الأئمة الأربعة سليمان فياض كتاب الدوحة

Page 1


‫سليمان فياض‬

‫األ ئمة األربعة‬



‫سليمان فياض‬

‫األ ئمة األربعة‬


‫‪3‬‬

‫�سليمان فيا�ض‬

‫األ ئمة األربعة‬

‫النا�رش‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬ ‫�إخراج وتنفيذ ‪ :‬الق�سم الفني ‪ -‬جملة الدوحة‬ ‫لوحة الغالف والأعمال الفنية ‪ :‬علي ح�سن ‪ -‬قطر‬




‫فهرس الكتاب‬

‫مقدمة‬

‫‪7‬‬

‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫‪13‬‬

‫مالك بن �أن�س‬

‫‪63‬‬

‫ال�شافعي‬

‫‪107‬‬

‫�أحمد بن حنبل‬

‫‪137‬‬



‫مقـدمة‬ ‫يف التاريخ الإ�سالمي كان هناك فقهاء‪ ،‬عا�شوا بفقههم يف القرن‬ ‫الثاين الهجري‪ ،‬الثامن امليالدي‪ ،‬وحملوا يف حياتهم‪ ،‬وبعد مماتهم‪ ،‬لقب‪:‬‬ ‫�إمام‪ ،‬من علماء ع�رصهم وتالميذهم‪ ،‬وعلماء الأجيال التالية‪ ،‬لأنهم‬ ‫كانوا جمتهدين و�أ�صحاب مناهج يف الفقه الإ�سالمي‪ ،‬وكانوا علماء‬ ‫ي�ستنبطون الأحكام ال�رشعية من �أدلتها التف�صيلية‪ ،‬معتمدين يف �أ�س�س‬ ‫هذا اال�ستنباط على فهمهم لن�صو�ص القر�آن الكرمي‪ ،‬والأحاديث ال�رشيفة‪،‬‬ ‫وال�سنة امل�أثورة‪.‬‬ ‫ويف التاريخ الإ�سالمي‪ ،‬هناك طريقان رئي�سيان يف الفقه الإ�سالمي‪،‬‬ ‫هما‪ :‬طريق �أهل ال�سنة �أو اجلماعة‪ ،‬وطريق ال�شيعة العلويني‪ .‬ويف كل‬ ‫من الطريقني كان �أئمة‪ .‬وعلى ر�أ�س �أئمة �أهل ال�سنة‪ ،‬كان فقهاء �أربعة‬ ‫عظام‪ ،‬عا�شوا كفقهاء �أئمة‪ ،‬هم‪� :‬أبو حنيفة النعمان‪ ،‬ومالك بن �أن�س‪،‬‬ ‫وال�شافعي‪ ،‬و�أحمد بن حنبل‪ .‬وكانوا من جيل تابعي التابعني‪ .‬والتابعون‬ ‫هم َمن تبعوا �صحابة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وعاي�شوهم حياة‬ ‫يروا ال�صحابة‪ ،‬وعرفوا ال�صحابة من‬ ‫وعلم ًا‪ .‬وتابعو التابعني وهم من مل ْ‬ ‫‪9‬‬


‫مقدمة‬

‫التابعني‪ ،‬حني تتلمذوا على �أيديهم‪.‬‬ ‫وكل املتفقهني من ال�صحابة‪ ،‬وتابعيهم‪ ،‬كانوا ي�ضعون لبنات �أوىل‬ ‫يف �رصوح الفهم‪ :‬لعلوم القر�آن‪ ،‬وعلوم احلديث‪ ،‬و�آثار ال�سنة وال�سلف‬ ‫ال�صالح‪ ،‬وي�ستنبطون الأحكام ال�رشعية يف �ضوء فهمهم لن�صو�ص القر�آن‬ ‫وال�سنة‪ ،‬ويفتون فيما ي�ستجد من الوقائع واحلوادث‪ ،‬بعد الفتوحات‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬با�ستنباط الأحكام‪ ،‬يف �ضوء ن�صو�ص القر�آن وال�سنة‪ ،‬بالر�أي‪،‬‬ ‫وبالقيا�س‪ ،‬فيما عرف بفتاوى ال�صحابة‪ ،‬وفتاوى التابعني‪.‬‬ ‫والأئمة الأربعة‪ ،‬املتفقهون على جيل التابعني‪ ،‬جمعوا هذه اللبنات‪،‬‬ ‫و�أ�ضافوا �إليها‪ ،‬و�ساروا بها يف طرائق �أربعة‪ :‬طريق الر�أي‪ ،‬و�إمامه‬ ‫«�أبو حنيفة النعمان»‪ ،‬وطريق �أهل ال�سنة‪ ،‬و�إمامه «مالك بن �أن�س»‪،‬‬ ‫وطريق يجمع بني هذين الطريقني‪ ،‬هو طريق النقل والعقل مع ًا‪ ،‬و�إمامه‬ ‫«ال�شافعي»‪ ،‬وطريق رابع‪ ،‬هو طريق االتباع‪ ،‬و�إمامه «�أحمد بن حنبل»‪،‬‬ ‫وهو طريق يقرتب كثرياً من طريق الإمام مالك‪ ،‬ويبتعد كثرياً عن طريق‬ ‫الإمام �أبي حنيفة النعمان‪ ،‬ويفتح مثل الإمام مالك باب امل�صالح‬ ‫املر�سلة و�سد الذرائع‪ ،‬كي ال يقول بالر�أي وبالقيا�س‪ ،‬ال كثرياً مثل �أبي‬ ‫حنيفة‪ ،‬وال قلي ًال مثل مالك‪ .‬فما عدا االتباع عنده يحال يف �أحكامه �إىل‬ ‫امل�صالح املر�سلة‪ ،‬فهو ابتداع‪ ،‬ولي�س اتباع ًا‪ ،‬وال �ش�أن له به‪.‬‬ ‫وكل فقيه جاء بعد ه�ؤالء الأئمة الأربعة‪ ،‬من �أهل ال�سنة‪ ،‬و�سار يف‬ ‫درب من دربهم‪ ،‬جمتهداً كان �أو مقلداً‪ ،‬وحمل لقب‪� :‬إمام‪ ،‬فهو �إمام على‬ ‫�سبيل املجاز ال احلقيقة‪.‬‬ ‫وهذا الكتاب عن حياة ه�ؤالء الأئمة الأربعة‪ ،‬وعلمهم‪ ،‬وع�رصهم‪،‬‬ ‫و�شخ�صية كل منهم‪ ،‬وفقهه‪ ،‬ور�ؤيته يف العقائد ويف ال�سيا�سة على‬ ‫ال�سواء‪.‬‬ ‫ولي�س بينهم فقيه مل يتعر�ض يف حياته ملحنة‪ ،‬كادت تودي بحياته‪،‬‬ ‫�أو �أودت بها‪ ،‬ب�سبب ال�سيا�سة غالب ًا‪ ،‬وقد باعدوا بينهم وبينها‪ ،‬وب�سبب‬ ‫‪10‬‬


‫هذا ال�رصاع ال�سيا�سي املرير بني كل من الأمويني والعبا�سيني من جهة‪،‬‬ ‫والعلويني من جهة �أخرى‪ ،‬وذلك ال�رصاع الدامي يف العقائد‪ ،‬بني نظرة‬ ‫الفقهاء‪ ،‬ونظرة علماء الكالم‪.‬‬ ‫وقد حفظت لنا حياة ه�ؤالء الأئمة الأربعة‪ ،‬كتب عن مناقب الأئمة‪،‬‬ ‫وكتب عن طبقات الفقهاء‪ ،‬ومو�سوعات تاريخ بغداد و�سواها‪ ،‬وكتب‬ ‫الرتاجم امل�ؤلفة يف القرن الع�رشين‪ ،‬ويف �صدارتها تت�ألق‪ ،‬كدرة وجوهرة‪،‬‬ ‫تراجم ال�شيخ‪« :‬حممد �أبو زهرة» له�ؤالء الأئمة‪.‬‬ ‫وبه�ؤالء الأئمة الأربعة‪ُ ،‬جمع الفقه املتناثر الأبواب واملو�ضوعات‪،‬‬ ‫يف حقبتي ال�صحابة والتابعني‪ ،‬و�أ�ضيف �إليه الكثري‪ ،‬وو�ضعت له الأ�س�س‬ ‫والأ�صول‪ ،‬ودونت فيه الكتب يف �أبواب وف�صول‪ ،‬و�صار علم ًا متعدد‬ ‫الدروب‪ ،‬غني ًا برثوته الفقهية والت�رشيعية‪ ،‬يف زمن ال يزيد عن مائة عام‬ ‫�إال قلي ًال‪ ،‬ويف مدائن �أربع‪ ،‬هي‪ :‬بغداد‪ ،‬واملدينة‪ ،‬ومكة‪ ،‬والقاهرة‪ .‬ففي هذه‬ ‫املدائن‪� ،‬أو يف �إحداها‪ ،‬منا فقه كل فقيه �إمام‪ ،‬وتفرع‪ ،‬وتطور‪ ،‬ثم انت�رش‬ ‫يف العامل الإ�سالمي‪ .‬وتفاوت انت�شار فقه كل فقيه من ع�رص �إىل ع�رص‪،‬‬ ‫ومن مكان �إىل مكان‪ ،‬يف العبادات‪ ،‬ويف املعامالت‪ ،‬ويف الق�ضاء‪.‬‬ ‫وجدير بنا هنا �أن نعرف يف اخلتام‪� ،‬أن الفقه‪ ،‬مبعناه اال�صطالحي‪،‬‬ ‫ت�أثر يف ت�أ�صيله الحق ًا بالفقه الروماين‪ ،‬ومبنطق �أر�سطو‪ ،‬وكان لهذا الت�أثر‬ ‫دور كبري يف ت�أ�سي�س فقه ال�رشيعة الإ�سالمية‪ ،‬و�أن لفظ الفقه يعني يف‬ ‫اللغة‪ :‬الفهم‪ ،‬ثم �أطلق ا�صطالح ًا‪� ،‬أو ًال على علم ال�رشيعة الإ�سالمية �أ�صو ًال‬ ‫وفروع ًا‪ ،‬يف ع�رص ال�صحابة والتابعني‪ ،‬ثم خ�ص�ص ثاني ًا بعلم الفروع‬ ‫يف ع�رص تابعي التابعني‪ ،‬ويراد به عندهم العلم بالأحكام ال�رشعية‪،‬‬ ‫امل�أخوذة من �أدلتها التف�صيلية‪ .‬ويف �إطار هذا التخ�صي�ص كانت جهود‬ ‫�أئمة الإ�سالم الأربعة‪ ،‬وكانت اجتهادات ه�ؤالء الأئمة الفقهاء‪ ،‬عن‪� :‬أفعال‬ ‫املكلف‪ ،‬وحكمها‪ ،‬ودليلها‪ ،‬يف العبادات واملعامالت‪.‬‬ ‫وباهلل التوفيق‪،‬‬ ‫‪11‬‬



‫أبو حنيفة النعمان‬ ‫إمـام أهــل الـ ّرأي‬ ‫َ‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫‪14‬‬


‫الإمام الأعظم‬ ‫يف ر�أي ال�شيخ الإمام‪« :‬حممد �أبو زهرة»‪� ،‬أن تاريخ الفقه الإ�سالمي‪،‬‬ ‫مل يعرف �إمام ًا يف الفقه كرث مادحوه‪ ،‬وكرث ناقدوه‪ ،‬مثل الإمام «�أبو‬ ‫حنيفة النعمان» ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬لأنه كان فقيه ًا م�ستق ًال‪� ،‬سلك يف تفكريه‬ ‫االجتهادي م�سلك ًا م�ستق ًال‪ ،‬ال ي�ستطيع جماراته فيه �أحد من ناقديه‪� ،‬أو‬ ‫من املتزمتني امللتزمني ب�أقوال ال�سلف وحدها‪ ،‬وما عداها عندهم فهو‬ ‫من البِدع املنكور‪� ،‬أو من الذين حنقوا عليه �إكثاره من الر�أي يف الفتوى‪،‬‬ ‫دون التوقف يف نظرهم عند �آراء ال�سلف‪� ،‬أو الأخذ بالر�أي يف قليل من‬ ‫الفتاوى‪.‬‬ ‫لكن تاريخ الفقه الإ�سالمي‪ ،‬وبعد �أن ا�ستوت مذاهبه ومدار�سه‪،‬‬ ‫�أن�صف �أبا حنيفة فقيه العراق‪ ،‬من كيد معا�رصيه له‪ ،‬بني النا�س‪ ،‬وعند‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬ومن افرتاء الكذب عليه بعد وداعه للدنيا‪ .‬و�آية هذا الإن�صاف‬ ‫�أقوال الفقهاء‪ ،‬من معا�رصيه‪ ،‬ومن الأجيال التالية لزمانه‪.‬‬ ‫ف�أبو حنيفة عند معا�رصه‪ :‬الف�ضل بن ِع َيا�ض ال�شهري بالورع‪« :‬كان‬ ‫‪15‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫رج ًال فقيه ًا‪ ،‬معروف ًا بالفقه‪ ،‬وا�سع املال‪ ،‬معروف ًا بالأف�ضال على كل‬ ‫من يطيف به‪� ،‬صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار‪ ،‬ح�سن ال�صمت‪،‬‬ ‫قليل الكالم حتى ترد م�س�ألة يف حالل �أو حرام‪ ،‬فكان يح�سن �آنئذ �أن‬ ‫يدل على احلق‪ ،‬غري هياب من مال �أو �سلطان»‪.‬‬ ‫و�أبو حنيفة قال عنه معا�رصه جعفر بن الربيع‪�« :‬أقمت على �أبي‬ ‫حنيفة خم�س �سنني‪ ،‬فما ر�أيت �أطول �صمت ًا منه‪ ،‬ف�إذا �سئل عن �شيء من‬ ‫الفقه تف َّتح‪ ،‬و�سال كالوادي‪ ،‬و�سمعت له دوي ًا وجهارة بالكالم»‪.‬‬ ‫و�أبو حنيفة قال عنه معا�رصه مليح بن وكيع‪« :‬كان ‪ -‬واهلل ‪-‬‬ ‫�أبو حنيفة عظيم الأمانة‪ ،‬وكان ‪ -‬واهلل ‪ -‬يف قلبه جلي ًال كبرياً عظيم ًا‪.‬‬ ‫وكان ي�ؤثر ر�ضا ربه على كل �شيء‪ ،‬ولو �أخذته ال�سيوف يف اهلل الحتمل‪،‬‬ ‫رحمه اهلل‪ ،‬ور�ضي عنه ر�ضا الأبرار‪ ،‬فقد كان منهم»‪.‬‬ ‫و�أبو حنيفة و�صفه معا�رصه وتلميذه الورع التقي عبد اهلل بن‬ ‫املبارك ب�أنه‪« :‬مخ العلم»‪.‬‬ ‫ريج‪ ،‬فقال عنه‪:‬‬ ‫ويف مطلع حياة �أبي حنيفة‪ ،‬ر�آه املحدث ابن ُج ْ‬ ‫«�سيكون له يف العلم �ش�أن عجيب»‪ ،‬ثم قال فيه بعد �أن كرب‪ ،‬وقد ذكر‬ ‫عنده‪�« :‬إنه الفقيه‪� .‬إنه الفقيه»‪.‬‬ ‫ولقد �سئل الإمام مالك عن الفقيه «عثمان الب َني» فقال‪« :‬كان رج ًال‬ ‫مقارب ًا»‪ .‬و�سئل عن القا�ضي الفقيه «ابن �شبرْ مة»‪ ،‬فقال‪«:‬كان رج ًال‬ ‫مقارب ًا»‪ ،‬و�سئل عن �أبي حنيفة فقال‪«:‬لو جاء �إىل �أ�ساطينكم هذه ( يعني‬ ‫ال�سواري احلجرية) فقاي�سكم على �أنها خ�شب‪ ،‬لظننتم �أنها خ�شب»‪.‬‬ ‫وروى التاريخ عن الإمام مالك‪� ،‬أن �أبا حنيفة «و�ضع ثالث ًا وثمانني‬ ‫�ألف م�س�ألة (يف الفقه الإ�سالمي) منها ثماين وثالثون �ألف م�س�ألة‬ ‫(هي) �أ�صل يف العبادات‪ .‬وخم�س و�أربعون �ألف م�س�ألة (هي) �أ�صل يف‬ ‫املعامالت»‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫هذا هو الإمام «�أبو حنيفة النعمان» الذي منحته الأجيال لقب‪:‬‬ ‫«الإمام الأعظم»‪.‬‬ ‫فكيف عا�ش؟‪� ،‬أو كيف كانت نظراته يف فقه الإ�سالم؟‬

‫ابن ح�ضارة‬ ‫بالكوفة‪ ،‬ولد �أبو حنيفة النعمان‪ ،‬يف �سنة ‪ 80‬من الهجرة النبوية‪،‬‬ ‫لأب فار�سي الن�سب ا�سمه‪« :‬ثابت بن زوطي»‪ .‬وكان جده «زوطي» من‬ ‫«كابل»‪ ،‬وهي مدينة ب�أفغان�ستان التي كانت تابعة لفار�س‪ .‬وقد‬ ‫�أهل‬ ‫ُ‬ ‫�أ�رس عند فتح العرب لبالد �أفغان�ستان‪ ،‬وا�سترُ ّق بالأ�رس لبع�ض بني‬ ‫تيم‪ ،‬ثم �أُعتق كرم ًا‬ ‫تيم بن ثعلبة‪ ،‬ثم �أ�سلم و�أُع ِتق‪ ،‬وكان وال�ؤه لقبيلة ْ‬ ‫ْ‬ ‫حرا‪،‬‬ ‫أبوه‬ ‫�‬ ‫ولد‬ ‫قبله‬ ‫ومن‬ ‫ا‪،‬‬ ‫حر‬ ‫النعمان‬ ‫حنيفة‬ ‫أبو‬ ‫�‬ ‫فولد‬ ‫ة‪.‬‬ ‫ن‬ ‫وم‬ ‫آ�رسه‬ ‫�‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ومل يكن �رشف �أبي حنيفة النعمان من مال‪ ،‬وال ن�سب‪ .‬ف�رشفه كان من‬ ‫تيمي يوم ًا‪�« :‬أنت موالي» فرد عليه‬ ‫مواهبه‪ ،‬وعقله‪ ،‬وتقاه‪ .‬ولقد قال له ْ‬ ‫لك‪ ،‬م ّنك يل»‪.‬‬ ‫�أبو حنيفة بهدوء‪�« :‬أنا واهلل �أ�رشف َ‬ ‫من املوايل (غري العرب) �إذن كان �أبو حنيفة النعمان‪ ،‬واملوايل يف‬ ‫زمانه كانوا هم حملة الفقه‪ ،‬يف ع�رص التابعني‪ ،‬و�أكرث فقهاء الأم�صار‬ ‫يف هذا الع�رص‪ ،‬كانوا من املوايل‪ ،‬وكان الفقهاء املوايل هم الو�سط‬ ‫العلمي للدولة الإ�سالمية‪ .‬ولهذه الظاهرة �أ�سباب‪:‬‬ ‫فالعرب يف ع�رص الدولة الأموية‪ ،‬كانت لهم ال�سيادة وال�سلطان‪،‬‬ ‫ف�شغلوا عن الدر�س والبحث‪ .‬وتقدم املوايل‪،‬‬ ‫وكان عليهم احلرب والنـزال‪ُ ،‬‬ ‫وهم �أبناء ح�ضارة قد فقدوا ال�سلطان‪ ،‬وملأوا الفراغ لينالوا ال�رشف عن‬ ‫طريق املعرفة والعلم‪ ،‬يدفعهم احلرمان �إىل الكمال‪ ،‬وبلغوا يف العلم‬ ‫�ش�أواً‪� ،‬سيطروا فيه على الفكر العربي الإ�سالمي‪ ،‬تاركني للعرب ال َغلب‬ ‫املادي‪ .‬وكان �أبو حنيفة النعمان واحداً منهم‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫واملوايل كانوا كرثة عند ال�صحابة بالأ�رس‪� ،‬أو بالعمل واالختيار‪،‬‬ ‫وكانوا كرثة مالزمة لل�صحابة‪ ،‬ي�صاحبونهم يف البيت‪ ،‬وخارج البيت‪،‬‬ ‫ي�أخذون عنهم ما �أخذوه عن ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم)‪ .‬وحني‬ ‫انتهى ع�رص ال�صحابة مع نهاية القرن الأول الهجري‪ ،‬كان املوايل هم‬ ‫حملة العلم يف الع�رص الذي يليه‪ ،‬وكانوا هم �أكرث التابعني‪ .‬وكان �أبو‬ ‫حنيفة النعمان واحداً من تابعي التابعني‪.‬‬ ‫واملوايل كانوا ينت�سبون �إىل �أمم عريقة‪ ،‬ذات ثقافات وعلوم‪ ،‬ولذلك‬ ‫كان النـزوع فيهم �إىل العلم جِ ِب َّلة وطبيعة‪ .‬وكان �أبو حنيفة النعمان‬ ‫واحداً منهم‪ ،‬فموطن �أجداده كان تابع ًا دائم ًا للفر�س‪ ،‬وحل�ضارة الفر�س‪،‬‬ ‫قبل الإ�سالم‪.‬‬

‫تاجر احلرير‬ ‫وبالكوفة ن�ش�أ �أبو حنيفة‪ ،‬وبها تربى‪ ،‬يف بيت �أبيه‪ ،‬تاجر احلرير‪،‬‬ ‫املو�رس‪ ،‬وامل�سلم‪ ،‬احل�سن الإ�سالم‪ .‬وكان �أبوه «ثابت» قد التقى‪ ،‬وهو‬ ‫«علي بن �أبي طالب»‪ .‬ور�أى ثابت �أباه «زوطي»‬ ‫�صغري بالكوفة‪ ،‬بالإمام ّ‬ ‫يهدي �إىل الإمام مقداراً من حلوى الفالوذج يف عيد النريوز الفار�سي‪،‬‬ ‫علي‪ ،‬وهو ي�ضع ك ّفه على‬ ‫ومل يكن ي�أكلها �إال �أهل الي�سار‪ ،‬ور�أى الإمام ّ‬ ‫ر�أ�س �أبيه‪ ،‬ويدعو له بالربكة فيه‪ ،‬ويف ذريته‪.‬‬ ‫ويف �سن ال�صبا‪ ،‬حفظ �أبو حنيفة القر�آن الكرمي‪ ،‬و�أخذ قراءته للقر�آن‬ ‫عن «عا�صم» �أحد القراء ال�سبعة‪ ،‬و�أ�شع عقله‪ ،‬يف جمتمع يعي�ش فيه‬ ‫العرب‪ ،‬وال�رسيان‪ ،‬والفر�س‪ ،‬و�أبناء خرا�سان‪ ،‬وبالد ما وراء النهر‪ ،‬وتلتقي‬ ‫فيه فل�سفة اليونان بحكمة الفر�س‪ ،‬وتتحاور فيه‪ ،‬يف العقائد‪ ،‬مذاهب‬ ‫الن�رصانية‪ ،‬و�آراء ال�شيعة‪ ،‬وال�سنة‪ ،‬واخلوارج‪ ،‬واملعتزلة‪ ،‬وتت�ضارب فيه‬ ‫�آراء الفرق يف ال�سيا�سة‪ ،‬مثل ت�ضاربها يف العقائد‪ .‬ولقد راح �أبو حنيفة‬ ‫‪18‬‬


‫يجادل‪ ،‬دفاع ًا عن الإ�سالم‪ ،‬مع املجادلني‪ ،‬وينازل �أ�صحاب الأهواء‬ ‫بفطرته امل�ستقيمة‪.‬‬

‫ن�صيحة العمر‬ ‫ويف �سن ال�صبا‪ ،‬و�إىل �سن الثانية والع�رشين من عمره‪ ،‬كان �أبو‬ ‫حنيفة النعمان ي�شتغل بتجارة احلرير مثل �أبيه‪ ،‬ويختلف �إىل الأ�سواق‬ ‫مثل التجار‪ ،‬و�إىل حلقات العلم يف امل�سجد يف بع�ض الأحيان النادرة‪،‬‬ ‫مثل عامة امل�سلمني �إىل �أن ا�ستوقفه يوم ًا الفقيه «�إبراهيم ال�شعبي»‪ ،‬وقد‬ ‫علميا‪ .‬ولقد روى �أبو حنيفة ما‬ ‫ر�أى فيه ذكاء‪ ،‬وملح وراء ذكائه عقال ًّ‬ ‫قاله له �إبراهيم ال�شعبي‪ .‬قال �أبو حنيفة‪« :‬مررت يوم ًا على ال�شعبي‪ ،‬وهو‬ ‫جال�س‪ ،‬فدعاين فقال يل‪:‬‬ ‫ �إىل من تختلف؟‬‫فقلت‪:‬‬ ‫ �أختلف �إىل ال�سوق‪.‬‬‫فقال ال�شعبي‪:‬‬ ‫ مل �أعن االختالف �إىل ال�سوق‪ ،‬عنيت االختالف �إىل العلماء‪.‬‬‫فقلت له‪:‬‬ ‫ �أنا قليل االختالف �إليهم‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ ال تغفل‪ .‬وعليك بالنظر يف العلم‪ ،‬وجمال�سة العلماء‪ .‬ف�إين �أرى فيك‬‫يقظة وحركة‪.‬‬ ‫ووقعت ن�صيحة ال�شعبي موقع ًا طيب ًا من قلب �أبي حنيفة‪ ،‬فقلل كثرياً‬ ‫من االختالف �إىل ال�سوق‪ ،‬تارك ًا �أمر متجره �إىل �رشيكه حف�ص بن عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬يرتدد عليه �أحيان ًا لرياجع ح�سابات املتجر‪� ،‬أو يطمئن على‬ ‫‪19‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫�سري عمله‪� ،‬أو �أمانة �رشيكه يف التعامل مع النا�س‪ .‬ويفرغ ُج ّل وقته‪،‬‬ ‫يف الليل والنهار‪ ،‬للرتدد على حلقات العلم‪ ،‬وكانت هناك يف م�سجد‬ ‫الكوفة حلقات للمذاكرة يف العقائد‪ ،‬يخو�ض فيها �أهل الفرق الإ�سالمية‬ ‫املختلفة‪ ،‬وحلقات ملذاكرة �أحاديث الر�سول (�صلى اهلل عليه و�سلم)‬ ‫وروايتها‪ ،‬وحلقات ال�ستنباط الفقه من الكتاب وال�سنة‪ ،‬والفتوى فيما‬ ‫وي�ستجد من احلوادث يف حياة النا�س‪.‬‬ ‫يقع ُ‬ ‫ف�أي حلقات �سوف يختار �أبو حنيفة �أن يجل�س فيها‪ ،‬و�أن ي�ستفيد من‬ ‫علمائها؟‬ ‫ذات ليلة‪ ،‬وقد بلغ �أبو حنيفة من العلم �ش�أن ًا‪ ،‬وجاوز الأربعني من‬ ‫العمر‪ ،‬و�صار له تالميذ‪� ،‬س�أله تلميذه و�صديقه احلميم �أبو يو�سف‪:‬‬ ‫ كيف ُو ّفقت �إىل الفقه؟‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ �أخربك‪� :‬أما التوفيق فكان من اهلل‪ ،‬وله احلمد هو �أهله وم�ستحقه‪:‬‬‫عيني‪ ،‬فقر�أت ف ًّنا ف ًّنا‬ ‫�إين ملا �أردت تع ُّلم العلم‪ ،‬جعلت العلوم كلها ن�صب‬ ‫ّ‬ ‫منها‪ ،‬وتفكرت يف عاقبته‪ ،‬ومو�ضع نفعه‪ .‬فقلت �آخذ يف (علم) الكالم‪،‬‬ ‫ثم نظرت‪ ،‬ف�إذا عاقبته �سوء‪ ،‬ونفعه قليل‪ ،‬و�إذا كمل الإن�سان فيه‪ ،‬ال‬ ‫ورمي بكل �سوء‪ ،‬ويقال (عنه) �صاحب هوى‪.‬‬ ‫ي�ستطيع �أن يتكلم جهاراً‪ُ ،‬‬ ‫تتبعت �أمر الأدب والنحو‪ ،‬ف�إذا عاقبة �أمره �أن �أجل�س مع �صبي �أعلمه‬ ‫ثم َ‬ ‫النحو والأدب‪ ،‬ثم تتبعت �أمر ال�شعر‪ ،‬فوجدت عاقبة �أمره املدح والهجاء‪،‬‬ ‫وقويل الكذب‪ ،‬ومتزيق الدين‪ .‬ثم تفكرت يف �أمر القراءات‪ ،‬فقلت‪� :‬إذا بلغت‬ ‫علي‪ ،‬والكالم يف‬ ‫الغاية من (علم) القراءات‪ ،‬اجتمع �إيل �أحداث يقرءون ّ‬ ‫القر�آن ومعانيه �صعب‪ .‬فقلت‪� :‬أطلب احلديث‪( ،‬فوجدت �أنني) �إذا جمعت‬ ‫يل‪ ،‬و�إذا احتيج‬ ‫منه الكثري �أحتاج �إىل عمر طويل‪ ،‬حتى يحتاج النا�س �إ ّ‬ ‫يل �إال الأحداث‪ ،‬ولعلهم يرمونني بالكذب‪ ،‬و�سوء احلفظ‪،‬‬ ‫يل ال يجتمع �إ ّ‬ ‫�إ ّ‬ ‫فيلزمني ذلك �إىل يوم الدين‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫وروى �أبو حنيفة كيف اهتدى �إىل الفقه‪ ،‬وحلقات علم الفقه‪ ،‬وكان‬ ‫قد بلغ يف علم الكالم �ش�أواً‪ ،‬حني كان يرتدد على الب�رصة‪ ،‬وفيها �صفوة‬ ‫علماء الكالم‪ ،‬و�صفوة دعاة الفرق الإ�سالمية املتكلمني‪ .‬قال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫«كنا جنل�س (يف م�سجد الكوفة) بالقرب من حلقة (الفقيه) حماد بن‬ ‫�أبي �سليمان‪ ،‬فجاءتني امر�أة يوم ًا فقالت‪« :‬رجل له � َأمة‪� ،‬أراد �أن يطلقها‬ ‫لل�س َّنة‪ .‬كم يطلقها؟»‪ .‬ف�أمر ُتها �أن ت�س�أل حماداً‪ ،‬ثم ترجع فتخربين‪،‬‬ ‫ألت حماداً‪ .‬فقال لها‪« :‬يطلقها وهي طاهرة من احلي�ض واجلماع‬ ‫ف�س� ْ‬ ‫تطليقة‪ ،‬ثم يرتكها (عنده) حتى حتي�ض حي�ضتني‪ ،‬ف�إذا اغت�سلت فقد‬ ‫حلت للأزواج»‪ .‬ورجعت املر�أة‪ ،‬و�أخربتني‪ .‬فقلت (لنف�سي)‪« :‬ال حاجة يل‬ ‫نعلي‪ ،‬فجل�ست �إىل حماد‪ .‬فكنت �أ�سمع م�سائله‪،‬‬ ‫يف (علم) الكالم»‪ ،‬و�أخذت َّ‬ ‫ف�أحفظ قوله‪ ،‬ثم يعيدها من الغد‪ ،‬ف�أحفظ‪ ،‬ويخطئ �أ�صحابه (تالميذه)‪.‬‬ ‫يل (يف) �صدر احللقة بحذائي غري �أبي حنيفة»‪.‬‬ ‫فقال (يوم ًا)‪« :‬ال يجل�س �إ ّ‬ ‫والتفت �أبو حنيفة �إىل �صاحبه �أبي يو�سف‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ وكلما ق َّلبت الفقه‪ ،‬و�أدرته‪ ،‬مل يزد �إال جاللة‪ ،‬ومل �أجد فيه عيب ًا‪.‬‬‫ور�أيت اجللو�س مع العلماء والفقهاء‪ ،‬وامل�شايخ والب�رصاء‪ ،‬والتخلق‬ ‫والتعبد‪،‬‬ ‫ب�أخالقهم‪ ،‬ور�أيت �أنه ال ي�ستقيم �أداء الفرائ�ض‪ ،‬و�إقامة الدين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�إال مبعرفته‪ ،‬وطلب الدنيا والآخرة �إال به‪ .‬ومن �أراد �أن يطلب به (بالفقه)‬ ‫الدنيا‪ ،‬طلب به �أمراً ج�سيم ًا‪ ،‬و�صار �إىل رفعة منها‪ .‬ومن �أراد العبادة‬ ‫تع َبد بغري علم‪ .‬و�إمنا‬ ‫والتخلي (عن الدنيا) مل ي�ستطع �أحد �أن يقول له‪َ :‬‬ ‫يقول عنه‪ :‬ف ِقه‪ِ ،‬‬ ‫وعمل ب ِع ْلم‪.‬‬

