الفصول الأربعة عمر فاخوري كتاب الدوحة

Page 1


‫عمر فاخوري‬

‫الفصول األربعة‬


‫‪4‬‬

‫عمر فاخوري‬

‫الفصول األربعة‬ ‫النا�رش‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬ ‫�إخراج وتنفيذ ‪ :‬الق�سم الفني ‪ -‬جملة الدوحة‬ ‫لوحة الغالف ‪ :‬تف�صيل من خوان مريو ‪� -‬إ�سبانيا‬ ‫ن�رشت الطبعة الأوىل من هذا الكتاب يف‬ ‫«من�شورات دار املك�شوف ‪ -‬بريوت ‪»1941‬‬




‫عمر فاخوري‬

‫الفصول األربعة‬



‫فهرس الكتاب‬

‫تقدمي‬

‫‪9‬‬

‫مقدمة‬

‫‪15‬‬

‫دعــاء‬

‫‪19‬‬

‫الأول‪ :‬يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫‪21‬‬

‫الثاين‪� :‬أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫‪41‬‬

‫الثالث‪ :‬عود �إىل ال�شعر‬

‫‪55‬‬

‫الرابع‪ :‬اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫‪67‬‬

‫خامتة‬

‫‪89‬‬



‫ابن الربيع العربي الأول‬ ‫«الف�صول الأربعة» عنوان الكون�شريتو العذب للإيطايل �أنطونيو‬ ‫فيفالدي (‪ 4‬مار�س ‪1678‬ـ ‪ 28‬يوليو ‪ )1741‬ال ميكن �إال �أن يكون قد‬ ‫عرب ذهن عمر فاخوري عندما عنون كتابه بـ «الف�صول الأربعة»‪.‬‬ ‫�صلة القربى وا�ضحة بني ف�صول الكتاب وبني العمل املو�سيقي‬ ‫العذب‪ ،‬الذي رمبا يكون الأعذب والأكرث خفة بني �أعمال عباقرة النه�ضة‬ ‫املو�سيقية الأوروبية‪.‬‬ ‫و�سواء كانت لف�صول فاخوري الأربعة عالقة بف�صول ال�سنة‪ ،‬فامل�ؤلف‬ ‫نف�سه واحد من �أبناء الربيع العربي من �أدباء ومفكرين وفنانني عرب‬ ‫�رشفوا الدنيا مبولدهم يف القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬ودخلوا �إىل القرن الع�رشين‬ ‫كهو ًال وفتيان ًا حاملني �شعلة نه�ضة عربية مل ي�سمح الواقع العربي‬ ‫والإقليمي والدويل با�ستمرارها‪.‬‬ ‫مفكرون و�أدباء من �أمثال الكواكبي‪ ،‬حممد عبده‪ ،‬فاخوري‪ ،‬الطاهر‬ ‫احلداد‪ ،‬قا�سم �أمني‪ ،‬جميل �صدقي الزهاوي‪ ،‬الر�صايف‪ ،‬طه ح�سني‪ ،‬علي‬ ‫وم�صطفى عبدالرازق‪ ،‬امل ّثال حممود خمتار والر�سام حممود �سعيد‪،‬‬ ‫‪9‬‬


‫تقدمي‬

‫وقائمة كبرية �شكلت الربيع العربي الأول‪.‬‬ ‫وقد �آلت جملة «الدوحة» على نف�سها �أن تقدم �أعالم الربيع الأول الذين‬ ‫ي�صنعون بب�سالة تامة مالمح ربيع عربي جديد‪ ،‬يتعرث ويلقى مقاومة‬ ‫�رش�سة من الأنظمة املتداعية وامل�ستفيدين منها‪ ،‬لكنه �سينت�رص يف‬ ‫النهاية‪ .‬هكذا يقول املنطق‪ ،‬وهذا هو ما �أثبته عزم ال�شباب ال�صامد يف‬ ‫�ساحات احلرية العربية‪.‬‬ ‫ي�شرتك عمر فاخوري (‪ 1895‬ـ ‪ )1946‬مع جمايليه يف االنفتاح‬ ‫على جتارب الأمم الأخرى‪ ،‬ويف الدعوة �إىل ا�ستلهام �أ�سباب النه�ضة‬ ‫من الثقافات املجاورة من دون �إح�سا�س بالنق�ص يف مواجهة تلك‬ ‫احل�ضارات‪ ،‬ذلك لأن الأيام دول و�رصح احل�ضارة الإن�ساين مل تتعهده‬ ‫ثقافة واحدة‪ ،‬ولكن كانت لكل ثقافة لبنتها‪ ،‬ولكل �أمة رايتها التي قادت‬ ‫بها الإن�سانية حين ًا من الدهر ثم �سلمتها �إىل غريها‪.‬‬ ‫ي�شرتك فاخوري كذلك مع جمايليه من �أبناء الربيع العربي الأول‬ ‫يف ترابطهم املده�ش وتوا�صلهم الفكري على الرغم من �صعوبة و�سائل‬ ‫االت�صال يف ذلك الوقت‪ ،‬كما يتفقون يف قدرتهم على االختالف واالحرتام‬ ‫والقبول املتبادل‪ ،‬وعلى ما يبدو من فروق فكرية بني الليربايل طه ح�سني‬ ‫واال�شرتاكي عمر فاخوري‪ ،‬ها هو عميد الأدب العربي ي�صف اللحظة‬ ‫التي تلقى فيها خرب رحيل فاخوري‪« :‬مل �أقل �شيئ ًا ومل يقل �أ�صحابي‬ ‫�شيئ ًا‪ ،‬و�إمنا اتخذت لهذا الأديب اللبناين العظيم قرباً يف ناحية من نواحي‬ ‫قلبي‪ ،‬كما اتخذ اللبنانيون له قبوراً يف قلوبهم‪ ،‬وكما حفروا له قرباً يف‬ ‫ناحية ما من �أر�ض لبنان»‪.‬‬ ‫و�أما ما يختلف فيه فاخوري عن معظم �أبناء ذلك اجليل‪ ،‬فهو انفتاحه‬ ‫على ال�شيوعيني العرب وعلى التجربة الرو�سية على عك�س كثريين انفتحوا‬ ‫على القيم الليربالية الأوروبية وحدها‪.‬‬ ‫مل يكن وحيداً متام ًا يف ذلك الوقت‪ ،‬بل واحداً من تيار يرى ت�أ�سي�س‬ ‫‪10‬‬


‫نهو�ض الأمة العربية على الفكر اال�شرتاكي‪ ،‬من �أمثال �سالمة مو�سى‪،‬‬ ‫رئيف خوري‪ ،‬مازن عبود وحممد مندور‪ .‬لكنه كان الوحيد من بني‬ ‫الليرباليني واال�شرتاكيني الذي اهتم ب�شكل وا�ضح مبا ن�سميه اليوم «�س�ؤال‬ ‫التلقي» فلم يكن يلقي ب�أفكاره لت�صادف قارئها م�صادفة‪ ،‬لكنه �ألح على‬ ‫دعوة الأدباء واملفكرين �إىل كتابة ما يفهمه النا�س بد ًال من مطالبتهم‬ ‫بفهم ما يكتب‪ ،‬وقد بد�أ بنف�سه يف تطبيق دعواه‪ ،‬م�ستخدم ًا �أ�سلوب ًا �شديد‬ ‫الب�ساطة والإيجاز‪ ،‬وهو يف�صح يف مقدمة «الف�صول الأربعة» ب�شكل‬ ‫وا�ضح عن وعيه ب�رضورة ال�رشاكة الفعالة بني الكاتب والقارئ‪�« :‬إذا‬ ‫�أراد �سمح اخلاطر �أن يجد غري هذا �أي�ض ًا‪ ،‬فهو و�ش�أنه‪ .‬و�أنا م�ؤمن بالذي‬ ‫يقر�أ‪ ،‬كمثل �إمياين بالذي ي�ؤلف‪ :‬بدا يل ذات يوم �أن �أت�صور الكمال يف‬ ‫م�ؤلف وقارئه ‪ -‬حبذا لو اجتمعا! ‪ -‬فتمثل لنا يف �صورة رفي َق ْي �سفر على‬ ‫البد �أن يرتادفا‪ ،‬فهما عن طيب نف�س يرتادفان‪� ،‬إىل حيث‬ ‫راحلة واحدة‪ّ ،‬‬ ‫ال غاية»‪ .‬وال ي�شبه هذا القول �إال قول الق�س بريكلي‪ ،‬الذي ينقله خورخي‬ ‫لوي�س بورخي�س يف كتابه «�صنعة ال�شعر»‪ ،‬حيث يقول‪�« :‬إن طعم التفاحة‬ ‫لي�س يف التفاحة نف�سها‪ ،‬ولي�س يف فم �آكلها‪ ،‬و�إمنا يف اجتماعهما»‪.‬‬ ‫رمبا كانت ميوله اال�شرتاكية وبالتايل الإميان باجلماهري العري�ضة‪،‬‬ ‫ال�سبب الذي جعل عمر فاخوري حري�ص ًا على ا�ستخدام �أ�سلوب مفهوم من‬ ‫�أكرب عدد ممكن من القراء‪ ،‬لهذا كتب «�أديب يف ال�سوق»‪ ،‬ومن عنوان تلك‬ ‫الكتابة املنا�ضلة التهكمية ن�ستطيع �أن نقر�أ اللوم املبطن لأدباء الق�صور‬ ‫العاجية املنف�صلني عن الواقع‪ ،‬كما ال ن�ستطيع �أن نغفل عالقة العنوان‬ ‫بالآية الكرمية‪« :‬وما �أر�سلنا قبلك من املر�سلني �إال �إنهم لي�أكلون الطعام‬ ‫ومي�شون يف الأ�سواق»‪.‬‬ ‫ال ينبغي للأديب �أن يتجاهل حركة احلياة لأن الأنبياء مل يتجاهلوها‪.‬‬ ‫وعليه م�س�ؤولية جتاه تثوير الواقع‪ ،‬حتى ال نتحدث عن «تنوير» وقد‬ ‫�صارت كلمة م�سفة وبذيئة من كرثة ما تداولها مفكرو ال�سالطني اجلدد‬ ‫‪11‬‬


‫تقدمي‬

‫الذين كانوا يرددونها بال كلل‪ ،‬بينما يعملون ب�صمتهم وتواطوئهم على‬ ‫�إدامة ا�ستبداد ي�سبه بع�ضهم اليوم‪ ،‬بل ويجد له بع�ضهم الأعذار!‬ ‫كان من املمكن �أن نختار «كيف ينه�ض العرب؟» كتاب عمر فاخوري‬ ‫الأول‪ ،‬الذي كتبه يف �سن الثامنة ع�رشة‪ ،‬فهو يك�شف عن التوجه الفكري‬ ‫الذي �سي�صري �إليه ذلك املراهق‪ ،‬من تطلع �إىل نه�ضة عربية مبنية على‬ ‫احلرية والعدالة ونبذ االجتاهات الفا�شية واملتطرفة‪ ،‬لكننا �آثرنا «الف�صول‬ ‫الأربعة» الذي ي�ضم مراجعات �أدبية وفنية عادية و�شديدة الب�ساطة‪ ،‬ذلك‬ ‫لأن الكتاب يو�ضح م�ساهمة عمر فاخوري يف �إنقاذ النرث العربي من‬ ‫ال�سجع والتكرار اململ الذي �ساد ع�صور االنحطاط اللغوي يف ظل حكم‬ ‫املماليك والعثمانيني‪.‬‬ ‫والفن يف جوهره �أ�سلوب‪ ،‬فلي�س مهم ًا يف الأدب والر�سم واملو�سيقى‬ ‫و�سائر الفنون ماذا نقول ولكن املهم هو كيف نقول‪ .‬وكتاب «الف�صول‬ ‫الأربعة» يك�شف عن �أ�سلوب عمر فاخوري الذي ي�ستحق �أن ُي�ستعاد‪ .‬كما‬ ‫�أن اختياره اليوم للن�رش هو رد اعتبار لكل الكتابة التي تعتمد على ثقافة‬ ‫كاتبها وانطباعاته ال�شخ�صية عن الأعمال الفنية التي يتناولها‪ ،‬بعد �أن‬ ‫كان هذا النوع من املراجعات حمت ِقراً‪.‬‬ ‫ومرة �أخرى ال جند غ�ضا�ضة من التوجه �صوب الغرب‪ ،‬لرنى بداية‬ ‫االنتباه �إىل خطورة ما جنته املدار�س النقدية احلديثة على الأدب‪ ،‬وها‬ ‫هو تزفيتان تودوروف الفرن�سي البلغاري يكتب منذ �سنوات قليلة «الأدب‬ ‫يف خطر» مطالب ًا بعودة الروح �إىل القراءات االنطباعية التي جتمع النا�س‬ ‫حول الأدب وال تنفرهم منه‪.‬‬ ‫ولي�ست م�صادفة �أن ترعى اجلهات والدول الأكرث حمافظة مطبوعات‬ ‫تهرب للأمام وتنخرط يف «احلداثة» و«ما بعد احلداثة»‪ ،‬وكان هذا‬ ‫الهروب �سبب ًا يف اقرتاب الأدب العربي من الغيبوبة‪.‬‬ ‫م�ضت عقود طويلة تخ ّفى فيها النقاد وراء الرطانة النقدية امللغزة‬ ‫‪12‬‬


‫واملقايي�س ال�صارمة ملدار�س نقدية م�ستوردة مل يه�ضموها جيداً‪ ،‬ومل‬ ‫يح�سن ا�ستريادها �إىل �أدبنا وفننا‪ ،‬لكنه �أح�سن �إىل من تخفوا وراء الفتاتها‬ ‫وجعلهم يف �أمان‪ ،‬لأنهم يطحنون كالم ًا ال يفهمه امل�ستبد ويعرف �أن‬ ‫الرعية ال تفهمه‪.‬‬ ‫وقد �آن الآوان لالحتفاء بعمر فاخوري بو�صفه رمزاً من رموز الربيع‬ ‫العربي الأول‪ ،‬الذين كانوا يقولون ما يفعلون‪ ،‬ويكتبون ما نفهم‪.‬‬ ‫عزت القمحاوي‬

‫‪13‬‬



‫ف�صول الكتاب‪ :‬ال ف�صول العام وال ف�صول العمر‪ .‬لي�س بينها من‬ ‫�صلة �إال بقدر ما تتوا�صل الف�صول‪� ،‬إذ يتولد �أحدها من �آخر‪� ،‬أو يتال�شى‬ ‫بع�ضها يف بع�ض‪ .‬وال�شتاء هنا �صيف هنالك‪ .‬وهي ‪ -‬بعد ‪ -‬كليايل‬ ‫�أبي الطيب «�شكول»‪.‬‬ ‫�إذا �أراد �سمح اخلاطر �أن يجد غري هذا �أي�ض ًا‪ ،‬فهو و�ش�أنه‪ .‬و�أنا م�ؤمن‬ ‫بالذي يقر�أ‪ ،‬كمثل �إمياين بالذي ي�ؤلف‪ :‬بدا يل ذات يوم �أن �أت�صور‬ ‫الكمال يف م�ؤلف وقارئه‪ -‬حبذا لو اجتمعا! ‪ -‬فتمثل لنا يف �صورة‬ ‫البد �أن يرتادفا‪ ،‬فهما عن طيب نف�س‬ ‫رفي َق ْي �سفر على راحلة واحدة‪ّ ،‬‬ ‫يرتادفان‪� ،‬إىل حيث ال غاية‪.‬‬ ‫�أو ‪ -‬ال‪ ،‬فعدوه ا�سم ًا ك�سائر الأ�سماء التي يدمغون بها جباه اخللق‪،‬‬ ‫ويل�صقونها ب�أقفية النحل والأوثان والأو�ضاع والأهواء‪ ،‬ك�صنوف‬ ‫الب�ضاعة‪ ،‬وق ّل مل�سمى من ا�سمه ن�صيب‪ .‬وما يدريك؟ لعل خديعة‬ ‫العناوين والألقاب والكنى والأن�ساب‪� ،‬أعظم مايف حياتنا‪ ،‬بل يف هذا‬ ‫الوجود‪ْ �« :‬إن هي �إال �أ�سماء �سميتموها �أنتم و�آبا�ؤكم‪ ،‬ما �أنزل اهلل بها‬ ‫‪15‬‬


‫مقدمة‬

‫من �سلطان‪� :‬إن يتبعون �إال الظن وما تهوى الأنف�س» (�سورة النجم)‪.‬‬ ‫لنقل �إذن على التعميم‪ :‬خديعة العبارة �أو «البيان» يف خمتلف رموزه‬ ‫و�إ�شاراته‪ ،‬و�أ�صواته ولهجاته‪ ،‬وذرائعه و�أدواته‪ ،‬يخالونها طريق‬ ‫�سولت مل�سيلمة نف�س ُه الطماحة �أن يرفع‬ ‫احلقيقة �أو «اليقني» وقدمي ًا َّ‬ ‫الكذب �إىل مقام النبوة‪ .‬وما كان البيان قط �سوى مداورة لفظ يف‬ ‫خماتلة معنى‪ ،‬ق�صارانا �أن نت�صيد به من الوجود ‪� -‬رسابه‪.‬‬ ‫هم الكاتب‪� ،‬أو يف وهمه‪� ،‬إال �أن ينجو بكلمتي‬ ‫على �أنه مل يكن من ّ‬ ‫«الدعاء» و«اخلتام» من مدار الف�صول‪ ،‬ع�سى �أن ت�سلما له على الأيام‪،‬‬ ‫�إىل حني‪.‬‬ ‫(كانون الثاين ‪)1941‬‬

‫‪16‬‬


17


‫دعــاء‬

‫‪18‬‬


‫دعاء‬ ‫اللهم !‬ ‫بال�شعر‪ ،‬بل ببيان �أبلغ من ال�شعر‪ ،‬كنت تخاطب القرون اخلالية‪،‬‬ ‫على ل�سان ر�سلك و�أنبيائك‪.‬‬ ‫وبالفن‪ ،‬بل بقدرة �أعظم من الفن‪� ،‬صورت يف لوح الوجود‪ ،‬هذه‬ ‫الدنيا‪� :‬أر�ضها و�سماءها‪ ،‬مهادها و�أطوادها‪ ،‬بحارها و�أنهارها‪،‬‬ ‫�أزهارها و�أطيارها‪ .‬وخلقت فيها اخلري وال�رش‪ ،‬وال�صحة واملر�ض‪،‬‬ ‫والغنى والفقر‪ ،‬والهناء وال�شقاء‪ ،‬وكذلك احلرب وال�سلم و�شيئ ًا بينهما‬ ‫كانوا يدعونه تارة ال�سلم احلربي‪ ،‬وتارة احلرب ال�سلمية‪ ،‬وعجائب‬ ‫�أخرى كثرية‪.‬‬ ‫وه�ؤالء خلقك‪� ،‬إذا ما ا�شتد حنينهم �إىل وطنهم الأول الذي �أخرجت‬ ‫منه �أباهم �آدم و�أمهم حواء‪ ،‬يلوذون بواحة ال تعرف خرياً �أو �رشاً‪ ،‬وال‬ ‫لكن فيها �أحلان من و�ضع املو�سيقيني‪،‬‬ ‫غنى �أو فقراً‪ ،‬وال حرب ًا �أو �سلم ًا‪ْ ..‬‬ ‫‪19‬‬


‫دعــاء‬

‫و�أ�شكال من تخييل امل�صورين‪ ،‬و�أوزان من وحي ال�شعراء‪.‬‬ ‫اللهم ! �أولئك هم �آلك الغر امليامني‪.‬‬ ‫اللهم ! فاجعل هذه الواحة جزءاً من فردو�سك املفقود الذي وعدته‬ ‫املتقني‪.‬‬ ‫اللهم ! هب لنا �شعرنا اليومي‪ ،‬تباركت يا �أح�سن اخلالقني !‬

‫‪20‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫‪1‬‬ ‫لي�س يف الأدباء واملت�أدبني من مل ي�سمع‪ ،‬على الأقل‪ ،‬بكتاب «املثل‬ ‫ال�سائر يف �أدب الكاتب وال�شاعر» واملعروف �أنه من �أمهات كتب الأدب‬ ‫العربي‪ .‬لكن ق َّل فيهم �أي�ض َا‪ ،‬حتى الذين تدار�سوه‪ ،‬من حفظ ا�سم م�ؤلفه‪.‬‬ ‫كذلك �أنا‪ :‬لقد قر�أت الكتاب يف ليال معدودات‪ ،‬متحدث ًا �إىل �صاحبه‬ ‫ك�أين �أعرف من هو‪ ،‬ثم ال �أدري كيف رجعت �إىل ال�صفحة الأوىل لت�أخذ‬ ‫عيناي هذا اال�سم الكرمي‪� :‬ضياءالدين �أبي الفتح ن�رص اهلل بن حممد بن‬ ‫حمد بن‪� ..‬إلخ‪ .‬فقلت‪ :‬لأمر ما ُجدع ا�سم الرجل ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬وعرف‬ ‫ب�صاحب املثل ال�سائر‪.‬‬ ‫من ف�صول «املثل ال�سائر» ت�أليف‪ ..‬ذلك العالمة الفا�ضل‪ ،‬ف�صل‬ ‫‪21‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫يف الطريق �إىل تعلم الكتابة نقتطف منه هذه النبذة‪( :‬فيقوم ‪� -‬أي‬ ‫الكاتب ‪ -‬ويقع‪ ،‬ويخطئ وي�صيب‪ ،‬وي�ضل ويهتدي‪ ،‬حتى ي�ستقيم على‬ ‫أخلق بتلك الطريقة �أن تكون مبتدعة غريبة‬ ‫طريقة يفتتحها لنف�سه‪ .‬و� ْ‬ ‫ال �رشكة لأحد من املتقدمني فيها‪ :‬هي طريق االجتهاد‪ ،‬و�صاحبها‬ ‫عد �إمام ًا يف فن الكتابة‪ ،‬كما يعد ال�شافعي و�أبوحنيفة ومالك من‬ ‫ُي ّ‬ ‫الأئمة املجتهدين يف علم الفقه‪� ،‬إال �أنها م�ستوعرة جداً وال ي�ستطيعها‬ ‫�إال من رزقه اهلل ل�سان ًا هجام ًا‪ ،‬وخاطراً رقام ًا‪ )..‬يذكرين هذا القول مبا‬ ‫الر ْود الرحبة املطمئنة‪ ،‬وهنالك‬ ‫يف اجلبل من الطرق‪ :‬هنالك الطريق َ‬ ‫الطريق ال�صعبة ال�ضيقة امل�ستوعرة‪ .‬وال خالف يف �أن الذين ي�سلكون‬ ‫قودمون»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اجلدد هم �أكرث من الذين ُ‬ ‫«ي ْ‬ ‫يزعم �صاحب املثل ال�سائر �أنه تو�صل‪ ،‬بعد العناء ال�شديد‪� ،‬إىل‬ ‫الطريق ال�صعبة‪ ،‬ف�سلكها �آمن ًا العثار‪ .‬واحلق �أين مل �أجد يف الكالم‬ ‫الكثري ‪ -‬كالمه ‪ -‬الذي ي�ؤيد به زعمه‪ ،‬ما يكفي لإقناعي‪ .‬لكن هذا‬ ‫ال يقدح يف ر�أيه اجليد الذي �أتيت على ذكره‪ ،‬ف�إن مدح الرجل نف�سه‬ ‫�شيء‪ ،‬ومدحنا ر�أيه �شيء �آخر‪ ،‬كما يقولون‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬فماذا عنى بقوله‪( :‬ل�سان هجام وخاطر رقام)؟ ال �إخاله‬ ‫عنى غري اجلر�أة على الألفاظ واملعاين‪ ،‬ف�إن مل يكن كذلك فهو مل يجئ‬ ‫�إذن ببدع من القول‪ .‬بيد �أن اجلر�أة على الألفاظ وتراكيبها‪� ،‬سواء يف‬ ‫ٍ‬ ‫عارف باللغة‬ ‫ال�شعر �أم يف النرث‪ ،‬ال تكون (�أو ال ت�صح �أن تكون) �إال من‬ ‫عريق يف �أ�ساليبها‪ ،‬وذلك هو الكاتب �أو ال�شاعر الذي نقول‪ ،‬حينما نقر�أ‬ ‫له‪ ،‬معجبني‪« :‬ما لهذه اللغة يف يده كالعجينة ي�صنع منها ما ي�شاء‪،‬‬ ‫ليعطينا خبزنا اليومي نحن الفقراء!» و�أما اجلر�أة على املعاين فال‬ ‫تكون �إال من امرئ ي�أتي �إىل هذه الدنيا وك�أنه لي�س من �أهلها‪ ،‬فيقول‬ ‫‪22‬‬


‫النا�س �إنه �ساحر �أو � ّأن به م�س ًا من ال�شيطان‪ .‬وما «عبقر» �إال مو�ضع‬ ‫يكرث اجلن فيه‪ ،‬ثم ن�سب العرب �إليه كل �شيء تعجبوا من قوته وجودته‬ ‫«العبقري والعبقرية»‪.‬‬ ‫وح�سنه‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ين�صح �صاحب املثل ال�سائر متعلم الكتابة بحفظ القر�آن الكرمي‬ ‫والأحاديث النبوية وعدة من دواوين فحول ال�شعراء‪ .‬و«احلفظ» هذا‬ ‫كان له يف ثقافة الع�صور ال�سالفة �ش�أن عظيم‪ .‬وقد وجد �أي�ض ًا يف‬ ‫علماء البيان املتقدمني من �أ�شاروا على متعلم الكتابة ب�أن ين�سى ما‬ ‫حفظه لئال يغلب عليه التقليد‪ ،‬فال يظهر طبعه وال ُيعرف �إبداعه‪.‬‬ ‫ورب قائلٍ �إن العبقرية هبة من الطبيعة‪ ،‬ال يجدي املحروم منها‬ ‫ّ‬ ‫حفظه مهما ات�سع‪ ،‬ودر�سه مهما عمق‪ .‬بل �إن كرثة احلفظ والدر�س قد‬ ‫تقتل ملكة االبتكار والتوليد‪ ،‬وجتعل منه رج ًال من حرب وورق‪ ،‬ال من‬ ‫حلم ودم‪.‬‬ ‫هذا قول حق ال جنادل فيه‪ ،‬ف�إن كثرياً من كتابنا هم ذلك الرجل‬ ‫امل�سيخ الذي لو قطعت �رشايينه ملا �أخرجت �إال حرباً‪ ،‬ولو مزقت حلمه‬ ‫ملا �أخذت �إال ورق ًا‪ .‬ولكن لي�س بالفنان العبقري كل من �أراد �أن يكون‬ ‫كذلك‪ ،‬والعبقري نف�سه مدين للذين تقدموه �أجمعني‪ ،‬بل لعله �أكرث‬ ‫النا�س دين ًا كما �أنه �أكرثهم غنى‪ .‬وهو ما عناه �أحد كتاب الفرن�سي�س‬ ‫بقوله‪ ،‬ناظراً من هذه الناحية‪« :‬النبوغ �أو العبقرية �صرب طويل»‪.‬‬ ‫بيد �أن هذا ال مينع من �أن الكتابة فن له قواعد و�أ�صول و�ضعت بعد‬ ‫االختبار الطويل‪ ،‬ينبغي �أن تدر�س وجتاد معرفتها للعمل مبقت�ضاها‪،‬‬ ‫ومن �أن للكتابة مناذج باقية على الزمان‪ ،‬ينبغي �أن ُينظر فيها بتذوق‬ ‫وروية و�إمعان‪.‬‬ ‫وال�رشط الأ�سا�سي‪� ،‬أو ًال و�آخراً‪ ،‬هو �أن ي�ستمد املرء عنا�رص فنه‬ ‫‪23‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫ي�شح �سل�سبيلهما �أبداً‪� ،‬أعني الكون‬ ‫و�أدبه من الينبوعني اللذين ال ّ‬ ‫كون ال تنفد روائعه وال حُت ّد �صوره‪ ،‬وحياة ال تزال متطورة‬ ‫واحلياة‪ٌ :‬‬ ‫متحولة‪ ،‬فك�أنه بعث م�ستمر يف خلق جديد‪.‬‬ ‫يقول �أناتول فران�س‪« :‬ال ينبغي لل�صغار �أن يقر�أوا يف الكتب‪ .‬يوجد‬ ‫�أ�شياء كثرية جديرة ب�أن يروها ومل يروها‪ :‬البحريات واجلبال والأنهار‪،‬‬ ‫واملدن والأرياف‪ ،‬والبحر ومراكبه‪ ،‬وال�سماء وكواكبها»‪ .‬ولي�ست‬ ‫ن�صيحته هذه لل�صغار وحدهم بل للكبار �أي�ض ًا‪ .‬من منا ي�ستطيع �أن‬ ‫كربت على هذا الكون وعلى هذه احلياة‪ ..‬هما كتابان ال‬ ‫يقول‪« :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫ب�أ�س بهما‪ ،‬لكن انتهيت من قراءتهما‪ .‬ماذا تريد؟ �إين (ختمت)‪ ،»..‬من‬ ‫ي�ستطيع ‪ -‬باهلل عليك‪� -‬أن يقول هذا‪� ،‬إال رجل من ورق وحرب!‬

