طبائع الاستبداد عبدالرحمن الكواكبي كتاب الدوحة

Page 1


‫طبائع االستبداد‬ ‫ومصارع االستعباد‬


‫ر�سم الفنان العراقي �إ�سماعيل عزام ‪ -‬العراق‬


‫عبد الرحمن الكواكبي‬

‫طبائع االستبداد‬ ‫ومصارع االستعباد‬

‫تقدمي‪ :‬د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬


‫طبائع االستبداد‬ ‫ومصارع االستعباد‬ ‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬الدوحة‬ ‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬ ‫الطبعة الأوىل ‪2011‬‬ ‫النا�رش‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫العمل الفني للغالف‪ :‬حممد حجي ‪ -‬م�رص‬


‫الرحالة كـ‬

‫طبائع االستبداد‬ ‫ومصارع االستعباد‬ ‫وهي كلمة حق وصرخة في واد‬ ‫إن ذهبت اليوم مع الريح‬ ‫لقد تذهب غدًا باألوتاد‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬



‫فهرس الكتاب‬

‫تقدمي د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬

‫‪8‬‬

‫فاحتة الكتاب‬

‫‪20‬‬

‫مقدمة‬

‫‪23‬‬

‫ما هو اال�ستبداد‬

‫‪26‬‬

‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫‪33‬‬

‫اال�ستبداد والعلم‬

‫‪47‬‬

‫اال�ستبداد واملجد‬

‫‪54‬‬

‫اال�ستبداد واملال‬

‫‪67‬‬

‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫‪69‬‬

‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫‪81‬‬

‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫‪95‬‬

‫اال�ستبداد والرتقِّي‬

‫‪106‬‬

‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫‪129‬‬


‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬

‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫تاريخ َ‬ ‫ُ‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫الغ َلبة ُ‬ ‫هنا رجــل الدنيا هنا مهبط ال ّتقى ‬ ‫قفوا واقر�ؤوا (�أم الكتاب) و�س ّلموا ‬

‫هنا خري مظلوم هنا خري كاتـب‬ ‫عــليه فهـذا الـقرب قـرب الكواكبي‬

‫بيتان من مرثية حافظ �إبراهيم ُنق�شا ًعلى قرب الكواكبي يف القاهرة‬

‫�شهيداً رحل عبد الرحمن الكواكبي عن الدنيا‪ .‬نذر حياته للإ�سهام‬ ‫امل�ستبدين وفعالهم‪ .‬مل يكن قد‬ ‫يف احلركة الإ�صالحية العربية وف�ضح‬ ‫ّ‬ ‫فد�ست له‬ ‫ّ‬ ‫تخطى ُ‬ ‫حتركت �آلة العقاب ّ‬ ‫بعد الثامنة والأربعني من عمره حني ّ‬ ‫للم�ستبدين العرب مل تنته‬ ‫ال�سم يف فنجان قهوة‪ .‬غري �أن منازلة الكواكبي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتحرر من نري‬ ‫�شة‬ ‫املتعط‬ ‫العربية‬ ‫أجيال‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أيدي‬ ‫�‬ ‫بني‬ ‫ترك‬ ‫فلقد‬ ‫برحيله‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اال�ستبداد كتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‪ .‬وهو كتاب ي�ضعنا‬ ‫واخل�سة والفظاظة‪،‬‬ ‫امل�ستبد الذي يجمع �إىل الغدر‬ ‫يف ح�رضة �صورة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومن�شق‪� .‬إنها �صورة عارية‬ ‫الرغبة العاتية يف �إبادة ك ّل مغاير وخمالف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كالف�ضيحة‪.‬‬ ‫الراجح �أن الكواكبي كان يدرك �أن الكتابة عن اال�ستبداد �ستقوده‬ ‫�إىل حتفه‪ .‬والراجح �أي�ض ًا �أنه كان على يقني من �أن لال�ستبداد يف ديار‬

‫‪8‬‬


‫العرب ويف الثقافة العربية حكاية وتاريخ ًا‪ .‬ولتلك احلكاية التواءاتها‬ ‫للم�ستبدين‬ ‫أحقاب‪ .‬فال�صورة القامتة‬ ‫وف�صولها‪ ،‬ولتاريخها �أزمنة و�‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫امل�ستبد واجلرمية �صنوين‬ ‫و�صنائعهم‪ ،‬تلك ال�صورة التي جتعل من �سلطة‬ ‫ّ‬ ‫لي�ست وليدة القرنني الثامن والتا�سع ع�رش‪ .‬ذلك �أن الناظر يف املتون‬ ‫العربية القدمية يالحظ �أن اخليال نف�سه يعجز عن ابتداع �أمنوذج يعادل‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد التي تر�سمها تلك املتون‬ ‫�صورة‬ ‫ووح�شيته‬ ‫وق�سوته‬ ‫فظاعته‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫حتدث عن احلاكم العربي منذ الغ�سا�سنة يف ما قبل الإ�سالم‪ .‬لهذا ك ّله‬ ‫حني ّ‬ ‫حر�ص الكواكبي على �إجراء العديد من املقارنات بني الداخل واخلارج‪،‬‬ ‫امل�ستبد‪� ،‬أما‬ ‫وتفوقهم �إىل موت‬ ‫ّ‬ ‫بني الغرب وال�رشق‪ .‬ف�أرجع قوة الغربيني ّ‬ ‫ت�صوره‬ ‫«انحطاط ال�رشق» فربطه مبا ّ‬ ‫�سماه «�أ�صل الداء»‪ ،‬و�أ�صل الداء يف ّ‬ ‫هو ما نعته «باال�ستبداد ال�سيا�سي»‪.‬‬ ‫ويتهدده‬ ‫تام ب�أن املا�ضي يتع ّقب الراهن‬ ‫ّ‬ ‫لقد كان الكواكبي على وعي ّ‬ ‫بالويالت جميعها‪ .‬وهذا يعني �أن م�آزق الإن�سان العربي لي�ست وليدة‬ ‫راهنه‪ ،‬بل هي قادمة من بعيد‪ .‬وجميع حمنه وم�آ�سيه ك ّلها نتاج لتاريخ‬ ‫من الطغيان واال�ستبداد والقهر‪ .‬هذا ما نه�ضت الكتابة لت�شهد عليه‪ ،‬فيما‬ ‫هي تف�ضح طبائع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫هذا الوعي امل�ضني بتاريخ اال�ستبداد يف ديار العرب و ّلد لدى‬ ‫الكواكبي �إح�سا�س ًا مريراً ب�أن الطريق امل�ؤدية �إىل خال�ص الأمة من «داء‬ ‫طريق كرب ٌة وعر ٌة طويل ٌة‪ .‬لذلك طفح كتابه بنوع من ال�شجن‬ ‫اال�ستبداد»‬ ‫ٌ‬ ‫مرده �إح�سا�سه العاتي ب�أن جهوده وجهود �أمثاله من الإ�صالحيني العرب‬ ‫ّ‬ ‫لي�ست �سوى �رصخة يف ليل طويل‪ .‬وهو يعبرّ عن ذلك �رصاحة �إذ و�صف‬ ‫حق و�رصخة يف ٍ‬ ‫واد»‪ .‬لكن هذا الوعي ال�شقي‬ ‫كتابه قائ ًال �إنه‪« :‬كلمة ّ‬ ‫مت�شوف ًا تبا�شري‬ ‫مل يكن وعي ًا انهزامي ًا بقدر ما كان مفتوح ًا على الآتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد واقع ًا‬ ‫ميالد الأجيال اجلديدة التي �ستجعل من حلم التخ ّل�ص من‬ ‫ّ‬ ‫حمدث ًا عن كتابه �إنه‪�« :‬رصخة يف ٍ‬ ‫واد �إن ذهبت‬ ‫وحقيقة‪ .‬لذلك �أ�ضاف ّ‬ ‫اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد»‪.‬‬ ‫والكلية‪ .‬ولكي‬ ‫م�ضى على هذه النبوءة الآن قرن من الزمان بالتمام‬ ‫ّ‬ ‫تكتمل النبوءة �أهدى الكواكبي كتابه �إىل ال�شباب حملة جذوة النار‬

‫‪9‬‬


‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬

‫�سميته طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‬ ‫ّ‬ ‫املقد�سة فكتب‪ :‬هذا «كتاب ّ‬ ‫وجعلته هدية مني للنا�شئة العربية املباركة الأبية املعقودة �آمال الأمة‬ ‫على نوا�صيهم‪ .‬وال غرو‪ ،‬فال �شباب �إال بال�شباب»‪ .‬حت ّققت النبوءة �إذن‪.‬‬ ‫على �أيدي ال�شباب حتققت النبوءة يف تون�س وم�رص‪ ،‬وعلى �أيدي ال�شباب‬ ‫�أي�ض ًا بد�أت «�أوتاد» عرو�ش امل�ستبدين ي ّزلزل زلزالها يف �أكرث من بل ٍد‬ ‫عربي‪.‬‬ ‫و�إنه لأمر مذهل ح ّق ًا �أن �أحالم م�صلحني من �أمثال ابن �أبي ال�ضياف‬ ‫(‪1291 /1217‬هـ ‪1874/ 1802 -‬م) ورفاعة الطهطاوي (‪/1216‬‬ ‫‪1290‬هـ ‪1873/ 1801 -‬م) وفار�س ال�شدياق(‪1306 /1219‬هـ ‪/1804 -‬‬ ‫‪1888‬م) وقا�سم حممد �أمني (‪1326 /1280‬هـ ‪1908/ 1863 -‬م) وخري‬ ‫الدين با�شا التون�سي(‪1307/ 1237‬هـ– ‪1890 /1822‬م) ‪-‬هذه الأحالم‪-‬‬ ‫تلم�س الطريق امل�ؤدية‪ .‬و�إنها‬ ‫تتج�سد هنا والآن وتبد�أ ال�شعوب العربية يف ّ‬ ‫مدوخة �أن يقع الإحلاح يف الراهن ال�سيا�سي والإعالمي العربي‬ ‫ملفارقة ّ‬ ‫الي ْتم‪ :‬ال �آباء وال �أجداد وال‬ ‫الآن على �أن جيل الثورات العربية‬ ‫طالع من ُ‬ ‫ٌ‬ ‫حلم‬ ‫تلم�س الطريق �إىل التخ ّل�ص من اال�ستبداد ٌ‬ ‫عمومة �أي�ض ًا‪ .‬واحلال �أن ّ‬ ‫قدمي عا�شت عليه �أجيال من امل�صلحني واملثقفني والأدباء الأحرار طيلة‬ ‫ٌ‬ ‫دونه �أحمد بن �أبي ال�ضياف عن حكام‬ ‫ما‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫نتل‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫هنا‬ ‫يكفي‬ ‫أحقاب‪.‬‬ ‫�‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫زمانه‪.‬‬ ‫فالثابت �أن امل� ّؤرخ التون�سي �أحمد بن �أبي ال�ضياف كان واحداً من‬ ‫التقية‪ .‬لذلك حني انتدبه باي تون�س‬ ‫امل� ّؤرخني امل�صلحني الذين �أتقنوا ّ‬ ‫امل�شري �أحمد با�شا باي (‪1271 /1220‬هـ ‪1855 /1806 -‬م) وزيراً للقلم‬ ‫�رسه كتب تاريخ البايات وامللوك الذين عا�رشهم وجمعه‬ ‫واتخذه �أمني ّ‬ ‫يف كتابه «�إحتاف �أهل الزمان ب�أخبار ملوك تون�س وعهد الأمان»‪.‬‬ ‫جاء كتاب الإحتاف جامع ًا �إىل الإ�شادة الظاهرة ب�أجماد البايات‬ ‫واحلر�ص على تدوين رذائلهم وجورهم‪ .‬وبذلك انفتح التاريخ على‬ ‫َ‬ ‫امل�ضاد‪ .‬وجاء التاريخ ال�رسي ليه ّزئ التاريخ العلني ويحيطه‬ ‫التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫بالظلمات والدياجري‪ .‬ولذلك تتعالق الف�صول قائمة على ما ي�شبه‬ ‫املنت واحلا�شية‪ .‬ت�أتي احلا�شية يف �شكل تعليقات و�آراء لته ّزئ املنت‬

‫‪10‬‬


‫فيحدث ابن �أبي ال�ضياف عن م�آثر �أحمد باي‬ ‫وتف�ضح ما يتك ّتم عليه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫و�إ�صالحاته‪ ،‬وت�أ�سي�سه للمدر�سة احلربية‪ ،‬وتطويره للتعليم‪ ،‬وتعزيزه‬ ‫بالعلوم واملعارف احلديثة‪ .‬لكن هذا الف�صل ُيخرتق بالكالم عن جوره‬ ‫وا�ستهانته بالكرامة الب�رشية‪ ،‬و�إثقاله كاهل الرعية بال�رضائب املجحفة‪،‬‬ ‫و�إر�ساله ع�ساكره �إىل القرى واملدن جلمع ال�رضائب بالقهر والغلبة‪ .‬يع ّلق‬ ‫امل� ّؤرخ على هذه الفعال قائ ًال‪« :‬هذا و�أج�ساد اخللق من�ساقة منقادة‬ ‫م�رضتهم وابتزاز نعمتهم خوف ًا من‬ ‫انقياد بهائم الأنعام ولو � ّأدى ذلك �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ع�ساكره الذين جعلهم �آلة لتغ ّلبه ال تقهر»‪ .‬ال ي�ستخدم ابن �أبي ال�ضياف‬ ‫ويلح على �أن الظلم‬ ‫ي�سمي ال�شعب «عبيد اجلباية»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عبارة الرعية‪ ،‬بل ّ‬ ‫وام‪ .‬فعاف الفالحون �أرا�ضيهم و�صار الواحد منهم �إذا «لقي‬ ‫حولهم �إىل َه ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ويتو�سع يف ذكر‬ ‫تي»‪.‬‬ ‫ورزي‬ ‫بالئي‬ ‫�سبب‬ ‫«يا‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫قائ‬ ‫ركله‬ ‫احلقل‬ ‫يف‬ ‫حمراثه‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حال النا�س الذين �أم�سوا «ولي�س لهم من م�سقط ر�ؤو�سهم وبالدهم ومنبت‬ ‫والربط‬ ‫�آبائهم و�أجدادهم �إ ّال �إعطاء الدرهم والدينار على مذ ّل ٍة و�صغار‪ّ ،‬‬ ‫حب الوطن والدار‪ ،‬وان�سلخوا‬ ‫على اخل�سف ربط احلمار‪ ،‬حتى زهدوا يف ّ‬ ‫من �أخالق الأحرار»‪.‬‬ ‫كثرياً ما يطفح التاريخ ال�رسي بنربة َن ْو ٍح و َن ْد ٍب على النا�س ال�سيما‬ ‫يتفن امل� ّؤرخ يف ذكر املحن والرزايا التي اب ُتلي بها �أهل تون�س‬ ‫حني نّ‬ ‫ن�شيد �أ�سود يرفع رثاء للمظلومني‪ .‬لك�أن‬ ‫فت�صبح الكتابة كما لو �أنها‬ ‫ٌ‬ ‫يتو�سع يف ذكر �آالم بني‬ ‫امل� ّؤرخ الذي �أرغم على تدوين م�آثر ح ّك ٍ‬ ‫ام َظ َل َم ٍة ّ‬ ‫ليتطهر منها فيما هو ُي�شهِ د عليها وي�ؤ ّثث بها ذاكرة امل�ستقبل‪� .‬أو‬ ‫قومه‬ ‫ّ‬ ‫لك�أن امل� ّؤرخ ُي ْ�شهِ د الدنيا على فظاعة ما حدث حتى ال يحدث ثانية‪.‬‬ ‫يكفي هنا �أي�ض ًا �أن ننظر يف م�ؤلفات رفاعة الطهطاوي وهو من �أبرز‬ ‫قادة النه�ضة الفكرية والعلمية يف م�رص على عهد حممد علي با�شا (‪1182‬‬ ‫‪1265/‬هـ ‪1849/ 1769 -‬م) و�سنالحظ �أنه كان على وعي ب�أن احلرية‬ ‫ف�صل احلديث‬ ‫والعدالة هما ال�سبيل امل�ؤدية �إىل الكرامة والرقي‪ .‬لذلك ّ‬ ‫وتو�سع‬ ‫عن هذين املفهومني يف كتابه امل ُْر ِ�شد الأمني للبنات والبنني‬ ‫ّ‬ ‫ملح ًا على �أن ال وطنية دون م�ساواة بني من‬ ‫يف تبيان مفهوم الوطنية ّ‬ ‫واحد حتى يتعاونوا «على حت�سني الوطن وتكميل نظامه‪،‬‬ ‫وطن‬ ‫يجمعهم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫‪11‬‬


‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬

‫يف ما يخ�ص �رشف الوطن ِ‬ ‫وغناه وثروته‪ ،‬لأن ال ِغ َنى �إمنا يتح�صل من‬ ‫انتظام املعامالت وحت�صيل املنافع العمومية‪ ،‬وهي تكون بني �أهل الوطن‬ ‫على ال�سوية‪ ،‬النتفاعهم جميع ًا بمِ َ ز َِّي ِة ال َّن ْخ َو ِة الوطني ِة»‪ .‬وهو ي�صل �إىل‬ ‫و�ضعي‪،‬‬ ‫حد متجيد القانون املعمول به يف فرن�سا‪ ،‬م�شرياً �إىل �أنه قانون‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫لكنه يحقق العدل‪ .‬نقر�أ‪« :‬والقانون الذي مي�شي عليه الفرن�ساوية الآن‪،‬‬ ‫ويتخذونه �أ�سا�س ًا ل�سيا�ستهم هو القانون الذي �أ َّل َفه لهم َمل ُك ُهم امل َُ�س َّمى‬ ‫أمور ال ُي ْن ِكر‬ ‫ِلوِيز الثامن ع�رش‪ .‬وما زال ُم َّت َبع ًا عندهم ُ‬ ‫وم ْر ِ�ضي ًا لهم‪ ،‬وفيه � ٌ‬ ‫ِف كيف َح َك َم ْت عقولهم ب�أن العدل‬ ‫َذ ُوو العقول �أنها من باب العدل‪ِ ...‬ل َت ْعر َ‬ ‫والإن�صاف من �أ�سباب تعمري امل َ​َما ِلك وراحة العباد»‪.‬‬ ‫ال تخرج كتابات خري الدين با�شا التون�سي وقا�سم حممد �أمني من‬ ‫هذه الدائرة الإ�صالحية‪ .‬فلقد دعا خري الدين يف كتابه «�أقوم امل�سالك يف‬ ‫معرفة �أحوال املمالك» �إىل الإ�صالح ال�شامل ُب ْغ َي َة حتقيق العدل وامل�ساواة‬ ‫يف حكم النا�س ودفع الظلم عنهم واحرتام حقوقهم‪ .‬وهذا ُم َت َع َّل ٌق ال يتحقق‬ ‫�إال بنظام حكم قائم على ال�شورى‪ ،‬وتعدد م�ؤ�س�سات احلكم‪ ،‬و�إبطال احلكم‬ ‫الفردي لأن االنفراد باحلكم يقود �إىل اال�ستبداد‪� .‬أما قا�سم حممد �أمني‬ ‫وف�صل القول يف العديد من‬ ‫و�سع دائرة ال�س�ؤال عن �أ�سباب التخ ّلف ّ‬ ‫فقد ّ‬ ‫وتفطن‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أحمد فار�س ال�شدياق‬ ‫الق�ضايا االجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �أن حرمان املر�أة من حقوقها هو �أ�صل الداء يف املجتمعات العربية‪.‬‬ ‫يعني هذا �إذن �أن كتاب الكواكبي حلقة يف �سل�سلة حماوالت ر�سمت‬ ‫ال�رس العمل‬ ‫فرت�سب يف الوجدان اجلماعي العربي ووا�صل يف ّ‬ ‫للحلم مداه ّ‬ ‫امل�ستبد العربي يف غفلة من �أمره ال ميتثل �إال لطبائع اال�ستبداد‬ ‫فيما‬ ‫ّ‬ ‫املركوزة يف نف�سه‪ ،‬وال ي�صغي �إال �إىل رغبته اللجوج يف ممار�سة الغلبة‬ ‫والقهر‪ .‬لقد انطلق كل من الطهطاوي وابن �أبي ال�ضياف وخري الدين با�شا‬ ‫ت�صور ابن خلدون حول ن�ش�أة العمران‬ ‫والكواكبي نف�سه –انطلقوا‪ -‬من ّ‬ ‫الب�رشي وخراب الدول والأم�صار وت�سليمه يف الباب الثالث والأربعني‬ ‫ؤذن بخراب العمران»‪،‬‬ ‫من املقدمة ب�أن «العدل �أ�سا�س العمران» و«الظلم م� ٌ‬ ‫خطر على احلياة نف�سها‪ ،‬لأن «ف�ساد العمران‬ ‫وجزمه ب�أن اال�ستبداد‬ ‫ٌ‬ ‫وخرابه م�ؤذن بانقطاع النوع الب�رشي»‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫لكن الفارق بني كتاب الكواكبي واملحاوالت الإ�صالحية التي �سبقته‬ ‫جوهري‪ .‬ففي حني اكتفى ه�ؤالء امل�صلحون بالدعوة �إىل الإ�صالح‬ ‫فارق‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سي ب�إر�ساء د�ساتري وبرملانات وجمال�س �شورى‪ ،‬اختار الكواكبي‬ ‫�أن مي�ضي يف ال�شوط بعيداً‪ :‬الدعوة �إىل ا�ستئ�صال اال�ستبداد وهدم عرو�ش‬ ‫امل�ستبدين و�سدنتهم و�أتباعهم وم�ؤ�س�ساتهم وثقافتهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫جمرد حتليل‬ ‫كونه‬ ‫عن‬ ‫اال�ستعباد‬ ‫وم�صارع‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫طبائع‬ ‫كتاب‬ ‫كف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للم�ستبد وملقولة اال�ستبداد‬ ‫لال�ستبداد‪ .‬و�صار عبارة عن مواجهة عنيفة‬ ‫ّ‬ ‫داء» ال يرجى �شفا�ؤه‬ ‫تو�سط �أي�ض ًا �إن «اال�ستبداد ٌ‬ ‫نف�سها‪ .‬وال خيار‪ ،‬ال ّ‬ ‫واله ْد ِي وال ّلني‪ .‬لذلك‬ ‫بالإ�صالح والرتميم‪ ،‬وال ميكن التخ ّل�ص منه بالرفق َ‬ ‫امل�ستبد وفظائعه‬ ‫تو�سع الكواكبي يف تع ّقب مظاهر اال�ستبداد وفعال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجرائره و�إف�ساده للدنيا من حوله‪ .‬ف�صارت الكتابة عبارة عن هبوط‬ ‫مدوخ �إىل عامل جحيمي �إبلي�سي ال �شيء فيه غري ال�رشور والويالت والدم‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد املحاط بالليل والدياجري وخ�رسان بني الب�رش‪.‬‬ ‫عامل‬ ‫إنه‬ ‫�‬ ‫املراق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتفرعت‪« :‬ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما‬ ‫الكتاب‬ ‫تنوعت الأ�سئلة يف هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟ ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا‬ ‫امل�ستبد؟‬ ‫رعية‬ ‫يكون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد �شديد اخلوف؟ ملاذا ي�ستويل اجلنب على ّ‬ ‫ما ت�أثري اال�ستبداد على الدين؟ على العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على‬ ‫الأخالق؟ على الرت ّقي؟ على الرتبية؟ على العمران؟»‪.‬‬ ‫ر�سمت هذه الأ�سئلة للكتاب ف�صوله و�أق�سامه‪ ،‬وللكتابة �ضفافها‪.‬‬ ‫فتحول �إىل مطاردة عنيدة لك ّل مظاهر اال�ستبداد و�أعرا�ضه ونتائجه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تو�صل‬ ‫قد‬ ‫خلدون‬ ‫ابن‬ ‫كان‬ ‫التي‬ ‫ذاتها‬ ‫النتيجة‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫الكواكبي‬ ‫يخل�ص‬ ‫لذلك‬ ‫ّ‬ ‫يعطلها ويبيدها‪.‬‬ ‫�إليها حني جزم ب�أن الظلم ال يف�سد احلياة فح�سب‪ ،‬بل ّ‬ ‫ال�سم يف فنجان قهوة �ستودي بحياة‬ ‫الي َد التي ّ‬ ‫الراجح �أن َ‬ ‫امتدت لد�س ّ‬ ‫امل�ستبد الذي جنح كتاب الكواكبي يف جعله‬ ‫الكواكبي كانت يد �أحد �سدنة‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‬ ‫اره‪ ،‬وبني �أن‬ ‫ّ‬ ‫ف�ضيحة ّ‬ ‫قدام النا�س �أجمعني فك�شف �ص َغ َره َ‬ ‫و�ص َغ َ‬ ‫مقدام ال يخ�شى ركوب اخلطر‪ ،‬يف حني �أنه‬ ‫قوي‬ ‫يوهم يف الظاهر ب�أنه ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ي�ستمد جربوته ونفوذه «من‬ ‫امل�ستبد‬ ‫جبان «�شديد اخلوف»‪� .‬إن‬ ‫رعديد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلنب الذي ي�ستويل على رعيته»‪� .‬إن ا�ستبداد الطاغية وجوره و�إمعانه يف‬

‫‪13‬‬


‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬

‫الرعية من‬ ‫اجلرمية والقتل �إمنا تت�أ ّتى يف جانب كبري منها‪ ،‬ال من خوف‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيما �أن اخلوف‬ ‫ال�سلطان فح�سب‪ ،‬بل من احرتامها له و�إعالئها ل�ش�أنه‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫واالحرتام انفعاالن كثرياً ما يتداخالن ويف�ضي �أحدهما �إىل الآخر‪ .‬ومن‬ ‫امل�ستبد‪-‬ك ّل‬ ‫ي�ستمد‬ ‫تداخلهما وامتزاج �أحدهما بالآخر يف نفو�س النا�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�ستبد‪� -‬سطوته و�سلطانه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد و�أمرا�ضه النف�سية‬ ‫�شخ�صية‬ ‫بتعرية‬ ‫الكواكبي‬ ‫يكتفي‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫وعقده‪ ،‬بل يدفع بالتحليل �إىل مناطق حاملا يبلغها ت�صبح الكتابة عبارة‬ ‫ملح ًا‪ ،‬يف‬ ‫عن �إدانة لل�رشائح االجتماعية التي تتبارى يف خدمة‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد ّ‬ ‫م�ستبدة يف كل فروعها‬ ‫امل�ستبدة تكون‬ ‫الآن نف�سه‪ ،‬على �أن «احلكومة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرا�ش‪� ،‬إىل كنا�س ال�شوارع‪ ..‬وهذه‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد الأعظم‪� ،‬إىل ال�رشطي‪� ،‬إىل ّ‬ ‫�شدة اال�ستبداد وخ ّفته‪ ،‬فك ّلما‬ ‫الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ويق ّل ح�سب ّ‬ ‫املتمجدين‬ ‫امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العاملني له املحافظني عليه‪ ،‬واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف اتخاذهم من‬ ‫�أ�سفل املجرمني الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو م ّل ٍة»‪.‬‬ ‫توظف نف�سها يف خدمة‬ ‫لكن املثقفني يظلون �أخطر �رشيحة اجتماعية ّ‬ ‫ت�سبح‬ ‫امل�ستبد‪ .‬فما من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�ستبد يف ديار العرب �إال وله بطانة من املثقفني ّ‬ ‫يوظف املثقفني العتقاده �أن العديد من املثقفني‬ ‫إمنا‬ ‫�‬ ‫وامل�ستبد‬ ‫بحمده‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬يف‬ ‫هم �سدنة اال�ستبداد وخدمه يف ك ّل الأزمنة والأم�صار‪ .‬ذلك �أن‬ ‫ّ‬ ‫املكر‬ ‫نظر الكواكبي‪� ،‬شخ�ص يجمع �إىل الغفلة اجله َل‬ ‫واخل�س َة‪ ،‬و�إىل احليلة َ‬ ‫ّ‬ ‫«يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء‬ ‫واخلديع َة‪ .‬ولذلك‬ ‫ّ‬ ‫الأذكياء اغرتاراً منه ب�أنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم بال�شكل‬ ‫الذي يريد‪ ،‬فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم»‪ .‬ف�إذا ق�ضى‬ ‫منهم حاجته �أو«يئ�س من �إف�سادهم يبادر �إىل �إبعادهم وين ّكل بهم»‪.‬‬ ‫غري �أن الكواكبي ال يدين هذا ال�صنف من املثقفني ال�سدنة فح�سب‪،‬‬ ‫اجلهال‬ ‫بل يخرجهم من دائرة املثقفني الف�ضالء ويرمي بهم يف دائرة ّ‬ ‫امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي‬ ‫ي�ستقر عند‬ ‫واخلبثاء املرائني‪ .‬نقر�أ‪« :‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شا�سع بني املثقف‬ ‫بو ٌن‬ ‫ٌ‬ ‫يعبده من دون اهلل‪� ،‬أو اخلبيث اخلائن»‪ .‬ثمة ْ‬ ‫يتحول �إىل خمرب وخادم �أمني ي�سري يف‬ ‫احلقيقي واملثقف ال ّزائف الذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪14‬‬


‫املن�شق الذي‬ ‫بال�ضعينة‪ ،‬بني املثقف‬ ‫مدجج ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطة اجلائرة ّ‬ ‫ركاب ّ‬ ‫ويلطخ اال�سم‬ ‫يحافظ على �رشف اال�سم واملثقف الذي ير�ضى بدور العبد ّ‬ ‫بعار ال يطف�أ‬ ‫ملخبرِ‬ ‫الدهر ك ّله‪ .‬هكذا يعمد الكواكبي �إىل طرد هذا املثقف ا ُ‬ ‫َ‬ ‫خارج دائرة الثقافة والفكر ليلحقه بزمرة املخربين وال�رشطة و�سدنة‬ ‫امل�ستبدة‪.‬‬ ‫ال�سلطات‬ ‫ّ‬ ‫أمر مذه ٌل حق ًا �أن تو�صيف الكواكبي لهذه الفئة ما زال ثاقب ًا‬ ‫و�إنه ل ٌ‬ ‫�صحيح ًا رغم مرور قرن من الزمان على ن�رش كتاب طبائع اال�ستبداد‬ ‫نتمعن يف ما يجري يف تون�س ويف‬ ‫وم�صارع اال�ستعباد‪ .‬يكفي هنا �أن ّ‬ ‫مرة �أخرى يف هذا ال�صنف من‬ ‫العجاب‬ ‫م�رص و�سرنى العجب ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتج�سد ّ‬ ‫امل�ستبد‪ .‬عديدون هم املثقفون الذين تفانوا يف خدمة‬ ‫املثقفني �سدنة‬ ‫ّ‬ ‫اال�ستبداد يف ك ّل من تون�س وم�رص‪ .‬وعندما حت ّققت نبوءة الكواكبي حول‬ ‫فر طاغية تون�س املخلوع وتهاوى عر�ش‬ ‫«م�صارع اال�ستعباد»‪ ،‬حني ّ‬ ‫و�س وخرجوا على النا�س معلنني‬ ‫م�ستبد م�رص املدحور‪ ،‬لب�سوا لك ّل حال َل ُب ٍ‬ ‫ّ‬ ‫رواد التغيري وقادته‪ .‬وهذا ف�ص ٌل‬ ‫ومن‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫حركة‬ ‫مة‬ ‫مقد‬ ‫يف‬ ‫�أنهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خم ٍز مل يكتبه الكواكبي‪.‬‬ ‫بد من الإ�شارة �أي�ض ًا �إىل �أن هذا الكتاب خمرتق من الداخل ب�أكرث من‬ ‫ال ّ‬ ‫املن�شق الذي �أعلن االن�شقاق طريق ًا م�ؤدية �إىل‬ ‫�صوت‪ّ � .‬أولها �صوت الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫اخلال�ص من اال�ستبداد‪ .‬لذلك ترد الكتابة يف �شكل حما�سبة عنيفة متو ّترة‬ ‫امل�ستبد‬ ‫ملظاهر اال�ستبداد‪ ،‬ومطاردة عنيدة لنتائج اال�ستبداد وفعال‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ :‬ال العلم‬ ‫وخ�سته و�إف�ساده للدنيا من حوله‪ .‬فال �أحد ي�سلم من فعال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�سلم‪ ،‬وال الرتبية والأخالق والقيم يف منجاة من مكائده ومكره‪ .‬فحيثما‬ ‫طافح بال�شجن‬ ‫اخلراب‪� .‬أما ال�صوت الثاين ف�إنه �صوت‬ ‫م�ستبد كان‬ ‫ُوجد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مليء باحلرقة والت� ّأ�سي على حال الوطن العربي‪ .‬فت�صبح الكتابة كما لو‬ ‫ن�شيد �أ�سود يرفع يف وجه اخلراب‬ ‫�أنها نوع من النوح والندب �أو لك�أنها‬ ‫ٌ‬ ‫قدا�س جنائزي يعت�رص‬ ‫ُ‬ ‫ين�شد التخ ّل�ص من �أ�سبابه‪ .‬وت�صبح القراءة ك�أنها ّ‬ ‫�شغاف القلب‪.‬‬ ‫ويتو�سل مقا�صده تلك‬ ‫يوظف الكواكبي �أ�سلوب الكتابة بامل�شهد‪.‬‬ ‫ههنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫بو�سيلة موغلة يف االقت�صاد والب�ساطة حني يحاكي كيفات ت�شك ّل ال�صوت‬

‫‪15‬‬


‫نات اال�ستبداد والقهر‬ ‫وم َد َ ّو ُ‬ ‫تاريخُ الغَ لَبة ُ‬

‫وال�صدى م�ستخدم ًا �أ�سلوب النداء‪ .‬يت�ش ّكل النداء يف �شكل خماطبة للوطن‪:‬‬ ‫«�أنت �أيها الوطن املحبوب‪� /‬أيها الوطن العزيز‪� /‬أيها الوطن احلنون‪)...‬‬ ‫ويكون امل�شهد مبثابة رجع �صدى للنداء ذاته‪� .‬إن ال�صدى يكون عادة �أكرث‬ ‫ومتو ٌج‪ .‬لذلك ي�أخذ‬ ‫ترجيع‬ ‫امتداداً من ال�صوت‪ .‬لأن ال�صدى فيه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ورجع ّ‬ ‫م�ساحة �أو�سع من تلك التي يحتلها ال�صوت يف الهواء‪ .‬وعلى هذا الن�سق‬ ‫فيتو�سع يف ر�سم‬ ‫جريان الكتابة‪� .‬إن النداء مقت�ضب موجز‪� .‬أما ال�صدى‬ ‫ّ‬ ‫املحن‪ .‬نقر�أ مث ًال‪� « :‬أيها الوطن الباكي �ضعافه‪ :‬عليك تبكي العيون وفيك‬ ‫يحلو املنون‪� .‬إىل متى يعبث خاللك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون‬ ‫ذويك‪� ..‬أيها الوطن امللتهب ف�ؤاده‪� :‬أما رويت من �سقيا الدموع والدماء‪،‬‬ ‫ولكنها دموع بناتك الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء»‪.‬‬ ‫�شجن ال يطف�أ تر�شح به الكتابة حني يجري الكواكبي مقارنات‬ ‫ثمة‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫بني حال النا�س يف الغرب وهوان الب�رش و�ضعتهم يف بالد العرب‪ .‬ثمة‬ ‫و�ضجر من ا�ست�سالم النا�س لال�ستبداد‪.‬‬ ‫ي� ٌأ�س من حال الأمة يف ع�رصه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يحدث عنهم قائ ًال‪�« :‬إمنا هم – غفر اهلل لهم‪ -‬من علمت‪ ،‬ق َّل فيهم‬ ‫وهو ّ‬ ‫احلر الغيور‪ ،‬ق َّل فيهم من يقول �أنا ال �أخاف الظاملني»‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫لكن نربة ال�شجن الطافحة بالي�أ�س �رسعان ما ترتاجع حني يوجه‬ ‫اخلطاب �إىل ال�شباب قائ ًال‪�« :‬أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان‪ ..‬حماكم اهلل من‬ ‫ق�صور َف َخاركم على معايل الهمم ومكارم‬ ‫ال�سوء‪ ..‬نرجو لكم �أن تبنوا‬ ‫َ‬ ‫ال�شيم‪ ..‬و�أن تعلموا �أنكم خلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا»‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫فا�صلة �صغرية‪:‬‬ ‫� ْأي عبد الرحمن الكواكبي‪:‬‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬وال�شباب يف م�رص التي �شهدت‬ ‫ال�شباب يف تون�س زلزلوا بيت‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ .‬ولل�سيول التي �ستهد العرو�ش بقية‪.‬‬ ‫مقتلك غيلة ع�صفت بعر�ش‬ ‫ّ‬ ‫‪lll‬‬

‫‪16‬‬


‫تذييل‪:‬‬

‫�سرية الكواكبي‬

‫ولد عبد الرحمن الكواكبي �سنة ‪1270‬هـ املوافق ل�سنة ‪1854‬م‬ ‫بحلب يف بيت علم ي�شهد له بالف�ضل‪ .‬توفيت �أمه فرعته خالته املقيمة‬ ‫عم �أمه جنيب النقيب الذي �أ�صبح‬ ‫يف �أنطاكيا وعلمته الرتكية فع ّلمه ّ‬ ‫يف ما بعد �أ�ستاذاً خا�ص ًا للخديوي عبا�س حلمي الثاين يف م�رص‪ .‬در�س‬ ‫الكواكبي ال�رشيعة واملنطق وعلم الطبيعة وال�سيا�سة‪ .‬وا�شتغل بالتدري�س‬ ‫وهو يف الع�رشين من العمر‪� .‬أن�ش�أ مبعية ها�شم العطار جريدة ال�شهباء‬ ‫�سنة ‪1877‬م التي �رسعان ما منعتها ال�سلطات العثمانية‪ .‬ف�أ�صدر‬ ‫جريدة االعتدال �سنة ‪1879‬م‪ ،‬ووا�صل ن�رش �أفكاره الداعية �إىل النهو�ض‬ ‫والإ�صالح‪ .‬وعندما �أغلقت ال�سلطات اجلريدة ا�شتغل باملحاماة زمن ًا‬ ‫�ضيقت‬ ‫وكان يدافع عن املظلومني جمان ًا حتى ل ّقب بـ«�أبي ال�ضعفاء»‪ّ .‬‬ ‫عليه ال�سلطات العثمانية اخلناق فغادر حلب و�ساح يف �آ�سيا والهند‬ ‫وتوطن م�رص حتى ُقتل‬ ‫وال�صني و�سواحل �رشق �آ�سيا و�سواحل �إفريقيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيها غيلة �سنة ‪1902‬م‪.‬‬ ‫أهم م�ؤلفاته‪:‬‬ ‫� ّ‬ ‫‪ l‬كتاب �أم القرى الذي عالج فيه �أ�سباب التخلف يف العامل الإ�سالمي‬ ‫و�أرجعها �إىل ما �سماه الأ�سباب الدينية وتتم ّثل يف ما نعته بعقيدة اجلرب‬ ‫و�إهمال العلوم العقلية‪ ،‬والأ�سباب ال�سيا�سية وتتم ّثل يف حرمان النا�س‬ ‫من حرية القول والعمل‪ ،‬والأ�سباب اخللقية ومردها الركون �إىل اجلهل‬ ‫وف�ساد التعليم وتف�ضيل الوظائف على ال�صنائع‪.‬‬ ‫‪ l‬كتاب طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد الذي تقدمه جملة‬ ‫الدوحة هدية للقارئ مع هذا العدد‪.‬‬ ‫د‪ .‬حممد لطفي اليو�سفي‬ ‫جامعة قطر‬

‫‪17‬‬


‫فاحتة الكتاب‬

‫‪18‬‬


‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‬ ‫فاحتة الكتاب‬

‫وال�سالم على‬ ‫احلمد للهّ ‪ ،‬خالق الكون على ٍ‬ ‫نظام حمكم ٍ متني‪ّ ،‬‬ ‫وال�صالة ّ‬ ‫العربي‬ ‫النبي‬ ‫احلق املبني‪ ،‬ال�سيما منهم على‬ ‫�أنبيائه العظام‪ ،‬هداة الأمم �إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذي �أر�سله رحمة ً للعاملني لريقى بهم معا�ش ًا ومعاداً على �س ّلم احلكمة �إىل‬ ‫ع ّليني‪.‬‬ ‫ال�صادع بالأمر‪،‬‬ ‫� ُ‬ ‫أقول و�أنا م�سلم عربي م�ضطر لالكتتام �ش�أن ّ‬ ‫ال�ضعيف ّ‬ ‫عمن قال‪:‬‬ ‫الراجي اكتفاء املطالعني بالقول ًّ‬ ‫املعلن ر�أيه حتت �سماء ال�رشق‪ّ ،‬‬ ‫احلق يف ذاته ال بالرجال‪� ،‬إنني يف �سنة ثماين ع�رش وثالثمائة و�ألف‬ ‫وتعرف ّ‬ ‫هجرت دياري �رسح ًا يف ال�شرّ ق‪،‬‬ ‫هجرية‬ ‫فزرت م�رص‪ ،‬واتخذتها يل مركزاً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫�سمي عم ال ّنبي‬ ‫�أرجع �إليه مغتنم ًا عهد ّ‬ ‫احلر ّية فيها على عهد عزيزها ح�رضة ًّ‬ ‫فوجدت �أفكار �رساة‬ ‫(العبا�س الثاين) ال ّنا�رش لواء الأمن على �أكناف ملكه‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪19‬‬


‫فاحتة الكتاب‬

‫القوم يف م�رص كما هي يف �سائر ال�شرّ ق خائ�ض ٌة عباب البحث يف امل�س�ألة‬ ‫الكربى‪� ،‬أعني امل�س�ألة االجتماعية يف ال�شرّ ق عموم ًا ويف امل�سلمني خ�صو�ص ًا‪،‬‬ ‫�إمنا هم ك�سائر الباحثني‪ ،‬ك ٌّل يذهب مذهب ًا يف �سبب االنحطاط ويف ما هو‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫الدواء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متح�ص عندي � ّأن �أ�صل ّ‬ ‫وحيث �إين قد ّ‬ ‫الداء هو اال�ستبداد ّ‬ ‫ا�ستقر فكري على ذلك ‪ -‬كما � ّأن ل ُك ّل‬ ‫الد�ستورية‪ .‬وقد‬ ‫ودوا�ؤه دفعه ّ‬ ‫بال�شورى ّ‬ ‫َ​َّ‬ ‫يخطر على‬ ‫نب�أ م�ستقراًـ بعد بحث ثالثني عام ًا‪ ...‬بحث ًا �أظ ّن ُه يكاد ي�شمل ك ّل ما‬ ‫ُ‬ ‫الداء �أو‬ ‫البال من �سبب ّ‬ ‫يتوه ُم فيه الباحث عند النظر ِة الأوىل‪� ،‬أن ُه ظفر ب�أ�صل ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬ال يلبث � ْأن يك�شف له ال ّتدقيق �أ ّنه مل يظفر ب�شيء‪� ،‬أو � ّأن‬ ‫أهم �أ�صوله‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ب� ّ‬ ‫فرع ال �أ�صل‪� ،‬أو هو نتيجة ال و�سيلة ‪.‬‬ ‫ذلك ٌ‬ ‫الدين‪ ،‬ال يلبث � ْأن يقف حائراً‬ ‫ُ‬ ‫الداء ال ّتهاون يف ّ‬ ‫فالقائل مث ًال‪ّ � :‬إن �أ�صل ّ‬ ‫الداء اختالف‬ ‫الدين؟ والقائل‪ّ � :‬إن ّ‬ ‫عندما ي�س�أل نف�سه ملاذا تهاون ال ّنا�س يف ّ‬ ‫الآراء‪ ،‬يقف مبهوت ًا عند تعليل �سبب االختالف‪ .‬ف�إن قال‪� :‬سببه اجلهل‪َ ،‬ي ْ�ش ُك ُل‬ ‫أ�شد‪ ...‬وهكذا‪ ،‬يجد نف�سه‬ ‫عليه وجود االختالف بني العلماء ب�صورة �أقوى و� ّ‬ ‫يف حلقة ُمفرغة ال مبد�أ لها‪ ،‬فريجع �إىل القول‪ :‬هذا ما يريده اهلل بخلقه‪ ،‬غري‬ ‫رحيم‪.‬‬ ‫عادل‬ ‫حكيم‬ ‫مكرتث مبنازعة عقله ودينه له ب� ّأن اهلل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أتعبت نف�سي‬ ‫أعدد لهم املباحث التي طاملا � ُ‬ ‫و�إنيّ ‪� ،‬إراح ًة لفكر املطالعني‪ّ � ،‬‬ ‫يف حتليلها‪،‬‬ ‫وخاطرت ح ّتى بحياتي يف در�سها وتدقيقها‪ ،‬وبذلك يعلمون �أنيّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�سيا�سي �إال بعد‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫الر�أي القائل ب� ّأن �أ�صل ّ‬ ‫الداء هو اال�ستبداد ّ‬ ‫وافقت على ّ‬ ‫نيتي �شفيع‬ ‫عنا ٍء طويل‬ ‫أ�صبت الغر�ض‪ .‬و�أرجو اهلل � ْأن يجعل ُح َ‬ ‫يرجح قد � ُ‬ ‫�سن َّ‬ ‫ُ‬ ‫�سيئاتي‪ ،‬وهاهي املباحث‪:‬‬ ‫ن�رشت يف �أ�شهر جرائدها بع�ض مقاالت �سيا�سية‬ ‫يف زيارتي هذه مل�رص‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الدين‪ ،‬على العلم‪،‬‬ ‫حتت عنوانات اال�ستبداد‪ :‬ما هو اال�ستبداد وما ت�أثريه على ّ‬ ‫على الترّ بية على الأخالق‪ ،‬على املجد‪ ،‬على املال‪� ...‬إىل غري ذلك‪.‬‬ ‫عت‬ ‫فو�س ُ‬ ‫ثم يف زيارتي �إىل م�رص ثاني ًة � ُ‬ ‫أجبت تكليف بع�ض ال�شبيبة‪ّ ،‬‬ ‫تلك املباحث خ�صو�ص ًا يف االجتماعيات كالرتبية والأخالق‪ ،‬و�أ�ضفت‬ ‫�سميته (طبائع‬ ‫�إليها طرائق التخ ُّل�ص من اال�ستبداد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ون�رشت ذلك يف كتاب َّ‬ ‫اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد) وجعلته هدي ًة مني لل ّنا�شئة العربية املباركة‬ ‫غرو‪ ،‬فال �شباب �إال بال�شباب‪.‬‬ ‫الأبية املعقودة �آمال الأمة ُ‬ ‫بي ْمنِ نوا�صيهم‪ .‬وال َ‬

‫‪20‬‬


‫ٍ‬ ‫برهة قليلة‪،‬‬ ‫وجدت الكتاب قد نفد يف‬ ‫ثم يف زيارتي هذه‪ ،‬وهي الثالثة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أحببت �أن �أعيد ال ّنظر فيه‪ ،‬و�أزيده زيداً مما در�س ُت ُه ف�ضبط ُته‪� ،‬أو ما اقتب�س ُته‬ ‫ف� ُ‬ ‫وعناء غري قليل‪ ...‬و�أنا ال �أق�صد‬ ‫وطبق ُته‪ ،‬وقد‬ ‫�رصفت يف هذا ال�سبيل عمراً عزيزاً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫أردت بيان طبائع‬ ‫�‬ ‫إمنا‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫خم�ص�صة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫أم‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫حكوم‬ ‫وال‬ ‫بعينه‬ ‫ا‬ ‫ظامل‬ ‫مباحثي‬ ‫يف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫اال�ستبداد وما يفعل‪ ،‬وت�شخي�ص م�صارع اال�ستعباد وما يق�ضيه ومي�ضيه على‬ ‫الدفني‪ ،‬ع�سى �أن يعرف‬ ‫ذويه‪ ...‬ويل هناك ٌ‬ ‫ق�صد �آخر‪ ،‬وهو التنبيه ملورد الداء ّ‬ ‫الذين ق�ضوا نحبهم‪� ،‬أنهم هم املت�سببون ملا ح َّل بهم‪ ،‬فال يعتبون على الأغيار‬ ‫وال على الأقدار‪� ،‬إمنا يعتبون على اجلهل و َف ْق ِد الهمم وال ّتواكل‪ ..‬وع�سى الذين‬ ‫فيهم بقية رمقٍ من احلياة ي�ستدركون �ش�أنهم قبل املمات‪...‬‬ ‫ال�سهل املفيد‬ ‫وقد تخيرّ ُت يف الإن�شاء �أ�سلوب االقت�ضاب‪ ،‬وهو الأ�سلوب ّ‬ ‫الذي يختاره ُك َّتاب �سائر اللغات‪ ،‬ابتعاداً عن قيود التعقيد و�سال�سل ال ّت�أ�صيل‬ ‫وال ّتفريغ‪ .‬هذا و�إنيّ �أخالف �أولئك امل�ؤ ِّلفني‪ ،‬فال �أمتنى العفو عن الزلل‪� ،‬إمنا‬ ‫�أقول‪:‬‬ ‫هذا جهدي‪ ،‬وللناقد الفا�ضل �أن ي�أتي قومه بخري منه‪ .‬فما �أنا �إال فاحت‬ ‫يل املهتدين‪.‬‬ ‫يو�سعه‪ ،‬واهلل و ُّ‬ ‫باب �صغري من �أ�سوار اال�ستبداد‪ .‬ع�سى الزمان ِّ‬ ‫‪1320‬هـ‪1902 -‬م‬

‫‪21‬‬


‫مقدمة‬

‫‪22‬‬


‫مقدمة‬ ‫ومباحث‬ ‫يتفر ُع �إىل فنون كثرية‬ ‫علم‬ ‫َ‬ ‫وا�سع ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ال�سيا�سة ٌ‬ ‫ال خفاء � ّأن ّ‬ ‫جداً‪ّ ،‬‬ ‫دقيقة �ش ّتى‪ .‬وق ّلما يوجد �إن�سان يحيط بهذا العلم‪ ،‬كما �أ ّنه ق ّلما يوجد �إن�سان‬ ‫يحتك فيه‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ُّ‬ ‫ال�سيا�سة‬ ‫وقد ُوجد يف ك ِّل الأمم املرتقية‬ ‫ُ‬ ‫علماء �سيا�سيون‪ ،‬تك ّلموا يف فنون ّ‬ ‫مدونات الأديان �أو احلقوق �أو التاريخ �أو الأخالق‬ ‫ومباحثها ا�ستطراداً يف ّ‬ ‫ال�سيا�سة لغري م� ِّؤ�س�سي‬ ‫�أو الأدب‪ .‬وال ُتعرف للأقدمني ٌ‬ ‫كتب خم�صو�صة يف ّ‬ ‫الرومان واليونان‪ ،‬و�إنمّ ا لبع�ضهم ُم�ؤ ّلفات �سيا�سية �أخالقية‬ ‫اجلمهوريات يف ّ‬ ‫وحمررات �سيا�سية دينية كنهج البالغة‬ ‫ككليلة ودمنة ور�سائل غوريغوريو�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكتاب اخلراج‪.‬‬ ‫ف�صلة يف هذا الفن لغري علماء‬ ‫و�أما يف القرون املتو�سطة فال ت�ؤثر �أبحاث ُم ّ‬ ‫والطو�سي‪ ،‬والغزايل‪،‬‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬فهم �أ ّلفوا فيه ممزوج ًا بالأخالق‬ ‫كالرازي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫واملتنبي‪ ،‬وهي‬ ‫كاملعري‪،‬‬ ‫والعالئي‪ ،‬وهي طريقة ال ُف ْر ِ�س‪ ،‬وممزوج ًا بالأدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طريقة العرب‪ ،‬وممزوج ًا بالتاريخ كابن خلدون‪ ،‬وابن بطوطة‪ ،‬وهي طريقة‬ ‫املغاربة‪.‬‬ ‫تو�سعوا يف هذا العلم و�أ ّلفوا‬ ‫� ّأما املت� ِّأخرون من �أهل �أوروبا‪َّ ،‬‬ ‫ثم �أمريكا‪ ،‬فقد َّ‬

‫‪23‬‬


‫مقدمة‬

‫فيه كثرياً و�أ�شبعوه تف�صي ًال‪ ،‬ح َّتى �إ ّنهم �أفردوا بع�ض مباحثه يف ال ّت�أليف‬ ‫ميزوا مباحثه �إىل �سيا�سة عمومية‪ ،‬و�سيا�سة خارجية‪،‬‬ ‫مبج ّلدات �ضخمة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫وق�سموا ك ًال منها‬ ‫و�سيا�سة �إدارية‪ ،‬و�سيا�سة اقت�صادية‪ ،‬و�سيا�سة حقوقية‪� ،‬إلخ‪ّ .‬‬ ‫�إىل �أبواب �ش َّتى و�أ�صول وفروع‪.‬‬ ‫و� ّأما املت� ِّأخرون من ال�رشقيني‪ ،‬فقد ُوجد من الترّ ك كثريون �أ ّلفوا يف‬ ‫�أكرث مباحثه ت�آليف م�ستق ّلة وممزوجة مثل‪� :‬أحمد جودة با�شا‪ ،‬وكمال بك‪،‬‬ ‫و�سليمان با�شا‪ ،‬وح�سن فهمي با�شا‪ ،‬وامل�ؤ ّلفون من العرب قليلون ومق ّلون‪،‬‬ ‫الدين با�شا‬ ‫والذين ي�ستح ّقون الذكر منهم فيما نعلم‪ :‬رفاعة بك‪ ،‬وخري ّ‬ ‫ال ّتون�سي‪ ،‬و�أحمد فار�س‪ ،‬و�سليم الب�ستاين‪،‬واملبعوث املدين‪.‬‬ ‫ال�سيا�سيني من العرب قد كرثوا‪ ،‬بدليل ما‬ ‫ولكن‪ ،‬يظهر لنا � ّأن‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫املحررين ّ‬ ‫يظهر من من�شوراتهم يف اجلرائد واملجالت يف موا�ضع كثرية‪ .‬ولهذا‪ ،‬الح لهذا‬ ‫أهم‬ ‫العاجز � ْأن �أُ ّ‬ ‫ذكر ح�رضاتهم على ل�سان بع�ض اجلرائد العربية مبو�ضوع هو � ّ‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬وق َّل من طرق بابه منهم �إىل الآن‪ ،‬ف�أدعوهم �إىل ميدان‬ ‫املباحث ّ‬ ‫وينبهونهم‬ ‫امل�سابقة يف خري خدمة ينريون بها �أفكار �إخوانهم ال�رشقيني‬ ‫ِّ‬ ‫ـ ال�سيما العرب منهم ـ ملا هم عنه غافلون‪ ،‬فيفيدونهم بالبحث وال ّتعليل‬ ‫و�رضب الأمثال وال ّتحليل (ما هو داء ال�شرّ ق وما هو دوا�ؤه؟)‪.‬‬ ‫ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى‬ ‫و ّ‬ ‫ال�سيا�سة ب�أ ّنه هو (�إدارة ّ‬ ‫ملا كان تعريف علم ّ‬ ‫أهمها بحث (اال�ستبداد)‪� ،‬أي‬ ‫احلكمة) يكون ّ‬ ‫ال�سيا�سة و� ّ‬ ‫بالطبع � ّأول مباحث ّ‬ ‫ال�ش�ؤون امل�شرتكة مبقت�ضى الهوى‪.‬‬ ‫�رصف يف ّ‬ ‫ال ّت ُّ‬ ‫و�إنيّ �أرى � ّأن املتكلِّم يف اال�ستبداد عليه �أن يالحظ تعريف وت�شخي�ص‬ ‫«ما هو اال�ستبداد؟ ما �سببه؟ ما �أعرا�ضه؟ ما �سريه؟ ما �إنذاره؟ ما دوا�ؤه؟»‬ ‫يتحمل تف�صيالت كثرية‪ ،‬وينطوي على مباحث �ش ّتى‬ ‫وكل مو�ضوع من ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد �شديد اخلوف؟‬ ‫من �أمهاتها‪ :‬ما هي طبائع اال�ستبداد؟ ملاذا يكون‬ ‫ُّ‬ ‫الدين؟ على‬ ‫ملاذا ي�ستويل اجلنب على رعية‬ ‫امل�ستبد؟ ما ت�أثري اال�ستبداد على ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلم؟ على املجد؟ على املال؟ على الأخالق؟ على الترَّ ِّقي؟ على الترّ بية؟ على‬ ‫العمران؟‬ ‫تحمل اال�ستبداد؟ كيف يكون ال ّتخل�ص من‬ ‫َم ْن هم �أعوان‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد؟ هل ُي ّ‬ ‫اال�ستبداد؟ مباذا ينبغي ا�ستبدال اال�ستبداد؟‬

‫‪24‬‬


‫ت�ستقر‬ ‫قبل اخلو�ض يف هذه امل�سائل ميكننا �أن ن�شري �إىل ال ّنتائج التي‬ ‫ُّ‬ ‫عندها �أفكار الباحثني يف هذا املو�ضوع‪ ،‬وهي نتائج م َّتحدة املدلول خمتلفة‬ ‫التعبري على ح�سب اختالف امل�شارب والأنظار يف الباحثني‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫والدواء‪ :‬املقاومة‪.‬‬ ‫الداء‪ :‬القوة‪ّ ،‬‬ ‫يقول املادي‪ّ :‬‬ ‫احلر ّية‪.‬‬ ‫الداء‪ :‬ا�ستعباد الربية‪ّ ،‬‬ ‫ال�سيا�سي‪ّ :‬‬ ‫ويقول ّ‬ ‫والدواء‪ :‬ا�سرتداد ّ‬ ‫والدواء‪ :‬االقتدار على‬ ‫الداء‪ :‬القدرة على االعت�ساف‪ّ ،‬‬ ‫ويقول احلكيم‪ّ :‬‬ ‫اال�ستن�صاف‪.‬‬ ‫والدواء‪ :‬تغليب ال�شرّ يعة‬ ‫ال�سلطة على ال�شرّ يعة‪ّ ،‬‬ ‫ويقول احلقوقي‪ّ :‬‬ ‫الداء‪ :‬تغ ّلب ّ‬ ‫ال�سلطة‪.‬‬ ‫على ّ‬ ‫والدواء‪ :‬توحيد اهلل ح ّق ًا‪.‬‬ ‫الداء‪ :‬م�شاركة اهلل يف اجلربوت‪ّ ،‬‬ ‫الر ّباين‪ّ :‬‬ ‫ويقول ّ‬ ‫وهذه �أقوال �أهل النظر‪ ،‬و� ّأما �أهل العزائم‪:‬‬ ‫ال�شموخ عن ال ّذل‪.‬‬ ‫والدواء‪ّ :‬‬ ‫الداء‪ُّ :‬‬ ‫الرقاب لل�سال�سل‪ّ ،‬‬ ‫أبي‪ّ :‬‬ ‫مد ّ‬ ‫فيقول ال ُّ‬ ‫والدواء‪ :‬ربطهم بالقيود‬ ‫الر�ؤ�ساء بال زمام‪ّ ،‬‬ ‫ويقول املتني‪ّ :‬‬ ‫الداء‪ :‬وجود ّ‬ ‫ال ّثقال‪.‬‬ ‫والدواء‪ :‬تذليل املتكبرّ ين‪.‬‬ ‫الداء‪ :‬ال ّتعايل على ال ّنا�س باط ًال‪ّ ،‬‬ ‫احلر‪ّ :‬‬ ‫ويقول ّ‬ ‫حب املوت‪.‬‬ ‫حب احلياة‪ّ ،‬‬ ‫ويقول املفادي‪ّ :‬‬ ‫والدواء‪ُّ :‬‬ ‫الداء‪ُّ :‬‬

‫‪25‬‬


‫ما هو اال�ستبداد‬

‫‪26‬‬


‫ما هو اال�ستبداد‬ ‫اال�ستبداد لغ ًة هو‪ :‬غرور املرء بر�أيه‪ ،‬والأنفة عن قبول ال ّن�صيحة‪� ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫الر�أي ويف احلقوق امل�شرتكة‪.‬‬ ‫يف‬ ‫اال�ستقالل‬ ‫ّ‬ ‫خا�ص ًة‪ ،‬لأ ّنها �أعظم‬ ‫ويراد باال�ستبداد عند �إطالقه ا�ستبداد احلكومات‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫جعلت الإن�سان �أ�شقى ذوي احلياة‪ .‬و�أما حت ّكم ال ّنف�س‬ ‫التي‬ ‫أ�رضاره‬ ‫�‬ ‫مظاهر‬ ‫ْ‬ ‫على العقل‪ ،‬وحت ُّكم الأب والأ�ستاذ وال ّزوج‪ ،‬ور�ؤ�ساء بع�ض الأديان‪ ،‬وبع�ض‬ ‫الطبقات‪ ،‬فيو�صف باال�ستبداد جمازاً �أو مع الإ�ضافة‪.‬‬ ‫ال�رشكات‪ ،‬وبع�ض ّ‬ ‫ال�سيا�سيني هو‪َ :‬ت�صرَ ُّ ف فرد �أو جمع يف حقوق قوم‬ ‫اال�ستبداد يف ا�صطالح ّ‬ ‫طرق مزيدات على هذا املعنى اال�صطالحي‬ ‫بامل�شيئة وبال خوف تبعة‪ ،‬وقد َت ُ‬ ‫في�ستعملون يف مقام كلمة (ا�ستبداد) كلمات‪ :‬ا�ستعباد‪ ،‬واعت�ساف‪ ،‬وت�س ُّلط‪،‬‬ ‫وح�س م�شرتك‪ ،‬وتكاف�ؤ‪ ،‬و�سلطة عامة‪.‬‬ ‫وحت ُّكم‪ .‬ويف مقابلتها كلمات‪ :‬م�ساواة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جبار‪ ،‬وطاغية‪ ،‬وحاكم ب�أمره‪،‬‬ ‫وي�ستعملون يف مقام �صفة‬ ‫ّ‬ ‫(م�ستبد) كلمات‪ّ :‬‬ ‫م�ستبدة) كلمات‪ :‬عادلة‪ ،‬وم�س�ؤولة‪،‬‬ ‫وحاكم مطلق‪ .‬ويف مقابلة (حكومة‬ ‫ّ‬ ‫الرعية (امل�س َت َب ّد عليهم)‬ ‫ّ‬ ‫ومقيدة‪ ،‬ود�ستورية‪ .‬وي�ستعملون يف مقام و�صف ّ‬ ‫كلمات‪� :‬أ�رسى‪ ،‬وم�ست�صغرين‪ ،‬وب�ؤ�ساء‪ ،‬وم�ستنبتني‪ ،‬ويف مقابلتها‪� :‬أحرار‪،‬‬ ‫و�أباة‪ ،‬و�أحياء‪ ،‬و�أع ّزاء‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫ما هو اال�ستبداد‬

‫هذا تعريف اال�ستبداد ب�أ�سلوب ذكر املرادفات واملقابالت‪ ،‬و� ّأما تعريفه‬ ‫بالو�صف فهو‪ّ � :‬أن اال�ستبداد �صفة للحكومة املطلقة العنان فع ًال �أو حكم ًا‪ ،‬التي‬ ‫الرعية كما ت�شاء بال خ�شية ح�ساب وال عقاب حم َّق َقني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تت�رصف يف �ش�ؤون ّ‬ ‫ت�رصفها على �شرّ يعة‪،‬‬ ‫بتطبيق‬ ‫فة‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫غري‬ ‫هي‬ ‫ا‬ ‫إم‬ ‫�‬ ‫احلكومة‬ ‫كون‬ ‫هو‬ ‫ذلك‬ ‫وتف�سري‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫�أو على �أمثلة تقليدية‪� ،‬أو على �إرادة ال ّأمة‪ ،‬وهذه حالة احلكومات املُطلقة‪� .‬أو‬ ‫قوة القيد مبا تهوى‪،‬‬ ‫هي ّ‬ ‫مقيدة بنوع من ذلك‪ ،‬ولك ّنها متلك بنفوذها �إبطال ّ‬ ‫باملقيدة �أو باجلمهورية‪.‬‬ ‫�سمي نف�سها‬ ‫ّ‬ ‫وهذه حالة �أكرث احلكومات التي ُت ّ‬ ‫حمل تف�صيلها‪ .‬ويكفي‬ ‫و�أ�شكال احلكومة‬ ‫امل�ستبدة كثرية لي�س هذا البحث ُّ‬ ‫ّ‬ ‫هنا الإ�شارة �إىل � ّأن �صفة اال�ستبداد‪ ،‬كما ت�شمل حكومة احلاكم الفرد املطلق‬ ‫املقيد املنتخب‬ ‫الذي تولىّ احلكم بالغلبة �أو الوراثة‪ ،‬ت�شمل �أي�ض ًا احلاكم الفرد َّ‬ ‫متى كان غري م�س�ؤول‪ ،‬وت�شمل حكومة اجلمع ولو منتخب ًا‪ ،‬ل َّأن اال�شرتاك يف‬ ‫يعدله االختالف نوع ًا‪ ،‬وقد يكون عند اال ّتفاق‬ ‫الر�أي ال يدفع اال�ستبداد‪ ،‬و�إنمَّ ا قد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُفرقة فيها بال ُكلِّ َّية‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫�ستورية‬ ‫الد‬ ‫احلكومة‬ ‫ا‬ ‫أي�ض‬ ‫�‬ ‫وي�شمل‬ ‫الفرد‪.‬‬ ‫ا�ستبداد‬ ‫من‬ ‫أ�رض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫� ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫املراقبة‪ ،‬ل َّأن اال�ستبداد ال يرتفع ما مل‬ ‫قوة‬ ‫قوة ال َّتنفيذ وعن َّ‬ ‫قوة الت�رشيع عن َّ‬ ‫َّ‬ ‫مل�شرَ ِّعني‪،‬‬ ‫مل َن ِّف ُذون م�س�ؤولني لدى ا ُ‬ ‫يكن هناك ارتباط يف امل�س�ؤولية‪ ،‬فيكون ا ُ‬ ‫ال�ش�أن ك ّله‪،‬‬ ‫وه�ؤالء م�س�ؤولني لدى ال َّأمة‪ ،‬تلك ال َّأمة التي تعرف �أ َّنها �صاحبة ّ‬ ‫وتعرف � ْأن تراقب و� ْأن تتقا�ضى احل�ساب‪.‬‬ ‫ال�شيطان هي حكومة الفرد‬ ‫تعوذ بها من ّ‬ ‫و� ّ‬ ‫أ�شد مراتب اال�ستبداد التي ُي َّ‬ ‫املطلق‪ ،‬الوارث للعر�ش‪ ،‬القائد للجي�ش‪ ،‬احلائز على �سلطة دينية‪ .‬ولنا � ْأن نقول‬ ‫خف اال�ستبداد �إىل � ْأن ينتهي باحلاكم‬ ‫من هذه الأو�صاف‪َّ ،‬‬ ‫ك ّلما ق َّل َو ْ�ص ٌف ْ‬ ‫يخف اال�ستبداد ـ طبع ًاـ ك ّلما ق َّل عدد‬ ‫املنتخب املوقت امل�س�ؤول فع ًال‪ .‬وكذلك ُّ‬ ‫الرعية‪ ،‬وق َّل االرتباط بالأمالك ال ّثابتة‪ ،‬وق َّل ال ّتفاوت يف الثرّ وة وك ّلما‬ ‫نفو�س َّ‬ ‫ال�شعب يف املعارف‪.‬‬ ‫تر َّقى ّ‬ ‫� َّإن احلكومة من � ّأي نوع كانت ال تخرج عن و�صف اال�ستبداد‪ ،‬ما مل تكن‬ ‫ال�شديدة واالحت�ساب ا ّلذي ال ت�سامح فيه‪ ،‬كما جرى يف �صدر‬ ‫حتت املراقبة َّ‬ ‫علي ر�ضي اهلل عنهما‪ ،‬وكما جرى‬ ‫الإ�سالم يف ما ُن ِقم على عثمان‪َّ ،‬‬ ‫ثم على ّ‬ ‫يف عهد هذه اجلمهورية احلا�رضة يف فرن�سا يف م�سائل ال ّنيا�شني وبناما‬ ‫ودريفو�س‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫املقررة طبيع ًة وتاريخ ًا‌ �أ َّنه‪ ،‬ما من حكومة عادلة ت�أمن‬ ‫ومن الأمور‬ ‫َّ‬ ‫امل�س�ؤولية وامل�ؤاخذة ب�سبب غفلة ال ّأمة �أو ال َّتم ُّكن من �إغفالها �إ ّال وت�سارع �إىل‬ ‫ال َّت ُّلب�س ب�صفة اال�ستبداد‪ ،‬وبعد � ْأن تتم َّكن فيه ال ترتكه ويف خدمتها �إحدى‬ ‫املنظمة‪ .‬وهما �أكرب م�صائب الأمم‬ ‫الو�سيلتني العظيمتني‪ :‬جهالة ال َّأمة‪ ،‬واجلنود َّ‬ ‫املتمدنة ـ نوع ًا ماـ من اجلهالة‪،‬‬ ‫أهم معائب الإن�سانية‪ ،‬وقد تخ َّل�صت الأمم‬ ‫ُّ‬ ‫و� ّ‬ ‫ال�شدة التي جعلتها �أ�شقى‬ ‫ولكن‪ُ ،‬بليت ب�شدة اجلندية اجلربية العمومية‪ ،‬تلك ّ‬ ‫ْ‬ ‫حيا ًة من الأمم اجلاهلة‪ ،‬و�أل�صق عاراً بالإن�سانية من �أقبح �أ�شكال اال�ستبداد‪،‬‬ ‫ال�شيطان‪ ،‬فقد‬ ‫ح َّتى ربمَّ ا‬ ‫ي�صح �أن يقال‪َّ � :‬إن خمرتع هذه اجلندية �إذا كان هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫انتقم من �آدم يف �أوالده �أعظم ما ميكنه � ْأن ينتقم! نعم‪� ،‬إذا ما دامت هذه‬ ‫اجلندية التي م�ضى عليها نحو قر َنينْ �إىل قرن �آخر �أي�ض ًا تنهك جت ُّلد الأمم‪،‬‬ ‫وجتعلها ت�سقط دفعة واحدة‪ .‬ومن يدري كم يتعجب رجال اال�ستقبال من َت َر ِّقي‬ ‫العلوم يف هذا الع�رص تر ِّقي ًا مقرون ًا با�شتداد هذه امل�صيبة التي ال ترتك حم ًال‬ ‫ال�ستغراب �إطاعة امل�رصيني للفراعنة يف بناء الأهرامات �سخرة‪ ،‬ل َّأن تلك ال‬ ‫حيث ُتعلِّمها‬ ‫تتجاوز ال ّتعب و�ضياع الأوقات‪ ،‬و� ّأما اجلندية ف ُتف�سد �أخالق ال ّأمة‪ُ ،‬‬ ‫والطاعة العمياء واال ِّتكال‪ ،‬وتمُ يت ال ّن�شاط وفكرة اال�ستقالل‪ ،‬و ُتكلِّف‬ ‫ال�شرّ ا�سة ّ‬ ‫وك ُّل ذلك من�رصف لت�أييد اال�ستبداد امل�ش�ؤوم‪:‬‬ ‫ال ّأمة الإنفاق الذي ال يطاق‪ُ ،‬‬ ‫القوة من جهة‪ ،‬وا�ستبداد الأمم بع�ضها على‬ ‫ا�ستبداد احلكومات القائدة لتلك َّ‬ ‫بع�ض من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫ولرنجع لأ�صل البحث ف�أقول‪ :‬ال ُيعهد يف تاريخ احلكومات املدنية‬ ‫مدة �أكرث من ن�صف قرن �إىل غاية قرن ون�صف‪ ،‬وما‬ ‫ا�ستمرار حكومة م�س�ؤولة َّ‬ ‫وال�سبب يقظة الإنكليز الذين‬ ‫�ش َّذ من ذلك �سوى احلكومة احلا�رضة يف �إنكلرتا‪ّ ،‬‬ ‫ال ُي�سكرهم انت�صار‪ ،‬وال ُيخملهم انك�سار‪ ،‬فال يغفلون حلظة عن مراقبة ملوكهم‪،‬‬ ‫وال�صهر‪،‬‬ ‫ح َّتى � َّأن الوزارة هي تنتخب للملك َخ َد َم ُه َ‬ ‫وح َ�ش َم ُه ف�ض ًال عن ال ّزوجة ّ‬ ‫وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون ك َّل �شيء ما عدا ال ّتاج‪ ،‬لو ت�س ّنى الآن‬ ‫ولكن‪ ،‬هيهات � ْأن يظفر بغرة من قومه ي�ستلم‬ ‫لأحدهم اال�ستبداد َل َغ ِن َم ُه حا ًال‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فيها زمام اجلي�ش‪.‬‬ ‫البدوية التي تت�أ َّلف رعيتها ك ّلها �أو �أكرثها من ع�شائر‬ ‫� ّأما احلكومات‬ ‫ّ‬ ‫حر ّيتهم‬ ‫فرق متى َّ‬ ‫م�س ْت حكوم ُتهم ّ‬ ‫الرحيل وال َّت ّ‬ ‫يقطنون البادية‪ ،‬ي�سهل عليهم ّ‬