‫يف م�سجد الكوفة‬ ‫كان عمر �أبي حنيفة النعمان حني جل�س �إىل �أ�ستاذه حماد بن‬ ‫�سليمان‪ ،‬يف م�سجد الكوفة‪ ،‬اثنني وع�رشين عام ًا‪ ،‬وقد عرف قدراً من‬ ‫‪21‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫النحو‪ ،‬والأدب‪ ،‬وال�شعر‪ ،‬واحلديث‪ ،‬وقدراً �أكرب يف علم الكالم‪ ،‬وا�ستفاد‪،‬‬ ‫بعد �أن �صار فقيه ًا‪ ،‬من قدرة علماء الكالم يف املناق�شة‪ ،‬واحلوار‪ ،‬واجلدل‪،‬‬ ‫و�رضب امل�شابهات للقيا�س عليها‪ ،‬يف فهمه لأ�صول الدين‪ ،‬وجمادلته‬ ‫لأهل الفرق‪ ،‬حني يدخلون عليه م�سجد الكوفة‪ ،‬وهو من�رصف �إىل الفقه‪،‬‬ ‫ابتغاء �إحراجه‪ ،‬وتخطئته‪ ،‬بل وتكفريه يف �أ�صول االعتقاد‪ .‬ولزم �أبو‬ ‫حنيفة �أ�ستاذه حماداً مالزمة تامة ع�رش �سنوات‪ ،‬ثم راودته نف�سه �أن‬ ‫يطلب الريا�سة يف الفقه مثل �شيخه حماد‪ .‬يروي �أبو حنيفة ق�صة ما‬ ‫حدث فيقول‪�« :‬أردت �أن �أعتزله‪ ،‬و�أجل�س يف حلقة لنف�سي‪ ،‬فخرجت يوم ًا‬ ‫بالع�شي (ع�رصاً)‪ .‬وعزمي �أن �أفعل‪ .‬فلما دخلت امل�سجد ور�أيته‪ ،‬مل تطب‬ ‫نعي‬ ‫نف�سي �أن اعتزله‪ ،‬فجئت وجل�ست معه‪ .‬فجاء �إىل حماد يف تلك الليلة ْ‬ ‫قرابة له قد مات بالب�رصة‪ ،‬وترك ما ًال‪ ،‬ولي�س له وارث غريه‪ ،‬ف�أمرين �أن‬ ‫علي (من النا�س)‬ ‫�أجل�س مكانه‪ ،‬فما هو �إال �أن خرج (لل�سفر) حتى وردت ّ‬ ‫م�سائل مل �أ�سمعها منه‪ .‬فكنت �أجيب‪ ،‬و�أكتب جوابي‪ .‬ثم قدم حماد من‬ ‫�سفره فعر�ضت عليه امل�سائل‪ ،‬وكانت نحواً من �ستني م�س�ألة‪ .‬فوافقني يف‬ ‫�أربعني‪ ،‬وخالفني يف ع�رشين‪ ،‬ف�آليت على نف�سي �أال �أفارقه حتى ميوت‬ ‫�أو �أموت‪ ،‬فلم �أفارقه حتى مات‪ .‬ف�صحبته ثماين ع�رشة �سنة»‪.‬‬ ‫ومع مالزمة �أبي حنيفة حلماد‪ ،‬فقد جل�س �إىل غريه من الفقهاء‬ ‫واملحدثني‪ ،‬وخ�صو�ص ًا من التابعني الذين ات�صلوا بال�صحابة‪ ،‬وكانوا‬ ‫ِّ‬ ‫ممتازين يف الفقه واالجتهاد‪ ،‬فتل َّقى عنهم فقه عمر بن اخلطاب‪ ،‬وفقه‬ ‫عبد اهلل بن م�سعود‪ ،‬وفقه عبد اهلل بن عبا�س‪ ،‬تلقاه عن �أ�صحابهم من‬ ‫العرب واملوايل‪.‬‬ ‫حاجا‪ ،‬ولذلك‬ ‫وكان �أبو حنيفة كثري الرحلة �إىل بيت اهلل احلرام‬ ‫ًّ‬ ‫كان يلتقي يف مكة واملدينة بالعلماء‪ ،‬ومنهم كثريون من التابعني‪،‬‬ ‫علميا‪ ،‬يروي عنهم الأحاديث‪ ،‬ويذاكرهم الفقه‪،‬‬ ‫وكان لقا�ؤه بهم لقاء‬ ‫ًّ‬ ‫ويدار�سهم ما عنده من طرائقه‪ ،‬وكانوا من مدار�س خمتلفة‪ ،‬هي مدار�س‪:‬‬ ‫‪22‬‬


‫علي زين العابدين‪� ،‬إمام الزيدية‪ ،‬وجعفر ال�صادق‪ ،‬وعبد اهلل بن‬ ‫زيد بن ّ‬ ‫ح�سن بن ح�سن بن �أبي حممد النف�س الزكية‪ ،‬وكالهما من �أئمة العلويني‪،‬‬ ‫ودار�س بع�ض دعاة فرقة الكي�سانية ال�شيعية‪ ،‬الذين يقولون بالرجعة‬ ‫(عودة الإمام)‪.‬‬ ‫ولقد تويف حماد �أ�ستاذ �أبي حنيفة عام ‪ 120‬هجرية‪ ،‬وكان �أبو‬ ‫حنيفة يف �سن الأربعني‪ .‬و�إثر وفاته �أجل�سه تالميذ حماد ورفاقه يف‬ ‫جمل�س �شيخه و�شيخهم مب�سجد الكوفة‪ ،‬وراح �أبو حنيفة يدار�س تالميذه‬ ‫من الرفاق ال�سابقني‪ ،‬والقادمني اجلدد‪ ،‬ما يعر�ض له ولهم من فتاوى‪،‬‬ ‫وما يبلغه ويبلغهم من �أق�ضية‪ ،‬فقد كان ي�ؤثر م�شاركة الغري له يف البحث‬ ‫عن احلق‪ ،‬ويقي�س الأ�شياء ب�أ�شباهها‪ ،‬والأمثال ب�أمثالها‪ ،‬بعقل قوي‪،‬‬ ‫ومنطق �سديد‪ ،‬حتى و�ضع بهم‪ ،‬ومعهم‪ ،‬الطريقة الفقهية التي ا�شتق منها‬ ‫املذهب احلنفي‪ ،‬طريقة القيا�س والر�أي‪.‬‬

‫و�صايا فقيه لفقيه‬ ‫التف تالميذ �أبي حنيفة حوله‪ .‬كانوا‬ ‫ذات ليلة �إثر �صالة الع�شاء‪َّ ،‬‬ ‫يف جل�سة وداع لزميل لهم فقيه‪� ،‬سريحل �إىل الب�رصة‪ ،‬لي�ستقر بها بقية‬ ‫عمره‪ ،‬هو «يو�سف بن خالد ال�سمتي» (الب�رصي)‪ .‬ويف نهاية اجلل�سة‪ ،‬قال‬ ‫الطالب يو�سف الب�رصي الفقيه لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫�أو�صني‪ ،‬كيف �أحيا كفقيه؟‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫علي‪.‬‬ ‫ �سلني‪� ،‬أقل لك ما يفتح اهلل به ّ‬‫فقال الطالب الب�رصي الفقيه‪:‬‬ ‫ خبرِّ ين عن العمل والعلم‪.‬‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫‪23‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫ العمل القومي يجب �أن يكون مبني ًا على املعرفة ال�صحيحة‪ ،‬فلي�س‬‫اخلري عندي من يعمل اخلري فقط‪ ،‬بل اخلري عندي من يعلم اخلري وال�رش‪،‬‬ ‫ويق�صد �إىل اخلري عن معرفة ملزاياه‪ ،‬ويجتنب ال�رش فاهم ًا مل�ساوئه‪.‬‬ ‫فالعادل مث ًال لي�س هو الذي يكون منه العدل‪ ،‬من غري معرفة للظلم‪� ،‬إمنا‬ ‫العادل من يعرف الظلم ومغبته‪ ،‬والعدل وغايته‪ ،‬ويق�صد �إىل العدل‪ ،‬ملا‬ ‫املغبة‪ .‬واعلم �أن العمل تبع للعلم‪ ،‬كما �أن‬ ‫فيه من �رشف الغاية‪ ،‬وح�سن‬ ‫ّ‬ ‫الأع�ضاء تبع للب�رص‪ ،‬والعلم مع العمل الي�سري �أنفع من اجلهل مع العمل‬ ‫الكثري‪ .‬واعلم �أن العمل امل�ستقيم ال ينبني �إال على فكر م�ستقيم‪ ،‬وعلم‬ ‫مقرر ثابت‪ .‬واعلم �أن العلم يجب �أن يكون يف م�سائل االعتقاد واليقني‪،‬‬ ‫جزم ًا قاطع ًا‪ ،‬ال تردد فيه‪ .‬وهو يتحقق ب�إثبات ونفي‪� ،‬إثبات للمعتقد‪،‬‬ ‫ونفي ملا عداه‪ .‬واعلم �أن العلم املت�صل بالعمل‪ُ ،‬يكتفى يف �إثباته بالأدلة‬ ‫الظنية‪ ،‬فمع العمل ال يكون ثمة علم يقيني‪ ،‬بل يكون ثمة ترجيح ظني‪.‬‬ ‫ويف مثل هذه احلال‪ ،‬ال جتزم ببطالن قول خمالفك‪ ،‬بل ترجح قول نف�سك‬ ‫وتقول‪« :‬فيه �صواب يحتمل اخلط�أ» وتقول يف قول خمالفك «فيه خط�أ‬ ‫يحتمل ال�صواب»‪.‬‬ ‫كان تالميذ �أبي حنيفة يعرفون عنه ُبعد غوره العقلي يف التفكري‪،‬‬ ‫وعمق النظرة‪ ،‬و�شدة غو�صه لتعرف البواعث والأ�سباب والغايات‪،‬‬ ‫لكل ما يعرفه من �أعمال و�أمور‪ ،‬وهو يف ال�سوق يتجر ويعامل النا�س‪،‬‬ ‫يدر�س الفقه واحلديث‪ ،‬ويجادل يف‬ ‫ويدر�س احلياة‪ ،‬وهو يف جمل�س العلم ِّ‬ ‫�شئون العقيدة‪ ،‬ومناهج ال�سيا�سة‪ .‬وكانوا مطمئنني �إىل �آرائه املحكمة‬ ‫يف مناهج الفكر‪ ،‬و�أخالق النا�س ومعاملة النا�س‪ ،‬وما ينبغي �أن يتبعه‬ ‫كل فرد يف معاملة �سواه‪ ،‬خا�صة الفقيه‪ ،‬ويحرتمونه الحرتامه لعقولهم‪،‬‬ ‫و�إ�رشاكهم معه يف التفكري‪.‬‬ ‫وعاد الطالب الب�رصي الفقيه ي�س�أل �أبا حنيفة‪:‬‬ ‫ فخبرِّ ين «يا �شيخي» كيف �أتعامل مع النا�س؟‬‫‪24‬‬


‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ اعلم يا يو�سف‪� ،‬أنك متى �أ�س�أت ع�رشة النا�س �صاروا لك �أعداء‪،‬‬‫ولو كانوا لك �أمهات و�آباء‪ .‬و�أنك متى �أح�سنت ع�رشة قوم‪ ،‬لي�سوا لك‬ ‫ب�أقرباء‪� ،‬صاروا لك �أمهات و�آباء‪ .‬وك�أين بك وقد دخلت الب�رصة‪ ،‬و�أقبلت‬ ‫على املخالفة بها بالر�أي‪ .‬ورفعت نف�سك عليهم‪ ،‬وتطاولت بعلمك لديهم‪.‬‬ ‫وانقب�ضت عن معا�رشتهم وخمالطتهم‪ ،‬وهجرتهم وهجروك‪ ،‬و�شتمتهم‬ ‫وبدعوك‪ ،‬وات�صل ذلك ال�شينْ بنا‪ ،‬وبك‪،‬‬ ‫و�شتموك‪ ،‬و�ضل ّلتهم و�ضل ّلوك‪ّ ،‬‬ ‫فاحتجت �إىل الهرب منهم واالنتقال عنهم‪ .‬ولي�س هذا بر�أي‪� .‬إنه لي�س‬ ‫بد‪ ،‬حتى يجعل اهلل له‬ ‫بعاقل من مل يدا ِر من لي�س له من مداراته ّ‬ ‫خمرج ًا‪.‬‬ ‫و�سكت �أبو حنيفة حلظة‪ ،‬ثم قال وهو ينظر يف عيني يو�سف‪:‬‬ ‫ �إذا دخلت الب�رصة يا يو�سف‪ ،‬ا�ستقبلك النا�س‪ ،‬وزاروك‪ ،‬وعرفوا‬‫وعظم �أهل العلم‪،‬‬ ‫حقك‪ :‬ف�أنزل كل رجل منـزلته‪ ،‬و�أكرم �أهل ال�رشف‪ّ ،‬‬ ‫الفجار‪،‬‬ ‫وو ّقر ال�شيوخ‪ ،‬والطف الأحداث‪ ،‬وتقرب من العامة‪ ،‬ودا ِر‬ ‫ّ‬ ‫حتقرن �أحداً‪ ،‬وال تق�صرِّ َ َّن يف‬ ‫وا�صحب الأخيار‪ ،‬وال تتهاون ل�سلطان‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫�رسك �إىل �أحد‪ ،‬وال تثق ب�صحبة �أحد حتى متتحنه‪.‬‬ ‫مروءتك‪ ،‬وال ُت َ‬ ‫خرج ّن ّ‬ ‫والتخا ِد ْن خ�سي�س ًا وال و�ضيع ًا‪ .‬و�إياك واالنب�ساط �إىل ال�سفهاء‪ .‬وعليك‬ ‫وا�ستجد ثياب ك�سوتك‪،‬‬ ‫باملداراة وال�صرب‪ ،‬وح�سن اخللق‪ ،‬و�سعة ال�صدر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وا�ستفره دا ِي َتك‪ ،‬و�أكرث ا�ستعمال الطيب‪ .‬وابذل طعامك يا يو�سف‪ ،‬ف�إنه‬ ‫تعرفك �أخبار النا�س‪ .‬ومتى عرفت‬ ‫ما �ساد بخيل قط‪ .‬ولتكن لك بطانة ّ‬ ‫بف�ساد فبادر �إىل �صالح‪ ،‬ومتى عرفت ب�صالح فازدد فيه رغبة وعناية‪.‬‬ ‫واعمل يا يو�سف يف زيارة من يزورك‪ ،‬ومن ال يزورك‪ .‬والإح�سان �إىل من‬ ‫يح�سن �إليك �أو ي�سيء‪ .‬وخذ العفو و�أمر باملعروف‪ ،‬وتغافل عما ال يعنيك‪،‬‬ ‫واترك كل ما ي�ؤذيك‪ .‬وبادر يف �إقامة احلقوق‪ .‬ومن مر�ض من �إخوانك‬ ‫بر�سلك‪ .‬ومن غاب منهم افتقدت �أحواله‪ ،‬ومن قعد‬ ‫ُ‬ ‫فعده بنف�سك‪ .‬وتعاهده ُ‬ ‫‪25‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫منهم عنك فال تقعد �أنت عنه‪.‬‬ ‫كان �أبو حنيفة يو�صي تلميذه يو�سف‪ ،‬يف تلك الليلة‪ ،‬مبا يفعله‬ ‫هو مع تالميذه و�أ�صحابه ومع النا�س جميع ًا‪ .‬فكل و�صاياه تلك كان‬ ‫تالميذه يعرفونها عنه متج�سدة يف �شخ�صه‪ ،‬حية يف �سلوكه‪ .‬وعاد‬ ‫يو�سف يقول‪:‬‬ ‫هذا �أنا مع النا�س‪ ،‬فكيف ينبغي �أن �أكون بني النا�س؟‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫تودداً للنا�س ما ا�ستطعت‪ ،‬و�أف�ش ال�سالم‪ ،‬ولو على قوم لئام‪.‬‬ ‫ �أظهر ّ‬‫ومتى جمع بينك وبني غريك جمل�س‪� ،‬أو �ضمك و�إياهم م�سجد‪ ،‬وجرت‬ ‫امل�سائل‪ ،‬وخا�ضوا فيها بخالف ما عندك‪ ،‬ال تبد لهم خالف ًا‪ .‬ف�إن �سئلت‬ ‫عنها �أخربت مبا يعرفه القوم‪ ،‬ثم تقول‪ :‬فيها قول �آخر‪ ،‬وهو كذا‪ ،‬واحلجة‬ ‫له كذا‪ .‬ف�إن �سمعوه منك‪ ،‬عرفوا مقدار القول‪ ،‬ومقدارك‪ .‬ف�إن قالوا لك‪ :‬هذا‬ ‫قول من؟ قل‪ :‬قول بع�ض الفقهاء‪ .‬و�إذا ا�ستمروا على ذلك و�ألفوه‪ُ ،‬عظم‬ ‫وع َّظموا حم َّلك‪ .‬و� ِ‬ ‫أعط يا يو�سف كل من يختلف �إليك نوع ًا من‬ ‫مقدارك‪َ ،‬‬ ‫العلم ينظرون فيه‪ .‬و�آن�سهم‪ ،‬ومازحهم‪� ،‬أحيان ًا‪ ،‬وحادثهم‪ ،‬ف�إن املودة‬ ‫ت�ستدمي مواظبة العلم‪ ،‬و�أطعمهم �أحيان ًا‪ .‬واق�ض حوائجهم‪ .‬واعرف‬ ‫مقدارهم وتغافل عن زالتهم‪ ،‬وارفق بهم‪ ،‬و�ساحمهم‪ .‬وال تبد لأحد منهم‬ ‫�ضيق �صدر �أو �ضجراً‪ .‬وكن كواحد منهم‪ .‬وا�ستعن على نف�سك بال�صيانة‬ ‫لها‪ ،‬واملراقبة لأحوالها‪ .‬وال تكلف النا�س ما ال يطيقونه‪ .‬وار�ض لهم ما‬ ‫ر�ضوا لأنف�سهم‪ ،‬وقدم �إليهم ح�سن النية‪ .‬وا�ستعمل ال�صدق‪ .‬واطرح ال ِكبرْ‬ ‫ْ‬ ‫ومت�سك‬ ‫خانوك‪.‬‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫أمانة‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أد‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫بك‪.‬‬ ‫غدروا‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫والغدر‬ ‫إياك‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫جانب‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫بالوفاء‪ ،‬واعت�صم بالتقوى‪ ،‬وعا�رش �أهل الأديان‪ ،‬و�أح�سن معا�رشتهم‪.‬‬ ‫ويف تلك الليلة‪ ،‬وعرب هذه الو�صايا‪ ،‬بزغت قولة �أبي حنيفة عن نف�سه‪:‬‬ ‫«ر�أيت املعا�صي مذلة‪ ،‬فرتكتها‪ ،‬ف�صارت ديانة»‪.‬‬ ‫ويف تلك الليلة‪ ،‬وعرب هذه الو�صايا‪ ،‬ك�شف �أبو حنيفة‪ ،‬عن �أن م�صلح‬ ‫‪26‬‬


‫وي�ؤلف‪ ،‬ال يخالف وال ينافر‪ ،‬بل‬ ‫اجلماعة يجب �أن يكون ودوداً‪ ،‬ي�ألف ُ‬ ‫يجيء �إىل النا�س من ناحية ما ي�ألفون ويطيقون‪ ،‬ال من ناحية ما‬ ‫ينكرون‪.‬‬ ‫ويف تلك الليلة‪ ،‬وعرب هذه الو�صايا‪ ،‬ك�شف �أبو حنيفة عن دور املربي‪،‬‬ ‫الذي يعرف كيف يتعهد تالميذه‪ ،‬ويبث فيهم علمه و�آراءه‪ ،‬بن�صائح‬ ‫اخلبري املجرب‪ ،‬وهي ن�صائح يحتاج �إليها كل من يت�صدى لقيادة‬ ‫�سيا�سيا كان �أو م�صلح ًا‪� ،‬أو مفكراً‪� ،‬أو فقيه ًا‪� ،‬أو قائداً‪.‬‬ ‫النا�س‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫يدونون و�صاياه ليو�سف بن‬ ‫ويف تلك الليلة‪ ،‬كان تالميذ �أبو حنيفة ِّ‬ ‫خالد ال�سمتي‪ .‬لكي جتمع‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬يف كتاب‪ ،‬ن�سب �إىل �أبي حنيفة‪،‬‬ ‫بعنوان‪« :‬العامل واملتعلم»‪.‬‬

‫املحنة الأوىل‬ ‫مل يكد «�أبو حنيفة النعمان» يجل�س يف جمل�س �شيخه حماد‪ ،‬مب�سجد‬ ‫علي زين العابدين‪ ،‬على اخلليفة‬ ‫الكوفة‪ ،‬فقيه ًا مفتي ًا‪ ،‬حتى خرج زيد بن ّ‬ ‫الأموي «ه�شام بن عبد امللك»‪ ،‬متزعم ًا ثورة من ثورات العلويني �ضد‬ ‫الأمويني‪ .‬وكانت عواطف �أبي حنيفة ك�إن�سان وفقيه مع العلويني‬ ‫امل�ضطهدين من بني �أمية‪ ،‬فر�أى كفقيه ٍ‬ ‫مفت �أن الثورة على ملك الأمويني‬ ‫�أمر جائز �رشع ًا‪� ،‬إذا كانت الثورة من �إمام عادل‪ ،‬مثل الإمام «زيد بن‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويروي التاريخ �أن �أبا حنيفة قال لتالميذه عن ثورة هذا الإمام‪:‬‬ ‫«�ضاهى خروجه خروج ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يوم بدر»‪ .‬فقيل‪:‬‬ ‫«مل تخ َّلفت عنه»؟ فقال‪« :‬حب�ستني عنه ودائع النا�س (عندي)‪ .‬عر�ضتها‬ ‫على ابن �أبي ليلى (قا�ضي الكوفة)‪ ،‬فلم يقبل‪ .‬فخفت �أن �أموت جمه ًال‬ ‫(دون �أن �أرد ودائعي �إىل الغائبني)»‪ .‬ويف مرة �أخرى قال �أبو حنيفة‪ ،‬يف‬ ‫‪27‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫معر�ض االعتذار عن عدم خروجه مع الثائر زيد‪« :‬لو علمت �أن النا�س‬ ‫ولكن �أعينه‬ ‫ال يخذلونه‪ ،‬كما خذلوا �أباه‪ ،‬جلاهدت معه لأنه �إمام حق‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫مبايل»‪ .‬وبعث �أبو حنيفة �إليه بع�رشة �آالف درهم‪ ،‬قائ ًال لر�سول زيد �إليه‪:‬‬ ‫«اب�سط عذري له»‪.‬‬ ‫ولقد انتهت ثورة الإمام «زيد» مبقتله �سنة ‪ 123‬هجرية‪ ،‬وانتهت‬ ‫�أي�ض ًا ثورة ابنه «يحيى» من بعده مبقتله �سنة ‪ 125‬هجرية‪ ،‬وثورة‬ ‫حفيده عبد اهلل‪ ،‬مبقتله �سنة ‪ 130‬هجرية‪ ،‬ا�ستغرقت هذه الثورات ع�رش‬ ‫وتكبد فيها الأمويون‬ ‫�سنوات‪ ،‬عانى فيها العلويون من الأمويني العذاب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫من العلويني امل�شاق‪ .‬وكانت ثورات ي�ؤازرها العلماء والفقهاء‪ ،‬يف ال�رس‬ ‫باملال‪ ،‬ويف العلن بالت�أييد‪ .‬ثم حان وقت ح�ساب الأمويني له�ؤالء‬ ‫العلماء والفقهاء بالعراق‪ ،‬بعد الق�ضاء على ثورات العلويني الزيديني يف‬ ‫عهد «مروان بن حممد» �آخر اخللفاء الأمويني‪.‬‬ ‫وكان احل�ساب اختباراً من «ابن هبرية»‪ ،‬وايل الأمويني على العراق‬ ‫لوالء العلماء والفقهاء لبني �أمية‪ .‬وقبل علماء الكوفة‪ :‬ابن �أبي ليلى‪،‬‬ ‫وابن �شربمة‪ ،‬وداود بن هند‪ ،‬و�سواهم‪� ،‬إعالن والئهم العملي لبني �أمية‪،‬‬ ‫الريب عن �أنف�سهم‪،‬‬ ‫بقبولهم �أعما ًال �شتى يف ديوان «ابن هبرية»‪ ،‬لين ُفوا ّ‬ ‫ويتخل�صوا مما تورطوا فيه‪ ،‬متخذين التقية دريئة لهم‪ ،‬يف وقت ا�شتدت‬ ‫فيه الفنت بالعراق‪ ،‬وكادت �أن ت�صري فيه فار�س وخرا�سان للعبا�سيني‪،‬‬ ‫وقد راحت جيو�ش العبا�سيني‪ ،‬ي�ؤازرهم العلويون‪ ،‬ت�ساور جيو�ش‬ ‫الأمويني يف العراق‪ ،‬وغري العراق‪.‬‬ ‫ودعا ابن هبرية �إليه ب�أبي حنيفة يف ديوان الإمارة مبدينة وا�سط‪.‬‬ ‫وعر�ض عليه �أن يعمل له‪ ،‬وعنده‪� ،‬أي عمل كان‪ ،‬حتقق ًا من والئه للخليفة‬ ‫مروان بن حممد‪� ،‬إن قبل العمل معه‪� ،‬أو تثبت ًا من اتهامه له‪ ،‬باالنحياز‬ ‫للأمويني‪� ،‬إن �أبى هذا العمل‪ .‬و�أبى �أبو حنيفة �أن يلي عم ًال البن هبرية‪،‬‬ ‫فعاد ابن هبرية يعر�ض عليه �أن يجعل ديوان اخلامت حتت يده‪ ،‬فال ينفذ‬ ‫‪28‬‬


