،إىل بدء اخلليقة ،في�شهد كيف �أبدع اهلل �آدم من احلم�أ امل�سنون، ثم غ�ضب عليه تعاىل ف�أخرجه من جنته �إىل دنيا العمل واجلزاء؟ �أق�سم لكم �أن ال�صف ب�أ�رسه اجتاز يومذاك الطوفان ،متعلق ًا ب�سفينة نوح عليه ال�سالم ،حتى قذف بنا التاريخ �أخرياً �إىل �ساحل النجاة ،ونحن على �آخر رمق .ف�إذا باحلرية امل�سكينة ،مو�ضوع احلديث ،مازالت بانتظار كلمة نطيب بها خاطرها الك�سري .لكن مل يبق لنا من الوقت ،وفينا من القوة� ،إال �أن ن�رصخ هاتفني :حتيا احلرية! وهكذا و ّفينا البحث حقه 47
�أ�ساليب يف در�س الأدب
وزيادة� :شهد بذلك معلمنا الطيب القلب الذي �أحب �أن يعده من قبيل توارد الفكر ،لكني �أرجح اليوم �أنه كان من توارد الالفكر! ما �أنا بعدو التاريخ� .أ�أكون عدو العلم يف هذا املعقل العلمي؟ ولندع جانب ًا تلك الفئة من املفكرين الذين زعموا �أن التاريخ فن ال علم� ،أبحاثه �أ�شبه باحلكايات اخليالية منها باملعارف الثابتة ،و�أنه �أخلق �أن يقرن بالق�ص�ص املو�ضوعة ،من �أن يرفع �إىل م�صاف العلوم ال�صحيحة ،فهذه ق�ضية ل�سنا ب�صددها الآن .ولكن ما �أجر�ؤ على �إنكاره وا�ستهجانه هو �أن يغري التاريخ بخيله ورجله على الأدب ،فيطغى عليه وي�ستبد مب�صادره وموارده ،فيم�سي الأدب تاريخ ًا �رصف ًا ،وحقل الأدب م�ستعمرة للتاريخ. من امل�سلم به �أن اخلا�صة والعامة ،بدافع الف�ضول الإن�ساين ،هم �سواء يف تولعهم بالأخبار والنوادر والأقا�صي�ص .وال ترثيب علينا �إذا قلنا �إنهم �أ�شد بها تولع ًا منهم ب�أي �ش�أن �آخر ،ال ي�ؤثرون �شيئ ًا على معرفة ال�شخ�ص وحوادث حياته ،حتى الهنات والزالت .ولكفاية هذه احلاجة امللحة يف نفو�س القراء ،ترى جمهرة الكتاب يكرثون من الت�أليف يف �سري امل�شاهري من رجال الفن والفكر والعمل .وقد بلغ بالقارئني االفتتان ،وبالكاتبني االفتتان� ،أن تعاونوا على �إحداث نوع غريب من التاريخ والق�ص�ص ،هو ما يدعونه بالق�ص�ص التاريخي. يف هذا النوع اجلديد من الكتب يجد كل من امل�ؤلف والقارئ ح�سابه موفوراً غري منقو�ص :امل�ؤلف ق�ص�صي تكفيه حوادث التاريخ م�ؤنة االخرتاع ،والقارئ طالب حقيقة �أو علم يدر�س التاريخ يف الروايات.. وهكذا �شهدنا انعكا�س الآية ،ف�إذا ما يجب �أن نبالغ يف االهتمام به، عند �أي �شاعر �أو ناثر� ،أعني �شعره �أو نرثه الفني ،يف�سح املجال ملا 48
ي�صح �أن نهتم له بالدرجة الأخرية� ،أعني �أخباراً م�شكوك ًا يف �صحتها، وحاالت م�ضطربة ،و�أقي�سة ملتوية ،يريدون �أن تت�ألف منها �سرية من ال�سري ،هي �أقرب �إىل الق�ص�ص املو�ضوع منها �إىل الوقائع الراهنة. وليتها ق�صة باملعنى ال�صحيح ،ال جمموعة حوادث مت�ضاربة م�شو�شة، معادة معارة� ،إذن لأخذ على الأقل بالألباب ،ما يف ح�سن ت�أليفها ونظامها ،ودقة اخرتاعها وتخييلها ،من رائع اجلمال. هل يجدي �شعر ابن �أبي ربيعة مث ًال ،علمنا �أنه كان �صادق ًا يف حبه ال كاذب ًا؟ وهل ي�رض ب�شعر املتنبي مث ًال ،علمنا �أنه كان كاذب ًا يف مدح �سيف الدولة ال �صادق ًا؟ لنفر�ض �أنهما كانا �صادقني ،ثم لنفر�ض �أنهما كانا كاذبني ،ولنقلب امل�س�ألة �صدراً لظهر وظهراً ل�صدر ،فماذا يكون؟ ماذا يكون بالإ�ضافة �إىل ال�شعر؟ ُترى� ،أيغ�ض الكذب من قدر �شعرهما� ،أو يرفع ال�صدق من �ش�أنه؟ لقد كان املتنبي عبقري ًا رغم �أنف ال�صدق والكذب ،لعلة ال تت�صل بال�صدق والكذب ،فيما وراء ال�صدق والكذب ..وبعد ،فباهلل عليكم! مع�شوقات ابن �أبي ربيعة من يكن، وكثري وممدوحو �أبي الطيب من يكونون؟ نبئوينَ :من ه�ؤالء جميع ًا - ٌ �أ�رضابهم� -إزاء ذلك احلادث الفذ العجيب يف دنيانا ،الذي ي�سمونه نبوغ �شاعر� ،أو ي�سمونه :املتنبي؟ كل النا�س خري وبركة ،ولكن لكل مقام مقال .فاحل�سان اللواتي �شبب بهن ابن �أبي ربيعة ،وامللوك �أو الأمراء الذين مدحهم �أبوالطيب �أو هجاهم -وال فرق � -سواء �أكان ال�شاعران �صادقني �أم كاذبني ،يف الغزل واملدح والهجاء� ،أرى ،بعد اال�ستئذان من �سادتنا م�ؤرخي الأدب� ،أن ينزوي �أولئك جميع ًا يف زاوية من هام�ش ال�شعر ،حيث يلزمون ال�صمت وال�سكون «مت�أدبني» فال يتكلمون �إال حني ُي�س�ألون� .أما �أن يجعل ال�شعر هام�ش ًا لك�شكول 49
�أ�ساليب يف در�س الأدب
من امللح والنوادر مهما تكن طريفة ،ومن الأخبار واحلكايات مهما تكن لطيفة ،فهذا ما ال ي�صح �أن يكون� .إمنا يخلد ال�شاعر ب�شعره ،ال ب�رشوح �شارحيه� ،أو �أخبار م�ؤرخيه ،و�أحيان ًا رغم �أنف ال�شارحني وامل�ؤرخني. �أخذ امل�ست�رشق بال�شري على ك ّتاب العربية املعا�رصين الذين در�سوا املتنبي يف حياته و�شعره ،جملة �أمور� ،أدع منها جانب ًا ما يت�صل بالتحقيق العلمي ،و�أ�ساليبه املر�ضية ،فل�ست من رجال هذا امليدان .وال �أكتمكم �أنه كانت يل يف الدرا�سة العلمية للأدب ،على �أحدث �أ�صولها ،جتارب قليلة غري موفقة وقفت بي ،حل�سن حظ العلم، يف �أول الطريق .قلت لنف�سي ذات يوم� :إذا كان ثالثة من �أئمة النقد الأدبي يف هذا الع�رص ،وهم �سنت بوف وتان وبرونتيار ،ناهيك بهم ناهيك ،مل ي�ألوا جهداً يف تطبيق مبادئ العلوم الطبيعية و�أ�ساليبها، ال �سيما الف�سيولوجيا والبيولوجيا ،على بحوثهم املمتعة يف �سري الأدب و�سري الأدباء ،ومل يوفروا نظرية دارون وال مارك التطورية ،فما يعوقنا نحن عن االقتداء بهم ،والن�سج على منوالهم ،بعد �أن �أ�صبحنا عيا ًال على الغرب يف كل �شيء ،حتى �أن رباعيات اخليام والألف ليلة وليلة مل ت�صل �إلينا ب�شق الأنف�س� ،إال عن طريقهم؟ فا�ستخرت اهلل، فكان ن�صيبي من العلوم :االرمتاطيقي ،ومل �أقل :احل�ساب ،كي نظ َّل جميع ًا �أنا و�أنتم ،يف اجلو العلمي ال ينقطع �سحره .وبالفعل� ،أخذت (�ألف ليلة وليلة) وهو يف ر�أي الغرب ،كتاب ال�رشق العربي ال كتاب �إ ّاله� ،أظهر �إعجابه به �أندره جيد ،فزعم �أن املفكرين يف العامل هم عنده فئتان ال ثالثة لهم :فئة يفعل يف نفو�سهم الكتاب املقد�س وجمموعة غلف مغلقة دون حما�سن هذين ال�سفرين �ألف ليلة وليلة ،وفئة �أفئدتهم ٌ 50
العظيمني .بيد �أن �أندره جيد ما لبث �أن ا�ست�شهد بب�ضعة �أبيات من ال�شعر ،تتلمظ يف الفرن�سية بو�صف الكنافة ،هي مما ي�صح �أن تباهي الكنافة به جميع ما �سواها من �ألوان الطعام ،وال ي�صلح لأن يباهي ال�شعر العربي به �شعر �أمة من الأمم .ولكن ما لنا ولهذا ..ف�إذن� ،أخذت (�ألف ليلة وليلة) بيد ،واالرمتاطيقي باليد الثانية وقلت� :أح�صي عدد الأ�شخا�ص ،ذكوراً و�إناث ًا ،الذين يغمى عليهم بني دفتي هذا الكتاب، لفراق �أو تالق ،حلزن �أو فرح ،ملر�ض يف القلب �أو ُع�رس يف اله�ضم ،ثم أنوعهم �أنواع ًا ،و�أ�ص ِّنفهم �أ�صناف ًا ،معار�ض ًا مقاب ًال بع�ضها ببع�ض، � ِّ على نحو ما ي�صنع العلماء يف علمي النبات واحليوان .وال حاجة �إىل لدي �أوفر مادة ممكنة عن القول �إنه ،منذ الق�ص�ص الأوىل ،اجتمعت ّ الإغماء يف خمتلف �أحواله و�أ�شكاله ،و�أ�سبابه ونتائجه� .أحت�سبون �أن علي عملي؟ ال ،بل فتى من العا�شقني ،عبقري جني ًا �أو عفريت ًا �أف�سد ّ الإغماء ،ا�ستطاع �أن يغيب عن �صوابه يف خم�سة �أ�سطر ع�رش مرات، يزيد �إغماء كلما زادوه �إنعا�ش ًا .ف�أعجزين و�أي�أ�سني �صاحب هذا الرقم القيا�سي ،الذي مل ي�سبقه �سابق ،ولن يلحقه الحق ،عافاه اهلل! مما �أخذه بال�شري على كتابنا املعا�رصين ،يف �أ�ساليب در�سهم �شعر املتنبي ،ما ن�سميه بعد �أن تكلمنا عن هو�س احلكم وهو�س التاريخ - ما ال ندحة لنا عن ت�سميته :هو�س املقارنة ،فتكتمل �أ�ضالع املثلث. وينطوي هذا التعبري على ب�ضع حاالت �أو هيئات متباينة يف الظاهر، متماثلة يف الباطن ،ذكرها امل�ست�رشق الفرن�سي يف م�ؤلفه النفي�س، يعد وجه احلق يف واحدة منها. و�أرى �أنه مل ُ ود فريق من الباحثني لو يكون املتنبي ،يف ع�رص النه�ضات ّ والقوميات هذا ،داعية القومية العربية ،و�شاعر الوطنية الأكرب .ولي�س 51
�أ�ساليب يف در�س الأدب
بني هذه الرغبة يف نفو�سنا وبني �أن جند كفايتها يف جزء من �شعر �أبي الطيب و�سريته� ،أو نتوهم ذلك� ،إال خطوة ق�صرية .ولعمري ،هل ت�ستغني �أمة من الأمم ،يف فجر حياتها اال�ستقاللية ونه�ضتها ال�سيا�سية ،عن �شاعر فحل ميثل عواطفها و�آمالها ومطامعها ومطاحمها؟ ف�إذا كانت هذه النه�ضة يعوزها �شاعر من احلا�رضين ميدها بعبقريته ،ويحدوها ب�إن�شاده ،فال ب�أ�س ب�أن ت�ستنجد ب�شاعر يف الغابرين ،ميثل روح الأمة اخلالدة و�أمانيها العزيزة .فكان املتنبي ذلك ال�شاعر ،نقارن بينه وبني �شعراء الأمم يف م�شارق الأر�ض ومغاربها غري هيابني ،بعد �أن خلعنا عليه مذهبنا ال�سيا�سي عنوة ،وخرطناه «يف احلزب». وفريق �آخر مل يعجبهم �أن يكتفوا باملقارنة بني املتنبي وبني �شعراء الأمم� ،أمثال �شك�سبري وغوتي وهوغو ،ف�أخذوا �أي�ض ًا يف مقارنة «مذهبه الفل�سفي» بنظريات العلماء والفال�سفة املحدثني ،من دارون �إىل نيت�شه ،حتى كدنا نن�سى �أن املتنبي �شاعر ،ولي�س �إال �شاعراً. وانتهى بال�شري �إىل هذه النتيجة ،وهي �أنه مل يزل يبحث جاداً، ولكن عبث ًا ،عن كاتب عربي ُيعجب ب�شعر املتنبي وي�رشح �إعجابه به، ال لبواعث �سيا�سية �أو تاريخية �أو فل�سفية ،بل لعوامل �أدبية �رصف، تتناول الفن ال�شعري وال تتعداه. وميكنني الآن �أن �أقول �إين قر�أت كل ما كتبه عن املتنبي الكاتبون، وبحثه الباحثون ،و�أرخه امل�ؤرخون ،و�رشحه ال�شارحون ،فلم �أخرج من ذلك جميع ًا و�أنا �أكرث �إعجاب ًا باملتنبي� ،أو �أ�شد متعة ب�شعره ،ك�أن البحوث وال�رشوح حتجب عنا ال�شيء اجلوهري� ،أو ت�رصفنا عنه .ونحن نعلم �أن ال�شعر يتحدى كل تف�سري ،كما �أن كل تف�سري يال�شي ال�شعر، ولكن هذه حكاية �أخرى كما يقولون. 52
