طبائع االستبداد ومصارع االستعباد
ر�سم الفنان العراقي �إ�سماعيل عزام -العراق
عبد الرحمن الكواكبي
طبائع االستبداد ومصارع االستعباد
تقدمي :د .حممد لطفي اليو�سفي
طبائع االستبداد ومصارع االستعباد عبد الرحمن الكواكبي وزارة الثقافة والفنون والرتاث -الدوحة رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : الطبعة الأوىل 2011 النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر العمل الفني للغالف :حممد حجي -م�رص
الرحالة كـ
طبائع االستبداد ومصارع االستعباد وهي كلمة حق وصرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غدًا باألوتاد
عبد الرحمن الكواكبي
فهرس الكتاب
تقدمي د .حممد لطفي اليو�سفي
8
فاحتة الكتاب
20
مقدمة
23
ما هو اال�ستبداد
26
اال�ستبداد وال ّدين
33
اال�ستبداد والعلم
47
اال�ستبداد واملجد
54
اال�ستبداد واملال
67
اال�ستبداد والإن�سان
69
اال�ستبداد والأخالق
81
اال�ستبداد والرتبية
95
اال�ستبداد والرتقِّي
106
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
129
نات اال�ستبداد والقهر وم َد َ ّو ُ تاريخُ الغَ لَبة ُ
نات اال�ستبداد والقهر تاريخ َ ُ وم َد َ ّو ُ الغ َلبة ُ هنا رجــل الدنيا هنا مهبط ال ّتقى قفوا واقر�ؤوا (�أم الكتاب) و�س ّلموا
هنا خري مظلوم هنا خري كاتـب عــليه فهـذا الـقرب قـرب الكواكبي
بيتان من مرثية حافظ �إبراهيم ُنق�شا ًعلى قرب الكواكبي يف القاهرة
�شهيداً رحل عبد الرحمن الكواكبي عن الدنيا .نذر حياته للإ�سهام امل�ستبدين وفعالهم .مل يكن قد يف احلركة الإ�صالحية العربية وف�ضح ّ فد�ست له ّ تخطى ُ حتركت �آلة العقاب ّ بعد الثامنة والأربعني من عمره حني ّ للم�ستبدين العرب مل تنته ال�سم يف فنجان قهوة .غري �أن منازلة الكواكبي ّ ّ للتحرر من نري �شة املتعط العربية أجيال ل ا أيدي � بني ترك فلقد برحيله ّ ّ اال�ستبداد كتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد .وهو كتاب ي�ضعنا واخل�سة والفظاظة، امل�ستبد الذي يجمع �إىل الغدر يف ح�رضة �صورة ّ ّ ومن�شق� .إنها �صورة عارية الرغبة العاتية يف �إبادة ك ّل مغاير وخمالف ّ ّ كالف�ضيحة. الراجح �أن الكواكبي كان يدرك �أن الكتابة عن اال�ستبداد �ستقوده �إىل حتفه .والراجح �أي�ض ًا �أنه كان على يقني من �أن لال�ستبداد يف ديار
8
العرب ويف الثقافة العربية حكاية وتاريخ ًا .ولتلك احلكاية التواءاتها للم�ستبدين أحقاب .فال�صورة القامتة وف�صولها ،ولتاريخها �أزمنة و� ّ ٌ امل�ستبد واجلرمية �صنوين و�صنائعهم ،تلك ال�صورة التي جتعل من �سلطة ّ لي�ست وليدة القرنني الثامن والتا�سع ع�رش .ذلك �أن الناظر يف املتون العربية القدمية يالحظ �أن اخليال نف�سه يعجز عن ابتداع �أمنوذج يعادل ّ امل�ستبد التي تر�سمها تلك املتون �صورة ووح�شيته وق�سوته فظاعته يف ّ حتدث عن احلاكم العربي منذ الغ�سا�سنة يف ما قبل الإ�سالم .لهذا ك ّله حني ّ حر�ص الكواكبي على �إجراء العديد من املقارنات بني الداخل واخلارج، امل�ستبد� ،أما وتفوقهم �إىل موت ّ بني الغرب وال�رشق .ف�أرجع قوة الغربيني ّ ت�صوره «انحطاط ال�رشق» فربطه مبا ّ �سماه «�أ�صل الداء» ،و�أ�صل الداء يف ّ هو ما نعته «باال�ستبداد ال�سيا�سي». ويتهدده تام ب�أن املا�ضي يتع ّقب الراهن ّ لقد كان الكواكبي على وعي ّ بالويالت جميعها .وهذا يعني �أن م�آزق الإن�سان العربي لي�ست وليدة راهنه ،بل هي قادمة من بعيد .وجميع حمنه وم�آ�سيه ك ّلها نتاج لتاريخ من الطغيان واال�ستبداد والقهر .هذا ما نه�ضت الكتابة لت�شهد عليه ،فيما هي تف�ضح طبائع اال�ستبداد. هذا الوعي امل�ضني بتاريخ اال�ستبداد يف ديار العرب و ّلد لدى الكواكبي �إح�سا�س ًا مريراً ب�أن الطريق امل�ؤدية �إىل خال�ص الأمة من «داء طريق كرب ٌة وعر ٌة طويل ٌة .لذلك طفح كتابه بنوع من ال�شجن اال�ستبداد» ٌ مرده �إح�سا�سه العاتي ب�أن جهوده وجهود �أمثاله من الإ�صالحيني العرب ّ لي�ست �سوى �رصخة يف ليل طويل .وهو يعبرّ عن ذلك �رصاحة �إذ و�صف حق و�رصخة يف ٍ واد» .لكن هذا الوعي ال�شقي كتابه قائ ًال �إنه« :كلمة ّ مت�شوف ًا تبا�شري مل يكن وعي ًا انهزامي ًا بقدر ما كان مفتوح ًا على الآتي، ّ امل�ستبد واقع ًا ميالد الأجيال اجلديدة التي �ستجعل من حلم التخ ّل�ص من ّ حمدث ًا عن كتابه �إنه�« :رصخة يف ٍ واد �إن ذهبت وحقيقة .لذلك �أ�ضاف ّ اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد». والكلية .ولكي م�ضى على هذه النبوءة الآن قرن من الزمان بالتمام ّ تكتمل النبوءة �أهدى الكواكبي كتابه �إىل ال�شباب حملة جذوة النار
9
نات اال�ستبداد والقهر وم َد َ ّو ُ تاريخُ الغَ لَبة ُ
�سميته طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ّ املقد�سة فكتب :هذا «كتاب ّ وجعلته هدية مني للنا�شئة العربية املباركة الأبية املعقودة �آمال الأمة على نوا�صيهم .وال غرو ،فال �شباب �إال بال�شباب» .حت ّققت النبوءة �إذن. على �أيدي ال�شباب حتققت النبوءة يف تون�س وم�رص ،وعلى �أيدي ال�شباب �أي�ض ًا بد�أت «�أوتاد» عرو�ش امل�ستبدين ي ّزلزل زلزالها يف �أكرث من بل ٍد عربي. و�إنه لأمر مذهل ح ّق ًا �أن �أحالم م�صلحني من �أمثال ابن �أبي ال�ضياف (1291 /1217هـ 1874/ 1802 -م) ورفاعة الطهطاوي (/1216 1290هـ 1873/ 1801 -م) وفار�س ال�شدياق(1306 /1219هـ /1804 - 1888م) وقا�سم حممد �أمني (1326 /1280هـ 1908/ 1863 -م) وخري الدين با�شا التون�سي(1307/ 1237هـ– 1890 /1822م) -هذه الأحالم- تلم�س الطريق امل�ؤدية .و�إنها تتج�سد هنا والآن وتبد�أ ال�شعوب العربية يف ّ مدوخة �أن يقع الإحلاح يف الراهن ال�سيا�سي والإعالمي العربي ملفارقة ّ الي ْتم :ال �آباء وال �أجداد وال الآن على �أن جيل الثورات العربية طالع من ُ ٌ حلم تلم�س الطريق �إىل التخ ّل�ص من اال�ستبداد ٌ عمومة �أي�ض ًا .واحلال �أن ّ قدمي عا�شت عليه �أجيال من امل�صلحني واملثقفني والأدباء الأحرار طيلة ٌ دونه �أحمد بن �أبي ال�ضياف عن حكام ما إىل � ت ف نتل أن � هنا يكفي أحقاب. � ّ ّ زمانه. فالثابت �أن امل� ّؤرخ التون�سي �أحمد بن �أبي ال�ضياف كان واحداً من التقية .لذلك حني انتدبه باي تون�س امل� ّؤرخني امل�صلحني الذين �أتقنوا ّ امل�شري �أحمد با�شا باي (1271 /1220هـ 1855 /1806 -م) وزيراً للقلم �رسه كتب تاريخ البايات وامللوك الذين عا�رشهم وجمعه واتخذه �أمني ّ يف كتابه «�إحتاف �أهل الزمان ب�أخبار ملوك تون�س وعهد الأمان». جاء كتاب الإحتاف جامع ًا �إىل الإ�شادة الظاهرة ب�أجماد البايات واحلر�ص على تدوين رذائلهم وجورهم .وبذلك انفتح التاريخ على َ امل�ضاد .وجاء التاريخ ال�رسي ليه ّزئ التاريخ العلني ويحيطه التاريخ ّ بالظلمات والدياجري .ولذلك تتعالق الف�صول قائمة على ما ي�شبه املنت واحلا�شية .ت�أتي احلا�شية يف �شكل تعليقات و�آراء لته ّزئ املنت
10
فيحدث ابن �أبي ال�ضياف عن م�آثر �أحمد باي وتف�ضح ما يتك ّتم عليه. ّ و�إ�صالحاته ،وت�أ�سي�سه للمدر�سة احلربية ،وتطويره للتعليم ،وتعزيزه بالعلوم واملعارف احلديثة .لكن هذا الف�صل ُيخرتق بالكالم عن جوره وا�ستهانته بالكرامة الب�رشية ،و�إثقاله كاهل الرعية بال�رضائب املجحفة، و�إر�ساله ع�ساكره �إىل القرى واملدن جلمع ال�رضائب بالقهر والغلبة .يع ّلق امل� ّؤرخ على هذه الفعال قائ ًال« :هذا و�أج�ساد اخللق من�ساقة منقادة م�رضتهم وابتزاز نعمتهم خوف ًا من انقياد بهائم الأنعام ولو � ّأدى ذلك �إىل ّ ع�ساكره الذين جعلهم �آلة لتغ ّلبه ال تقهر» .ال ي�ستخدم ابن �أبي ال�ضياف ويلح على �أن الظلم ي�سمي ال�شعب «عبيد اجلباية»، ّ عبارة الرعية ،بل ّ وام .فعاف الفالحون �أرا�ضيهم و�صار الواحد منهم �إذا «لقي حولهم �إىل َه ٍ ّ ويتو�سع يف ذكر تي». ورزي بالئي �سبب «يا : ال قائ ركله احلقل يف حمراثه ً ّ ّ حال النا�س الذين �أم�سوا «ولي�س لهم من م�سقط ر�ؤو�سهم وبالدهم ومنبت والربط �آبائهم و�أجدادهم �إ ّال �إعطاء الدرهم والدينار على مذ ّل ٍة و�صغارّ ، حب الوطن والدار ،وان�سلخوا على اخل�سف ربط احلمار ،حتى زهدوا يف ّ من �أخالق الأحرار». كثرياً ما يطفح التاريخ ال�رسي بنربة َن ْو ٍح و َن ْد ٍب على النا�س ال�سيما يتفن امل� ّؤرخ يف ذكر املحن والرزايا التي اب ُتلي بها �أهل تون�س حني نّ ن�شيد �أ�سود يرفع رثاء للمظلومني .لك�أن فت�صبح الكتابة كما لو �أنها ٌ يتو�سع يف ذكر �آالم بني امل� ّؤرخ الذي �أرغم على تدوين م�آثر ح ّك ٍ ام َظ َل َم ٍة ّ ليتطهر منها فيما هو ُي�شهِ د عليها وي�ؤ ّثث بها ذاكرة امل�ستقبل� .أو قومه ّ لك�أن امل� ّؤرخ ُي ْ�شهِ د الدنيا على فظاعة ما حدث حتى ال يحدث ثانية. يكفي هنا �أي�ض ًا �أن ننظر يف م�ؤلفات رفاعة الطهطاوي وهو من �أبرز قادة النه�ضة الفكرية والعلمية يف م�رص على عهد حممد علي با�شا (1182 1265/هـ 1849/ 1769 -م) و�سنالحظ �أنه كان على وعي ب�أن احلرية ف�صل احلديث والعدالة هما ال�سبيل امل�ؤدية �إىل الكرامة والرقي .لذلك ّ وتو�سع عن هذين املفهومني يف كتابه امل ُْر ِ�شد الأمني للبنات والبنني ّ ملح ًا على �أن ال وطنية دون م�ساواة بني من يف تبيان مفهوم الوطنية ّ واحد حتى يتعاونوا «على حت�سني الوطن وتكميل نظامه، وطن يجمعهم ٌ ٌ 11
نات اال�ستبداد والقهر وم َد َ ّو ُ تاريخُ الغَ لَبة ُ
يف ما يخ�ص �رشف الوطن ِ وغناه وثروته ،لأن ال ِغ َنى �إمنا يتح�صل من انتظام املعامالت وحت�صيل املنافع العمومية ،وهي تكون بني �أهل الوطن على ال�سوية ،النتفاعهم جميع ًا بمِ َ ز َِّي ِة ال َّن ْخ َو ِة الوطني ِة» .وهو ي�صل �إىل و�ضعي، حد متجيد القانون املعمول به يف فرن�سا ،م�شرياً �إىل �أنه قانون ّ ٌّ لكنه يحقق العدل .نقر�أ« :والقانون الذي مي�شي عليه الفرن�ساوية الآن، ويتخذونه �أ�سا�س ًا ل�سيا�ستهم هو القانون الذي �أ َّل َفه لهم َمل ُك ُهم امل َُ�س َّمى أمور ال ُي ْن ِكر ِلوِيز الثامن ع�رش .وما زال ُم َّت َبع ًا عندهم ُ وم ْر ِ�ضي ًا لهم ،وفيه � ٌ ِف كيف َح َك َم ْت عقولهم ب�أن العدل َذ ُوو العقول �أنها من باب العدلِ ...ل َت ْعر َ والإن�صاف من �أ�سباب تعمري امل ََما ِلك وراحة العباد». ال تخرج كتابات خري الدين با�شا التون�سي وقا�سم حممد �أمني من هذه الدائرة الإ�صالحية .فلقد دعا خري الدين يف كتابه «�أقوم امل�سالك يف معرفة �أحوال املمالك» �إىل الإ�صالح ال�شامل ُب ْغ َي َة حتقيق العدل وامل�ساواة يف حكم النا�س ودفع الظلم عنهم واحرتام حقوقهم .وهذا ُم َت َع َّل ٌق ال يتحقق �إال بنظام حكم قائم على ال�شورى ،وتعدد م�ؤ�س�سات احلكم ،و�إبطال احلكم الفردي لأن االنفراد باحلكم يقود �إىل اال�ستبداد� .أما قا�سم حممد �أمني وف�صل القول يف العديد من و�سع دائرة ال�س�ؤال عن �أ�سباب التخ ّلف ّ فقد ّ وتفطن� ،ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أحمد فار�س ال�شدياق الق�ضايا االجتماعية ّ �إىل �أن حرمان املر�أة من حقوقها هو �أ�صل الداء يف املجتمعات العربية. يعني هذا �إذن �أن كتاب الكواكبي حلقة يف �سل�سلة حماوالت ر�سمت ال�رس العمل فرت�سب يف الوجدان اجلماعي العربي ووا�صل يف ّ للحلم مداه ّ امل�ستبد العربي يف غفلة من �أمره ال ميتثل �إال لطبائع اال�ستبداد فيما ّ املركوزة يف نف�سه ،وال ي�صغي �إال �إىل رغبته اللجوج يف ممار�سة الغلبة والقهر .لقد انطلق كل من الطهطاوي وابن �أبي ال�ضياف وخري الدين با�شا ت�صور ابن خلدون حول ن�ش�أة العمران والكواكبي نف�سه –انطلقوا -من ّ الب�رشي وخراب الدول والأم�صار وت�سليمه يف الباب الثالث والأربعني ؤذن بخراب العمران»، من املقدمة ب�أن «العدل �أ�سا�س العمران» و«الظلم م� ٌ خطر على احلياة نف�سها ،لأن «ف�ساد العمران وجزمه ب�أن اال�ستبداد ٌ وخرابه م�ؤذن بانقطاع النوع الب�رشي».
12
لكن الفارق بني كتاب الكواكبي واملحاوالت الإ�صالحية التي �سبقته جوهري .ففي حني اكتفى ه�ؤالء امل�صلحون بالدعوة �إىل الإ�صالح فارق ّ ال�سيا�سي ب�إر�ساء د�ساتري وبرملانات وجمال�س �شورى ،اختار الكواكبي �أن مي�ضي يف ال�شوط بعيداً :الدعوة �إىل ا�ستئ�صال اال�ستبداد وهدم عرو�ش امل�ستبدين و�سدنتهم و�أتباعهم وم�ؤ�س�ساتهم وثقافتهم. ّ جمرد حتليل كونه عن اال�ستعباد وم�صارع اال�ستبداد طبائع كتاب كف ّ ّ للم�ستبد وملقولة اال�ستبداد لال�ستبداد .و�صار عبارة عن مواجهة عنيفة ّ داء» ال يرجى �شفا�ؤه تو�سط �أي�ض ًا �إن «اال�ستبداد ٌ نف�سها .وال خيار ،ال ّ واله ْد ِي وال ّلني .لذلك بالإ�صالح والرتميم ،وال ميكن التخ ّل�ص منه بالرفق َ امل�ستبد وفظائعه تو�سع الكواكبي يف تع ّقب مظاهر اال�ستبداد وفعال ّ ّ وجرائره و�إف�ساده للدنيا من حوله .ف�صارت الكتابة عبارة عن هبوط مدوخ �إىل عامل جحيمي �إبلي�سي ال �شيء فيه غري ال�رشور والويالت والدم ّ امل�ستبد املحاط بالليل والدياجري وخ�رسان بني الب�رش. عامل إنه � املراق. ّ وتفرعت« :ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما الكتاب تنوعت الأ�سئلة يف هذا ّ ّ �أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟ ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا امل�ستبد؟ رعية يكون ّ ّ امل�ستبد �شديد اخلوف؟ ملاذا ي�ستويل اجلنب على ّ ما ت�أثري اال�ستبداد على الدين؟ على العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على الأخالق؟ على الرت ّقي؟ على الرتبية؟ على العمران؟». ر�سمت هذه الأ�سئلة للكتاب ف�صوله و�أق�سامه ،وللكتابة �ضفافها. فتحول �إىل مطاردة عنيدة لك ّل مظاهر اال�ستبداد و�أعرا�ضه ونتائجه. ّ تو�صل قد خلدون ابن كان التي ذاتها النتيجة إىل � الكواكبي يخل�ص لذلك ّ يعطلها ويبيدها. �إليها حني جزم ب�أن الظلم ال يف�سد احلياة فح�سب ،بل ّ ال�سم يف فنجان قهوة �ستودي بحياة الي َد التي ّ الراجح �أن َ امتدت لد�س ّ امل�ستبد الذي جنح كتاب الكواكبي يف جعله الكواكبي كانت يد �أحد �سدنة ّ امل�ستبد اره ،وبني �أن ّ ف�ضيحة ّ قدام النا�س �أجمعني فك�شف �ص َغ َره َ و�ص َغ َ مقدام ال يخ�شى ركوب اخلطر ،يف حني �أنه قوي يوهم يف الظاهر ب�أنه ّ ٌ ي�ستمد جربوته ونفوذه «من امل�ستبد جبان «�شديد اخلوف»� .إن رعديد ٌ ٌ ُّ ّ اجلنب الذي ي�ستويل على رعيته»� .إن ا�ستبداد الطاغية وجوره و�إمعانه يف
13
نات اال�ستبداد والقهر وم َد َ ّو ُ تاريخُ الغَ لَبة ُ
الرعية من اجلرمية والقتل �إمنا تت�أ ّتى يف جانب كبري منها ،ال من خوف ّ ال�سيما �أن اخلوف ال�سلطان فح�سب ،بل من احرتامها له و�إعالئها ل�ش�أنهّ . ّ واالحرتام انفعاالن كثرياً ما يتداخالن ويف�ضي �أحدهما �إىل الآخر .ومن امل�ستبد-ك ّل ي�ستمد تداخلهما وامتزاج �أحدهما بالآخر يف نفو�س النا�س، ّ ّ م�ستبد� -سطوته و�سلطانه. ّ امل�ستبد و�أمرا�ضه النف�سية �شخ�صية بتعرية الكواكبي يكتفي ال ّ وعقده ،بل يدفع بالتحليل �إىل مناطق حاملا يبلغها ت�صبح الكتابة عبارة ملح ًا ،يف عن �إدانة لل�رشائح االجتماعية التي تتبارى يف خدمة ّ امل�ستبد ّ م�ستبدة يف كل فروعها امل�ستبدة تكون الآن نف�سه ،على �أن «احلكومة ّ ّ الفرا�ش� ،إىل كنا�س ال�شوارع ..وهذه من ّ امل�ستبد الأعظم� ،إىل ال�رشطي� ،إىل ّ �شدة اال�ستبداد وخ ّفته ،فك ّلما الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ويق ّل ح�سب ّ املتمجدين امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش كان ّ ّ العاملني له املحافظني عليه ،واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف اتخاذهم من �أ�سفل املجرمني الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو م ّل ٍة». توظف نف�سها يف خدمة لكن املثقفني يظلون �أخطر �رشيحة اجتماعية ّ ت�سبح امل�ستبد .فما من ّ ّ م�ستبد يف ديار العرب �إال وله بطانة من املثقفني ّ يوظف املثقفني العتقاده �أن العديد من املثقفني إمنا � وامل�ستبد بحمده. ّ ّ امل�ستبد ،يف هم �سدنة اال�ستبداد وخدمه يف ك ّل الأزمنة والأم�صار .ذلك �أن ّ املكر نظر الكواكبي� ،شخ�ص يجمع �إىل الغفلة اجله َل واخل�س َة ،و�إىل احليلة َ ّ «يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء واخلديع َة .ولذلك ّ الأذكياء اغرتاراً منه ب�أنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم بال�شكل الذي يريد ،فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم» .ف�إذا ق�ضى منهم حاجته �أو«يئ�س من �إف�سادهم يبادر �إىل �إبعادهم وين ّكل بهم». غري �أن الكواكبي ال يدين هذا ال�صنف من املثقفني ال�سدنة فح�سب، اجلهال بل يخرجهم من دائرة املثقفني الف�ضالء ويرمي بهم يف دائرة ّ امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي ي�ستقر عند واخلبثاء املرائني .نقر�أ« :ال ّ ّ �شا�سع بني املثقف بو ٌن ٌ يعبده من دون اهلل� ،أو اخلبيث اخلائن» .ثمة ْ يتحول �إىل خمرب وخادم �أمني ي�سري يف احلقيقي واملثقف ال ّزائف الذي ّ ّ 14
املن�شق الذي بال�ضعينة ،بني املثقف مدجج ًا ّ ّ ال�سلطة اجلائرة ّ ركاب ّ ويلطخ اال�سم يحافظ على �رشف اال�سم واملثقف الذي ير�ضى بدور العبد ّ بعار ال يطف�أ ملخبرِ الدهر ك ّله .هكذا يعمد الكواكبي �إىل طرد هذا املثقف ا ُ َ خارج دائرة الثقافة والفكر ليلحقه بزمرة املخربين وال�رشطة و�سدنة امل�ستبدة. ال�سلطات ّ أمر مذه ٌل حق ًا �أن تو�صيف الكواكبي لهذه الفئة ما زال ثاقب ًا و�إنه ل ٌ �صحيح ًا رغم مرور قرن من الزمان على ن�رش كتاب طبائع اال�ستبداد نتمعن يف ما يجري يف تون�س ويف وم�صارع اال�ستعباد .يكفي هنا �أن ّ مرة �أخرى يف هذا ال�صنف من العجاب م�رص و�سرنى العجب ُ ّ يتج�سد ّ امل�ستبد .عديدون هم املثقفون الذين تفانوا يف خدمة املثقفني �سدنة ّ اال�ستبداد يف ك ّل من تون�س وم�رص .وعندما حت ّققت نبوءة الكواكبي حول فر طاغية تون�س املخلوع وتهاوى عر�ش «م�صارع اال�ستعباد» ،حني ّ و�س وخرجوا على النا�س معلنني م�ستبد م�رص املدحور ،لب�سوا لك ّل حال َل ُب ٍ ّ رواد التغيري وقادته .وهذا ف�ص ٌل ومن التاريخ، حركة مة مقد يف �أنهم ّ ّ خم ٍز مل يكتبه الكواكبي. بد من الإ�شارة �أي�ض ًا �إىل �أن هذا الكتاب خمرتق من الداخل ب�أكرث من ال ّ املن�شق الذي �أعلن االن�شقاق طريق ًا م�ؤدية �إىل �صوتّ � .أولها �صوت الكاتب ّ اخلال�ص من اال�ستبداد .لذلك ترد الكتابة يف �شكل حما�سبة عنيفة متو ّترة امل�ستبد ملظاهر اال�ستبداد ،ومطاردة عنيدة لنتائج اال�ستبداد وفعال ّ امل�ستبد :ال العلم وخ�سته و�إف�ساده للدنيا من حوله .فال �أحد ي�سلم من فعال ّ ّ ي�سلم ،وال الرتبية والأخالق والقيم يف منجاة من مكائده ومكره .فحيثما طافح بال�شجن اخلراب� .أما ال�صوت الثاين ف�إنه �صوت م�ستبد كان ُوجد ٌ ٌ ُ مليء باحلرقة والت� ّأ�سي على حال الوطن العربي .فت�صبح الكتابة كما لو ن�شيد �أ�سود يرفع يف وجه اخلراب �أنها نوع من النوح والندب �أو لك�أنها ٌ قدا�س جنائزي يعت�رص ُ ين�شد التخ ّل�ص من �أ�سبابه .وت�صبح القراءة ك�أنها ّ �شغاف القلب. ويتو�سل مقا�صده تلك يوظف الكواكبي �أ�سلوب الكتابة بامل�شهد. ههنا ّ ّ بو�سيلة موغلة يف االقت�صاد والب�ساطة حني يحاكي كيفات ت�شك ّل ال�صوت
15
نات اال�ستبداد والقهر وم َد َ ّو ُ تاريخُ الغَ لَبة ُ
وال�صدى م�ستخدم ًا �أ�سلوب النداء .يت�ش ّكل النداء يف �شكل خماطبة للوطن: «�أنت �أيها الوطن املحبوب� /أيها الوطن العزيز� /أيها الوطن احلنون)... ويكون امل�شهد مبثابة رجع �صدى للنداء ذاته� .إن ال�صدى يكون عادة �أكرث ومتو ٌج .لذلك ي�أخذ ترجيع امتداداً من ال�صوت .لأن ال�صدى فيه ٌ ٌ ورجع ّ م�ساحة �أو�سع من تلك التي يحتلها ال�صوت يف الهواء .وعلى هذا الن�سق فيتو�سع يف ر�سم جريان الكتابة� .إن النداء مقت�ضب موجز� .أما ال�صدى ّ املحن .نقر�أ مث ًال� « :أيها الوطن الباكي �ضعافه :عليك تبكي العيون وفيك يحلو املنون� .إىل متى يعبث خاللك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون ذويك� ..أيها الوطن امللتهب ف�ؤاده� :أما رويت من �سقيا الدموع والدماء، ولكنها دموع بناتك الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء». �شجن ال يطف�أ تر�شح به الكتابة حني يجري الكواكبي مقارنات ثمة ٌ ّ بني حال النا�س يف الغرب وهوان الب�رش و�ضعتهم يف بالد العرب .ثمة و�ضجر من ا�ست�سالم النا�س لال�ستبداد. ي� ٌأ�س من حال الأمة يف ع�رصه، ٌ يحدث عنهم قائ ًال�« :إمنا هم – غفر اهلل لهم -من علمت ،ق َّل فيهم وهو ّ احلر الغيور ،ق َّل فيهم من يقول �أنا ال �أخاف الظاملني». ُّ لكن نربة ال�شجن الطافحة بالي�أ�س �رسعان ما ترتاجع حني يوجه اخلطاب �إىل ال�شباب قائ ًال�« :أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان ..حماكم اهلل من ق�صور َف َخاركم على معايل الهمم ومكارم ال�سوء ..نرجو لكم �أن تبنوا َ ال�شيم ..و�أن تعلموا �أنكم خلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا». lll
فا�صلة �صغرية: � ْأي عبد الرحمن الكواكبي: امل�ستبد ،وال�شباب يف م�رص التي �شهدت ال�شباب يف تون�س زلزلوا بيت ّ امل�ستبد .ولل�سيول التي �ستهد العرو�ش بقية. مقتلك غيلة ع�صفت بعر�ش ّ lll
16
تذييل:
�سرية الكواكبي
ولد عبد الرحمن الكواكبي �سنة 1270هـ املوافق ل�سنة 1854م بحلب يف بيت علم ي�شهد له بالف�ضل .توفيت �أمه فرعته خالته املقيمة عم �أمه جنيب النقيب الذي �أ�صبح يف �أنطاكيا وعلمته الرتكية فع ّلمه ّ يف ما بعد �أ�ستاذاً خا�ص ًا للخديوي عبا�س حلمي الثاين يف م�رص .در�س الكواكبي ال�رشيعة واملنطق وعلم الطبيعة وال�سيا�سة .وا�شتغل بالتدري�س وهو يف الع�رشين من العمر� .أن�ش�أ مبعية ها�شم العطار جريدة ال�شهباء �سنة 1877م التي �رسعان ما منعتها ال�سلطات العثمانية .ف�أ�صدر جريدة االعتدال �سنة 1879م ،ووا�صل ن�رش �أفكاره الداعية �إىل النهو�ض والإ�صالح .وعندما �أغلقت ال�سلطات اجلريدة ا�شتغل باملحاماة زمن ًا �ضيقت وكان يدافع عن املظلومني جمان ًا حتى ل ّقب بـ«�أبي ال�ضعفاء»ّ . عليه ال�سلطات العثمانية اخلناق فغادر حلب و�ساح يف �آ�سيا والهند وتوطن م�رص حتى ُقتل وال�صني و�سواحل �رشق �آ�سيا و�سواحل �إفريقيا، ّ فيها غيلة �سنة 1902م. أهم م�ؤلفاته: � ّ lكتاب �أم القرى الذي عالج فيه �أ�سباب التخلف يف العامل الإ�سالمي و�أرجعها �إىل ما �سماه الأ�سباب الدينية وتتم ّثل يف ما نعته بعقيدة اجلرب و�إهمال العلوم العقلية ،والأ�سباب ال�سيا�سية وتتم ّثل يف حرمان النا�س من حرية القول والعمل ،والأ�سباب اخللقية ومردها الركون �إىل اجلهل وف�ساد التعليم وتف�ضيل الوظائف على ال�صنائع. lكتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد الذي تقدمه جملة الدوحة هدية للقارئ مع هذا العدد. د .حممد لطفي اليو�سفي جامعة قطر
17
فاحتة الكتاب
18
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم فاحتة الكتاب
وال�سالم على احلمد للهّ ،خالق الكون على ٍ نظام حمكم ٍ متنيّ ، وال�صالة ّ العربي النبي احلق املبني ،ال�سيما منهم على �أنبيائه العظام ،هداة الأمم �إىل ّ ّ ّ الذي �أر�سله رحمة ً للعاملني لريقى بهم معا�ش ًا ومعاداً على �س ّلم احلكمة �إىل ع ّليني. ال�صادع بالأمر، � ُ أقول و�أنا م�سلم عربي م�ضطر لالكتتام �ش�أن ّ ال�ضعيف ّ عمن قال: الراجي اكتفاء املطالعني بالقول ًّ املعلن ر�أيه حتت �سماء ال�رشقّ ، احلق يف ذاته ال بالرجال� ،إنني يف �سنة ثماين ع�رش وثالثمائة و�ألف وتعرف ّ هجرت دياري �رسح ًا يف ال�شرّ ق، هجرية فزرت م�رص ،واتخذتها يل مركزاً ُ ُ �سمي عم ال ّنبي �أرجع �إليه مغتنم ًا عهد ّ احلر ّية فيها على عهد عزيزها ح�رضة ًّ فوجدت �أفكار �رساة (العبا�س الثاين) ال ّنا�رش لواء الأمن على �أكناف ملكه، ُ
19
فاحتة الكتاب
القوم يف م�رص كما هي يف �سائر ال�شرّ ق خائ�ض ٌة عباب البحث يف امل�س�ألة الكربى� ،أعني امل�س�ألة االجتماعية يف ال�شرّ ق عموم ًا ويف امل�سلمني خ�صو�ص ًا، �إمنا هم ك�سائر الباحثني ،ك ٌّل يذهب مذهب ًا يف �سبب االنحطاط ويف ما هو ال�سيا�سي الدواء. ُ متح�ص عندي � ّأن �أ�صل ّ وحيث �إين قد ّ الداء هو اال�ستبداد ّ ا�ستقر فكري على ذلك -كما � ّأن ل ُك ّل الد�ستورية .وقد ودوا�ؤه دفعه ّ بال�شورى ّ ََّ يخطر على نب�أ م�ستقراًـ بعد بحث ثالثني عام ًا ...بحث ًا �أظ ّن ُه يكاد ي�شمل ك ّل ما ُ الداء �أو البال من �سبب ّ يتوه ُم فيه الباحث عند النظر ِة الأوىل� ،أن ُه ظفر ب�أ�صل ّ ولكن ،ال يلبث � ْأن يك�شف له ال ّتدقيق �أ ّنه مل يظفر ب�شيء� ،أو � ّأن أهم �أ�صوله، ْ ب� ّ فرع ال �أ�صل� ،أو هو نتيجة ال و�سيلة . ذلك ٌ الدين ،ال يلبث � ْأن يقف حائراً ُ الداء ال ّتهاون يف ّ فالقائل مث ًالّ � :إن �أ�صل ّ الداء اختالف الدين؟ والقائلّ � :إن ّ عندما ي�س�أل نف�سه ملاذا تهاون ال ّنا�س يف ّ الآراء ،يقف مبهوت ًا عند تعليل �سبب االختالف .ف�إن قال� :سببه اجلهلَ ،ي ْ�ش ُك ُل أ�شد ...وهكذا ،يجد نف�سه عليه وجود االختالف بني العلماء ب�صورة �أقوى و� ّ يف حلقة ُمفرغة ال مبد�أ لها ،فريجع �إىل القول :هذا ما يريده اهلل بخلقه ،غري رحيم. عادل حكيم مكرتث مبنازعة عقله ودينه له ب� ّأن اهلل ٌ ٌ ٌ أتعبت نف�سي أعدد لهم املباحث التي طاملا � ُ و�إنيّ � ،إراح ًة لفكر املطالعنيّ � ، يف حتليلها، وخاطرت ح ّتى بحياتي يف در�سها وتدقيقها ،وبذلك يعلمون �أنيّ ُ ال�سيا�سي �إال بعد ما ُ الر�أي القائل ب� ّأن �أ�صل ّ الداء هو اال�ستبداد ّ وافقت على ّ نيتي �شفيع عنا ٍء طويل أ�صبت الغر�ض .و�أرجو اهلل � ْأن يجعل ُح َ يرجح قد � ُ �سن َّ ُ �سيئاتي ،وهاهي املباحث: ن�رشت يف �أ�شهر جرائدها بع�ض مقاالت �سيا�سية يف زيارتي هذه مل�رص، ُ الدين ،على العلم، حتت عنوانات اال�ستبداد :ما هو اال�ستبداد وما ت�أثريه على ّ على الترّ بية على الأخالق ،على املجد ،على املال� ...إىل غري ذلك. عت فو�س ُ ثم يف زيارتي �إىل م�رص ثاني ًة � ُ أجبت تكليف بع�ض ال�شبيبةّ ، تلك املباحث خ�صو�ص ًا يف االجتماعيات كالرتبية والأخالق ،و�أ�ضفت �سميته (طبائع �إليها طرائق التخ ُّل�ص من اال�ستبداد، ُ ون�رشت ذلك يف كتاب َّ اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد) وجعلته هدي ًة مني لل ّنا�شئة العربية املباركة غرو ،فال �شباب �إال بال�شباب. الأبية املعقودة �آمال الأمة ُ بي ْمنِ نوا�صيهم .وال َ
20
ٍ برهة قليلة، وجدت الكتاب قد نفد يف ثم يف زيارتي هذه ،وهي الثالثة، ُ ّ أحببت �أن �أعيد ال ّنظر فيه ،و�أزيده زيداً مما در�س ُت ُه ف�ضبط ُته� ،أو ما اقتب�س ُته ف� ُ وعناء غري قليل ...و�أنا ال �أق�صد وطبق ُته ،وقد �رصفت يف هذا ال�سبيل عمراً عزيزاً ُ َّ ً أردت بيان طبائع � إمنا � و خم�ص�صة، ة أم � و ة حكوم وال بعينه ا ظامل مباحثي يف ً ً ُ َّ اال�ستبداد وما يفعل ،وت�شخي�ص م�صارع اال�ستعباد وما يق�ضيه ومي�ضيه على الدفني ،ع�سى �أن يعرف ذويه ...ويل هناك ٌ ق�صد �آخر ،وهو التنبيه ملورد الداء ّ الذين ق�ضوا نحبهم� ،أنهم هم املت�سببون ملا ح َّل بهم ،فال يعتبون على الأغيار وال على الأقدار� ،إمنا يعتبون على اجلهل و َف ْق ِد الهمم وال ّتواكل ..وع�سى الذين فيهم بقية رمقٍ من احلياة ي�ستدركون �ش�أنهم قبل املمات... ال�سهل املفيد وقد تخيرّ ُت يف الإن�شاء �أ�سلوب االقت�ضاب ،وهو الأ�سلوب ّ الذي يختاره ُك َّتاب �سائر اللغات ،ابتعاداً عن قيود التعقيد و�سال�سل ال ّت�أ�صيل وال ّتفريغ .هذا و�إنيّ �أخالف �أولئك امل�ؤ ِّلفني ،فال �أمتنى العفو عن الزلل� ،إمنا �أقول: هذا جهدي ،وللناقد الفا�ضل �أن ي�أتي قومه بخري منه .فما �أنا �إال فاحت يل املهتدين. يو�سعه ،واهلل و ُّ باب �صغري من �أ�سوار اال�ستبداد .ع�سى الزمان ِّ 1320هـ1902 -م
21
مقدمة
22
مقدمة ومباحث يتفر ُع �إىل فنون كثرية علم َ وا�سع ّ ٌ ال�سيا�سة ٌ ال خفاء � ّأن ّ جداًّ ، دقيقة �ش ّتى .وق ّلما يوجد �إن�سان يحيط بهذا العلم ،كما �أ ّنه ق ّلما يوجد �إن�سان يحتك فيه. ال ُّ ال�سيا�سة وقد ُوجد يف ك ِّل الأمم املرتقية ُ علماء �سيا�سيون ،تك ّلموا يف فنون ّ مدونات الأديان �أو احلقوق �أو التاريخ �أو الأخالق ومباحثها ا�ستطراداً يف ّ ال�سيا�سة لغري م� ِّؤ�س�سي �أو الأدب .وال ُتعرف للأقدمني ٌ كتب خم�صو�صة يف ّ الرومان واليونان ،و�إنمّ ا لبع�ضهم ُم�ؤ ّلفات �سيا�سية �أخالقية اجلمهوريات يف ّ وحمررات �سيا�سية دينية كنهج البالغة ككليلة ودمنة ور�سائل غوريغوريو�س، ّ وكتاب اخلراج. ف�صلة يف هذا الفن لغري علماء و�أما يف القرون املتو�سطة فال ت�ؤثر �أبحاث ُم ّ والطو�سي ،والغزايل، الإ�سالم ،فهم �أ ّلفوا فيه ممزوج ًا بالأخالق كالرازيّ ، ّ واملتنبي ،وهي كاملعري، والعالئي ،وهي طريقة ال ُف ْر ِ�س ،وممزوج ًا بالأدب ّ ّ طريقة العرب ،وممزوج ًا بالتاريخ كابن خلدون ،وابن بطوطة ،وهي طريقة املغاربة. تو�سعوا يف هذا العلم و�أ ّلفوا � ّأما املت� ِّأخرون من �أهل �أوروباَّ ، ثم �أمريكا ،فقد َّ
23
مقدمة
فيه كثرياً و�أ�شبعوه تف�صي ًال ،ح َّتى �إ ّنهم �أفردوا بع�ض مباحثه يف ال ّت�أليف ميزوا مباحثه �إىل �سيا�سة عمومية ،و�سيا�سة خارجية، مبج ّلدات �ضخمة ،وقد ّ وق�سموا ك ًال منها و�سيا�سة �إدارية ،و�سيا�سة اقت�صادية ،و�سيا�سة حقوقية� ،إلخّ . �إىل �أبواب �ش َّتى و�أ�صول وفروع. و� ّأما املت� ِّأخرون من ال�رشقيني ،فقد ُوجد من الترّ ك كثريون �أ ّلفوا يف �أكرث مباحثه ت�آليف م�ستق ّلة وممزوجة مثل� :أحمد جودة با�شا ،وكمال بك، و�سليمان با�شا ،وح�سن فهمي با�شا ،وامل�ؤ ّلفون من العرب قليلون ومق ّلون، الدين با�شا والذين ي�ستح ّقون الذكر منهم فيما نعلم :رفاعة بك ،وخري ّ ال ّتون�سي ،و�أحمد فار�س ،و�سليم الب�ستاين،واملبعوث املدين. ال�سيا�سيني من العرب قد كرثوا ،بدليل ما ولكن ،يظهر لنا � ّأن ْ ِّ املحررين ّ يظهر من من�شوراتهم يف اجلرائد واملجالت يف موا�ضع كثرية .ولهذا ،الح لهذا أهم العاجز � ْأن �أُ ّ ذكر ح�رضاتهم على ل�سان بع�ض اجلرائد العربية مبو�ضوع هو � ّ ال�سيا�سية ،وق َّل من طرق بابه منهم �إىل الآن ،ف�أدعوهم �إىل ميدان املباحث ّ وينبهونهم امل�سابقة يف خري خدمة ينريون بها �أفكار �إخوانهم ال�رشقيني ِّ ـ ال�سيما العرب منهم ـ ملا هم عنه غافلون ،فيفيدونهم بالبحث وال ّتعليل و�رضب الأمثال وال ّتحليل (ما هو داء ال�شرّ ق وما هو دوا�ؤه؟). ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى و ّ ال�سيا�سة ب�أ ّنه هو (�إدارة ّ ملا كان تعريف علم ّ أهمها بحث (اال�ستبداد)� ،أي احلكمة) يكون ّ ال�سيا�سة و� ّ بالطبع � ّأول مباحث ّ ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى الهوى. �رصف يف ّ ال ّت ُّ و�إنيّ �أرى � ّأن املتكلِّم يف اال�ستبداد عليه �أن يالحظ تعريف وت�شخي�ص «ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما �أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟» يتحمل تف�صيالت كثرية ،وينطوي على مباحث �ش ّتى وكل مو�ضوع من ذلك ُّ ّ امل�ستبد �شديد اخلوف؟ من �أمهاتها :ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا يكون ُّ الدين؟ على ملاذا ي�ستويل اجلنب على رعية امل�ستبد؟ ما ت�أثري اال�ستبداد على ّ ّ العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على الأخالق؟ على الترَّ ِّقي؟ على الترّ بية؟ على العمران؟ تحمل اال�ستبداد؟ كيف يكون ال ّتخل�ص من َم ْن هم �أعوان ّ امل�ستبد؟ هل ُي ّ اال�ستبداد؟ مباذا ينبغي ا�ستبدال اال�ستبداد؟
24
ت�ستقر قبل اخلو�ض يف هذه امل�سائل ميكننا �أن ن�شري �إىل ال ّنتائج التي ُّ عندها �أفكار الباحثني يف هذا املو�ضوع ،وهي نتائج م َّتحدة املدلول خمتلفة التعبري على ح�سب اختالف امل�شارب والأنظار يف الباحثني ،وهي: والدواء :املقاومة. الداء :القوةّ ، يقول املاديّ : احلر ّية. الداء :ا�ستعباد الربيةّ ، ال�سيا�سيّ : ويقول ّ والدواء :ا�سرتداد ّ والدواء :االقتدار على الداء :القدرة على االعت�سافّ ، ويقول احلكيمّ : اال�ستن�صاف. والدواء :تغليب ال�شرّ يعة ال�سلطة على ال�شرّ يعةّ ، ويقول احلقوقيّ : الداء :تغ ّلب ّ ال�سلطة. على ّ والدواء :توحيد اهلل ح ّق ًا. الداء :م�شاركة اهلل يف اجلربوتّ ، الر ّباينّ : ويقول ّ وهذه �أقوال �أهل النظر ،و� ّأما �أهل العزائم: ال�شموخ عن ال ّذل. والدواءّ : الداءُّ : الرقاب لل�سال�سلّ ، أبيّ : مد ّ فيقول ال ُّ والدواء :ربطهم بالقيود الر�ؤ�ساء بال زمامّ ، ويقول املتنيّ : الداء :وجود ّ ال ّثقال. والدواء :تذليل املتكبرّ ين. الداء :ال ّتعايل على ال ّنا�س باط ًالّ ، احلرّ : ويقول ّ حب املوت. حب احلياةّ ، ويقول املفاديّ : والدواءُّ : الداءُّ :
25
ما هو اال�ستبداد
26
ما هو اال�ستبداد اال�ستبداد لغ ًة هو :غرور املرء بر�أيه ،والأنفة عن قبول ال ّن�صيحة� ،أو ُ الر�أي ويف احلقوق امل�شرتكة. يف اال�ستقالل ّ خا�ص ًة ،لأ ّنها �أعظم ويراد باال�ستبداد عند �إطالقه ا�ستبداد احلكومات ُ ّ جعلت الإن�سان �أ�شقى ذوي احلياة .و�أما حت ّكم ال ّنف�س التي أ�رضاره � مظاهر ْ على العقل ،وحت ُّكم الأب والأ�ستاذ وال ّزوج ،ور�ؤ�ساء بع�ض الأديان ،وبع�ض الطبقات ،فيو�صف باال�ستبداد جمازاً �أو مع الإ�ضافة. ال�رشكات ،وبع�ض ّ ال�سيا�سيني هوَ :ت�صرَ ُّ ف فرد �أو جمع يف حقوق قوم اال�ستبداد يف ا�صطالح ّ طرق مزيدات على هذا املعنى اال�صطالحي بامل�شيئة وبال خوف تبعة ،وقد َت ُ في�ستعملون يف مقام كلمة (ا�ستبداد) كلمات :ا�ستعباد ،واعت�ساف ،وت�س ُّلط، وح�س م�شرتك ،وتكاف�ؤ ،و�سلطة عامة. وحت ُّكم .ويف مقابلتها كلمات :م�ساواة، ّ جبار ،وطاغية ،وحاكم ب�أمره، وي�ستعملون يف مقام �صفة ّ (م�ستبد) كلماتّ : م�ستبدة) كلمات :عادلة ،وم�س�ؤولة، وحاكم مطلق .ويف مقابلة (حكومة ّ الرعية (امل�س َت َب ّد عليهم) ّ ومقيدة ،ود�ستورية .وي�ستعملون يف مقام و�صف ّ كلمات� :أ�رسى ،وم�ست�صغرين ،وب�ؤ�ساء ،وم�ستنبتني ،ويف مقابلتها� :أحرار، و�أباة ،و�أحياء ،و�أع ّزاء.
27
ما هو اال�ستبداد
هذا تعريف اال�ستبداد ب�أ�سلوب ذكر املرادفات واملقابالت ،و� ّأما تعريفه بالو�صف فهوّ � :أن اال�ستبداد �صفة للحكومة املطلقة العنان فع ًال �أو حكم ًا ،التي الرعية كما ت�شاء بال خ�شية ح�ساب وال عقاب حم َّق َقني. ّ تت�رصف يف �ش�ؤون ّ ت�رصفها على �شرّ يعة، بتطبيق فة ل ك م غري هي ا إم � احلكومة كون هو ذلك وتف�سري ّ ُّ ُ ّ �أو على �أمثلة تقليدية� ،أو على �إرادة ال ّأمة ،وهذه حالة احلكومات املُطلقة� .أو قوة القيد مبا تهوى، هي ّ مقيدة بنوع من ذلك ،ولك ّنها متلك بنفوذها �إبطال ّ باملقيدة �أو باجلمهورية. �سمي نف�سها ّ وهذه حالة �أكرث احلكومات التي ُت ّ حمل تف�صيلها .ويكفي و�أ�شكال احلكومة امل�ستبدة كثرية لي�س هذا البحث ُّ ّ هنا الإ�شارة �إىل � ّأن �صفة اال�ستبداد ،كما ت�شمل حكومة احلاكم الفرد املطلق املقيد املنتخب الذي تولىّ احلكم بالغلبة �أو الوراثة ،ت�شمل �أي�ض ًا احلاكم الفرد َّ متى كان غري م�س�ؤول ،وت�شمل حكومة اجلمع ولو منتخب ًا ،ل َّأن اال�شرتاك يف يعدله االختالف نوع ًا ،وقد يكون عند اال ّتفاق الر�أي ال يدفع اال�ستبداد ،و�إنمَّ ا قد ّ ّ ُفرقة فيها بال ُكلِّ َّية مل ا �ستورية الد احلكومة ا أي�ض � وي�شمل الفرد. ا�ستبداد من أ�رض ً ّ � ّ َّ ِ املراقبة ،ل َّأن اال�ستبداد ال يرتفع ما مل قوة قوة ال َّتنفيذ وعن َّ قوة الت�رشيع عن َّ َّ مل�شرَ ِّعني، مل َن ِّف ُذون م�س�ؤولني لدى ا ُ يكن هناك ارتباط يف امل�س�ؤولية ،فيكون ا ُ ال�ش�أن ك ّله، وه�ؤالء م�س�ؤولني لدى ال َّأمة ،تلك ال َّأمة التي تعرف �أ َّنها �صاحبة ّ وتعرف � ْأن تراقب و� ْأن تتقا�ضى احل�ساب. ال�شيطان هي حكومة الفرد تعوذ بها من ّ و� ّ أ�شد مراتب اال�ستبداد التي ُي َّ املطلق ،الوارث للعر�ش ،القائد للجي�ش ،احلائز على �سلطة دينية .ولنا � ْأن نقول خف اال�ستبداد �إىل � ْأن ينتهي باحلاكم من هذه الأو�صافَّ ، ك ّلما ق َّل َو ْ�ص ٌف ْ يخف اال�ستبداد ـ طبع ًاـ ك ّلما ق َّل عدد املنتخب املوقت امل�س�ؤول فع ًال .وكذلك ُّ الرعية ،وق َّل االرتباط بالأمالك ال ّثابتة ،وق َّل ال ّتفاوت يف الثرّ وة وك ّلما نفو�س َّ ال�شعب يف املعارف. تر َّقى ّ � َّإن احلكومة من � ّأي نوع كانت ال تخرج عن و�صف اال�ستبداد ،ما مل تكن ال�شديدة واالحت�ساب ا ّلذي ال ت�سامح فيه ،كما جرى يف �صدر حتت املراقبة َّ علي ر�ضي اهلل عنهما ،وكما جرى الإ�سالم يف ما ُن ِقم على عثمانَّ ، ثم على ّ يف عهد هذه اجلمهورية احلا�رضة يف فرن�سا يف م�سائل ال ّنيا�شني وبناما ودريفو�س.