‫‪2‬‬ ‫�أكرث �أدبائنا ‪ -‬وال �أغايل ‪ -‬حقيقون �أن يبيتوا ك�شافة قبل �أن‬ ‫ي�صبحوا �أدباء‪ ،‬الكتاب منهم وال�شعراء‪ .‬بل �إين �أذهب �إىل �أبعد من هذا‬ ‫ف�أقول‪ :‬من الواجب عليهم‪� ،‬إذا �أرادوا حق ًا �أن يكونوا كتاب ًا و�شعراء‪� ،‬أن‬ ‫يجتازوا �أو ًال مدر�سة الك�شاف‪ ،‬ف�إنهم يف هذه املدر�سة قد يكت�سبون‬ ‫ال�صفات واملزايا الالزمة لكل �أهل الفنون �أو ينمون هذه ال�صفات‬ ‫واملزايا �إن تك كامنة فيهم‪.‬‬ ‫لو �شئت يوم ًا �أن �أمتثل الأديب يف بالدنا‪� ،‬أو �أن �أتخيل �أمنوذج ًا‬ ‫و�سط ًا لأدبائنا‪ ،‬ملا قامت يف ذهني �إال �صورة واحدة‪ ،‬هي �صورة رجل‬ ‫جتد فرق ًا �إال يف لون احلرب ونوع الورق‪� .‬س ْل‬ ‫من ورق وحرب‪ ،‬وال تكاد ُ‬ ‫‪24‬‬


‫هذا «الآدمي» الآن عن حوا�سه اخلم�س وعن يقظتها‪ ،‬وعن نهمها وعن‬ ‫حد‬ ‫ظمئها‪ ،‬و�سط جمايل الطبيعة و�أحداث احلياة‪ ،‬يق ْل لك ب�سذاجة ال ّ‬ ‫لها‪« :‬هل غادر ال�شعراء؟»‪� .‬أو هو‪ ،‬يف الأغلب‪ ،‬ال يجيبك ب�شيء‪ ،‬لأنه مل‬ ‫يفهم ما �أردت‪ .‬وال�سعيد ال�سعيد من وجد حتت �إبطه بيت ًا من ال�شعر �أو‬ ‫مث ًال �سائراً‪ ،‬فتناوله بخفة ور�شاقة‪ ،‬فال ي�سعك �إال �أن تقول معجب ًا رغم‬ ‫�أنفك‪« :‬اهلل‪ ،‬ما �أ�رسع خاطره وما �أجود حافظته!» ثم ت�صافحه مودع ًا‪،‬‬ ‫فال ي�سعك �إال �أن تقول‪�« :‬أُ ٍّف له! لقد ترك يف يدي �أثراً من حربه وريح ًا‬ ‫من ورقه»‪ .‬بيد �أنه غداً‪ ،‬ومن يجرينا من الغد؟ �سيطلع علينا بق�صيدة‬ ‫من نظمه‪� ،‬أو يهبط مبقالة من نرثه‪ ،‬فيطعننا بها طعنة مميتة ‪ -‬لوال‬ ‫لطف اهلل بعباده‪.‬‬ ‫�إن الكاتب �أو ال�شاعر احلقيقي ي�ستمد من الطبيعة واحلياة‪� ،‬أو ًال‬ ‫ي�شح ما�ؤه وال تنفد مادته‪ ،‬فذلك هو‪ ،‬ال‬ ‫و�آخراً‪ .‬ف�إذا كان ثمة مع ٌ‬ ‫ني ال ُّ‬ ‫مراء‪� .‬أما الأديب �أو املت�أدب الذي يح�سب �أن يف درا�سة الكتب و�سعة‬ ‫الرواية‪ ،‬ما يكفي جلعله �شاعراً مغلق ًا وكاتب ًا مبدع ًا‪ ،‬فقد �ض ّل �سبي ًال‪،‬‬ ‫�إذ �أن هذا دون الكفاية‪ .‬والأديب حق ًا من كان على ات�صال دائم يقظ‬ ‫يحدث عنه‪ ،‬وبه�ؤالء النا�س الذين يتحدث عنهم ‪-‬‬ ‫بهذا الوجود الذي ّ‬ ‫�إليهم‪ ،‬وهل الأدب �إال حديث عن النا�س وعن الوجود؟ ذلك هو الأديب‬ ‫عرفته ع�صور ال�صناعة ب�أنه راوية لل�شعر‪ ،‬حافظة‬ ‫حق ًا و�صدق ًا‪ ،‬ال كما ّ‬ ‫جرا‪ .‬ليكن يف‬ ‫فن بطرف‪،‬‬ ‫للأمثال‪ ،‬حميط بالأخبار‪� ،‬آخذ من كل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهلم ّ‬ ‫�إحاطته بالأخبار كالأوقيانو�س‪ ،‬ويف روايته لل�شعر ك�ألف ديوان‪ ،‬ويف‬ ‫حفظه الأمثال كمجموعة امليداين‪ ،‬ويف �أخذه ب�أطراف الفنون ك�شبكة‬ ‫ال�صياد‪ ،‬فهو و�ش�أنه‪ .‬لكن هذا كله ال ي�ساوي عندي قلي ًال من اخلربة‬ ‫املبا�رشة ال�شخ�صية باحلياة والنا�س‪ ،‬و�شيئ ًا من االت�صال احلقيقي‬ ‫‪25‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫احلي بالطبيعة والوجود‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن هنا ر� ُأي عامة النا�س يف الأديب وا�ستخفافهم به حتى ليكادوا‬ ‫ينظرون �إليه نظرهم �إىل طفل ال يعرف من احلياة قلي ًال �أو كثرياً‪،‬‬ ‫ف�إذا قذفت به الأقدار يوم ًا يف ذلك البحر الزاخر كان‪ ،‬ال حمالة‪ ،‬من‬ ‫املغرقني‪ .‬وهو ر�أي عامة النا�س‪ ،‬ال �سيما �أولئك الذين ت�ستغرقهم حياة‬ ‫الك�سب والعمل‪ ،‬كالتجار و�أرباب ال�صناعات‪ .‬ف�إن ه�ؤالء ال يتحدثون‬ ‫�إىل �شاعر‪ ،‬بل ال ينظرون �إليه‪� ،‬إال �أزهرت على �شفاههم ب�أ�رسع من ملح‬ ‫الب�رص‪ ،‬ابت�سامة ذات مغزى‪« :‬هذا خملوق عجيب يعي�ش يف قافية كما‬ ‫تعي�ش دودة احلرير يف �رشنقتها!»‪.‬‬ ‫يف مدر�سة الك�شاف يتعلم الأديب ‪� -‬إن �شاء اهلل ‪� -‬أن الطبيعة‬ ‫عد العناية‬ ‫واحلياة والنا�س �أ�شياء لها وجود حقيقي‪ ،‬ولها قيمة‪ ،‬فال ُت ّ‬ ‫بها عبث ًا ولهواً و�إنفاق ًا للعمر يف غري طائل‪.‬‬ ‫وفيها يتعلم �أن احلياة يف الطبيعة ومع النا�س‪ -‬على الأقل بقدر‬ ‫ما يعي�ش يف الكتب ‪ -‬حياة جديرة ب�أن يحياها‪ :‬ح�سبه منها �أنها‬ ‫حتول دون م�سخه رج ًال قرطا�سي ًا‪ ،‬بل ح�سبه منها �أنه �إذا مل ُيقدر له �أن‬ ‫ينفع ب�أدبه‪ ،‬فقد انتفع هو بعمره‪.‬‬ ‫ال ب�أ�س‪ ..‬ال ب�أ�س ب�أن يظل «الأديب» رج ًال من حلم ودم!‬

‫‪3‬‬ ‫يقول �أحد كتاب الفرن�سي�س �إن للأديب قدي�سني �أخياراً �ضحوا‬ ‫من �أجله بحياتهم كلها‪� ،‬أمثال بلزاك وفلوبري‪ ،‬و�إن له �شهداء �أبراراً‪،‬‬ ‫‪26‬‬


‫�أمثال ال�شاعرين بودلري وفرلني‪ ،‬و�إن يف �ساحته املن�صورين الأجماد‪،‬‬ ‫�أمثال كورناي ورا�سني و�شاتوبريان وهوغو‪ .‬فيجب �أن نحتفل يف‬ ‫كل فر�صة‪ ،‬تكرمي ًا لف�ضائل رجال الطبقة الأوىل ‪ -‬طبقة القدي�سني‬ ‫الأخيار‪ ،‬ول�رضوب العذاب التي لقيها رجال الطبقة الثانية‪ -‬طبقة‬ ‫ال�شهداء الأبرار‪ ،‬ولعظمة الطبقة الثالثة ‪ -‬طبقة املن�صورين الأجماد‪.‬‬ ‫ويريد الكاتب الفرن�سي بهذا ت�شجيع الأدباء الأحياء‪ ،‬وتثبيت قلوبهم‬ ‫يف معمعان احلياة الأدبية‪ ،‬لي�صربوا على ال�شدائد ولي�ؤملوا خرياً من‬ ‫امل�ستقبل‪� ،‬إذا بخ�سهم احلا�رض حقهم يف ذيوع ال�صيت ورفعة املقام‪.‬‬ ‫أ�شده عند الغربيني‪ ،‬فال يفوز‬ ‫ذلك �أن تنازع البقاء يف عامل الأدب بالغ � ّ‬ ‫يف م�ضماره �إال نفر قالئل‪ ،‬يف حني �أن املغمورين ال يح�صيهم العد‪.‬‬ ‫ويقول الكاتب الفرن�سي �أي�ض ًا‪« :‬ينبغي �إذن �أن يكون لطائفة الأدباء‬ ‫دين‪ ،‬فلوال �إميانهم بالفن واجلمال لكانوا يرزحون ب�أعباء احلياة‬ ‫وي�ضيقون ذرع ًا مبا يعانون من ب�أ�سائها»‪.‬‬ ‫وقدمي ًا �شكا �أدباء العرب من حرفة الأدب‪ ،‬ولعنوا «�شق القلم» الذي‬ ‫يقطر منه الرزق ال�شحيح مبا ال يقيم الأود‪� ..‬شكوا‪ ،‬لكنهم ظلوا �أدباء‬ ‫ال ينتقلون من هذه احلرفة امل�ش�ؤومة �إىل غريها من احلرف املباركة‪.‬‬ ‫فك�أمنا يف الأدب �سحر ال رقية منه ‪ -‬كدت �أقول‪ :‬ك�أنه داء لي�س يرب�أ‬ ‫امل�صاب به‪ .‬وال ريب �أن الأديب يجد يف اال�شتغال بالأدب لذة ونعيم ًا‬ ‫هما كل ن�صيبه من لذات العي�ش ونعيم الدنيا‪� ،‬أو هما �أف�ضل ن�صيبه‪،‬‬ ‫�إن يك مقدراً له �أن يجد اللذة والنعيم فيما �سوى الأدب‪.‬‬ ‫يتيم‬ ‫بل ما يل ال �أقول �إنه داء‪ ،‬وهو ع�شق ك�سائر �أنواع الع�شق‪ِّ ،‬‬ ‫املرء وميلك عليه لبه وم�شاعره‪ ،‬وي�ستغرق قواه جميع ًا؟ و�إذا كنت‪،‬‬ ‫يف ف�صل �سابق‪� ،‬سخرت من ال�شاعر الذي يعي�ش يف قافية كما تعي�ش‬ ‫‪27‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫دودة احلرير يف �رشنقتها‪ ،‬وانحيت على الأديب بالالئمة ال�شديدة‬ ‫لأنه ال يكاد ي�صلح لهذه احلياة العملية فهو فيها حا�رض كالغائب‪،‬‬ ‫ولأنه يف غفلة عن الدنيا وما فيها‪ ،‬كالنائم املفتوح العني ال�شاخ�ص‬ ‫الب�رص‪ ،‬فقد رميت �إىل غري ما نحن يف �صدده الآن‪� .‬أردت حينذاك �أن‬ ‫�أدباءنا‪� ،‬إال ما ندر‪ ،‬ال يعنون مبادة �أدبهم العناية املطلوبة‪ ،‬وما تلك‬ ‫املادة �إال م�شاهدات الأديب واختباراته ملا حوله وملا يف نف�سه‪ .‬ف�إن‬ ‫انفعاالته و�سط جمايل الطبيعة و�أحداث احلياة‪ ،‬وال�صور والأفكار التي‬ ‫تقوم يف ذهنه لدى كل م�شهد وكل حادث‪ ،‬كنوز غالية تخزنها الأيام‬ ‫يف حافظته‪ ،‬وقيمتها يف �أنها ال�صلة الناب�ضة بني �أدبه وبني الطبيعة‬ ‫واحلياة‪� .‬إن �أدباءنا ال يعنون مبادة �أدبهم‪ ،‬وال يكنزون امل�شاهدات‬ ‫واالختبارات‪ ،‬وال يهتمون ب�أن ي�صلوا ما بني �أدبهم وحياة النا�س‬ ‫الذين عندهم ينفق هذا الأدب �أو يك�سد ولي�س يف املريخ‪� .‬إن �أدباءنا‬ ‫ن�سخ‬ ‫يوفرون عنايتهم على الألفاظ الطنانة‪ ،‬والرتاكيب اجلاهزة‪ ،‬فهم ٌ‬ ‫ال تكاد تختلف ‪ -‬ن�سخ عن كتاب واحد‪ ،‬ن�سخ مت�شابهة‪ .‬هذا ما �أردته‬ ‫حينذاك‪.‬‬ ‫�أما كون الأديب قد يحب �أدبه �أو فنه حب ًا ي�ستغرق قواه جميع ًا‬ ‫وي�ستنفدها‪ ،‬حب ًا ميلك عليه لبه وم�شاعره حتى لي�ضحي من �أجله‬ ‫بحياته كلها �سعيداً ناعم البال‪ ،‬وال يهمه �إال �أن يخرج للنا�س �آية‬ ‫فن باقية على الزمان‪ ،‬فطوبى لأمة تنجب مثل هذا الأديب‪ .‬والكاتب‬ ‫ّ‬ ‫الفرن�سي جو�ستاف فلوبري الذي ذكر ا�سمه يف ر�أ�س هذا الف�صل بني‬ ‫قدي�سي الأدب هو ذلك الرجل‪ :‬كان له �إله واحد عكف على عبادته وعلى‬ ‫خدمته �آناء الليل و�أطراف النهار‪ ،‬وكان الأدب �إلهه املعبود‪ .‬لكنه كذلك‬ ‫عا�ش كثرياً ورحل رحالت كثرية دام بع�ضها �شهرين كاملني ‪ -‬م�شي ًا‬ ‫‪28‬‬


‫�سوده‬ ‫على قدميه‪ ،‬وكان يحمل هراوة وكي�س ًا ودفرتاً من الورق الأبي�ض ّ‬ ‫ب�رسعة‪( .‬هذه رحلة �أديب ‪ -‬رحلة يف �سبيل الأدب‪ ،‬وهذا فلوبري من �أئمة‬ ‫الأدب الفرن�سي «يف مدر�سة الك�شاف»)‪ .‬فلما عاد من رحلته اعتكف‬ ‫يف داره مرتهب ًا‪ ،‬خمل�ص ًا وجهه لفنه احلبيب وللطرفة الأدبية التي‬ ‫يريد �إخراجها‪ .‬ولدينا من ذلك العهد ر�سالة كتبها �إىل �إحدى �صواحبه‬ ‫يقول فيها‪�( :‬أنفقت ثماين �ساعات على تنقيح خم�س �صفحات‪ ،‬و�أرى‬ ‫�أين ا�شتغلت جيداً)‪ .‬لقد جمعت ر�سائل جو�ستاف فلوبري يف �أربعة �أجزاء‬ ‫�ضخمة‪ ،‬وغالب ًا ما يقع القارئ على مثل هذه اجلملة التي �أزفها �إىل‬ ‫كتابنا و�شعرائنا العباقرة اجلبابرة‪ ،‬راجي ًا �أن ال يبالغوا يف احتقار‬ ‫ذلك املجتهد امل�سكني الذي عا�ش كثرياً‪ ،‬وجرب كثرياً‪ ،‬ورحل رحالت‬ ‫أقر‪ ،‬يف غري خجل‪ ،‬ب�أنه �أنفق ثماين �ساعات على تنقيح‬ ‫كثرية‪ ،‬ثم � ّ‬ ‫خم�س �صفحات‪.‬‬

‫‪4‬‬ ‫الآن‪ ،‬و�أنا لأول مرة يف ح�رضة هذه الآلة العجيبة التي ي�سمونها‬ ‫يل �أين �أوتيت‪ ،‬ب�رضب من ال�سحر‪ ،‬قدرة خارقة ال‬ ‫«الراديو» يخيل �إ ّ‬ ‫عهد يل بها من قبل‪ ،‬كجبار من جبابرة الأ�ساطري ت�أخر ع�رصه‪ ،‬فهو‬ ‫ماثل على �شفري الأبعاد‪ ،‬بني �سمع الزمان وب�رصه‪ ،‬ير�سل �صوته يف‬ ‫املجهول‪ ..‬فهذا ال�صوت‪ ،‬وك�أنه كائن ذو وجود ذاتي‪ ،‬تركني وراءه‬ ‫يطوف‪ ،‬وحده‪ ،‬يف الآفاق‪ ،‬على غوارب الأثري‪ ،‬طوي ًال‬ ‫كامل�شدوه‪ ،‬و�أخذ ّ‬ ‫عري�ض ًا‪� ،‬سمين ًا هزي ًال‪ ،‬متبدد متجدداً‪ ،‬متقطع ًا مت�ص ًال‪ ،‬وك�أنها نفخة‬ ‫‪29‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫ال�صور‪ .‬قلنا �إنه �رضب من ال�سحر‪ ،‬فهل �أنتم م�صدقون؟‬ ‫قا�صت!‪ ،‬وما �أبلغ نكاية الأقدار‬ ‫وهلل‪ ،‬ما �أ�شد ق�صا�ص احلياة �إذا َّ‬ ‫حني ُتغري بالنكاية! فكثرياً ما طبت نف�س ًا بالهم�س اخلفيف والتورية‬ ‫اخلفية وحلن الكالم الذي مدحه ب�شار بقوله‪:‬‬

‫«وخري الكالم ما كان حلنا‪.»..‬‬ ‫فها �أنا �أقف هذا املوقف‪ ،‬على �شفري الأبعاد‪ ،‬و�أر�سل ذلك ال�صوت يف‬ ‫غيابة املجهول‪ ،‬و�أم�سي يف خرب كان من �أ�ساطري الأولني‪ .‬وهذا جزء‬ ‫أخ�ص ما بي‪ ،‬ينف�صل عني وي�ستقل بوجوده‪ ،‬كالرجل‬ ‫مني‪ ،‬قد يكون � ّ‬ ‫الذي يرتكه ظله يف قارعة الطريق‪ ،‬حردان غري واقف لوقوفه‪ ،‬وال‬ ‫متحرك حلركته‪ .‬وهذه الآلة اخلبيثة املاجنة تطول ال�صوت وتعر�ضه‪،‬‬ ‫وت�سمنه وتهزله‪ ،‬وتبدده وجتدده‪ ،‬وتقطعه وترقعه‪ ،‬و�أنتم ت�سمعون !‬ ‫ولكن ال ب�أ�س علينا‪ ،‬ف�أنا �أعرف كيف �أث�أر لنف�سي‪� ،‬إذ �أجعل �أول‬ ‫ر�سالة (�أو �ألوكة) يحملها عني الراديو �إىل �أبناء ال�ضاد‪ ،‬يف حتية‬ ‫الكتاب‪ ،‬و�أعني القراءة‪ .‬ذلك �أن نفراً من �أدباء الغرب وحكمائه يزعمون‬ ‫�أن من الراديو خطراً على الكتاب‪ ،‬كما كان من ال�سينما خطر على‬ ‫امل�رسح‪ ،‬فهم ينادون بالويل والثبور‪ ،‬وعظائم الأمور‪.‬‬ ‫لي�س من �ش�أننا يف هذا ال�رشق الأدنى الف�صل يف تلك الق�ضية‬ ‫املركبة و�أمثالها التي تثار يف ديار الغرب جي ًال بعد جيل‪ ،‬ف�إن‬ ‫ق�ضايانا‪ ،‬وهلل احلمد‪ ،‬مازالت ب�سيطة‪ .‬ودليل ذلك �أن يف الغرب �أنا�س ًا‬ ‫ينعون ال�شعر كل عام‪ ،‬ويقيمون حول قربه املناحات‪ ،‬مرتاعني من‬ ‫طغيان املادة على الروح‪ ،‬ونحن ن�شهد �أن ال�شعر عندنا حي يرزق‪،‬‬ ‫رغم �أن �أهله ال يرزقون‪ .‬وقد غال بع�ضهم يف هذا الزعم غلواً كبرياً‪،‬‬ ‫‪30‬‬


‫فتنب�أوا ب�أن الراديو �سيال�شي حتى ال�صحف ال�سيارة‪ ،‬والعياذ باهلل‪� ،‬إذ‬ ‫يعي�ضنا عن اجلريدة التي تقر�أ‪ ،‬باجلريدة التي ت�سمع‪ .‬ولكن �أكرب الظن‬ ‫�أن هذا الراديو ال ت�سول له النف�س الأمارة ارتكاب تلك اجلرائم‪ ،‬كل‬ ‫تلك اجلرائم‪ ،‬و�أنه لن يال�شي �شيئ ًا‪� .‬إن هي �إال حاجة جديدة ي�ضيفها‬ ‫الإن�سان �إىل حاجاته الأوىل‪ ،‬وقد ال تكون هذه املدنية التي ننعم فيها‬ ‫ون�شقى‪ ،‬غري م�صنع دائم حلاجات جديدة و�آالت م�ستحدثة‪.‬‬ ‫بعد هذه املقدمة التي �أقول �إنه البد منها‪ ،‬وتقولون �إنكم يف غنى‬ ‫عنها ‪ -‬بعد هذه املقدمة املختلف فيها‪ ،‬وقبل ولوج املو�ضوع املتفق‬ ‫عليه‪� ،‬أحب �أن �أذكر لكم ا�سم كاتب يكاد يكون من�سي ًا‪ ،‬ال لأنه عا�ش‬ ‫منذ �ألف عام‪ ،‬بل لأنه فيما عدا ذلك‪ ،‬كتب يف موا�ضيع خا�صة ال يقبل‬ ‫عليها عامة القراء‪ ،‬وهي �أ�صول الإن�شاء‪ ،‬ولأبي الفرج قدامة بن جعفر‬ ‫كتيبان‪� ،‬أحدهما يف «نقد ال�شعر» والآخر يف «نقد النرث» يت�ضمنان‬ ‫ب�ضعة ع�رش ر�أي ًا جديرة بالروية‪ ،‬لكنها مطوية قلما يعنى بها �أدباء‬ ‫هذا الع�رص‪ .‬فهي كقطع الذهب القدمية الدفينة يف بطن الأر�ض‪ ،‬بل‬ ‫يف خزائن ال�صيارفة‪ ،‬والنا�س حمرومون تداولها‪ .‬وك�أين بها تنتظر‬ ‫من يكلف نف�سه عناء ا�ستخراجها‪ ،‬و�إظهار رونقها و�صفائها‪ ،‬وطرحها‬ ‫يف ال�سوق‪ .‬بل ميكن القول �إن كثرياً من الآراء الغريبة �شك ًال‪ ،‬اجلديدة‬ ‫زي ًا ومظهراً‪ ،‬التي نتلقفها من كتب الغرب‪ ،‬قد جند لها �أ�صو ًال يف كتب‬ ‫ال�سلف املهجورة‪ ،‬مبعنى �أنه �إذا راقتنا و�أعجبتنا‪ ،‬فهل ي�ؤذينا �أن ن�صل‬ ‫بينها‪ ،‬يف زيها الع�رصي احلديث‪ ،‬وبني ما يف تقليدنا من نوعها‪� ،‬أم‬ ‫تكون‪ ،‬بال�ضد‪� ،‬أجدى علينا‪ ،‬و�أمثل بنا؟‬ ‫�إن قدامة بن جعفر ي�ستهل ر�سالته يف «نقد ال�شعر» بقوله‪( :‬ومما‬ ‫يجب تقدمته وتوطيده‪ ،‬قبلما �أريد �أن �أتكلم فيه‪� ،‬أن املعاين كلها‬ ‫‪31‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫معر�ضة لل�شاعر‪ ،‬وله �أن يتكلم منها فيما �أحب و�آثر‪ .‬وعلى ال�شاعر �إذا‬ ‫ّ‬ ‫�رشع يف �أي معنى كان من الرفعة وال�ضعة‪ ،‬والرفث والنزاهة‪ ،‬والبذخ‬ ‫والقناعة‪ ،‬وغري ذلك من املعاين احلميدة والذميمة‪� ،‬أن يتوخى البلوغ‬ ‫من التجويد يف ذلك �إىل الغاية املطلوبة)‪.‬‬ ‫�أال ترون يف هذا ال�رشح املوجز خال�صة ح�سنة‪� ،‬أو بالأقل‪� ،‬إ�شارة‬ ‫�رصيحة �إىل نظرية «الفن للفن» التي قام لها �أهل الفكر‪ ،‬يف ديار‬ ‫الغرب‪ ،‬وقعدوا‪ ،‬من زمن غري بعيد‪ ،‬ال �سيما ما قد ي�ستنتج من هذا‬ ‫الر�أي‪ ،‬وهو �أن الفنون ويف جملتها الأدب‪ ،‬تكون بالأ�صل جمردة خلواً‬ ‫من كل هم �أخالقي �أو وعظي �أو تعليمي؟ لل�شاعر وللناثر �أن يتناوال‬ ‫�أي املعاين �شاءا و�أي املوا�ضيع �أحبا‪ ،‬ب�رشط �أن يتوخيا الإجادة و�أن‬ ‫يجيدا‪.‬‬ ‫يقول قدامة بن جعفر �أي�ض ًا يف مو�ضع �آخر من كتابه «نقد ال�شعر»‪:‬‬ ‫(�إن ال�شاعر لي�س يو�صف ب�أن يكون �صادق ًا‪ ،‬بل �إمنا يراد منه �إذا �أخذ‬ ‫يف معنى من املعاين‪ ،‬كائن ًا ما كان‪� ،‬أن يجيده يف وقته احلا�رض‪ ،‬ال‬ ‫�أن ين�سخ ما قاله يف وقت �آخر)‪.‬‬ ‫ولعمري �إذا مل يكن الأمر كذلك فكيف تريدون �أن يكون �شك�سبري‬ ‫عطي ًال وديدمونة وكا�سيو وياغو على ال�سواء‪ ،‬يف ق�صة واحدة؟ ثم‬ ‫كيف‪ ،‬وال�شاعر الإنكليزي خلق يف ق�ص�صه امل�رسحية عامل ًا برمته‪،‬‬ ‫ح�شد يف ال�شخ�صيات املتنوعة املت�ضادة‪ ،‬حتى قال �إ�سكندر دوما�س‬ ‫الأب‪�( :‬إن �شك�سبري‪ ،‬بعد اهلل �سبحانه‪ ،‬هو �أكرثنا خلق ًا)‪.‬‬ ‫وهذه النظرية‪ ،‬نظرية الكذب يف الفنون والآداب‪ُ ،‬عني بها يف‬ ‫الزمن الأخري �أو�سكار وايلد حتى جعل منها مذهب ًا قائم ًا بذاته‪ ،‬وهو‬ ‫ي�ؤكد لنا �أن وظيفة �أهل الفن �أن يخرتعوا ال �أن ي�ؤرخوا‪ ،‬و�أنهم لي�سوا‬ ‫‪32‬‬


‫مطالبني ب�أن ي�صفوا لنا الوقائع كما هي‪ ،‬على عالتها‪ ،‬فهذا �أمر يطلب‬ ‫من خمربي ال�صحف و�شهود املحاكم و�أ�رضابهم‪.‬‬ ‫يقول وايلد �إن ثمة عاملني اثنني‪� :‬أحدهما موجود وال ينبغي لنا‬ ‫�أن نتكلم عنه كي نراه‪ ،‬لأننا فيه نعي�ش‪ ،‬والآخر هو عامل الفن الذي‬ ‫ينبغي �أن نتحدث عنه‪ ،‬و�إال مل يكن له وجود‪ .‬ذلك �أن وايلد عا�رص دعاة‬ ‫املذهبني الواقعي والطبيعي يف الآداب والفنون‪ ،‬وكان همهم ت�صوير‬ ‫الواقع ت�صويراً �شم�سي ًا‪ ،‬وتقليده تقليداً �رصف ًا‪ ،‬فهاله يومذاك وح ّز‬ ‫يف نف�سه ما ي�سميه «انحطاط الكذب يف الفنون» و�أخذ يدعو ال�شعراء‬ ‫والكتاب‪ ،‬وباجلملة �أهل الفن‪� ،‬إىل �إحياء «فن الكذب الذي �أ�ضاعه‬ ‫�أهله»‪ .‬ويقول اتيان راي‪« :‬الكذب َخ ْل ٌق» �أو �إبداع‪ .‬وهو بهذه الكلمة‬ ‫املوجزة الكلية يبد�أ كتيبه يف ف�ضل الكذب‪ ،‬ك�أمنا مزية اخللق هذه‬ ‫ر�أ�س املحا�سن التي ترفع من �ش�أنه‪� .‬أ�ضف �إليه تعريفه الكذب‪ ،‬ذلك‬ ‫التعريف اجلامع املانع‪« :‬هو �إخبار بغري الواقع‪ ،‬عن ق�صد وروية»‪.‬‬ ‫وقد ا�ستعمل العرب «اختلق» يف املعنى ذاته ومن املادة عينها‪ ،‬وقال‬ ‫�شاعرهم‪:‬‬