وعدت �أن �أحدثكم عن الآدمي الذي غنى ب�شعر �أبي الطيب مغرداً، ُ الغريد وكان عهده بنف�سه ينعب كالغراب� .إن وعد احلر دين ،فالغراب ّ يزين هو �أنا ،وال فخر .هو �أنا ،كلما خلوت �إىل ديوان للمتنبي �ساذج ،مل ّ باملقدمات والذيول واحلوا�شي ،ف�أجدين ب�رضب من ال�سحر ،بغتة ،يف حال من الوجد ال�شعري ُيعييني وال َيعنيني و�صفها ،مغموراً بجو ملي الإن�س واجلان .ف�إذا تغنيت من الغبطة مل �أعرف له �شبه ًا يف عا َ ب�أبيات من �شعر �أبي الطيب� ،شاع يف كياين من الطرب ،ما ال �أ�شرتي به نعيم الدنيا وبع�ض الآخرة.. ولكن مه ًال ،ف�أنا هنا لأحدثكم ،ال لأغنيكم! (حديث �ألقي يف «منتدى و�ست» يف جامعة بريوت الأمريكية بدعوة من جمعية متخرجي الق�سم الفرن�سي م�ساء الثاين ع�رش من �آذار �سنة )1940
53
54
عو ْد �إىل ال�شعر
1 يف مو�ضع من كتاب (احليوان) �أتى اجلاحظ على ذكر الربغوث، فا�ست�شهد ببيت من ال�شعر لأبي نوا�س يف (و�صف رجل يفلي القمل والربغوث:
طامري واثب �أو ّ
مل ينجه منه وثاب ْه
وقول النا�س« :طامر وابن طامر» �إذا يريدون الربغوث) .ويف مو�ضع �آخر من ذلك الكتاب ،عاد اجلاحظ �إىل خرب هذا الرجل و�شعر �أبي نوا�س فيه ،فف�صل ما كان قد �أجمله( :وقال احل�سن بن هاين يف �أيوب ،وقد ذهب عني ن�سبه ،وطاملا ر�أيته يف امل�سجد: 55
عو ْد �إىل ال�شعر
من ينـــ�أ عنه م�صاده ، تكفيه فيــــهـا نظرة ، رب حمرتز يجـــيـ يــا ّ فا�شي النكاية ،غري معـ طــامـــــري واثب �أو ّ �أهوى لــه مبــزلـــــق ، هلل درك مـن �أبــــــــي
فــم�صاد �أيـــوب ثيابـــه: فتعلُّ مـــن علقٍ حرابـــه. ـب الردن تكنفه �ص�ؤابــه، دب ـ ان�سيابــه، ـلوم ـ �إذا ّ مل يــنجــه مـنـه وثـــابـــه، مـا بني �أ�صـبعــه نـ�صابــه: قن�ص� ،أ�صابعــه كـالبـه)!
املن�سي ن�سبه، فهذه الأبيات التي نظمها �أبو نوا�س يف �أيوب ّ املجهولة حاله -ال نعلم من �ش�أنه �إال �أنه كان يجل�س يف امل�سجد بالب�رصة ،يفلي القمل والربغوث -ال �أثر لها يف ن�سخ الديوان املطبوعة عن رواية حمزة الأ�صفهاين ،ولهذا قيمته عندي. �أقول :يف الب�رصة ،لأن الإمام عمرو بن بحر اجلاحظ الب�رصي �إذا ذكر «امل�سجد» على �إطالقه ،يف كتبه ور�سائله ،فهو يعني ،على الأرجح ،م�سجد بلده وهو البلد الذي ن�ش�أ فيه �أي�ض ًا �أبونوا�س ،وق�ضى �أعوام ًا من �صباه و�شبابه ،متلقي ًا علوم الأدب واللغة عن �شيوخها ،يف امل�سجد ،مدر�سة ذلك الزمن. ففي امل�سجد عرف �أبونوا�س هذا «الدروي�ش» الذي طاملا ر�آه اجلاحظ ،فنظم ال�شاعر الفتى تلك الأبيات ي�صف بها خروج الرجل �إىل ال�صيد يف ثيابه ،م�ستغني ًا ب�أ�صابعه عن الكالب ،ال يقفل �إال وقد �أروى حرابه من دم القمل والرباغيث .وال ن�شك يف �أن «�أبا القن�ص» هنا هو 56
�أبونوا�س الذي ت�صيد يف م�سجد الب�رصة� ،صورة �شعرية �ألب�سها من دعابه وظرفه و�سخره ،هذه احللة اللطيفة البهيجة زي ًا و�ألوان ًا .ومنذ ذلك احلني �أم�سى �أيوب ،يف حقيقته ويف �صورته ال�شعرية على ال�سواء، رزق ًا حال ًال لل�شاعر يت�رصف به كيف �شاء ،وقد فعل: يف ديوان �أبي نوا�س �أبيات من ال�شعر نظمها يف هجاء �شاعر يدعى زنبوراً بن �أبي حماد ،يقول نا�رش الديوان �إنه مل يعرث عليها �إال يف ن�سخة (�أي خمطوطة) واحدة ،ف�أثبتها كما وجدها (يريد �أنها حمرفة م�صحفة غري م�ستقيمة املعنى �أو املبنى) .ولكن الأبيات ت�ستقيم معنى ومبنى ملجرد معار�ضتها بالق�صيدة التي رواها اجلاحظ يف �أيوب، دروي�ش م�سجد الب�رصة ،وهاكها بعد ت�صحيحات ي�سرية:
ر�أيت لقو�س زنبور �سهــام اً �سهام ال يـذوب لها غــراء ، يباكــر جيبه ،فـــي�صيد منه ، وال ينجي ال�ص�ؤ�آبه �أن يراها يزر رعالها ،بالـــ�سن ،زراً ، ُّ
مثقفة الأغرة ،مـــا تــطيـ�ش: ومل يُ�شدد لها عقب وريــ�ش. وال يبغي عليه من يــــحو�ش. ت�ضاءل ،فوقها در ٌز جحي�ش: وال ت�شقى بغدوته الوحو�ش!
�إن ابن حماد هذا يذكرنا �أيوب ًا «ال�شخ�صية الأ�صلية» دون لب�س �أو �إبهام .فهو �أي�ض ًا يخرج �إىل القن�ص بكرة ،لي�صيد من جيب ردنه ما ي�صيد ،ب�سهام مثقفة ال عقب لها وال ري�ش ،طارداً رعال القمل والرباغيث ،م�ضيق ًا عليها يف الآجام والأدغال ،فلي�س يخطئ املرمى. لكن «ال�صورة ال�شعرية» هنا -وقد ا�ستكمل ال�شاعر مادته و�أداته 57
عو ْد �إىل ال�شعر
�أفخم مظهراً و�أبرز لون ًا� ،أدخل فيها �أبونوا�س عن�رصين جديدينتبلغ ال�سخرية بهما �أعلى مراتبها� :أولهما و�صفه ذلك ال�صياد الفذ باال�ستغناء عن اخلدم واحل�شم الذين يرافقون الأمراء والكرباء عادة، يف موكب فخم ،ليحو�شوا لهم ال�صيد ،في�أخذه �أولئك من �أهون �سبيل، ونعني بال�صياد الفذ �أنه يخرج وحده ..وثانيهما و�صفه �إياه بالر�أفة ورقة القلب ،فهو يقن�ص القمل والربغوث لت�سلم من ب�أ�سه الوحو�ش ،فال ت�شقى �إذا غدا �إىل ال�صيد� ،شاكي ال�سالح .ولي�س �أقرب �إىل هذا ال�صياد، تارتارن الرتا�سكوين يف فن الق�صة. يف الفن ال�شعري ،من ْ ونحن نعلم �أن لأبي نوا�س باب ًا من �أبواب ال�شعر يكاد يتفرد به، الطرد .وقد �أخرب الرواة �أنه نظم فيه بعد �أن كان من ال�سابقني �إليه ،هو ّ ت�سع ًا وع�رشين �أرجوزة و�أربع ق�صائد ،و�صف فيها ال�صيد و�أحواله، ونعت الكلب والثعلب والفهد والظبي والفر�س وال�صقر والبازي والديك، ب�شعر يكاد يكون فيه ن�سيج وحده ،جتده مثبت ًا يف ديوانه .فهذا باب يف الطرد اجلدي� ،إزاء الق�صيدتني اللتني نظمهما يف �صاحبيه �أيوب وابن �أبي حماد ،من قبيل الطرد الهزيل. كان د�ستويف�سكي يقول« :جتوز بي امر�أة ،يف ال�سوق ،بلبا�س احلداد، وهي تقود طف ًال ،فاتخيل م�أ�ساة من م�آ�سي احلياة ،وتت�ألف من هذا وحده ق�صة.».. تلك مادة �أهل الفن ،يتناولونها �إذ جتتاز الكون واحلياة ،غف ًال من اال�سم والن�سب ،ك�أيوب الذي ال نعرف عنه �إال �أنه كان يجل�س يف امل�سجد ،يفلي القمل والربغوث ،وكهذه الأم التي بهت د�ستويف�سكي ملنظرها ،وقد ر�آها جتتاز الطريق يف ردائها الأ�سود ،ولي�س يعلم من �أمرها �شيئ ًا.. 58
2 من �أنباء م�رص القاهرة �أن الدكتور ب�رش فار�س قد «اكت�شف» بحراً جديداً ..و�أبادر �إىل القول �إن ذلك البحر هو من بحور ال�شعر لي�س �إال، لكنه مل ي�سلم ،رغم هذا ،من ب�أ�س حرب �شعواء �أثارها يف �ساحاته وحول م�ضايقه ،ب�أ�ساطيل جرارة من ال�شواهد العقلية والنقلية وغريها ،مما ال يدخل يف �أحد هذين البابني �أو «امل�ضيقني» رجال القلم املغاوير الذين يعرفون رغبة النظارة من �أبناء ال�ضاد ،يف هذا النوع من القتال الأ�شبه بلعبة «ال�سيف والرت�س» يكون معظمها تظاهراً وتخاي ًال ،ثم ال غالب وال مغلوب.. يقول ابن خلدون يف مقدمة تاريخه« :ويراعى يف ال�شعر اتفاق الق�صيدة كلها يف الوزن الواحد ،حذراً من �أن يت�ساهل الطبع يف اخلروج من وزن �إىل وزن يقاربه .فقد يخفى ذلك ،من �أجل املقاربة، على كثري من النا�س .ولهذه املوازين �رشوط و�أحكام ت�ضمنها علم العرو�ض .ولي�س كل وزن يتفق يف الطبع ،ا�ستعملته العرب يف هذا الفن ،و�إمنا هي �أوزان خم�صو�صة ي�سميها �أهل تلك ال�صناعة :البحور. وقد ح�رصوها يف خم�سة ع�رش بحراً ،مبعنى �أنهم مل يجدوا للعرب يف غريها من املوازين الطبيعية ،نظم ًا» �إلخ. يكفي �أن نقارن هنا بني كلمة ابن خلدون« :ولي�س كل وزن يتفق يف الطبع ا�ستعملته العرب» وبني عبارته الأخرية عن «املوازين الطبيعية» كي يت�ضح لنا �أنه فتح الباب على م�رصاعيه ،لأوزان م�ستحدثة يف ال�شعر العربي ،بينما هو ي�شري يف الوقت ذاته� ،إىل �أ�صل تلك الأوزان 59
عو ْد �إىل ال�شعر