28
املقررة طبيع ًة وتاريخ ًا �أ َّنه ،ما من حكومة عادلة ت�أمن ومن الأمور َّ امل�س�ؤولية وامل�ؤاخذة ب�سبب غفلة ال ّأمة �أو ال َّتم ُّكن من �إغفالها �إ ّال وت�سارع �إىل ال َّت ُّلب�س ب�صفة اال�ستبداد ،وبعد � ْأن تتم َّكن فيه ال ترتكه ويف خدمتها �إحدى املنظمة .وهما �أكرب م�صائب الأمم الو�سيلتني العظيمتني :جهالة ال َّأمة ،واجلنود َّ املتمدنة ـ نوع ًا ماـ من اجلهالة، أهم معائب الإن�سانية ،وقد تخ َّل�صت الأمم ُّ و� ّ ال�شدة التي جعلتها �أ�شقى ولكنُ ،بليت ب�شدة اجلندية اجلربية العمومية ،تلك ّ ْ حيا ًة من الأمم اجلاهلة ،و�أل�صق عاراً بالإن�سانية من �أقبح �أ�شكال اال�ستبداد، ال�شيطان ،فقد ح َّتى ربمَّ ا ي�صح �أن يقالَّ � :إن خمرتع هذه اجلندية �إذا كان هو ّ ّ انتقم من �آدم يف �أوالده �أعظم ما ميكنه � ْأن ينتقم! نعم� ،إذا ما دامت هذه اجلندية التي م�ضى عليها نحو قر َنينْ �إىل قرن �آخر �أي�ض ًا تنهك جت ُّلد الأمم، وجتعلها ت�سقط دفعة واحدة .ومن يدري كم يتعجب رجال اال�ستقبال من َت َر ِّقي العلوم يف هذا الع�رص تر ِّقي ًا مقرون ًا با�شتداد هذه امل�صيبة التي ال ترتك حم ًال ال�ستغراب �إطاعة امل�رصيني للفراعنة يف بناء الأهرامات �سخرة ،ل َّأن تلك ال حيث ُتعلِّمها تتجاوز ال ّتعب و�ضياع الأوقات ،و� ّأما اجلندية ف ُتف�سد �أخالق ال ّأمةُ ، والطاعة العمياء واال ِّتكال ،وتمُ يت ال ّن�شاط وفكرة اال�ستقالل ،و ُتكلِّف ال�شرّ ا�سة ّ وك ُّل ذلك من�رصف لت�أييد اال�ستبداد امل�ش�ؤوم: ال ّأمة الإنفاق الذي ال يطاقُ ، القوة من جهة ،وا�ستبداد الأمم بع�ضها على ا�ستبداد احلكومات القائدة لتلك َّ بع�ض من جهة �أخرى. ولرنجع لأ�صل البحث ف�أقول :ال ُيعهد يف تاريخ احلكومات املدنية مدة �أكرث من ن�صف قرن �إىل غاية قرن ون�صف ،وما ا�ستمرار حكومة م�س�ؤولة َّ وال�سبب يقظة الإنكليز الذين �ش َّذ من ذلك �سوى احلكومة احلا�رضة يف �إنكلرتاّ ، ال ُي�سكرهم انت�صار ،وال ُيخملهم انك�سار ،فال يغفلون حلظة عن مراقبة ملوكهم، وال�صهر، ح َّتى � َّأن الوزارة هي تنتخب للملك َخ َد َم ُه َ وح َ�ش َم ُه ف�ض ًال عن ال ّزوجة ّ وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون ك َّل �شيء ما عدا ال ّتاج ،لو ت�س ّنى الآن ولكن ،هيهات � ْأن يظفر بغرة من قومه ي�ستلم لأحدهم اال�ستبداد َل َغ ِن َم ُه حا ًال، ْ فيها زمام اجلي�ش. البدوية التي تت�أ َّلف رعيتها ك ّلها �أو �أكرثها من ع�شائر � ّأما احلكومات ّ حر ّيتهم فرق متى َّ م�س ْت حكوم ُتهم ّ الرحيل وال َّت ّ يقطنون البادية ،ي�سهل عليهم ّ
29
ما هو اال�ستبداد
ال�شخ�صية ،و�سام ْتهم �ضيم ًا ،ومل يقووا على اال�ستن�صاف ،فهذه احلكومات ق ّلما ّ اندفعت �إىل اال�ستبداد .و�أقرب مثال لذلك �أهل جزيرة العرب ،ف�إ َّنهم ال يكادون وحميرْ وغ�سان �إىل الآن �إ ّال فرتات تبع ُ يعرفون اال�ستبداد من قبل عهد ملوك ّ قليلة .و�أ�صل احلكمة يف � َّأن احلالة البدوية بعيدة باجلملة عن الوقوع حتت كل فرد ميكنه � ْأن نري اال�ستبداد ،وهو � َّأن ن�ش�أة البدوي ن�ش�أة ا�ستقاللية ،بحيث ُّ ّ ين الطبع ،تلك يعتمد يف معي�شته على نف�سه فقط ،خالف ًا لقاعدة الإن�سان املد ّ القاعدة التي �أ�صبحت �سخرية عند علماء االجتماع املت� ِّأخرين ،القائلني ب� َّأن الإن�سان من احليوانات التي تعي�ش �أ�رساب ًا يف كهوف وم�سارح خم�صو�صة، و� ّأما الآن فقد �صار من احليوان الذي متى انتهت ح�ضانته ،عليه � ْأن يعي�ش م�ستق ًال بذاته ،غري متع ّلق ب�أقاربه وقومه ك ّل االرتباط ،وال مرتبط ببيته وبلده ك ّل ال ّتع ُّلق ،كما هي معي�شة �أكرث الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم � َّأن تع ُّلقه بقومه وحكومته لي�س ب�أكرث من رابطة �رشيك يف �رشكة اختيارية، خالف ًا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين. ال ّناظر يف �أحوال الأمم يرى � َّأن الأُ�رساء يعي�شون متال�صقني مرتاكمني، تلتف حول بع�ضها �إذا يتح َّفظُ بع�ضهم ببع�ض من �سطوة اال�ستبداد ،كالغنم ُّ اال�ستقالل ال ّناجز احلرة املالك �أفرادها َ ذعرها ال ّذئبّ � ،أما الع�شائر والأمم ّ فرقني. فيعي�شون ُم َت ِّ �سيما املت� ِّأخرون منهم ـ يف و�صف اال�ستبداد وقد تك َّلم بع�ض احلكماء ـ ال َّ �صور يف الأذهان �شقاء الإن�سان ،ك�أ َّنها تقول له ودوائه بجمل بليغة بديعة ُت ِّ عدوك فانظر ماذا ت�صنع ،ومن هذه اجلمل قولهم: هذا َّ (امل�ستبد :يتح َّكم يف �ش�ؤون ال ّنا�س ب�إرادته ال ب�إرادتهم ،ويحكمهم بهواه ال ّ املتعدي في�ضع كعب رجله على �أفواه ب�رشيعتهم ،ويعلم من نف�سه �أ َّنه الغا�صب ِّ باحلق وال ّتداعي ملطالبته). ي�سدها عن ال ّنطق ّ املاليني من ال َّنا�س ُّ واحلر ّية � ّأمهم، حل ّية وقاتلهما ،واحلق �أبو الب�رش، عدو ا ّ عدو ّ ّ احلقّ ، (امل�ستبدّ : ّ الرا�شدونْ � ،إن والعوام �صبية �أيتام ال يعلمون �شيئ ًا ،والعلماء هم �إخوتهم ّ لبوا ،و�إال في َّت�صل نومهم باملوت). هبوا ،و� ْإن دعوهم ّ �أيقظوهم ّ الظامل على جنب ير حاجزاً من حديد ،فلو ر�أى ّ (امل�ستبد :يتجاوز ّ ّ احلد ما مل َ الظلم ،كما يقال :اال�ستعداد للحرب مينع احلرب). املظلوم �سيف ًا ملا �أقدم على ّ
30
الرعية � ْأن إن�سان م�ستعد ّ (امل�ستبدٌ � : ٌّ ّ بالطبع لل�شرّ وبالإجلاء للخري ،فعلى ّ تعرف ما هو اخلري وما هو ال�شرّ فتلجئ حاكمها للخري رغم طبعه ،وقد يكفي الطلب �إذا علم احلاكم � َّأن وراء القول فع ًال .ومن املعلوم � َّأن جمرد جمرد َّ للإجلاء َّ �رش اال�ستبداد). اال�ستعداد للفعل فعل يكفي َّ دراً وطاع ًة ،وكالكالب تذ ُّل ًال ومت ُّلق ًا، (امل�ستبدُّ : ّ يود � ْأن تكون رعيته كالغنم ّ ِ دمت ،و� ْإن �ضرُ ِبت �شرَ �ست ،وعليها خ ت م د خ إن � كاخليل تكون أن � عية الر ْ ْ ُ َ َ ْ وعلى َّ بال�صيد كلِّه ،خالف ًا للكالب �أن تكون كال�صقور ال ُتالعب وال ُي�ست�أثر عليها ّ الرعية �أن التي ال فرق عندها �أَطُ ِعمت �أو ُحرِمت ح َّتى من العظام .نعم ،على ّ وخلق هو تعرف مقامها :هل ُخ ِلقت خادمة حلاكمها ،تطيعه � ْإن عدل �أو جارُ ، ليحكمها كيف �شاء بعدل �أو اعت�ساف؟ �أم هي جاءت به ليخدمها ال ي�ستخدمها؟.. تقيد وح�ش اال�ستبداد بزمام ت�ستميت دون بقائه يف يدها، والرعية العاقلة َّ َّ لت�أمن من بط�شه ،ف�إن �شمخ ه َّزت به ال ّزمام و� ْإن �صال ربط ْته). من �أقبح �أنواع اال�ستبداد ا�ستبداد اجلهل على العلم ،وا�ستبداد ال ّنف�س على �سمى ا�ستبداد املرء على نف�سه ،وذلك � َّأن اهلل ج ّل ْت نعمه َخل ََق الإن�سان العقلُ ، وي ّ و�سخر له حراً ،قائده العقل ،فك َف َر و�أبى �إال � ْأن يكون عبداً قائده اجلهلَ .خ َل َقه َّ ّ ثم جعل له الأر�ض � ّأم ًا والعمل �أب ًا، ه، أ�شد � يبلغ أن � إىل � أوده � ب يقومان ا أب � و ا � َّأم ً ً ّ َّ َف َك َفر وما ر�ضي �إال �أن تكون � َّأم ُته � ّأمه وحاكمه �أباهَ .خل ََق له �إدراك ًا ليهتدي �إىل ويدين ليعمل ،ول�سان ًا وعي َنينْ ليب�رص ،ورجلينْ لي�سعىْ ، معا�شه وي ّتقي مهلكهْ ، أحب �إال � ْأن يكون كالأبله الأعمى، ليكون ترجمان ًا عن �ضمريه ،ف َك َف َر وما � َّ �شي من غريه ،وق َّلما يطبق ل�سانه جنانه. املقعد ،الأ�ش ّل ،الكذوب ،ينتظر ُك َّل ْ َخ َل َق ُه منفرداً غري م َّت�صل بغريه ليملك اختياره يف حركته و�سكونه ،ف َك َف َر وما �سماها الوطن ،وت�شابك بال ّنا�س ما ا�ستطاب �إال االرتباط يف �أر�ض حمدودة َّ ا�ستطاع ا�شتباك تظالمُ ال ا�شتباك تعاونَ ...خ َل َقه لي�شكره على جعله عن�رصاً حي ًا بعد �أن كان تراب ًا ،وليلج�أ �إليه عند الفزع تثبيت ُا للجنان ،ولي�ستند عليه ّ للرتدد ،وليثق مبكاف�أته �أو جمازاته على الأعمال ،ف َك َف َر و�أبى عند العزم دفع ًا ُّ ال�صحيح بالباطل ليغالط نف�سه وغريهَ .خ َل َقه ُ�ش ْك َره َ وخلَطَ يف دين الفطرة ّ يطلب منفعته جاع ًال رائده الوجدان ،ف َك َف َر ،وا�ستح َّل املنفعة ب�أي وجه كان، ُحرم كبري .خلقه وبذل له مواد فال يتع ّفف عن حمظور �صغري �إال ُّ تو�ص ًال مل َّ
31
ما هو اال�ستبداد
احلياة ،من نور ون�سيم ونبات وحيوان ومعادن وعنا�رص مكنوزة يف خزائن الطبيعة ،مبقادير ناطقة بل�سان احلال ،ب� َّأن واهب احلياة حكيم خبري جعل ّ إن�سان نعم َة اهلل مواد احلياة �أكرث لزوم ًا يف ذاته� ،أكرث وجوداً وابتذا ًال ،ف َك َف َر ال ُ ربه �إىل نف�سه ،وابتاله بظلم نف�سه وظُ ْلم و�أبى �أن يعتمد كفالة رزقهَّ ، فوكل ُه ُّ جن�سه ،وهكذا كان الإن�سان ظلوم ًا كفوراً. عبوديته ي�صفع بها رقاب الآبقني من ج ّنة اخلفية القوية ُ َّ ّ اال�ستبدادَ :ي ُد اهلل ّ امل�ستبدين الذين ي�شاركون اهلل يف عظمته ويعاندونه جهاراً، �إىل جه َّنم عبودية ِّ ثم ينتقم منه) ،كما جاء يف �أث ٍر وقد ورد يف اخلربّ : (الظامل �سيف اهلل ينتقم بهَّ ، الظامل (م ْن �أعان ظامل ًا على ظلمه َ�سلَّطَ ه اهلل عليه) ،وال َّ �شك يف � َّأن �إعانة ّ �آخرَ : جمرد الإقامة على �أر�ضه. تبتدئ من َّ الدنيا ،واجلحيم هو نار غ�ضبه يف الآخرة، اال�ستبداد :هو نار غ�ضب اهلل يف ّ من خلقهم وقد خلق اهلل ال ّنار �أقوى الدنيا َد َن َ�س ْ املطهراتَ ،ف ُيطَ ِّهر بها يف ّ ِّ وبذل فيها رزقهم ،ف َك َفروا بنعمته ،ور�ضخوا وب َ�سطَ لهم الأر�ض وا�سعةَ ، �أحراراًَ ، لال�ستعباد وال َّتظامل. يتعجل اهلل به االنتقام من عباده اخلاملني ،وال اال�ستبداد� :أعظم بالء، َّ يرفعه عنهم ح َّتى يتوبوا توبة الأنفة .نعم ،اال�ستبداد �أعظم بالء ،لأ َّنه وباء دائم والغ�صب، بال�سلب م�ستمر بتعطيل الأعمال، وج ْد ٌب ٌ بالفنت َ ْ وحريق متوا�ص ٌل َّ ٌّ مل ال وخوف يقطع القلوب، جارف للعمران، و�سي ٌل وظالم يعمي الأب�صار ،و�أ ٌ ٌ ٌ ْ ٌ يفرت ،و�صائ ٌل ال يرحم ،وق�صة �سوء ال تنتهي .و�إذا �س�أل �سائ ٌل :ملاذا يبتلي اهلل مطلق ال يظلم �أحداً، عادل أبلغ جواب ُم ْ�س ِكت هوَّ � :إن اهلل عباده ٌ ٌ بامل�ستبدين؟ ف� ُ َ ِّ ال�سائل نظرة احلكيم املد ِّقق لوجد نظر ولو ين. امل�ستبد على إال � امل�ستبد و ي فال ُ لىَّ ِّ ّ ّ �ستبداً يف نف�سه ،لو قدر جلعل زوجته وعائلته ُك َّل فرد من �أُ�رساء اال�ستبداد ُم ّ وربه الذي خل َق ُه تابعني لر�أيه و�أمره. وع�شريته وقومه والب�رش ُك َّلهم ،ح َّتى َّ م�ستبد ،والأحرار يتوالهم الأحرار ،وهذا �رصيح فامل�ستبدون يتوالهم ُّ ّ معنى( :كما تكونوا ُيولىَّ عليكم). حر ّيته ،ف� َّإن أر�ض �أن أليق بالأ�سري يف � ٍ ما � َ يتحول عنها �إىل ُ َّ حيث ميلك ّ خري حيا ًة من الأ�سد املربوط. الكلب ّ الطليق ُ
32
اال�ستبداد وال ّدين الطبيعي للأديان ،على ت�ضافرت �آراء �أكرث العلماء ال ّناظرين يف ال ّتاريخ ّ يكن الديني ،والبع�ض يقولْ � :إن مل ْ ال�سيا�سي ُم َت َو ِّلد من اال�ستبداد ِّ � َّأن اال�ستبداد ّ الريا�سة� ،أو هما �صنوان هناك توليد فهما �أخوان� ،أبوهما ال َّتغلب و� ّأمهما ّ قويان ،بينهما رابطة احلاجة على ال ّتعاون لتذليل الإن�سان ،وامل�شاكلة ّ بينهما �أ َّنهما حاكمان� ،أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب. والفريقان م�صيبان بحكمهما بال ّنظر �إىل مغزى �أ�ساطري ال ّأولني ،والق�سم حق والر�سائل امل�ضافة �إىل الإجنيل .وخمطئون يف ّ ال ّتاريخي من ال ّتوراةّ ، الأق�سام ال ّتعليمية الأخالقية فيهما ،كما هم خمطئون �إذا نظروا �إىل � َّأن القر�آن ال�سيا�سي .ولي�س من العذر �شيء � ْأن يقولوا :نحن ال ندرك جاء م� ّؤيداً لال�ستبداد ّ طي بالغته ،ووراء العلم ب�أ�سباب نزول دقائق القر�آن نظراً خلفائها علينا يف ِّ مقدمات ما ن�شاهد عليه امل�سلمني منذ قرون �آياته ،و�إنمَّ ا نبني نتيجتنا على ِّ بالدين. �ستبديهم ِّ �إىل الآن من ا�ستعانة ُم ِّ ماوية تدعو يقول ه�ؤالء املحررونَّ � :إن ال َّتعاليم ّ ال�س ّ الدينية ،ومنها الكتب َّ ِّ تتهدد الإن�سان بك ّل قوة َّ قوة عظيمة ال ُتدرك العقول ُك ْن َههاّ ، الب�رش �إىل خ�شية ّ م�صيبة يف احلياة فقط ،كما عند البوذية واليهودية� ،أو يف احلياة وبعد املمات،
33
اال�ستبداد وال ّدين
كما عند ال ّن�صارى والإ�سالم ،تهديداً ترتعد منه الفرائ�ص فتخور القوى، ثم تفتح هذه ال َّتعاليم �أبواب ًا وتنذهل منه العقول فت�ست�سلم للخبل واخلمولَّ ، ولكن ،على تلك الأبواب لل ّنجاة من تلك املخاوف جناة وراءها نعيم مقيم، ْ حجاب من الرباهمة والكهنة والق�سو�س و�أمثالهم الذين ال ي�أذنون لل ّنا�س ّ لِ وال�صغار ،ويرزقوهم با�سم نذر �أو ثمن ل ذ ت ال مع موهم يعظ مل ما خول بالد ِّ ّ ّ ّ ّ احلجاب يف بع�ض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء أولئك � إن � ى ت ح غفران، َّ َّ َّ بربها ما مل ي�أخذوا عنها مكو�س املرور �إىل القبور وفدية اخلال�ص الأرواح ِّ يرهبون ال ّنا�س من من مطهر الأعراف .وه�ؤالء املهيمنون على الأديان كم ِّ ثم ير�شدونهم �إىل � ْأن غ�ضب اهلل وينذرونهم بحلول م�صائبه وعذابه عليهمَّ ، ال خال�ص وال منا�ص لهم �إال بااللتجاء �إىل �سكان القبور الذين لهم دالة ،بل �سطوة على اهلل فيحمونهم من غ�ضبه. أ�سا�س من هذا القبيل، ال�سيا�سيني يبنون كذلك ا�ستبدادهم على � ٍ ويقولونَّ � :إن ّ ويذ ِّللونهم ال�شخ�صي وال ّت�شامخ فهم ي�سرتهبون ال ّنا�س بال ّتعايل ّ احل�سيُ ، ّ و�سلب الأموال ح َّتى يجعلوهم خا�ضعني لهم ،عاملني لأجلهم، والقوة بالقهر ِ ّ يتم َّتعون بهم ك�أ َّنهم نوع من الأنعام التي ي�رشبون �ألبانها ،وي�أكلون حلومها، ويركبون ظهورها ،وبها يتفاخرون. وال�سيا�سي، ويرون � َّأن هذا ال َّت�شاكل يف بناء ونتائج َ اال�ستبداد ْينِّ ، الديني ّ م�شرتكينْ يف العمل ،ك�أ َّنهما يدان جعلهما يف مثل فرن�سا خارج باري�س َ متعاونتان ،وجعلهما يف مثل رو�سيا م�شتب َكينْ ِ يف الوظيفة ،ك�أ َّنهما اللوح �سجالن ال�شقاء على الأمم. والقلم ُي ِّ ينجر بعوام الب�رشـ وهم ال�سواد القوتَينْ ُ قررون � َّأن هذا ال َّت�شاكل بني ّ وي ِّ ُّ بحق وبني الأعظم ـ �إىل نقطة � ْأن يلتب�س عليهم الفرق بني الإله املعبود ّ ملطاع بالقهر ،فيختلطان يف م�ضايق �أذهانهم من حيث ال َّت�شابه امل�ستبد ا ُ ّ ال�س�ؤال وعدم امل�ؤاخذة على الأفعال، يف ا�ستحقاق مزيد ال َّتعظيمِّ ، والرفعة عن ّ امل�ستبد النتفاء ال ّن�سبة بني عظمته بناء عليه ،ال يرون لأنف�سهم ح ّق ًا يف مراقبة ّ ً م�شرتكينْ ِ يف كث ٍري وجبارهم معبودهم العوام يجد أخرى: � وبعبارة ودناءتهم، َ َّ فرقوا مث ًال بني ي أن � أنهم وال�صفات ،وهم لي�س من �ش� ْ من احلاالت والأ�سماء ِّ ُ ِّ عما يفعل) وغري م�س�ؤول، ( َّ الفعال املطلق) ،واحلاكم ب�أمره ،وبني (ال ُي�س�أل ّ
34
عظمون بناء عليهُ ،ي ِّ وبني (املنعم) وو ّ يل النعم ،وبني (ج َّل �ش�أنه) وجليل َّ ال�ش�أنً . حليم كرمي، اجلبابرة تعظيمهم هلل ،ويزيدون تعظيمهم على ال َّتعظيم هلل ،لأ َّنه ٌ اجلبار فعاج ٌل حا�رض .والعوام ـ كما يقال ول َّأن عذابه �آج ٌل غائب ،و� َّأما انتقام َّ ٌ ي�صح �شاهد ،ح َّتى ـ عقولهم يف عيونهم ،يكاد ال يتجاوز فعلهم املح�سو�س ا ُ مل َ ّ الدنيا، � ْأن ُيقال فيهم :لوال رجا�ؤهم باهلل ،وخوفهم منه فيما يتع َّلق بحياتهم ّ الدالئل والأوراد رجحوا قراءة ّ ملا �ص ّلوا وال �صاموا ،ولوال �أملهم العاجل ،ملا َّ املقربني كما يعتقدون ـ على على قراءة القر�آن ،وال َّ رجحوا اليمني بالأولياء ـ َّ اليمني باهلل. املنحطة دعوى بع�ض �سهلت يف الأمم الغابرة َّ وهذه احلال ،هي التي َّ الرعية ،ح َّتى ِّ امل�ستبدين الألوهية على مراتب خمتلفة ،ح�سب ا�ستعداد �أذهان َّ قد�سية ي�شارك �سيا�سي �إىل الآن �إال وي َّتخذ له �صفة م�ستبد ُيقال� :إ َّنه ما من ٍّ ّ ّ مقام ذي عالقة مع اهلل .وال �أق َّل من � ْأن ي َّتخذ بطانة من بها اهلل� ،أو تعطيه َ أقل ما يعينون به اال�ستبداد، الدين يعينونه على ظلم ال َّنا�س با�سم اهلل ،و� ُّ َخ َد َم ِة ِّ قوة تفريق الأمم �إىل مذاهب و�شيع متعادية تقاوم بع�ضها بع�ض ًا ،فتتهاتر َّ فرخ ،وهذه �سيا�سة اجلو لال�ستبداد ليبي�ض ُ ال ّأمة ويذهب ريحها ،فيخلو ّ وي ِّ الإنكليز يف امل�ستعمرات ،ال ُي� ِّؤيدها �شيء مثل انق�سام الأهايل على �أنف�سهم، و�إفنائهم ب�أ�سهم بينهم ب�سبب اختالفهم يف الأديان واملذاهب. امل�ستبدين من �أمثال (�أبناء داود) و(ق�سطنطني) يف ن�رش وي َعلِّ ُلون � َّأن قيام ِّ ُ الدين بني رعاياهم ،وانت�صار مثل (فيليب ال ّثاين) الأ�سباين و(هرني ال ّثامن) ِّ الفاطمي احلاكم وقيام (انكيزي�سيون) جمال�س بت�شكيل ى ت ح ين، للد إنكليزي ال َّ ِّ ّ وفية ،وبنائهم لهم وال�سالطني الأعاجم يف الإ�سالم باالنت�صار لغالة ُّ ال�ص ّ َّ الدين وببع�ض �أهله املغ َّفلني ال ّتكايا ،مل ْ يكن �إال بق�صد اال�ستعانة مبم�سوخ ِّ وي� ّؤيدها � َّأن ال ّنا�س على ظلم امل�ساكني ،و�أعظم ما يالئم م�صلحة ّ امل�ستبد ُ فيودون ت�أليف ال ّأمة يتل ّقون قواعده و�أحكامه ب�إذعان بدون بحث وجدالّ ، عينه ،كثرياً ما يحاولون بناء على تل ّقي �أوامرهم مبثل ذلك ،ولهذا الق�صد ْ الدين. �أوامرهم �أو تفريعها على �شي ٍء من قواعد ِّ تنفك متى ويحكمون ب� َّأن بني يني مقارنة ال ُّ َ يا�سي ّ اال�ستبداد ْينّ : والد ّ ال�س ّ جر الآخر �إليه� ،أو متى زال ،زال رفيقه ،و� ْإن �صلح� ،أي ُوجِ د �أحدهما يف � ّأمة َّ
35
اال�ستبداد وال ّدين
جداً ال �ضعف ال ّأول� ،صلح� ،أي �ضعف ال ّثاين .ويقولونَّ � :إن �شواهد ذلك كثري ٌة ّ ال�سيا�سة يخلو منها ٌ ويربهنون على � َّأن ّ زمان وال مكانُ . الدين �أقوى ت�أثرياً من ّ بال�سك�سون� ،أي الإنكليز والهولنديني والأمريكان �إ�صالح ًا و�إف�ساداً ،ويمُ ّثلون ّ ال�سيا�سي والأملان الذين قبلوا حرر ّ ّ الديني يف الإ�صالح ّ الربوت�ستنتية ،ف�أثر ال ّت ّ يا�سية يف جمهور الالتني� ،أي ال�س ّ احلر ّية املطلقة ّ والأخالق �أكرث من ت�أثري ّ ال�سيا�سيون الفرن�سيني ّ والطليان واال�سبانيول والربتغال .وقد �أجمع الك ّتاب ّ ملد ِّققون ،باال�ستناد على ال ّتاريخ واال�ستقراء ،من � َّأن ما من � ّأمة �أو عائلة ا ُ ت�شدد فيه �إال واخت َّل نظام دنياه وخ�رس �أوالده الدين �أي َّ �أو �شخ�ص َت َن َّط َع يف ّ وعقباه. والدين مي�شيان ال�سيا�سة ّ ال�سيا�سيني يرون � َّأن ّ واحلا�صل � َّأن كل املد ِّققني ّ الدين هو �أ�سهل و�أقوى و�أقرب طريق للإ�صالح متكات َفينْ ،ويعتربون � َّأن �إ�صالح ّ ال�سيا�سي. ّ الدين يف الإ�صالح ا�ستخدم أي � امل�سلك، هذا �سلك من ل أو � كان ورمبا ِّ ّ امل�ستبدين يف حملهم ملوكهم على لوا حتي حيث اليونان، حكماء ال�سيا�سي ،هم ِّ َّ ّ ال�سيا�سة ب�إحيائهم عقيدة اال�شرتاك يف الألوهية، يف اال�شرتاك قبول على ّ �أخذوها عن الآ�شوريني ،ومزجوها ب�أ�ساطري امل�رصيني ب�صورة تخ�صي�ص العدالة ب�إله ،واحلرب ب�إله ،والأمطار ب�إله� ،إىل غري ذلك من ال ّتوزيع ،وجعلوا وحق الترّ جيح عند وقوع االختالف بينهم. حق ال ّنظارة عليهمّ ، لإله الآلهة ّ ثم بعد مت ُّكن هذه العقيدة يف الأذهان مبا �أُلب�ست من جاللة املظاهر و�سحر َّ البيان َ�س ُه َل على �أولئك احلكماء دفعهم ال ّنا�س �إىل مطالبة جبابرتهم بال ّنزول ال�سماء ،فان�صاع ملوكهم من مقام االنفراد ،وب� ْأن تكون �إدارة الأر�ض ك�إدارة ّ �إىل ذلك ُم ْكرهني .وهذه هي الو�سيلة العظمى التي م َّكنت اليونان �أخرياً من الرومان .وهذا الأ�صل مل يزل �إقامة جمهوريات �أثينا و�إ�سبارطة ،وكذلك فعل ّ املثال القدمي لأ�صول توزيع الإدارة يف احلكومات امللكية واجلمهوريات على �أنواعها �إىل هذا العهد. �إنمَّ ا هذه الو�سيلة� ،أي ال َّت�رشيك ،ف�ض ًال عن كونها باطلة يف ذاتهاَ ،ن َت َج عنها فتحت للم�شعوذين من �سائر طبقات ال ّنا�س باب ًا أ�رض كثرياً ،وذلك �أ َّنها ُّ ْ رد فعلٍ � َّ �رصفات ت وال ة �سي د ق ال فات كال�ص ألوهية، ل ا خ�صائ�ص من �شيء لدعوى ا وا�سع ً ُ ّ ُّ ْ ّ ّ
36
يتهجم على مثلها غري �أفراد من اجلبابرة ،كنمرود الر ّ وحية ،وكان قبل ذلك ال ّ ُّ يف. والبادري الربهمي عيها يد �صار ثم ومو�سى، وفرعون إبراهيم و� وال�صو ّ َّ ّ ُّ َّ ّ وملالءمة هذه املف�سدة لطباع الب�رش من وجوه كثرية ـ لي�س بحثنا هذا حم ّلها امل�ستبدين. وعمت وج َّندت جي�ش ًا عرمرم ًا يخدم ِّ ـ انت�رشت ّ وقد جاءت ال ّتوراة بال َّن�شاط ،فخ َّل�صتهم من خمول اال ِّتكال بعد �أن بلغ فيهم ونبيه يقاتالن عنهم ،وجاءتهم بال ّنظام بعد فو�ضى الأحالم، � ْأن ُيكلِّفوا اهلل ّ املتعددة باملالئكة، ورفعت عقيدة ال ّت�رشيكُ ،م�ستبدل ًة ـ مث ًال ـ �أ�سماء الآلهة ِّ ثم جاء الإجنيل ب�سل�سبيل ولكن ،مل َ ْ ير�ض ملوك �آل كوهني بال َّتوحيد ف�أف�سدوهَّ . ِ الدعة واحل ْلم ،ف�صادف �أفئد ًة حمروق ًة بنار الق�ساوة واال�ستبداد ،وكان �أي�ض ًا ّ ولكن ،مل ي ْق َو ُدعاته ال َّأولون على تفهيم تلك الأقوام م� ّؤيداً لنامو�س ال ّتوحيدْ ، أبوة املنحطة ،الذين بادروا لقبول ال َّن َّ ّ �رصانية قبل الأمم املرت ِّقيةَّ � ،أن ال ّ جمازيتان ُيعبرَّ بهما عن معنى ال يقبله العقل �إال ت�سليم ًا، والبنوة �صفتان َّ ّ كم�س�ألة القدر التي ورثت الإ�سالمية ال ّتفل�سف فيها عن �أديان اليهود و�أوهام حقيقي ،لأ ّنه �أقرب والبنوة مبعنى توالد أبوة ّ اليونان .ولهذا ،تل َّقت تلك الأمم ال ّ ّ �إىل مداركهم الب�سيطة التي ي�صعب عليها تناول ما فوق املح�سو�سات ،ولأ ّنهم كانوا قد �ألفوا االعتقاد يف بع�ض جبابرتهم ال ّأولني �أ َّنهم �أبناء اهلل ،ف َكبرُ َ ال�سالم �صفة هي دون مقام �أولئك امللوك. عليهم � ْأن يعتقدوا يف مو�سى عليه ّ تلب�ست ثوب ًا غري ثوبها، ثم ّ ملا انت�رشت ال ّن�رصانية ودخلها �أقوام خمتلفونَّ ، َّ فتو�سعت بر�سائل بول�س ونحوها ،فامتزجت �سلفتها، التي أديان ل ا �سائر كما َّ للرومان وامل�رصيني ُم�ضافة على �شعائر الإ�رسائيليني ب�أزياء و�شعائر وثنية ُّ و�أ�شياء من الأ�ساطري وغريها ،و�أ�شياء من مظاهر امللوك ونحوها .وهكذا عظم رجال الكهنوت �إىل درجة اعتقاد ال ّنيابة عن اهلل �صارت ال ّن�رصانية ُت ِّ مما رف�ضه �أخرياً الربوت�ستان، والع�صمة عن اخلط�أ َّ وقوة ال َّت�رشيع ،ونحو ذلك ّ الراجعني يف الأحكام لأ�صل الإجنيل. �أي ّ �رصانيةُ ،م� َّؤ�س�س ًا على احلكمة لليهودية وال ّن ثم جاء الإ�سالم مه ِّذب ًا ّ ّ َّ ِ املتو�سطة يا�سية ال�س ة ي احلر لقواعد ا م ك و ية، ل ك بال �رشيك ت لل ا هادم والعزم، ً ُ ً ِّ ّ محُ ّ ّّ ّ ونزع ك َّل �سلطة دينية وحيد، ت ال �س أ�س � ف ّ َ بني ِّ الدميوقراطية والأر�ستقراطيةَّ ، بية تتح َّكم يف ال ّنفو�س �أو يف الأج�سام ،وو�ضع �رشيعة حكمة �إجمالية �أو تغ ّل ّ
37
اال�ستبداد وال ّدين
فطرية �سامية ،و�أظهر للوجود مدنية ّ �صاحلة لك ِّل زمان وقوم ومكان ،و�أوجد ّ الرا�شدين التي مل ي�سمح ال ّزمان مبثال لها بني الب�رش حكومة كحكومة اخللفاء ّ ح َّتى ومل يخلفهم فيها بني امل�سلمني �أنف�سهم خلف� ،إال بع�ض �شواذ ،كعمر ال�شهيد .ف� َّإن ه�ؤالء اخللفاء الدين ّ ا�سي ونور ّ بن عبد العزيز واملهتدي ّ العب ّ الرا�شدين فهموا معنى ومغزى القر�آن ال ّنازل بلغتهم ،وعملوا به وا َّتخذوه ّ ق�ض ْت بال ّت�ساوي ح َّتى بينهم �أنف�سهم وبني فقراء حكومة ؤوا ش� أن� � ف ، ا إمام � ً َ ال ّأمة يف نعيم احلياة و�شظفها ،و�أحدثوا يف امل�سلمني عواطف �أخوة وروابط هيئة اجتماعية ا�شرتاكية ال تكاد توجد بني �أ�شقاء يعي�شون ب�إعالة � ٍأب واحد ويف ح�ضانة � ٍّأم واحدة ،ل ُك ٍّل منهم وظيفة �شخ�صية ،ووظيفة عائلية ،ووظيفة حمدي الطراز ال ّنبوي ا ُ الريا�سة هو ِّ قومية .على � َّأن هذا ّ مل َّ الطراز ّ ال�سامي من ّ ثم �أخذ بال ّتناق�ص ،و�صارت ال ّأمة الذي مل يخلفه فيه ح ّق ًا غري �أبي بكر وعمرَّ ، الدين �إذا مل تطلبه وتبكيه من عهد عثمان �إىل الآن ،و�سيدوم بكا�ؤها �إىل يوم ِّ الطراز الذي اهتدت �إليه بع�ض �سيا�سي تنتبه ال�ستعوا�ضه بطراز �شوري ،ذلك ّ ّ ّ ي�صح � ْأن نقول ،قد ا�ستفادت من الإ�سالم �أكرث �أمم الغرب ،تلك الأمم التي ،لربمّ ا ُّ مما ا�ستفاده امل�سلمون. ّ م�شحون بتعاليم �إماتة اال�ستبداد و�إحياء العدل الكرمي آن � القر وهذا ٌ وال ّت�ساوي ح ّتى يف الق�ص�ص منه ،ومن جملتها قول بلقي�س ملكة �سب�أ من تخاطب �أ�رشاف قومها( :يا � ُّأيها امللأُ �أفتوين يف �أمري ما كنت عرب ُت َّبع ُ �شهدون * قالوا نحن �أولوا ٍ قوة و ُ�أولوا ب� ٍأ�س �شدي ٍد والأمر قاطع ًة �أمراً حتى َت َ � ِ إليك فانظري ماذا ت�أمرين * قالت � َّإن امللوك �إذا دخلوا قري ًة �أف�سدوها وجعلوا �أع ّزة �أهلها �أ ِذل ًة وكذلك يفعلون). الرعية، فهذه الق�صة ُتعلِّم كيف ينبغي �أن ي�ست�شري امللوك امللأ� ،أي �أ�رشاف َّ القوة والب�أ�س يف يد و�أن ال يقطعوا �أمراً �إال بر�أيهم ،وت�شري �إىل لزوم �أن تحُ فظ ّ الرعية ،و�أن يخ�ص�ص امللوك بال ّتنفيذ فقط ،و�أن يكرموا بن�سبة الأمر �إليهم ّ وتقبح �ش�أن امللوك امل�ستبدين. ، ا توقري ً ّ ومن هذا الباب �أي�ض ًا ما ورد يف ق�صة مو�سى عليه ال�سالم مع فرعون ل�ساحر عليم * يريد �أن يف قوله تعاىل( :قال امللأ من قوم فرعون � َّإن هذا ٌ يخرجكم من �أر�ضكم فماذا ت�أمرون)� ،أي قال الأ�رشاف بع�ضهم لبع�ض :ماذا
38
ر�أيكم؟ (قالوا) خطاب ًا لفرعون وهو قرارهم�( :أَرجِ ه و�أخاه و� ِ أر�سل يف املدائن ثم و�صف مذاكراتهم بقوله تعاىل: حا�رشين * ي�أتوك بك ِّل �ساح ٍر عليم)ّ ، أ�رسوا النجوى)� ،أي �أف�ضت مذاكراتهم (فتنازعوا �أمرهم)� ،أي ر�أيهم (بينهم و� ُّ العلنية �إىل ال ّنزاع ف�أجروا مذاكرة �رسية طبق ما يجري �إىل الآن يف جمال�س ال�شورى العمومية. تقدم ،ال جمال لرمي الإ�سالمية بت�أييد اال�ستبداد مع ت�أ�سي�سها بناء على ما ّ ً البينات التي منها قوله تعاىل( :و�شاورهم يف الأمر)� ،أي آيات ل ا مئات على ِّ يف ال�ش�أن ،ومن قوله تعاىل( :يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول و�أويل الأمر منكم)� ،أي �أ�صحاب الر�أي وال�ش�أن منكم ،وهم العلماء والر�ؤ�ساء على ما ا َّتفق عليه �أكرث املف�سرِّ ين ،وهم الأ�رشاف يف ا�صطالح ال�سيا�سيني. أمر فرعون)� ،أي ما �ش�أنه، ومما ي� ِّؤيد هذا املعنى �أي�ض ًا قوله تعاىل( :وما � ُ وحديث (�أمريي من املالئكة جربيل)� ،أي م�شاوري. ولي�س بالأمر الغريب �ضياع معنى (و�أُويل الأمر) على كثري من الأفهام يحرفون ال َك ِل َم عن موا�ضعه ،وقد �أغفلوا معنى بت�ضليل علماء اال�ستبداد الذي ِّ لتطرق �أفكار امل�سلمني �إىل التفكري ب� ّأن قيد (منكم)� ،أي امل�ؤمنني منع ًا ُّ التدرج �إىل معنى �آية (�إن اهلل ي�أمر الظاملني ال يحكمونهم مبا �أنزل اهللَّ ، ثم ُّ بالعدل)� ،أي بالت�ساوي( ،و�إذا حكمتم بني النا�س �أن حتكموا بالعدل)� ،أي ثم ينتقل �إىل معنى �آية( :ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الت�ساويّ ، ثم ي�ستنتج عدم وجوب طاعة الظاملني و�إن قال بوجوبها بع�ض الكافرون)َّ . الفقهاء املمالئني دفع ًا للفتنة التي حت�صد �أمثالهم ح�صداً .والأغرب من هذا ج�سارتهم على ت�ضليل الأفهام يف معنى (�أمر) يف �آية( :و�إذا �أردنا �أن نهلك فدمرناها تدمرياً) ،ف�إنهم قري ًة �أمرنا مرتفيها فف�سقوا فيها َّ فحق عليها القول َّ علواً كبرياً، مل يبالوا �أن ين�سبوا �إىل اهلل الأمر بالف�سق ...تعاىل اهلل عن ذلك ّ واحلقيقة يف معنى (�أمرنا) هنا �أ َّنه مبعنى �أمرِنا -بك�رس امليم �أو ت�شديدها - فحق عليهم العذاب، �أي جعلنا �أمراءها مرتفيها فف�سقوا فيها (�أي ظلموا �أهلها) ّ �أي (نزل بهم العذاب). معنى ُعرفي ًا ،وهو احلكم والأغرب من هذا وذاك� ،أ َّنهم جعلوا للفظة العدل ً تدل على غري هذا مبقت�ضى ما قاله الفقهاء ،حتى �أ�صبحت لفظة العدل ال ُّ
39
اال�ستبداد وال ّدين
املعنى ،مع � ّأن العدل لغ ًة للت�سوية ،فالعدل بني ال ّنا�س هو الت�سوية بينهم، وهذا هو املراد يف �آية�( :إن اهلل ي�أمر بالعدل) ،وكذلك الق�صا�ص يف �آية( :ولكم يف الق�صا�ص حيا ٌة) املتواردة مطلق ًا ،ال املعاقبة باملثل فقط على ما يتبادر الدين غري الوقوف �إىل �أذهان الأُ�رساء ،الذين ال يعرفون لل ّت�ساوي موقع ًا يف ِّ بني يدي الق�ضاة. قبل �شهادتهم ل�سقوط عدالتهم ،فذكروا ح ّتى من وقد ّ عدد الفقهاء من ال ُت َ ف�سقوا الأمراء ي�أكل ما�شي ًا يف الأ�سواق، ّ ولكن �شيطان اال�ستبداد �أن�ساهم �أن ُي ِّ فريدوا �شهادتهم .ولع ّل الفقهاء ُيع َذرون ب�سكوتهم هنا مع ت�شنيعهم الظاملني ّ على الظاملني يف مواقع �أخرى ،ولكن ،ما عذرهم يف حتويل معنى الآية: (ولتكن منكم � ّأم ٌة يدعون �إىل اخلري وي�أمرون باملعروف وينهون عن املنكر) �إىل � ّأن هذا الفر�ض هو فر�ض كفاية ال فر�ض عني؟ واملراد منه �سيطرة �أفراد امل�سلمني بع�ضهم على بع�ض ،ال �إقامة فئة ت�سيطر على حكامهم كما اهتدت فخ�ص�صت منها جماعات با�سم جمال�س ّنواب، �إىل ذلك الأمم املوفقة للخري، ّ وظيفتها ال�سيطرة واالحت�ساب على الإدارة العمومية :ال�سيا�سية واملالية والت�رشيعية ،فتخ ّل�صوا بذلك من �ش�آمة اال�ستبداد� .ألي�ست هذه ال�سيطرة وهذا االحت�ساب ب�أهم من ال�سيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من �أين جاء فقهاء اال�ستبداد بتقدي�س احل ّكام عن امل�س�ؤولية حتى �أوجبوا لهم احلمد �إذا عدلوا، وعدوا ك ّل معار�ضة لهم بغي ًا يبيح دماء ال�صرب عليهم �إذا ظلمواّ ، و�أوجبوا ّ املعار�ضني؟! الدين الذي �أنزلت ،فال اللهمّ � ،إن امل�ستبدين و�رشكاءهم قد جعلوا دينك غري ِّ ِّ قوة �إال بك! حول وال ّ كذلك ما ُعذر ال�صوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم �أن يقولوا: ولي ًا من �أولياء اهلل ،وال ي�أتي �أمراً �إال ب�إلهام من اهلل، ال يكون الأمري الأعظم �إال ّ ويت�رصف قطب الغوث باطن ًا! �أال �سبحان اهلل يت�رصف يف الأمور ظاهراً، و�إنه َّ َّ ما �أحلمه! حيث �أر�سل لهم ر�سو ًال من �أنف�سهم نعم ،لوال ُحلم اهلل خل�سف الأر�ض بالعربُ ، راع � ّأ�س�س لهم �أف�ضل حكومة �أُ ِّ�س َ�ست يف ال ّنا�س ،جعل قاعدتها قوله( :ك ُّلكم ٍ �سلطان عام وم�س�ؤول عن الأمة .وهذه رعيته)� ،أي ك ٌّل منكم وك ُّلكم م�س� ٌ ٌ ؤول عن ّ
40
م�رشع �سيا�سي من الأولني والآخرين، اجلملة التي هي �أ�سمى و�أبلغ ما قاله ِّ حرف املعنى عن ظاهره وعموميته� ،إىل � َّأن امل�سلم فجاء من املنافقني من َّ حرفوا معنى الآية( :وامل�ؤمنون ٍ راع على عائلته وم�س�ؤول عنها فقط .كما َّ أولياء بع�ض) على والية ال�شهادة دون الوالية العامة. � هم بع�ض ؤمنات � وامل ُ ُ الدين ،وطم�سوا على العقول حتى جعلوا لوا وبد اللغة، مفهوم وهكذا غيرّ وا ِّ َّ احلرية ،بل جعلوهم ال يعقلون كيف حتكم ال ّنا�س ين�سون لغة اال�ستقالل ،وع ّزة ّ � ّأم ٌة نف�سها بنف�سها دون �سلطانٍ قاهر. وك� ّأن امل�سلمني مل ي�سمعوا بقول ال ّنبي عليه ال�سالم( :ال ّنا�س �سوا�سية أ�صح ك�أ�سنان امل�شط ،ال ف�ضل لعربي على �أعجمي �إال بال ّتقوى) .وهذا احلديث � ُّ ٍّ الأحاديث ملطابقته للحكمة وجميئه مف�سرِّ اً الآية (� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم) ف� َّإن اهلل ج َّل �ش�أنه �ساوى بني عباده م�ؤمنني وكافرين يف املكرمة بقوله: ثم جعل الأف�ضلية يف الكرامة للم َّتقني فقط .ومعنى بني �آدم) َّ (ولقد َّ كرمنا َ ال َّتقوى لغ ًة لي�س كرثة العبادة ،كما �صار �إىل ذلك حقيقة ُعرفية غر�سها علماء اال�ستبداد القائلني يف تف�سري (عند اهلل)� ،أي يف الآخرة دون الدنيا ،بل ال َّتقوى لغ ًة هي اال ِّتقاء� ،أي االبتعاد عن رذائل الأعمال احرتازاً من عقوبة اهلل .فقوله: (� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم) كقولهَّ � :إن �أف�ضل ال ّنا�س �أكرثهم ابتعاداً عن الآثام و�سوء عواقبها. احلرية برفعها ك ّل وقد ظهر مما َّ تقدم � َّأن الإ�سالمية م�ؤ�س�سة على �أ�صول ّ وبح�ضها على �سيطرة وحت ُّكم ،ب�أمرها بالعدل وامل�ساواة والق�سط والإخاء، ِّ ال�شورى الأري�ستوقراطية، الإح�سان والتحابب .وقد جعلت �أ�صول حكومتهاّ : �أي �شورى �أهل احل ِّل والعقد يف الأمة بعقولهم ال ب�سيوفهم .وجعل �أ�صول �إدارة الأمة :الت�رشيع الدميوقراطي� ،أي اال�شرتاكي ح�سبما ي�أتي فيما بعد .وقد مت م�ضى عهد النبي (عليه ال�سالم) وعهد اخللفاء الرا�شدين على هذه الأ�صول ب�أ ّ و�أكمل �صورها .ومن املعلوم �أ ّنه ال يوجد يف الإ�سالمية نفوذ ديني مطلق ًا يف غري م�سائل �إقامة �شعائر الدين ،ومنها القواعد العامة الت�رشيعية التي ال تبلغ امل�رشعون من قبل وحكم ،ك ُّلها من � َأج ّل و�أح�سن ما اهتدى �إليه ِّ مائة قاعدة ُ احلر ،احلكيم ،ال�سهل ،ال�سمح ،الظاهر ومن بعد .ولكن ،وا�أ�سفاه على هذا الدين ّ فيه �آثار الرقي على غريه من �سوابقه ،الدين الذي رفع الإ�رص والأغالل،
41
اال�ستبداد وال ّدين
و�أباد امليزة واال�ستبداد .الدين الذي ظلمه اجلاهلون ،فهجروا حكمة القر�آن الدين الذي فقد الأن�صار الأبرار واحلكماء الأخيار، ودفنوها يف قبور الهوانّ . ف�سطا عليه امل�ستبدون واملرت�شحون لال�ستبداد ،وا َّتخذوا و�سيلة لتفريق ف�ضيعوا مزاياه، الكلمة وتق�سيم الأمة َ �شيع ًا ،وجعلوه �آلهة لأهوائهم ال�سيا�سيةّ ، وحيرّ وا �أهله بالتقريع والتو�سيع ،والت�شديد والت�شوي�ش ،و�إدخال ما لي�س منه يتوهم فيه كما فعل قبلهم �أ�صحاب الأديان ال�سائرة ،حتى جعلوه دين ًا حرج ًا ّ ن�سب ال�سم �إ�سالمي هو دونه املتفننون بني د َّفتي كتاب ُي َ النا�س فيه � َّأن ك َّل ما ّ من الدين ،ومبقت�ضاها �أنه ال يقوى على القيام بواجباته و�آدابه ومزيداته� ،إال من ال عالقة له باحلياة الدنيا ،بل �أ�صبحت مبقت�ضاها حياة الإن�سان الطويل العمر ،العاطل عن ك ِّل عمل ،ال تفي بتع ُّلم ما هي الإ�سالمية عجزاً عن متييز ال�صحيح من الباطل من تلك الآراء املت�شعبة التي �أطال �أهلها فيها اجلدال واملناظرة ،وما افرتقوا �إال وك ٌّل منهم يف موقفه الأول يظهر �أنه �ألزم خ�صمه احلجة و�أ�سكته بالربهان ،واحلقيقة � َّأن ك ًال منهم قد �سكت تعب ًا وكال ًال من ّ امل�شاغبة. الدين مناف�سو املجو�س ،انفتح على ال ّأمة وبهذا ال ّت�شديد الذي �أدخله على ّ التلوم على النف�س ف�ض ًال عن حما�سبة احلكام املنوط بهم قيام العدل باب ّ وال ِّنظام .وهذا الإهمال للمراقبة ،هو �إهمال الأمر باملعروف وال ّنهي عن املنكر، وقد �أو�سع لأمراء الإ�سالم جمال اال�ستبداد وجتاوز احلدود .وبهذا وذاك ظهر لي�ستعملن اهلل عليكم ولتنهون عن املنكر �أو أمرن باملعروف ّ ّ ُحكم حديث( :لت� ّ �رشاركم فلي�سومونكم �سوء العذاب) ،و�إذا تتبعنا �سرية �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل مفطورين خري فطرة ،ونائلني الرتبية عنهما مع ال ّأمة ،جند �أ ّنهما مع كونهما َ النبوية ،مل ترتك الأمة معهما املراقبة واملحا�سبة ،ومل تطعهما طاع ًة عمياء. وقد جمع بع�ضهم جملة مما اقتب�سه و�أخذه امل�سلمون عن غريهم ،ولي�س هو من دينهم بال ّنظر �إىل القر�آن واملتواترات من احلديث و�إجماع ال�سلف الأول فقال: (اقتب�سوا) من الن�رصانية مقام البابوية با�سم الغوثية ،و(�ضاهوا) يف الأو�صاف والأعداد �أو�صاف و�أعداد البطارقة ،والكردينالية وال�شهداء والأ�ساقفة ،و(حاكوا) مظاهر القدي�سني وعجائبهم ،والدعاة املب�شرّ ين
42
والرهبنات ور�ؤ�سائها ،وحالة الأديرة وبادريتها .والرهبنات و�صربهمّ ، الرق�ص على ور�سومها َّ واحلمية وتوقيتها ،و(ق ّلدوا) الوثنيني الرومانيني يف ّ �أنغام الناي والتغايل يف تطييب املوتى واالحتفال الزائد يف اجلنائز وت�رسيح الذبائح معها ،وتكليلها وتكليل القبور بالزهور .و(�شاكلوا) مرا�سم الكنائ�س وزينتها ،والب َِيع واحتفاالتها ،والرت ّنحات ووزنها ،والرتنمُّ ات و�أ�صولها، الرحال لزيارتها ،والإ�رساج عليها، و�إقامة الكنائ�س على القبور، ّ و�شد ِّ التربك بالآثار :كالقدح واخل�ضوع لديها ،وتعليق الآمال ب�سكانها .و(�أخذوا) ّ واحلربة والد�ستار ،من احرتام الذخرية وقد�سية العكاز ،وكذلك �إمرار اليد على ال�صدر عند ذكر ال�صاحلني ،من �إمرارها على ال�صدر لإ�شارة ال�صليب .و(انتزعوا) ّ وال�سقيا �سم، الر من واخلالفة احللول، من الوجود ووحدة ، ال�رس من احلقيقة ّ ّ ّ من تناول القربان ،واملولد من امليالد ،وحفلته من الأعياد ،ورفع الأعالم من امل�صدرة بال ّنداء على اجلدران من تعليق حمل ال�صلبان ،وتعليق �ألواح الأ�سماء َّ انحناء �أمام التوجه بالقلوب ال�صور والتماثيل ،واال�ستفا�ضة واملراقبة من ً ّ ّ وال�س َّنة كحظر الكاثوليك الكتاب ن�صو�ص من اال�ستهداء و(منعوا) أ�صنام. ال ُ الدليل من التوراة التفهم من الإجنيل ،وامتناع �أحبار اليهود عن �إقامة ّ ّ يف الأحكام .و(جاءوا) من املجو�سية با�ستطالع الغيب من الفلك ،وبخ�شية �أو�ضاع الكواكب وبا ِّتخاذ �أ�شكالها �شعاراً للملك ،وباحرتام النار ومواقدها. و(ق ّلدوا) البوذيني حرف ًا بحرف يف الطريق والريا�ضة وتعذيب اجل�سم بالنار ودق الطبول وال�صنوج وال�سالح ،واللعب باحليات والعقارب و�رشب ال�سمومّ ، ّ وجعل رواتب من الأدعية والأنا�شيد والأحزاب ،واعتقاد ت�أثري العزائم ونداء الأ�سماء وحمل التمائم� ،إىل غري ذلك مما هو ُم�شاهد يف بوذيي الهند وجمو�س وال�سند �إىل يومنا هذا .وقد قيل �إ ّنه نقله �إىل الإ�سالمية :جون و�ست، فار�س ّ و�سلطان علي منال ،والبغدادي ،وحا�شية فالن ال�شيخ وفالن الفار�سي ،على � ّأن �إ�سناد ذلك �إىل �أ�شخا�ص معينني يحتاج �إىل تثبيت .و(ل َّفقوا) من الأ�ساطري �سموها لدنيات. والإ�رسائيليات �أنواع ًا من القربات ،وعلوم ًا ّ كذلك ُيقال عن مبتدعي الن�صارى ،من � ّأن �أكرث ما اعتربه املت�أخرون منهم من ال�شعائر الدينية -حتى م�شكلة التثليث -ال �أ�صل له فيما ورد عن بتدع وكثريها نف�س امل�سيح عليه ال�سالم� ،إمنا هو مزيدات وترتيبات قليلها ُم َ
43
اال�ستبداد وال ّدين
م َّتبع .وقد اكت�شف العلماء الآثاريون من ال�صفائح احلفرية الهندية والآ�شورية ال�صحف التي ُوجدت يف نواوي�س امل�رصيني الأقدمني ،على م�آخذ ومن ّ �أكرثها .وكذلك وجدوا ملزيدات التلمود وبدع الأحبار �أ�صو ًال يف الأ�ساطري والآثار والألواح الآ�شورية ،وتر ّقوا يف التطبيق والتدقيق �إىل �أن وجدوا معظم اخلرافات امل�ضافة �إىل �أ�صول عامة الأديان يف ال�رشق الأدنى مقتب�سة من الو�ضعيات املن�سوبة لنحل ال�رشق الأق�صى ،وقد ك�شفت الآثار � ّأن اال�ستبداد �أخفى تاريخ الأديان وجعل �أخبار من�شئها يف ظالم مطبق ،ح ّتى � َّإن �أعداء الأديان املت�أخرين �أمكنهم �أن ينكروا �أ�سا�س ًا وجود مو�سى وعي�سى عليهما �شو�ش اال�ستبداد يف امل�سلمني تاريخ �آل البيت عليهم الر�ضوان، ال�سالم ،كما ّ ِ ت�شيعت لهم كالإمامية والإ�سماعيلية الأمر الذي تو ّلد عنه ظهور الف َرق التي َّ والزيدية واحلاكمية وغريهم. و�شوهت الأديان تكاد ُك ُّلها �شو�شت الإميان َّ واخلال�صة � ّأن الب َِدع التي َّ تت�سل�سل بع�ضها من بع�ض ،وتتو ّلد جميعها من غر�ض واحد هو املراد� ،أال وهو اال�ستعباد. للم�ستبدين من اخللفاء وامللوك وال ّناظر املد ّقق يف تاريخ الإ�سالم يجد ّ الأولني ،وبع�ض العلماء الأعاجم ،وبع�ض مق ّلديهم من العرب املت�أخرين �أقوا ًال افرتوها على اهلل ور�سوله ت�ضلي ًال للأمة عن �سبيل احلكمة ،يريدون يتم نوره ،فحفظ بها �إطفاء نور العلم و�إطفاء نور اهلل ،ولكن� ،أبى اهلل �إال �أن ّ مت�سه يد للم�سلمني كتابه الكرمي الذي هو �شم�س العلوم وكنز احلكم من �أن ّ التحريف ،وهي �إحدى معجزاته لأ َّنه قال فيها�( :إ ّنا نحن ن َّزلنا ال ِّذكر و�إ َّنا له م�سه املنافقون �إال بالت�أويل ،وهذا �أي�ض ًا من معجزاته ،لأنه حلافظون) فما ّ �أخرب عن ذلك يف قوله( :ف�أما ا َّلذين يف ُق ُلوبهم َزي ٌغ في َّتبعون ما ت�شابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء ت�أويله). و�إين �أُم ِّثل للمطالعني ما فعله اال�ستبداد يف الإ�سالم ،مبا حجر على العلماء ق�سمي الآالء والأخالق تف�سرياً مد ِّق َق ًا ،لأنهم كانوا احلكماء من �أن يف�سرِّ وا َ املقربني يخافون خمالفة ر�أي بع�ض ال ُغ َّفل ال�سالفني �أو بع�ض املنافقني َّ فيق َتلون .وهذه م�س�ألة �إعجاز القر�آن ،وهي �أهم م�س�ألة فيك َّفرون ُ املعا�رصينُ ، الدين مل يقدروا �أن يوفوها ح ّقها من البحث ،واقت�رصوا على ما قاله يف ِّ
44
ال�سلف قو ًال جمم ًال من �أ َّنها ق�صور الطاقة عن الإتيان مبثله يف فيها بع�ض ّ الروم بعد غلبهم �سيغلبون .مع �أنه لو ف�صاحته وبالغته ،و�أ ّنه �أخرب عن � ّأن ّ ُفتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الر�أي والت�أليف ،كما �أُطلق عنان التخريف لأهل الت�أويل واحلُكم ،لأظهروا يف �ألوف من �آيات القر�آن �ألوف �آيات الإعجاز، ولر�أوا فيه ك ّل يوم �آية تتجدد مع الزمان واحلدثان تربهن �إعجازه ب�صدق كتاب مبني) وجلعلوا الأمة ت�ؤمن ب�إعجازه طب وال ٍ ياب�س �إال يف ٍ قوله( :وال َر ٍ عن برهان وعيان ال جمرد ت�سليم و�إذعان. ومثال ذلكَّ � :أن العلم ك�شف يف هذه القرون الأخرية حقائق وطبائع كثرية ُتعزى لكا�شفيها وخمرتعيها من علماء �أوروبا و�أمريكا ،واملدقق يف القر�آن يجد �أكرثها ورد به ال ّت�رصيح �أو التلميح يف القر�آن منذ ثالثة ع�رش قرن ًا ،وما بقيت م�ستورة حتت غ�شاء من اخلفاء �إال لتكون عند ظهورها معجزة للقر�آن رب ال يعلم الغيب �سواه ،ومن ذلك �أ ّنهم قد ك�شفوا � ّأن مادة �شاهدة ب�أ ّنه كالم ٍّ (ثم ا�ستوى �إىل ال�سماء الكون هي الأثري ،وقد و�صف القر�آن بدء التكوين فقالَّ : وهي دخان) وك�شفوا � ّأن الكائنات يف حركة دائمة دائبة والقر�آن يقول( :و�آي ٌة لهم الأر�ض امليت ُة �أحييناها) �إىل �أن يقول( :وك ٌّل يف ٍ فلك ي�سبحون). ال�سموات وحققوا � َّأن الأر�ض منفتقة يف النظام ال�شم�سي ،والقر�آن يقولَّ �( :أن ّ والأر�ض كانتا رتق ًا ففتقناهما). من�شق من الأر�ض ،والقر�آن يقول�( :أفال يرون �أ ّنا ن�أتي وحققوا � َّأن القمر ٌّ ِ وان�شق القمر). ال�ساعة الأر�ض ننق�صها من �أطرافها) .ويقول: َّ (اقرتبت ّ وحققوا � َّأن طبقات الأر�ض �سبع ،والقر�آن يقول( :اهلل الذي خلق �سبع ٍ �سموات ومن الأر�ض مثلهن) جت وحققوا �أ ّنه لوال اجلبال القت�ضى ال ّثقل النوعي �أن متيد الأر�ض� ،أي تر ّ روا�سي �أن متيد بكم). يف دورتها ،والقر�آن يقول( :و�ألقى يف الأر�ض َ وك�شفوا � َّأن �رس الرتكيب الكيماوي -بل واملعنوي -هو تخالف ن�سبة (وكل �شي ٍء عنده مبقدار). املقادير و�ضبطها ،والقر�آن يقولُّ : وك�شفوا � َّأن للجمادات حياة قائمة مباء التبلور والقر�آن يقول( :وجعلنا من املاء ك َّل �شي ٍء حي). وحققوا � ّأن العامل الع�ضوي ،ومنه الإن�سان ،تر ّقى من اجلماد ،والقر�آن
45
اال�ستبداد وال ّدين
ٍ �ساللة من طني). يقول( :ولقد خلقنا الإن�سان من وك�شفوا نامو�س اللقاح العام يف النبات ،والقر�آن يقول( :خلق الأزواج ك ّلها مما تنبت الأر�ض) ويقول( :ف�أخرجنا به �أزواج ًا من ٍ نبات �ش ّتى) ،ويقول: زوج بهيج) .ويقول( :ومن ك ِّل الثمرات جعل فيها زوجني وربت من ك ِّل ٍ (اهت ّزت َ اثنني). الظل� ،أي الت�صوير ال�شم�سي ،والقر�آن يقول�( :أمل َت َر وك�شفوا طريقة �إم�ساك ِّ م�س عليه دلي ًال). مد ِّ ثم جعلنا ّ ربك كيف َّ �إىل ِّ الظ َّل ولو �شاء جلعله �ساكن ًا َّ ال�ش َ ال�سفن واملركبات بالبخار والكهرباء والقر�آن يقول ،بعد وك�شفوا ت�سيري ّ ذكره الدواب واجلواري بالريح( :وخلقنا لهم من مثله ما يركبون). وك�شفوا وجود امليكروب ،وت�أثريه وغريه من الأمرا�ض ،والقر�آن يقول: ٍ بحجارة من (و�أر�سل عليهم طرياً �أبابيل)� ،أي متتابعة متجمعة (ترميهم �سجيل)� ،أي من طني امل�ستنقعات الياب�س� .إىل غري ذلك من الآيات الكثرية ّ املحققة لبع�ض مكت�شفات علم الهيئة والنوامي�س الطبيعية .وبالقيا�س على ما �رسها يف امل�ستقبل يف وقتها َّ تقدم ذكره ،يقت�ضي � َّأن كثرياً من �آياته �سينك�شف ُّ كر اجلديدان ،فال وما الزمان مادام الغيب يف ا عم إعجازه ل ا جتديد املرهون، ً ّ َّ ُب َّد �أن ي�أتي يوم يك�شف العلم فيه � َّأن اجلمادات �أي�ض ًا تنمو باللقاح كما ت�شري �إىل ذلك �آية (ومن ك ِّل �شي ٍء خلقنا زوجني).