‫‪29‬‬


‫ما هو اال�ستبداد‬

‫ال�شخ�صية‪ ،‬و�سام ْتهم �ضيم ًا‪ ،‬ومل يقووا على اال�ستن�صاف‪ ،‬فهذه احلكومات ق ّلما‬ ‫ّ‬ ‫اندفعت �إىل اال�ستبداد‪ .‬و�أقرب مثال لذلك �أهل جزيرة العرب‪ ،‬ف�إ َّنهم ال يكادون‬ ‫وحميرْ وغ�سان �إىل الآن �إ ّال فرتات‬ ‫تبع ُ‬ ‫يعرفون اال�ستبداد من قبل عهد ملوك ّ‬ ‫قليلة‪ .‬و�أ�صل احلكمة يف � َّأن احلالة البدوية بعيدة باجلملة عن الوقوع حتت‬ ‫كل فرد ميكنه � ْأن‬ ‫نري اال�ستبداد‪ ،‬وهو � َّأن ن�ش�أة‬ ‫البدوي ن�ش�أة ا�ستقاللية‪ ،‬بحيث ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ين الطبع‪ ،‬تلك‬ ‫يعتمد يف معي�شته على نف�سه فقط‪ ،‬خالف ًا لقاعدة الإن�سان املد ّ‬ ‫القاعدة التي �أ�صبحت �سخرية عند علماء االجتماع املت� ِّأخرين‪ ،‬القائلني ب� َّأن‬ ‫الإن�سان من احليوانات التي تعي�ش �أ�رساب ًا يف كهوف وم�سارح خم�صو�صة‪،‬‬ ‫و� ّأما الآن فقد �صار من احليوان الذي متى انتهت ح�ضانته‪ ،‬عليه � ْأن يعي�ش‬ ‫م�ستق ًال بذاته‪ ،‬غري متع ّلق ب�أقاربه وقومه ك ّل االرتباط‪ ،‬وال مرتبط ببيته وبلده‬ ‫ك ّل ال ّتع ُّلق‪ ،‬كما هي معي�شة �أكرث الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم‬ ‫� َّأن تع ُّلقه بقومه وحكومته لي�س ب�أكرث من رابطة �رشيك يف �رشكة اختيارية‪،‬‬ ‫خالف ًا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين‪.‬‬ ‫ال ّناظر يف �أحوال الأمم يرى � َّأن الأُ�رساء يعي�شون متال�صقني مرتاكمني‪،‬‬ ‫تلتف حول بع�ضها �إذا‬ ‫يتح َّفظُ بع�ضهم ببع�ض من �سطوة اال�ستبداد‪ ،‬كالغنم ُّ‬ ‫اال�ستقالل ال ّناجز‬ ‫احلرة املالك �أفرادها‬ ‫َ‬ ‫ذعرها ال ّذئب‪ّ � ،‬أما الع�شائر والأمم ّ‬ ‫فرقني‪.‬‬ ‫فيعي�شون ُم َت ِّ‬ ‫�سيما املت� ِّأخرون منهم ـ يف و�صف اال�ستبداد‬ ‫وقد تك َّلم بع�ض احلكماء ـ ال َّ‬ ‫�صور يف الأذهان �شقاء الإن�سان‪ ،‬ك�أ َّنها تقول له‬ ‫ودوائه بجمل بليغة بديعة ُت ِّ‬ ‫عدوك فانظر ماذا ت�صنع‪ ،‬ومن هذه اجلمل قولهم‪:‬‬ ‫هذا َّ‬ ‫(امل�ستبد‪ :‬يتح َّكم يف �ش�ؤون ال ّنا�س ب�إرادته ال ب�إرادتهم‪ ،‬ويحكمهم بهواه ال‬ ‫ّ‬ ‫املتعدي في�ضع كعب رجله على �أفواه‬ ‫ب�رشيعتهم‪ ،‬ويعلم من نف�سه �أ َّنه الغا�صب‬ ‫ِّ‬ ‫باحلق وال ّتداعي ملطالبته)‪.‬‬ ‫ي�سدها عن ال ّنطق‬ ‫ّ‬ ‫املاليني من ال َّنا�س ُّ‬ ‫واحلر ّية � ّأمهم‪،‬‬ ‫حل ّية وقاتلهما‪ ،‬واحلق �أبو الب�رش‪،‬‬ ‫عدو ا ّ‬ ‫عدو ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلق‪ّ ،‬‬ ‫(امل�ستبد‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫الرا�شدون‪ْ � ،‬إن‬ ‫والعوام �صبية �أيتام ال يعلمون �شيئ ًا‪ ،‬والعلماء هم �إخوتهم ّ‬ ‫لبوا‪ ،‬و�إال في َّت�صل نومهم باملوت)‪.‬‬ ‫هبوا‪ ،‬و� ْإن دعوهم ّ‬ ‫�أيقظوهم ّ‬ ‫الظامل على جنب‬ ‫ير حاجزاً من حديد‪ ،‬فلو ر�أى ّ‬ ‫(امل�ستبد‪ :‬يتجاوز ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلد ما مل َ‬ ‫الظلم‪ ،‬كما يقال‪ :‬اال�ستعداد للحرب مينع احلرب)‪.‬‬ ‫املظلوم �سيف ًا ملا �أقدم على ّ‬

‫‪30‬‬


‫الرعية � ْأن‬ ‫إن�سان‬ ‫م�ستعد ّ‬ ‫(امل�ستبد‪ٌ � :‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫بالطبع لل�شرّ وبالإجلاء للخري‪ ،‬فعلى ّ‬ ‫تعرف ما هو اخلري وما هو ال�شرّ فتلجئ حاكمها للخري رغم طبعه‪ ،‬وقد يكفي‬ ‫الطلب �إذا علم احلاكم � َّأن وراء القول فع ًال‪ .‬ومن املعلوم � َّأن جمرد‬ ‫جمرد َّ‬ ‫للإجلاء َّ‬ ‫�رش اال�ستبداد)‪.‬‬ ‫اال�ستعداد للفعل فعل يكفي َّ‬ ‫دراً وطاع ًة‪ ،‬وكالكالب تذ ُّل ًال ومت ُّلق ًا‪،‬‬ ‫(امل�ستبد‪ُّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫يود � ْأن تكون رعيته كالغنم ّ‬ ‫ِ‬ ‫دمت‪ ،‬و� ْإن �ضرُ ِبت �شرَ �ست‪ ،‬وعليها‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫خ‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫كاخليل‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫عية‬ ‫الر‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ َ ْ‬ ‫وعلى َّ‬ ‫بال�صيد كلِّه‪ ،‬خالف ًا للكالب‬ ‫�أن تكون كال�صقور ال ُتالعب وال ُي�ست�أثر عليها‬ ‫ّ‬ ‫الرعية �أن‬ ‫التي ال فرق عندها �أَطُ ِعمت �أو ُحرِمت ح َّتى من العظام‪ .‬نعم‪ ،‬على ّ‬ ‫وخلق هو‬ ‫تعرف مقامها‪ :‬هل ُخ ِلقت خادمة حلاكمها‪ ،‬تطيعه � ْإن عدل �أو جار‪ُ ،‬‬ ‫ليحكمها كيف �شاء بعدل �أو اعت�ساف؟ �أم هي جاءت به ليخدمها ال ي�ستخدمها؟‪..‬‬ ‫تقيد وح�ش اال�ستبداد بزمام ت�ستميت دون بقائه يف يدها‪،‬‬ ‫والرعية العاقلة َّ‬ ‫َّ‬ ‫لت�أمن من بط�شه‪ ،‬ف�إن �شمخ ه َّزت به ال ّزمام و� ْإن �صال ربط ْته)‪.‬‬ ‫من �أقبح �أنواع اال�ستبداد ا�ستبداد اجلهل على العلم‪ ،‬وا�ستبداد ال ّنف�س على‬ ‫�سمى ا�ستبداد املرء على نف�سه‪ ،‬وذلك � َّأن اهلل ج ّل ْت نعمه َخل َ​َق الإن�سان‬ ‫العقل‪ُ ،‬‬ ‫وي ّ‬ ‫و�سخر له‬ ‫حراً‪ ،‬قائده العقل‪ ،‬فك َف َر و�أبى �إال � ْأن يكون عبداً قائده اجلهل‪َ .‬خ َل َقه َّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم جعل له الأر�ض � ّأم ًا والعمل �أب ًا‪،‬‬ ‫ه‪،‬‬ ‫أ�شد‬ ‫�‬ ‫يبلغ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫أوده‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫يقومان‬ ‫ا‬ ‫أب‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫� َّأم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ َّ‬ ‫َف َك َفر وما ر�ضي �إال �أن تكون � َّأم ُته � ّأمه وحاكمه �أباه‪َ .‬خل َ​َق له �إدراك ًا ليهتدي �إىل‬ ‫ويدين ليعمل‪ ،‬ول�سان ًا‬ ‫وعي َنينْ ليب�رص‪ ،‬ورجلينْ لي�سعى‪ْ ،‬‬ ‫معا�شه وي ّتقي مهلكه‪ْ ،‬‬ ‫أحب �إال � ْأن يكون كالأبله الأعمى‪،‬‬ ‫ليكون ترجمان ًا عن �ضمريه‪ ،‬ف َك َف َر وما � َّ‬ ‫�شي من غريه‪ ،‬وق َّلما يطبق ل�سانه جنانه‪.‬‬ ‫املقعد‪ ،‬الأ�ش ّل‪ ،‬الكذوب‪ ،‬ينتظر ُك َّل ْ‬ ‫َخ َل َق ُه منفرداً غري م َّت�صل بغريه ليملك اختياره يف حركته و�سكونه‪ ،‬ف َك َف َر وما‬ ‫�سماها الوطن‪ ،‬وت�شابك بال ّنا�س ما‬ ‫ا�ستطاب �إال االرتباط يف �أر�ض حمدودة َّ‬ ‫ا�ستطاع ا�شتباك تظالمُ ال ا�شتباك تعاون‪َ ...‬خ َل َقه لي�شكره على جعله عن�رصاً‬ ‫حي ًا بعد �أن كان تراب ًا‪ ،‬وليلج�أ �إليه عند الفزع تثبيت ُا للجنان‪ ،‬ولي�ستند عليه‬ ‫ّ‬ ‫للرتدد‪ ،‬وليثق مبكاف�أته �أو جمازاته على الأعمال‪ ،‬ف َك َف َر و�أبى‬ ‫عند العزم دفع ًا ُّ‬ ‫ال�صحيح بالباطل ليغالط نف�سه وغريه‪َ .‬خ َل َقه‬ ‫ُ�ش ْك َره َ‬ ‫وخلَطَ يف دين الفطرة ّ‬ ‫يطلب منفعته جاع ًال رائده الوجدان‪ ،‬ف َك َف َر‪ ،‬وا�ستح َّل املنفعة ب�أي وجه كان‪،‬‬ ‫ُحرم كبري‪ .‬خلقه وبذل له مواد‬ ‫فال يتع ّفف عن حمظور �صغري �إال ُّ‬ ‫تو�ص ًال مل َّ‬

‫‪31‬‬


‫ما هو اال�ستبداد‬

‫احلياة‪ ،‬من نور ون�سيم ونبات وحيوان ومعادن وعنا�رص مكنوزة يف خزائن‬ ‫الطبيعة‪ ،‬مبقادير ناطقة بل�سان احلال‪ ،‬ب� َّأن واهب احلياة حكيم خبري جعل‬ ‫ّ‬ ‫إن�سان نعم َة اهلل‬ ‫مواد احلياة �أكرث لزوم ًا يف ذاته‪� ،‬أكرث وجوداً وابتذا ًال‪ ،‬ف َك َف َر ال ُ‬ ‫ربه �إىل نف�سه‪ ،‬وابتاله بظلم نف�سه وظُ ْلم‬ ‫و�أبى �أن يعتمد كفالة رزقه‪َّ ،‬‬ ‫فوكل ُه ُّ‬ ‫جن�سه‪ ،‬وهكذا كان الإن�سان ظلوم ًا كفوراً‪.‬‬ ‫عبوديته‬ ‫ي�صفع بها رقاب الآبقني من ج ّنة‬ ‫اخلفية‬ ‫القوية‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫اال�ستبداد‪َ :‬ي ُد اهلل ّ‬ ‫امل�ستبدين الذين ي�شاركون اهلل يف عظمته ويعاندونه جهاراً‪،‬‬ ‫�إىل جه َّنم عبودية‬ ‫ِّ‬ ‫ثم ينتقم منه)‪ ،‬كما جاء يف �أث ٍر‬ ‫وقد ورد يف اخلرب‪ّ :‬‬ ‫(الظامل �سيف اهلل ينتقم به‪َّ ،‬‬ ‫الظامل‬ ‫(م ْن �أعان ظامل ًا على ظلمه َ�سلَّطَ ه اهلل عليه)‪ ،‬وال َّ‬ ‫�شك يف � َّأن �إعانة ّ‬ ‫�آخر‪َ :‬‬ ‫جمرد الإقامة على �أر�ضه‪.‬‬ ‫تبتدئ من َّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬واجلحيم هو نار غ�ضبه يف الآخرة‪،‬‬ ‫اال�ستبداد‪ :‬هو نار غ�ضب اهلل يف ّ‬ ‫من خلقهم‬ ‫وقد خلق اهلل ال ّنار �أقوى‬ ‫الدنيا َد َن َ�س ْ‬ ‫املطهرات‪َ ،‬ف ُيطَ ِّهر بها يف ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وبذل فيها رزقهم‪ ،‬ف َك َفروا بنعمته‪ ،‬ور�ضخوا‬ ‫وب َ�سطَ لهم الأر�ض وا�سعة‪َ ،‬‬ ‫�أحراراً‪َ ،‬‬ ‫لال�ستعباد وال َّتظامل‪.‬‬ ‫يتعجل اهلل به االنتقام من عباده اخلاملني‪ ،‬وال‬ ‫اال�ستبداد‪� :‬أعظم بالء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يرفعه عنهم ح َّتى يتوبوا توبة الأنفة‪ .‬نعم‪ ،‬اال�ستبداد �أعظم بالء‪ ،‬لأ َّنه وباء دائم‬ ‫والغ�صب‪،‬‬ ‫بال�سلب‬ ‫م�ستمر بتعطيل الأعمال‪،‬‬ ‫وج ْد ٌب‬ ‫ٌ‬ ‫بالفنت َ‬ ‫ْ‬ ‫وحريق متوا�ص ٌل َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫مل ال‬ ‫وخوف يقطع القلوب‪،‬‬ ‫جارف للعمران‪،‬‬ ‫و�سي ٌل‬ ‫وظالم يعمي الأب�صار‪ ،‬و�أ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫يفرت‪ ،‬و�صائ ٌل ال يرحم‪ ،‬وق�صة �سوء ال تنتهي‪ .‬و�إذا �س�أل �سائ ٌل‪ :‬ملاذا يبتلي اهلل‬ ‫مطلق ال يظلم �أحداً‪،‬‬ ‫عادل‬ ‫أبلغ جواب ُم ْ�س ِكت هو‪َّ � :‬إن اهلل‬ ‫عباده‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بامل�ستبدين؟ ف� ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ال�سائل نظرة احلكيم املد ِّقق لوجد‬ ‫نظر‬ ‫ولو‬ ‫ين‪.‬‬ ‫امل�ستبد‬ ‫على‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫امل�ستبد‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫فال ُ لىَّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�ستبداً يف نف�سه‪ ،‬لو قدر جلعل زوجته وعائلته‬ ‫ُك َّل فرد من �أُ�رساء اال�ستبداد ُم ّ‬ ‫وربه الذي خل َق ُه تابعني لر�أيه و�أمره‪.‬‬ ‫وع�شريته وقومه والب�رش ُك َّلهم‪ ،‬ح َّتى َّ‬ ‫م�ستبد‪ ،‬والأحرار يتوالهم الأحرار‪ ،‬وهذا �رصيح‬ ‫فامل�ستبدون يتوالهم‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫معنى‪( :‬كما تكونوا ُيولىَّ عليكم)‪.‬‬ ‫حر ّيته‪ ،‬ف� َّإن‬ ‫أر�ض �أن‬ ‫أليق بالأ�سري يف � ٍ‬ ‫ما � َ‬ ‫يتحول عنها �إىل ُ‬ ‫َّ‬ ‫حيث ميلك ّ‬ ‫خري حيا ًة من الأ�سد املربوط‪.‬‬ ‫الكلب ّ‬ ‫الطليق ُ‬

‫‪32‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬ ‫الطبيعي للأديان‪ ،‬على‬ ‫ت�ضافرت �آراء �أكرث العلماء ال ّناظرين يف ال ّتاريخ ّ‬ ‫يكن‬ ‫الديني‪ ،‬والبع�ض يقول‪ْ � :‬إن مل ْ‬ ‫ال�سيا�سي ُم َت َو ِّلد من اال�ستبداد ِّ‬ ‫� َّأن اال�ستبداد ّ‬ ‫الريا�سة‪� ،‬أو هما �صنوان‬ ‫هناك توليد فهما �أخوان‪� ،‬أبوهما ال َّتغلب و� ّأمهما ّ‬ ‫قويان‪ ،‬بينهما رابطة احلاجة على ال ّتعاون لتذليل الإن�سان‪ ،‬وامل�شاكلة‬ ‫ّ‬ ‫بينهما �أ َّنهما حاكمان‪� ،‬أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب‪.‬‬ ‫والفريقان م�صيبان بحكمهما بال ّنظر �إىل مغزى �أ�ساطري ال ّأولني‪ ،‬والق�سم‬ ‫حق‬ ‫والر�سائل امل�ضافة �إىل الإجنيل‪ .‬وخمطئون يف ّ‬ ‫ال ّتاريخي من ال ّتوراة‪ّ ،‬‬ ‫الأق�سام ال ّتعليمية الأخالقية فيهما‪ ،‬كما هم خمطئون �إذا نظروا �إىل � َّأن القر�آن‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬ولي�س من العذر �شيء � ْأن يقولوا‪ :‬نحن ال ندرك‬ ‫جاء م� ّؤيداً لال�ستبداد ّ‬ ‫طي بالغته‪ ،‬ووراء العلم ب�أ�سباب نزول‬ ‫دقائق القر�آن نظراً خلفائها علينا يف ِّ‬ ‫مقدمات ما ن�شاهد عليه امل�سلمني منذ قرون‬ ‫�آياته‪ ،‬و�إنمَّ ا نبني نتيجتنا على ِّ‬ ‫بالدين‪.‬‬ ‫�ستبديهم ِّ‬ ‫�إىل الآن من ا�ستعانة ُم ِّ‬ ‫ماوية تدعو‬ ‫يقول ه�ؤالء‬ ‫املحررون‪َّ � :‬إن ال َّتعاليم ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫الدينية‪ ،‬ومنها الكتب َّ‬ ‫ِّ‬ ‫تتهدد الإن�سان بك ّل‬ ‫قوة َّ‬ ‫قوة عظيمة ال ُتدرك العقول ُك ْن َهها‪ّ ،‬‬ ‫الب�رش �إىل خ�شية ّ‬ ‫م�صيبة يف احلياة فقط‪ ،‬كما عند البوذية واليهودية‪� ،‬أو يف احلياة وبعد املمات‪،‬‬

‫‪33‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫كما عند ال ّن�صارى والإ�سالم‪ ،‬تهديداً ترتعد منه الفرائ�ص فتخور القوى‪،‬‬ ‫ثم تفتح هذه ال َّتعاليم �أبواب ًا‬ ‫وتنذهل منه العقول فت�ست�سلم للخبل واخلمول‪َّ ،‬‬ ‫ولكن‪ ،‬على تلك الأبواب‬ ‫لل ّنجاة من تلك املخاوف جناة وراءها نعيم مقيم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حجاب من الرباهمة والكهنة والق�سو�س و�أمثالهم الذين ال ي�أذنون لل ّنا�س‬ ‫ّ‬ ‫لِ‬ ‫وال�صغار‪ ،‬ويرزقوهم با�سم نذر �أو ثمن‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫مع‬ ‫موهم‬ ‫يعظ‬ ‫مل‬ ‫ما‬ ‫خول‬ ‫بالد‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلجاب يف بع�ض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء‬ ‫أولئك‬ ‫�‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫غفران‪،‬‬ ‫َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫بربها ما مل ي�أخذوا عنها مكو�س املرور �إىل القبور وفدية اخلال�ص‬ ‫الأرواح ِّ‬ ‫يرهبون ال ّنا�س من‬ ‫من مطهر الأعراف‪ .‬وه�ؤالء املهيمنون على الأديان كم ِّ‬ ‫ثم ير�شدونهم �إىل � ْأن‬ ‫غ�ضب اهلل وينذرونهم بحلول م�صائبه وعذابه عليهم‪َّ ،‬‬ ‫ال خال�ص وال منا�ص لهم �إال بااللتجاء �إىل �سكان القبور الذين لهم دالة‪ ،‬بل‬ ‫�سطوة على اهلل فيحمونهم من غ�ضبه‪.‬‬ ‫أ�سا�س من هذا القبيل‪،‬‬ ‫ال�سيا�سيني يبنون كذلك ا�ستبدادهم على � ٍ‬ ‫ويقولون‪َّ � :‬إن ّ‬ ‫ويذ ِّللونهم‬ ‫ال�شخ�صي وال ّت�شامخ‬ ‫فهم ي�سرتهبون ال ّنا�س بال ّتعايل ّ‬ ‫احل�سي‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�سلب الأموال ح َّتى يجعلوهم خا�ضعني لهم‪ ،‬عاملني لأجلهم‪،‬‬ ‫والقوة‬ ‫بالقهر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫يتم َّتعون بهم ك�أ َّنهم نوع من الأنعام التي ي�رشبون �ألبانها‪ ،‬وي�أكلون حلومها‪،‬‬ ‫ويركبون ظهورها‪ ،‬وبها يتفاخرون‪.‬‬ ‫وال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ويرون � َّأن هذا ال َّت�شاكل يف بناء ونتائج‬ ‫َ‬ ‫اال�ستبداد ْين‪ِّ ،‬‬ ‫الديني ّ‬ ‫م�شرتكينْ يف العمل‪ ،‬ك�أ َّنهما يدان‬ ‫جعلهما يف مثل فرن�سا خارج باري�س‬ ‫َ‬ ‫متعاونتان‪ ،‬وجعلهما يف مثل رو�سيا م�شتب َكينْ ِ يف الوظيفة‪ ،‬ك�أ َّنهما اللوح‬ ‫�سجالن ال�شقاء على الأمم‪.‬‬ ‫والقلم ُي ِّ‬ ‫ينجر بعوام الب�رشـ وهم ال�سواد‬ ‫القوتَينْ‬ ‫ُ‬ ‫قررون � َّأن هذا ال َّت�شاكل بني ّ‬ ‫وي ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫بحق وبني‬ ‫الأعظم ـ �إىل نقطة � ْأن يلتب�س عليهم الفرق بني الإله املعبود ّ‬ ‫ملطاع بالقهر‪ ،‬فيختلطان يف م�ضايق �أذهانهم من حيث ال َّت�شابه‬ ‫امل�ستبد ا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�س�ؤال وعدم امل�ؤاخذة على الأفعال‪،‬‬ ‫يف ا�ستحقاق مزيد ال َّتعظيم‪ِّ ،‬‬ ‫والرفعة عن ّ‬ ‫امل�ستبد النتفاء ال ّن�سبة بني عظمته‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال يرون لأنف�سهم ح ّق ًا يف مراقبة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫م�شرتكينْ ِ يف كث ٍري‬ ‫وجبارهم‬ ‫معبودهم‬ ‫العوام‬ ‫يجد‬ ‫أخرى‪:‬‬ ‫�‬ ‫وبعبارة‬ ‫ودناءتهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فرقوا مث ًال بني‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫أنهم‬ ‫وال�صفات‪ ،‬وهم لي�س من �ش�‬ ‫ْ‬ ‫من احلاالت والأ�سماء ِّ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫عما يفعل) وغري م�س�ؤول‪،‬‬ ‫( َّ‬ ‫الفعال املطلق)‪ ،‬واحلاكم ب�أمره‪ ،‬وبني (ال ُي�س�أل ّ‬

‫‪34‬‬


‫عظمون‬ ‫بناء عليه‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫وبني (املنعم) وو ّ‬ ‫يل النعم‪ ،‬وبني (ج َّل �ش�أنه) وجليل َّ‬ ‫ال�ش�أن‪ً .‬‬ ‫حليم كرمي‪،‬‬ ‫اجلبابرة تعظيمهم هلل‪ ،‬ويزيدون تعظيمهم على ال َّتعظيم هلل‪ ،‬لأ َّنه‬ ‫ٌ‬ ‫اجلبار فعاج ٌل حا�رض‪ .‬والعوام ـ كما يقال‬ ‫ول َّأن عذابه �آج ٌل‬ ‫غائب‪ ،‬و� َّأما انتقام َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ي�صح‬ ‫�شاهد‪ ،‬ح َّتى‬ ‫ـ عقولهم يف عيونهم‪ ،‬يكاد ال يتجاوز فعلهم املح�سو�س ا ُ‬ ‫مل َ‬ ‫ّ‬ ‫الدنيا‪،‬‬ ‫� ْأن ُيقال فيهم‪ :‬لوال رجا�ؤهم باهلل‪ ،‬وخوفهم منه فيما يتع َّلق بحياتهم ّ‬ ‫الدالئل والأوراد‬ ‫رجحوا قراءة ّ‬ ‫ملا �ص ّلوا وال �صاموا‪ ،‬ولوال �أملهم العاجل‪ ،‬ملا َّ‬ ‫املقربني كما يعتقدون ـ على‬ ‫على قراءة القر�آن‪ ،‬وال َّ‬ ‫رجحوا اليمني بالأولياء ـ َّ‬ ‫اليمني باهلل‪.‬‬ ‫املنحطة دعوى بع�ض‬ ‫�سهلت يف الأمم الغابرة‬ ‫َّ‬ ‫وهذه احلال‪ ،‬هي التي َّ‬ ‫الرعية‪ ،‬ح َّتى‬ ‫ِّ‬ ‫امل�ستبدين الألوهية على مراتب خمتلفة‪ ،‬ح�سب ا�ستعداد �أذهان َّ‬ ‫قد�سية ي�شارك‬ ‫�سيا�سي �إىل الآن �إال وي َّتخذ له �صفة‬ ‫م�ستبد‬ ‫ُيقال‪� :‬إ َّنه ما من‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقام ذي عالقة مع اهلل‪ .‬وال �أق َّل من � ْأن ي َّتخذ بطانة من‬ ‫بها اهلل‪� ،‬أو تعطيه‬ ‫َ‬ ‫أقل ما يعينون به اال�ستبداد‪،‬‬ ‫الدين يعينونه على ظلم ال َّنا�س با�سم اهلل‪ ،‬و� ُّ‬ ‫َخ َد َم ِة ِّ‬ ‫قوة‬ ‫تفريق الأمم �إىل مذاهب و�شيع متعادية تقاوم بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬فتتهاتر َّ‬ ‫فرخ‪ ،‬وهذه �سيا�سة‬ ‫اجلو لال�ستبداد ليبي�ض ُ‬ ‫ال ّأمة ويذهب ريحها‪ ،‬فيخلو ّ‬ ‫وي ِّ‬ ‫الإنكليز يف امل�ستعمرات‪ ،‬ال ُي� ِّؤيدها �شيء مثل انق�سام الأهايل على �أنف�سهم‪،‬‬ ‫و�إفنائهم ب�أ�سهم بينهم ب�سبب اختالفهم يف الأديان واملذاهب‪.‬‬ ‫امل�ستبدين من �أمثال (�أبناء داود) و(ق�سطنطني) يف ن�رش‬ ‫وي َعلِّ ُلون � َّأن قيام‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الدين بني رعاياهم‪ ،‬وانت�صار مثل (فيليب ال ّثاين) الأ�سباين و(هرني ال ّثامن)‬ ‫ِّ‬ ‫الفاطمي‬ ‫احلاكم‬ ‫وقيام‬ ‫(انكيزي�سيون)‬ ‫جمال�س‬ ‫بت�شكيل‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ين‪،‬‬ ‫للد‬ ‫إنكليزي‬ ‫ال‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وفية‪ ،‬وبنائهم لهم‬ ‫وال�سالطني الأعاجم يف الإ�سالم باالنت�صار لغالة ُّ‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫َّ‬ ‫الدين وببع�ض �أهله املغ َّفلني‬ ‫ال ّتكايا‪ ،‬مل ْ‬ ‫يكن �إال بق�صد اال�ستعانة مبم�سوخ ِّ‬ ‫وي� ّؤيدها � َّأن ال ّنا�س‬ ‫على ظلم امل�ساكني‪ ،‬و�أعظم ما يالئم م�صلحة‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد ُ‬ ‫فيودون ت�أليف ال ّأمة‬ ‫يتل ّقون قواعده و�أحكامه ب�إذعان بدون بحث وجدال‪ّ ،‬‬ ‫عينه‪ ،‬كثرياً ما يحاولون بناء‬ ‫على تل ّقي �أوامرهم مبثل ذلك‪ ،‬ولهذا الق�صد ْ‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫�أوامرهم �أو تفريعها على �شي ٍء من قواعد ِّ‬ ‫تنفك متى‬ ‫ويحكمون ب� َّأن بني‬ ‫يني مقارنة ال ُّ‬ ‫َ‬ ‫يا�سي ّ‬ ‫اال�ستبداد ْين‪ّ :‬‬ ‫والد ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫جر الآخر �إليه‪� ،‬أو متى زال‪ ،‬زال رفيقه‪ ،‬و� ْإن �صلح‪� ،‬أي‬ ‫ُوجِ د �أحدهما يف � ّأمة َّ‬

‫‪35‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫جداً ال‬ ‫�ضعف ال ّأول‪� ،‬صلح‪� ،‬أي �ضعف ال ّثاين‪ .‬ويقولون‪َّ � :‬إن �شواهد ذلك كثري ٌة ّ‬ ‫ال�سيا�سة‬ ‫يخلو منها‬ ‫ٌ‬ ‫ويربهنون على � َّأن ّ‬ ‫زمان وال مكان‪ُ .‬‬ ‫الدين �أقوى ت�أثرياً من ّ‬ ‫بال�سك�سون‪� ،‬أي الإنكليز والهولنديني والأمريكان‬ ‫�إ�صالح ًا و�إف�ساداً‪ ،‬ويمُ ّثلون ّ‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫والأملان الذين قبلوا‬ ‫حرر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني يف الإ�صالح ّ‬ ‫الربوت�ستنتية‪ ،‬ف�أثر ال ّت ّ‬ ‫يا�سية يف جمهور الالتني‪� ،‬أي‬ ‫ال�س ّ‬ ‫احلر ّية املطلقة ّ‬ ‫والأخالق �أكرث من ت�أثري ّ‬ ‫ال�سيا�سيون‬ ‫الفرن�سيني ّ‬ ‫والطليان واال�سبانيول والربتغال‪ .‬وقد �أجمع الك ّتاب ّ‬ ‫ملد ِّققون‪ ،‬باال�ستناد على ال ّتاريخ واال�ستقراء‪ ،‬من � َّأن ما من � ّأمة �أو عائلة‬ ‫ا ُ‬ ‫ت�شدد فيه �إال واخت َّل نظام دنياه وخ�رس �أوالده‬ ‫الدين �أي َّ‬ ‫�أو �شخ�ص َت َن َّط َع يف ّ‬ ‫وعقباه‪.‬‬ ‫والدين مي�شيان‬ ‫ال�سيا�سة ّ‬ ‫ال�سيا�سيني يرون � َّأن ّ‬ ‫واحلا�صل � َّأن كل املد ِّققني ّ‬ ‫الدين هو �أ�سهل و�أقوى و�أقرب طريق للإ�صالح‬ ‫متكات َفينْ ‪ ،‬ويعتربون � َّأن �إ�صالح ّ‬ ‫ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدين يف الإ�صالح‬ ‫ا�ستخدم‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫امل�سلك‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫�سلك‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫كان‬ ‫ورمبا‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبدين يف حملهم‬ ‫ملوكهم‬ ‫على‬ ‫لوا‬ ‫حتي‬ ‫حيث‬ ‫اليونان‪،‬‬ ‫حكماء‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬هم‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سة ب�إحيائهم عقيدة اال�شرتاك يف الألوهية‪،‬‬ ‫يف‬ ‫اال�شرتاك‬ ‫قبول‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫�أخذوها عن الآ�شوريني‪ ،‬ومزجوها ب�أ�ساطري امل�رصيني ب�صورة تخ�صي�ص‬ ‫العدالة ب�إله‪ ،‬واحلرب ب�إله‪ ،‬والأمطار ب�إله‪� ،‬إىل غري ذلك من ال ّتوزيع‪ ،‬وجعلوا‬ ‫وحق الترّ جيح عند وقوع االختالف بينهم‪.‬‬ ‫حق ال ّنظارة عليهم‪ّ ،‬‬ ‫لإله الآلهة ّ‬ ‫ثم بعد مت ُّكن هذه العقيدة يف الأذهان مبا �أُلب�ست من جاللة املظاهر و�سحر‬ ‫َّ‬ ‫البيان َ�س ُه َل على �أولئك احلكماء دفعهم ال ّنا�س �إىل مطالبة جبابرتهم بال ّنزول‬ ‫ال�سماء‪ ،‬فان�صاع ملوكهم‬ ‫من مقام االنفراد‪ ،‬وب� ْأن تكون �إدارة الأر�ض ك�إدارة ّ‬ ‫�إىل ذلك ُم ْكرهني‪ .‬وهذه هي الو�سيلة العظمى التي م َّكنت اليونان �أخرياً من‬ ‫الرومان‪ .‬وهذا الأ�صل مل يزل‬ ‫�إقامة جمهوريات �أثينا و�إ�سبارطة‪ ،‬وكذلك فعل ّ‬ ‫املثال القدمي لأ�صول توزيع الإدارة يف احلكومات امللكية واجلمهوريات على‬ ‫�أنواعها �إىل هذا العهد‪.‬‬ ‫�إنمَّ ا هذه الو�سيلة‪� ،‬أي ال َّت�رشيك‪ ،‬ف�ض ًال عن كونها باطلة يف ذاتها‪َ ،‬ن َت َج عنها‬ ‫فتحت للم�شعوذين من �سائر طبقات ال ّنا�س باب ًا‬ ‫أ�رض كثرياً‪ ،‬وذلك �أ َّنها‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫رد فعلٍ � َّ‬ ‫�رصفات‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫�سي‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫فات‬ ‫كال�ص‬ ‫ألوهية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫خ�صائ�ص‬ ‫من‬ ‫�شيء‬ ‫لدعوى‬ ‫ا‬ ‫وا�سع‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ ّ‬ ‫ّ‬

‫‪36‬‬


‫يتهجم على مثلها غري �أفراد من اجلبابرة‪ ،‬كنمرود‬ ‫الر ّ‬ ‫وحية‪ ،‬وكان قبل ذلك ال ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يف‪.‬‬ ‫والبادري‬ ‫الربهمي‬ ‫عيها‬ ‫يد‬ ‫�صار‬ ‫ثم‬ ‫ومو�سى‪،‬‬ ‫وفرعون‬ ‫إبراهيم‬ ‫و�‬ ‫وال�صو ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وملالءمة هذه املف�سدة لطباع الب�رش من وجوه كثرية ـ لي�س بحثنا هذا حم ّلها‬ ‫امل�ستبدين‪.‬‬ ‫وعمت وج َّندت جي�ش ًا عرمرم ًا يخدم‬ ‫ِّ‬ ‫ـ انت�رشت ّ‬ ‫وقد جاءت ال ّتوراة بال َّن�شاط‪ ،‬فخ َّل�صتهم من خمول اال ِّتكال بعد �أن بلغ فيهم‬ ‫ونبيه يقاتالن عنهم‪ ،‬وجاءتهم بال ّنظام بعد فو�ضى الأحالم‪،‬‬ ‫� ْأن ُيكلِّفوا اهلل ّ‬ ‫املتعددة باملالئكة‪،‬‬ ‫ورفعت عقيدة ال ّت�رشيك‪ُ ،‬م�ستبدل ًة ـ مث ًال ـ �أ�سماء الآلهة‬ ‫ِّ‬ ‫ثم جاء الإجنيل ب�سل�سبيل‬ ‫ولكن‪ ،‬مل َ‬ ‫ْ‬ ‫ير�ض ملوك �آل كوهني بال َّتوحيد ف�أف�سدوه‪َّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫الدعة واحل ْلم‪ ،‬ف�صادف �أفئد ًة حمروق ًة بنار الق�ساوة واال�ستبداد‪ ،‬وكان �أي�ض ًا‬ ‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬مل ي ْق َو ُدعاته ال َّأولون على تفهيم تلك الأقوام‬ ‫م� ّؤيداً لنامو�س ال ّتوحيد‪ْ ،‬‬ ‫أبوة‬ ‫املنحطة‪ ،‬الذين بادروا لقبول ال َّن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫�رصانية قبل الأمم املرت ِّقية‪َّ � ،‬أن ال ّ‬ ‫جمازيتان ُيعبرَّ بهما عن معنى ال يقبله العقل �إال ت�سليم ًا‪،‬‬ ‫والبنوة �صفتان‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫كم�س�ألة القدر التي ورثت الإ�سالمية ال ّتفل�سف فيها عن �أديان اليهود و�أوهام‬ ‫حقيقي‪ ،‬لأ ّنه �أقرب‬ ‫والبنوة مبعنى توالد‬ ‫أبوة‬ ‫ّ‬ ‫اليونان‪ .‬ولهذا‪ ،‬تل َّقت تلك الأمم ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إىل مداركهم الب�سيطة التي ي�صعب عليها تناول ما فوق املح�سو�سات‪ ،‬ولأ ّنهم‬ ‫كانوا قد �ألفوا االعتقاد يف بع�ض جبابرتهم ال ّأولني �أ َّنهم �أبناء اهلل‪ ،‬ف َكبرُ َ‬ ‫ال�سالم �صفة هي دون مقام �أولئك امللوك‪.‬‬ ‫عليهم � ْأن يعتقدوا يف مو�سى عليه ّ‬ ‫تلب�ست ثوب ًا غري ثوبها‪،‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫ملا انت�رشت ال ّن�رصانية ودخلها �أقوام خمتلفون‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫فتو�سعت بر�سائل بول�س ونحوها‪ ،‬فامتزجت‬ ‫�سلفتها‪،‬‬ ‫التي‬ ‫أديان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫�سائر‬ ‫كما‬ ‫َّ‬ ‫للرومان وامل�رصيني ُم�ضافة على �شعائر الإ�رسائيليني‬ ‫ب�أزياء و�شعائر وثنية ُّ‬ ‫و�أ�شياء من الأ�ساطري وغريها‪ ،‬و�أ�شياء من مظاهر امللوك ونحوها‪ .‬وهكذا‬ ‫عظم رجال الكهنوت �إىل درجة اعتقاد ال ّنيابة عن اهلل‬ ‫�صارت ال ّن�رصانية ُت ِّ‬ ‫مما رف�ضه �أخرياً الربوت�ستان‪،‬‬ ‫والع�صمة عن اخلط�أ َّ‬ ‫وقوة ال َّت�رشيع‪ ،‬ونحو ذلك ّ‬ ‫الراجعني يف الأحكام لأ�صل الإجنيل‪.‬‬ ‫�أي ّ‬ ‫�رصانية‪ُ ،‬م� َّؤ�س�س ًا على احلكمة‬ ‫لليهودية وال ّن‬ ‫ثم جاء الإ�سالم مه ِّذب ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫املتو�سطة‬ ‫يا�سية‬ ‫ال�س‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫احلر‬ ‫لقواعد‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫بال‬ ‫�رشيك‬ ‫ت‬ ‫لل‬ ‫ا‬ ‫هادم‬ ‫والعزم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫محُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ​ّ ّ‬ ‫ونزع ك َّل �سلطة دينية‬ ‫وحيد‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫�س‬ ‫أ�س‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بني ِّ‬ ‫الدميوقراطية والأر�ستقراطية‪َّ ،‬‬ ‫بية تتح َّكم يف ال ّنفو�س �أو يف الأج�سام‪ ،‬وو�ضع �رشيعة حكمة �إجمالية‬ ‫�أو تغ ّل ّ‬

‫‪37‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫فطرية �سامية‪ ،‬و�أظهر للوجود‬ ‫مدنية‬ ‫ّ‬ ‫�صاحلة لك ِّل زمان وقوم ومكان‪ ،‬و�أوجد ّ‬ ‫الرا�شدين التي مل ي�سمح ال ّزمان مبثال لها بني الب�رش‬ ‫حكومة كحكومة اخللفاء ّ‬ ‫ح َّتى ومل يخلفهم فيها بني امل�سلمني �أنف�سهم خلف‪� ،‬إال بع�ض �شواذ‪ ،‬كعمر‬ ‫ال�شهيد‪ .‬ف� َّإن ه�ؤالء اخللفاء‬ ‫الدين ّ‬ ‫ا�سي ونور ّ‬ ‫بن عبد العزيز واملهتدي ّ‬ ‫العب ّ‬ ‫الرا�شدين فهموا معنى ومغزى القر�آن ال ّنازل بلغتهم‪ ،‬وعملوا به وا َّتخذوه‬ ‫ّ‬ ‫ق�ض ْت بال ّت�ساوي ح َّتى بينهم �أنف�سهم وبني فقراء‬ ‫حكومة‬ ‫ؤوا‬ ‫ش�‬ ‫أن�‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫إمام‬ ‫�‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ال ّأمة يف نعيم احلياة و�شظفها‪ ،‬و�أحدثوا يف امل�سلمني عواطف �أخوة وروابط‬ ‫هيئة اجتماعية ا�شرتاكية ال تكاد توجد بني �أ�شقاء يعي�شون ب�إعالة � ٍأب واحد‬ ‫ويف ح�ضانة � ٍّأم واحدة‪ ،‬ل ُك ٍّل منهم وظيفة �شخ�صية‪ ،‬ووظيفة عائلية‪ ،‬ووظيفة‬ ‫حمدي‬ ‫الطراز ال ّنبوي ا ُ‬ ‫الريا�سة هو ِّ‬ ‫قومية‪ .‬على � َّأن هذا ّ‬ ‫مل َّ‬ ‫الطراز ّ‬ ‫ال�سامي من ّ‬ ‫ثم �أخذ بال ّتناق�ص‪ ،‬و�صارت ال ّأمة‬ ‫الذي مل يخلفه فيه ح ّق ًا غري �أبي بكر وعمر‪َّ ،‬‬ ‫الدين �إذا مل‬ ‫تطلبه وتبكيه من عهد عثمان �إىل الآن‪ ،‬و�سيدوم بكا�ؤها �إىل يوم ِّ‬ ‫الطراز الذي اهتدت �إليه بع�ض‬ ‫�سيا�سي‬ ‫تنتبه ال�ستعوا�ضه بطراز‬ ‫�شوري‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�صح � ْأن نقول‪ ،‬قد ا�ستفادت من الإ�سالم �أكرث‬ ‫�أمم الغرب‪ ،‬تلك الأمم التي‪ ،‬لربمّ ا ُّ‬ ‫مما ا�ستفاده امل�سلمون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫م�شحون بتعاليم �إماتة اال�ستبداد و�إحياء العدل‬ ‫الكرمي‬ ‫آن‬ ‫�‬ ‫القر‬ ‫وهذا‬ ‫ٌ‬ ‫وال ّت�ساوي ح ّتى يف الق�ص�ص منه‪ ،‬ومن جملتها قول بلقي�س ملكة �سب�أ من‬ ‫تخاطب �أ�رشاف قومها‪( :‬يا � ُّأيها امللأُ �أفتوين يف �أمري ما كنت‬ ‫عرب ُت َّبع‬ ‫ُ‬ ‫�شهدون * قالوا نحن �أولوا ٍ‬ ‫قوة و ُ�أولوا ب� ٍأ�س �شدي ٍد والأمر‬ ‫قاطع ًة �أمراً حتى َت َ‬ ‫� ِ‬ ‫إليك فانظري ماذا ت�أمرين * قالت � َّإن امللوك �إذا دخلوا قري ًة �أف�سدوها وجعلوا‬ ‫�أع ّزة �أهلها �أ ِذل ًة وكذلك يفعلون)‪.‬‬ ‫الرعية‪،‬‬ ‫فهذه الق�صة ُتعلِّم كيف ينبغي �أن ي�ست�شري امللوك امللأ‪� ،‬أي �أ�رشاف َّ‬ ‫القوة والب�أ�س يف يد‬ ‫و�أن ال يقطعوا �أمراً �إال بر�أيهم‪ ،‬وت�شري �إىل لزوم �أن تحُ فظ ّ‬ ‫الرعية‪ ،‬و�أن يخ�ص�ص امللوك بال ّتنفيذ فقط‪ ،‬و�أن يكرموا بن�سبة الأمر �إليهم‬ ‫ّ‬ ‫وتقبح �ش�أن امللوك امل�ستبدين‪.‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫توقري‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ومن هذا الباب �أي�ض ًا ما ورد يف ق�صة مو�سى عليه ال�سالم مع فرعون‬ ‫ل�ساحر عليم * يريد �أن‬ ‫يف قوله تعاىل‪( :‬قال امللأ من قوم فرعون � َّإن هذا‬ ‫ٌ‬ ‫يخرجكم من �أر�ضكم فماذا ت�أمرون)‪� ،‬أي قال الأ�رشاف بع�ضهم لبع�ض‪ :‬ماذا‬

‫‪38‬‬


‫ر�أيكم؟ (قالوا) خطاب ًا لفرعون وهو قرارهم‪�( :‬أَرجِ ه و�أخاه و� ِ‬ ‫أر�سل يف املدائن‬ ‫ثم و�صف مذاكراتهم بقوله تعاىل‪:‬‬ ‫حا�رشين * ي�أتوك بك ِّل �ساح ٍر عليم)‪ّ ،‬‬ ‫أ�رسوا النجوى)‪� ،‬أي �أف�ضت مذاكراتهم‬ ‫(فتنازعوا �أمرهم)‪� ،‬أي ر�أيهم (بينهم و� ُّ‬ ‫العلنية �إىل ال ّنزاع ف�أجروا مذاكرة �رسية طبق ما يجري �إىل الآن يف جمال�س‬ ‫ال�شورى العمومية‪.‬‬ ‫تقدم‪ ،‬ال جمال لرمي الإ�سالمية بت�أييد اال�ستبداد مع ت�أ�سي�سها‬ ‫بناء على ما ّ‬ ‫ً‬ ‫البينات التي منها قوله تعاىل‪( :‬و�شاورهم يف الأمر)‪� ،‬أي‬ ‫آيات‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مئات‬ ‫على‬ ‫ِّ‬ ‫يف ال�ش�أن‪ ،‬ومن قوله تعاىل‪( :‬يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول‬ ‫و�أويل الأمر منكم)‪� ،‬أي �أ�صحاب الر�أي وال�ش�أن منكم‪ ،‬وهم العلماء والر�ؤ�ساء‬ ‫على ما ا َّتفق عليه �أكرث املف�سرِّ ين‪ ،‬وهم الأ�رشاف يف ا�صطالح ال�سيا�سيني‪.‬‬ ‫أمر فرعون)‪� ،‬أي ما �ش�أنه‪،‬‬ ‫ومما ي� ِّؤيد هذا املعنى �أي�ض ًا قوله تعاىل‪( :‬وما � ُ‬ ‫وحديث (�أمريي من املالئكة جربيل)‪� ،‬أي م�شاوري‪.‬‬ ‫ولي�س بالأمر الغريب �ضياع معنى (و�أُويل الأمر) على كثري من الأفهام‬ ‫يحرفون ال َك ِل َم عن موا�ضعه‪ ،‬وقد �أغفلوا معنى‬ ‫بت�ضليل علماء اال�ستبداد الذي ِّ‬ ‫لتطرق �أفكار امل�سلمني �إىل التفكري ب� ّأن‬ ‫قيد (منكم)‪� ،‬أي امل�ؤمنني منع ًا‬ ‫ُّ‬ ‫التدرج �إىل معنى �آية (�إن اهلل ي�أمر‬ ‫الظاملني ال يحكمونهم مبا �أنزل اهلل‪َّ ،‬‬ ‫ثم ُّ‬ ‫بالعدل)‪� ،‬أي بالت�ساوي‪( ،‬و�إذا حكمتم بني النا�س �أن حتكموا بالعدل)‪� ،‬أي‬ ‫ثم ينتقل �إىل معنى �آية‪( :‬ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم‬ ‫الت�ساوي‪ّ ،‬‬ ‫ثم ي�ستنتج عدم وجوب طاعة الظاملني و�إن قال بوجوبها بع�ض‬ ‫الكافرون)‪َّ .‬‬ ‫الفقهاء املمالئني دفع ًا للفتنة التي حت�صد �أمثالهم ح�صداً‪ .‬والأغرب من هذا‬ ‫ج�سارتهم على ت�ضليل الأفهام يف معنى (�أمر) يف �آية‪( :‬و�إذا �أردنا �أن نهلك‬ ‫فدمرناها تدمرياً)‪ ،‬ف�إنهم‬ ‫قري ًة �أمرنا مرتفيها فف�سقوا فيها َّ‬ ‫فحق عليها القول َّ‬ ‫علواً كبرياً‪،‬‬ ‫مل يبالوا �أن ين�سبوا �إىل اهلل الأمر بالف�سق‪ ...‬تعاىل اهلل عن ذلك ّ‬ ‫واحلقيقة يف معنى (�أمرنا) هنا �أ َّنه مبعنى �أمرِنا ‪ -‬بك�رس امليم �أو ت�شديدها ‪-‬‬ ‫فحق عليهم العذاب‪،‬‬ ‫�أي جعلنا �أمراءها مرتفيها فف�سقوا فيها (�أي ظلموا �أهلها) ّ‬ ‫�أي (نزل بهم العذاب)‪.‬‬ ‫معنى ُعرفي ًا‪ ،‬وهو احلكم‬ ‫والأغرب من هذا وذاك‪� ،‬أ َّنهم جعلوا للفظة العدل‬ ‫ً‬ ‫تدل على غري هذا‬ ‫مبقت�ضى ما قاله الفقهاء‪ ،‬حتى �أ�صبحت لفظة العدل ال ُّ‬

‫‪39‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫املعنى‪ ،‬مع � ّأن العدل لغ ًة للت�سوية‪ ،‬فالعدل بني ال ّنا�س هو الت�سوية بينهم‪،‬‬ ‫وهذا هو املراد يف �آية‪�( :‬إن اهلل ي�أمر بالعدل)‪ ،‬وكذلك الق�صا�ص يف �آية‪( :‬ولكم‬ ‫يف الق�صا�ص حيا ٌة) املتواردة مطلق ًا‪ ،‬ال املعاقبة باملثل فقط على ما يتبادر‬ ‫الدين غري الوقوف‬ ‫�إىل �أذهان الأُ�رساء‪ ،‬الذين ال يعرفون لل ّت�ساوي موقع ًا يف ِّ‬ ‫بني يدي الق�ضاة‪.‬‬ ‫قبل �شهادتهم ل�سقوط عدالتهم‪ ،‬فذكروا ح ّتى من‬ ‫وقد ّ‬ ‫عدد الفقهاء من ال ُت َ‬ ‫ف�سقوا الأمراء‬ ‫ي�أكل ما�شي ًا يف الأ�سواق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن �شيطان اال�ستبداد �أن�ساهم �أن ُي ِّ‬ ‫فريدوا �شهادتهم‪ .‬ولع ّل الفقهاء ُيع َذرون ب�سكوتهم هنا مع ت�شنيعهم‬ ‫الظاملني ّ‬ ‫على الظاملني يف مواقع �أخرى‪ ،‬ولكن‪ ،‬ما عذرهم يف حتويل معنى الآية‪:‬‬ ‫(ولتكن منكم � ّأم ٌة يدعون �إىل اخلري وي�أمرون باملعروف وينهون عن املنكر)‬ ‫�إىل � ّأن هذا الفر�ض هو فر�ض كفاية ال فر�ض عني؟ واملراد منه �سيطرة �أفراد‬ ‫امل�سلمني بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬ال �إقامة فئة ت�سيطر على حكامهم كما اهتدت‬ ‫فخ�ص�صت منها جماعات با�سم جمال�س ّنواب‪،‬‬ ‫�إىل ذلك الأمم املوفقة للخري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وظيفتها ال�سيطرة واالحت�ساب على الإدارة العمومية‪ :‬ال�سيا�سية واملالية‬ ‫والت�رشيعية‪ ،‬فتخ ّل�صوا بذلك من �ش�آمة اال�ستبداد‪� .‬ألي�ست هذه ال�سيطرة وهذا‬ ‫االحت�ساب ب�أهم من ال�سيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من �أين جاء فقهاء‬ ‫اال�ستبداد بتقدي�س احل ّكام عن امل�س�ؤولية حتى �أوجبوا لهم احلمد �إذا عدلوا‪،‬‬ ‫وعدوا ك ّل معار�ضة لهم بغي ًا يبيح دماء‬ ‫ال�صرب عليهم �إذا ظلموا‪ّ ،‬‬ ‫و�أوجبوا ّ‬ ‫املعار�ضني؟!‬ ‫الدين الذي �أنزلت‪ ،‬فال‬ ‫اللهم‪ّ � ،‬إن‬ ‫امل�ستبدين و�رشكاءهم قد جعلوا دينك غري ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫قوة �إال بك!‬ ‫حول وال ّ‬ ‫كذلك ما ُعذر ال�صوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم �أن يقولوا‪:‬‬ ‫ولي ًا من �أولياء اهلل‪ ،‬وال ي�أتي �أمراً �إال ب�إلهام من اهلل‪،‬‬ ‫ال يكون الأمري الأعظم �إال ّ‬ ‫ويت�رصف قطب الغوث باطن ًا! �أال �سبحان اهلل‬ ‫يت�رصف يف الأمور ظاهراً‪،‬‬ ‫و�إنه‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ما �أحلمه!‬ ‫حيث �أر�سل لهم ر�سو ًال من �أنف�سهم‬ ‫نعم‪ ،‬لوال ُحلم اهلل خل�سف الأر�ض بالعرب‪ُ ،‬‬ ‫راع‬ ‫� ّأ�س�س لهم �أف�ضل حكومة �أُ ِّ�س َ�ست يف ال ّنا�س‪ ،‬جعل قاعدتها قوله‪( :‬ك ُّلكم ٍ‬ ‫�سلطان عام وم�س�ؤول عن الأمة‪ .‬وهذه‬ ‫رعيته)‪� ،‬أي ك ٌّل منكم‬ ‫وك ُّلكم م�س� ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ؤول عن ّ‬

‫‪40‬‬


‫م�رشع �سيا�سي من الأولني والآخرين‪،‬‬ ‫اجلملة التي هي �أ�سمى و�أبلغ ما قاله ِّ‬ ‫حرف املعنى عن ظاهره وعموميته‪� ،‬إىل � َّأن امل�سلم‬ ‫فجاء من املنافقني من َّ‬ ‫حرفوا معنى الآية‪( :‬وامل�ؤمنون‬ ‫ٍ‬ ‫راع على عائلته وم�س�ؤول عنها فقط‪ .‬كما َّ‬ ‫أولياء بع�ض) على والية ال�شهادة دون الوالية العامة‪.‬‬ ‫�‬ ‫هم‬ ‫بع�ض‬ ‫ؤمنات‬ ‫�‬ ‫وامل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الدين‪ ،‬وطم�سوا على العقول حتى جعلوا‬ ‫لوا‬ ‫وبد‬ ‫اللغة‪،‬‬ ‫مفهوم‬ ‫وهكذا غيرّ وا‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫احلرية‪ ،‬بل جعلوهم ال يعقلون كيف حتكم‬ ‫ال ّنا�س ين�سون لغة اال�ستقالل‪ ،‬وع ّزة‬ ‫ّ‬ ‫� ّأم ٌة نف�سها بنف�سها دون �سلطانٍ قاهر‪.‬‬ ‫وك� ّأن امل�سلمني مل ي�سمعوا بقول ال ّنبي عليه ال�سالم‪( :‬ال ّنا�س �سوا�سية‬ ‫أ�صح‬ ‫ك�أ�سنان امل�شط‪ ،‬ال ف�ضل‬ ‫لعربي على �أعجمي �إال بال ّتقوى)‪ .‬وهذا احلديث � ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الأحاديث ملطابقته للحكمة وجميئه مف�سرِّ اً الآية (� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم)‬ ‫ف� َّإن اهلل ج َّل �ش�أنه �ساوى بني عباده م�ؤمنني وكافرين يف املكرمة بقوله‪:‬‬ ‫ثم جعل الأف�ضلية يف الكرامة للم َّتقني فقط‪ .‬ومعنى‬ ‫بني �آدم) َّ‬ ‫(ولقد َّ‬ ‫كرمنا َ‬ ‫ال َّتقوى لغ ًة لي�س كرثة العبادة‪ ،‬كما �صار �إىل ذلك حقيقة ُعرفية غر�سها علماء‬ ‫اال�ستبداد القائلني يف تف�سري (عند اهلل)‪� ،‬أي يف الآخرة دون الدنيا‪ ،‬بل ال َّتقوى‬ ‫لغ ًة هي اال ِّتقاء‪� ،‬أي االبتعاد عن رذائل الأعمال احرتازاً من عقوبة اهلل‪ .‬فقوله‪:‬‬ ‫(� َّإن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم) كقوله‪َّ � :‬إن �أف�ضل ال ّنا�س �أكرثهم ابتعاداً عن الآثام‬ ‫و�سوء عواقبها‪.‬‬ ‫احلرية برفعها ك ّل‬ ‫وقد ظهر مما َّ‬ ‫تقدم � َّأن الإ�سالمية م�ؤ�س�سة على �أ�صول ّ‬ ‫وبح�ضها على‬ ‫�سيطرة وحت ُّكم‪ ،‬ب�أمرها بالعدل وامل�ساواة والق�سط والإخاء‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ال�شورى الأري�ستوقراطية‪،‬‬ ‫الإح�سان والتحابب‪ .‬وقد جعلت �أ�صول حكومتها‪ّ :‬‬ ‫�أي �شورى �أهل احل ِّل والعقد يف الأمة بعقولهم ال ب�سيوفهم‪ .‬وجعل �أ�صول‬ ‫�إدارة الأمة‪ :‬الت�رشيع الدميوقراطي‪� ،‬أي اال�شرتاكي ح�سبما ي�أتي فيما بعد‪ .‬وقد‬ ‫مت‬ ‫م�ضى عهد النبي (عليه ال�سالم) وعهد اخللفاء الرا�شدين على هذه الأ�صول ب�أ ّ‬ ‫و�أكمل �صورها‪ .‬ومن املعلوم �أ ّنه ال يوجد يف الإ�سالمية نفوذ ديني مطلق ًا يف‬ ‫غري م�سائل �إقامة �شعائر الدين‪ ،‬ومنها القواعد العامة الت�رشيعية التي ال تبلغ‬ ‫امل�رشعون من قبل‬ ‫وحكم‪ ،‬ك ُّلها من � َأج ّل و�أح�سن ما اهتدى �إليه‬ ‫ِّ‬ ‫مائة قاعدة ُ‬ ‫احلر‪ ،‬احلكيم‪ ،‬ال�سهل‪ ،‬ال�سمح‪ ،‬الظاهر‬ ‫ومن بعد‪ .‬ولكن‪ ،‬وا�أ�سفاه على هذا الدين ّ‬ ‫فيه �آثار الرقي على غريه من �سوابقه‪ ،‬الدين الذي رفع الإ�رص والأغالل‪،‬‬

‫‪41‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫و�أباد امليزة واال�ستبداد‪ .‬الدين الذي ظلمه اجلاهلون‪ ،‬فهجروا حكمة القر�آن‬ ‫الدين الذي فقد الأن�صار الأبرار واحلكماء الأخيار‪،‬‬ ‫ودفنوها يف قبور الهوان‪ّ .‬‬ ‫ف�سطا عليه امل�ستبدون واملرت�شحون لال�ستبداد‪ ،‬وا َّتخذوا و�سيلة لتفريق‬ ‫ف�ضيعوا مزاياه‪،‬‬ ‫الكلمة وتق�سيم الأمة َ‬ ‫�شيع ًا‪ ،‬وجعلوه �آلهة لأهوائهم ال�سيا�سية‪ّ ،‬‬ ‫وحيرّ وا �أهله بالتقريع والتو�سيع‪ ،‬والت�شديد والت�شوي�ش‪ ،‬و�إدخال ما لي�س منه‬ ‫يتوهم‬ ‫فيه كما فعل قبلهم �أ�صحاب الأديان ال�سائرة‪ ،‬حتى جعلوه دين ًا حرج ًا ّ‬ ‫ن�سب ال�سم �إ�سالمي هو‬ ‫دونه املتفننون بني د َّفتي كتاب ُي َ‬ ‫النا�س فيه � َّأن ك َّل ما ّ‬ ‫من الدين‪ ،‬ومبقت�ضاها �أنه ال يقوى على القيام بواجباته و�آدابه ومزيداته‪� ،‬إال‬ ‫من ال عالقة له باحلياة الدنيا‪ ،‬بل �أ�صبحت مبقت�ضاها حياة الإن�سان الطويل‬ ‫العمر‪ ،‬العاطل عن ك ِّل عمل‪ ،‬ال تفي بتع ُّلم ما هي الإ�سالمية عجزاً عن متييز‬ ‫ال�صحيح من الباطل من تلك الآراء املت�شعبة التي �أطال �أهلها فيها اجلدال‬ ‫واملناظرة‪ ،‬وما افرتقوا �إال وك ٌّل منهم يف موقفه الأول يظهر �أنه �ألزم خ�صمه‬ ‫احلجة و�أ�سكته بالربهان‪ ،‬واحلقيقة � َّأن ك ًال منهم قد �سكت تعب ًا وكال ًال من‬ ‫ّ‬ ‫امل�شاغبة‪.‬‬ ‫الدين مناف�سو املجو�س‪ ،‬انفتح على ال ّأمة‬ ‫وبهذا ال ّت�شديد الذي �أدخله على ّ‬ ‫التلوم على النف�س ف�ض ًال عن حما�سبة احلكام املنوط بهم قيام العدل‬ ‫باب ّ‬ ‫وال ِّنظام‪ .‬وهذا الإهمال للمراقبة‪ ،‬هو �إهمال الأمر باملعروف وال ّنهي عن املنكر‪،‬‬ ‫وقد �أو�سع لأمراء الإ�سالم جمال اال�ستبداد وجتاوز احلدود‪ .‬وبهذا وذاك ظهر‬ ‫لي�ستعملن اهلل عليكم‬ ‫ولتنهون عن املنكر �أو‬ ‫أمرن باملعروف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُحكم حديث‪( :‬لت� ّ‬ ‫�رشاركم فلي�سومونكم �سوء العذاب)‪ ،‬و�إذا تتبعنا �سرية �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل‬ ‫مفطورين خري فطرة‪ ،‬ونائلني الرتبية‬ ‫عنهما مع ال ّأمة‪ ،‬جند �أ ّنهما مع كونهما‬ ‫َ‬ ‫النبوية‪ ،‬مل ترتك الأمة معهما املراقبة واملحا�سبة‪ ،‬ومل تطعهما طاع ًة عمياء‪.‬‬ ‫وقد جمع بع�ضهم جملة مما اقتب�سه و�أخذه امل�سلمون عن غريهم‪ ،‬ولي�س‬ ‫هو من دينهم بال ّنظر �إىل القر�آن واملتواترات من احلديث و�إجماع ال�سلف‬ ‫الأول فقال‪:‬‬ ‫(اقتب�سوا) من الن�رصانية مقام البابوية با�سم الغوثية‪ ،‬و(�ضاهوا) يف‬ ‫الأو�صاف والأعداد �أو�صاف و�أعداد البطارقة‪ ،‬والكردينالية وال�شهداء‬ ‫والأ�ساقفة‪ ،‬و(حاكوا) مظاهر القدي�سني وعجائبهم‪ ،‬والدعاة املب�شرّ ين‬

‫‪42‬‬


‫والرهبنات ور�ؤ�سائها‪ ،‬وحالة الأديرة وبادريتها‪ .‬والرهبنات‬ ‫و�صربهم‪ّ ،‬‬ ‫الرق�ص على‬ ‫ور�سومها‬ ‫َّ‬ ‫واحلمية وتوقيتها‪ ،‬و(ق ّلدوا) الوثنيني الرومانيني يف ّ‬ ‫�أنغام الناي والتغايل يف تطييب املوتى واالحتفال الزائد يف اجلنائز وت�رسيح‬ ‫الذبائح معها‪ ،‬وتكليلها وتكليل القبور بالزهور‪ .‬و(�شاكلوا) مرا�سم الكنائ�س‬ ‫وزينتها‪ ،‬والب َِيع واحتفاالتها‪ ،‬والرت ّنحات ووزنها‪ ،‬والرتنمُّ ات و�أ�صولها‪،‬‬ ‫الرحال لزيارتها‪ ،‬والإ�رساج عليها‪،‬‬ ‫و�إقامة الكنائ�س على القبور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�شد ِّ‬ ‫التربك بالآثار‪ :‬كالقدح‬ ‫واخل�ضوع لديها‪ ،‬وتعليق الآمال ب�سكانها‪ .‬و(�أخذوا) ّ‬ ‫واحلربة والد�ستار‪ ،‬من احرتام الذخرية وقد�سية العكاز‪ ،‬وكذلك �إمرار اليد على‬ ‫ال�صدر عند ذكر ال�صاحلني‪ ،‬من �إمرارها على ال�صدر لإ�شارة ال�صليب‪ .‬و(انتزعوا)‬ ‫ّ‬ ‫وال�سقيا‬ ‫�سم‪،‬‬ ‫الر‬ ‫من‬ ‫واخلالفة‬ ‫احللول‪،‬‬ ‫من‬ ‫الوجود‬ ‫ووحدة‬ ‫‪،‬‬ ‫ال�رس‬ ‫من‬ ‫احلقيقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من تناول القربان‪ ،‬واملولد من امليالد‪ ،‬وحفلته من الأعياد‪ ،‬ورفع الأعالم من‬ ‫امل�صدرة بال ّنداء على اجلدران من تعليق‬ ‫حمل ال�صلبان‪ ،‬وتعليق �ألواح الأ�سماء‬ ‫َّ‬ ‫انحناء �أمام‬ ‫التوجه بالقلوب‬ ‫ال�صور والتماثيل‪ ،‬واال�ستفا�ضة واملراقبة من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�س َّنة كحظر الكاثوليك‬ ‫الكتاب‬ ‫ن�صو�ص‬ ‫من‬ ‫اال�ستهداء‬ ‫و(منعوا)‬ ‫أ�صنام‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫الدليل من التوراة‬ ‫التفهم من الإجنيل‪ ،‬وامتناع �أحبار اليهود عن �إقامة ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الأحكام‪ .‬و(جاءوا) من املجو�سية با�ستطالع الغيب من الفلك‪ ،‬وبخ�شية‬ ‫�أو�ضاع الكواكب وبا ِّتخاذ �أ�شكالها �شعاراً للملك‪ ،‬وباحرتام النار ومواقدها‪.‬‬ ‫و(ق ّلدوا) البوذيني حرف ًا بحرف يف الطريق والريا�ضة وتعذيب اجل�سم بالنار‬ ‫ودق الطبول وال�صنوج‬ ‫وال�سالح‪ ،‬واللعب‬ ‫باحليات والعقارب و�رشب ال�سموم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجعل رواتب من الأدعية والأنا�شيد والأحزاب‪ ،‬واعتقاد ت�أثري العزائم ونداء‬ ‫الأ�سماء وحمل التمائم‪� ،‬إىل غري ذلك مما هو ُم�شاهد يف بوذيي الهند وجمو�س‬ ‫وال�سند �إىل يومنا هذا‪ .‬وقد قيل �إ ّنه نقله �إىل الإ�سالمية‪ :‬جون و�ست‪،‬‬ ‫فار�س ّ‬ ‫و�سلطان علي منال‪ ،‬والبغدادي‪ ،‬وحا�شية فالن ال�شيخ وفالن الفار�سي‪ ،‬على‬ ‫� ّأن �إ�سناد ذلك �إىل �أ�شخا�ص معينني يحتاج �إىل تثبيت‪ .‬و(ل َّفقوا) من الأ�ساطري‬ ‫�سموها لدنيات‪.‬‬ ‫والإ�رسائيليات �أنواع ًا من القربات‪ ،‬وعلوم ًا ّ‬ ‫كذلك ُيقال عن مبتدعي الن�صارى‪ ،‬من � ّأن �أكرث ما اعتربه املت�أخرون‬ ‫منهم من ال�شعائر الدينية‪ -‬حتى م�شكلة التثليث‪ -‬ال �أ�صل له فيما ورد عن‬ ‫بتدع وكثريها‬ ‫نف�س امل�سيح عليه ال�سالم‪� ،‬إمنا هو مزيدات وترتيبات قليلها ُم َ‬