ومن�شئها ،ب�أوجز كالم و�أوفاه باملراد .ولي�ست هذه �أول مرة يتناول فيها العالمة املغربي م�س�ألة من امل�سائل ،فري�سل على ناحية �أو �أكرث منها� ،شعاع ًا من نور ب�صريته نافذاً �إىل �صميمها ،ويك�شف للمتدبر عن �آفاق جديدة .بل يندر �أال ي�أتي ،يف �أي ال�ش�ؤون املتنوعة التي و�سعتها دائرة معارفه العربية ،ونعني «املقدمة» بحكم �صحيح �أو ر�أي طريف، ك�أنه ينظر يف الأمور من وجهة مل ُي�سبق �إليها ،بعني ال مثيل لها .وهذا ما �أهاب بامل�ست�رشق الفرن�سي غوتيه من �أ�ساتذة جامعة اجلزائر� ،إىل القول �إن لهذا ال�رشقي امل�سلم مذهب ًا غربي ًا يف التاريخ ،و�أ�سلوب ًا يف التحقيق العلمي يذكر ب�أ�ساليب عهد االنبعاث الأوروبي ،ك�أن نفحة منه �رست �إىل روح ابن خلدون عن طريق الأندل�س .لكن امل�ست�رشق الفرن�سي ال ينكر �أن العالمة امل�سلم مل يتلق علمه يف مدر�سة الغرب على م�ؤرخيه ،فهو قد اهتدى ،ب�سائق من عبقريته� ،إىل هذا الأ�سلوب الفذ يف النقد التاريخي والتحقيق العلمي. رجعت �إىل (املقدمة) و�أنا �أت�ساءل :ملاذا �سمت العرب �أوزان ال�شعر �أبحراً؟ وكنت �أرجو �أن �أوفق ثمة �إىل جواب هذا ال�س�ؤال ،بعد �أن �أي�أ�سني من ذلك كتاب (العمدة يف �صناعة ال�شعر وفنونه) البن ر�شق القريواين، فلم �أجد �شيئ ًا ،لكن ظفرت بهذا الر�أي القيم البن خلدون ،الذي ي�ستخل�ص منه �أنه يوجد �أوزان لل�شعر تتفق يف الطبع ،مل ي�ستعملها العرب يف منظومهم ،و�أن اخلم�سة ع�رش بحراً التي �شاء علم العرو�ض �أن يح�صيها ويح�رصها ،جزء من كل� ،أي من «املوازين الطبيعية» التي ي�صح �أن ت�ستعمل يف نظم الكالم� ،سواء يف لغة م�رض �أم يف �سائر اللغات. ولي�س ب�ضائر هذه املوازين �أن العرب ،باديها وحا�رضها ،غابرها وحا�رضها ،غائبها وحا�رضها ،مل ت�ستعملها ومل تنظم عليها .ولعلها 60
لهذه العلة �سميت «�أبحراً» فهي مرتامية الأكناف ،متداخلة الأطراف، يت�صل �أحدها بالآخر ،ويتولد بع�ضها من بع�ض� ،إىل ما ال يكاد ينتهي، حتى ت�سلم النف�س الأخري فيما دعوه بال�شعر املنثور. ومل يجئ ابن خلدون بهذا الر�أي عبث ًا �أو لغري طائل ،فهو منطقي �إىل �أق�صى حد ،مثل كل مبدع �سبق ع�رصه و�أع�رصاً بعد ع�رصه. ومن امل�سلم به عند الأ�ستاذ غوتيه وغريه من �أهل النظر� ،أن املادة التي تت�ألف منها (املقدمة) رغم غزارتها وتنوع عنا�رصها وت�شعب مراميها ،قد تنزهت عن �آفات اخللط والفو�ضى ،بف�ضل رجاحة عقل امل�ؤلف العبقري الذي �أفرغها يف نظام من الوحدة ،ال يكاد يعتوره خلل. قال ابن خلدون بذلك الر�أي يف ال�شعر وموازينه ،كي ُيرتك الباب مفتوح ًا على م�رصاعيه ،ملا ا�ستحدث من فنونه املت�أخرون ،خا�صتهم وعامتهم ،يف خمتلف الأقطار والأم�صار ،كاملو�شح والزجل واملواليا والقوما وكان ما كان والدوبيت ،و�أكرثها �أنواع من ال�شعر �ش ّذ فيها «جيل من العرب امل�ستعجمني» عن �أ�ساليب لغة م�رض ،لكنها من ال�شعر يف �صميمه( :فلأهل ال�رشق و�أم�صاره لغة غري لغة �أهل املغرب و�أم�صاره ،وتخالفهما �أي�ض ًا لغة �أهل الأندل�س و�أم�صاره .وال�شعر موجود بالطبع يف كل ل�سان ،لأن املوازين على ن�سبة واحدة يف �أعداد وتقابلها ،موجودة يف طباع الب�رش .فلم ُيهجر املتحركات وال�سواكن ُ ال�شعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة م�رض.).. وقال ابن خلدون بذلك الر�أي يف ال�شعر وموازينه ،من �أجل الوزن الذي ا�ستحدثه الدكتور ب�رش فار�س ،و�إخراجه من عداد «املوازين الطبيعية التي مل يعرف للعرب نظم فيها» .وينبغي �أن يكون� ،إىل هذا 61
عو ْد �إىل ال�شعر
الوزن امل�ستحدث ،حاجة ،لأن �صاحبه نظم عليه ق�صيدة �أو ب�ضع ق�صائد وال فرق ،فاملهم �أنه �أدخله يف عداد «املوازين الطبيعية التي �سيعرف للعرب نظم فيها» .وال نن�س �أن املكت�شف هو يف الطليعة من �أدباء اجليل ونقدة ال�شعر ،و�أكرب الظن �أنه مل ير�سل يف عباب هذا «البحر» اجلديد ،كتلك املراكب من الورق التي يتلهى بها ال�صغار، لكفاية حنينهم الباكر �إىل الأ�سفار ،وركوب منت البحار .فع�سى �أن أن�سي �أو جني ببال ،مقلة تكون مراكبه م�شحونة �أماين مل تخطر ل ّ طيوف خيال مل تطف بوهم �شاعر ،يف املتقدمني واملت�أخرين. لقد �سمى الدكتور فار�س بحره اجلديد «املنطلق» .وكنت �أوثر �أن ي�سميه «املطلق» لأن ال�شعر العربي ،على ما �أرى� ،سيقفز ،بربكة املدر�سة احلديثة ،قفزة تقذف به �إىل «ما وراء الطبيعة».
3 خلت فيه �أين �أكرب الظن �أن هذا ال�شعر لن يرتكني ،وقد كان زمن ُ غري تاركه .فكتابي «الباب املر�صود» جمموعة ف�صول تدور على حمور ال�شعر ،وهي ثالثة �أرباع ما كتبت يف حقبة ا�شتغايل بالكتابة، على ق�رصها ،ك�أن ال�شعر ي�شغل من حيز فكري �أكرث من ن�صفه ،ليخلو الربع الأخري للهموم اليومية. �أنا حامد لنفر من �أخواين الذين نقدوا الكتاب ،ح�سن ظنهم� ،إذ توهموا �أو �أح�سوا بني ف�صوله� ،صلة ظاهرة �أو وحدة خفية ،قد تكون من عطايا فكرهم ال�سخي ،لي�س �إال .وهم ،ال مراء ،يعنون ال�صلة بني ر�أي 62
ور�أي� ،أو وحدة اال�ستقراء واال�ستطراد واال�ستنتاج� ،إىل �آخر ما هنالك من املزايدات .ولكني ال �أكون مبالغ ًا وال متكلف ًا �إذا ما زعمت اليوم، �أين غري �ضنني بر�أي واحد وال بب�ضعة �آراء قلت بها ،منذ نحو ع�رشة �أعوام ،يف مثل هذا املو�ضوع املت�شعب الفروع ،العوي�ص الرتكيب ،الذي ال ينري علم النف�س ناحية منه� ،إال غابت �سائر نواحيه يف «ما وراء علي �إذا كانت تلك الآراء تبدو الطبيعة» وهو مو�ضوع ال�شعر .وماذا ّ يل الآن يف �سذاجتها ،عريانة كالتمثال على قارعة الطريق ،يف نتوء يكاد يقلع العني؟ ففي �ضمريي نحوها �شعور غام�ض خمتلط ،ال �أعرف له ت�أوي ًال ير�ضيني كل الر�ضا (�أو هي حكاية �أخرى كما يقولون) لكنه �أ�شبه ما يكون ،بعدم املباالة يف �شيء من الغيظ ،ك�أن تلك الآراء �أوالد مما رزقني اهلل ،غابوا عني �سنني معدودات ،يف ذلك العامل العجيب القائم على تخوم الواقع والأبجدية ،ف�أنا �أكاد �أنكر منهم ،بعد هذا العمر� ،أنهم ال يزالون كما �أُن�شئوا �أول مرة� ،أقزام ًا م�سوخ ًا� ،أو �أطفا ًال �شيوخ ًا ،دع �إذن هذه الوحدة املزعومة �أو املتوهمة ،وتعال حدثني عما يف ت�ضاعيف الكتاب ،بل بني �سطوره ،من ترجمة حال �شاعر مل يعرف النا�س �أن له ق�صيدة واحدة ،ومل يعرف هو �أكرث مما عرفه النا�س ،ولنقل �إنها ق�صة ال�شاعرية املكبوتة �أو اخلر�ساء. يعد بني كبار يرى جمهرة م�ؤرخي الأدب الفرن�سي �أن �سنت بوف مل ّ نقدة الكالم الذين وفقوا يف بحوثهم عن ال�شعر وال�شعراء �إىل حد بعيد، حد ما .و�أذكر اليوم ،على �إال لأنه كان من قبل� ،شاعراً غري موفق �إىل ّ طول العهد� ،أين كنت �أعتذر لنف�سي عن هجر القري�ض ،ب�أن ال�شعر ال يحتمل �أو�ساط الأمور ،ف�إما �أن يكون بالغ ًا مرتبة الكمال ،و�إما �أن ال يكون البتة ،و�أنه دون النرث حينما ينحط عن تلك املرتبة .قد يكون هذا 63
عو ْد �إىل ال�شعر
االعتذار من باب التعلل يف «ق�ضيتي» اخلا�صة ،لكنه على كلٍ ،الر�أي الأ�صوب يف ق�ضية ال�شعر العامة ،لو �أخذ به «�أكرثهم» لوفروا على نف�سهم كثرياً من الهراء ،وعلينا كثرياً من العناء. من حق القارئ �أن ي�س�أل :ماذا عنيت بالعامل «القائم على تخوم الواقع والأبجدية» دون �أن يطالبني مبخطط هذا العامل العجيب الذي مل تدر�س بعد جغرافيته ،ومل يتح له احلظ من يعنى ب�إح�صاء عدد �أجرامه وقيا�س مدى �أبعاده وو�صف خمتلف �أطواره ،رغم �أنه عامل قدمي� ،أقدم من العامل الذي نحن فيه ،على ما �أرجح .و�أنا منذ �أر�سلت كلمتي عن ذلك العامل ،كمن انطلقت ،عن غري ق�صد ،ر�صا�صة من بندقيته� ،أت�ساءل علي بجواب قاطع من نوعه� ،أو يف حرية ،مثل هذا ال�س�ؤال ،وال ُيفتح ّ تعريف جامع مانع ككل التعاريف التي حترتم ذاتها� .أقول :يف حرية، والأ�صح �أن يقال :يف َبهر ،ك�أين �أتيت �أمراً عظيم ًا ال �أجد منه خمرج ًا، يقدر اهلل ،فيغفر ذلك العامل العجيب فاه ،فيبتلعني .وحينئذ �أعرف �أو ّ من جغرافيته ،على الأقل ،فكيه وحيزومه .ولكن حتى يحني ذلك ،ال �أحب �أن �أقف حائراً بائراً ،يف منت�صف الطريق .و�إذا كان العلم احلديث قد بنى على الفر�ض �رصحه املمرد ،فال ب�أ�س ب�أن نلج�أ �إىل الفر�ض فيما نحن ب�صدده ،فن�رضب مث ًال و�إن بعيداً ،يقرب من الأذهان �صورة ذلك العامل العجيب ،را�ضني بظل الظل �أو خيال اخليال: لو �أن اهلل �سبحانه مل يخلق هذه الدنيا التي نح�سها ونعي�ش فيها، من تراب وماء ونار وهواء ،وهي العنا�رص الأربعة التي يروي �أغلب م�ؤرخي اخلليقة �أنها مادة خلقه ،بل كان تعاىل� ،شك�سبرياً �أو بلزاك ًا اللذين يزعم بع�ضهم �أنهما ،بعد اهلل� ،أكرثنا خملوقات -يريدون الأ�شخا�ص الذين تعج بهم م�ؤلفات ال�شاعر الإنكليزي والق�صا�ص 64
الفرن�سي من رجال ون�ساء� ،أو �أرواح �سفلية وعلوية -وقد �أنف هذا الإله الأبجدي� ،إذ �شاءت م�شيئته وقدرت قدرته� ،أن يلطخ يديه بالعنا�رص الأربعة ،و�آثر احلرب ،فخلق الكون �أبجدي ًا ،من نوع العامل الذي يخلقه ال�شاعر �أو الق�صا�ص� ،أال يحق لنا القول �إذن� ،إن هذا العامل مما ت�صح مقارنته بعوامل اجلن واملالئكة والأحالم ،بل �إنه يقوم -كاللوح املحفوظ -على تخوم الواقع والأبجدية؟ وقدمي ًا قال الإغريق( :ال خالق �إال �شاعر �أو �إله) .ال�شاعر �أو الإله الأبجدي..