46
اال�ستبداد والعلم يت�رصف يف بالو�صي اخلائن القوي، امل�ستبد يف ن�سبته �إىل رعيته ما �أ�شبه َّ ّ ّ �أموال الأيتام و�أنف�سهم كما يهوى ما داموا �ضعاف ًا قا�رصين ،فكما �أ ّنه لي�س من تتنور الو�صي �أن يبلغ الأيتام ر�شدهم ،كذلك لي�س من غر�ض �صالح ّ امل�ستبد �أن ّ ّ الرعية بالعلم. امل�ستبد ،مهما كان غبياًْ � ،أن ال ا�ستعباد وال اعت�ساف �إال ال يخفى على ّ الرعية حمقاء تخبط يف ظالمة جهل وتيه عماء ،فلو كان امل�ستبد طرياً ُّ مادامت ّ لكان خ ّفا�ش ًا ي�صطاد هوام العوام يف ظالم اجلهل ،ولو كان وح�ش ًا لكان ابن �آوى يتل ّقف دواجن احلوا�رض يف غ�شاء الليل ،ولك ّنه هو الإن�سان ي�صيد عالمِ َه جاه ُل ُه. ك�شاف ًا مب�رصاً ،يو ّلد يف النفو�س العلم قب�س ٌة من نور اهلل ،وقد خلق اهلل ال ّنور ّ حرار ًة ويف الر�ؤو�س �شهامةً ،العلم نور والظلم ظالم ،ومن طبيعة ال ّنور تبديد الظالم ،واملت�أمل يف حالة ك ِّل رئي�س ومر�ؤو�س يرى ك َّل �سلطة الرئا�سة تقوى ّ وت�ضعف بن�سبة نق�صان علم املر�ؤو�س وزيادته. يقوم الل�سان و�أكرثها ُّ امل�ستبد ال يخ�شى علوم اللغة ،تلك العلوم التي بع�ضها ّ هزل وهذيان ي�ضيع به الزمان ،نعم ،ال يخاف علم اللغة �إذا مل يكن وراء الل�سان ٌ
47
اال�ستبداد والعلم
حكمة حما�س تعقد الألوية� ،أو �سحر بيان يح ُّل عقد اجليو�ش ،لأنه يعرف � ّأن ني ب�أن تلد الأمهات كثرياً من �أمثال :الكميت وح�سان �أو مونتي�سكيو الزمان �ضن ٌ و�شيللر. امل�ستبد من العلوم الدينية املتعلِّقة باملعاد ،املخت�صة ما وكذلك ال يخاف ُّ يتلهى بني الإن�سان وربه ،العتقاده �أ ّنها ال ترفع غباو ًة وال تزيل غ�شاوة� ،إمنا ّ املتهو�سون للعلم ،حتى �إذا �ضاع فيها عمرهم ،وامتلأتها �أدمغتهم ،و�أخذ بها ِّ امل�ستبد منهم منهم الغرور ،ف�صاروا ال يرون علم ًا غري علمهم ،فحينئ ٍذ ي�أمن ُّ ال�سكران �إذا خمر .على �أ ّنه �إذا نبغ منهم البع�ض ونالوا حرمة بني كما ُي�ؤمن ُّ �رش ّ امل�ستبد و�سيلة ال�ستخدامها يف ت�أييد �أمره وجماراة هواه يف العوام ال يعدم ّ ٍ وي�سد �أفواههم بلقيمات من مائدة مقابلة �أ ّنه ي�ضحك عليهم ب�شيء من التعظيم، ُّ اال�ستبداد ،وكذلك ال يخاف من العلوم ال�صناعية حم�ضاً ،ل ّأن �أهلها يكونون امل�ستبد بقليل من املال م�ساملني �صغار ال ّنفو�س� ،صغار الهمم ،ي�شرتيها ُّ والإعزاز ،وال يخاف من املاديني ،ل ّأن �أكرثهم مبتلون ب�إيثار ال ّنف�س ،وال من الريا�ضيني ،ل ّأن غالبهم ق�صار النظر. امل�ستبد من علوم احلياة مثل احلكمة النظرية ،والفل�سفة ترتعد فرائ�ص ُّ املف�صل، العقلية ،وحقوق الأمم وطبائع االجتماع ،وال�سيا�سة املدنية ،والتاريخ ّ وتو�سع العقول، واخلطابة الأدبية ،ونحو ذلك من العلوم التي ُتكرب النفو�س، ّ وتعرف الإن�سان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها ،وكيف الطلب ،وكيف ال ّنوال، ّ امل�ستبد من �أ�صحاب هذه العلوم ،املندفعني يخاف ما أخوف � و احلفظ. وكيف ّ منهم لتعليم ال ّنا�س اخلطابة �أو الكتابة وهم املعبرَّ عنهم يف القر�آن بال�صاحلني عبادي ال�صاحلون) ويف وامل�صلحني يف نحو قوله تعاىلّ �( :أن الأر�ض يرثها َ بظلم و�أهلها م�صلحون) ،و� ْإن كان علماء ربك ليهلك القرى ٍ قوله( :وما كان ُّ حولوا معنى مادة اال�ستبداد يف�سرِّ ون مادة ال�صالح والإ�صالح بكرثة ُّ التعبد كما ّ الف�ساد والإف�ساد :من تخريب نظام اهلل �إىل الت�شوي�ش على امل�ستبدين. امل�ستبد يخاف من ه�ؤالء العاملني الرا�شدين املر�شدين ،ال واخلال�صةَّ � :أن ّ حمفوظات كثرية ك�أ ّنها مكتبات من العلماء املنافقني �أو الذين حفر ر�ؤو�سهم ٌ مقفلة! العلم ونتائجه ،يبغ�ضه �أي�ض ًا لذاته ،لأن للعلم �سلطان ًا كما يبغ�ض ُّ امل�ستبد َ
48
للم�ستبد من �أن ي�ستحقر نف�سه كلما وقعت عينه على بد ِّ �أقوى من ك ِّل �سلطان ،فال َّ امل�ستبد �أن يرى وجه عا ٍمل عاقل يفوق يحب ُّ من هو �أرقى منه علماً .ولذلك ال ُّ عليه فكراً ،ف�إذا ا�ضطر ملثل الطبيب واملهند�س يختار الغبي املت�صاغر املتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله( :فاز املتملقون) ،وهذه طبيعة ك ِّل املتكربين ،بل يف غالب النا�س ،وعليها مبنى ثنائهم على ك ِّل من يكون م�سكين ًا ل�رش. خام ًال ال ُيرجى خل ٍري وال ٍّ تقدم � َّأن بني اال�ستبداد والعلم حرب ًا دائم ًة وطراداً م�ستمراً :ي�سعى وينتج مما َّ امل�ستبد يف �إطفاء نورها ،والطرفان يتجاذبان العلماء يف تنوير العقول ،ويجتهد ُّ العوام .ومن هم العوام؟ هم �أولئك الذين �إذا جهلوا خافوا ،و�إذا خافوا ا�ست�سلموا، كما �أ َّنهم هم الذين متى علموا قالوا ،ومتى قالوا فعلوا. امل�ستبد و ُق ْو ُت ُه .بهم عليهم ي�صول ويطول ،ي�أ�رسهم فيتهللون العوام هم قوة ُّ ل�شوكته ،ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقائه حياتهم ،ويهينهم فيثنون على رفعته ،ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته ،و�إذا �أ�رسف يف �أموالهم يقولون كرمياً ،و�إذا قتل منهم مل مي ِّثل يعتربونه رحيماً ،وي�سوقهم �إىل خطر املوت ،فيطيعونه حذر التوبيخ ،و�إن نقم عليه منهم بع�ض الأباة قاتلهم ك�أنهم ُبغاة. واحلا�صل � َّأن العوام يذبحون �أنف�سهم ب�أيديهم ب�سبب اخلوف النا�شئ عن وتنور العقل زال اخلوف ،و�أ�صبح النا�س ال اجلهل والغباوة ،ف�إذا ارتفع اجلهل َّ ينقادون طبع ًا لغري منافعهم ،كما قيل :العاقل ال يخدم غري نف�سه ،وعند ذلك ال امل�ستبد اللئيم للم�ستبد من االعتزال �أو االعتدال .وكم �أجربت الأمم برت ّقيها بد ِّ َّ َّ على الرت ّقي معها واالنقالب -رغم طبعه� -إىل وكيلٍ �أمني يهاب احل�ساب، حليم يتلذذ بالتحابب .وحينئ ٍذ تنال الأمة ٍ ورئي�س عادل يخ�شى االنتقام ،و� ٍأب ٍ حظ الرئي�س من ر�ضية هنية ،حياة رخاء ومناء ،حياة ع ّز و�سعادة ،ويكون ّ حيا ًة ّ ذلك ر�أ�س احلظوظ ،بعد �أن كان يف دور اال�ستبداد �أ�شقى العباد ،لأنه على الدوام ملحوظ ًا بالبغ�ضاء ،حماط ًا بالأخطار ،غري �أمني على ريا�سته ،بل وعلى حياته قط �أمامه من ي�سرت�شده فيما يجهل ،ل َّأن الواقف بني طرفة عني ،ولأنه ال يرى ّ بد �أن يهابه ،في�ضطرب باله ،فيت�شو�ش فكره، يديه مهما كان عاق ًال متيناً ،ال َّ ويخت ّل ر�أيه ،فال يهتدي على ال�صواب ،و�إن اهتدى فال يج�رس على الت�رصيح به
49
اال�ستبداد والعلم
قبل ا�ستطالع ر�أي امل�ستبد ،ف�إن ر�آه مت�صلِّب ًا فيما يراه فال ي�سعه �إال ت�أييده را�شداً ّ احلق: هياب فهو ك َّذاب ،والقول ُّ غياً ،وك ُّل م�ست�شار غريه َّ يدعي �أ َّنه غري ّ كان �أو ّ امل�ستبد قطُّ من ر�أي بناء عليه ،ال ي�ستفيد ُّ � َّإن ال�صدق ال يدخل ق�صور امللوكً ، ٍ وعذاب وخوف ،وكفى بذلك انتقام ًا منه على وتردد غريه ،بل يعي�ش يف �ضالل ٍ ا�ستعباده ال ّنا�س وقد خلقهم ربهم �أحراراً. امل�ستبد من نقمة رعيته �أكرث من خوفهم من ب�أ�سه ،ل َّأن خوفه � َّإن خوف ّ ين�ش�أ عن علمه مبا ي�ستح ُّقه منهم ،وخوفهم نا�شئ عن جهل ،وخوفه عن عج ٍز توهم التخاذل فقط ،وخوفه على فقد حياته و�سلطانه، حقيقي فيه ،وخوفهم عن ّ وخوفهم على لقيمات من ال ّنبات وعلى وطنٍ ي�ألفون غريه يف �أيام ،وخوفه على ك ِّل �شيء حتت �سماء ملكه ،وخوفهم على ٍ حياة تعي�سة فقط. رعيته وح ّتى من حا�شيته، كلما زاد ُّ امل�ستبد ظلم ًا واعت�ساف ًا زاد خوفه من ّ امل�ستبد باجلنون ال ّتام. وحتى ومن هواج�سه وخياالته .و�أكرث ما ُتختم حياة ِّ قط ،لنفوره من البحث عن احلقائق، قلت( :التام) ل ّأن امل�ستبد ال يخلو من احلمق ّ َّ و�إذا �صادف وجود م�ستب ٍّد غري �أحمق في�سارعه املوت قهراً �إذا مل ي�سارعه وقلت� :إنه يخاف من حا�شيته ،ل َّأن �أكرث ما يبط�ش بامل�ستبدين اجلنون �أو العتهُ ، حوا�شيهم ،ل َّأن ه�ؤالء �أ�شقى خلق اهلل حيا ًة ،يرتكبون ك َّل جرمي ٍة وفظيعة حل�ساب امل�ستبد الذي يجعلهم مي�سون وي�صبحون خمبولني م�رصوعنيُ ،يجهدون الفكر ِّ ي�رصح .فكم ينقم عليهم أو � يطلب أن � بدون فعله منهم يريد ما ا�ستطالع يف ِّ ملجرد �أنهم ال يعلمون الغيب ،ومن ذا الذي يعلم الغيب ،الأنبياء ويهينهم َّ يل ،وال نبي وال و ٌّ والأولياء؟ وما ه�ؤالء �إال �أ�شقياء� ،أ�ستغفرك اللهم! ال يعلم غيبك ٌّ احلق( :فال يظن �صدقه �إ ّال مغ َّفل ،ف�إ َّنك اللهم قلت وقولك ّ دجال ،وال ُّ ّ يدعي ذلك �إ ّال ّ علمت اخلري ال�ستكرثت منه). يظهر على غيبه �أحداً) و�أف�ضل �أنبيائك يقول( :لو ُ م�ستبدين من قواعد امل� ِّؤرخني املدققنيَّ � :إن �أحدهم �إذا �أراد املوازنة بني َّ كنريون وتيمور مثالً ،يكتفي �أن يوازن درجة ما كانا عليه من التح ُّذر والتح ُّفظ. و�إذا �أراد املفا�ضلة بني عادلني ك�أنو �رشوان وعمر الفاروق ،يوازن بني مرتبتي �أمنهما يف قوميهما. ملا كانت �أكرث الديانات م�ؤ�س�سة على مبد�أي اخلري وال�رش كالنور والظالم، أ�رض �شيء وال�شم�س وزحل ،والعقل وال�شيطان ،ر�أت بع�ض الأمم الغابرة � َّأن � َّ
50
أ�رض �آثار اجلهل هو اخلوف ،فعملت هيك ًال خم�ص�ص ًا على الإن�سان هو اجلهل ،و� ّ ل�رشه. اتقاء ِّ للخوف ُيعبد ً امل�ستبد يف ك ِّل زمان هو قال �أحد املحررين ال�سيا�سيني� :إين �أرى ق�رص ِّ هيكل اخلوف عينه :فامللك اجلبار هو املعبود ،و�أعوانه هم الكهنة ،ومكتبته املقد�س ،والأقالم هي ال�سكاكني ،وعبارات التعظيم هي ال�صلوات، هي املذبح َّ قدمون قرابني اخلوف ،وهو �أهم النوامي�س الطبيعية والنا�س هم الأ�رسى الذين ُي َّ يف الإن�سان ،والإن�سان يقرب من الكمال يف ن�سبة ابتعاده عن اخلوف ،وال و�سيلة لتخفيف اخلوف �أو نفيه غري العلم بحقيقة املخيف منه ،وهكذا �إذا زاد علم �أفراد امل�ستبد امر�ؤٌ عاجز مثلهم ،زال خوفهم منه وتقا�ضوه حقوقهم. الرعية ب� ّأن َّ ويقول �أهل النظرَّ � :إن خري ما ي�ستبدل به على درجة ا�ستبداد احلكومات، هو تغاليها يف �شن�آن امللوك ،وفخامة الق�صور ،وعظمة احلفالت ،ومرا�سيم الت�رشيفات ،وعالئم ال َّأبهة ،ونحو ذلك من التمويهات التي ي�سرتهب بها امللوك امل�ستبد كما رعاياهم عو�ض ًا عن العقل واملفاداة ،وهذه التمويهات يلج�أ �إليها ُّ ال�صدق لليمني ،وقليل املال يلج�أ قليل الع ِّز للتكبرُّ ،وقليل العلم للت�صوف ،وقليل ِّ ُّ لزينة اللبا�س. �ستدل على عراقة الأمة يف اال�ستعباد �أو احلرية ويقولون� :إ َّنه كذلك ُي ُّ با�ستنطاق لغتها ،هل هي قليلة �ألفاظ التعظيم كالعربية مثالً؟ �أم هي غنية يف عبارات اخل�ضوع كالفار�سية ،وكتلك اللغة التي لي�س فيها بني املتخاطبني �أنا و�أنت ،بل �سيدي وعبدكم؟! واخلال�صة � َّأن اال�ستبداد والعلم �ضدان متغالبان ،فك ُّل �إدارة م�ستبدة ت�سعى جهدها يف �إطفاء نور العلم ،وح�رص الرعية يف حالك اجلهل .والعلماء احلكماء الذين ينبتون �أحيان ًا يف م�ضايق �صخور اال�ستبداد ي�سعون جهدهم يف تنوير �أفكار ال ّنا�س ،والغالب � َّأن رجال اال�ستبداد ُيطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فال�سعيد منهم من يتم ّكن من مهاجرة دياره ،وهذا �سبب � َّأن ك َّل الأنبياء العظام عليهم ال�صالة وال�سالم و�أكرث العلماء الأعالم والأدباء والنبالء -تقلَّبوا يفالبالد وماتوا غرباء. ُ ح�ض على العلم ،وكفى �شاهداً � َّأن �أول كلمة �أنزلت � َّإن الإ�سالمية � َّ أول دين َّ نت بها على من القر�آن هي الأمر بالقراءة �أمراً مكرراً ،و� َّأول ِم َّن ٍة �أجلَّها اهلل وام َّ
51
اال�ستبداد والعلم
ال�سلف الأول من الإن�سان هي �أ َّنه علَّمه بالقلم .علَّمه به ما مل يعلم .وقد فهم َّ مغزى هذا الأمر وهذا االمتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على ك ِّل م�سلم، تعم ،وبذلك �صار العلم يف عمت القراءة والكتابة يف امل�سلمني �أو كادت ُّ وبذلك َّ الدين �أو الأ�رشاف كما كان يف الأمم الأمة حراً مباح ًا للك ِّل ال يخت�ص به رجال ّ ُّ ولكن ،قاتل ال�سابقة ،وبذلك انت�رش العلم يف �سائر الأمم �أخذاً على امل�سلمني! ْ اهلل اال�ستبداد الذي ا�ستهان بالعلم حتى جعله كال�سلعة ُيعطى ويمُ نح للأميني، وال يجر�ؤ �أحد على االعرتا�ض� ،أجل ،قاتل اهلل اال�ستبداد الذي رجع بالأمة �إىل الأمية ،فالتقى �آخرها ب�أولِّها ،وال حول وال قوة �إال باهلل. قال املدققونَّ � :إن �أخوف ما يخافه امل�ستبدون الغربيون من العلم �أن يعرف النا�س حقيقة � َّأن احلرية �أف�ضل من احلياة ،و�أن يعرفوا النف�س وع َّزها ،وال�شرّ ف وعظمته ،واحلقوق وكيف تحُ فظ ،والظلم وكيف ُيرفع ،والإن�سانية وما هي والرحمة وما هي ل ّذاتها. وظائفهاّ ، �أما امل�ستبدون ال�رشقيون ف�أفئدتهم هواء ترجتف من �صولة العلم ،ك� ّأن العلم نار و�أج�سامهم من بارود .امل�ستبدون يخافون من العلم حتى من علم النا�س معنى كلمة (ال �إله �إال اهلل) ،وملاذا كانت �أف�ضل الذكر ،وملاذا ُبني عليها الإ�سالم. ُبني الإ�سالم ،بل وكافة الأديان على (ال �إله �إال اهلل) ،ومعنى ذلك �أ ّنه ال ُيعبد حق ًا �سوى ال�صانع الأعظم ،ومعنى العبادة اخل�ضوع ومنها لفظة العبد ،فيكون �شيء غري اهلل) .وما �أف�ضل تكرار هذا معنى ال �إله �إال اهلل( :ال ي�ستحق اخل�ضوع ٌ املعنى على الذاكرة �آناء الليل و�أطراف النهار حت ُّذراً من الوقوع يف ورطة �شيء من اخل�ضوع لغري اهلل وحده .فهل -واحلالة هذه -ينا�سب غر�ض امل�ستبدين �أن يعلم عبيدهم � ْأن ال �سيادة وال عبودية يف الإ�سالم وال والية فيه وال خ�ضوع� ،إمنا عدوا كلمة امل�ؤمنون بع�ضهم �أولياء بع�ض؟ كال ،ال يالئم ذلك غر�ضهم ،ورمبا ّ (ال �إله �إال اهلل) �شتم ًا لهم! ولهذا ،كان امل�ستبدون -وال زالوا -من �أن�صار ال�شرِّ ك و�أعداء العلم. كخ َد َمة الأديان املتكبرِّ ين � َّإن العلم ال ينا�سب �صغار امل�ستبدين �أي�ض ًا َ وكالآباء اجل َُهالء ،والأزواج احلمقى ،وكر�ؤ�ساء ك ِّل اجلمعيات ال�ضعيفة. قط �إال وتك�سرَّ ت فيها قيود الأ�رس، واحلا�صل� :أ َّنه ما انت�رش نور العلم يف �أم ٍة ّ امل�ستبدين من ر�ؤ�ساء �سيا�سة �أو ر�ؤ�ساء دين. و�ساء م�صري ّ
52
اال�ستبداد واملجد من ا ِ حل َكم البالغة للمت�أخرين قولهم( :اال�ستبداد �أ�ص ٌل لك ِّل داء) ،ومبنى ذلك � َّأن الباحث املدقق يف �أحوال الب�رش وطبائع االجتماع ك�شف � َّأن لال�ستبداد �أثراً �سيئ ًا يف ك ِّل واد ،وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده ،و�إين الآن التمجد. �أبحث يف �أ َّنه كيف ُيغالب اال�ستبداد املجد فيف�سده ،ويقيم مقامه ُّ حب واحرتام يف القلوب ،وهو مطلب طبيعي املجد :هو �إحراز املرء مقام ٍّ ين �أو خامل. نبي �أو زاهد ،وال ُّ ينحط عنه د ٌّ �رشيف لك ِّل �إن�سان ،ال يرت َّفع عنه ٌّ للمجد ل َّذ ٌة روحية تقارب ل َّذة العبادة عند الفانني يف اهلل تعاىل ،وتعادل ل َّذة العلم عند احلكماء ،وتربو على ل َّذة امتالك الأر�ض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على ل َّذة مفاج�أة الإثراء عند الفقراء .ولذا ،يزاحم املجد يف النفو�س منزلة احلياة. وقد �أ�ش َك َل على بع�ض الباحثني � ّأي احلر�صني �أقوى؟ حر�ص احلياة �أم وميزوا بها تخليط ابن عول عليها املت� ِّأخرون َّ حر�ص املجد؟ واحلقيقة التي َّ مف�ضل على احلياة عند امللوك وال ُق َّواد خلدون هي التف�ضيل ،وذلك � َّأن املجد َّ وحب احلياة ممتاز على املجد عند حمية، وظيف ًة ،وعند ال ُّنجباء والأحرار ّ ُّ الأُ�رساء والأ ِّذالء طبيعة ،وعند اجلبناء والن�ساء �رضورة .وعلى هذه القاعدة
53
اال�ستبداد واملجد
يكون �أئمة �آل البيت -عليهم ال�سالم -معذورين يف �إلقاء �أنف�سهم يف تلك يف�ضلون املوت ملا كانوا جنباء �أحراراً، املهالك ،لأ َّنهم ّ فحميتهم جعلتهم ِّ ّ خط�أ �أجماد الب�رش يف �إقدامهم كرام ًا على حياة ٍّ ذل مثل حياة ابن خلدون الذي ّ هدد جمدهم ،ذاه ًال على � َّأن بع�ض �أنواع احليوان ،ومنها البلبل، على اخلطر �إذا َّ ُوجِ دت فيها طبيعة اختيار االنتحار �أحيان ًا تخ ُّل�ص ًا من قيود ال ُّذ ِّل ،و� َّأن �أكرث �سباع الطري والوحو�ش �إذا �أُ�سرِ َ ت كبرية ت�أبى الغذاء حتى متوت ،و� َّأن احل َُّرة متوت وال ت�أكل ب ِع ِ ر�ضها ،واملاجدة متوت وال ت�أكل بثدييها! بنوع من البذل يف �سبيل اجلماعة ،وبتعبري ال�رشقيني املجد ال ُينال �إال ٍ الدين ،وبتعبري الغربيني يف �سبيل املدنية �أو �سبيل يف �سبيل اهلل �أو �سبيل ّ امل�ستحق ال ّتعظيم لذاته -ما طالب عبيده بتمجيدهالإن�سانية .واملوىل تعاىل ُّ �إال وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم. وهذا البذل �إما بذل مال للنفع العام وي�سمى جمد الكرم ،وهو �أ�ضعف وي�سمى جمد الف�ضيلة� ،أو بذل املجد� ،أو بذل العلم ال ّنافع املفيد للجماعة، ّ احلق وحفظ ال ِّنظام، للم�شاق والأخطار يف �سبيل ن�رصة بالتعر�ض ال ّنف�س ِّ ّ ُّ وي�سمى جمد ال ّنبالة ،وهذا �أعلى املجد ،وهو املراد عند الإطالق ،وهو املجد ُ وحتن �إليه �أعناق النبالء .وكم له من ع�شاق الكبرية، النفو�س إليه � تتوق الذي ُّ تل ُّذ لهم يف حبه امل�صاعب واملخاطرات ،و�أكرثهم يكون من مواليد بيوت ال�صدف من عيون الظاملني املذ ّلني� ،أو يكون من جنباء بيوت نادرة حمتها ُّ ما انقطعت فيها �سل�سلة املجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم .ومن �أمثلة املجد قولهم :خلق اهلل للمجد رجا ًال ي�ستعذبون املوت يف �سبيله ،وال الهمة والإقدام وال ّثبات ،تلك اخل�صال ال ّثالث التي بها �سبيل �إليه �إال بعظيم ّ تقدر قيم الرجال. َّ وهذا نريون الظامل �س�أل �أغربني ال�شاعر وهو حتت ال َّنطع :من �أ�شقى النا�س؟ معر�ض ًا به :من �إذا ذكر النا�س اال�ستبداد كان مثا ًال له يف اخليال. ف�أجابه ِّ وكان ترايان العادل �إذا ق َّلد �سيف ًا لقائد يقول له( :هذا �سيف الأمة �أرجو �أن ن�صيب يف عنقي) .وخرج قي�س من جمل�س الوليد أتعدى القانون فيكون له ال � ّ ٌ مغ�ضب ًا يقول�( :أتريد �أن تكون جباراً؟ واهللَّ � ،إن نعال ال�صعاليك لأطول من �سيفك)! .وقيل لأحد الأباة« :ما فائدة �سعيك غري جلب ال�شقاء على نف�سك؟».
54
«علي �أن �أيف فقال« :ما �أحلى ال�شقاء يف �سبيل تنغي�ص الظاملني!» .وقال �آخرَّ : علي �ضمان الق�ضاء» .وقيل لأحد النبالء« :ملاذا ال تبني لك بوظيفتي وما َّ داراً؟» فقال« :ما �أ�صنع فيها و�أنا املقيم على ظهر اجلواد �أو يف ال�سجن �أو يف القرب» ،وهذه ذات النطاقني (�أ�سماء بنت �أبي بكر ر�ضي اهلل عنها) وهي امر�أة احلق فاذهب وقاتل احلجاج حتى تودع ابنها بقولها�« :إن كنت على ّ عجوز ِّ ا�ستبد يف �أمر فدخل عليه متوت» .وهذا مكماهون رئي�س جمهورية فرن�سا َّ �صديقه غامبتا وهو يقول« :الأمر للأمة ال �إليك ،فاعتدل� ،أو اعتزل ،و�إال ف�أنت املخذول املهان امليت»!! حمب ٌب للنفو�س ،ال تفت�أ ت�سعى وراءه وترقى واحلا�صل � َّأن املجد هو ُ املجد َّ وهمته، مراقيه ،وهو مي�سرَّ ٌ يف عهد العدل لك ِّل �إن�سان على ح�سب ا�ستعداده َّ الظلم على ح�سب الإمكان. وينح�رص حت�صيله يف زمن اال�ستبداد مبقاومة ّ التمجد؟ وماذا يكون التمجد .وما هو يقابل املجد ،من حيث مبتناه، ُّ ّ لفظ هائل املعنى ،ولهذا �أراين �أتعثرَّ بالكالم و�أتلعثم يف التمجد؟ التمجد ٌ ُّ ّ اخلطاب ،وال �سيما من حيث �أخ�شى م�سا�س �إح�سا�س بع�ض املطالعني� .إن مل واحلق يكن من جهة �أنف�سهم فمن جهة �أجدادهم الأولني ،ف�أنا�شدهم الوجدان ّ ثم هم مثلي ومثل �سائر املهان� ،أن يتجردوا دقيقتني من ال ّنف�س وهواهاَّ ، َّ اجلانني على الإن�سانية ال يعدمون ت�أوي ًال .و�إنني �أعلِّل ال ّنف�س بقبولهم تهويني هذا ،ف�أنطلق و�أقول: امل�ستبد بالفعل امل�ستبدة ،وهو القربى من التمجد خا�ص بالإدارات ِّ َّ ّ كالأعوان والعمال� ،أو بالقوة كاملل َّقبني بنحو دوق وبارون ،واملخاطبني بنحو املطوقني باحلمائل، ورب ال�صولة� ،أو املو�سومني بالنيا�شني� ،أو َّ ِّ رب العزة ّ ٍ امل�ستبد التمجد هو �أن ينال املرء جذوة نار من جهنم كربياء وبتعريف �آخر، ِّ ُّ ليحرق بها �رشف امل�ساواة يف الإن�سانية. ِ ٍ الرجل �سيف ًا من ق َبل اجلبارين يربهن به على وبو�صف �أجلى :هو �أن يتق ّلد ّ �أ َّنه جالد يف دولة اال�ستبداد� ،أو يعلِّق على �صدره و�سام ًا م�شعراً مبا وراءه من الوجدان امل�ستبيح للعدوان� ،أو يتزين ب�سيور مزرك�شة تنبئ ب�أ ّنه �صار خم َّنث ًا �أقرب �إىل الن�ساء منه �إىل الرجال ،وبعبارة �أو�ضح و�أخ�رص ،هو �أن ي�صري امل�ستبد الأعظم. الإن�سان م�ستبداً �صغرياً يف كنف ِّ
55
اال�ستبداد واملجد
خا�ص بالإدارات اال�ستبدادية ،وذلك ل َّأن احلكومة احلرة التمجد قلتَّ � :إن ُ ُّ ٌّ التي مت ِّثل عواطف الأمة ت�أبى ك َّل الإباء �إخالل الت�ساوي بني الأفراد �إال لف�ضلٍ حقيقي ،فال ترفع قدر �أحد منها �إال رفع ًا �صوري ًا �أثناء قيامه يف خدمتها� ،أي متيز اخلدمة العمومية ،وذلك ت�شويق ًا له على التفاين يف اخلدمة ،كما �أ َّنها ال ّ بلقب �إال ما كان علمي ًا �أو ذكرى خلدمة مهمة ت�رشفه ٍ �أحداً منها بو�سام �أو ِّ و َّفقه اهلل �إليها .ومبثل هذا يرفع ا ُ بع�ض درجات يف هلل النا�س بع�ضهم فوق ٍ القلوب ال يف احلقوق. وهذا لقب اللوردية مث ًال عند الإنكليز هو من بقايا عهد اال�ستبداد ،ومع ذلك ال يناله عندهم غالب ًا �إال من يخدم � َّأمته خدمة عظيمة ،ويكون من حيث �أخالقه وثروته �أه ًال لأن يخدمها خدمات مهمة غريها ،ومن املقرر �أن ال اعتبار للورد يف نظر الأمة �إال �إذا كان م�ؤ�س�س ًا �أو وارث ًا� ،أو كانت الأمة تقر�أ مم�ضي بدمه يق�سم فيه يف جبهته �سطراً حمرراً بقلم الوطنية ومبداد ال�شهامة ٍّ ب�رشفه �أنه �ضمني برثوته وحياته نامو�س الأمة� ،أي قانونها الأ�سا�سي ،حفيظ على روحها� ،أي حريتها. التمجد ال يكاد يوجد له �أثر يف الأمم القدمية �إال يف دعوى الألوهية وما ُّ معناها من نفع النا�س بالأنفا�س� ،أو يف دعوى ال ّنجابة بالن�سب التي يهول وال�شارات يف بها الأ�صالء ن�سل امللوك والأمراء ،و�إمنا ن�ش�أ التمجد بالألقاب ّ ّ ثم قامت فتاة احلرية تتغ ّنى القرون الو�سطى ،وراج �سوقه يف القرون الأخريةَّ ، بامل�ساواة وتغ�سل �أدرانه على ح�سب قوتها وطاقتها ،ومل تبلغ غايتها �إىل الآن يف غري �أمريكا. املتمجدون يريدون �أن يخدعوا العامة ،وما يخدعون غري ن�سائهم الالتي ِّ يتفحفحن بني عجائز احلي ب�أنهم كبار العقول ،كبار النفو�س� ،أحرار يف �ش�ؤونهم ال ُيزاح لهم نقاب ،وال ُت�صفع منهم رقاب ،فيحوجهم هذا املظهر امل�ستبد ،بل لتحمل الإ�ساءات والإهانات التي تقع عليهم من ِق َبل الكاذب ّ ُّ حتوجهم للحر�ص على كتمها ،بل على �إظهار عك�سها ،بل على مقاومة من امل�ستبد و�إبعادهم عن حق يدعي خالفها ،بل على تغليط �أفكار ال ّنا�س يف ِّ ِّ ّ اعتقاد � َّأن من �ش�أنه الظلم. وهكذا يكون املتمجدون �أعداء للعدل �أن�صاراً للجور ،ال دين وال وجدان وال
56
امل�ستبد من �إيجادهم والإكثار منهم ليتم َّكن �رشف وال رحمة ،وهذا ما يق�صده ُّ يغرر الأمة على �إ�رضار نف�سها حتت ا�سم منفعتها ،في�سوقها بوا�سطتهم من �أن ِّ مث ًال حلرب اقت�ضاها حم�ض التجبرُّ والعدوان على اجلريان ،فيوهمها �أ َّنه يريد ن�رصة الدين� ،أو ُي�رسف باملاليني من �أموال الأمة يف ملذاته وت�أييد ا�ستبداده با�سم حفظ �رشف الأمة و�أبهة اململكة� ،أو ي�ستخدم الأمة يف التنكيل ب�أعداء يت�رصف يف حقوق اململكة والأمة كما ي�شا�ؤه ظلمه با�سم �أنهم �أعداء لها� ،أو َّ هواه با�سم � َّأن ذلك من مقت�ضى احلكمة وال�سيا�سة. املتمجدين �سما�رسة لتغرير الأمة با�سم واخلال�صةَّ � :أن امل�ستبد ي ّتخذ ّ حب الوطن� ،أو تو�سيع اململكة� ،أو حت�صيل منافع عامة� ،أو خدمة الدين� ،أو ّ م�س�ؤولية الدولة� ،أو الدفاع عن اال�ستقالل ،واحلقيقة � َّأن ك ّل هذه الدواعي الفخيمة العنوان يف الأ�سماع والأذهان ما هي �إال تخييل و�إيهام يق�صد بها الدفاع عن رجال احلكومة تهييج الأمة وت�ضليلها ،حتى �إ َّنه ال ُي�ستثنى منها ّ اال�ستقالل ،لأ ّنه ما الفرق على � ٍ أمة م�أ�سورة لزيد �أن ي�أ�رسها عمرو؟ وما مثلها الدابة التي ال يرحمها راكب مطمئن ،مالك ًا كان �أو غا�صب ًا. �إال ّ امل�ستبد ال ي�ستغني عن �أن ي�ستمجد بع�ض �أفراد من �ضعاف القلوب الذين ُّ هم كبقر اجلنة ال ينطحون وال يرحمون ،ي ّتخذهم ك�أمنوذج البائع الغ�شا�ش، خمارة على �أ ّنه ال ي�ستعملهم يف �شيء من مهامه ،فيكونون لديه كم�صحف يف ّ �أو �سبحة يف يد زنديق ،ورمبا ال ي�ستخدم �أحيان ًا بع�ضهم يف بع�ض ال�ش�ؤون تغليط ًا لأذهان العامة يف �أ َّنه ال يعتمد ا�ستخدام الأراذل والأ�سافل فقط ،ولهذا ُيقال :دولة اال�ستبداد دولة ُب ٍله و�أوغاد. يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء الأذكياء ُّ امل�ستبد ِّ بال�شكل الذي �أي�ض ًا اغرتاراً منه ب�أ ّنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم ّ ثم هو بعد التجربة �إذا يريد ،فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهمَّ ، ي�ستقر عنه خاب ويئ�س من �إف�سادهم يتبادر �إبعادهم �أو ين ّكل بهم .ولهذا ال ّ امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي يعبده من دون اهلل� ،أو اخلبيث اخلائن الذي ّ ير�ضيه ويغ�ضب اهلل. أنبه فكر املطالعني �إىل � َّأن هذه الفئة من العقالء الأمناء باجلملة، وهنا � ِّ ثم الذين يذوقون ع�سيلة جمد احلكومة وين�شطون خلدمة ونيل جمد ال ّنبالةَّ ،
57
اال�ستبداد واملجد
ملجرد � َّأن بني �أ�ضلعهم قب�سة من الإميان ويف �أعينهم ي�رضب على يدهم َّ بارقة من الإن�سانية ،هي الفئة التي تتكهرب بعداوة اال�ستبداد وينادي �أفرادها بالإ�صالح .وهذا االنقالب قد �أعيا امل�ستبدين ،لأنهم ال ي�ستغنون عن املغبة .ومن هنا ن�ش�أ اعتمادهم غالب ًا على العريقني التجربة وال ي�أمنون هذه ّ يف خدمة اال�ستبداد ،الوارثني من �آبائهم و�أجدادهم الأخالق املر�ضية التمجد بالأ�صالة والأن�ساب، للم�ستبدين ،ومن هنا ابتد�أت يف الأمم نغمة ّ ّ وامل�ستبدون املح ّنكون يطيلون �أمد التجربة باملنا�صب ال�صغرية في�ستعملون ّ ثم يختمون القدم، قاعدة برعاية ذلك ون وي�سم الرتاخي، مع ي ق الرت قاعدة ّ ّ ّ املتمرن خدمة يكون فيها رئي�س ًا مطلق ًا ولو يف قرية ،ف�إن التجريب ب�إعطاء ّ �أظهر مهارة يف اال�ستبداد ،وذلك ما ي�سمونه حكمة احلكومة فبها نعمت ،و�إال قالوا عنه :هذا حيوان ،يا �ضيعة الأمل فيه. ثم � َّإن للأ�صالة م�شاكلة قوية للمجد والتمجد فال َّ بد �أن نبحث فيها قلي ًالَّ ، ّ املتمجدين ف�أقول: امل�ستبد و�أعوانه نعود ملو�ضوع ّ ّ الأ�صالة �صفة قد يكون لها بع�ض املزايا من حيث الأميال التي يرثها رياء، الأبناء من الآباء ،ومن حيث الرتبية التي تكون م�ستحكمة يف البيت ولو ً ومن حيث � َّإن الأ�صالة تكون مقرونة غالب ًا ب�شيء من الرثوة املعينة على ال�شهامة والرحمة ،ومن حيث تقويتها العالقة بالأمة والوطن خوف مظاهر ّ مذ ّلة االغرتاب ،ومن حيث � َّإن �أهلها يكونون منظورين دائم ًا فيتحا�شون املعائب والنقائ�ص بع�ض التحا�شي. وبيوت الأ�صالة تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع :بيوت علم وف�ضيلة ،وبيوت مال أهم موقع ًا، وكرم ،وبيوت ظلم و�إمارة .وهذا الأخري هو الق�سم الأكرث عدداً وال ّ امل�ستبد يف اال�ستعانة ومو�ضع وهم -كما �سبقت الإ�شارة �إليه -مطمح نظر ّ ثقته ،وهم اجلند الذي جتتمع حتت لوائه ب�سهولة ،ورمبا يكفيه � ْأن ي�ضحك يف وجههم �ضحكة .فلننظر ما هو ن�صيب �أهل هذا الق�سم من تلك املزايا املوروثة: هل يرث االبن عن جده امل�ؤ�س�س ملجده �أميا َله يف العدالة ومل توجد؟ �أم يرتبى على غري يدب وي�شب على غري الترّ ف امل�ص ِّغر للعقول ،املميت للهمم؟ �أم ّ ُّ ُّ ال�سائد فيما بني العائلة يف بيتهم؟ �أم ي�ستخدم الرثوة للباطل، امل�ضحك الوقار ّ
58
يف غري املالذ اجل�سمية الدنيئة البهيمية وتلك ال ّأبهة الطاوو�سية الباطلة؟ �أم يتم َّثل بغري �أقران ال�سوء املتملقني املنافقني؟ �أم ال ي�ستحقر قومه جلهلهم قدر يقدرونه ال ُّنطفة امللعونة التي ُخلق منها جنابه؟ �أم ال يبغ�ض العلماء الذين ال ِّ مقراً يليق به غري قدره ح�سبما هو قائم يف خميلة خيالئه؟ �أم يرى جلنابه ّ مقعد التح ُّكم وم�سرتاح الت�آمر؟ �أم ي�ستحي من ال ّنا�س؟ ومن هم ال ّنا�س؟ وما ال ّنا�س عند ح�رضته غري �أ�شباح عندها �أرواح ُخلقت خلدمته! حق من نال منهم وهذه حالة الأكرثين من الأ�صالء ،على �أننا ال نبخ�س َّ حظ ًا من العلم و�أوتي احلكمة و�أراد اهلل به خرياً ف�أ�صابه بن�صيب من القهر انخف�ض به �شاموخ �أنفه ،ف� َّإن ه�ؤالء -وقليل ما هم -ينجبون جنابة عظيمة، قوة القلب ي�ستعملونها يف اخلري ال يف ال�شرّ ، في�صدق عليهم �أ َّنهم قد ورثوه ّ وا�ستفادوا من �أنفة الكربياء كاجل�سارة على العظماء ،وهكذا تتحول فيهم ميزة وح َ�س ٍب �شامخ من نحو احلنني �إىل الوطن و�أهله ،والأنني ِّ ال�رش على فائ�ض خري َ مل�صابه ،والإقدام على العظائم يف �سبيل القوم ،و�أمثال ه�ؤالء النوابغ ال ُن َجباء �إذا كرثوا يف �أمة يو�شك �أن يرت ّقى منهم �آحاد �إىل درجة اخلوارق فيقودوا �أممهم �إىل درجة النجاح والفالح ،وال غرو ف� َّإن اجتماع نفوذ الن�سب وقوة امل�ستبد العادل الذي ين�شده ال�رشقيون، احل�سب يفعالن وال عجب َ�ش َب َه فعل ِّ وخ�صو�ص ًا امل�سلمني ،و�إن كان العقل ال يجوز �أن ي َّت�صف باال�ستبداد مع العدل ال�ساقطة التي قد تت�س ّفل بالإن�سان �إىل عدم غري اهلل وحده� ،أال قاتل اهلل ّ الهمة ّ �إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن �أم هو حمال؟! الأ�صالء ،باعتبار �أكرثيتهم ،هم جرثومة البالء يف ك ِّل قبيلة ومن ك ِّل ال�صدفة بع�ض �أفرادهم قبيل .ل َّأن بني �آدم داموا �إخوان ًا مت�ساوين �إىل � ْأن َّ ميزت ُّ متيز �أفراد على بكرثة ال ّن�سل ،فن�ش�أت منها القوات الع�صبية ،ون�ش�أ من تنازعها ُّ �أفرادِ ، وح ْف ُظ هذه امليزة �أوجد الأ�صالء .فالأ�صالء يف ع�شرية �أو �أمة �إذا كانوا متقاربي القوات ا�ستبدوا على باقي النا�س و�أ�س�سوا حكومة �أ�رشاف ،ومتى ي�ستبد وحده ُوجد بيت من الأ�صالء يتميز كثرياً يف القوة على باقي البيوت ُّ وي�ؤ�س�س احلكومة الفردية املقيدة �إذا لباقي البيوت بقية ب�أ�س� ،أو املطلقة �إذا يبق �أمامه من ي َّتقيه. مل َ بناء عليه� ،إذا مل يوجد يف � ّأمة �أ�صالء بالكلية� ،أو وجد ،ولكن ،كان ل�سواد ً
59
اال�ستبداد واملجد
ابتداء، �صوت غالب� ،أقامت تلك لنف�سها حكومة انتخابية ال وراثة فيها النا�س ٌ ً كل ولكن ،ال يتواىل بع�ض متولني �إال وي�صري �أن�سالهم �أ�صالء يتناظرونُّ ، فريق منهم ي�سعى الجتذاب طرف من الأمة ا�ستعداداً للمغالبة و�إعادة التاريخ الأول. م�ضار الأ�صالء �أنهم ينهمكون �أثناء املغالبة على �إظهار ال َّأبهة ومن �أكرب ّ ثم والعظمة ،ي�سرتهبون �أعني النا�س وي�سحرون عقولهم ويتكبرّ ون عليهمَّ . وا�ستبد بالأمر ال يرتكها الباقون لألفتهم لذتها ومل�ضاهاة �إذا غلب غالبهم َّ يدر عليهم امل�ستبد يف نظر النا�س. ِّ ُّ وامل�ستبد نف�سه ال يحملهم على تركها ،بل ُّ والرتب و�شيئ ًا من ال ّنفوذ والت�س ُّلط املال ويعينهم عليها ،ويعطيهم الألقاب ُّ ليتلهوا بذلك عن مقاومة ا�ستبداده ،ولأجل �أن ي�ألفوها مديداً، على النا�س ّ فتف�سد �أخالقهم ،فينفر منهم النا�س ،وال يبقى لهم ملج�أ غري بابه ،في�صريون �أعوان ًا له بعد �أن كانوا �أ�ضداداً. والرخاء ،واملنع امل�ستبد �أي�ض ًا مع الأ�صالء �سيا�سة وي�ستعمل ُّ ّ ال�شد ّ والإعطاء ،وااللتفات والإغ�ضاء كي ال يبطروا ،و�سيا�سة �إلقاء الف�ساد و�إثارة ال�شحناء فيما بينهم كي ال يتفقوا عليه ،وتارة يعاقب عقاب ًا �شديداً با�سم العدالة � يقبلون �أذيالهم ا�ستكباراً إر�ضاء للعوام ،و�أخرى يقرنهم ب�أفراد كانوا ِّ ً فيجعلهم �سادة عليهم يفركون �آذانهم ا�ستحقاراً ،يق�صد بذلك ك�رس �شوكتهم امل�ستبد يذلل �أمام �إمام النا�س وع�رص �أنوفهم �أمام عظمتهم .واحلا�صل � َّأن ّ الأ�صالء بك ِّل و�سيلة حتى يجعلهم مرتامني بني رجليه كي ي َّتخذهم جلام ًا لتذليل الرعية ،وي�ستعمل عني هذه ال�سيا�سة مع العلماء ور�ؤ�ساء الأديان الذين �شم من �أحدهم رائحة الغرور بعقله �أو علمه ينكل به �أو ي�ستبدله بالأحمق متى َّ ظان من �أن �إدارة الظلم حمتاجة �إىل �شيء اجلاهل �إيقاظ ًا له ولأمثاله من ك ِّل ٍّ اجلو من العقل �أو االقتدار فوق م�شيئة ِّ امل�ستبد .وبهذه ال�سيا�سة ونحوها يخلو ّ جو حمرق. ويت�رصف يف الرعية فيع�صف وين�سف ٍ َّ كري�ش يقلبه ال�رص�رص يف ٍّ امل�ستبد يف حلظة جلو�سه على عر�شه وو�ضع تاجه املوروث على ر�أ�سه ُّ يرى نف�سه كان �إن�سان ًا ف�صار �إله ًا .ثم ُيرجع النظر فريى نف�سه يف نف�س الأمر �أعجز من ك ِّل عاجز و�أ َّنه ما نال ما نال �إال بوا�سطة من حوله من العوان، فريفع نظره �إليهم في�سمع ل�سان حالهم يقول له :ما العر�ش؟ وما التاج؟ وما
60
ال�صوجلان؟ ما هذه �إال �أوهام يف �أوهام .هل يجعلك هذا الري�ش يف ر�أ�سك طاوو�س ًا و�أنت غراب؟ �أم تظن الأحجار الرباقة يف تاجك جنوم ًا ور�أ�سك �سماء؟ �أم تتوهم � َّأن زينة �صدرك ومنكبيك �أخرجتك عن كونك قطعة طنيٍ من هذه الأر�ض؟ واهلل ما م َّكنك يف هذا املقام و�س َّلطك على رقاب الأنام �إال �شعوذتنا و�سحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا و�إخواننا ،فانظر �أيها ال�صغري املكبرَّ احلقري املو ّقر كيف تعي�ش معنا! الرعية املتفرجني ،منهم الطائ�شون املهللون َّ ثم يلتفت �إىل جماهري ّ امل�سبحون بحمده ،ومنهم امل�سحورون املبهوتون ك�أنهم �أموات من حني، ِّ ولكن ،يتج ّلى يف فكره � َّأن خالل ال�ساكتني بع�ض �أفراد عقالء �أجماد يخاطبونه وكلناك يف ق�ضائها على ما بالعيون ،ب� َّأن لنا معا�رش ال َّأمة �ش�ؤون ًا عمومية َّ حق الوكالة ُح َّق لك االحرتام، نريد ونبغي ،ال على ما تريد فتبغي .ف� ْإن و َّفيت َّ و�إن مرت م َك ْرنا وحاقت بك العاقبة� ،أال � َّإن مكر اهلل عظيم. ال�سدنة وعندئ ٍذ يرجع ُّ امل�ستبد �إىل نف�سه قائ ًال :الأعوان الأعوان ،احل ََم َلة َّ بجي�ش من الأوغاد �أحارب بهم ه�ؤالء العبيد العقالء، �أ�سلمهم القياد و�أردفهم ٍ معر�ض ًا وبغري هذا احلزم ال يدوم يل ُم ْل ٌك كيفما �أكون ،بل �أبقى �أ�سرياً للعدل ِّ للمناق�شة من ِّغ�ص ًا يف نعيم امللك ،ومن العار �أن ير�ضى بذلك من ميكنه �أن قهاراً. متفرداً ّ يكون �سلطان ًا جباراً ِّ امل�ستبد الأعظم م�ستبدة يف كل فروعها من امل�ستبدة تكون طبع ًا احلكومة ّ ّ ّ ٍ �صنف �إال من كل الفرا�ش� ،إىل كنائ�س ال�شوارع ،وال يكون ُّ �إىل ال�رشطي� ،إىل ّ �أ�سفل �أهل طبقته �أخالق ًا ،لأن الأ�سافل ال يهمهم طبع ًا الكرامة وح�سن ال�سمعة، �إمنا غاية م�سعاهم �أن يربهنوا ملخدومهم ب�أنهم على �شاكلته ،و�أن�صار لدولته ،و�رشهون لأكل ال�سقطات من � ٍّأي كان ولو ب�رشاً �أم خنازير� ،آباءهم امل�ستبد وي�أمنونه في�شاركهم وي�شاركونه .وهذه �أم �أعداءهم ،وبهذا ي�أمنهم ُّ ويقل ح�سب �شدة اال�ستبداد وخ ّفته ،فكلما كان الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ُّ املتمجدين العاملني له امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش ُّ ّ املحافظني عليه ،واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف ا ِّتخاذهم من �أ�سفل املجرمني ذمة ،واحتاج حلفظ الن�سبة بينهم يف املراتب الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو ّ بالطريقة املعكو�سة ،وهي �أن يكون �أ�سفلهم طباع ًا وخ�صا ًال �أعالهم وظيف ًة
61
اال�ستبداد واملجد
