اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻋﲇ أﺣﻤﺪ اﻟﺠﺮﺟﺎوي
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻋﲇ أﺣﻤﺪ اﻟﺠﺮﺟﺎوي
رﻗﻢ إﻳﺪاع ٢٠١٤ / ٢٧١٩٠ ﺗﺪﻣﻚ٩٧٨ ٩٧٧ ٧٦٨ ٢٥٢ ٧ : ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻟﻠﻨﺎﴍ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﺸﻬﺮة ﺑﺮﻗﻢ ٨٨٦٢ﺑﺘﺎرﻳﺦ ٢٠١٢ / ٨ / ٢٦ إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره وإﻧﻤﺎ ﱢ ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ ٥٤ﻋﻤﺎرات اﻟﻔﺘﺢ ،ﺣﻲ اﻟﺴﻔﺎرات ،ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻧﴫ ،١١٤٧١اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻣﴫ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺎﻛﺲ+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣ : ﺗﻠﻴﻔﻮن+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢ : اﻟﱪﻳﺪ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhindawi@hindawi.org : املﻮﻗﻊ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhttp://www.hindawi.org : ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف :وﻓﺎء ﺳﻌﻴﺪ. ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺼﻮرة وﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ملﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ .ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق اﻷﺧﺮى ذات اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻬﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻠﻤﻠﻜﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ. Cover Artwork and Design Copyright © 2017 Hindawi Foundation for Education and Culture. All other rights related to this work are in the public domain.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
إﻫﺪاء اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
7 13
إﻫﺪاء اﻟﺮﺣﻠﺔ
ﺳﻦ اﻷدﺑﺎء ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ُﺳ ً إن ﻟﻠﻌﺎدة ﺣﻜﻤً ﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺨﺮوج ﻋﻨﻪ ،وﻗﺪ ﱠ ﻨﺔ اﺣﺘﺬى ﻣﺜﺎﻟﻬﺎ وﻧﺴﺞ ﻋﲆ ﻣﻨﻮاﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﺎء ﺑﻌﺪﻫﻢ ﻣﻦ أﻫﻞ ﺣﺮﻓﺘﻬﻢ ،وﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺎدات وﻫﺎﺗﻴﻚ اﻟﺴﻨﻦ أن ﻳﺆﻟﻒ اﻟﻌﺎﻟﻢ واﻟﻜﺎﺗﺐ ﰲ ﻓﻨﻮن ﺷﺘﱠﻰ ﻣﺆﻟﻔﺎت ﺑﺮﺳﻢ ﺑﻌﺾ اﻷﻛﺎﺑﺮ واﻷﻋﻴﺎن وﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺣ ﱞ ﻆ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻔﻮاﺋﺪ املﺎدﻳﺔ ،اﻟﻠﻬﻢ ﱠإﻻ إذا ﺳﻌﺖ إﻟﻴﻬﻢ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ وإﻧﻤﺎ ﺟ ﱡﻞ ﻗﺼﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﺗﺄﻟﻴﻒ اﻟﻜﺘﺐ ﺑﺮﺳﻢ اﻷﻋﻴﺎن زﻳﺎدة اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﻬﺎ ﻟﺪى اﻟﻜﺎﻓﺔ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﻘﺼﻮى ﻣﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ ،وﺟﻼﻟﺔ املﻮﺿﻮع ،واﻟﺬي ﻗﻮى ﻋﻨﺪﻫﻢ اﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ إﻗﺒﺎل اﻷﻛﺎﺑﺮ ﻋﲆ ﻣﻄﺎﻟﻌﺔ املﺆﻟﻔﺎت املﻔﻴﺪة ﰲ اﻷوﺿﺎع اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ. ﱠ ﻫﺬا ﻛﺘﺎب ﻗﻼﺋﺪ اﻟﻌﻘﻴﺎن ﻟﻠﻔﺘﺢ ﺑﻦ ﺧﺎﻗﺎن ،أﻟﻔﻪ ﺑﺮﺳﻢ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ املﺘﻮﻛﻞ وﻛﺘﺎب اﻟﻌِ ﻘﺪ اﻟﻔﺮﻳﺪ ﻟﻠﻤﻠﻚ اﻟﺴﻌﻴﺪ. وﻛﺘﺎب اﻟﻬﺪﻳﺔ اﻟﺴﻌﻴﺪﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أ ﱠﻟﻔﻪ اﻹﻣﺎم ﻣﺤﻤﺪ ﻓﻀﻞ اﻟﺤﻖ اﻟﺨري أﺑﺎدي ،وأﻫﺪاه إﱃ ﻣﻠﻴﻚ ﺑﻼده ﻣﺤﻤﺪ ﺳﻌﻴﺪ ﺧﺎن ﺑﻬﺎدر ،وﻟﻮ أردت إﺣﺼﺎء املﺆﻟﻔﺎت املﻬﺪاة إﱃ اﻷﻣﺮاء وأﻫﻞ اﻟﻔﻀﻞ واﻷدب ﻟﻐﻠﻄﺖ ﰲ اﻟﻌﺪ ،وﺿﺎع اﻟﺤﺴﺎب. ﻫﺬا وإﻧﻲ وﺿﻌﺖ ﻫﺬا ﱢ اﻟﺴ ْﻔﺮ ﰲ رﺣﻠﺘﻲ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وأودﻋﺘﻪ ﻣﻦ أﺧﺒﺎر ﺗﻠﻚ اﻷﻣﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ﻣﺎ ﺗﻐﻨﻲ ﻣﻄﺎﻟﻌﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻨﺪﻳﻢ واﻟﺴﻤري ،وﻣﻦ أﺷﻴﺎء ﺷﺎﻫﺪﺗﻬﺎ ﰲ ذﻫﺎﺑﻲ وإﻳﺎﺑﻲ ﰲ اﻟﺒﻼد اﻷﺧﺮى رأﻳﺖ ﻣﻦ إﺗﻤﺎم اﻟﻔﺎﺋﺪة ذﻛﺮﻫﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ. وﺣﺴﺒﻲ ً ﴍﻓﺎ أﻧﻬﺎ رﺣﻠﺔ أول ﻣﴫيﱟ وﻃﺌﺖ ﻗﺪﻣﻪ ﺗﻠﻚ اﻷرض ﻣﻦ ﻗﺪﻳﻢ اﻟﺰﻣﺎن إﱃ اﻵن ،وﻗﺪ اﺗﺒﻌﺖ ُﺳﻨﱠﺔ أوﻟﺌﻚ املﺆﻟﻔني وﻟﻜﻦ رأﻳﺖ أن أﻫﺪي رﺣﻠﺘﻲ إﱃ ﻛ ﱢﻞ ﻋﺎﻟ ٍﻢ وأدﻳﺐ ﰲ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻮﺿﻊ آﻣﺎل اﻷﻣﺔ. ﻣﴫ، وﻫﻨﺎ ﻣﻘﺼﺪ آﺧﺮ أرى ﻣﻦ اﻟﴬوري اﻹملﺎع إﻟﻴﻪ ،وﻫﻮ أﻧﻨﺎ أﺻﺒﺤﻨﺎ ﰲ ﻋﴫ ﻧﺘﺴﺎﺑﻖ ﻗﺼﺐ ﱠ ﻓﻴﻪ اﻷﻣﻢ إﱃ إﺣﺮاز َ اﻟﺴﺒْﻖ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻟﺤﻀﺎرة ،ﻓﺄﺟﺪر ﺑﺎﻟﺸﺒﻴﺒﺔ املﴫﻳﺔ أن ﺗُﻄﺎﻟِﻊ
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ؛ ﻟريوا أن ﰲ اﻟﴩق أﻣﺔ ﰲ اﻟﺜﻼﺛني رﺑﻴﻌً ﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﻲ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺗﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ﻧﻈﺮ اﻹﺟﻼل واﻻﻋﺘﺒﺎر ،ﺣﺘﻰ إذا ﻗﺮءوا ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺼﻞ إﱃ ﻋﻠﻤﻬﻢ ﻋﻨﻬﺎ دﺑﱠﺖ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ اﻟﺤﻤﻴﺔ ﻓﻨﺰﻋﻮا رداء اﻟﻜﺴﻞ .وﻗﺎﻟﻮا :ﺣﻲ ﻋﲆ ﺧري اﻟﻌﻤﻞ .ﻓﺈذا ﻋُ ِﺮف ﻫﺬا ﻋﻠﻢ ﱠ اﻟﺨﻼق ﻷﺟﻞ ﻧﻔﻊ أﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﺗﺤﻤﱠ ﻞ اﻷﺧﻄﺎر ،ووﻋﺜﺎء اﻷﺳﻔﺎر ،وﻟﻢ أﻋﺘﻤﺪ ﰲ اﻹﻧﻔﺎق ﱠإﻻ ﻋﲆ ﺑﻼدي وﺧﺪﻣﺔ دﻳﻨﻲ وﺟﺎﻣﻌﺘﻲ ،وﻫﺬا ﻫﻮ أول ﻣﱪﱢر ﻟﻮﺿﻊ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ. ﻋﲇ أﺣﻤﺪ اﻟﺠﺮﺟﺎوي
8
ﺑﺴﻢ ﷲ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺮﺣﻴﻢ ﻗﺪ ُﻛﺘِﺐ اﻟﻜﺘﺎب ﰲ ﺑﺎب املﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑني اﻹﻗﺎﻣﺔ واﻟﺴﻔﺮ ،وﺗﻔﻨﱠﻦ املﻨﺸﺌﻮن اﻷدﺑﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﴫﻓﻮن ﰲ أﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﱰاﻛﻴﺐ ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ ﻟﻬﻢ أن ﻳﻜﺘﺒﻮا وﻳﺘﻔﻨﻨﻮا. ﺑﻴﺪ أن اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺮﺟﱢ ﺤﻮن اﻹﻗﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﺎ ﻫﻢ ،ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺤﻜﻢ ﺑﺎﻹﺟﻤﺎع ﻋﲆ أن اﻏﱰاب املﺮء ﻋﻦ وﻃﻨﻪ ،وﻣﺴﻘﻂ رأﺳﻪ ،ﱡ وﺗﻨﻘﻠﻪ ﰲ اﻟﺒﻼد ،واﺳﺘﻄﻼع ﻋﻮاﺋﺪ وأﺣﻮال ﺑﴪ ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻮد ،وﻳﻈﻬﺮ ﻟﻪ ﻣﺎ ﺧﻔﻲ ﻣﻨﻪ اﻷﻣﻢ واﻟﺸﻌﻮب اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﱢ وراء ﺳﺘﺎر ﺣﺐ اﻟﺪﻋﺔ واﻹﺣﺠﺎم ﻋﻦ اﻹﻗﺪام ﻋﲆ ﻋﻈﻴﻤﺎت اﻷﻣﻮر. ﻋﲆ أن اﻷﺳﺒﺎب واﻟﺒﻮاﻋﺚ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻮق املﺮء إﱃ اﺳﺘﺴﻬﺎل ﻛ ﱢﻞ ﺻﻌﺐ واﻻﺳﺘﻬﺎﻧﺔ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺧﻄﺮ ﻳﻌﱰﺿﻪ وﻫﻮ ﻧﺎءٍ ﻋﻦ أوﻃﺎﻧﻪ ،ﻗﺪ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﰲ اﻟﻘﻴﻤﺔ واﻻﻋﺘﺒﺎر وإن ﻛﺎن ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻣﺘﺤﺪًا ﰲ إﻓﺎدﺗﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻔﺪه ﰲ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﻣﻬﻤﺎ ﻋﻼ ﻛﻌﺒﻪ ،وارﺗﻘﺖ درﺟﺘﻪ ﺑني اﻟﻄﺒﻘﺔ املﺘﻨﻮرة ﺑﻨﻮر اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ أﻣﺘﻪ. ﻓﻤﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻳﺤﺎﻟﻒ اﻷﺳﻔﺎر ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻻﺗﺠﺎر ،وإﻧﻤﺎء اﻟﺜﺮوة ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﴬب ً ﰲ اﻷرض وﻳﻘﻄﻊ اﻟﻄﻮل ﻣﻨﻬﺎ واﻟﻌﺮض ،ﱢ ﻣﻔﺘﺸﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻛﺒﻬﺎ ﻋﻦ ﻏﺎﻣﺮ ﻣﻨﻘﺒًﺎ ﰲ ﻣﺠﺎﻫﻠﻬﺎ ﻣﻌﺪن ﻳﻜﺘﺸﻔﻪ ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻌﺎﴍ اﻷﻣﻢ املﺒﺎﻳﻨﺔ ﻟﻪ ﰲ اﻟﺠﻨﺲ ،واﻟﺪﻳﻦ، ﻳﺴﺘﻌﻤﺮه ،أو ٍ واﻟﻌﺎدة ،ﻓﻴﻨﻘﻞ إﱃ ﺳﺎﺳﺔ اﻷﻣﻢ وﻣﺪﻳﺮي املﻤﺎﻟﻚ ﻣﺎ ﻻ ﻏﻨﻰ ﻟﻬﻢ ﻋﻨﻪ ﺣﻴﺎل وﻇﻴﻔﺘﻬﻢ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺘﺤﻤﻞ أﻟﻢ اﻟﻐﺮﺑﺔ ،وﻟﻮﻋﺔ ﻓﺮاق اﻷﻫﻞ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﻃﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ واﻻﺳﺘﻨﺎرة ﺑﻨﻮر اﻟﻌﺮﻓﺎن ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺠﻮب اﻟﻘﻔﺎر وﻳﺮﻛﺐ اﻟﺒﺤﺎر ﻻﻛﺘﺸﺎف ﺟﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑني اﻟﺸﻌﻮب اﻟﻌﺮﻳﻘﺔ ﰲ اﻟﻬﻤﺠﻴﺔ واﻟﺘﻲ ﻻ دﻳﻦ ﻟﻬﺎ ،ﻟﻨﴩ ﻗﺒ ُﻞ
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻣﺒﺎل ﺑﻤﺎ ﻳﻌﱰض ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺨﻄﺮ ،وﺻﻨﻮف ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ دﻳﻨﻪ وأﺻﻮل ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻏري ٍ وﻋﺜﺎء اﻟﺴﻔﺮ. ﻓﻬﺬه ﻛﻠﻬﺎ ﻏﺎﻳﺎت ﺣﻤﻴﺪة ،وﺑﻮاﻋﺚ ﴍﻳﻔﺔ ،ﺗﱪﱢر اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ،واﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وإن ﺗﻔﺎوﺗﺖ أﻗﺪارﻫﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﻌﺎﺋﺪة ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن. ﻫﺬا وﻗﺪ ﻛﻨﺖ أﻗﺮأ ﰲ اﻟﺼﺤﻒ املﺤﻠﻴﺔ ﻣﺎ ﺗﻨﻘﻠﻪ ﻣﻦ اﻷﻧﺒﺎء املﺘﻮاﺗﺮة ﺑﺎﻧﻌﻘﺎد ﻣﺆﺗﻤﺮ دﻳﻨﻲ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﺄﻣﺮ املﻴﻜﺎدو واﻟﺤﺎﻛﻢ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻼد ،وﺗﻮﺟﻪ اﻟﺒﻌﺜﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني وﻏريﻫﻢ ،ﻟﺤﻀﻮر ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺬي ﺗﻨﺤﴫ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ أﺻﻮل ﻛ ﱢﻞ دﻳﻦ، ﺣﺎﺿﺎ ﻋﲆ ﺗﺄﻟﻴﻒ ْ ٍّ وﻓ ٍﺪ ﻣﻦ ري ﻣﻦ أﻋﺪاد ﺟﺮﻳﺪﺗﻲ »اﻹرﺷﺎد« ﻓﻜﻨﺖ أﺗﺎﺑﻊ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﰲ ﻛﺜ ٍ أﻓﺎﺿﻞ اﻟﻌﻠﻤﺎء املﴫﻳني ﻟﻼﺷﱰاك ﻣﻊ اﻟﻮﻓﻮد اﻷﺧﺮى ،ﻟﺤﻀﻮر ﺟﻠﺴﺎت ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ وﻧﴩ اﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑني أﻣﺔ اﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ. إذ ﻣﺴﻠﻤﻮ ﻣﴫ أوﱃ ﺑﺄن ﻳﺤﻮزوا ﻫﺬه اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﻟﻮﺟﻮد اﻷزﻫﺮ ﺑني ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﻢ وﻫﻮ ﱠ اﻟﻄﻼب املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ُﻗﻄﺮ املﺪرﺳﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺼﺪﻫﺎ وﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺑﻠﺪ. ﻛﻤﺎ أن ﻏريي ﻣﻦ أرﺑﺎب اﻟﺼﺤﻒ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺿ ﱠﻢ ﺻﻮﺗﻪ إﱃ ﺻﻮﺗﻲ ،وﻟﻜﻦ ﱠملﺎ ﻟﻢ أﺟﺪ ﰲ اﻟﻬﻤﻢ اﻧﺒﻌﺎﺛًﺎ وﻻ ﰲ اﻟﻌﺰاﺋﻢ ﻧﺸﺎ ً ﻃﺎ ،ﻃﻔﻘﺖ أﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻦ ﻳﺮاﻓﻘﻨﻲ ﻣﻦ إﺧﻮاﻧﻲ املﺴﻠﻤني ﰲ اﻟﺮﺣﻠﺔ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،ﻟﻠﺪﻋﻮة إﱃ اﻹﺳﻼم ﻓﻜﺎن ذﻟﻚ اﻟﺪر ﻣﻦ اﻟﻜﱪﻳﺖ اﻷﺣﻤﺮ. وﺑﻴﻨﻤﺎ أﻧﺎ ﻛﺬﻟﻚ وإذا ﺑﺮﺟﻠني ﻓﺎﺿﻠني ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء وﺣﻜﻤﺎء ،ﺑﻞ وﻓﻼﺳﻔﺔ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺎﴐ ﱠ وﻓﻘﻬﻤﺎ ﷲ ﱄ أن ﻳﺬﻫﺒﺎ ﻣﻌﻲ إﱃ ﻫﺎﺗﻴﻚ اﻟﺒﻼد. أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺸﻴﺦ أﺣﻤﺪ ﻣﻮﳻ املﴫي املﻨﻮﰲ إﻣﺎم املﺴﺠﺪ اﻟﻜﺒري ﺑﻜﻠﻜﺘﺔ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻬﻨﺪ ،وﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﻓﺎﺿﻞ املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ ﰲ اﻷﺻﻞ »ﻟﻢ ﻳﺮد ذﻛﺮ اﺳﻤﻪ« ،ﻫﺬان اﻟﻔﺎﺿﻼن ﻛﺎﻧﺎ ﺧﺎ َ ﻃﺒَﺎﻧِﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻮص و َرﻏِﺒﺎ ﰲ ﻣﺮاﻓﻘﺘﻲ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض اﻟﴩﻳﻒ ،واملﻘﺼﺪ املﻨﻴﻒ ،وﻗﺪ ﻗﺎﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﺧﺎﻃﺒﺎﻧﻲ ﺑﻪ ً آﻧﻔﺎ ﻻ ﻧﻘﺼﺪ إﻻ وﺟﻪ ﷲ اﻟﻜﺮﻳﻢ ،وﺧﺪﻣﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﻘﻮﻳﻢ. وﻟﻢ أﻛﺪ أﺳﻤﻊ ﻛﻼﻣﻬﻤﺎ ﻫﺬا ،ﺣﺘﻰ أﻋﻠﻨﺖ ﻋﺰﻣﻲ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺎت اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ واﻷﺳﺒﻮﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻘﻠﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﺟﺮاﺋﺪ اﻷﺳﺘﺎﻧﺔ ،واﻟﻬﻨﺪ ،واﻷﻓﻐﺎن ،وﻗﺎزان ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﺴﻴﺎرة. وﻓﻴﻤﺎ ﺟﺎء ﰲ إﻋﻼﻧﻲ أﻧﻲ ﻻ أﻗﺒﻞ درﻫﻤً ﺎ واﺣﺪًا ﻣﻦ أﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺴﺎﻋﺪة املﺎدﻳﺔ ﺣﺘﻰ وﻻ ﻗﻴﻤﺔ اﺷﱰاك ﺟﺮﻳﺪﺗﻲ. 10
وﻫﺬه ﻳﺪي رﻫﻴﻨﺔ ﺑﺬﻣﺘﻲ أﻧﻲ ﻟﻢ أﻛﻦ أرﻳﺪ ﺑﺈﻋﻼﻧﻲ ﻫﺬا ﺷﻬﺮ ًة وﺣُ ﺴﻦ ﺳﻤﻌﺔ وﺟﻤﻴﻞ ذِ ﻛﺮ ،وﻟﻜﻦ ﺗﻮﻗﻌﺖ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ وﻃﻨﻲ اﺗﻬﺎﻣﻲ ﺑﺄﻧﻲ اﺗﺨﺬت ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ﺣﺒﺎﻟﺔ ﻟﺼﻴﺪ اﻟﺪرﻫﻢ واﻟﺪﻳﻨﺎر ،ﻻ اﻟﻌﻤﻞ ﻟﻮﺟﻪ ﷲ اﻟﻜﺮﻳﻢ ،ﻓﺄردت ﻧﻔﻲ ﻣﺎ ﻋﺴﺎه ﻳﻌﻠﻖ ﺑﺄذﻫﺎﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﺗﻬﺎﻣﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﺘﻬﻤﺔ. أﻣﺎ اﻵن وﻗﺪ أﻧﻔﺬت ﻋﺰﻳﻤﺘﻲ وأﻣﻀﻴﺖ ﰲ رﺣﻠﺘﻲ ﻫﺬه ﻧﺤﻮ اﻟﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﺷﻬﻮر ،ﻓﻘﺪ رأﻳﺖ ﻣﻦ اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﲇ ﱠ أن أﺳ ﱢ ﻄﺮ ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪﺗﻪ ﰲ ذﻫﺎﺑﻲ وإﻳﺎﺑﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻔﺮ ،إﻓﺎد ًة ﻷﺑﻨﺎء وﻃﻨﻲ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ،واﻗﺘﺪاءً ﺑﻜﻞ رﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ واﻟﺬﻳﻦ ﻳﻬﻤﻬﻢ اﻻﻃﻼع ﻋﲆ أﺣﻮال اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى اﻟﻐﺮﺑﻴني ﻳﻐﺎدر أﻫﻠﻪ وﺑﻼده ﺛﻢ ﻳﻌﻮد إﻟﻴﻬﺎ ﻣﺤﺘﻘﺒًﺎ ﻣﻦ ﻏﺮﻳﺐ اﻷﺧﺒﺎر ﻣﺎ ﺗُﻐﻨِﻲ ﻣﻄﻠﻌﺘﻪ ﻋﻦ ﻟﺤﻦ اﻷوﺗﺎر ،وﻣﺆاﻧﺴﺔ ﱡ اﻟﺴﻤﺎر. وإﻧﻲ ﻟﻢ أﻗﺼﺪ ﺑﺮﺣﻠﺘﻲ ﻫﺬه ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺠﺮد اﻻﺷﱰاك ﻣﻊ اﻟﺬﻳﻦ ذﻫﺒﻮا إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﰲ ﻧﴩ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ رﻏﺒﺘﻲ ﻣﺘﻮﺟﻬﺔ ً أﻳﻀﺎ إﱃ اﺳﺘﻄﻼع أﺣﻮال ﻫﺬه اﻷﺻﻘﺎع ،وﻣﻘﺪار ﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ املﺪﻳﻨﺔ وﺗﻘﺪﱡﻣﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم ﺷﺄن ﻣﻦ ﺳﺒﻘﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺎﺋﺤني. وﻗﺪ ﴐﺑﺖ ﺻﻔﺤً ﺎ ﻋﻦ ﺗﺴﻄري أﻏﻠﺐ ﻣﺎ دار ﰲ املﺆﺗﻤﺮ وﻋﻠﻤﺘﻪ ﻣﻦ املﺪوﻧﺎت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻣﻦ املﺤﺎورات وﺧﻼﻓﻪ ،وﻋﻦ ﺗﺴﻄري ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ أﻟﻘﻴﻨﺎه ﰲ ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﻓﺈن ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﻮن اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻣﺸﺤﻮﻧﺔ ﺑﻪ ﻣﻊ ﻗﺮب ذﻟﻚ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺘﻄﻮﻳﻞ، ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ. وﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﴍوط ﻛﺘﺐ اﻟﺮﺣﻼت أن ﻳ َ ُﻌﻘﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺼﻮل وأﺑﻮاب ﰲ اﻟﺤﺞ وﻓﺮاﺋﻀﻪ واﻟﺼﻼة ،وأرﻛﺎﻧﻬﺎ ،واﻟﺰﻛﺎة ،واﻟﺤﻜﻤﺔ املﻮﺟﻮدة ﻓﻴﻬﺎ ،وأن املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻗﺎل ﰲ ﺟﻠﺴﺎت املﺆﺗﻤﺮ ﻛﺬا ،ﻓﺮ ﱠد ﻋﻠﻴﻪ املﻨﺪوب اﻹﻳﻄﺎﱄ ﺑﻜﺬا ،ﻓﻔﻨﱠﺪه اﻷول ﺑﻜﺬا؛ ﻷﻧﻪ إﺳﻬﺎب ِ ﻣﻤ ﱡﻞ ،ﺑﻞ ﺗﻄﻮﻳ ٌﻞ ﻣﺨِ ﻞ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء. وإﻧﻤﺎ ﻧﻨﴩ ﺑﻌﺾ اﻹﺷﺎرات إﱃ ﻧﻔﺲ املﻮاﺿﻴﻊ اﻟﺘﻲ أُﻟﻘِ ﻴﺖ ﰲ ﺟﻠﺴﺎت املﺆﺗﻤﺮ وﰲ ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ واﻟﺘﻜﻠﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ً ﻗﻠﻴﻼ. وﻛﻞ ﻣﺎ ذﻛﺮﺗﻪ ﰲ رﺣﻠﺘﻲ ﻫﺬه ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻣﺼﺪر إﻻ ا ُملﺪوﱠﻧﺎت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻘﻠﺖ ﻋﻨﻬﺎ ،أو املﺸﺎﻫﺪة اﻟﺤﺴﻴﺔ ،أو اﻟﺴﻤﺎع ﻣﻦ أوﺛﻖ املﺼﺎدر. ﻷن ﺗﺪوﻳﻦ اﻟﺮﺣﻼت ﻫﻮ وﺗﺪوﻳﻦ اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ِﺻﻨْﻮان ،ﻓﺈذا ﻟﻢ ﺗُ ﱠ ﻮﻓﻖ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺨﱪ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻛﺎﻧﺖ أﺳﺎﻃري وأﺑﺎﻃﻴﻞ ،ﺑﻞ ﺟﻨﺎﻳﺔ ﻛﱪى ﻳﺠﺘﻨﻴﻬﺎ املﺮء ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ واﻵداب. 11
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (1ﺧﻮاﻃﺮ وأﻓﻜﺎر ﺑني ﻣﴫ واﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ُ أﺧﺬت اﻷ ُ ْﻫﺒﺔ ﻟﻠﺴﻔﺮ ،وﻣﺎ وﺻﻠﺖ ﰲ ﺻﺒﻴﺤﺔ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ ٣٠ﻳﻮﻧﻴﻮ ﺳﻨﺔ ١٩٠٦أﻓﺮﻧﻜﻴﺔ إﱃ ﻣﺤﻄﺔ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﺣﺘﻰ رأﻳﺖ ﻟﻔﻴﻒ اﻷﺻﺪﻗﺎء واملﺤﺒني ﻗﺪ ﺟﺎءوا ﻟﻮداﻋﻲ ،وﻣﺎ أﺻﻌﺐ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻮداع وأﺷﺪه ﺗﺄﺛريًا ﰲ اﻟﻨﻔﺲ! ﻓﻜﻨﺖ أﻃﺎرح إﺧﻮاﻧﻲ ﻋﺒﺎرات اﻟﻮداع واﻟﺪﻣﻊ ﰲ اﻟﺠﻔﻦ ﺣﺎﺋﺮ ،ﺣﺘﻰ إذا ﺗﺤﺮك اﻟﻘﻄﺎر أﺳﻠﻤﺘﻪ املﺤﺎﺟﺮ وملﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻘﻄﺎر ً ﻗﻠﻴﻼ: أﺷﺎروا ﺑﺘﺴﻠﻴﻢ ﻓﺠُ ﺪﻧﺎ ﺑﺄﻧﻔﺲ
ﺗﺴﻴﻞ ﻣﻦ اﻵﻣﺎق واﻟﺴﻢ أذﻣﻊ
وﻣﺎ زال اﻟﻘﻄﺎر ﺳﺎﺋ ًﺮا اﻟﻬﻮﻳﻨﻰ ،ﺣﺘﻰ إذا اﺟﺘﺎز املﻨﺤﻨﻰ واﺳﺘﻘﺎم ﻟﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﺧﺬ ﻳﻨﻬﺐ اﻷرض ﻧﻬﺒًﺎ ﻻ ﻳُﺸﻖ ﻟﻪ ﻏﺒﺎر ،وﺗﻀﻞ دون ﺷﺄوه اﻷﻧﻈﺎر ،وﻛﻨﺖ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ أودﱢع اﻟﻘﺎﻫﺮة وﻣﻠﻚ اﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ اﺑﺘﻌﺪت ﻋﻨﻬﺎ ﺗﻀﺎءﻟﺖ ﰲ ﻧﻈﺮي ﺗﻠﻚ اﻟﴫوح ا ُملﻤ ﱠﺮدة واﻟﻘﺼﻮر اﻟﺸﺎﻣﺨﺎت ،ﺣﺘﻰ ﻏﺎﺑﺖ ﻋﻦ ﻟﺤْ ﻆ اﻟﻌني وﻟﻢ أﻋﺪ أﻧﻈﺮ ﱠإﻻ إﱃ ﻣﻨﺎرﺗني ﻳﻠﻮح ﻟﻠﻨﺎﻇﺮ إﻟﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺴﺎﻓﺔ أﻧﻬﻤﺎ رﻛﺒﺘﺎ ﻋﲆ ﻗﻤﺔ ﺟﺒﻞ املﻘﻄﻢ ،ﻓﻌﻠﻤﺖ أﻧﻬﻤﺎ ﻣﻨﺎرﺗﺎ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﻘﻠﻌﺔ اﻟﺬي أﻧﺸﺄه »ﻣﺤﻤﺪ ﻋﲇ ﺑﺎﺷﺎ« رﺋﻴﺲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺨﺪﻳﻮﻳﺔ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﻟﻴﺘﻪ ﺗﺎرﻳﺦ ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻬﺎ ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻋﺎودﺗﻨﻲ ذﻛﺮى اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻋﲆ ﻣﴫ ﻣُﻔﺘﺘَﺢ ٍ ﻋﲆ ﻋﻬﺪه ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﻌﺔ وأﺧﺼﻬﺎ ﺣﺎدﺛﺔ دﻋﻮة املﻤﺎﻟﻴﻚ إﱃ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﻮداع اﻟﺠﻴﻮش اﻟﺬاﻫﺒﺔ إﱃ ﺣﺮب اﻟﻮﻫﺎﺑني ﻓﺄﺧﺬﻫﻢ ﻋﲆ ُﻏﺮ ٍة ﻣﻨﻬﻢ وأﻋﻤﻞ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﺴﻴﻒ ،ﺣﺘﻰ أﻓﻨﺎﻫﻢ ﻋﻦ آﺧﺮﻫﻢ ،وﻟﻢ ﻳﻨﺞُ ﻣﻨﻬﻢ ﱠإﻻ املﻤﻠﻮك اﻟﺸﺎرد ،وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺮد ﻋﲆ ذاﻛﺮﺗﻲ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﻲ وﻟﺪﺗﻬﺎ اﻷﻳﺎ ُم ﰲ ﻋﻬﺪه ،ﺣﺘﻰ وﻗﻒ اﻟﻘﻄﺎر ﻋﲆ ﻣﺤﻄﺔ ﻗﻠﻴﻮب ،وﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﺧﻄﺮ ﺑﺬاﻛﺮﺗﻲ ﺳﻌﺎدة
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ً ﺟﻤﻴﻼ اﻟﺸﻮراﺑﻲ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﺬي ﻟﻪ أﺛﺮ اﻟﻴﺪ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺒﻠﺪة ،وﺧ ﱠﻠﺪ ﺑﻤﺂﺛﺮه ﻓﻴﻬﺎ ذﻛ ًﺮا ﺗﺬﻛﺮه ﺑﻪ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ ﻛ ﱠﻠﻤﺎ ذُﻛِﺮ اﻟﻜﺮام اﻟﺬﻳﻦ ﺧﺪﻣﻮا اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺠﺎﻫﻬﻢ ،وأﻣﻮاﻟﻬﻢ ،وﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻬﻢ ،ﺣﺘﻰ ﺳﺎر ﻣﺪﺣﻬﻢ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻷزﻣﺎن واﻷﺟﻴﺎل ﻣﺴري اﻷﻣﺜﺎل. ٍ وأﺳﻒ ﺷﺪﻳﺪ ﻛﺎد ﻳﱰك اﻟﻜﺒﺪ وﺑﻌﺪ أن ﻗﺎم اﻟﻘﻄﺎر ﻣﻦ ﻗﻠﻴﻮب ﴏت ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺪﻫﺸﺔ ﻓﻠﺬًا وﻣﺎ ذﻟﻚ ﱠإﻻ ﻟﺬﻛﺮاي أن أول ﺟﻠﺴﺔ ﻟﻠﻤﺤﻜﻤﺔ املﺨﺼﻮﺻﺔ ﻋُ ﻘِ ﺪَت ملﺤﺎﻛﻤﺔ ﻗﺎﻃﻨﻲ ﻫﺬه وﺗﴪب اﻟﻔﻜﺮ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ إﱃ ﺣﺎدث دﻧﺸﻮاي؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻗﺮﻳﺐ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﺎﻟﺤﺪوث ﻓﺸﻌﺮت اﻟﺒﻠﺪة، ﱠ ﺑﺎﻟﺘﻬﺎب ﺑني اﻟﺠﻮاﻧﺢ وﺳﻤﻌﺖ ﰲ أﻋﻤﺎق ﻗﻠﺒﻲ أزﻳ ًﺰا ﻛﺄزﻳﺰ املِ ْﺮﺟَ ﻞ ،وﻛﺎن اﻟﻔﺆاد ﻳ َ ُﺮﺷﻖ ﺑﻨﺒﺎل ﺗُ ﱠ ﻜﴪ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﺼﺎل ﻋﲆ اﻟﻨﺼﺎل. ﻓﺄﺧﺬت أﻟﺘﻤﺲ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﱢ أﻧﻔ ُﺲ ﻋﻦ ﻗﻠﺒﻲ اﻟﻐﻤﺔ ﺑﻤﺤﺎدﺛﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻛﺎب ﺗﺎر ًة ،وﺑﺎﻟﻘﺮاءة ﺗﺎر ًة أﺧﺮى ،ﺣﺘﻰ وﻗﻒ اﻟﻘﻄﺎر ﻋﲆ ﻣﺤﻄﺔ ﺑﻨﻬﺎ ،ﻓﻨﻈﺮت إﱃ ﻣﺤ ﱢﻞ اﻟﴪاي اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺨﺘﻠﻒ إﻟﻴﻬﺎ املﺮﺣﻮم ﻋﺒﺎس ﺑﺎﺷﺎ اﻷول واﻟﺘﻲ اﺳﺘُﺸﻬﺪ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ أﺣﺪ ﻣﻦ املﺆرﺧني ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ ،وﻟﻦ ﺗﺰال ﻛﺬﻟﻚ ﺿﻤريًا ﻣﺴﺘﱰًا ﰲ ﺻﺪر اﻷﻳﺎم ،وﻣﻬﻤﺎ ﺗﻜﻬﱠ ﻦ اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻋﻦ أﺳﺒﺎب اﻟﺘﻌﺪﱢي ﻋﲆ ﻫﺬا املﻘﺎم اﻟﺮﻓﻴﻊ ﻓﻼ ﻳﻜﻮن ﻣﺒﻠﻎ ﻋﻠﻤﻪ ﱠإﻻ أن اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﰲ املﻠﻚ واﻟﺘﺤﺎﺳﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺪ ﻳُﻮﻗِﻊ املﻠﻮك ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺧﻄﺎر ،وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﺑﺎﻷوﱃ ﰲ اﻹﺳﻼم وﺣﻮادث ﻣﻠﻮك اﻷﻧﺎم. ﺛﻢ ﺻﺎر اﻟﻘﻄﺎر ﺣﺘﻰ وﺻﻞ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﻨﻄﺎ وﻫﻲ ﰲ اﻟﺪﻟﺘﺎ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻘﻠﺐ ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ، ووﺟﻪ اﻟﺸﺒﻪ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ أن ﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﻛ ﱡﻞ أﻃﺮاف ﺧﻄﻮط اﻟﺴﻜﻚ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﰲ أﻧﺤﺎء اﻟﺪﻟﺘﺎ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻘﻠﺐ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﻋﻨﺪه أﻃﺮاف اﻟﻌﺮوق اﻟﺘﻲ ﺗﻮ ﱢزع اﻟﺪم ﻋﲆ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء اﻟﺠﺴﻢ. وﺑﻤﺠﺮد وﻗﻮف اﻟﻘﻄﺎر ﻗﺮأت ﻛﻤﺎ ﻗﺮأ ﻏريي ﻣﻦ املﺴﻠﻤني املﺴﺎﻓﺮﻳﻦ ﻓﺎﺗﺤﺔ اﻟﻜﺘﺎب املﺒني ﻣﺴﺘﻤﺪٍّا ﺑﻬﺎ اﻟﺮﺣﻤﺔ ﻟﺮوح وﱄ ﱢ ﷲ ﺳﻴﺪي أﺣﻤﺪ اﻟﺒﺪوي — رﴈ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻋﻨﻪ — ﱢ ﺿﻴﻖ ﻓﺮﺟً ﺎ. ﻣﺘﻮﺳ ًﻼ ﺑﻪ إﻟﻴﻪ ﻷن ﻳﺠﻌﻞ ﱄ ﻣﻦ أﻣﺮي ﻣﺨﺮﺟً ﺎ وﻣﻦ ﻛﻞ ٍ وﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﺧﻄﺮ ﺑﺬاﻛﺮﺗﻲ رﺟﻞ اﻟﺪﻧﻴﺎ وواﺣﺪﻫﺎ وﻣﺤﺴﻦ ﻣﴫ اﻟﻜﺒري ذو اﻷﻳﺎدي اﻟﺒﻴﻀﺎء ،واﻟﻬﻤﺔ اﻟﺸﻤﺎء ،ﻣﻦ ﻫﻮ ﰲ ﻋﻘﺪ اﻟﻜﺮﻣﺎء اﻟﻴﺘﻴﻤﺔ اﻟﻌﺼﻤﺎء املﺮﺣﻮم أﺣﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ املﻨﺸﺎوي أﻣري اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ وﺑﻄﻞ اﻟﻘﺮﺷﻴﺔ. ﻓﻨﻈﺮت ﻧﻈﺮة ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﻈﺎﻣﻲ اﻟﻌﺼﺎﻣﻲ ﻓﺈذا ﻫﻮ ﻣﻤﻠﻮء ﺑﺎﻟﺤﻮادث اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ واﻟﻮﻗﺎﺋﻊ املﺪﻫﺸﺔ. 14
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أن املﴫﻳني ﻻ ﻳﺘﺬﻛﺮون ﻟﻬﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﱠإﻻ ﻣﱪﱠاﺗﻪ اﻟﺠﻤﺔ وإﺣﺴﺎﻧﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻃﻮﱠق ﺑﻬﺎ ِﺟﻴﺪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻟﻢ ﻳﺄت ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ ﻣﴫي ﻏريه ﻋﲆ ﻛﺜﺮة ﻋﺪد اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻓﻴﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﺜﺎﻟﻪ. ﻋﲆ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ اﻟﻜﺮم أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﻨﺠﺪة ،واﻟﺸﻬﺎﻣﺔ ،وإﺑﺎء اﻟﻀﻴﻢ ،وإﻏﺎﺛﺔ املﻠﻬﻮف ،ﻓﻘﺪ ﺣﻔﻆ ﻟﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺣﺎدﺛﺔ ﻣﺬﺑﺤﺔ ﻃﻨﻄﺎ ﰲ إﺑﺎن اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ر ﱠد ﻳﺪ اﻟﺜﺎﺋﺮﻳﻦ ﻋﻦ املﺴﻴﺤﻴني واﻟﻴﻬﻮد اﻟﻘﺎﻃﻨني ﰲ ﻃﻨﻄﺎ ،وآوى ﻣﻨﻬﻢ ﻧﺤﻮ اﻷﻟﻔﻲ ﻧﺴﻤﺔ إﱃ ﴎاﻳﺔ ﺑﺎﻟﻘﺮﺷﻴﺔ ،وآﻣﻨﻬﻢ وﺣﻤﻠﻬﻢ إﱃ ﺑﻼدﻫﻢ ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺘﻪ اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ﺑﻌﺪ أن دﻓﻦ ﱠ واﻷزﻗﺔ، ﻣﻮﺗﺎﻫﻢ وﺗﻠﻄﺨﺖ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﺑﺪﻣﺎﺋﻬﻢ؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﺤﻤﻠﻬﻢ وﻫﻢ ﻣﻄﺮوﺣﻮن ﰲ اﻟﺸﻮارع وﻳﻀﻌﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻌﺮﺑﺎت. وﻗﺪ أﻫﺪﺗﻪ اﻟﺪول اﻷوروﺑﻴﺔ ﺟﺰاء ﻫﺬا اﻟﺠﻤﻴﻞ ﺑﻨﻴﺎﺷني ﻋ ﱠﻠﻘﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﺪره ﻣﻜﺎن اﻟﺪﻣﺎء ،وﻟﻮﻻ ﺧﻮف اﻹﻃﺎﻟﺔ ﻟﺬﻛﺮت ﻣﻦ ﺣﻮادﺛﻪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﺜريًا. وﻗﺪ ﻧﻈﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻌﺮاء ﻗﺼﻴﺪة ﺿﻤﱠ ﻨﻬﺎ اﻟﺤﻮادث اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ ،وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺷﺘﱠﻰ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎملﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ: ﻳ ﻌ ﱡﻢ ﺷ ﺬاﻫ ﺎ ﻛ ﱠﻞ ﺑ ﺎد وﺣ ﺎﺿ ﺮ ﺳ ﻮام أُﺗ ﻴ ﺤَ ﺖ ﻳ ﻮم ﻧ ﺤْ ِﺮ ﻟ ﺠ ﺎزر ﻛ ﺴ ﺎ اﻷرض ﺛ ﻮﺑً ﺎ ﺑ ﺎﻟ ﺪﻣ ﺎء اﻟ ﻤ ﻮاﺋ ﺮ ﻓ ﻮارط أﺳ ﺮاب اﻟ ﻨ ﻌ ﺎم اﻟ ﻨ ﻮاﻓ ﺮ وﻻ ﻗ ﻠ ﻢ ﻏ ﻴ ﺮ اﻟ ﻤ ﺪى واﻟ ﺨ ﻨ ﺎﺟ ﺮ وﺑ ﻄ ﻦ ﺧ ﻤ ﻴ ﺺ ﻗ ﺪ أﺻ ﻴ ﺒ ﺖ ﺑ ﺒ ﺎﻗ ﺮ ﻓ ﺮﻳ ﺴ ﺔ أﻧ ﻴ ﺎب اﻟ ﻤ ﻨ ﺎﻳ ﺎ اﻟ ﻜ ﻮاﺷ ﺮ ﺣ ﻮاﺳ ﺮ ﻋ ﻤ ﺎ ﻓ ﻲ ﺿ ﻤ ﺎن اﻟ ﻤ ﺂزر ﻓ ﻴ ﺎ ﻟ ﻚ ﻣ ﻦ أﻳ ٍﺪ ُﻣ ِﻨ ﻴ ﺖ ﺑ ﺒ ﺎﺗ ﺮ أﺧ ﻲ ﻧ ﺠ ﺪة ﺣ ﺎﻣ ﻲ اﻟ ﺤ ﻘ ﻴ ﻘ ﺔ ﺗ ﺎﻣ ﺮ ﻟ ﻪ ﻣ ﻌ ﻘ ًﻼ ﺑ ﻴ ﻦ اﻟ ﻨ ﺠ ﻮم اﻟ ﺰواﻫ ﺮ ﻣ ﺤ ﺎﻣ ﺪه ﻣ ﻌ ﺪودة ﻓ ﻲ اﻟ ﺠ ﺮاﺋ ﺮ
ﻋ ﻠ ﻰ ﻳ ﻮم ﻃ ﻨ ﻄ ﺎ ﻓ ﻲ اﻟ ﺰﻣ ﺎن ﺗ ﺤ ﻴ ﺔ رأى ﻗ ﻮم ﻣ ﻮﺳ ﻰ واﻟ ﻤ ﺴ ﻴ ﺢ ﻛ ﺄﻧ ﻬ ﻢ ﻓ ﻜ ﱠﺸ ﻒ ﻋ ﻨ ﻬ ﻢ ﻓ ﺎدح اﻟ ﻜ ﺮب ﺑ ﻌ ﺪﻣ ﺎ ﻓ ﺸ ﺘﱠ ﺖ ﺷ ﻤْ ﻞ اﻟ ﺜ ﺎﺋ ﺮﻳ ﻦ ﻛ ﺄﻧ ﻬ ﻢ ﻋﻠﻰ ﺻﻔﺤﺎت اﻟﻈﻠﻢ ﺧ ﱠ ﻄﺖ ﻳ ُﺪ اﻷﺳﻰ ﻓ ﻜ ﻢ ﻣ ﻦ ُﻣ ﺤ ﻴ ﺎ ﻓ ﻲ اﻟ ﻨ ﺠ ﻴ ﻊ ُﻣ ﻀ ﱠﺮج وأم وﻟ ﻴ ﺪ ﻏ ﺎدرﺗ ﻪ ﺑ ﺮﻏ ﻤ ﻬ ﺎ وﻛﻢ ﻗﺎﺻﺮات اﻟﻄﺮف أﺻﺒﺤﻦ ﺑﺎﻟﻌﺮا ﺗ ﻤ ﱢﺰق أﻳ ﺪي اﻟ ﻈ ﺎﻟ ﻤ ﻴ ﻦ ﺟ ﺴ ﻮﻣ ﻬ ﺎ ﻳ ﺼ ﺤ ﻦ ﺑ ﻤ ﻴ ﻤ ﻮن اﻟ ﻨ ﻘ ﻴ ﺒ ﺔ ﻻﺑ ﻦ إذا ﻟ ﺠ ﺄ اﻟ ﻌ ﺎﻧ ﻲ إﻟ ﻴ ﻪ ﻓ ﻘ ﺪ ﺑ ﻨ ﻰ وﻣ ﻦ ﻧ ﻜ ﺪ اﻟﺪﻧﻴ ﺎ ﻋ ﻠ ﻰ اﻟ ﺤ ﱢﺮ أن ﻳ ﺮى
وملﺎ ﻏﺎدر اﻟﻘﻄﺎر ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﻨﻄﺎ ووﺻﻞ إﱃ ﻣﺤﻄﺔ ﻛﻔﺮ اﻟﺰﻳﺎت واﺟﺘﺎز اﻟﻜﻮﺑﺮي املﻤﺘﺪ ﻋﲆ اﻟﻨﻴﻞ ،ذﻛﺮت ﰲ اﻟﺤﺎل ﻣﺎ وﻗﻊ ﻷﻣريﻳﻦ ﻣﻦ أﻣﺮاء اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺨﺪﻳﻮﻳﺔ ﰲ ﻋﻬﺪ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ 15
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺑﺎﺷﺎ؛ إذ ﻛﺎن ﻫﺬان اﻷﻣريان راﻛﺒني ﰲ ﻗﻄﺎر اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،وملﺎ وﺻﻞ اﻟﻘﻄﺎر ﺑﻬﻤﺎ إﱃ ﻛﻔﺮ اﻟﺰﻳﺎت ﻛﺎن اﻟﻜﻮﺑﺮي ﻣﻔﺘﻮﺣً ﺎ ﻋﲆ ﺧﻼف اﻟﻌﺎدة ،ﻓﺴﻘﻂ اﻟﻘﻄﺎر ﰲ اﻟﺒﺤﺮ وﻏﺮق ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺮﻛﺎب وﻣﻤﻦ ﻏﺮق أﺣﺪ ﻫﺬﻳﻦ اﻷﻣريﻳﻦ وﻧﺠﺎ اﻵﺧﺮ ﻓﻴﻤﻦ ْ وﻟﻜﻦ املﺆرﺧﻮن أﻏﻔﻠﻮه ﻧﺠﺎ ،وﻟﻬﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ذﻛ ٌﺮ ﺑﺎق إﱃ اﻵن ﰲ أﻓﻮاه اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﺨﺎﺻﺔ ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺤﻮادث ذات اﻟﺒﺎل ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﴫ اﻟﺴﻴﺎﳼ وﻣﺎ ﻗﻠﻨﺎه ﻣﻦ ﺧﺼﻮص اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻗﺘﻞ ﻋﺒﺎس ﺑﺎﺷﺎ اﻷول ﰲ ﴎاي ﺑﻨﻬﺎ ﻳُﻘﺎل ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ. ُ ﺑﻘﻴﺖ ﻣﻔ ﱢﻜ ًﺮا ﰲ ﴏوف اﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ أرض ﻣﴫ ﻣﺮﺳﺤً ﺎ ﻟﺘﻤﺜﻴﻞ وﻫﻜﺬا رواﻳﺘﻬﺎ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﺤﻄﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ. ) (2ﻣﺎ ﻫﻲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ وﻣﺎ ﺣﻮادﺛﻬﺎ؟ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻫﻲ أﻛﱪ ﻣﺪن اﻟﻘﻄﺮ املﴫي ﺑﻌﺪ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﺛﻐﺮﻫﺎ اﻷﻛﱪ ﰲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺷﻤﺎﻟﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،اﺧﺘ ﱠ ﻄﻬﺎ إﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ املﻘﺪوﻧﻲ ﺣني اﺳﺘﻴﻼﺋﻪ ﻋﲆ ﻣﴫ، واﻧﺘﺰاﻋﻬﺎ ﻣﻦ ﻳﺪ اﻟﻔﺮس ،وﺟﻌﻠﻬﺎ ﻣﻘ ٍّﺮا ﻟﻠﻤﻠﻚ وذﻟﻚ ﰲ ﺳﻨﺔ ٩٥٤ﻗﺒﻞ اﻟﻬﺠﺮة املﻮاﻓﻘﺔ ﺳﻨﺔ ٣٣٢ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر ﻣﺴﻠﺘﺎن ﻋﻈﻴﻤﺘﺎن ﻧُﻘ َﻠﺖ إﺣﺪاﻫﻤﺎ إﱃ ﻧﻴﻮﻳﻮرك ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﰲ ﻗﺎرة أﻣﺮﻳﻜﺎ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ إﱃ ﻟﻨﺪن ﻋﺎﺻﻤﺔ إﻧﻜﻠﱰا ،وﻗﺪ ﻗِ ﻴﻞ إﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﻨﺎرة ﻣﻦ أﻏﺮب ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﻳﺪ اﻹﻧﺴﺎن؛ ﺣﻴﺚ ُر ﱢﻛﺒﺖ ﻣﺮآة ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺼﻮﱠب ﻧﺤﻮ ﻣﺮاﻛﺐ اﻟﻌﺪو إذا ﻗﺼﺪ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻓﺘﺤﺮﻗﻬﺎ ﻋﻦ آﺧﺮﻫﺎ. وﰲ ﻋﻬﺪ اﺳﺘﻴﻼء ﻣﻠﻮك اﻟﺒﻄﺎﻟﺴﺔ ﻋﲆ ﻣﴫ ﻛﺎﻧﺖ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻣﺤ ﱠ ﻂ رﺟﺎل ﻃﻼب اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﻣﻢ؛ ﺣﻴﺚ أُﻧْﺸﺌَﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﺪرﺳﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﱢ ﻟﺘﻠﻘﻲ ﻓﻨﻮن اﻟﻄﺐ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﺔ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم ،وﻗﺪ َ ﺗﺨ ﱠﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻓﺤﻮل اﻟﻌﻠﻤﺎء ،واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ، ْ ﺣﻮت ﻧﻔﺎﺋﺲ املﺆﻟﻔﺎت ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر. ﻟﻜﺘﺐ واﻟﺤﻜﻤﺎء ،وﻗﺪ أُﻧﺸﺌَﺖ ﺑﻬﺎ دار ٍ وﻻ ﻧﺪري ﻣﻦ أيﱢ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﺪل املﺆرﺧﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺴﺒﻮن ﺣﺮق ﻫﺬه املﻜﺘﺒﺔ إﱃ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮو ﺑﻦ اﻟﻌﺎص ﺑﺄﻣﺮ أﻣري املﺆﻣﻨني ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎب ،ﻓﺈﻧﻪ ﻣﺤﺾ اﺧﺘﻼق ﻣﻨﻬﻢ ،وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﺑﺄول أﻛﺬوﺑﺔ اﻓﱰاﻫﺎ املﺆرﺧﻮن ﻋﲆ اﻹﺳﻼم واملﺴﻠﻤني ،واﻟﺼﺤﻴﺢ أن ﻫﺬه املﻜﺘﺒﺔ أ ُ َ ﺣﺮﻗﺖ ﰲ ﻋﻬﺪ ﺟﻮل أﺣﺪ أﺑﺎﻃﺮة اﻟﺮوﻣﺎن. وﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﺗُﺮﺟﻤَ ﺖ أول ﻧﺴﺨﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻮراة ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﱪاﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺳﺒﻌني ﺣﱪًا ﻣﻦ أﺣﺒﺎر اﻟﻴﻬﻮد. 16
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ ﻃﺮأ ﻋﲆ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻃﺮأ ﻋﲆ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺪن اﻟﺸﻬرية أﻃﻮار ﻛﺜرية وأﺣﻮال ﺷﺘﻰ .وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺰل أﻛﱪ ْ ﺛﻐ ٍﺮ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ وﻫﻲ آﺧﺬة ﰲ ً ﻣﺪﻳﻨﺔ وﺣﻀﺎرة. اﻟﺘﻘﺪﱡم ْ ُ ﻣﻜﺜﺖ ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﺳﺒﻌﺔ أﻳﺎم وأﻧﺎ أﺗﺠﻮل ﰲ ﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻣﺸﺎﻫﺪًا ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﻳ ُﺪ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻜﻨﺖ أﺗﺨﻴﻞ أﻧﻲ ﰲ ﺑﻠﺪ أوروﺑﺎوﻳﺔ؛ ﱠ ﻷن ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ اﻟﺠﻐﺮاﰲ اﻟﺘﺠﺎري َ ﻣﺮرت ﺟﻌﻞ ﻋﺪد اﻷﺟﺎﻧﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺟﻨﺲ ﻳﻜﺎد ﻳﻌﺎدل ﻋﺪد ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ اﻟﻮﻃﻨﻴني ،ﻓﺤﻴﺚ ﺗﺠﺪ ﺣﻮاﻧﻴﺘﻬﻢ وﻣﺴﺎﻛﻨﻬﻢ وﻣﺤﺎل ﺗﺠﺎرﺗﻬﻢ. وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻄﺮ املﴫي ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﺒﺎب ﻣﻦ املﻨﺰل ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺮﺿﺔ ﻷول ﻗﻨﺒﻠﺔ ﻣﻦ ﻗﻨﺎﺑﻞ اﻷﺳﻄﻮل اﻹﻧﻜﻠﻴﺰي اﻟﺬي أﺗﻰ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ ،ﻟﻘﻤﻊ اﻟﺜﻮﱠار ﺑﻘﻴﺎدة اﻷﻣريال وﻟﺴﲇ وﺳﻴﻤﻮر ،ﻓﴬﺑﺖ ﰲ ﻳﻮم ١١ﻳﻮﻟﻴﻮ ﺳﻨﺔ ،١٨٨٢وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻨﺎﺑﻞ اﻷﺳﻄﻮل اﻹﻧﻜﻠﻴﺰي ﺗﺨﺮﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﺨﺎرج ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﻮار ﻳﺤﺮﻗﻮﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﺪاﺧﻞ ،وﺣﺼﻠﺖ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤني ﻣﺬﺑﺤﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﺑني اﻟﻮﻃﻨﻴني واﻷﺟﺎﻧﺐ ﻧُﻬﺒَﺖ ﻓﻴﻬﺎ أﻣﻮاﻟﻬﻢ وأ ُ َ رﻳﻘﺖ دﻣﺎؤﻫﻢ. وﺑﻌﺪ ﻫﺰﻳﻤﺔ اﻟﻌﺮاﺑﻴني ودﺧﻮل اﻟﺠﻴﺶ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰي ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻘﻄﺮ املﴫي ،ﺻﺪر أﻣﺮ اﻟﺨﺪﻳﻮي ﺑﺘﺸﻜﻴﻞ ﻣﺠﺎﻟﺲ ﻗﻀﺎﺋﻴﺔ ملﺤﺎﻛﻤﺔ ﻣﻦ ﻳﺜﺒﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ ﰲ اﻟﺜﻮرة وﻣﻦ ﻟﻬﻢ ﻳﺪ ﰲ املﺬاﺑﺢ اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،وﻃﻨﻄﺎ ،واملﺤﻠﺔ اﻟﻜﱪى ،ودﻣﻨﻬﻮر ،ﻓﺤُ ﻜِﻢ ﺑﺄﺣﻜﺎم ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻋﲆ رﺟﺎل ﻛﺜرية ،وﻣﻤﻦ ﺣُ ﻜِﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻹﻋﺪام ﺳﻠﻴﻤﺎن داود ﻧﺠﻞ داود ﺑﺎﺷﺎ ﻛﺎن ﺿﺎﺑ ً ﻄﺎ ﰲ اﻟﺠﻴﺶ؛ ﻷﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ إﺣﺮاق اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ. وأﻫﻞ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻳﻤﺘﺎزون ﺑﺄﺧﻼق ﺣﻤﻴﺪة دون ﺳﺎﺋﺮ أﻫﻞ اﻟﺒﻼد املﴫﻳﺔ اﻟﻜﱪى ،ﻓﻬﻢ أﻫﻞ ﻧﺠﺪة وﺷﻬﺎﻣﺔ ،ﻳﺄﺑﻮن اﻟﻀﻴﻢ وﻳﺴﺎرﻋﻮن إﱃ اﻟﺨريات ،وﺣﺐ اﻟﻮﻃﻦ أﻣﺮ ﻏﺮﻳﺰي ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻣﻊ ﻛﺜﺮة اﺧﺘﻼﻃﻬﻢ ﺑﺎﻷﺟﺎﻧﺐ وﻣﻌﺎﴍﺗﻬﻢ ﻟﻬﻢ وﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻬﻢ إﻳﺎﻫﻢ. ) (3وﻗﻔﺔ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ﺑ ﱠﻜﺮت ذات ﻳﻮم وأﻧﺎ ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ وﻛﺎن اﻟﺠﻮ ﺻﺎﰲ اﻷدﻳﻢ ،ﺑﻠﻴﻞ اﻟﻨﺴﻴﻢ ،وﻣﻨﺎﻇﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ ﻣﻠﻜﺖ ﻋﲆ اﻟﻌني ﻟﻔﺘﺎﺗﻬﺎ ،ﻓﺬﻫﺒﺖ إﱃ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﺈذا ﻫﻮ أﺻﻔﻰ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﴪور، واﻟﺸﻤﺲ ﻗﺪ أﻟﻘﺖ ﻋﻠﻴﻪ أﺷﻌﺘﻬﺎ ،ﻓﻜﺄﻧﻪ ﰲ زرﻗﺘﻪ ﺑﺴﺎط ﻣ ﱠ ُﺬﻫﺐ أو ﻟﻮح ﻣﻦ اﻟﺒﻠﻮر ﻓﻴﻪ ﻧﻘﻮش ذﻫﺒﻴﺔ أﺟﺎدت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺻﻨﻌﻬﺎ. 17
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺄن أﴍﻋﺔ اﻟﺴﻔﻦ ﻗﻨﺎ ُﻏ ِﺮس ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ ،وﻛﺄن اﻟﺰوارق ﰲ ذﻫﺎﺑﻬﺎ وإﻳﺎﺑﻬﺎ ﻃﻴﻮر ﻧﺎﴍة أﺟﻨﺤﺘﻬﺎ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ،وﻛﺄن ذﻫﺎب اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ﻗﻄﻊ اﻟﺴﺤﺎب اﻷدﻛﻦ. أﻟﻘﻴﺖ ﻧﻈﺮي ﻋﲆ أدﻳﻢ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﻜﺄن اﻟﺴﻤﺎء ﻋﻨﺪ ﻣﻨﺘﻬﻰ رﻣﻴﺔ اﻟﻄﺮف ﻗﺪ اﻟﺘﺼﻘﺖ ﺑﺎﻟﺒﺤﺮ ،ﻓﺬﻛﺮت ﰲ اﻟﺤﺎل ﻣﺎ اﺳﺘﺪل ﺑﻪ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﻮن ﻋﲆ ُﻛ َﺮوﻳﺔ اﻷرض ﺑﺄن املﺮء إذا أﻟﻘﻰ ﻧﻈﺮه إﱃ أﺑﻌﺪ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻄﺮف ﻳﺠﺪ ﱠ ﻛﺄن اﻟﻘﺒﺔ اﻟﺰرﻗﺎء ﻗﺪ اﻟﺘﺤﻤﺖ ﺑﺎﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻟﺨﴬاء ،ﻓﺈذا ذﻫﺐ وﻗﻒ إﱃ ﺣﻴﺚ اﻧﺘﻬﻰ ﺑﴫه ﻳﺠﺪ اﻟﺤﺎل ﻛﺬﻟﻚ ،ﻓﺈذا اﺳﺘﻤﺮ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻃﺎف ﺣﻮل اﻷرض وﻫﻮ ﻳﺤﺴﺐ أﻧﻪ ﻳﻤﴚ ﻋﲆ ﻣﻨﺒﺴﻂ ﻏري ﻣﺴﺘﺪﻳﺮ. وﻋﲆ ذﻛﺮ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ ﺗﻤﺜﻞ أﻣﺎﻣﻲ ﻋﲆ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ وأﻧﺎ أﻧﻈﺮ ﻣﺎ ﻋﲆ ﺷﻮاﻃﺌﻪ ﻣﻦ املﺪن واﻟﺜﻔﻮر وﺣﺮﻛﺎت ﻋﻤﺎل اﻟﺠﻤﺎرك ،وﻛﻞ ذات أﻟﻮاح ودﴎ ﺗﻤﺨﺮ ﰲ ﻋﺒﺎﺑﻪ ،وﺑﻴﻨﻤﺎ أﻧﺎ ﻧﺎﻇﺮ إﱃ ﻣﺎ ُرﺳﻢ ﰲ ﻣُﺨﻴﱢﻠﺘﻲ ﻣﻦ ﺛﻔﻮر ﻫﺬا اﻟﺒﺤﺮ ،ﺗﺬ ﱠﻛﺮت ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﺠﺪ اﻹﺳﻼم وﻣﻤﺎﻟﻚ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺮأﻳﺖ ﻛﺄن اﻟﻌﻠﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﻓﻮق رﺑﻮﻋﻬﺎ اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ اﻵن ﰲ ﻳﺪ اﻷﺟﺎﻧﺐ، ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد واﻟﺠﺰر واملﻤﺎﻟﻚ اﻵن ﰲ ﻗﺒﻀﺔ اﻹﺳﻼم ،ﻟﻜﺎﻧﺖ دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﱠﺔ ﺗُﺪﻋَ ﻰ ﺳﻴﱢﺪة اﻟﺒﺤﺎر ،أﻣﺎ ﻣﴫ ﻓﺄدع اﻟﻜﻼم ﻋﻨﻬﺎ اﻵن؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺰل ﺗﺤﺖ ﺳﻴﺎدة اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ واﻟﻜﻼم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻳﺨﺮج ﺑﻨﺎ ﻋﻦ املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﻷﺟﻠﻪ ﻛﺘﺒﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ أﺗﺮك اﻟﻜﻼم ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻞ ﺳﻮرﻳﺎ ،واﻟﺒﻮﺳﻔﻮر ،وﻛﺮﻳﺪ ،واﻷرﺧﺒﻴﻞ. ﻓﺄوﱠل ﻣﺎ ذﻛﺮﻧﻲ ﻣﺠﺪ اﻹﺳﻼم ﺟﺰﻳﺮة رودس اﻟﺘﻲ ﺳﺎق إﻟﻴﻬﺎ اﻷﺳﻄﻮل ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻌﺎوﻳﺔ ﺑﻦ أﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎن وﻫﻮ أول أﺳﻄﻮل إﺳﻼﻣﻲ ذﻫﺐ ﻟﻠﻔﺘﺢ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ ،ﻓﺄﺧﺬ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة ﻣﻦ ﻳﺪ اﻹﻓﺮﻧﺞ ،وﻋﺎد اﻷﺳﻄﻮل إﱃ ﺳﻮاﺣﻞ اﻟﺸﺎم ﻇﺎﻓ ًﺮا ،ﺛﻢ ﺟﺰﻳﺮة ﻗﱪص اﻟﺘﻲ أﺧﺬﺗﻬﺎ إﻧﻜﻠﱰا ﺟﺎﺋﺰة ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﺖ ﻣﻌﻬﺎ ،ﺛﻢ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎن اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺿﻤﻦ وﻻﻳﺎت اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ اﻵن ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ،وﻗﺎدﻫﺎ اﻟﻐﺮور ﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٧إﱃ ﻣﺤﺎرﺑﺘﻬﺎ وﺑﻠﻐﺖ درﺟﺖ اﻟﻐﺮور ﻟﺪﻳﻬﺎ أﻧﻬﺎ ﻃﻤﻌﺖ ﰲ ﻓﺘﺢ اﻟﻘﺴﺘﻨﻄﻴﻨﻴﺔ وردﻫﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪ أن أﺧﺬﻫﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻔﺎﺗﺢ ﻣﻦ ﻋﻨﻤﻨﻮﻳﻞ ﺳﻨﺔ ١٤٥٣ ﻣﻴﻼدﻳﺔ املﻮاﻓﻘﺔ ﺳﻨﺔ ٨٥٧ﻫﺠﺮﻳﺔ. وﻣﺎ ﻛﺪت أﻓﺮغ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﺑﻌني املﺨﻴﻠﺔ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة واﻟﺒﻼد ،ﺣﺘﻰ اﻋﱰﺗﻨﻲ دﻫﺸﺔ وﻗﺸﻌﺮﻳﺮة وﺣﺰن اﺳﺘﻮﱃ ﻋﲆ اﻟﻘﻠﺐ ﺣني ﻣﺎ وﻗﻔﺖ ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻞ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ. ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺜﱢﻞ ﻣﺠْ َﺪ اﻹﺳﻼم ْ وﻓﺨﺮ اﻟﻌﺮب أﺟ ﱠﻞ ﺗﻤﺜﻴﻞ ،ﻓﺘﺢ املﺴﻠﻤﻮن ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺪوﻟﺔ اﻷﻣﻮﻳﺔ ﰲ ﺑﺪﺋﻬﺎ؛ ﺣﻴﺚ ذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻮﳻ ﺑﻦ ﻧﺼري وﻃﺎرق ﺑﻦ ﺑﺠﻴﺶ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺜري اﻟﻌﺪد وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﺎدل اﻟﻔﺮد اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﻦ ﺟﻨﻮده ً أﻟﻔﺎ ،وﺑﻮﻏﺎز زﻳﺎد ٍ 18
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ُﺳﻤﱢ ﻲ ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ﻷن ﻃﺎرق ﺑﻦ زﻳﺎد ﺣني ﻣﺠﻴﺌﻪ ﺑﺎﻟﺴﻔﻦ إﱃ ﻫﺬا املﻜﺎن وأﻧﺰل اﻟﺠﻨﻮد ﻋﻤﺪ إﱃ اﻟﺴﻔﻦ ﻓﺄﺣﺮﻗﻬﺎ ،وﻗﺎل ﻟﻠﺠﻨﻮد :إﻣﺎ املﻮت وإﻣﺎ اﻟﻨﴫ؛ ﻷﻧﻨﺎ إذا ﻧﻜﺼﻨﺎ ﻋﲆ اﻷﻋﻘﺎب ﻓﻼ ﻧﺠﺪ ﺳﻔﻨًﺎ ﻟﻠﻨﺠﺎة ،ﻓﺪﺑﱠﺖ روح اﻟﺤﻤﺎس ﰲ اﻟﺠﻨﻮد. وﻫﻜﺬا ﺗﻜﻮن ﺷﺠﺎﻋﺔ اﻟﺮﺟﺎل وﻋﻈﻤﺎء اﻟﻘﻮاد واﻷﺑﻄﺎل. وﻣﺎ زال ﻣﻮﳻ ﺑﻦ ﻧﺼري ﻳﻔﺘﺢ اﻟﺒﻼد اﻹﺳﺒﺎﻧﻴﺔ ﺣﺘﻰ وﻗﻒ ﻋﲆ ﺣﺪود ﻓﺮﻧﺴﺎ ،وأﺧﺬ ﺟﺰءًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻣﻨﻬﺎ وﺟﺰءًا ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﱪﺗﻐﺎل .وﻗﺪ ﺑﻘﻴﺖ اﻷﻧﺪﻟﺲ أرﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ، وﻫﻲ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ اﻟﻌﺮب وﻛﺎن اﻟﺴﻠﻄﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻳﻘﺎل ﻟﻪ أﻣري املﺴﻠﻤني. وﻣﺎ ﻛﺎدت ﻗﺪم اﻟﻌﺮب ﺗﺴﺘﻘﺮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ،ﺣﺘﻰ ﻇﻬﺮت ﻓﻴﻬﺎ املﺪﻧﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﺄﺟﻤﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺳﻮق اﻷدب ﻓﻴﻬﺎ راﺋﺠﺔ ﺑﺎﻟﺸﻌﺮاء ،واملﺆﻟﻔني ،واﻷدﺑﺎء، واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ،ﻣﻊ اﻷﺧﺬ ﰲ أﺳﺒﺎب اﻟﱰف واﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﻦ ﺑﻨﺎء اﻟﻘﺼﻮر اﻟﺸﺎﻣﺨﺎت ذات اﻟﺮﻳﺎش اﻟﻔﺎﺧﺮة ،واﻟﺠﻮاري ،واملﻤﺎﻟﻴﻚ ،واﻟﻘﻴﺎن ،واﻟﻐﻠﻤﺎن إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻧﺸﺎﻫﺪ آﺛﺎرﻫﺎ اﻵن ﺑﻌني اﻟﺪﻫﺸﺔ واﻻﺳﺘﻐﺮاب. وﻣﻤﺎ ﻳُﺤ َﻜﻰ أن زوﺟﺔ أﺣﺪ اﻟﺨﻠﻔﺎء ﻓﻴﻬﺎ رأت إﺣﺪى اﻟﺠﻮاري ﺗﺪوس ﺑﺮﺟﻠﻴﻬﺎ ﰲ ﺣﻔﺮة ﺑﻬﺎ ﻃني ﻓﻜﺎﺷﻔﺖ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﺑﺮﻏﺒﺘﻬﺎ ﰲ أن ﺗﻔﻌﻞ ﻓﻌﻞ اﻟﺠﺎرﻳﺔ ﻓﺄﻣﺮﻫﺎ ﺑﺄن ﺗﻀﻊ زﻣﻦ َ وﻗ َﻊ ﻧﻔﻮر ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑﻴﻨﻪ املﺴﻚ ﰲ ﺣﻔﺮة ﺑﺪل اﻟﻄني وﺗﺪوﺳﻪ ﺑﺮﺟﻠﻴﻬﺎ ﻓﻔﻌﻠﺖ ،وﺑﻌﺪ ٍ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﻋﺮض ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ :إﻧﻲ ﻟﻢ أر ﻣﻨﻚ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻳﴪﻧﻲ ،ﻓﻘﺎل ﻟﻬﺎ :وﻻ ﻳﻮم اﻟﻄني! ﻓﺘﺬ ﱠﻛﺮت وﺧﺠﻠﺖ. وﻗﺪ ﻧﻘﻞ املﺆرﺧﻮن ﻣﻦ ﺗﻔﻨﻦ اﻟﻌﺮب ﰲ اﻷﻧﺪﻟﺲ ﰲ ﴐوب املﺪﻳﻨﺔ واﻟﺤﻀﺎرة ﻣﺎ ﻳﻐﻨﻲ اﻻﻃﻼع ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻣﺤﺎﻟﻪ ﻋﻦ ذﻛﺮه ﻫﻨﺎ. ُ ﺣﻮﻟﺖ ﻧﻈﺮي إﱃ ﺑﻮﻏﺎز ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق اﻟﺬي أﺻﺒﺢ اﻵن ﰲ ﻗﺒﻀﺔ إﻧﻜﻠﱰا ﻓﻤﻠﻜﺖ ﺑﻪ ﺛﻢ زﻣﺎم اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ املﺤﻴﻂ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ ،واﻟﺬي ﻟﻪ ﺧﱪة ﺑﺤ ﱢﻞ اﻟﻄﻼﺳﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻳﺮى أن إﻧﻜﻠﱰا ملﺎ اﺳﺘﺤﻮذت ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺒﻮﻏﺎز رأت ﴐورة أﺧﺬ ﻗﻨﺎل اﻟﺴﻮﻳﺲ ﻟﺴﻬﻮﻟﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻤ ﱡﻠﻜﻬﺎ أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻣﺘﻴﺎز ﺑﻨﻮع ﺧﺼﻮﴆ ﻋﲆ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺪول ،وأودﻋﺖ رﻏﺒﺘﻬﺎ ﻫﺬه ﺿﻤري اﻟﻠﻴﺎﱄ ﺣﺘﻰ ﺳﺎﻋﺪﺗﻬﺎ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ﺑﻤﺸﱰي اﻷﺳﻬﻢ ﻣﻦ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ ،ﺛﻢ ﺟﺎءت اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ واﺣﺘﻠﺖ ﻣﴫ، ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﻘﻨﺎل ﰲ ﺣﻜﻢ ﺑﻮﻏﺎز ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ،وﻻ ﻋﱪة ﺑﻜﻮﻧﻪ ﺣ ٍّﺮا ﻣﻊ وﺟﻮد اﻻﺣﺘﻼل. ﻓﻠﻮ ﻛﺎن ﺑﻮﻏﺎز ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ﺑﺎﻗﻴًﺎ ﰲ ﺣﻮزة اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻣﻊ ﻗﻨﺎل اﻟﺴﻮﻳﺲ وﺑﻮﻏﺎز اﻟﺒﻮﺳﻔﻮر ﻟﻜﺎﻧﺖ دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻴﻮم ﻗﺎﺑﻀﺔ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،وﻟﻜﺎن ﻧﻔﻮذﻫﺎ ﻓﻴﻪ ﻻ ﻳﻌﺎدﻟﻪ ﻧﻔﻮذ أﻳﺔ دوﻟﺔ أﺧﺮى. 19
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺛﻢ ﻋﻄﻔﺖ ﻧﻈﺮي إﱃ املﻤﻠﻜﺔ املﺮاﻛﺸﻴﺔ وﺗﺄﻣﻠﺖ أﺣﻮاﻟﻬﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، وﻣﺎﴈ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻠﻮﻛﻬﺎ ،وﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺘﺎم ﻗﺒﻞ اﻧﻌﻘﺎد ﻣﺆﺗﻤﺮ اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﺬي ﺟﻌﻞ اﺳﺘﻘﻼل ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ ﺻﻮرﻳٍّﺎ. ﻓﻠﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ ﺳﺎﺋﺮة ﻋﲆ ﻧﻬﺞ اﻟﱰﻗﻲ املﺎدي واﻷدﺑﻲ اﻟﺬي ﺳﺎر ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﻠﻮﻛﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ دﺧﻮل اﻟﻌﺮب إﱃ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻟﻜﺎن ﻟﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﺰاء ﻋﲆ ﺿﻴﺎع اﻷﻧﺪﻟﺲ ﻣﻦ ﻳﺪ اﻟﻌﺮب. ﻋﲆ أن وﻗﺎﺋﻊ اﻟﻌﱪ ﻟﻢ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﻣﺮاﻛﺶ اﻟﺘﺄﺛﺮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺗﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﻟﺒﻘﻴﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻣﻦ اﺳﺘﻘﻼل املﻤﺎﻟﻚ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﰲ اﻟﻐﺮب. وأيﱡ اﻟﻌﱪ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻓﻘﺪ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ ﻣﻦ ﻳﺪ ﻣﻠﻮﻛﻬﻤﺎ وأﻣﺮاﺋﻬﻤﺎ وﻃﻤﻮح إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ إﱃ اﻣﺘﻼك ﻃﺮاﺑﻠﺲ اﻟﻐﺮب ﺛﻢ اﺣﺘﻼل إﻧﻜﻠﱰا ملﴫ. اﺟﺘﻤﻌﺖ أﺳﺎﻃﻴﻞ دوﻟﺘﻲ ﻓﺮﻧﺴﺎ وإﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﰲ ﻣﻴﺎه ﻃﻨﺠﺔ ﻷﺟﻞ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﻣﻮاد ﻣﺆﺗﻤﺮ اﻟﺠﺰﻳﺮة وﻫﺬه املﻮاد ﻟﻢ ﺗﻀﻤﻦ ﻏري إﺟﺮاء ﻧﻈﺎ ٍم ﺟﺪﻳﺪ وإﺻﻼح ﺣﺴﻦ ﻣﻀﻤﻮن اﻟﻔﺎﺋﺪة ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﺟﻮه اﻹدارﻳﺔ ﰲ املﻤﻠﻜﺔ املﺮاﻛﺸﻴﺔ. وﻛﺎن اﻷوﱃ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻤﺮاﻛﺸﻴني وازع ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺈﺟﺮاء ﻫﺬه اﻹﺻﻼﺣﺎت ﺑﺪون ﺗﺪاﺧﻞ ﻷﻳﺔ دوﻟﺔ أﺟﻨﺒﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ اﻟﺪول ﻛﺎﻷﺟﺴﺎم ﺗﻤﺮض وﺗﻌﺎﻟﺞ. ﻋﲆ أن ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﺮاﻛﺶ ﺑﻬﺬا اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﺸﺎﻋﺮ: …
…
…
أﻟﻢ اﻟﻤﺮﻳﺾ ﻋﻘﻮﺑﺔ اﻹﻫﻤﺎل
…
ً ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻣﻦ ﺣﻴﺚ أﺣﻮاﻟﻬﺎ اﻟﺤﺎﴐة أﻣﺎ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﻼ أﻗﻮل واﻟﻐﺎﺑﺮة ،وﻟﻜﻦ أﻗﻮل إن ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ إذا ﻗﺮأﻧﺎ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷدوار اﻟﺰﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻘﻒ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺪﻫﺸﺔ واﻻﺳﺘﻐﺮاب ﰲ ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻷﺣﻮال وﺗﴫﻓﺎت اﻟﺪﻫﻮر ،وﺳﻨﻔﻴﺾ اﻟﻜﻼم ﻋﻨﻬﺎ ﻋﻨﺪ ذﻛﺮ ﻗﺪوﻣﻲ إﻟﻴﻬﺎ وﻋﻦ ﻓﺮﻧﺴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺪاﺧﻠﺖ ﰲ ﺷﺌﻮن املﻐﺮب اﻷﻗﴡ، واﻣﺘﻠﻜﺖ اﻟﺠﺰاﺋﺮ ،ووﺿﻌﺖ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﻋﲆ ﺗﻮﻧﺲ. ﻳﺒني ﻟﻠﻤ ﱠ واﻣﺘﻼك ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﻠﺠﺰاﺋﺮ ﱢ ﻄﻠِﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮن اﻣﺘﻼك دول أوروﺑﺎ ﻟﻠﺒﻼد اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ ﻋﻨﻬﺎ؛ إذ رﺑﻤﺎ ﺣﻜﻤﺖ املﻼﻳني ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻮس ﻓﺪﻳﺔ ﻟﻔﺮد واﺣﺪ ﻣﻦ رﻋﻴﺘﻬﺎ. ﻓﻘﺪ ﻧﻘﻞ اﻟﺮواة أن ﺳﺒﺐ أﺧﺬ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﻠﺠﺰاﺋﺮ ﻫﻮ أﻧﻪ ﺣﺼﻞ ﺷﻘﺎق ﺑني أﻣريﻫﺎ وﺳﻔري ﻓﺮﻧﺴﺎ ،أدﱠى إﱃ أن ﻳﴬب اﻷﻣري اﻟﺴﻔري ﺑﻤِ ﻨ َ ﱠﺸﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻳﺪه ،ﻓﺎﻧﺘﻘﻤﺖ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﺴﻔريﻫﺎ 20
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺑﺈﻋﻼن اﻟﺤﺮب اﻟﺘﻲ ﻟﻸﻣري ﻋﺒﺪ اﻟﻘﺎدر اﻟﺠﺰاﺋﺮي ﻓﻴﻬﺎ ذﻛﺮ ﻣﺸﻬﻮر ﻓﺎﺣﺘﻠﺘﻬﺎ واﻣﺘﻠﻜﺘﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻧﻔﻲ اﻷﻣري ﻋﺒﺪ اﻟﻘﺎدر إﱃ ﺑﻼد اﻟﺸﺎم. وﺳﺄﺟﻌﻞ اﻟﻜﻼم ﻋﲆ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ اﻟﺠﺰاﺋﺮ ﻣﺪﻣﺠً ﺎ ﰲ اﻟﻜﻼم ﻋﲆ ﺗﻮﻧﺲ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺻﻞ إﱃ ﻣﻮﺿﻌﻪ. وﻗﻒ ﺑﻲ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﰲ أﺣﻮال ﻣﻤﺎﻟﻚ اﻹﺳﻼم اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ٍ ﺑﻠﻘﻤﺔ ﻋﻨﺪ ﺣﺪود ﻃﺮاﺑﻠﺲ اﻟﻐﺮب ،ﻓﺸﺒﱠﻬْ ﺘُﻬﺎ وﻫﻲ ﺑني ﻣﻠﻚ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ وﻃﻤﻊ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻃﻤﻊ وﺟﺸﻊ ،وآﺧﺮ ﻳﺘﺤني اﻟﻔﺮص رﺟﻞ ﺑﺨﻴﻞ ﺣﺮﻳﺺ ﻳﺸﺘﻬﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺎﺋﻐﺔ ﰲ ﻳﺪ ٍ ٍ ﻻﻏﺘﻴﺎﻟﻬﺎ ،وﻟﻴﺲ ﻟﻬﺬه املﻄﺎﻣﻊ اﻷوروﺑﻴﺔ ﺣ ﱞﺪ ﺗﻘﻒ ﻋﻨﺪه ،ﺑﻞ ﻫﻲ ﺗﻄﻤﻊ ﰲ ﺗﻤﺰﻳﻖ ﺟﺴﻢ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ واﻗﺘﺴﺎﻣﻬﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ. إﱃ ﻫﻨﺎ ﻛﻨﺖ ﻗﺪ ﻣﻠﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ﻛﻤﺎ ﻣ ﱠﻞ ﺧﺎﻃﺮي ﻣﻦ اﻟﺠﻮﻻن ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻠﻪ ﰲ اﻟﺒﻼد اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،ﺗﺎر ًة ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺣﺎﻟﺘﻬﺎ اﻟﺤﺎﴐة ،وﺣﻴﻨًﺎ ﺑﻘﻠﺐ ﺻﻔﺤﺎﺗﻬﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،وﺑﻘﺮاءﺗﻲ ﻣﺎ ﻃﺮأ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﻘ ﱡﻠﺒﺎت اﻟﺰﻣﺎن وﻣﺎ دﻫﺎﻫﺎ ﻣﻦ ﻃﻮارق اﻟﺤَ ﺪَﺛﺎن. ﻓ ْﻠﻴﺘﺄﻣﱠ ْﻞ ذو اﻟﻠﺐ اﻟﺤﻜﻴﻢ إﱃ ﻫﺬه املﻤﺎﻟﻚ و ْﻟﻴﻘﺪر اﻹﺳﻼم ﻗﺪره ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻬﺎ ﻣُﺘﺤِ ﺪة اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻋﺎﻣﻠﺔ ﻋﲆ ﺗﺮﻗﻴﺔ اﻟﺸﻌﺐ ﺣﺎﻛﻤﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻟﻴﻘﺪر اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻗﺪرﻫﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻤﺎﻟﻚ اﻟﻐﺮب ﻣﺘﺤﺪة اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻊ ﺑﺎﻗﻲ ﻣﻤﺎﻟﻚ اﻟﺪوﻟﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮن اﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﻮﺛﻴﻘﺔ اﻟﻌُ ﺮى راﺑﻄﺔ ﻣﺮاﻛﺶ ﺑﺎﻟﺠﺰاﺋﺮ ﻓﺘﻮﻧﺲ ﻓﻄﺮاﺑﻠﺲ ﻓﻤﴫ واﻟﺴﻮدان، وﺳﻮرﻳﺎ ،وﺑﻼد اﻟﻌﺮب ،ﻓﻔﺎرس ،ﻓﺎﻷﻓﻐﺎن ،وﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ ﻣﺴﻠﻤﻮ اﻟﺮوﺳﻴﺎ ،واﻟﻬﻨﺪ، واﻟﺼني ﻣﻦ املﺴﺎﻋﻲ اﻟﺤﻤﻴﺪة ﰲ إﻋﺰاز اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻷرض ﺑﺒﻌﻀﻬﻢ وﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻣُﺘﺤﺪِﻳﻦ وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﰲ ﺣﻜﻢ اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ. ﻫﺬا وإن دول أوروﺑﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﻮف ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﺟﻬﺪﻫﺎ ﰲ ﺗﻔﺮﻳﻖ ﻛﻠﻤﺔ ْ املﺴﻠﻤني ﱢ وذاﻗﺖ ﺛﻤﺮ َة أﺗﻌﺎﺑﻬﺎ. ﺑﺪس اﻟﺪﺳﺎﺋﺲ ،وﻗﺪ ﺗﻌﺒﺖ ﰲ ذﻟﻚ ﻛﺜريًا وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪول واﻟﺸﻌﻮب ﺗﱰاوح ﺑني اﻟﺸﺒﻮﺑﻴﺔ واﻟﻄﻔﻮﻟﻴﺔ واﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻛﺎن اﻟﺮﺟﺎء ﰲ ﻋﻮدة اﻹﺳﻼم إﱃ ﻋﴫ ﺷﺒﺎﺑﻪ ،وﻣﺠﺪه ،وﻋﺰه ﻣﻞء ﻗﻠﺐ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﻧﻈﺮ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺑﻼد اﻹﺳﻼم. 21
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (4اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ُ ﻏﺎدرت اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻋﲆ ﺑﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﺑﻮاﺧﺮ اﻟﴩﻛﺔ اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ ،وﻗﺪ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﰲ أﺻﻴﻞ ﺗﻤﺾ ﺳﺎﻋﺔ ﻋﲆ ﺳري اﻟﺒﺎﺧﺮة ،ﺣﺘﻰ اﻋﱰى ﺟﻤﻴ َﻊ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﺳﺎﻓﺮت ﻓﻴﻪ وﻟﻢ ِ اﻟﺮﻛﺎب دوا ٌر ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﺒﺎﺗﻮا ﻟﻴﻠﺘﻬﻢ ﰲ ﺳﻜﻮن ﺗﺎم ،وأﻏﻠﺒﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﻨﺎول ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم ﱠإﻻ ﰲ ﺿﺤﻰ اﻟﻐﺪ. وﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ أﻋﻠﻢ أن ﺑﻠﺪة ﺗﺴري ﺑﺄﻫﻠﻬﺎ ﻋﲆ وﺟﻪ املﺎء وذﻟﻚ أن اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻋﲆ ﻛﱪﻫﺎ وﻛﺜﺮة ﻋﺪد اﻟﺮﻛﺎب ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺸﺒﻪ ﺑﻠﺪة ذات أﺳﻮاق ،وﻣﺤﺎل ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ،وﻗﻬﺎوي ﻳﺨﺘﻠﻒ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺮاغ ﻣﻦ أﺷﻐﺎﻟﻬﻢ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﺤﻞ ﻣﺘﺴﻊ ،ﻓﻴﻪ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع ٍ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى؛ ﻷﻧﻚ ﺗﺠﺪ ﻓﻴﻪ ﻃﺎوﻻت اﻟﺒﻘﺎﻟﺔ ،ﻓﻬﻮ ﺣﺎﻧﻮت ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ،وﻣﺤﻞ ﻋﻤﻮﻣﻲ ﻣﻦ وﻛﺮاﳼ ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺴﺎﻓﺮون وﻳﻤﻀﻮن أوﻗﺎﺗﻬﻢ ﰲ ﻟﻌﺐ اﻟﻨﺮد واﻟﺸﻄﺮﻧﺞ واﻟﻀﻮﻣﻴﻨﻮ وﻣﺎ أﺷﺒﻪ ذﻟﻚ ،وﻳﴩﺑﻮن ﰲ ﻫﺬا املﺤﻞ ﻗﻬﻮة أو ﺷﺎﻳًﺎ أو ﻣﴩوﺑﺎت روﺣﻴﺔ. وﻛﻨﺖ ﻛﻠﻤﺎ ﺿﺠﺮت ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪة أﺗﻮﺟﻪ إﱃ ﻫﺬا املﺤﻞ ،وﺑﱰدﱡدي ﻋﻠﻴﻪ ﻋﺮﻓﺖ أﺣﺪ اﻟﺴﻮرﻳني وﻛﺎﻧﺖ وﺟﻬﺘﻪ اﻟﺠﺰاﺋﺮ ،ﻟﻄﻠﺐ اﻟﺮزق ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻠﺪ؛ ﺣﻴﺚ ﺿﺎﻗﺖ ﰲ وﺟﻬﻪ ﻃﺮق اﻟﻜﺴﺐ ﰲ اﻟﺸﺎم ﻣﻌ ﱢﻠ ًﻼ ﻫﺬا ﺑﻈﻠﻢ اﻟﺤﻜﺎم ،وﻗﺴﻮة اﻷﺣﻜﺎم. وﻟﻜﻦ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻪ ﻣﻤﻦ ﻳﺬﻣﻮن ﺳﻴﺎﺳﺔ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﺗﻘﻠﻴﺪًا؛ ﻷﻧﻲ ﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻦ وﺟﻪ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺟﻬﻠﻪ اﻟﺘﺎم ﺑﺤﺎﻟﺔ ﺑﻼده اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻇﻼﻣﺘﻪ ﻓﻠﻢ ﻳﻬﺘﺪ إﱃ اﻟﺼﻮاب املﻘﻨﻊ ،ﻫﺬا واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻓﻈﻬﺮ ﱄ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﺤﻴﻂ ﻋﻠﻤً ﺎ ﺑﻤﺜﻞ ُ وﻛﻨﺖ أﺣﺎدِ ﺛُﻪ ﰲ ﻏري ﻫﺬا اﻟﺒﺎب اﺿﻄﺮا ًرا إﱃ اﻷﻧﻴﺲ واﻟﺴﻤري ،وﰲ اﻟﻴﻮم ﻫﺬه اﻷوﺿﺎع، ْ وﺻﻠﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﻨﺎ إﱃ ﺣﺪود إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وأﻟﻘﺖ املﺮاﳼ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﺑﻌﺪ ﺧﺮوﺟﻲ ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﰲ ﻣﻴﻨﺎء ﻣﺴﻴﻨﺎ. ) (5ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﺴﻴﻨﺎ ﻫﻲ ﻣﻦ ﻣﺪن إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ وواﻗﻌﺔ ﻋﲆ ﻣﺪﺧﻞ ﺑﻮﻏﺎز ﻣﺴﻴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﴩق ،وﻫﻲ ﻣﻴﻨﺎء ﺣﺮﺑﻴﺔ وﺗﺠﺎرﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺘني ذات أﻫﻤﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻣﺪن ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ ﺟﺰﻳﺮة ﺻﻘﻠﻴﺔ ،وﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻨﻴﺖ ﻋﲆ ﻧﺸﺎز ﻣﻦ اﻷرض أو ﻫﻀﺒﺔ ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ ﻓﱰى ﻣﻨﺎزﻟﻬﺎ ﻛﺪرﺟﺎت اﻟﺴﻠﻢ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻮق ﺑﻌﺾ وﺷﻮارﻋﻬﺎ ذات اﻧﺤﺪار واﺣﺪ ﻳﺪأب، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺠﻤﻠﺔ ﻣﻨﻈﻤﺔ اﻟﺸﻮارع ﻣﻔﺮوﺷﺔ ﺑﺎﻷﺳﻔﻠﺖ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺗﺮﺑﺔ وﻋﲆ ﺟﺎﻧﺒﻬﺎ 22
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
املﻨﺎزل ،واﻟﻔﻨﺎدق ،واﻟﻌﻤﺎرات اﻟﻀﺨﻤﺔ اﻟﺒﻨﺎء ،وأﺳﻮاﻗﻬﺎ ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ، ﻛﻤﺎ أن اﻟﻔﻮاﻛﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜرية ﺟﺪٍّا ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ أن ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻛﺜرية اﻟﺒﺴﺎﺗني ،وﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﻠﻌﺔ ﺑُﻨﻴَﺖ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻤﺮ اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺬاﻫﺒﺔ إﱃ املﺮﻓﺄ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني املﺪﻳﻨﺔ وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﻗﻠﻌﺔ ﺳﻨﺘﺒﻮري ،وﻟﻴﺲ إﺗﻘﺎن ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﺑﺄﺿﻤﻦ ﻟﺼﻴﺎﻧﺘﻬﺎ وﺻﻴﺎﻧﺔ املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ املﻮﺿﻊ اﻟﺬي ﺑُﻨﻴَﺖ ﻓﻴﻪ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ. وﰲ ﻣﺴﻴﻨﺎ ﻛﻠﻴﺔ ﻛﱪى ﺗﺨ ﱠﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﺗُﺪرس ﰲ اﻟﻜﻠﻴﺎت ،أ ُ ﱢﺳﺴﺖ ﺳﻨﺔ ١٥٤٩ﻣﻴﻼدﻳﺔ؛ أي ﻣﻨﺬ ﺛﻼﺛﺔ ﻗﺮون وﻧﺼﻒ ،وﻓﻴﻬﺎ ﻛﺘﺒﺨﺎﻧﺔ ﺟﻤﻌﺖ اﻷﻟﻮف ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ أﻏﻠﺐ ﻛﺘﺒﺨﺎﻧﺎت أوروﺑﺎ ،وﻗﺪ ﺣﺪﱠﺛﻨﻲ ﻛﺜريون ﺑﻬﺬا ﻣﻤﻦ زاروا ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺒﺨﺎﻧﺔ وﺷﺎﻫﺪوا ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻓﻴﻬﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺜﻤﺎﻧني ﻛﻨﻴﺴﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ اﻟﻜﱪى املﺸﻴﺪة اﻟﺒﻨﻴﺎن املﺰداﻧﺔ ﺑﺄﺟﻤﻞ اﻟﻨﻘﻮش ،وأﺣﺴﻦ اﻟﺮﺳﻮم، وأﻛﱪﻫﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻨﺎﻫﺎ املﻠﻚ روﺟﻞ. وأﻛﺜﺮ اﻟﺼﻨﺎﺋﻊ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻨﺴﺞ واﻟﺪﺑﺎﻏﺔ؛ إذ ﺑﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻣﻞ ﻧﺴﺞ اﻟﺤﺮﻳﺮ ودﺑﻎ اﻟﺠﻠﻮد ﻣﻊ ﺟﻮدة اﻟﺼﻨﻌﺔ ،وﻫﻲ ﻗﺪ أ ُ ﱢﺳﺴﺖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺎﴍ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد وﻗﺪ ﺟﺎء ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أن أوﱠل ﻣﻦ اﺳﺘﻌﻤﺮﻫﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﺳﻨﺔ ٧٣٥ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وﻗﺪ ﺗﻘﻠﺒﺖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﰲ أﺣﻮال وأﻃﻮار ﺷﺘﻰ ،ﺣﺘﻰ ﺣﺼﻠﺖ اﻟﺜﻮرة اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺧﻤﺪﻫﺎ اﻟﻘﺎﺋﺪ اﻟﻄﻠﻴﺎﻧﻲ املﺸﻬﻮر ﻏﺎﻟﻴﺒﺎردي ﺛﻢ أ ُ َ ﻟﺤﻘﺖ ﺑﺄﻣﻼك إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﻟﻢ ﺗﺰل ﻛﺬﻟﻚ إﱃ اﻵن ،ﺛﻢ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺎﺻﺪة ﻧﺎﺑﲇ. ) (6ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻧﺎﺑﲇ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻫﻲ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺑﻌﺪ روﻣﺎ وﺑﺮﻧﺪﻳﺰي وﻓﻴﻨﺴﻴﺎ اﻟﺒﻨﺪﻗﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺠﺎرة واملﻌﺎرف ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ أﻫﻢ املﻮاﻧﺊ ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،وﻫﻲ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻣﺴﻴﻨﺎ ﺑﻤﻘﺪار ٢٠ﺳﺎﻋﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻛﻨﺖ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺮﺳﻮ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﰲ املﻴﻨﺎء ﻧﻈﺮت ﻋﲆ ﺑﻌﺪ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻤﻨﺎرة املﺴﺠﺪ ﻓﴪرت وﻗﻠﺖ :ﻟﻌﻞ ﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﺴﻠﻤني ﻟﻬﻢ ﻣﺴﺠﺪ وﻫﺬه ﻣﻨﺎرﺗﻪ ،وﻟﻜﻦ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻧﺰﻟﺖ إﱃ اﻟﱪ ﻋﻠﻤﺖ أﻧﻬﺎ ﻓﻨﺎر اﻟﺒﺤﺮ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻣﻨﺎرة املﺴﺠﺪ ﻟﺘﻬﺘﺪي ﺑﻪ اﻟﺒﻮاﺧﺮ ً ﻟﻴﻼ إﱃ املﻴﻨﺎء. وﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﺄن اﻹﻗﺎﻣﺔ ﰲ ﻧﺎﺑﲇ ﺗﺴﺘﻐﺮق ﻋﴩ ﺳﺎﻋﺎت اﻏﺘﻨﻤﺖ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﻠﺘﺠﻮل ﰲ ﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻷﺷﺎﻫﺪ آﺛﺎر املﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻜﻨﺖ ﺣﻴﺜﻤﺎ ﻣﺸﻴﺖ أﺟﺪ اﻷﻧﻈﺎر ﺷﺎﺧﺼﺔ إﱄ ﱠ؛ ﻷن اﻟﺰي اﻟﴩﻗﻲ املﴫي ﰲ ﻧﻈﺮ ﻫﺆﻻء ﻏﺮﻳﺐ. 23
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺑﻴﻨﻤﺎ أﻧﺎ ﻣﺎر ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻮارع وإذا ﺑﺼﻮت ﻣﻨﺎدٍ ﻳﻘﻮل :ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ،وﻛﺮر ذﻟﻚ ﻣﺮا ًرا، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﻓﺈذا ﺑﺄﺣﺪ اﻟﻄﻠﻴﺎﻧﻴني ﻳﺸري ﻋﲇ ﱠ ﺑﺎﻟﻮﻗﻮف ﻓﻮﻗﻔﺖ وأﺗﻰ ﻓﺤﻴﺎﻧﻲ ﺑﺘﺤﻴﺔ املﺴﻠﻤني وﺻﺎﻓﺤﻨﻲ ً ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﻚ ﴍﻗﻲ ،وﻳﻈﻬﺮ ﱄ أﻧﻚ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ ،ﻓﻘﻠﺖ :ﻧﻌﻢ ،ﻓﻘﺎل ﱄ :إﻧﻲ أﺳﺘﺎذ ﰲ املﺪرﺳﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ وأﺣﺐ أن ﺗﺰور املﺪرﺳﺔ ﻟﱰى ﻛﻴﻒ ﻧﻌ ﱢﻠﻢ ﻟﻐﺘﻜﻢ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﺪارﺳﻨﺎ ،ﻓﺸﻜﺮﺗُﻪ ﻋﲆ ﺷﻌﻮره وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ ﻣﺮاﻓﻘﺘﻲ إﱃ اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻷﻟﺒﺲ ﻣﻼﺑﺲ ﻏري اﻟﺘﻲ ﻋﲇﱠ؛ ﺣﻴﺚ ﻛﻨﺖ ﺑﻤﻼﺑﺲ اﻟﺴﻔﺮ ،ﻓﻠﺒﱠﻰ ﻃﻠﺒﻲ وﻛﻨﺖ أﺣﺎدﺛﻪ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻓﺈذا ﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﻔﺼﺤﻰ ﺑﻐري ﻟﺤﻦ وﻗﺪ أﻋﻄﺎﻧﻲ »ﻛﺎرﺗًﺎ« ﺑﺎﺳﻤﻪ »ﺗﻮﻟﻴﻮ ﺑﺰوﳾ« ﻛﻤﺎ ﻗﺪﱠﻣﺖ ﻟﻪ »ﻛﺎرﺗًﺎ« ً أﻳﻀﺎ. وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ املﺪرﺳﺔ ﻗﺪﱠﻣﻨﻲ ﻟﻠﺮﺋﻴﺲ واﻷﺳﺎﺗﺬة ﻓﻘﺎﺑﻠﻮﻧﻲ ﺑﺎﻟﺤﻔﺎوة وﺑﺎﻟﻐﻮا ﰲ اﻻﺣﺘﻔﺎء ﺑﻲ وﻛﺎن ﺣﴬة املﺴﻴﻮ »ﺗﻮﻟﻴﻮ ﺑﺰوﳾ« ﺧﺎﻟﻴًﺎ ﻣﻦ ﺣﺼﺔ اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ، ﻓﻄﻠﺐ ﻣﻨﻲ اﺧﺘﺒﺎر اﻟﺘﻼﻣﺬة ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،وﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺮب ،وﻫﻢ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ اﻟﻄﻠﻴﺎن واﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني وﻏريﻫﻢ ،ﻓﺎﺧﺘﱪﺗﻬﻢ ﰲ ﻓﺼﻮﻟﻬﻢ ﻛﻠﻬﺎ ،ﻓﺪُﻫِ ْﺸﺖ ﻟﻨﺠﺎﺑﺘﻬﻢ ،وذﻛﺎﺋﻬﻢ ،وﴎﻋﺔ أﺟﻮﺑﺘﻬﻢ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻨﻲ أﺗﻤﻨﱠﻰ ﻟﻮ ﻳﻜﻮن اﻫﺘﻤﺎم ﻣﺪارﺳﻨﺎ املﴫﻳﺔ ﺑﻠﻐﺘﻨﺎ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻛﺎﻫﺘﻤﺎم اﻹﻳﻄﺎﻟﻴني ﺑﻬﺎ. ﱠ وﻛﺎن اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ إذا ﺗﻜﻠﻢ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻻ ﻳﻠﺤﻦ ﻗﻂ؛ ﻷﻧﻪ ﺗﻠﻘﻰ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺤﺴﺐ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﻨﺤﻮﻳﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺠﻴﺪ اﻟﻨﻄﻖ إذا ﺗﻜﻠﻢ ﺑﺠﻮاب ﻋﻦ ﺳﺆال ،أو ﻗﺮأ ﰲ ﻛﺘﺎب. وﻏﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ أن اﻟﺨﻂ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻫﻨﺎك ﻣﺜﻞ ﺧﻂ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ واملﻐﺮب اﻷﻗﴡ. وﻟﻢ ﻳﻘﺘﴫ اﻟﻘﻮم ﻋﲆ ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ إﻧﻬﻢ ﻳﺪ ﱢرﺳﻮن ﻟﻬﻢ ﺗﻔﺴري اﻟﻘﺮآن ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﺠﻴﺒﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺤﻔﻆ اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ اﻟﺴﻮر اﻟﺼﻐرية وﺑﻌﺾ اﻵﻳﺎت ﻣﻊ ﻓﻬﻢ املﻌﺎﻧﻲ وﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻢ ﻣﻦ اﻵﻳﺎت ﰲ اﻟﺴﻮرة ﻣﻜﻴﺔ ،وﻛﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺪﻧﻴﺔ. ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ املﴫي اﻟﻌﺮﺑﻲ إﱃ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻟﻌﻈﻤﻰ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ ﻣﻦ ﻗﻮم ﻟﻴﺴﻮا ﻣﻦ اﻟﻌﺮب ،وﻻ ﻣﻤﻦ ﻳﺪﻳﻨﻮن ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﺤﻨﻴﻒ وﻟﻴﻘﺎرن ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﻣﺎ ﺗﻼﻗﻴﻪ ﻟﻐﺘﻨﺎ ﰲ ﻧﻈﺎرة املﻌﺎرف ﻣﻦ ﻋﺪم اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻬﺎ ،وﻟﻴﺘﺨﺬ ﻟﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﱪة. وﺑﻌﺪ اﻻﻧﺘﻬﺎء ﻣﻦ اﺧﺘﺒﺎر اﻟﺘﻼﻣﺬة ودﻋﺖ ﺑﻤﺎ ُﻗﻮﺑ ْﻠ ُﺖ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻹﻛﺮام اﻟﺬي د ﱠل ﻋﲆ ﺣﺴﻦ ﺗﺮﺑﻴﺔ اﻟﻘﻮم ،وﻣﻤﺎ ﻻﺣﻈﺘﻪ ﰲ ﻧﺎﺑﲇ أن اﻷﺣﻜﺎم ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﺸﺪة واﻟﴫاﻣﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﺷﺎﻫﺪت اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻳﺴﻮق اﺛﻨني ﻣُﻜﺒﱠﻠِني ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺪ وﻟﻢ ﻳﺮﺗﻜﺒﺎ إﻻ ﺟﺮﻳﻤﺔ املﺨﺎﻟﻔﺔ. وﻗﺪ اﻣﺘﺎزت ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ ﻧﺎﺑﲇ ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ ﻣﻘﺎﻃﻌﺎت إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺑﺄن أﻫﻠﻬﺎ ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ اﻟﺮاﺣﺔ واﻟﻜﺴﻞ واﻟﺨﻤﻮل وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺜﺮت ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻠﺼﻮﺻﻴﺔ واﻟﺴﻠﺐ واﻟﻨﻬﺐ وﻗﻄﻊ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺑﻠﺔ. 24
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻳﻈﻬﺮ أن ﻣﻴﺎه اﻟﴩب ﻓﻴﻬﺎ ﰲ زﻣﻦ اﻟﺼﻴﻒ ﺗﴬ ﺑﺼﺤﺘﻬﻢ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﴩﺑﻮن املﺎء ﻣﻤﺰوﺟً ﺎ ﺑﻌﺼري اﻟﻠﻴﻤﻮن. وﻛﺎن ﺑﻮدي أن أﻣﻜﺚ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم ﰲ ﻧﺎﺑﲇ ﻷﺷﺎﻫﺪ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر ،وأﻃﻠﻊ ﻋﲆ أﺧﻼق وﻋﻮاﺋﺪ اﻟﻘﻮم أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺪة اﻟﻮﺟﻴﺰة. وﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪت اﻟﱪﻛﺎن املﻌﺮوف ﺑﱪﻛﺎن »وﻳﺰوف« وﻫﻮ ﻳﺘﺜﺎءب دﺧﺎﻧًﺎ ،وﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﱄ إن ﻫﺬه ﺣﺎﻟﺘﻪ داﺋﻤً ﺎ ودﺧﺎﻧﻪ أﺷﺒﻪ ﺑﺪﺧﺎن واﺑﻮر اﻟﻄﺤني. وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻪ ﻓﻮق ﻗﻤﺔ اﻟﺠﺒﻞ املﴩف ﻋﲆ املﺪﻳﻨﺔ وﻫﻲ ﰲ اﻟﺴﻔﺢ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻨﻪ وﻻ ﻳﺒﻌﺪون ﻋﻨﻪ ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺮ اﻟﻘﺘﺎل ،ﻣﻊ أن ﺣﻮادث ﻫﺬا اﻟﱪﻛﺎن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﴤ ﻋﲆ أﻫﻞ ﻧﺎﺑﲇ ﺑﺄن ﻳﺒﺘﻌﺪوا ﺑﻤﺴﺎﻛﻨﻬﻢ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪة ،ﺣﺘﻰ ﻳﺴﻠﻤﻮا ﻣﻦ ﻣﺮﻣﻰ ﻣﻘﺬوﻓﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ أزﻫﻘﺖ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷرواح ،ودﻣﱠ ﺮت ً آﻻﻓﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻛﻦ ﰲ املﺪة اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ. أﻋﺎد إﱃ ذاﻛﺮﺗﻲ وﺟﻮدي ﰲ ﻧﺎﺑﲇ ﺣﺎدﺛﺘني ﺗﺎرﻳﺨﻴﺘني رأﻳﺖ أن أذﻛﺮﻫﻤﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻻﺳﺘﻄﺮاد؛ أوﻻﻫﻤﺎ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺴﺎﻛﻦ اﻟﺠﻨﺎن إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﺨﺪﻳﻮي اﻷﺳﺒﻖ ،وﺛﺎﻧﻴﺘﻬﻤﺎ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎملﺮﺣﻮم أﺣﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ املﻨﺸﺎوي ،وإﻧﻲ ﻻ أﻗﻮل ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻷوﱃ؛ ﻷن أﻣﺮﻫﺎ ﻣﻌﻠﻮم، وأﻣﺎ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ أن املﺮﺣﻮم أﺣﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ املﻨﺸﺎوي ﱠملﺎ ﻛﺎن ﰲ دار اﻟﺴﻌﺎدة ﻋﻘﺐ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ ،ووﳽ ﺑﻪ اﻟﻮاﺷﻮن ﺑﺄﻧﻪ ﻫﺎﺟﺮ ﻣﻦ ﻣﴫ إﱃ اﻟﺸﺎم ﻓﺪار اﻟﺴﻌﺎدة ﻷﺟﻞ ﱢ دس اﻟﺪﺳﺎﺋﺲ وإﻏﺮاء أﻣﺮاء اﻟﻌﺮب وﻏريﻫﻢ ﻋﲆ ﻣﺒﺎﻳﻌﺔ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ ﺑﺎﻟﺨﻼﻓﺔ ،وﻛﺜﺮ ﻣﺮاﻗﺒﻮه، واﻟﺠﻮاﺳﻴﺲ ﻟﻢ ﺗﻔﺎرﻗﻪ أﻳﻨﻤﺎ و ُِﺟﺪ .ﻣ ﱠﻞ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﰲ اﻷﺳﺘﺎﻧﺔ وأراد أن ﻳﻬﺎﺟﺮ إﱃ أوروﺑﺎ ﻓﺤﺴﻦ إﻟﻴﻪ اﻟﺴﻔري اﻟﻔﺮﻧﺴﻮي أن ﻳﺬﻫﺐ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ،وأ ﱠﻛﺪ ﻟﻪ أﻧﻪ إذا ذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ وأﻗﺎم ﺑﻬﺎ ﻳﺠﺪ ﻣﻦ راﺣﺔ اﻟﺒﺎل واﻹﻛﺮام ﻣﺎ ﻻ ﻳﺠﺪه ﰲ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﻼد أوروﺑﺎ ،ﻓﻘﺒﻞ املﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ وﻋﻘﺪ اﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ﻋﲆ املﻬﺎﺟﺮة إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ،وﻟﻜﻨﻪ رأى أن ﻳﻌﺮج ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻋﲆ ﻧﺎﺑﲇ؛ ﺣﻴﺚ ﺑﻬﺎ إﻗﺎﻣﺔ املﺮﺣﻮم إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ ملﻘﺎﺑﻠﺘﻪ وﻋﺮض ﻣﺎ أﺷﺎر ﺑﻪ اﻟﺴﻔري ﻋﻠﻴﻪ. ﻓﻠﻤﺎ أراد اﻟﺴﻔﺮ ﻣﻦ دار اﻟﺴﻌﺎدة أﻋﻄﺎه اﻟﺴﻔري ﺧﻄﺎب ﺗﻮﺻﻴﺔ إﱃ ﻣﻌﺘﻤﺪ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،ﻛﻤﺎ أﺧﱪه ﺑﺄﻧﻪ ﺑﻌﺚ ﺑﺨﻄﺎب آﺧﺮ إﱃ املﻌﺘﻤﺪ ﻟﻼﺣﺘﻔﺎل ﺑﻪ ﻋﻨﺪ وﺻﻮﻟﻪ. ﻏﺎدر املﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ دار اﻟﺴﻌﺎدة وﻋﺮج ﻋﲆ ﻧﺎﺑﲇ وﻗﺎﺑﻞ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ وﻋﺮض ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺎ أﺷﺎر ﺑﻪ اﻟﺴﻔري ﻓﻨﺼﺢ ﻟﻪ ﺑﺎﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﴬ ﺑﺼﺎﻟﺢ ﱠ ووﺻﺎه ﺑﻮﺻﺎﻳﺎ أﺧﺮى ﻧﺎﻓﻌﺔ. اﻟﻮﻃﻦ 25
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻳﻘﺎل إن املﻨﺸﺎوي أﻃﻠﻊ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﺎﺷﺎ ﻋﲆ ﺧﻄﺎب اﻟﺴﻔري ﻓﻘﺮأه ﻣﱰﺟﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، وﻗﺪ وﺻﻒ اﻟﺴﻔري املﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ ﺑﺎﻟﺸﻴﺦ ﻓﺎﺳﺘﻐﺮب ذﻟﻚ ،وﺳﺄل اﻟﺨﺪﻳﻮي ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﻓﻘﺎل ﻟﻪ :إن ﻟﻔﻆ اﻟﺸﻴﺦ ﻋﻨﺪ اﻷوروﺑﻴني ﻳﺪل ﻋﲆ اﻟﺘﺒﺠﻴﻞ واﻟﺘﻌﻈﻴﻢ. وﺑﻴﻨﻤﺎ املﻨﺸﺎوي ﺟﺎﻟﺲ ﰲ أﺣﺪ املﺤﺎل اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ إذا ﺑﺮﺟﻞ ﻃﻠﻴﺎﻧﻲ ﻛﺎن ﺗﺎﺟ ًﺮا ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﺜﻮرة ﻣ ﱠﺮ ﺑﻪ وﻋﺮﻓﻪ ﻓﺴ ﱠﻠﻢ ﻋﻠﻴﻪ وﺟﻠﺴﺎ ﻣﻌً ﺎ ﻳﺘﺤﺎدﺛﺎن ،وﻗﺪ ﺳﺄل اﻟﺮﺟﻞ املﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ ﻋﻦ ﻣﺤ ﱢﻞ إﻗﺎﻣﺘﻪ ﻓﻮﺻﻔﻪ ﻟﻪ وﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ أن ﻳﻮاﱄ زﻳﺎرﺗﻪ ﻣﺎ دام ﻣﻘﻴﻤً ﺎ ﰲ ﻧﺎﺑﲇ ،وملﺎ اﻓﱰﻗﺎ ﺗﻮﺟﱠ ﻪ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ إﱃ اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﺨريﻳﺔ ،وﻗﺎل ﻟﺮؤﺳﺎﺋﻬﺎ :ﻛﻴﻒ ﻳﻮﺟﺪ ﺑني ﻇﻬﺮاﻧﻴﻨﺎ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺣﻤﻰ املﺴﻴﺤﻴني ﻳﻮم ﻣﺬﺑﺤﺔ ﻃﻨﻄﺎ وﺗﻠ ﱠ ﻄﺨﺖ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﺑﺪﻣﺎء اﻟﻘﺘﲆ ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎن ﻳﺤﻤﻠﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺸﻮارع وﻫﻢ ﺟﺜﺚ ﻫﺎﻣﺪة ،وآوى اﻷﻟﻮف ﻣﻨﻬﻢ ﰲ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﺑﺎﻟﻘﺮﺷﻴﺔ ،ﱠ وﺳﻔﺮﻫﻢ إﱃ ﺑﻼدﻫﻢ ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺘﻪ ،وﻟﻢ ﺗﻌﻠﻤﻮا ﺑﻮﺟﻮده ﻫﻨﺎ وﻟﻢ ﺗﺤﺘﻔﻠﻮا ﺑﻪ وﺗﺠﺮوا ﻟﻪ املﻈﺎﻫﺮات اﻟﻮدﻳﺔ؟! ﻓﺎﺟﺘﻤﻊ أﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت وﻗﺮروا ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ إﺟﺮاء ﻣﻈﺎﻫﺮة اﻹﺟﻼل واﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﻟﻠﻤﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ. ﻓﻔﻲ اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻧﻲ اﺳﺘﻴﻘﻆ املﻨﺸﺎوي ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻣﻪ ﻓﻮﺟﺪ املِ ﺌﺎت ﻣﻦ أﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت أﻣﺎم ﻣﻨﺰﻟﻪ ،ﻓﻨﺰل ورﺣﱠ ﺐ ﺑﻬﻢ ﻓﺪﻋﻮه إﱃ ﻣﺄدﺑﺔ أدﺑﻮﻫﺎ ﻷﺟﻠﻪ واﻋﺘﺬروا ﻟﻪ ﻋﻦ ﻋﺪم ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ ﺑﻮﺟﻮده ﰲ ﻧﺎﺑﲇ ﻓﻠﺒﱠﻰ اﻟﺪﻋﻮة. وﰲ ﺛﺎﻧﻲ ﻳﻮم أﺗﻰ إﻟﻴﻪ رؤﺳﺎء وأﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت وﻛﺜري ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ أﻛﺎﺑﺮ اﻟﻘﻮم ً ﺣﺎﻓﻼ ﻛﺎن ﻳﻮﻣﻪ ﻣﺸﻬﻮدًا؛ ﺣﻴﺚ ﱠ ﻏﺼﺖ اﻟﺸﻮارع ﻫﻨﺎك وﻣﻌﻬﻢ املﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﻋﻤﻠﻮا ﻟﻪ ﻣﻮﻛﺒًﺎ ﺑﺎملﺘﻔ ﱢﺮﺟني ،واملﻮﻛﺐ ﻳﺴري واملﻨﺸﺎوي ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺠﻤﻴﻊ وﺣﻮﻟﻪ اﻟﺮؤﺳﺎء ،واﻷﻋﻀﺎء وأﻣﺎﻣﻬﻢ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﻮا إﱃ ﻣﺤﻞ اﻻﺣﺘﻔﺎل وﻫﻨﺎك ﺗُ ِﻠﻴَﺖ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺮﻧﺎﻧﺔ ﰲ ﻣﺪح ً ﺧﺼﻮﺻﺎ وﰲ وﺻﻒ املﺬﺑﺤﺔ املﻨﺸﺎوي ،وﺗﻌﺪاد ﻣﺂﺛﺮه ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴني واﻷوروﺑﻴني ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ ﻃﻨﻄﺎ ،وﻛﺎن املﻨﺸﺎوي ﺑﺎﺷﺎ ً واﻗﻔﺎ ﻋﲆ ﻣﻨﱪ وﺑني ﻛ ﱢﻞ ﺧﻄﺒﺔ وأﺧﺮى ﻳُﻘ ﱠﻠﺪ ﻧﻴﺸﺎﻧًﺎ ﻓﺎﺧ ًﺮا وﻫﻮ ﻳﺬرف اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ ﺗﺄﺛري اﻟﺤﺎﻟﺔ وﻳﻘﻮل :إن ﻫﺬا اﻻﺣﺘﻔﺎل ﻫﻮ ﻷﺟﻞ ﻋﻤﻞ ﻋﻤﻠﺘﻪ ﰲ ﻣﴫ ﻋ ﱠﺪﺗْﻪ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺑﻼدي ﻣﻦ ذﻧﻮﺑﻲ ،ﺛﻢ ﺗﻨﺎوﻟﻮا اﻟﻄﻌﺎم ﺑﻌﺪ اﻟﺨﻄﺐ وأﻗﺎم املﻨﺸﺎوي ﻣُﻌ ﱠ ﻈﻤً ﺎ ﻣﺤﱰﻣً ﺎ ﺣﺘﻰ ﺳﺎﻓﺮ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ وﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮ ﻣﺎ ﻗﻮﺑﻞ ﺑﻪ ﺳﻌﺎدﺗﻪ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ؛ ﻷن اﻟﻮﻗﺖ ﻏري ﻣﻨﺎﺳﺐ. ً ﻫﺬا ،واملﻠﺨﺺ ﻣﻤﺎ ﺗﻘﺪم أن ﻧﺎﺑﲇ ﺑﻠﻐﺖ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة واملﺪﻧﻴﺔ ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وإن ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻮى »ﻓﻴﻼﻧﺎ ﺳﻴﻮﻧﺎ ﻟﻪ« ،ﻫﺬا املﻨﺘﺰه اﻟﺠﻤﻴﻞ ﻟ َﻜ َﻔﻰ؛ ﻷن ﻫﻮاه ﺟﻴﺪ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ أن ﻣﻮﻗﻌﻪ ﺑﺠﺎﻧﺐ اﻟﺒﺤﺮ. 26
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ً وأﻫﻢ ﺷﻮارع ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺷﺎرع »ﺗﻮﻟﻴﺪو« أو ﺷﺎرع روﻣﻴﺔ وﻃﻮﻟﻪ ﺑﻠﻎ ً وﻧﺼﻔﺎ، ﻣﻴﻼ وﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ إﱃ اﻟﺸﻮارع اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ،وﺗﺘﻔﺮع ﻣﻨﻪ ﺷﻮارع ﻛﺜرية أﻫﻤﻬﺎ اﻟﺸﺎرع املﻤﺘﺪ إﱃ ﻣﻴﺪان »ﻛﺎﻓﻮر« ،ﺛﻢ إذا أردت أن أﺻﻒ ﻧﺎﺑﲇ وﻣﺎ اﺷﺘﻤﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ املﻨﺎﻇﺮ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻻﺣﺘﺠﻨﺎ إﱃ زﻣﻦ ﻃﻮﻳﻞ وﻟﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﻛﻔﺎﻳﺔ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻣﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﻧﺎﺑﲇ ﻗﺎﺻﺪة ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ. ) (7ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻔﺘﻮﺣﺎت اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ رأﻳﺖ إن ﻟﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ذﻛ ًﺮا ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أن أﺑﺪأ اﻟﻜﻼم ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻠﻤﺤﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ زﻳﺎدة ﰲ اﻟﻔﺎﺋﺪة. ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ أﻗﺪم ﻣﺴﺘﻌﻤﺮة ﻟﻠﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ ،وأﻫﻢ ﻣﺮاﻛﺰ ﻗﻮاﺗﻬﻢ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ، وﻗﺪ ﺳﻤﱠ ﺎﻫﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎن »ﺑﺎورﻣﻮش« ،واﻟﺬي أﻛﺴﺒﻬﺎ ﻫﺬه اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺟﻮدة ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ وﺣﺴﻦ ﻣﺮﻓﺌﻬﺎ ،واﺳﺘﻤﺮت ﰲ ﺣﻮزة اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني إﱃ ﺳﻨﺔ ٤٨٠ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ ﺛﻢ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻘﺮﻃﺎﺟﻴﻮن وﺑﻘﻴﺖ ﰲ ﺣﻮزﺗﻬﻢ إﱃ أن ﻏﻠﺒﻬﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ »ﺑﻴﺰوش« ﻣﻠﻚ اﻟﺒرية ﺳﻨﺔ ٢٧٦ق.م ً ﺛﺎﻧﻴﺔ ،واﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺮوﻣﺎن ﰲ اﻟﺤﺮب اﻟﺒﻮﻧﻴﻔﻴﺔ اﻷوﱃ وﻟﻜﻦ اﺳﱰﺟﻌﻬﺎ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﻮن ﺳﻨﺔ ٢٥٤ق.م وﻃﺮدوا اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮة روﻣﺎﻧﻴﺔ ﻣﺪة اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻛﻠﻬﺎ، وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ دﺧﻠﺖ ﰲ ﺣﻮزة اﻟﻘﻮط ﺛﻢ اﻧﺘﺰﻋﻬﺎ ﻣﻨﻬﻢ أﺣﺪ اﻟﻘﻮاد اﻟﺒﻴﺰﻧﻄﻴني. وﰲ ﺳﻨﺔ ٨٣٥ﻟﻠﻤﻴﻼد ﻓﺘﺤﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن وﺟﻌﻠﻮﻫﺎ ﻗﺎﻋﺪة اﻟﺠﺰﻳﺮة ،ﻗﺎل اﺑﻦ اﻷﺛري ﰲ ﺗﺎرﻳﺨﻪ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :وﺳﺎر املﺴﻠﻤﻮن إﱃ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ ﻓﺤﴫوﻫﺎ وﺿﻴﻘﻮا ﻋﲆ ﻣﻦ ﺑﻬﺎ ﻓﻄﻠﺐ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ اﻷﻣﺎن ﻟﻨﻔﺴﻪ وﻷﻫﻠﻪ وﻋﻴﺎﻟﻪ ﻓﺄ ُ ِﺟﻴﺐ إﱃ ذﻟﻚ ،وﺳﺎر ﰲ اﻟﺒﺤﺮ إﱃ ﺑﻼد اﻟﺮوم ودﺧﻞ املﺴﻠﻤﻮن اﻟﺒﻠﺪ ﰲ رﺟﺐ ﺳﻨﺔ ٢١٦ﻫ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺮوا ﻓﻴﻪ ﱠإﻻ أﻗﻞ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ آﻻف إﻧﺴﺎن وﻛﺎن ﻓﻴﻪ ملﺎ ﺣﴫوه ﺳﺒﻌﻮن ً أﻟﻔﺎ ﻣﺎﺗﻮا وﻟﻢ َ ﻳﺒﻖ ﱠإﻻ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر اﻟﻨ ْﺰر ﻣﻨﻬﻢ. واﺳﺘﻤﺮت ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺠﺰﻳﺮة ﰲ ﺣﻮزة املﺴﻠﻤني إﱃ أن أﺧﺮﺟﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻠﻮك اﻟﻨﻮرﻣﻨﺪﻳني ،وأﻧﺸﺌﻮا ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺎﴍ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﺻﻘﻠﻴﺔ وأﻗﺎم اﻟﴩﻳﻒ اﻹدرﻳﴘ ﺑﺒﺎﻟﺮﻣﺎ وأ ﱠﻟﻒ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ واﺻﻄﻨﻊ اﻟﻜﺮة اﻟﻔﻀﻴﺔ ﰲ ﺑﻼط املﻠﻚ روﺟﺮ اﻟﺼﻘﲇ اﻟﺜﺎﻧﻲ ،أﻣﺎ ﺑﻼط املﻠﻮك اﻟﻨﻮرﻣﻨﺪﻳني ﻓﻠﺒﺚ ﰲ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ إﱃ أن ُ ﺿﻤﱠ ﺖ ﺻﻘﻠﻴﺔ إﱃ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻧﺎﺑﲇ ،وﺣﺪث ﻓﻴﻬﺎ زﻻزل ﺷﺪﻳﺪة أﴐت ﺑﻬﺎ ﻛﺜريًا ،وﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﺳﻨﺔ ١٨٤٨أﻃﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﺴﺎﻛﺮ املﻤﻠﻜﺔ املﺪاﻓﻊ ،وﰲ ١٣ﻣﺎرس ﺳﻨﺔ ١٨٦٠دﺧﻞ ﻏﺎﻟﻴﺒﺎردي ﺻﻘﻠﻴﺔ وﰲ ٢٦ﻣﻨﻪ 27
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﺘﺢ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﺘﺎل ﻋﻨﻴﻒ ﰲ أﺳﻮاﻗﻬﺎ ،ﺛﻢ ﺣﺼﻞ اﻻﺗﻔﺎق ﻋﲆ اﻟﺠﻼء ﻋﻨﻬﺎ ﻓﺨﺮﺟﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻌﺴﺎﻛﺮ اﻟﻨﺎﺑﻠﻴﺔ ﰲ ٦ﺟﻮﻧﻴﻮ وﺟﻌﻠﺖ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ املﺆﻗﺘﺔ ،وﰲ ﺳﺒﺘﻤﱪ ﺳﻨﺔ ١٨٦٦ ﺣﺪﺛﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺛﻮرة وﻛﺎن ﺳﺒﺒﻬﺎ إﺑﻄﺎل اﻟﺮﻫﺒﻨﺎت ،وﻟﻜﻦ اﻟﻌﺴﺎﻛﺮ املﻠﻴﻜﺔ أﺧﻤﺪت ﻧﺎرﻫﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻼﺣﻢ ﺷﺪﻳﺪة. وﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻧﺎﺑﲇ ﺑﻤﻘﺪار ﺧﻤﺲ ﻋﴩة ﺳﺎﻋﺔ وﻫﻲ أﻛﱪ ﻣﻴﻨﺎء ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺮة ﺻﻘﻠﻴﺔ ،وﻛﺎن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﻧﻬﺎ ًرا ،ﻓﺮأﻳﺖ أن أﻧﺰل ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻟﻠﺘﺠﻮل ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻨﺰﻟﺖ وأﺧﺬت أﺳري ﰲ ﺷﻮارﻋﻬﺎ اﻟﻮاﺳﻌﺔ املﻨﻈﻤﺔ وﺷﺎﻫﺪت ﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺎرات واﻵﺛﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﺪا آﺛﺎر املﺪﻧﻴﺔ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ: ﺷﺎﻫﺪت ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺎﺣﺔ ﻛﱪى ُﻓ َ ﺮﺷﺖ ﺑﺎﻟﺒﻼط وﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﺎﻷﺷﺠﺎر وﻫﺬه اﻟﺴﺎﺣﺔ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »أﺑﺮﺗﻮرﻳﺎ« ﻓﺮاﻗﻨﻲ ﻣﻨﻈﺮﻫﺎ اﻟﺠﻤﻴﻞ اﻟﺒﺪﻳﻊ ،ﺛﻢ ﺳﺎﺣﺔ »ﻣﺮﺑﻨﺎ« وﻫﻲ ﻻ ﺗﻘﻞ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﰲ اﻟﺮوﻧﻖ وﺑﻬﺎء املﻨﻈﺮ ،وأﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ وﻫﺬه ﺳﺎﺣﺔ »ﻓﺘﻮرﻳﺎ« ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻻﺗﺴﺎع وإﺗﻘﺎن ً روﻧﻘﺎ وﺟﻌﻠﻬﺎ ﺷﺎرع ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﺷﺎرع »ﻓﺘﻮرﻳﺎ إﻳﻤﺎﻧﻴﻞ« واﻟﺬي زادﻫﺎ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ وﻫﻲ ﰲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ٍ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن وﺟﻮد اﻟﻘﴫ املﻠﻮﻛﻲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﺬا اﻟﻘﴫ ﻣُﻌَ ﺪ ﻹﻗﺎﻣﺔ اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﺣني ﻣﺠﻴﺌﻪ إﱃ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ. وﺑﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻛﱪى ﰲ وﺳﻄﻬﺎ ،ﺗﻔﻨﱠﻦ اﻟﻘﻮم ﰲ أﺳﺎﻟﻴﺐ ﺗﻨﻤﻴﻘﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت ً زﺧﺮﻓﺎ وﺑﻬﺎءً ،وﺑﻬﺎ ﺣﺪاﺋﻖ أﺧﺮى ﺑﺪﻳﻌﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﺗﴪ اﻟﻨﻔﺲ ﺗُﻌَ ﺪ ﻣﻦ أﻋﻈﻢ املﻨﺘﺰﻫﺎت وﺗﻘﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻌني. وﺷﺎﻫﺪت ﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﻘﴫ املﻠﻮﻛﻲ اﻟﺬي ﺑﻨﺎه اﻟﻨﻮرﻣﻨﺪﻳﻮن وأﺟﺎدوا ﺻﻨﻌﻪ وﻫﻮ ﻣُﺤﺎط ﺑﺎﻷﺷﺠﺎر وﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﻤﺎ اﻟﻮﻗﺎر ﻋﲆ ﻣﺎ ﻣ ﱠﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني واﻷﻋﺼﺎر. أﻣﺎ اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻷدﻳﺮة ﻓﻜﺜرية؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺒﻠﻎ ﻋﺪد اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ ﻧﺤﻮ ٢٥٠واﻷدﻳﺮة ،٧٠وأﻫﻢ ﻫﺬه اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﱪى وﻫﻲ ﰲ أﻫﻢ أﺣﻴﺎء املﺪﻳﻨﺔ وﺣﻮﻟﻬﺎ ﺳﻴﺎج ﻣﻤﺎ ﻧﺴﻤﱢ ﻴﻪ اﻟﻴﻮم »دراﺑﺰﻳﻦ« وﻗﺪ ﻧ ُ ِﺼﺒﺖ ﻓﻮق ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎج ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﻘﺪﻳﺴني ،وﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻫﺬه اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻨﺎﻫﺎ »روﺟﻞ« اﻷول وﻻ ﺗﻘﻞ ﰲ ﺟﻮدة اﻟﺒﻨﺎء واﻟﻀﺨﺎﻣﺔ ﻋﻦ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﱪى وﺑﻬﺎ ﻧﻘﻮش ذﻫﺒﻴﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﰲ ﺑﺎﺑﻬﺎ ﺗﺪل ﻋﲆ ﻣﻬﺎرة ﺻﺎﻧﻌﻴﻬﺎ وﺗﻔﻨﱡﻨﻬﻢ ﰲ أﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺰﺧﺮﻓﺔ ﰲ اﻟﺒﻨﺎء ،ﺛﻢ ﻛﻨﻴﺴﺔ »ﻻﺳﻨﺘﺎرزاﱄ« اﻟﺘﻲ ﺑﻨﺎﻫﺎ »ﻛﻮرﻳﻮن« اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﲆ ﻧﻤﻂ اﻟﻔﻮﻧﺘﻴﺔ ،وﻗﺪ ِزﻳﺪ ﰲ ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ ﻟﻠﻤﻴﻼد وﻗﺪ وﺳﻌﻮا ﺑﺎﺑﻬﺎ وﺑﺎﻟﻐﻮا ً ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻋﻈﻤﻰ ،ﺛﻢ ﻛﻨﻴﺴﺔ اﻟﻘﺪﻳﺲ »ﺳﻨﺖ ﺟﻴﻮﻓﻨﻲ« وﻫﻲ ﻛﺒرية وﻗﺪ ﺟﺪﱠد ﺑﻬﺎ ﰲ زﺧﺮﻓﺘﻪ ً ﺧﻤﺴﺎ ﻋﺠﻴﺒﺔ اﻟﻮﺿﻊ ،ﺟﻤﻴﻠﺔ اﻟﺸﻜﻞ ،وﻳﻮﺟﺪ ﻛﻨﺎﺋﺲ أﺧﺮى ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻗﺒﺎﺑًﺎ املﻨﻮال ﻣﻦ ﺿﺨﺎﻣﺔ اﻟﺒﻨﺎء وﻏﺮاﺑﺔ اﻟﺼﻨﻊ ﻣﺜﻞ ﻛﻨﻴﺴﺔ »ﻣﻮرﺗﻮراﻧﻮ«. 28
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺎن ﻟﺒﺎﻟﺮﻣﺎ ﻣﻴﻨﺎء ذات أﻫﻤﻴﺔ ﰲ ﺳﺎﻟﻒ اﻟﻌﴫ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ أ ُ ِ ﻫﻤﻠﺖ وﺻﺎرت ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎملﺮاﻛﺐ اﻟﺼﻐرية واﻟﺰوارق ﻳﺒﺘﺪئ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﺎرع »ﻓﺘﻮرﻳﺎ إﻳﻤﺎﻧﻴﻞ« ،وأُﺣﺪِﺛﺖ ﺑﺠﺎﻧﺒﻬﺎ املﻴﻨﺎء اﻟﺠﺪﻳﺪة وﻫﻲ ﻛﺎﺋﻨﺔ ﰲ ﺷﻤﺎﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﻔﺢ ﺟﺒﻞ »ﺑﻠﺠﺮوﻧﺔ« وﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ رﺻﺪﺧﺎﻧﺔ ﻛﱪى ﺗﺴﻤﻰ »ﺳﻨﻄﺎﻧﻨﻔﺎ«. وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن ﺑﺎﻟﺮﻣﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ آﻫﻠﺔ ﻋﺎﻣﺮة ﺑﺎملﺘﺎﺟﺮ وﻛﻞ أﻧﻮاع املﺪﻧﻴﺔ ،وﻫﻲ ﻣﻦ أﺷﻬﺮ ِ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻗﺎﺻﺪ ًة ﻣﺪﻳﻨﺔ »ﻃﺮاﺑﺎﻧﻲ«. املﺪن ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺛﻢ ) (8ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﺮاﺑﺎﻧﻲ وﺻﻠﻨﺎ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺳﺒﻊ ﺳﺎﻋﺎت وﻫﻲ إﺣﺪى ﻣﻮاﻧﺊ ﺟﺰﻳﺮة ﺻﻘﻠﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،وﻟﻢ ﺗﻤﻜﺚ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﻬﺎ ﺳﻮى ﺛﻼث ﺳﺎﻋﺎت؛ ﻓﻠﺬﻟﻚ ﻟﻢ أﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻨﺰول إﻟﻴﻬﺎ وﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻬﺎ وﻟﻜﻨﻬﺎ ذات ﻣﻨﺎﻇﺮ ﺟﻤﻴﻠﺔ ،وﺣﺪاﺋﻖ ﻏﻨﺎء ﻋﲆ ﺻﻐﺮﻫﺎ ،وﻫﻲ آﺧﺮ ﻣﻴﻨﺎء ﻣﺮرﻧﺎ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﻮاﻧﺊ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،وﻫﻨﺎ ﻳﺠﺪر ﺑﻲ أن أﻗﻮل ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻦ ﺟﻤﺎل اﻟﻄﻠﻴﺎن اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ً ﻋﺮﺿﺎ ﻛﺎن أو واملﺼﻄﻨﻊ؛ إذ ﻻ ﺑﺄس ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺷﺄن اﻟﺴﺎﺋﺢ اﻟﺬي ﻳﺼﻒ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺮاه ﺟﻮﻫ ًﺮا ﰲ ﺳﻴﺎﺣﺘﻪ؛ إذ ﻛﺎن اﻟﻘﺼﺪ ﻋﻠﻢ املﺮء ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻦ أﺣﻮال اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ﰲ ﻛﻞ اﻟﺸﺌﻮن واﻷﺣﻮال ،وﻋﻠﻴﻪ أﻗﻮل: ﻳﻘﻮل اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﰲ وﺻﻒ ﺟﻤﺎل اﻟﻌﺮب: وﻓﻲ اﻟﺒﺪاوة ﺣﺴﻦ ﻏﻴﺮ ﻣﺠﻠﻮب وﻏﻴﺮ ﻧﺎﻇﺮة ﻓﻲ اﻟﺤﺴﻦ واﻟﻄﻴﺐ ﻣﻀﻎ اﻟﻜﻼم وﻻ ﺻﺒﻎ اﻟﺤﻮاﺟﻴﺐ ﺗﺮﻛﺖ ﻟﻮن ﻣﺸﻴﺒﻲ ﻏﻴﺮ ﻣﺨﻀﻮب
ﺣﺴﻦ اﻟﺤﻀﺎرة ﻣﺠﻠﻮب ﺑﺘﻄﺮﻳﺔ أﻳ ﻦ اﻟ ﻤ ﻌ ﻴ ﺰ ﻣ ﻦ اﻵرام ﻧ ﺎﻇ ﺮة أﻓ ﺪي ﻇ ﺒ ﺎء ﻓ ﻼت ﻣ ﺎ ﻋ ﺮﻓ ﻦ ﺑ ﻬ ﺎ وﻣﻦ ﻫﻮى ﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻤﻮﻫﺔ
ﻫﺬا اﻟﺸﺎﻋﺮ ﻳﻤﺪح ﺟﻤﺎل ﻗﻮﻣﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻏري املﺠﻠﻮب ﺑﺎﻟﺼﻨﻊ ﻓﻤﺎ ﺑﺎﻟﻚ إذا أ ُ ِﺿﻴﻒ إﱃ اﻟﺠﻤﺎل اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺠﻤﺎل املﺠﻠﻮب ،ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺠﻤﺎل ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ أدﻋﻰ ﻟﻠﺼﺒﻮة وأﺟﺬب ﻟﻠﻘﻠﻮب ﻛﺬﻟﻚ ﺗﻔﻌﻞ أﻣﺔ اﻟﻄﻠﻴﺎن؛ ﻷن اﻟﺠﻤﺎل ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻌﺮب ﻃﺒﻴﻌﻲ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺰﻳﺪه ﺑﺎﻟﺘﻨﻤﻴﻘﺎت اﻷﺧﺮى ﰲ ﺗﺼﻔﻴﻒ اﻟﺸﻌﺮ ،وﺣﺴﻦ اﻷزﻳﺎء ،واﻟﺘﻔﻨﻦ ﰲ اﻟﺨﻼﻋﺔ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻚ ﺗﺮى اﻟﻔﺘﺎة اﻟﻄﻠﻴﺎﻧﻴﺔ ﺗﻤﴚ ﻛﺄﻧﻬﺎ اﻟﻐﺼﻦ ﻳﺮﻧﱢﺤﻪ اﻟﻨﺴﻴﻢ أو اﻟﺴﻜﺮان ﻟﻌﺒﺖ ﺑﻤﺸﻴﺘﻪ اﻟﺸﻤﻮل ،إذا رﻧﱠﺖ ﺑﻤﻘﻠﺘﻬﺎ ﺳﻠﺒﺖ اﻟﻌﻘﻮل ،وﻧﻬﺒﺖ اﻷرواح ،وﻻ ﻳﺴﻌﻨﻲ ﰲ 29
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﺬا املﻘﺎم إﻻ أن أﺳﺘﻌري ﻛ ﱠﻞ وﺻﻒ ﻟﻠﺠﻤﺎل ،وﻧﻄﻖ ﺑﻪ اﻟﺸﻌﺮاء ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻓﺄﺻﻒ ﺑﻪ ﺟﻤﺎل اﻟﺠﻨﺲ اﻟﻠﻄﻴﻒ اﻟﻄﻠﻴﺎﻧﻲ ،وإن ﻛﺎن ﰲ أﻣﻢ اﻟﻌﺮب ﻣﻦ ﻳﺸﺎرﻛﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﻓﺘﻜﻮن أﻣﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺲ واﻹﺳﺒﺎن ،واﻷﺧﺮى أﻗﺮب؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺟﻤﻌﺖ ﺑني اﻟﺠﻤﺎل اﻹﻓﺮﻧﺠﻲ واﻟﺤﺴﻦ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻤﺎ أﻟﻄﻔﻬﻤﺎ إذا اﺟﺘﻤﻌﺎ! ﺛﻢ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﻃﺮاﺑﺎﻧﻲ ﻗﺎﺻﺪ ًة ﺗﻮﻧﺲ ﻣﺒﺎﴍ ًة وﻫﻲ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻤﻘﺪار ﺧﻤﺲ ﻋﴩة ﺳﺎﻋﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ. وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻛﺎن ﰲ اﻧﺘﻈﺎري أﺣﺪ اﻹﺧﻮان اﻟﺬي ﺧﺎﻃﺒﺘﻪ ﺑﺤﻀﻮري ،وﻗﺪ اﺧﱰت أن أﻧﺰل ﰲ أﺣﺪ اﻟﻔﻨﺎدق رﻏﻢ دﻋﻮة اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻣﻦ أﻓﺎﺿﻞ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني ﻟﻠﻨﺰول ﰲ ﺿﻴﺎﻓﺘﻬﻢ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻫﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﺮم اﻷﺧﻼق ،وﺣﺴﻦ وﻓﺎدة اﻟﻀﻴﻒ ،وﻗﺒﻞ أن أﻗﻮل ﻛﻠﻤﺔ ﰲ ذﻛﺮ ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪﺗﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء وﺟﻮدي ﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ أذﻛﺮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺨﺘﴫًا ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ملﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﻓﺄﻗﻮل: ) (9ﻓﺬﻟﻜﺔ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﻮﻧﺲ ﻧﺮﻳﺪ اﻵن أن ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻠﺨﺺ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻓﺎﺿﻞ املﺆرﺧني وﻋﻈﻤﺎؤﻫﻢ ﻋﻦ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ ﻛﻲ ﻳﻜﻮن اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻋﲆ ﻋﻠﻢ ﺗﺎم ﻣﻦ ﺗﻘﻠﺒﺎت اﻟﺰﻣﻦ وﻃﻮارق اﻟﺤَ ﺪَﺛﺎن. ﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أن أﺻﻞ ﺳﻜﺎن أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻵن اﺳﻢ املﻐﺮب اﻷﻗﴡ ﰲ اﻟﻌﺮف اﻟﻌﺎﻣﻲ ﻣﻦ اﻟﱪﺑﺮ ،وﻗﺪ اﺧﺘُﻠﻒ ﰲ أﺻﻞ اﻟﱪﺑﺮ ،ﻓﻘﻴﻞ إﻧﻬﻢ ﻣﻦ »اﻟﻜﻨﻌﺎﻧﻴني« اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺪﻣﻮا إﱃ ﺗﻠﻚ اﻷﺻﻘﺎع ﻣﻦ ﺟﻨﻮب اﻟﺸﺎم وﻗﻴﻞ ﻏري ﻫﺬا. وملﺎ ﻓﺘﺢ املﺴﻠﻤﻮن أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ وﺻﺎرت ﻟﻠﻌﺮب دوﻟﺔ ﰲ اﻷﻧﺪﻟﺲ واﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﺄﻫﻞ املﻐﺮب. زﻋﻢ ﻫﺆﻻء أﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﻤريﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﺳﻠﻄﺔ ودوﻟﺔ اﻣﺘﺪ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ إﱃ أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﻫﻲ دوﻟﺔ اﻟﺘﺒﺎﺑﻌﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﺗﻨﺘﻈﻢ ﻟﻬﻢ دوﻟﺔ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺒﺎﺋﻞ ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺗﻨﺎﻓﺲ ً ﻃﻌﻤﺔ ﻟﻐريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺪول وﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ داﺋﻢ ﻣﺘﻮاﺻﻞ وﻟﺬﻟﻚ ﺣ ﱠﻞ ﺑﻬﻢ اﻟﻀﻌﻒ ﻓﻜﺎﻧﻮا ﺿﻌﻔﻬﻢ ﻛﻮن ﺑﻼدﻫﻢ وﻣﻮاﻃﻨﻬﻢ ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،وﻣﻤﺎ ﻋُ ِﺮف ﻣﻦ أﺳﻤﺎء ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﱪﺑﺮ وذﻛﺮ ﰲ اﻟﺘﻮارﻳﺦ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﻗﺒﻴﻠﺔ »ﻣﻮري« وﺑﻼد أﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﻣﻮرﻳﻄﺎﻧﻴﺎ« وﻣﻦ ﻫﺬا أﻃﻠﻖ ﻋﺎﻣﺔ اﻷوروﺑﻴني ﻟﻔﻆ »ﻣﻮرو« ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﻣﻦ ﺳﻜﺎن ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺴﻤﱠ ﻮن ﺑﺮاﺑﺮة املﻐﺮب اﻷوﺳﻂ؛ أي وﻻﻳﺘﻲ اﻟﺠﺰاﺋﺮ 30
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔ »ﻧﻮﻣﻴﺪي« وﻳﺴﻤﻮن ﺑﻼدﻫﻢ »ﺗﻮﻣﻴﺪﻳﺎ« ،وﺑﻌﺾ ﺑﺮاﺑﺮة اﻟﺼﺤﺮاء ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺴﻤﱠ ﻮن ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺮوﻣﺎن »ﻟﻴﻔﺎﺗﺎ«. وملﺎ ﺣﻜﻢ ﻣﻠﻮك اﻟﺮﻋﺎة ﻣﴫ اﻣﺘ ﱠﺪ ﻧﻔﻮذﻫﻢ إﱃ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ وذﻟﻚ ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ ﺑﺄﻟﻒ وﺳﺒﻌﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺆﺳﺴﻮا ﺑﻬﺎ دوﻟﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﻢ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ذِ ْﻛﺮ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﺘﺪوﻳﻨﻪ املﺆرﺧﻮن .وﻣﻠﻮك اﻟﺮﻋﺎة ﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب اﻟﺬﻳﻦ ﺣﺎرﺑﻮا اﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ وﺗﻐﻠﺒﻮا ﻋﻠﻴﻬﻢ وأﺣﺪﺛﻮا دوﻟﺔ داﻣﺖ ﺑﻤﴫ أرﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ،وﰲ ﻋﻬﺪ آﺧﺮ ﻣﻠﻚ ﻣﻨﻬﻢ ﺣﺼﻠﺖ ﻗﺼﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﺳﻒ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم. ﺛﻢ أﻋﻘﺒﻬﻢ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻬﻢ ذﻛﺮ ﻣﺸﻬﻮر ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻣﺘﺪ ﻧﻔﻮذﻫﻢ ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،وﺑﻌﺾ اﻟﺠﺰر ﻛﻜﺮﻳﺪ وﻏريﻫﺎ ،وﻋﲆ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮات ﻛﺜرية. وﻣﻦ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺘﺎﺟﺮ واﺳﻌﺔ ،ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻮﺳﺔ ،وﺗﻮﻧﺲ ،وﺑﻨﺰرت، وأوﺗﻴﻜﺔ إﱃ أن ﱠ أﺳﺴﻮا ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ. ﱢ املﺆﺳﺲ ﻟﻬﺎ أﻣرية ﻓﻴﻨﻴﻘﻴﺔ اﺳﻤﻬﺎ »ﻋﻠﻴﺴﺎر« وﻗﻴﻞ وﻗﺪ زﻋﻢ ﺑﻌﺾ املﺆرﺧني أن »دﻳﺪون« ﺟﺎءت إﱃ اﻟﺸﺎم ﺑﻌﺪ أن ﺣﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني أﺧﻴﻬﺎ ﻧﺰاع أدﱠى إﱃ ﻣﻬﺎﺟﺮﺗﻬﺎ إﱃ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ،ﻓﺎﺷﱰت ً أرﺿﺎ واﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﱪﺑﺮ ،واﻧﻀ ﱠﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﻗﻮم ﻣﻦ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ﱠ ﻓﺄﺳﺴﺖ ﻟﻬﺎ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻫﻨﺎك ،وﻟﻬﺎ ﺣﺪﻳﺚ ﻃﻮﻳﻞ ﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﺑﻨﺎ إﱃ ذﻛﺮه ﻫﻨﺎ. وملﺎ دﺧﻞ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﺳﻤﻮا ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ »ﻛﺎرﺗﺎﻓﻮ« وﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻮارﻳﺦ أن ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﻛﺎن ﺳﻨﺔ ٨٨٠ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ؛ أي ﻗﺒﻞ اﻟﻬﺠﺮة ﺑﻨﺤﻮ أﻟﻒ وﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم. وﻟﻌﻈﻢ ﻣﻮﻗﻊ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ اﻟﺘﺠﺎري ﺗﻨﺎول ﺣﻜﻢ اﻟﺮوﻣﺎن ﺑﻘﻴﺔ املﺮاﻛﺰ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﰲ أﻳﺪي اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ،وﻳ َ ُﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻫﺬا أن ﻟﻠﺘﺠﺎرة ً دﺧﻼ ﰲ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر. واﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻫﺬا أن اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻮﻟﻮا ﻋﲆ اﻟﻬﻨﺪ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ أن و ﱠ ﻃﺪوا ﻣﺼﺎﻟﺢ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﻋﻈﻤﻰ ﰲ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ اﻟﻮاﺳﻌﺔ. وﻛﺎﻧﺖ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻳﺮأﺳﻬﺎ أﻣريان ﻳﺠﺪد اﻧﺘﺨﺎﺑﻬﻤﺎ ﻣﺴﺘﻮﻳًﺎ .أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻣﻦ آل »ﻋﻨﻮن« واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ آل »ﺑﺮﻗﺔ« وﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ أﺣﺰاب ﻣﺘﻨﺎﻓﺴﺔ، وﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﻛﺎن أﺣﺪ ﻋﻮاﻣﻞ اﻹﻓﺴﺎد وأﺳﺒﺎب ﺿﻌﻒ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني. داع آﺧﺮ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻀﻌﻒ ،وﻫﻮ أن ﺣﻜﻮﻣﺔ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﰲ ﻋﻬﺪﻫﻢ ﻛﺎن ﻫﻤﱡ ﻬﺎ وﻫﻨﺎك ٍ ﻣﻨﺤﴫًا ﰲ اﻟﺘﻘﺪﱡم املﺎدي ﻣﻊ إﻫﻤﺎل أﻣﺮﻳﻦ ﺧﻄريﻳﻦ ﻛﺎﻧﺎ ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ ﺳﻘﻮط ﻫﺬه اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ 31
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺣﻠﻮل ﺣﻜﻮﻣﺔ اﻟﺮوﻣﺎن ﻣﺤ ﱠﻠﻬﺎ؛ أﺣﺪﻫﻤﺎ :ﻋﺪم اﺗﺨﺎذ ﺟﻨ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﻃﻨﻴني اﻟﱪﺑﺮ ،وﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ: ﻛﺜﺮة املﻈﺎﻟﻢ واﻻﺳﺘﺒﺪاد اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺎﻣﻠﻬﻢ ﺑﻪ ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ )أي اﻟﱪﺑﺮ( ﻛﺎﻧﻮا ﻋﻮﻧًﺎ ﻟﻠﺮوﻣﺎﻧﻴني ﰲ اﻻﺳﺘﻴﻼء ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ. وﻛﺎن اﻟﻘﺮﻃﺎﺟﻨﻴﻮن ﻳﻌﺒﺪون أوﺛﺎﻧًﺎ ﺗﻤﺜﱢﻞ أﺷﻬﺮ آﻟﻬﺔ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ،وﻣﻦ ﻫﺬه اﻷوﺛﺎن »ﺑﻌﻞ ،وﻋﺎﻣﻮن ،وﻣﻠﻚ اﻷرض« ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺎﻟﻐﻮن ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻨﺬور ﻟﻬﺬه اﻷوﺛﺎن ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺬﺑﺤﻮن أوﻻدﻫﻢ ﻗﺮﺑﺎﻧًﺎ ﻟﻬﺎ. وﻛﺎن اﻟﻘﺮﻃﺎﺟﻨﻴﻮن ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ اﻟﱰف وأﺳﺒﺎب املﺪﻳﻨﺔ وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺜﺮ أﺣﺪ ﻛﺘﺎب ﰲ ﻓﻦ ﻋﲆ ﳾء ﻣﻦ اﻵﺛﺎر ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ وﺻﻠﻮا إﻟﻴﻪ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ ﺳﻮى ٍ ﺮﺟﻢ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ﻋﺜﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮوﻣﺎن ﺑﻌﺪ ﺧﺮاﺑﻬﺎ اﻷول ،وﻣﺆﻟﻔﻪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﻣﺎﻏﻮن« وﻗﺪ ﺗُ ِ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ. وملﺎ اﺳﺘﻮﱃ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد أﺣﺮﻗﻮﻫﺎ ﺛﻢ أﻋﺎدوا ﺑﻨﺎءﻫﺎ ﻓﻠﺒﺜﺖ إﱃ أن ﺟﺎء اﻟﻔﺘﺢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﺄﻣﺮ ﺣﺴﺎن ﺑﻦ اﻟﻨﻌﻤﺎن ﺑﺈﺣﺮاﻗﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺤﻔﻞ اﻟﻌﺮب ﺑﻤﺎ ﺗﺤﺖ اﻟﺮدم ﻣﻦ اﻵﺛﺎر ﻓﺒﻘﻴﺖ ﻫﺬه ﻣﺪﻓﻮﻧﺔ إﱃ أن اﺣﺘﻠﺖ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﺄﻟﻔﺖ ﴍﻛﺔ ﻓﺮﻧﺴﻮﻳﺔ اﺷﱰت أراﴈ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺣني ﺑﺎﻟﺜﻤﻦ اﻟﺰﻫﻴﺪ وأﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر ﺷﻴﺌًﺎ ﺛﻤﻴﻨًﺎ ﻣﻦ وأوان واﻛﺘﺸﻔﺖ ﻣﺤﺎل ﻛﺜرية ﻛﻤﺮاﺳﺢ ،وﻛﻨﺎﺋﺲ ،وﻫﻴﺎﻛﻞ ،وﻏري ﻫﺬه »وﻻ ﻳﺴﺘﻮي ﺣﲇ ٍ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻠﻤﻮن واﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮن«. وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻛﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻣﺰاﺣﻤني ﻟﻠﻔﻴﻨﻴﻘﻴني ﰲ اﻟﺘﺠﺎرة واﻻﺳﺘﻌﻤﺎر ،وملﺎ ارﺗﺒﻚ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﰲ ﺣﺮوﺑﻬﻢ ﻣﻊ اﻟﻔﺮس اﻏﺘﻨﻢ اﻟﻘﺮﻃﺎﺟﻨﻴﻮن اﻟﻔﺮﺻﺔ واﺳﺘﻮﻟﻮا ﻋﲆ اﻟﺠﻬﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺮة ﺻﻘﻠﻴﺔ ،ﻓﺤﺎرﺑﻬﻢ أﺣﺪ اﻟﻘﻮاد اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني وردﱠﻫﻢ ﻋﲆ أﻋﻘﺎﺑﻬﻢ وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ٤٨٠ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ ،وداﻣﺖ اﻟﺤﺮوب ﺑني اﻟﻴﻮﻧﺎن واﻟﻘﺮﻃﺎﺟﻨﻴني ﺑﺼﻠﺢ دام إﱃ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ. أرﺑﻌني ﺳﻨﺔ اﻧﺘﻬﺖ ٍ أدوار ﺷﺘﱠﻰ ،ﺣﺘﱠﻰ إذا ﺟﺎء اﻟﻘﺮن ﺛﻢ ﺗﻮاﻟﺖ اﻟﺴﻨني واﻟﺤﻘﺐ ودﺧﻠﺖ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﰲ ٍ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ اﻧﺪﻣﺞ أﻫﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﻮن ،وﻧﻌﻨﻲ ﺑﻬﻢ اﻟﱪﺑﺮ ﻣﻊ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ﻓﺘﻌﻠﻤﻮا ﻟﻐﺘﻬﻢ واﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﻬﻢ اﺧﺘﻼ ً ﻃﺎ ﺣﺘﻰ آل اﻷﻣﺮ إﱃ ﺗﻮﻟﻴﺔ أﺣﺪ ﻛﺒﺎر اﻟﱪﺑﺮ إﻣﱪاﻃﻮ ًرا ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ وﻫﻮ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﺳﻮارﻳﻮس« اﻟﺬي اﺧﺘﺎره اﻟﺠﻨﺪ إﻣﱪاﻃﻮ ًرا ﻋﻠﻴﻬﻢ وذﻟﻚ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ. وﻣﺎ زال ﻣﺠﺪ اﻟﺮوﻣﺎن ﻳﻨﻤﻮ وﻳﺴﻤﻮ ﺣﺘﻰ أدﺧﻠﻮا ﺿﻤﻦ أﻣﻼﻛﻬﻢ ﻣﴫ ،واﻟﺸﺎم، وﺑﻼد اﻷﻧﺎﺿﻮل ،واﻷﻓﻼق ،واﻟﺒﻐﺪان اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ روﻣﺎﻧﻴﺎ اﻵن؛ ﻷن أﻫﻞ ﻫﺎﺗني اﻟﻮﻻﻳﺘني زﻋﻤﻮا أﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ،وأﻧﻬﻢ ﻧﺴﻞ أوﻟﺌﻚ اﻷﺑﻄﺎل اﻟﻔﺎﺗﺤني. 32
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻣﻦ ﻗﻮاد اﻟﺮوﻣﺎن املﺸﻬﻮرﻳﻦ »ﻗﺎرون« اﻟﺬي ﻟﻪ ﺑﺤرية ﺑﺎﺳﻤﻪ ﰲ ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ اﻟﻔﻴﻮم ﺗﺒﻊ اﻟﻘﻄﺮ املﴫي ،وملﺎ أدرك اﻟﻬﺮم دوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎن وأﺧﺬت ﺗﺘﺪﻫﻮر ﰲ ﻣﻬﺎوي اﻟﺴﻘﻮط أﺗﺎح ﷲ ﻟﻬﺎ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺟﺮﻣﺎﻧﻴﺔ اﺳﻤﻬﺎ »اﻟﻮﻧﺪال« ﺳﻠﺒﺖ ﻣﻦ ﻳﺪﻫﺎ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻲ ﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺒﻼد. وذﻟﻚ أن ﻗﺒﺎﺋﻞ اﻟﺠﺮﻣﺎن ﺗﻘﺎﻃﺮت ﻣﻦ ﻣﻮاﻃﻨﻬﺎ ودﺧﻠﺖ ﰲ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﺮوﻣﺎن وذﻟﻚ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ واﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﺎﻟﺮوﻣﺎن ،ﻛﻤﺎ اﺧﺘﻠﻂ اﻷﻋﺎﺟﻢ واﻟﱰك ﺑﺎﻟﻌﺮب ﰲ أواﺧﺮ دوﻟﺔ اﻟﻌﺒﺎﺳﻴني ﻓﺎﺗﺨﺬ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﻮن ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺠﻨﺪ وﻗ ﱠﻠﺪوﻫﻢ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻓﺄﺧﺬت ﺳﻠﻄﺘﻬﻢ ﺗﺰﻳﺪ وﻧﻔﻮذﻫﻢ ﻳﻜﱪ ،ﺣﺘﻰ ﺻﺎروا أﺻﺤﺎب اﻟﻨﻬﻲ واﻷﻣﺮ ،وأﻣﺎ اﻟﺴﻠﻄﺔ ٍ ﻣﺘﻮال ﻣﺘﺘﺎﺑﻊ وﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﻗﺒﻴﻠﺔ »اﻟﻮﻧﺪال« املﺬﻛﻮرة اﻟﺘﻲ ﺿﻌﻒ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﰲ ٍ ﺣ ﱠﻠﺖ ﺑﺠﻨﻮب ﻓﺮﻧﺴﺎ وإﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ،وﻓﺘﺤﺖ ﺑﻼدًا ﻛﺜرية ﺛﻢ أﺳﺴﺖ ﻟﻬﺎ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﺑﺈﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻧﺴﺒﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﻓﺼﺎرت ﺗُﻌ َﺮف »ﺑﺄﻧﺪﻟﻮﺳﻴﺎ« )اﻷﻧﺪﻟﺲ(؛ أي ﺑﻼد اﻟﻮﻧﺪال. وﻛﺎن ﺑﻌﺾ أﻣﺮاء اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ ﱠ ﺷﻖ ﻋﺼﺎ اﻟﻄﺎﻋﺔ واﺳﺘﺪﻋﻰ اﻟﻮﻧﺪال ﻟﻴﻌﻀﺪوه ﻋﲆ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ،وذﻟﻚ ﰲ ﻋﻬﺪ أﺣﺪ ﻣﻠﻮك »اﻟﻮﻧﺪال« ا ُملﺴﻤﱠ ﻰ »ﺟﻨﴫﻳﻖ« ﻓﻮﻗﻌﺖ ﻋﺪة ﺣﺮوب ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ﺗﺨﻠﻠﻬﺎ ﺻﻠﺢ ،ﺛﻢ ﻋﺎدت اﻟﺤﺮوب ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻓﺰﺣﻒ ﺟﻨﴫﻳﻖ ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﺑﺠﻴﻮﺷﻪ ﻓﺪﺧﻠﻬﺎ ﻋﻨﻮة وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ٤٣٩ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺳﻘﻄﺖ دوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎن ﰲ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ وﺣﻠﺖ ﻣﺤﻠﻬﺎ دوﻟﺔ »اﻟﻮﻧﺪال« ﻓﺴﺒﺤﺎن ﻣﻘ ﱢﻠﺐ اﻷﺣﻮال ﻳﺘﴫف ﰲ ﻣﻠﻜﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﺸﺎء. ﻳُﻌ َﻠﻢ ﻣﻤﺎ ﻣﺮ أن أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ً أوﻻ ﻟﻠﱪﺑﺮ وﻛﺎﻧﻮا ﻗﺒﺎﺋﻞ وﺷﻌﻮﺑًﺎ ،ﺛﻢ ﻟﺪوﻟﺔ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴﺔ ،ﺛﻢ دﺧﻠﺖ ﺿﻤﻦ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮات اﻟﺮوﻣﺎن ﺛﻢ دﺧﻠﺖ ﰲ ﻣﻠﻚ »اﻟﻮﻧﺪال« وﺻﺎرت ﻣﻤﻠﻜﺔ وراﺛﻴﺔ. أﻣﺎ ﺣﻜﻢ »اﻟﻮﻧﺪال« ﻓﺈﻧﻪ دام ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ٤٢٩ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ إﱃ ﺳﻨﺔ ،٥٣٢وﰲ ﻏﻀﻮن ﻫﺬه املﺪة زﺣﻒ اﻟﻮﻧﺪاﻟﻴﻮن ﺑﺠﻴﻮﺷﻬﻢ ﺣﺘﻰ دﺧﻠﻮا روﻣﺎ واﺳﺘﺒﺎﺣﻮﻫﺎ أرﺑﻌﺔ ﻋﴩ ﻳﻮﻣً ﺎ، وذﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﱪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ ﻷن اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ﺧ ﱠﺮﺑﻮا ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﺳﻨﺔ ١٦٤ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺢ ،ﻓﺠﺎءت ﺟﻨﻮد »اﻟﻮﻧﺪال« ﺑﻌﺪ ﺳﺘﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم وأﺧﺬت ﺑﺎﻟﺜﺄر. وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻠﺮوﻣﺎن ﻣﻤﻠﻜﺔ أﺧﺮى ﴍﻗﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﺷﺄن ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ وﻗﻊ ﻟﻠﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺑﺸﺄن أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﱠإﻻ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﻳﻮﺳﺘﻨﻴﺎﻧﻮس« إذ ﰲ ﻋﻬﺪ ﻫﺬا اﻹﻣﱪاﻃﻮر أﺧﺬت دوﻟﺔ اﻟﻮﻧﺪال ﰲ اﻟﻀﻌﻒ ﻓﻄﻤﺤﺖ ﻧﻔﺲ اﻹﻣﱪاﻃﻮر إﱃ اﻻﺳﺘﻴﻼء ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ،وإﻋﺎدة ﺣﻜﻢ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ،ﻓﺘ ﱠﻢ ﻟﻪ ذﻟﻚ ﺑﻌﺪ ﺣﺮوب ﻛﺜرية وﻛﺎن آﺧﺮ ﻋﻬﺪ ﺣﻜﻢ دوﻟﺔ »اﻟﻮﻧﺪال« اﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﺳﻨﺔ ٥٣٣ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ. 33
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺎن اﻟﻌﺮب ﻳﺴﻤﻮن اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني أﻫﻞ املﻤﻠﻜﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﺑﺎﻟﺮوم ،ﻓﻠﻤﺎ ﺟﺎء اﻟﻔﺘﺢ اﻹﺳﻼﻣﻲ أﺧﺬ اﻟﻌﺮب ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﰲ أﻳﺪي اﻟﺮوم ﻣﻦ ﺑﻼد اﻟﺸﺎم وﻣﴫ ﱠإﻻ اﻟﻘﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔ ﻓﻠﻢ ﺗُ َ ﺆﺧﺬ ﱠإﻻ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻔﺎﺗﺢ ﺳﻨﺔ ١٤٥٢ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ. وملﺎ ﺗﻮاﻟﺖ اﻟﺴﻨني ﻛﺎن اﻟﻌﻨﴫ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﰲ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻫﻮ اﻟﺤﺎ ﱡل ﻣﺤ ﱠﻞ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني، واﻟﺮوﻣﺎن ،واﻟﻮﻧﺪال ،وﻟﻢ ﻳﺰل إﱃ اﻵن ﱠإﻻ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻣﻜﺜﺖ ﻧﺤﻮ اﻷرﺑﻊ ﻗﺮون ﰲ ﻳﺪ اﻟﻌﺮب ﻋﺎدت إﱃ ﺣﻜﻢ اﻹﻓﺮﻧﺞ وﻟﻢ ﺗﺰل إﱃ اﻵن. وﻛﺄن اﻟﺘﺎرﻳﺦ أﻋﺎد اﻟﻜﺮة ﻋﲆ ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ أﺛﺮ ﻟﻬﺎ اﻟﻴﻮم ﱠإﻻ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﻮﻧﺲ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﻋﲆ أﻧﻘﺎﺿﻬﺎ ،ﻓﺪﺧﻠﺖ دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ووﺿﻌﺖ ﺣﻤﺎﻳﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﺗﻮﻧﺲ وهلل ﰲ ﺧﻠﻘﻪ ﺷﺌﻮن. ً ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﰲ ﻣﺤﻠﻪ. ﻓﺼﻼ وﻗﺪ ﻋﻘﺪﻧﺎ ) (10وﺻﻒ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺎﻹﺟﻤﺎل ﻳﺮى اﻟﻘﺎدم إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺒﺤﺮ ﻣﻨﺎﻇﺮ اﻟﻘﺼﻮر واﻟﺤﺪاﺋﻖ اﻟﻐﻨﺎء ﻣﻤﺎ ﻳﺤﺒﺲ ﻋﲆ اﻟﻌني َﻟ َﻔﺘﺎﺗﻬﺎ ،ﻓﺈذا ﺟﺎل ﰲ املﺪﻳﻨﺔ وﺟﺪ اﻟﻄﺮﻗﺎت ﻣُﻨ ﱠ ﻈﻤﺔ ﻗﺪ ُﻓ ِﺮ َﺷﺖ ﺑﺎﻟﺒﻼط واﻷﺷﺠﺎر ﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﰲ ﺷﺎرع ﺑﺎب اﻟﺒﺤﺮ ﻓﱰﻃﺐ اﻟﻬﻮاء. وﻗﺪ اﻋﺘﻨﻰ املﺠﻠﺲ اﻟﺒﻠﺪي اﻋﺘﻨﺎءً ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﻨﻈﺎﻓﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻜﻨﺲ واﻟﺮش ﻳﴪ اﻟﻨﺎﻇﺮ ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﻓﻼ ﺗﻜﺎد ﺗﻤﺮ ﰲ ﺷﺎرع ﻣﻦ ﺷﻮارع ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ،ﱠإﻻ وﺗﺮى ﻣﺎ ﱡ اﻟﻄﺮﻗﺎت وﻧﻈﺎﻓﺘﻬﺎ. ُ وﻳﻮﺟﺪ ﺑﺘﻮﻧﺲ ﺧﻄﻮط اﻟﱰام وﻫﻲ أﺷﺒﻪ ﺑﺨﻄﻮط ﺗﺮام اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ أ ِ ﻧﺸﺌَﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﻨﺘني ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ وأﻛﺜﺮ ﺷﻮارع ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻌﻤﺮان وﻣﻈﺎﻫﺮ املﺪﻳﻨﺔ وﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرة؛ ﺷﺎرع ﺑﺎب اﻟﺒﺤﺮ ،وﻫﺬا اﻟﺸﺎرع ﻳﺴﻜﻨﻪ اﻷوروﺑﻴﻮن وﺑﻪ ﻣﺤﺎل ﺗﺠﺎراﺗﻬﻢ، وﻓﻨﺎدﻗﻬﻢ ،وﻗﻬﺎوﻳﻬﻢ ،ﺛﻢ ﺷﺎرع ﺑﺎب اﻟﻮزﻳﺮ ،ﻓﺎﻟﺒﺎب اﻟﺠﺪﻳﺪ ،ﻓﺸﺎرع ﺑﺎب ﻣﻨﺎرة ﻓﻨﻬﺞ ﺑﺎب ﻗﺮﻃﺎﺟﻨﺔ ﻓﺎﻟﺤﻠﻔﺎوﻳني. ُ وﻳﻮﺟﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻮارع ﺧﻼف ﻣﺎ ذﻛﺮ ﻗﺪ أﺧﺬت ﻗﺴﻄﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ املﺪﻳﻨﺔ؛ إذ ﺑﻬﺎ أﺳﻮاق اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻛﺎﻟﻐﻮرﻳﺔ واﻟﺤﻤﺰاوي ﰲ ﻣﴫ وﻣﺎ أﺷﺒﻪ ذﻟﻚ. وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن ﺣﺎﴐة ﺗﻮﻧﺲ ﺗُﻌَ ﺪ ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻣﺪن املﻐﺮب ﺣﻀﺎرة وﻣﺪﻧﻴﺔ.