‫من كان يخلق ما يقو‬

‫ل فحيلتي فيه قليلة !‬

‫وكان نقدة الأدب من العرب يقولون‪« :‬من ف�ضائل ال�شعر �أن الكذب‬ ‫ح�سن الكذب وانتفر‬ ‫الذي �أجمع النا�س على قبحه ح�سن فيه‪ .‬وح�سبك ما ّ‬ ‫له قبحه»‪ .‬ولعلهم كانوا يعنون بهذا القول غلبة املديح الكاذب على‬ ‫�سائر �أنواع ال�شعر يف ع�صور الزلفى �إىل امللوك والأمراء‪ ،‬بينما يرمي‬ ‫دعاة هذا املذهب يف الغرب �إىل �أبعد من ذلك‪� ،‬إذ يعنون �أن الأديب‬ ‫الذي ينظم ق�صيدة �أو ي�ؤلف ق�صة‪� ،‬إمنا يخلق عامل ًا خيالي ًا خمتلف ًا‬ ‫‪33‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫عن عاملنا احلقيقي على وجه ما‪ ،‬و�أ�شخا�ص ًا غري الأ�شخا�ص الذين‬ ‫يروحون ويغدون يف هذه الدنيا على م�شهد منا‪ ،‬وبعبارة �أو�ضح �أن‬ ‫العامل الذي ينقلنا �إليه �أهل الفن‪ ،‬ال يعدو �أن يكون من باب االيهام‬ ‫والتخييل‪ ،‬فهي خدعة من قلم الأديب �أو من ري�شة امل�صور‪ .‬ولكن‬ ‫�إذا ذكرنا الآن احلديث النبوي‪�« :‬إن من البيان ل�سحراً» وقول ر�ؤبة‬ ‫الراجز‪:‬‬

‫ ‬ ‫لقد خ�شيت �أن تكون �ساحراً‬

‫ومراً �شاعراً‬ ‫راوية َمراً‪َ ،‬‬

‫وهو‪ ،‬كما ترون‪ ،‬يقرن ال�شعر بال�سحر �أي�ض ًا‪ ،‬ثم رجعنا �إىل كتاب‬ ‫«العمدة يف ال�شعر وفنونه» وجدنا ت�أويل ذلك عند ابن ر�شيق الذي‬ ‫يقول‪�« :‬إن ال�سحر للطافته وحيلة �صاحبه‪ ،‬يخيل للإن�سان ما مل يكن‪.‬‬ ‫وكذلك البيان يت�صور فيه احلق ب�صورة الباطل‪ ،‬والباطل ب�صورة‬ ‫احلق»‪ .‬فنقدة الأدب من العرب‪� ،‬إذا قرنوا ال�شعر بالكذب‪ ،‬ذهبوا هم‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬على ما نرجح‪� ،‬إىل معنى �أبعد غوراً و�أو�سع مدى من غلبة املديح‬ ‫الكاذب على �سائر �أنواع ال�شعر‪ .‬وهذا البحرتي يقول بل�سان ال�شعراء‪،‬‬ ‫خماطب ًا غري ال�شعراء‪ ،‬ك�أن �أولئك �صنف من اخللق‪ ،‬وجميع من عداهم‬ ‫�صنف �آخر‪:‬‬

‫كلفتمونا حدود منطقكم ‬

‫يف ال�شعر يكفي عن �صدقه كذبه!‬

‫ويقول الإمام اجلرجاين يف التعليق على هذا البيت‪�( :‬أراد‪ :‬كلفتمونا‬ ‫�أن جنري مقايي�س ال�شعر على حدود املنطق‪ ،‬ون�أخذ نفو�سنا فيه بالقول‬ ‫املحقق‪ ،‬حتى ال ندعي �إال ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به‪،‬‬ ‫ويلجئ �إىل موجبه)‪ .‬فك�أنه خطاب من ال�شعر �إىل النرث‪� ،‬أو �إىل كل ما‬ ‫‪34‬‬


‫لي�س ب�شعر‪ ..‬وهكذا نرى �أن ال�شقة لي�ست بعيدة بني الر�أيني الغربي‬ ‫والعربي‪ ،‬يف البيان وال�شعر‪ ،‬ويف وظيفة الفن وعمله‪ ،‬بل ق�صارانا‬ ‫نف�صل بلغة الع�رص وا�صطالحه‪ ،‬حقيقة عرفها العرب من قدمي‬ ‫�أن ّ‬ ‫الزمان‪.‬‬ ‫مر بنا �أن الفن يف جوهره حم�ض كذب واختالق �أو �إيهام وتخييل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�أن دنياه خدعة من قلم الأديب �أومن ري�شة امل�صور‪ .‬فهل �أتاك �أي�ض ًا‬ ‫�أن الكذب حاجة يف نف�س الإن�سان‪ ،‬حاجة ال دافع لها‪ ،‬فيكون من‬ ‫وظائف الفن‪ ،‬بل من �أج ّل وظائفه �ش�أن ًا‪ ،‬كفاية تلك احلاجة؟‬ ‫يزعم نيت�شه �أن الأوهام وال�ضالالت كانت‪ ،‬ومل تزل‪ ،‬القوى املعنوية‬ ‫للإن�سان‪ ،‬امل�سلية �إياه‪ ،‬و�أن احلقائق كانت‪ ،‬ومل تزل‪ ،‬عاجزة عن ت�أدية‬ ‫هذه اخلدمة الواجبة‪ ،‬بتعزيته يف �أتراحه وت�سليته عن همومه‪ .‬وقد‬ ‫أم�س حاجة يح�سها الب�رش‪ ،‬حاجتهم �إىل‬ ‫ن�ش�أ عن ذلك �أن �أ�صبحت � ّ‬ ‫الفرار من الواقع الذي هم فيه‪ ،‬والنجاة منه‪ .‬فكان خري ما ُوفقوا �إليه‬ ‫من الو�سائل لبلوغ هذه الغاية‪« :‬احلب والفن» وكالهما ي�صدر عن‬ ‫اخليال‪ ،‬معلم اخلط�أ وال�ضالل‪� ،‬أي امللكة النف�سية التي ال ي�سعها �أن‬ ‫جتعل جمانني الب�رش عقالء‪ ،‬فهي �إذن تعمل على �أن جتعلهم �سعداء‪.‬‬ ‫ل�سنا ننكر �أن ثمة فن ًا يقوم بتقليد الطبيعة‪ ،‬ويدعو �إىل «�أخذ ن�سخ‬ ‫أف�ضل من هذا الفن‪،‬‬ ‫طبق الأ�صل» عن هذا الواقع الذي نحن فيه‪ ،‬ولكن � ُ‬ ‫يف كفاية احلاجة التي و�صفها نيت�شه وكثريون غريه من املفكرين‬ ‫واحلكماء‪ ،‬ذلك الفن الآخر الذي ال ي�ست�سلم �إال خلطرات اخليال‪ ،‬في�سحر‬ ‫النا�س باخرتاعاته اجلميلة وتلفيقاته الأنيقة‪ .‬كل ما يف هذا الفن‬ ‫حم�ض كذب‪ ،‬وال �شيء فيه بق�صد احلقيقة‪ .‬فهو ال يكون تبع ًا لبيئته‬ ‫وع�رصه‪ ،‬وال للنامو�س الأخالقي والأو�ضاع االجتماعية‪ ،‬وال ل�صدق‬ ‫‪35‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫النظر و�صحة الفكر‪ ،‬بل �إنه ‪ -‬كما يقول �إتيان راي �أي�ض ًا ‪ -‬ي�سكن‬ ‫عامل ًا حم�سوراً ال تلج بابه احلقيقة اململة املحزنة‪ ،‬بل فيه ت�رسح‬ ‫الأ�ساطري واخلرافات والأوهام والرموز‪ ،‬حرة طليقة‪ ،‬حتت �سماوات‬ ‫خيالية تزينها الكواكب الدرية‪.‬‬ ‫وهلل‪ ،‬ما عند ال�شعراء من �أكاذيب م�ستحبة !‬ ‫كذب‪ ،‬لي�ست احلقيقة من همومه وال‬ ‫�إذا ّ‬ ‫�صح �أن الفن يف جوهره ٌ‬ ‫�إظهار احلقيقة من غاياته‪ ،‬و�أن الفن ب�أكاذيبه امل�ستحبة ي�ؤدي للإن�سان‬ ‫خدمة من �أج ّل اخلدم‪ ،‬بتعزيته يف �أتراحه وت�سليته عن واقعه اململ‪،‬‬ ‫فهاكم ق�ضية ثالثة ن�أتي الآن على ذكرها‪ ،‬وهي �أن احلقيقة يف الفنون‬ ‫هينة مي�سورة‪ ،‬على حني �أن الأكاذيب اجلميلة التي ت�ستهوي الأفئدة‬ ‫وت�سحرها‪ ،‬لي�ست هينة وال مي�سورة‪ .‬وباحلقيقة‪ُّ � ،‬أي الأمرين �أي�رس على‬ ‫الفنان‪� :‬أن ي�صف لك �رشطي ًا بلبا�سه الر�سمي‪ ،‬على من�صة يف �ساحة‬ ‫ال�شهداء‪ ،‬بيده هراوة لي�ست كع�صا مو�سى فيوهمك �أنه ب�سحرها يحرك‬ ‫ال�سيارات‪� ،‬أم �أن ي�صف �إحدى اجلنيات احل�سان والكواعب الأتراب؟‬ ‫ب�رشط �أن يجيد الو�صف يف احلالني‪ ،‬و�إجادة الو�صف لي�ست تنال �إال‬ ‫بقوة الإيهام والتخييل‪ ،‬تلك القوة التي حتملك من دنيا الواقع �إىل دنيا‬ ‫الفن‪ .‬ثم �أي الأمرين �أي�رس على الفنان؟ �أن ي�صف رو�ضة موجودة فع ًال‪،‬‬ ‫وي�ؤذن لنا بالتنزه فيها كل م�ساء‪� ،‬أم �أن ي�صف لك جنات النعيم التي‬ ‫ُو ِعد املتقون؟‬ ‫ويف هذا املعنى �أي�ض ًا يقول �أناتول فران�س‪« :‬لي�س مو�ضوع الفن‬ ‫احلقيقة‪ .‬ينبغي �أن تطلب احلقيقة يف العلوم لأن مو�ضوعها احلقيقة‪،‬‬ ‫وال يجوز �أن تطلب يف الأدب الذي ال ي�صح �أن يكون مو�ضوعه �شيئ ًا‬ ‫غري اجلمال»‪.‬‬ ‫‪36‬‬


‫فما هو هذا اجلمال الذي جعله �أناتول فران�س مو�ضوع ًا للأدب‬ ‫ول�سائر الفنون؟ �أهو جمال الطبيعة‪� ،‬أم ثمة نوع �آخر من اجلمال‪،‬‬ ‫م�ستقل متميز‪ ،‬ت�سميه‪ ،‬جمال الفن؟‬ ‫�إن العامة وكثرياً من اخلا�صة ال يفرقون بني هذين النوعني‪ ،‬رغم‬ ‫�أنهما خمتلفان جداً‪ .‬فهم يطلبون يف الفن ما يروقهم يف احلياة‪� ،‬أعني‬ ‫�أنهم ي�س�ألون امل�صور �أن ي�صور لهم‪ ،‬واملثال �أن مي ِّثل ‪� -‬أنا�س ًا كالأنا�س‬ ‫الذين ُيعجبون بهم يف هذه الدنيا‪ ،‬و�أ�شياء كالأ�شياء التي يحبونها يف‬ ‫الق�صا�ص �أن يختار لق�ص�صه �أبطا ًال‬ ‫الواقع وي�شتمونها‪ .‬وهم ي�س�ألون ّ‬ ‫من ذلك الطراز‪ ،‬جديرين‪ ،‬لو كانوا من حلم ودم‪ ،‬باحلب والعطف‬ ‫والتجلة والإعجاب‪ ،‬ثم �أن يحدثهم يف النهاية ‪ -‬والأمور بخواتيمها‬ ‫ عن غلبة احلق على الباطل‪ ،‬والف�ضيلة على الرذيلة‪ ،‬و�إال ف�إن هذا‬‫امل�ؤلف ال يقوم بواجب فنه‪ .‬يريد العامة �أن تكون الفنون‪ ،‬ويف جملتها‬ ‫الأدب‪ ،‬مر�آة تنعك�س على �صفحتها ال�صقيلة‪ ،‬املثل العليا التي تقوم‬ ‫يف �أذهانهم‪ :‬لي�س ثمة �إال جمال واحد هو اجلمال الذي يعرفونه يف‬ ‫الطبيعة واحلياة‪� ،‬سواء �أكان مادي ًا وهو جمال اجل�سد‪� ،‬أم معنوي ًا وهو‬ ‫فقبح (مادي �أو معنوي �أي�ض ًا) ال ي�ستطيع الفن‪،‬‬ ‫جمال الروح‪ ،‬وما عداه ٌ‬ ‫مهما �أوتي من قوة ال�سحر‪� ،‬أن يقلبه جما ًال ي�ستهوي الأب�صار ويخلب‬ ‫الأفئدة‪ .‬ف�إذا نحن قلنا �إن الفن قادر على �أن يجعل تلك ال�صور املنكرة‬ ‫القبيحة يف الطبيعة‪� ،‬صوراً جميلة م�ستحبة فيه‪ ،‬فقد قلنا �إذن قو ًال �إداً‪،‬‬ ‫وخبطنا على غري هدى‪ .‬وهلل‪ ،‬ما �أكرث الق�ص�ص التي ت�ستغل يف العامة‬ ‫هذا الذوق الآفن‪ ،‬ومتدهم يف �ضاللهم! ف�إنها ت�ؤلف نوع ًا على هام�ش‬ ‫الأدب‪ ،‬هو الأدب التجاري ال�رصف الذي ال هموم فنية فيه‪ ،‬وال قيمة‬ ‫له غري الثمن الذي ي�رشى به‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫يف �أ�صول الإن�شاء‬

‫قد تكون �صورة الغادة احل�سناء غاية يف القبح‪� ،‬إذا خرجت من يد‬ ‫ر�سام عاجز �أحمق‪ ،‬كما تكون �صورة املر�أة الدميمة �آية يف اجلمال‪،‬‬ ‫�إذا خرجت من يد ر�سام لبق �صناع‪� .‬أل�ست ترى فال�سكيز ورامربند‬ ‫وغريهما من م�شاهري الر�سامني‪ ،‬تزدان جدران املتاحف بطرفهم‬ ‫الفنية التي متثل �أنا�س ًا‪ ،‬لو ب�رصت بهم يف الطريق لوليت منهم فراراً‪،‬‬ ‫أمر عليهم �أولئك الفنانون ري�شتهم‬ ‫وملئت منهم رعب ًا‪ ،‬لكنك ‪ -‬الآن وقد � ّ‬ ‫ال�ساحرة ‪ -‬تقف عندهم وتدنو منهم وتقبل عليهم‪ ،‬معجب ًا م�أخوذاً؟ �إذا‬ ‫مل يكن �إال جمال واحد هو اجلمال الطبيعي‪ ،‬ومل يكن من عمل للفن �إال‬ ‫�أن ينقل لنا هذا اجلمال الفذ وميثله لأعيننا‪ ،‬فال ب�أ�س �أن جنعل تلك‬ ‫الآيات �أو الطرف الفنية طعمة للنار‪ ،‬وبئ�س امل�صري!‬ ‫فال�رشط الأول والآخر �إذن‪ ،‬هو ذلك التجويد الذي �أو�صى قدامة‬ ‫ابن جعفر ب�أن يتوخاه ال�شاعر‪ ،‬حينما �أجاز له كل �شيء ومل يلزمه �إال‬ ‫بهذا ال�شيء‪ ،‬واحلق �أنه‪ ،‬فيما نحن ب�صدده‪ ،‬كل �شيء‪ .‬وال يعني هذا �أن‬ ‫اجلمال الطبيعي واجلمال الفني �ضدان ال يجتمعان‪ ،‬بل قد يجتمعان‬ ‫فع ًال‪ .‬فلي�س ما يحظر على الق�صا�ص �أن ي�صور لنا يف ق�صته بط ًال‬ ‫متحلي ًا بال�صفات التي ُتعجبنا يف احلياة‪� ،‬أو حديقة غناء نود لو‬ ‫نق�ضي يف ظاللها �ساعة من �ساعات النعيم‪� ،‬أو موقف �رشف وكرامة‬ ‫يتمنى �أغلب النا�س �أن يكون لهم مثله‪ .‬ولكن لي�س ما يحظر عليه �أي�ض ًا‬ ‫�أن ي�صور لنا نقي�ض تلك ال�صور جميع ًا‪ ،‬ف�إذا �أجاد و�أح�سن كان لزام ًا‬ ‫ل�صور فنٍ جميلة‪.‬‬ ‫علينا �أن نقول‪� :‬إنها‬ ‫ُ‬ ‫روى م�ؤرخو الآداب الغربية �أن املدر�سيني (�أو الكال�سيني) من‬ ‫الإغريق والالتني والفرن�سي�س‪ ،‬كانوا يرون اجلبال قبيحة‪� ،‬أو �أنها‬ ‫لي�ست على �شيء من اجلمال‪ .‬فلما جاء الرومانطيون ر�أوا على ال�ضد‪،‬‬ ‫‪38‬‬


‫�أنها جميلة رائعة‪ ،‬غاية يف الروعة واجلمال‪ ،‬و�أنها جديرة ب�أن تكون‬ ‫مادة للآداب والفنون‪ .‬وكذلك كان املدر�سيون من الفرن�سي�س يرون يف‬ ‫احلدائق املن�ضدة املجملة على الطراز الفرن�سي يف عهد لوي�س الرابع‬ ‫ع�رش‪ ،‬مث ًال �أعلى يف اجلمال‪ ،‬فقال الرومانطيون بعدهم‪� ،‬إنها غاية يف‬ ‫القبح‪ ،‬و�إن املثل الأعلى هو يف الطبيعة العذراء التي مل تن�ضد تن�ضيداً‪،‬‬ ‫ومل تر�صف ر�صف ًا‪ ،‬ومل تزينها يد الإن�سان‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬يختلف نظر النا�س �إىل الطبيعة وجمالها باختالف الأزمنة‪،‬‬ ‫ع�رص ح�سن ًا‬ ‫فتكون �آداب الأمم وفنونها جملى لهذا االختالف‪ .‬ويرى‬ ‫ٌ‬ ‫مل يره الع�رص الغابر على �شيء من احل�سن‪ .‬فك�أن للطبيعة وجوه ًا‬ ‫�شتى تبدو وتغيب‪ ،‬وك�أن الآداب والفنون مر�آة عجيبة حتفظ لنا كل‬ ‫تلك الوجوه الزائلة‪ ،‬املتجددة �أبداً‪.‬‬ ‫(حديث �أذيع من راديو بريوت يف �أول ت�رشين الثاين �سنة ‪)1938‬‬

‫‪39‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫‪40‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬ ‫عندنا كلمة عامية وا�ضحة املعنى‪ ،‬بارزة الداللة‪ ،‬مثل كثري من‬ ‫الكلمات العامة‪ ،‬يقولها كل واحد منا حني يلتب�س عليه �أمر من الأمور‪،‬‬ ‫وال يهتدي �إىل وجه احليلة فيه‪ ،‬يقول‪� :‬رشبوكة! يقولها يف �إظهار‬ ‫تعر�ض له �أو‬ ‫حريته �أو متحله الأعذار‪ ،‬لعجزه عن حل امل�شكلة التي ُ‬ ‫ُي�س�أل ر�أيه فيها‪ ،‬ف�إذا �أعيته احليلة �أهملها و�رصف النظر عنها‪� ،‬إال �إذا‬ ‫كانت مما ال منا�ص من حله واخلروج منه‪ ،‬على �أي وجه كان‪.‬‬ ‫�أما القا�ضي الذي ي�س�أل الف�صل يف �إحدى الق�ضايا‪ ،‬فال ي�سعه �أن‬ ‫يقول ذات يوم‪ ،‬وهو على من�صة احلكم‪�« :‬رشبوكة ! تلك ق�ضية ال تفهمها‬ ‫املحكمة‪ ،‬فهي �إذن لن تف�صل فيها‪� ..‬أيها اخل�صمان‪ ،‬ان�رصفا وانظرا‬ ‫ماذا ت�صنعان»‪ .‬للقا�ضي �أن يرد الدعوى بناء على عدم �صالحيته‬ ‫القانونية‪ ،‬ولكن لي�س له �أن يردها بناء على عدم �صالحيته العقلية‪:‬‬ ‫هذا ما ال جدال فيه‪ ،‬وهو يف الوقت نف�س مدعاة للأ�سف ال�شديد والي�أ�س‬ ‫‪41‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫املطبق‪� ،‬إذ القا�ضي ب�رش مثلنا‪ ،‬وقد تعر�ض عليه ق�ضايا عوي�صة‬ ‫مبهمة مركبة‪ ،‬ال يعرف لها ر�أ�س من ذنب‪ ،‬يرى �أنه ال ي�ستطيع �أن‬ ‫يعدل فيها عد ًال تام ًا �أو قريب ًا من الكمال‪� .‬إن القا�ضي حاكم حمكوم‬ ‫عليه ب�أن يحكم‪ ،‬وما يدريكم؟ لعل احلكم الذي ي�ضطره القانون �إىل‬ ‫�إبرامه دائم ًا ومهما يكن من الأمر‪ ،‬هو ابن عم الظلم‪ ،‬ومل نقل �إنه الظلم‬ ‫الفاح�ش بعينه‪ ،‬كي ال نتهم بال�شطط واملبالغة‪.‬‬ ‫كان الفيل�سوف الفرن�سي مونتاين يرى من حق القا�ضي �أن يف�صل‬ ‫يف تلك الق�ضايا املع�ضلة امل�شكلة بقرار من هذا النوع‪�« :‬إن املحكمة‬ ‫مل تفهم» �أو يفتح رئي�س املحكمة ذراعيه‪� ،‬إ�شارة العجز واحلرية‬ ‫واال�ست�سالم‪ ،‬دون �أن ينب�س ببنت �شفة‪ ،‬فيكون احلكم �صامت ًا‪ .‬كان‬ ‫مونتاين يرى �أن يعطى القا�ضي هذا احلق‪ ،‬و�إال فال مندوحة له عن �أن‬ ‫ي�سلك يف حل ال�رشابيك �أو املع�ضالت‪ ،‬تلك الطريقة املثلى التي اختطها‬ ‫حد بعيد‪،‬‬ ‫قا�ض من ق�ضاة الق�ص�ص والأ�ساطري‪ ،‬وكان فيها موفق ًا �إىل ّ‬ ‫فقد كان يلج�أ �إىل الرند ‪ -‬هبيك‪ ،‬دو�ش�ش ‪ -‬وهو �أعدل احلاكمني‪..‬‬ ‫�إذا كان مق�ضي ًا على القا�ضي �أن ي�صدر حكمه دائم ًا ويف كل حال‪،‬‬ ‫�سواء �أ َفهِ م �أم مل يفهم‪ ،‬وعدل �أم مل يعدل‪ ،‬خمافة �أن يحكم العامة على‬ ‫الق�ضاء نف�سه بالعجز والتق�صري‪ ،‬فلي�س �أمر الناقد الأدبي‪ ،‬على ما نظن‪،‬‬ ‫كذلك‪ .‬لي�س ثمة ما ي�ضطر الناقد الذي ينظر يف كتاب �أو كاتب ما‪،‬‬ ‫ليحدث عنه القراء‪� ،‬إىل �إبرام حكم قطعي جازم على الكاتب �أو كتابه‪،‬‬ ‫مهما بلغ منه هو�س احلكم‪ .‬وبالفعل‪� ،‬إن �أغلب اخللق مبتلون بهذا‬ ‫الهو�س املقيم املعقد‪ ،‬ال تكاد تنتهي من الكالم‪ ،‬حتى ُيفاجئوك‪ ،‬وهم‬ ‫أحر من اجلمر‪ ،‬بهذا ال�س�ؤال املفحم حين ًا‪ ،‬البليد �أحيان ًا‪ ..‬يقولون‪:‬‬ ‫على � ّ‬ ‫«و�أخرياً؟ ذلك الكتاب‪� ،‬أ�سخافة هو �أم �آية يف الفن؟ وذلك الكاتب‪� ،‬أنابغ‬ ‫‪42‬‬


‫هو �أم رجل �أحمق»؟ وقد �أق�سموا �أن ال يرتكوك �أو جتيب؟‬ ‫ال مراء يف �أن احلياة وجهادها امل�ستمر يرغمان �أبناءها‪� ،‬أكرث‬ ‫الأوقات‪ ،‬على �إ�صدار �أحكام مربمة ال يت�رسب �إليها ال�شك وال يثنيها‬ ‫الرتدد‪ ،‬كي يختطوا لأنف�سهم ال�سبل القومية املالئمة لق�ضاء �ش�ؤونهم‬ ‫وبلوغ م�آربهم‪� -‬أعني �إذا كانت هذه احلياة التي نحياها‪ ،‬وهذه الدنيا‬ ‫التي ن�ضطرب فيها‪ ،‬ال تت�سعان �إال لأهل العزمية النافذة واليقني‬ ‫ال�صارم‪ ،‬فلي�س الأمر كذلك يف الآداب والفنون‪ .‬لقد �أعطيتم القا�ضي‬ ‫قانون ًا وقلتم له‪« :‬اق�ض بني النا�س وفق ًا لبنود هذا القانون‪ ،‬وطبق ًا‬ ‫لأوامره ونواهيه»‪ .‬فماذا �أعطيتم الناقد الأدبي من هذا القبيل؟ وما هي‬ ‫الد�ساتري الأدبية �أو الفنية املجمع عليها �إجماع ًا ال ي�أتيه الباطل؟‬ ‫مر الزمان و�صقلتها التجربة‪ ،‬لكن‬ ‫ال ينكر �أن لدينا مبادئ قد�سها ّ‬ ‫االختالف يف تف�سري هذه املبادئ‪ ،‬ويف فهمها وتطبيقها‪ ،‬عظيم جداً‪،‬‬ ‫�أعظم من اختالف الق�ضاة وعلماء ال�رشيعة يف تف�سري �أحكام القانون‪،‬‬ ‫ويف فهمها وتطبيقها‪ ،‬بطبيعة احلال‪ .‬و�سبب ذلك ب�سيط غاية يف‬ ‫مرد �أحكام القانون‪ ،‬ويف النهاية‪� ،‬إىل العقل‪ ،‬بينما‬ ‫الب�ساطة‪ ،‬هو �أن ّ‬ ‫مرد �أ�صول النقد الأدبي والفني‪� ،‬أو ًال و�آخراً‪� ،‬إىل الذوق‪ .‬والنا�س‪ ،‬كما ال‬ ‫ُّ‬ ‫يخفى‪ ،‬يتفقون يف امل�سائل العقلية �أكرث مما يتفقون يف �أذواقهم‪ ،‬حتى‬ ‫�أنهم قالوا‪ ،‬بل قالت حكمة الأمم‪« :‬ال جدال يف الذوق» ف�أغلق الباب‪،‬‬ ‫وقطعت جهيزة قول كل خطيب‪.‬‬ ‫وال دليل على اختالف النا�س يف ذائقتهم الأدبية‪� ،‬أبني و�أن�صع من‬ ‫ال�صعوبة التي ي�صطدم بها �أحدنا‪ ،‬وك�أنه ي�صطدم بجدار‪ ،‬كلما حاول‬ ‫�أن يحدد هذه امللكة النف�سية اخلا�صة التي ي�سمونها‪ :‬الذوق‪ ،‬وبها ال‬ ‫بعقلنا الراجح �أو القا�رص‪ ،‬نحكم على الآثار الأدبية ونقدرها قدرها‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫فالتعريف يجب �أن يكون جامع ًا مانع ًا‪ ،‬وماذا ‪ -‬باهلل عليكم ‪ -‬يجمع‬ ‫كل الأذواق‪� ،‬أو مينع عنها ما لي�س منها يف �شيء؟ وال نن�سى �أن للعدوى‬ ‫والتقليد �أثرهما البليغ يف رواج تلك الأ�صناف من ال�سلعة الأدبية �أو‬ ‫جمودها يف ال�سوق‪ ،‬حتى �أنها لت�شبه من وجوه �شتى‪ ،‬الأ�شكال والأزياء‬ ‫التي ت�شيع اليوم لتغيب غداً‪ ،‬ثم ال تلبث �أن تعود‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬ينبغي‬ ‫�أن ننتظر طوي ًال كي نرى الزبد يذهب جفاء‪ ،‬وميكث يف الأر�ض ما‬ ‫ينفع النا�س‪ ..‬ينبغي �أن نعت�صم بال�صرب الطويل‪� ،‬صرب التاريخ‪ .‬ولكن‬ ‫امل�شكل �أنه حينما يكون «تاريخ» فنحن ال نكون‪� ..‬رشبوكة!‬ ‫وهلل‪ ،‬ما �أكرث الأخطاء التي تعتور الأحكام الأدبية �أو الفنية ! ف�إن‬ ‫جتارب نقاد الأدب وم�ؤرخيه‪ ،‬حتذرنا من مغبة هو�س احلكم �أن ال‬ ‫نطيعه وال ن�ست�سلم �إليه‪ .‬وك� ّأي من �أديب غربي رفعه ع�رصه و�أعظم‬ ‫من�سي‪ ،‬و�آخر مل يحفل به الذين عا�رصوه‬ ‫�ش�أنه‪ ،‬ف�إذا هو اليوم ن�سي‬ ‫ّ‬ ‫ف�إذا هو يف عليني‪ .‬و�إمنا ذكرت الأدب الغربي‪ ،‬لأن ن�شاط احلياة‬ ‫الأدبية هنالك‪ ،‬وجتددها الدائم‪ ،‬يجلوان هذه احلقيقة ب�أجلى مظهر‪.‬‬ ‫ولكن �أال جتدون طرف ًا من هذا‪ ،‬يف بيت الذع قاله املتنبي‪ ،‬قبل �أن‬ ‫يلقبه التاريخ مبالئ الدنيا و�شاغل النا�س‪ ،‬يف فجر حياته �إذ كان ال‬ ‫يحفل به الذين عاي�شوه؟‬