للم�ستبد هو اللئيم الأعظم يف بد �أن يكون الوزير الأعظم وقرب ًا ،ولهذا ،ال َّ ّ الأمة ،ثم من دونه ل�ؤم ًا ،وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان يف ل�ؤمهم رت رت املطالع كما اغ َّ ح�سب مراتبهم يف الت�رشيفات والقربى منه .ورمبا يغ ُّ امل�ستبد امل�ستبد يت�أوهون من كثري من امل� ِّؤرخني الب�سطاء ب�أن بع�ض وزراء ّ ّ ويت�ش ّكون من �أعماله ويجهرون مبالمه ،ويظهرون لو �أ ّنه �ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة ب�أموالهم ،بل وحياتهم ،فكيف -واحلالة هذه- يكون ه�ؤالء ل�ؤماء؟ بل كيف ذلك وقد ُوجِ د منهم الذين خاطروا ب�أنف�سهم والذين �أقدموا فع ًال على مقاومة اال�ستبداد فنالوا املراد �أو بع�ضه �أو هلكوا دونه؟ حمتاج لع�صابة خائف خائن قط عن �أ ّنه فجواب ذلك � ّأن امل�ستبد ال يخرج ّ ٌ ٌ َّ ٌ يجوز العقل تعينه وحتميه ،فهو ووزرا�ؤه كزمرة ل�صو�ص :رئي�س و�أعوان .فهل ِّ �أن ُينتخب رفاق من غري �أهل الوفاق ،وهو هو الذي ال ي�ستوزر �إال بعد جتربة واختبار عمراً طوي ًال؟! هل ميكن �أن يكون الوزير متخلِّق ًا باخلري حقيقة ،وبال�شرَّ ِّ ظاهراً فيخدع امل�ستبد ب�أعماله ،وال يخاف من �أ َّنه كما ن�صبه و�أع َّزه بكلمة يعزله ويذ ّله؟! ّ فامل�ستبد وهو من ال يجهل � َّأن النا�س �أعدا�ؤه لظلمه ،ال ي�أمن عليه، بناء ّ ً على بابه �إال من يثق به �أ َّنه �أظلم منه للنا�س ،و�أبعد منه على �أعدائه ،و�أما حنق تلوم بع�ض الوزراء على لوم امل�ستبد فهو �إن مل يكن خداع ًا للأمة فهو ٌ ّ ُّ فقدم عليه من هو دونه يف خدمته حقه، م املتلو ذلك بخ�س أنه ل ، امل�ستبد على َّ ّ ّ امل�ستبد يف �صولة من ا أمين � الوزير يكون ال وكذلك ووجدانه. دينه بت�ضحية ً ّ �صحبته ما مل ي�سبق بينهما وفاق وا ِّتفاق على خرية ال�شيطان ،لأن الوزير �رش ،ويبغ�ضه النا�س ولو تبع ًا ٌ حم�سود بالطبع ،يتو ّقع له املزاحمون ك َّل ّ ٍ هدف يف ك ِّل �ساعة لل�شكايات والو�شايات .كيف يكون عند لظاملهم ،وهو ٌ ال�شفقة الوزير �شيء من الت ّقوى �أو احلياء �أو العدل �أو احلكمة �أو املروءة �أو ّ ٌ على الأمة ،وهو العامل ب� َّأن الأمة تبغ�ضه ومتقته وتتو ّقع له ك َّل �سوء ،وت�شمت امل�ستبد ،وما هو بفاعلٍ ذلك مب�صائبه ،فال تر�ضى عنه ما مل ي ّتفق معها على ّ قط� ،إمنا �أبداً �إال �إذا يئ�س من �إقباله عنده ،و�إن يئ�س وفعل فال يق�صد نفع الأمة ّ مل�ستجد جديد ع�ساه ي�ستوزره في�ؤازره على وزره. باب يريد فتح ٍ ٍّ
62
امل�ستبد ،ال وزير ال ّأمة كما يف امل�ستبد هو وزير والنتيجة � َّأن وزير ّ ّ امل�ستبد ليغمده يف الرقاب احلكومات الد�ستورية .كذلك القائد يحمل �سيف ّ امل�ستبد ال ب�أمر الأمة ،بل هو ي�ستعيذ �أن تكون الأمة �صاحبة �أمر ،ملا ب�أمر ّ يعلم من نف�سه � َّأن ال ّأمة ال تقلِّد القيادة ملثله. والقواد من الإنكار على يت�شدق به الوزراء بناء عليه ،ال يغ ُّ رت العقالء مبا َّ ً ّ تلهفوا و�إن ت�أففوا ،وال ينخدعون ملظاهر إن � و إ�صالح ل با والتفل�سف اال�ستبداد َّ و�سبحوا، وا ل �ص مهما بوجدانهم وال بهم غريتهم و�إن ناحوا و�إن بكوا ،وال يثقون ّ ّ ل َّأن ذلك ك ّله ينايف �سريهم و�سريتهم ،وال دليل على �أ ّنهم �أ�صبحوا يخالفون ما امل�ستبد �شبوا و�شابوا عليه ،هم �أقرب �أن ال يق�صدوا بتلك املظاهر غري �إقالق ِّ ّ الرعية� ،أي �أموالها .نعم ،كيف دماء ا�ستدرار يف لي�شاركهم �سلطته وتهديد ّ يجوز ت�صديق الوزير والعامل الكبري الذي قد �ألف عمراً كبرياً ل ّذة البذخ وع ّزة اجلربوت يف �أ َّنه ير�ضى بالدخول حتت حكم ال ّأمة ،ويخاطر بعر�ض �سيفه عليها فتح ّله �أو تك�رسه حتت �أرجلها� .ألي�س هو ع�ضواً ظاهر الف�ساد يف ج�سم تلك الأمة التي قتل اال�ستبداد فيها ك َّل الأميال ال�رشيفة العالية ف�أبعدها عن الأن�س والإن�سانية ،ح ّتى �صار الفالح التعي�س منها ي�ؤخذ للجندية وهو يبكي، فيتنمر على ب�رش الأخالق، كم ال�سرتة الع�سكرية �إال َّ ويتلب�س ِّ فال يكاد يلب�س َّ ّ مييز ويتمرد على �أهل قريته وذويه، �أمه و�أبيه، ُّ ويكظ �أ�سنانه عط�ش ًا للدماء ال ّ ّ فكل ذمةُّ ، بني � ٍأخ وعدو؟! � َّإن �أكابر رجال عهد اال�ستبداد ال �أخالق لهم وال ّ غ�ش الأمة امل�سكينة التذمر والت�ألمّ يق�صدون به َّ ما يتظاهرون به �أحيان ًا من ّ التي يطمعهم يف انخداعها وانقيادها لهم علمهم ب� َّأن اال�ستبداد القائم بهم وخدر �أع�صابها ،فجعلها بهمتهم قد �أعمى �أب�صارها وب�صائرهاَّ ، وامل�ستعمر َّ فتئن من كامل�صاب ببحران العمى ،فهي ال ترى غري هول وظالم و�شدة و�آالمُّ ، لت�صده ،فتوا�سيها فئة من البالء وال تدري ما هو تداويه ،وال من �أين جاءها َّ مرد �أولئك املتعاظمني با�سم الدين يقولون :يا ب�ؤ�ساء ،هذا ق�ضاء من ال�سماء ال َّ ٌ له ،فالواجب تل ّقيه بال�صرب والر�ضاء وااللتجاء �إىل الدعاء ،فاربطوا �أل�سنتكم عن اللغو والف�ضول ،واربطوا قلوبكم ب�أهل ال�سكينة واخلمول ،و�إياكم والتدبري ف�إن اهلل غيور ،وليكن وِ ْر ُدكم :اللهم ان�رص �سلطاننا ،و�آم ّنا يف �أوطاننا ،واك�شف عنا البالء� ،أنت ح�سبنا ونعم الوكيل .ويغرر الأمة �آخرون من املتكربين ب�أنهم
63
اال�ستبداد واملجد
الأطباء الرحماء املهتمون مبداواة املر�ض� ،إنمَّ ا هم يرت َّقبون �سنوح الفر�ص، وكال الفريقني -واهلل� -إما �أدنياء جبناء� ،أو هم خائنون خمادعون ،يريدون التثبيط والتلبيد واالمتنان على الظاملني. مغررون خمادعون يظهرون ما ال ُيبطنون، من دالئل �أن �أولئك الأكابر ِّ �أ َّنهم ال ي�ست�صنعون �إال الأ�سافل الأراذل من النا�س ،وال مييلون لغري املتملقني امل�ستبد الأكرب ،ومنها �أ َّنه املنافقني من �أهل الدين ،كما هو �ش�أن �صاحبهم ّ ولكن ،لي�س فيهم العفيف قد يوجد فيهم من ال يتن َّزل لقليل الر�شوة �أو ال�رسقةْ ، عن الكثري ،وكفى مبا يتمتعون من الرثوات الطائلة التي ال منبت لها غري امل�ستبد يف امت�صا�صه دم الأمة ،وذلك ب�أخذهم امل�ستبيح الفاخر مب�شاركة َّ العطايا الكبرية ،والرواتب الباهظة ،التي تعادل �أ�ضعاف ما ت�سمح به الإدارة العادلة لأمثالهم ،لأنها �إدارة را�شدة ال تدفع �أجوراً زائدة .ومنها �أنهم ال ي�رصفون �شيئ ًا ولو �رساً من هذا ال�سحت الكثري يف �سبيل مقاومة اال�ستبداد الذي يزعمون �أنهم �أعدا�ؤه� ،إمنا ي�رصف بع�ضهم منه �شيئ ًا يف ال�صدقات ورياء ،وك�أنهم يريدون �أن ي�رسقوا �أي�ض ًا قلوب الطفيفة وبناء املعابد �سمع ًة ً النا�س بعد �سلب �أموالهم �أو �أنهم ير�شون اهلل� ،أال �ساء ما يتوهمون .ومنها � َّأن �أكرثهم م�رسفون مب ِّذرون ،فال تكفي �أحدهم الرواتب املعتدلة التي ميكن �أن ينالها �أجرة خدمة ال ثمن ذمة .ومنها �أنه قد يكون �أحدهم �شحيح ًا مقترِّ اً يخل يف �رشف مقامه ،فال ي�رصف ن�صف �أو ربع راتبه يف نفقاته ،بحيث ُّ مع �أ َّنه يقب�ضه زائداً على �أجر مثله لأجل حفظ �رشف املقام ،العائد ل�رشف ال�ش ّح يكون خائن ًا ومهين ًا .واحلا�صل � َّأن الأكابر حري�صون على الأمة ،وبهذا ُّ �أن يبقى اال�ستبداد مطلق ًا لتبقى �أيديهم مطلقة يف الأموال. هذا وال ينكر التاريخ �أن الزمان �أوجد نادراً بع�ض وزراء وازروا اال�ستبداد فرطوا فتابوا و�أنابوا ،ورجعوا ن�صف الأمة عمراً طوي ًالَّ ، ثم ندموا على ما َّ وا�ستعدوا ب�أموالهم و�أنف�سهم لإنقاذها من داء اال�ستبداد .ولهذا ،ال يجوز الي�أ�س من وجود بع�ض �أفراد من الوزراء والقواد عريقني يف ال�شهامة ،فيظهر �رس الوراثة ولو بعد بطون �أو بعد الأربعني ورمبا ال�سبعني من �أعمارهم فيهم ّ بين ًا تلألأ يف حميا �صاحبه ثريا �صدق النجابة .وال ينبغي ل ٍ أمة �أن ظهوراً ّ ال�صدف التي ال ُتبنى تتكل على �أن يظهر فيها �أمثال ه�ؤالء ،ل َّأن وجودهم من ُّ
64
عليها �آمال وال �أحالم. فرد عاجز ال حول له وال وقوة �إال باملتمجدين، والنتيجة � َّأن امل�ستبد ٌ يحك جلدها غري ظفرها ،وال يقودها �إال والأمة� ،أي �أمة كانت ،لي�س لها من ُّ اكفهرت �سماء عقول بينها العقالء بالتنوير والإهداء والثبات ،حتى �إذا ما َّ قي�ض اهلل لها من جمعهم الكبري �أفراداً كبار النفو�س قادة �أبراراً ي�شرتون لها َّ ال�سعادة ب�شقائهم واحلياة مبوتهم ،حيث يكون اهلل جعل يف ذلك لذتهم ،وملثل ف�ساق ًا ُف ّجاراً تلك ال�شهادة ال�رشيفة خلقهم ،كما خلق رجال عهد اال�ستبداد ّ مهالكهم ال�شهوات واملثالب .ف�سبحان الذي يختار من ي�شاء ملا ي�شاء ،وهو اخل ّالق العظيم.
65
اال�ستبداد واملال
66
اال�ستبداد واملال ال�رش ،و�أبي اال�ستبداد لو كان رج ًال و�أراد �أن يحت�سب وينت�سب لقال�( :أنا ُّ امل�س َكنة ،وعمي ال�ضرُّ ّ ،وخايل الظلم ،و� ّأمي الإ�ساءة ،و�أخي الغدر ،و�أختي ْ ال ُّذ ّل ،وابني الفقر ،وبنتي البطالة ،وع�شريتي اجلهالة ،ووطني اخلراب� ،أما ديني و�رشيف فاملال املال املال). ي�صح يف و�صفه �أن ُيقال :القوة مال ،والوقت مال ،والعقل مال، املال ُّ والدين مال ،وال ّثبات مال ،واجلاه مال ،واجلمال مال ،والرتتيب والعلم مالِّ ، كل ما ُين َت َفع به يف احلياة وال�شهرة مال ،واحلا�صل ُّ مال ،واالقت�صاد مالُّ ، هو مال. وي�شرتى� ،أي ي�ستبدل بع�ضه ببع�ض ،وموازين املعادلة ُّ وكل ذلك ُيباع ُ هي :احلاجة والع ّزة والوقت والتعب ،وحمافظة اليد والف�ضة والذهب والذمة، و�سوقه املجتمعات ،و�شيخ ال�سوق ال�سلطان ..فانظر يف �سوق يتح ّكم فيه م�ستبد ،ي�أمر زيداً بالبيع ،وينهى عمرواً عن ال�رشاء ،ويغ�صب بكراً ماله، ٌّ ويحابي خالداً من مال النا�س. بينان ،و َل ِن ْع َم املال تعتوره الأحكام ،فمنه احلالل ومنه احلرام وهما ِّ احلاكم فيها الوجدان ،فاحلالل الطيب ما كان عو�ض �أعيان� ،أو �أجرة �أعمال،
67
اال�ستبداد واملال
ثم �أو بدل وقت� ،أو مقابل �ضمان .واملال اخلبيث احلرام هو ثمن ال�شرّ فَّ ، ثم املحتال فيه. ثم امل�أخوذ � ً إجلاء َّ ثم امل�رسوقَّ ، املغ�صوبَّ ، ال�سمك والهوام� ،إال �أنثى � َّإن النظام الطبيعي يف ك ِّل احليوانات حتى يف ّ العنكبوتَّ � ،إن النوع الواحد منها ال ي�أكل بع�ضه بع�ض ًا ،والإن�سان ي�أكل الرزق من اهلل� ،أي من مورده الإن�سان .ومن غريزة �سائر احليوان �أن يلتم�س ّ حري�ص على اختطافه من يد �أخيه ،بل الظامل نف�سه الطبيعي ،وهذا الإن�سان ّ ٌ من فيه ،بل كم �أكل الإن�سان الإن�سان!
68
اال�ستبداد والإن�سان ويتلمظ بدمائه� ،إىل �أن عا�ش الإن�سان دهراً طوي ًال يتلذذ بلحم الإن�سان َّ �سداً للباب ،كما كلي ًاَّ ، ثم الهند من �إبطال �أكل اللحم ّ ال�صنيَّ ، مت َّكن احلكماء يف ّ ثم جاءت ال�رشائع الدينية الأوىل يف غربي �آ�سيا بتخ�صي�ص هو د�أبهم �إىل الآنَّ . ذبح على يد ثم بالقربان ُين َذر للمعبودُ ، وي َ ما ي�ؤكل من الإن�سان ب�أ�سري احلربَّ ، ثم �أُ ِ تدرج الإن�سان بطل � ُ أكل حلم القربانُ ، الكهانَّ . وج ِعل طعمة للنريان ،وهكذا َّ الدماء لوال �إبراهيم �إىل ن�سيان ل َّذة حلم �إخوانه ،وما كان لين�سى عبادة �إهراق ِّ �شيخ الأنبياء ا�ستبدل قربان الب�رش باحليوان ،وا َّتبعه مو�سى عليهما ال�سالم، وبه جاء الإ�سالم .وهكذا بطل هذا العدوان بهذا ال�شكل �إال يف �أوا�سط �أفريقيا عند (النامنام). ير�ض �أن يقتل الإن�سان الإن�سان ذبح ًا لي�أكل حلمه اال�ستبداد امل�ش�ؤوم مل َ فامل�ستبدون ي�أ�رسون تفن يف الظلم، �أك ًال كما كان يفعل الهمج الأولون ،بل نَّ ّ جماعتهم ،ويذبحونهم ف�صداً مبب�ضع الظلم ،وميت�صون دماء حياتهم بغ�صب �أموالهم ،ويق�رصون �أعمارهم با�ستخدامهم �سخرة يف �أعمالهم� ،أو بغ�صب ثمرات �أتعابهم .وهكذا ال فرق بني الأولني والآخرين يف نهب الأعمار و�إزهاق الأرواح �إال يف ال�شكل.
69
اال�ستبداد والإن�سان
بالظلم القائم يف فطرة � َّإن بحث اال�ستبداد واملال قوي العالقة ُّ ٌ بحث ُّ ملقدمات تتع َّلق نتائجها الإن�سان ،ولهذا ،ر�أيت �أن ال ب�أ�س يف اال�ستطراد ِّ باال�ستبداد ال�سيا�سي ،فمن ذلك: املقدر جمموعهم ب�ألف وخم�سمئة مليون ن�صفهم َك ٌّل على ال ّن�صف � َّإن الب�رش َّ هن الآخر ،وي�ش ِّكل �أكرثية هذا الن�صف ال َك ّل ن�ساء املدن .ومن ال ّن�ساء؟ ال ّن�ساء َّ ال ّنوع الذي عرف مقامه يف الطبيعة ب�أ َّنه هو احلافظ لبقاء اجلن�س ،و�أ َّنه يكفي وامل�شاق، للألف منه ملقح واحد ،و� َّإن باقي الذكور حظهم �أن ُي�ساقوا للمخاطر ّ �أو هم ي�ستح ّقون ما ي�ستح ُّقه ذكر النحل ،وبهذا النظر اقت�سمت الن�ساء مع الذكور ب�سن قانونٍ عام ،به جعلن ن�صيبهن هينِّ �أعمال احلياة ق�سم ًة �ضيزى ،وحت َّك ْمن ِّ َّ نوعهن مطلوب ًا عزيزاً ب�إيهام الع ّفة ،وجعلن ال�ضعف ،وجعلن الأ�شغال بدعوى ّ َّ نوعهن ُيهني فيهن حممدتني يف الرجال ،وجعلن ال�شجاعة والكرم �سيئتني َّ َّ يربني البنات والبنني، وال ُيهان ،ويظلم �أو ُيظ َلم ُ فيعان ،وعلى هذا القانون ِّ الرجال كما ي�ش�أن حتى �أنهن جعلن الذكور يتوهمون �أ َّنهن ويتالعنب بعقول ِّ امل�رض! ومن اهن بالن�صف �سم َّ ِّ �أجمل منهم �صور ًة .واحلا�صل �أ َّنه قد �أ�صاب من َّ امل�شاهد � َّأن �رضر الن�ساء بالرجال يرت ّقى مع احل�ضارة واملدنية على ن�سبة الترَّ قي امل�ضاعف .فالبدوية ت�شارك الرجل منا�صف ًة يف الأعمال والثمرات، الرجل لأجل معي�شتها وزينتها اثنني فتعي�ش كما يعي�ش ،واحل�رضية ت�سلب ّ وتود �أال من ثالثة .و ُتعينه يف �أعمال البيت .واملدنية ت�سلب ثالثة من �أربعةُّ ، الرجال .وما �أ�صدق تخرج من الفرا�ش ،وهكذا ترت َّقى بنات العوا�صم يف �أ�رس ِّ الرجال فيها باملدنية احلا�رضة يف �أوروبا� ،أن ّ ت�سمى املدنية الن�سائية ،ل َّأن ِّ �صاروا �أنعام ًا لل ِّن�ساء. م�شاق احلياة ق�سم ًة ظامل ًة �أي�ض ًا ،ف� َّإن �أهل ال�سيا�سة الرجال تقا�سموا َّ َّ ثم � َّإن ِّ والأديان ومن يلتحق بهم -وعددهم ال يبلغ اخلم�سة يف املئة -يتمتعون الرفه والإ�رساف، بن�صف ما َّ يتجمد يف دم الب�رش �أو زيادةُ ،ينفقون ذلك يف َّ يزينون ال�شوارع مباليني من امل�صابيح ملرورهم فيها �أحيان ًا مثال ذلك� :أ َّنهم ِّ مرتاوحني بني املالهي واملواخري وال يف ِّكرون يف ماليني من الفقراء يعي�شون يف بيوتهم يف ظالم. ثم �أهل ال�صنائع النفي�سة والكمالية ،والتجار ال�شرَّ هون املحتكرون و�أمثال َّ
70
ويقدرون كذلك بخم�سة يف املئة -يعي�ش �أحدهم مبثل ما يعي�شهذه الطبقة َّ ال�ص ّناع وال ُّز ّراع .وجرثومة هذه الق�سمة به الع�رشات �أو املئات �أو الألوف من ُّ الظاملة هي اال�ستبداد ال غريه .وهناك �أ�صناف من املتفاوتة املتباعدة ّ ال ّنا�س ال يعملون �إال قلي ًال� ،إمنا يعي�شون باحليلة كال�سما�رسة وامل�شعوذين قدرون بخم�سة ع�رش يف املئة� ،أو يزيدون على با�سم الأدب �أو الدين ،وه�ؤالء ُي َّ �أولئك. نعم ،ال يقت�ضي �أن يت�ساوى العامل الذي �رصف زهوة حياته يف حت�صيل العلم النافع �أو ال�صنعة املفيدة بذاك اجلاهل النائم يف ظ ِّل احلائط ،وال ذاك التاجر املجتهد املخاطر بالك�سول اخلامل ،ولكن العدالة تقت�ضي غري ذلك فيقربه من ال�سافل، ِّ التفاوت ،بل تقت�ضي الإن�سانية �أن ي�أخذ الراقي بيد ّ ويقاربه يف معي�شته ،ويعينه على اال�ستقالل منزلته ،ويقاربه من منزلتهُ ، يف حياته. ال! ال! ال يطلب الفقري معاونة الغني� ،إمنا يرجوه �أن ال يظلمه ،وال يلتم�س الرحمة� ،إمنا يلتم�س العدالة ،ال ي� ِّؤمل منه الإن�صاف� ،إمنا ي�س�أله �أن ال منه ّ يمُ يته يف ميدان مزاحمة احلياة. َب َ�س َط املوىل -ج ّلت حكمته� -سلطان الإن�سان على الأكوان ،فطغى ،وبغى، ربه وعبد املال واجلمال ،وجعلهما منيته ومبتغاه ،ك�أ َّنه ُخلق خادم ًا ون�سي َّ لبطنه وع�ضوه فقط ،ال �ش�أن له غري الغذاء وال ّتحاك .وبالنظر �إىل � َّأن املال هم للإن�سان يف جمع املال، هو الو�سيلة املو�صلة للجمال كاد ينح�رص �أكرب ٍّ وب�رس الوجود ،وروى كري�سكوا امل� ِّؤرخ الرو�سي: ولهذا ُيك َّنى عنه مبعبود الأمم ِّ رعيتها ،ف�أر�شدها �شيطا ُنها �إىل حمل ال ِّن�ساء على � َّإن كاترينا �شكت ك�سل ّ ال�شبان للعمل وك�سب املال فهب ّ اخلالعة ،ففعلت و�أحدثت ك�سوة املراق�صَّ ، ربات اجلمال ،ويف ظرف خم�س �سنني ،ت�ضاعف دخل خزينتها، ل�رصفه على ّ امل�ستبدون ال تهمهم الأخالق� ،إنمَّ ا يهمهم فا َّت�سع لها جمال الإ�رساف .وهكذا ّ املال. املال عند االقت�صاديني :ما ينتفع به الإن�سان ،وعند احلقوقيني :ما يجري فيه املنع والبذل ،وعند ال�سيا�سيني :ما ُت�ستعا�ض به القوة ،وعند الأخالقيني: ي�ستمد من الفي�ض الذي �أودعه اهلل تعاىل ما تحُ فظ به احلياة ال�رشيفة .املال ُّ
71
اال�ستبداد والإن�سان
يف الطبيعة ونوامي�سها ،وال ميلك� ،أي ال يتخ�ص�ص ب�إن�سان� ،إال بعمل فيه �أو يف مقابله. واملق�صود من املال هو �أحد اثنني ال ثالث لهما وهما :حت�صيل ل ّذة �أو دفع كل مقا�صد الإن�سان ،وعليهما مبنى �أحكام ال�رشائع كلها، �أمل ،وفيهما تنح�رص ُّ طيب املال وخبيثه ،هو الوجدان الذي خلقه اهلل �صبغ ًة واحلاكم املعتدل يف ّ لل ّنف�س ،وعبرَّ عنه القر�آن ب�إلهامها فجورها وتقواها ،فالوجدان خيرَّ بني املال احلالل واملال احلرام. ثم � َّإن �أعمال الب�رش يف حت�صيل املال ترجع �إىل ثالثة �أ�صول1- : َّ ا�ستح�ضاره املواد الأ�صلية 2- .تهيئته املواد لالنتفاع 3- .توزيعها على وكل و�سيلة ت�سمى بالزراعة وال�صناعة والتجارةُّ ، النا�س .وهي الأ�صول التي ّ خارجة عن هذه الأ�صول وفروعها الأولية ،فهي و�سائل ظاملة ال خري فيها. التمول� ،أي ِّادخار املال ،طبيعة يف بع�ض �أنواع احليوانات الدنيئة كالنمل ُّ تطبع على إن�سان ل ا إن�سان. ل ا غري املرتقية احليوانات يف له أثر � وال والنحل، َّ التمول لدواعي احلاجة املح َّققة �أو املوهومة ،وال حت ُّقق للحاجة �إال عند �سكان ُّ املعر�ضة للقحط يف بع�ض أرا�ضي ل ا أو � أهلها، � على الثمرات قة �ضي أرا�ضي ال ّ َّ ال�سنني ،ويلتحق باحلاجة املح َّققة حاجة العاجزين ج�سم ًا عن االرتزاق يف البالد املبتالة بجور الطبيعة �أو جور اال�ستبداد ،ورمبا يلتحق بها �أي�ض ًا ال�رصف على امل�ضطرين وعلى امل�صارف العمومية يف البالد التي ينق�صها االنتظام العام. واملراد باالنتظام العام ،معي�شة اال�شرتاك العمومي التي �أ�س�سها الإجنيل بتخ�صي�صه ع�رش الأموال للم�ساكني ،ولكن ،مل يكد يخرج ذلك من القوة �إىل مت نظام ،ولكن ،مل تدم �أي�ض ًا ثم �أحدث الإ�سالم ُ�س َّنة اال�شرتاك على �أ ِّ الفعلَّ ، �أكرث من قرنٍ واحد كان فيه امل�سلمون ال يجدون من يدفعون لهم ال�صدقات والك ّفارات ،وذلك � َّأن الإ�سالمية -كما �سبق بيانه� -أ�س�ست حكومة �أر�ستقراطية املبنى ،دميوقراطية الإدارة ،فو�ضعت للب�رش قانون ًا م�ؤ�س�س ًا على قاعدةَّ � :إن املال هو قيمة الأعمال ،وال يجتمع يف يد الأغنياء �إال ب�أنواع من ال َغ َلبة واخلداع. رد على الفقراء ،بحيث وي ّ ق�سم من مال ُ فالعدالة املطلقة تقت�ضي �أن ي�ؤخذ ٌ
72
يح�صل التعديل وال ميوت الن�شاط للعمل .وهذه القاعدة يتم ّنى ما هو من نوعها �أغلب العامل املتمدن الإفرجني ،وت�سعى وراءها الآن جمعيات منهم مكونة من ماليني كثرية .وهذه اجلمعيات تق�صد ح�صول الت�ساوي منتظمة َّ �ضد اال�ستبداد املايل، �أو التقارب يف احلقوق املعا�شية بني الب�رش ،وت�سعى َّ فتطلب � ْأن تكون الأرا�ضي والأمالك الثابتة و�آالت املعامل ال�صناعية الكبرية م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة ،و� َّأن الأعمال والثمرات تكون موزعة ٍ بوجوه متقاربة بني اجلميع ،و� َّأن احلكومة ت�ضع قوانني لكافة ال�ش�ؤون حتى اجلزئيات ،وتقوم بتنفيذها. وهذه الأ�صول مع بع�ض التعديل قررتها الإ�سالمية دين ًا ،وذلك �أنها قررت: �أو ًال� -أنواع الع�شور والزكاة وتق�سيمها على �أنواع امل�صارف العامة و�أنواع املحتاجني حتى املدينني .وال يخفى على املدققني � َّأن جزءاً من �أربعني من ر�ؤو�س الأموال يقارب ن�صف الأرباح املعتدلة باعتبار �أنها خم�سة باملئة �سنوي ًا ،وبهذا النظر يكون الأغنياء م�ضاربني للجماعة منا�صف ًة .وهكذا يلحق فقراء الأمة ب�أغنيائها ،ومينع تراكم الرثوات املفرطة املو ِّلدة لال�ستبداد، وامل�رضة ب�أخالق الأفراد. َّ أحكام حمكمة متنع حمذور التواكل يف االرتزاق ،و ُتلزِم ك َّل � قررت ا ثاني ً ٌ ا�شتد �ساعده� ،أو ملك قوت يومه� ،أو ال َّن ّ�صاب على الأكرث� ،أن فرد من الأمة متى َّ م�ستبدة ت�رضب ي�سعى لرزقه بنف�سه� ،أو ميوت الفرد جوع ًا� ،إذا مل تكن حكومته ّ على يده و�سعيه ون�شاطه مبدافع ا�ستبدادها ،وقد قيل :يبد�أ االنقياد للعمل عند نهاية اخلوف من احلكومة ونهاية اال ِّتكال على الغري. ثالث ًا -قررت الإ�سالمية ترك الأرا�ضي الزراعية ملك ًا لعامة الأمة، ي�ستنبتها وي�ستمتع بخرياتها العاملون فيها ب�أنف�سهم فقط ،ولي�س عليهم غري الع�رش �أو اخلراج الذي ال يجوز �أن يتجاوز اخلم�س لبيت املال. كلية ت�صلح للإحاطة ب�أحكام رابع ًا -جاءت الإ�سالمية بقواعد �رشعية ّ كافة ال�ش�ؤون حتى اجلزئية ال�شخ�صية ،و�أناطت تنفيذها باحلكومة ،كما تطلبه �أغلب جمعيات اال�شرتاكيني .على � َّأن هذا النظام الذي جاء به الإ�سالم، �صعب الإجراء جداً ،لأ َّنه منوط ب�سيطرة الك ّل ور�ضاء النفو�س ،ول َّأن القانون
73
اال�ستبداد والإن�سان
معر�ض ًا للت�أويل ح�سب الأغرا�ض، الكثري الفروع يتع َّذر حفظه ب�سيط ًا ،ويكون َّ ولالختالف يف تطبيقه ح�سب الأهواء ،كما وقع فع ًال يف امل�سلمني ،فلم ميكنهم ت�شعبت معهم الأمور بطبيعة ثم َّ �إجراء �رشيعتهم بب�ساطة و�أمان �إال عهداً قلي ًالَّ ، ا ِّت�ساع امللك واختالف طبائع الأمم ،و َف َق َد الرجال الذين ميكنهم �أن ي�سوقوا مئات ماليني من �أجنا�س النا�س :الأبي�ض والأ�صفر ،واحل�رضي والبدوي، بع�صا واحدة قرون ًا عديدة. يت�صوره العقل ،ولكن، وال َغ ْر َو �إذا كانت املعي�شة اال�شرتاكية من �أبدع ما َّ مع الأ�سف مل يبلغ الب�رش بعد الرت ّقي ما يكفي لتو�سيعهم نظام التعاون جربت الأمم والت�ضامن يف املعي�شة العائلية �إىل �إدارة الأمم الكبرية .وكم َّ تقدم هو ذلك فلم تنجح فيها �إال الأمم ال�صغرية مدة قليلة .وال�سبب كما َّ جمرد �صعوبة التحليل والرتكيب بني ال�صوالح وامل�صالح الكثرية املختلفة. ّ واملت� ِّأمل يف عدم انتظام حالة العائالت الكبرية ،يقنع حا ًال ب� َّأن التكافل والت�ضامن غري مي�سورين يف الأمم الكبرية ،ولهذا يكون خري ح ٍّل مقدور للم�س�ألة االجتماعية هو ما ي�أتي: حراً م�ستق ًّال يف �ش�ؤونه ،ك�أنه ُخ ِلق وحده. يكون الإن�سان ّ تكون العائلة م�ستقلة ،ك�أنها �أمة وحدها.قارة واحدة ال عالقة لها تكون القرية �أو املدينة م�ستقلة ك�أنها ّبغريها. تكون القبائل يف ال�شعب �أو الأقاليم يف اململكة ك�أنها �أفالك ،ك ٌّل منهام�ستق ٌّل يف ذاته ،ال يربطها مبركز نظامها االجتماعي ،وهو اجلن�س �أو الدين �أو امللك غري حم�ض التجاذب املانع من الوقوع يف نظام �آخر ال يالئم طبائع حياتها. التمول لأجل احلاجات ال�سالفة ال ِّذكر وبقدرها فقط حممودة بثالثة َّ ثم � َّإن ُّ التمول من �أقبح اخل�صال: كان ال � إ و �رشوط، ّ ّ ال�رشط الأول� :أن يكون املال بوجه م�رشوع حال ًال� ،أي ب�إحرازه من بذل الطبيعة� ،أو باملعاو�ضة� ،أي يف مقابل عمل� ،أو يف مقابل �ضمان على ما تقوم بتف�صيله ال�رشائع املدنية. التمول ت�ضييق على حاجيات الغري كاحتكار وال�رشط الثاين� :أن ال يكون يف ّ
74
ال�رضوريات� ،أو مزاحمة ال�ص ّناع والعمال ال�ضعفاء� ،أو التغ ُّلب على املباحات، مثل امتالك الأرا�ضي التي جعلها خالقها ممرح ًا لكافة خملوقاته ،وهي �أمهم تر�ضعهم لنب جهازاتها ،وتغ ّذيهم بثمراتها ،وت�ؤويهم يف ح�ضن �أجزائها، امل�ستبدون الظاملون الأولون وو�ضعوا �أ�صو ًال حلمايتها من �أبنائها فجاء ّ م�ستبد مايل من الإنكليز، وحالوا بينهما .فهذه �إيرلندا -مث ًال -قد حماها �ألف ّ ليتمتعوا بثلثي �أو ثالثة �أرباع ثمرات �أتعاب ع�رشة ماليني من الب�رش الذين ُخ ِلقوا من تربة �إيرلندا .وهذه م�رص وغريها تقرب من ذلك حا ًال و�ستفوقها ما ًال ،وكم من الب�رش يف �أوروبا املتمدنة ،وخ�صو�ص ًا يف لندن وباري�س ،ال يجد �أحدهم �أر�ض ًا ينام عليها متمدداً ،بل ينامون يف الطبقة ال�سفلى من البيوت، حيث ال ينام البقر ،وهم قاعدون �صفوف ًا يعتمدون ب�صدورهم على حبالٍ من م�سد من�صوبة �أفقية يتلوون عليها مين ًة وي�رسة. وحكومة ال�صني خمت ّلة النظام يف نظر املتمدنني ،ال جتيز قوانينها �أن ال�شخ�ص الواحد �أكرث من مقدار معني من الأر�ض ال يتجاوز الع�رشين ميتلك ّ كيلومرتاً مربع ًا� ،أي نحو خم�سة �أفدن م�رصية �أو ثالثة ع�رش دومن ًا عثماني ًا. امل�ستبدة القا�سية يف ُعرف �أكرث الأوروبيني و�ضعت �-أخرياً- ورو�سيا ّ لواليتها البولونية الغربية قانون ًا �أ�شبه بقانون ال�صني ،وزادت عليه �أ َّنها لفالح �أن ي�ستدين �أكرث م�سجل على فالح ،وال ت�أذن منعت �سماع دعوى دينٍ ٍ ّ من نحو خم�سمئة فرنك .وحكومات ال�شرّ ق �إذا مل ت�ستدرك الأمر فت�ضع قانون ًا من قبيل قانون رو�سيا ،ت�صبح الأرا�ضي الزراعية بعد خم�سني عام ًا �أو قرن على الأكرث ك�إيرلندا الإنكليزية امل�سكينة ،التي وجدت لها يف مدى ثالثة قرون �شخ�ص ًا واحداً حاول �أن يرحمها فلم ُيفلح ،و�أعني به غالد�ستون ،على الرحمة. � َّأن ال�رشق رمبا ال يجد يف ثالثني قرن ًا من يلتم�س له َّ التمول ،هو� :أال يتجاوز املال قدر احلاجة بكثري، وال�رشط الثالث جلواز ّ لأن �إفراط الرثوة مهلكة للأخالق احلميدة يف الإن�سان ،وهذا معنى الآية( :كال � َّإن الإن�سان ليطغى* �أن ر�آه ا�ستغنى) ،وال�رشائع ال�سماوية ك ُّلها ،وكذلك احلكمة حرمت الربا� ،صيان ًة لأخالق املرابني من الف�ساد ،ل َّأن الأخالقية والعمرانية َّ الربا :هو ك�سب بدون مقابل مادي ،ففيه معنى الغ�صب ،ودون عمل ،ل َّأن تعر�ض خل�سائر املرابي يك�سب وهو نائم ،ففيه الأُلفة على البطالة ،ومن دون ُّ
75
اال�ستبداد والإن�سان
طبيعية كالتجارة والزراعة والأمالك ،ففيه النماء املطلق امل�ؤدي النح�صار الرثوات .ومن القواعد االقت�صادية امل َّتفق عليها � ْأن لي�س من ك�سب ال عار وال فيختل احتكار فيه �أربح من الربا مهما كان معتد ًال ،و� َّأن بالربا تربو الرثوات ُّ الت�ساوي �أو التقارب بني ال ّنا�س. الربا، وقد نظر املا ّليون وبع�ض االقت�صاديني من �أن�صار اال�ستبداد يف �أمر ِّ بد منه� .أو ًال :لأجل قيام املعامالت الكبرية، فقالواَّ � :إن املعتدل منه نافع ،بل ال َّ وثاني ًا :لأجل � َّأن النقود املوجودة ال تكفي للتداول ،فكيف �إذا �أم�سك املكتنزون ق�سم ًا منها �أي�ض ًا؟! وثالث ًا :لأجل � َّأن كثريين من املتمولني ال يعرفون طرائق اال�سرتباح �أو ال يقدرون عليها ،كما � َّأن كثرياً من العارفني بها ال يجدون ر�ؤو�س �أموال وال �رشكاء عنان .فهذا النظر �صحيح من وجه �إمناء ثروات بع�ض الأفراد� .أما ال�سيا�سيون اال�شرتاكيو املبادئ والأخالقيون ،فينظرون �إىل � َّأن �رضر الرثوات الأفرادية يف جمهور الأمم �أكرب من نفعها .لأنها مت ِّكن وتقوي اال�ستبداد اال�ستبداد الداخلي ،فتجعل النا�س �صنفني :عبيداً و�أ�سياداًّ ، التعدي على حرية ا�ستقالل اخلارجي، فت�سهل للأمم التي تغنى بغناء �أفرادها ّ ِّ الأمم ال�ضعيفة .وهذه مقا�صد فا�سدة يف نظر احلكمة والعدالة ،ولذلك يقت�ضي الربا حترمي ًا مغ َّلظ ًا. حترمي ِّ يخف كثرياً عند �أهايل احلكومات التمول ،وهو الطمع القبيح، ِح ْر�ص ُّ ُّ العادلة املنتظمة ما مل يكن ف�ساد الأخالق منغلب ًا على الأهايل ،ك�أكرث الأمم التمول يف ن�سبة املتمدنة يف عهدنا ،ل َّأن ف�ساد الأخالق يزيد يف امليل �إىل ِّ ُّ ولكن حت�صيل الرثوة الطائلة يف عهد احلكومة العادلة إ�رسافية، ل ا احلاجة َّ املنحطة� ،أو التجارة أمم ل ا مع املراباة طريق من إال � ع�سري جداً ،وقد ال يت�أتى ّ ٌ الكبرية التي فيها نوع احتكار� ،أو اال�ستعمار يف البالد البعيدة مع املخاطرات، على � َّأن هذه ال�صعوبة تكون مقرونة بل ّذة عظيمة من نوع ل ّذة من ي�أكل ما طبخ� ،أو ي�سكن ما بنى. ِ ي�شتد يف ر�ؤو�س النا�س يف عهد احلكومات التمول القبيح وح ْر�ص ُّ ّ وبالتعدي امل�ستبدة ،حيث ي�سهل فيها حت�صيل الرثوة بال�رسقة من بيت املال، ِّ ّ على احلقوق العامة ،وبغ�صب ما يف �أيدي ال�ضعفاء ،ور�أ�س مال ذلك هو � ْأن وينحط يف �أخالقه �إىل مالءمة الدين والوجدان واحلياء جانب ًا َّ يرتك الإن�سان ِّ
76
امل�ستبد الأعظم� ،أو �أحد �أعوانه وعماله ،ويكفيه و�سيل ًة �أن ي ّت�صل بباب �أحدهم ّ ويتقرب من �أعتابه ،ويظهر له �أ َّنه يف الأخالق من �أمثاله وعلى �شاكلته، َّ ويربهن له ذلك ب�أ�شياء من التم ُّلق و�شهادة الزور ،وخدمة ال�شهوات ،والتج�س�س، ثم قد يطلع هذا املنت�سب على بع�ض اخلفايا ال�سلب ونحو ذلكَّ . والداللة على ّ والأ�رسار التي يخاف رجال اال�ستبداد من ظهورها خوف ًا حقيقي ًا �أو وهمي ًا، فيك�سب املنت�سب ر�سوخ القدم وي�صري هو باب ًا لغريه ،وهكذا يح�صل على الرثوة الطائلة �إذا �ساعدته الظروف على ال ّثبات طوي ًال .وهذا �أعظم �أبواب الرثوة يف ثم الربا الفاح�ش ،وهي ال�رشق والغرب ،ويليه االتجِّ ار ّ ثم املالهيَّ ، بالدينَّ ، بئ�س املكا�سب وبئ�س ما ت�ؤ ِّثر يف �إف�ساد �أخالق الأمم. أ�رض كثرياً وقد ذكر املدققون � َّأن ثروة بع�ض الأفراد يف احلكومات العادلة � ّ قوتهم املالية منها يف احلكومات َّ امل�ستبدة ،ل َّأن الأغنياء يف الأوىل ي�رصفون ّ يف �إف�ساد �أخالق النا�س و�إخالل امل�ساواة و�إيجاد اال�ستبدادّ � ،أما الأغنياء يف امل�ستبدة في�رصفون ثروتهم يف ال َّأبهة والتعاظم �إرهاب ًا للنا�س، احلكومات ّ املن�صبة عليهم بالتغايل الباطل ،وي�رسفون الأموال يف لل�سفالة ّ وتعوي�ض ًا ّ الف�سق والفجور. يتعجلها الزوال ،حيث يغ�صبها الأقوى منهم من بناء عليه ،ثروة ه�ؤالء ً ّ ٍ حلظة وبكلمة .وتزول �أي�ض ًا - امل�ستبد الأعظم يف ي�سلبها وقد أ�ضعف، ال ُّ واحلمد هلل -قبل �أن يتع ّلم �أ�صحابها �أو ورثتهم كيف تحُ فظ الرثوات ،وكيف تنمو ،وكيف ي�ستعبدون بها النا�س ا�ستعباداً �أ�صولي ًا م�ستحكم ًا ،كما هو احلال املهددة ب�رشوط الفو�ضويني ب�سبب الي�أ�س من مقاومة يف �أوروبا املتمدنة َّ اال�ستبداد املايل فيها. أثر فقر الأمة ظهوراً بيان ًا �إال فج�أ ًة ومن طبائع اال�ستبداد �أ َّنه ال يظهر فيه � ُ ُق َريب ق�ضاء اال�ستبداد نحبه .و�أ�سباب ذلك � َّأن النا�س يقت�صدون يف الن�سل، تغربهم ،ويبيعون �أمالكهم من الأجانب ،فتتق ّل�ص وتكرث وفياتهم ،ويكرث ّ الرثوة ،وتكرث النقود بني الأيدي .وبئ�ست من ثروة ونقود ت�شبه ن�شوة املذبوح. ولرنجع �إىل بحث طبيعة اال�ستبداد يف مطلق املال ف�أقولَّ � :إن اال�ستبداد وعماله غ�صب ًا، يجعل املال يف �أيدي النا�س عر�ض ًة ل�سلب ّ امل�ستبد و�أعوانه ّ
77
اال�ستبداد والإن�سان
ٍ بحجة باطلة ،وعر�ض ًة �أي�ض ًا ل�سلب املعتدين من الل�صو�ص واملحتالني �أو ح�صل �إال بامل�ش ّقة، الراتعني يف ظ ِّل �أمان الإدارة اال�ستبدادية .وحيث املال ال ُي َ املن على االنتفاع بالثمرة. فال تختار النفو�س الإقدام على املتاعب مع عدم ِّ ِح ْف ُظ املال يف عهد الإدارة امل�ستبدة �أ�صعب من ك�سبه ،ل َّأن ظهور �أثره ّ على �صاحبه جملبة لأنواع البالء عليه ،ولذلك ُي�ضطر النا�س زمن اال�ستبداد لإخفاء نعمة اهلل وال ّتظاهر بالفقر والفاقة ،ولهذا ورد يف �أمثال الأُ�رساء � َّأن حفظ درهم من الذهب يحتاج �إىل قنطار من العقل ،و� َّأن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه ،و� َّأن �أ�سعد النا�س ال�صعلوك الذي ال يعرف احل ّكام وال يعرفونه. ومن طبائع اال�ستبدادَّ � ،أن الأغنياء �أعدا�ؤه فكراً و�أوتاده عم ًال ،فهم ربائط الذل يف الأمم امل�ستبد ،يذ ُّلهم فيئ ّنون، وي�ستدرهم فيح ّنون ،ولهذا ير�سخ ُّ ِّ ّ امل�ستبد خوف النعجة من الذئاب، التي يكرث �أغنيا�ؤها� .أما الفقراء فيخافهم ُّ ويتحبب �إليهم ببع�ض الأعمال التي ظاهرها الر�أفة ،يق�صد بذلك �أن يغ�صب ٍ دناءة �أي�ض ًا قلوبهم التي ال ميلكون غريها .والفقراء كذلك يخافونه خوف ونذالة ،خوف البغاث من العقاب ،فهم ال يج�رسون على االفتكار ف�ض ًال عن يتوهمون � َّأن داخل ر�ؤو�سهم جوا�سي�س عليهم .وقد يبلغ ف�ساد الإنكار ،ك�أنهم َّ امل�ستبد عنهم ب� ِّأي ٍ وجه كان ي�رسهم فع ًال ر�ضاء ِّ الأخالق يف الفقراء �أن ّ ر�ضا�ؤه. وقد خالف الأخالقيون املت� ِّأخرون �أ�سالفهم يف قولهم ،لي�س الفقراء بعيب، ثم مفتقر للغري ،والغناء فقالوا :الفقر �أبو املعائب ،لأنه ٌ ا�ستغناء عن ال ّنا�سَّ ، ٌ قالوا :الفقر يذهب بع ّزة النف�س ،ويف�ضي �إىل خلع احلياء ،وقالواَّ � :إن حل�سن والتنعم يف املعي�شة ت�أثرياً مهم ًا على نفو�س الب�رش ،خالف ًا اللبا�س والأمتعة ّ ملن يقول :لي�س املرء بطيل�سانه ،وحديث (اخ�شو�شنوا ،ف�إن النعم ال تدوم) امل�شاق يف احلروب والأ�سفار وعند التعود ج�سم ًا على هو لأ ّنه يحمل على ّ ّ احلاجة .فقالواَّ � :إن رغد العي�ش ونعيمه ملن �أعظم احلاجات ،به تعلو الهمم، ولأجله ُتق َتحم العظائم. يحل امل�شكالت الزمان واملال .القوة كانت ُيقال يف مدح املالَّ � :إن ما ُّ ثم �صارت للمال .العلم واملال ُيطيالن عمر ثم �صارت للعلمَّ ، للع�صبيةَّ ،
78
بالدم، الإن�سان ،حيث يجعالن �شيخوخته ك�شبابه .ال ُي�صان ال�شرّ ف �إال ّ وال يت�أتى الع ُّز �إال باملال .وقد م�ضى جمد الرجال وجاء جمد املال .وورد خري من اليد ال�سفلى .و� َّأن الغني ال�شاكر �أف�ضل من يف الأثرَّ � :إن اليد العليا ٌ الفقري ال�صابر .ومل يكن قدمي ًا �أهمية للرثوة العمومية� ،أما الآن وقد �صارت املحاربات حم�ض مغالبة وعلم ومال ،ف�أ�صبح للرثوة العمومية �أهمية عظمى لأجل حفظ اال�ستقالل ،على � َّأن الأمم امل�أ�سورة ال ن�صيب لها من الرثوة العمومية ،بل منزلتها يف املجتمع الإن�ساين ك�أنعام تتناقلها الأيدي ،وال تعار�ض هذه القاعدة ثروة اليهود ،لأنها ثروة غري مزاحمني عليها ،لأنها فيما يقوله �أعدا�ؤه فيها :ثروة ر�أ�سمالها النامو�س ،وم�رصفها املالهي واملقامرة والربا والغ�ش وامل�ضاربات ،وال يخلو هذا القول من التحامل عليهم ح�سداً ّ ممن يقدمون �إقدامهم وال ينالون منالهم. هذا وللمال الكثري �آفات على احلياة ال�رشيفة ترتعد منها فرائ�ص �أهل الرزق مع حفظ احلرية وال�رشف الف�ضيلة والكمال ،الذين يف�ضلون الكفاف من ِّ على امتالك دواعي الرتف وال�سرّ ف ،وينظرون �إىل املال الزائد على احلاجة بالء من حيث االفتكار ب�إمنائه، الكمالية �أ ّنه بالء يف بالء يف بالء� ،أي �أ ّنه ٌ و�أما املكتفي فيعي�ش مطمئن ًا م�سرتيح ًا �أمين ًا بع�ض الأمن على دينه و�رشفه و�أخالقه. قرر الأخالقيون � َّأن الإن�سان ال يكون حراً متام ًا ما مل تكن له �صنعة م�ستق ٌّل فيها� ،أي غري مر�ؤو�س لأحد ،لأن حريته ال�شخ�صية تكون تابعة الرتباطه بالر�ؤ�ساء .وعليه تكون �أقبح الوظائف هي وظائف احلكومة .وقالواَّ � :إن دل به على �أحوال لل�صنعة ت�أثرياً يف الأخالق والأميال ،وهي من �أ�صدق ما ُي�س َت ُّ الأفراد والأقوام .فاملوظفون يف احلكومة مث ًال يفقدون ال�شفقة والعواطف العالية تبع ًا ل�صنعتهم التي من مقت�ضاها عدم ال�شعور بتبعة �أعمالهم ،وقال احلكماءَّ � :إن العاجز يجمع املال بالتقتري ،والكرمي يجمعه بالك�سب ،وقالواَّ � :إن �أقل ك�سب ير�ضى به العاقل ما يكفي معا�شه باقت�صاد ،وقالوا :خري املال ما ذل القلة وطغيان الكرثة .وهذا معنى احلديث (فاز املخففون) يكفي �صاحبه ّ ويقال :الغنى غنى القلب ،والغني وحديث «ا�س�ألوا اهلل الكفاف من الرزق»ُ . كل من ق َّلت حاجته ،والغني من ا�ستغنى عن النا�س .وقال بع�ض احلكماءُّ :
79
اال�ستبداد والإن�سان
�إن�سانٍ فقري بالطبع ينق�صه مثل ما ميلك ،فمن ميلك ع�رشة يرى نف�سه حمتاج ًا لع�رشة �أخرى ،ومن ميلك �ألف ًا يرى نف�سه حمتاج ًا ل ٍ ألف �أخرى .وهذا معنى احلديث« :لو كان البن �آدم ٍ أحب �أن يكون له واديان». واد من ذهب � َّ وال يق�صد الأخالقيون من التزهيد يف املال التثبيط عن ك�سبه� ،إمنا يق�صدون �أال يتجاوز ك�سبه بالطرائق الطبيعية ال�رشيفة� .أما ال�سيا�سيون فال يهمهم �إال �أن ت�ستغني الرعية ب�أي و�سيلة كانت ،والغربيون منهم ُيعينون الأمة على الك�سب لي�شاركوها ،وال�رشقيون ال يفتكرون يف غري �سلب املوجود ،وهذه من جملة الفروق بني اال�ستبدادين الغربي وال�رشقي ،التي منها � َّأن اال�ستبداد ولكن ،مع ال ّلني ،وال�رشقي يكون مقلق ًال أ�شد وط�أ ًةْ ، الغربي يكون �أحكم و�أر�سخ و� ّ تبدل �رسيع الزوال ،ولك ّنه يكون مزعج ًا .ومنها � َّأن اال�ستبداد الغربي �إذا زال ّ بحكومة عادلة ُتقيم ما �ساعدت الظروف �أن تقيم� ،أما ال�رشقي فيزول ويخلفه �رش منه ،ل َّأن من د�أب ال�رشقيني �أال يفتكروا يف م�ستقبل قريب ،ك� َّأن ا�ستبداد ٌّ �أكرب همهم من�رصف �إىل ما بعد املوت فقط� ،أو �أنهم مبتلون بق�رص النظر. أ�شد وط�أ ًة من الوباء� ،أكرث هو ًال من داء � ُّ وخال�صة القولَّ � :إن اال�ستبداد ٌ بقوم ال�سيلُّ � ، داء �إذا نزل ٍ أذل للنفو�س من ال�س�ؤالٌ . احلريق� ،أعظم تخريب ًا من ّ ربها �سمعت �أرواحهم هاتف ال�سماء ينادي الق�ضاء الق�ضاء ،والأر�ض تناجي ّ عهد� ،أ�شقى النا�س فيه العقالء والأغنياء ،و�أ�سعدهم بك�شف البالء .اال�ستبداد ٌ يتعجلون املوت فيح�سدهم مبحياه اجلهالء والفقراء ،بل �أ�سعدهم �أولئك الذين ّ الأحياء.