‫كتاب مهره بتوقيعه �إال من حتت يد �أبي حنيفة‪ ،‬وختمه له بخامت الإمارة‪.‬‬ ‫لكن �أبا حنيفة امتنع عن قبول هذه املهمة‪ ،‬قائ ًال له‪:‬‬ ‫كيف �أقبل هذا العمل؟ ت�أمر �أنت بقتل �إن�سان ظلم ًا‪� ،‬أو م�صادرة ماله‪،‬‬ ‫و�أختمه �أنا‪ ،‬فيقتل هذا الإن�سان‪ ،‬وي�صادر ذلك املال‪ .‬هذا لن يكون �أبداً‪.‬‬ ‫عندئذ �أق�سم ابن هبرية �أمام العلماء �أن ي�سجن �أبا حنيفة وي�رضبه يف‬ ‫ال�سجن‪� ،‬إن مل يقبل اخلامت‪ .‬وتقدم الفقهاء الذين قبلوا التعاون مع ابن‬ ‫هبرية‪ ،‬وا�ست�أذنوا الأمري يف االنفراد ب�أبي حنيفة‪ ،‬فغادر الأمري املكان‬ ‫غا�ضب ًا‪ .‬وقال العلماء لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫�إنا نن�شدك اهلل فال تهلك نف�سك‪ .‬ف�إنا �إخوانك‪ .‬وكلنا كارهون لهذا‬ ‫بدا من ذلك‪.‬‬ ‫الأمر‪ .‬ومل جند ًّ‬ ‫فقال �أبو حنيفة ب�إ�رصار‪:‬‬ ‫لو �أرادين �أن �أعد له �أبواب م�سجد «وا�سط» مل �أدخل يف هذا الأمر‪.‬‬ ‫حمبا‪ ،‬وال عن فقهه‬ ‫فقال ابن �أبي ليلى للعلماء‪ ،‬ومل يكن لأبي حنيفة ًّ‬ ‫را�ضي ًا‪:‬‬ ‫دعوا �صاحبكم‪ .‬فهو امل�صيب‪ ،‬وغريه املخطئ!!‬ ‫و�أمر ابن هبرية �صاحب ال�رشطة بحب�س �أبي حنيفة‪ .‬فحب�س‪ ،‬و�رضب‬ ‫�أيام ًا متتالية‪ ،‬يف كل يوم ع�رشة �أ�سواط‪ ،‬لريجع عن موقفه‪ .‬ويئ�س‬ ‫ال�ضارب اجلالد من �أبي حنيفة‪ ،‬فذهب �إىل ابن هبرية‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫هذا الرجل �سيموت من ال�رضب‪ ،‬ولن يعدل عن ر�أيه‪.‬‬ ‫فقال له ابن هبرية‪:‬‬ ‫فليخرجنا �إذن من مييننا �إذا �أراد احلياة‪.‬‬ ‫و�س�أل اجلالد �أبا حنيفة �أن يعدل عن موقفه‪ ،‬ويعمل مع ابن هبرية‪،‬‬ ‫ف�أبى �أبو حنيفة م�ستعداً لال�ست�شهاد‪ .‬فعاد اجلالد �إىل ابن هبرية‪ ،‬بر�أي‬ ‫�أبي حنيفة‪ ،‬ف�رصخ بي�أ�س‪ ،‬وك�أنه قد خ�شي �أن ميوت �أبو حنيفة يف‬ ‫�سجنه‪ ،‬فيثور من �أجله �أهل الكوفة‪ ،‬واملوايل‪ ،‬و�أهل العراق ب�أ�رسه‪:‬‬ ‫‪29‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫�أال نا�صح لهذا املحبو�س‪� ،‬أن ي�ست�أجلني ف�أ�ؤجله؟‬ ‫و�أخرب اجلالد �أبا حنيفة مبا قاله ابن هبرية‪ ،‬وفهم �أبو حنيفة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫دعوين �أخرج �إذن‪ ،‬و�أ�ست�شري �إخواين و�أهل بيتي‪ ،‬و�أنظر يف ذلك‪.‬‬ ‫عندئذ �أمر ابن هبرية ب�إخالء �سبيل �أبي حنيفة‪ .‬فعاد �إىل بيته‪ ،‬و�أعد‬ ‫نف�سه و�أهل بيته ودوابه للرحيل ل�سفر طويل‪ .‬وهرب �أبو حنيفة لي ًال �إىل‬ ‫مكة‪ .‬وكان هروبه يف �سنة ‪ 130‬هجرية‪.‬‬

‫البيعة الغام�ضة‬ ‫فر �أبو حنيفة بف�ضل جالده �إىل مكة‪ ،‬و�أقام بها �ست �سنوات‪ ،‬تزيد قلي ًال‬ ‫َّ‬ ‫�أو تنق�ص قلي ًال‪ ،‬جماوراً بيت اهلل احلرام‪ .‬وحلق به تالميذه احلري�صون‬ ‫على علمه‪ ،‬والأخذ عنه‪ .‬عكف �أبو حنيفة على احلديث والفقه يطلبهما‬ ‫مبكة‪ ،‬التي ورثت علم ابن عبا�س‪ ،‬عن تالميذ ابن عبا�س‪ ،‬يذاكرهم علمه‪،‬‬ ‫ويذاكرونه ما عندهم من علم‪ ،‬طوال �ست �سنوات‪ .‬ومل يرتدد �أبو حنيفة‬ ‫على الكوفة يف هذه ال�سنوات‪� ،‬إال بعد �أن �آل �أمر العراق �إىل �أبي العبا�س‬ ‫ال�سفاح‪ ،‬م�ؤ�س�س الدولة العبا�سية‪ .‬ومل ي�ستقر يف الكوفة يف عودة له �إىل‬ ‫العراق‪� ،‬إال يف زمن �أبي جعفر املن�صور �سنة ‪ 136‬هجرية‪ ،‬حني ا�ستقرت‬ ‫الأحوال بالعراق‪ ،‬وبعد �أن ا�ستقرت الأمور لبني العبا�س‪ .‬ويف مكة‪.‬‬ ‫حني دخل �أبو العبا�س �إىل العراق طالب ًا بيعة �أهلها‪ ،‬كان �أبو حنيفة‬ ‫موجوداً مع العلماء‪ ،‬ي�سمع منهم �أبو العبا�س‪ ،‬وي�سمع منه العلماء‪ .‬وتروي‬ ‫كتب املناقب ق�صة هذا اللقاء‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫«ملا نزل �أبو العبا�س الكوفة توجه �إىل العلماء فجمعهم‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬ ‫ �إن هذا الأمر قد �أف�ضى �إىل �أهل بيت نبيكم‪ ،‬وجاءكم اهلل بالف�ضل‪،‬‬‫احلباء‬ ‫و�أقام احلق‪ .‬و�أنتم معا�رش العلماء و�أحق من �أعان عليه‪ .‬ولكم َ‬ ‫والكرامة وال�ضيافة من مال اهلل ما �أحببتم‪ ،‬فبايعوا بيعة تكون عند‬ ‫‪30‬‬


‫�إمامكم حجة لكم وعليكم‪ .‬و�أمان ًا يف معادكم‪ .‬ال تلقوا اهلل بال �إمام‪،‬‬ ‫فتكونوا ممن ال حجة له‪.‬‬ ‫عندئذ نظر العلماء �إىل �أبي حنيفة‪ .‬وكانت يف �أعناقهم بيعة لبني‬ ‫�أمية‪ ،‬حني تعاونوا مع ابن هبرية‪ ،‬ومل تكن يف عنق �أبي حنيفة بيعة‬ ‫لبني �أمية‪ ،‬حني �أبى �أن يعمل مع ابن هبرية‪ .‬وقال �أبو حنيفة للعلماء‪:‬‬ ‫�إن �أحببتم �أن �أتكلم عني وعنكم‪ .‬قالوا‪ :‬قد �أحببنا ذلك‪ .‬فقال �أبو حنيفة‬ ‫لأبي العبا�س‪�« :‬أحمد اهلل الذي بلغ احلق من قرابة نبيه �صلى اهلل عليه‬ ‫جور الظلمة‪ ،‬وب�سط �أل�سنتنا باحلق‪ .‬قد بايعناك على‬ ‫و�سلم‪ ،‬و�أمات عنا ْ‬ ‫�أمر اهلل‪ ،‬والوفاء لك بعهدك �إىل قيام ال�ساعة‪ .‬فال �أخلى اهلل هذا الأمر‬ ‫من قرابة نبيه �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬ف�أجابه �أبو العبا�س بجواب جميل‪،‬‬ ‫وقال‪« :‬مثلك من خطب عن العلماء‪ .‬لقد �أح�سنوا اختيارك‪ ،‬و�أح�سنت يف‬ ‫البالغ»‪ .‬فلما خرج العلماء قالوا لأبي حنيفة‪ :‬ما �أردت بقولك‪�« :‬إىل قيام‬ ‫علي‪ ،‬احتلت عليكم‪ ،‬و�أ�سلمتكم �إىل البالء»‬ ‫ال�ساعة؟» قال‪« :‬ف�إن احتلتم ّ‬ ‫ف�سكت القوم (وتركهم حيارى‪ :‬هل قيام ال�ساعة هو يوم القيامة‪� ،‬أم‬ ‫قيامه من مكانه؟ �أم وفاة �أبي العبا�س؟)‪ .‬وعلموا �أن احلق ما فعل»‪.‬‬ ‫وعاد �أبو حنيفة بعد البيعة �إىل مكة‪ ،‬ومل يعد �إىل الكوفة‪� ،‬إال بعد‬ ‫�أن ا�ستقرت الأحوال لبني العبا�س �سنة ‪ 136‬هجرية يف عهد اخلليفة‬ ‫العبا�سي الثاين «�أبو جعفر املن�صور»‪.‬‬ ‫وظل �أبو حنيفة على والئه وبيعته لبني العبا�س‪ ،‬ما ر�ضي عنهم‬ ‫العلويون‪ ،‬وما �أوفوا هم بحق العلويني‪ ،‬وقد كانوا دعم ًا للخالفة‬ ‫العبا�سية‪ ،‬و�سنداً لها‪ ،‬وكان العبا�سيون مثل العلويني من �آل البيت‪.‬‬

‫التاجر الفقيه‬ ‫عا�ش �أبو حنيفة خم�سني �سنة من حياته يف الع�رص الأموي‪ ،‬وع�رشين‬ ‫‪31‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫�سنة يف الع�رص العبا�سي‪ ،‬مل يتوقف طوالها عن اال�شتغال بالتجارة‪،‬‬ ‫منذ �أن �شب عن الطوق‪ .‬ففي التجارة كانت معي�شته‪ ،‬وم�صدر رزقه‪� ،‬إىل‬ ‫�أن ودع الدنيا ليلقى وجه ربه‪ ،‬وعديدون يف ع�رص �أبي حنيفة جمعوا‬ ‫بني العلم والتجارة‪ِ .‬‬ ‫فمثله‪ ،‬مثال‪ ،‬كان «وا�صل بن عطاء» �شيخ املعتزلة‬ ‫تاجراً‪ ،‬وقد ولد يف ال�سنة نف�سها التي ولد فيها �أبو حنيفة‪ ،‬ومثله كان‬ ‫«وا�صل» فار�سي الأ�صل‪ ،‬ومثل �أبي حنيفة كان لوا�صل �رشيك �أمني يف‬ ‫جتارته‪ ،‬تربطه به �صلة قرابة‪ ،‬ومثله فرغ وا�صل للدر�س‪ ،‬ولكن للدفاع‬ ‫عن الإ�سالم �ضد من يهاجمونه يف زمانه من �أ�صحاب الفرق الإ�سالمية‪،‬‬ ‫والديانات ال�سابقة‪ ،‬على حني كان �أبو حنيفة ي�ؤ�س�س للفقه الإ�سالمي‬ ‫مذهب ًا فيه‪ ،‬ويفتح لالجتهاد �أبواب ًا وا�سعة‪ ،‬معتمداً على الر�أي والقيا�س‪،‬‬ ‫فيما مل يرد فيه ن�ص من كتاب �أو �سنة‪� ،‬أو فتوى جممع عليها من‬ ‫ال�صحابة‪.‬‬ ‫ترى‪ ،‬كيف كانت �صفات التاجر الفقيه‪� ،‬أو الفقيه التاجر �أبو حنيفة‬ ‫النعمان؟‬ ‫وال �إجابة لهذا ال�س�ؤال �أوفى و�أ�صدق و�أدق من �أحاديث معا�رصيه‪،‬‬ ‫وما وعته لنا كتب التواريخ اخلا�صة‪ ،‬من حكايات عن �أبي حنيفة التاجر‬ ‫الفقيه‪.‬‬ ‫ي�ؤكد معا�رصو �أبي حنيفة �أنه كان عظيم الأمانة يف نف�سه ويف‬ ‫ثري النف�س مل يذق ذل احلاجة يوم ًا‪ ،‬حتى يثور يف نف�سه‬ ‫جتارته‪ .‬كان ّ‬ ‫ما يثور يف نفو�س التجار‪ ،‬من �أطماع تفقر النفو�س‪ .‬وي�ؤكدون �أنه كان‬ ‫�سمح النف�س‪ ،‬فوقي مما تلقاه النفو�س من ال�شح‪ .‬ولعل مرجع ذلك كله‬ ‫�أنه كان بالغ التدين‪� ،‬شديد التن�سك‪ ،‬عظيم العبادة‪ ،‬ي�صوم النهار‪ ،‬ويقوم‬ ‫الليل‪ ،‬ويقر�أ القر�آن الكرمي ثالثني مرة يف �شهر رم�ضان‪ ،‬غيب ًا عن ظهر‬ ‫قلب‪.‬‬ ‫ولهذه ال�صفات جمتمعة �أثرها يف معامالت �أبي حنيفة التجارية‪،‬‬ ‫‪32‬‬


‫حتى �صار غريب ًا متفرداً بني التجار بالكوفة‪ .‬ولعل �رشيكه كان يلقى‬ ‫بع�ض هذه املعاناة من هذه الغرابة‪ ،‬وذلك التفرد‪.‬‬ ‫ولقد �شبهه املعا�رصون له‪ ،‬يف جتارته‪ ،‬ب�أبي بكر ال�صديق ر�ضي‬ ‫اهلل عنه‪ ،‬وهو من ال�سلف املتبع‪ ،‬وك�أنه كان يحكي يف �شخ�صه مثاله‪،‬‬ ‫ويجري يف جتارته على منواله‪:‬‬ ‫جاءته مثال امر�أة بثوب من احلرير تبيعه له‪ ،‬فقال لها‪:‬‬ ‫كم ثمنه؟‬ ‫فقالت له‪:‬‬ ‫مائة درهم‪.‬‬ ‫فقال لها‪:‬‬ ‫هو خري من ذلك؟‬ ‫فقالت غا�ضبة‪:‬‬ ‫�أتهز�أ بي؟‬ ‫فقال لها با�سم ًا‪:‬‬ ‫يقومه‪.‬‬ ‫هاتي رج ًال ّ‬ ‫قومه‪ ،‬فا�شرتاه بخم�سمائة درهم‪.‬‬ ‫فجاءت برجل ّ‬ ‫فلم ير �أبو حنيفة يف غفلة البائع فر�صة ينتهزها‪ ،‬فهو يحتاط للبائع‬ ‫له‪ ،‬قبل �أن يحتاط لنف�سه‪ ،‬كم�ش ٍرت منه‪.‬‬ ‫وجاءته امر�أة �أخرى‪ .‬فقالت له‪:‬‬ ‫�إين �ضعيفة‪ ،‬و�إنها �أمانة‪ .‬فبعني هذا الثوب الذي عندك‪ ،‬مبا َيقوم‬ ‫عليك‪.‬‬ ‫فقال لها‪:‬‬ ‫ُخذيه ب�أربعة دراهم‪.‬‬ ‫فقالت له‪:‬‬ ‫ال ت�سخر بي‪ .‬و�أنا عجوز‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫فقال لها‪:‬‬ ‫�إين ا�شرتيت ثوبني‪ .‬فبعت �أحدهما بر�أ�س املال �إال �أربعة دراهم‪ .‬فبقي‬ ‫هذا الثوب على �أربعة دراهم‪.‬‬ ‫وجاءه �صديق له‪ ،‬يطلب منه ثوب خ ّز (حرير)‪ ،‬على و�صف ولون‬ ‫عي َنهما له‪ ،‬فقال له‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ا�صرب حتى يقع‪ ،‬و�آخذه لك �إن �شاء اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫فما دارت اجلمعة‪ ،‬حتى وقع الثوب املطلوب‪ .‬فمر به ال�صديق‪ ،‬فقال‬ ‫له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫قد وقعت حاجتك‪.‬‬ ‫و�أخرج �إليه الثوب‪ .‬فقال له ال�صديق‪:‬‬ ‫بكم �إذن؟‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫درهم ًا‪.‬‬ ‫فقال ال�صديق عاتب ًا‪:‬‬ ‫ما كنت �أظنك تهز�أ بي!!‬ ‫فقال له �أبو حنيفة برفق‪:‬‬ ‫ما هز�أت‪� .‬إين ا�شرتيت ثوبني بع�رشين ديناراً ودرهم واحد‪ .‬بعت‬ ‫�أحدهما بع�رشين ديناراً‪ ،‬وبقي هذا بدرهم‪.‬‬ ‫هي معاملة �إذن من تاجر فقيه خالطها العطاء‪� ،‬أو هي عطاء قد لب�س‬ ‫�صورة البيع وال�رشاء‪ ،‬معاملة تنبئ عن خلق تاجر فقيه‪� ،‬سمح القلب‪،‬‬ ‫عظيم يف نف�سه وعقله‪ ،‬ودينه و�أمانته‪ ،‬ووفائه للأ�صحاب‪.‬‬ ‫وكان �أبو حنيفة �شديد التحرج‪ ،‬واحلرج‪ ،‬يف كل ما تخالطه �شبهة‬ ‫الإثم‪ ،‬يف جتارته وربحه‪ ،‬ولو كانت بعيدة‪ ،‬ف�إن ظن �إثم ًا �أو توهمه يف‬ ‫مال‪ ،‬خرج منه كله‪ ،‬وت�صدق به على الفقراء واملحتاجني‪.‬‬ ‫«يروى �أنه بعث �رشيكه حف�ص بن عبد الرحمن مبتاع‪ ،‬و�أعلمه �أن‬ ‫‪34‬‬


‫يف ثوب منه عيب ًا‪ ،‬و�أوجب عليه �أن يبني العيب عند بيعه‪ ،‬فباع حف�ص‬ ‫املتاع‪ ،‬ون�سي �أن يبني العيب‪ ،‬ومل يعلم من الذي ا�شرتاه منه‪ .‬فلما علم‬ ‫�أبو حنيفة ت�صدق بثمن املتاع كله» فقد خالطته �شبهة الإثم‪.‬‬ ‫ومع اكتفاء �أبي حنيفة من الربح بالقدر احلالل‪ ،‬فقد كانت جتارته‬ ‫تدر عليه ربح ًا وفرياً ينفق �أكرثه على امل�شايخ واملحدثني‪ ،‬يجمع الأرباح‬ ‫عنده من �سنة �إىل �سنة‪ ،‬في�شرتي منها حوائج الأ�شياخ واملحدثني‪،‬‬ ‫و�أقواتهم‪ ،‬وك�سوتهم‪ ،‬وجميع حوائجهم‪ .‬ثم يدفع باقي الدنانري من‬ ‫الأرباح �إليهم‪ ،‬فيقول‪�« :‬أنفقوا يف حوائجكم‪ ،‬وال حتمدوا �إال اهلل‪ ،‬ف�إين ما‬ ‫علي فيكم»‪.‬‬ ‫�أعطيتكم من مايل �شيئ ًا‪ .‬ولكن من ف�ضل اهلل ّ‬ ‫ومع ذلك الكرم وال�سخاء‪ ،‬فقد كان مظهر �أبي حنيفة كمخربه ح�سن ًا‪.‬‬ ‫فهو كثري العناية بثيابه‪ ،‬يختار جيده من الثياب التي تقوم بثالثني‬ ‫ذهبيا‪ ،‬وهو ح�سن الهيئة كثري التعطر‪ ،‬مل ير قط منقطع النعل‪،‬‬ ‫ديناراً‬ ‫ًّ‬ ‫وهو حري�ص على �أن يكون من يعرفه‪ ،‬يف مثل عنايته مبظهره‪ .‬فقد‬ ‫ر�أى مث ًال على بع�ض جل�سائه ثياب ًا رثة‪ ،‬ف�أمره �أن ينتظر‪� ،‬إىل �أن تفرق‬ ‫املجل�س وبقي وحده‪ ،‬فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫مل�ص َّلى وخذ ما حتته‪.‬‬ ‫ارفع ا ُ‬ ‫مل�ص َّلى‪ ،‬فكان حتته �ألف درهم‪ .‬فقال له �أبو حنيفة‬ ‫فرفع الرجل ا ُ‬ ‫م�ؤكداً‪:‬‬ ‫خد الدراهم وغيرِّ بها من حالك‪.‬‬ ‫فقال له الرجل الرث الثياب‪:‬‬ ‫�إين مو�رس‪ ،‬و�أنا يف نعمة‪ .‬ول�ست �أحتاج �إليها‪.‬‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫�أما بلغك احلديث‪�« :‬إن اهلل يحب �أن يرى �أثر نعمته على عبده»‪ .‬فينبغي‬ ‫لك �أن تغري حالك‪ .‬حتى ال يغتم بك �صديقك‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫�رصاع بني اخلليفة والفقيه‬ ‫يف عهد اخلليفة املن�صور‪� ،‬صار �أبو حنيفة عزيزاً عليه‪ُ ،‬يدنيه منه‪،‬‬ ‫ويعلي مكانته عنده‪ ،‬ويرفع قدره يف جمل�سه‪ ،‬ويحاول بني حني و�آخر‬ ‫�أن يعطيه العطايا اجلزيلة‪ .‬ولكن �أبا حنيفة مل يكن يرى �أن يقبل الفقهاء‬ ‫هدايا اخللفاء‪ .‬ولذلك كان يرد عطاء املن�صور وهداياه يف رفق وحيلة‪،‬‬ ‫�سواء �أجاءت من املن�صور بطريق مبا�رش‪� ،‬أم بطريق غري مبا�رش‪.‬‬ ‫وحدث يف فرتة ال�صفو والر�ضا بني العامل الفقيه �أبي حنيفة‪ ،‬واخلليفة‬ ‫القوي املن�صور‪� ،‬أن �شقاق ًا وقع بني املن�صور وزوجه «احلرة»‪ ،‬ب�سبب‬ ‫ّ‬ ‫ميله عنها‪ .‬فطلبت «احلرة» العدل من املن�صور‪ ،‬فقال لها‪:‬‬ ‫مبن تر�ضني يف احلكومة بيني وبينك؟‬ ‫َ‬ ‫فقالت احلرة‪:‬‬ ‫بالفقيه �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫ور�ضي املن�صور هو �أي�ض ًا بتحكيم �أبي حنيفة‪ ،‬ف�أر�سل يف طلبه من‬ ‫الكوفة‪ .‬ووفد �أبو حنيفة �إىل بغداد‪ ،‬فقال له املن�صور‪:‬‬ ‫يا �أبا حنيفة‪ .‬زوجي «احلرة» تخا�صمني‪ ،‬ف�أن�صفني منها‪.‬‬ ‫وكانت «احلرة» جال�سة وراء �ستار ب�إيوان اخلالفة ترى وت�سمع‪ .‬وقال‬ ‫�أبو حنيفة للمن�صور‪:‬‬ ‫ليتكلم �أمري امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫فقال املن�صور‪:‬‬ ‫يا �أبا حنيفة‪ .‬كم يحل للرجل �أن يتزوج من الن�ساء‪ ،‬فيجمع بينهن؟‬ ‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫�أربع‪.‬‬ ‫فقال املن�صور‪:‬‬ ‫وكم يحل له من الإماء؟‬ ‫‪36‬‬


‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ما �شاء‪ .‬لي�س لهن عدد‪.‬‬ ‫فقال املن�صور‪:‬‬ ‫وهل يجوز لأحد �أن يقول خالف ذلك؟‬ ‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ال‪.‬‬ ‫فقال املن�صور للحرة‪:‬‬ ‫قد �سمعت حكم �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫و�أدرك �أبو حنيفة حقيقة املوقف‪ ،‬فعاجل بقوله للمن�صور‪ ،‬ما مل يكن‬ ‫قد قاله بعد‪:‬‬ ‫ �إمنا �أحل اهلل هذا لأهل العدل يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬فمن مل يعدل‪� ،‬أو‬‫خاف �أال يعدل‪ ،‬فينبغي �أال يجاوز واحدة‪ .‬قال اهلل تعاىل‪« :‬ف�إن خفتم �أال‬ ‫تعدلوا فواحدة»‪ .‬وب�أدب اهلل ينبغي �أن نت�أدب‪ ،‬ونتعظ مبواعظه‪.‬‬ ‫عندئذ �سكت �أبو جعفر املن�صور‪ ،‬وطال �سكوته‪ ،‬فقام �أبو حنيفة‪ .‬وخرج‬ ‫من عنده مغادراً ق�رص اخلالفة‪ ،‬عائداً �إىل دار له يف بغداد‪ .‬ومل يكد ي�ستقر‬ ‫به املكان‪ ،‬حتى جاء خادم من قبل «احلرة»‪ .‬ومعه مال وثياب وجارية‬ ‫وحمار م�رصي‪ .‬فردها �أبو حنيفة جميع ًا‪ ،‬قائال للخادم‪:‬‬ ‫�أقرئ �سيدتك �سالمي‪ ،‬وقل لها‪� :‬إمنا نا�ضلت عن ديني‪ ،‬وقمت ذلك‬ ‫املقام هلل‪ .‬مل �أرد بذلك تقرب ًا �إىل �أحد‪ ،‬وال التم�ست به دنيا‪.‬‬ ‫ولعل املن�صور وقد �أ�سرَ َّ يف نف�سه �أمرين‪ :‬موقف �أبي حنيفة منه يف‬ ‫حكمه للحرة‪ ،‬وموقف �أبي حنيفة حني رد �إىل احلرة هداياها‪ ،‬و�أدرك �أنه‬ ‫عا ِمل �صعب املنال‪.‬‬ ‫وانتهت �أيام ال�صفو بني �أبي حنيفة واملن�صور‪ ،‬بني الفقيه واخلليفة‪.‬‬ ‫العلوي‪ ،‬وحني ثار ابناه حممد النف�س‬ ‫حني �سجن املن�صور عبد اهلل‬ ‫ّ‬ ‫العلوي على �صلة علمية ب�أبي حنيفة‪.‬‬ ‫الزكية‪ ،‬وابراهيم‪ .‬وكان عبد اهلل‬ ‫ّ‬ ‫‪37‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫ولقد انتهت هذه الثورة بقتل االبنني العلويني الثائرين‪ ،‬ومبوت عبد اهلل‬ ‫يف �سجنه‪ ،‬بعد مقتل ولديه‪.‬‬ ‫و�أثناء ذلك وبعده‪ ،‬انتهت عالقة ال�صفو والر�ضا بني �أبي حنيفة‬ ‫واملن�صور‪ ،‬بل بينه وبني العبا�سيني‪ ،‬والدولة العبا�سية‪ ،‬بانتهاء عالقة‬ ‫ال�صفو واملودة بني العبا�سيني والعلويني‪ .‬وظهرت تبا�شري هذه النهاية‬ ‫يف الكالم القليل‪ ،‬الناقم على العبا�سيني‪ ،‬الذي كان يخرج من �شفتي �أبي‬ ‫علي بن �أبي طالب‬ ‫حنيفة‪ ،‬بني احلني واحلني‪ ،‬ويك�شف عن والئه لأبناء ّ‬ ‫خا�صة‪.‬‬ ‫وكان �أبو جعفر يدرك هذا امليل من �أبي حنيفة للعلويني‪� ،‬أو يظنه ظ ًّنا‪،‬‬ ‫فيغ�ضي عنه حين ًا‪ ،‬ويخترب �أبا حنيفة حين ًا �آخر‪� ،‬إىل �أن كانت امل�أ�ساة‪،‬‬ ‫م�أ�ساة �أبي حنيفة على يدي املن�صور‪ ،‬وم�أ�ساة املن�صور ملوقفه من �أبي‬ ‫حنيفة‪� ،‬أمام حمكمة التاريخ‪.‬‬ ‫ومل يكن �أبو حنيفة الفقيه‪ ،‬متفرداً يف موقفه بني العلويني والعبا�سيني‪.‬‬ ‫فمعا�رصه الفقيه الإمام «مالك بن �أن�س»‪ ،‬كان له موقف مماثل‪ ،‬يف ميله‬ ‫�إىل العلويني‪ ،‬وعدم ر�ضاه عن العبا�سيني‪ ،‬حني ا�ضطهدوا العلويني‪ ،‬ولقد‬ ‫قيل �إن مالك ًا �أفتى مببايعة حممد النف�س الزكية‪ ،‬حني ثار على املن�صور‪،‬‬ ‫فقال له النا�س‪:‬‬ ‫ لكن علينا‪ ،‬يف �أعناقنا‪ ،‬بيعة للمن�صور‪.‬‬‫فقال لهم‪:‬‬ ‫ �إمنا كنتم مكرهني‪ .‬ولي�س ملكره بيعة‪.‬‬‫وعندئذ بايع النا�س يف املدينة حممداً النف�س الزكية‪ ،‬بناء على‬ ‫ما �أ�شيع عن مالك‪ .‬ولزم مالك بيته‪ .‬ولقد حا�سب وايل املدينة الإمام‬ ‫مالك على فتواه‪ ،‬بعد مقتل حممد النف�س الزكية‪ ،‬بال�رضب والأذى‪ .‬حتى‬ ‫انخلعت كتفاه‪.‬‬ ‫ولقد كان لأبي حنيفة موقف يف هذه املحنة �أ�شد من موقف مالك‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫فقد كان يجهر مبنا�رصة حممد النف�س الزكية‪ ،‬يف در�سه بالكوفة‪ ،‬بل لقد‬ ‫و�صل به الأمر �إىل �أنه ثبط بع�ض قواد املن�صور‪ ،‬حتى ال يخرجوا حلرب‬ ‫حممد النف�س الزكية‪ .‬ومن ه�ؤالء القواد‪« :‬احل�سن بن ُقحطبة»‪.‬‬ ‫تروي كتب املناقب �أن احل�سن بن ُقحطبة دخل على �أبي حنيفة‪ ،‬يف‬ ‫م�سجد الكوفة‪ ،‬وقال له بحرج �شديد‪:‬‬ ‫ عملي ال ُيخفى عليك‪ .‬فهل يل من توبة؟‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ �إذا علم اهلل �أنك نادم على ما فعلت‪ .‬ولو ُخيرِّ ت بني قتل م�سلم‪،‬‬‫وقتلك �أنت‪ ،‬الخرتت �أن تقتل �أنت على �أن يقتل هو‪ .‬وجتعل مع اهلل عهداً‪،‬‬ ‫ف�إن وفيت به فهي التوبة‪.‬‬ ‫فقال له احل�سن بن قحطبة‪:‬‬ ‫ �إين عاهدت اهلل تعاىل �أال �أعود �إىل قتل م�سلم‪.‬‬‫والتزم احل�سن مبوقفه بينه وبني نف�سه‪� ،‬إىل �أن ظهر «�إبراهيم بن عبد‬ ‫اهلل احل�سني العلوي»‪ ،‬بثورته �ضد املن�صور‪ .‬و�أ�صدر املن�صور �أمره �إىل‬ ‫احل�سن بن قحطبة �أن يذهب باجلي�ش لقمع ثورة �إبراهيم‪ .‬و�سارع احل�سن‬ ‫وق�ص عليه ق�صة هذا التكليف‪.‬‬ ‫بالذهاب �إىل �أبي حنيفة‪ّ ،‬‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫خذت‬ ‫ جاء �إذن �أوان توبتك‪� .‬إن وفيت مبا عاهدت ف�أنت تائب‪ ،‬و�إال �أُ َ‬‫بالأول والآخر‪.‬‬ ‫وجد ابن قحطبة عندئذ يف توبته‪ ،‬وت�أهب للموت‪ ،‬و�أ�سلم نف�سه �إىل‬ ‫ّ‬ ‫القتل‪ .‬فدخل على املن�صور يف جمل�سه‪ ،‬وكان بني اجلال�سني فيه «حميد‬ ‫بن قحطبة» �أخو احل�سن هذا‪ .‬وقال احل�سن للمن�صور‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬لن �أ�سري �إىل هذا الوجه‪ ،‬حلرب �إبراهيم‪� .‬إن كان‬‫هلل تعاىل طاعة يف �سلطانك‪ ،‬فيما فعلت‪ ،‬فلي منه �أوفر احلظ‪ .‬و�إن كان‬ ‫مع�صية فح�سبي‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫وغ�ضب املن�صور لع�صيان قائده له‪ ،‬و�أ�رسع �أخوه «حميد بن قحطبة»‬ ‫يقول للمن�صور‪ ،‬خمفف ًا عنه ع�صيان �أخيه له‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬إننا نكره عقله منذ �سنة‪ ،‬وك�أنه خ ّلط عليه‪ .‬فدعه‪،‬‬‫و�أنا �أ�سري �إىل حرب �إبراهيم‪ ،‬و�أنا �أحق بالف�ضل منه‪.‬‬ ‫ووافق املن�صور‪ ،‬وخرج «حميد» لينه�ض مبهمة �أخيه‪ .‬و�أمر املن�صور‬ ‫بحب�س احل�سن‪ ،‬ثم �أمر بقتله‪ ،‬بعد �أن هد�أت الأمور‪ .‬ولقد �س�أل املن�صور‬ ‫بع�ض ثقاته‪� ،‬إثر �أمره ب�سجن احل�سن‪:‬‬ ‫احل�سن عليه من الفقهاء؟‬ ‫يدخل‬ ‫ من‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فقال له‪:‬‬ ‫ �إنه يرتدد على �أبي حنيفة‪.‬‬‫عندئذ �أدرك املن�صور �أن �أبا حنيفة قد جتاوز حق النقد املجرد له‪،‬‬ ‫وحد الوالء القلبي للعلويني‪� ،‬إىل العمل �ضد العبا�سيني‪ ،‬و�إن ظل عمله‬ ‫ّ‬ ‫ذاك مق�صوراً على الفتوى‪ ،‬ال يتعداها �إىل امل�شاركة بحمل ال�سالح‪ .‬وال‬ ‫�شك �أن املن�صور قد �أدرك �أن هذا العمل بالفتوى من �أخطر الأمور على‬ ‫دولته‪ .‬ولرمبا راح املن�صور يبث على �أبي حنيفة العيون والأر�صاد‪ ،‬يف‬ ‫جمل�س در�سه وخارج در�سه‪.‬‬ ‫و�شاء املن�صور �أن ي�ضع �أبا حنيفة مو�ضع االختيار لوالئه‪ ،‬والطاعة‬ ‫لإمامه‪ ،‬مثلما فعل معه ابن هبرية‪� ،‬آخر والة الأمويني على العراق‪ ،‬ويف‬ ‫وقت كان املن�صور قد جمع فيه ر�ؤو�س العلويني‪ ،‬وو�ضعهم يف ال�سجون‪،‬‬ ‫و�صادر �أموالهم‪ ،‬وحرمهم من �إقطاعيات منحها لهم �سلفه �أبو العبا�س‬ ‫ال�سفاح‪.‬‬