‫‪43‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫م َّتبع‪ .‬وقد اكت�شف العلماء الآثاريون من ال�صفائح احلفرية الهندية والآ�شورية‬ ‫ال�صحف التي ُوجدت يف نواوي�س امل�رصيني الأقدمني‪ ،‬على م�آخذ‬ ‫ومن ّ‬ ‫�أكرثها‪ .‬وكذلك وجدوا ملزيدات التلمود وبدع الأحبار �أ�صو ًال يف الأ�ساطري‬ ‫والآثار والألواح الآ�شورية‪ ،‬وتر ّقوا يف التطبيق والتدقيق �إىل �أن وجدوا معظم‬ ‫اخلرافات امل�ضافة �إىل �أ�صول عامة الأديان يف ال�رشق الأدنى مقتب�سة من‬ ‫الو�ضعيات املن�سوبة لنحل ال�رشق الأق�صى‪ ،‬وقد ك�شفت الآثار � ّأن اال�ستبداد‬ ‫�أخفى تاريخ الأديان وجعل �أخبار من�شئها يف ظالم مطبق‪ ،‬ح ّتى � َّإن �أعداء‬ ‫الأديان املت�أخرين �أمكنهم �أن ينكروا �أ�سا�س ًا وجود مو�سى وعي�سى عليهما‬ ‫�شو�ش اال�ستبداد يف امل�سلمني تاريخ �آل البيت عليهم الر�ضوان‪،‬‬ ‫ال�سالم‪ ،‬كما ّ‬ ‫ِ‬ ‫ت�شيعت لهم كالإمامية والإ�سماعيلية‬ ‫الأمر الذي تو ّلد عنه ظهور الف َرق التي َّ‬ ‫والزيدية واحلاكمية وغريهم‪.‬‬ ‫و�شوهت الأديان تكاد ُك ُّلها‬ ‫�شو�شت الإميان َّ‬ ‫واخلال�صة � ّأن الب َِدع التي َّ‬ ‫تت�سل�سل بع�ضها من بع�ض‪ ،‬وتتو ّلد جميعها من غر�ض واحد هو املراد‪� ،‬أال‬ ‫وهو اال�ستعباد‪.‬‬ ‫للم�ستبدين من اخللفاء وامللوك‬ ‫وال ّناظر املد ّقق يف تاريخ الإ�سالم يجد‬ ‫ّ‬ ‫الأولني‪ ،‬وبع�ض العلماء الأعاجم‪ ،‬وبع�ض مق ّلديهم من العرب املت�أخرين‬ ‫�أقوا ًال افرتوها على اهلل ور�سوله ت�ضلي ًال للأمة عن �سبيل احلكمة‪ ،‬يريدون‬ ‫يتم نوره‪ ،‬فحفظ‬ ‫بها �إطفاء نور العلم و�إطفاء نور اهلل‪ ،‬ولكن‪� ،‬أبى اهلل �إال �أن ّ‬ ‫مت�سه يد‬ ‫للم�سلمني كتابه الكرمي الذي هو �شم�س العلوم وكنز احلكم من �أن ّ‬ ‫التحريف‪ ،‬وهي �إحدى معجزاته لأ َّنه قال فيها‪�( :‬إ ّنا نحن ن َّزلنا ال ِّذكر و�إ َّنا له‬ ‫م�سه املنافقون �إال بالت�أويل‪ ،‬وهذا �أي�ض ًا من معجزاته‪ ،‬لأنه‬ ‫حلافظون) فما ّ‬ ‫�أخرب عن ذلك يف قوله‪( :‬ف�أما ا َّلذين يف ُق ُلوبهم َزي ٌغ في َّتبعون ما ت�شابه منه‬ ‫ابتغاء الفتنة وابتغاء ت�أويله)‪.‬‬ ‫و�إين �أُم ِّثل للمطالعني ما فعله اال�ستبداد يف الإ�سالم‪ ،‬مبا حجر على العلماء‬ ‫ق�سمي الآالء والأخالق تف�سرياً مد ِّق َق ًا‪ ،‬لأنهم كانوا‬ ‫احلكماء من �أن يف�سرِّ وا َ‬ ‫املقربني‬ ‫يخافون خمالفة ر�أي بع�ض ال ُغ َّفل ال�سالفني �أو بع�ض املنافقني‬ ‫َّ‬ ‫فيق َتلون‪ .‬وهذه م�س�ألة �إعجاز القر�آن‪ ،‬وهي �أهم م�س�ألة‬ ‫فيك َّفرون ُ‬ ‫املعا�رصين‪ُ ،‬‬ ‫الدين مل يقدروا �أن يوفوها ح ّقها من البحث‪ ،‬واقت�رصوا على ما قاله‬ ‫يف ِّ‬

‫‪44‬‬


‫ال�سلف قو ًال جمم ًال من �أ َّنها ق�صور الطاقة عن الإتيان مبثله يف‬ ‫فيها بع�ض ّ‬ ‫الروم بعد غلبهم �سيغلبون‪ .‬مع �أنه لو‬ ‫ف�صاحته وبالغته‪ ،‬و�أ ّنه �أخرب عن � ّأن ّ‬ ‫ُفتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الر�أي والت�أليف‪ ،‬كما �أُطلق عنان التخريف‬ ‫لأهل الت�أويل واحلُكم‪ ،‬لأظهروا يف �ألوف من �آيات القر�آن �ألوف �آيات الإعجاز‪،‬‬ ‫ولر�أوا فيه ك ّل يوم �آية تتجدد مع الزمان واحلدثان تربهن �إعجازه ب�صدق‬ ‫كتاب مبني) وجلعلوا الأمة ت�ؤمن ب�إعجازه‬ ‫طب وال ٍ‬ ‫ياب�س �إال يف ٍ‬ ‫قوله‪( :‬وال َر ٍ‬ ‫عن برهان وعيان ال جمرد ت�سليم و�إذعان‪.‬‬ ‫ومثال ذلك‪َّ � :‬أن العلم ك�شف يف هذه القرون الأخرية حقائق وطبائع كثرية‬ ‫ُتعزى لكا�شفيها وخمرتعيها من علماء �أوروبا و�أمريكا‪ ،‬واملدقق يف القر�آن‬ ‫يجد �أكرثها ورد به ال ّت�رصيح �أو التلميح يف القر�آن منذ ثالثة ع�رش قرن ًا‪ ،‬وما‬ ‫بقيت م�ستورة حتت غ�شاء من اخلفاء �إال لتكون عند ظهورها معجزة للقر�آن‬ ‫رب ال يعلم الغيب �سواه‪ ،‬ومن ذلك �أ ّنهم قد ك�شفوا � ّأن مادة‬ ‫�شاهدة ب�أ ّنه كالم ٍّ‬ ‫(ثم ا�ستوى �إىل ال�سماء‬ ‫الكون هي الأثري‪ ،‬وقد و�صف القر�آن بدء التكوين فقال‪َّ :‬‬ ‫وهي دخان) وك�شفوا � ّأن الكائنات يف حركة دائمة دائبة والقر�آن يقول‪( :‬و�آي ٌة‬ ‫لهم الأر�ض امليت ُة �أحييناها) �إىل �أن يقول‪( :‬وك ٌّل يف ٍ‬ ‫فلك ي�سبحون)‪.‬‬ ‫ال�سموات‬ ‫وحققوا � َّأن الأر�ض منفتقة يف النظام ال�شم�سي‪ ،‬والقر�آن يقول‪َّ �( :‬أن ّ‬ ‫والأر�ض كانتا رتق ًا ففتقناهما)‪.‬‬ ‫من�شق من الأر�ض‪ ،‬والقر�آن يقول‪�( :‬أفال يرون �أ ّنا ن�أتي‬ ‫وحققوا � َّأن القمر‬ ‫ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫وان�شق القمر)‪.‬‬ ‫ال�ساعة‬ ‫الأر�ض ننق�صها من �أطرافها)‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫(اقرتبت ّ‬ ‫وحققوا � َّأن طبقات الأر�ض �سبع‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬اهلل الذي خلق �سبع‬ ‫ٍ‬ ‫�سموات ومن الأر�ض مثلهن)‬ ‫جت‬ ‫وحققوا �أ ّنه لوال اجلبال القت�ضى ال ّثقل النوعي �أن متيد الأر�ض‪� ،‬أي تر ّ‬ ‫روا�سي �أن متيد بكم)‪.‬‬ ‫يف دورتها‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬و�ألقى يف الأر�ض‬ ‫َ‬ ‫وك�شفوا � َّأن �رس الرتكيب الكيماوي‪ -‬بل واملعنوي‪ -‬هو تخالف ن�سبة‬ ‫(وكل �شي ٍء عنده مبقدار)‪.‬‬ ‫املقادير و�ضبطها‪ ،‬والقر�آن يقول‪ُّ :‬‬ ‫وك�شفوا � َّأن للجمادات حياة قائمة مباء التبلور والقر�آن يقول‪( :‬وجعلنا من‬ ‫املاء ك َّل �شي ٍء حي)‪.‬‬ ‫وحققوا � ّأن العامل الع�ضوي‪ ،‬ومنه الإن�سان‪ ،‬تر ّقى من اجلماد‪ ،‬والقر�آن‬

‫‪45‬‬


‫اال�ستبداد وال ّدين‬

‫ٍ‬ ‫�ساللة من طني)‪.‬‬ ‫يقول‪( :‬ولقد خلقنا الإن�سان من‬ ‫وك�شفوا نامو�س اللقاح العام يف النبات‪ ،‬والقر�آن يقول‪( :‬خلق الأزواج‬ ‫ك ّلها مما تنبت الأر�ض) ويقول‪( :‬ف�أخرجنا به �أزواج ًا من ٍ‬ ‫نبات �ش ّتى)‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫زوج بهيج)‪ .‬ويقول‪( :‬ومن ك ِّل الثمرات جعل فيها زوجني‬ ‫وربت من ك ِّل ٍ‬ ‫(اهت ّزت َ‬ ‫اثنني)‪.‬‬ ‫الظل‪� ،‬أي الت�صوير ال�شم�سي‪ ،‬والقر�آن يقول‪�( :‬أمل َت َر‬ ‫وك�شفوا طريقة �إم�ساك ِّ‬ ‫م�س عليه دلي ًال)‪.‬‬ ‫مد ِّ‬ ‫ثم جعلنا ّ‬ ‫ربك كيف َّ‬ ‫�إىل ِّ‬ ‫الظ َّل ولو �شاء جلعله �ساكن ًا َّ‬ ‫ال�ش َ‬ ‫ال�سفن واملركبات بالبخار والكهرباء والقر�آن يقول‪ ،‬بعد‬ ‫وك�شفوا ت�سيري ّ‬ ‫ذكره الدواب واجلواري بالريح‪( :‬وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)‪.‬‬ ‫وك�شفوا وجود امليكروب‪ ،‬وت�أثريه وغريه من الأمرا�ض‪ ،‬والقر�آن يقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بحجارة من‬ ‫(و�أر�سل عليهم طرياً �أبابيل)‪� ،‬أي متتابعة متجمعة (ترميهم‬ ‫�سجيل)‪� ،‬أي من طني امل�ستنقعات الياب�س‪� .‬إىل غري ذلك من الآيات الكثرية‬ ‫ّ‬ ‫املحققة لبع�ض مكت�شفات علم الهيئة والنوامي�س الطبيعية‪ .‬وبالقيا�س على ما‬ ‫�رسها يف امل�ستقبل يف وقتها‬ ‫َّ‬ ‫تقدم ذكره‪ ،‬يقت�ضي � َّأن كثرياً من �آياته �سينك�شف ُّ‬ ‫كر اجلديدان‪ ،‬فال‬ ‫وما‬ ‫الزمان‬ ‫مادام‬ ‫الغيب‬ ‫يف‬ ‫ا‬ ‫عم‬ ‫إعجازه‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫جتديد‬ ‫املرهون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُب َّد �أن ي�أتي يوم يك�شف العلم فيه � َّأن اجلمادات �أي�ض ًا تنمو باللقاح كما ت�شري‬ ‫�إىل ذلك �آية (ومن ك ِّل �شي ٍء خلقنا زوجني)‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫اال�ستبداد والعلم‬ ‫يت�رصف يف‬ ‫بالو�صي اخلائن القوي‪،‬‬ ‫امل�ستبد يف ن�سبته �إىل رعيته‬ ‫ما �أ�شبه‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أموال الأيتام و�أنف�سهم كما يهوى ما داموا �ضعاف ًا قا�رصين‪ ،‬فكما �أ ّنه لي�س من‬ ‫تتنور‬ ‫الو�صي �أن يبلغ الأيتام ر�شدهم‪ ،‬كذلك لي�س من غر�ض‬ ‫�صالح‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد �أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرعية بالعلم‪.‬‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬مهما كان غبياً‪ْ � ،‬أن ال ا�ستعباد وال اعت�ساف �إال‬ ‫ال يخفى على‬ ‫ّ‬ ‫الرعية حمقاء تخبط يف ظالمة جهل وتيه عماء‪ ،‬فلو كان‬ ‫امل�ستبد طرياً‬ ‫ُّ‬ ‫مادامت ّ‬ ‫لكان خ ّفا�ش ًا ي�صطاد هوام العوام يف ظالم اجلهل‪ ،‬ولو كان وح�ش ًا لكان ابن‬ ‫�آوى يتل ّقف دواجن احلوا�رض يف غ�شاء الليل‪ ،‬ولك ّنه هو الإن�سان ي�صيد عالمِ َه‬ ‫جاه ُل ُه‪.‬‬ ‫ك�شاف ًا مب�رصاً‪ ،‬يو ّلد يف النفو�س‬ ‫العلم قب�س ٌة من نور اهلل‪ ،‬وقد خلق اهلل ال ّنور ّ‬ ‫حرار ًة ويف الر�ؤو�س �شهامةً‪ ،‬العلم نور والظلم ظالم‪ ،‬ومن طبيعة ال ّنور تبديد‬ ‫الظالم‪ ،‬واملت�أمل يف حالة ك ِّل رئي�س ومر�ؤو�س يرى ك َّل �سلطة الرئا�سة تقوى‬ ‫ّ‬ ‫وت�ضعف بن�سبة نق�صان علم املر�ؤو�س وزيادته‪.‬‬ ‫يقوم الل�سان و�أكرثها‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد ال يخ�شى علوم اللغة‪ ،‬تلك العلوم التي بع�ضها ّ‬ ‫هزل وهذيان ي�ضيع به الزمان‪ ،‬نعم‪ ،‬ال يخاف علم اللغة �إذا مل يكن وراء الل�سان‬ ‫ٌ‬

‫‪47‬‬


‫اال�ستبداد والعلم‬

‫حكمة حما�س تعقد الألوية‪� ،‬أو �سحر بيان يح ُّل عقد اجليو�ش‪ ،‬لأنه يعرف � ّأن‬ ‫ني ب�أن تلد الأمهات كثرياً من �أمثال‪ :‬الكميت وح�سان �أو مونتي�سكيو‬ ‫الزمان �ضن ٌ‬ ‫و�شيللر‪.‬‬ ‫امل�ستبد من العلوم الدينية املتعلِّقة باملعاد‪ ،‬املخت�صة ما‬ ‫وكذلك ال يخاف‬ ‫ُّ‬ ‫يتلهى‬ ‫بني الإن�سان وربه‪ ،‬العتقاده �أ ّنها ال ترفع غباو ًة وال تزيل غ�شاوة‪� ،‬إمنا ّ‬ ‫املتهو�سون للعلم‪ ،‬حتى �إذا �ضاع فيها عمرهم‪ ،‬وامتلأتها �أدمغتهم‪ ،‬و�أخذ‬ ‫بها‬ ‫ِّ‬ ‫امل�ستبد منهم‬ ‫منهم الغرور‪ ،‬ف�صاروا ال يرون علم ًا غري علمهم‪ ،‬فحينئ ٍذ ي�أمن‬ ‫ُّ‬ ‫ال�سكران �إذا خمر‪ .‬على �أ ّنه �إذا نبغ منهم البع�ض ونالوا حرمة بني‬ ‫كما ُي�ؤمن ُّ‬ ‫�رش ّ‬ ‫امل�ستبد و�سيلة ال�ستخدامها يف ت�أييد �أمره وجماراة هواه يف‬ ‫العوام ال يعدم‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وي�سد �أفواههم بلقيمات من مائدة‬ ‫مقابلة �أ ّنه ي�ضحك عليهم ب�شيء من التعظيم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬وكذلك ال يخاف من العلوم ال�صناعية حم�ضاً‪ ،‬ل ّأن �أهلها يكونون‬ ‫امل�ستبد بقليل من املال‬ ‫م�ساملني �صغار ال ّنفو�س‪� ،‬صغار الهمم‪ ،‬ي�شرتيها‬ ‫ُّ‬ ‫والإعزاز‪ ،‬وال يخاف من املاديني‪ ،‬ل ّأن �أكرثهم مبتلون ب�إيثار ال ّنف�س‪ ،‬وال من‬ ‫الريا�ضيني‪ ،‬ل ّأن غالبهم ق�صار النظر‪.‬‬ ‫امل�ستبد من علوم احلياة مثل احلكمة النظرية‪ ،‬والفل�سفة‬ ‫ترتعد فرائ�ص‬ ‫ُّ‬ ‫املف�صل‪،‬‬ ‫العقلية‪ ،‬وحقوق الأمم وطبائع االجتماع‪ ،‬وال�سيا�سة املدنية‪ ،‬والتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫وتو�سع العقول‪،‬‬ ‫واخلطابة الأدبية‪ ،‬ونحو ذلك من العلوم التي ُتكرب النفو�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتعرف الإن�سان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها‪ ،‬وكيف الطلب‪ ،‬وكيف ال ّنوال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد من �أ�صحاب هذه العلوم‪ ،‬املندفعني‬ ‫يخاف‬ ‫ما‬ ‫أخوف‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫احلفظ‪.‬‬ ‫وكيف‬ ‫ّ‬ ‫منهم لتعليم ال ّنا�س اخلطابة �أو الكتابة وهم املعبرَّ عنهم يف القر�آن بال�صاحلني‬ ‫عبادي ال�صاحلون) ويف‬ ‫وامل�صلحني يف نحو قوله تعاىل‪ّ �( :‬أن الأر�ض يرثها‬ ‫َ‬ ‫بظلم و�أهلها م�صلحون)‪ ،‬و� ْإن كان علماء‬ ‫ربك ليهلك القرى ٍ‬ ‫قوله‪( :‬وما كان ُّ‬ ‫حولوا معنى مادة‬ ‫اال�ستبداد يف�سرِّ ون مادة ال�صالح والإ�صالح بكرثة ُّ‬ ‫التعبد كما ّ‬ ‫الف�ساد والإف�ساد‪ :‬من تخريب نظام اهلل �إىل الت�شوي�ش على امل�ستبدين‪.‬‬ ‫امل�ستبد يخاف من ه�ؤالء العاملني الرا�شدين املر�شدين‪ ،‬ال‬ ‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن‬ ‫ّ‬ ‫حمفوظات كثرية ك�أ ّنها مكتبات‬ ‫من العلماء املنافقني �أو الذين حفر ر�ؤو�سهم‬ ‫ٌ‬ ‫مقفلة!‬ ‫العلم ونتائجه‪ ،‬يبغ�ضه �أي�ض ًا لذاته‪ ،‬لأن للعلم �سلطان ًا‬ ‫كما يبغ�ض‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد َ‬

‫‪48‬‬


‫للم�ستبد من �أن ي�ستحقر نف�سه كلما وقعت عينه على‬ ‫بد‬ ‫ِّ‬ ‫�أقوى من ك ِّل �سلطان‪ ،‬فال َّ‬ ‫امل�ستبد �أن يرى وجه عا ٍمل عاقل يفوق‬ ‫يحب‬ ‫ُّ‬ ‫من هو �أرقى منه علماً‪ .‬ولذلك ال ُّ‬ ‫عليه فكراً‪ ،‬ف�إذا ا�ضطر ملثل الطبيب واملهند�س يختار الغبي املت�صاغر املتملِّق‪.‬‬ ‫وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله‪( :‬فاز املتملقون)‪ ،‬وهذه طبيعة ك ِّل‬ ‫املتكربين‪ ،‬بل يف غالب النا�س‪ ،‬وعليها مبنى ثنائهم على ك ِّل من يكون م�سكين ًا‬ ‫ل�رش‪.‬‬ ‫خام ًال ال ُيرجى خل ٍري وال ٍّ‬ ‫تقدم � َّأن بني اال�ستبداد والعلم حرب ًا دائم ًة وطراداً م�ستمراً‪ :‬ي�سعى‬ ‫وينتج مما َّ‬ ‫امل�ستبد يف �إطفاء نورها‪ ،‬والطرفان يتجاذبان‬ ‫العلماء يف تنوير العقول‪ ،‬ويجتهد‬ ‫ُّ‬ ‫العوام‪ .‬ومن هم العوام؟ هم �أولئك الذين �إذا جهلوا خافوا‪ ،‬و�إذا خافوا ا�ست�سلموا‪،‬‬ ‫كما �أ َّنهم هم الذين متى علموا قالوا‪ ،‬ومتى قالوا فعلوا‪.‬‬ ‫امل�ستبد و ُق ْو ُت ُه‪ .‬بهم عليهم ي�صول ويطول‪ ،‬ي�أ�رسهم فيتهللون‬ ‫العوام هم قوة‬ ‫ُّ‬ ‫ل�شوكته‪ ،‬ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقائه حياتهم‪ ،‬ويهينهم فيثنون على‬ ‫رفعته‪ ،‬ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته‪ ،‬و�إذا �أ�رسف يف �أموالهم‬ ‫يقولون كرمياً‪ ،‬و�إذا قتل منهم مل مي ِّثل يعتربونه رحيماً‪ ،‬وي�سوقهم �إىل خطر‬ ‫املوت‪ ،‬فيطيعونه حذر التوبيخ‪ ،‬و�إن نقم عليه منهم بع�ض الأباة قاتلهم ك�أنهم‬ ‫ُبغاة‪.‬‬ ‫واحلا�صل � َّأن العوام يذبحون �أنف�سهم ب�أيديهم ب�سبب اخلوف النا�شئ عن‬ ‫وتنور العقل زال اخلوف‪ ،‬و�أ�صبح النا�س ال‬ ‫اجلهل والغباوة‪ ،‬ف�إذا ارتفع اجلهل َّ‬ ‫ينقادون طبع ًا لغري منافعهم‪ ،‬كما قيل‪ :‬العاقل ال يخدم غري نف�سه‪ ،‬وعند ذلك ال‬ ‫امل�ستبد اللئيم‬ ‫للم�ستبد من االعتزال �أو االعتدال‪ .‬وكم �أجربت الأمم برت ّقيها‬ ‫بد‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫على الرت ّقي معها واالنقالب ‪-‬رغم طبعه‪� -‬إىل وكيلٍ �أمني يهاب احل�ساب‪،‬‬ ‫حليم يتلذذ بالتحابب‪ .‬وحينئ ٍذ تنال الأمة‬ ‫ٍ‬ ‫ورئي�س عادل يخ�شى االنتقام‪ ،‬و� ٍأب ٍ‬ ‫حظ الرئي�س من‬ ‫ر�ضية هنية‪ ،‬حياة رخاء ومناء‪ ،‬حياة ع ّز و�سعادة‪ ،‬ويكون ّ‬ ‫حيا ًة ّ‬ ‫ذلك ر�أ�س احلظوظ‪ ،‬بعد �أن كان يف دور اال�ستبداد �أ�شقى العباد‪ ،‬لأنه على الدوام‬ ‫ملحوظ ًا بالبغ�ضاء‪ ،‬حماط ًا بالأخطار‪ ،‬غري �أمني على ريا�سته‪ ،‬بل وعلى حياته‬ ‫قط �أمامه من ي�سرت�شده فيما يجهل‪ ،‬ل َّأن الواقف بني‬ ‫طرفة عني‪ ،‬ولأنه ال يرى ّ‬ ‫بد �أن يهابه‪ ،‬في�ضطرب باله‪ ،‬فيت�شو�ش فكره‪،‬‬ ‫يديه مهما كان عاق ًال متيناً‪ ،‬ال َّ‬ ‫ويخت ّل ر�أيه‪ ،‬فال يهتدي على ال�صواب‪ ،‬و�إن اهتدى فال يج�رس على الت�رصيح به‬

‫‪49‬‬


‫اال�ستبداد والعلم‬

‫قبل ا�ستطالع ر�أي‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬ف�إن ر�آه مت�صلِّب ًا فيما يراه فال ي�سعه �إال ت�أييده را�شداً‬ ‫ّ‬ ‫احلق‪:‬‬ ‫هياب فهو ك َّذاب‪ ،‬والقول ُّ‬ ‫غياً‪ ،‬وك ُّل م�ست�شار غريه َّ‬ ‫يدعي �أ َّنه غري ّ‬ ‫كان �أو ّ‬ ‫امل�ستبد قطُّ من ر�أي‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال ي�ستفيد‬ ‫ُّ‬ ‫� َّإن ال�صدق ال يدخل ق�صور امللوك‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وعذاب وخوف‪ ،‬وكفى بذلك انتقام ًا منه على‬ ‫وتردد‬ ‫غريه‪ ،‬بل يعي�ش يف �ضالل‬ ‫ٍ‬ ‫ا�ستعباده ال ّنا�س وقد خلقهم ربهم �أحراراً‪.‬‬ ‫امل�ستبد من نقمة رعيته �أكرث من خوفهم من ب�أ�سه‪ ،‬ل َّأن خوفه‬ ‫� َّإن خوف‬ ‫ّ‬ ‫ين�ش�أ عن علمه مبا ي�ستح ُّقه منهم‪ ،‬وخوفهم نا�شئ عن جهل‪ ،‬وخوفه عن عج ٍز‬ ‫توهم التخاذل فقط‪ ،‬وخوفه على فقد حياته و�سلطانه‪،‬‬ ‫حقيقي فيه‪ ،‬وخوفهم عن ّ‬ ‫وخوفهم على لقيمات من ال ّنبات وعلى وطنٍ ي�ألفون غريه يف �أيام‪ ،‬وخوفه على‬ ‫ك ِّل �شيء حتت �سماء ملكه‪ ،‬وخوفهم على ٍ‬ ‫حياة تعي�سة فقط‪.‬‬ ‫رعيته وح ّتى من حا�شيته‪،‬‬ ‫كلما زاد‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد ظلم ًا واعت�ساف ًا زاد خوفه من ّ‬ ‫امل�ستبد باجلنون ال ّتام‪.‬‬ ‫وحتى ومن هواج�سه وخياالته‪ .‬و�أكرث ما ُتختم حياة‬ ‫ِّ‬ ‫قط‪ ،‬لنفوره من البحث عن احلقائق‪،‬‬ ‫قلت‪( :‬التام) ل ّأن‬ ‫امل�ستبد ال يخلو من احلمق ّ‬ ‫َّ‬ ‫و�إذا �صادف وجود م�ستب ٍّد غري �أحمق في�سارعه املوت قهراً �إذا مل ي�سارعه‬ ‫وقلت‪� :‬إنه يخاف من حا�شيته‪ ،‬ل َّأن �أكرث ما يبط�ش بامل�ستبدين‬ ‫اجلنون �أو العته‪ُ ،‬‬ ‫حوا�شيهم‪ ،‬ل َّأن ه�ؤالء �أ�شقى خلق اهلل حيا ًة‪ ،‬يرتكبون ك َّل جرمي ٍة وفظيعة حل�ساب‬ ‫امل�ستبد الذي يجعلهم مي�سون وي�صبحون خمبولني م�رصوعني‪ُ ،‬يجهدون الفكر‬ ‫ِّ‬ ‫ي�رصح‪ .‬فكم ينقم عليهم‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫يطلب‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫بدون‬ ‫فعله‬ ‫منهم‬ ‫يريد‬ ‫ما‬ ‫ا�ستطالع‬ ‫يف‬ ‫ِّ‬ ‫ملجرد �أنهم ال يعلمون الغيب‪ ،‬ومن ذا الذي يعلم الغيب‪ ،‬الأنبياء‬ ‫ويهينهم‬ ‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬وال‬ ‫نبي وال و ٌّ‬ ‫والأولياء؟ وما ه�ؤالء �إال �أ�شقياء‪� ،‬أ�ستغفرك اللهم! ال يعلم غيبك ٌّ‬ ‫احلق‪( :‬فال‬ ‫يظن �صدقه �إ ّال مغ َّفل‪ ،‬ف�إ َّنك اللهم قلت وقولك ّ‬ ‫دجال‪ ،‬وال ُّ‬ ‫ّ‬ ‫يدعي ذلك �إ ّال ّ‬ ‫علمت اخلري ال�ستكرثت منه)‪.‬‬ ‫يظهر على غيبه �أحداً) و�أف�ضل �أنبيائك يقول‪( :‬لو ُ‬ ‫م�ستبدين‬ ‫من قواعد امل� ِّؤرخني املدققني‪َّ � :‬إن �أحدهم �إذا �أراد املوازنة بني‬ ‫َّ‬ ‫كنريون وتيمور مثالً‪ ،‬يكتفي �أن يوازن درجة ما كانا عليه من التح ُّذر والتح ُّفظ‪.‬‬ ‫و�إذا �أراد املفا�ضلة بني عادلني ك�أنو �رشوان وعمر الفاروق‪ ،‬يوازن بني مرتبتي‬ ‫�أمنهما يف قوميهما‪.‬‬ ‫ملا كانت �أكرث الديانات م�ؤ�س�سة على مبد�أي اخلري وال�رش كالنور والظالم‪،‬‬ ‫أ�رض �شيء‬ ‫وال�شم�س وزحل‪ ،‬والعقل وال�شيطان‪ ،‬ر�أت بع�ض الأمم الغابرة � َّأن � َّ‬

‫‪50‬‬


‫أ�رض �آثار اجلهل هو اخلوف‪ ،‬فعملت هيك ًال خم�ص�ص ًا‬ ‫على الإن�سان هو اجلهل‪ ،‬و� ّ‬ ‫ل�رشه‪.‬‬ ‫اتقاء ِّ‬ ‫للخوف ُيعبد ً‬ ‫امل�ستبد يف ك ِّل زمان هو‬ ‫قال �أحد املحررين ال�سيا�سيني‪� :‬إين �أرى ق�رص‬ ‫ِّ‬ ‫هيكل اخلوف عينه‪ :‬فامللك اجلبار هو املعبود‪ ،‬و�أعوانه هم الكهنة‪ ،‬ومكتبته‬ ‫املقد�س‪ ،‬والأقالم هي ال�سكاكني‪ ،‬وعبارات التعظيم هي ال�صلوات‪،‬‬ ‫هي املذبح َّ‬ ‫قدمون قرابني اخلوف‪ ،‬وهو �أهم النوامي�س الطبيعية‬ ‫والنا�س هم الأ�رسى الذين ُي َّ‬ ‫يف الإن�سان‪ ،‬والإن�سان يقرب من الكمال يف ن�سبة ابتعاده عن اخلوف‪ ،‬وال و�سيلة‬ ‫لتخفيف اخلوف �أو نفيه غري العلم بحقيقة املخيف منه‪ ،‬وهكذا �إذا زاد علم �أفراد‬ ‫امل�ستبد امر�ؤٌ عاجز مثلهم‪ ،‬زال خوفهم منه وتقا�ضوه حقوقهم‪.‬‬ ‫الرعية ب� ّأن‬ ‫َّ‬ ‫ويقول �أهل النظر‪َّ � :‬إن خري ما ي�ستبدل به على درجة ا�ستبداد احلكومات‪،‬‬ ‫هو تغاليها يف �شن�آن امللوك‪ ،‬وفخامة الق�صور‪ ،‬وعظمة احلفالت‪ ،‬ومرا�سيم‬ ‫الت�رشيفات‪ ،‬وعالئم ال َّأبهة‪ ،‬ونحو ذلك من التمويهات التي ي�سرتهب بها امللوك‬ ‫امل�ستبد كما‬ ‫رعاياهم عو�ض ًا عن العقل واملفاداة‪ ،‬وهذه التمويهات يلج�أ �إليها‬ ‫ُّ‬ ‫ال�صدق لليمني‪ ،‬وقليل املال‬ ‫يلج�أ قليل الع ِّز للتكبرُّ ‪ ،‬وقليل العلم‬ ‫للت�صوف‪ ،‬وقليل ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫لزينة اللبا�س‪.‬‬ ‫�ستدل على عراقة الأمة يف اال�ستعباد �أو احلرية‬ ‫ويقولون‪� :‬إ َّنه كذلك ُي ُّ‬ ‫با�ستنطاق لغتها‪ ،‬هل هي قليلة �ألفاظ التعظيم كالعربية مثالً؟ �أم هي غنية يف‬ ‫عبارات اخل�ضوع كالفار�سية‪ ،‬وكتلك اللغة التي لي�س فيها بني املتخاطبني �أنا‬ ‫و�أنت‪ ،‬بل �سيدي وعبدكم؟!‬ ‫واخلال�صة � َّأن اال�ستبداد والعلم �ضدان متغالبان‪ ،‬فك ُّل �إدارة م�ستبدة ت�سعى‬ ‫جهدها يف �إطفاء نور العلم‪ ،‬وح�رص الرعية يف حالك اجلهل‪ .‬والعلماء احلكماء‬ ‫الذين ينبتون �أحيان ًا يف م�ضايق �صخور اال�ستبداد ي�سعون جهدهم يف تنوير‬ ‫�أفكار ال ّنا�س‪ ،‬والغالب � َّأن رجال اال�ستبداد ُيطاردون رجال العلم وينكلون بهم‪،‬‬ ‫فال�سعيد منهم من يتم ّكن من مهاجرة دياره‪ ،‬وهذا �سبب � َّأن ك َّل الأنبياء العظام‬ ‫ عليهم ال�صالة وال�سالم و�أكرث العلماء الأعالم والأدباء والنبالء‪ -‬تقلَّبوا يف‬‫البالد وماتوا غرباء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ح�ض على العلم‪ ،‬وكفى �شاهداً � َّأن �أول كلمة �أنزلت‬ ‫� َّإن الإ�سالمية � َّ‬ ‫أول دين َّ‬ ‫نت بها على‬ ‫من القر�آن هي الأمر بالقراءة �أمراً مكرراً‪ ،‬و� َّأول ِم َّن ٍة �أجلَّها اهلل وام َّ‬

‫‪51‬‬


‫اال�ستبداد والعلم‬

‫ال�سلف الأول من‬ ‫الإن�سان هي �أ َّنه علَّمه بالقلم‪ .‬علَّمه به ما مل يعلم‪ .‬وقد فهم َّ‬ ‫مغزى هذا الأمر وهذا االمتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على ك ِّل م�سلم‪،‬‬ ‫تعم‪ ،‬وبذلك �صار العلم يف‬ ‫عمت القراءة والكتابة يف امل�سلمني �أو كادت ُّ‬ ‫وبذلك َّ‬ ‫الدين �أو الأ�رشاف كما كان يف الأمم‬ ‫الأمة حراً مباح ًا للك ِّل ال‬ ‫يخت�ص به رجال ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ولكن‪ ،‬قاتل‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وبذلك انت�رش العلم يف �سائر الأمم �أخذاً على امل�سلمني!‬ ‫ْ‬ ‫اهلل اال�ستبداد الذي ا�ستهان بالعلم حتى جعله كال�سلعة ُيعطى ويمُ نح للأميني‪،‬‬ ‫وال يجر�ؤ �أحد على االعرتا�ض‪� ،‬أجل‪ ،‬قاتل اهلل اال�ستبداد الذي رجع بالأمة �إىل‬ ‫الأمية‪ ،‬فالتقى �آخرها ب�أولِّها‪ ،‬وال حول وال قوة �إال باهلل‪.‬‬ ‫قال املدققون‪َّ � :‬إن �أخوف ما يخافه امل�ستبدون الغربيون من العلم �أن يعرف‬ ‫النا�س حقيقة � َّأن احلرية �أف�ضل من احلياة‪ ،‬و�أن يعرفوا النف�س وع َّزها‪ ،‬وال�شرّ ف‬ ‫وعظمته‪ ،‬واحلقوق وكيف تحُ فظ‪ ،‬والظلم وكيف ُيرفع‪ ،‬والإن�سانية وما هي‬ ‫والرحمة وما هي ل ّذاتها‪.‬‬ ‫وظائفها‪ّ ،‬‬ ‫�أما امل�ستبدون ال�رشقيون ف�أفئدتهم هواء ترجتف من �صولة العلم‪ ،‬ك� ّأن العلم‬ ‫نار و�أج�سامهم من بارود‪ .‬امل�ستبدون يخافون من العلم حتى من علم النا�س‬ ‫معنى كلمة (ال �إله �إال اهلل)‪ ،‬وملاذا كانت �أف�ضل الذكر‪ ،‬وملاذا ُبني عليها الإ�سالم‪.‬‬ ‫ُبني الإ�سالم‪ ،‬بل وكافة الأديان على (ال �إله �إال اهلل)‪ ،‬ومعنى ذلك �أ ّنه ال ُيعبد‬ ‫حق ًا �سوى ال�صانع الأعظم‪ ،‬ومعنى العبادة اخل�ضوع ومنها لفظة العبد‪ ،‬فيكون‬ ‫�شيء غري اهلل)‪ .‬وما �أف�ضل تكرار هذا‬ ‫معنى ال �إله �إال اهلل‪( :‬ال ي�ستحق اخل�ضوع ٌ‬ ‫املعنى على الذاكرة �آناء الليل و�أطراف النهار حت ُّذراً من الوقوع يف ورطة �شيء‬ ‫من اخل�ضوع لغري اهلل وحده‪ .‬فهل ‪-‬واحلالة هذه‪ -‬ينا�سب غر�ض امل�ستبدين �أن‬ ‫يعلم عبيدهم � ْأن ال �سيادة وال عبودية يف الإ�سالم وال والية فيه وال خ�ضوع‪� ،‬إمنا‬ ‫عدوا كلمة‬ ‫امل�ؤمنون بع�ضهم �أولياء بع�ض؟ كال‪ ،‬ال يالئم ذلك غر�ضهم‪ ،‬ورمبا ّ‬ ‫(ال �إله �إال اهلل) �شتم ًا لهم! ولهذا‪ ،‬كان امل�ستبدون ‪-‬وال زالوا‪ -‬من �أن�صار ال�شرِّ ك‬ ‫و�أعداء العلم‪.‬‬ ‫كخ َد َمة الأديان املتكبرِّ ين‬ ‫� َّإن العلم ال ينا�سب �صغار امل�ستبدين �أي�ض ًا َ‬ ‫وكالآباء اجل َُهالء‪ ،‬والأزواج احلمقى‪ ،‬وكر�ؤ�ساء ك ِّل اجلمعيات ال�ضعيفة‪.‬‬ ‫قط �إال وتك�سرَّ ت فيها قيود الأ�رس‪،‬‬ ‫واحلا�صل‪� :‬أ َّنه ما انت�رش نور العلم يف �أم ٍة ّ‬ ‫امل�ستبدين من ر�ؤ�ساء �سيا�سة �أو ر�ؤ�ساء دين‪.‬‬ ‫و�ساء م�صري‬ ‫ّ‬

‫‪52‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬ ‫من ا ِ‬ ‫حل َكم البالغة للمت�أخرين قولهم‪( :‬اال�ستبداد �أ�ص ٌل لك ِّل داء)‪ ،‬ومبنى ذلك‬ ‫� َّأن الباحث املدقق يف �أحوال الب�رش وطبائع االجتماع ك�شف � َّأن لال�ستبداد �أثراً‬ ‫�سيئ ًا يف ك ِّل واد‪ ،‬وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده‪ ،‬و�إين الآن‬ ‫التمجد‪.‬‬ ‫�أبحث يف �أ َّنه كيف ُيغالب اال�ستبداد املجد فيف�سده‪ ،‬ويقيم مقامه‬ ‫ُّ‬ ‫حب واحرتام يف القلوب‪ ،‬وهو مطلب طبيعي‬ ‫املجد‪ :‬هو �إحراز املرء مقام ٍّ‬ ‫ين �أو خامل‪.‬‬ ‫نبي �أو زاهد‪ ،‬وال‬ ‫ُّ‬ ‫ينحط عنه د ٌّ‬ ‫�رشيف لك ِّل �إن�سان‪ ،‬ال يرت َّفع عنه ٌّ‬ ‫للمجد ل َّذ ٌة روحية تقارب ل َّذة العبادة عند الفانني يف اهلل تعاىل‪ ،‬وتعادل ل َّذة‬ ‫العلم عند احلكماء‪ ،‬وتربو على ل َّذة امتالك الأر�ض مع قمرها عند الأمراء‪،‬‬ ‫وتزيد على ل َّذة مفاج�أة الإثراء عند الفقراء‪ .‬ولذا‪ ،‬يزاحم املجد يف النفو�س‬ ‫منزلة احلياة‪.‬‬ ‫وقد �أ�ش َك َل على بع�ض الباحثني � ّأي احلر�صني �أقوى؟ حر�ص احلياة �أم‬ ‫وميزوا بها تخليط ابن‬ ‫عول عليها املت� ِّأخرون َّ‬ ‫حر�ص املجد؟ واحلقيقة التي َّ‬ ‫مف�ضل على احلياة عند امللوك وال ُق َّواد‬ ‫خلدون هي التف�ضيل‪ ،‬وذلك � َّأن املجد َّ‬ ‫وحب احلياة ممتاز على املجد عند‬ ‫حمية‪،‬‬ ‫وظيف ًة‪ ،‬وعند ال ُّنجباء والأحرار ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الأُ�رساء والأ ِّذالء طبيعة‪ ،‬وعند اجلبناء والن�ساء �رضورة‪ .‬وعلى هذه القاعدة‬

‫‪53‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫يكون �أئمة �آل البيت ‪-‬عليهم ال�سالم‪ -‬معذورين يف �إلقاء �أنف�سهم يف تلك‬ ‫يف�ضلون املوت‬ ‫ملا كانوا جنباء �أحراراً‪،‬‬ ‫املهالك‪ ،‬لأ َّنهم ّ‬ ‫فحميتهم جعلتهم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫خط�أ �أجماد الب�رش يف �إقدامهم‬ ‫كرام ًا على حياة ٍّ‬ ‫ذل مثل حياة ابن خلدون الذي ّ‬ ‫هدد جمدهم‪ ،‬ذاه ًال على � َّأن بع�ض �أنواع احليوان‪ ،‬ومنها البلبل‪،‬‬ ‫على اخلطر �إذا َّ‬ ‫ُوجِ دت فيها طبيعة اختيار االنتحار �أحيان ًا تخ ُّل�ص ًا من قيود ال ُّذ ِّل‪ ،‬و� َّأن �أكرث‬ ‫�سباع الطري والوحو�ش �إذا �أُ�سرِ َ ت كبرية ت�أبى الغذاء حتى متوت‪ ،‬و� َّأن احل َُّرة‬ ‫متوت وال ت�أكل ب ِع ِ‬ ‫ر�ضها‪ ،‬واملاجدة متوت وال ت�أكل بثدييها!‬ ‫بنوع من البذل يف �سبيل اجلماعة‪ ،‬وبتعبري ال�رشقيني‬ ‫املجد ال ُينال �إال ٍ‬ ‫الدين‪ ،‬وبتعبري الغربيني يف �سبيل املدنية �أو �سبيل‬ ‫يف �سبيل اهلل �أو �سبيل ّ‬ ‫امل�ستحق ال ّتعظيم لذاته‪ -‬ما طالب عبيده بتمجيده‬‫الإن�سانية‪ .‬واملوىل تعاىل‬ ‫ُّ‬ ‫�إال وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم‪.‬‬ ‫وهذا البذل �إما بذل مال للنفع العام وي�سمى جمد الكرم‪ ،‬وهو �أ�ضعف‬ ‫وي�سمى جمد الف�ضيلة‪� ،‬أو بذل‬ ‫املجد‪� ،‬أو بذل العلم ال ّنافع املفيد للجماعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫احلق وحفظ ال ِّنظام‪،‬‬ ‫للم�شاق والأخطار يف �سبيل ن�رصة‬ ‫بالتعر�ض‬ ‫ال ّنف�س‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وي�سمى جمد ال ّنبالة‪ ،‬وهذا �أعلى املجد‪ ،‬وهو املراد عند الإطالق‪ ،‬وهو املجد‬ ‫ُ‬ ‫وحتن �إليه �أعناق النبالء‪ .‬وكم له من ع�شاق‬ ‫الكبرية‪،‬‬ ‫النفو�س‬ ‫إليه‬ ‫�‬ ‫تتوق‬ ‫الذي‬ ‫ُّ‬ ‫تل ُّذ لهم يف حبه امل�صاعب واملخاطرات‪ ،‬و�أكرثهم يكون من مواليد بيوت‬ ‫ال�صدف من عيون الظاملني املذ ّلني‪� ،‬أو يكون من جنباء بيوت‬ ‫نادرة حمتها ُّ‬ ‫ما انقطعت فيها �سل�سلة املجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم‪ .‬ومن‬ ‫�أمثلة املجد قولهم‪ :‬خلق اهلل للمجد رجا ًال ي�ستعذبون املوت يف �سبيله‪ ،‬وال‬ ‫الهمة والإقدام وال ّثبات‪ ،‬تلك اخل�صال ال ّثالث التي بها‬ ‫�سبيل �إليه �إال بعظيم ّ‬ ‫تقدر قيم الرجال‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وهذا نريون الظامل �س�أل �أغربني ال�شاعر وهو حتت ال َّنطع‪ :‬من �أ�شقى النا�س؟‬ ‫معر�ض ًا به‪ :‬من �إذا ذكر النا�س اال�ستبداد كان مثا ًال له يف اخليال‪.‬‬ ‫ف�أجابه ِّ‬ ‫وكان ترايان العادل �إذا ق َّلد �سيف ًا لقائد يقول له‪( :‬هذا �سيف الأمة �أرجو �أن‬ ‫ن�صيب يف عنقي)‪ .‬وخرج قي�س من جمل�س الوليد‬ ‫أتعدى القانون فيكون له‬ ‫ال � ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مغ�ضب ًا يقول‪�( :‬أتريد �أن تكون جباراً؟ واهلل‪َّ � ،‬إن نعال ال�صعاليك لأطول من‬ ‫�سيفك)!‪ .‬وقيل لأحد الأباة‪« :‬ما فائدة �سعيك غري جلب ال�شقاء على نف�سك؟»‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫«علي �أن �أيف‬ ‫فقال‪« :‬ما �أحلى ال�شقاء يف �سبيل تنغي�ص الظاملني!»‪ .‬وقال �آخر‪َّ :‬‬ ‫علي �ضمان الق�ضاء»‪ .‬وقيل لأحد النبالء‪« :‬ملاذا ال تبني لك‬ ‫بوظيفتي وما َّ‬ ‫داراً؟» فقال‪« :‬ما �أ�صنع فيها و�أنا املقيم على ظهر اجلواد �أو يف ال�سجن �أو يف‬ ‫القرب»‪ ،‬وهذه ذات النطاقني (�أ�سماء بنت �أبي بكر ر�ضي اهلل عنها) وهي امر�أة‬ ‫احلق فاذهب وقاتل احلجاج حتى‬ ‫تودع ابنها بقولها‪�« :‬إن كنت على ّ‬ ‫عجوز ِّ‬ ‫ا�ستبد يف �أمر فدخل عليه‬ ‫متوت»‪ .‬وهذا مكماهون رئي�س جمهورية فرن�سا‬ ‫َّ‬ ‫�صديقه غامبتا وهو يقول‪« :‬الأمر للأمة ال �إليك‪ ،‬فاعتدل‪� ،‬أو اعتزل‪ ،‬و�إال ف�أنت‬ ‫املخذول املهان امليت»!!‬ ‫حمب ٌب للنفو�س‪ ،‬ال تفت�أ ت�سعى وراءه وترقى‬ ‫واحلا�صل � َّأن املجد هو‬ ‫ُ‬ ‫املجد َّ‬ ‫وهمته‪،‬‬ ‫مراقيه‪ ،‬وهو مي�سرَّ ٌ يف عهد العدل لك ِّل �إن�سان على ح�سب ا�ستعداده َّ‬ ‫الظلم على ح�سب الإمكان‪.‬‬ ‫وينح�رص حت�صيله يف زمن اال�ستبداد مبقاومة ّ‬ ‫التمجد؟ وماذا يكون‬ ‫التمجد‪ .‬وما هو‬ ‫يقابل املجد‪ ،‬من حيث مبتناه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫لفظ هائل املعنى‪ ،‬ولهذا �أراين �أتعثرَّ بالكالم و�أتلعثم يف‬ ‫التمجد؟‬ ‫التمجد ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫اخلطاب‪ ،‬وال �سيما من حيث �أخ�شى م�سا�س �إح�سا�س بع�ض املطالعني‪� .‬إن مل‬ ‫واحلق‬ ‫يكن من جهة �أنف�سهم فمن جهة �أجدادهم الأولني‪ ،‬ف�أنا�شدهم الوجدان‬ ‫ّ‬ ‫ثم هم مثلي ومثل �سائر‬ ‫املهان‪� ،‬أن‬ ‫يتجردوا دقيقتني من ال ّنف�س وهواها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫اجلانني على الإن�سانية ال يعدمون ت�أوي ًال‪ .‬و�إنني �أعلِّل ال ّنف�س بقبولهم تهويني‬ ‫هذا‪ ،‬ف�أنطلق و�أقول‪:‬‬ ‫امل�ستبد بالفعل‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬وهو القربى من‬ ‫التمجد خا�ص بالإدارات‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫كالأعوان والعمال‪� ،‬أو بالقوة كاملل َّقبني بنحو دوق وبارون‪ ،‬واملخاطبني بنحو‬ ‫املطوقني باحلمائل‪،‬‬ ‫ورب ال�صولة‪� ،‬أو املو�سومني بالنيا�شني‪� ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫رب العزة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫امل�ستبد‬ ‫التمجد هو �أن ينال املرء جذوة نار من جهنم كربياء‬ ‫وبتعريف �آخر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ليحرق بها �رشف امل�ساواة يف الإن�سانية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الرجل �سيف ًا من ق َبل اجلبارين يربهن به على‬ ‫وبو�صف �أجلى‪ :‬هو �أن يتق ّلد ّ‬ ‫�أ َّنه جالد يف دولة اال�ستبداد‪� ،‬أو يعلِّق على �صدره و�سام ًا م�شعراً مبا وراءه من‬ ‫الوجدان امل�ستبيح للعدوان‪� ،‬أو يتزين ب�سيور مزرك�شة تنبئ ب�أ ّنه �صار خم َّنث ًا‬ ‫�أقرب �إىل الن�ساء منه �إىل الرجال‪ ،‬وبعبارة �أو�ضح و�أخ�رص‪ ،‬هو �أن ي�صري‬ ‫امل�ستبد الأعظم‪.‬‬ ‫الإن�سان م�ستبداً �صغرياً يف كنف‬ ‫ِّ‬

‫‪55‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫خا�ص بالإدارات اال�ستبدادية‪ ،‬وذلك ل َّأن احلكومة احلرة‬ ‫التمجد‬ ‫قلت‪َّ � :‬إن‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌّ‬ ‫التي مت ِّثل عواطف الأمة ت�أبى ك َّل الإباء �إخالل الت�ساوي بني الأفراد �إال لف�ضلٍ‬ ‫حقيقي‪ ،‬فال ترفع قدر �أحد منها �إال رفع ًا �صوري ًا �أثناء قيامه يف خدمتها‪� ،‬أي‬ ‫متيز‬ ‫اخلدمة العمومية‪ ،‬وذلك ت�شويق ًا له على التفاين يف اخلدمة‪ ،‬كما �أ َّنها ال ّ‬ ‫بلقب �إال ما كان علمي ًا �أو ذكرى خلدمة مهمة‬ ‫ت�رشفه ٍ‬ ‫�أحداً منها بو�سام �أو ِّ‬ ‫و َّفقه اهلل �إليها‪ .‬ومبثل هذا يرفع ا ُ‬ ‫بع�ض درجات يف‬ ‫هلل النا�س بع�ضهم فوق ٍ‬ ‫القلوب ال يف احلقوق‪.‬‬ ‫وهذا لقب اللوردية مث ًال عند الإنكليز هو من بقايا عهد اال�ستبداد‪ ،‬ومع‬ ‫ذلك ال يناله عندهم غالب ًا �إال من يخدم � َّأمته خدمة عظيمة‪ ،‬ويكون من حيث‬ ‫�أخالقه وثروته �أه ًال لأن يخدمها خدمات مهمة غريها‪ ،‬ومن املقرر �أن ال‬ ‫اعتبار للورد يف نظر الأمة �إال �إذا كان م�ؤ�س�س ًا �أو وارث ًا‪� ،‬أو كانت الأمة تقر�أ‬ ‫مم�ضي بدمه يق�سم فيه‬ ‫يف جبهته �سطراً حمرراً بقلم الوطنية ومبداد ال�شهامة‬ ‫ٍّ‬ ‫ب�رشفه �أنه �ضمني برثوته وحياته نامو�س الأمة‪� ،‬أي قانونها الأ�سا�سي‪ ،‬حفيظ‬ ‫على روحها‪� ،‬أي حريتها‪.‬‬ ‫التمجد ال يكاد يوجد له �أثر يف الأمم القدمية �إال يف دعوى الألوهية وما‬ ‫ُّ‬ ‫معناها من نفع النا�س بالأنفا�س‪� ،‬أو يف دعوى ال ّنجابة بالن�سب التي يهول‬ ‫وال�شارات يف‬ ‫بها الأ�صالء ن�سل امللوك والأمراء‪ ،‬و�إمنا ن�ش�أ‬ ‫التمجد بالألقاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم قامت فتاة احلرية تتغ ّنى‬ ‫القرون الو�سطى‪ ،‬وراج �سوقه يف القرون الأخرية‪َّ ،‬‬ ‫بامل�ساواة وتغ�سل �أدرانه على ح�سب قوتها وطاقتها‪ ،‬ومل تبلغ غايتها �إىل‬ ‫الآن يف غري �أمريكا‪.‬‬ ‫املتمجدون يريدون �أن يخدعوا العامة‪ ،‬وما يخدعون غري ن�سائهم الالتي‬ ‫ِّ‬ ‫يتفحفحن بني عجائز احلي ب�أنهم كبار العقول‪ ،‬كبار النفو�س‪� ،‬أحرار يف‬ ‫�ش�ؤونهم ال ُيزاح لهم نقاب‪ ،‬وال ُت�صفع منهم رقاب‪ ،‬فيحوجهم هذا املظهر‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬بل‬ ‫لتحمل الإ�ساءات والإهانات التي تقع عليهم من ِق َبل‬ ‫الكاذب‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫حتوجهم للحر�ص على كتمها‪ ،‬بل على �إظهار عك�سها‪ ،‬بل على مقاومة من‬ ‫امل�ستبد و�إبعادهم عن‬ ‫حق‬ ‫يدعي خالفها‪ ،‬بل على تغليط �أفكار ال ّنا�س يف ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫اعتقاد � َّأن من �ش�أنه الظلم‪.‬‬ ‫وهكذا يكون املتمجدون �أعداء للعدل �أن�صاراً للجور‪ ،‬ال دين وال وجدان وال‬

‫‪56‬‬


‫امل�ستبد من �إيجادهم والإكثار منهم ليتم َّكن‬ ‫�رشف وال رحمة‪ ،‬وهذا ما يق�صده‬ ‫ُّ‬ ‫يغرر الأمة على �إ�رضار نف�سها حتت ا�سم منفعتها‪ ،‬في�سوقها‬ ‫بوا�سطتهم من �أن ِّ‬ ‫مث ًال حلرب اقت�ضاها حم�ض التجبرُّ والعدوان على اجلريان‪ ،‬فيوهمها �أ َّنه يريد‬ ‫ن�رصة الدين‪� ،‬أو ُي�رسف باملاليني من �أموال الأمة يف ملذاته وت�أييد ا�ستبداده‬ ‫با�سم حفظ �رشف الأمة و�أبهة اململكة‪� ،‬أو ي�ستخدم الأمة يف التنكيل ب�أعداء‬ ‫يت�رصف يف حقوق اململكة والأمة كما ي�شا�ؤه‬ ‫ظلمه با�سم �أنهم �أعداء لها‪� ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫هواه با�سم � َّأن ذلك من مقت�ضى احلكمة وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫املتمجدين �سما�رسة لتغرير الأمة با�سم‬ ‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن امل�ستبد ي ّتخذ‬ ‫ّ‬ ‫حب الوطن‪� ،‬أو تو�سيع اململكة‪� ،‬أو حت�صيل منافع عامة‪� ،‬أو‬ ‫خدمة الدين‪� ،‬أو ّ‬ ‫م�س�ؤولية الدولة‪� ،‬أو الدفاع عن اال�ستقالل‪ ،‬واحلقيقة � َّأن ك ّل هذه الدواعي‬ ‫الفخيمة العنوان يف الأ�سماع والأذهان ما هي �إال تخييل و�إيهام يق�صد بها‬ ‫الدفاع عن‬ ‫رجال احلكومة تهييج الأمة وت�ضليلها‪ ،‬حتى �إ َّنه ال ُي�ستثنى منها ّ‬ ‫اال�ستقالل‪ ،‬لأ ّنه ما الفرق على � ٍ‬ ‫أمة م�أ�سورة لزيد �أن ي�أ�رسها عمرو؟ وما مثلها‬ ‫الدابة التي ال يرحمها راكب مطمئن‪ ،‬مالك ًا كان �أو غا�صب ًا‪.‬‬ ‫�إال ّ‬ ‫امل�ستبد ال ي�ستغني عن �أن ي�ستمجد بع�ض �أفراد من �ضعاف القلوب الذين‬ ‫ُّ‬ ‫هم كبقر اجلنة ال ينطحون وال يرحمون‪ ،‬ي ّتخذهم ك�أمنوذج البائع الغ�شا�ش‪،‬‬ ‫خمارة‬ ‫على �أ ّنه ال ي�ستعملهم يف �شيء من مهامه‪ ،‬فيكونون لديه كم�صحف يف ّ‬ ‫�أو �سبحة يف يد زنديق‪ ،‬ورمبا ال ي�ستخدم �أحيان ًا بع�ضهم يف بع�ض ال�ش�ؤون‬ ‫تغليط ًا لأذهان العامة يف �أ َّنه ال يعتمد ا�ستخدام الأراذل والأ�سافل فقط‪ ،‬ولهذا‬ ‫ُيقال‪ :‬دولة اال�ستبداد دولة ُب ٍله و�أوغاد‪.‬‬ ‫يجرب �أحيان ًا يف املنا�صب واملراتب بع�ض العقالء الأذكياء‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد ِّ‬ ‫بال�شكل الذي‬ ‫�أي�ض ًا اغرتاراً منه ب�أ ّنه يقوى على تليني طينتهم وت�شكيلهم ّ‬ ‫ثم هو بعد التجربة �إذا‬ ‫يريد‪ ،‬فيكونون له �أعوان ًا خبثاء ينفعونه بدهائهم‪َّ ،‬‬ ‫ي�ستقر عنه‬ ‫خاب ويئ�س من �إف�سادهم يتبادر �إبعادهم �أو ين ّكل بهم‪ .‬ولهذا ال‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد �إال اجلاهل العاجز الذي يعبده من دون اهلل‪� ،‬أو اخلبيث اخلائن الذي‬ ‫ّ‬ ‫ير�ضيه ويغ�ضب اهلل‪.‬‬ ‫أنبه فكر املطالعني �إىل � َّأن هذه الفئة من العقالء الأمناء باجلملة‪،‬‬ ‫وهنا � ِّ‬ ‫ثم‬ ‫الذين يذوقون ع�سيلة جمد احلكومة وين�شطون خلدمة ونيل جمد ال ّنبالة‪َّ ،‬‬

‫‪57‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫ملجرد � َّأن بني �أ�ضلعهم قب�سة من الإميان ويف �أعينهم‬ ‫ي�رضب على يدهم‬ ‫َّ‬ ‫بارقة من الإن�سانية‪ ،‬هي الفئة التي تتكهرب بعداوة اال�ستبداد وينادي‬ ‫�أفرادها بالإ�صالح‪ .‬وهذا االنقالب قد �أعيا امل�ستبدين‪ ،‬لأنهم ال ي�ستغنون عن‬ ‫املغبة‪ .‬ومن هنا ن�ش�أ اعتمادهم غالب ًا على العريقني‬ ‫التجربة وال ي�أمنون هذه ّ‬ ‫يف خدمة اال�ستبداد‪ ،‬الوارثني من �آبائهم و�أجدادهم الأخالق املر�ضية‬ ‫التمجد بالأ�صالة والأن�ساب‪،‬‬ ‫للم�ستبدين‪ ،‬ومن هنا ابتد�أت يف الأمم نغمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وامل�ستبدون املح ّنكون يطيلون �أمد التجربة باملنا�صب ال�صغرية في�ستعملون‬ ‫ّ‬ ‫ثم يختمون‬ ‫القدم‪،‬‬ ‫قاعدة‬ ‫برعاية‬ ‫ذلك‬ ‫ون‬ ‫وي�سم‬ ‫الرتاخي‪،‬‬ ‫مع‬ ‫ي‬ ‫ق‬ ‫الرت‬ ‫قاعدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتمرن خدمة يكون فيها رئي�س ًا مطلق ًا ولو يف قرية‪ ،‬ف�إن‬ ‫التجريب ب�إعطاء‬ ‫ّ‬ ‫�أظهر مهارة يف اال�ستبداد‪ ،‬وذلك ما ي�سمونه حكمة احلكومة فبها نعمت‪ ،‬و�إال‬ ‫قالوا عنه‪ :‬هذا حيوان‪ ،‬يا �ضيعة الأمل فيه‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫� َّإن للأ�صالة م�شاكلة قوية للمجد‬ ‫والتمجد فال َّ‬ ‫بد �أن نبحث فيها قلي ًال‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫املتمجدين ف�أقول‪:‬‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه‬ ‫نعود ملو�ضوع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأ�صالة �صفة قد يكون لها بع�ض املزايا من حيث الأميال التي يرثها‬ ‫رياء‪،‬‬ ‫الأبناء من الآباء‪ ،‬ومن حيث الرتبية التي تكون م�ستحكمة يف البيت ولو ً‬ ‫ومن حيث � َّإن الأ�صالة تكون مقرونة غالب ًا ب�شيء من الرثوة املعينة على‬ ‫ال�شهامة والرحمة‪ ،‬ومن حيث تقويتها العالقة بالأمة والوطن خوف‬ ‫مظاهر ّ‬ ‫مذ ّلة االغرتاب‪ ،‬ومن حيث � َّإن �أهلها يكونون منظورين دائم ًا فيتحا�شون‬ ‫املعائب والنقائ�ص بع�ض التحا�شي‪.‬‬ ‫وبيوت الأ�صالة تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع‪ :‬بيوت علم وف�ضيلة‪ ،‬وبيوت مال‬ ‫أهم موقع ًا‪،‬‬ ‫وكرم‪ ،‬وبيوت ظلم و�إمارة‪ .‬وهذا الأخري هو الق�سم الأكرث عدداً وال ّ‬ ‫امل�ستبد يف اال�ستعانة ومو�ضع‬ ‫وهم ‪-‬كما �سبقت الإ�شارة �إليه‪ -‬مطمح نظر‬ ‫ّ‬ ‫ثقته‪ ،‬وهم اجلند الذي جتتمع حتت لوائه ب�سهولة‪ ،‬ورمبا يكفيه � ْأن ي�ضحك‬ ‫يف وجههم �ضحكة‪ .‬فلننظر ما هو ن�صيب �أهل هذا الق�سم من تلك املزايا‬ ‫املوروثة‪:‬‬ ‫هل يرث االبن عن جده امل�ؤ�س�س ملجده �أميا َله يف العدالة ومل توجد؟ �أم‬ ‫يرتبى على غري‬ ‫يدب‬ ‫وي�شب على غري الترّ ف امل�ص ِّغر للعقول‪ ،‬املميت للهمم؟ �أم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ال�سائد فيما بني العائلة يف بيتهم؟ �أم ي�ستخدم الرثوة‬ ‫للباطل‪،‬‬ ‫امل�ضحك‬ ‫الوقار‬ ‫ّ‬

‫‪58‬‬


‫يف غري املالذ اجل�سمية الدنيئة البهيمية وتلك ال ّأبهة الطاوو�سية الباطلة؟ �أم‬ ‫يتم َّثل بغري �أقران ال�سوء املتملقني املنافقني؟ �أم ال ي�ستحقر قومه جلهلهم قدر‬ ‫يقدرونه‬ ‫ال ُّنطفة امللعونة التي ُخلق منها جنابه؟ �أم ال يبغ�ض العلماء الذين ال ِّ‬ ‫مقراً يليق به غري‬ ‫قدره ح�سبما هو قائم يف خميلة خيالئه؟ �أم يرى جلنابه ّ‬ ‫مقعد التح ُّكم وم�سرتاح الت�آمر؟ �أم ي�ستحي من ال ّنا�س؟ ومن هم ال ّنا�س؟ وما‬ ‫ال ّنا�س عند ح�رضته غري �أ�شباح عندها �أرواح ُخلقت خلدمته!‬ ‫حق من نال منهم‬ ‫وهذه حالة الأكرثين من الأ�صالء‪ ،‬على �أننا ال نبخ�س َّ‬ ‫حظ ًا من العلم و�أوتي احلكمة و�أراد اهلل به خرياً ف�أ�صابه بن�صيب من القهر‬ ‫انخف�ض به �شاموخ �أنفه‪ ،‬ف� َّإن ه�ؤالء ‪ -‬وقليل ما هم‪ -‬ينجبون جنابة عظيمة‪،‬‬ ‫قوة القلب ي�ستعملونها يف اخلري ال يف ال�شرّ ‪،‬‬ ‫في�صدق عليهم �أ َّنهم قد ورثوه ّ‬ ‫وا�ستفادوا من �أنفة الكربياء كاجل�سارة على العظماء‪ ،‬وهكذا تتحول فيهم ميزة‬ ‫وح َ�س ٍب �شامخ من نحو احلنني �إىل الوطن و�أهله‪ ،‬والأنني‬ ‫ِّ‬ ‫ال�رش على فائ�ض خري َ‬ ‫مل�صابه‪ ،‬والإقدام على العظائم يف �سبيل القوم‪ ،‬و�أمثال ه�ؤالء النوابغ ال ُن َجباء‬ ‫�إذا كرثوا يف �أمة يو�شك �أن يرت ّقى منهم �آحاد �إىل درجة اخلوارق فيقودوا‬ ‫�أممهم �إىل درجة النجاح والفالح‪ ،‬وال غرو ف� َّإن اجتماع نفوذ الن�سب وقوة‬ ‫امل�ستبد العادل الذي ين�شده ال�رشقيون‪،‬‬ ‫احل�سب يفعالن وال عجب َ�ش َب َه فعل‬ ‫ِّ‬ ‫وخ�صو�ص ًا امل�سلمني‪ ،‬و�إن كان العقل ال يجوز �أن ي َّت�صف باال�ستبداد مع العدل‬ ‫ال�ساقطة التي قد تت�س ّفل بالإن�سان �إىل عدم‬ ‫غري اهلل وحده‪� ،‬أال قاتل اهلل ّ‬ ‫الهمة ّ‬ ‫�إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن �أم هو حمال؟!‬ ‫الأ�صالء‪ ،‬باعتبار �أكرثيتهم‪ ،‬هم جرثومة البالء يف ك ِّل قبيلة ومن ك ِّل‬ ‫ال�صدفة بع�ض �أفرادهم‬ ‫قبيل‪ .‬ل َّأن بني �آدم داموا �إخوان ًا مت�ساوين �إىل � ْأن َّ‬ ‫ميزت ُّ‬ ‫متيز �أفراد على‬ ‫بكرثة ال ّن�سل‪ ،‬فن�ش�أت منها القوات الع�صبية‪ ،‬ون�ش�أ من تنازعها ُّ‬ ‫�أفراد‪ِ ،‬‬ ‫وح ْف ُظ هذه امليزة �أوجد الأ�صالء‪ .‬فالأ�صالء يف ع�شرية �أو �أمة �إذا كانوا‬ ‫متقاربي القوات ا�ستبدوا على باقي النا�س و�أ�س�سوا حكومة �أ�رشاف‪ ،‬ومتى‬ ‫ي�ستبد وحده‬ ‫ُوجد بيت من الأ�صالء يتميز كثرياً يف القوة على باقي البيوت‬ ‫ُّ‬ ‫وي�ؤ�س�س احلكومة الفردية املقيدة �إذا لباقي البيوت بقية ب�أ�س‪� ،‬أو املطلقة �إذا‬ ‫يبق �أمامه من ي َّتقيه‪.‬‬ ‫مل َ‬ ‫بناء عليه‪� ،‬إذا مل يوجد يف � ّأمة �أ�صالء بالكلية‪� ،‬أو وجد‪ ،‬ولكن‪ ،‬كان ل�سواد‬ ‫ً‬