34
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (11أﺧﻼق أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺪﻳﻦ ﻓﻴﻬﺎ أﻣﺎ أﺧﻼق أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﻬﻲ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺣﺴﻨﺔ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻜﺮﻣﻮن اﻟﻐﺮﻳﺐ اﻟﻮاﻓﺪ إﻟﻴﻬﻢ ،وﻫﺬا ﻳﻨﻔﻲ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺷﺎﺋﻊ ﻟﺪى اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺑ ُْﺨﻞ أﻫﻞ املﻐﺮب ،وﻗﺪ ﻳﺠﻮز وﺟﻮد اﻟﺒﺨﻞ ﰲ ﺑﻌﺾ ﺑﻼد املﻐﺮب اﻷﻗﴡ وﻟﻜﻦ ﻏري أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ. أﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ أﺧﻼﻗﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﱠة ﻓﻤﺮﺟﻌﻪ إﱃ اﻟﺼﻼح واﻟﺘﻘﻮى؛ ﻷن املﻌﺮوف ﰲ ً ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻵداب اﻟﺪﻳﻦ. أﻫﻞ اﻟﻔﻀﻞ واﻟﺘﻘﻰ واﻟﺪﻳﻦ .اﻟﺘﴪع ﰲ اﻟﻐﻴﻆ إذا رأوا أﻣ ًﺮا وﻫﻢ ﺳﻮاﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﻮداﻋﺔ ،وﻛﺮم اﻷﺧﻼق ،وﻋﺪم املﻴﻞ إﱃ املﻼذ واملﻼﻫﻲ ،ﺑﺨﻼف ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺒﻼد اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺬﻳﻦ اﺧﺘﻠﻄﻮا ﺑﺎﻷوروﺑﻴني وﻗﻠﺪوﻫﻢ ﰲ ﻣﻈﺎﻫﺮ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ؛ وذﻟﻚ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﺘﻤﺴﻜﻮن ﺑﺄواﻣﺮ اﻟﺪﻳﻦ وﻧﻮاﻫﻴﻪ ﻓﻼ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮون ﺑﺎﻟﻔﺠﻮر واﻟﻔﺴﻖ وﻻ ﻳﻨﺘﻬﻜﻮن ﺣﺮﻣﺎت اﻟﺪﻳﻦ. أﻣﺎ ﻧﺴﺎؤﻫﻢ املﺴﻠﻤﺎت ﻓﺈﻧﻬﻦ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻔﺔ واﻟﺼﻮن ،ﺣﺘﻰ إن إﺣﺪاﻫﻦ ﻣﻦ ً ﻣﻜﺸﻮﻓﺎ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻦ اﻟﺴﻮﻗﺔ ﺗﻤﺮ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،ﻓﻼ ﻳﺮى اﻟﻨﺎﻇﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﻀﻮًا ﻣﻦ أﻋﻀﺎﺋﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﺬْ َن ﻧﻘﺎﺑًﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ اﻟﻨﺴﺎء املﴫﻳﺎت ،ﺑﻞ ﻧﻘﺎﺑﻬﻦ ﻣﻨﺪﻳﻞ أﺳﻮد ﻳﻮﺿﻊ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ ﻓﻴﻐﻄﻴﻪ ﺑﺄﺟﻤﻌﻪ ،وﻓﻴﻪ ﺛﻘﻮب ﺻﻐرية ﺑﻬﺎ ﻳُﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻫﺪة اﻟﻄﺮﻳﻖ. أﻣﺎ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻴﻬﻮدﻳﺎت ﻓﺈﻧﻬﻦ ﺑﺨﻼف ذﻟﻚ؛ إذ ﻳﻤﺸني ﰲ اﻟﻄﺮﻗﺎت ﻣﻜﺸﻮﻓﺎت اﻟﺮأس ﺑﻼ ﺧﻤﺎر ﺳﻮى ﻣﻨﺪﻳﻞ رﻗﻴﻖ ﺗﻌﺼﺐ ﺑﻪ اﻟﺮأس وﻣﻼﺑﺴﻬﻦ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﴎوال »اﻟﺒﺎس« ﻳﺼﻞ إﱃ اﻟﻌﻘﺐ ،وﻗﻤﻴﺺ ﻗﺼري ،وﺳﺪرﻳﺔ ،ووﺷﺎح ﻳﻠﻘﻴﻨﻪ ﻋﲆ اﻟﻜﺘﻔني ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻮ ﻧﺰع ﻫﺬا اﻟﻮﺷﺎح ﻟﻜﺎن أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻨﺴﺎء ﻓﻼﺣﻲ ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ واﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﻄﺮ املﴫي. ً ﻓﺮﻳﻘﺎ ﻳﺼﻠﻮن اﻟﺠﻤﻌﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺼﲇ ﻓﻴﻪ وﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪت اﻟﻘﻮم ﻫﻨﺎك ﰲ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ أﻫﻞ ﻣﴫ واﻟﺒﻼد اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻷﺧﺮى. ً وﻓﺮﻳﻘﺎ ﻳﺼﻠﻮن ﻗﺒﻞ اﻟﻌﴫ ﺑﻨﺤﻮ اﻟﻨﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ ،وﻫﺬا وإن ﻛﺎن ﺟﺎﺋ ًﺰا ﴍﻋً ﺎ وﻟﻜﻦ ﻛﺎن اﻷوﻓﻖ أن ﻳﺠﺘﻤﻊ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ وﻗﺖ واﺣﺪ ﻷداء ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﺠﻤﻌﺔ ملﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻻﺗﺤﺎد وﻋﺪم اﻟﺘﻔ ﱡﺮق. أﻣﺎ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﰲ ﻣﺴﺎﺟﺪ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﺨﺮج ﻋﻦ اﻟﺨﻄﺐ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﺴﺎﺟﺪ ﻣﴫ؛ إذ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺬﻛﻮر ﰲ دواوﻳﻦ اﻟﺨﻄﺐ وﻣﺴﻤﻮع ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺟﻤﻌﺔ ،ﻓﻠﻴﺖ ﺣﴬات 35
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺨﻄﺒﺎء اﻷﻓﺎﺿﻞ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻳُ ْﻠ ُﻘﻮن اﻟﺨﻄﺐ اﻟﻌﴫﻳﺔ ا ُمل ﱠ ﻮﻓﻘﺔ ﻟﻠﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺎﴐة ،واﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﻌﺎم ،وﻳﻘﻔﻮن ﻋﲆ اﻟﺪاء ،وﻳﺼﻔﻮن اﻟﺪواء ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ اﻟﺴﻠﻒ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ ﺗﺬﻛري املﺴﻠﻤني ﺑﺎملﻔﺎﺳﺪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ زﻣﻦ وﻛ ﱢﻞ ﻣﻜﺎن. وﻟﻴﺲ ﻟﻠﻤﺴﺎﺟﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﺂذن ﻛﻤﺎ ﰲ ﻣﴫ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﻼد اﻹﺳﻼم ،ﺑﻞ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﺠﻮار املﺴﺠﺪ ﻣﻜﺎن ﻣﺪور اﻟﺒﻨﺎء ﻳُﺼﻌَ ﺪ إﻟﻴﻪ ﺑﺪرج وﻓﻴﻪ أرﺑﻊ ﻧﻮاﻓﺬ وﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻧﺎﻓﺬة إﻓﺮﻳﺰ ﻳﻘﻒ ﻋﻠﻴﻪ املﺆذﱢﻧﻮن ﰲ أوﻗﺎت اﻟﺼﻼة. وﻻ ﻳﺆذﱢن واﺣﺪ ﺑﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻳﱰاوح ﻋﺪدﻫﻢ ﺑني اﻟﺨﻤﺴﺔ واﻟﺴﺘﺔ أﺷﺨﺎص. ووﻗﺖ اﻷذان ﻫﻨﺎك ﻻ ﻳُﻌﺮف ﺑﺎﻟﺴﺎﻋﺔ ،ﺑﻞ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﺠﻮار دار اﻟﻮزارة ﺳﺎﻋﺔ رﻣﻠﻴﺔ ﺗُﻌ َﺮف ﺑﻬﺎ اﻷوﻗﺎت ،ﻓﺈذا ﻋُ ﱢﻠﻖ ﰲ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻓﻴﻪ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺮﻣﻠﻴﺔ ﻋﻠ ٌﻢ ﻳﻜﻮن ﻋﻼﻣﺔ ﻋﲆ ﺣﻠﻮل اﻟﻮﻗﺖ وذﻟﻚ ﻧﻬﺎ ًرا. ﱢ ً ً »ﻓﺎﻧﻮﺳﺎ« وﺑﻌﺪ اﻷذان ﻳ ُِﻨﺰﻟﻮن اﻟﻌﻠﻢ أو ﻧﱪاﺳﺎ أﻣﺎ إذا ﺟﺎء اﻟﻠﻴﻞ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻌﻠﻘﻮن اﻟﻨﱪاس. ) (12ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﱠ ﻟﻴﺘﻠﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﻋﻠﻮم اﻟﴩع اﻟﴩﻳﻒ ﱠإﻻ ﺟﺎﻣﻊ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺪرﺳﺔ إﺳﻼﻣﻴﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ ،وﻗﺪ ﻛﻨﺖ أﻇﻦ أن ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻣﻊ ﻛﺎﻷزﻫﺮ ﰲ ﻣﴫ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﺜﺮة اﻟﻄﻼب واﺗﺴﺎع املﻜﺎن ،ﻓﻠﻤﺎ ﻗﺪﻣﺖ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ وزرت ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻣﻊ وﺟﺪﺗﻪ ﰲ اﺗﺴﺎﻋﻪ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ املﺴﺠﺪ اﻟﺤﺴﻴﻨﻲ واﻟﻄﻠﺒﺔ ﻓﻴﻪ ﻗﻠﻴﻠﻮن ﻻ ﻳﺰﻳﺪون ﻋﻦ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻃﺎﻟﺐ ،واملﺪرﺳﻮن ﻓﻴﻪ ﺳﺘﺔ ﻋﴩ ﻋﺎ ًملﺎ وﻫﻢ ﻣﻊ ﻗﻠﺘﻬﻢ ﻣﺘﻔﺮﻗﻮن ﰲ زواﻳﺎ املﺴﺠﺪ ﻏري ﻣﻨﺘﻈﻤﻲ اﻟﻬﻴﺌﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ املﻄﺎﻟﻌﺔ أو اﻟﺤﻀﻮر ﰲ اﻟﺪروس ،وإن ﺷﺌﺖ ﻗﻞ ﻫﻢ ﰲ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻛﻄﻠﺒﺔ اﻷزﻫﺮ أﻳﺎم ﺧﻠﻮﱢه ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻧَﻌُ ﺪﱠه ،ﻧﺤﻦ املﴫﻳني ،واﻓﻴًﺎ ﺑﺎملﺮام. وﻗﺪ ﻳﺄﺳﻒ املﺮء ﻛﺜريًا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮى ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻣﻊ اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﺪ املﺪرﺳﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻗﺎرة أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻗﺪ وﺻﻞ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻋﺪم اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪراﳼ ﻣﻊ ﻗﻠﺔ اﻟﻄﻠﺒﺔ، واﻟﺬي ﻋﺮﻓﺘُﻪ أن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻫﻨﺎك ﻳﻌﺎرﺿﻮن ﰲ ﻛ ﱢﻞ إﺻﻼح ﻳُﺮاد إدﺧﺎﻟﻪ ﰲ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ ﻛﺘﺪرﻳﺲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﻤﺮاﻧﻴﺔ ﻣﻊ أﻧﻬﻢ ﻏري ﻣﺤﻘني ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻌﺎرﺿﺔ ﺗﺒﺪو ﻣﻨﻬﻢ؛ ﻷن إدﺧﺎل ﻣﺜﻞ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻻ ﻳﺆﺛﱢﺮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم ﻫﻲ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻋﻠﻮم اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻛﺎﻟﺒﻼﻏﺔ ،واﻟﻨﺤﻮ ،واﻟﴫف ،وﺣﻜﻤﻬﺎ اﻟﻮﺟﻮب اﻟﻜﻔﺎﺋﻲ. 36
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻟﻮ ﺗﺼﻔﺤﻨﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﺮأﻳﻨﺎ أن اﻷزﻫﺮ ﻛﺎن ﻳُﺪ ﱠرس ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻮم اﻟﻄﺐ ،واﻟﻬﻴﺌﺔ، واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،واﻟﺤﺴﺎب ،واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ،واﻟﺠﱪ ،واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻪ ﻗﺎﴏًا ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ. وﻟﺮأﻳﻨﺎ ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﰲ زﻣﻦ املﺄﻣﻮن ذﻟﻚ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺬي اﻫﺘ ﱠﻢ ﻓﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم أﻳﻤﺎ اﻫﺘﻤﺎم ،ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑﻐﺪاد ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﻠﻤﺎء ،واﻷدﺑﺎء ،واﻟﺸﻌﺮاء ،واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﻏريﻫﻢ ﻣﻤﻦ ﺗﺨﺮﺟﻮا ﻣﻦ املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﺪ اﻟﻮزراء ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ دﻳﻨﺎر وﺣﺒﺲ ﻟﻬﺎ أﻋﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺮﺑﻮ ِرﻳﻌُ ﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺨﻤﺴﺔ ﻋﴩ أﻟﻒ دﻳﻨﺎر ،وﻛﺎن اﻟﺘﻼﻣﺬة ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﺔ آﻻف ﺗﻠﻤﻴﺬ ،ﻓﻬﺬا اﻟﺮﻗﻲ اﻟﺬي ﻛﺎن ﰲ زﻣﻦ املﺄﻣﻮن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺎﴏً ا ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻛﺎن املﺪرﺳﻮن ﰲ ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ ﻣﻦ ﻏري املﺴﻠﻤني ﻛﺎﺑﻦ ﺑﺨﺘﻴﺸﻮع ،وﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺄﻧﻔﻮن ﻣﻦ ﱢ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ ﻏري ري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ؛ املﺴﻠﻤني ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ اﺟﺘﻬﺪ املﺄﻣﻮن ﰲ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻛﺜ ٍ وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻘﺪﱠﻣﺖ اﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ﻟﻢ ﻳﺰل اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺣﺎﻓ ً ﻈﺎ ذﻛﺮه إﱃ اﻵن. ﻋﲆ أن ﺳﻤﻮ اﻟﺒﺎي ﻻ ﻳﺒﺨﻞ ﺑﺎﻟﻨﻔﻘﺎت ﻋﲆ ﻫﺬا املﻌﻬﺪ اﻟﺪﻳﻨﻲ وﻟﻮ زادت ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺤﺒﻮس ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻷوﻗﺎف اﻟﻜﺜرية ،ﻣﺘﻰ رﴈ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺑﺪﺧﻮل اﻹﺻﻼح ﻓﻴﻪ. ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ وﺟﻮب اﻹﺻﻼح ﺳﻮى اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺎﴐة اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺢ املﺴﻠﻤﻮن وﻻ ﻧﺮى ﻓﻴﻬﺎ ﰲ اﺣﺘﻴﺎج ﺷﺪﻳﺪ إﱃ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ ﺗﻘﺪﱡم اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ﰲ املﺪﻧﻴﺔ ذات اﻻﺧﱰاﻋﺎت اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ ﻣﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﻠﻢ ﺑﻪ أﻫﻞ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺴﺎﺑﻖ. وإﻧﻲ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم أﺗﻘﺪم إﱃ ﺣﴬات اﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ ﺑﺎﻟﺮﺟﺎء ﺑﺼﻔﺘﻲ ﻣﺴﻠﻤً ﺎ أﺣﺐ اﻟﻨﻔﻊ ﻹﺧﻮاﻧﻲ املﺴﻠﻤني أن ﻻ ﻳﻌﺎرﺿﻮا ﰲ اﻹﺻﻼح اﻟﺬي ﻳُﺮاد إدﺧﺎﻟﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ. وﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻷﻗﻮل ذﻟﻚ ﻟﻮﻻ ﻣﺎ رأﻳﺘﻪ ﻣﻦ ﱡ ﺗﺄﺳﻒ ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﺧري اﻟﻬﺎﺋﻞ املﻮﺟﻮد ﰲ ﻧﻈﺎم ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻣﻊ. وﻫﺬه ﻣﺪرﺳﺔ ﻋﻠﻜﺮا ﺑﺎﻟﻬﻨﺪ أﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﺻﺪق ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ،ﻓﺈن ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻴﺔ ﺗُﺪ ﱠرس ﻓﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻮم ،وﻗﺪ ﺑﺬل اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻛ ﱠﻞ ﺟﻬﺪﻫﻢ ﰲ إﻧﺸﺎﺋﻬﺎ وﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺴﻤﻮ أﻣري اﻷﻓﻐﺎن ﰲ اﻟﻜﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﺸﺄﻫﺎ ﰲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺑﻼده ،وﻗﺪ ﻧﺪﱠد ﰲ ﺧﻄﺒﺘﻪ ﺣني وﻓﺪ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ وزار ﻛﻠﻴﺔ ﻋﻠﻜﺮا ﻋﲆ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻮﻟﻮن إن ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ ﻳﺆﺛﺮ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ.
37
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻋﴗ أن ﻳﺒﻠﻎ اﻟﺮﺟﺎء ﻣﺴﺎﻣﻊ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ وﻋﻠﻤﺎﺋﻬﻢ وﻳﻘﻊ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﻮﻗﻊ اﻟﻘﺒﻮل. وﺗﻮﺟﺪ ﺑﺘﻮﻧﺲ ﻣﺪرﺳﺔ أﺧﺮى ﻳُﻘﺎل ﻟﻬﺎ املﺪرﺳﺔ اﻟﺨﻠﺪوﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻟﻠﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺒﺸري ﺻﻔﺮ رﺋﻴﺲ ﺟﻤﻌﻴﺔ اﻷوﻗﺎف؛ اﻟﻴﺪ اﻟﻄﻮﱃ ﰲ ﺗﺄﺳﻴﺴﻬﺎ وﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻏري ﻛﺎﻓﻴﺔ ْ ﻷن ﻳﺘﺨﺮج ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺆدﱡون ﻟﻠﺒﻼد اﻟﺨﺪﻣﺔ املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻣﻦ اﺑﻦ اﻟﻮﻃﻦ ﻟﻮﻃﻨﻪ. وﻳﺪرس ﺑﻬﺬه املﺪرﺳﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ وﻣﺒﺎدئ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ وﺗﻼﻣﺬﺗﻬﺎ ﻫﻢ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻃﻠﺒﺔ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ ،وﻣﻦ ﺿﻤﻦ املﺪرﺳني ﻓﻴﻬﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺒﺎرع اﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺒﺸري ﺻﻔﺮ اﻟﺬي ﻳﺪ ﱢرس ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﺗﻘﻮﻳﻢ اﻟﺒﻠﺪان وﻫﺬان اﻟﺪرﺳﺎن ﻻ ﻳﺄﺧﺬ ﻧﻘﻮدًا ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺗﺪرﻳﺴﻬﻤﺎ ،وﻫﺬه ﺧﺪﻣﺔ ﻣﻨﻪ ﻟﺒﻨﻲ وﻃﻨﻪ ﻳُﺸ َﻜﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ زﻳﺎدة ﻋﻦ اﻟﱰﻗﻲ املﺎدي واﻷدﺑﻲ اﻟﺬي ﻳﻨﺘﺞ ﻣﻦ أﻓﻜﺎره ﻟﻬﺬه املﺪرﺳﺔ. أﻣﺎ اﻟﻜﺘﺎﺗﻴﺐ ﻓﻬﻲ ﻣﻊ ﻗﻠﺘﻬﺎ ﻻ ﺗُﺠْ ﺪي ﻧﻔﻌً ﺎ؛ إذ ﻫﻲ ﻛﻜﺘﺎﺗﻴﺐ اﻷرﻳﺎف ﰲ ﻣﴫ ﻗﺒﻞ ﻫﺬه اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻬﻀﻬﺎ املﴫﻳﻮن ﻹﺻﻼح ﺷﺄن اﻟﻜﺘﺎﺗﻴﺐ. واﻷﻫﺎﱄ ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺮﺿﻮا ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ رﻏﺒﺘﻬﻢ ﰲ إﻧﺸﺎء ﻣﺪارس دﻳﻨﻴﺔ ﺗﺄﺑﻰ ﱠإﻻ أن ﻳﺘﻌﻬﺪ اﻷﻫﺎﱄ ﺑﺪﺧﻮل اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﺿﻤﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ ﺗُﺪرس ﰲ ﻫﺬه املﺪارس ،وإذا ﻋﺎرﺿﻬﺎ اﻷﻫﺎﱄ ﺑﺄن ﻫﺬه ﻣﺪارس دﻳﻨﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ ﻓﻼ ﺗُﻌِ ري اﻋﱰاﺿﻬﻢ ﺟﺎﻧﺐ اﻻﻟﺘﻔﺎت. وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﰲ ﱡ ﺗﺄﺧﺮ ﻫﺎﺋﻞ ،ورﺑﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻋﴩ ﺳﻨﻮات ﻧﻨﺘﻈﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ﺑﺎﻫ ًﺮا. واﻟﺬي ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻷزﻫﺮ ﰲ ﻣﴫ وإﱃ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻳﺄﺳﻒ ﻛ ﱠﻞ اﻷﺳﻒ؛ إذ ﻫﻤﺎ املﺪرﺳﺘﺎن اﻟﺪﻳﻨﻴﱠﺘﺎن ﰲ ﻗﺎرة أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ وﻟﻴﺲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻔﺎﺋﺪة املﻄﻠﻮﺑﺔ ،وﻻ ﻳﺴﻊ ﻣﻦ ﻳﻘﻒ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﱠإﻻ أن ﻳﺸﻜﺮ ﻧﻈﺎرة املﻌﺎرف املﴫﻳﺔ ً ﻗﻠﻴﻼ ملﺎ ﺗُﺒْﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ،وإن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺸﻜﻮى ﻋﺎﻣﺔ ﻣﻦ املﴫﻳني ﺑﺨﺼﻮص ﻋﺪم اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺸﺄن اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ املﺪارس اﻷﻣريﻳﺔ ،وﻳﺎ ﺣﺒﺬا ﻟﻮ اﻗﺘﺪى اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﱡﻮن ﺑﺎملﴫﻳني ﰲ إﻧﺸﺎء اﻟﻜﺘﺎﺗﻴﺐ واملﺪارس ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺎﺗﻬﻢ ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﻠﻮن إﱃ درﺟﺔ ﰲ اﻟﺴﻌﺎدة ﻏري ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ اﻵن.
38
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (13اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺘﻮﱃ اﻟﺴﻔﺎرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﻓﻴﻬﺎ املﺴﻴﻮ ﺑﻴﺸﻮن ﻏري ﻣﻄﻠﻘﺔ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻋﲆ ﻗِ ﱠﻠﺔ ﻋﺪد املﺸﺘﻐﻠني ﺑﻬﺎ ﻓﻠﻤﺎ ﺟﺎء إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻣﻨﺤﻬﺎ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﻮل، وذﻟﻚ ﻳُﻌَ ﺪ ﺣﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺎت ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﻟﻪ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻋﻈﻤﻰ ﰲ ﻗﻠﻮب أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ، وﺣﺒﱠﺬا ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻣﻮﻛﻮﻟﺔ إﱃ رﺟﺎل ﻛﺎملﻮﺳﻴﻮ ﺑﻴﺸﻮن ﰲ اﻟﺬﻛﺎء، وﺣﺴﻦ اﻷﺧﻼق ،وﺣﺐ ﺧﺪﻣﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻈﻦ أﺣﺪ أﻧﻲ ﺑﻤﺪﺣﻲ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻫﻮ ﻣﺪح ﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻹﻳﺎﻟﺔ؛ ﻷن ﻣﺪح ﻓﺮد واﺣﺪ ﻻ ﻳﺘﻨﺎول ﻛ ﱠﻞ اﻷﻓﺮاد املﻜﻮﻧﺔ ﻣﻨﻬﻢ أﻣﺔ واﺣﺪة؛ ﻷن املﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻣﻞ ﺑﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﻫﻲ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر املﺨﺘﺼﺔ ﺑﺬات اﻟﺸﺨﺺ وﺑﻌﻼﻗﺎﺗﻪ اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﻨﺎس ﻛ ﱢﻠﻬﻢ ،أﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﻪ إﻟﻴﻪ دوﻟﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﱠﺒﻌﻬﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﺈﻧﻪ ﱢ ﻳﻨﻔﺬﻫﺎ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﴐوب اﻟﺘﻠ ﱡ ﻄﻒ وﻣﺮاﻋﺎة اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ. ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺟﺮاﺋﺪ ﻳﻮﻣﻴﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ ﻏري ﺟﺮﻳﺪة واﺣﺪة اﺳﻤﻬﺎ »اﻟﺮﺷﺪﻳﺔ« ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺜﻤﺎن ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗُﻄﺒَﻊ ﺑﺤﺮوف ﻏري واﺿﺤﺔ ﻻ ﺗُﻘ َﺮأ ﱠإﻻ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺻﻌﻮﺑﺔ، وﻫﺬا ﻣﻤﺎ ﻳﻠ ِﺒﺲ ﻋﲆ اﻟﻘﺎرئ ﻣﻦ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ املﻌﺎﻧﻲ املﻘﺼﻮدة ،ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻤﻦ ﻻ ﻳﺘﻌﻮﱠد اﻟﻘﺮاءة ﰲ اﻟﺼﺤﻒ املﺴﻄﻮرة ﺑﺎﻟﺨﻂ املﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ ﻏريﻫﻢ؟! ﻋﲆ أﻧﻨﺎ إذا ﻗﺴﻨﺎ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﻐريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻼد املﺘﻤﺪﱢﻧﺔ ﻟﺮأﻳﻨﺎ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ أن ﻳ ِ ُﻨﺸﺌﻮا ﻋﺪة ﺟﺮاﺋﺪ ﻳﻮﻣﻴﺔ وﻓﻴﻬﻢ اﻷﻏﻨﻴﺎء ،واﻟﻜﺘﺎب ،واﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﻤﺮاﻧﻴﺔ وﻏريﻫﺎ. َ وﻗﺪ اﺗﺼﻞ ﺑﻲ ﺑﻌﺪ ﻣﻐﺎدرة ﺗﻮﻧﺲ أﻧﻪ اﺟﺘﻤﻊ ﺑﻌﺾ أﻫﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻬﺎ وأﻧ ْ َﺸﺌﻮا ﺟﺮﻳﺪة ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﻟﺘﻨﻈﺮ ﰲ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﻮﻃﻦ وﺗﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﺣﻘﻮﻗﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺠﺮﻳﺪة أﺳﺒﻮﻋﻴﺔ وﻛﺎن اﻷوﱃ ﺑﻬﻢ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﻳﻮﻣﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻴﴪ ذﻟﻚ ﻟﻬﻢ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ. وﻳﻮﺟﺪ ﻏري ﻫﺬه ﺟﺮاﺋﺪ أﺳﺒﻮﻋﻴﺔ أﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻓﺎﺿﻞ ،واﻟﻜﺘﺎب ﻛﺠﺮﻳﺪة اﻟﺰﻫﺮة ملﺪﻳﺮﻫﺎ ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺼﻨﺎدﱄ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ اﻟﻴﺪ اﻟﻄﻮﱃ ﰲ إﻗﻨﺎع اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺸﺄن ﺣﺎدﺛﺔ املﺴﺠﻮﻧني اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺄﺗﻲ ذﻛﺮﻫﺎ. وﺟﺮﻳﺪة اﻟﺼﻮاب ملﺪﻳﺮﻫﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺠﻌﺎﺑﻲ ،وﺟﺮﻳﺪة اﻟﺤﺎﴐة ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ ﺣﴬة ﻋﲇ أﻓﻨﺪي ﺑﺸﻮﺷﺔ وﻫﻲ أول ﺟﺮﻳﺪة ﻇﻬﺮت ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،وﺟﺮﻳﺪة إﻇﻬﺎر اﻟﺤﻖ ملﺪﻳﺮﻫﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ اﻟﻘﺒﺎﻳﲇ ،وﺟﺮﻳﺪة ﺣﺒﻴﺐ اﻷﻣﺔ ملﺪﻳﺮﻫﺎ ﺣﴬة 39
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻔﺎﺿﻞ ﻋﺒﺪ اﻟﺮزاق أﻓﻨﺪي اﻟﺬي ﺣﺎز ﻗﺴ ً ﻄﺎ واﻓ ًﺮا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﻤﺮاﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻳﻮﺟﺪ ﻏري ﻣﺎ ذُﻛِﺮ ﺟﺮاﺋﺪ أﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ أُﻧ ْ ِﺸﺌﺖ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ،أﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ﻫﺬﱠﺑﻬﻢ اﻟﻌﻠﻢ ،وأﺣﺴﻦ ﺗﺮﺑﻴﺘﻬﻢ ،وأﻧﺒﺘﻬﻢ ﻧﺒﺎﺗًﺎ ﺣﺴﻨًﺎ. وﻟﻜﻦ اﻟﺒﻼد ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺟﺮاﺋﺪ ﻳﻮﻣﻴﺔ ﻟﺘﻨﻘﻞ اﻷﺧﺒﺎر اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ واﻟﺘﻠﻐﺮاﻓﺎت وﻏري ذﻟﻚ ﺷﺄن ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ أﺧﺬت ﻧﺼﻴﺒًﺎ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ. ﻓﻠﻮ أن ﻫﺆﻻء اﻷﻓﺎﺿﻞ اﺗﺤﺪوا وأﻧﺸﺌﻮا ﺟﺮﻳﺪة ﻳﻮﻣﻴﺔ ﻟﻜﺎﻧﻮا أدﱠوا إﱃ وﻃﻨﻬﻢ ﺧﺪﻣﺔ أﺟﻞ وأﻧﻔﻊ ﻣﻤﺎ ﻫﻢ ﻗﺎﺋﻤﻮن ﺑﻪ اﻵن. واﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻠﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﺮاﻗﺒﻬﺎ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﺮاﻗﺒﺔ ﺷﺪﻳﺪة وﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗﺤﺠﺐ أيﱠ ﺟﺮﻳﺪة ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺴﺒﺐ ﺻﻐري ،ﻛﺎﻻﻧﺘﻘﺎد ﻋﲆ ﺑﻌﺾ أﻋﻤﺎل اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻛﻤﺎ ﺟﺮى ﻟﺤﴬة ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺰﻫﺮة. وﻛﺄﻧﻨﻲ ﺑﻤﻌﱰض ﻳﻘﻮل :إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺮاﻗﺒﺔ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻟﻠﺠﺮاﺋﺪ ﻫﺬه املﺮاﻗﺒﺔ ﻓﻼ ﺣﺮﻳﺔ إذن ﻟﻠﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ .ﻓﺠﻮاﺑﻲ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻧﻘﻮل :إن ﻣﻦ ﻋﺮف ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻗﺒﻞ ﻣﺠﻲء املﺴﻴﻮ ﺑﻴﺸﻮن وﻗﺎﺳﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺎﴐة ﻳﻌﺪﻫﺎ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﺤﺮﻳﺔ؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أﻗ ﱠﻞ ﻣﻨﻬﺎ اﻵن ﻋﺪدًا ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ُ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﺗﻨﻘﻞ ﻏري ﺑﻌﺾ اﻷﺧﺒﺎر اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻔﻴﺪ اﻷﻣﺔ ﺑﴚء وإﻧﻲ أﻗﱰح ﻋﲆ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺮﺷﺪﻳﺔ أن ﻳﺠﻌﻞ ﺣﺠﻢ ﺟﺮﻳﺪﺗﻪ أﻛﱪ ﻣﻨﻪ اﻟﻴﻮم ،وأن ﻳﺸﱰك ﰲ ﺗﻠﻐﺮاﻓﺎت روﺗﺮ وﻫﺎﻓﺎس وأن ﻳﻄﺒﻊ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺑﺤﺮوف ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻊ وﺟﻮد املﻮﴎﻳﻦ ﻫﻨﺎك اﻟﺬﻳﻦ واﺿﺤﺔ وﻧﻈﻦ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻜﻠﻔﻪ ﻛﺒري ﻋﻨﺎء ﻳﻠﺒﱡﻮن دﻋﻮﺗﻪ إذا دﻋﺎﻫﻢ إﱃ ﺗﻌﻀﻴﺪه؛ ﻷن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻫﻮ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺧﺪﻣﺔ ﻟﺒﻼدﻫﻢ وﻫﻢ ﻳﻌﻠﻤﻮن أن أﺣﺴﻦ وﺟﻪ ﻳ َ ُﻨﻔﻖ ﻓﻴﻪ املﺎل ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﺨ ﱢﻠﺪ ﻟﻬﻢ ذﻛ ًﺮا ﺣﺴﻨًﺎ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺦ. ) (14ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪول ذات اﻟﺤﻮل واﻟﻄﻮل ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول إذا دﺧﻠﺖ ﺑﻼدًا ﻓﺎﺗﺤﺔ ﺣﺎﻣﻠﺔ راﻳﺔ اﻟﻨﴫ ﺗﺴﺘﻌﻤﻞ اﻟﻘﺴﻮة ،وأﻧﻮاع اﻟﻌﺴﻒ ،واﻟﻔﺘﻚ ﺑﺎﻷرواح ،واﺿﻄﻬﺎد اﻷﻣﺔ املﻐﻠﻮﺑﺔ ﻟﺘﺘﻮﻃﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﺳﻠﻄﺎﺗﻬﺎ ،وﺗﺜﺒﱢﺖ ﰲ اﻟﻨﻔﻮس ﻫﻴﺒﺘﻬﺎ ﻛﻘﻤﺒﻴﺰ اﻟﻔﺎرﳼ ﺣني دﺧﻮﻟﻪ ﻣﴫ ،وﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﺨﺘﻨﴫ اﻟﺒﺎﺑﲇ ﰲ ﺑﻴﺖ املﻘﺪس واﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ ﺣني اﻣﺘﺪاد ﻣﻠﻜﻬﻢ إﱃ آﺳﻴﺎ اﻟﻜﱪى ،وﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ اﻟﺤﺠﺎج وزﻳﺎد ﰲ اﻟﻌﺮاق وﻟﻮ أردﻧﺎ أن ﻧﻮرد اﻟﺸﻮاﻫﺪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻻﺗﺴﻊ ﺑﻨﺎ املﺠﺎل ً ﺳﻴﺎﺳﺔ ﺧِ ﻼف ﺗﻠﻚ واﺣﺘﺠﻨﺎ إﱃ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﻄﻮﻳﻞ ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻗﺪ اﺗﺨﺬت اﻟﺪول 40
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧﻠﻬﺎ ﻓﺎﺗﺤﺔ ﻏﺎﻟﺒﺔ وﻫﻲ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﺣﺴﻦ املﻌﺎﻣﻠﺔ ،واﻟﺮﻓﻖ ﺑﺎﻷﻫﺎﱄ، وﺟﻠﺐ ﻣﻮدﺗﻬﻢ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﻌﺪل ،واملﺴﺎواة ،واﻹﺻﻼح وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﱢ ﺗﻨﻔﺮ ﻋﻨﻬﺎ اﻷﻣﻢ اﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ اﺗﺒﻌﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،واﻟﺠﺰاﺋﺮ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﺎﻣﻞ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻹذﻻل واﻟﻀﻐﻂ واملﺴﻠﻤني ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ وﺟﻪ أﺧﺺ ،ﻓﺎﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﰲ ﻳﺪ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني واﻷﻣﺮ واﻟﻨﻬﻲ ﺑﻴﺪﻫﻢ ،ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻛﻴﻒ ﻳﺸﺎءون ﺷﺄن اﻟﺤﺎﻛﻢ املﺴﺘﺒﺪ املﻄﻠﻖ اﻟﺘﴫف ﺑﻐري رﻗﻴﺐ ﻋﻠﻴﻪ. وﻣﺎ ﻳﻘﺎل ﻣﻦ وﺟﻮد ﻗﻮاﻧني ﰲ اﻹدارة وﻏريﻫﺎ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻫﻮ أﻣﺮ ﺻﻮري ﻓﻘﻂ. وﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم ﻳﺠﻤﻞ ﺑﻨﺎ أن ﻧﻮرد املﻘﺎرﻧﺔ ﺑني ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ ،وﺑني ﺳﻴﺎﺳﺔ إﻧﻜﻠﱰا ﰲ ﻣﴫ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن اﻟﻘﻴﺎس ﻋﲆ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ — ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺬﻛﺮه — وﻟﺴﺖ أرﻳﺪ ﺑﺈﻳﺮاد ﻫﺬه املﻘﺎرﻧﺔ ﻣﺪح ﺳﻴﺎﺳﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﰲ ﻣﴫ وﻟﻜﻦ أذﻛﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﺎب ﺗﻮﺿﻴﺢ أن ﺑﻌﺾ اﻟﴩﱢ أﻫﻮن ﻣﻦ ﺑﻌﺾ. اﺣﺘﻠﺖ إﻧﻜﻠﱰا ﻣﴫ ﺑﺪﻋﻮة ﻣﻦ اﻟﺨﺪﻳﻮي اﻟﺴﺎﺑﻖ املﻐﻔﻮر ﻟﻪ ﺗﻮﻓﻴﻖ ﺑﺎﺷﺎ ﻟﺘﺄﻳﻴﺪ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺨﺪﻳﻮﻳﺔ ﻓﺄﺧﻤﺪت ﻧريان اﻟﺜﻮرة وﺑﻤﺠﺮد دﺧﻮﻟﻬﺎ أﺧﺬت ﰲ ﺑﺬر ﺑﺬور اﻹﺻﻼح ﻓﺄﺻﻠﺤﺖ داﺋﺮة اﻟﺮي واملﺎﻟﻴﺔ ،وﻧ ﱠ ﻈﻤﺖ اﻟﺠﻴﺶ ،وﻫﺎ ﻫﻲ ﻗﺪ ﺑﺪأت ﱢ ﺗﻮﺳﻊ داﺋﺮة اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻣﻊ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﱠ ﺣﻀﺖ اﻷﻫﺎﱄ ﻋﲆ إﻧﺸﺎء اﻟﻜﺘﺎﺗﻴﺐ ،وﻣﺤﺖ آﺛﺎر اﻟﻈﻠﻢ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﺒﻼد اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ واﻻﺳﺘﺒﺪاد ،وأﻟﻐﺖ اﻟﺴﺨﺮة ،واﻟﻌﻮﻧﺔ ،وﺟﻌﻠﺖ املﻮﻇﻔني ﺳﺎﺋﺮﻳﻦ ﻋﲆ دﺳﺘﻮر ﻳﻮﻗﻒ ٍّ ﻛﻼ ﻋﻨﺪ ﺣﺪﱢه ،وﻣﺎ ﺷﺎﻛﻞ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻹﺻﻼح اﻟﺬي ﻧﺸﺎﻫﺪ آﺛﺎره اﻵن ﺑﺎﻟﻌﻴﺎن. أﻣﺎ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺣني دﺧﻠﺖ ﻣﴫ اﺳﺘﻌﻤﻠﺖ أﻧﻮاع اﻟﻈﻠﻢ واﻟﺠﻮر ﻓﻘﺘﻠﺖ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ ً أﻃﻔﺎﻻ ،وأﻳﱠﻤﺖ أراﻣﻞ ،وأﻫﺎﻧﺖ أﻛﺎﺑﺮ املﴫﻳني ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ واﻟﻨﻔﻲ ،وﻋﺎﺛﺖ ﰲ اﻟﺒﻼد وﻳﺘﻤﱠ ﺖ ﻓﺴﺎدًا ﺣﺘﻰ اﺧﺘﻠﻄﺖ اﻷﻧﺴﺎب وذاك ﻻ ﺗﻔﻌﻠﻪ دوﻟﺔ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﺎ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﻼد ً ﺣﺴﻨﺔ ﻳﺬﻛﺮﻫﺎ ﻟﻬﺎ املﴫﻳﻮن. ﻣﺮﻏﻤﺔ وﻟﻢ ﺗﱰك ﻟﻬﺎ واﻟﺬي ﻳﻘﺮأ ﺗﺎرﻳﺦ دﺧﻮل ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻣﴫ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﻳﻌﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻬﺎ اﻷﻫﺎﱄ؛ إذ ﻣﻜﺜﺖ ﺛﻼث ﺳﻨﻮات ﻛﻞ أﻳﺎﻣﻬﺎ ﻣﻤﻠﻮءة ﺑﺎﻟﻔﻈﺎﺋﻊ واﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺸﻌ ﱡﺮ ﻟﻬﺎ اﻷﺑﺪان ،وﺗﺮﺗﻌﺪ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻔﺮاﺋﺺ. 41
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ اﺗﺨﺬت ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻫﺬه اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﺎﻣﻞ املﺴﻠﻤني ﻫﻨﺎك ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﻐﻠﻈﺔ ،واﻟﻘﺴﻮة ،وإﻟﻴﻚ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ وﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﻣﻦ أوﺛﻖ املﺼﺎدر: ً ٍ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻏري اﻟﻘﺘﻞ ﻓﺄُودِﻋﺎ ﰲ اﻟﺴﺠﻦ ،و ُﻛﺒﱢﻼ أوﻻ :اﺗﱡﻬﻢ اﺛﻨﺎن ﻣﻦ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺎرﺗﻜﺎب ﺑﺎﻟﻘﻴﻮد ،وﻟﺒﺜﺎ ﻓﻴﻪ ﺣﻴﻨًﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺮ وﻫﻤﺎ ﻳﺬوﻗﺎن ﻛ ﱠﻞ ﻳﻮم أﻧﻮاع اﻟﻌﺬاب وﺻﻨﻮف اﻹﻫﺎﻧﺔ ً ﻣﺮﺿﺎ ﺷﺪﻳﺪًا وأﴍﻓﺎ ﻋﲆ اﻟﻬﻼك، ﻣﻦ اﻟﺴﺠﱠ ﺎﻧني ،ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺑﻬﻤﺎ إﱃ أن ﻣﺮﺿﺎ وﻋﺠﺰا ﻋﻦ اﻟﺤﺮاك واﻟﻨﻄﻖ ﻓﻠﻢ ﻳﻤﻜﺜﺎ ﱠإﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ﺑﻌﺪ أن دﺧﻼ ﰲ دور املﺮض ﺣﺘﻰ ﻓﺎرﻗﺎ اﻟﺤﻴﺎة وذﻫﺒﺎ ﺿﺤﻴﺔ ﻗﺴﻮة اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ. وﻳﺸﺎع أﻧﻬﻤﺎ دُﻓِ ﻨﺎ وروﺣﺎﻫﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻔﺎرق اﻟﺤﻴﺎة. وﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻗﺎﻣﺖ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺰﻫﺮة ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ اﻟﻐﻴﻮر اﻟﺴﻴﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺼﻨﺎدﱄ — اﻵﻧﻒ اﻟﺬﻛﺮ — ﺗﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﺗﻨﺘﻘﺪ ﻋﻤﻞ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻓﻠﻢ ﻳ ُﺮ ْق ﰲ ﻋﻴﻨﻬﺎ ﱠإﻻ ﻗﻔﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﺮﻳﺪة ،وﺑﻌﺪ ﺳﻨﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻋﺎدت ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ أن ﻗﺪﱠم اﺣﺘﺠﺎﺟﻪ ﺑﺼﻮرة ﻗﻀﻴﺔ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻳﻄﺎﻟﺒﻬﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪم ﻗﻔﻞ اﻟﺠﺮﻳﺪة؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﻌَ ﺪ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ أو ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ. ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻛﺎن أﺣﺪ اﻟﺠﻨﻮد اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني اﻟﺬي اﺳﻤﻪ »دﻳﻚ« ﻣﺘﻐﻴﱢﺒًﺎ ﻋﻦ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺎد إﻟﻴﻪ أﺧﱪﺗﻪ زوﺟﺘﻪ أن أﺣﺪ اﻷﻫﺎﱄ دﺧﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻫﻲ ﰲ ﺑﻴﺘﻬﺎ ﻗﺎﺻﺪًا ﺳﻮأ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺪي ،ﱠإﻻ أن ﺗﻨﺎول ﻣﺴﺪﺳﻪ وﺧﺮج ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ورﻛﺐ اﻟﺒﺴﻜﻠﻴﺖ وﺳﺎر ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻟﻢ ﻳﺒﻌﺪ ﻋﻦ داره ً ﻗﻠﻴﻼ ،ﺣﺘﻰ أﺑﴫ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﻃﻨﻴني اﻟﺬي ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪ ﷲ ﻋﻤﺮ ﻣﺎ ٍّرا ﻓﻨﺎداه ﺑﺎﻟﻮﻗﻮف ،ﻓﺬُﻋِ ﺮ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻣﻨﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻧﺎداه ﻧﺪاء إرﻫﺎب ﱠ ﻓﻮﱃ ﻣﻦ أﻣﺎﻣﻪ ،ﻓﺄﺧﺬ اﻟﺠﻨﺪي ﻳﻌﺪو وراءه ﺑﴪﻋﺔ ﺳري اﻟﺪراﺟﺔ ،وﻗﺒﻞ أن ﻳﻠﺤﻘﻪ رﻣﺎه ﺑﺮﺻﺎﺻﺔ ﻣﻦ املﺴﺪس أﺻﺎﺑﺘﻪ ﻓﻮﻗﻊ ﻋﲆ اﻷرض ﻣُﴬﱠ ﺟً ﺎ ﺑﺎﻟﺪﻣﺎء وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻤﺖ. وﻋﲆ أﺛﺮ ذﻟﻚ اﺳﺘﺪﻋﻰ اﻟﺠﻨﺪيﱡ ﻣَ ﻦ ﺣﻤﻞ املﴬوب إﱃ املﺴﺘﺸﻔﻰ ،وملﺎ ُ ﺿ ِﺒﻄﺖ اﻟﻮاﻗﻌﺔ وأﺧﺬ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻣﺠﺮاه اﺳﺘُﺪﻋِ ﻴﺖ زوﺟﺔ اﻟﺠﻨﺪي إﱃ املﺴﺘﺸﻔﻰ ،وأﻣﺮﻫﺎ ﻗﺎﴈ ً اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ أن ﱢ رﺟﻼ آﺧﺮ ﻣﴣ ﻋﻠﻴﻪ زﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﱪح ﺗﻌني اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻦ ﺑني املﺮﴇ ﻓﻌﻴﱠﻨﺖ املﺴﺘﺸﻔﻰ. وملﺎ ُﺳﺌِﻞ اﻟﺠﻨﺪي ﻋﻦ ﺳﺒﺐ إﻃﻼق املﺴﺪس ﻋﲆ رﺟﻞ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ أﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﻔﺎﻋﻞ أﺟﺎب ﺑﺄﻧﻪ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﱟ ﻇﻦ ﻣﻨﻪ أﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ. 42
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺄن املﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﻀﺎﺗﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني رأت أن إﻇﻬﺎر ﺧﻄﺄ اﻟﺠﻨﺪي وﺑﺮاءة ﴐب ﻣﻤﺎ ﻳﺤ ﱡ ﻂ ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺔ اﻟﺠﻨﺪي أو ﻳﻠﺤﻖ اﻟﻌﺎر ﺑﺪوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ،ﻓﺎﺣﺘﺎﻟﺖ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ُ ِ ﰲ إﺛﺒﺎت اﻟﺘﻬﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺘﻮﻧﴘ .وﺳﺎﻋﺪﻫﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻟﻪ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻓﺤﻜﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺴﻨﺔ ﺳﺠﻨًﺎ وﻋﲆ اﻟﺠﻨﺪي ﺑﺴﺘﺔ أﺷﻬﺮ! ﺛﺎﻟﺜًﺎ :اﺗﻬﻢ اﻟﻘﻀﺎء أﺣﺪ اﻷﻫﺎﱄ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني ﻓﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻷﺟﻠﻬﺎ ﺑﺨﻤﺲ ﻋﴩة ﺳﻨﺔ ﺳﺠﻨًﺎ ﻣﻊ اﻷﺷﻐﺎل اﻟﺸﺎﻗﺔ ،وﺑﻌﺪ اﻧﻘﻀﺎء ﻫﺬه املﺪة ﻳ َ ُﻨﻔﻰ ﻣﻦ اﻟﻘﻄﺮ اﻟﺘﻮﻧﴘ ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ أﺧﺮى. راﺑﻌً ﺎ :ﺗﻌﺪﱠى أﺣﺪ اﻟﻨﺰﻻء اﻟﻐﺮﺑﻴني ﻋﲆ أﺣﺪ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ،وﺣﺮق أﺟﺮاﻧﻪ ،وﻳﻘﺎل إﻧﻪ ﺣُ ِﺮق اﺛﻨﺎن ﺑﺴﺒﺐ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ ،وﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ادﱠﻋﻰ اﻟﺮﺟﻞ اﻷوروﺑﻲ أن املﺴﻠﻢ ﻛﺎن ﺑﺎدﺋًﺎ ﺑﺎﻟﺘﻌﺪي ﻓﺤﻜﻤﺖ املﺤﻜﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﻲ ﺑﺴﺘﺔ أﺷﻬﺮ ﺳﺠﻨًﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﺣُ ِﺒﺲ اﻟﺠﺎﻧﻲ؟ ﻟﻢ ﻳُﺤﺒَﺲ؛ ﻷن ﻗﺎﻧﻮن ﴎﺳﻴﺎ وﻫﻮ ﻗﺎﻧﻮن ﺧﺎص ﺑﻤﺤﺎﻛﻤﺔ اﻷﺟﺎﻧﺐ ﻳﻘﴤ ﺑﺄن ﻻ ﻳُﺤﺒَﺲ اﻷوروﺑﻲ ،ﺑﻞ ﻳﻈﻞ ﻣﻄﻠﻖ اﻟﴪاح ﺑﺎﺳﻢ املﺤﺒﻮس ،وﻻ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﺴﺠﻦ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ أن ﻳﺮﺗﻜﺐ ﺟﻨﺎﻳﺔ أﺧﺮى ﰲ ﻇﺮف ﺧﻤﺲ ﺳﻨﻮات ﺗﻤﴤ ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ وﻗﻮع اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ ،أﻣﺎ إذا ﻣﻀﺖ ﻫﺬه املﺪة وﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ذﻧﺒًﺎ ﺛﻢ ارﺗﻜﺐ ﺟﻨﺎﻳﺔ أﺧﺮى ﺗُ َ ﻌﺘﱪ اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ اﻷوﱃ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ وﻗﻌﺖ ﻣﻨﻪ. ً ً ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻷدﻳﺎن ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﺧﺎﻣﺴﺎ :ﻳﻘﻮل اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﻮن إﻧﻬﻢ أول اﻷﻣﻢ ﻣﺨﺎﻟﻔﻮن ﻟﻬﺬه اﻟﺪﻋﻮى ﻛ ﱠﻞ املﺨﺎﻟﻔﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ اﻟﺒﺪﻟﻴﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻳﺪﻓﻌﻬﺎ املﺴﻠﻢ ﺛﻤﺎﻧﻤﺎﺋﺔ ﻓﺮﻧﻚ ،وأﻣﺎ اﻟﻴﻬﻮدي ﻓﻴﺪﻓﻊ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻓﻘﻂ ،وإذا دﻫﺲ اﻟﱰام ﻣﺴﻠﻤً ﺎ ﻓﺎﻟﻐﺮاﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻌﻬﺎ اﻟﴩﻛﺔ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻓﺮﻧﻚ ،وأﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻳﻬﻮدﻳٍّﺎ ﻓﺜﻤﺎﻧﻤﺎﺋﺔ. ً ﺳﺎدﺳﺎ :إذا أراد أﺣﺪ اﻷﻫﺎﱄ أن ﻳﻨﺸﺊ ﻣﻜﺘﺒًﺎ ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻷﻃﻔﺎل ﻛﺎملﻜﺎﺗﺐ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻌ ﱠﻠﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ ،أﺟﱪﺗﻪ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﲆ إدﺧﺎل اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ ﰲ ﺑﺮوﺟﺮام اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ. ﺳﺎﺑﻌً ﺎ :ﺣﺎدﺛﺔ اﻟﻘﴫﻳﻦ :إذا ﻛﺎن ﺣﺎدث دﻧﺸﻮاي ﺷﻐﻞ أﻓﻜﺎر اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺴﻴﺎﳼ ،وأﻗﺎم اﻟﺼﺤﻒ وأﻗﻌﺪﻫﺎ ،و ُردﱢد ﺻﺪاه ﰲ أﻧﺤﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ أﺟﻤﻊ ،ﻓﺈن ﺣﺎدث اﻟﻘﴫﻳﻦ أﻓﻈﻊ وأﺷﻨﻊ ،ﻻ ﺑﻞ ﻫﻮ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺴﻮداء ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﻓﺮﻧﺴﺎ اﻟﺴﻴﺎﳼ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎري؛ ﺣﻴﺚ ﻣﺜﱠﻠﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﺘﻮﺣﱡ ﺶ واﻟﻘﺴﻮة أﺳﻮأ ﺗﻤﺜﻴﻞ وﻏﺮﺳﺖ ﺑﺬور اﻟﺒﻐﻀﺎء ﰲ ﻗﻠﻮب أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ. 43
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﻌﺖ ﻣﺸﺎﺟﺮة ﺑني ﺑﻌﺾ أﻫﺎﱄ ﺗﻮﻧﺲ وﺑﻌﺾ اﻷوروﺑﻴني؛ ﻓﺄرﺟﻒ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﻮن ﺑﺄن ﱡ ﺗﻌﺼﺐ دﻳﻨﻲ ،ﻓﺄﻟﻘﺖ اﻟﻘﺒﺾ ﻋﲆ اﻟﻮﻃﻨﻴني وﺟﺮت ﻣﺤﺎﻛﻤﺘﻬﻢ ﻓﺼﺪر ﻫﺬا ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﺑﺸﻨﻖ ،وﺳﺠﻦ ،وﻧﻔﻲ اﻷﺷﺨﺎص اﻵﺗﻲ ﺑﻴﺎن أﺳﻤﺎﺋﻬﻢ: ﺣُ ِﻜ َﻢ ﺑﺎﻹﻋﺪام ﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻮﺳﺔ وﻫﻢ :ﻣﺤﻤﺪ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﻮﻗﺎف ،وﻣﺤﻤﺪ ﺑﻠﻘﺎﺳﻢ ﻗﻌﻴﺪ ،وﻋﻤﺮ ﻋﲇ ﻋﺒﺪه ،وﺑﺎﻷﺷﻐﺎل اﻟﺸﺎﻗﺔ ﻣﺪة ﻋﴩ ﺳﻨني ﻋﲆ :ﻋﻤﺮ ﻋﺜﻤﺎن، واملﻨﻊ ﻣﻦ دﺧﻮﻟﻪ اﻟﺒﻼد؛ أي ﻧﻔﻴﻪ ﺑﻌﺪ ﻗﻀﺎء ﻣﺪة اﻟﺴﺠﻦ ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ،وﺑﺎﻷﺷﻐﺎل اﻟﺸﺎﻗﺔ املﺆﺑﺪة ﻋﲆ املﻘﺪم ﻋﲇ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﺎﻟﺢ ،وﺣﺮاث ﺑﻠﻘﺎﺳﻢ ﻋﲇ ،وﺑﺎﻷﺷﻐﺎل اﻟﺸﺎﻗﺔ ملﺪة ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ﻋﲆ ﺗﺴﻌﺔ أﺷﺨﺎص ،وﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﺧﻤﺴﺔ ملﺪة ﻋﴩة أﻋﻮام ،وﺳﺘﺔ ﻟﺨﻤﺴﺔ أﻋﻮام ،وﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ ملﺪة ﺧﻤﺲ ﺳﻨﻮات ﺳﺠﻨًﺎ ﺑﺴﻴ ً ﻄﺎ ،وﺳﺒﻌﺔ ﻟﻌﺎﻣني ﻛﺬﻟﻚ ،وﻋﲆ واﺣﺪ ﺑﻌﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ﺑﺴﺠﻦ اﻟﺼﺒﻴﺎن. وﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ ﻣﺜﻠﻪ ﻟﺨﻤﺴﺔ أﻋﻮام ،وﻗﺪ اﺗﺼﻞ ﺑﻲ ﺑﻌﺪ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻣﻦ ﺑﻌﺾ املﻌﺎرف ﻫﻨﺎك أن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ أﺻﺪرت ﻋﻔﻮﻫﺎ ﻋﻦ املﺤﻜﻮم ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺎﻹﻋﺪام، وأن ﻫﺬا اﻟﻌﻔﻮ ﻣُﺴﺒﱠﺐ ﻋﻦ ﺗﺬﻣﱡ ﺮ اﻷﻫﺎﱄ ﻟﻬﺬه اﻷﺣﻜﺎم اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ ،ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ اﻟﺬﻳﻦ ﺷﺎﻫﺪوا وﻋﺮﻓﻮا ﺣﺎدث دﻧﺸﻮاي إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ً أﻳﻀﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺬوب ﻟﻬﺎ اﻟﻘﻠﻮب ،ﺑﻞ اﻟﺼﺨﺮ اﻟﺠﻠﻤﻮد ،وﻟﻴﻀﻌﻮا ﻫﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ أو اﻟﺘﻮﺣﱡ ﺶ. وملﺎ ﻛﺎن اﻟﴚء ﺑﺎﻟﴚء ﻳُﺬﻛﺮ ﻧﺬﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻻﺳﺘﻄﺮاد ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﻮن ﰲ ﻣﴫ ﺣني اﺣﺘﻠﻮﻫﺎ ﰲ ﻋﻬﺪ ﺑﻮﻧﺎﺑﺮت ﻟﻴﻌﻠﻢ اﻟﺠﺎﻫﻞ ﺑﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ أن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺼﻔﻮن اﻟﻔﺮﻧﺴﻮي ﺑﺎﻟﺸﻔﻘﺔ ﻋﲆ ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺨﻄﺌﻮن ﺧﻄﺄ ﺑﻴﱢﻨًﺎ. ً إﺳﻄﺒﻼ أول ﻣﺎ دﺧﻞ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﻮن ﻣﴫ ﻟﻢ ﻳﺤﱰﻣﻮا اﻟﺪﻳﻦ ،ﻓﺠﻌﻠﻮا اﻷزﻫﺮ ﻟﺨﻴﻮﻟﻬﻢ وأﻫﺎﻧﻮا اﻟﻌﻠﻤﺎء ،وﻋﺎﺛﻮا ﰲ اﻟﺒﻼد ﻓﺴﺎدًا ،واﻧﺘﻬﻜﻮا اﻷﻋﺮاض ،وداﺳﻮا ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﻢ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻷﺑﺮﻳﺎء اﻟﺬﻳﻦ ُﺷﻨِﻘﻮا ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ ﰲ ﻋﲆ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﻓﺎﺧﺘﻠﻄﺖ اﻷﻧﺴﺎب ،ﻫﺬا ﺣﺎدﺛﺔ ﻣﻘﺘﻞ ﻛﻠﻴﱪ؛ ﺣﻴﺚ ﺟﺎء أﺣﺪ اﻟﺴﻮرﻳني ﻣﻦ املﺴﻠﻤني واﻋﺘﺪى ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﺎﺋﺪ ﺑﻘﺘﻠﻪ ﺑﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺪار ﺑﺎﻟﺠﻴﺰة ،ﻓﺤُ ﻜِﻢ ﻋﻠﻴﻪ وﻋﲆ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺮﻓﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ وﻃﻠﺒﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﴩﻳﻒ ﺑﺎﻟﺸﻨﻖ ،وﻟﻢ ﻳﺸﱰﻛﻮا ﻣﻌﻪ ﰲ اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ. وﻟﻘﺪ ﺑﻠﻎ اﺳﺘﺒﺪاد دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ إﱃ درﺟﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗُ ﱠ ﺘﻮﻗﻊ ﻣﻦ دوﻟﺔ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺣﻈﺮت ﻋﲆ اﻷﻫﺎﱄ أن ﻳﻘﺒﻠﻮا ً ﻧﺰﻳﻼ ﻣﻦ إﺧﻮاﻧﻬﻢ املﺴﻠﻤني ﻣﻦ أﻫﻞ املﺪﻳﻨﺔ املﻨﻮرة وﻣﻜﺔ املﴩﻓﺔ ﺑﺪﻋﻮى اﻻﺣﱰاس ﻣﻦ اﻟﺪﺳﺎﺋﺲ واﻟﻔﺘﻦ ،ﻓﺈذا َﻗ ِﺪ َم ﻣﻜﻲ أو ﻣﺪﻧﻲ ً ﺿﻴﻔﺎ ﰲ ﻣﻨﺰل أﺣﺪﻫﻢ ﻟﻢ ﻳﺴﻊ ﺻﺎﺣﺐ املﻨﺰل ﱠإﻻ إﺧﻄﺎر اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ وﻗﺘﻴٍّﺎ ،وﻟﻘﺪ أﺧﺬ 44
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﻮن واﻟﺠﺰاﺋﺮﻳﻮن ﻳﻬﺎﺟﺮون ﻣﻦ ﺑﻼدﻫﻢ ﺑﻌﺪ ﺑﻴﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻬﻢ ﺗﺨ ﱡﻠ ً ﺼﺎ ﻣﻦ ً رﺟﻼ ﻫﺎﺟﺮوا ﺳﻮء ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻟﻬﻢ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ أ ُ ِﺷﻴﻊ ﰲ اﻟﻌﺎم املﺎﴈ أن ﺳﺒﻌني ﻣﻦ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺑﺎﻋﻮا ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن ﻣﻦ اﻷﻣﻼك واﻟﻌﻘﺎر. ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ أن دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ إن ادﻋﺖ أﻧﻬﺎ ﻧﺼرية إﱃ ﻫﻨﺎ ﻧﻜﺘﻔﻲ ﺑﺈﻳﺮاد ﻣﺎ ﺗﻘﺪﱠم اﻟﺤﺮﻳﺔ ،وأﻧﻬﺎ ﺗﺤﱰم اﻷدﻳﺎن ،وأﻧﻬﺎ أول اﻟﺪول ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﰲ ﺳﻴﺎﺳﺔ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر ﻓﺈﻧﻬﺎ دﻋﻮى ﻋﺪﻳﻤﺔ اﻟﱪﻫﺎن ﻓﺎﺳﺪة املﻘﺪﻣﺎت ،وﻣﺎ أﺗﻴﻨﺎ ﺑﻪ ﺷﺎﻫ ُﺪ ﻋﺪ ٍْل ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻘﻮل. ) (15ﺗﻤﺜﺎل ﺳﻴﺎﳼ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ إن اﻟﻐﺎﻳﺔ املﻘﺼﻮدة ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ ﻫﻲ إﺣﻴﺎء ذِ ْﻛﺮ ﻋﻈﻤﺎء اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺬﻳﻦ أﺗﻮا ﻣﻦ ﺟﻼﺋﻞ اﻷﻋﻤﺎل ﻣﺎ ﻳﺨ ﱢﻠﺪ ﻟﻬﻢ اﻟﺬﻛﺮ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﲆ ﻣ ﱢﺮ اﻟﻠﻴﺎﱄ وﺗﻌﺎﻗﺐ اﻷﺟﻴﺎل. ﻓﻬﻲ إذن ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻗﺎم ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﻤﺜﺎل ﻣﻘﺎم اﻟﻜﻠﻤﺎت واﻟﺠﻤﻞ ،ﻓﺈذا وﻗﻔﻨﺎ أﻣﺎم ﺗﻤﺜﺎل »ﺟﺎﻧﺪارك« ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻗﺮأﻧﺎ ﺑﻌني اﻟﺬﻛﺮى ﰲ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة املﺠﺴﻤﺔ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة ﻫﺬه املﺮأة اﻟﺘﻲ ﻓﻌﻠﺖ ﻓﻌﻞ اﻷﺑﻄﺎل ﰲ ﺧﻼص ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻣﻦ ﻣﺨﺎﻟﺐ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ. وإذا وﻗﻔﻨﺎ أﻣﺎم ﺗﻤﺜﺎل ﻣﺤﻤﺪ ﻋﲇ ﺑﺎﺷﺎ ،وإﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﺎﺷﺎ ﻗﺮأﻧﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻣﺒﺪأ دﺧﻮل ﻣﴫ ﰲ ﻋﴫ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﻌﺪ أن ﻣ ﱠﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﻓﻴﻬﺎ أﻧﻮاع اﻟﻈﻠﻢ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗَ ْﻘﺪِر ﻳ ُﺪ ﻛﺎﺗﺐ ﻋﲆ ﺗﺪوﻳﻨﻬﺎ؛ ملﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻈﺎﺋﻊ اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺗﻌﺪ ﻟﻬﺎ اﻟﻔﺮاﺋﺺ ،وﺗﻘﺸﻌ ﱡﺮ اﻷﺑﺪان ،وﺗﺼﻔﺮ اﻷﻧﺎﻣﻞ ،وﻫﻜﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺗﻤﺜﺎل ﻋﲆ ﻫﺬا املﻨﻮال. وﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﻌﺎﺋﺪة ﻋﲆ اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺼﺐ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﻋﻈﻤﺎء رﺟﺎﻟﻬﺎ؛ إذ ﺑﺘﺬﻛﺮﻫﻢ أﻋﻤﺎ َل ﻣَ ْﻦ ﻧ ُ ِﺼﺐ اﻟﺘﻤﺜﺎل ﻋﲆ ﺻﻮرﺗﻪ ﺗﻨﺒﻌﺚ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻬﻤﻢ إﱃ اﻻﻗﺘﺪاء ﺑﻪ أو اﻻﻓﺘﺨﺎر ﺑﻤﺎ ﻓﻌﻠﻪ ،وﻫﺬا ﻻ ﻳﻜﻮن ﱠإﻻ ﰲ اﻷﻣﻢ اﻟﺤﻴﺔ ﺣﻴﺎة أدﺑﻴﺔ ،أﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻌﻜﺲ ﻓﻬﻮ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ إﻣﺎﺗﺔ اﻟﻨﻔﻮس وﺑﺬر ﺑﺬور اﻟﺠُ ﺒﻦ ﻓﻴﻬﺎ. وﻗﺪ ﻳﺠﻮز أن اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻘﺎم ﰲ أرﺿﻬﺎ ﺗﻤﺜﺎل ﻳﺬ ﱢﻛﺮﻫﺎ ﺑﻤﺎ ﺗﺘﺄﻟﻢ ﻣﻨﻪ ﻧﻔﻮﺳﻬﺎ، ﻓﻴﻨﺘﻘﻞ ﺿﻌﻔﻬﺎ إﱃ ﻗﻮة وﺗﻬﻮﱡر ﻓﺘﻨﺰع إﱃ ﻣﺤﻮ ﻫﺬا اﻟﻌﺎر .ﻓﻠﻮ ﻋُ ِﻤﻞ ﺗﻤﺜﺎل ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻓﺼﻞ اﻟﺴﻮدان ﻋﻦ ﻣﴫ ﻟﻌ ﱠﻢ اﻟﻔﺴﺎد ﰲ اﻟﺒﻼد ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ إﺛﺎرة اﻷﺣﻘﺎد ﰲ اﻟﻨﻔﻮس وﻫﻴﺎج اﻟﺨﻮاﻃﺮ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻣﺔ ﺗﺮﺳﻒ ﰲ ﻗﻴﻮد اﻻﺳﺘﻜﺎﻧﺔ واﻟﺬل ﻓﺈن اﻟﺤﻘﺪ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ﺻﺪرﻫﺎ ﻛﻤﻮن اﻟﻨﺎر ﰲ اﻟﺤﺠﺮ اﻟﺼﻮﱠان ،ﺣﺘﻰ ﺗﻮﻟﺪ اﻷﻳﺎم ﺣﻮادث ﺗﻜﻮن ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻗﺪح اﻟﺰﻧﺎد. وﻣﻤﺎ ﻻ ﺑﺄس ﻣﻦ ذﻛﺮه ﻫﻨﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻣﺎ روي أﻧﻪ وﻗﻌﺖ ﺣﺮب ﺑني اﻷوس واﻟﺨﺰرج ﰲ ﻣﻮﺿﻊ ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ ﺑﻌﺎث ،ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻸوس ﻋﲆ 45
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺨﺰرج ،ﺛﻢ ﺗﺼﺎﻟﺢ اﻟﻔﺮﻳﻘﺎن وزاﻟﺖ اﻷﺣﻘﺎد ﻣﻦ اﻟﺼﺪور ،واﺗﱡﻔﻖ أن ﺑﻌﺾ رﺟﺎل ﻣﻦ ً ﺟﻠﻮﺳﺎ ﰲ ﻣﻜﺎن ﻳﺘﺤﺎدﺛﻮن وﻫﻢ ﰲ وﻓﺎق ﺗﺎم ،ﻓﻤﺮ ﺑﻬﻢ ﺷﺎس ﺑﻦ ﻗﻴﺲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺘني ﻛﺎﻧﻮا ﱢ ً رﺟﻼ ﻳﺬ ﱢﻛﺮﻫﻢ ﺑﻴﻮم اﻟﻴﻬﻮدي ﻓﺄراد أن ﻳﺒﺚ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻓﺘﻨًﺎ ﺗﻨﻔﺮﻫﻢ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﺄرﺳﻞ ﻟﻬﻢ ﺑﻌﺎث وأﻧﺸﺪﻫﻢ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم؛ ﻓﺤﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻫﺎج اﻟﻘﻮم وﻗﺎﻟﻮا: اﻟﺴﻼح اﻟﺴﻼح ،ﻓﺠﺎء اﻟﻨﺒﻲ — ﺻﲆ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻋﻠﻴﻪ وﺳ ﱠﻠﻢ — وﻧﻬﺎﻫﻢ ﻋﻦ ﻓﻌﻞ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ؛ ﻓﺮﺟﻌﻮا ﻋﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻋﺰﻣﻮا ﻋﻠﻴﻪ وﺗﺼﺎﻟﺤﻮا وﻋﺮﻓﻮا أﻧﻬﺎ ﻧﺰﻏﺔ ﺷﻴﻄﺎﻧﻴﺔ ،وﺑﺴﺒﺐ ﻫﺬه ِﻳﻦ آﻣَ ﻨُﻮا إ ِ ْن ﺗُ ِﻄﻴﻌُ ﻮا َﻓ ِﺮ ً ﻳﻘﺎ ِﻣ َﻦ ا ﱠﻟﺬ َ اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﻧﺰل ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :ﻳَﺎ أَﻳﱡﻬَ ﺎ ا ﱠﻟﺬ َ ِﻳﻦ أُوﺗُﻮا ا ْﻟ ِﻜﺘَﺎبَ ﻳَ ُﺮدﱡو ُﻛ ْﻢ ﺑَﻌْ َﺪ إِﻳﻤَ ﺎ ِﻧ ُﻜ ْﻢ َﻛﺎﻓِ ِﺮ َ ﻳﻦ﴾. واﻟﺬي ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﻣﻦ اﺗﺤﺎد اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻳﻌﺮف ﻣﻘﺪار اﻟﺘﺄﺛري ﻣﻦ ذﻛﺮ اﻟﺤﻮادث املﺆملﺔ ﻟﻠﻌﻮاﻃﻒ املﺜرية ﻟﻸﺷﺠﺎن ﻋﲆ اﺧﺘﻼف اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺒﺎﻋﺜﺔ ﻋﲆ اﻟﺬﻛﺮى. ﻫﺬا ،وإﻧﻲ ﺣني ﻗﺪوﻣﻲ ﻋﲆ ﺗﻮﻧﺲ رأﻳﺖ ﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻦ املﻴﻨﺎء ﺣﺪﻳﻘﺔ ﺻﻐرية ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﺧﻤﺴﺔ أﺷﺨﺎص ،وﻫﻲ :رﺟﻞ واﻗﻒ وأﻣﺎﻣﻪ اﻣﺮأة واﻗﻔﺔ ﺑﺎﺳﻄﺔ ﻳﺪﻳﻬﺎ إﻟﻴﻪ ،ورﺟﻞ آﺧﺮ ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻧﻈﺮ ا ُملﻨﻜِﺮ وﺑﻴﺪه ﳾء ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻔﺄس أو اﻟﺒﻠﻄﺔ ،وﺑﺠﺎﻧﺒﻬﻢ ﻏﻼﻣﺎن ﻳﻨﻈﺮ ﻛﺘﺎب ﺑﻴﺪ اﻵﺧﺮ اﻟﺬي ﻳﺸري ﺑﺈﺻﺒﻌﻪ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻌ ﱢﻠﻤﻪ اﻟﻘﺮاءة ﻓﻴﻪ .ﻓﺴﺄﻟﺖ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﰲ ٍ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ وﻫﺬه اﻟﺮﻣﻮز ﻓﻘﺎل :أﻣﺎ اﻟﺮﺟﻞ اﻷول ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﺜﱢﻞ دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ، وأﻣﺎ املﺮأة ﻓﺘﻤﺜﱢﻞ ﺗﻮﻧﺲ ،وأﻣﺎ اﻟﺮﺟﻞ اﻵﺧﺮ ﻓﺈﻧﻪ إﻳﻄﺎﱄ ﻳﻤﺜﻞ دوﻟﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻃﺎﻣﻌﺔ ﰲ أﺧﺬ ﺗﻮﻧﺲ ﻗﺒﻞ ﻓﺮﻧﺴﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﻋﻴﺔ ﺟﻬﺪﻫﺎ ﰲ اﺣﺘﻼﻟﻬﺎ ،ﺛﻢ اﻧﻌﻜﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﻣﺮ ﺴﺘﻐﺮب إﱃ ﺑﻔﻮز ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﻓﻜﺎن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻹﻳﻄﺎﱄ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻧﻈﺮ ا ُملﻨﻜِﺮ ا ُمل ِ ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻓﺤﺮﻣﻪ ﻣﻨﻪ ﺛﻢ أﻋﻄﺎه ﻟﻐريه ،وأﻣﺎ اﻟﻐﻼم اﻟﺬي ﺑﻴﺪه ﻣﻦ وﻋﺪه ﺑﴚء وﻋﺪًا أﻛﻴﺪًا اﻟﻜﺘﺎب ﻓﻬﻮ ﺷﺎب ﻓﺮﻧﺴﻮي ﻳُﻌَ ﱢﻠﻢ ﺷﺎﺑٍّﺎ ﺗﻮﻧﺴﻴٍّﺎ اﻟﻘﺮاءة ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﺷﺎر ًة إﱃ أن ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺳﺘﺠﻌﻞ ﻟﻠﻐﺘﻬﺎ ﺷﺄﻧًﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻠﺖ ﰲ اﻟﺠﺰاﺋﺮ ،ﻓﻠﻤﺎ أن ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻨﻪ ذﻟﻚ ﻟﻢ أرﻏﺐ أن أزﻳﺪ ﻋﻦ ﺳﺆاﱄ اﻷول ﻛﻠﻤﺔ ﰲ ﺷﺄن ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺷﺄن اﻟﻘﺎدم ﻋﲆ ﺑﻠﺪ ﻟﻢ ﺗﻄﺄه ﻗﺪﻣﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻟﻢ ﻳﻌﻠﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ أﺣﻮال ﺳﺎﻛﻨﻴﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. ً ﺣﺎﻓﻼ ﺑﺎﻟﺠﻨﺪ وﻫﻢ وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻤﴤ ﻋﲇ ﱠ أﺳﺒﻮع ،ﺣﺘﻰ ﺷﺎﻫﺪت ذات ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻮﻛﺒًﺎ ﻳﺤﻤﻠﻮن اﻷﻋﻼم ،واملﺼﺎﺑﻴﺢ ،واملﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﺼﺪح أﻣﺎﻣﻬﻢ ،ﻓﻠﻢ أﺷﻚ ﰲ أﻧﻪ أﺣﺪ اﻻﺣﺘﻔﺎﻻت اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ أو ﻣﻮﻛﺐ زﻓﺎف ﻋﺮوس ﻷﺣﺪ اﻷﻣﺮاء ،وملﺎ ﺳﺄﻟﺖ ﻗﻴﻞ ﱄ :إﻧﻪ اﺣﺘﻔﺎل ﺑﺘﺬﻛﺎر 46
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ْ دﺧﻠﺖ ﻓﻴﻪ ﺟﻨﻮد ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺗﻮﻧﺲ ،ﻓﻔﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ أﺳﺒﻮع ﻳُﻌﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم اﻟﺬي اﻻﺣﺘﻔﺎل رﺳﻤﻴٍّﺎ وﻳﻄﻮف اﻟﺠﻨﺪ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﰲ ﺷﻮارع املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻜﱪى. ﻓﻠﻢ أﺷﺄ ً أﻳﻀﺎ أن أﺣﻜﻢ ﻋﲆ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺤﻜﻢ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﻛﻦ ﻋﺮﻓﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻨﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ أن ﻣﻜﺜﺖ أﻳﺎﻣً ﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﺟﺮى ﻋﲆ ﻳﺪﻫﺎ ﻣﻦ ﺷﺌﻮن اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ ﻓﺈذا ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ واﻟﺮﻣﻮز ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ رﻣﻮز و ُِﺿﻌﺖ ﻹﻳﻬﺎم اﻟﻮاﻓﺪ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج ﺑﺄن ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻗﺪ اﺣﺘﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﺑﺮﴇ أﻫﻠﻬﺎ ،وأﻧﻬﻢ راﺿﻮن ﺑﻤﺎ أﺟﺮﺗﻪ ﻣﻦ اﻹﺻﻼح ،وأن ﻫﺬا اﻟﱰﺣﻴﺐ ﻣﻨﻬﻢ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ رﺿﺎﻫﻢ ،وأﻧﻬﺎ ردﱠت ﻋﻨﻬﻢ ﻣﻄﺎﻣﻊ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻻﺣﺘﻔﺎل اﻟﺬي ﺗﻘﻴﻤﻪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺳﺒﻮع ﺗﺬﻛﺎ ًرا ﻟﺪﺧﻮل اﻟﺠﻨﻮد اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺒﻼد ﻣﻊ أن اﻷﻣﺮ ﺧﻼف ذﻟﻚ. وﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻫﻲ ﺳﻴﺎﺳﺔ املﺴﺘﺒﺪ ،وﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻬﺎ ﻟﻸﻫﺎﱄ ﻫﻲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﻘﻮي ﻟﻠﻀﻌﻴﻒ ،ﻳُﺴﺎم اﻟﺨﺴﻒ ﻓﻼ ﻳﺮﺛﻲ ﻟﻪ أﺣﺪ ،وﻻ ﻗﺪرة ﻋﲆ املﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺤﻘﻮﻗﻪ املﻬﻀﻮﻣﺔ، وإذا ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ا ُملﺴ ﱠﻠﻤﺔ أن املﺮء ﻻ ﻳﺸﻜﺮ ﻏريه ﱠإﻻ إذا وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺨري ﻣﻦ ﻳﺪﻳﻪ، ﻓﺈن أﻓﺎﺿﻞ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني ﻳﻨﻜﺮون إذا ُﺳﺌِﻠﻮا ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﻣﻮز واﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ ،وإذا ﻟﻢ ﻳﻨﻜﺮ أﺣﺪ ﻟﺪواع ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ،أو ﻣﻤﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮن اﻟﺤﻖ ﺑﺎﻟﺒﺎﻃﻞ ،وﻟﻮ ﺗﻌﻤﺪ املﻐﺎﻟﻄﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﻬﻮ إﻣﺎ ﻣﻀﻄﺮ ٍ وﺧﺪاع اﻟﻨﻔﺲ. وﻟﻮ ﻗﻠﻨﺎ إن ﻓﺮﻧﺴﺎ أﺻﻠﺤﺖ وﺟﻠﺒﺖ ﻣﻮدة اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﺑﺎﻟﻐﻮا ﰲ اﻟﺸﻜﺮ ﻟﻬﺎ رأﻳﻨﺎ ﻣﻦ ٍ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺒﻖ ﻟﺪوﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺪول اﻟﺘﻲ اﺣﺘﻠﺖ ﺑﻠﺪًا ﻣﻦ اﻟﺒﻼد ﺑُﻮﻟِﻎ ﰲ اﺣﱰاﻣﻬﺎ ،وإﻛﺮاﻣﻬﺎ ﺑﻬﺬا املﻘﺪار اﻟﺬي ﻳﻮﻗﻒ اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺮﻳﺐ واﻟﺸﻜﻮك. ً وأﻳﻀﺎ ﻗﴣ اﻟﻨﺎﻣﻮس اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ أن اﻟﺪوﻟﺔ اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ أﻣﺔ أﺧﺮى ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗﻜﺘﺴﺐ ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ ﺑﻮﺟﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮه وﻟﻮ ﺟﻌﻠﺖ َ أرض ﺑﻼدِ ﻫﺎ ﺗﻨﺒﺖ اﻟﻌﺴﺠﺪ واﻟﻨﻀﺎر ﱠإﻻ إذا ﻣﻨﺤﺘﻬﺎ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺘﺎم ،وﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﻄﻬﺎ ﺷﺒﻪ اﺳﺘﻘﻼل وﻻ ﺑﻌﺾ ﺷﺒﻪ اﺳﺘﻘﻼل، ﻓﺈذن ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺬه اﻟﺮﻣﻮز ﱠإﻻ ﻣﺎ ذُﻛِﺮ. وﻋﲆ ﻫﺬا ﺗﻜﻮن ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻗﺪ ﺧﺎﻟﻔﺖ ﺳﻨﺔ اﻟﺪول اﻟﺘﻲ ﺳﺎرت ﺳري اﻟﻌﺎﻗﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﰲ أوﻻ :اﺗﺒﺎﻋﻬﺎ اﻟﺨﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﺣُ ْﻜﻢ اﻷﻣﻢ اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺠﻨﺲ ،واﻟﻌﻘﻴﺪة ﻣﻦ وﺟﻬني؛ ً ﺗﻨﻔﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﻠﻮب أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺘﻠﻚ املﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺨﺸﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻓﺼﻠﺘﻬﺎ ﰲ ﺳﻴﺎﺳﺘﻬﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ ،ﺛﺎﻧﻴًﺎ :اﺑﺘﺪاع ﺑﺪﻋﺔ ﻟﻢ ﺗﺨﻄﺮ ﻋﲆ ﺑﺎل رﺟﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ املﺎﴈ واﻟﺤﺎﴐ وﻟﻦ ﺗﺨﻄﺮ أﺑﺪًا ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،وﻫﻲ أﻧﻬﺎ أﺟﱪت اﻟﻮﻃﻨﻴني ﺑﺎﻻﻋﱰاف ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺠﻤﻴﻞ ،وإذا ﻛﺎن ﻟﺪى اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ رﻳﺐ ﰲ ﻫﺬا ﻓﻠﻴﻘﺲ ﻣﻌﻨﺎ اﻷﻣﻮر ﻋﲆ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺼﺒﺢ ﻟﺬي 47
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻋﻴﻨني ،أﺗﺮى ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ أملﺎﻧﻴﺎ ﻓﻌﻠﺖ ﰲ اﻷﻟﺰاس واﻟﻠﻮرﻳﻦ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﺘﻪ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ أﻛﺎن ﻳﺼﱪ أﻫﻞ ﻫﺎﺗني املﻘﺎﻃﻌﺘني ﻋﲆ ﻫﺬه اﻹﻫﺎﻧﺔ ﻣﻦ إﻗﺎﻣﺔ ﺗﻤﺜﺎل واﺣﺘﻔﺎل ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺮي ﰲ ﺗﻮﻧﺲ أﺳﺒﻮﻋﻴٍّﺎ؟ أم ﻳﺬﻛﺮون اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﻓﻴﻪ وﻗﻔﺖ ﻓﺮﻧﺴﺎ أﻣﺎم أملﺎﻧﻴﺎ ﻣﻮﻗﻒ املﻐﻠﻮب املﻘﻬﻮر وﰲ ﻛﻞ ﻟﺤﻈﺔ ﻳﺸﺎﻫﺪون أﻧﻮاع اﻟﻈﻠﻢ واﻟﻘﺴﻮة وﻻ ﻗﺪرة ﻟﻬﻢ ﻋﲆ إزاﻟﺘﻬﺎ؟ وﻟﻮ وﺿﻌﻨﺎ إﺻﻼح ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﰲ ﻛﻔﺔ ﻣﻴﺰان وإﺻﻼح إﻧﻜﻠﱰا ﰲ ﻣﴫ ﰲ اﻟﻜﻔﺔ اﻷﺧﺮى ،ﻟﻜﺎن ﻹﻧﻜﻠﱰا ﻣﺰﻳﺔ اﻷرﺟﺤﻴﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻤﴫ ﺗﻤﺜﺎل ﻛﺎﻟﺬي ﰲ ﺗﻮﻧﺲ؟ واﺣﺘﻔﺎل ﻛﺎﻟﺬي ﺗﻌﻤﻠﻪ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻫﻨﺎك أﺳﺒﻮﻋﻴٍّﺎ ﺗﻘﻒ ﻓﻴﻪ ﻣﴫ ﻣﻮﻗﻒ املﺮﺣﺐ ﺑﺈﻧﻜﻠﱰا؟ وﻣﺠﻤﻞ اﻟﻘﻮل إن ﻓﺮﻧﺴﺎ أﺧﻄﺄت ﺧﻄﺄ ً ﺑﻴﱢﻨًﺎ ﰲ ﻋﻤﻠﻬﺎ ﻫﺬا ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن أﺟﺪرﻫﺎ ﺑﻌﺪم ﺣﺮﻣﺎن أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﻣﻦ ﺧريات ﺑﻼدﻫﻢ وﻣﻦ اﻟﺘﻤﺘﱡﻊ ﺑﻜ ﱢﻞ اﻟﺤﻘﻮق اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ اﺷﺘُﻬﺮت ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻤﺪن واﻟﺤﺮﻳﺔ واﺣﱰام اﻷدﻳﺎن ،ﻫﺬا ﻣﺎ ﱠ ﻋﻦ ﱄ ﻣﻦ اﻷﻗﻮال ذﻛﺮﺗﻪ وﷲ وﱄ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ. ) (16املﻌﻤﺮون اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﻮن ﰲ ﺗﻮﻧﺲ إذا ﻛﺎن اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻳﺰاﺣﻢ اﻟﴩﻗﻲ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺮاﻓﻖ اﻟﺤﻴﺎة إﻣﺎ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة ،وإﻣﺎ ﺑﺘﺄﺳﻴﺲ اﻟﴩﻛﺎت وﻏري ذﻟﻚ ،ﻓﻤﻦ ﺑﺎب أوﱃ إذا ﻛﺎن ﻟﺪوﻟﺘﻪ ﰲ ﺑﻼد اﻟﴩق ﻧﻔﻮذ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ أو اﻻﺣﺘﻼل وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ أﻛﺜﺮ ﻃﻤﻌً ﺎ وأﺷﺪ ﻣﺰاﺣﻤﺔ وﻣﻀﺎﻳﻘﺔ ﻟﻠﴩﻗﻲ ،ﺑﻞ ﻳﻘﻒ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ُﻠﺠﺌﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻓﻼ ﻳﺪﻋﻪ ﻳﺴﺘﺜﻤﺮ وﻳﺠﻨﻲ ﻣﻦ ﺧريات ﺑﻼده ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻮاﺟﺒﺎت ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﻗﺪ ﻳ ِ ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن إﱃ اﻟﻬﺠﺮة ﻣﻦ ﺑﻼده وﻣﺴﻘﻂ رأﺳﻪ إﱃ ﺑﻼد أﺧﺮى ،ﻳﻠﺘﻤﺲ ﻓﻴﻬﺎ أﺳﺒﺎب ْ ﻓﻌﻠﺖ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬا دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ؛ ﻷﻧﻬﺎ ملﺎ وﺿﻌﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻤﺎﻳﺘﻬﺎ أﺧﺬ املﻌﺎش ،وﻗﺪ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﻮن ﻳ ِﻔﺪُون إﻟﻴﻬﺎ أﻓﻮاﺟً ﺎ ﻓﺸﻐﻠﻮا اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ وزاﺣﻤﻮا اﻟﺘﺠﺎرة وﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺒﻠﻐﻮا ﰲ ﻣﻀﺎﻳﻘﺔ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﺎ ﺑﻠﻐﻮه ﰲ ﻣﻀﺎﻳﻘﺘﻬﻢ ﰲ اﺳﺘﻐﻼل اﻷرض؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻌﻠﻤﻮن ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺟﻬﺔ أن اﻣﺘﻼك اﻷرض ﺑﺄﺑﺨﺲ اﻷﺛﻤﺎن ﻟﺘﺴﺎﻫﻞ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻟﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ،ﺣﺘﻰ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷرض ﻣﻠ ًﻜﺎ ﻟﻸوﻗﺎف وﻫﺬا اﻟﺘﺴﺎﻫﻞ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ أﺧﺬ اﻷرض ﻫﺒﺔ ﺑﻼ ﺛﻤﻦ ،وﺑﻬﺬه اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ أﺻﺒﺢ اﻟﻔﻼح اﻟﺘﻮﻧﴘ ﰲ أﺷﺪ ﺣﺎﻻت اﻟﻀﻨﻚ ،واﻟﻀﻴﻖ ﰲ املﻌﺎش ،وإذا اﺳﱰﺣﻢ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﻌﺮه أدﻧﻰ اﻟﺘﻔﺎت وﻟﻮ ﻣﺎت ﺟﻮﻋً ﺎ ﻋﲆ ﻣﺮأى وﻣﺴﻤﻊ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ً داﻋﻴﺔ ملﻬﺎﺟﺮﺗﻬﻢ ﻣﻦ ﺑﻼدﻫﻢ ،وﺗﺸﺘﱡﺘﻬﻢ ﰲ اﻟﺒﻼد ﻋﲆ أن اﻷرض ﻫﺬه املﻌﺎﻣﻠﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻬﻢ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺰراﻋﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﻘﻞ ﻋﻦ ﺣﺎﺟﺎت اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻘﻮت اﻟﴬوري. 48
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (17ﺗﻌ ﱡﻠﻖ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺎﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ إن ﺗﻌ ﱡﻠﻖ املﺴﻠﻢ ﺑﻌﺮش اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ أﻣﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ َﻏ َﺮ َﺳﻪ اﻟﺪﻳﻦ ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﻓﻼ ﻏﺮاﺑﺔ ﰲ ٍ درﺟﺔ ﻳﺴﱰﺧﺺ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺬل اﻟﺮوح ﰲ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﻫﻮ اﻟﺘﻔﺎﻧﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﻠﻖ إﱃ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻫﺬا املﻘﺎم ،وﻫﻮ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ ،واﻟﺴﺒﺐ ﰲ ذﻟﻚ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺎﺳﻮﻧﻪ ﻣﻦ اﺳﺘﺒﺪاد ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺑﻬﻢ وﺳﻮء ﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻬﻢ ﻟﻬﻢ. وﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن دوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺗﺪﱠﻋﻲ أﻧﻬﺎ أول دوﻟﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺤﱰم اﻷدﻳﺎن ،وﻻ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﺤﺮﻳﺘﻬﺎ وﻫﻲ ﺑﺨﻼف ذﻟﻚ ﰲ ﻫﺎﺗني اﻟﻮﻻﻳﺘني. ﻓﻠﻮ اﻓﱰﺿﻨﺎ أن اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني واﻟﺠﺰاﺋﺮﻳني ﻣﻦ املﺴﻴﺤﻴني وأن اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻫﻲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ،وأن ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺒﺪاد ﻣﻨﺴﻮب إﻟﻴﻬﺎ أﻛﺎﻧﺖ ﺗﺼﱪ أوروﺑﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ أم ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺳﻞ اﻷﺳﺎﻃﻴﻞ واﻟﺠﻴﻮش ﰲ ﺳﺒﻴﻞ املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴني؟ إن ﺟﻮاب ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﺳﻬﻞ ﻻ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ إﻳﻀﺎح. واﻷﻏﺮب ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛ ﱢﻠﻪ أن أوروﺑﺎ ﺗﺘﻬﻢ املﺴﻠﻤني ﺑﺎﻟﺘﻌﺼﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ اﻓﱰاءً ﻣﻨﻬﺎ ،ﻓﻠﻮ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺗﻌﺼﺐ ﺣﻘﻴﻘﻲ ملﺎ ﺻﱪ ﻣﺴﻠﻤﻮ اﻟﺮوﺳﻴﺎ ،وﺗﻮﻧﺲ ،واﻟﺠﺰاﺋﺮ ،واﻟﺠﺒﻞ اﻷﺳﻮد، وﺑﻼد اﻟﺠﺎوا ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻢ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻢ اﻟﻔﺎدح واملﺼﺎﺋﺐ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺎﴍوﻧﻬﺎ ﰲ ﻛ ﱢﻞ آن ،ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ اﻟﺪرﺟﺔ ﺑﺎملﺴﻠﻤني ﰲ اﻟﺮوﺳﻴﺎ أﻧﻬﻢ ﻳُﻜ َﺮﻫﻮن ﻋﲆ اﻟﺘﻨﴫ ،وﰲ اﻟﺠﺒﻞ اﻷﺳﻮد ﻳﻨﺘﺰﻋﻮن أﻣﻮاﻟﻬﻢ ﻣﻦ أﻳﺪﻳﻬﻢ ،ﻋﲆ أن ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻻ ﻳﺒﻌﺪ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻣﺎ داﻣﺖ ﺳﺎﺋﺮة ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ أن ﻳﻨﻘﻠﺐ ﻇﻬﺮ املِ ﺠَ ﱢﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ ﻫﺎﺗني اﻟﻮﻻﻳﺘني؛ ﻷن اﻟﻘﻠﻮب ﻣﺘﻰ اﻧﺘﻘﻠﺖ ﻣﻦ ﻳﺪﻫﺎ ﻓﺎﻷﺟﺴﺎم ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﻬﺎ. وﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ ﻛﺜﺮة ﺗﻌ ﱡﻠﻘﻬﻢ ﺑﻌﺮش اﻟﺨﻼﻓﺔ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﻔﻮا ﺑﺎﻟﺪﻋﺎء ﻟﻠﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ ﰲ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻋﲆ املﻨﱪ ،ﺑﻞ ﻳﺪﻋﻮن ﻟﻪ ﰲ آﺧﺮ ﻛ ﱢﻞ ﺻﻼة دﻋﺎء ﻣﺆﺛ ﱢ ًﺮا ﻳُﺠﺮي اﻟﻌﱪات ﻣﻦ اﻟﻌﻴﻮن ،وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳُﻌ َﻠﻢ أن أﻛﺜﺮ اﻟﺪول اﺳﺘﻌﻤﺎ ًرا ﻫﻲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻣﻞ اﻷﻣﻢ اﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺮﻓﻖ واﻟﻠني وﺗﻤﻨﺤﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻻﺳﺘﻘﻼل ﻣﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺪم ،واﻻﻧﺘﻈﺎم ﰲ ﺳﻠﻚ اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ. ﱠ ﻫﺬه دوﻟﺔ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ملﺎ أﺳﺎءت ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ أﻫﻞ ﺟﺰاﺋﺮ اﻟﻔﻴﻠﺒني وﺟﺰﻳﺮة ﻛﻮﺑﺎ ﻛﺎن ذﻟﻚ داﻋﻴًﺎ ﻻﺷﺘﻌﺎل ﻧريان اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﻋﺠﺰت إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻋﻦ إﺧﻤﺎدﻫﺎ ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﺟ ﱠﺮاﺋﻬﺎ وﻗﻮع ﺣﺮب ﻫﺎﺋﻠﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،وﺧﴪت ﺑﺴﺒﺒﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل واﻷﻣﻮال ﰲ اﻟﱪ واﻟﺒﺤﺮ ﺧﺴﺎرة ﻛﱪى ،ﻏري اﻧﺘﺰاع ﻫﺬه اﻟﺠﺰاﺋﺮ ﻣﻨﻬﺎ وﺿﻤﱢ ﻬﺎ إﱃ أﻣﻼك اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ﺑﻌﺪ أن ﻣﻨﺤﺘﻬﺎ املﺠﺎﻟﺲ اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ. 49
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ د ﱠل اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﲆ أن اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺒ ﱡﺪ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻷﻣﻢ اﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﻬﺎ ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻨﻌﻜﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﻣﺮ ﰲ ﻳﻮ ٍم ﻣﺎ ﻣﻬﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﻤﺔ واﻟﺠﺎه وﻗﻮة اﻟﺴﻠﻄﺎن. ً رﻏﺒﺔ ﰲ أن ﺗﻌﺎﻣﻞ ﻓﺮﻧﺴﺎ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ واﻟﺠﺰاﺋﺮ املﻌﺎﻣﻠﺔ وإﻧﻲ ﻟﻢ أﻋﻘﺪ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ﱠإﻻ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺒﱢﺒﻬﺎ إﻟﻴﻬﻢ وﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ رﻗﻴﻬﻢ املﺎدي ،واﻷدﺑﻲ ﺑﻨﴩ اﻟﻌﻠﻮم وﺗﻘﺪﱡم اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ، واﻟﺰراﻋﺔ ،واﻟﺘﺠﺎرة ،وﻣﻨﺤﻬﻢ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺬي ﻫﻮ ﺷﻌﺎر اﻷﻣﻢ اﻟﺤﻴﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗُﻔﺎﺧِ ﺮ اﻷﻣﻢ ﺑﻬﺬا اﻟﻠني؛ إذ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﻈﻠﻢ واﻟﻘﺴﻮة ﻻ ﻳُﺠْ ﺪِﻳﺎﻧﻬﺎ ﻧﻔﻌً ﺎ اﻟﺒﺘﺔ. ) (18زﻳﺎرﺗﻲ ﻟﺴﻤﻮ ﺑﺎي ﺗﻮﻧﺲ أردت زﻳﺎرة ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺴﻤﻮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﻨﺎﴏ ﺑﺎي ﺗﻮﻧﺲ اﻷﻓﺨﻢ ،ﻓﻘﺼﺪت اﻟﴪاي املﻘﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﻲ ﰲ ﺿﻮاﺣﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﻤﺤ ﱟﻞ ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ ﺳﻴﺪي أﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﺎملﺮﳼ وﻫﻮ ﻳﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﻤﻘﺪار ﻧﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ ،واﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺬﻫﺐ أﺣﺪﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ إﱃ املﻄﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺧﻄﻬﺎ اﻟﺤﺪﻳﺪي ،وملﺎ وﺻ ْﻠ ُﺖ إﱃ اﻟﴪاي ﺑﻌﺜﺖ ﺑﻜﺎرت إﱃ دﻳﻮان اﻟﺘﴩﻳﻔﺎت وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﺣﴬ إﱄ ﱠ أﺣﺪ ﻣﻌﺎﻳﻨﻲ اﻟﺤﴬة اﻟﻌﻠﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻠﻘﺒﻮﻧﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،وملﺎ ﺗﻘﺎﺑﻠﻨﺎ ﻟﻘﻴﻨﻲ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺣﻔﺎوة د ﱠﻟﺖ ﻋﲆ ﻛﺮم أﺧﻼﻗﻪ ،وأدب ﻧﻔﺴﻪ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﻔﺎوة ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ ﻛﺮم أﺧﻼق ﺳﻴﺪه ،وﺑﻌﺪ ﺗﺒﺎدل اﻟﺘﺤﻴﺔ أﺧﱪﺗﻪ ﺑﺄﻧﻲ أرﻳﺪ أن أﺗﴩف ﺑﻤﻘﺎﺑﻠﺔ ﺳﻤﻮ اﻟﺒﺎي ﻓﻌ ﱠﺮﻓﻨﻲ أن ذﻟﻚ ﻏري ﻣﻤﻜﻦ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳُﴫﱠ ح ﻟﻸﻏﺮاب ﺑﺄن ﻳﻘﺎﺑﻠﻮا ﺳﻤﻮﱠه ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ أن ﻳُﻌ َﺮض اﻷﻣﺮ ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ،ﻓﺎﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ املﻘﺎﺑﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﻏﺮاب ﻳﺬﻫﺐ ً أوﻻ إﱃ اﻟﺴﻔﺎرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ،وﻳُﻄﻠِﻊ اﻟﺴﻔري ﻋﲆ اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻷﺟﻠﻪ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺳﻤﻮ اﻟﺒﺎي ،وﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ ﱡ ﺣﻖ اﻟﺘﴫﻳﺢ ﺑﺎملﻘﺎﺑﻠﺔ أو ﻣﻨﻌﻬﺎ ،أﻣﺎ أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻘﺎﺑﻠﻮن ﺳﻤﻮه أﻧﱠﻰ ﺷﺎءوا ﺑﻐري إذن ﻣﻦ اﻟﺴﻔري ،وﻻ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻟﻸﻏﺮاض اﻟﺘﻲ ﻳﺮﻳﺪون ﻣﺤﺎدﺛﺘﻪ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﺄﺳﻔﺖ ﺟﺪٍّا ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ،ودﻋﻮت ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ أن ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻴﺪ أﻣﺮاء املﺴﻠﻤني ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺑﻘﺎع اﻷرض ،وﻻ داﻋﻲ إﱃ ذﻛﺮ ا ُملﻌﺎ ِﻳﻦ اﻟﺬي أﺧﱪﻧﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻷﻧﻪ ﻳﺠﻮز أن ﺗﻨﺘﻘﻢ ً ً ﻓﺎﺿﻼ رﺟﻼ ﻣﻨﻪ ﻓﺮﻧﺴﺎ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ذﻫﺒﺖ ﻣﻦ اﻟﴪاي وودﻋﺖ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ،وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ اﻟﺤﺎﺷﻴﺔ وﻫﻮ اﻟﺴﻴﺪ ﻋﺜﻤﺎن اﻟﱰﻛﻲ أﺣﺪ ﻣﻌﺎﻳﻨﻲ اﻟﺤﴬة اﻟﻌﻠﻴﺔ ﻛﻤﺜﻞ ﺳﺎﺑﻘﻪ.