65
66
اجلمال بني احلركة وال�سكون
ِ ال�صفات ،بعي ُد مو�صوفاتها.. داين املتنبي
1 يغلب على الر�أي �أن �أبا الطيب ،بعد �أن ملأ الدنيا و�شغل النا�س خالل ع�رشة قرون كاملة� ،سيج�شم ع�رصنا �أي�ض ًا ما ال طاقة له به، فلن يفت�أ يطرح عليه �رضوب ًا من الأحاجي ،ولي�س ثمة ما ي�ؤذن ب�أن لهذا الأمر نهاية .وك�أين باملتنبي مل يكتف بالنحاة وال�رصفيني، وعلماء اللغة والبيانيني ،يغريون على ديوانه متزاحمني باملناكب، ليمنعوا فيه �رشح ًا �أو ت�رشيح ًا ،ك�أن �شعره مومياء عجيبة وقعت 67
اجلمال بني احلركة وال�سكون
يف �أيدي �أثريني غالظ الأكباد ،ال يقر لهم قرار حتى يك�شفوا عن �رس خلودها وبقاء روعتها على الأيام ،فقد �أ�صبح �شعر املتنبي يف هذا الزمن يتطلب ،على ما نرى ،طبقة جديدة من �أهل االخت�صا�ص. كان �أبوالطيب دون اخلام�سة والع�رشين من عمره ملا ات�صل ،يف مدينة منبج من �أعمال حلب ،ب�أمريين من �آل بحرت ،ال يذكرهما التاريخ بخري �أو �رش ،لو مل ينعم ال�شاعر عليهما ،وهو ي�س�أل نواال ،بثالث ق�صائد يف املديح لي�ست من عيون �شعره ،رغم انطباعها بذلك الطابع اخلا�ص الذي ال يغيب عنا وال ي�شتبه علينا ،كيفما قلبنا الطرف يف ديوانه. ومطلع �إحدى الق�صائد الثالث:
�أريقك� ،أم ماء الغمامة� ،أم خمر ؟ وال يعنينا من �أبياتها �إال بيت واحد ،بل �شطر من بيت ،ي�صف فيه املتنبي حمبوبته «النظرية» التي يق�ضي العرف ال�شعري �أن يتغزل بها يف فاحتة الق�صيدة ،وهو قوله:
تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها.. فهنا �أحجية من الأحاجي ،ال يجدينا يف حلها نحو النحاة �أو بيان البيانيني �أو فقه اللغويني ،لأنها يف غنى عن ه�ؤالء جميع ًا. ومن الإن�صاف �أن نبادر �إىل القول �إن واحداً منهم مل يجرب حل هذا مر الكرام، اللغز من املنظوم ،بغري حتويله �إىل جملة نرثية ،فمروا به ّ حني مل ت�ستوقفهم فيه نادرة نحوية �أو لغوية ،وال م�س�ألة �رصفية �أو بيانية ،مما جرت العادة �أن يعريوه نظراً واهتمام ًا ،حتى وال لفظة
68
غريبة يتكلفون م�شقة �إبدالها بلفظة �أخرى ،تكون �أقرب تناو ًال و�أكرث تداو ًال :لقد �أعياهم هذا املعنى ب�ساطة وو�ضوح ًا ،فك�أنه بيت من ال�شعر ال يكرم نف�سه. قال الواحدي( :حركاتها كيفما حتركت ح�سنة ،و�سكون احل�سن فيها قد بلغ الغاية). قال العكربي( :هي ح�سنة يف ال�سكون ،و�سكون احلركة فيها قد بلغ النهاية). قال اليازجي�( :إنها كيفما حتركت حلظاتها ،فاحل�سن �ساكن يف حركاتها ،بالغ نهايته يف ذلك). لن نقف عند االختالف بني «�سكون احل�سن» يف كالم الواحدي وبني «�سكون احلركة» يف كالم العكربي ،كما �أننا لن نكرتث «حلركة الأحلاظ» يف �رشح اليازجي الذي يرد املعنى �إىل البيت ال�سابق:
ر�أين التي لل�سحر ،يف حلظاتها، ٌ �سيوف ظباها من دمي� ،أبداً ،حمر.. لن نقف عند هذا �أو ذاك ،فلي�ست الق�ضية هنا �أو هناك .و�إذا كان البد من الت�سليم ب�أمر ما ،فهو �أن ه�ؤالء الأئمة ،يف تف�سريهم البيت ،مل ي�ضيفوا �إىل لفظه �شيئ ًا ،كما �أنهم مل يزيدوا معناه و�ضوح ًا ،بل الأ�صح �أن يقال �إنهم مل يجيئونا ب�رشح �أو تف�سري .ولي�س ما يبعث الأمل يف �رشاح الديوان �أو نقدة ال�شعر ،على �أن نظفر بحاجتنا ،عند غريهم من ّ الوجه الأعم. يقول احلكيم الفرن�سي �آلن يف كتابه «نظام الفنون اجلميلة» ما 69
اجلمال بني احلركة وال�سكون
ترجمته�( :إن الوجه املليح � -أو احل�سن -ينبئ عن طم�أنينة � -أو �سكون -الأ�شياء جميع ًا ،حتى يف حالة االختالل � -أو احلركة - العار�ضة) .وهو يبني على هذه النظرية ،وما يت�صل بها �أو يتفرع عنها ،من �آراء يف اجلمال وعالقته باحلركة وال�سكون ،يف الهيئات والأج�سام الطبيعية ،ثم يف فني الر�سم والنق�ش اللذين ميثالن الأج�سام والهيئات ،كل فنٍ منهما مبادته و�أداته ،ف�صو ًال م�سهبة تف�سح للنظر �آفاق ًا مرتامية الأطراف .هنا �أي�ض ًا حديث ،واحلديث �شجون ،عن «�سكون احل�سن يف احلركات وتناهيه فيها» على نحو ما نراه يف نظم املتنبي. فلم يك من قبيل التحذلق �إذن ادعا�ؤنا ،بادئ ذي بدء� ،إن ذلك ال�شعر �أ�صبح ،يف هذا الزمن ،يتطلب �صنف ًا �آخر من ذوي االخت�صا�ص ،ونحن نعني فريق ًا من �أهل الدراية ،غري علماء اللغة و�أ�صحاب البيان الذين وفوه ،من هذه الناحية ،يف الع�صور اخلالية ،ق�سطه وزيادة .ونح�سب �أن قد �آن لل�شعر �أن يف�صل عن علوم اللغة � -أملا يبلغ الفطام؟ -لينظم نهائي ًا يف �سلك الفنون اجلميلة ،من الر�سم �إىل الرق�ص فاملو�سيقى، ؤذن لنا ،على الأقل� ،أن ن�ست�ضيء يف درا�سة بني �أهله الأدنني� .أو لي� ْ ال�شعر ،من�شئه وجوهره وغايته ،ب�أنوار تلك الفنون ،فلن نلبث طوي ًال حتى نرى �أنه لي�س منها يف ال�صميم فح�سب ،بل هو -فوق ذلك - �أ�رشفها مقام ًا ،و�أ�صعبها مرا�س ًا ،و�أبعدها و�أقربها ،يف وقت مع ًا ،من الكمال. ولرب معرت�ض يقول ،مق�سم ًا بكل عزيز لديه� :إن املتنبي مل تخطر له هذه املعاين البعيدة �أو النظريات الغريبة ،ببال .و�أنه كان �أنعم حا ًال و�أطيب خاطراً يف �رشوح الواحدي والعكربي واليازجي ،منه يف «نظام الفنون اجلميلة» مع هذا ال�شارح الفرن�سي من الطراز الأحدث، 70
ثم يظهر عجبه ،كيف ،وقد طرحنا �أحجية املتنبي القائل:
تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها.. مل نتقدم �إىل حل عوي�صها� ،إال ب�أحجية من نوع جديد ،عدا �أنها مرتجمة عن لغة �أجنبية ،فهي �أجدر بال�رشح والتف�سري؟ نرجو �أن نوفق ،عما قليل� ،إىل �إزالة هذا العجب و�إبطال ذلك االعرتا�ض ،جهد امل�ستطاع .ولكننا منذ الآن ،ندعو رجال الفن يف ظهرانينا �إىل در�س امل�س�ألة التي ي�شرتك يف طرحها� ،أثناء هذا الف�صل، ال�شاعر العربي واحلكيم الفرن�سي ،كي يدلوا بر�أيهم يف مو�ضوعها وفيما يت�صل به من املوا�ضيع امل�شرتكة بني ال�شعر و�سائر الفنون اجلميلة .ف�إن مل يفعلوا ،وال �إخالهم �إال فاعلني ،خ�شينا �أن ت�صدق فينا التهمة القائلة �إننا �أردنا �أن ن�سلك ال�شعر يف نظام من الفنون ،لي�س له عندنا وجود ،والأف�ضل �أن نعيده �سريته الأوىل ،بني �آله وذويه الأولني من «علوم الآلة» فهو �أجدى له و�أوىل بنا ،من �أن نتورط و�إياه يف �سبل ملتوية ،بعيدة ال�شقة ،مل توطئها الأقدام.