80
اال�ستبداد والأخالق يت�رصف يف �أكرث الأميال الطبيعية والأخالق احل�سنة، اال�ستبداد َّ في�ضعفها� ،أو ُيف�سدها� ،أو ميحوها ،فيجعل الإن�سان يكفر ب ِن َعم مواله ،لأنه مل ُ حق احلمد ،ويجعله حاقداً على قومه ،لأنهم عليها ليحمده امللك حق ميلكها ّ ّ حب وطنه ،لأ َّنه غري �آمن على اال�ستقرار ا وفاقد عليه، اال�ستبداد عون لبالء ٌ ً ّ احلب لعائلته ،لأنه يعلم منهم �أ َّنهم مثله ال فيهُّ ، ويود لو انتقل منه ،و�ضعيف ِّ أ�سري �ضطرون لإ�رضار �صديقهم ،بل وقتله وهم باكونُ � . ميلكون التكاف�ؤ ،وقد ُي ّ معر�ض اال�ستبداد ال ميلك �شيئ ًا ليحر�ص على حفظه ،لأ َّنه ال ميلك ما ًال غري َّ معر�ض للإهانة .وال ميلك اجلاهل منه �آما ًال م�ستقبلة لل�سلب وال �رشف ًا غري َّ ّ ليتبعها وي�شقى كما ي�شقى العاقل يف �سبيلها. وهذه احلال جتعل الأ�سري ال يذوق يف الكون لذ ًة نعيم ،غري بع�ض املل ّذات بناء عليه ،يكون �شديد احلر�ص على حياته احليوانية و� ْإن كانت البهيميةً . تعي�سة ،وكيف ال يحر�ص عليها وهو ال يعرف غريها؟! �أين هو من احلياة الأدبية؟! �أين هو من احلياة االجتماعية؟! � َّأما الأحرار فتكون منزلة حياتهم احليوانية عندهم بعد مراتب عديدة ،وال يعرف ذلك �إال من كان منهم� ،أو ك�شف عن ب�صريته.
81
اال�ستبداد والأخالق
ومثال الأ�رساء يف حر�صهم على حياتهم ال�شيوخ ،ف�إ َّنهم عندما مت�سي حياتهم ك ُّلها �أ�سقام ًا و�آالم ًا ويقربون من �أبواب القبور ،يحر�صون على حياتهم �أكرث من ال�شباب يف مقتبل العمر ،يف مقتبل املالذ ،يف مقتبل الآمال. الراحة الفكرية ،في�ضني الأج�سام فوق �ضناها بال�شقاء، اال�ستبداد ي�سلب ّ ويختل ال�شعور على درجات متفاوتة يف النا�س .والعوام فتمر�ض العقول، ُّ الذين هم قليلو املادة يف الأ�صل قد ي�صل مر�ضهم العقلي �إىل درجة قريبة من عدم التمييز بني اخلري وال�رش ،يف ك ِّل ما لي�س من �رضوريات حياتهم جمرد �آثار ال َّأبهة والعظمة التي احليوانية .وي�صل ت�س ُّفل �إدراكهم �إىل � َّأن ّ وجمرد �سماع �ألفاظ التفخيم امل�ستبد و�أعوانه تبهر �أب�صارهم، يرونها على ّ ّ يف و�صفه وحكايات قوته و�صولته يزيغ �أفكارهم ،فريون ويفكرون � َّأن الدواء يف الداء ،فين�صاعون بني يدي اال�ستبداد ان�صياع الغنم بني �أيدي الذئاب، مقر حتفها. حيث هي جتري على قدميها جاهد ًة �إىل ِّ ولهذا كان اال�ستبداد ي�ستويل على تلك العقول ال�ضعيفة ف�ض ًال عن الأج�سام فيف�سدها كما يريد ،ويتغ ّلب على تلك الأذهان ال�ضئيلة ،في�شو�ش فيها احلقائق، بل البديهيات كما يهوى ،فيكون َم َث ُلهم يف انقيادهم الأعمى لال�ستبداد ومقاومتهم للر�شد والإر�شاد ،مثل تلك الهوام التي ترتامى على النار ،وكم هي تغالب من يريد حجزها على الهالك .وال غرابة يف ت�أثري �ضعف الأج�سام على ال�ضعف يف العقول ،ف� َّإن يف املر�ضى وخ ّفة عقولهم ،وذوي العاهات ونق�ص بين ًا كافي ًا ُيقا�س عليه نق�ص عقول الأُ�رساء الب�ؤ�ساء بالن�سبة �إدراكهم� ،شاهداً ّ �إىل الأحرار ال�سعداء ،كما يظهر احلال �أي�ض ًا ب�أق ّل فرق بني الفئتني ،من الفرق الدم وا�ستحكام ال�صحة وجمال الهيئات. البينّ يف قوة الأج�سام وغزارة ّ رمبا ي�سرتيب املطالع اللبيب الذي مل ُيتعب فكره يف در�س طبيعة اال�ستبداد، من � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم كيف يقوم على قلب احلقائق ،مع �أ َّنه �إذا د ّقق النظر يتجلى له � َّأن اال�ستبداد يقلب احلقائق يف الأذهان .يرى �أ َّنه كم م ّكن بع�ض القيا�رصة وامللوك الأولني من التالعب بالأديان ت�أييداً ال�ستبدادهم فا َّتبعهم النا�س .ويرى � َّأن النا�س و�ضعوا احلكومات لأجل خدمتهم ،واال�ستبداد قلب املو�ضوع ،فجعل الرعية خادمة للرعاة ،فقبلوا وقنعوا .ويرى � َّأن اال�ستبداد فاجر ،وتارك ح ّقه مطيع ،وامل�شتكي احلق ما �ساقهم �إليه من اعتقاد � َّأن طالب ِّ ٌ
82
املتظلِّم مف�سد ،وال ّنبيه املدقق ملحد ،واخلامل امل�سكني �صالح �أمني .وقد ا َّتبع عتواً، النا�س اال�ستبداد يف ت�سميته الن�صح ف�ضو ًال ،والغرية عداوةّ ، وال�شهامة ّ واحلمية حماقة ،والرحمة مر�ض ًا ،كما جاروه على اعتبار � َّأن ال ِّنفاق �سيا�سة، والتحيل كيا�سة ،والدناءة لطف ،والنذالة دماثة. ُّ وال غرابة يف حت ُّكم اال�ستبداد على احلقائق يف �أفكار الب�سطاء� ،إمنا الغريب �سمون الفاحتني �إغفاله كثرياً من العقالء ،ومنهم جمهور امل� ِّؤرخني الذين ُي ّ ملجرد �أ َّنهم الغالبني ِّ بالرجال العظام ،وينظرون �إليهم نظر الإجالل واالحرتام ّ كانوا �أكرث يف قتل الإن�سان ،و�أ�رسفوا يف تخريب العمران .ومن هذا القبيل يف الغرابة �إعالء امل� ِّؤرخني قدر من جاروا امل�ستبدين ،وحازوا القبول والوجاهة عند الظاملني .وكذلك افتخار الأخالق ب�أ�سالفهم املجرمني الذين كانوا من ه�ؤالء الأعوان الأ�رشار. ٍ احلرة، يظن بع�ض النا�س � َّأن لال�ستبداد وقد ُّ ح�سنات مفقودة يف الإدارة ّ واحلق � َّأن ذلك يح�صل فيه عن ويلطفها، فيقولون مث ًال :اال�ستبداد يلينّ الطباع ِّ ُّ فقد ال�شهامة ال عن فقد ال�رشا�سة .ويقولون :اال�ستبداد ُيعلِّم ال�صغري اجلاهل واحلق � َّأن هذا فيه عن خوف وجبانة ال ح�سن الطاعة واالنقياد للكبري اخلرب، ُّ يربي النفو�س على االعتدال والوقوف عند عن اختيارٍ و�إذعان .ويقولون :هو ّ انكما�ش وتقهقر .ويقولون :اال�ستبداد يقلل واحلق � ْأن لي�س هناك غري احلدود، ٍ ُّ واحلق �أ َّنه عن فقر وعجر ،ال عن ع ّف ٍة �أو دين .ويقولون :هو الف�سق والفجور، ُّ فيقل تعديدها يقلل التعديات واجلرائم، واحلق �أ َّنه مينع ظهورها ويخفيهاُّ ، ُّ ال عدادها. و�سقياها العلم ،والقائمون الأخالق �أثمار بذرها الوراثة ،وتربتها الرتبيةُ ، بناء عليه ،تفعل ال�سيا�سة يف �أخالق الب�رش ما تفعله عليها هم رجال احلكومةً ، العناية يف �إمناء ال�شجر. نعم :الأقوام كالآجام� ،إن ُترِكت مهملة تزاحمت �أ�شجارها و�أفالذها ،و�س ُقم املتوح�شة .و�إن قويها على �ضعيفها ف�أهلكه ،وهذا مثل القبائل ِّ �أكرثها ،وتغ َّلب ّ فدبرها ح�سبما تطلبه طباعها ،قويت �صادفت ب�ستاني ًا يهمه بقا�ؤها وزهوها ّ ين جدير وح�سنت ثمارها ،وهذا مثل احلكومة العادلة .و�إذا ُبليت بب�ستا ٍّ و�أينعت ُ وخربها ،وهذا مثل ي�سمى ّ ب�أن ّ حطاب ًا ال يعنيه �إال عاجل االكت�ساب� ،أف�سدها ّ
83
اال�ستبداد والأخالق
احلطاب غريب ًا مل ُيخلق من تراب تلك الديار احلكومة امل�ستبدة .ومتى كان ّ ّ همه احل�صول على الفائدة ولي�س له فيها فخار وال يلحقه منها عار� ،إنمّ ا ّ فبناء على هذا الطامة وهناك البوار. العاجلة ولو باقتالع الأ�صول ،فهناك ّ ً احلطاب الذي ال ُيرجى املثال ،يكون ِف ُ عل اال�ستبداد يف �أخالق الأمم ِفعل ذلك ّ منه غري الإف�ساد. ال تكون الأخالق �أخالق ًا ما مل تكن ملكة ُمطردة على قانون فطري تقت�ضيه �أو ًال وظيفة الإن�سان نحو نف�سه ،وثاني ًا وظيفته نحو عائلته ،وثالث ًا ي�سمى وظيفته نحو قومه ،ورابع ًا وظيفته نحو الإن�سانية ،وهذا القانون هو ما ّ عند النا�س بالنامو�س. ومن �أين لأ�سري اال�ستبداد �أن يكون �صاحب نامو�س ،وهو كاحليوان اململوك يهب الريح ،ال نظام وال يهب ،حيث ُّ العنانُ ،يقاد حيث ُيراد ،ويعي�ش كالري�شُّ ، �إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي � ُّأم الأخالق ،هي ما قيل فيها تعظيم ًا ل�ش�أنها: لو جازت عبادة غري اهلل الختار العقالء عبادة الإرادة! هي تلك ال�صفة التي تف�صل احليوان عن ال ّنبات يف تعريفه ب�أ ّنه متحرك بالإرادة .فالأ�سري� ،إذن، يتحرك ب�إرادة غريه ال ب�إرادة نف�سه .ولهذا قال الفقهاء :ال دون احليوان لأ ّنه ّ لنية مواله .وقد ُيعذر الأ�سري نية للرقيق يف كثري من �أحواله� ،إمنا هو تابع ّ ّ على ف�ساد �أخالقه ،ل َّأن فاقد اخليار غري م�ؤاخذ عق ًال و�رشع ًا. �أ�سري اال�ستبداد ال نظام يف حياته ،فال نظام يف �أخالقه ،قد ي�صبح غني ًا كل في�ضحى �شجاع ًا كرمي ًا ،وقد مي�سي فقرياً فيبيت جبان ًا خ�سي�س ًا ،وهكذا ُّ �ش�ؤونه ت�شبه الفو�ضى ال ترتيب فيها ،فهو يتبعها بال وجهة� .ألي�س الأ�سري قد في�شنق ،ويجوع يوم ًا في�ضوى ،ويخ�صب فيعفى ،وقلي ًال ُ ُيرهق ،وي�سيء كثرياً ُ فيم َنع ،وي�أبى �شيئ ًا فيرُ غم؟! وهكذا يعي�ش كما يوم ًا فيتخم ،يريد �أ�شياء ُ ال�صدف �أن يعي�ش ،ومن كانت هذه حاله كيف يكون له �أخالق ،و� ْإن تقت�ضيه ُّ ُكم على الأ�رساء جتوز احلكمة احل َ وجد ابتداء يتعذر ا�ستمراره عليه؟! ولهذا ال ّ �رش. بخ ٍري �أو ّ أقل ما ي�ؤ ّثره اال�ستبداد يف �أخالق النا�س� ،أ َّنه يرغم حتى الأخيار منهم � ُّ غي الرياء والنفاق ولبئ�س ّ على �إلفة ّ ال�سيئتان ،و�إنه يعني الأ�رشار على �إجراء ّ نفو�سهم �آمنني من ك ِّل تبعة ولو �أدبية ،فال اعرتا�ض وال انتقاد وال افت�ضاح،
84
ل َّأن �أكرث �أعمال الأ�رشار تبقى م�ستورة ،يلقي عليها اال�ستبداد رداء خوف النا�س �رش وعقبى ذكر الفاجر مبا فيه .ولهذا� ،شاعت بني من تبعة ال�شهادة على ذي ّ الأ�رساء قواعد كثرية باطلة كقولهم� :إذا كان الكالم من ف�ضة فال�سكوت من �سد �أفواههم ذهب ،وقولهم :البالء ٌ وعاظهم يف ِّ موكول باملنطق .وقد تغاىل ّ حتى جعلوا لهم �أمثال هذه الأقوال من ا ِ حل َكم النبوية ،وكم هجوا لهم الهجو يحب ا ُ بال�سوء من القول) ويغفلون والغيبة بال قيد ،فهم يقر�ؤون( :ال ُّ هلل اجلهر ّ بقية الآية ،وهي�( :إ ّال من ُظ ِلم). �أقوى �ضابط للأخالق النهي عن املنكر بالن�صيحة والتوبيخ� ،أي بحر�ص الأفراد على حرا�سة نظام االجتماع ،وهذه الوظيفة غري مقدور عليها يف عهد اال�ستبداد لغري ذوي املنعة وقليل ما هم ،وقلي ًال ما يفعلون ،وقلي ًال ما يفيد نهيهم ،لأنه ال ميكنهم توجيهه لغري امل�ست�ضعفني الذين ال ميلكون �رضراً وال نفع ًا ،بل وال ميلكون من �أنف�سهم �شيئ ًا ،ولأ َّنه ينح�رص مو�ضوع نهيهم الرذائل النف�سية ال�شخ�صية فقط ،ومع ذلك فيما ال تخفى قباحته على �أح ٍد من ّ فاجل�سور ال يرى ُب ّداً من اال�ستثناء املخ ِّل للقواعد العامة كقوله :ال�سرّ قة قبيحة واملوظفون يف عهد �إال �إذا كانت ا�سرتداداً منها ،والكذب حرام �إال للمظلوم. َّ اال�ستبداد للوعظ والإر�شاد يكونون -مطلق ًا -وال �أقول غالب ًا ،من املنافقني الذين نالوا الوظيفة بالتم ّلق ،وما �أبعد ه�ؤالء عن الت�أثري ،ل َّأن الن�صح الذي ال ثم � َّإن ال ُّن�صح �إخال�ص فيه هو بذر عقيم ال ينبت ،و� ْإن نبت كان ً رياء ك�أ�صلهَّ ، ال يفيد �شيئ ًا �إذا مل ي�صادف �أذن ًا تتط ّلب �سماعه ،ل َّأن الن�صيحة و�إن كانت عن أر�ض �صاحلة نبت ،و�إن احليْ � :إن �أُلقي يف � ٍ �إخال�ص فهي ال تتجاوز ُح ْك َم البذر ّ أر�ض قاحلة مات. �أُلقي يف � ٍ � ّأما النهي عن املنكرات يف الإدارة احلرة ،فيمكن لك ِّل غيورٍ على نظام يوجه �سهام قوار�صه على ال�ضعفاء قومه �أن يقوم به ب�أمانٍ و�إخال�ص ،و�أن ِّ يخ�ص بها الفقري املجروح الف�ؤاد ،بل ت�ستهدف �أي�ض ًا والأقوياء �سواء ،فال ُّ ال�شوكة والعناد .و� ْأن يخو�ض يف ك ِّل ٍ الظلم واد حتى يف موا�ضيع تخفيف ُّ ذوي ّ ويجدي ،والذي �أطلق وم�ؤاخذة ا ُ حل ّكام ،وهذا هو الن�صح الإنكاري الذي ُيعدي ُ (الدين) تعظيم ًا ل�ش�أنه ،فقال( :الدين الن�صيحة). عليه ال ّنبي عليه ال�سالم ا�سم ّ �ضبط �أخالق الطبقات العليا من ال ّنا�س �أهم الأمور� ،أطلقت الأمم ملا كان ُ ّ
85
اال�ستبداد والأخالق
احلرة حرية اخلطابة والت�أليف واملطبوعات م�ستثني ًة القذف فقط ،ور�أت �أن ّ م�رضة الفو�ضى يف ذلك خري التحديد ،لأ َّنه ال مانع للح ّكام � ْأن يجعلوا حتمل َّ احلرية. أي � الطبيعة، تهم عدو بها ويخنقوا حديد، من �سل�سلة التقييد ال�شعرة من ّ ّ ّ �ضار كاتب وال �شهيد). ٌ وقد حمى القر�آن قاعدة الإطالق بقوله الكرمي( :وال ُي ُّ اخل�صال تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع: والهمة واملدافعة الأول :اخل�صال احل�سنة الطبيعية ،كال�صدق والأمانة ّ والرحمة ،والقبيحة الطبيعية كالرياء واالعتداء واجلبانة والق�سوة ،وهذا كل الطبائع وال�رشائع. الق�سم ت�ضافرت عليه ُّ والنوع الثاين :اخل�صال الكمالية التي جاءت بها ال�رشائع الإلهامية، كتح�سني الإيثار والعفو وتقبيح الز ّنى والطمع ،وهذا الق�سم يوجد فيه ما ال للدين احرتام ًا تدرك ُّ كل العقول حكمته �أو حكمة تعميمه ،فيم ّثله املنت�سبون ّ �أو خوف ًا. والنوع الثالث :اخل�صال االعتيادية ،وهي ما يكت�سبه الإن�سان بالوراثة �أو �ضطر �إىل بالرتبية �أو بالألفة ،في�ستح�سن �أو ي�ستقبح على ح�سب �أمياله ما مل ُي ّ التحول عنها. ّ ثم � َّإن التدقيق يفيد � َّأن الأق�سام ت�شتبك وت�شرتك وي�ؤثر بع�ضها يف بع�ض، َّ كل خ�صلة منها تر�سخ �أو في�صري جمموعها حتت ت�أثري الألفة املديدة ،بحيث ُّ تتزلزل ،ح�سبما ي�صادفها من ا�ستمرار الألفة �أو انقطاعها ،فالقاتل -مث ًال -ال املرة الثانية كما ا�ستقبحها يف نف�سه يف الأوىل ،وهكذا ي�ستنكر �شنيعته يف ّ حق طبيعي ُّ يخف اجلرم يف وهمه ،حتى ي�صل �إىل درجة التلذذ بالقتل ،ك�أ ّنه ٌّ جت يف �أفئدتهم اجلبارين وغالب ال�سيا�سيني ،الذين ال تر ُّ له ،كما هي حالة ّ عاطفة رحمة عند قتلهم �أفراداً �أو �أمم ًا لغاياتهم ال�سيا�سية� ،إهراق ًا بال�سيف �أو �إزهاق ًا بالقلم ،وال فرق بني القتل بقطع الأوداج وبني الإماتة ب�إيراث ال�شقاء غري الت�رسيع والإبطاء. أ�رشها ،وال �رش اخل�صال، ويرتبى على � ِّ �أ�سري اال�ستبداد العريق فيه يرث َّ ّ بناء عليه ،ما �أبعده عن خ�صال الكمال! َّ بد �أن ي�صحبه بع�ضها مدى العمرً . بالرياء تلب�سه واالعتيادية وال�رشعية الطبيعية اخل�صال ل لك ة مف�سد ويكفيه ِّ ً ّ
86
ا�ضطراراً حتى ال ي�ألفه وي�صري َم َلك ًة فيه ،فيفقد ب�سبب ثقته نف�سه بنف�سه ،لأ َّنه م�ستقراً فيه ،فال ميكنه ،مث ًال� ،أن يجزم ب�أمانته� ،أو ي�ضمن ثباته ال يجد ُخ ُلق ًا ّ لوام ًا الظن يف ِّ على �أم ٍر من الأمور ،فيعي�ش �سيئ ّ حق ذاته مرتدداً يف �أعمالهّ ، همته ونق�ص مروءته ،ويبقى طول نف�سه على �إهماله �ش�ؤونه� ،شاعراً بفتور َّ اخلالق،واخلالق -ج َّل �ش�أنه -مل ُينق�صه عمره جاه ًال مورد هذا اخللل ،في َّتهم ُ �شيئ ًا .وي َّتهم تار ًة دينه ،وتار ًة تربيته ،وتار ًة زمانه ،وتار ًة قومه ،واحلقيقة حراً ف�أُ�رس. بعيدة عن ك ِّل ذلك ،وما احلقيقة غري �أ ّنه ُخلق ّ ٍ ب�شائبة من �أ�صول القبائح اخللقية ال املتلب�س �أجمع الأخالقيون على � َّأن ِّ ميكنه �أن يقطع ب�سالمة غريه منها ،وهذا معنى�( :إذا �ساءت ِفعال املرء �ساءت يظن الرباءة يف غريه من �شائبة ظنونه) .فاملرائي -مث ًال -لي�س من �ش�أنه �أن َّ الرياء� ،إ ّال �إذا َب ُع َد ت�شابه الن�ش�أة بينهما ُبعداً كبرياً ،ك�أن تكون بينهما مغايرة مهم يف املنزلة ك�صعلوك و�أمري كبري .ومثال يف اجلن�س �أو ّ الدين �أو تفاوت ٌّ ال�رشقي اخلائن ،ي�أمن الإفرجني يف معاملته ،ويثق بوزنه وح�سبانه ،وال ذلك ّ ي�أمن ويثق بابن جلدته .وكذلك الإفرجني اخلائن قد ي�أمن ال�رشقي ،وال ي�أمن مطلق ًا ابن جن�سه .وهذا احلكم �صادق على عك�س الق�ضية �أي�ض ًا� ،أي � َّأن الأمني خدع)، ُّ يظن النا�س �أمناء ،خ�صو�ص ًا �أ�شباهه يف الن�ش�أة ،وهذا معنى (الكرمي ُي َ الظن يف مواقعه إ�ساءة � يف احلزم حكمة باع ت ا عن نف�سه يف أمني ل ا يذهل وكم ِّ ِّ الالزمة. �إذا علمنا � َّأن من طبيعة اال�ستبداد �ألفة النا�س بع�ض الأخالق الرديئة ،و� َّأن منها ما ُي�ضعف ال ّثقة بالنف�س ،علمنا �سبب قلة �أهل العمل و�أهل العزائم يف ال�سرّ اء ،وعلمنا �أي�ض ًا حكمة فقد الأُ�رساء ثقتهم بع�ضهم ببع�ض .فينتج من ذلك � َّأن الأُ�رساء حمرومون -طبع ًا -من ثمرة اال�شرتاك يف �أعمال احلياة،يعي�شون م�ساكني بائ�سني متواكلني متخاذلني متقاع�سني متفا�شلني ،والعاقل احلكيم ال يلومهم ،بل ي�شفق عليهم ،ويلتم�س لهم خمرج ًا .ويتبع �أثر �أحكم احلكماء «رب ارحم قومي ،ف�إنهم ال يعلمون»« ،اللهم اه ِد قومي ،ف�إنهم ال القائلِّ : يعلمون». وهنا �أ�ستوقف املطالع و�أ�ستلفته �إىل الت� ّأمل يف ما هي ثمرة اال�شرتاك �رس يف الكائنات ،به التي يحرمها الأ�رساء ،ف�أذكره ب� َّأن اال�شرتاك هو �أعظم ٍّ
87
اال�ستبداد والأخالق
قيام ك ِّل �شيء ما عدا اهلل وحده .به قيام الأجرام ال�سماوية ،به قيام ك ِّل حياة، به قيام املواليد ،به قيام الأجنا�س والأنواع ،به قيام الأمم والقبائل ،به �رس ت�ضاعف القوة قيام العائالت ،به تعاون الأع�ضاء .نعم ،اال�شرتاك فيه ُّ �رس اال�ستمرار على الأعمال التي ال تفي بها �أعمار بن�سبة نامو�س الرتبيع ،فيه ُّ ال�رس يف جناح الأمم املتمدنة .به �أكملوا ال�رس ُّ الأفراد .نعم ،اال�شرتاك هو ُّ كل ّ نامو�س حياتهم القومية ،به �ضبطوا نظام حكوماتهم ،به قاموا بعظائم الأمور ،به نالوا كل ما يغبطهم عليه �أُ�رساء اال�ستبداد الذين منهم العارفون ويت�شوقون �إليه ،ولكن ،ك ٌّل منهم ُيبطن لغنب �رشكائه با ِّتكاله بقدر اال�شرتاك َّ عليهم عم ًال ،وا�ستبداده عليهم ر�أي ًا ،حتى �صار من �أمثالهم قولهم( :ما من مغلوب للآخر). م َّتفقني �إال و�أحدهما ٌ اخلفي ،وطاملا كتب �رس اال�شرتاك لي�س بالأمر ور َّب قائلٍ يقول � َّإن َّ ُ ّ اليابانيون والبوير ،فما ال�سبب؟ ف�أجيبه ب� َّأن ال ُك َّتاب كتبوا و�أكرثوا و�أح�سنوا ولكن ،قاتل اهلل اال�ستبداد و�ش�ؤمه ،جعل الك ّتاب و�صوروا، ف�صلوا ْ فيما ّ ّ يح�رصون �أقوالهم يف الدعوة �إىل اال�شرتاك ،وما مبعناه من التعاون واالحتاد كلي ًا، التفرق واالنحالل ّ والتحابب واال ِّتفاق ،ومنعهم من ُّ التعر�ض لذكر �أ�سباب ّ �أو ا�ضطرهم �إىل االقت�صار على بيان الأ�سباب الأخرية فقط .فمن قائلٍ مث ًال: مري�ض و�سببه اجلهل ،ومن قائلٍ :اجلهل بالء و�سببه ق ّلة املدار�س ،ومن ال�رشق ٌ عار و�سببه عدم التعاون على �إن�شائها من قبل الأفراد �أو قائلٍ :ق ّلة املدار�س ٌ من قبل ذوي ال�ش�أن. يخطه قلم الكاتب ال�رشقي ك�أ ّنه و�صل �إىل ال�سبب املانع وهذا �أعمق ما ُّ الطبيعي �أو االختياري .واحلقيقةَّ � ،أن هناك �سل�سلة �أ�سباب �أخرى حلقتها الأوىل اال�ستبداد. ثم يقف، وكاتب �آخر يقول :ال�رشق مري�ض و�سببه فقد التم�سك بالدينَّ ، ّ تتبع الأ�سباب لبلغ �إىل احلكم ب� َّأن التهاون يف الدين �أو ًال و�آخراً مع �أ َّنه لو َّ نا�شئ من اال�ستبداد .و�آخر يقولَّ � :إن ال�سبب ف�ساد الأخالق ،وغريه يرى �أ ّنه ظن �أ َّنه الك�سل ،واحلقيقة � َّأن املرجع الأول يف الك ّل هو فقد الرتبية ،و�سواء َّ اال�ستبداد ،الذي مينع حتى �أولئك الباحثني عن الت�رصيح با�سمه املهيب. وقد ا َّتفق احلكماء الذين �أكرمهم اهلل تعاىل بوظيفة الأخذ بيد الأمم يف
88
بحثهم عن املهلكات واملنجيات ،على � َّأن ف�ساد الأخالق ُيخرج الأمم عن �أن تكون قابلة للخطاب ،و� َّأن معاناة �إ�صالح الأخالق من �أ�صعب الأمور يعم و�أحوجها �إىل احلكمة البالغة والعزم القوي ،وذكروا � َّأن ف�ساد الأخالق ُّ ثم يدخل بالعدوى �إىل ك ّل البيوت ،وال �سيما بيوت َّ امل�ستبد و�أعوانه وعمالهَّ ، الطبقات العليا التي تتم َّثل بها ال�سفلى .وهكذا يغ�شو الف�ساد ،ومت�سي الأمة املحب وي�شمت بها العدو ،وتبيت ودا�ؤها عياء يتعا�صى على الدواء. يبكيها ُّ وقد �سلك الأنبياء عليهم ال�سالم ،يف �إنقاذ الأمم من ف�ساد الأخالق ،م�سلك بفك العقول من تعظيم غري اهلل والإذعان ل�سواه .وذلك بتقوية االبتداء �أو ًال ِّ ثم جهدوا يف تنوير العقول ح�سن الإميان املفطور عليه وجدان ُّ كل �إن�سانَّ ، مببادئ احلكمة ،وتعريف الإن�سان كيف ميلك �إرادته� ،أي حريته يف �أفكاره، و�سدوا منابع الف�ساد. واختياره يف �أعماله ،وبذلك هدموا ح�صون اال�ستبداد ّ ثم بعد �إطالق زمام العقول� ،صاروا ينظرون �إىل الإن�سان ب�أ َّنه مك َّلف َّ بقانون الإن�سانية ،ومطالب بح�سن الأخالق ،فيعلمونه ذلك ب�أ�ساليب التعليم وبث الرتبية التهذيبية. املقنع ّ واحلكماء ال�سيا�سيون الأقدمون ا َّتبعوا الأنبياء -عليهم ال�سالم -يف �سلوك هذا الطريق وهذا الرتتيب� ،أي باالبتداء من نقطة دينية فطرية ت�ؤدي �إىل ثم با ِّتباع طريق الرتبية والتهذيب دون فتورٍ وال انقطاع. حترير ال�ضمائرَّ ، �أما املت�أخرون من قادة العقول يف الغرب ،فمنهم فئة �سلكوا طريقة اخلروج ب�أممهم من حظرية الدين و�آدابه النف�سية� ،إىل ف�ضاء الإطالق وتربية الطبيعة ،زاعمني � َّأن الفطرة يف الإن�سان �أهدى �سبي ًال ،وحاجته �إىل النظام ثم تغنيه عن �إعانة الدين ،التي هي كاملخدرات �سموم ِّ احل�س بالهمومّ ، تعطل َّ تذهب باحلياة ،فيكون �رضرها �أكرب من نفعها. وقد �ساعدهم على �سلوك هذا امل�سلك� ،أ َّنهم وجدوا �أممهم قد ف�شا فيها نور العلم ،ذلك العلم الذي كان منح�رصاً يف خدمة الدين عند امل�رصيني والآ�شوريني ،وحم َت َكراً يف �أبناء الأ�رشاف عند الغرناطيني والرومان، ال�شبان املنتخبني عند الهنود واليونانيني ،حتى جاء وخم�ص�ص ًا يف �أعداد من ّ العرب بعد الإ�سالم ،و�أطلقوا حرية العلم ،و�أباحوا تناوله لك ِّل متعلم ،فانتقل فتنورت به عقول الأمم على درجات، �إىل �أوروبا حراً على رغم رجال الدينَّ ،
89
اال�ستبداد والأخالق
ويف ن�سبتها تر َّقت الأمم يف النعيم ،وانت�رشت وتخالطت ،و�صار املت� ِّأخر منها املتقدم ويتن َّغ�ص من حالته ،ويتط َّلب اللحاق ،ويبحث عن و�سائله .فن�ش�أ يغبط ِّ من ذلك حركة قوية يف الأفكار ،وحركة معرفة اخلري والغرية على نواله، ال�رش والأ َن َفة من ال�صرب عليه ،حركة ال�سري �إىل الأمام رغم ك ِّل حركة معرفة ّ معار�ض .اغتنم زعماء احلرية يف الغرب قوة هذه احلركة و�أ�ضافوا �إليها قوات �أدبية �ش ّتى ،كا�ستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عرو�س احلرية ،حتى �إ َّنهم مل يبالوا بتمثيل احلرية بح�سناء خليعة تختلب النفو�س .وكا�ستبدالهم رابطة اال�شرتاك يف الطاعة للم�ستبدين برابطة اال�شرتاك يف ال�ش�ؤون العمومية ،ذلك حب الوطن .وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تياراً اال�شرتاك الذي يتو ّلد منه ُّ ثم � َّإن ه�ؤالء الزعماء �س ّلطوه على ر�ؤو�س الر�ؤو�س من �أهل ال�سيا�سة والدينَّ . ا�ستباحوا الق�ساوة �أي�ض ًا ،ف�أخذوا من مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تربر الوا�سطة) ،كجواز ال�رسقة �إذا كانت الغاية من �رصف املال يف �سبيل اخلري، ذمة الكاهن التي وقاعدة (تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح) ك�شهادة الزور على ّ يتحمل عنها خطيئتها ،ودفعوا النا�س بهما �إىل ارتكاب اجلرائم الفظيعة التي َّ تق�شعر منها الإن�سانية ،التي ال ي�ستبيحها احلكيم ال�رشقي ملا بني �أبناء الغرب ُّ و�أبناء ال�رشق من التباين يف الغرائز والأخالق. حري�ص على االنتقام، قوي النف�س� ،شديد املعاملة، الغربي: مادي احلياةُّ ، ُّ ٌ يبق عنده �شيء من املبادئ العالية والعواطف ال�رشيفة التي نقلتها ك�أ َّنه مل َ له م�سيحية ال�رشق .فاجلرماين مث ًال :جاف الطبع ،يرى � َّأن الع�ضو ال�ضعيف من الب�رش ي�ستحق املوت ،ويرى ك َّل ف�ضيلة يف القوة ،وك َّل القوة يف املال، ويحب املجد ،ولكن لأجل املال .وهذا يحب العلم ،ولكن ،لأجل املال، ُّ فهو ُّ الالتيني مطبوع على العجب والطي�ش ،يرى العقل يف الإطالق ،واحلياة يف خلع احلياء ،وال�شرّ ف يف الترّ ف ،والكيا�سة يف الك�سب ،والع ّز يف الغلبة ،والل َّذة يف املائدة والفرا�ش. احلب، �أما �أهل ال�رشق فهم �أدبيون ،ويغلب عليهم �ضعف القلب و�سلطان ِّ للرحمة ولو يف غري موقعها ،وال ُّلطف ولو مع والإ�صغاء للوجدان ،وامليل ّ اخل�صم .ويرون الع َّز يف الفتوة واملروءة ،والغنى يف القناعة والف�ضيلة، وال�سكينة ،واللذة يف الكرم والتحبب ،وهم يغ�ضبون ،ولكن، والراحة يف الأن�س ّ
90
للدين فقط ،ويغارون ،ولكن ،على ال ِع ْر�ض فقط. لي�س من �ش�أن ال�رشقي �أن ي�سري مع الغربي يف طريقٍ واحدة ،فال تطاوعه طباعه على ا�ستباحة ما ي�ستح�سنه الغربي ،و�إن تك َّلف تقليده يف �أمر فال ُيح�سن التقليد ،و�إن �أح�سنه فال يثبت ،و�إن ثبت فال يعرف ا�ستثماره ،حتى يهتم يف لو �سقطت الثمرة يف ك ِّفه مت ّنى لو قفزت على فمه! ..فال�رشقي مث ًال ُّ ثم ال يفكر فيمن يخلفه وال يراقبه ،فيقع �ش�أن ظامله �إىل �أن يزول عنه ظلمهَّ ، الكرة ويعود الظلم �إىل ما ال نهاية .وك�أولئك الباطنة يف الظلم ثاني ًة ،فيعيد ّ يف الإ�سالم :فتكوا مبئات �أمراء على غري طائل ،ك�أ َّنهم مل ي�سمعوا باحلكمة يحب النبوية( :ال ُي َلدغ املرء من ُجح ٍر مرتني) ،وال باحلكمة القر�آنية (� َّإن اهلل ُّ امل َّتقني)� .أما الغربي �إذا �أخذ على يد ظامله فال يفلته حتى ي�ش َّلها ،بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها. وهكذا بني ال�رشقيني والغربيني فروق كثرية ،قد يف�ضل يف الإفراديات ال�رشقي على الغربي ،ويف االجتماعيات يف�ضل الغربي على ال�رشقي مطلق ًا. مثال ذلك :الغربيون ي�ستحلفون �أمريهم على ال�صداقة يف خدمته لهم والتزام القانون .وال�سلطان ال�رشقي ي�ستحلف الرعية على االنقياد والطاعة! الغربيون يتكرمون يمَ ّنون على ملوكهم مبا يرتزقون من ف�ضالتهم ،والأمراء ال�رشقيون َّ على من �شا�ؤوا ب�إجراء �أموالهم عليهم �صدقات! الغربي يعترب نف�سه مالك ًا وال�رشقي يعترب نف�سه و�أوالده وما يف يديه ملك ًا لأمريه! جلز ٍء م�شاع من وطنه، ّ الغربي له على �أمريه حقوق ،ولي�س عليه حقوق ،وال�رشقي عليه لأمريه حقوق ولي�س له حقوق! الغربيون ي�ضعون قانون ًا لأمريهم ي�رسي عليه ،وال�رشقيون ي�سريون على قانون م�شيئة �أمرائهم! الغربيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم من اهلل، وال�رشقيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم ما ي�صدر من بني �شفتي امل�ستعبدين! ال�رشقي �رسيع الت�صديق ،والغربي ينفي وال يثبت حتى يرى ويلم�س .ال�رشقي �أكرث ما م�ستود ٌع فيها ،والغربي �أكرث ما يغار على يغار على الفروج ك� َّأن �رشفه ك ّله َ حري�ص حري�ص على الدين والرياء فيه ،والغربي حريته وا�ستقالله! ال�رشقي ٌ ٌ على القوة والع ّز واملزيد فيهما! واخلال�صةَّ � :أن ال�رشقي ابن املا�ضي واخليال، والغربي ابن امل�ستقبل واجلد!... احلكماء املت�أخرون الغربيون �ساعدتهم ظروف الزمان واملكان،
91
اال�ستبداد والأخالق
وخ�صو�صية الأحوال ،الخت�صار الطريق ف�سلكوه ،وا�ستباحوا ما ا�ستباحوا، امل�ستبد على ت�شديد حتى �إ َّنهم ا�ستباحوا يف التمهيد ال�سيا�سي ت�شجيع �أعوان َّ وط�أة الظلم واالعت�ساف بق�صد تعميم احلقد عليه ،ومبثل هذه التدابري القا�سية نالوا املراد �أو بع�ضه ،من حترير الأفكار وتهذيب الأخالق وجعل الإن�سان �إن�سان ًا. وقد �سبق ه�ؤالء ال ُغالة فئة ا َّتبعت �أثر النبيني ،ومل حتفل بطول الطريق وتعبه ،فنجحت ور�سخت ،و�أعني بتلك الفئة �أولئك احلكماء الذين مل ي�أتوا مت�سكوا مبعاداة ك ِّل دين ،كم�ؤ�س�سي جمهورية الفرن�سي�س، بدينٍ جديد ،وال ّ وقربوا ،حتى بل رتقوا ُفتوق ّ الدهر يف دينهم مبا ن َّقحوا ،وه َّذبواَّ ، و�سهلواَّ ، جددوه ،وجعلوه �صاحل ًا لتجديد خليق �أخالق الأمة. َّ وما �أحوج ال�رشقيني �أجمعني من بوذيني وم�سلمني وم�سيحيني و�إ�رسائيليني وغريهم� ،إىل حكماء ال يبالون بغوغاء العلماء املرائني الأغبياء، الدين ،نظر من ال يحفل بغري والر�ؤ�ساء الق�ساة اجلهالء .فيجددون ال ّنظر يف ّ احلق ال�رصيح ،نظر من ال ي�ضيع النتائج بت�شوي�ش املقدمات ،نظر من يق�صد ِّ ربه ال ا�ستمالة النا�س �إظهار احلقيقة ال �إظهار الف�صاحة ،نظر من يريد وجه ِّ املعطلة يف الدين ،ويه ِّذبونه من الزوائد الباطلة �إليه ،وبذلك يعيدون النواق�ص َّ مما يطر�أ عاد ًة على ك ِّل دينٍ يتقادم عهده ،فيحتاج �إىل جمددين يرجعون به �إىل �أ�صله املبني الربيء من حيث متليك الإرادة ورفع البالدة من كل ما ي�شني ،املخ ِّفف �شقاء اال�ستبداد واال�ستعباد ،املب�صرِّ بطرائق التعليم والتع ّلم املهيئ قيام الرتبية احل�سنة وا�ستقرار الأخالق املنتظمة مما به ال�صحيحني، ّ ي�صري الإن�سان �إن�سان ًا ،وبه ال بالكفر يعي�ش النا�س �إخوان ًا. وال�رشقيون ما داموا على حا�رض حالهم بعيدين عن املجد والعزم، مرتاحني للهو والهزل ت�سكين ًا لآالم �إ�سارة النف�س ،و�إخالداً �إىل اخلمول والت�س ُّفل ،طلب ًا لراحة الفكر امل�ضغوط عليه من ك ِّل جانب ،يت�أملون من تذكريهم باحلقائق ،ومطالبتهم بالوظائف ،ينتظرون زوال العناد بالتواكل، �أو جمرد التم ّني والدعاء� .أو يرتب�صون �صدفة مثل التي نالتها بع�ض الأمم، فليتو ّقعوا �إذن �أن يفقدوا الدين كلي ًا ،فيم�سوا -وما م�سا�ؤهم ببعيد -دهريني، ال يدرون �أي احلياتني �أ�شقى ،فلينظروا ما حاق بالآ�شوريني والفينيقيني
92
وخ َو ًال. وغريهم من الأمم املنقر�ضة املندجمة يف غريها خدم ًا َ املنحطة من جميع الأديان حت�رص بلية والأمر الغريبَّ � ،أن ك َّل الأمم ّ انحطاطها ال�سيا�سي يف تهاونها ب�أمور دينها ،وال ترجو حت�سني حالتها بالتم�سك بعروة الدين مت�سك ًا مكين ًا ،ويريدون بالدين العبادة، االجتماعية �إال ُّ قول ال ميكن �أن ول ِنعم االعتقاد لو كان يفيد �شيئ ًا ،لكنه ال يفيد �أبداً ،لأنه ٌ بذر جيد ال �شبهة فيه ،ف�إذا �صادف مغر�س ًا يكون وراءه فعل ،وذلك � َّأن الدين ٌ طيب ًا نبت ومنا ،و�إن �صادف �أر�ض ًا قاحلة مات وفات� ،أو �أر�ض ًا مغراق ًا هاف اال�ستبداد ب�رصها وب�صريتها ،و�أف�سد �أخالقها ودينها ،حتى �صارت ال تعرف أ�رض للدين معنى غري العبادة والن�سك اللذين زيادتهما على ِّ حدهما امل�رشوع � ُّ على الأمة من نق�صهما كما هو م�شاهد يف املتن�سكني. نعم! الدين يفيد الرت ّقي االجتماعي �إذا �صادف �أخالق ًا فطرية مل تف�سد، فينه�ض بها كما نه�ضت الإ�سالمية بالعرب ،تلك النه�ضة التي نتطلبها منذ �ألف عام عبث ًا. وقد ع َّلمنا هذا الدهر الطويل -مع الأ�سفَّ � -أن �أكرث النا�س ال يحفلون ورياء ،وعلمنا � َّأن النا�س عبيد منافعهم بالدين �إال �إذا وافق �أغرا�ضهم� ،أو لهواً ً وعبيد الزمان ،و� َّأن العقل ال يفيد العزم عندهم� ،إمنا العزم عندهم يتو ّلد من ال�رضورة �أو يح�صل بال�سائق املجرب .وال ي�ستحي النا�س من �أن ُيلزموا �أنف�سهم املنحطة �أن تلتم�س دواءها من بناء عليه ،ما �أجدر بالأمم ّ باليمني �أو النذرً . طريق �إحياء العلم و�إحياء الهمة مع اال�ستعانة بالدين واال�ستفادة منه مبثل: ال�صالة تنهى عن الفح�شاء واملنكر) ،ال �أن ي َّت ِكلوا على � َّأن ال�صالة متنع (� َّإن ّ النا�س عنهما بطبعها.