50
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (19زﻳﺎرﺗﻲ ﻟﺠﻨﺎب املﻮﺳﻴﻮ ﺑﻴﺸﻮن ﺗﻮﺟﻬﺖ ﰲ ﻳﻮم إﱃ دار اﻟﺴﻔﺎرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ملﻘﺎﺑﻠﺔ ﺟﻨﺎب املﻮﺳﻴﻮ ﺑﻴﺸﻮن ﺳﻔري ﻓﺮﻧﺴﺎ ﰲ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ووزﻳﺮ ﺧﺎرﺟﻴﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ً ﺣﺎﻻ ،ﻓﻘﺎﺑﻠﻨﻲ ﺟﻨﺎﺑﻪ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺣﺴﻨﺔ أﻋْ َﺮب ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﺗﻮﻧﺲ أدﺑﻪ ،وﻛﺮم أﺧﻼﻗﻪ ،وﺗﻬﺬﻳﺐ ﻧﻔﺴﻪ ،وﺑﻌﺪ اﻟﺘﻌﺎرف وﺗﺒﺎدُل ﻋﺒﺎرات اﻟﺘﺤﻴﺔ واﻟﱰﺣﻴﺐ دار ﺑﻨﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻵﺗﻲ: – إﻧﻨﻲ ﺣﻴﻨﻤﺎ وﻓﺪت إﱃ ﺗﻮﻧﺲ رﻏﺒﺖ ﰲ زﻳﺎرة ﺳﻤ ﱢﻮ اﻟﺒﺎي ﺑﺼﻔﺘﻲ ﻣﺴﻠﻤً ﺎ وﻫﻮ أﻣري ﻣﺴﻠﻢ ،وملﺎ ﺗﻮﺟﱠ ﻬﺖ إﱃ ﴎاي ﺳﻤﻮﱢه ﻗﺎﺑﻠﻨﻲ أﺣﺪ ا ُملﻌﺎﻳﻨني ،وملﺎ ﻋﺮﺿﺖ ﻋﻠﻴﻪ أﻣﺮ اﻟﺘﴩف ﺑﻤﻘﺎﺑﻠﺔ ﺳﻴﺪه أﺧﱪﻧﻲ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻮز ﻷﺣﺪ ﻣﻦ ﻏري اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني أن ﻳﺰور ﺳﻤﻮﱠه ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ إﺧﻄﺎر »اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ« واﻟﺘﴫﻳﺢ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ اﻟﻮزارة ﻷﺟﻞ أن ﺗُ ﱢ ﻌني وﻗﺘًﺎ ﻟﻠﺰﻳﺎرة وﺣني أن ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻨﻪ ذﻟﻚ ﻗﺪ أﺗﻴﺖ وﺗﴩﻓﺖ ﺑﻤﻘﺎﺑﻠﺔ ﺟﻨﺎﺑﻜﻢ ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض. – ﻧﻌﻢ ،إن ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻟﻚ أﺣﺪ املﻌﺎﻳﻨني ﻫﻮ اﻟﻮاﻗﻊ ،وإن ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻌﺬر ﰲ ﻣﺮاﻗﺒﺘﻬﺎ وﺗﺨﻮﱡﻓﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻏﺮاب اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻔﺪون إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺮﻳﺪون زﻳﺎرة اﻟﺒﺎي ﻷﺳﺒﺎب ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ،وذﻟﻚ أﻧﻪ ﻳ ِﻔ ُﺪ أﻧﺎس إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﺑﺼﻔﺘﻬﻢ ﺳﺎﺋﺤني ،وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺟﻮاﺳﻴﺲ ﱢ ﻳﻨﻘﺒﻮن ﻋﻦ أﴎار داﺧﻠﻴﺔ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻓﻴﺒﻠﻐﻮﻧﻬﺎ إﱃ ﺣﻜﻮﻣﺎﺗﻬﻢ أو اﻷﺣﺰاب املﻨﺘﻤني إﻟﻴﻬﺎ ،وﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﱡ اﻟﺘﺠﺴﺲ وﺟﺮاء ﻫﺬه اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ. ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬا وﻗﺪ ﺣﺪث ﰲ ﺷﻬﺮ ﻣﺎﻳﻮ ﺳﻨﺔ ٩٠٤أن أﺣﺪ اﻷملﺎن ﺟﺎء إﱃ ﺗﻮﻧﺲ وﻃﻠﺐ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺳﻤ ﱠﻮ اﻟﺒﺎي اﻟﺴﺎﺑﻖ املﻐﻔﻮر ﻟﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﻬﺎدي ،ﻓﴫح ﻟﻪ وﻋني اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ املﻘﺎﺑﻠﺔ ،وملﺎ ﻗﺎﺑﻞ ﺳﻤﻮﱠه أراد أن ﻳﻄﺮق أﺑﻮاب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وﺗﻄ ﱠﺮق إﱃ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ ﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮﻫﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻓﻴﻪ ،ﻓﻠﻤﺎ رأى ﺳﻤﻮ اﻟﺒﺎي أﻧﻪ ﺧﺮج ﻋﻦ داﺋﺮة اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻗﺎﺑﻠﻪ ﻷﺟﻠﻪ أﺷﺎر ﺑﺎﻧﺘﻬﺎء ﻗﻄﻊ اﻟﻜﻼم ،وﻛﺎن اﻷملﺎﻧﻲ ﻗﺪ ﻣﻜﺚ ﺑﺤﴬﺗﻪ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ ،ﻣﻊ أن اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻋُ ﱢني ﻟﻪ أزﻳﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،وملﺎ ﻋﻠﻤﺖ اﻟﻮزارة ﺑﺬﻟﻚ ارﺗﺎﺑﺖ ﰲ أﻣﺮ ﻫﺬا اﻷملﺎﻧﻲ وﺑﺎﻟﺒﺤﺚ و ُِﺟﺪ أﻧﻪ ﺟﺎﺳﻮس ﺟﺎء ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أملﺎﻧﻴﺎ ﻻﻛﺘﺸﺎف أﺣﻮال اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ. ﱠ وﻛﺄﻧﻨﻲ ﺑﻚ ﺗﻌﱰض وﺗﻘﻮل :ﻻ ﺣﻆ ﻷملﺎﻧﻴﺎ ﰲ وﺟﻮد ﺟﻮاﺳﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻘﻄﺮ ﻣﺎ دام ﻟﻔﺮﻧﺴﺎ ﻓﻴﻪ ﺣﻖ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ،ﻓﺄﻗﻮل ﻟﻚ :إن أملﺎﻧﻴﺎ ﻟﺪاﻋﻲ ﺻﺪاﻗﺘﻬﺎ ﻣﻊ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻘﺪﱢم ﻟﻬﺎ ﺧﺪﻣﺔ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻌﺎل ،ﻣﻮﻫﻤﺔ أﻧﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﺴﻌﻰ ﰲ إﻋﺎدة ﺗﻮﻧﺲ إﱃ ﺣﻜﻢ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﻟﺘﺰﻳﺪ اﻟﺮاﺑﻄﺔ ﺑني ﺗﺮﻛﻴﺎ وﺑﻴﻨﻬﺎ ،وإذا ﻛﻨﺎ ﻧﺮاﻗﺐ ﻣﺜﻞ أملﺎﻧﻴﺎ ﻟﺼﺪاﻗﺘﻬﺎ 51
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻟﱰﻛﻴﺎ ﻓﻜﻴﻒ ﻻ ﻧﺮاﻗﺐ املﴫﻳني اﻟﺘﺎﺑﻌني ﻟﻠﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻣﻤﻦ ﻳﺤﱰﻓﻮن ﺑﺤﺮﻓﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻣﻨﻬﻢ؟ – إن ﱄ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﻋﲆ ﻛﻼم ﺟﻨﺎﺑﻜﻢ ،وﻫﻲ أن اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺒﻌﺚ ﻟﻬﺎ ﺟﻮاﺳﻴﺲ ﰲ اﻹﻳﺎﻟﺔ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ ،ﻓﻠﻴﺴﺖ ﰲ اﺣﺘﻴﺎج إﱃ أن ﺗﺘﺨﺬﻫﻢ ﻣﻦ اﻷملﺎن؛ ﻷن ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻮاﺳﻴﺲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺪول ،وﻫﻢ ﻣﻦ اﻷﻣﻨﺎء اﻟﺼﺎدﻗني ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻬﺎ اﻟﻌﺎرﻓني ﱡ اﻟﺘﺠﺴﺲ ﻓﻬﻲ أﺑﺮع ﻣﻦ أملﺎﻧﻴﺎ وﻏريﻫﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﺎب. ﺑﴬوب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وﻓﻨﻮن أﻣﺎ اﻟﺮﺟﻞ اﻷملﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﺗﻘﻮﻟﻮن إﻧﻪ ﺣﴬ ﻟﻴ ﱠ ﻄﻠﻊ ﻋﲆ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﱠإﻻ ٍ آت ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ دوﻟﺘﻪ ﱢ ﻟﺪس اﻟﺪﺳﺎﺋﺲ ،وﺗﻨﻔري ﻗﻠﻮب اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ ﻓﺮﻧﺴﺎ ،وﻣﺎ ﺑني أملﺎﻧﻴﺎ وﻓﺮﻧﺴﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺪاوة اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﺄﺳﺴﺖ ﻣﻨﺬ اﻟﺤﺮب اﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺔ أﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى. وأﻣﱠ ﺎ ﻗﻮل ﺟﻨﺎﺑﻜﻢ إﻧﻜﻢ ﺗﺮاﻗﺒﻮن املﴫﻳني واﻟﺼﺤﺎﻓﻴني ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص، ﻓﺈﻧﻲ أؤﻛﺪ ﻟﺠﻨﺎﺑﻜﻢ أﻧﻲ ﻣﴫي ﻋﺜﻤﺎﻧﻲ أرى أن أوﱠل واﺟﺐ ﻋﲇ ﱠ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻫﻮ ﺧﺪﻣﺔ دوﻟﺘﻲ ،وأﺑﻨﺎء وﻃﻨﻲ ودﻳﻨﻲ ﺑﻜ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ،وﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﺗﻴﺖ إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﺗﺸريون إﻟﻴﻪ ،ﻟﻜﻨﺖ أﺻﻨﻊ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﺨﱪ. اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ ﻣﺎ ﻗﺪِﻣﺖ ﻷﺟﻠﻪ ،وﻫﺬا ﺷﺄن ﻛ ﱢﻞ ِ – اﻵن ﻻ ﺑﺄس ﻣﻦ وﺟﻮدك ﰲ ﺗﻮﻧﺲ وﻻ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻚ ﻟﺴﻤﻮ اﻟﺒﺎي وﻣﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﱠإﻻ أن ﺗﻨﺘﻈﺮ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ اﻟﺘﴩف ﺑﺎملﻘﺎﺑﻠﺔ. – إﻧﻨﻲ ﺷﺎﻛﺮ ﻟﺠﻨﺎﺑﻜﻢ ﻋﺪوﻟﻜﻢ ﻋﻦ اﻟﻔﻜﺮ اﻷول ،وإﻧﻲ أؤﻛﺪ ﻟﺠﻨﺎﺑﻜﻢ أﻧﻲ ﻟﻢ أرﻏﺐ ً ﻣﻮﺻﻮﻓﺎ ﺑﻤﻜﺎرم اﻷﺧﻼق ،وﻟﻄﻒ اﻟﺴﺠﺎﻳﺎ، ﰲ زﻳﺎرة ﺳﻤ ﱢﻮ اﻟﺒﺎي ﱠإﻻ ﻟﻜﻮﻧﻪ أﻣريًا ﻣﺴﻠﻤً ﺎ ﻓﺄﺣﺒﺒﺖ أن ﻳُﺴﻌِ ﺪﻧﻲ اﻟﺰﻣﻦ ﺑﺴﺎﻋﺔ أﻗﻀﻴﻬﺎ ﰲ ﺣﴬﺗﻪ اﻟﺴﻨﻴﺔ ﻟﻠﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﺑﺎﻵﺧﺮ. وﺑﻤﺎ أن اﻟﻮﻗﺖ ﻏري ٍ ﻛﺎف ﻷن أﻧﺘﻈﺮ ﻣﻴﻌﺎد املﻘﺎﺑﻠﺔ ﻓﻘﺪ اﻛﺘﻔﻴﺖ ﺑﻤﺎ ﻳُﺬاع وﻳﺸﺎع ﻋﻦ ﺣﺴﻦ آداب ﻫﺬا اﻷﻣري اﻟﻌﻈﻴﻢ ،وﺟﻠﻴﻞ ﺳﺠﺎﻳﺎه اﻟﺘﻲ ﺣﺒﱠﺒﺘﻪ إﱃ اﻟﺨﺎص واﻟﻌﺎم ﺳﻮاء ﰲ ذﻟﻚ رﻋﺎﻳﺎه اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني أو ﻏريﻫﻢ. ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺮدﻧﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ ذﻛﺮ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ وﻣﺴﺎﺋﻞ أﺧﺮى ،ﻓﻜﺎن ﻣﻤﱠ ﺎ ﺣﺪﱠﺛﻨﻲ ﺑﻪ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻵﺗﻲ» :إﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺑﺎدئ أﻣﺮي أﻣﻴﻞ ﻛ ﱠﻞ املﻴﻞ إﱃ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ،وﻛﻨﺖ أﻛﺜﺮ ﻣﻄﺎﻟﻌﺔ اﻟﺠﺮاﺋﺪ إﱃ درﺟﺔ ﺗﻔﻮق اﻟﻌﺎدة ،وﻣﻦ ﺷﻐﻔﻲ ﺑﻬﺎ ﻛﻨﺖ أﻛﺘﺐ ﻣﻘﺎﻻت ﻛﺜرية ﰲ ﺟﺮﻳﺪة »ﻻﺟﻮﺳﺘﻴﺲ« اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻟﺴﺎن ﺣﺰب اﻻﺷﱰاﻛﻴني ،وﻣﺎ زﻟﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻴ ًﱠﺎﻻ إﱃ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ واﻟﺨﻄﺎﺑﺔ ﰲ اﻟﺸﺌﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ إﱃ ﺳﻨﺔ ١٨٨٥وﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﺔ ﻋُ ﻴﱢﻨﺖ ﰲ وﻇﻴﻔﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ 52
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺑﻨﻬﺮ اﻟﺴني ﺑﻔﺮﻧﺴﺎ ،وﺑﻌﺪ ﻣﺪة ﻋﻴﻨﺖ ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ إﺣﺪى ﺟﻤﻬﻮرﻳﺎت أﻣﺮﻳﻜﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٩٥ﻋﻴﻨﺖ ﺳﻔريًا ﰲ ﺑﻜني ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺼني ،وﰲ ﻫﺬه املﺪة ﺣﺪﺛﺖ ﺣﻮادث اﻟﺒﻮﻛﴪ ،واﺷﺘﻌﻠﺖ ﻧريان اﻟﺜﻮرة ﺿﺪ اﻷﺟﺎﻧﺐ ﰲ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﺑﻦ اﻟﺴﻤﺎء ،واﺷﱰﻛﺖ اﻟﺪول ﰲ إﻃﻔﺎء ﻧريان ﻫﺬه اﻟﺜﻮرة ﺑﻌﺪ أن أُزﻫِ ﻘﺖ أرواح ﻛﺜريﻳﻦ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني ،وﻣﻜﺜﺖ ﰲ ﺑﻼد اﻟﺼني إﱃ ﺳﻨﺔ ١٩٠١ﺣﻴﺚ اﻧﺘُﺪﺑﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ دوﻟﺘﻲ ﺳﻔريًا ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ،وذﻟﻚ ﰲ ﺷﻬﺮ دﻳﺴﻤﱪ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﺔ ،وﺑﻤﺠﺮد وﺻﻮﱄ إﻟﻴﻬﺎ ﺳﻌﻴﺖ ﺟﻬﺪي ﰲ ﺑﺚ روح اﻹﺻﻼح ﰲ اﻹدارة وﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺗﺮﻗﻲ اﻟﺒﻼد ،وﻣﻦ ﺿﻤﻦ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﻫﻮ ﻣﻨﺢ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﻠﺠﺮاﺋﺪ واملﻄﺒﻮﻋﺎت ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎﻧﺖ أﻗﻼﻣﻬﺎ ﻣﻐﻠﻮﻟﺔ ﺑﻘﻴﻮد اﻟﻀﻤﺎن ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﺳﺎع اﻵن ﺟﻬﺪي ﰲ إﺧﺮاﺟﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﱢﺰ اﻟﺘﻔﻜﺮ إﱃ داﺋﺮة اﻟﻌﻤﻞ إﱃ ذﻛﺮه اﻵن ،واﻟﺬي أﻧﺎ ٍ ﻫﻮ ﻣﻨﺢ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴني ﱠ ﱞ ﺧﺎص ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني، ﺣﻖ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﰲ ﻣﺠﻠﺲ اﻟﺸﻮرى اﻟﺬي ﻫﻮ اﻵن وﺗﺮﻗﻴﺔ اﻟﺰراﻋﺔ ،واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ ،واﺗﺴﺎع داﺋﺮة اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ وﻣﺎ أﺷﺒﻪ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺬﻛﺮﻧﻲ ﺑﻬﺎ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﻮن اﻟﺬﻛﺮ اﻟﺤﺴﻦ ،واﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﱄ ﻧﻘﻄﺔ ﺑﻴﻀﺎء ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻲ اﻟﺬي ﻗﻀﻴﺘﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد«. ﻓﺸﻜﺮت ﻟﻪ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر وﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﴩﻳﻔﺔ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﴍﺣﺖ ﻟﻪ ﻣﺎ ﻳﻼﻗﻴﻪ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﻮن ﻣﻦ ﺿﻐﻂ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ وأﺗﻴﺖ ﻟﻪ ﺑﺸﻮاﻫﺪ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﺴﻮة اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻣﻠﻮن ﺑﻬﺎ وأﻧﻮاع اﻟﻀﻴﻖ اﻟﺬي ﻫﻢ ﻓﻴﻪ ،وﻗﻠﺖ ﺣﺒﱠﺬا ﻟﻮ ﻧﻈﺮﺗﻢ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻷﻫﺎﱄ اﻵن ﺑﻌني اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ املﺄﻣﻮل ﰲ ﺟﻨﺎﺑﻜﻢ. ﻓﻮﻋﺪﻧﻲ ﺑﺎملﻘﺎﺑﻠﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻟﻠﻤﺤﺎدﺛﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺮ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺎﻟﺒﺎل ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ، وﻟﻜﻦ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ﻟﻢ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ املﻘﺎﺑﻠﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى. ) (20ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة ﺳﻤﻮ ﺑﺎي ﺗﻮﻧﺲ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻷﻣري ﺳﻠﻴﻞ اﻷﻣﺮاء اﻟﻔﺨﺎم ،واﻷﻗﻴﺎل اﻟﻌﻈﺎم اﻟﺬﻳﻦ ﻧﺎﻟﻮا املﻌﺎﱄ ﻛﺎﺑ ًﺮا ﻋﻦ ﻛﺎﺑﺮ، ْ واﻓﺘﺨﺮت ﺑﻤﺪﺣﻬﻢ وﺗﺪوﻳﻦ ﻣﺂﺛﺮﻫﻢ ﺑﻄﻮ ُن اﻟﺪﻓﺎﺗﺮ واﻫﺘﺰت ﻃﺮﺑًﺎ ﺑﺎﻟﺜﻨﺎء ﻋﻠﻴﻬﻢ املﻨﺎﺑﺮ، وﺳﺎرت ذﻛﺮاﻫﻢ ﻣﺴري اﻷﻣﺜﺎل ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺟﻴﺎل ،وﺷﺎدت ﻟﻬﻢ اﻟﺸﻌﺮاء ﻣﻦ ﴏوح املﺠﺪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻧﺎدٍ ،ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ َِﺸﺪْه ﻟﻠﻨﻌﻤﺎن ﺷﻌ ُﺮ زﻳﺎد .ﻛﺮم ﺑﺎذخ ،وﻣﺠﺪ ﺷﺎﻣﺦ ،وﺳرية أﻛﺴﺒﺖ اﻟﺮوض ﻋﺒريه ،واﻟﺸﻤﺲ ﺿﻴﺎءﻫﺎ واﻟﻘﻤﺮ ﻧﻮره ،ﻓﺈذا ﺟﺮى ذﻛﺮ ﻣﻠﻮك ﺑﻨﻲ ﻏﺴﺎن ،أو
53
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
املﻨﺎذرة ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻨﻌﻤﺎن ،أو أﻗﻴﺎل ﻧﺠﺮان ،أو ﺻﺎﺣﺐ ﻗﴫ ﻏﻤﺪان ،أو ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﻣﻠﻮك اﻟﻌﺮب اﻟﺼﻴﺪ ،وأﻣﺮاء اﻹﺳﻼم اﻟﺼﻨﺎدﻳﺪ ،اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻔﻆ ﻟﻬﻢ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻣﺠﺪ أﻋﻼﻫﻢ ﻓﻮق اﻟﺜﺮﻳﺎ واملﺮﻳﺦ ،وأوﻃﺄﻫﻢ أدﻳﻢ َ اﻟﻔ ْﺮ َﻗﺪﻳﻦ ،وﺣﻂ رﺟﻠﻬﻢ ﺑني ﱢ اﻟﺴﻤﺎﻛني ،ﻓﺂل اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺴﻴﻨﻴﺔ ﻫﻢ واﺳﻄﺔ ﻫﺬا اﻟﻌﻘﺪ اﻟﻔﺮﻳﺪ ،وﻫﺬا اﻷﻣري ﻓﻴﻬﻢ ﺑﻴﺖ اﻟﻘﺼﻴﺪ: وﻫﻮ اﻟﺒﺪﻳﻊ اﻟﻔﺮد ﻣﻦ أﺑﻴﺎﺗﻬﺎ
ذﻛﺮ اﻷﻧﺎم ﻟﻨﺎ ﻓﻜﺎن ﻗﺼﻴﺪة
ﺑﻨﺴﺐ ﰲ املﺠﺪ ﻋﺮﻳﻖ ،وﻣﺤﺘ ٍﺪ ﺑﻜﻞ أﻧﻮاع املﺪاﺋﺢ ﺧﻠﻴﻖ! ﻓﺄﻛﺮم ٍ أﻣﺎ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺬاﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻫﻴﻮﱄ اﻟﴩف اﻟﻄﺎرف واﻟﺘﺎﻟﺪ وﻣﺜﺎل املﺤﺎﻣﺪ، ﻓﺤﺪ ْ ﱢث ﻋﻦ اﻟﺒﺪر اﻟﺰاﻫﺮ ،واﻟﺒﺤﺮ اﻟﺰاﺧﺮ ،واﻟﺮوض اﻟﻨﺎﴐ: ﻣﺎ ﺷﺌﺖ ﻗﻞ ﻓﻲ روﻧﻖ اﻟﺮوض اﻟﻨﺪي أﺧ ﺬت أﺧ ﺎﻣ ﺼ ﻪ أدﻳ ﻢ اﻟ َﻔ ْﺮ َﻗ ﺪ
ﻳ ﺎ ﺳ ﺎﺋ ﻠ ﻲ ﻋ ﻨ ﻪ وﻋ ﻦ أﺧ ﻼﻗ ﻪ ﻛ ﺮم ﻳ ﺰﻳ ﻨ ﻪ اﻟ ﻌ ﻔ ﺎف وﻫ ﻤ ﺔ
ﻋِ ﻔﺔ ﻧﻔﺲ ﺗﻤﺜﱢﻞ أﻣﺎﻣﻪ اﻟﺸﺒﻬﺎت ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻛﱪى اﻵﺛﺎم ،وﻫﻤﺔ ﻟﺬي اﻷزﻣﺎت ﺗﻜﺸﻒ اﻟﻐﻤﺔ وﺗﺠﻠﻮ اﻟﻈﻼم ،وذﻛﺎء ﻗﻠﺐ ﰲ املﻌﻀﻼت أﻣﻀﺎ ﻣﻦ ﻏﺮار اﻟﺤﺴﺎم ،وإﺻﺎﺑﺔ رأي ﻋﻨﺪ املﺸﻜﻼت أﻧﻔﺬ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﺎم ،وﺧﻀﻮع ﻧﻔﺲ ﻳﺠﻤﱢ ﻠﻪ اﻟﻮﻗﺎر ،وﻣﻬﺎﺑﺔ ﺗﺨﺸﻊ ﻟﻬﺎ اﻷﺑﺼﺎر: وﻳﺮى اﻟﺘﻮاﺿﻊ أن ﻳُ َﺮى ﻣﺘﻌﺎﻇﻤً ﺎ
وﻳﺮى اﻟﺘﻌﺎﻇﻢ أن ﻳُ َﺮى ﻣﺘﻮاﺿﻌً ﺎ
ﺣﻠﻢ دوﻧﻪ ﺛﺒري وﺛﻬﻼن ،وﺟﺒﻼ ﻧﻌﻤﺎن ،وإﻗﺪام ﺗﺬل ﻟﻪ اﻟﺨﻄﻮب وﻃﻮارق اﻟﺤَ ﺪَﺛﺎن، وﺣﺴﻦ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻣﻸت ﺑﻪ ﻋﺮش اﻟﺮﺋﺎﺳﺔ وﺧﱪة ﺑﺎﻷﻳﺎم واﻟﻌﺼﻮر ،ووﻗﺎﺋﻊ اﻟﺪﻫﻮر وﻃﻮل ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻟﻸﻣﻮر اﻟﺼﻌﺎب ،أزاﻟﺖ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺼﻮاب ﻛ ﱠﻞ ِﺳ ْﱰ وﺣﺠﺎب ،وﺗﻘﻮى وﻧﺰاﻫﺔ، وﴎﻋﺔ ﺑﺪاﻫﺔ ،ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻐﻴﺐ ﻣﻦ ِﺳ ْﱰ ﺷﻔﺎف .ﺣﻴﺚ ﻳﻜﺎد ﻳﺮى ﺧﻔﻲ اﻷﻟﻄﺎف، ﻓﻬﻮ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﺸﺎﻋﺮ وﻣﺎ ﺗﻌﺪى ،وﺑﻪ ﻛﻞ أملﻌﻲ ﺗﺤﺪﱠى: ﺣ ﻨ ﺎدﺳ ﻪ ﺟ ﻠ ﻰ وﺟ ﻮه اﻟ ﺪﻳ ﺎﺟ ﺮ
ﻟﻪ اﻟﺮأي إن ﺟﻮ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺧﻴﻤﺖ
54
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺮﻋﻴﺔ ،ﻓﻬﻮ اﻟﻌﺎدل ﰲ أﺣﻜﺎﻣﻪ ﻳﻌﺎﻗﺐ إذ ﻛﺎن اﻟﻌﻘﺎب أﺻﻠﺢ، وﻳﺼﻔﺢ إذا ﻛﺎن اﻟﺼﻔﺢ أﻧﺠﺢ ،وﻻ ﻳﻐﺮس اﻟﺠﻤﻴﻞ ﱠإﻻ إذا ﺻﺎدف ﺣ ٍّﺮا ،وإذا ُز ﱠﻓﺖ إﻟﻴﻪ ﻋﺮاﺋﺲ املﺪاﻳﺢ ﺟﻌﻞ اﻟﺠﻮد ﻟﻬﺎ ﻣﻬ ًﺮا .ﻓﻬﻮ ﻧﺎﴏ اﻟﻀﻌﻔﺎء إذا أﻛﻠﻬﻢ اﻷﻗﻮﻳﺎء ،وﻣﻠﺠﺄ اﻟﺒﺆﺳﺎء ﻟﺪى اﻟﻸواء ،وﻗﺒﻠﺔ ﻣﺮﺗﺎد اﻟﻨﺪى إذا ﺟﺎءت اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺸﻬﺒﺎء ،ﻳﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﺸﺌﻮن ﺟﻠﻴﻠﻬﺎ ﺑﻌني ا ْﻛﺘﺤَ َﻠﺖ ﺑﻨﻮر اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺮﺷﺎد ،واﻟﺤﺰم وﻋﺰﻳﻤﺔ اﻟﺮأي وﺣﻘريﻫﺎ ،وﻛﺒريﻫﺎ وﺻﻐريﻫﺎ ٍ واﻟﺴﺪاد .ﻛﻨﺎ ﻧﺴﻤﻊ ﺑﻜﴪى وﻋﺪﻟﻪ ،وإﻳﺎس وذﻛﺎﺋﻪ وﻧﺒﻠﻪ ،واملﺄﻣﻮن وأدﺑﻪ وﻓﻀﻠﻪ ،واﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ وﺗﻘﻮاه وﻋﻔﺘﻪ ،واﺑﻦ ﻃﺎﻫﺮ وﻧﺠﺎﺑﺘﻪ ،وﻗﻴﺲ وﻓﺮاﺳﺘﻪ ،ﻓﺈذا ﺑﻪ ﻗﺪ ﺟﻤﻊ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ،وأﺣﻴﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻓﺎت واﻟﻌﻈﺎم اﻟﺒﺎﻟﻴﺎت ،وﻣﻬﻤﺎ ﺻﻨﻔﺖ ﻣﻦ ﻗﻼﺋﺪ اﻟﺜﻨﺎء اﻟﺠﻤﻴﻞ، ﻓﻼ أﺗﻌﺪى ﻣﺎ ﻗﻴﻞ: ﻛﺄﻧﻚ ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﻨﻔﻮس ُﻣﺮ ﱠﻛﺐ
ﻓﺄﻧﺖ إﻟﻰ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻨﻔﻮس ﺣﺒﻴﺐ
ﻫﺬا وملﺎ ﻛﺎن ذﻛﺮ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة ﻫﺬا اﻷﻣري ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ أﻧﻤﻮذج ﻟﻜ ﱢﻞ إﻧﺴﺎن ﻳﺤﺐ املﻌﺎﱄ ﻧﻨﴩه اﻵن ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺪوﱠن وﻣﺄﺧﻮذ ﻣﻦ أوﺛﻖ املﺼﺎدر وﻫﺎ ﻫﻮ: ﻫﻮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﻨﺎﴏ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎي اﺑﻦ ﺣﺴني ﺑﺎي اﺑﻦ ﻣﺤﻤﻮد ﺑﺎي اﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎي اﺑﻦ ﺣﺴني ﺑﺎي اﺑﻦ ﻋﲇ اﻟﱰﻛﻲ ﻣﺆﺳﺲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺴﻴﻨﻴﺔُ ،وﻟِﺪ ﻫﺬا اﻷﻣري ﺑﺎملﺮﳼ ﰲ ٢٨ﺷﻮال ﺳﻨﺔ ١٢٧١ﻫ ،وملﺎ ﺗﺮﻋﺮع أﻗﺒﻞ ﻋﲆ ﻣﻨﺎﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ واﻷدب ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺑﺎﻛﻮرة أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺣﻔﻆ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ وﻣﺒﺎدئ ﺷﺄو ﺑﻌﻴﺪ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،وملﺎ ذاق ﻟﺬﱠﺗﻬﺎ ﺗﻀﺎﻋﻔﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﻬﻤﺔ ﻋﲆ ﺑﻠﻮغ ٍ ﰲ اﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺰاول ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ أن ﻳﺰاول ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟِﻤني اﻟﺠﻠﻴﻠني ﺣﴬة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﺎﺿﻞ واﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺤﻜﻴﻢ واﻟﺮﺣﺎﻟﺔ اﻟﺸﻬري اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑريم ،وﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﻘﺪوة اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺴﻨﻮﳼ اﻟﺸﻬري ﺑﻌﻠﻮ اﻟﻜﻌﺐ ﰲ اﻷدب واﻟﻌﻠﻮم اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،وﻫﺬا اﻷﺧري ﻻزم ﺳﻤﻮﱠه ﻣﻼزﻣﺔ ﻛﻠﻴﱠﺔ ،وﻟﻢ ﻳﱪح ﻣﺘﻌ ﱢﻠ ًﻘﺎ ﺑﻪ إﱃ أن أدرﻛﺘﻪ املﻨﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺑﻀﻌﺔ ﺳﻨﻮات ﻓﺼﺎر ﺻﺎﺣﺐ اﻟﱰﺟﻤﺔ ﺑﺎرﻋً ﺎ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ واﻷدب وﺣﺼﻞ ﻋﲆ املﻠﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻛﻴﻔﻴﺔ راﺳﺨﺔ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ،وﻫﻮ واﻟﺤﺎﻟﺔ ﻛﻤﺎ ذﻛﺮ أوﺳﻊ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺴﻴﻨﻴﺔ ﻓﻜ ًﺮا ﰲ ﻟﻐﺔ اﻟﻘﺮآن واﻷدب اﻹﺳﻼﻣﻲ ،وﻻ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ إذا ﻗﻠﻨﺎ ﻳﻔﻬﻢ دﻗﻴﻖ املﻌﺎﻧﻲ اﻟﻮاردة ﰲ اﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ. ﱠ أﺣﺲ ﺑﻤﺴﻴﺲ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻠﻐﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻐﺔ وملﺎ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﱠ ٍ أن ﻗﻮﻣﻬﺎ ﻟﻬﻢ اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﰲ ﻗﺎرة أوروﺑﺎ ،وﻣﻦ 55
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻋﻼﻗﺔ وارﺗﺒﺎط ﺑﺎملﻤﻠﻜﺔ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ ﻓﺮأى — ﺣﻔﻈﻪ ﷲ — أن ﺗﻌ ﱡﻠﻤﻬﺎ أﻣﺮ ً ري ﻣﺜﻠﻪ ﻣﱰﺷﺢ ﻟﻌﺮش أﺟﺪاده اﻟﻜﺮام ،ﻓﺎﺳﺘﻌﻤﻞ ﺟﻤﻴﻊ ﴐوري ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻷﻣ ٍ ﺣﺰﻣﻪ وﻧﺸﺎﻃﻪ ﰲ ﺗﻌ ﱡﻠﻤﻬﺎ ،واﻷﺧﺬ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻜ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ واﻧﺘﺨﺐ ﻟﺬﻟﻚ أﺣﺪ ﻣﻬﺮة املﻌﻠﻤني ،واﺑﺘﺪأ ﰲ ﻣﺰاوﻟﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﺎم ﺳﻨﺔ ١٢٩٢ﻫ ،وﺛﺎﺑﺮ ﻋﲆ ﺗﻌ ﱡﻠﻤﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺧﺬ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ وأردف ذﻟﻚ ﺑﺘﻠﻘﻰ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ ﻋﲆ اﺧﺘﻼف أﻧﻮاﻋﻬﺎ وﻣﺴﻤﻴﺎﺗﻬﺎ ،واﻟﺨﻼﺻﺔ ﻓﻬﻮ ﻋﺎرف ﺑﻌﻠﻮم دﻳﻨﻪ ﻣﺤﺼﻞ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ ﻣﺘﻨﻮر ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺪار اﻟﱰﻗﻲ واملﺪﻧﻴﺔ. وﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻷﻃﻮار ﻟﻢ ﻳﻐﺎدر ﻗﴫه املﻠﻮﻛﻲ وﻟﻢ ﺗﺒْ ُﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﺎ ﺗﻨﺎﰲ ﺷﻌﺎر ﻫﺬا اﻟﺒﻴﺖ اﻟﻜﺮﻳﻢ أو ﻋﻮاﺋﺪه. وﰲ ﺷﻬﺮ رﺑﻴﻊ أول ﺳﻨﺔ ١٣٢٠ﻫ ارﺗﻘﻰ ﺳﻤﻮﱡه إﱃ وﻻﻳﺔ اﻟﻌﻬﺪ ﰲ ﻣﻮﻛﺐ ﻣﺸﻬﻮد ﺣﺎﻓﻞ ﺑﺎﻷﻣﺮاء واﻟﻮزراء ورﺟﺎل اﻟﺪوﻟﺔ. وملﺎ ﻗﻠﺪ ﺷﻌﺎر وﻻﻳﺔ اﻟﻌﻬﺪ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﻛﱪ ﻣﻨﺼﺐ ﺑﻌﺪ اﻹﻣﺎرة ﻟﻢ ﱢ ﻳﻐري ﻋﺎدﺗﻪ اﻷوﱃ ،وﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻪ ﻣﻊ ﱠ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﻨﺎس ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ ﺑﻤﺎ ﻳﺨﺎﻟﻒ ﺳريﺗﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺒﺎﻋﺪ ﻋﻦ اﻟﻈﻬﻮر وﺑﻘﻲ ﻣﺜﺎﺑ ًﺮا ﻋﲆ ﺧﻄﺘﻪ املﺜﲆ إﱃ أن ﻣﻨﺤﺘﻪ اﻷﻗﺪار ﴎﻳﺮ املﻠﻚ اﻟﺤﺴﻴﻨﻲ ﻳﻮم اﻟﺴﺒﺖ املﻮاﻓﻖ ١٩رﺑﻴﻊ اﻷول ﺳﻨﺔ ١٣٢٤ﻫ ﰲ ﻣﻮﻛﺐ ﻣﺸﻬﻮد ﺣﴬه رﺟﺎل اﻟﺪوﻟﺘني اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ واﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ ،وﴎاة اﻷﻣﺔ وﻋﻠﻤﺎﺋﻬﺎ أﻃﺎل ﷲ ﻋﻤﺮه وأﺑﻘﺎه ً ﻛﻬﻔﺎ ﻷﻣﺘﻪ. ﻫﺬا ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة ذﻟﻚ اﻷﻣري اﻟﺠﻠﻴﻞ اﻟﺬي ﺧﻠﻒ املﻐﻔﻮر ﻟﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ اﻟﻬﺎدي؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن اﻷﺧري ﻟﻪ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻋﻈﻤﻰ ﰲ ﻗﻠﻮب أﻫﻞ ﺗﻮﻧﺲ ،وإن ﻛﺎن اﻧﺘﻘﻞ إﱃ رﺣﻤﺔ ﷲ وﻟﻜﻦ ﺧﻠﻒ ﻣﻦ اﻟﻮﻟﺪ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻔﺘﺨﺮ ﺑﻤﺜﻠﻬﻤﺎ اﻟﺪﻫﺮ ،ﻓﻬﻮ أﺻﻞ ﺗﻔﺮﻋﺖ ﻋﻨﻪ أﻃﻬﺮ اﻟﻔﺮوع ﻋﻨﴫًا وأﻛﺮﻣﻬﺎ ً ﴍﻓﺎ وأزﻛﺎﻫﺎ ﻣﻨﺒﺘًﺎ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺳﻤﻮ اﻟﱪﻧﺲ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻄﺎﻫﺮ ﺑﺎي ،واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺒﺸري ﺑﺎي ،وﻫﻤﺎ ﺻﻨﻮان ﰲ اﻟﺬﻛﺎء واﻟﻔﻄﻨﺔ ﺧﺪﻧﺎن ﰲ ﺣﺴﻦ اﻷﺧﻼق ،ﻫﺬا ﺷﻤﺲ ﻳﻌﻢ ﺳﻨﺎﻫﺎ اﻟﺒﺎدي واﻟﺤﺎﴐ وذاك ﺑﺤﺮ ﻳﺮﺗﻮي ﻣﻨﻪ اﻟﻮارد واﻟﺼﺎدر وﻛﻼﻫﻤﺎ ﺣﺎز املﺠﺪ ﻓﺄﻛﺮم ﺑﻬﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺴﻴﻨﻴﺔ املﺒﺎرﻛﺔ! وﻧﺴﺄﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ أن ﻳﺪﻳﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻄﺎرف واﻟﺘﺎﻟﺪ، ِ ﻧﻌﻤﻪ إﱃ ﻣﻤﺮ اﻷزﻣﺎن وﻛ ﱢﺮ اﻟﻠﻴﺎﱄ واﻟﻌﴚ.
56
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (21اﻟﺴﻴﺪ اﻟﺒﺸري ﺻﻔﺮ رﺋﻴﺲ دﻳﻮان اﻷوﻗﺎف ﺑﺘﻮﻧﺲ ﻫﻮ وارث أرﺳﺘﻄﺎﻟﻴﺲ ،واﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺮﺋﻴﺲ .أدب وﻓﻀﻞ ،وﻣﻌﺮﻓﺔ وﻧﺒﻞ ،درس اﻟﻌﻠﻮم ﻓﺄﺣﻴﺎﻫﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺪروس ،وﺗﻌﻬﱠ ﺪ ﻏﺮس ﻃﻼﺑﻬﺎ ﺑﺴﻘﻴﺎ ْ ﺣﺴﻦ اﻹﻓﻬﺎم ﰲ أوﻗﺎت اﻟﺪروس، وﺧﻠﺺ ﻛ ﱠﻞ اﻟﺘﺨﻠﻴﺺ وﻣﺤﺺ اﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﻣﻌﻨﻰ ﻛ ﱢﻞ ﻋﻮﻳﺺ ،أدب ﻧﺎدر ،وﻓﻀﻞ ﺑﺎﻫﺮ، وأملﻌﻴﺔ ﺗﻜﺸﻒ اﻻﻟﺘﺒﺎس ،وﻗﺮﻳﺤﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺬﻛﺎء ﻣﻘﻴﺎس ،اﻟرياع ﰲ ﻳﻤﻴﻨﻪ أﺻﺪق أﻧﺒﺎء ﻣﻦ اﻟﺤﺴﺎم ،ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎملﻌﺠﺰ ﻣﻦ اﻟﻜﻼم ،ﻓﻬﻮ رﺳﻮل اﻟﻮﺣﻲ واﻹﻟﻬﺎم ،ﻫﻮ ﰲ اﻷدب ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ،وﰲ اﻟﻨﺤﻮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ ،وﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻔﺎراﺑﻲ واﺑﻦ رﺷﺪ .أﻗﺴﻢ ﻟﻮ رأﻳﺘﻪ وﻫﻮ ﻳﺤﺎدث اﻟﺴﻤﺎر ،ﺑﻨﻮادر اﻷﺧﺒﺎر ،ورﻗﻴﻖ اﻷﺷﻌﺎر ،ﻟﻘﻠﺖ اﻷﺻﻤﻌﻲ ﺑﻞ أﻇﺮف ﺣﻜﺎﻳﺔ، وأﻏﺮب رواﻳﺔ ،وﻟﻮ رأﻳﺘﻪ وﻫﻮ ﻳُﻠﻘﻲ ﻋﲆ اﻟﻄﻼب ﻗﻮاﻋﺪ اﻹﻋﺮاب ،ﻟﻘﻠﺖ ﺳﻴﺒﻮﻳﻪ أو اﻟﺨﻠﻴﻞ، أو ﻋﻠﻮم اﻟﺪﻳﻦ ،وﺗﻔﺴري اﻟﻜﺘﺎب املﺒني ،ﻟﻘﻠﺖ ﻫﺬا اﺑﻦ ﺳريﻳﻦ أو أﺣﺪ املﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ،وﻟﻮ ﺷﺎﻫﺪﺗﻪ وﻫﻮ ﻳﻘﺮر ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واملﻨﻄﻖ ملﺎ ﻗﻠﺖ» :إن اﻟﺒﻼء ﻣﻮﻛﻞ ﺑﺎملﻨﻄﻖ« ،ﻫﻮ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻋِ ﻠ ٍﻢ ﻋَ َﻠ ٌﻢ ﻋﲆ رأﺳﻪ ﻧﺎر أو ﺷﻤﺲ ﻳﻌﻢ ﺿﻮءﻫﺎ ﻛ ﱠﻞ اﻷﻗﻄﺎر ،أﻣﺎ أﺧﻼﻗﻪ ﻓﻬﻲ ﰲ رﻗﺔ اﻟﻨﺴﻴﻢ، أو اﻟﺨﻤﺮ ﻣﺰاﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﺴﻨﻴﻢ ،أو ﻋﺮف اﻟﻴﺎﺳﻤني ﺑﻞ ﻋﻄﺮ دارﻳﻦ ،ﻃﻬﺎرة أﻋﺮاق ودﻣﺎﺛﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ أﻫﻞ أﺧﻼق ،ﺗﻌﺎﻇﻢ ﰲ ﺧﺸﻮع وأﻧﺎة ﰲ ﻧﺰوع ،ﻳﻜﺮم اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻷﺟﻨﺎس، وﻃﻨﻪ ،وﻋﲆ اﻷﺧﺺ ﻋﻠﻤﺎء زﻣﻨﻪ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﻤﻌﻪ ﺑﻬﻢ ﺟﺎﻣﻌﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﻋﲆ ﻋِ ﻔﺔ وﺻﻼح ،وأرﺑﺤﻴﺔ وﺳﻤﺎح ،وﻛﻴﺎﺳﺔ وﺳﻴﺎﺳﺔ ،وﺑﻌﺪ ﻧﻈﺮ ﻳﺼﻴﺐ ﺷﺎﻛﻠﺔ اﻟﺮﻣﻲ وﻧﺎﻫﻴﻚ ﺑﺎﻟﺬﻛﻲ اﻷملﻌﻲ: ﺷﺎﻫﺪت رﺳﻄﺎﻟﻴﺲ واﻹﺳﻜﻨﺪرا ﺟﻤﻊ اﻹﻟ ﻪ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ واﻷﻋﺼﺮا
ﻣﻦ ﻣﺨﺒﺮ اﻷﻋﺮاب أﻧﻲ ﺑﻌﺪﻫﻢ ورأﻳ ﺖ ﻛ ﻞ اﻟ ﻔ ﺎﺿ ﻠ ﻴ ﻦ ﻛ ﺄﻧ ﻤ ﺎ
ﻫﻮ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﻛﺎﻷﺳﺘﺎذ اﻹﻣﺎم ﰲ ﻣﴫ ،ﰲ اﻟﻔﻀﻞ ،وﻛﺮم اﻟﻨﻔﺲ واﻟﺸﺒﻪ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ذو وﺟﻬني ﺑﻼ رﻳﺐ وﻻ ﻣني؛ ﺣﻴﺚ ﻛﻼﻫﻤﺎ ﺣﻜﻴﻢ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻛﻤﺎل اﻟﺪراﻳﺔ واملﻌﺮﻓﺔ، وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻮﺟﻪ اﻷول ،وﺣﻴﺚ ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺮ املﺠﺪ ﰲ ﻣﺠﺮد اﻻﺗﺼﺎف ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ وﻣﺰﻳﺔ اﻟﻔﻀﻞ، ﺑﻞ ﻳﺮى اﻟﻔﺨﺮ ﰲ ﺧﺪﻣﺔ اﻷوﻃﺎن ﺑﺂﺛﺎر ﻣﺎ أﺣﺮزه ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف ،واﻟﻐﻨﻰ ﰲ ﺣﺴﻦ أﺳﺲ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﺨريﻳﺔ وﻫﺬا ﱠ اﻷﺣﺪوﺛﺔ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻲ اﻟﺘﺎﻟﺪ واﻟﻄﺎرف ﻓﺬاك ﱠ أﺳﺲ
57
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﱠ وﺣﺚ ﻋﲆ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺨريﻳﺔ ،وأﺣﻴﺎ ذﻛﺮ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ املﺪرﺳﺔ اﻟﺨﻠﺪوﻧﻴﺔ وأﻳﺪ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ، وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻷﻓﻀﻞ اﻟﺬي ﻋﻠﻴﻪ املﻌﻮل: ﻗﺌﻮل ﻟﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﻜﺮام ﻓﻌﻮل
إذا ﻣﺎت ﻣﻨﺎ ﺳﻴﺪ ﻗﺎم ﺳﻴﺪ
وﺑﻤﺎ أن ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺪ اﻷورع واﻟﻔﺎﺿﻞ اﻷﺑﺮع واﻟﻬﻤﺎم ﱠ اﻟﺴﻤَ ﻴْﺪع ،ﻳﺠﺪر ﺑﻨﺎ أن ﻧﻔﺨﺮ ﺑﻤﺜﻠﻪ ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻠﺨﺺ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺬي ﻧﻘﻠﻨﺎه ﻣﻦ أوﺛﻖ املﺼﺎدر. ﻫﻮ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺒﺸري ﺑﻦ املﻨﻌﻢ أﻣري اﻟﻠﻮاء ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺻﻔﺮ أﺻﻠﻪ ﻣﻦ اﻟﱰك اﻟﺬﻳﻦ اﺳﺘﻮﻃﻨﻮا ﺗﻮﻧﺲ ﻋﲆ ﻋﻬﺪ ﺣﺴني ﺑﻦ ﻋﲇ ﻣﺆﺳﺲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺴﻴﻨﻴﺔ. ُو ِﻟﺪ ﻫﺬا اﻟﺸﻬﻢ ﻋﺎم ١٢٨٠ﻫ ﻓﺮﺑﱠﺎه واﻟﺪه وأﺣﺴﻦ ﺗﺮﺑﻴﺘﻪ ،وملﺎ ﺗﺮﻋﺮع أُدْﺧِ ﻞ املﺪرﺳﺔ ﱡ وﺗﻮﻗﺪ اﻟﻘﺮﻳﺤﺔ ﻓﻌُ ﱢني ﰲ ﻃﺎﻟﻌﺔ اﻟﺼﺎدﻗﻴﺔ ﰲ ﺑﺪْء ﺗﺄﺳﻴﺴﻬﺎ ﻓﻈﻬﺮت ﻋﻠﻴﻪ دﻻﺋﻞ اﻟﻨﺠﺎﺑﺔ، اﻹرﺳﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ذﻫﺒﺖ إﱃ ﺑﺎرﻳﺲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ؛ ﻟﺘﻜﻤﻴﻞ ﻧﺼﺎب اﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺔ املﺪرﺳﺔ اﻟﺼﺎدﻗﻴﺔ ،ﺛﻢ ﻋﺎد إﱃ ﺗﻮﻧﺲ ﰲ أواﺧﺮ ﺳﻨﺔ ١٣٠٠ﻫ ،ﻓﺄﺧﺬ ﻳﺘﻘ ﱠﻠﺐ ﰲ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻓﻌُ ﱢني ﻣﱰﺟﻤً ﺎ ﰲ اﻟﻮزارة اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ،ﺛﻢ أ ُ ْﻟﻐِ ﻴﺖ اﻟﻮزارة املﺬﻛﻮرة وﺗﻌني ﻣﺤﺘﺴﺒًﺎ ﺑﺎﻹدارة اﻟﻌﺎﻣﺔ ،ﻓﺄﺧﺬ ﻳﺘﺪرج إﱃ أن ﺻﺎر رﺋﻴﺲ ﻗﻠﻢ املﺤﺎﺳﺒﺔ ﻣﻊ اﻧﻀﻤﺎم إدارة املﺪرﺳﺔ اﻟﻔﺮﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺮب ﺑﻄﺤﺎء رﻣﻀﺎن ﺑﺄي ،ﺛﻢ ُﻛ ﱢﻠﻒ ﺑﺎملﺮاﻗﺒﺔ ﻋﲆ ﺟﻤﻌﻴﺔ اﻷوﻗﺎف، ﻓﺄدﺧﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻹﺻﻼﺣﺎت ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ أن ﻳﺪﺧﻞ ،ﺛﻢ ﺻﺪر ﻟﻪ اﻷﻣﺮ اﻟﻌﺎﱄ ﺑﺮﺋﺎﺳﺔ اﻹدارة املﺬﻛﻮرة وﻫﻲ اﻟﻴﻮم ﺳﺎﺋﺮة ﺑﺤﺴﻦ أﻓﻜﺎره وﺛﺒﺎت ﻋﺰﻳﻤﺘﻪ ﺣﺘﻰ أﺷﺒﻬﺖ أﻋﻈﻢ اﻹدارات اﻷوروﺑﻴﺔ ،أﻣﺎ ﺧﺪﻣﺘﻪ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻴﺖ اﻟﻘﺼﻴﺪ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﺠﺎﻟﺔ ﻓﻘﺪ ﺑﻠﻎ ﻓﻴﻬﺎ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ،ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﺑني ﻣﻮاﻃﻨﻴﻪ ﺑﺎﻟﻨﺎﺻﺢ اﻟﻐﻴﻮر ،وﻛﺎدت اﻟﻨﻬﻀﺔ املﻮﺟﻮدة اﻵن ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﻨﺤﴫ ﻓﻴﻪ ،ﻓﻬﻮ اﻟﺬي ﺳﻌﻰ ﰲ ﺗﺄﺳﻴﺲ املﺪرﺳﺔ اﻟﺨﻠﺪوﻧﻴﺔ وﺟﺎﻫﺪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﺟﻬﺎد اﻷﺑﻄﺎل ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻗﺎم ﺑﻤﴩوع املﺴﺘﻌﻤﺮة اﻟﻔﻼﺣﻴﺔ ﺑﺈﻋﺎﻧﺔ ﻧﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺴﺎﻋني ﰲ ﺳﻌﺎدﺗﻪ ،وﻫﻮ ذو املﺂﺛﺮ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺤﻴﻂ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﻘﻠﻢ ،وﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ ﺗﻌﺪادﻫﺎ اﻟﻠﺴﺎن ،وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ ﺑﻘﻴﻤﺔ اﻟﺪﻫﺮ ،وﻧﺎدرة اﻟﻌﴫ ،وﻗﺪ أﺟﻤﻊ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﻮن ﻋﲆ ﺣﺒﱢﻪ واﺣﱰاﻣﻪ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺸﻬﺎﻣﺘﻪ وﻏريﺗﻪ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻚ ﺗﺮى اﻟﻨﺎس ﻳﻔﺴﺤﻮن ﻟﻪ ً إﺟﻼﻻ وﺗﻌﻈﻴﻤً ﺎ ﻟﻪ ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻬﻮ ﻣﺘﻮاﺿﻊ ﻛﺮﻳﻢ اﻷﺧﻼق اﻟﻄﺮﻳﻖ أﺛﻨﺎء ﻣﺮوره وﻳﻘﻔﻮن 58
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻃﺎﻫﺮ اﻟﻘﻠﺐ ﺻﺎدق اﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ذو ﺣﺰم وﻧﺸﺎط ً ﺑﺎﻟﻐﺎ ﺣ ﱠﺪ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷﺧﻼق اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻮ ﺑﺎﻟﺮﺟﺎل إﱃ أو ِْج اﻟﻜﻤﺎل. ﻫﺬه ﻧﺒﺬة ﺻﻐرية ﰲ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ أوردﻧﺎﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﻛﻲ ﺗﻜﻮن ً ﻣﺜﺎﻻ ﻟﻠﺬي ﺗﺮﻛﻨﺎه ،أﻛﺜﺮ ﷲ ﻣﻦ أﻣﺜﺎﻟﻪ ﰲ اﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﻤﻨﱢﻪ وﻛﺮﻣﻪ. ) (22أدﺑﺎء ﺗﻮﻧﺲ إن ﻟﻠﺼﻨﺎﻋﺔ اﻷدﺑﻴﺔ ﰲ ﺗﻮﻧﺲ ﺷﺄﻧًﺎ ﻳُﺬ َﻛﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻔﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب واﻟﺸﻌﺮاء املﺠﻴﺪﻳﻦ ﻣﺎ ﺗﻔﺨﺮ ﺑﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﴐة ،ﻛﻤﺎ ﺗﻔﺨﺮ ﻣﴫ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ ﺷﻌﺮاﺋﻬﺎ ﻗﺼﺐ ﱠ وأدﺑﺎﺋﻬﺎ واﻟﺬﻳﻦ ﺣﺎزوا َ اﻟﺴﺒْﻖ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻷدب وﻛﺎﻧﻮا ﻛﺎﻷﻗﻤﺎر ﺑني اﻟﻨﺠﻮم ،ﻫﻢ ﺣﴬات اﻷﻓﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ اﻟﺒﺸري ﺻﻔﺮ — اﻟﺴﺎﻟﻒ اﻟﺬﻛﺮ — واﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺠﻌﺎﺑﻲ ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺼﻮاب ،واﻟﺴﻴﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺼﻨﺎدﱄ ﻣﺪﻳﺮ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺰﻫﺮة ،وﻋﺒﺪ اﻟﺮازق أﻓﻨﺪي اﻟﻐﻄﺎس ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة ﺣﺒﻴﺐ اﻷﻣﺔ ،وﻋﲇ أﻓﻨﺪي ﺑﺸﻮﺷﺔ ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺤﺎﴐة ،واﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺜﻤﺎن ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺮﺷﺪﻳﺔ ،واﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ اﻟﻘﺒﺎﻳﲇ ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة إﻇﻬﺎر اﻟﺤﻖ ،وﻏري ﻫﺆﻻء اﻷﻓﺎﺿﻞ اﻷدﺑﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻔﺨﺮ ﺑﻬﻢ اﻟﺒﻼد وﻳﺘﻌ ﱠ ﻄﺮ ﺑﺬﻛﺮﻫﻢ وذﻛﺮ أدﺑﻬﻢ ﻛ ﱡﻞ ﻧﺎد. وﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻋُ ِﺮﻓﻮا ﺑﺎﻹﺟﺎدة ﰲ ﻗﺮض اﻟﺸﻌﺮ ﻣﻦ أدﺑﺎء ﺗﻮﻧﺲ وﺷﻌﺮاﺋﻬﺎ املﺠﻴﺪﻳﻦ اﻟﻔﺼﺤﺎء املﻘﺘﺪرﻳﻦ؛ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﲇ اﻟﻠﺰرﺑﻲ اﻟﺬي ﻧﻈﻢ ﻗﺼﻴﺪ ًة ﻏﺮاء ﻳﻌﺎرض ﺑﻬﺎ ﻗﺼﻴﺪة ﺷﺎﻋﺮ اﻟﻨﻴﻞ ﺣﺎﻓﻆ أﻓﻨﺪي إﺑﺮاﻫﻴﻢ ،اﻟﺬي ﻧﻈﻤﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﺘﺎة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،ﻧﺴ ﱢ ﻄﺮﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺗﻨﻮﻳﻬً ﺎ ﺑﻔﻀﻞ ﻧﺎﻇﻤﻬﺎ اﻟﻔﺎﺿﻞ ،وﻫﻲ: ﻻ ﺗ ﻠ ﻮﻣ ﻮا ﺑ ﺎﻛ ﻴً ﺎ ﻣ ﻨ ﺘ ﺤ ﺒً ﺎ ﻛ ﻴ ﻒ ﻻ واﻟ ﺪﱢﻳ ﻦ ﻗ ﺪ ﺣ ﺎﻃ ﺖ ﺑ ﻪ وأﻧ ﺎس ﻓ ﺸ ﻠ ﺖ ﻗ ﻮاﻫ ﻤ ﻮ وﺗ ﺮدﱠوا ﺑ ﺮداء اﻟ ﺬل ﻣ ﺬ ﻫ ﺠ ﺮوا ﻗ ﺮآﻧ ﻬ ﻢ ﻣ ﻦ ﺑ ﻌ ﺪ ﻣ ﺎ وﻋ ﺘ ﻮا ﻋ ﻤﱠ ﺎ ﻧ ُ ﻬ ﻮا ﻋ ﻨ ﻪ وﻟ ﻢ ﻛ ﻴ ﻒ ﻻ ﻳ ﺸ ﻘ ﻰ أﻧ ﺎس ﻓ ﺮﻗ ﺖ
ﺣ ﺮﻛ ﺘ ﻪ ﻏ ﻴ ﺮة ﻓ ﺎﺿ ﻄ ﺮﺑ ﺎ ﺑ ﺪع واﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻗ ﺪ أﻣ ﺴ ﻰ ﻫ ﺒ ﺎ وﻟ ﺒ ﺎس اﻟ ﻌ ﺰ ﻣ ﻨ ﻬ ﻢ ُﺳ ﻠ ﺒ ﺎ أﻣ ﻄ ﺮ اﻟ ﺠ ﻬ ﻞ ﻋ ﻠ ﻴ ﻬ ﻢ ﺳ ﺤ ﺒ ﺎ ﺗ ﺮﻛ ﻮا ﻧ ﻬ ﺞ اﻟ ﻨ ﺒ ﻲ اﻟ ُﻤ ﺠ ﺘ ﺒَ ﻰ ﻳ ﺠ ﺪوا ﱠإﻻ اﻟ ﺸ ﻘ ﺎ واﻟ ﺘ ﻌ ﺒ ﺎ ﻓ ﻲ اﻟ ﻮرى آراءﻫ ﻢ أﻳ ﺪي ﺳ ﺒ ﺎ 59
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺣ ﺎﻧ ﺔ اﻟ ﺰﻳ ﻎ ﻓ ﺴ ﺎءوا ﻣ ﺸ ﺮﺑ ﺎ ﺑ ﱢﺚ أﻓ ﻜ ﺎر ﺗُ ﺴ ﻤﱠ ﻰ ﻛ ﺬﺑ ﺎ وأﺿ ﻠ ﻮا ﺣ ﺰﺑ ﻬ ﻢ وأﻋ ﺠ ﺒ ﺎ ﺗَ ﺨِ ﺬوا اﻟ ﺪﻳ ﻦ اﻟ ﺤ ﻨ ﻴ ﻒ َﻟ ﻌِ ﺒ ﺎ واﻫ ﺐ اﻟ ﺤ ﺴ ﻦ ﻟ ﻬ ﺎ ﻗ ﺪ وﻫ ﺒ ﺎ ﻣ ﻨ ﺬ ﺻ ﺎرت ﺗ ﺘ ﺸ ﻜ ﻲ اﻟ ﻌ ﻄ ﺒ ﺎ وإﻟ ﻴ ﻜ ﻢ ﻛ ﱡﻞ ﺧ ﺒ ﺚ ﻧ ُ ِﺴ ﺒ ﺎ ﻓ ﻲ ﺑ ﻘ ﺎع اﻟ ﺒ ﻐ ﻲ ﻳ ﺠ ﻨ ﻲ اﻟ ﻨ ﱡﻮَﺑ ﺎ أن ﻧ ﻮر اﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻋ ﻨ ﻜ ﻢ ﺣُ ِﺠ ﺒ ﺎ وﻋ ﻠ ﻴ ﻜ ﻢ ُﻛ ﱡﻞ أﻣ ﺮ ﺻ ﻌ ﺒ ﺎ ﻧ ُ ِﺴ ﺒ ﻮا ﻟ ﻠ ﻌ ﻠ ﻢ ﻣ ﺜ ﻞ اﻟ ُﻐ َﺮﺑ ﺎ وﻇ ﻨ ﻨ ﺘ ﻢ وردﻫ ﺎ ُﻣ ﺴ ﺘ ﻌ ﺬَﺑ ﺎ ﻫ ﻜ ﺬا اﻟ ﻠ ﻪ ﻋ ﻠ ﻴ ﻨ ﺎ ﻛ ﺘ ﺒ ﺎ إﻧ ﻤ ﺎ اﻟ ﺤ ﺰم ﺑ ﻨ ﻴ ﻞ اﻟ ﻤ ﺄرﺑ ﺎ ﻣ ﺮﻛ ﺐ اﻟ ﺠ ﺪ ﻳ ﺠ ﺪ ﻣ ﺎ ﻃ ﻠ ﺒ ﺎ ﺑ ﻌ ﺾ ﺷ ﻚ واﻟ ﺪﻟ ﻴ ﻞ اﺣ ﺘُ ِﺠ ﺒ ﺎ ﻫ ﻞ ﺑ ﻐ ﻴ ﺮ اﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻓ ﺎق اﻟ ﻤ ﻐ ﺮﺑ ﺎ إﻧ ﻬ ﻢ ﺑ ﺎﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻧ ﺎﻟ ﻮا اﻟ ﺮﺗ ﺒ ﺎ ﻋ ﱠﻠ ﻬ ﺎ ﺗ ﺒ ﻌ ﺪ ﻋ ﻨ ﺎ اﻟ ُﻜ َﺮﺑ ﺎ ﻋ ﻴ ﺸ ﻜ ﻢ ﻳ ﺒ ﻘ ﻰ ﻫ ﻨ ﻴ ﺌ ً ﺎ ﻃ ﻴ ﺒً ﺎ ﺑﺬل ﺟﻬﺪ ﻓﻲ اﻟﺘﻌﺎﻃﻲ اﻟﺴﺒﺒﺎ واﻟ ﺬي ﻳ ﺴ ﻌ ﻰ ﻳ ﻨ ﺎل اﻟ ﻤ ﻄ ﻠ ﺒ ﺎ واﻟ ﺬي ﻣ ﻦ ﻓ ﺨ ﺮﻛ ﻢ ﻗ ﺪ ذﻫ ﺒ ﺎ وﺗ ﻨ ﺎﻟ ﻮا ﻓ ﻲ اﻟ ﻤ ﻌ ﺎﻧ ﻲ ﻣَ ﻨ ْ ِﺼ ﺒ ﺎ واﺧ ﺪﻣ ﻮا اﻟ ﺪﻳ ﻦ وﻛ ﻮﻧ ﻮا ﻧ ُ ﺠُ ﺒ ﺎ
ﺷﺮﺑﻮا ﻣﻦ ﺧﻤﺮة اﻟﺨﺴﺮان ﻓﻲ وﺗ ﻤ ﺎدوا ﻓ ﻲ اﻟ ﻌ ﻤ ﻰ واﻟ ﻐ ﻲ ﻣ ﻊ ﻓ ﻠ ﺬا ﻗ ﺪ أﻫ ﻠ ﻜ ﻮا أﻧ ﻔ ﺴ ﻬ ﻢ أيﱡ ﺧ ﻴ ﺮ ﻳ ﺮﺗ ﺠ ﻰ ﻣ ﻨ ﻬ ﻢ وﻗ ﺪ ﻳ ﺎ ﺑ ﻨ ﻲ ﻣ ﻦ ﺗ ﻮﻧ ﺲ اﻟ ﻨ ﺎس ﺑ ﻤ ﺎ ﻣ ﺎ ﻟ ﻜ ﻢ ﻋ ﻔ ﺘ ﻢ ﺟ ﻤ ﻴ ﻌً ﺎ أﻣﱠ ﻜ ﻢ وﻓ ﻌ ﻠ ﺘ ﻢ ﻛ ﱠﻞ ﺷ ﱟﺮ ﻳُ ﺘﱠ ﻘ ﻰ إن ﻣ ﻦ ﻳ ﻐ ﺮس أﺷ ﺠ ﺎر اﻷذى ﻳ ﺎ ﺑ ﻨ ﻲ اﻹﺳ ﻼم ﻫ ﻞ ﻳ ﺮﺿ ﻴ ﻜ ﻤ ﻮ ﻣ ﺎ ﻟ ﻜ ﻢ ﺻ ﺮﺗ ﻢ ﺣ ﻴ ﺎرى ﻛ ﻠ ﻜ ﻢ أرﺿ ﻴ ﺘ ﻢ أن ﺗ ﻜ ﻮﻧ ﻮا ﺑ ﻴ ﻦ ﻣ ﻦ أم رﺿ ﻴ ﺘ ﻢ ﺑ ﺎﻟ ﻤ ﻼﻫ ﻲ ﻣ ﻮردا ﻣ ﺎ ﻟ ﻜ ﻢ ﻗ ﻠ ﺘ ﻢ إذا ﻣ ﺎ ﻟ ﻤ ﺘ ﻤ ﻮ ﻻ ﻳ ﻨ ﻴ ﻞ اﻟ ﻘ ﺼ ﺪ ﺗ ﻔ ﺮﻳ ﻂ اﻣ ﺮئ واﻟ ﺬي ﻳ ﻘ ﻄ ﻊ ﺑ ﺤ ﺮ اﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻓ ﻲ وإذا ﻣ ﺎ ﻋ ﻘ ﻠ ﻜ ﻢ ﺧ ﺎﻣ ﺮه ﻓ ﺎﺳ ﺄﻟ ﻮا اﻟ ﻤ ﺸ ﺮق ﻋ ﻦ ﻳ ﺎﺑ ﺎﻧ ﻪ واﺳ ﺄﻟ ﻮا ﻋ ﻦ ﺣ ﺎل أﺳ ٍ ﻼف ﻟ ﻨ ﺎ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ اﻷوﻃﺎن ﻫﻞ ﻣﻦ ﻧﻬﻀﺔ ﻣ ﺎ ﻟ ﻜ ﻢ ﻓ ﺮﻃ ﺘ ﻤ ﻮ ﻓ ﻴ ﻤ ﺎ ﺑ ﻪ ﻻ ﺗ ﻈ ﻨ ﻮا اﻟ ﺨ ﻴ ﺮ ﻳ ﺄﺗ ﻴ ﻜ ﻢ ﺑ ﻼ ﻟ ﻴ ﺲ ﻟ ﻺﻧ ﺴ ﺎن ﱠإﻻ ﻣ ﺎ ﺳ ﻌ ﻰ إن أردﺗ ﻢ أن ﺗ ﻨ ﺎﻟ ﻮا ﻋِ ﱠﺰﻛ ﻢ وﺗ ﻌ ﻴ ﺸ ﻮا ُﺳ ﻌَ ﺪا ﺑ ﻴ ﻦ اﻟ ﻮرى ﻓﺎﺑﺬﻟﻮا ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻢ أﻗﺼﻰ ﺟﻬﺪﻛﻢ
وﻣﻨﻬﻢ ﺣﴬة اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻷدﻳﺐ اﻟﺴﻴﺪ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﺳﻮﻳﴘ اﻟﴩﻳﻒ ﻣﻦ ﻧﺒﻐﺎء ﻣﺘﺨﺮﺟﻲ ﺟﺎﻣﻊ اﻟﺰﻳﺘﻮﻧﺔ اﻟﺬي ﻗﺎل ﻗﺼﻴﺪة وﻃﻨﻴﺔ د ﱠﻟﺖ ﻋﲆ ﻛﻤﺎل أدﺑﻪ ،وﺻﺪق وﻃﻨﻴﺘﻪ. 60
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻫﻲ ﻣﻄﻮﻟﺔ ﻧﻘﺘﻄﻒ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ وﻗﻊ ﻋﻠﻴﻪ اﻻﺧﺘﻴﺎر ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﻏﺮ ًرا ودر ًرا ﻗﺎل ﰲ ﻣﻄﻠﻌﻬﺎ: إﻟ ﻰ ﻣ ﺘ ﻰ أﻣ ﺔ اﻹﺳ ﻼم ﻓ ﻲ ﻛ ﺮب وﻗ ﺪ أﺣ ﺎط ﺑ ﻬ ﺎ ﺟ ﻴ ﺶ ﻣ ﻦ اﻟ ﻨ ﻮب واﻟﻔﻜﺮ أﺿﺤﻰ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﺧﻴﺮ ﻓﻲ ﺗﻌﺐ واﻟﻐﻴﺮ ﻓﻲ اﻟﺠﺪ أﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻓﻲ ﻟﻌﺐ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ ﻟ ﻌ ﻈ ﻴ ﻢ اﻟ ﻨ ﺼ ﺢ ﻣ ﺎ ﺳ ﻤ ﻌ ﺖ أﺳ ﻼﻓ ﻬ ﺎ اﺳ ﺘ ﻴ ﻘ ﻈ ﻮا ﻟ ﻜ ﻨ ﻬ ﺎ رﻗ ﺪت وﻓﻲ ﻧﻮادي اﻟﻬﻮى واﻟﻠﻌﺐ ﻗﺪ رﺗﻌﺖ وﻣ ﺎ أﻓ ﺎد ﻟ ﺴ ﺎن اﻟ ﻮﻋ ﻆ واﻟ ﺨ ﻄ ﺐ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ ﻋ ﺎﻣ ﻞ اﻷﻏ ﺮاض ﻓ ﱠﺮﻗ ﻬ ﺎ واﻟ ﻌ ﻴ ﻦ ﻗ ﺪ ﺷ ﻬ ﺪت ﺣ ﺰﻧ ً ﺎ ﻓ ﺄ ﱠرﻗ ﻬ ﺎ إن دام ﻫ ﺬا اﻟ ﻌ ﻨ ﺎ ﻳ ﺎ ﻣ ﻮت ﻓ ﺎﻗ ﺘ ﺮب ﻧﺎدﻳﺖ واﻟﻨﻔﺲ ﺣﺴﻦ اﻟﺼﺒﺮ ﻓﺎرﻗﻬﺎ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب ﻫﺬي اﻟﻤﻔﺎﺳﺪ ﻗﺪ راﺟﺖ ﺑﻀﺎﺋﻌﻬﺎ ﻛ ﺬا اﻟ ﻔ ﻮاﺣ ﺶ ﻗ ﺪ ﻋ ﻤ ﺖ وﻗ ﺎﺋ ﻌ ﻬ ﺎ واﻟﺨﻤﺮ ﻗﺪ ﺳﺎد ﺑﻴﻦ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﺋﻌﻬﺎ واﻟﻔﻜﺮ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻧﻔﻊ ﺻﺎر ﻓﻲ ﺣﺠﺐ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب أﻳ ﻦ اﻟ ﻤ ﻌ ﺎﻟ ﻲ اﻟ ﺘ ﻲ ﻛ ﺎﻧ ﺖ ﻷﻣ ﺘ ﻨ ﺎ أﻳ ﻦ اﻟ ﺘ ﻌ ﺎﺿ ﺪ ﻣَ ﻦ ﻳ ﺪﻋ ﻮ ﻟ ﺮﻓ ﻌ ﺘ ﻨ ﺎ أﺳ ﻼﻓ ﻨ ﺎ ﺷ ﻴﱠ ﺪوا ﻓ ﺨ ًﺮا ﻟ ِﻤ ﱠﻠ ﺘ ﻨ ﺎ واﻟﻀﺪ ﻣﻦ ﺑﺄﺳﻬﻢ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺮﻫﺐ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب أﺳ ﻼﻓ ﻨ ﺎ ﻓ ﻌ ﻠ ﻮا اﻟ ﺨ ﻴ ﺮات واﺟ ﺘ ﻬ ﺪوا وﺟ ﻞ أﻋ ﺪاﺋ ﻪ ﺑ ﺎﻟ ﺤ ﻖ ﻗ ﺪ ﺷ ﻬ ﺪوا ﻗ ﺪ ﺷ ﻴﱠ ﺪوا وﻫ ﺪﻣ ﻨ ﺎ ﻛ ﱠﻞ ُﻣ ﻨ ﺘ ِﺼ ﺐ ﻗﻮم ﺑﺄﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻜﻮن ﻗﺪ ﺳﻌﺪوا ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب أﺳ ﻼﻓ ﻨ ﺎ رﻓ ﻌ ﻮا ﻟ ﻠ ﺪﻳ ﻦ ﻣ ﺎ رﻓ ﻌ ﻮا ﻟ ﻠ ﻪ َد ﱡرﻫ ﻤ ﻮ ﺑ ﺎﻟ ﻌ ﻠ ﻢ ﻗ ﺪ ﻧ ﻔ ﻌ ﻮا ﻗ ﻮم ﺑ ﻌ ﺰم وﺣ ﺰم ﻟ ﻠ ﻌ ﻠ ﻰ اﻧ ﺪﻓ ﻌ ﻮا ﻫ ﺬا وذﻛﺮﻫ ﻢ ﻓ ﻲ اﻟﺼ ﺤﻒ واﻟﻜﺘﺐ ﻣ ﺎ آن أن ﺗ ﻨ ﻬ ﻀ ﻲ ﻳ ﺎ أﻣ ﺔ اﻟ ﻌ ﺮب وﻫﻲ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻂ اﻟﺒﺪﻳﻊ واﻷﺳﻠﻮب اﻟﺤﺴﻦ املﺴﺘﻈﺮف.
61
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (23اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ ﺗﻮﻧﺲ ﻏﺎدرت ﺗﻮﻧﺲ ورﻛﺒﺖ ﺑﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﺑﻮاﺧﺮ اﻟﴩﻛﺔ اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ ،ووﺟﻬﺘﻲ ﺑﻼد اﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ، وﻛﺎن اﻟﻌﺰم أن ﻧﺴﺎﻓﺮ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻮﻏﺎز ﺟﺒﻞ ﻃﺎرق ،ﻓﺴﻮاﺣﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻷﺟﻞ أن ﻧﻘﻒ ﻋﲆ أﺣﻮال ﺳﻜﺎن ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ،وﻟﻜﻦ رأﻳﻨﺎ املﺴﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪة ﺟﺪٍّا ﻓﻌﺪﻟﻨﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺰم إﱃ اﻟﺴﻔﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺮﺳﻴﻠﻴﺎ ،ﺛﻢ ﻋﲆ اﻟﺨ ﱢ ﻂ اﻟﺤﺪﻳﺪي ﻣﻦ ﻫﻨﺎك ﻓﺮأﻳﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ املﺴﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪة ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﺜﺮة املﺼﺎرﻳﻒ ،وأﺧريًا ﻋﻘﺪﻧﺎ اﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺮ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻮﻏﺎز اﻟﺴﻮﻳﺲ؛ ً وﻓﻌﻼ ﻗﻄﻌﻨﺎ اﻟﺘﺬاﻛﺮ إﱃ ﻋﺪن وﻧﺰﻟﻨﺎ ﺣﻴﺚ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻣﻨﻪ أﻗﺮب وأﺳﻬﻞ واملﺼﺎرﻳﻒ أﻗﻞ، ﰲ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻓﺈذا ﻫﻲ ﺧﺎوﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻛﺎب ﻧﺤﻮ اﻟﺜﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻣﺎ ﺑني اﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، واﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ،وﺑﻴﻨﻤﺎ أﻧﺎ ورﻓﻴﻘﻲ ﻧﻄﺎﻟﻊ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺐ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وذﻟﻚ ﰲ ﺻﺎﻟﻮن اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﺮﺟﻞ ﻓﺮﻧﺴﻮي ﻳُﺪﻋَ ﻰ املﺴﻴﻮ »ﺑريﺗﻮ« اﻟﺬي ﻫﻮ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻨﺎدٍ ﻋﻤﻮﻣﻲ ﻟﻠﺮﻛﺎب ،وإذا ٍ اﻗﱰب ﻣﻨﺎ ورﻏﺐ ﰲ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﺑﻨﺎ ،ﻓﺒﻌﺪ اﻟﺘﺤﻴﺔ دار ﺑﻴﻨﻨﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻵﺗﻲ وﻛﺎﻧﺖ املﺨﺎﻃﺒﺔ ني وﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ. ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻪ ﻓﻘﺎل :إﻧﻲ أﻇﻨﻜﻤﺎ ﻣﺴﻠِﻤَ ْ ِ – أﺟﻞ. – وإﱃ أيﱢ اﻟﺒﻼد أﻧﺘﻤﺎ ذاﻫﺒﺎن؟ – إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻟﻠﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ. – ﺣﺴﻨًﺎ ﻓﻌﻠﺘﻤﺎ ،وإﻧﻲ ﻋﲆ ذﻛﺮ اﻹﺳﻼم أرﻳﺪ أن أﺳﺄل ﻋﲆ ﳾء ﻃﺎملﺎ وددت أن أﺟﺘﻤﻊ ﺑﻤﺜﻠﻜﻤﺎ ﻟﻴﺠﻴﺒﻨﻲ ﻋﻨﻪ ،واﻵن أﺣﻤﺪ ﷲ ﻋﲆ اﻻﺟﺘﻤﺎع ﺑﻜﻤﺎ. – وﻣﺎ اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﺗﺮﻳﺪ اﻟﺠﻮاب ﻋﻨﻪ؟ ﱠ – إﻧﻨﻲ ﻗﺒﻞ ﻛ ﱢﻞ ﳾء أؤﻛﺪ ﻟﻜﻤﺎ ﺑﺄﻧﻲ ﻟﻢ أﻗﺼﺪ ﺑﺴﺆاﱄ إﻻ اﻻﻫﺘﺪاء إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، واﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎملﺠﻬﻮل ،وﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻷﻗﻮل ﻫﺬا ﻟﻮﻻ ﺧﺸﻴﺔ اﺗﻬﺎﻣﻲ ﺑﺎﻟﺘﺤﺎﻣُﻞ ﻋﲆ اﻹﺳﻼم واملﺴﻠﻤني. إﻧﻨﻲ اﻃﻠﻌﺖ ﻋﲆ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﺳﻼم ﻣﻦ ﻋﻬﺪ ﻧﺸﺄﺗﻪ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ ﻓﺪُﻫِ ْﺸﺖ ﺟﺪٍّا ﻟﻠﻔﺮق اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺬي ﺑني ﺣﺎﻟﺘﻪ اﻷوﱃ وﺣﺎﻟﺘﻪ اﻟﺤﺎﴐة ،ﻓﺈن اﻹﺳﻼم ﻇﻬﺮ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮب وﻣﻦ ﻗﻠﺐ ﻳﻤﺾ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﺣﺘﻰ اﻧﺘﴩ ﰲ ﺑﻘﺎع املﻌﻤﻮرة ﻓﻠﻢ َ ﻳﺒﻖ ﺻﻘﻊ ﻣﻦ آﺳﻴﺎ وﻟﻢ ِ اﻷﺻﻘﺎع ﱠإﻻ ودﺧﻠﻪ اﻹﺳﻼم ،وإن اﻧﺘﺸﺎره ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﺒﴩﻳﻦ وﻻ ﻏريﻫﻢ ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﻷﺟﻞ ﻣﻼﺋﻤﺘﻪ ﻟﻜ ﱢﻞ ﺟﻨﺲ وﻛ ﱢﻞ ﻋﺎدة ﻣﻦ ﻋﺎدات اﻷﻣﻢ ،ﻛﻤﺎ ﻳُﻌ َﺮف ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺣﻮاﻟﻪ وﻗﻮاﻋﺪه وﻣﺒﺎدﺋﻪ ،وﻛﺎن املﺴﻠﻤﻮن ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر ﰲ أﻋﲆ درﺟﺎت اﻟﺘﻘﺪم ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف ،ﺣﺘﻰ إن اﻷﻣﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﴙ ﺳﻄﻮة اﻹﺳﻼم وﺗﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﻘﺎم اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻧﻈﺮ اﻻﺣﱰام واﻻﻋﺘﺒﺎر. 62
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وذﻟﻚ ﺑﺨﻼف ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن اﻵن ﻣﻦ اﻻﻧﺤﻄﺎط املﺎدي واﻷدﺑﻲ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ أﺻﺒﺤﻮا ﻣﺤﻜﻮﻣني ﻷﻣﻢ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻬﻢ ﰲ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻌﻮاﺋﺪ ،واﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻈﻞ ﺑﻈﻞ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻣﻨﻬﻢ اﻟﻴﻮم ﻻ ﻳﻮازي ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﻋﺪد املﺴﻠﻤني اﻵن. – اﻋﻠﻢ ﻳﺎ ﺟﻨﺎب املﻮﺳﻴﻮ ﺑريﺗﻮ أن اﻹﺳﻼم ﻫﻮ دﻳﻦ اﻟﻔﻄﺮة ،واﻟﻌﺪل ،واملﺪﻧﻴﺔ، واﻟﺤﺮﻳﺔ ،وإذا ﺑﺤﺜﺖ ﰲ أﺻﻮﻟﻪ ،وﻗﻮاﻋﺪه ،وﻣﺒﺎدﺋﻪ ،وﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﺗﻜﻮن أول ﻣﻦ ﻳﺮ ﱡد ﻛ ﱠﻞ اﻓﱰاء ﻳﻔﱰﻳﻪ ﻏري املﺴﻠﻤني ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ،ﱠ وإﻻ ملﺎ اﻧﺘﴩ ﻫﺬا اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻟﻬﺎﺋﻞ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء اﻷرض ﰲ ﻣﺪة وﺟﻴﺰة ،وذﻟﻚ اﻟﺘﻘﺪﱡم اﻟﺬي ﺗﻘﺪﻣﻪ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول ﻣﺎ ﻫﻮ ﱠإﻻ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺳري املﺴﻠﻤني ﻋﲆ ﻗﻮاﻋﺪه واﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻷواﻣﺮ واﻟﻨﻮاﻫﻲ إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﻌﺎﻣﻼت ﻣﻊ أﻫﻞ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى ،وإذا ﻗﺮأت ﺳرية اﻟﺨﻠﻔﺎء اﻷﻣﻮﻳني واﻟﻌﺒﺎﺳﻴني ﺗﻌﺮف ﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺒﺬﻟﻪ ﻫﺆﻻء ﰲ ﺳﺒﻴﻞ إﻋﺰاز ﻛﻠﻤﺘﻪ وﺗﺄﻳﻴﺪ ﺳﻠﻄﺘﻪ ﻣﻦ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺤﺪود ﰲ ﻣﻘﺎﻃﻌﻬﺎ وﺗﻮﻟﻴﺔ اﻷﺣﻜﺎم ملﻦ ﻫﻢ أﻛﻔﺎء ﻟﻬﺎ ،واﻟﺬود ﻋﻦ ﺣِ ﻤﻰ اﻹﺳﻼم ﻣﻦ أن ﺗﻌﺒﺚ ﺑﻪ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ إﻛﺮاﻣﻬﻢ ﻷﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ وﺗﻌﺰﻳﺰﻫﻢ أﻳﺪي أﻫﻞ اﻟﻀﻼل وﻳﻨﺎل ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺘﻪ أﻋﺪاؤه ،ﻫﺬا ﻷﻫﻞ اﻟﻔﻀﻞ. ﻓﺈذا ﻧﻈﺮت ﻳﺎ ﻣﺴﻴﻮ ﺑريﺗﻮ إﱃ أﺣﻜﺎم اﻟﻘﺮآن ،ﺛﻢ ﻧﻈﺮت إﱃ ﻗﻮاﻧني وﴍاﺋﻊ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺪول ﺗﺠﺪ أن اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻜﻔﻴﻠﺔ ﺑﻜ ﱢﻞ ﴐوب اﻟﻌﺪل ،ﺳﻮاء ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺤﻘﻮق اﻟﺠﻨﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺴﺎوى ﻓﻴﻬﺎ املﺴﻠﻢ وﻏري املﺴﻠﻢ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺸﺌﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﺟﻤﻊ أﻧﻮاع ﻣﺎ ﺑﻪ ﺳﻌﺎدة ﻣَ ﻦ ﻳﺪﻳﻦ ﺑﻪ ،وﻛﺎن اﻟﻘﺎﴈ اﻟﴩﻋﻲ ﻳﺤﻜﻢ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺪﻋﺎوى املﺪﻧﻴﺔ واﻟﺠﻨﺎﺋﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وﻛ ﱡﻞ اﻟﻌﻘﻮﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺣﺪﱠدﺗﻬﺎ اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ إذا ﺗﺄﻣﱠ ﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ وﺟﺪﺗﻬﺎ وﺣﺪﻫﺎ اﻟﻜﻔﻴﻠﺔ ﺑﺮدع اﻟﻨﺎس ﻋﻦ ارﺗﻜﺎب اﻟﺠﺮاﺋﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻚ إذا ﺗﺄﻣﱠ ﻠﺖ ﰲ أرﻛﺎن اﻹﺳﻼم ﺗﺠﺪه ﺟﺎﻣﻌً ﺎ ملﻌﻨﻰ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ. ﻓﺎملﺴﻠﻤﻮن ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول ﻛﺎﻧﻮا آﺧﺬﻳﻦ ﺑﺄواﻣﺮ اﻟﺪﻳﻦ وﻧﻮاﻫﻴﻪ ،ﺳﺎﺋﺮﻳﻦ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ رﺳﻤﻪ ﻟﻬﻢ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،أﻣﺎ اﻵن وﻗﺪ ﻧﺒﺬوا اﻟﺪﻳﻦ ﻇﻬﺮﻳٍّﺎ وﺟﻌﻠﻮه ﻧﺴﻴًﺎ ﻣﻨﺴﻴٍّﺎ ﻻ ﺗﺂﻟﻒ ﺑﻴﻨﻬﻢ وﻻ اﺗﺤﺎد ﻳﻌ ﱢﺰز ﺟﺎﻣﻌﺘﻬﻢ ،واﻟﺒﻠﻴﺔ اﻟﻌﻈﻤﻰ أﻧﻬﻢ اﺳﺘﻌﺎﺿﻮا ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻮﺿﻌﻲ ﻋﻦ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺴﻤﺎوي ،ﻓﺎﻟﻘﺎﴈ اﻟﴩﻋﻲ ﻻ ﻳﺤﻜﻢ اﻵن ﱠإﻻ ﰲ اﻷﺣﻮال اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻫﺬا ﻣﻊ اﻧﻜﻤﺎش ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺪﻳﻦ ﻓﻼ ُﻫﻢ ﻳﻌﻤﻠﻮن ﻋﲆ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺒﺪع و]ﻻ ﻫﻢ ﻳﻌﻤﻠﻮن ﻋﲆ[ ﺗﻨﺒﻴﻪ اﻟﺤﺎﻛﻢ إﱃ املﻔﺎﺳﺪ املﻨﺘﴩة ﺑني املﺴﻠﻤني؛ ﻓﻜﺜﺮ اﻟﻔﺴﺎد ،واﻧﺘُﻬﻜﺖ ﺣﺮﻣﺎت اﻟﺪﻳﻦ وآداﺑﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﱠإﻻ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﱠﺨﺬوﻧﻬﺎ ﺣﺒﺎﻟﺔ ﻟﻠﺘﻘﺮب ﻣﻦ املﻠﻮك واﻷﻣﺮاء ،ﻓﻬﻲ ﱞ ﻏﺶ ورﻳﺎء ،وزد ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﺠﻬﻞ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﺑني ﻛ ﱢﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت ،ﻓﱰى اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻳﴫﻓﻮن أﻣﻮاﻟﻬﻢ 63
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﰲ اﻗﺘﻨﺎء اﻟﺰﺧﺎرف ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺒﻨﺎء اﻟﻔﺎﺧﺮ وﻛ ﱢﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻐﻨﻰ ،وﻟﻢ ﻳﺄﺧﺬ املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻦ ﻣﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮب ﱠإﻻ ﻣﺎ ﻳﴬﻫﻢ ﰲ دﻳﻨﻬﻢ ودﻧﻴﺎﻫﻢ ﻋﲆ أن املﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣُﺴﺘﻤَ ﺪة ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺪﱡن اﻹﺳﻼﻣﻲ؛ إذ اﻹﺳﻼم ﻟﻢ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎدات ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺄن ﻳﻌﻤﻞ املﺴﻠﻢ ﻟﺪﻧﻴﺎه ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻌﻴﺶ أﺑﺪًا ،وﻟﺪﻳﻨﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻤﻮت ﻏﺪًا ،ﻓﻠﻮ ﺳﻌﻰ املﺴﻠﻤﻮن ﺳﻌﻲ اﻟﻐﺮﺑﻴني ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت واﻻﺧﱰاﻋﺎت ﻓﻬﻢ ﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻘﻮل ﷲ ﺗﻌﺎﱃُ : ﴿ﻫ َﻮ ا ﱠﻟﺬِي َﺧ َﻠ َﻖ َﻟ ُﻜ ْﻢ ﻣَ ﺎ ِﰲ ْاﻷ َ ْر ِض ﺟَ ِﻤﻴﻌً ﺎ﴾ ،ﺣﺘﻰ إن اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ أودﻋﻬﺎ اﻟﴩع اﻟﴩﻳﻒ ﰲ اﻟﺼﻼة واﻟﺼﻮم واﻟﺰﻛﺎة واﻟﺤﺞ ﻫﻲ ﻧﻔﺲ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﺗﺮﺗﻘﻲ اﻷﻣﻢ إﱃ أوْج اﻟﺴﻌﺎدة ،ﻓﺎﻟﺼﻼة واﻟﺼﻮم ﻳﺒﻌﺪان اﻟﻨﻔﺲ ﻋﻦ ارﺗﻜﺎب اﻟﺪﻧﺎﻳﺎ واﻟﻔﺤﺶ ،واﻟﺰﻛﺎة ﺗﻤﻨﻊ اﻟﴪﻗﺎت ﻷﻧﻚ إذا ﺑﺤﺜﺖ ﻋﻦ ﺟﻨﺎﻳﺎت اﻟﴪﻗﺔ ،واﻟﺴﻠﺐ ،واﻟﻨﻬﺐ ﺗﺠﺪ اﻟﺴﺒﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﻔﻘﺮ ،واﻟﺤﺞ ﻳﺆﻟﻒ ﺑني ﻗﻠﻮب املﺴﻠﻤني املﻨﺘﴩﻳﻦ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ ،ﻓﻴﻜﻮﻧﻮن ﻳﺪًا واﺣﺪة ﻳﺸﻌﺮ ﻛ ﱡﻞ ﻓﺮد ﺑﻤﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ اﻵﺧﺮ ﻋﲆ ﺑُﻌﺪ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺔ ،وأﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﺮﻣﻲ ﺑﻪ اﻟﺠﺎﻫﻠﻮن ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ ﻓﻜﻠﻪ وﻫﻢ اﻟﻘﻮﻳﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ دﻳﻦ اﻟﺘﻌﺼﺐ ﺿﺪ ﻏريه ﻣﻦ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى ﺑﺎﻃﻞ ،ﱠ وإﻻ ملﺎ ﻋﺎش املﺴﻠﻤﻮن واﻟﻴﻬﻮد واﻟﻨﺼﺎرى ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬه املﺪة ﻣﻦ ﻋﻬﺪ ﺑﺪء اﻹﺳﻼم إﱃ اﻟﻴﻮم ،وﻫﻢ ﻣﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ ﰲ ﻣﺮاﻓﻖ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ املﻨﺎﻓﻊ واﻟﻔﻮاﺋﺪ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ أن أوروﺑﺎ ﺗﺘﻬﻢ املﺴﻠﻤني ُزو ًرا ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻣﺘﻌﺼﺒﻮن ،إذا ﺑﺪت ﻣﻨﻬﻢ ﺑﻮادر اﻷﻟﻔﺔ واﻻﺗﺤﺎد واﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻬﻤﻬﻢ دﻧﻴﺎ وأﺧﺮى. وﻫﺬا ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﺳﻼم ﻣﻦ أوﻟﻪ إﱃ آﺧﺮه ﻻ ﺗﺠﺪ ﰲ أيﱢ زﻣﻦ ﻣﻦ اﻷزﻣﺎن أن املﺴﻠﻤني ﻫﺎﺟﻮا ﺿﺪ اﻟﻨﺼﺎرى أو اﻟﻴﻬﻮد ،ﺑﻞ اﻟﺤﺮوب اﻟﺼﻠﻴﺒﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺤﺮﻛﻬﺎ ﱠإﻻ ﻳﺪ أوروﺑﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻤﺤﻮ اﻹﺳﻼم ﻋﻦ اﻟﻌﻴﻮن. وﻋﲆ وﺟﻪ اﻹﺟﻤﺎل أﻗﻮل ﻟﻚ ﻳﺎ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ ﺑريﺗﻮ إن املﺴﻠﻤني إذا ﻋﻤﻠﻮا ﺑﺪﻳﻨﻬﻢ ﰲ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻧﺒﺬوا ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﺎﻟﻒ ﴍﻳﻌﺘﻬﻢ وﻋﻤﻠﻮا ﺑﻤﺎ ﻫﻮ واﺟﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ؛ ﻟﻜﺎﻧﻮا اﺳﱰﺟﻌﻮا ﻣﺠﺪﻫﻢ اﻟﺴﺎﻟﻒ وﻛﺎن ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻳﺼري ﻣﺮﻫﻮب اﻟﺠﺎﻧﺐ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﻣﻢ. وإﻧﻲ أراك ﻳﺎ ﻣﺴﻴﻮ ﺑريﺗﻮ ﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﻘﺪﱡم املﺴﻠﻤني ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول ﱡ وﺗﺄﺧﺮﻫﻢ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺎﴐ. – اﻵن ﻗﺪ وﻗﻔﺖ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وزال ﻋﻨﻲ اﻻرﺗﻴﺎب ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻷﺳﺒﺎب ،وإﻧﻲ أﺷﻜﺮك ً ﺟﺰﻳﻼ؛ ﺣﻴﺚ أﻓﺪﺗﻨﻲ ﻓﺎﺋﺪة ﻃﺎملﺎ ﺗﻌﺬر ﻋﲇ ﱠ اﻻﻫﺘﺪاء إﻟﻴﻬﺎ ،ﺛﻢ أﺧﺬﻧﺎ ﻧﺘﺠﺎذب أﻃﺮاف ﺷﻜ ًﺮا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ ﻣﺴﺎﺋﻞ أﺧﺮى ﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮﻫﺎ اﻵن. 64
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (24املﺮور ﻣﻦ اﻟﺴﻮﻳﺲ ﺑﻌﺪ أن ﻗﻄﻌﻨﺎ املﺴﺎﻓﺔ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ ﺗﻮﻧﺲ إﱃ اﻟﺴﻮﻳﺲ وﻣﺮرﻧﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻋﲆ اﻟﺒﻠﺪان املﺘﻘﺪﱢم ذﻛﺮﻫﺎ وﻻ داﻋﻲ ﻟﻮﺻﻔﻬﺎ اﻵن ،ﻛﻤﺎ ﻻ داﻋﻲ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﺴﻮﻳﺲ وﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ،ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻣﻌﻠﻮم ﻟﺪى ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ،وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﺴﻮﻳﺲ ﱠ ﺗﻐريت اﻟﺒﺎﺧﺮة ورﻛﺒﻨﺎ ﺑﺎﺧﺮة أﺧﺮى ﻣﻦ ﺑﻮاﺧﺮ ﴍﻛﺔ املﺴﺎﺟﺮي ،وﻛﺎن اﻟﺠﻮ ﺻﺎﻓﻴًﺎ واﻟﺒﺤﺮ ﻫﺎدﺋًﺎ ،وﻟﻢ ﻧﻜﺪ ﻧﻘﴤ ﻧﺤﻮ اﻟﻴﻮم واﻟﻠﻴﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻫﺒﱠﺖ اﻟﺮﻳﺎح اﻟﻬُ ﻮج ،ﻓﺰاد اﺿﻄﺮاب اﻷﻣﻮاج وﺳﺎرت اﻟﺒﺎﺧﺮة ﰲ ﺻﻌﻮد، وﻫﺒﻮط ،وﻣﻴﻞ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺒني ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي أﻗﻠﻖ ﺧﻮاﻃﺮ اﻟﺮﻛﺎب ،ﻓﻠﺒﺚ ﻛ ٌﻞ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻻ ﻳﺘﺤﺮك؛ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﺪواخ ،وذاك ﻣﻦ اﻟﺨﻮف واﻻﺿﻄﺮاب ،وﻛﺎن ﻛ ٌﻞ ﻳﻨﺎﺟﻲ ﻣﻦ ﻧﺠﱠ ﻰ ﻧﻮﺣً ﺎ وﻣﻦ ﻣﻌﻪ ﰲ اﻟﻔﻠﻚ ﺑﻠﺴﺎن اﻟﺤﺎل وﻳﻨﺸﺪ ﻗﻮل اﻟﺸﺎﻋﺮ: وﻛﺎد ﻣﻦ ﺧﺎف ﻳﺘﻠﻒ ﺣ ﺎﺷ ﺎه أن ﻳ ﺘ ﺨ ﻠ ﻒ
ﻟ ﻤ ﺎ رﻛ ﺒ ﻨ ﺎ ﺑ ﺒ ﺤ ﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺮﻳﻢ اﻋﺘﻤﺪﻧﺎ
وﻛﺎن ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻛﺎب ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﴍاب اﻟﻠﻴﻤﻮن واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻳﺘﻌﺎﻃﻰ ﺑﻌﺾ اﻷدوﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺤﴬﻫﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض ،وﻣﻜﺜﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﺎل ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺒﻊ ﺳﺎﻋﺎت واﻟﺒﺤﺮ ﻫﺎﺋﺞ ﻣﺎﺋﺞ ،ﺛﻢ ﻗ ﱠﻠﻞ ﻣﻦ ﺣﺪﱠﺗﻪ وﺧﻔﺾ ﻣﻦ اﺿﻄﺮاﺑﻪ ﻛﺄﻧﻪ اﻟﻐﻀﺒﺎن اﺳﺘﻌﻄﻒ ،واﻟﺤﻠﻴﻢ آب إﱃ رﺷﺪه ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺪﱠة ،وأوﱠل ﻣﺪﻳﻨﺔ رﺳﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﻦ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻋﲆ ﺳﺎﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻳﻨﺒﻊ. ) (25ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻳﻨﺒﻊ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺒرية ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﺪد اﻟﺴﻜﺎن ،وﻟﻴﺲ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﻣﺎ ﻟﺴﻮاﻫﺎ ﻣﻦ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻋﲆ ﺳﻮاﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ واﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ املﺘﻮﺳﻂ ،ﺑﻞ ﻫﻲ ﺿﻴﻘﺔ اﻟﺸﻮارع اﻟﺘﻲ ﺗﱰاﻛﻢ ﰲ ﺟﻨﻮﺑﻬﺎ اﻷﻗﺬار ،واﻷﺗﺮﺑﺔ ،وﻣﺎؤﻫﺎ آﺳﻦ ﻏري ﺻﺎﻟﺢ ﻟﻠﴩب ﻣﺠﻠﺒﺔ ﻟﻸﻣﺮاض، ﻟﻮﻧﻪ أزرق ﻳُﺠ َﻠﺐ ﻣﻦ املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت اﻟﺮدﻳﺌﺔ اﻟﺮاﺋﺤﺔ وﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ ﱠ أن أﻫﻞ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻳﴩﺑﻮن ﻣﻦ ﻣﺎء ﻫﺬه املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت ﻣﻦ ﻏري ﻣﺒﺎﻻة ،وﻗﺪ أ ُ ْﺧ ِﱪت أن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﻋﺎزﻣﺔ ﻋﲆ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺼﺤﺔ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ املﺎء اﻟﺬي ﻣﻨﻪ ﺣﻴﺎة ﻛ ﱢﻞ ﳾء؛ إذ ْ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ ردْم ﻫﺬه املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت وإﻧﺸﺎء آﺑﺎر ارﺗﻮازﻳﺔ. 65
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺒﻌﻮض ﻟﺴﻌﻪ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ﻟﺴﻊ اﻟﺰﻧﺎﺑري ،واﻟﺴﺒﺐ ﰲ وﺟﻮد ﻫﺬه املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت .أﻣﺎ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﺠﺎرة ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻓﻠﻴﺴﺖ ذات أﻫﻤﻴﺔ ﺗُﺬ َﻛﺮ؛ إذ ﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻮاﻧﻴﺖ ﻟﺒﻴﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ اﻟﴬورﻳﺔ ملﻌﺎش اﻷﻫﺎﱄ. وﻗﺪ دﺧﻞ اﻹﺳﻼم ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ وﻟﻢ َ ﻳﻠﻖ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ ﻓﺘﺤﻬﺎ ﻋﻨﺎءً؛ ﻷن ً ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻴﻒ ،وإﱃ ﻫﺬه ورﻏﺒﺔ ﰲ اﻹﺳﻼم ﻻ أﻫﻠﻬﺎ أﺳﻠﻤﻮا وﺳﻠﻤﻮا ﻃﻮﻋً ﺎ واﺧﺘﻴﺎ ًرا املﺪﻳﻨﺔ ﻳ َ ُﻨﺴﺐ أﺑﻮ ﻋﺒﺪ ﷲ ﺣﺮﻣﻠﺔ املﺪﻟﺠﻲ ،وﻫﻮ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب رﺳﻮل ﷲ ﷺ. وﻳﻘﻄﻦ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻋﺮبُ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺟﻬﻴﻨﺔ ،وﻫﻢ أﺻﺤﺎب اﻟﻨﻔﻮذ دون ﺳﺎﺋﺮ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ، ﺛﻢ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺎﺻﺪة ﺟﺪة وﻟﻢ ﺗﻤﻜﺚ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻮى ﺳﺎﻋﺘني. ) (26ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺟﺪة ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ اﻟﻌﻬﺪ وﺑﻌﺾ املﺆرﺧني ﻗﺎل إﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮة ﻟﻠﻔﺮس اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﻤﻦ وﻃﺮدوا اﻟﺤﺒﺸﺔ ﻣﻨﻬﺎ ،وأﻗﺮوا ﺳﻴﻒ ﺑﻦ ذي ﻳﺰن ﻋﲆ ﻣُﻠﻚ اﻟﺘﺒﺎﺑﻌﺔ أﺟﺪاده ﻛﻤﺎ ﺛﺒﺖ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺘﻮارﻳﺦ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ،واﻟﻌﺎﻣﺔ ﺗﻘﻮل ﺟﺪة ﺑﻔﺘﺢ اﻟﺠﻴﻢ واﻟﺼﻮاب ﺿﻤﱡ ﻬﺎ. وﻫﻲ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻣﻜﺔ ﺑﻨﺤﻮ ﺧﻤﺴﺔ وﺳﺘني ً ﻣﻴﻼ وﺑﺠﻮارﻫﺎ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺟﺒﺎل ﻣﻨﺨﻔﻀﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﺠﺎر ،واﻟﻨﺒﺎت ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول ﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﺄﺳﻮار وﺑﺮوج ﺣﺼﻴﻨﺔ وﻣُﺤِ ﻴﻂ ﺑﻬﺎ ﺧﻨﺪق ،وﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﺳﺘﺔ أﺑﻮاب ﻣﻔﺘﻮﺣﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻮر وﻟﻜﻞ ﺑﺎب ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻮﺻﻞ إﱃ اﻟﺒﺤﺮ ،وﻟﻢ ﺗﺰل آﺛﺎر اﻟﺴﻮر واﻷﺑﻮاب واﻟﺨﻨﺪق ﻣﻮﺟﻮدة إﱃ اﻵن ،وأول ﻣﺎ وﺻﻠﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة إﱃ ﻣﺪﺧﻞ املﻴﻨﺎء أﺧﺬت ﺗﺴري ﺑﺒ ْ ﻂء ﺣﺬ ًرا ﻣﻦ أن ﺗﺼﻄﺪم ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺸﻌﺎب اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﻜﺜرية اﻟﺘﻲ ﰲ ﻣﺪﺧﻞ املﻴﻨﺎء ،وﻗﻴﻞ إن ﻫﺬه اﻟﺼﺨﻮر ﻫﻲ أﺷﺠﺎر املﺮﺟﺎن اﻟﻨﺎﺑﺘﺔ ﰲ ﻗﺎع اﻟﺒﺤﺮ ،وﻫﺬه املﻴﻨﺎء ﻫﻲ أﺣﺴﻦ ﻣﻴﻨﺎء ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ أول ﺑﻠﺪ ﻳﺪﺧﻠﻬﺎ اﻟﺤﺎج ﺑﻌﺪ ﻳﻨﺒﻊ ﰲ ﺑﻼد ﺟﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮب. وﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺗﺠﺎر ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني واﻟﻬﻨﻮد ﻟﻬﻢ ﺣﻮاﻧﻴﺖ ﻛﺜرية ،ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻞ ﻟﻬﺎ أﻫﻤﻴﺔ ﺗﺠﺎرﻳﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻳﻨﺒﻊ ،وﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻣﺘﺴﻌﺔ ﻟﻄﻴﻔﺔ ،وﻣﻦ أﻫﻢ ﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ روﻧﻖ اﻟﺒﻨﺎء ﻫﻮ اﻟﺸﺎرع املﻤﺘﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﺎﻟﺸﺎرع ا ُملﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﺳﻢ أُﻣﱢ ﻨﺎ ﺣﻮاء ،وﻓﻴﻪ ﻗﱪﻫﺎ وﻫﻮ ذو ﺛﻼث ﻗﺒﺎب وإﱃ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻳ َ ُﻨﺴﺐ رﺟﺎل ﻣﻦ أﻛﺎﺑﺮ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﺜﻞ :ﻋﺒﺪ املﻠﻚ ﺑﻦ إﺑﺮاﻫﻴﻢ اﻟﺠﺪي ،وﻋﲇ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﲇ ﺑﻦ أﺑﻲ ﻧﺼري ،وأﺑﻮ اﻟﺤﺴﻦ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻔﻴﻨﻘﻲ، 66
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وأﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﻘﻄﺎن اﻟﺬي روى ﻋﻨﻪ اﻟﻌﻠ َﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﺒ ُﺪ ﷲ ﺑﻦ اﻟﺴﻤﺮﻗﻨﺪي اﻟﺸﻬري. وﻗﺪ ْ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻊ اﺧ َﺘﱪ ُت ﻣﻦ أﺧﻼق أﻫﻞ ﺟﺪة ﻣﺎ د ﱠﻟﻨﻲ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ أﻫﻞ ﻛﺮم وﺳﺨﺎء، اﻟﻐﺮﻳﺐ ﻋﻨﻬﻢ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﻣﻨﻬﻢ ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻋﲆ ﻧﺼﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم؛ ﻷن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﻗﻠﻴﻠﻮن ﺟﺪٍّا. ﱠ وﻗﺪ أﺳﻌﺪﻧﻲ اﻟﺤﻆ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ رﺟﻞ ﻓﺎﺿﻞ ﻏﺬﺗﻪ اﻟﻌﻠﻮم واﻵداب ﺑﻠِﺒَﺎﻧِﻬﺎ ،وﺣﻨﱠﻜﺘﻪ اﻟﺘﺠﺎرب ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻳُﻌَ ﺪ ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺨﺒريﻳﻦ ﺑﺄﺣﻮال اﻷﻣﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﲆ أدب ﻓﻴﻪ ،وﻛﻤﺎل ﻇﺮف وﻫﻮ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺤﺎج إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ اﻟﻠﻴﺜﻲ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺗُﺪﻋَ ﻰ ﺑﻬﺬا ً ﻗﻠﻴﻼ وأﻧﺎ أﺣﺎدﺛﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﺌﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،واﻷﺣﻮال اﻻﺳﻢ ،وﻗﺪ ﻣﻜﺜﺖ زﻣﻨًﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻧﺤﻮ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﻮن اﻷدﺑﻴﺔ ﻓﻜﺎن ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻮﺿﻊ ﻣﻦ ﻣﻮاﺿﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳ ُِﺠﻴﺪ وﻳﻔﻴﺪ ،ﺣﺘﻰ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ أﻛﻦ أﻋﺮﻓﻪ ﻣﻦ أﺣﻮال ﺑﻼد ﺟﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﻠﻬﺎ اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻣُﺤ ﱠﺮﻓﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ. وﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﺴﺠﺪ ﺷﻬري ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻣﺴﺠﺪ اﻷﺑﻨﻮس ،وﻏريه ﻣﻦ املﺴﺎﺟﺪ اﻟﺘﻲ أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﺪرﺟﺔ. وﻣﻨﺎزل ﻛﱪاء ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺗُﺒﻨَﻰ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ اﻟﺼﺨﺮي ،وأﻋﻈﻢ أﺑﻨﻴﺘﻬﺎ دار اﻟﺮﺳﻮﻣﺎت، ْ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻗﺎﺻﺪة ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻋﺪن. وﻣﻨﺰل اﻟﻮاﱄ ،ﺛﻢ ) (27ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻋﺪن ﻫﻲ واﻗﻌﺔ ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﴩﻗﻲ ﻣﻦ اﻟﺠﺒﻞ ﻋﲆ ﺑﺤﺮ ﻋﻤﺎن ﺗﺠﺎه ﺟﺰﻳﺮة »ﺳرية« ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻷوﱃ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﺗﺠﺎرﻳٍّﺎ ﺑني اﻟﻬﻨﺪ واﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ٥٢٥ﻣﻴﻼدﻳﺔ دﺧﻠﺖ ﰲ ﺣﻜﻢ اﻟﺤﺒﺸﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا ﻣﻦ ﻗِ ﺒﻞ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﺷﺰﺗني« ،ﻷﺟﻞ أن ﻳﻨﺘﻘﻢ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ املﺴﻴﺤﻴني ،وﺑﻌﺪ ﺧﻤﺴني ﺳﻨﺔ دارت اﻟﺪاﺋﺮة ﻋﲆ اﻷﺣﺒﺎش وﻃﺮدﻫﻢ اﻟﻌﺠﻢ ،وﰲ اﻟﻘﺮن اﻷول ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻹﺳﻼﻣﻲ دﺧﻠﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن ،وﺻﺎرت ﻣﺮﻛ ًﺰا ﺗﺠﺎرﻳٍّﺎ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ رﻏﻢ اﻟﺜﻮرات اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٥١٣ﻣﻴﻼدﻳﺔ ﺣﺎﴏﻫﺎ اﻟﻠﻴﻮ ﻛريت وﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﺪة أرﺑﻌﺔ أﻳﺎم وﻟﻢ ﻳﻨﺠﺤﻮا ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٥٣٨ﻣﻴﻼدﻳﺔ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﺳﻠﻴﻤﺎن ،ووﺿﻊ اﻷﺗﺮاك ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٥٥١ﺣﺼﻠﺖ ﺛﻮرة داﺧﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ داﻋﻴﺔ ﻟﺨﺮوج اﻷﺗﺮاك وﺿﻤﱢ ﻬﺎ إﱃ اﻟﱪﺗﻐﺎل ﻣﺆﻗﺘًﺎ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٦٣٠اﺳﺘﻮﱃ ﻋﲆ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻦ رؤﺳﺎء اﻟﺒﻼد ،وﻛﺎن 67
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻷﻫﺎﱄ ﻳﻌﺎﻣﻠﻮن ﺗﺠﺎر اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ واﻟﻬﻮﻻﻧﺪﻳني أﺳﻮأ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٠٢ﻋﻘﺪ »اﻟﺴري ﺑﻮﻓﺎن« اﻟﺸﻬري ﻣﻌﺎﻫﺪة ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﺑني اﻟﻬﻨﺪ وأﻣري ﻋﺪن املﺪﻋﻮ »ﻻﻫﺎﺗﺶ« ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٨٣٨ ﻧ ُ ِﻬﺒﺖ ﻣﺮﻛﺐ إﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ اﺳﺘﻴﻼء اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻋﲆ ﻋﺪن، وﻋﻴﱠﻨﺖ ﻟﻬﺬا اﻷﻣري ﻣﺮﺗﺒًﺎ ﺷﻬﺮﻳٍّﺎ ،وﻗﺪ ﺣﺎول ﻫﺬا اﻷﻣري أﺧﺬ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻓﻠﻢ ﻳﻨﺠﺢ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ُ ١٨٦٨ ﺿ ﱠﻢ إﱃ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺠﺰاﺋﺮ املﺠﺎورة ﻟﻬﺎ وﻫﻲ اﻵن ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ. وﻋﺪن أول ﻣﻮﺿﻊ ﻇﻬﺮت ﻓﻴﻪ دﻋﻮة اﻟﻌﻠﻮﻳني ﺑﺎﻟﺨﻼﻓﺔ ،وﺗﺨﺮج ﻣﻨﻬﺎ أﻛﺎﺑﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻷﻓﺎﺿﻞ ﻣﻨﻬﻢ :أﺑﻮ ﺑﻜﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺴﻌﻴﺪي اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﺬي ﻳﻘﻮل ﰲ ﻋﺪن وﻳﺼﻔﻬﺎ أﻳﺎم ﻛﺎﻧﺖ زاﻫﺮة ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم ﰲ ﻋﻬﺪ ﺷﺒﺎب اﻹﺳﻼم: وﺟ ﺮى رﺿ ﺎب ﻟ ﻤ ﺎه ﻓ ﻮق ﻟ ﻤ ﺎك ﻓ ﻴ ﻪ اﻟ ﻘ ﻠ ﻮب وﻫ ﻦ ﻣ ﻦ أﺳ ﺮاك ﻟ ﻠ ﺸ ﻮق ﺟ ﺸ ﻤ ﻬ ﺎ اﻟ ﻬ ﻮى ﻣ ﺴ ﺮاك
ﺣ ﻴ ﺎك ﻳ ﺎ ﻋ ﺪن اﻟ ﺤ ﻴ ﺎ ﺣ ﻴ ﺎك وﻟﻘﺪ ﺧﺼﺼﺖ ﺑﺴﺮ ﻓﻀﻞ أﺻﺒﺤﺖ ﻳ ﺴ ﺮي ﺑ ﻬ ﺎ ﺷ ﻐ ﻒ اﻟ ﻤ ﺤ ﺐ وإﻧ ﻤ ﺎ إﱃ أن ﻗﺎل ﰲ وﺻﻒ ﻧﺴﺎﺋﻬﺎ:
أﻟ ﺤ ﺎﻇ ﻬ ﺎ ﻗ ﻨ ً ﺼ ﺎ ﺑ ﻼ أﺷ ﺮاك
ﻓﺘﺎﻧﺔ اﻟﻠﺤﻈﺎت ﺗﺼﻄﺎد اﻟﻨﻬﻰ ﺛﻢ ﻗﺎل ﰲ ﻣﺪح أﻣريﻫﺎ وﻫﻮ اﻟﺨﺘﺎم:
ﺿ ﻤ ﻦ اﻟ ﻤ ﻜ ﺮم ﺑ ﺎﻟ ﻨ ﺪى ﺳ ﻘ ﻴ ﺎك
وﻋﻼم أﺳﺘﺴﻘﻰ اﻟﺤﻴﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ
وﺻﻠﻨﺎ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪ أرﺑﻌﺔ أﻳﺎم ﻣﻦ ﻣﺮورﻧﺎ ﻣﻦ ﻗﻨﺎل اﻟﺴﻮﻳﺲ ،وﻫﻲ اﻵن ﰲ ﻋﺪاد املﺪن اﻟﺘﻲ دﺧﻠﺘﻬﺎ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،ﻓﺤﻴﺜﻤﺎ ﺣﻠﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺠﺪ اﻟﻌﻤﺎرات اﻟﺘﻲ ﺑُﻨِﻴﺖ ﻋﲆ اﻟﻄﺮاز اﻷوروﺑﻲ ،وﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻣﺘﺴﻌﺔ ﻣﻨﻈﻤﺔ ﻣُﻌﺘﻨًﻰ ﺑﻨﻈﺎﻓﺘﻬﺎ ،وﻧﺎﻫﻴﻚ ﺑﺎﻋﺘﻨﺎء أﺑﻨﺎء اﻟﺘﺄﻣﻴﺰ إذا دﺧﻠﻮا ﺑﻠﺪًا ووﺿﻌﻮﻫﺎ ﺗﺤﺖ ﺣﻤﺎﻳﺘﻬﻢ أو أدﺧﻠﻮﻫﺎ ﰲ ﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻬﻢ ،وﻗﺪ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻌﺎﻣﻞ ﻛﺜرية ﻟﻠﻔﺤﻢ اﻟﺤﺠﺮي ﺗُﻌَ ﺪ ﺑﺎﻟﻌﴩات ،وﻫﻲ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ ،ﻫﺬا ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ رواج ﺳﻮق اﻟﺘﺠﺎرة ﻓﻴﻬﺎ رواﺟً ﺎ ﻳُﺬ َﻛﺮ ،وﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﺣﺪاﺋﻖ ﻛﺜرية ﺗﺘﺨﻠﻞ ﺷﻮارﻋﻬﺎ وﺑﺬﻟﻚ ﻳُﻌ َﻠﻢ أن اﻟﺼﺤﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺘﻮﻓﺮة ،وﺑﺠﻮار اﻟﺒﺤﺮ ﺳﺎﺣﺔ ﻛﱪى ﻗﺪ ُﻏ ِﺮﺳﺖ 68
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﱞ ﺧﺎص ﺑﺎﻹﻧﻜﻠﻴﺰ دون ﺳﻮاﻫﻢ ،وﺑﻌﺪ أن ﻣﻜﺜﻨﺎ ﺑﻌﺾ ﺑﻬﺎ اﻷﺷﺠﺎر ،وﺑﺠﻮارﻫﺎ دار ﻟﻠﺘﻤﺜﻴﻞ ﺳﺎﻋﺎت ﰲ ﻋﺪن ﻏﺎدرﻧﺎﻫﺎ ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ ﺑﺮوم. ) (28اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ ﻋﺪن ﺑﻌﺪ أن ﻣﻜﺜﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﻌﺾ ﺳﺎﻋﺎت ﰲ ﻋﺪن ،أﻗﻠﻌﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺎﺻﺪة ﺑﻮﻣﺒﺎي ،وﻗﺪ ﻣﺮرﻧﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ ﻋﲆ ﻋﺪة أﻣﺎﻛﻦ ﻟﻢ ﺗﻘﻒ ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺎﺧﺮة وﻗﺘًﺎ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ْ ﻷن أدون ﻋﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ أﺣﻮال ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻛﱪوم وﻏريﻫﺎ ،وﻏﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ أن اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ وﻗﻔﺖ ﰲ ﻣﻴﻨﺎء ﻗﺼري ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺎﻋﺘني وﻧﺼﻒ ،وﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪت اﻷﻫﺎﱄ ﻳﺄﻛﻠﻮن اﻟﺬرة وﻫﻲ ﺣﺐ ﻟﻢ ﻳُﻄﺤَ ﻦ وﻟﻢ ﻳُﺨﺒَﺰ ﻓﻌﻠﻤﺖ أن املﻌﻴﺸﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻲ ﻣﻌﻴﺸﺔ اﻟﺸﻈﻒ ،ﻋﲆ أن اﻷرض ﻫﻨﺎك زراﻋﻴﺔ ﺧﺼﺒﺔ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻷن ﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﰲ داﺋﺮة اﻟﺜﺮوة واﻟﻐﻨﻰ ﻟﻮ اﻋﺘﻨﻮا ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺰراﻋﺔ ،واﻟﺴﻮاد اﻷﻋﻈﻢ ﻫﻨﺎك ﻳﺤﺘﻄﺒﻮن وﻳﺒﻴﻌﻮن ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻄﺒﻮﻧﻪ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻫﺪ اﻟﻌﻠﻢ ﱠإﻻ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺗﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺣﻂ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺗﻴﺐ أرﻳﺎف ﻣﴫ ،أﻣﺎ ﺣﻜﻮﻣﺘﻬﻢ وﺳﻴﺎﺳﺔ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻗﻀﺎﻳﺎﻫﻢ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻬﺎ ﻓﻤﻮﻛﻮل أﻣﺮﻫﺎ إﱃ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﻣﻨﻬﻢ وﻫﻢ اﻟﺤ ﱠﻜﺎم اﻟﻔﺎﺻﻠﻮن ﰲ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺑني اﻷﻫﺎﱄ. واﻟﺤﺎل أﻧﻬﻢ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺠﻬﻞ ،أﻣﻴﻮن ﻳﺤﻜﻤﻮن ﺑﻤﺎ ﺗﻮﺣﻴﻪ إﻟﻴﻬﻢ إرادﺗﻬﻢ وأﻏﺮاﺿﻬﻢ، واﻻﺳﺘﺒﺪاد ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﺑﻼدﻫﻢ ﺑﻤﻌﻨﺎه اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،وﻫﻢ ﻳ َُﺴ ﱢﺨﺮون اﻷﻫﺎﱄ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻋﻤﺎل، وأﻏﻠﺒﻬﻢ ﺑﻼ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺷﺄن املﺴﺘﺒﺪ ا ُملﻄﻠﻖ اﻟﺘﴫف ،وﻟﻮﻻ أن اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻟﻢ ﺗﻤﻜﺚ ﻓﻴﻬﺎ ﱠإﻻ زﻣﻨًﺎ ً ﻗﻠﻴﻼ ،ﻟﻜﻨﺖ ﻛﺘﺒﺖ ﻣﺎ ﻫﻮ أوﺿﺢ وأﻛﺜﺮ ﺑﻴﺎﻧًﺎ ،ﺛﻢ ﻗﻤﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ ﺑﻮﻣﺒﺎي. ) (29ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑﻮﻣﺒﺎي ﻳﺮى اﻟﻘﺎرئ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻘﺪﱠم أﻧﻨﻲ ذﻛﺮت ﻣﺠﻤﻞ ﺗﺎرﻳﺦ ﺑﻌﺾ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻣﺮرت ﺑﻬﺎ ﻟﺰﻳﺎدة اﻟﻔﺎﺋﺪة ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ رأﻳﺖ أن أﺗﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺑﺄﻗﻞ ﻣﻦ اﻻﺧﺘﺼﺎر؛ ﻷﻧﻬﺎ ً ﻣﺠﻤﻼ إﺣﺪى ﻋﻮاﺻﻢ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﻜﱪى وﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ﻳﺸﻐﻞ ﺟﺰأ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ﻟﻮ ﻛﺎن ﱠ ﻣﻔﺼ ًﻼ وﻋﲆ ﻫﺬا أﻗﻮل: ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻪ إذا ﻛﺎن ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻓﺘﺤﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ ﺑﻌﺪ املﺴﻴﺢ وﰲ ﺳﻨﺔ ١٥٣٠ﻣﻴﻼدﻳﺔ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﱪﺗﻐﺎﻟﻴﻮن ،ﺛﻢ ﺑﻘﻴﺖ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﺣﻜﻢ اﻟﺪول واملﻠﻮك اﻟﻮﻃﻨﻴني، وﻣﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻘﺐ وأﺟﻴﺎل وﺣﻮادث ﻛﺜرية ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﱪ ملﻦ اﻋﺘﱪ ،ﺣﺘﻰ دﺧﻠﺖ 69