‫‪59‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫ابتداء‪،‬‬ ‫�صوت غالب‪� ،‬أقامت تلك لنف�سها حكومة انتخابية ال وراثة فيها‬ ‫النا�س‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫كل‬ ‫ولكن‪ ،‬ال يتواىل بع�ض متولني �إال وي�صري �أن�سالهم �أ�صالء يتناظرون‪ُّ ،‬‬ ‫فريق منهم ي�سعى الجتذاب طرف من الأمة ا�ستعداداً للمغالبة و�إعادة التاريخ‬ ‫الأول‪.‬‬ ‫م�ضار الأ�صالء �أنهم ينهمكون �أثناء املغالبة على �إظهار ال َّأبهة‬ ‫ومن �أكرب‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫والعظمة‪ ،‬ي�سرتهبون �أعني النا�س وي�سحرون عقولهم ويتكبرّ ون عليهم‪َّ .‬‬ ‫وا�ستبد بالأمر ال يرتكها الباقون لألفتهم لذتها ومل�ضاهاة‬ ‫�إذا غلب غالبهم‬ ‫َّ‬ ‫يدر عليهم‬ ‫امل�ستبد يف نظر النا�س‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫وامل�ستبد نف�سه ال يحملهم على تركها‪ ،‬بل ُّ‬ ‫والرتب و�شيئ ًا من ال ّنفوذ والت�س ُّلط‬ ‫املال ويعينهم عليها‪ ،‬ويعطيهم الألقاب ُّ‬ ‫ليتلهوا بذلك عن مقاومة ا�ستبداده‪ ،‬ولأجل �أن ي�ألفوها مديداً‪،‬‬ ‫على النا�س‬ ‫ّ‬ ‫فتف�سد �أخالقهم‪ ،‬فينفر منهم النا�س‪ ،‬وال يبقى لهم ملج�أ غري بابه‪ ،‬في�صريون‬ ‫�أعوان ًا له بعد �أن كانوا �أ�ضداداً‪.‬‬ ‫والرخاء‪ ،‬واملنع‬ ‫امل�ستبد �أي�ض ًا مع الأ�صالء �سيا�سة‬ ‫وي�ستعمل‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شد ّ‬ ‫والإعطاء‪ ،‬وااللتفات والإغ�ضاء كي ال يبطروا‪ ،‬و�سيا�سة �إلقاء الف�ساد و�إثارة‬ ‫ال�شحناء فيما بينهم كي ال يتفقوا عليه‪ ،‬وتارة يعاقب عقاب ًا �شديداً با�سم‬ ‫العدالة �‬ ‫يقبلون �أذيالهم ا�ستكباراً‬ ‫إر�ضاء للعوام‪ ،‬و�أخرى يقرنهم ب�أفراد كانوا ِّ‬ ‫ً‬ ‫فيجعلهم �سادة عليهم يفركون �آذانهم ا�ستحقاراً‪ ،‬يق�صد بذلك ك�رس �شوكتهم‬ ‫امل�ستبد يذلل‬ ‫�أمام �إمام النا�س وع�رص �أنوفهم �أمام عظمتهم‪ .‬واحلا�صل � َّأن‬ ‫ّ‬ ‫الأ�صالء بك ِّل و�سيلة حتى يجعلهم مرتامني بني رجليه كي ي َّتخذهم جلام ًا‬ ‫لتذليل الرعية‪ ،‬وي�ستعمل عني هذه ال�سيا�سة مع العلماء ور�ؤ�ساء الأديان الذين‬ ‫�شم من �أحدهم رائحة الغرور بعقله �أو علمه ينكل به �أو ي�ستبدله بالأحمق‬ ‫متى َّ‬ ‫ظان من �أن �إدارة الظلم حمتاجة �إىل �شيء‬ ‫اجلاهل �إيقاظ ًا له ولأمثاله من ك ِّل ٍّ‬ ‫اجلو‬ ‫من العقل �أو االقتدار فوق م�شيئة‬ ‫ِّ‬ ‫امل�ستبد‪ .‬وبهذه ال�سيا�سة ونحوها يخلو ّ‬ ‫جو حمرق‪.‬‬ ‫ويت�رصف يف الرعية‬ ‫فيع�صف وين�سف‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫كري�ش يقلبه ال�رص�رص يف ٍّ‬ ‫امل�ستبد يف حلظة جلو�سه على عر�شه وو�ضع تاجه املوروث على ر�أ�سه‬ ‫ُّ‬ ‫يرى نف�سه كان �إن�سان ًا ف�صار �إله ًا‪ .‬ثم ُيرجع النظر فريى نف�سه يف نف�س الأمر‬ ‫�أعجز من ك ِّل عاجز و�أ َّنه ما نال ما نال �إال بوا�سطة من حوله من العوان‪،‬‬ ‫فريفع نظره �إليهم في�سمع ل�سان حالهم يقول له‪ :‬ما العر�ش؟ وما التاج؟ وما‬

‫‪60‬‬


‫ال�صوجلان؟ ما هذه �إال �أوهام يف �أوهام‪ .‬هل يجعلك هذا الري�ش يف ر�أ�سك‬ ‫طاوو�س ًا و�أنت غراب؟ �أم تظن الأحجار الرباقة يف تاجك جنوم ًا ور�أ�سك �سماء؟‬ ‫�أم تتوهم � َّأن زينة �صدرك ومنكبيك �أخرجتك عن كونك قطعة طنيٍ من هذه‬ ‫الأر�ض؟ واهلل ما م َّكنك يف هذا املقام و�س َّلطك على رقاب الأنام �إال �شعوذتنا‬ ‫و�سحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا و�إخواننا‪ ،‬فانظر �أيها‬ ‫ال�صغري املكبرَّ احلقري املو ّقر كيف تعي�ش معنا!‬ ‫الرعية املتفرجني‪ ،‬منهم الطائ�شون املهللون‬ ‫َّ‬ ‫ثم يلتفت �إىل جماهري ّ‬ ‫امل�سبحون بحمده‪ ،‬ومنهم امل�سحورون املبهوتون ك�أنهم �أموات من حني‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ولكن‪ ،‬يتج ّلى يف فكره � َّأن خالل ال�ساكتني بع�ض �أفراد عقالء �أجماد يخاطبونه‬ ‫وكلناك يف ق�ضائها على ما‬ ‫بالعيون‪ ،‬ب� َّأن لنا معا�رش ال َّأمة �ش�ؤون ًا عمومية َّ‬ ‫حق الوكالة ُح َّق لك االحرتام‪،‬‬ ‫نريد ونبغي‪ ،‬ال على ما تريد فتبغي‪ .‬ف� ْإن و َّفيت َّ‬ ‫و�إن مرت م َك ْرنا وحاقت بك العاقبة‪� ،‬أال � َّإن مكر اهلل عظيم‪.‬‬ ‫ال�سدنة‬ ‫وعندئ ٍذ يرجع‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد �إىل نف�سه قائ ًال‪ :‬الأعوان الأعوان‪ ،‬احل َ​َم َلة َّ‬ ‫بجي�ش من الأوغاد �أحارب بهم ه�ؤالء العبيد العقالء‪،‬‬ ‫�أ�سلمهم القياد و�أردفهم‬ ‫ٍ‬ ‫معر�ض ًا‬ ‫وبغري هذا احلزم ال يدوم يل ُم ْل ٌك كيفما �أكون‪ ،‬بل �أبقى �أ�سرياً للعدل ِّ‬ ‫للمناق�شة من ِّغ�ص ًا يف نعيم امللك‪ ،‬ومن العار �أن ير�ضى بذلك من ميكنه �أن‬ ‫قهاراً‪.‬‬ ‫متفرداً ّ‬ ‫يكون �سلطان ًا جباراً ِّ‬ ‫امل�ستبد الأعظم‬ ‫م�ستبدة يف كل فروعها من‬ ‫امل�ستبدة تكون طبع ًا‬ ‫احلكومة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�صنف �إال من‬ ‫كل‬ ‫الفرا�ش‪� ،‬إىل كنائ�س ال�شوارع‪ ،‬وال يكون ُّ‬ ‫�إىل ال�رشطي‪� ،‬إىل ّ‬ ‫�أ�سفل �أهل طبقته �أخالق ًا‪ ،‬لأن الأ�سافل ال يهمهم طبع ًا الكرامة وح�سن ال�سمعة‪،‬‬ ‫�إمنا غاية م�سعاهم �أن يربهنوا ملخدومهم ب�أنهم على �شاكلته‪ ،‬و�أن�صار‬ ‫لدولته‪ ،‬و�رشهون لأكل ال�سقطات من � ٍّأي كان ولو ب�رشاً �أم خنازير‪� ،‬آباءهم‬ ‫امل�ستبد وي�أمنونه في�شاركهم وي�شاركونه‪ .‬وهذه‬ ‫�أم �أعداءهم‪ ،‬وبهذا ي�أمنهم‬ ‫ُّ‬ ‫ويقل ح�سب �شدة اال�ستبداد وخ ّفته‪ ،‬فكلما كان‬ ‫الفئة امل�ستخدمة يكرث عددها ُّ‬ ‫املتمجدين العاملني له‬ ‫امل�ستبد حري�ص ًا على الع�سف احتاج �إىل زيادة جي�ش‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫املحافظني عليه‪ ،‬واحتاج �إىل مزيد الد ّقة يف ا ِّتخاذهم من �أ�سفل املجرمني‬ ‫ذمة‪ ،‬واحتاج حلفظ الن�سبة بينهم يف املراتب‬ ‫الذين ال �أثر عندهم لدينٍ �أو ّ‬ ‫بالطريقة املعكو�سة‪ ،‬وهي �أن يكون �أ�سفلهم طباع ًا وخ�صا ًال �أعالهم وظيف ًة‬

‫‪61‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫للم�ستبد هو اللئيم الأعظم يف‬ ‫بد �أن يكون الوزير الأعظم‬ ‫وقرب ًا‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ال َّ‬ ‫ّ‬ ‫الأمة‪ ،‬ثم من دونه ل�ؤم ًا‪ ،‬وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان يف ل�ؤمهم‬ ‫رت‬ ‫رت املطالع كما اغ َّ‬ ‫ح�سب مراتبهم يف الت�رشيفات والقربى منه‪ .‬ورمبا يغ ُّ‬ ‫امل�ستبد‬ ‫امل�ستبد يت�أوهون من‬ ‫كثري من امل� ِّؤرخني الب�سطاء ب�أن بع�ض وزراء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويت�ش ّكون من �أعماله ويجهرون مبالمه‪ ،‬ويظهرون لو �أ ّنه �ساعدهم الإمكان‬ ‫لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة ب�أموالهم‪ ،‬بل وحياتهم‪ ،‬فكيف ‪ -‬واحلالة هذه‪-‬‬ ‫يكون ه�ؤالء ل�ؤماء؟ بل كيف ذلك وقد ُوجِ د منهم الذين خاطروا ب�أنف�سهم‬ ‫والذين �أقدموا فع ًال على مقاومة اال�ستبداد فنالوا املراد �أو بع�ضه �أو هلكوا‬ ‫دونه؟‬ ‫حمتاج لع�صابة‬ ‫خائف‬ ‫خائن‬ ‫قط عن �أ ّنه‬ ‫فجواب ذلك � ّأن‬ ‫امل�ستبد ال يخرج ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫يجوز العقل‬ ‫تعينه وحتميه‪ ،‬فهو ووزرا�ؤه كزمرة ل�صو�ص‪ :‬رئي�س و�أعوان‪ .‬فهل ِّ‬ ‫�أن ُينتخب رفاق من غري �أهل الوفاق‪ ،‬وهو هو الذي ال ي�ستوزر �إال بعد جتربة‬ ‫واختبار عمراً طوي ًال؟!‬ ‫هل ميكن �أن يكون الوزير متخلِّق ًا باخلري حقيقة‪ ،‬وبال�شرَّ ِّ ظاهراً فيخدع‬ ‫امل�ستبد ب�أعماله‪ ،‬وال يخاف من �أ َّنه كما ن�صبه و�أع َّزه بكلمة يعزله ويذ ّله؟!‬ ‫ّ‬ ‫فامل�ستبد وهو من ال يجهل � َّأن النا�س �أعدا�ؤه لظلمه‪ ،‬ال ي�أمن‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫بناء‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫على بابه �إال من يثق به �أ َّنه �أظلم منه للنا�س‪ ،‬و�أبعد منه على �أعدائه‪ ،‬و�أما‬ ‫حنق‬ ‫تلوم بع�ض الوزراء على لوم‬ ‫امل�ستبد فهو �إن مل يكن خداع ًا للأمة فهو ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فقدم عليه من هو دونه يف خدمته‬ ‫حقه‪،‬‬ ‫م‬ ‫املتلو‬ ‫ذلك‬ ‫بخ�س‬ ‫أنه‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫امل�ستبد‬ ‫على‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد يف‬ ‫�صولة‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫أمين‬ ‫�‬ ‫الوزير‬ ‫يكون‬ ‫ال‬ ‫وكذلك‬ ‫ووجدانه‪.‬‬ ‫دينه‬ ‫بت�ضحية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫�صحبته ما مل ي�سبق بينهما وفاق وا ِّتفاق على خرية ال�شيطان‪ ،‬لأن الوزير‬ ‫�رش‪ ،‬ويبغ�ضه النا�س ولو تبع ًا‬ ‫ٌ‬ ‫حم�سود بالطبع‪ ،‬يتو ّقع له املزاحمون ك َّل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫هدف يف ك ِّل �ساعة لل�شكايات والو�شايات‪ .‬كيف يكون عند‬ ‫لظاملهم‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫ال�شفقة‬ ‫الوزير‬ ‫�شيء من الت ّقوى �أو احلياء �أو العدل �أو احلكمة �أو املروءة �أو ّ‬ ‫ٌ‬ ‫على الأمة‪ ،‬وهو العامل ب� َّأن الأمة تبغ�ضه ومتقته وتتو ّقع له ك َّل �سوء‪ ،‬وت�شمت‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬وما هو بفاعلٍ ذلك‬ ‫مب�صائبه‪ ،‬فال تر�ضى عنه ما مل ي ّتفق معها على‬ ‫ّ‬ ‫قط‪� ،‬إمنا‬ ‫�أبداً �إال �إذا يئ�س من �إقباله عنده‪ ،‬و�إن يئ�س وفعل فال يق�صد نفع الأمة ّ‬ ‫مل�ستجد جديد ع�ساه ي�ستوزره في�ؤازره على وزره‪.‬‬ ‫باب‬ ‫يريد فتح ٍ‬ ‫ٍّ‬

‫‪62‬‬


‫امل�ستبد‪ ،‬ال وزير ال ّأمة كما يف‬ ‫امل�ستبد هو وزير‬ ‫والنتيجة � َّأن وزير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد ليغمده يف الرقاب‬ ‫احلكومات الد�ستورية‪ .‬كذلك القائد يحمل �سيف‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد ال ب�أمر الأمة‪ ،‬بل هو ي�ستعيذ �أن تكون الأمة �صاحبة �أمر‪ ،‬ملا‬ ‫ب�أمر‬ ‫ّ‬ ‫يعلم من نف�سه � َّأن ال ّأمة ال تقلِّد القيادة ملثله‪.‬‬ ‫والقواد من الإنكار على‬ ‫يت�شدق به الوزراء‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال يغ ُّ‬ ‫رت العقالء مبا َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تلهفوا و�إن ت�أففوا‪ ،‬وال ينخدعون ملظاهر‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫إ�صالح‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫والتفل�سف‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫َّ‬ ‫و�سبحوا‪،‬‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫�ص‬ ‫مهما‬ ‫بوجدانهم‬ ‫وال‬ ‫بهم‬ ‫غريتهم و�إن ناحوا و�إن بكوا‪ ،‬وال يثقون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ل َّأن ذلك ك ّله ينايف �سريهم و�سريتهم‪ ،‬وال دليل على �أ ّنهم �أ�صبحوا يخالفون ما‬ ‫امل�ستبد‬ ‫�شبوا و�شابوا عليه‪ ،‬هم �أقرب �أن ال يق�صدوا بتلك املظاهر غري �إقالق‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الرعية‪� ،‬أي �أموالها‪ .‬نعم‪ ،‬كيف‬ ‫دماء‬ ‫ا�ستدرار‬ ‫يف‬ ‫لي�شاركهم‬ ‫�سلطته‬ ‫وتهديد‬ ‫ّ‬ ‫يجوز ت�صديق الوزير والعامل الكبري الذي قد �ألف عمراً كبرياً ل ّذة البذخ وع ّزة‬ ‫اجلربوت يف �أ َّنه ير�ضى بالدخول حتت حكم ال ّأمة‪ ،‬ويخاطر بعر�ض �سيفه‬ ‫عليها فتح ّله �أو تك�رسه حتت �أرجلها‪� .‬ألي�س هو ع�ضواً ظاهر الف�ساد يف ج�سم‬ ‫تلك الأمة التي قتل اال�ستبداد فيها ك َّل الأميال ال�رشيفة العالية ف�أبعدها عن‬ ‫الأن�س والإن�سانية‪ ،‬ح ّتى �صار الفالح التعي�س منها ي�ؤخذ للجندية وهو يبكي‪،‬‬ ‫فيتنمر على‬ ‫ب�رش الأخالق‪،‬‬ ‫كم ال�سرتة الع�سكرية �إال‬ ‫َّ‬ ‫ويتلب�س ِّ‬ ‫فال يكاد يلب�س َّ‬ ‫ّ‬ ‫مييز‬ ‫ويتمرد على �أهل قريته وذويه‪،‬‬ ‫�أمه و�أبيه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ويكظ �أ�سنانه عط�ش ًا للدماء ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫فكل‬ ‫ذمة‪ُّ ،‬‬ ‫بني � ٍأخ وعدو؟! � َّإن �أكابر رجال عهد اال�ستبداد ال �أخالق لهم وال ّ‬ ‫غ�ش الأمة امل�سكينة‬ ‫التذمر والت�ألمّ يق�صدون به َّ‬ ‫ما يتظاهرون به �أحيان ًا من ّ‬ ‫التي يطمعهم يف انخداعها وانقيادها لهم علمهم ب� َّأن اال�ستبداد القائم بهم‬ ‫وخدر �أع�صابها‪ ،‬فجعلها‬ ‫بهمتهم قد �أعمى �أب�صارها وب�صائرها‪َّ ،‬‬ ‫وامل�ستعمر َّ‬ ‫فتئن من‬ ‫كامل�صاب ببحران العمى‪ ،‬فهي ال ترى غري هول وظالم و�شدة و�آالم‪ُّ ،‬‬ ‫لت�صده‪ ،‬فتوا�سيها فئة من‬ ‫البالء وال تدري ما هو تداويه‪ ،‬وال من �أين جاءها‬ ‫َّ‬ ‫مرد‬ ‫�أولئك املتعاظمني با�سم الدين يقولون‪ :‬يا ب�ؤ�ساء‪ ،‬هذا‬ ‫ق�ضاء من ال�سماء ال َّ‬ ‫ٌ‬ ‫له‪ ،‬فالواجب تل ّقيه بال�صرب والر�ضاء وااللتجاء �إىل الدعاء‪ ،‬فاربطوا �أل�سنتكم‬ ‫عن اللغو والف�ضول‪ ،‬واربطوا قلوبكم ب�أهل ال�سكينة واخلمول‪ ،‬و�إياكم والتدبري‬ ‫ف�إن اهلل غيور‪ ،‬وليكن وِ ْر ُدكم‪ :‬اللهم ان�رص �سلطاننا‪ ،‬و�آم ّنا يف �أوطاننا‪ ،‬واك�شف‬ ‫عنا البالء‪� ،‬أنت ح�سبنا ونعم الوكيل‪ .‬ويغرر الأمة �آخرون من املتكربين ب�أنهم‬

‫‪63‬‬


‫اال�ستبداد واملجد‬

‫الأطباء الرحماء املهتمون مبداواة املر�ض‪� ،‬إنمَّ ا هم يرت َّقبون �سنوح الفر�ص‪،‬‬ ‫وكال الفريقني ‪-‬واهلل‪� -‬إما �أدنياء جبناء‪� ،‬أو هم خائنون خمادعون‪ ،‬يريدون‬ ‫التثبيط والتلبيد واالمتنان على الظاملني‪.‬‬ ‫مغررون خمادعون يظهرون ما ال ُيبطنون‪،‬‬ ‫من دالئل �أن �أولئك الأكابر ِّ‬ ‫�أ َّنهم ال ي�ست�صنعون �إال الأ�سافل الأراذل من النا�س‪ ،‬وال مييلون لغري املتملقني‬ ‫امل�ستبد الأكرب‪ ،‬ومنها �أ َّنه‬ ‫املنافقني من �أهل الدين‪ ،‬كما هو �ش�أن �صاحبهم‬ ‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬لي�س فيهم العفيف‬ ‫قد يوجد فيهم من ال يتن َّزل لقليل الر�شوة �أو ال�رسقة‪ْ ،‬‬ ‫عن الكثري‪ ،‬وكفى مبا يتمتعون من الرثوات الطائلة التي ال منبت لها غري‬ ‫امل�ستبد يف امت�صا�صه دم الأمة‪ ،‬وذلك ب�أخذهم‬ ‫امل�ستبيح الفاخر مب�شاركة‬ ‫َّ‬ ‫العطايا الكبرية‪ ،‬والرواتب الباهظة‪ ،‬التي تعادل �أ�ضعاف ما ت�سمح به الإدارة‬ ‫العادلة لأمثالهم‪ ،‬لأنها �إدارة را�شدة ال تدفع �أجوراً زائدة‪ .‬ومنها �أنهم ال‬ ‫ي�رصفون �شيئ ًا ولو �رساً من هذا ال�سحت الكثري يف �سبيل مقاومة اال�ستبداد‬ ‫الذي يزعمون �أنهم �أعدا�ؤه‪� ،‬إمنا ي�رصف بع�ضهم منه �شيئ ًا يف ال�صدقات‬ ‫ورياء‪ ،‬وك�أنهم يريدون �أن ي�رسقوا �أي�ض ًا قلوب‬ ‫الطفيفة وبناء املعابد �سمع ًة‬ ‫ً‬ ‫النا�س بعد �سلب �أموالهم �أو �أنهم ير�شون اهلل‪� ،‬أال �ساء ما يتوهمون‪ .‬ومنها � َّأن‬ ‫�أكرثهم م�رسفون مب ِّذرون‪ ،‬فال تكفي �أحدهم الرواتب املعتدلة التي ميكن �أن‬ ‫ينالها �أجرة خدمة ال ثمن ذمة‪ .‬ومنها �أنه قد يكون �أحدهم �شحيح ًا مقترِّ اً‬ ‫يخل يف �رشف مقامه‪ ،‬فال ي�رصف ن�صف �أو ربع راتبه‬ ‫يف نفقاته‪ ،‬بحيث ُّ‬ ‫مع �أ َّنه يقب�ضه زائداً على �أجر مثله لأجل حفظ �رشف املقام‪ ،‬العائد ل�رشف‬ ‫ال�ش ّح يكون خائن ًا ومهين ًا‪ .‬واحلا�صل � َّأن الأكابر حري�صون على‬ ‫الأمة‪ ،‬وبهذا ُّ‬ ‫�أن يبقى اال�ستبداد مطلق ًا لتبقى �أيديهم مطلقة يف الأموال‪.‬‬ ‫هذا وال ينكر التاريخ �أن الزمان �أوجد نادراً بع�ض وزراء وازروا اال�ستبداد‬ ‫فرطوا فتابوا و�أنابوا‪ ،‬ورجعوا ن�صف الأمة‬ ‫عمراً طوي ًال‪َّ ،‬‬ ‫ثم ندموا على ما َّ‬ ‫وا�ستعدوا ب�أموالهم و�أنف�سهم لإنقاذها من داء اال�ستبداد‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال يجوز‬ ‫الي�أ�س من وجود بع�ض �أفراد من الوزراء والقواد عريقني يف ال�شهامة‪ ،‬فيظهر‬ ‫�رس الوراثة ولو بعد بطون �أو بعد الأربعني ورمبا ال�سبعني من �أعمارهم‬ ‫فيهم ّ‬ ‫بين ًا تلألأ يف حميا �صاحبه ثريا �صدق النجابة‪ .‬وال ينبغي ل ٍ‬ ‫أمة �أن‬ ‫ظهوراً ّ‬ ‫ال�صدف التي ال ُتبنى‬ ‫تتكل على �أن يظهر فيها �أمثال ه�ؤالء‪ ،‬ل َّأن وجودهم من ُّ‬

‫‪64‬‬


‫عليها �آمال وال �أحالم‪.‬‬ ‫فرد عاجز ال حول له وال وقوة �إال باملتمجدين‪،‬‬ ‫والنتيجة � َّأن امل�ستبد ٌ‬ ‫يحك جلدها غري ظفرها‪ ،‬وال يقودها �إال‬ ‫والأمة‪� ،‬أي �أمة كانت‪ ،‬لي�س لها من ُّ‬ ‫اكفهرت �سماء عقول بينها‬ ‫العقالء بالتنوير والإهداء والثبات‪ ،‬حتى �إذا ما‬ ‫َّ‬ ‫قي�ض اهلل لها من جمعهم الكبري �أفراداً كبار النفو�س قادة �أبراراً ي�شرتون لها‬ ‫َّ‬ ‫ال�سعادة ب�شقائهم واحلياة مبوتهم‪ ،‬حيث يكون اهلل جعل يف ذلك لذتهم‪ ،‬وملثل‬ ‫ف�ساق ًا ُف ّجاراً‬ ‫تلك ال�شهادة ال�رشيفة خلقهم‪ ،‬كما خلق رجال عهد اال�ستبداد ّ‬ ‫مهالكهم ال�شهوات واملثالب‪ .‬ف�سبحان الذي يختار من ي�شاء ملا ي�شاء‪ ،‬وهو‬ ‫اخل ّالق العظيم‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫اال�ستبداد واملال‬

‫‪66‬‬


‫اال�ستبداد واملال‬ ‫ال�رش‪ ،‬و�أبي‬ ‫اال�ستبداد لو كان رج ًال و�أراد �أن يحت�سب وينت�سب لقال‪�( :‬أنا ُّ‬ ‫امل�س َكنة‪ ،‬وعمي ال�ضرُّ ّ ‪ ،‬وخايل‬ ‫الظلم‪ ،‬و� ّأمي الإ�ساءة‪ ،‬و�أخي الغدر‪ ،‬و�أختي ْ‬ ‫ال ُّذ ّل‪ ،‬وابني الفقر‪ ،‬وبنتي البطالة‪ ،‬وع�شريتي اجلهالة‪ ،‬ووطني اخلراب‪� ،‬أما‬ ‫ديني و�رشيف فاملال املال املال)‪.‬‬ ‫ي�صح يف و�صفه �أن ُيقال‪ :‬القوة مال‪ ،‬والوقت مال‪ ،‬والعقل مال‪،‬‬ ‫املال‬ ‫ُّ‬ ‫والدين مال‪ ،‬وال ّثبات مال‪ ،‬واجلاه مال‪ ،‬واجلمال مال‪ ،‬والرتتيب‬ ‫والعلم مال‪ِّ ،‬‬ ‫كل ما ُين َت َفع به يف احلياة‬ ‫وال�شهرة مال‪ ،‬واحلا�صل ُّ‬ ‫مال‪ ،‬واالقت�صاد مال‪ُّ ،‬‬ ‫هو مال‪.‬‬ ‫وي�شرتى‪� ،‬أي ي�ستبدل بع�ضه ببع�ض‪ ،‬وموازين املعادلة‬ ‫ُّ‬ ‫وكل ذلك ُيباع ُ‬ ‫هي‪ :‬احلاجة والع ّزة والوقت والتعب‪ ،‬وحمافظة اليد والف�ضة والذهب والذمة‪،‬‬ ‫و�سوقه املجتمعات‪ ،‬و�شيخ ال�سوق ال�سلطان‪ ..‬فانظر يف �سوق يتح ّكم فيه‬ ‫م�ستبد‪ ،‬ي�أمر زيداً بالبيع‪ ،‬وينهى عمرواً عن ال�رشاء‪ ،‬ويغ�صب بكراً ماله‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ويحابي خالداً من مال النا�س‪.‬‬ ‫بينان‪ ،‬و َل ِن ْع َم‬ ‫املال تعتوره الأحكام‪ ،‬فمنه احلالل ومنه احلرام وهما ِّ‬ ‫احلاكم فيها الوجدان‪ ،‬فاحلالل الطيب ما كان عو�ض �أعيان‪� ،‬أو �أجرة �أعمال‪،‬‬

‫‪67‬‬


‫اال�ستبداد واملال‬

‫ثم‬ ‫�أو بدل وقت‪� ،‬أو مقابل �ضمان‪ .‬واملال اخلبيث احلرام هو ثمن ال�شرّ ف‪َّ ،‬‬ ‫ثم املحتال فيه‪.‬‬ ‫ثم امل�أخوذ � ً‬ ‫إجلاء َّ‬ ‫ثم امل�رسوق‪َّ ،‬‬ ‫املغ�صوب‪َّ ،‬‬ ‫ال�سمك والهوام‪� ،‬إال �أنثى‬ ‫� َّإن النظام الطبيعي يف ك ِّل احليوانات حتى يف ّ‬ ‫العنكبوت‪َّ � ،‬إن النوع الواحد منها ال ي�أكل بع�ضه بع�ض ًا‪ ،‬والإن�سان ي�أكل‬ ‫الرزق من اهلل‪� ،‬أي من مورده‬ ‫الإن�سان‪ .‬ومن غريزة �سائر احليوان �أن يلتم�س ّ‬ ‫حري�ص على اختطافه من يد �أخيه‪ ،‬بل‬ ‫الظامل نف�سه‬ ‫الطبيعي‪ ،‬وهذا الإن�سان ّ‬ ‫ٌ‬ ‫من فيه‪ ،‬بل كم �أكل الإن�سان الإن�سان!‬

‫‪68‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬ ‫ويتلمظ بدمائه‪� ،‬إىل �أن‬ ‫عا�ش الإن�سان دهراً طوي ًال يتلذذ بلحم الإن�سان‬ ‫َّ‬ ‫�سداً للباب‪ ،‬كما‬ ‫كلي ًا‪َّ ،‬‬ ‫ثم الهند من �إبطال �أكل اللحم ّ‬ ‫ال�صني‪َّ ،‬‬ ‫مت َّكن احلكماء يف ّ‬ ‫ثم جاءت ال�رشائع الدينية الأوىل يف غربي �آ�سيا بتخ�صي�ص‬ ‫هو د�أبهم �إىل الآن‪َّ .‬‬ ‫ذبح على يد‬ ‫ثم بالقربان ُين َذر للمعبود‪ُ ،‬‬ ‫وي َ‬ ‫ما ي�ؤكل من الإن�سان ب�أ�سري احلرب‪َّ ،‬‬ ‫ثم �أُ ِ‬ ‫تدرج الإن�سان‬ ‫بطل � ُ‬ ‫أكل حلم القربان‪ُ ،‬‬ ‫الكهان‪َّ .‬‬ ‫وج ِعل طعمة للنريان‪ ،‬وهكذا َّ‬ ‫الدماء لوال �إبراهيم‬ ‫�إىل ن�سيان ل َّذة حلم �إخوانه‪ ،‬وما كان لين�سى عبادة �إهراق ِّ‬ ‫�شيخ الأنبياء ا�ستبدل قربان الب�رش باحليوان‪ ،‬وا َّتبعه مو�سى عليهما ال�سالم‪،‬‬ ‫وبه جاء الإ�سالم‪ .‬وهكذا بطل هذا العدوان بهذا ال�شكل �إال يف �أوا�سط �أفريقيا‬ ‫عند (النامنام)‪.‬‬ ‫ير�ض �أن يقتل الإن�سان الإن�سان ذبح ًا لي�أكل حلمه‬ ‫اال�ستبداد امل�ش�ؤوم مل َ‬ ‫فامل�ستبدون ي�أ�رسون‬ ‫تفن يف الظلم‪،‬‬ ‫�أك ًال كما كان يفعل الهمج الأولون‪ ،‬بل نَّ‬ ‫ّ‬ ‫جماعتهم‪ ،‬ويذبحونهم ف�صداً مبب�ضع الظلم‪ ،‬وميت�صون دماء حياتهم بغ�صب‬ ‫�أموالهم‪ ،‬ويق�رصون �أعمارهم با�ستخدامهم �سخرة يف �أعمالهم‪� ،‬أو بغ�صب‬ ‫ثمرات �أتعابهم‪ .‬وهكذا ال فرق بني الأولني والآخرين يف نهب الأعمار و�إزهاق‬ ‫الأرواح �إال يف ال�شكل‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫بالظلم القائم يف فطرة‬ ‫� َّإن بحث اال�ستبداد واملال‬ ‫قوي العالقة ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫بحث ُّ‬ ‫ملقدمات تتع َّلق نتائجها‬ ‫الإن�سان‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ر�أيت �أن ال ب�أ�س يف اال�ستطراد ِّ‬ ‫باال�ستبداد ال�سيا�سي‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬ ‫املقدر جمموعهم ب�ألف وخم�سمئة مليون ن�صفهم َك ٌّل على ال ّن�صف‬ ‫� َّإن الب�رش َّ‬ ‫هن‬ ‫الآخر‪ ،‬وي�ش ِّكل �أكرثية هذا الن�صف ال َك ّل ن�ساء املدن‪ .‬ومن ال ّن�ساء؟ ال ّن�ساء َّ‬ ‫ال ّنوع الذي عرف مقامه يف الطبيعة ب�أ َّنه هو احلافظ لبقاء اجلن�س‪ ،‬و�أ َّنه يكفي‬ ‫وامل�شاق‪،‬‬ ‫للألف منه ملقح واحد‪ ،‬و� َّإن باقي الذكور حظهم �أن ُي�ساقوا للمخاطر‬ ‫ّ‬ ‫�أو هم ي�ستح ّقون ما ي�ستح ُّقه ذكر النحل‪ ،‬وبهذا النظر اقت�سمت الن�ساء مع الذكور‬ ‫ب�سن قانونٍ عام‪ ،‬به جعلن‬ ‫ن�صيبهن هينِّ‬ ‫�أعمال احلياة ق�سم ًة �ضيزى‪ ،‬وحت َّك ْمن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫نوعهن مطلوب ًا عزيزاً ب�إيهام الع ّفة‪ ،‬وجعلن‬ ‫ال�ضعف‪ ،‬وجعلن‬ ‫الأ�شغال بدعوى ّ‬ ‫َّ‬ ‫نوعهن ُيهني‬ ‫فيهن حممدتني يف الرجال‪ ،‬وجعلن‬ ‫ال�شجاعة والكرم �سيئتني‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يربني البنات والبنني‪،‬‬ ‫وال ُيهان‪ ،‬ويظلم �أو ُيظ َلم ُ‬ ‫فيعان‪ ،‬وعلى هذا القانون ِّ‬ ‫الرجال كما ي�ش�أن حتى �أنهن جعلن الذكور يتوهمون �أ َّنهن‬ ‫ويتالعنب بعقول ِّ‬ ‫امل�رض! ومن‬ ‫اهن بالن�صف‬ ‫�سم َّ‬ ‫ِّ‬ ‫�أجمل منهم �صور ًة‪ .‬واحلا�صل �أ َّنه قد �أ�صاب من َّ‬ ‫امل�شاهد � َّأن �رضر الن�ساء بالرجال يرت ّقى مع احل�ضارة واملدنية على ن�سبة‬ ‫الترَّ قي امل�ضاعف‪ .‬فالبدوية ت�شارك الرجل منا�صف ًة يف الأعمال والثمرات‪،‬‬ ‫الرجل لأجل معي�شتها وزينتها اثنني‬ ‫فتعي�ش كما يعي�ش‪ ،‬واحل�رضية ت�سلب ّ‬ ‫وتود �أال‬ ‫من ثالثة‪ .‬و ُتعينه يف �أعمال البيت‪ .‬واملدنية ت�سلب ثالثة من �أربعة‪ُّ ،‬‬ ‫الرجال‪ .‬وما �أ�صدق‬ ‫تخرج من الفرا�ش‪ ،‬وهكذا ترت َّقى بنات العوا�صم يف �أ�رس ِّ‬ ‫الرجال فيها‬ ‫باملدنية احلا�رضة يف �أوروبا‪� ،‬أن ّ‬ ‫ت�سمى املدنية الن�سائية‪ ،‬ل َّأن ِّ‬ ‫�صاروا �أنعام ًا لل ِّن�ساء‪.‬‬ ‫م�شاق احلياة ق�سم ًة ظامل ًة �أي�ض ًا‪ ،‬ف� َّإن �أهل ال�سيا�سة‬ ‫الرجال تقا�سموا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ثم � َّإن ِّ‬ ‫والأديان ومن يلتحق بهم ‪ -‬وعددهم ال يبلغ اخلم�سة يف املئة ‪ -‬يتمتعون‬ ‫الرفه والإ�رساف‪،‬‬ ‫بن�صف ما‬ ‫َّ‬ ‫يتجمد يف دم الب�رش �أو زيادة‪ُ ،‬ينفقون ذلك يف َّ‬ ‫يزينون ال�شوارع مباليني من امل�صابيح ملرورهم فيها �أحيان ًا‬ ‫مثال ذلك‪� :‬أ َّنهم ِّ‬ ‫مرتاوحني بني املالهي واملواخري وال يف ِّكرون يف ماليني من الفقراء يعي�شون‬ ‫يف بيوتهم يف ظالم‪.‬‬ ‫ثم �أهل ال�صنائع النفي�سة والكمالية‪ ،‬والتجار ال�شرَّ هون املحتكرون و�أمثال‬ ‫َّ‬

‫‪70‬‬


‫ويقدرون كذلك بخم�سة يف املئة‪ -‬يعي�ش �أحدهم مبثل ما يعي�ش‬‫هذه الطبقة‬ ‫َّ‬ ‫ال�ص ّناع وال ُّز ّراع‪ .‬وجرثومة هذه الق�سمة‬ ‫به الع�رشات �أو املئات �أو الألوف من ُّ‬ ‫الظاملة هي اال�ستبداد ال غريه‪ .‬وهناك �أ�صناف من‬ ‫املتفاوتة املتباعدة ّ‬ ‫ال ّنا�س ال يعملون �إال قلي ًال‪� ،‬إمنا يعي�شون باحليلة كال�سما�رسة وامل�شعوذين‬ ‫قدرون بخم�سة ع�رش يف املئة‪� ،‬أو يزيدون على‬ ‫با�سم الأدب �أو الدين‪ ،‬وه�ؤالء ُي َّ‬ ‫�أولئك‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬ال يقت�ضي �أن يت�ساوى العامل الذي �رصف زهوة حياته يف حت�صيل‬ ‫العلم النافع �أو ال�صنعة املفيدة بذاك اجلاهل النائم يف ظ ِّل احلائط‪ ،‬وال ذاك‬ ‫التاجر املجتهد املخاطر بالك�سول اخلامل‪ ،‬ولكن العدالة تقت�ضي غري ذلك‬ ‫فيقربه من‬ ‫ال�سافل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫التفاوت‪ ،‬بل تقت�ضي الإن�سانية �أن ي�أخذ الراقي بيد ّ‬ ‫ويقاربه يف معي�شته‪ ،‬ويعينه على اال�ستقالل‬ ‫منزلته‪ ،‬ويقاربه من منزلته‪ُ ،‬‬ ‫يف حياته‪.‬‬ ‫ال! ال! ال يطلب الفقري معاونة الغني‪� ،‬إمنا يرجوه �أن ال يظلمه‪ ،‬وال يلتم�س‬ ‫الرحمة‪� ،‬إمنا يلتم�س العدالة‪ ،‬ال ي� ِّؤمل منه الإن�صاف‪� ،‬إمنا ي�س�أله �أن ال‬ ‫منه ّ‬ ‫يمُ يته يف ميدان مزاحمة احلياة‪.‬‬ ‫َب َ�س َط املوىل ‪-‬ج ّلت حكمته‪� -‬سلطان الإن�سان على الأكوان‪ ،‬فطغى‪ ،‬وبغى‪،‬‬ ‫ربه وعبد املال واجلمال‪ ،‬وجعلهما منيته ومبتغاه‪ ،‬ك�أ َّنه ُخلق خادم ًا‬ ‫ون�سي َّ‬ ‫لبطنه وع�ضوه فقط‪ ،‬ال �ش�أن له غري الغذاء وال ّتحاك‪ .‬وبالنظر �إىل � َّأن املال‬ ‫هم للإن�سان يف جمع املال‪،‬‬ ‫هو الو�سيلة املو�صلة للجمال كاد ينح�رص �أكرب ٍّ‬ ‫وب�رس الوجود‪ ،‬وروى كري�سكوا امل� ِّؤرخ الرو�سي‪:‬‬ ‫ولهذا ُيك َّنى عنه مبعبود الأمم‬ ‫ِّ‬ ‫رعيتها‪ ،‬ف�أر�شدها �شيطا ُنها �إىل حمل ال ِّن�ساء على‬ ‫� َّإن كاترينا �شكت ك�سل ّ‬ ‫ال�شبان للعمل وك�سب املال‬ ‫فهب ّ‬ ‫اخلالعة‪ ،‬ففعلت و�أحدثت ك�سوة املراق�ص‪َّ ،‬‬ ‫ربات اجلمال‪ ،‬ويف ظرف خم�س �سنني‪ ،‬ت�ضاعف دخل خزينتها‪،‬‬ ‫ل�رصفه على ّ‬ ‫امل�ستبدون ال تهمهم الأخالق‪� ،‬إنمَّ ا يهمهم‬ ‫فا َّت�سع لها جمال الإ�رساف‪ .‬وهكذا‬ ‫ّ‬ ‫املال‪.‬‬ ‫املال عند االقت�صاديني‪ :‬ما ينتفع به الإن�سان‪ ،‬وعند احلقوقيني‪ :‬ما يجري‬ ‫فيه املنع والبذل‪ ،‬وعند ال�سيا�سيني‪ :‬ما ُت�ستعا�ض به القوة‪ ،‬وعند الأخالقيني‪:‬‬ ‫ي�ستمد من الفي�ض الذي �أودعه اهلل تعاىل‬ ‫ما تحُ فظ به احلياة ال�رشيفة‪ .‬املال‬ ‫ُّ‬

‫‪71‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫يف الطبيعة ونوامي�سها‪ ،‬وال ميلك‪� ،‬أي ال يتخ�ص�ص ب�إن�سان‪� ،‬إال بعمل فيه �أو‬ ‫يف مقابله‪.‬‬ ‫واملق�صود من املال هو �أحد اثنني ال ثالث لهما وهما‪ :‬حت�صيل ل ّذة �أو دفع‬ ‫كل مقا�صد الإن�سان‪ ،‬وعليهما مبنى �أحكام ال�رشائع كلها‪،‬‬ ‫�أمل‪ ،‬وفيهما تنح�رص ُّ‬ ‫طيب املال وخبيثه‪ ،‬هو الوجدان الذي خلقه اهلل �صبغ ًة‬ ‫واحلاكم املعتدل يف ّ‬ ‫لل ّنف�س‪ ،‬وعبرَّ عنه القر�آن ب�إلهامها فجورها وتقواها‪ ،‬فالوجدان خيرَّ بني‬ ‫املال احلالل واملال احلرام‪.‬‬ ‫ثم � َّإن �أعمال الب�رش يف حت�صيل املال ترجع �إىل ثالثة �أ�صول‪1- :‬‬ ‫َّ‬ ‫ا�ستح�ضاره املواد الأ�صلية‪ 2- .‬تهيئته املواد لالنتفاع‪ 3- .‬توزيعها على‬ ‫وكل و�سيلة‬ ‫ت�سمى بالزراعة وال�صناعة والتجارة‪ُّ ،‬‬ ‫النا�س‪ .‬وهي الأ�صول التي ّ‬ ‫خارجة عن هذه الأ�صول وفروعها الأولية‪ ،‬فهي و�سائل ظاملة ال خري فيها‪.‬‬ ‫التمول‪� ،‬أي ِّادخار املال‪ ،‬طبيعة يف بع�ض �أنواع احليوانات الدنيئة كالنمل‬ ‫ُّ‬ ‫تطبع على‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إن�سان‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫غري‬ ‫املرتقية‬ ‫احليوانات‬ ‫يف‬ ‫له‬ ‫أثر‬ ‫�‬ ‫وال‬ ‫والنحل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫التمول لدواعي احلاجة املح َّققة �أو املوهومة‪ ،‬وال حت ُّقق للحاجة �إال عند �سكان‬ ‫ُّ‬ ‫املعر�ضة للقحط يف بع�ض‬ ‫أرا�ضي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫أهلها‪،‬‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫الثمرات‬ ‫قة‬ ‫�ضي‬ ‫أرا�ضي‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ال�سنني‪ ،‬ويلتحق باحلاجة املح َّققة حاجة العاجزين ج�سم ًا عن االرتزاق‬ ‫يف البالد املبتالة بجور الطبيعة �أو جور اال�ستبداد‪ ،‬ورمبا يلتحق بها �أي�ض ًا‬ ‫ال�رصف على امل�ضطرين وعلى امل�صارف العمومية يف البالد التي ينق�صها‬ ‫االنتظام العام‪.‬‬ ‫واملراد باالنتظام العام‪ ،‬معي�شة اال�شرتاك العمومي التي �أ�س�سها الإجنيل‬ ‫بتخ�صي�صه ع�رش الأموال للم�ساكني‪ ،‬ولكن‪ ،‬مل يكد يخرج ذلك من القوة �إىل‬ ‫مت نظام‪ ،‬ولكن‪ ،‬مل تدم �أي�ض ًا‬ ‫ثم �أحدث الإ�سالم ُ�س َّنة اال�شرتاك على �أ ِّ‬ ‫الفعل‪َّ ،‬‬ ‫�أكرث من قرنٍ واحد كان فيه امل�سلمون ال يجدون من يدفعون لهم ال�صدقات‬ ‫والك ّفارات‪ ،‬وذلك � َّأن الإ�سالمية ‪ -‬كما �سبق بيانه‪� -‬أ�س�ست حكومة �أر�ستقراطية‬ ‫املبنى‪ ،‬دميوقراطية الإدارة‪ ،‬فو�ضعت للب�رش قانون ًا م�ؤ�س�س ًا على قاعدة‪َّ � :‬إن‬ ‫املال هو قيمة الأعمال‪ ،‬وال يجتمع يف يد الأغنياء �إال ب�أنواع من ال َغ َلبة‬ ‫واخلداع‪.‬‬ ‫رد على الفقراء‪ ،‬بحيث‬ ‫وي ّ‬ ‫ق�سم من مال ُ‬ ‫فالعدالة املطلقة تقت�ضي �أن ي�ؤخذ ٌ‬

‫‪72‬‬


‫يح�صل التعديل وال ميوت الن�شاط للعمل‪ .‬وهذه القاعدة يتم ّنى ما هو من‬ ‫نوعها �أغلب العامل املتمدن الإفرجني‪ ،‬وت�سعى وراءها الآن جمعيات منهم‬ ‫مكونة من ماليني كثرية‪ .‬وهذه اجلمعيات تق�صد ح�صول الت�ساوي‬ ‫منتظمة َّ‬ ‫�ضد اال�ستبداد املايل‪،‬‬ ‫�أو التقارب يف احلقوق املعا�شية بني الب�رش‪ ،‬وت�سعى َّ‬ ‫فتطلب � ْأن تكون الأرا�ضي والأمالك الثابتة و�آالت املعامل ال�صناعية الكبرية‬ ‫م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة‪ ،‬و� َّأن الأعمال والثمرات تكون موزعة‬ ‫ٍ‬ ‫بوجوه متقاربة بني اجلميع‪ ،‬و� َّأن احلكومة ت�ضع قوانني لكافة ال�ش�ؤون حتى‬ ‫اجلزئيات‪ ،‬وتقوم بتنفيذها‪.‬‬ ‫وهذه الأ�صول مع بع�ض التعديل قررتها الإ�سالمية دين ًا‪ ،‬وذلك �أنها‬ ‫قررت‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� -‬أنواع الع�شور والزكاة وتق�سيمها على �أنواع امل�صارف العامة و�أنواع‬ ‫املحتاجني حتى املدينني‪ .‬وال يخفى على املدققني � َّأن جزءاً من �أربعني من‬ ‫ر�ؤو�س الأموال يقارب ن�صف الأرباح املعتدلة باعتبار �أنها خم�سة باملئة‬ ‫�سنوي ًا‪ ،‬وبهذا النظر يكون الأغنياء م�ضاربني للجماعة منا�صف ًة‪ .‬وهكذا يلحق‬ ‫فقراء الأمة ب�أغنيائها‪ ،‬ومينع تراكم الرثوات املفرطة املو ِّلدة لال�ستبداد‪،‬‬ ‫وامل�رضة ب�أخالق الأفراد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أحكام حمكمة متنع حمذور التواكل يف االرتزاق‪ ،‬و ُتلزِم ك َّل‬ ‫�‬ ‫قررت‬ ‫‬‫ا‬ ‫ثاني‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ا�شتد �ساعده‪� ،‬أو ملك قوت يومه‪� ،‬أو ال َّن ّ�صاب على الأكرث‪� ،‬أن‬ ‫فرد من الأمة متى َّ‬ ‫م�ستبدة ت�رضب‬ ‫ي�سعى لرزقه بنف�سه‪� ،‬أو ميوت الفرد جوع ًا‪� ،‬إذا مل تكن حكومته‬ ‫ّ‬ ‫على يده و�سعيه ون�شاطه مبدافع ا�ستبدادها‪ ،‬وقد قيل‪ :‬يبد�أ االنقياد للعمل عند‬ ‫نهاية اخلوف من احلكومة ونهاية اال ِّتكال على الغري‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ -‬قررت الإ�سالمية ترك الأرا�ضي الزراعية ملك ًا لعامة الأمة‪،‬‬ ‫ي�ستنبتها وي�ستمتع بخرياتها العاملون فيها ب�أنف�سهم فقط‪ ،‬ولي�س عليهم غري‬ ‫الع�رش �أو اخلراج الذي ال يجوز �أن يتجاوز اخلم�س لبيت املال‪.‬‬ ‫كلية ت�صلح للإحاطة ب�أحكام‬ ‫رابع ًا‪ -‬جاءت الإ�سالمية بقواعد �رشعية ّ‬ ‫كافة ال�ش�ؤون حتى اجلزئية ال�شخ�صية‪ ،‬و�أناطت تنفيذها باحلكومة‪ ،‬كما‬ ‫تطلبه �أغلب جمعيات اال�شرتاكيني‪ .‬على � َّأن هذا النظام الذي جاء به الإ�سالم‪،‬‬ ‫�صعب الإجراء جداً‪ ،‬لأ َّنه منوط ب�سيطرة الك ّل ور�ضاء النفو�س‪ ،‬ول َّأن القانون‬

‫‪73‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫معر�ض ًا للت�أويل ح�سب الأغرا�ض‪،‬‬ ‫الكثري الفروع يتع َّذر حفظه ب�سيط ًا‪ ،‬ويكون َّ‬ ‫ولالختالف يف تطبيقه ح�سب الأهواء‪ ،‬كما وقع فع ًال يف امل�سلمني‪ ،‬فلم ميكنهم‬ ‫ت�شعبت معهم الأمور بطبيعة‬ ‫ثم َّ‬ ‫�إجراء �رشيعتهم بب�ساطة و�أمان �إال عهداً قلي ًال‪َّ ،‬‬ ‫ا ِّت�ساع امللك واختالف طبائع الأمم‪ ،‬و َف َق َد الرجال الذين ميكنهم �أن ي�سوقوا‬ ‫مئات ماليني من �أجنا�س النا�س‪ :‬الأبي�ض والأ�صفر‪ ،‬واحل�رضي والبدوي‪،‬‬ ‫بع�صا واحدة قرون ًا عديدة‪.‬‬ ‫يت�صوره العقل‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫وال َغ ْر َو �إذا كانت املعي�شة اال�شرتاكية من �أبدع ما‬ ‫َّ‬ ‫مع الأ�سف مل يبلغ الب�رش بعد الرت ّقي ما يكفي لتو�سيعهم نظام التعاون‬ ‫جربت الأمم‬ ‫والت�ضامن يف املعي�شة العائلية �إىل �إدارة الأمم الكبرية‪ .‬وكم َّ‬ ‫تقدم هو‬ ‫ذلك فلم تنجح فيها �إال الأمم ال�صغرية مدة قليلة‪ .‬وال�سبب كما َّ‬ ‫جمرد �صعوبة التحليل والرتكيب بني ال�صوالح وامل�صالح الكثرية املختلفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واملت� ِّأمل يف عدم انتظام حالة العائالت الكبرية‪ ،‬يقنع حا ًال ب� َّأن التكافل‬ ‫والت�ضامن غري مي�سورين يف الأمم الكبرية‪ ،‬ولهذا يكون خري ح ٍّل مقدور‬ ‫للم�س�ألة االجتماعية هو ما ي�أتي‪:‬‬ ‫حراً م�ستق ًّال يف �ش�ؤونه‪ ،‬ك�أنه ُخ ِلق وحده‪.‬‬ ‫ يكون الإن�سان ّ‬‫ تكون العائلة م�ستقلة‪ ،‬ك�أنها �أمة وحدها‪.‬‬‫قارة واحدة ال عالقة لها‬ ‫ تكون القرية �أو املدينة م�ستقلة ك�أنها ّ‬‫بغريها‪.‬‬ ‫ تكون القبائل يف ال�شعب �أو الأقاليم يف اململكة ك�أنها �أفالك‪ ،‬ك ٌّل منها‬‫م�ستق ٌّل يف ذاته‪ ،‬ال يربطها مبركز نظامها االجتماعي‪ ،‬وهو اجلن�س �أو الدين‬ ‫�أو امللك غري حم�ض التجاذب املانع من الوقوع يف نظام �آخر ال يالئم طبائع‬ ‫حياتها‪.‬‬ ‫التمول لأجل احلاجات ال�سالفة ال ِّذكر وبقدرها فقط حممودة بثالثة‬ ‫َّ‬ ‫ثم � َّإن ُّ‬ ‫التمول من �أقبح اخل�صال‪:‬‬ ‫كان‬ ‫ال‬ ‫�‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫�رشوط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�رشط الأول‪� :‬أن يكون املال بوجه م�رشوع حال ًال‪� ،‬أي ب�إحرازه من بذل‬ ‫الطبيعة‪� ،‬أو باملعاو�ضة‪� ،‬أي يف مقابل عمل‪� ،‬أو يف مقابل �ضمان على ما‬ ‫تقوم بتف�صيله ال�رشائع املدنية‪.‬‬ ‫التمول ت�ضييق على حاجيات الغري كاحتكار‬ ‫وال�رشط الثاين‪� :‬أن ال يكون يف ّ‬

‫‪74‬‬


‫ال�رضوريات‪� ،‬أو مزاحمة ال�ص ّناع والعمال ال�ضعفاء‪� ،‬أو التغ ُّلب على املباحات‪،‬‬ ‫مثل امتالك الأرا�ضي التي جعلها خالقها ممرح ًا لكافة خملوقاته‪ ،‬وهي �أمهم‬ ‫تر�ضعهم لنب جهازاتها‪ ،‬وتغ ّذيهم بثمراتها‪ ،‬وت�ؤويهم يف ح�ضن �أجزائها‪،‬‬ ‫امل�ستبدون الظاملون الأولون وو�ضعوا �أ�صو ًال حلمايتها من �أبنائها‬ ‫فجاء‬ ‫ّ‬ ‫م�ستبد مايل من الإنكليز‪،‬‬ ‫وحالوا بينهما‪ .‬فهذه �إيرلندا ‪-‬مث ًال‪ -‬قد حماها �ألف‬ ‫ّ‬ ‫ليتمتعوا بثلثي �أو ثالثة �أرباع ثمرات �أتعاب ع�رشة ماليني من الب�رش الذين‬ ‫ُخ ِلقوا من تربة �إيرلندا‪ .‬وهذه م�رص وغريها تقرب من ذلك حا ًال و�ستفوقها‬ ‫ما ًال‪ ،‬وكم من الب�رش يف �أوروبا املتمدنة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف لندن وباري�س‪ ،‬ال يجد‬ ‫�أحدهم �أر�ض ًا ينام عليها متمدداً‪ ،‬بل ينامون يف الطبقة ال�سفلى من البيوت‪،‬‬ ‫حيث ال ينام البقر‪ ،‬وهم قاعدون �صفوف ًا يعتمدون ب�صدورهم على حبالٍ من‬ ‫م�سد من�صوبة �أفقية يتلوون عليها مين ًة وي�رسة‪.‬‬ ‫وحكومة ال�صني خمت ّلة النظام يف نظر املتمدنني‪ ،‬ال جتيز قوانينها �أن‬ ‫ال�شخ�ص الواحد �أكرث من مقدار معني من الأر�ض ال يتجاوز الع�رشين‬ ‫ميتلك ّ‬ ‫كيلومرتاً مربع ًا‪� ،‬أي نحو خم�سة �أفدن م�رصية �أو ثالثة ع�رش دومن ًا عثماني ًا‪.‬‬ ‫امل�ستبدة القا�سية يف ُعرف �أكرث الأوروبيني و�ضعت ‪�-‬أخرياً‪-‬‬ ‫ورو�سيا‬ ‫ّ‬ ‫لواليتها البولونية الغربية قانون ًا �أ�شبه بقانون ال�صني‪ ،‬وزادت عليه �أ َّنها‬ ‫لفالح �أن ي�ستدين �أكرث‬ ‫م�سجل على فالح‪ ،‬وال ت�أذن‬ ‫منعت �سماع دعوى دينٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫من نحو خم�سمئة فرنك‪ .‬وحكومات ال�شرّ ق �إذا مل ت�ستدرك الأمر فت�ضع قانون ًا‬ ‫من قبيل قانون رو�سيا‪ ،‬ت�صبح الأرا�ضي الزراعية بعد خم�سني عام ًا �أو قرن‬ ‫على الأكرث ك�إيرلندا الإنكليزية امل�سكينة‪ ،‬التي وجدت لها يف مدى ثالثة‬ ‫قرون �شخ�ص ًا واحداً حاول �أن يرحمها فلم ُيفلح‪ ،‬و�أعني به غالد�ستون‪ ،‬على‬ ‫الرحمة‪.‬‬ ‫� َّأن ال�رشق رمبا ال يجد يف ثالثني قرن ًا من يلتم�س له َّ‬ ‫التمول‪ ،‬هو‪� :‬أال يتجاوز املال قدر احلاجة بكثري‪،‬‬ ‫وال�رشط الثالث جلواز ّ‬ ‫لأن �إفراط الرثوة مهلكة للأخالق احلميدة يف الإن�سان‪ ،‬وهذا معنى الآية‪( :‬كال‬ ‫� َّإن الإن�سان ليطغى* �أن ر�آه ا�ستغنى)‪ ،‬وال�رشائع ال�سماوية ك ُّلها‪ ،‬وكذلك احلكمة‬ ‫حرمت الربا‪� ،‬صيان ًة لأخالق املرابني من الف�ساد‪ ،‬ل َّأن‬ ‫الأخالقية والعمرانية َّ‬ ‫الربا‪ :‬هو ك�سب بدون مقابل مادي‪ ،‬ففيه معنى الغ�صب‪ ،‬ودون عمل‪ ،‬ل َّأن‬ ‫تعر�ض خل�سائر‬ ‫املرابي يك�سب وهو نائم‪ ،‬ففيه الأُلفة على البطالة‪ ،‬ومن دون ُّ‬

‫‪75‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫طبيعية كالتجارة والزراعة والأمالك‪ ،‬ففيه النماء املطلق امل�ؤدي النح�صار‬ ‫الرثوات‪ .‬ومن القواعد االقت�صادية امل َّتفق عليها � ْأن لي�س من ك�سب ال عار وال‬ ‫فيختل‬ ‫احتكار فيه �أربح من الربا مهما كان معتد ًال‪ ،‬و� َّأن بالربا تربو الرثوات‬ ‫ُّ‬ ‫الت�ساوي �أو التقارب بني ال ّنا�س‪.‬‬ ‫الربا‪،‬‬ ‫وقد نظر املا ّليون وبع�ض االقت�صاديني من �أن�صار اال�ستبداد يف �أمر ِّ‬ ‫بد منه‪� .‬أو ًال‪ :‬لأجل قيام املعامالت الكبرية‪،‬‬ ‫فقالوا‪َّ � :‬إن املعتدل منه نافع‪ ،‬بل ال َّ‬ ‫وثاني ًا‪ :‬لأجل � َّأن النقود املوجودة ال تكفي للتداول‪ ،‬فكيف �إذا �أم�سك املكتنزون‬ ‫ق�سم ًا منها �أي�ض ًا؟! وثالث ًا‪ :‬لأجل � َّأن كثريين من املتمولني ال يعرفون طرائق‬ ‫اال�سرتباح �أو ال يقدرون عليها‪ ،‬كما � َّأن كثرياً من العارفني بها ال يجدون‬ ‫ر�ؤو�س �أموال وال �رشكاء عنان‪ .‬فهذا النظر �صحيح من وجه �إمناء ثروات‬ ‫بع�ض الأفراد‪� .‬أما ال�سيا�سيون اال�شرتاكيو املبادئ والأخالقيون‪ ،‬فينظرون‬ ‫�إىل � َّأن �رضر الرثوات الأفرادية يف جمهور الأمم �أكرب من نفعها‪ .‬لأنها مت ِّكن‬ ‫وتقوي اال�ستبداد‬ ‫اال�ستبداد الداخلي‪ ،‬فتجعل النا�س �صنفني‪ :‬عبيداً و�أ�سياداً‪ّ ،‬‬ ‫التعدي على حرية ا�ستقالل‬ ‫اخلارجي‪،‬‬ ‫فت�سهل للأمم التي تغنى بغناء �أفرادها ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الأمم ال�ضعيفة‪ .‬وهذه مقا�صد فا�سدة يف نظر احلكمة والعدالة‪ ،‬ولذلك يقت�ضي‬ ‫الربا حترمي ًا مغ َّلظ ًا‪.‬‬ ‫حترمي ِّ‬ ‫يخف كثرياً عند �أهايل احلكومات‬ ‫التمول‪ ،‬وهو الطمع القبيح‪،‬‬ ‫ِح ْر�ص‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫العادلة املنتظمة ما مل يكن ف�ساد الأخالق منغلب ًا على الأهايل‪ ،‬ك�أكرث الأمم‬ ‫التمول يف ن�سبة‬ ‫املتمدنة يف عهدنا‪ ،‬ل َّأن ف�ساد الأخالق يزيد يف امليل �إىل‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ولكن حت�صيل الرثوة الطائلة يف عهد احلكومة العادلة‬ ‫إ�رسافية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫احلاجة‬ ‫َّ‬ ‫املنحطة‪� ،‬أو التجارة‬ ‫أمم‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مع‬ ‫املراباة‬ ‫طريق‬ ‫من‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫ع�سري جداً‪ ،‬وقد ال يت�أتى‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الكبرية التي فيها نوع احتكار‪� ،‬أو اال�ستعمار يف البالد البعيدة مع املخاطرات‪،‬‬ ‫على � َّأن هذه ال�صعوبة تكون مقرونة بل ّذة عظيمة من نوع ل ّذة من ي�أكل ما‬ ‫طبخ‪� ،‬أو ي�سكن ما بنى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ي�شتد يف ر�ؤو�س النا�س يف عهد احلكومات‬ ‫التمول القبيح‬ ‫وح ْر�ص‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫وبالتعدي‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬حيث ي�سهل فيها حت�صيل الرثوة بال�رسقة من بيت املال‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫على احلقوق العامة‪ ،‬وبغ�صب ما يف �أيدي ال�ضعفاء‪ ،‬ور�أ�س مال ذلك هو � ْأن‬ ‫وينحط يف �أخالقه �إىل مالءمة‬ ‫الدين والوجدان واحلياء جانب ًا‬ ‫َّ‬ ‫يرتك الإن�سان ِّ‬

‫‪76‬‬


‫امل�ستبد الأعظم‪� ،‬أو �أحد �أعوانه وعماله‪ ،‬ويكفيه و�سيل ًة �أن ي ّت�صل بباب �أحدهم‬ ‫ّ‬ ‫ويتقرب من �أعتابه‪ ،‬ويظهر له �أ َّنه يف الأخالق من �أمثاله وعلى �شاكلته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ويربهن له ذلك ب�أ�شياء من التم ُّلق و�شهادة الزور‪ ،‬وخدمة ال�شهوات‪ ،‬والتج�س�س‪،‬‬ ‫ثم قد يطلع هذا املنت�سب على بع�ض اخلفايا‬ ‫ال�سلب ونحو ذلك‪َّ .‬‬ ‫والداللة على ّ‬ ‫والأ�رسار التي يخاف رجال اال�ستبداد من ظهورها خوف ًا حقيقي ًا �أو وهمي ًا‪،‬‬ ‫فيك�سب املنت�سب ر�سوخ القدم وي�صري هو باب ًا لغريه‪ ،‬وهكذا يح�صل على الرثوة‬ ‫الطائلة �إذا �ساعدته الظروف على ال ّثبات طوي ًال‪ .‬وهذا �أعظم �أبواب الرثوة يف‬ ‫ثم الربا الفاح�ش‪ ،‬وهي‬ ‫ال�رشق والغرب‪ ،‬ويليه االتجِّ ار ّ‬ ‫ثم املالهي‪َّ ،‬‬ ‫بالدين‪َّ ،‬‬ ‫بئ�س املكا�سب وبئ�س ما ت�ؤ ِّثر يف �إف�ساد �أخالق الأمم‪.‬‬ ‫أ�رض كثرياً‬ ‫وقد ذكر املدققون � َّأن ثروة بع�ض الأفراد يف احلكومات العادلة � ّ‬ ‫قوتهم املالية‬ ‫منها يف احلكومات‬ ‫َّ‬ ‫امل�ستبدة‪ ،‬ل َّأن الأغنياء يف الأوىل ي�رصفون ّ‬ ‫يف �إف�ساد �أخالق النا�س و�إخالل امل�ساواة و�إيجاد اال�ستبداد‪ّ � ،‬أما الأغنياء يف‬ ‫امل�ستبدة في�رصفون ثروتهم يف ال َّأبهة والتعاظم �إرهاب ًا للنا�س‪،‬‬ ‫احلكومات‬ ‫ّ‬ ‫املن�صبة عليهم بالتغايل الباطل‪ ،‬وي�رسفون الأموال يف‬ ‫لل�سفالة‬ ‫ّ‬ ‫وتعوي�ض ًا ّ‬ ‫الف�سق والفجور‪.‬‬ ‫يتعجلها الزوال‪ ،‬حيث يغ�صبها الأقوى منهم من‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ثروة ه�ؤالء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حلظة وبكلمة‪ .‬وتزول �أي�ض ًا ‪-‬‬ ‫امل�ستبد الأعظم يف‬ ‫ي�سلبها‬ ‫وقد‬ ‫أ�ضعف‪،‬‬ ‫ال‬ ‫ُّ‬ ‫واحلمد هلل‪ -‬قبل �أن يتع ّلم �أ�صحابها �أو ورثتهم كيف تحُ فظ الرثوات‪ ،‬وكيف‬ ‫تنمو‪ ،‬وكيف ي�ستعبدون بها النا�س ا�ستعباداً �أ�صولي ًا م�ستحكم ًا‪ ،‬كما هو احلال‬ ‫املهددة ب�رشوط الفو�ضويني ب�سبب الي�أ�س من مقاومة‬ ‫يف �أوروبا املتمدنة‬ ‫َّ‬ ‫اال�ستبداد املايل فيها‪.‬‬ ‫أثر فقر الأمة ظهوراً بيان ًا �إال فج�أ ًة‬ ‫ومن طبائع اال�ستبداد �أ َّنه ال يظهر فيه � ُ‬ ‫ُق َريب ق�ضاء اال�ستبداد نحبه‪ .‬و�أ�سباب ذلك � َّأن النا�س يقت�صدون يف الن�سل‪،‬‬ ‫تغربهم‪ ،‬ويبيعون �أمالكهم من الأجانب‪ ،‬فتتق ّل�ص‬ ‫وتكرث وفياتهم‪ ،‬ويكرث ّ‬ ‫الرثوة‪ ،‬وتكرث النقود بني الأيدي‪ .‬وبئ�ست من ثروة ونقود ت�شبه ن�شوة‬ ‫املذبوح‪.‬‬ ‫ولرنجع �إىل بحث طبيعة اال�ستبداد يف مطلق املال ف�أقول‪َّ � :‬إن اال�ستبداد‬ ‫وعماله غ�صب ًا‪،‬‬ ‫يجعل املال يف �أيدي النا�س عر�ض ًة ل�سلب‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه ّ‬