93
اال�ستبداد والرتبية
94
اال�ستبداد والرتبية خلق ا ُ هلل يف الإن�سان ا�ستعداداً لل�صالح وا�ستعداداً للف�ساد ،ف�أبواه ي�صلحانه، و�أبواه يف�سدانه� ،أي � َّإن الرتبية تربو با�ستعداده ج�سم ًا ونف�س ًا وعق ًالْ � ،إن خرياً ف�رش .وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم ي�ؤ ِّثر على الأج�سام فخري ،و� ْإن �رشاً ّ فيورثها الأ�سقام ،وي�سطو على النفو�س ،فيف�سد الأخالق ،وي�ضغط على العقول بناء عليه ،تكون الرتبية واال�ستبداد عاملني متعاك�سني فيمنع مناءها بالعلمً . فكل ما تبنيه الرتبية مع �ضعفها يهدمه اال�ستبداد بقوته ،وهل يف النتائجُّ ، بناء وراءه هاد؟ يتم ٌ ُّ رقي ًا وانحطاط ًا .وهذا الإن�سان الذي حارت العقول لغايتيه حد ال إن�سان ل ا َّ ّ مت خالقه ا�ستعداده، حتمل �أمانة تربية ال َّنف�س ،وقد �أبتها العوامل ،ف�أ َّ فيه ،الذي َّ ثم �أوكله خلريته ،فهو �إن ي�ش�أ الكمال يبلغ فيه �إىل ما فوق مرتبة املالئكة، َّ لل�رش أقرب � إن�سان ل ا أن � على ال�شياطني، من أحط � حتى ذائل بالر �س تلب �شاء إن و� ّ َّ َّ ِّ َّ ٍ بو�صف منه للخري .وكفى � َّأن اهلل ما ذكر الإن�سان يف القر�آن� ،إال وقرن ا�سمه وجبار وجهول و�أثيم .ما ذكر اهلل تعاىل الإن�سان قبيح كظلوم وغرور وك ّفار ّ لكفور)، إن�سان ما �أكفره)َّ �( ،إن الإن�سان يف القر�آن �إال وهجاه ،فقالُ ( :ق ِتل ال ُ ٌ (خ ِلق (� َّإن الإن�سان لفي ُخ�رس)َّ �( ،إن الإن�سان ليطغى)( ،وكان الإن�سان َعجو ًال)ُ ،
95
اال�ستبداد والرتبية
الإن�سان من َع َجلٍ ) .ما ُوجِ د من خملوقات اهلل من نازع اهلل يف عظمته، الرذالة قد يقبحون ّ وامل�ستبدون من الإن�سان ينازعونه فيها ،واملتناهون يف ّ عبث ًا لغري حاجة يف ال َّنف�س حتى وقد يتعمدون الإ�ساءة لأنف�سهم. الرطب ،فهو م�ستقيم ل ِد ٌن بطبعه ،ولك ّنها ٌ الإن�سان يف ن�ش�أته كالغ�صن َّ �شب يب�س وبقي على �أهواء الرتبية متيل به �إىل ميني اخلري �أو �شمال ّ ال�رش ،ف�إذا َّ �أمياله ما دام حي ًا ،بل تبقى روحه �إىل �أبد الآبدين يف نعيم ال�رسور ب�إيفائه حق وظيفة احلياة �أو يف جحيم الندم على تفريطه .ورمبا كان ال غرابة يف َّ ت�شبيه الإن�سان بعد املوت باملرء الفرح الفخور �إذا نام ول َّذت له الأحالم� ،أو باملجرم اجلاين �إذا نام فغ�شيته قوار�ص الوجدان بهواج�س ك ُّلها مالم و�آالم. أهم �أ�صولها الرتبية ملك ٌة حت�صل بالتعليم والتمرين والقدوة واالقتبا�س ،ف� ُّ أهم فروعها وجود الدين .وجعلت الدين فرع ًا ال �أ�ص ًال ،ل َّأن وجود املرابني ،و� ُّ علم ال يفيد العمل �إذا مل يكن مقرون ًا بالتمرين .وهذا هو �سبب اختالف الدين ٌ الأخالف من علماء الدين عند الإ�سالم عن �أمثالهم من الرباهمة والن�صارى، وهو �سبب �إقبال امل�سلمني يف القرن اخلام�س ،وفيما بعده ،على قبول �أ�صول لب ًا حم�ض ًا ملا كانت تعليم ًا ومترين ًا� ،أي تربية للمريدين، الطرائق التي كانت ّ ثم �صار �أكرثها لهواً �أو كفراً. ثم �صارت ق�رشاً حم�ض ًاَّ ، ثم خالطها الق�رشَّ ، َّ ملكة الرتبية بعد ح�صولها � ْإن كانت �رشاً ت�ضافرت مع ال ّنف�س ووليها ال�شيطان اخل ّنا�س فر�سخت ،و�إن كانت خرياً تبقى مقلقلة كال�سفينة يف بحر ال�رس والعالنية� ،أو الوازع ال�سيا�سي الأهواء ،ال ير�سو بها �إال فرعها الديني يف ِّ عند يقني العقاب. ريح �رص�رص فيه �إع�صار يجهل الإن�سان ك ّل �ساعة �ش�أنه ،وهو واال�ستبداد ٌ ُم ِ مي�سها لأنها ف�س ٌد للدين يف � ِّ أهم ق�سميه� ،أي الأخالق� ،أما العبادات منه فال ّ جمردة تالئمه �أكرث .ولهذا تبقى الأديان يف الأمم امل�أ�سورة عبارة عن عبادات ّ �صارت عادات ،فال تفيد يف تطهري النفو�س �شيئ ًا ،وال تنهى عن فح�شاء وال وتتلوى منكر لفقد الإخال�ص فيها تبع ًا لفقده يف النفو�س ،التي �ألفت �أن تتلج�أ ّ والرياء واخلداع والنفاق ،ولهذا ال بني يدي �سطوة اال�ستبداد يف زوايا الكذب ّ ربه، الرياء� ،أن ي�ستعمله �أي�ض ًا مع ِّ ُي�ستغرب يف الأ�سري الأليف تلك احلال� ،أي ّ ومع �أبيه و� ِّأمه ومع قومه وجن�سه ،حتى ومع نف�سه.
96
ثم الرتبية تربية اجل�سم وحده �إىل �سنتني ،هي وظيفة الأم �أو احلا�ضنةَّ ، ُت�ضاف �إليها تربية النف�س �إىل ال�سابعة ،وهي وظيفة الأبوين والعائلة مع ًا، ثم ثم ُت�ضاف �إليها تربية العقل �إىل البلوغ ،وهي وظيفة املعلِّمني واملدار�سَّ ، ّ ال�ص وظيفة وهي الزواج، إىل � واخللطاء أقربني ل با القدوة تربية أتي ت� ثم دفة، ُّ َّ ت�أتي تربية املقارنة ،وهي وظيفة الزوجني �إىل املوت �أو الفراق. بد �أن ت�صحب الرتبية من بعد البلوغ ،تربية الظروف املحيطة ،وتربية وال َّ الهيئة االجتماعية ،وتربية القانون �أو �سري ال�سيا�سي ،وتربية الإن�سان نف�سه. احلكومات املنتظمة هي التي تتولىّ مالحظة ت�سهيل تربية الأمة ت�سن قوانني النكاح ،ثم تعتني من حني تكون يف ظهور الآباء ،وذلك ب�أن ّ تعد ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء ،ثم ُّ بوجود القابالت واملل ّقحني والأطباءَّ ، ت�سهل ثم ِّ املكاتب واملدار�س للتعليم من االبتدائي اجلربي �إىل �أعلى املراتبَّ ، ومتهد امل�سارح ،وحتمي املنتديات ،وجتمع املكتبات والآثار، االجتماعات، ِّ وتقيم ال ُّن�صب املذكرات ،وت�ضع القوانني املحافظة على الآداب واحلقوق، وتقوي وت�سهر على حفظ العادات القومية ،و�إمناء الإح�سا�سات املللية، ّ الآمال ،وتي�سرِّ الأعمال ،وت� ِّؤمن العاجزين فع ًال عن الك�سب من املوت جوع ًا، وتدفع �سليمي الأج�سام �إىل الك�سب ولو يف �أق�صى الأر�ض ،وحتمي الف�ضل وتقدر الف�ضيلة .وهكذا تالحظ ك َّل �ش�ؤون املرء ،ولكن ،من بعيد ،كي ال تخ ّل ِّ بحريته وا�ستقالله ال�شخ�صي ،فال تقرب منه �إال �إذا جنى جرم ًا لتعاقبه� ،أو مات لتواريه. وهكذا ،الأمة حتر�ص على �أن يعي�ش ابنها را�ضي ًا بن�صيبه من حياته ال قط كيف تكون بعده حالة �صبية �ضعاف يرتكهم وراءه ،بل ميوت يفتكر ّ مطمئن ًا را�ضي ًا مر�ضي ًا �آخر دعائه :فلتحي الأمة ،فلتحي الهمة. امل�ستبدة فهي غنية عن الرتبية، �أما املعي�شة الفو�ضى يف الإدارات ّ حم�ض مناء ي�شبه الأ�شجار الطبيعية يف الغابات واحلرا�ش ،ي�سطو لأنها ُّ ويت�رصف وحتطمها العوا�صف والأيدي القوا�صف، عليها احلرق والغرق. ِّ َّ احلطابني �أن يف ف�سائلها وفروعها الف�أ�س الأعمى ،فتعي�ش ما �شاءت رحمة ّ لل�صدفة تعوج �أو ت�ستقيم ،تثمر �أو تعقم. تعي�ش ،واخليار ُّ يعي�ش الإن�سان يف ظ ِّل العدالة واحلرية ن�شيط ًا على العمل بيا�ض نهاره،
97
اال�ستبداد والرتبية
وتري�ض ،لأ ّنه هكذا وعلى الفكر �سواد ليله� ،إن طعم تل َّذذ ،و�إن ّ تروح ّ تلهى َّ ر�أى �أبويه و�أقرباءه ،وهكذا يرى قومه الذين يعي�ش بينهم .يراهم رجا ًال ون�ساء� ،أغنياء وفقراء ،ملوك ًا و�صعاليك ،ك ُّلهم دائبني على الأعمال ،يفتخر ً وجده .نعم، أبيه � عن ا إرث � املليار مالك على ه، وجد ه بكد الدينار كا�سب منهم ً ِّ ِّ ّ ي�رسه النجاح وال تقب�ضه اخليبة� ،إنمّ ا ينتقل من يعي�ش العامل ناعم البال ُّ ال�سعد عملٍ �إىل غريه ،ومن فك ٍر �إىل �آخر ،فيكون متلذذاً ب�آماله � ْإن مل ي�سارعه ّ يف �أعماله ،وكيفما كان يبلغ العذر عن نف�سه والنا�س مبجرد �إيفائه وظيفة احلياة� ،أي العمل .ويكون فرح ًا فخوراً جنح �أو مل ينجح ،لأ َّنه بريء من عار العجز والبطالة. �أما �أ�سري اال�ستبداد ،فيعي�ش خام ًال خامداً �ضائع الق�صد ،حائراً ال يدري حري�ص على بلوغ كيف مييت �ساعاته و�أوقاته ويدرج �أيامه و�أعوامه ،ك�أ َّنه ٌ يظن � َّأن �أكرث الأ�رساء ال �سيما �أجله لي�سترت حتت الرتاب .ويخطئ ،واهلل من ُّ منهم الفقراء ال ي�شعرون ب�آالم الأ�رس .م�ستد ًال ب�أنهم لو كانوا ي�شعرون لبادروا �إىل �إزالته ،واحلقيقة يف ذلك �أنهم ي�شعرون ب�أكرث الآالم ولكنهم ال يدركون ما هو �سببها ،ومن �أين جاءتهم؟ فريى �أحدهم نف�سه منقب�ض ًا عن العمل ،لأنه ال�سلب حق ًا طبيعي ًا للأقوياء غري �أمني على اخت�صا�صه بالثمرة .ورمبا َّ ظن ّ ثم يعمل تار ًة ،ولكن ،دون ن�شاط وال �إتقان ،فيف�شل فيتم ّنى � ْأن لو كان منهمَّ . ي�سميه �سعداً �أو حظ ًا �أو �رضور ًة ،وال يدري �أي�ض ًا ما ال�سبب ،فيغ�ضب على ما ّ طالع ًا �أو قدراً .وامل�سكني من �أين له �أن يعرف � َّأن الن�شاط والإتقان ال يت�أتيان قدر احلكماء �أ َّنها اللذة الكربى، �إال مع لذة انتظار جناح العمل ،تلك اللذة التي َّ ال�ستمرار زمانها من حني العزم �إىل متام العمل ،والأ�سري ال اطمئنان فيه على اال�ستمرار ،وال ت�شجيع له على ال�صرب واجللد. الأ�سري املع َّذب املنت�سب �إىل دين ي�س ّلي نف�سه بال�سعادة الأخروية ،فيعدها أعده له الرحمن ،ويبعد عن فكره � َّأن الدنيا بجنان ذات �أفنان ونعيم مقيم � َّ عنوان الآخرة ،و� َّأن رمبا كان خا�رساً ال�صفقتني ،بل ذلك هو الكائن غالب ًا. خا�صة بهم يعطفون م�صائبهم عليها ،وهي ولب�سطاء الإ�سالم م�سليات �أظ ُّنها ّ أحب اهلل عبداً ابتاله ،هذا نحو قولهم :الدنيا �سجن امل�ؤمن ،امل�ؤمن م�صاب� ،إذا � َّ ٍ لقيمات يقمن �صلبه .ويتنا�سون حديثَّ �( :إن اهلل �ش�أن �آخر الزمان ،ح�سب املرء
98
البطال) ،واحلديث املفيد معنى (�إذا قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم يكره العبد ّ غر�س ًة فليغر�سها) ،ويتغافلون عن الن�ص القاطع امل� ّؤجل قيام ال�ساعة �إىل ما بعد ا�ستكمال الأر�ض زخرفتها وزينتها .و�أين ذلك بعد؟ يحول ُّ وكل هذه امل�سميات املثبطات تهون عند ذلك ّ ال�سم القاتل ،الذي ّ امل�ستبدين، الأذهان عن التما�س معرفة �سبب ال�شقاء ،فريفع امل�س�ؤولية عن ّ ويلقيها على عاتق الق�ضاء والقدر ،بل على عاتق الأُ�رساء امل�ساكني �أنف�سهم. ال�سم ،فهم العوام ،وبله اخلوا�ص ،ملا ورد يف التوراة من نحو: و�أعني بهذا ّ (اخ�ضعوا لل�سلطان وال �سلطة �إال من اهلل) ،و(احلاكم ال يتق ّلد ال�سيف جزاف ًا� ،إنه وحمدثوهم من ذلك وعاظ امل�سلمني ِّ مقام لالنتقام من �أهل ال�رش) ،وقد �صاغ ّ ثم ينتقم قولهم( :ال�سلطان ُّ ظل اهلل يف الأر�ض) ،و(الظامل �سيف اهلل ينتقم بهَّ ، مقيد منه) ،و(امللوك ملهمون) .هذا ُّ �صح فهو ّ وكل ما ورد يف هذا املعنى � ْإن َّ بالعدالة �أو حمتمل للت�أويل مبا يعقل ،ومبا ينطبق على حكم الآية الكرمية التي فيها ف�صل اخلطاب ،وهي�( :أال لعنة اهلل على الظاملني) ،و�آية (فال عدوان �إال على الظاملني). علم وعمل .ولي�س من �ش�أن الأمم اململوكة �ش�ؤونهاْ � ،أن يوجد فيها الرتبية ٌ من يعلم الرتبية وال من يعلمها .حتى � َّإن الباحث ال يرى عند الأ�رساء علم ًا يف ت�صور وجوده الرتبية مدفون ًا يف الكتب ف�ض ًال عن الأذهانّ � .أما العمل ،فكيف ُي َّ (النية بال �سبق عزم ،وهو بال �سبق يقني ،وهو بال �سبق علم .وقد ورد يف الأثر ّ بناء عليه ،ما �أبعد �سابقة العمل) .وورد يف احلديث�( :إنمّ ا الأعمال بالنيات)ً . ّ النا�س املغ�صوبة �إرادتهم ،املغلولة �أيديهم ،عن توجيه الفكر �إىل مق�صد مفيد كالرتبية� ،أو توجيه اجل�سم �إىل عملٍ نافع كتمرين الوجه على احلياء والقلب على ال�شفقة. نعم ،ما �أبعد الأ�رساء عن اال�ستعداد لقبول الرتبية ،وهي َق�صرْ النظر على املحا�سن وال ِعبرَ ،و َق�صرْ ال�سمع على الفوائد وا ِ حل َكم ،وتعويد الل�سان على قول اخلري ،وتعويد اليد على الإتقان ،وتكبري النف�س عن ال�سفا�سف ،وتكبري الوجدان عن ن�رصة الباطل ،ورعاية الرتتيب يف ال�ش�ؤون ،ورعاية التوفري يف الوقت واملال .واالندفاع بالك ّلية حلفظ ال�رشف ،حلفظ احلقوق ،وحلماية حلب العائلة ،ولإعانة العلم ،لإعانة الدين ،حلماية النامو�س، وحلب الوطنِّ ، ِّ
99
اال�ستبداد والرتبية
ال�ضعيف ،والحتقار الظاملني ،الحتقار احلياة ...على غري ذلك مما ال ينبت �إال يف �أر�ض العدل ،حتت �سماء احلرية ،يف ريا�ض الرتبيتني :العائلية والقومية. والتحيل واخلداع وال ِّنفاق �ضطر ال ّنا�س �إىل ا�ستباحة الكذب ُّ اال�ستبداد ُي ُّ والتذلل ،و�إىل مراغمة ا ِ اجلد وترك العمل� ...إىل �آخره. حل ِّ�س و�إماتة النف�س ونبذ ّ وينتج من ذلك � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم هو يتوىل بطبعه تربية النا�س على هذه بناء عليه ،يرى الآباء � َّأن تعبهم يف تربية الأبناء الرتبية اخل�صال امللعونةً . بد � ْأن يذهب عبث ًا حتت �أرجل تربية اال�ستبداد ،كما الأوىل على غري ذلك ال َّ �سدى. ذهبت قبلها تربية �آبائهم لهم� ،أو تربية غريهم لأبنائهم ً ثم � َّإن عبيد ال�سلطان التي ال حدود لها هم غري مالكني �أنف�سهم ،وال هم َّ للم�ستبدين ،و�أعوان ًا يربون �أنعام ًا هم بل لهم. أوالدهم � ون يرب هم ن � أ على آمنون � َّ ّ ّ ّ لهم عليهم. ويف احلقيقةَّ � ،إن الأوالد يف عهد اال�ستبداد ،هم �سال�سل من حديد يرتبط بها الآباء على �أوتاد الظلم والهوان واخلوف الت�ضييق .فالتوالد من حيث هو حمق م�ضاعف! وقد قال ال�شاعر: زمن اال�ستبداد حمق ،واالعتناء بالرتبية ٌ فرح مبولو ِد � ْإن دام هذا ومل حتدث له ِغيرَ ٌ مل ُي َ بك ٌ ميت ومل ُي َ وغالب الأُ�رساء ال يدفعهم للزواج ق�صد التوالد� ،إمنا يدفعهم �إليه اجلهل املظلم ،و�أ َّنهم حتى الأغنياء منهم حمرومون من ك ِّل املل ّذات احلقيقية :كل ّذة العلم وتعليمه ،ول ّذة املجد واحلماية ،ول ّذة الإيثار والبذل ،ول ّذة �إحراز مقام يف القلوب ،ول ّذة نفوذ الر�أي ال�صائب ،ول ّذة ِكبرَ النف�س عند ال�سفا�سف� ،إىل غري ذلك من املل ّذات الروحية. �أما مل ّذات ه�ؤالء التع�ساء فهي مق�صورة على لذتني اثنتني ،الأوىل منها لذة الأكل ،وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات �إن تي�سرَّ ت ،و�إال فمزابل للنباتات� ،أو بجعلهم �أج�سامهم يف الوجود كما قيل� :أنابيب بني املطبخ الرع�شة و(الكنيف)� ،أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثني .والل ّذة الثانية هي ّ با�ستفراغ ال�شهوة ،ك�أن �أج�سامهم خلقت دمامل جرب على �أدمي الأر�ض ،يطيب احلك ووظيفتها توليد ال�صديد ودفعه .وهذا ال�رشه البهيمي يف البِعال هو لها ّ ما يعمي الأ�رساء ويرميهم بالزواج والتوالد.
100
معر�ض ال ِعر�ض -زمن اال�ستبداد -ك�سائر احلقوق غري م�صون ،بل هو َّ لهتك ال ُف ّ�ساق من امل�ستبدين والأ�رشار من �أعوانهم ،ف�إنهم ،كما �أخرب القر�آن عن الفراعنة ،ي�أ�رسون الأوالد وي�ستحيون الن�ساء ،خ�صو�ص ًا يف احلوا�رض ال�صغرية والقرى امل�ست�ضعف �أهلها .ومن الأمور امل�شاهدة � َّأن الأمم التي تقع حتت �أ�رس � ٍ أمة تغايرها يف ال�سيماء ،ال مي�ضي عليها �أجيال �إال وتغ�شو فيها �سيماء الآ�رسين :ك�سواد العيون يف الإ�سبانيول ،وبيا�ض الب�رشة يف الأفريقيني. يتم �إال باالخت�صا�ص، احلب الذي ال ُّ وعدم االطمئنان على ال ِعر�ض ُي�ضعف ّ حتمل م�شاق ُ وي�ضعف ل�صقة الأوالد ب�أزواج �أمهاتهم ،فت�ضعف ال َغرية على ّ ال�سفاح. الرتبية ،تلك الغرية التي لأجلها َّ وحرم ِّ �رشع اهلل النكاحَّ ، ال�سعة؟! لل�سعة والفقر �أي�ض ًا دخ ٌل كبري يف ت�سهيل الرتبية ،و�أين الأ�رساء من ّ ّ كما � َّأن النتظام املعي�شة ولو مع الفقر عالقة قوية يف الرتبية ،ومعي�شة الأُ�رساء و�ضيق يف �ضيق ،وذلك يجعل �أغنياء كانوا �أو معدمني ،ك ُّلها خل ٌل يف خلل، ٌ ي�ستحق املزيد يف الأ�سري هينّ النف�س ،وهذا �أول دركات االنحطاط ،يرى ذاته ال ُّ النعيم مطعم ًا وم�رشب ًا وملب�س ًا وم�سكن ًا ،وهذا ثاين الدركات ويرى ا�ستعداده قا�رصاً عن الرت ّقي يف العلم ،وهذا ثالثها ،ويرى حياته على ب�ساطتها ال تقوى جرا!. �إال مبعاونة غريه له ،وهذا رابعهاَّ ، وهلم ّ يتحملون ثم ملاذا ً بناء عليه ،ما �أبعد الأُ�رساء عن الن�شاط للرتبيةَّ ، َّ نوروا �أوالدهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية �إح�سا�سهم، إن � وهم الرتبية، م�شاق َّ ْ َّ بالء؟ ولهذا ال غرو �أن يختار الأ�رساء الذين فيهم ويزيدونهم ، �شقاء فيزيدونهم ً ً بقية من الإدراك ،ترك �أوالدهم هم ًال جترفهم البالهة �إىل حيث ت�شاء. يرتبى،جند �أ َّنه ُيل َّقح و�إذا افتكرنا كيف ين�ش�أ الأ�سري يف البيت الفقري ،وكيف َّ حرك �رشا�سة به ،ويف الغالب �أبواه متناكدان مت�شاك�سانَّ ، حترك جنين ًا َّ ثم �إذا َّ �ضيقت عليه بطنها لإلفتها � ِّأمه فت�شتمه� ،أو زاد �آالم حياتها فت�رضبه ،ف�إذا ما َّ االنحناء خمو ًال والت�رصر �صغاراً ،والتق ُّل�ص ل�ضيق فرا�ش الفقر ،ومتى ولدته �سدت فمه بثديها� ،أو �ضغطت عليه بالقماط اقت�صاداً وجه ًال ،ف�إذا ت�ألمَّ وبكى َّ خ�ض ًا �أو بدوار ال�رسير� ،أو �سقته خمدراً عجزاً عن نفقة الطبيب، قطعت نف�سه ّ ف�إذا ما ُف ِطم ،ي�أتيه الغذاء الفا�سد ي�ضيق معدته ،ويف�سد مزاجه ،ف�إذا كان قوي البنية طويل العمر وترعرع ،يمُ نع من ريا�ضة اللعب ل�ضيق البيت ،ف�إذا �س�أل
101
اال�ستبداد والرتبية
زجر ويلكم ل�ضيق ُخ ُلق �أبويه ،و�إن جال�سهما وا�ستفهم ماذا وما هذا؟ ليتع ّلمُ ،ي َ التوج�س يبعدانه كي ال يقف على �أ�رسارهما، لي�ألف املعا�رشة ،وينتفي عنه ّ في�سرتقها منه اجلريان اخللطاء ،فتنمى �أعوان الظاملني وما �أكرثهم ،ف�إذا قويت رجاله ُيدفع به �إىل خارج الباب� ،إىل مدر�سة الألفة على القذارة ،وتع ّلم �صيغ ال�شتائم وال�سباب ،ف� ْإن عا�ش ون�ش�أ ُو�ضع يف مكتب �أو عند ذي �صنعة، فيكون �أكرب الق�صد ربطه عن ال�سرّ اح واملراح .ف�إذا بلغ ال�شباب ،ربطه �أوليا�ؤه يفر من م�شاكلتهم يف �شقاء احلياة ،ليجني هو على على وتد الزواج كي ال ّ ثم هو يتوىل الت�ضييق على نف�سه ب�أطواق اجلهل ن�سله كما جنى عليه �أبواهَّ ، امل�ستبدون الت�ضييق على عقله ول�سانه وعمله و�أمله. وقيود اخلوف ،ويتوىل ّ وهكذا يعي�ش الأ�سري -يف حني يكون ن�سمة -يف �ضيق و�ضغط ،يهرول ما يودع �سقم ًا وي�ستقبل �سقم ًا �إىل �أن يفوز بنعمة املوت غمِّ ، هم ووادي ٍّ بني عتبة ٍّ م�ضيع ًا دنياه مع �آخرته ،فيموت غري �آ�سف وال م�أ�سوف عليه. وما �أظلم من ي�ؤاخذ الأ�رساء على عدم اعتنائهم بلوازم احلياة .فالنظافة م�ستمر؟ �أم لأجل مر�ض �صحته وهو يف ٍ مث ًال :ملاذا يهتم بها الأ�سري؟ هل لأجل َّ ّ ل َّذته وهو املت�أمل كيفما تق َّلب ج�سمه �أو نظره؟ �أم لأجل ذوق من يجال�س �أو ي�ؤاكل ،وهو من ع َّفت نف�سه �صحبة احلياة؟ أقل �رشاً من هذا ،كال ،بل نن املطالع � َّأن حالة �أغنياء الأ�رساء هي � ُّ وال يظ َّ هم �أ�شقى و�أق ّل عافي ًة ،و�أق�رص عمراً من هذا� ،إذا نق�صتهم بع�ض املن ِّغ�صات، �صح تزيد فيهم م�شاق التظاهر بالراحة والرفاه والع ّزة واملنعة ،تظاهراً �إن َّ فيبتلى قليله فكثريه الكاذب حم ٌل ثقيل على عواتقهم كال�سكران يت�صاحى ُ بال�صداع� ،أو كالعاهرة البائ�سة تت�ضاحك لرت�ضي الزاين. حياة الأ�سري ت�شبه حياة النائم املزعوج بالأحالم ،فهي حياة ال روح فيها ،حياة وظيفتها متثيل مندر�سات اجل�سم فقط ،وال عالقة لها بحفظ املزايا ميت بالن�سبة الب�رشية، وبناء على هذا ،كان فاقد احلرية ال �أنانية له لأنه ٌ ً حي بالن�سبة لغريه ،ك�أ َّنه ال �شيء يف ذاته� ،إنمَّ ا هو �شيء بالإ�ضافة. لنف�سهٌّ ، حق له ومن كان وجوده يف الوجود بهذه ال�صورة وهي الفناء يف امل�ستبدينَّ ، �أن ال ي�شعر بوظيفة �شخ�صية ف�ض ًال عن وظيفة اجتماعية .ولوال � ْأن لي�س يف وال�صدف التي الكون �شيء غري تابع لنظام حتى اجلماد ،حتى فلتات الطبيعة ُّ
102
هي م�سببات لأ�سباب نادرة ،حلكمنا ب� َّأن معي�شة الأ�رساء هي حم�ض فو�ضى، ال �شبه فو�ضى. على � َّأن التدقيق العميق ،يفيدنا ب� َّأن للأ�رساء قوانني غريبة يف مقاومة ويرتبى الفناء ي�صعب �ضبطها وتعريفها� ،إمنا الأ�سري ير�ضعها مع لنب �أمه، َ عليها ،وقد يبدع فيها ب�سائق احلاجة ،ويكون منهم احلاذق فيها علم ًا ،املاهر يف تطبيقها عم ًال ،هو املو َّفق يف ميدان حرب احلياة مع الذل ،كالهنود واليهود .والعاجز عنهاّ � ،إما جاهل هذا القانون �أو العاجز فطر ًة عن ا ِّتباعه كالعرب مث ًال ،فال يخرج عن كونه كرة يلعب بها �صبيان اال�ستبداد ،تار ًة ي�رضبون بها الأر�ض وتارة احليطان ،و�أما �إذا كان عجزه كما يقال عن عرق ها�شمي� ،أي عن �شي ٍء من كرامة نف�س �أو قوة �إح�سا�س �أو ج�سارة جنان ،فيكون كاحلجارة تتك�سرَّ وال تلني. قوانني حياة الأ�سري هي مقت�ضيات ال�ش�ؤون املحيطة به ،التي ت�ضطره لأن يطبق �إح�سا�ساته عليهاِّ ، ويدبر نف�سه على موجبها ،وذلك نحو مقابلة التجبرُّ عليه بالتذلل وال ّت�صاغر ،وتعديل ال�شدة عليه بالتالين واملطاوعة ،و�إعطاء املطلوب منه بعد قليلٍ من التم ُّنع ،ولو � َّأن املطلوب هو ابنه ملجزرة اجلندية �أو �شيخ �رشير ،واملطالبة يف احلقوق ب�صفة ا�ستعطاف ك�أ َّنه طالب ابنته لفرا�ش ٍ �صدقة ،وك�سب املعا�ش مع �شكاية احلاجةِ ، وحفظ املال ب�إخفائه عن الأعني، والتعامي عن ز ّالت امل�ستبدين ،والت�صامم عن �سماع ما ُيهان به ،والتظاهر احل�س �أو تعطيله باملخدرات القوية كالأفيون واحل�شي�ش ،وتعطيل العقل بفقد ّ بال ّتباله و�سرت العلم بالتجاهل ،واالرتداء بالتدين والرياء ،وتعويد الل�سان على ال ّزالقة يف عبائر الت�صاغر والتم ّلق ،وعزو ك ّل خري �إىل ف�ضل امل�ستبدين حتى �إذا كان اخلري طبيعي ًا نحو مطر ال�سماء ،فعزوه �إىل يمُ ن احلكام �أو دعاء �رش ،ولو من نوع الت�س ُّلط على الأعرا�ض ،على اال�ستحقاق الكهنة .وي�سند ك َّل ٍّ من جانب اهلل� .إىل غري ذلك من �أحكام ذلك القانون ،الذي ر�ؤو�س م�سائله فقط مت ّل القارئ ف�ض ًال عن تف�صيالتها. � َّإن �أخوف ما يخافه الأ�سري هو �أن يظهر عليه �أثر نعمة اهلل يف اجل�سم �أو املال ،فت�صيبه عني اجلوا�سي�س (وهذا �أ�صل عقيدة �إ�صابة العني)! �أو �أن يظهر جاه �أو ٍ علم �أو ٍ امل�ستبد (وهذا نعمة مهمة ،في�سعى به حا�سدوه �إىل له �ش�أن يف ٍ ِّ
103
اال�ستبداد والرتبية
يتحيل الأ�سري على حفظ ماله الذي ال تعوذ منه)! وقد ّ �أ�صل �رش احل�سد الذي ُي َّ ميكنه �إخفا�ؤه كالزوجة اجلميلة� ،أو الدابة الثمينة� ،أو الدار الكبرية ،فيحميها ب�إ�سناد ال�ش�ؤم( ،وهذا �أ�صل الت�شا�ؤم بالأقدام والنوا�صي والأعتاب). امل�ستبد ،وال يقوون على ومن غريب الأحوال � َّأن الأُ�رساء يبغ�ضون َّ ا�ستعمالهم معه الب�أ�س الطبيعي املوجود يف الإن�سان �إذا غ�ضب ،في�رصفون فيعادون من بينهم فئ ًة م�ست�ضعف ًة� ،أو الغرباء، ب�أ�سهم يف وجهة �أخرى ظلم ًاُ : وم َث ُلهم يف ذلك مثل الكالب الأهلية� ،إذا �أريد �أو يظلمون ن�ساءهم ونحو ذلكَ . منها احلرا�سة وال�رشا�سة ،ف�أ�صحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها لي ًال فت�صري �رش�سة عقورة ،وبهذا التعليل تع َّلل ج�سارة الأ�رساء �أحيان ًا يف حمارباتهم ،ال على �أنها ج�سارة عن �شجاعة .و�أحيان ًا تكون ج�سارة الأ�رساء عن التناهي يف امل�ستبد الذي ي�سوقهم �إىل املوت ،فيطيعونه انذعاراً كما تطيع اجلبانة �أمام ِّ الغنمة الذئب فتهرول بني يديه �إىل حيث ي�أكلها. تقدم � َّأن الرتبية غري مق�صودة ،وال مقدورة يف ظالل وقد ا َّت�ضح مما َّ اال�ستبداد �إال ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة ،وهذا النوع ي�ستلزم انخالع القلوب ال تزكية النفو�س .وقد �أجمع علماء االجتماع والأخالق والرتبية على � َّأن الإقناع خري من الرتغيب ف�ض ًال عن الرتهيب ،و� َّإن التعليم مع احلرية بني املعلِّم واملتعلِّم �أف�ضل من التعليم مع الوقار ،و� َّأن التعليم التكمل �أر�سخ من العلم احلا�صل طمع ًا يف املكاف�أة� ،أو غرية عن رغبة يف ُّ من الأقران .وعلى هذه القاعدة بنوا قولهمَّ � :إن املدار�س تقلل اجلنايات ال ال�سجون ،وقولهمَّ � :إن الق�صا�ص واملعاقبة ق َّلما يفيدان يف زجر النف�س كما قال احلكيم العربي: غيها ال ترجع الأنف�س عن ّ
زاجر ما مل يكن منها لها ُ
ومن يت�أمل جيداً يف قوله تعاىل( :ولكم يف الق�صا�ص حيا ٌة يا �أويل الألباب) مالحظ ًا � َّأن معنى الق�صا�ص لغ ًة :هو الت�ساوي مطلق ًا ،ال مق�صوراً على املعاقبة باملثل يف اجلنايات فقط ،ويدقق النظر يف القر�آن الكرمي و�سائر الر�سل العظام -عليهم ال�صالة وال�سالم -يرى الكتب ال�سماوية ،وي َّتبع م�سالك ُّ
104
ثم �إىل الأطماع عاج ًال � َّأن االعتناء يف طريق الهداية فيها ٌ من�رصف �إىل الإقناعَّ ، ثم �إىل الرتهيب الآجل غالب ًا ومع ترك �أبواب ُتديل �إىل النجاة. �أو �آج ًالَّ ، ثم � َّإن الرتبية التي هي �ضا ّلة الأمم ،وفقدها هو امل�صيبة العظيمة ،التي َّ هي امل�س�ألة االجتماعية ،حيث الإن�سان يكون �إن�سان ًا برتبيته ،وكما يكون الآباء يكون الأبناء ،وكما يكون الأفراد تكون ال ّأمة ،والرتبية املطلوبة هي ثم ثم على ح�سن التفهيم والإقناعَّ ، الرتبية املر َّتبة على �إعداد العقل للتمييزَّ ، ثم على ح�سن القدوة ثم على التمرين والتعويدَّ ، الهمة والعزميةَّ ، على تقوية ّ التو�سط واالعتدال ،و� ْأن تكون ثم على ثم على املواظبة والإتقانَّ ، واملثالَّ ، ّ تربية العقل م�صحوب ًة برتبية اجل�سم ،لأنهما مت�صاحبان �صحة واعتال ًال، امل�شاق ،واملهارة يف حتمل ّ ف�إنه يقت�ضي تعويد اجل�سم على النظافة وعلى ّ احلركات ،والتوقيت يف النوم والغذاء والعبادة ،والرتتيب يف العمل ويف الريا�ضة والراحة .و�أن تكون تلكما الرتبيتني م�صحوبتني �أي�ض ًا برتبية النف�س على معرفة خالقها ومراقبته واخلوف منه .ف�إذا كان ال مطمع يف الرتبية العامة على هذه الأ�صول مبانع طبيعة اال�ستبداد ،فال يكون لعقالء املبتلني ّ ثم بعد ذلك العقول، هذه على ال�ضاغط املانع إزالة � وراء ال أو � ي�سعوا أن � إال به � ً َّ يعتنوا بالرتبية ،حيث ميكنهم حينئ ٍذ �أن ينالوها على توايل البطون ،واهلل املوفق.