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أﺧريًا ﰲ ﺣﻜﻢ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ وﻟﻢ ﺗﺰل إﱃ اﻵن ،وﻳﺮى اﻟﻘﺎدم ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺒﺤﺮ ﻋﲆ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ أن ﺷﻜﻠﻬﺎ ﻣﺮﺑﻊ ﺗﺮﺑﻴﻌً ﺎ ﻫﻨﺪﺳﻴٍّﺎ ،وﻳﺮى اﻷﺑﻨﻴﺔ ﻣُﺸﻴﱠﺪة ﻋﲆ ﻗﻮاﴏ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﰲ إﺗﻘﺎﻧﻬﺎ، وﺗﻨﺴﻴﻘﻬﺎ ،وﺑﺪاﺧﻞ ﺑﻮﻣﺒﺎي ﺳﻮر ﰲ داﺧﻠﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﺼﻮر اﻟﻔﺎﺧﺮة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻜﻨﻬﺎ اﻷﻏﻨﻴﺎء ،أﻣﺎ ﺑﻴﻮت اﻟﺴﻮﻗﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﻬﻲ ﺗُﺒﻨَﻰ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ واﻵﺟﺮ. أﻣﺎ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرة ﻓﻴﻬﺎ ﻓﻘﻞ ﻣﺎ ﺷﺌﺖ ﻣﻦ رواج ،وﺑﻀﺎﺋﻊ ﺛﻤﻴﻨﺔ ﻫﻨﺪﻳﺔ ،وﻏري ﻫﻨﺪﻳﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﺑﻌﺪ اﺳﺘﻴﻼء اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻋﲆ اﻟﻬﻨﺪ، وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن املﺪﻧﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺘﻮﻓﺮة اﻷﺳﺒﺎب، واملﺴﺎﻓﺔ ﺑني ﻋﺪن وﺑﻮﻣﺒﺎي ﺧﻤﺴﺔ أﻳﺎم ،ﺛﻢ ﻗﻤﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﻮﻣﺒﺎي ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻮملﺒﻮ ﻋﲆ ﺑﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﺑﻮاﺧﺮ اﻟﴩﻛﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ وﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﺻﺪة ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ وﻫﻲ آﺧﺮ ﻣﺤﻄﺔ ﺗﻘﻒ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺒﺎﺧﺮة. ) (30ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻮملﺒﻮ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﺑﻮﻣﺒﺎي ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻳﻮﻣني وﻧﺼﻒ ﺑﺴري اﻟﺒﺎﺧﺮة ،وﻫﻲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺟﺰﻳﺮة ﺳﻴﻼن اﻟﺘﻲ ﻧُﻔﻲ إﻟﻴﻬﺎ أﺣﻤﺪ ﻋﺮاﺑﻲ »ﺑﺎﺷﺎ« رﺋﻴﺲ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﺮاﺑﻴﺔ ،وﻳُﻘﺎل إن اﺳﻤﻬﺎ ﻛﺎن ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ »ﴎﻧﺪﻳﺐ« اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮل ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﺎﻋﺮ: أﻣﻄﺮي ﻟﺆﻟ ًﺆا ﺟﺒﺎل ﺳﺮﻧﺪﻳـ أﻧﺎ إن ﻋﺸﺖ ﻟﺴﺖ أﻋﺪم ﻗﻮﺗًﺎ ﻫ ﻤ ﺘ ﻲ ﻫ ﻤ ﺔ اﻟ ﻜ ﺮام وﻧ ﻔ ﺴ ﻲ وإذا ﻣﺎ رﺿﻴﺖ ﺑﺎﻟﻌﻴﺶ ﻗﻮﺗﻲ
ـﺐ وﻓﻴﻀﻲ آﺑﺎر ﺗﻜﺮور ﺗﺒﺮا وإذا ﻣ ﺖ ﻟ ﺴ ﺖ أﻋ ﺪم ﻗ ﺒ ﺮا ﻧ ﻔ ﺲ ﺣ ﱟﺮ ﺗ ﺮى اﻟ ﻤ ﺬﻟ ﺔ ﻛ ﻔ ﺮا ﻓ ﻠ ﻤ ﺎذا أزور زﻳ ﺪًا وﻋ ﻤ ﺮا
وﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺟﺮى ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻜﻢ اﻟﺰﻣﺎن ﻣﺎ ﺟﺮى ﻋﲆ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ذﻛﺮ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﻪ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ودﺧﻠﺖ وﺧﺮﺟﺖ ﰲ ﺣﻜﻢ اﻟﺪول ﻣﺮات ﻋﺪﻳﺪة ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻄﻮل ﺑﻨﺎ املﻘﺎم إذا ﺷﺌﻨﺎ اﻟﺘﻜﻠﻢ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺟﻬﺔ ،وﻗﺪ دﺧﻠﺖ ﺗﺤﺖ ﺳﻠﻄﺔ إﻧﻜﻠﱰا ﺳﻨﺔ ١٧٩٦ﻣﻴﻼدﻳﺔ وﻫﻲ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﺳﻠﻄﺘﻬﺎ إﱃ اﻵن ،أﻣﺎ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرة ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻓﻬﻲ ﺳﺎﺋﺮة ﻋﲆ ﻧﻬﺞ اﻟﺘﻘﺪم ،وأﻣﺎ ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﺠﻐﺮاﰲ ﻓﻬﻮ ﻗﺪ أﻛﺴﺒﻬﺎ ﻣﺰﻳﺔ ﺟﻮدة اﻟﻬﻮاء واﻋﺘﺪال اﻟﻄﻘﺲ ،وﻗﺪ ُﻓ ِﺮﺷﺖ ﻃﺮﻗﺎﺗﻬﺎ وﺷﻮارﻋﻬﺎ ﺑﺎﻷﺳﻔﻠﺖ واﻟﺮﺧﺎم ،واملﻨﺎزل ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻄﺮاز اﻷوروﺑﻲ ،ودار اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ وﺛﻜﻨﺎت اﻟﻌﺴﺎﻛﺮ واملﺴﺘﺸﻔﻴﺎت ﻣُﻘﺎﻣﺔ ﺑﺠﻮار اﻟﺒﺤﺮ ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻞ ً ﺟﻤﻴﻼ ﰲ ﻧﻈﺮ اﻟﻘﺎدم إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ. ﻣﻨﻈﺮﻫﺎ 70
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﺤ ٍّ ﻄﺎ ﻟﺮﺟﺎل اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﺮوﻣﺎن ،وﻛﺜري ﺑﻬﺎ أﺷﻴﺎع ﻫﺬا املﺬﻫﺐ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ اﻵن ﻗﺪ ﺣ ﱠﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﺤ ﱠﻞ أوﻟﺌﻚ أﺷﻴﺎع املﺬﻫﺐ اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻲ، وﺑﻬﺎ ﻣﺪارس ﻟﻸﻛﻠريوس أﺷﻬﺮﻫﺎ :ﻣﺪرﺳﺔ »وﻟﺴﲇ« ،و»أﻧﺪﺳﺘﺰﻳﻞ« و»ﻣﺪﻛﻞ« ،واﻷﺧريﺗﺎن أ ُ ﱢﺳﺴﺘﺎ ﺳﻨﺔ ١٨٧٠ﻣﻴﻼدﻳﺔ ،وﺑﻬﺎ ﺟﻤﻌﻴﺔ ﻛﱪى ﻣﻠﺤﻘﺔ ﺑﺠﻤﻌﻴﺔ املﺴﺎﻋﻲ املﻠﻮﻛﺎﻧﻴﺔ ﺑﺈﻧﻜﻠﱰا. وﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﺨﻠﻮ ﺷﺎرع أو ﻃﺮﻳﻖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﺮﺑﺎت اﻟﻨﻘﻞ واﻟﺮﻛﻮب ﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ،واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﰲ ﺟ ﱢﺮ ﻫﺬه اﻟﻌﺮﺑﺎت ﺑﺪﻧﻴﺔ ذات ﻗﻮى ﻋﻈﻴﻤﺔ ،وﻟﻮن أﻏﻠﺐ اﻟﺨﻴﻮل ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎﺋﻞ إﱃ اﻟﺼﻔﺮة. واملﺤﻼت اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﻳﻜﺜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﴍب اﻟﺸﺎي اﻟﺠﻴﺪ ،واﻟﻜﺄس ﻣﻨﻪ ﻳﺴﺎوي ﺻﻮردي واﻟﺼﻮردي ﻳُﻌﺎدل أرﺑﻌﺔ أﻋﺸﺎر اﻟﻘﺮش املﴫي ،وإذا أ ُ ِﺿﻴﻒ إﻟﻴﻪ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻠﺒﻦ ً واﻟﺒﺴﻜﻮﻳﺖ ﻓﻴﺴﺎوي ﺻﻮردﻳني وﻧﺼﻒ؛ أي ً ﺻﺎﻏﺎ ﻣﴫﻳٍّﺎ واﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎول ﻫﺬا ﻗﺮﺷﺎ املﻘﺪار ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺴﺘﻐﻨﻰ ﺑﻪ ﻋﻦ اﻟﻐﺪاء أو اﻟﻌﺸﺎء ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﺷﺎي أوﺗﻴﻞ »اﻟﺒﺴﺘﻨﻠﻴﺰ«. وﻳﻮﺟﺪ ﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﺟﻤﻌﻴﺔ ﻛﱪى ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ ﻟﻠﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،وﻟﻬﺎ ﻣﻮارد ﻟﻠﴫف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻳُﺠﻤَ ﻊ ﻣﻨﻬﺎ أﻣﻮال ﻃﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺳﻨﺔ ،ﻋﲆ أن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻗﺪم إﱃ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ واﻣﺘ ﱠﺪ ﻓﻴﻪ ﺑﴪﻋﺔ ،ﻓﻠﻮ و ُِﺟﺪ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﻣﻦ ﻳﻨﺎﻇﺮ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ أو ﻏريﻫﺎ ﰲ ﱢ ﺑﺚ اﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،ﻟﻜﺎﻧﻮا أدﱠوا واﺟﺒًﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ؛ إذ ﻫﻢ أﺣﻖ ﺑﺄن ﻳﺸﺪﱡوا أ ْز َر اﻟﺪﻳﻦ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺻﻘﺎع ،ﺛﻢ ﻏﺎدرﻧﺎ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ ﺳﻨﺠﺎﻓﻮرة. ) (31ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻨﺠﺎﻓﻮرة وﻳﻘﺎل ﻟﻬﺎ ﺳﻨﻐﺎﺑﻮر ،ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ اﻷﺳﺪ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﺮب ﺗﺴﻤﻴﻬﺎ ﺳﻨﻐﺎﻓﻮر ،ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ أدوار ﺷﺘﱠﻰ ،وأﻃﻮار ﻣﺘﻌﺪدة ،وﻣ ﱠﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻮادث ﻛﺜرية ﻟﻬﺎ ﺷﺄن ﻳُﺬ َﻛﺮ ﰲ دﺧﻠﺖ ﰲ ٍ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺎﻟﻴﺰﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻔ ﱠﺮﻗﺖ ﰲ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ وﻗﺎﻣﺖ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻫﺬه املﺪة ﺛﻮرات داﺧﻠﻴﺔ ﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮﻫﺎ اﻵن ،وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﻠﻮك اﻟﺠﺎوه ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﻧُﻘِ ﻠﺖ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﻣﻠﻘﺎ ،ﻓﺎﺿﻤﺤﻠﺖ وأﺧﺬت ﰲ اﻻﻧﺤﻄﺎط ﺷﺄن املﺪن اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﻗﺎﻋﺪة ﻟﻠﻤﻤﺎﻟﻚ ،ﺛﻢ ﻳ َ ُﻨﻘﻞ ﻣﻨﻬﺎ روﻧﻖ املﻠﻚ وﺑﻬﺎء اﻟﺴﻠﻄﺎن إﱃ ﻏريﻫﺎ. وﰲ ﻋﺎم ﺳﻨﺔ ١٨٤٤ﺗﺪاﺧﻞ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﰲ ﺷﺌﻮن ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة ،وﻛﺎن ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻳُﺪﻋَ ﻰ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﺟﻮﻫﺮ ،ﻓﻄﻤﱠ ﻌﻪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﺑﺄﻣﻮال وأﻋﻄﻮه ﰲ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ 71
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﺛﻨﻲ ﻋﴩ أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة ،ورﺗﱠﺒﻮا ﻟﻪ أرﺑﻌﺔ آﻻف وﺛﻤﺎﻧﻤﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﺳﻨﻮﻳٍّﺎ ،ﺛﻢ ﺗﻨﺎزل ﻋﻦ اﻟﺴﻠﻄﺔ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة واﻟﺠﺰر املﺠﺎورة ﻟﻬﺎ ،وﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮن ﺷﺄن اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻲ ﻳﻘﴤ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﻘﺪور ﺑﺎﻷﺧﺬ ﰲ أﺳﺒﺎب املﻮت اﻷدﺑﻲ ،وﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة واﻗﻌﺔ ﺑﻘﺮب اﻟﻄﺮف اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ ﰲ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة »ﻣﻼي« وﻳﻔﺼﻠﻬﺎ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻮﻏﺎز ﺳﻨﺠﺎﻓﻮرة ،وﻫﻮاؤﻫﺎ ﻣﻌﺘﺪل ﻟﻜﻦ أﻏﻠﺐ أرﺿﻬﺎ ﻏري ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺰراﻋﺔ. وﻳﻘﺎل إﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ ﺣﻴﻮان ﻣﻔﱰس ﻣﻦ ﻓﺼﻴﻠﺔ اﻟﻨﻤﺮ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻤﴤ أﺳﺒﻮع ،ﺣﺘﻰ ﻳﻔﱰس واﺣﺪًا ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ُﻗﺪْرة ﻟﻬﻢ ﻋﲆ ﻣﻄﺎردﺗﻪ أو ﺻﻴﺪه ،وﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﺗﺠﺎر ﻣﻦ اﻟﻬﻨﻮد ﻳﺠﻠﺒﻮن إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪ ،وﻟﻬﻮﻻﻧﺪة ﺗﺪاﺧﻞ ﰲ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد، واملﺴﻠﻤﻮن ﻫﻨﺎك أﻣﺮﻫﻢ ﻋﺠﻴﺐ ،ﻣﺘﻤﺴﻜﻮن ﺑﺂداب اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻌﺒﺎدة ﻓﻘﻂ ،وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺸﺌﻮن اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﻮام ﺣﻴﺎة اﻷﻣﻢ واﻟﺸﻌﻮب ﻻ ﻫِ ﻤَ ﻢ ﻋﻨﺪﻫﻢ وﻻ ﻏرية ﺗﺤﺮﻛﻬﻢ إﱃ اﻷﺧﺬ ﰲ أﺳﺒﺎب اﻟﻨﻬﻮض؛ ﻓﻠﺬﻟﻚ ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﻢ اﻟﻬﻮﻻﻧﺪﻳﻮن ﻧﻈﺮ اﻻﺣﺘﻘﺎر ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺘﺠﺎوزون ﰲ اﺿﻄﻬﺎدﻫﻢ اﻟﺤ ﱠﺪ ﻓﻴﻨﺎﻟﻮن ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺔ أﻋﺮاﺿﻬﻢ ،وﰲ اﻹﺷﺎرة ﻣﺎ ﻳﻐﻨﻲ ﻋﻦ اﻟﺘﴫﻳﺢ، وﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﻣﻨﺘﺰه ﺟﻤﻴﻞ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ ﻛ ﱡﻞ ﻧﺒﺎﺗﺎت املﻨﻄﻘﺔ اﻟﺤﺎرة وﺑﻬﺎ ﻗﻠﻌﺔ ﻛﺒرية ﻣ ﱠ ُﺤﺼﻨﺔ ﻋﲆ ﺗ ﱟﻞ ﻣﺮﺗﻔﻊ ﺑﺠﻮار املﺴﺎﻛﻦ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻜﻨﻬﺎ اﻟﺼﻴﻨﻴﻮن ،وأﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﻫﻢ أﻫﻞ وراﻋﺔ وﻟﻄﻒ ﻳُﻌﺪون ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻤﻦ ﺗﻬﺬﱠﺑﻮا وﺗﻨﻮﱠروا ﺑﻨﻮر اﻟﻌﻠﻢ ،أو اﻟﺬﻳﻦ ﻧَﺸﺌﻮا ﰲ اﻟﻌﺎﺋﻼت ذات اﻟﺤﺴﺐ واﻟﻨﺴﺐ ،وﻓﻴﻬﺎ ﺑﻀﺎﺋﻊ ﺟﻤﻴﻠﺔ ﺗُﺤﻤَ ﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺎت، وﻫﻲ ﺑﻬﺬه املﺰﻳﺔ ﺗُﻌَ ﺪ ﻣﻦ أﻣﻬﺎت ﺑﻼد اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﻋﻤﺮاﻧًﺎ وﻣﺪﻧﻴﺔ ﺛﻢ أﻗﻠﻌﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﻗﺎﺻﺪة ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ. ) (32اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ ﺳﻨﺠﺎﻓﻮرة إﱃ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ ﺑﻌﺪ ﺳﺘﺔ أﻳﺎم وﻗﺪ ﻣﺮرﻧﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻋﲆ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻴﺠﻮن وﻃﻮران، وﻧﺮى أن اﻹﻓﺎﺿﺔ ﰲ وﺻﻒ ﻫﺎﺗني املﺪﻳﻨﺘني ﻏري ﻻﺋﻖ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم؛ إذ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻮاﺻﻒ ﻫﻮ أﻧﻬﻤﺎ ﻣﻦ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﺣ ﱞ ﻆ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮان ،وﻗﺪ اﻣﺘﺎز أﻫﻞ ﺳﻴﺠﻮن ﺑﺪﻣﺎﺛﺔ اﻷﺧﻼق وﻟﻄﻒ اﻟﺴﺠﺎﻳﺎ وﺣﺴﻦ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻷﺟﺎﻧﺐ ،رأﻳﺖ ﻣﻨﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻓﺘﻤﺜﱠﻠﺖ ﺑﻘﻮل اﻟﺸﺎﻋﺮ: ﻓ ﻠ ﻢ ﻳ ﺒ َﻖ ﱠإﻻ ﺻ ﻮرة اﻟ ﻠ ﺤ ﻢ واﻟ ﺪم
ﻟﺴﺎن اﻟﻔﺘﻰ ﻧﺼﻒ وﻧﺼﻒ ﻓﺆاده 72
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أﻣﺎ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ ﻓﻬﻲ واﻗﻌﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻣﻦ ﺟﺰر اﻟﺼني ﻋﲆ ﻣﺼﺐﱢ ﻧﻬﺮ ﻛﺎﻧﺘﻮن ،وﻗﺪ أﻃﻮار ﺷﺘﻰ، ﺣﻔﻆ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻬﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﺣﻮادث ﻋﻈﻤﻰ ﰲ اﻟﻘﺮون اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ وﺗﻘ ﱠﻠﺒﺖ ﰲ ٍ ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ١٨٤٢ﻣﻴﻼدﻳﺔ ،وﻫﻲ ﻋﺎﻣﺮة ﺑﺄﻧﻮاع املﺘﺎﺟﺮ اﻟﻔﺎﺧﺮة واﻟﻌﻤﺎﺋﺮ اﻟﻀﺨﻤﺔ وﺣﺴﻦ اﻧﺘﻈﺎم ﻃﺮﻗﺎﺗﻬﺎ وﻣﺴﺎﻟﻜﻬﺎ ،وﻣﺎذا ﻋﺴﺎي أﻗﻮل ﰲ وﺻﻒ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻟﻢ ﻳﻘﻊ ﻧﻈﺮي ﻋﲆ ﳾء ﻓﻴﻬﺎ ﱠإﻻ ﺷﺎﻗﻪ وأﻋﺠﺒﻪ ،وﻗﺪ ﻳُﺨﻴﱠﻞ ﻟﻠﻘﺎدم ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻧﻬﺎ ﺑُﻨِﻴﺖ ﻋﲆ ﺟﺒﻞ أو ﻫﻀﺒﺔ ﻻرﺗﻔﺎع ﻣﻨﺎزﻟﻬﺎ ،وإﻧﻲ أرى أن املﻘﺎم ﻳﺴﻤﺢ ﱄ ﺑﺄن أذﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﳾء ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎملﺴﻠﻤني ﰲ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ ،وذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻋﻦ أﺣﻮال اﻟﺼني اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ٍ ﻣﺤﺎدﺛﺔ ﺟﺮت ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﺑﻌﺾ ﻓﻀﻼء اﻟﺼﻴﻨﻴني ،وﻫﻮ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﻣﻦ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ اﻟﺬي راﻓﻘﻨﻲ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن. أﻣﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ اﻟﺼني ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺷﻌﺎر ﻣﺨﺼﻮص ﻳﻤﻴﺰﻫﻢ ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى ،ﻛﺎﻟﺒﻮذﻳني واﻟﱪاﻫﻤﺔ ،ﻓﻼ ﺗﻜﺎد ﺗﻌﺮف اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﻌ ﱢﺮﻓﻚ ﻫﻮ ً ﺑﻌﻀﺎ، ﺑﻨﻔﺴﻪ أﻧﻪ ﻣﺴﻠﻢ ،أو ﻣﺴﻴﺤﻲ ،أو ﺑﻮذي ،وﻫﻢ ﻣﺘﺤﺪون ﰲ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻳﺤﺐﱡ ﺑﻌﻀﻬﻢ وﻳﺴﻌﻮن ﰲ املﻨﺎﻓﻊ املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻳﺪ واﺣﺪة ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻬﻤﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﺎ واﻟﺪﻳﻦ ،وﻫﻢ أﺑﻌﺪ أﻫﻞ اﻟﺼني ﻋﻦ اﻟﻔﺘﻦ ،واﻟﻘﻼﻗﻞ املﺨﻠﺔ ﺑﺎﻷﻣﻦ اﻟﻌﺎم ،وإذا اﺧﺘﻠﻔﻮا ﰲ أﻣﺮ دﻳﻨﻲ ﻓﻤﺮﺟﻌﻬﻢ إﱃ اﻟﻌﻠﻤﺎء واﻟﻔﻘﻬﺎء ﻣﻨﻬﻢ ،وإذا اﺧﺘﻠﻔﻮا ﰲ أﻣﺮ دﻧﻴﻮي ﻓﺎﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﰲ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﻢ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻮص. وﻫﻢ ﻳَﻌُ ﺪون أﻧﻔﺴﻬﻢ أﴍف أﻫﻞ اﻟﺼني وﻳﻔﺨﺮون ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ أﻧﻌﻢ ﷲ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﻨﻌﻤﺔ اﻹﻳﻤﺎن واﻟﺘﻮﺣﻴﺪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻻ ﺗﺠﺪ أﺣﺪًا ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺄﻣﻦ ﰲ املﻌﺎﻣﻠﺔ واملﻌﺎﴍة إﻻ ﻷﺑﻨﺎء دﻳﻨﻪ ،وﻻ ﻳﺨﺎﻟﻂ أﺣﺪًا ﻣﻦ أﻫﻞ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى إﻻ املﺴﻴﺤﻲ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻲ ،وﻣﻊ ﻛﺜﺮة ﻋﺪدﻫﻢ ﻓﻬﻢ ﻣﺘﺸﺘﱢﺘﻮن ﰲ أﻧﺤﺎء املﻤﻠﻜﺔ ،وﻳﻮﺟﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﺪد ﻋﻈﻴﻢ ﰲ ﺑﻜني ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺼني ،وﺑﻬﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﺆ ﱢﻟﻔﻮا ﻟﻬﻢ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ أو ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ،وﻣﻊ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻓﻬﻢ ﻳﺤﱰﻣﻮن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ أﻳﻤﺎ اﺣﱰام وﻳﺴريون ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﺳﻨﱠﺘﻬﺎ ﻟﻬﻢ ﺣﻜﻮﻣﺘﻬﻢ ﻣﻦ ﻏري ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻬﺎ وﺣﻴﺎدٍ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻏري ﻧﺎﻇﺮﻳﻦ إﱃ أن اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ أﻫﻞ دﻳﻨﻬﻢ ،وإﻧﻤﺎ ﺟُ ﻞ ﻣﺮﻏﻮﺑﻬﻢ أن ﻳﻌﻴﺸﻮا ﰲ ﻫﻨﺎء وﺻﻔﺎء ،وﻗﺪ ﻳ َُﺴﻮﻣُﻬﻢ اﻟﻌﺪاء وﻳﻌﺎﻛﺴﻬﻢ ﰲ ﻋﺒﺎداﺗﻬﻢ ﻛﺜريون ﻣﻦ اﻷرﺛﻮذﻛﺲ ،واﻟﱪوﺗﻮﺳﺘﺎﻧﺖ ،واﻟﺒﻮذﻳني ﻣﻦ ﱢ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﺿ ﱠﺪ اﻹﺳﻼم واملﺴﻠﻤني ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون أﻫﻞ اﻟﺼني ﻟﻠﻌﺪاوة ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﺼني ﻟﻴﺴﻮا ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺼﻴﻨﻲ ﱠ وإﻻ ملﺎ اﻋﺘﻨﻘﻮا دﻳﻦ اﻹﺳﻼم ،واملﺴﻠﻤﻮن ﻛﻠﻤﺎ رأوا ﻣﻨﻬﻢ إﻫﺎﻧﺔ ﻟﻬﻢ أو ﻣﻌﺎﻛﺴﺔ ﻳﻨﺎدوﻧﻬﻢ ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ »ﻫﻮى ﻫﻮى« ،وﻗﺪ ﺳﺄﻟﺖ ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ 73
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺳﻠﻴﻤﺎن ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ ،ﻓﻘﺎل ﱄ :ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ ﰲ ﻟﻐﺔ أﻫﻞ اﻟﺼني اﻷﺻﻠﻴﺔ، وإﻧﻤﺎ املﻌﻨﻰ املﺼﻄﻠﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻨﺪ املﺴﻠﻤني ﻫﻮ »ارﺟﻌﻮا ارﺟﻌﻮا« واملﺮاد ارﺟﻌﻮا ﻋﻦ ﻫﺬه املﺸﺎﻛﻞ واﺗﺒﻌﻮا اﻹﺳﻼم. واملﺴﻠﻤﻮن ﰲ اﻟﺼني ﻫﻢ أﻫﻞ ﺻﻨﺎﻋﺔ وﺻﻨﺎﻋﺘﻬﻢ ﻫﻲ أﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﺗﻔﺨﺮ ﺑﻪ اﻟﺼني ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ وﻳﺤﻤﻞ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ ،وأﺷﻬﺮﻫﺎ ﰲ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎت اﻟﺼﻮف واﻟﺤﺮﻳﺮ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻢ ﻻ ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ اﻻﺳﺘﺨﺪام ﰲ دواﺋﺮ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺨﻼف ﻏريﻫﻢ، وﻫﺬه ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻳُﻐﺒَﻄﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻗﺪ رأﻳﺖ أﻫﻞ اﻟﺼني ﻋﲆ اﺧﺘﻼف املﺬﻫﺐ واﻟﺪﻳﻦ ﻣﺘﱠﻔﻘِ ني أﻏﻠﺒﻬﻢ ﻋﲆ إرﺳﺎل ﺷﻌﺮ اﻟﺮأس ﻣﻀﻔﻮ ًرا ﺿﻔرية واﺣﺪة وﺷﻮارﺑﻬﻢ ﻣﻠﻮﻳﺔ إﱃ اﻷﺳﻔﻞ ﻣﻊ ﻃﻮﻟﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻻ ﻣﻤﻴﱢﺰ ﺑني املﺴﻠﻢ وﻏريه ﻻﺗﻔﺎق اﻟﻜ ﱢﻞ ﰲ اﻟﺰي واﻟﻬﻨﺪام ،وإذا ﺳﻤﻊ اﻟﻌﻮام ﻣﻦ اﻟﺼﻴﻨﻴني ﻏري املﺴﻠﻤني ﻛﻠﻤﺔ »ﻫﻮى ﻫﻮى« ﻳﺠﻴﺒﻮﻧﻬﻢ ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ» :ﺗﴗ« وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﻠﺺ ،وﻟﻜﻦ املﺴﻠﻤني ﻳﺴﺨﺮون ﻣﻨﻬﻢ وﻻ ﻳﻠﺘﻔﺘﻮن إﱃ ﻗﻮﻟﻬﻢ ﻫﺬا وﻳﻌﺘﱪوﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﻘﻮل اﻟﻬﺮاء اﻟﺬي ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ وﻻ ﺗﺄﺛري ،وﻟﻮ ﻋﺎﻣﻞ ﻣﺴﻠﻤﻮ اﻟﺼني ﻫﺆﻻء ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﻳﻌﺎﻣﻠﻮﻧﻬﻢ ﺑﻪ ،ﻷﺻﺒﺤﺖ أرض اﻟﺼني ﻣﺮﺳﺤً ﺎ ﺗﻤﺜﻞ ﻋﻠﻴﻪ أﻓﻈﻊ رواﻳﺎت اﻟﺤﻮادث اﻟﻔﻈﻴﻌﺔ ،وﻗﺪ ﺳﺒﻖ ﰲ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻐﺎﺑﺮ أن املﺴﻠﻤني ﺿﺎﻗﻮا ذرﻋً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻟﺒﻮذﻳﻮن ﻓﺠﺮت ﺣﻮادث أﻗﺎﻣﺖ اﻟﺼني وأﻗﻌﺪﺗﻬﺎ وﺟﺮت ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺪﻣﺎء أﻧﻬﺎ ًراُ ، وﺧ ﱢﺮﺑﺖ ﻷﺟﻠﻬﺎ ﻣﺪاﺋﻦ ﻓﻤﻨﻬﺎ ﺛﻮرة ﰲ »ﻛﺸﻮﻓﺮ« وﻫﻲ املﺸﻬﻮرة ﻋﻨﺪﻫﻢ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﺳﻨﺔ ١٨٢٨ﻣﻴﻼدﻳﺔ ،وﻣﻨﻬﺎ اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ ﺧﺮاب ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ ﻳﻮﻧﺎن اﻟﺘﻲ اﺑﺘﺪأت ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ١٨٥٥واﻧﺘﻬﺖ ﰲ ﺳﻨﺔ ،١٨٧٣واﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ »ﻛﺎﻧﺲ« وأ ُ ِ ﺧﻤﺪت ﻧرياﻧﻬﺎ ﰲ ﺳﻨﺔ ،١٨٨٢وﻣﻦ ﻋﻈﻢ ﺧﻄﺐ ﻫﺬه اﻟﺜﻮرات اﻟﺘﻲ ارﺗﺠﺖ ﻟﻬﺎ اﻷرض، وزﻟﺰﻟﺖ زﻟﺰاﻟﻬﺎ ،وﺗﻮﻗﻌﺖ أوروﺑﺎ وﻗﻮع ﺣﺮب ﻋﺎﻣﺔ ﺻﻠﻴﺒﻴﺔ وﻟﻢ ﺗﺰل إﱃ اﻵن آﺛﺎر ﻫﺬه اﻟﺜﻮرات ﰲ ﺑﻼد اﻟﺼني ،وﻋﲆ اﻟﺨﺼﻮص ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ »أﻧﴙ« ،اﻟﺘﻲ دُﻣﱢ ﺮت ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺤني، وأﺻﺒﺤﺖ ﺧﺎوﻳﺔ ﻋﲆ ﻋﺮوﺷﻬﺎ ،وﻟﻢ َ ﻳﺒﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﱠإﻻ أﻃﻼل ﺑﺎﻟﻴﺔ. وملﺎ ﺣﺼﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﺜﻮرات ﺣﻈﺮت اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﲆ املﺴﻠﻤني اﻟﺨﺮوج ﻣﻦ ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ ً ﻟﻴﻼ ﺣﺬ ًرا ﻣﻦ زﻳﺎدة اﻻﺿﻄﺮاب ﻓﻠﻢ ﻳﻘﺒﻞ املﺴﻠﻤﻮن ذﻟﻚ. وﻛﺄن املﺬﻫﺐ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻲ أﺧﺮج املﺘﺪﻳﻨني ﺑﻪ ﻋﻦ داﺋﺮة ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻳﻌﺎدي املﺴﻠﻢ، ﻓﻬﻢ ﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ املﺴﻠﻤني ﻛ ﱠﻞ املﻴﻞ ،واﻟﺬي ﻗﻮﱠى رواﺑﻂ ﻫﺬا اﻟﻮداد ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻫﻮ أﻧﻪ ملﺎ ﺣﺪﺛﺖ ﺣﻮادث ﺳﻨﺔ ،١٩٠٠وﻫﻲ ﺣﻮادث اﻟﺒﻮﻛﴪ اﻟﺘﻲ اﺷﱰﻛﺖ اﻟﺪول ﰲ إﺧﻤﺎدﻫﺎ أﻇﻬﺮ املﺴﻠﻤﻮن اﻧﻌﻄﺎﻓﻬﻢ ﻧﺤﻮ اﻟﺒﻮﻛﴪ ﻣﻦ ﻏري أن ﻳﻨﻀﻤﻮا إﻟﻴﻬﻢ أو ﻳﺴﺎﻋﺪوﻫﻢ ﰲ 74
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺜﻮرة ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ملﺎ رأوا ﻫﺬا اﻻﻧﻌﻄﺎف ﻣﻨﻬﻢ ﻃﻤﻌﻮا ﰲ أن ﻳﺴﺎﻋﺪوﻫﻢ ،ﻓﺄﺑﻰ املﺴﻠﻤﻮن أن ﻳﺠﻴﺒﻮﻫﻢ إﱃ رﻏﺒﺘﻬﻢ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻬﻢ ﻟﻬﻢ ﻫﻮ ﻧﻔﺲ اﻻﻧﻌﻄﺎف اﻟﺬي أﻇﻬﺮوه ﱡ ﺑﺎﻟﺘﻌﺼﺐ ﺗﻬﻤﺔ ﻻ دﻟﻴﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻻ ﻧﺤﻮﻫﻢ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ املﺪﻫﺶ أن أوروﺑﺎ ﺗﺘﻬﻢ املﺴﻠﻤني ﱢ ﻣﺘﻌﺼﺒني ﺣﻘﻴﻘﺔ َﻟﻤَ ﺎ ﻇﻬﺮ ﻣﺴﻠﻤﻮ اﻟﺼني ﺑﻤﺜﻞ ﻧﺼﻴﺐ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ،ﻓﻠﻮ ﻛﺎن املﺴﻠﻤﻮن ﻫﺬا املﻈﻬﺮ ﻧﺤﻮ املﺴﻴﺤﻴني ﻫﻨﺎك ،وﻧﻌﻮد وﻧﻘﻮل إﻧﻪ ملﺎ ﺣﺪﺛﺖ اﻟﺤﻮادث املﺘﻘﺪﱢﻣﺔ اﻟﺬﻛﺮ ﺑني املﺴﻠﻤني واﻟﻮﺛﻨﻴني ﺗﻮﺟﻪ أﻛﺎﺑﺮ املﺴﻠﻤني إﱃ رؤﺳﺎء اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ، ً ﺧﻮﻓﺎ وأﺧﱪوﻫﻢ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻳﺨﺘﺎرون ﻋﻼﻣﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ ﻷﺑﻨﺎء ﻃﺎﺋﻔﺘﻬﻢ ﺗﻤﻴﺰﻫﻢ ﻋﻦ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻻﻟﺘﺒﺎس اﻟﺬي ﻳﺘﺴﺒﺐ ﻋﻨﻪ إﺻﺎﺑﺘﻬﻢ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ أﺻﻴﺐ ﺑﻪ اﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ،ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ اﻟﻘﺎرئ ﻣﺘﻌﺼﺐ أم ﻣﻦ ٍ ﱢ أﻣﺔ دﻳﻨُﻬﺎ ﻳﺄﻣﺮﻫﺎ ﺑﻌﺪم أذى ﻣﻦ املﻨﺼﻒ إﱃ ﻫﺬه اﻷﻓﻌﺎل ﻫﻞ ﺗﺼﺪر ﻣﻦ ﻳﺨﻠﺺ ﻟﻬﺎ املﻌﺎﻣﻠﺔ؟ إن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻫﻮ دﻳﻦ اﻟﺴﻠﻢ دﻳﻦ ﺣﺴﻦ املﻌﺎﻣﻠﺔ ﻣﻊ ﻏري املﺘﺪﻳﻨني ﺑﻪ ،دﻳﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ دﻳﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺻﻞ ﻛ ﱢﻞ ﺧري وﻓﻼح ،دﻳﻦ املﺴﺎواة ﺑني اﻟﻨﺎس؛ إذ ﻳﺴﺘﻮي ﻓﻴﻪ اﻟﻐﻨﻲ واﻟﻔﻘري واﻟﺤﻘري واﻷﻣري﴿ :إ ِ ﱠن أ َ ْﻛ َﺮﻣَ ُﻜ ْﻢ ﻋِ ﻨ ْ َﺪ ِ ﷲ أَﺗْ َﻘﺎ ُﻛﻢْ﴾ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻮاﻃﻒ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﺼني ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻃﻒ ﻧﺤﻮ املﺴﻴﺤﻴني ﻓﻜﻴﻒ إذن ﺗﻜﻮن ﻋﻮاﻃﻔﻬﻢ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﻢ؟ ﺑﻞ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن ﻋﻮاﻃﻔﻬﻢ ﻧﺤﻮ إﺧﻮاﻧﻬﻢ املﺴﻠﻤني املﺘﻔ ﱢﺮﻗني ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﻗﻄﺎر اﻷرض؟ وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﺷﻌﻮرﻫﻢ ﻧﺤﻮ ﺑﻌﻀﻬﻢ وﻧﺤﻮ إﺧﻮاﻧﻬﻢ وﻫﻢ ﻟﻢ ﻳﺒﺎﴍوا املﻨﺎﺳﻚ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﻣﻘﺘﻀﺎﻫﺎ ﺗﻮﺛﻴﻖ ﻋﺮى اﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑني املﺴﻠﻤني ﻛﺎﻟﺤﺞ اﻟﺬي ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن ً ﺳﻬﻼ ،وأﺳﺒﺎب اﻟﺴﻔﺮ ﱠ ﺗﻴﴪت ﻟﻬﻢ ،وﺣﺞ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ أﻃﺮاف املﻌﻤﻮرة ﻓﻠﻮ ﻛﺎن اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻧﺎس ﻋﺪﻳﺪون ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺳﻨﺔ ﻟﻜﻨﺎ ﻧﺮى ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻹﺣﺴﺎس واﻟﺸﻌﻮر اﻟﺪﻳﻨﻲ أﺿﻌﺎف ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻣﻨﻬﻢ اﻵن. وإذا ﻛﺎﻧﺖ أوروﺑﺎ ﺗﺘﻮﻗﻊ ﻣﻦ ﺣني ﻵﺧﺮ ﺧﻄ ًﺮا أﺻﻐﺮ ﻳﺘﻬﺪدﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﴩق ،ﺑﺴﺒﺐ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ أﻇﻬﺮﻫﺎ اﻟﴩﻗﻴﻮن ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺮﻗﻲ ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻬﺎ إذا أﺧﺬ املﺴﻠﻤﻮن اﻟﺼﻴﻨﻴﻮن ﰲ أﺳﺒﺎب اﻟﺘﺂﻟﻒ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺎت املﺬﻫﺒﻴﺔ واﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ؟ وﻫﻨﺎ ﻧﻘﻮل ُﺤﻘﺔ ﰲ ﺗﺨﻮﱡﻓﻬﺎ ﻫﺬا وﻏري ﻣ ﱠ إن أوروﺑﺎ ﻣ ﱠ ُﺤﻘﺔ ﰲ اﺗﻬﺎم املﺴﻠﻤني ﺑﺎﻟﺘﻌﺼﺐ. ﻫﺬا وﺑﻌﺪ ﺣﻮادث ﺳﻨﺔ ١٩٠٠رأى ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ أن ﻳﺒﻌﺚ وﻓﺪًا إﱃ ﺑﻼد اﻟﺼني؛ ﻟﻴﻨﻈﺮ ﺣﺎﻟﺔ املﺴﻠﻤني ﻫﻨﺎك وﻟﻴﻘﻮي اﻟﻌﻼﺋﻖ ﺑﻴﻨﻬﻢ وﺑني ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻓﺄرﺳﻞ — ﺣﻔﻈﻪ ﷲ — وﻓﺪًا ﻣﺆ ﱠﻟ ًﻔﺎ ﻣﻦ ﻧﺨﺒﺔ رﺟﺎل اﻟﺪوﻟﺔ اﻷﻣﻨﺎء ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء و ُﻛﺘﱠﺎب وﻏريﻫﻢ ،وﻛﺎن اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻮﻓﺪ ﻫﻮ ﺳﻌﺎدة »آور ﺑﺎﺷﺎ« ﻓﺴﺎﻓﺮ ﰲ ﺷﻬﺮ دﻳﺴﻤﱪ ﴎا ﻣﻦ ﻏري أن ﻳﻌﻠﻢ ﺑﻪ أﺣﺪ ﺣﺘﻰ ﻧﻔﺲ رﺟﺎل املﺎﺑني. ﺳﻨﺔ ،١٩٠٠وﻛﺎن ﺳﻔﺮ ﺳﻌﺎدﺗﻪ ٍّ 75
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
واﻟﺬﻳﻦ ﻋﲆ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻏﺸﺎوة ﻣﻦ اﻟﺠﻬﻞ واﻟﺤﻤﻖ واﻟﻐﺒﺎوة ملﺎ اﺗﺼﻞ ﺑﻬﻢ ﻧﺒﺄ ﻫﺬا اﻟﻮﻓﺪ ،أﺷﺎﻋﻮا وأذاﻋﻮا أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُ ِﻔ ْﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺜﻤﺮ اﻟﺜﻤﺮة املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻣﻦ إرﺳﺎﻟﻪ ،واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻫﺬا اﻟﻮﻓﺪ ملﺎ ﻗﺎم ﻣﻦ اﻷﺳﺘﺎﻧﺔ ﻣﺒﺎﴍ ًة ،ووﺻﻞ إﱃ ﻫﺎﺗﻴﻚ اﻟﺒﻘﺎع أﺧﺬ ﻳﺘﺠﻮل ﰲ اﻟﺒﻼد ،ﺣﺘﻰ وﺻﻞ إﱃ ﺷﻨﻐﺎي ،وﰲ أﺛﻨﺎء ﺗﺠﻮﱡﻟﻪ ﻇﻬﺮ ﻟﻪ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺼني ﻣﻦ ﻳﻌﺮف اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻟﻐﺔ اﻟﻘﺮآن وﻻ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﱰﻛﻴﺔ ،ﻓﺨﺎﺑﺮ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺒﺎب اﻟﻌﺎﱄ وﺑﻤﺠﺮد ً ً ﻓﺎﺿﻼ ﻣﺘﻀ ﱢﻠﻌً ﺎ ﰲ ﻋﻠﻮم اﻟﺪﻳﻦ وﻟﻪ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺗﺎﻣﺔ رﺟﻼ ﻋﺎ ًملﺎ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﺬﻟﻚ أرﺳﻞ ﺣﻔﻈﻪ ﷲ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،واﻟﱰﻛﻴﺔ ،واﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺼﻴﻨﻴني اﻟﻘﺎﻃﻨني ﰲ ﻏﺮب املﻤﻠﻜﺔ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﻣﻦ »ﻛﺎﻧﺴﻮ« ،ﻋﲆ أن اﻟﻮﻓﺪ ﻧﻔﺴﻪ أﺧﺬ ﰲ ﺗﺠﻮﱡﻟﻪ ﻳﻠﻘﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺼﻴﻨﻴني وﻳﻌﻠﻤﻬﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ وﻛﻴﻒ ﻳﺤﻔﻈﻮن ﻛﺘﺎب ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،وﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻤﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻪ ﻣﻊ ﻓﻬﻢ املﻌﺎﻧﻲ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺤﻔﻈﻮن ﺑﻌﺾ آﻳﺎت اﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻣﺎ ﺗﻀﻤﱠ ﻨﺘْﻪ ﻫﺬه اﻵﻳﺎت اﻟﴩﻳﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﺎت اﻟﺒﺎﻟﻐﺔ واﻟﺤﻜﻢ اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ ،وﻗﺪ ﻋﺎد اﻟﻮﻓﺪ ﻣﻜ ﱠﻠ ًﻼ ﺑﺄﻛﺎﻟﻴﻞ اﻟﻨﺠﺎح ،وﺗﺮك ﻟﻪ أﺛ ًﺮا ﺣﻤﻴﺪًا ﰲ ﻧﻔﻮس أﻫﻞ اﻟﺼني. واﺣﺘﻔﺎل املﺴﻠﻤني ﻫﻨﺎك ﺑﺎﻟﻌﻴﺪﻳﻦ ﺑﺎﻟﻎ ﺣ ﱠﺪ اﻻﻋﺘﻨﺎء ،ﻓﻬﻢ ﻻ ﻳﺪﻋﻮن ﻣﻈﻬ ًﺮا ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻔﺮح واﻟﴪور ﱠإﻻ ﻓﻌﻠﻮه إذا ﺟﺎء وﻗﺖ ﻫﺬﻳﻦ املﻮﺳﻤني اﻟﺪﻳﻨﻴني ،وإذا ﺟﺎء ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن املﻌﻈﻢ ﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﺠﺪ واﺣﺪًا ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻔﻄ ًﺮا ،وﻳﺒﺘﻌﺪون ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﳾء ﻳﻤﺲ ﺑﻜﺮاﻣﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﺣﺘﻰ ﻧﻔﺲ اﻟﺸﺒﻬﺎت ،وﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن ﻳﺴﻤﻮﻧﻪ »ﺑﺎﺗﺸﺎي« ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﻘﻮاﻋﺪ اﻟﴩع اﻟﴩﻳﻒ ،ﻋﻨﺪﻫﻢ ﺑﻌﺾ ﺑﺪع وذﻟﻚ أن أﺣﺪﻫﻢ إذا ارﺗﻘﻰ إﱃ ﻣﻨﺼﺐ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺻﺐ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﻊ ﻋﺪم ﻣﻴﻠﻬﻢ إﱃ ذﻟﻚ ﻳﺬﻫﺐ إﱃ ﻣﻌﺒﻮد ﻫﻨﺎك ﻳﺘﻘ ﱠﺮب إﻟﻴﻪ اﻟﺒﻮذﻳﻮن، وﻳﺘﻘ ﱠﺮب إﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺆﻻء وﻻ أدري ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺤﺎﻣﻞ ﻟﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺘﻘ ﱡﺮب ﺳﻮى أﻧﻪ ﻳﻜﻮن واﺳﻄﺔ ﰲ إﻋﻄﺎﺋﻬﻢ املﻌﻮﻧﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﺧري ﻗﻴﺎم ،وﻫﺬا املﻌﺒﻮد ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻋﻨﺪﻫﻢ »ﻛﻮﻧﻔﻮﺷﻴﻮس«. وﻣﻦ اﻷﺳﻒ اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻻ أﺳﻒ ﺑﻌﺪه أن ﻧﺤﻮ اﻟﺨﻤﺴني ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﰲ اﻟﺼني ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻋﻠﻤﺎء ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﱢ ﻳﻨﻔﺮﻧﻮﻫﻢ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺨﺮاﻓﺎت واﻟﺒﺪع ،وأن ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺼري اﻟﻔﺎﺣﺶ أن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﻳﻌﻠﻤﻮن ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺣﻮال وﻻ ﻳﺆﻟﻔﻮن اﻟﻮﻓﻮد ﻣﻨﻬﻢ ﻟﻠﺬﻫﺎب إﱃ اﻟﺼني ﱢ وﺑﺚ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻫﻨﺎك. 76
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وأول ﻣﻦ ﻳُﻼم ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺼري ﻫﻢ ﻋﻠﻤﺎء اﻷزﻫﺮ اﻟﴩﻳﻒ اﻟﺬي ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﺄﺟﻤﻌﻪ ﻧﻈﺮ اﻻﻋﺘﺒﺎر واﻻﺣﱰام؛ ﻷن اﻷزﻫﺮ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ. ً ﻃﻮﻳﻼ ﻷﺗﻰ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ وﻟﻮ أﻗﺎم اﻟﻮﻓﺪ اﻟﺬي أرﺳﻠﻪ ﺟﻼﻟﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﰲ ﺑﻼد اﻟﺼني زﻣﻨًﺎ ﺣﺴﻨﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻤﻜﺚ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻜﺎﰲ ملﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬه اﻟﺒﺪع واﻟﺨﺮاﻓﺎت ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ ﰲ إزاﻟﺘﻬﺎ. ً وأﻳﻀﺎ إن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺼني ﻳُﻌَ ﺪﱡون ﻋﲆ اﻷﻧﺎﻣﻞ، وﻻ ﻳﺘﺠﺎوزون ﺣﺮﻛﺎت اﻟﻌﻮاﻣﻞ ،وﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ اﻟﺬي ﺻﺤﺒﻨﻲ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن. ﺳﺄﻟﺖ ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺿﻞِ :ﻟ َﻢ ﺗﺴﺎﻓﺮ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻟﻨﴩ ﻟﻮاء اﻹﺳﻼم ﻣﻊ أن ﺑﻼدك أﺣﻮج إﻟﻴﻚ ﻟﻨﴩ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ؟ ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﺟﻮاﺑﻪ ﱠإﻻ أن ﻗﺎل :إن اﻟﻴﺎﺑﺎن أﺣﻮج ﻣﻦ اﻟﺼني؛ ﻷن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺳﻴﻘﺪﱠم إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ،ﺑﺨﻼف ﺑﻼد اﻟﺼني وﻛﻮﻧﻲ أﻫﺪي وﺛﻨﻴٍّﺎ إﱃ اﻹﺳﻼم ﺧري ﻣﻦ أن أﻋ ﱢﺮف ﻣﺴﻠﻤً ﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ ،وﻗﺪ أ ﱠﻛﺪ ﱄ أﻧﻪ ﻋﻨﺪ ﻋﻮدﺗﻪ إﱃ ﺑﻼد اﻟﺼني ﺳﻴﺴﻌﻰ ﺟﻬﺪه ﰲ إزاﻟﺔ ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻔﺎﺳﺪة ﻣﻦ أذﻫﺎن املﺴﻠﻤني ،ﻓﺸﻜﺮت ﻟﻪ ﻫﺬه اﻷرﻳﺤﻴﺔ ودﻋﻮت ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻨﺠﺎح ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ ،وأ ﱠﻛﺪت ﻟﻪ أﻧﻪ ﺑﻌﻤﻠﻪ ﻫﺬا ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﺧﺪم اﻟﺪﻳﻦ واملﺴﻠﻤني أﺟﻞ وأﻋﻈﻢ ﺧﺪﻣﺔ. وﻷﻫﻞ اﻟﺼني اﻋﺘﻨﺎءً زاﺋﺪ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﻔﻼﺣﺔ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺒﻘﻮل أو اﻟﻔﻮاﻛﻪ أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﺰروﻋﺎت املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱠإﻻ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﺧﱪة ﺑﺰراﻋﺘﻪ، ً اﺣﺘﻔﺎﻻ ﺑﺎﻫ ًﺮا ﰲ ﻛ ﱢﻞ وﻣﻦ ﻛﺜﺮة اﻋﺘﻨﺎﺋﻬﻢ ﺑﻔﻠﺢ اﻷرض واﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﺸﺄن اﻟﺰراﻋﺔ ﻳﻌﻤﻠﻮن ﺳﻨﺔ ﻳﺤﴬ ﻓﻴﻪ ﻧﻔﺲ اﻹﻣﱪاﻃﻮر ،وﻳﻤﺴﻚ ﺑﻴﺪه املﺤﺮاث وﻳﺤﺮث ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻷرض ،وﰲ ذﻟﻚ ﻣﻌﻨﻰ ﺟﻠﻴﻞ وﻫﻮ أن اﻷﻫﺎﱄ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﻘﺘﺪوا ﺑﻪ ﰲ أﻣﺮ اﻟﺰراﻋﺔ ،وﻻ ﻳﺄﻧﻔﻮن ﻣﻦ ﻣﺴﻚ املﺤﺮاث .وﻣﻦ ﺷﺪة ﺷﻐﻔﻬﻢ ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ وﻋﺪم وﺟﻮد اﻷرض اﻟﻜﺎﻓﻴﺔ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺰراﻋﺔ؛ ﻳﺼﻨﻌﻮن أﻟﻮاﺣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ وﻳﻀﻌﻮﻧﻬﺎ ﻋﲆ اﻷﻧﻬﺮ ﺑﻌﺪ ﺗﻐﻄﻴﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄني ،وﻳﺒﺬرون ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺒﺬر ﻓﺘﻜﻮن ﻫﺬه اﻷﻟﻮاح ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻷرض اﻟﻌﺎﻣﺮة اﻟﺠﻴﺪة اﻟﱰﺑﺔ. واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ ﻛﺎﻟﺒﻘﺮ واﻟﺠﺎﻣﻮس ﻗ ﱠﻞ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﺑﻼد اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺿﺨﺎﻣﺔ اﻟﺠﺴﻢ واﻟﻘﻮى. وأﻫﻞ اﻟﺼني ﻳﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻜﺴﻞ واﻟﻔﺘﻮر وذﻟﻚ ﱠ ﻷن أﻛﻞ اﻷﻓﻴﻮن ﻋﻨﺪﻫﻢ ﴐوري، وﻫﻮ داﻋﻴﺔ اﻟﻜﺴﻞ واﻟﺨﻤﻮل ،وملﺎ ﻋﺮف ذﻟﻚ اﻹﻣﱪاﻃﻮر أﺻﺪر أﻣ ًﺮا ﻋﺎﻟﻴًﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﺔ ﺑﻤﻨﻊ زراﻋﺘﻪ ،وﻫﺬا ﻓﻌﻞ ﺣﺴﻦ ﺟﺪٍّا؛ إذ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﺎﺋﺪة اﻟﺼﺤﻴﺔ واﻷدﺑﻴﺔ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ. 77
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻋﲆ أن أﻫﻞ اﻟﺼني ﻟﻮ دأﺑﻮا ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ اﻟﺬي ﻫﻢ ﻧﺎﻫﺠﻮه اﻵن ﻣﻦ اﻷﺧﺬ ﺑﺄﺳﺒﺎب اﻟﺮﻗﻲ ً ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﻜﺎﻧﻮا أﻣﱠ ﺔ ﺣﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ،وﻫﻢ أﻗﺮب ﻣﻊ ﻣﺎ و ُِﺟﺪ ﻓﻴﻬﻢ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺸﺒﻪ ﰲ اﻟﺠﻨﺲ واملﻮﻃﻦ. ) (33اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ ووﺟْ ﻬﺘﻨﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ وﺑﻴﻨﻤﺎ أﻧﺎ ورﻓﻴﻘﺎي ﻧﻄﺎﻟﻊ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻏﺎدرﻧﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻫﻨﻎ ﻛﻮﻧﻎ ِ اﻟﻜﺘﺐ ﻋﲆ ﻣﻌﺰل ﻣﻦ اﻟﺮﻛﺎب ،وإذا ﺑﺮﺟﻞ ﻣﻦ ﻛﻨﺪا ﺑﺄﻣﺮﻳﻜﺎ اﻗﱰب ﻣﻨﺎ ورﻏﺐ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ً وﻓﻌﻼ َﻗ ُﺮبَ ﻣﻨﺎ وﺑَﺪَأَﻧﺎ ﺑﺎﻟﺘﺤﻴﺔ ﻓﺮ َددْﻧﺎﻫﺎ ﻣﻌﻨﺎ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻋﺮف أﻧﻲ ﻣﴫي، ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺄﺣﺴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ،ﺛﻢ وﺟﱠ ﻪ إﱄ ﱠ اﻟﺨﻄﺎب وﻗﺎل :إﻧﻲ ﱠملﺎ ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﺼني وﺻﻞ إﱄ ﱠ ﺧﱪ ﺣﺎدﺛﺔ دﻧﺸﻮاي ،وﻟﻜﻦ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﺳﻤﻌﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻓﺄرﻳﺪ أن أﻋﺮف ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻚ ﻣﴫي ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب ،وأﺧﺬت أﴍح ﻟﻪ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ،وﺑﻴﱠﻨﺖ ﻟﻪ ﺗﺎرﻳﺦ وﺟﻮد املﺤﻜﻤﺔ املﺨﺼﻮﺻﺔ واﻟﺴﺒﺐ ﰲ وﺟﻮدﻫﺎ ﻓﻜﻨﺖ أرى ﰲ وﺟﻪ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻼﻣﺎت اﻟﺘﺄﺛﱡﺮ اﻟﺸﺪﻳﺪ ،ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺮدﻧﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ ﻣﻮاﺿﻴﻊ أﺧﺮى ﰲ اﻟﺸﺌﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﻤﴫ وأﺣﻮاﻟﻬﺎ اﻟﺤﺎﴐة ،وﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮه اﻵن. وﺑﻌﺪ ﺗﺴﻌﺔ أﻳﺎم وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﺛﻐﺮ ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺗﺴري ﺑﺒﻂء وﻫﻲ داﺧﻠﺔ ﰲ ﻣﻴﻨﺎء ﻫﺬا اﻟﺜﻐﺮ ،وﻗﺪ ﻣﺮرﻧﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻋﲆ ﺟﺰر ﻛﺜرية ﻻ داﻋﻲ إﱃ أن ﻧﴫف وﻗﺘًﺎ ﰲ اﻟﻜﻼم ﻋﻠﻴﻬﺎ. ) (34ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ ﻫﻲ ﻛﺎﺋﻨﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ »ﻣﻮزاﳼ« ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺮة »ﺗﺒﺒﻦ« ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ اﻟﺸﻤﺎﱄ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻟﺨﻠﻴﺞ ﻃﻮﻛﻴﻮ ،وﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺎﻋﺪة ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ »ﻛﻨﺪﻳﻜﺎﻧﺎﻓﺎ ﻛﺎ« ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺳﺎﻟﻒ اﻟﻌﴫ ً آﻫﻠﺔ ﺑﺎﻟﺴﻜﺎن اﻟﺬﻳﻦ أﻏﻠﺒﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺻﻴﺎدﻳﻦ ،ﺛﻢ أﺧﺬت ﺗﺘﻘﺎدم ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ١٨٥٩ ﻧﻈ ًﺮا ملﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﺘﺠﺎري اﻟﺤﺮﺑﻲ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﺎ ﺣ ﱠﻠﺖ ﻣﺤﻞ »ﻛﻨﺪﻳﻜﺎﻧﺎﻓﺎ ﻛﺎ« ،وﻗﺪ ﻣ ﱠﺮت ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺣﻮادث زﻣﻨﻴﺔ ﻛﺜرية أﺷﻬﺮﻫﺎ اﻟﺤﺎدﺛﺔ اﻟﺘﻲ أُﺣْ ِﺮﻗﺖ ﻓﻴﻬﺎ وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ،١٨٦٦ﺛﻢ ﺟُ ﺪﱢد ﺑﻨﺎؤﻫﺎ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ وﺳﻜﺎﻧﻬﺎ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ اﻷﻫﺎﱄ اﻟﻮﻃﻨﻴني ،واﻟﺼﻴﻨﻴني ،واﻷوروﺑﻴني ،وﻛﻞ ﻓﺮﻳﻖ ﻳﺴﻜﻦ أﻫﻠﻪ ﰲ ﺟﻬﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ ﻋﲆ ﺣﺴﺐ اﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ،وﺑﻬﺎ ﻛﻨﺎﺋﺲ ﻛﺜرية ﻟﻠﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ،وﻣﻌﺎﺑﺪ ﻟﻠﱪوﺗﻮﺳﺘﺎﻧﺖ وﻣﺴﺘﺸﻔﻴﺎت ﻛﺜرية ،وﻫﻲ أول ﻣﺪﻳﻨﺔ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ُﻣ ﱠﺪ 78
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺨﻂ اﻟﺘﻠﻐﺮاﰲ ﰲ ٢٥دﻳﺴﻤﱪ ﺳﻨﺔ ،١٨٦٩وﺳﻨﺔ ُ ١٨٧٠ﻣ ﱠﺪ اﻟﺘﻠﻐﺮاف ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﻃﻮﻛﻴﻮ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ُ ١٨٧٢ﻣ ﱠﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺧﻂ ﺳﻜﺔ ﺣﺪﻳﺪﻳﺔ إﱃ ﻃﻮﻛﻴﻮ. وملﺎ أﻟﻘﺖ اﻟﺒﺎﺧﺮة املﺮاﳼ ﺑﻬﺎ ،ﺣﻤﺪﻧﺎ ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — ﻋﲆ وﺻﻮﻟﻨﺎ ﺑﺎﻟﺴﻼﻣﺔ، وﻫﻨﺎك وﺟﺪﻧﺎ ﰲ اﻧﺘﻈﺎرﻧﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد اﻟﺮوﳼ ،وﻛﺎن ﺑﻌﺚ إﻟﻴﻪ ﺣﴬة املﻮﻟﻮي اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ ﺑﺨﻄﺎب ﻳﺨﱪه ﻓﻴﻪ ﺑﻘﺪوﻣﻪ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻳُﻌ ﱢﺮﻓﻪ ً رﺟﻼ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎره ﰲ ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ ،وﺑﻌﺪ اﻟﺘﻌﺎرف ﺑﻪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن رأﻳﺖ ﻣﻨﻪ ً ً ً ﻛﺎﻣﻼ ،ﻣﻬﺬﱠﺑًﺎ ،ﺣﺎوﻳًﺎ ﻟﻜﻞ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺒﱢﺐ املﺮءَ إﱃ اﻟﻨﻔﻮس ،وﺗُﺤِ ﱡﻠﻪ ﻋﺎﻗﻼ، ﻓﺎﺿﻼ، ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺤ ﱠﻞ اﻻﻋﺘﺒﺎر ،وﻗﺪ ﻧﺰﻟﻨﺎ ﰲ ﻓﻨﺪق ﺑﺠﻮار اﻹدارة اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ،وﻣﻜﺜﻨﺎ ﻳﻮﻣني رﻳﺜﻤﺎ أﺧﺬْﻧﺎ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ اﻟﺮاﺣﺔ ﻣﻦ ﻋﻨﺎء اﻟﺴﻔﺮ. ُ َ ْ زﺧﺮﻓﻬﺎ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ ودﻻﺋﻞ اﻟﺤﻀﺎرة إﱃ درﺟﺔ راﻗﻴﺔ املﺪﻳﻨﺔ أﺧﺬت ﻫﺬه وﻗﺪ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ اﻷﻧﻮار اﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻄﻊ ﻓﻴﻬﺎ إذا ﺗﻮارت اﻟﺸﻤﺲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎب ،وﺷﻮارﻋﻬﺎ ﻣﺘﺴﻌﺔ ﻣﻔﺮوﺷﺔ ﺑﺎﻟﺒﻼط ،وﻟﻘﺪ ﻻﻗﻴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﱪد ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻄﻴﻘﻪ ﱠإﻻ ﻣﻦ أﻗﺎم ﻛﺜريًا ﰲ ﻫﺬه اﻷﺻﻘﺎع واﻋﺘﺎد ﺟﺴﻤﻪ ﻋﲆ اﺣﺘﻤﺎل ﺑﺮدﻫﺎ اﻟﻘﺎرص ،ﺛﻢ ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣني ﻏﺎدرﻧﺎﻫﺎ ﻋﲆ ﻗﻄﺎر اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻗﺎﺻﺪﻳﻦ »ﻃﻮﻛﻴﻮ«. ) (35ﻃﻮﻛﻴﻮ رﻛﺒﻨﺎ ﻗﻄﺎر اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ،وﻗﺼﺪﻧﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وﻫﻲ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ ﺑﻤﻘﺪار ﺗﺴﻌﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﻛﻴﻠﻮﻣﱰات؛ أي ﺑﻨﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﺑﺴري اﻟﻮاﺑﻮر، وﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻛﺎﺋﻨﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة »ﺗﺒﺒﻦ« وﻫﻲ ﺣﺪﻳﺜﺔ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﺠﻌﻠﻬﺎ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ، وﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﺑﻬﺎ ﺣﻮادث ﻛﺜرية ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﺤﺼﻴﻬﺎ املﺆرخ ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻤﻦ ﻳﻀﻊ ﺳﻔ ًﺮا ﻛﻬﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ! ﻓﻠﺬﻟﻚ اﻗﺘﴫ ﻋﲆ ذﻛﺮ اﻟﻘﻠﻴﻞ اﻷﻫﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﻓﺎﺋﺪة ﻋﲆ اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻓﻔﻲ ﺳﻨﺔ ١٤٥٦ﺟﺎء ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاد اﻟﻘﺎﺋﻤني اﻟﺬي ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﻗﻄﻪ دوﻛﺴﻢ« وﺑﻨﻰ ﺑﻄﻮﻛﻴﻮ ﻗﻠﻌﺔ ﺣﺼﻴﻨﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ ﺑﺄﺟﻤﻌﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺪﻳﻨﺔ »ﻛﻴﻮﺗﻮ« ﻣﻘ ٍّﺮا ﻟﻠﻤﻠﻚ وﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺸﺠﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻨﺎزﻋﻮن اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﰲ املﻠﻚ، وﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻜﻢ ﺑﺎﺳﻢ املﻴﻜﺎدو وﺑﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻟﻠﻴﺎﺑﺎن ﻋﺎﺻﻤﺘﺎن ،إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﴍﻗﻴﺔ وﻫﻲ ﻛﻴﻮﺗﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ املﻴﻜﺎدو ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻏﺮﺑﻴﺔ وﻫﻲ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺸﺠﻦ ،وﻫﺬا اﻻﺳﻢ ﺣﺪﻳﺚ ﻟﻬﺎ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﺗُﺪﻋَ ﻰ »ﻳﻴﺪو« ﻓﻠﻤﺎ ﺻﺎرت ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ ﺑﺄﺟﻤﻌﻬﺎ ُﺳﻤﱢ ﻴﺖ 79
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻃﻮﻛﻴﻮ وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا اﻻﺳﻢ »ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﴩق« ،وﻗﺪ ﺣﺪﺛﺖ ﺑﻬﺎ ﻋﺪة ﺣﺮاﺋﻖ وﺟُ ﺪﱢد ﺑﻨﺎؤﻫﺎ ﻋﺪة ﻣﺮات ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺰﻻزل ﻣﺘﺘﺎﺑﻌﺔ ﻓﻴﻬﺎ ،وﺣﺼﻞ ﺑﻬﺎ زﻟﺰال دﻣﱠ ﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﻣﻨﺰل وأﻣﺎت ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻮس ،أﻣﺎ اﻵﺛﺎر ﻓﻴﻬﺎ ﻓﻜﺜرية ﺟﺪٍّا وﺑﻨﺎء ﻫﺬه اﻵﺛﺎر ﻓﺎﺧﺮ ﻳﺪل ﻋﲆ ﻣﻬﺎرة ﻗﺪﻣﺎء اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ اﻟﺒﻨﺎء ﻛﻤﺎ ﻛﺎن املﴫﻳﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻛﺬﻟﻚ؛ ﺣﻴﺚ ﰲ وﺳﻂ املﺪﻳﻨﺔ ﻗﻨﻄﺮة ﻋُ ِﻤﻠﺖ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﻮس وﺗُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ ،أﻣﺎ ﻗﴫ املﻠﻚ ﻓﺒﺎﻟﻎ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ أُﺑﱠﻬﺔ املﻠﻚ وﻋﻈﻤﺔ اﻟﺴﻠﻄﺎن ،وﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻨﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﻗﺼﻮر اﻟﺪﻳﺪﻳﻮس وﻫﻢ ﻋﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﺋﻼت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺸﻬﻮرة ﺑﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ،واﻵن ﻗﺪ ﺣُ ﻮﱢﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﻮر إﱃ دواوﻳﻦ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ ،وﻏري ﻫﺬه اﻟﻘﺼﻮر ﺗﻮﺟﺪ آﺛﺎر ﻟﻠﻤﻌﺎﺑﺪ واﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻣﻦ ﻫﺬه املﻌﺎﺑﺪ ﻣﻌﺒﺪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﻓﺘﺘﻨﺰون«، وﻣﻌﺒﺪ »وﻛﺎرﻓﻬﺎش« ،وﻣﻌﺒﺪ »إدراﺟﻮﻧﺪور« ،وﻣﻌﺒﺪ »ﺳﻨﺘﻨﻮﻳﻴﺴﺖ ﺷﻮﻛﻮﻧﺸﺎ« ،وﻣﻌﺒﺪ »ﺷﻴﺒﻪ« ،وﻫﺬا املﻌﺒﺪ ﻓﻴﻪ ﻣﻘﺎﺑﺮ ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﺸﺠﻦ املﺘﻘﺪم ذﻛﺮﻫﻢ ،وﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ أﻫﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺔ »ﺗﻮﻛﻮﺟﺎوا« ،وﻳﻮﺟﺪ ﻫﻨﺎك ﻗﴫ ﺑﺪﻳﻊ ﻳُﺪﻋَ ﻰ »زﻳﻜﻮان« وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﴫ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ً ﻣﺼﻴﻔﺎ ﻟﺒﻌﺾ أﻛﺎﺑﺮ اﻟﺸﺠﻦ ،وﻳﻮﺟﺪ ﺑﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻵﺛﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻣﻨﺎزل ﻃﻮﻛﻴﻮ أﻏﻠﺒﻬﺎ ﻳ َ ﺿﻮاح وﻣﻨﺘﺰﻫﺎت ﻳﻘﻄﻨﻬﺎ اﻟﻜﱪاء ﻛﺎملﻄﺮﻳﺔ واﻟﻘﺒﺔ ﻗﺪ أﺧﺬت ُﺴﻘﻒ ﺑﺎﻟﺨﻴﺰران وﻟﻬﺎ ٍ ﻗِ ْﺴﻄﻬﺎ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ واﻟﺤﻀﺎرة ﻣﺜﻞ »ﺑﻤﺘﴚ« وﻫﻲ ﰲ اﻟﺸﻤﺎل اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻟﻄﻮﻛﻴﻮ ،ﺛﻢ ﺑﻠﺪة »ﺳريوا« وﺑﻬﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻦ اﻵﺛﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻟﻮ ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ اﻟﱰﻗﻲ ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن اﻟﻼﺋﻖ ﺑﺄﻣﺔ ﻛﻬﺬه اﻷﻣﺔ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻛﺘﺒﺨﺎﻧﺔ ﻋﺎﻣﺮة ﺑﺎﻟﻜﺘﺐ ﺷﺄن ﻛ ﱢﻞ ﺑﻠﺪ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ وأﻣﺔ راﻗﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﱠإﻻ ﻣﻜﺘﺒﺔ واﺣﺪة ﺑﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﺎﺋﺘﻲ أﻟﻒ ﻣﺠﻠﺪ ﻓﻘﻂ. وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻛﺎن ﰲ ﺻﺤﺒﺘﻨﺎ اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ ،واﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد اﻟﺮوﳼ اﻟﺬي أﻓﺎدﻧﺎ ﻛﺜريًا؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻟﻪ إملﺎم ﺗﺎ ﱞم ﺑﻌﻮاﺋﺪ اﻟﻘﻮم ،وﻣﻌﺮﻓﺔ أﺧﻼﻗﻬﻢ ﻣﻤﺎ ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﻧﻌﺮف ﻣﻨﻪ ﺷﻴﺌًﺎ. ﺷﺎرع ﻳﻘﺎل ﻟﻪ »ﺑﺎﻟﻴﺴﺘﻴﻮ« ،وﻟﻢ ﻧﻜﺪ ﻧﺴﺘﻘﺮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﻨﺪق وﻗﺪ ﻧﺰﻟﻨﺎ ﰲ ﻓﻨﺪق ﰲ ٍ ﺣﺘﻰ أﺣﺲ ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﺑﻀﻌﻒ ﰲ ﻋﻀﻼت اﻟﺠﺴﻢ ،وذﻟﻚ ﻛ ﱡﻠﻪ ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ املﺸﺎق واملﺘﺎﻋﺐ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ دوْخ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻟﻪ اﻟﺘﺄﺛري اﻷﻋﻈﻢ. اﻟﺘﻲ ﻋﺎﻧﻴﻨﺎﻫﺎ ﰲ اﻟﺴﻔﺮ وﻣﻜﺜﻨﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻻ ﻳﻔﺎرق ﻣﺨﺪﻋﻪ ﻣﻦ اﻹﻋﻴﺎء ،وﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻟﺚ ﺧﺮﺟﻨﺎ ﻟﻠﺘﺠﻮل ﰲ أﻧﺤﺎء املﺪﻳﻨﺔ. وﻣﺎذا ﻋﺴﺎي أﻗﻮل أو أﴍح ﻣﺎ رأﻳﺘﻪ ﰲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺑﻼد اﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ زﻳﺎدة ﻋﻦ املﺘﻘﺪم؟ ﺑﻞ ﻣﺎذا ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ أﺻﻒ املﺪﻧﻴﺔ وﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرة وﻛﺜﺮة اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ واﻧﺘﻈﺎم اﻟﺸﻮارع؟ 80
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ اﻟﻮاﺻﻒ إن ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ املﺪﻧﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﰲ رﻳﻌﺎن ﺷﺒﺎﺑﻬﺎ وﻟﻮﻻ ﺷﺪة اﻟﱪد ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺗُﻌﺪ ﺟﻨﺔ اﻟﴩق ﻣﻨﻈ ًﺮا وﺑﻬﺎءً ،أﻣﺎ ﺳﻜﺎن ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻓﻴﺒﻠﻐﻮن ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ وﺛﻼﺛﺔ أرﺑﺎع املﻠﻴﻮن ﻧﺴﻤﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪت اﻟﺴﺎﺋﺤني ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني واﻷﻣﺮﻳﻜﺎن واﻟﻬﻨﻮد واﻟﺼﻴﻨﻴني وﻏريﻫﻢ وﻫﻢ ﰲ ازدﻳﺎد ﻛﻞ ﺳﻨﺔ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﺪدﻫﻢ ﰲ ﺳﻨﺔ ،«٧٧٠٩» ١٧٠٢وﰲ ﺳﻨﺔ ،«٧٧٦٥» ١٩٠٣وﰲ ﺳﻨﺔ ،«٩٢٥٦» ١٩٠٤وﰲ ﺳﻨﺔ ،«١٦٥٣٠» ١٩٠٥وﰲ اﻟﺴﻨﺔ املﺎﺿﻴﺔ ﺑﻠﻎ ﻋﺪدﻫﻢ »،«٢٤٧٢٣ وﻟﺴﻮف ﻳﻔﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني إﱃ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﻛﻤﺎ وﻓﺪت إﻟﻴﻬﺎ ﻣﺪﻧﻴﺘﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻻ ﻳﺠﺪون ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺼﺎدر اﻟﺮزق واﻟﺜﺮوة ﻣﺎ ﻳﺠﺪوﻧﻪ ﰲ ﻣﴫ وﻏريﻫﺎ؛ ﻷن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﺧﺬوا اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ ﻣﺪﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮب وﻋﻤﻠﻮا ﺑﻪ ﻓﻌﺮﻓﻮا ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮﻧﻮن أﻣﺔ ﺣﻴﺔ ﻻ ﺗﺪع ﻏريﻫﺎ ﻳﺴﺘﺄﺛﺮ ﺑﻤﻨﺎﻓﻊ ﺑﻼدﻫﺎ. ) (36ﺷﺬرة ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﺧﺘﻠﻔﻮا املﺆرﺧﻮن ﺣﺘﻰ اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد واﻷﺻﻞ اﻟﺬي ﺗﻨﺘﻤﻲ إﻟﻴﻪ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ،ﻓﻘﺎل ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻛﺎﻟﱰك إن ﻋﺎﺋﻠﺔ ﻛﱪى ﻣﻐﻮﻟﻴﺔ وﻓﺪت إﱃ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﻓﺎﺳﺘﻮﻃﻨﺘﻬﺎ وﺗﻨﺎﺳﻠﺖ ﺣﺘﻰ أ ﱠﻟﻔﺖ ﻣﻨﻬﺎ أﻣﺔ ،وﻗﺎل اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ إﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﻧﺴﻞ املﺎﻟﻴﺰﻳني اﻟﺬﻳﻦ أﻏﺎروا ﻋﲆ اﻟﺠﺰر اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ واﺳﺘﻮﻃﻨﻮﻫﺎ ،وﺑﻌﻀﻬﻢ ﻗﺎل إﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﺼﻴﻨﻲ ،وﺑﻨﻰ ﻫﺬا ﻋﲆ اﺗﺤﺎد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ واﻟﺼﻴﻨﻲ ﰲ اﻟﻠﻮن واﻟﺒﴩة ،وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺧﻼف ذﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻫﻢ ﻋﻨﴫ ﻗﺎﺋﻢ ﺑﻨﻔﺴﻪ وﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع ﺟﻨﺲ اﻹﻧﺴﺎن. واﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮن إﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﱡ ﺗﺮﻓﻌً ﺎ ،ﺑﻞ ﻳﻨﺴﺒﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ إﱃ اﻟﺴﻤﺎء ،ﻛﺄن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﴍﱠﻓﻪ ﷲ وﻛ ﱠﺮﻣﻪ دون ﺳﺎﺋﺮ املﺨﻠﻮﻗﺎت أﻗﻞ ﻣﻨﻬﻢ درﺟﺔ ،وأن ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي أوﺟﺪﺗﻪ اﻟﻘﻮى اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻳﻌﺘﻘﺪون ﱠ أن أول ﻣﻦ ﻧﺰل ﻣﻨﻬﻢ إﱃ اﻷرض و َِﻃﺌﺖ ﻗﺪﻣﻪ ﺟﺰﻳﺮة »ﻛﻴﻮﺷﻴﻮ« وﻃﺮد اﻷﻣﻢ املﺘﻮﺣﺸﺔ ﻣﺜﻞ ﻗﺒﺎﺋﻞ »أﺑﻨﻮس« ،واﺳﺘﻤﺮت اﻟﺤﺮوب ﺑني اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وﻫﺬه اﻷﻣﻢ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺒﻊ ﻗﺮون ،وأﺧريًا ﺧﻀﻌﺖ ﻟﻠﻴﺎﺑﺎن ،وﻣﻊ اﻋﺘﻘﺎد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﻧﻬﻢ ﻟﻴﺴﻮا ﻣﻦ ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون ً أﻳﻀﺎ أن ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﻣﺘﺴﻮﻫﻴﺘﻮ« اﻟﺤﺎﱄ أﴍف ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻨﴫًا؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن املﻴﻜﺎدو ﻋﻨﺪﻫﻢ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ املﻌﺒﻮد.
81
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ﰲ املﻌﻴﺸﺔ إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﺑﻌﺪ املﻴﻼد، وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﺧﺬت ﺗﺪرج ﰲ اﻟﺤﻀﺎرة واﻟﺘﻔﻨﱡﻦ ﰲ أﻧﻮاع املﺂﻛﻞ واملﻼﺑﺲ ،ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻏري اﻷرز واﻟﺴﻤﻚ ﻣﻦ أﻓﻀﻞ اﻷﻃﻌﻤﺔ واﻟﻠﺒﺎس اﻟﺒﺴﻴﻂ ،وﻫﻢ ﻳﺤﺒﻮن اﻟﺴﻤﻚ واﻷرز إﱃ اﻵن ﺣﺒٍّﺎ ﺟﻤٍّ ﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﺴﺎﻛﻨﻬﻢ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر ﻣﻦ أﺧﺸﺎب اﻟﻐﺎﺑﺎت ،ﻓﺄﺻﺒﺤﻮا اﻵن ﰲ رﻓﺎﻫﻴﺔ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﺎﴐة ﻳﺮﺗﻌﻮن. وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﻟﻠﻤﻴﻼد ﺑﺪأت اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﰲ إرﺳﺎل اﻹرﺳﺎﻟﻴﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ إﱃ أوروﺑﺎ ،وﻣﻦ ﻫﺬا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻘﺎل إن اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻷدﺑﻴﺔ ﺑُﺪِﺋﺖ ﻣﻨﺬ ﻧﺼﻒ ﻗﺮن ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن. وﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻷﻋﴫ اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ ﻳﺘﻮﱃ اﻷﺣﻜﺎم أرﺑﺎب اﻟﻌﺎﺋﻼت اﻟﻜﱪى ﻣﺜﻞ ﻋﺎﺋﻠﺔ »اﻟﺸﺠﻦ« املﺘﻘﺪﻣﺔ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳ َْﻔ ِﺼﻠﻮن ﰲ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﺪﻧﻴﺔ واﻟﺠﻨﺎﺋﻴﺔ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻪ ﻋﻠﻤﻬﻢ ،أﻣﺎ اﻵن ﻓﻘﺪ و ُِﺟﺪت ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ ﺷﺄن اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ. واﻟﺬي ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺠﺰاﺋﺮ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﻵﺳﻴﺎ ،ﺛﻢ إﱃ اﻟﺠﺰاﺋﺮ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ،ﻻ ﻳﻔﺮق ﺑني ﻫﺬه وﺗﻠﻚ ﰲ اﻟﺸﻜﻞ واﻟﻮﺿﻊ ﱠإﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ،وﻛﺄن ﻫﺬا اﻻﺗﻔﺎق ﰲ املﻨﺎخ ﻛﺎن ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ ﻣﺤﺎﻟﻔﺔ اﻟﺪوﻟﺘني. ) (37ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎة املﻴﻜﺎدو ﻫﻮ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﻣﺘﺴﻮﻫﻴﺘﻮ« اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﻌﴩون ﻣﻦ ﻣﻠﻮك اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔُ ،وﻟِﺪ ﻫﺬا اﻹﻣﱪاﻃﻮر اﻟﺠﻠﻴﻞ ﰲ ٣ﻓﱪاﻳﺮ ﺳﻨﺔ ١٨٥٢م ،ﻓﻬﻮ اﻵن ﻳﺤﺒﻮ إﱃ اﻟﺴني ،وملﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﺴﺎدﺳﺔ ﻣﻦ ﺳﻨﱢﻪ أﺣﴬ ﻟﻪ واﻟﺪه اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﻛﻮﻣﻲ ﺗﻨﻮ« ﻣﻦ املﻌﻠﻤني اﻟﺨﺼﻮﺻﻴني ﻓﻜﺎن ﰲ ﻈ ِﻬﺮ ﻧﺠﺎﺑﺔ ﺑﺎﻫﺮة وذﻛﺎءً ﻣﻔﺮ ً ﻛ ﱢﻞ أدوار اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻳُ ْ ﻃﺎ ،وملﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ارﺗﻘﻰ إﱃ ﻋﺮش أﺟﺪاده؛ ﺣﻴﺚ ﺗُ ﱢ ﻮﰲ واﻟﺪه وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ١٨٦٧م ،وﻛﺎن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻦ ﺣﺎﺋ ًﺰا ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم واﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﱠ ﺛﻘﻔﺖ ﻋﻘﻠﻪ ،وﻫﺬﱠﺑﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻧﺸﺄ ﻛﺎﻣﻞ اﻟﻌﻘﻞ واﻓﺮ اﻟﻔﻀﻞ ،واﻟﺬي زاد ﰲ ﺗﻬﺬﻳﺒﻪ ﻫﻮ أن واﻟﺪه ﻛﺎن َو ﱠﻛﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ املﺆدﺑني ﻣَ ﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮاﻓﻘﻮﻧﻪ ﰲ ﻏﺪواﺗﻪ وروﺣﺎﺗﻪ ،ﻓﺘﴩﱠب ﻋﻘﻠﻪ ﺑﻤﺰاﻳﺎ ﻋﻘﻮل ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل. ﻓﻠﻤﺎ اﺳﺘﻠﻢ زﻣﺎم ا ُملﻠﻚ أﻇﻬﺮ ﺣﺰﻣً ﺎ وﻋﺰﻣً ﺎ وﺷﺪة ﻋﺎرﺿﺔ ﺑﻬﺮت ﻋﻘﻮل أﻛﺎﺑﺮ اﻟﺴﻮاس ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻓﺎﺳﺘﺒﴩوا ﺑﻪ وأﻣﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﺧريًا.
82
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وأول ﻣﺎ ﺑﺪأ ﻣﻨﻪ وﻋُ ِﺮف ﻣﻦ أﺧﻼﻗﻪ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ أﻧﱠﻪ أﻇﻬﺮ اﻧﻌﻄﺎﻓﻪ اﻟﺰاﺋﺪ ﻧﺤﻮ رﻋﻴﺘﻪ ﻓﻐﺮس ﺑﺬﻟﻚ ﺣﺒﱠﻪ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ،ﻓﺄﺻﺒﺢ اﻟﺼﻐري واﻟﻜﺒري ﻓﻴﻬﻢ ﻳﺤﺒﻪ ﻣﺤﺒﺔ ﻟﻢ ﺗُﺴﻤَ ﻊ ﰲ اﻷﻣﻢ اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ ﻧﺤﻮ املﻠﻮك واﻟﺴﻼﻃني اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻜﻤﻮا ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﰲ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺴﺎﻟﻒ ،وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﱠ أن أول ﻋﻬﺪ ﺗﻘﺪﻣﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﱰﻗﻲ واملﺪﻧﻴﺔ ،ﻫﻮ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ارﺗﻘﻰ ﻓﻴﻪ ﻫﺬا اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﻋﺮش املﻤﻠﻜﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻧﻈﺮ إﱃ ﻣﺪﻧﻴﺔ أوروﺑﺎ ﻧﻈﺮ اﻟﺤﻜﻴﻢ اﻟﺒﺼري وإﱃ أﺣﻮال ﺳﻴﺎﺳﺔ اﻟﺪول اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺣﻴﺎل رﻋﺎﻳﺎﻫﺎ ،ﻓﺒﺎدر ﺑﻤﻨﺢ أﻣﺘﻪ اﻟﺪﺳﺘﻮر واملﺠﻠﺲ اﻟﻨﻴﺎﺑﻲ، ﱠ وﺣﺚ اﻷﻣﺔ ﻋﲆ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻣﻌﺎﻫﺪ اﻟﻌﻠﻢ وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺘﻔﺖ إﱃ ﻧﴩ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ ﺑﻼده، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﻼد ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻫﺎدﺋﺔ ﻻ ﺣﺮوب ﺧﺎرﺟﻴﺔ ،وﻻ ﺛﻮارت داﺧﻠﻴﺔ ﺗﻌﻮق ﺳري اﻟﱰﻗﻲ ﰲ اﻷﻣﺔ. وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﴎﻋﺔ ﻧﴩ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﺳﺘﻌﺪاد اﻷﻣﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻷن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ اﻣﺘﺎز ﺑﺎﻟﺬﻛﺎء واﻟﻔﻄﻨﺔ وﺣﺐ املﻌﺎﱄ. ً وﻗﺪ ﺧﺎﻟﻒ املﻴﻜﺎدو ُﺳﻨﺔ املﻠﻮك ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺘﻌﺎﻃﻰ ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺣﻜﻮﻣﺘﻪ اﻟﻨﻔﻘﺎت اﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﱰف وﻻ ﻳﺰدﻫﻴﻪ ﻋﺰة اﻟﺴﻠﻄﺎن؛ ﻷن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬه ﻣﻦ اﻷﻣﻮال ﻫﻮ املﻘﺪار اﻟﺬي ﻳﻜﻔﻲ ﻟﺤﺎﺟﺎﺗﻪ وﺣﺎﺟﺎت ﺣﺎﺷﻴﺘﻪ اﻟﴬورﻳﺔ. أﻣﺎ أﺧﻼﻗﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻓﺤﺪﱢث ﻋﻦ اﻟﺮوض وﻻ ﺣﺮج؛ ﻛﺮم ،وذﻛﺎء ،وﻓﻄﻨﺔ ،وﻧﺠﺎﺑﺔ، وﺗﻮاﺿﻊ ﰲ ﻣﻬﺎﺑﺔ ،وﺑُﻌﺪ ﻧﻈﺮ ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﻌﻮﻳﺼﺔ اﻟﺤﻞ ،وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻫﻮ ﻛﴪى ﰲ ﻋﺪﻟﻪ ،وﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎب ﰲ ﺷﺪة اﻟﻌﺎرﺿﺔ وإﺑﺎء اﻟﻨﻔﺲ ،وﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ ﰲ ﻋﻔﺘﻪ. وﻟﻢ ﻳﺘﻜﻞ ﻋﲆ أن ﺑﻼده ﺳﺎﺋﺮة ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ اﻟﺪﺳﺘﻮر واﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﻳﺮاﻗﺐ أﺣﻮال اﻟﺤﻜﺎم ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺴﺪاد ،وﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﺷﺌﻮن اﻟﺮﻋﻴﺔ ﺟﻠﻴﻠﻬﺎ وﺣﻘريﻫﺎ ﻧﻈﺮ اﻷب اﻟﺸﻔﻴﻖ ﰲ أﺣﻮال أﺑﻨﺎﺋﻪ اﻷﻣﻨﺎء املﺨﻠﺼني. وﻣﻤﺎ اﻣﺘﺎز ﺑﻪ أﻧﻪ إذا ﺣﴬ ﻣﺠﻠﺴﻪ أﺣ ٌﺪ ﺧﺮج وﻫﻮ ﻳﺘﻐﻨﱠﻰ ﺑﻤﺪﺣﻪ ﻋﲆ ﻟﻄﻒ ﺣﺪﻳﺜﻪ، واﻟﺒﴩ اﻟﺬي ﻳﻼﻗﻲ ﺑﻪ زاﺋﺮﻳﻪ ﻷﻧﻪ ﻳﺤﺎدث ﻛ ﱠﻞ إﻧﺴﺎن ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻮﻇﻴﻔﺘﻪ ﰲ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﻬﻮ ﺗﺎﺟﺮ ﻣﻊ اﻟﺘﺠﺎر ،وزارع ﻣﻊ اﻟﻔﻼﺣني ،وﺳﻴﺎﳼ ﻣﻊ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴني وﻫﻠ ﱠﻢ ﺟ ٍّﺮا. وﻣﻦ ﻫﺬه اﻷوﺟﻪ ﻳﺼﺢﱡ أن ﻳﻘﺎل إن املﻴﻜﺎدو ﻓﺮ ٌد ﺟﻤﻊ ﷲ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ: أن ﻳﺠﻤﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻲ واﺣﺪ
وﻟﻴﺲ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺑﻤﺴﺘﻨﻜﺮ
ﻓﻬﻜﺬا ﺗﻜﻮن املﻠﻮك ﻷن املﻠﻚ ﻻ ﻳﻤﻸ اﻟﻌﺮش ﱠإﻻ إذا ﻛﺎن ﻋﻘﻠﻪ ﻳﻮازي ﻋﻘﻞ أﻣﺘﻪ ﺑﺄﺟﻤﻌﻬﺎ. 83
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وأﻣﺎ أﺧﻼﻗﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺮﻋﻴﺘﻪ ﻓﻬﻮ ﻛﻤﺎ ﻗﻠﺖ ﻛﺎﻷب اﻟﺒﺎر ﺑﺎﻷﺑﻨﺎء اﻷﻣﻨﺎء املﺨﻠﺼني ،وﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني أﺣﺪ ﺣﺠﺎﺑًﺎ إذا ﻋﺮض ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻜﻮى أو رﻓﻊ إﻗﺎﻣﺔ دﻋﻮى ،ﻓﺈن وﺟﺪ ﻟﺬﻟﻚ ﻣﺨﻠﺼﺎ أﺳﻌﻔﻪ ﰲ اﻟﺤﺎل ﺑﺎﻹﻧﺼﺎف ﱠ ً وإﻻ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺪه وﻋﺪ اﻟﻮﰲ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﰲ أﻣﺮه ﻋﻨﺪ ﺳﻨﻮح اﻟﻔﺮﺻﺔ. وﻫﻮ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻜﻠﻒ ﺑﺘﻌﻬﺪ أﺣﻮال ﺣﺎﺷﻴﺘﻪ ﰲ ﻗﴫه ﻻ ﻓﺮق ﺑني اﻟﺼﻐري واﻟﻜﺒري ﻓﻴﻬﻢ، وإذا ﻣﺮض أﺣﺪﻫﻢ ﻓﻼ ﻳﻬﺪأ ﻟﻪ ﺑﺎل ،ﺣﺘﻰ ﻳﺮاه وﻳﻮﴆ اﻟﺤﻜﻤﺎء ﺑﺎﻻﻋﺘﻨﺎء ﰲ ﻣﺪاواﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﺻﻴﻬﻢ ﻋﲆ أﻗﺮب اﻷﻗﺮﺑﺎء ﻟﺪﻳﻪ ،وﻗﺪ ﴐب اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن املﺜﻞ ﰲ ﺣﺒﱢﻪ ﻓﻘﺎﻟﻮا» :ﻓﻀﻴﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﺣﺐ املﻴﻜﺎدو «.وﻫﻢ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﺨﺮون ﺑﻪ ﻓﻜﺬﻟﻚ ﻫﻮ ﻳﺤﺒﻬﻢ وﻳﻔﺨﺮ ﺑﻬﻢ ،وﻗﺪ أﻋﻠﻦ ﻫﺬا اﻟﻔﺨﺮ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﰲ املﻸ؛ ﺣﻴﺚ أﺻﺪر ﻣﻨﺸﻮ ًرا ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ﻫﺬا ﻣﻌﻨﺎه: »أﻳﺘﻬﺎ اﻷﻣﺔ اﻟﺤﻴﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ إﻧﻚ ﻛﻤﺎ ﺗﻔﺨﺮﻳﻦ ﺑﻲ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻛﺬﻟﻚ أﻓﺨﺮ ﺑﻚ ﻋﲆ ﺳﺎﺋﺮ ﻋﻤﻞ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻗﻴﻚ ﻣﺎدﻳٍّﺎ ،وأدﺑﻴٍّﺎ؛ ﻷﻧﻲ و ََﻗ ْﻔ ُﺖ ﻛ ﱠﻞ اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ،وإﻧﻲ ﻻ أدﱠﺧﺮ وﺳﻌً ﺎ ﻣﻦ ِ ﻗﻮاي ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ،وإﻧﻲ ﻷرﻓﺾ ﻧﺼﺢ ﻧﺎﺻﺢ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺮ ﻓﻴﻪ ﻧﻔﻊ ﻟﻠﻮﻃﻦ ،ﻓﺈن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ ﰲ ﻣﺤ ﱢﻠﻬﺎ ﻗﺒﻠﺘﻬﺎ وإن ﺣﺼﻞ ﺳﻮء ﺗﻔﺎﻫﻢ ﺑﻴﻨﺖ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺪاﻋﻲ إﱃ ﻋﺪم اﻟﻘﺒﻮل، ﻓﺈن رﺿﻴﺘﻢ ﻓﺒﻬﺎ وﻧﻌﻤﺖ ،وإن أﺑﻴﺘﻢ ﻓﺒﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻜﻢ ﴍﻳﻌﺔ »ﻛﻮﻧﻮﻓﻮﺷﻴﻮس« )وﻫﻮ ﻣﻌﺒﻮد ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن( ،ﻓﺄﻋﻴﻨﻮﻧﻲ ﻋﲆ ﺗﺪﺑري املﻤﻠﻜﺔ ﺑﺎﻟﻄﺎﻋﺔ واﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎن أرﻗﻰ اﻷﻣﻢ وأﺳﻌﺪﻫﺎ ،وإﻧﻲ ﻛﻔﻴﻞ ﺑﺮ ﱢد املﻈﺎﻟﻢ ،وإﻧﺼﺎف املﻈﻠﻮم ﻣﻦ اﻟﻈﺎﻟﻢ«. ﻫﺬا ،وﺳﻴﺄﺗﻲ اﻟﻜﻼم ﰲ ﻏري ﻫﺬا املﺤﻞ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم املﻴﻜﺎدو ﺑﺠﻨﻮده ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ ،وﻣﻨﻪ ﻳُﻌ َﻠﻢ ﻣﻘﺪار اﻋﺘﻨﺎء ﻫﺬا اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﺑﺸﺌﻮن رﻋﻴﺘﻪ. وإن ﻣﻠ ًﻜﺎ ﻫﺬه أوﺻﺎﻓﻪ وﻫﺬه ﺳريﺗﻪ ﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺄن ﺗﺤﺎﻟﻔﻪ دوﻟﺔ إﻧﻜﻠﱰا ،وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ،ﻓﺈن اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﻣﺘﺴﻮﻫﻴﺘﻮ« ﻫﻮ أﻓﻀﻞ املﻠﻮك ً ﻋﻘﻼ وأﺑﻌﺪﻫﻢ ﻧﻈ ًﺮا وأﺣﺒﻬﻢ إﱃ رﻋﺎﻳﺎﻫﻢ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن. ﱢ املﺒﴩﻳﻦ املﺴﻠﻤني ) (38اﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ ملﺎ وﻓﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ووﺻﻠﻨﺎ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﺷﺎع ﺧﱪ وﺻﻮﻟﻨﺎ ﺑني ﱢ املﺒﴩﻳﻦ املﺴﻠﻤني واملﺴﻴﺤﻴني، وﻛﺎن ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ أﺣﺪ ﻋﻠﻤﺎء وﻓﻀﻼء ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﻬﻨﺪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ وﻫﻮ ﴍﻳﻒ اﻟﻨﺴﺐ ،ﻓﺠﺎء إﻟﻴﻨﺎ وأﻇﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﺑﴩًا زاﺋﺪًا وارﺗﻴﺎﺣً ﺎ ﻣﻦ ﺣﻀﻮرﻧﺎ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن، وأﺧﱪﻧﺎ أﻧﻪ َﻗ ِﺪ َم إﱃ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺔ ﺑﻌﺾ أﻓﺎﺿﻞ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﻬﻨﺪ ﻟﻠﺘﺒﺸري ﺑﺎﻹﺳﻼم، وأن ﻟﻪ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﻤﺴﺔ ﺷﻬﻮر وﻫﻮ ﻣُﺘﺸﻮﱢق إﱃ ﻣَ ﻦ ﱢ ﻳﻌﻀﺪه وﻳﺴﺎﻋﺪه ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﰲ ﻧﴩ 84
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻟﻮاء اﻹﺳﻼم وﻟﻢ ﻳﺠﺪ أﺣﺪًا؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﻘﺎﳼ ﻣﺘﺎﻋﺐَ ﺷﺘﱠﻰ ﺷﺄن املﻨﻔﺮد ﰲ ﻋﻤﻞ ﺟﻠﻴﻞ ً وﻓﻌﻼ ﺗ ﱠﻢ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻣُﻌِ ني ،ﻓﺎﺗﻔﻘﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﲆ أن ﻧﻜﻮن ﻳﺪًا واﺣﺪة وأن ﻧﺆ ﱢﻟﻒ ﺟﻤﻌﻴﺔ، اﻻﺗﻔﺎق وﺻﺎر ﻫﻮ اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻟﻨﺎ. ٍّ ٍّ ﻟﺴ ْﻜﻨﺎﻧﺎ ً ﻣﺤﻼ ُ ﻣﺤﻼ أوﻻ ،وﻟﻴﻜﻮن وﺑﻌﺪ ﻫﺬا اﻻﺗﺤﺎد واﻻﺗﻔﺎق ﻗ ﱠﺮرﻧﺎ أن ﻧﺴﺘﺄﺟﺮ ﻟﻠﺠﻤﻌﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴًﺎ ،ﺛﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﺧﺬﻧﺎ ﻧﺒﺤﺚ ﻋﲆ املﺤ ﱢﻞ املﻮاﻓﻖ ،وﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺒﺤﺚ ﺣﺼﻞ اﻟﺘﻌﺎرف ﺑني ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ وﺑني رﺟﻞ ﻳﺎﺑﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻫري اﻟﺘﺠﺎر ﺑﻄﻮﻛﻴﻮ ﻳُﺪﻋَ ﻰ املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« وﻫﻮ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﻄﻨﺔ واﻟﺬﻛﺎء وﻃﻴﺐ اﻟﻨﻔﺲ وﻛﺮم اﻷﺧﻼق. وﺻﺎدف أﻧﻪ ﺳﺄل ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﻦ اﻟﻐﺮض ﻣﻦ أﺧﺬ املﻨﺰل ،ﻓﻌ ﱠﺮﻓﻪ ﺑﺄﻧﻨﺎ ً ﻣﻨﺰﻻ ﻟﻠﺴﻜﻨﻰ وﻟﻠﺠﻤﻌﻴﺔ ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻷرﻳﺤﻲ ﱠإﻻ ﻣﺴﻠﻤﻮن ،وﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﺄﺧﺬ أن ﻃﻠﺐ ﻣﻦ ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني أن ﻳﻘﺎﺑﻠﻪ ﻣﻌﻨﺎ ،وملﺎ ﺣﴬ ﻣﻌﻪ ﻗﺎﺑﻠﻨﺎ ﺑﺎﻟﱰﺣﻴﺐ وملﺎ اﺳﺘﻘﺮ ﺑﻪ ا ُملﻘﺎم ﻃﻠﺐ ﻣﻨﺎ أن ﻧﴩح ﻟﻪ ﻗﻮاﻋﺪ اﻹﺳﻼم ،ﱢ وﻧﺒني ﻟﻪ أﻣﺮ ﺗﻔﻀﻴﻠﻪ ﻋﲆ ﺳﺎﺋﺮ اﻷدﻳﺎن ،ﻓﻜﺎن ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻳﱰﺟﻢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﻣﺎ ﺗُﻘ ﱢﺮره ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ،ﻓﻠﻤﺎ وﻗﻒ ﻫﺬا اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وذاق ﺣﻼوﺗﻪ ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺒﺚ ﱠإﻻ رﻳﺜﻤﺎ أن ﻗﺎل ﻟﻨﺎ :اﻋﺘﱪوﻧﻲ ﻣﻦ اﻵن ﰲ ﻋﺪاد املﺴﻠﻤني ،ﻓﻠﻘﻨﱠﺎه اﻟﺸﻬﺎدة وﻫﻨﺄﻧﺎه ﻋﲆ ﺧﺮوﺟﻪ ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻤﺎت إﱃ ﻧﻮر اﻹﻳﻤﺎن وﺑﺬﻟﻚ ﺣﺼﻞ ﻟﻨﺎ ﻛﻠﻨﺎ اﻟﴪور اﻟﺘﺎم واﺳﺘﺒﴩﻧﺎ ﺑﻨﺠﺎح اﻵﻣﺎل، وﺑﻌﺪ أن أﺳﻠﻢ ﻗﺎل ﻟﻨﺎ :إﻧﻲ ﰲ اﺳﺘﻌﺪاد ﺗﺎ ﱟم إﱃ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﺗﻜﻠﻔﻮﻧﻨﻲ ﺑﻪ ﻣﻦ املﺼﺎﻟﺢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻲ ﺗﱪﱠﻋﺖ ﻟﻜﻢ وﻟﺠﻤﻌﻴﺘﻜﻢ ﺑﻤﻨﺰل ﻫﻮ ﻣﻠﻚ ﱄ ﻻ أﻃﻠﺐ ﻣﻨﻜﻢ أﺟﺮﺗﻪ ﻣﺎ دﻣﺘﻢ ﻫﻨﺎ ،وﻫﺬا ﻛﻠﻪ إﻛﺮام ﻟﻬﺬا اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺑﺎﻋﺘﻨﺎﻗﻲ إﻳﺎه أﺻﺒﺤﺖ أﺳﻌﺪ اﻟﺴﻌﺪاء. ِﻤﻲ ،ودَﻋَ ﻮْﻧﺎ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺘﻮﻓﻴﻖ وﺻﺎر ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻛﻠ ًِﻔﺎ ﺑﻨﺎ ﻓﻘﺎﺑﻠﻨﺎه ﺑﺎﻟﺸﻜﺮ ﻋﲆ ﻛﺮﻣﻪ اﻟﺤﺎﺗ ﱢ ﻻ ﻳﻔﺎرﻗﻨﺎ ﱠإﻻ ﰲ اﻷوﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻀﻄﺮ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﻣﻔﺎرﻗﺘﻨﺎ ،ﺛﻢ ﻗﺎم ﰲ اﻟﺤﺎل وأﻋ ﱠﺪ ﻟﻨﺎ املﻨﺰل وأﺣﴬ ﻟﻨﺎ ﺧﺎدﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺰﻻء اﻷﻣﺮﻳﻜﺎﻧﻴني ،أﻣﺎ املﻨﺰل ﻓﻬﻮ دور واﺣﺪ وﻟﻜﻨﻪ ﻣﺰﺧﺮف اﻟﺒﻨﺎء ،وﻛﻠﻪ ﻣﻔﺮوش ﺑﺄﻓﺨﺮ اﻟﻔﺮاش وﺑﻪ ﺻﺎﻟﻮن ﻓﺴﻴﺢ ﺟﻌﻠﻨﺎه ﻣﺤ ﱠﻞ اﻧﻌﻘﺎد اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ، واملﻨﺰل ﰲ ﺷﺎرع »ﺑﺎﻟﻴﺴﺘﻴﻮ« ﻓﺄﻗﻤﻨﺎ ﻓﻴﻪ ﻃﻮل املﺪة اﻟﺘﻲ أﻗﻤﻨﺎﻫﺎ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن.