‫‪77‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫ٍ‬ ‫بحجة باطلة‪ ،‬وعر�ض ًة �أي�ض ًا ل�سلب املعتدين من الل�صو�ص واملحتالني‬ ‫�أو‬ ‫ح�صل �إال بامل�ش ّقة‪،‬‬ ‫الراتعني يف ظ ِّل �أمان الإدارة اال�ستبدادية‪ .‬وحيث املال ال ُي َ‬ ‫املن على االنتفاع بالثمرة‪.‬‬ ‫فال تختار النفو�س الإقدام على املتاعب مع عدم ِّ‬ ‫ِح ْف ُظ املال يف عهد الإدارة‬ ‫امل�ستبدة �أ�صعب من ك�سبه‪ ،‬ل َّأن ظهور �أثره‬ ‫ّ‬ ‫على �صاحبه جملبة لأنواع البالء عليه‪ ،‬ولذلك ُي�ضطر النا�س زمن اال�ستبداد‬ ‫لإخفاء نعمة اهلل وال ّتظاهر بالفقر والفاقة‪ ،‬ولهذا ورد يف �أمثال الأُ�رساء � َّأن‬ ‫حفظ درهم من الذهب يحتاج �إىل قنطار من العقل‪ ،‬و� َّأن العاقل من يخفي‬ ‫ذهبه وذهابه ومذهبه‪ ،‬و� َّأن �أ�سعد النا�س ال�صعلوك الذي ال يعرف احل ّكام وال‬ ‫يعرفونه‪.‬‬ ‫ومن طبائع اال�ستبداد‪َّ � ،‬أن الأغنياء �أعدا�ؤه فكراً و�أوتاده عم ًال‪ ،‬فهم ربائط‬ ‫الذل يف الأمم‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬يذ ُّلهم فيئ ّنون‪،‬‬ ‫وي�ستدرهم فيح ّنون‪ ،‬ولهذا ير�سخ ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد خوف النعجة من الذئاب‪،‬‬ ‫التي يكرث �أغنيا�ؤها‪� .‬أما الفقراء فيخافهم‬ ‫ُّ‬ ‫ويتحبب �إليهم ببع�ض الأعمال التي ظاهرها الر�أفة‪ ،‬يق�صد بذلك �أن يغ�صب‬ ‫ٍ‬ ‫دناءة‬ ‫�أي�ض ًا قلوبهم التي ال ميلكون غريها‪ .‬والفقراء كذلك يخافونه خوف‬ ‫ونذالة‪ ،‬خوف البغاث من العقاب‪ ،‬فهم ال يج�رسون على االفتكار ف�ض ًال عن‬ ‫يتوهمون � َّأن داخل ر�ؤو�سهم جوا�سي�س عليهم‪ .‬وقد يبلغ ف�ساد‬ ‫الإنكار‪ ،‬ك�أنهم َّ‬ ‫امل�ستبد عنهم ب� ِّأي ٍ‬ ‫وجه كان‬ ‫ي�رسهم فع ًال ر�ضاء‬ ‫ِّ‬ ‫الأخالق يف الفقراء �أن ّ‬ ‫ر�ضا�ؤه‪.‬‬ ‫وقد خالف الأخالقيون املت� ِّأخرون �أ�سالفهم يف قولهم‪ ،‬لي�س الفقراء بعيب‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫مفتقر للغري‪ ،‬والغناء‬ ‫فقالوا‪ :‬الفقر �أبو املعائب‪ ،‬لأنه‬ ‫ٌ‬ ‫ا�ستغناء عن ال ّنا�س‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫قالوا‪ :‬الفقر يذهب بع ّزة النف�س‪ ،‬ويف�ضي �إىل خلع احلياء‪ ،‬وقالوا‪َّ � :‬إن حل�سن‬ ‫والتنعم يف املعي�شة ت�أثرياً مهم ًا على نفو�س الب�رش‪ ،‬خالف ًا‬ ‫اللبا�س والأمتعة‬ ‫ّ‬ ‫ملن يقول‪ :‬لي�س املرء بطيل�سانه‪ ،‬وحديث (اخ�شو�شنوا‪ ،‬ف�إن النعم ال تدوم)‬ ‫امل�شاق يف احلروب والأ�سفار وعند‬ ‫التعود ج�سم ًا على‬ ‫هو لأ ّنه يحمل على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلاجة‪ .‬فقالوا‪َّ � :‬إن رغد العي�ش ونعيمه ملن �أعظم احلاجات‪ ،‬به تعلو الهمم‪،‬‬ ‫ولأجله ُتق َتحم العظائم‪.‬‬ ‫يحل امل�شكالت الزمان واملال‪ .‬القوة كانت‬ ‫ُيقال يف مدح املال‪َّ � :‬إن ما ُّ‬ ‫ثم �صارت للمال‪ .‬العلم واملال ُيطيالن عمر‬ ‫ثم �صارت للعلم‪َّ ،‬‬ ‫للع�صبية‪َّ ،‬‬

‫‪78‬‬


‫بالدم‪،‬‬ ‫الإن�سان‪ ،‬حيث يجعالن �شيخوخته ك�شبابه‪ .‬ال ُي�صان ال�شرّ ف �إال‬ ‫ّ‬ ‫وال يت�أتى الع ُّز �إال باملال‪ .‬وقد م�ضى جمد الرجال وجاء جمد املال‪ .‬وورد‬ ‫خري من اليد ال�سفلى‪ .‬و� َّأن الغني ال�شاكر �أف�ضل من‬ ‫يف الأثر‪َّ � :‬إن اليد العليا ٌ‬ ‫الفقري ال�صابر‪ .‬ومل يكن قدمي ًا �أهمية للرثوة العمومية‪� ،‬أما الآن وقد �صارت‬ ‫املحاربات حم�ض مغالبة وعلم ومال‪ ،‬ف�أ�صبح للرثوة العمومية �أهمية‬ ‫عظمى لأجل حفظ اال�ستقالل‪ ،‬على � َّأن الأمم امل�أ�سورة ال ن�صيب لها من الرثوة‬ ‫العمومية‪ ،‬بل منزلتها يف املجتمع الإن�ساين ك�أنعام تتناقلها الأيدي‪ ،‬وال‬ ‫تعار�ض هذه القاعدة ثروة اليهود‪ ،‬لأنها ثروة غري مزاحمني عليها‪ ،‬لأنها فيما‬ ‫يقوله �أعدا�ؤه فيها‪ :‬ثروة ر�أ�سمالها النامو�س‪ ،‬وم�رصفها املالهي واملقامرة‬ ‫والربا‬ ‫والغ�ش وامل�ضاربات‪ ،‬وال يخلو هذا القول من التحامل عليهم ح�سداً‬ ‫ّ‬ ‫ممن يقدمون �إقدامهم وال ينالون منالهم‪.‬‬ ‫هذا وللمال الكثري �آفات على احلياة ال�رشيفة ترتعد منها فرائ�ص �أهل‬ ‫الرزق مع حفظ احلرية وال�رشف‬ ‫الف�ضيلة والكمال‪ ،‬الذين يف�ضلون الكفاف من ِّ‬ ‫على امتالك دواعي الرتف وال�سرّ ف‪ ،‬وينظرون �إىل املال الزائد على احلاجة‬ ‫بالء من حيث االفتكار ب�إمنائه‪،‬‬ ‫الكمالية �أ ّنه بالء يف بالء يف بالء‪� ،‬أي �أ ّنه ٌ‬ ‫و�أما املكتفي فيعي�ش مطمئن ًا م�سرتيح ًا �أمين ًا بع�ض الأمن على دينه و�رشفه‬ ‫و�أخالقه‪.‬‬ ‫قرر الأخالقيون � َّأن الإن�سان ال يكون حراً متام ًا ما مل تكن له �صنعة م�ستق ٌّل‬ ‫فيها‪� ،‬أي غري مر�ؤو�س لأحد‪ ،‬لأن حريته ال�شخ�صية تكون تابعة الرتباطه‬ ‫بالر�ؤ�ساء‪ .‬وعليه تكون �أقبح الوظائف هي وظائف احلكومة‪ .‬وقالوا‪َّ � :‬إن‬ ‫دل به على �أحوال‬ ‫لل�صنعة ت�أثرياً يف الأخالق والأميال‪ ،‬وهي من �أ�صدق ما ُي�س َت ُّ‬ ‫الأفراد والأقوام‪ .‬فاملوظفون يف احلكومة مث ًال يفقدون ال�شفقة والعواطف‬ ‫العالية تبع ًا ل�صنعتهم التي من مقت�ضاها عدم ال�شعور بتبعة �أعمالهم‪ ،‬وقال‬ ‫احلكماء‪َّ � :‬إن العاجز يجمع املال بالتقتري‪ ،‬والكرمي يجمعه بالك�سب‪ ،‬وقالوا‪َّ � :‬إن‬ ‫�أقل ك�سب ير�ضى به العاقل ما يكفي معا�شه باقت�صاد‪ ،‬وقالوا‪ :‬خري املال ما‬ ‫ذل القلة وطغيان الكرثة‪ .‬وهذا معنى احلديث (فاز املخففون)‬ ‫يكفي �صاحبه ّ‬ ‫ويقال‪ :‬الغنى غنى القلب‪ ،‬والغني‬ ‫وحديث «ا�س�ألوا اهلل الكفاف من الرزق»‪ُ .‬‬ ‫كل‬ ‫من ق َّلت حاجته‪ ،‬والغني من ا�ستغنى عن النا�س‪ .‬وقال بع�ض احلكماء‪ُّ :‬‬

‫‪79‬‬


‫اال�ستبداد والإن�سان‬

‫�إن�سانٍ فقري بالطبع ينق�صه مثل ما ميلك‪ ،‬فمن ميلك ع�رشة يرى نف�سه حمتاج ًا‬ ‫لع�رشة �أخرى‪ ،‬ومن ميلك �ألف ًا يرى نف�سه حمتاج ًا ل ٍ‬ ‫ألف �أخرى‪ .‬وهذا معنى‬ ‫احلديث‪« :‬لو كان البن �آدم ٍ‬ ‫أحب �أن يكون له واديان»‪.‬‬ ‫واد من ذهب � َّ‬ ‫وال يق�صد الأخالقيون من التزهيد يف املال التثبيط عن ك�سبه‪� ،‬إمنا‬ ‫يق�صدون �أال يتجاوز ك�سبه بالطرائق الطبيعية ال�رشيفة‪� .‬أما ال�سيا�سيون فال‬ ‫يهمهم �إال �أن ت�ستغني الرعية ب�أي و�سيلة كانت‪ ،‬والغربيون منهم ُيعينون الأمة‬ ‫على الك�سب لي�شاركوها‪ ،‬وال�رشقيون ال يفتكرون يف غري �سلب املوجود‪ ،‬وهذه‬ ‫من جملة الفروق بني اال�ستبدادين الغربي وال�رشقي‪ ،‬التي منها � َّأن اال�ستبداد‬ ‫ولكن‪ ،‬مع ال ّلني‪ ،‬وال�رشقي يكون مقلق ًال‬ ‫أ�شد وط�أ ًة‪ْ ،‬‬ ‫الغربي يكون �أحكم و�أر�سخ و� ّ‬ ‫تبدل‬ ‫�رسيع الزوال‪ ،‬ولك ّنه يكون مزعج ًا‪ .‬ومنها � َّأن اال�ستبداد الغربي �إذا زال ّ‬ ‫بحكومة عادلة ُتقيم ما �ساعدت الظروف �أن تقيم‪� ،‬أما ال�رشقي فيزول ويخلفه‬ ‫�رش منه‪ ،‬ل َّأن من د�أب ال�رشقيني �أال يفتكروا يف م�ستقبل قريب‪ ،‬ك� َّأن‬ ‫ا�ستبداد ٌّ‬ ‫�أكرب همهم من�رصف �إىل ما بعد املوت فقط‪� ،‬أو �أنهم مبتلون بق�رص النظر‪.‬‬ ‫أ�شد وط�أ ًة من الوباء‪� ،‬أكرث هو ًال من‬ ‫داء � ُّ‬ ‫وخال�صة القول‪َّ � :‬إن اال�ستبداد ٌ‬ ‫بقوم‬ ‫ال�سيل‪ُّ � ،‬‬ ‫داء �إذا نزل ٍ‬ ‫أذل للنفو�س من ال�س�ؤال‪ٌ .‬‬ ‫احلريق‪� ،‬أعظم تخريب ًا من ّ‬ ‫ربها‬ ‫�سمعت �أرواحهم هاتف ال�سماء ينادي الق�ضاء الق�ضاء‪ ،‬والأر�ض تناجي ّ‬ ‫عهد‪� ،‬أ�شقى النا�س فيه العقالء والأغنياء‪ ،‬و�أ�سعدهم‬ ‫بك�شف البالء‪ .‬اال�ستبداد ٌ‬ ‫يتعجلون املوت فيح�سدهم‬ ‫مبحياه اجلهالء والفقراء‪ ،‬بل �أ�سعدهم �أولئك الذين ّ‬ ‫الأحياء‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬ ‫يت�رصف يف �أكرث الأميال الطبيعية والأخالق احل�سنة‪،‬‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫َّ‬ ‫في�ضعفها‪� ،‬أو ُيف�سدها‪� ،‬أو ميحوها‪ ،‬فيجعل الإن�سان يكفر ب ِن َعم مواله‪ ،‬لأنه مل‬ ‫ُ‬ ‫حق احلمد‪ ،‬ويجعله حاقداً على قومه‪ ،‬لأنهم‬ ‫عليها‬ ‫ليحمده‬ ‫امللك‬ ‫حق‬ ‫ميلكها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حب وطنه‪ ،‬لأ َّنه غري �آمن على اال�ستقرار‬ ‫ا‬ ‫وفاقد‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫عون لبالء‬ ‫ٌ‬ ‫ً ّ‬ ‫احلب لعائلته‪ ،‬لأنه يعلم منهم �أ َّنهم مثله ال‬ ‫فيه‪ُّ ،‬‬ ‫ويود لو انتقل منه‪ ،‬و�ضعيف ِّ‬ ‫أ�سري‬ ‫�ضطرون لإ�رضار �صديقهم‪ ،‬بل وقتله وهم باكون‪ُ � .‬‬ ‫ميلكون التكاف�ؤ‪ ،‬وقد ُي ّ‬ ‫معر�ض‬ ‫اال�ستبداد ال ميلك �شيئ ًا ليحر�ص على حفظه‪ ،‬لأ َّنه ال ميلك ما ًال غري َّ‬ ‫معر�ض للإهانة‪ .‬وال ميلك اجلاهل منه �آما ًال م�ستقبلة‬ ‫لل�سلب وال �رشف ًا غري َّ‬ ‫ّ‬ ‫ليتبعها وي�شقى كما ي�شقى العاقل يف �سبيلها‪.‬‬ ‫وهذه احلال جتعل الأ�سري ال يذوق يف الكون لذ ًة نعيم‪ ،‬غري بع�ض املل ّذات‬ ‫بناء عليه‪ ،‬يكون �شديد احلر�ص على حياته احليوانية و� ْإن كانت‬ ‫البهيمية‪ً .‬‬ ‫تعي�سة‪ ،‬وكيف ال يحر�ص عليها وهو ال يعرف غريها؟! �أين هو من احلياة‬ ‫الأدبية؟! �أين هو من احلياة االجتماعية؟! � َّأما الأحرار فتكون منزلة حياتهم‬ ‫احليوانية عندهم بعد مراتب عديدة‪ ،‬وال يعرف ذلك �إال من كان منهم‪� ،‬أو ك�شف‬ ‫عن ب�صريته‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫ومثال الأ�رساء يف حر�صهم على حياتهم ال�شيوخ‪ ،‬ف�إ َّنهم عندما مت�سي‬ ‫حياتهم ك ُّلها �أ�سقام ًا و�آالم ًا ويقربون من �أبواب القبور‪ ،‬يحر�صون على حياتهم‬ ‫�أكرث من ال�شباب يف مقتبل العمر‪ ،‬يف مقتبل املالذ‪ ،‬يف مقتبل الآمال‪.‬‬ ‫الراحة الفكرية‪ ،‬في�ضني الأج�سام فوق �ضناها بال�شقاء‪،‬‬ ‫اال�ستبداد ي�سلب ّ‬ ‫ويختل ال�شعور على درجات متفاوتة يف النا�س‪ .‬والعوام‬ ‫فتمر�ض العقول‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الذين هم قليلو املادة يف الأ�صل قد ي�صل مر�ضهم العقلي �إىل درجة قريبة‬ ‫من عدم التمييز بني اخلري وال�رش‪ ،‬يف ك ِّل ما لي�س من �رضوريات حياتهم‬ ‫جمرد �آثار ال َّأبهة والعظمة التي‬ ‫احليوانية‪ .‬وي�صل ت�س ُّفل �إدراكهم �إىل � َّأن ّ‬ ‫وجمرد �سماع �ألفاظ التفخيم‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه تبهر �أب�صارهم‪،‬‬ ‫يرونها على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف و�صفه وحكايات قوته و�صولته يزيغ �أفكارهم‪ ،‬فريون ويفكرون � َّأن الدواء‬ ‫يف الداء‪ ،‬فين�صاعون بني يدي اال�ستبداد ان�صياع الغنم بني �أيدي الذئاب‪،‬‬ ‫مقر حتفها‪.‬‬ ‫حيث هي جتري على قدميها جاهد ًة �إىل ِّ‬ ‫ولهذا كان اال�ستبداد ي�ستويل على تلك العقول ال�ضعيفة ف�ض ًال عن الأج�سام‬ ‫فيف�سدها كما يريد‪ ،‬ويتغ ّلب على تلك الأذهان ال�ضئيلة‪ ،‬في�شو�ش فيها احلقائق‪،‬‬ ‫بل البديهيات كما يهوى‪ ،‬فيكون َم َث ُلهم يف انقيادهم الأعمى لال�ستبداد‬ ‫ومقاومتهم للر�شد والإر�شاد‪ ،‬مثل تلك الهوام التي ترتامى على النار‪ ،‬وكم هي‬ ‫تغالب من يريد حجزها على الهالك‪ .‬وال غرابة يف ت�أثري �ضعف الأج�سام على‬ ‫ال�ضعف يف العقول‪ ،‬ف� َّإن يف املر�ضى وخ ّفة عقولهم‪ ،‬وذوي العاهات ونق�ص‬ ‫بين ًا كافي ًا ُيقا�س عليه نق�ص عقول الأُ�رساء الب�ؤ�ساء بالن�سبة‬ ‫�إدراكهم‪� ،‬شاهداً ّ‬ ‫�إىل الأحرار ال�سعداء‪ ،‬كما يظهر احلال �أي�ض ًا ب�أق ّل فرق بني الفئتني‪ ،‬من الفرق‬ ‫الدم وا�ستحكام ال�صحة وجمال الهيئات‪.‬‬ ‫البينّ يف قوة الأج�سام وغزارة ّ‬ ‫رمبا ي�سرتيب املطالع اللبيب الذي مل ُيتعب فكره يف در�س طبيعة اال�ستبداد‪،‬‬ ‫من � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم كيف يقوم على قلب احلقائق‪ ،‬مع �أ َّنه �إذا د ّقق النظر‬ ‫يتجلى له � َّأن اال�ستبداد يقلب احلقائق يف الأذهان‪ .‬يرى �أ َّنه كم م ّكن بع�ض‬ ‫القيا�رصة وامللوك الأولني من التالعب بالأديان ت�أييداً ال�ستبدادهم فا َّتبعهم‬ ‫النا�س‪ .‬ويرى � َّأن النا�س و�ضعوا احلكومات لأجل خدمتهم‪ ،‬واال�ستبداد قلب‬ ‫املو�ضوع‪ ،‬فجعل الرعية خادمة للرعاة‪ ،‬فقبلوا وقنعوا‪ .‬ويرى � َّأن اال�ستبداد‬ ‫فاجر‪ ،‬وتارك ح ّقه مطيع‪ ،‬وامل�شتكي‬ ‫احلق‬ ‫ما �ساقهم �إليه من اعتقاد � َّأن طالب ِّ‬ ‫ٌ‬

‫‪82‬‬


‫املتظلِّم مف�سد‪ ،‬وال ّنبيه املدقق ملحد‪ ،‬واخلامل امل�سكني �صالح �أمني‪ .‬وقد ا َّتبع‬ ‫عتواً‪،‬‬ ‫النا�س اال�ستبداد يف ت�سميته الن�صح ف�ضو ًال‪ ،‬والغرية عداوة‪ّ ،‬‬ ‫وال�شهامة ّ‬ ‫واحلمية حماقة‪ ،‬والرحمة مر�ض ًا‪ ،‬كما جاروه على اعتبار � َّأن ال ِّنفاق �سيا�سة‪،‬‬ ‫والتحيل كيا�سة‪ ،‬والدناءة لطف‪ ،‬والنذالة دماثة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وال غرابة يف حت ُّكم اال�ستبداد على احلقائق يف �أفكار الب�سطاء‪� ،‬إمنا الغريب‬ ‫�سمون الفاحتني‬ ‫�إغفاله كثرياً من العقالء‪ ،‬ومنهم جمهور امل� ِّؤرخني الذين ُي ّ‬ ‫ملجرد �أ َّنهم‬ ‫الغالبني ِّ‬ ‫بالرجال العظام‪ ،‬وينظرون �إليهم نظر الإجالل واالحرتام ّ‬ ‫كانوا �أكرث يف قتل الإن�سان‪ ،‬و�أ�رسفوا يف تخريب العمران‪ .‬ومن هذا القبيل يف‬ ‫الغرابة �إعالء امل� ِّؤرخني قدر من جاروا امل�ستبدين‪ ،‬وحازوا القبول والوجاهة‬ ‫عند الظاملني‪ .‬وكذلك افتخار الأخالق ب�أ�سالفهم املجرمني الذين كانوا من‬ ‫ه�ؤالء الأعوان الأ�رشار‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫احلرة‪،‬‬ ‫يظن بع�ض النا�س � َّأن لال�ستبداد‬ ‫وقد ُّ‬ ‫ح�سنات مفقودة يف الإدارة ّ‬ ‫واحلق � َّأن ذلك يح�صل فيه عن‬ ‫ويلطفها‪،‬‬ ‫فيقولون مث ًال‪ :‬اال�ستبداد يلينّ الطباع ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فقد ال�شهامة ال عن فقد ال�رشا�سة‪ .‬ويقولون‪ :‬اال�ستبداد ُيعلِّم ال�صغري اجلاهل‬ ‫واحلق � َّأن هذا فيه عن خوف وجبانة ال‬ ‫ح�سن الطاعة واالنقياد للكبري اخلرب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يربي النفو�س على االعتدال والوقوف عند‬ ‫عن اختيارٍ و�إذعان‪ .‬ويقولون‪ :‬هو ّ‬ ‫انكما�ش وتقهقر‪ .‬ويقولون‪ :‬اال�ستبداد يقلل‬ ‫واحلق � ْأن لي�س هناك غري‬ ‫احلدود‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫واحلق �أ َّنه عن فقر وعجر‪ ،‬ال عن ع ّف ٍة �أو دين‪ .‬ويقولون‪ :‬هو‬ ‫الف�سق والفجور‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فيقل تعديدها‬ ‫يقلل التعديات واجلرائم‪،‬‬ ‫واحلق �أ َّنه مينع ظهورها ويخفيها‪ُّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ال عدادها‪.‬‬ ‫و�سقياها العلم‪ ،‬والقائمون‬ ‫الأخالق �أثمار بذرها الوراثة‪ ،‬وتربتها الرتبية‪ُ ،‬‬ ‫بناء عليه‪ ،‬تفعل ال�سيا�سة يف �أخالق الب�رش ما تفعله‬ ‫عليها هم رجال احلكومة‪ً ،‬‬ ‫العناية يف �إمناء ال�شجر‪.‬‬ ‫نعم‪ :‬الأقوام كالآجام‪� ،‬إن ُترِكت مهملة تزاحمت �أ�شجارها و�أفالذها‪ ،‬و�س ُقم‬ ‫املتوح�شة‪ .‬و�إن‬ ‫قويها على �ضعيفها ف�أهلكه‪ ،‬وهذا مثل القبائل‬ ‫ِّ‬ ‫�أكرثها‪ ،‬وتغ َّلب ّ‬ ‫فدبرها ح�سبما تطلبه طباعها‪ ،‬قويت‬ ‫�صادفت ب�ستاني ًا يهمه بقا�ؤها وزهوها ّ‬ ‫ين جدير‬ ‫وح�سنت ثمارها‪ ،‬وهذا مثل احلكومة العادلة‪ .‬و�إذا ُبليت بب�ستا ٍّ‬ ‫و�أينعت ُ‬ ‫وخربها‪ ،‬وهذا مثل‬ ‫ي�سمى ّ‬ ‫ب�أن ّ‬ ‫حطاب ًا ال يعنيه �إال عاجل االكت�ساب‪� ،‬أف�سدها ّ‬

‫‪83‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫احلطاب غريب ًا مل ُيخلق من تراب تلك الديار‬ ‫احلكومة‬ ‫امل�ستبدة‪ .‬ومتى كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫همه احل�صول على الفائدة‬ ‫ولي�س له فيها فخار وال يلحقه منها عار‪� ،‬إنمّ ا ّ‬ ‫فبناء على هذا‬ ‫الطامة وهناك البوار‪.‬‬ ‫العاجلة ولو باقتالع الأ�صول‪ ،‬فهناك ّ‬ ‫ً‬ ‫احلطاب الذي ال ُيرجى‬ ‫املثال‪ ،‬يكون ِف ُ‬ ‫عل اال�ستبداد يف �أخالق الأمم ِفعل ذلك ّ‬ ‫منه غري الإف�ساد‪.‬‬ ‫ال تكون الأخالق �أخالق ًا ما مل تكن ملكة ُمطردة على قانون فطري‬ ‫تقت�ضيه �أو ًال وظيفة الإن�سان نحو نف�سه‪ ،‬وثاني ًا وظيفته نحو عائلته‪ ،‬وثالث ًا‬ ‫ي�سمى‬ ‫وظيفته نحو قومه‪ ،‬ورابع ًا وظيفته نحو الإن�سانية‪ ،‬وهذا القانون هو ما ّ‬ ‫عند النا�س بالنامو�س‪.‬‬ ‫ومن �أين لأ�سري اال�ستبداد �أن يكون �صاحب نامو�س‪ ،‬وهو كاحليوان اململوك‬ ‫يهب الريح‪ ،‬ال نظام وال‬ ‫يهب‪ ،‬حيث ُّ‬ ‫العنان‪ُ ،‬يقاد حيث ُيراد‪ ،‬ويعي�ش كالري�ش‪ُّ ،‬‬ ‫�إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي � ُّأم الأخالق‪ ،‬هي ما قيل فيها تعظيم ًا ل�ش�أنها‪:‬‬ ‫لو جازت عبادة غري اهلل الختار العقالء عبادة الإرادة! هي تلك ال�صفة التي‬ ‫تف�صل احليوان عن ال ّنبات يف تعريفه ب�أ ّنه متحرك بالإرادة‪ .‬فالأ�سري‪� ،‬إذن‪،‬‬ ‫يتحرك ب�إرادة غريه ال ب�إرادة نف�سه‪ .‬ولهذا قال الفقهاء‪ :‬ال‬ ‫دون احليوان لأ ّنه‬ ‫ّ‬ ‫لنية مواله‪ .‬وقد ُيعذر الأ�سري‬ ‫نية للرقيق يف كثري من �أحواله‪� ،‬إمنا هو تابع ّ‬ ‫ّ‬ ‫على ف�ساد �أخالقه‪ ،‬ل َّأن فاقد اخليار غري م�ؤاخذ عق ًال و�رشع ًا‪.‬‬ ‫�أ�سري اال�ستبداد ال نظام يف حياته‪ ،‬فال نظام يف �أخالقه‪ ،‬قد ي�صبح غني ًا‬ ‫كل‬ ‫في�ضحى �شجاع ًا كرمي ًا‪ ،‬وقد مي�سي فقرياً فيبيت جبان ًا خ�سي�س ًا‪ ،‬وهكذا ُّ‬ ‫�ش�ؤونه ت�شبه الفو�ضى ال ترتيب فيها‪ ،‬فهو يتبعها بال وجهة‪� .‬ألي�س الأ�سري قد‬ ‫في�شنق‪ ،‬ويجوع يوم ًا في�ضوى‪ ،‬ويخ�صب‬ ‫فيعفى‪ ،‬وقلي ًال ُ‬ ‫ُيرهق‪ ،‬وي�سيء كثرياً ُ‬ ‫فيم َنع‪ ،‬وي�أبى �شيئ ًا فيرُ غم؟! وهكذا يعي�ش كما‬ ‫يوم ًا فيتخم‪ ،‬يريد �أ�شياء ُ‬ ‫ال�صدف �أن يعي�ش‪ ،‬ومن كانت هذه حاله كيف يكون له �أخالق‪ ،‬و� ْإن‬ ‫تقت�ضيه ُّ‬ ‫ُكم على الأ�رساء‬ ‫جتوز احلكمة احل َ‬ ‫وجد ابتداء يتعذر ا�ستمراره عليه؟! ولهذا ال ّ‬ ‫�رش‪.‬‬ ‫بخ ٍري �أو ّ‬ ‫أقل ما ي�ؤ ّثره اال�ستبداد يف �أخالق النا�س‪� ،‬أ َّنه يرغم حتى الأخيار منهم‬ ‫� ُّ‬ ‫غي‬ ‫الرياء والنفاق ولبئ�س ّ‬ ‫على �إلفة ّ‬ ‫ال�سيئتان‪ ،‬و�إنه يعني الأ�رشار على �إجراء ّ‬ ‫نفو�سهم �آمنني من ك ِّل تبعة ولو �أدبية‪ ،‬فال اعرتا�ض وال انتقاد وال افت�ضاح‪،‬‬

‫‪84‬‬


‫ل َّأن �أكرث �أعمال الأ�رشار تبقى م�ستورة‪ ،‬يلقي عليها اال�ستبداد رداء خوف النا�س‬ ‫�رش وعقبى ذكر الفاجر مبا فيه‪ .‬ولهذا‪� ،‬شاعت بني‬ ‫من تبعة ال�شهادة على ذي ّ‬ ‫الأ�رساء قواعد كثرية باطلة كقولهم‪� :‬إذا كان الكالم من ف�ضة فال�سكوت من‬ ‫�سد �أفواههم‬ ‫ذهب‪ ،‬وقولهم‪ :‬البالء‬ ‫ٌ‬ ‫وعاظهم يف ِّ‬ ‫موكول باملنطق‪ .‬وقد تغاىل ّ‬ ‫حتى جعلوا لهم �أمثال هذه الأقوال من ا ِ‬ ‫حل َكم النبوية‪ ،‬وكم هجوا لهم الهجو‬ ‫يحب ا ُ‬ ‫بال�سوء من القول) ويغفلون‬ ‫والغيبة بال قيد‪ ،‬فهم يقر�ؤون‪( :‬ال ُّ‬ ‫هلل اجلهر ّ‬ ‫بقية الآية‪ ،‬وهي‪�( :‬إ ّال من ُظ ِلم)‪.‬‬ ‫�أقوى �ضابط للأخالق النهي عن املنكر بالن�صيحة والتوبيخ‪� ،‬أي بحر�ص‬ ‫الأفراد على حرا�سة نظام االجتماع‪ ،‬وهذه الوظيفة غري مقدور عليها يف عهد‬ ‫اال�ستبداد لغري ذوي املنعة وقليل ما هم‪ ،‬وقلي ًال ما يفعلون‪ ،‬وقلي ًال ما يفيد‬ ‫نهيهم‪ ،‬لأنه ال ميكنهم توجيهه لغري امل�ست�ضعفني الذين ال ميلكون �رضراً‬ ‫وال نفع ًا‪ ،‬بل وال ميلكون من �أنف�سهم �شيئ ًا‪ ،‬ولأ َّنه ينح�رص مو�ضوع نهيهم‬ ‫الرذائل النف�سية ال�شخ�صية فقط‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فيما ال تخفى قباحته على �أح ٍد من ّ‬ ‫فاجل�سور ال يرى ُب ّداً من اال�ستثناء املخ ِّل للقواعد العامة كقوله‪ :‬ال�سرّ قة قبيحة‬ ‫واملوظفون يف عهد‬ ‫�إال �إذا كانت ا�سرتداداً منها‪ ،‬والكذب حرام �إال للمظلوم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اال�ستبداد للوعظ والإر�شاد يكونون ‪-‬مطلق ًا‪ -‬وال �أقول غالب ًا‪ ،‬من املنافقني‬ ‫الذين نالوا الوظيفة بالتم ّلق‪ ،‬وما �أبعد ه�ؤالء عن الت�أثري‪ ،‬ل َّأن الن�صح الذي ال‬ ‫ثم � َّإن ال ُّن�صح‬ ‫�إخال�ص فيه هو بذر عقيم ال ينبت‪ ،‬و� ْإن نبت كان ً‬ ‫رياء ك�أ�صله‪َّ ،‬‬ ‫ال يفيد �شيئ ًا �إذا مل ي�صادف �أذن ًا تتط ّلب �سماعه‪ ،‬ل َّأن الن�صيحة و�إن كانت عن‬ ‫أر�ض �صاحلة نبت‪ ،‬و�إن‬ ‫احلي‪ْ � :‬إن �أُلقي يف � ٍ‬ ‫�إخال�ص فهي ال تتجاوز ُح ْك َم البذر ّ‬ ‫أر�ض قاحلة مات‪.‬‬ ‫�أُلقي يف � ٍ‬ ‫� ّأما النهي عن املنكرات يف الإدارة احلرة‪ ،‬فيمكن لك ِّل غيورٍ على نظام‬ ‫يوجه �سهام قوار�صه على ال�ضعفاء‬ ‫قومه �أن يقوم به ب�أمانٍ و�إخال�ص‪ ،‬و�أن ِّ‬ ‫يخ�ص بها الفقري املجروح الف�ؤاد‪ ،‬بل ت�ستهدف �أي�ض ًا‬ ‫والأقوياء �سواء‪ ،‬فال‬ ‫ُّ‬ ‫ال�شوكة والعناد‪ .‬و� ْأن يخو�ض يف ك ِّل ٍ‬ ‫الظلم‬ ‫واد حتى يف موا�ضيع تخفيف ُّ‬ ‫ذوي ّ‬ ‫ويجدي‪ ،‬والذي �أطلق‬ ‫وم�ؤاخذة ا ُ‬ ‫حل ّكام‪ ،‬وهذا هو الن�صح الإنكاري الذي ُيعدي ُ‬ ‫(الدين) تعظيم ًا ل�ش�أنه‪ ،‬فقال‪( :‬الدين الن�صيحة)‪.‬‬ ‫عليه ال ّنبي عليه ال�سالم ا�سم ّ‬ ‫�ضبط �أخالق الطبقات العليا من ال ّنا�س �أهم الأمور‪� ،‬أطلقت الأمم‬ ‫ملا كان‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫‪85‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫احلرة حرية اخلطابة والت�أليف واملطبوعات م�ستثني ًة القذف فقط‪ ،‬ور�أت �أن‬ ‫ّ‬ ‫م�رضة الفو�ضى يف ذلك خري التحديد‪ ،‬لأ َّنه ال مانع للح ّكام � ْأن يجعلوا‬ ‫حتمل‬ ‫َّ‬ ‫احلرية‪.‬‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫الطبيعة‪،‬‬ ‫تهم‬ ‫عدو‬ ‫بها‬ ‫ويخنقوا‬ ‫حديد‪،‬‬ ‫من‬ ‫�سل�سلة‬ ‫التقييد‬ ‫ال�شعرة من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�ضار‬ ‫كاتب وال �شهيد)‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وقد حمى القر�آن قاعدة الإطالق بقوله الكرمي‪( :‬وال ُي ُّ‬ ‫اخل�صال تنق�سم �إىل ثالثة �أنواع‪:‬‬ ‫والهمة واملدافعة‬ ‫الأول‪ :‬اخل�صال احل�سنة الطبيعية‪ ،‬كال�صدق والأمانة‬ ‫ّ‬ ‫والرحمة‪ ،‬والقبيحة الطبيعية كالرياء واالعتداء واجلبانة والق�سوة‪ ،‬وهذا‬ ‫كل الطبائع وال�رشائع‪.‬‬ ‫الق�سم ت�ضافرت عليه ُّ‬ ‫والنوع الثاين‪ :‬اخل�صال الكمالية التي جاءت بها ال�رشائع الإلهامية‪،‬‬ ‫كتح�سني الإيثار والعفو وتقبيح الز ّنى والطمع‪ ،‬وهذا الق�سم يوجد فيه ما ال‬ ‫للدين احرتام ًا‬ ‫تدرك ُّ‬ ‫كل العقول حكمته �أو حكمة تعميمه‪ ،‬فيم ّثله املنت�سبون ّ‬ ‫�أو خوف ًا‪.‬‬ ‫والنوع الثالث‪ :‬اخل�صال االعتيادية‪ ،‬وهي ما يكت�سبه الإن�سان بالوراثة �أو‬ ‫�ضطر �إىل‬ ‫بالرتبية �أو بالألفة‪ ،‬في�ستح�سن �أو ي�ستقبح على ح�سب �أمياله ما مل ُي ّ‬ ‫التحول عنها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم � َّإن التدقيق يفيد � َّأن الأق�سام ت�شتبك وت�شرتك وي�ؤثر بع�ضها يف بع�ض‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كل خ�صلة منها تر�سخ �أو‬ ‫في�صري جمموعها حتت ت�أثري الألفة املديدة‪ ،‬بحيث ُّ‬ ‫تتزلزل‪ ،‬ح�سبما ي�صادفها من ا�ستمرار الألفة �أو انقطاعها‪ ،‬فالقاتل ‪-‬مث ًال‪ -‬ال‬ ‫املرة الثانية كما ا�ستقبحها يف نف�سه يف الأوىل‪ ،‬وهكذا‬ ‫ي�ستنكر �شنيعته يف ّ‬ ‫حق طبيعي‬ ‫ُّ‬ ‫يخف اجلرم يف وهمه‪ ،‬حتى ي�صل �إىل درجة التلذذ بالقتل‪ ،‬ك�أ ّنه ٌّ‬ ‫جت يف �أفئدتهم‬ ‫اجلبارين وغالب ال�سيا�سيني‪ ،‬الذين ال تر ُّ‬ ‫له‪ ،‬كما هي حالة ّ‬ ‫عاطفة رحمة عند قتلهم �أفراداً �أو �أمم ًا لغاياتهم ال�سيا�سية‪� ،‬إهراق ًا بال�سيف �أو‬ ‫�إزهاق ًا بالقلم‪ ،‬وال فرق بني القتل بقطع الأوداج وبني الإماتة ب�إيراث ال�شقاء‬ ‫غري الت�رسيع والإبطاء‪.‬‬ ‫أ�رشها‪ ،‬وال‬ ‫�رش اخل�صال‪،‬‬ ‫ويرتبى على � ِّ‬ ‫�أ�سري اال�ستبداد العريق فيه يرث َّ‬ ‫ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعده عن خ�صال الكمال!‬ ‫َّ‬ ‫بد �أن ي�صحبه بع�ضها مدى العمر‪ً .‬‬ ‫بالرياء‬ ‫تلب�سه‬ ‫واالعتيادية‬ ‫وال�رشعية‬ ‫الطبيعية‬ ‫اخل�صال‬ ‫ل‬ ‫لك‬ ‫ة‬ ‫مف�سد‬ ‫ويكفيه‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪86‬‬


‫ا�ضطراراً حتى ال ي�ألفه وي�صري َم َلك ًة فيه‪ ،‬فيفقد ب�سبب ثقته نف�سه بنف�سه‪ ،‬لأ َّنه‬ ‫م�ستقراً فيه‪ ،‬فال ميكنه‪ ،‬مث ًال‪� ،‬أن يجزم ب�أمانته‪� ،‬أو ي�ضمن ثباته‬ ‫ال يجد ُخ ُلق ًا‬ ‫ّ‬ ‫لوام ًا‬ ‫الظن يف ِّ‬ ‫على �أم ٍر من الأمور‪ ،‬فيعي�ش �سيئ ّ‬ ‫حق ذاته مرتدداً يف �أعماله‪ّ ،‬‬ ‫همته ونق�ص مروءته‪ ،‬ويبقى طول‬ ‫نف�سه على �إهماله �ش�ؤونه‪� ،‬شاعراً بفتور َّ‬ ‫اخلالق‪،‬واخلالق ‪-‬ج َّل �ش�أنه‪ -‬مل ُينق�صه‬ ‫عمره جاه ًال مورد هذا اخللل‪ ،‬في َّتهم‬ ‫ُ‬ ‫�شيئ ًا‪ .‬وي َّتهم تار ًة دينه‪ ،‬وتار ًة تربيته‪ ،‬وتار ًة زمانه‪ ،‬وتار ًة قومه‪ ،‬واحلقيقة‬ ‫حراً ف�أُ�رس‪.‬‬ ‫بعيدة عن ك ِّل ذلك‪ ،‬وما احلقيقة غري �أ ّنه ُخلق ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شائبة من �أ�صول القبائح اخللقية ال‬ ‫املتلب�س‬ ‫�أجمع الأخالقيون على � َّأن‬ ‫ِّ‬ ‫ميكنه �أن يقطع ب�سالمة غريه منها‪ ،‬وهذا معنى‪�( :‬إذا �ساءت ِفعال املرء �ساءت‬ ‫يظن الرباءة يف غريه من �شائبة‬ ‫ظنونه)‪ .‬فاملرائي ‪-‬مث ًال‪ -‬لي�س من �ش�أنه �أن َّ‬ ‫الرياء‪� ،‬إ ّال �إذا َب ُع َد ت�شابه الن�ش�أة بينهما ُبعداً كبرياً‪ ،‬ك�أن تكون بينهما مغايرة‬ ‫مهم يف املنزلة ك�صعلوك و�أمري كبري‪ .‬ومثال‬ ‫يف اجلن�س �أو ّ‬ ‫الدين �أو تفاوت ٌّ‬ ‫ال�رشقي اخلائن‪ ،‬ي�أمن الإفرجني يف معاملته‪ ،‬ويثق بوزنه وح�سبانه‪ ،‬وال‬ ‫ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ي�أمن ويثق بابن جلدته‪ .‬وكذلك الإفرجني اخلائن قد ي�أمن ال�رشقي‪ ،‬وال ي�أمن‬ ‫مطلق ًا ابن جن�سه‪ .‬وهذا احلكم �صادق على عك�س الق�ضية �أي�ض ًا‪� ،‬أي � َّأن الأمني‬ ‫خدع)‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يظن النا�س �أمناء‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أ�شباهه يف الن�ش�أة‪ ،‬وهذا معنى (الكرمي ُي َ‬ ‫الظن يف مواقعه‬ ‫إ�ساءة‬ ‫�‬ ‫يف‬ ‫احلزم‬ ‫حكمة‬ ‫باع‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫عن‬ ‫نف�سه‬ ‫يف‬ ‫أمني‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يذهل‬ ‫وكم‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الالزمة‪.‬‬ ‫�إذا علمنا � َّأن من طبيعة اال�ستبداد �ألفة النا�س بع�ض الأخالق الرديئة‪ ،‬و� َّأن‬ ‫منها ما ُي�ضعف ال ّثقة بالنف�س‪ ،‬علمنا �سبب قلة �أهل العمل و�أهل العزائم يف‬ ‫ال�سرّ اء‪ ،‬وعلمنا �أي�ض ًا حكمة فقد الأُ�رساء ثقتهم بع�ضهم ببع�ض‪ .‬فينتج من ذلك‬ ‫� َّأن الأُ�رساء حمرومون ‪-‬طبع ًا‪ -‬من ثمرة اال�شرتاك يف �أعمال احلياة‪،‬يعي�شون‬ ‫م�ساكني بائ�سني متواكلني متخاذلني متقاع�سني متفا�شلني‪ ،‬والعاقل احلكيم‬ ‫ال يلومهم‪ ،‬بل ي�شفق عليهم‪ ،‬ويلتم�س لهم خمرج ًا‪ .‬ويتبع �أثر �أحكم احلكماء‬ ‫«رب ارحم قومي‪ ،‬ف�إنهم ال يعلمون»‪« ،‬اللهم اه ِد قومي‪ ،‬ف�إنهم ال‬ ‫القائل‪ِّ :‬‬ ‫يعلمون»‪.‬‬ ‫وهنا �أ�ستوقف املطالع و�أ�ستلفته �إىل الت� ّأمل يف ما هي ثمرة اال�شرتاك‬ ‫�رس يف الكائنات‪ ،‬به‬ ‫التي يحرمها الأ�رساء‪ ،‬ف�أذكره ب� َّأن اال�شرتاك هو �أعظم ٍّ‬

‫‪87‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫قيام ك ِّل �شيء ما عدا اهلل وحده‪ .‬به قيام الأجرام ال�سماوية‪ ،‬به قيام ك ِّل حياة‪،‬‬ ‫به قيام املواليد‪ ،‬به قيام الأجنا�س والأنواع‪ ،‬به قيام الأمم والقبائل‪ ،‬به‬ ‫�رس ت�ضاعف القوة‬ ‫قيام العائالت‪ ،‬به تعاون الأع�ضاء‪ .‬نعم‪ ،‬اال�شرتاك فيه ُّ‬ ‫�رس اال�ستمرار على الأعمال التي ال تفي بها �أعمار‬ ‫بن�سبة نامو�س الرتبيع‪ ،‬فيه ُّ‬ ‫ال�رس يف جناح الأمم املتمدنة‪ .‬به �أكملوا‬ ‫ال�رس ُّ‬ ‫الأفراد‪ .‬نعم‪ ،‬اال�شرتاك هو ُّ‬ ‫كل ّ‬ ‫نامو�س حياتهم القومية‪ ،‬به �ضبطوا نظام حكوماتهم‪ ،‬به قاموا بعظائم‬ ‫الأمور‪ ،‬به نالوا كل ما يغبطهم عليه �أُ�رساء اال�ستبداد الذين منهم العارفون‬ ‫ويت�شوقون �إليه‪ ،‬ولكن‪ ،‬ك ٌّل منهم ُيبطن لغنب �رشكائه با ِّتكاله‬ ‫بقدر اال�شرتاك‬ ‫َّ‬ ‫عليهم عم ًال‪ ،‬وا�ستبداده عليهم ر�أي ًا‪ ،‬حتى �صار من �أمثالهم قولهم‪( :‬ما من‬ ‫مغلوب للآخر)‪.‬‬ ‫م َّتفقني �إال و�أحدهما‬ ‫ٌ‬ ‫اخلفي‪ ،‬وطاملا كتب‬ ‫�رس اال�شرتاك لي�س بالأمر‬ ‫ور َّب قائلٍ يقول � َّإن َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اليابانيون والبوير‪ ،‬فما ال�سبب؟ ف�أجيبه ب� َّأن ال ُك َّتاب كتبوا و�أكرثوا و�أح�سنوا‬ ‫ولكن‪ ،‬قاتل اهلل اال�ستبداد و�ش�ؤمه‪ ،‬جعل الك ّتاب‬ ‫و�صوروا‪،‬‬ ‫ف�صلوا‬ ‫ْ‬ ‫فيما ّ‬ ‫ّ‬ ‫يح�رصون �أقوالهم يف الدعوة �إىل اال�شرتاك‪ ،‬وما مبعناه من التعاون واالحتاد‬ ‫كلي ًا‪،‬‬ ‫التفرق واالنحالل ّ‬ ‫والتحابب واال ِّتفاق‪ ،‬ومنعهم من ُّ‬ ‫التعر�ض لذكر �أ�سباب ّ‬ ‫�أو ا�ضطرهم �إىل االقت�صار على بيان الأ�سباب الأخرية فقط‪ .‬فمن قائلٍ مث ًال‪:‬‬ ‫مري�ض و�سببه اجلهل‪ ،‬ومن قائلٍ ‪ :‬اجلهل بالء و�سببه ق ّلة املدار�س‪ ،‬ومن‬ ‫ال�رشق‬ ‫ٌ‬ ‫عار و�سببه عدم التعاون على �إن�شائها من قبل الأفراد �أو‬ ‫قائلٍ ‪ :‬ق ّلة املدار�س ٌ‬ ‫من قبل ذوي ال�ش�أن‪.‬‬ ‫يخطه قلم الكاتب ال�رشقي ك�أ ّنه و�صل �إىل ال�سبب املانع‬ ‫وهذا �أعمق ما ُّ‬ ‫الطبيعي �أو االختياري‪ .‬واحلقيقة‪َّ � ،‬أن هناك �سل�سلة �أ�سباب �أخرى حلقتها‬ ‫الأوىل اال�ستبداد‪.‬‬ ‫ثم يقف‪،‬‬ ‫وكاتب �آخر يقول‪ :‬ال�رشق مري�ض و�سببه فقد‬ ‫التم�سك بالدين‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتبع الأ�سباب لبلغ �إىل احلكم ب� َّأن التهاون يف الدين �أو ًال و�آخراً‬ ‫مع �أ َّنه لو َّ‬ ‫نا�شئ من اال�ستبداد‪ .‬و�آخر يقول‪َّ � :‬إن ال�سبب ف�ساد الأخالق‪ ،‬وغريه يرى �أ ّنه‬ ‫ظن �أ َّنه الك�سل‪ ،‬واحلقيقة � َّأن املرجع الأول يف الك ّل هو‬ ‫فقد الرتبية‪ ،‬و�سواء َّ‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬الذي مينع حتى �أولئك الباحثني عن الت�رصيح با�سمه املهيب‪.‬‬ ‫وقد ا َّتفق احلكماء الذين �أكرمهم اهلل تعاىل بوظيفة الأخذ بيد الأمم يف‬

‫‪88‬‬


‫بحثهم عن املهلكات واملنجيات‪ ،‬على � َّأن ف�ساد الأخالق ُيخرج الأمم عن‬ ‫�أن تكون قابلة للخطاب‪ ،‬و� َّأن معاناة �إ�صالح الأخالق من �أ�صعب الأمور‬ ‫يعم‬ ‫و�أحوجها �إىل احلكمة البالغة والعزم القوي‪ ،‬وذكروا � َّأن ف�ساد الأخالق ُّ‬ ‫ثم يدخل بالعدوى �إىل ك ّل البيوت‪ ،‬وال �سيما بيوت‬ ‫َّ‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه وعماله‪َّ ،‬‬ ‫الطبقات العليا التي تتم َّثل بها ال�سفلى‪ .‬وهكذا يغ�شو الف�ساد‪ ،‬ومت�سي الأمة‬ ‫املحب وي�شمت بها العدو‪ ،‬وتبيت ودا�ؤها عياء يتعا�صى على الدواء‪.‬‬ ‫يبكيها‬ ‫ُّ‬ ‫وقد �سلك الأنبياء عليهم ال�سالم‪ ،‬يف �إنقاذ الأمم من ف�ساد الأخالق‪ ،‬م�سلك‬ ‫بفك العقول من تعظيم غري اهلل والإذعان ل�سواه‪ .‬وذلك بتقوية‬ ‫االبتداء �أو ًال ِّ‬ ‫ثم جهدوا يف تنوير العقول‬ ‫ح�سن الإميان املفطور عليه وجدان ُّ‬ ‫كل �إن�سان‪َّ ،‬‬ ‫مببادئ احلكمة‪ ،‬وتعريف الإن�سان كيف ميلك �إرادته‪� ،‬أي حريته يف �أفكاره‪،‬‬ ‫و�سدوا منابع الف�ساد‪.‬‬ ‫واختياره يف �أعماله‪ ،‬وبذلك هدموا ح�صون اال�ستبداد ّ‬ ‫ثم بعد �إطالق زمام العقول‪� ،‬صاروا ينظرون �إىل الإن�سان ب�أ َّنه مك َّلف‬ ‫َّ‬ ‫بقانون الإن�سانية‪ ،‬ومطالب بح�سن الأخالق‪ ،‬فيعلمونه ذلك ب�أ�ساليب التعليم‬ ‫وبث الرتبية التهذيبية‪.‬‬ ‫املقنع ّ‬ ‫واحلكماء ال�سيا�سيون الأقدمون ا َّتبعوا الأنبياء‪ -‬عليهم ال�سالم‪ -‬يف �سلوك‬ ‫هذا الطريق وهذا الرتتيب‪� ،‬أي باالبتداء من نقطة دينية فطرية ت�ؤدي �إىل‬ ‫ثم با ِّتباع طريق الرتبية والتهذيب دون فتورٍ وال انقطاع‪.‬‬ ‫حترير ال�ضمائر‪َّ ،‬‬ ‫�أما املت�أخرون من قادة العقول يف الغرب‪ ،‬فمنهم فئة �سلكوا طريقة‬ ‫اخلروج ب�أممهم من حظرية الدين و�آدابه النف�سية‪� ،‬إىل ف�ضاء الإطالق وتربية‬ ‫الطبيعة‪ ،‬زاعمني � َّأن الفطرة يف الإن�سان �أهدى �سبي ًال‪ ،‬وحاجته �إىل النظام‬ ‫ثم‬ ‫تغنيه عن �إعانة الدين‪ ،‬التي هي كاملخدرات �سموم ِّ‬ ‫احل�س بالهموم‪ّ ،‬‬ ‫تعطل َّ‬ ‫تذهب باحلياة‪ ،‬فيكون �رضرها �أكرب من نفعها‪.‬‬ ‫وقد �ساعدهم على �سلوك هذا امل�سلك‪� ،‬أ َّنهم وجدوا �أممهم قد ف�شا فيها‬ ‫نور العلم‪ ،‬ذلك العلم الذي كان منح�رصاً يف خدمة الدين عند امل�رصيني‬ ‫والآ�شوريني‪ ،‬وحم َت َكراً يف �أبناء الأ�رشاف عند الغرناطيني والرومان‪،‬‬ ‫ال�شبان املنتخبني عند الهنود واليونانيني‪ ،‬حتى جاء‬ ‫وخم�ص�ص ًا يف �أعداد من ّ‬ ‫العرب بعد الإ�سالم‪ ،‬و�أطلقوا حرية العلم‪ ،‬و�أباحوا تناوله لك ِّل متعلم‪ ،‬فانتقل‬ ‫فتنورت به عقول الأمم على درجات‪،‬‬ ‫�إىل �أوروبا حراً على رغم رجال الدين‪َّ ،‬‬

‫‪89‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫ويف ن�سبتها تر َّقت الأمم يف النعيم‪ ،‬وانت�رشت وتخالطت‪ ،‬و�صار املت� ِّأخر منها‬ ‫املتقدم ويتن َّغ�ص من حالته‪ ،‬ويتط َّلب اللحاق‪ ،‬ويبحث عن و�سائله‪ .‬فن�ش�أ‬ ‫يغبط‬ ‫ِّ‬ ‫من ذلك حركة قوية يف الأفكار‪ ،‬وحركة معرفة اخلري والغرية على نواله‪،‬‬ ‫ال�رش والأ َن َفة من ال�صرب عليه‪ ،‬حركة ال�سري �إىل الأمام رغم ك ِّل‬ ‫حركة معرفة ّ‬ ‫معار�ض‪ .‬اغتنم زعماء احلرية يف الغرب قوة هذه احلركة و�أ�ضافوا �إليها قوات‬ ‫�أدبية �ش ّتى‪ ،‬كا�ستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عرو�س احلرية‪ ،‬حتى �إ َّنهم‬ ‫مل يبالوا بتمثيل احلرية بح�سناء خليعة تختلب النفو�س‪ .‬وكا�ستبدالهم رابطة‬ ‫اال�شرتاك يف الطاعة للم�ستبدين برابطة اال�شرتاك يف ال�ش�ؤون العمومية‪ ،‬ذلك‬ ‫حب الوطن‪ .‬وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تياراً‬ ‫اال�شرتاك الذي يتو ّلد منه ُّ‬ ‫ثم � َّإن ه�ؤالء الزعماء‬ ‫�س ّلطوه على ر�ؤو�س الر�ؤو�س من �أهل ال�سيا�سة والدين‪َّ .‬‬ ‫ا�ستباحوا الق�ساوة �أي�ض ًا‪ ،‬ف�أخذوا من مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تربر‬ ‫الوا�سطة)‪ ،‬كجواز ال�رسقة �إذا كانت الغاية من �رصف املال يف �سبيل اخلري‪،‬‬ ‫ذمة الكاهن التي‬ ‫وقاعدة (تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح) ك�شهادة الزور على ّ‬ ‫يتحمل عنها خطيئتها‪ ،‬ودفعوا النا�س بهما �إىل ارتكاب اجلرائم الفظيعة التي‬ ‫َّ‬ ‫تق�شعر منها الإن�سانية‪ ،‬التي ال ي�ستبيحها احلكيم ال�رشقي ملا بني �أبناء الغرب‬ ‫ُّ‬ ‫و�أبناء ال�رشق من التباين يف الغرائز والأخالق‪.‬‬ ‫حري�ص على االنتقام‪،‬‬ ‫قوي النف�س‪� ،‬شديد املعاملة‪،‬‬ ‫الغربي‪:‬‬ ‫مادي احلياة‪ُّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫يبق عنده �شيء من املبادئ العالية والعواطف ال�رشيفة التي نقلتها‬ ‫ك�أ َّنه مل َ‬ ‫له م�سيحية ال�رشق‪ .‬فاجلرماين مث ًال‪ :‬جاف الطبع‪ ،‬يرى � َّأن الع�ضو ال�ضعيف‬ ‫من الب�رش ي�ستحق املوت‪ ،‬ويرى ك َّل ف�ضيلة يف القوة‪ ،‬وك َّل القوة يف املال‪،‬‬ ‫ويحب املجد‪ ،‬ولكن لأجل املال‪ .‬وهذا‬ ‫يحب العلم‪ ،‬ولكن‪ ،‬لأجل املال‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فهو ُّ‬ ‫الالتيني مطبوع على العجب والطي�ش‪ ،‬يرى العقل يف الإطالق‪ ،‬واحلياة يف‬ ‫خلع احلياء‪ ،‬وال�شرّ ف يف الترّ ف‪ ،‬والكيا�سة يف الك�سب‪ ،‬والع ّز يف الغلبة‪ ،‬والل َّذة‬ ‫يف املائدة والفرا�ش‪.‬‬ ‫احلب‪،‬‬ ‫�أما �أهل ال�رشق فهم �أدبيون‪ ،‬ويغلب عليهم �ضعف القلب و�سلطان ِّ‬ ‫للرحمة ولو يف غري موقعها‪ ،‬وال ُّلطف ولو مع‬ ‫والإ�صغاء للوجدان‪ ،‬وامليل ّ‬ ‫اخل�صم‪ .‬ويرون الع َّز يف الفتوة واملروءة‪ ،‬والغنى يف القناعة والف�ضيلة‪،‬‬ ‫وال�سكينة‪ ،‬واللذة يف الكرم والتحبب‪ ،‬وهم يغ�ضبون‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫والراحة يف الأن�س ّ‬

‫‪90‬‬


‫للدين فقط‪ ،‬ويغارون‪ ،‬ولكن‪ ،‬على ال ِع ْر�ض فقط‪.‬‬ ‫لي�س من �ش�أن ال�رشقي �أن ي�سري مع الغربي يف طريقٍ واحدة‪ ،‬فال تطاوعه‬ ‫طباعه على ا�ستباحة ما ي�ستح�سنه الغربي‪ ،‬و�إن تك َّلف تقليده يف �أمر فال‬ ‫ُيح�سن التقليد‪ ،‬و�إن �أح�سنه فال يثبت‪ ،‬و�إن ثبت فال يعرف ا�ستثماره‪ ،‬حتى‬ ‫يهتم يف‬ ‫لو �سقطت الثمرة يف ك ِّفه مت ّنى لو قفزت على فمه!‪ ..‬فال�رشقي مث ًال ُّ‬ ‫ثم ال يفكر فيمن يخلفه وال يراقبه‪ ،‬فيقع‬ ‫�ش�أن ظامله �إىل �أن يزول عنه ظلمه‪َّ ،‬‬ ‫الكرة ويعود الظلم �إىل ما ال نهاية‪ .‬وك�أولئك الباطنة‬ ‫يف الظلم ثاني ًة‪ ،‬فيعيد ّ‬ ‫يف الإ�سالم‪ :‬فتكوا مبئات �أمراء على غري طائل‪ ،‬ك�أ َّنهم مل ي�سمعوا باحلكمة‬ ‫يحب‬ ‫النبوية‪( :‬ال ُي َلدغ املرء من ُجح ٍر مرتني)‪ ،‬وال باحلكمة القر�آنية (� َّإن اهلل ُّ‬ ‫امل َّتقني)‪� .‬أما الغربي �إذا �أخذ على يد ظامله فال يفلته حتى ي�ش َّلها‪ ،‬بل حتى‬ ‫يقطعها ويكوي مقطعها‪.‬‬ ‫وهكذا بني ال�رشقيني والغربيني فروق كثرية‪ ،‬قد يف�ضل يف الإفراديات‬ ‫ال�رشقي على الغربي‪ ،‬ويف االجتماعيات يف�ضل الغربي على ال�رشقي مطلق ًا‪.‬‬ ‫مثال ذلك‪ :‬الغربيون ي�ستحلفون �أمريهم على ال�صداقة يف خدمته لهم والتزام‬ ‫القانون‪ .‬وال�سلطان ال�رشقي ي�ستحلف الرعية على االنقياد والطاعة! الغربيون‬ ‫يتكرمون‬ ‫يمَ ّنون على ملوكهم مبا يرتزقون من ف�ضالتهم‪ ،‬والأمراء ال�رشقيون َّ‬ ‫على من �شا�ؤوا ب�إجراء �أموالهم عليهم �صدقات! الغربي يعترب نف�سه مالك ًا‬ ‫وال�رشقي يعترب نف�سه و�أوالده وما يف يديه ملك ًا لأمريه!‬ ‫جلز ٍء م�شاع من وطنه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الغربي له على �أمريه حقوق‪ ،‬ولي�س عليه حقوق‪ ،‬وال�رشقي عليه لأمريه حقوق‬ ‫ولي�س له حقوق! الغربيون ي�ضعون قانون ًا لأمريهم ي�رسي عليه‪ ،‬وال�رشقيون‬ ‫ي�سريون على قانون م�شيئة �أمرائهم! الغربيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم من اهلل‪،‬‬ ‫وال�رشقيون ق�ضا�ؤهم وقدرهم ما ي�صدر من بني �شفتي امل�ستعبدين! ال�رشقي‬ ‫�رسيع الت�صديق‪ ،‬والغربي ينفي وال يثبت حتى يرى ويلم�س‪ .‬ال�رشقي �أكرث ما‬ ‫م�ستود ٌع فيها‪ ،‬والغربي �أكرث ما يغار على‬ ‫يغار على الفروج ك� َّأن �رشفه ك ّله‬ ‫َ‬ ‫حري�ص‬ ‫حري�ص على الدين والرياء فيه‪ ،‬والغربي‬ ‫حريته وا�ستقالله! ال�رشقي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫على القوة والع ّز واملزيد فيهما! واخلال�صة‪َّ � :‬أن ال�رشقي ابن املا�ضي واخليال‪،‬‬ ‫والغربي ابن امل�ستقبل واجلد!‪...‬‬ ‫احلكماء املت�أخرون الغربيون �ساعدتهم ظروف الزمان واملكان‪،‬‬

‫‪91‬‬


‫اال�ستبداد والأخالق‬

‫وخ�صو�صية الأحوال‪ ،‬الخت�صار الطريق ف�سلكوه‪ ،‬وا�ستباحوا ما ا�ستباحوا‪،‬‬ ‫امل�ستبد على ت�شديد‬ ‫حتى �إ َّنهم ا�ستباحوا يف التمهيد ال�سيا�سي ت�شجيع �أعوان‬ ‫َّ‬ ‫وط�أة الظلم واالعت�ساف بق�صد تعميم احلقد عليه‪ ،‬ومبثل هذه التدابري القا�سية‬ ‫نالوا املراد �أو بع�ضه‪ ،‬من حترير الأفكار وتهذيب الأخالق وجعل الإن�سان‬ ‫�إن�سان ًا‪.‬‬ ‫وقد �سبق ه�ؤالء ال ُغالة فئة ا َّتبعت �أثر النبيني‪ ،‬ومل حتفل بطول الطريق‬ ‫وتعبه‪ ،‬فنجحت ور�سخت‪ ،‬و�أعني بتلك الفئة �أولئك احلكماء الذين مل ي�أتوا‬ ‫مت�سكوا مبعاداة ك ِّل دين‪ ،‬كم�ؤ�س�سي جمهورية الفرن�سي�س‪،‬‬ ‫بدينٍ جديد‪ ،‬وال ّ‬ ‫وقربوا‪ ،‬حتى‬ ‫بل رتقوا ُفتوق ّ‬ ‫الدهر يف دينهم مبا ن َّقحوا‪ ،‬وه َّذبوا‪َّ ،‬‬ ‫و�سهلوا‪َّ ،‬‬ ‫جددوه‪ ،‬وجعلوه �صاحل ًا لتجديد خليق �أخالق الأمة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وما �أحوج ال�رشقيني �أجمعني من بوذيني وم�سلمني وم�سيحيني‬ ‫و�إ�رسائيليني وغريهم‪� ،‬إىل حكماء ال يبالون بغوغاء العلماء املرائني الأغبياء‪،‬‬ ‫الدين‪ ،‬نظر من ال يحفل بغري‬ ‫والر�ؤ�ساء الق�ساة اجلهالء‪ .‬فيجددون ال ّنظر يف ّ‬ ‫احلق ال�رصيح‪ ،‬نظر من ال ي�ضيع النتائج بت�شوي�ش املقدمات‪ ،‬نظر من يق�صد‬ ‫ِّ‬ ‫ربه ال ا�ستمالة النا�س‬ ‫�إظهار احلقيقة ال �إظهار الف�صاحة‪ ،‬نظر من يريد وجه ِّ‬ ‫املعطلة يف الدين‪ ،‬ويه ِّذبونه من الزوائد الباطلة‬ ‫�إليه‪ ،‬وبذلك يعيدون النواق�ص‬ ‫َّ‬ ‫مما يطر�أ عاد ًة على ك ِّل دينٍ يتقادم عهده‪ ،‬فيحتاج �إىل جمددين يرجعون‬ ‫به �إىل �أ�صله املبني الربيء من حيث متليك الإرادة ورفع البالدة من كل ما‬ ‫ي�شني‪ ،‬املخ ِّفف �شقاء اال�ستبداد واال�ستعباد‪ ،‬املب�صرِّ بطرائق التعليم والتع ّلم‬ ‫املهيئ قيام الرتبية احل�سنة وا�ستقرار الأخالق املنتظمة مما به‬ ‫ال�صحيحني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�صري الإن�سان �إن�سان ًا‪ ،‬وبه ال بالكفر يعي�ش النا�س �إخوان ًا‪.‬‬ ‫وال�رشقيون ما داموا على حا�رض حالهم بعيدين عن املجد والعزم‪،‬‬ ‫مرتاحني للهو والهزل ت�سكين ًا لآالم �إ�سارة النف�س‪ ،‬و�إخالداً �إىل اخلمول‬ ‫والت�س ُّفل‪ ،‬طلب ًا لراحة الفكر امل�ضغوط عليه من ك ِّل جانب‪ ،‬يت�أملون من‬ ‫تذكريهم باحلقائق‪ ،‬ومطالبتهم بالوظائف‪ ،‬ينتظرون زوال العناد بالتواكل‪،‬‬ ‫�أو جمرد التم ّني والدعاء‪� .‬أو يرتب�صون �صدفة مثل التي نالتها بع�ض الأمم‪،‬‬ ‫فليتو ّقعوا �إذن �أن يفقدوا الدين كلي ًا‪ ،‬فيم�سوا ‪ -‬وما م�سا�ؤهم ببعيد‪ -‬دهريني‪،‬‬ ‫ال يدرون �أي احلياتني �أ�شقى‪ ،‬فلينظروا ما حاق بالآ�شوريني والفينيقيني‬

‫‪92‬‬


‫وخ َو ًال‪.‬‬ ‫وغريهم من الأمم املنقر�ضة املندجمة يف غريها خدم ًا َ‬ ‫املنحطة من جميع الأديان حت�رص بلية‬ ‫والأمر الغريب‪َّ � ،‬أن ك َّل الأمم‬ ‫ّ‬ ‫انحطاطها ال�سيا�سي يف تهاونها ب�أمور دينها‪ ،‬وال ترجو حت�سني حالتها‬ ‫بالتم�سك بعروة الدين مت�سك ًا مكين ًا‪ ،‬ويريدون بالدين العبادة‪،‬‬ ‫االجتماعية �إال‬ ‫ُّ‬ ‫قول ال ميكن �أن‬ ‫ول ِنعم االعتقاد لو كان يفيد �شيئ ًا‪ ،‬لكنه ال يفيد �أبداً‪ ،‬لأنه ٌ‬ ‫بذر جيد ال �شبهة فيه‪ ،‬ف�إذا �صادف مغر�س ًا‬ ‫يكون وراءه فعل‪ ،‬وذلك � َّأن الدين ٌ‬ ‫طيب ًا نبت ومنا‪ ،‬و�إن �صادف �أر�ض ًا قاحلة مات وفات‪� ،‬أو �أر�ض ًا مغراق ًا هاف‬ ‫اال�ستبداد ب�رصها وب�صريتها‪ ،‬و�أف�سد �أخالقها ودينها‪ ،‬حتى �صارت ال تعرف‬ ‫أ�رض‬ ‫للدين معنى غري العبادة والن�سك اللذين زيادتهما على ِّ‬ ‫حدهما امل�رشوع � ُّ‬ ‫على الأمة من نق�صهما كما هو م�شاهد يف املتن�سكني‪.‬‬ ‫نعم! الدين يفيد الرت ّقي االجتماعي �إذا �صادف �أخالق ًا فطرية مل تف�سد‪،‬‬ ‫فينه�ض بها كما نه�ضت الإ�سالمية بالعرب‪ ،‬تلك النه�ضة التي نتطلبها منذ‬ ‫�ألف عام عبث ًا‪.‬‬ ‫وقد ع َّلمنا هذا الدهر الطويل ‪-‬مع الأ�سف‪َّ � -‬أن �أكرث النا�س ال يحفلون‬ ‫ورياء‪ ،‬وعلمنا � َّأن النا�س عبيد منافعهم‬ ‫بالدين �إال �إذا وافق �أغرا�ضهم‪� ،‬أو لهواً‬ ‫ً‬ ‫وعبيد الزمان‪ ،‬و� َّأن العقل ال يفيد العزم عندهم‪� ،‬إمنا العزم عندهم يتو ّلد من‬ ‫ال�رضورة �أو يح�صل بال�سائق املجرب‪ .‬وال ي�ستحي النا�س من �أن ُيلزموا �أنف�سهم‬ ‫املنحطة �أن تلتم�س دواءها من‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أجدر بالأمم‬ ‫ّ‬ ‫باليمني �أو النذر‪ً .‬‬ ‫طريق �إحياء العلم و�إحياء الهمة مع اال�ستعانة بالدين واال�ستفادة منه مبثل‪:‬‬ ‫ال�صالة تنهى عن الفح�شاء واملنكر)‪ ،‬ال �أن ي َّت ِكلوا على � َّأن ال�صالة متنع‬ ‫(� َّإن ّ‬ ‫النا�س عنهما بطبعها‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫‪94‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬ ‫خلق ا ُ‬ ‫هلل يف الإن�سان ا�ستعداداً لل�صالح وا�ستعداداً للف�ساد‪ ،‬ف�أبواه ي�صلحانه‪،‬‬ ‫و�أبواه يف�سدانه‪� ،‬أي � َّإن الرتبية تربو با�ستعداده ج�سم ًا ونف�س ًا وعق ًال‪ْ � ،‬إن خرياً‬ ‫ف�رش‪ .‬وقد �سبق � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم ي�ؤ ِّثر على الأج�سام‬ ‫فخري‪ ،‬و� ْإن �رشاً ّ‬ ‫فيورثها الأ�سقام‪ ،‬وي�سطو على النفو�س‪ ،‬فيف�سد الأخالق‪ ،‬وي�ضغط على العقول‬ ‫بناء عليه‪ ،‬تكون الرتبية واال�ستبداد عاملني متعاك�سني‬ ‫فيمنع مناءها بالعلم‪ً .‬‬ ‫فكل ما تبنيه الرتبية مع �ضعفها يهدمه اال�ستبداد بقوته‪ ،‬وهل‬ ‫يف النتائج‪ُّ ،‬‬ ‫بناء وراءه هاد؟‬ ‫يتم ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫رقي ًا وانحطاط ًا‪ .‬وهذا الإن�سان الذي حارت العقول‬ ‫لغايتيه‬ ‫حد‬ ‫ال‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مت خالقه ا�ستعداده‪،‬‬ ‫حتمل �أمانة تربية ال َّنف�س‪ ،‬وقد �أبتها العوامل‪ ،‬ف�أ َّ‬ ‫فيه‪ ،‬الذي َّ‬ ‫ثم �أوكله خلريته‪ ،‬فهو �إن ي�ش�أ الكمال يبلغ فيه �إىل ما فوق مرتبة املالئكة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لل�رش‬ ‫أقرب‬ ‫�‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫ال�شياطني‪،‬‬ ‫من‬ ‫أحط‬ ‫�‬ ‫حتى‬ ‫ذائل‬ ‫بالر‬ ‫�س‬ ‫تلب‬ ‫�شاء‬ ‫إن‬ ‫و�‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫بو�صف‬ ‫منه للخري‪ .‬وكفى � َّأن اهلل ما ذكر الإن�سان يف القر�آن‪� ،‬إال وقرن ا�سمه‬ ‫وجبار وجهول و�أثيم‪ .‬ما ذكر اهلل تعاىل الإن�سان‬ ‫قبيح كظلوم وغرور وك ّفار ّ‬ ‫لكفور)‪،‬‬ ‫إن�سان ما �أكفره)‪َّ �( ،‬إن الإن�سان‬ ‫يف القر�آن �إال وهجاه‪ ،‬فقال‪ُ ( :‬ق ِتل ال ُ‬ ‫ٌ‬ ‫(خ ِلق‬ ‫(� َّإن الإن�سان لفي ُخ�رس)‪َّ �( ،‬إن الإن�سان ليطغى)‪( ،‬وكان الإن�سان َعجو ًال)‪ُ ،‬‬