105
اال�ستبداد والرت ِّقي
106
اال�ستبداد والرتقِّي �شخو�ص وهبوط .فالرت ّقي هو احلركة احلركة ُ�س َّن ٌة دائب ٌة يف اخلليقة بني ٍ احليوية� ،أي حركة ال�شخو�ص ،ويقابله الهبوط وهو احلركة �إىل املوت �أو االنحالل �أو اال�ستحالة �أو االنقالب. ال�س ّنة كما هي عاملة يف املادة و�أعرا�ضها ،عاملة �أي�ض ًا يف الكيفيات وهذه ُّ امليت َّ ومركباتها ،والقول ّ امليت ُ ويخرج ّ احلي من ّ ال�شارح لذلك �آية(ُ :يخرِج َّ أمر �إال وبدا نق�صه) ،وقولهم( :التاريخ يعيد نف�سه). احلي) ،وحديث( :ما َّ مت � ٌ من ّ وحكمهم ب� َّأن احلياة واملوت ح ّقان طبيعيان. وهذه احلركة اجل�سمية والنف�سية والعقلية ال تقت�ضي ال�سري �إىل النهاية كل �ساعة يف �ش�أن ،والعربة �شخو�ص ًا �أو هبوط ًا ،بل هي �أ�شبه مبيزان احلرارةُّ ، يف احلكم للوجهة الغالبة ،ف�إذا ر�أينا �آثار حركة الرت ّقي هي الغالبة على �أفرادها ،حكمنا لها باحلياة ،ومتى ر�أينا عك�س ذلك ق�ضينا عليها باملوت. ال ّأمة هي جمموعة �أفراد يجمعها ن�سب �أو وطن �أو لغة �أو دين ،كما � َّأن وقو ًة يكون البناء جمموع �أنقا�ض ،فح�سبما تكون الأنقا�ض جن�س ًا وجما ًال ّ انحطت الأمة تر َّقت هيئتها االجتماعية ،حتى � َّإن حالة البناء ،ف�إذا تر َّقت �أو َّ الفرد الواحد من ال ّأمة ت�ؤ ِّثر يف جمموع تلك الأمة .كما �إذا لو اخت َّلت حجرة
107
اال�ستبداد والرت ِّقي
يختل جمموعه و� ْإن كان ال ي�شعر بذلك ،كما لو وقفت بعو�ضة على من ح�صن ُّ درك ذلك بامل�شاعر .وبع�ض طرف �سفينة عظيمة �أثقلتها و�أمالتها و� ْإن مل ُي َ كل فرد رقي ًا �أن يجتهد ُّ ال�سيا�سيني بنى على هذه القاعدة� :أ َّنه يكفي الأمة ّ منها يف ترقية نف�سه بدون �أن يفتكر يف تر ّقي جمموع الأمة. وهمته هو �أو ًال :الرت ّقي الرت ّقي احليوي الذي يجتهد فيه الإن�سان بفطرته ّ القوة بالعلم واملال ،ثالث ًا :الرت ّقي يف اجل�سم ّ �صح ًة وتل ُّذذاً ،ثاني ًا :الرت ّقي يف ّ يف النف�س باخل�صال واملفاخر ،رابع ًا :الرت ّقي بالعائلة ا�ستئنا�س ًا وتعاون ًا، خام�س ًا :الرت ّقي بالع�شرية تنا�رصاً عند الطوارئ� ،ساد�س ًا :الرت ّقي بالإن�سانية، وهذا منتهى الرت ّقي. نوع �آخر من الرت ّقي ويتعلق بالروح وبالكمال ،وهو � َّأن الإن�سان وهناك ٌ يحمل نف�س ًا ملهمة ب� َّأن لها وراء حياتها هذه حيا ًة �أخرى يرت ّقى بها على �س ّلم العدل والرحمة واحل�سنات .ف�أهل الأديان -ما عدا �أهل التوراة -ي�ؤمنون بالبعث �أو التنا�سخ ،في�أتون بالعدل والرحمة رجاء املكاف�أة �أو خوف املجازاة، وهم من قبيل الطبيعيني يعتربون �أنف�سهم مدينني للإن�سانية بحفظها تاريخ بح�سن احلياة الطبيعية ،فيلتزمون بخدمتها اهتمام ًا بحياتهم التاريخية ُ ال ّذكر �أو قبحه. وهذه الرت ّقيات ،على �أنواعها ال�س ّتة ،ال يزال الإن�سان ي�سعى وراءها ما مل يعرت�ضه مانع غالب ي�سلب �إرادته ،وهذا املانع � َّإما هو القدر املحتوم، امل�سمى عند البع�ض بالعجز الطبيعي� ،أو هو اال�ستبداد امل�ش�ؤوم .على � َّأن ّ فيكر راقي ًا .و�أما اال�ستبداد ف�إ َّنه يطلقه ثم ، ة ملح ي ق الرت �سري ي�صدم القدر ّ ً َّ ُّ يقلب ال�سري من الرت ّقي �إىل االنحطاط ،ومن التقدم �إىل الت�أخر ،من النماء �إىل الفناء ،ويالزم الأمة مالزمة الغرمي ال�شحيح ،ويفعل فيها دهراً طوي ًال �أفعاله حطة تقدم و�صف بع�ضها يف الأبحاث ال�سابقة� ،أفعاله التي تبلغ بالأمة ّ التي َّ العجماوات فال يهمها غري حفظ حياتها احليوانية فقط ،بل قد تبيح حياتها خفية .وال عار على الإن�سان � ْأن هذه الدنيئة �أي�ض ًا اال�ستبداد �إباح ًة ظاهرة �أو ّ ُ يختار املوت على الذل ،وهذه �سباع الطري والوحو�ش �إذا �أ�سرِ َ ت كبرية قد ت�أبى الغذاء حتى املوت. يحول ميلها الطبيعي من طلب الرت ّقي وقد يبلغ فعل اال�ستبداد بالأمة �أن ِّ
108
الرفعة لأبت وت�ألمَّ ت كما يت�ألمَّ الأجهر من �إىل الت�س ُّفل ،بحيث لو ُد ِف َعت �إىل ِّ النور ،و�إذا �أُلز َِمت باحلرية ت�شقى ،ورمبا تفنى كالبهائم الأهلية �إذا �أُط ِلق �رساحها .عندئ ٍذ ي�صري اال�ستبداد كالعلق يطيب له املقام على امت�صا�ص دم ينفك عنها حتى متوت وميوت هو مبوتها. الأمة ،فال ُّ وتو�صف حركة الرت ّقي واالنحطاط يف ال�ش�ؤون احليوية للإن�سان� ،أنها من نوع احلركة الدودية ،التي حت�صل باالندفاع واالنقبا�ض ،وذلك � َّأن الإن�سان ثم ي�أخذ يف ال�سري ،تدفعه يولد وهو �أعجز حراك ًا و�إدراك ًا من ك ِّل حيوانَّ ، �رس �أن الرغائب النف�سية والعقلية وتقب�ضه املوانع الطبيعية واملزاحمة .وهذا ّ �رس ما ورد يف القر�آن الكرمي من ابتالء اهلل الإن�سان ينتابه اخلري وال�رش .وهو ّ النا�س باخلري وال�رش ،وهو معنى ما ورد يف الأثر ب� َّأن اخلري مربوط بذيل مربوط بذيل اخلري ،وهو املراد من �أقوال احلكماء نحو :على قدر ال�رش ،وال�رش ٌ حرب ال ّنعمة تكون النقمة ،على قدر الهمم ت�أتي العزائم ،بني ال�سعادة وال�شقاء ٌ والكي�س من ي�ستفيد من م�صيبته ِ�سجال ،العاقل من ي�ستفيد من م�صيبته، ِّ وم�صيبة غريه ،واحلكيم من يبتهج بامل�صائب ليقطف منها الفوائد ،ما كان يف احلياة ل ّذة لو مل يتخللها �آالم. ف�إذا تقرر هذا فليعلم �أي�ض ًا � َّأن �سبيل الإن�سان هو الرقي ،ما دام جناحا االندفاع واالنقبا�ض فيه متوازيني كتوازن الإيجابية وال�سلبية يف ثم � َّإن االندفاع الكهربائية ،و�سبيله القهقرى �إن غلبته الطبيعة �أو املزاحمةَّ . �إذا غلب فيه العقل النف�س ،كانت الوجهة �إىل احلكمة ،و� ْإن غلبت النف�س العقل، كانت الوجهة �إىل الزيغ� .أما االنقبا�ض ،فاملعتدل منه هو ال�سائق للعمل، والقوي منه ُمه ِل ٌك للحركة ،واال�ستبداد امل�ش�ؤوم الذي نبحث فيه هو قاب�ض أحق بو�صف �ضاغط م�سكن ،واملبتلون به هم امل�ساكني .نعم� :أ�رساء اال�ستبداد � ُّ امل�ساكني من عجزة الفقراء. ولو ملك الفقهاء حرية النظر خلرجوا من االختالف يف تعريف امل�ساكني الذين جعل لهم اهلل ن�صيب ًا من الزكاة فقالوا :هم عبيد اال�ستبداد ،وجلعلوا الرق الأكرب. ك َّفارات ِّ فك الرقاب ت�شمل هذا ّ �أُ�رساء اال�ستبداد حتى الأغنياء منهم ك ُّلهم م�ساكني ال حراك فيهم ،يعي�شون منحطني يف الأخالق .وما �أظلم منحطني يف الإح�سا�س، منحطني يف الإدراك، ِّ ّ ّ
109
اال�ستبداد والرت ِّقي
�شبه حالتهم توجيه اللوم عليهم بغري ل�سان الر�أفة والإر�شاد ،وقد �أبدع من َّ بدود حتت �صخرة ،فما �أليق بالالئمني �أن يكونوا م�شفقني ي�سعون يف رفع ذرة. ال�صخرة ولو ح ّت ًا بالأظافر َّ ذر ًة بعد ّ وقد �أجمع احلكماء على � َّأن �أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد ال َّأمة، الذين فيهم ن�سمة مروءة و�رشار حمية ،الذين يعرفون ما هي وظيفتهم ب�إزاء الإن�سانية ،امللتم�سني لإخوانهم العافية� ،أن ي�سعوا يف رفع ال�ضغط عن العقول النمو فتم ِّزق غيوم الأوهام التي متطر املخاوف� ،ش�أن لينطلق �سبيلها يف ِّ الطبيب يف اعتنائه �أو ًال بقوة ج�سم املري�ض ،و�أن يكون الإر�شاد متنا�سب ًا مع ٍ �صوت ينبهه ال�صوت اخلفيف ،وال ّنائم يحتاج �إىل الغفلة خ َّف ًة وقوة :كال�ساهي ِّ �صياح وزجر .فالأ�شخا�ص من هذا النوع الأخري ،يقت�ضي �أقوى ،والغافل يلزمه ٌ مراً لإيقاظهم الآن بعد �أن ناموا �أجيا ًال طويلة �أن ي�سقيهم النطا�سي البارع ّ من الزواجر والقوار�س ع َّلهم يفيقون ،و�إال فهم ال يفيقون ،حتى ي�أتي الق�ضاء من ال�سماء :فتربق ال�سيوف ،وترعد املدافع ومتطر البنادق ،فحينئ ٍذ ي�صحون، ولكن� ،صحوة املوت!. الدين ي�ؤ ِّثر على الرت ّقي الإفرادي، بع�ض االجتماعيني يف الغرب يرون � َّأن ِّ احل�س� ،أو حاجب ًا كالغيم يغ�شى ثم االجتماعي ت�أثرياً ِّ َّ معط ًال كفعل الأفيون يف ِّ �ضدان متزاحمان والعقل الدين يقولون: الغالة بع�ض وهناك ال�شم�س. نور ّ يف الر�ؤو�س ،و� َّإن �أول نقطة من الرت ّقي تبتدئ عند �آخر نقطة من الدين .و� َّإن الرقي واالنحطاط يف الأفراد �أو يف الأمم �أ�صدق ما ُي َّ �ستد ُّل به على مرتبة ُّ الغابرة واحلا�رضة ،هو مقيا�س االرتباط بالدين قو ًة و�ضعف ًا. للرد عليها ،ولكن ،بالنظر �إىل الأديان هذه الآراء ك ُّلها �صحيحة ال جمال ِّ حد احلكمة ،كالدين املبني على تكليف اخلرافية �أ�سا�س ًا �أو التي مل تقف عند ِّ جمرد الإذعان ملا يعقل العقل ُّ بت�صور � َّأن الواحد ثالثة والثالثة واحد .ل َّأن َّ يعد برهان على ف�ساد بع�ض مراكز العقل ،ولهذا �أ�صبح العامل املتمدن ّ االنت�ساب �إىل هذه العقيدة من العار ،لأنه �شعار احلُمق. �أما الأديان املبنية على العقل املح�ض كالإ�سالم املو�صوف بدين الفطرة، وال �أعني بالإ�سالم ما يدين به �أكرث امل�سلمني الآن� ،إنمَّ ا �أريد بالإ�سالم :دين
110
مقيد الفكر القر�آن� ،أي الدين الذي يقوى على فهمه من القر�آن ُّ كل �إن�سانٍ غري َّ بتف�صح زيد �أو حت ُّكم عمرو. ُّ الدين �إذا كان مبني ًا على العقل ،يكون �أف�ضل �صارف للفكر عن أن � �شك فال َّ ِّ املخرفني ،و�أنفع وازع ب�ضبط ال َّنف�س من ال�شطط ،و�أقوى م�صائد الوقوع يف ِّ من�شط حتمل م�شاق احلياة ،و�أعظم ِّ ّ م�ؤ ِّثر لتهذيب الأخالق ،و�أكرب معني على ُّ مثبت على املبادئ ال�رشيفة ،ويف النتيجة على الأعمال املهمة اخلطرة .و�أج َّل ِّ َّ رقي ًا أ�صح مقيا�س ُي ُّ �ستدل به على الأحوال النف�سية يف الأمم والأفراد ّ يكون � َّ وانحطاط ًا. هذا القر�آن الكرمي �إذا �أخذناه وقر�أناه بالترّ وي يف معاين �ألفاظه العربية تفهم �أ�سباب نزول �آياته وما �أ�شارت �إليه ،ومع و�أ�سلوب تركيبه القر�شي ،مع ُّ التب�صرُّ يف مقا�صده الدقيقة وت�رشيعه ال�سامي ،ومع �أخذ بع�ض التو�ضيحات ال�س َّنة العملية النبوية �أو الإجماع �إن وجدا ،وق َّلما يوجدان ،فحينئ ٍذ ال نرى من ُّ فيه من �أو ِّله �إىل �آخره غري ِح َك ٍم يتل ّقاها العقل بالإجالل والإعظام� ،إىل درجة انقياد العقل طوع ًا �أو كره ًا للإميان �إجما ًال ب� َّأن تلك ا ِ حل َكم ِح َك ٌم عزيزة �إلهية، و� َّأن الذي �أنزلها اهلل على قلبه هو اف�ضل من �أر�سله اهلل مر�شداً لعباده. حق النظر يرى �أ َّنه ال يكلِّف الإن�سان وتو�ضيح ذلكَّ � :أن الناظر يف القر�آن ّ قط بالإذعان ل�شيء فوق العقل ،بل يح ِّذره وينهاه من الإميان ا ِّتباع ًا لر�أي ّ الغري �أو تقليداً للآباء .ويراه طافح ًا بالتنبيه �إىل �أعمال الإن�سان فكره ونظره ثم اال�ستدالل بذلك �إىل � َّأن لهذه الكائنات يف هذه الكائنات وعظيم انتظامهاَّ ، ال�صفات التي ي�ستلزم العقل ثم االنتقال �إىل معرفة ِّ �صانع ًا �أبدعها من العدمَّ ، ثم يرى القر�آن يعلِّم الإن�سان �أن يكون هذا ال�صانع م َّت ِ�صف ًا بها� ،أو من َّزه ًا عنهاَّ ، بع�ض �أعمال و�أحكام و�أوامر ونواهي ك ّلها ال تبلع املائة عدداً ،وك ُّلها ب�سيطة التعبدية التي �شرُ ِّعت لتكون �شعاراً يعرف به معقولة� ،إال قلي ًال من الأمور ُّ في�ستدل امل�سلم �أخاه� ،أو ي�ستطلع من خالل قيامه بها �أو تهاونه فيها �أخالقه، ُّ مث ًال بال ّتكا�سل عن ال�صالة على َفق ِد الن�شاط ،وبرتك ال�صوم على عدم ال�صرب، وبال�سكر على غلبة النف�س والعقل ونحو ذلك. ُّ رقيها بالب�رش �إىل منزلة ح�رصها الت�رشيع، يف ا رقي إ�سالمية ل با وكفى ً ّ ّ �أ�سارة الإن�سان يف جهة �رشيفة واحدة وهي (اهلل) ،وعتقها عقل الب�رش عن
111
اال�ستبداد والرت ِّقي
توهم وجود قوة ما ،يف غري اهلل ،من �ش�أنها �أن ت�أتي للإن�سان بخ ٍري ما� ،أو ُّ �رشاً ما .فالإ�سالمية جتعل الإن�سان ال يرجو وال يهاب من ر�سولٍ �أو عنه تدفع ّ نبي� ،أو ٍ يل �أو ج ّني� ،أو �ساح ٍر �أو كاهن� ،أو �شيطانٍ �أو �سلطان. ملك �أو فلك� ،أو و ٍّ ّ و�أعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإن�سان عن عاتقه جبا ًال من اخلوف والأوهام واخلياالت ،جبا ًال اعتقلها منذ كان ي�رسح مع الغيالن� ،أو ورثها من �أبيه �آدم الذي طغاه �شيطان النف�س� .أو لي�س العتيق من الأوهام ي�صبح �صحيح العقل ،قوي الإرادة ،ثابت العزمية ،قائده احلكمة� ،سائقه الوجدان، فيعي�ش حراً ،فرح ًا �صبوراً فخوراً .ال يبايل حتى باملوت لعلمه بال�سعادة الروح والريحان ،واحلور التي ي�ستقبلها ،التي مي ِّثلها له القر�آن باجلنان ،فيها ّ وتقر به العينان؟! والغلمان ،فيها كل مل ت�شتهي الأنف�س ُّ اطالعهم أظن �أن ه�ؤالء املنكرين فائدة الدين ،ما �أنكروا ذلك �إال من عدم ِّ و� ُّ على دينٍ �صحيح مع ي�أ�سهم من �إ�صالح ما لديهم ،عجزاً عن مقاومة �أن�صار الف�ساد .و�إذا نظرنا يف � َّأن ه�ؤالء �أنف�سهم هم يف �آنٍ واحد ي�شددون ال َّنكري على الدين من جهة ،قائلنيَّ � :إن �رضره �أكرب من نفعه ،ويهيجون من ٍ جهة �أخرى ِّ حب مثل وذلك أمم، ل ا بناء يف منه بد ال أنه � يرون ا حم�ض وهمية أدبية � رات ث � ؤ م ً ِّ َّ ِّ وال�سمعة احل�سنة وعك�سها، الوطن وخيانته، ِّ وحب الإن�سانية والإ�ساءة �إليها ُّ وال ِّذكر التاريخي باخلري �أو ال�شرَّ ونحو ذلك مما هو ال �شيء يف ذاته ،وال �شيء �أي�ض ًا بالن�سبة �إىل ت�أثري طاعة اهلل واخلوف منه ،ل َّأن (اهلل) حقيقة ال ريب فيها ،بل وال خالف �إال يف الأ�سماء بني (اهلل) وبني (مادة) �أو (طبيعة) .ولوال � َّأن املاديني والطبيعيني ي�أبون اال�سرت�سال يف البحث يف �صفات ما ي�سمونه مادة �أو طبيعة ،اللتقوا -وال �شك -مع الإ�سالم يف نقطة واحدة ،فارتفع اخلالف العلمي و�أ�سلم الك ّل هلل. أ�صور الرقي واالنحطاط يف ال َّنف�س، وعلى ذكر اللوم الإر�شادي الح يل � ْأن � ِّ وكيف ينبغي للإن�سان العاقل �أن يعاين �إيقاظ قومه ،وكيف ير�شدهم �إىل �أنهم ويحرك وال�سفالة ،فيذ ِّكرهم، ُخ ِلقوا لغري ما هم عليه من َّ ال�صرب على ال ُّذ ِّل َّ ِّ قلوبهم ،ويناجيهم ،وينذرهم بنحو اخلطابات الآتية: أحييه (يا ُ حي ف� ّ قوم :ينازعني واهلل ال�شعور ،هل موقفي هذا يف جمع ٍّ بال�سالم؟ �أم �أنا �أخاطب �أهل القبور ف�أحييهم بالرحمة؟ يا ه�ؤالء ،ل�ستم ب�أحياء
112
التنبت، عاملني ،وال �أموات م�سرتيحني ،بل �أنتم بني بني :يف ٍ ي�سمى ُّ برزخ ّ رباه� :إين �أرى �أ�شباح �أنا�س ي�شبهون ذوي احلياة، وي�رصح ت�شبيهه بال ّنوم! يا ّ وهم يف احلقيقة موتى ال ي�شعرون ،بل هم موتى ،لأنهم ال ي�شعرون). نعيم مقيم، (يا قوم :هداكم اهلل� ،إىل متى هذا ال�شقاء املديد وال ّنا�س يف ٍ وع ٍّز كرمي؟ �أفال تنظرون؟ وما هذا الت� ُّأخر ،وقد �سبقتكم الأقوام �ألوف مراحل، حتى �صار ما بعد ورائكم �أمام ًا! �أفال تتبعون؟ وما هذا االنخفا�ض والنا�س الرفعة� ،أفال تغارون؟ �أنا�شدكم اهلل ،هل طابت لكم طول غيبة ال�صواب يف �أوج ّ ثم قاموا ،و�إذا بالدنيا غري عنكم؟ �أم �أنتم ك�أهل ذلك الكهف ناموا �ألف عام َّ الدنيا ،والنا�س غري النا�س ،ف�أخذتهم الده�شة والتزموا ال�سكون؟). (يا قوم :وقاكم اهلل من ال�رش� ،أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع و�رشف القدوةُ ،مبتلون بداء التقليد والتبعية يف ك ِّل فك ٍر وعمل ،وبداء احلر�ص على ك ِّل عتيق ك�أ َّنكم ُخ ِلقتم للما�ضي ال للحا�رض :ت�شكون حا�رضكم وت�سخطون عليه، ومن يل �أن تدركوا � َّأن حا�رضكم نتيجة ما�ضيكم ،ومع ذلك �أراكم تقلِّدون �أجدادكم يف الو�ساو�س واخلرافات والأمور ال�سافالت فقط ،وال تقلِّدونهم يف حمامدهم! �أين الدين؟ �أين الرتبية؟ �أين الإح�سا�س؟ �أين الغرية؟ �أين اجل�سارة؟ �أين الثبات؟ �أين الرابطة؟ �أين املنعة؟ �أين ال�شهامة؟ �أين النخوة؟ �أين الف�ضيلة؟ �أين املوا�ساة؟ هل ت�سمعون؟ �أم �أنتم ُ�ص ٌّم الهون؟) قوم :عافاكم اهلل� ،إىل متى هذا النوم؟ و�إىل متى هذا التق ُّلب على فرا�ش يا ُ الب�أ�س وو�سادة الي�أ�س؟ �أنتم مف َّتح ٌة عيونكم ولكنكم نيام ،لكم �أب�صار ولكنكم ال�صدور! ال تنظرون ،وهكذا ال تعمى الأب�صار، ْ ولكن ،تعمى القلوب التي يف ّ احل�س ولكنكم ال ت�شعرون به ما �سمع ٌ لكم ٌ ول�سان ولكنكم ُ�ص ٌّم ُب ٌ كم ،ولكم �شبيه ِّ ؤو�س كبرية ولكنها م�شغولة مبزعجات هي اللذائذ حق ًا وما هي الآالم ،ولكم ر� ٌ ولكن� ،أنتم ال تعرفون الأوهام والأحالم ،ولكم نفو�س ح ُّقها �أن تكون عزيزةْ ، ٌ لها قدراً ومقام ًا). قوم :قاتل اهلل الغباوة ،ف�إنها متلأ القلوب رعب ًا من ال �شيء ،وخوف ًا (يا ُ من ك ِّل �شيء ،وتفعم الر�ؤو�س ت�شوي�ش ًا و�سخافة� .ألي�ست هي الغباوة جعلتكم وجتي�شون م�سكم ال�شيطان ،فتخافون من ظلِّكم وترهبون من قوتكم، ّ ك�أنكم قد َّ منكم عليكم جيو�ش ًا ليقتل بع�ضكم بع�ض ًا؟ ترتامون على املوت خوف املوت،
113
اال�ستبداد والرت ِّقي
الدماغ ونطقكم يف الل�سان و�إح�سا�سكم وحت�سبون -طول العمر -فكركم يف ِّ يف الوجدان خوف ًا من �أن ي�سجنكم الظاملون ،وما ي�سجنون غري �أرجلكم �أيام ًا، الذل تخافون �أن ت�صريوا ُج َّال�س الرجال يف فما بالكم يا �أحال�س الن�ساء مع ّ ال�سجون؟). (يا قوم� :أُعيذكم باهلل من ف�ساد الر�أي ،و�ضياع احلزم ،وفقد الثقة بالنف�س، للر�شد يف �أن يو ِّكل الإن�سان عنه وكي ًال وترك الإرادة للغري ،فهل ترون �أثراً ُّ الت�رصف يف ماله و�أهله ،والتح ُّكم يف حياته و�رشفه والت�أثري على ويطلق له ُ ُّ عبث وخيانة و� ٍ دينه وفكره ،مع ت�سليف هذا الوكيل العفو عن ك ِّل ٍ إ�رساف و�إتالف؟ �أم ترون � َّأن هذا النوع من اجلنة به �أن يظلم الإن�سان نف�سه؟ هل خلق اهلل لكم عقو ًال لتفهموا به ك َّل �شيء؟ �أم لتهملوه ك�أ َّنه ال �شيء؟ «� َّإن ا َ هلل ال َيظلم ولكن النا�س �أنف�سهم يظلمون»). ال ّنا�س �شيئ ًا َّ (يا قوم� :شفاكم اهلل ،قد ينفع اليوم الإنذار واللوم ،و�أما غداً �إذا ح َّل الق�ضاء، فال يبقى لكم غري ال ّندب والبكاء .ف�إىل متى هذا التخادع والتخاذل؟ و�إىل متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الو�سادة اللينة ،و�سادة اخلمول؟ وتودون لو ت�سكنون القبور؟ �أم عاهدمت �أنف�سكم �أن ت�صلوا �أم طاب لكم ال�سكون ّ ال�سبات قبل �صباح يوم الن�شور ،يوم غفلة احلياة باملمات ،فال تفيقوا من ُّ وحق لكم تعلو ال�سيوف رقابكم وت�صمي املدافع �آذانكم فتم�سون الأذ ّالء حق ًاَّ ، �أن تذلوا؟). ٍ قوم :رحمكم اهلل ،ما هذا احلر�ص على ٍ تعي�سة دنيئة ال متلكونها حياة (يا ُ ون�صب! هل تعب َ �ساعة! ما هذا احلر�ص على الراحة املوهومة وحياتكم ك ُّلها ٌ فخر �أو لكم عليه �أجر؟ ك ّال ،وا ِ هلل �ساء ما تتوهمون ،لي�س لكم يف هذا َّ ال�صرب ٌ لكم �إال القهر يف احلياة ،وقبيح ال ِّذكر بعد املمات ،لأ َّنكم ما �أفدمت الوجود للخ َلف� .أل�ستم ال�سلف و�رصمت بئ�س الوا�سطة َ �شيئ ًا .بل �أتلفتم ما ورثتم عن ّ يا نا�س مديونني للأ�سالف بك ِّل ما �أنتم فيه من الرت ّقي عن �إن�سان الغابات؟ ف�إذا مل تكونوا �أه ًال للمزيد فكونوا �أه ًال ِ للح ْفظ ،وهذه العجماوات تنقل رقيها لن�سلها ب�أمانة). حدب ين�سلون، قوم :حماكم اهلل ،قد جاءكم امل�ستمتعون من ك ِّل ٍ (يا ُ ف�إن وجدوكم �أيقاظ ًا عاملوكم كما يتعامل اجلريان ويتجامل الأقران ،و�إن
114
وحتيلوا وجدوكم رقوداً ال ت�شعرون �سلبوا �أموالكم ،وزاحموكم على �أر�ضكم، َّ تذليلكم ،و�أوثقوا ربطكم ،وا َّتخذوكم �أنعام ًا ،وعندئ ٍذ لو �أردمت حراك ًا ال تقوون، بل جتدون القيود م�شدود ًة والأبواب م�سدودة ال جناة وال خمرج). هون اهلل م�صابكم ،ت�شكون من اجلهل وال تنفقون على التعليم (يا ُ قومَّ : ن�صف ما ت�رصفون على التدخني ،ت�شكون من احل َّكام ،وهم اليوم منكم ،فال ٍ وجوه ال تف ِّكرون ت�سعون يف �إ�صالحهم ،ت�شكون فقد الرابطة ،ولكم روابط من ال�صالح و�أنتم يف �إحكامها .ت�شكون الفقر وال �سبب له غري الك�سل .هل ترجون َّ ُيخادع بع�ضكم بع�ض ًا وال تخدعون �إال �أنف�سكم؟ .تر�ضون ب�أدنى املعي�شة متوهون على �سمونه ُّ توك ًال! ِّ �سمونه قناعة ،وتهملون �ش�ؤونكم تهاون ًا ُت ّ عجزاً ُت ّ جهلكم الأ�سباب بق�ضاء اهلل وتدفعون عار امل�سببات بعطفها على القدر� ،أال واهلل ما هذا �ش�أن الب�رش!). اجلبار� .أمل (يا ُ قوم� :ساحمكم اهلل ،ال تظلموا الأقدار ،وخافوا غرية املنعم ّ أكفاء �أحراراً طلقاء ال يثقلكم غري ال ّنور والن�سيم ،ف�أبيتم �إال �أن حتملوا يخلقكم � ً حمل �صغريكم على عواتقكم ظلم ال�ضعفاء وقهر الأقوياء؟! لو �شاء كبريكم �أن ُي ِّ كرة الأر�ض حلنى له ظهره ،ولو �شاء �أن يركبه لط�أط�أ له ر�أ�سه .ماذا ا�ستفدمت من هذا اخل�ضوع واخل�شوع لغري اهلل؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب ال�صغار كلِّه هو �ضعف ثقتكم وخف�ض ال�صوت ونك�س الر�أ�س؟ �ألي�س من�ش�أ هذا ّ ب�أنف�سكم ،ك�أ ِّنكم عاجزون عن حت�صيل ما تقوم به احلياة ،وح�سب احلياة قيمات من ٍ ٍ نبات يقمن �ضلع ابن �آدم ،وقد بذلها اخل ّالق لأ�ضعف احليوان، ُل وهذه الوحو�ش جتد فرائ�سها �أينما ح َّلت ،وهذه الهوام ال تفقد قوتها؟ فما بال الرجل منكم ي�ضع نف�سه مقام الطفل الذي ال ينال حاجته �إال بالتذ ُّلل والبكاء، َّ والدعاء؟). �أو مو�ضع ال�شيخ الفاين الذي ال ينال حاجته �إال بالتم ُّلق ُّ (يا قوم :رفع اهلل عنكم املكروه ،ما هذا التفاوت بني �أفرادكم وقد خلقكم ربكم �أكفاء يف البنية� ،أكفاء يف القوةِ � ،أك ّفاء يف الطبيعة� ،أك َّفاء يف احلاجات، ال يف�ضل بع�ضكم بع�ض ًا �إال بالف�ضيلة ،ال ربوبية بينكم وال عبودية؟ واهلل، برزخ من الوهم .ولو درى ال�صغري بوهمه، لي�س بني �صغريكم وكبريكم غري ٍ العاجز بوهمه ،ما يف النف�س الكبري املت�آله من اخلوف منه لزال الإ�شكال وق�ضي الأمر الذي فيه ت�شقون! يا �أعزاء اخللقة ،جهالء املقام ،كان النا�س
115
اال�ستبداد والرت ِّقي
ثم تر ّقى ال ّنا�س ،فهبط يف دور الهمجية ،فكان ُدهاتهم بينهم �آلهة و�أنبياءَّ ، حل َّكام الرقي فانحط �أولئك �إىل مرتبة ا ُ َّ ه�ؤالء ملقام اجلبابرة والأولياءَّ ، ثم زاد ّ واحلكماء ،حتى �صار ال ّنا�س نا�س ًا فزال العماء ،وانك�شف الغطاء ،وبان � َّأن الك َّل �أكفاء .ف�أنا�شدكم اهلل يف �أي الأدوار �أنتم؟ �أال تف ِّكرون؟). قوم :جعلكم اهلل من املهتدين ،كان �أجدادكم ال ينحنون �إال ركوع ًا (يا ُ ٍ ٍ مغمو�سة بدم الإخوان، بلقمة هلل ،و�أنتم ت�سجدون لتقبيل �أرجل املن ِعمني ولو معوجة رقابكم و�أجدادكم ينامون يف قبورهم م�ستوين �أعزاء ،و�أنتم �أحياء َّ تود لو تنت�صب قاماتها و�أنتم من كرثة اخل�ضوع كادت ت�صري �أذ ّالء! البهائم ُّ �أيديكم قوائم .النبات يطلب العلو و�أنتم تطلبون االنخفا�ض .ل َف َظتكم الأر�ض لتكونوا على ظهرها و�أنتم حري�صون على �أن تنغر�سوا يف جوفها ،ف� ْإن كانت بطن الأر�ض بغيتكم ،فا�صربوا قلي ًال لتناموا فيها طوي ًال). الر�شد ،متى ت�ستقيم قاماتكم وترتفع من الأر�ض (يا ُ قوم� :ألهمكم اهلل ّ �إىل ال�سماء �أنظاركم ،ومتيل �إىل التعايل نفو�سكم ،في�شعر �أحدكم بوجوده يف الوجود ،فيعرف معنى الأنانية لي�ستق ّل بذاته لذاته ،وميلك �إرادته واختياره وربه ،ال يت ِّكل على �أحد من خلق اهلل ا ِّتكال الناق�ص يف اخللق على ويثق بنف�سه ّ الكامل فيه� ،أو ا ِّتكال الغا�صب على مال الغافل �أو الك ِّل على �سعي العامل ،بل ثم يرى �أحدكم نف�سه �إن�سان ًا كرمي ًا يعتمد على املبادلة والتعاو�ض في�سلفَّ ، ي�ستويف ،وي�ستويف على �أن يفي ،بل ينظر يف نف�سه �أ َّنه هو ال ّأمة وحده ،وما �أجدر ب�أحدكم �أن يعمل لدنياه بنف�سه لنف�سه ،فال ي َّتكل على غريه ،كما يعمل الإن�سان ليعبد اهلل ب�شخ�صه ال ينيب عنه غريه؟ ف�إذا فعلتم ذلك �أظهر اهلل بينكم ثمرة الت�ضامن بال ا�شرتاط ،والتقا�ضي بال حما�رشة ،فت�صريون بنعمة اهلل �إخوان ًا). (يا قوم� :أبعد اهلل عنكم امل�صائب وب�صرَّ كم بالعواقب� .إن كانت املظامل و�ضيقت �أنف�سكم ،حتى �صغرت نفو�سكم ،وهانت عليكم هذه غ َّلت �أيديكم، َّ واجلد و�أم�سيتم ال تبالون �أتعي�شون احلياة و�أ�صبحت ال ت�ساوي عندكم اجلهد ّ �أم متوتون ،فه ّال �أخربمتوين ملاذا حت ِّكمون فيكم الظاملني حتى يف املوت؟ �ألي�س لكم من اخليار �أن متوتوا كما ت�شا�ؤون ،ال كما ي�شاء الظاملون؟ هل �سلب اال�ستبداد �إرادتكم حتى يف املوت؟ كال واهلل� :إن �أنا �أحببت املوت �أموت كما
116
بد ،فلماذا اجلبانة؟ �أحب ،لئيم ًا �أو كرمي ًا ،حتف ًا �أو �شهيداً ،ف�إن كان املوت وال َّ و�إن �أردت املوت ،فليكن اليوم قبل الغد ،ولكن بيدي ال بيد عمرو� .ألي�س: وطعم املوت يف �أم ٍر �صغري
كطعم املوت يف �أم ٍر عظي ِم
حتبون املوت ،بل قوم� :أنا�شدكم اهلل� ،أال �أقول حق ًا �إذا ُ قلت �إ َّنكم ال ُّ (يا ُ تنفرون منه ،ولكنكم جتهلون الطريق فتهربون من املوت �إىل املوت ،ولو موت ،وطلب املوت حياة، اهتديتم �إىل ال�سبيل لعلمتم � َّأن الهرب من املوت ٌ تعب ،والإقدام على التعب راح ٌة ،ولفطنتم �إىل � َّأن ولعرفتم � َّأن اخلوف من التعب ٌ و�سقياها قطرات من الدم الأحمر امل�سفوح ،والأ�سارة احلرية هي �شجرة اخللدُ ، هي �شجرة الز ّقوم ،و�سقياها �أنهر من الدم الأبي�ض� ،أي الدموع ،ولو كربت نفو�سكم لتفاخرمت بتزيني �صدوركم بورد اجلروح ال بو�سامات الظاملني؟!). قوم :و�أعني منكم امل�ساكني� ...أيها امل�سلمون� :إين ن�ش�أت و�شبت و�أنا (يا ُ أتق�صى �أف ِّكر يف �ش�أننا االجتماعي ،ع�سى �أهتدي لت�شخي�ص دائنا، ُ فكنت � ّ وقعت على ما �أظ ُّنه عام ًا� ،أقول :لع َّل هذا هو ال�سبب بعد ال�سبب ،حتى �إذا ُ أتعمق فيه متحي�ص ًا و�أحلِّله حتلي ًال ،فينك�شف التحقيق عن جرثومة ّ الداء ،ف� َّ � َّأن ما قام يف الفكر هو �سبب من جملة الأ�سباب� ،أو هو �سبب فرعي ال �أ�صلي، أ�صبحت �أجهد الفكر يف أم�سيت و� ف�أخيب و�أعود �إىل البحث والتنقيب .وطاملا � ُ ُ و�سافرت لأ�ستطلع �آراء ذوي الآراء ،ع�سى �أهتدي �سعيت اال�ستق�صاء ،وكثرياً ما ُ ُ ا�ستقرت عليه ربي .و�آخر ما �إىل ما ي�شفي �صدري من �آالم بحث �أتعبني به ِّ َّ �سفينة فكري هو: � َّإن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة واحلكمة ،دين النظام والن�شاط ،دين القر�آن ال�رصيح البيان� ،إىل �صيغة �أ َّنا جعلناه دين اخليال واخلبال ،دين اخللل والت�شوي�ش ،دين الب َِدع والت�شديد ،دين الإجهاد. دب فينا هذا املر�ض منذ �ألف عام ،فتم َّكن فينا و�أ َّثر يف ك ِّل �ش�ؤوننا، وقد َّ حتى بلغ فينا ا�ستحكام اخللل يف الفكر والعمل �أننا ال نرى يف اخلالق -ج َّل �ش�أنه -نظام ًا فيما ا َّت�صف ،نظام ًا فيما ق�ضى ،نظام ًا فيما �أمر ،وال نطالب واطراد ومثابرة. بنظام �أنف�سنا ف�ض ًال عن �آمرنا �أو م�أمورنا وترتيب ِّ ٍ ٍ
117
اال�ستبداد والرت ِّقي
م�شو�شة، م�شو�ش ،و�سيا�ستنا َّ م�شو�ش ،وفكرنا َّ وهكذا �أ�صبحنا واعتقادنا َّ م�شو�شة .ف�أين منا واحلالة هذه ،احلياة الفكرية ،احلياة العملية، ومعي�شتنا َّ احلياة العائلية ،احلياة االجتماعية ،احلياة ال�سيا�سية؟!). �ضيع دينكم ودنياكم �سا�ستكم الأولون وعلما�ؤكم املنافقون، قوم :قد َّ (يا ُ و�إنيّ �أر�شدكم �إىل عملٍ �إفرادي ال حرج فيه علم ًا وال عم ًال� :ألي�س بني جنبي ك ِّل ٍ ال�رش ،واملعروف من املنكر ولو متييزاً فرد منكم وجدان مييز اخلري من ّ �إجمالي ًا؟ �أما بلغكم قول معلِّم اخلري نبيكم الكرمي عليه �أف�ضل ال�صالة والت�سليم: طن اهلل عليكم �رشاركم فيدعو أمرن باملعروف ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلِّ َّ َّ «لت� َّ خياركم فال ي�ستجاب لهم» ،وقوله« :من ر�أى منكم منكراً فليغيرّ ه بيده ،و�إن مل ي�ستطع فبل�سانه ،و�إن مل ي�ستطع فبقلبه ،وذلك �أ�ضعف الإميان»؟! (و�أنتم تعلمون �إجماع �أئمة مذاهبكم كلِّها على � َّأن �أنكر املنكرات بعد الكفر وثم ...،وقد �أو�ضح العلماء � َّأن هو ُّ ثمَّ ، ثم قتل ال َّنف�سَّ ، الظلم الذي ف�شا فيكمَّ ، بناء عليه ،فمن تغيري املنكر بالقلب هو بغ�ض ِّ املتلب�س فيه بغ�ض ًا يف اهللً . يعامل الظامل �أو الفا�سق غري م�ضطر� ،أو يجامله ولو بال�سالم ،يكون قد خ�رس �أ�ضعف الإميان والعياذ باهلل). (وال �أظنكم جتهلون � َّأن كلمة ال�شهادة ،وال�صوم وال�صالة ،واحلج والزكاة، ال�شعائر، ك ّلها ال تغني �شيئ ًا مع فقد الإميان� ،إمنا يكون القيام حينئ ٍذ بهذه ّ ٍ بعادات وتقليدات وهو�سات ت�ضيع بها الأموال والأوقات). قيام ًا (بناء عليه ،فالدين يكلِّفكم �إن كنتم م�سلمني ،واحلكمة ُتلزِمكم �إن كنتم ً عاقلني� :أن ت�أمروا باملعروف وتنهوا عن املنكر جهدكم ،وال �أق ّل يف هذا الباب من �إبطانكم البغ�ضاء للظاملني والفا�سقني ،و�أظ ّنكم �إذا ت� َّأملتم قلي ًال ترون هذا الدواء ال�سهل املقدور لك ِّل �إن�سانٍ منكم ،يكفي لإنقاذكم مما ت�شكون .والقيام بهذا الواجب متعينّ على ك ِّل فرد منكم بنف�سه ،ولو �أهمله كا ّفة امل�سلمني .ولو � َّأن �أجدادكم الأولني قاموا به ملا و�صلتم �إىل ما �أنتم عليه من الهوان .فهذا ني وعمل ،ال والدين ما يدين به الفرد ال ما يدين به اجلمع ،والدين يق ٌ دينكمّ ، علم ِ فظ يف الأذهان� .ألي�س من قواعد دينكم فر�ض الكفاية وهو �أن يعمل وح ٌ ٌ امل�سلم ما عليه غري منتظ ٍر غريه؟!). يغركم دين ال تعملون به و�إن كان (ف�أنا�شدكم اهلل يا م�سلمني� :أن ال َّ
118
خري دين ،وال تغر َّنكم �أنف�سكم ب�أ َّنكم � ّأمة خري �أو خري � ّأمة ،و�أنتم املتواكلون ال�شعار قوة �إال باهلل العلي العظيم .و ِن ْع َم ِّ املقت�رصون على �شعار :ال حول وال ّ �شعار امل�ؤمنني ،ولكن� ،أين هم؟ �إين ال �أرى �أمامي � َّأم ًة تعرف حق ًا معنى ال �إله �إال اهلل ،بل �أرى � َّأم ًة خبلتها عبادة الظاملني!). قوم :و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني� ،أدعوكم �إىل (يا ُ تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد ،وما جناه الآباء والأجداد ،فقد كفى ما ُفعل ذلك على �أيدي املثريين ،و�أج ُّلكم من �أن ال تهتدوا لو�سائل االتحِّ اد و�أنتم املهتدون ال�سابقون .فهذه �أمم �أو�سرتيا و�أمريكا قد هداها العلم لطرائق �ش ّتى و�أ�صول را�سخة لالتحِّ اد الوطني دون الديني ،والوفاق اجلن�سي دون املذهبي، واالرتباط ال�سيا�سي دون الإداري .فما بالنا نحن ال نفتكر يف �أن نتبع ال�شحناء من الأعاجم �إحدى تلك الطرائق �أو �شبهها .فيقول عقال�ؤنا ملثريي َّ ندبر �ش�أننا ،نتفاهم بالف�صحاء ،ونرتاحم والأجانب :دعونا يا ه�ؤالء نحن ِّ ال�رضاء ،ونت�ساوى يف ال�سرَّ اء. بالإخاء ،ونتوا�سى يف ّ ندبر حياتنا الدنيا ،وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط .دعونا دعونا ِّ ٍ فلنحي فليحي الوطن، (فلتحي الأمة، كلمات �سواء� ،أال وهي: جنتمع على َ َ َ طلقاء �أع ّزاء). أخ�ص منكم ال ُّنجباء للتب�صرُّ والتب�صري فيما �آل �إليه امل�صري، (�أدعوكم و� ُّ أخف ا�ستحقاراً لأخيه الغربي؟ هذا الغربي قد �أ�صبح �ألي�س مطلق العربي � ّ تظاهره مع بع�ضنا بالإخاء الديني �إال مادي ًا ال دين له غري الك�سب ،فما ّ ُ وك ِذب ًا .ه�ؤالء الفرن�سي�س يطاردون �أهل الدين ،ويعملون على �أ َّنهم ة خمادع ً َ ال�صياد د يغر كما إال � ق، � ال يف ين الد دعواهم تكون ال عليه، بناء شرَّ ِّ يتنا�سونهً ، ِّ ّ وراء الأ�شباك! لو كان للدين ت�أثري عند الغربي ملا كانت البغ�ضاء بني الالتني وال�سك�سون، بل بني الطليان والفرن�سي�س ،وملا كانت بني الأملان والفرن�سيني الغربيني. الغربي �أرقى من ال�رشقي علم ًا وثروة ومنعة ،فله على ال�رشقيني �إذا واطنهم ال�سيادة الطبيعية� .أما ال�رشقيون فيما بينهم ،فمتقاربون ال يتغابنون. الغربي يعرف كيف ي�سو�س ،وكيف يتم َّتع ،وكيف ي�أ�رس ،وكيف ي�ست�أثر. فمتى ر�أى فيكم ا�ستعداداً واندفاع ًا ملجاراته �أو �سبقه� ،ضغط على عقولكم
119
اال�ستبداد والرت ِّقي
لتبقوا وراءه �شوط ًا كبرياً كما يفعل الرو�س مع البولونيني ،واليهود والتتار، وكذلك �ش�أن ك ِّل امل�ستعمرين .الغربي مهما مكث يف ال�رشق ال يخرج عن �أ َّنه تاجر م�ستمتع ،في�أخذ ف�سائل ال�رشق ليغر�سها يف بلده التي ال يفت�أ يفتخر بريا�ضها ويحن �إىل �أربا�ضها. ُّ قد م�ضى على الهوالنديني يف الهند وجزائرها ،وعلى الرو�س يف قاوزان، ولكن ،ما خدموا العلم والعمران بع�رش ما خدمناها، مثل ما �أقمنا يف الأندل�سْ ، ٍ بجريدة ودخل الفرن�ساويون اجلزائر منذ �سبعني عام ًا ،ومل ي�سمحوا بعد لأهلها ف�ضل قديد بالده ،و�سمك بحاره ،على قر�أ .نرى الإنكليزي يف بالدنا ُي ِّ واحدة ُت َ طري حلمنا و�سمكنا .فهلاّ واحلالة هذه تب�رصون يا �أويل الألباب؟). ِّ (و�أنت �أيها ال�رشق الفخيم رعاك اهلل .ماذا دهاك؟ ماذا �أقعدك عن م�رساك؟ �ألي�ست �أر�ضك تلك الأر�ض ذات اجلنان والأقنان ،ومنبت العلم والعرفان، و�سما�ؤك تلك ال�سماء م�صدر الأنوار ،ومهبط احلكمة والأديان ،وهوا�ؤك ذاك الن�سيم العدل ،ال العوا�صف وال�ضباب .وما�ؤك ذاك العذب الغدق ،ال الكدر وال الأجاج؟). (رعاك اهلل يا �رشق ،ماذا �أ�صابك ف�أخ َّل نظامك ،والدهر ذاك الدهر ما غيرَّ وبنوك هم الفائقون و�ضعكَّ ، وبدل �رشعه فيك؟ �أمل تزل مناطقك هي املعتدلةَ ، فطر ًة وعدداً؟ �ألي�س نظام اهلل فيك على عهده الأول ،ورابطة الأديان يف بنيك محُ كمة قومية ،م�ؤ�س�سة على عبادة ال�صانع الوازع؟ �ألي�ست معرفة املنعم حب حقيقة راهنة �أ�رشقت فيك �شم�سهاَّ � ،أيدت بها ع ّز النف�س ،و�أحكمت بها َّ وحب اجلن�س؟). الوطن َّ (رعاك اهلل يا �رشق ،ماذا عراك و�س َّكن منك احلراك؟ �أمل تزل �أر�ضك وا�سعة خ�صبة ،ومعادنك وافية غنية ،وحيوانك رابي ًا متنا�س ًال ،وعمرانك قائم ًا ربيتهم �أقرب للخري من ال�شرَّ ؟ �ألي�س عندهم احللم متوا�ص ًالَ ، وبنوك على ما َّ امل�سمى باجلبانة، امل�سمى عند غريهم �ضعف ًا يف القلب ،وعندهم احلياء ّ ّ امل�سماة بالعجز ،وعندهم القناعة وعندهم إتالف، ل با ى امل�سم الكرم وعندهم ّ ّ بالذل؟ نعم ،ما هم امل�سماة املجاملة وعندهم بالبالهة، امل�سماة الع ّفة ّ ّ ّ بال�ساملني من الظلم ،ولكن ،فيما بينهم ،وال من اخلدع ،ولكن ،ال يفتخرون به ،وال من الإ�رضار ،ولكن ،مع اخلوف من اهلل).
120
ال�شقاء الدهر فيك ما ي�ستوجب هذا ّ (رعاك اهلل يا �رشق ،ال نرى من غري ّ لبنيك ،وي�ستلزم ذ َّلهم لبني �أخيك .فلماذا قد �أ�صبحت �إذا انقطع عنك مدد فقد احلديد �أخيك مب�صنوعاته ،يبقى �أبنا�ؤك ُعراة حفاة يف ظالم ،بل مي ّنيهم ُ بالرجوع �إىل الع�رص ال ّنحا�سي ،بل احلجري املو�صوف بع�رص التعفني؟). (رعاك اهلل يا �رشق ،بل راعى اهلل �أخاك الغرب ،العائل بنف�سه والعائل فيك، وقاتل اهلل اال�ستبداد ،بل لعن اهلل اال�ستبداد ،املانع من الترّ ّقي يف احلياة، املنحط بالأمم �إىل �أ�سفل الدركات� .أال ُبعداً للظاملني). ّ وبياك ،قد عرفت لأخيك �سابق ف�ضله عليك، اك وحي غرب، يا اهلل (رعاك ّ ّ ا�شتد �ساعد بع�ض �أوالد فوفيت ،وكفيت ،و�أح�سنت الو�صاية وهديت ،وقد َّ �أخيك ،فهلاّ ينتدب بع�ض �شيوخ �أحرارك لإعانة �أجناب �أخيك على هدم ذاك ال�سور� ،سور ال�ش�ؤم وال�رشور ،ليخرجوا �إىل �أر�ض احلياة� ،أر�ض الأنبياء الهداة، ّ في�شكرون ف�ضلك والدهر مكاف�أة؟). وفقد الدين غري ال�رشق � ْإن دامت حياته بحريته، ُ غرب ،ال يحفظ لك ِّ (يا ُ يهددك باخلراب القريب .فماذا �أعددت للفو�ضيني �إذا �صاروا جي�ش ًا الدين ِّ ّ جراراً؟ وماذا �أعددت لديارك احلبلى بالثورة االجتماعية؟ هل ُت ِع ُّد املواد جاوزت �أنواعها الألف؟ �أن ُت ِع ُّد الغازات اخلانقة وقد �سهل املتفرقعة ،وقد ْ ا�ستح�ضارها على ال�صبيان؟). (يا قوم :و�أريد بكم �شباب اليوم ،رجال الغد� ،شباب الفكر ،رجال اجلد، �أُعيذكم من اخلزي واخلذالن بتفرقة الأديان ،و�أُعيذكم من اجلهل ،جهل � َّأن ربك جلعل النا�س الدينونة هلل ،وهو �سبحانه و ُّ يل ال�رسائر وال�ضمائر «ولو �شاء ُّ � ّأم ًة واحدة»). (�أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان� ،أن تعذروا ه�ؤالء الواهنة اخلائرة قواهم �إال املعطل عملهم �إال يف التثبيط ،الذين اجتمع فيهم داء اال�ستبداد يف �أل�سنتهم، َّ والتواكل فجعالهما �آلة ُتدار وال تدير .و�أ�س�ألكم عفوهم من العتاب واملالم، لأ َّنهم مر�ضى مبتلون ،مثقلون بالقيود ،ملجمون باحلديد ،يق�ضون حياة خري ما فيها �أ َّنهم �آبا�ؤكم!). (قد علمتم يا نجُ َ باء من طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ُج َم ًال كافية للتدبر ،فاعتربوا بنا وا�س�ألوا اهلل العافية: ُّ
121
اال�ستبداد والرت ِّقي
نحن �أ ِلفنا الأدب مع الكبري ولو دا�س رقابنا� .أ ِلفنا الثبات ثبات الأوتاد حتت املطارق� ،أ ِلفنا االنقياد ولو �إىل املهالك� .أ ِلفنا �أن نعترب ال َّت�صاغر �أدب ًا والتذ ُّلل لطف ًا ،والتم ُّلق ف�صاح ًة ،واللكنة رزانة ،وترك احلقوق �سماح ًة ،وقبول بالظلم طاعة ،ودعوى اال�ستحقاق غروراً ،والبحث والر�ضا ُّ الإهانة توا�ضع ًاِّ ، تهوراً، عن العموميات ف�ضو ًالَّ ، ومد ال َّنظر �إىل الغد �أم ًال طوي ًال ،والإقدام ُّ وحرية الفكر ُكفراً، وحرية القول وقاحة، وال�شهامة �رشا�سة، واحلمية حماقةّ ، َّ ّ وحب الوطن جنون ًا. َّ �أما �أنتم ،حماكم اهلل من ال�سوء ،فرنجو لكم �أن تن�ش�ؤوا على غري ذلك، التم�سك ب�أ�صول الدين ،دون �أوهام املتفننني ،فتعرفوا قدر �أن تن�ش�ؤوا على ُّ نفو�سكم يف هذه احلياة فتكرموها ،وتعرفوا قدر �أرواحكم و�أ َّنها خالدة ُتثاب وتجُ زى ،وت َّتبعوا ُ�سنن النبيني فال تخافون غري ال�صانع الوازع العظيم .ونرجو ال�شيم ،وال على عظام لكم �أن تبنوا ق�صور فخاركم على معايل الهمم ومكارم َّ نخرة .و�أن تعلموا �أ َّنكم ُخ ِلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا ،فاجهدوا على �أن حتيوا ر�ضية ،يت�س ّنى فيها لك ٍّل منكم �أن يكون �سلطان ًا م�ستق ًال ذلكما اليومني حيا ًة ّ ي�ضن عليهم بعنيٍ �أو وفي ًا لقومه ال يف �ش�ؤونه ال يحكمه غري ّ ُّ احلق ،ومدين ًا ّ وحمب ًا باراً لوطنه ،ال يبخل عليه بجز ٍء من فكره ووقته وماله، َّ عون ،وولداً ّ للإن�سانية ويعمل على � َّأن خري النا�س �أنفعهم للنا�س ،يعلم � َّأن احلياة هي العمل ووباء العمل القنوط ،وال�سعادة هي الأمل ،ووباء الأمل الرتدد ،ويفقه � َّأن الق�ضاء والقدر هما عند اهلل ما يعلمه ومي�ضيه ،وهما عند النا�س ال�سعي والعمل ،ويوقن � َّأن ك َّل �أث ٍر على ظهر الأر�ض هو من عمل �إخوانه الب�رش ،وك َّل تعاو َر ُه غريه �إىل � ْأن كمل ،فال يتخيل الإن�سان عملٍ عظيم قد ابتد�أ به ٌ ثم َ فردَّ ، يف نف�سه عجزاً ،وال يتو َّقع �إال خرياً ،وخري اخلري للإن�سان �أن يعي�ش ُح ّراً مقدام ًا� ،أو ميوت). (وك�أنيّ ب�سائلكم ي�س�ألني تاريخ التغالب بني ال�رشق والغرب ،ف�أجيب :ب�أ َّنا ني من ثم جاء ح ٌ فقوة ،فك َّنا له �أ�سياداً! َّ ك ّنا �أرقى من الغرب علم ًا ،فنظام ًاَّ ، الدهر حلق بنا الغرب ،ف�صارت مزاحمة احلياة بيننا ِ�سجا ًالْ � :إن ُف ْقناه �شجاع ًة َّ ثم جاء ال ّزمن الأخري كلمته. باجتماع فاقنا ة ثرو قناه ف إن � و ، ا عدد فاقنا ً ُ ً ْ َّ وان�ضم �إىل ذلك �أو ًال :قوة اجتماعه فقو ًة. َّ تر ّقى فيه الغرب علم ًا ،فنظام ًاّ ،
122
قوة البارود ،حيث �أبطل ال�شجاعة وجعل العربة للعدد. �شعوب ًا كبري ًة .ثاني ًاَّ : قوة الفحم الذي �أهدته له قوة ك�شفه �أ�رسار الكيمياء وامليكانيك .رابع ًاَّ : ثالث ًاَّ : قوة الأمن على قوة الن�شاط بك�رسه قيود اال�ستبداد� .ساد�س ًاَّ : الطبيعة .خام�س ًاَّ : القوات فيه ولي�س عند ال�شرَّ ق عقد ال�رشكات املالية الكبرية .فاجتمعت هذه ّ بالدين خالف ًا حجة عليه ،والغرور ّ ما يقابلها غري االفتخار بالأ�سالف ،وذلك َّ (ح�س ُبنا اهلل ّ للدين ،فامل�سلمون يقابلون تلك القوات مبا ُيقال عند الي�أ�س وهوْ : ِ قوة ،ال من ا�ستطاعوا ما وا د ع ي أن � ب لهم آن � القر أمر � ويخالفون الوكيل)، م ع ُ ّ و ِن ْ َ َّ ٍ �صالة و�صوم. ما ا�ستطاعوا من وك�أين ب�سائلكم يقول :هل بعد اجتماع هذه القوات يف الغرب وا�ستيالئه مرتددَّ � :إن الأمر على �أكرث ال�شرَّ ق من �سبيل لنجاة البقية؟ ف�أجيب قاطع ًا غري ِّ مقدور ولع َّله مي�سور .ور�أ�س احلكمة فيه ك�رس قيود اال�ستبداد .و� ْأن يكتب النا�شئون على جباههم ع�رش كلمات ،وهي: ديني ما �أُظهر وما �أُخفي.احلق وال �أبايل. حيث يكون ُّ �أكونُ ،حراً. �أنا ٌّحر و�س�أموت ّ �أنا م�ستق ٌّل ال �أ ِّتكل على غري نف�سي وعقلي.اجلد واال�ستقبال ،ال �إن�سان املا�ضي واحلكايات. �أنا �إن�سان ّ نف�سي ومنفعتي قبل ك ِّل �شيء.تعب لذيذ. احلياة ك ُّلها ٌ الوقت غالٍ عزيز. ال�شرَّ ف يف العلم فقط. �أخاف اهلل ال �سواه.املقد�س يف القلوب، (و�أنت �أيها الوطن املحبوب� :أنت العزيز على النفو�سَّ ، تئن الأرواح� ...أيها الوطن الباكي �ضعافه :عليك حتن الأ�شباح وعليك ُّ �إليك ُّ الطغام؟ تبكي العيون ،وفيك يحلو املنون� .إىل متى يعبث خاللك اللئام ّ يظلمون بنيك ويذ ُّلون ذويك .يطاردون �أجنالك الأحباب ومي�سكون على الديار؟. امل�ساكني ُّ ويقفرون ّ الطرق والأبوابُ ،يخرجون العمران ُ �أيها الوطن العزيز :هل �ضاعت رحابك عن �أوالدك؟ �أم �ضاقت �أح�ضانك
123
اال�ستبداد والرت ِّقي
عن �أفالذك؟ ...كال� ،إنمَّ ا فقدت الأُباة ،فقدت احلُماة ،فقدت الأحرار� .أيها الوطن ولكن ،دموع بناتك والدماء؟ ْ امللتهب ف�ؤاده� :أما رويت من ُ�سقيا الدموع ِّ الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء ،ال دموع النادمني وال دماء الظاملني� .أال الب ْل ِه اخلاملني ،وال حتزن ،فما هم كرائم ًا فا�رشب هنيئ ًا وال ت�أ�سف على ُ هن كرائم ًا باكيات حمم�سات ،ولي�سوا هم كرام ًا �أع َّزة �شهداء، ل�س َن َّ وكرام ًاْ ، احلر الغيور ،ق َّل فيهم من يقول �إنمَّ ا هم -غفر اهلل لهم -من علمت ،ق َّل فيهم ُّ �أنا ال �أخاف الظاملني. �أيها الوطن احلنونَ :ك َّو َن اهلل عنا�رص �أج�سامنا منك ،وجعل الأمهات حوا�ضن ،ورزقنا الغذاء منك ،وجعل املر�ضعات جمهزات ،نعم ،خلقنا اهلل منك يحق لكفي �رشع الطبيعة َّ حتن على �أفالذك .كما ّ حتب �أجزاءك و�أن َّ فحق لك �أن َّ حبك ،الذي ي�ؤذيك وال يواليك ،ويزاحم حتب الأجنبي الذي ي�أبى طبعه َّ � ْأن ال َّ بنيك عليك وي�شاركهم فيك ،وينقل �إىل �أر�ضه ما يف جوفك من نفي�س العنا�رص وكنوز املعادن ،فيفقرك ليغني وطنه ،وال لوم عليه ،بل بارك اهلل فيه!). وعدة الغد ،هذا خطابي �إليكم فيما هو قوم :جعلكم اهلل خرية اليوم َّ (يا ُ الرت ّقي وما هو االنحطاط ،ف�إن وعيتم ولو �شذرات ،فيا ب�رشاي وال�سالم عليكم، الرفاه ال�سالم). و�إال فيما �ضياع الأنف�س ،وعلى َّ اال�ستبداد الذي يبلغ يف االنحطاط بال َّأمة �إىل غاية �أن متوت ،وميوت هو معها ،كثري ال�شواهد يف قدمي الزمان وحديثه� ،أما بلوغ الرت ّقي بالأمم �إىل ال�سامية التي تليق بالإن�سانية ،فهذا مل ي�سمح الزمان ح َّتى املرتبة الق�صوى ّ الآن ب� َّأم ٍة ت�صلح مثا ًال له ،لأ َّنه �إىل الآن مل توجد � َّأمة حكمت نف�سها بر�أيها بنوع نوع من اال�ستبداد ولو با�سم الوقار واالحرتام� ،أو ٍ العام ُحكم ًا ال ي�شوبه ً ال�شقاق الديني �أو اجلن�سي بني النا�س. من الإغفال ولو ببذر ِّ فك� َّأن احلكمة الإلهية مل تزل ترى الب�رش غري مت� ِّأهلني لنوال �سعادة الأخوة العمومية بالتحابب بني الأفراد ،والقناعة بامل�ساواة احلقوقية بني الطبقات. نعمُ ،وجد للرت ّقي القريب من الكمال بع�ض �أمثال قليلة يف القرون الغابرة، املتقطعة كاجلمهورية الثانية للرومان ،وكعهد اخللفاء الرا�شدين ،وكالأزمنة ِّ املنظمني ال الفاحتني مثل �أنو�رشوان وعبد امللك الأموي يف عهد امللوك ّ ال�شهيد وبطر�س الكبري .وكبع�ض اجلمهوريات ال�صغرية واملمالك ونور الدين َّ
124
املو َّفقة لأحكام التقييد املوجودة يف هذا ال َّزمان .و�إنيّ �أقت�رص على و�صف منتهى الرت ّقي الذي و�صلت �إليه تلك الأمم و�صف ًا �إجمالي ًا ،واترك للمطالع �أن يوازنها ويقي�س عليها درجات �سائر الأمم. ورمبا ي�سرتيب يف ذلك املطالع املولود يف �أر�ض اال�ستبداد ،الذي مل يدر�س �أحوال الأمم يف الوجود ،وال عتب عليه ف�إ َّنه كاملولود �أعمى ال ُيدرك للمناظر البهية معنى. قد بلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي يف ظالل احلكومات العادلة ،ل ْأن يعي�ش الإن�سان املعي�شة التي ت�شبه يف بع�ض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل ال�سعادة يف اجلنان .حتى � َّإن ك ًّل ٍ خالد بقومه ووطنه ،وك�أنه فرد يعي�ش ك�أنه ٌ ني على ك ِّل مطلب ،فال هو يكلِّف احلكومة �شطط ًا وال هي تهمله ا�ستحقاراً: �أم ٌ ني على ال�سالمة يف ج�سمه وحياته بحرا�سة احلكومة التي ال � 1أم ٌتغفل عن حمافظته بك ِّل قوتها يف ح�رضه و�سفره بدون �أن ي�شعر بثقل قيامها عليه ،فهي حتيط به �إحاطة الهواء ،ال �إحاطة ال�سور يلطمه كيفما التفت �أو �سار. ني على املل َّذات اجل�سمية والفكرية باعتناء احلكومة يف ال�ش�ؤون � 2أم ٌالعامة ،املتعلِّقة بالرتوي�ضات اجل�سمية والنظرية والعقلية حتى يرى � َّأن الطرقات امل�سهلة ،والتزيينات البلدية ،واملتن َّزهات ،واملنتديات ،واملدار�س، واملجامع ،ونحو ذلك ،قد ُوجِ دت ك ُّلها لأجل مل ّذاته ،ويعترب م�شاركة النا�س له فيها لأجل �إح�سانه ،فهو بهذا النظر واالعتبار ال ينق�ص عن �أغنى النا�س �سعاد ًة. ني على احلرية ،ك�أ َّنه ُخ ِلق وحده على �سطح هذه الأر�ض ،فال � 3أم ٌيخ�ص �شخ�صه من دينٍ وفك ٍر وعملٍ و�أمل. يعار�ضه معار�ض فيما ُّ �سلطان عزيز ،فال ممانع له وال معاك�س يف ني على النفوذ ،ك�أ َّنه ٌ � 4أم ٌتنفيذ مقا�صده النافعة يف الأمة التي هو منها. املزية ،ك�أ َّنه يف � َّأم ٍة ي�ساوي جميع �أفرادها منزل ًة و�رشف ًا � 5أم ٌني على ّ مبزية �سلطان أحد عليه� ،إال وقو ًة ،فال يف�ضل هو على �أحد وال يف�ضل � ٌ ّ الف�ضيلة فقط. ني على العدل ،ك�أ َّنه القاب�ض على ميزان احلقوق ،فال يخاف � 6-أم ٌ
125
اال�ستبداد والرت ِّقي
ا�ستحق �أن املثمن فال يحذر بخ�س ًا ،وهو املطمئن على �أ َّنه �إذا تطفيف ًا ،وهو َّ ّ يكون ملك ًا �صار ملك ًا ،و�إذا جنة جناي ًة نال جزاءه ال حمالة. ني على املال وامللك ،ك� َّأن ما �أحرزه بوجهه امل�رشوع قلي ًال كان � 7أم ٌ�أو كثرياً ،قد خلقه اهلل لأجله فال يخاف عليه ،كما �أ َّنه تقلع عينه � ْإن نظر �إىل مال غريه. ني على ال�رشف ب�ضمان القانون ،بن�رصة الأمة ،ببذل الدم ،فال � 8أم ٌيرى حتقرياً �إال لدى وجدانه ،وال يعرف طمع ًا ملرارة ال ُذ ِّل والهوان. �أما الأ�سري -وال �أُحزن املطالع بو�صف حالته -ف�أكتفي بالقول� :إ َّنه ال ميلك وال نف�سه ،وغري �أمنيٍ حتى على عظامه يف رم�سه� ،إذا وقع نظره على مر من قرب �إحدى ِّ امل�ستبد �أو �أحد من جماعته على كرثتهم َّ يتعوذ باهلل ،و�إذا َّ ربَّ � ،إن هذا الدار ،بئ�س دوائر حكومته �أ�رسع وهو يكرر قوله( :حمايتك يا ّ كل من فيها �إما ذابح �أو مذبوحَّ � .إن هذه الدار كالكنيف الدار ،هي كاملجزرة ُّ ال يدخله �إال امل�ضطر). وقد يبلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي مع الرتكيب بالعائلة والع�شرية، �أن يعي�ش الإن�سان معترباً نف�سه من وجه غني ًا عن العاملني ،ومن وجه ع�ضواً ثم الب�رش. حقيقي ًا من ٍ ثم ال َّأمةَّ ، حي هو العائلةَّ ، ج�سم ٍّ وينظر �إىل انق�سام الب�رش �إىل �أمم ،ثم �إىل عائالت ،ثم �إىل �أفراد ،وهو من ُ قبيل انق�سام املمالك �إىل مدنٍ ،وهي �إىل بيوت ،وهي �إىل مرافق ،وكما �أ َّنه ال ٍ ي�ستحق الهدم، وظيفة معينة ي�صلح لها و�إال كان بنا�ؤه عبث ًا بد لك ِّل مرفقٍ من ّ َّ يعد ك ّل منهم نف�سه لوظيفة يف قيام حياة عائلته أن � بد ال إن�سان ل ا أفراد � كذلك َّ َّ ثم حياة قومه ثاني ًا. �أو ًالَّ ، ولهذا يكون الع�ضو الذي ال ي�صلح لوظيفة� ،أو ال يقوم مبا ي�صلح له ،حقرياً ي�ستحق طبيعي، وكل من يريد �أن يعي�ش َك ًّال على غريه ،ال عن عج ٍز مهان ًاُّ . ُّ ٍّ الظفر ي�ستحقان كالدرن يف اجل�سم �أو كالزائد من ُّ املوت ال ال�شفقة ،لأن َّه َّ حرمت ال�رشائع ال�سماوية املالهي التي لي�س الإخراج والقطع ،ولهذا املعنى َّ والربا وال�س ْكر ِّ فيها تروي�ضُّ ، املعطل عن العمل عق ًال وج�سم ًا ،واملقامرة ِّ احلجام لأنهما لي�سا من نوع العمل والتبادل فيه .وقد َّ ف�ضل اهلل الك َّنا�س على َّ ال�شعر ،ل َّأن �صنعتهما �أنفع للجمهور. و�صانع اخلبز على ناظم ِّ
126
كل ٍ فرد من ال َّأمة مالك ًا وقد يبلغ تر ّقي الرتكيب يف الأمم درجة � ْأن ي�صري ُّ كل ٍ فرد منها م�ستعداً لنف�سه متام ًا ،ومملوك ًا لقومه متام ًا .فال َّأمة التي يكون ُّ بحجة هذا اال�ستعداد يف الأفراد، الفتدائها بروحه ومباله ،ت�صري تلك ال َّأمة َّ غنية عن �أرواحهم و�أموالهم. يتميز على باقي �أنواع الرت ّقيات ال�سالفة الرت ّقي يف القوة بالعلم واملال َّ متيز الر�أ�س على باقي �أع�ضاء اجل�سم ،فكما � َّأن الر�أ�س ب�إحرازه مركزية البيان ّ متيز على باقي الأع�ضاء وا�ستخدمها يف العقل ،ومركزية �أكرث احلوا�سّ ، حاجاته ،فكذلك احلكومات املنتظمة يرت ّقى �أفرادها وجمموعها يف العلم انحط بها �سلطان طبيعي على الأفراد �أو الأمم التي والرثوة ،فيكون لهم َّ ٌ اال�ستبداد امل�ش�ؤوم �إىل ح�ضي�ض اجلهل والفقر. بقي علينا بحث الرت ّقي يف الكماالت باخل�صال والأثرة ،وبحث الرت ّقي الذي يتعلق بالروح� ،أي مبا وراء هذه احلياة ،ويرقى �إليه الإن�سان على ُ�س َّلم الرحمة واحل�سنات ،فهذه �أبحاث طويلة الذيل ،ومنابعها حكميات الكتب َّ ومدونات الأخالق ،وتراجم م�شاهري الأمم. ال�سماوية ِّ و�أكتفي بالقول يف هذا النوع� :إ َّنه يبلغ بالإن�سان مرتبة �أن ال يرى حلياته ثم �أمنه على ثم امتالك حريتهَّ ، فيهمه �أم ًال :حياة � ِّأمهَّ ، �أهمية �إال بعد درجاتّ ، وثم ...وقد ثمَّ ، ثم مالهَّ ، ثم وقايته حياتهَّ ، ثم حمافظته على عائلتهَّ ، �رشفهَّ ، ت�شمل �إح�سا�ساته عامل الإن�سانية كلِّه ،ك� َّأن قومه الب�رش ال قبيلته ،ووطنه يتقيد بجدران بيت خم�صو�ص الأر�ض ال بلده ،وم�سكنه ،حيث يجد راحته ،ال َّ ي�سترت فيه ويفتخر به كما هو �ش�أن الأُ�رساء. وقد يرت َّفع الإن�سان عن الإمارة ملا فيها من معنى الكرب ،وعن ال ِّتجارة ثم ثم املطرقةَّ ، ملا فيها من التمويه والتب ّذل ،فريى ال�رشف يف املحراثَّ ، القلم ،ويرى الل َّذة يف التجديد واالخرتاع ،ال يف املحافظة على العتيق ،ك� َّأن له وظيفة يف تر ّقي جمموع الب�رش. جدها لتبديد ا�ستبدادها ،تنال وخال�صة القولَّ � :إن الأمم التي ُي�سعدها ّ ُ احل�سي واملعنوي ما ال يخطر على فكر �أ�رساء اال�ستبداد .فهذه من ال�شرَّ ف ّ برمتها ،مكتفي ًة يف نفقاتها بنماء فوائد بلجيكا �أبطلت التكاليف الأمريية َّ حمبو�س بنك احلكومة .وهذه �سوي�رسا ي�صادفها كثرياً �أن ال يوجد يف �سجونها ٌ
127
اال�ستبداد والرت ِّقي
واحد .وهذه �أمريكا �أثرت حتى كادت تخرج الف�ضة من مقام النقد �إىل مقام املتاع .وهذه اليابان �أ�صبحت ت�ستنزف قناطري الذهب من �أوروبا و�أمريكا ثمن امتيازات اخرتاعاتها وطبع تراجم م�ؤ َّلفاتها. حظ ًا من املل َّذات احلقيقية ،التي ال تخطر على فكر وقد تنال تلك الأمم ّ الأُ�رساء ،كل َّذة العلم وتعليمه ،ول َّذة املجد واحلماية ،ول َّذة الإثراء والبذل ،ول َّذة احلب الطاهر� ،إىل �إحراز االحرتام يف القلوب ،ول َّذة نفوذ الر�أي ال�صائب ،ول َّذة ِّ غري هذه املل َّذات الروحية .و� َّأما الأ�رساء واجلهالء فمل َّذاتهم مق�صورة على م�شاركة الوحو�ش ال�ضارية يف املطاعم وامل�شارب وا�ستفراغ ال�شهور ،ك� َّأن �أج�سامهم ظروف تمُلأ و ُتفرغ� ،أو هي دمامل تولد ال�صديد وتدفعه. و�أنفع ما بلغه الرت ّقي يف الب�رش ،هو �إحكامهم �أ�صول احلكومات املنتظمة �سداً متين ًا يف وجه اال�ستبداد ،واال�ستبداد جرثومة ك ِّل ف�ساد ،وبجعلهم ببنائهم ّ �أ ّال قوة وال نفوذ فوق قوة ال�شرَّ ع ،وال�شرَّ ع هو حبل اهلل املتني .وبجعلهم قوة الت�رشيع يف يد ال َّأمة ،وال َّأمة ال جتتمع على �ضالل .وبجعلهم املحاكم َّ ال�سواء ،فتحاكي يف عدالتها الكربى الإلهية. على علوك وال�ص لطان ال�س حتاكم ُّ َّ ُّ تعدي حدود وظائفهم ،ك�أنهم مالئكة ال على لهم �سبيل ال العمال وبجعلهم ّ يع�صون �أمراً ،وبجعلهم ال َّأمة يقظة �ساهرة على مراقبة �سري حكومتها ،ال عما يفعل الظاملون. تغفل طرفة عني ،كما � َّأن اهلل -ع َّز وج ّل -ال يغفل َّ هذا مبلغ الرت ّقي الذي و�صلت �إليه الأمم منذ ُعرِف التاريخ ،على �أ َّنه مل عما كانوا عليه يقم دليل �إىل الآن على تر ّقي الب�رش يف ال�سعادة احليوية ّ يف الع�صور اخلالية حتى احلجرية ،ح ّتى منذ كانوا عرا ًة ي�رسحون �أ�رساب ًا، تدل على �أكرث من تر ّقي العلم والعمران ،وهما �آلتان والآثار امل�شهودة ال ُّ كما ي�صلحان للإ�سعاد ،ي�صلحان للإ�شقاء ،وتر ِّقيها هو من ُ�س َّنة الكون التي �أرادها اهلل تعاىل لهذه الأر�ض وبنيها ،وو�صف لنا ما �سيبلغ �إليه تر ّقي زينتها وظن واقتدار �أهلها بقوله ع َّز �ش�أنه« :حتى �إذا �أخذت الأر�ض ُزخرفها وا َّزينت َّ �أهلها �أنهم قادرون عليها �أتاها �أمرنا لي ًال �أو نهاراً فجعلناها ح�صيداً ك�أن يدل على � َّأن الدنيا وبنيها مل يزاال يف مقتبل الرت ّقي، مل َت ْغ َن بالأم�س» .وهذا ُّ وال يعار�ض هذا � َّأن ما م�ضى من عمرها هو �أكرث مما بقي ح�سبما �أخربت به �شيء �آخر. الكتب ال�سماوية ،ل َّأن العمر �شيء ،والرت ّقي ٌ
128
اال�ستبداد والتخلُّ�ص منه لي�س لنا مدر�سة �أعظم من التاريخ الطبيعي ،وال برهان �أقوى من اال�ستقراء، ت�سمى (دور من َّ تتبعهما يرى � َّأن الإن�سان عا�ش دهراً طوي ًال يف حالة طبيعية َّ يتجول حول املياه �أ�رساب ًا جتمعه حاجة احل�ضانة �صغرياً، االفرتا�س) ،فكان َّ وق�صد اال�ستئنا�س كبرياً ،ويعتمد يف رزقه على النبات الطبيعي وافرتا�س الرب والبحر ،وت�سو�سه الإرادة فقط ،ويقوده من بنيته �ضعاف احليوان يف ِّ حيث يكرث الرزق. �أقوى �إىل ُ ت�سمى (دور االقتناء): ثم تر َّقى الكثري من الإن�سان �إىل احلالة البدوية التي ّ فكان ع�شائر وقبائل ،يعتمد يف رزقه على ِّادخار الفرائ�س �إىل حني احلاجة، ف�صارت جتمعه حاجة التح ُّفظ على املال العام والأنعام ،وحماية امل�ستودعات ثم انتقل -وال ُيقال تر ّقى -ق�سم كبري من واملراعي واملياه من املزاحمنيَّ ، الإن�سان �إىل املعي�شة احل�رضية :ف�سكن القرى ي�ستنبت الأر�ض اخل�صبة يف تعدى معا�شه ،ف�أخ�صب ،ولكن ،يف ال�شقاء ،ولع َّله َّ ا�ستحق ذلك بفعله ،لأ َّنه َّ ف�سكن، جوا ًال ،ي�سري يف الأر�ض ،ينظر �آالء اهلل، َ حراً َّ قانون اخلالق ،ف�إ َّنه خلقه ّ و�سكن �إىل اجلهل وال ُّذ ّل ،وخلق اهلل الأر�ض مباح ًة ،فا�ست�أثر بها ،ف�س َّلط اهلل عليه من يغ�صبها منه وي�أ�رسه .وهذا الق�سم يعي�ش بال جامعة ،حتكمه �أهواء �أهل املدن وقانونه� :أن يكون ظامل ًا �أو مظلوم ًا.