2 اعتاد الكتاب وامل�صنفون من العرب ،يف القرنني الثالث والرابع للهجرة� ،إذا ذكروا اري�سطو يف كتبهم ور�سائلهم� ،أن يلقبوه ب�صاحب املنطق ،حتى اجلاحظ الذي نقل يف (كتاب احليوان) طرف ًا من �أقوال الفيل�سوف الإغريقي ،واتهمه بع�ضهم ب�أنه قد «�سلخ يف كتابه معاين 71
اجلمال بني احلركة وال�سكون
كتاب اري�سطو» يف املو�ضوع ،فال يندر �أن يذكره بهذه العبارة« :قال �صاحب املنطق» ثم ي�رسد كالمه ،كما و�صل �إليه عن طريق الرتاجمة، وكانوا يدعونهم بالنقلة .وت�أويل ذلك �أن امل�سلمني ،منذ �أول عهدهم بالرتجمة �أو االقتبا�س من اليونانية ،كان علم املنطق عندهم مبثابة اكت�شاف �أمريكا �أو الدنيا اجلديدة عند �أبناء العامل الغربي القدمي - احلدث الذي ال حدث قبله وال بعده� -إذ �أ�صبحت احلاجة ما�سة ،يف امل�سائل الكالمية �أو (الالهوت) �إىل �أ�سلحة اجلدل املنطقي ،تناوئ بها الفرق �أو النحل الإ�سالمية بع�ضها بع�ض ًا ،كلما فرغت من مناظرة �أ�صحاب الأديان الأخرى ..وال عجب �أن ي�سمى �صاحب املنطق «العامل الأول». فعلى ذلك القيا�س يجدر بنا� ،أثناء هذا البحث اال�ستاطيقي الذي �أخذنا فيه� ،أن نلقب احلكيم الفرن�سي �آلن ،وقد «�سلخنا» ر�أيه يف احلركة وال�سكون وعالقتهما باجلمال« ،ب�صاحب نظام الفنون» عاقدين النية على �سلخ طائفة من معاين كتبه يف املو�ضوع وما يت�صل به �أو يتفرع عنه ،من مو�ضوعات عالقة ال�شعر بالفنون اجلميلة ومرتبته بينها، والتبعة يف هذا� ،إن يك من تبعة ،واقعة على املتنبي القائل يف �إحدى حلظات الغفلة �أو «الالوعي» التي ي�سميها اندره جيد «ح�صة اهلل» ي�ضن بها وال ي�ؤثر عليها �شيئ ًا: وكان ،يف طوره الأول، ّ تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها.. فهنا كالم ي�صح �أن ننعته بالغريب ،ال نعني غرابته يف منظوم املتنبي فح�سب ،بل غرابته �أي�ض ًا يف �سياق ال�شعر العربي على �إطالقه، ومل يعودنا �شعراء العرب �أمثال هذا املعنى يف �أ�شباه هذا املبنى :معنى مركب يف مبنى ب�سيط .وهو ما �أراده �أحد �أئمة علم الأدب ،اجلرجاين، 72
بقوله( :ومنه � -أي الكالم -ما �أنت ترى احل�سن يهجم عليك منه، دفعة ،وي�أتيك ما ميلأ العني غرابة ،حتى تعلم� ،إن مل تعلم القائل، �إنه ِمن قبل �شاعر فحل ،و�إنه خرج من حتت يد �صناع ..وذلك ما �إذا و�ضعت فيه اليد على �شيء ،فقلت« :هذا ..هذا»! ال جتده �إال يف �أُن�شدته َ �شعر الفحول الب ّزل ،ثم املطبوعني الذين ُيلهمون القول �إلهام ًا ..ثم �إنك حتتاج �أن تتقرى عدة ق�صائد ،بل �أن تفلي ديوان ًا من ال�شعر ،حتى جتمع منه عدة �أبيات -.دالئل الإعجاز). وميكن القول ا�ستطراداً �أو على �سبيل التجوز� ،إن �أقرب الكالم من نوع بيت املتنبي يف غرابته وندرته ،ولي�س من مدلوله ومو�ضوعه، بالبداهة ،بيتان لأبي نوا�س ،ال �سيما �صدر البيت الثاين:
ر�سم �أال ،ال �أرى مثل امرتائي يف ِ َ تغ�ص به عيني ،ويلفظه وهمي: ّ �أتت �صور الأ�شياء بيني وبينه، علم. ظن وعلمي كال ِ فظني كال ّ ا�ست�شهد بهما اجلرجاين يف ف�صل من كتابه القيم «دالئل الإعجاز» عقده على باب «�إدراك البالغة بالذوق والإح�سا�س الروحاين» ،قال: (لي�س يف �أ�صناف العلوم اخلفية ،والأمور الغام�ضة الدقيقة� ،أعجب طريق ًا يف اخلفاء من هذا ..و�أنك لتتعب يف ال�شيء نف�سك ،وتكد فيه قلت« :قد قتلته علم ًا ،و�أحكمته فهم ًا فكرك ،وجتهد كل جهدك ،حتى �إذا َ كنت بالذي ال يزال يرتاءى لك فيه من �شبهة ،ويعر�ض من �شك ،كما قال �أبونوا�س) ..وبعد �أن يذكر اجلرجاين هذين البيتني ،يقول ك�أنه جاء 73
اجلمال بني احلركة وال�سكون
بف�صل اخلطاب�« :إنك لتنظر يف البيت دهراً طوي ًال ،وتف�رسه ،وال ترى خفي مل تكن قد علمته».. �أن فيه �شيئ ًا مل تعلمه ،ثم يبدو لك فيه �أمر ّ ويعجبني هنا �أن �أبا الطيب نظم بيته الغريب ،متغز ًال يف حمبوبة «نظرية تقليدية» .فهذا ،عدا �أنه �أبلغ يف �إبراز الت�ضاد ،مالئم جد املالءمة لبحثنا اال�ستاطيقي يف ال�شعر واجلمال ،ونحن منه يف عامل نظري ال ميت �إىل دنيانا احل�سية �إال ب�سبب بعيد ،تكاد من «ال�صور» ّ حد قول �أبي فيه الأ�شياء تكون حمجوبة ب�صورها عن الأذهان ،على ّ نوا�س الذي مل يلهم فقط �أن يفرق بني املح�سو�سات يف ذاتها وبني �صورها القائمة يف الفكر ،بل جتاوزه �أي�ض ًا �إىل الإبانة عن حقيقة انحجاب الأ�شياء ب�صورها الذهنية خالع ًا على هذا الر�أي الفل�سفي حلة �شعرية مو�شاة بالوحي والإغراء ،لي�س يعييها �أن «الالظن» حلمتها و«الالعلم» �سداها .هكذا ر�أينا ال�شاعر املطبوع ،وك�أنه م�سخر بطبعه، م�سوق برغمه ،يخلق �شعراً من هذه املادة «اخل�سي�سة» التي مل يكن ير�ضاها يف ال�شعر ،بل كثرياً ما نعاها على ال�شعراء ،نعني :الن�ؤى والأحجار �أو الر�سوم الدوار�س ،وذلك بعبارات م�ستفادة من رطانة املناطقة �أي�ض ًا ،فيا ل�شاعرية الأطالل التي ال تفت�أ ،لبعدها عنا زمان ًا ال مكان ًا ،تت�ضاءل حتى �أم�ست تلوح كباقي الو�شم يف ظاهر اليد! لي�س من غر�ضنا �أن نبحث الآن ،ما لهذا «املعنى» الغريب يف �شعر �أبي نوا�س :معنى انحجاب الأ�شياء يف ذاتها ب�صورها يف الذهن، من ات�صال قريب �أو بعيد ،بنظرية املعرفة يف الفل�سفتني القدمية واحلديثة ،الذاتية �أو املو�ضوعية .ولكن البد من الإ�شارة �إىل ر�أي ب�سطه العالمة فكتور باك ،من �أ�ساتذة كلية الآداب يف جامعة باري�س ،وهو يدلل على �صحة �إحدى نظرياته يف اجلمال وال�شعور به ،ذاهب ًا مذهب ًا 74
ذاتي ًا ال مو�ضوعي ًا يف هذا العلم �إذ ُيرجع ما للإح�سا�سات ال�سماعية والب�رصية من قيمة ا�ستاطيقية� ،إىل «�أن الأذن والعني �أ�صبحتا � -أو جراء تكادان -من احلوا�س «التمثيلية الذهنية» لي�س غري» يعني :من ّ ما يكتنف مرئياتنا وم�سموعاتنا من ِعرب وذكر ،وهموم وخوالج، ومذاهب وغايات ،بحيث ال تب�رص عني وال ت�سمع �أذن� ،إال من خالل «النف�س» يف خمتلف حاالتها ،ولنق ْل :يف خمتلف �ألوانها ،ومن هذا القبيل ا�ستاطيقية االطالل ،على ما نرجح. وبعد� ،ألي�س من العجيب �أن تكون الكلمة التي نقلناها من كتاب �صاحب نظام الفنون ،يف معر�ض احلديث عن بيت املتنبي ،م�ساوقة ملفهوم ذلك البيت ومنطوقه ،حتى انها لت�شتبه علينا معنى ال مبنى، حينما نقرنها �إال ما اقرتحه يف تف�سريه كل من الواحدي والعكربي يف املتقدمني ،واليازجي يف املت�أخرين ،فك�أنها خمتل�سة من �رشح كان طي اخلفاء ،لهذا احلكيم الفرن�سي ،على ديوان ال�شاعر العربي؟ ّ (�إن الوجه احل�سن ينبئ عن �سكون الأ�شياء جميع ًا ،حتى يف حالة احلركة ،العار�ضة). ولكن� ،أتلك هي املرة الأوىل التي ُيعنى فيها �صاحب نظام الفنون، ب�رشح دواوين ال�شعر ،على نحو ما يفعل �أدباء العرب وعلما�ؤهم قدمي ًا وحديث ًا؟ كال .فقد قر�أنا من ت�صانيفه تف�سرياً لديوان ال�شاعر فالريي، لعل �أو�ضح مزاياه �أنه كتاب �صنفه �أحد �أ�ساطني علم اال�ستاطيقي، يف �رشح ديوان �شاعر من ال�شعراء ،ناهيك ب�آراء له يف ال�شعر ،تكاد ال حت�صى كثرية وال حت�رص تنوع ًا ،مثبتة يف عديد كتبه ومقاالته، فهي �إذن �شن�شنة نعرفها من �أخزم ..ومن �أجدر من �أبي الطيب بهذه «التكرمة» على بعد العهد والدار؟.. 75
اجلمال بني احلركة وال�سكون
لو �أن �أمركم ،من �أمرنا � ،أممُ! وهكذا نرى الغربيني يرجعون �إىل منظوم �شعرائهم النابغني، فيو�سعونه �رشح ًا وتف�سرياً ،بعد �أن كانوا «قد نظروا فيه دهراً طوي ًال، حتى ح�سبوا �أن لي�س فيه �شيء مل يعلموه ،ثم يبدو لهم �أمر خفي، ال �شيء �أعجب طريق ًا منه يف اخلفاء »..كما يقول الإمام اجلرجاين �صاحب «دالئل االعجاز» و«�أ�رسار البالغة» املتوفى �سنة 471 للهجرة ،فك�أن ال�شاعر العبقري ،الذي يتوجه بغرائب وحيه نحو جميع الأجيال ،يخاطب كل جيل بل�سان ،ويك�شف لهم عن �آفاق بعد �آفاق. �ألي�س هذا �ش�أن �أبي الطيب معنا ،يف قوله؟
تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها.. و�أبي نوا�س يف قوله:
�أتت �صور الأ�شياء بيني وبينه؟ وهنا يعرت�ضنا �س�ؤال :هل خطرت للمتنبي �أو لأبي نوا�س هذه الق�ضايا املركبة ببال ،حينما �أر�سل الأول ذلك البيت الفريد من ال�شعر، يف فاحتة ق�صيدة مديح نظمها يف �صباه ،وكان يح�سب �أنه البد من ا�ستهاللها بب�ضعة �أبيات يف الغزل ،جري ًا على عادة ال�شعراء� ،أو حينما زوجي حمام ،من مقطوعة �شعرية �صغرية لعلها �أطلق الآخر بيتيه ْ البقية الباقية من ق�صيدة طويلة نظمها يف النعي على �شعراء الع�رص، يرد �إال وقوفهم باالطالل ،كالنوادب امل�ست�أجرات؟ �أم �أن املتنبي مل ْ 76
الطباق من �أنواع البديع ،كما �أن �أبا نوا�س مل يعتزم غري احلط من �ش�أن الر�سوم الدوار�س وخرق حرمتها يف التقليد ال�شعري ،حمر�ض ًا على ما ذهب �إليه من «التجديد» �أو اخلروج على القدمي؟ ف�أنا �أجيب عن هذا ال�س�ؤال ب�س�ؤال� :أمن ال�رضوري �أن يكون �شيء من ذلك قد خطر لأحدهما �أو لكليهما ببال؟ فرب قافية تتحكم بذهن ال�شاعر العبقري وتغلبه على �أمره ،فبينما هو يزوج لفظة من لفظة ،وك�أن الألفاظ أحدثت من العدم بغتة ،على غري وخري مثال. كائنات حية� ،إذا بدنيا � ْ �رس ال�شعر لعجيب ،لي�س �أعجب منه طريق ًا يف اخلفاء! �أال �إن ّ