85
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (39ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ملﺎ ﺗ ﱠﻢ اﻻﺗﻔﺎق ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﺣﴬات ﻣﻦ ذُﻛِﺮوا ﻋﲆ ﻋﻘﺪ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﻟﻢ ﻧﻘﺒﻞ أن ﻧﻨﺘﻘﻞ ﰲ اﻟﺒﻼد ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻏريﻧﺎ ﻣﻦ املﺒﴩﻳﻦ ﺑﻞ ﻋﺰﻣﻨﺎ أن ﻻ ﻧﻐﺎدر اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ واﻟﺘﺒﺸري ﻳﻜﻮن ﰲ املﻨﺰل املﺘﻘﺪﱢم ،وأن ﻳﻜﻮن اﻟﺪﺧﻮل ﻣﺒﺎﺣً ﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﻦ أيﱢ ﺟﻨﺲ ﻛﺎن وﻣﻦ أيﱢ ﻣﺬﻫﺐ ﻛﺎن ،واﻧﻌﻘﺎد اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﻛﺎن ً ﻟﻴﻼ ،وأول اﻧﻌﻘﺎد ﻟﻬﺎ ﻛﺎن ﻗﺎﴏًا ﻋﲆ إﻟﻘﺎء ﺧﻄﺒﺔ ﺑﻴﱠﻨﱠﺎ اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻷﺟﻠﻪ َﻗﺪِﻣﻨﺎ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،ﻓﺮﺗﱠﺒﻨﺎ اﻟﺨﻄﺒﺔ ﺑﺎﺗﻔﺎﻗﻨﺎ وﺗﺮﺟﻤﻬﺎ ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ،وأ ُ ِ ﻋﻄﻴﺖ إﱃ املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ﻷﺟﻞ ﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وإﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﻧﺎﺋﺒًﺎ ﻋﻨﱠﺎ ،وﻛﻨﺎ ﻗﺪ ﻋ ﱠﺮﻓﻨﺎه اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﻧﻌﻘﺪ ﻓﻴﻪ أول ﺟﻠﺴﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ، ً ﺑﻌﻀﺎ ﺣﺘﻰ ﱠ ﻏﺺ ﺑﻬﻢ املﻜﺎن وﺑﻌﺪ ﻓﻤﺎ ﺟﺎء املﻴﻌﺎد ﺣﺘﻰ أﻗﺒﻞ اﻟﻨﺎس ُزﻣ ًﺮا ﻳﺘﻠﻮ ﺑﻌﻀﻬﻢ أن أﺧﺬ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻜﺎﻧﻪ وﻗﻒ ﺣﴬة املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« وأﻟﻘﻰ اﻟﺨﻄﺒﺔ وﻫﺬا ﻧﺼﻬﺎ: ﺑﺴﻢ ﷲ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺮﺣﻴﻢ ﱠ وﺻﲆ ﷲ ﻋﲆ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ وﻋﲆ آﻟﻪ وﺻﺤﺒﻪ وﺳﻠﻢ وﺑﻌﺪُ ،ﻓﺈن ﺣﻀﻮرﻧﺎ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن وﺗﺤﻤﱡ ﻠﻨﺎ املﺸﺎق اﻟﻌﺪﻳﺪة املﺘﻨﻮﻋﺔ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻷﺟﻞ دﻧﻴﺎ ﻧ ُ ِﺼﻴﺒﻬﺎ ،أو ﻓﺎﺋﺪة ﻣﺎدﻳﺔ أو أدﺑﻴﺔ ﺳﻮى ﻫﺪاﻳﺘﻜﻢ ﻳﺎ أﻫﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎن إﱃ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ ،وﻧﺰع اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﻔﺎﺳﺪة ﻣﻦ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ ﻟِﻴﺤ ﱠﻞ ﻣﺤ ﱠﻠﻬﺎ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎهلل وﺣﺪه ﻻ ﴍﻳﻚ ﻟﻪ ﰲ ﻣﻠﻜﻪ .وإﻧﻜﻢ ﻟﻮ ﻋﺮﻓﺘﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،ﻟﻌﺪدﺗﻢ ﻣﺠﻴﺌﻨﺎ ﻫﺬا ً ﻣﻨﺔ ﻛﱪى ﻣﻦ ﷲ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻟﻴﺨﺮﺟﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻤﺎت إﱃ اﻟﻨﻮر، وﻟﻌﺪدﺗﻤﻮﻫﺎ ﻟﻨﺎ ﺣﺴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﺎوم ﺑﺸﻜﺮان. إن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺳﻨﺒﻴﱢﻨﻪ ﻟﻜﻢ ،ﻫﻮ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺰل ﻳﻨﺘﴩ ﰲ اﻷرض وﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﻓﻴﻪ ﺗﻐﻴري وﻻ ﺗﺒﺪﻳﻞ ﻣﻦ ﻳﻮم ﻇﻬﻮره إﱃ اﻵن؛ ﻳﻌﻨﻲ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﴩ ﻗﺮﻧًﺎ ورﺑﻌً ﺎ ،ﻣﻊ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﺑني املﺴﻠﻤني ﻣﻦ ﻗﺎم ﺑﺎﻟﺘﺒﺸري ﺑﻬﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻻ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻨني ،وﻻ ﰲ اﻟﺴﻨني اﻟﻐﺎﺑﺮة ،واﻟﴪ ﰲ ذﻟﻚ ﻫﻮ أﻧﻪ دﻳﻦ اﻟﻌﻘﻞ ،واﻟﻌﻘﻞ ﻣﺘﻰ ﻣﺎ وﺿﺢ ﻟﺪﻳﻪ اﻟﱪﻫﺎن ،ﻗ ِﺒﻞ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ املﺴﺘﻔﺎدة ﻣﻦ اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ املﻘﺪﻣﺎت ،وﺣﺴﺒﻨﺎ ﺷﺎﻫﺪًا ﻋﲆ ذﻟﻚ أن أﻏﻠﺐ املﺘﺪﻳﻨني ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻳﻘ ﱡﺮون وﻳﻌﱰﻓﻮن ﺑﺄن دﻳﻦ اﻹﺳﻼم ﻟﻢ ﻳﱰك ﺻﻐرية وﻻ ﻛﺒرية ﱠإﻻ أﺣﺼﺎﻫﺎ ﻣﻦ أﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﺎ ،ﻓﻬﻮ إذن دﻳﻦ املﺪﻧﻴﺔ واﻟﻌﺪل واملﺴﺎواة ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻮ وﺿﻌﻨﺎ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ وﺗﺄﻣﱠ ﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﺎ ﺗﻀﻤﻨﻪ ﻣﻦ املﻮاد ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﻮر املﺘﻌﻠﻘﺔ 86
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺑﻨﻈﺎم اﻟﺸﻌﻮب ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺤﻘﻮق املﺪﻧﻴﺔ واﻟﺠﻨﺎﺋﻴﺔ ،ﺛﻢ ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ أﺣﻜﺎم دﻳﻦ اﻹﺳﻼم؛ ﻷﻟﻔﻴﻨﺎه اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺣﻮى ﻛ ﱠﻞ أﻧﻮاع اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﺑﻪ ﺗﺒﺎﻳﻨﺖ املﺸﺎرب واﻟﻌﺎدات ﺑﺨﻼف اﻟﻘﻮاﻧني اﻷﺧﺮى ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﺗﻜﻮن ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ اﻷﺧﻼق واﻟﻌﻮاﺋﺪ املﺨﺼﻮﺻﺔ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺮي ﻋﻠﻴﻪ أﻫﻞ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﰲ ﺗﻘﺴﻴﻢ املﻮارﻳﺚ. وﻟﻮ ﺗﺄﻣﻠﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﻜﻤﺔ ا ُملﻮدَﻋﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ رﻛﻦ ﻣﻦ أرﻛﺎﻧﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻬﺎدة ،وإﻗﺎم اﻟﺼﻼة ،وإﻳﺘﺎء اﻟﺰﻛﺎة ،واﻟﺼﻮم ،واﻟﺤﺞ ،ﻟﺮأﻳﻨﺎ أن اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ واﻷﺧﺮوﻳﺔ ﱢ ﻣﺘﻮﻗﻔﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﻬﺬه اﻷرﻛﺎن ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺒﻴﻨﻪ ﻟﻜﻢ ﰲ اﻟﺠﻠﺴﺎت اﻟﻘﺎدﻣﺔ. وإﻧﻨﺎ ﻧﻮرد ﻫﻨﺎ ﻧﺒﺬ ًة ﻷﺣﺪ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني ﻗﺎﻟﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ؛ ﻟﺘﻌﻠﻤﻮا أﻧﻪ دﻳﻦ املﺪﻧﻴﺔ وﻫﺬا اﻟﻔﺮﻧﺴﻮي ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ املﺴﻴﻮ »ﻫﻮذا« ﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه» :ﻻ ﻳﻮﺟﺪ اﻵن إﺣﺼﺎء َﻗ ْ ﻄﻌﻲ ﻳ ﱢ ُﻌني ﻣﻘﺪار ﻋﺪد املﺴﻠﻤني املﻨﺘﴩﻳﻦ ﰲ اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻗﺪﱠروا أن ﻋﺪد املﺴﻠﻤني ﻳﻨﺎﻫﺰ اﻟﺜﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻣﻠﻴﻮن ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻮس ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﻘﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻘِ ﱠﻠﺔ ﻻ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻜﺜﺮة ،ﻣﻊ أن اﻹﺳﻼم ﻇﻬﺮ ﰲ آﺳﻴﺎ واﻧﺘﴩ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ أﻧﺤﺎء املﻌﻤﻮرة ﺑﴪﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﻓﺪﺧﻞ أﻓﺮﻳﻘﻴﺔ وﴐب أﻃﻨﺎﺑﻪ ﻓﻴﻬﺎ ،ﺛﻢ دﺧﻞ آﺳﻴﺎ اﻟﻜﱪى وﻣﺎ زال ﻛﺬﻟﻚ ﺣﺘﻰ دﺧﻞ ﺑﻼدًا ﻛﺜرية ﰲ ﻣﺪة ﱠ ﺗﺼﻔﺤﻨﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻮﺟﺪﻧﺎ أن ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻫﻮ اﻟﻜﻔﻴﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ وﺟﻴﺰة ،وإﻧﻨﺎ إذا ﱢ ﻟﱰﻗﻲ اﻷﻣﻢ وﺳﻌﺎدﺗﻬﻢ ،وﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﺤﻖ ﻟﻨﺎ — ﻧﺤﻦ اﻟﻐﺮﺑﻴني — أن ﻧﻌﱰف ﻋﻦ ﻏري رﻳﺎء وﻻ ﻣﺮاء ﺑﺄن أﻫﻞ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻫﻢ أرﻗﻰ اﻷﻣﻢ وأﺣﺴﻨﻬﻢ ً ﺣﺎﻻ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﱢ ﺳﻨﺒني ﻟﻜﻢ أﻋﻈﻢ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ «.ﻫﺬا ﻛﻼم املﺴﻴﻮ »ﻫﻮذا« وإن ﺷﺎء ﷲ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺠﻠﺴﺎت اﻵﺗﻴﺔ. ) (40ﺟﻠﺴﺎت ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ملﺎ ﻋﻘﺪﻧﺎ أول ﺟﻠﺴﺔ وأﻟﻘﻰ اﻟﺨﻄﺒﺔ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ،أردﻓﻨﺎﻫﺎ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت اﻟﻮاﺿﺤﺔ ﻋﻦ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،وﻋ ﱠﺮﻓﻨﺎ اﻟﺤﻀﻮر ﻣﻌﻨﻰ اﻹﺳﻼم واﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﺗﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ ﻣﺒﺎدﺋﻪ ﺑﺎﻹﺟﻤﺎل ﺑﺼﻮرة ﺳﻬﻠﺔ اﻟﺘﻨﺎول ﻋﲆ اﻷﻓﻬﺎم ،وﺑﻌﺪ اﻧﻔﻀﺎض اﻟﻮﻗﺖ ا ُملﺤﺪﱠد ﻻﻧﻌﻘﺎد اﻟﺠﻠﺴﺔ ﻋﻴﱠﻨﱠﺎ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻌﻘﺪ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻬﺎ ،وملﺎ ﺟﺎء املﻴﻌﺎد رأﻳﻨﺎ ازدﺣﺎﻣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻋﻦ ذي ﻗﺒﻞ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﻮﺟﺪ ﻗﻴﺪ ﺷﱪ ﰲ املﻜﺎن ،وملﺎ ﺟﺎء 87
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻮﻗﺖ ﻻﻓﺘﺘﺎح اﻟﺠﻠﺴﺔ أﻋﻠﻨﱠﺎ ﺑﺎﻓﺘﺘﺎﺣﻬﺎ وأﺧﺬ املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ﻳُﻠﻘِ ﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﺎ رﺗﱠﺒﻨﺎه ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت واﻹﻳﻀﺎﺣﺎت ،وﻫﺬه ﻣﺄﺧﻮذة ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب واﻟﺴﻨﺔ وإﺟﻤﺎع اﻷﺋﻤﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻢ ﻧﺘﻌﻤﻖ ﰲ اﻹﻳﻀﺎح ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ رﺗﱠﺒﻨﺎه ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني واﻻﺳﺘﺸﻬﺎدات ﻻ ﻳﺨﺮج ﻋﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،وﻫﺬه اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﱰﺟَ ﻢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ واﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ،وﻛﺎن املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ﻳُﻠﻘﻲ اﻟﺘﻲ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﻮر ﻓﻤﻦ ﻋﺮف ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني إﺣﺪى ﻫﺎﺗني اﻟﻠﻐﺘني ﻛﻔﻰ ،وﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺮف ﱠإﻻ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺗُﱰﺟَ ﻢ ﻟﻪ ﺑﻠﻐﺘﻪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« اﻟﺬي أﺗﻘﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ إﺗﻘﺎﻧًﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ،وﻛ ﱡﻞ ﻣَ ﻦ وردت ﻋﻠﻴﻪ ﺷﺒﻬﺔ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ ً ً ﻛﺘﺎﺑﺔ ً أﻳﻀﺎ. ﻛﺘﺎﺑﺔ ،وﻛﻨﺎ ﻧُﺠﻴﺐ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﺳﻠﻬﺎ إﻟﻴﻨﺎ وﺑﻮاﺳﻄﺔ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻤ ﱠﻜﻨﺎ ﻣﻦ ﺗﻔﻬﻴﻢ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،وﻟﻮﻻ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ َ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ أﺣ ٌﺪ ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ وإﻧﻨﺎ ﻛﻨﱠﺎ ﻧﻔﺮغ ﺟﻬﺪﻧﺎ ﰲ اﺧﱰاع ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻨﻖ أﺳﻬﻞ اﻟﻄﺮق وأﻗﺮﺑﻬﺎ إﱃ اﻟﻔﻬﻢ ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺪﺧﻠﻮن ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﻜﺜﺮة ﻣﺎدﺣﻲ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﺎ. ً ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ زاد ﻋﺪد اﻟﺬﻳﻦ وﻫﻜﺬا ﻛﻨﱠﺎ ﻧﻔﻌﻞ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺟﻠﺴﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ زدﻧﺎﻫﻢ ﻳﻌﺘﻨﻘﻮﻧﻪ ﻣﻨﻬﻢ ،وﺑﺬﻟﻚ اﻧﺘﴩ ﺻﻴﺖ ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻋﺠﻴﺒًﺎ. وﻛﻨﺎ ﻧﺴﻤﻊ اﻟﺜﻨﺎء ﻋﲆ اﻹﺳﻼم ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﻨﻘﻮه؛ ﻷﻧﻪ دﻟﻬﻢ ﻋﲆ اﻹﻟﻪ اﻟﺤﻖ وأﺧﺮﺟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻤﺔ إﱃ اﻟﻨﻮر وأوﺿﺢ ﻟﻬﻢ اﻟﻨﻬﺞ اﻟﻘﻮﻳﻢ ،وأن ﺗﻠﻚ اﻟﺸﺒﻪ وﺗﻠﻚ اﻷﺟﻮﺑﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﻟﻮ اﺟﺘﻤﻊ ﻛ ﱡﻞ املﺒﴩﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ُ وﻓ ِﺮض أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻪ ملﺎ ﻗﺪروا ﻋﲆ أن ﻳﺮدوا ﺷﺒﻬﺔ واﺣﺪة ﻣﻨﻬﺎ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﻬﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻮﺧﻴﻨﺎﻫﺎ ﰲ إﻳﻀﺎح املﺒﻬﻢ وﺣ ﱢﻞ املﻌﻀﻞ وزوال اﻻﻟﺘﺒﺎس وﻧﻔﻲ اﻟﺮﻳﺐ. وﻟﻴﺲ اﻟﻔﻀﻞ ﻟﻨﺎ ﰲ اﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﻬﻠﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻌﻤﻠﻨﺎﻫﺎ ﰲ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﻗﻮاﻋﺪ اﻹﺳﻼم ،ﺑﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻟﻠﺴﻠﻒ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﺟﺰاﻫﻢ ﷲ ﻋﻦ اﻹﺳﻼم ﺧري اﻟﺠﺰاء. واﻟﺬي ﺳﻬﱠ ﻞ ً أﻳﻀﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻫﺪاﻳﺔ اﻟﻘﻮم إﱃ دﻳﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮﻳﻢ أن ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺳﺎﻋﺪت ﻛﺜريًا ﻋﲆ اﻋﺘﻨﺎق اﻹﺳﻼم؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻗﻮم ﻋﻨﺪﻫﻢ اﺳﺘﻌﺪاد ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻘﺒﻮل ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻮاﻓﻖ اﻟﻌﻘﻞ وﻧﻔﻲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﺎﻟﻔﻪ ﻣﻬﻤﺎ أﺛﺒﺘﻮه ﺑﺠﻤﻴﻊ أوﺟﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺔ واملﻮارﺑﺔ. ٍ وأول دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﰲ اﺳﺘﻌﺪادٍ ﻛﺎف ﻟﻘﺒﻮل اﻷوﺻﺎف اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺣﺒﱡﻬﻢ ﻟﻮﻃﻨﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺤﺐ اﻟﻨﺎدر املﺜﺎل؛ ﻷن ﻣﻦ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر ﻓﻴﻪ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻓﻬﻮ أﻗﺮب إﱃ اﻟﻬﺪى ﻣﻦ اﻟﻀﻼل واﻟﺮﺷﺪ ﻣﻦ اﻟﻐﻲ. 88
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻠﻮ ﻛﺎن املﺴﻠﻤﻮن أرﺳﻠﻮا وﻓﻮدﻫﻢ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻗﺒﻞ ﻫﺬا اﻷوان ،واﺳﺘﻌﻤﻠﻮا ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻌﻤﻠﻨﺎﻫﺎ ﻟﻜﺎن املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻨﻬﻢ اﻵن ﻳُﻌﺪون ﺑﺎملﻼﻳني ﻻ ﺑﺎﻷﻟﻮف. أﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﻨﻘﻮا اﻹﺳﻼم ﻋﲆ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻓﺒﻠﻎ ﻋﺪدﻫﻢ ﻧﺤﻮ اﻻﺛﻨﻲ ﻋﴩ أﻟﻒ رﺟﻞ ،ﻓﻠﻮ ﻛﺎن املﺒﴩون املﺴﻠﻤﻮن وﻓﺪوا إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﻦ زﻣﻦ ﻣﺪﻳﺪ ﻛﻤﺎ ﺑﻴﱠﻨﺖ ﻟﻜﺎن ﻋﺪد املﺴﻠﻤني أﺿﻌﺎف ﻫﺬا اﻟﻌﺪد ﺑﻜﺜري ،وﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ أﺳﻠﻤﻮا ﻋﲆ ﻳﺪﻧﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻜﺎم واﻟﺘﺠﺎر املﻌﺘﱪﻳﻦ وذوي اﻟﺤﻴﺜﻴﺎت ،وﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻮﺳﻂ ﰲ اﻷﻣﺔ ،وأول ﻣﻦ أﺳﻠﻢ ﻋﲆ ﻳﺪﻧﺎ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ،ﺛﻢ »أﺗﺮاﻟﻜﻴﺒﻮ« ،و»اﻧﺴﺎﺗﻠﻴﺰﺑﻮ« ،و»ﻛﻮرﻓﺎري« ،وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻮ ﻛﺘﺒﻨﺎ أﺳﻤﺎءﻫﻢ ﻻﺣﺘﺠﻨﺎ إﱃ ﻣﺠﻠﺪ ﺿﺨﻢ ،وﻣﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳ ُِﺮ ْد ﺗﻐﻴري اﺳﻤﻪ اﻷﺻﲇ وﻻ ﺗﻐﻴري اﺳﻢ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ ﻓﻌ ﱠﺮﻓﻨﱠﺎﻫﻢ أن ﻫﺬا ﻻ ﴐر ﻓﻴﻪ ،واﻟﺬﻳﻦ ﻟﻬﻢ زوﺟﺎت ﺗﺪﻳﻦ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻟﻢ ﻳﻐريﻧَﻪ ،ﻓﻌﺮﻓﻨﱠﺎﻫﻢ ً أﻳﻀﺎ أن ﻫﺬا ﺟﺎﺋﺰ ﰲ اﻹﺳﻼم ،واﻟﺬﻳﻦ ﻟﻬﻢ زوﺟﺎت ﺑﺎﻗﻴﺎت ﻳ ُِﺮد َْن أن ﱢ ْ ﻋﲆ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﻔﺎﺳﺪة ﻋﺮﻓﻨﱠﺎﻫﻢ أن اﻹﺳﻼم ﻳﺄﺑﻰ ذﻟﻚ ﻛ ﱠﻞ اﻹﺑﺎء ،ﻣﻊ أﻧﻨﺎ وﻃﺪﻧﺎ اﻷﻣﻞ ﺑﺄن ْ ﺳﻴﻌﺘﻨﻘ َﻦ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻗﺮﻳﺒًﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻫﻦ ﻣﻄﻴﻌﺎت ﻣُﺤﺒﺎت ﻟﺒﻌﻮﻟﻬﻦ. املﺴﻴﺤﻴﺎت وﻏريﻫﻦ ﻫﺬا ،وﻗﺪ ﻋﻘﺪﻧﺎ ﺟﻠﺴﺎت ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺜﻤﺎﻧﻲ ﻋﴩة ﻣﺮة ،وﻛﻞ ﻣﺮة ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻨﻖ اﻹﺳﻼم اﻟﺨﻠﻖ اﻟﻜﺜري ﻛﻤﺎ ﺑﻴﱠﻨﺎ ،وملﺎ ﻋﺰﻣﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺮ رﻏﺐ ﺣﴬﺗﺎ اﻟﻔﺎﺿﻠني اﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد ،واﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ ﰲ اﻟﺒﻘﺎء ﻫﻨﺎك ،ﺣﺘﻰ ﻳﺒﺬﻻ اﻟﺠﻬﺪ ﰲ اﻟﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،وﻋﺮﻓﺎ أﻧﻬﻤﺎ ﺳﻴﻤﻜﺜﺎن ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺘﺔ أﺷﻬﺮ ،واﻟﺬي ﻳﻌﺮف أﺧﻼق وﻋﻮاﺋﺪ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﻫﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ذﻛﺎء اﻟﻘﻠﺐ وﻧﻮر اﻟﺒﺼرية ،ﻳﺠﺰم ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺄﺗﻲ زﻣﻦ وﺳﻨﱠﺔ اﻟﺘﺪرﻳﺞ ً ﻗﺮﻳﺐ ﺣﺘﻰ ﻳُﺮى ﻣﻨﻬﻢ املﺴﻠﻤﻮن أﺿﻌﺎف املﺴﻴﺤﻴني ُ أﻳﻀﺎ ﺗﻘﴤ ﺑﺬﻟﻚ. ) (41اﻹﺳﻼم ملﺎ أﺧﺬﻧﺎ ﻧُﻮﻗِﻒ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ ﺟﻠﺴﺎت ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وﻣﺎ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ، وﻛﻨﱠﺎ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻻ ﻧﺨﺮج ﺑﻬﻢ إﱃ اﻟﺘﻄﻮﻳﻞ ،ﺑﻞ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺑﻴﱠﻨﺎه ﻟﻬﻢ ﻫﻮ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺑﺎﻟﻎ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وأول ﳾء ﻋﺮﻓﻮه ﻫﻮ اﻹﺳﻼم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺳﻬﻠﺔ وﻫﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﻨﺎه ﺑﺎﻹﺟﻤﺎل :إن ﻫﺬا ً ﻧﺎﺳﺨﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ اﻟﴩاﺋﻊ املﺘﻘﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺚ ﺑﻬﺎ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺑﻌﺚ ﺑﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﷺ ﺟﺎء اﻷﻧﺒﻴﺎء واملﺮﺳﻠﻮن ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻗﺪ ﺣﻮى ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ وﻣﻌﺎدﻫﻢ وﺳﻌﺎدﺗﻬﻢ وإرﺷﺎدﻫﻢ إﱃ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺨريات واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ واﻟﺘﻬﺬﻳﺐ ﻟﻠﻨﻔﻮس واﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃُ : ِﻳﻦ ا ْﻟﺤَ ﱢﻖ﴾. ﴿ﻫ َﻮ ا ﱠﻟﺬِي أ َ ْر َﺳ َﻞ َر ُﺳﻮ َﻟ ُﻪ ِﺑﺎ ْﻟﻬُ ﺪَى َود ِ 89
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ً ﻧﺎﺳﺨﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ دﻳﻦ ﺗَﻘﺪﱠﻣﻪ ،وﻛﺎن ﻟﻢ ﻳﺰل ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﺘﺪﻳﱢﻦ وملﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ َ ْ ْ ﺑﺪﻳﻦ ﻏريه أﻗﺎم ﷲ اﻟﺤﺠﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﻘﻮﻟﻪ﴿ :إ ِ ﱠن اﻟﺪ َ ﱢﻳﻦ ﻋِ ﻨ َﺪ ِ اﻹ ْﺳﻼمُ﴾؛ أي إن ﻛ ﱠﻞ ﻣﻦ ﻟﻢ ﷲ ِ ﻳﺘﺒﻊ اﻹﺳﻼم ﻓﻬﻮ ﻛﺎﻓﺮ ﺑﺎهلل ورﺳﻮﻟﻪ وﺑﺎﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي أﻧﺰل ﻣﻦ ﻋﻨﺪه ،وﻗﺪ ﺷﺪﱠد ﷲ اﻟﻮﻋﻴﺪ ملﻦ ﺣﺎد ﻋﻨﻪ وﺗﺪﻳﱠﻦ ﺑﻐريه ،وأﻧﺬره ﺑﺎﻟﺨﴪان املﺒني ﻳﻮم اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ؛ إذ ﻳﻘﻮل ﺗﻌﺎﱃ﴿ :وَﻣَ ْﻦ ﺎﴎ َ ري ﻳﻦ﴾ ،وﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :أ َ َﻓ َﻐ ْ َ ﻳَﺒْﺘَ ِﻎ َﻏ ْ َ اﻹ ْﺳ َﻼ ِم دِ ﻳﻨًﺎ َﻓ َﻠ ْﻦ ﻳ ُْﻘﺒَ َﻞ ِﻣﻨ ْ ُﻪ و َُﻫ َﻮ ِﰲ ْاﻵﺧِ َﺮ ِة ِﻣ َﻦ ا ْﻟ َﺨ ِ ِ ري ْ ِ َات و َْاﻷ َ ْر ِض َ ﷲ ﻳَﺒ ُْﻐ َ ﻃﻮْﻋً ﺎ َو َﻛ ْﺮ ًﻫﺎ َوإ ِ َﻟﻴْ ِﻪ ﻳُ ْﺮﺟَ ﻌُ َ اﻟﺴﻤَ ﺎو ِ ﻳﻦ ِ ﻮن َو َﻟ ُﻪ أ َ ْﺳ َﻠ َﻢ ﻣَ ْﻦ ِﰲ ﱠ ﻮن﴾ ،أﻣﺎ دِ ِ ﻣﻦ أﺳﻠﻢ ﻃﻮﻋً ﺎ؛ أي اﻧﻘﺎد إﱃ اﻟﺘﺼﺪﻳﻖ ﺑﻬﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻃﺎﺋﻌً ﺎ ﻓﻬﻮ اﻟﺬي وُﻫِ ﺐ اﻟﻌﻘﻞ واﻹدراك و ُﻣﻨِﺢ ﻣﻦ ﻧﻮر اﻟﺒﺼرية ،ﻓﻌﺮف أﻧﻪ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ وﻟﻢ ﻳﺮﺗَﺐْ ﰲ ﳾء ﻣﻨﻪ ،ﻓﺂﻣﻦ ﺑﺎهلل واﻟﻴﻮم اﻵﺧﺮ وﺻﺪﱠق اﻟﺮﺳﻮل اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻪ واﻟﻘﺮآن ا ُملﻨ ﱠﺰل ﺑﺄﺣﻜﺎﻣﻪ ،وأﻣﺎ ﻣﻦ أﺳﻠﻢ ً ﻛﺮﻫﺎ ﻓﻬﻮ اﻟﺬي ارﺗﺎب ﻓﻴﻪ ﺛﻢ ﺟﺎءت اﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني ﻗﺎﻃﻌﺔ ﺑﺤﺠﺔ داﻣﻐﺔ ﻟﻜ ﱢﻞ ارﺗﻴﺎب ﰲ ﻗﻠﺒﻪ، ﺣﺘﻰ اﻧﻘﺎد ﻣﻘﻬﻮ ًرا ﺑﺎﻟﺤﺠﺔ إﱃ اﻻﻋﱰاف ﺑﺄﻧﻪ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ ،وأﻧﻪ اﻟﺮﺳﻮل املﺮﺳﻞ ﺑﻪ ً ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﷲ ٍّ ﺻﺪﻗﺎ .وﻗﺪ أﻧﻜﺮ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻋﲆ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﺒﻌﻮه ﺣﻘﺎ وأن اﻟﻘﺮآن ﻫﻮ ﻛﻼم ﷲ ﻻ ﻃﻮﻋً ﺎ وﻻ ً ﻛﺮﻫﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻗﺪ أﺳﻠﻢ وآﻣﻦ ﺑﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺮﺗﺎﺑﻮا ﻓﻴﻪ ﻃﻮﻋً ﺎ ﺑﻼ ﺟﺪال ،واﻟﺬﻳﻦ ُ ارﺗﺎﺑﻮا ً أوﻻ ﺛﻢ ﻗ ِﻬﺮوا ﺑﺎﻟﺤﺠﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﺠﺪال ﻣﻨﻬﻢ ﻓﺎﻋﱰﻓﻮا وﺻﺪﻗﻮا ،وﻣﻦ ﻛﺎن ﻳﺠﺪ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﻟﻠﺤﻖ ،ﻓﺈن ذﻟﻚ ﻻ ﻳﺘﺠﺎوز اﻟﺼﺪر وﻻ ﺗﻨﻄﻖ ﺑﻪ اﻟﺸﻔﺘﺎن ،وملﺎ ﻛﺎن اﻟﺪﻳﻦ ﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻃﺎﻋﺔ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ واﻟﻌﻤﻞ ﺑﺄواﻣﺮه واﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻧﻬﻰ ﻋﻨﻪ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺣﺚ ﷲ — ﺟ ﱠﻞ ﺷﺄْﻧُﻪ — ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻤﺴﺎك ﺑﻌﺮوﺗﻪ اﻟﻮﺛﻘﻰ ﻛ ﱠﻞ ﻧﺒﻲ ورﺳﻮل ،وذﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﺟﺎء ﱢﻳﻦ ﻣَ ﺎ و ﱠَﴅ ِﺑ ِﻪ ﻧُﻮﺣً ﺎ وَا ﱠﻟﺬِي أَوْﺣَ ﻴْﻨَﺎ إ ِ َﻟﻴْ َﻚ وَﻣَ ﺎ و ﱠ َﺻﻴْﻨَﺎ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃَ َ : ﴿ﴍ َع َﻟ ُﻜ ْﻢ ِﻣ َﻦ اﻟﺪ ِ ِﻴﴗ أ َ ْن أَﻗِ ﻴﻤُﻮا اﻟﺪ َ ﱢﻳﻦ و ََﻻ ﺗَﺘَ َﻔ ﱠﺮ ُﻗﻮا ﻓِ ﻴ ِﻪ﴾ ،واﻟﺬي ﱠ ُﻮﳻ َوﻋ َ ِﺑ ِﻪ إِﺑْ َﺮاﻫِ ﻴ َﻢ َوﻣ َ وﴅ ﺑﻪ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻫﺆﻻء اﻷﻧﺒﻴﺎء واملﺮﺳﻠني أوﱄ اﻟﻌﺰم ﻫﻮ ﻋﺒﺎدﺗﻪ وﺗﻮﺣﻴﺪه واﻟﻮﻗﻮف ﻋﻨﺪ ﻛ ﱢﻞ ﺣ ﱟﺪ رﺳﻤﻪ ﻟﻬﻢ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻪ ﻛ ﱡﻞ ﻧﺒﻲ ﻣﻨﻬﻢ ،وﻗﺪ ذﻛﺮ ﷲ ذﻟﻚ ﰲ ﻏري ﻫﺬا املﻮﺿﻊ ﻣﻦ اﻟﻘﺮآن ﻮل إ ِ ﱠﻻ ﻧُﻮﺣِ ﻲ إ ِ َﻟﻴْ ِﻪ اﻟﻜﺮﻳﻢ؛ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل وﻫﻮ أﺻﺪق اﻟﻘﺎﺋﻠني﴿ :وَﻣَ ﺎ أ َ ْر َﺳ ْﻠﻨَﺎ ِﻣ ْﻦ َﻗﺒْ ِﻠ َﻚ ِﻣ ْﻦ َر ُﺳ ٍ َ َ ُون﴾ ،وﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﺗﻌﺎﱃ ارﺗﴣ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ وﻟﻢ َ ﻳﺮض ﻏريه أﻧﺬر ﻛ ﱠﻞ أﻧ ﱠ ُﻪ َﻻ إ ِ َﻟ َﻪ إ ِ ﱠﻻ أﻧَﺎ َﻓﺎﻋْ ﺒُﺪ ِ ﻣﻦ ﺳﻌﻰ ﰲ اﻟﻌﺒﺚ ﺑﻪ واﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﻓﻴﻪ وﻋ ﱠ ﻄﻞ ﺣﺪوده وأﻣﺮ ﺑﺎﻟﺘﱪﺋﺔ ﻣﻨﻪ ،وﺷﺪﱠد ﻋﻘﺎﺑﻪ ﰲ اﻵﺧﺮة؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل﴿ :إ ِ ﱠن ا ﱠﻟﺬ َ ﳾءٍ إِﻧﱠﻤَ ﺎ أَﻣْ ُﺮ ُﻫ ْﻢ ِﻳﻦ َﻓ ﱠﺮ ُﻗﻮا دِ ﻳﻨَﻬُ ْﻢ َو َﻛﺎﻧُﻮا ِﺷﻴَﻌً ﺎ َﻟ ْﺴ َﺖ ِﻣﻨْﻬُ ْﻢ ِﰲ َ ْ ﷲ ﺛ ُ ﱠﻢ ﻳُﻨَﺒﱢﺌُﻬُ ْﻢ ِﺑﻤَ ﺎ َﻛﺎﻧُﻮا ﻳ َْﻔﻌَ ﻠُ َ إ ِ َﱃ ِ ﻮن﴾. وﻗﺪ أﺧﱪ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﰲ اﻟﺘﻮراة واﻹﻧﺠﻴﻞ ﺑﺄﻧﻪ ﺳﻴﺄﺗﻲ رﺳﻮل ﰲ آﺧﺮ اﻟﺰﻣﻦ ﺑﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼم ،وﻟﻜﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺪﻳﻨﻮا ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ ،واﻟﺬﻳﻦ ﺣﺮﻓﻮا اﻹﻧﺠﻴﻞ واﻟﺘﻮراة ﺣﺬﻓﻮا ﻣﻨﻪ ﻫﺬا 90
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻨﺒﺄ ﻟﺌﻼ ﻳﻔﺴﺪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﺎ ﻧﺰﻋﻮا إﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﻀﻼل واﻟﺘﻀﻠﻴﻞ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻮا ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﴿ﻣ َﻦ ا ﱠﻟﺬ َ املﻮاﺿﻊ اﻟﺘﻲ ﺣ ﱠﺮﻓﻮا ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻣﻮاﺿﻌﻪ وذﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﺟﺎء ﰲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃِ : ِﻳﻦ َﻫﺎدُوا ﻳُﺤَ ﱢﺮ ُﻓ َ ﻮن ا ْﻟ َﻜ ِﻠ َﻢ ﻋَ ْﻦ ﻣَ ﻮ ِ َاﺿﻌِ ِﻪ﴾. ) (42اﻹﺳﻼم دﻳﻦ اﻟﻔﻄﺮة ﺧﻠﻖ ﷲ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﻴﱠﺰه ﻋﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺤﻴﻮان ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﱢﺰ ﺑﻪ اﻷﺷﻴﺎء وﻳﻌﺮف اﻟﻀﺎر ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﻊ ،وﻳﻬﺘﺪي ﺑﻪ إﱃ ﻣﺎ ﻋﺴﺎه ﻳ ُْﺸﻜِﻞ ﻋﻠﻴﻪ أﻣ َﺮه ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻫﺬه املﻮﺟﻮدات ،ﻓﺈذن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ املﻴﺰان ،أو ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺣﺠﺮ اﻟﺼﺎﺋﻎ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﱢﺰ ﺑﻪ املﻌﺎدن ﻓﻴﻌﺮف اﻟﺬﻫﺐ ﻣﻦ اﻟﻨﺤﺎس واﻟﻔﻀﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺻﺎص. ﻓﺈذا ﻋﺮﻓﻨﺎ ﻫﺬا ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ﻳﻨﻜﺮ أن ﻟﻬﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ً ﺧﺎﻟﻘﺎ ﺧﻠﻘﻪ وﺻﻮره ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ،ﻓﺒﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ ﻳﻜﻮن ﻛ ﱡﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﺘﻔﻘني ﻋﲆ وﺟﻮب وﺟﻮد اﻟﺨﺎﻟﻖ؛ إذ ﻻ ﻳ َ ُﻌﻘﻞ أن ﻫﺬه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت أوﺟﺪت ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ملﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻓﺴﺎد اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ؛ ﻷن اﻟﺘﻐريات ﰲ اﻷﺷﻴﺎء واملﻮﺟﻮدات ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺆﺛﱢﺮ، وﻋﲆ ﻫﺬا ُرﺗﱢﺒﺖ اﻟﻘﻀﻴﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘُﺪل ﺑﻬﺎ ﻋﲆ وﺟﻮب وﺟﻮد اﻟﺨﺎﻟﻖ وﻫﻲ :اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺘﻐري ،وﻛﻞ ﻣﺘﻐري ﺣﺎدث ،ﻓﺎﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺣﺎدث ،وإذا ﻛﺎن ﻛ ﱡﻞ ﺣﺎدث ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﺤﺪِث ،ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﺤﺪث ،ﻓﻬﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺳ ﱠﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﻛ ﱡﻞ ذي ﻋﻘﻞ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪم. وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ذات ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻣﻨﺰﻫﺔ ﻋﻦ اﻟﺰﻣﺎن واملﻜﺎن ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻣﺮاﻣﻲ اﻹدراﻛﺎت واﻟﺘﺼﻮرات وﻗﻔﺖ ﻛ ﱡﻞ اﻟﻌﻘﻮل ﺣﻴﺎل ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ﻣﻮﻗﻒ املﻨﺪﻫﺶ اﻟﺤﺎﺋﺮ ،وﻫﻲ ﻣﻊ ﻫﺬه اﻟﺤرية ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﰲ اﻟﺪرﺟﺎت ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻜﻤﺎل ،ﻓﻤﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻟﻬﺬا اﻟﻜﻮن ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻜﻮﻛﺐ اﻟﻠﻴﲇ ،وﻧﻌﻨﻲ ﺑﻪ اﻟﻘﻤﺮ ﻟِﻤَ ﺎ رآه ﻣﻦ ﻋِ َ ﻈﻢ ﺟﺮﻣﻪ ،وﻋﺠﻴﺐ ﺳريه، وﺗﻨﻘﻠﻪ ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ إﱃ أﺧﺮى وﻧﻮره اﻟﺬي ﻳﻤﻸ ﻣﺎ ﺑني اﻟﺨﺎﻓِ َﻘ ْني ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻜﻮﻛﺐ اﻟﻨﻬﺎري ،وﻳﻌﻨﻲ ﺑﻪ اﻟﺸﻤﺲ ملﺎ رآه ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻛ َِﱪ ﺟﺮﻣﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻜﻮاﻛﺐ وﻋﻦ اﻟﻘﻤﺮ ﰲ ﺷﻌﺎﻋﻬﺎ اﻟﺴﺎﻃﻊ وﻣﻦ ﻣﻨﺎﻓﻌﻬﺎ ﰲ اﻷﺟﺴﺎم اﻟﻨﺎﻣﻴﺔ اﻟﺤﻴﺔ وﻏري اﻟﻨﺎﻣﻴﺔ اﻟﺤﻴﺔ ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻫﻮ اﻟﻨﺎر ﻟِﻤَ ﺎ رآه ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺎﺻﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﳾء وﻫﻲ اﻹﺣﺮاق ،وﻟِﻤَ ﺎ رآه ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ املﻨﺎﻓﻊ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻟﴬورﻳﺎت اﻟﺤﻴﺎة ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺼﻨﻢ اﻟﺬي ﻳُﺼﻄﻨَﻊ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ ً ﻣﺜﻼ ،وﻫﺬا اﻟﻔﺮﻳﻖ وﻣﻦ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺘﻪ ﻣﻤﻦ ﻳﻌﺒﺪون ﻣﺎ ﺗﺼﻨﻌﻪ أﻳﺪﻳﻬﻢ ،ﺣُ ْﻜﻤُﻬﻢ ﺣﻜﻢ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻌﺠﻢ ،وﻫﻜﺬا ﻛ ﱡﻞ 91
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ً ﻓﺮﻳﻖ ﱠ ً ﻣﺨﺼﻮﺻﺎ ،واﻟﺬي دﻋﺎ اﻟﻨﺎس إﱃ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف ﰲ ﺗﻌﻴني اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻫﻮ ﺧﺎﻟﻘﺎ ﻋني ﺣﺐ اﻟﻨﻔﺲ وﻣﻴﻠﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ إﱃ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء املﻌﺮوﻓﺔ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺬﻫﻦ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ املﺴﺘﻐﺮﺑﺎت ،وﻻ ﺷ ﱠﻚ أن ﻗﺪرة اﻟﻐﺎﺋﺒﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻴﺎن ُ ﺨﺮج ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم إﱃ اﻟﻮﺟﻮد ﻏﺮﻳﺐ ﻟﺪى اﻟﻌﻘﻮل ﻓﺘﻨﺪﻓﻊ ا ُمل ِ ﻮﺟﺪ ﻟﻜ ﱢﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻟﻢ وامل ِ ً ﻣﺤﺎﻻ ﺑﻤﻴﻠﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ املﺬﻛﻮر إﱃ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ،وملﺎ ﻛﺎن اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻃﻠﺒﺖ اﻟﺮاﺣﺔ ﺑﺘﻌﻴﱡﻨﻪ ﺑﺄي ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻠﻎ اﻟﻌﺠﺰ واﻹﻋﻴﺎء ﺑﻬﺬه اﻟﻌﻘﻮل ﻓﻬﺬا ﻫﻮ ﺳﺒﺐ اﻻﺧﺘﻼف. ﻗﻠﻨﺎ إن اﻟﻌﻘﻮل ﺑﻬﺬا اﻻﻋﺘﺒﺎر ،وﻫﻮ اﻻﺧﺘﻼف ﰲ ﺗﻌﻴني اﻟﺨﺎﻟﻖ ﺗﻨﻘﻼت ﰲ اﻟﻜﻤﺎل ،ﻓﺎﻟﺬي ﻳﻌﺒﺪ اﻟﻘﻤﺮ أرﻗﻰ ﰲ اﻟﺘﺼﻮر واﻹدراك ﻣﻦ اﻟﺬي ﻳﻌﺒﺪ اﻟﺼﻨﻢ؛ ﻷن اﻷول رأى ﺷﻴﺌًﺎ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻘﺔ ﻓﻘﺎل :ﻫﺬا رﺑﻲ ،أﻣﺎ اﻵﺧﺮ ﻓﻬﻮ داﺧﻞ ﰲ ﺣﻜﻢ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻌﺠﻢ ﻛﻤﺎ ﻗﺪﻣﻨﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻋﺒﺪ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺖ ﻳﺪاه ،وﻫﺬه وﻗﺎﺣﺔ وﺣﻤﻖ ،وأرﻗﻰ ﻫﺬه اﻟﻌﻘﻮل ﰲ اﻟﺘﺼﻮر ﻫﻮ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﻬﺘﺪي إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻤﻘﺘﴣ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ أوﺗﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺼﺤﻴﺢ. وﻗﻀﻴﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ إﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ﺷﺎﻫﺪة ﻋﲆ ذﻟﻚ؛ ﻓﺈﻧﻪ ملﺎ وﺟﺪ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻜﻮﻛﺒني ﻏري ﺣﺎﺋﺰﻳﻦ ﻟﻜﻤﺎل اﻹﻟﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،وﻋﺪم اﻟﻜﻤﺎل ﻫﻮ اﻷﻓﻮل اﻟﺬي ﻳﻘﴤ ﺑﺎﻟﺘﻐﻴري واﻻﻧﺘﻘﺎل واﻟﺤﺪوث ،ﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﻤﺎ ،و ﱠملﺎ ﻛﺎن اﻋﺘﻘﺎده ﺑﻮﺟﻮب وﺟﻮد اﻹﻟﻪ ﻛﺎن آﺧﺮ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻋﻘﻠﻪ ﻷن اﻹﻟﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻻ ﺗﺮاه اﻟﻌﻴﻮن ﻓﺂﻣﻦ ﺑﻪ واﻋﺘﻘﺪ وﺟﻮده. ﻓﻌﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺪﱠم ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل ﻟﻮ ﺳﺄﻟﻨﺎ ﻛ ﱠﻞ ﻣﻦ ﻳﺪﻳﻦ ﺑﻐري دﻳﻦ اﻹﺳﻼم ﻋﻦ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ أﺟﱪﺗﻪ ودﻋﺘﻪ إﱃ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ﻟﺬﻫﺐ ِﺑ َﻚ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺬﻫﺐ ﰲ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪﻟﻴﻞ واﻟﺤﺠﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﱪﻣﻚ ،وﻳﻀﺠﺮك ،وأﺧريًا ﻻ ﺗﺠﺪ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻳﺤﺴﻦ ﺑﻬﺎ اﻹﻗﻨﺎع ،وﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻣﺜﺎل ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻘﻮﻟﻪ ،ﻓﺈﻧﻚ إذا أردت أن ﺗﻌﺮف ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻫﺬه اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ،وﻋﻦ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺬي اﺳﺘﺪل ﺑﻪ املﺴﻴﺤﻴﻮن ﻋﲆ أﻟﻮﻫﻴﺔ املﺴﻴﺢ ،وﺳﺄﻟﺖ أﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﺪﻳﻨﻬﻢ وﻛﺎن أﻓﺼﺢ اﻟﻨﺎس ﻟﺴﺎﻧًﺎ ﻟﻮﻗﻔﺖ ﻣﻌﻪ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺤرية ﻣﻦ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ وﺗﻀﺎرب اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺒﻠﻎ اﻟﺮوح اﻟﱰاﻗﻲ ،أﻣﺎ إذا ﺳﺄﻟﺖ املﺴﻠﻢ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ دﻳﻨﻪ وأﺻﻞ ﻣﻌﺘﻘﺪه ﻓﻴﻜﻔﻲ ﰲ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻳﺸري ﺑﺴﺒﺎﺑﺘﻪ ،وﰲ ﻫﺬه اﻹﺷﺎرة ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻫﻮ أﺻﻞ اﻹﻳﻤﺎن. 92
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
واﻟﺨﻼﺻﺔ أن اﻹﻧﺴﺎن إذا ُﺧﻠِﻖ وﻧﺸﺄ ﰲ أرض ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﺑﻨﻲ ﻧﻮﻋﻪ ﻣﻊ وﺟﻮد اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻓﻴﻪ ،ﻓﻬﻮ وﻻ ﺷﻚ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺑﻔﻄﺮﺗﻪ أﻧﻪ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﺧﺎﻟﻖ ﻟﻬﺬه اﻟﻌﻮاﻟﻢ وﻫﺬه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻣﻐﺎﻳﺮ ﻟﻬﺎ ﻛ ﱠﻞ املﻐﺎﻳﺮة ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﻨﺒﻊ اﻹﺳﻼم وأﺻﻞ دﻳﻨﻪ. وو ُِﺟﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻫﺪاه ﻋﻘﻠﻪ إﱃ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ ﻏﺎﺑﺮ اﻟﺰﻣﺎن وﻫﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺸﻬﻮرﻳﻦ ﻛﺄﻓﻼﻃﻮن ،وﺳﻘﺮاط وﻏريﻫﻤﺎ واﻟﺬﻳﻦ أﺳﻠﻤﻮا ﻣﻦ اﻹﻓﺮﻧﺞ ،وﻫﻢ أرﻗﻰ اﻷﻣﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻌﻠﻮم اﻵن وﺑﺤﺜﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺠﺪوا ﻫﺬه املﺰﻳﺔ ﰲ اﻹﺳﻼم ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا اﻋﺘﻨﻘﻮه. وﻫﻨﺎ دﻟﻴﻞ آﺧﺮ ،وﻫﻮ أن املﺴﻠﻢ اﻟﻌﺎﻣﻲ ﰲ إﻣﻜﺎﻧﻪ أن ﱢ ﻳﻌﱪ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ دﻳﻨﻪ ﺑﺘﻠﻚ اﻹﺷﺎرة أو ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﻣﻘﺎﻣﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎرة ،أﻣﺎ ﻏري املﺴﻠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻮﻗﻔﻚ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺤرية وﻟﻮ ﻛﺎن ﻓﺼﻴﺤً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺪﱠﻣﻨﺎ. ) (43اﻟﻘﺮآن ً وﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻫﺬا ﻓﻘﺪ ﻫﻮ ﻛﺘﺎب ﷲ اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﷺ وﻓﻴﻪ أﺻﻮل دﻳﻨﻪ وﻓﺮوﻋﻪ، ﺣﻮى ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺪاﻣﻐﺔ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻦ ارﺗﺎب ﰲ ﺻﺤﺔ اﻹﺳﻼم ،وأﺧﱪ ﻋﻦ ﺳرية املﺘﻘﺪﻣني وأﺧﺒﺎر اﻷﻣﻢ اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ ﻣﻤﺎ ﻓﻴﻪ ذﻛﺮى وﻋﱪة ﻟﻘﻮ ٍم ﻳﻌﻘﻠﻮن ،ﻛﻤﺎ أﺧﱪ ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ً ﺗﻔﺼﻴﻼ ،وإﻣﺎ ﺿﻤﻨًﺎ ،وذﻛﺮ املﻮاﻋﻆ اﻟﺤﺴﻨﺔ واﻹرﺷﺎدات اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ وﻣﻌﺎدن إﻣﺎ ُ ً إﱃ ﺧريي اﻟﺪﻧﻴﺎ واﻵﺧﺮة ،ووﺻﻒ اﻟﺪﻧﻴﺎ وﺻﻔﺎ ﻣﻤﺜ ﱢ ًﻼ ﻟﺤﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ،ووﺻﻒ اﻵﺧﺮة وﻣﺎ أﻋِ ﱠﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻌﻴﻢ املﻘﻴﻢ ملﻦ آﻣﻦ ﺑﻬﺬا اﻟﻘﺮآن وﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺬاب اﻷﻟﻴﻢ ملﻦ ﻟﻢ ﻳﺼﺪﻗﻪ وﻛﻔﺮ ﺑﻪ ،وﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻧﺮاه اﻵن ﻣﻦ آﺛﺎر اﻟﺤﻀﺎرة واملﺪﻧﻴﺔ املﺤﻤﻮدة ﻫﻮ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﺗﻀﻤﱠ ﻨﻪ ﻫﺬا اﻟﻘﺮآن ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻵﻳﺎت ،وﻟﻮ ﺟَ ﻤَ ﻌْ ﻨﺎ املﺸﱰﻋني ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﻣﻦ ﻳﻮم ﺧﻠﻖ ﷲ اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ،وﻛ ﱠﻠﻔﻨﺎﻫﻢ ﺑﻮﺿﻊ ﻗﺎﻧﻮن ﻳﺴري ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، وﻳﻜﻔﻞ ﻟﻬﻢ ﻛ ﱠﻞ أﻧﻮاع اﻟﺴﻌﺎدات ،ﻟﻮ ﻋﻤﻠﻮا ﺑﻪ ﻟﻮﻗﻔﻮا ﻋﻨﺪ ﺣ ﱢﺪ اﻟﻌﺠﺰ ﻋﻦ أن ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮآن اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻐﺎدر ﺻﻐرية وﻻ ﻛﺒرية ﱠإﻻ أﺣﺼﺎﻫﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﺗﻌﺎﱃ﴿ :ﻣَ ﺎ َﻓ ﱠﺮ ْ ﻃﻨَﺎ ِﰲ ﳾءٍ﴾ ،وﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﺟﺎء ﰲ اﻟﻘﺮآن ﻣﺮﺟﻌﻪ إﱃ ﺛﻼﺛﺔ أﻗﺴﺎم :اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ،واﻟﺘﺬﻛري، ﺎب ِﻣ ْﻦ َ ْ ا ْﻟ ِﻜﺘَ ِ واﻷﺣﻜﺎم؛ ﻓﺎﻟﺘﻮﺣﻴﺪ داﺧﻞ ﻓﻴﻪ ﻛ ﱡﻞ اﻵﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻤﱠ ﻨﺖ ﻣﻌﻨﻰ ﺛﺒﻮت اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ واﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺬاﺗﻪ ﺟ ﱠﻞ وﻋﻼ وﺻﻔﺎﺗﻪ وﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﺮﺳﻞ واﻷﻧﺒﻴﺎء ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم ،واﻟﺘﺬﻛري داﺧﻞ ﻓﻴﻪ إﻧﺬار اﻟﻌﺼﺎة وﺗﺒﺸري اﻟﻄﺎﺋﻌني ،وﻫﺬا ﻳﺪﺧﻞ ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﺟﺎء ﻣﻦ املﻮاﻋﻆ اﻟﺤﺴﻨﺔ ،وﴐب اﻷﻣﺜﺎل ،واﻟﺤﻜﻢ ﰲ ﺟﻮاﻣﻊ اﻟﻜﻠﻢ ،وذﻛﺮى أﻫﻞ اﻟﻌﺼﻮر 93
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ ،واﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ،واﻟﻮﻋﻴﺪ ،واﻟﺰواﺟﺮ ،واﻟﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ ووﺻﻒ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺨريات اﻟﺘﻲ أُﻋِ ﺪﱠت ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻌﻤﻠﻮن اﻟﺼﺎﻟﺤﺎت. واﻷﺣﻜﺎم داﺧﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎدات ،واملﻌﺎﻣﻼت ،وﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ أﻧﻮاع اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ اﻵن. ) (44ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻧﺰول اﻟﻘﺮآن ملﺎ ﻛﺎن اﻟﻘﺮآن ﻫﻮ ﻛﻼم ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،املﺨﺎﻃﺐ ﺑﻪ رﺳﻮﻟﻪ ﷺ ،ﻛﺎن اﻟﺮﺳﻮل اﻷﻣني ﻋﲆ أﻟﻔﺎﻇﻪ وﻣﻌﺎﻧﻴﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺟﱪﻳﻞ ،وﻫﻮ املﻠﻚ اﻟﺨﺎص ﺑﺎﻟﻮﺣﻲ إﱃ اﻷﻧﺒﻴﺎء ،وﻛﺎن ﻳﻨﺰل ﻟﻴﺒﻠﻎ اﻵﻳﺔ أو اﻟﺴﻮرة إﱃ ﻫﺬا اﻟﻨﺒﻲ ﰲ ﻇﺮوف أﺣﻮال ذات ﺣﻮادث ووﻗﺎﺋﻊ ﺗﻨﺰل ﻓﻴﻬﺎ وﰲ ﺷﺄﻧﻬﺎ اﻵﻳﺔ ﺳﻮاء ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺸﺄن أﻣ ًﺮا دﻳﻨﻴٍّﺎ أو دﻧﻴﻮﻳٍّﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ أُﻧ ْ ِﺰل اﻟﻘﺮآن ﻣُﻔ ﱠﺮ ًﻗﺎ ﻋﲆ ﺣﺴﺐ وﻟﺴﺒﺐ آﺧﺮ وﻫﻮ اﻟﺘﺜﺒﱡﺖ ﰲ ﻫﺪاﻳﺔ اﻷﻣﻢ إﱃ اﻹﻳﻤﺎن وﻋﺪم اﻟﺤﻮادث واﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ، ٍ ﺧﱪة اﻟﻘﻮاد ﺣﻴﺎل ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ واﻷﺣﻜﺎم اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎوﻟﺖ ﻛ ﱠﻞ ﳾء ﻷن ﱠ ﺗﺘﻠﻘﻰ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻜﻢ ً اﻟﴪ اﻟﻌﺠﻴﺐ ﰲ املﺪﻟﻮﻻت ،وﻫﻲ ﺣﺴﻦ اﻟﱰﻛﻴﺐ واﻷﺣﻜﺎم دﻓﻌﺔ واﺣﺪة ﻣﻊ ﻣﺎ ﺣﻮﺗﻪ ﻣﻦ ﱢ وﺟﻤﺎل اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻒ ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ ﻋﻨﺪ ﺣ ﱢﺪ اﻟﺤرية ،وﰲ ﻫﺬا ﺗﻌﻠﻴﻢ ﻟﻠﺨﻠﻖ ﺑﺄن ﻳﺄﺧﺬوا ﻛ ﱠﻞ أﻣﻮرﻫﻢ ﺑﺎﻟﺤﺰم ،وﻋﺪم اﻻﻧﺪﻓﺎع ﻋﻨﺪ ﻣﺒﺎدرة اﻟﺨﻮاﻃﺮ؛ ﻷن اﻟﱰﺗﻴﺐ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﺋﺪ اﻟﻔﻼح. ً وﻛﺎن أول آﻳﺔ ﻧﺰﻟﺖ ﻣﻨﻪ ﰲ ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن ا ُملﻌ ﱠ ﻈﻢ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪرُ ، ﺗﴩﻳﻔﺎ وﺳﻤﱢ ﻴﺖ ﺑﺬﻟﻚ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ ﻟﻴﺎﱄ ﻫﺬا اﻟﺸﻬﺮ واﻟﺸﻬﻮر ﻛ ﱢﻠﻬﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺮﺳﻮل ﷺ ﱠ ﻳﺘﻠﻘﻰ ﻋﻦ رﺑﱢﻪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺟﱪﻳﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮآن ،وﻳﺘﻠﻮه ﻋﲆ أﺻﺤﺎﺑﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﱠ ﺧﺼﺼﻮا ً أﻧﺎﺳﺎ ﻟﺤﻔﻈﻪ ،وﺗﺪوﻳﻨﻪ، ﻓﻜﺘﺒﻮه ﻛﻤﺎ أُﻧﺰل ،وﻗﺪ ﺑﺎﻟﻐﻮا ﰲ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺤﻔﻈﻪ وﺗﺪوﻳﻨﻪ ﻛ ﱠﻞ املﺒﺎﻟﻐﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳُﺤ ﱠﺮف ﻣﻨﻪ ﺣﺮف إﱃ اﻵن ،وﻟﻦ ﻳﺰال ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻤﺎ أُﻧﺰل ﺣﺘﻰ ﺗﻘﻮم اﻟﺴﺎﻋﺔ ،ﺑﺪﻟﻴﻞ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :إِﻧﱠﺎ ﻧﺰل ﻣﻨﻪ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃْ : ﻧَﺤْ ُﻦ ﻧ َ ﱠﺰ ْﻟﻨَﺎ اﻟﺬﱢ ْﻛ َﺮ َوإِﻧﱠﺎ َﻟ ُﻪ َﻟﺤَ ﺎﻓِ ُ ﻈ َ ﴿اﻗ َﺮأ ْ ِﺑ ْ ﺎﺳ ِﻢ َرﺑﱢ َﻚ ﻮن﴾ ،وأول ﻣﺎ أ ُ ِ ا ﱠﻟﺬِي َﺧ َﻠ َﻖ﴾ ،وآﺧﺮ ﻣﺎ أُﻧﺰل ﻣﻨﻪ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :ا ْﻟﻴَ ْﻮ َم أ َ ْﻛﻤَ ْﻠ ُﺖ َﻟ ُﻜ ْﻢ دِ ﻳﻨ َ ُﻜ ْﻢ وَأَﺗْﻤَ ﻤْ ُﺖ ﻋَ َﻠﻴْ ُﻜ ْﻢ ﻧِﻌْ ﻤَ ﺘِﻲ َو َر ِﺿ ُ اﻹ ْﺳ َﻼ َم دِ ﻳﻨًﺎ﴾. ﻴﺖ َﻟ ُﻜ ُﻢ ْ ِ
94
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (45إﻋﺠﺎز اﻟﻘﺮآن ملﺎ أرﺳﻞ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﷺ ،وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﻌﺮﺑﻲ ،واﻟﻌﺮب ُﺧ ﱡ ﺼﻮا ﺑﻔﺼﺎﺣﺔ اﻟﻠﺴﺎن ،وﺣﺴﻦ اﻟﺒﻴﺎن ،ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ٍ أﻣﺔ ﺳﻮاﻫﻢ ،ﻛﺎن اﻟﻘﺮآن ﻣﻦ أﻋﻈﻢ املﻌﺠﺰات اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺮت ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ،ﻓﻔﻲ أول اﻷﻣﺮ ﻧﻈﺮوا إﱃ ﺑﻼﻏﺘﻪ ﻓﻘﺎﻟﻮا ﻫﺬا ﻗﻮل ﺷﺎﻋﺮ ﻟﻌﻠﻤﻬﻢ أن اﻟﺸﻌﺮاء ﻣﻨﻬﻢ ﻫﻢ املﺎﻟﻜﻮن ِأزﻣﱠ ﺔ اﻟﺒﻼﻏﺔ ،ﻓﺤﺎﺟﱠ ﻬﻢ ﷲ ﺑﻘﻮﻟﻪ﴿ :وَﻣَ ﺎ ﻋَ ﱠﻠﻤْ ﻨَﺎ ُه ﱢ اﻟﺸﻌْ َﺮ وَﻣَ ﺎ ﻳَﻨْﺒَﻐِ ﻲ َﻟﻪُ﴾ ،وﻟﻴﺴﺖ ﺑﻼﻏﺔ اﻟﻘﺮآن ﰲ ﺟﻤﺎل ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ وﻣﻌﺎﻧﻴﻪ ،وإﺗﻴﺎﻧﻪ ﺑﺎﻹﻳﺠﺎز ﰲ ﻣﻮﺿﻌﻪ واﻹﻃﻨﺎب ﰲ ﻣﻮاﻃﻨﻪ ،وإﺣﻜﺎم ﻣﻮاﺿﻊ اﻟﻔﺼﻞ ،واﻟﻮﺻﻞ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻷﻓﺼﺢ اﻟﻨﺎس اﻹﺗﻴﺎن ﺑﻤﺜﻠﻪ ،ﺑﻞ إﻋﺠﺎزه ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﻧﻪ ﻳﻘﺮؤه وﻳﺘﻠﻮه اﻹﻧﺴﺎن أﻟﻒ ﻣﺮة ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﺰداد ﱠإﻻ ﺣﻼوة ﰲ اﻟﺴﻤﻊ ﺑﺨﻼف ﻛ ﱢﻞ ﻛﻼ ٍم ﻏريه ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺘﻪ ﰲ اﻟﺒﻼﻏﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ إذا أُﻋِ ﻴﺪ ﻣ ﱠﻠﺘْﻪ اﻷﺳﻤﺎع ،وﻧﻔﺮت ﻣﻨﻪ اﻟﻄﺒﺎع. وﻗﺪ أﻗﺎم ﷲ اﻟﺤُ ﺠﱠ ﺔ ﻋﲆ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺼﺪﱢﻗﻮا أﻧﻪ ﻛﻼم ﷲ اﻟﻘﺪﻳﻢ وﻗﺎﻟﻮا إﻧﻪ ﻣﻦ ﻛﻼم َ ْ اﻟﺒﴩ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃُ : آن َﻻ ﴿ﻗ ْﻞ َﻟ ِ ِﱧ اﺟْ ﺘَﻤَ ﻌَ ِﺖ ْ ِ اﻹﻧ ْ ُﺲ وَا ْﻟ ِﺠ ﱡﻦ ﻋَ َﲆ أ ْن ﻳَﺄﺗُﻮا ِﺑﻤِ ﺜ ْ ِﻞ َﻫﺬَا ا ْﻟ ُﻘ ْﺮ ِ ﺎن ﺑَﻌْ ُ ﻀﻬُ ْﻢ ِﻟﺒَﻌْ ٍﺾ َ ﻮن ِﺑﻤِ ﺜْﻠ ِِﻪ َو َﻟ ْﻮ َﻛ َ ﻳَﺄْﺗُ َ ﻇ ِﻬريًا﴾ ،وﻫﺬا أﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻋﺠﺰﻫﻢ. وﻣﻦ إﻋﺠﺎزه ً أﻳﻀﺎ ،أﻧﻪ أﺧﱪ ﻋﻦ اﻷﻣﻢ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ وﺣﻮادﺛﻬﻢ ﺑﺄوﺟﺰ ﻋﺒﺎرة ﻣﻤﺎ ﻟﻢ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﻟﺪى ﻋﻠﻤﺎء ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ﻣﻊ اﺟﺘﻬﺎدﻫﻢ ﰲ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ،وﻣﻦ إﻋﺠﺎزه ﻳﻜﻦ إﺗﻴﺎﻧﻪ ﺑﺎﻷﺣﻜﺎم اﻟﺘﻲ ﻟﻮ اﺟﺘﻤﻊ ﻛ ﱡﻞ أﻫﻞ اﻟﴩاﺋﻊ ملﺎ ﻗﺪروا ﻋﲆ وﺿﻊ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻳُﻼﺋِﻢ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺪاﻣﻐﺔ ﰲ ﺗﻘﺮﻳﺮ اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ وﻳﻮاﻓﻖ ﺣﺎﻟﺔ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ ﺟﻤﻌً ﺎ ،ﻫﺬا ﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ املﻮاﺿﻊ ،وﻛﻞ اﻟﻔﺼﺤﺎء واﻟ ُﻜﺘﱠﺎب واﻟﺸﻌﺮاء ﻣﻦ أﻫﻞ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى ﻳﻘﺘﺒﺴﻮن ﻣﻨﻪ ﰲ إﻧﺸﺎﺋﻬﻢ ﻣﺎ ﺑﻪ ﻳﺤﺴﻨﻮﻧﻬﺎ وﻳﻔﻀﻠﻮﻧﻪ ﻋﲆ ﻛﻼم اﻟﻌﺮب اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ أﻓﺼﺢ ً ﻣﻨﻄﻘﺎ. اﻷﻣﻢ ) (46رﺳﺎﻟﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ إن ﻧﺴﺐ ﻫﺬا اﻟﺮﺳﻮل اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺴﻴﺪﻧﺎ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ اﺑﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ إﺑﺮاﻫﻴﻢ ،وﻫﻮ ﻣﻦ أﴍف ﻗﺒﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﻌﺮب وﻗﺪ أﺧﱪ ﺑﻤﺒﻌﺜﻪ اﻟﺮﻫﺎب واﻟﻜﻬﺎن ﻗﺒﻞ أن ﻳُﻮ َﻟﺪ ،ﻛﻤﺎ أﺧﱪ ﺑﻬﺬا املﺴﻴﺢ ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ ،ﻛﻤﺎ ورد ﰲ اﻟﻘﺮآن ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃَ ﴿ :وإِذْ َﻗﺎ َل ﻋِ َ ﻴﴗ اﺑْ ُﻦ ﻣَ ْﺮﻳَ َﻢ ُﺼﺪ ًﱢﻗﺎ ﻟِﻤَ ﺎ ﺑ ْ َ ﴎاﺋِﻴ َﻞ إِﻧﱢﻲ َر ُﺳﻮ ُل ِ ﷲ إ ِ َﻟﻴْ ُﻜ ْﻢ ﻣ َ ﻮل ﻳَﺎ ﺑَﻨِﻲ إ ِ ْ َ َني ﻳَﺪَيﱠ ِﻣ َﻦ اﻟﺘﱠ ْﻮ َرا ِة َو ُﻣﺒ ﱢَﴩًا ِﺑ َﺮ ُﺳ ٍ 95
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻳَﺄْﺗِﻲ ِﻣ ْﻦ ﺑَﻌْ ﺪِي ْ اﺳ ُﻤ ُﻪ أَﺣْ ﻤَ ﺪُ﴾ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺣ ﱠﺮﻓﻮا اﻟﺘﻮراة واﻹﻧﺠﻴﻞ ﺣﺬﻓﻮا ﻫﺬا اﻟﻨﺒﺄ ﻣﻨﻪ. ﱠ ﻓﺘﻜﻔﻞ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ أﻗﺮﺑﺎﺋﻪ، ُوﻟِﺪ ﻫﺬا اﻟﺮﺳﻮل و ُرﺑﱢﻲ ﻳﺘﻴﻤً ﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻣﺎت أﺑﻮه وﻫﻮ ﺻﻐري وﻗﺪ ﻇﻬﺮت ﻋﻨﺪ وﻻدﺗﻪ آﻳﺎت وﻋﺠﺎﺋﺐ ﻟﻢ ﺗﺘﻔﻖ ﻟﻐريه ،ﻓﻤﻦ ذﻟﻚ ﺧﻤﻮد ﺑﻴﻮت اﻟﻨريان ﰲ أرض ﻓﺎرس؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺒﺪ دون ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،وﺗﻜﺴري اﻷﺻﻨﺎم ﻣﻦ ﻓﻮق اﻟﻜﻌﺒﺔ؛ إذ ﻛﺎن اﻟﻌﺮب ﻳﺘﺨﺬوﻧﻬﺎ وﺳﻴﻠﺔ إﱃ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،ﻛﻤﺎ أن ﻛﴪى ﻣﻠﻚ اﻟﻔﺮس رأى ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻮﻟﺪه ﱠ ﻓﻘﺼﻬﺎ ﻋﲆ اﻟ ُﻜﻬﱠ ﺎن ﻓﺄﺧﱪوه ﺑﺄن رﺳﻮ َل آﺧﺮ اﻟﺰﻣﻦ ﻗﺪ ُوﻟِﺪ ،وﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ملﺎ رؤﻳﺎ ﻫﺎﻟﺘﻪ ﱢ ﻛﺎن ﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة وﻛﺎن ذاﻫﺒًﺎ إﱃ اﻟﺸﺎم ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻈﻠﻠﻪ ﻏﻤﺎﻣﺔ دون ﺳﺎﺋﺮ ﻣﻦ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎر ،وملﺎ رآه اﻟﺮاﻫﺐ ﺑﺤريا ﻋﺮﻓﻪ؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻋﻼﻣﺎت داﻟﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﻨﺒﻲ املﻨﺘﻈﺮ. ُ أﻛﻤﻞ اﻟﻨﺎس ً ﻋﻘﻼ. أﺧﻼق وﻛﺎﻧﺖ أﺧﻼﻗﻪ ﰲ ﻋﻬﺪ ﺷﺒﻴﺒﺘﻪ ﻻ ﺗُﻌﺎدِ ﻟﻬﺎ ِ وﺑﻤﺎ أن ﷲ اﺧﺘﺎره ﻟﺮﺳﺎﻟﺘﻪ ﻃﻬﱠ ﺮه ﻣﻦ ﺳﻔﺎح اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻟﻌﺮب ﻣﻦ اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺘﻲ ﻧﻬﻰ ﻋﻨﻬﺎ اﻟﻘﺮآن؛ ﻛﴩب اﻟﺨﻤﺮ ،وﴍب اﻟﺪم ،وﻟﻌﺐ املﻴﴪ وﻏري ذﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻧﺸﺄ ﻋﲆ ﻋﺒﺎدة رﺑﱢﻪ واﻧﻌﻜﻒ ﰲ ﻏﺎر ﺣﺮاء ﻳﺘﻌﺒﺪ ﻋﲆ ِﻣ ﱠﻠﺔ أﺑﻴﻪ إﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ،ﺣﺘﻰ ﺟﺎءه اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﷲ ﺑﺪﻋﻮة اﻟﺨﻠﻖ إﱃ اﻹﺳﻼم وذﻟﻚ ﰲ ﺑﻠﻮﻏﻪ اﻷرﺑﻌني ﺳﻨﺔ ،ﻓﺠﺎءه املﻠﻚ وﻫﻮ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺟﱪﻳﻞ ﺑﺄﻣﺮ رﺑﱢﻪ؛ إذ ﻗﺎل ﻟﻪ﴿ :ﻳَﺎأَﻳﱡﻬَ ﺎ ا ْﻟ ُﻤ ﱠﺪﺛ ﱢ ُﺮ * ُﻗ ْﻢ َﻓﺄَﻧ ْ ِﺬ ْر * ً رﺳﻮﻻ أﻳﱠﺪه ﷲ ﺑﺎﻵﻳﺎت اﻟﺒﻴﻨﺎت ﻣﻤﺎ ﻳﻄﻮل ﴍﺣﻪ ،ﻓﻤﻦ َو َرﺑﱠ َﻚ َﻓ َﻜ ﱢﱪْ﴾ … اﻵﻳﺔ ،وملﺎ ﺑﻌﺚ اﻵﻳﺎت :اﻧﺸﻘﺎق اﻟﻘﻤﺮ ،وﺗﻔﺠﱡ ﺮ املﺎء ﻣﻦ ﺑني أﺻﺎﺑﻌﻪ ،ورد اﻟﻌني املﻔﻘﻮءة ﺻﺤﻴﺤﺔ ،وﻛﻼم اﻟﻀﺐ ،واﻟﺠﻤﻞ ،وإﺗﻴﺎن اﻟﺠﺬع ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ ،وﻣﻦ ﻫﺬه اﻵﻳﺎت اﻟﻘﺮآن اﻟﺬي أﻋﺠﺰ ﻓﺼﺤﺎء اﻟﻌﺮب واﻟﻌﺠﻢ ﻋﻦ اﻹﺗﻴﺎن ﺑﻤﺜﻠﻪ أو ﺑﻌﻀﻪ ،وﻫﻮ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻪ ﺣﺎوﻳًﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ أﺻﻮل اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وﻓﺮوﻋﻪ ،وﻗﺪ ﱠ ﺑني ﷲ ِﻣ ْﻘﺪار ﻓﻀﻠﻪ وﻣﻨﺰﻟﺘﻪ ﻋﻨﺪه وﻣﺤﺒﱠﺘﻪ ﻟﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻵﻳﺎت اﻟﻘﺮآﻧﻴﺔ ،ﱠ وﺑﴩ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮﻧﻪ وﻣﺪﺣﻬﻢ وأﻧﺬر اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺨﺎﻟﻔﻮﻧﻪ وذﻣﱠ ﻬﻢ ،وذﻟﻚ ﰲ ﷲ وَا ﱠﻟﺬ َ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃَ ﴿ :وإِﻧ ﱠ َﻚ َﻟﻌَ َﲆ ُﺧﻠُ ٍﻖ ﻋَ ِﻈﻴ ٍﻢ﴾ ،وﻗﻮﻟﻪ﴿ :ﻣُﺤَ ﻤﱠ ٌﺪ َر ُﺳﻮ ُل ِ ِﻳﻦ ﻣَ ﻌَ ُﻪ أ َ ِﺷﺪﱠاءُ ﷲ و َِر ْ اﻫ ْﻢ ُر ﱠﻛﻌً ﺎ ُﺳﺠﱠ ﺪًا ﻳَﺒْﺘَ ُﻐ َ ﺿﻮَاﻧًﺎ ِﺳﻴﻤَ ُ ﻋَ َﲆ ا ْﻟ ُﻜ ﱠﻔ ِﺎر ُرﺣَ ﻤَ ﺎءُ ﺑَﻴْﻨَﻬُ ْﻢ ﺗَ َﺮ ُ ﻮن َﻓ ْﻀ ًﻼ ِﻣ َﻦ ِ ﺎﻫ ْﻢ ِﰲ اﻟﺴﺠُ ﻮدِ﴾ ،وﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :إ ِ ﱠن ا ﱠﻟﺬ َ وُﺟُ ﻮﻫِ ِﻬ ْﻢ ِﻣ ْﻦ أَﺛ َ ِﺮ ﱡ ِﻳﻦ َﻛ َﻔ ُﺮوا و َ ﻴﻞ ﷲِ﴾ … َﺻﺪﱡوا ﻋَ ْﻦ َﺳ ِﺒ ِ اﻵﻳﺔ ،وﻗﻮﻟﻪ ﻋﺰ وﺟﻞُ : ﴿ﻗ ْﻞ إ ِ ْن ُﻛﻨْﺘُ ْﻢ ﺗُﺤِ ﺒ َ ﱡﻮن ﷲ َ َﻓﺎﺗﱠ ِﺒﻌُ ﻮﻧِﻲ ﻳُﺤْ ِﺒﺒْ ُﻜ ُﻢ ﷲُ﴾ ،ﻓﻜ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻵﻳﺎت اﻟﻘﺮآﻧﻴﺔ ﺑﻴﱠﻨﺖ ﻓﻀﻠﻪ ﷺ وﻓﻀﻞ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮﻧﻪ وﻳﺘَﺪﻳﱠﻨﻮن ﺑﺪﻳﻨﻪ ،وأول ﻣﻦ أ ُ ِﻣﺮ ﺑﺈﺑﻼﻏﻬﻢ اﻟﺪﻋﻮ َة إﱃ اﻹﺳﻼم ﻫﻢ أﻫﻠﻪ وﻋﺸريﺗﻪ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻟﻪ﴿ :وَأَﻧ ْ ِﺬ ْر ﻋَ ِﺸريَﺗَ َﻚ ْاﻷ َ ْﻗ َﺮ ِﺑ َ ني﴾ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻟﻪ أﻋﻮاﻧًﺎ ﰲ اﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻹﺳﻼم ،وﻣﻦ ﻫﺬه إﺷﺎرة ﺧﻔﻴﺔ إﱃ أن أﻫﻞ 96
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻹﻧﺴﺎن أَو َْﱃ اﻟﻨﺎس ﺑﺈﻳﺼﺎل اﻟﺨري إﻟﻴﻬﻢ ﻟﻠُﺤﻤﺔ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وﻣﺎ زال ﷺ ﻳﺪﻋﻮ اﻟﻨﺎس إﱃ اﻹﺳﻼم وﻳﺠﺎﻫﺪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ وﻫﻮ ﻣﺤﻔﻮف ﺑﻤﻌﻮﻧﺔ اﻟﻨﴫ واﻟﻐﻠﺒﺔ ﻋﲆ اﻟﻜﻔﺎر ﺣﺘﻰ ُﻗ ِﺒﺾ وﻫﻮ ﰲ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ واﻟﺴﺘني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه اﻟﴩﻳﻒ ﻋﲆ أﺻﺢﱢ اﻟﺮواﻳﺎت ﷺ. ) (47ﺟﻠﺴﺔ ﻣﻦ ﺿﻤﻦ ﺟﻠﺴﺎت ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ ملﺎ أﺛﺒﺘﻨﺎ ﻟﻠﻘﻮم ﺑﺎﻟﱪاﻫني اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺻﺤﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وأﻧﻪ دﻳﻦ اﻟﻔﻄﺮة واملﺪﻧﻴﺔ ،ﴍﻋﻨﺎ ﱢ ﻧﺒني ﻟﻬﻢ اﻷﴎار واﻟﻔﻮاﺋﺪ اﻟﺠﻤﺔ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺎة املﺮء اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ واﻷﺧﺮوﻳﺔ ا ُملﻮدَﻋﺔ ﰲ أﺣﻜﺎم اﻟﻌﺒﺎدات واملﻌﺎﻣﻼت اﻟﺘﻲ ﺟﺎء ﺑﻬﺎ اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ أي ﻣﺬﻫﺐ ودﻳﻦ ﻣﻦ ﺑﺒﻴﺎن ٍ واف وﺳﻬﻮﻟﺔ ﺗُ َﻘ ﱢﺮب ﻓﻬْ ﻢ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ اﻷدﻳﺎن ﺳﻮى اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ،وﻛﻨﺎ ﻧﻜﺘﺐ ذﻟﻚ ﻟﻬﻢ ٍ ﻧﺬﻛﺮه ﻋﲆ اﻟﻌﻘﻮل ،وﻛﻞ ﳾء ﻧﻘﺮره ﻛﺎن ﻳُﱰﺟَ ﻢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ واﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪم، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻮرة اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗُﻌ َ ﻄﻰ ﻟﻠﻤﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ﻷﺟﻞ ﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻳﻠﻘﻴﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﻮم ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﻜﺘﺒﻮن ﰲ ﻣﺬﻛﺮاﺗﻬﻢ ﻟﺪﻳﻬﻢ ،وأول ﻣﺎ ﺑﺪأﻧﺎ ﺑﺒﻴﺎﻧﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﺎب ً ﺗﺨﻔﻴﻔﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺎرئ ،واﺣﱰا ًزا ﻣﻦ ﻫﻮ اﻟﺼﻼة ،وﻧﺬﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﻣُﺠﻤَ ﻞ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﺎه ﻣﻦ ﻓﻮاﺋﺪﻫﺎ اﻹﺳﻬﺎب ﰲ ﻏري ﻣﻮﺿﻌﻪ. ً ﺧﻤﺴﺎ ﰲ اﻟﻴﻮم واﻟﻠﻴﻠﺔ ،وذﻟﻚ أن أداء اﻟﺼﻼة وأول ﻣﺎ ﻗ ﱠﺮرﻧﺎه ﻫﻮ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﰲ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﱢ ﰲ أوﻗﺎﺗﻬﺎ اﻟﺨﻤﺲ ﻳﺪﻋﻮ اﻟﻨﻔﺲ إﱃ ﻧﺒْﺬ اﻟﻜﺴﻞ واﻟﺨﻤﻮل ،وﺣﺜﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻌﻤﻞ اﻟﻮاﺟﺐ ﰲ أوﻗﺎﺗﻪ ،وإﻋﻼﻣﻬﺎ أن اﻟﺘﺴﻮﻳﻒ ﰲ أداﺋﻪ أو ﺗﺄﺧريه ﻋﻦ أواﻧﻪ ﻓﻴﻪ ﺧﴪان ﻋﻈﻴﻢ ،وﴐر ﺑﻤﺼﻠﺤﺘﻪ ،وﻳﺪﻋﻮﻫﺎ ً أﻳﻀﺎ إﱃ ﻣﺮاﻗﺒﺔ ﺟﺎﻧﺐ ﷲ؛ إذ ﻳﻘﻒ املﺮء ﺑني ﻳﺪﻳﻪ ﺟ ﱠﻞ ﺷﺄﻧﻪ ﺧﻤﺲ ﻣﺮات ﰲ اﻟﻴﻮم واﻟﻠﻴﻠﺔ ﺧﺎﺿﻌً ﺎ ﺧﺎﺷﻌً ﺎ ﻣﺘﻄﻠﺒًﺎ ﻋﻔﻮًا وﻏﻔﺮاﻧًﺎ ﻟﺬﻧﻮﺑﻪ ﻣﺴﺘﻤﺪٍّا ﻣﻌﻮﻧﺘﻪ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺗﻬﺬﻳﺐ ﻧﻔﺴﻪ وﻧﻔﻮرﻫﺎ ﻣﻦ املﻌﺎﴆ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ. أﻣﺎ اﻟﴪ ﰲ ﺗﻔﻀﻴﻞ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻋﲆ ﺻﻼة املﻨﻔﺮد ،ﻓﻠِﻤﺎ ﰲ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻻﻧﻔﺮاد وﻫﻮ ﺿﺪ اﻻﺗﺤﺎد ،وملﺎ ﰲ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺬي ﻫﻮ أﺳﺎس اﻟﻨﺠﺎح ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷﻋﻤﺎل ،وﻓﻴﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻣﻌﻨﻰ املﺴﺎواة واﻟﻌﺪل؛ إذ ﻳﻘﻒ اﻟﻐﻨﻲ اﻟﺤﺴﻦ اﻟﺒﺰة ﺑﺠﺎﻧﺐ اﻟﻔﻘري اﻟﺮث اﻟﻨﺘﻦ ً ﻛﺘﻔﺎ ﻟﻜﺘﻒ ،وﻫﺬا ﻣﻨﻪ إﺷﺎرة ﻧﺎﻃﻘﺔ ﺑﺄن املﺴﻠﻢ ﻻ ﻳ َْﻔ ُ ﻀﻞ أﺧﺎه املﺴﻠﻢ ﺑﺎﻟﻐﻨﻰ واﻟﺠﺎه ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻔﻀﻠﻪ ﺑﺎﻟﺘﻘﻮى وﻫﺬا ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻌﺪل ،وﻣﻨﻪ ً أﻳﻀﺎ إﺷﺎرة إﱃ أن إﻃﺎﻋﺔ ﱠ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻘﻼء. اﻟﺮؤﺳﺎء واﻻﻗﺘﺪاء ﺑﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ
97
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻷوﻗﺎت ﺗﻜﻮن ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ أﻫﻞ اﻟﺒﻴﺖ اﻟﻮاﺣﺪ أو اﻟﺤﺎرة اﻟﻮاﺣﺪة ،ﺟﻌﻞ اﻟﺸﺎرع اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ﻷﻫﻞ اﻟﺒﻠﺪ؛ إذ ﻳﺠﺘﻤﻌﻮن ﰲ ﻣﺴﺠﺪ واﺣﺪ ،ﻓﻬﺬا ﻳﻜﻮن أﺑﻠﻎ ﰲ اﻻﺗﺤﺎد ،وﻗﺪ ارﺗﻘﻰ اﻟﺸﺎرع ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻓﺠﻌﻞ ﺻﻼة اﻟﻌﻴﺪﻳﻦ وﻫﻲ أﻋﻢ ﻣﻦ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﻌﺔ؛ إذ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ أﻫﻞ اﻟﺒﻠﺪ واﻟﺒﻠﺪﻳﻦ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ واﺣﺪة ﰲ ٍ وﻗﺖ واﺣﺪ ،واﺷﱰاط اﻟﺨﻀﻮع ،واﻟﺨﺸﻮع ،واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ،واﻟﺘﺆدة ﰲ اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ واﻟﻘﻮﻟﻴﺔ ﻓﻴﻪ إﺷﺎرة إﱃ أن اﻟﺘﺄﻧﱢﻲ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ وﻋﺪم اﻟﺘﴪع ﻣﻦ أﻗﻮى أﺳﺒﺎب اﻟﻔﻼح ً واﻟﻨﺠﺎح ،وإﺷﺎر ًة ً ﻣﻨﺰﻟﺔ ،وﴏف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﻜﱪ أﻳﻀﺎ إﱃ اﻟﺘﺄدﱡب أﻣﺎم ﻣﻦ ﻫﻮ ﻓﻮﻗﻚ ا ُملﻬﻠﻚ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻻﻧﺤﻨﺎء ،ووﺿﻊ اﻟﺠﺒﻬﺔ ﻋﲆ اﻷرض وﻓﻮق اﻟﱰاب اﻟﺬي ﻫﻮ أﺧﺲ اﻷﺷﻴﺎء ً وﻛﴪا ﻣﻦ ﺷﻮﻛﺘﻬﺎ ،واﻟﺘﻨﺰه ﻋﻦ اﻟﻨﺠﺎﺳﺔ ﻓﻴﻬﺎ إﺷﺎرة إﱃ ﺗﺪرﻳﺐ اﻟﻨﻔﺲ ﺗﺬﻟﻴﻼ ﻟﺠﻤﺎﺣﻬﺎ، ً ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺎﻓﺔ؛ ﻟﻴﻜﻮن املﺮء ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻤﺎ ﺗﺸﻤﺌ ﱡﺰ ﻣﻨﻪ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ اﻷوﺳﺎخ واﻷدران ،وﻷن ﻧﻈﺎﻓﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮ إذا اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻣﻊ ﻧﻈﺎﻓﺔ اﻟﺒﺎﻃﻦ ﻛﺎن ذﻟﻚ أدﻋﻰ إﱃ ﻣَ ﻴْﻞ اﻟﻘﻠﻮب إﻟﻴﻪ ،وﰲ ﻫﺬا ﻓﺎﺋﺪة ﻻ ﻳﻌﺮف ﻣﻘﺪارﻫﺎ ﱠإﻻ ذو اﻟ ﱡﻠﺐ اﻟﺴﻠﻴﻢ. وﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻷوﻗﺎت وﺗﺮﺗﻴﺐ اﻟﺼﻔﻮف إﺷﺎرة إﱃ أن اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻗﻞ أن ﻳﺠﻌﻞ ﻟﻜ ﱢﻞ ﻋﻤﻞ وﻗﺘًﺎ ﻣﺤﺪودًا ،وأن ﻳﺴري ﻋﲆ ﻧﻈﺎم ﻣﺨﺼﻮص ﻳﻀﻤﻦ ﻟﻪ اﻟﻨﺠﺎح واﻟﻔﻼح ،ﺑﺨﻼف ﻣﺎ إذا ﻟﻢ ﻳﺮﺗﱢﺐ ﻷﻋﻤﺎﻟﻪ أوﻗﺎﺗًﺎ وﻧﻈﺎﻣﺎت ،ﺑﻞ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﻮﴇ ،ﻓﺈن ذﻟﻚ ﺗﻌﻄﻴﻞ ﻟﻬﺎ وﺿﻴﺎع ﻟﻸوﻗﺎت ﺑﻼ ﺟﺪوى. ) (48اﻷﺻﻮل اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺧﺬﺗﻬﺎ اﻟﻴﺎﺑﺎن ذﻛﺮت ﰲ ﺧﻄﺒﺔ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ وﰲ ﻏري ﻣﻮﺿﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﻔﻴﺪ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﻬﺎ أن ﻧﺄﺗﻲ ﱢ ﺑﻨﺺ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺎ ﻧ ُ ْﻠﻘِ ﻴﻬﺎ ﰲ ﺟﻠﺴﺎت ﺟﻤﻌﻴﺘﻨﺎ؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﺨﺮج ﺑﻨﺎ ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻮع ﻛﺘﺎﺑﺔ رﺣﻠﺔ إﱃ ﻣﻮﺿﻮع ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻛﺘﺎب دﻳﻨﻲ. وﻟﻜﻦ أﻗﻮل إﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﴩح ﻟﻠﻘﻮم ﻣﻌﻨﻰ ﻛ ﱢﻞ ﻗﺎﻋﺪة ﻣﻦ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﻦ وآداﺑﻪ اﻟﴩح اﻟﻮاﰲ ،ﱢ وﻧﺒني ﻟﻬﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ أرادﻫﺎ اﻟﺸﺎرع ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ ،ﻛﻤﺎ ﻛﻨﱠﺎ ﻧﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﻘﺮآن وﻛﻴﻔﻴﺔ ﻧﺰوﻟﻪ وﺑﻴﺎن درﺟﺔ ﺑﻼﻏﺘﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪم ﰲ ﻣﺤﻠﻪ وأﻧﻪ ﻗﺎﻧﻮن ﺳﻤﺎوي ،أﺗﻰ ﺑﻤﺎ ﻳُﻼﺋﻢ أﺣﻮال ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ زﻣﺎن وﻣﻜﺎن وﻏري ذﻟﻚ.
98
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ أﻓﻀﻨﺎ اﻟﴩح ﰲ ﻗﻮاﻋﺪ اﻹﺳﻼم اﻟﺨﻤﺲ وأن اﻹﺳﻼم دﻳﻦ اﻟﻔﻄﺮة ،وإﻋﺠﺎز اﻟﻘﺮآن وﻛﻴﻔﻴﺔ إﻧﺰاﻟﻪ وإﺛﺒﺎت اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ هلل ﺗﻌﺎﱃ ،وﻛﻞ ذﻟﻚ ﺗﻘﺪﱠم ﺗﻠﺨﻴﺼﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ. وﻛﻨﱠﺎ ﻧﺒني ﻟﻬﻢ ﱠ أن ﷲ واﺣﺪ ﻻ ﴍﻳﻚ ﻟﻪ ﰲ ﻣﻠﻜﻪ ،وأﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺬات ﻣﺠﺴﻤﺔ وﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺟﻬﺔ ﺗﺤﺪه وأﻧﻪ ﻗﺎدر ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﳾء … إﻟﺦ ،واﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ وﺣﺪاﻧﻴﺘﻪ ،أﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻟﻪ ﴍﻳﻚ ﻟﻔﺴﺪت اﻷرض ملﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ اﻟﴩﻛﺔ ﻣﻦ وﻗﻮع اﻟﺨﻼف ﺑني اﻟﴩﻳﻜني ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ، وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ ﺣﺼﻮل اﻟﺸﻘﺎق ،واﻟﺸﻘﺎق ﻳﻔﴤ إﱃ ﻏﻠﺒﺔ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻋﲆ اﻵﺧﺮ ،وﻫﺬا ﻳﻔﴤ ﻋﲆ املﻐﻠﻮب ﺑﺎﻟﻀﻌﻒ وﻫﻮ ﻣ ٍ ُﻨﺎف ﻟﺼﻔﺎت اﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ،وﻫﻜﺬا ﻣﻦ ﻗﻮاﻋﺪ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ. ) (49اﻟﺼﻼة وﰲ اﻟﺼﻼة ﻛﻨﱠﺎ ﱢ ﻧﺒني ﻟﻬﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﰲ اﻟﻮﺿﻮء ،وﻛﻞ أﻓﻌﺎل اﻟﺼﻼة وأﺣﻮاﻟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪﱠم ذﻟﻚ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ ،وﻛﻨﱠﺎ ﻧﻘﻮل ﻟﻬﻢ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه إن اﻹﻧﺴﺎن إن ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ أﺣﺪ املﻠﻮك ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻟﻪ ً أوﻻ ﻣﻦ إزاﻟﺔ ﻣﺎ ﺑﺠﺴﻤﻪ ﻣﻦ اﻷوﺳﺎخ ،واﻷدران وﻣﺎ أﺷﺒﻬﻬﺎ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻻ ﻳﻔﻌﻞ ﻫﺬا وﻫﻮ ذاﻫﺐ إﱃ املﺴﺠﺪ ﻟﻴﻘﻒ أﻣﺎم ﻣﻠﻚ املﻠﻮك وأﺣﻜﻢ اﻟﺤﺎﻛﻤني؟! ﻛﻤﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻘﻒ أﻣﺎم ﻣﻦ ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣﻨﻪ وﻗﻮف اﻷدب ،واﻻﺣﱰام ،واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ،ﻓﻜﺬﻟﻚ ﻳﻘﻒ أﻣﺎم ﻣﻮﻻه اﻷﻛﱪ ً ﻣﺮﺳﻼ إﻳﺎﻫﻤﺎ ،ﺧﺎﺿﻌً ﺎ ،ﺧﺎﺷﻌً ﺎ ،ﻳﺤﻨﻮ ﺑﺮأﺳﻪ اﺣﱰاﻣً ﺎ واﺿﻌً ﺎ إﺣﺪى ﻳﺪﻳﻪ ﻋﲆ اﻷﺧﺮى ،أو وﻳﻀﻊ ﺟﺒﻬﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﴍف ﻋﻀﻮ ﰲ ﺟﺴﻤﻪ ﻋﲆ أﺧﺲ ﳾء وﻫﻮ اﻟﱰاب ﰲ اﻟﺴﺠﻮد، ً ً ﺳﺎﺋﻼ إﻳﺎه أن ﻳﻐﻔﺮ ﻟﻪ ذﻧﻮﺑﻪ ﻣﺘﺬﻟﻼ ﻟﻪ ﻣُﻈﻬ ًﺮا ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺬل واﻟﺨﻀﻮع؛ ﻟﻴﻜﻮن راﺿﻴًﺎ ﻋﻨﻪ وﻳﺘﺠﺎوز ﻋﻦ ﺳﻴﱢﺌﺎﺗﻪ. ) (50ﺻﻼة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﱢ اﻟﺤﺚ ﻋﲆ وإن اﻟﺤﻜﻤﺔ ﰲ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ وﺗﻔﻀﻴﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﻼة املﻨﻔﺮد ﻫﻲ اﻹﺷﺎرة إﱃ اﻻﺗﺤﺎد واﺟﺘﻤﺎع اﻟﻜﻠﻤﺔ ،وإن ﰲ وﻗﻮف اﻟﻔﻘري ﺑﺠﺎﻧﺐ اﻟﻐﻨﻲ إﺷﺎرة إﱃ أن اﻟﺘﻔﺎﺿﻞ ﺑني املﺴﻠﻢ وأﺧﻴﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺤﺴﻦ اﻟﺰي ،واﻟﻬﻨﺪام ،وﻻ ﺑﺎﻟﻐﻨﻰ ﺑﻞ ﺑﺎﻟﺘﻘﻮى ﴿إ ِ ﱠن أ َ ْﻛ َﺮﻣَ ُﻜ ْﻢ ﻋِ ﻨ ْ َﺪ ِ ﷲ أَﺗْ َﻘﺎ ُﻛﻢْ﴾ ،وﻓﻴﻪ ً أﻳﻀﺎ إﺷﺎرة إﱃ املﺴﺎواة ﺑني املﺴﻠﻢ وأﺧﻴﻪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺤﻘﻮق ،وﰲ اﺳﺘﻘﺎﻣﺔ اﻟﺼﻔﻮف إﺷﺎرة إﱃ اﻻﻧﺘﻈﺎم املﻄﻠﻮب ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷﻋﻤﺎل ،وﰲ ﺗﻮﺟﻴﻪ اﻟﻮﺟﻮه إﱃ اﻟﻘﺒﻠﺔ إﺷﺎرة إﱃ أﻧﻪ ﻣﻦ أﻫﻞ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ،وﻣﻦ ﺑُﻌﺪ املﺴﺎﻓﺎت وﻗﺮﺑﻬﺎ ﺑني ﻛ ﱢﻞ ﺻﻼة وأﺧﺮى إﺷﺎرة إﱃ أن اﻷﻋﻤﺎل ﺗُﺆدﱠى ﰲ اﻷوﻗﺎت املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﻬﺎ؛ ﻷن اﻟﻮﻗﺖ ﻣﺎ ﺑني ﺻﻼة اﻟﻔﺠﺮ واﻟﻈﻬﺮ ﻫﻮ 99
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺖ اﺷﺘﻐﺎل املﺮء ﺑﺄﻣﻮر املﻌﺎش ،ﻓﺈذا ﻗﴣ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺖ ﺳﺎﻋﺎت وﻫﻮ ﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﻜﺴﺐ، ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض ﻓﻴﺼﲇ اﻟﻈﻬﺮ ،وﻗﺮب املﺴﺎﻓﺔ ﻣﺎ ﺑني ﺻﻼة اﻟﻈﻬﺮ واﻟﻌﴫ ،وﻣﺎ ﺑني ﻫﺬه وﺻﻼة املﻐﺮب إﺷﺎرة إﱃ أن ﻫﺬه اﻷوﻗﺎت ﻳﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻤﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﻜﺴﺐ ﻓﻴﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺆدي اﻟﻔﺮض ،وإﺷﺎرة إﱃ أﻧﻪ ﻛﻤﺎ اﻓﺘﺘﺢ اﻟﻨﻬﺎر ﺑﺼﻼة اﻟﺼﺒﺢ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺨﺘﻤﻪ ﺑﺼﻼة املﻐﺮب ،وﰲ ﺑُﻌﺪ املﺴﺎﻓﺔ ﻣﺎ ﺑني ﺻﻼة اﻟﻌﺸﺎء وﺻﻼة اﻟﺼﺒﺢ إﺷﺎرة إﱃ أن وأﺧﺬ ْ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻫﻮ وﻗﺖ اﻟﻨﻮمْ ، اﻟﻨﻔ ِﺲ ﻗِ ْﺴﻄﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺮاﺣﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﷲ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :وَﺟَ ﻌَ ْﻠﻨَﺎ َﺎﺳﺎ * وَﺟَ ﻌَ ْﻠﻨَﺎ اﻟﻨﱠﻬَ ﺎ َر ﻣَ ﻌَ ً اﻟ ﱠﻠﻴْ َﻞ ِﻟﺒ ً ﺎﺷﺎ﴾. وﻛﻨﺎ ﻧ ُ ﱢﺒني ﻟﻬﻢ اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪه اﻟﺸﺎرع ﻣﻦ ﻓﺮﻳﻀﺔ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﻌﺔ واﻟﻌﻴﺪﻳﻦ واﻷذان واﻹﻣﺎﻣﺔ. ) (51ﺻﻼة اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻓﻔﻲ ﺻﻼة اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻋ ﱠﺮﻓﻨﺎﻫﻢ ﻣﺎ ﻣﺠﻤﻠﻪ :أن ﺻﻼة اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ رآﻫﺎ اﻟﺸﺎرع ﻏري ﻛﺎﻓﻴﺔ ﺑﺎملﺮاد ﻣﻦ اﺗﺤﺎد املﺴﻠﻤني واﺗﻔﺎق ﻛﻠﻤﺘﻬﻢ ،ﻓﺠﻌﻞ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن اﻟﻘﺎﻃﻨﻮن ﰲ اﻟﺒﻠﺪة اﻟﻮاﺣﺪة ﰲ املﺴﺠﺪ ﻟﺴﻤﺎع املﻮاﻋﻆ اﻟﺤﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺄﻣﻮر اﻵﺧﺮة ،ﻓﻴﺨﻄﺐ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﻣﻨﻬﻢ ﻣُﺒﻴﱢﻨًﺎ ﻟﻬﻢ أﻧﻮاع اﻟﺒﺪع املﺴﺘﻬﺠﻨﺔ واملﻔﺎﺳﺪ اﻟﺘﻲ ﺗﴬ ﺑﺎﻷﺧﻼق ،واﻵداب ،وﻳﺤﺜﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺎﺿﺪ ،وﺗﺮك املﻌﺎﴆ ،واﻹﻗﺒﺎل ﻋﲆ ﺧري اﻷﻋﻤﺎل ،وإﻗﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺎﺋﺮ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ َ وﻫﻠُﻢ ﺟ ٍّﺮا. وﻻ ﺷﻚ أن اﺟﺘﻤﺎع املﺴﻠﻤني ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺳﺒﻮع ﻟﺴﻤﺎع ﻫﺬه املﻮاﻋﻆ ﻣﻤﺎ ﻳﺸ ﱡﺪ وﻳﻘﻮﱢي راﺑﻄﺔ اﻹﺧﺎء واﻻﺗﺤﺎد ﺑﻴﻨﻬﻢ ،وﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳﺪًا واﺣﺪة ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻬﻤﱡ ﻬﻢ أﻣﺮه دﻧﻴﺎ وأﺧﺮى ،ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻤﻀﻤﻮن ﻣﺎ ﻳ َُﻠﻘﻰ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻢ واملﻮاﻋﻆ واﻷواﻣﺮ واﻟﻨﻮاﻫﻲ. وﻗﺪ ارﺗﻘﻰ اﻟﺸﺎرع ﰲ اﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻻﺗﺤﺎد إﱃ درﺟﺔ أرﻗﻰ؛ ﺣﻴﺚ أﻣﺮﻫﻢ ﺑﺼﻼة اﻟﻌﻴﺪﻳﻦ ﻟﻴﺘﻔﺮغ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺷﻐﻞ وﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ املﻮدة واﻻﺋﺘﻼف ً ﻣﺼﺎﻓﺤﺔ وﺗﻬﻨﺌﺔ ﺑﻤﺮور اﻟﻌﺎم وﻫﻢ ﰲ أﺗ ﱢﻢ وﻓﺎق واﻟﺘﺌﺎم ،ﻓﻴﺼﺎﻓﺢ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﰲ اﻟﺒﻠﺪة أﻫﻠﻬﺎ ﻣﺼﺎﻓﺤﺔ اﻷخ أﺧﺎه ﻛﺄﻧﻪ ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ أو أﺣﺪ أﻗﺮﺑﺎﺋﻪ ،وﻳﻜﻮن املﺴﻠﻤﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﻓﺮﺣني ﻣﺴﺘﺒﴩﻳﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮن أﺣﺴﻦ اﻟﻠﺒﺎس ،وﻳﺒﺬﻟﻮن ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﻳﻘﺪرون ﻋﲆ ﺑﺬﻟﻪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮال ﻣﻮاﺳﺎ ًة ﻟﻠﻔﻘﺮاء ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮن اﻟﻜ ﱡﻞ ﻓﺮﺣً ﺎ ﻣﴪو ًرا. وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻼة ﻋﻴﺪ اﻟﻔﻄﺮ ﻻ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﱠإﻻ أﻫﻞ اﻟﺒﻠﺪة اﻟﻮاﺣﺪة ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﻓﺮض اﻟﺸﺎرع ﺻﻼة ﻋﻴﺪ اﻷﺿﺤﻰ ﻟﻴﺠﺘﻤﻊ املﺴﻠﻤﻮن ﰲ اﻷﻣﺎﻛﻦ املﻘﺪﺳﺔ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺑﻠﺪ وﻛ ﱢﻞ ُﻗﻄﺮ 100
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن املﻮدة ً أﻳﻀﺎ ،ﻓﻴﻜﻮﻧﻮن ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ ﻋﲆ اﺧﺘﻼف أﺟﻨﺎﺳﻬﻢ وﺑُﻌﺪ ﺑﻼدﻫﻢ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻛﺄﻧﻬﻢ أﻓﺮاد ﻋﺎﺋﻠﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﰲ ﺑﺎب اﻟﺤﻜﻤﺔ ا ُملﺮادة ﻣﻦ ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﺤﺞ. ) (52اﻷذان أﻣﺎ اﻷذان ﻓﺤﻜﻤﺘﻪ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺟﺪٍّا ﻷن اﻟﻨﺎس ﻟﺪاﻋﻲ اﺷﺘﻐﺎﻟﻬﻢ ﺑﺄﻣﺮ املﻌﺎش ﻗﺪ ﻳﻨﺴﻮن وﻗﺖ أداء اﻟﻔﺮﻳﻀﺔ ،ﻓﺠُ ﻌِ ﻞ اﻷذان ﻹﻋﻼﻣﻬﻢ ﺑﺤﻠﻮل اﻟﻮﻗﺖ ،ﻓﻴﱰﻛﻮن اﻷﺷﻐﺎل وﻳُﻘ ِﺒﻠﻮن ﻋﲆ اﻟﺼﻼة ،وﰲ ﻟﻔﻆ اﻷذان إﺷﺎرة إﱃ أن اﻟﺼﻼة ﺧري اﻷﻋﻤﺎل؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل املﺆذن» :ﺣﻲ ﻋﲆ اﻟﺼﻼة ﺣﻲ ﻋﲆ اﻟﻔﻼح «.وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرة أﻗﺒﻠﻮا ﻋﲆ اﻟﺼﻼة اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻼحٌ ﻟﻜﻢ وﻻ ﳾء أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﺟﺘﻤﺎع املﺴﻠﻤني ﻷداء اﻟﻔﺮﻳﻀﺔ املﺘﻀﻤﱢ ﻨﺔ ﻟﻠﺤِ َﻜﻢ اﻟﺘﻲ ﴍﺣﻨﺎﻫﺎ وﻫﻲ اﻟﻔﻼح ﺑﻌﻴﻨﻪ. وﻷﺟﻞ ﻫﺬا اﻟﻐﺮض ﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺸﺎرع ﺷﻴﺌًﺎ ﻏري اﻷذان ﻟﻬﺬه اﻟﺼﻼة ،ﻷﺟﻞ إﻋﻼم املﺴﻠﻤني ﺑﺤﻠﻮل وﻗﺖ اﻟﺼﻼة ،ﱠ وإﻻ ﻟﻨﺎب ﻋﻨﻪ اﻟﻨﺎﻗﻮس أو أي ﳾء ﻳﻨﻴﺒﻪ اﻟﻨﺎس إﱃ ﺣﻠﻮل اﻟﻮﻗﺖ ،وﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻻﻛﺘﻔﻰ ﻣﺴﻠﻤﻮ ﻣﴫ واﻟﻬﻨﺪ ً ﻣﺜﻼ ﺑﻤﺪﻓﻊ ﻧﺼﻒ اﻟﻨﻬﺎر اﻟﺬي ﻳُﴬَ ب ﰲ وﻗﺖ ﺻﻼة اﻟﻈﻬﺮ. ) (53اﻹﻣﺎﻣﺔ وﰲ اﻹﻣﺎﻣﺔ إﺷﺎرة إﱃ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻘﺘﺪي ﺑﺄﻫﻞ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻌﻘﻼء ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ،وزﻳﺎد ًة ﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻹﻣﺎم ﻧﺎﺋﺐ ﻋﻦ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻟﺬي ﻫﻮ ﻧﺎﺋﺐ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ،ﻓﺈذا اﻗﺘﺪى املﺴﻠﻤﻮن ﺑﺎﻹﻣﺎم ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻫﻢ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻘﺘﺪون ﺑﺎﻟﺮﺳﻮل؛ وﻟﺬﻟﻚ ُ اﺷﱰط ﰲ اﻹﻣﺎم ﴍوط ﻳﺪل ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن اﻹﻣﺎم ﻋﺎ ًملﺎ ﺗﻘﻴٍّﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺳﺎ ًملﺎ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻌﻴﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﺸني اﻟﺮﺟﺎل وﺗﺰري ﺑﻬﻢ. وﻣﺜﺎل ذﻟﻚ إذا اﺟﺘﻤﻊ املﺴﻠﻤﻮن ﻟﻠﺼﻼة اﺧﺘﺎروا أﻛﱪﻫﻢ وأﺻﻠﺤﻬﻢ ،وإذا ﺗﺴﺎووا اﺧﺘﺎروا أﻛﱪﻫﻢ ﺳﻨٍّﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻜﻮن ﻓﻄﻨًﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻌﻘﻞ واﻹدراك. وملﺎ ﻛﺎن اﻹﻣﺎم ﻣﻤﺘﺎ ًزا ﻟﻬﺬه اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ أﻣ َﺮﻧﺎ اﻟﺸﺎرع ﺑﺄن ﻻ ﻳﻘﺘﺪي اﻟﺤﺮ ﺑﺎﻟﻌﺒﺪ ،وﻫﻜﺬا ﻣﻦ املﻤﻴﺰات اﻷﺧﺮى.
101
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (54اﻟﺰﻛﺎة وﰲ اﻟﺰﻛﺎة ﻛﻨﱠﺎ ﻧﺒني ﻟﻬﻢ أن اﻹﻧﺴﺎن إذا ﻛﺎن اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﻔﻘﺪ أﻗﺎرﺑﻪ ،وأﻫﻠﻪ وﻳﻮاﺳﻴﻬﻢ ،وﻳﺴﺄل ﻋﻦ اﻟﻔﻘري ﻓﻴﻬﻢ ﻓﻴﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ املﻌﺎش ﺑﺒﺬل اﻷﻣﻮال واﻟﺠﺎه ،ﻓﻜﺬﻟﻚ املﺴﻠﻤﻮن ﺟﻌﻠﻬﻢ اﻟﺪﻳﻦ ﻛﺄﻫﻞ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ،ﻓﻴﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﻐﻨﻲ أن ﻳﺠﻮد ﻋﲆ اﻟﻔﻘري َ ﺻ ْﻮﻧًﺎ ملﺎء وﺟﻬﻪ ﻣﻦ ذ ﱢل اﻟﺴﺆال ،وﻣﻦ ﻫﺬا ﻓﻮاﺋﺪ ﺟﻤﱠ ﺔ ﻣﻨﻬﺎ :أﻧﻬﺎ ﺗﻘﻮي راﺑﻄﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ملﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ املﻮدة واملﺤﺒﺔ املﺘﺒﺎدﻟﺔ ﺑني املﺴﻠﻤني ﺑﺴﺒﺐ ﺟُ ﻮ ِد اﻟﻐﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﻔﻘري، وﻣﻨﻬﺎ أﻧﻬﺎ ﺳﺒﺐ ﻟﺤﺼﻮل اﻷﻣﻦ اﻟﻌﺎم ﰲ اﻟﺒﻼد ﻓﺘﻤﺘﻨﻊ اﻟﴪﻗﺔ؛ ﻷن أﻛﺜﺮ وﻗﻮﻋﻬﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻔﻘﺮاء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺪﻓﻌﻮن إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺎﻣﻞ اﻟﻔﻘﺮ ،وﻣﻨﻬﺎ ﻧﻔﻲ اﻟﺘﺤﺎﺳﺪ اﻟﺬي ﻫﻮ ﻣﻦ أﻛﱪ ﻋﻮاﻣﻞ ﻓﺴﺎد اﻟﺒﻼد واﻟﻌﺎﺋﻼت ،وﻣﻨﻬﺎ ﺗﻄﻬري ﻟﻠﻤﺎل ،ﻓﺘﺤﺼﻞ اﻟﱪﻛﺔ وﻫﻲ اﻟﻨﻤﺎء واﻟﺰﻳﺎدة، وﻣﻨﻬﺎ اﻟﺤﺚ ﻋﲆ اﻟﻜﺮم وﻫﻮ ﻣﻼك اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ،واﻟﺘﻨﻔري ﻣﻦ اﻟﺒﺨﻞ وﻫﻮ أﻛﱪ اﻟﺮذاﺋﻞ ،وﻣﻨﻬﺎ ﱡ ﺗﻀﻦ ﺑﺎﻟﴚء اﻟﻌﺰﻳﺰ ﻟﺪﻳﻬﺎ ،وﻫﻜﺬا ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻮﺟﻮه اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻤﻨﻬﺎ اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﻔﺲ؛ ﻷﻧﻬﺎ اﻟﺰﻛﺎة. ) (55اﻟﺼﻮم ﻫﻮ اﻹﻣﺴﺎك ﻋﻦ اﻟﻐﺬاء وﻣﺎ ﰲ ﺣﻜﻤﻪ ﻣﻤﺎ ﻳﺴﺪ اﻟﺮﻣﻖ وﻋﻦ اﻟﺠﻤﺎع ،وﻛﺄن ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — ﻳﺸري إﱃ أن إذﻻل اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻨﻌﻬﺎ ﻋﻦ أﻫﻢ ﳾء ﻣﻘﻮﱢم ﻟﻠﺤﻴﺎة وﻫﻮ اﻟﻐﺬاء ﻟﻜﻲ ﻳﺒﻌﺪﻫﺎ ﻋﻦ اﻟﴩﱢ ،وﻳﺪ ﱢرﺑﻬﺎ ﻋﲆ اﺣﺘﻤﺎل اﻟﺤﻴﻠﻮﻟﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﺷﻬﻮاﺗﻬﺎ ،وﻓﻴﻪ إﺷﺎرة ً أﻳﻀﺎ إﱃ أن اﻟﺠﻮع اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻔﻴﺪ ﻟﻠﺼﺤﺔ؛ ﻷن اﻟﺸﻬﻮة ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻻ ﺗﺘﻔﻖ ﱠإﻻ ﻋﻨﺪ اﻣﺘﻼء اﻟﺒﻄﻦ واﻛﺘﻈﺎﻇﻬﺎ ﺑﺎﻷﻛﻞ ،وﰲ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﴬر ﻣﺎ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ. ﻧﺰل ﻓﻴﻪ اﻟﻘﺮآن ،وﰲ اﻟﺼﻮم ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﻬﺮ وﻗﺪ ُﻓ ِﺮض اﻟﺼﻮم ﰲ ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن اﻟﺬي أ ُ ِ ﻓﻮاﺋﺪ ﻋﻈﻤﻰ؛ إذ ﻳﱰك ﻓﻴﻪ املﺴﻠﻤﻮن ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺎﴍوﻧﻪ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﻌﺎﴆ ﻓﻴﺼﲇ ﺗﺎرك َ اﻟﻜﺄس ﺷﺎربُ اﻟﺨﻤﺮ ،وﻳﺨﺮج اﻟﺼﺪﻗﺔ اﻟﺒﺨﻴﻞ ،وﻳﻄﻌﻢ اﻟﻄﻌﺎم املﺴﻜني، اﻟﺼﻼة ،وﻳﺤﺮم واﻟﻴﺘﻴﻢ ،واﻷﺳري وﻫﻠﻢ ﺟ ٍّﺮا ،وﻫﻮ أﺣﺪ أرﻛﺎن اﻹﺳﻼم اﻟﺨﻤﺲ. وﻗﺪ أراد اﻟﺸﺎرع ﰲ اﻟﺼﻮم ﺣﻜﻤﺔ أﺧﺮى ،وﻫﻲ ﱢ ﺣﺚ املﺴﻠﻤني ﻋﲆ أداء اﻷﻣﺎﻧﺔ ﻷﻫﻠﻬﺎ، ً إﻃﺎﻋﺔ ﻷﻣﺮ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ وﻛﺬﻟﻚ أن املﺴﻠﻢ إذا ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ اﻟﻄﻌﺎم إﻳﺪاع اﻷﻣﺎﻧﺔ ،ﻓﺈذا و ُِﺟﺪ املﺴﻠﻢ ﰲ ﺑﻴﺘﻪ ﻣﻨﻔﺮدًا وﻋﻨﺪه اﻟﻐﺬاء وﻣﻨﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻣﻊ أﻧﻪ ﻟﻮ ﺗﻨﺎول ﻣﻨﻪ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﺑﻪ أﺣ ٌﺪ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺣﻔﻆ اﻷﻣﺎﻧﺔ ﰲ وﻗﺖ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺤﻔﻈﻬﺎ 102
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ملﺎ ﻋﺮﻓﻪ أﺣﺪ ،وملﺎ أﺛﺒﺖ ﻋﻠﻴﻪ أﺣﺪ اﺧﺘﻼﺳﻬﺎ ،وﰲ ﻫﺬا ً أﻳﻀﺎ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻠﺸﻴﻄﺎن؛ ﻷﻧﻪ أﻛﺜﺮ ً وﺳﻮﺳﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺑﻔﻌﻞ املﻨﻜﺮ إذا اﺧﺘﲆ املﺮء ﺑﻨﻔﺴﻪ وآﻣﻦ ﻣﻦ اﻃﻼع أﺣﺪ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺠﺘﻬﺪ ﰲ اﻟﻮﺳﻮﺳﺔ واﻹﻏﺮاء ،ﻓﻤﺨﺎﻟﻔﺘﻪ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻠﻨﻔﺲ اﻷﻣﺎرة ﺑﺎﻟﺴﻮء ،ﻓﻬﺬه ﱡ ﱢ ﺑﺎﻟﺘﺤﲇ ﺑﻬﺎ. ﻳﺤﺚ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺼﻮم وﻻ ﻏﻨﻰ ﻟﻠﻤﺮء اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻛﻠﻬﺎ ) (56اﻟﺤﺞ أﻣﺎ اﻟﺤﺞ ﻓﻘﺪ أﻓﻀﻨﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻼم أزﻳﺪ ﻣﻦ ﻏريه ،وﻛﻨﱠﺎ ﻧﺮى اﻟﻘﻮم ﻣﻌﺠﺒني ﺑﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺤﺞ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريه؛ ﻷﻧﻨﺎ ﺑﻴﱠﻨﺎ ﻟﻬﻢ أن اﻟﺸﺎرع ملﺎ وﺟﺪ املﺴﻠﻤني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺠﻤﻌﻬﻢ ﺟﺎﻣﻌﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﻫﻢ ﻛﺄﻓﺮاد اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﺗﻌﺎﱃ﴿ :إِﻧﱠﻤَ ﺎ ا ْﻟ ُﻤ ْﺆ ِﻣﻨ ُ َ ﻮن إ ِ ْﺧ َﻮ ٌة﴾ ،وﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة ً ﺑﻌﻀﺎ «.وﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﺄن أﻓﺮاد اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ أن واﻟﺴﻼم» :املﺆﻣﻦ ﻟﻠﻤﺆﻣﻦ ﻛﺎﻟﺒﻨﻴﺎن ﻳﺸﺪ ﺑﻌﻀﻪ ً ﺑﻌﻀﺎ ،ﻓﺮض اﻟﺤﺞ ﻟﻴﺠﺘﻤﻊ املﺴﻠﻤﻮن ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺟﻨﺲ ﰲ ﻣﻜﺎن ﻳﺘﺰاوروا وﻳﺘﻌﻬﺪ ﺑﻌﻀﻬﻢ واﺣﺪ ،ﻓﻴﺘﻌﺎرف اﻟﱰﻛﻲ ﺑﺎﻟﺼﻴﻨﻲ ،واﻟﻬﻨﺪي ﺑﺎﻟﺮوﻣﻲ ،واﻟﻌﺮﺑﻲ ﺑﺎﻹﻓﺮﻧﺠﻲ ،واملﴫي ﺑﺎﻟﺴﻮري ،واملﻐﺮﺑﻲ ﺑﺎﻟﻴﻤﻨﻲ وﻫﻠﻢ ﺟ ٍّﺮا ،وﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﻟﺘﻌﺎرف واﻟﺘﻮادد ،وﻳﺴﺄل ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ اﻵﺧﺮ ﻋﻦ أﺣﻮال ﺑﻼده وﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺤﻀﺎرة ،واملﺪﻧﻴﺔ ،واﻟﺘﺠﺎرة واﻟﺰراﻋﺔ وﻏري ذﻟﻚ ،وﺑﻬﺬا ﻳﻜﻮن املﺴﻠﻤﻮن ﻛﻠﻬﻢ ﻛﺄﻧﻬﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﻮن ﰲ ﻫﺬا املﺤﻞ؛ إذ ﻛﻞ واﺣﺪ ﻳﻤﺜﱢﻞ أﻣﺘﻪ وﺑﻼده. وﻓﻴﻤﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﺒني ﻟﻬﻢ أن اﻟﺤﺞ ﻫﻮ ﻣﻦ أﻗﻮى اﻷﺳﺒﺎب ﻟﺘﺄﻳﻴﺪ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﻮﱠف ﻣﻨﻬﺎ أوروﺑﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﻨﺎ ﻧﴩح ﻟﻬﻢ اﻟﺤﻜﻢ املﻮدﻋﺔ ﰲ املﻨﺎﺳﻚ ﻛﺎﻟﻄﻮاف واﻟﻔﺪاء واﻟﻮﻗﻮف ﺑﻌﺮﻓﺔ واﻟﻨﺰول ﻣﻦ ﻣﻨﻰ وﻏري ذﻟﻚ. وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ﻛﻞ ﻫﺬا ﻛﻨﱠﺎ ﻧﺘﻜﻠﻢ ﺑﺈﺳﻬﺎب ﻋﻦ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ زﻳﺎدة ﻋﻤﺎ ﺗﻘﺪم وﻛﻴﻒ ﺑﺪأت اﻟﺪﻋﻮة اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،وﻛﻴﻒ أن ﻫﺬا اﻟﺮﺳﻮل اﻷﻣﻲ ﻳﺠﻲء ﺑﻜﺘﺎب ﻫﻮ ﺟﺎﻣﻊ ﻟﻜ ﱢﻞ ﺳﻌﺎدة اﻷﻣﻢ ﰲ اﻟﺪﻧﻴﺎ واﻟﺪﻳﻦ. ً وأﻳﻀﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﴩح ﻟﻬﻢ اﻵداب اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﺤﻴﺔ واﻟﺴﻼم واملﻌﺎﻣﻼت ﺑني اﻟﻨﺎس ،وﻣﺎ ﰲ اﻟﺤﺪود اﻟﴩﻋﻴﺔ ﻣﻦ َ اﻟﻘﻮَد ﻛﺎﻟﻘﺘﻞ واﻟﺠﻠﺪ واﻟﻘﻄﻊ إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ واملﻮاﻋﻆ اﻟﺘﻲ ﺟﺎء ﺑﻬﺎ اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ. واﻟﺬي أراه أن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺟﻴﺪة ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺤﺘﺎﺟﻮن ﰲ إﺳﻼﻣﻬﻢ إﱃ ﱢ ﻣﺒﴩﻳﻦ أو ﻣﻨﺪوﺑني ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻨﻘﻮن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﻤﺠﺮد اﻃﻼﻋﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻜﺘﺐ املﺆﻟﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع. 103
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (57اﻟﺴﺒﺐ ﰲ اﻧﻌﻘﺎد املﺆﺗﻤﺮ ﻛﺄن اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ املﺮآة ﻟﺪى اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻧﻈﺮوا ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﻫﻴﺄﺗﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﺮأوا ﻓﻴﻬﺎ املﺠﺪ واﻟﻔﺨﺎر وﺳﺎﺋﺮ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻮ ﺑﺎﻟﺮﺟﺎل إﱃ أﻋﲆ ﻣﺮاﺗﺐ اﻟﻌﺰة واملﻨﻌﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ رأوا ﻓﻴﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻢ ﻳﺮﺿﻮه ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ أﻻ وﻫﻮ اﻟﺪﻳﻦ ،رأوا ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻢ اﻷﺻﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﺒﻌﻮا ﻓﻴﻬﺎ آﺑﺎءﻫﻢ وأﺟﺪادﻫﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻨﻄﺒﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﺄﻧِﻔﻮا ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﻔﺨﺮ اﻟﺒﺎﻫﺮ ﻏري ﻣﺘﺪﻳﻨني ﺑﺪﻳﻦ ﻳﻮاﻓﻖ ُرﻗﻴﱠﻬﻢ املﺎدي واﻷدﺑﻲ. وﻟﺬﻟﻚ اﺟﺘﻤﻊ اﻟﻜﱪاء ،واﻟﻮزراء ،واﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﻨﻬﻢ وﺗﺒﺎﺣﺜﻮا ﰲ ﺷﺄن اﺗﺨﺎذ دﻳﻦ ﻣﻦ اﻷدﻳﺎن ﻳﻘﺒﻠﻪ اﻟﻌﻘﻞ وﻳﻜﻮن دﻳﻨﻬﺎ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻓﻜﺎن ﻣﻤﻦ ﺣﴬ ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع اﻟﺒﺎرون ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ،ﻓﻮاﻓﻖ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﻗﱰاح وﻗﺎل إن أﻣﺔ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ ﻣﺜﻠﻨﺎ »ﺳﻮﺗﺎﻧﻌﻮ« وزﻳﺮ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ أن ﺗﺘﺨﺬ ﻟﻬﺎ دﻳﻨًﺎ ﻣﺒﻨﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻗﻮاﻋﺪ ﺻﺤﻴﺤﺔ ،وأﺻﻮل ﻻ ﺗﺪع ﰲ اﻟﻨﻔﻮس رﻳﺒًﺎ ،وﻟﻜﻦ أدع إﱃ ﻏريي اﺧﺘﻴﺎر اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻧﺼﻞ إﱃ املﺮﻏﻮب ،ﻓﻘﺎل اﻟﻜﻮﻧﺖ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ :إن اﻟﺮأي ﻋﻨﺪي ﻫﻮ أﻧﻨﺎ ﻧﺮﺳﻞ إﱃ اﻟﺪول املﺘﻤﺪﱢﻧﺔ »ﻛﺎﺗﺴﻮرة« رﺋﻴﺲ اﻟﻮزراء ﺧﻄﺎﺑﺎت رﺳﻤﻴﺔ؛ ﻟريﺳﻠﻮا إﻟﻴﻨﺎ اﻟﻌﻠﻤﺎء واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ املﺸﱰﻋني ﰲ دﻳﺎﻧﺎﺗﻬﻢ وﻣﺘﻰ وﺻﻠﻮا إﻟﻴﻨﺎ ﻋﻘﺪﻧﺎ ﻣﺆﺗﻤ ًﺮا دﻳﻨﻴٍّﺎ ﺗﺪور ﻓﻴﻪ املﻨﺎﻗﺸﺔ واملﺒﺎﺣﺜﺔ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻷدﻳﺎن ،وﻳﴩح ﻛ ﱡﻞ أﻫﻞ دﻳﻦ ﻗﻮاﻋﺪه ،وﻣﺘﻰ اﻫﺘﺪﻳﻨﺎ إﱃ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ اﻋﺘﻨﻘﻨﺎه وﺟﻌﻠﻨﺎه دﻳﻨﻨﺎ اﻟﺮﺳﻤﻲ .ﻓﺼﺎدق ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺮأي اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﺟﺮاﻓﻮش« وﴏﱠ ح ﺑﺄﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺮأي اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺪور ﺑﺨﻠﺪه ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أن ﻳُﻔﺘَﺢ ﺑﺎب اﻟﻜﻼم ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع. ً رﺟﻼ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺼني املﺴﻠﻤني ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﺣﺴﺎن وﻣﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﺟﺮاﻓﻮش« إن ﻧﻴﻮس« ﺣﴬ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﰲ ﺷﻬﺮ أﻏﺴﻄﺲ ﺳﻨﺔ ١٩٠٥وﻣﻌﻪ ﻛﺘﺎب ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ أ ﱠﻟﻔﻪ ،وﻓﻴﻪ ﺑﻴﺎﻧﺎت ﻛﺎﻓﻴﺔ وأد ﱠﻟﺔ ﻣﻨﺼﻔﺔ ﺣﺘﻰ إﻧﻲ اﺳﺘﺤﺴﻨﺖ ﻫﺬه اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ﺣﺎﻟﺖ دون أن ﻳُﺴﻤَ ﺢ ﻟﻬﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﺑﻨﴩ ﻛﺘﺎﺑﻪ؛ إذ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺤﺜﺖ ﻋﻦ دﻳﻦ ﺗﻌﺘﻨﻘﻪ ،أﻣﺎ اﻵن وﻗﺪ ﻋﺰﻣﺘﻢ ﻋﲆ ﻋﻘﺪ ﻣﺆﺗﻤﺮ دﻳﻨﻲ ﻳﻜﻮن ﺟﺎﻣﻌً ﺎ ﻟﻌﻠﻤﺎء وﻓﻼﺳﻔﺔ ﻛ ﱢﻞ دﻳﻦ ﻓﺈﻧﻲ أواﻓﻖ ﻋﲆ ﻫﺬا ﻛ ﱠﻞ املﻮاﻓﻘﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻲ أرى أن اﻷﻣﺔ ﻣﺘﻰ أﻣﺮ ﻛﻬﺬا ﻓﻬﻲ ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﺮأﻳﻜﻢ. رأﺗﻜﻢ ﴍﻋﺘﻢ ﰲ ٍ وﺑﻤﺎ أن ﺣﺮﻳﺔ اﻷدﻳﺎن ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻓﻜ ﱡﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﻨﺎ ﻳﻌﺘﻨﻖ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﺮﺗﻀﻴﻪ ،وﻫﺬا ﻫﻮ رأﻳﻲ اﻟﺨﺼﻮﴆ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع. وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﺮغ املﺴﱰ »ﺟﺮاﻓﻮش« ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ ،ﺣﺘﻰ أﻗﺮ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﻦ ﺣﴬوا ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻋﲆ وﺟﻮب إرﺳﺎل اﻟﺨﻄﺎﺑﺎت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ إﱃ اﻟﺪول ،ﻷﺟﻞ اﻧﻌﻘﺎد املﺆﺗﻤﺮ وﰲ 104
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺻﺎدﻗﻮا ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﻗﱰاح ﺟﻨﺎب اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﻫﻴﺠﻴﻜﺎن« ،واﻟﺒﺎرون »ﺳﻮن«، واﻷول ﻣﻦ أﺻﺪﻗﺎء املﻴﻜﺎدو ،وﻳﻌﻮل ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﻬﺎﻣﺔ ذات اﻟﺒﺎل ،واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻫﻮ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ،وﻻ ﻳﻘﻞ ﻋﻨﻪ ﰲ اﻟﺜﻘﺔ ﻟﺪى املﻴﻜﺎدو ،واﻻﺛﻨﺎن ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺎ ﰲ اﻵداب واﻟﺤﻜﻤﺔ وزﻳﺮ املﺎﻟﻴﺔ وﻣﻌﺮﻓﺔ ﴐوب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﺑني ﺳﺎﺋﺮ أﻛﺎﺑﺮ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،وﺑﻌﺪ ﻫﺬه املﺪاوﻟﺔ واملﻔﺎوﺿﺔ ﻋُ ِﺮض اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﺟﻼﻟﺔ املﻴﻜﺎدو ﻓﻮاﻓﻘﻬﻢ ﻋﲆ ذﻟﻚ وأﺻﺪر أﻣﺮه اﻟﺮﺳﻤﻲ ﺑﺈرﺳﺎل اﻟﺨﻄﺎﺑﺎت إﱃ اﻟﺪول اﻟﻌﻈﻤﻰ ،وﻛﺎن ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺪول دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﺔ ودوﻟﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ، وإﻧﻜﻠﱰا ،ﻓﺈﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،ﻓﺎﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ﻓﺄملﺎﻧﻴﺎ ،وملﺎ أُﺑْﻠ ِﻐﺖ ﻫﺬه اﻟﺪول أﻣﺮ املﻴﻜﺎدو أرﺳﻠﺖ اﻟﻮﻓﻮد ﻣﻦ رؤﺳﺎء ﻛ ﱢﻞ ﻣﺬﻫﺐ ودﻳﻦ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻛ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻟﺪول ﻋﺪا دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﰲ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ وﻟﻜﻦ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ إﺑﻼغ ﻛ ﱢﻞ دوﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺪﺗﻬﺎ ﻫﻮ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻣﻦ ﺧﺼﻮص املﺬﻫﺐ؛ ﻷن ﻣﻨﻬﻢ :ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ،وأرﺛﻮذﻛﺲ ،وﺑﻮرﺗﻮﺳﺘﻨﺖ. وملﺎ ﺣﴬ اﻟﻮﻓﻮد ُﻗﻮ ِﺑﻠﻮا ﺑﻜ ﱢﻞ ﺣﻔﺎوة وإﺟﻼل ،وأول ﺟﻠﺴﺔ ﻋُ ﻘِ ﺪت ﻣﻦ املﺆﺗﻤﺮ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ أول ﺷﻬﺮ ﻣﺎرس ﺳﻨﺔ .١٩٠٦ ) (58اﻷﻋﻀﺎء املﻨﺪوﺑﻮن ﰲ املﺆﺗﻤﺮ ملﺎ ﺣﴬ اﻷﻋﻀﺎء املﻨﺪوﺑﻮن ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ دوﻟﻬﻢ ﻟﺤﻀﻮر املﺆﺗﻤﺮ ﻋﲆ ﺣﺴﺐ رﻏﺒﺔ املﻴﻜﺎدو اﻟﺬي أﺻﺪر أﻣﺮه اﻟﺮﺳﻤﻲ ﺑﺎﻧﻌﻘﺎده ،اﺳﺘُﻘﺒﻠﻮا أﺣﺴﻦ اﺳﺘﻘﺒﺎل وأﻋﺪ ﻟﻬﻢ ﻣﺤﺎل ﻟﻠﺴﻜﻨﻰ ﻻﺋﻘﺔ ﺑﻜﺮاﻣﺘﻬﻢ وﻛﺮاﻣﺔ اﻟﺪول ا ُمل ِ ﺮﺳﻠﺔ ﻟﻬﻢ ،وأﻋ ﱠﺪ ﻟﻬﻢ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻠﺰم ﻟﻜ ﱢﻞ وﻓﺪ ﱠإﻻ اﻷﻃﻌﻤﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻋﲆ ﻣﺼﺎرﻳﻒ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻛﻐريه ،واﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻫﺬا ﻟﻴﺲ اﻟﺒﺨﻞ أو اﻻﻗﺘﺼﺎد وﻟﻜﻦ ﻟﻌﺪم ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﻮاﻓﻖ ﻛ ﱠﻞ ْ وﻓﺪ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺂﻛﻞ؛ ﻓﻠﺬﻟﻚ ﺟﻌﻠﻮا ﻟﻬﻢ ﺣﺮﻳﺔ اﺧﺘﻴﺎر اﻷﻃﻌﻤﺔ. وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺴﺘﻘﺮ ﻗﺪم ﻫﺆﻻء اﻟﻮﻓﻮد ،ﺣﺘﻰ ﺣﺪﺛﺖ ﺿﺠﺔ ﻛﱪى ﺑني املﺒﴩﻳﻦ املﺴﻴﺤﻴني واﺿﻄﺮﺑﺖ أﻓﻜﺎرﻫﻢ أﻳﻤﺎ اﺿﻄﺮاب ،ﺳﻮاء ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ﻣﻨﻬﻢ واﻷرﺛﻮذﻛﺲ، واﻟﱪوﺗﺴﺘﻨﺖ ،وﻗﺪ اﺟﺘﻤﻊ ﺑﻌﺾ أﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﻮﻓﻮد ﻣﻦ ﻏري املﺴﻠﻤني ﺑﺎملﺒﴩﻳﻦ وﺳﺄﻟﻮﻫﻢ ﻋﻦ ﻧﺘﻴﺠﺔ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﺒﺸري ،وأﺧﺬوا ﻓﻜﺮﻫﻢ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﻮاه ﻣﻦ اﻷدﻳﺎن اﻷﺧﺮى ،ﻓﺄﺟﺎﺑﻬﻢ املﺒﴩون ﺑﻤﺎ ﻣﻌﻨﺎه: إﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺠﺰم ﺟﺰﻣً ﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ،أو ﻧﺮى رأﻳًﺎ ﺻﺎﺋﺒًﺎ ﻣﻦ ﺧﺼﻮص اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻮاﻓﻘﺔ ﻟﻠﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ،وذﻟﻚ أن ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻋﺘﻨﻖ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،وﺑﻌﺪ أن أوﺿﺤﻨﺎ ﻟﻬﻢ ﻗﻮاﻋﺪه وﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ وﻋﻨﻴﻨﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻋﺎﻧﻴﻨﺎه ﻣﻦ املﺸﺎق رأﻳﻨﺎﻫﻢ رﻓﻀﻮا ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ أ ُ ْﻟﻘِ ﻲ 105
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
إﻟﻴﻬﻢ ً رﻓﻀﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ،وﻟﻢ ﻧﻌﻠﻢ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي أﻟﺠﺄﻫﻢ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺮﻓﺾ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺎ ﻧﺠﺘﻬﺪ ﰲ إزاﻟﺔ ﻣﺎ ﻋﻠﻖ ﺑﺄذﻫﺎﻧﻬﻢ. وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ دﺧﻞ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ وﻣﻜﺚ ﻣﺪة ﻳﺘﻌﺒﺪ ،ﺛﻢ ﺧﺎﻟﻔﻬﺎ واﺗﺒﻊ ﴍﻳﻌﺔ »ﻛﻮﻧﻔﻮﺷﻴﻮس« وﻳﺪﱠﻋﻮن أن ﻫﺬه اﻟﴩﻳﻌﺔ ﻣﻦ ﻣﺒﺎدﺋﻬﺎ أن ﺗﺆ ﱢﻟﻒ ﺑني اﻟﻘﻠﻮب ﻋﲆ أﻧﻨﺎ إذا ﺗﺼﻔﺤﻨﺎ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﺎ ﺗﺠﺪﻫﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺧﺮاﻓﺎت ،وأوﻫﺎم ﺑﺎﻃﻠﺔ ،واﻋﺘﻘﺎدات ﻓﺎﺳﺪة ،وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﺳﺒﺐ دﻋﺎﻫﻢ إﱃ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﺑﻌﺪ أن اﻋﺘﻨﻘﻮه. وﻟﻮ ﻛﺎن رﻓﻀﻬﻢ ﻣﺒﻨﻴٍّﺎ ﻋﲆ أن اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻏري ﻣﺆ ﱢﻟﻒ ﺑني اﻟﻘﻠﻮب ،ﻓﻬﺬه ً أﻳﻀﺎ دﻋﻮى ﻣﻨﻘﻮﺿﺔ؛ ﻷن اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ اﻟﺬي ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻹﺣﺴﺎن إﱃ املﴘء واﻟﺼﻔﺢ ﻋﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﺢ أن ﻳﻘﺎل ﻓﻴﻪ إﻧﻪ ﻏري ﻣﺆ ﱢﻟﻒ ﺑني اﻟﻘﻠﻮب. ُﻌﺮﺑﻮا ﻋﻦ ﻣﺎ ﰲ وإذا ﻛﺎﻧﺖ دﻋﻮاﻫﻢ أﻧﻪ ﻏري ﻣﻮاﻓﻖ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻓﻜﺎن اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳ ِ ﺿﻤﺎﺋﺮﻫﻢ ﻣﻦ وﺟﻮه اﻟﻨﻘﺪ واﻻﻋﱰاض اﻟﺪال ﻋﲆ ﺻﺪق دﻋﻮاﻫﻢ ،وﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﻳﻨﻮن ﺑﻬﺬه اﻟﴩﻳﻌﺔ ﻋﲆ ﺗﻤﺎم اﻟﻮﻓﺎق واﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ ﻣﻦ اﻋﺘﻨﻘﻮا اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،وﻗﺪ ﻳﺠﻮز ﺑﻞ ﻫﻮ اﻷﻗﺮب إﱃ اﻟﺼﻮاب أن ﻫﺬا اﻟﺘﺂﻟﻒ واﻟﺘﻮاﻓﻖ املﻮﺟﻮد ﺑني اﻟﻄﺎﺋﻔﺘني ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺬي ﻫﻢ ﻓﻴﻪ ﺳﻮاﺳﻴﺔ ﻋﲆ اﺧﺘﻼف املﻌﺘﻘﺪات ،وﻧﺎﻫﻴﻚ ﺑﺘﻔﺎﻧﻲ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ ﻣﺤﺒﺔ وﻃﻨﻬﻢ .وإﻧﻨﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ذﻫﻮل ،واﻧﺪﻫﺎش ،وﺣرية ﻋﻈﻤﻰ؛ ً أوﻻ: ﻣﻦ ﻋﺪم ﺛﺒﺎت اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﻌﺘﻨﻘﻮﻧﻪ ،ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻷﺗﻌﺎب واملﺸﻘﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﰲ ﻛ ﱢﻞ آن ﰲ ﺳﺒﻴﻞ إرﺷﺎدﻫﻢ إﱃ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،ﺛﺎﻟﺜًﺎ: ﻋﲆ ﻛﺜﺮة املﺼﺎرﻳﻒ اﻟﺘﻲ ﻧﴫﻓﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ،وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه املﺼﺎرﻳﻒ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﺤﺘﺎﺟﻪ ﻣﻦ ﻣﺂﻛﻞ وﻣﺸﺎرب وﻣﻠﺒﺲ وﻣﺴﻜﻦ ،ﺑﻞ إﻧﻨﺎ ﻧﺴﺎﻋﺪ اﻟﻔﻘﺮاء ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﺧﻠﻮن ﰲ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ. وﻣﻦ املﺼﺎﺋﺐ أﻧﻨﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻧﺴﺎﻋﺪﻫﻢ وﻧﴫف ﻋﻠﻴﻬﻢ املﺼﺎرﻳﻒ اﻟﻔﺎدﺣﺔ ﻳﱰﻛﻮن اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ. وﺑﻤﺎ أن ﺣﺮﻳﺔ اﻷدﻳﺎن ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﺴﺘﻮﻓﻴﺔ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﴍوط اﻟﺤﺮﻳﺔ ،وﻟﻢ ﻧﻔﻠﺢ ﻧﺤﻦ ﻣﻊ ﻣُﻜﺜﻨﺎ ﻫﺬه املﺪة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻨﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻣﻔﻘﻮدة؟! واﻷﻏﺮب ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﻨﻴﻨﺎ ﺑﱰﺑﻴﺘﻬﻢ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وأدﺧﻠﻨﺎﻫﻢ ﰲ ﻣﺪارﺳﻨﺎ ،وﴏﻓﻨﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ املﺒﺎﻟﻎ اﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ وﺟﻮه ﻛﺜرية ﻏري املﺄﻛﻞ واملﴩب ﻳﺨﺎﻟﻔﻮﻧﻨﺎ ﺗﻤﺎم املﺨﺎﻟﻔﺔ ،وﻫﻢ ﻟﻴﺴﻮا ﺑﺎﻟﻌﺪد اﻟﻘﻠﻴﻞ ﺑﻞ ﻳُﻌﺪون ﺑﺎﻵﻻف وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮن املﺼﻴﺒﺔ ﻣﻀﺎﻋﻔﺔ ﻣﺼﻴﺒﺔ ارﺗﺪادﻫﻢ ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ ،وﻣﺼﻴﺒﺔ املﺼﺎرﻳﻒ اﻟﻜﺜرية ،وﻣﺼﻴﺒﺔ ﺗﻌﺒﻨﺎ اﻟﺬي ذﻫﺐ أدراج اﻟﺮﻳﺎح ،ﻓﻨﺤﻦ اﻵن ﰲ ﺣرية ﻣﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺣرية. 106
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻠﻤﺎ ﺳﻤﻊ اﻟﻮﻓﻮد ﻣﻦ املﺒﴩﻳﻦ ﻫﺬه اﻷﻗﻮال وﻋﺮﻓﻮا ﻣﺎ ﻟﻘﻮه ﻣﻦ اﻟﺸﺪاﺋﺪ ﻣﻊ ﻋﻘﻢ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺻﺎروا ﰲ ﺣرية ﻣﻦ أﻣﺮﻫﻢ ،واﻋﱰﺗﻬﻢ اﻟﺪﻫﺸﺔ وﻗﺎﻟﻮا :إذا ﻛﺎن ﻫﺆﻻء ﻣﻜﺜﻮا ﻣﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﴏﻓﻮا ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻃﺎﺋﻠﺔ ،وﻓﺘﺤﻮا ﻣﺪارس ﻋﺪﻳﺪة ،وﻟﻶن ﻟﻢ ﻳﺤﺼﻠﻮا ﻋﲆ ﺛﻤﺮة أﺗﻌﺎﺑﻬﻢ ،ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻨﺎ وﻧﺤﻦ ﺣﺪﻳﺜﻮ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﺎﻟﻘﺪوم إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن؟ ﻓﺄﺟﺎﺑﻬﻢ املﺒﴩون ﺑﻤﺎ ﻣﻔﺎده :إﻧﻜﻢ ﻻ ﺗﺪﻋﻮا اﻟﻘﻨﻮط ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻜﻢ ﻣﺄﺧﺬه وداوﻣﻮا ﻋﲆ اﻟﺜﺒﺎت ﰲ ﺟﻠﺴﺎت املﺆﺗﻤﺮ، وﻻ ﺗﻀﺠﺮوا ،وﻻ ﺗﺘﺨﺬوا ﻣﺎ ﻟﻘﻴﻨﺎه ﻣﻦ املﺘﺎﻋﺐ واملﺼﺎﻋﺐ ﺑﺎﻋﺜًﺎ ﻋﲆ إﺣﺠﺎﻣﻜﻢ ،ﻓﺈﻧﻜﻢ ﺳﺘﺤﴬون املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺬي ﻳُﺆ ﱠﻟﻒ ﻣﻦ أﻋﻴﺎن وأﴍاف اﻟﻘﻮم ،ورﺑﻤﺎ اﺧﺘﺎروا ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ دﻳﻨﻨﺎ واﺳﺘﺤﺴﻨﻮه ﻓﺎﻋﺘﻨﻘﻮه ،وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻓﺈن أﻫﻞ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺘﺒﻌﻮﻧﻬﻢ وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻳﺘﺒﻌﻬﻢ اﻟﻔﻘﺮاء؛ ﻷﻧﻬﻢ إذا رأوا اﻷﻛﺎﺑﺮ ﻣﻨﻬﻢ واﻟﻌﻘﻼء ﻓﻴﻬﻢ ﻓﻌﻠﻮا أﻣ ًﺮا ﻓﻬُ ْﻢ ﺗﺎﺑﻌﻮن ﻟﻬﻢ، ْ وﺣﺴﺒُﻜﻢ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻜﻢ ﺣﺰب ﻣﻦ اﻷﻋﻴﺎن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﻳﻨﻮن ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻣﻦ أﻗﻮى اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﻜ ﱢﻠﻞ ﻣﺴﻌﺎﻛﻢ ﺑﺎﻟﻨﺠﺎح؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻜﻮﻧﻮن ﻗﺪ ﺧﺪﻣﺘﻢ دﻳﻨﻜﻢ و ُدوَﻟﻜﻢ اﻟﺘﻲ اﺧﺘﺎرﺗﻜﻢ ﻟﻬﺬه املﻬﻤﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻘﻊ ﻗﻮل املﺒﴩﻳﻦ ﻫﺬا ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﻮﻗﻊ اﻟﻘﺒﻮل واﻻﺳﺘﺤﺴﺎن وﻗﺎﻟﻮا ﻟﻬﻢ :إذن أﻧﺘﻢ اﻵن ﻻ ﺗﻌﺮﻓﻮن ﻛﻴﻒ ﺗُﺴﺘﻤَ ﺎل ﻗﻠﻮب ﻋﻘﻼء اﻷﻣﺔ وأﻣﺮاﺋﻬﺎ ،ﻣﻊ أﻧﻜﻢ ﻣﻜﺜﺘﻢ ﻫﻨﺎ اﻟﺴﻨني اﻟﻌﺪﻳﺪة ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ وﺳﻌﻜﻢ أن ﺗﺴﺘﻤﻴﻠﻮا ﻗﻠﻮب اﻟﺒﺴﻄﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻗﺪرة ﻟﻬﻢ ﻋﲆ املﺠﺎدﻟﺔ ﰲ أي ﻣﺴﺄﻟﺔ دﻳﻨﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻫﺬا ﻳُﺴﺘﺪَل ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أﻧﻜﻢ ﺟﺎﻫﻠﻮن ﺗﻤﺎم اﻟﺠﻬﻞ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺘﺒﺸري وﺟﺬب اﻟﻘﻠﻮب إﻟﻴﻜﻢ. ﻫﺬا ،واﻟﺬي أراه وﻳﺮاه ﻛ ﱡﻞ ﻋﺎﻗﻞ ﻣﻨﺼﻒ أن املﺒﴩﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺪﱠﺧﺮوا وﺳﻌً ﺎ ﰲ اﺳﺘﻤﺎﻟﺔ ﻗﻠﻮب اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني؛ ﻷﻧﻬﻢ ﺑﺎرﻋﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻓﻼ ﺣﻖ ﻟﻠﻤﻨﺪوﺑني ﰲ وﺻﻔﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ، وﻟﻜﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻋﺎﻣﻠﻮﻫﻢ ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ املﺜﻞ املﺸﻬﻮر ﻋﻨﺪﻫﻢ وﻫﻮ »أﻛﺮم اﻟﻐﺮﻳﺐ وﻻ ﺗﺠﻬﻞ ﻧﻮاﻳﺎه«. ) (59اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ املﺆﺗﻤﺮ ملﺎ وﺻﻞ اﻟﻮﻓﻮد املﻨﺘﺪَﺑﻮن ﻣﻦ ﻗِ ﺒﻞ اﻟﺪول إﱃ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺻﺪر أﻣﺮ املﻴﻜﺎدو ﺑﺎﻧﻌﻘﺎد املﺆﺗﻤﺮ ،وﻛﺎن اﻟﺤﺎﴐون ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﻋﻀﺎء وﻏريﻫﻢ ﻳﺒﻠﻎ ﻧﺤﻮ املﺎﺋﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ً رﺟﻼ ﻣﻦ أﻛﺎﺑﺮ رﺟﺎل اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺑني ﻋﺎﻟﻢ ﻓﻴﻠﺴﻮف ،ووزﻳﺮ ﺧﻄري ،وﻋﺎﻟﻢ اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،وﻋﻈﻴﻢ ﺳﻴﺎﳼ ،وﻏري ﻫﺆﻻء ﻣﻤﻦ ﻟﻬﻢ دراﻳﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﺑﺴﺎﺋﺮ اﻟﻌﻠﻮم واﻟﻔﻨﻮن ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻠﺴﺔ ﺗﺤﺖ رﺋﺎﺳﺔ املﻴﻜﺎدو ﻧﻔﺴﻪ. وأول ﻣﺎ ُﻓﺘِﺤﺖ اﻟﺠﻠﺴﺔ ﻋُ ِﺮﺿﺖ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﻮر اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻬﺬا املﺆﺗﻤﺮ ،وﻫﻲ أن اﻟﻐﺮض ﻣﻦ ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ ﻫﻮ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ أﺻﻮل ﻛ ﱢﻞ دﻳﻦ وﻣﺬﻫﺐ ﻳﺮﻳﺪ أﻫﻠﻪ أن ﻳﻌﺘﻨﻘﻪ 107