‫الفقيه حتت االختبار‬ ‫بد�أ هذا االختبار لأبي حنيفة‪ ،‬حني �أر�سل �إليه املن�صور بجائزة‬ ‫ع�رشة �آالف درهم وجارية‪ ،‬مع وزيره «عبد امللك بن َح َمد»‪ .‬وكان لهذا‬ ‫‪40‬‬


‫الوزير ر�أي جيد‪ ،‬وفيه كرم نف�س‪ .‬وحمل الوزير الهدية‪ ،‬وذهب �إىل �أبي‬ ‫حنيفة بها‪ ،‬لكن �أبا حنيفة رف�ضها‪ ،‬مثلما رف�ض هدايا «احلرة» من قبل‪.‬‬ ‫و�أ�شفق عليه الوزير‪ ،‬فقال له م�صارح ًا‪:‬‬ ‫ �أن�شدك اهلل‪ .‬اقبلها‪� .‬إن �أمري امل�ؤمنني يطلب عليك علة‪ ،‬ليوقع بك‪.‬‬‫ف�إن مل تقبل �صدق عليك ما ظنه بك‪.‬‬ ‫و�أ�رص �أبو حنيفة على موقفه‪ ،‬فقال له الوزير‪:‬‬ ‫ ال عليك من املال‪ ،‬فقد �أثبته يف بند اجلوائز‪ .‬لكن‪ .‬اقبل اجلارية‬‫مني‪� ،‬أو‪ ..‬قل عذرك لأمري امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫فقال �أبو حنيفة للوزير‪:‬‬ ‫ قل له‪� :‬إين �ضعفت عن الن�ساء (�أي كربت) فال �أ�ستحل �أن �أقبل‬‫جارية ال �أ�صل �إليها‪ .‬وال �أجرتئ �أن �أبيع جارية خرجت من ملك �أمري‬ ‫امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫وعاد الوزير �إىل املن�صور‪ ،‬و�أخربه مبا حدث‪ ،‬ومبا قاله �أبو حنيفة‪.‬‬ ‫وا�ستمع املن�صور لوزيره ولزم ال�صمت‪ ،‬فما كان ليقتنع بحيل �أبي‬ ‫حنيفة كفقيه ذكي‪ ،‬وعنيد‪.‬‬ ‫يحر�ضه على �أبي حنيفة‪ ،‬من الو�شاة‬ ‫وكان يف حا�شية املن�صور من ّ‬ ‫واحلا�سدين واحلاقدين‪ ،‬من رجال الدولة‪ ،‬بل من الفقهاء‪ ،‬ويجعلونه‬ ‫ظن عند املن�صور من �أقواله وفتاويه‪.‬‬ ‫بني احلني واحلني‪ ،‬يف ّ‬ ‫روى «تاريخ بغداد» �أن املن�صور دعا �إليه �أبا حنيفة لي�شهد جمل�س ًا‬ ‫علميا عنده‪ ،‬وي�شارك فيه‪ .‬وكان الربيع حاجب املن�صور يعادي �أبا‬ ‫ًّ‬ ‫حنيفة‪ .‬فانتهز وجوده يف املجل�س فر�صة‪ ،‬وقال للمن�صور‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬هذا �أبو حنيفة يخالف جدك‪ .‬كان عبد اهلل بن‬‫عبا�س يقول‪� :‬إذا حلف �شخ�ص على اليمني‪ ،‬ثم ا�ستثنى بعد ذلك بيوم‬ ‫�أو بيومني جاز اال�ستثناء‪ .‬و�أبو حنيفة يقول‪ ،‬خمالف ًا جدك‪ :‬ال يجوز‬ ‫اال�ستثناء �إال مت�ص ًال باليمني‪ ،‬ويف جمل�سه‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫عندئذ �سارع �أبو حنيفة بقوله للمن�صور‪ ،‬ببديهة حا�رضة‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬إن الربيع يزعم بقوله هذا‪� ،‬أنه لي�س لك يف رقاب‬‫جندك بيعة‪.‬‬ ‫فقال له املن�صور بده�شة‪:‬‬ ‫ كيف؟‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ يحلفون لك ح�سب قوله مبايعني‪ ،‬ثم يرجعون �إىل منازلهم‪،‬‬‫في�ستثنون‪ ،‬فتبطل �أميانهم ببيعتك‪.‬‬ ‫و�ضحك املن�صور‪ ،‬والتفت قائ ًال للربيع‪:‬‬ ‫ يا ربيع‪ .‬ال تعر�ض لأبي حنيفة‪ ،‬فلن تقدر عليه‪.‬‬‫وحني خرج الوزير والفقيه من املجل�س قال الوزير للفقيه‪ ،‬حانق ًا‪:‬‬ ‫ �أردت �أن ت�شيط بدمي (�أي‪ :‬تقتلني)‪.‬‬‫فقال له �أبو حنيفة با�سم ًا‪ ،‬واثق ًا‪:‬‬ ‫ ال‪ .‬ولكنك �أردت �أن ت�شيط �أنت بدمي‪ ،‬فخل�صتك‪ ،‬وخل�صت نف�سي‪.‬‬‫كذلك كان الفقيه «�أبو العبا�س الطو�سي» �سيئ الر�أي يف �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫وكان �أبو حنيفة يعرف ذلك‪ .‬دخل �أبو حنيفة يوم ًا جمل�س املن�صور‬ ‫بدعوة منه‪ ،‬وقد كرث النا�س يف جمل�سه‪ ،‬فقال «الطو�سي» ملن معه‪:‬‬ ‫ اليوم �أقتل �أبا حنيفة‪.‬‬‫والتفت «الطو�سي» �إىل �أبي حنيفة‪ ،‬وقال له‪ ،‬وقد �ساد ال�صمت‪،‬‬ ‫واملن�صور ي�سمع ما يقال‪:‬‬ ‫ يا �أبا حنيفة‪� .‬إن �أمري امل�ؤمنني ي�أمر ب�أن ُي�رضب عنق الرجل‪ ،‬لأمر‬‫ال يدري ما هو‪� ،‬أي�سعه �أن ي�رضب عنقه؟‬ ‫فقال له �أبو حنيفة بح�ضور بديهة م�ألوفة منه‪:‬‬ ‫ يا �أبا العبا�س‪� .‬أمري امل�ؤمنني ي�أمر باحلق �أم بالباطل؟‬‫فقال الطو�سي بده�شة‪:‬‬ ‫‪42‬‬


‫ باحلق طبع ًا‪.‬‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ �أنفذ احلق حيث كان‪ .‬وال ت�سل عنه‪.‬‬‫والتفت �أبو حنيفة‪ ،‬وقال هام�س ًا ملن قرب منه‪:‬‬ ‫ �إن هذا �أراد �أن يوثقني فربطته‪.‬‬‫وجاء يوم قرر فيه املن�صور �أن يتوىل �أبا حنيفة له �أي عمل كان‪،‬‬ ‫فيبني ال�رصيح من نيته‪ .‬ودعا املن�صور �إليه ب�أبي حنيفة‪ ،‬وكان �سور‬ ‫بغداد ال يزال يبنى حولها‪ .‬وعر�ض املن�صور على �أبي حنيفة �أن يلي له‬ ‫الق�ضاء‪ ،‬ويكون القا�ضي الأول للخالفة‪ ،‬فما دام يعطي النا�س فتاويه‪.‬‬ ‫فليحكم بني النا�س مبا يفتي به‪ .‬فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬أنا �أقول بر�أيي‪ ،‬فمن �شاء �أخذ به‪ ،‬ومن �شاء مل‬‫ي�أخذ‪ ،‬حاكم ًا �أو حمكوم ًا‪� ،‬أو قا�ضي ًا‪.‬‬ ‫ويروي احلاجب الربيع بن يون�س بع�ض ما جرى يف هذا اللقاء‪.‬‬ ‫قال‪« :‬ر�أيت �أمري امل�ؤمنني ينازل �أبا حنيفة يف �أمر توليه الق�ضاء‪ .‬و�أبو‬ ‫حنيفة يقول للمن�صور‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬اتق اهلل‪ .‬وال ُت ْر ِع �أمانتك �إال من يخاف اهلل‪ .‬واهلل‬‫ما �أنا مب�أمون الر�ضا‪ ،‬فكيف �أكون م�أمون الغ�ضب‪ .‬ولو اجته احلكم مني‬ ‫عليك‪ ،‬ثم هددتني �أن تغرقني يف الفرات‪� ،‬أو �أن �ألغي هذا احلكم‪ ،‬الخرتت‬ ‫�أن �أغرق‪ .‬ولك يا �أمري امل�ؤمنني حا�شية يحتاجون �إىل من يكرمهم يف‬ ‫ق�ضائه لأجلك‪ ،‬فال �أ�صلح لذلك‪.‬‬ ‫فقال له املن�صور بحدة‪:‬‬ ‫ كذبت‪� .‬أنت ت�صلح‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة لفوره‪:‬‬ ‫ قد حكمت على نف�سك يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬كيف يحل لك �أن تويل‬‫قا�ضي ًا على �أمانتك‪ ،‬وهو كذاب؟‬ ‫‪43‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫عندئذ حلف املن�صور على �أبي حنيفة‪� ،‬أنه ال بد �أن يتوىل له �أي عمل‬ ‫كان‪ .‬و�أدرك �أبو حنيفة �أن املق�صود هو رقبته �إن �أبى هذا �أي�ض ًا‪ ،‬ف�أراد‬ ‫يفوت غاية املن�صور عليه‪ ،‬فقبل �أن يعمل له ما يكلفه به �إال الق�ضاء‪.‬‬ ‫�أن ِّ‬ ‫ف�أمره املن�صور ب�أن يتوىل القيام على �أمر ت�شييد �سور مدينة بغداد‪،‬‬ ‫و�رضب اللنب لهذا ال�سور‪ ،‬و� ْأخذ الرجال بالعمل‪ .‬وقبل‬ ‫مما يلي اخلندق‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫�أبو حنيفة هذه املهمة‪ .‬ونه�ض بها �إىل �أن فرغ العمال واملهند�سون من‬ ‫بناء �سور بغداد‪.‬‬ ‫يعد له اللبنات امل�ستخدمة يف‬ ‫وعاد املن�صور يكلف �أبا حنيفة ب�أن ّ‬ ‫ال�سور‪ .‬فطلب �أبو حنيفة ق�صبة‪� ،‬أم�سك بها �أمام املن�صور وحا�شيته‪،‬‬ ‫عدا‪.‬‬ ‫وراح يعد لبنات �سور بغداد‪� ،‬إىل �أن �أمتها ّ‬ ‫ور�أى املن�صور �أنه قد مت له م�ؤقت ًا �إذالل �أبي حنيفة‪ ،‬ف�أذن له بالعودة‬ ‫�إىل الكوفة»‪.‬‬ ‫وحدث �أن �أهل املو�صل‪ ،‬كانوا قد نق�ضوا عهدهم مع املن�صور‪ ،‬ب�أال‬ ‫يثوروا عليه‪ .‬وكان املن�صور قد ا�شرتط عليهم �أنهم �إذا نق�ضوا عهدهم له‪،‬‬ ‫حلت له دما�ؤهم‪ .‬وجمع املن�صور عنده الفقهاء الكبار بالعراق‪ ،‬وفيهم‬ ‫�أبو حنيفة‪ .‬وتروي كتب املناقب ق�صة هذا االجتماع‪:‬‬ ‫قال املن�صور للفقهاء‪:‬‬ ‫�صح �أنه عليه ال�صالة وال�سالم قال‪« :‬امل�ؤمنون عند‬ ‫ �ألي�س قد ّ‬‫�رشوطهم»؟ ف�إن �أهل املو�صل قد �رشطوا على �أنف�سهم �أال يخرجوا على‬ ‫عاملي على املو�صل‪ .‬وقد حلت يل دما�ؤهم‪ .‬و�سارع فقيه باملجل�س‬ ‫بالقول‪:‬‬ ‫ يدك مب�سوطة عليهم يا �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬وقولك مقبول فيهم‪ ،‬ف�إن‬‫عفوت ف�أنت �أهل العفو‪ ،‬و�إن عاقبت فهم ي�ستحقون‪.‬‬ ‫فقال املن�صور لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ ما تقول يا �شيخ؟ �أل�سنا يف خالفة نبوة‪ ،‬وبيت �أمان؟‬‫‪44‬‬


‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬إنهم �رشطوا لك ما ال ميلكونه‪ .‬و�رشطت عليهم‬‫ما لي�س لك‪ ،‬لأن دم امل�سلم ال يحل �إال ب�أحد معان ثالثة‪ .‬ف�إن �أخذتهم‬ ‫�أخذت مبا ال يحل‪ .‬و�رشط اهلل �أحق �أن تويف به‪.‬‬ ‫�أفحم �أبو حنيفة املن�صور والفقهاء بفتواه املقنعة �رشع ًا‪ ،‬ف�أمر‬ ‫املن�صور الفقهاء مبغادرة جمل�سه‪ ،‬فتفرقوا خارجني من ق�رص اخلالفة‪،‬‬ ‫وعاد املن�صور يدعو �أبا حنيفة �إليه‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫ القول يف �أهل املو�صل ما قلت‪ .‬ان�رصف �إىل بالدك‪ .‬وال تفت النا�س‬‫مبا هو �شني على �إمامك‪ .‬فتب�سط �أيدي اخلوارج‪.‬‬ ‫و� ّأجل املن�صور بذلك �إنزال الأذى ب�أبي حنيفة‪ ،‬الذي يح�سن التخل�ص‬ ‫من امل�آزق‪ ،‬وي�رص على قول احلق‪ ،‬وتخذيل الأعوان عن ن�رصة الظلم‪.‬‬ ‫و�إن ترتب على ذلك ه ّز �أعمدة احلكم‪.‬‬

‫املحنة الثانية‬ ‫وحانت الفر�صة التي ال ُترد للمن�صور‪ ،‬كي يرغم �أبا حنيفة على العمل‬ ‫معه قا�ضي ًا للق�ضاة‪� ،‬أو ينـزل به �أذى ج�سيم ًا‪.‬‬ ‫كان من عادة �أبي حنيفة كفقيه �صاحب فتوى‪ ،‬و�إمام �أول عند النا�س‬ ‫لفقهاء العراق‪� ،‬أنه كان ينق�ض �أحكام ًا حكم بها ق�ضاة الكوفة‪ ،‬معطي ًا‬ ‫نف�سه بذلك احلق الذي تكفله يف �أيامنا حماكم النق�ض‪ ،‬لي�س باحلكم‬ ‫ٍ‬ ‫كمفت‪ .‬ومل يكن �أبو حنيفة يرتدد‬ ‫كقا�ض‪ ،‬و�إمنا بالنظر يف الأحكام‬ ‫ٍ‬ ‫يف هذا النق�ض بالفتوى‪ ،‬فكان يثري بنق�ضه هذا‪ ،‬وعالنية على النا�س‪،‬‬ ‫حفيظة الق�ضاة عليه‪ ،‬وظنهم ال�سوء به‪ .‬وكثرياً ما كانوا يرفعون �شكاواهم‬ ‫�إىل �أمري الكوفة‪ ،‬فيمنعه من الفتوى حين ًا باحلجر عليه يف الفتوى‪ ،‬ثم‬ ‫ي�ضطر �أن يبيحها له بعد حظر‪ ،‬حني ترد �إىل �أبي حنيفة م�سائل من ق�رص‬ ‫‪45‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫اخلالفة ليقول فيها ر�أيه‪ ،‬يحملها ويل العهد بنف�سه �إىل �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫وكان القا�ضي «ابن �أبي ليلى» من ق�ضاة الكوفة‪ ،‬ومن بني املقربني‬ ‫�إىل اخلليفة املن�صور‪ ،‬والقابلني لهداياه وعطاياه‪ .‬وحدث �أن �أبي ليلى‬ ‫نظر يف �أمر امر�أة جمنونة‪ ،‬قذفت رج ًال من �أهل الكوفة‪ ،‬قائلة له‪ :‬يا ابن‬ ‫وحدها‬ ‫الزانيني‪ .‬ف�أقام عليها ابن �أبي ليلى احلد يف امل�سجد‪ ،‬قائمة‪َّ ،‬‬ ‫وحد لقذفها �أمه‪ .‬وبلغ هذا احلد �أبا حنيفة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حد لقذفها �أبا الرجل‪ّ ،‬‬ ‫حدين‪ّ :‬‬ ‫فقال عالنية يف م�سجد الكوفة‪:‬‬ ‫ �أخط�أ ابن �أبي ليلى يف حكمه على املر�أة‪ ،‬يف �ستة موا�ضع‪� :‬أقام‬‫احلد يف امل�سجد‪ ،‬وال تقام احلدود يف امل�ساجد‪ .‬و�رضبها قائمة والن�ساء‬ ‫حدا‪ ،‬ولو �أن رج ًال قذف جماعة‬ ‫حدا‪ ،‬ولأمه ّ‬ ‫ي�رضبن قعوداً‪ .‬و�رضب لأبيه ّ‬ ‫كان عليه حد واحد‪ .‬وحد لأبويه وهما غائبان‪ ،‬ومل يح�رضا فيدعيا‪ .‬وال‬ ‫حد على جمنونة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫و�سارع ابن �أبي ليلى ب�شكوى �أبي حنيفة لأبي جعفر املن�صور‪،‬‬ ‫لتجريحه لق�ضائه‪ ،‬ولق�ضاء ق�ضاة الكوفة‪ ،‬ف�أ�سقط بذلك كرامة الق�ضاء‪،‬‬ ‫وهيبة الق�ضاء بني النا�س‪ .‬وال �شك �أن �أبا جعفر املن�صور قد �ساءه هذا‬ ‫التجريح للق�ضاء من فقيه ٍ‬ ‫مفت‪ ،‬و�إن كان يف جتريحه على حق بينِّ‬ ‫و�رصيح‪ .‬ولعله ت�ساءل بينه وبني نف�سه‪ :‬مل ال يلي �أبو حنيفة �أمور الق�ضاء‬ ‫كقا�ض للق�ضاة؟ وقرر يف‬ ‫�إذن‪ ،‬لتكون له حق املراجعة لأحكام الق�ضاء‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نف�سه �أمراً‪ :‬البد �أن يلي �أبو حنيفة �أمور الق�ضاء يف بغداد والعراق‪ .‬وحني‬ ‫عاد ابن �أبي ليلى �إىل الكوفة‪ ،‬وحتدث �إىل النا�س عن �شكواه لأبي حنيفة‪،‬‬ ‫التي قدمها �إىل املن�صور‪ ،‬قال �أبو حنيفة‪�« :‬إن ابن �أبي ليلى لي�ستحل مني‬ ‫ما ال ي�ستحله من حيوان»‪.‬‬ ‫ودعا املن�صور �أبا حنيفة ليقابله يف ق�رصه ببغداد‪ ،‬ف�أدرك �أنها‬ ‫املحنة‪.‬‬ ‫تروي كتب املناقب �أن �أبا حنيفة ملا �أ�شخ�ص �إىل بغداد‪ ،‬خرج ملتمع‬ ‫‪46‬‬


‫الوجه‪ ،‬وقال‪�« :‬إن هذا دعاين للق�ضاء وقد �أعلمته من قبل �أنني ال �أ�صلح‬ ‫للق�ضاء‪ .‬فال ي�صلح للق�ضاء �إال رجل يكون له نف�س‪ ،‬يقدر بها �أن يحكم‬ ‫على اخلليفة‪ ،‬وعلى ولده‪ ،‬وعلى قواده‪ ،‬ولي�ست تلك النف�س يل»‪.‬‬ ‫وعن هذا اللقاء‪ ،‬تروي كتب املناقب‪� :‬أن �أبا حنيفة قال للمن�صور‪:‬‬ ‫يل حتى �أفارقك‪.‬‬ ‫ �إنك تدعوين �إليك‪ ،‬فما ترجع نف�سي �إ ّ‬‫فقال له املن�صور‪:‬‬ ‫ فلم ال تقبل �صلتي؟‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ ما و�صلني �أمري امل�ؤمنني ب�شيء من ماله فرددته‪ .‬ولو و�صلني‬‫لقبلته‪� .‬إمنا و�صلني �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬من بيت مال امل�سلمني‪ ،‬وال حق يل‬ ‫يف بيت مالهم‪ .‬ف�إين ل�ست ممن يقاتل من ورائهم‪ ،‬ف�آخذ ما ي�أخذ املقاتل‪،‬‬ ‫ول�ست من ولدانهم ف�آخذ ما ي�أخذه الولدان‪ ،‬ول�ست من فقرائهم ف�آخذ ما‬ ‫ي�أخذ الفقراء‪.‬‬ ‫فقال له املن�صور‪:‬‬ ‫ ف�أقم �إذن معنا يف بغداد‪ ،‬وي�أتك الق�ضاة‪ ،‬فيما لعلهم �أن يحتاجوا‬‫�إليك فيه‪.‬‬ ‫و�أبى �أبو حنيفة ذلك الأمر‪ ،‬م�ؤكداً �أنه جمرد ٍ‬ ‫مفت مبا يقبل منه‪ ،‬وما‬ ‫ال يقبل منه‪ ،‬وقد يقول بالر�أي اليوم‪ ،‬ويرى غريه غداً‪ .‬و�أق�سم املن�صور‬ ‫على �أبي حنيفة �أن يقبل تويل الق�ضاء‪ ،‬و�أق�سم �أبو حنيفة �أنه لن يقبل‪.‬‬ ‫حدث ال�صدام �إذن والتحدي من الفقيه للخليفة‪ ،‬وعندئذ �أمر املن�صور‬ ‫بحب�س �أبي حنيفة‪ ،‬وجلده كل يوم ع�رشة �أ�سواط‪� ،‬إىل �أن يقبل �أن يكون‬ ‫القا�ضي الأول للخالفة‪.‬‬ ‫ويروى �أن �أبا حنيفة‪� ،‬أخرج يوم ًا من ال�سجن‪ ،‬و�ألزم باب اخلالفة‪،‬‬ ‫وطلب منه �أن يفتي فيما يرفع �إليه من الأحكام‪� ،‬أو ير�سل �إليه من‬ ‫امل�سائل‪ .‬لكن �أبا حنيفة لزم ال�صمت‪ ،‬ومل يكن يفتي يف هذا الأمر �أو ذاك‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫وذهب �إليه «الربيع بن يون�س» احلاجب‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫أبر له ق�سمه‪ ،‬ف�إنه ال ي�ستطيع‬ ‫ �أال ترى �أن �أمري امل�ؤمنني قد حلف‪ .‬ف� ّ‬‫�أن يرجع عنه‪.‬‬ ‫فقال له �أبو حنيفة الفقيه املفتي‪:‬‬ ‫ بل ي�ستطيع‪ .‬وهو على كفارة �أميانه �أقدر مني‪.‬‬‫و�أعيد �أبو حنيفة �إىل �سجنه‪ ،‬وغلظ عليه يف املعاملة‪ ،‬و�ضيق عليه‬ ‫ت�ضييق ًا �شديداً‪� ،‬إىل �أن �آن ملحنة �أبي حنيفة �أن تنق�ضي مبوته‪ .‬فقد مات‬ ‫�أبو حنيفة �أثناء هذه املحنة �أو �إثرها‪ ،‬على اختالف يف الروايات‪ ،‬بل‬ ‫على اختالف يف �سبب موته‪� :‬أكان من التعذيب و�آثار التعذيب‪� ،‬أم كان‬ ‫ب�سقيه ال�سم يف �سجنه �أو يف منـزله؟ ولقد كان الدعاء الذي يردده �أبو‬ ‫حنيفة �أبداً‪ ،‬وهو يف �سجنه‪ ،‬كلما تتابع عليه ال�رضب بال�سياط‪« :‬اللهم‬ ‫�أبعد عني �رشهم بقدرتك»‪.‬‬ ‫ولقد �أبعد اهلل عنه �رشهم باختياره للقائه‪.‬‬ ‫ولقد �أو�صى �أبو حنيفة من كانوا يزورونه يف �سجنه‪� ،‬أو يف بيته‬ ‫عينها‪ ،‬لأنه مل‬ ‫بعد خروجه من �سجنه‪ ،‬ب�أن يدفن يف جانب من مقربة ّ‬ ‫يجر فيها غ�صب من اخلليفة‪ .‬وتذكر الروايات �أن املن�صور قد �صلى على‬ ‫قرب �أبي حنيفة بعد موته‪ ،‬وذلك ما ي�ؤكد �أنه مات يف بيته‪ ،‬ومل ميت يف‬ ‫حمب�سه‪� ،‬سنة ‪ 150‬هجرية‪.‬‬ ‫وحني علم املن�صور بو�صية �أبي حنيفة‪ ،‬و�رشطه يف مقربته‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫حيا‪ ،‬وميت ًا!؟‬ ‫‪ -‬من يعذرين من �أبي حنيفة‪ًّ :‬‬