3 يقول �صاحب نظام الفنون ،من ف�صل عنوانه «ال�ساكن» يف �أحدث ت�صانيفه «مقدمات على اال�ستاطيقي» ما ترجمته�( :إن النا�س يعجبون مما يف ال�صور اجلميلة من قوة و�سلطان .لكن عجبهم يزول �إذا فطنوا �إىل �أن ال�صور تكون يف جنوة من �إحلاح الذبان وا�شعة ال�شم�س و�رضوب الغزل وال�رضاعة .ال �أعني �أن ال�صور قلي ًال ما توحي ،بل �إنها -على ال�ضد -تنطق مبقت�ضى طبيعتها ،ولي�س تبع ًا لعوامل خارجية .كل تكرم به رج ًال ،هو �أن �صورة هي �صورة جاللة ومهابة .و�أن �أعظم ما ّ ت�صوره زميت ًا ركين ًا ،وبالواقع� ،أن �أتفه حادث ليلفت ر�أ�س ملك من امللوك ،ثم يعجز عن �أن يلفت �صورة من ال�صور.)... لي�س «�إحلاح الذبان» وحده ما يذكرين هنا حكاية القا�ضي يف «كتاب احليوان» .و�أرجح �أنها لي�ست حكاية ،بل �صورة فريدة ر�سمها 77
اجلمال بني احلركة وال�سكون
اجلاحظ ،تامة ال�شيات ،زاهية الألوان ،لتعر�ض يف ركن من �أركان ذلك املتحف احلافل: قا�ض يقال له عبداهلل بن �سوار ،مل ير النا�س (كان لنا بالب�رصة ٍ حاكم ًا قط زميت ًا وال ركين ًا ،وال وقوراً حليم ًا� ،ضبط من نف�سه وملك من حركته ،مثل الذي �ضبط وملك. كان ي�أتي جمل�سه -يف امل�سجد -فيحتبي وال يتكئ ،فاليزال منت�صب ًا ال يتحرك له ع�ضو ،وال يلتفت ،وال يح ّل حبوته ،وال يحل رج ًال على رجل ،وال يعتمد على �أحد �شقيه ،ك�أنه بناء بني �أو �صخرة من�صوبة ..فاحلق يقال� ،إنه مل يقم ،يف طول تلك املدة والوالية ،مرة واحدة� ،إىل الو�ضوء ،وال احتاج �إليه ،وال �رشب ماء وال غريه من ال�رشاب .كذلك كان �ش�أنه يف طوال الأيام وق�صارها ،ويف �صيفها ويف �شتائها .وكان مع ذلك ال يحرك يده وال ي�شري بر�أ�سه .ولي�س �إال �أن يتكلم.)... ال �أعرف �أبلغ داللة وال �ألطف �إ�شارة ،من «لي�س �إال �أن يتكلم» يف تلك ال�صورة اجلاحظية ،يف �صورة ذلك «ال�ساكن» .فهذه العبارة ،مبا ُ�ضمنته من لهجة االعتذار ،هي النقي�صة -احلركة العار�ضة -التي بها يكتمل جمال ال�صورة الفني� ،أو ت�ستويف �رشوط املقارنة بينها وبني ما يف كالم �صاحب نظام الفنون ،من تبيني ملعانيها وتنويه مبحا�سنها. قال اجلاحظ( :فبينما هو � -أي القا�ضي -ذات يوم ،و�أ�صحابه حواليه ويف ال�سماطني بني يديه� ،إذ �سقط على امل�ؤق وعلى ع�ضه وعلى نفاذ خرطومه ،كما رام ال�صرب يف �سقوطه على �أنفه ،من غري �أن يذب ب�إ�صبعه ،فلما طال ذلك عليه من يحرك �أرنبته �أو يغ�ض وجهه �أو ّ 78
الذباب ،و�شغله و�أوجعه و�أحرقه ،وق�صد �إىل مكان ال يحتمل التغافل، �أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأ�سفل ،فلم ينه�ض ،فدعاه ذلك �إىل �أن يوايل بني الأطباق والفتح ،فتنحى عنه رميا �سكن جفنه ،ثم عاد �إىل م�ؤقه ب�أ�شد من مرته الأوىل ،فغم�س خرطومه يف مكان كان قد �أوهاه قبل ذلك ،فكان احتماله وعجزه عن ال�صرب عليه يف الثانية ألح يف فتح العني ويف �أق ّل .فحرك �أجفانه وزاد يف �شدة احلركة ،و� ّ تتابع الفتح والإطباق .فتنحى عنه بقدر ما �سكنت حركته .ثم عاد �إىل مو�ضعه ،فمازال يلح عليه حتى ا�ستفرغ �صربه وبلغ جمهوده ،فلم يجد بداً من �أن يذب عن عينه بيده ،ففعل وعيون القوم �إليه ترمقه، رد يده و�سكنت حركته .ي�سمع وك�أنهم ال يريدونه .فتنحى عنه بقدر ما ّ �إال ما ي�شاء ثم �أجل�أه �إىل �أن ذب عن وجهه بطرف كمه ،ثم �أجل�أه �إىل �أن تابع ذلك )..حتى �سقطت ال�صورة الكرمية من الركن الذي كانت زينة له ،وهي تولول جاهر ًة بالآية احلكيمة« :و�إن ي�سلبهم الذباب �شيئ ًا ال ي�ستنقذوه منه�َ :ضعف الطالب واملطلوب!». يقول �صاحب نظام الفنون( :بال�ساكن وحده يعرب الفن عن القدرة أدل على قوة النف�س من ال�سكينة �إذا ما �آن�سنا فيها الب�رشية .فال �أمارة � ّ عق ًال ،وبال�ضد� ،أن يف احلركة� ،أي ًا كان نوعها� ،إبهام ًا ولب�س ًا ،كاجلواد الأ�صيل يف عدوه -ال تدري �أ�إقدام هو �أم �إحجام ،وغارة �أم هزمية. وال�صور التي ت�ؤخذ على «احلارك» يف حلبة ال�سباق تك�شف لنا عن حيوان ذي ج ّنة ،ولي�س عن ذلك املجلي القدير املرن املهيب ،الذي كنا نتوهمه .وهكذا رجل احلرب يف كره وفره ،تبدو منه مظاهر الفرق والي�أ�س يف وقت مع ًا ،فك�أن يف كل فعل عنيف لوثة جنون .والبطل أ�صم �أذنيه ،و�أغم�ض عينيه ،عن جميع الأ�شياء حوله غري البطل من � ّ 79
اجلمال بني احلركة وال�سكون
مكرتث لهجماتها �أو دعواتها امل�ستمرة .فلي�س يو�صف ب�أنه خائف حذر كالوح�ش يف مراب�ضها ،بل ب�أنه ال يب�رص وال ي�سمع �إال ما ي�شاء، حني ي�شاء .ولأم ٍر ما كان الوثن �أول مناذج البطولة ،ف�إن الوثن ال يناله تغيري ،وال يطر�أ عليه ف�ساد �أبداً.).. وقد اتفق للجاحظ ،ذات يوم ،بعد حكاية القا�ضي الب�رصي ،هذا البطل الذي كان ،لوال �إحلاح الذبان� ،أن يكون �صنم ًا -ك�أنه بناء ُبني �أو �صخرة من�صوبة � -أن يجمع يف �شخ�صه املهول ،بني لوثة احليوان الأ�صيل يف عدوه ،وبني رعب املقاتل القانط يف كره وفره ،وكل ذلك بف�ضل الذبان �أي�ض ًا ،قال( :ف�أما الذي �أ�صابني �أنا من الذبان ،ف�أين خرجت �أم�شي من عند ابن املبارك �أريد دير الربيع .ومل اقدر على دابة، فمررت يف ع�شب ونبات ملتف كثري الذبان .ف�سقط منه ذباب على �أنفي، فطردته ،فلم �أقدر .فتحول �إىل عيني ،فزدت يف حتريك يدي ،فتنحى بقدر �شدة حركتي - .ولذبان الكلأ والغيا�ض والريا�ض وقع لي�س يل ،فعدت عليه .ثم عاد ب�أ�شد من ذلك ،فا�ستعملت لغريها - .ثم عاد �إ ّ أحث ال�سري� ،أومل ب�رسعتي انقطاعه كمي ،فذببت به عن وجهي ..و�أنا � ّ عني .فلما عاد نزعت طيل�ساين من عنقي ،فذببت به عني ،بدل كمي. فلما مل �أجد له حيلة ،ا�ستعملت العدو ،فعدوت منه �شوط ًا مل �أتكلف مثله منذ كنت �صبي ًا ..فتلقاين الأندل�سي ،فقال يل :ما لك يا �أبا عثمان؟ علي فيه هل من حادثة؟ قلت :نعم! �أريد �أن �أخرج من مو�ضع للذبان ّ �سلطان.).. لي�س من �ش�أننا حتليل ما يف هذه ال�صور اجلاحظية من عنا�رص ال�سخرية .بح�سبي �أن �أ�شري الآن �إىل �أن ال�ضحك � -أو ما يغري به -هو ألد خ�صوم اجلمال وال�شعور به .لقد ظلت �صورة القا�ضي ابن �سوار � ّ 80
رائعة املحا�سن يف �سكينتها العاقلة ،حتى جاء الذباب يعبث بها، فيم�سخها ب�رشاً �سوي ًا ،ثم ينزلها عن رفعة تلك امل�صطبة ،يف �ضجة �سقوط الأ�صنام ،تتناثر حجارتها �شظايا ،و َتتطاير �أرواحها �شعاع ًا.
4 يقول �صاحب نظام الفنون( :كل يعلم ما يف ت�صوير الأفعال من �صعوبة ،واحلق �أنه لي�س �إال بالرق�ص ت�صوير لها ،ثم ال نلبث �أن نتبني يف هذا الفن �أي�ض ًا ،التما�س ًا لل�سكون يف احلركة ،هو نامو�س الرق�ص .كذلك يف التمثيل امل�رسحيُ ،يالحظ �أن ما من حركة ي�أتيها كبار املمثلني ،حتى الهزليني منهم� ،إال تكون انتقا ًال من �سكون �إىل �سكون.).. ويقول يف مو�ضع �آخر�( :إن مو�ضوع فن النق�ش ت�صوير ال�سكنات. فبد ًال من �أن ي�سبغ النقا�ش على قطع الرخامَ ،م�شاب َه من حركات الآدميني ،ال يكون من همه �إال �أن يرجع ب�صورهم �إىل �سكينة احلجارة. وقد �أ�صبح يف حكم املقرر لدينا �أن كل حركة �أو هياج ينبغي �أن ُي�ضبط وميلك ،بحيث يجد ال�ساكن يف ذاته ومن ذاته مقنع ًا وغناء. أخ�س قالب �أن ميثل لأنظارنا رج ًال ي�شتد ولعمري �أن يف و�سع � ّ يجد يف �شق الأر�ض ،ولكن مهما ُيفرغ فيه من �صدق يف العدو� ،أو ّ التمثيل ،فالإن�سان بلحمه ودمه يظل �أ�صلح .لهذا و�أوفى باملراد .وبعد، فمن الذي يزعم �أن النا�س يربزون يف �أفعالهم؟ ف�أنا �أذهب ،بال�ضد، أنا�سي �إىل �أنهم يختبئون فيها .على �أنه يهولنا دائم ًا يف هذه ال ّ 81
اجلمال بني احلركة وال�سكون
من جف�صني ،الذين يقاتلون �أو يرك�ضون �أو يتوعدون ،ما يبدو يف هيئاتهم من ِ�سمة جنون .فكل �شيء يف تهاويل �أولئك املهتاجني �أو امل�ضطربني ظاهر خارجي ،ولي�س هو ب�شيء ..لهذا يكون النوم جمي ًال، و�أجمل منه الطم�أنينة اليقظى ،وتكون تلك ال ُلمع من ال�سكينة التي ال تكاد تلمحها العني ،غاية ما يجهد فن النق�ش يف تثبيته ..وال غرو� ،أن الأ�صنام معبودة ،منذ كانت الأ�صنام.).. ويقول( :من عادة �أرباب الفن� ،إذا هم هموا ب�إخراج �صورة �شخ�ص ما� ،أن ي�صنعوا �أو ًال ،طائفة من الر�سوم متثله يف خمتلف �أو�ضاعه وحاالته ،فيكون كل ر�سم منها متمم ًا للآخر ،م�صحح ًا �إياه ،ثم تربز ال�صورة ،دفعة ،وهي ناطقة مبينة عما توحي به تلك الر�سوم جميع ًا يف تعاقبها ،وزيادة. هكذا يظفر امل�صور الفنان مبا يروم �إثباته من طم�أنينة الوجه �أو توازنه� ..إن ال�صورة ،ك�سائر الأعمال الفنية ،لي�س ترجتل ارجتا ًال.).. ويح�سن هنا �أن ن�ست�شهد بكلمة بليغة للفيل�سوف هيجل ،من �أئمة اال�ستاطيقي الرواد يف القرن املا�ضي ،قالها مقارن ًا بني التمثال الذي لي�س له عينان ينظر بهما ،فك�أن احلياة مفا�ضة على جوارحه كافة ،يبني عنها �أق ّل جزء منه -وكذلك الفكر -وبني ال�صورة التي يعنى فيها امل�صور ب�أن يجعل الروح جمتمع ًا منح�رصاً يف احلدث وما يليها ،حتى ليخيل �إلينا �أنه ثمة منف�صل م�ستق ّل عن �سائر الوجه ،بل َه ِ ال�شخ�ص ..يقول هيجل�( :إن التمثال الأعمى ينظر بجميع ج�سده) - ٍ جارحة وج ٌه مبر�صا ِد - فكل كما قال �أي�ض ًا ال�شاعر ب�شار ،ذلك الأعمى الآخر الذي مل يكن متثا ًال، ت�شهيه ،مع تلك العاهة فيه ،هو ما فتق ذهنه عن و�أكرب الظن �أن �شدة ّ 82