129
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
ال�صناع ،و� َّإما ثم تر ّقى ق�سم من الإن�سان �إىل ُّ الت�رصف � ّإما يف املادة وهم ُّ َّ املت�رصفون هم �سكان ؤالء � وه والعلوم. املعارف أهل � وهم النظريات يف ِّ املدن الذين هم � ْإن �سجنوا �أج�سامهم بني اجلدران ،لكنهم �أطلقوا عقولهم يف ولكن �أكرثهم مل تو�سعوا يف احلاجاتَّ ، الرزق كما َّ الأكوان ،وهم قد َّ تو�سعوا يف ِّ يهتدوا حتى الآن للطريق املثلى يف �سيا�سة اجلمعيات الكربى .وهذا هو �سبب كل تنوع �أ�شكال احلكومات وعدم ا�ستقرار � َّأم ٍة على �شكل ُم ٍ ر�ض عام� .إنمَّ ا ُّ ُّ الأمم يف تق ّل ٍ بات �سيا�سية على �سبيل التجريب ،وبح�سب تغ ّلب �أحزاب االجتهاد �أو رجال اال�ستبداد. وتقرير �شكل احلكومة هو �أعظم و�أقدم م�شكلة يف الب�رش ،وهو املعرتك الأكرب لأفكار الباحثني ،وامليدان الذي ق َّل يف الب�رش من ال يجول فيه على فيل من الفكر� ،أو على جملٍ من اجلهل� ،أو على ٍ فر�س من الفرا�سة� ،أو على حمارٍ من احل ُْمق ،حتى جاء الزمن الأخري فجال فيه �إن�سان الغرب جولة املغوار املمتطي يف التدقيق مراكب البخار .فقرر بع�ض قواعد �أ�سا�سية يف هذا الباب احلق اليقني ،ف�صارت ُت َع ُّد ت�ضافر عليها العقل والتجريب ،وح�صح�ص فيها ّ من املقررات االجتماعية عند الأمم املرتقية ،وال يعار�ض ذلك كون الأمم مل تزل �أي�ض ًا منق�سمة �إىل �أحزاب �سيا�سية يختلفون �شيع ًا ،ل َّأن اختالفهم هو يف وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على �أحوالهم اخل�صو�صية. وهذه القواعد التي قد �صارت ق�ضايا بديهية يف الغرب ،مل تزل جمهولة �أو غريبة� ،أو منفوراً منها يف ال�رشق ،لأ َّنها عند الأكرثين منهم مل تطرق �سمعهم، وعند البع�ض مل تنل التفاتهم وتدقيقهم ،وعند �آخرين مل حتز قبو ًال ،لأ َّنهم ذوو غر�ض� ،أو م�رسوقة قلوبهم� ،أو يف قلوبهم مر�ض. و�إنيّ �أطرح لتدقيق املطالعني ر�ؤو�س م�سائل بع�ض املباحث التي تتع َّلق بها احلياة ال�سيا�سية .وقبل ذلك �أذ ِّكرهم ب�أ َّنه قد �سبق يف تعريف اال�ستبداد ب�أ َّنه( :هو احلكومة التي ال يوجد بينها وبني ال َّأمة رابطة معينة معلومة م�صونة بقانون نافذ احلكم) .كما �أ�ستلفت نظرهم �إىل �أ َّنه ال يوثق بوعد من ال�سلطة �أي ًا كان ،وال بعهده وميينه على مراعاة الدين ،والتقوى ،واحلق، يتوىل ُّ وال�رشف ،والعدالة ،ومقت�ضيات امل�صلحة العامة ،و�أمثال ذلك من الق�ضايا بر وفاجر .وما هي يف احلقيقة �إال الكلية املبهمة التي تدور على ل�سان ك ِّل ٍّ
130
كالم مبهم فارغ ،ل َّأن املجرم ال يعدم ت�أوي ًال ،ول َّأن من طبيعة القوة االعت�ساف، ٌ ول َّأن القوة ال ُتقابل �إال بالقوة. ثم فلرنجع للمباحث التي �أريد طرحها لتدقيق املطالعني ،وهي: َّ ال�شعب؟): 1مبحث (ما هي ال َّأمة� ،أي ٍَّ ٍ ملالك متغلِّب ،وظيفتهم عبيد ركام هل هي خملوقات نامية� ،أو جمعيةٌ ، ُ جمع بينهم روابط دين �أو جن�س �أو لغة، الطاعة واالنقياد ولو ُكره ًا؟ �أم هي ٌ ووطن ،وحقوق م�شرتكة ،وجامعة �سيا�سية اختيارية ،لك ِّل ٍ حق �إ�شهار فرد ُّ ر�أيه فيها توفيق ًا للقاعدة الإ�سالمية التي هي �أ�سمى و�أبلغ قاعدة �سيا�سية، رعيته). راع ،وك ُّلكم م�س� ٌ وهي( :ك ُّلكم ٍ ؤول عن ِّ 2مبحث (ما هي احلكومة):يت�رصف يف رقابهم ،ويتم َّتع ب�أعمالهم هل هي �سلطة امتالك فرد جلمع، َّ ويفعل ب�إرادته ما ي�شاء؟ �أم هي وكالة ُتقام ب�إرادة ال َّأمة لأجل �إدارة �ش�ؤونها امل�شرتكة العمومية؟. 3مبحث (ما هي احلقوق العمومية؟):هل هي �آحاد امللوك ،ولكنها ُت�ضاف للأمم جمازاً؟ �أم بالعك�س ،هي حقوق جموع الأمم ،و ُت�ضاف للملوك جمازاً ،ولهم عليها والية الأمانة وال ّنظارة على مثل الأرا�ضي واملعادن ،والأنهر وال�سواحل ،والقالع واملعابد ،والأ�ساطيل واملعدات ،ووالية احلدود ،واحلرا�سة على مثل الأمن العام ،والعدل والنظام، وحفظ و�صيانة الدين والآداب ،والقوانني واملعاهدات واالتجِّ ار� ،إىل غري ذلك يحق لك ِّل ٍ فرد من ال َّأمة �أن يتمتع به و� ْأن يطمئن عليه؟ مما ُّ 4مبحث (الت�ساوي يف احلقوق):هل للحكومة الت�صرّ ف يف احلقوق العامة املادية والأدبية كما ت�شاء بذ ًال وحرمان ًا؟ �أم تكون احلقوق حمفوظة للجميع على الت�ساوي وال�شيوع،
131
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
وتكون املغامن واملغارم العمومية مو َّزعة على الف�صائل والبلدان وال�صنوف ٍ حق اال�ستن�صاف؟ والأديان بن�سبة عادلة ،ويكون الأفراد مت�ساوين يف ِّ 5مبحث (احلقوق ال�شخ�صية):هل احلكومة متلك ال�سيطرة على الأعمال والأفكار؟ �أم �أفراد الأمة �أحرار يف الفكر مطلق ًا ،ويف الفعل ما مل يخالف القانون االجتماعي ،لأ َّنهم �أدرى مبنافعهم ال�شخ�صية ،واحلكومة ال تتداخل �إال يف ال�ش�ؤون العمومية؟ 6مبحث (نوعية احلكومة):املقيدة؟ وما هل الأ�صلح هي امللكية املطلقة من ك ِّل زمام؟ �أم امللكية َّ هي القيود؟ �أم الرئا�سة االنتخابية الدائمة مع احلياة� ،أو امل�ؤ َّقتة �إىل �أجل؟ وهل ُتنال احلاكمية بالوراثة� ،أو العهد� ،أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما ت�شاء ال�صدفة� ،أم مع وجود �رشائط الكفاءة ،وما هي تلك ال�رشائط؟ وكيف ي�صري ّ ت�ستمر املراقبة عليها؟. وكيف ا�ستمرارها؟ يراقب وكيف وجودها؟ حتقيق ُّ 7مبحث (ما هي وظائف احلكومة؟):مقيدة بقانون هل هي �إدارة �ش�ؤون الأمة ح�سب الر�أي واالجتهاد؟ �أم تكون َّ موافق لرغائب الأمة و� ْإن خالف الأ�صلح؟ و�إذا اختلفت احلكومة مع ال َّأمة يف وامل�رض ،فهل على احلكومة �أن تعتزل الوظيفة؟ اعتبار ال�صالح ّ 8مبحث (حقوق احلاكمية):تخ�ص�ص بنف�سها لنف�سها ما ت�شاء من مراتب العظمة، هل للحكومة �أن ِّ ورواتب املال ،وحتابي من تريد مبا ت�شاء من حقوق الأمة و�أموالها؟ �أم يكون إعطاء وحتديداً ومنع ًا منوط ًا بالأمة؟ ال َّت�رصف يف ذلك كلِّه � ً 9مبحث (طاعة الأمة للحكومة):هل الإرادة لل َّأمة ،وعلى احلكومة العمل؟ �أم الإرادة للحكومة وعلى ال َّأمة الطاعة؟ وهل للحكومة تكليف ال َّأمة طاع ًة عمياء بال فهم وال اقتناع؟ �أم
132
عليها االعتناء بو�سائل التفهيم والإذعان لتت�أ َّتى الطاعة ب�إخال�ص و�أمانة؟ 10مبحث توزيع التكليفات:تقرر النفقات هل يكون و�ضع ال�رضائب َّ مفو�ض ًا لر�أي احلكومة؟ �أم ال َّأمة ِّ الالزمة وتعينِّ موارد املال ،و ُتر ِّتب طرائق جبايته وحفظه؟. مل َنعة): 11مبحث (�إعداد ا َهل يكون �إعداد القوة بالتجنيد والت�سليح ا�ستعداداً للدفاع مفو�ض ًا لإرادة احلكومة �إهما ًال� ،أو �إقال ًال� ،أو �إكثاراً� ،أو ا�ستعما ًال على قهر ال َّأمة؟ �أم يلزم �أن يكون ذلك بر�أي ال َّأمة وحتت �أمرها ،بحيث تكون القوة من ِّفذة رغبة الأمة ال رغبة احلكومة؟ 12مبحث (املراقبة على احلكومة):حق ال�سيطرة عليها، هل تكون احلكومة ال ُت�س�أل عما تفعل؟ �أم يكون للأمة ُّ االطالع على ك ِّل �شيء، حق ِّ ل َّأن ال�ش�أن �ش�أنها ،فلها �أن ُتنبت عنها وكالء لهم ُّ وتوجيه امل�س�ؤولية على � ٍّأي كان ،ويكون �أهم وظائف النواب حفظ احلقوق الأ�سا�سية املقررة للأمة على احلكومة؟ 13مبحث (حفظ الأمن العام):هل يكون ال�شخ�ص مك َّلف ًا بحرا�سة نف�سه ومتع َّلقاته؟ �أم تكون احلكومة مك َّلفة بحرا�سته مقيم ًا وم�سافراً حتى من بع�ض طوارئ الطبيعة باحليلولة ال باملجازاة والتعوي�ض؟ ال�سلطة يف القانون): 14مبحث (حفظ ّهل يكون للحكومة �إيقاع عمل �إكراهي على الأفراد بر�أيها� ،أي بدون ال�سلطة منح�رصة يف القانون� ،إال يف ظروف الو�سائط القانونية؟ �أم تكون ُّ خم�صو�صة وم�ؤ َّقتة؟ 15-مبحث (ت�أمني العدالة الق�ضائية):
133
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
هل يكون العدل ما تراه احلكومة؟ �أم ما يراه الق�ضاة امل�صون وجدانهم ٍ �ضغط حتى �ضغط الر�أي العام؟ من ك ِّل م�ؤ ِّثر غري ال�رشع واحلق ،ومن ك ِّل 16مبحث (حفظ الدين والآداب):هل يكون للحكومة -ولو الق�ضائية� -سلطة و�سيطرة على العقائد وال�ضمائر؟ �أم تقت�رص وظيفتها يف حفظ اجلامعات الكربى كالدين ،واجلن�سية، واللغة ،والعادات ،والآداب العمومية على ا�ستعمال احلكمة ما �أغنت الزواجر، وال تتداخل احلكومة يف �أمر الدين ما مل ُتن َت َهك حرمته؟ وهل ال�سيا�سة الإ�سالمية �سيا�سة دينية؟ �أم كان ذلك يف مبد�أ ظهور الإ�سالم ،كالإدارة العرفية عقب الفتح؟ 17مبحث (تعيني الأعمال بالقوانني):هل يكون يف احلكومة -من احلاكم �إىل البولي�س -من ُيط َلق له عنان كلياتها وجزئياتها، ال َّت�رصف بر�أيه وخربته؟ �أم يلزم تعيني الوظائفّ ، بقوانني �رصيحة وا�ضحة ،ال ت�سوغ خمالفتها ولو مل�صلحة مهمة� ،إال يف حاالت اخلطر الكبري؟ 18مبحث (كيف تو�ضع القوانني؟):هل يكون و�ضعها منوط ًا بر�أي احلاكم الأكرب� ،أو ر�أي جماعة ينتخبهم منتخب من قبل الكا ّفة ليكونوا عارفني حتم ًا جمع لذلك؟ �أم ي�ضع القوانني ٌ ٌ بحاجات قومهم وما ُيالئم طبائعهم ومواقعهم و�صواحلهم ،ويكون حكمه عام ًا �أو خمتلف ًا على ح�سب تخالف العنا�رص والطبائع وتغري املوجبات والأزمان؟ وقوته؟): 19مبحث (ما هو القانون َّيحتج بها القوي على ال�ضعيف؟ �أم هو �أحكام هل القانون هو �أحكام ُّ ومالحظ فيها طبائع �أكرثية الأفراد، منتزعة من روابط النا�س بع�ضهم ببع�ض، ٌ ومن ن�صو�ص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها �شامل ك ّل الطبقات ،ولها
134
�سلطان نافذ قاهر م�صون من م�ؤ ِّثرات الأغرا�ض ،وال�شفاعة ،وال�شفقة ،وبذلك يكون القانون هو القانون الطبيعي لل َّأمة فيكون حمرتم ًا عند الكا ّفة ،م�ضمون احلماية من ِق َبل �أفراد الأمة؟ 20مبحث (توزيع الأعمال والوظائف):ومقربيه؟ �أم هل يكون ُّ احلظ يف ذلك خم�صو�ص ًا ب�أقارب احلاكم وع�شريته َّ العامة على كا َّفة القبائل والف�صائل ،ولو مناوبة مع تو َّزع كتوزيع احلقوق َّ مالحظات الأهمية والعدد ،بحيث يكون رجال احلكومة �أمنوذج ًا من ال َّأمة، �أو هم ال َّأمة م�ص َّغرة ،وعلى احلكومة �إيجاد الكفاءة والأعداد ولو بالتعليم الإجباري؟ ال�سلطات ال�سيا�سية والدينية والتعليم): 21مبحث (التفريق بني ّكل وظيفة هل ُيجمع بني �سلطتني �أو ثالث يف ٍ خ�ص�ص ُّ �شخ�ص واحد؟ �أم ُت َّ من ال�سيا�سة والدين والتعليم مبن يقوم ب�إتقان ،وال �إتقان �إال باالخت�صا�ص، ويف االخت�صا�ص ،كما جاء يف احلكمة القر�آنية« :ما جعل ا ُ هلل لرجلٍ قلبني يف جوفه» ،ولذلك ال يجوز اجلمع منع ًا ال�ستفحال ال�سلطة. 22مبحث (الرت ّقي يف العلوم واملعارف):ال�ضغط على العقول كي يقوى نفوذ ال َّأمة رتك للحكومة �صالحية َّ هل ُي َ عليها؟ �أم تحُ مل على تو�سيع املعارف بجعل التعليم االبتدائي عمومي ًا بالت�شويق والإجبار ،وبجعل الكمايل �سه ًال للمتناول ،وجعل التعليم والتع ُّلم حراً مطلق ًا؟ ّ (التو�سع يف الزراعة وال�صنائع والتجارة): 23مبحثُّ هل ُيرتك ذلك للن�شاط املفقود يف ال َّأمة؟ �أم تلزم احلكومة باالجتهاد يف ال�سائرة ،وال �سيما املزاحمة واملجاورة ،كيال تهلك ت�سهيل م�ضاهاة الأمم َّ ال َّأمة باحلاجة لغريها �أو ت�ضعف بالفقر؟ (ال�سعي يف العمران): 24-مبحث َّ
135
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
ال�سكان� ،أو النهماكها هل ُيرتك ذلك لإهمال احلكومة املميت لع َّزة نف�س ُّ فيه �إ�رساف ًا وتبذيراً؟ �أم حتمل على ا ِّتباع االعتدال املتنا�سب مع الثورة العمومية؟ (ال�سعي يف رفع اال�ستبداد): 25مبحث َّهل ُينتظر ذلك من احلكومة ذاتها؟ �أم نوال احلرية ورفع اال�ستبداد رفع ًا ال يرتك جما ًال لعودته ،من وظيفة ع َقالء الأمة و�رساتها؟ هذه خم�سة وع�رشون مبحث ًا ،ك ٌّل منها يحتاج �إىل تدقيقٍ عميق ،وتف�صيلٍ ذكرت هذه طويل ،وتطبيق على ك ِّل الأحوال واملقت�ضيات اخل�صو�صية .وقد ُ املباحث تذكر ًة لل ُك َّتاب ذوي الألباب وتن�شيط ًا لل ُّنجباء على اخلو�ض فيها برتتيب ،ا ِّتباع ًا حلكمة �إتيان البيوت من �أبوابها .و�إين �أقت�رص على بع�ض ال�سعي يف رفع الكالم فيما يتعلق باملبحث الأخري منها فقط� ،أعني مبحث َّ اال�ستبداد ،ف�أقول: احلرية. ت�ستحق ال َّأمة التي ال ي�شعر ك ُّلها �أو �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد الُّ ّ والتدرج. بال�شدة �إمنا ُيقاوم باللني يقاوم ِّ اال�ستبداد ال َُّ بدل به اال�ستبداد. يجب قبل مقاومة اال�ستبداد ،تهيئة ما ُي�س َت َوت�رس هذه قواعد رفع اال�ستبداد ،وهي قواعد ُتبعد �آمال الأ�رساء، ّ امل�ستبدين مبا امل�ستبدين ،ل َّأن ظاهرها ي�ؤم ِّنهم على ا�ستبدادهم .ولهذا �أذ ِّكر ّ ّ قوته ومزيد بعظيم امل�ستبد يفرحن (ال قال: حيث امل�شهور، الفياري �أنذرهم ُ َّ ُّ َّ جبار جبارٍ عني ٍد ُج ِّند له مظلوم �صغري) ،و�إين �أقول :كم من ّ احتياطه ،فكم ّ ٌ قهار �أخذه اهلل �أخذ عزي ٍز منتقم!. ّ ت�ستحق مبنى قاعدة كون ال َّأمة التي ال ي�شعر �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال ّ احلرية هو: ّ � َّإن ال َّأمة �إذا �ضرُ َِبت عليها ال ِّذ َّلة وامل�سكنة ،وتوالت على ذلك القرون الطباع ح�سبما �سبق تف�صيله يف الأبحاث والبطون ،ت�صري تلك ال َّأمة �سافلة ِّ ال�سالفة ،حتى �إ َّنها ت�صري كالبهائم� ،أو دون البهائم ،ال ت�س�أل عن احلرية ،وال َّ تلتم�س العدالة ،وال تعرف لال�ستقالل قيمة� ،أو للنظام مزية ،وال ترى لها يف
136
حد �سواء ،وقد احلياة وظيفة غري التابعية للغالب عليهاَ � ، أح�سن �أو �أ�ساء على ٍّ ولكن ،طلب ًا لالنتقام من �شخ�صه ال طلب ًا للخال�ص من تنقم على امل�ستبد نادراًْ ، ِّ كمغ�ص ب�صداع. اال�ستبداد ،فال ت�ستفيد �شيئ ًا� ،إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مبر�ض، ٍ تتو�سم فيه �أ َّنه �أقوى �شوك ًة من م�ستبد �آخر ب�سوق وقد تقاوم ٍّ َّ امل�ستبد َ َّ امل�ستبد الأول ،ف�إذا جنحت ال يغ�سل هذا ال�سائق يديه �إال مباء اال�ستبداد ،فال ِّ ت�ستفيد �أي�ض ًا �شيئ ًا� ،إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مزمن ًا مبر�ض حديث ،ورمبا ُتنال تهتم احلرية عفواً ،فكذلك ال ت�ستفيد منها �شيئ ًا ،لأ َّنها ال تعرف طعمها ،فال ُّ ٍ أ�شد بحفظها ،فال تلبث احلرية �أن تنقلب �إىل فو�ضى ،وهي �إىل م�شو�ش � ُّ ا�ستبداد َّ قرر احلكماء � َّأن احلرية التي تنفع ال َّأمة وط�أ ًة كاملري�ض �إذا انتك�س .ولهذاَّ ، هي التي حت�صل عليها بعد اال�ستعداد لقبولها ،و� َّأما التي حت�صل على �أثر ثورةٍ حمقاء فق ّلما تفيد �شيئ ًا ،ل َّأن الثورة -غالب ًا -تكتفي بقطع �شجرة اال�ستبداد وال تقتلع جذورها ،فال تلبث �أن تنبت وتنمو وتعود �أقوى مما كانت �أو ًال. ف�إذا ُوجِ د يف ال َّأمة امليتة من تدفعه �شهامته للأخذ بيدها والنهو�ض بها يبث فيها احلياة وهي العلم� ،أي علمها ب� َّأن حالتها �سيئة ،و�إنمَّ ا فعليه �أو ًال �أن َّ بالإمكان تبديلها بخ ٍري منها ،ف�إذا هي علمت بطبعه من الآحاد �إىل الع�رشات، بالتحم�س ويبلغ بل�سان حالها �إىل �إىل �إىل ،...حتى ي�شمل �أكرث ال َّأمة ،وينتهي ُّ املعري: منزلة قول احلكيم ّ فنحن على تغيريها ُق َدراء �إذا مل ت ُقم بالعدل فينا حكوم ٌ ة كر ال َّأمة يف ٍ واد ظاهر احلكمة ي�سري كال�سيل ،ال يرجع وهكذا ينقذف ِف ُ حتى يبلغ منتهاه. ال�شهامة� ،إمنا الأ�سف � ْأن يندر فيها من ثم � َّإن الأمم امليتة ال يندر فيها ذو َّ َّ يهتدي يف � َّأول ن�ش�أته �إىل الطريق الذي به يح�صل على املكانة التي مت ِّكنه أنبه فكر النا�شئة العزيزة � َّأن من يف م�ستقبله من نفوذ ر�أيه يف قومه .و�إنيِّ � ِّ يرى منهم يف نف�سه ا�ستعداداً للمجد احلقيقي فليحر�ص على الو�صايا الآتية البيان: � 1-أن يجهد يف ترقية معارفه مطلق ًا ال �سيما يف العلوم ال ّنافعة
137
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
االجتماعية كاحلقوق وال�سيا�سة واالقت�صاد والفل�سفة العقلية ،وتاريخ قومه اجلغرايف والطبيعي وال�سيا�سي ،والإدارة احلربية ،فيكت�سب من �أ�صول وفروع هذه الفنون ما ميكنه �إحرازه بالتل ِّقي ،و�إن تع َّذر فباملطالعة مع التدقيق. � 2أن يتقن �أحد العلوم التي تك�سبه يف قومه موقع ًا حمرتم ًا وعلمي ًاالطب. خم�صو�ص ًا ،كعلم الدين واحلقوق �أو الإن�شاء �أو ّ � 3أن يحافظ على �آداب وعادات قومه غاية املحافظة ولو � َّأن فيهابع�ض �أ�شياء �سخيفة. � 4أن يقلل اختالطه مع النا�س حتى رفقائه يف املدر�سة ،وذلك حفظ ًا�صاحب للوقار وحت ُّفظ ًا من االرتباط القوي مع �أحد كيال ي�سقط تبع ًا ل�سقوط ٍ له. كلي ًا م�صاحبة املمقوت عند النا�س ال �سيما احل ّكام ولو � 5أن يتج َّنب ّحق. كان ذلك املقت بغري ّ مزيته العلمية على الذين هم دونه يف � 6أن يجتهد ما �أمكنه يف كتم ّمزيته لبع�ض ذلك العلم لأجل �أن ي�أمن غوائل ح�سدهم� ،إمنا عليه �أن يظهر ّ ٍ بدرجات كثرية. من هم فوقه � 7أن يتخيرَّ له بع�ض من ينتمي �إليه من الطبقة العليا ،ب�رشطْ � :أنال ُيكرث الرتدد عليه ،وال ي�شاركه �ش�ؤونه ،وال يظهر له احلاجة ،ويتك َّتم يف ن�سبته �إليه. � 8أن يحر�ص على الإقالل من بيان �آرائه و�إال ي�ؤخذ عليه تبعة ر�أييراه �أو خ ٍرب يرويه. ال�صدق والأمانة � 9أن يحر�ص على �أن ُيعرف بح�سن الأخالق ،ال �سيما ّوالثبات على املبادئ. � 10أن ُيظهر ال�شفقة على ال�ضعفاء والغرية على الدين والعالقةبالوطن. امل�ستبد و�أعوانه �إال مبقدار ما � 11أن يتباعد ما �أمكنه من مقاربةّ معر�ض ًا لذلك. ي�أمن به فظائع ِّ �رشهم �إذا كان َّ �سن الثالثني فما فوق حائزاً على ال�صفات املذكورة ،يكون قد فمن يبلغ َّ أعد نف�سه على �أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد يف برهة قليلة ،وبهذه � َّ
138
ال�صفات ال ِّثقة يفعل ما ال تقوى عليه اجليو�ش والكنوز .وما ينق�صه من هذه ِّ ولكن ،قد ي�ستغني مبزيد كمال بع�ضها عن فقدان بع�ضها ُينق�ص من مكانتهْ ، ال�صفات الأخالقية قد تكفي يف بع�ض الظروف عن الآخر �أو نق�صه .كما � َّأن ِّ املت�صدي للإر�شاد ال�سيا�سي فاقد ال�صفات العلمية ك ّلها وال عك�س ،و�إذا كان ّ ال ِّثقة فقدان ًا �أ�صلي ًا �أو طارئ ًا ،ميكنه �أن ي�ستعمل غريه ممن تنق�صه اجل�سارة والهمة وال�صفات العلمية. ّ واخلال�صةَّ � :أن الراغب يف نه�ضة قومه ،عليه �أن يهيئ نف�سه ويزن ثم يعزم متو ِّك ًال على اهلل يف خلق ال َّنجاح. ا�ستعدادهَّ ، ومبنى قاعدة � َّأن اال�ستبداد ال ُيقاوم بال�شدة� ،إمنا ُيقاوم باحلكمة والتدريج الفعالة لقطع دابر اال�ستبداد هي تر ّقي ال َّأمة يف هوَّ � :أن الو�سيلة الوحيدة ّ ثم � َّإن اقتناع الإدراك والإح�سا�س ،وهذا ال يت�أتى �إال بالتعليم والتحمي�سَّ . الفكر العام و�إذعانه �إىل غري م�ألوفه ،ال يت�أ ّتى �إال يف زمنٍ طويل ،ل َّأن العوام مهما تر ّقوا يف الإدراك ال ي�سمحون با�ستبدال الق�شعريرة بالعافية �إال بعد الترّ وي املديد ،ورمبا كانوا معذورين يف عدم الوثوق وامل�سارعة ،لأ َّنهم �أ ِلفوا الغ�ش واخلداع غالب ًا .ولهذا كثرياً ما والدعاة �إال ّ �أن ال يتوقعوا من الر�ؤ�ساء ُّ امل�ستبد الأعظم �إذا كان يقهر معهم بال�سوية الر�ؤ�ساء والأ�رشاف، يحب الأُ�رساء َّ ّ ُ امل�ستبد ب�سوء ،لأ َّنهم ون مي�س وال فقط أعوان ل ا من �رساء ل أ ا ينتقم ما ا وكثري ً َّ ّ امل�ستبد ،وكم �أحرقوا من عا�صمة يرون ظاملهم مبا�رش ًة هم الأعوان دون ِّ حم�ض الت�ش ّفي ب�إ�رضار �أولئك الأعوان. لأجل ّ قوة الإرهاب بالعظمة ثم � َّإن اال�ستبداد ٌ حمفوف ب� ٍ َّ أنواع القوات التي فيها ّ وقوة اجلُند ،ال �سيما �إذا كان اجلند غريب اجلن�س ،وقوة املال ،وقوة الألفة على ّ وقوة الأن�صار من الأجانب، الرثوات، أهل � ة وقو الدين، رجال ة وقو الق�سوة، ّ ّ ّ قابل بع�صا الفكر العام الذي هو يف ي ال كال�سيف اال�ستبداد جتعل القوات فهذه ُ َ � َّأول ن�ش�أته يكون �أ�شبه بغوغاء ،ومن طبع الفكر العام �أ َّنه �إذا فار يف �سنة يغور بناء عليه ،يلزم ملقاومة تلك القوات يف �سنة ،و�إذا فار يف يوم يغور يف يومً . الهائلة مقابلتها مبا يفعله الثبات والعناد امل�صحوبان باحلزم والإقدام. قاوم بالعنف ،كي ال تكون فتنة حت�صد النا�س اال�ستبداد ال ينبغي �أن ُي َ ال�شدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً ح�صداً .نعم ،اال�ستبداد قد يبلغ من َّ
139
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
ابتداء ،حتى �إذا �سكنت طبيعي ًا ،ف�إذا كان يف ال َّأمة عقالء يتباعدون عنها ً ثورتها نوع ًا وق�ضت وظيفتها يف ح�صد املنافقني ،حينئ ٍذ ي�ستعملون احلكمة يف توجيه الأفكار نحو ت�أ�سي�س العدالة ،وخري ما ت� َّؤ�س�س يكون ب�إقامة حكومة ال عهد لرجالها باال�ستبداد ،وال عالقة لهم بالفتنة. امل�ستبد غالب ًا �إال عقب �أحوال خم�صو�صة العوام ال يثور غ�ضبهم على ِّ مهيجة فورية ،منها: ِّ امل�ستبد على املظلوم يريد االنتقام يوقعه ؤمل � م دموي م�شهد عقب ّ لنامو�سه. امل�ستبد مغلوب ًا ،وال يتم َّكن من �إل�صاق عار عقب حرب يخرج منهاُّ القواد. التغ ُّلب بخيانة ّ الدين �إهان ًة م�صحوب ًة با�ستهزاء ي�ستلزم عقب تظاهرِّ امل�ستبد ب�إهانة ّ حدة العوام. َّ عقب ت�ضييق �شديد عام مقا�ضا ًة ملالٍ كثري ال يتي�سرَّ �إعطا�ؤه ح ّتى على�أوا�سط النا�س. عامة ال يرى النا�س فيها موا�سا ًة ظاهرة يف حالة جماعة �أو م�صيبة ّامل�ستبد. من ّ كتعر�ضه لنامو�س العر�ض، عقب عملِّ للم�ستبد ي�ستف ّز الغ�ضب الفوريّ ، �أو حرمة اجلنائز يف ال�رشق ،وحتقريه القانون �أو ال�رشف املوروث يف الغرب. عقب حادث ت�ضييق يوجب تظاهر ق�سم كبري من الن�ساء يف اال�ستجارةواال�ستن�صار. عدواً ل�رشفها. عقب ظهور مواالة �شديدة منِّ امل�ستبد ملن تعتربه ال َّأمة ّ �إىل غري ذلك من الأمور املماثلة لهذه الأحوال التي عندها ميوج النا�س يف ال�شوارع وال�ساحات ،ومتلأ �أ�صواتهم الف�ضاء ،وترتفع فتبلغ عنان ال�سماء، احلق. للحق ،املوت �أو بلوغ ّ احلق ،االنت�صار ّ احلق ّ ينادونّ : امل�ستبد مهما كان غبي ًا ال تخفى عليه تلك املزالق ،ومهما كان عتي ًا ال ُّ يغفل عن ا ِّتقائها ،كما � َّأن هذه الأمور يعرفها �أعوانه ووزرا�ؤه. يهورونه على الوقوع يف ف�إذا ُوجِ د منهم بع�ض يريدون له التهلكة ِّ ويل�صقونها به خالف ًا لعادتهم يف �إبعادها عنه بالتمويه على النا�س. �إحداهاُ ،
140
الدين عنده ،هم �أقدر النا�س � َّإن رئي�س وزراء امل�ستبد �أو رئي�س ُق َّواده� ،أو رئي�س ِّ ِّ على الإيقاع به ،وهو يداريهم حت ّذراً من ذلك ،و�إذا �أراد �إ�سقاط �أحدهم فال يوقعه �إال بغتة. ملثريي اخلواطر على اال�ستبداد طرائق �ش ّتى ي�سلكونها بال�سرّ ّ ،والبطء، ي�ستقرون حتت �ستار الدين ،في�ستنبتون غابة الثورة من بذرة �أو بذورات ّ امل�ستبد ب�سوقه �إىل اال�شتغال يلهون وكم اخللوات. يف بدموعهم ي�سقونها َّ وال�شهوات ،وكم يغرونه بر�ضاء ال َّأمة عنه ،ويج�سرِّ ونه على مزيد بالف�سوق َّ ي�شو�شون الر�شد ،وكم ِّ الت�شديد ،وكم يحملونه على �إ�ساءة التدبري ،ويكتمونه ُّ فكره ب�إرباكه مع جريانه و�أقرانه .يفعلون ذلك و�أمثاله لأجل غاية واحدة، �سد الطريق التي فيها ي�سلكونَّ � ،أما �أعوانه ،فال هي �إبعاده عن االنتباه �إىل ِّ و�سيلة لإغفالهم عن �إيقاظه غري حتريك �أطماعهم املالية مع تركهم ينهبون ما �شا�ؤوا �أن ينهبوا. ومبنى قاعدة �أ َّنه يجب قبل مقاومة اال�ستبداد ،تهيئة ماذا ُي�ستبدل به �رشط طبيعي للإقدام على ك ِّل عمل ،كما � َّأن اال�ستبداد هوَّ � :إن معرفة الغاية ٌ معرفة الغاية ال تفيد �شيئ ًا �إذا جهل الطريق املو�صل �إليها ،واملعرفة الإجمالية بد من تعيني املطلب واخلطة تعيين ًا يف هذا الباب ال تكفي مطلق ًا ،بل ال َّ وا�ضح ًا موافق ًا لر�أي الك ِّل� ،أو الأكرثية التي هي فوق ثالثة الأرباع عدداً �أو يتم الأمر ،حيث �إذا كانت الغاية مبهمة نوع ًا ،يكون الإقدام قوة ب�أ�س و�إال فال ّ بالكلية عند ق�سم من النا�س �أو خمالفة ناق�ص ًا نوع ًا ،و�إذا كانت جمهولة ّ امل�ستبد ،فتكون فتن ًة �شعواء ،و�إذا كانوا يبلغون ين�ضمون �إىل لر�أيهم ،فه�ؤالء ِّ ّ امل�ستبد. مقدار الثلث فقط ،تكون حينئ ٍذ الغلبة يف جانب ِّ ثم �إذا كانت الغاية مبهمة ومل يكن ال�سري يف �سبيلٍ معروف ،ويو�شك �أن َّ يقع اخلالف يف �أثناء الطريق ،فيف�سد العمل �أي�ض ًا وينقلب �إىل انتقام وفنت. ولذلك يجب تعيني الغاية ب�رصاحة و�إخال�ص و�إ�شهارها بني الكا ّفة ،وال�سعي يف �إقناعهم وا�ستح�صال ر�ضائهم بها ما �أمكن ذلك ،بل الأَوىل حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند �أنف�سهم .وهذا �سبب عدم جناح الإمام علي ومن وليه من �أئمة �آل البيت ر�ضي اهلل عنهم ،ولع َّل ذلك كان منهم ال عن غفلة، بل مقت�ضى ذلك الزمان من �صعوبة املوا�صالت وفقدان البو�ستات املنتظمة
141
اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه
والن�رشيات املطبوعة �إذ ذاك. واملراد � َّأن من ال�رضوري تقرير �شكل احلكومة التي يراد وميكن � ْأن ُي�ستبدل بها اال�ستبداد ،ولي�س هذا بالأمر الهينّ الذي تكفيه فكرة �ساعات� ،أو فطنة �آحاد ،ولي�س هو ب�أ�سهل من ترتيب املقاومة واملغالبة .وهذا اال�ستعداد الفكري بد من تعميمه وعلى النظري ال يجوز � ْأن يكون مق�صوراً على اخلوا�ص ،بل ال َّ ح�ساب الإمكان ليكون بعيداً عن الغايات ومع�ضوداً بقبول الر�أي العام. ثم يلزم ح�س ال َّأمة ب�آالم اال�ستبدادَّ ، وخال�صة البحث �أ َّنه يلزم �أو ًال تنبيه ّ حملها على البحث يف القواعد الأ�سا�سية لل�سيا�سة املنا�سبة لها ،بحيث ي�شغل ذلك �أفكار ك ِّل طبقاتها ،والأوىل �أن يبقى ذلك حتت خم�ض العقول �سنني، التلهف احلقيقي بل ع�رشات ال�سنني حتى ين�ضج متام ًا ،وحتى يح�صل ظهور ّ على نوال احلرية يف الطبقات العليا ،والتم ّني يف الطبقات ال�سفلى ،واحلذر كل احلذر من �أن ي�شعر امل�ستبد باخلطر ،في�أخذ بالتح ّذر ال�شديد ،والتنكيل امل�ستبد ويتكالب ،فحينئ ٍذ �إما �أن تغتنم باملجاهدين ،فيكرث ال�ضجيج ،فيزيغ ّ وجتدد الأ�رس على العباد بقليلٍ الفر�صة دولة �أخرى فت�ستويل على البالد، ِّ الرق املنحو�س ،وهذا ن�صيب �أكرث من التعب ،فتدخل ال َّأمة يف دورٍ �آخر من ِّ احلظ على عدم وجود الأمم ال�رشقية يف القرون الأخرية ،و� َّإما �أن ي�ساعد ّ طامع �أجنبي ،وتكون ال َّأمة قد ت� َّأهلت للقيام ب�أن حتكم نف�سها بنف�سها ،ويف امل�ستبد ذاته لرتك �أ�صول اال�ستبداد، هذه احلال ميكن لعقالء ال َّأمة �أن يكلِّفوا َّ وامل�ستبد اخلائر القوى ال ي�سعه وا ِّتباع القانون الأ�سا�سي الذي تطلبه الأمة. ُّ امل�ستبد على أ�رص عند ذلك �إال الإجابة طوع ًا ،وهذا �أف�ضل ما َ ُّ ي�صادف .و�إن � َّ القوة ،ق�ضوا بالزوال على دولته ،و�أ�صبح ك ٌّل منهم راعي ًا ،وك ٌّل منهم م�س�ؤو ًال ّ عن رعيته ،و�أ�ضحوا �آمنني ،ال يطمع فيهم طامع ،وال ُيغلبون عن ق ّلة ،كما هو بناء عليه ،فليب�صرَّ العقالء، �ش�أن ك ِّل الأمم التي حتيا حيا ًة كاملة حقيقيةً ، ت�صور ال�صعوبة ال ي�ستلزم ولي َّتقِ اهلل املغرون ،وليعلم � َّأن الأمر �صعب ،ولكن ّ أ�شم. القنوط ،بل يثري همم الرجل ال ّ ونتيجة البحثَّ � ،أن اهلل -ج َّلت حكمته -قد جعل الأمم م�س�ؤولة عن �أعمال حق .ف�إذا مل حت�سن � ّأمة �سيا�سة نف�سها �أذ َّلها اهلل ل َّأمة من تحُ ِّكمه عليها .وهذا ٌّ القيم على القا�رص �أو ال�سفيه ،وهذه �أخرى حتكمها ،كما تفعل ال�رشائع ب�إقامة ّ
142
حكمة .ومتى بلغت � َّأم ٌة ر�شدها ،وعرفت للحرية قدرها ،ا�سرتجعت ع َّزها ،وهذا عدل. ٌ يذل اهلل قط ربك �أحداً� ،إمنا هو الإن�سان يظلم نف�سه ،كما ال ُّ وهكذا ال يظلم ُّ ي�سبب ك َّل ع َّلة. �أمة عن ق ّلة� ،إمنا هو اجلهل ِّ و�إين �أختم كتابي هذا بخامتة ب�رشى ،وذلك � َّأن بوا�سق العلم وما بلغ �إليه، تدل على� َّأن يوم اهلل قريب .ذلك اليوم الذي يق ّل فيه التفاوت يف العلم وما ُّ القوة ،وعندئ ٍذ تتكاف�أ القوات بني الب�رش ،فتنح ّل ال�سلطة ،ويرتفع من يفيده ّ التغالب ،في�سود بني النا�س العدل والتوادد ،فيعي�شون ب�رشاً ال �شعوب ًا ،و�رشكات ال دو ًال ،وحينئ ٍذ يعلمون ما معنى احلياة الطيبة :هل هي حياة اجل�سم وح�رص الهمة يف خدمته؟ �أم حياة الروح وغذا�ؤها الف�ضيلة؟ ويومئ ٍذ يت�س ّنى للإن�سان ّ م�شرتك يف خمت�ص يف �ش�أنه، جنم ه ن � أ ك خالد، ل م�ستق عامل ه ن � أ ك يعي�ش �أن ٌ ٌّ َّ َّ ٌ ّ ملك ،وظيفته تنفيذ �أوامر الرحمن امللهمة للوجدان. النظام ،ك�أ َّنه ٌ
مت الكتاب بعونه تعاىل َّ
143