‫�أنا يف �أمة‪ ،‬تداركها اللّــ‬

‫غريب ك�صالح يف ثمود‬ ‫ـه‬ ‫ٌ‬

‫ف�أكرب الظن �أن املتنبي‪ ،‬حني �شكا غربته بني قومه‪ ،‬مبا نح�سه يف‬ ‫تفجع بليغ‪ ،‬وحت�سرُّ مذيب‪ ،‬مل يعن ذلك ال�شيء اجلوهري‬ ‫هذا البيت من ُّ‬ ‫عندنا‪ ،‬الذي يالزم ا�سم املتنبي‪ ،‬وهو ال�شعر‪ ،‬بل عنى �شيئ ًا ال يعنينا‬ ‫نحن البتة‪� ،‬أو على الأقل‪ ،‬ال ميت �إىل ال�شعر �إال ب�سبب بعيد‪ :‬لقد كان‬ ‫‪44‬‬


‫املتنبي يف ذلك العهد مرتدداً بني عبقرية ال�شعر وعبقرية العمل‪ ..‬لهذا‬ ‫�أنا �أ�ؤثر �أن ال �أعرف يف �أي عهد‪ ،‬وال لأية منا�سبة قال املتنبي هذا‬ ‫ؤذن‬ ‫البيت من ال�شعر‪ ،‬كي يوحي �إ ّ‬ ‫يل ما يوحي‪ ،‬دون �أن ينقطع وحيه‪ .‬لي� ْ‬ ‫يل �أن �أجتاهل الظرف‪ :‬ظرف الزمان وظرف املكان‪ ،‬الذي ُولد فيه بيت‬ ‫من ال�شعر مل يزل بعد �ألف �سنة‪ ،‬يف ميعة ال�شباب‪ ،‬حي ًا بحياته‪ ،‬قوي ًا‬ ‫بقوته‪ ،‬موجوداً بذاته‪ .‬لقد حذرتكم وحذرت نف�سي من هو�س احلكم‪،‬‬ ‫و�أحب الآن �أن �أحدثكم عن هو�س التاريخ‪ ،‬فلي�س هذا ب�أقل من ذاك‬ ‫حتكم ًا وا�ستبداداً بالأذهان‪� ،‬أذهان امل�ؤلفني والقارئني على ال�سواء‪.‬‬ ‫منذ نحو خم�سة �أعوام �أخرج امل�ست�رشق الفرن�سي بال�شري كتاب ًا‬ ‫در�س فيه حياة املتنبي و�شعره‪ ،‬هو وال مراء‪� ،‬أف�ضل ما �ص َّنفه �رشقي‬ ‫�أو غربي يف املو�ضوع‪ ،‬على كرثة ما كتب الكاتبون فيه‪ ،‬ال �سيما‬ ‫ملنا�سبة (ذكرى الألف) التي ال �إخالكم ن�سيتموها‪ .‬وال نكون مبالغني‬ ‫�إذا قلنا �إن هذا البحث القيم يف التاريخ الأدبي‪ ،‬ب�سعة �إحاطته‪ ،‬وح�سن‬ ‫طريقته‪ ،‬ي�صح �أن نعده �أمنوذج ًا ح�سن ًا لهذه املباحث على �إطالقها‪،‬‬ ‫بل الأمنوذج الأح�سن الأمثل‪ .‬وقد ق�سم امل�ؤلف كتابه ق�سمني‪ :‬يف‬ ‫الق�سم الأول �أتى على �سرية ال�شاعر العظيم‪ ،‬بتحقيق العامل الذي را�ض‬ ‫نف�سه على �أ�ساليب العلم احلديثة يف بحث التاريخ الأدبي‪ ،‬ريا�ضة ال‬ ‫نكاد جند لها �أثراً عند علمائنا الأعالم‪ ،‬حتى الذين تلقوا هذا العلم عن‬ ‫�أهله يف ديار الغرب‪ ،‬لعلة �أو �سل�سلة من العلل �أدع لكم م�ؤنة تدبرها‪،‬‬ ‫�إذ �أنها لي�ست مو�ضوع الكالم‪ ..‬ويف الق�سم الثاين در�س بال�شري �شعر‬ ‫املتنبي يف العامل العربي ويف �آثار امل�ست�رشقني‪ ،‬خالل �ألف عام مرت‬ ‫على وفاة ال�شاعر‪ ،‬ما ترك �شاردة �أو واردة‪ ،‬خمطوطة �أو مطبوعة‪،‬‬ ‫�إال �أح�صاها‪ .‬لكنه يف هذا الق�سم الأخري‪ ،‬مل يخرج �أي�ض ًا من التاريخ‪،‬‬ ‫‪45‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫فك�أنها �سرية املتنبي بعد موته‪� ،‬أو فلنقل‪� :‬سرية �شعره الذي قال هو‬ ‫يف «�سريورته»‪:‬‬ ‫وما الدهر �إال من رواة ق�صائدي‪� :‬إذا قلت �شعراً �أ�صبح الدهر من�شدا‬ ‫ف�ســار بـه من ال ي�ســــري‪ ،‬مثمراً‪ ،‬وغنى بـــــه من ال يــــــغني‪ ،‬مغـردا‬

‫وعلى هذا‪ ،‬يكون املتنبي �صادق ًا يف نبوءته �إن يك قد عنى‬ ‫باملقعدين الذين حملوا �شعره و�ساروا به م�شمرين‪ ،‬ع�رصاً فع�رصاً‪،‬‬ ‫وم�رصاً فم�رصاً‪ ،‬جمهرة ال�رشاح وامل�ؤرخني‪� .‬أما ذلك الآدمي الذي‬ ‫غنى ب�شعره مغرداً‪ ،‬وكان عهدنا به ينعب كالغراب‪ ،‬ف�أمهلوين �أحدثكم‬ ‫عنه بعد حني‪.‬‬ ‫�أعرف كتاب ًا عن �أبي العالء املعري‪ ،‬هو �أول ثالثة �أو �أربعة من‬ ‫الكتب‪� ،‬أح�سن بها ع�رصنا �إىل ال�شاعر احلكيم الفذ يف �أدبنا العربي‪،‬‬ ‫�صدقة لوجه التاريخ‪ .‬فهذا الكتاب يقع يف نحو �أربعمئة �صفحة من‬ ‫القطع املتو�سط‪ ،‬مكتوبة بذلك الأ�سلوب املتمطي ب�صلبه كليل امرئ‬ ‫القي�س‪ ،‬خ�ص امل�ؤلف ب�ستني منها‪ ،‬ال �أكرث وال �أقل‪� ،‬أدب املعري �شعراً‬ ‫ونرثاً‪ ،‬يف الطور الأول والثاين والثالث من حياته الأدبية‪ ،‬عار�ض ًا‬ ‫للمديح والفخر والو�صف والرثاء‪ ،‬ومل يل ُه عن الن�سيب‪ ،‬متكلم ًا على‬ ‫الدرعيات واللزوميات‪ ،‬ناظراً يف الر�سائل ور�سالة الغفران بنوع‬ ‫خا�ص‪ .‬وقد ا�ستطاع �أن يقارن فيها بني �أبي العالء من جانب‪ ،‬وبني‬ ‫عدي بن زيد و�أبي نوا�س وابن �سينا واملتنبي و�أبي العتاهية وغريهم‪،‬‬ ‫يف اجلانب الآخر‪ .‬ومل ين�س دانتي الطلياين وملنت الإنكليزي‪ ،‬فك�أنه‬ ‫يوم احل�رش‪� .‬أما �شوبنهور الأملاين‪ ،‬داعي دعاة الت�شا�ؤم‪ ،‬فكان مذهبه‬

‫‪46‬‬


‫يومذاك‪ ،‬مل يزل يف الطريق قا�صداً الأقطار العربية‪ ،‬فتمكن من النجاة‬ ‫بنف�سه‪ .‬تلك املقالة املعجزة التي و�سعت كل هذه الأ�شياء‪( ،‬ومرغليوث‬ ‫�أي�ض ًا) �ألي�س عجيب ًا �أن يظل فيها مت�سع لدر�س �أدب املعري �شعراً‬ ‫ونرثاً؟ �أما بقية ف�صول الكتاب فقد �أُنفقت على التاريخ ويف �سبيل‬ ‫التاريخ‪ ،‬عن �سعة‪ .‬فغرق البحث الأدبي ال�رصف يف �أوقيانو�س من‬ ‫البحوث التاريخية على �أنواعها‪ :‬من التاريخ ال�سيا�سي‪� ،‬إىل التاريخ‬ ‫االجتماعي‪ ،‬فالتاريخ الديني‪ ،‬حتى التاريخ االقت�صادي؟ وال نن�سى‬ ‫�أن تلك املقالة التي وقفها امل�ؤلف على در�س �أدب املعري‪ ،‬كانت �أي�ض ًا‬ ‫يف التاريخ الأدبي‪ ..‬طوفان من التاريخ!‬ ‫�أذكر �إذ كنا يف ال�صف على مقاعد الدرا�سة‪ ،‬ونحن ب�ضعة ع�رش‬ ‫طالب ًا‪ ،‬وقد اقرتح علينا معلم الإن�شاء العربي �أن نكتب يف مو�ضوع‬ ‫ل�شد ما كان عجبنا يف اليوم املوعود‪ ،‬حني �أخذ كل منا يتلو‬ ‫احلرية‪ّ ..‬‬ ‫على الأ�ستاذ ما جادت به قريحته‪ ،‬فما من طالب �إال ا�ستهل مقاله‬ ‫هكذا‪�« :‬أتى على الإن�سان حني من الدهر مل يكن فيه �شيئ ًا مذكوراً»‪.‬‬ ‫�ألي�س جمي ًال هذا الإجماع؟ ثم �ألي�س من الطبيعي‪ ،‬وقد تكلم ال�صف‬ ‫بل�سان واحد عن الإن�سان الأول‪� ،‬أن ينتقل هذا ال�صف‪ ،‬وك�أنه يف نزهة‬ ‫مدر�سية‪� ،‬إىل بدء اخلليقة‪ ،‬في�شهد كيف �أبدع اهلل �آدم من احلم�أ امل�سنون‪،‬‬ ‫ثم غ�ضب عليه تعاىل ف�أخرجه من جنته �إىل دنيا العمل واجلزاء؟ �أق�سم‬ ‫لكم �أن ال�صف ب�أ�رسه اجتاز يومذاك الطوفان‪ ،‬متعلق ًا ب�سفينة نوح عليه‬ ‫ال�سالم‪ ،‬حتى قذف بنا التاريخ �أخرياً �إىل �ساحل النجاة‪ ،‬ونحن على‬ ‫�آخر رمق‪ .‬ف�إذا باحلرية امل�سكينة‪ ،‬مو�ضوع احلديث‪ ،‬مازالت بانتظار‬ ‫كلمة نطيب بها خاطرها الك�سري‪ .‬لكن مل يبق لنا من الوقت‪ ،‬وفينا من‬ ‫القوة‪� ،‬إال �أن ن�رصخ هاتفني‪ :‬حتيا احلرية! وهكذا و ّفينا البحث حقه‬ ‫‪47‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫وزيادة‪� :‬شهد بذلك معلمنا الطيب القلب الذي �أحب �أن يعده من قبيل‬ ‫توارد الفكر‪ ،‬لكني �أرجح اليوم �أنه كان من توارد الالفكر!‬ ‫ما �أنا بعدو التاريخ‪� .‬أ�أكون عدو العلم يف هذا املعقل العلمي؟‬ ‫ولندع جانب ًا تلك الفئة من املفكرين الذين زعموا �أن التاريخ فن ال‬ ‫علم‪� ،‬أبحاثه �أ�شبه باحلكايات اخليالية منها باملعارف الثابتة‪ ،‬و�أنه‬ ‫�أخلق �أن يقرن بالق�ص�ص املو�ضوعة‪ ،‬من �أن يرفع �إىل م�صاف العلوم‬ ‫ال�صحيحة‪ ،‬فهذه ق�ضية ل�سنا ب�صددها الآن‪ .‬ولكن ما �أجر�ؤ على �إنكاره‬ ‫وا�ستهجانه هو �أن يغري التاريخ بخيله ورجله على الأدب‪ ،‬فيطغى‬ ‫عليه وي�ستبد مب�صادره وموارده‪ ،‬فيم�سي الأدب تاريخ ًا �رصف ًا‪ ،‬وحقل‬ ‫الأدب م�ستعمرة للتاريخ‪.‬‬ ‫من امل�سلم به �أن اخلا�صة والعامة‪ ،‬بدافع الف�ضول الإن�ساين‪ ،‬هم‬ ‫�سواء يف تولعهم بالأخبار والنوادر والأقا�صي�ص‪ .‬وال ترثيب علينا‬ ‫�إذا قلنا �إنهم �أ�شد بها تولع ًا منهم ب�أي �ش�أن �آخر‪ ،‬ال ي�ؤثرون �شيئ ًا على‬ ‫معرفة ال�شخ�ص وحوادث حياته‪ ،‬حتى الهنات والزالت‪ .‬ولكفاية هذه‬ ‫احلاجة امللحة يف نفو�س القراء‪ ،‬ترى جمهرة الكتاب يكرثون من‬ ‫الت�أليف يف �سري امل�شاهري من رجال الفن والفكر والعمل‪ .‬وقد بلغ‬ ‫بالقارئني االفتتان‪ ،‬وبالكاتبني االفتتان‪� ،‬أن تعاونوا على �إحداث نوع‬ ‫غريب من التاريخ والق�ص�ص‪ ،‬هو ما يدعونه بالق�ص�ص التاريخي‪.‬‬ ‫يف هذا النوع اجلديد من الكتب يجد كل من امل�ؤلف والقارئ ح�سابه‬ ‫موفوراً غري منقو�ص‪ :‬امل�ؤلف ق�ص�صي تكفيه حوادث التاريخ م�ؤنة‬ ‫االخرتاع‪ ،‬والقارئ طالب حقيقة �أو علم يدر�س التاريخ يف الروايات‪..‬‬ ‫وهكذا �شهدنا انعكا�س الآية‪ ،‬ف�إذا ما يجب �أن نبالغ يف االهتمام به‪،‬‬ ‫عند �أي �شاعر �أو ناثر‪� ،‬أعني �شعره �أو نرثه الفني‪ ،‬يف�سح املجال ملا‬ ‫‪48‬‬


‫ي�صح �أن نهتم له بالدرجة الأخرية‪� ،‬أعني �أخباراً م�شكوك ًا يف �صحتها‪،‬‬ ‫وحاالت م�ضطربة‪ ،‬و�أقي�سة ملتوية‪ ،‬يريدون �أن تت�ألف منها �سرية من‬ ‫ال�سري‪ ،‬هي �أقرب �إىل الق�ص�ص املو�ضوع منها �إىل الوقائع الراهنة‪.‬‬ ‫وليتها ق�صة باملعنى ال�صحيح‪ ،‬ال جمموعة حوادث مت�ضاربة م�شو�شة‪،‬‬ ‫معادة معارة‪� ،‬إذن لأخذ على الأقل بالألباب‪ ،‬ما يف ح�سن ت�أليفها‬ ‫ونظامها‪ ،‬ودقة اخرتاعها وتخييلها‪ ،‬من رائع اجلمال‪.‬‬ ‫هل يجدي �شعر ابن �أبي ربيعة مث ًال‪ ،‬علمنا �أنه كان �صادق ًا يف‬ ‫حبه ال كاذب ًا؟ وهل ي�رض ب�شعر املتنبي مث ًال‪ ،‬علمنا �أنه كان كاذب ًا يف‬ ‫مدح �سيف الدولة ال �صادق ًا؟ لنفر�ض �أنهما كانا �صادقني‪ ،‬ثم لنفر�ض‬ ‫�أنهما كانا كاذبني‪ ،‬ولنقلب امل�س�ألة �صدراً لظهر وظهراً ل�صدر‪ ،‬فماذا‬ ‫يكون؟ ماذا يكون بالإ�ضافة �إىل ال�شعر؟ ُترى‪� ،‬أيغ�ض الكذب من قدر‬ ‫�شعرهما‪� ،‬أو يرفع ال�صدق من �ش�أنه؟ لقد كان املتنبي عبقري ًا رغم �أنف‬ ‫ال�صدق والكذب‪ ،‬لعلة ال تت�صل بال�صدق والكذب‪ ،‬فيما وراء ال�صدق‬ ‫والكذب‪ ..‬وبعد‪ ،‬فباهلل عليكم! مع�شوقات ابن �أبي ربيعة من يكن‪،‬‬ ‫وكثري‬ ‫وممدوحو �أبي الطيب من يكونون؟ نبئوين‪َ :‬من ه�ؤالء جميع ًا ‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫�أ�رضابهم‪� -‬إزاء ذلك احلادث الفذ العجيب يف دنيانا‪ ،‬الذي ي�سمونه‬ ‫نبوغ �شاعر‪� ،‬أو ي�سمونه‪ :‬املتنبي؟ كل النا�س خري وبركة‪ ،‬ولكن لكل‬ ‫مقام مقال‪ .‬فاحل�سان اللواتي �شبب بهن ابن �أبي ربيعة‪ ،‬وامللوك �أو‬ ‫الأمراء الذين مدحهم �أبوالطيب �أو هجاهم ‪ -‬وال فرق ‪� -‬سواء �أكان‬ ‫ال�شاعران �صادقني �أم كاذبني‪ ،‬يف الغزل واملدح والهجاء‪� ،‬أرى‪ ،‬بعد‬ ‫اال�ستئذان من �سادتنا م�ؤرخي الأدب‪� ،‬أن ينزوي �أولئك جميع ًا يف‬ ‫زاوية من هام�ش ال�شعر‪ ،‬حيث يلزمون ال�صمت وال�سكون «مت�أدبني»‬ ‫فال يتكلمون �إال حني ُي�س�ألون‪� .‬أما �أن يجعل ال�شعر هام�ش ًا لك�شكول‬ ‫‪49‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫من امللح والنوادر مهما تكن طريفة‪ ،‬ومن الأخبار واحلكايات مهما‬ ‫تكن لطيفة‪ ،‬فهذا ما ال ي�صح �أن يكون‪� .‬إمنا يخلد ال�شاعر ب�شعره‪ ،‬ال‬ ‫ب�رشوح �شارحيه‪� ،‬أو �أخبار م�ؤرخيه‪ ،‬و�أحيان ًا رغم �أنف ال�شارحني‬ ‫وامل�ؤرخني‪.‬‬ ‫�أخذ امل�ست�رشق بال�شري على ك ّتاب العربية املعا�رصين الذين‬ ‫در�سوا املتنبي يف حياته و�شعره‪ ،‬جملة �أمور‪� ،‬أدع منها جانب ًا ما‬ ‫يت�صل بالتحقيق العلمي‪ ،‬و�أ�ساليبه املر�ضية‪ ،‬فل�ست من رجال هذا‬ ‫امليدان‪ .‬وال �أكتمكم �أنه كانت يل يف الدرا�سة العلمية للأدب‪ ،‬على‬ ‫�أحدث �أ�صولها‪ ،‬جتارب قليلة غري موفقة وقفت بي‪ ،‬حل�سن حظ العلم‪،‬‬ ‫يف �أول الطريق‪ .‬قلت لنف�سي ذات يوم‪� :‬إذا كان ثالثة من �أئمة النقد‬ ‫الأدبي يف هذا الع�رص‪ ،‬وهم �سنت بوف وتان وبرونتيار‪ ،‬ناهيك بهم‬ ‫ناهيك‪ ،‬مل ي�ألوا جهداً يف تطبيق مبادئ العلوم الطبيعية و�أ�ساليبها‪،‬‬ ‫ال �سيما الف�سيولوجيا والبيولوجيا‪ ،‬على بحوثهم املمتعة يف �سري‬ ‫الأدب و�سري الأدباء‪ ،‬ومل يوفروا نظرية دارون وال مارك التطورية‪ ،‬فما‬ ‫يعوقنا نحن عن االقتداء بهم‪ ،‬والن�سج على منوالهم‪ ،‬بعد �أن �أ�صبحنا‬ ‫عيا ًال على الغرب يف كل �شيء‪ ،‬حتى �أن رباعيات اخليام والألف ليلة‬ ‫وليلة مل ت�صل �إلينا ب�شق الأنف�س‪� ،‬إال عن طريقهم؟ فا�ستخرت اهلل‪،‬‬ ‫فكان ن�صيبي من العلوم‪ :‬االرمتاطيقي‪ ،‬ومل �أقل‪ :‬احل�ساب‪ ،‬كي نظ َّل‬ ‫جميع ًا �أنا و�أنتم‪ ،‬يف اجلو العلمي ال ينقطع �سحره‪ .‬وبالفعل‪� ،‬أخذت‬ ‫(�ألف ليلة وليلة) وهو يف ر�أي الغرب‪ ،‬كتاب ال�رشق العربي ال كتاب‬ ‫�إ ّاله‪� ،‬أظهر �إعجابه به �أندره جيد‪ ،‬فزعم �أن املفكرين يف العامل هم عنده‬ ‫فئتان ال ثالثة لهم‪ :‬فئة يفعل يف نفو�سهم الكتاب املقد�س وجمموعة‬ ‫غلف مغلقة دون حما�سن هذين ال�سفرين‬ ‫�ألف ليلة وليلة‪ ،‬وفئة �أفئدتهم ٌ‬ ‫‪50‬‬


‫العظيمني‪ .‬بيد �أن �أندره جيد ما لبث �أن ا�ست�شهد بب�ضعة �أبيات من‬ ‫ال�شعر‪ ،‬تتلمظ يف الفرن�سية بو�صف الكنافة‪ ،‬هي مما ي�صح �أن تباهي‬ ‫الكنافة به جميع ما �سواها من �ألوان الطعام‪ ،‬وال ي�صلح لأن يباهي‬ ‫ال�شعر العربي به �شعر �أمة من الأمم‪ .‬ولكن ما لنا ولهذا‪ ..‬ف�إذن‪� ،‬أخذت‬ ‫(�ألف ليلة وليلة) بيد‪ ،‬واالرمتاطيقي باليد الثانية وقلت‪� :‬أح�صي عدد‬ ‫الأ�شخا�ص‪ ،‬ذكوراً و�إناث ًا‪ ،‬الذين يغمى عليهم بني دفتي هذا الكتاب‪،‬‬ ‫لفراق �أو تالق‪ ،‬حلزن �أو فرح‪ ،‬ملر�ض يف القلب �أو ُع�رس يف اله�ضم‪ ،‬ثم‬ ‫أنوعهم �أنواع ًا‪ ،‬و�أ�ص ِّنفهم �أ�صناف ًا‪ ،‬معار�ض ًا مقاب ًال بع�ضها ببع�ض‪،‬‬ ‫� ِّ‬ ‫على نحو ما ي�صنع العلماء يف علمي النبات واحليوان‪ .‬وال حاجة �إىل‬ ‫لدي �أوفر مادة ممكنة عن‬ ‫القول �إنه‪ ،‬منذ الق�ص�ص الأوىل‪ ،‬اجتمعت ّ‬ ‫الإغماء يف خمتلف �أحواله و�أ�شكاله‪ ،‬و�أ�سبابه ونتائجه‪� .‬أحت�سبون �أن‬ ‫علي عملي؟ ال‪ ،‬بل فتى من العا�شقني‪ ،‬عبقري‬ ‫جني ًا �أو عفريت ًا �أف�سد ّ‬ ‫الإغماء‪ ،‬ا�ستطاع �أن يغيب عن �صوابه يف خم�سة �أ�سطر ع�رش مرات‪،‬‬ ‫يزيد �إغماء كلما زادوه �إنعا�ش ًا‪ .‬ف�أعجزين و�أي�أ�سني �صاحب هذا الرقم‬ ‫القيا�سي‪ ،‬الذي مل ي�سبقه �سابق‪ ،‬ولن يلحقه الحق‪ ،‬عافاه اهلل!‬ ‫مما �أخذه بال�شري على كتابنا املعا�رصين‪ ،‬يف �أ�ساليب در�سهم �شعر‬ ‫املتنبي‪ ،‬ما ن�سميه بعد �أن تكلمنا عن هو�س احلكم وهو�س التاريخ ‪-‬‬ ‫ما ال ندحة لنا عن ت�سميته‪ :‬هو�س املقارنة‪ ،‬فتكتمل �أ�ضالع املثلث‪.‬‬ ‫وينطوي هذا التعبري على ب�ضع حاالت �أو هيئات متباينة يف الظاهر‪،‬‬ ‫متماثلة يف الباطن‪ ،‬ذكرها امل�ست�رشق الفرن�سي يف م�ؤلفه النفي�س‪،‬‬ ‫يعد وجه احلق يف واحدة منها‪.‬‬ ‫و�أرى �أنه مل ُ‬ ‫ود فريق من الباحثني لو يكون املتنبي‪ ،‬يف ع�رص النه�ضات‬ ‫ّ‬ ‫والقوميات هذا‪ ،‬داعية القومية العربية‪ ،‬و�شاعر الوطنية الأكرب‪ .‬ولي�س‬ ‫‪51‬‬