‫‪95‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫الإن�سان من َع َجلٍ )‪ .‬ما ُوجِ د من خملوقات اهلل من نازع اهلل يف عظمته‪،‬‬ ‫الرذالة قد يقبحون‬ ‫ّ‬ ‫وامل�ستبدون من الإن�سان ينازعونه فيها‪ ،‬واملتناهون يف ّ‬ ‫عبث ًا لغري حاجة يف ال َّنف�س حتى وقد يتعمدون الإ�ساءة لأنف�سهم‪.‬‬ ‫الرطب‪ ،‬فهو‬ ‫م�ستقيم ل ِد ٌن بطبعه‪ ،‬ولك ّنها‬ ‫ٌ‬ ‫الإن�سان يف ن�ش�أته كالغ�صن َّ‬ ‫�شب يب�س وبقي على‬ ‫�أهواء الرتبية متيل به �إىل ميني اخلري �أو �شمال ّ‬ ‫ال�رش‪ ،‬ف�إذا َّ‬ ‫�أمياله ما دام حي ًا‪ ،‬بل تبقى روحه �إىل �أبد الآبدين يف نعيم ال�رسور ب�إيفائه‬ ‫حق وظيفة احلياة �أو يف جحيم الندم على تفريطه‪ .‬ورمبا كان ال غرابة يف‬ ‫َّ‬ ‫ت�شبيه الإن�سان بعد املوت باملرء الفرح الفخور �إذا نام ول َّذت له الأحالم‪� ،‬أو‬ ‫باملجرم اجلاين �إذا نام فغ�شيته قوار�ص الوجدان بهواج�س ك ُّلها مالم و�آالم‪.‬‬ ‫أهم �أ�صولها‬ ‫الرتبية ملك ٌة حت�صل بالتعليم والتمرين والقدوة واالقتبا�س‪ ،‬ف� ُّ‬ ‫أهم فروعها وجود الدين‪ .‬وجعلت الدين فرع ًا ال �أ�ص ًال‪ ،‬ل َّأن‬ ‫وجود املرابني‪ ،‬و� ُّ‬ ‫علم ال يفيد العمل �إذا مل يكن مقرون ًا بالتمرين‪ .‬وهذا هو �سبب اختالف‬ ‫الدين ٌ‬ ‫الأخالف من علماء الدين عند الإ�سالم عن �أمثالهم من الرباهمة والن�صارى‪،‬‬ ‫وهو �سبب �إقبال امل�سلمني يف القرن اخلام�س‪ ،‬وفيما بعده‪ ،‬على قبول �أ�صول‬ ‫لب ًا حم�ض ًا ملا كانت تعليم ًا ومترين ًا‪� ،‬أي تربية للمريدين‪،‬‬ ‫الطرائق التي كانت ّ‬ ‫ثم �صار �أكرثها لهواً �أو كفراً‪.‬‬ ‫ثم �صارت ق�رشاً حم�ض ًا‪َّ ،‬‬ ‫ثم خالطها الق�رش‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ملكة الرتبية بعد ح�صولها � ْإن كانت �رشاً ت�ضافرت مع ال ّنف�س ووليها‬ ‫ال�شيطان اخل ّنا�س فر�سخت‪ ،‬و�إن كانت خرياً تبقى مقلقلة كال�سفينة يف بحر‬ ‫ال�رس والعالنية‪� ،‬أو الوازع ال�سيا�سي‬ ‫الأهواء‪ ،‬ال ير�سو بها �إال فرعها الديني يف ِّ‬ ‫عند يقني العقاب‪.‬‬ ‫ريح �رص�رص فيه �إع�صار يجهل الإن�سان ك ّل �ساعة �ش�أنه‪ ،‬وهو‬ ‫واال�ستبداد ٌ‬ ‫ُم ِ‬ ‫مي�سها لأنها‬ ‫ف�س ٌد للدين يف � ِّ‬ ‫أهم ق�سميه‪� ،‬أي الأخالق‪� ،‬أما العبادات منه فال ّ‬ ‫جمردة‬ ‫تالئمه �أكرث‪ .‬ولهذا تبقى الأديان يف الأمم امل�أ�سورة عبارة عن عبادات ّ‬ ‫�صارت عادات‪ ،‬فال تفيد يف تطهري النفو�س �شيئ ًا‪ ،‬وال تنهى عن فح�شاء وال‬ ‫وتتلوى‬ ‫منكر لفقد الإخال�ص فيها تبع ًا لفقده يف النفو�س‪ ،‬التي �ألفت �أن تتلج�أ‬ ‫ّ‬ ‫والرياء واخلداع والنفاق‪ ،‬ولهذا ال‬ ‫بني يدي �سطوة اال�ستبداد يف زوايا الكذب ّ‬ ‫ربه‪،‬‬ ‫الرياء‪� ،‬أن ي�ستعمله �أي�ض ًا مع ِّ‬ ‫ُي�ستغرب يف الأ�سري الأليف تلك احلال‪� ،‬أي ّ‬ ‫ومع �أبيه و� ِّأمه ومع قومه وجن�سه‪ ،‬حتى ومع نف�سه‪.‬‬

‫‪96‬‬


‫ثم‬ ‫الرتبية تربية اجل�سم وحده �إىل �سنتني‪ ،‬هي وظيفة الأم �أو احلا�ضنة‪َّ ،‬‬ ‫ُت�ضاف �إليها تربية النف�س �إىل ال�سابعة‪ ،‬وهي وظيفة الأبوين والعائلة مع ًا‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫ثم ُت�ضاف �إليها تربية العقل �إىل البلوغ‪ ،‬وهي وظيفة املعلِّمني واملدار�س‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�ص‬ ‫وظيفة‬ ‫وهي‬ ‫الزواج‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫واخللطاء‬ ‫أقربني‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫القدوة‬ ‫تربية‬ ‫أتي‬ ‫ت�‬ ‫ثم‬ ‫دفة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ت�أتي تربية املقارنة‪ ،‬وهي وظيفة الزوجني �إىل املوت �أو الفراق‪.‬‬ ‫بد �أن ت�صحب الرتبية من بعد البلوغ‪ ،‬تربية الظروف املحيطة‪ ،‬وتربية‬ ‫وال َّ‬ ‫الهيئة االجتماعية‪ ،‬وتربية القانون �أو �سري ال�سيا�سي‪ ،‬وتربية الإن�سان نف�سه‪.‬‬ ‫احلكومات املنتظمة هي التي تتولىّ مالحظة ت�سهيل تربية الأمة‬ ‫ت�سن قوانني النكاح‪ ،‬ثم تعتني‬ ‫من حني تكون يف ظهور الآباء‪ ،‬وذلك ب�أن ّ‬ ‫تعد‬ ‫ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء‪ ،‬ثم ُّ‬ ‫بوجود القابالت واملل ّقحني والأطباء‪َّ ،‬‬ ‫ت�سهل‬ ‫ثم ِّ‬ ‫املكاتب واملدار�س للتعليم من االبتدائي اجلربي �إىل �أعلى املراتب‪َّ ،‬‬ ‫ومتهد امل�سارح‪ ،‬وحتمي املنتديات‪ ،‬وجتمع املكتبات والآثار‪،‬‬ ‫االجتماعات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وتقيم ال ُّن�صب املذكرات‪ ،‬وت�ضع القوانني املحافظة على الآداب واحلقوق‪،‬‬ ‫وتقوي‬ ‫وت�سهر على حفظ العادات القومية‪ ،‬و�إمناء الإح�سا�سات املللية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الآمال‪ ،‬وتي�سرِّ الأعمال‪ ،‬وت� ِّؤمن العاجزين فع ًال عن الك�سب من املوت جوع ًا‪،‬‬ ‫وتدفع �سليمي الأج�سام �إىل الك�سب ولو يف �أق�صى الأر�ض‪ ،‬وحتمي الف�ضل‬ ‫وتقدر الف�ضيلة‪ .‬وهكذا تالحظ ك َّل �ش�ؤون املرء‪ ،‬ولكن‪ ،‬من بعيد‪ ،‬كي ال تخ ّل‬ ‫ِّ‬ ‫بحريته وا�ستقالله ال�شخ�صي‪ ،‬فال تقرب منه �إال �إذا جنى جرم ًا لتعاقبه‪� ،‬أو‬ ‫مات لتواريه‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬الأمة حتر�ص على �أن يعي�ش ابنها را�ضي ًا بن�صيبه من حياته ال‬ ‫قط كيف تكون بعده حالة �صبية �ضعاف يرتكهم وراءه‪ ،‬بل ميوت‬ ‫يفتكر ّ‬ ‫مطمئن ًا را�ضي ًا مر�ضي ًا �آخر دعائه‪ :‬فلتحي الأمة‪ ،‬فلتحي الهمة‪.‬‬ ‫امل�ستبدة فهي غنية عن الرتبية‪،‬‬ ‫�أما املعي�شة الفو�ضى يف الإدارات‬ ‫ّ‬ ‫حم�ض مناء ي�شبه الأ�شجار الطبيعية يف الغابات واحلرا�ش‪ ،‬ي�سطو‬ ‫لأنها‬ ‫ُّ‬ ‫ويت�رصف‬ ‫وحتطمها العوا�صف والأيدي القوا�صف‪،‬‬ ‫عليها احلرق والغرق‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫احلطابني �أن‬ ‫يف ف�سائلها وفروعها الف�أ�س الأعمى‪ ،‬فتعي�ش ما �شاءت رحمة ّ‬ ‫لل�صدفة تعوج �أو ت�ستقيم‪ ،‬تثمر �أو تعقم‪.‬‬ ‫تعي�ش‪ ،‬واخليار ُّ‬ ‫يعي�ش الإن�سان يف ظ ِّل العدالة واحلرية ن�شيط ًا على العمل بيا�ض نهاره‪،‬‬

‫‪97‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫وتري�ض‪ ،‬لأ ّنه هكذا‬ ‫وعلى الفكر �سواد ليله‪� ،‬إن طعم تل َّذذ‪ ،‬و�إن ّ‬ ‫تروح ّ‬ ‫تلهى َّ‬ ‫ر�أى �أبويه و�أقرباءه‪ ،‬وهكذا يرى قومه الذين يعي�ش بينهم‪ .‬يراهم رجا ًال‬ ‫ون�ساء‪� ،‬أغنياء وفقراء‪ ،‬ملوك ًا و�صعاليك‪ ،‬ك ُّلهم دائبني على الأعمال‪ ،‬يفتخر‬ ‫ً‬ ‫وجده‪ .‬نعم‪،‬‬ ‫أبيه‬ ‫�‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫إرث‬ ‫�‬ ‫املليار‬ ‫مالك‬ ‫على‬ ‫ه‪،‬‬ ‫وجد‬ ‫ه‬ ‫بكد‬ ‫الدينار‬ ‫كا�سب‬ ‫منهم‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�رسه النجاح وال تقب�ضه اخليبة‪� ،‬إنمّ ا ينتقل من‬ ‫يعي�ش العامل ناعم البال ُّ‬ ‫ال�سعد‬ ‫عملٍ �إىل غريه‪ ،‬ومن فك ٍر �إىل �آخر‪ ،‬فيكون متلذذاً ب�آماله � ْإن مل ي�سارعه ّ‬ ‫يف �أعماله‪ ،‬وكيفما كان يبلغ العذر عن نف�سه والنا�س مبجرد �إيفائه وظيفة‬ ‫احلياة‪� ،‬أي العمل‪ .‬ويكون فرح ًا فخوراً جنح �أو مل ينجح‪ ،‬لأ َّنه بريء من عار‬ ‫العجز والبطالة‪.‬‬ ‫�أما �أ�سري اال�ستبداد‪ ،‬فيعي�ش خام ًال خامداً �ضائع الق�صد‪ ،‬حائراً ال يدري‬ ‫حري�ص على بلوغ‬ ‫كيف مييت �ساعاته و�أوقاته ويدرج �أيامه و�أعوامه‪ ،‬ك�أ َّنه‬ ‫ٌ‬ ‫يظن � َّأن �أكرث الأ�رساء ال �سيما‬ ‫�أجله لي�سترت حتت الرتاب‪ .‬ويخطئ‪ ،‬واهلل من ُّ‬ ‫منهم الفقراء ال ي�شعرون ب�آالم الأ�رس‪ .‬م�ستد ًال ب�أنهم لو كانوا ي�شعرون لبادروا‬ ‫�إىل �إزالته‪ ،‬واحلقيقة يف ذلك �أنهم ي�شعرون ب�أكرث الآالم ولكنهم ال يدركون ما‬ ‫هو �سببها‪ ،‬ومن �أين جاءتهم؟ فريى �أحدهم نف�سه منقب�ض ًا عن العمل‪ ،‬لأنه‬ ‫ال�سلب حق ًا طبيعي ًا للأقوياء‬ ‫غري �أمني على اخت�صا�صه بالثمرة‪ .‬ورمبا َّ‬ ‫ظن ّ‬ ‫ثم يعمل تار ًة‪ ،‬ولكن‪ ،‬دون ن�شاط وال �إتقان‪ ،‬فيف�شل‬ ‫فيتم ّنى � ْأن لو كان منهم‪َّ .‬‬ ‫ي�سميه �سعداً �أو حظ ًا �أو‬ ‫�رضور ًة‪ ،‬وال يدري �أي�ض ًا ما ال�سبب‪ ،‬فيغ�ضب على ما ّ‬ ‫طالع ًا �أو قدراً‪ .‬وامل�سكني من �أين له �أن يعرف � َّأن الن�شاط والإتقان ال يت�أتيان‬ ‫قدر احلكماء �أ َّنها اللذة الكربى‪،‬‬ ‫�إال مع لذة انتظار جناح العمل‪ ،‬تلك اللذة التي َّ‬ ‫ال�ستمرار زمانها من حني العزم �إىل متام العمل‪ ،‬والأ�سري ال اطمئنان فيه على‬ ‫اال�ستمرار‪ ،‬وال ت�شجيع له على ال�صرب واجللد‪.‬‬ ‫الأ�سري املع َّذب املنت�سب �إىل دين ي�س ّلي نف�سه بال�سعادة الأخروية‪ ،‬فيعدها‬ ‫أعده له الرحمن‪ ،‬ويبعد عن فكره � َّأن الدنيا‬ ‫بجنان ذات �أفنان ونعيم مقيم � َّ‬ ‫عنوان الآخرة‪ ،‬و� َّأن رمبا كان خا�رساً ال�صفقتني‪ ،‬بل ذلك هو الكائن غالب ًا‪.‬‬ ‫خا�صة بهم يعطفون م�صائبهم عليها‪ ،‬وهي‬ ‫ولب�سطاء الإ�سالم م�سليات �أظ ُّنها ّ‬ ‫أحب اهلل عبداً ابتاله‪ ،‬هذا‬ ‫نحو قولهم‪ :‬الدنيا �سجن امل�ؤمن‪ ،‬امل�ؤمن م�صاب‪� ،‬إذا � َّ‬ ‫ٍ‬ ‫لقيمات يقمن �صلبه‪ .‬ويتنا�سون حديث‪َّ �( :‬إن اهلل‬ ‫�ش�أن �آخر الزمان‪ ،‬ح�سب املرء‬

‫‪98‬‬


‫البطال)‪ ،‬واحلديث املفيد معنى (�إذا قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم‬ ‫يكره العبد ّ‬ ‫غر�س ًة فليغر�سها)‪ ،‬ويتغافلون عن الن�ص القاطع امل� ّؤجل قيام ال�ساعة �إىل ما‬ ‫بعد ا�ستكمال الأر�ض زخرفتها وزينتها‪ .‬و�أين ذلك بعد؟‬ ‫يحول‬ ‫ُّ‬ ‫وكل هذه امل�سميات املثبطات تهون عند ذلك ّ‬ ‫ال�سم القاتل‪ ،‬الذي ّ‬ ‫امل�ستبدين‪،‬‬ ‫الأذهان عن التما�س معرفة �سبب ال�شقاء‪ ،‬فريفع امل�س�ؤولية عن‬ ‫ّ‬ ‫ويلقيها على عاتق الق�ضاء والقدر‪ ،‬بل على عاتق الأُ�رساء امل�ساكني �أنف�سهم‪.‬‬ ‫ال�سم‪ ،‬فهم العوام‪ ،‬وبله اخلوا�ص‪ ،‬ملا ورد يف التوراة من نحو‪:‬‬ ‫و�أعني بهذا ّ‬ ‫(اخ�ضعوا لل�سلطان وال �سلطة �إال من اهلل)‪ ،‬و(احلاكم ال يتق ّلد ال�سيف جزاف ًا‪� ،‬إنه‬ ‫وحمدثوهم من ذلك‬ ‫وعاظ امل�سلمني‬ ‫ِّ‬ ‫مقام لالنتقام من �أهل ال�رش)‪ ،‬وقد �صاغ ّ‬ ‫ثم ينتقم‬ ‫قولهم‪( :‬ال�سلطان ُّ‬ ‫ظل اهلل يف الأر�ض)‪ ،‬و(الظامل �سيف اهلل ينتقم به‪َّ ،‬‬ ‫مقيد‬ ‫منه)‪ ،‬و(امللوك ملهمون)‪ .‬هذا ُّ‬ ‫�صح فهو ّ‬ ‫وكل ما ورد يف هذا املعنى � ْإن َّ‬ ‫بالعدالة �أو حمتمل للت�أويل مبا يعقل‪ ،‬ومبا ينطبق على حكم الآية الكرمية‬ ‫التي فيها ف�صل اخلطاب‪ ،‬وهي‪�( :‬أال لعنة اهلل على الظاملني)‪ ،‬و�آية (فال عدوان‬ ‫�إال على الظاملني)‪.‬‬ ‫علم وعمل‪ .‬ولي�س من �ش�أن الأمم اململوكة �ش�ؤونها‪ْ � ،‬أن يوجد فيها‬ ‫الرتبية ٌ‬ ‫من يعلم الرتبية وال من يعلمها‪ .‬حتى � َّإن الباحث ال يرى عند الأ�رساء علم ًا يف‬ ‫ت�صور وجوده‬ ‫الرتبية مدفون ًا يف الكتب ف�ض ًال عن الأذهان‪ّ � .‬أما العمل‪ ،‬فكيف ُي َّ‬ ‫(النية‬ ‫بال �سبق عزم‪ ،‬وهو بال �سبق يقني‪ ،‬وهو بال �سبق علم‪ .‬وقد ورد يف الأثر ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعد‬ ‫�سابقة العمل)‪ .‬وورد يف احلديث‪�( :‬إنمّ ا الأعمال‬ ‫بالنيات)‪ً .‬‬ ‫ّ‬ ‫النا�س املغ�صوبة �إرادتهم‪ ،‬املغلولة �أيديهم‪ ،‬عن توجيه الفكر �إىل مق�صد مفيد‬ ‫كالرتبية‪� ،‬أو توجيه اجل�سم �إىل عملٍ نافع كتمرين الوجه على احلياء والقلب‬ ‫على ال�شفقة‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬ما �أبعد الأ�رساء عن اال�ستعداد لقبول الرتبية‪ ،‬وهي َق�صرْ النظر على‬ ‫املحا�سن وال ِعبرَ ‪ ،‬و َق�صرْ ال�سمع على الفوائد وا ِ‬ ‫حل َكم‪ ،‬وتعويد الل�سان على‬ ‫قول اخلري‪ ،‬وتعويد اليد على الإتقان‪ ،‬وتكبري النف�س عن ال�سفا�سف‪ ،‬وتكبري‬ ‫الوجدان عن ن�رصة الباطل‪ ،‬ورعاية الرتتيب يف ال�ش�ؤون‪ ،‬ورعاية التوفري‬ ‫يف الوقت واملال‪ .‬واالندفاع بالك ّلية حلفظ ال�رشف‪ ،‬حلفظ احلقوق‪ ،‬وحلماية‬ ‫حلب العائلة‪ ،‬ولإعانة العلم‪ ،‬لإعانة‬ ‫الدين‪ ،‬حلماية النامو�س‪،‬‬ ‫وحلب الوطن‪ِّ ،‬‬ ‫ِّ‬

‫‪99‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫ال�ضعيف‪ ،‬والحتقار الظاملني‪ ،‬الحتقار احلياة‪ ...‬على غري ذلك مما ال ينبت �إال‬ ‫يف �أر�ض العدل‪ ،‬حتت �سماء احلرية‪ ،‬يف ريا�ض الرتبيتني‪ :‬العائلية والقومية‪.‬‬ ‫والتحيل واخلداع وال ِّنفاق‬ ‫�ضطر ال ّنا�س �إىل ا�ستباحة الكذب‬ ‫ُّ‬ ‫اال�ستبداد ُي ُّ‬ ‫والتذلل‪ ،‬و�إىل مراغمة ا ِ‬ ‫اجلد وترك العمل‪� ...‬إىل �آخره‪.‬‬ ‫حل ِّ�س و�إماتة النف�س ونبذ ّ‬ ‫وينتج من ذلك � َّأن اال�ستبداد امل�ش�ؤوم هو يتوىل بطبعه تربية النا�س على هذه‬ ‫بناء عليه‪ ،‬يرى الآباء � َّأن تعبهم يف تربية الأبناء الرتبية‬ ‫اخل�صال امللعونة‪ً .‬‬ ‫بد � ْأن يذهب عبث ًا حتت �أرجل تربية اال�ستبداد‪ ،‬كما‬ ‫الأوىل على غري ذلك ال َّ‬ ‫�سدى‪.‬‬ ‫ذهبت قبلها تربية �آبائهم لهم‪� ،‬أو تربية غريهم لأبنائهم ً‬ ‫ثم � َّإن عبيد ال�سلطان التي ال حدود لها هم غري مالكني �أنف�سهم‪ ،‬وال هم‬ ‫َّ‬ ‫للم�ستبدين‪ ،‬و�أعوان ًا‬ ‫يربون �أنعام ًا‬ ‫هم‬ ‫بل‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫أوالدهم‬ ‫�‬ ‫ون‬ ‫يرب‬ ‫هم‬ ‫ن‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫على‬ ‫آمنون‬ ‫�‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لهم عليهم‪.‬‬ ‫ويف احلقيقة‪َّ � ،‬إن الأوالد يف عهد اال�ستبداد‪ ،‬هم �سال�سل من حديد يرتبط‬ ‫بها الآباء على �أوتاد الظلم والهوان واخلوف الت�ضييق‪ .‬فالتوالد من حيث هو‬ ‫حمق م�ضاعف! وقد قال ال�شاعر‪:‬‬ ‫زمن اال�ستبداد حمق‪ ،‬واالعتناء بالرتبية ٌ‬ ‫فرح مبولو ِد‬ ‫� ْإن دام هذا ومل حتدث له ِغيرَ ٌ مل ُي َ‬ ‫بك ٌ‬ ‫ميت ومل ُي َ‬ ‫وغالب الأُ�رساء ال يدفعهم للزواج ق�صد التوالد‪� ،‬إمنا يدفعهم �إليه اجلهل‬ ‫املظلم‪ ،‬و�أ َّنهم حتى الأغنياء منهم حمرومون من ك ِّل املل ّذات احلقيقية‪ :‬كل ّذة‬ ‫العلم وتعليمه‪ ،‬ول ّذة املجد واحلماية‪ ،‬ول ّذة الإيثار والبذل‪ ،‬ول ّذة �إحراز مقام‬ ‫يف القلوب‪ ،‬ول ّذة نفوذ الر�أي ال�صائب‪ ،‬ول ّذة ِكبرَ النف�س عند ال�سفا�سف‪� ،‬إىل غري‬ ‫ذلك من املل ّذات الروحية‪.‬‬ ‫�أما مل ّذات ه�ؤالء التع�ساء فهي مق�صورة على لذتني اثنتني‪ ،‬الأوىل منها‬ ‫لذة الأكل‪ ،‬وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات �إن تي�سرَّ ت‪ ،‬و�إال فمزابل‬ ‫للنباتات‪� ،‬أو بجعلهم �أج�سامهم يف الوجود كما قيل‪� :‬أنابيب بني املطبخ‬ ‫الرع�شة‬ ‫و(الكنيف)‪� ،‬أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثني‪ .‬والل ّذة الثانية هي ّ‬ ‫با�ستفراغ ال�شهوة‪ ،‬ك�أن �أج�سامهم خلقت دمامل جرب على �أدمي الأر�ض‪ ،‬يطيب‬ ‫احلك ووظيفتها توليد ال�صديد ودفعه‪ .‬وهذا ال�رشه البهيمي يف البِعال هو‬ ‫لها ّ‬ ‫ما يعمي الأ�رساء ويرميهم بالزواج والتوالد‪.‬‬

‫‪100‬‬


‫معر�ض‬ ‫ال ِعر�ض ‪-‬زمن اال�ستبداد‪ -‬ك�سائر احلقوق غري م�صون‪ ،‬بل هو َّ‬ ‫لهتك ال ُف ّ�ساق من امل�ستبدين والأ�رشار من �أعوانهم‪ ،‬ف�إنهم‪ ،‬كما �أخرب القر�آن‬ ‫عن الفراعنة‪ ،‬ي�أ�رسون الأوالد وي�ستحيون الن�ساء‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف احلوا�رض‬ ‫ال�صغرية والقرى امل�ست�ضعف �أهلها‪ .‬ومن الأمور امل�شاهدة � َّأن الأمم التي تقع‬ ‫حتت �أ�رس � ٍ‬ ‫أمة تغايرها يف ال�سيماء‪ ،‬ال مي�ضي عليها �أجيال �إال وتغ�شو فيها‬ ‫�سيماء الآ�رسين‪ :‬ك�سواد العيون يف الإ�سبانيول‪ ،‬وبيا�ض الب�رشة يف الأفريقيني‪.‬‬ ‫يتم �إال باالخت�صا�ص‪،‬‬ ‫احلب الذي ال ُّ‬ ‫وعدم االطمئنان على ال ِعر�ض ُي�ضعف ّ‬ ‫حتمل م�شاق‬ ‫ُ‬ ‫وي�ضعف ل�صقة الأوالد ب�أزواج �أمهاتهم‪ ،‬فت�ضعف ال َغرية على ّ‬ ‫ال�سفاح‪.‬‬ ‫الرتبية‪ ،‬تلك الغرية التي لأجلها َّ‬ ‫وحرم ِّ‬ ‫�رشع اهلل النكاح‪َّ ،‬‬ ‫ال�سعة؟!‬ ‫لل�سعة والفقر �أي�ض ًا دخ ٌل كبري يف ت�سهيل الرتبية‪ ،‬و�أين الأ�رساء من ّ‬ ‫ّ‬ ‫كما � َّأن النتظام املعي�شة ولو مع الفقر عالقة قوية يف الرتبية‪ ،‬ومعي�شة الأُ�رساء‬ ‫و�ضيق يف �ضيق‪ ،‬وذلك يجعل‬ ‫�أغنياء كانوا �أو معدمني‪ ،‬ك ُّلها خل ٌل يف خلل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ي�ستحق املزيد يف‬ ‫الأ�سري هينّ النف�س‪ ،‬وهذا �أول دركات االنحطاط‪ ،‬يرى ذاته ال‬ ‫ُّ‬ ‫النعيم مطعم ًا وم�رشب ًا وملب�س ًا وم�سكن ًا‪ ،‬وهذا ثاين الدركات ويرى ا�ستعداده‬ ‫قا�رصاً عن الرت ّقي يف العلم‪ ،‬وهذا ثالثها‪ ،‬ويرى حياته على ب�ساطتها ال تقوى‬ ‫جرا!‪.‬‬ ‫�إال مبعاونة غريه له‪ ،‬وهذا رابعها‪َّ ،‬‬ ‫وهلم ّ‬ ‫يتحملون‬ ‫ثم ملاذا‬ ‫ً‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ما �أبعد الأُ�رساء عن الن�شاط للرتبية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫نوروا �أوالدهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية �إح�سا�سهم‪،‬‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫وهم‬ ‫الرتبية‪،‬‬ ‫م�شاق‬ ‫َّ‬ ‫ْ َّ‬ ‫بالء؟ ولهذا ال غرو �أن يختار الأ�رساء الذين فيهم‬ ‫ويزيدونهم‬ ‫‪،‬‬ ‫�شقاء‬ ‫فيزيدونهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بقية من الإدراك‪ ،‬ترك �أوالدهم هم ًال جترفهم البالهة �إىل حيث ت�شاء‪.‬‬ ‫يرتبى‪،‬جند �أ َّنه ُيل َّقح‬ ‫و�إذا افتكرنا كيف ين�ش�أ الأ�سري يف البيت الفقري‪ ،‬وكيف َّ‬ ‫حرك �رشا�سة‬ ‫به‪ ،‬ويف الغالب �أبواه متناكدان مت�شاك�سان‪َّ ،‬‬ ‫حترك جنين ًا َّ‬ ‫ثم �إذا َّ‬ ‫�ضيقت عليه بطنها لإلفتها‬ ‫� ِّأمه فت�شتمه‪� ،‬أو زاد �آالم حياتها فت�رضبه‪ ،‬ف�إذا ما َّ‬ ‫االنحناء خمو ًال والت�رصر �صغاراً‪ ،‬والتق ُّل�ص ل�ضيق فرا�ش الفقر‪ ،‬ومتى ولدته‬ ‫�سدت فمه بثديها‪� ،‬أو‬ ‫�ضغطت عليه بالقماط اقت�صاداً وجه ًال‪ ،‬ف�إذا ت�ألمَّ وبكى َّ‬ ‫خ�ض ًا �أو بدوار ال�رسير‪� ،‬أو �سقته خمدراً عجزاً عن نفقة الطبيب‪،‬‬ ‫قطعت نف�سه ّ‬ ‫ف�إذا ما ُف ِطم‪ ،‬ي�أتيه الغذاء الفا�سد ي�ضيق معدته‪ ،‬ويف�سد مزاجه‪ ،‬ف�إذا كان قوي‬ ‫البنية طويل العمر وترعرع‪ ،‬يمُ نع من ريا�ضة اللعب ل�ضيق البيت‪ ،‬ف�إذا �س�أل‬

‫‪101‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫زجر ويلكم ل�ضيق ُخ ُلق �أبويه‪ ،‬و�إن جال�سهما‬ ‫وا�ستفهم ماذا وما هذا؟ ليتع ّلم‪ُ ،‬ي َ‬ ‫التوج�س يبعدانه كي ال يقف على �أ�رسارهما‪،‬‬ ‫لي�ألف املعا�رشة‪ ،‬وينتفي عنه‬ ‫ّ‬ ‫في�سرتقها منه اجلريان اخللطاء‪ ،‬فتنمى �أعوان الظاملني وما �أكرثهم‪ ،‬ف�إذا‬ ‫قويت رجاله ُيدفع به �إىل خارج الباب‪� ،‬إىل مدر�سة الألفة على القذارة‪ ،‬وتع ّلم‬ ‫�صيغ ال�شتائم وال�سباب‪ ،‬ف� ْإن عا�ش ون�ش�أ ُو�ضع يف مكتب �أو عند ذي �صنعة‪،‬‬ ‫فيكون �أكرب الق�صد ربطه عن ال�سرّ اح واملراح‪ .‬ف�إذا بلغ ال�شباب‪ ،‬ربطه �أوليا�ؤه‬ ‫يفر من م�شاكلتهم يف �شقاء احلياة‪ ،‬ليجني هو على‬ ‫على وتد الزواج كي ال ّ‬ ‫ثم هو يتوىل الت�ضييق على نف�سه ب�أطواق اجلهل‬ ‫ن�سله كما جنى عليه �أبواه‪َّ ،‬‬ ‫امل�ستبدون الت�ضييق على عقله ول�سانه وعمله و�أمله‪.‬‬ ‫وقيود اخلوف‪ ،‬ويتوىل‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا يعي�ش الأ�سري ‪ -‬يف حني يكون ن�سمة‪ -‬يف �ضيق و�ضغط‪ ،‬يهرول ما‬ ‫يودع �سقم ًا وي�ستقبل �سقم ًا �إىل �أن يفوز بنعمة املوت‬ ‫غم‪ِّ ،‬‬ ‫هم ووادي ٍّ‬ ‫بني عتبة ٍّ‬ ‫م�ضيع ًا دنياه مع �آخرته‪ ،‬فيموت غري �آ�سف وال م�أ�سوف عليه‪.‬‬ ‫وما �أظلم من ي�ؤاخذ الأ�رساء على عدم اعتنائهم بلوازم احلياة‪ .‬فالنظافة‬ ‫م�ستمر؟ �أم لأجل‬ ‫مر�ض‬ ‫�صحته وهو يف ٍ‬ ‫مث ًال‪ :‬ملاذا يهتم بها الأ�سري؟ هل لأجل َّ‬ ‫ّ‬ ‫ل َّذته وهو املت�أمل كيفما تق َّلب ج�سمه �أو نظره؟ �أم لأجل ذوق من يجال�س �أو‬ ‫ي�ؤاكل‪ ،‬وهو من ع َّفت نف�سه �صحبة احلياة؟‬ ‫أقل �رشاً من هذا‪ ،‬كال‪ ،‬بل‬ ‫نن املطالع � َّأن حالة �أغنياء الأ�رساء هي � ُّ‬ ‫وال يظ َّ‬ ‫هم �أ�شقى و�أق ّل عافي ًة‪ ،‬و�أق�رص عمراً من هذا‪� ،‬إذا نق�صتهم بع�ض املن ِّغ�صات‪،‬‬ ‫�صح‬ ‫تزيد فيهم م�شاق التظاهر بالراحة والرفاه والع ّزة واملنعة‪ ،‬تظاهراً �إن َّ‬ ‫فيبتلى‬ ‫قليله فكثريه الكاذب حم ٌل ثقيل على عواتقهم كال�سكران يت�صاحى ُ‬ ‫بال�صداع‪� ،‬أو كالعاهرة البائ�سة تت�ضاحك لرت�ضي الزاين‪.‬‬ ‫حياة الأ�سري ت�شبه حياة النائم املزعوج بالأحالم‪ ،‬فهي حياة ال روح‬ ‫فيها‪ ،‬حياة وظيفتها متثيل مندر�سات اجل�سم فقط‪ ،‬وال عالقة لها بحفظ املزايا‬ ‫ميت بالن�سبة‬ ‫الب�رشية‪،‬‬ ‫وبناء على هذا‪ ،‬كان فاقد احلرية ال �أنانية له لأنه ٌ‬ ‫ً‬ ‫حي بالن�سبة لغريه‪ ،‬ك�أ َّنه ال �شيء يف ذاته‪� ،‬إنمَّ ا هو �شيء بالإ�ضافة‪.‬‬ ‫لنف�سه‪ٌّ ،‬‬ ‫حق له‬ ‫ومن كان وجوده يف الوجود بهذه ال�صورة وهي الفناء يف امل�ستبدين‪َّ ،‬‬ ‫�أن ال ي�شعر بوظيفة �شخ�صية ف�ض ًال عن وظيفة اجتماعية‪ .‬ولوال � ْأن لي�س يف‬ ‫وال�صدف التي‬ ‫الكون �شيء غري تابع لنظام حتى اجلماد‪ ،‬حتى فلتات الطبيعة ُّ‬

‫‪102‬‬


‫هي م�سببات لأ�سباب نادرة‪ ،‬حلكمنا ب� َّأن معي�شة الأ�رساء هي حم�ض فو�ضى‪،‬‬ ‫ال �شبه فو�ضى‪.‬‬ ‫على � َّأن التدقيق العميق‪ ،‬يفيدنا ب� َّأن للأ�رساء قوانني غريبة يف مقاومة‬ ‫ويرتبى‬ ‫الفناء ي�صعب �ضبطها وتعريفها‪� ،‬إمنا الأ�سري ير�ضعها مع لنب �أمه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عليها‪ ،‬وقد يبدع فيها ب�سائق احلاجة‪ ،‬ويكون منهم احلاذق فيها علم ًا‪ ،‬املاهر‬ ‫يف تطبيقها عم ًال‪ ،‬هو املو َّفق يف ميدان حرب احلياة مع الذل‪ ،‬كالهنود‬ ‫واليهود‪ .‬والعاجز عنها‪ّ � ،‬إما جاهل هذا القانون �أو العاجز فطر ًة عن ا ِّتباعه‬ ‫كالعرب مث ًال‪ ،‬فال يخرج عن كونه كرة يلعب بها �صبيان اال�ستبداد‪ ،‬تار ًة‬ ‫ي�رضبون بها الأر�ض وتارة احليطان‪ ،‬و�أما �إذا كان عجزه كما يقال عن عرق‬ ‫ها�شمي‪� ،‬أي عن �شي ٍء من كرامة نف�س �أو قوة �إح�سا�س �أو ج�سارة جنان‪ ،‬فيكون‬ ‫كاحلجارة تتك�سرَّ وال تلني‪.‬‬ ‫قوانني حياة الأ�سري هي مقت�ضيات ال�ش�ؤون املحيطة به‪ ،‬التي ت�ضطره لأن‬ ‫يطبق �إح�سا�ساته عليها‪ِّ ،‬‬ ‫ويدبر نف�سه على موجبها‪ ،‬وذلك نحو مقابلة التجبرُّ‬ ‫عليه بالتذلل وال ّت�صاغر‪ ،‬وتعديل ال�شدة عليه بالتالين واملطاوعة‪ ،‬و�إعطاء‬ ‫املطلوب منه بعد قليلٍ من التم ُّنع‪ ،‬ولو � َّأن املطلوب هو ابنه ملجزرة اجلندية �أو‬ ‫�شيخ �رشير‪ ،‬واملطالبة يف احلقوق ب�صفة ا�ستعطاف ك�أ َّنه طالب‬ ‫ابنته لفرا�ش ٍ‬ ‫�صدقة‪ ،‬وك�سب املعا�ش مع �شكاية احلاجة‪ِ ،‬‬ ‫وحفظ املال ب�إخفائه عن الأعني‪،‬‬ ‫والتعامي عن ز ّالت امل�ستبدين‪ ،‬والت�صامم عن �سماع ما ُيهان به‪ ،‬والتظاهر‬ ‫احل�س �أو تعطيله باملخدرات القوية كالأفيون واحل�شي�ش‪ ،‬وتعطيل العقل‬ ‫بفقد ّ‬ ‫بال ّتباله و�سرت العلم بالتجاهل‪ ،‬واالرتداء بالتدين والرياء‪ ،‬وتعويد الل�سان‬ ‫على ال ّزالقة يف عبائر الت�صاغر والتم ّلق‪ ،‬وعزو ك ّل خري �إىل ف�ضل امل�ستبدين‬ ‫حتى �إذا كان اخلري طبيعي ًا نحو مطر ال�سماء‪ ،‬فعزوه �إىل يمُ ن احلكام �أو دعاء‬ ‫�رش‪ ،‬ولو من نوع الت�س ُّلط على الأعرا�ض‪ ،‬على اال�ستحقاق‬ ‫الكهنة‪ .‬وي�سند ك َّل ٍّ‬ ‫من جانب اهلل‪� .‬إىل غري ذلك من �أحكام ذلك القانون‪ ،‬الذي ر�ؤو�س م�سائله فقط‬ ‫مت ّل القارئ ف�ض ًال عن تف�صيالتها‪.‬‬ ‫� َّإن �أخوف ما يخافه الأ�سري هو �أن يظهر عليه �أثر نعمة اهلل يف اجل�سم �أو‬ ‫املال‪ ،‬فت�صيبه عني اجلوا�سي�س (وهذا �أ�صل عقيدة �إ�صابة العني)! �أو �أن يظهر‬ ‫جاه �أو ٍ‬ ‫علم �أو ٍ‬ ‫امل�ستبد (وهذا‬ ‫نعمة مهمة‪ ،‬في�سعى به حا�سدوه �إىل‬ ‫له �ش�أن يف ٍ‬ ‫ِّ‬

‫‪103‬‬


‫اال�ستبداد والرتبية‬

‫يتحيل الأ�سري على حفظ ماله الذي ال‬ ‫تعوذ منه)! وقد‬ ‫ّ‬ ‫�أ�صل �رش احل�سد الذي ُي َّ‬ ‫ميكنه �إخفا�ؤه كالزوجة اجلميلة‪� ،‬أو الدابة الثمينة‪� ،‬أو الدار الكبرية‪ ،‬فيحميها‬ ‫ب�إ�سناد ال�ش�ؤم‪( ،‬وهذا �أ�صل الت�شا�ؤم بالأقدام والنوا�صي والأعتاب)‪.‬‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬وال يقوون على‬ ‫ومن غريب الأحوال � َّأن الأُ�رساء يبغ�ضون‬ ‫َّ‬ ‫ا�ستعمالهم معه الب�أ�س الطبيعي املوجود يف الإن�سان �إذا غ�ضب‪ ،‬في�رصفون‬ ‫فيعادون من بينهم فئ ًة م�ست�ضعف ًة‪� ،‬أو الغرباء‪،‬‬ ‫ب�أ�سهم يف وجهة �أخرى ظلم ًا‪ُ :‬‬ ‫وم َث ُلهم يف ذلك مثل الكالب الأهلية‪� ،‬إذا �أريد‬ ‫�أو يظلمون ن�ساءهم ونحو ذلك‪َ .‬‬ ‫منها احلرا�سة وال�رشا�سة‪ ،‬ف�أ�صحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها لي ًال فت�صري‬ ‫�رش�سة عقورة‪ ،‬وبهذا التعليل تع َّلل ج�سارة الأ�رساء �أحيان ًا يف حمارباتهم‪ ،‬ال‬ ‫على �أنها ج�سارة عن �شجاعة‪ .‬و�أحيان ًا تكون ج�سارة الأ�رساء عن التناهي يف‬ ‫امل�ستبد الذي ي�سوقهم �إىل املوت‪ ،‬فيطيعونه انذعاراً كما تطيع‬ ‫اجلبانة �أمام‬ ‫ِّ‬ ‫الغنمة الذئب فتهرول بني يديه �إىل حيث ي�أكلها‪.‬‬ ‫تقدم � َّأن الرتبية غري مق�صودة‪ ،‬وال مقدورة يف ظالل‬ ‫وقد ا َّت�ضح مما َّ‬ ‫اال�ستبداد �إال ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة‪ ،‬وهذا النوع ي�ستلزم‬ ‫انخالع القلوب ال تزكية النفو�س‪ .‬وقد �أجمع علماء االجتماع والأخالق‬ ‫والرتبية على � َّأن الإقناع خري من الرتغيب ف�ض ًال عن الرتهيب‪ ،‬و� َّإن التعليم‬ ‫مع احلرية بني املعلِّم واملتعلِّم �أف�ضل من التعليم مع الوقار‪ ،‬و� َّأن التعليم‬ ‫التكمل �أر�سخ من العلم احلا�صل طمع ًا يف املكاف�أة‪� ،‬أو غرية‬ ‫عن رغبة يف‬ ‫ُّ‬ ‫من الأقران‪ .‬وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم‪َّ � :‬إن املدار�س تقلل اجلنايات ال‬ ‫ال�سجون‪ ،‬وقولهم‪َّ � :‬إن الق�صا�ص واملعاقبة ق َّلما يفيدان يف زجر النف�س كما‬ ‫قال احلكيم العربي‪:‬‬ ‫غيها ‬ ‫ال ترجع الأنف�س عن ّ‬

‫زاجر‬ ‫ما مل يكن منها لها ُ‬

‫ومن يت�أمل جيداً يف قوله تعاىل‪( :‬ولكم يف الق�صا�ص حيا ٌة يا �أويل‬ ‫الألباب) مالحظ ًا � َّأن معنى الق�صا�ص لغ ًة‪ :‬هو الت�ساوي مطلق ًا‪ ،‬ال مق�صوراً‬ ‫على املعاقبة باملثل يف اجلنايات فقط‪ ،‬ويدقق النظر يف القر�آن الكرمي و�سائر‬ ‫الر�سل العظام ‪-‬عليهم ال�صالة وال�سالم‪ -‬يرى‬ ‫الكتب ال�سماوية‪ ،‬وي َّتبع م�سالك ُّ‬

‫‪104‬‬


‫ثم �إىل الأطماع عاج ًال‬ ‫� َّأن االعتناء يف طريق الهداية فيها‬ ‫ٌ‬ ‫من�رصف �إىل الإقناع‪َّ ،‬‬ ‫ثم �إىل الرتهيب الآجل غالب ًا ومع ترك �أبواب ُتديل �إىل النجاة‪.‬‬ ‫�أو �آج ًال‪َّ ،‬‬ ‫ثم � َّإن الرتبية التي هي �ضا ّلة الأمم‪ ،‬وفقدها هو امل�صيبة العظيمة‪ ،‬التي‬ ‫َّ‬ ‫هي امل�س�ألة االجتماعية‪ ،‬حيث الإن�سان يكون �إن�سان ًا برتبيته‪ ،‬وكما يكون‬ ‫الآباء يكون الأبناء‪ ،‬وكما يكون الأفراد تكون ال ّأمة‪ ،‬والرتبية املطلوبة هي‬ ‫ثم‬ ‫ثم على ح�سن التفهيم والإقناع‪َّ ،‬‬ ‫الرتبية املر َّتبة على �إعداد العقل للتمييز‪َّ ،‬‬ ‫ثم على ح�سن القدوة‬ ‫ثم على التمرين والتعويد‪َّ ،‬‬ ‫الهمة والعزمية‪َّ ،‬‬ ‫على تقوية ّ‬ ‫التو�سط واالعتدال‪ ،‬و� ْأن تكون‬ ‫ثم على‬ ‫ثم على املواظبة والإتقان‪َّ ،‬‬ ‫واملثال‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫تربية العقل م�صحوب ًة برتبية اجل�سم‪ ،‬لأنهما مت�صاحبان �صحة واعتال ًال‪،‬‬ ‫امل�شاق‪ ،‬واملهارة يف‬ ‫حتمل‬ ‫ّ‬ ‫ف�إنه يقت�ضي تعويد اجل�سم على النظافة وعلى ّ‬ ‫احلركات‪ ،‬والتوقيت يف النوم والغذاء والعبادة‪ ،‬والرتتيب يف العمل ويف‬ ‫الريا�ضة والراحة‪ .‬و�أن تكون تلكما الرتبيتني م�صحوبتني �أي�ض ًا برتبية النف�س‬ ‫على معرفة خالقها ومراقبته واخلوف منه‪ .‬ف�إذا كان ال مطمع يف الرتبية‬ ‫العامة على هذه الأ�صول مبانع طبيعة اال�ستبداد‪ ،‬فال يكون لعقالء املبتلني‬ ‫ّ‬ ‫ثم بعد ذلك‬ ‫العقول‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫على‬ ‫ال�ضاغط‬ ‫املانع‬ ‫إزالة‬ ‫�‬ ‫وراء‬ ‫ال‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫ي�سعوا‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫إال‬ ‫به �‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يعتنوا بالرتبية‪ ،‬حيث ميكنهم حينئ ٍذ �أن ينالوها على توايل البطون‪ ،‬واهلل‬ ‫املوفق‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫‪106‬‬


‫اال�ستبداد والرتقِّي‬ ‫�شخو�ص وهبوط‪ .‬فالرت ّقي هو احلركة‬ ‫احلركة ُ�س َّن ٌة دائب ٌة يف اخلليقة بني‬ ‫ٍ‬ ‫احليوية‪� ،‬أي حركة ال�شخو�ص‪ ،‬ويقابله الهبوط وهو احلركة �إىل املوت �أو‬ ‫االنحالل �أو اال�ستحالة �أو االنقالب‪.‬‬ ‫ال�س ّنة كما هي عاملة يف املادة و�أعرا�ضها‪ ،‬عاملة �أي�ض ًا يف الكيفيات‬ ‫وهذه ُّ‬ ‫امليت‬ ‫َّ‬ ‫ومركباتها‪ ،‬والقول ّ‬ ‫امليت ُ‬ ‫ويخرج ّ‬ ‫احلي من ّ‬ ‫ال�شارح لذلك �آية‪(ُ :‬يخرِج َّ‬ ‫أمر �إال وبدا نق�صه)‪ ،‬وقولهم‪( :‬التاريخ يعيد نف�سه)‪.‬‬ ‫احلي)‪ ،‬وحديث‪( :‬ما َّ‬ ‫مت � ٌ‬ ‫من ّ‬ ‫وحكمهم ب� َّأن احلياة واملوت ح ّقان طبيعيان‪.‬‬ ‫وهذه احلركة اجل�سمية والنف�سية والعقلية ال تقت�ضي ال�سري �إىل النهاية‬ ‫كل �ساعة يف �ش�أن‪ ،‬والعربة‬ ‫�شخو�ص ًا �أو هبوط ًا‪ ،‬بل هي �أ�شبه مبيزان احلرارة‪ُّ ،‬‬ ‫يف احلكم للوجهة الغالبة‪ ،‬ف�إذا ر�أينا �آثار حركة الرت ّقي هي الغالبة على‬ ‫�أفرادها‪ ،‬حكمنا لها باحلياة‪ ،‬ومتى ر�أينا عك�س ذلك ق�ضينا عليها باملوت‪.‬‬ ‫ال ّأمة هي جمموعة �أفراد يجمعها ن�سب �أو وطن �أو لغة �أو دين‪ ،‬كما � َّأن‬ ‫وقو ًة يكون‬ ‫البناء جمموع �أنقا�ض‪ ،‬فح�سبما تكون الأنقا�ض جن�س ًا وجما ًال ّ‬ ‫انحطت الأمة تر َّقت هيئتها االجتماعية‪ ،‬حتى � َّإن حالة‬ ‫البناء‪ ،‬ف�إذا تر َّقت �أو‬ ‫َّ‬ ‫الفرد الواحد من ال ّأمة ت�ؤ ِّثر يف جمموع تلك الأمة‪ .‬كما �إذا لو اخت َّلت حجرة‬

‫‪107‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫يختل جمموعه و� ْإن كان ال ي�شعر بذلك‪ ،‬كما لو وقفت بعو�ضة على‬ ‫من ح�صن‬ ‫ُّ‬ ‫درك ذلك بامل�شاعر‪ .‬وبع�ض‬ ‫طرف �سفينة عظيمة �أثقلتها و�أمالتها و� ْإن مل ُي َ‬ ‫كل فرد‬ ‫رقي ًا �أن يجتهد ُّ‬ ‫ال�سيا�سيني بنى على هذه القاعدة‪� :‬أ َّنه يكفي الأمة ّ‬ ‫منها يف ترقية نف�سه بدون �أن يفتكر يف تر ّقي جمموع الأمة‪.‬‬ ‫وهمته هو �أو ًال‪ :‬الرت ّقي‬ ‫الرت ّقي احليوي الذي يجتهد فيه الإن�سان بفطرته ّ‬ ‫القوة بالعلم واملال‪ ،‬ثالث ًا‪ :‬الرت ّقي‬ ‫يف اجل�سم ّ‬ ‫�صح ًة وتل ُّذذاً‪ ،‬ثاني ًا‪ :‬الرت ّقي يف ّ‬ ‫يف النف�س باخل�صال واملفاخر‪ ،‬رابع ًا‪ :‬الرت ّقي بالعائلة ا�ستئنا�س ًا وتعاون ًا‪،‬‬ ‫خام�س ًا‪ :‬الرت ّقي بالع�شرية تنا�رصاً عند الطوارئ‪� ،‬ساد�س ًا‪ :‬الرت ّقي بالإن�سانية‪،‬‬ ‫وهذا منتهى الرت ّقي‪.‬‬ ‫نوع �آخر من الرت ّقي ويتعلق بالروح وبالكمال‪ ،‬وهو � َّأن الإن�سان‬ ‫وهناك ٌ‬ ‫يحمل نف�س ًا ملهمة ب� َّأن لها وراء حياتها هذه حيا ًة �أخرى يرت ّقى بها على‬ ‫�س ّلم العدل والرحمة واحل�سنات‪ .‬ف�أهل الأديان ‪-‬ما عدا �أهل التوراة‪ -‬ي�ؤمنون‬ ‫بالبعث �أو التنا�سخ‪ ،‬في�أتون بالعدل والرحمة رجاء املكاف�أة �أو خوف املجازاة‪،‬‬ ‫وهم من قبيل الطبيعيني يعتربون �أنف�سهم مدينني للإن�سانية بحفظها تاريخ‬ ‫بح�سن‬ ‫احلياة الطبيعية‪ ،‬فيلتزمون بخدمتها اهتمام ًا بحياتهم التاريخية ُ‬ ‫ال ّذكر �أو قبحه‪.‬‬ ‫وهذه الرت ّقيات‪ ،‬على �أنواعها ال�س ّتة‪ ،‬ال يزال الإن�سان ي�سعى وراءها ما‬ ‫مل يعرت�ضه مانع غالب ي�سلب �إرادته‪ ،‬وهذا املانع � َّإما هو القدر املحتوم‪،‬‬ ‫امل�سمى عند البع�ض بالعجز الطبيعي‪� ،‬أو هو اال�ستبداد امل�ش�ؤوم‪ .‬على � َّأن‬ ‫ّ‬ ‫فيكر راقي ًا‪ .‬و�أما اال�ستبداد ف�إ َّنه‬ ‫يطلقه‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ملح‬ ‫ي‬ ‫ق‬ ‫الرت‬ ‫�سري‬ ‫ي�صدم‬ ‫القدر‬ ‫ّ‬ ‫ً َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يقلب ال�سري من الرت ّقي �إىل االنحطاط‪ ،‬ومن التقدم �إىل الت�أخر‪ ،‬من النماء �إىل‬ ‫الفناء‪ ،‬ويالزم الأمة مالزمة الغرمي ال�شحيح‪ ،‬ويفعل فيها دهراً طوي ًال �أفعاله‬ ‫حطة‬ ‫تقدم و�صف بع�ضها يف الأبحاث ال�سابقة‪� ،‬أفعاله التي تبلغ بالأمة ّ‬ ‫التي َّ‬ ‫العجماوات فال يهمها غري حفظ حياتها احليوانية فقط‪ ،‬بل قد تبيح حياتها‬ ‫خفية‪ .‬وال عار على الإن�سان � ْأن‬ ‫هذه الدنيئة �أي�ض ًا اال�ستبداد �إباح ًة ظاهرة �أو ّ‬ ‫ُ‬ ‫يختار املوت على الذل‪ ،‬وهذه �سباع الطري والوحو�ش �إذا �أ�سرِ َ ت كبرية قد ت�أبى‬ ‫الغذاء حتى املوت‪.‬‬ ‫يحول ميلها الطبيعي من طلب الرت ّقي‬ ‫وقد يبلغ فعل اال�ستبداد بالأمة �أن ِّ‬

‫‪108‬‬


‫الرفعة لأبت وت�ألمَّ ت كما يت�ألمَّ الأجهر من‬ ‫�إىل الت�س ُّفل‪ ،‬بحيث لو ُد ِف َعت �إىل ِّ‬ ‫النور‪ ،‬و�إذا �أُلز َِمت باحلرية ت�شقى‪ ،‬ورمبا تفنى كالبهائم الأهلية �إذا �أُط ِلق‬ ‫�رساحها‪ .‬عندئ ٍذ ي�صري اال�ستبداد كالعلق يطيب له املقام على امت�صا�ص دم‬ ‫ينفك عنها حتى متوت وميوت هو مبوتها‪.‬‬ ‫الأمة‪ ،‬فال ُّ‬ ‫وتو�صف حركة الرت ّقي واالنحطاط يف ال�ش�ؤون احليوية للإن�سان‪� ،‬أنها من‬ ‫نوع احلركة الدودية‪ ،‬التي حت�صل باالندفاع واالنقبا�ض‪ ،‬وذلك � َّأن الإن�سان‬ ‫ثم ي�أخذ يف ال�سري‪ ،‬تدفعه‬ ‫يولد وهو �أعجز حراك ًا و�إدراك ًا من ك ِّل حيوان‪َّ ،‬‬ ‫�رس �أن‬ ‫الرغائب النف�سية والعقلية وتقب�ضه املوانع الطبيعية واملزاحمة‪ .‬وهذا ّ‬ ‫�رس ما ورد يف القر�آن الكرمي من ابتالء اهلل‬ ‫الإن�سان ينتابه اخلري وال�رش‪ .‬وهو ّ‬ ‫النا�س باخلري وال�رش‪ ،‬وهو معنى ما ورد يف الأثر ب� َّأن اخلري مربوط بذيل‬ ‫مربوط بذيل اخلري‪ ،‬وهو املراد من �أقوال احلكماء نحو‪ :‬على قدر‬ ‫ال�رش‪ ،‬وال�رش‬ ‫ٌ‬ ‫حرب‬ ‫ال ّنعمة تكون النقمة‪ ،‬على قدر الهمم ت�أتي العزائم‪ ،‬بني ال�سعادة وال�شقاء ٌ‬ ‫والكي�س من ي�ستفيد من م�صيبته‬ ‫ِ�سجال‪ ،‬العاقل من ي�ستفيد من م�صيبته‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وم�صيبة غريه‪ ،‬واحلكيم من يبتهج بامل�صائب ليقطف منها الفوائد‪ ،‬ما كان‬ ‫يف احلياة ل ّذة لو مل يتخللها �آالم‪.‬‬ ‫ف�إذا تقرر هذا فليعلم �أي�ض ًا � َّأن �سبيل الإن�سان هو الرقي‪ ،‬ما دام جناحا‬ ‫االندفاع واالنقبا�ض فيه متوازيني كتوازن الإيجابية وال�سلبية يف‬ ‫ثم � َّإن االندفاع‬ ‫الكهربائية‪ ،‬و�سبيله القهقرى �إن غلبته الطبيعة �أو املزاحمة‪َّ .‬‬ ‫�إذا غلب فيه العقل النف�س‪ ،‬كانت الوجهة �إىل احلكمة‪ ،‬و� ْإن غلبت النف�س العقل‪،‬‬ ‫كانت الوجهة �إىل الزيغ‪� .‬أما االنقبا�ض‪ ،‬فاملعتدل منه هو ال�سائق للعمل‪،‬‬ ‫والقوي منه ُمه ِل ٌك للحركة‪ ،‬واال�ستبداد امل�ش�ؤوم الذي نبحث فيه هو قاب�ض‬ ‫أحق بو�صف‬ ‫�ضاغط م�سكن‪ ،‬واملبتلون به هم امل�ساكني‪ .‬نعم‪� :‬أ�رساء اال�ستبداد � ُّ‬ ‫امل�ساكني من عجزة الفقراء‪.‬‬ ‫ولو ملك الفقهاء حرية النظر خلرجوا من االختالف يف تعريف امل�ساكني‬ ‫الذين جعل لهم اهلل ن�صيب ًا من الزكاة فقالوا‪ :‬هم عبيد اال�ستبداد‪ ،‬وجلعلوا‬ ‫الرق الأكرب‪.‬‬ ‫ك َّفارات ِّ‬ ‫فك الرقاب ت�شمل هذا ّ‬ ‫�أُ�رساء اال�ستبداد حتى الأغنياء منهم ك ُّلهم م�ساكني ال حراك فيهم‪ ،‬يعي�شون‬ ‫منحطني يف الأخالق‪ .‬وما �أظلم‬ ‫منحطني يف الإح�سا�س‪،‬‬ ‫منحطني يف الإدراك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪109‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫�شبه حالتهم‬ ‫توجيه اللوم عليهم بغري ل�سان الر�أفة والإر�شاد‪ ،‬وقد �أبدع من َّ‬ ‫بدود حتت �صخرة‪ ،‬فما �أليق بالالئمني �أن يكونوا م�شفقني ي�سعون يف رفع‬ ‫ذرة‪.‬‬ ‫ال�صخرة ولو ح ّت ًا بالأظافر َّ‬ ‫ذر ًة بعد ّ‬ ‫وقد �أجمع احلكماء على � َّأن �أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد ال َّأمة‪،‬‬ ‫الذين فيهم ن�سمة مروءة و�رشار حمية‪ ،‬الذين يعرفون ما هي وظيفتهم ب�إزاء‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬امللتم�سني لإخوانهم العافية‪� ،‬أن ي�سعوا يف رفع ال�ضغط عن العقول‬ ‫النمو فتم ِّزق غيوم الأوهام التي متطر املخاوف‪� ،‬ش�أن‬ ‫لينطلق �سبيلها يف‬ ‫ِّ‬ ‫الطبيب يف اعتنائه �أو ًال بقوة ج�سم املري�ض‪ ،‬و�أن يكون الإر�شاد متنا�سب ًا مع‬ ‫ٍ‬ ‫�صوت‬ ‫ينبهه ال�صوت اخلفيف‪ ،‬وال ّنائم يحتاج �إىل‬ ‫الغفلة خ َّف ًة وقوة‪ :‬كال�ساهي ِّ‬ ‫�صياح وزجر‪ .‬فالأ�شخا�ص من هذا النوع الأخري‪ ،‬يقت�ضي‬ ‫�أقوى‪ ،‬والغافل يلزمه‬ ‫ٌ‬ ‫مراً‬ ‫لإيقاظهم الآن بعد �أن ناموا �أجيا ًال طويلة �أن ي�سقيهم النطا�سي البارع ّ‬ ‫من الزواجر والقوار�س ع َّلهم يفيقون‪ ،‬و�إال فهم ال يفيقون‪ ،‬حتى ي�أتي الق�ضاء‬ ‫من ال�سماء‪ :‬فتربق ال�سيوف‪ ،‬وترعد املدافع ومتطر البنادق‪ ،‬فحينئ ٍذ ي�صحون‪،‬‬ ‫ولكن‪� ،‬صحوة املوت!‪.‬‬ ‫الدين ي�ؤ ِّثر على الرت ّقي الإفرادي‪،‬‬ ‫بع�ض االجتماعيني يف الغرب يرون � َّأن ِّ‬ ‫احل�س‪� ،‬أو حاجب ًا كالغيم يغ�شى‬ ‫ثم االجتماعي ت�أثرياً ِّ‬ ‫َّ‬ ‫معط ًال كفعل الأفيون يف ِّ‬ ‫�ضدان متزاحمان‬ ‫والعقل‬ ‫الدين‬ ‫يقولون‪:‬‬ ‫الغالة‬ ‫بع�ض‬ ‫وهناك‬ ‫ال�شم�س‪.‬‬ ‫نور‬ ‫ّ‬ ‫يف الر�ؤو�س‪ ،‬و� َّإن �أول نقطة من الرت ّقي تبتدئ عند �آخر نقطة من الدين‪ .‬و� َّإن‬ ‫الرقي واالنحطاط يف الأفراد �أو يف الأمم‬ ‫�أ�صدق ما ُي َّ‬ ‫�ستد ُّل به على مرتبة ُّ‬ ‫الغابرة واحلا�رضة‪ ،‬هو مقيا�س االرتباط بالدين قو ًة و�ضعف ًا‪.‬‬ ‫للرد عليها‪ ،‬ولكن‪ ،‬بالنظر �إىل الأديان‬ ‫هذه الآراء ك ُّلها �صحيحة ال جمال ِّ‬ ‫حد احلكمة‪ ،‬كالدين املبني على تكليف‬ ‫اخلرافية �أ�سا�س ًا �أو التي مل تقف عند ِّ‬ ‫جمرد الإذعان ملا يعقل‬ ‫العقل‬ ‫ُّ‬ ‫بت�صور � َّأن الواحد ثالثة والثالثة واحد‪ .‬ل َّأن َّ‬ ‫يعد‬ ‫برهان على ف�ساد بع�ض مراكز العقل‪ ،‬ولهذا �أ�صبح العامل املتمدن ّ‬ ‫االنت�ساب �إىل هذه العقيدة من العار‪ ،‬لأنه �شعار احلُمق‪.‬‬ ‫�أما الأديان املبنية على العقل املح�ض كالإ�سالم املو�صوف بدين الفطرة‪،‬‬ ‫وال �أعني بالإ�سالم ما يدين به �أكرث امل�سلمني الآن‪� ،‬إنمَّ ا �أريد بالإ�سالم‪ :‬دين‬

‫‪110‬‬


‫مقيد الفكر‬ ‫القر�آن‪� ،‬أي الدين الذي يقوى على فهمه من القر�آن ُّ‬ ‫كل �إن�سانٍ غري َّ‬ ‫بتف�صح زيد �أو حت ُّكم عمرو‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الدين �إذا كان مبني ًا على العقل‪ ،‬يكون �أف�ضل �صارف للفكر عن‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫�شك‬ ‫فال‬ ‫َّ ِّ‬ ‫املخرفني‪ ،‬و�أنفع وازع ب�ضبط ال َّنف�س من ال�شطط‪ ،‬و�أقوى‬ ‫م�صائد‬ ‫الوقوع يف‬ ‫ِّ‬ ‫من�شط‬ ‫حتمل‬ ‫م�شاق احلياة‪ ،‬و�أعظم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫م�ؤ ِّثر لتهذيب الأخالق‪ ،‬و�أكرب معني على ُّ‬ ‫مثبت على املبادئ ال�رشيفة‪ ،‬ويف النتيجة‬ ‫على الأعمال‬ ‫املهمة اخلطرة‪ .‬و�أج َّل ِّ‬ ‫َّ‬ ‫رقي ًا‬ ‫أ�صح مقيا�س ُي ُّ‬ ‫�ستدل به على الأحوال النف�سية يف الأمم والأفراد ّ‬ ‫يكون � َّ‬ ‫وانحطاط ًا‪.‬‬ ‫هذا القر�آن الكرمي �إذا �أخذناه وقر�أناه بالترّ وي يف معاين �ألفاظه العربية‬ ‫تفهم �أ�سباب نزول �آياته وما �أ�شارت �إليه‪ ،‬ومع‬ ‫و�أ�سلوب تركيبه القر�شي‪ ،‬مع ُّ‬ ‫التب�صرُّ يف مقا�صده الدقيقة وت�رشيعه ال�سامي‪ ،‬ومع �أخذ بع�ض التو�ضيحات‬ ‫ال�س َّنة العملية النبوية �أو الإجماع �إن وجدا‪ ،‬وق َّلما يوجدان‪ ،‬فحينئ ٍذ ال نرى‬ ‫من ُّ‬ ‫فيه من �أو ِّله �إىل �آخره غري ِح َك ٍم يتل ّقاها العقل بالإجالل والإعظام‪� ،‬إىل درجة‬ ‫انقياد العقل طوع ًا �أو كره ًا للإميان �إجما ًال ب� َّأن تلك ا ِ‬ ‫حل َكم ِح َك ٌم عزيزة �إلهية‪،‬‬ ‫و� َّأن الذي �أنزلها اهلل على قلبه هو اف�ضل من �أر�سله اهلل مر�شداً لعباده‪.‬‬ ‫حق النظر يرى �أ َّنه ال يكلِّف الإن�سان‬ ‫وتو�ضيح ذلك‪َّ � :‬أن الناظر يف القر�آن ّ‬ ‫قط بالإذعان ل�شيء فوق العقل‪ ،‬بل يح ِّذره وينهاه من الإميان ا ِّتباع ًا لر�أي‬ ‫ّ‬ ‫الغري �أو تقليداً للآباء‪ .‬ويراه طافح ًا بالتنبيه �إىل �أعمال الإن�سان فكره ونظره‬ ‫ثم اال�ستدالل بذلك �إىل � َّأن لهذه الكائنات‬ ‫يف هذه الكائنات وعظيم انتظامها‪َّ ،‬‬ ‫ال�صفات التي ي�ستلزم العقل‬ ‫ثم االنتقال �إىل معرفة ِّ‬ ‫�صانع ًا �أبدعها من العدم‪َّ ،‬‬ ‫ثم يرى القر�آن يعلِّم الإن�سان‬ ‫�أن يكون هذا ال�صانع م َّت ِ�صف ًا بها‪� ،‬أو من َّزه ًا عنها‪َّ ،‬‬ ‫بع�ض �أعمال و�أحكام و�أوامر ونواهي ك ّلها ال تبلع املائة عدداً‪ ،‬وك ُّلها ب�سيطة‬ ‫التعبدية التي �شرُ ِّعت لتكون �شعاراً يعرف به‬ ‫معقولة‪� ،‬إال قلي ًال من الأمور‬ ‫ُّ‬ ‫في�ستدل‬ ‫امل�سلم �أخاه‪� ،‬أو ي�ستطلع من خالل قيامه بها �أو تهاونه فيها �أخالقه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫مث ًال بال ّتكا�سل عن ال�صالة على َفق ِد الن�شاط‪ ،‬وبرتك ال�صوم على عدم ال�صرب‪،‬‬ ‫وبال�سكر على غلبة النف�س والعقل ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫رقيها بالب�رش �إىل منزلة ح�رصها‬ ‫الت�رشيع‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ا‬ ‫رقي‬ ‫إ�سالمية‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫وكفى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أ�سارة الإن�سان يف جهة �رشيفة واحدة وهي (اهلل)‪ ،‬وعتقها عقل الب�رش عن‬