‫الفقيه مع النا�س‬ ‫تو�صف �شخ�صية �أبي حنيفة ب�صفات جتعله يف الذروة بني العلماء‪.‬‬ ‫فقد كان من طراز الرجال الذين ي�سيطرون على م�شاعرهم‪ ،‬ممن ال تعبث‬ ‫‪48‬‬


‫بهم الكلمات العار�ضة‪ ،‬وال تبعدهم عن احلق العبارات النابية‪.‬‬ ‫و�آية �ضبط �أبي حنيفة لنف�سه‪ ،‬و�سيطرته على م�شاعره‪� ،‬أن حية �سقطت‬ ‫يف حجره‪ ،‬وهو جال�س بحلقته يف م�سجد الكوفة‪ ،‬فتفرق ل�سقوطها َم ْن‬ ‫حوله‪ ،‬ولكنه ا�ستمر يف حديثه‪ ،‬ونحاها بيده‪ ،‬وك�أنها لي�ست حية بها‬ ‫�سم زعاف‪.‬‬ ‫و�آية �سيطرته على م�شاعره �أنه كان يناق�ش م�س�ألة‪� ،‬أفتى فيها واعظ‬ ‫العراق احل�سن الب�رصي‪ ،‬فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ �أخط�أ احل�سن‪.‬‬‫تع�صب‪:‬‬ ‫فانربى له رجل من بني اجلال�سني‪ ،‬قائ ًال له يف ّ‬ ‫ �أ�أنت تقول �أخط�أ احل�سن يا ابن الزانية؟!‬‫ومل يتغري وجه �أبي حنيفة‪ ،‬ومل يتهمه بقذف‪ ،‬و�إمنا �أ�شار للجال�سني‬ ‫ليهد�أوا وال ي�ؤاخذوا الرجل على حدته‪ ،‬وقال م�ؤكداً يف هدوء‪:‬‬ ‫ واهلل �أخط�أ احل�سن‪ ،‬و�أ�صاب عبد اهلل بن م�سعود‪.‬‬‫ثم قال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ اللهم من �ضاق بنا �صدره‪ ،‬ف�إن قلوبنا تت�سع له‪.‬‬‫وذات مرة‪ ،‬قال له �أحد مناظريه مب�سجد الكوفة‪:‬‬ ‫ يا مبتدع‪ .‬يا زنديق‪.‬‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ غفر اهلل لك‪ .‬اهلل يعلم مني خالف ذلك‪ ،‬و�إين ما عدلت به منذ عرفته‪،‬‬‫وال �أرجو �إال عفوه‪ .‬وال �أخاف �إال عقابه‪.‬‬ ‫وبكى �أبو حنيفة عند ذكر العقاب‪ ،‬ف�سارع الرجل يقول بحزن لأبي‬ ‫حنيفة‪:‬‬ ‫ اجعلني يف ح ّل مما قلت‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫يف �شيئ ًا من �أهل اجلهل‪ ،‬فهو يف حل مما قال‪ .‬وكل‬ ‫ كل من قال ّ‬‫‪49‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫يف‪ ،‬من �أهل العلم‪ ،‬فهو يف َح َرج‪ ،‬ف�إن غيبة‬ ‫يف �شيئ ًا مما لي�س ّ‬ ‫من قال ّ‬ ‫العلماء تبقي �شيئ ًا بعدهم يف النفو�س‪.‬‬ ‫وكان �أبو حنيفة م�ستق ًال يف تفكريه ا�ستقال ًال يجعله ال يفنى يف‬ ‫تفكري غريه‪ .‬فلم يكن ي�أخذ بفكرة �إال بعد �أن يعر�ضها على عقله‪ ،‬ومل يكن‬ ‫يخ�ضع عقله كفقيه �إال لن�ص من كتاب �أو �سنة‪� ،‬أو فتوى جممع عليها من‬ ‫ال�صحابة‪ .‬وما عدا ذلك من �أقوال �أفراد ال�صحابة‪ ،‬ومن �أقوال التابعني‪،‬‬ ‫فعقله حر يف مواجهتها‪ .‬فلي�س ر�أيهم بواجب التقليد‪ ،‬ولي�س من الورع‬ ‫التقليد لأفراد من النا�س‪ .‬وقد الحظ هذا اال�ستقالل يف �أبي حنيفة �شيخه‬ ‫حماد بن �أبي �سليمان‪ ،‬فقد كان �أبو حنيفة ينازعه يف كل ق�ضية‪.‬‬ ‫و�آية هذا اال�ستقالل �أن �أهل الكوفة مل يكن �أحد منهم‪ ،‬يف زمانه‪،‬‬ ‫يرتحم على عثمان بن عفان‪ ،‬حني يذكر ا�سمه‪ ،‬ما عدا �أبا حنيفة‪ .‬روى‬ ‫«�سعيد ابن �أبي عروبة» قال‪:‬‬ ‫«قدمت الكوفة‪ ،‬فح�رضت جمل�س �أبي حنيفة‪ ،‬فذكر يف املجل�س عثمان‬ ‫ابن عفان‪ ،‬فرتحم عليه‪ .‬فقلت له‪:‬‬ ‫ و�أنت يرحمك اهلل‪ .‬فما �سمعت �أحداً‪ ،‬يف هذا البلد‪ ،‬يرتحم على‬‫عثمان غريك»‪.‬‬ ‫وحا�رض البديهة كان �أبو حنيفة‪ ،‬جتيئه املعاين �أر�سا ًال متدافعة‪،‬‬ ‫حني يكون بحاجة �إليها‪ ،‬ما دام احلق يف جانبه‪ ،‬وما دامت الأدلة عنده‬ ‫ت�ؤيد هذا احلق‪.‬‬ ‫ووا�سع احليلة كان �أبو حنيفة‪ ،‬ينفذ �إىل ما يفحم خ�صمه من �أي�رس‬ ‫�سبيل‪ ،‬حتى قال له �أبو جعفر املن�صور يوم ًا‪�« :‬أنت �صاحب حيل»‪.‬‬ ‫ويروى �أن رج ًال مات‪ ،‬و�أو�صى �إىل �أبي حنيفة مبال‪ ،‬وكان �أبو حنيفة‬ ‫غائب ًا عن الكوفة‪ .‬وحني عاد‪ ،‬رفع �أبو حنيفة الأمر �إىل قا�ضي حيه «ابن‬ ‫�شربمة»‪ .‬و�أقام �أبو حنيفة البينة‪ ،‬على �أن من �أو�صى له قد مات‪ ،‬فقال‬ ‫له ابن �شربمة‪:‬‬ ‫‪50‬‬


‫ يا �أبا حنيفة‪� .‬أحتلف �أن �شهودك �شهدوا بحق؟‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫علي ميني‪ .‬كنت غائباً‪.‬‬ ‫ لي�س ّ‬‫فقال ابن �شربمة لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ �ضلت مقايي�سك‪.‬‬‫عندئذ قال �أبو حنيفة ببديهة حا�رضة‪ ،‬و�سعة حيلة‪:‬‬ ‫ فما تقول يا ابن �شربمة يف �أعمى ُ�شج ر�أ�سه‪ ،‬ف�شهد له �شاهدان على‬‫�شجه‪� ،‬أعلى الأعمى �أن يحلف �أن �شاهديه �شهدا بحق‪ ،‬وهو مل ير َمن‬ ‫َمن ّ‬ ‫�شجه؟‬ ‫َّ‬ ‫ومل يجد ابن �شربمة �أمام قوة حجة �أبي حنيفة‪� ،‬إال �أن ينفذ الو�صية‪،‬‬ ‫ل�صالح �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫ويروى �أن «ال�ضحاك بن قي�س»‪ ،‬وكان من زعماء اخلوارج‪ ،‬دخل على‬ ‫�أبي حنيفة وهو يف حلقته مب�سجد الكوفة‪ .‬وكان مع ال�ضحاك رجال من‬ ‫اخلوارج مدججون بال�سالح‪ .‬وقال ال�ضحاك لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ تب‪.‬‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ مم �أتوب؟‬‫فقال له ال�ضحاك‪:‬‬ ‫علي ومعاوية‪.‬‬ ‫ من جتويزك احلكمني يف موقعة �صفني بني ّ‬‫فقال �أبو حنيفة لل�ضحاك‪:‬‬ ‫ تقتلني �أو تناظرين؟‬‫فقال ال�ضحاك‪:‬‬ ‫ بل �أناظرك‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة لل�ضحاك‪:‬‬ ‫ ف�إن اختلفنا يف �شيء مما تناظرنا فيه‪ .‬فمن بيني وبينك؟‬‫‪51‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫فقال ال�ضحاك‪:‬‬ ‫ اجعل �أنت من �شئت‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة لرجل من �أ�صحاب ال�ضحاك‪ ،‬مدجج بال�سالح‪:‬‬ ‫ اقعد فاحكم بيننا فيما نختلف فيه �إن اختلفنا‪.‬‬‫ثم قال لل�ضحاك‪:‬‬ ‫ �أتر�ضى بهذا بيني وبينك؟‬‫فقال ال�ضحاك‪:‬‬ ‫ نعم‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة لفوره‪:‬‬ ‫ ها �أنت قد جوزت التحكيم‪.‬‬‫فانقطع قول ال�ضحاك‪ ،‬ونه�ض من�رصف ًا برجاله من م�سجد الكوفة‪،‬‬ ‫ومن الكوفة‪.‬‬ ‫يهوديا‪،‬‬ ‫ويروى �أنه كان بالكوفة رجل يردد �أن «عثمان بن عفان» كان‬ ‫ًّ‬ ‫ومل ي�ستطع �أحد من علماء الكوفة �أن يقنعه بغري ما يقوله‪ .‬فذهب �إليه «�أبو‬ ‫حنيفة»‪ .‬وقال له‪:‬‬ ‫ �أتيتك خاطب ًا ابنتك‪.‬‬‫فقال الرجل‪:‬‬ ‫ ملن؟‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ لرجل �رشيف‪ ،‬غني باملال‪� ،‬سخي‪ ،‬حافظ لكتاب اهلل‪ ،‬يقوم الليل يف‬‫ركوع‪ ،‬كثري البكاء من خوف اهلل‪.‬‬ ‫فقال الرجل‪:‬‬ ‫ دون ذلك يكفي يا �أبا حنيفة‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ لكن فيه خ�صلة‪� .‬أنه يهودي‪.‬‬‫‪52‬‬


‫فقال الرجل بده�شة‪:‬‬ ‫يهوديا من‬ ‫ �سبحان اهلل‪� .‬أتخطب ابنتي لرجل يهودي؟ وكيف يكون‬‫ًّ‬ ‫يحفظ كتاب اهلل؟‬ ‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ �إن �أمرتك‪� .‬أال تفعل؟‬‫فقال له الرجل‪:‬‬ ‫ ال‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة لفوره‪:‬‬ ‫زوج ابنته �إذن من يهودي (يق�صد‬ ‫ فالنبي �صلى اهلل عليه و�سلم َّ‬‫عثمان بن عفان)‪.‬‬ ‫فقال الرجل لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ ا�ستغفر اهلل‪� .‬إين تائب �إىل اهلل عز وجل‪.‬‬‫كذلك كان �أبو حنيفة خمل�ص ًا يف طلب احلق‪ .‬ينور بطلبه قلبه‪ ،‬وي�ضيئ‬ ‫به ب�صريته‪ ،‬بعيداً عن الغر�ض‪ ،‬ودن�س الهوى‪ .‬ولإخال�صه يف طلب احلق‪،‬‬ ‫مل يكن يفرت�ض يف ر�أيه �أنه احلق املطلق الذي ال �شك فيه‪ .‬و�إمنا يقول‪:‬‬ ‫«قولنا هذا ر�أي‪ .‬وهو �أح�سن ما قدرنا عليه‪ .‬فمن جاءنا ب�أح�سن من‬ ‫قولنا‪ ،‬فهو �أوىل بال�صواب منا»‪.‬‬ ‫وقد يقال لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ �أهذا الذي تفتي به هو احلق الذي ال �شك فيه‪.‬‬‫فيقول له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ واهلل ال �أدري‪ .‬لعله الباطل الذي ال �شك فيه‪.‬‬‫ويروي تلميذه « ُزفر بن الهذيل» واقعة‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫«كنا نختلف �إىل �أبي حنيفة‪ .‬ومعنا �أبو يو�سف‪ ،‬وحممد بن احل�سن‪.‬‬ ‫فكنا نكتب عنه‪ .‬فقال يوم ًا لأبي يو�سف‪:‬‬ ‫ ويحك يا يعقوب‪ .‬ال تكتب كل ما ت�سمعه مني‪ .‬ف�إين قد �أرى الر�أي‬‫‪53‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫اليوم‪ ،‬ف�أتركه غداً‪ ،‬و�أرى الر�أي غداً‪ ،‬ف�أتركه بعد غد»‪.‬‬

‫الفقيه بني �إمامني‬ ‫يف حياته‪ ،‬التقى �أبو حنيفة ب�صحابة من �صحابة ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬ممن عا�شوا بعد املائة الأوىل الهجرية‪� ،‬أو عا�شوا �شطراً من‬ ‫عمرهم يف العقد التا�سع من القرن الأول الهجري‪ ،‬وبني ه�ؤالء ال�صحابة‬ ‫كان �أن�س بن مالك‪ ،‬وعبد اهلل بن �أوفى‪ ،‬ووائلة بن الأ�سفع‪ ،‬و�أبو الطفيل‬ ‫عامر بن وائلة (وهو �آخر ال�صحابة موتاً)‪ ،‬و�سهل بن �صاعد‪ ،‬و�سواهم‪.‬‬ ‫ويف حياته التقى �أبو حنيفة ب�شيوخه يف العلم من التابعني ل�صحابة‬ ‫الر�سول‪ ،‬وكانوا من نحل خمتلفة‪ ،‬بينهم فقهاء اجلماعة‪ ،‬وبينهم �أهل‬ ‫الر�أي‪ ،‬وبينهم علماء احلديث‪ .‬وبينهم من تلقى فقه القر�آن‪ ،‬وبينهم دعاة‬ ‫من دعاة الفرق الإ�سالمية ال�شيعية‪.‬‬ ‫ومن ه�ؤالء وه�ؤالء‪ ،‬عرف �أبو حنيفة فقه الأثر‪ ،‬وفقه الر�أي‪ ،‬وعرف‬ ‫فتاوى ال�صحابة‪ .‬ويروي التاريخ هذا اخلرب‪:‬‬ ‫«دخل �أبو حنيفة يوم ًا على املن�صور‪ ،‬وعنده عي�سى بن مو�سى‪ .‬فقال‬ ‫(عي�سى) للمن�صور‪ :‬هذا عامل الدنيا اليوم‪ ،‬فقال له‪ :‬يا نعمان‪ .‬عمن �أخذت‬ ‫علي‪ ،‬وعن‬ ‫علي عن ّ‬ ‫العلم؟ قال‪ :‬عن �أ�صحاب عمر عن عمر‪ .‬وعن �أ�صحاب ّ‬ ‫�أ�صحاب عبد اهلل (ابن م�سعود) عن عبد اهلل بن م�سعود‪ .‬وما كان يف وقت‬ ‫ابن عبا�س على وجه الأر�ض �أعلم منه‪ ،‬فقال له‪ :‬لقد ا�ستوثقت لنف�سك»‪.‬‬ ‫وتتلمذ �أبو حنيفة من التابعني خا�صة علي ال�شعبي‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وعطاء‬ ‫علي‪،‬‬ ‫ابن رباح‪ ،‬وحماد بن �أبي �سليمان‪ ،‬وابراهيم النخعي‪ ،‬وزيد بن ّ‬ ‫وحممد الباقر‪ ،‬وجعفر ال�صادق‪.‬‬ ‫ويف فرتة ال�صفو والر�ضا بني �أبي حنيفة و�أبي جعفر املن�صور‪ ،‬وبني‬ ‫العلويني و�أبي جعفر املن�صور‪ ،‬كلف �أبو جعفر املن�صور �أبا حنيفة بقوله‪:‬‬ ‫‪54‬‬


‫«يا �أبا حنيفة �إن النا�س قد فتنوا بجعفر بن حممد (ال�صادق)‪ .‬فهيئ له‬ ‫من امل�سائل ال�شداد‪ .‬فهي�أ له (�أبو حنيفة) �أربعني م�س�ألة»‪.‬‬ ‫وروي عن �أبي حنيفة ق�صة لقائه ب�أبي جعفر ال�صادق وهو عند �أبي‬ ‫جعفر املن�صور باحلرية‪ .‬يقول �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫«�أتيته (املن�صور)‪ ،‬فدخلت عليه‪ ،‬وجعفر بن حممد (ال�صادق) جال�س‬ ‫عن ميينه‪ .‬فلما ب�رصت به دخلني من الهيبة جلعفر بن حممد ال�صادق‪،‬‬ ‫يل فجل�ست‪ ،‬ثم‬ ‫ما مل يدخلني لأبي جعفر‪ ،‬ف�سلمت عليه‪ ،‬و�أوم�أ املن�صور �إ ّ‬ ‫التفت �إليه‪ ،‬فقال املن�صور جلعفر ال�صادق‪ :‬يا �أبا عبد اهلل‪ ،‬هذا �أبو حنيفة؟‬ ‫يل‪ ،‬فقال‪ :‬يا �أبا حنيفة‪� .‬ألق على �أبي عبد‬ ‫فقال‪ :‬نعم‪ .‬ثم التفت املن�صور �إ ّ‬ ‫اهلل من م�سائلك‪ .‬فجعلت �ألقي عليه فيجيبني‪ .‬فيقول‪� :‬أنتم (يا �أهل العراق)‬ ‫تقولون كذا‪ ،‬و�أهل املدينة يقولون كذا‪ .‬ونحن نقول كذا‪ .‬فرمبا تابعنا‪،‬‬ ‫ورمبا تابعهم‪ ،‬ورمبا خال َفنا‪ ،‬حتى �أتيت على الأربعني م�س�ألة‪ ،‬ما �أخل‬ ‫منها مب�س�ألة‪.‬‬ ‫وقال �أبو حنيفة تعقيب ًا على هذا اللقاء‪:‬‬ ‫�إن �أعلم النا�س �أعلمهم باختالف النا�س»‪.‬‬ ‫ولأبي حنيفة ق�صة مع حممد الباقر‪� ،‬أبي جعفر ال�صادق‪ ،‬وكان الباقر‬ ‫على علم غزير‪ ،‬وقد التقى به �أبو حنيفة يف املدينة‪ ،‬وهو يزورها‪ ،‬يف‬ ‫طريقه �إىل احلج‪� .‬أو عائداً من احلج‪ ،‬وتروي الق�صة �أن حممداً الباقر‪ ،‬قال‬ ‫لأبي حنيفة‪ ،‬لأنه يقول بالر�أي وبالقيا�س‪:‬‬ ‫ �أ�أنت الذي حولت دين جدي و�أحاديثه بالقيا�س؟‬‫فقال له �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ معاذ اهلل‪.‬‬‫فقال حممد الباقر‪:‬‬ ‫ بل حولته‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة ملحمد الباقر‪:‬‬ ‫‪55‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫ اجل�س مكانك كما يحق لك‪ .‬حتى �أجل�س مكاين كما يحق يل‪ .‬ف�إن لك‬‫حرمة كحرمة جدك يف حياته على �أ�صحابه‪.‬‬ ‫فجل�س حممد الباقر‪ ،‬وجثا �أبو حنيفة بني يديه على ركبتيه‪ .‬ثم قال‬ ‫للباقر‪:‬‬ ‫ �إين �سائلك عن ثالث كلمات‪ ،‬ف�أجبني‪ :‬الرجل �أ�ضعف �أم املر�أة؟‬‫فقال حممد الباقر‪:‬‬ ‫ املر�أة‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ كم �سهم للمر�أة؟‬‫فقال حممد الباقر‪:‬‬ ‫ للرجل �سهمان‪ ،‬وللمر�أة �سهم‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ هذا قول جدك‪ .‬ولو حولت دين جدك لكان ينبغي يف القيا�س �أن‬‫يكون للرجل �سهم‪ ،‬وللمر�أة �سهمان لأن املر�أة �أ�ضعف من الرجل‪.‬‬ ‫ثم قال �أبو حنيفة ملحمد الباقر‪:‬‬ ‫ ال�صالة �أف�ضل �أم ال�صوم؟‬‫فقال حممد الباقر‪:‬‬ ‫ ال�صالة �أف�ضل‪.‬‬‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ هذا قول جدك‪ .‬ولو حولت قول جدك لكان القيا�س �أن املر�أة �إذا‬‫طهرت من احلي�ض �أمرتها �أن تق�ضي ال�صالة‪ ،‬وال تق�ضي ال�صوم‪.‬‬ ‫ثم قال �أبو حنيفة ملحمد الباقر‪:‬‬ ‫ البول �أجن�س �أم النطفة؟‬‫فقال حممد الباقر‪:‬‬ ‫ البول �أجن�س‪.‬‬‫‪56‬‬


‫فقال �أبو حنيفة‪:‬‬ ‫ فلو كنت حولت دين جدك بالقيا�س‪ ،‬لكنت �أمرت �أن يغت�سل من‬‫البول‪ ،‬ويتو�ض�أ من النطفة‪ .‬ولكن معاذ اهلل �أن �أحول دين جدك بالقيا�س‪.‬‬ ‫وقبل وجهه و�أكرمه‪.‬‬ ‫عندئذ قام حممد الباقر‪ ،‬وعانق �أبا حنيفة‪َّ ،‬‬

‫فقه الإمام الأعظم‬ ‫عا�ش �أبو حنيفة يف ع�رصين كانت البالد الإ�سالمية متوج فيهما‬ ‫مب�سائل يف الفكر الديني‪ ،‬عقيدة وفقه ًا‪ ،‬و�سيا�سة وعلم ًا‪ ،‬وحياة‬ ‫اجتماعية‪ .‬ومتوج بح�ضارات �أمم وعلومها‪ ،‬وب�شعوب خمتلفة العادات‬ ‫والتقاليد والأعراف‪ ،‬وبفنت ال�رصاع الديني بني ال�سنة وال�شيعة واخلوارج‪،‬‬ ‫وال�رصاع ال�سيا�سي االجتماعي بني الأمويني والعلويني والعبا�سيني‪ ،‬ثم‬ ‫بني العبا�سيني والعلويني‪ .‬وبعقائد ه�ؤالء وه�ؤالء‪ ،‬و�سيا�ستهم‪ .‬وبفقه‬ ‫ه�ؤالء وه�ؤالء‪ ،‬يتوقف الفقه هنا عند �آراء ال�سلف‪ ،‬ويتجدد هناك عند‬ ‫�أهل الر�أي‪.‬‬ ‫وكان على �أبي حنيفة �أن يتمثل ح�صاد ذلك كله‪ ،‬خا�صة ما يت�صل‬ ‫بالفقه الإ�سالمي عند �أهل احلديث‪ ،‬وعند �أهل الر�أي‪ ،‬فل�سوف يكون فقيه ًا‬ ‫مفتي ًا‪ ،‬والإفتاء يف الفقه مرحلة عليا ال ينالها �إال ال�صابرون يف طلب‬ ‫العلم‪ ،‬وال يبلغها �إال من �أحاط علم ًا بحياة النا�س‪ ،‬و�سيا�سة النا�س‪،‬‬ ‫ومعتقدات النا�س‪ ،‬ومعارف العلوم يف ع�رصه‪ .‬ومل يق�رص �أبو حنيفة يف‬ ‫طلب ذلك كله طوال ن�صف قرن من عمره‪ ،‬وهو طالب يدر�س العلم‪ ،‬وهو‬ ‫فقيه يت�صدر للإفتاء مب�سجد الكوفة‪� ،‬أو يف امل�سجد احلرام‪ .‬و�آية معرفته‬ ‫هذه قدرته الفائقة على االجتهاد بالر�أي والقيا�س‪ .‬وعلى جمادلة �أهل‬ ‫الفرق الإ�سالمية ممن فارقوا فقه اجلماعة‪ ،‬وفقه الر�أي املرتكزين على‬ ‫الكتاب وال�سنة‪ ،‬و�إجماع ال�صحابة‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫وفقه �أبي حنيفة بالعراق يعتمد على م�صادر من الكتاب وال�سنة‪،‬‬ ‫ومن فقه ال�صحابة‪ ،‬والقيا�س واال�ستح�سان‪ ،‬والعرف‪ .‬على حني كان‬ ‫معا�رصه الإمام «مالك بن �أن�س» ي�أخذ بالكتاب وال�سنة‪ ،‬وفقه ال�صحابة‪،‬‬ ‫وعمل �أهل املدينة‪ ،‬والقيا�س‪ ،‬واال�ستح�سان‪ ،‬وامل�صالح املر�سلة‪ .‬وقد‬ ‫ا�شتهر الأخذ بامل�صالح املر�سلة يف املذهب املالكي‪ ،‬مع �أنه مذهب يقلل‬ ‫من القيا�س‪ ،‬ويت�سع يف اال�ستح�سان‪� ،‬إذا مل يكن ثمة ن�ص‪ ،‬وال فتوى‬ ‫ل�صحابي‪ ،‬وال عمل لأهل املدينة‪.‬‬ ‫ولقد اتهم �أبو حنيفة يف حياته وبعد وفاته مبخالفة ال�سنة‪ .‬ولقد نفى‬ ‫�أبو حنيفة عن نف�سه هذه التهمة قائ ًال‪:‬‬ ‫«كذب واهلل وافرتى علينا من يقول‪� :‬إننا نقدم القيا�س على الن�ص‪.‬‬ ‫وهل يحتاج الن�ص �إىل قيا�س؟»‪.‬‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫«نحن ال نقي�س �إال عند ال�رضورة ال�شديدة‪ .‬وذلك �أننا ننظر يف دليل‬ ‫امل�س�ألة من الكتاب وال�سنة‪� ،‬أو �أق�ضية ال�صحابة‪ ،‬ف�إن مل جند دلي ًال ق�سنا‬ ‫حينئذ م�سكوت ًا عنه على منطوق به»‪.‬‬ ‫ويقول‪:‬‬ ‫«�إنا ن�أخذ �أو ًال بكتاب اهلل‪ ،‬ثم ال�سنة‪ ،‬ثم ب�أق�ضية ال�صحابة‪ ،‬ونعمل‬ ‫مبا يتفقون عليه‪ ،‬ف�إن اختلفوا ق�سنا حكم ًا على حكم بجامع العلة بني‬ ‫امل�س�ألتني حتى يت�ضح املعنى»‪.‬‬ ‫وكان يقول‪�« :‬إنا نعمل �أو ًال بكتاب اهلل‪ ،‬ثم ب�سنة ر�سول اهلل (�صلى‬ ‫وعلي ر�ضي اهلل‬ ‫اهلل عليه و�سلم) ثم ب�أحاديث �أبي بكر وعمر وعثمان‬ ‫ّ‬ ‫عنهم»‪.‬‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫«ما جاء عن ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم) فعلى الر�أ�س والعني‬ ‫ب�أبي و�أمي‪ ،‬ولي�س لنا خمالفته‪ .‬وما جاء عن �أ�صحابه تخرينا‪ ،‬وما جاء‬ ‫‪58‬‬