‫�أ�ساليب يف در�س الأدب‬

‫بني هذه الرغبة يف نفو�سنا وبني �أن جند كفايتها يف جزء من �شعر �أبي‬ ‫الطيب و�سريته‪� ،‬أو نتوهم ذلك‪� ،‬إال خطوة ق�صرية‪ .‬ولعمري‪ ،‬هل ت�ستغني‬ ‫�أمة من الأمم‪ ،‬يف فجر حياتها اال�ستقاللية ونه�ضتها ال�سيا�سية‪ ،‬عن‬ ‫�شاعر فحل ميثل عواطفها و�آمالها ومطامعها ومطاحمها؟ ف�إذا كانت‬ ‫هذه النه�ضة يعوزها �شاعر من احلا�رضين ميدها بعبقريته‪ ،‬ويحدوها‬ ‫ب�إن�شاده‪ ،‬فال ب�أ�س ب�أن ت�ستنجد ب�شاعر يف الغابرين‪ ،‬ميثل روح الأمة‬ ‫اخلالدة و�أمانيها العزيزة‪ .‬فكان املتنبي ذلك ال�شاعر‪ ،‬نقارن بينه‬ ‫وبني �شعراء الأمم يف م�شارق الأر�ض ومغاربها غري هيابني‪ ،‬بعد �أن‬ ‫خلعنا عليه مذهبنا ال�سيا�سي عنوة‪ ،‬وخرطناه «يف احلزب»‪.‬‬ ‫وفريق �آخر مل يعجبهم �أن يكتفوا باملقارنة بني املتنبي وبني‬ ‫�شعراء الأمم‪� ،‬أمثال �شك�سبري وغوتي وهوغو‪ ،‬ف�أخذوا �أي�ض ًا يف مقارنة‬ ‫«مذهبه الفل�سفي» بنظريات العلماء والفال�سفة املحدثني‪ ،‬من دارون‬ ‫�إىل نيت�شه‪ ،‬حتى كدنا نن�سى �أن املتنبي �شاعر‪ ،‬ولي�س �إال �شاعراً‪.‬‬ ‫وانتهى بال�شري �إىل هذه النتيجة‪ ،‬وهي �أنه مل يزل يبحث جاداً‪،‬‬ ‫ولكن عبث ًا‪ ،‬عن كاتب عربي ُيعجب ب�شعر املتنبي وي�رشح �إعجابه به‪،‬‬ ‫ال لبواعث �سيا�سية �أو تاريخية �أو فل�سفية‪ ،‬بل لعوامل �أدبية �رصف‪،‬‬ ‫تتناول الفن ال�شعري وال تتعداه‪.‬‬ ‫وميكنني الآن �أن �أقول �إين قر�أت كل ما كتبه عن املتنبي الكاتبون‪،‬‬ ‫وبحثه الباحثون‪ ،‬و�أرخه امل�ؤرخون‪ ،‬و�رشحه ال�شارحون‪ ،‬فلم �أخرج‬ ‫من ذلك جميع ًا و�أنا �أكرث �إعجاب ًا باملتنبي‪� ،‬أو �أ�شد متعة ب�شعره‪ ،‬ك�أن‬ ‫البحوث وال�رشوح حتجب عنا ال�شيء اجلوهري‪� ،‬أو ت�رصفنا عنه‪ .‬ونحن‬ ‫نعلم �أن ال�شعر يتحدى كل تف�سري‪ ،‬كما �أن كل تف�سري يال�شي ال�شعر‪،‬‬ ‫ولكن هذه حكاية �أخرى كما يقولون‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫وعدت �أن �أحدثكم عن الآدمي الذي غنى ب�شعر �أبي الطيب مغرداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الغريد‬ ‫وكان عهده بنف�سه ينعب كالغراب‪� .‬إن وعد احلر دين‪ ،‬فالغراب ّ‬ ‫يزين‬ ‫هو �أنا‪ ،‬وال فخر‪ .‬هو �أنا‪ ،‬كلما خلوت �إىل ديوان للمتنبي �ساذج‪ ،‬مل ّ‬ ‫باملقدمات والذيول واحلوا�شي‪ ،‬ف�أجدين ب�رضب من ال�سحر‪ ،‬بغتة‪ ،‬يف‬ ‫حال من الوجد ال�شعري ُيعييني وال َيعنيني و�صفها‪ ،‬مغموراً بجو‬ ‫ملي الإن�س واجلان‪ .‬ف�إذا تغنيت‬ ‫من الغبطة مل �أعرف له �شبه ًا يف عا َ‬ ‫ب�أبيات من �شعر �أبي الطيب‪� ،‬شاع يف كياين من الطرب‪ ،‬ما ال �أ�شرتي‬ ‫به نعيم الدنيا وبع�ض الآخرة‪..‬‬ ‫ولكن مه ًال‪ ،‬ف�أنا هنا لأحدثكم‪ ،‬ال لأغنيكم!‬ ‫(حديث �ألقي يف «منتدى و�ست» يف جامعة بريوت الأمريكية بدعوة من‬ ‫جمعية متخرجي الق�سم الفرن�سي م�ساء الثاين ع�رش من �آذار �سنة ‪)1940‬‬

‫‪53‬‬


54


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫‪1‬‬ ‫يف مو�ضع من كتاب (احليوان) �أتى اجلاحظ على ذكر الربغوث‪،‬‬ ‫فا�ست�شهد ببيت من ال�شعر لأبي نوا�س يف (و�صف رجل يفلي القمل‬ ‫والربغوث‪:‬‬

‫طامري واثب ‬ ‫ �أو‬ ‫ّ‬

‫مل ينجه منه وثاب ْه‬

‫وقول النا�س‪« :‬طامر وابن طامر» �إذا يريدون الربغوث)‪ .‬ويف‬ ‫مو�ضع �آخر من ذلك الكتاب‪ ،‬عاد اجلاحظ �إىل خرب هذا الرجل و�شعر‬ ‫�أبي نوا�س فيه‪ ،‬فف�صل ما كان قد �أجمله‪( :‬وقال احل�سن بن هاين يف‬ ‫�أيوب‪ ،‬وقد ذهب عني ن�سبه‪ ،‬وطاملا ر�أيته يف امل�سجد‪:‬‬ ‫‪55‬‬


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫من ينـــ�أ عنه م�صاده ‪،‬‬ ‫تكفيه فيــــهـا نظرة‪ ،‬‬ ‫رب حمرتز يجـــيـ‬ ‫يــا ّ‬ ‫فا�شي النكاية‪ ،‬غري معـ‬ ‫طــامـــــري واثب ‬ ‫�أو‬ ‫ّ‬ ‫�أهوى لــه مبــزلـــــق‪ ،‬‬ ‫هلل درك مـن �أبــــــــي ‬

‫فــم�صاد �أيـــوب ثيابـــه‪:‬‬ ‫فتعلُّ مـــن علقٍ حرابـــه‪.‬‬ ‫ـب الردن تكنفه �ص�ؤابــه‪،‬‬ ‫دب ـ ان�سيابــه‪،‬‬ ‫ـلوم ـ �إذا ّ‬ ‫مل يــنجــه مـنـه وثـــابـــه‪،‬‬ ‫مـا بني �أ�صـبعــه نـ�صابــه‪:‬‬ ‫قن�ص‪� ،‬أ�صابعــه كـالبـه)!‬

‫املن�سي ن�سبه‪،‬‬ ‫فهذه الأبيات التي نظمها �أبو نوا�س يف �أيوب‬ ‫ّ‬ ‫املجهولة حاله ‪ -‬ال نعلم من �ش�أنه �إال �أنه كان يجل�س يف امل�سجد‬ ‫بالب�رصة‪ ،‬يفلي القمل والربغوث ‪ -‬ال �أثر لها يف ن�سخ الديوان املطبوعة‬ ‫عن رواية حمزة الأ�صفهاين‪ ،‬ولهذا قيمته عندي‪.‬‬ ‫�أقول‪ :‬يف الب�رصة‪ ،‬لأن الإمام عمرو بن بحر اجلاحظ الب�رصي‬ ‫�إذا ذكر «امل�سجد» على �إطالقه‪ ،‬يف كتبه ور�سائله‪ ،‬فهو يعني‪ ،‬على‬ ‫الأرجح‪ ،‬م�سجد بلده وهو البلد الذي ن�ش�أ فيه �أي�ض ًا �أبونوا�س‪ ،‬وق�ضى‬ ‫�أعوام ًا من �صباه و�شبابه‪ ،‬متلقي ًا علوم الأدب واللغة عن �شيوخها‪ ،‬يف‬ ‫امل�سجد‪ ،‬مدر�سة ذلك الزمن‪.‬‬ ‫ففي امل�سجد عرف �أبونوا�س هذا «الدروي�ش» الذي طاملا ر�آه‬ ‫اجلاحظ‪ ،‬فنظم ال�شاعر الفتى تلك الأبيات ي�صف بها خروج الرجل �إىل‬ ‫ال�صيد يف ثيابه‪ ،‬م�ستغني ًا ب�أ�صابعه عن الكالب‪ ،‬ال يقفل �إال وقد �أروى‬ ‫حرابه من دم القمل والرباغيث‪ .‬وال ن�شك يف �أن «�أبا القن�ص» هنا هو‬ ‫‪56‬‬


‫�أبونوا�س الذي ت�صيد يف م�سجد الب�رصة‪� ،‬صورة �شعرية �ألب�سها من‬ ‫دعابه وظرفه و�سخره‪ ،‬هذه احللة اللطيفة البهيجة زي ًا و�ألوان ًا‪ .‬ومنذ‬ ‫ذلك احلني �أم�سى �أيوب‪ ،‬يف حقيقته ويف �صورته ال�شعرية على ال�سواء‪،‬‬ ‫رزق ًا حال ًال لل�شاعر يت�رصف به كيف �شاء‪ ،‬وقد فعل‪:‬‬ ‫يف ديوان �أبي نوا�س �أبيات من ال�شعر نظمها يف هجاء �شاعر يدعى‬ ‫زنبوراً بن �أبي حماد‪ ،‬يقول نا�رش الديوان �إنه مل يعرث عليها �إال يف‬ ‫ن�سخة (�أي خمطوطة) واحدة‪ ،‬ف�أثبتها كما وجدها (يريد �أنها حمرفة‬ ‫م�صحفة غري م�ستقيمة املعنى �أو املبنى)‪ .‬ولكن الأبيات ت�ستقيم معنى‬ ‫ومبنى ملجرد معار�ضتها بالق�صيدة التي رواها اجلاحظ يف �أيوب‪،‬‬ ‫دروي�ش م�سجد الب�رصة‪ ،‬وهاكها بعد ت�صحيحات ي�سرية‪:‬‬

‫ر�أيت لقو�س زنبور �سهــام اً‬ ‫�سهام ال يـذوب لها غــراء‪ ،‬‬ ‫يباكــر جيبه‪ ،‬فـــي�صيد منه‪ ،‬‬ ‫وال ينجي ال�ص�ؤ�آبه �أن يراها ‬ ‫يزر رعالها‪ ،‬بالـــ�سن‪ ،‬زراً‪ ،‬‬ ‫ُّ‬

‫مثقفة الأغرة‪ ،‬مـــا تــطيـ�ش‪:‬‬ ‫ومل يُ�شدد لها عقب وريــ�ش‪.‬‬ ‫وال يبغي عليه من يــــحو�ش‪.‬‬ ‫ت�ضاءل‪ ،‬فوقها در ٌز جحي�ش‪:‬‬ ‫وال ت�شقى بغدوته الوحو�ش!‬

‫�إن ابن حماد هذا يذكرنا �أيوب ًا «ال�شخ�صية الأ�صلية» دون لب�س‬ ‫�أو �إبهام‪ .‬فهو �أي�ض ًا يخرج �إىل القن�ص بكرة‪ ،‬لي�صيد من جيب ردنه‬ ‫ما ي�صيد‪ ،‬ب�سهام مثقفة ال عقب لها وال ري�ش‪ ،‬طارداً رعال القمل‬ ‫والرباغيث‪ ،‬م�ضيق ًا عليها يف الآجام والأدغال‪ ،‬فلي�س يخطئ املرمى‪.‬‬ ‫لكن «ال�صورة ال�شعرية» هنا ‪ -‬وقد ا�ستكمل ال�شاعر مادته و�أداته‬ ‫‪57‬‬


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫ �أفخم مظهراً و�أبرز لون ًا‪� ،‬أدخل فيها �أبونوا�س عن�رصين جديدين‬‫تبلغ ال�سخرية بهما �أعلى مراتبها‪� :‬أولهما و�صفه ذلك ال�صياد الفذ‬ ‫باال�ستغناء عن اخلدم واحل�شم الذين يرافقون الأمراء والكرباء عادة‪،‬‬ ‫يف موكب فخم‪ ،‬ليحو�شوا لهم ال�صيد‪ ،‬في�أخذه �أولئك من �أهون �سبيل‪،‬‬ ‫ونعني بال�صياد الفذ �أنه يخرج وحده‪ ..‬وثانيهما و�صفه �إياه بالر�أفة‬ ‫ورقة القلب‪ ،‬فهو يقن�ص القمل والربغوث لت�سلم من ب�أ�سه الوحو�ش‪ ،‬فال‬ ‫ت�شقى �إذا غدا �إىل ال�صيد‪� ،‬شاكي ال�سالح‪ .‬ولي�س �أقرب �إىل هذا ال�صياد‪،‬‬ ‫تارتارن الرتا�سكوين يف فن الق�صة‪.‬‬ ‫يف الفن ال�شعري‪ ،‬من‬ ‫ْ‬ ‫ونحن نعلم �أن لأبي نوا�س باب ًا من �أبواب ال�شعر يكاد يتفرد به‪،‬‬ ‫الطرد‪ .‬وقد �أخرب الرواة �أنه نظم فيه‬ ‫بعد �أن كان من ال�سابقني �إليه‪ ،‬هو ّ‬ ‫ت�سع ًا وع�رشين �أرجوزة و�أربع ق�صائد‪ ،‬و�صف فيها ال�صيد و�أحواله‪،‬‬ ‫ونعت الكلب والثعلب والفهد والظبي والفر�س وال�صقر والبازي والديك‪،‬‬ ‫ب�شعر يكاد يكون فيه ن�سيج وحده‪ ،‬جتده مثبت ًا يف ديوانه‪ .‬فهذا باب‬ ‫يف الطرد اجلدي‪� ،‬إزاء الق�صيدتني اللتني نظمهما يف �صاحبيه �أيوب‬ ‫وابن �أبي حماد‪ ،‬من قبيل الطرد الهزيل‪.‬‬ ‫كان د�ستويف�سكي يقول‪« :‬جتوز بي امر�أة‪ ،‬يف ال�سوق‪ ،‬بلبا�س احلداد‪،‬‬ ‫وهي تقود طف ًال‪ ،‬فاتخيل م�أ�ساة من م�آ�سي احلياة‪ ،‬وتت�ألف من هذا‬ ‫وحده ق�صة‪.»..‬‬ ‫تلك مادة �أهل الفن‪ ،‬يتناولونها �إذ جتتاز الكون واحلياة‪ ،‬غف ًال‬ ‫من اال�سم والن�سب‪ ،‬ك�أيوب الذي ال نعرف عنه �إال �أنه كان يجل�س يف‬ ‫امل�سجد‪ ،‬يفلي القمل والربغوث‪ ،‬وكهذه الأم التي بهت د�ستويف�سكي‬ ‫ملنظرها‪ ،‬وقد ر�آها جتتاز الطريق يف ردائها الأ�سود‪ ،‬ولي�س يعلم من‬ ‫�أمرها �شيئ ًا‪..‬‬ ‫‪58‬‬


‫‪2‬‬ ‫من �أنباء م�رص القاهرة �أن الدكتور ب�رش فار�س قد «اكت�شف» بحراً‬ ‫جديداً‪ ..‬و�أبادر �إىل القول �إن ذلك البحر هو من بحور ال�شعر لي�س �إال‪،‬‬ ‫لكنه مل ي�سلم‪ ،‬رغم هذا‪ ،‬من ب�أ�س حرب �شعواء �أثارها يف �ساحاته وحول‬ ‫م�ضايقه‪ ،‬ب�أ�ساطيل جرارة من ال�شواهد العقلية والنقلية وغريها‪ ،‬مما‬ ‫ال يدخل يف �أحد هذين البابني �أو «امل�ضيقني» رجال القلم املغاوير‬ ‫الذين يعرفون رغبة النظارة من �أبناء ال�ضاد‪ ،‬يف هذا النوع من القتال‬ ‫الأ�شبه بلعبة «ال�سيف والرت�س» يكون معظمها تظاهراً وتخاي ًال‪ ،‬ثم ال‬ ‫غالب وال مغلوب‪..‬‬ ‫يقول ابن خلدون يف مقدمة تاريخه‪« :‬ويراعى يف ال�شعر اتفاق‬ ‫الق�صيدة كلها يف الوزن الواحد‪ ،‬حذراً من �أن يت�ساهل الطبع يف‬ ‫اخلروج من وزن �إىل وزن يقاربه‪ .‬فقد يخفى ذلك‪ ،‬من �أجل املقاربة‪،‬‬ ‫على كثري من النا�س‪ .‬ولهذه املوازين �رشوط و�أحكام ت�ضمنها علم‬ ‫العرو�ض‪ .‬ولي�س كل وزن يتفق يف الطبع‪ ،‬ا�ستعملته العرب يف هذا‬ ‫الفن‪ ،‬و�إمنا هي �أوزان خم�صو�صة ي�سميها �أهل تلك ال�صناعة‪ :‬البحور‪.‬‬ ‫وقد ح�رصوها يف خم�سة ع�رش بحراً‪ ،‬مبعنى �أنهم مل يجدوا للعرب يف‬ ‫غريها من املوازين الطبيعية‪ ،‬نظم ًا» �إلخ‪.‬‬ ‫يكفي �أن نقارن هنا بني كلمة ابن خلدون‪« :‬ولي�س كل وزن يتفق يف‬ ‫الطبع ا�ستعملته العرب» وبني عبارته الأخرية عن «املوازين الطبيعية»‬ ‫كي يت�ضح لنا �أنه فتح الباب على م�رصاعيه‪ ،‬لأوزان م�ستحدثة يف‬ ‫ال�شعر العربي‪ ،‬بينما هو ي�شري يف الوقت ذاته‪� ،‬إىل �أ�صل تلك الأوزان‬ ‫‪59‬‬


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫ومن�شئها‪ ،‬ب�أوجز كالم و�أوفاه باملراد‪ .‬ولي�ست هذه �أول مرة يتناول‬ ‫فيها العالمة املغربي م�س�ألة من امل�سائل‪ ،‬فري�سل على ناحية �أو �أكرث‬ ‫منها‪� ،‬شعاع ًا من نور ب�صريته نافذاً �إىل �صميمها‪ ،‬ويك�شف للمتدبر عن‬ ‫�آفاق جديدة‪ .‬بل يندر �أال ي�أتي‪ ،‬يف �أي ال�ش�ؤون املتنوعة التي و�سعتها‬ ‫دائرة معارفه العربية‪ ،‬ونعني «املقدمة» بحكم �صحيح �أو ر�أي طريف‪،‬‬ ‫ك�أنه ينظر يف الأمور من وجهة مل ُي�سبق �إليها‪ ،‬بعني ال مثيل لها‪ .‬وهذا‬ ‫ما �أهاب بامل�ست�رشق الفرن�سي غوتيه من �أ�ساتذة جامعة اجلزائر‪� ،‬إىل‬ ‫القول �إن لهذا ال�رشقي امل�سلم مذهب ًا غربي ًا يف التاريخ‪ ،‬و�أ�سلوب ًا يف‬ ‫التحقيق العلمي يذكر ب�أ�ساليب عهد االنبعاث الأوروبي‪ ،‬ك�أن نفحة‬ ‫منه �رست �إىل روح ابن خلدون عن طريق الأندل�س‪ .‬لكن امل�ست�رشق‬ ‫الفرن�سي ال ينكر �أن العالمة امل�سلم مل يتلق علمه يف مدر�سة الغرب‬ ‫على م�ؤرخيه‪ ،‬فهو قد اهتدى‪ ،‬ب�سائق من عبقريته‪� ،‬إىل هذا الأ�سلوب‬ ‫الفذ يف النقد التاريخي والتحقيق العلمي‪.‬‬ ‫رجعت �إىل (املقدمة) و�أنا �أت�ساءل‪ :‬ملاذا �سمت العرب �أوزان ال�شعر‬ ‫�أبحراً؟ وكنت �أرجو �أن �أوفق ثمة �إىل جواب هذا ال�س�ؤال‪ ،‬بعد �أن �أي�أ�سني‬ ‫من ذلك كتاب (العمدة يف �صناعة ال�شعر وفنونه) البن ر�شق القريواين‪،‬‬ ‫فلم �أجد �شيئ ًا‪ ،‬لكن ظفرت بهذا الر�أي القيم البن خلدون‪ ،‬الذي ي�ستخل�ص‬ ‫منه �أنه يوجد �أوزان لل�شعر تتفق يف الطبع‪ ،‬مل ي�ستعملها العرب يف‬ ‫منظومهم‪ ،‬و�أن اخلم�سة ع�رش بحراً التي �شاء علم العرو�ض �أن يح�صيها‬ ‫ويح�رصها‪ ،‬جزء من كل‪� ،‬أي من «املوازين الطبيعية» التي ي�صح‬ ‫�أن ت�ستعمل يف نظم الكالم‪� ،‬سواء يف لغة م�رض �أم يف �سائر اللغات‪.‬‬ ‫ولي�س ب�ضائر هذه املوازين �أن العرب‪ ،‬باديها وحا�رضها‪ ،‬غابرها‬ ‫وحا�رضها‪ ،‬غائبها وحا�رضها‪ ،‬مل ت�ستعملها ومل تنظم عليها‪ .‬ولعلها‬ ‫‪60‬‬


‫لهذه العلة �سميت «�أبحراً» فهي مرتامية الأكناف‪ ،‬متداخلة الأطراف‪،‬‬ ‫يت�صل �أحدها بالآخر‪ ،‬ويتولد بع�ضها من بع�ض‪� ،‬إىل ما ال يكاد ينتهي‪،‬‬ ‫حتى ت�سلم النف�س الأخري فيما دعوه بال�شعر املنثور‪.‬‬ ‫ومل يجئ ابن خلدون بهذا الر�أي عبث ًا �أو لغري طائل‪ ،‬فهو منطقي‬ ‫�إىل �أق�صى حد‪ ،‬مثل كل مبدع �سبق ع�رصه و�أع�رصاً بعد ع�رصه‪.‬‬ ‫ومن امل�سلم به عند الأ�ستاذ غوتيه وغريه من �أهل النظر‪� ،‬أن املادة‬ ‫التي تت�ألف منها (املقدمة) رغم غزارتها وتنوع عنا�رصها وت�شعب‬ ‫مراميها‪ ،‬قد تنزهت عن �آفات اخللط والفو�ضى‪ ،‬بف�ضل رجاحة عقل‬ ‫امل�ؤلف العبقري الذي �أفرغها يف نظام من الوحدة‪ ،‬ال يكاد يعتوره‬ ‫خلل‪.‬‬ ‫قال ابن خلدون بذلك الر�أي يف ال�شعر وموازينه‪ ،‬كي ُيرتك الباب‬ ‫مفتوح ًا على م�رصاعيه‪ ،‬ملا ا�ستحدث من فنونه املت�أخرون‪ ،‬خا�صتهم‬ ‫وعامتهم‪ ،‬يف خمتلف الأقطار والأم�صار‪ ،‬كاملو�شح والزجل واملواليا‬ ‫والقوما وكان ما كان والدوبيت‪ ،‬و�أكرثها �أنواع من ال�شعر �ش ّذ فيها‬ ‫«جيل من العرب امل�ستعجمني» عن �أ�ساليب لغة م�رض‪ ،‬لكنها من‬ ‫ال�شعر يف �صميمه‪( :‬فلأهل ال�رشق و�أم�صاره لغة غري لغة �أهل املغرب‬ ‫و�أم�صاره‪ ،‬وتخالفهما �أي�ض ًا لغة �أهل الأندل�س و�أم�صاره‪ .‬وال�شعر‬ ‫موجود بالطبع يف كل ل�سان‪ ،‬لأن املوازين على ن�سبة واحدة يف �أعداد‬ ‫وتقابلها‪ ،‬موجودة يف طباع الب�رش‪ .‬فلم ُيهجر‬ ‫املتحركات وال�سواكن‬ ‫ُ‬ ‫ال�شعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة م�رض‪.)..‬‬ ‫وقال ابن خلدون بذلك الر�أي يف ال�شعر وموازينه‪ ،‬من �أجل الوزن‬ ‫الذي ا�ستحدثه الدكتور ب�رش فار�س‪ ،‬و�إخراجه من عداد «املوازين‬ ‫الطبيعية التي مل يعرف للعرب نظم فيها»‪ .‬وينبغي �أن يكون‪� ،‬إىل هذا‬ ‫‪61‬‬


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫الوزن امل�ستحدث‪ ،‬حاجة‪ ،‬لأن �صاحبه نظم عليه ق�صيدة �أو ب�ضع‬ ‫ق�صائد وال فرق‪ ،‬فاملهم �أنه �أدخله يف عداد «املوازين الطبيعية التي‬ ‫�سيعرف للعرب نظم فيها»‪ .‬وال نن�س �أن املكت�شف هو يف الطليعة‬ ‫من �أدباء اجليل ونقدة ال�شعر‪ ،‬و�أكرب الظن �أنه مل ير�سل يف عباب هذا‬ ‫«البحر» اجلديد‪ ،‬كتلك املراكب من الورق التي يتلهى بها ال�صغار‪،‬‬ ‫لكفاية حنينهم الباكر �إىل الأ�سفار‪ ،‬وركوب منت البحار‪ .‬فع�سى �أن‬ ‫أن�سي �أو جني ببال‪ ،‬مقلة‬ ‫تكون مراكبه م�شحونة �أماين مل تخطر ل ّ‬ ‫طيوف خيال مل تطف بوهم �شاعر‪ ،‬يف املتقدمني واملت�أخرين‪.‬‬ ‫لقد �سمى الدكتور فار�س بحره اجلديد «املنطلق»‪ .‬وكنت �أوثر‬ ‫�أن ي�سميه «املطلق» لأن ال�شعر العربي‪ ،‬على ما �أرى‪� ،‬سيقفز‪ ،‬بربكة‬ ‫املدر�سة احلديثة‪ ،‬قفزة تقذف به �إىل «ما وراء الطبيعة»‪.‬‬

‫‪3‬‬ ‫خلت فيه �أين‬ ‫�أكرب الظن �أن هذا ال�شعر لن يرتكني‪ ،‬وقد كان زمن ُ‬ ‫غري تاركه‪ .‬فكتابي «الباب املر�صود» جمموعة ف�صول تدور على‬ ‫حمور ال�شعر‪ ،‬وهي ثالثة �أرباع ما كتبت يف حقبة ا�شتغايل بالكتابة‪،‬‬ ‫على ق�رصها‪ ،‬ك�أن ال�شعر ي�شغل من حيز فكري �أكرث من ن�صفه‪ ،‬ليخلو‬ ‫الربع الأخري للهموم اليومية‪.‬‬ ‫�أنا حامد لنفر من �أخواين الذين نقدوا الكتاب‪ ،‬ح�سن ظنهم‪� ،‬إذ‬ ‫توهموا �أو �أح�سوا بني ف�صوله‪� ،‬صلة ظاهرة �أو وحدة خفية‪ ،‬قد تكون من‬ ‫عطايا فكرهم ال�سخي‪ ،‬لي�س �إال‪ .‬وهم‪ ،‬ال مراء‪ ،‬يعنون ال�صلة بني ر�أي‬ ‫‪62‬‬


‫ور�أي‪� ،‬أو وحدة اال�ستقراء واال�ستطراد واال�ستنتاج‪� ،‬إىل �آخر ما هنالك‬ ‫من املزايدات‪ .‬ولكني ال �أكون مبالغ ًا وال متكلف ًا �إذا ما زعمت اليوم‪،‬‬ ‫�أين غري �ضنني بر�أي واحد وال بب�ضعة �آراء قلت بها‪ ،‬منذ نحو ع�رشة‬ ‫�أعوام‪ ،‬يف مثل هذا املو�ضوع املت�شعب الفروع‪ ،‬العوي�ص الرتكيب‪ ،‬الذي‬ ‫ال ينري علم النف�س ناحية منه‪� ،‬إال غابت �سائر نواحيه يف «ما وراء‬ ‫علي �إذا كانت تلك الآراء تبدو‬ ‫الطبيعة» وهو مو�ضوع ال�شعر‪ .‬وماذا ّ‬ ‫يل الآن يف �سذاجتها‪ ،‬عريانة كالتمثال على قارعة الطريق‪ ،‬يف نتوء‬ ‫يكاد يقلع العني؟ ففي �ضمريي نحوها �شعور غام�ض خمتلط‪ ،‬ال �أعرف‬ ‫له ت�أوي ًال ير�ضيني كل الر�ضا (�أو هي حكاية �أخرى كما يقولون) لكنه‬ ‫�أ�شبه ما يكون‪ ،‬بعدم املباالة يف �شيء من الغيظ‪ ،‬ك�أن تلك الآراء �أوالد‬ ‫مما رزقني اهلل‪ ،‬غابوا عني �سنني معدودات‪ ،‬يف ذلك العامل العجيب‬ ‫القائم على تخوم الواقع والأبجدية‪ ،‬ف�أنا �أكاد �أنكر منهم‪ ،‬بعد هذا‬ ‫العمر‪� ،‬أنهم ال يزالون كما �أُن�شئوا �أول مرة‪� ،‬أقزام ًا م�سوخ ًا‪� ،‬أو �أطفا ًال‬ ‫�شيوخ ًا‪ ،‬دع �إذن هذه الوحدة املزعومة �أو املتوهمة‪ ،‬وتعال حدثني‬ ‫عما يف ت�ضاعيف الكتاب‪ ،‬بل بني �سطوره‪ ،‬من ترجمة حال �شاعر‬ ‫مل يعرف النا�س �أن له ق�صيدة واحدة‪ ،‬ومل يعرف هو �أكرث مما عرفه‬ ‫النا�س‪ ،‬ولنقل �إنها ق�صة ال�شاعرية املكبوتة �أو اخلر�ساء‪.‬‬ ‫يعد بني كبار‬ ‫يرى جمهرة م�ؤرخي الأدب الفرن�سي �أن �سنت بوف مل ّ‬ ‫نقدة الكالم الذين وفقوا يف بحوثهم عن ال�شعر وال�شعراء �إىل حد بعيد‪،‬‬ ‫حد ما‪ .‬و�أذكر اليوم‪ ،‬على‬ ‫�إال لأنه كان من قبل‪� ،‬شاعراً غري موفق �إىل ّ‬ ‫طول العهد‪� ،‬أين كنت �أعتذر لنف�سي عن هجر القري�ض‪ ،‬ب�أن ال�شعر ال‬ ‫يحتمل �أو�ساط الأمور‪ ،‬ف�إما �أن يكون بالغ ًا مرتبة الكمال‪ ،‬و�إما �أن ال‬ ‫يكون البتة‪ ،‬و�أنه دون النرث حينما ينحط عن تلك املرتبة‪ .‬قد يكون هذا‬ ‫‪63‬‬