هذه ال�صورة ب�شتى وجوهها. ل�سنا نزعم الآن �أن املتنبي� ،إذا �أراد متثيل غادته الغزلية التي حد له» قد �صنع دمية عمياء «�سكن احل�سن يف حركاتها �سكون ًا ال ّ تنظر بكل جوارحها ،يف عامل الدمى ..كال ،فالأرجح �أنه قد ر�سم �صورة ك�سائر ال�صور الفنية ،لها عينان تب�رص بهما ،عدا ما نفث فيهما من �سحر عجيب يقلب «االحلاظ �سيوف ًا حمراء� ،أبداً ،من دم املحبني» �إغراق ًا يف التلوين .ولعل اليازجي ،ب�سائق فطرته احل�صيفة ،فطن يرد �إىل هذا املعنى ،معنى «ال�صورة ال التمثال» ،حينما حاول �أن ّ «احلركات» يف البيت الذي نحن ب�صدده� ،إىل «االحلاظ» يف البيت ال�سابق ،لأن جماع احل�سن عنده هو يف احلدق وهاالتها� ،سواء كانت جنالء �سليمة �أو نواع�س �سقيمة ،فتلك منطقة اجلمال ،لكن اليازجي مل يلبث �أن �أخذ يف حديث عن «حركة االحلاظ» غام�ض خمتلط� ،أ�صبحنا معه ال ندري� ،أنحن جتاه �إحدى ال�صور املجونية التي تن�صب للإعالن يف واجهات املخازن ،دائرة عيونها ،متحركة ذقونها� ،أم �أن مع�شوقة �أبي الطيب قفزت اليوم من �إطارها ،ب�إغراء من هذا ال�شيخ اجلليل، و�سارت مهرولة يف الأزقة ،غامزة ،ذات اليمني وذات ال�شمال؟ .نعوذ بال�شعر من ال�شارحني. يعد مغامرة ولقد بدرت لنا ،من خالل هذا الف�صل -و�أخلق به �أن ّ بيانية ،ال �أن يح�رش يف �صف البحوث الأدبية �أو الفنية -بادر ُة خاط ٍر �رسيع هو من الغرابة مبكان� ،سوف نر�سله على عواهنه ،ول�سنا ندعي �أنه من الآراء املحكمة و�ضع ًا ،القريبة م�أخذاً ،التي ال ي�شوبها لب�س، وال يعرتيها وهن .يقول ال�شاعر بودلري ،من ق�صيدة بل�سان اجلمال، ما ترجمته: 83
اجلمال بني احلركة وال�سكون
�أنا �أبغ�ض احلركة التي تنقل اخلطوط، فلن تراين �أبداً �ضاحكاً �أو باكياً.. وهو مل يغفل �أي�ض ًا يف بع�ض ت�شابيهه ال�شعرية ،عن «ا�ستعارة» احلجارة لتمثيل اجلمال املطلق ،على نحو ما نقلناه من كالم �صاحب نظام الفنون ،فك�أنه ر�أي متواتر بلغ حد الإجماع ،ولكن ،هل ي�ؤذن يل «على املا�شي» �أن �أ�ؤثر ذلك «ال�صدر» الع�ضال من نظم املتنبي، على هذين البيتني ال�صحيحني من �شعر بودلري؟ ال تع�صب ًا لأبي الطيب �آثرت ال�شطر املفرد على الق�صيدة الكاملة ،رغم وحدة �أ�سلوبها معنى ومبنى ،وو�ضوح طريقتها نهج ًا وغاية .بيد �أن ل�شعر املتنبي ،يف �إيجاز لفظه ودقة تخييله ،وحي ًا طويل املدى ،بعيد ال�صدى ،ال نكاد جند مثله يف �أبيات ال�شعر الفرن�سي ،التي ير�ضيها كل الر�ضا� ،أن ت�رشح نف�سها بنف�سها ،لأن الفن يف ع�رصنا بلغ �أ�شده ،بل جاوز حده ،منذ طفق ال�شعر «يتفل�سف» يف مو�ضوع ذاته ،كما نفعل نحن الآن ،ول�سنا ندري �أ�رشاً �أم خرياً يكون ..ع�سى �أن يكون االثنان مع ًا ،على ال�سواء. �أما تلك اخلاطرة العجلى التى قلنا �إنها ترتاءى مبثل ملح الب�رص، من خالل هذا الف�صل ،وقد حاولنا �أن نتبينها يف �شيء من الو�ضوح واال�ستقرار ،م�ست�شهدين ب�أبيات ال�شاعر بودلري ،على ل�سان اجلمال الذي جهر ببغ�ضه احلركة ومل يفرق بني ال�ضحك والبكاء ،لأنها تنقل اخلطوط �أو تبدل ق�سمات الوجه املليح فهي غلبة هذه ال�صورة «ال�ساكنة يف �صدودها و�إعرا�ضها» على الغزل ال�شعري عامة ،والغزل ي�ضن بغادته التقليدية �أو موالته� ،أن ت�أتي العربي خا�صة ،ك�أن ال�شعر ّ 84
على حما�سنها املثلى ،مظاهر ال�ضحك والبكاء ،واحلب والقلى ،فهو يناديها من �أغوار �سليقته �أو «الوعيه» ب�صوت �أبي نوا�س:
�صوروها يف املحاريب! يا «دمي ًة» ّ وال غرو� ،أن الأ�صنام معبودة ،منذ كانت الأ�صنام. يقول احلكيم �آلن ،يف �رشح كلمته عن «اجلمال وال�سكون» ،التي على هام�شها كتب هذا املبحث� ،إنه �أراد الإ�شارة �إىلما ُيعجب وي�أ�رس خلو ذهن من خواطر اللب ،يف الوجه املليح متى كان �صاحبه يف ّ الفتنة والدالل ،ير�سل النف�س على �سجيتها ،وال يعلم �أن �أحداً من خلق اهلل يراقبه �أو ينظر �إليه( .فثمة وجوه تعرب عن الده�شة ،و�أخرى عن املكر واحليلة ،وغريها عن الغرور �أو ال�صلف �أو ال�شك ،وهلم جرا ،حتى يف حال النوم .لكن اجلمال الذي نعنيه هنا ،هو يف �صورة ال تعرب، بحد ذاتها ،عن �شيء مطلق ًا )..ك�أن ما قد يعرب الوجه عنه� ،أي ًا كان لج من نوعه ،ي�رصفنا عن الت�أمل يف حما�سنه ،كي يقذف بنا يف ّ اال�ستطالع ال يدرك غوره ،وي�رضب مث ًال :الغ�ضون يف الوجه� ،سواء �أكانت من اثر الهرم �أو املر�ض طبيعية باقية� ،أم من اثر الغ�ضب �أو هم وجزع و�إ�شفاق، التجني ك�سبية زائلة ،فهي تبعث يف نفو�سنا �شعور ّ ال �شعور الطم�أنينة واملتعة اخلال�صة ،الذي يبعثه دائم ًا م�شهد الأ�شكال �أو ال�صور اجلميلة. ومن غرائب االتفاق ،بعد �أن ر�أينا اليازجي «يح�رص» حركات احل�سناء التي �شاء القدر �أن يتغزل بها �أبو الطيب ،يف نطاق االحلاظ، ك�أنها ال تفت�أ تغمز بطرفها من ح�رض ومن غاب� ،أن يروي لنا �صاحب
85
اجلمال بني احلركة وال�سكون
نظام الفنون ،يف باب «الوجوه» من كتابه «مقدمات على اال�ستاطيقي» خرب فتاة ،يف �إحدى ق�ص�ص �ستندال «كانت عيناها حتدثان جميع الأ�شياء والأ�شخا�ص حولها ،حديث ًا ال ينتهي ».ثم يقول( :قابلوا بني هذه احلمقاء وبني كالليا ذات احل�سن الآلهي ،التي كان وجهها اجلميل ال يعرب ،لأول وهلة� ،إال عن عدم االكرتاث �أو عن �إعرا�ض غري متكلف. بيد �أن �أنف�س �صورة امر�أة يف متحفنا الأدبي هي ،وال مراء� ،صورة ال�صبية البارعة احل�سن فرونيكا ،يف ق�صة «خوري القرية» لبلزاك� ،أتى اجلدري على مالمح وجهها فك�أنه غطى على حما�سنه فقط ،لأنها ما ّ لبثت �أن ا�ستعادت جمالها وبهاءها ،يقول احلب ال�صادق الذي �شغف، على حني غرة ،ف�ؤادها.).
5 كنت ذات ليلة ،ور�أ�سي بني يدي� ،أتدبر «نظام هذه الفنون اجلميلة، لأنظر �أين منازل ال�شعر منه ،كما ير�صد الفلكي النجوم ،تارة يقلب وجهه يف ال�سماء ،وطوراً يقلب �أوراقه ال�صفراء .فراعني �أن لي�س هنالك نظام واحد ال يتبدل ،كالنظام ال�شم�سي مث ًال ،بل �أنظمة متعددة بتعدد الفال�سفة ذوي الب�رص باال�ستاطيقي ،ذهب كل مذهب ًا يف ن�سق الفنون وتعيني مراتبها ،ثم هو يطمع ب�أن يراها ،وفق هواه ت�سري ،وعلى حموره تدور ..لكن فرخ روعي ،مذ بدا يل �أن االختالف مهما يكن عظيم ًا ،لن ي�ؤدي �إىل اختالل مهما يكن حقرياً ،يف ذلك الوجود العجيب القائم على تخوم مبهمة من دنيانا ،والذي ي�سمونه :عامل الفن .لتكن غلطة 86
ح�سابية ُيح�رش لأجلها الفلكيون �أحياء و�أمواتا ،فيجمعون بعد ل ٍأي عليها ،ك�أنهم ما اجتمعوا �إال لهذا ،فماذا يكون؟ (ال ال�شم�س ينبغي لها �سابق النهار ،وكل يف فلك ي�سبحون) ،فالنظام �أن تدرك القمر ،وال الليل ُ يف طبيعة الأ�شياء ق�صارانا �أن نحد�س به ونتوهمه� ،أو بالأكرث� ،أن نتدبره ونتفهمه. مل يك يف النية� ،إذ �أخذنا يف هذا البحث� ،أن نعر�ض ب�إجمال �أو تف�صيل ،ملختلف الأنظمة التي و�ضعها الفال�سفة وعلماء اال�ستاطيقي، يف ت�صنيف الفنون اجلميلة وتعيني مراتبها من اري�سطو املعلم الأول �إىل كانط وهيجل و�شوبنهور ،حتى باك و�آلن وغريهم من �أ�صحاب النحل واملذاهب ،فهو �رشح يطول ،لي�س هنا مو�ضعه .و�إذا كان مما ال بد عنه ذكر طرف من �آراء القوم يف ما بني ال�شعر و�سائر الفنون من ّ �صالت قريبة �أو بعيدة ،رثة �أو وثيقة ،فحبذا لو كان يكفي ،لتوفية البحث حقه� ،أن نقول« :هذه اللوحة ناطقة ب�شعر موزون ،وتلك الق�صيدة �صورة تامة التلوين ،وهذا الرق�ص مو�شح �أندل�سي ،وذلك اللحن كاتدرائية ت�سبح يف الف�ضاء!» ،ففي هذه العبارات و�أمثالها �إ�شارة �رصيحة �إىل ن�سبة غري منحولة ،بني تلك الفنون ،لكن هذا دون الكفاية ،ولقد كان ال�شاعر ماالرمه يرى �أن «الرق�ص �شعر حي» وحاول يوم ًا �أن يثبت بالأدلة العقلية والنقلية �أن راق�صة على م�رسح هي «كناية �شعرية» .ثم زعم بع�ضهم �أن لفكتور هوجو وبول فالريي ق�صائد ،م�شيدة كالربوج واملعابد .فلو ا�شتغل �أي�ض ًا �أحد قوادنا املتقاعدين بالنقد ال�شعري ،مل يكن عجيب ًا �أن يهجم علينا بهذا الر�أي اللجب ،وهو �أن ق�صائد املتنبي يف مدح �سيف الدولة «جيو�ش على �أكمل تعبئة ،ومطلع الق�صيدة منها كطليعة اجلي�ش». ال خالف يف �أن ال�شعر ،عند الإغريق القدماء ،وغريهم من �سالف 87
اجلمال بني احلركة وال�سكون