‫عن غريهم فهم رجال ونحن رجال»‪.‬‬ ‫ويروى �أن �أبا جعفر املن�صور كتب �إىل �أبي حنيفة قائ ًال‪« :‬بلغني �أنك‬ ‫تقدم القيا�س على احلديث»‪.‬‬ ‫فرد عليه �أبو حنيفة بر�سالة جاء فيها‪« :‬لي�س الأمر كما بلغك يا‬ ‫�أمري امل�ؤمنني �إمنا �أعمل بكتاب اهلل‪ ،‬ثم ب�سنة ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه‬ ‫وعلي ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬ثم‬ ‫و�سلم)‪ ،‬ثم ب�أق�ضية �أبي بكر وعمر وعثمان‬ ‫ّ‬ ‫ب�أق�ضية بقية ال�صحابة‪ ،‬ثم �أقي�س بعد ذلك �إذا اختلفوا‪ ،‬ولي�س بني اهلل‬ ‫وبني خلقه قرابة»‪.‬‬ ‫والأحاديث املتواترة كانت حجة يف فقه �أبي حنيفة‪ .‬ومل يعرف عن‬ ‫�أبي حنيفة �أنه �أنكر خرباً متواتراً‪� ،‬ساق حديث ًا مبعناه‪� ،‬أو �ساقه بلفظه‪.‬‬ ‫والأحاديث امل�شهورة‪ ،‬وهي �أحاديث �آحاد يف طبقة روايتها الأوىل‪،‬‬ ‫�أو الثانية‪ ،‬تنت�رش بعد ذلك وت�شتهر‪ ،‬وهذه كان ي�أخذ بها �أبو حنيفة‪ ،‬فقد‬ ‫ارتقت فوق مرتبة الظن‪ ،‬و�إن وقفت دون مرتبة اليقني‪.‬‬ ‫و�أحاديث الآحاد‪ ،‬التي مل ترتق �إىل مرتبة اال�شتهار‪ ،‬وهذه كان �أبو‬ ‫حنيفة يقبلها بعد عر�ضها على عقله‪ ،‬ومراعاة ال�ضبط للمنت‪ ،‬وال�رشوط‬ ‫يف فقه الرواية‪ ،‬ويقدم خرب الآحاد على القيا�س‪� ،‬إن كان الراوية عاد ًال‬ ‫قدم عليه القيا�س‪.‬‬ ‫وفقيه ًا‪ ،‬و�إال َّ‬ ‫واحلديث املر�سل عن تابعي موثوق به‪ ،‬وهو حديث مل ي�سند برواته‬ ‫�إىل الر�سول‪ ،‬كان �أبو حنيفة ي�أخذ به‪ ،‬ف�إذا مل يكن القائل به من املوثوق‬ ‫نحاه �أبو حنيفة جانب ًا‪.‬‬ ‫بفقههم ودينهم َّ‬ ‫وفتاوى ال�صحابة كان �أبو حنيفة ي�أخذ بها �إذا ارتقت �إىل درجة‬ ‫الإجماع‪ ،‬ف�إذا حدث فيها خالف‪ ،‬كان له‪ ،‬معها‪� ،‬أن يختار منها بالر�أي‪،‬‬ ‫�أو يعدل عنها بالر�أي �أي�ض ًا‪ ،‬وعلى �سبيل الرتجيح ال القطع يف فتواه‪.‬‬ ‫والقيا�س �أكرث منه �أبو حنيفة‪ ،‬وقد �ضبطه الأحناف يف تعريف جامع‬ ‫مانع‪ .‬فقالوا‪�« :‬إنه بيان �أمر غري من�صو�ص على حكمه‪ ،‬ب�أمر معلوم‬ ‫‪59‬‬


‫�أبو حنيفة النعمان‬

‫حكمه‪ ،‬بالكتاب‪� ،‬أو ال�سنة‪� ،‬أو الإجماع‪ ،‬ال�شرتاكه معه يف علة احلكم»‪.‬‬ ‫و�إذا تنازعت املقايي�س يف االجتهاد‪ ،‬ومل يقع وجه القيا�س ومل‬ ‫ي�ستقم‪ ،‬جل�أ �أبو حنيفة �إىل ا�ستح�سان الفقيه لقيا�س دون قيا�س‪ ،‬مالحظ ًا‬ ‫تعامل النا�س‪.‬‬ ‫ف�إن مل يكن ثمة قيا�س وال ا�ستح�سان‪ ،‬نظر �أبو حنيفة �إىل تعامل‬ ‫النا�س والعرف اجلاري بينهم‪ ،‬حيث ال ن�ص من كتاب �أو �سنة‪ ،‬وال‬ ‫�إجماع‪ ،‬وحيث ال حمل على من�صو�ص بطريق القيا�س �أو اال�ستح�سان‬ ‫لقيا�س �أو لأثر‪� ،‬أو الإجماع‪� ،‬أو ال�رضورة‪ .‬فالعرف عنده �أ�صل فقهي يف‬ ‫ا�ستنباط حكم فقهي‪.‬‬ ‫وفقه �أبي حنيفة‪ ،‬كان مييل �إىل �إطالق احلرية ال�شخ�صية يف امللك‪،‬‬ ‫واملال‪ ،‬والوقف‪ .‬ووالية املر�أة لأمر زواجها بنف�سها ب�رشط الكفاءة‪،‬‬ ‫و�رشط مهر املثل‪.‬‬ ‫وفقه �أبي حنيفة يرى �أن �أَ ْق َوم طريق الختيار خليفة‪ ،‬من بني َمن‬ ‫هم �أهل للخالفة‪� ،‬أن تتم اخلالفة بانتخاب �سابق من امل�ؤمنني‪ ،‬وببيعة‬ ‫كاملة‪ .‬فاخلالفة عنده لي�ست بو�صاية‪ ،‬وال يكون خليفة َمن يفر�ض نف�سه‬ ‫على امل�سلمني‪ ،‬و�إن خ�ضعوا له بعد ذلك �أو ارت�ضوه‪ .‬فاخلالفة �إمنا تكون‬ ‫حر �سابق على تويل احلكم‪.‬‬ ‫باختيار ّ‬ ‫وفقه �أبي حنيفة به فروع تك�شف عن عقليته كتاجر‪ ،‬خبري بالأ�سواق‬ ‫يق�سم وقته بني التجارة‪ ،‬والفقه‪ ،‬والعبادة ق�سمة عادلة‪ ،‬يف �أخذه‬ ‫باال�ستح�سان يف املعامالت‪ ،‬ويف عنايته ب�أحكام عقود البيوع على‬ ‫�أ�سا�س من الأمانة‪ ،‬وحفظ احلقوق‪ ،‬وحيله ال�رشعية يف ذلك كثرية‪.‬‬ ‫ذلك هو فقه �أبي حنيفة‪ ،‬يف خطوطه العامة‪ ،‬وهو فقه مل يكتبه �أبو‬ ‫حنيفة بيده‪ ،‬و�إمنا كان تالميذه يدونون �أقواله‪ ،‬ويقر�ؤون عليه �أقواله يف‬ ‫الفروع‪ ،‬ويبوبونها يف كتب‪ ،‬وي�ضيفون �إليها يف م�ؤلفاتهم �أقوالهم هم‬ ‫يف الفقه احلنفي‪ ،‬وكانوا من بعده طبقات �ست‪� ،‬أغلق بعدها باب االجتهاد‬ ‫‪60‬‬


‫يف الفقه احلنفي‪ .‬وج ّل فقهاء الطبقة الأخرية كانوا من املقلدين الذين مل‬ ‫يتغري فقههم مع تغري الأزمنة والأمكنة والأحوال‪.‬‬ ‫وبني تالميذ �أبي حنيفة‪ ،‬كان‪� :‬أبو يو�سف‪ ،‬وحممد بن احل�سن ال�شيباين‪،‬‬ ‫وزفر بن الهذيل‪ ،‬واحل�سن بن زياد الل�ؤل�ؤي الكويف‪ ،‬وحممد بن �سماعة‪،‬‬ ‫وعلي الرازي‪ ،‬وعمر بن مهري‪ .‬وكان ه�ؤالء هم فر�سان‬ ‫وحممد بن �شجاع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفقه احلنفي‪ ،‬يف الطبقة الأوىل من العلماء الأحناف‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫وبعد رحيل �أبي حنيفة عن الدنيا اكت�سب مذهب �أبي حنيفة نفوذاً يف‬ ‫الدولة العبا�سية‪ ،‬من وقت �أن �صار تلميذه �أبو يو�سف قا�ضي ًا للق�ضاة‪،‬‬ ‫يف عهود اخللفاء العبا�سيني‪ :‬املهدي‪ ،‬والهادي‪ ،‬والر�شيد‪ ،‬و�شاع يف �أكرث‬ ‫البقاع الإ�سالمية‪ ،‬يف م�رص‪ ،‬وال�شام‪ ،‬وبالد الروم‪ ،‬والعراق‪ ،‬وما وراء‬ ‫النهر‪ ،‬ويف الهند وال�صني حيث ال مناف�س له وال مزاحم‪.‬‬ ‫وقد بد�أ مذهب �أبي حنيفة يكت�سب نفوذه يف �أول �أمره‪ ،‬ب�سبب اختيار‬ ‫اخللفاء للق�ضاة‪ ،‬من �أئمته واملجتهدين فيه‪ ،‬ثم جتاوز هذا النفوذ الر�سمي‬ ‫له‪ ،‬بن�شاط علمائه فيه‪ ،‬وعملهم على ن�رشه‪ ،‬باملناظرات للمخالفني‪ ،‬ثم‬ ‫ب�إلف النا�س له‪ .‬وكانت قوته و�ضعفه‪ ،‬بن�شاط علمائه يف بالد‪ ،‬و�ضعف‬ ‫ن�شاط علمائه يف بالد �أخرى‪.‬‬

‫‪61‬‬



‫مالك بن �أن�س‬ ‫إمـام أهـل السـنة‬ ‫َ‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫‪64‬‬


‫عيون املعا�رصين‬ ‫ال �أحد يعطي �صورة �صادقة وحية عن �أحد‪ ،‬مثل معا�رصيه‪،‬‬ ‫ومريديه‪ ،‬من العلماء‪ ،‬والتالميذ‪ ،‬من رفاق العلم‪ ،‬و�أهل العلم‪ ،‬وطالب‬ ‫العلم‪ .‬و�شهادات ه�ؤالء ت�ضع مالك ًا يف مرتبة الإمام‪ ،‬فهو يف الذروة من‬ ‫العلم بال�سنة‪ ،‬وهو يف الذروة من العلم بالفقه‪ ،‬فقد بلغ فيه درجة جعلته‬ ‫دون علم‬ ‫فقيه احلجاز الأوحد‪ ،‬وهو بني املحدثني �إمام‪ ،‬ويعد �أول من ّ‬ ‫احلديث يف كتابه «املوط�أ» �أول �صحيح جمموع مدون للحديث‪ ،‬وهو‬ ‫بني الفقهاء ثاقب النظر‪ ،‬يجمع يف فقهه بني االلتزام بن�صو�ص القر�آن‬ ‫وال�سنة وفتاوى ال�صحابة‪ ،‬ومراعاة م�صالح النا�س يف كل فتاواه‪ .‬بل‬ ‫املحدث‪ ،‬كان �أ�شد الفقهاء مراعاة للم�صالح الدنيوية‬ ‫�إنه‪ ،‬وهو الفقيه‬ ‫ّ‬ ‫للنا�س يف فقهه‪ ،‬ولذلك كان من املقرر عنده �أن امل�صالح املر�سلة �أ�صل‬ ‫قائم بذاته‪ ،‬من �أ�صول الفقه الإ�سالمي‪.‬‬ ‫�شهد القا�ضي الفقيه �أبو يو�سف �صاحب �أبي حنيفة‪ ،‬للإمام مالك‪،‬‬ ‫وكان قرينه يف الزمان‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪65‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫«ما ر�أيت �أعلم من ثالثة‪ :‬مالك‪ ،‬وابن �أبي ليلى‪ ،‬و�أبو حنيفة»‪.‬‬ ‫وقال عبد الرحمن بن مهدي‪:‬‬ ‫«�أئمة احلديث الذين ُيقتدى بهم �أربعة‪� :‬سفيان الثوري بالكوفة‪ ،‬ومالك‬ ‫باحلجاز‪ ،‬والأوزاعي بال�شام‪ ،‬وحماد بن زيد بالب�رصة‪ .‬والثوري �إمام يف‬ ‫احلديث‪ ،‬ولي�س ب�إمام يف ال�سنة‪ .‬والأوزاعي �إمام يف ال�سنة‪ ،‬ولي�س ب�إمام‬ ‫يف احلديث‪ ،‬ومالك �إمام فيهما (املراد بال�سنة العلم ب�أق�ضية ال�صحابة‬ ‫وفتاواهم وب�أق�ضية التابعني وفتاواهم)‪.»..‬‬ ‫وقال �سفيان بن ُع َي ْينة‪:‬‬ ‫«رحم اهلل مالك ًا ما كان �أ�شد انتقاءه للرجال‪ .‬وما نحن عند مالك‪.‬‬ ‫�إمنا كنا نتتبع �آثار مالك‪ ،‬وننظر ال�شيخ �إذا كتب عنه مالك كتبنا عنه‪.‬‬ ‫كان مالك ال ُيب ِلغ من احلديث �إال حديث ًا �صحيح ًا‪ ،‬وال ُيحدث �إال عن ثقات‬ ‫النا�س‪ .‬وما �أرى املدينة �إال �ستخرب بعد مالك بن �أن�س»‪.‬‬ ‫وقال الليث بن �سعد �إمام �أهل م�رص‪:‬‬ ‫«علم مالك علم ُتقى‪� ،‬أمان ملن �أخذ عنه من الأنام»‪.‬‬ ‫وقال الإمام ال�شافعي‪:‬‬ ‫«�إذا جاءك الأثر عن مالك َف ُ�ش ّد به‪ .‬و�إذا جاء اخلرب فمالك النجم‪ .‬و�إذا‬ ‫ذكر العلماء فمالك النجم‪ ..‬ومل يبلغ �أحد يف العلم مبلغ مالك حلفظه‬ ‫و�إتقانه و�صيانته‪ .‬ومن �أراد احلديث ال�صحيح‪ ،‬فعليه مبالك»‪.‬‬ ‫وقال الإمام �أحمد بن حنبل‪:‬‬ ‫«مالك �سيد من �سادات �أهل العلم‪ ،‬وهو �إمام يف احلديث والفقه‪ .‬ومن‬ ‫مثل مالك‪ ،‬متبع لآثار من م�ضى‪ ،‬مع عقل و�أدب»‪.‬‬ ‫ولقد توفرت الأ�سباب ملالك ليكون بهذه الدرجة من العلم‪ ،‬مبواهبه‪،‬‬ ‫و�صفاته‪ ،‬وبع�رصه وبيئته‪ ،‬وب�شيوخه‪ ،‬ودرا�ساته التي �أبحر فيها‪ ،‬فكيف‬ ‫كانت حياته‪ ،‬و�شخ�صيته؟ وكيف كان يف عمله؟‬

‫‪66‬‬


‫طالب علم يف املدينة‬ ‫باملدينة ولد الإمام «مالك بن �أن�س بن مالك �أبو عامر الأ�صبحي‬ ‫اليمني»‪� ،‬سنة ‪ 93‬هجرية‪ ،‬و�أمه هي‪« :‬العالية بنت �رشيك الأزدية»‪ ،‬فهو‬ ‫عربي الأب والأم‪.‬‬ ‫وفد جده الأعلى «�أبو عامر» �إىل املدينة‪ ،‬بعد وفاة ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬وا�ستقر بها وتزوج من بني متيم‪ ،‬فربط بينه وبني بني متيم‬ ‫ال�صهر‪.‬‬ ‫حلف‪ ،‬و ّثق َته عالقة ِّ‬ ‫ويف املدينة ن�ش�أ مالك بن �أن�س‪ ،‬يف بيت ا�شتغل بعلم الأثر‪ ،‬ويف بيئة‬ ‫كلها للأثر واحلديث‪ ،‬وكان �آل بيته م�شتغلني بعلم احلديث‪ .‬وا�ستطالع‬ ‫�آثار ال�سلف و�أخبار ال�صحابة وفتاواهم‪.‬‬ ‫فجده مالك كان من كبار التابعني وعلمائهم‪ ،‬وقد روي عن‪ :‬عمر بن‬ ‫اخلطاب‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل‪ ،‬وعائ�شة �أم امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫اجلد‪ ،‬روى بنوه ربيع‪ ،‬ونافع املك ّني ب�أبي �سهيل‪ ،‬و�أن�س �أبو‬ ‫وعن هذا ّ‬ ‫الإمام مالك‪ .‬وكان عمه «نافع» من �شيوخ ابن �شهاب الزهري‪ ،‬الذي‬ ‫�سي�صبح بدوره من �شيوخ الإمام مالك‪ .‬وكان �أن�س �أبو الإمام مالك‪� ،‬أقل‬ ‫�إخوته ا�شتغاال باحلديث‪ ،‬ولذلك مل يتتلمذ الإمام مالك على يديه‪.‬‬ ‫عم ْيه‪ ،‬فهما اللذان‬ ‫لكن الإمام مالك وجد يف ن�ش�أته الأوىل غناء يف َّ‬ ‫جعال بعد �أبيهما �أ�رسة الإمام مالك من الأ�رس امل�شهورة بالعلم‪ .‬وكان‬ ‫ملالك الإمام �أخ ا�سمه الن�رض‪ ،‬يكربه عمراً‪ ،‬ويالزم العلماء‪ ،‬ويتلقى العلم‬ ‫عليهم‪ ،‬ولقد �أفاد مالك منه كثرياً يف ن�ش�أته‪ .‬ول�شهرة �أخيه دونه �آنذاك‪،‬‬ ‫كان النا�س يعرفون مالك ًا ب�أنه �أخو الن�رض‪ ،‬فلما ذاع �صيت مالك العلمي‬ ‫بني �شيوخه و�أهل املدينة‪� ،‬صار النا�س يعرفون الن�رض ب�أنه �أخو مالك‪.‬‬ ‫ال�سنن‪ ،‬وموطن الفتوى امل�أثورة‪ .‬فيها‬ ‫وكانت املدينة �آنذاك‪ ،‬موطن ُّ‬ ‫كان الرعيل الأول من علماء ال�صحابة‪ ،‬وفيها كان تالميذهم من بعدهم‬ ‫‪67‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫وهم املعروفون بالتابعني‪ .‬ويف هذه املدينة منت مواهب الإمام مالك‪.‬‬ ‫يف املدينة حفظ مالك القر�آن الكرمي‪ ،‬وتوجه من بعده �إىل حفظ‬ ‫احلديث‪ ،‬حتر�ضه عليه �أ�رسته‪ ،‬وي�شجعه على احلفظ مناخ املدينة العلمي‬ ‫املحتفل ب�سنة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم وحديثه‪ ،‬ويروى �أنه طلب‬ ‫من �أهله �أن ي�أذنوا له بالذهاب �إىل جمال�س العلماء‪ ،‬ليكتب العلم عنهم‪،‬‬ ‫ويدر�سه على �أيديهم‪ ،‬يف بيوتهم حين ًا‪ ،‬ويف امل�سجد النبوي �أكرث الأحيان‪.‬‬ ‫ويروى �أن �أمه قد �ألب�سته عندئذ �أح�سن الثياب‪ ،‬وعممته‪ ،‬ثم قالت له‪:‬‬ ‫ اذهب فاكتب الآن‪ ،‬واذهب �إىل ربيعة الر�أي‪ ،‬فتعلم علمه قبل �أدبه‪.‬‬‫وكان مالك ال يزال حدث ًا �صغرياً‪ .‬وكان حري�ص ًا منذ �صباه على‬ ‫حفظ ما يكتبه‪ ،‬ففي طريق عودته �إىل بيته‪ ،‬كان يتتبع يف �سريه ظالل‬ ‫الأ�شجار‪ ،‬ويتوقف �أحيان ًا حتتها‪ ،‬ويتمتم مبا كتبه‪ ،‬ي�ستعيد ما �سمعه‬ ‫وتلقاه‪ .‬وحني ر�أته �أخته يف هذه احلال‪ ،‬ظنت به الظنون‪ ،‬ف�أ�رسعت �إىل‬ ‫�أبيها �أن�س‪ ،‬و�أخربته مبا ر�أته من حال �أخيها مالك فقال لها‪:‬‬ ‫ يا بنية‪� .‬إنه يحفظ �أحاديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬‫وعلى يدي ربيعة الر�أي در�س مالك فقه الر�أي‪ ،‬وهو �صغري على قدر‬ ‫طاقته‪.‬‬ ‫ويذكر مالك ق�صة اجتاهه �إىل طلب الفقه‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫«كان يل �أخ (الن�رض) يف �سن ابن �شهاب الزهري‪ ،‬ف�ألقى �أبي يوم ًا‬ ‫علينا م�س�ألة (فقهية) ف�أ�صاب �أخي‪ ،‬و�أخط�أت‪ ،‬فقال يل‪:‬‬ ‫ �ألهتك ا ِ‬‫حلمام (املنايا) عن طلب العلم‪.‬‬ ‫فغ�ضبت‪ ،‬وانقطعت �إىل ابن هرمز (الفقيه) �سبع �سنني‪ ،‬مل �أخلطه بغريه‬ ‫(من الفقهاء) وكنت �أجعل يف كمي متراً‪ ،‬و�أناوله �صبيانه‪ ،‬و�أقول لهم �إن‬ ‫�س�ألكم �أحد عن ال�شيخ‪ ،‬فقولوا �إنه م�شغول‪.‬‬ ‫وذلك حتى ينفرد مالك به ويتلقى العلم منه‪.‬‬ ‫ويروى �أن الفقيه «ابن هرمز» قال يوم ًا خلادمته‪ ،‬وقد �سمعا طرق ًا‬ ‫‪68‬‬


‫على الباب‪:‬‬ ‫ انظري من الباب؟‬‫وفتحت اخلادمة الباب فلم تر �إال مالك ًا‪ ،‬فرجعت و�أخربته‪ ،‬قائلة‪:‬‬ ‫ ما ثم �إال ذاك الأ�شقر‪.‬‬‫فقال لها‪:‬‬ ‫ ادعيه للدخول‪ ،‬فذاك عامل النا�س‪.‬‬‫وكان مالك يتخذ لنف�سه و�سادة حم�شوة‪ ،‬وي�ضعها حتته‪ ،‬وهو جال�س‬ ‫فوق احلجر‪ ،‬يتقي بها برد احلجر‪ .‬وكثرياً ما كان ي�صحب هذه الو�سادة‬ ‫معه ليجل�س عليها فوق ال�صخر البارد بامل�سجد النبوي‪ ،‬حيث كان يجل�س‬ ‫الفقيه ابن هرمز‪.‬‬ ‫ولقد ت�أثر الإمام مالك ب�شخ�صية ابن هرمز ت�أثراً �شديداً‪ ،‬ووجهته هذه‬ ‫ال�شخ�صية الوجهة التي �صارت عليها �شخ�صية الإمام مالك‪ .‬وكان مالك‬ ‫من طراز النا�س الذين يتخذون لأنف�سهم �أ�سوة �صاحلة‪ .‬وقد جاء يف بع�ض‬ ‫الروايات �أن ال�سبب الأول يف �إكثار الإمام مالك من قول‪ :‬ال �أدري‪ ،‬التي‬ ‫كان يجيب بها عما ال يعلم‪ .‬هو �أنه كان يقتدي بابن هرمز‪ .‬يروى عن‬ ‫مالك �أنه قال‪�« :‬سمعت ابن هرمز يقول‪:‬‬ ‫«ينبغي �أن يورث العامل جل�ساءه قول‪ :‬ال �أدري‪ ،‬حتى يكون ذلك �أ�صال‬ ‫يف �أيديهم يفزعون �إليه‪ .‬ف�إذا �سئل �أحدهم عما ال يدري قال‪ :‬ال �أدري»‪.‬‬ ‫ويقول ابن وهب‪:‬‬ ‫«كان مالك يقول يف �أكرث ما ي�س�أل عنه‪ :‬ال �أدري»‪.‬‬ ‫وقد تلقى مالك عن ابن هرمز احلديث‪ ،‬وتلقى عنه ما اختلف فيه‬ ‫النا�س‪ ،‬وتلقى عنه الرد على �أهل الأهواء‪ ،‬حني تدعوه �رضورة �إىل ذلك‪.‬‬ ‫ولقد ق�رص مالك فيما بعد تعليمه لتالميذه على احلديث‪ ،‬والفتوى يف‬ ‫امل�سائل الفقهية‪ ،‬متجنب ًا الفتوى فيما �أثاره ويثريه �أهل الفرق‪ ،‬من معتزلة‬ ‫وجربية ومرجئة وخوارج‪ ،‬من �أمور تتحري فيها املدارك‪ ،‬وتختلف حولها‬ ‫‪69‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫العقول‪ ،‬بالفرو�ض والت�صورات النظرية‪ ،‬لأنه كان يرى �أن اجلدل يف هذه‬ ‫الأمور ال ي�صل �إىل غاية‪ ،‬وال ينتهي �إىل بر ال�سالمة‪.‬‬ ‫ووجد مالك يف �سنوات تكوينه العلمي بغيته‪ ،‬يف «نافع» موىل «عبد‬ ‫اهلل ابن عمر»‪ ،‬فجال�سه جمال�سة ابن هرمز‪ ،‬و�أخذ عنه علم ًا كثرياً‪ .‬يقول‬ ‫مالك‪:‬‬ ‫«كنت �آتي نافع ًا ن�صف النهار‪ ،‬وما تظلني ال�شجرة‪� ،‬أحتني خروجه‪،‬‬ ‫ف�إذا خرج �أدعه �ساعة ك�أين مل �أره‪ ،‬ثم �أتعر�ض له ف�أ�سلم عليه‪ ،‬و�أدعه‪،‬‬ ‫حتى �إذا دخل (�إىل امل�سجد النبوي)‪� ،‬أقول له كيف قال ابن عمر يف كذا‬ ‫وكذا‪ ،‬فيجيبني‪ ،‬ثم �أحب�س عنه‪ ،‬وكان فيه حدة»‪.‬‬ ‫وكان نافع ي�سكن يف البقيع‪ ،‬وكان مالك ي�س�أله يف احلديث والفقه‪.‬‬ ‫كذلك وجد مالك يف ابن �شهاب الزهري‪ ،‬يف �سنوات تكوينه العلمي‪،‬‬ ‫بغيته‪ ،‬يف طلب احلديث‪ ،‬يروي مالك يقول‪:‬‬ ‫قدم علينا الزهري‪ ،‬ومعنا ربيعة الر�أي‪ .‬فحدثنا نيف ًا و�أربعني حديث ًا‪.‬‬ ‫ثم �أتيناه يف الغد‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫ انظروا كتاب ًا حتى �أحدثكم‪� .‬أر�أيتم ما حدثتكم به �أم�س؟‬‫فقال له ربيعة‪:‬‬ ‫ ههنا من يرد عليك ما حدثت به �أم�س‪.‬‬‫فقال نافع‪:‬‬ ‫ ومن هو؟‬‫فقال ربيعة‪:‬‬ ‫ ابن �أبي عمر (يق�صد مالك ًا)‪.‬‬‫فقال نافع‪:‬‬ ‫ هات‪.‬‬‫«فحدثته �أربعني حديث ًا منها‪ ،‬فقال الزهري‪:‬‬ ‫ ما كنت �أرى �أنه بقي �أحد يحفظ هذا غريي»‪.‬‬‫‪70‬‬


‫وروى مالك موقف ًا له مع �أ�ستاذه ابن �شهاب‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫حدث عن‬ ‫«كان ابن �شهاب‪� ،‬إذا جل�س‪ ،‬يحدث ثالثني حديث ًا‪ .‬وكنت �إذا َّ‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬أعقد عقدة بخيط حتى �أعرف من عدد‬ ‫العقد عدد الأحاديث‪ ،‬وما علق بذاكرتي منها‪ .‬فحدث يوم ًا وعقدت عقداً‬ ‫حلديثه‪ ،‬ف�أن�سيت منها حديث ًا‪ ،‬فلقيته‪ ،‬ف�س�ألته عنه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ �أمل تكن يف املجل�س؟‬‫قلت له‪:‬‬ ‫ بلى‪.‬‬‫قال يل‪:‬‬ ‫ فما لك مل حتفظ؟‬‫قلت له‪:‬‬ ‫ �إمنا ذهب عني منها واحد‪.‬‬‫فقال‪:‬‬ ‫ لقد ذهب حفظ النا�س‪ ،‬ما ا�ستودعت قلبي �شيئ ًا قط فن�سيته‪ .‬هات‬‫ما عندك‪.‬‬ ‫ف�أ�سمعته ما حفظت‪ ،‬ف�أنب�أين باحلديث الذي ن�سيته‪ ،‬وان�رصفت عنه‪.‬‬ ‫وكان مالك حري�ص ًا على �إظهار االحرتام التام لأحاديث ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ال يتلقاها �إال وهو يف حال من اال�ستقرار التام‪،‬‬ ‫توقرياً لها‪ ،‬وحر�ص ًا على �ضبطها‪ ،‬وحتى ال يفوته �شيء منها‪ ،‬فال ي�سمعها‬ ‫وهو يف حال �ضيق �أو ا�ضطراب‪ ،‬وال يتلقاها وهو واقف‪ ،‬و�إمنا يجل�س‬ ‫احرتام ًا لها‪ .‬ولقد مر مالك ب�أبي زناد‪ ،‬وهو يحدث النا�س ب�أحاديث‬ ‫ر�سول اهلل‪ ،‬والنا�س قيام يف امل�سجد يكتبون ما ي�سمعون‪ ،‬فلم يتوقف‬ ‫ل�سماع احلديث‪ ،‬وان�رصف عنه‪ .‬وحني التقى مالك ب�أبي زناد قال له‪:‬‬ ‫يل‪ ،‬وتكتب عني؟‬ ‫ ما منعك �أن جتل�س �إ ّ‬‫فقال له‪:‬‬ ‫‪71‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫ كان امل�سجد �ضيق ًا‪ ،‬وكرهت �أن �أ�سمع �أو �أكتب حديث ر�سول اهلل و�أنا‬‫واقف‪ ،‬فان�رصفت‪.‬‬ ‫ولقد تكررت هذه الق�صة‪ ،‬وذلك املوقف مع عمر بن دينار‪ ،‬ومع �أبي‬ ‫حازم‪ .‬وكان العلم �آنذاك ي�ؤخذ من �أفواه الرجال‪ ،‬ال من كتب م�سطورة‪،‬‬ ‫ولذلك �أرهفت ذاكرات النا�س‪ ،‬واعتمدوا عليها‪ .‬وكان العلماء قد ابتد�أوا‬ ‫يف تدوينه‪ ،‬ويحر�ضون طالبهم على �أن يكتبوا ما ي�سمعونه‪ ،‬خ�شية �أن‬ ‫ين�سوه‪ ،‬وبني َمن كانوا يكتبون كان مالك بن �أن�س يكتب ما ي�سمعه يف‬ ‫�ألواح‪ ،‬ويحفظه يف اللحظة نف�سها‪ ،‬ولقد حدث �أن ابن �شهاب جذب اللوح‬ ‫تاما‪.‬‬ ‫من يدي مالك‪ ،‬ثم اختربه فيما �سمعه‪ ،‬فوجده قد حفظه حفظ ًا ًّ‬ ‫ومل يدخر مالك يف طلبه للعلم ما ًال‪ ،‬فلقد نق�ض �سقف بيته‪ .‬وباع‬ ‫خ�شبه‪ ،‬ليتمكن من موا�صلة العلم‪ ،‬وعا�ش زمن ًا يف بيت بال �سقف‪ .‬وتعلم‬ ‫بهذا الإ�رصار‪ :‬وجوه الرد على �أ�صحاب الأهواء‪ ،‬من ابن هرمز‪ ،‬وتعلم فقه‬ ‫الر�أي للتوفيق بني الن�صو�ص املختلفة وم�صالح النا�س ومنافعهم‪ ،‬من‬ ‫ربيعة بن عبد الرحمن‪ ،‬امللقب بني النا�س بربيعة الر�أي‪ ،‬وتلقى �أحاديث‬ ‫ر�سول الإ�سالم‪ ،‬متتبع ًا من �أجله رواة احلديث يف املدينة‪ ،‬ومنتقي ًا الثقات‬ ‫يف رواية احلديث‪ ،‬بفرا�سة قوية يف انتقائهم‪ ،‬و�إدراك �سليم لقوة عقولهم‪،‬‬ ‫وجودة ذاكرتهم‪ ،‬و�سالمة فقههم‪ .‬ويروى عن مالك قوله‪:‬‬ ‫«لقد �أدركت �سبعني ممن يقولون‪ :‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫عند هذه الأ�ساطني (�أعمدة امل�سجد)‪ .‬فما �أخذت عنهم �شيئ ًا‪ .‬و�إن �أحدهم لو‬ ‫�أ�ؤمتن على بيت مال لكان �أمين ًا‪ ،‬لكنهم مل يكونوا من �أهل هذا ال�ش�أن»‪.‬‬