‫عو ْد �إىل ال�شعر‬

‫االعتذار من باب التعلل يف «ق�ضيتي» اخلا�صة‪ ،‬لكنه على كلٍ ‪ ،‬الر�أي‬ ‫الأ�صوب يف ق�ضية ال�شعر العامة‪ ،‬لو �أخذ به «�أكرثهم» لوفروا على‬ ‫نف�سهم كثرياً من الهراء‪ ،‬وعلينا كثرياً من العناء‪.‬‬ ‫من حق القارئ �أن ي�س�أل‪ :‬ماذا عنيت بالعامل «القائم على تخوم‬ ‫الواقع والأبجدية» دون �أن يطالبني مبخطط هذا العامل العجيب الذي مل‬ ‫تدر�س بعد جغرافيته‪ ،‬ومل يتح له احلظ من يعنى ب�إح�صاء عدد �أجرامه‬ ‫وقيا�س مدى �أبعاده وو�صف خمتلف �أطواره‪ ،‬رغم �أنه عامل قدمي‪� ،‬أقدم‬ ‫من العامل الذي نحن فيه‪ ،‬على ما �أرجح‪ .‬و�أنا منذ �أر�سلت كلمتي عن‬ ‫ذلك العامل‪ ،‬كمن انطلقت‪ ،‬عن غري ق�صد‪ ،‬ر�صا�صة من بندقيته‪� ،‬أت�ساءل‬ ‫علي بجواب قاطع من نوعه‪� ،‬أو‬ ‫يف حرية‪ ،‬مثل هذا ال�س�ؤال‪ ،‬وال ُيفتح ّ‬ ‫تعريف جامع مانع ككل التعاريف التي حترتم ذاتها‪� .‬أقول‪ :‬يف حرية‪،‬‬ ‫والأ�صح �أن يقال‪ :‬يف َبهر‪ ،‬ك�أين �أتيت �أمراً عظيم ًا ال �أجد منه خمرج ًا‪،‬‬ ‫يقدر اهلل‪ ،‬فيغفر ذلك العامل العجيب فاه‪ ،‬فيبتلعني‪ .‬وحينئذ �أعرف‬ ‫�أو ّ‬ ‫من جغرافيته‪ ،‬على الأقل‪ ،‬فكيه وحيزومه‪ .‬ولكن حتى يحني ذلك‪ ،‬ال‬ ‫�أحب �أن �أقف حائراً بائراً‪ ،‬يف منت�صف الطريق‪ .‬و�إذا كان العلم احلديث‬ ‫قد بنى على الفر�ض �رصحه املمرد‪ ،‬فال ب�أ�س ب�أن نلج�أ �إىل الفر�ض‬ ‫فيما نحن ب�صدده‪ ،‬فن�رضب مث ًال و�إن بعيداً‪ ،‬يقرب من الأذهان �صورة‬ ‫ذلك العامل العجيب‪ ،‬را�ضني بظل الظل �أو خيال اخليال‪:‬‬ ‫لو �أن اهلل �سبحانه مل يخلق هذه الدنيا التي نح�سها ونعي�ش فيها‪،‬‬ ‫من تراب وماء ونار وهواء‪ ،‬وهي العنا�رص الأربعة التي يروي �أغلب‬ ‫م�ؤرخي اخلليقة �أنها مادة خلقه‪ ،‬بل كان تعاىل‪� ،‬شك�سبرياً �أو بلزاك ًا‬ ‫اللذين يزعم بع�ضهم �أنهما‪ ،‬بعد اهلل‪� ،‬أكرثنا خملوقات ‪ -‬يريدون‬ ‫الأ�شخا�ص الذين تعج بهم م�ؤلفات ال�شاعر الإنكليزي والق�صا�ص‬ ‫‪64‬‬


‫الفرن�سي من رجال ون�ساء‪� ،‬أو �أرواح �سفلية وعلوية‪ -‬وقد �أنف هذا الإله‬ ‫الأبجدي‪� ،‬إذ �شاءت م�شيئته وقدرت قدرته‪� ،‬أن يلطخ يديه بالعنا�رص‬ ‫الأربعة‪ ،‬و�آثر احلرب‪ ،‬فخلق الكون �أبجدي ًا‪ ،‬من نوع العامل الذي يخلقه‬ ‫ال�شاعر �أو الق�صا�ص‪� ،‬أال يحق لنا القول �إذن‪� ،‬إن هذا العامل مما ت�صح‬ ‫مقارنته بعوامل اجلن واملالئكة والأحالم‪ ،‬بل �إنه يقوم ‪ -‬كاللوح‬ ‫املحفوظ ‪ -‬على تخوم الواقع والأبجدية؟ وقدمي ًا قال الإغريق‪( :‬ال‬ ‫خالق �إال �شاعر �أو �إله)‪ .‬ال�شاعر �أو الإله الأبجدي‪..‬‬

‫‪65‬‬


66


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬ ‫ ‬

‫ِ‬ ‫ال�صفات‪ ،‬بعي ُد مو�صوفاتها‪..‬‬ ‫داين‬ ‫املتنبي‬

‫‪1‬‬ ‫يغلب على الر�أي �أن �أبا الطيب‪ ،‬بعد �أن ملأ الدنيا و�شغل النا�س‬ ‫خالل ع�رشة قرون كاملة‪� ،‬سيج�شم ع�رصنا �أي�ض ًا ما ال طاقة له به‪،‬‬ ‫فلن يفت�أ يطرح عليه �رضوب ًا من الأحاجي‪ ،‬ولي�س ثمة ما ي�ؤذن ب�أن‬ ‫لهذا الأمر نهاية‪ .‬وك�أين باملتنبي مل يكتف بالنحاة وال�رصفيني‪،‬‬ ‫وعلماء اللغة والبيانيني‪ ،‬يغريون على ديوانه متزاحمني باملناكب‪،‬‬ ‫ليمنعوا فيه �رشح ًا �أو ت�رشيح ًا‪ ،‬ك�أن �شعره مومياء عجيبة وقعت‬ ‫‪67‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫يف �أيدي �أثريني غالظ الأكباد‪ ،‬ال يقر لهم قرار حتى يك�شفوا عن �رس‬ ‫خلودها وبقاء روعتها على الأيام‪ ،‬فقد �أ�صبح �شعر املتنبي يف هذا‬ ‫الزمن يتطلب‪ ،‬على ما نرى‪ ،‬طبقة جديدة من �أهل االخت�صا�ص‪.‬‬ ‫كان �أبوالطيب دون اخلام�سة والع�رشين من عمره ملا ات�صل‪ ،‬يف‬ ‫مدينة منبج من �أعمال حلب‪ ،‬ب�أمريين من �آل بحرت‪ ،‬ال يذكرهما التاريخ‬ ‫بخري �أو �رش‪ ،‬لو مل ينعم ال�شاعر عليهما‪ ،‬وهو ي�س�أل نواال‪ ،‬بثالث ق�صائد‬ ‫يف املديح لي�ست من عيون �شعره‪ ،‬رغم انطباعها بذلك الطابع اخلا�ص‬ ‫الذي ال يغيب عنا وال ي�شتبه علينا‪ ،‬كيفما قلبنا الطرف يف ديوانه‪.‬‬ ‫ومطلع �إحدى الق�صائد الثالث‪:‬‬

‫�أريقك‪� ،‬أم ماء الغمامة‪� ،‬أم خمر ؟‬ ‫وال يعنينا من �أبياتها �إال بيت واحد‪ ،‬بل �شطر من بيت‪ ،‬ي�صف فيه‬ ‫املتنبي حمبوبته «النظرية» التي يق�ضي العرف ال�شعري �أن يتغزل بها‬ ‫يف فاحتة الق�صيدة‪ ،‬وهو قوله‪:‬‬

‫تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها‪..‬‬ ‫فهنا �أحجية من الأحاجي‪ ،‬ال يجدينا يف حلها نحو النحاة �أو‬ ‫بيان البيانيني �أو فقه اللغويني‪ ،‬لأنها يف غنى عن ه�ؤالء جميع ًا‪.‬‬ ‫ومن الإن�صاف �أن نبادر �إىل القول �إن واحداً منهم مل يجرب حل هذا‬ ‫مر الكرام‪،‬‬ ‫اللغز من املنظوم‪ ،‬بغري حتويله �إىل جملة نرثية‪ ،‬فمروا به ّ‬ ‫حني مل ت�ستوقفهم فيه نادرة نحوية �أو لغوية‪ ،‬وال م�س�ألة �رصفية �أو‬ ‫بيانية‪ ،‬مما جرت العادة �أن يعريوه نظراً واهتمام ًا‪ ،‬حتى وال لفظة‬

‫‪68‬‬


‫غريبة يتكلفون م�شقة �إبدالها بلفظة �أخرى‪ ،‬تكون �أقرب تناو ًال و�أكرث‬ ‫تداو ًال‪ :‬لقد �أعياهم هذا املعنى ب�ساطة وو�ضوح ًا‪ ،‬فك�أنه بيت من ال�شعر‬ ‫ال يكرم نف�سه‪.‬‬ ‫قال الواحدي‪( :‬حركاتها كيفما حتركت ح�سنة‪ ،‬و�سكون احل�سن‬ ‫فيها قد بلغ الغاية)‪.‬‬ ‫قال العكربي‪( :‬هي ح�سنة يف ال�سكون‪ ،‬و�سكون احلركة فيها قد‬ ‫بلغ النهاية)‪.‬‬ ‫قال اليازجي‪�( :‬إنها كيفما حتركت حلظاتها‪ ،‬فاحل�سن �ساكن يف‬ ‫حركاتها‪ ،‬بالغ نهايته يف ذلك)‪.‬‬ ‫لن نقف عند االختالف بني «�سكون احل�سن» يف كالم الواحدي‬ ‫وبني «�سكون احلركة» يف كالم العكربي‪ ،‬كما �أننا لن نكرتث «حلركة‬ ‫الأحلاظ» يف �رشح اليازجي الذي يرد املعنى �إىل البيت ال�سابق‪:‬‬

‫ر�أين التي لل�سحر‪ ،‬يف حلظاتها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫�سيوف ظباها من دمي‪� ،‬أبداً‪ ،‬حمر‪..‬‬ ‫ ‬ ‫لن نقف عند هذا �أو ذاك‪ ،‬فلي�ست الق�ضية هنا �أو هناك‪ .‬و�إذا كان‬ ‫البد من الت�سليم ب�أمر ما‪ ،‬فهو �أن ه�ؤالء الأئمة‪ ،‬يف تف�سريهم البيت‪ ،‬مل‬ ‫ي�ضيفوا �إىل لفظه �شيئ ًا‪ ،‬كما �أنهم مل يزيدوا معناه و�ضوح ًا‪ ،‬بل الأ�صح‬ ‫�أن يقال �إنهم مل يجيئونا ب�رشح �أو تف�سري‪ .‬ولي�س ما يبعث الأمل يف‬ ‫�رشاح الديوان �أو نقدة ال�شعر‪ ،‬على‬ ‫�أن نظفر بحاجتنا‪ ،‬عند غريهم من ّ‬ ‫الوجه الأعم‪.‬‬ ‫يقول احلكيم الفرن�سي �آلن يف كتابه «نظام الفنون اجلميلة» ما‬ ‫‪69‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫ترجمته‪�( :‬إن الوجه املليح ‪� -‬أو احل�سن ‪ -‬ينبئ عن طم�أنينة ‪� -‬أو‬ ‫�سكون ‪ -‬الأ�شياء جميع ًا‪ ،‬حتى يف حالة االختالل ‪� -‬أو احلركة ‪-‬‬ ‫العار�ضة)‪ .‬وهو يبني على هذه النظرية‪ ،‬وما يت�صل بها �أو يتفرع‬ ‫عنها‪ ،‬من �آراء يف اجلمال وعالقته باحلركة وال�سكون‪ ،‬يف الهيئات‬ ‫والأج�سام الطبيعية‪ ،‬ثم يف فني الر�سم والنق�ش اللذين ميثالن الأج�سام‬ ‫والهيئات‪ ،‬كل فنٍ منهما مبادته و�أداته‪ ،‬ف�صو ًال م�سهبة تف�سح للنظر‬ ‫�آفاق ًا مرتامية الأطراف‪ .‬هنا �أي�ض ًا حديث‪ ،‬واحلديث �شجون‪ ،‬عن «�سكون‬ ‫احل�سن يف احلركات وتناهيه فيها» على نحو ما نراه يف نظم املتنبي‪.‬‬ ‫فلم يك من قبيل التحذلق �إذن ادعا�ؤنا‪ ،‬بادئ ذي بدء‪� ،‬إن ذلك ال�شعر‬ ‫�أ�صبح‪ ،‬يف هذا الزمن‪ ،‬يتطلب �صنف ًا �آخر من ذوي االخت�صا�ص‪ ،‬ونحن‬ ‫نعني فريق ًا من �أهل الدراية‪ ،‬غري علماء اللغة و�أ�صحاب البيان الذين‬ ‫وفوه‪ ،‬من هذه الناحية‪ ،‬يف الع�صور اخلالية‪ ،‬ق�سطه وزيادة‪ .‬ونح�سب‬ ‫�أن قد �آن لل�شعر �أن يف�صل عن علوم اللغة ‪� -‬أملا يبلغ الفطام؟‪ -‬لينظم‬ ‫نهائي ًا يف �سلك الفنون اجلميلة‪ ،‬من الر�سم �إىل الرق�ص فاملو�سيقى‪،‬‬ ‫ؤذن لنا‪ ،‬على الأقل‪� ،‬أن ن�ست�ضيء يف درا�سة‬ ‫بني �أهله الأدنني‪� .‬أو لي� ْ‬ ‫ال�شعر‪ ،‬من�شئه وجوهره وغايته‪ ،‬ب�أنوار تلك الفنون‪ ،‬فلن نلبث طوي ًال‬ ‫حتى نرى �أنه لي�س منها يف ال�صميم فح�سب‪ ،‬بل هو ‪ -‬فوق ذلك ‪-‬‬ ‫�أ�رشفها مقام ًا‪ ،‬و�أ�صعبها مرا�س ًا‪ ،‬و�أبعدها و�أقربها‪ ،‬يف وقت مع ًا‪ ،‬من‬ ‫الكمال‪.‬‬ ‫ولرب معرت�ض يقول‪ ،‬مق�سم ًا بكل عزيز لديه‪� :‬إن املتنبي مل تخطر‬ ‫له هذه املعاين البعيدة �أو النظريات الغريبة‪ ،‬ببال‪ .‬و�أنه كان �أنعم‬ ‫حا ًال و�أطيب خاطراً يف �رشوح الواحدي والعكربي واليازجي‪ ،‬منه يف‬ ‫«نظام الفنون اجلميلة» مع هذا ال�شارح الفرن�سي من الطراز الأحدث‪،‬‬ ‫‪70‬‬


‫ثم يظهر عجبه‪ ،‬كيف‪ ،‬وقد طرحنا �أحجية املتنبي القائل‪:‬‬

‫تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها‪..‬‬ ‫مل نتقدم �إىل حل عوي�صها‪� ،‬إال ب�أحجية من نوع جديد‪ ،‬عدا �أنها‬ ‫مرتجمة عن لغة �أجنبية‪ ،‬فهي �أجدر بال�رشح والتف�سري؟‬ ‫نرجو �أن نوفق‪ ،‬عما قليل‪� ،‬إىل �إزالة هذا العجب و�إبطال ذلك‬ ‫االعرتا�ض‪ ،‬جهد امل�ستطاع‪ .‬ولكننا منذ الآن‪ ،‬ندعو رجال الفن يف‬ ‫ظهرانينا �إىل در�س امل�س�ألة التي ي�شرتك يف طرحها‪� ،‬أثناء هذا الف�صل‪،‬‬ ‫ال�شاعر العربي واحلكيم الفرن�سي‪ ،‬كي يدلوا بر�أيهم يف مو�ضوعها‬ ‫وفيما يت�صل به من املوا�ضيع امل�شرتكة بني ال�شعر و�سائر الفنون‬ ‫اجلميلة‪ .‬ف�إن مل يفعلوا‪ ،‬وال �إخالهم �إال فاعلني‪ ،‬خ�شينا �أن ت�صدق فينا‬ ‫التهمة القائلة �إننا �أردنا �أن ن�سلك ال�شعر يف نظام من الفنون‪ ،‬لي�س له‬ ‫عندنا وجود‪ ،‬والأف�ضل �أن نعيده �سريته الأوىل‪ ،‬بني �آله وذويه الأولني‬ ‫من «علوم الآلة» فهو �أجدى له و�أوىل بنا‪ ،‬من �أن نتورط و�إياه يف �سبل‬ ‫ملتوية‪ ،‬بعيدة ال�شقة‪ ،‬مل توطئها الأقدام‪.‬‬

‫‪2‬‬ ‫اعتاد الكتاب وامل�صنفون من العرب‪ ،‬يف القرنني الثالث والرابع‬ ‫للهجرة‪� ،‬إذا ذكروا اري�سطو يف كتبهم ور�سائلهم‪� ،‬أن يلقبوه ب�صاحب‬ ‫املنطق‪ ،‬حتى اجلاحظ الذي نقل يف (كتاب احليوان) طرف ًا من �أقوال‬ ‫الفيل�سوف الإغريقي‪ ،‬واتهمه بع�ضهم ب�أنه قد «�سلخ يف كتابه معاين‬ ‫‪71‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫كتاب اري�سطو» يف املو�ضوع‪ ،‬فال يندر �أن يذكره بهذه العبارة‪« :‬قال‬ ‫�صاحب املنطق» ثم ي�رسد كالمه‪ ،‬كما و�صل �إليه عن طريق الرتاجمة‪،‬‬ ‫وكانوا يدعونهم بالنقلة‪ .‬وت�أويل ذلك �أن امل�سلمني‪ ،‬منذ �أول عهدهم‬ ‫بالرتجمة �أو االقتبا�س من اليونانية‪ ،‬كان علم املنطق عندهم مبثابة‬ ‫اكت�شاف �أمريكا �أو الدنيا اجلديدة عند �أبناء العامل الغربي القدمي ‪-‬‬ ‫احلدث الذي ال حدث قبله وال بعده‪� -‬إذ �أ�صبحت احلاجة ما�سة‪ ،‬يف‬ ‫امل�سائل الكالمية �أو (الالهوت) �إىل �أ�سلحة اجلدل املنطقي‪ ،‬تناوئ‬ ‫بها الفرق �أو النحل الإ�سالمية بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬كلما فرغت من مناظرة‬ ‫�أ�صحاب الأديان الأخرى‪ ..‬وال عجب �أن ي�سمى �صاحب املنطق «العامل‬ ‫الأول»‪.‬‬ ‫فعلى ذلك القيا�س يجدر بنا‪� ،‬أثناء هذا البحث اال�ستاطيقي الذي‬ ‫�أخذنا فيه‪� ،‬أن نلقب احلكيم الفرن�سي �آلن‪ ،‬وقد «�سلخنا» ر�أيه يف احلركة‬ ‫وال�سكون وعالقتهما باجلمال‪« ،‬ب�صاحب نظام الفنون» عاقدين النية‬ ‫على �سلخ طائفة من معاين كتبه يف املو�ضوع وما يت�صل به �أو يتفرع‬ ‫عنه‪ ،‬من مو�ضوعات عالقة ال�شعر بالفنون اجلميلة ومرتبته بينها‪،‬‬ ‫والتبعة يف هذا‪� ،‬إن يك من تبعة‪ ،‬واقعة على املتنبي القائل يف �إحدى‬ ‫حلظات الغفلة �أو «الالوعي» التي ي�سميها اندره جيد «ح�صة اهلل»‬ ‫ي�ضن بها وال ي�ؤثر عليها �شيئ ًا‪:‬‬ ‫وكان‪ ،‬يف طوره الأول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها‪..‬‬ ‫فهنا كالم ي�صح �أن ننعته بالغريب‪ ،‬ال نعني غرابته يف منظوم‬ ‫املتنبي فح�سب‪ ،‬بل غرابته �أي�ض ًا يف �سياق ال�شعر العربي على �إطالقه‪،‬‬ ‫ومل يعودنا �شعراء العرب �أمثال هذا املعنى يف �أ�شباه هذا املبنى‪ :‬معنى‬ ‫مركب يف مبنى ب�سيط‪ .‬وهو ما �أراده �أحد �أئمة علم الأدب‪ ،‬اجلرجاين‪،‬‬ ‫‪72‬‬


‫بقوله‪( :‬ومنه ‪� -‬أي الكالم ‪ -‬ما �أنت ترى احل�سن يهجم عليك منه‪،‬‬ ‫دفعة‪ ،‬وي�أتيك ما ميلأ العني غرابة‪ ،‬حتى تعلم‪� ،‬إن مل تعلم القائل‪،‬‬ ‫�إنه ِمن قبل �شاعر فحل‪ ،‬و�إنه خرج من حتت يد �صناع‪ ..‬وذلك ما �إذا‬ ‫و�ضعت فيه اليد على �شيء‪ ،‬فقلت‪« :‬هذا‪ ..‬هذا»! ال جتده �إال يف‬ ‫�أُن�شدته‬ ‫َ‬ ‫�شعر الفحول الب ّزل‪ ،‬ثم املطبوعني الذين ُيلهمون القول �إلهام ًا‪ ..‬ثم �إنك‬ ‫حتتاج �أن تتقرى عدة ق�صائد‪ ،‬بل �أن تفلي ديوان ًا من ال�شعر‪ ،‬حتى‬ ‫جتمع منه عدة �أبيات‪ -.‬دالئل الإعجاز)‪.‬‬ ‫وميكن القول ا�ستطراداً �أو على �سبيل التجوز‪� ،‬إن �أقرب الكالم من‬ ‫نوع بيت املتنبي يف غرابته وندرته‪ ،‬ولي�س من مدلوله ومو�ضوعه‪،‬‬ ‫بالبداهة‪ ،‬بيتان لأبي نوا�س‪ ،‬ال �سيما �صدر البيت الثاين‪:‬‬

‫ر�سم‬ ‫�أال‪ ،‬ال �أرى مثل‬ ‫امرتائي يف ِ‬ ‫َ‬ ‫تغ�ص به عيني‪ ،‬ويلفظه وهمي‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫�أتت �صور الأ�شياء بيني وبينه‪،‬‬ ‫علم‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ظن وعلمي كال ِ‬ ‫فظني كال ّ‬ ‫ا�ست�شهد بهما اجلرجاين يف ف�صل من كتابه القيم «دالئل الإعجاز»‬ ‫عقده على باب «�إدراك البالغة بالذوق والإح�سا�س الروحاين»‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫(لي�س يف �أ�صناف العلوم اخلفية‪ ،‬والأمور الغام�ضة الدقيقة‪� ،‬أعجب‬ ‫طريق ًا يف اخلفاء من هذا‪ ..‬و�أنك لتتعب يف ال�شيء نف�سك‪ ،‬وتكد فيه‬ ‫قلت‪« :‬قد قتلته علم ًا‪ ،‬و�أحكمته فهم ًا‬ ‫فكرك‪ ،‬وجتهد كل جهدك‪ ،‬حتى �إذا َ‬ ‫كنت بالذي ال يزال يرتاءى لك فيه من �شبهة‪ ،‬ويعر�ض من �شك‪ ،‬كما‬ ‫قال �أبونوا�س)‪ ..‬وبعد �أن يذكر اجلرجاين هذين البيتني‪ ،‬يقول ك�أنه جاء‬ ‫‪73‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫بف�صل اخلطاب‪�« :‬إنك لتنظر يف البيت دهراً طوي ًال‪ ،‬وتف�رسه‪ ،‬وال ترى‬ ‫خفي مل تكن قد علمته»‪..‬‬ ‫�أن فيه �شيئ ًا مل تعلمه‪ ،‬ثم يبدو لك فيه �أمر ّ‬ ‫ويعجبني هنا �أن �أبا الطيب نظم بيته الغريب‪ ،‬متغز ًال يف حمبوبة‬ ‫«نظرية تقليدية»‪ .‬فهذا‪ ،‬عدا �أنه �أبلغ يف �إبراز الت�ضاد‪ ،‬مالئم جد‬ ‫املالءمة لبحثنا اال�ستاطيقي يف ال�شعر واجلمال‪ ،‬ونحن منه يف عامل‬ ‫نظري ال ميت �إىل دنيانا احل�سية �إال ب�سبب بعيد‪ ،‬تكاد‬ ‫من «ال�صور»‬ ‫ّ‬ ‫حد قول �أبي‬ ‫فيه الأ�شياء تكون حمجوبة ب�صورها عن الأذهان‪ ،‬على ّ‬ ‫نوا�س الذي مل يلهم فقط �أن يفرق بني املح�سو�سات يف ذاتها وبني‬ ‫�صورها القائمة يف الفكر‪ ،‬بل جتاوزه �أي�ض ًا �إىل الإبانة عن حقيقة‬ ‫انحجاب الأ�شياء ب�صورها الذهنية خالع ًا على هذا الر�أي الفل�سفي حلة‬ ‫�شعرية مو�شاة بالوحي والإغراء‪ ،‬لي�س يعييها �أن «الالظن» حلمتها‬ ‫و«الالعلم» �سداها‪ .‬هكذا ر�أينا ال�شاعر املطبوع‪ ،‬وك�أنه م�سخر بطبعه‪،‬‬ ‫م�سوق برغمه‪ ،‬يخلق �شعراً من هذه املادة «اخل�سي�سة» التي مل يكن‬ ‫ير�ضاها يف ال�شعر‪ ،‬بل كثرياً ما نعاها على ال�شعراء‪ ،‬نعني‪ :‬الن�ؤى‬ ‫والأحجار �أو الر�سوم الدوار�س‪ ،‬وذلك بعبارات م�ستفادة من رطانة‬ ‫املناطقة �أي�ض ًا‪ ،‬فيا ل�شاعرية الأطالل التي ال تفت�أ‪ ،‬لبعدها عنا زمان ًا‬ ‫ال مكان ًا‪ ،‬تت�ضاءل حتى �أم�ست تلوح كباقي الو�شم يف ظاهر اليد!‬ ‫لي�س من غر�ضنا �أن نبحث الآن‪ ،‬ما لهذا «املعنى» الغريب يف �شعر‬ ‫�أبي نوا�س‪ :‬معنى انحجاب الأ�شياء يف ذاتها ب�صورها يف الذهن‪،‬‬ ‫من ات�صال قريب �أو بعيد‪ ،‬بنظرية املعرفة يف الفل�سفتني القدمية‬ ‫واحلديثة‪ ،‬الذاتية �أو املو�ضوعية‪ .‬ولكن البد من الإ�شارة �إىل ر�أي ب�سطه‬ ‫العالمة فكتور باك‪ ،‬من �أ�ساتذة كلية الآداب يف جامعة باري�س‪ ،‬وهو‬ ‫يدلل على �صحة �إحدى نظرياته يف اجلمال وال�شعور به‪ ،‬ذاهب ًا مذهب ًا‬ ‫‪74‬‬