‫‪111‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫توهم وجود قوة ما‪ ،‬يف غري اهلل‪ ،‬من �ش�أنها �أن ت�أتي للإن�سان بخ ٍري ما‪� ،‬أو‬ ‫ُّ‬ ‫�رشاً ما‪ .‬فالإ�سالمية جتعل الإن�سان ال يرجو وال يهاب من ر�سولٍ �أو‬ ‫عنه‬ ‫تدفع‬ ‫ّ‬ ‫نبي‪� ،‬أو ٍ‬ ‫يل �أو ج ّني‪� ،‬أو �ساح ٍر �أو كاهن‪� ،‬أو �شيطانٍ �أو �سلطان‪.‬‬ ‫ملك �أو فلك‪� ،‬أو و ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫و�أعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإن�سان عن عاتقه جبا ًال من اخلوف‬ ‫والأوهام واخلياالت‪ ،‬جبا ًال اعتقلها منذ كان ي�رسح مع الغيالن‪� ،‬أو ورثها‬ ‫من �أبيه �آدم الذي طغاه �شيطان النف�س‪� .‬أو لي�س العتيق من الأوهام ي�صبح‬ ‫�صحيح العقل‪ ،‬قوي الإرادة‪ ،‬ثابت العزمية‪ ،‬قائده احلكمة‪� ،‬سائقه الوجدان‪،‬‬ ‫فيعي�ش حراً‪ ،‬فرح ًا �صبوراً فخوراً‪ .‬ال يبايل حتى باملوت لعلمه بال�سعادة‬ ‫الروح والريحان‪ ،‬واحلور‬ ‫التي ي�ستقبلها‪ ،‬التي مي ِّثلها له القر�آن باجلنان‪ ،‬فيها ّ‬ ‫وتقر به العينان؟!‬ ‫والغلمان‪ ،‬فيها كل مل ت�شتهي الأنف�س ُّ‬ ‫اطالعهم‬ ‫أظن �أن ه�ؤالء املنكرين فائدة الدين‪ ،‬ما �أنكروا ذلك �إال من عدم ِّ‬ ‫و� ُّ‬ ‫على دينٍ �صحيح مع ي�أ�سهم من �إ�صالح ما لديهم‪ ،‬عجزاً عن مقاومة �أن�صار‬ ‫الف�ساد‪ .‬و�إذا نظرنا يف � َّأن ه�ؤالء �أنف�سهم هم يف �آنٍ واحد ي�شددون ال َّنكري على‬ ‫الدين من جهة‪ ،‬قائلني‪َّ � :‬إن �رضره �أكرب من نفعه‪ ،‬ويهيجون من ٍ‬ ‫جهة �أخرى‬ ‫ِّ‬ ‫حب‬ ‫مثل‬ ‫وذلك‬ ‫أمم‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بناء‬ ‫يف‬ ‫منه‬ ‫بد‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫�‬ ‫يرون‬ ‫ا‬ ‫حم�ض‬ ‫وهمية‬ ‫أدبية‬ ‫�‬ ‫رات‬ ‫ث‬ ‫�‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫وال�سمعة احل�سنة وعك�سها‪،‬‬ ‫الوطن وخيانته‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحب الإن�سانية والإ�ساءة �إليها ُّ‬ ‫وال ِّذكر التاريخي باخلري �أو ال�شرَّ ونحو ذلك مما هو ال �شيء يف ذاته‪ ،‬وال �شيء‬ ‫�أي�ض ًا بالن�سبة �إىل ت�أثري طاعة اهلل واخلوف منه‪ ،‬ل َّأن (اهلل) حقيقة ال ريب‬ ‫فيها‪ ،‬بل وال خالف �إال يف الأ�سماء بني (اهلل) وبني (مادة) �أو (طبيعة)‪ .‬ولوال‬ ‫� َّأن املاديني والطبيعيني ي�أبون اال�سرت�سال يف البحث يف �صفات ما ي�سمونه‬ ‫مادة �أو طبيعة‪ ،‬اللتقوا ‪-‬وال �شك‪ -‬مع الإ�سالم يف نقطة واحدة‪ ،‬فارتفع‬ ‫اخلالف العلمي و�أ�سلم الك ّل هلل‪.‬‬ ‫أ�صور الرقي واالنحطاط يف ال َّنف�س‪،‬‬ ‫وعلى ذكر اللوم الإر�شادي الح يل � ْأن � ِّ‬ ‫وكيف ينبغي للإن�سان العاقل �أن يعاين �إيقاظ قومه‪ ،‬وكيف ير�شدهم �إىل �أنهم‬ ‫ويحرك‬ ‫وال�سفالة‪ ،‬فيذ ِّكرهم‪،‬‬ ‫ُخ ِلقوا لغري ما هم عليه من َّ‬ ‫ال�صرب على ال ُّذ ِّل َّ‬ ‫ِّ‬ ‫قلوبهم‪ ،‬ويناجيهم‪ ،‬وينذرهم بنحو اخلطابات الآتية‪:‬‬ ‫أحييه‬ ‫(يا ُ‬ ‫حي ف� ّ‬ ‫قوم‪ :‬ينازعني واهلل ال�شعور‪ ،‬هل موقفي هذا يف جمع ٍّ‬ ‫بال�سالم؟ �أم �أنا �أخاطب �أهل القبور ف�أحييهم بالرحمة؟ يا ه�ؤالء‪ ،‬ل�ستم ب�أحياء‬

‫‪112‬‬


‫التنبت‪،‬‬ ‫عاملني‪ ،‬وال �أموات م�سرتيحني‪ ،‬بل �أنتم بني بني‪ :‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫ي�سمى ُّ‬ ‫برزخ ّ‬ ‫رباه‪� :‬إين �أرى �أ�شباح �أنا�س ي�شبهون ذوي احلياة‪،‬‬ ‫وي�رصح ت�شبيهه بال ّنوم! يا ّ‬ ‫وهم يف احلقيقة موتى ال ي�شعرون‪ ،‬بل هم موتى‪ ،‬لأنهم ال ي�شعرون)‪.‬‬ ‫نعيم مقيم‪،‬‬ ‫(يا قوم‪ :‬هداكم اهلل‪� ،‬إىل متى هذا ال�شقاء املديد وال ّنا�س يف ٍ‬ ‫وع ٍّز كرمي؟ �أفال تنظرون؟ وما هذا الت� ُّأخر‪ ،‬وقد �سبقتكم الأقوام �ألوف مراحل‪،‬‬ ‫حتى �صار ما بعد ورائكم �أمام ًا! �أفال تتبعون؟ وما هذا االنخفا�ض والنا�س‬ ‫الرفعة‪� ،‬أفال تغارون؟ �أنا�شدكم اهلل‪ ،‬هل طابت لكم طول غيبة ال�صواب‬ ‫يف �أوج ّ‬ ‫ثم قاموا‪ ،‬و�إذا بالدنيا غري‬ ‫عنكم؟ �أم �أنتم ك�أهل ذلك الكهف ناموا �ألف عام َّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬والنا�س غري النا�س‪ ،‬ف�أخذتهم الده�شة والتزموا ال�سكون؟)‪.‬‬ ‫(يا قوم‪ :‬وقاكم اهلل من ال�رش‪� ،‬أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع و�رشف‬ ‫القدوة‪ُ ،‬مبتلون بداء التقليد والتبعية يف ك ِّل فك ٍر وعمل‪ ،‬وبداء احلر�ص على ك ِّل‬ ‫عتيق ك�أ َّنكم ُخ ِلقتم للما�ضي ال للحا�رض‪ :‬ت�شكون حا�رضكم وت�سخطون عليه‪،‬‬ ‫ومن يل �أن تدركوا � َّأن حا�رضكم نتيجة ما�ضيكم‪ ،‬ومع ذلك �أراكم تقلِّدون‬ ‫�أجدادكم يف الو�ساو�س واخلرافات والأمور ال�سافالت فقط‪ ،‬وال تقلِّدونهم يف‬ ‫حمامدهم! �أين الدين؟ �أين الرتبية؟ �أين الإح�سا�س؟ �أين الغرية؟ �أين اجل�سارة؟‬ ‫�أين الثبات؟ �أين الرابطة؟ �أين املنعة؟ �أين ال�شهامة؟ �أين النخوة؟ �أين الف�ضيلة؟‬ ‫�أين املوا�ساة؟ هل ت�سمعون؟ �أم �أنتم ُ�ص ٌّم الهون؟)‬ ‫قوم‪ :‬عافاكم اهلل‪� ،‬إىل متى هذا النوم؟ و�إىل متى هذا التق ُّلب على فرا�ش‬ ‫يا ُ‬ ‫الب�أ�س وو�سادة الي�أ�س؟ �أنتم مف َّتح ٌة عيونكم ولكنكم نيام‪ ،‬لكم �أب�صار ولكنكم‬ ‫ال�صدور!‬ ‫ال تنظرون‪ ،‬وهكذا ال تعمى الأب�صار‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ولكن‪ ،‬تعمى القلوب التي يف ّ‬ ‫احل�س ولكنكم ال ت�شعرون به ما‬ ‫�سمع‬ ‫ٌ‬ ‫لكم ٌ‬ ‫ول�سان ولكنكم ُ�ص ٌّم ُب ٌ‬ ‫كم‪ ،‬ولكم �شبيه ِّ‬ ‫ؤو�س كبرية ولكنها م�شغولة مبزعجات‬ ‫هي اللذائذ حق ًا وما هي الآالم‪ ،‬ولكم ر� ٌ‬ ‫ولكن‪� ،‬أنتم ال تعرفون‬ ‫الأوهام والأحالم‪ ،‬ولكم‬ ‫نفو�س ح ُّقها �أن تكون عزيزة‪ْ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫لها قدراً ومقام ًا)‪.‬‬ ‫قوم‪ :‬قاتل اهلل الغباوة‪ ،‬ف�إنها متلأ القلوب رعب ًا من ال �شيء‪ ،‬وخوف ًا‬ ‫(يا ُ‬ ‫من ك ِّل �شيء‪ ،‬وتفعم الر�ؤو�س ت�شوي�ش ًا و�سخافة‪� .‬ألي�ست هي الغباوة جعلتكم‬ ‫وجتي�شون‬ ‫م�سكم ال�شيطان‪ ،‬فتخافون من ظلِّكم وترهبون من قوتكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ك�أنكم قد َّ‬ ‫منكم عليكم جيو�ش ًا ليقتل بع�ضكم بع�ض ًا؟ ترتامون على املوت خوف املوت‪،‬‬

‫‪113‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫الدماغ ونطقكم يف الل�سان و�إح�سا�سكم‬ ‫وحت�سبون ‪-‬طول العمر‪ -‬فكركم يف ِّ‬ ‫يف الوجدان خوف ًا من �أن ي�سجنكم الظاملون‪ ،‬وما ي�سجنون غري �أرجلكم �أيام ًا‪،‬‬ ‫الذل تخافون �أن ت�صريوا ُج َّال�س الرجال يف‬ ‫فما بالكم يا �أحال�س الن�ساء مع ّ‬ ‫ال�سجون؟)‪.‬‬ ‫(يا قوم‪� :‬أُعيذكم باهلل من ف�ساد الر�أي‪ ،‬و�ضياع احلزم‪ ،‬وفقد الثقة بالنف�س‪،‬‬ ‫للر�شد يف �أن يو ِّكل الإن�سان عنه وكي ًال‬ ‫وترك الإرادة للغري‪ ،‬فهل ترون �أثراً ُّ‬ ‫الت�رصف يف ماله و�أهله‪ ،‬والتح ُّكم يف حياته و�رشفه والت�أثري على‬ ‫ويطلق له‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫عبث وخيانة و� ٍ‬ ‫دينه وفكره‪ ،‬مع ت�سليف هذا الوكيل العفو عن ك ِّل ٍ‬ ‫إ�رساف‬ ‫و�إتالف؟ �أم ترون � َّأن هذا النوع من اجلنة به �أن يظلم الإن�سان نف�سه؟ هل خلق‬ ‫اهلل لكم عقو ًال لتفهموا به ك َّل �شيء؟ �أم لتهملوه ك�أ َّنه ال �شيء؟ «� َّإن ا َ‬ ‫هلل ال َيظلم‬ ‫ولكن النا�س �أنف�سهم يظلمون»)‪.‬‬ ‫ال ّنا�س �شيئ ًا َّ‬ ‫(يا قوم‪� :‬شفاكم اهلل‪ ،‬قد ينفع اليوم الإنذار واللوم‪ ،‬و�أما غداً �إذا ح َّل الق�ضاء‪،‬‬ ‫فال يبقى لكم غري ال ّندب والبكاء‪ .‬ف�إىل متى هذا التخادع والتخاذل؟ و�إىل‬ ‫متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الو�سادة اللينة‪ ،‬و�سادة اخلمول؟‬ ‫وتودون لو ت�سكنون القبور؟ �أم عاهدمت �أنف�سكم �أن ت�صلوا‬ ‫�أم طاب لكم ال�سكون ّ‬ ‫ال�سبات قبل �صباح يوم الن�شور‪ ،‬يوم‬ ‫غفلة احلياة باملمات‪ ،‬فال تفيقوا من ُّ‬ ‫وحق لكم‬ ‫تعلو ال�سيوف رقابكم وت�صمي املدافع �آذانكم فتم�سون الأذ ّالء حق ًا‪َّ ،‬‬ ‫�أن تذلوا؟)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قوم‪ :‬رحمكم اهلل‪ ،‬ما هذا احلر�ص على ٍ‬ ‫تعي�سة دنيئة ال متلكونها‬ ‫حياة‬ ‫(يا ُ‬ ‫ون�صب! هل‬ ‫تعب َ‬ ‫�ساعة! ما هذا احلر�ص على الراحة املوهومة وحياتكم ك ُّلها ٌ‬ ‫فخر �أو لكم عليه �أجر؟ ك ّال‪ ،‬وا ِ‬ ‫هلل �ساء ما تتوهمون‪ ،‬لي�س‬ ‫لكم يف هذا َّ‬ ‫ال�صرب ٌ‬ ‫لكم �إال القهر يف احلياة‪ ،‬وقبيح ال ِّذكر بعد املمات‪ ،‬لأ َّنكم ما �أفدمت الوجود‬ ‫للخ َلف‪� .‬أل�ستم‬ ‫ال�سلف و�رصمت بئ�س الوا�سطة َ‬ ‫�شيئ ًا‪ .‬بل �أتلفتم ما ورثتم عن ّ‬ ‫يا نا�س مديونني للأ�سالف بك ِّل ما �أنتم فيه من الرت ّقي عن �إن�سان الغابات؟‬ ‫ف�إذا مل تكونوا �أه ًال للمزيد فكونوا �أه ًال ِ‬ ‫للح ْفظ‪ ،‬وهذه العجماوات تنقل رقيها‬ ‫لن�سلها ب�أمانة)‪.‬‬ ‫حدب ين�سلون‪،‬‬ ‫قوم‪ :‬حماكم اهلل‪ ،‬قد جاءكم امل�ستمتعون من ك ِّل‬ ‫ٍ‬ ‫(يا ُ‬ ‫ف�إن وجدوكم �أيقاظ ًا عاملوكم كما يتعامل اجلريان ويتجامل الأقران‪ ،‬و�إن‬

‫‪114‬‬


‫وحتيلوا‬ ‫وجدوكم رقوداً ال ت�شعرون �سلبوا �أموالكم‪ ،‬وزاحموكم على �أر�ضكم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تذليلكم‪ ،‬و�أوثقوا ربطكم‪ ،‬وا َّتخذوكم �أنعام ًا‪ ،‬وعندئ ٍذ لو �أردمت حراك ًا ال تقوون‪،‬‬ ‫بل جتدون القيود م�شدود ًة والأبواب م�سدودة ال جناة وال خمرج)‪.‬‬ ‫هون اهلل م�صابكم‪ ،‬ت�شكون من اجلهل وال تنفقون على التعليم‬ ‫(يا ُ‬ ‫قوم‪َّ :‬‬ ‫ن�صف ما ت�رصفون على التدخني‪ ،‬ت�شكون من احل َّكام‪ ،‬وهم اليوم منكم‪ ،‬فال‬ ‫ٍ‬ ‫وجوه ال تف ِّكرون‬ ‫ت�سعون يف �إ�صالحهم‪ ،‬ت�شكون فقد الرابطة‪ ،‬ولكم روابط من‬ ‫ال�صالح و�أنتم‬ ‫يف �إحكامها‪ .‬ت�شكون الفقر وال �سبب له غري الك�سل‪ .‬هل ترجون َّ‬ ‫ُيخادع بع�ضكم بع�ض ًا وال تخدعون �إال �أنف�سكم؟‪ .‬تر�ضون ب�أدنى املعي�شة‬ ‫متوهون على‬ ‫�سمونه ُّ‬ ‫توك ًال! ِّ‬ ‫�سمونه قناعة‪ ،‬وتهملون �ش�ؤونكم تهاون ًا ُت ّ‬ ‫عجزاً ُت ّ‬ ‫جهلكم الأ�سباب بق�ضاء اهلل وتدفعون عار امل�سببات بعطفها على القدر‪� ،‬أال‬ ‫واهلل ما هذا �ش�أن الب�رش!)‪.‬‬ ‫اجلبار‪� .‬أمل‬ ‫(يا ُ‬ ‫قوم‪� :‬ساحمكم اهلل‪ ،‬ال تظلموا الأقدار‪ ،‬وخافوا غرية املنعم ّ‬ ‫أكفاء �أحراراً طلقاء ال يثقلكم غري ال ّنور والن�سيم‪ ،‬ف�أبيتم �إال �أن حتملوا‬ ‫يخلقكم � ً‬ ‫حمل �صغريكم‬ ‫على عواتقكم ظلم ال�ضعفاء وقهر الأقوياء؟! لو �شاء كبريكم �أن ُي ِّ‬ ‫كرة الأر�ض حلنى له ظهره‪ ،‬ولو �شاء �أن يركبه لط�أط�أ له ر�أ�سه‪ .‬ماذا ا�ستفدمت‬ ‫من هذا اخل�ضوع واخل�شوع لغري اهلل؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب‬ ‫ال�صغار كلِّه هو �ضعف ثقتكم‬ ‫وخف�ض ال�صوت ونك�س الر�أ�س؟ �ألي�س من�ش�أ هذا ّ‬ ‫ب�أنف�سكم‪ ،‬ك�أ ِّنكم عاجزون عن حت�صيل ما تقوم به احلياة‪ ،‬وح�سب احلياة‬ ‫قيمات من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نبات يقمن �ضلع ابن �آدم‪ ،‬وقد بذلها اخل ّالق لأ�ضعف احليوان‪،‬‬ ‫ُل‬ ‫وهذه الوحو�ش جتد فرائ�سها �أينما ح َّلت‪ ،‬وهذه الهوام ال تفقد قوتها؟ فما بال‬ ‫الرجل منكم ي�ضع نف�سه مقام الطفل الذي ال ينال حاجته �إال بالتذ ُّلل والبكاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والدعاء؟)‪.‬‬ ‫�أو مو�ضع ال�شيخ الفاين الذي ال ينال حاجته �إال بالتم ُّلق ُّ‬ ‫(يا قوم‪ :‬رفع اهلل عنكم املكروه‪ ،‬ما هذا التفاوت بني �أفرادكم وقد خلقكم‬ ‫ربكم �أكفاء يف البنية‪� ،‬أكفاء يف القوة‪ِ � ،‬أك ّفاء يف الطبيعة‪� ،‬أك َّفاء يف احلاجات‪،‬‬ ‫ال يف�ضل بع�ضكم بع�ض ًا �إال بالف�ضيلة‪ ،‬ال ربوبية بينكم وال عبودية؟ واهلل‪،‬‬ ‫برزخ من الوهم‪ .‬ولو درى ال�صغري بوهمه‪،‬‬ ‫لي�س بني �صغريكم وكبريكم غري ٍ‬ ‫العاجز بوهمه‪ ،‬ما يف النف�س الكبري املت�آله من اخلوف منه لزال الإ�شكال‬ ‫وق�ضي الأمر الذي فيه ت�شقون! يا �أعزاء اخللقة‪ ،‬جهالء املقام‪ ،‬كان النا�س‬

‫‪115‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫ثم تر ّقى ال ّنا�س‪ ،‬فهبط‬ ‫يف دور الهمجية‪ ،‬فكان ُدهاتهم بينهم �آلهة و�أنبياء‪َّ ،‬‬ ‫حل َّكام‬ ‫الرقي‬ ‫فانحط �أولئك �إىل مرتبة ا ُ‬ ‫َّ‬ ‫ه�ؤالء ملقام اجلبابرة والأولياء‪َّ ،‬‬ ‫ثم زاد ّ‬ ‫واحلكماء‪ ،‬حتى �صار ال ّنا�س نا�س ًا فزال العماء‪ ،‬وانك�شف الغطاء‪ ،‬وبان � َّأن‬ ‫الك َّل �أكفاء‪ .‬ف�أنا�شدكم اهلل يف �أي الأدوار �أنتم؟ �أال تف ِّكرون؟)‪.‬‬ ‫قوم‪ :‬جعلكم اهلل من املهتدين‪ ،‬كان �أجدادكم ال ينحنون �إال ركوع ًا‬ ‫(يا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مغمو�سة بدم الإخوان‪،‬‬ ‫بلقمة‬ ‫هلل‪ ،‬و�أنتم ت�سجدون لتقبيل �أرجل املن ِعمني ولو‬ ‫معوجة رقابكم‬ ‫و�أجدادكم ينامون يف قبورهم م�ستوين �أعزاء‪ ،‬و�أنتم �أحياء َّ‬ ‫تود لو تنت�صب قاماتها و�أنتم من كرثة اخل�ضوع كادت ت�صري‬ ‫�أذ ّالء! البهائم ُّ‬ ‫�أيديكم قوائم‪ .‬النبات يطلب العلو و�أنتم تطلبون االنخفا�ض‪ .‬ل َف َظتكم الأر�ض‬ ‫لتكونوا على ظهرها و�أنتم حري�صون على �أن تنغر�سوا يف جوفها‪ ،‬ف� ْإن كانت‬ ‫بطن الأر�ض بغيتكم‪ ،‬فا�صربوا قلي ًال لتناموا فيها طوي ًال)‪.‬‬ ‫الر�شد‪ ،‬متى ت�ستقيم قاماتكم وترتفع من الأر�ض‬ ‫(يا ُ‬ ‫قوم‪� :‬ألهمكم اهلل ّ‬ ‫�إىل ال�سماء �أنظاركم‪ ،‬ومتيل �إىل التعايل نفو�سكم‪ ،‬في�شعر �أحدكم بوجوده يف‬ ‫الوجود‪ ،‬فيعرف معنى الأنانية لي�ستق ّل بذاته لذاته‪ ،‬وميلك �إرادته واختياره‬ ‫وربه‪ ،‬ال يت ِّكل على �أحد من خلق اهلل ا ِّتكال الناق�ص يف اخللق على‬ ‫ويثق بنف�سه ّ‬ ‫الكامل فيه‪� ،‬أو ا ِّتكال الغا�صب على مال الغافل �أو الك ِّل على �سعي العامل‪ ،‬بل‬ ‫ثم‬ ‫يرى �أحدكم نف�سه �إن�سان ًا كرمي ًا يعتمد على املبادلة والتعاو�ض في�سلف‪َّ ،‬‬ ‫ي�ستويف‪ ،‬وي�ستويف على �أن يفي‪ ،‬بل ينظر يف نف�سه �أ َّنه هو ال ّأمة وحده‪ ،‬وما‬ ‫�أجدر ب�أحدكم �أن يعمل لدنياه بنف�سه لنف�سه‪ ،‬فال ي َّتكل على غريه‪ ،‬كما يعمل‬ ‫الإن�سان ليعبد اهلل ب�شخ�صه ال ينيب عنه غريه؟ ف�إذا فعلتم ذلك �أظهر اهلل بينكم‬ ‫ثمرة الت�ضامن بال ا�شرتاط‪ ،‬والتقا�ضي بال حما�رشة‪ ،‬فت�صريون بنعمة اهلل‬ ‫�إخوان ًا)‪.‬‬ ‫(يا قوم‪� :‬أبعد اهلل عنكم امل�صائب وب�صرَّ كم بالعواقب‪� .‬إن كانت املظامل‬ ‫و�ضيقت �أنف�سكم‪ ،‬حتى �صغرت نفو�سكم‪ ،‬وهانت عليكم هذه‬ ‫غ َّلت �أيديكم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫واجلد و�أم�سيتم ال تبالون �أتعي�شون‬ ‫احلياة و�أ�صبحت ال ت�ساوي عندكم اجلهد‬ ‫ّ‬ ‫�أم متوتون‪ ،‬فه ّال �أخربمتوين ملاذا حت ِّكمون فيكم الظاملني حتى يف املوت؟‬ ‫�ألي�س لكم من اخليار �أن متوتوا كما ت�شا�ؤون‪ ،‬ال كما ي�شاء الظاملون؟ هل �سلب‬ ‫اال�ستبداد �إرادتكم حتى يف املوت؟ كال واهلل‪� :‬إن �أنا �أحببت املوت �أموت كما‬

‫‪116‬‬


‫بد‪ ،‬فلماذا اجلبانة؟‬ ‫�أحب‪ ،‬لئيم ًا �أو كرمي ًا‪ ،‬حتف ًا �أو �شهيداً‪ ،‬ف�إن كان املوت وال َّ‬ ‫و�إن �أردت املوت‪ ،‬فليكن اليوم قبل الغد‪ ،‬ولكن بيدي ال بيد عمرو‪� .‬ألي�س‪:‬‬ ‫وطعم املوت يف �أم ٍر �صغري ‬

‫كطعم املوت يف �أم ٍر عظي ِم‬

‫حتبون املوت‪ ،‬بل‬ ‫قوم‪� :‬أنا�شدكم اهلل‪� ،‬أال �أقول حق ًا �إذا ُ‬ ‫قلت �إ َّنكم ال ُّ‬ ‫(يا ُ‬ ‫تنفرون منه‪ ،‬ولكنكم جتهلون الطريق فتهربون من املوت �إىل املوت‪ ،‬ولو‬ ‫موت‪ ،‬وطلب املوت حياة‪،‬‬ ‫اهتديتم �إىل ال�سبيل لعلمتم � َّأن الهرب من املوت ٌ‬ ‫تعب‪ ،‬والإقدام على التعب راح ٌة‪ ،‬ولفطنتم �إىل � َّأن‬ ‫ولعرفتم � َّأن اخلوف من التعب ٌ‬ ‫و�سقياها قطرات من الدم الأحمر امل�سفوح‪ ،‬والأ�سارة‬ ‫احلرية هي �شجرة اخللد‪ُ ،‬‬ ‫هي �شجرة الز ّقوم‪ ،‬و�سقياها �أنهر من الدم الأبي�ض‪� ،‬أي الدموع‪ ،‬ولو كربت‬ ‫نفو�سكم لتفاخرمت بتزيني �صدوركم بورد اجلروح ال بو�سامات الظاملني؟!)‪.‬‬ ‫قوم‪ :‬و�أعني منكم امل�ساكني‪� ...‬أيها امل�سلمون‪� :‬إين ن�ش�أت و�شبت و�أنا‬ ‫(يا ُ‬ ‫أتق�صى‬ ‫�أف ِّكر يف �ش�أننا االجتماعي‪ ،‬ع�سى �أهتدي لت�شخي�ص دائنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فكنت � ّ‬ ‫وقعت على ما �أظ ُّنه عام ًا‪� ،‬أقول‪ :‬لع َّل هذا هو‬ ‫ال�سبب بعد ال�سبب‪ ،‬حتى �إذا‬ ‫ُ‬ ‫أتعمق فيه متحي�ص ًا و�أحلِّله حتلي ًال‪ ،‬فينك�شف التحقيق عن‬ ‫جرثومة ّ‬ ‫الداء‪ ،‬ف� َّ‬ ‫� َّأن ما قام يف الفكر هو �سبب من جملة الأ�سباب‪� ،‬أو هو �سبب فرعي ال �أ�صلي‪،‬‬ ‫أ�صبحت �أجهد الفكر يف‬ ‫أم�سيت و�‬ ‫ف�أخيب و�أعود �إىل البحث والتنقيب‪ .‬وطاملا �‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�سافرت لأ�ستطلع �آراء ذوي الآراء‪ ،‬ع�سى �أهتدي‬ ‫�سعيت‬ ‫اال�ستق�صاء‪ ،‬وكثرياً ما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستقرت عليه‬ ‫ربي‪ .‬و�آخر ما‬ ‫�إىل ما ي�شفي �صدري من �آالم بحث �أتعبني به ِّ‬ ‫َّ‬ ‫�سفينة فكري هو‪:‬‬ ‫� َّإن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة واحلكمة‪ ،‬دين‬ ‫النظام والن�شاط‪ ،‬دين القر�آن ال�رصيح البيان‪� ،‬إىل �صيغة �أ َّنا جعلناه دين‬ ‫اخليال واخلبال‪ ،‬دين اخللل والت�شوي�ش‪ ،‬دين الب َِدع والت�شديد‪ ،‬دين الإجهاد‪.‬‬ ‫دب فينا هذا املر�ض منذ �ألف عام‪ ،‬فتم َّكن فينا و�أ َّثر يف ك ِّل �ش�ؤوننا‪،‬‬ ‫وقد َّ‬ ‫حتى بلغ فينا ا�ستحكام اخللل يف الفكر والعمل �أننا ال نرى يف اخلالق ‪-‬ج َّل‬ ‫�ش�أنه‪ -‬نظام ًا فيما ا َّت�صف‪ ،‬نظام ًا فيما ق�ضى‪ ،‬نظام ًا فيما �أمر‪ ،‬وال نطالب‬ ‫واطراد ومثابرة‪.‬‬ ‫بنظام‬ ‫�أنف�سنا ف�ض ًال عن �آمرنا �أو م�أمورنا‬ ‫وترتيب ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫‪117‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫م�شو�شة‪،‬‬ ‫م�شو�ش‪ ،‬و�سيا�ستنا َّ‬ ‫م�شو�ش‪ ،‬وفكرنا َّ‬ ‫وهكذا �أ�صبحنا واعتقادنا َّ‬ ‫م�شو�شة‪ .‬ف�أين منا واحلالة هذه‪ ،‬احلياة الفكرية‪ ،‬احلياة العملية‪،‬‬ ‫ومعي�شتنا َّ‬ ‫احلياة العائلية‪ ،‬احلياة االجتماعية‪ ،‬احلياة ال�سيا�سية؟!)‪.‬‬ ‫�ضيع دينكم ودنياكم �سا�ستكم الأولون وعلما�ؤكم املنافقون‪،‬‬ ‫قوم‪ :‬قد َّ‬ ‫(يا ُ‬ ‫و�إنيّ �أر�شدكم �إىل عملٍ �إفرادي ال حرج فيه علم ًا وال عم ًال‪� :‬ألي�س بني جنبي‬ ‫ك ِّل ٍ‬ ‫ال�رش‪ ،‬واملعروف من املنكر ولو متييزاً‬ ‫فرد منكم وجدان مييز اخلري من ّ‬ ‫�إجمالي ًا؟ �أما بلغكم قول معلِّم اخلري نبيكم الكرمي عليه �أف�ضل ال�صالة والت�سليم‪:‬‬ ‫طن اهلل عليكم �رشاركم فيدعو‬ ‫أمرن باملعروف‬ ‫ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلِّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫«لت� َّ‬ ‫خياركم فال ي�ستجاب لهم»‪ ،‬وقوله‪« :‬من ر�أى منكم منكراً فليغيرّ ه بيده‪ ،‬و�إن مل‬ ‫ي�ستطع فبل�سانه‪ ،‬و�إن مل ي�ستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك �أ�ضعف الإميان»؟!‬ ‫(و�أنتم تعلمون �إجماع �أئمة مذاهبكم كلِّها على � َّأن �أنكر املنكرات بعد الكفر‬ ‫وثم‪ ...،‬وقد �أو�ضح العلماء � َّأن‬ ‫هو ُّ‬ ‫ثم‪َّ ،‬‬ ‫ثم قتل ال َّنف�س‪َّ ،‬‬ ‫الظلم الذي ف�شا فيكم‪َّ ،‬‬ ‫بناء عليه‪ ،‬فمن‬ ‫تغيري املنكر بالقلب هو بغ�ض‬ ‫ِّ‬ ‫املتلب�س فيه بغ�ض ًا يف اهلل‪ً .‬‬ ‫يعامل الظامل �أو الفا�سق غري م�ضطر‪� ،‬أو يجامله ولو بال�سالم‪ ،‬يكون قد خ�رس‬ ‫�أ�ضعف الإميان والعياذ باهلل)‪.‬‬ ‫(وال �أظنكم جتهلون � َّأن كلمة ال�شهادة‪ ،‬وال�صوم وال�صالة‪ ،‬واحلج والزكاة‪،‬‬ ‫ال�شعائر‪،‬‬ ‫ك ّلها ال تغني �شيئ ًا مع فقد الإميان‪� ،‬إمنا يكون القيام حينئ ٍذ بهذه ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بعادات وتقليدات وهو�سات ت�ضيع بها الأموال والأوقات)‪.‬‬ ‫قيام ًا‬ ‫(بناء عليه‪ ،‬فالدين يكلِّفكم �إن كنتم م�سلمني‪ ،‬واحلكمة ُتلزِمكم �إن كنتم‬ ‫ً‬ ‫عاقلني‪� :‬أن ت�أمروا باملعروف وتنهوا عن املنكر جهدكم‪ ،‬وال �أق ّل يف هذا الباب‬ ‫من �إبطانكم البغ�ضاء للظاملني والفا�سقني‪ ،‬و�أظ ّنكم �إذا ت� َّأملتم قلي ًال ترون هذا‬ ‫الدواء ال�سهل املقدور لك ِّل �إن�سانٍ منكم‪ ،‬يكفي لإنقاذكم مما ت�شكون‪ .‬والقيام‬ ‫بهذا الواجب متعينّ على ك ِّل فرد منكم بنف�سه‪ ،‬ولو �أهمله كا ّفة امل�سلمني‪ .‬ولو‬ ‫� َّأن �أجدادكم الأولني قاموا به ملا و�صلتم �إىل ما �أنتم عليه من الهوان‪ .‬فهذا‬ ‫ني وعمل‪ ،‬ال‬ ‫والدين ما يدين به الفرد ال ما يدين به اجلمع‪ ،‬والدين يق ٌ‬ ‫دينكم‪ّ ،‬‬ ‫علم ِ‬ ‫فظ يف الأذهان‪� .‬ألي�س من قواعد دينكم فر�ض الكفاية وهو �أن يعمل‬ ‫وح ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫امل�سلم ما عليه غري منتظ ٍر غريه؟!)‪.‬‬ ‫يغركم دين ال تعملون به و�إن كان‬ ‫(ف�أنا�شدكم اهلل يا م�سلمني‪� :‬أن ال َّ‬

‫‪118‬‬


‫خري دين‪ ،‬وال تغر َّنكم �أنف�سكم ب�أ َّنكم � ّأمة خري �أو خري � ّأمة‪ ،‬و�أنتم املتواكلون‬ ‫ال�شعار‬ ‫قوة �إال باهلل العلي العظيم‪ .‬و ِن ْع َم ِّ‬ ‫املقت�رصون على �شعار‪ :‬ال حول وال ّ‬ ‫�شعار امل�ؤمنني‪ ،‬ولكن‪� ،‬أين هم؟ �إين ال �أرى �أمامي � َّأم ًة تعرف حق ًا معنى ال �إله‬ ‫�إال اهلل‪ ،‬بل �أرى � َّأم ًة خبلتها عبادة الظاملني!)‪.‬‬ ‫قوم‪ :‬و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني‪� ،‬أدعوكم �إىل‬ ‫(يا ُ‬ ‫تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد‪ ،‬وما جناه الآباء والأجداد‪ ،‬فقد كفى ما ُفعل‬ ‫ذلك على �أيدي املثريين‪ ،‬و�أج ُّلكم من �أن ال تهتدوا لو�سائل االتحِّ اد و�أنتم‬ ‫املهتدون ال�سابقون‪ .‬فهذه �أمم �أو�سرتيا و�أمريكا قد هداها العلم لطرائق �ش ّتى‬ ‫و�أ�صول را�سخة لالتحِّ اد الوطني دون الديني‪ ،‬والوفاق اجلن�سي دون املذهبي‪،‬‬ ‫واالرتباط ال�سيا�سي دون الإداري‪ .‬فما بالنا نحن ال نفتكر يف �أن نتبع‬ ‫ال�شحناء من الأعاجم‬ ‫�إحدى تلك الطرائق �أو �شبهها‪ .‬فيقول عقال�ؤنا ملثريي َّ‬ ‫ندبر �ش�أننا‪ ،‬نتفاهم بالف�صحاء‪ ،‬ونرتاحم‬ ‫والأجانب‪ :‬دعونا يا ه�ؤالء نحن ِّ‬ ‫ال�رضاء‪ ،‬ونت�ساوى يف ال�سرَّ اء‪.‬‬ ‫بالإخاء‪ ،‬ونتوا�سى يف‬ ‫ّ‬ ‫ندبر حياتنا الدنيا‪ ،‬وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط‪ .‬دعونا‬ ‫دعونا ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫فلنحي‬ ‫فليحي الوطن‪،‬‬ ‫(فلتحي الأمة‪،‬‬ ‫كلمات �سواء‪� ،‬أال وهي‪:‬‬ ‫جنتمع على‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫طلقاء �أع ّزاء)‪.‬‬ ‫أخ�ص منكم ال ُّنجباء للتب�صرُّ والتب�صري فيما �آل �إليه امل�صري‪،‬‬ ‫(�أدعوكم و� ُّ‬ ‫أخف ا�ستحقاراً لأخيه الغربي؟ هذا الغربي قد �أ�صبح‬ ‫�ألي�س مطلق العربي � ّ‬ ‫تظاهره مع بع�ضنا بالإخاء الديني �إال‬ ‫مادي ًا ال دين له غري الك�سب‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وك ِذب ًا‪ .‬ه�ؤالء الفرن�سي�س يطاردون �أهل الدين‪ ،‬ويعملون على �أ َّنهم‬ ‫ة‬ ‫خمادع‬ ‫ً َ‬ ‫ال�صياد‬ ‫د‬ ‫يغر‬ ‫كما‬ ‫إال‬ ‫�‬ ‫ق‪،‬‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ين‬ ‫الد‬ ‫دعواهم‬ ‫تكون‬ ‫ال‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫بناء‬ ‫شرَّ‬ ‫ِّ‬ ‫يتنا�سونه‪ً ،‬‬ ‫ِّ ّ‬ ‫وراء الأ�شباك!‬ ‫لو كان للدين ت�أثري عند الغربي ملا كانت البغ�ضاء بني الالتني وال�سك�سون‪،‬‬ ‫بل بني الطليان والفرن�سي�س‪ ،‬وملا كانت بني الأملان والفرن�سيني الغربيني‪.‬‬ ‫الغربي �أرقى من ال�رشقي علم ًا وثروة ومنعة‪ ،‬فله على ال�رشقيني �إذا واطنهم‬ ‫ال�سيادة الطبيعية‪� .‬أما ال�رشقيون فيما بينهم‪ ،‬فمتقاربون ال يتغابنون‪.‬‬ ‫الغربي يعرف كيف ي�سو�س‪ ،‬وكيف يتم َّتع‪ ،‬وكيف ي�أ�رس‪ ،‬وكيف ي�ست�أثر‪.‬‬ ‫فمتى ر�أى فيكم ا�ستعداداً واندفاع ًا ملجاراته �أو �سبقه‪� ،‬ضغط على عقولكم‬

‫‪119‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫لتبقوا وراءه �شوط ًا كبرياً كما يفعل الرو�س مع البولونيني‪ ،‬واليهود والتتار‪،‬‬ ‫وكذلك �ش�أن ك ِّل امل�ستعمرين‪ .‬الغربي مهما مكث يف ال�رشق ال يخرج عن �أ َّنه‬ ‫تاجر م�ستمتع‪ ،‬في�أخذ ف�سائل ال�رشق ليغر�سها يف بلده التي ال يفت�أ يفتخر‬ ‫بريا�ضها‬ ‫ويحن �إىل �أربا�ضها‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫قد م�ضى على الهوالنديني يف الهند وجزائرها‪ ،‬وعلى الرو�س يف قاوزان‪،‬‬ ‫ولكن‪ ،‬ما خدموا العلم والعمران بع�رش ما خدمناها‪،‬‬ ‫مثل ما �أقمنا يف الأندل�س‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بجريدة‬ ‫ودخل الفرن�ساويون اجلزائر منذ �سبعني عام ًا‪ ،‬ومل ي�سمحوا بعد لأهلها‬ ‫ف�ضل قديد بالده‪ ،‬و�سمك بحاره‪ ،‬على‬ ‫قر�أ‪ .‬نرى الإنكليزي يف بالدنا ُي ِّ‬ ‫واحدة ُت َ‬ ‫طري حلمنا و�سمكنا‪ .‬فهلاّ واحلالة هذه تب�رصون يا �أويل الألباب؟)‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫(و�أنت �أيها ال�رشق الفخيم رعاك اهلل‪ .‬ماذا دهاك؟ ماذا �أقعدك عن م�رساك؟‬ ‫�ألي�ست �أر�ضك تلك الأر�ض ذات اجلنان والأقنان‪ ،‬ومنبت العلم والعرفان‪،‬‬ ‫و�سما�ؤك تلك ال�سماء م�صدر الأنوار‪ ،‬ومهبط احلكمة والأديان‪ ،‬وهوا�ؤك ذاك‬ ‫الن�سيم العدل‪ ،‬ال العوا�صف وال�ضباب‪ .‬وما�ؤك ذاك العذب الغدق‪ ،‬ال الكدر وال‬ ‫الأجاج؟)‪.‬‬ ‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ماذا �أ�صابك ف�أخ َّل نظامك‪ ،‬والدهر ذاك الدهر ما غيرَّ‬ ‫وبنوك هم الفائقون‬ ‫و�ضعك‪َّ ،‬‬ ‫وبدل �رشعه فيك؟ �أمل تزل مناطقك هي املعتدلة‪َ ،‬‬ ‫فطر ًة وعدداً؟ �ألي�س نظام اهلل فيك على عهده الأول‪ ،‬ورابطة الأديان يف بنيك‬ ‫محُ كمة قومية‪ ،‬م�ؤ�س�سة على عبادة ال�صانع الوازع؟ �ألي�ست معرفة املنعم‬ ‫حب‬ ‫حقيقة راهنة �أ�رشقت فيك �شم�سها‪َّ � ،‬أيدت بها ع ّز النف�س‪ ،‬و�أحكمت بها َّ‬ ‫وحب اجلن�س؟)‪.‬‬ ‫الوطن َّ‬ ‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ماذا عراك و�س َّكن منك احلراك؟ �أمل تزل �أر�ضك وا�سعة‬ ‫خ�صبة‪ ،‬ومعادنك وافية غنية‪ ،‬وحيوانك رابي ًا متنا�س ًال‪ ،‬وعمرانك قائم ًا‬ ‫ربيتهم �أقرب للخري من ال�شرَّ ؟ �ألي�س عندهم احللم‬ ‫متوا�ص ًال‪َ ،‬‬ ‫وبنوك على ما َّ‬ ‫امل�سمى باجلبانة‪،‬‬ ‫امل�سمى عند غريهم �ضعف ًا يف القلب‪ ،‬وعندهم احلياء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�سماة بالعجز‪ ،‬وعندهم‬ ‫القناعة‬ ‫وعندهم‬ ‫إتالف‪،‬‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ى‬ ‫امل�سم‬ ‫الكرم‬ ‫وعندهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالذل؟ نعم‪ ،‬ما هم‬ ‫امل�سماة‬ ‫املجاملة‬ ‫وعندهم‬ ‫بالبالهة‪،‬‬ ‫امل�سماة‬ ‫الع ّفة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بال�ساملني من الظلم‪ ،‬ولكن‪ ،‬فيما بينهم‪ ،‬وال من اخلدع‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال يفتخرون‬ ‫به‪ ،‬وال من الإ�رضار‪ ،‬ولكن‪ ،‬مع اخلوف من اهلل)‪.‬‬

‫‪120‬‬


‫ال�شقاء‬ ‫الدهر فيك ما ي�ستوجب هذا ّ‬ ‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬ال نرى من غري ّ‬ ‫لبنيك‪ ،‬وي�ستلزم ذ َّلهم لبني �أخيك‪ .‬فلماذا قد �أ�صبحت �إذا انقطع عنك مدد‬ ‫فقد احلديد‬ ‫�أخيك مب�صنوعاته‪ ،‬يبقى �أبنا�ؤك ُعراة حفاة يف ظالم‪ ،‬بل مي ّنيهم ُ‬ ‫بالرجوع �إىل الع�رص ال ّنحا�سي‪ ،‬بل احلجري املو�صوف بع�رص التعفني؟)‪.‬‬ ‫(رعاك اهلل يا �رشق‪ ،‬بل راعى اهلل �أخاك الغرب‪ ،‬العائل بنف�سه والعائل فيك‪،‬‬ ‫وقاتل اهلل اال�ستبداد‪ ،‬بل لعن اهلل اال�ستبداد‪ ،‬املانع من الترّ ّقي يف احلياة‪،‬‬ ‫املنحط بالأمم �إىل �أ�سفل الدركات‪� .‬أال ُبعداً للظاملني)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وبياك‪ ،‬قد عرفت لأخيك �سابق ف�ضله عليك‪،‬‬ ‫اك‬ ‫وحي‬ ‫غرب‪،‬‬ ‫يا‬ ‫اهلل‬ ‫(رعاك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ا�شتد �ساعد بع�ض �أوالد‬ ‫فوفيت‪ ،‬وكفيت‪ ،‬و�أح�سنت الو�صاية وهديت‪ ،‬وقد‬ ‫َّ‬ ‫�أخيك‪ ،‬فهلاّ ينتدب بع�ض �شيوخ �أحرارك لإعانة �أجناب �أخيك على هدم ذاك‬ ‫ال�سور‪� ،‬سور ال�ش�ؤم وال�رشور‪ ،‬ليخرجوا �إىل �أر�ض احلياة‪� ،‬أر�ض الأنبياء الهداة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في�شكرون ف�ضلك والدهر مكاف�أة؟)‪.‬‬ ‫وفقد‬ ‫الدين غري ال�رشق � ْإن دامت حياته بحريته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غرب‪ ،‬ال يحفظ لك ِّ‬ ‫(يا ُ‬ ‫يهددك باخلراب القريب‪ .‬فماذا �أعددت للفو�ضيني �إذا �صاروا جي�ش ًا‬ ‫الدين ِّ‬ ‫ّ‬ ‫جراراً؟ وماذا �أعددت لديارك احلبلى بالثورة االجتماعية؟ هل ُت ِع ُّد املواد‬ ‫جاوزت �أنواعها الألف؟ �أن ُت ِع ُّد الغازات اخلانقة وقد �سهل‬ ‫املتفرقعة‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫ا�ستح�ضارها على ال�صبيان؟)‪.‬‬ ‫(يا قوم‪ :‬و�أريد بكم �شباب اليوم‪ ،‬رجال الغد‪� ،‬شباب الفكر‪ ،‬رجال اجلد‪،‬‬ ‫�أُعيذكم من اخلزي واخلذالن بتفرقة الأديان‪ ،‬و�أُعيذكم من اجلهل‪ ،‬جهل � َّأن‬ ‫ربك جلعل النا�س‬ ‫الدينونة هلل‪ ،‬وهو �سبحانه و ُّ‬ ‫يل ال�رسائر وال�ضمائر «ولو �شاء ُّ‬ ‫� ّأم ًة واحدة»)‪.‬‬ ‫(�أنا�شدكم يا نا�شئة الأوطان‪� ،‬أن تعذروا ه�ؤالء الواهنة اخلائرة قواهم �إال‬ ‫املعطل عملهم �إال يف التثبيط‪ ،‬الذين اجتمع فيهم داء اال�ستبداد‬ ‫يف �أل�سنتهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والتواكل فجعالهما �آلة ُتدار وال تدير‪ .‬و�أ�س�ألكم عفوهم من العتاب واملالم‪،‬‬ ‫لأ َّنهم مر�ضى مبتلون‪ ،‬مثقلون بالقيود‪ ،‬ملجمون باحلديد‪ ،‬يق�ضون حياة خري‬ ‫ما فيها �أ َّنهم �آبا�ؤكم!)‪.‬‬ ‫(قد علمتم يا نجُ َ باء من طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ُج َم ًال كافية‬ ‫للتدبر‪ ،‬فاعتربوا بنا وا�س�ألوا اهلل العافية‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫‪121‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫نحن �أ ِلفنا الأدب مع الكبري ولو دا�س رقابنا‪� .‬أ ِلفنا الثبات ثبات الأوتاد‬ ‫حتت املطارق‪� ،‬أ ِلفنا االنقياد ولو �إىل املهالك‪� .‬أ ِلفنا �أن نعترب ال َّت�صاغر �أدب ًا‬ ‫والتذ ُّلل لطف ًا‪ ،‬والتم ُّلق ف�صاح ًة‪ ،‬واللكنة رزانة‪ ،‬وترك احلقوق �سماح ًة‪ ،‬وقبول‬ ‫بالظلم طاعة‪ ،‬ودعوى اال�ستحقاق غروراً‪ ،‬والبحث‬ ‫والر�ضا ُّ‬ ‫الإهانة توا�ضع ًا‪ِّ ،‬‬ ‫تهوراً‪،‬‬ ‫عن العموميات ف�ضو ًال‪َّ ،‬‬ ‫ومد ال َّنظر �إىل الغد �أم ًال طوي ًال‪ ،‬والإقدام ُّ‬ ‫وحرية الفكر ُكفراً‪،‬‬ ‫وحرية القول وقاحة‪،‬‬ ‫وال�شهامة �رشا�سة‪،‬‬ ‫واحلمية حماقة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وحب الوطن جنون ًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫�أما �أنتم‪ ،‬حماكم اهلل من ال�سوء‪ ،‬فرنجو لكم �أن تن�ش�ؤوا على غري ذلك‪،‬‬ ‫التم�سك ب�أ�صول الدين‪ ،‬دون �أوهام املتفننني‪ ،‬فتعرفوا قدر‬ ‫�أن تن�ش�ؤوا على‬ ‫ُّ‬ ‫نفو�سكم يف هذه احلياة فتكرموها‪ ،‬وتعرفوا قدر �أرواحكم و�أ َّنها خالدة ُتثاب‬ ‫وتجُ زى‪ ،‬وت َّتبعوا ُ�سنن النبيني فال تخافون غري ال�صانع الوازع العظيم‪ .‬ونرجو‬ ‫ال�شيم‪ ،‬وال على عظام‬ ‫لكم �أن تبنوا ق�صور فخاركم على معايل الهمم ومكارم َّ‬ ‫نخرة‪ .‬و�أن تعلموا �أ َّنكم ُخ ِلقتم �أحراراً لتموتوا كرام ًا‪ ،‬فاجهدوا على �أن حتيوا‬ ‫ر�ضية‪ ،‬يت�س ّنى فيها لك ٍّل منكم �أن يكون �سلطان ًا م�ستق ًال‬ ‫ذلكما اليومني حيا ًة‬ ‫ّ‬ ‫ي�ضن عليهم بعنيٍ �أو‬ ‫وفي ًا لقومه ال‬ ‫يف �ش�ؤونه ال يحكمه غري ّ‬ ‫ُّ‬ ‫احلق‪ ،‬ومدين ًا ّ‬ ‫وحمب ًا‬ ‫باراً لوطنه‪ ،‬ال يبخل عليه بجز ٍء من فكره ووقته وماله‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عون‪ ،‬وولداً ّ‬ ‫للإن�سانية ويعمل على � َّأن خري النا�س �أنفعهم للنا�س‪ ،‬يعلم � َّأن احلياة هي‬ ‫العمل ووباء العمل القنوط‪ ،‬وال�سعادة هي الأمل‪ ،‬ووباء الأمل الرتدد‪ ،‬ويفقه‬ ‫� َّأن الق�ضاء والقدر هما عند اهلل ما يعلمه ومي�ضيه‪ ،‬وهما عند النا�س ال�سعي‬ ‫والعمل‪ ،‬ويوقن � َّأن ك َّل �أث ٍر على ظهر الأر�ض هو من عمل �إخوانه الب�رش‪ ،‬وك َّل‬ ‫تعاو َر ُه غريه �إىل � ْأن كمل‪ ،‬فال يتخيل الإن�سان‬ ‫عملٍ عظيم قد ابتد�أ به ٌ‬ ‫ثم َ‬ ‫فرد‪َّ ،‬‬ ‫يف نف�سه عجزاً‪ ،‬وال يتو َّقع �إال خرياً‪ ،‬وخري اخلري للإن�سان �أن يعي�ش ُح ّراً‬ ‫مقدام ًا‪� ،‬أو ميوت)‪.‬‬ ‫(وك�أنيّ ب�سائلكم ي�س�ألني تاريخ التغالب بني ال�رشق والغرب‪ ،‬ف�أجيب‪ :‬ب�أ َّنا‬ ‫ني من‬ ‫ثم جاء ح ٌ‬ ‫فقوة‪ ،‬فك َّنا له �أ�سياداً! َّ‬ ‫ك ّنا �أرقى من الغرب علم ًا‪ ،‬فنظام ًا‪َّ ،‬‬ ‫الدهر حلق بنا الغرب‪ ،‬ف�صارت مزاحمة احلياة بيننا ِ�سجا ًال‪ْ � :‬إن ُف ْقناه �شجاع ًة‬ ‫َّ‬ ‫ثم جاء ال ّزمن الأخري‬ ‫كلمته‪.‬‬ ‫باجتماع‬ ‫فاقنا‬ ‫ة‬ ‫ثرو‬ ‫قناه‬ ‫ف‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫عدد‬ ‫فاقنا‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫وان�ضم �إىل ذلك �أو ًال‪ :‬قوة اجتماعه‬ ‫فقو ًة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تر ّقى فيه الغرب علم ًا‪ ،‬فنظام ًا‪ّ ،‬‬

‫‪122‬‬


‫قوة البارود‪ ،‬حيث �أبطل ال�شجاعة وجعل العربة للعدد‪.‬‬ ‫�شعوب ًا كبري ًة‪ .‬ثاني ًا‪َّ :‬‬ ‫قوة الفحم الذي �أهدته له‬ ‫قوة ك�شفه �أ�رسار الكيمياء وامليكانيك‪ .‬رابع ًا‪َّ :‬‬ ‫ثالث ًا‪َّ :‬‬ ‫قوة الأمن على‬ ‫قوة الن�شاط بك�رسه قيود اال�ستبداد‪� .‬ساد�س ًا‪َّ :‬‬ ‫الطبيعة‪ .‬خام�س ًا‪َّ :‬‬ ‫القوات فيه ولي�س عند ال�شرَّ ق‬ ‫عقد ال�رشكات املالية الكبرية‪ .‬فاجتمعت هذه ّ‬ ‫بالدين خالف ًا‬ ‫حجة عليه‪ ،‬والغرور ّ‬ ‫ما يقابلها غري االفتخار بالأ�سالف‪ ،‬وذلك َّ‬ ‫(ح�س ُبنا اهلل‬ ‫ّ‬ ‫للدين‪ ،‬فامل�سلمون يقابلون تلك القوات مبا ُيقال عند الي�أ�س وهو‪ْ :‬‬ ‫ِ‬ ‫قوة‪ ،‬ال‬ ‫من‬ ‫ا�ستطاعوا‬ ‫ما‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫لهم‬ ‫آن‬ ‫�‬ ‫القر‬ ‫أمر‬ ‫�‬ ‫ويخالفون‬ ‫الوكيل)‪،‬‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ُ ّ‬ ‫و ِن ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫�صالة و�صوم‪.‬‬ ‫ما ا�ستطاعوا من‬ ‫وك�أين ب�سائلكم يقول‪ :‬هل بعد اجتماع هذه القوات يف الغرب وا�ستيالئه‬ ‫مرتدد‪َّ � :‬إن الأمر‬ ‫على �أكرث ال�شرَّ ق من �سبيل لنجاة البقية؟ ف�أجيب قاطع ًا غري ِّ‬ ‫مقدور ولع َّله مي�سور‪ .‬ور�أ�س احلكمة فيه ك�رس قيود اال�ستبداد‪ .‬و� ْأن يكتب‬ ‫النا�شئون على جباههم ع�رش كلمات‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ ديني ما �أُظهر وما �أُخفي‪.‬‬‫احلق وال �أبايل‪.‬‬ ‫حيث يكون ُّ‬ ‫ �أكون‪ُ ،‬‬‫حراً‪.‬‬ ‫ �أنا ٌّ‬‫حر و�س�أموت ّ‬ ‫ �أنا م�ستق ٌّل ال �أ ِّتكل على غري نف�سي وعقلي‪.‬‬‫اجلد واال�ستقبال‪ ،‬ال �إن�سان املا�ضي واحلكايات‪.‬‬ ‫ �أنا �إن�سان ّ‬‫ نف�سي ومنفعتي قبل ك ِّل �شيء‪.‬‬‫تعب لذيذ‪.‬‬ ‫ احلياة ك ُّلها ٌ‬‫ الوقت غالٍ عزيز‪.‬‬‫ ال�شرَّ ف يف العلم فقط‪.‬‬‫ �أخاف اهلل ال �سواه‪.‬‬‫املقد�س يف القلوب‪،‬‬ ‫(و�أنت �أيها الوطن املحبوب‪� :‬أنت العزيز على النفو�س‪َّ ،‬‬ ‫تئن الأرواح‪� ...‬أيها الوطن الباكي �ضعافه‪ :‬عليك‬ ‫حتن الأ�شباح وعليك ُّ‬ ‫�إليك ُّ‬ ‫الطغام؟‬ ‫تبكي العيون‪ ،‬وفيك يحلو املنون‪� .‬إىل متى يعبث خاللك اللئام ّ‬ ‫يظلمون بنيك ويذ ُّلون ذويك‪ .‬يطاردون �أجنالك الأحباب ومي�سكون على‬ ‫الديار؟‪.‬‬ ‫امل�ساكني ُّ‬ ‫ويقفرون ّ‬ ‫الطرق والأبواب‪ُ ،‬يخرجون العمران ُ‬ ‫�أيها الوطن العزيز‪ :‬هل �ضاعت رحابك عن �أوالدك؟ �أم �ضاقت �أح�ضانك‬

‫‪123‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫عن �أفالذك؟‪ ...‬كال‪� ،‬إنمَّ ا فقدت الأُباة‪ ،‬فقدت احلُماة‪ ،‬فقدت الأحرار‪� .‬أيها الوطن‬ ‫ولكن‪ ،‬دموع بناتك‬ ‫والدماء؟‬ ‫ْ‬ ‫امللتهب ف�ؤاده‪� :‬أما رويت من ُ�سقيا الدموع ِّ‬ ‫الثاكالت ودماء �أبنائك الأبرياء‪ ،‬ال دموع النادمني وال دماء الظاملني‪� .‬أال‬ ‫الب ْل ِه اخلاملني‪ ،‬وال حتزن‪ ،‬فما هم كرائم ًا‬ ‫فا�رشب هنيئ ًا وال ت�أ�سف على ُ‬ ‫هن كرائم ًا باكيات حمم�سات‪ ،‬ولي�سوا هم كرام ًا �أع َّزة �شهداء‪،‬‬ ‫ل�س َن َّ‬ ‫وكرام ًا‪ْ ،‬‬ ‫احلر الغيور‪ ،‬ق َّل فيهم من يقول‬ ‫�إنمَّ ا هم ‪-‬غفر اهلل لهم‪ -‬من علمت‪ ،‬ق َّل فيهم ُّ‬ ‫�أنا ال �أخاف الظاملني‪.‬‬ ‫�أيها الوطن احلنون‪َ :‬ك َّو َن اهلل عنا�رص �أج�سامنا منك‪ ،‬وجعل الأمهات‬ ‫حوا�ضن‪ ،‬ورزقنا الغذاء منك‪ ،‬وجعل املر�ضعات جمهزات‪ ،‬نعم‪ ،‬خلقنا اهلل منك‬ ‫يحق لكفي �رشع الطبيعة‬ ‫َّ‬ ‫حتن على �أفالذك‪ .‬كما ّ‬ ‫حتب �أجزاءك و�أن َّ‬ ‫فحق لك �أن َّ‬ ‫حبك‪ ،‬الذي ي�ؤذيك وال يواليك‪ ،‬ويزاحم‬ ‫حتب الأجنبي الذي ي�أبى طبعه َّ‬ ‫� ْأن ال َّ‬ ‫بنيك عليك وي�شاركهم فيك‪ ،‬وينقل �إىل �أر�ضه ما يف جوفك من نفي�س العنا�رص‬ ‫وكنوز املعادن‪ ،‬فيفقرك ليغني وطنه‪ ،‬وال لوم عليه‪ ،‬بل بارك اهلل فيه!)‪.‬‬ ‫وعدة الغد‪ ،‬هذا خطابي �إليكم فيما هو‬ ‫قوم‪ :‬جعلكم اهلل خرية اليوم َّ‬ ‫(يا ُ‬ ‫الرت ّقي وما هو االنحطاط‪ ،‬ف�إن وعيتم ولو �شذرات‪ ،‬فيا ب�رشاي وال�سالم عليكم‪،‬‬ ‫الرفاه ال�سالم)‪.‬‬ ‫و�إال فيما �ضياع الأنف�س‪ ،‬وعلى َّ‬ ‫اال�ستبداد الذي يبلغ يف االنحطاط بال َّأمة �إىل غاية �أن متوت‪ ،‬وميوت هو‬ ‫معها‪ ،‬كثري ال�شواهد يف قدمي الزمان وحديثه‪� ،‬أما بلوغ الرت ّقي بالأمم �إىل‬ ‫ال�سامية التي تليق بالإن�سانية‪ ،‬فهذا مل ي�سمح الزمان ح َّتى‬ ‫املرتبة الق�صوى ّ‬ ‫الآن ب� َّأم ٍة ت�صلح مثا ًال له‪ ،‬لأ َّنه �إىل الآن مل توجد � َّأمة حكمت نف�سها بر�أيها‬ ‫بنوع‬ ‫نوع من اال�ستبداد ولو با�سم الوقار واالحرتام‪� ،‬أو ٍ‬ ‫العام ُحكم ًا ال ي�شوبه ً‬ ‫ال�شقاق الديني �أو اجلن�سي بني النا�س‪.‬‬ ‫من الإغفال ولو ببذر ِّ‬ ‫فك� َّأن احلكمة الإلهية مل تزل ترى الب�رش غري مت� ِّأهلني لنوال �سعادة الأخوة‬ ‫العمومية بالتحابب بني الأفراد‪ ،‬والقناعة بامل�ساواة احلقوقية بني الطبقات‪.‬‬ ‫نعم‪ُ ،‬وجد للرت ّقي القريب من الكمال بع�ض �أمثال قليلة يف القرون الغابرة‪،‬‬ ‫املتقطعة‬ ‫كاجلمهورية الثانية للرومان‪ ،‬وكعهد اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬وكالأزمنة‬ ‫ِّ‬ ‫املنظمني ال الفاحتني مثل �أنو�رشوان وعبد امللك الأموي‬ ‫يف عهد امللوك‬ ‫ّ‬ ‫ال�شهيد وبطر�س الكبري‪ .‬وكبع�ض اجلمهوريات ال�صغرية واملمالك‬ ‫ونور الدين َّ‬

‫‪124‬‬


‫املو َّفقة لأحكام التقييد املوجودة يف هذا ال َّزمان‪ .‬و�إنيّ �أقت�رص على و�صف‬ ‫منتهى الرت ّقي الذي و�صلت �إليه تلك الأمم و�صف ًا �إجمالي ًا‪ ،‬واترك للمطالع �أن‬ ‫يوازنها ويقي�س عليها درجات �سائر الأمم‪.‬‬ ‫ورمبا ي�سرتيب يف ذلك املطالع املولود يف �أر�ض اال�ستبداد‪ ،‬الذي مل‬ ‫يدر�س �أحوال الأمم يف الوجود‪ ،‬وال عتب عليه ف�إ َّنه كاملولود �أعمى ال ُيدرك‬ ‫للمناظر البهية معنى‪.‬‬ ‫قد بلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي يف ظالل احلكومات العادلة‪ ،‬ل ْأن‬ ‫يعي�ش الإن�سان املعي�شة التي ت�شبه يف بع�ض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل‬ ‫ال�سعادة يف اجلنان‪ .‬حتى � َّإن ك ًّل ٍ‬ ‫خالد بقومه ووطنه‪ ،‬وك�أنه‬ ‫فرد يعي�ش ك�أنه‬ ‫ٌ‬ ‫ني على ك ِّل مطلب‪ ،‬فال هو يكلِّف احلكومة �شطط ًا وال هي تهمله ا�ستحقاراً‪:‬‬ ‫�أم ٌ‬ ‫ني على ال�سالمة يف ج�سمه وحياته بحرا�سة احلكومة التي ال‬ ‫‪� 1‬أم ٌ‬‫تغفل عن حمافظته بك ِّل قوتها يف ح�رضه و�سفره بدون �أن ي�شعر بثقل‬ ‫قيامها عليه‪ ،‬فهي حتيط به �إحاطة الهواء‪ ،‬ال �إحاطة ال�سور يلطمه كيفما‬ ‫التفت �أو �سار‪.‬‬ ‫ني على املل َّذات اجل�سمية والفكرية باعتناء احلكومة يف ال�ش�ؤون‬ ‫‪� 2‬أم ٌ‬‫العامة‪ ،‬املتعلِّقة بالرتوي�ضات اجل�سمية والنظرية والعقلية حتى يرى � َّأن‬ ‫الطرقات امل�سهلة‪ ،‬والتزيينات البلدية‪ ،‬واملتن َّزهات‪ ،‬واملنتديات‪ ،‬واملدار�س‪،‬‬ ‫واملجامع‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬قد ُوجِ دت ك ُّلها لأجل مل ّذاته‪ ،‬ويعترب م�شاركة النا�س‬ ‫له فيها لأجل �إح�سانه‪ ،‬فهو بهذا النظر واالعتبار ال ينق�ص عن �أغنى النا�س‬ ‫�سعاد ًة‪.‬‬ ‫ني على احلرية‪ ،‬ك�أ َّنه ُخ ِلق وحده على �سطح هذه الأر�ض‪ ،‬فال‬ ‫‪� 3‬أم ٌ‬‫يخ�ص �شخ�صه من دينٍ وفك ٍر وعملٍ و�أمل‪.‬‬ ‫يعار�ضه معار�ض فيما‬ ‫ُّ‬ ‫�سلطان عزيز‪ ،‬فال ممانع له وال معاك�س يف‬ ‫ني على النفوذ‪ ،‬ك�أ َّنه‬ ‫ٌ‬ ‫‪� 4‬أم ٌ‬‫تنفيذ مقا�صده النافعة يف الأمة التي هو منها‪.‬‬ ‫املزية‪ ،‬ك�أ َّنه يف � َّأم ٍة ي�ساوي جميع �أفرادها منزل ًة و�رشف ًا‬ ‫‪� 5‬أم ٌ‬‫ني على ّ‬ ‫مبزية �سلطان‬ ‫أحد عليه‪� ،‬إال‬ ‫وقو ًة‪ ،‬فال يف�ضل هو على �أحد وال يف�ضل � ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الف�ضيلة فقط‪.‬‬ ‫ني على العدل‪ ،‬ك�أ َّنه القاب�ض على ميزان احلقوق‪ ،‬فال يخاف‬ ‫‪� 6-‬أم ٌ‬