‫بني جمل�سني‬ ‫يف امل�سجد النبوي‪ ،‬اتخذ مالك له جمل�س ًا للدر�س والإفتاء‪ ،‬وهو يدور‬ ‫حول الأربعني من عمره‪ .‬فجل�س يف جمل�س التابعني وقد �صار له حظ‬ ‫‪72‬‬


‫كبري من العلم‪ .‬وكان له يف جمل�سه �إجالل واحرتام وتوقري‪ ،‬يحر�ص‬ ‫هو عليها‪ ،‬ويحر�ص على �أن ينالها من النا�س‪ ،‬ويحر�ص على �أن ي�س�أل‬ ‫�شيوخه عن ح�سن جمل�سه يف نظر النا�س‪ ،‬ويقول معلم ًا تالميذه‪:‬‬ ‫«ال خري يف من يرى نف�سه يف حال ال يراه النا�س لها �أهال»‪.‬‬ ‫ولقد حدث �أنه ر�أى ابن القا�سم جال�س ًا يف امل�سجد‪ ،‬وجاء �إليه رجل‬ ‫ف�أفتاه‪ ،‬وغ�ضب منه مالك‪ ،‬وتوجه �إليه قائال‪:‬‬ ‫ �أج�رست على �أن تفتي يا �أبا عبد الرحمن؟!‬‫وكررها عليه مراراً‪ ،‬ثم قال له مالك‪:‬‬ ‫ ما �أفتيت حتى �س�ألت‪ :‬هل �أنا للفتوى مو�ضع؟‬‫وحني �سكن غ�ضبه �س�أله النا�س‪:‬‬ ‫ من �س�ألته؟‬‫فاكتفى مالك بقوله‪:‬‬ ‫ الزهري‪ ،‬وربيعة الر�أي‪.‬‬‫لكنه كان قد �س�أل �سبعني �شيخ ًا من �شيوخ العلم باملدينة‪ ،‬ف�شهدوا له‬ ‫ب�أنه �أهل للفتوى‪.‬‬ ‫وكان ملالك يف املدينة جمل�سان‪ :‬جمل�س يف امل�سجد النبوي ال�رشيف‪،‬‬ ‫املكان الذي كان يجل�س فيه عمر بن اخلطاب لل�شورى‪ ،‬واحلكم والق�ضاء‪.‬‬ ‫وهو املكان نف�سه الذي كان يجل�س فيه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫وجمل�س يف م�سكنه‪ ،‬وكان ي�سكن يف دار عبد اهلل بن م�سعود‪ ،‬ويف‬ ‫املجل�سني كان مالك يقتفي �أثر عمر‪ ،‬و�أثر عبد اهلل بن م�سعود‪ ،‬ويت�أثر‬ ‫بهما‪ ،‬وي�ؤثر يف فتاواه �أن يكون متبع ًا ال مبتدع ًا‪ ،‬ويرى يف �أعمال �أهل‬ ‫املدينة ما ينري ال�سبيل �أمامه يف فتاواه وفقهه‪.‬‬ ‫ومل يالزم مالك امل�سجد النبوي يف در�سه طول حياته‪ ،‬فقد لزم‬ ‫ب�س ِ‬ ‫ل�س البول‪ ،‬فانقطع عن اخلروج‬ ‫بدر�سه جمل�سه يف بيته عندما مر�ض َ‬ ‫�إىل النا�س‪ ،‬وعن عقد جمل�س علمه يف امل�سجد النبوي‪ ،‬ولكنه مل ينقطع‬ ‫‪73‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫عن اخلروج لل�صالة يف امل�سجد‪ ،‬ومل ينقطع عن احلديث والعلم والدر�س‬ ‫والفتوى يف بيته‪ ،‬ي�شهد ال�صلوات واجلمعة واجلنائز‪ ،‬ويعود املر�ضى‪،‬‬ ‫ويق�ضي احلقوق‪ ،‬وال يطيل يف �أدائه لهذا �أو ذاك‪ ،‬وي�سارع بالعودة �إىل‬ ‫بيته‪.‬‬ ‫ولقد عا�ش مالك طويال‪� ،‬إىل عام ‪ 179‬هجرية‪ ،‬فقارب بعمره الت�سعني‬ ‫�سنة‪ ،‬و�أجربه مر�ضه يف ال�سنوات الأخرية من حياته على مالزمة بيته‪،‬‬ ‫فال يغادره لأي �سبب قائال ملن ي�س�أله‪:‬‬ ‫ لي�س كل النا�س يقدر �أن يتكلم بعذره‪.‬‬‫فلم يبح طوال حياته لأحد �أنه مري�ض مبر�ض �سل�س البول‪� ،‬إال يف‬ ‫حلظة وداعه للدنيا ملن حوله‪ ،‬يف حلظة الوداع هذه قال‪:‬‬ ‫ لوال �أين يف �آخر يوم ما �أخربتكم‪ ،‬مر�ضي �سل�س البول‪ ،‬وكرهت �أن‬‫�آتى م�سجد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم بغري و�ضوء‪ .‬وكرهت �أن �أذكر‬ ‫ع ّلتي ف�أ�شكو ربي‪.‬‬

‫�شخ�صية �إمام‬ ‫كان مالك‪ ،‬منذ �صباه‪ ،‬حافظة تعي‪ ،‬و�صبوراً ومثابراً‪ ،‬وخمل�ص ًا فى‬ ‫طلب العلم‪ ،‬و�صاحب َفرا�سة نفاذة‪ ،‬وهيبة ووقار‪ .‬واكت�سب ال�صفتني‬ ‫الأخريتني يف كهولته‪.‬‬ ‫و�آية حفظه‪� ،‬أنه كان ي�سمع يف املجل�س الواحد نيف ًا و�أربعني حديث ًا‬ ‫مرة واحدة‪ .‬فيحفظها وهو يكتبها عن �شيخه‪ .‬ولقد بلغت �أ�صول �أحاديثه‬ ‫املكتوبة اثني ع�رش �ألف حديث‪ ،‬من حديث �أهل املدينة‪ .‬كان يحفظها‬ ‫حديث ًا حديث ًا برواياتها‪ ،‬ومل يحدث مالك طالبه �إال بنحو من ثلثها �أو‬ ‫ربعها‪ ،‬فهي التي �صحت عنده‪ .‬ولقد قيل ملالك يوم ًا‪:‬‬ ‫ عند �أبي عيينة �أحاديث لي�ست عندك‪.‬‬‫‪74‬‬


‫فقال مالك لفوره يف ا�ستنكار‪:‬‬ ‫ �إذن �أحدث النا�س بكل ما �سمعت‪� .‬إين �إذن لأحمق‪� .‬إين �أريد �أن‬‫�أ�ض ّلهم �إذن‪ .‬وقد خرجت مني �أحاديث‪ ،‬لوددت �أين �رضبت بكل حديث‬ ‫منها �سوط ًا‪ ،‬ومل �أحدث بها �أحداً‪.‬‬ ‫و�آية �صربه ومثابرته‪ ،‬مغالبته للفقر الذي دفعه يوم ًا �إىل �أن يبيع‬ ‫�سقف خ�شب بيته‪ ،‬يف �سبيل العلم‪ ،‬ودفعه �إىل �أن يجل�س على باب دار‬ ‫�شيخه يف الربد ال�شديد‪ ،‬ولي�س بينه وبني احلجر الذي يجل�س عليه‪ ،‬يف‬ ‫جانب من الطريق‪� ،‬سوى و�سادة‪ .‬ولقد روى م�صعب الزبريي عن مالك‬ ‫ورفاقه‪ ،‬يف طلبهم للعلم‪ ،‬هذه احلادثة‪ .‬قال م�صعب‪:‬‬ ‫ كان حبيب يقر�أ لنا من ورقة �إىل ورقتني ون�صف‪ ،‬ال يبلغ ثالث‬‫ورقات‪ ،‬والنا�س يف ناحية (من امل�سجد) ال يدنون‪ ،‬وال ينظرون‪ ،‬ف�إذا‬ ‫خرجنا‪ ،‬وخرج النا�س‪ ،‬كانوا يعار�ضون ما كتبوه مبا كتبناه‪ .‬ونذهب‬ ‫�إىل بيوتنا‪ .‬ون�صري بالع�شي (الع�رص) �إىل (جمل�س) مالك‪ .‬ف�أ�صابنا املطر‬ ‫يوم ًا‪ ،‬فلم ن�أته تلك الع�شية‪ ،‬ومل ينتظرنا‪ ،‬وعر�ض عليه النا�س ما كتبوه‬ ‫(دوننا)‪ .‬ف�أتيناه بالغد‪ .‬فقلنا‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬أ�صابنا �أم�س مطر �شغلنا عن احل�ضور‪ ،‬ف�أعد علينا‬‫در�س الأم�س‪.‬‬ ‫فقال لنا‪:‬‬ ‫ فمن طلب هذا الأمر �صرب عليه‪.‬‬‫العدة لطلب العلم‪ ،‬عند مالك‪ ،‬وكانا‬ ‫فال�صرب‪ ،‬وقوة الإرادة‪ ،‬كانا هما ُ‬ ‫من بني ما يعلمه لتالميذه‪.‬‬ ‫و�آية �إخال�صه يف طلب العلم‪ ،‬قوله لتلميذه ابن وهب‪:‬‬ ‫«�إن كنت تريد مبا طلبت ما عند اهلل‪ ،‬فقد �أ�صبت ما تنتفع به‪ ،‬و�إن‬ ‫كنت تريد مبا تعلمت الدنيا‪ ،‬فلي�س فى يدك �شيء»‪.‬‬ ‫وكان يقول لتالميذه‪:‬‬ ‫‪75‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫«العلم نور ال ي�أن�س �إال بقلب تقي خا�شع‪ .‬وما زهد �أحد يف الدنيا �إال‬ ‫�أنطقه اهلل باحلكمة»‪.‬‬ ‫وكان يقول لتالميذه‪:‬‬ ‫«�إن هذا العلم (احلديث والفقه) دين‪ ،‬فانظروا عمن ت�أخذونه‪ .‬وخري‬ ‫بينا‪ .‬و�إن كنت يف �أمرين‪ ،‬و�أنت‬ ‫الأمور ما كان منها �ضاحي ًا (وا�ضح ًا) ّ‬ ‫منهما يف �شك‪ ،‬فخذ الذي هو �أوثق (عندك)‪.‬‬ ‫ويروي تلميذه ابن القا�سم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«�سمعت مالك ًا يقول‪� :‬إين لأفكر يف م�س�ألة منذ ب�ضع ع�رشة �سنة‪ .‬ما‬ ‫علي م�س�ألة ف�أ�سهر فيها عامة‬ ‫اتفق يل فيها ر�أي �إىل الآن‪ .‬ورمبا وردت ّ‬ ‫ليلتي»‪.‬‬ ‫وروي امل�ؤرخ عبد اهلل بن احلكم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«كان مالك �إذا �سئل عن م�س�ألة قال لل�سائل‪ :‬ان�رصف حتى �أنظر‪.‬‬ ‫فين�رصف ويرتدد (مالك مفكراً) فيها‪ .‬فحدثناه يف ذلك الت�أجيل فبكى‪.‬‬ ‫وقال‪�« :‬إين �أخاف اهلل �أن يكون يل من امل�سائل يوم و�أي يوم‪ .‬ومن �أحب‬ ‫�أن يجيب عن م�س�ألة‪ ،‬فليعر�ض نف�سه على اجلنة والنار‪ .‬وكيف يكون‬ ‫خال�صه يف الآخرة»‪.‬‬ ‫ولقد �س�أل �سائل م�س�ألة‪ ،‬قائال ملالك‪:‬‬ ‫ م�س�ألة خفيفة‪.‬‬‫فغ�ضب مالك‪ ،‬وقال م�ستنكراً‪:‬‬ ‫«م�س�ألة خفيفة �سهلة؟! لي�س يف العلم �شيء خفيف‪� .‬أما �سمعت قول‬ ‫اهلل تعاىل‪�« :‬إنا �سنلقي عليك قوال ثقيال»‪ .‬فالعلم كله ثقيل‪ ،‬وخا�صة ما‬ ‫ي�س�أل عنه يوم القيامة»‪.‬‬ ‫ولقد روي عنه �أنه قال م�ستنكراً �صنيع فقهاء ع�رصه‪:‬‬ ‫علي من �أن �أ�س�أل عن م�س�ألة من احلالل واحلرام‪.‬‬ ‫«ما من �شيء �أ�شد ّ‬ ‫ف�إن هذا هو القطع فى حكم اهلل‪ .‬ولقد �أدركت �أهل العلم والفقه ببلدنا‬ ‫‪76‬‬


‫(املدينة)‪ .‬و�إن �أحدهم �إذا �سئل عن م�س�ألة‪ ،‬فك�أن املوت �أ�رشف عليه‪.‬‬ ‫ور�أيت �أهل زماننا هذا ي�شتهون الكالم‪ ،‬والفتوى‪ ،‬ولو وقفوا على ما‬ ‫وعليا‪ ،‬وخيار‬ ‫ي�صريون �إليه غداً‪ .‬لقللوا من هذا‪ .‬و�إن عمر بن اخلطاب‪ًّ ،‬‬ ‫ال�صحابة‪ ،‬كانت ترتدد عليهم امل�سائل‪ ،‬وهم خري القرون‪ ،‬الذين بعث‬ ‫فيهم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وكانوا يجمعون �أ�صحاب النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وي�س�ألون‪ ،‬ثم حينئذ يفتون‪ ،‬و�أهل زماننا هذا قد �صار‬ ‫همهم الفتوى‪ .‬ومل يكن من �أمر النا�س‪ ،‬وال من م�ضى من �سلفنا الذين‬ ‫ويعول �أهل الإ�سالم عليهم‪� ،‬أن يقولوا‪ :‬هذا حالل‪ ،‬وهذا حرام‪.‬‬ ‫ُيقتدى بهم‪ّ ،‬‬ ‫ولكن يقول‪� :‬أنا �أكره كذا‪ .‬و�أما حالل وحرام‪ ،‬فهذا االفرتاء على اهلل‪« :‬قل‬ ‫الرزق‪ ،‬فجعلتم منه حرام ًا وحال ًال»‪ ،‬لأن‬ ‫�أر�أيتم ما �أنزل اهلل لكم من ّ‬ ‫احلالل ما �أحله اهلل ور�سوله»‪.‬‬ ‫ولقد كان امل�ستف ِتي يجيء �إىل مالك من �أق�صى الأر�ض‪ ،‬وي�س�أله‪ ،‬ف�إذا‬ ‫كان مالك ال يعرف وجه الفتوى على اليقني‪ ،‬مل ُي ِ‬ ‫فت‪ ،‬وقال‪ :‬ال �أح�سن‪ .‬ال‬ ‫�أدري‪ .‬وما يبايل خيبة ظن ال�سائل فيه‪.‬‬ ‫ومن �إخال�صه يف �أن يطلب بالعلم وجه اهلل‪ ،‬ابتعاده عن اجلدل‬ ‫واملجادلة‪ ،‬لأن املجادلة نوع من املنازلة بني النا�س‪ ،‬والدين �أعلى من‬ ‫�أن يكون مو�ضع ًا لنزال امل�سلمني وعلماء امل�سلمني‪ ،‬واجلدل يدفع كثرياً‬ ‫�إىل التع�صب‪ ،‬واملتع�صب ال يدرك الأمور �إال من وجه واحد‪ .‬ويحر�ص‬ ‫على �أن ينال �إعجاب ال�سامعني‪ ،‬في�أخذ يف القول باحلق وبالباطل‪،‬‬ ‫وبال�صدق وبالكذب‪ .‬ولقد جابه مالك الر�شيد وقا�ضيه �أبا يو�سف‪ ،‬بقوله‬ ‫كلمة رائعة‪:‬‬ ‫«�إن العلم لي�س كالتحري�ض بني البهائم والديكة»‪.‬‬ ‫وكان يقول لتالميذه معلم ًا �إياهم‪:‬‬ ‫«اجلدال يف الدين لي�س ب�شيء‪ .‬املراء واجلدال يف الدين يذهب بنور‬ ‫ال�ضغن (احلقد‬ ‫يق�سي القلب‪ ،‬ويورث ّ‬ ‫العلم من قلب العبد‪� .‬إن اجلدال ّ‬ ‫‪77‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫والكراهية)‪.»..‬‬ ‫ولقد ر�أى مالك قوم ًا يتجادلون عنده‪ ،‬فقام‪ ،‬ونف�ض رداءه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫«�إمنا �أنتم يف حرب»‪.‬‬ ‫ولقد قيل ملالك من �سائل‪:‬‬ ‫«رجل له علم بال�سنة‪� ،‬أيجادل عنها؟»‪.‬‬ ‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫«ال‪ .‬ولكن‪ ،‬ليخرب بال�سنة‪ ،‬ف�إن قبل منه (فبها) و�إال �سكت»‪.‬‬ ‫وكان مالك يقول‪:‬‬ ‫«كلما جاء رجل �أجدل من رجل‪ ،‬تركنا ما نزل به جربيل»‪.‬‬ ‫ومع ذلك كانت ملالك مناظرات مع العلماء من طرازه‪ .‬ومع بع�ض‬ ‫اخللفاء ممن لهم نزعة علمية‪� ،‬أو لهم يف العلم مكان‪ ،‬مثل �أبي جعفر‬ ‫املن�صور‪ ،‬حول �سنية الرتجيع يف الآذان‪ ،‬و�سنية «الوقف»‪ ،‬ومقدار‬ ‫ال�صاع يف ال�صدقة والزكاة‪.‬‬ ‫ومن �إخال�ص مالك للعلم �أنه كان يبتعد عن الإكثار من التحديث‬ ‫بالأحاديث‪ ،‬والإكثار من الإفتاء‪ ،‬ويق�رص الإفتاء على ما يقع من الأمور‪.‬‬ ‫ويتجنب الإفتاء فيما يتوقع �أو يفرت�ض من الأمور‪ ،‬فالفتوى يف مثل‬ ‫هذه الأمور فتنة من الفتنة‪ ،‬وم�صادرة على الغيب‪ .‬ف�شعاره لأ�صحابه‪،‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫ ح�سبكم‪َ .‬من �أكرث �أخط�أ‪.‬‬‫وكان مالك ي�س�أل يف �أمر من �أمور الق�ضاء‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ هذا من متاع ال�سلطان‪.‬‬‫وكان ي�أبى �أن يتعر�ض مثل �أبي حنيفة‪ ،‬لأحكام الق�ضاة فيفتح‬ ‫للنا�س باب الطعن يف الأحكام باحلق وبالباطل‪ ،‬وي�ؤثر �أن يق�رص قوله‬ ‫على الفتوى‪� ،‬إن �سئل من طالب للفتوى‪.‬‬ ‫و�آية فرا�سة مالك‪ ،‬نفاذه بفرا�سته �إىل بواطن الأمور‪ ،‬و�إىل نفو�س‬ ‫‪78‬‬


‫الأ�شخا�ص‪ .‬وروى �أحد تالميذه قال‪:‬‬ ‫«كانت يف مالك فرا�سة ال تخطئ»‪.‬‬ ‫و�آية مهابة مالك‪� ،‬أنه كان يف جمل�س مع �أبي جعفر املن�صور‪� .‬إذا‬ ‫ب�صبي يخرج ثم يرجع‪ ،‬فقال له �أبو جعفر‪:‬‬ ‫ �أتدري من هذا؟‬‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ ال‪:‬‬‫فقال له جعفر‪:‬‬ ‫ هذا ابني‪ ،‬و�إمنا يفزع من �شيبتك‪.‬‬‫ولعل مالك ا�ستمد هيبته من حر�صه على �أن يظهر بها حني يكون‬ ‫يف جمل�س علم‪ ،‬ومن جتنبه لل�ضحك دون جفاف يف قول �أو �سلوك‪ .‬ولقد‬ ‫�أعطاه اهلل ب�سطة يف اجل�سم‪ ،‬والعلم‪ .‬وقد و�صفه غري واحد من تالميذه‪.‬‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫«كان مالك من �أح�سن النا�س وجه ًا‪ ،‬و�أحالهم عين ًا‪ ،‬و�أنقاهم‬ ‫بيا�ض ًا‪ ،‬و�أمتهم طوال‪ ،‬يف جودة بدن‪ ،‬كان طويال ج�سيم ًا‪ ،‬عظيم الهامة‪،‬‬ ‫�أبي�ض الر�أ�س واللحية‪� ،‬شديد البيا�ض يف لونه‪ْ � ،‬أعينَ (وا�سع العينني)‪،‬‬ ‫ح�سن ال�صورة‪� ،‬أ�شم الأنف‪ ،‬عظيم اللحية‪ ،‬تبلغ حليته �صدره‪ ،‬يف �سعة‬ ‫يحفيه‪ ،‬وكان يرتك‬ ‫وطول‪ .‬وكان ي�أخذ �أطراف �شاربه‪ ،‬وال يحلقه‪ ،‬وال ُ‬ ‫ل�شاربه �سبلتني طويلتني‪ ،‬ويفتل �شاربه �إذا �أهمه �أمر‪ ،‬ويح َتج بفتل عمر‬ ‫ل�شاربه»‪.‬‬ ‫وحكى �سعيد بن هند الأندل�سي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«ما هبت �أحداً هيبتي لعبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل)‬ ‫فدخلت على مالك‪ ،‬فهبته هيبة �شديدة‪� ،‬صغرت معها هيبتي البن‬ ‫معاوية»‪.‬‬ ‫ويقول ال�شافعي‪:‬‬ ‫‪79‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫«ما هبت �أحداً قط هيبتي من مالك بن ان�س»‪.‬‬ ‫روى ال�شافعي ق�صة لقائه مبالك‪ ،‬لأول مرة‪ ،‬وهيبة وايل املدينة له‬ ‫قال‪:‬‬ ‫«دخلت �إىل وايل مكة‪ ،‬و�أخذت كتابيه‪� ،‬إىل وايل املدينة‪ ،‬و�إىل مالك‬ ‫ابن �أن�س‪ .‬فقدمت املدينة‪ ،‬ف�أبلغت كتاب وايل املدينة �إليه‪ ،‬فلما قر�أه‪،‬‬ ‫قال يل‪:‬‬ ‫ يا فتى‪� .‬إن م�شيي من جوف املدينة‪� ،‬إىل جوف مكة حافي ًا‪� ،‬أهون‬‫علي من امل�شي �إىل باب مالك بن �أن�س‪ ،‬ف�إين ال �أرى الذل �إال حني �أقف‬ ‫ّ‬ ‫على بابه‪.‬‬ ‫فقلت لوايل املدينة‪:‬‬ ‫ �أ�صلح اهلل الأمري‪� .‬إن ر�أى الأمري يوجه �إليه‪ ،‬ليح�رض‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ هيهات‪ .‬ليت �أين �إذا ركبت �أنا ومن معي‪ ،‬و�أ�صابنا من تراب العقيق‪،‬‬‫نلنا بع�ض حاجتنا‪.‬‬ ‫فواعدته الع�رص‪ .‬وركبنا جميع ًا‪ .‬فتقدم الرجل‪ ،‬فقرع الباب‪ ،‬فخرجت‬ ‫لنا جارية �سوداء‪ ،‬فقال لها الأمري‪:‬‬ ‫ قويل ملوالك �إن وايل املدينة بالباب‪.‬‬‫فدخلت‪ ،‬ف�أبط�أت‪ ،‬ثم خرجت‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫ �إن موالي يقرئك ال�سالم‪ ،‬ويقول‪� :‬إن كانت لديك م�س�ألة‪ ،‬فارفعها‬‫(�إليه) يف رقعة‪ ،‬يخرج �إليك اجلواب‪ .‬و�إن كان للحديث‪ ،‬فقد عرفت يوم‬ ‫املجل�س‪ ،‬فان�رصف (�إىل يوم املجل�س)‪.‬‬ ‫فقال لها وايل املدينة‪:‬‬ ‫ قويل له‪� :‬إن معي كتاب ًا من وايل مكة �إليه يف حاجة مهمة‪.‬‬‫فدخلت‪ ،‬وخرجت‪ ،‬ويف يدها كر�سي‪ ،‬فو�ضعته‪ ،‬ثم �إذا مبالك قد خرج‪،‬‬ ‫وعليه املهابة والوقار‪ ،‬وهو �شيخ طويل‪ ،‬وهو متط ّل�س (يلب�س عمامة‬ ‫‪80‬‬


‫على ر�أ�سه)‪ ،‬فرفع �إليه الوايل الكتاب (املر�سل �إليه من وايل مكة) فبلغ‬ ‫مالك يف قراءته �إىل قول الوايل‪�« :‬إن هذا الرجل «ال�شافعي» من �أمره‬ ‫وحاله كذا وكذا‪ ،‬فتحدثه‪ ،‬وتفعل معه (كذا) وت�صنع معه (كذا)»‪ ،‬فرمى‬ ‫مالك الكتاب من يده‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ �سبحان اهلل‪� ،‬أو �صار علم ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ي�ؤخذ‬‫بالر�سائل؟!‬ ‫فر�أيت وايل املدينة قد تهيب �أن يكلمه‪ ،‬فتقدمت �إليه‪ ،‬وقلت له‪:‬‬ ‫املطلب بن عبد مناف)‪ ،‬ومن‬ ‫�أ�صلحك اهلل‪� ،‬إين رجل ُم ّطلبي (ن�سبة �إىل ّ‬ ‫يل �ساعة‪ ،‬وكان ملالك‬ ‫حايل (كذا)‪ ،‬وق�صتي (كذا)‪ .‬فلما �سمع كالمي نظر �إ ّ‬ ‫فرا�سة‪ ،‬ثم قال يل‪:‬‬ ‫ ما ا�سمك؟‬‫قلت‪:‬‬ ‫ حممد‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ يا حممد‪ .‬اتق اهلل‪ .‬واجتنب املعا�صي‪ .‬ف�إنه �سيكون لك �ش�أن من‬‫ال�ش�أن‪.‬‬ ‫هدايا اخللفاء‬ ‫كان �أن�س والد مالك �صانع ًا للنبال‪ ،‬لكن مالك ًا مل ي�أخذ عنه ال�صناعة‪،‬‬ ‫فقد اجته �إىل طلب العلم وهو حدث �صغري‪ ،‬و�شارك �أخاه الن�رض ب�أربعمائة‬ ‫الب ّز (احلرير)‪ ،‬وكان مالك يبيع معه ويتجر‪ ،‬ومن هذه‬ ‫دينار يف جتارة َ‬ ‫الدنانري الأربعمائة كان يعي�ش هو و�أ�رسته‪ ،‬ويعاين �شظف العي�ش‪� ،‬إىل‬ ‫�أن �أقبلت عليه الدنيا‪ ،‬بهدايا فقيه م�رص‪ :‬الليث بن �سعد‪ ،‬وهدايا اخللفاء‬ ‫من بني العبا�س‪.‬‬ ‫ففي كل عام‪ ،‬كان الليث بن �سعد‪ ،‬وكان من �أغنياء م�رص‪ ،‬ير�سل �إىل‬ ‫�صديقه الفقيه مالك بن �أن�س بحمل مائة بعري من خريات م�رص‪ .‬وبني‬ ‫‪81‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫احلني واحلني كان اخللفاء العبا�سيون ير�سلون �إليه بالهدايا‪ ،‬والعطاء‪،‬‬ ‫فقبلها من املن�صور‪ ،‬ومن املهدي‪ ،‬ومن الهادي‪ ،‬ومن الر�شيد‪ .‬ومل يكن‬ ‫مالك من املتزهدين يف �أموال اخللفاء‪ ،‬ومل يكن يعرتيه �شك يف �أخذها‪،‬‬ ‫كما كان ي�شك �أبو حنيفة‪ ،‬لكن مالك كان يتعفف �أن ي�أخذ ممن دونهم‬ ‫�إال من �صديق زاده اهلل من نعمته‪ .‬ولقد �سئل مالك عن حل الأخذ من‬ ‫ال�سالطني‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ �أما اخللفاء فال �شك (ال ب�أ�س به)‪ ،‬و�أما من دونهم ف�إن فيه �شيئ ًا‪.‬‬‫ولقد كان بع�ض النا�س ي�ستكرث من مالك قبوله لهدايا اخللفاء‪� ،‬أو‬ ‫ي�ستكرث بع�ض هداياهم �إليه‪ ،‬فقد قال له �أحدهم‪ ،‬وكان الر�شيد قد �أجازه‬ ‫بثالثة �آالف دينار‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪ .‬ثالثة �آالف دينار‪ ،‬ت�أخذها من �أمري امل�ؤمنني؟‬‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �إمام‪ ،‬و�أن�صف �أهل املروءة‪ .‬فلم �أر به ب�أ�س ًا‪.‬‬‫ويبدو �أن مالك ًا كان يقبل هدايا اخللفاء وعطاياهم على م�ض�ض‪،‬‬ ‫فهو يعرف �أنها و�سيلة اختبار من اخللفاء للعلماء‪ ،‬ويعرف �أن �أموالهم‬ ‫فيها �شيء يريب‪ ،‬ولذلك كان مالك ينهي غريه عن قبول هذه الهدايا‪،‬‬ ‫خ�شية �أال تكون له مثل نيته‪ ،‬يف دفع حاجته و�سد حاجة املحتاجني‪،‬‬ ‫و�إيواء الطالب الفقراء‪ ،‬ولذلك كان يقول ل�سائله عن هدايا اخللفاء‪:‬‬ ‫ ال ت�أخذها‪.‬‬‫فيقول له‪:‬‬ ‫ �أنت تقبلها‪.‬‬‫فيقول له مالك‪:‬‬ ‫ �أتريد �أن تبوء ب�إثمي و�إثمك؟‬‫و�أحيان ًا يقول ل�سواه‪:‬‬ ‫ �أحببت �أن تبكتني بذنوبي‪.‬‬‫‪82‬‬