‫ذاتي ًا ال مو�ضوعي ًا يف هذا العلم �إذ ُيرجع ما للإح�سا�سات ال�سماعية‬ ‫والب�رصية من قيمة ا�ستاطيقية‪� ،‬إىل «�أن الأذن والعني �أ�صبحتا ‪� -‬أو‬ ‫جراء‬ ‫تكادان ‪ -‬من احلوا�س «التمثيلية الذهنية» لي�س غري» يعني‪ :‬من ّ‬ ‫ما يكتنف مرئياتنا وم�سموعاتنا من ِعرب وذكر‪ ،‬وهموم وخوالج‪،‬‬ ‫ومذاهب وغايات‪ ،‬بحيث ال تب�رص عني وال ت�سمع �أذن‪� ،‬إال من خالل‬ ‫«النف�س» يف خمتلف حاالتها‪ ،‬ولنق ْل‪ :‬يف خمتلف �ألوانها‪ ،‬ومن هذا‬ ‫القبيل ا�ستاطيقية االطالل‪ ،‬على ما نرجح‪.‬‬ ‫وبعد‪� ،‬ألي�س من العجيب �أن تكون الكلمة التي نقلناها من كتاب‬ ‫�صاحب نظام الفنون‪ ،‬يف معر�ض احلديث عن بيت املتنبي‪ ،‬م�ساوقة‬ ‫ملفهوم ذلك البيت ومنطوقه‪ ،‬حتى انها لت�شتبه علينا معنى ال مبنى‪،‬‬ ‫حينما نقرنها �إال ما اقرتحه يف تف�سريه كل من الواحدي والعكربي يف‬ ‫املتقدمني‪ ،‬واليازجي يف املت�أخرين‪ ،‬فك�أنها خمتل�سة من �رشح كان‬ ‫طي اخلفاء‪ ،‬لهذا احلكيم الفرن�سي‪ ،‬على ديوان ال�شاعر العربي؟‬ ‫ّ‬ ‫(�إن الوجه احل�سن ينبئ عن �سكون الأ�شياء جميع ًا‪ ،‬حتى يف حالة‬ ‫احلركة‪ ،‬العار�ضة)‪.‬‬ ‫ولكن‪� ،‬أتلك هي املرة الأوىل التي ُيعنى فيها �صاحب نظام الفنون‪،‬‬ ‫ب�رشح دواوين ال�شعر‪ ،‬على نحو ما يفعل �أدباء العرب وعلما�ؤهم قدمي ًا‬ ‫وحديث ًا؟ كال‪ .‬فقد قر�أنا من ت�صانيفه تف�سرياً لديوان ال�شاعر فالريي‪،‬‬ ‫لعل �أو�ضح مزاياه �أنه كتاب �صنفه �أحد �أ�ساطني علم اال�ستاطيقي‪،‬‬ ‫يف �رشح ديوان �شاعر من ال�شعراء‪ ،‬ناهيك ب�آراء له يف ال�شعر‪ ،‬تكاد‬ ‫ال حت�صى كثرية وال حت�رص تنوع ًا‪ ،‬مثبتة يف عديد كتبه ومقاالته‪،‬‬ ‫فهي �إذن �شن�شنة نعرفها من �أخزم‪ ..‬ومن �أجدر من �أبي الطيب بهذه‬ ‫«التكرمة» على بعد العهد والدار؟‪..‬‬ ‫‪75‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫لو �أن �أمركم‪ ،‬من �أمرنا ‪� ،‬أممُ!‬ ‫وهكذا نرى الغربيني يرجعون �إىل منظوم �شعرائهم النابغني‪،‬‬ ‫فيو�سعونه �رشح ًا وتف�سرياً‪ ،‬بعد �أن كانوا «قد نظروا فيه دهراً طوي ًال‪،‬‬ ‫حتى ح�سبوا �أن لي�س فيه �شيء مل يعلموه‪ ،‬ثم يبدو لهم �أمر خفي‪،‬‬ ‫ال �شيء �أعجب طريق ًا منه يف اخلفاء‪ »..‬كما يقول الإمام اجلرجاين‬ ‫�صاحب «دالئل االعجاز» و«�أ�رسار البالغة» املتوفى �سنة ‪471‬‬ ‫للهجرة‪ ،‬فك�أن ال�شاعر العبقري‪ ،‬الذي يتوجه بغرائب وحيه نحو جميع‬ ‫الأجيال‪ ،‬يخاطب كل جيل بل�سان‪ ،‬ويك�شف لهم عن �آفاق بعد �آفاق‪.‬‬ ‫�ألي�س هذا �ش�أن �أبي الطيب معنا‪ ،‬يف قوله؟‬

‫تناهى �سكون احل�سن يف حركاتها‪..‬‬ ‫و�أبي نوا�س يف قوله‪:‬‬

‫�أتت �صور الأ�شياء بيني وبينه؟‬ ‫وهنا يعرت�ضنا �س�ؤال‪ :‬هل خطرت للمتنبي �أو لأبي نوا�س هذه‬ ‫الق�ضايا املركبة ببال‪ ،‬حينما �أر�سل الأول ذلك البيت الفريد من ال�شعر‪،‬‬ ‫يف فاحتة ق�صيدة مديح نظمها يف �صباه‪ ،‬وكان يح�سب �أنه البد من‬ ‫ا�ستهاللها بب�ضعة �أبيات يف الغزل‪ ،‬جري ًا على عادة ال�شعراء‪� ،‬أو حينما‬ ‫زوجي حمام‪ ،‬من مقطوعة �شعرية �صغرية لعلها‬ ‫�أطلق الآخر بيتيه‬ ‫ْ‬ ‫البقية الباقية من ق�صيدة طويلة نظمها يف النعي على �شعراء الع�رص‪،‬‬ ‫يرد �إال‬ ‫وقوفهم باالطالل‪ ،‬كالنوادب امل�ست�أجرات؟ �أم �أن املتنبي مل ْ‬ ‫‪76‬‬


‫الطباق من �أنواع البديع‪ ،‬كما �أن �أبا نوا�س مل يعتزم غري احلط من‬ ‫�ش�أن الر�سوم الدوار�س وخرق حرمتها يف التقليد ال�شعري‪ ،‬حمر�ض ًا‬ ‫على ما ذهب �إليه من «التجديد» �أو اخلروج على القدمي؟ ف�أنا �أجيب‬ ‫عن هذا ال�س�ؤال ب�س�ؤال‪� :‬أمن ال�رضوري �أن يكون �شيء من ذلك قد خطر‬ ‫لأحدهما �أو لكليهما ببال؟ فرب قافية تتحكم بذهن ال�شاعر العبقري‬ ‫وتغلبه على �أمره‪ ،‬فبينما هو يزوج لفظة من لفظة‪ ،‬وك�أن الألفاظ‬ ‫أحدثت من العدم بغتة‪ ،‬على غري وخري مثال‪.‬‬ ‫كائنات حية‪� ،‬إذا بدنيا �‬ ‫ْ‬ ‫�رس ال�شعر لعجيب‪ ،‬لي�س �أعجب منه طريق ًا يف اخلفاء!‬ ‫�أال �إن ّ‬

‫‪3‬‬ ‫يقول �صاحب نظام الفنون‪ ،‬من ف�صل عنوانه «ال�ساكن» يف �أحدث‬ ‫ت�صانيفه «مقدمات على اال�ستاطيقي» ما ترجمته‪�( :‬إن النا�س يعجبون‬ ‫مما يف ال�صور اجلميلة من قوة و�سلطان‪ .‬لكن عجبهم يزول �إذا فطنوا‬ ‫�إىل �أن ال�صور تكون يف جنوة من �إحلاح الذبان وا�شعة ال�شم�س و�رضوب‬ ‫الغزل وال�رضاعة‪ .‬ال �أعني �أن ال�صور قلي ًال ما توحي‪ ،‬بل �إنها ‪ -‬على‬ ‫ال�ضد ‪ -‬تنطق مبقت�ضى طبيعتها‪ ،‬ولي�س تبع ًا لعوامل خارجية‪ .‬كل‬ ‫تكرم به رج ًال‪ ،‬هو �أن‬ ‫�صورة هي �صورة جاللة ومهابة‪ .‬و�أن �أعظم ما ّ‬ ‫ت�صوره زميت ًا ركين ًا‪ ،‬وبالواقع‪� ،‬أن �أتفه حادث ليلفت ر�أ�س ملك من‬ ‫امللوك‪ ،‬ثم يعجز عن �أن يلفت �صورة من ال�صور‪.)...‬‬ ‫لي�س «�إحلاح الذبان» وحده ما يذكرين هنا حكاية القا�ضي يف‬ ‫«كتاب احليوان»‪ .‬و�أرجح �أنها لي�ست حكاية‪ ،‬بل �صورة فريدة ر�سمها‬ ‫‪77‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫اجلاحظ‪ ،‬تامة ال�شيات‪ ،‬زاهية الألوان‪ ،‬لتعر�ض يف ركن من �أركان ذلك‬ ‫املتحف احلافل‪:‬‬ ‫قا�ض يقال له عبداهلل بن �سوار‪ ،‬مل ير النا�س‬ ‫(كان لنا بالب�رصة ٍ‬ ‫حاكم ًا قط زميت ًا وال ركين ًا‪ ،‬وال وقوراً حليم ًا‪� ،‬ضبط من نف�سه وملك‬ ‫من حركته‪ ،‬مثل الذي �ضبط وملك‪.‬‬ ‫كان ي�أتي جمل�سه ‪ -‬يف امل�سجد ‪ -‬فيحتبي وال يتكئ‪ ،‬فاليزال‬ ‫منت�صب ًا ال يتحرك له ع�ضو‪ ،‬وال يلتفت‪ ،‬وال يح ّل حبوته‪ ،‬وال يحل‬ ‫رج ًال على رجل‪ ،‬وال يعتمد على �أحد �شقيه‪ ،‬ك�أنه بناء بني �أو �صخرة‬ ‫من�صوبة‪ ..‬فاحلق يقال‪� ،‬إنه مل يقم‪ ،‬يف طول تلك املدة والوالية‪ ،‬مرة‬ ‫واحدة‪� ،‬إىل الو�ضوء‪ ،‬وال احتاج �إليه‪ ،‬وال �رشب ماء وال غريه من‬ ‫ال�رشاب‪ .‬كذلك كان �ش�أنه يف طوال الأيام وق�صارها‪ ،‬ويف �صيفها ويف‬ ‫�شتائها‪ .‬وكان مع ذلك ال يحرك يده وال ي�شري بر�أ�سه‪ .‬ولي�س �إال �أن‬ ‫يتكلم‪.)...‬‬ ‫ال �أعرف �أبلغ داللة وال �ألطف �إ�شارة‪ ،‬من «لي�س �إال �أن يتكلم» يف‬ ‫تلك ال�صورة اجلاحظية‪ ،‬يف �صورة ذلك «ال�ساكن»‪ .‬فهذه العبارة‪ ،‬مبا‬ ‫ُ�ضمنته من لهجة االعتذار‪ ،‬هي النقي�صة ‪ -‬احلركة العار�ضة ‪ -‬التي‬ ‫بها يكتمل جمال ال�صورة الفني‪� ،‬أو ت�ستويف �رشوط املقارنة بينها‬ ‫وبني ما يف كالم �صاحب نظام الفنون‪ ،‬من تبيني ملعانيها وتنويه‬ ‫مبحا�سنها‪.‬‬ ‫قال اجلاحظ‪( :‬فبينما هو ‪� -‬أي القا�ضي ‪ -‬ذات يوم‪ ،‬و�أ�صحابه‬ ‫حواليه ويف ال�سماطني بني يديه‪� ،‬إذ �سقط على امل�ؤق وعلى ع�ضه‬ ‫وعلى نفاذ خرطومه‪ ،‬كما رام ال�صرب يف �سقوطه على �أنفه‪ ،‬من غري �أن‬ ‫يذب ب�إ�صبعه‪ ،‬فلما طال ذلك عليه من‬ ‫يحرك �أرنبته �أو يغ�ض وجهه �أو ّ‬ ‫‪78‬‬


‫الذباب‪ ،‬و�شغله و�أوجعه و�أحرقه‪ ،‬وق�صد �إىل مكان ال يحتمل التغافل‪،‬‬ ‫�أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأ�سفل‪ ،‬فلم ينه�ض‪ ،‬فدعاه ذلك �إىل‬ ‫�أن يوايل بني الأطباق والفتح‪ ،‬فتنحى عنه رميا �سكن جفنه‪ ،‬ثم عاد‬ ‫�إىل م�ؤقه ب�أ�شد من مرته الأوىل‪ ،‬فغم�س خرطومه يف مكان كان قد‬ ‫�أوهاه قبل ذلك‪ ،‬فكان احتماله وعجزه عن ال�صرب عليه يف الثانية‬ ‫ألح يف فتح العني ويف‬ ‫�أق ّل‪ .‬فحرك �أجفانه وزاد يف �شدة احلركة‪ ،‬و� ّ‬ ‫تتابع الفتح والإطباق‪ .‬فتنحى عنه بقدر ما �سكنت حركته‪ .‬ثم عاد‬ ‫�إىل مو�ضعه‪ ،‬فمازال يلح عليه حتى ا�ستفرغ �صربه وبلغ جمهوده‪ ،‬فلم‬ ‫يجد بداً من �أن يذب عن عينه بيده‪ ،‬ففعل وعيون القوم �إليه ترمقه‪،‬‬ ‫رد يده و�سكنت حركته‪ .‬ي�سمع‬ ‫وك�أنهم ال يريدونه‪ .‬فتنحى عنه بقدر ما ّ‬ ‫�إال ما ي�شاء ثم �أجل�أه �إىل �أن ذب عن وجهه بطرف كمه‪ ،‬ثم �أجل�أه �إىل �أن‬ ‫تابع ذلك‪ )..‬حتى �سقطت ال�صورة الكرمية من الركن الذي كانت زينة‬ ‫له‪ ،‬وهي تولول جاهر ًة بالآية احلكيمة‪« :‬و�إن ي�سلبهم الذباب �شيئ ًا ال‬ ‫ي�ستنقذوه منه‪�َ :‬ضعف الطالب واملطلوب!»‪.‬‬ ‫يقول �صاحب نظام الفنون‪( :‬بال�ساكن وحده يعرب الفن عن القدرة‬ ‫أدل على قوة النف�س من ال�سكينة �إذا ما �آن�سنا فيها‬ ‫الب�رشية‪ .‬فال �أمارة � ّ‬ ‫عق ًال‪ ،‬وبال�ضد‪� ،‬أن يف احلركة‪� ،‬أي ًا كان نوعها‪� ،‬إبهام ًا ولب�س ًا‪ ،‬كاجلواد‬ ‫الأ�صيل يف عدوه ‪ -‬ال تدري �أ�إقدام هو �أم �إحجام‪ ،‬وغارة �أم هزمية‪.‬‬ ‫وال�صور التي ت�ؤخذ على «احلارك» يف حلبة ال�سباق تك�شف لنا عن‬ ‫حيوان ذي ج ّنة‪ ،‬ولي�س عن ذلك املجلي القدير املرن املهيب‪ ،‬الذي‬ ‫كنا نتوهمه‪ .‬وهكذا رجل احلرب يف كره وفره‪ ،‬تبدو منه مظاهر الفرق‬ ‫والي�أ�س يف وقت مع ًا‪ ،‬فك�أن يف كل فعل عنيف لوثة جنون‪ .‬والبطل‬ ‫أ�صم �أذنيه‪ ،‬و�أغم�ض عينيه‪ ،‬عن جميع الأ�شياء حوله غري‬ ‫البطل من � ّ‬ ‫‪79‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫مكرتث لهجماتها �أو دعواتها امل�ستمرة‪ .‬فلي�س يو�صف ب�أنه خائف‬ ‫حذر كالوح�ش يف مراب�ضها‪ ،‬بل ب�أنه ال يب�رص وال ي�سمع �إال ما ي�شاء‪،‬‬ ‫حني ي�شاء‪ .‬ولأم ٍر ما كان الوثن �أول مناذج البطولة‪ ،‬ف�إن الوثن ال‬ ‫يناله تغيري‪ ،‬وال يطر�أ عليه ف�ساد �أبداً‪.)..‬‬ ‫وقد اتفق للجاحظ‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬بعد حكاية القا�ضي الب�رصي‪ ،‬هذا‬ ‫البطل الذي كان‪ ،‬لوال �إحلاح الذبان‪� ،‬أن يكون �صنم ًا ‪ -‬ك�أنه بناء ُبني‬ ‫�أو �صخرة من�صوبة ‪� -‬أن يجمع يف �شخ�صه املهول‪ ،‬بني لوثة احليوان‬ ‫الأ�صيل يف عدوه‪ ،‬وبني رعب املقاتل القانط يف كره وفره‪ ،‬وكل ذلك‬ ‫بف�ضل الذبان �أي�ض ًا‪ ،‬قال‪( :‬ف�أما الذي �أ�صابني �أنا من الذبان‪ ،‬ف�أين‬ ‫خرجت �أم�شي من عند ابن املبارك �أريد دير الربيع‪ .‬ومل اقدر على دابة‪،‬‬ ‫فمررت يف ع�شب ونبات ملتف كثري الذبان‪ .‬ف�سقط منه ذباب على �أنفي‪،‬‬ ‫فطردته‪ ،‬فلم �أقدر‪ .‬فتحول �إىل عيني‪ ،‬فزدت يف حتريك يدي‪ ،‬فتنحى‬ ‫بقدر �شدة حركتي‪ - .‬ولذبان الكلأ والغيا�ض والريا�ض وقع لي�س‬ ‫يل‪ ،‬فعدت عليه‪ .‬ثم عاد ب�أ�شد من ذلك‪ ،‬فا�ستعملت‬ ‫لغريها‪ - .‬ثم عاد �إ ّ‬ ‫أحث ال�سري‪� ،‬أومل ب�رسعتي انقطاعه‬ ‫كمي‪ ،‬فذببت به عن وجهي‪ ..‬و�أنا � ّ‬ ‫عني‪ .‬فلما عاد نزعت طيل�ساين من عنقي‪ ،‬فذببت به عني‪ ،‬بدل كمي‪.‬‬ ‫فلما مل �أجد له حيلة‪ ،‬ا�ستعملت العدو‪ ،‬فعدوت منه �شوط ًا مل �أتكلف مثله‬ ‫منذ كنت �صبي ًا‪ ..‬فتلقاين الأندل�سي‪ ،‬فقال يل‪ :‬ما لك يا �أبا عثمان؟‬ ‫علي فيه‬ ‫هل من حادثة؟ قلت‪ :‬نعم! �أريد �أن �أخرج من مو�ضع للذبان ّ‬ ‫�سلطان‪.)..‬‬ ‫لي�س من �ش�أننا حتليل ما يف هذه ال�صور اجلاحظية من عنا�رص‬ ‫ال�سخرية‪ .‬بح�سبي �أن �أ�شري الآن �إىل �أن ال�ضحك ‪� -‬أو ما يغري به ‪ -‬هو‬ ‫ألد خ�صوم اجلمال وال�شعور به‪ .‬لقد ظلت �صورة القا�ضي ابن �سوار‬ ‫� ّ‬ ‫‪80‬‬


‫رائعة املحا�سن يف �سكينتها العاقلة‪ ،‬حتى جاء الذباب يعبث بها‪،‬‬ ‫فيم�سخها ب�رشاً �سوي ًا‪ ،‬ثم ينزلها عن رفعة تلك امل�صطبة‪ ،‬يف �ضجة‬ ‫�سقوط الأ�صنام‪ ،‬تتناثر حجارتها �شظايا‪ ،‬و َتتطاير �أرواحها �شعاع ًا‪.‬‬

‫‪4‬‬ ‫يقول �صاحب نظام الفنون‪( :‬كل يعلم ما يف ت�صوير الأفعال من‬ ‫�صعوبة‪ ،‬واحلق �أنه لي�س �إال بالرق�ص ت�صوير لها‪ ،‬ثم ال نلبث �أن‬ ‫نتبني يف هذا الفن �أي�ض ًا‪ ،‬التما�س ًا لل�سكون يف احلركة‪ ،‬هو نامو�س‬ ‫الرق�ص‪ .‬كذلك يف التمثيل امل�رسحي‪ُ ،‬يالحظ �أن ما من حركة ي�أتيها‬ ‫كبار املمثلني‪ ،‬حتى الهزليني منهم‪� ،‬إال تكون انتقا ًال من �سكون �إىل‬ ‫�سكون‪.)..‬‬ ‫ويقول يف مو�ضع �آخر‪�( :‬إن مو�ضوع فن النق�ش ت�صوير ال�سكنات‪.‬‬ ‫فبد ًال من �أن ي�سبغ النقا�ش على قطع الرخام‪َ ،‬م�شاب َه من حركات‬ ‫الآدميني‪ ،‬ال يكون من همه �إال �أن يرجع ب�صورهم �إىل �سكينة احلجارة‪.‬‬ ‫وقد �أ�صبح يف حكم املقرر لدينا �أن كل حركة �أو هياج ينبغي �أن ُي�ضبط‬ ‫وميلك‪ ،‬بحيث يجد ال�ساكن يف ذاته ومن ذاته مقنع ًا وغناء‪.‬‬ ‫أخ�س قالب �أن ميثل لأنظارنا رج ًال ي�شتد‬ ‫ولعمري �أن يف و�سع � ّ‬ ‫يجد يف �شق الأر�ض‪ ،‬ولكن مهما ُيفرغ فيه من �صدق‬ ‫يف العدو‪� ،‬أو ّ‬ ‫التمثيل‪ ،‬فالإن�سان بلحمه ودمه يظل �أ�صلح‪ .‬لهذا و�أوفى باملراد‪ .‬وبعد‪،‬‬ ‫فمن الذي يزعم �أن النا�س يربزون يف �أفعالهم؟ ف�أنا �أذهب‪ ،‬بال�ضد‪،‬‬ ‫أنا�سي‬ ‫�إىل �أنهم يختبئون فيها‪ .‬على �أنه يهولنا دائم ًا يف هذه ال ّ‬ ‫‪81‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫من جف�صني‪ ،‬الذين يقاتلون �أو يرك�ضون �أو يتوعدون‪ ،‬ما يبدو يف‬ ‫هيئاتهم من ِ�سمة جنون‪ .‬فكل �شيء يف تهاويل �أولئك املهتاجني �أو‬ ‫امل�ضطربني ظاهر خارجي‪ ،‬ولي�س هو ب�شيء‪ ..‬لهذا يكون النوم جمي ًال‪،‬‬ ‫و�أجمل منه الطم�أنينة اليقظى‪ ،‬وتكون تلك ال ُلمع من ال�سكينة التي ال‬ ‫تكاد تلمحها العني‪ ،‬غاية ما يجهد فن النق�ش يف تثبيته‪ ..‬وال غرو‪� ،‬أن‬ ‫الأ�صنام معبودة‪ ،‬منذ كانت الأ�صنام‪.)..‬‬ ‫ويقول‪( :‬من عادة �أرباب الفن‪� ،‬إذا هم هموا ب�إخراج �صورة �شخ�ص‬ ‫ما‪� ،‬أن ي�صنعوا �أو ًال‪ ،‬طائفة من الر�سوم متثله يف خمتلف �أو�ضاعه‬ ‫وحاالته‪ ،‬فيكون كل ر�سم منها متمم ًا للآخر‪ ،‬م�صحح ًا �إياه‪ ،‬ثم تربز‬ ‫ال�صورة‪ ،‬دفعة‪ ،‬وهي ناطقة مبينة عما توحي به تلك الر�سوم جميع ًا‬ ‫يف تعاقبها‪ ،‬وزيادة‪.‬‬ ‫هكذا يظفر امل�صور الفنان مبا يروم �إثباته من طم�أنينة الوجه �أو‬ ‫توازنه‪� ..‬إن ال�صورة‪ ،‬ك�سائر الأعمال الفنية‪ ،‬لي�س ترجتل ارجتا ًال‪.)..‬‬ ‫ويح�سن هنا �أن ن�ست�شهد بكلمة بليغة للفيل�سوف هيجل‪ ،‬من �أئمة‬ ‫اال�ستاطيقي الرواد يف القرن املا�ضي‪ ،‬قالها مقارن ًا بني التمثال‬ ‫الذي لي�س له عينان ينظر بهما‪ ،‬فك�أن احلياة مفا�ضة على جوارحه‬ ‫كافة‪ ،‬يبني عنها �أق ّل جزء منه ‪ -‬وكذلك الفكر ‪ -‬وبني ال�صورة التي‬ ‫يعنى فيها امل�صور ب�أن يجعل الروح جمتمع ًا منح�رصاً يف احلدث وما‬ ‫يليها‪ ،‬حتى ليخيل �إلينا �أنه ثمة منف�صل م�ستق ّل عن �سائر الوجه‪ ،‬بل َه‬ ‫ِ‬ ‫ال�شخ�ص‪ ..‬يقول هيجل‪�( :‬إن التمثال الأعمى ينظر بجميع ج�سده) ‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫جارحة وج ٌه مبر�صا ِد ‪-‬‬ ‫فكل‬ ‫كما قال �أي�ض ًا ال�شاعر ب�شار‪ ،‬ذلك الأعمى الآخر الذي مل يكن متثا ًال‪،‬‬ ‫ت�شهيه‪ ،‬مع تلك العاهة فيه‪ ،‬هو ما فتق ذهنه عن‬ ‫و�أكرب الظن �أن �شدة ّ‬ ‫‪82‬‬


‫هذه ال�صورة ب�شتى وجوهها‪.‬‬ ‫ل�سنا نزعم الآن �أن املتنبي‪� ،‬إذا �أراد متثيل غادته الغزلية التي‬ ‫حد له» قد �صنع دمية عمياء‬ ‫«�سكن احل�سن يف حركاتها �سكون ًا ال ّ‬ ‫تنظر بكل جوارحها‪ ،‬يف عامل الدمى‪ ..‬كال‪ ،‬فالأرجح �أنه قد ر�سم �صورة‬ ‫ك�سائر ال�صور الفنية‪ ،‬لها عينان تب�رص بهما‪ ،‬عدا ما نفث فيهما من‬ ‫�سحر عجيب يقلب «االحلاظ �سيوف ًا حمراء‪� ،‬أبداً‪ ،‬من دم املحبني»‬ ‫�إغراق ًا يف التلوين‪ .‬ولعل اليازجي‪ ،‬ب�سائق فطرته احل�صيفة‪ ،‬فطن‬ ‫يرد‬ ‫�إىل هذا املعنى‪ ،‬معنى «ال�صورة ال التمثال»‪ ،‬حينما حاول �أن ّ‬ ‫«احلركات» يف البيت الذي نحن ب�صدده‪� ،‬إىل «االحلاظ» يف البيت‬ ‫ال�سابق‪ ،‬لأن جماع احل�سن عنده هو يف احلدق وهاالتها‪� ،‬سواء كانت‬ ‫جنالء �سليمة �أو نواع�س �سقيمة‪ ،‬فتلك منطقة اجلمال‪ ،‬لكن اليازجي مل‬ ‫يلبث �أن �أخذ يف حديث عن «حركة االحلاظ» غام�ض خمتلط‪� ،‬أ�صبحنا‬ ‫معه ال ندري‪� ،‬أنحن جتاه �إحدى ال�صور املجونية التي تن�صب للإعالن‬ ‫يف واجهات املخازن‪ ،‬دائرة عيونها‪ ،‬متحركة ذقونها‪� ،‬أم �أن مع�شوقة‬ ‫�أبي الطيب قفزت اليوم من �إطارها‪ ،‬ب�إغراء من هذا ال�شيخ اجلليل‪،‬‬ ‫و�سارت مهرولة يف الأزقة‪ ،‬غامزة‪ ،‬ذات اليمني وذات ال�شمال؟‪ .‬نعوذ‬ ‫بال�شعر من ال�شارحني‪.‬‬ ‫يعد مغامرة‬ ‫ولقد بدرت لنا‪ ،‬من خالل هذا الف�صل ‪ -‬و�أخلق به �أن ّ‬ ‫بيانية‪ ،‬ال �أن يح�رش يف �صف البحوث الأدبية �أو الفنية ‪ -‬بادر ُة خاط ٍر‬ ‫�رسيع هو من الغرابة مبكان‪� ،‬سوف نر�سله على عواهنه‪ ،‬ول�سنا ندعي‬ ‫�أنه من الآراء املحكمة و�ضع ًا‪ ،‬القريبة م�أخذاً‪ ،‬التي ال ي�شوبها لب�س‪،‬‬ ‫وال يعرتيها وهن‪ .‬يقول ال�شاعر بودلري‪ ،‬من ق�صيدة بل�سان اجلمال‪،‬‬ ‫ما ترجمته‪:‬‬ ‫‪83‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫�أنا �أبغ�ض احلركة التي تنقل اخلطوط‪،‬‬ ‫فلن تراين �أبداً �ضاحكاً �أو باكياً‪..‬‬ ‫وهو مل يغفل �أي�ض ًا يف بع�ض ت�شابيهه ال�شعرية‪ ،‬عن «ا�ستعارة»‬ ‫احلجارة لتمثيل اجلمال املطلق‪ ،‬على نحو ما نقلناه من كالم �صاحب‬ ‫نظام الفنون‪ ،‬فك�أنه ر�أي متواتر بلغ حد الإجماع‪ ،‬ولكن‪ ،‬هل ي�ؤذن‬ ‫يل «على املا�شي» �أن �أ�ؤثر ذلك «ال�صدر» الع�ضال من نظم املتنبي‪،‬‬ ‫على هذين البيتني ال�صحيحني من �شعر بودلري؟ ال تع�صب ًا لأبي الطيب‬ ‫�آثرت ال�شطر املفرد على الق�صيدة الكاملة‪ ،‬رغم وحدة �أ�سلوبها معنى‬ ‫ومبنى‪ ،‬وو�ضوح طريقتها نهج ًا وغاية‪ .‬بيد �أن ل�شعر املتنبي‪ ،‬يف �إيجاز‬ ‫لفظه ودقة تخييله‪ ،‬وحي ًا طويل املدى‪ ،‬بعيد ال�صدى‪ ،‬ال نكاد جند مثله‬ ‫يف �أبيات ال�شعر الفرن�سي‪ ،‬التي ير�ضيها كل الر�ضا‪� ،‬أن ت�رشح نف�سها‬ ‫بنف�سها‪ ،‬لأن الفن يف ع�رصنا بلغ �أ�شده‪ ،‬بل جاوز حده‪ ،‬منذ طفق ال�شعر‬ ‫«يتفل�سف» يف مو�ضوع ذاته‪ ،‬كما نفعل نحن الآن‪ ،‬ول�سنا ندري �أ�رشاً‬ ‫�أم خرياً يكون‪ ..‬ع�سى �أن يكون االثنان مع ًا‪ ،‬على ال�سواء‪.‬‬ ‫�أما تلك اخلاطرة العجلى التى قلنا �إنها ترتاءى مبثل ملح الب�رص‪،‬‬ ‫من خالل هذا الف�صل‪ ،‬وقد حاولنا �أن نتبينها يف �شيء من الو�ضوح‬ ‫واال�ستقرار‪ ،‬م�ست�شهدين ب�أبيات ال�شاعر بودلري‪ ،‬على ل�سان اجلمال‬ ‫الذي جهر ببغ�ضه احلركة ومل يفرق بني ال�ضحك والبكاء‪ ،‬لأنها‬ ‫تنقل اخلطوط �أو تبدل ق�سمات الوجه املليح فهي غلبة هذه ال�صورة‬ ‫«ال�ساكنة يف �صدودها و�إعرا�ضها» على الغزل ال�شعري عامة‪ ،‬والغزل‬ ‫ي�ضن بغادته التقليدية �أو موالته‪� ،‬أن ت�أتي‬ ‫العربي خا�صة‪ ،‬ك�أن ال�شعر ّ‬ ‫‪84‬‬