الأمم ،مل ينف�صل عن الرق�ص واملو�سيقى والغناء ،و�أن الق�صيدة كانت تلحن وتن�شد ويرق�ص عليها ،يف وقت مع ًا. ومن الثابت �أن تلك الفنون الأربعة متفرعة عن �أ�صل واحد من النغم �أو ال�رضب �أو التوقيع .فاملو�سيقى هي علم االعداد ،واالعداد �أب�سط الألفاظ ،والألفاظ مادة الكالم ،ال�سيما الكالم املنظوم .و�أ�شار ابن خلدون �إىل هذه القربى بني فنون ال�شعر والرق�ص واملو�سيقى والغناء، يف من�شئها وتطورها ،قال( :وهذا التنا�سب يف الأجزاء ويف املتحرك وال�ساكن من احلروف � -أي العرو�ض -قطرة من بحر من تنا�سب الأ�صوات ،كما هو معروف يف كتب املو�سيقى ،ثم تفنن احلداة منهم يف فرجعوا الأ�صوات وترمنوا. حداء �إبلهم ،والفتيان يف ق�ضاء خلواتهمّ ، وكانوا ي�سمون الرتمن �إذا كان بال�شعر غناء ،و�إذا كان بالتهليل �أو نوع القراءة تعبرياً ..وكان �أكرث ما يكون منهم يف اخلفيف -من الأوزان - الذي ُيرق�ص عليه ويمُ �شى بالدف واملزمار ،فيطرب وي�ستخف احللوم.. وكانوا ي�سمونه الهزج ،وهذا الب�سيط من التالحني هو من �أوائلها). وال ينبغي �أن نغلو يف ادعاء هذه الن�سبة �أو القربى بني الفنون اجلميلة ،وال �أن نكرث من ترداد تلك اجلمل الراق�صة امللونة امللحنة، �إىل حد الإ�رساف ،فقد روي �أن بع�ضهم �س�أل امل�صور ديجا�س ،وهو يحاوره يف «تف�سري» �صورة من �صوره ،يوم عر�ضها للناظرين ،كما حاولنا نحن «تف�سري» بيت املتنبي ،قال: �أال جتد يف هذه اللوحة ،يا �سيدي� ،أثراً من ال�شاعر مرتلنك؟ف�أجابه امل�صور ،على البديهة: �أن هذا الأزرق ،يا �سيدي ،خرج من الأنبوب ،ال من الدواة.فمن �أين طلعت علينا تلك احل�سناء التي تغزل بها �أبو الطيب� ،إن مل يكن من دواة ال�شاعر؟ 88
خامتة يل �صديق من مهرة ال�صيادلة .و�آية مهارته �أنه ،يف هذا الع�رص الذي كاد ال يعرف غري الأدوية اجلاهزة ،مازال مولع ًا برتكيب حد اين املفردات ومزج ال�سوائل وعجن العقاقري ،ومولع ًا بها �إىل ّ كثرياً ما �سمعته ينعى على �أبناء عمه ،الأطباء ،عدولهم عن الو�صفات الطبية التي تكلفهم �شيئ ًا من العناء وقلي ًال من الوقت� ،إىل «املاركات» امل�سجلةْ � :إن هي �إال ب�ضعة �أحرف طل�سمية ،ي�سطرونها ب�صورة ماكنية، وك�أنها تعاويذ �ألهموها �إلهام ًا -فيها ال�شفاء ب�إذن اهلل -ف�إذا بها تنقلب ،ب�رضب من ال�سحر� ،أ�صناف ًا من القناين �أو �أمناط ًا من العلب، مما تخرجه امل�صانع يف ديار الغرب ،على مثال الأم�شاط والأحذية. نحن يف زمن العجلة ،فهل يالم �أطبا�ؤنا �إذا �سايروا زمانهم ،و�إن يكن يف هذا بع�ض الكلفة على مر�ضاهم؟ وما يدريك ،لع ّل ه�ؤالء �أحق باللوم من �أولئك� ،أو فقل يل -عافاك اهلل -من قال لذلك املري�ض �أن 89
خامتة
«مير�ض» يف هذا الع�رص ،ع�رص ال�رسعة والأدوية اجلاهزة؟ وك�أين بهذا ال�صيديل الفا�ضل� ،ضاق ذرع ًا ببني عمه الأطباء، وحرموا عليه تركيب مفرداته الذين م�سخوه تاجر علب وزجاجاتّ ، ومزج �سوائله وعجن عقاقريه ،فعكف على مزج الآراء يف خمتلف املوا�ضيع الأدبية وال�سيا�سية واالقت�صادية ،حتى �أ�صبح يريني من «تراكيبه» العجيبة �أ�شكا ًال و�ألوان ًا .بيد �أنه ،واحلق يقال ،ما ادعى قط القدرة ب�سوائله ومعاجينه ،على �شفاء الأدب من جموده �أو املجتمع من �أدوائه ،قال يل ذات يوم ،وال �أذكر لأية منا�سبة: �أنا �أعلم من الفوازيه� ..أجل� ،أنا ال�صيديل خريج اجلامعةالأمريكية منذ ع�رشين عام ًا ونيف� ،أعلم من �أبي الكيمياء احلديثة، �صاحب االكت�شافات واالخرتاعات ،ووا�ضع الد�ساتري والنظريات. وبعد �أن �سكت برهة قال ،وك�أنه لتوا�ضعه يهم بال�سجود: لكن ل�ست الفوازيه!لقد عنى �صاحبي بكلمته هذه �أن علم الكيمياء ،ك�سائر املعارف الإن�سانية ،تطور نظري ًا وعملي ًا منذ ذلك العهد ،فثمة حقائق يعرفها �صيديل اليوم وكان يجهلها الفوازيه� ،أو نظريات �آمن بها �أبو الكيمياء احلديثة ،فجرحتها اختبارات �أحدث ،وهو ر�أي ال جدال فيه. وقد عنى �صاحبنا �أمراً �آخر �أي�ض ًا ،لي�س دونه الأمر الأول �ش�أن ًا ،بل لعله املق�صود بالذات ،هو �أن الفرق بينه وبني الفوازيه ال يزال ولن يزول ،رغم املعرفة الراهنة� :أنه «�صيديل» لي�س �إال ،والفوازيه «نابغة» وكفى. كان هذا الر�أي يرتدد يف خاطري بعد ب�ضعة �أيام ،يف جمل�س �ضمني وبع�ض من ال يزالون يفكرون بغري الرغيف ،يف هذا البلد، 90
حل�سن طالعه ول�سوء طالعهم ،و�أنه ل�صرب حممود. فتناول احلديث -بالبداهة -الأدب والأدباء ،وال�شعر وال�شعراء، الأموات منهم والأحياء .فقال بع�ضهم وهو من م�شيخة املحامني، بلهجة �أ�سف بليغ� ،إنه ال يكاد يجد فيما تخرجه املطابع ،هذه الأيام، �شعراً �أو نرثاً �أو بني بني (يعني :ال�شعر املنثور) ،ما ُيقر�أ� ،أي ما يجدر به �أن يقر�أه هو .و�أخذ يف مقارنة �أدب جيلنا احلا�رض ب�أدب اجليل الغابر� ،آتي ًا على و�صف حلقات ال�سلف ال�صالح ،تالي ًا علين ًا ما تي�رس من منثورهم ،من�شداً ما ح�رضه من منظومهم ،حتى خيل �إلينا ل�صدق لهجته و�شدة حنينه� ،أنه راجع بنا القهقرى ،ال حمالة. فذكرت ذلك «املعجون» الذي �أحتفني به �صاحبي ال�صيديل �أخرياً، من تراكيبه العجيبة ،وقلت لنف�سي :هذا وقته� .أعالج به املحامي والتفت نحوه: ال�شيخ ،فيكون بل�سم ًا جلراحات حنينه الدامي، ُ نحن� ،أيها الأ�ستاذ ،يف هذا املجل�س ع�رشة ،كل واحد منا �أعلمبالأدب من �أي الأئمة الع�رشة الذين عرفتهم يف �أيام �صباك احللوة، عليهم وعليها رحمة اهلل ،فرويت لنا نوادرهم ،وقر�أت علينا نبذاً من ف�صولهم ،و�أن�شدتنا مقاطع من �شعرهم. قد يكون بيننا من هم �أفقه بالعربية من بع�ضهم ،وال �شك يف �أن �أغلبنا �أو�سع اطالع ًا على الأدب العربي والآداب الأجنبية منهم جميع ًا. نحن �أ�صح فهم ًا حلقيقة الأدب ومقايي�سه. والثقافة العامة ،هل ن�سيتها يا �أ�ستاذ؟ عندنا من امل�شاركات يف خمتلف العلوم والفنون ما مل ي�ؤتوا جزءاً منه (�أق ّل جزيء بع�ض ُه أجمع) كما قال املتنبي! والنظريات اجلديدة يف الفن والأدب؟ الر� ُأي � ُ وفالريي �صاحب ال�شعر ال�صايف؟ ور�سل الالوعي ،ودعاة التكعيب؟ 91
خامتة
وذلك البيان الذي يزعم �أنه �سوف ي�صك قفا النحو �صك ًا ،ويدق عنق ال�رصف دق ًا ،ثم يعوذ باملو�سيقي ،يف خليط من الأنواع ،ي�صور للنا�س بدء اخلليقة �أو قيام ال�ساعة؟ �إذا كان هذا كله ال يكفيك ،فماذا تريد يا �أ�ستاذ؟ ماذا تريد ،باهلل عليك؟ فحملق الأ�ستاذ ،وهو غري م�صدق �أذنيه ،حتى خ�شيت على نف�سي، قلت: علي ب�أن املتنبي ،مث ًال ،مل يعرف �صنف ًا ولكن مه ًال ،لعلك ترد ّواحداً من الب�ضاعة التي عر�ضتها ،ك�أننا يف دكان عطار ،فهل عاقه ذلك عن �أن يكون املتنبي؟ ف�أنا �أجيب� :أجل� ،أنا �أفقه من املتنبي ،لكن ل�ست املتنبي! و�أق�سم ،ما فارقت �صديقي املحامي ال�شيخ� ،إال وقد انب�سطت �أ�ساريره .ثم ودعني وم�شى يف خيالء الظافر ،ك�أنه «�أنقذ» املتنبي من هذه «املدر�سة احلديثة» التي يراد �إدخاله فيها ،بعد �شيخوخة �ألف عام.
92
93
عمر فاخوري lامليالد عام 1895يف حملة الب�سطاء ببريوت ،لأب من الطبقة امل�ستورة من �صغار التجار. lتلقى مبادئ اللغة يف «ال ُكتاب» ثم يف مدر�سة عي�سى القا�سم ،قبل �أن يلتحق بالكلية العثمانية على �أيدي �أ�ساتذة بينهم الع ّالمة م�صطفى الق�صار والأ�ستاذ يو�سف حرفو�ش. الغالييني ،والدكتور ب�شري ّ بالكلية الي�سوعية لدرا�سة احلقوق ،لكن lيف الثامنة ع�رشة التحق ّ ن�شوب احلرب العاملية الأوىل ت�سبب يف انقطاعه عن التعليم. lان�ضم �إىل حركة الن�ضال الوطني ،ع�ضواً يف (حزب اال�ستقالل) و(جمعية العربية الفتاة) ال�رسية ،و�ألف يف هذه الفرتة كتابه الأول (كيف ينه�ض العرب) الذي كاد يو�صله �إىل حبل امل�شنقة يف عهد الديوان العريف الرتكي. lدعاه امللك في�صل الأول (1883ـ )1933لتحرير جريدة (العا�صمة) يف دم�شق ،لكنها �رسعان ما وقعت حتت االحتالل الفرن�سي على �سورية عام ،1920فغادر دم�شق �إىل فرن�سا لدرا�سة احلقوق والآداب والعلوم ال�سيا�سية يف جامعة ال�سوربون ،فمكث ثالث �سنوات. lيف العام 1923عاد �إىل بريوت ،وعمل يف حقل الأدب وال�سيا�سة، ثم دعي �إىل دم�شق لتحرير جريدة (املفيد) ل�صاحبيها يو�سف وجنيب حيدر ،و(امليزان) لأحمد �شاكر الكرمي (1894ـ ،)1927وملا توقفت اجلريدتان ب�سبب مناه�ضتهما لال�ستعمار الفرن�سي ،عاد �إىل بريوت، وا�ست�أنف ن�رش مقاالته يف جريدة (احلقيقة) كما �أ�سهم يف ت�أ�سي�س جملة (الك�شاف) ،وترجم لها كتاب غاندي لرومان روالن ،ومار�س املحاماة،
94
ويف عام 1927انتخب ع�ضواً يف املجمع العلمي العربي بدم�شق. lعندما عجزت ال�صحافة عن �إعا�شته ا�ضطر �إىل الوظيفة الر�سمية و�أم�ضى ال�سنوات الأخرية من حياته موظف ًا بني الدوائر العقارية والإذاعة اللبنانية. lيف عام 1940تعرف �إىل احلزب ال�شيوعي ،فاعتنق مبادئه الي�سارية ،وان�ضم �إىل ع�صبة مكافحة النازية والفا�شية ،كما انتخبته جمعية �أ�صدقاء االحتاد ال�سوفياتي رئي�س ًا لها. lيف عام � 1943أقدم على خو�ض معركة االنتخابات النيابية م�ستق ًال فلم يوفق. lيف عام 1946رحل بعد حياة �صاخبة بالن�شاط ال�سيا�سي والكتابة و�سنوات من املر�ض واحلاجة.
كتبه: -1كيف ينه�ض العرب. � -2آراء غربية يف م�سائل �رشقية. � -3آراء �أناتول فران�س. -4غاندي لرومان روالن. -5الباب املر�صود. -6الف�صول الأربعة. -7ال هوادة. � -8أديب يف ال�سوق. -9احلقيقة اللبنانية. -10االحتاد ال�سوفياتي حجر الزاوية.
95