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﻋﲆ ﴍط أن ﺗﻜﻮن ﻛ ﱡﻞ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺆﺗَﻰ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ﻛ ﱢﻞ دﻳﻦ ﻣﻄﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ ،ﱠ وإﻻ ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻪ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻗﺎم أﺣﺪ اﻷﻋﻀﺎء املﻨﺘﺪَﺑني ﻣﻦ ﻗِ ﺒﻞ دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﺔ ،وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :أﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ املﺆﺗﻤﺮ ﻣﻦ أن اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﲆ أﻫﻞ ﻛ ﱢﻞ دﻳﻦ وﻣﺬﻫﺐ أن ﻳﺒﻴﱢﻨﻮا ﻗﻮاﻋﺪ دﻳﻨﻬﻢ ،وﻣﺬﻫﺒﻬﻢ ﺑﺎﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني املﻄﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ ،ﻓﺄﻗﻮل إﻧﻲ ﻛﻔﻴﻞ ﱠ ﺑﺄن ﻛ ﱠﻞ ﺑﺮﻫﺎن ودﻟﻴﻞ أﻗﻴﻤﻪ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻻ ﻳﺨﺮج ﻋﻦ داﺋﺮة املﻌﻘﻮﻻت ﺳﻮاء ذﻟﻚ ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﻜﻠﻴﺔ واﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻣﻦ أﻣﻮر دﻳﻦ اﻹﺳﻼم؛ إذ اﻟﺸﺎرع ﻟﻢ ﻳﻀﻊ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﻦ ﻋﺒﺜًﺎ ،ﺑﻞ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ﻳﺮﻳﺪﻫﺎ ﺑﺎﻷواﻣﺮ واﻟﻨﻮاﻫﻲ وﻛﻞ أﻧﻮاع املﻌﺎﻣﻼت واﻟﻌﺒﺎدات ،وإﻧﻲ زﻋﻴﻢ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺄن أﺟﻴﺐ ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ اﻋﱰاض أو ﺳﺆال ﰲ ﺷﺒﻬﺔ رﺑﻤﺎ ﺗَﻌْ ِﺮض ﻷﺣﺪ ،ﺑﴩط أن ﻳﻜﻮن اﻟﺴﺆال أو اﻻﻋﱰاض ﰲ اﻷﻣﻮر املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﺠﻮﻫﺮ اﻟﺪﻳﻦ. وﻋﲆ أﺛﺮ ﻗﻮﻟﻪ ﻫﺬا ﻗﺎم اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﻫﻴﺠﻴﻜﺎن« وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :ﺣﻴﺚ إن ﺟﻨﺎب املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻗﺎل ﻣﺎ ﻫﻮ املﻘﺼﻮد ﻣﻦ ﻋﻘﺪ ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ واﺷﱰط ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني ﻋﲆ ﺻﺤﺔ دﻳﻦ اﻹﺳﻼم ،وﻛﺬﻟﻚ اﺷﱰاﻃﻪ ﺑﺄن ﻳﺠﻴﺐ ﻋﲆ اﻻﻋﱰاﺿﺎت واﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺸﺒَﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﻄﺎﺑﻖ اﻟﻌﻘﻞ ﻓﻤﺎ ﻋﻠﻴﻪ اﻵن ﱠإﻻ أن ﻳﺒﺪأ ﻓﻴﻤﺎ ﱠ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻮ ﻋﺮﺿﺖ ُﺷﺒْﻬﺔ ﻣﻦ ﱡ ﺗﻜﻔﻞ ﺑﻪ ْ واﺷ َﱰَﻃﻪ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ ،ﺛﻢ ﺟﻠﺲ وﻗﺎم ﺑﻌﺪه املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻠﺨﺼﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﺘﻲ أﻟﻘﺎﻫﺎ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﺔ :اﻗﺘﻀﺖ ﺣﻜﻤﺔ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ أﻳﻬﺎ اﻷﻓﺎﺿﻞ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺳﻞ اﻟﺮﺳﻞ إﱃ اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒﺪ ﻣﺎ ﺳﻮاه أﻧﻪ ﻳﺮﺳﻠﻬﻢ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ وﻣﻌﺠﺰات ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻷﺣﻮال ﻧﺒﻲ وأﻃﻮار ﻫﺬه اﻷﻣﻢ ﻟﺘﻜﻮن اﻟﺤﺠﺔ أﺑﻠﻎ واﻟﱪﻫﺎن أﻗﻮى؛ وﻟﺬﻟﻚ إذا اﻃﻠﻌﻨﺎ ﻋﲆ ﺳرية ﻛ ﱢﻞ ﱟ وﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ أﻳﱠﺪه ﺑﻪ ﷲ ﻣﻦ املﻌﺠﺰات ﻧﺠﺪ أن ﴍﻳﻌﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻴﴗ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم وﻣﻌﺠﺰاﺗﻪ ﺧِ ﻼف ﴍﻳﻌﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﳻ وﻣﻌﺠﺰاﺗﻪ وﻫﻠﻢ ﺟ ٍّﺮا. وﻣﺎ ذﻟﻚ ﱠإﻻ ﻷن أﻣﺔ ﻛ ﱢﻞ ﻧﺒﻲ ﺗﻐﺎﻳﺮ اﻷﺧﺮى ﰲ املﻌﺘﻘﺪات واﻟﻌﻮاﺋﺪ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪﱠم ،وﻷﺟﻞ ﺑﻴﺎن ﻫﺬا اﻹﺟﻤﺎل أﻗﻮل :ملﺎ أرﺳﻞ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﳻ إﱃ ﻓﺮﻋﻮن وﻫﻮ أﺣﺪ ﻣﻠﻮك اﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻜﻤﻮا ﻣﴫ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻗﺪ زاد ﰲ ﻃﻐﻴﺎﻧﻪ إﱃ أن ادﱠﻋﻰ اﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﰲ اﻷرض وﻃﻤﺤﺖ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻪ إﱃ أن ﻳﺼﻌﺪ إﱃ أﺳﺒﺎب اﻟﺴﻤﺎء ،وﺑﻠﻐﺖ ﺑﻪ درﺟﺔ اﻟﻜﻔﺮ إﱃ أن ﻗﺎل ﻟﻠﻤﴫﻳني﴿ :أَﻧَﺎ َرﺑﱡ ُﻜ ُﻢ ْاﻷَﻋْ َﲆ﴾ ،ﻛﻤﺎ ﺣﻜﻰ ﷲ ذﻟﻚ ﻋﻨﻪ ،وﺑﻠﻐﺖ ﺑﻪ درﺟﺔ ﴫ و ََﻫ ِﺬ ِه ْاﻷَﻧْﻬَ ﺎ ُر ﺗَﺠْ ِﺮي ِﻣ ْﻦ ﺗَﺤْ ﺘِﻲ﴾ ،ﻓﻠﻤﺎ اﻟﻐﺮور ﺑﺎملﻠﻚ إﱃ أن ﻗﺎل﴿ :أ َ َﻟﻴ َْﺲ ِﱄ ُﻣ ْﻠ ُﻚ ِﻣ ْ َ ﺟﺎء ﻣﻮﳻ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ﻳﺪﻋﻮه إﱃ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎهلل وﺣﺪه ﻻ ﴍﻳﻚ ﻟﻪ ،ﻛﱪ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﻣﺮ ﻓﻠﻢ ﻳﺆﻣﻦ ﻓﺄﻳﱠﺪ ﷲ ﻧﺒﻴﻪ ورﺳﻮﻟﻪ ﻣﻮﳻ ﺑﺎملﻌﺠﺰات وﻫﻲ اﻷﻣﻮر اﻟﺨﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻌﺎدة وﻟﻴﺲ ﰲ ﻗﺪرة اﻟﺒﴩ 108
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أن ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ ،ﻓﻤﻦ ﻫﺬه اﻵﻳﺎت واملﻌﺠﺰات إرﺳﺎﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ اﻟﻘﻤﻞ واﻟﻀﻔﺎدع اﻟﺘﻲ ﻣﻸت ﺑﻘﺎع اﻷرض وﻣﻨﺎزل اﻟﻘﻮم ،ﺣﺘﻰ ﺿﺎﻗﻮا ﺑﻬﺎ ذرﻋً ﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻘﺪر إﻟﻬﻬﻢ ﻓﺮﻋﻮن ﻋﲆ وﻗﺎﻳﺔ ﻧﻔﺴﻪ ووﻗﺎﻳﺘﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺻريورة ﻣﺎء اﻟﺒﺤﺮ واﻵﺑﺎر إﱃ دﻣﺎء ،ﺣﺘﻰ ﻛﺎدوا ﻳﻬﻠﻜﻮن ً ُﻈﻬﺮ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ ﻟﻔﺮﻋﻮن وﺟﻨﻮده أﻧﻬﻢ ﺿﻌﻔﺎء ﻻ ﻋﻄﺸﺎ ،وﻛﻞ ذﻟﻚ ﻷﺟﻞ أن ﻳ ِ ﻳﻤﻠﻜﻮن ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﺷﻴﺌًﺎ وأن ﻓﺮﻋﻮن ﻟﻮ ﻛﺎن إﻟﻬً ﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ ملﺎ ﻋﺠﺰ ﻋﻦ دﻓﻊ ﻫﺬه املﺼﺎﺋﺐ اﻟﺘﻲ ﺣ ﱠﻠﺖ ﺑﻪ وﺑﻘﻮﻣﻪ. وملﺎ ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ﻓﺎﺷﻴًﺎ ،وﻛﺎن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺑﺎرﻋني ﻗﺎﻟﻮا :إن ﻣﻮﳻ ﺳﺎﺣﺮ ﻓﺤﺎﺟﱠ ﻬﻢ ﻣﻮﳻ وﻃﻠﺐ ﻣﻨﻬﻢ املﻨﺎﻇﺮة ﻳﱪﻫﻦ ﻟﻬﻢ أﻧﻪ ﻧﺒﻲ ﻣﺮﺳﻞ ﻻ ﺳﺎﺣﺮ ،ﻓﺄﻣﺮ ﻓﺮﻋﻮن ً وﻓﻌﻼ أرﺳﻞ ﰲ املﺪاﺋﻦ ﺣﺎﴍﻳﻦ ﺑﻌﻘﺪ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﻳﺤﴬه ﻛ ﱡﻞ اﻟﺴﺤﺮة املﺎﻫﺮﻳﻦ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺴﺤﺮ، ﺳﺎﺣﺮ ﻋﻠﻴﻢ ،وﻛﺎن ﻣﻮﻋﺪﻫﻢ ﻳﻮم اﻟﺰﻳﻨﺔ وأن ﻳﺤﴩ اﻟﻨﺎس ﺿﺤﻰ ،ﻓﻠﻤﺎ أن اﺋﺘﻮﻧﻲ ﺑﻜﻞ ٍ ﺟﺎء اﻟﻴﻮم املﻮﻋﻮد وﺣﴬ اﻟﺴﺤﺮة وﻛﺎن أﻏﻠﺒﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ »ﻋني ﺷﻤﺲ« ﺑﻤﴫ ،أﻣﺮﻫﻢ ﻓﺮﻋﻮن ﺑﺄن ﻳﻌﻤﻠﻮا ﻋﻤﻠﻬﻢ ،ﻓﺄﻟﻘﻮا ﺳﺤﺮﻫﻢ وﻫﻮ ﻋﴢ وﺣﺒﺎل ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻬﻢ ﻓﺼﺎرت أﻓﺎﻋﻲ ﻣﻸت اﻷرض ،ﺣﺘﻰ ﺻﺎر املﻨﻈﺮ ﻣﺮﻳﻌً ﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﺎت ،ﻓﺄوﺣﻰ ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — إﱃ ﻧﺒﻴﻪ ﻣﻮﳻ ﺑﺄن ﻳﻠﻘﻲ اﻟﻌﺼﺎ ﻓﺄﻟﻘﺎﻫﺎ ﻓﺈذا ﻫﻲ ﺛﻌﺒﺎن اﻟﺘﻘﻒ ﻛ ﱠﻞ اﻟﺤﻴﺎت اﻟﺘﻲ أﻟﻘﺎﻫﺎ اﻟﺴﺤﺮة ﻓﻔﺰع ﻓﺮﻋﻮن وﺟﻨﻮده ،أﻣﺎ اﻟﺴﺤﺮة ﻓﺈﻧﻬﻢ اﻋﺘﻘﺪوا أن ﻓﻌﻞ ﻣﻮﳻ ﺧﺎرج ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻓﺂﻣﻨﻮا ﺑﻪ ،وﺻﺪﻗﻮه ،وﺧﺮوا هلل ﻋﻦ ﻃﺎﻗﺔ ﻛ ﱢﻞ ﺳﺎﺣﺮ ،وأﻧﻪ ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن ﻧﺒﻴٍّﺎ ﺳﺎﺟﺪﻳﻦ ،وﻗﺎﻟﻮا آﻣﻨﺎ ﺑﺮب ﻣﻮﳻ وﻫﺎرون. وﻟﻜﻦ ﻓﺮﻋﻮن ﻣﻊ وﺿﻮح اﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻋﺠﺰ اﻟﺴﺤﺮة أﺧﺬﺗﻪ اﻟﻌﺰة ﺑﺎﻹﺛﻢ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺆﻣﻦ وﻗﺎل ﻟﻠﺴﺤﺮة إﻧﻪ ﻟﻜﺒريﻛﻢ اﻟﺬي ﻋﻠﻤﻜﻢ اﻟﺴﺤﺮ ﻓﻸﻗﻄﻌﻦ أﻳﺪﻳﻜﻢ وأرﺟﻠﻜﻢ ﻣﻦ ﺧﻼف وﻷﺻﻠﺒﻨﻜﻢ ﰲ ﺟﺬوع اﻟﻨﺨﻞ؛ إذ آﻣﻨﺘﻢ ﺑﻪ ﻗﺒﻞ أن آذن ﻟﻜﻢ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺟﻌﻮا ﻋﻦ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ ﰲ ﺻﺪق ﻧﺒﻮة ﻣﻮﳻ وﺻﱪوا ﻋﲆ أذى ﻓﺮﻋﻮن ﱠملﺎ ﺗﺒني ﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﻘﺎﻃﻊ واﻟﺤﺠﺔ اﻟﺪاﻣﻐﺔ؛ إذ اﻟﻌﻘﻞ ﻻ ﻳﻘﺒﻞ أن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﱠ أن ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﻣﻮﳻ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺴﺤﺮ؛ ﺣﻴﺚ أﻓﺮغ اﻟﺴﺤﺮة ﺟﻬﺪﻫﻢ ﰲ إﻟﻘﺎء اﻟﺴﺤﺮ ،ﺣﺘﻰ ﻟﻢ َ ﻳﺒﻖ ﺑﺎب ﻟﺪﻳﻬﻢ ﱠإﻻ ﻃﺮﻗﻮه ،وملﺎ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻓﺮﻋﻮن ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺑﻬﺎ ﻳﺪﺣﺾ ﺣﺠﺔ ﻣﻮﳻ اﻋﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻗﻮﺗﻪ ﻓﺄﻣﺮ ﷲ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﳻ أن ﻳﺮﺣﻞ ﻣﻦ أرض ﻣﴫ ﻫﻮ وﻗﻮﻣﻪ اﻟﺬﻳﻦ آﻣﻨﻮا ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ إﴎاﺋﻴﻞ ﻓﺮﺣﻞ ﻓﺘﺒﻌﻪ ﻓﺮﻋﻮن ،ﺣﺘﻰ إذا ﻗﺎرب اﻟﻠﺤﻮق ﺑﻪ ﻋﲆ ﺳﺎﺣﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ أﻣﺮ ﷲ ﻣﻮﳻ أن ﻳﴬب ﺑﻌﺼﺎه اﻟﺒﺤﺮ ﻓﴬﺑﻪ ﻓﺎﻧﻔﻠﻖ وﻣ ﱠﺮ ﺑﻪ ﻣﻮﳻ وﻗﻮﻣﻪ ﻓﺎﺗﱠﺒﻌﻬﻢ ﻓﺮﻋﻮن وﻗﻮﻣﻪ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻧﺠﺎ ﻣﻮﳻ وﻣﻦ ﻣﻌﻪ أﻣﺎ ﻓﺮﻋﻮن ﻓﺈﻧﻪ أدرﻛﻪ اﻟﻐﺮق ﻫﻮ وﻗﻮﻣﻪ ،وملﺎ أﺣﺲ ﻓﺮﻋﻮن ﺑﺎﻟﻬﻼك ﻗﺎل :إﻧﻲ آﻣﻨﺖ أﻧﻪ ﻻ إﻟﻪ 109
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﱠإﻻ اﻟﺬي آﻣﻨﺖ ﺑﻪ ﺑﻨﻮ إﴎاﺋﻴﻞ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﻣﻨﻪ ﻫﺬا اﻹﻳﻤﺎن؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮﻻ ﺧﻮﻓﻪ ﻣﻦ اﻟﻐﺮق ﻟﻢ ﻳﻘ ْﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ ،وﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﺆﻣﻨًﺎ ٍّ ُ ﺣﻘﺎ ﻟﻜﺎن ﺻﺪﱠق ﻣﻮﳻ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ملﺎ أﺗﺎه ﺑﺎﻵﻳﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ. وﻛﺬﻟﻚ ﻓﻌﻞ ﻣﻮﳻ ﻣﻊ ﺑﻨﻲ إﴎاﺋﻴﻞ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﻣﻦ املﻌﺠﺰات اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺒﻠﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﺤﺎﻟﺔ ﻗﻮﻣﻪ ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ارﺗﺪوا ﺑﻌﺪ اﻹﻳﻤﺎن وأﺧﺬوا ﻳﻨﺘﻘﻠﻮن ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻜﻔﺮ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﻳﻤﺎن ،وﻛﺎن ﻣﻮﳻ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻵﻳﺎت ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﰲ ﻃﺎﻗﺔ اﻟﺒﴩ أن ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻠﻪ. وﻣﺜﺎل ذﻟﻚ أﻧﻪ ملﺎ اﺳﺘﺴﻘﺎه ﻗﻮﻣﻪ ﻗﺎل ﷲ ﻟﻪ :اﴐب ﺑﻌﺼﺎك اﻟﺤﺠﺮ ﻓﴬب ﻓﺎﻧﻔﻠﻖ ﻣﻨﻪ اﺛﻨﺘﺎ ﻋﴩة ﻋﻴﻨﺎ ﺗﺠﺮي ﻣﻨﻬﺎ املﻴﺎه ،ﻫﺬه أﻳﻬﺎ اﻷﻓﺎﺿﻞ ﺳرية ﻣﻮﳻ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ﻣﻊ ﻓﺮﻋﻮن واﻟﺬﻳﻦ اﺗﺒﻌﻮه ،ﻓﱰون ﻣﻨﻬﺎ أن اﻟﺪﻻﺋﻞ واملﻌﺠﺰات اﻟﺘﻲ أﺗﻰ ﺑﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻄﺎﺑﻘﺔ ﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻘﻮم ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ .وملﺎ أرﺳﻞ ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — ﻋﻴﴗ ﺑﻦ ﻣﺮﻳﻢ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ﻛﺎن ﱡ ﻓﻦ اﻟﻄﺐ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ راﻗﻴًﺎ ﺟﺪٍّا ،ﻓﺄﻳﺪه ﷲ ﺑﺎملﻌﺠﺰات اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺠﺰ ﻋﻨﻬﺎ أﻛﺎﺑﺮ اﻷﻃﺒﺎء ﻓﻜﺎن ﻳ ْ ُِﱪئ اﻷﻛﻤﺔ ،واﻷﺑﺮص ،واﻷﻋﻤﻰ ﺑﺈذن ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳُﺤﻴﻲ املﻮﺗﻰ ،وﻫﻜﺬا ﻛﺎن إرﺳﺎل اﻟﺮﺳﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم إﱃ اﻷﻣﻢ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وملﺎ أرﺳﻞ ﷲ ٍ وآﻳﺎت ﺑﻴﻨﺎت ،وأﻛﱪ ﻫﺬه ﺗﻌﺎﱃ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪًا ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم أﻳﱠﺪه ﺑﻤﻌﺠﺰات ﺑﺎﻫﺮات، اﻵﻳﺎت وأوﺿﺢ ﻫﺬه اﻟﱪاﻫني اﻟﺪاﻟﺔ ﻋﲆ ﺻﺪﻗﻪ ﻫﻮ اﻟﻘﺮآن اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠى ﺑﻪ ﻓﺼﺤﺎء اﻟﻌﺮب؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ واﻟﺒﻼﻏﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺠﺰوا ﻋﻦ أن ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮآن ﻗﺎﻟﻮا :إﻧﻪ ﻗﻮل ﺷﺎﻋﺮ ،ﻓﻘﺎل ﻟﻬﻢ :إن ﻛﺎن ﻫﺬا ﻗﻮل ﺷﺎﻋﺮ وﻓﻴﻜﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل اﻟﺸﻌﺮ ﻓﺄﺗﻮا ﺑﺴﻮر ٍة ﻣﻦ ﻣﺜﻠﻪ ،أو أي آﻳﺔ ﻣﻦ آﻳﺎﺗﻪ ﻓﻌﺠﺰوا ﺟﻤﻴﻌً ﺎ. وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ املﻌﺠﺰة ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻨﺒﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم؛ إذ ﻛﺎن أﻓﺼﺢ اﻟﻌﺮب ﻟﺴﺎﻧًﺎ وأوﺿﺤﻬﻢ ﺑﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻊ ﻛﻮﻧﻪ أﻣﻴٍّﺎ ﻻ ﻳﻌﺮف اﻟﻘﺮاءة وﻻ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﻓﺠﺎءﻫﻢ ﺑﺎﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ وﻗ ﱠﺮر ﻗﻮاﻋﺪﻫﺎ ﱠ وﺑني أﺣﻮاﻟﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻳﻌ ﱢﻠﻢ اﻟﻌﺮب ﻣﻦ أﻣﻮر اﻟﺪﻳﻦ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻘﺪر أن ﻳﺄﺗﻲ ﺑﻤﺜﻠﻪ أﻛﱪ اﻟﻌﻠﻤﺎء املﺸﱰﻋني ﻣﻦ ﻳﻮم أن ﺧﻠﻖ ﷲ اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا. ﻓﻜﻮن ﻫﺬه املﻌﺠﺰات وﻫﺬه اﻵﻳﺎت وﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺳﺄﺑني ﻟﻜﻢ ﻗﻮاﻋﺪه ﻳﺄﺗﻲ ﺑﻬﻤﺎ أﻣﻲ ﻟﻢ ﻳﻌﺮف اﻟﻘﺮاءة وﻻ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،ﻣﻊ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﺮب ﻣﻦ اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ واﻟﺒﻼﻏﺔ رﺟ ٌﻞ ﱞ ﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﻨﺒﻲ اﻟﺼﺎدق وأن دﻳﻨﻪ ﻫﻮ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ اﻟﺬي ﻳﻘﺒﻠﻪ اﻟﻌﻘﻞ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻘﺒﻮل، ً اﺳﺘﺪﻻﻻ ﻋﲆ أن ﺻﺎﺣﺐ اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺪم ﻳﺎ ﺣﴬات اﻷﻓﺎﺿﻞ أﺗﻴﺖ ﺑﻪ ً وﻫﻮ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﷲ ﻧﺒﻲ ٍّ ﺻﺪﻗﺎ. ﺣﻘﺎ ورﺳﻮ ٌل 110
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺟﺎءﻧﺎ ﻫﺬا اﻟﻨﺒﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم ﺑﺄﺻﻞ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ وﻫﻮ اﻟﺸﻬﺎدة ﺑﺄن ﷲ واﺣﺪ ﰲ ذاﺗﻪ وﰲ ﺻﻔﺎﺗﻪ ،ﻻ ﴍﻳﻚ ﻟﻪ ﰲ ﻣﻠﻜﻪ وأﻧﻪ ﻗﺎدر ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﳾء ،وأﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺷﻜﻞ ﻣﺨﺼﻮص ﻣﺤﺴﻮس ﺑﺤﺎﺳﺔ اﻟﺒﴫ ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻮﻳﻪ ﻣﻜﺎن ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﺑﺨﻼف ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﺼﻮره اﻟﺬﻫﻦ وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻠﺪ وﻟﻢ ﻳﻮﻟﺪ. ً أﻣﺎ ﻛﻮﻧﻪ واﺣﺪًا ﰲ ذاﺗﻪ وﰲ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻓﻬﺬه ﻗﻀﻴﺔ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﻋﻘﻼ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﻮن آﻟﻬﺔ ﻣﺘﻌﺪدة ﻟﻔﺴﺪت اﻷرض؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ُﻓ ِﺮض ذﻟﻚ ﻟﺤﺼﻞ ُ اﻟﺨ ْﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ، واﻟﻘﺎﻋﺪة املﻌﺮوﻓﺔ ً ﻋﻘﻼ أن ﺗﻌﺪﱡد اﻟﺮؤﺳﺎء ﰲ ﻣﺼﻠﺤﺔ واﺣﺪة ﻣﺨ ﱞﻞ ﺑﻬﺎ ،ﻣﻔﺴ ﱞﺪ ﻟﻬﺎ؛ إذ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن إرادة ﻫﺬا اﻹﻟﻪ اﻗﺘﻀﺖ أن ﻳﺨﻠﻖ ً ﺧﻠﻘﺎ ﻟﻢ ﻳﺮد ﺧﻠﻘﻪ اﻹﻟﻪ اﻵﺧﺮ ،وﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬا ﻣﻦ املﻨﺎزﻋﺎت وﺗﻀﺎرب اﻟﺴﻠﻄﺎت ،وﻫﺬه ً أﻳﻀﺎ ﻳﺘﻨﺎول اﻟﴩﻛﺔ إذ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻟﻺﻟﻪ أﻳﻀﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ أراد ً ﴍﻳﻚ ﻟﻔﺴﺪت اﻟﺤﺎل ً ﻣﺜﻼ أﺣﺪ اﻟﴩﻳﻜني أن ﻳﺠﻌﻞ املﺤﻴﻂ اﻟﻬﻨﺪي ً أرﺿﺎ ﻳﺎﺑﺴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ اﻗﺘﻀﺖ رﻏﺒﺘﻪ أن ﻳﺒﻘﻰ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻮﻗﻊ اﻟﺨﻼف ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، وﻋﲆ ﻫﺬا إﻣﺎ أن ﻳﺘﻔﻘﺎ وإﻣﺎ أن ﻳﺨﺘﻠﻔﺎ ،ﻓﺈن اﺗﻔﻘﺎ ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ وﻗﻮع أﺣﺪ أﻣﺮﻳﻦ :إﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﻳﺎﺑﺴﺎ ،وإﻣﺎ ﺑﻘﺎؤه ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻋﲆ ﻛﻼ اﻷﻣﺮﻳﻦ ﻓﺎﻟﺬي ﱢ ً ﻳﻨﻔﺬ ﻣﺮﻏﻮﺑﻪ دون اﻟﺒﺤﺮ اﻵﺧﺮ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﻘﺪرة وﻳﻮﺻﻒ اﻵﺧﺮ ﺑﺎﻟﻀﻌﻒ؛ ﻷن اﻟﻌﺪول ﻋﻦ رﻏﺒﺘﻪ إﱃ إﻧﻔﺎذ رﻏﺒﺔ ﻧﻘﺼﺎ ﰲ ﻗﺪرة اﻟﺜﺎﻧﻲ ،وﻫﺬا ﻻ ﻳﺠﻮز ﰲ ﱢ اﻵﺧﺮ ﻳُﻌﺪ ً ﺣﻖ اﻹﻟﻪ ،وإن اﺧﺘﻠﻔﺎ ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ ﻏﻠﺒﺔ أﺣﺪﻫﻤﺎ وﻫﻮ ً أﻳﻀﺎ داﺧﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻘﺪﱠم ﻣﻦ وﺻﻒ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ واﻟﻀﻌﻒ أﻣﺎم اﻵﺧﺮ أﻳﻀﺎ ﰲ ﱢ اﻟﻘﻮي ،وﻫﺬا ﻻ ﻳﺠﻮز ً ﺣﻖ اﻹﻟﻪ. ﻓﻨﺘﺞ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ أن اﻹﻟﻪ ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن واﺣﺪًا ،وأﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻟﻪ ﴍﻛﺎء ﻟﺨﺮب اﻟﻜﻮن وﻟﻢ ﻳ ُﺪ ْم ﻳﻮﻣً ﺎ واﺣﺪًا ﻋﺎﻣ ًﺮا. ﻣﺤﺴﻮﺳﺎ ﺑﺤﺎﺳﺔ اﻟﺒﴫ ﻓﻬﺬا ً ً أﻳﻀﺎ ﻻ ﻳﻘﺒﻠﻪ اﻟﻌﻘﻞ؛ ﻷﻧﻪ وأﻣﺎ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﻌﻴﻨًﺎ إذا ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﺗﺤﻴﱠﺰﺗﻪ اﻟﺠﻬﺔ ،وﻣﺘﻰ ﺗﺤﻴﺰﺗﻪ ﺟﻬﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ ﺗﻜﻮن ﻗﺪ ﺧﻠﺖ ﻣﻨﻪ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺠﻬﺎت اﻷﺧﺮى ،وﻫﺬا ﻳﻨﺎﰲ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻜﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻮﺟﻮد؛ إذ ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻤﻪ ﻣﻨﺤﴫًا ﰲ اﻟﺠﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻮ ﻓﻴﻬﺎ وﻫﺬا ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﺷﺄن اﻹﻟﻪ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﳾء ﰲ اﻟﺴﻤﺎء أو اﻷرض ،و ُربﱠ ﻗﺎﺋﻞ ﻳﻘﻮل :ﻗﺪ ﻳﺠﻮز أن ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﻋﻠﻢ ﺑﻜ ﱢﻞ ﳾء ﰲ اﻟﺠﻬﺎت اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﺮدٍّا ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ﻧﻘﻮل :وﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺪاﻋﻲ إذن ﻟﻮﺟﻮده ﰲ ﺟﻬﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ دون اﻷﺧﺮى ﻣﻊ أن اﻟﻜﻮن ﻛﻠﻪ ﻣﻠﻚ ﻟﻪ ﻳﺘﴫف ﻓﻴﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﺸﺎء؟ وإن ﻗﻴﻞ إﻧﻪ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ ﻧﻘﻮل ً أﻳﻀﺎ :وﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺪاﻋﻲ ﻟﻬﺬا اﻟﺘﻨﻘﻞ وﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ؟ إن ﻛﺎن ﻷﺟﻞ ﺗﻌﻬﺪ اﻟﺨﻠﻖ ﻓﻬﺬا ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻃﻞ؛ ﻷن اﻟﺘﻨﻘﻞ وﺗﻌﻬﺪ اﻟﺨﻠﻖ ﻳﻘﴤ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﺎﺟﺰ 111
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻋﻦ ﺗﻌﻬﺪ ﺧﻠﻘﻪ ﰲ وﻗﺖ واﺣﺪ ،وﻫﺬا ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ دﻻﺋﻞ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ وﺻﻒ اﻹﻟﻪ ﺑﺎﻟﻘﺪرة ،وأﻣﺎ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻛﻮﻧﻪ واﻟﺪًا أو ﻣﻮﻟﻮدًا ،ﻓﻬﺬا ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻜﺎن ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻮادث ،وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳ َِﺮد اﻻﻋﱰاض اﻵﺗﻲ: إذا ﻛﺎن اﻹﻟﻪ واﻟﺪًا ﻓﻬﻮ ﻳﻘﴤ ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻮﻟﻮدًا ﻗﺒﻞ أن ﻳﻜﻮن واﻟﺪًا وﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻻﻋﱰاض ،ﻓﺈﻧﻪ إن ﻛﺎن واﻟﺪًا ﻳﻜﻮن ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﺨﻠﻘﻪ وﻣﺘﻰ ﻛﺎن اﻹﻟﻪ ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﺨﻠﻘﻪ ﺑﻄﻞ ﻛﻮﻧﻪ إﻟﻬً ﺎ ملﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﻋﻦ اﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺑﺎملﺨﻠﻮﻗﺎت ﺷﺄن اﻹﻟﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، وإذا ﻛﺎن ﻣﻮﻟﻮدًا ﻳ َِﺮد ً أﻳﻀﺎ اﻻﻋﱰاض اﻵﺗﻲ: إذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ وواﻟﺪه إﻟﻪ ﻗﺒﻠﻪ ﻓﻬﺬا ﻳﻘﴤ ﺑﺎﻟﺪور واﻟﺘﺴﻠﺴﻞ؛ إذ ﻫﻮ ﻳﻘﴤ ﺑﺄن واﻟﺪ اﻹﻟﻪ إذن ﻛﺎن ﻣﻮﻟﻮدًا ﻟﻮاﻟﺪ آﺧﺮ ،وﻫﺬا اﻟﻮاﻟﺪ ﻳﻜﻮن إﻟﻬً ﺎ ً أﻳﻀﺎ وﻫﻠﻢ ﺟ ٍّﺮا ،وﻫﺬا ﻻ ﻳﻘﺒﻠﻪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺘﺔ. ﻓﻨﺘﺞ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻫﺬا أن اﻹﻟﻪ ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن واﺣﺪًا ﰲ ذاﺗﻪ وﺻﻔﺎﺗﻪ ،وأﻧﻪ ﻻ ﻣﻜﺎن ﻟﻪ ﻳﺤﻮﻳﻪ ،وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ واﻟﺪًا وﻻ ﻣﻮﻟﻮدًا. ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﻠﺨﺺ اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﺘﻲ أﻟﻘﺎﻫﺎ املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ،وﻟﻮﻻ ﺧﺸﻴﺔ اﻹﻃﺎﻟﺔ ﻟﺬﻛﺮﺗﻬﺎ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ ،وملﺎ ﺗﻼ ﺣﴬﺗﻪ اﻟﺨﻄﺒﺔ ﻛﺎن اﻟﻜ ﱡﻞ ﻣﻠﻘﻴًﺎ إﻟﻴﻪ ﺳﻤﻌﻪ ﻣﺼﻐﻴًﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ،وﰲ أﺛﻨﺎء ذﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻼﻣﺎت اﻟﺪﻫﺸﺔ ،واﻻﺳﺘﻐﺮاب ،واﻹﻋﺠﺎب ﺑﻪ ﻇﺎﻫﺮة ﻣﻦ ﻣﻼﺣﻈﺎت اﻟﻌﻴﻮن؛ إذ ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ ﻛﺎن ﻳﻠﻘﻲ ﺑﻠﺤﻈﺎﺗﻪ إﱃ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﺷﺄن املﻨﺪﻫﺶ املﺴﺘﻐﺮب ،وﻟﻜﻦ ﻫﻴﺒﺔ املﻮﻗﻒ ﺟﻌﻠﺖ اﻟﻘﻮم ﻛﺄن ﻋﲆ رءوﺳﻬﻢ اﻟﻄري. وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻗﺎم أﺣﺪ املﻨﺪوﺑني اﻷﻣﺮﻳﻜﺎن وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه ﺑﺎﻻﺧﺘﺼﺎر :ﻗﺎم ﺣﴬة املﻨﺪوب املﺴﻠﻢ وﻗﺎل ﰲ ﺿﻤﻦ ﻛﻼﻣﻪ :إن ﻣﻮﳻ ﴐب اﻟﺒﺤﺮ ﻓﺎﻧﻔﻠﻖ … إﻟﺦ ،وﴐب ﻣﻮﳻ اﻟﺒﺤﺮ ﺑﺎﻟﻌﺼﺎ واﻧﺸﻘﺎﻗﻪ ﻟﻪ ﻫﺬا أﻣﺮ ﻏري ﻣُﺴ ﱠﻠﻢ؛ ﻷن اﻟﺒﺤﺮ ﻻ ﻳ َُﺸﻖ ﻹﻧﺴﺎن ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺘﻪ، وإﻧﻤﺎ ﻛﻮن ﻣﻮﳻ وﻗﻮﻣﻪ اﺟﺘﺎزوا اﻟﺒﺤﺮ وﻧﺠﻮا وﻓﺮﻋﻮن اﺟﺘﺎزه ﻓﻐﺮق ،ﻓﻬﺬا ﻛﻤﺎ ورد ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ا ُملﻌﻮﱠل ﻋﻠﻴﻪ أن اﻟﺒﺤﺮ ﻛﺎن ﰲ ﺣﺎﻟﺔ املﺪ واﻟﺠﺰر ،واﺟﺘﻴﺎز ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﺰر وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ملﺎ ﺗﻮﺳﻄﺎ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ ﺣﺼﻞ املﺪ ﻓﻐﺮق ﻓﺮﻋﻮن وﻗﻮﻣﻪ ،وﻣﻮﳻ ﻧﺠﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﺮق ﻫﻮ وﻗﻮﻣﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻪ املﺪ ،وزﻳﺎد ًة ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻣﺘﻘﺪﱢﻣً ﺎ أﻣﺎم ﻓﺮﻋﻮن،
112
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻣﻜﺚ املﻨﺪوب اﻷﻣﺮﻳﻜﺎﻧﻲ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﻨﺤﻮ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ،وملﺎ اﻧﺘﻬﻰ ﻣﻦ ﺳﻔﺴﻄﺘﻪ ﻗﺎم املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻣﻔﻨﱢﺪًا أﻗﻮاﻟﻪ ﺑﻤﺎ ﻣﻌﻨﺎه ﺑﺎﻻﺧﺘﺼﺎر: ﻟﻴﺲ ﻟﻠﻤﻌﱰض وﺟﻪ ﰲ اﻻﻋﱰاض ﻷﻧﻲ ﻗﻠﺖ ً أوﻻ إن اﻧﻔﻼق اﻟﺒﺤﺮ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﳻ ﻫﻮ ﻣﻌﺠﺰة ،وﻻ ﺷﻚ أن املﻌﺠﺰة أﻣﺮ ﺧﺎرق ﻟﻠﻌﺎدة املﺄﻟﻮﻓﺔ ،وذﻟﻚ أن ﻣﻮﳻ ملﺎ أﻟﻘﻰ اﻟﻌﺼﺎ وﺻﺎرت ﺛﻌﺒﺎﻧًﺎ واﻟﺘﻘﻔﺖ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ اﻟﺴﺤﺮة ﻟﻢ ﻳﺼﺪﻗﻮه ،وﻗﺎﻟﻮا إن ﻫﺬا ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺴﺤﺮ ﻓﺄﻣﺮه ﷲ ﺑﺎملﺴري ﻧﺤﻮ اﻟﺒﺤﺮ وﴐﺑﻪ ﺑﺎﻟﻌﺼﺎ؛ ﻟﻴﻈﻬﺮ ﻟﻬﻢ ﻣﻌﺠﺰة أﻗﻮى ﻣﻦ اﻷوﱃ، ً وأﻳﻀﺎ ﻗﺪ ﻛﺎن أﺧﱪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﳻ ﻗﻮﻣﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﺳﺘﻈﻬﺮ ﻣﻌﺠﺰة أﺧﺮى ﻋﲆ ﻳﺪﻳﻪ واملﺮاد ﺑﻬﺎ اﻧﻔﻼق اﻟﺒﺤﺮ. وﻋﲆ ﻓﺮض أﻧﻪ ﺣﺼﻞ ﻣﺪ وﺟﺰر ﰲ اﻟﺒﺤﺮ ،ﻓﺒﺤﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺣﻤﺮ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ درﺟﺔ اﻟﺠﺰر ﻓﻴﻪ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻷيﱢ أﺣﺪ أن ﻳﻤﺮ ﻣﻨﻪ ﻟﺒُﻌﺪ ﻋﻤﻘﻪ ،اﻟﻠﻬﻢ ﱠإﻻ إذا ﻛﺎن ﺳﺒﺎﺣﺔ، وﻟﻮ ﻛﺎن ﺳﺒﺎﺣﺔ ﻓﻐري ﻣﻤﻜﻦ ذﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻓﻴﻤﻦ ﻣﻌﻪ اﻟﻨﺴﺎء ،واﻷﻃﻔﺎل ،واﻷﻣﺘﻌﺔ، واﻟﺠﻤﺎل ،واﻟﺪواب ،ﻓﻤﻦ املﺤﺎل أن ﻳﻤﺮ اﻟﻜ ﱡﻞ ﺳﺎملني. وﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا وﻫﺬا ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺣﺼﻞ املﺪ واﻟﺠﺰر ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم املﺨﺼﻮص واﻟﺴﺎﻋﺔ واﻟﺪﻗﻴﻘﺔ املﺨﺼﻮﺻﺘني؟ ﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺠﻮاب ﻋﻦ ﻫﺬا ﻣﻌﺮوف ﺑﺎﻟﺒﺪاﻫﺔ ﻟﺪى ﻛ ﱢﻞ ذي ﻣُﺴﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ. وملﺎ اﻧﺘﻬﻰ املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻣﻦ ر ﱢد اﻻﻋﱰاﺿﺎت أﺑﺪى ﻛ ﱡﻞ اﻟﺤﻀﻮر اﺳﺘﺤﺴﺎﻧﻬﻢ ملﺎ ﻋﺠﺒﻮا ﺑﻪ ﻛﺜريًا. أﻟﻘﺎه ،وأ ُ ِ أﻣﺎ املﻌﱰض ﻓﺈﻧﻪ ﺻﺎر ﻛﺄﻧﻪ أ ُ ْﻟ ِﺠﻢ ﺑﻠﺠﺎم ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺪ؛ ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﰲ ﻛﻼم املﻨﺪوب وﺟﻬً ﺎ ﻟﻼﻋﱰاض ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻗﺎم املﻨﺪوب اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻷﻣﺮﻳﻜﺎﻧﻲ وﺗﻜ ﱠﻠﻢ ﰲ أﺻﻮل اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﺛﻢ ﺗﺒﻌﻪ آﺧﺮ إﻳﻄﺎﱄ ،ﻓﺂﺧﺮ أملﺎﻧﻲ واﻟﻜﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺘﻔﻘني ﰲ املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ً ﺗﻔﺼﻴﻼ ﻟﻜﻨﺖ أﺗﻴﺖ ﺑﻪ ﻛﺬﻟﻚ ،وﻟﻜﻨﻲ ﺗﻜﻠﻤﻮا ﻓﻴﻪ ،وﻟﻮﻻ أن املﻘﺎم ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﴪ ﱢد ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻮه رﺟﺊ ﻫﺬا إﱃ اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ؛ إذ اﻟﻐﺮض اﻟﻮﺣﻴﺪ أن أذﻛﺮ أﻋﻤﺎل اﻟﺠﻠﺴﺎت أُ ِ ﻣ ﱠ ً ً إﺟﻤﺎﻻ ﺑﺎدئ ﺑﺪء. ﺗﻠﺨﻴﺼﺎ ،ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﺸﻮﱡق اﻟﻘﺮاء إﱃ اﻹﺣﺎﻃﺔ ﺑﻬﺎ ُﻠﺨﺼﺔ ﻫﺬا اﻟﺬي ذﻛﺮﺗﻪ ﻫﻮ ﺧﻼﺻﺔ ﻣﺎ دار اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻪ ﰲ اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ املﺆﺗﻤﺮ ،وﺑﻌﺪ أن ﱠ ارﻓﻀﺖ اﻟﺠﻠﺴﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺣُ ﺪﱢد ﻟﻬﺎ ﻣﻴﻌﺎد ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣني ﻣﻦ اﻧﺘﻬﻰ املﻨﺪوﺑﻮن ﻣﻦ ﻣﺒﺎﺣﺜﺎﺗﻬﻢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻧﻌﻘﺎد اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻷوﱃ. 113
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﺬا ،وﻗﺪ ﺻﺎرت ﺧﻄﺒﺔ املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻘﻮم ﰲ اﻟﻨﻮادي اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ واﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ،وﺑﻠﻎ إﻋﺠﺎب اﻟﻘﻮم ﺑﻬﺎ أﻳﻤﺎ ﻣﺒﻠﻎ ﻣﻌﺠﺒني ﺑﻤﺎ أﺛﺒﺘﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ املﺒﺎﺣﺚ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ. وﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﻘﻮم ﰲ ﻓﺮح وﴎور؛ إذ ﻛﺎن املﺮﺳﻠﻮن املﺴﻴﺤﻴﻮن ﰲ ﻛﺪر زاﺋﺪ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻈﻨﻮن أن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻳﺤﻔﻠﻮن ﺑﺎﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻟﺤ ﱢﺪ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ،وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻖ ﻏﺎﻟﺐٌ ﻋﲆ أﻣﺮه ﻣﻬﻤﺎ ﺣﺎول إﺑﻄﺎﻟﻪ املﺒﻄﻠﻮن. ) (60اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ املﺆﺗﻤﺮ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﻟﻠﻴﻮم اﻟﺬي ﻋُ ﻘِ ﺪت ﻓﻴﻪ اﻟﺠﻠﺴﺔ اﻷوﱃ ﻟﻠﻤﺆﺗﻤﺮ اﺟﺘﻤﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻋﻀﺎء ﻣﺮة أﺧﺮى ،وملﺎ اﻧﺘﻈﻢ ﻋﻘﺪ اﻟﺠﻤﻊ ﻗﺎم اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﻫﻴﺠﻴﻜﺎن« ﺧﻄﻴﺒًﺎ وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :إﻧﻨﺎ ﻧﺮﺟﻮ ﻣﻨﻜﻢ أﻳﻬﺎ اﻷﻋﻀﺎء اﻷﻓﺎﺿﻞ أن ﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﺑﻨﺎ ﰲ ﻣﻀﺎﺋﻖ ﻳﻌﴪ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﺨﺮوج ﻣﻨﻬﺎ ،ﱠ وإﻻ ﺿﺎﻋﺖ اﻟﻔﺎﺋﺪة املﻘﺼﻮدة ﻣﻦ ﻋﻘﺪ ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ؛ إذ اﻟﻐﺮض اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﻨﺪ دﻳﻦ ﻧﺘﺨﺬه اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،وإﻧﻲ أرى ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻏريي ﻣﻤﻦ ﺣﴬوا ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻣﻦ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ أن اﻟﻮﻗﺖ أﺿﻴﻖ ﻣﻦ أن ﻳﺴﻊ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻄﻮﻳﻞ ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺎت ،ﺛﻢ ﺟﻠﺲ وﻗﺎم ﺑﻌﺪه املﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ،وﺑﺪأ ﻳﴩح ﺑﺄوﺿﺢ ﻋﺒﺎرة وﻳﺒني اﻟﺤِ َﻜﻢ واﻵداب اﻟﺘﻲ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﻣﻦ ﺳﻨﻦ وﻓﺮاﺋﺾ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪات اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ وأﻓﺎض ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ،ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻮﰱ املﻘﺎم ﻧﺼﻴﺒﻪ ﻣﻦ اﻹﻳﻀﺎح واﻟﺘﺒﻴني ،وﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮ ﻣﺎ ﻓﺎه ﺑﻪ اﻵن؛ ﺣﻴﺚ إن اﻟﻮﻗﺖ ﻻ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﺛﻢ ﻗﺎم ﺑﻌﺪه املﻨﺪوﺑﻮن اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﻮن ،ﻓﺎﻷملﺎﻧﻴﻮن ،وواﺣﺪ أﻣﺮﻳﻜﺎﻧﻲ ،وﻛﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺧﻄﺐ ﺑﻤﺎ ﰲ وﺳﻌﻪ ﰲ أﺻﻮل وﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﺑﻌﺪ أن اﻧﺘﻬﻰ ﻛ ﱡﻞ ﺧﻄﻴﺐ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ ﺟﺎء دور املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻓﺘﻨﺎﻗﺶ اﻷﻋﻀﺎء ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ،وإﻧﻲ وإن ﻛﻨﺖ ﻗﺪ دوﱠﻧﺖ أﻏﻠﺐ املﻮاﺿﻊ اﻟﺘﻲ دارت ﻓﻴﻬﺎ املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻓﺈﻧﻲ أرى ﻣﻦ اﻟﻼﺋﻖ ﻋﺪم ذﻛﺮﻫﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﺧﺸﻴﺔ اﻹﻃﺎﻟﺔ ً أوﻻ ،وﺧﺸﻴﺔ أن ﻳﺘﻬﻤﻨﻲ ﺑﻌﺾ املﺴﻴﺤﻴني ﺑﺎﻟﺘﻌﺼﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﺛﺎﻧﻴًﺎ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي أﺗﺠﻨﺒﻪ ،وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﺬ ًرا ﱡ اﻟﺘﻌﺼﺐ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻬﻤﺔ ﻓﻸﺟﻞ أن ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﱄ ﻛﺜُﺮ اﻟﻘﻴﻞ واﻟﻘﺎل ﰲ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺬي اﺗﻬﻤﺖ أوروﺑﺎ ﺑﻪ املﺴﻠﻤني ﻇﻠﻤً ﺎ ،وﻋﺪواﻧًﺎ ،وزو ًرا وﺑﻬﺘﺎﻧًﺎ. ﻫﺬا وملﺎ اﻧﺘﻬﻰ اﻷﻋﻀﺎء املﻨﺘﺪﺑﻮن ﻣﻦ املﻨﺎﻇﺮة واملﻨﺎﻗﺸﺔ ﻗﺎم ﺟﻨﺎب اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﻛﺎﺗﺴﻮرة« وﻗﺎل ﻣﺎ ﻣﻔﺎده :أﻳﻬﺎ اﻟﺴﺎدة املﻨﺘﺪﺑﻮن اﻷﻓﺎﺿﻞ إﻧﻨﺎ اﻵن ﻗﺪ وﻗﻔﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﻐﺮض املﻘﺼﻮد 114
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻟﻨﺎ ،وﻻ ﻧﺮى ﺣﺎﺟﺔ إﱃ إﻋﺎدة اﻟﺒﺤﺚ واملﻨﺎﻗﺸﺎت ،ﺑﻴﺪ أن اﻟﻐﺮض اﻟﺬي أﴍت إﻟﻴﻪ ﻣُﺘﻔ ﱢﺮق ﺑﻴﻨﻨﺎ؛ ﻓﻤﻨﺎ ﻣﻦ اﺳﺘﺤﺴﻦ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ واﻋﺘﻨﻘﻪ ،وﻣﻨﺎ ﻣﻦ اﺳﺘﺤﺴﻦ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ واﻋﺘﻨﻘﻪ ،وﻣﻨﺎ ﻣﻦ ﻓﻀﻞ ﴍﻳﻌﺔ ﺑﻮذا ،وﻣﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﻘﻲ ﻋﲆ ﴍﻳﻌﺔ »ﻛﻮﻧﻔﻮﺷﻴﻮس« وﻏري ٍ ﺧﺎف ﻋﲆ ﺣﴬاﺗﻜﻢ أن ﺣﺮﻳﺔ اﻷدﻳﺎن ﻣﻄﻠﻘﺔ ﰲ ﺑﻼدﻧﺎ ﻓﻜ ﱡﻞ ﻓﺮد ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻳﻌﺘﻨﻖ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﺨﺘﺎره ﺑﻼ إﻛﺮاه وﻻ إﺟﺒﺎر ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﺣﺮج ﻋﻠﻴﻪ إذا اﻋﺘﻨﻖ دﻳﻨًﺎ ﺛﻢ ﻋﺪل ﻋﻨﻪ إﱃ ﻏريه ،وإﻧﻲ ﺑﺎﻷﺻﺎﻟﺔ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ وﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﺟﻼﻟﺔ إﻣﱪاﻃﻮرﻧﺎ املﻌ ﱠ ﻈﻢ وﺳﺎﺋﺮ إﺧﻮاﻧﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﺣﴬوا ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ أﻗﺪﱢم ﻟﺤﴬاﺗﻜﻢ ﺟﻤﻴﻞ ﺗﺸﻜﺮاﺗﻨﺎ وﻣﻤﻨﻮﻧﻴﺘﻨﺎ ﻋﲆ ﱡ أﺧﺺ ﻛ ﱠﻞ ﻓﺮد ﻣﻨﻜﻢ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﺮ وﻫﺬا ﺣُ ْﺴﻦ ﻋﻨﺎﻳﺘﻜﻢ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎم ﺑﻤﺎ ﻋُ ِﻬﺪ إﻟﻴﻜﻢ ،وﻛﻤﺎ أﻧﻲ اﻟﺜﻨﺎء ﻛﺬﻟﻚ أرﺟﻮ أن ﺗﺒ ﱢﻠﻐﻮا ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﺟﻼﻟﺔ املﻴﻜﺎدو وﺳﺎﺋﺮ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ إﱃ ﻣﻠﻮﻛﻜﻢ اﻟﻔﺨﺎم اﻟﺬﻳﻦ اﺧﺘﺎروﻛﻢ ﻟﻬﺬه املﻬﻤﺔ ﻛ ﱠﻞ ﻋﺒﺎرات اﻟﺜﻨﺎء واﻹﻃﺮاء واﻟﻮﻻء اﻟﺨﺎﻟﺺ ،ﺛﻢ إن إرادة ﺟﻼﻟﺔ اﻹﻣﱪاﻃﻮر اﻗﺘﻀﺖ أن ﻳ ْﺮ َﻓ ﱠﺾ املﺆﺗﻤﺮ ،وﻗﺪ اﻛﺘﻔﻴﻨﺎ اﻵن ﺑﻤﺎ ﺳﻤﻌﻨﺎه ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺒﺎء ،وإذا رأى ﺟﻼﻟﺘﻪ أن ﻳُﻌﺎد اﻧﻌﻘﺎد املﺆﺗﻤﺮ ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻓﻌﻠﻨﺎ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻠﻨﺎ ﰲ ﻫﺬه املﺮة وﻃﻠﺒﻨﺎ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺪول واﻟﺤﻜﻮﻣﺎت إرﺳﺎل ﻣﻨﺪوﺑني .وإﻧﻲ أُﻋْ ِﻠ ُﻦ ا ْرﻓِﻀﺎض املﺆﺗﻤﺮ ﺑﺎﺳﻢ ﺟﻼﻟﺔ املﻴﻜﺎدو ،ﻛﻤﺎ أُﻋْ ﻠ َِﻦ اﻓﺘﺘﺎﺣﻪ ﺑﺎﺳﻢ ﺟﻼﻟﺘﻪ ً أوﻻ ،وﻋﲆ ﻫﺬا اﻧﺘﻬﺖ ﻣﻬﻤﺔ املﻨﺪوﺑني وﻟﻢ ﻳ َ ُﻌﻘﺪ املﺆﺗﻤﺮ ﺑﻌﺪﻫﺎ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺤني. ) (61ملﺎذا ﻟﻢ ﻳُﺴﻠﻢ املﻴﻜﺎدو؟ إن اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻋﺪم إﺳﻼم ﺟﻼﻟﺔ »ﻣﺘﺴﻮﻫﻴﺘﻮ« إﻣﱪاﻃﻮر اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻟﻴﺲ اﻋﺘﻘﺎده ﰲ ﻋﺪم ﻣﻮاﻓﻘﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻟﻠﻌﻘﻞ؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺎل ﻣﻌﻪ ﻟﻮ ﺻﺢﱠ أﻧﻪ ﻛﺎن اﻋﺘﻨﻖ دﻳﻨًﺎ ﻏريه ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ وأن اﻋﺘﺒﺎر اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻋﻨﺪه وﻋﻨﺪ ﺑﺎﻗﻲ رﺟﺎل املﺆﺗﻤﺮ ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني اﻋﺘﺒﺎ ًرا أﻛﺴﺒﻪ ﺻﻔﺔ اﻻﻣﺘﻴﺎز ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ املﺬاﻫﺐ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ دار اﻟﺒﺤﺚ واملﻨﺎﻗﺸﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﺟﻠﺴﺎت املﺆﺗﻤﺮ؛ ﻷن اﻷدﻟﺔ واﻟﱪاﻫني اﻟﺘﻲ أﺗﻰ ﺑﻬﺎ املﻨﺪوﺑﻮن اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﻮن ﻛﺎﻧﺖ ﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﻣﻮاﻓﻘﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻛ ﱠﻞ املﻮاﻓﻘﺔ. وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﺑﻌﻴﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻣﻦ ﺑُﻌﺪ ﻧﻈﺮه ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻮ أﻧﻪ دﻳﻦ ﺗﺘﺨﺬه ﻛﻲ ﻳﻜﻮن اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻬﺎ، ﻳﺮاﻋﻲ ﺣﺎل اﻷﻣﺔ ،ﻓﻠﻤﱠ ﺎ ﻟﻢ ﻳﺠﺪﻫﺎ واﻓﻘﺖ ﻋﲆ ٍ ﻟﻢ ﻳﴫح ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻳﻌﺘﻨﻘﻪ؛ إذ رﺑﻤﺎ ﴏﱠ ح ً ﻣﺜﻼ ﺑﺄﻧﻪ اﺧﺘﺎر اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وﻟﻜﻦ اﻷﻣﺔ ً ٌ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﺧﻼف ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻬﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺮﺿﺎه وﻻ ﻳُﺴ ﱢﻠﻢ ﺑﻪ ﻟﻢ ﺗﻮاﻓﻘﻪ ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﻬﻨﺎ ﻳﻜﻮن 115
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻫﻨﺎ ﻳُﻼﺣَ ﻆ أن ﺧﻀﻮع اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻤﻴﻜﺎدو ﻟﻴﺲ ﻣﻨﺸﺆه اﻟﺮﻫﺒﺔ واﻟﺨﻮف ،ﺑﻞ اﻟﺮﻏﺒﺔ واﻟﺤﺐ ،ﻓﺈذا ﻓﻌﻞ املﻴﻜﺎدو ﻣﺎ ﻻ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ رﻏﺒﺎت رﻋﻴﺘﻪ اﻧﺘﻘﻠﺖ ﻣﻦ ﻳﺪه ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ،وﻗﺎﻟﺖ أﻟﺴﻨﺘﻬﻢ ﻣﺎ ﺷﺎءت ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ،واﻷﻣﺔ إذا َﻗ َﺪ َرت أن ﺗﻘﻮل ﻗﺪرت أن ﺗﻔﻌﻞ ،وﻳُﻼﺣﻆ ً أﻳﻀﺎ أن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻮ ﺣﺼﻞ ﻣﺎ ﻻ ﺗﺮﻏﺒﻪ ﻻ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن ﺻﺎد ًرا ﻋﻦ إﺟﻤﺎع واﺗﻔﺎق ﻛﻠﻤﺔ، وأﻣﺔ ﻫﺬه درﺟﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﱰﻗﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻔﺼﻢ ﻋُ ﺮى اﺗﺤﺎدﻫﺎ واﺋﺘﻼﻓﻬﺎ ﺣﻴﺎل أيﱢ أﻣﺮ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر. ﻓﺎملﻴﻜﺎدو رﺟﻞ ﻋﺎﻗﻞ ﻳﺤﻜﻢ أﻣﺔ ﻋﺎﻗﻠﺔ ﺗﺮﺑﱠﺖ ﻋﲆ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎﻟﻬﺎ وﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ، وﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻔﻌﻠﻪ ،وﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺠﺘﻨﺒﻪ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻇﺮف ﻣﻦ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال. واﻟﺬي ﻳﻘﺎرن ﺑني اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﻨﻘﻮا اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ،واﻟﺬﻳﻦ ﺗﻤﺬﻫﺒﻮا ﺑﺎملﺬاﻫﺐ اﻷﺧﺮى ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻊ اﻋﺘﺒﺎر املﺪﱠة واﻟﻌﺪد ﻳَﺠْ ِﺰم ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﴤ ﻋَ ْﻘﺪ ﻣﻦ ﻗﺮن ﱠإﻻ وﻳﻜﻮن املﺴﻠﻤﻮن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﻳُﻌَ ﺪون ﺑﺎملﻼﻳني؛ ﻷن املﺒﴩﻳﻦ ﻣﻦ أﻫﻞ ﺗﻠﻚ املﺬاﻫﺐ وﻓﺪوا إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﻨﺬ أﻋﻮام واﻟﺬﻳﻦ ﺗﻤﺬﻫﺒﻮا ﺑﻤﺬاﻫﺒﻬﻢ ﻻ ﻳﺘﺠﺎوز ﻋﺪدﻫﻢ ﻣﻠﻴﻮﻧني ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ. وأﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ وﻓﺪوا وﺑﴩوا ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻔﺪوا ﱠإﻻ ﻣﻨﺬ ﺳﻨﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻤﻜﺜﻮا ﺧﻤﺴﺔ أﺷﻬﺮ وأﺳﻠﻢ ﻋﲆ ﻳﺪﻫﻢ ﻧﺤﻮ اﻻﺛﻨﻲ ﻋﴩ ً أﻟﻔﺎ ،وأﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﺼﻔﻬﻢ أﺳﻠﻢ ﻋﲆ ﻳﺪﻧﺎ ﰲ ﻣﺪة ﻻ ﺗﺘﺠﺎوز اﻟﺜﻼﺛني ﻳﻮﻣً ﺎ ،ﻓﺒﻬﺬه املﻘﺎرﻧﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺎل إن اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺳﻴﻜﻮن دﻳﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﺮﺳﻤﻲ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ. ) (62ﻣﺎذا ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ إﺳﻼم اﻟﻴﺎﺑﺎن؟ ذﻫﺐ اﻟﻨﺎس ﻣﺬاﻫﺐ ﺷﺘﱠﻰ ﰲ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ إﺳﻼم اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻓﻤﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن إﺳﻼم ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ﻳُﺤﺪِث اﻧﻘﻼﺑًﺎ ً ﻫﺎﺋﻼ ﰲ ﻛﻴﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﺄﺟﻤﻌﻪ، وﻫﺬا اﻻﻧﻘﻼب ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ أن ﻳﺆﺛﱢﺮ ﺗﺄﺛريًا ﺳﻴﺌًﺎ ﰲ اﻹﺳﻼم ،وﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﺑﻨﺎ إﱃ ﺗﻔﺼﻴﻞ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻨﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻫﻞ ﻫﺬا اﻟﺮأي ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن إﺳﻼم اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻳﻌﻴﺪ ﻣﺎﴈ ﻣﺠْ ِﺪ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﻃﻮﺗﻪ اﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ ،وﻳُﺤﻴﻲ ﻣﺎ اﻧﺪﺛﺮ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﻢ ﻋﺰه وﺗﻤﻜﻴﻨﻪ ،وﻳﻐﺮس ﰲ ﻧﻔﻮس اﻷﻣﻢ ﺟﻤﻌﺎء ﻫﻴﺒﺔ اﻹﺳﻼم ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺴﺎﻟﻔﺔ ،وﻳﻌﻠﻠﻮن ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﺑﺄن اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﻔﺮدت ﺑﺴﻤ ﱢﻮ املﻨﺰﻟﺔ ،وﻋﻈﻢ اﻟﺠﺎه واملﻬﺎﺑﺔ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛ ﱢﻞ اﻟﺪول واﻟﺤﻜﻮﻣﺎت ﰲ اﻟﴩق واﻟﻐﺮب ،ﻓﺈذا أﺳﻠﻤﺖ ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ أن ﻳﻨﻀﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﺴﻠﻤﻮ اﻟﺼني واﻟﻬﻨﺪ ً أﻳﻀﺎ ﻟﺪاﻋﻲ اﻟﺠﻮار ﻓﻴﺘﺄﻟﻒ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻢ اﻟﺜﻼث ﻗﻮة إﺳﻼﻣﻴﺔ ﻛﱪى ﰲ اﻟﱪ واﻟﺒﺤﺮ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻌﺘﺰ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﺄﺟﻤﻌﻪ وﻳﻜﻮن املﻴﻜﺎدو ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤني 116
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻛﺼﻼح اﻟﺪﻳﻦ اﻷﻳﻮﺑﻲ ،وﻣﻦ ﻣﺎﺛﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﻠﻮك اﻷﻧﺪﻟﺲ اﻟﺬﻳﻦ أﻳﱠﺪوا ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺨﻼﻓﺔ وﻟﻢ ﻳﺆﺛﱢﺮ اﺳﺘﻘﻼﻟﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺄﺛريًا ﻳُﺬ َﻛﺮ ،وﺗﻜﻮن ﻛ ﱡﻞ املﻤﺎﻟﻚ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ املﺴﺘﻘﻠﺔ ﻣﺘﺤﺪة اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﺪﻳﻦ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻢ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﺗﺤﺖ ﺟﺎﻣﻌﺔ اﻟﺤﻜﻢ ،وﺗﻜﻮن ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻗﺒﻠﺔ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﻛﻤﺎ أن دار اﻟﺴﻌﺎدة ﻗﺒﻠﺔ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﴩق اﻷدﻧﻰ. وﻟﻘﺪ ﺣﺎدﺛﺖ ﻛﺜريًا ﻣﻤﻦ ﻟﻘﻴﺘﻬﻢ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺼني واﻟﻬﻨﺪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ،ﻓﻜ ٌﻞ ﻗﺎل ﺑﻬﺬا اﻟﻘﻮل وﻟﻢ ﻳﻘﻞ ﺑﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪه اﻟﻔﺮﻳﻖ اﻷول. وأﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن إﺳﻼم اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻻ ﺧﻄﺮ ﻓﻴﻪ ،ﺑﻞ ﻓﻴﻪ ﻛ ﱡﻞ اﻟﺨري ﻟﻠﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻫﻮ: ً أوﻻ :إن اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ إﻧﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﻸﺧﺬ ﺑﺄﺳﺒﺎب اﻟﻌﻠ ﱢﻮ واﻟﺮﻓﻌﺔ. ﺛﺎﻧﻴًﺎ :إن اﻟﺪﻳﻦ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺗﻀﻤﱠ ﻨﺖ أﺣﻜﺎﻣﻪ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎدات واملﻌﺎﻣﻼت ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﺑﻪ ﺳﻌﺎدة اﻷﻣﻢ ﻋﲆ ﺗﺒﺎﻳﻦ اﻷﺟﻨﺎس واﻟﻌﻮاﺋﺪ ﻓﻬﻮ ﺑﻼ رﻳﺐ ﻳﺰﻳﺪ ﰲ اﺳﺘﻌﺪاد اﻟﻘﻮم إﱃ اﻟﺮﻗﻲ املﺎدي واﻷدﺑﻲ ،واﻟﺬي ﻳﺆﻳﺪ ﻫﺬا أﻧﻬﻢ ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ املﻮاﻓﻖ ﻟﻠﻌﻘﻞ ،ﻓﻬﻢ إذا ﻗﺎﻣﻮا ﺑﺎﻟﺸﻌﺎﺋﺮ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻻ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﻬﺎ ﺑﺼﻔﺘﻬﺎ ﻋﺒﺎدات أو أواﻣﺮ أو ﻧﻮاﻫﻲ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﻳﻨﻈﺮون إﱃ اﻟﺤِ َﻜﻢ واملﻘﺎﺻﺪ املﻮدﻋﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎدات واملﻌﺎﻣﻼت ،وﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺆدوﻧﻬﺎ ﺑﺼﻔﺘﻬﺎ ﺷﻌﺎﺋﺮ دﻳﻨﻴﺔ. ﻓﺈذا ﺣﺞﱠ ﻣﻨﻬﻢ أﻧﺎس ﻛﺜريون ً ﻣﺜﻼ واﺟﺘﻤﻌﻮا ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻣﺎﻛﻦ املﻘﺪﺳﺔ ﺑﻐريﻫﻢ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني ﺳﺄﻟﻮا ﻛ ﱠﻞ أﻫﻞ ُﻗﻄﺮ ﻋﻦ أﺣﻮاﻟﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺑﺎﻗﻲ ﺑﻼدﻫﻢ ﻣﻦ أﺳﺒﺎب ً ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺄﺣﻮال إﺧﻮاﻧﻬﻢ املﺴﻠﻤني ،وﰲ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻊ اﻟﺤﻀﺎرة وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪﻫﻢ اﻟﻌﺎم ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﺼﻴﻪ ﻗﻠﻢ وﻳﻨﻔﺪ دوﻧﻪ ﻣﺪاد املﺤﺎﺑﺮ. وﻗﺲ ﻋﲆ ﻫﺬا ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺘﺄﻳﻴﺪ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ أوروﺑﺎ ﺗﺘﺨﻮف ﻣﻦ إﺳﻼم اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﻤﺎ ﺑﺎﻟﻚ إذا اﻧﻀ ﱠﻢ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺼني واﻟﻬﻨﺪ وﺗﺼﺒﺢ ﻗﻮة ﻋﻈﻤﻰ ﰲ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ﺗﻘﻒ أﻣﺎم اﻟﻐﺮب ،ﻻ ﺷ ﱠﻚ أن أوروﺑﺎ ﺗﻜﻮن ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻛﺎﻟﺮﻳﺸﺔ املﻌﻠﻘﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ وأﻧﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺨﻄﺮ اﻷﺻﻔﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﱪ ﻋﻨﻪ ﺑﺬﻟﻚ، اﻷﺧري ﻇﻬﺮ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻮﺟﻮد ﳾء ﻳﻘﺎل ﻟﻪ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ أﻓﻜﺎر اﻟﺴﺎﺳﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻮﻻن ﰲ أﻣﺮﻫﺎ ،وﻛﻞ ﻳﻮم ﻧﺴﻤﻊ ﰲ اﻟﺼﺤﻒ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻟﻜﻼم ﻓﻴﻬﺎ. 117
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﺬا وإن املﺴﻠﻢ اﻟﻐﻴﻮر ﻋﲆ دﻳﻨﻪ املﺘﻐﺎﱄ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ إﻋﺰاز ﺟﺎﻣﻌﺘﻪ ﻳﻮ ﱡد ﺑﻜ ﱢﻞ ﻗﻠﺒﻪ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻫﻮ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻬﺬه اﻷﻣﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ اﻟﺤﻴﺔ ﻟﻴﻌﺘ ﱠﺰ ﺑﻬﺎ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺪﻳﻦ ،وﺗﻘﻮى ﺑﻬﺎ ﺷﻮﻛﺔ املﺴﻠﻤني ،وﻣﺎ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﷲ ﺑﻌﺰﻳﺰ. ) (63ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن إن املﺮﻛﺰ اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻓﻴﻪ ﺟﻼﻟﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ إزاء املﺸﺎﻛﻞ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮ ﱢﻟﺪﻫﺎ أوروﺑﺎ ﻣﻦ ﺣني ﻵﺧﺮ ﻟﻬﻮ املﺮﻛﺰ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻘﻒ ﻓﻴﻪ ﱠإﻻ ﻣﻦ وُﻫِ ﺐ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ وﻣﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻣﺎ ﻳُﻌَ ﺪ ﻣﻦ ﺧﻮارق اﻟﻌﺎدات ،وﻣﻦ ا ﱠ ﻃﻠﻊ ﻋﲆ ﻣﺠﺮﻳﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺤﻤﻴﺪﻳﺔ ﰲ اﻟﻈﺮوف اﻟﺤﺎﴐة ،وﻓﻴﻤﺎ ﻣﴣ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ ﺗﻮﻟﻴﺘﻪ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻻ ﻳُﻌَ ﺪ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﻣﻨﺎ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ وﻏﻠﻮٍّا ﻋﻦ ﻛﻨْﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻟﺴﻨﺎ اﻵن ﺑﺼﺪد ﴍح اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﻓﻴﻬﺎ آﺛﺎر ﺳﻴﺎﺳﺘﻪ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﳾء ُﻣﻠِﺌﺖ ﺑﻪ ﺑﻄﻮن اﻟﺪﻓﺎﺗﺮ وأﺳﻔﺎر املﺆرﺧني. وإﻧﻤﺎ اﻟﻐﺮض اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ أن ﻧﺬﻛﺮ ﺷﻬﺎدات أﺳﺎﻃني اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻜﻤﻮا اﻷﻣﻢ، وأ ُ ْﺳﻨِﺪت إﻟﻴﻬﻢ ﻣﺮاﻛﺰ ﺳﺎﻣﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ وﻏريﻫﺎ ﻟﻴﻘﻒ اﻟﺠﺎﻫﻞ ﺑﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺠﺒﺘﻬﺎ ﻋﻨﻪ ﺳﺤﺐ اﻷﺿﺎﻟﻴﻞ واﻷراﺟﻴﻒ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪﻳﻬﺎ ﻛﻞ ﻳﻮم أﻋﺪاء اﻟﺪوﻟﺔ واملِ ﱠﻠﺔ وﻳﺰداد اﻟﻌﺎرف ﺑﻬﺎ ﻳﻘﻴﻨًﺎ ﻋﲆ ﻳﻘني ،وﻟﺴﻨﺎ ً أﻳﻀﺎ ﺑﻬﺬا اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻧﴪد ﻛ ﱠﻞ اﻟﺠﻤﻞ املﺄﺛﻮرة اﻟﺘﻲ ﻓﺎه ﺑﻬﺎ أوﻟﺌﻚ اﻷﺳﺎﻃني وﻧﻘﻠﺘﻬﺎ اﻟﺼﺤﻒ واﻟﺮواة إﱃ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء املﻌﻤﻮرة ﻛﻘﻮل ﺑﺴﻤﺮك داﻫﻴﺔ اﻷملﺎن ﻋﻨﺪ اﺣﺘﻀﺎره» :وددت ﻟﻮ ُﻣ ﱠﺪ ﱄ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻷﻗﻒ ﻋﲆ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﺗﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﺳﻠﻄﺎن آل ﻋﺜﻤﺎن «.ﺑﻞ ﻧﺬﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﺷﻬﺎدة إﻣﱪاﻃﻮر اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻫﻲ ﰲ ﴍﻋﺔ اﻹﻧﺼﺎف ﺗﻮازي أﻟﻒ ﺷﻬﺎدة ﻛﺸﻬﺎدة ﺑﺴﻤﺮك وﻏريه ﻣﻦ أﻛﺎﺑﺮ رﺟﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴني ،وﺗﻘﺪﻳﺮﻧﺎ ﺷﻬﺎدة املﻴﻜﺎدو ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ﻣﺴﺒﺐ ﻋﻦ اﻋﺘﺒﺎرات ﺛﻼﺛﺔ: ً أوﻻ :ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺷﻬﺎدة ﺳﻠﻄﺎن ﻟﻢ ﺗﺤﺘ ﱠﻚ ﻣﺼﺎﻟﺢ دوﻟﺘﻪ ﺑﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻟﻶن ﻟﻢ ﺗﻮﺟﺪ ﺳﻔﺎرة ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻟﻠﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ إذا ﻛﺎن املﻴﻜﺎدو ﺑﻤﺠﺮد اﻃﻼﻋﻪ ﻋﲆ ﻣﻘﺪار ﺣﻜﻤﺔ ﺟﻼﻟﺔ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻷﺧﺒﺎر اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﻨﻘﻞ واﻟﻌﻠﻢ املﺠﺮد ﻋﻦ اﺣﺘﻜﺎك املﺼﻠﺤﺘني ،ﻓﻤﺎ ﺑﺎﻟﻚ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﻼﻗﺎت ﺑني ﻋﺮش اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ وﻋﺮش دوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن. 118
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﴍﻗﻲ وﻫﻮ وﻻ ﺷﻚ أﻛﺜﺮ اﻋﺘﻨﺎءً ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ أﺣﻮال املﻤﺎﻟﻚ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﺛﺎﻧﻴًﺎ :إن املﻴﻜﺎدو ﻣﻠﻚ ﱞ ﻣﻨﻪ ﺑﺎملﻤﺎﻟﻚ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،ﻓﺈذا ﺣﻜﻢ ﻋﲆ ﻣﻠﻚ ﻣﻦ ﻣﻠﻮك اﻟﴩق ﺑﺼﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ،ﻓﻼ ﺑ ﱠﺪ وأن ﻳﻜﻮن ﺣﻜﻤﻪ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻗﻀﻴﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ املﻘﺪﻣﺎت. ﺛﺎﻟﺜًﺎ :وﻣﻊ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻨﺎء ﻓﺈن اﻋﺘﻨﺎءه ﺑﺎﺳﺘﻄﻼع أﺣﻮال اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ ﺣﺎﺋﺰ ﺻﻔﺔ اﻻﻣﺘﻴﺎز ﺑﺎﻟﺰﻳﺎدة؛ ﻷن ﺟﻼﻟﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ ﻫﻮ أﻛﱪ ﺳﻠﻄﺎن ﴍﻗﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻤﺜﻞ ﻟﻸﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﺄﺟﻤﻌﻬﺎ وﻷﻧﻪ اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﺜﻼﺛﻮن ﻣﻦ ﻣﻠﻮك اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا وﻟﻢ ﻳﺰاﻟﻮا ﺳﻴﺎج اﻹﺳﻼم املﻨﻴﻊ وﺣﺼﻨﻪ اﻟﺮﻓﻴﻊ. ﻫﺬا وملﺎ دارت رﺣﻰ اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺚ ﺟﻼﻟﺔ ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﺳﻌﺎدة ﺑﺮﺗﻮ ﺑﺎﺷﺎ أﺣﺪ ﻗﻮاد اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻣﻨﺪوﺑًﺎ ﺣﺮﺑﻴٍّﺎ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺪول اﻟﻜﱪى ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ،ﻓﻠﻤﺎ وﻓﺪ ﺑﺮﺗﻮ ﺑﺎﺷﺎ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺻﺪر أﻣﺮ ﺟﻼﻟﺔ املﻴﻜﺎدو ﺑﺄن ﻳ َ ُﺤﺘﻔﻞ ﺑﻪ ً اﺣﺘﻔﺎﻻ ﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ ﺟﺎﻣﻌً ﺎ ﻟﻜ ﱢﻞ ﴐوب اﻟﺤﻔﺎوة واﻹﺟﻼل ،ﺛﻢ دﻋﺎه إﱃ ﻣﺄدﺑﺔ ﺧﺼﻮﺻﻴﺔ ﺑﻪ، وأﻇﻬﺮ ﻟﻪ ﻣﺰﻳﺪ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ وﻫﻮ ﻋﲆ ﻣﺎﺋﺪﺗﻪ وﻻﻃﻔﻪ ﻣﻼﻃﻔﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ،ورﺣﱠ ﺐ ﺑﻪ ﺗﺮﺣﻴﺒًﺎ ً ﺑﺎﻟﻐﺎ ﺷﺌﻮن ﻋﺪﻳﺪة ﺑﻌﺒﺎرة ﺗﺪل ﻋﲆ ﺟﻠﻴﻞ اﺣﱰاﻣﻪ ﻟﺠﻼﻟﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ، ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﴩف ،وﺣﺎدﺛﻪ ﰲ ٍ وﻣﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :إﻧﻨﻲ أﺣﺘﻔﻞ ﺑﻚ اﻵن ﺑﺼﻔﺘﻚ ﻣﻤﺜ ًِﻼ ﻟﻠﺨﻠﻴﻔﺔ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﺬي أﻧﺎ أُﺟﻠﻪ ﻛ ﱠﻞ اﻹﺟﻼل ،وأﺷﻬﺪ ﻟﻪ ﺑﺴﻤﻮ املﺪارك ،وﺑُﻌﺪ ﻣﺮاﻣﻴﻪ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﴩق ﻳﻔﺨﺮ ﺑﻬﺬا اﻟﺴﻠﻄﺎن ،ﻓﺈذا وﺿﻊ اﻟﺴﻴﺎﳼ املﺤﻨﻚ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ أﻣﺎﻣﻪ ﻋﺮف ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﺆﺛﱢﺮه اﻟﻌﻼﺋﻖ اﻟﻮدﻳﺔ ﺑني أﻣﺮاء اﻟﴩق وﻣﻠﻮﻛﻪ ﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻷدﻳﺎن واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ واﻟﻌﻮاﺋﺪ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﻔﺔ املﻴﺰان اﻷﺧﺮى ﻋﻦ ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺤﻲ. وﻟﻴﺲ اﻟﺨﻄﺮ اﻷﺻﻔﺮ اﻟﺬي ﺗﺘﻮﻗﻌﻪ أوروﺑﺎ ﻣﻦ ﺣني ﻵﺧﺮ ﱠإﻻ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺠﺎﻣﻼت اﻟﻮدﻳﺔ ﺑني ﻣﻠﻮك اﻟﴩق. وﻧﻌﺮف ً أﻳﻀﺎ أن أول ﺧﻄﻮة ﻳﺨﻄﻮﻫﺎ اﻟﴩق ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻫﻮ اﺗﺼﺎل أﺳﺒﺎب املﻮدة ﺑني دوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن واﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﻤﺎ اﻟﺪوﻟﺘﺎن اﻟﻠﺘﺎن ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﻤﺎ أن ﺗﻜﻮﻧﺎ ﻗﺎﺑﻀﺘني ﻋﲆ اﻟﴩق ،ﻫﺬه ﰲ اﻟﴩق اﻷدﻧﻰ ،وﺗﻠﻚ ﰲ اﻟﴩق اﻷﻗﴡ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ إذا اﻋﺘﻨﻖ املﻴﻜﺎدو دﻳﻦ اﻹﺳﻼم اﻟﺬي اﺳﺘﺤﺴﻨﻪ ﰲ ﺟﻠﺴﺎت املﺆﺗﻤﺮ ﻛﻤﺎ ﻗﺪﻣﻨﺎ ،ﻓﺈن اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺗﻜﻮن ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻋﴫ ﺻﻼح اﻟﺪﻳﻦ اﻷﻳﻮﺑﻲ ﺣﺬوك اﻟﻨﻌﻞ ﺑﺎﻟﻨﻌﻞ. وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻢ ﺗﻐﺐ ﻋﻦ اﻟﻔﺎﺗﻴﻜﺎن اﻟﺒﺎﺑﻮي ،أو ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻋﻦ ﻗﺒﻠﺔ املﺬﻫﺐ ﱠ وﺗﻮﻗﻊ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﻓﻴﻪ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻲ ،ﻓﺈن اﻟﺒﺎﺑﺎﺑﻴﻮس اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﻻﺣﻆ ﻫﺬه املﻼﺣﻈﺔ ﻳﻌﺘﻨﻖ املﻴﻜﺎدو دﻳﻦ اﻹﺳﻼم ،ﻓﻴﻘﻒ أﻣﺎم اﻟﻨﴫاﻧﻴﺔ ﻣﻮﻗﻒ املﻨﺎﻇﺮ ،ﻓﻠﻤﺎ اﺣﺘﻔﻞ املﻴﻜﺎدو 119
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺑﺎملﻨﺪوب اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ذﻟﻚ اﻻﺣﺘﻔﺎل اﻟﺸﺎﺋﻖ ،وﺷﺎﻓﻬﻪ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﺑﻌﺚ ﻫﻮ ً أﻳﻀﺎ ﺑﻤﻨﺪوب ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ املﺴﻴﻮ »أوﻛﻮﻧﺎل« ،وزوده ﺑﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻟﻠﻤﻴﻜﺎدو ،ﻓﻠﻤﺎ ﺣﴬ وﻗﺎﺑﻠﻪ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ رﺳﻤﻴﺔ ﻗﺎل ﻟﻪ املﻨﺪوب ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :إن ﻗﺪاﺳﺔ اﻟﺒﺎﺑﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﻧﺤﻮﻛﻢ وﻧﺤﻮ أﻣﺘﻜﻢ ﺑﺸﻌﻮر اﻻﻧﻌﻄﺎف ،وﻫﻮ ﻳُﻌﺠَ ﺐ ﻛﺜريًا ﺑﻬﻤﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وﺷﻬﺎﻣﺘﻬﻢ وﺣﺒﻬﻢ ﻟﻮﻃﻨﻬﻢ ،وﻳﺮوﻗﻪ ﻛﺜريًا ﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ ،وﻳﺨﺺ ﺟﻼﻟﺘﻜﻢ ﺑﻤﺰﻳﺪ اﻻﻧﻌﻄﺎف وأﻧﻪ ﻳﺮﻏﺐ ﻛﺜريًا ﰲ أن ﻳﺆﻛﺪ اﻟﻌﻼﺋﻖ اﻟﻮدﻳﺔ ﺑني اﻟﻔﺎﺗﻴﻜﺎن وﺑني ﻋﺮش دوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﺧﺪﻣﺔ دﻳﻨﻴﺔ ،وﻏري ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻣﻤﺎ ﻳﻨﺎﺳﺒﻪ ﻣﻘﺎم ﻣﻦ ﻳﺨﻄﺐ اﻟﻮد ﻣﻦ آﺧﺮ ،وﻛﺄن ﺟﻼﻟﺔ املﻴﻜﺎدو ﺗﺬﻛﺮ املﺜﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﻋﻨﺪﻫﻢ وﻫﻮ» :أﻛﺮم اﻟﻐﺮﻳﺐ وﻻ ﺗﺠﻬﻞ ﻧﻮاﻳﺎه «.ﻓﺸﻜﺮ ﻟﻠﻤﻨﺪوب اﻧﻌﻄﺎف اﻟﺒﺎﺑﺎ ُﻈﻬﺮ اﻟﻮ ﱠد ﺑﻐري إﺧﻼص ،وﻟﻢ ﻳﻄﻠﺐ أدﻧﻰ ﳾء ﻣﻤﺎ وﺟﺎﻣﻠﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﺄن ﻳُﺠﺎﻣَ ﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻳ ِ َﻗ ِﺪ َم اﻟﺒﺎﺑﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﻷداﺋﻪ. و ِﻣﺜْﻞ املﻴﻜﺎدو ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻮاﻳﺎ أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﴩق ،وﻻ ﻳﺼﺪﱢق املﺠﺎﻣﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮﻫﺎ ﻣﻠﻮك أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﴩق ،وﻫﻮ وإن ﻛﺎن ﺣﺎﻟﻒ دوﻟﺔ إﻧﻜﻠﱰا ،ﻓﺈن ﻣﺮﺟﻊ ﻫﺬا إﱃ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﻘﻂ؛ إذ ﻫﻲ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷوﺿﺎع ﺗﻘﴤ ﺑﺄن ﻳﺤﺎﻟﻒ ﻣﻠﻚ ﴍﻗﻲ آﺧﺮ ﻏﺮﺑﻴٍّﺎ. وﻫﺬا ﻣﻌﻨًﻰ ﺳﻴﺎﳼ دﻗﻴﻖ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﲆ اﻟﺒﺼري ،وﻫﻮ أن ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﺎﺑﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ﺳﻴﺎﳼ ﻛﻤﺎ أﻧﻪ دﻳﻨﻲ؛ ﱠ ﻷن ﺗﻘ ﱡﺮب رﺋﻴﺲ دﻳﻨﻲ ﻣﻦ رﺋﻴﺲ ﺳﻴﺎﳼ ﻳُﻌ َﻠﻢ ﻣﻨﻪ أن اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻆ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﱠ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻟﻪ ﺣ ﱞ وإﻻ ملﺎ وﺟﺪت املﻨﺎﺳﺒﺔ اﻟﺮاﺑﻄﺔ ﻟﺘﺤﺎﻟﻒ اﺛﻨني ﻳﺨﺘﻠﻔﺎن ﰲ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺪﻋﻮ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ إﱃ اﻟﺘﺤﺎﻟﻒ وﻫﻮ اﺗﺤﺎد ﺟﻬﺔ اﻟﻌﻼﻗﺔ. واﻟﺨﻼﺻﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ أن ﺟﻼﻟﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻷﻋﻈﻢ ﻟﻪ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻛﱪى ﰲ ﻧﻔﺲ املﻴﻜﺎدو ورﺟﺎل دوﻟﺘﻪ ﻻ ﺗﻐريﻫﺎ زﺧﺎرف اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ ﰲ أيﱢ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم. ) (64ﻫﻤﻢ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ووﻃﻨﻴﺘﻬﻢ ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﰲ ﻧﺎﻣﻮس ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،وﺗﺄﻣﱠ ﻞ ﰲ ارﺗﺒﺎط ﻛ ﱢﻞ ﻓﺮد ﻣﻦ ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺎﻵﺧﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺘﻌﺎون وﺗﺒﺎدل املﻨﻔﻌﺔ ﰲ ﻣﻌﱰك اﻟﺤﻴﺎة ،ﻋﺮف ﺟﻠﻴٍّﺎ أن اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﻫﻢ أوﱃ اﻟﻨﺎس ﺑﺄن ﻻ ﻳﺪﻋﻮا اﻟﺪرﻫﻢ واﻟﺪﻳﻨﺎر ﰲ ﺧﺰاﺋﻨﻬﻢ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻗﺪ ﺟﻨَﻮا ﺟﻨﺎﻳﺔ ﻛﱪى ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ؛ ﻷﻧﻨﺎ إذا ﻋﺮﻓﻨﺎ أن اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ اﻛﺘﺴﺎب اﻟﺪرﻫﻢ واﻟﺪﻳﻨﺎر ﻫﻲ ﺳﺪ اﻟﻌَ ﻮَز وﻗﻀﺎء ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎج إﻟﻴﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﴐورﻳﺎت املﻌﺎش ﻟﻮﺟﺪﻧﺎ أن ﻣﺜﻞ روﻛﻔﻠﺮ ،وﻛﺎرﻧﺠﻲ ،وروﺗﺸﻠﺪ وﻏريﻫﻢ ﻣﻤﻦ ﺗُﻌَ ﺪ ﺛﺮوﺗﻬﻢ ﺑﺎملﻼﻳني ﻳﻜﻔﻲ أﺣﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﺛﺮوﺗﻪ ﺟﺰء ﻣﻦ أﻟﻒ أﻟﻒ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،ﻓﺈذن ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن 120
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺒﺎﻗﻲ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ً وﻗﻔﺎ ﻋﲆ ﻣﻨﻔﻌﺔ ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ،إﻣﺎ ﺑﺎﻷﺛﻤﺎر أو ﺑﺎﻟﺰراﻋﺔ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻘﴤ ﺑﺄن ﻳﻌﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻏريه ﺑﻜﺴﺐ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﺤﺎﺟﺘﻪ ،وﻗﺪ ﺣﺬﱠر ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻣﻦ اﻛﺘﻨﺎز املﺎل وﻋﺪم اﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ املﻮاﺿﻊ ،وأﻧﺬر اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻨﺰون اﻟﺬﻫﺐ واﻟﻔﻀﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺳﺘُﻜﻮَى ﺑﻬﺎ ﺟﺒﺎﻫﻬﻢ وﺟﻨﻮﺑﻬﻢ ﻳﻮم اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ. أن اﻟﻐﻨﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴُﻌ َ ﻫﺬه املﻘﺪﻣﺔ أﺗﻴﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﻟﺒﻴﺎن ﱠ ﱠ ﻳﺨﺘﺺ ﻄﻰ ﻫﺬا اﻟﻐﻨﻰ ﻷﺟﻞ أن ﺑﻪ دون ﻏريه ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺟﻨﺴﻪ ،وﻛﻤﺎ ﻳﻜﻮن اﺳﺘﻌﻤﺎل املﺎل ﰲ اﻟﻮﺟﻮه اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ ﺑني اﻷﻓﺮاد، ﻓﻜﺬﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﰲ ﻣﺠﻤﻮع اﻷﻣﺔ؛ ﻷن اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﻠﻎ ﺗﻌﺪادﻫﺎ اﻷﻟﻒ واملﻠﻴﻮن ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻮس إذا ﻏﻨﻲ ﻓﻴﻬﺎ أن ﻳﺒﺬل ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻪ ﻣﺎ ﻳﺆدي ﺑﻪ اﺣﺘﺎج ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ إﱃ املﺎل ﻛﺎن اﻟﻮاﺟﺐ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﱟ وإﻻ ﻳُﻌَ ﺪ ﺧﺎﺋﻨًﺎ ٍّ ﻋﺎﻗﺎ وﻛﻔﻰ ﺑﻬﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﺣِ ﱠ ﻫﺬا اﻟﻮاﺟﺐ ﻧﺤﻮ وﻃﻨﻪ وأﻣﺘﻪ ﱠ ﻄﺔ ﻣﻦ ﻗﺪْره، وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻜﻮن دون اﻟﻔﻘري ﰲ اﻟﻨﻔﻊ ﻟﺒﻼده ،ﺑﻞ ﻻ ﻳﺼﺪق ﰲ ﱢ ﺣﻘﻪ ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ؛ ﻷن اﻟﻔﻘري ﻗﺪ ﻳﻜﻮن أﻧﻔﻊ ﻣﻨﻪ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻜﺘﺴﺐ ﰲ اﻟﻴﻮم درﻫﻤً ﺎ واﺣﺪًا وﻳﺒﺬل ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﻧﻔﻊ أﻣﺘﻪ وﺑﻼده ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺪرﻫﻢ ﻓﻬﻮ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ؛ إذ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻜﺮم أن ﻳﺠﻮد املﺮء وﻫﻮ ﰲ ﺷﺪة اﻟﻌَ ﻮَز ،ﻫﺬا وإﻧﻨﺎ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻧﻘﺮأ ﰲ اﻟﺼﺤﻒ وﻧﺸﺎﻫﺪ ﺑﺄﻋﻴﻨﻨﺎ اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻳﺠﻮدون ﺑﺎﻷﻣﻮال اﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﻧﻔﻊ أﻣﺘﻬﻢ ووﻃﻨﻬﻢ ،وﻧﻌﺠﺐ ﻛﺜريًا إذا ﺳﻤﻌﻨﺎ أن ﻓﻼﻧًﺎ ﺣَ ﺒ ََﺲ ﻛﺬا ﻣﻦ اﻷﻋﻴﺎن ﻣﻤﺎ ﻳﺒﻠﻎ رﻳﻌُ ﻪ ﻛﺬا ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،وﻓﻼن وﻫﺐ ﻛﺬا ﻣﻦ آﻻف اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ارﺗﻘﺎء اﻟﻌﻠﻮم أو إﻋﺎﻧﺔ اﻟﻔﻘﺮاء ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﰲ إﺑﱠﺎن اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻹﻋﺠﺎب أﻛﺜﺮ وإﱃ اﻟﻘﺎرئ اﻟﺒﻴﺎن. ملﺎ ﺣﺪﺛﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب رأت اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ أن ﺗﻘﱰض ﻣﺒﻠﻎ ٦٠ﻣﻠﻴﻮن ﱟ ﻳﻦ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﻨﻮك ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﻠﻢ ﺑﺬﻟﻚ أﻏﻨﻴﺎؤﻫﻢ ﻫ ﱠﺰﺗﻬﻢ اﻷرﻳﺤﻴﺔ ودﻋﺘﻬﻢ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ إﱃ أن ﻳﺘﱪﻋﻮا ﺑﻤﺎ ﺑﻤﺒﺎﻟﻎ ﻷﻧﻲ ﻋﺮﻓﺖ ذﻟﻚ ﺣني ﻳﻌﺠﺰ ﻋﻨﻬﻢ ﺳﻮاﻫﻢ ﻣﻦ أﻏﻨﻴﺎء اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ،وﻟﺴﺖ ﰲ ﻫﺬا ٍ ً ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﻤﻦ ﺑﺎﴍ ﻫﺬا اﻟﺘﱪع ﺑﻨﻔﺴﻪ ورآه ﺑﻌﻴﻨﻲ رأﺳﻪ ﻻ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى وﺟﻮدي ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻼد اﻹﻧﺴﺎن ﱠإﻻ ﺷﻴﺌًﺎ ﺑﺎملﻨﺎﻇﺮ املﺠﺴﻤﺔ. ﻓﺄول ﻣﺎ ذاع ﺧﱪ ﻫﺬا اﻟﻘﺮض ﻋُ ِﻤﻞ اﻛﺘﺘﺎب ﻋﺎم اﺷﱰك ﻓﻴﻪ اﻵﻻف ﻣﻦ املﻮﴎﻳﻦ وﰲ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﺟُ ِﻤﻊ ﻣﺒﻠﻎ ١١٢٠٠٠٠٠ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ١١٢٠٠٠٠ﺟﻨﻴﻪ ﻣﴫي ،وﻟﻢ ﻳﻘﻒ اﻻﻛﺘﺘﺎب ﻋﻨﺪ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﱢ ،ﺑﻞ ُﻓﺘِﺤَ ﺖ اﻛﺘﺘﺎﺑﺎت أﺧﺮى ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺒﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،وإﻧﻨﺎ اﻵن
121
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻧﺬﻛﺮ أﺳﻤﺎءﻫﻢ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻔﺨﺮ ﺑﻬﺬه اﻟﻬﻤﻢ اﻟﺸﻤﱠ ﺎء اﻟﺘﻲ ﻗ ﱠﻠﺖ أن ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ أﻏﻨﻴﺎء اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ،وﻫﺎك اﻟﺒﻴﺎن: ﻳﻦ
ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺟﻨﻴﻪ
ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
اﻟﺒﺎرون ﺗﺎﻧﺴﻴﺒﻮا
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﺷﺎﻧﺘﻮ ﻣﺎﻟﻮ
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
اﻟﱪﻧﺲ ﻓﺎﻟﺘﺎدوار
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
اﻟﱪﻧﺲ ﻣﻮري
ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﻣﺎﻳﻴﺪا
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﺷﻴﻤﺎدﺗﱪون
ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ
١٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ ﻓﻮروﻛﺎوا
ﻧﺼﻒ ﻣﻠﻴﻮن
٥٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ داﻧﺘﻮﻣﺎر
ﻧﺼﻒ ﻣﻠﻴﻮن
٥٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﻫﻮﺳﻮﻛﺎوا
ﻧﺼﻒ ﻣﻠﻴﻮن
٥٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ واﺗﺎﻧﺎﺑﻲ
ﻧﺼﻒ ﻣﻠﻴﻮن
٥٠٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ ﻫﺎراﺗﻮﻣﺒﺘﺎو
٤٠٠أﻟﻒ
٤٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﺟﺎﺑﺎﻟﻮﻧﻲ
٤٠٠أﻟﻒ
٤٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ داﻧﺘريﻓﻮش
٣٠٠أﻟﻒ
٣٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ ﺗﻮﻛﻮﺟﺎوا
٣٠٠أﻟﻒ
٣٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ إﻳﻮﻳﺎ
٣٠٠أﻟﻒ
٣٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ ﺟﻴﻤﻮن
٣٠٠أﻟﻒ
٣٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺮﻛﻴﺰ إﻧﺸﺎﻧﺎو
٢٠٠أﻟﻒ
٢٠أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ
املﺴﱰ ﻫﻮرﻳﻜﻮﳾ
ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ ﻣﻠﻴﻮﻧًﺎ
١١٢٠٠٠٠٠ﻳﻦ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ١١٢٠٠٠٠ﺟﻨﻴﻪ ﻣﴫي.
122
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﺬا ﻫﻮ ﺟﻤﻴﻊ ا ُمل َﺘﱪع ﺑﻪ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺠﺪ ً ً رﺟﻼ ﻣﻦ اﻟﻘﻮم ﻳﻌﺠﺐ ﺟﺪٍّا ﻟﻬﺬا اﻟﻜﺮم وﻫﺬه ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﺟﺎد ﺑﻪ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩ أن اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻳﻜﻮن اﺳﺘﻐﺮاﺑﻪ أﻛﺜﺮ إذا ﻋﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﺟﺎد ﺑﻪ املﺴﻴﻮ ادﻛﺎروا ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻛﺎن ﻋﻨﺪه ﻣﺘﺤﻒ ﺟﻤﻊ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻏﺮﻳﺐ اﻵﺛﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﻣﺎ ﺗﻘﺪﱢر ﻗﻴﻤﺘﻪ ﺑﺨﻤﺴﺔ وﺛﻤﺎﻧني ً أﻟﻔﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،ﻓﺒﺎﻋﻪ ﺑﻬﺬا املﻘﺪار وﻗﺪﱠﻣﻪ إﱃ املﻴﻜﺎدو اﻟﺬي اﻣﺘﺪح ﻟﻪ وﻃﻨﻴﺘﻪ ،وﻗﺎل إﻧﻲ أو ﱡد أن ﻳﻜﻮن ﰲ ﺑﻼدي املﺌﺎت ﻣﻦ أﻣﺜﺎﻟﻚ ﰲ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ،وﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻠﻴﻞ ﻻ ﻳﻘﻞ ﻋﻤﺎ ﻓﻌﻠﻪ املﺴﻴﻮ »ﻓﻴﺪون ﺑﻴﺲ« ،ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﺟﺎد ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ واﻟﻨﻔﻴﺲ؛ وذﻟﻚ أﻧﻪ ﻛﺎن ً ً ﺟﻤﻴﻼ وﻋﻨﺪه وﻟﺪان ﻟﻢ ﻳﺮزق ﺳﻮاﻫﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻨني ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﻋﺰم دوﻟﺘﻪ ﻣﻨﺘﺰﻫﺎ ﻳﻤﻠﻚ ﻋﲆ اﻗﱰاض املﺒﻠﻎ املﺘﻘﺪم ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻨﻪ ﱠإﻻ أﻧﻪ ﺑﺎع ﺛﻠﺜﻲ املﻨﺘﺰه ﺑﻤﺒﻠﻎ ٥٠أﻟﻒ ﻳﻦ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ٥٠٠٠ﺟﻨﻴﻪ ﻣﴫيﱟ ،وأﺧﺬ ﻫﺬا املﺒﻠﻎ وﻧﺠﻠﻪ اﻷﻛﱪ وﺗﻘﺪم إﱃ املﻴﻜﺎدو وﻗﺎل ﻟﻪ: ﻟﻴﺴﻤﺢ ﱄ ﺳﻴﺪي وﻣﻮﻻي ﺑﻘﺒﻮل ﻫﺬا املﺒﻠﻎ وﺑﻘﺒﻮﱄ أﻧﺎ واﺑﻨﻲ ﻫﺬا ﻣﺘﻄﻮﻋني ﰲ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ؛ ﻷﻧﻲ اﺑﺘﻌﺖ ﺑﻬﺬا املﺒﻠﻎ ﺛﻠﺜﻲ ﻣﻨﺘﺰﻫﻲ وأﺑﻘﻴﺖ اﻟﺜﻠﺚ ﻟﻴﻜﻮن ﻣﻮرد ﻣﻌﺎش زوﺟﺘﻲ واﺑﻨﻲ ﻋﺠﺐ املﻴﻜﺎدو ﺑﻪ ﻛ ﱠﻞ اﻹﻋﺠﺎب وﺷﻜﺮ ﻟﻪ ﻫﺬه اﻷرﻳﺤﻴﺔ ،ﻫﺬه ﻫﻲ ﻣﺮوءة أﻫﻞ اﻟﺼﻐري ،ﻓﺄ ُ ِ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻧﺤﻮ وﻃﻨﻬﻢ وﺷﻌﻮرﻫﻢ ﻟﺪى اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﻘﴤ ﺑﺄن ﻳﺆدﱢي ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﻮاﺟﺐ ﻟﺒﻼده وأﻣﺘﻪ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﻌﺪﱡون ﻫﺬا ﻣﻦ ﺑﺎب اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﺪَح ﻋﻠﻴﻬﺎ ً ﻓﺮﺿﺎ ﻻزﻣً ﺎ ﻻ ﻳﺠﺐ ﺷﻜﺮ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑﻪ؛ ﻷن املﺮء ﻻ ﻳُﻤﺪَح اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻌﺪون ﻫﺬا اﻟﺘﱪع ﻋﲆ ﻓﻌﻞ اﻟﻮاﺟﺐ ،وﻫﺬا ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﺪَﺣﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﻓ ْﻠﻴﺤ ُﻜ ْﻢ ﻣﻌﻨﺎ اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻋﲆ ﺷﻬﺎﻣﺔ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ،وﻛﺄﻧﻲ ﺑﻪ ﻳﻘﻮل إن ﺳريﺗﻬﻢ ﻫﺬه ﻻ ﺗُﺴ ﱠ ﻄﺮ ﺑﺎملﺪاد ﺑﻞ ﺗﻜﺘﺐ ﺑﻤﺎء اﻟﺤﻴﺎة واﻟﺘﱪ ،أو ﺑﺄﻃﺮاف ا ُملﺪَى ﻋﲆ رﻗﺎق اﻷﻛﺒﺎد. ) (65ﺷﻬﺎﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ إﻧﻨﺎ ﻧﻘﺮأ ﰲ ﻛﺘﺐ ﺳرية ﻣﻦ ﺗﻘﺪﱠم ﻣﻦ اﻟﺸﺠﻌﺎن وﺧﻄﺒﺎء ﺣﻮﻣﺔ املﻴﺪان ﰲ ﻋﴫ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﻛﻌﻨﱰة اﻟﻔﻮارس ،واﻟﺤﺎرث ﺑﻦ ﻋﺒﺎد ،وﻋﻤﺮو ﺑﻦ ﻣﻌﺪ ﻳﻜﺮب ،واﻟﺤﺎرث ﺑﻦ ﻇﺎﻟﻢ وﻏريﻫﻢ، ﻓﻴﻘﻒ اﻟﻔﻜﺮ ﻣﻮﻗﻒ املﻨﺪﻫﺶ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﴬَ ب ﺑﻬﺎ اﻷﻣﺜﺎل ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺟﻴﺎل، وﻗﺪ ﻳُﺨﻴﱠﻞ ﻟﻠﻘﺎرئ أن اﻟﺰﻣﻦ ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻮﺟﻮد أﻧﺎس ﻛﻬﺆﻻء ﰲ اﻟﻨﺠﺪة واﻟﺸﺠﺎﻋﺔ وﻗﻮة اﻟﺒﺄس ،وﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﺷﺎﻫﺪ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﺛﻨﺎء ﺣﺮوﺑﻬﻢ ﻣﻊ اﻟﺮوﺳﻴﺎ ﻳﻘﻮل :ﻣﺎ أﺷﺒﻪ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﺒﺎرﺣﺔ؛ إذ آﻻف ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻤﺜﻠﻮن ﻫﺆﻻء اﻟﺸﺠﻌﺎن ﰲ ﺣﻤﺎﺳﻬﻢ وﻗﻮة ﺑﺄﺳﻬﻢ ،وﻟﻢ ﻳﻘﺘﴫ اﻷﻣﺮ ﻓﻴﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﺎل ،ﺑﻞ اﺷﱰك اﻟﻨﺴﺎء ﻣﻌﻬﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ؛ إذ ﻛﺎن املﻮت ﻋﻨﺪﻫﻢ ﰲ 123
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺳﺒﻴﻞ ﺣﺐ اﻟﻮﻃﻦ أﺷﻬﻰ ﻣﻦ املﺎء اﻟﻌﺬب ﰲ اﻟﻬﺠري ،وﺻﻮت املﺪاﻓﻊ ﻟﺪﻳﻬﻢ أﻟﺬ ﰲ أﺳﻤﺎﻋﻬﻢ ﻣﻦ رﻧﺎت املﺜﺎﻟﺚ واملﺜﺎﻧﻲ َ وﺷﺠْ ِﻮ اﻷﻏﺎﻧﻲ ،واﻟﺪﻣﺎء املﺘﻠﻄﺨﺔ ﺑﻬﺎ أﺟﺴﺎﻣﻬﻢ أﺑﻬﻰ ﰲ ﻧﻈﺮﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺒﺎج وﻓﺎﺧﺮ اﻟﺜﻴﺎب. ملﺎ دارت رﺣﻰ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎل املﻼﻫﻲ وﻣﻌﺎﻫﺪ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن أﻧﺪﻳﺔ ،وﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮﺟﺎل واﻟﻨﺴﺎء ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت ،وﺗُ َﻠﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺤﻤﺎﺳﻴﺔ وﺗُﻤﺜﱠﻞ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻌﺚ ﰲ اﻟﻘﻮم روح اﻟﻐرية ﻋﲆ اﻟﻮﻃﻦ إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻧﺎﺷﻴﺪ ﺠﺮي د ﱠم اﻟﺸﺠﺎع ﰲ اﻟﻌﺮوق ،وﺗﺤﺒﱢﺐ املﻮت إﱃ اﻟﻨﻔﻮس ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺬود ﻋﻦ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ اﻟﻮﻃﻦ واملﺤﺎﻣﺎة ﻋﻦ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ أُﻧ ْ ِﺸﺪت أﻧﺸﻮدة أو ﻣﺜﻠﺖ رواﻳﺔ أو ﻋﻤﻞ أي ﻣﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ ﻛﺎن اﻟﺤﻀﻮر ﻳﺼﻴﺤﻮن ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ» :ﺑﻨﺰاي ﺑﻨﺰاي« ،وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه أن اﻟﺤﻴﺎة ﰲ املﻮت ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﴍف اﻟﻮﻃﻦ. وﻣﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ذاك اﻟﻮﻗﺖ وﺗﻨﺎﻗﻠﺘﻪ ﺟﺮاﺋﺪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣُﻌﺠﺒَﺔ ﺑﻬﻤﺔ وﺷﺠﺎﻋﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﻧﻪ ُﻣﺜﱢﻠﺖ رواﻳﺔ ﰲ أﺣﺪ املﺮاﺳﺢ وﻣﻮﺿﻮﻋﻬﺎ أن اﻟﺮوس ﻗﺒﻀﻮا ﻋﲆ اﺛﻨني ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وﺣﻜﻤﻮا ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺑﺎﻹﻋﺪام رﻣﻴًﺎ ﺑﺎﻟﺮﺻﺎص ،ﻓﻠﻤﺎ ُﻣﺜﱢﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﺮواﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ إﺣﺪى اﻟﻨﺴﺎء ﺿﻤﻦ اﻟﺤﻀﻮر ﻓﺄﺛﱠﺮ ﻓﻴﻬﺎ املﻨﻈﺮ ﺗﺄﺛريًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وﺗﺨﻠﻞ اﻟﺤﻤﺎس ﺑني اﻟﺪم واﻟﻠﺤﻢ ﻣﻨﻬﺎ، وﻗﺎﻟﺖ ﻋﲆ ﻣﻸ اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ :ﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ اﻟﺤﺮب ﻟﻜﻨﺖ أﺷﺎرك أﺑﻨﺎء وﻃﻨﻲ ﰲ ﺣﻮﻣﺔ املﻴﺪان ،وﻟﻜﻦ ﺳﺄﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﻨﻴﻠﻨﻲ ﻫﺬه اﻹ ْرﺑﺔ ،ﺛﻢ ﺑﻌﺪ اﻧﻘﻀﺎء وﻗﺖ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻛ ﱠﻠﻔﺖ وﻟﺪﻫﺎ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﻤﺲ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ﺑﺄن ﻳﺬﻫﺐ إﱃ ﻧﻈﺎرة اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ وﻳﺘﻄﻮع ﰲ اﻟﺠﻴﺶ ،ﻓﺄﺟﺎب اﺑﻨﻬﺎ ﻃﻠﺒﻬﺎ وﺗﻮﺟﻪ إﱃ ﻧﻈﺎرة اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ وﻗﺪﱠم ﺗﻄﻮﻋﻪ ﻓﻠﻢ ﻳُﻘﺒَﻞ ﻣﻨﻪ؛ ﻷن ﻗﺎﻧﻮن اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻻ ﻳ ُِﺠﻴﺰ ﻗﺒﻮل اﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ اﻟﺠﻴﺶ ،ﺳﻮاء ذﻟﻚ ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب أو ﻏريه ﻓﻌﺎد إﱃ أﻣﻪ ﻛﺎﺳﻒ اﻟﺒﺎل ﺣﺰﻳﻨًﺎ وأﺧﱪﻫﺎ ﺑﺎﻷﻣﺮ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﱠإﻻ أﻧﻬﺎ أﺧﺬت ﺑﻴﺪه ودﺧﻠﺖ ﻏﺮﻓﺔ ﰲ اﻟﺒﻴﺖ وﺗﻨﺎوﻟﺖ ﺳﻜﻴﻨًﺎ ،وﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ :اذﻫﺐ إﱃ اﻟﺤﺮب؛ ﺣﻴﺚ ﻻ أ ﱠم ﻟﻚ ﺗﻜﻮن وﺣﻴﺪﻫﺎ وﺑ ََﻘ َﺮت ﺑﻄﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺴﻜني ،وﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ وﻗﻌﺖ ﰲ ﺷﻬﺮ أﺑﺮﻳﻞ ﺳﻨﺔ ،١٩٠٤ﻓﻬﻜﺬا ﺗﻜﻮن اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ وﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮن ﺣﺐ اﻟﻮﻃﻦ ،وﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه املﺮأة ﻓ ْﻠﻴ َْﻘﺘ ِﺪ اﻟﻘﻮاد واﻷﺑﻄﺎل: ﻟ ُﻔ ﱢﻀ ﻠ ﺖ اﻟ ﻨ ﺴ ﺎء ﻋ ﻠ ﻰ اﻟ ﺮﺟ ﺎل وﻻ اﻟ ﺘ ﺬﻛ ﻴ ﺮ ﻓ ﺨ ﺮ ﻟ ﻠ ﻬ ﻼل
وﻟ ﻮ ﻛ ﺎن اﻟ ﻨ ﺴ ﺎء ﻛ ﻤ ﺜ ﻞ ﻫ ﺬي ﻓﻤﺎ اﻟﺘﺄﻧﻴﺚ ﻻﺳﻢ اﻟﺸﻤﺲ ﻋﻴﺐ 124
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻠﻴﻘﺎرن اﻟﻘﺎرئ ﺑني ﻫﺬه املﺮأة وﺑني املﺮأة اﻟﺮوﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ أرادت أن ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻤﻈﻬﺮ املﺪاﻓﻊ ﻋﻦ وﻃﻨﻪ ﰲ ﻧﻔﺲ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ،ﻓﻜﺎن ﻓﻌﻠﻬﺎ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ» :ﻟﻴﺘﻬﺎ ﻻ ﺗﺰﻧﻲ وﻻ ﺗﺘﺼﺪق «.وذﻟﻚ أن إﺣﺪى اﻟﻔﺘﻴﺎت اﻟﺮوﺳﻴﺎت ملﺎ ﺑﻠﻐﻬﺎ ﺧﱪ ﺗﺪﻣري اﻷﺳﻄﻮل اﻟﺮوﳼ ﰲ ﺑﻮرت آرﺛﺮ ﺧﻠﻌﺖ ﻋﺬار اﻟﺤﻴﺎء واﻟﻌﻔﺎف وأﺧﺬت ﺗﺒﻴﻊ ﻋﺮﺿﻬﺎ ُ ﻟﻠﻔﺴﺎق ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﻠﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ وﻗﺒﺾ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﺎﻟﺖ :إﻧﻲ ﻓﻌﻠﺖ ﻫﺬا ﻷﺟﻞ أن أﺟﻤﻊ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ املﺎل أ ُ ْﻛﺘَﺘﺐُ ﺑﻪ ﺿﻤﻦ املﻜﺘﺘﺒني ﰲ إﻧﺸﺎء اﻷﺳﻄﻮل. وﻟﻮ أﻧﻬﺎ ﻣﺎﺗﺖ ﻛﻤﺪًا وﻟﻢ ﺗﻔﻌﻞ ﻫﺬا اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺬﻣﻴﻢ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺧﺪﻣﺖ اﻟﻮﻃﻦ ﺧﺪﻣﺔ ﺗُﺬﻛﺮ ﻓﺘﺸﻜﺮ. وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﺷﻬﺎﻣﺔ ﻧﺴﺎء اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﻠﻐﺖ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻓﻜﻴﻒ إذن ﺗﻜﻮن ﺷﻬﺎﻣﺔ اﻟﺮﺟﺎل، ﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺮﺟﺎل ﻳﻜﻮﻧﻮن ﰲ ﻫﺬه املﺰﻳﺔ أﻗﻮى ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ،وﻋﻠﻴﻪ ﻧﻮرد ﻫﻨﺎ ﻣﺎ وﻗﻊ ﻻﺛﻨني ﻗﺒﺾ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺮوس وﺣﻜﻤﻮا ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺑﺎﻹﻋﺪام رﻣﻴًﺎ ﺑﺎﻟﺮﺻﺎص ،ﻓﻜﺘﺐ ﻛﻼﻫﻤﺎ ﺧﻄﺎﺑًﺎ إﱃ أﻫﻠﻪ ﻳﻌ ﱢﺰﻳﻬﻢ ﻋﲆ ﻓﻘﺪه ،أﻣﺎ اﻷول ﻓﻜﺘﺐ إﱃ واﻟﺪه ،واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻛﺘﺐ إﱃ أوﻻده وﻫﺬا ﻧﺺ اﻟﺨﻄﺎب اﻷول ﺑﻌﺪ اﻟﺪﻳﺒﺎﺟﺔ: إﻧﻚ ﻳﺎ واﻟﺪي اﻟﻌﺰﻳﺰ ﻗﺪ أدﱠﺑﺘﻨﻲ أﺣﺴﻦ اﻟﺘﺄدﻳﺐ ،ورﺑﱠﻴﺘﻨﻲ أﻓﻀﻞ اﻟﱰﺑﻴﺔ، واﻋﺘﻨﻴﺖ ﺑﻲ ﻛ ﱠﻞ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﻣﻨﺬ ﻇﻬﻮري ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻮد إﱃ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﺎ أﺧﺎﻃﺒﻚ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻣﻊ اﻋﱰاﰲ ﻟﻚ ﺑﻬﺬا اﻟﻔﻀﻞ اﻟﺬي ﻻ ﻳُﻘﺎوم ﺑﺸﻜﺮان ،وإن ﺑﺬﻟﺖ ﻓﻴﻪ ﺟﻬﺪ اﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻲ ،ﻓﻼ أزال ً واﻗﻔﺎ ﻋﻨﺪ ﺣ ﱢﺪ اﻟﻌﺠﺰ واﻟﺘﻘﺼري ،ﺑﻞ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﻘﺪﻣﺖ أﻧﺎ ﰲ اﻟﻌﻤﺮ وأﻧﺖ ﰲ اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ ِز ُ دت ﰲ اﻟﺘﻘﺼري ،وﻟﻢ أﻛﺎﻓﺌﻚ ﻋﲆ ﺣﺴﻦ ﻋﻨﺎﻳﺘﻚ ﺑﻲ؛ ﻷﻧﻚ ﻛﻠﻤﺎ أﻟ ﱠﻢ ﺑﻲ ﳾء ﻣﻦ ﻧُﻮَب اﻟﺰﻣﻦ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ أﺷﻌﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ وﻳﻘﻊ ﺑﻘﻠﺒﻚ أﺳﻮأ وﻗﻊ ،ﻓﺄﻧﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺳﺒﺐ ﺗﻌﺒﻚ وإﻗﻼق ﺧﺎﻃﺮك ،ﻓﺎﻏﻔﺮ ﱄ ﻳﺎ واﻟﺪي ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺼري واﺟﻌﻠﻪ ً ﻣﻨﺔ ﻻﺣﻘﺔ ﺑﻤﻨﻨﻚ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وإﻧﻲ اﻵن ﻳﺎ واﻟﺪي ﻻ أﺟﺪ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﻮﺻﻠﻨﻲ إﱃ رﺿﺎك ﻋﻨﻲ ﺳﻮى ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﺬي أﻧﺎ واﻗﻒ ﻓﻴﻪ اﻵن ،أﻧﺖ ﺗﻌﻠﻢ ﻳﺎ واﻟﺪي أﻧﻲ ذﻫﺒﺖ إﱃ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ ﻷؤدي واﺟﺒًﺎ ﻧﺤﻮ وﻃﻨﻲ وإﻣﱪاﻃﻮري ا ُملﻌ ﱠ ﻈﻢ وأداء ﻫﺬا اﻟﻮاﺟﺐ ﻫﻮ اﻟﻔﺨﺮ اﻟﺒﺎﻗﻲ ﻣﺪى اﻷﻋﺼﺎر ،ﻓﺎﻋﻠﻢ ﻳﺎ أﺑﺖ أﻧﻲ اﻟﻴﻮم واﻗﻒ ﻣﻮﻗﻒ اﻹﻋﺪام أﺳريًا ﻟﺪى اﻟﺮوسُ ، وﻓﻮﱠﻫﺎت اﻟﺒﻨﺎدق ﻣُﺼﻮﱠﺑﺔ ﻧﺤﻮي .وإﻧﻲ ﻟﻴﴪﻧﻲ ﻛﺜريًا أن أﻣﻮت وأﻧﺎ ﻗﺎﺋﻢ ﺑﻤﻬﻤﺘﻲ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﺪﺑﻨﻲ إﻟﻴﻬﺎ وﻃﻨﻲ وإﻧﻲ ً ﻳﴪك أﻛﺜﺮ؛ إذ ﺗﺮى أﻳﻀﺎ أﺷﻌﺮ ﺑﻞ أوﻗﻦ أن ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﱡ ﻟﻚ ً ﻧﺠﻼ ً ﻻﺑﺴﺎ ﺣُ ﻠﺔ أرﺟﻮاﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎء ﻫﻲ ﺣﻠﺔ اﻟﴩف اﻟﺬي أﻟﺒﺴﻨﻴﻬﺎ وﻃﻨﻲ 125
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
املﺤﺒﻮب ،ﻛﻤﺎ ﻻ أﺷﻚ ﰲ أﻧﻚ ﺗﻘﻮل ﻣﻔﺘﺨ ًﺮا إن ﱄ اﺑﻨًﺎ ﻳﻤﻮت ﻣﻮت اﻷﴍاف ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻛﺮاﻣﺔ وﻃﻨﻪ وإﻣﱪاﻃﻮره اﻟﺠﻠﻴﻞ ،وﻫﺬا ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣُﻌ ﱟﺰ ﻟﻚ ﻋﲆ ﻓﻘﺪي ﻛﻤﺎ أﻧﻪ أﻋﻈﻢ ﺗﺴﻠﻴﺔ ﱄ ﻋﲆ ﺗﻘﺼريي ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻚ ﺟﺰاء ﻋﻨﺎﻳﺘﻚ ﺑﻲ وﺣﺠﺘﻚ إﻳﺎي ﻓﺈذا ﺗﺼﻮرﺗﻨﻲ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا اﻟﺤني ﻓﺘﺼﻮرﻧﻲ وأﻧﺎ ﰲ أﺳﻤﻰ درﺟﺎت اﻟﻔﺨﺎر. وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺨﻄﺎب اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻌﺪ اﻟﺪﻳﺒﺎﺟﺔ: اﻋﻠﻤﻮا ﻳﺎ أﺑﻨﺎﺋﻲ اﻷﻋﺰاء أﻧﻲ ﻟﻢ أﺣﺘﻤﻞ أﻟ َﻢ ﻓﺮاﻗِ ﻜﻢ وﻟﻢ أذﻫﺐ إﱃ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ ﱠإﻻ واﻣﺘﺜﺎﻻ ﻷﻣﺮ إﻣﱪاﻃﻮرﻧﺎ ا ُملﻌ ﱠ ً ﻈﻢ، ﻷﺟﻞ أن أداﻓﻊ ﻋﻦ اﻟﻮﻃﻦ وأﻓﺪﻳﻪ ﺑﻨﻔﴘ، ﴎت ووﻗﻔﺖ وﻟﻜﻨﻲ آﺳﻒ ﻛ ﱠﻞ اﻷﺳﻒ؛ إذ ﻟﻢ أﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ إﺗﻤﺎم واﺟﺒﻲ؛ ﻷﻧﻲ أ ُ ِ ْ ﻣﻮﻗﻒ اﻹﻋﺪام وﺟﻨﻮد اﻟﺮوس ﻣﺤﻴﻄﺔ ﺑﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺣﻔﻞ ﺑﻬﻢ وﺑﺒﻨﺎدﻗﻬﻢ ا ُملﺼﻮﱠﺑﺔ ﻧﺤﻮي ،ﺑﻞ أﻧﺎ ﺛﺎﺑﺖ اﻟﺠﺄش ﻟﻢ ﻳﺘﺰﻋﺰع ﱄ ﻗﺪم وﻟﻢ ﻳﺮﺗﻌﺪ ﻣﻨﻲ ﻋﻀﻮ، وﻛﻨﺖ أود أن أﻋﻮد إﻟﻴﻜﻢ ﺑﻌﺪ أن أﺗﻤﱢ ﻢ واﺟﺒﻲ ﻣُﻜ ﱠﻠ ًﻼ ﺑﺄﻛﺎﻟﻴﻞ اﻟﻨﴫ وﻟﻜﻦ ﺣﺎل اﻟﻘﺪر دون ﻣﺎ أرﻳﺪ ﻓﻼ ﻳﺤﺰﻧﻜﻢ ﻣﻮﺗﻲ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻜﻢ؛ ﻷن أﺑﺎﻛﻢ ﻣﺎت ﻣﻴﺘﺔ اﻟﻔﺨﺮ واملﺠﺪ ،ﻓﺎﻓﺨﺮوا ﺑﺄﺑﻴﻜﻢ اﻟﺬي ُﻗﴤ ﻋﻠﻴﻪ وﻫﻮ ﻳﺤﺎﻣﻲ ﻋﻦ أوﻃﺎﻧﻪ واﺗﺨﺬوه ﻗﺪو ًة ﻟﻜﻢ وﻻ ﺗﻬﻤﻠﻮا ﰲ دروﺳﻜﻢ وﺑﺮوا ﺑﻮاﻟﺪﺗﻜﻢ وأﻗﺎرﺑﻜﻢ ،واﻋﻤﻠﻮا ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﺧريﻛﻢ وﺧري اﻟﻮﻃﻦ ورﺿﺎء إﻣﱪاﻃﻮرﻧﺎ املﺤﺒﻮب. ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻣﺒﻠﻎ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﰲ ﺣﺐﱢ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺰﻳﺰ ﻓﻨﻌﻢ اﻟﻘﻮم، وﻧﻌﻤﺖ وﻃﻨﻴﺘﻬﻢ. أﻣﺎ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺄﺳﻒ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬان اﻟﺮﺟﻼن ﻫﻮ أﻧﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻮدان ﻣﻦ ﺻﻤﻴﻢ ﻓﺆادﻫﻤﺎ أن ﻳﻌﻴﺸﺎ وﻳﻨﻈﺮا اﻟﺮوس ﻣﺪﺣﻮرﻳﻦ ﰲ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﻮﻏﻰ وﻳﻌﻮدان إﱃ ﺑﻼدﻫﻤﺎ ﺣﺎﻣﻠني راﻳﺔ اﻻﻧﺘﺼﺎر ،وأن ﻳﻘﻔﺎ أﻣﺎم إﻣﱪاﻃﻮرﻫﻤﺎ ﻣﻬﻨﱢﺌني إﻳﺎه ﺑﺎﻟﻔﻮز املﺒني ،وﻫﺬان اﻟﺨﻄﺎﺑﺎن ﺗﻨﺎﻗﻠﺘْﻬﻤﺎ أﻏﻠﺐ اﻟﺼﺤﻒ إﻋﺠﺎﺑًﺎ ﺑﺸﻬﺎﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني: ذي اﻟﻤﻌﺎﻟﻲ َﻓ ْﻠﻴَﻌْ ﻠُﻮ َْن ﻣﻦ ﺗﻌﺎﻟﻰ
ﻫ ﻜ ﺬا ﻫ ﻜ ﺬا وإﻻ ﻓ ﻼ ﻻ
126
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (66املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ً ﻋﺎﻣﻼ ﰲ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻳﻮﺟﺒﻮن ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﺎ إذا ﻛﺎن ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻌﻤﺮان ﻳﻌﺪون املﺮأة ﻋﻀﻮًا ً ﻣﺘﻮﻗﻔﺎ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف ﻟﺠﻼل ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ،وإذا ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺠﻌﻠﻮن ﺗﻤﺪﱡن اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻤﺪن اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻋﲆ ﻛﻤﺎل ﺗﺮﺑﻴﺘﻬﺎ ﻓﺈن املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ املﺜﺎل اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﰲ اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ واﻵداب اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻋﲆ ﻗﺮب ﻋﻬﺪﻫﺎ ﺑﺎملﺪﻳﻨﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻬﺎ إذا ﻣ ﱠﺮت ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻘﺮون وﻫﻲ ﺗﺠ ﱡﺪ وﺗﺠﺘﻬﺪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ؟! ﺗُﻮ َﻟﺪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻻ ﺗﺼﻞ إﱃ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻣﻦ ﺳﻨني ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻳُﺪﺧِ ﻠﻬﺎ وﱄ أﻣﺮﻫﺎ املﺪرﺳﺔ ،وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻓﻘريًا ذا ﺧﺼﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻌﻴﺶ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜ ﱡﺪ وﻳﻜﺪح ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻹﻧﻔﺎق ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻳﻘﺪم اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺮ ﻳﻬﻤﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﺑﻬﻢ درﺟﺔ اﻻﻋﺘﻨﺎء ً ﺑﱰﺑﻴﺔ اﻟﺒﻨﺎت إﱃ أن ﻳُﻌَ ﺪ ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ اﺑﻨﺘَﻪ املﺪرﺳﺔ ﻣﻦ أﺣ ﱢ ﻣﻨﺰﻟﺔ وأﺳﻔﻬﻬﻢ ﻂ اﻟﻨﺎس ً ﻋﻘﻼ وﻳﺼﻤﻮﻧﻪ ﺑﻮﺻﻤﺔ اﻟﻌﺎر. وﻫﻢ وﻻ ﺷﻚ ﻟﻢ ﻳﻘﺪروا املﺮأة ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﻨﻔﻌﻬﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، وﺗﺤﻘﻘﻬﻢ أن أول ﺧﻄﻮة ﻳﺨﻄﻮﻫﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﺘﻘﺪم إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﰲ ﱠ وﺗﻠﻘﺎه ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ املﺒﺎدئ اﻷدﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻏﺮﺳﺖ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺬور اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﻜ ﱢﻞ ﺗﺮﺑﻴﺔ أﻣﻪ، أﻧﻮاﻋﻬﺎ ،وﻟﻮ اﺧﺘﱪﻧﺎ أﺣﻮال املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ أدوار ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻳﻮم دﺧﻮﻟﻬﺎ املﺪرﺳﺔ إﱃ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﺗﺼري ﻓﻴﻪ زوﺟﺔ ﻟﻠﺒﻌﻞ ،وﻣﺮﺑﻴﺔ ﻟﻸﺑﻨﺎء ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻋﻨﻮان اﻟﻜﻤﺎل واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﺣﺴﻦ اﻵداب ،ﻓﺎﻟﺘﻲ ﰲ ﻣﻬﺪ اﻟﱰﺑﻴﺔ املﺪرﺳﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﺮف ﻣﻘﺪار ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻮﻃﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﻛﺄن ﺣﺐ اﻟﻮﻃﻦ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻠﻘﺎﻫﺎ ﰲ املﺪرﺳﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﻄﺒﱢﻖ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ. واﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﺖ ﻣﻨﻬﻦ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم وﻧﺎﻟﺖ ﺷﻬﺎدﺗﻬﺎ ﺗﻌﻤﻞ وﺗﺸﺘﻐﻞ ﺑﻤﺎ ﻳﻔﻴﺪﻫﺎ وﻳﻔﻴﺪ ﱢ ﻣﺤﺴﻨﺔ ﻋﺎﺋﻠﺘﻬﺎ ﰲ اﻷﻣﻮر املﺎدﻳﺔ واﻷدﺑﻴﺔ ﻣﻌً ﺎ ،واﻟﺘﻲ ﺗﻘﱰن ﻣﻨﻬﻦ ﺗﻜﻮن ﰲ ﺑﻴﺘﻬﺎ ﻣﺪﺑﱢﺮة ﺣﺎﻟﺘﻬﺎ وﺣﺎﻟﺔ ﺑﻌﻠﻬﺎ املﻌﺎﺷﻴﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﺗﺘﻠﻘﺎه ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم ،واﻵداب ،وأﻧﻮاع اﻟﻜﻤﺎﻻت، واﻟﺘﻲ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺑﻌﻞ وﻟﻬﺎ أوﻻد ﺗﻘﻮم ﺑﱰﺑﻴﺘﻬﻢ أﺣﺴﻦ ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺆﻫﻠﻬﻢ إﱃ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺳﻌﺪاء ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻫﻜﺬا ﺗﺠﺪ املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﺣﻮاﻟﻬﺎ وأﻃﻮارﻫﺎ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻟﻠﻌﻔﺔ ،وﻛﺮم اﻟﻨﻔﺲ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت املﻤﺪوﺣﺔ. وﻗﺪ ﻇﻬﺮت آﺛﺎر ﺗﺮﺑﻴﺔ املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﺮب اﻷﺧرية ﻓﺈﻧﻬﺎ أﻇﻬﺮت ﻣﻦ ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ ﻟﻮﻃﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻻ ﻳُ َ ﻈﻦ أن اﻣﺮأة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻏري اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺗﻈﻬﺮه ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺰﻟﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﱰﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ. 127
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻣﺜﺎل ﻫﺬا أن اﻟﺘﻠﻤﻴﺬات ﻣﻨﻬﻦ ملﺎ ﱠ ﻛﻦ ﻳﻔﺮﻏﻦ ﻣﻦ دروﺳﻬﻦ ﻳﺸﺘﻐﻠﻦ اﻷﻛﺴﻴﺔ، واﻷرﺑﻄﺔ ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﺪرون ﻋﲆ ﺻﻨﻌﻪ ﻣﻦ املﻼﺑﺲ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ وﻳﻘﺪﻣﻨﻪ إﱃ ﺟﻤﻌﻴﺔ اﻟﺼﻠﻴﺐ اﻷﺣﻤﺮ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ أﻃﺒﺎء ملﺪاواة ﺟﺮﺣﻰ اﻟﺤﺮب ،وﻗﺪ ﻗﺪﻣﻦ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺻﻨﻊ أﻳﺪﻳﻬﻦ ﻋﻨﺪ ﺳﻘﻮط ﺑﻮرت آرﺛﺮ ،واﻫﺘﻤﻤﻦ ﺑﺬﻟﻚ ﻛ ﱠﻞ اﻻﻫﺘﻤﺎم؛ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﺮﺣﻰ ﰲ ﻫﺬه ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﺷﱰاﻛﻬﻦ ﻣﻊ اﻟﺮﺟﺎل ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﺣﺘﻔﺎل اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﻌَ ﺪﱡون ﺑﺎﻵﻻف ،ﻫﺬا أو ﻣﻈﺎﻫﺮة ﺑﺨﺼﻮص اﻻﻧﺘﺼﺎر ﻋﲆ اﻟﺮوس ،ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻔﻮﻗﻬﻦ ﻓﻴﻪ اﻟﺮﺟﺎل ﺑﴚء ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء. وﻗﺪ ذﻛﺮﻧﺎ ﰲ ﻏري ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﺧﱪ املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻣﺮت وﻟﺪﻫﺎ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﺑﺎﻟﺘﻄﻮع ﰲ اﻟﺤﺮب وملﺎ ﻟﻢ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺗﻄﻮﻋَ ﻪ ﻟﻜﻮﻧﻪ وﺣﻴﺪﻫﺎ ،ﻗﺘﻠﺖ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺴﻜني أﻣﺎﻣﻪ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻋﺎﺋﻖ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻋﻦ اﻟﺘﻄﻮع ﰲ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺟﺒﺎت املﻔﺮوﺿﺔ ﻋﻠﻴﻪ. ﻫﺬا ﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ املﺮأة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺑﻔﻀﻞ اﻟﱰﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ،واملﺮأة اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻗﺪ اﻣﺘﺎزت ﺑﻤﺰﻳﺔ اﻟﺴﺒﻖ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻟﺤﻀﺎرة ﻋﲆ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ ﻧﺴﺎء اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ،وﻟﻜﻦ إذا ﺻﺎدﻓﺖ ﱢ ﻣﺘﻮﻓﺮة ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻨﻲ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ؛ إذ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻣﻮﺟﻮد ﻓﻴﻬﺎ واﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﺘﺄﺛري اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻋﻨﺪﻫﺎ ،وﻫﻲ أذﻛﻰ ﻣﻦ املﺮأة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺑﺤﺴﺐ اﻟﻔﻄﺮة و ْﻟﻨﺘﺨﺬ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻧﺴﺎء اﻟﻌﺮب ﰲ اﻟﻌﴫ اﻷول ﻓﺈﻧﻬﻦ ﱠ ﻛﻦ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ أدب اﻟﻨﻔﺲ وﻛﻤﺎل اﻟﻌﻘﻞ ،وﻟﻬﻦ وﻛﻦ ﻳُ ْ ﻣﺤﺎورات وﻣﺨﺎﻃﺒﺎت ﻣﻊ املﻠﻮك واﻷﻣﺮاء ﱠ ﻈ ِﻬ ْﺮ َن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ وﺣﺴﻦ اﻟﺒﻴﺎن ﻣﺎ ﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ اﻹﺗﻴﺎن ﺑﻤﺜﻠﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ أﻋﲆ اﻟﺒﻠﻐﺎء ﻛﻌﺒًﺎ وأﻛﻤﻞ اﻟﻨﺎس ً ﻋﻘﻼ. واﻟﺬي ﻳﻄﺎﻟﻊ ﺳرية اﻟﻮاﻓﺪات ﻣﻨﻬﻦ ﻋﲆ اﻟﻨﺒﻲ — ﱠ ﺻﲆ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ — وﻋﲆ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻌﺎوﻳﺔ ﺑﻦ أﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎن ﻳﺘﺤﻘﻖ َ ﺻﺪْق ﻣﺎ ﻗﻠﻨﺎه. ﻓﻠﻮ اﻋﺘﻨﻰ املﴫﻳﻮن اﻻﻋﺘﻨﺎء اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺑﱰﺑﻴﺔ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﻠﻄﻴﻒ ،ملﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﺮى ﻣﻦ ﻫﺬه املﻔﺎﺳﺪ واﻷﻣﻮر املﻮﺟﺒﺔ ﻟﻸﺳﻒ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﺬ َﻛﺮ. وﻣﻦ َ اﻟﺨ َﺮق ،واﻟﺤﻤﻖ ،واﻟﺠﻬﻞ اﻟﻌﻤﻴﻖ أن ﺗﻌﺘﻘﺪ أن ﺗﻌﻠﻴﻢ املﺮأة ﻣﻔﺴﺪ ﻷﺧﻼﻗﻬﺎ ﻣُﻌَ ﱢﺮض ﻋﺮﺿﻬﺎ ﻟﻼﺑﺘﺬال ،ﻓﺈن اﻟﻌﻠﻢ وﺣﺴﻦ اﻟﱰﺑﻴﺔ ﻳﻜﻔﻼن ﻧﻔﻲ ﻫﺬه اﻷوﻫﺎم ،ﺑﻞ ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻀﻼل املﺒني. وﻟﻮ ﺳ ﱠﻠﻤﻨﺎ ً ﺟﺪﻻ ﺑﺄن ﺗﻌﻠﻴﻢ املﺮأة املﴫﻳﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﻌﻠﻮم ﻳﺴﻬﱢ ﻞ ﻟﻬﺎ ﻃﺮق اﻟﻔﺴﺎد، ﻓﺈن ﻓﺴﺎدﻫﺎ وﻫﻲ ﻣﺘﻌﻠﻤﺔ أﺧﻒ ﴐ ًرا ﻣﻦ ﻓﺴﺎدﻫﺎ وﻫﻲ ﺟﺎﻫﻠﺔ؛ ﻷن ﻋﻠﻤﻬﺎ ﻳُﻌ ﱢﺮ ُﻓﻬﺎ ﻛﻴﻒ ﺗُﺤﺴﻦ اﻟﻔﺴﺎد وﻳﺤﻀﻬﺎ ﻋﲆ ﻋﺪم ارﺗﻜﺎب ﻫﺬه املﻔﺎﺳﺪ. 128
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