‫على حما�سنها املثلى‪ ،‬مظاهر ال�ضحك والبكاء‪ ،‬واحلب والقلى‪ ،‬فهو‬ ‫يناديها من �أغوار �سليقته �أو «الوعيه» ب�صوت �أبي نوا�س‪:‬‬

‫�صوروها يف املحاريب!‬ ‫يا «دمي ًة» ّ‬ ‫وال غرو‪� ،‬أن الأ�صنام معبودة‪ ،‬منذ كانت الأ�صنام‪.‬‬ ‫يقول احلكيم �آلن‪ ،‬يف �رشح كلمته عن «اجلمال وال�سكون»‪ ،‬التي‬ ‫على هام�شها كتب هذا املبحث‪� ،‬إنه �أراد الإ�شارة �إىلما ُيعجب وي�أ�رس‬ ‫خلو ذهن من خواطر‬ ‫اللب‪ ،‬يف الوجه املليح متى كان �صاحبه يف ّ‬ ‫الفتنة والدالل‪ ،‬ير�سل النف�س على �سجيتها‪ ،‬وال يعلم �أن �أحداً من خلق‬ ‫اهلل يراقبه �أو ينظر �إليه‪( .‬فثمة وجوه تعرب عن الده�شة‪ ،‬و�أخرى عن‬ ‫املكر واحليلة‪ ،‬وغريها عن الغرور �أو ال�صلف �أو ال�شك‪ ،‬وهلم جرا‪ ،‬حتى‬ ‫يف حال النوم‪ .‬لكن اجلمال الذي نعنيه هنا‪ ،‬هو يف �صورة ال تعرب‪،‬‬ ‫بحد ذاتها‪ ،‬عن �شيء مطلق ًا‪ )..‬ك�أن ما قد يعرب الوجه عنه‪� ،‬أي ًا كان‬ ‫لج من‬ ‫نوعه‪ ،‬ي�رصفنا عن الت�أمل يف حما�سنه‪ ،‬كي يقذف بنا يف ّ‬ ‫اال�ستطالع ال يدرك غوره‪ ،‬وي�رضب مث ًال‪ :‬الغ�ضون يف الوجه‪� ،‬سواء‬ ‫�أكانت من اثر الهرم �أو املر�ض طبيعية باقية‪� ،‬أم من اثر الغ�ضب �أو‬ ‫هم وجزع و�إ�شفاق‪،‬‬ ‫التجني ك�سبية زائلة‪ ،‬فهي تبعث يف نفو�سنا �شعور ّ‬ ‫ال �شعور الطم�أنينة واملتعة اخلال�صة‪ ،‬الذي يبعثه دائم ًا م�شهد الأ�شكال‬ ‫�أو ال�صور اجلميلة‪.‬‬ ‫ومن غرائب االتفاق‪ ،‬بعد �أن ر�أينا اليازجي «يح�رص» حركات‬ ‫احل�سناء التي �شاء القدر �أن يتغزل بها �أبو الطيب‪ ،‬يف نطاق االحلاظ‪،‬‬ ‫ك�أنها ال تفت�أ تغمز بطرفها من ح�رض ومن غاب‪� ،‬أن يروي لنا �صاحب‬

‫‪85‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫نظام الفنون‪ ،‬يف باب «الوجوه» من كتابه «مقدمات على اال�ستاطيقي»‬ ‫خرب فتاة‪ ،‬يف �إحدى ق�ص�ص �ستندال «كانت عيناها حتدثان جميع‬ ‫الأ�شياء والأ�شخا�ص حولها‪ ،‬حديث ًا ال ينتهي‪ ».‬ثم يقول‪( :‬قابلوا بني‬ ‫هذه احلمقاء وبني كالليا ذات احل�سن الآلهي‪ ،‬التي كان وجهها اجلميل‬ ‫ال يعرب‪ ،‬لأول وهلة‪� ،‬إال عن عدم االكرتاث �أو عن �إعرا�ض غري متكلف‪.‬‬ ‫بيد �أن �أنف�س �صورة امر�أة يف متحفنا الأدبي هي‪ ،‬وال مراء‪� ،‬صورة‬ ‫ال�صبية البارعة احل�سن فرونيكا‪ ،‬يف ق�صة «خوري القرية» لبلزاك‪� ،‬أتى‬ ‫اجلدري على مالمح وجهها فك�أنه غطى على حما�سنه فقط‪ ،‬لأنها ما‬ ‫ّ‬ ‫لبثت �أن ا�ستعادت جمالها وبهاءها‪ ،‬يقول احلب ال�صادق الذي �شغف‪،‬‬ ‫على حني غرة‪ ،‬ف�ؤادها‪.).‬‬

‫‪5‬‬ ‫كنت ذات ليلة‪ ،‬ور�أ�سي بني يدي‪� ،‬أتدبر «نظام هذه الفنون اجلميلة‪،‬‬ ‫لأنظر �أين منازل ال�شعر منه‪ ،‬كما ير�صد الفلكي النجوم‪ ،‬تارة يقلب‬ ‫وجهه يف ال�سماء‪ ،‬وطوراً يقلب �أوراقه ال�صفراء‪ .‬فراعني �أن لي�س هنالك‬ ‫نظام واحد ال يتبدل‪ ،‬كالنظام ال�شم�سي مث ًال‪ ،‬بل �أنظمة متعددة بتعدد‬ ‫الفال�سفة ذوي الب�رص باال�ستاطيقي‪ ،‬ذهب كل مذهب ًا يف ن�سق الفنون‬ ‫وتعيني مراتبها‪ ،‬ثم هو يطمع ب�أن يراها‪ ،‬وفق هواه ت�سري‪ ،‬وعلى حموره‬ ‫تدور‪ ..‬لكن فرخ روعي‪ ،‬مذ بدا يل �أن االختالف مهما يكن عظيم ًا‪ ،‬لن‬ ‫ي�ؤدي �إىل اختالل مهما يكن حقرياً‪ ،‬يف ذلك الوجود العجيب القائم‬ ‫على تخوم مبهمة من دنيانا‪ ،‬والذي ي�سمونه‪ :‬عامل الفن‪ .‬لتكن غلطة‬ ‫‪86‬‬


‫ح�سابية ُيح�رش لأجلها الفلكيون �أحياء و�أمواتا‪ ،‬فيجمعون بعد ل ٍأي‬ ‫عليها‪ ،‬ك�أنهم ما اجتمعوا �إال لهذا‪ ،‬فماذا يكون؟ (ال ال�شم�س ينبغي لها‬ ‫�سابق النهار‪ ،‬وكل يف فلك ي�سبحون)‪ ،‬فالنظام‬ ‫�أن تدرك القمر‪ ،‬وال الليل‬ ‫ُ‬ ‫يف طبيعة الأ�شياء ق�صارانا �أن نحد�س به ونتوهمه‪� ،‬أو بالأكرث‪� ،‬أن‬ ‫نتدبره ونتفهمه‪.‬‬ ‫مل يك يف النية‪� ،‬إذ �أخذنا يف هذا البحث‪� ،‬أن نعر�ض ب�إجمال �أو‬ ‫تف�صيل‪ ،‬ملختلف الأنظمة التي و�ضعها الفال�سفة وعلماء اال�ستاطيقي‪،‬‬ ‫يف ت�صنيف الفنون اجلميلة وتعيني مراتبها من اري�سطو املعلم الأول‬ ‫�إىل كانط وهيجل و�شوبنهور‪ ،‬حتى باك و�آلن وغريهم من �أ�صحاب‬ ‫النحل واملذاهب‪ ،‬فهو �رشح يطول‪ ،‬لي�س هنا مو�ضعه‪ .‬و�إذا كان مما ال‬ ‫بد عنه ذكر طرف من �آراء القوم يف ما بني ال�شعر و�سائر الفنون من‬ ‫ّ‬ ‫�صالت قريبة �أو بعيدة‪ ،‬رثة �أو وثيقة‪ ،‬فحبذا لو كان يكفي‪ ،‬لتوفية‬ ‫البحث حقه‪� ،‬أن نقول‪« :‬هذه اللوحة ناطقة ب�شعر موزون‪ ،‬وتلك‬ ‫الق�صيدة �صورة تامة التلوين‪ ،‬وهذا الرق�ص مو�شح �أندل�سي‪ ،‬وذلك‬ ‫اللحن كاتدرائية ت�سبح يف الف�ضاء!»‪ ،‬ففي هذه العبارات و�أمثالها‬ ‫�إ�شارة �رصيحة �إىل ن�سبة غري منحولة‪ ،‬بني تلك الفنون‪ ،‬لكن هذا‬ ‫دون الكفاية‪ ،‬ولقد كان ال�شاعر ماالرمه يرى �أن «الرق�ص �شعر حي»‬ ‫وحاول يوم ًا �أن يثبت بالأدلة العقلية والنقلية �أن راق�صة على م�رسح‬ ‫هي «كناية �شعرية»‪ .‬ثم زعم بع�ضهم �أن لفكتور هوجو وبول فالريي‬ ‫ق�صائد‪ ،‬م�شيدة كالربوج واملعابد‪ .‬فلو ا�شتغل �أي�ض ًا �أحد قوادنا‬ ‫املتقاعدين بالنقد ال�شعري‪ ،‬مل يكن عجيب ًا �أن يهجم علينا بهذا الر�أي‬ ‫اللجب‪ ،‬وهو �أن ق�صائد املتنبي يف مدح �سيف الدولة «جيو�ش على‬ ‫�أكمل تعبئة‪ ،‬ومطلع الق�صيدة منها كطليعة اجلي�ش»‪.‬‬ ‫ال خالف يف �أن ال�شعر‪ ،‬عند الإغريق القدماء‪ ،‬وغريهم من �سالف‬ ‫‪87‬‬


‫اجلمال بني احلركة وال�سكون‬

‫الأمم‪ ،‬مل ينف�صل عن الرق�ص واملو�سيقى والغناء‪ ،‬و�أن الق�صيدة كانت‬ ‫تلحن وتن�شد ويرق�ص عليها‪ ،‬يف وقت مع ًا‪.‬‬ ‫ومن الثابت �أن تلك الفنون الأربعة متفرعة عن �أ�صل واحد من النغم‬ ‫�أو ال�رضب �أو التوقيع‪ .‬فاملو�سيقى هي علم االعداد‪ ،‬واالعداد �أب�سط‬ ‫الألفاظ‪ ،‬والألفاظ مادة الكالم‪ ،‬ال�سيما الكالم املنظوم‪ .‬و�أ�شار ابن‬ ‫خلدون �إىل هذه القربى بني فنون ال�شعر والرق�ص واملو�سيقى والغناء‪،‬‬ ‫يف من�شئها وتطورها‪ ،‬قال‪( :‬وهذا التنا�سب يف الأجزاء ويف املتحرك‬ ‫وال�ساكن من احلروف ‪� -‬أي العرو�ض ‪ -‬قطرة من بحر من تنا�سب‬ ‫الأ�صوات‪ ،‬كما هو معروف يف كتب املو�سيقى‪ ،‬ثم تفنن احلداة منهم يف‬ ‫فرجعوا الأ�صوات وترمنوا‪.‬‬ ‫حداء �إبلهم‪ ،‬والفتيان يف ق�ضاء خلواتهم‪ّ ،‬‬ ‫وكانوا ي�سمون الرتمن �إذا كان بال�شعر غناء‪ ،‬و�إذا كان بالتهليل �أو نوع‬ ‫القراءة تعبرياً‪ ..‬وكان �أكرث ما يكون منهم يف اخلفيف ‪ -‬من الأوزان ‪-‬‬ ‫الذي ُيرق�ص عليه ويمُ �شى بالدف واملزمار‪ ،‬فيطرب وي�ستخف احللوم‪..‬‬ ‫وكانوا ي�سمونه الهزج‪ ،‬وهذا الب�سيط من التالحني هو من �أوائلها)‪.‬‬ ‫وال ينبغي �أن نغلو يف ادعاء هذه الن�سبة �أو القربى بني الفنون‬ ‫اجلميلة‪ ،‬وال �أن نكرث من ترداد تلك اجلمل الراق�صة امللونة امللحنة‪،‬‬ ‫�إىل حد الإ�رساف‪ ،‬فقد روي �أن بع�ضهم �س�أل امل�صور ديجا�س‪ ،‬وهو‬ ‫يحاوره يف «تف�سري» �صورة من �صوره‪ ،‬يوم عر�ضها للناظرين‪ ،‬كما‬ ‫حاولنا نحن «تف�سري» بيت املتنبي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ �أال جتد يف هذه اللوحة‪ ،‬يا �سيدي‪� ،‬أثراً من ال�شاعر مرتلنك؟‬‫ف�أجابه امل�صور‪ ،‬على البديهة‪:‬‬ ‫ �أن هذا الأزرق‪ ،‬يا �سيدي‪ ،‬خرج من الأنبوب‪ ،‬ال من الدواة‪.‬‬‫فمن �أين طلعت علينا تلك احل�سناء التي تغزل بها �أبو الطيب‪� ،‬إن مل‬ ‫يكن من دواة ال�شاعر؟‬ ‫‪88‬‬


‫خامتة‬ ‫يل �صديق من مهرة ال�صيادلة‪ .‬و�آية مهارته �أنه‪ ،‬يف هذا الع�رص‬ ‫الذي كاد ال يعرف غري الأدوية اجلاهزة‪ ،‬مازال مولع ًا برتكيب‬ ‫حد اين‬ ‫املفردات ومزج ال�سوائل وعجن العقاقري‪ ،‬ومولع ًا بها �إىل ّ‬ ‫كثرياً ما �سمعته ينعى على �أبناء عمه‪ ،‬الأطباء‪ ،‬عدولهم عن الو�صفات‬ ‫الطبية التي تكلفهم �شيئ ًا من العناء وقلي ًال من الوقت‪� ،‬إىل «املاركات»‬ ‫امل�سجلة‪ْ � :‬إن هي �إال ب�ضعة �أحرف طل�سمية‪ ،‬ي�سطرونها ب�صورة ماكنية‪،‬‬ ‫وك�أنها تعاويذ �ألهموها �إلهام ًا ‪ -‬فيها ال�شفاء ب�إذن اهلل ‪ -‬ف�إذا بها‬ ‫تنقلب‪ ،‬ب�رضب من ال�سحر‪� ،‬أ�صناف ًا من القناين �أو �أمناط ًا من العلب‪،‬‬ ‫مما تخرجه امل�صانع يف ديار الغرب‪ ،‬على مثال الأم�شاط والأحذية‪.‬‬ ‫نحن يف زمن العجلة‪ ،‬فهل يالم �أطبا�ؤنا �إذا �سايروا زمانهم‪ ،‬و�إن‬ ‫يكن يف هذا بع�ض الكلفة على مر�ضاهم؟ وما يدريك‪ ،‬لع ّل ه�ؤالء �أحق‬ ‫باللوم من �أولئك‪� ،‬أو فقل يل ‪ -‬عافاك اهلل ‪ -‬من قال لذلك املري�ض �أن‬ ‫‪89‬‬


‫خامتة‬

‫«مير�ض» يف هذا الع�رص‪ ،‬ع�رص ال�رسعة والأدوية اجلاهزة؟‬ ‫وك�أين بهذا ال�صيديل الفا�ضل‪� ،‬ضاق ذرع ًا ببني عمه الأطباء‪،‬‬ ‫وحرموا عليه تركيب مفرداته‬ ‫الذين م�سخوه تاجر علب وزجاجات‪ّ ،‬‬ ‫ومزج �سوائله وعجن عقاقريه‪ ،‬فعكف على مزج الآراء يف خمتلف‬ ‫املوا�ضيع الأدبية وال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬حتى �أ�صبح يريني من‬ ‫«تراكيبه» العجيبة �أ�شكا ًال و�ألوان ًا‪ .‬بيد �أنه‪ ،‬واحلق يقال‪ ،‬ما ادعى قط‬ ‫القدرة ب�سوائله ومعاجينه‪ ،‬على �شفاء الأدب من جموده �أو املجتمع‬ ‫من �أدوائه‪ ،‬قال يل ذات يوم‪ ،‬وال �أذكر لأية منا�سبة‪:‬‬ ‫ �أنا �أعلم من الفوازيه‪� ..‬أجل‪� ،‬أنا ال�صيديل خريج اجلامعة‬‫الأمريكية منذ ع�رشين عام ًا ونيف‪� ،‬أعلم من �أبي الكيمياء احلديثة‪،‬‬ ‫�صاحب االكت�شافات واالخرتاعات‪ ،‬ووا�ضع الد�ساتري والنظريات‪.‬‬ ‫وبعد �أن �سكت برهة قال‪ ،‬وك�أنه لتوا�ضعه يهم بال�سجود‪:‬‬ ‫ لكن ل�ست الفوازيه!‬‫لقد عنى �صاحبي بكلمته هذه �أن علم الكيمياء‪ ،‬ك�سائر املعارف‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬تطور نظري ًا وعملي ًا منذ ذلك العهد‪ ،‬فثمة حقائق يعرفها‬ ‫�صيديل اليوم وكان يجهلها الفوازيه‪� ،‬أو نظريات �آمن بها �أبو الكيمياء‬ ‫احلديثة‪ ،‬فجرحتها اختبارات �أحدث‪ ،‬وهو ر�أي ال جدال فيه‪.‬‬ ‫وقد عنى �صاحبنا �أمراً �آخر �أي�ض ًا‪ ،‬لي�س دونه الأمر الأول �ش�أن ًا‪ ،‬بل‬ ‫لعله املق�صود بالذات‪ ،‬هو �أن الفرق بينه وبني الفوازيه ال يزال ولن‬ ‫يزول‪ ،‬رغم املعرفة الراهنة‪� :‬أنه «�صيديل» لي�س �إال‪ ،‬والفوازيه «نابغة»‬ ‫وكفى‪.‬‬ ‫كان هذا الر�أي يرتدد يف خاطري بعد ب�ضعة �أيام‪ ،‬يف جمل�س‬ ‫�ضمني وبع�ض من ال يزالون يفكرون بغري الرغيف‪ ،‬يف هذا البلد‪،‬‬ ‫‪90‬‬


‫حل�سن طالعه ول�سوء طالعهم‪ ،‬و�أنه ل�صرب حممود‪.‬‬ ‫فتناول احلديث ‪ -‬بالبداهة ‪ -‬الأدب والأدباء‪ ،‬وال�شعر وال�شعراء‪،‬‬ ‫الأموات منهم والأحياء‪ .‬فقال بع�ضهم وهو من م�شيخة املحامني‪،‬‬ ‫بلهجة �أ�سف بليغ‪� ،‬إنه ال يكاد يجد فيما تخرجه املطابع‪ ،‬هذه الأيام‪،‬‬ ‫�شعراً �أو نرثاً �أو بني بني (يعني‪ :‬ال�شعر املنثور)‪ ،‬ما ُيقر�أ‪� ،‬أي ما يجدر‬ ‫به �أن يقر�أه هو‪ .‬و�أخذ يف مقارنة �أدب جيلنا احلا�رض ب�أدب اجليل‬ ‫الغابر‪� ،‬آتي ًا على و�صف حلقات ال�سلف ال�صالح‪ ،‬تالي ًا علين ًا ما تي�رس‬ ‫من منثورهم‪ ،‬من�شداً ما ح�رضه من منظومهم‪ ،‬حتى خيل �إلينا ل�صدق‬ ‫لهجته و�شدة حنينه‪� ،‬أنه راجع بنا القهقرى‪ ،‬ال حمالة‪.‬‬ ‫فذكرت ذلك «املعجون» الذي �أحتفني به �صاحبي ال�صيديل �أخرياً‪،‬‬ ‫من تراكيبه العجيبة‪ ،‬وقلت لنف�سي‪ :‬هذا وقته‪� .‬أعالج به املحامي‬ ‫والتفت نحوه‪:‬‬ ‫ال�شيخ‪ ،‬فيكون بل�سم ًا جلراحات حنينه الدامي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ نحن‪� ،‬أيها الأ�ستاذ‪ ،‬يف هذا املجل�س ع�رشة‪ ،‬كل واحد منا �أعلم‬‫بالأدب من �أي الأئمة الع�رشة الذين عرفتهم يف �أيام �صباك احللوة‪،‬‬ ‫عليهم وعليها رحمة اهلل‪ ،‬فرويت لنا نوادرهم‪ ،‬وقر�أت علينا نبذاً من‬ ‫ف�صولهم‪ ،‬و�أن�شدتنا مقاطع من �شعرهم‪.‬‬ ‫قد يكون بيننا من هم �أفقه بالعربية من بع�ضهم‪ ،‬وال �شك يف �أن‬ ‫�أغلبنا �أو�سع اطالع ًا على الأدب العربي والآداب الأجنبية منهم جميع ًا‪.‬‬ ‫نحن �أ�صح فهم ًا حلقيقة الأدب ومقايي�سه‪.‬‬ ‫والثقافة العامة‪ ،‬هل ن�سيتها يا �أ�ستاذ؟ عندنا من امل�شاركات‬ ‫يف خمتلف العلوم والفنون ما مل ي�ؤتوا جزءاً منه (�أق ّل جزيء بع�ض ُه‬ ‫أجمع) كما قال املتنبي! والنظريات اجلديدة يف الفن والأدب؟‬ ‫الر� ُأي � ُ‬ ‫وفالريي �صاحب ال�شعر ال�صايف؟ ور�سل الالوعي‪ ،‬ودعاة التكعيب؟‬ ‫‪91‬‬


‫خامتة‬

‫وذلك البيان الذي يزعم �أنه �سوف ي�صك قفا النحو �صك ًا‪ ،‬ويدق عنق‬ ‫ال�رصف دق ًا‪ ،‬ثم يعوذ باملو�سيقي‪ ،‬يف خليط من الأنواع‪ ،‬ي�صور للنا�س‬ ‫بدء اخلليقة �أو قيام ال�ساعة؟ �إذا كان هذا كله ال يكفيك‪ ،‬فماذا تريد يا‬ ‫�أ�ستاذ؟ ماذا تريد‪ ،‬باهلل عليك؟‬ ‫فحملق الأ�ستاذ‪ ،‬وهو غري م�صدق �أذنيه‪ ،‬حتى خ�شيت على نف�سي‪،‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫علي ب�أن املتنبي‪ ،‬مث ًال‪ ،‬مل يعرف �صنف ًا‬ ‫ ولكن مه ًال‪ ،‬لعلك ترد ّ‬‫واحداً من الب�ضاعة التي عر�ضتها‪ ،‬ك�أننا يف دكان عطار‪ ،‬فهل عاقه‬ ‫ذلك عن �أن يكون املتنبي؟ ف�أنا �أجيب‪� :‬أجل‪� ،‬أنا �أفقه من املتنبي‪ ،‬لكن‬ ‫ل�ست املتنبي!‬ ‫و�أق�سم‪ ،‬ما فارقت �صديقي املحامي ال�شيخ‪� ،‬إال وقد انب�سطت‬ ‫�أ�ساريره‪ .‬ثم ودعني وم�شى يف خيالء الظافر‪ ،‬ك�أنه «�أنقذ» املتنبي‬ ‫من هذه «املدر�سة احلديثة» التي يراد �إدخاله فيها‪ ،‬بعد �شيخوخة �ألف‬ ‫عام‪.‬‬

‫‪92‬‬


93


‫عمر فاخوري‬ ‫‪ l‬امليالد عام ‪ 1895‬يف حملة الب�سطاء ببريوت‪ ،‬لأب من الطبقة‬ ‫امل�ستورة من �صغار التجار‪.‬‬ ‫‪ l‬تلقى مبادئ اللغة يف «ال ُكتاب» ثم يف مدر�سة عي�سى القا�سم‪ ،‬قبل‬ ‫�أن يلتحق بالكلية العثمانية على �أيدي �أ�ساتذة بينهم الع ّالمة م�صطفى‬ ‫الق�صار والأ�ستاذ يو�سف حرفو�ش‪.‬‬ ‫الغالييني‪ ،‬والدكتور ب�شري ّ‬ ‫بالكلية الي�سوعية لدرا�سة احلقوق‪ ،‬لكن‬ ‫‪ l‬يف الثامنة ع�رشة التحق‬ ‫ّ‬ ‫ن�شوب احلرب العاملية الأوىل ت�سبب يف انقطاعه عن التعليم‪.‬‬ ‫‪ l‬ان�ضم �إىل حركة الن�ضال الوطني‪ ،‬ع�ضواً يف (حزب اال�ستقالل)‬ ‫و(جمعية العربية الفتاة) ال�رسية‪ ،‬و�ألف يف هذه الفرتة كتابه الأول‬ ‫(كيف ينه�ض العرب) الذي كاد يو�صله �إىل حبل امل�شنقة يف عهد الديوان‬ ‫العريف الرتكي‪.‬‬ ‫‪ l‬دعاه امللك في�صل الأول (‪1883‬ـ ‪ )1933‬لتحرير جريدة (العا�صمة)‬ ‫يف دم�شق‪ ،‬لكنها �رسعان ما وقعت حتت االحتالل الفرن�سي على �سورية‬ ‫عام ‪ ،1920‬فغادر دم�شق �إىل فرن�سا لدرا�سة احلقوق والآداب والعلوم‬ ‫ال�سيا�سية يف جامعة ال�سوربون‪ ،‬فمكث ثالث �سنوات‪.‬‬ ‫‪ l‬يف العام ‪ 1923‬عاد �إىل بريوت‪ ،‬وعمل يف حقل الأدب وال�سيا�سة‪،‬‬ ‫ثم دعي �إىل دم�شق لتحرير جريدة (املفيد) ل�صاحبيها يو�سف وجنيب‬ ‫حيدر‪ ،‬و(امليزان) لأحمد �شاكر الكرمي (‪1894‬ـ ‪ ،)1927‬وملا توقفت‬ ‫اجلريدتان ب�سبب مناه�ضتهما لال�ستعمار الفرن�سي‪ ،‬عاد �إىل بريوت‪،‬‬ ‫وا�ست�أنف ن�رش مقاالته يف جريدة (احلقيقة) كما �أ�سهم يف ت�أ�سي�س جملة‬ ‫(الك�شاف)‪ ،‬وترجم لها كتاب غاندي لرومان روالن‪ ،‬ومار�س املحاماة‪،‬‬

‫‪94‬‬


‫ويف عام ‪ 1927‬انتخب ع�ضواً يف املجمع العلمي العربي بدم�شق‪.‬‬ ‫‪ l‬عندما عجزت ال�صحافة عن �إعا�شته ا�ضطر �إىل الوظيفة الر�سمية‬ ‫و�أم�ضى ال�سنوات الأخرية من حياته موظف ًا بني الدوائر العقارية‬ ‫والإذاعة اللبنانية‪.‬‬ ‫‪ l‬يف عام ‪ 1940‬تعرف �إىل احلزب ال�شيوعي‪ ،‬فاعتنق مبادئه‬ ‫الي�سارية‪ ،‬وان�ضم �إىل ع�صبة مكافحة النازية والفا�شية‪ ،‬كما انتخبته‬ ‫جمعية �أ�صدقاء االحتاد ال�سوفياتي رئي�س ًا لها‪.‬‬ ‫‪ l‬يف عام ‪� 1943‬أقدم على خو�ض معركة االنتخابات النيابية‬ ‫م�ستق ًال فلم يوفق‪.‬‬ ‫‪ l‬يف عام ‪1946‬رحل بعد حياة �صاخبة بالن�شاط ال�سيا�سي والكتابة‬ ‫و�سنوات من املر�ض واحلاجة‪.‬‬

‫كتبه‪:‬‬ ‫‪ -1‬كيف ينه�ض العرب‪.‬‬ ‫‪� -2‬آراء غربية يف م�سائل �رشقية‪.‬‬ ‫‪� -3‬آراء �أناتول فران�س‪.‬‬ ‫‪ -4‬غاندي لرومان روالن‪.‬‬ ‫‪ -5‬الباب املر�صود‪.‬‬ ‫‪ -6‬الف�صول الأربعة‪.‬‬ ‫‪ -7‬ال هوادة‪.‬‬ ‫‪� -8‬أديب يف ال�سوق‪.‬‬ ‫‪ -9‬احلقيقة اللبنانية‪.‬‬ ‫‪ -10‬االحتاد ال�سوفياتي حجر الزاوية‪.‬‬

‫‪95‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.