‫‪125‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫ا�ستحق �أن‬ ‫املثمن فال يحذر بخ�س ًا‪ ،‬وهو املطمئن على �أ َّنه �إذا‬ ‫تطفيف ًا‪ ،‬وهو‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫يكون ملك ًا �صار ملك ًا‪ ،‬و�إذا جنة جناي ًة نال جزاءه ال حمالة‪.‬‬ ‫ني على املال وامللك‪ ،‬ك� َّأن ما �أحرزه بوجهه امل�رشوع قلي ًال كان‬ ‫‪� 7‬أم ٌ‬‫�أو كثرياً‪ ،‬قد خلقه اهلل لأجله فال يخاف عليه‪ ،‬كما �أ َّنه تقلع عينه � ْإن نظر‬ ‫�إىل مال غريه‪.‬‬ ‫ني على ال�رشف ب�ضمان القانون‪ ،‬بن�رصة الأمة‪ ،‬ببذل الدم‪ ،‬فال‬ ‫‪� 8‬أم ٌ‬‫يرى حتقرياً �إال لدى وجدانه‪ ،‬وال يعرف طمع ًا ملرارة ال ُذ ِّل والهوان‪.‬‬ ‫�أما الأ�سري ‪-‬وال �أُحزن املطالع بو�صف حالته‪ -‬ف�أكتفي بالقول‪� :‬إ َّنه ال‬ ‫ميلك وال نف�سه‪ ،‬وغري �أمنيٍ حتى على عظامه يف رم�سه‪� ،‬إذا وقع نظره على‬ ‫مر من قرب �إحدى‬ ‫ِّ‬ ‫امل�ستبد �أو �أحد من جماعته على كرثتهم َّ‬ ‫يتعوذ باهلل‪ ،‬و�إذا َّ‬ ‫رب‪َّ � ،‬إن هذا الدار‪ ،‬بئ�س‬ ‫دوائر حكومته �أ�رسع وهو يكرر قوله‪( :‬حمايتك يا ّ‬ ‫كل من فيها �إما ذابح �أو مذبوح‪َّ � .‬إن هذه الدار كالكنيف‬ ‫الدار‪ ،‬هي كاملجزرة ُّ‬ ‫ال يدخله �إال امل�ضطر)‪.‬‬ ‫وقد يبلغ الرت ّقي يف اال�ستقالل ال�شخ�صي مع الرتكيب بالعائلة والع�شرية‪،‬‬ ‫�أن يعي�ش الإن�سان معترباً نف�سه من وجه غني ًا عن العاملني‪ ،‬ومن وجه ع�ضواً‬ ‫ثم الب�رش‪.‬‬ ‫حقيقي ًا من ٍ‬ ‫ثم ال َّأمة‪َّ ،‬‬ ‫حي هو العائلة‪َّ ،‬‬ ‫ج�سم ٍّ‬ ‫وينظر �إىل انق�سام الب�رش �إىل �أمم‪ ،‬ثم �إىل عائالت‪ ،‬ثم �إىل �أفراد‪ ،‬وهو من‬ ‫ُ‬ ‫قبيل انق�سام املمالك �إىل مدنٍ ‪ ،‬وهي �إىل بيوت‪ ،‬وهي �إىل مرافق‪ ،‬وكما �أ َّنه ال‬ ‫ٍ‬ ‫ي�ستحق الهدم‪،‬‬ ‫وظيفة معينة ي�صلح لها و�إال كان بنا�ؤه عبث ًا‬ ‫بد لك ِّل مرفقٍ من‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫يعد ك ّل منهم نف�سه لوظيفة يف قيام حياة عائلته‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫بد‬ ‫ال‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أفراد‬ ‫�‬ ‫كذلك‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ثم حياة قومه ثاني ًا‪.‬‬ ‫�أو ًال‪َّ ،‬‬ ‫ولهذا يكون الع�ضو الذي ال ي�صلح لوظيفة‪� ،‬أو ال يقوم مبا ي�صلح له‪ ،‬حقرياً‬ ‫ي�ستحق‬ ‫طبيعي‪،‬‬ ‫وكل من يريد �أن يعي�ش َك ًّال على غريه‪ ،‬ال عن عج ٍز‬ ‫مهان ًا‪ُّ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الظفر ي�ستحقان‬ ‫كالدرن يف اجل�سم �أو كالزائد من ُّ‬ ‫املوت ال ال�شفقة‪ ،‬لأن َّه َّ‬ ‫حرمت ال�رشائع ال�سماوية املالهي التي لي�س‬ ‫الإخراج والقطع‪ ،‬ولهذا املعنى َّ‬ ‫والربا‬ ‫وال�س ْكر‬ ‫ِّ‬ ‫فيها تروي�ض‪ُّ ،‬‬ ‫املعطل عن العمل عق ًال وج�سم ًا‪ ،‬واملقامرة ِّ‬ ‫احلجام‬ ‫لأنهما لي�سا من نوع العمل والتبادل فيه‪ .‬وقد َّ‬ ‫ف�ضل اهلل الك َّنا�س على َّ‬ ‫ال�شعر‪ ،‬ل َّأن �صنعتهما �أنفع للجمهور‪.‬‬ ‫و�صانع اخلبز على ناظم ِّ‬

‫‪126‬‬


‫كل ٍ‬ ‫فرد من ال َّأمة مالك ًا‬ ‫وقد يبلغ تر ّقي الرتكيب يف الأمم درجة � ْأن ي�صري ُّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫فرد منها م�ستعداً‬ ‫لنف�سه متام ًا‪ ،‬ومملوك ًا لقومه متام ًا‪ .‬فال َّأمة التي يكون ُّ‬ ‫بحجة هذا اال�ستعداد يف الأفراد‪،‬‬ ‫الفتدائها بروحه ومباله‪ ،‬ت�صري تلك ال َّأمة َّ‬ ‫غنية عن �أرواحهم و�أموالهم‪.‬‬ ‫يتميز على باقي �أنواع الرت ّقيات ال�سالفة‬ ‫الرت ّقي يف القوة بالعلم واملال َّ‬ ‫متيز الر�أ�س على باقي �أع�ضاء اجل�سم‪ ،‬فكما � َّأن الر�أ�س ب�إحرازه مركزية‬ ‫البيان ّ‬ ‫متيز على باقي الأع�ضاء وا�ستخدمها يف‬ ‫العقل‪ ،‬ومركزية �أكرث احلوا�س‪ّ ،‬‬ ‫حاجاته‪ ،‬فكذلك احلكومات املنتظمة يرت ّقى �أفرادها وجمموعها يف العلم‬ ‫انحط بها‬ ‫�سلطان طبيعي على الأفراد �أو الأمم التي‬ ‫والرثوة‪ ،‬فيكون لهم‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫اال�ستبداد امل�ش�ؤوم �إىل ح�ضي�ض اجلهل والفقر‪.‬‬ ‫بقي علينا بحث الرت ّقي يف الكماالت باخل�صال والأثرة‪ ،‬وبحث الرت ّقي‬ ‫الذي يتعلق بالروح‪� ،‬أي مبا وراء هذه احلياة‪ ،‬ويرقى �إليه الإن�سان على ُ�س َّلم‬ ‫الرحمة واحل�سنات‪ ،‬فهذه �أبحاث طويلة الذيل‪ ،‬ومنابعها حكميات الكتب‬ ‫َّ‬ ‫ومدونات الأخالق‪ ،‬وتراجم م�شاهري الأمم‪.‬‬ ‫ال�سماوية‬ ‫ِّ‬ ‫و�أكتفي بالقول يف هذا النوع‪� :‬إ َّنه يبلغ بالإن�سان مرتبة �أن ال يرى حلياته‬ ‫ثم �أمنه على‬ ‫ثم امتالك حريته‪َّ ،‬‬ ‫فيهمه �أم ًال‪ :‬حياة � ِّأمه‪َّ ،‬‬ ‫�أهمية �إال بعد درجات‪ّ ،‬‬ ‫وثم‪ ...‬وقد‬ ‫ثم‪َّ ،‬‬ ‫ثم ماله‪َّ ،‬‬ ‫ثم وقايته حياته‪َّ ،‬‬ ‫ثم حمافظته على عائلته‪َّ ،‬‬ ‫�رشفه‪َّ ،‬‬ ‫ت�شمل �إح�سا�ساته عامل الإن�سانية كلِّه‪ ،‬ك� َّأن قومه الب�رش ال قبيلته‪ ،‬ووطنه‬ ‫يتقيد بجدران بيت خم�صو�ص‬ ‫الأر�ض ال بلده‪ ،‬وم�سكنه‪ ،‬حيث يجد راحته‪ ،‬ال َّ‬ ‫ي�سترت فيه ويفتخر به كما هو �ش�أن الأُ�رساء‪.‬‬ ‫وقد يرت َّفع الإن�سان عن الإمارة ملا فيها من معنى الكرب‪ ،‬وعن ال ِّتجارة‬ ‫ثم‬ ‫ثم املطرقة‪َّ ،‬‬ ‫ملا فيها من التمويه والتب ّذل‪ ،‬فريى ال�رشف يف املحراث‪َّ ،‬‬ ‫القلم‪ ،‬ويرى الل َّذة يف التجديد واالخرتاع‪ ،‬ال يف املحافظة على العتيق‪ ،‬ك� َّأن‬ ‫له وظيفة يف تر ّقي جمموع الب�رش‪.‬‬ ‫جدها لتبديد ا�ستبدادها‪ ،‬تنال‬ ‫وخال�صة القول‪َّ � :‬إن الأمم التي ُي�سعدها ّ‬ ‫ُ‬ ‫احل�سي واملعنوي ما ال يخطر على فكر �أ�رساء اال�ستبداد‪ .‬فهذه‬ ‫من ال�شرَّ ف ّ‬ ‫برمتها‪ ،‬مكتفي ًة يف نفقاتها بنماء فوائد‬ ‫بلجيكا �أبطلت التكاليف الأمريية َّ‬ ‫حمبو�س‬ ‫بنك احلكومة‪ .‬وهذه �سوي�رسا ي�صادفها كثرياً �أن ال يوجد يف �سجونها‬ ‫ٌ‬

‫‪127‬‬


‫اال�ستبداد والرت ِّقي‬

‫واحد‪ .‬وهذه �أمريكا �أثرت حتى كادت تخرج الف�ضة من مقام النقد �إىل مقام‬ ‫املتاع‪ .‬وهذه اليابان �أ�صبحت ت�ستنزف قناطري الذهب من �أوروبا و�أمريكا‬ ‫ثمن امتيازات اخرتاعاتها وطبع تراجم م�ؤ َّلفاتها‪.‬‬ ‫حظ ًا من املل َّذات احلقيقية‪ ،‬التي ال تخطر على فكر‬ ‫وقد تنال تلك الأمم ّ‬ ‫الأُ�رساء‪ ،‬كل َّذة العلم وتعليمه‪ ،‬ول َّذة املجد واحلماية‪ ،‬ول َّذة الإثراء والبذل‪ ،‬ول َّذة‬ ‫احلب الطاهر‪� ،‬إىل‬ ‫�إحراز االحرتام يف القلوب‪ ،‬ول َّذة نفوذ الر�أي ال�صائب‪ ،‬ول َّذة ِّ‬ ‫غري هذه املل َّذات الروحية‪ .‬و� َّأما الأ�رساء واجلهالء فمل َّذاتهم مق�صورة على‬ ‫م�شاركة الوحو�ش ال�ضارية يف املطاعم وامل�شارب وا�ستفراغ ال�شهور‪ ،‬ك� َّأن‬ ‫�أج�سامهم ظروف تمُلأ و ُتفرغ‪� ،‬أو هي دمامل تولد ال�صديد وتدفعه‪.‬‬ ‫و�أنفع ما بلغه الرت ّقي يف الب�رش‪ ،‬هو �إحكامهم �أ�صول احلكومات املنتظمة‬ ‫�سداً متين ًا يف وجه اال�ستبداد‪ ،‬واال�ستبداد جرثومة ك ِّل ف�ساد‪ ،‬وبجعلهم‬ ‫ببنائهم ّ‬ ‫�أ ّال قوة وال نفوذ فوق قوة ال�شرَّ ع‪ ،‬وال�شرَّ ع هو حبل اهلل املتني‪ .‬وبجعلهم‬ ‫قوة الت�رشيع يف يد ال َّأمة‪ ،‬وال َّأمة ال جتتمع على �ضالل‪ .‬وبجعلهم املحاكم‬ ‫َّ‬ ‫ال�سواء‪ ،‬فتحاكي يف عدالتها الكربى الإلهية‪.‬‬ ‫على‬ ‫علوك‬ ‫وال�ص‬ ‫لطان‬ ‫ال�س‬ ‫حتاكم‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫تعدي حدود وظائفهم‪ ،‬ك�أنهم مالئكة ال‬ ‫على‬ ‫لهم‬ ‫�سبيل‬ ‫ال‬ ‫العمال‬ ‫وبجعلهم‬ ‫ّ‬ ‫يع�صون �أمراً‪ ،‬وبجعلهم ال َّأمة يقظة �ساهرة على مراقبة �سري حكومتها‪ ،‬ال‬ ‫عما يفعل الظاملون‪.‬‬ ‫تغفل طرفة عني‪ ،‬كما � َّأن اهلل ‪-‬ع َّز وج ّل‪ -‬ال يغفل َّ‬ ‫هذا مبلغ الرت ّقي الذي و�صلت �إليه الأمم منذ ُعرِف التاريخ‪ ،‬على �أ َّنه مل‬ ‫عما كانوا عليه‬ ‫يقم دليل �إىل الآن على تر ّقي الب�رش يف ال�سعادة احليوية ّ‬ ‫يف الع�صور اخلالية حتى احلجرية‪ ،‬ح ّتى منذ كانوا عرا ًة ي�رسحون �أ�رساب ًا‪،‬‬ ‫تدل على �أكرث من تر ّقي العلم والعمران‪ ،‬وهما �آلتان‬ ‫والآثار امل�شهودة ال ُّ‬ ‫كما ي�صلحان للإ�سعاد‪ ،‬ي�صلحان للإ�شقاء‪ ،‬وتر ِّقيها هو من ُ�س َّنة الكون التي‬ ‫�أرادها اهلل تعاىل لهذه الأر�ض وبنيها‪ ،‬وو�صف لنا ما �سيبلغ �إليه تر ّقي زينتها‬ ‫وظن‬ ‫واقتدار �أهلها بقوله ع َّز �ش�أنه‪« :‬حتى �إذا �أخذت الأر�ض ُزخرفها وا َّزينت َّ‬ ‫�أهلها �أنهم قادرون عليها �أتاها �أمرنا لي ًال �أو نهاراً فجعلناها ح�صيداً ك�أن‬ ‫يدل على � َّأن الدنيا وبنيها مل يزاال يف مقتبل الرت ّقي‪،‬‬ ‫مل َت ْغ َن بالأم�س»‪ .‬وهذا ُّ‬ ‫وال يعار�ض هذا � َّأن ما م�ضى من عمرها هو �أكرث مما بقي ح�سبما �أخربت به‬ ‫�شيء �آخر‪.‬‬ ‫الكتب ال�سماوية‪ ،‬ل َّأن العمر �شيء‪ ،‬والرت ّقي ٌ‬

‫‪128‬‬


‫اال�ستبداد والتخلُّ�ص منه‬ ‫لي�س لنا مدر�سة �أعظم من التاريخ الطبيعي‪ ،‬وال برهان �أقوى من اال�ستقراء‪،‬‬ ‫ت�سمى (دور‬ ‫من َّ‬ ‫تتبعهما يرى � َّأن الإن�سان عا�ش دهراً طوي ًال يف حالة طبيعية َّ‬ ‫يتجول حول املياه �أ�رساب ًا جتمعه حاجة احل�ضانة �صغرياً‪،‬‬ ‫االفرتا�س)‪ ،‬فكان‬ ‫َّ‬ ‫وق�صد اال�ستئنا�س كبرياً‪ ،‬ويعتمد يف رزقه على النبات الطبيعي وافرتا�س‬ ‫الرب والبحر‪ ،‬وت�سو�سه الإرادة فقط‪ ،‬ويقوده من بنيته‬ ‫�ضعاف احليوان يف ِّ‬ ‫حيث يكرث الرزق‪.‬‬ ‫�أقوى �إىل ُ‬ ‫ت�سمى (دور االقتناء)‪:‬‬ ‫ثم تر َّقى الكثري من الإن�سان �إىل احلالة البدوية التي ّ‬ ‫فكان ع�شائر وقبائل‪ ،‬يعتمد يف رزقه على ِّادخار الفرائ�س �إىل حني احلاجة‪،‬‬ ‫ف�صارت جتمعه حاجة التح ُّفظ على املال العام والأنعام‪ ،‬وحماية امل�ستودعات‬ ‫ثم انتقل ‪-‬وال ُيقال تر ّقى‪ -‬ق�سم كبري من‬ ‫واملراعي واملياه من املزاحمني‪َّ ،‬‬ ‫الإن�سان �إىل املعي�شة احل�رضية‪ :‬ف�سكن القرى ي�ستنبت الأر�ض اخل�صبة يف‬ ‫تعدى‬ ‫معا�شه‪ ،‬ف�أخ�صب‪ ،‬ولكن‪ ،‬يف ال�شقاء‪ ،‬ولع َّله‬ ‫َّ‬ ‫ا�ستحق ذلك بفعله‪ ،‬لأ َّنه َّ‬ ‫ف�سكن‪،‬‬ ‫جوا ًال‪ ،‬ي�سري يف الأر�ض‪ ،‬ينظر �آالء اهلل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حراً َّ‬ ‫قانون اخلالق‪ ،‬ف�إ َّنه خلقه ّ‬ ‫و�سكن �إىل اجلهل وال ُّذ ّل‪ ،‬وخلق اهلل الأر�ض مباح ًة‪ ،‬فا�ست�أثر بها‪ ،‬ف�س َّلط اهلل‬ ‫عليه من يغ�صبها منه وي�أ�رسه‪ .‬وهذا الق�سم يعي�ش بال جامعة‪ ،‬حتكمه �أهواء‬ ‫�أهل املدن وقانونه‪� :‬أن يكون ظامل ًا �أو مظلوم ًا‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ال�صناع‪ ،‬و� َّإما‬ ‫ثم تر ّقى ق�سم من الإن�سان �إىل‬ ‫ُّ‬ ‫الت�رصف � ّإما يف املادة وهم ُّ‬ ‫َّ‬ ‫املت�رصفون هم �سكان‬ ‫ؤالء‬ ‫�‬ ‫وه‬ ‫والعلوم‪.‬‬ ‫املعارف‬ ‫أهل‬ ‫�‬ ‫وهم‬ ‫النظريات‬ ‫يف‬ ‫ِّ‬ ‫املدن الذين هم � ْإن �سجنوا �أج�سامهم بني اجلدران‪ ،‬لكنهم �أطلقوا عقولهم يف‬ ‫ولكن �أكرثهم مل‬ ‫تو�سعوا يف احلاجات‪َّ ،‬‬ ‫الرزق كما َّ‬ ‫الأكوان‪ ،‬وهم قد َّ‬ ‫تو�سعوا يف ِّ‬ ‫يهتدوا حتى الآن للطريق املثلى يف �سيا�سة اجلمعيات الكربى‪ .‬وهذا هو �سبب‬ ‫كل‬ ‫تنوع �أ�شكال احلكومات وعدم ا�ستقرار � َّأم ٍة على �شكل ُم ٍ‬ ‫ر�ض عام‪� .‬إنمَّ ا ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الأمم يف تق ّل ٍ‬ ‫بات �سيا�سية على �سبيل التجريب‪ ،‬وبح�سب تغ ّلب �أحزاب االجتهاد‬ ‫�أو رجال اال�ستبداد‪.‬‬ ‫وتقرير �شكل احلكومة هو �أعظم و�أقدم م�شكلة يف الب�رش‪ ،‬وهو املعرتك‬ ‫الأكرب لأفكار الباحثني‪ ،‬وامليدان الذي ق َّل يف الب�رش من ال يجول فيه على‬ ‫فيل من الفكر‪� ،‬أو على جملٍ من اجلهل‪� ،‬أو على ٍ‬ ‫فر�س من الفرا�سة‪� ،‬أو على حمارٍ‬ ‫من احل ُْمق‪ ،‬حتى جاء الزمن الأخري فجال فيه �إن�سان الغرب جولة املغوار‬ ‫املمتطي يف التدقيق مراكب البخار‪ .‬فقرر بع�ض قواعد �أ�سا�سية يف هذا الباب‬ ‫احلق اليقني‪ ،‬ف�صارت ُت َع ُّد‬ ‫ت�ضافر عليها العقل والتجريب‪ ،‬وح�صح�ص فيها ّ‬ ‫من املقررات االجتماعية عند الأمم املرتقية‪ ،‬وال يعار�ض ذلك كون الأمم مل‬ ‫تزل �أي�ض ًا منق�سمة �إىل �أحزاب �سيا�سية يختلفون �شيع ًا‪ ،‬ل َّأن اختالفهم هو يف‬ ‫وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على �أحوالهم اخل�صو�صية‪.‬‬ ‫وهذه القواعد التي قد �صارت ق�ضايا بديهية يف الغرب‪ ،‬مل تزل جمهولة �أو‬ ‫غريبة‪� ،‬أو منفوراً منها يف ال�رشق‪ ،‬لأ َّنها عند الأكرثين منهم مل تطرق �سمعهم‪،‬‬ ‫وعند البع�ض مل تنل التفاتهم وتدقيقهم‪ ،‬وعند �آخرين مل حتز قبو ًال‪ ،‬لأ َّنهم ذوو‬ ‫غر�ض‪� ،‬أو م�رسوقة قلوبهم‪� ،‬أو يف قلوبهم مر�ض‪.‬‬ ‫و�إنيّ �أطرح لتدقيق املطالعني ر�ؤو�س م�سائل بع�ض املباحث التي تتع َّلق‬ ‫بها احلياة ال�سيا�سية‪ .‬وقبل ذلك �أذ ِّكرهم ب�أ َّنه قد �سبق يف تعريف اال�ستبداد‬ ‫ب�أ َّنه‪( :‬هو احلكومة التي ال يوجد بينها وبني ال َّأمة رابطة معينة معلومة‬ ‫م�صونة بقانون نافذ احلكم)‪ .‬كما �أ�ستلفت نظرهم �إىل �أ َّنه ال يوثق بوعد من‬ ‫ال�سلطة �أي ًا كان‪ ،‬وال بعهده وميينه على مراعاة الدين‪ ،‬والتقوى‪ ،‬واحلق‪،‬‬ ‫يتوىل ُّ‬ ‫وال�رشف‪ ،‬والعدالة‪ ،‬ومقت�ضيات امل�صلحة العامة‪ ،‬و�أمثال ذلك من الق�ضايا‬ ‫بر وفاجر‪ .‬وما هي يف احلقيقة �إال‬ ‫الكلية املبهمة التي تدور على ل�سان ك ِّل ٍّ‬

‫‪130‬‬


‫كالم مبهم فارغ‪ ،‬ل َّأن املجرم ال يعدم ت�أوي ًال‪ ،‬ول َّأن من طبيعة القوة االعت�ساف‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ول َّأن القوة ال ُتقابل �إال بالقوة‪.‬‬ ‫ثم فلرنجع للمباحث التي �أريد طرحها لتدقيق املطالعني‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ال�شعب؟)‪:‬‬ ‫‪ 1‬مبحث (ما هي ال َّأمة‪� ،‬أي َّ‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ملالك متغلِّب‪ ،‬وظيفتهم‬ ‫عبيد‬ ‫ركام‬ ‫هل هي‬ ‫خملوقات نامية‪� ،‬أو جمعية‪ٌ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫جمع بينهم روابط دين �أو جن�س �أو لغة‪،‬‬ ‫الطاعة واالنقياد ولو ُكره ًا؟ �أم هي ٌ‬ ‫ووطن‪ ،‬وحقوق م�شرتكة‪ ،‬وجامعة �سيا�سية اختيارية‪ ،‬لك ِّل ٍ‬ ‫حق �إ�شهار‬ ‫فرد ُّ‬ ‫ر�أيه فيها توفيق ًا للقاعدة الإ�سالمية التي هي �أ�سمى و�أبلغ قاعدة �سيا�سية‪،‬‬ ‫رعيته)‪.‬‬ ‫راع‪ ،‬وك ُّلكم م�س� ٌ‬ ‫وهي‪( :‬ك ُّلكم ٍ‬ ‫ؤول عن ِّ‬ ‫‪ 2‬مبحث (ما هي احلكومة)‪:‬‬‫يت�رصف يف رقابهم‪ ،‬ويتم َّتع ب�أعمالهم‬ ‫هل هي �سلطة امتالك فرد جلمع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ويفعل ب�إرادته ما ي�شاء؟ �أم هي وكالة ُتقام ب�إرادة ال َّأمة لأجل �إدارة �ش�ؤونها‬ ‫امل�شرتكة العمومية؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬مبحث (ما هي احلقوق العمومية؟)‪:‬‬‫هل هي �آحاد امللوك‪ ،‬ولكنها ُت�ضاف للأمم جمازاً؟ �أم بالعك�س‪ ،‬هي حقوق‬ ‫جموع الأمم‪ ،‬و ُت�ضاف للملوك جمازاً‪ ،‬ولهم عليها والية الأمانة وال ّنظارة على‬ ‫مثل الأرا�ضي واملعادن‪ ،‬والأنهر وال�سواحل‪ ،‬والقالع واملعابد‪ ،‬والأ�ساطيل‬ ‫واملعدات‪ ،‬ووالية احلدود‪ ،‬واحلرا�سة على مثل الأمن العام‪ ،‬والعدل والنظام‪،‬‬ ‫وحفظ و�صيانة الدين والآداب‪ ،‬والقوانني واملعاهدات واالتجِّ ار‪� ،‬إىل غري ذلك‬ ‫يحق لك ِّل ٍ‬ ‫فرد من ال َّأمة �أن يتمتع به و� ْأن يطمئن عليه؟‬ ‫مما ُّ‬ ‫‪ 4‬مبحث (الت�ساوي يف احلقوق)‪:‬‬‫هل للحكومة الت�صرّ ف يف احلقوق العامة املادية والأدبية كما ت�شاء‬ ‫بذ ًال وحرمان ًا؟ �أم تكون احلقوق حمفوظة للجميع على الت�ساوي وال�شيوع‪،‬‬

‫‪131‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫وتكون املغامن واملغارم العمومية مو َّزعة على الف�صائل والبلدان وال�صنوف‬ ‫ٍ‬ ‫حق اال�ستن�صاف؟‬ ‫والأديان‬ ‫بن�سبة عادلة‪ ،‬ويكون الأفراد مت�ساوين يف ِّ‬ ‫‪ 5‬مبحث (احلقوق ال�شخ�صية)‪:‬‬‫هل احلكومة متلك ال�سيطرة على الأعمال والأفكار؟ �أم �أفراد الأمة �أحرار‬ ‫يف الفكر مطلق ًا‪ ،‬ويف الفعل ما مل يخالف القانون االجتماعي‪ ،‬لأ َّنهم �أدرى‬ ‫مبنافعهم ال�شخ�صية‪ ،‬واحلكومة ال تتداخل �إال يف ال�ش�ؤون العمومية؟‬ ‫‪ 6‬مبحث (نوعية احلكومة)‪:‬‬‫املقيدة؟ وما‬ ‫هل الأ�صلح هي امللكية املطلقة من ك ِّل زمام؟ �أم امللكية‬ ‫َّ‬ ‫هي القيود؟ �أم الرئا�سة االنتخابية الدائمة مع احلياة‪� ،‬أو امل�ؤ َّقتة �إىل �أجل؟‬ ‫وهل ُتنال احلاكمية بالوراثة‪� ،‬أو العهد‪� ،‬أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما ت�شاء‬ ‫ال�صدفة‪� ،‬أم مع وجود �رشائط الكفاءة‪ ،‬وما هي تلك ال�رشائط؟ وكيف ي�صري‬ ‫ّ‬ ‫ت�ستمر املراقبة عليها؟‪.‬‬ ‫وكيف‬ ‫ا�ستمرارها؟‬ ‫يراقب‬ ‫وكيف‬ ‫وجودها؟‬ ‫حتقيق‬ ‫ُّ‬ ‫‪ 7‬مبحث (ما هي وظائف احلكومة؟)‪:‬‬‫مقيدة بقانون‬ ‫هل هي �إدارة �ش�ؤون الأمة ح�سب الر�أي واالجتهاد؟ �أم تكون َّ‬ ‫موافق لرغائب الأمة و� ْإن خالف الأ�صلح؟ و�إذا اختلفت احلكومة مع ال َّأمة يف‬ ‫وامل�رض‪ ،‬فهل على احلكومة �أن تعتزل الوظيفة؟‬ ‫اعتبار ال�صالح‬ ‫ّ‬ ‫‪ 8‬مبحث (حقوق احلاكمية)‪:‬‬‫تخ�ص�ص بنف�سها لنف�سها ما ت�شاء من مراتب العظمة‪،‬‬ ‫هل للحكومة �أن‬ ‫ِّ‬ ‫ورواتب املال‪ ،‬وحتابي من تريد مبا ت�شاء من حقوق الأمة و�أموالها؟ �أم يكون‬ ‫إعطاء وحتديداً ومنع ًا منوط ًا بالأمة؟‬ ‫ال َّت�رصف يف ذلك كلِّه � ً‬ ‫‪ 9‬مبحث (طاعة الأمة للحكومة)‪:‬‬‫هل الإرادة لل َّأمة‪ ،‬وعلى احلكومة العمل؟ �أم الإرادة للحكومة وعلى ال َّأمة‬ ‫الطاعة؟ وهل للحكومة تكليف ال َّأمة طاع ًة عمياء بال فهم وال اقتناع؟ �أم‬

‫‪132‬‬


‫عليها االعتناء بو�سائل التفهيم والإذعان لتت�أ َّتى الطاعة ب�إخال�ص و�أمانة؟‬ ‫‪ 10‬مبحث توزيع التكليفات‪:‬‬‫تقرر النفقات‬ ‫هل يكون و�ضع ال�رضائب َّ‬ ‫مفو�ض ًا لر�أي احلكومة؟ �أم ال َّأمة ِّ‬ ‫الالزمة وتعينِّ موارد املال‪ ،‬و ُتر ِّتب طرائق جبايته وحفظه؟‪.‬‬ ‫مل َنعة)‪:‬‬ ‫‪ 11‬مبحث (�إعداد ا َ‬‫هل يكون �إعداد القوة بالتجنيد والت�سليح ا�ستعداداً للدفاع مفو�ض ًا لإرادة‬ ‫احلكومة �إهما ًال‪� ،‬أو �إقال ًال‪� ،‬أو �إكثاراً‪� ،‬أو ا�ستعما ًال على قهر ال َّأمة؟ �أم يلزم �أن‬ ‫يكون ذلك بر�أي ال َّأمة وحتت �أمرها‪ ،‬بحيث تكون القوة من ِّفذة رغبة الأمة ال‬ ‫رغبة احلكومة؟‬ ‫‪ 12‬مبحث (املراقبة على احلكومة)‪:‬‬‫حق ال�سيطرة عليها‪،‬‬ ‫هل تكون احلكومة ال ُت�س�أل عما تفعل؟ �أم يكون للأمة ُّ‬ ‫االطالع على ك ِّل �شيء‪،‬‬ ‫حق ِّ‬ ‫ل َّأن ال�ش�أن �ش�أنها‪ ،‬فلها �أن ُتنبت عنها وكالء لهم ُّ‬ ‫وتوجيه امل�س�ؤولية على � ٍّأي كان‪ ،‬ويكون �أهم وظائف النواب حفظ احلقوق‬ ‫الأ�سا�سية املقررة للأمة على احلكومة؟‬ ‫‪ 13‬مبحث (حفظ الأمن العام)‪:‬‬‫هل يكون ال�شخ�ص مك َّلف ًا بحرا�سة نف�سه ومتع َّلقاته؟ �أم تكون احلكومة‬ ‫مك َّلفة بحرا�سته مقيم ًا وم�سافراً حتى من بع�ض طوارئ الطبيعة باحليلولة ال‬ ‫باملجازاة والتعوي�ض؟‬ ‫ال�سلطة يف القانون)‪:‬‬ ‫‪ 14‬مبحث (حفظ ّ‬‫هل يكون للحكومة �إيقاع عمل �إكراهي على الأفراد بر�أيها‪� ،‬أي بدون‬ ‫ال�سلطة منح�رصة يف القانون‪� ،‬إال يف ظروف‬ ‫الو�سائط القانونية؟ �أم تكون ُّ‬ ‫خم�صو�صة وم�ؤ َّقتة؟‬ ‫‪ 15-‬مبحث (ت�أمني العدالة الق�ضائية)‪:‬‬

‫‪133‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫هل يكون العدل ما تراه احلكومة؟ �أم ما يراه الق�ضاة امل�صون وجدانهم‬ ‫ٍ‬ ‫�ضغط حتى �ضغط الر�أي العام؟‬ ‫من ك ِّل م�ؤ ِّثر غري ال�رشع واحلق‪ ،‬ومن ك ِّل‬ ‫‪ 16‬مبحث (حفظ الدين والآداب)‪:‬‬‫هل يكون للحكومة ‪-‬ولو الق�ضائية‪� -‬سلطة و�سيطرة على العقائد‬ ‫وال�ضمائر؟ �أم تقت�رص وظيفتها يف حفظ اجلامعات الكربى كالدين‪ ،‬واجلن�سية‪،‬‬ ‫واللغة‪ ،‬والعادات‪ ،‬والآداب العمومية على ا�ستعمال احلكمة ما �أغنت الزواجر‪،‬‬ ‫وال تتداخل احلكومة يف �أمر الدين ما مل ُتن َت َهك حرمته؟ وهل ال�سيا�سة‬ ‫الإ�سالمية �سيا�سة دينية؟ �أم كان ذلك يف مبد�أ ظهور الإ�سالم‪ ،‬كالإدارة‬ ‫العرفية عقب الفتح؟‬ ‫‪ 17‬مبحث (تعيني الأعمال بالقوانني)‪:‬‬‫هل يكون يف احلكومة ‪-‬من احلاكم �إىل البولي�س‪ -‬من ُيط َلق له عنان‬ ‫كلياتها وجزئياتها‪،‬‬ ‫ال َّت�رصف بر�أيه وخربته؟ �أم يلزم تعيني الوظائف‪ّ ،‬‬ ‫بقوانني �رصيحة وا�ضحة‪ ،‬ال ت�سوغ خمالفتها ولو مل�صلحة مهمة‪� ،‬إال يف‬ ‫حاالت اخلطر الكبري؟‬ ‫‪ 18‬مبحث (كيف تو�ضع القوانني؟)‪:‬‬‫هل يكون و�ضعها منوط ًا بر�أي احلاكم الأكرب‪� ،‬أو ر�أي جماعة ينتخبهم‬ ‫منتخب من قبل الكا ّفة ليكونوا عارفني حتم ًا‬ ‫جمع‬ ‫لذلك؟ �أم ي�ضع القوانني ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بحاجات قومهم وما ُيالئم طبائعهم ومواقعهم و�صواحلهم‪ ،‬ويكون حكمه‬ ‫عام ًا �أو خمتلف ًا على ح�سب تخالف العنا�رص والطبائع وتغري املوجبات‬ ‫والأزمان؟‬ ‫وقوته؟)‪:‬‬ ‫‪ 19‬مبحث (ما هو القانون َّ‬‫يحتج بها القوي على ال�ضعيف؟ �أم هو �أحكام‬ ‫هل القانون هو �أحكام‬ ‫ُّ‬ ‫ومالحظ فيها طبائع �أكرثية الأفراد‪،‬‬ ‫منتزعة من روابط النا�س بع�ضهم ببع�ض‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومن ن�صو�ص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها �شامل ك ّل الطبقات‪ ،‬ولها‬

‫‪134‬‬


‫�سلطان نافذ قاهر م�صون من م�ؤ ِّثرات الأغرا�ض‪ ،‬وال�شفاعة‪ ،‬وال�شفقة‪ ،‬وبذلك‬ ‫يكون القانون هو القانون الطبيعي لل َّأمة فيكون حمرتم ًا عند الكا ّفة‪ ،‬م�ضمون‬ ‫احلماية من ِق َبل �أفراد الأمة؟‬ ‫‪ 20‬مبحث (توزيع الأعمال والوظائف)‪:‬‬‫ومقربيه؟ �أم‬ ‫هل يكون ُّ‬ ‫احلظ يف ذلك خم�صو�ص ًا ب�أقارب احلاكم وع�شريته َّ‬ ‫العامة على كا َّفة القبائل والف�صائل‪ ،‬ولو مناوبة مع‬ ‫تو َّزع كتوزيع احلقوق‬ ‫َّ‬ ‫مالحظات الأهمية والعدد‪ ،‬بحيث يكون رجال احلكومة �أمنوذج ًا من ال َّأمة‪،‬‬ ‫�أو هم ال َّأمة م�ص َّغرة‪ ،‬وعلى احلكومة �إيجاد الكفاءة والأعداد ولو بالتعليم‬ ‫الإجباري؟‬ ‫ال�سلطات ال�سيا�سية والدينية والتعليم)‪:‬‬ ‫‪ 21‬مبحث (التفريق بني ّ‬‫كل وظيفة‬ ‫هل ُيجمع بني �سلطتني �أو ثالث يف‬ ‫ٍ‬ ‫خ�ص�ص ُّ‬ ‫�شخ�ص واحد؟ �أم ُت َّ‬ ‫من ال�سيا�سة والدين والتعليم مبن يقوم ب�إتقان‪ ،‬وال �إتقان �إال باالخت�صا�ص‪،‬‬ ‫ويف االخت�صا�ص‪ ،‬كما جاء يف احلكمة القر�آنية‪« :‬ما جعل ا ُ‬ ‫هلل لرجلٍ قلبني يف‬ ‫جوفه»‪ ،‬ولذلك ال يجوز اجلمع منع ًا ال�ستفحال ال�سلطة‪.‬‬ ‫‪ 22‬مبحث (الرت ّقي يف العلوم واملعارف)‪:‬‬‫ال�ضغط على العقول كي يقوى نفوذ ال َّأمة‬ ‫رتك للحكومة �صالحية َّ‬ ‫هل ُي َ‬ ‫عليها؟ �أم تحُ مل على تو�سيع املعارف بجعل التعليم االبتدائي عمومي ًا‬ ‫بالت�شويق والإجبار‪ ،‬وبجعل الكمايل �سه ًال للمتناول‪ ،‬وجعل التعليم والتع ُّلم‬ ‫حراً مطلق ًا؟‬ ‫ّ‬ ‫(التو�سع يف الزراعة وال�صنائع والتجارة)‪:‬‬ ‫‪ 23‬مبحث‬‫ُّ‬ ‫هل ُيرتك ذلك للن�شاط املفقود يف ال َّأمة؟ �أم تلزم احلكومة باالجتهاد يف‬ ‫ال�سائرة‪ ،‬وال �سيما املزاحمة واملجاورة‪ ،‬كيال تهلك‬ ‫ت�سهيل م�ضاهاة الأمم َّ‬ ‫ال َّأمة باحلاجة لغريها �أو ت�ضعف بالفقر؟‬ ‫(ال�سعي يف العمران)‪:‬‬ ‫‪ 24-‬مبحث َّ‬

‫‪135‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ال�سكان‪� ،‬أو النهماكها‬ ‫هل ُيرتك ذلك لإهمال احلكومة املميت لع َّزة نف�س ُّ‬ ‫فيه �إ�رساف ًا وتبذيراً؟ �أم حتمل على ا ِّتباع االعتدال املتنا�سب مع الثورة‬ ‫العمومية؟‬ ‫(ال�سعي يف رفع اال�ستبداد)‪:‬‬ ‫‪ 25‬مبحث َّ‬‫هل ُينتظر ذلك من احلكومة ذاتها؟ �أم نوال احلرية ورفع اال�ستبداد رفع ًا ال‬ ‫يرتك جما ًال لعودته‪ ،‬من وظيفة ع َقالء الأمة و�رساتها؟‬ ‫هذه خم�سة وع�رشون مبحث ًا‪ ،‬ك ٌّل منها يحتاج �إىل تدقيقٍ عميق‪ ،‬وتف�صيلٍ‬ ‫ذكرت هذه‬ ‫طويل‪ ،‬وتطبيق على ك ِّل الأحوال واملقت�ضيات اخل�صو�صية‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫املباحث تذكر ًة لل ُك َّتاب ذوي الألباب وتن�شيط ًا لل ُّنجباء على اخلو�ض فيها‬ ‫برتتيب‪ ،‬ا ِّتباع ًا حلكمة �إتيان البيوت من �أبوابها‪ .‬و�إين �أقت�رص على بع�ض‬ ‫ال�سعي يف رفع‬ ‫الكالم فيما يتعلق باملبحث الأخري منها فقط‪� ،‬أعني مبحث َّ‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬ف�أقول‪:‬‬ ‫احلرية‪.‬‬ ‫ت�ستحق‬ ‫ ال َّأمة التي ال ي�شعر ك ُّلها �أو �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال‬‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫والتدرج‪.‬‬ ‫بال�شدة �إمنا ُيقاوم باللني‬ ‫يقاوم ِّ‬ ‫ اال�ستبداد ال َ‬‫ُّ‬ ‫بدل به اال�ستبداد‪.‬‬ ‫ يجب قبل مقاومة اال�ستبداد‪ ،‬تهيئة ما ُي�س َت َ‬‫وت�رس‬ ‫هذه قواعد رفع اال�ستبداد‪ ،‬وهي قواعد ُتبعد �آمال الأ�رساء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبدين مبا‬ ‫امل�ستبدين‪ ،‬ل َّأن ظاهرها ي�ؤم ِّنهم على ا�ستبدادهم‪ .‬ولهذا �أذ ِّكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قوته ومزيد‬ ‫بعظيم‬ ‫امل�ستبد‬ ‫يفرحن‬ ‫(ال‬ ‫قال‪:‬‬ ‫حيث‬ ‫امل�شهور‪،‬‬ ‫الفياري‬ ‫�أنذرهم‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫جبار‬ ‫جبارٍ عني ٍد ُج ِّند له‬ ‫مظلوم �صغري)‪ ،‬و�إين �أقول‪ :‬كم من ّ‬ ‫احتياطه‪ ،‬فكم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫قهار �أخذه اهلل �أخذ عزي ٍز منتقم!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ت�ستحق‬ ‫مبنى قاعدة كون ال َّأمة التي ال ي�شعر �أكرثها ب�آالم اال�ستبداد ال‬ ‫ّ‬ ‫احلرية هو‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫� َّإن ال َّأمة �إذا �ضرُ َِبت عليها ال ِّذ َّلة وامل�سكنة‪ ،‬وتوالت على ذلك القرون‬ ‫الطباع ح�سبما �سبق تف�صيله يف الأبحاث‬ ‫والبطون‪ ،‬ت�صري تلك ال َّأمة �سافلة ِّ‬ ‫ال�سالفة‪ ،‬حتى �إ َّنها ت�صري كالبهائم‪� ،‬أو دون البهائم‪ ،‬ال ت�س�أل عن احلرية‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬ ‫تلتم�س العدالة‪ ،‬وال تعرف لال�ستقالل قيمة‪� ،‬أو للنظام مزية‪ ،‬وال ترى لها يف‬

‫‪136‬‬


‫حد �سواء‪ ،‬وقد‬ ‫احلياة وظيفة غري التابعية للغالب عليها‪َ � ،‬‬ ‫أح�سن �أو �أ�ساء على ٍّ‬ ‫ولكن‪ ،‬طلب ًا لالنتقام من �شخ�صه ال طلب ًا للخال�ص من‬ ‫تنقم على‬ ‫امل�ستبد نادراً‪ْ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كمغ�ص ب�صداع‪.‬‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬فال ت�ستفيد �شيئ ًا‪� ،‬إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مبر�ض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تتو�سم فيه �أ َّنه �أقوى �شوك ًة من‬ ‫م�ستبد �آخر‬ ‫ب�سوق‬ ‫وقد تقاوم‬ ‫ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫امل�ستبد َ‬ ‫َّ‬ ‫امل�ستبد الأول‪ ،‬ف�إذا جنحت ال يغ�سل هذا ال�سائق يديه �إال مباء اال�ستبداد‪ ،‬فال‬ ‫ِّ‬ ‫ت�ستفيد �أي�ض ًا �شيئ ًا‪� ،‬إمنا ت�ستبدل مر�ض ًا مزمن ًا مبر�ض حديث‪ ،‬ورمبا ُتنال‬ ‫تهتم‬ ‫احلرية عفواً‪ ،‬فكذلك ال ت�ستفيد منها �شيئ ًا‪ ،‬لأ َّنها ال تعرف طعمها‪ ،‬فال ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شد‬ ‫بحفظها‪ ،‬فال تلبث احلرية �أن تنقلب �إىل فو�ضى‪ ،‬وهي �إىل‬ ‫م�شو�ش � ُّ‬ ‫ا�ستبداد َّ‬ ‫قرر احلكماء � َّأن احلرية التي تنفع ال َّأمة‬ ‫وط�أ ًة كاملري�ض �إذا انتك�س‪ .‬ولهذا‪َّ ،‬‬ ‫هي التي حت�صل عليها بعد اال�ستعداد لقبولها‪ ،‬و� َّأما التي حت�صل على �أثر ثورةٍ‬ ‫حمقاء فق ّلما تفيد �شيئ ًا‪ ،‬ل َّأن الثورة ‪-‬غالب ًا‪ -‬تكتفي بقطع �شجرة اال�ستبداد‬ ‫وال تقتلع جذورها‪ ،‬فال تلبث �أن تنبت وتنمو وتعود �أقوى مما كانت �أو ًال‪.‬‬ ‫ف�إذا ُوجِ د يف ال َّأمة امليتة من تدفعه �شهامته للأخذ بيدها والنهو�ض بها‬ ‫يبث فيها احلياة وهي العلم‪� ،‬أي علمها ب� َّأن حالتها �سيئة‪ ،‬و�إنمَّ ا‬ ‫فعليه �أو ًال �أن َّ‬ ‫بالإمكان تبديلها بخ ٍري منها‪ ،‬ف�إذا هي علمت بطبعه من الآحاد �إىل الع�رشات‪،‬‬ ‫بالتحم�س ويبلغ بل�سان حالها �إىل‬ ‫�إىل �إىل‪ ،...‬حتى ي�شمل �أكرث ال َّأمة‪ ،‬وينتهي‬ ‫ُّ‬ ‫املعري‪:‬‬ ‫منزلة قول احلكيم‬ ‫ّ‬ ‫فنحن على تغيريها ُق َدراء‬ ‫�إذا مل ت ُقم بالعدل فينا حكوم ٌ ة‬ ‫كر ال َّأمة يف ٍ‬ ‫واد ظاهر احلكمة ي�سري كال�سيل‪ ،‬ال يرجع‬ ‫وهكذا ينقذف ِف ُ‬ ‫حتى يبلغ منتهاه‪.‬‬ ‫ال�شهامة‪� ،‬إمنا الأ�سف � ْأن يندر فيها من‬ ‫ثم � َّإن الأمم امليتة ال يندر فيها ذو َّ‬ ‫َّ‬ ‫يهتدي يف � َّأول ن�ش�أته �إىل الطريق الذي به يح�صل على املكانة التي مت ِّكنه‬ ‫أنبه فكر النا�شئة العزيزة � َّأن من‬ ‫يف م�ستقبله من نفوذ ر�أيه يف قومه‪ .‬و�إنيِّ � ِّ‬ ‫يرى منهم يف نف�سه ا�ستعداداً للمجد احلقيقي فليحر�ص على الو�صايا الآتية‬ ‫البيان‪:‬‬ ‫‪� 1-‬أن يجهد يف ترقية معارفه مطلق ًا ال �سيما يف العلوم ال ّنافعة‬

‫‪137‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫االجتماعية كاحلقوق وال�سيا�سة واالقت�صاد والفل�سفة العقلية‪ ،‬وتاريخ قومه‬ ‫اجلغرايف والطبيعي وال�سيا�سي‪ ،‬والإدارة احلربية‪ ،‬فيكت�سب من �أ�صول وفروع‬ ‫هذه الفنون ما ميكنه �إحرازه بالتل ِّقي‪ ،‬و�إن تع َّذر فباملطالعة مع التدقيق‪.‬‬ ‫‪� 2‬أن يتقن �أحد العلوم التي تك�سبه يف قومه موقع ًا حمرتم ًا وعلمي ًا‬‫الطب‪.‬‬ ‫خم�صو�ص ًا‪ ،‬كعلم الدين واحلقوق �أو الإن�شاء �أو ّ‬ ‫‪� 3‬أن يحافظ على �آداب وعادات قومه غاية املحافظة ولو � َّأن فيها‬‫بع�ض �أ�شياء �سخيفة‪.‬‬ ‫‪� 4‬أن يقلل اختالطه مع النا�س حتى رفقائه يف املدر�سة‪ ،‬وذلك حفظ ًا‬‫�صاحب‬ ‫للوقار وحت ُّفظ ًا من االرتباط القوي مع �أحد كيال ي�سقط تبع ًا ل�سقوط‬ ‫ٍ‬ ‫له‪.‬‬ ‫كلي ًا م�صاحبة املمقوت عند النا�س ال �سيما احل ّكام ولو‬ ‫‪� 5‬أن يتج َّنب ّ‬‫حق‪.‬‬ ‫كان ذلك املقت بغري ّ‬ ‫مزيته العلمية على الذين هم دونه يف‬ ‫‪� 6‬أن يجتهد ما �أمكنه يف كتم ّ‬‫مزيته لبع�ض‬ ‫ذلك العلم لأجل �أن ي�أمن غوائل ح�سدهم‪� ،‬إمنا عليه �أن يظهر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بدرجات كثرية‪.‬‬ ‫من هم فوقه‬ ‫‪� 7‬أن يتخيرَّ له بع�ض من ينتمي �إليه من الطبقة العليا‪ ،‬ب�رشط‪ْ � :‬أن‬‫ال ُيكرث الرتدد عليه‪ ،‬وال ي�شاركه �ش�ؤونه‪ ،‬وال يظهر له احلاجة‪ ،‬ويتك َّتم يف‬ ‫ن�سبته �إليه‪.‬‬ ‫‪� 8‬أن يحر�ص على الإقالل من بيان �آرائه و�إال ي�ؤخذ عليه تبعة ر�أي‬‫يراه �أو خ ٍرب يرويه‪.‬‬ ‫ال�صدق والأمانة‬ ‫‪� 9‬أن يحر�ص على �أن ُيعرف بح�سن الأخالق‪ ،‬ال �سيما ّ‬‫والثبات على املبادئ‪.‬‬ ‫‪� 10‬أن ُيظهر ال�شفقة على ال�ضعفاء والغرية على الدين والعالقة‬‫بالوطن‪.‬‬ ‫امل�ستبد و�أعوانه �إال مبقدار ما‬ ‫‪� 11‬أن يتباعد ما �أمكنه من مقاربة‬‫ّ‬ ‫معر�ض ًا لذلك‪.‬‬ ‫ي�أمن به فظائع ِّ‬ ‫�رشهم �إذا كان َّ‬ ‫�سن الثالثني فما فوق حائزاً على ال�صفات املذكورة‪ ،‬يكون قد‬ ‫فمن يبلغ َّ‬ ‫أعد نف�سه على �أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد يف برهة قليلة‪ ،‬وبهذه‬ ‫� َّ‬

‫‪138‬‬


‫ال�صفات‬ ‫ال ِّثقة يفعل ما ال تقوى عليه اجليو�ش والكنوز‪ .‬وما ينق�صه من هذه ِّ‬ ‫ولكن‪ ،‬قد ي�ستغني مبزيد كمال بع�ضها عن فقدان بع�ضها‬ ‫ُينق�ص من مكانته‪ْ ،‬‬ ‫ال�صفات الأخالقية قد تكفي يف بع�ض الظروف عن‬ ‫الآخر �أو نق�صه‪ .‬كما � َّأن ِّ‬ ‫املت�صدي للإر�شاد ال�سيا�سي فاقد‬ ‫ال�صفات العلمية ك ّلها وال عك�س‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫ّ‬ ‫ال ِّثقة فقدان ًا �أ�صلي ًا �أو طارئ ًا‪ ،‬ميكنه �أن ي�ستعمل غريه ممن تنق�صه اجل�سارة‬ ‫والهمة وال�صفات العلمية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واخلال�صة‪َّ � :‬أن الراغب يف نه�ضة قومه‪ ،‬عليه �أن يهيئ نف�سه ويزن‬ ‫ثم يعزم متو ِّك ًال على اهلل يف خلق ال َّنجاح‪.‬‬ ‫ا�ستعداده‪َّ ،‬‬ ‫ومبنى قاعدة � َّأن اال�ستبداد ال ُيقاوم بال�شدة‪� ،‬إمنا ُيقاوم باحلكمة والتدريج‬ ‫الفعالة لقطع دابر اال�ستبداد هي تر ّقي ال َّأمة يف‬ ‫هو‪َّ � :‬أن الو�سيلة الوحيدة ّ‬ ‫ثم � َّإن اقتناع‬ ‫الإدراك والإح�سا�س‪ ،‬وهذا ال يت�أتى �إال بالتعليم والتحمي�س‪َّ .‬‬ ‫الفكر العام و�إذعانه �إىل غري م�ألوفه‪ ،‬ال يت�أ ّتى �إال يف زمنٍ طويل‪ ،‬ل َّأن العوام‬ ‫مهما تر ّقوا يف الإدراك ال ي�سمحون با�ستبدال الق�شعريرة بالعافية �إال بعد‬ ‫الترّ وي املديد‪ ،‬ورمبا كانوا معذورين يف عدم الوثوق وامل�سارعة‪ ،‬لأ َّنهم �أ ِلفوا‬ ‫الغ�ش واخلداع غالب ًا‪ .‬ولهذا كثرياً ما‬ ‫والدعاة �إال ّ‬ ‫�أن ال يتوقعوا من الر�ؤ�ساء ُّ‬ ‫امل�ستبد الأعظم �إذا كان يقهر معهم بال�سوية الر�ؤ�ساء والأ�رشاف‪،‬‬ ‫يحب الأُ�رساء‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫امل�ستبد ب�سوء‪ ،‬لأ َّنهم‬ ‫ون‬ ‫مي�س‬ ‫وال‬ ‫فقط‬ ‫أعوان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫�رساء‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ينتقم‬ ‫ما‬ ‫ا‬ ‫وكثري‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬وكم �أحرقوا من عا�صمة‬ ‫يرون ظاملهم مبا�رش ًة هم الأعوان دون‬ ‫ِّ‬ ‫حم�ض الت�ش ّفي ب�إ�رضار �أولئك الأعوان‪.‬‬ ‫لأجل‬ ‫ّ‬ ‫قوة الإرهاب بالعظمة‬ ‫ثم � َّإن اال�ستبداد‬ ‫ٌ‬ ‫حمفوف ب� ٍ‬ ‫َّ‬ ‫أنواع القوات التي فيها ّ‬ ‫وقوة اجلُند‪ ،‬ال �سيما �إذا كان اجلند غريب اجلن�س‪ ،‬وقوة املال‪ ،‬وقوة الألفة على‬ ‫ّ‬ ‫وقوة الأن�صار من الأجانب‪،‬‬ ‫الرثوات‪،‬‬ ‫أهل‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫وقو‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫رجال‬ ‫ة‬ ‫وقو‬ ‫الق�سوة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قابل بع�صا الفكر العام الذي هو يف‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫كال�سيف‬ ‫اال�ستبداد‬ ‫جتعل‬ ‫القوات‬ ‫فهذه‬ ‫ُ َ‬ ‫� َّأول ن�ش�أته يكون �أ�شبه بغوغاء‪ ،‬ومن طبع الفكر العام �أ َّنه �إذا فار يف �سنة يغور‬ ‫بناء عليه‪ ،‬يلزم ملقاومة تلك القوات‬ ‫يف �سنة‪ ،‬و�إذا فار يف يوم يغور يف يوم‪ً .‬‬ ‫الهائلة مقابلتها مبا يفعله الثبات والعناد امل�صحوبان باحلزم والإقدام‪.‬‬ ‫قاوم بالعنف‪ ،‬كي ال تكون فتنة حت�صد النا�س‬ ‫اال�ستبداد ال ينبغي �أن ُي َ‬ ‫ال�شدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً‬ ‫ح�صداً‪ .‬نعم‪ ،‬اال�ستبداد قد يبلغ من َّ‬

‫‪139‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫ابتداء‪ ،‬حتى �إذا �سكنت‬ ‫طبيعي ًا‪ ،‬ف�إذا كان يف ال َّأمة عقالء يتباعدون عنها‬ ‫ً‬ ‫ثورتها نوع ًا وق�ضت وظيفتها يف ح�صد املنافقني‪ ،‬حينئ ٍذ ي�ستعملون احلكمة‬ ‫يف توجيه الأفكار نحو ت�أ�سي�س العدالة‪ ،‬وخري ما ت� َّؤ�س�س يكون ب�إقامة حكومة‬ ‫ال عهد لرجالها باال�ستبداد‪ ،‬وال عالقة لهم بالفتنة‪.‬‬ ‫امل�ستبد غالب ًا �إال عقب �أحوال خم�صو�صة‬ ‫العوام ال يثور غ�ضبهم على‬ ‫ِّ‬ ‫مهيجة فورية‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫امل�ستبد على املظلوم يريد االنتقام‬ ‫يوقعه‬ ‫ؤمل‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫دموي‬ ‫م�شهد‬ ‫عقب‬ ‫‬‫ّ‬ ‫لنامو�سه‪.‬‬ ‫امل�ستبد مغلوب ًا‪ ،‬وال يتم َّكن من �إل�صاق عار‬ ‫ عقب حرب يخرج منها‬‫ُّ‬ ‫القواد‪.‬‬ ‫التغ ُّلب بخيانة ّ‬ ‫الدين �إهان ًة م�صحوب ًة با�ستهزاء ي�ستلزم‬ ‫ عقب تظاهر‬‫ِّ‬ ‫امل�ستبد ب�إهانة ّ‬ ‫حدة العوام‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ عقب ت�ضييق �شديد عام مقا�ضا ًة ملالٍ كثري ال يتي�سرَّ �إعطا�ؤه ح ّتى على‬‫�أوا�سط النا�س‪.‬‬ ‫عامة ال يرى النا�س فيها موا�سا ًة ظاهرة‬ ‫ يف حالة جماعة �أو م�صيبة ّ‬‫امل�ستبد‪.‬‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫كتعر�ضه لنامو�س العر�ض‪،‬‬ ‫ عقب عمل‬‫ِّ‬ ‫للم�ستبد ي�ستف ّز الغ�ضب الفوري‪ّ ،‬‬ ‫�أو حرمة اجلنائز يف ال�رشق‪ ،‬وحتقريه القانون �أو ال�رشف املوروث يف الغرب‪.‬‬ ‫ عقب حادث ت�ضييق يوجب تظاهر ق�سم كبري من الن�ساء يف اال�ستجارة‬‫واال�ستن�صار‪.‬‬ ‫عدواً ل�رشفها‪.‬‬ ‫ عقب ظهور مواالة �شديدة من‬‫ِّ‬ ‫امل�ستبد ملن تعتربه ال َّأمة ّ‬ ‫�إىل غري ذلك من الأمور املماثلة لهذه الأحوال التي عندها ميوج النا�س‬ ‫يف ال�شوارع وال�ساحات‪ ،‬ومتلأ �أ�صواتهم الف�ضاء‪ ،‬وترتفع فتبلغ عنان ال�سماء‪،‬‬ ‫احلق‪.‬‬ ‫للحق‪ ،‬املوت �أو بلوغ ّ‬ ‫احلق‪ ،‬االنت�صار ّ‬ ‫احلق ّ‬ ‫ينادون‪ّ :‬‬ ‫امل�ستبد مهما كان غبي ًا ال تخفى عليه تلك املزالق‪ ،‬ومهما كان عتي ًا ال‬ ‫ُّ‬ ‫يغفل عن ا ِّتقائها‪ ،‬كما � َّأن هذه الأمور يعرفها �أعوانه ووزرا�ؤه‪.‬‬ ‫يهورونه على الوقوع يف‬ ‫ف�إذا ُوجِ د منهم بع�ض يريدون له التهلكة ِّ‬ ‫ويل�صقونها به خالف ًا لعادتهم يف �إبعادها عنه بالتمويه على النا�س‪.‬‬ ‫�إحداها‪ُ ،‬‬

‫‪140‬‬


‫الدين عنده‪ ،‬هم �أقدر النا�س‬ ‫� َّإن رئي�س وزراء‬ ‫امل�ستبد �أو رئي�س ُق َّواده‪� ،‬أو رئي�س ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫على الإيقاع به‪ ،‬وهو يداريهم حت ّذراً من ذلك‪ ،‬و�إذا �أراد �إ�سقاط �أحدهم فال‬ ‫يوقعه �إال بغتة‪.‬‬ ‫ملثريي اخلواطر على اال�ستبداد طرائق �ش ّتى ي�سلكونها بال�سرّ ّ ‪ ،‬والبطء‪،‬‬ ‫ي�ستقرون حتت �ستار الدين‪ ،‬في�ستنبتون غابة الثورة من بذرة �أو بذورات‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد ب�سوقه �إىل اال�شتغال‬ ‫يلهون‬ ‫وكم‬ ‫اخللوات‪.‬‬ ‫يف‬ ‫بدموعهم‬ ‫ي�سقونها‬ ‫َّ‬ ‫وال�شهوات‪ ،‬وكم يغرونه بر�ضاء ال َّأمة عنه‪ ،‬ويج�سرِّ ونه على مزيد‬ ‫بالف�سوق َّ‬ ‫ي�شو�شون‬ ‫الر�شد‪ ،‬وكم ِّ‬ ‫الت�شديد‪ ،‬وكم يحملونه على �إ�ساءة التدبري‪ ،‬ويكتمونه ُّ‬ ‫فكره ب�إرباكه مع جريانه و�أقرانه‪ .‬يفعلون ذلك و�أمثاله لأجل غاية واحدة‪،‬‬ ‫�سد الطريق التي فيها ي�سلكون‪َّ � ،‬أما �أعوانه‪ ،‬فال‬ ‫هي �إبعاده عن االنتباه �إىل ِّ‬ ‫و�سيلة لإغفالهم عن �إيقاظه غري حتريك �أطماعهم املالية مع تركهم ينهبون‬ ‫ما �شا�ؤوا �أن ينهبوا‪.‬‬ ‫ومبنى قاعدة �أ َّنه يجب قبل مقاومة اال�ستبداد‪ ،‬تهيئة ماذا ُي�ستبدل به‬ ‫�رشط طبيعي للإقدام على ك ِّل عمل‪ ،‬كما � َّأن‬ ‫اال�ستبداد هو‪َّ � :‬إن معرفة الغاية ٌ‬ ‫معرفة الغاية ال تفيد �شيئ ًا �إذا جهل الطريق املو�صل �إليها‪ ،‬واملعرفة الإجمالية‬ ‫بد من تعيني املطلب واخلطة تعيين ًا‬ ‫يف هذا الباب ال تكفي مطلق ًا‪ ،‬بل ال َّ‬ ‫وا�ضح ًا موافق ًا لر�أي الك ِّل‪� ،‬أو الأكرثية التي هي فوق ثالثة الأرباع عدداً �أو‬ ‫يتم الأمر‪ ،‬حيث �إذا كانت الغاية مبهمة نوع ًا‪ ،‬يكون الإقدام‬ ‫قوة ب�أ�س و�إال فال ّ‬ ‫بالكلية عند ق�سم من النا�س �أو خمالفة‬ ‫ناق�ص ًا نوع ًا‪ ،‬و�إذا كانت جمهولة‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬فتكون فتن ًة �شعواء‪ ،‬و�إذا كانوا يبلغون‬ ‫ين�ضمون �إىل‬ ‫لر�أيهم‪ ،‬فه�ؤالء‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستبد‪.‬‬ ‫مقدار الثلث فقط‪ ،‬تكون حينئ ٍذ الغلبة يف جانب‬ ‫ِّ‬ ‫ثم �إذا كانت الغاية مبهمة ومل يكن ال�سري يف �سبيلٍ معروف‪ ،‬ويو�شك �أن‬ ‫َّ‬ ‫يقع اخلالف يف �أثناء الطريق‪ ،‬فيف�سد العمل �أي�ض ًا وينقلب �إىل انتقام وفنت‪.‬‬ ‫ولذلك يجب تعيني الغاية ب�رصاحة و�إخال�ص و�إ�شهارها بني الكا ّفة‪ ،‬وال�سعي‬ ‫يف �إقناعهم وا�ستح�صال ر�ضائهم بها ما �أمكن ذلك‪ ،‬بل الأَوىل حمل العوام‬ ‫على النداء بها وطلبها من عند �أنف�سهم‪ .‬وهذا �سبب عدم جناح الإمام علي‬ ‫ومن وليه من �أئمة �آل البيت ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬ولع َّل ذلك كان منهم ال عن غفلة‪،‬‬ ‫بل مقت�ضى ذلك الزمان من �صعوبة املوا�صالت وفقدان البو�ستات املنتظمة‬

‫‪141‬‬


‫اال�ستبداد والتخ ُّل�ص منه‬

‫والن�رشيات املطبوعة �إذ ذاك‪.‬‬ ‫واملراد � َّأن من ال�رضوري تقرير �شكل احلكومة التي يراد وميكن � ْأن ُي�ستبدل‬ ‫بها اال�ستبداد‪ ،‬ولي�س هذا بالأمر الهينّ الذي تكفيه فكرة �ساعات‪� ،‬أو فطنة‬ ‫�آحاد‪ ،‬ولي�س هو ب�أ�سهل من ترتيب املقاومة واملغالبة‪ .‬وهذا اال�ستعداد الفكري‬ ‫بد من تعميمه وعلى‬ ‫النظري ال يجوز � ْأن يكون مق�صوراً على اخلوا�ص‪ ،‬بل ال َّ‬ ‫ح�ساب الإمكان ليكون بعيداً عن الغايات ومع�ضوداً بقبول الر�أي العام‪.‬‬ ‫ثم يلزم‬ ‫ح�س ال َّأمة ب�آالم اال�ستبداد‪َّ ،‬‬ ‫وخال�صة البحث �أ َّنه يلزم �أو ًال تنبيه ّ‬ ‫حملها على البحث يف القواعد الأ�سا�سية لل�سيا�سة املنا�سبة لها‪ ،‬بحيث ي�شغل‬ ‫ذلك �أفكار ك ِّل طبقاتها‪ ،‬والأوىل �أن يبقى ذلك حتت خم�ض العقول �سنني‪،‬‬ ‫التلهف احلقيقي‬ ‫بل ع�رشات ال�سنني حتى ين�ضج متام ًا‪ ،‬وحتى يح�صل ظهور ّ‬ ‫على نوال احلرية يف الطبقات العليا‪ ،‬والتم ّني يف الطبقات ال�سفلى‪ ،‬واحلذر‬ ‫كل احلذر من �أن ي�شعر امل�ستبد باخلطر‪ ،‬في�أخذ بالتح ّذر ال�شديد‪ ،‬والتنكيل‬ ‫امل�ستبد ويتكالب‪ ،‬فحينئ ٍذ �إما �أن تغتنم‬ ‫باملجاهدين‪ ،‬فيكرث ال�ضجيج‪ ،‬فيزيغ‬ ‫ّ‬ ‫وجتدد الأ�رس على العباد بقليلٍ‬ ‫الفر�صة دولة �أخرى فت�ستويل على البالد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الرق املنحو�س‪ ،‬وهذا ن�صيب �أكرث‬ ‫من التعب‪ ،‬فتدخل ال َّأمة يف دورٍ �آخر من ِّ‬ ‫احلظ على عدم وجود‬ ‫الأمم ال�رشقية يف القرون الأخرية‪ ،‬و� َّإما �أن ي�ساعد‬ ‫ّ‬ ‫طامع �أجنبي‪ ،‬وتكون ال َّأمة قد ت� َّأهلت للقيام ب�أن حتكم نف�سها بنف�سها‪ ،‬ويف‬ ‫امل�ستبد ذاته لرتك �أ�صول اال�ستبداد‪،‬‬ ‫هذه احلال ميكن لعقالء ال َّأمة �أن يكلِّفوا‬ ‫َّ‬ ‫وامل�ستبد اخلائر القوى ال ي�سعه‬ ‫وا ِّتباع القانون الأ�سا�سي الذي تطلبه الأمة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫امل�ستبد على‬ ‫أ�رص‬ ‫عند ذلك �إال الإجابة طوع ًا‪ ،‬وهذا �أف�ضل ما‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ي�صادف‪ .‬و�إن � َّ‬ ‫القوة‪ ،‬ق�ضوا بالزوال على دولته‪ ،‬و�أ�صبح ك ٌّل منهم راعي ًا‪ ،‬وك ٌّل منهم م�س�ؤو ًال‬ ‫ّ‬ ‫عن رعيته‪ ،‬و�أ�ضحوا �آمنني‪ ،‬ال يطمع فيهم طامع‪ ،‬وال ُيغلبون عن ق ّلة‪ ،‬كما هو‬ ‫بناء عليه‪ ،‬فليب�صرَّ العقالء‪،‬‬ ‫�ش�أن ك ِّل الأمم التي حتيا حيا ًة كاملة حقيقية‪ً ،‬‬ ‫ت�صور ال�صعوبة ال ي�ستلزم‬ ‫ولي َّتقِ اهلل املغرون‪ ،‬وليعلم � َّأن الأمر �صعب‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫أ�شم‪.‬‬ ‫القنوط‪ ،‬بل يثري همم الرجل ال ّ‬ ‫ونتيجة البحث‪َّ � ،‬أن اهلل ‪-‬ج َّلت حكمته‪ -‬قد جعل الأمم م�س�ؤولة عن �أعمال‬ ‫حق‪ .‬ف�إذا مل حت�سن � ّأمة �سيا�سة نف�سها �أذ َّلها اهلل ل َّأمة‬ ‫من تحُ ِّكمه عليها‪ .‬وهذا ٌّ‬ ‫القيم على القا�رص �أو ال�سفيه‪ ،‬وهذه‬ ‫�أخرى حتكمها‪ ،‬كما تفعل ال�رشائع ب�إقامة ّ‬

‫‪142‬‬


‫حكمة‪ .‬ومتى بلغت � َّأم ٌة ر�شدها‪ ،‬وعرفت للحرية قدرها‪ ،‬ا�سرتجعت ع َّزها‪ ،‬وهذا‬ ‫عدل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يذل اهلل قط‬ ‫ربك �أحداً‪� ،‬إمنا هو الإن�سان يظلم نف�سه‪ ،‬كما ال ُّ‬ ‫وهكذا ال يظلم ُّ‬ ‫ي�سبب ك َّل ع َّلة‪.‬‬ ‫�أمة عن ق ّلة‪� ،‬إمنا هو اجلهل ِّ‬ ‫و�إين �أختم كتابي هذا بخامتة ب�رشى‪ ،‬وذلك � َّأن بوا�سق العلم وما بلغ �إليه‪،‬‬ ‫تدل على� َّأن يوم اهلل قريب‪ .‬ذلك اليوم الذي يق ّل فيه التفاوت يف العلم وما‬ ‫ُّ‬ ‫القوة‪ ،‬وعندئ ٍذ تتكاف�أ القوات بني الب�رش‪ ،‬فتنح ّل ال�سلطة‪ ،‬ويرتفع‬ ‫من‬ ‫يفيده‬ ‫ّ‬ ‫التغالب‪ ،‬في�سود بني النا�س العدل والتوادد‪ ،‬فيعي�شون ب�رشاً ال �شعوب ًا‪ ،‬و�رشكات‬ ‫ال دو ًال‪ ،‬وحينئ ٍذ يعلمون ما معنى احلياة الطيبة‪ :‬هل هي حياة اجل�سم وح�رص‬ ‫الهمة يف خدمته؟ �أم حياة الروح وغذا�ؤها الف�ضيلة؟ ويومئ ٍذ يت�س ّنى للإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫م�شرتك يف‬ ‫خمت�ص يف �ش�أنه‪،‬‬ ‫جنم‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫خالد‪،‬‬ ‫ل‬ ‫م�ستق‬ ‫عامل‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫يعي�ش‬ ‫�أن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ملك‪ ،‬وظيفته تنفيذ �أوامر الرحمن امللهمة للوجدان‪.‬‬ ‫النظام‪ ،‬ك�أ َّنه ٌ‬

‫مت الكتاب بعونه تعاىل‬ ‫َّ‬

‫‪143‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.