واﻟﻘﺎﻋﺪة أن اﻟﺠﺎﻫﻞ إذا ﺳﻠﻚ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻐﻲ ﺟﻠﺐ ﻟﻨﻔﺴﻪ اﻟﴬر ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ، أﻣﺎ املﺘﻌﻠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﻬﺞ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﻋﲆ ﻧﻤﻮذج ﺑﻪ ﻳﺤﻔﻆ ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺘﻪ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﻌ ﱠﻠﻢ ،وهلل در اﻟﻘﺎﺋﻞ: ﻣﺪار ﺳﻌﺪ اﻟﺤﻴﺎة ﻳﺎ ﻗﻮم ﺣﻆ اﻟﺒﻨﺎت
ﻗﺎﻟﻮا اﻟﺒﻨﻮن ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻘﻠﺖ ﻛﻴﻒ ﻧﺴﻴﺘﻢ
وﻟﻴﺲ ﻣﺮادﻧﺎ ﺑﱰﺑﻴﺔ املﺮأة اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﺠﺮد ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ واﻟﻔﻨﻮن اﻟﻴﺪوﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻣﺮادﻧﺎ أن ﺗﻜﻮن ﺗﺮﺑﻴﺘﻬﺎ ﺑﺤﺴﺐ أﺻﻮل وﻗﻮاﻋﺪ اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ؛ ﻷن آداب اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ إذا أُﺿﻴﻒ إﱃ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم ﻛﺎﻧﺖ املﺮأة اﻟﴩﻗﻴﺔ ﰲ ﻋﺪاد اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﻬﺎرة اﻟﻨﻔﺲ ،وﺗﻨﺰﻳﻬﻬﺎ ﻋﻦ ارﺗﻜﺎب اﻟﺪﻧﺎﻳﺎ ،واﻛﺘﺴﺎب املﺤﺎﻣﺪ ،واﻟﺘﺨﻠﻖ ﺑﺎﻷﺧﻼق ا ُملﺮﺿﻴﺔ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺸﺎﻫﺪ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻼﺗﻲ ﺗﻌﻠﻤﻦ اﻟﻌﻠﻮم ﺧﺎﻟﻴﺎت ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﺑﻬﺎ اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺿﻤﻨﻬﺎ اﻟﺤﺠﺎب. ً ﺷﺎﻣﻼ ﻟﻠﺘﻌﺎﻟﻴﻢ وﻻ ﻳﺨﻔﻰ أن اﻟﺪﻳﻦ ﻫﻮ أﺳﺎس ﻛ ﱢﻞ ﻓﻀﻴﻠﺔ وﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﻠﻮم إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻓﻼ ﻳﻔﻴﺪ اﻟﻔﺎﺋﺪة املﻘﺼﻮدة ﻣﻦ ﺗﺮﺑﻴﺔ املﺮأة اﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ،وﺗﻬﺬﻳﺒﻬﺎ اﻟﺘﻬﺬﻳﺐ اﻟﺤﺴﻦ. ) (67وﻃﻨﻴﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻟﻴﺲ املﺮاد ﻣﻦ ذﻛﺮ ﻫﺬا اﻟﻌﻨﻮان أن ﻧﺴ ﱢ ﻄﺮ ﻋﺒﺎرات املﺪح واﻹﻃﺮاء ﻟﻸﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻣﺬﻛﻮر ﰲ ﻏري ﻫﺬا املﻮﺿﻊ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ،وإﻧﻤﺎ املﺮاد ﻫﻮ أن ﻧﺬﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﺗﻔﻌﻠﻪ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺪاﻟﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﺎﻧﻴﻬﻢ ﰲ ﺣﺐﱢ وﻃﻨﻬﻢ إﱃ درﺟﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗُﻌﻬﺪ ﰲ ﺳﻮاﻫﻢ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى. ً ﺟﺎﻟﺴﺎ ﰲ إﺣﺪى املﺤﻼت اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻼط اﻹﻣﱪاﻃﻮري ،ﻓﺮأﻳﺖ ﻛﻨﺖ ذات ﻳﻮم أﺣﺪ ﺑﺎﻋﺔ اﻟﺼﻮر ﻳﻌﺮض ﺻﻮرة ﰲ اﻟﺸﺎرع ﻓﺘﺄﻣﱠ ﻠﺖ ﰲ ﻟﻮﺣﺔ ﻣﻦ اﻷﻟﻮاح ﻓﺮأﻳﺖ ﻣﺼﻮ ًرا ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺒﻌﺔ ﻣﻦ ﻗﻮاد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وﺟﻨﻮدﻫﻢ ،وأﻣﺎﻣﻬﻢ ﻋﺴﺎﻛﺮ ﻣﻦ اﻟﺮوس ﻛﺜريو اﻟﻌﺪد ﻣﻮﺟﱢ ﻬﻮن ﻧﺤﻮﻫﻢ ُﻓﻮﱠﻫﺎت اﻟﺒﻨﺎدق واملﺪاﻓﻊ ،ﻛﺄﻧﻬﻢ ﻳﺮﻳﺪون ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ وﻫﺆﻻء ﻳﺄﺑﻮن أن ﻳﺴﻠﻤﻮا أﺳﻠﺤﺘﻬﻢ ﻓﻮﺟﻬﺖ ﻧﺤﻮﻫﻢ املﺪاﻓﻊ. 129
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺮف اﻟﺠﻨﻮد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن أﻧﻬﻢ ﻣﻴﺘﻮن وﻻ ﻣﺤﺎﻟﺔ أﺧﺬ ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ وﺻﺎروا ﻳﴬﺑﻮن ﻋﲆ اﻟﺒﻨﺎدق ،ﻛﻤﺎ ﻳﴬب املﻐﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﻌﻮد ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ أﻣﺴﻜﻮا ﺑﻴﺪﻫﻢ اﻟﻴﻤﻨﻰ ﺳﻴﻮﻓﻬﻢ واﺿﻌني أﻃﺮاﻓﻬﺎ ﰲ ﺑﻄﻮﻧﻬﻢ ،ﻓﻔﻬﻤﺖ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ً ﺟﻠﻴﻼ ،وﻫﻮ أن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﻋﻨﺪه املﻮت ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ وﻃﻨﻪ أﺷﻬﻰ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة، ﻣﻌﻨﻰ وإن أﺻﻮات املﺪاﻓﻊ اﻟﺘﻲ ﺗُﻮﺟﱠ ﻪ ﻧﺤﻮ ﻫﺆﻻء اﻟﺠﻨﻮد أﺷﻬﻰ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﻧﻐﻤﺎت اﻷوﺗﺎر إن ﻟﻢ ﺗﻤﺎﺛﻠﻬﺎ. ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ اﻟﻌﺎﻗﻞ إﱃ ﻫﺬه اﻷﻓﻌﺎل وﻟﻴﻘﺎرن ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﺗُﻌﺮض ﰲ ﻣﴫ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻠﺪان املﴫﻳﺔ ﻟﻠﻤﺒﻴﻊ ،ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﱢﻞ اﻟﻮﻗﺎﺣﺔ واﻟﺴﻔﻪ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﻤﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ. وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن اﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﺎع ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻷﺧﺮى املﺼﻮرة، ووﺟﻪ اﻷﻓﻀﻠﻴﺔ أن ﻫﺬه اﻟﺼﻮر ﺗﺒﻌﺚ ﰲ اﻟﻨﻔﻮس اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻟﻌِ َ ﻈﻢ اﻟﺘﺄﺛري ،ﺑﺨﻼف اﻟﺠﺮاﺋﺪ املﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺼﻮﱢر ﺻﻮ ًرا ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻻ ﻧﺼﻴﺐ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺰﻳﺔ اﻟﺒﺘﺔ. ) (68اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﻣﻦ أرﻗﻰ ﺑﻮﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ اﻷدب ،وﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻮاﺟﺒﺎت ،وﻣﻦ ﻏﺮﻳﺐ ﻣﺎ رأﻳﺖ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك أن ﻛ ﱠﻞ ﻋﺴﻜﺮي ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻌﻪ ﻣﺬﻛﺮة ﻏري اﻟﺘﻲ ﻳﺬﻛﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ واﻟﺤﻮادث ،وﻫﺬه املﺬﻛﺮة ﻓﻴﻬﺎ أﺳﺌﻠﺔ وأﺟﻮﺑﺔ ﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ،وﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ واﻷﺟﻮﺑﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻮﻃﻦ ،وﻣﻜﺎرم اﻷﺧﻼق ،ﻛﺄن ﻳﺬﻛﺮ ﰲ اﻟﺴﺆال ً ﻣﺜﻼ ﻣﺎذا اﺳﺘﻔﺪت ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب اﻟﺮوﺳﻴﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ؟ وﻣﺎذا ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﻔﺮد ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻮد إذا ﻃﺮﻗﺖ اﻟﺤﺮب أﺑﻮاب اﻟﺒﻼد؟ وﻣﺎذا ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﻘﺎﺋﺪ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ؟ … وإﻟﺦ ،وﻫﺬه ﻣﻦ اﻻﺧﱰاﻋﺎت اﻟﺒﺪﻳﻌﺔ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ وﰲ ﺗﺮﺑﻴﺔ ﻧﻔﻮس اﻟﻘﻮم ﻋﲆ ﺣﺐﱢ اﻟﻮﻃﻦ. وﻣﻤﺎ ﻳﻮﺟﺐ اﻹﻋﺠﺎب ﺑﺤﺮص اﻟﻘﻮم ﻋﲆ اﻷﻣﻦ أن اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ إذا وﺟﺪ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻳﺸﱰي ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻳﺮاﻗﺐ ﺣﺮﻛﺎﺗﻪ ،وﺳﻜﻨﺎﺗﻪ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﴩاء ،وﻳﻌﺮف ﻣﻘﺪار املﺸﱰى إن ﻛﺎن ﺑﺎﻟﻮزن أو اﻟﻜﻴﻞ أو ﻏري ذﻟﻚ وﻳﴫف ﻣﻘﺪار اﻟﺜﻤﻦ ﺛﻢ ﻳﻌﺪ اﻟﻨﻘﻮد اﻟﺘﻲ ﻣﻊ املﺸﱰي وﻫﻜﺬا. وذﻟﻚ أﻧﻲ اﺑﺘﻌﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻮاﻛﻪ ﻣﻦ ﺣﺎﻧﻮت ﻓﻜﻬﺎﻧﻲ ﻓﺠﺎء اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ وﻋ ﱠﺪ اﻟﻨﻘﻮد اﻟﺘﻲ أﺧﺬﺗﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﺧﺼﻢ ﺛﻤﻦ املﺒﻴﻊ ،وﻛﻨﺖ أﻋﻄﻴﺖ اﻟﺒﺎﺋﻊ ﻗﻄﻌﺔ ذﻫﺐ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻧﺼﻒ ﺟﻨﻴﻪ أﻓﺮﻧﻜﻲ ،وﻋﺮف ﺛﻤﻦ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ اﺷﱰﻳﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻮاﻛﻪ ،ﻓﺘﺬﻛﺮت ﰲ اﻟﺤﺎل ﺑﻮﻟﻴﺴﻨﺎ 130
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
املﴫي ووددت أن ﻳﻜﻮن ﻋﻨﺪه ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﻳﺠﻌﻞ ﺳﻠﻄﺘﻪ ﻣﻨﺤﴫة ﰲ ﻣﻌﺎﻛﺴﺔ اﻟﺤﻮذﻳﺔ ،وﺻﻐﺎر اﻟﺒﺎﻋﺔ ﰲ اﻟﺸﻮارع واﻻرﺗﺸﺎء ﻣﻦ املﺤﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮي املﻘﺎﻣﺮﻳﻦ وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﻋﻮاﻣﻞ اﻹﻓﺴﺎد ﰲ اﻟﺒﻼد ،ﱠ وﻓﻘﻪ ﷲ ﻋﲆ ﺳﻨﻦ اﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ وأﺧﺮج رﺟﺎﻟﻪ اﻟﺠﻬﻼء اﻟﺨﻮﻧﺔ ﻟﻴﺴﻮد اﻷﻣﻦ ﰲ اﻟﺒﻼد. ) (69ﻋﻮاﺋﺪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ ﺟﻨﺎﺋﺰﻫﻢ إن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻋﲆ اﺧﺘﻼف ﻣﺬاﻫﺒﻬﻢ ﻣﺎ ﺑني ﺑﻮذي ،ووﺛﻨﻲ ،وﻣﺴﻴﺤﻲ ﻳﺪﻓﻨﻮن ﻣﻮﺗﺎﻫﻢ ﰲ ﻣﻘﱪة واﺣﺪة وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﻀﻌﻮن ﻋﻼﻣﺎت ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻗﱪ ﺑﻬﺎ ﻳﻌﺮف املﺪﻓﻮن ﻓﻴﻪ إن ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻮﺛﻨﻴني ،أو اﻟﺒﻮذﻳني ،أو املﺴﻴﺤﻴني ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﺑﻴﺎﻧﻪ ،وﻟﻜ ﱢﻞ أﻫﻞ ﻣﺬﻫﺐ ﺻﻔﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ ﰲ ﺟﻨﺎﺋﺰﻫﻢ. أﻣﺎ اﻟﺒﻮذﻳﻮن ﻓﻠﻬﻢ ﺻﻔﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﰲ ﺟﻨﺎزاﺗﻬﻢ ﻓﺈذا ﻣﺎت أﺣﺪﻫﻢ ﻳﻀﻌﻮن اﻟﻨﻌﺶ ﻋﲆ ﻋﺮﺑﺔ ﻳﺘﻘﺪﻣﻬﺎ رﺟﺎل ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻗﻄﻌً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺠﺮ ﺑﺄﻳﺪﻳﻬﻢ ،وﻫﺬه اﻟﻘﻄﻊ ﻣﺮﺑﻮط ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻄﻊ ً ٍّ وﺧﻼ ﺻﺪﻳﻘﺎ ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﻐﺎب ﻣﺰدوﺟﺔ وﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻜﺘﻮب ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ ﻣﻦ ﻛﺎن ﻟﻠﻤﻴﺖ ﰲ ﺣﺎل ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﺤﺮوف واﺿﺤﺔ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ ﻛﻞ أﺣﺪ ﻣﻤﻦ ﻳﻤﺸﻮن ﰲ اﻟﺠﻨﺎزة ً ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻟﻬﻢ، ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺒﻼد ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ،وﻣﻘﺪار ﻋﺪد ﻫﺬه اﻟﻘﻄﻊ ﻳﻜﻮن ﻋﺪد اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎن املﻴﺖ وﻳﻘﺼﺪون ﺑﺬﻟﻚ إﻇﻬﺎر ﻣﺤﺒﺘﻬﻢ ﻟﻠﻤﻴﺖ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻈﻬﺮوﻧﻬﺎ ﻟﻪ ﰲ ﺣﺎل ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﻫﺬه ﻋﺎدة ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻣُﺤﺪَﺛﺔ. وﺗﻮﺟﺪ ﺟﻤﻌﻴﺔ ﻟﻠﺒﻮذﻳني ﻳُﻘﺎل ﻟﻬﺎ ﺣﻤﻠﺔ اﻟﺸﺠﻦ ،وﻣﻦ وﻇﻴﻔﺔ رﺟﺎل ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ أﻧﻬﻢ ﻳﻤﺸﻮن ﰲ اﻟﺠﻨﺎزة أﻣﺎم اﻟﻨﻌﺶ وﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ رﺟﻞ ﻳﺤﻤﻞ ﻓﻮق رأﺳﻪ ﻗﺒﻌﺔ ﻋﺮﻳﻀﺔ ﻣُﺰﻳﱠﻨﺔ وﻫﺬه اﻟﻘﺒﻌﺔ ﻳﺴﻤﱡ ﻮﻧﻬﺎ ﻗﺒﻌﺔ املﻴﺰان. وﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻳﺤﻤﻞ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻴﻪ ﻋﻠﺒﺘني ﻛﺒريﺗني ﻳﺰﻋﻤﻮن أن إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﻣﺠﻤﻮ ٌع ﻓﻴﻬﺎ أﻋﻤﺎل املﻴﺖ اﻟﺤﺴﻨﺔ ،واﻷﺧﺮى أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﺴﻴﺌﺔ ،ووﺟﻮد ﻫﺎﺗني اﻟﻌﻠﺒﺘني ﴐوري ﰲ اﻟﺠﻨﺎزة ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺨﻠﻒ ﻋﻨﻪ ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال وﻟﻮ ﻛﺎن املﻴﺖ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻦ املﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﺎﻟﺤني اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻠﻮا ﺳﻴﺌﺔ ﻗﻂ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ. ﺛﻢ ﻳﻌﻘﺐ رﺟﺎل ﺟﻤﻌﻴﺔ ﺣﻤﻠﺔ اﻟﺸﺠﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﻬﻨﺔ ،وﻫﺆﻻء ﻟﻬﻢ ﻟ ٌ ِﺒﺎس ﻣﺨﺼﻮص ﻟﺒﺎس ﻛ ﱢﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻐﺎﻳﺮ ﻟﺒﺎس رﺟﺎل اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ املﺬﻛﻮرة ،وﻣﻊ ﻫﺬه املﻐﺎﻳﺮة ﻓﺈن ﻟﻮن ِ ﻳﻐﺎﻳﺮ ﻟﻮن ﻟﺒﺎس اﻵﺧﺮ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺑني أﺳﻮد وأﺧﴬ وأﺻﻔﺮ وأﺣﻤﺮ ورﻣﺎدي ﻣﺎ ﻋﺪا 131
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺒﻴﺎض ،وﻟﻌﻞ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻋﺪم ﻟﺒﺴﻬﻢ اﻟﻠﺒﺎس اﻷﺑﻴﺾ ﻫﻮ أن ﻫﺬا اﻟﻠﻮن ﻟﻮن اﻟﻔﺮح ﻻ اﻟﺤﺰن. وﻫﺆﻻء اﻟﻜﻬﻨﺔ ﻳﺮﻛﺒﻮن اﻟﻌﺮﺑﺎت ﰲ ﺳريﻫﻢ أﻣﺎم اﻟﺠﻨﺎزة ﻛﻞ اﺛﻨني ﰲ ﻋﺮﺑﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻬﻤﺎ. وﰲ آﺧﺮﻫﻢ ﻋﺮﺑﺔ ﻓﻴﻬﺎ رﺟﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﺷ ْﻜ ُﻞ ﻟﺒﺎﺳﻪ ﻣﻐﺎﻳﺮ ﻟﻠﺒﺎﻗني ،وﻟﻮﻧﻪ ﻋﻨﺎﺑﻲ وﻳﻈﻬﺮ أن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻫﻮ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻋﻠﻴﻬﻢ ،وﺑﻌﺪ ﻫﺆﻻء املﺘﻘﺪﻣني اﻟﻨﻌﺶ ،أﻫﻞ املﻴﺖ ﻓﺄﺻﺤﺎﺑﻪ وﻣﻌﺎرﻓﻪ. واﻟﻜﻼم ﻋﻨﺪﻫﻢ ﰲ أﺛﻨﺎء ﺳري اﻟﺠﻨﺎزة ﻣﻤﻨﻮع ﻗﻄﻌﻴٍّﺎ ﻛﺄﻧﻬﻢ ﻳَﻌَ ﺪﱡون اﻟﺼﻤﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺘﻔﻜﺮ واﻻﻋﺘﺒﺎر. ً أﻣﺎ اﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻘﺪﻣﻮن اﻟﻨﻌﺶ ً ﻣﺤﻤﻮﻻ ﻋﲆ ﻋﺮﺑﺔ ،ﺛﻢ ﻳﻠﻴﻬﺎ أﻫﻞ املﻴﺖ أوﻻ وأﻗﺎرﺑﻪ ،ﺛﻢ أﺻﺤﺎﺑﻪ وأﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ،وﻫﻢ ﻣﺨﺎﻟﻔﻮن ﻟﻜ ﱢﻞ أﻫﻞ دﻳﻦ وﻣﺬﻫﺐ ﰲ ﻟﺒﺎس اﻟﺤﺪاد؛ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ إذا إذ اﻟﻌﺎدة أن اﻟﺴﻮاد ﻫﻮ ﻟﻮن اﻟﺤﺪاد ،وﻟﻜﻦ ﻫﺆﻻء ﻳﻠﺒﺴﻮن اﻟﺜﻴﺎب اﻟﺒﻴﻀﺎء ﻛﺎن املﻴﺖ ﻋﺰﻳ ًﺰا ،وﻫﻢ ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻮن اﻟﻜﻼم ﰲ اﻟﺠﻨﺎزة ﺑﺨﻼف اﻟﺒﻮذﻳني؛ ﻷن ﻣﻦ ﻣﺒﺎدﺋﻬﻢ املﺬﻫﺒﻴﺔ أن اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﺣﺰﻧﻪ وﺟﺰﻋﻪ ،ﺣﻴﺚ إن املﻮت واﻗﻊ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ إﻧﺴﺎن ،وإذا ﻛﺎن أﺣﺪﻫﻢ ﻋﻨﺪه ﳾء ﻣﻦ املﻜﺪرات ﻳﻌﻤﻞ ﺟﻬﺪه ﰲ إزاﻟﺘﻪ وﻳﺒﺪﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﺮح واﻟﴪور ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ أﺛﺮ اﻟﺤﺰن. أﻣﺎ املﺴﻴﺤﻴﻮن ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻛﻐريﻫﻢ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ املﺴﻴﺤﻴني ﰲ اﻟﺒﻠﺪان اﻷﺧﺮى؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺘﻘﺪم اﻟﺠﻨﺎزة رﺟﺎل ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻴﺴني وﺑﻌﺾ ﺗﻼﻣﺬة ﻳﺤﻤﻠﻮن املﺒﺎﺧﺮ وﻳﺮﺗﱢﻠﻮن ﺑﻌﺾ اﻷﻧﺎﺷﻴﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ املﻌﺘﺎدة ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ،ﺛﻢ ﺑﺴﺎط اﻟﺮﺣﻤﺔ ،ﺛﻢ اﻟﻨﻌﺶ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻋﲆ ﻋﺮﺑﺔ ﺳﻮداء ﻳﺠﺮﻫﺎ أرﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﺟﻴﺎد اﻟﺨﻴﻞ ،وﺑﻌﺪ اﻟﻨﻌﺶ أﻗﺎرب املﻴﺖ ﻓﺎملﺸﻴﻌﻮن ،وﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼة ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻳﺬﻫﺒﻮن ﺑﻪ إﱃ اﻟﻘﱪ ﻟﺪﻓﻨﻪ. أﻣﺎ اﻟﻌﻼﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﻗﱪ اﻟﺒﻮذي ﻣﻦ اﻟﻮﺛﻨﻲ ﻣﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻓﻬﻲ أن اﻟﻮﺛﻨﻴني ﻳﺠﻌﻠﻮن ﻫﻴﺌﺔ ﻣﻴﱢﺘﻬﻢ ﰲ اﻟﻘﱪ ﻛﻬﻴﺌﺘﻪ وﻫﻮ ﺟﻨني ﰲ ﺑﻄﻦ أﻣﻪ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻀﻌﻮن ﻳﺪﻳﻪ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ورﻛﺒﺘﻴﻪ ﻣﻠﺘﺼﻘﺘني ﺑﺼﺪره ،وﻳﻀﻌﻮﻧﻪ ﰲ ﺻﻨﺪوق ﻣﺮﺑﻊ ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ ﻫﺬه اﻟﻬﻴﺌﺔ وﻳﺪﻓﻨﻮﻧﻪ ،ﰲ ﻗﱪ ﻣﺮﻳﻊ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﺗﺴﺎع ﺣﺠﻢ اﻟﺼﻨﺪوق ،وﻛﺄﻧﻬﻢ ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻫﺬا ﻷﺟﻞ أن ﻳﺸﺒﻬﻮن املﻴﺖ ﺑﺎﻟﺠﻨني ،واﻟﻘﱪ ﺑﺎﻟﺒﻄﻦ ،وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﻨﺘﻈﺮون وﻻدﺗﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺣﻴﺎة أﺑﺪﻳﺔ. 132
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أﻣﺎ اﻟﺒﻮذﻳﻮن ﻓﻬﻢ ﻛﺎملﺴﻴﺤﻴني ﻳﻀﻌﻮن املﻴﺖ ﰲ ﺻﻨﺪوق ﻋﲆ ﻗﺪر ﻃﻮﻟﻪ ،وﻳﻀﻌﻮﻧﻪ ﰲ ﺻﻨﺪوق ﻣﺮﺑﻊ ﻋﲆ ﻣﻘﺘﴣ ﻫﺬه اﻟﻬﻴﺌﺔ وﻳﺪﻓﻨﻮﻧﻪ ﰲ ﻗﱪ ﻋﲆ ﻗﺪر اﻟﺼﻨﺪوق ﰲ اﻻﺗﺴﺎع، ﱠإﻻ أن املﺴﻴﺤﻴني ﻳﻀﻌﻮن ﻓﻮق اﻟﻘﱪ ﺻﻠﻴﺒًﺎ ،وﺑﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ ﻳُﻌ َﺮف اﻟﺒﻮذي ،واﻟﻮﺛﻨﻲ، واملﺴﻴﺤﻲ. أﻣﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻋ ﱠﻠﻤﻨﺎﻫﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻐﺴﻞ واﻟﺴري ﰲ اﻟﺠﻨﺎزة وﺗﻜﻔني املﻴﺖ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﴩﻋﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻻ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ذﻛﺮه ﻫﻨﺎ. ) (70اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻟﻴﺲ ﻣﺮادﻧﺎ ﻣﻦ ﻋﻘﺪ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ﻫﻮ أن ﻧﺒني أن أﺻﻞ ﺗﻘﺪﱡم اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني املﺎدي واﻷدﺑﻲ، وﻋﻠﻮ ﻛﻌﺒﻬﻢ ﰲ ﻣﻀﻤﺎر اﻟﺤﻀﺎرة ﻫﻮ ﻧﴩ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﴫي ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ا ُملﺴ ﱠﻠﻤﺔ؛ إذ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮ أﺳﺎس ﻛ ﱢﻞ ﺳﻌﺎدة اﻷﻣﻢ وإﻧﻤﺎ املﺮاد أن ﱢ ﻧﺒني ﻛﻴﻒ اﻋﺘﻨﺎء اﻟﻘﻮم ﺑﺄﻣﺮ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ،ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻨﺎء اﻟﺬي ﻟﻢ ﺗﺸﺎرﻛﻬﺎ ﻓﻴﻪ أﻣﺔ أﺧﺮى ﴍﻗﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ أو ﻏﺮﺑﻴﺔ أن ﺗﺴﺒﻘﻬﺎ ﻓﻴﻪ. إن اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺒﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﻛﺒﺎﻗﻲ أﻣﻢ اﻟﴩق ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﻬﻞ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻴﻬﺎ، وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻌﺮف ﻣﻦ املﺪﻧﻴﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﺬ َﻛﺮ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺣني ﺷﻌﺮت ﺑﻬﺬا اﻟﺘﺄﺧﺮ وﻋﺮﻓﺖ ﻣﺰﻳﺔ اﻟﴩه اﻟﺠﻮﻋﺎن إﱃ ﻟﺬﻳﺬ اﻟﻌﻠﻮم وﻧﴩﻫﺎ ﰲ اﻟﺒﻼد ،وﺗﻌﻤﻴﻤﻬﺎ ﺑني اﻷﻓﺮاد اﻧﺪﻓﻌﺖ اﻧﺪﻓﺎع ﱠ ِ اﻟﻄﻌﺎم ،وﻓﺘﺤﺖ املﺪارس ﻋﲆ اﺧﺘﻼف أﻧﻮاﻋﻬﺎ ،وﰲ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﺧﻄﺖ ﺧﻄﻮات ﻛﺜرية ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺘﻘﺪم واملﺪﻧﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺘﺨﻄﻮﻫﺎ أﻣﺔ ﻏريﻫﺎ ﰲ أﺿﻌﺎف ﻫﺬا اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻘﺼري؛ إذ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻮ ﻋﻤﻠﻨﺎ ﻧﺴﺒﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني أﻳﺔ أﻣﺔ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ ﻏريﻫﺎ أن ﻧﻘﻮل إن ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﻄﻮه اﻟﻴﺎﺑﺎن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ﰲ ﻳﻮم ﺗﺨﻄﻮه ﻏريﻫﺎ ﰲ أﺳﺒﻮع ،وﻣﺎ ﺗﺨﻄﻮه ﰲ أﺳﺒﻮع ﺗﺨﻄﻮه ﻏريﻫﺎ ﰲ ﺷﻬﺮ وﻫﻜﺬا ،ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ ﻋ ﱠﺪ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺪﱡم اﻟﺒﺎﻫﺮ ﻣﻦ ﺧﻮارق اﻟﻌﺎدات وﻣﻦ اﻟﻘﻮى اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻮق ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺒﴩ ،وملﺎ ﻛﺎن اﻟﻘﺼﺪ ﻣﻦ ﻧﴩ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ اﻷﻣﻢ ﻫﻮ ﺗﺜﻘﻴﻒ ً رﺟﺎﻻ ﻳﺨﺪﻣﻮن أوﻃﺎﻧﻬﻢ وﻳﻔﻴﺪوﻧﻬﺎ اﻟﻌﻘﻮل وﺗﻬﺬﻳﺐ اﻟﻨﻔﻮس واﺳﺘﻌﺪاد اﻷﻓﺮاد ﻷن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﺗﻌﻠﻤﻮه ،ﻻ ﻣﺠﺮد اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻧﻔﺲ اﻟﻌﻠﻮم واﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﺄن املﺮء ﻳﻜﻮن ﻋﺎملﺎً ً ﻃﺮﻗﺎ ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺑﻬﺎ ﻳﻐﺮﺳﻮن ﰲ ﻧﻔﻮس ﺑﻐري أن ﻳﻈﻬﺮ أﺛﺮ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم؛ اﺗﺒﻌﻮا اﻟﻘﻮم اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﺣﺐﱠ اﻟﻮﻃﻦ ،وﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻧﺤﻮه ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﻳﺠﻌﻠﻮن ذﻟﻚ ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻘﻮاﻋﺪ املﻮﺿﻮﻋﺔ ﰲ أﺻﻮل ﻛ ﱢﻞ ﻓﻦ ،ﻫﺬا وﻗﺪ ﻛﻨﺖ ﻛﺘﺒﺖ رﺳﺎﻟﺔ ﺑﻴﱠﻨﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻃﺮق اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ 133
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن وﺑﻌﺜﺖ ﺑﻬﺎ إﱃ ﺟﺮﻳﺪة املﺆﻳﺪ اﻟﻐﺮاء ،وﻧ ُ ِﴩَت ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ١٨أﺑﺮﻳﻞ ﺳﻨﺔ ١٩٠٧ﻋﺪد ٥١٤٣ﺣني ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﺗﺸﻐﻞ أﻋﻤﺪﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺳﻠﺒًﺎ وإﻳﺠﺎﺑًﺎ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أن املﺒﺎﺣﺜﺎت دارت ﺑني أﻋﻀﺎء ﻣﺠﻠﺲ اﻟﺸﻮرى ﺑﻌﺪ أن اﻗﱰﺣﺘْﻪ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ وﻫﺬا ﻧﺼﻬﺎ: إن ﻛ ﱠﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻲ املﺎدي واﻷدﺑﻲ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﻨﺪ ﻛ ﱠﻞ ﳾء ﰲ ذﻟﻚ إﱃ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف اﻟﺘﻲ أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﴩه اﻟﺤﺮﻳﺺ ﻋﲆ ﻟﺬﻳﺬ اﻟﻄﻌﺎم وﻧﻔﻴﺲ اﻟﻜﻨﻮز ،واﻗﺘﺪاﺋﻬﺎ ﺛﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ إﻗﺒﺎل ﱠ ِ ﺑﺄﻣﺮ ﻳﺒني ﰲ اﻷﺧﺬ ﺑﺄﺳﺒﺎب املﺪﻧﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ إذا أراد أن ﻳﻌﺮف اﻟﴩﻗﻲ ﴎﻋﺔ ﺗﺮﻗﻲ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﴪﻋﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗُ ﱠ ﻮﻓﻖ إﻟﻴﻬﺎ أﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ ﰲ املﺎﴈ واﻟﺤﺎﴐ وﻗﻒ وﻗﻔﺔ اﻟﺤﺎﺋﺮ؛ ﻷن اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﺮﻗﻲ ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻬﺎ ﻗﺮن ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ،وﻣﺒﻠﻎ ﻣﺎ ﻳﻘﻒ ﻋﻨﺪه ﺟﻬﺪ اﻟﻔﻜﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ﻫﻮ اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺰاﺋﺪة واﻹﻗﺒﺎل اﻟﻔﺎﺋﻖ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ ﻃﺒﻘﺎت اﻷﻣﺔ واﻫﺘﻤﺎم اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ واﻷﻫﺎﱄ ﻣﻌً ﺎ ﺑﻨﴩ اﻟﻌﻠﻮم. وﻟﻜﻦ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻞ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻟﻠﺼﺤﺔ ﻓﺈن ﻫﻨﺎك ﺳﺒﺒًﺎ آﺧﺮ ﻳﻌﺎدل ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻞ ،ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إن ﱢ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﺪون اﻟﺘﺄﺛري اﻟﺬي ﻳﺆﺛﺮه ً ﻧﺎﻗﺼﺎ ﻧﻘﺼﺎﻧًﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ،إن ﻟﻢ ﻧﻘﻞ أﻧﻪ ﻻ ﻳُﺠﺪي ﻧﻔﻌً ﺎ ﱠإﻻ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻳُﻌﺪ ﻣﺠﺮد اﻻﺗﺼﺎف ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ﻓﻘﻂ ﻣﻊ ﻓﻘﺪان اﻻﺗﺼﺎف ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﺑﻪ وﺣﺼﻮل اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ املﻘﺼﻮدة ﰲ ﱢ ﺗﻠﻘﻴﻪ ،وإﻧﻲ أﻛﺘﻔﻲ ﰲ إﻳﻀﺎح ﻫﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﺑﺬﻛﺮ ﺣﺎدﺛﺔ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺤﺮب اﻷﺧرية ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﺮوس ،وﻧﻘﻠﺘﻬﺎ اﻟﺼﺤﻒ اﻟﺮوﺳﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﻒ اﻷﺧﺮى اﻟﺴﻴﺎرة ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺴ ﱢ ﻄﺮه ﻟﻘﺮاﺋﻬﺎ ﻣﻦ ﻏﺮﻳﺐ اﻷﺧﺒﺎر وﻋﺠﻴﺐ اﻟﺤﻮادث. اﺗﻔﻖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺤني أن أﺣﺪ ﻣُﻜﺎﺗِﺒﻲ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﺮوﺳﻴﺔ زار إﺣﺪى املﺪارس اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ اﻻﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ ،وﻃﻠﺐ ﻣﻦ رﺋﻴﺲ املﺪرﺳﺔ ﻣﺸﺎﻫﺪة اﻟﺘﻼﻣﺬة ﰲ ﻓﺼﻮﻟﻬﻢ ﻓﺄدﺧﻠﻪ ﰲ أﺣﺪ ﻓﴪ ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ وأُﻋِ ﺠﺐ ﺑﻨﺠﺎﺑﺔ اﻟﺘﻼﻣﺬة وﺣُ ﺴﻦ اﻟﻔﺼﻮل وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺼﺔ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ ُ ،ﱠ أﺳﻠﻮب املﻌﻠﻢ ﰲ اﻟﺘﺪرﻳﺲ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ؛ إذ أﺑﴫ ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺗﻤﺘﺎز ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺨﺮاﺋﻂ ﺑﺮﺳﻢ أﻧﺎس ﰲ زي اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻓ َﺪﻧَﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ وﺷﺎﻫﺪ ﻣﺮﺳﻮﻣً ﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ وﻛﻮرﻳﺎ ﻣُﺒﻴﱠﻨًﺎ ﻓﻴﻬﺎ املﻮاﻗﻊ ،واﻟﺒﻠﺪان ،وﺟﻤﻴﻊ املﺮﺗﻔﻌﺎت واملﻨﺨﻔﻀﺎت ،واﻷرض اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺰراﻋﺔ 134
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻏري اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ،واﻟﺴﻬﻮل ،واﻟﺤﺰون ،واملﻀﺎﺋﻖ ،واﻟﺠﺒﺎل ،واﻟﻮﻫﺎد ،واملﻨﺎﺟﻢ ،واﻷﻧﻬﺮ، واﻟﺒﺤريات ،واﻟﻐﺎﺑﺎت ،وﻫﺆﻻء اﻷﺷﺨﺎص املﺮﺳﻮﻣﻮن ﰲ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ رﺟﺎل ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻳﻘﻴﺴﻮن املﺴﺎﻓﺎت ﺑني ﻛ ﱢﻞ ﺑﻘﻌﺔ وأﺧﺮى ،وﻣﻘﺎدﻳﺮ ارﺗﻔﺎﻋﻬﺎ ﻋﻦ ﺳﻄﺢ املﺎء واﻧﺨﻔﺎﺿﻬﺎ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻄﺎﻟﺐ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮى ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ وﻛﻮرﻳﺎ رأي اﻟﻌني ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﻴﺪ ﺷﱪ ،ﻓﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﺪﻓﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ،وزاد ﻋﺠﺒﻪ ﻣﻦ ذﻛﺎء اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني وﻓﻀﻞ اﺧﱰاﻋﻬﻢ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ املﺆﺛﱢﺮة ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻄﺎﻟﺐ ﻛﺄﻧﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻟﻬﻢ ﺑﻠﺴﺎن اﻟﺤﺎل إن اﻣﺘﻴﺎز رﺳﻢ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ وﻛﻮرﻳﺎ ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺮﺳﻮم إﻧﻤﺎ ﻧﻘﺼﺪ ﺑﻪ ﺗﻔﻬﻴﻤﻜﻢ أﻧﻨﺎ ﺳﻨﻄﺮد اﻟﺮوس ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎع ،وﻟﻜﻦ ﻗﺒﻞ أن ﻧﻌ ﱢﺮض ﺟﻨﻮدﻧﺎ ﻟﻠﺨﻄﺮ ﰲ ﻣﺨﺎرﻣﻬﺎ وﻓﺠﺎﺟﻬﺎ ً رﺟﺎﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن املﻮاﻗﻊ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ملﺮور اﻟﺠﻴﺶ ﻣﻨﻬﺎ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺄﻣﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺧﻄﺎر ﺑﻌﺜﻨﺎ وﺗﺴﻬﻞ ﻋﻠﻴﻪ أﺳﺒﺎب اﻻﻧﺘﺼﺎر. ً ﻓﺼﻼ آﺧﺮ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺼﺔ اﻟﺮﺳﻢ ،ﻓﻮﺟﺪ اﻟﻄﻠﺒﺔ ﻳﺮﺳﻤﻮن واﻟﺨﺮﻳﻄﺔ أﻣﺎﻣﻬﻢ، ﺛﻢ زار ﻓﻠﻢ ﻳﺒﺪأ ﺑﺎﺧﺘﺒﺎر اﻟﻄﻠﺒﺔ ،ﺑﻞ ﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ؛ إذ رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﺮﺳﻮﻣً ﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﺎﺛﻞ اﻟﺮﺳﻢ اﻷول ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻷول ،ﻓﻮﺟﺪ ﺑﻮرت آرﺛﺮ ﻣﺮﺳﻮﻣً ﺎ وواﻗﻌﺔ دﻣﻮﻳﺔ ﺑني اﻟﺠﻨﻮد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ واﻟﺮوﺳﻴﺔ ﻗﺮب ﻫﺬا اﻟﺮﺳﻢ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﻨﻮد اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻣﻬﺎﺟﻤﻮن ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ﱢﻜﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ اﻟﻘﻠﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ رأى أﺷﻼء اﻟﻘﺘﲆ واﻟﺪﻣﺎء ﻗﺪ ﻣﻸت اﻟﻔﻀﺎء وأﻟﺴﻨﺔ اﻟﻨريان ﺗﺨﺮج ﻣﻦ ُﻓﻮﱠﻫﺎت املﺪاﻓﻊ واﻟﺒﻨﺎدق ،واﻟﺪﺧﺎن ﻗﺪ اﻧﻌﻘﺪ ﻣﻊ اﻟﻐﺒﺎر املﺜﺎر ،وﺣﺠﺐ اﻟﻐﱪاء ﻋﻦ اﻟﺨﴬاء ،ﻓﻜﺎد ﻳﻄري ﻟﺒﱡﻪ ﻣﻦ اﻹﻋﺠﺎب واﻟﺪﻫﺸﺔ ،واملﺼﺎدﻓﺎت اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ؛ إذ ﺗﺼﻮر أﻧﻪ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ اﻧﺘﺼﺎر اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻋﲆ اﻟﺮوس ْ وأﺧ ِﺬ ﺑﻮرت آرﺛﺮ ﻋﻨﻮة وﻗﻬ ًﺮا. ً ﻓﺼﻼ آﺧﺮ ﻓﺮأى ﻣﺜﻞ ﻣﺎ رآه ﰲ اﻟﻔﺼﻠني اﻟﺴﺎﺑﻘني ،وﻫﻮ أن اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻳﺸﺘﻐﻠﻮن ﺛﻢ زار ُ ﺑﺤﻞ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺣﺴﺎﺑﻴﺔ أﺗِﻲ ﺑﻬﺎ ﺷﻮاﻫﺪ ﻋﲆ اﻟﻘﻮاﻋﺪ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺠﻮﻫﺮ اﻟﻔﻦ ،وﻟﻜﻦ ﺻﻮرة املﺴﺄﻟﺔ ﻣﺮﻛﺒﺔ ﻣﻦ ﺟﻴﺶ ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺠﺘﺎز ﻣﻀﻴﻖ »ﻣﻮﺗﻮ« ﰲ ﻛﺬا ﻣﻦ اﻟﺴﺎﻋﺎت ﻓﻜﻢ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻟﺮﺻﺎص ﻟﻜ ﱢﻞ ﺟﻨﺪي وﻫﻮ ﻳﺠﺘﺎز ﻫﺬا املﻀﻴﻖ إذا ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﻄﻠﻘﻪ ﰲ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻛﺬا ﻣﻨﻬﺎ؟ وﻛﻢ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻟﺮﺻﺎص إذا ﻛﺎن ﻋﺪد ﺟﻨﻮد اﻟﺠﻴﺶ ﻛﺬا؟ وﻫﻨﺎ ﻣﺮﺳﻮم أﻣﺎﻣﻬﻢ ﻃﻮل املﺴﺎﻓﺎت ﺑني ﻣﻮاﻗﻌﻪ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ. ﻫﺬا وملﺎ رأى املﻜﺎﺗﺐ ﻛ ﱠﻞ ﻫﺬه اﻷﺣﻮال اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﰲ ﻃﺮق اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ دُﻫِ ﺶ د ََﻫ ًﺸﺎ أدﱠاه إﱃ أن ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﻘﻮة اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻮدَع ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﺳﻨٍّﺎ وﺣﺪاﺛﺔ ﻻ ﺗﺆﻫﻠﻬﻢ إﱃ ﻓﻬﻢ املﻐﺰى ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮر اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻛﺎﺷﻒ اﻟﻨﺎﻇﺮ ﺑﻬﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﺟﻮاﺑﻪ ﻟﻪ ﱠإﻻ أن ﻗﺎل :إن ﻋﻨﺪﻧﺎ ً ﻣﺜﻼ ﻣﺸﻬﻮ ًرا وﻫﻮ أن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ اﻟﺼﻐري ﻳﻔﻌﻞ ﻓﻌﻞ اﻟﺮﺟﻞ 135
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻜﺒري ،ﻓﻜﺎن ﻫﺬا اﻟﺠﻮاب ﻋﻨﺪه أﻏﺮب ملﺎ وﻗﺮ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ أن ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻦ اﻟﻌﺰة ً ﴐب ﺑﻪ املﺜﻞ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻟﻪ ﻧﺎﻇﺮ املﺪرﺳﺔ إﻧﻨﺎ ﻧُﻠﻘِ ﻲ ﰲ ﻗﻠﻮب اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﺣﺐﱠ اﻟﻮﻃﻦ ﻣﺒﻠﻐﺎ ُ ِ ً رﺟﺎﻻ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻳﺘﻘﻠﺒﻮن ﰲ املﻨﺎﺻﺐ ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻛ ﱡﻞ ﻓﺮد ﺑﻬﺬا اﻷﺳﻠﻮب ﻟﻨﻀﻤﻦ ﻟﻪ ً واﺳﺘﺤﻘﺎﻗﺎ. ﻣﻨﻬﻢ ﻣُﻠﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻫﻠﻪ ﻷن ﻳﻤﻸ ﻛﺮﳼ املﻨﺼﺐ ﻛﻔﺎءة ﻓﺒﻌﺚ ا ُملﻜﺎﺗﺐ ﰲ اﻟﺤﺎل إﱃ ﺟﺮﻳﺪﺗﻪ ﺑﻮﺻﻒ ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪه وﺑني ﻣﻘﺪار دﻫﺸﺘﻪ واﺳﺘﻐﺮاﺑﻪ. ﻫﺬا وملﺎ ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن أردت ذات ﻳﻮم أن أﻗﻒ ﻋﲆ ﻋﺪد املﺪارس ﻫﻨﺎك وﻋﺪد املﻌﻠﻤني واﻟﻄﺎﻟﺒني وﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﴫﻓﻪ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ،ﻓﺄﻃﻠﻌﺖ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ »ﺟﺎزﻧﻴﻒ« ﻋﲆ إرادﺗﻲ ﻫﺬه ﻓﻘﺎل ﱄ :إﻧﻲ ُ ﻛﻨﺖ أرﻳﺪ أن أدﻋﻮك إﱃ زﻳﺎرة ﻧﻈﺎرة املﻌﺎرف ﻗﺒﻞ أن ﺗﺨﺎﻃﺒﻨﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻮص ،وﰲ اﻟﺤﺎل ﺗﻮﺟﻬﻨﺎ إﱃ اﻟﻨﻈﺎرة وﻛﺎن ﰲ ﺻﺤﺒﺘﻨﺎ ﺣﴬة اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ ،وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ دار اﻟﻨﻈﺎرة وﺟﺪﻧﺎﻫﺎ دا ًرا ﻣﺸﻴﺪة اﻟﺒﻨﺎء ﺟﻤﻴﻠﺔ اﻟﺮواء ،ﺑﺎﺑﻬﺎ ﺻﻨﻊ أدق ﺻﻨﻌﺔ وأﺟﻤﻠﻬﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻫﻮ ﻛﻨﺎﻳﺔ ﻋﻦ ﺷﺒﻪ ﻗﻮﴏة ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ أرﺑﻌﺔ أﻋﻤﺪة ﺑﺪﻳﻌﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﻣﺘﻴﻨﺔ اﻟﺒﻨﻴﺎن ،وملﺎ اﺟﺘﺰﻧﺎ اﻟﺒﺎب رأﻳﺖ ﺳﺎﺣﺔ أﻓﺴﺢ ﻣﻦ ﺻﺪر اﻟﺤﻠﻴﻢ ُﴍﱢﻓﺖ ﺑﺎﻟﺮﺧﺎم املﺨﺘﻠﻒ اﻷﻟﻮان ﻣﻤﺎ ﻳﺮوق اﻟﻨﺎﻇﺮ ،وﻳﴪ اﻟﺨﺎﻃﺮ واﻟﴩﻓﺎت ﺑﺎرزة ﺑﻤﻨﻈﺮ ﺑﺪﻳﻊ د ﱠل ﻋﲆ ﺗﺮﻗﻲ ﱢ ﻓﻦ اﻟﺒﻨﺎء ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ،ﺛﻢ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ »ﺗﺎراوﻳﺰي« ،ووﻇﻴﻔﺘﻪ ﺗﻌﺎدل ﺳﻜﺮﺗري اﻟﻨﻈﺎرة ﰲ ﻣﴫْ ، ﻓﺎﺳﺘَﺄْذﻧﺎ ﺑﺎﻟﺪﺧﻮل وملﺎ دﺧﻠﻨﺎ ﻏﺮﻓﺘﻪ ﻗﺎﺑَ َﻠﻨﺎ ﺑﺒﺸﺎﺷﺔ ﺗﺎﻣﺔ وﻟﻄﻒ د ﱠل ﻋﲆ ﻛﺮم أﺧﻼﻗﻪ ،وﻛﻤﺎل ﺗﺮﺑﻴﺘﻪ ،وﺟﻤﻴﻞ آداﺑﻪ ،وﺣﺎدﺛَﻨﺎ أﺣﺴﻦ ﺣﺪﻳﺚ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺤﺴﻦ اﻟﺘﻜﻠﻢ واﻻﺳﺘﻤﺎع ،وﻛﺎن ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ ﻳﱰﺟﻢ ﺑﻴﻨﻨﺎ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ أﻧﻪ ﻣﻊ ﻫﺬا اﻹﻛﺮام واﻻﺣﺘﻔﺎء اﻟﻔﺎﺋﻖ ﻟﻢ ﻳﻄﻠﺐ ﻟﻨﺎ ﻗﻬﻮة وﻻ ﺷﺎﻳًﺎ وﻟﻢ ﻳﻘﺪﱢم ﻟﻨﺎ اﻟﺴﻴﻜﺎرة ﻛﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﻌﺎدة ﻋﻨﺪ أﻣﻢ اﻟﻐﺮب واﻟﴩق ،وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻋﺎدة ﻋﻨﺪﻫﻢ واﻟﻌﺎدة ﻳﺠﺐ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﻨﺪ ﺣﻜﻤﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻻ ﻳُﻌَ ﺪ ً ﻧﻘﺼﺎ ﻣﻦ آداب اﻟﻘﻮم؛ ﻷن اﻹﻛﺮام ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻛﺈﻛﺮام ﺣﺴﻦ اﻻﺳﺘﻤﺎع واﻟﻜﻼم واملﻘﺎﺑﻠﺔ ﺑﺎﻟﻠﻄﻒ واﻟﺒﺸﺎﺷﺔ. وﺑﻌﺪ ﺑﺮﻫﺔ أﻃﻠﻌﻨﺎه ﻋﲆ رﻏﺒﺘﻨﺎ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻗﺼﺪﻧﺎ ﻷﺟﻠﻪ اﻟﺰﻳﺎرة ،ﻓﺄﻣﺮ أﺣﺪ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣﻲ اﻟﻨﻈﺎرة ﺑﺄن ﻳﺬﻫﺐ ﻣﻌﻨﺎ إﱃ ﺣﻴﺚ ﻧﺮﻳﺪ ،ﻓﺄدﺧ َﻠﻨﺎ ﰲ ﻏﺮف ﺑﻌﺾ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب واﻟﻌﻤﺎل ﻓﺈذا ﻫﻲ ﻣﻔﺮوﺷﺔ ﺑﺄﻓﺨﺮ اﻟﻔﺮاش ﻣُﺰﻳﱠﻨﺔ ﺑﺎﻟﻨﻘﻮش ﻛﺄﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﻗﺼﻮر اﻷﻏﻨﻴﺎء واﻷﻣﺮاء وﺑﻬﺎ اﻟﻜﺮاﳼ واملﻘﺎﻋﺪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺼﻨﻊ ،إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﺗﺰﻳﱠﻦ ﺑﻪ اﻟﻐﺮف ﰲ أﺣﺴﻦ اﻟﻘﺼﻮر وأﻓﺨﺮ اﻟﺪور. 136
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وملﺎ دﺧﻠﻨﺎ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ ﺑﻌﺾ اﻟ َﻜﺘَﺒﺔ وﻫﻲ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ دﻓﺎﺗﺮ اﻹﺣﺼﺎﺋﻴﺎت ﻃﻠﺒﻨﺎ اﻟﺪﻓﱰ ا ُمل َ ﺮﺻﺪ ﻓﻴﻪ ﺗﻌﺪاد املﺪارس واملﻌﻠﻤني واﻟﻄﺎﻟﺒني ﻓﺄﺣﴬه ﻟﻨﺎ ﻓﻮﺟﺪﻧﺎ ﰲ أول ورﻗﺔ ﻣﻨﻪ اﻟﺠﺪول اﻵﺗﻲ: اﺳﻢ املﺪرﺳﺔ ﻋﺪد اﻟﺘﻼﻣﺬة ﻋﺪد اﻟﻔﺼﻮل ﻣﻘﺪار املﻌﻠﻤني ﻧﻮع املﺪرﺳﺔ
ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺠﺪول ﺛﻢ ﻫﺎك اﻟﺘﻌﺪاد: ٢٥ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻛﱪى ﺗُﺪ ﱠرس ﻓﻴﻬﺎ ﻛ ﱡﻞ اﻟﻌﻠﻮم ٩٤ ،ﻣﺪرﺳﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻛﺎﻟﻄﺐ واﻟﺤﻘﻮق، واملﻬﻨﺪﺳﺨﺎﻧﺔ ،واﻟﺰراﻋﺔ ،واملﻌﻠﻤني ،واﻟﺼﻴﺪﻟﻴﺔ ،واﻟﻮﻻدة ،واﻟﺒﻴﻄﺮﻳﺔ ٢٣٦٥ ،ﻣﺪرﺳﺔ ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ٥٢٥٠ ،ﻣﺪرﺳﺔ ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ درﺟﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ١٧٦٥ ،ﻣﺪرﺳﺔ ﺗﺠﻬﻴﺰﻳﺔ ،أﻣﺎ املﺪارس اﻻﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻓﻬﻲ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﺛﻼث درﺟﺎت ﻓﻤﻨﻬﺎ ٩١٥٤ﻣﺪرﺳﺔ اﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ درﺟﺔ أوﱃ ،و ١٥٢١٦درﺟﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ و ١٦١١٢درﺟﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻓﻴﻜﻮن ﻣﺠﻤﻮع املﺪارس ﻛﻠﻬﺎ ،٤٩٩٩١ﻫﺬه ﻫﻲ املﺪارس املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻋﲆ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ،وإن ﻣﺠﻤﻮع ﻋﺪد املﻌﻠﻤني واملﺘﻌﻠﻤني ﻓﻴﻬﺎ ﻓﻬﻮ ٨٨٦٤٥٦٠ﻣﺘﻌﻠﻤً ﺎ ذﻛ ًﺮا وأﻧﺜﻰ وﻋﲆ ﻫﺬا ﻓﻨﺴﺒﺔ املﺘﻌﻠﻤني ﻣﻦ اﻟﺬﻛﻮر ﻫﻮ ٨٥ﰲ املﺎﺋﺔ وﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎت ٥٧ﰲ املﺎﺋﺔ ،وﻋﺪد املﻌﻠﻤني ﰲ املﺪارس اﻻﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ ،٢٤٢٨٩٢ واملﺪارس اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ،١٤١٢واملﺪارس اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ .٧٧٣٤ وﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﴫﻓﻪ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﲆ املﻌﺎرف ﻣﻠﻴﻮﻧﺎن وﻧﺼﻒ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،ﻋﲆ أن أﺟﺮة املﻌﻠﻢ ﻻ ﺗﻮازي ﻧﺼﻒ ﻗﻴﻤﺔ أﺟﺮة املﻌﻠﻢ ﰲ ﻣﴫ ،وﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻦ ﺑﺨﻞ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﺠﻌﻠﻮن أﺧﺬﻫﻢ اﻟﻘﺪر اﻟﺰﻫﻴﺪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻷﺟﺮ ﻫﻮ ﻷﺟﻞ أن ﻳﺴﺪوا ﻋَ ﻮَزﻫﻢ ﻣﻦ ﺧﺼﻮص املﻌﺎش ،وﻳﻘﻮﻟﻮن إن ﻋﺪم أﺧﺬﻧﺎ املﺒﺎﻟﻎ اﻟﺒﺎﻫﻈﺔ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ أﺟﺮ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻫﻮ ﺧﺪﻣﺔ أﺧﺮى ﻟﻠﻮﻃﻦ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ أداؤﻫﺎ. وملﺎ ﻛﺎﻧﺖ املﻌﺎرف ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﻘﺘﺒﺴﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺮب ﻛﺎن املﻌﻠﻤﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ ﻣﻦ اﻷوروﺑﻴني ،وملﺎ أﺧﺬ اﻟﻘﻮم ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻨﺼﻴﺐ واﻓﺮ أَﻧ ْ َﺸﺌﻮا اﻟﻜﻠﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺨ ﱠﺮج ﻣﻨﻬﺎ اﻷﺳﺎﺗﺬة اﻷ ْﻛ َﻔﺎء ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ أﻧﻮاع اﻟﻌﻠﻮم؛ أﺧﺬوا ﻳﻘﻠﻠﻮن ﻣﻦ املﻌﻠﻤني اﻟﻐﺮﺑﻴني وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن ﺑﺪﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻮﻃﻨﻴني ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ املﻌﻠﻤﻮن ﰲ ﻛ ﱢﻞ املﺪارس ﻣﻦ اﻟﻮﻃﻨﻴني ،وﻛﺄﻧﻬﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻘﻮﻟﻮن إﻧﻨﺎ أﻣﺔ ﴍﻗﻴﺔ ﺧﺎﻟﻔﺖ ﻛ ﱠﻞ أﻣﻢ اﻟﴩق؛ ﺣﻴﺚ اﻛﺘﻔﺖ ﺑﺮﺟﺎﻟﻬﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻌ ﱠﻠﻤﻮا واﻛﺘﻔﺖ ﻋﻦ ﺟﻠﺐ املﻌﻠﻤني ﻣﻦ اﻷﺟﺎﻧﺐ وﻟﻬﻢ اﻟﺤﻖ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﺨﺎر؛ ﻷن ﺛﻤﺮة اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻲ أن 137
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺗﻜﻮن اﻷﻣﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ﻏري ﻣﺴﺘﻌﻴﻨﺔ ﺑﺴﻮاﻫﺎ ﰲ ﺑﻠﻮغ اﻟﺪرﺟﺎت اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻀﺎرة واملﺪﻧﻴﺔ. وﻣﻦ ﻏﺮﻳﺐ ﻣﺎ وﻗﻊ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻧﻘﻠﺘﻪ اﻟﺼﺤﻒ ﻣُﻌﺠَ ﺒﺔ ﺑﻪ وﻣﺴﺘﻐﺮﺑﺔ ﻟﻪ أﻳﻤﺎ اﺳﺘﻐﺮاب ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺮاﻗﻲ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻳﺪل ﻋﲆ أﻧﻬﻢ أﺧﺬوا ﺣ ٍّ ﻈﺎ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ، واﻓ ًﺮا ﰲ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ؛ أن أﺣﺪ اﻟﻐﺮﺑﻴني ﻛﺎن ﻳﺤﺎدث اﻟﻜﻮﻧﺖ »ﻛﺎﺗﺴﻮرة« رﺋﻴﺲ اﻟﻮزراء وﺗﻄﺮق ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ اﻻﻧﺘﻘﺎد ﻋﲆ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺼﻨﻌﻮا ﻣﺮاﻛﺒﻬﻢ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻞ أوروﺑﺎ ،ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻮ ﺻﻨﻌﻮﻫﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺑﺤﺮﻳﺘﻬﻢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺗﻌﺎدل ﺑﺤﺮﻳﺔ دوﻟﺔ ﻣﻦ دول اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻷوﱃ ﺑني اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﻘﺎل اﻟﻜﻮﻧﺖ ﻛﺎﺗﺴﻮرة :إن ﻫﺬا اﻟﻠﻮم ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻮﺟﱠ ﻪ ﻣﻨﺎ إﱃ أوروﺑﺎ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺼﻨﻊ ﻣﺮاﻛﺒﻬﺎ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ وأﺳﻠﺤﺘﻬﺎ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﺪ ﺑﺎملﺌﺎت ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻔﻀﻠﻨﺎ ﰲ ﳾء ﻣﻦ ﺧﺼﻮص اﻟﻌﻠﻮم واﻟﻔﻨﻮن واﻟﺼﻨﺎﺋﻊ ،ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﻒ ﺑﻬﺬا اﻟﻘﻮل ﺣﺘﻰ أﻃﻠﻊ ﻫﺬا اﻷوروﺑﻲ ﻋﲆ املﻌﺎﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﺗُﺼﻨﱠﻊ ﻓﻴﻬﺎ املﺮاﻛﺐ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ واﻷﺳﻠﺤﺔ واﻷﺣﻮاض اﻟﺘﻲ أُﻋِ ﺪﱠت ﻟﻠﺒﻮارج ﻓﺮأى ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪ وﺟﻮده ﻣﻦ ﻗﺒﻞ. وﻗﺪ ﺣﺪا ﺑﻬﻤﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ ذﻛﺮ اﻟﺤﺮب ﻓﻘﺎل اﻟﻜﻮﻧﺖ ﻛﺎﺗﺴﻮرة ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :إن ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻢ ﱢ اﻟﺒني أن ﻳﺘﻬﻤﻨﺎ إﻧﺴﺎن ﺑﺄن ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ﻟﻬﺎ أدﻧﻰ ﺗﻌ ﱡﻠﻖ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ أو ﺑﺘﻔﻀﻴﻞ ﺟﻨﺲ ﻋﲆ ﺟﻨﺲ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﻌﺘﻘﺪ أن ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻢ إﺧﻮة ،وﻛﻞ ﻓﺮد ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺤﺘﺎج إﱃ اﻵﺧﺮ ﰲ ﻣﻌﱰك اﻟﺤﻴﺎة وأن املﻨﺎﻓﻊ املﺎدﻳﺔ واﻷدﺑﻴﺔ ﻳﺠﺐ أن ﻻ ﺗﻘﺘﴫ ﻋﲆ ﺟﻨﺲ دون آﺧﺮ ،ﺑﻞ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻳﺘﺒﺎدل ﻫﺬه املﻨﺎﻓﻊ ﻣﻊ اﻵﺧﺮ ﺑﻼ ﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﺠﻨﺲ واﻟﺪﻳﻦ ،وإﻧﻨﺎ ﺣني أﻋﻠﻨﺎ اﻟﺤﺮب رﺳﻤﻴٍّﺎ ﺟﻤﻌﻨﺎ رؤﺳﺎء اﻷدﻳﺎن وأﻣﺮﻧﺎﻫﻢ ﺑﺄن ﻳﺨﻄﺒﻮا ﰲ اﻟﻨﺎس ﺑﺄن ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وأﻧﻬﺎ ﺑني اﻟﻴﺎﺑﺎن واﻟﺮوس ﻓﻘﻂ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﻨﻔﻲ ﻋﻦ اﻷذﻫﺎن ﻣﺎ ﻋﺴﺎه ﻳﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ أن ﻫﺬه اﻟﺤﺮب ﻏري ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ. وإن ﻣﺤﺎرﺑﺘﻨﺎ اﻟﺮوس ﻻ ﻣﺤ ﱢﺮك ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﱠإﻻ ﻛﻮﻧﻨﺎ ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ وﻃﺌﺖ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ ،ﻓﺮأﻳﻨﺎﻫﺎ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﺎﻟﻮﺣﺶ املﻬﺎﺟﻢ اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻔﱰس اﻟﴩق ،ﻓﺄﻋﻤﻠﻨﺎ ﻛ ﱠﻞ ﻗﻮاﻧﺎ ﰲ ﺻ ﱢﺪ ﻫﺬا اﻟﻮﺣﺶ وﻣﺤﺎرﺑﺘﻪ ﺑﻜ ﱢﻞ ﻣﺎ أﻣﻜﻦ ﻣﻦ وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺪﻓﺎع، وإن أوروﺑﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻟﻨﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﺠﻤﻴﻞ؛ ﻷن ﺗﻮﻃﻴﺪ ﻗﺪم اﻟﺮوﺳﻴﺎ ﰲ اﻟﴩق واﺳﺘﻴﻼﺋﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ ﺧﻄﺮ ﻋﲆ دول أوروﺑﺎ ﺑﺄﺟﻤﻌﻬﺎ ﻷن اﻟﺮوس ﻻ ﺣ ﱠﺪ ملﻄﺎﻣﻌﻬﺎ ﺗﻘﻒ ﻋﻨﺪه، ﻓﻤﻦ ﻛﻼم اﻟﻜﻮﻧﺖ ﻛﺎﺗﺴﻮرة ﻫﺬا ﻳُﻌ َﻠﻢ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﺳﻮاس اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻮﱡر وﻣﻌﺮﻓﺔ ﴐوب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،وﻫﺬا ﻛﻠﻪ راﺟﻊ إﱃ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﺑﺬﻟﻮا وﻳﺒﺬﻟﻮن ﻓﻴﻪ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻬﻢ ﻟﻴﻞ ﻧﻬﺎر. 138
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﺬا اﻟﺬي ذﻛﺮﺗﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ ،وأﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻨﻮن اﻷﺧﺮى ﻣﺜﻞ اﻟﻄﺐ وﻏريه ﻓﻬﻮ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ً درﺳﺎ أﻣﺎﻣﻨﺎ ،وﻻ أرﻳﺪ أن أذﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﻣﻦ ﱢ ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻳﺤﻖ أن ﻧﺠﻌﻠﻪ ً ﻓﻦ اﻟﻄﺐ ﻋﺪد اﻟﺼﻴﺪﻟﻴﺎت واملﺴﺘﺸﻔﻴﺎت ،وإﻧﻤﺎ أذﻛﺮ ﻣﺎ ﻗﺪ وﻗﻔﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻋﺘﻨﺎء اﻟﻘﻮم ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺼﺤﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﺪل دﻻﻟﺔ واﺿﺤﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻗﺪ أﺧﺬوا ﻧﺼﻴﺒًﺎ واﻓ ًﺮا ﻣﻦ ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻄﺐ ﻟﻢ ﺗﻤﺎﺛﻠﻬﻢ ﻓﻴﻪ أﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى. وذﻟﻚ أﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﺒﻮب ﻳﺄﻣﻦ ﻣﻦ ﻳﺘﻌﺎﻃﺎﻫﺎ ﻣﻦ أﺧﻄﺎر داء اﻟﺪﺳﻨﺘﺎرﻳﺔ ،وﻫﺬه اﻟﺤﺒﻮب ﺗُﺴﺘﻌﻤَ ﻞ ﻋﻨﺪ ﻛ ﱢﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت ﻣﻦ اﻷﻣﺔ ،ﺣﺘﻰ إن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﴬورﻳﺔ ﻟﻠﺠﻨﻮد وﻫﻲ ﻣﻔﻴﺪة ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﱪد ﻓﺈن ﻣﻦ ﻳﺘﻌﺎﻃﺎﻫﺎ ﻳﻘﻮى ﻋﲆ اﺣﺘﻤﺎل اﻟﱪد اﻟﻘﺎرص واﻟﺰﻣﻬﺮﻳﺮ اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺘﺄﺛري ،وﻛ ﱡﻞ ﺟﻨﺪي ﻛﺎن ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻌﻪ ﻋﻠﺒﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺪد واﻓﺮ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﺒﻮب وﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎﻗري اﻟﻄﺒﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﻮ ﰲ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ وﺣﺎﻟﺔ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﰲ زﻣﻦ اﻟﺤﺮب اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻮﻟﺪ ﻓﻴﻪ اﻷﻣﺮاض املﺨﺘﻠﻔﺔ، اﻟﻄﻘﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻬﻠﻜﺔ ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎﻗري ﻣﺎ ﻳُﻼﺋﻢ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺮض ﻳﺨﺸﻮن وﻗﻮﻋﻪ ،وﺑﺴﺒﺐ ﺗﻌﺎﻃﻲ اﻟﻘﻮم ﻫﺬه اﻟﺤﺒﻮب ﺗﺠﺪ ﺻﺤﺘﻬﻢ ﻣﺘﻮﻓﺮة وأﺟﺴﺎﻣﻬﻢ ﺳﻠﻴﻤﺔ ﺻﺤﻴﺔ وﻗﻮاﻫﻢ ﺗﺎﻣﺔ ،واﻟﺠﻨﺪي ﻳﺘﻌﺎﻃﻰ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﺒﻮب ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻳﻮم ٢٦ﺣﺒﺔ ،وﺟﻤﻠﺔ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻨﻔﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﻮاﺣﺪ ﻧﺤﻮ ٣٥٠٠٦٠٠ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ. ﻫﺬا وملﺎ ﻧﻈﺮت أﻣﻢ اﻟﴩق إﱃ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻲ اﻟﻬﺎﺋﻞ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ أﺧﺬت ﺗﺮﺳﻞ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺸﺒﺎن ﻟﻴﺘﻠﻘﻮا اﻟﻌﻠﻮم ﰲ ﻣﺪارﺳﻬﺎ ،وﻛﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ،وﻣﺼﺎﻧﻌﻬﺎ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﺪد ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﺼني ﻳﺰاﺣﻤﻮن اﻟﻄﻠﺒﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﰲ املﺪارس ﻫﻨﺎك. وﻗﺪ أ ُ ﱢﻟﻔﺖ ﻟﺠﻨﺔ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﰲ ﺣﻴﺪرأﺑﺎد اﻟﺪﻛﻦ ﺗﺤﺖ رﻳﺎﺳﺔ ﺣﴬة املﻮﻟﻮي اﻟﻬﻤﺎم ﻋﺒﺪ اﻟﻘﻴﻮم أﻓﻨﺪي ،وﻫﻮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺑﻐني اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺮﻓﻮا ﻣﺰﻳﺔ املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﺎﴐة وﺣﻨﱠﻜﺘﻬﻢ ﺣﻮادث اﻷﻳﺎم ،وﻗﺪ ﺟﻤﻌﺖ اﻷﻣﻮال اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﻺﻧﻔﺎق ﻋﲆ اﻟﺸﺒﺎن اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺮﺳﻠﻬﻢ اﻟﻠﺠﻨﺔ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻫﻲ ﺳﺎﺋﺮة ﺑﻜ ﱢﻞ اﻫﺘﻤﺎم وﻧﺸﺎط. ﻓﺎﻧﻈﺮ أﻳﻬﺎ اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﺘﻬﺎ أﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وارﻓﻊ ﻣﻌﻲ ﺻﻮﺗﻚ ﺑﺈﺧﻼص إﱃ ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — داﻋﻴًﺎ راﺟﻴًﺎ أن ﻳُ ْﻠ ِﻬﻢ اﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻣﺎ أﻟﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ املﺘﻤﺪﱢﻧﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻨﺖ ﺑﺸﺄن اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف ،وﺑﺬﻟﺖ ﺟﻬﺪﻫﺎ ﰲ ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ، ﱢ ﻣﺼﺎف اﻟﺮﺟﺎل ﺣﺘﻰ ﺗﺨ ﱠﺮج ﻣﻦ ﻣﺪارﺳﻬﺎ ﻣﻦ رﻓﻌﻮا ﺷﺄن أوﻃﺎﻧﻬﻢ وﺻﺎروا ﻳﻌﺪون ﰲ اﻟﻌﺎﻣﻠني ﻋﲆ ﺳﻌﺎدة أﻣﺘﻬﻢ وﺑﻼدﻫﻢ. 139
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻘﺎم ﺗﻘﺮﻳﻆ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻓﺈن اﻷﻳﺎم وﺣﺪﻫﺎ وﺻﻔﺤﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻗﺪ ﺳﺠﻠﺖ ﻟﻬﻢ اﻟﻔﺨﺎر اﻟﺒﺎﻗﻲ ﺑﻘﺎء اﻷﻋﺼﺎر وﺗﻮاﱄ اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر. وﻣﻤﺎ ﻧﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﻪ اﻵن ﻋﲆ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني اﻟﱰﺳﺨﺎﻧﺔ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗ ﱠﻞ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻌﺎﻟﻢ. ﺻﺤﺒﺖ ذات ﻳﻮم ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ ﺟﺎزﻧﻴﻒ واﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ ﰲ زﻳﺎرﺗﻲ دار اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ »اﻟﱰﺳﺨﺎﻧﺔ« ،ﻓﺘﻮﺟﻬﻨﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻓﺈذا ﻫﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺪار ﺑﻞ ﻫﻲ ﺑﻠﺪة ﻛﱪى ﻟﻜﺜﺮة ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌَ ﺪون ﺑﺎﻵﻻف ،وﻧﺎﻫﻴﻚ ﺑﻤﻜﺎن ﻓﻴﻪ اﻵﻻف ﻣﻤﻦ ﻳﺸﺘﻐﻠﻮن ﰲ ﺻﻨﻊ اﻵﻻت اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﻟﺪوﻟﺔ ﻛﺪوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن. دﺧﻠﻨﺎ ﻫﺬه اﻟﺪار ﻓﺎﺳﺘﻘﺒَ َﻠﻨﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺮؤﺳﺎء وﻗﺪ ﻏﺎب ﻋﻨﻲ ﺣﻔ ُ ﻆ اﺳﻤﻪ واﺳﻢ وﻇﻴﻔﺘﻪ، ﻓﺄﻃﻠﻌﻨﺎ ﻋﲆ ﻣﺤﺎل ﺻﻨﻊ املﺪاﻓﻊ واﻟﺒﻨﺎدق واﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء وﻋﻤﻞ اﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺖ واﻟﺒﺎرود واﻟﺮﺻﺎص ﻓﺈذا ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﺟ ﱟﺪ ﻓﺎﺋﻖ ،وﻧﺸﺎط ﻣﺎ ﺑﻌﺪه ﻧﺸﺎط ،وﻟﻴﺲ اﺳﺘﻐﺮاﺑﻲ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻤﺎل ﺑﺄﻗﻞ ﻣﻦ اﺳﺘﻐﺮاﺑﻲ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻌﻤﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺼﻨﻌﻮن اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﺪرﻋﺎت ،وﺑﻮارج ،وﻣﺮاﻛﺐ اﻟﺘﻮرﺑﻴﺪ؛ إذ دﺧﻠﻨﺎ ﰲ ﻏﺮف وﻻ أﻗﻮل إﻧﻬﺎ ﻏﺮف ﻻﺗﺴﺎﻋﻬﺎ، ﺑﻞ أﻗﻮل إﻧﻬﺎ ﺻﺎﻟﻮﻧﺎت؛ إذ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻋﲆ ﻗﺪر ﺣﺠﻢ اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ وارﺗﻔﺎع ﺳﻘﻒ ﻏﺮﻓﻬﺎ ﻳﻤﺎﺛﻞ ارﺗﻔﺎع ﺳﻘﻒ ﻣﺤﻄﺔ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ،ووﺟﺪﻧﺎ ﺗﺴﻌﺔ ﻣﺮاﻛﺐ ﺗُﺼﻨﱠﻊ ﰲ ﺗﺴﻊ ﻏﺮف وﻫﻲ ﺗُ ﱠ ﺼﻔﺢ ﺑﺎﻟﻔﻮﻻذ ﻓﻌﺮﻓﺖ أﻧﻬﺎ ﻣﺪرﻋﺎت ،وﻣﺎ زﻟﻨﺎ ﻧﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن إﱃ آﺧﺮ ﺣﺘﻰ ﻋﺠﺒﺖ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻌﺠﺐ، وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﺬﻛﺮت ﺣﺪﻳﺚ املﺴﻴﻮ ﻛﺎﺗﺴﻮرة ﻣﻊ ذﻟﻚ اﻷوروﺑﻲ اﻟﺬي اﻧﺘﻘﺪ ﻋﲆ اﻟﻴﺎﺑﺎن؛ ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﺗﺼﻨﻊ آﻻﺗﻬﺎ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﰲ املﺼﺎﻧﻊ اﻷوروﺑﻴﺔ وﻣﺎ أﺟﺎﺑﻪ ﺟﻨﺎﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺠﻮاب رﻓﻌﺖ ﱠ ُ أﻛﻒ اﻟﴬاﻋﺔ إﱃ ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — أن ﻳﺮﻓﻊ ا ُملﺴﻜِﺖ املﻔﺤﻢ ،وﰲ اﻟﺤﺎل ﻣﻦ ﺷﺄن دوﻟﺘﻨﺎ اﻟﻌﻠﻴﺔ وأن ﺗﻜﻮن ﻫﻲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻷوﱃ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ أﺟﻤﻊ ذات اﻟﻄﻮل ،واﻟﺤﻮل، واﻟﻘﻮة. ) (71اﻟﺴﺎﺋﺤﻮن اﻟﻮاﻓﺪون إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻋﺮﻓﺖ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ أن اﻟﺴﺎﺋﺤني اﻟﻮاﻓﺪﻳﻦ إﻟﻴﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻔﺪوا ﱠإﻻ ﻟﻴﺴﺘﻔﻴﺪوا ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻔﻮاﺋﺪ اﻟﻌﻈﻤﻰ ﻓﴬﺑﺖ ﴐﻳﺒﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﺑﺤﺴﺐ درﺟﺎت اﻟﻮاﻓﺪﻳﻦ ،وأﻗﻞ ﻣﺎ ﻳﺆﺧﺬ ﻋﲆ اﻟﻔﺮد اﻟﻮاﺣﺪ »ﻳﻦ« واﻟني ﻋﴩة ﻏﺮوش ﺑﺎﻟﻌﻤﻠﺔ املﴫﻳﺔ. 140
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﻋﺪد ﻣﺎ أﺧﺬﺗﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﺎﺋﺤني ﰲ ﺳﻨﺔ «١٨٧٠٨٠٠٩» ١٩٠٣ﻳﻦ ،وﰲ ﺳﻨﺔ «١٢٩٠٠٥٤٥» ١٩٠٤ﻳﻦ ،وﰲ ﺳﻨﺔ «٢٥٣٥٤٠٠٠» ١٩٠٥ﻳﻦ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٩٠٦ » «٢٥٩٤٢٦٠٧ﻳﻦ ،وﻫﺬا وﻻ ﺷﻚ ﺑﺎب ﻣﻦ أﺑﻮاب اﻹﻳﺮادات ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﺗﺮﻗﺖ ﻣﺎﻟﻴﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ملﴫﻓﻬﺎ ،ﻓﻠﻮ أن ﺣﻜﻮﻣﺘﻨﺎ ﺟﻌﻠﺖ ﴐﻳﺒﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺋﺤني) ،وﻟﻮ ﱠ ﻳﺘﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻏري اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ( ﻟﺤﺼﻠﺖ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻃﺎﺋﻠﺔ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ وأن اﻟﻔﻮاﺋﺪ اﻟﺘﻲ اﻟﺴﺎﺋﺤﻮن ﻣﻦ ﻣﴫ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وﻟﻜﻦ ﺷﺘﺎن ﺑني أﻣﺔ ﻋﺮﻓﺖ ﻛﻴﻒ ﺗﺮﻗﻰ ﺑﻼدﻫﺎ وأﻣﺔ إﱃ اﻵن ﺗﺠﻮد ﻋﲆ اﻟﻐﺮﺑﺎء وﻫﻲ ﰲ أﺷﺪ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﺎ ﺗﺠﻮد ﺑﻪ ،ﻫﺪاﻧﺎ ﷲ إﱃ ﺳﺒﻞ اﻟﺮﺷﺎد وﻣﻮاﺿﻊ اﻟﺴﺪاد. ) (72اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﻫﻲ ﻋﻨﻮان ﺗﻘﺪﱡﻣﻬﺎ ،ودﻟﻴﻞ ارﺗﻘﺎﺋﻬﺎ ،ﻓﺈن ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ُ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻤﻦ ﻋﺮﻓﺘﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺎﻓﻴني ﻫﻨﺎك أن اﻟﺘﺄﺛري اﻷﻗﻮى ﰲ ﺗﻘﺪﱡم ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ،وﻗﺪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني زاد اﻋﺘﻨﺎؤﻫﻢ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ اﻟﺤﺮب اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ اﻷﺧرية اﻟﺘﻲ اﻧﺘﴫ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ اﻧﺘﺼﺎ ًرا ﺑﺎﻫ ًﺮا ،وﺳ ﱠ ﻄﺮت اﻟﺼﺤﻒ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﺒﺎرات اﻟﺜﻨﺎء ﻋﻠﻴﻪ وﻋﺪﺗﻪ ﻣﻦ أرﻗﻰ ﺟﻴﻮش اﻟﺪول درﺑﺔ ،وأﻗﻮاﻫﻢ ً ﺑﻄﺸﺎ ،وأﺿﺎﻓﺖ إﱃ ذﻟﻚ ﻣﺪح اﻷﻣﺔ ﺑﺄﴎﻫﺎ ﻓﺰادت رﻏﺒﺔ اﻟﻘﻮم ﰲ ﻗﺮاءة اﻟﺼﺤﻒ وأﻗﺒﻞ اﻟﻜﺘﺎب واﻷدﺑﺎء ﻋﲆ اﻻﺣﱰاف ﺑﺤﺮﻓﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ. واﻟﺼﺤﻒ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻨﻮع واملﴩب؛ ﻓﻤﻨﻬﺎ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ،واﻷﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ،واملﺼﻮرة ،واﻟﻬﺰﻟﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ املﺸﺎرب وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﺈن ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف ﻛﻠﻪ راﺟﻊ إﱃ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﻮﻃﻦ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳُﺴﻤَ ﻊ ﺑﺠﺮﻳﺪة ﻣﴩﺑﻬﺎ املﻄﺎﻋﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺻﺤﻔﻲ دﺧﻞ اﻟﺴﺠﻮن ﺑﺴﺒﺐ اﻟﻄﻌﻦ اﻟﺸﺨﴢ ﱠإﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ واﻟﻘﻠﻴﻞ ﻻ ﺣﻜﻢ ﻟﻪ. أﻣﺎ املﺠﻼت ﻓﻬﻲ ﻋﺪﻳﺪة ﻫﻨﺎك ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺸﻬﺮﻳﺔ واﻟﻨﺼﻒ ﺷﻬﺮﻳﺔ واﻷﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ،واﻟﺬي ﻧﻈﺮﺗﻪ أن أﻏﻠﺐ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﺗﺼﺪر ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ املﻤﻠﻜﺔ ،وأﺷﻬﺮ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻫﻲ ﺟﺮﻳﺪة دﺟﻲ دﺟﻲ ﺷﻤﺒﻮ ،وﺟﻴﺠﻲ ﺷﻴﻤﻮن ،ﻛﻮﻛﻮﻣﻦ، ﻳﺎﻣﺎﺗﺴﻮ ﺳﺘﻤﺒﻮن ،ﻳﻮروزو ،ﺳﺎﻫﻲ ﺷﻤﺒﻮن ،ﺟﻪ ﺟﻮﺑﺎن ،ﺷﻤﺒﻮن ﻛﺎري ،املﻮرﻧﺘﻦ ﺑﻮﺳﺘﻦ، ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻧﺘﴚ ،أﺧﺒﺎر ﻃﻮﻛﻴﻮ ،ﺗﻴﻤﺲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،واﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﻬﺰﻟﻴﺔ ﻛﺜرية إﱃ درﺟﺔ ﻓﻮق اﻟﻌﺎدة واﻹﻗﺒﺎل ﻋﲆ ﻣﻄﺎﻟﻌﺘﻬﺎ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻄﺒﻘﺎت ،وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ ً أﻳﻀﺎ أن أﺧﺒﺎر املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻋﻠﻢ أﺻﺤﺎب اﻟﺠﺮاﺋﺪ أﻳﺎم اﻧﻌﻘﺎد ﺟﻠﺴﺎﺗﻪ ،ﻓﻌﺠﺒﺖ ﻣﻦ ذﻟﻚ وﻟﻜﻦ 141
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺘﻤﺴﺖ اﻟﻌﺬر ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ؛ ﻷن ﻣﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﻣﻦ اﻋﺘﻨﻖ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻋﺘﻨﻖ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻣﻨﻬﻢ اﻟﺒﻮذﻳﻮن واﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ،ﻓﺈذا ﻧﴩت املﺤﺎورات واملﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﺘﻲ دارت ﺑني أﻋﻀﺎء املﺆﺗﻤﺮ املﻨﺘﺪﺑني ﻣﻦ اﻟﺪول ﻻ ﻳُﺆﻣَ ﻦ ﻣﻦ ﺗﻮ ﱡﻟﺪ اﻷﺣﻘﺎد ﰲ ﻧﻔﻮس أﻫﻞ املﺬاﻫﺐ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وﻫﺬا ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻔﻜﺮ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺴﺒﺐ ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺼﻞ إﱃ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ أﺧﺒﺎر املﺆﺗﻤﺮ إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻤﺎ ﻳﺼﻞ إﱃ ﻋﻠﻤﻬﻢ ﻋﺎد ًة ﻣﻦ أﺧﺒﺎر اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ وﻫﻲ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إن ﺧﻠﺖ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺘﻬﺎ ،وﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻟﻢ ﺗﻼﺣﻆ ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ أدﻧﻰ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻮص ﻣﻊ اﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ ا ُملﻌﻄﺎة ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﻮل واﻻﻧﺘﻘﺎد ،وﻫﺬا ﻗﺎﴏ ﻋﲆ ﺳﻜﺎن اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ وأﻣﺎ ﺳﻜﺎن ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺠﺰاﺋﺮ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻫﻢ أدﻧﻰ ﻋﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﺣﺼﻞ ﰲ املﺆﺗﻤﺮ ﻟﺒﻌﺪ املﺴﺎﻓﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ وﻟﻌﺪم ﻧﴩ اﻷﺧﺒﺎر ﰲ اﻟﺼﺤﻒ ،وﻗﺪ ﺗﻘﺎﺑﻠﺖ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ أﺻﺤﺎب وﻣﺤﺮري اﻟﺼﺤﻒ اﻟﻜﱪى وزرﺗﻬﻢ ودارت ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻣﺒﺎﺣﺜﺎت ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وأدﺑﻴﺔ ﻓﺒﻬﺮﻧﻲ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﺬﻛﺎء ،واﻟﻔﻄﻨﺔ ،واﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ،وﺳﻌﺔ املﺪارك ،وﻛﺎن أﺣﺪﻫﻢ ﻳﺤﺴﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ إذا ﺣﺪث واﻻﺳﺘﻤﺎع إذا ﺣﺪث ،وأﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﻣﻨﻬﻢ :املﻮﺳﻴﻮ ﺑﺮﻳﺎزن ﺳﺎن ﺻﺎﺣﺐ ﺟﺮﻳﺪة ﺷﻤﺒﻮن ﻛﺎري ،واملﻮﺳﻴﻮ ﻫﺎرﻳﻜﻮﺟﺎوا ﻣﺪﻳﺮ ﺟﺮﻳﺪة دﺟﻲ دﺟﻲ ﺷﻤﺒﻮ ،وﻫﻤﺎ ﻣﻦ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب اﻟﺒﺎرﻋني اﻟﻌﺎرﻓني ﺑﴬوب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ أﺗ ﱠﻢ املﻌﺮﻓﺔ. وﻗﺪ ُﺳﺌِﻠﺖ ﻋﻦ أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻼﻗﺔ اﻷﻣﺔ املﴫﻳﺔ ﺑﺴﻤ ﱢﻮ اﻟﺠﻨﺎب اﻟﺨﺪﻳﻮي ا ُملﻌ ﱠ ﻈﻢ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف ،وأﻣﻮر أﺧﺮى ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺒﻼد ﻓﻜﻨﺖ أﺟﻴﺐ ﺑﻤﺎ أﻋﻠﻤﻪ وﻻ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ذﻛﺮه ﻫﻨﺎ. ) (73اﻟﺨﻄﺒﺎء ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن إن ﻟﻠﺨﻄﺎﺑﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﺗﺄﺛريًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﰲ ﻛ ﱢﻞ اﻷوﺿﺎع ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ أو دﻳﻨﻴﺔ ﻓﺎﻟﺨﻄﻴﺐ ﻫﻮ ﻛﺎﻟﻘﺎﺋﺪ ﻟﺰﻣﺎم ﻗﻠﻮب اﻷﻣﺔ وأﺟﺴﺎﻣﻬﺎ إﱃ ﺣﻴﺚ اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ ﰲ ﺧﻄﺎﺑﻪ، وﻋﲆ ﻗﺪر ﺑﻼﻏﺔ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﻳﻜﻮن اﻟﺘﺄﺛري. وإﻧﻲ ﻟﻢ أﺷﺎﻫﺪ ﺧﻄﺒًﺎ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﻣﺪة إﻗﺎﻣﺘﻲ ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،وﻟﻜﻦ ﺷﺎﻫﺪت ﺧﻄﺐ اﻟﺒﻮذﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻘﻮﻧﻬﺎ ﻟﻠﻮﻋﻆ واﻹرﺷﺎد ،ﻓﻜﻨﺖ أﺗﺄﺛﺮ اﻟﺘﺄﺛري اﻟﻌﻈﻴﻢ ،وإن ﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﻋﺮف اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻟﻜﻦ اﻟﺘﺄﺛري ﺣﺼﻞ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺎت اﻟﺨﻄﻴﺐ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺻﻮﺗﻪ ﻋﻠﻮٍّا وارﺗﻔﺎﻋً ﺎ، واﻧﻔﻌﺎﻻﺗﻪ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﰲ اﻹﻟﻘﺎء؛ ﺣﻴﺚ و ُِﺟﺪ ُ ْت ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻟﻬﺆﻻء ﻓﺮأﻳﺖ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﻣ ِ ُﻤﺴ ًﻜﺎ ﺑﻴﺪه ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﻮس اﻷﺳﻮد ﻃﻮﻟﻬﺎ ﺛﻼﺛﻮن ﺳﻨﺘﻴﻤﱰًا ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﻳﺸري ﺑﻬﺎ اﻟﺨﻄﻴﺐ ﻋﻨﺪ ﻋﻠ ﱢﻮ 142
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺼﻮت واﻧﺨﻔﺎﺿﻪ ،ورأﻳﺖ اﻟﻘﻮم وﻫﻢ ﺳﻜﻮت ﻛﺄن ﻋﲆ رءوﺳﻬﻢ اﻟﻄري ﻣُﻨﺼﺘِني إﱃ ﻗﻮل اﻟﺨﻄﻴﺐ واﻟﺘﺄﺛﺮ ﻇﺎﻫﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻇﻬﻮ ًرا ﺟﻠﻴٍّﺎ. وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ أن اﻟﺒﻮذﻳني ﻟﻬﻢ ﻣﺪارس ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻬﻢ ،ﱠ ﻳﺘﻠﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻄﻠﺒﺔ أﺻﻮل املﺬﻫﺐ اﻟﺒﻮذي وﻳﺘﻤﺮﻧﻮن ﻋﲆ اﻟﺨﻄﺎﺑﺔ ،ﺣﺘﻰ إذا ﺣﺼﻠﻮا ﻋﲆ اﻟﺸﻬﺎدة ُو ﱢزع ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻘﺮى واﻟﺒﻠﺪان ﻟﻠﻮﻋﻆ واﻹرﺷﺎد ،أﻣﺎ ﻫﺬه املﺪارس ﻓﻬﻲ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻤﺪارس اﻹﻛﻠريوس ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ واﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺨﺮﺟﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﻻ وﻇﻴﻔﺔ ﻟﻬﻢ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﱠإﻻ اﻟﻮﻋﻆ واﻹرﺷﺎد. وﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﺧﻄﺒﻬﻢ ﰲ املﻮاﺿﻊ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺗﻜﻮن أﻋﻈﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ املﻮاﺿﻊ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﻊ اﺧﺘﻼﻓﻬﻢ ﰲ املﺬاﻫﺐ ﻣﺘﻔﻘﻮن ﰲ ﺣﺐﱢ اﻟﻮﻃﻦ واﻟﺨﻄﺎﺑﺔ ﻓﻴﻪ ﺗﺆﺛﺮ ﰲ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺗﺄﺛريًا أﻋﻈﻢ ،وﺗﺒﻌﺚ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ اﻟﺤﻤﺎس واﻟﺤﻤﻴﺔ واﻟﻬﻤﺔ واﻟﻐرية ﻋﲆ اﻟﻮﻃﻦ. ) (74اﻟﻘﺼﺎﺻﻮن ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﺋﺪ املﺴﺘﻬﺠﻨﺔ ﰲ اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻌﺮف ﻟﻠﻤﺪﻧﻴﺔ ﻣﻌﻨًﻰ ،ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﻢ املﺘﻤﺪﱢﻧﺔ ﻟﻈﻬﺮت ﺑﺨﻼف املﻈﻬﺮ اﻟﺬي ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻪ ﻋﻨﺪ ﺗﻠﻚ اﻷﻣﻢ ،وﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﺋﺪ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﻳﻠﻘﻴﻬﺎ اﻟﻘﺼﺎﺻﻮن ،ﻓﻔﻲ ﻣﴫ إذا ﻣﺮرت ﺑﺎﻟﺸﻮارع اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺗﺠﺪ ﰲ ﻗﻬﺎوﻳﻬﺎ اﻟﻘﺼﺎﺻني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺪﱢﺛﻮن اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺑﺴرية ﻋﻨﱰة ،وﺳﻴﻒ ﺑﻦ ذي ﻳﺰن ،وأﺑﻮ زﻳﺪ، واملﻠﻚ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﺑﻴﱪس ،وﻏريﻫﻢ وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺺ وإن ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﰲ اﻷﺻﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﻟﻜﻦ اﻟﺰﻳﺎدات اﻟﺘﻲ ﺗُﻀﺎف إﻟﻴﻬﺎ ﺗﺪﺧﻠﻬﺎ ﰲ داﺋﺮة اﻟﺨﺮاﻓﺎت وﻟﺬﻟﻚ ﺗﺮى اﻟﺴﻮاد اﻷﻋﻈﻢ ﰲ اﻷﻣﺔ املﴫﻳﺔ ،وإن ﺷﺌﺖ ﻗ ْﻞ ﰲ اﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،ﻳﻌﺘﻘﺪون اﻋﺘﻘﺎدات ﺑﺎﻃﻠﺔ ﰲ ﺣﻮادث ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ وﻫﻢ ﻣﻌﺬورون؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺮون أن ﻛ ﱠﻞ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻳﺤﻮﻳﻬﺎ ﻛﺘﺎب ﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ واﻗﻌﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻋ ﱠﻠﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﻓﻌﺎل ﻣﻦ ﻗﻠﺐ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ إﱃ أﻣﻮر ﻻ دﻟﻴﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻟﻜﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا راﺟﻊ إﱃ ﺷﻴﻮع اﻟﺠﻬﻞ ﰲ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﱰﻗﻴﺔ ﻷ ﱠﻟﻔﺖ ﰲ ﺳرية ﻋﻨﱰة وﺳﻴﻒ ﺑﻦ ذي ﻳﺰن ﻛﺘﺒًﺎ ﻻ ﺗﺤﻮي ﱠإﻻ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ؛ ﻟﻴﻜﻮن ﻟﻠﻌﺎﻣﺔ واﻟﺨﺎﺻﺔ اﻋﺘﺒﺎر ﺑﻬﺬه اﻟﺴري ،وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﺎدة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻘﻮل. إن اﻟﻘﺼﺎﺻني ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻫﻢ أﻧﺎس ﻣﺘﺨ ﱢﺮﺟﻮن ﻣﻦ ﻣﺪارس أ ُ ِ ﻧﺸﺌﺖ ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض، ﻓﱰاﻫﻢ ﻻ ﻳﻘﺼﻮن ﻋﲆ اﻟﻘﻮم ﱠإﻻ اﻟﺴري اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ذﻛﺮ ،ﻓﺈذا و ُِﺟﺪ اﻟﻘﺼﺎص ﰲ ﻣﺤﻞ ﻋﻤﻮﻣﻲ وأﺧﺬ ﻳﻠﻘﻲ ﻗﺼﺘﻪ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻔﺮغ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺮى اﻟﻘﻮم ﻧﻔﺤﻮه ﺑﺎﻟﺪراﻫﻢ اﻟﻜﺜرية ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻳﻔﻌﻞ ﺑﻬﺬه اﻟﺪراﻫﻢ؟ وﻣﺎذا ﻳﻜﻮن ﻋﻘﺐ ﻓﺮاغ اﻟﻘﺼﺎص ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ؟ 143
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
إذا ﻓﺮغ اﻟﻘﺼﺎص ﻣﻦ ﻗﺼﺘﻪ ﺗﺠﺪ ﰲ اﻟﺤﺎل ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻣَ ﻄﺒُﻮﻋﺔ وﻣﻮزﻋﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﻮر؛ ﻷﻧﻪ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻄﺒﻌﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺤ ﱟﻞ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ اﻟﻘﺼﺎص ،ﺛﻢ ﺗُﻮ ﱠزع اﻟﻘﺼﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ ﺑﺼﻔﺔ اﻟﺒﻴﻊ ﻓﻴﺸﱰوﻧﻬﺎ واﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺠﻤَ ﻊ ﻳُﻌ َ ﻄﻰ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻘﺼﺎص ﻗﻴﻤﺔ أﺗﻌﺎﺑﻪ واﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﺤﻔﻆ ﰲ ﺻﻨﺪوق ﺧﺎص ﺑﺎﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻷﺟﻞ أن ﻳﻮزع ﻋﲆ اﻟﻔﻘﺮاء وﻋﲆ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺨريﻳﺔ. ﻴﻨﻈﺮ اﻟﻌﻘﻼء إﱃ ﻗﺼﺎﴆ اﻟﻴﺎﺑﺎن وإﱃ ﻗﺼﺎﴆ ﻣﴫ ،ﺛﻢ ﻟﻴﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻛﻠﺘﺎ اﻷﻣﺘني؛ ﻓ ْﻠ ِ ﻟﻴﻌﺮف اﻟﻔﺮق ﺑني ﻣﻦ ﺗﴩﺑﺖ ﻋﻮاﺋﺪﻫﺎ ﺑﺎملﺪﻧﻴﺔ وﺑني ﻣﻦ ﺗﴩﺑﺖ ﻋﻮاﺋﺪﻫﺎ ﺑﺎﻟﻬﻤﺠﻴﺔ. ) (75اﻷﻋﻴﺎد ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن إن ﻟﻠﻴﺎﺑﺎﻧﻴني أﻋﻴﺎدًا ﺳﻨﻮﻳﺔ ﻳُﺠ ﱡﻠﻮﻧﻬﺎ ،وﻳﺤﱰﻣﻮﻧﻬﺎ ،وﻳﺤﺘﻔﻠﻮن ﺑﻬﺎ أﺟﻤﻞ اﺣﺘﻔﺎل وﻳﺘﻈﺎﻫﺮون ﺑﺎملﻈﺎﻫﺮات اﻟﺪاﻟﺔ ﻋﲆ وﻃﻨﻴﺘﻬﻢ وﻳﺒﺬﻟﻮن ﻗﺼﺎرى اﻟﺠﻬﺪ ﰲ اﻻﻓﺘﻨﺎن ﻣﻦ ﴐوب اﻟﺰﻳﻨﺎت اﻟﻔﺎﺧﺮة ،وﻳﻠﺒﺴﻮن ﻓﻴﻬﺎ أﺣﺴﻦ اﻷزﻳﺎء وﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن ﻛﺌﻮس اﻟﺼﻔﺎء واملﻮدة واﻹﺧﺎء ،وﻳﺒﺬﻟﻮن ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺨريات ﻟﺬوي اﻟﺤﺎﺟﺎت إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺻﻨﻮف اﻹﺣﺴﺎن ﻟﺒﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن. وأﺟ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻴﺎد ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻫﻮ ﻋﻴﺪ ﻣﺆﺳﺲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ املﺎﻟﻜﺔ أول إﻣﱪاﻃﻮر ﰲ اﻟﻴﺎﺑﺎن وﻫﻮ اﻹﻣﱪاﻃﻮر »ﺟﻴﻤﻮ« اﻟﺬي ارﺗﻘﻰ إﱃ ﻋﺮش اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﰲ ﺳﻨﺔ ٦٦١ﻗﺒﻞ املﻴﻼد وﻣﻮﻋﺪ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﻪ ﰲ ﻳﻮم ٨ﻣﺎرس ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺳﻨﺔ ،ﺛﻢ ﻋﻴﺪ ﺗﺬﻛﺎر ﺟﻌﻞ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ ،وذﻟﻚ ﰲ ﻋﻬﺪ ﺟﻼﻟﺔ ﻣﺘﺴﻮﻫﻴﺘﻮ املﻴﻜﺎدو اﻟﺤﺎﱄ وﻣﻮﻋﺪ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﻪ ﰲ ١٠أﺑﺮﻳﻞ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺳﻨﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ١٨٦٨ﺟُ ﻌِ ﻠﺖ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻟﻠﻴﺎﺑﺎن ﺑﺪل ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻴﻮﻧﻮ ،وﻗﺪ ﺗﻘﺪﱠم أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻠﻴﺎﺑﺎن ﻋﺎﺻﻤﺘﺎن ﻃﻮﻛﻴﻮ وﻛﻴﻮﺗﻮ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻣﻘ ٍّﺮا ﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﺸﺠﻦ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺎزع اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﰲ املﻠﻚ ،وﻟﻬﻢ أﻋﻴﺎد أﺧﺮى ﺑﻤﻜﺎن ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻟﻢ أر ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ذﻛﺮﻫﺎ اﻵن. ) (76ﻳﻘﻈﺔ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﺣﻴﺎل أﻓﻌﺎل ﻣﺒﴩي املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻣﻦ املﻌﺮوف ﻟﺪى ﻛ ﱢﻞ ﺳﻴﺎﳼ ﺧﺒري ﺑﺪﺧﺎﺋﻞ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ أن اﻟﻐﺮﺑﻴني ﻳﺘﺨﺬون اﻟﺪﻳﻦ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﻮﺻﻠﻬﻢ إﱃ ﻣﻘﺎﺻﺪﻫﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻮادث اﻟﺼني وﺛﻮرة اﻟﺒﻮﻛﴪ أﻋﻈﻢ درس ﻟﻠﻴﺎﺑﺎﻧﻴني ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻮص؛ ﻷن ﺛﻮرة اﻟﺒﻮﻛﴪ أﺻﻠﻬﺎ ﻧﺎﺷﺊ ﻋﻦ اﻹرﺳﺎﻟﻴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺎوزت ﺣ ﱠﺪ اﻻﻋﺘﺪال ﰲ اﻟﺘﺒﺸري ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﺣﺘﻰ أﺣﺮﺟﺖ ﺻﺪور اﻟﺼﻴﻨﻴني ﻓﻜﺎن ﻣﺎ ﻛﺎن. 144
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﻗﺪ ﺣﺼﻠﺖ أوروﺑﺎ ﻋﲆ أﻏﺮاﺿﻬﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻓﺼﺎر ﻟﻬﺎ ﻧﻔﻮذ ﰲ اﻟﺼني ،ﺑﻞ اﻣﺘﻠﻜﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻘﺎﻋً ﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻤﻠﻜﻬﺎ ﺑﺄﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻏري اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ. وملﺎ ﺟﻌﻠﺖ دوﻟﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت ﺣﺮة ﰲ ﺑﻼدﻫﺎ ووﻓﺪ إﻟﻴﻬﺎ املﺒﴩون اﺳﺘﻌﻤﻠﻮا ﻧﻔﺲ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻮﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﺼني وﻻ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ذﻛﺮﻫﺎ ﻫﻨﺎ ،ﺑﻞ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﻘﺎل ﻫﻮ ً وأﻳﻀﺎ ﻓﺈﻧﻬﻢ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﺒﻌﻮا ﻃﺮق اﻻﻋﺘﺪال ﰲ دﻋﻮة اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني إﱃ اﻋﺘﻨﺎق اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ، أﺧﺬوا ﻳﻨﺘﴩون ﰲ اﻟﺠﺰر اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ وﻳﻔﺘﺤﻮن املﺪارس ﻷﺟﻞ ﻧﴩ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ اﻟﻈﺎﻫﺮ ،وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وﻧﻔﺲ اﻷﻣﺮ أﻧﻬﻢ ﺟﻌﻠﻮﻫﺎ ﻣﺘﺠ ًﺮا ﻟﻜﺜﺮة املﺼﺎرﻳﻒ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﺒﺪوﻧﻬﺎ وﻫﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎع. ﻓﻠﻤﺎ رأت اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻣﻨﻬﻢ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﺒﻌﻮا اﻟﺨﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﻢ أن ﻳﺘﺒﻌﻮﻫﺎ أﻧﺬرﺗﻬﻢ إﻧﺬا ًرا رﺳﻤﻴٍّﺎ وﻧﻘﻠﺖ اﻟﺼﺤﻒ أﺧﺒﺎر ذﻟﻚ ﻋﲆ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻧُﻘِ ﻞ إﱃ ﺳﺎﺋﺮ أﻧﺤﺎء املﻌﻤﻮرة وﻣﻤﺎ ﺟﺎء ﰲ ﻫﺬه اﻹﻧﺬارات ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎه :أﻧﻜﻢ أﻳﻬﺎ املﺒﴩون ملﺎ ﻗﺪﻣﺘﻢ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻷﺟﻞ ﻧﴩ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻓﺘﺢ املﺪارس ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ ﺣﻤﺪﻧﺎ ﻗﺼﺪﻛﻢ ،وﺷﻜﺮﻧﺎ ﻟﻜﻢ ﻏريﺗﻜﻢ ﻋﲆ اﻟﻨﻮع اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،وﻗﺎﺑﻠﻨﺎﻛﻢ ﺑﺎﻟﱰﺣﻴﺐ وﺳﻬﱠ ﻠﻨﺎ ﻟﻜﻢ ﻛ ﱠﻞ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﺗﺘﻤﻜﻨﻮن ﻣﻦ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺑﻴﻨﻨﺎ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺮاﺣﺔ واﻷﻣﺎن ﻋﲆ اﻷرواح، واﻷﻣﻮال ،واﻷﻋﺮاض ،ﺷﺄﻧﻨﺎ ﻣﻊ ﻛ ﱢﻞ ﻏﺮﻳﺐ ﻳﻔﺪ إﱃ ﺑﻼدﻧﺎ ﻷﺟﻞ ﻧﻔﻊ اﺑﻦ ﺟﻨﺴﻪ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻠﺒﺚ ﱠإﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ﺣﺘﻰ رأﻳﻨﺎﻛﻢ ﺧﺎﻟﻔﺘﻢ ُﺳﻨﺔ اﻻﻋﺘﺪال ﰲ ﻫﺬه اﻷﺣﻮال ،ورﺳﻤﻨﺎ ﻟﻜﻢ اﻟﺨﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴريون ﻋﻠﻴﻬﺎ وأﺑﻠﻐﻨﺎﻛﻢ إﻳﺎﻫﺎ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﻋﺴﺎﻛﻢ ﺗﻜﻮﻧﻮن ﺟﺎﻫﻠني ﺑﺄﺧﻼق وﻋﻮاﺋﺪ اﻟﺒﻼد، وﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻜﻢ ﻋﺬر ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ إذا ﻋﺎﻣﻠﻨﺎﻛﻢ ﺑﺨﻼف ﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻨﺎ اﻷوﱃ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻠﺘﻔﺘﻮا إﱃ ﻫﺬه اﻟﺨﻄﺔ وﻟﻢ ﺗﻌﻤﻠﻮا ﺑﻬﺎ وﻧﺒﺬﺗﻢ ﻣﺎ رﺳﻤﻨﺎه ﻟﻜﻢ وراء ﻇﻬﻮرﻛﻢ. أﻣﺎ اﻵن وﻗﺪ ﻓﻌﻠﺘﻢ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺗﻨﺬرﻛﻢ إﻧﺬارﻫﺎ اﻷﺧري وﺗﺤﺬرﻛﻢ ﻋﻮاﻗﺐ أوﻻ ﻓﺒﻬﺎ وﻧﻌﻤﺖ ،ﱠ اﻟﺨﺮوج ﻋﻦ ﺣ ﱢﺪ اﻻﻋﺘﺪال ،ﻓﺈن ﻋﻤﻠﺘﻢ ﺑﻤﺎ رﺳﻤﻨﺎه ﻟﻜﻢ ً وإﻻ ﺣ ﱠﻞ ﺑﻜﻢ ﻣﺎ ﺣ ﱠﻞ ﺑﺄﻣﺜﺎﻟﻜﻢ ﰲ ﺑﻼد اﻟﺼني. واﻟﺬي ﻳﻄﻠﻊ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻹﻧﺬارات وﻳﺪﻗﻖ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻟﻬﺠﺘﻬﺎ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ املﺒﴩون ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن؛ ﻷن ﻣﻦ ﺷﺄن املﺒﴩﻳﻦ ﰲ ﻏري ﻫﺬه اﻟﺒﻼد أﻧﻬﻢ ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻣﺎ ﻳﺸﺎءون ﻣﻊ اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻮﺟﺪون ﺑني ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﺎ وﻫﻲ ﻋﺮﻳﻘﺔ ﰲ اﻟﻬﻤﺠﻴﺔ ﻻ ﺗﺪري اﻟﻀﺎر ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﻊ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﻛ ﱠﻞ ﺑﻼد اﺣﺘﻠﺘﻬﺎ أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﺒﻼد اﻟﻌﺮﻳﻘﺔ ﰲ اﻟﻬﻤﺠﻴﺔ 145
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻗﺪ وﻃﺌﻬﺎ أﻗﺪام املﺒﴩﻳﻦ ﻗﺒﻞ ﺟﻨﻮد اﻟﺪوﻟﺔ املﺤﺘﻠﺔ ،ﻓﻬﻢ ﺣﺴﺒﻮا أن ﻛ ﱠﻞ أﻣﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺘﺪﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻳﺠﻮز ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺟﺎز ﻋﲆ ﻏريﻫﺎ وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﻧﺼﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ واملﺪﻧﻴﺔ، وﻫﺬا ﻣﻦ َ اﻟﺨ َﺮق ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺑﻤﻜﺎن. ) (77ﺗﺠﻮﱡل ﰲ ﺑﻌﺾ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﻌﺪ أن أﻗﻤﻨﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻧﺤﻮ اﻷﺳﺒﻮﻋني أردت أن أﺗﺠﻮل ﰲ ﺑﻌﺾ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن، وواﻓﻘﻨﻲ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺣﴬة اﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد واﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴني ﻋﺒﺪ املﻨﻌﻢ ،واﺧﱰﻧﺎ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻴﻮﺗﻮ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﺑني ﺳﺎﺋﺮ ﻣﺪن اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﻌﺪ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺟﻮدة ﻫﻮاﺋﻬﺎ واﺳﺘﻜﻤﺎﻟﻬﺎ أﻧﻮاع اﻟﺤﻀﺎرة واملﺪﻧﻴﺔ ،وملﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﺜﺮة املﻨﺘﺰﻫﺎت اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ واملﺴﺎﻓﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﻃﻮﻛﻴﻮ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺖ ﺳﺎﻋﺎت ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻟﺮاﻛﺐ اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ. ﱠ رﻛﺒﻨﺎ اﻟﻘﻄﺎر وﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻛﻨﺎ ﻧﻄﻞ ﻣﻦ ﻧﻮاﻓﺬ اﻟﻌﺮﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺒني ﻓﻨﺮى اﻟﻐﺎﺑﺎت اﻟﻜﺜرية ،واﻷﺷﺠﺎر ،واﻷرض املﻜﺴﻮة ﺑﺴﺎ ً ﻃﺎ ﺳﻨﺪﺳﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺰراع ﻳﻔﻠﺤﻮن اﻷرض، وﺗﴪ اﻟﺨﺎﻃﺮ. وﻳﺘﻌﻬﺪون اﻟﺰرع إﱃ ﻏري ﻫﺬا ﻣﻦ املﻨﺎﻇﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺮوق اﻟﻌني ﱡ ً ﺻﺤﺒﺔ أن ﻳﺘﺠﺎذﺑﻮا أﻃﺮاف اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻛﺎن ﺣﴬة اﻟﺤﺎج وملﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﺄن املﺴﺎﻓﺮﻳﻦ ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد ﻳﺤﺪﺛﻨﺎ ﻋﻦ أﺣﻮال اﻟﺮوﺳﻴﺎ وﻣﺎ ﻳﻼﻗﻴﻪ اﻟﺮﻋﺎﻳﺎ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻈﻠﻢ واﻻﺳﺘﺒﺪاد ﻣﻤﺎ ﻟﻢ ﻳُﺴﻤَ ﻊ ﺑﻤﺜﻠﻪ ﱠإﻻ ﰲ ﻋﻬﺪ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني ،وﻋﲆ اﻟﺨﺼﻮص اﻟﺮﻋﺎﻳﺎ املﺴﻠﻤﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎن ﻳﻘﺺ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﻦ أﺣﺎدﻳﺚ اﺿﻄﻬﺎد اﻟﺮوس ﻟﻬﻢ ،وﻇﻠﻤﻬﻢ إﻳﺎﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﺠﺮي ﺷﺌﻮن اﻟﻌﻴﻮن ﺑﺪل اﻟﺪﻣﻊ دﻣً ﺎ ،وﻳﺪع اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺬي ﻛﺄﻧﻪ ُﻗ ﱠﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﺨﺮ إﱃ اﻟﺮأﻓﺔ ﺑﻬﻢ واﻟﺘﻮﺟﻊ ﻟﻬﻢ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي دﻋﺎﻧﺎ إﱃ ﺗﺼﺪﻳﻖ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﺗﻨﻘﻠﻪ اﻟﺼﺤﻒ اﻟﺴﻴﺎرة ﻋﻦ املﻈﺎﻟﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻧﻴﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﻫﻨﺎك ،وﻗﺪ ﻳﺘﺴﻊ ﺑﻲ ﻣﺠﺎل اﻟﻘﻮل إذا ﴎدت ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﱠ ﻗﺼﻪ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ، ﺗﺠﺮ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ وﻟﻜﻦ أذﻛﺮ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﻋﲆ أن اﻟﺮوﺳﻴﺎ ﻟﻢ ِ ﺣﻴﺎل رﻋﺎﻳﺎﻫﺎ املﺴﻠﻤني. ﻓﻤﻦ ﺿﻤﻦ ﻫﺬه املﻈﺎﻟﻢ ﻛﺜﺮة اﻟﴬاﺋﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﴬﺑﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ وﻋﲆ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺮﻋﺎﻳﺎ ﻳﻜﻮن ﻓﻤﺜﻼ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﴬﻳﺒﺔ ﻋﲆ ﻏريﻫﻢ ً ً ﻗﺮﺷﺎ ﻋﲆ اﻟﻔﺮد املﺴﻠﻤﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﺼﻮﺻني ﺑﺎﻟﺰﻳﺎدة، ً ً اﻟﻮاﺣﺪ ﺗﻜﻮن ﻋﲆ املﺴﻠﻢ ﻗﺮﺷني أو ﻗﺮﺷﺎ وﻧﺼﻔﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﻛﺬﻟﻚ إذا أراد املﺴﻠﻤﻮن أن ﻳﻔﺘﺤﻮا ﻣﺪارس ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ أﺑﻨﺎﺋﻬﻢ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﻠﻐﺘﻬﻢ اﻟﺘﱰﻳﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ﺗﺤﻈﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ وﺗﺄﺑﻰ ﱠإﻻ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﺮوﺳﻴﺔ ،وﻫﺬا وﻻ ﺷﻚ ﻳُﻌَ ﺪ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺒﺪاد اﻟﺬي ﻻ ﺗﺄﺗﻴﻪ 146
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
دوﻟﺔ ﺗﺪﱠﻋﻲ أﻧﻬﺎ ﻧﺼرية اﻟﺴﻠﻢ وﺣﻠﻴﻔﺔ املﺪﻧﻴﺔ ،وﻣﺎ زال اﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻣﺤﻤﻮد ﻳﻘﺺ ﻋﻠﻴﻨﺎ أﻣﺜﺎل ﻫﺬه اﻷﺣﻮال وﻋﻼﻣﺎت اﻟﺘﺄﺛﺮ ﺑﺎدﻳﺔ ﰲ وﺟﻬﻪ ،ﻓﻜﻨﺖ أﻻﻃﻔﻪ ﰲ ﺗﻔﺮﻳﺞ ﻫﻤﻪ ،وإزاﻟﺔ ﻏﻤﻪ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﻴﻨﻲ ﰲ ﺗﻬﺪﺋﺔ روﻋﻪ ،وﺑﻞ ﻏﻠﻴﻠﻪ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﺷﻌﻠﺔ ﻣﻦ ﻧﺎر ﺗﺘﱠﻘِ ﺪ ،وﻣﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ اﻟﺤﺎج ﻣﺨﻠﺺ ﻫﺬا :إن ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ ملﺎ ﻋﻠﻢ أن دوﻟﺔ اﻟﺮوس ﺗﻤﺎدت ﰲ اﻟﻐﻄﺮﺳﺔ وﻋﺪم املﺒﺎﻻة ﺑﺄﻳﺔ دوﻟﺔ أﺧﺮى ،وﺑﻠﻎ ﺑﻬﺎ ﴐر ﺑﻨﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺒﻠﻐﻪ أراد أن ﻳﺨﺬﻟﻬﺎ ،وﻳﻜﴪ ﻣﻦ ﺷﻮﻛﺘﻬﺎ وﻳﻘ ﱢﻠﻞ ﻣﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﰲ أﻋني اﻟﻨﺎس وﺳﺎﺋﺮ اﻟﺪول واﻷﻣﻢ ﻋﲆ ﻳﺪ ﻫﺬه اﻷﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺧﺬﻟﺘﻬﺎ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻟﻘﺘﺎل ،وﺟﻌﻠﺖ أرض ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ ﻣﻘﺎﺑﺮ ﻟﺮﺟﺎﻟﻬﺎ ودﻣﱠ ﺮت أﺳﻄﻮﻟﻬﺎ وﻃﺮدﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﺸﻮرﻳﺎ وأﺧﺮﺟﺘﻬﺎ ﻣﺮﻏﻤﺔ ﻣﻘﻬﻮرة ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻷﻧﻔﺔ واﻟﻌﻈﻤﺔ ،وأﺑﻄﻠﺖ ﻗﻮل اﻟﻘﻴﴫ ووزراﺋﻪ وﻗﻮاده» :ﻷؤدﺑﻦ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﺎﺋﺔ ﻣﺮة «.إذ اﻧﻘﻠﺐ ﻫﺬا املﻌﻨﻰ إﱃ اﻟﺮوس ﻓﺄدﺑﺘْﻬﺎ اﻟﻴﺎﺑﺎ ُن أﻟﻒ ﻣﺮة وﻣﺮة ﻋﲆ ﻧﻬﺮ اﻟﻴﺎﻟﻮ، وأﺿﻌﺎف ذﻟﻚ ﰲ ﻣﻴﺎه ﺗﺸﻴﻮﺳﻴﻤﺎ وأﺿﻌﺎف أﺿﻌﺎف ذﻟﻚ ﰲ ﺑﻮرت آرﺛﺮ. ﻫﺬا ،وﺑﻌﺪ أن ﻗﻄﻌﻨﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﺤﻄﺎت ﰲ ﺳريﻧﺎ أﺣﺴﺴﻨﺎ ﺑﺎﻟﺠﻮع واﺧﱰﻧﺎ أن ﻻ ﻧﺄﻛﻞ ﻏري اﻟﺨﺒﺰ واﻟﺴﻤﻚ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺘﻴﴪ ﻟﻨﺎ ذﻟﻚ ﻓﺮأﻳﻨﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺎﻋﺔ ﰲ إﺣﺪى املﺤﻄﺎت ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻋﻠﺒًﺎ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﺼﻨﺎدﻳﻖ ﺻﻐرية اﻟﺤﺠﻢ ﻣﺮﺑﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﻳﺒﻠﻎ ﺣﺠﻢ اﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻨﻬﺎ ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺘﻴﻤﱰًا ،وﻋﻠﻤﻨﺎ أن ﺑﺪاﺧﻠﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ املﺄﻛﻮﻻت ﻓﺎﺷﱰﻳﻨﺎ ﺳﺖ ﻋﻠﺐ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﺎ ﻋﻠﺒﺘﺎن، ﻳﺴﺎوي ﺛﻤﻦ اﻟﻮاﺣﺪة أرﺑﻌﺔ أﺧﻤﺎس اﻟﻘﺮش اﻟﺼﺎغ ،وﻓﺘﺤﻨﺎﻫﺎ ﻓﺈذا ﻓﻴﻬﺎ اﻷرز املﻔﻠﻔﻞ اﻟﻠﺬﻳﺬ اﻟﻄﻌﻢ ﰲ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﺒﺔ وﻓﻮﻗﻪ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺠﺔ املﺘﺨﺬة ﻣﻦ ﺑﻴﺾ اﻟﺪﺟﺎج وﻓﻴﻬﺎ ﻟﻘﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺒﺰ وﻣﻦ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﻚ املﻘﲇ ﰲ اﻟﺰﻳﺖ وﳾء ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺨﴬاوات ﻟﻢ ﻧﻌﺮف اﺳﻢ ﻧﻮﻋﻪ ،وﻳﻔﺼﻞ اﻷرز ﻋﻦ ﻏريه ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ اﻟﺮﻗﻴﻖ، وﺑﺄﺳﻔﻞ اﻟﻌﻠﺒﺔ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺤﻤﺺ اﻟﻜﺒري اﻟﺤﺒﺎت ﻣﻄﺒﻮخ وﻣﻤﻠﺢ وﻛ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻷﻃﻌﻤﺔ اﻟﻠﺬﻳﺬة ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺑﻨﺘﻮ« ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻲ اﻟﱰك أﻧﻮاع اﻟﺨﴬاوات املﻄﺒﻮﺧﺔ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ »ﻃﻮرﱄ« ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﺮق ﺑني اﻟﺼﻨﻔني ﻛﺒري ﰲ اﻟﻄﻌﻢ واﻟﻠﺬاذة ،ﻓﺎﺳﺘﻔﺪﻧﺎ ﺑﴩاء ﻫﺬه اﻟﻌﻠﺐ ً أﻛﻼ ﻟﺬﻳﺬًا ً ﻣﺠﻬﻮﻻ ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﻧﻌﺮﻓﻪ. واﻛﺘﺸﻔﻨﺎ وﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن املﻠﻌﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺆﻛﻞ ﺑﻬﺎ اﻷرز ﻗﻄﻌﺘﺎن ﻣﻦ اﻟﺨﺸﺐ ﺻﻐريﺗﺎن؛ إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﻟﻠﻴﺪ اﻟﻴﻤﻨﻰ واﻷﺧﺮى ﻟﻠﻴﺪ اﻟﻴﴪى ،واﻟﺘﻲ ﻟﻠﻴﺪ اﻟﻴﻤﻨﻰ ﻣﺠﻮﻓﺔ ﻋﺮﻳﻀﺔ واﻟﺘﻲ ﻟﻠﻴﴪى أﻗﴫ ﻣﻨﻬﺎ ،وأﻗﻞ ﰲ اﻟﻌﺮض ،ووﻇﻴﻔﺔ ﻫﺬه ﺗﻬﻴﺌﺔ اﻷرز ﻟﺘﻠﻚ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺴﻬﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻨﺎوﻟﻪ. واﻟﻌﻠﺒﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻨﻬﺎ أﺷﺒﻌﺖ ٍّ ﻛﻼ ﻣﻨﺎ ﻋﲆ ﺟﻮع ﺷﺪﻳﺪ ،وملﺎ ﻓﺮﻏﻨﺎ ﻣﻦ اﻷﻛﻞ رأﻳﻨﺎ اﻟﻮاﺑﻮر ﻳﺴري ﺑني ﻓﻀﺎء ﻣﻦ املﺎء ﺷﺒﻴﻪ ﺑﺎﻟﺒﺤرية ﻳﺸﺒﻪ ﻟﻮ ُن ِ أرﺿﻪ اﻟﻘﺒﺔ اﻟﺰرﻗﺎء ،ﻳﻨﺒﺖ ﰲ 147
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺳﻄﻪ اﻟﻌﺸﺐ ﻓﻜﺄﻧﻪ ﺑﺴﺎط ﺑﺪﻳﻊ اﻟﻨﻘﻮش أﺟﺎد ﺻﻨﻌﻪ اﻟﺼﺎﻧﻊ ،ووﺳﻂ ﻫﺬا املﺘﺴﻊ ﺟﺒﺎل ﺗﻜﺴﻮﻫﺎ اﻟﻐﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﺠﺒﺎل ذات ﻣﻨﻈﺮ ﺟﻤﻴﻞ ﻳﺤﺒﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻈﺮ اﻟﻌﻴﻮن، وﻫﺬه اﻟﻐﺎﺑﺎت َ ﻏﺮﺳﻬﺎ اﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ﰲ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻐﺎﺑﺮ؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﻣﻨﺎزل وﻣﻌﺎﺑﺪ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن وﺑﺠﻮار ﻫﺬه اﻟﺒﺤرية ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﺒرية ﺟﻤﻴﻠﺔ املﻨﻈﺮ ﻟﻢ ﻧﺴﺘﻄﻊ اﻟﻨﺰول ﻓﻴﻬﺎ واﺳﻤﻬﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ »اﻧﺴﻮ« ،وﻟﻬﺬه اﻟﺒﺤرية ذﻛﺮ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ إذ ﻛﺎن ﻳﺄﺗﻲ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺸﻌﺮاء ،واﻟ ُﻜﺘﱠﺎب، واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻟﻠﱰﻳﺾ ﻓﻴﻬﺎ وﻳﺠﻌﻠﻮﻧﻬﺎ ﻣﻴﺪاﻧًﺎ ﺗﺘﺴﺎﺑﻖ ﻓﻴﻪ ﺟﻴﺎد ﻗﺮاﺋﺤﻬﻢ وأﻗﻼﻣﻬﻢ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺣﻔﻆ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻬﺎ ذﻛ ًﺮا ﺑني ﺻﻔﺤﺎﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﺣﻔﻈﻪ ﻟﻠﺮﺻﺎﻓﺔ واﻟﺠﴪ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ. وﺑﻌﺪ أن اﺟﺘﺰﻧﺎ ﻫﺬا اﻟﻔﻀﺎء ﻣ ﱠﺮ اﻟﻮاﺑﻮر ﺑني ﻣﺘﺴﻊ آﺧﺮ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻜﺴ ﱞﻮ ﺑﺎﻷﺷﺠﺎر واﻟﺪوﺣﺎت اﻟﻜﺒرية واﻟﻐﺎﺑﺎت اﻟﺒﺪﻳﻌﺔ املﻨﻈﺮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷول ،وﺑﻌﺪ ﻧﺤﻮ اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻛﻴﻠﻮﻣﱰًا ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﺪﻳﻨﺔ »أواوﺳﻜﺎ« ،وﻫﻲ واﻗﻌﺔ ﻋﲆ ﻧﻬﺮ ﻣُﺴﻤٍّ ﻰ ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ وﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ اﻟﺨﻠﺠﺎن ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺨﻠﻴﺞ ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺮ ﺟﺰﻳﺮة ﺻﻐرية ﰲ ﻫﻴﻜﻞ ﺿﺨﻢ اﻟﺒﻨﻴﺎن ﺑﻨﺎه اﻟﻮﺛﻨﻴﻮن ﻵﻟﻬﺘﻬﻢ ﰲ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻐﺎﺑﺮ ،وﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة وﻫﺬا اﻟﻬﻴﻜﻞ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﺠﺰﻳﺮة أﻧﺲ اﻟﻮﺟﻮد املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻨﻴﻞ املﴫي ﻋﻨﺪ أﺳﻮان. أﻣﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ »أواوﺳﻜﺎ« ﻓﻬﻲ ذات ﺷﻬﺮة ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺎﺻﻤﺔ »اﻟﺴﻴﻜﻮن« وﻫﻮ أﺣﺪ املﻠﻮك اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴني اﻟﺬﻳﻦ أﺧﻀﻌﻮا ﻛﻮرﻳﺎ ﻟﺤﻜﻤﻬﻢ وﺳﻠﻄﺘﻬﻢ ،وملﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا املﻠﻚ ﻣﺸﻬﻮ ًرا ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻠﻮك اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﻨﻮا ﻟﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة ﺗﺬﻛﺎ ًرا ﻛﺎﻟﱪج ﺿﺨﻢ اﻟﺒﻨﺎء ،وﻛﻞ ﻫﺬه املﻨﺎﻇﺮ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ داﻋﻴﺔ ارﺗﻴﺎح اﻟﻨﻔﺲ ،ﻓﻜﻨﺎ ﻧﺘﻨﺎول أﺣﺎدﻳﺚ اﻟﻔﻜﺎﻫﺔ واﻟﻨﻮادر املﺴﺘﻈﺮﻓﺔ واﻷدﺑﻴﺎت اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﺣﺎدﻳﺚ اﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ،واﻟﻨﺎس ﺗﺮﻣﻘﻨﺎ ﺑﻌني اﻻﺳﺘﻐﺮاب؛ ﻷﻧﻨﺎ أﻏﺮاب وأﺻﺤﺎﺑﻲ ﻣﺨﺘﻠﻔﻮ ﺷﻜﻞ اﻷﺛﻮاب ،وﻣﻦ أﻏﺮب ﻣﺎ رأﻳﻨﺎه ﰲ ﻣﺴريﻧﺎ أن اﻟﻮاﺑﻮر ﻣ ﱠﺮ ﰲ ﺳريه ﻋﲆ ﻛﻮﺑﺮي ﻓﻮق ﻧﻬﺮ ،وﻫﺬا اﻟﻜﻮﺑﺮي ﻛﺎن ﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﻞ اﻟﻮاﺑﻮر ﻣُﻌ ﱠﻠ ًﻘﺎ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﻮاﺳﻄﺔ أﻋﻤﺪة ﻣﻨﺼﻮﺑﺔ ﻟﺮﻓﻌﻪ ووﺿﻌﻪ ﺑﻤﻬﺎرة ﻏﺮﻳﺒﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ وﺻﻞ ﻧﺰل ﻫﺬا اﻟﻜﻮﺑﺮي ﻋﲆ اﻟﻨﻬﺮ ،وﺑﻌﺪ ﻣﺮور اﻟﻘﻄﺎر ُرﻓِﻊ ﺛﺎﻧﻴًﺎ ،وﻫﺬا دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ اﻟﻘﻄﺎر أ ُ ِ وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ أﻣﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻲ اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻠﻘﻮﻫﺎ واﺟﺘﻬﺪوا ﰲ ﻧﴩﻫﺎ.
148
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (78ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻴﻮﺗﻮ رﻳﺎض ﻣﺆﻧﻘﺔ ﰲ داﺧﻠﻬﺎ وﺿﻮاﺣﻴﻬﺎ ﻣﻊ ﻧﻈﺎم أﺑﻨﻴﺘﻬﺎ، وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻓﺈذا ﻫﻲ ﺑني ٍ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﺜﺮة وﺳﻌﺔ ﻃﺮﻗﺎﺗﻬﺎ ،وﻃﻴﺐ ﻫﻮاﺋﻬﺎ ،وﺟﻤﺎل ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﺠﻐﺮاﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ، املﻌﺎﻣﻞ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ واﻟﻔﺎﺑﺮﻳﻘﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﺪ ﺑﺎملﺌﺎت ،وﻫﻲ واﻗﻌﺔ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ ﺑﺤرية ﻳﻨﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ اﻷﻋﺸﺎب واﻟﺸﺠريات ،ﻣﻤﺎ أﻛﺴﺒﻬﺎ ﻣﻨﻈ ًﺮا دﻋﺎﻫﺎ ﻷﺟﻠﻪ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﺑﺠﻨﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎن. وإذا ﻛﺎن ﻳ َ ُﻮﺻﻒ املﺘﺄدب ذو اﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑﺎ َملﻠﻚ »ﺑﻔﺘﺢ اﻟﻼم« ﻓﻴﻜﻮن أﻫﻞ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻊ اﻟﻐﺮﺑﺎء ﰲ اﻟﺪرﺟﺔ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ أﻓﻀﻞ اﻷﺟﻨﺎس؛ ﻷن أﺧﻼﻗﻬﻢ وآداﺑﻬﻢ اﻟﻘﺼﻮى ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎر. واﻟﺬي اﺳﺘﻠﻔﺖ ﻧﻈﺮي ﻛﺜريًا ﺗﺄدﱡب اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ إذا ﺳﺄﻟﻪ واﺣﺪ ﻋﻦ أيﱢ ﻣﻜﺎن ً وداﺧﻼ ﰲ داﺋﺮة اﺧﺘﺼﺎﺻﻪ ﻳﺪ ﱡﻟﻚ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻳﺴري ﻣﻌﻚ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ وﻛﺎن ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻪ إﱃ املﺤ ﱢﻞ املﻘﺼﻮد ﻟﻚ ،وإذا ﻛﺎن ﺑﻌﻴﺪًا أوﺻﻠﻚ إﱃ اﻟﺠﻨﺪي اﻟﺬي ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ ﰲ ﻧﻘﻄﺔ أﺧﺮى وﻫﺬا ﻳﻮﺻﻠﻚ ﻟﻶﺧﺮ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ إﱃ املﺤ ﱢﻞ اﻟﺬي ﺗﺮﻳﺪه. وﺑﻤﺎ أن ﺷﻜﻞ املﻼﺑﺲ اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﺄﻟﻒ رؤﻳﺘَﻬﺎ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮن ﻛﻨﱠﺎ ﻧﻤﺮ ﰲ اﻟﺸﻮارع واﻟﻌﻴﻮن ﺷﺎﺧﺼﺔ إﻟﻴﻨﺎ ﻣُﺤﺪﱢﻗﺔ ﺑﻨﺎ ،وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﰲ املﺴري وإذا ﺑﺮﺟﻞ ﻫﻨﺪﺳﺘﺎﻧﻲ ﻣﺴﻠﻢ اﻋﱰض اﻷودﱠاء وﺧﺎﻃﺒﻨﺎ ﺑﻠﺴﺎن ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻏري ﺣﴬة اﻟﺴﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ وﺻﺎﻓﺤﻨﺎ ﻣﺼﺎﻓﺤﺔ ِ اﻟﺼﻴﻨﻲ ،وﻣﻌﻨﺎه أﻧﻪ رﺟﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﻫﻨﺪﺳﺘﺎﻧﻲ ﺣﴬ ﻟﻼﺗﺠﺎر وﻟﻪ ﺳﺒﻊ ﺳﻨﻮات ﻣﺘﻐ ﱢﺮب ﻋﻦ أﻫﻠﻪ ،وﻫﻮ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻧﻜﻮن ﺿﻴﻮﻓﻪ ﰲ ﴍب اﻟﺸﺎي؛ إذ اﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺟﺬﺑﺘﻪ إﻟﻴﻨﺎ ﻓﻬﻮ ﻳﺮﻳﺪ اﻻﺋﺘﻨﺎس ﺑﻨﺎ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ،ﻓﺸﻜﺮﻧﺎ ﻟﻪ ﺷﻌﻮره وﻏريﺗﻪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وأﺟﺒﻨﺎه إﱃ ً وﻓﻌﻼ ﺗﻮﺟﱠ ﻬﻨﺎ إﱃ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﻓﺄﺣﴬ ﻟﻨﺎ اﻟﺸﺎي وأﺧﺬ ﻳﻼﻃﻔﻨﺎ وﻧﺆاﻧﺴﻪ ﻣﺪﱠة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ. رﻏﺒﺘﻪ، وﺑﻌﺪﻫﺎ اﻧﴫﻓﻨﺎ ﻋﲆ وﻋْ ﺪ ﻣﻨﻪ أﻧﻪ ﻳﺠﻲء إﻟﻴﻨﺎ ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ إذا ﺳﻤﺤﺖ ﻟﻪ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ،وﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ أدﱠﺑﻬﻢ اﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﺄﺣﺴﻦ ﺗﺄدﻳﺒﻬﻢ ،ﺛﻢ إن ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ﻟﻢ ﺗﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ أن ﻧﺤﻈﻰ ﺑﻪ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻃﻮﻛﻴﻮ ،وﺑﻌﺪ أن أﻗﻤﻨﺎ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻧﺤﻮ اﻟﻴﻮم واﻟﻠﻴﻠﺔ رﺟﻌﻨﺎ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ إﱃ ﻃﻮﻛﻴﻮ ﺳﺎملني.
149
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (79اﻟﻌﻮدة إﱃ اﻷوﻃﺎن إﻧﻲ أدع إﱃ اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﺷﻮق اﻟﻐﺮﻳﺐ إﱃ أوﻃﺎﻧﻪ ﺑﻌﺪ أن ﻃﺮﺣﺘﻪ اﻟﻨﻮى ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻄﺎرﺣﻬﺎ إﱃ أﺑﻌﺪ ﺑﻼد ﷲ ﻧﺤﻮ ﺑﻼده؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻻ ﻳﻬﻨﺄ ﱄ ﻃﻌﺎم وﻻ ﴍاب ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻓﺮغ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻷﺟﻠﻪ ﻏﺎدرت أوﻃﺎﻧﻲ وأﺧﺘﲇ ﺑﻨﻔﴘ ﻣﻔ ﱢﻜ ًﺮا ﰲ اﻷﺣﻮال واﻷﻃﻮار اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮأ ﻋﲆ املﺮء ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻠﻴﺘﻲ ﻫﻲ اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﻤﺖ ﺑﻬﺎ وﺗﺤﻤﱠ ﻠﺖ املﺸﺎق ﻷﺟﻠﻬﺎ. ﻫﺬا وملﺎ ﻗﻀﻴﻨﺎ ﰲ ﺑﻼد اﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ ﻧﺤﻮ اﺛﻨني وﺛﻼﺛني ﻳﻮﻣً ﺎ ﻋﺰﻣﺖ اﻟﻌﻮدة إﱃ وﻃﻨﻲ وﻣﺴﻘﻂ رأﳼ وﻛﺎن ﺑﺼﺤﺒﺘﻲ رﻓﻴﻘﻲ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺴﻤﻊ ﺑﻬﺬا اﻟﻨﺒﺄ ﻣﻦ ﻋﺮﻓﺘﻬﻢ ﻣﻦ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ اﻟﺬﻳﻦ أﺳﻠﻤﻮا ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ ﻳﺪﻧﺎ ﺣﺘﻰ ﺣﴬوا إﻟﻴﻨﺎ ﻳﻮم اﻟﻮداع ،وﻛﻠﻬﻢ أﻫﻞ اﻟﻴﺎﺑﺎن أﺳﻒ ﻋﲆ ﻓﺮاﻗﻨﺎ راﻏﺒني ﰲ ﺑﻘﺎﺋﻨﺎ ﺑني ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﻢ أﻳﺎﻣً ﺎ ﻋﺪﻳﺪة ،وﻟﻜﻦ ﺑﻴﱠﻨﱠﺎ ﻟﻬﻢ وﺟﻪ اﻟﻌﺬر وﻋ ﱠﺮﻓﻨﺎﻫﻢ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺪع ﻓﺮﺻﺔ ﺗﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻮدة إﻟﻴﻬﻢ ﱠإﻻ اﻏﺘﻨﻤﻨﺎﻫﺎ ،وملﺎ ﺟﺎء ﻣﻴﻌﺎد اﻟﺴﻔﺮ ﺻﺤﺒﻨﺎ ﺟﻨﺎب املﺴﻴﻮ ﺟﺎزﻧﻴﻒ واملﺴﻴﻮ أراﻧﺘﻴﺒﻮر وإﺧﻮﺗﻪ إﱃ ﻳﻮﻛﻮﻫﺎﻣﺎ ،وملﺎ وﺻﻠﻨﺎﻫﺎ ﻛﺎن اﻷﺳﻒ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﺗﺒﺪو ﻋﻼﻣﺎﺗﻪ ﻋﲆ وﺟﻪ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ املﺴﻴﻮ ﺟﺎزﻧﻴﻒ واملﺴﻴﻮ أراﻧﺘﻴﺒﻮر وإﺧﻮﺗﻪ وﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﱠ ﺗﺤﻘﻘﻨﺎ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ إﺳﻼﻣﻬﻢ ،وملﺎ ﺟﺎء ﻣﻴﻌﺎد إﻗﻼع اﻟﺒﺎﺧﺮة ودﱠﻋﻨﺎﻫﻢ واﻟﻘﻠﺐ ﻣﻠﺆه اﻷﺳﻒ اﻟﺸﺪﻳﺪ. ﻏﺎدرﻧﺎ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ﺑﻌﺪ أن ﻗﻀﻴﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﻧﺤﻮ اﺛﻨني وﺛﻼﺛني ﻳﻮﻣً ﺎ وﺑﻌﺪ أن ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ أﺣﻮال ﻫﺬه اﻷﻣﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺨﻄﺮ ﻋﲆ ﺑﺎل وﺑﻌﺪ أن ﻗﻤﺖ ﺑﻤﻬﻤﺘﻲ ،وﺑﻌﺪ أن ﴏﻓﺖ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ اﻟﺨﺎص ﻣﺎ ﻗﺪﱠرﻧﻲ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺪون اﻟﺘﻤﺎس ﻣﻠﻴﻢ واﺣﺪ ﻣﻦ أﺣ ٍﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺳﻮاء ﻛﺎن ﰲ ﻣﴫ أو اﻟﺨﺎرج وﻫﺬه ﻳﺪي ﺷﻬﻴﺪة ﻋﲇ ﱠ ﺑﺬﻟﻚ ،وﻗﻤﻨﺎ ﻋﲆ ﺑﺎﺧﺮة ﻣﻦ ﺑﻮاﺧﺮ اﻟﴩﻛﺔ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ وﻣﻜﺜﺖ ﺗﻤﺨﺮ ﰲ ﻋﺒﺎب اﻟﻴﻢ ﻧﺤﻮ واﺣﺪ وﻋﴩﻳﻦ ﻳﻮﻣً ﺎ ،ﺣﺘﻰ رﺳﺖ ﰲ ﻣﻴﺎه ﻛﻠﻜﺘﻪ ،وﻗﺪ ﻣ ﱠﺮت ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻋﲆ ﺟﺰر وﺑﻠﺪان ﻛﺜرية ﺗﻘﺪﱠم وﺻﻔﻬﺎ واﻹﻃﻨﺎب ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﻏري ﻫﺬا املﻮﺿﻊ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻻ داﻋﻲ ﻟﺬﻛﺮه اﻵن. ) (80ﺷﺬرة ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻬﻨﺪ أذﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻬﻨﺪ إﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﻔﺎﺋﺪة ﻓﺄﻗﻮل: ً ﺗﺎرﻳﺨﺎ ﻣﻤﻠﻮءًا ﺑﺎﻟﺤﻮادث اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﺗﺼﺪﻳﻖ اﻟﻌﻘﻼء ﻣﻦ ﺧﺼﻮص إن ﻟﻠﻬﻨﺪ ﻋﻮاﺋﺪ وﻣﻌﺘﻘﺪات أﻫﻞ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ وﻣﺎ ﺟﺮى ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﺗﺤﺘﻪ ﻟﻮ ذﻛﺮﺗﻪ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻦ أذﻛﺮ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ واﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺄﺣﻮال اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ. 150
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻛﺎن املﻠﻚ ﺳﻴﺰوﺳﱰﻳﺲ أﺣﺪ ﻣﻠﻮك اﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ ﻗﺪ ﻏﺰا ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﺑﺎﻟﺠﻨﻮد املﴫﻳﺔ وﺣﺼﻠﺖ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺟﻴﻮش اﻟﻬﻨﺪ وﻗﺎﺋﻊ دﻣﻮﻳﺔ ،ﺗﻐ ﱠﻠﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ وﻻﻳﺎت وﻣﻘﺎﻃﻌﺎت وﺣﻤﻞ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﺎﺋﻢ واﻷﻣﻮال ﺷﻴﺌًﺎ واﻓ ًﺮا ،ﺛﻢ أﻋﻘﺒﺘﻪ املﻠﻜﺔ ﺳﻤرياﻣﻴﺲ وﻓﺘﺤﺖ ﻋﺪة ﻣﺪن واﺳﺘﻮﻟﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻓﻌﻠﺖ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺳﻴﺰوﺳﱰﻳﺲ ﻣﻦ أﺧﺬ اﻟﻐﻨﺎﺋﻢ وﻏري ذﻟﻚ ،وﻣﻦ ﻫﺬا ﻳُﻌ َﻠﻢ أن اﻟﺠﻨﺪي املﴫي وﺻﻠﺖ ﺑﻪ ﺷﺠﺎﻋﺘﻪ وإﻗﺪاﻣﻪ إﱃ أن وﻃﺌﺖ ﻗﺪﻣﻪ أرض آﺳﻴﺎ اﻟﻜﱪى. ﺛﻢ ﻗﺼﺪ اﻟﻬﻨﺪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ املﻠﻚ دارﻳﻮس ﻫﺴﺘﺎﺳﺐ ﻣﻠﻚ ﻓﺎرس وأوﻏﻞ ﻓﻴﻬﺎ وﻓﺘﺢ ﻋﺪة وﻻﻳﺎت وأدﺧﻠﻬﺎ ﰲ أﻣﻼﻛﻪ ،وﺟﺎء ﺑﻌﺪه إﺳﻜﻨﺪر املﻜﺪوﻧﻲ اﻟﻔﺎﺗﺢ اﻟﻌﻈﻴﻢ ،وﻏﺰا ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﺑﺠﻴﺶ ﺟﺮار ﻳﺒﻠﻎ زﻫﺎء املﺎﺋﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ً أﻟﻔﺎ ،وأﺧﺬ ﻳﻐﺰو اﻟﺒﻼد واملﺪن وﻳﻔﺘﺢ املﻤﺎﻟﻚ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ وﻳﺴﺘﻮﱄ ﻋﲆ اﻟﻐﻨﺎﺋﻢ ﺣﺘﻰ ﻓﺘﺢ ﻋﺪة ﻣﻤﺎﻟﻚ ،وﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺴﺘﻮﱄ ﻋﲆ اﻟﻬﻨﺪ ﻛ ﱢﻠﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﱰك ﺷﱪ أرض ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻤﻪ ،وﻟﻜﻦ ﺟﻨﻮده وﻗﻮاده ﻟﻢ ﻳﻮاﻓﻘﻮا ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻓﻘﻔﻞ راﺟﻌً ﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﴫ اﻟﺒﺎﻫﺮ واﻟﻔﺘﻮﺣﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪة. وملﺎ ﻇﻬﺮ اﻹﺳﻼم ﰲ اﻟﻮﺟﻮد وأﺧﺬت ﻓﺘﻮﺣﺎﺗﻪ ﺗﻤﺘﺪ ﰲ ﴍق اﻟﺒﻼد وﻏﺮﺑﻬﺎ ،ذﻫﺐ ﺟﻴﺶ ﻣﻦ املﺴﻠﻤني إﱃ اﻟﻬﻨﺪ ﺗﺤﺖ ﻗﻴﺎدة رﺟﻞ ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﻗﺎﺳﻢ أﺣﺪ ﻗﻮاد ﺑﻨﻲ أﻣﻴﺔ ﰲ ٍ ﻏﻤﺮات ﺧﻼﻓﺔ اﻟﻮﻟﻴﺪ وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ٧١١ﻟﻠﻤﻴﻼد ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﺎﺋﺪ ﺷﺠﺎﻋً ﺎ ﻣﻘﺪاﻣً ﺎ ﺧﻮاض ﺑﻄﻞ ﻏﺎرات ،واﻟﺠﻴﺶ اﻟﺬي ﻏﺰا ﺑﻪ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب ﻟﻢ ﻳﺘﺠﺎوز ﻋﺪده اﻟﺴﺘﺔ آﻻف ﻣﻘﺎﺗﻞ ﻣﻤﻦ وﻟﺪﺗﻬﻢ اﻟﺤﺮوب ورﺿﻌﻮا ﺛﺪي اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ،ﻓﺄﺧﺬ ﻳُﻼﻗﻲ ﺑﻬﺬا اﻟﻌﺪد اﻟﻘﻠﻴﻞ ﺟﻴﻮش اﻟﻬﻨﺪ ﻓﻴﻬﺰﻣﻬﺎ وﻳﻔﺮﻗﻬﺎ ﰲ اﻵﻓﺎق ،وﻳﺠﻨﺪل اﻷﺑﻄﺎل ﺣﺘﻰ أوﻏﻞ ﰲ داﺧﻠﻴﺔ اﻟﺒﻼد واﻟﻨﴫ ﺣﻠﻴﻔﻪ واﻟﻔﻮز ﻇﻬريه أﻳﻨﻤﺎ ﺳﺎر ،وﻛﺎن ﻛﻠﻤﺎ ﻓﺘﺢ ﺑﻠﺪًا ﻳﻌﺮض ﻋﲆ أﻫﻠﻪ اﻹﺳﻼم ﻓﻤﻦ أﺳﻠﻢ وﻛﺎن ﺳﻨﻪ ﻓﻮق اﻟﺴﺒﻌﺔ ﻋﴩ ﻋﺎﻣً ﺎ ﺳﻠﻢ وﻧﺠﺎ ،وﻣﻦ أﺑﻰ ﻗﺘﻠﻪ ،أﻣﺎ اﻟﻨﺴﺎء واﻷﻃﻔﺎل ﻓﻜﺎن ﻳﺄﺧﺬﻫﻢ ﺳﺒﻴًﺎ وﻳﺴﺘﻌﺒﺪﻫﻢ. وﻣﻦ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺸﻬرية اﻟﺘﻲ أﺣﺮز ﻓﻴﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن اﻟﻨﴫ اﻟﺒﺎﻫﺮ وﻫﻲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮاﺑﺔ ﺑﻤﻜﺎن ،ﱠ أن ﻫﺬا اﻟﻘﺎﺋﺪ اﻟﺒﺎﺳﻞ ا ْﻟﺘَ َﻘﻰ ﺑﺠﻴﺶ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﻮد ﻋﻨﺪ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺣﻴﺪرأﺑﺎد اﻟﺪﻛني ﻳﺒﻠﻎ اﻟﺨﻤﺴني ً أﻟﻔﺎ ﺗﺤﺖ ﻗﻴﺎدة رﺋﻴﺲ ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ اﻟﺮاﺟﺎ اﻟﻈﺎﻫﺮ ،ﻓﺎﺷﺘﺒﻚ اﻟﺠﻴﺸﺎن ﰲ اﻟﻘﺘﺎل، ودارت رﺣﻰ اﻟﺤﺮب وﻣﻊ ﻗِ ﱠﻠﺔ ﻋﺪد املﺴﻠﻤني اﺳﺘﻈﻬﺮوا ﻋﲆ ﺟﻴﺶ اﻟﻬﻨﺪ ُ وﻗﺘِﻞ اﻟﺮاﺟﺎ واﺑﻨﻪ ،وﻟﺠﺄ املﻨﻬﺰﻣﻮن إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﻓﺤﺎﴏﻫﻢ املﺴﻠﻤﻮن ﺣﺘﻰ ﺿﺎﻗﻮا ذرﻋً ﺎ وﻧﻔﺪت ﻣﻦ املﺪﻳﻨﺔ اﻷﻗﻮات ،وﺻﺎروا ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺳﻴﱢﺌﺔ ،وملﺎ ﻳَﺌِﺴﻮا وأﻳﻘﻨﻮا ﺑﺎﻟﻬﻼك ﺟﻤﻌﻮا اﻟﻨﺴﺎء واﻷوﻻد وودﱠﻋﻮﻫﻢ اﻟﻮداع اﻷﺧري ،وﺟﻤﻌﻮا اﻟﺤﻄﺐ وأﺣﺮﻗﻮﻫﻢ ﻋﻦ آﺧﺮﻫﻢ ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ وﻗﻮﻋﻬﻢ ﰲ ﻳﺪ 151
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻌﺮب املﺴﻠﻤني ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺧﺮﺟﻮا ﻟﻘﺘﺎل املﺴﻠﻤني وﻫﻢ ﻣﺴﺘﻤﻴﺘﻮن ﻓﻼﻗﺎﻫﻢ املﺴﻠﻤﻮن ً ﻣﺘﻮاﺻﻼ ﺣﺘﻰ أﻓﻨﻮﻫﻢ ﻋﻦ آﺧﺮﻫﻢ ،وﻛﺎﻧﺖ اﺑﻨﺔ اﻟﺮاﺟﺎ ﻓﻴﻤﻦ ﻟﻘﺎء اﻷﺑﻄﺎل وﻣﺎ زال اﻟﻘﺘﺎل أُﺧِ ﺬ ﰲ اﻟﺴﺒﺎء وﻫﻲ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﻦ واﻟﺠﻤﺎل ،ﻓﺄرﺳﻠﻬﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﻗﺎﺳﻢ ﻫﺪﻳﺔ إﱃ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻟﻮﻟﻴﺪ ،وملﺎ ﻣﺜﻠﺖ ﺑني ﻳﺪﻳﻪ أﻋﺠﺒﻪ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ وأراد اﻟﺘﴪي ﺑﻬﺎ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ :ﻻ ﺗﻔﻌﻞ ذﻟﻚ أﻳﻬﺎ املﻠﻚ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﺴﺖ ً أﻫﻼ ملﺎ ﺗﺮﻳﺪ ،وﻻ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻤﻠﻚ ﻣﺜﻠﻚ أن ﻳﺄﻛﻞ ﻓﻀﻠﺔ أﺣﺪ رﻋﻴﺘﻪ ،ﻓﻠﻤﺎ ﺳﺄﻟﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺴﺒﺐ ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ :إن اﻟﻘﺎﺋﺪ اﻟﺬي ﺣﺎرﺑﻨﺎ ﻗﻌﺪ ﻣﻨﻲ ﻣﻘﻌﺪ اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻦ املﺮأة ،ﻓﻐﻀﺐ اﻟﻮﻟﻴﺪ وأرﺳﻞ ﻣﻦ ﻳﺄﺗﻲ ﻟﻪ ﺑﻤﺤﻤﺪ ﻗﺎﺳﻢ ﻟﻴﻨﺘﻘﻢ ﻣﻨﻪ ،ﻓﻠﻤﺎ ذﻫﺐ اﻟﺮﺳﻮل واﺳﺘﺪﻋﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﻗﺎﺳﻢ أﺟﺎب ﺑﺎﻟﻄﺎﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﺮض ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻣﺎت ،ﻓﺤُ ِﻤﻠﺖ ﺟﺜﺘﻪ إﱃ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ،وملﺎ و ُِﺿﻌﺖ ﺑني ﻳﺪﻳﻪ أﺣﴬ اﻟﻔﺘﺎة ،وﻗﺎل ﻟﻬﺎ :ﻛﻴﻒ ﺗﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ ﻣﻌﻚ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻌﻠﺔ اﻟﺸﻨﻌﺎء؟ ﻓﻘﺎﻟﺖ :أﻳﻬﺎ املﻠﻚ إﻧﻲ ﻟﻢ أﻗﻞ ﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ ﱠإﻻ ﻷﺟﻞ أن أﻧﺘﻘﻢ ﻷﺑﻲ ﻣﻨﻪ وﺗﴪى ﺑﻬﺎ. واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻤﺎ أﺧﱪﺗﻚ ﺑﻪ ،ﻓﻔﺮح اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﱠ ً وﻓﻌﻼ وﺑﻌﺪ ﻣﻮت ﻣﺤﻤﺪ ﻗﺎﺳﻢ ﺟﻤﻊ اﻟﻬﻨﻮد ﻗﻮاﻫﻢ واﺳﺘﻌﺪوا ﻟﻘﺘﺎل املﺴﻠﻤني ﺣﺎرﺑﻮﻫﻢ ،وأﺧﺮﺟﻮﻫﻢ ﻣﻦ ﺑﻼدﻫﻢ واﺳﺘﺨﻠﺼﻮا ﻣﻨﻬﻢ ﻛ ﱠﻞ اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻲ أﺧﺬوﻫﺎ. وﰲ ﺳﻨﺔ ٩٦٧ﻣﻴﻼدﻳﺔ ﻏﺰت اﻷﻋﺎﺟﻢ ﺑﻼد ﻻﻫﻮر اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﺗﺤﺖ ﻗﻴﺎدة رﺟﻞ ﻓﺎرس ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ ﺳﻮﻳﻜﺘﺎﺟﻲ ﺣﺎﻛﻢ وﻻﻳﺔ ﻛﻨﺪﻫﺎر ،واﻵن ﻫﻲ وﻻﻳﺔ ﻓﺎرﺳﻴﺔ ﻋﺎﺻﻤﺘﻬﺎ ﻏﺰﻧﺔ ﻓﻘﻬﺮ ﻣﻠﻚ ﻻﻫﻮر واﺳﺘﻮﱃ ﻋﲆ ﻋﺪة ﻣﺪاﺋﻦ ﺿﻤﱠ ﻬﺎ إﱃ وﻻﻳﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ اﻵن ﺣﻜﻮﻣﺔ أﻓﻐﺎﻧﺴﺘﺎن ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ إﺣﺪى وﻻﻳﺎت اﻟﻌﺠﻢ ،وملﺎ ﻣﺎت ﻫﺬا اﻟﺤﺎﻛﻢ ﺧﻠﻔﻪ اﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﻮد اﻟﻐﺰﻧﻮي وذﻟﻚ ً وﻓﻌﻼ اﺳﺘﻘﻞ ﺳﻨﺔ ٩٩٧ﻣﻴﻼدﻳﺔ وﻛﺎن ﻣﺤﻤﻮد ﻫﺬا ﻋﺎﱄ اﻟﻬﻤﺔ ﻓﺤﺪﱠﺛﺘْﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻻﺳﺘﻘﻼل ﺑﻤﻠﻜﻪ وﺣﺎرب اﻷﻋﺠﺎم واﻧﺘﴫ ﻋﻠﻴﻬﻢ ،وواﱃ اﻟﻐﺰوات ﰲ ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ واﺳﺘﻮﱃ ﻋﲆ ﺑﻼد ﻋﺪﻳﺪة ﺿﻤﱠ ﻬﺎ إﱃ ﻣﻤﻠﻜﺘﻪ ،وﻣﻜﺚ ﻣﻠ ًﻜﺎ ﻧﺤﻮ ﺧﻤﺴﺔ وﺛﻼﺛني ﺳﻨﺔ ﺛﻢ ﺗُ ﱢ ﻮﰲ ،وﻧﻘﻞ ﺧﻠﻔﺎؤه ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺴﻠﻄﻨﺔ ﻣﻦ ﻏﺰﻧﺔ إﱃ ﻻﻫﻮر ،ﺛﻢ ﺧﻠﻒ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻐﺰﻧﻮﻳﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻐﻮرﻳﺔ ،وﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻣﻠﻮﻛﻬﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻐﻮري اﻟﺬي اﻣﺘﺪت اﻟﻔﺘﻮﺣﺎت اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﰲ ﻋﻬﺪه ﰲ ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ اﻣﺘﺪادًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ،ﺛﻢ أﻋﻘﺐ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﺷﻌﻮب املﻐﻮل وﻣﻦ أﺷﻬﺮﻫﻢ ﺗﻴﻤﻮرﻟﻨﻚ اﻟﺬي ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﰲ ﻋﻬﺪ اﺑﺘﺪاء ﺗﺄﺳﻴﺲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ. ﻟﻪ ذﻛﺮ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ وﻫﻜﺬا اﺳﺘﻮﱃ ﻣﻠﻮك ﻣﻦ املﻐﻮل واﻟﻔﺮس ﻋﲆ ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﺣﺘﻰ وﻃﺌﺘﻬﺎ ﻗﺪم اﻹﻓﺮﻧﺞ ،وأول ﻣﻦ دﺧﻞ ﻓﻴﻬﻢ ﰲ ﻫﺬه املﻤﻠﻜﺔ اﻟﱪﺗﻐﺎﻟﻴﻮن وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ١٤٩٧وﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ اﻛﺘﺸﻔﻮا رأس 152
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺮﺟﺎء اﻟﺼﺎﻟﺢ ودﻋﻮه ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ،وﰲ ﻣﺪة ﺧﻤﺴني ﺳﻨﺔ ﺻﺎرت ﻟﻬﻢ أﻣﻼك وﻣﺮاﻛﺰ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﰲ ﺑﻨﻜﺎل ،ﺛﻢ إﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻨﻮا ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻷﻫﺎﱄ ﻓﺄﺑﻐﻀﻮﻫﻢ وﺗﻌﻤﱠ ﺪوا اﻷذى ﻣﻌﻬﻢ، وملﺎ دﺧﻠﺖ اﻟﺒﻮرﺗﻮﻏﺎل ﰲ ﺣﻜﻢ اﻹﺳﺒﺎن وﻛﺎﻧﺖ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ ﻣﻦ ﺧﺼﻮص أﻣﻼﻛﻬﺎ اﻷﻣريﻛﻴﺔ ﻓﺨﴪت أﻣﻼﻛﻬﺎ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﺗﺪرﻳﺠً ﺎ ،ﺛﻢ ﺟﺎء ﺑﻌﺪﻫﻢ اﻟﻔﻠﻤﻨﻜﻴﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻣﻜﺜﻮا ﰲ ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﺣﺘﻰ دﺧﻠﻬﺎ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﻓﺤ ﱡﻠﻮا ﻣﺤ ﱠﻠﻬﻢ واﻣﺘﻠﻜﻮا اﻟﻬﻨﺪ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ. وأول ﺗﺪاﺧﻞ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﻛﺎن ﺳﻨﺔ ١٦٠٠م؛ إذ ﺷ ﱢﻜﻠﺖ ﴍﻛﺔ إﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﻟﻠﻤﺘﺎﺟﺮة ﰲ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﴩﻗﻴﺔ ،وأول ﺑﻠﺪ اﺗﺨﺬﺗﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﴩﻛﺔ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﻟﺘﺠﺎرﺗﻬﺎ ﻫﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻮرات ،وﻣﻜﺜﺖ ﻫﺬه اﻟﴩﻛﺔ إﱃ ﺳﻨﺔ ١٦٤٠م ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﺔ وﻫﺒﻬﺎ أﺣﺪ اﻟﻮﻻة ﻗﻄﻌﺔ أرض ﺗﺒﻠﻎ ﻣﺴﺎﺣﺘﻬﺎ ﺧﻤﺴﺔ أﻣﻴﺎل ﻣﺮﺑﻌﺔ ﻓﺒﻨﺖ اﻟﴩﻛﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﺎزل ،وﻣﺮﻛ ًﺰا ﻟﻠﺘﺠﺎرة وال آﺧﺮ ﻗﻄﻌً ﺎ أﺧﺮى وﺑﻨَﻮا ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺮاﻛﺰ أﺷﺒﻪ ﺑﺨﺎﻧﺎت ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺠﺎرة، ﺛﻢ اﺷﱰوا ﻣﻦ ٍ ً وأﺷﺒﻪ ﺑﺎملﺮاﻛﺰ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ إﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻀﻌﻮن ﻓﻴﻬﺎ اﻷﺳﻠﺤﺔ ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ إﻏﺎرة اﻷﻫﺎﱄ ﻋﻠﻴﻬﻢ ،وأول ﻣﺮة ﻇﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻃﺎﻟﻊ ﺳﻌﺪ إﻧﻜﻠﱰا أن اﺑﻨﺔ اﻟﺸﺎد ﺟﻬﺎن ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺪﻳﻨﺔ دﻟﻬﻲ أ ُ ِﺻﻴﺒﺖ ﺑﺤﺮوق ﻛﺎدت ﺗﻘﴤ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻮﻻ أﺣﺪ اﻷﻃﺒﺎء اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ اﻟﺬي أرﺳﻠﺘﻪ اﻟﴩﻛﺔ ملﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ،وﻧﺎﻟﺖ اﻟﺸﻔﺎء ﻋﲆ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﺴﺄل اﻟﺸﺎد ﻫﺬا اﻟﻄﺒﻴﺐ أن ﻳﻄﻠﺐ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ أﺗﻌﺎﺑﻪ وأﻇﻬﺮ ﻟﻪ ﴎو ًرا وارﺗﻴﺎﺣً ﺎ ،ﻓﻄﻠﺐ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻣﻨﻪ أن ﻳُﺼﺪِر أﻣﺮه ﺑﺈﻋﻄﺎء اﻟﺮﺧﺼﺔ ﻟﻠﴩﻛﺔ ﰲ أن ﺗﻨﺸﺊ ﻣﺮاﻛﺰ ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻧﺤﺎء املﻤﻠﻜﺔ ﺑﺪون أﺧﺬ رﺳﻮم ﻏري اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻌﻬﺎ ﰲ ﺳﻮرات ،ﻓﺄﺻﺪر اﻟﺸﺎه أﻣﺮه ﺑﺬﻟﻚ ،وﰲ ﺳﻨﺔ ١٦٦٢ﻋﲆ ﻋﻬﺪ املﻠﻚ ﻛﺎرﻟﻮس ً ﺟﺎﻋﻼ ﻫﺬا اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻠﻚ إﻧﻜﻠﱰا ﺗﻨﺎزل اﻟﺸﺎد ﻟﻠﴩﻛﺔ ﻋﻦ ﺟﺰﻳﺮة ﺑﻮﻣﺒﺎي ﻧﻈري ﻣﺒﻠﻎ ﻣﻌﻠﻮم اﻟﺘﻨﺎزل ً ﻫﺒﺔ ﻣﻨﻪ ﻹﻧﻜﻠﱰا ،ﻓﻨﻘﻠﺖ اﻟﴩﻛﺔ ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ﰲ ﺳﻮرات وﺟﻌﻠﺘﻪ ﻓﻴﻬﺎ ،وأﻗﺎﻣﺖ ﺣﺎﻛﻤً ﺎ إﻧﻜﻠﻴﺰﻳٍّﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﺼﺎرت ﻫﺬه اﻟﺠﺰﻳﺮة ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ أﻣﻼك إﻧﻜﻠﱰا. وﰲ ﻫﺬه اﻷﺛﻨﺎء دﺧﻞ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳﻮن ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﻟﻠﺘﺠﺎرة ،وﰲ زﻣﻦ ﻗﻠﻴﻞ ﺻﺎر ﻟﻬﻢ ﻧﻔﻮذ ﻓﻮق ﻧﻔﻮذ إﻧﻜﻠﱰا وﻟﻜﻦ ﻧﺠﻢ ﺳﻌﺪﻫﻢ أﻓﻞ؛ ﺣﻴﺚ ﺣ ﱡ ﻆ إﻧﻜﻠﱰا ﻛﺎن آﺧﺬًا ﰲ اﻟﺼﻌﻮد، وﻗﺪ ﺣﺼﻠﺖ ﻋﺪة وﻗﺎﺋﻊ ﺑني اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ واﻟﻔﺮﻧﺴﻮﻳني ﺑﺴﺒﺐ املﻨﺎﻓﺴﺎت ﻓﺎز ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻨﺪي اﻹﻧﻜﻠﻴﺰي ﻋﲆ اﻟﻔﺮﻧﺴﻮي ،وﻫﻜﺬا أﺧﺬت اﻟﴩﻛﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗﻘﻮﱢي ﻧﻔﻮذﻫﺎ ،ﺣﺘﻰ ﻋﻮﱠﺿﺖ إﻧﻜﻠﱰا ﺑﺎﻟﻬﻨﺪ ﻣﺎ ﻓﻘﺪﺗﻪ ﻣﻦ أﻣﻼﻛﻬﺎ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ وﻫﻲ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻤﻬﺎ اﻵن ﺣﺘﻰ ﻳﻔﻌﻞ ﷲ ﻣﺎ ﻳﺸﺎء. 153
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (81ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻫﻲ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻬﻨﺪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻲ أﻛﱪ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﻗﻄﺎر اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ وإذا أردت أن أﺻﻒ إﱃ ﻗ ﱠﺮاء ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﺗﻪ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﴐوب املﺪﻧﻴﺔ وﺻﻨﻮف اﻟﺤﻀﺎرة ﻟﺤﺪا ﺑﻲ ﻫﺬا إﱃ اﻹﺳﻬﺎب املﻤﻞ؛ إذ ْ وﺻﻒ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻫﻲ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﺒﻼد وﻣﻤﻠﻜﺔ ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ذ ْﻛ ٌﺮ ﻣﺠﻴﺪ ﻣﻦ ﻳﻮم أن ُﺧﻠِﻘﺖ اﻷرض إﱃ ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﻷﺟﻠﻪ ﱠإﻻ ﻣﺠﻠﺪ ﺿﺨﻢ ﻳﻜﻮن ِﺳ ْﻔ ًﺮا ﻋﲆ ﺣﺪﺗﻪ ﻻ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﰲ املﻮاﺿﻴﻊ اﻟﺘﻲ ﺗُﻜﺘَﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ؛ وﻟﻬﺬا أذﻛﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻣﻦ ذﻛﺮه ﻣﻠﺘﺰﻣً ﺎ ﺧﻄﺔ اﻹﻳﺠﺎز. ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ واﻗﻌﺔ ﻋﲆ ﺿﻔﺔ ﻧﻬﺮ ﻫﻮﺟﲇ اﻟﴩﻗﻴﺔ وﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻀﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣﺤﻄﺔ ﻫﻮرا ،وﻫﻲ املﺤﻄﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻔﺮع ﻣﻨﻬﺎ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ اﻟﺮاﺑﻄﺔ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻌﻮاﺻﻢ اﻷﺧﺮى ﺑﺎﻟﻌﺎﺻﻤﺔ اﻟﻜﱪى ،وﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﻤﴤ ﺳﺎﻋﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺮى اﻟﻘﻄﺎرات ذاﻫﺒﺔ وآﻳﺒﺔ ﺑني ﻗﻄﺎرات اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ واﻟﺮ ﱠﻛﺎب ﻣﻤﺎ ﻳ َ ُﺆﺧﺬ ﻣﻨﻪ أن اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ﰲ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻫﻲ ﻛﺄﻋﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﰲ اﻟﻌﻮاﺻﻢ واملﺪن اﻷوروﺑﻴﺔ. أﻣﺎ اﻧﺘﻈﺎم اﻟﻄﺮﻗﺎت واﻟﺸﻮارع وﻣﻨﻈﺮ اﻷﺑﻨﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺤﺪﱢث وﻻ ﺣﺮج ،وﻧﺎﻫﻴﻚ ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﻳﻘﻄﻨﻬﺎ ﻧﺤﻮ ١٣٠٠٠٠٠ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻮس ﻫﻲ ﻗﺎﻋﺪة اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ،ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن ﺣﺎﻟﺘﻬﺎ اﻟﻌﻤﺮاﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ ،وأﻋﻈﻢ اﻟﺸﻮارع اﺗﺴﺎﻋً ﺎ ،وأﺟﻤﻠﻬﺎ ﻣﻨﻈ ًﺮا وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﻋﻤﺎرﻳﺔ ﻫﻮ ﺷﺎرع ﺳﻴﺘﻔﻮررود ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺎرع ﻳُﻮﺟَ ﺪ املﺴﺠﺪ اﻟﺠﺎﻣﻊ وﺑﻪ ً أﻳﻀﺎ أﻏﻠﺐ ﻣﺤﺎ ﱢل اﻷوروﺑﻴني اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ،وﻣﻨﺎزﻟﻬﻢ اﻟﻔﺎﺧﺮة ،واﻟﺘﻴﺎﺗﺮات وﻣﺤﺎل املﻼﻫﻲ ،وﻳﻠﻴﻪ ﰲ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺷﺎرع ﻫﺮﺑني رود ﻓﺸﺎرع درام ﺗﻠﺪ ﻓﺸﺎرع ﺑﻮﺑﺰار ،وﻛ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻟﺸﻮارع ﻋﺎﻣﺮة ﺑﺎملﺤﺎل اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ واﻟﻌﻤﺎرات ذات املﻨﻈﺮ اﻟﺒﺪﻳﻊ واﻟﺮواء اﻟﺠﻤﻴﻞ. وﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺳﻮاق اﻟﺤﺎﻓﻠﺔ ﺑﺄﻧﻮاع اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ اﻟﺜﻤﻴﻨﺔ وأﻫﻢ ﻫﺬه اﻷﺳﻮاق وأﻛﱪﻫﺎ اﻟﺴﻮق ا ُملﺴﻤﱠ ﻰ »ﺑﺎرﺑﺎزارا« ،و»ﻧﺎي ﺑﺎزارا« ،ﺑﺤﻴﺚ إذا ﻣ ﱠﺮ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﺑﺄﺣﺪ ﻫﺬه اﻷﺳﻮاق ﻳﺼري ﻣﻮزع اﻟﻨﻈﺮ ملﺎ ﺣﻮﺗﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﺎﻧﺎت واملﺤﺎل اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻬﺮ اﻟﻌﻘﻮل وﺗﺄﺧﺬ ﺑﻤﺠﺎﻣﻊ اﻟﻘﻠﻮب ،أﻣﺎ ﻣﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﺴﻴﺞ ﻓﻬﻲ ﺗُﻌَ ﺪ ﺑﺎملﺌﺎت وﻣﻨﻬﺎ ﺗُﺼﺪﱠر اﻷﻗﻤﺸﺔ اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ وﻏري اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ إﱃ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﻗﻄﺎر اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ وإﱃ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻼد اﻷﺧﺮى. أﻣﺎ ﻫﻮاء ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻓﻬﻮ ﻣﻌﺘﺪل وﻗﺪ أﺧﱪت أن ﻫﺬا اﻻﻋﺘﺪال ﺣﺼﻞ ﺑﻌﺪ أن زاﻟﺖ املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺒﻌﺚ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺮواﺋﺢ املﻨﺘﻨﺔ املﺴﺒﺒﺔ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض واﻷوﺑﺌﺔ 154
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺑﻌﺪ أن و ُِﺟﺪت املﻨﺘﺰﻫﺎت وﻏﺮﺳﺖ اﻷﺷﺠﺎر املﻠ ﱢ ﻄﻔﺔ ﻟﻠﻬﻮاء ،وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن ﻣﻨﺎخ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻛﺄﺣﺴﻦ ﻣﻨﺎخ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ أﻋﻈﻢ ﺑﻠﺪ ﻣﺘﻤﺪﱢﻧﺔ. ) (82ﺳﻜﺎن ﻛﻠﻜﺘﻪ أﻣﺎ اﻟﺴﻜﺎن ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﺗﻌﺪادﻫﻢ ﻧﺤﻮ املﻠﻴﻮن وﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﻓﻬُ ْﻢ ﻣﻦ أﻫﻞ ﻧﺤﻞ وﻣﺬاﻫﺐ ﻣﺘﻌﺪدة ،واملﺴﻠﻤﻮن ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺒﻠﻎ ﻋﺪدﻫﻢ ﻧﺤﻮ املﺎﺋﺘﻲ أﻟﻒ ﻧﺴﻤﺔ ،واﻟﺒﺎﻗﻮن ﻣﻦ اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴﺔ واﻟﻬﻨﺪوس واملﻠﻮارﻳﺔ ،وﻋﻮاﺋﺪ اﻟﻘﻮم ﻫﻨﺎك وأزﻳﺎؤﻫﻢ وﺻﻮرﻫﻢ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﺧﺘﻼف اﻷﺟﻨﺎس؛ ﻓﺎﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴﻮن ﻳﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻮاد وﺿﺨﺎﻣﺔ اﻟﺠﺴﻢ وﻫﻢ ﻳﻠﺒﺴﻮن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻠﺒﺎس ﻳُﻘﺎل ﻟﻪ »ﻟﻨﻔﻮﺗﻪ« ،وﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ إزار ﻃﻮﻳﻞ ﻳُ َﻠﻒ ﻋﲆ اﻟﺨﴫ وﻳﺆﺧﺬ ﻃﺮﻓﻪ وﻳﺪﺧﻞ ﻣﻦ ﺑني اﻟﺮﺟﻠني وﻳﺮﺷﻖ ﻋﻨﺪ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﻈﻬﺮ ،وﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺠﺴﻢ ﻳﺒﻘﻰ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﺎرﻳًﺎ ،وﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﻠﺒﺎس ﻻ ﻳﻜﻮن ﱠإﻻ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻌﺮف ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﻣﻌﻨًﻰ وﻫﻮ ﻗﺒﻴﺢ ﻻ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﺎﻵداب ،وﻫﺬا اﻟﺬي ﺷﺎﺋﻊ ﰲ اﻟﺴﻮاد اﻷﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻄﺎﺋﻔﺔ، أو ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻨﻬﻢ ،وﻣﻦ أﺧﻼق اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴني أﻧﻬﻢ ِﺳﻠﻢ ملﻦ ﺳﺎملﻬﻢ وﺣﺮب ملﻦ ﺣﺎرﺑﻬﻢ ،وﻻ ﻳﺄﻟﻔﻮن اﻟﺬل ﱠإﻻ ﻗﻬ ًﺮا وﺑﻌﺪ ﻧﻔﺎد ﺟﻠﺪﻫﻢ ،وﺑﻤﺎ أن اﻟﺒﻨﻐﺎﻟني ﻫﻢ أﻛﺜﺮ اﻷﻫﺎﱄ ﻋﺪدًا ﻓﺈن أﻏﻠﺐ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣﻲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ وﻋﻤﺎل املﺤﺎل اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ واملﺼﺎﻧﻊ ﻣﻨﻬﻢ، وﻫﻢ ﻛﺎﻟﻴﻬﻮد ﻳﺒﺬﻟﻮن اﻟﺠﻬﺪ ﰲ ﺟﻤﻊ اﻟﺪرﻫﻢ. وﻣﻨﻬﻢ اﻟﻜﻔﺮة وﻏﺎﻟﺐ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﻨﻬﻢ وﻟﻜﻦ أﻣﻼﻛﻬﻢ ﻋﲆ ﻛﺜﺮة ﻋﺪدﻫﻢ ﻛﺜرية ،أﻣﺎ املﻠﻮارﻳﻮن ﻓﻬﻢ ﰲ اﻟﺰي أﻗﺮب إﱃ اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴني وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﺨﺎﻟﻔﻮﻧﻬﻢ ﰲ إرﺧﺎء اﻹزار وﺳﱰ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﺠﺴﺪ ،ووﺿﻊ ﻣﻨﺪﻳﻞ أو ﻗﻠﻨﺴﻮة ﻋﲆ رءوﺳﻬﻢ ،وﻟﻮﻧﻬﻢ أﺑﻴﺾ ﻣﻊ اﻋﺘﺪال اﻟﻘﺎﻣﺔ، وﳾء ﻣﻦ ﺗﻘﺎﺳﻴﻢ اﻟﺤﺴﻦ واﻟﺠﻤﺎل ،وﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ اﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺸﺌﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻟﻬﻢ وﻟ ٌﻊ ﻻ ﻣﺰﻳﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﺟﻠﺐ اﻟﺪرﻫﻢ وﻟﺬﻟﻚ اﺳﺘﻐﻮاﻫﻢ اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴﻮن ﺑﺪﻋﻮى أﻧﻬﻢ ﺳريﺑﺤﻮن ﰲ وراء اﻟﺜﻮرة ً ﻣﺎﻻ ﻛﺜريًا ،أﻣﺎ املﺴﻠﻤﻮن ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﻬﻨﻮد أو ﻏريﻫﻢ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻠﺒﺴﻮن اﻟﴪاوﻳﻞ واﻟﻘﻤﻴﺺ واﻟﺴﺪرﻳﺎت اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ،واﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻠﺒﺴﻮن اﻟﺠﺒﺔ واﻟﻔﺮﺟﻴﺎت ،وﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻓﺈن ﻟﺒﺎﺳﻬﻢ أﺣﺴﻦ ﻟﺒﺎس أﻫﻞ اﻟﻬﻨﺪ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻓﻘﺮاء ﻛﺎﻧﻮا أو أﻏﻨﻴﺎء.
155
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (83ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ إﻧﻨﺎ إذا ﻋﻤﻠﻨﺎ ﻧﺴﺒﺔ ﺑني ﺗﻌﺪاد أﻫﻞ اﻟﻬﻨﺪ وﺑني ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻼد ،ﻧﺠﺪ درﺟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﺤﻄﺔ واملﺪارس املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻛﻠﻜﺘﻪ ،وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺪن اﻷﺧﺮى ﻏري واﻓﻴﺔ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ املﻄﻠﻮﺑﺔ وإن ﻣﺎ ﺗﻨﻘﻠﻪ اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻣﻦ أﺧﺒﺎر إﻧﺸﺎء املﺪارس ﻻ ﻳ َ ُﺆﺧﺬ ﻣﻨﻪ أن اﻟﻬﻨﺪ ﺧﻄﺖ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺨﻄﻮات اﻟﻜﺎﻓﻠﺔ ﻷن ﻳﺘﺨﺮج ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺒﻼد رﺟﺎل ﻳﻨﻬﻀﻮن ﺑﻬﺎ ﱢ ﻣﺼﺎف اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ. إﱃ ﺣﻴﺚ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺒﺢ ﺑﻬﺎ اﻟﺒﻼد اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﰲ إن ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﺪارس ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ وأﺧﺮى ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﻸﻫﺎﱄ وﻟﻜﻦ ﻧﺴﻖ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﺎﻗﺺ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ ﺣﺎﺟﺔ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺮاﻗﻲ؛ إذ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﺪارس ﻟﻠﻤﻌﻠﻤني، ﻛﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻤﴫ وﻛ ﱡﻞ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌَ ﺪون ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ املﺘﻨﻮﱢرة ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺒﻼد إﻧﻤﺎ ﻫﻢ ﻣﺘﺨ ﱢﺮﺟﻮن ﻣﻦ ﻣﺪارس إﻧﻜﻠﱰا. ﻧﻌﻢ و ُِﺟﺪت ﻛﻠﻴﺔ ﻋﻠﻴﻜﺮة ،وﻫﻲ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺪرﺳﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻋﻬﺪ اﻟﻮﺟﻮد؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻬﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ،ﻋﲆ أن اﻷﻫﺎﱄ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﺷﺪﻳﺪة إﱃ أﻣﺜﺎل ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻳﻌ ﱢﻠﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻋﺪم ﻛﺜﺮة املﺪارس اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﺑﻌﻠﻞ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻧﺼﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ﻋﻨﺪ ﻣﻦ ﻟﻬﻢ إملﺎم ﺑﺤﻞ اﻟﻄﻼﺳﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وذﻟﻚ أن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﺗﺮى ﻣﻦ ﺻﺎﻟﺤﻬﺎ أن ﻻ ﱠ ﻳﱰﻗﻰ اﻷﻫﺎﱄ؛ ﻷن ﰲ ﺗﺮﻗﻴﻬﻢ ﻧﻬﻮﺿﻬﻢ ،وﰲ ﻧﻬﻮﺿﻬﻢ ﻧﺰوع إﱃ ﻃﻠﺐ اﻻﺳﺘﻘﻼل وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﺗﺮﺿﺎه دوﻟﺔ إﻧﻜﻠﱰا ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺮﻗﻰ اﻷﻣﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﻟﺴﺎﻋﺪت ﻋﲆ إﻧﺸﺎء اﻟﻜﻠﻴﺎت واملﺪارس اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ وﻫﻲ ﻗﺎدرة ﻋﲆ ذﻟﻚ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﺪرﺳﺘﺎن ﰲ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻟﺘﺨﺮﻳﺞ اﻟﻘﻀﺎة واملﺤﺎﻣني ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻓﺼﻠﺘﻬﻤﺎ ﻋﻨﻬﺎ ملﺎ وﻗﻊ ﺑني اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ واﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴني ﰲ اﻟﺨﻼف ،إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﻣﺪرﺳﺔ »ﺗﺴﻤﻦ رﻳﺶ ﻛﺎﻟﺞ« وﻧﺎﻇﺮﻫﺎ ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﺳﻨﺮﺑﺬروﺑﻨﺮﺟﻲ ﺑﺎﺑﻮ« ،وﻫﻮ زﻋﻴﻢ ﺛﻮرة اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴﺔ وﺻﺎﺣﺐ وﻣﺪﻳﺮ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﺟﺮﻳﺪة »ﺑﻨﻐﺎﱄ أﺧﺒﺎر« اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪر ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ،واملﺪرﺳﺔ اﻷﺧﺮى ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺳﻨﺘﻲ ﻛﺎﻟﺞ« ،وﻧﺎﻇﺮﻫﺎ ﻳُﺪﻋَ ﻰ »ﻫﺮﻧﺒﻮﻣﻴﱰ« وﻫﻮ ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ زﻋﻤﺎء اﻟﺜﻮرة اﻟﺒﻨﻐﺎﻟﻴﺔ، وﻗﺪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻠﺘﻤﺲ اﻟﻌﺬر ﻟﻸﻫﺎﱄ ﰲ ﻋﺪم ﻣﻘﺪرﺗﻬﻢ ﻋﲆ ﺗﺮﻗﻴﺔ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻮﻓﺮ اﻟﻄﺮق املﻮﺻﻠﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﺑﻐري واﺳﻄﺔ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ،وﻛﺄن إﻧﻜﻠﱰا وﻓﺮﻧﺴﺎ ﺗﻌﺎﻫﺪﺗﺎ ﻋﲆ إﻣﺎﺗﺔ اﻷﻣﺘني اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ واﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﻣﻴﺘﺔ أدﺑﻴﺔ ﻟﻠﻐﺮض املﺘﻘﺪم. ﻫﺬا وإن ﻫﺬه اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻬﻀﻬﺎ اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﱢ ﺗﺒﴩ ﺑﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﺣﺴﻦ زاﻫﺮ رﻏﻢ اﻟﻌﻮارض اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وذﻟﻚ راﺟﻊ إﱃ ﺷﻌﻮر اﻟﺬﻳﻦ 156
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻧﺒﻐﻮا وﺗﻌ ﱠﻠﻤﻮا ﰲ ﻣﺪارس إﻧﻜﻠﱰا وﻋﺮﻓﻮا ﻣﻘﺪار ﺣﺎﺟﺔ اﻟﺒﻼد إﱃ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺬي ﻣﻦ وراﺋﻪ اﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ وﺳﻌﺎدﺗﻬﺎ ،وﻫﻢ وإن ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻼﻗﻮن ﻣﺎ ﻳﻼﻗﻮن ﻣﻤﻦ ﻳﺘﻤﻠﻘﻮن إﱃ رﺟﺎل اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ وﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﻤﺎ ﻳﻮاﻓﻖ أﻏﺮاﺿﻬﻢ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺗﻤﺴﻜﻮا ﺑﻌﺮى اﻟﺼﱪ واﻟﺠﺪ ،وﻣﻦ ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳُﺤ َﺮم ﻣﻦ ﺛﻤﺮ اﺟﺘﻬﺎده وﻟﻜ ﱢﻞ ﻣﺠﺘﻬﺪ ﻧﺼﻴﺐ. ) (84ﺷﻌﻮر ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻟﻬﻨﺪ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻟﻌﻈﻤﻰ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺴﻠﻢ ﰲ اﻷرض وﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﻣﺜﻘﺎل ذر ٍة ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﱠإﻻ وﻋﻨﺪه ﺷﻌﻮر ﺣﻲ واﻧﻌﻄﺎف ﻧﺤﻮ ﻋﺮش اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ؛ ﻷن ﺣﺐﱠ املﺴﻠﻤني ﻟﺨﻠﻴﻔﺘﻬﻢ أﻣﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻏﺮﺳﻪ اﻟﺪﻳﻦ ﰲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﺘﻔﺎﺿﻠﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر وﻫﺬا اﻻﻧﻌﻄﺎف ﻗِ ﱠﻠﺔ وﻛﺜﺮة ،وإن ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺎﺿﻞ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﺄﺟﲆ ﻣﻈﺎﻫﺮه ﺑني املﺴﻠﻤني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺤﻜﻤﻬﻢ اﻟﺪول اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ ﻋﻨﻬﻢ دﻳﻨًﺎ ودﻧﻴﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻜﻮﻧﻮن أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﺎﻟﻐﺮﻳﺐ ﻋﻦ وﻃﻨﻪ اﻟﺬي ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻪ ﻋﻘﺒﺎت وﻣﻮاﻧﻊ ﻻ ﻃﺎﻗﺔ ﻟﻪ ﻋﲆ اﺟﺘﻴﺎزﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻪ وﺗﻘﺮ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﻤﻨﻈﺮه وﺗﻨﺘﻌﺶ روﺣﻪ ﺑﻨﺴﻴﻤﻪ وﻃﻴﺐ ﻫﻮاﺋﻪ ،ﻓﻬﻮ أﺑﺪًا ﻳﺤﻦ إﻟﻴﻪ وإن ﻛﺎن ﰲ ﺧﺼﺐ ﻣﻦ اﻷرض وﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻴﺶ ،وﻳﺰداد ﻋﻨﺪه ﻫﺬا اﻟﺤﻨني ﻛﻠﻤﺎ ﺻﺎدف أﻧﻮاع املﺘﺎﻋﺐ ﰲ ﻏﺮﺑﺘﻪ ،وﻫﺬا ﺧري ﻣﺜﺎل ﻟﻠﻤﺴﻠﻢ اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺶ ﺗﺤﺖ ﺳﻠﻄﺔ ﻏري ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ. ﻫﺬا ،وإن ملﺴﻠﻤﻲ اﻟﻬﻨﺪ ﺷﻌﻮ ًرا ﻧﺤﻮ ﻋﺮش اﻹﻣﺎﻣﺔ اﻟﻜﱪى ﻫﻮ أﻛﱪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ أﺷﺪ ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻷرض ﺗﻌ ﱡﻠ ًﻘﺎ ﺑﻬﺬا املﻘﺎم ،وﻗﺪ ﻇﻬﺮ أﺛﺮ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﻠﻖ ﰲ ﻇﺮوف أﺣﻮال ﻟﻴﺲ اﻟﻌﻬﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺒﻌﻴﺪ. ﻓﻤﻨﻬﺎ اﻛﺘﺘﺎﺑﻬﻢ ﺑﺎملﺒﺎﻟﻎ اﻟﻮاﻓﺮة ﻟﺴﻜﺔ ﺣﺪﻳﺪ اﻟﺤﺠﺎز ،واﺣﺘﻔﺎﻻﺗﻬﻢ اﻟﺒﺎﻫﺮة ﻟﻬﺬا اﻟﻐﺮض وإﻟﻘﺎء اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺤﻤﺎﺳﻴﺔ ﺣﺜٍّﺎ ﻋﲆ اﻻﻛﺘﺘﺎب ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﺟﻌﻠﻮا ً ﺻﻨﺪوﻗﺎ ﺗُ َ ﻮﺿﻊ ﻓﻴﻪ اﻹﻋﺎﻧﺎت ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﺟﻌﻠﻮا ﻟﻬﺎ ﺟﺒﺎة ﺧﺼﻮﺻﻴني ،ﻛﻤﺎ أن ﻟﻜ ﱢﻞ ﺣﺎرة اﻷﻏﻨﻴﺎء ﺟﺎد ﻛ ﱡﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳَﺠُ ْﺪ ﺑﻪ أﺣﺪ ﻣﻦ أﻏﻨﻴﺎء املﺴﻠﻤني ﻣﻦ اﻷﻗﻄﺎر اﻷﺧﺮى، وﻗﺪ ذﻛﺮت ﰲ ﺟﺮﻳﺪﺗﻲ »اﻹرﺷﺎد« أﺧﺒﺎر اﻻﺣﺘﻔﺎﻻت وﻧ َ ﱠ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُ َﻠﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﺺ ِ واملﺒﺎﻟﻎ اﻟﺘﻲ ﺟﺎد ﺑﻬﺎ املﻮﴎون وأرﺑﺎب اﻟﻐرية ﻣﻨﻬﻢ. وﻣﻨﻬﺎ إﻇﻬﺎرﻫﻢ اﻻﺳﺘﻴﺎء املﺘﻨﺎﻫﻲ إﺑﱠﺎن ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻌﻘﺒﺔ ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﺑﻌﺜﻮا ﺑﺘﻠﻐﺮاف إﱃ ُﻈﻬﺮون ﺑﻪ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﺧﺎﻟﺞ أﻓﺌﺪﺗﻬﻢ ﰲ ﺗﺤﺎﻣُﻞ إﻧﻜﻠﱰا ﻋﲆ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﱪملﺎن اﻹﻧﻜﻠﻴﺰي ﻳ ِ اﻟﻌﻠﻴﺔ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﺑﺎﻗﻲ املﺴﻠﻤني. 157
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وﺑﻤﺎ أن اﻟﻜﱪاء ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ ﻫﻢ ﻣﺜﺎل ﻟﻜ ﱢﻞ اﻷﻓﺮاد املﻜﻮﱠن ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،ﻓﺈﻧﻲ أذﻛﺮ ﻫﻨﺎ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﺎﺿﻞ اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ دﻋﺎة ﻫﺬا اﻻﻧﻌﻄﺎف اﻟﺴﺎﻣﻲ ﻏري ﻣ ﱢ ُﻔﻀ ٍﻞ واﺣﺪًا ﻋﲆ اﻵﺧﺮ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻓﻴﻪ ﻛﺎﻟﺤﻠﻘﺔ املﻔ ﱠﺮﻏﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳُﻌ َﻠﻢ ﻃﺮﻓﺎﻫﺎ ،وﻫﻢ ﺣﴬات اﻷﻓﺎﺿﻞ :املﻮﻟﻮي ﴍف اﻟﺪﻳﻦ اﻟﻘﺎﴈ ﰲ ﻣﺤﻜﻤﺔ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ ا ُمل ﱠ ﻌﱪ ﻋﻨﻬﺎ »ﺑﻬﻴﻜﻮت« ،وﺟﻨﺎب اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ اﻟﺒﺎرع ﴍف اﻟﺪﻳﻦ ﻋﻤﺮ ،وﻫﻮ ﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎن املﺘﺨ ﱢﺮﺟني ﻣﻦ ﻣﺪارس ﻟﻮﻧﺪرة ،وﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﰲ اﻟﺬﻛﺎء واﻟﻔﻄﻨﺔ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻳُﻐﺒَﻂ ﻋﻠﻴﻪ ،وﺣﴬة اﻷﺻﻮﱄ املﺘﻔﻨﱢﻦ أﺑﻮ اﻟﺤﺴﻦ ﺧﺎل اﻟﻘﺎﴈ ﰲ ﻣﺤﻜﻤﺔ اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ اﻻﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ ،وﺣﴬة املﻮﻟﻮي ﻋﺒﺪ اﻟﺠﺒﺎر اﻟﺬي ﺧﺪم اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ أﺟ ﱠﻞ ﺧﺪﻣﺔ ،وﺣﴬة املﻔﻀﺎل ﺑﺪر اﻟﺪﻳﻦ ﺣﻴﺪر ،واﻟﺴﻴﺪ زﻫﺮ اﻟﺪﻳﻦ ،واملﻮﻟﻮي ﺷﻤﺲ اﻟﻬﻨﺪي ،وﺣﴬة املﻔﻀﺎل اﻟﺤﺎج ﻧﻮر ﻣﺤﻤﺪ زﻛﺮﻳﺎ زﻋﻴﻢ املﺴﻠﻤني ﺑﺎﻟﻌﺎﺻﻤﺔُ ، وﺧﻠُﻖ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ُﻗ ْﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺷﺌﺖ ﱢ املﺤﻘﻖ املﻮﻟﻮي وﺷﺎء ﻟﻚ املﺪح واﻟﺜﻨﺎء ،وﺣﴬة املﻔﻀﺎل ﺟﻨﺎب ﺷﻤﺲ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻌﻼﻣﺔ أﺣﻤﺪ املﺪرس اﻷول ﺑﺎملﺪرﺳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ،وﺟﻨﺎب اﻟﻔﺎﺿﻞ املﻮﻟﻮي وﻻﻳﺔ ﺣﺴني املﺪرس اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻬﺬه املﺪرﺳﺔ ،وﺣﴬة اﻟﺸﻬﻢ اﻷدﻳﺐ اﻟﺸﻴﺦ ﻋﲇ ﺣﺴﻦ ﺟﻮﻫﺮ ﻣﻦ أﻛﺎﺑﺮ ﺗﺠﺎر اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ً وﻇﺮﻓﺎ وذﻛﺎءً ،وﻟﻪ ﺑﺎ ٌع ﰲ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺒﻠﻴﻎ ﻳﺪل ﻋﲆ ﺳﺒﻘﻪ ﰲ وﻫﻮ وﺣﻴﺪ اﻟﻌﴫ ﰲ ﻛﻠﻜﺘﻪ أدﺑًﺎ ﻫﺬه اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ ،وﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ املﻔﻀﺎل اﻟﻠﻐﻮي اﻟﺸﻬري اﻟﺬي ﺣﺎز ﻋﻠﻮم املﻌﻘﻮل واملﻨﻘﻮل املﻮﻟﻮي ﻋﺒﺪ املﺠﻴﺪ املﺮادﺑﺎدي املﺪرس اﻷول ﺑﺎملﺪرﺳﺔ اﻟﺼﺎﻟﺤﻴﺔ ،وﺣﴬة اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺪﻛﺘﻮر ﻧﻮر ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺸﻨﺪي ﻣﺪرس اﻟﻄﺐ واﻟﺮﻳﺎﺿﺔ ﰲ املﺪرﺳﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﺻﻤﺔ، وﺳﻌﺎدﺗﻠﻮ املﻔﻀﺎل ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻚ اﻟﻌﻤﺮي اﻟﺒريوﻗﻲ اﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ أﻓﻨﺪي رﺷﻴﺪ وﻫﻮ ﻣﻦ أﺷﻬﺮ اﻟﺘﺠﺎر ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ وﻻ ﺑﺄس ﺑﻌﻠﻤﻪ ﰲ اﻟﻔﻘﻪ ،ذو ﻛﺮم ﺑﺎﻫﺮ ،وﺣﻴﺎء ﻛﺎﻣﻞ ،ﻻ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﻠﻐﻮ ،ﺣ ﱡﺮ اﻟﻀﻤري ،وﻫﺆﻻء اﻷﻓﺎﺿﻞ املﺘﻘﺪﻣني ﱠ ﺗﻠﻘﻮا اﻟﻌﻠﻮم واﻵداب ﻋﲆ أﻛﺎﺑﺮ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻬﻨﺪ وﻓﻀﻼﺋﻬﻢ ،ﻋﺪا ﺣﴬﺗﻲ اﻟﻔﺎﺿﻠني اﻟﺸﻴﺦ ﺣﺴﻦ ﺟﻮﻫﺮ ،وﺳﻌﺎدة ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻚ اﻟﻌﻤﺮي؛ ﻓﺈن اﻷول ﱠ ﺗﻠﻘﻰ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ ﻣﻜﺔ املﴩﻓﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﺘﺨﺮﺟﻲ ﻣﺪارس اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺒﻬﺎ وﻳﺘﻔﺎﻧﻰ ﰲ اﻹﺧﻼص إﻟﻴﻬﺎ. وﻛﻠﻬﻢ ﻗﺪ اﺗﻔﻘﺖ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ واﻧﻌﻘﺪت ﺧﻨﺎﴏﻫﻢ ﻋﲆ ﻣﺤﺒﺔ ﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺸﻴﺦ أﺣﻤﺪ ﻣﻮﳻ املﻨﻮﰲ وإﺟﻼﻟﻪ واﺣﱰاﻣﻪ ،ﻧﻔﻊ ﷲ ﺑﻬﻢ اﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ واﻟﺸﺒﻴﺒﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ.
158
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
) (85اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ إذا ﺑﺤﺜﻨﺎ ﺑﺤﺚ املﺪﻗﻖ ﰲ أﺣﻮال وأﻃﻮار اﻷﻣﻢ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻧﺠﺪ أن اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﺜﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻷﺣﺰاب اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ أو ﻣﺎ ﺷﺎﻛﻠﻬﺎ ﰲ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟﻌﻮاﺋﺪ املﺬﻫﺒﻴﺔ ،ﺗﻜﻮن اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻓﻴﻬﺎ راﺋﺠﺔ ،وﻣﺜﺎﻟﻨﺎ ﻋﲆ ﻫﺬا رواج اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ اﻷﻣﻢ اﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬاﺗﻲ أو املﺠﺎﻟﺲ اﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ أﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻣﺔ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ،ﻓﺈن اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻜﻮن ﺑﻄﻴﺌﺔ اﻟﱰﻗﻲ، وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ أو ﻳﻜﻮن ﺗﺮﻗﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﺜﺮة اﻟﻌﺪد ﻻ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺄﺛري. وﻗﺪ ﺗﻮﺟﺪ ﻫﺬه اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺒﺎﻋﺜﺔ ﻋﲆ ﱢ ﺗﺮﻗﻲ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﰲ أﻣﺔ ﻟﻢ ﺗﺒﻠﻎ ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﰲ اﻟﺮﻗﻲ اﻟﻌﻠﻤﻲ ،ﻓﻴﻜﻮن اﻟﺘﺄﺛري ﺑﻨﺴﺒﺔ ﻫﺬا اﻟﺮﻗﻲ اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻷدﺑﻲ وﻫﻮ اﻟﺤﺎﺻﻞ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ اﻟﺨﻼف ﺑني أﻫﻞ املﺬاﻫﺐ ﻫﻨﺎك ﻣﻊ وﺟﻮد اﻟﺘﺄﺧﺮ اﻷدﺑﻲ؛ ﻓﻠﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛري ﺑﺤﺴﺐ اﻟﻨﺴﺒﺔ املﺘﻘﺪﻣﺔ؛ إذ ﺗﻮﺟﺪ ﺟﺮاﺋﺪ ﻳﻮﻣﻴﺔ وأﺳﺒﻮﻋﻴﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﺒﻨﻘﺎﻟﻴﺔ واﻟﻠﻐﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻧﺴﺒﺔ ﻋﺪد ﻫﺬه اﻟﺠﺮاﺋﺪ إﱃ ﻋﺪد اﻷﻫﺎﱄ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺟﺪٍّا ،وﻣﻊ ﻫﺬه اﻟﻘﻠﺔ ﻓﺈن ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻣﺎ ﻳﺼﺪره اﻟﺒﻨﻘﺎﻟﻴﻮن وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺮﻣﻲ إﱃ ﻏﺮض واﺣﺪ ﻫﻮ ﺗﻨﻔري اﻷﻫﺎﱄ ﻣﻦ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ وإﻏﺮاء املﺴﻠﻤني إﱃ اﻻﻧﻀﻤﺎم إﻟﻴﻬﻢ، وﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺼﺪره اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺮﻣﻲ إﱃ ﻏﺮض واﺣﺪ وﻫﻮ ﺗﺤﺬﻳﺮ املﺴﻠﻤني وﻧﺼﺤﻬﻢ ﺑﺄن ﻻ ﺗﻐﱰوا ﺑﺄﻗﻮال ﺗﻠﻚ اﻟﺼﺤﻒ ،أﻣﺎ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﺘﻲ ﻟﻠﻤﺴﻠﻤني وﻫﻲ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻓﺨﻄﺘﻬﺎ ﻣﻌﺘﺪﻟﺔ وﻣﻄﺎﻟﺒﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻠﺒﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻫﻲ ﻧﻔﺲ املﻄﺎﻟﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ أﻣﺔ ﺷﻌﺮت ﺑﺤﺎﺟﺘﻬﺎ إﱃ اﻟﱰﻗﻲ اﻷدﺑﻲ ﻣﻊ اﻻﻋﺘﺪال ﰲ اﻟﻠﻬﺠﺔ واﻟﺘﺰام ﺧﻄﺔ اﻷدب ،وﻗﺪ ﻳﻄﻮل ﺑﻨﺎ املﻘﺎم ﰲ وﺻﻒ ﺧﻄﺔ ﻛ ﱢﻞ ﺟﺮﻳﺪة ﻋﲆ ﺣﺪﺗﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻧﻜﺘﻔﻲ ﺑﺬﻛﺮﻫﺎ ﻣﺠﺮدة ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻼﺣﻈﺔ؛ إذ ﰲ ﻣﺎ أﺟﻤﻠﻨﺎه ﺑﻼغ ﻟﻠﻌﺎﻗﻞ اﻟﺴﻴﺎﳼ. ﻓﻤﻦ أﺷﻬﺮ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻫﻨﺎك ﺟﺮﻳﺪة »أدﻳﱰ ﺑﻨﻘﺎﱄ« ،وﺟﺮﻳﺪة »ﻋﻤﱪﻳﺘﺎﺑﺎزار ﺗﱪﻛﺎ« ،وﺟﺮﻳﺪة »أﻧﺪﻳﻦ ﻣﺮر« ،وﺟﺮﻳﺪة »ﺑﻨﺪاﻣﱰام« ،وﻫﺬه اﻟﺠﺮاﺋﺪ ﻳﻮﻣﻴﺔ وﺗُﺤ ﱠﺮر ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ. وﻣﻦ أﺷﻬﺮ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ؛ أي اﻟﺘﻲ ﻳﺪﻳﺮ ﺳﻴﺎﺳﺘﻬﺎ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﺟﺮﻳﺪة »إﻧﻜﻠﻴﺸﺎن«، وﺟﺮﻳﺪة »اﺳﺘﺒﺘﻤﺎن« ،وﺟﺮﻳﺪة »دﻳﲇ ﻧﻴﻮز« ،وﺟﺮﻳﺪة »إﺛﻴﺎﱄ« ،وﻏري ﻫﺬه اﻟﺠﺮاﺋﺪ ،وﻛﻠﻬﺎ ً ً وﻣﻴﻼ إﱃ املﺴﻠﻤني ﺟﺮﻳﺪة إﻧﻜﻠﻴﺸﺎن. أﻳﻀﺎ ﻳﻮﻣﻴﺔ وأﻋﺪﻟﻬﻢ ﺧﻄﺔ وﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻣﻴﻞ اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ إﱃ املﺴﻠﻤني أن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺗﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﻢ ﻧﻈﺮ اﻻﺣﱰام ﺑﺨﻼف ﻏريﻫﻢ؛ ﻷن ﻫﺬه اﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰﻳﺔ ﻫﻲ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻟﺴﺎن ﺣﺎل اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ. 159
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
وإن ﻧﻈﺮ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ إﱃ املﺴﻠﻤني ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺮ ﻻ ﻳ َ ُﺆﺧﺬ ﻣﻨﻪ أﻧﻬﺎ ﺗﻔﻌﻞ ﻫﺬا ﻋﻦ إﺧﻼص؛ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﻜﻠﻴﺰ ﺗﻘﴤ ﺑﺄن ﻳﺤﱰم املﺮء ﻏريه وﻫﻮ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻷن اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻟﻪ اﻟﺨري ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ أو ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى دوﻟﺔ إﻧﻜﻠﱰا ﺗﺮﻳﺪ ﺑﻬﻢ اﻟﺨري ملﻨﺤﺘﻬﻢ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬاﺗﻲ. أﻣﺎ املﺠﻼت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻓﻼ ﺗﻜﺎد ﺗﺬﻛﺮ ﻫﻨﺎك ﻟﻘﻠﺘﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻻ أﻗﻮل ﻋﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ. ) (86ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺣﻴﺎة اﻟﺸﻴﺦ أﺣﻤﺪ ﻣﻮﳻ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺎﻣﻞ ،واﻷﺳﺘﺎذ اﻟﻔﺎﺿﻞ ،ﺑﺤﺮ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺳﺎﺣﻞ ،وﻃﻮد اﻟﻌﺮﻓﺎن، املﻮﰱ ﻋﲆ ﺟﺒﲇ ﻧﻌﻤﺎن ،رﺿﻊ أﻓﺎوﻳﻖ اﻟﻌﻠﻮم ﺻﺒﻴٍّﺎ ،وﺟﻨﻰ ﺛﻤﺎر اﻵداب ﻓﺘﻴٍّﺎ ،ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ ً ﻓﻀﻼ وأدﺑًﺎ ،واﺗﺨﺬ ﺳﺒﻴﻠﻪ ﰲ ﺑﺤﺮ املﻜﺎرم ﻋﺠﺒًﺎ ،دﻳ ٌﻦ أﺑﻌﺪه ﻋﻦ اﻟﺸﺒﻬﺎت ،وﻃﻬﺎرة ﻗﺪوة ﻧﻔﺲ ﺟﻤﱠ ﻠﺘﻪ ﺑﺄﺟﻤﻞ اﻟﺼﻔﺎت ،وورع ﺣﺎل ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺸﻬﻮات ،وﻋﻠﻢ ﻃﺒﱠﻘﻪ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﺈﺧﻼص ﻧﻴﺔ ،وﺻﺪق ﻃﻮﻳﺔ ،ﻏﻴﻮر ﻋﲆ ﺣﺮﻣﺔ اﻟﺪﻳﻦ ،ﺣﺮﻳﺺ ﻋﲆ ﻣﺼﻠﺤﺔ املﺴﻠﻤني ،إذا ﺗﻜ ﱠﻠﻢ ﻳﺰﻳﱢﻦ ﻛﻼﻣﻪ اﻟﺘﺒﻴﺎن ،وإذا ﺻﻤﺖ ﻛﺎن ﺻﻤﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺎن ،ﻳﻄﺮب ﺳﻤريه ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺴﻤﻊ اﻷﻟﺤﺎن ،أو ﺛﻤﻞ ﺑﺒﻨﺖ أﻟﺤﺎن ،ﻫﻮ اﻟﻨﻮاﳼ ﱠإﻻ أﻧﻪ ﻃﺎﻫﺮ اﻟﺬﻳﻞ ،ﻋﻔﻴﻒ املﻴﻞ ،واﻷﺻﻤﻌﻲ ﰲ اﻟﻨﻮادر املﺴﺘﻈﺮﻓﺔ ،واﻟﻨﻜﺖ املﺴﺘﻄﺮﻓﺔ: ﻋ ﱠﻠ ﻢ اﻟ ﻀ ﺎرﻳ ﺎت ﺑ ﺮ اﻟ ﻨ ﻔ ﺎد
وﺧﻄﻴﺐ ﻟﻮ ﻗﺎم ﺑﻴﻦ وﺣﻮش
ﻫﻮ اﻟﺪرة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﻌ َﺮف ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﱠإﻻ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮرﻫﺎ ﻣﻦ املﺤﺎر وﺧﺮوﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺎع اﻟﺒﺤﺎر ،ﻛﺮﻳﻢ ﻳﺮى اﻟﻨﻴﻞ ﻋﻨﺪ املﻮاﻫﺐ ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﺸﺎرب ،ووﻃﻨﻲ ﻳَﻌُ ﱡﺪ اﺑﻦ وﻃﻨﻪ أﻗﺮب اﻷﻗﺎرب. ﻋﻔﻮف اﻟﻨﻔﺲ ﱠإﻻ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﺎﻟﻲ ﻳ ﻈ ﻦ اﻟ ﻈ ﻦ ﺗ ﻠ ﻔ ﻴ ﻪ ﻳ ﻘ ﻴ ﻨ ﺎ
ﻓ ﺬو ﻃ ﻤ ﻊ ﻋ ﻈ ﻴ ﻢ أﺷ ﻌ ﺒ ﻲ أﻣ ﺎ ﺟ ﺮﺑ ﺖ ﻇ ﻦ اﻷﻟ ﻤ ﻌ ﻲ
160
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻫﻮ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ ﻛﺎﻟﺴﻴﻒ اﻧﺘُ ِﴤ ﻣﻦ اﻟﻐﻤﺪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﺤﻦ إﱃ وﻃﻨﻪ ﺣﻨني اﻟﻔﻨﻴﻖ إﱃ ﻋﻄﻨﻪ ،ﺗﺮﻣﻘﻪ اﻷﺑﺼﺎر ،أﻳﻨﻤﺎ ﺣﻞ وﺳﺎر ،ﺑﺎﻟﺘﺠﻠﺔ واﻻﻋﺘﺒﺎر ،وﻻ ﻏﺮو إذا ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﺗﻘﻲ ،وﺑﺤﺮ ﻋﻠﻢ ﻛﺎﻟﻐﻴﺚ أﻳﻨﻤﺎ وﻗﻊ ﻧﻔﻊ ،وﻣﺠﻤﻞ اﻟﻘﻮل أﻧﻪ ﻃﻮد ﻋﲇﱞ ،وﻧﺠﻢ َﻫﺪِيٌ ،وﻋﻠﻢ ﱞ زاﺧﺮ ،وﺑﺪر ﻓﻀﻞ زا ٍه زاﻫﺮ ،أو ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﺸﺎﻋﺮ: ﻛﺮﻳﻢ ﻣﺘﻰ أﻣﺪَﺣْ ﻪ أﻣﺪَﺣْ ﻪ واﻟﻮرى
ﻣ ﻌ ﻲ وإذا ﻣ ﺎ ﻟ ﻤ ﺘ ﻪ ﻟ ﻤ ﺘ ﻪ وﺣ ﺪي
وإﻧﻲ ﻣﻬﻤﺎ ﺑﺎﻟﻐﺖ ﰲ اﻟﺜﻨﺎء واﻹﻃﺮاء ،واﺳﺘﻌﺮت أﻟﺴﻨﺔ اﻟﺒﻠﻐﺎء ﻓﻼ أﺑﺮح ﻋﻦ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻌﺠﺰ ﻋﻦ إﻳﻔﺎء ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺿﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﻠﻴﻖ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺷﻜﺮه ﻋﲆ ﺣﺴﻦ ﻋﻨﺎﻳﺘﻪ ﺑﻲ ،واﺣﺘﻔﺎﺋﻪ اﻟﻔﺎﺋﻖ ﺑﺼﺪﻳﻖ ﻟﻢ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻪ أﺳﺒﺎب املﻮدة ،ﱠإﻻ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﺨﺎﻃﺒﺔ ﺑﺎملﻜﺎﺗﺒﺔ ﻻ ﺑﺎﻻﺧﺘﺒﺎر واملﻌﺎﻣﻠﺔ ،وﻻ ﺷﻴﺔ ﰲ ﻫﺬه ﻓﺈن اﻟﻘﻠﻮب ﺟﻨﻮد ﻣﺠﻨﺪة ﻣﺎ ﺗﻌﺎرف ﻣﻨﻬﺎ اﺋﺘﻠﻒ، وﻣﺎ ﺗﻨﺎﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ اﺧﺘﻠﻒ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أن ﺗُﺨ َﻠﻖ ﻟﻬﺎ اﻷﺟﺴﺎم. وإﻧﻲ وإن ﻛﻨﺖ ﻋﺎﻳﻨﺖ ﻣﺼﺎﻋﺐ ﰲ رﺣﻠﺘﻲ إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺎن ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﳾء أﺷﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﻟﺪيﱠ ﻣﻦ ﻋﺪم ﻣﺮاﻓﻘﺘﻲ ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺿﻞ؛ ﻷﻧﻪ ﻋﻘﺐ أن ﺧﺎﻃﺒﻨﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ أﻟ ﱠﻢ ﺑﻪ ﻣﺮض ﻋﺎﻗﻪ ﻋﻦ اﻟﺴﻔﺮ ﻛﻤﺎ أﺧﱪ ﺑﻬﺬا واﻋﺘﺬر. وﻟﻜﻦ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺟ ﱠﻞ ﺷﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺮم اﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ اﻟﺜﻮاب إذا ﻋﺰم ﻋﲆ ﻓﻌﻞ اﻟﺨري وﻟﻢ ﺗﺴﺎﻋﺪه املﻘﺎدﻳﺮ ﻋﲆ اﻟﴩوع ﻓﻴﻪ ﻓﻬﻮ ﻣﺸﻜﻮر ﻣﺄﺟﻮر. وﻫﺬا ﻫﻮ ﺗﺎرﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻪ: ﻫﻮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﻮﳻ ﺑﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺑﻦ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ،ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺔ اﻟﻨﺤﻮﻟﺔ املﺸﻬﻮرة ﺑﻤﺪﻳﺮﻳﺔ املﻨﻮﻓﻴﺔُ ،وﻟِﺪ ﺳﻨﺔ ١٢٨٠ﻫ ﰲ ﺑﻠﺪة ﻃﻠﻴﺎ اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ملﺮﻛﺰ أﺷﻤﻮن أﺣﺪ ﻣﺮاﻛﺰ ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ املﻨﻮﻓﻴﺔ، وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺨﺮج ﻣﻦ ﱢ ﺳﻦ املﺮاﻫﻘﺔ ﺣﺘﻰ أﺧﺬ واﻟﺪه ﻳﻌﺘﻨﻲ ﺑﱰﺑﻴﺘﻪ ،ﻓﺄدﺧﻠﻪ ﻣﻜﺘﺐ أﺣﺪ ﻈﺎ ﺟﻴﺪًا ،ﱠ ﻓﻘﻬﺎء اﻟﺒﻠﺪة ﻓﺤﻔﻆ اﻟﻘﺮآن اﻟﴩﻳﻒ ﺣﻔ ً وﺗﻠﻘﻰ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وملﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﺳﻨﱢﻪ وﻫﻮ اﻟﺴﻦ اﻟﺬي ﻳﺆﻫﻠﻪ إﱃ اﺣﺘﻤﺎل آﻻم اﻟﻔﺮﻗﺔ أرﺳﻠﻪ إﱃ اﻷزﻫﺮ املﻌﻤﻮر ﺳﻨﺔ ١٢٩٥ﻫ ،ﻓﺎﻧﻜﺐ ﻋﲆ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﺄﻧﻮاﻋﻬﺎ ﻋﲆ أﻓﻀﻞ املﺸﺎﺋﺦ وأﺟ ﱢﻞ اﻟﻌﻠﻤﺎء، وأﻇﻬﺮ ﺑﺮاﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ،وذﻛﺎءً ﻧﺎد ًرا ،ﺣﺘﻰ أُﻋْ ِﺠﺐ ﺑﻪ ﻛ ﱡﻞ ﻣﻦ ﻻزﻣﻪ ﰲ ﺣﻠﻘﺎت اﻟﺪروس ﻣﻦ اﻟﻄﻠﺒﺔ واملﺪرﺳني ،وﺑﻌﺪ زﻣﻦ ﻓﺎﺟﺄﺗﻪ ﻧﻮاﺋﺐ اﻟﺪﻫﺮ وﺣﻮادث اﻷﻳﺎم ﺑﻤﻮت واﻟﺪه ،ﻓﻤﻜﺚ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ زﻣﻨًﺎ ً ﻗﻠﻴﻼ ﺛﻢ دﻋﺘﻪ ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال إﱃ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة ﻓﺎﺷﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﺳﻨﺔ وﺑﻀﻌﺔ أﺷﻬﺮ ،وﺑﻤﺎ أﻧﻪ أﺣﺮز ﺷﻬﺮة ﰲ أﺛﻨﺎء ﱢ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﺬﻛﺎء وﺳﻌﺔ اﻻﻃﻼع، 161
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﻠﺒﺔ ﺗﻔﺪ إﻟﻴﻪ ﻟﻼﺳﺘﻔﺎدة ﻓﻜﺎن ﻳُﻠﻘﻲ ﻋﺪة دروس ﰲ ﻋﻠﻮم املﻌﻘﻮل واملﻨﻘﻮل ،ﺛﻢ رأى أن اﻟﺘﺠﺎرة ﻗﺪ ﺷﻐﻠﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﱰﻛﻬﺎ إذ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﺷﺘﻐﺎﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﻟﻀﻴﻖ أﺑﻮاب املﻌﺎش. ﺛﻢ ﺑﺪا ﻟﻪ أن ﻳﺘﺠﻮﱠل ﰲ ﺑﻼد اﻟﻘﻄﺮ ﻟﻠﻮﻗﻮف ﻋﲆ أﺣﻮال املﺴﻠﻤني ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﻣﻮر اﻟﺪﻳﻦ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣَ ﻦ ﺣِ ْﺮ َﻓﺘُﻬﻢ إﻓﺎدة اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻦ وﻏري ذﻟﻚ ،ﺷﺄن اﻟﺴﺎﺋﺤني ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﺔ وزﻣﺎن، ووﺟْ ﻬَ ﺘﻪ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﺳﻮان ،وﻋﺮج ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ أﺋﻤﺔ املﺴﻠﻤني ،ﻓﺘﻮﺟﻪ إﱃ اﻟﺼﻌﻴﺪ ﺳﻨﺔ ١٣٠٥ﻫ ِ ً ﺿﻴﻔﺎ ﻛﺮﻳﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻋﲆ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻗﻨﺎ ﻟﺰﻳﺎرة ﴐﻳﺢ وﱄ ﷲ ﺳﻴﺪي ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻴﻢ اﻟﻘﻨﺎﺋﻲ ،وﻧﺰل ﻗﺎﴈ ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ ﻗﻨﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺻﺪاﻗﺔ وﻛﻴﺪة وراﺑﻄﺔ أزﻫﺮﻳﺔ ﻣﺘﻴﻨﺔ، وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺎر ﻣﻊ اﻟﻘﺎﴈ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻮارع إذ رآه ﺑﻌﺾ ﻃﻠﺒﺔ اﻟﻌﻠﻢ وﻛﺎن أوان ﻋﻄﻠﺔ اﻷزﻫﺮ ﻓﺘﻌ ﱠﻠﻘﻮا ﺑﻪ ورﺟﻮه ﰲ إﻗﺮاء ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ ﻓﻠﺒﱠﻰ ﻃﻠﺒﻬﻢ ود ﱠرس اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﻨﺴﻔﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ،وﻗﺪ ُ ﻃﻠِﺐ ﻣﻨﻪ أن ﻳﻘﺮأ ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺐ أﺧﺮى ﻓﺎﻋﺘﺬر ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ ،وملﺎ ﺣﺎن وﻗﺖ ﺷﺎﺋﻘﺎ ً ً ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻠﺒﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻻﺋﻘﺎ ﺑﻌﺎﻟ ٍﻢ ﻓﺎﺿﻞ ﻣﺜﻠﻪ، رﺣﻴﻠﻪ ﻣﻦ ﻗﻨﺎ ُو ﱢد َع وداﻋً ﺎ اﻏﱰﻓﻮا ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﻋﻠﻤﻪ واﺳﺘﻨﺎروا ﺑﻀﻮء ﻓﻬﻤﻪ ،ﻓﻐﺎدر ﻗﻨﺎ واﻟﻘﻠﻮب ﺗﺸﻴﱢﻌﻪ وﻫﻲ آﺳﻔﺔ ﻋﲆ ﻓﺮاﻗﻪ داﻋﻴﺔ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺴﻼﻣﺔ ﰲ اﻟﺤِ ﱢﻞ واﻟﱰﺣﺎل. وﻗﺪ ﻣ ﱠﺮ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻋﲆ ﺑﻠﺪان ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮع اﻹﺟﻼل واﻻﺣﺘﻔﺎل ﻣﻤﻦ ﻋﺮﻓﻮه أﻳﺎم ﻃﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻷزﻫﺮ ،وﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ ﺑﻪ اﻟﺴري إﱃ ﺣﻠﻔﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺛﻮرة اﻟﺪراوﻳﺶ ﰲ إﺑﱠﺎﻧﻬﺎ، وﺗﻮﻗﺪ ﻧرياﻧﻬﺎ ،وﺻﺎدف أن أﺣﺪ ﻛﺒﺎر اﻟﻀﺒﺎط ﰲ اﻟﺠﻴﺶ املﴫي اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻪ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﺻﺤﺒﺔ ،ﻛﺎن ﰲ ﺣﻠﻔﺎ ﻓﺎﺣﺘﻔﻞ ﺑﻪ وأﻛﺮم ﻧﺰوﻟﻪ ،وﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ أن ﻳُﻠﻘﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﺪروس املﻔﻴﺪة ﻋﲆ أﺋﻤﺔ اﻟﺠﻨﺪ ،ﻓﻔﻌﻞ ذﻟﻚ وﻛﺎن ﻣﺎ أﻟﻘﺎه ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﺬﻛﺮ اﻟﺤﻜﻴﻢ ،وﻛﺎن ﺑﻮدﱢه أن ﻳﺘﺠﻮﱠل ﰲ ﺑﻼد اﻟﺴﻮدان ،ﻓﻠﻢ ﻳﻮاﻓﻘﻪ ذﻟﻚ اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻷﺳﺒﺎب ﻻ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ذﻛﺮﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﻓﻌﺪل ﻋﻦ ﻋﺰﻣﻪ ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﺗﻮﺟﻬﺖ رﻏﺒﺘﻪ إﱃ اﻟﺴﻔﺮ إﱃ ﺑﻼد اﻟﺤﺠﺎز ﻷداء ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﺤﺞ وزﻳﺎرة ﻗﱪ ﺧري اﻷﻧﺎم ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم ،وﻛﺎﺷﻒ ﺻﺪﻳﻘﻪ اﻟﻀﺎﺑﻂ ﺑﺮﻏﺒﺘﻪ ﻓﺄﻋ ﱠﺪ ﻟﻪ ذﻫﺒﻴﺔ ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻠﺰم ﻣﻦ ﻣﻌﺪات اﻟﺴﻔﺮ ،وﻛﺎن ﻋﺰم ﻓﻀﻴﻠﺘﻪ أن ﻳﺴﺎﻓﺮ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ ُ اﻟﻘﺼري، ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﻪ ذﻟﻚ ﺛﻢ ُو ﱢد َع ﺑﺎﺣﺘﻔﺎل ﻣﻦ أﻫﻞ ﺣﻠﻔﺎ ﻻ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ وﺻﻒ اﻟﺒﻠﻴﻎ، اﻟﻀﺎﺑﻂ اﻟﻜﺒري وﻛﻞ ﺿﺒﺎط اﻟﺠﻴﺶ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ اﻷﺋﻤﺔ اﻟﺬﻳﻦ أﻓﺎدﻫﻢ ﺑﻌﻠﻤﻪ وﻓﻬﻤﻪ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ ﺳﺎﺋﺮ ﰲ اﻟﻨﻴﻞ ﰲ اﻟﺬﻫﺒﻴﺔ ،ﻋﻠﻢ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ ﻃﻠﺒﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﰲ ﺑﻠﺪة ﻳُﻘﺎل ﻟﻬﺎ ﺣﺠﺎزة ﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ ﻗﻨﺎ اﻟﺘﻲ رﺳﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺬﻫﺒﻴﺔ ،ﻓﻄﻠﺒﻮا ﻣﻨﻪ أن ﻳﻘﺮأ ﻟﻬﻢ ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺐ ﰲ اﻟﻨﺤﻮ واﻟﻔﻘﻪ ،ﻓﺎﻋﺘﺬر ﺑﻌﺰﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺤﺞ ،ﻓﺄﻟﺤﻮا ﻋﻠﻴﻪ وﺗﻮﺳﻠﻮا ﺑﺒﻌﺾ أﻛﺎﺑﺮ اﻟﺒﻠﺪة؛ ﺣﻴﺚ 162
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﺗﻌﻬﺪ ﻟﻪ أﺣﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ ﻣﻌﻪ إﱃ اﻟﺤﺠﺎز ﻟﺘﺄدﻳﺔ اﻟﻔﺮﻳﻀﺔ ﻓﺄﺟﺎب اﻟﻄﻠﺐ ،وﻋﺎدت اﻟﺬﻫﺒﻴﺔ إﱃ ﺣﻠﻔﺎ و َد ﱠر َس ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺐ ﰲ اﻟﻨﺤﻮ واﻟﻔﻘﻪ ﻋﲆ ﻣﺬﻫﺐ اﻹﻣﺎم ﻣﺎﻟﻚ — رﴈ ﷲ ﻋﻨﻪ ً دروﺳﺎ أﺧﺮى ﰲ اﻟﻘﺮآن واﻟﺤﺪﻳﺚ ،وأﻗﺎم ﰲ ﻫﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﻣﺤﱰﻣً ﺎ ﻣﺒﺠﱠ ًﻼ ﻣﻦ — وزادﻫﻢ اﻟﺼﻐري واﻟﻜﺒري ،وملﺎ ﺟﺎء أوان ﺳﻔﺮ اﻟﺤﺞ ﻏﺎدرﻫﺎ ﻗﺎﺻﺪًا اﻟﻘﺼري وذﻟﻚ ﺳﻨﺔ ١٣٠٧ﻫ. وملﺎ وﺻﻞ إﱃ ﺟﺪة أﻗﺎم ﺑﻬﺎ أرﺑﻌﺔ أﻳﺎم ﺛ ﱠﻢ ﺗﻮﺟﱠ ﻪ إﱃ اﻟﺒﻠﺪ اﻷﻣني ،وأدﱠى املﻨﺎﺳﻚ وﻗﺼﺪ املﺪﻳﻨﺔ املﻨﻮرة ،وزار ﻗﱪ املﺼﻄﻔﻰ ﻋﻠﻴﻪ أﻓﻀﻞ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم ،وﻫﻨﺎك ﺣﺼﻞ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﻓﻀﻴﻠﺔ اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺘﻘﻲ اﻟﻨﻘﻲ اﻟﺸﻴﺦ ﺳﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﲇ اﻟﺴﻨﻮﳼ اﻟﺸﻬري ﺷﻴﺦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﻨﻮﺳﻴﺔ ﺗﻌﺎرف وﻣﻮدة ،ﻓﺄﻗﺎم ﺗﺴﻌﺔ أﺷﻬﺮ وﻫﻮ ﻳﺰاول ﻣﻄﺎﻟﻌﺔ اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻊ ﺻﺪﻳﻘﻪ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ املﺬﻛﻮر وﻳﻔﻴﺪ املﺴﻠﻤني ﰲ ﻛ ﱢﻞ أﻣﻮر اﻟﺪﻳﻦ ،وﻗﺪ أﺟﺎزه اﻟﺸﻴﺦ اﻟﺴﻨﻮﳼ ﺑﻘﺮاءة ﻛ ﱢﻞ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻓﻦ ،ملﺎ رآه ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﻜﻔﺎءة واﻷﻫﻠﻴﺔ ،ﺛﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﺎد إﱃ ﻣﻜﺔ، ﻻﻧﺤﺮاف ﺻﺤﺘﻪ وﻛﺎن ﻗﺪ ﺳﺒﻖ ﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﺗﻌﺎرف ﻣﻊ اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﺎﻟﺢ ً ﺿﻴﻔﺎ ﻛﺮﻳﻤً ﺎ ،وﰲ أﺛﻨﺎء إﻗﺎﻣﺘﻪ ﺑﻤﻜﺔ ﺻﻬﺮ اﻟﺸﻴﺦ إﺑﺮاﻫﻴﻢ اﻟﺮﺷﻴﺪي املﺸﻬﻮر ﻓﻨﺰل ﻋﻨﺪه ﻋﺮف ﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺪراﻛﺔ اﻟﺸﻴﺦ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ اﻟﻐﺮاب ﻓﻼزﻣﻪ ﺳﻨﺔ ،وﻫﻤﺎ ﻳﻄﺎﻟﻌﺎن ﻛﺘﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﺛﻢ ﻏﺎدر ﻣﻜﺔ ﻗﺎﺻﺪًا ﺑﻠﺪة املﺮوﻋﺔ ﺑﺒﻼد اﻟﻴﻤﻦ؛ ﺣﻴﺚ اﺗﺼﻞ ﺑﻪ أﻧﻬﺎ ﺑﻠﺪة ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﻠﻤﺎء اﻷﺟﻼء ،ﻓﻮﺻﻠﻬﺎ ﰲ املﺤﺮم ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ١٣٠٩ﻫ وﻫﻨﺎك ﻋﺮف ﻛﺜريًا ﻣﻦ أﻓﺎﺿﻞ اﻟﻌﻠﻤﺎء وﰲ ﻣﻘﺪﻣﺘﻬﻢ ﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺒﺎري ﺷﻴﺦ املﺪرﺳني، وﺣﴬة اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻄﺎﻫﺮ ﻣﻔﺘﻲ اﻟﺒﻠﺪة. ﺛﻢ أراد اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﺑﻼد اﻟﻬﻨﺪ ﻓﺮﺣﻞ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻷﻋﺮاب ﰲ ﻗﺎﻓﻠﺔ ﻋﺎﻧﻰ ﻣﻌﻬﻢ ﺑﻌﺾ وﻋﺜﺎء اﻟﺴﻔﺮ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﺪ أن وﺻﻞ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ اﺧﺘﺎر أن ﻳﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺼني ،وأﺧﺬ ﻳﺠﻮب ﰲ ﻫﺎﺗﻴﻚ اﻷﺻﻘﺎع وﻛﻠﻤﺎ ﺳﻤﻊ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺑﻠﺪة رﺣﻞ إﻟﻴﻪ ،ﻓﺈن وﺟﺪه ﻋﲆ ﻋﻠﻢ أﻗﺎم ﻣﻌﻪ ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ ﻟﻪ أن ﻳﻘﻴﻢ ،وﻗﺪ ﻣ ﱠﺮ ﺑﺒﻼد ﻛﺜرية ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮات إﻧﻜﻠﱰة وﻫﻮﻻﻧﺪة ،وﻋﺮف ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻔﻀﻼء ،وﻗﺪ ﻻﻗﻰ اﺣﺘﻔﺎءً زاﺋﺪًا ﰲ ﺑﻼد اﻟﺼني؛ ﺣﻴﺚ درس ﻋﺪة ﻛﺘﺐ ﰲ املﺬﻫﺐ اﻟﺤﻨﻔﻲ؛ ﻷن أﻫﻞ اﻟﺼني ﻛﻠﻬﻢ ﻣﺘﻤﺬﻫِ ﺒﻮن ﺑﻬﺬا املﺬﻫﺐ وﻓﻀﻴﻠﺘﻪ ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻣﺎﻟﻜﻲ ﻓﺪ ﱠرس ﻟﻬﻢ ﻛﺘﺐ ﻏري ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻓﺄﻓﺎد وأﺟﺎد ،وﰲ أواﺧﺮ ﺳﻨﺔ ١٣١٨ﻫ ﻗﻔﻞ إﱃ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻬﻨﺪ، ﱠ واﻟﺘﻒ ﺣﻮﻟﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻫﻞ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﺘﻘﺮ ﺑﻬﺎ ﻗﺪﻣﻪ ،ﺣﺘﻰ ﻇﻬﺮ ﻓﻀﻠﻪ وﺷﺎع ذﻛﺮه اﻟﻔﻀﻞ واﺣﺘﻔﻮا ﺑﻪ اﺣﺘﻔﺎءً ﺑﺎﻫ ًﺮا ،وأﻟﺤﻮا ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺄن ﻻ ﻳﻐﺎدرﻫﻢ ،ﺑﻞ ﻳﻘﻴﻢ ﻣﻌﻬﻢ ﰲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺑﻼدﻫﻢ ،وﻛﺎن أﻛﺜﺮ اﻟﻘﻮم إﻟﺤﺎﺣً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺤﺎج ﻣﺤﻤﺪ ﻧﻮر زﻛﺮﻳﺎ، وﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء واﻷﻋﻴﺎن وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻜﱪى ﰲ إﺟﺎﺑﺔ ﻣﻠﺘﻤﺴﻬﻢ ﺣﴬة اﻟﻮﺟﻴﻪ 163
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺴﻴﺪ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ اﻟﺰواوي ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺴﻘﻂ اﻟﺘﺎج اﻟﻌﺮﺑﻲ املﺸﻬﻮر ،وﻛﺎن ﻣﻦ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ وأن ﺣﴬات املﺘﻘﺪم ذﻛﺮﻫﻢ ﻣﻦ أﻓﺎﺿﻞ ﻋﻠﻤﺎء أﻋﺰ أﺻﺤﺎﺑﻪ ﻓﻠﻢ ﺗﺴﻌﻪ املﺨﺎﻟﻔﺔ ﻛﻠﻜﺘﻪ ﻋﺮﺿﻮا ﻋﻠﻴﻪ إﻣﺎﻣﺔ املﺴﺠﺪ اﻟﻜﺒري ،وملﺎ أﺟﺎب اﻟﻄﻠﺐ وﻧﺎﻟﻮا ﻣﻨﻪ اﻷرب ،ﻋُ ﱢ َ ني إﻣﺎﻣً ﺎ ﻟﻠﻤﺴﺠﺪ اﻟﺠﺎﻣﻊ ﻣﻦ أول املﺤﺮم ﺳﻨﺔ ،١٣١٩ﺑﻞ ﻋُ ِﻬﺪ إﻟﻴﻪ ﺟﻤﻴﻊ ﺷﺌﻮن املﺴﺠﺪ ﻓﺄﻗﺎم إﱃ ً ﻣﺒﺠﻼ ﻳﺠﻠﻪ اﻷﻣﺮاء وﻳﺤﱰﻣﻪ اﻟﻌﻠﻤﺎء. اﻵن إﻣﺎﻣً ﺎ ﻣﺤﱰﻣً ﺎ ﻋﲆ أن ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻨﺴﻪ وﻃﻨﻪ املﺤﺒﻮب ﻓﻬﻮ ﻳﺤﻦ إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎ ملﻊ ﺑﺎرق وذر ﺷﺎرق ،وﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل: ﺑ ﻼدي وﻛ ﻞ اﻟ ﻌ ﺎﻟ ﻤ ﻴ ﻦ أﻗ ﺎرﺑ ﻲ
إذا ﻛﺎن أﺻﻠﻲ ﻣﻦ ﺗﺮاب ﻓﻜﻠﻬﺎ
) (87ﻛﻠﻤﺔ ﺣﻖ ﻻ ﺑﺄس ﺑﻬﺎ إﱃ ﺳﻤﻮ اﻟﺨﺪﻳﻮي ،إﱃ اﻟﻌﻠﻤﺎء ،إﱃ اﻷﻏﻨﻴﺎء ،إن اﻟﺠﻨﺎب اﻟﺨﺪﻳﻮي ﻫﻮ أﻛﱪ أﻣري ﺑني أﻣﺮاء املﺴﻠﻤني ﺑﻌﺪ ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎن ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﺳﺎﻋﺪ اﻟﺨﻼﻓﺔ اﻷﻳﻤﻦ اﻟﺬي ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ املﻨﺘﴩ ﰲ ﻃﻮل اﻟﺒﻼد وﻋﺮﺿﻬﺎ ﻧﻈﺮ اﻹﺟﻼل واﻻﺣﱰام ،وإن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ ﻣﴫ ﻫﻢ ﻣﻄﻤﺢ أﻧﻈﺎر ﻣﺴﻠﻤﻲ اﻷرض ﻛﺎﻓﺔ؛ ﻷن اﻷزﻫﺮ ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﰲ ﻏري ﻣﻮﺿﻊ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ ﻫﻮ املﻌﻬﺪ اﻟﺪﻳﻨﻲ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺮﺳﻞ أﺷﻌﺔ اﻟﻌﻠﻢ إﱃ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺠﻬﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻄﻨﻬﺎ املﺴﻠﻤﻮن، وإن اﻷﻣﺔ املﴫﻳﺔ ﻫﻲ اﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺎﻓﻈﺖ ﻋﲆ اﻟﺒﻘﻴﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻣﻦ أﺧﻼق ،وﻋﻮاﺋﺪ ،وﻟﻐﺔ اﻟﻌﺮب ،اﻟﺬي ﻧﺸﺄ اﻟﺪﻳﻦ ﰲ رﺑﻮﻋﻬﻢ ،ﻓﻜ ﱡﻞ أﻣﺮ ﻳﻬﻢ اﻹﺳﻼم واملﺴﻠﻤني ﻳﻬﻢ اﻟﺠﻨﺎب اﻟﺨﺪﻳﻮي واﻟﻌﻠﻤﺎء واﻷﻣﺔ املﴫﻳﺔ ﺑﻨﻮع ﺧﺼﻮﴆ ﻟﻬﺬا اﻻﻋﺘﺒﺎر. وﻻ ﺷﻚ أن ﻋﻘﺪ املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﰲ ﺑﻼد اﻟﺸﻤﺲ املﴩﻗﺔ ﻫﻮ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر ذوات اﻟﺒﺎل اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄن املﺴﻠﻤني أن ﻳﺠﻌﻠﻮﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن ،واﻟﺬي ﻳﺬﻫﺐ إﱃ ﻫﺎﺗﻴﻚ اﻟﺒﻼد وﻳﺸﺎﻫﺪ اﻟﺒﻌﺜﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻷﺧﺮى املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻳﻨﻈﺮ إﱃ آﺛﺎر أﻋﻤﺎﻟﻬﺎ ﻳﺄﺳﻒ ﻛ ﱠﻞ اﻷﺳﻒ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺮى ﻣﺒﻠﻎ اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﺎ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،ﺣﺘﻰ إن املﺒﴩﻳﻦ ﻳُﻌَ ﺪون ﺑﺎملﺌﺎت ،وﻻ ﻳُ َﺮى ﻣﻦ ﻳﺒﴩ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﱠإﻻ ﻧﻔﺮ ﻳُﻌَ ﺪون ﻋﲆ اﻷﻧﺎﻣﻞ وﻻ ﻳﺘﺠﺎوزون ﺣﺮﻛﺎت اﻟﻌﻮاﻣﻞ، ﻓﻤﻦ ﻟﻨﺎ ﺑﻤﻦ ﻳﻀ ﱡﻢ ﺻﻮﺗﻪ إﱃ ﺻﻮﺗﻨﺎ ﻣﺨﺎﻃﺒًﺎ ً أوﻻ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري ﺑﻘﻮﻟﻪ :ﻳﺎ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري، إن ﷲ — ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﱃ — ﻗﺪ وﻫﺒﻚ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻰ واﻟﺜﺮوة ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻬﺒْﻪ ﻟﺴﻮاك ﻣﻦ أﻣﺮاء 164
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ً ﻣﺤﺴﻮﺳﺎ ،ﻓﻬﻞ ﻟﻚ ﰲ أن ﺗﺆدي إﱃ املﺴﻠﻤني ،وﻫﺬه اﻷوﻗﺎف ﻳﻨﻤﻮ إﻳﺮادﻫﺎ ﻛ ﱠﻞ ﺳﻨﺔ ﻧﻤﻮٍّا اﻟﺪﻳﻦ ﺧﺪﻣﺔ ﺗﺮﻓﻊ ﻣﻦ ذﻛﺮك ﰲ املﻸ اﻷﻋﲆ وﺗﺤ ﱢﺮك ﻟﺴﺎن ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﺑﺎﻟﺜﻨﺎء ﻋﻠﻴﻚ؟ وﻫﻲ ﻣﻤﻜﻨﺔ ﻟﺪﻳﻚ ﺳﻬﻠﺔ ﻋﻠﻴﻚ أﻻ وﻫﻲ اﻟﺠﻮد ﺑﺠﺰء ﻳﺴري ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻐﻠﻪ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻋﺎم ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﻧﴩ ﻟﻮاء اﻹﺳﻼم ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن؛ إذ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﺑﻪ ﺑﻌﺜﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﺗﺮﺳﻠﻬﺎ ﻟﻠﺘﺒﺸري ﺑﻪ وﻫﺪاﻳﺔ اﻟﻘﻮم إﻟﻴﻪ ،ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻳﺎ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري :إن اﻟﻨﺎس ﻋﲆ دﻳﻦ ﻣﻠﻮﻛﻬﻢ ،وﻻ ﺷﻚ أﻧﻚ إذا ﺻﻨﻌﺖ ﻫﺬا اﻗﺘﺪى ﺑﻚ أﻏﻨﻴﺎء اﻷﻣﺔ ،اﻟﺘﻲ أﻧﺖ ﻣﻤﺜﱢﻞ ﻟﻬﺎ وﻗﺎﺋﺪ زﻣﺎﻣﻬﺎ ،ﻓﺘﺆﻟﻒ ﺑﺪل اﻟﺒﻌﺜﺔ ﺑﻌﺜﺎت ﻻ ﺳﻴﻤﺎ وأن إﻇﻬﺎرك اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﻳﺒﻌﺚ ﰲ اﻟﻨﻔﻮس اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن واﺳﺘﺴﻬﺎﻟﻬﺎ ﻛ ﱠﻞ ﺻﻌﺐ ﻳﺼﺎدﻓﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ. ﻳﻘﻮل اﻟﺸﺎﻋﺮ ﻳﺎ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري: ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻤﻐﺒﻮن ﺣ ٍّ ﻈﺎ إﻧ ﻤ ﺎ ﻳ ﺪﺧ ﺮ اﻟ ﻤ ﺎ
ﻣﻦ ﺷﺮى ﻋ ٍّﺰا ﺑﻤﺎل ل ﻟ ﺤ ﺎﺟ ﺎت اﻟﺮﺟ ﺎل
وأي ﻋ ﱟﺰ ،وأي ﴍف ،وأي ﻓﺨﺮ ﺑﻌﺪ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي أوﱃ ﺑﺄن ﻳُﺒﺬَل ﰲ ﺳﺒﻴﻠﻪ املﺎل اﻟﻄﺎرف واﻟﺘﺎﻟﺪ. ﻳﻘﻮل ﷲ ﺗﻌﺎﱃ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﻌﺰﻳﺰ﴿ :إ ِ ْن ﺗُ ْﻘ ِﺮ ُ ﺿﻮا ﷲ ﱠَ َﻗ ْﺮ ً ﺿﺎ ﺣَ َﺴﻨًﺎ ﻳ َُﻀﺎﻋِ ْﻔ ُﻪ َﻟ ُﻜﻢْ﴾، ﻓﺄﻳﻘﻦ ،وﻻ ﻧﺨﺎﻟﻚ ﱠإﻻ ﻣﻮﻗﻨًﺎ ،أﻧﻚ إذا ﴏﻓﺖ درﻫﻤً ﺎ واﺣﺪًا أو دﻳﻨﺎ ًرا واﺣﺪًا ﺗﺮﺑﺢ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻪ ﻋﴩة أﺿﻌﺎﻓﻪ ،ﺑﻞ أزﻳﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،وﷲ ﻻ ﻳﻀﻴﻊ أﺟﺮ ﻣﻦ أﺣﺴﻦ ً ﻋﻤﻼ ،إن ﻫﺬا اﻟﺼﻮت اﻟﺬي ﻳﻨﺎدﻳﻚ ﻳﺎ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري ﻟﻴﺲ ﺻﺎد ًرا ﻣﻦ أﺣﺪ اﻷﻓﺮاد اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺠﻤﻌﻬﻢ ﺑﻚ ﺟﺎﻣﻌﺔ اﻟﺪﻳﻦ ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﺻﻮت ﻛ ﱢﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﻋﺮف ﻣﺮﻛﺰك وأﺣﺎط ﻋﻠﻤً ﺎ ﺑﻜﻨﻪ ﻣﻨﺰﻟﺘﻚ ﺑني املﺴﻠﻤني، ﻓﺈن أﺟﺒﺖ اﻟﺪاﻋﻲ وﺳﻌﻴﺖ ﺧري املﺴﺎﻋﻲ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺣﻘﻘﺖ آﻣﺎل املﺴﻠﻤني ﻓﻴﻚ ،ورﺑﺤﺖ ﺛﻨﺎءﻫﻢ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻟﺜﻮاب اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺬي ﺗﻨﺎﻟﻪ ﻣﻦ ربﱢ ﻫﺬا ﻋﻠﻴﻚ ودﻋﺎﺋﻬﻢ ﻟﻚ ﺑﺎﻟﺮﺷﺪ واﻟﺴﺪاد ،ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ اﻟﻘﻮﻳﻢ. إن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻳﺎ ﺳﻤﻮ اﻷﻣري ﻟﻴﺲ ﻟﻪ أدﻧﻰ ﺗﻌ ﱡﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وﻻ ﺑﺸﺌﻮن اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﻳُﻘﺎل إن ﻇﺮوف اﻷﺣﻮال ﺗﺤﻮل ﺑني ﺳﻤﻮﻛﻢ وﺑني اﻛﺘﺴﺎب ﻫﺬه املﻜ ُﺮﻣﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻮ أﻣﺮ دﻳﻨﻲ ﻣﺤﺾ ﻻ ﻳﻌﺎرﺿﻚ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺎرض ،وﻻ ﻳﻨﺎزﻋﻚ ﻓﻴﻪ ﻣﻨﺎزع ،وﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻜﺎن ﻟﻠﺒﻌﺜﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﺻﻔﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وﻫﻮ ﺑﺨﻼف اﻟﻮاﻗﻊ.
165
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
إﱃ اﻟﻌﻠﻤﺎء وأﻧﺘﻢ أﻳﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﺎء ،وﻳﺎ ورﺛﺔ اﻷﻧﺒﻴﺎء ،وﻳﺎ ﻣﻦ ﻫﻢ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻨﺠﻮم ﰲ ﻫﺪاﻳﺔ اﻷﻣﺔ ،ﺑﻞ وﻳﺎ ﻗﺎدﺗﻬﺎ إﱃ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺨريات ﻛﻴﻒ ﺗﻘﺎﻋﺪﺗﻢ ،وﺗﻜﺎﺳﻠﺘﻢ ،وأﺣﺠﻤﺘﻢ ﻋﻦ أداء ﻫﺬا اﻟﻮاﺟﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ؟! أﻟﺴﺘﻢ ﻛﻬﺆﻻء ﱢ املﺒﴩﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺧﺮﺟﻮا ﻣﻦ دﻳﺎرﻫﻢ ،وﻓﺎرﻗﻮا أﻫﻠﻬﻢ ،وﻋﺸريﺗﻬﻢ ،وﺟﺎﺑﻮا اﻟﻘﻔﺎر ،وﻗﻄﻌﻮا ﻋﺮض اﻟﺒﺤﺎر ﺗﺎر ًة ﻳﻠﻔﺤﻬﻢ اﻟﻬﺠري ،وأﺧﺮى ﻳﴬﻫﻢ اﻟﺰﻣﻬﺮﻳﺮ؟ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ْ ﻧﴩ دﻳﻨﻬﻢ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻼد ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻫﺎﺑﻬﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻤﺠﺮد ﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﻌﻘﺪ املﺆﺗﻤﺮ، وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻗﺒﻞ ﻫﺬا ﺑﺄﻋﻮامُ ، أﻫ ْﻢ ُﺧﻠِﻘﻮا ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺪ ﺣﺘﻰ ﺗﻜﻮن ﻗﻮاﻫﻢ ﻓﻮق ﻗﻮى اﻟﺒﴩ ﰲ ً اﺣﺘﻤﺎل ﻣﺸﺎق اﻟﺴﻔﺮ أم دﻳﻨﻬﻢ أوﺿﺢ ﻣﻦ دﻳﻨﻜﻢ ﺣُ ﺠﺔ وأﻗﻮى ﻣﺤﺠﺔ؟ أم ذﻫﺒﻮا ﺑﺪﻋﻮة ﺧﺼﻮﺻﻴﺔ دون ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻨﺎس؟ ﻟﻴﺲ ﻫﺬا وﻻ ذاك ،وإﻧﻤﺎ اﻟﻬﻤﻢ ﺗﺘﻔﺎوت واﻟﻌﺰاﺋﻢ ﺗﺘﺒﺎرى واﻟﻮاﺟﺒﺎت ﺻﺎدﻓﺖ ﻣﻦ ﻳﺆدﱢﻳﻬﺎ وﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ. ﺗﻤﺤﻠﻨﺎ ﻟﻜﻢ اﺳﻢ اﻟﻌﺬر ﻣﻦ ﺳﻜﻮﺗﻜﻢ ﻋﻦ ﻣﺤﻮ ﻫﺬه اﻟﺒﺪع اﻟﺘﻲ ﻓﺸﺖ واﻧﺘﴩت ﰲ اﻟﺒﻼد ،وﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺟ ﱠﺮاﺋﻬﺎ اﻟﻔﺴﺎد ،وﺣ ﱠ ﻄﺖ ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺔ اﻟﺪﻳﻦ ،وﻗﻠﻨﺎ إن اﻟﺬﻧﺐ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ أﺑﺎﺣﺖ ﻓﺘﺢ ﺑﻴﻮت املﻮﻣﺴﺎت اﻟﻌﺎﻫﺮات ،وﺳﻬﱠ ﻠﺖ ﻟﻠﺸﺒﺎن اﻟﺪﺧﻮل ﰲ اﻟﺤﺎﻧﺎت ،وﻣﻐﺎزﻟﺔ اﻟﻐﺎﻧﻴﺎت اﻟﺮاﻗﺼﺎت ﺟﻬﺎ ًرا ﺑﻼ ﺧﻔﺎء وﻻ اﺳﺘﺤﻴﺎء ،ﻓﻘﻮﻟﻮا ﻟﻨﺎ — ﻳﺮﻋﺎﻛﻢ ﷲ — ﻣﺎ ﻋﺬرﻛﻢ ﰲ ﻋﺪم ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻟﺠﻨﺔ ﻣﻨﻜﻢ ﺗﺬﻫﺐ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن أو اﻟﺼني ﻟﻠﺪﻋﻮة إﱃ اﻹﺳﻼم؟ ﻗﻮﻟﻮا ﻟﻨﺎ وﻗﻮﻟﻜﻢ اﻟﺤﻖ وأﺻﺪﻗﻮﻧﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ وأﻧﺘﻢ أﻫﻞ اﻟﺼﺪق ،أﺗُﺆ ﱠﻟﻒ اﻟﻠﺠﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎﴎة واﻟﺘﺠﺎر؟ أم ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﺑﻨﱠﺎءٍ وﻧﺠﺎر؟ أم ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪﻟﻴني واملﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴني؟ وأﻧﺘﻢ ﺑني ﺟﺪران اﻷزﻫﺮ ﺗﺘﻠﻮن اﻟﻜﺘﺎب ،ﻛﺘﺎب ﷲ ،وﺗﻔﴪون ﻣﻌﻨﺎه ،وﺗﺪرﺳﻮن ﺣﺪﻳﺚ اﻟﺮﺳﻮل وﻋﻠﻮم املﻌﻘﻮل واملﻨﻘﻮل ،وﺗُ ﱠﻠﻘﺒﻮن ﺑﺎﻷﻟﻘﺎب اﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻣﺎ ﺑني ﱠ اﻟﻌﻼﻣﺔ وﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ. إن وﻇﻴﻔﺘﻜﻢ ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺰي واﻟﻠﺒﺎس ،وﻟﻴﺴﺖ ﻗﺎﴏة ﻋﲆ ﺣﻤﻞ اﻟﻜﺮاس ،ﺑﻞ وﻇﻴﻔﺘﻜﻢ ﺗﺄﻳﻴﺪ اﻟﺪﻳﻦ ،ورﻋﺎﻳﺔ ﺷﺄن املﺴﻠﻤني ،ﻓﺎﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻹﺳﻼم أوﱃ ﻣﻨﻜﻢ ﺑﺎﻻﻫﺘﻤﺎم ،أﻟﻢ ﺗﻔﻬﻤﻮا ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻮل ﺳﻴﺪ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت» :إﻧﻤﺎ اﻷﻋﻤﺎل ﺑﺎﻟﻨﻴﺎت «.أﻟﻢ ﺗﻘﺮءوا ﰲ اﻟﻜﺘﺎب املﺒني ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﱃ: ﷲ ﻳ َِﺠ ْﺪ ِﰲ ْاﻷ َ ْر ِض ُﻣ َﺮ َ ﻴﻞ ِ اﻏﻤً ﺎ َﻛ ِﺜريًا و ََﺳﻌَ ًﺔ وَﻣَ ْﻦ ﻳ َْﺨ ُﺮجْ ِﻣ ْﻦ ﺑَﻴْﺘ ِِﻪ ﺎﺟ ْﺮ ِﰲ َﺳ ِﺒ ِ ﴿وَﻣَ ْﻦ ﻳُﻬَ ِ ﷲ َو َر ُﺳﻮﻟِ ِﻪ ﺛ ُ ﱠﻢ ﻳُﺪ ِْر ْﻛ ُﻪ ا ْﻟﻤَ ﻮ ُ ﺎﺟ ًﺮا إ ِ َﱃ ِ ْت َﻓ َﻘ ْﺪ و ََﻗ َﻊ أَﺟْ ُﺮ ُه ﻋَ َﲆ ﷲِ﴾؟ ﻣُﻬَ ِ أﺗُ َﺮى ﻟﻮ ﻋُ ﻘِ ﺪ ﻫﺬا املﺆﺗﻤﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﰲ ﻋﴫ اﻟﺨﻠﻔﺎء اﻟﺮاﺷﺪﻳﻦ ،أو ﰲ دوﻟﺔ اﻷﻣﻮﻳني واﻟﻌﺒﺎﺳﻴني ،أﻛﺎن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر ﻳﻌﱰﻳﻬﻢ ﻗﺼﻮر أو ﺗﻘﺼري ﻋﻦ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﺑﻼد ً ﺧﺼﻮﺻﺎ وأن ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻗﺪ ﺳﻬﻠﺖ اﻟﻴﺎﺑﺎن؟ أم ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺬﻫﺒﻮن إﻟﻴﻬﺎ ﺳﻌﻴًﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﺪام؟ 166
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻴﻪ أﺳﺒﺎب اﻟﺴﻔﺮ ،ﻓﻘﻄﺎر ﺳﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪ ،ﻳﻘﻄﻊ ﻋﺮض اﻟﺒﻴﺪ ﺑﻼ ﺗﻌﺐ وﻻ إﻋﻴﺎء وﻻ ﺣﺜٍّﺎ ﻋﲆ اﻟﺴري ﺑﺎﻟﺤﺪاء ،وﻫﺬه اﻟﺴﻔﻦ ﺗﺠﻮب اﻟﺒﺤﺎر ﺑﻘﻮة اﻟﺒﺨﺎر ﻻ ﻳﻌﻄﻠﻬﺎ رﻛﻮد اﻟﺮﻳﺎح ،وﻻ ﻗِ ﱠﻠﺔ ﺧﱪة املﻼح ،ﺗﻘﻄﻌﻮن ﻓﻮﻗﻬﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت ،ﰲ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﺎﻋﺎت ،ﻣﺎ ﻻ ﺗﻘﻄﻌﻮﻧﻪ ﰲ ﻋﴩ أﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻟﻮ ﻛﻨﺘﻢ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻟﻴَﻌْ ﻤَ ﻼت ،أو اﻟﺠﻴﺎد اﻟﺼﺎﻓﻨﺎت .ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻜﻢ اﻟﻬﺠري ،وﻻ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻷﻣﺎن ،ﰲ ﻛ ﱢﻞ ﻣﻜﺎن. اﻟﺰﻣﻬﺮﻳﺮ ،ﻋﻦ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ املﺴري ،ﻫﺬا اﻵن ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺬر أن ﻣﻸﻧﺎ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﺎﻟﺒﻜﺎء ،أو ﻣﺰق اﻷﺳﻒ اﻷﺣﺸﺎء ،أو وﻗﻔﻨﺎ ﻋﲆ ﺟﺪث اﻹﻣﺎم ،ﻣﻔﺘﻲ اﻷﻧﺎم اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪه وﻗﻠﻨﺎ :أﻳﻬﺎ اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺤﻜﻴﻢ واﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻌﻠﻴﻢ، أﺳﺎﻣﻊ ﻓﻨﻨﺎدي أم ﻋﺪﺗﻚ ﻋﻦ اﻟﺴﻤﺎع اﻟﻌﻮادي؟ أﺗُﺮى ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﰲ زﻣﺮة اﻷﺣﻴﺎء ،وﺳﻤﻌﺖ ﺑﻬﺬا اﻟﺨﱪ ﻣﻦ ﻋﻘﺪ املﺆﺗﻤﺮ ،أﻛﻨﺖ ﺗﻌريه اﻷذن اﻟﺼﻤﺎء؟ أم ﻛﻨﺖ ﺗﺸﺤﺬ ﺣ ﱠﺪ اﻟﻬﻤﺔ اﻟﺸﻤﺎء، واﻟﻌﺰﻳﻤﺔ اﻟﻘﻌﺴﺎء ،وﺗﺪﻋﻮ اﻷﻏﻨﻴﺎء إﱃ ﺑﺬل املﺎل ﻟﺘﺄﻟﻴﻒ وﻓﺪ ﻣﻦ ﺧرية اﻟﺮﺟﺎل ،اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻬﻢ ﻗﺪم ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺪﻳﻦ راﺳﺨﺔ ،وﻫﻤﺔ ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻪ ﺷﺎﻣﺨﺔ ،ﺗﺰودﻫﻢ ﺑﻌﻠﻤﻚ وإرﺷﺎدك، وﺣﻜﻤﺘﻚ وﺳﺪادك ﻟﻴﺬﻫﺐ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن ،ﻟﻨﴩ ﻟﻮاء اﻹﺳﻼم؟ ﻻ واﻟﺬي أﻣﺮه اﻷﻣﺮ ،واﻟﺬي ﻳﻌﻠﻢ اﻟﴪ واﻟﺠﻬﺮ ،وﺣَ َﻜﻢ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﺴﻜﻨﻰ اﻟﻘﱪ ،ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻨﺎ ﺣﻴٍّﺎ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﱢ ﺗﻘﴫ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وإﺣﺮاز ﻫﺬه اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺴﻨﻴﺔ ،ﻓﺮﺣﻢ ﷲ أﻳﺎﻣً ﺎ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺴﺪد ﻣﻦ اﻟﻔﻌﻞ واﻟﻘﻮل ،وﺳﻘﻰ اﻟﻐﻴﺚ زﻣﺎﻧًﺎ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺤﻮل واﻟﻄﻮل ،وﻋﺰاﻧﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﺨﻠﻒ ﻋﻨﻚ ﺗﻠﻘﻰ ﻋﻬﻮد املﻌﺎﱄ ،وﻣﻨﻚ اﺳﺘﻘﻰ ﺷﺂﺑﻴﺐ اﻟﴩف اﻟﻌﺎﱄ؛ ﻟﻴﻜﻮن ﻣﻨﻚ ﺧري اﻟﻌﻮض ،ﺑﻞ اﻟﺪواء اﻟﺸﺎﰲ ﻣﻤﺎ ﺣ ﱠﻞ ﺑﺎﻷﻣﺔ ﻣﻦ املﺮض .وأﺳﻜﻨﻚ ﰲ دار اﻟﻨﻌﻴﻢ واملﻠﻚ اﻟﻜﺒري ،إﻧﻪ اﻟﺴﻤﻴﻊ املﺠﻴﺐ اﻟﻘﺪﻳﺮ. ﻓﺎﺗﻘﻮا ﷲ أﻳﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﺎء وراﻗﺒﻮه ،وأدوا وﻇﻴﻔﺘﻜﻢ ﰲ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﱠ وإﻻ ﻓﻌﲆ اﻹﺳﻼم واﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﺴﻼم. إﱃ اﻷﻏﻨﻴﺎء أﻣﺎ أﻧﺘﻢ أﻳﻬﺎ اﻷﻏﻨﻴﺎء واملﻮﴎون ،ﻓﺈﻧﻜﻢ ﺧﺎﻟﻔﺘﻢ ﺳرية ﻛ ﱢﻞ ذوي اﻟﻐﻨﻰ واﻟﻴﺴﺎر ﻣﻦ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ،ﺗﻠﻚ اﻟﺴرية اﻟﺘﻲ أﻧﺘﻢ ﺑﻬﺎ أوﱃ وأﺟﺮى؛ إذ أﻧﺘﻢ ﺗﺠﻬﺪون أﻧﻔﺴﻜﻢ ﻟﻴﻞ ﻧﻬﺎر ﰲ ﻛﺴﺐ اﻟﺪرﻫﻢ واﻟﺪﻳﻨﺎر ،وﺗﺒﺬﻟﻮن ﻣﺎ ﺗﺠﻤﻌﻮﻧﻪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ املﻼﻫﻲ واﻟﻌﻘﺎر ،وﻣﻈﺎﻫﺮ اﻷﺑﻬﺔ واﻟﻔﺨﺎر ،أو ﰲ ﻟﻌﺐ اﻟﻘﻤﺎر ،أو ﺗﻜﺘﻨﺰوﻧﻪ ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺮ ،أن ﻳﻮﻗﻌﻜﻢ ﰲ ﴍك اﻟﻔﻘﺮ ،أو ﺗﺪﻟﻮن ﺑﻪ إﱃ اﻟﺤﻜﺎم ،ﻃﻤﻌً ﺎ ﰲ رﺗﺒﺔ أو ﻧﻴﺸﺎن ،أو ﻳﺴﺎﻋﺪﻛﻢ ﻋﲆ ﻇﻠﻢ ﻓﻼن وﻓﻼن. 167
اﻟﺮﺣﻠﺔ اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ
أﻣﺎ ﻫﺆﻻء ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺒﺬﻟﻮن أﻣﻮاﻟﻬﻢ ﰲ ﻧﴩ اﻟﻌﻠﻮم واﻟﺼﻨﺎﺋﻊ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ وﺟﻮه املﻨﺎﻓﻊ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺳﺎدت اﻷﻣﻢ اﻟﺮاﻗﻴﺔ وارﺗﻘﺖ ﺑﻤﻘﺪار اﻧﺤﻄﺎﻃﻜﻢ ﰲ اﻟﻬﻤﻢ ،أﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺨﴪان املﺒني أﻧﻜﻢ ﺗﻤﻨﻌﻮن زﻛﺎة املﺎل وﻻ ﺗﺆدون ﺷﻜﺮ املﻨﻌَ ﻢ ﺑﻪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ،وﺗﺬﻫﺒﻮن ﰲ ﻛ ﱠﻞ ﺻﻴﻒ ﻣﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻋﺎم إﱃ أوروﺑﺎ وﺗﺒﺪروﻧﻪ ذات اﻟﻴﻤني وذات اﻟﺸﻤﺎل ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﺷﻬﻮاﺗﻜﻢ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ،وﺑﻌﺪ ﴏف اﻟﺪرﻫﻢ واﻟﺪﻳﻨﺎر ﺗﻔﺪون ﻣﺤﺘﻘﺒني اﻷوزار ،واﻟﺬل واﻟﻌﺎر ﻋﲆ ﺣني أﻧﻜﻢ ﺗﺮون اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻣﻦ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ﺗﺠﻮد ﺑﺎملﺎل ﻟﻠﺒﻌﺜﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،وﺗﺮﻗﻴﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﴫﻳﺔ ،ﻣﺎذا ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻟﻮ ﻓﺘﺤﺘﻢ اﻛﺘﺘﺎﺑًﺎ ﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﺑﻌﺜﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﺗﺴﺎﻓﺮ إﱃ ﺑﻼد اﻟﻴﺎﺑﺎن وﺗﻨﴩ اﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،واﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ،ﻋﲆ أن املﺎل ﻟﺪﻳﻜﻢ ﻻ ﻳﻮزن ﺑﺎملﻴﺰان ،ﺑﻞ ﻳﻜﺎل ﺑﺎﻟﻘﻔﺰان ،ﻫﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻨﻜﻢ أﻟﻒ وﻟﻮ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﻘﺮﻳﺐ ﻳﺠﻮد ﻛ ﱡﻞ واﺣ ٍﺪ ﺑﻨﺼﻒ ﻣﺎ ﻳﴫﻓﻪ ﰲ ﺷﻬﻮاﺗﻪ اﻟﺒﻬﻴﻤﻴﺔ؛ ﻟﻴﻜﻮن ﺑﺬﻟﻚ ﻗﺪ ﺧﺪم دﻳﻨﻪ ووﻃﻨﻪ وﻧﻔﺴﻪ ،أﻣﺎ دﻳﻨﻪ ﻓﻸﻧﻪ ﺳﻌﻰ ﰲ اﻟﺪﻋﻮة إﻟﻴﻪ ،وأﻣﺎ وﻃﻨﻪ ﻓﻸﻧﻪ ﺑﻔﻌﻠﻪ ﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى ﺗﺮﻣﻖ املﴫي ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر، وأﻣﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻸﻧﻪ أﻛﺴﺒﻬﺎ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻣﻦ أﻋﻈﻢ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ. ً ﻣﻨﺼﻔﺎ ،ﻛﺸﻒ ﷲ ﻋﻦ ﺑﺼريﺗﻪ ﻫﺬه ﻛﻠﻤﺘﻲ ﻗﻠﺘﻬﺎ وإﻧﻲ ﻋﲆ ﻳﻘني ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﺪم ﺣﺠﺎب اﻟﻀﻼل ،وﻻ ﺗﻠﺒﺲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﻖ ﺑﺰور املﻘﺎل ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﺪم ﻣَ ﻦ ِﻣﻦ ُﺧﻠﻘﻪ املﺠﺎدﻟﺔ ﰲ ﷲ ﺑﻐري ﻋﻠ ٍﻢ وﻻ ﻫﺪًى ،وﷲ ﻳﺮﺷﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺴﺘﻘﻴﻢ. ) (88ﻛﻠﻤﺔ إﱃ اﻷدﺑﺎء ﻗﻴﻞ ﰲ اﻷﻣﺜﺎل ﻟﻜ ﱢﻞ ﻣﻘﺎ ٍم ﻣﻘﺎل ،وﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﲆ ﺣﴬات أﻣﺮاء اﻟﻜﻼم ،وﻣﺴﺘﺨﺪﻣﻲ اﻷﻗﻼم، اﻟﻘﺎﺋﺪﻳﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ ﺑﺰﻣﺎم ،أن املﻮاﻃﻦ اﻟﺘﻲ ﰲ زﺧﺮﻓﺘﻬﺎ ﻛﻨﺎﻳﺔ وﺗﺸﺒﻴﻬً ﺎ ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻧﻮاع اﻟﺒﺪﻳﻌﻴﺔ ،واﻟﻌﺪول ﻋﻦ ذﻛﺮ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ إﱃ اﻟﱰاﻛﻴﺐ املﺠﺎزﻳﺔ ،إﻧﻤﺎ ﻫﻲ املﻮاﻃﻦ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﻌ َﺮض ﱠإﻻ ﻋﲆ أﻫﻞ اﻟﺼﻨﺎﻋﺔ اﻷدﺑﻴﺔ ،أو املﻘﺎﻣﺎت املﻠﻮﻛﻴﺔ ،أو اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻐﺮاﻣﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﰲ املﻮاﻃﻦ اﻟﺘﻲ ﻳُﻌ َﺮض ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﻼم ﻋﲆ اﻟﺨﻮاص واﻟﻌﻮام ،ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﺗﻠﺨﻴﺺ املﻌﺎﻧﻲ ،وزﺧﺮﻓﺔ املﺒﺎﻧﻲ ،وﻫﺬه ﻗﺎﻋﺪة ﺳﻨﱠﻬﺎ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻣﻦ اﻷدﺑﺎء ،ﻓﻴﺠﺐ ﻋﲇ ﱠ ﻋﺪم اﻹﺗﻴﺎن ﺑﺎﻟﻠﻔﻆ اﻟﻐﺮﻳﺐ ،أو اﻟﺘﺄﻧﱡﻖ ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺐ ،ﱠ وإﻻ ﻓﻬﻮ ﺑﺎﻟﻌﺘﺐ أوﱃ ،واﻟﺴﻼم .ا.ﻫ.
168