‫و�إىل عهد �أبي جعفر املن�صور‪ ،‬كان ابن مالك يف ُع�سرْ َ ة �شديدة‪ ،‬حتى‬ ‫�أن ابنته كانت تبكي من اجلوع �أحيان ًا‪ ،‬فيدعو بحجر الرحى ويديره‪،‬‬ ‫لئال ي�سمع اجلريان �صوت بكائها و�شكواها من اجلوع‪ .‬ولقد حدث �أن‬ ‫مالك ًا وعظ �أبا جعفر املن�صور يف �رضورة تفقده لأحوال الرعية‪ ،‬وكان‬ ‫�أبو جعفر قد مر باملدينة يف طريقه �إىل مكة‪� ،‬أو يف طريق عودته منها‪،‬‬ ‫فقال له املن�صور م�ؤكداً �أنه تفقد �أحوال رعيته‪:‬‬ ‫ �أال ت�أمر �إذا بكت ابنتك من اجلوع بتحريك حجر الرحى‪ ،‬لئال ي�سمع‬‫اجلريان؟‬ ‫فده�ش مالك‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫ واهلل ما علم بهذا �أحد �إال اهلل‪.‬‬‫فقال له املن�صور‪:‬‬ ‫ فقد علمت حالك و�أنت يف بيتك‪ ،‬فكيف ال �أعلم �أحوال رعيتي‪.‬‬‫وهكذا انتقل من نق�ض �سقف بيته يوم ًا ليعي�ش‪ ،‬ومن حتريك الرحى‬ ‫لئال ي�سمع اجلريان �صوت بكاء ابنته اجلائعة‪ ،‬ومن �ضيق الرزق وتقتريه‪،‬‬ ‫�إىل ب�سطة العي�ش وتي�سريه‪ ،‬فانقطع عن االجتار يف القليل‪ ،‬والعمل يف‬ ‫املتجر لك�سب القوت‪ .‬وبدت عليه �آثار الراحة يف م�أكله‪ ،‬وملب�سه وم�سكنه‪،‬‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫ ما �أحب المرئ �أنعم اهلل عليه �إال �أن ُيرِي النا�س �أثر نعمة اهلل عليه‪،‬‬‫وخا�صة �أهل العلم‪.‬‬ ‫وكان يقول لطالبه‪:‬‬ ‫ �أحب للقارئ �أن يكون �أبي�ض الثياب‪.‬‬‫ومع ي�سار العي�ش �صار م�سكن مالك ي�رس العني ب�أثاثه ومنظره‪ ،‬وما‬ ‫فيه من �أ�سباب الراحة يف املجل�س وامل�ضجع‪ ،‬ففيه منارق م�صفوفة‪،‬‬ ‫ومطروحة يف نواحي البيت مينة وي�رسة‪ ،‬يجل�س عليه َمن ي�أتيه من‬ ‫قري�ش والأن�صار‪ ،‬ووجوه النا�س وطالب العلم‪.‬‬ ‫‪83‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫ومن ي�سار العي�ش‪ ،‬كانت ثياب مالك بي�ضاء‪ ،‬جديدة‪ .‬يظهر ما فيها‬ ‫من �صفاء‪� ،‬صفاء نف�سه و�صحو ذهنه‪ ،‬وكانت ثيابه املدنية واخلرا�سانية‬ ‫وامل�رصية غالية الثمن‪ .‬وكان مالك ُيعنى بنظافتها عنايته باختيار‬ ‫�أجودها و�أح�سنها و�أليقها‪ ،‬مهما يكن ثمنها‪ ،‬وي�ضمخها ب�أطيب العطر‪.‬‬ ‫ولقد حكى ابن �أخي مالك‪� ،‬أنه مل ير يف ثياب مالك حرباً قط‪.‬‬ ‫ومن ي�سار العي�ش �أن مالك ًا كان �شديد العناية مب�أكله‪ ،‬ال ي�أكل جاف‬ ‫العي�ش‪ ،‬وال يكتفي ب�أدنى معي�شة منه‪ ،‬يطلب جيده من غري جماوزة للحد‪،‬‬ ‫وينال من اللحم قدراً كبرياً كل يوم بدرهمني‪ .‬ولقد روى �أحد تالميذ‬ ‫مالك‪� ،‬أن مالك ًا لو مل يجد يف كل يوم درهمني ي�أتدم بهما حلم ًا �إال �أن‬ ‫يبيع يف ذلك بع�ض متاعه لفعل‪ .‬وكان ملالك يف طعامه ذوق رفيع‪،‬‬ ‫يح�سن تخري �أنواعه‪ ،‬ويعجبه من الفاكهة املوز‪ ،‬ويقول فيه‪:‬‬ ‫«ال �شيء �أ�شبه بثمر اجلنة منه‪ .‬وال تطلبه يف �شتاء وال �صيف �إال‬ ‫وجدته‪ .‬قال اهلل تعاىل‪�« :‬أكلها دائم‪ ،‬وظلها‪.» ..‬‬ ‫ويروي تاريخ مالك‪� ،‬أن مالك ًا كان �إذا �أ�صبح لب�س ثيابه وتعمم‪ ،‬فال‬ ‫يراه �أحد من �أهله وال �أ�صدقائه �إال متعمم ًا‪ ،‬الب�س ًا ثيابه‪ ،‬وما ر�آه �أحد قط‬ ‫�أكل و�رشب حيث يراه النا�س‪.‬‬

‫�آداب العامل‬ ‫يف امل�سجد النبوي ويف بيته‪ .‬كان در�س مالك يف �أول �أمره‪ ،‬ثم‬ ‫�صار در�سه يف بيته وحده‪ .‬ويف احلالتني كان مالك يلتزم يف در�سه‬ ‫الوقار وال�سكينة‪ ،‬والبعد عن لغو القول‪� ،‬ضارب ًا بذلك املثل لطالب العلم‬ ‫اجلال�سني من حوله‪ ،‬وكان يقول لطالبه‪:‬‬ ‫ من �آداب العامل �أال ي�ضحك �إال مبت�سم ًا‪.‬‬‫وكان يقول لهم‪:‬‬ ‫‪84‬‬


‫ حق على من طلب العلم ان يكون فيه وقار و�سكينة وخ�شية‪ ،‬و�أن‬‫يكون متبع ًا لآثار من م�ضى‪ ،‬وينبغي لأهل العلم �أن يخلوا �أنف�سهم من‬ ‫املزاح‪ ،‬وبخا�صة �إذا ذكروا العلم‪.‬‬ ‫ولقد �أخذ �أبو حنيفة نف�سه بهذا النهج �أكرث من خم�سني �سنة‪ ،‬فما ُعدت‬ ‫له يف در�سه �إال �ضحكة �أو �ضحكتان‪ ،‬ومل ي�أخذ �أحد عليه لغواً يف قول‪،‬‬ ‫�أو مزحة‪� ،‬أو تندراً بنادرة‪ ،‬ودون �أن يكون جافي ًا‪� ،‬أو خ�شن الطبع‪ .‬فمالك‬ ‫كان يعرف التب�سط مع طالب العلم و�أ�صدقائه‪ ،‬حني ال يكون يف حال‬ ‫در�س‪ .‬روى �أحد تالميذه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«كان مالك �إذا جل�س معنا‪ ،‬ك�أنه واحد منا‪ ،‬يتب�سط معنا يف احلديث‪،‬‬ ‫وهو �أ�شد توا�ضع ًا لنا‪ ،‬منا له‪ ،‬ف�إذا �أخذ يف حديث ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم تهيبنا كالمه‪ ،‬ك�أنه ما عرفنا وال عرفناه»‪ .‬وروى �أحد‬ ‫معا�رصي مالك‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«دخلت املدينة �سنة �أربع و�أربعني ومائة‪ ،‬ومالك �أ�سود الر�أ�س‬ ‫واللحية‪ ،‬والنا�س حوله �سكوت‪ ،‬ال يتكلم �أحد هيبة له»‪.‬‬ ‫وحني يكون الدر�س در�س حديث‪ ،‬ف�إن مالك ًا مل يكن يحدث‪� ،‬إال �إذا‬ ‫تو�ض�أ‪ ،‬وتهي�أ ولب�س �أح�سن ثيابه‪ ،‬ومل يكن يحدث �إال �إذا جل�س �إىل من�صة‪،‬‬ ‫ف�إذا كان الدر�س لغري احلديث‪ ،‬مل يكن يلزم نف�سه ب�شيء من هذا كله‪ ،‬ومل‬ ‫يجل�س �إىل من�صة يحدث من ورائها‪.‬‬ ‫وحني �آل در�س مالك �إىل بيته وحده‪ ،‬ب�سبب مر�ضه كان ي�أتيه النا�س‪،‬‬ ‫فيما يرويه تلميذه مطرف‪ ،‬فتخرج �إليهم جارية‪ ،‬فتقول لهم‪:‬‬ ‫ يقول لكم ال�شيخ‪� :‬أتريدون احلديث �أم امل�سائل؟‬‫ف�إن قالوا امل�سائل خرج �إليهم‪ ،‬ف�أفتاهم‪ ،‬و�إن قالوا احلديث‪ ،‬قالت‬ ‫لهم‪:‬‬ ‫ اجل�سوا‪.‬‬‫ويدخل مالك مغت�سله‪ ،‬فيغت�سل ويتطيب‪ ،‬ويلب�س ثياب ًا جديدة‪ ،‬وي�ضع‬ ‫‪85‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫على ر�أ�سه �ساجة (لبا�س ر�أ�س كلبا�س امللوك) ويتعمم‪ .‬وجاءت اجلارية‬ ‫فو�ضعت املن�صة‪ ،‬ويخرج مالك �إىل القائمني‪ ،‬وقد اغت�سل ولب�س‪ ،‬وتطيب‪،‬‬ ‫وعليه اخل�شوع‪ ،‬ويو�ضع عود‪ ،‬فال يزال يبخر‪ ،‬حتى يفرغ مالك من‬ ‫حتديثه بحديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫ومن �أق�صى امل�رشق �إىل �أق�صى املغرب‪ ،‬كان العلماء وطالب العلم‬ ‫يفدون �إىل مالك‪ ،‬ل�سماع احلديث‪ ،‬في�سمعهم �إياه‪ ،‬واال�ستفتاء يف امل�سائل‬ ‫التي تقع‪ ،‬فيعرفهم حكمها مبين ًا �أ�صلها من ال�رشع الإ�سالمي‪ ،‬يف الكتاب‬ ‫وال�سنة وفتاوى ال�صحابة‪.‬‬ ‫ولقد ازدحمت على بابه الوفود خا�صة يف موا�سم احلج‪ .‬وب�سبب‬ ‫هذا االزدحام‪� ،‬صار له يف تلك املوا�سم حاجب كامللوك‪ ،‬وحرا�س من‬ ‫تالميذه ومريديه (ي�شبهون ال�رشطة اخلا�صة اليوم)‪.‬‬ ‫وحني كان در�س مالك بامل�سجد‪ ،‬كان بو�سع كل من �شاء �أن يجل�س‬ ‫وي�ستمع �إليه‪ ،‬ولي�س لأحد �أن يبعده عن املجل�س �أو امل�سجد‪� ،‬إال �إذا خالف‬ ‫�أدب اال�ستماع‪ .‬ولكن حني �صار در�س مالك يف بيته‪� ،‬صار مالك يخت�ص‬ ‫بدر�سه �أوال �أ�صحابه‪ ،‬ثم ي�أذن بعدهم لعامة النا�س‪ ،‬كي يحدث كل طائفة‬ ‫مبا تطيق من العلم‪.‬‬ ‫ويف مو�سم احلج كان مالك ي�أذن للعامة من �أهل املدينة‪ ،‬ثم لأهل‬ ‫احلجاز‪ ،‬ثم لأهل ال�شام‪ ،‬ثم لأهل العراق‪ ،‬ثم ملن �سواهم من عامة‬ ‫النا�س‪.‬‬ ‫ويف م�سائل الفقه مل يكن مالك يجيب �إال عما يقع‪ ،‬وال يفر�ض م�سائل‬ ‫ملا ال يقع‪ ،‬وال يجيب �سائال عن �س�ؤال يف م�س�ألة مل تقع‪ ،‬راف�ض ًا الفر�ض‬ ‫والتقدير‪ ،‬متوقف ًا عند حد الواقع الذي يجب على املفتي �أن يتوقف عنده‪،‬‬ ‫وهو �أمر مل يكن يلتزم به الإمام �أبو حنيفة النعمان‪ ،‬لكي يدرب طالبه‬ ‫على تطبيق ال�رشيعة التي تعلموها‪.‬‬ ‫وكانت وجهة نظر مالك �أن الإفتاء دين من الدين‪ .‬وم�سايرة �شهوة‬ ‫‪86‬‬


‫العقل يف الفر�ض والتقدير قد تدفع امل�ساير لها �إىل خمالفة الآثار من‬ ‫غري بينة‪ ،‬والإفتاء بغري علم وال �سلطان من كتاب �أو �سنة‪.‬‬ ‫ولقد كان مالك ال يبتدئ �إجابته �إال بقوله‪« :‬ما �شاء اهلل وال قوة �إال‬ ‫باهلل»‪ .‬وكان يكرث من قوله‪« :‬ال �أدري» حني ال يدري وجه ًا للفتوى‪.‬‬ ‫وكان يتبع كثرياً من فتاواه حني يفتي بقوله‪�« :‬إن نظن �إال ظ ًّنا وما نحن‬ ‫مب�ستيقنني»‪.‬‬ ‫ولقد وفد رجل من املغرب على م�سرية �ستة �أ�شهر‪ ،‬لي�س�أل مالك ًا �س�ؤاال‪،‬‬ ‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �أخرب الذي �أر�سلك �أن ال علم يل بها‪.‬‬‫فقال له الرجل املغربي‪:‬‬ ‫ ومن يعلمها؟‬‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ الذي ع ّلمه اهلل‪ .‬ما ابتلينا بهذه امل�س�ألة يف بلدنا‪ ،‬وما �سمعنا �أحداً‬‫من �أ�شياخنا تكلم فيها‪ ..‬ولكن‪ ..‬تعود �إلينا غداً‪.‬‬ ‫ويف الغد جاء الرجل املغربي �إىل مالك‪ ،‬وقد حمل متاعه على بغلة‬ ‫يقودها‪ ،‬فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �س�ألتني‪ .‬وما �أدري ما هي‪.‬‬‫فقال له الرجل املغربي‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪ .‬تركت خلفي من يقول‪ :‬لي�س على وجه الأر�ض �أعلم‬‫منك‪.‬‬ ‫فقال له مالك‪ ،‬غري م�ستوح�ش‪:‬‬ ‫ �إين ال �أح�سن‪ .‬ال �أدري‪.‬‬‫ويف احلديث كان مالك يحث �أ�صحابه على �أن يحفظوا ويكتبوا ما‬ ‫حفظوه‪ ،‬فقد ين�سى العقل‪ ،‬وت�ضعف الذاكرة‪ ،‬لكنه يف الفتاوى مل يكن‬ ‫يحر�ض �أ�صحابه على كتابة فتاواه‪ ،‬ومل يكن مينعهم منها‪ ،‬بل قد‬ ‫‪87‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫ي�ستنكر �أحيان ًا �أن يكتبوا عنه كل �شيء‪ ،‬قائال ملن يكتب‪:‬‬ ‫ ال تكتبها‪ .‬ف�إين ال �أدري �أ�أثبت عليها غداً‪� ،‬أم ال‪.‬‬‫وهو نف�سه ما كان يقوله �أبو حنيفة لتالميذه‪ ،‬حني تكون الفتوى‬ ‫ظ ًّنا‪� ،‬أو ا�ستح�سان ًا لر�أي‪ ،‬ومل تكن قاطعة بن�ص من كتاب �أو �سنة �أو‬ ‫�إجماع لل�صحابة‪.‬‬ ‫الغاية ال تربر الو�سيلة‬ ‫يف طفولته‪� ،‬أو بني الطفولة وال�صبا‪� ،‬سمع مالك �أخبار اخلليفة العادل‬ ‫عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وكان عمره نحواً من ثماين �سنني‪ .‬ولقد ظل مالك‬ ‫طول حياته يرى يف عمر بن عبد العزيز �صورة عظيمة من التقوى‬ ‫والزهادة واحلزم والقوة‪� ،‬أ�شبه بحكم عمر بن اخلطاب‪ ،‬وكان حكمه‬ ‫ومي�ض ًا كال�شهاب فلم تزد خالفته عن ثالث �سنوات و�سبعة �أ�شهر‪ .‬ولقد‬ ‫روى عبد اهلل بن احلكم يف تاريخه‪ ،‬الكثري يف كتابه عن عمر بن عبد‬ ‫العزيز‪ ،‬نقال عن الإمام مالك بن �أن�س‪.‬‬ ‫ولقد عا�ش مالك لريى من بعد عمر خلفاء قهر‪ ،‬و�أهواء‪ ،‬و�شهوات‪ ،‬مل‬ ‫ت� ِأت ال�شورى بهم �إىل احلكم من الأمويني والعبا�سيني‪ ،‬ور�أى مبقابلهم‬ ‫خروج اخلوارج عليهم‪ ،‬وانتقا�ض العلويني �ضدهم‪ ،‬وبني طريف ال�رصاع‬ ‫تنزل امل�ضار بالأمة‪ ،‬من غري حق يقام‪ ،‬وال باطل يدفع‪.‬‬ ‫وال �شك �أن مالك ًا قد رويت له كيف ا�ستبيحت املدينة حرم ر�سول اهلل‪،‬‬ ‫وهتكت حرمات املحارم‪ ،‬و�أ�رس الأن�صار‪ ،‬يف موقعة احلرة‪ ،‬يف عهد يزيد‬ ‫بن معاوية بن �أبي �سفيان‪ ،‬وكيف رميت الكعبة �آنذاك باملنجنيق‪ .‬ولذلك‬ ‫مل يكن مالك يرى يف اخلروج على احلكام‪ ،‬و�إن كانوا ظاملني‪� ،‬إال ما‬ ‫ي�ؤدي �إىل مزيد من الفنت‪ ،‬و�إباحة الدماء‪ ،‬فيكون القاعد خرياً من القائم‪،‬‬ ‫والقائم خرياً من ال�سائر‪ ،‬كما روى عن �أبي مو�سى الأ�شعري‪.‬‬ ‫ويف �سنة ‪ 130‬هجرية‪ ،‬وقد بلغ مالك من العمر ثماين وثالثني‬ ‫�سنة اقتحم رجال �أبو حمزة اخلارجي املدينة‪ ،‬وقتلوا املدافعني عنها‪،‬‬ ‫‪88‬‬


‫وكانت املقتلة يف قري�ش‪ ،‬وكرثت النائحات على رجالهن �آباء و�أبناء‬ ‫و�إخوة‪ .‬وجاء جند مروان ف�أخرجوا اخلوارج من املدينة‪ .‬واملدينة يف‬ ‫هذا كله مكان لعبث اخلوارج‪ ،‬ثم لعبث اجلند الأمويني‪ .‬ور�أى مالك‪� ،‬أن‬ ‫غايات اخلوارج لإقامة العدل ال تربر ذرائعهم وو�سائلهم و�إرهابهم‬ ‫للنا�س‪ .‬فطرائقهم �إثم‪ ،‬ونتائجهم ال خري فيها للأمة‪ .‬ولذلك مل يكن مالك‬ ‫را�ضي ًا عن حكم اخلالفة‪ ،‬وال را�ضي ًا عن املتمردين عليها‪ ،‬من اخلوارج‬ ‫والعلويني‪ ،‬فلم يدع �إىل اخللفاء‪ ،‬ومل ي�ؤيد والتهم‪ ،‬ومل ير‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬ ‫اخلروج على طاعتهم‪ ،‬لأنه بال ثمرة‪ .‬ولذلك �أجاب عندما �سئل عن قتال‬ ‫اخلارجني على خليفة عبا�سي‪:‬‬ ‫ �أيجوز قتالهم؟‬‫فقال مالك‪:‬‬ ‫ �إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز‪.‬‬‫قال ال�سائل‪:‬‬ ‫ ف�إن مل يكن مثله‪.‬‬‫فقال مالك‪:‬‬ ‫ دعهم‪ .‬ينتقم اهلل من ظامل بظامل‪ ،‬ثم ينتقم من كليهما‪.‬‬‫ولقد �سئل ح�سن الب�رصي من قبل‪ ،‬من رجل من �أهل ال�شام‪ ،‬عن‬ ‫اخلارجني على اخلليفة الأموي عبد امللك بن مروان‪ ،‬فقال له احل�سن‬ ‫الب�رصي‪:‬‬ ‫ ال تكن مع ه�ؤالء وال مع ه�ؤالء‪.‬‬‫فقال له الرجل‪:‬‬ ‫ وال مع �أمري امل�ؤمنني يا �أبا �سعيد‪.‬‬‫فغ�ضب احل�سن الب�رصي‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ نعم‪ .‬وال مع �أمري امل�ؤمنني‪.‬‬‫ومل يكن مالك ميا ًال بالقلب وال بالقول مع العلويني‪ ،‬بل �إنه كان ال‬ ‫‪89‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫يعد من اخللفاء بعد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �سوى �أبي بكر وعمر‬ ‫فعلي عنده مثل �سائر ال�صحابة‬ ‫وعثمان‪ ،‬ثم يتوقف دون �أن يذكر ًّ‬ ‫عليا‪ّ ،‬‬ ‫ال ميتاز عنهم ب�شيء‪ ،‬خمالف ًا بذلك اثنني من الأئمة‪ ،‬هما‪� :‬أبو حنيفة‪،‬‬ ‫وال�شافعي‪ .‬كان يتوقف بعد عثمان قائال‪:‬‬ ‫فعلي كان يطلب اخلالفة وي�سعى �إليها‪ ،‬و�أبو بكر‬ ‫«هنا ي�ستوى النا�س‪ّ .‬‬ ‫وعمر وعثمان مل يطلبها �أحد منهم‪ ،‬ومل ي�سع �إليها‪ .‬ولي�س من طلب الأمر‬ ‫عندي كمن مل يطلبه‪ .‬والطلب يدل على الرغبة‪ ،‬والرغبة تثري االتهام»‪.‬‬ ‫وحدث �أن اخلليفة هارون الر�شيد وجه لوم ًا �إىل الإمام مالك‪ ،‬لأنه‬ ‫عليا وابن عبا�س يف كتابه «املوط�أ» كراويني من رواة احلديث‪،‬‬ ‫يذكر ًّ‬ ‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ مل يكونا ببلدي (�أي املدينة) ومل �ألق رجالهما (�أي الرواة عنهما)‪.‬‬‫عليا‪ ،‬وابن عبا�س‪ ،‬لكنه‬ ‫واحلقيقة �أن مالك ًا ذكر‪ ،‬يف كتابه «املوط�أ» ًّ‬ ‫علي كانوا بالعراق‪ ،‬والرواة عن ابن‬ ‫مل يذكرهما كثرياً‪ ،‬فالرواة عن ّ‬ ‫عبا�س كانوا مبكة‪ ،‬ولذلك مل يلق مالك الرواة عنهما‪.‬‬

‫حمنة �إمام‬ ‫يف الع�رص العبا�سي‪ ،‬ويف عهد �أبي جعفر املن�صور‪ ،‬نزلت مبالك‬ ‫حمنة‪ .‬عام ‪ 146‬هجرية‪� ،‬رضب فيها بال�سياط‪ ،‬ومدت يداه حتى انخلعت‬ ‫كتفاه‪ ،‬ففي هذه ال�سنة حدث خروج حممد بن عبد اهلل (النف�س الزكية)‪،‬‬ ‫على اخلالفة العبا�سية‪ ،‬وت�صادف �أن مالك ًا كان يحدث النا�س �آنذاك‬ ‫بحديث «لي�س مل�ستكره طالق»‪ .‬ووجد النا�س باملدينة يف هذا احلديث‪،‬‬ ‫وكانوا �أن�صاراً للنف�س الزكية‪ ،‬ما يدل على �أنه‪ ،‬باملثل‪ ،‬لي�س مل�ستكره‬ ‫بيعة‪ ،‬ولذلك فال بيعة للمن�صور يف �أعناقهم‪ .‬ووجد الكائدون ملالك‪،‬‬ ‫واحلا�سدون له‪ ،‬والغيارى منه‪ ،‬فر�صة للكيد له عند وايل املدينة من قبل‬ ‫‪90‬‬


‫املن�صور‪« :‬جعفر بن �سليمان»‪ ،‬قائلني له‪:‬‬ ‫«�إن مالك ًا ال يرى �أيمْ ان بيعتكم هذه ب�شيء‪ ،‬فهو ي�أخذ يف البيعة‬ ‫بحديث روي عن «ثابت بن الأحنف» يف طالق املكره‪� ،‬أنه ال يجوز»‪.‬‬ ‫ومل يكن احلديث هو ال�سبب يف حمنة مالك‪ ،‬و�إمنا التحديث به يف‬ ‫وقت الفنت‪ ،‬وا�ستخدام الثائرين لذلك احلديث‪ .‬ومل يكف مال ًَكا للدفاع عن‬ ‫نف�سه �أنه كان يلزم بيته يف وقت الفتنة‪ ،‬خا�صة و�أن مقتل النف�س الزكية‬ ‫حدث عام ‪ 145‬هجرية‪ ،‬وحمنة مالك وقعت عام ‪ 146‬هجرية‪.‬‬ ‫و�إثر املحنة التي نزلت مبالك‪� ،‬سخط �أهل املدينة على بني العبا�س‬ ‫ووالتهم‪ ،‬فمالك كان مظلوم ًا‪ ،‬ومالك مل يتجاوز حد الإفتاء‪ ،‬يف مو�ضوع‬ ‫طالق املكره‪.‬‬ ‫ولزم مالك بيته �إىل �أن �شفي من جراحه‪ ،‬وا�ستمر يف در�سه ال يحر�ض‬ ‫على �أحد‪ ،‬وال ي�شكو لأحد ما نزل به‪ ،‬فزاد موقفه من نقمة �أهل املدينة‬ ‫على احلاكمني‪.‬‬ ‫و�أدرك �أبو جعفر من عيونه موقف النا�س‪ ،‬فانتظر الفر�صة حني خرج‬ ‫حاجا �إىل مكة‪ ،‬ونزل يف بيت الإمارة باملدينة‪ ،‬و�أر�سل �إىل مالك يدعوه‬ ‫ًّ‬ ‫�إليه‪ ،‬ليعتذر له‪ .‬ويروى مالك ق�صة هذا اللقاء‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫«ملا دخلت على �أبي جعفر‪ ..‬قال يل‪:‬‬ ‫ واهلل الذي ال �إله �إال هو‪ ،‬ما �أمرت بالذي كان‪ ،‬وال علمته‪� .‬إنه ال يزال‬‫كنت بني �أظهرهم‪ .‬و�إين �إخالك �أمان ًا لهم من عذاب‪.‬‬ ‫�أهل احلرمني بخري‪ ،‬ما َ‬ ‫ولقد رفع اهلل بك عنهم �سطوة عظيمة‪ ،‬ف�إنهم �أ�رسع النا�س �إىل الفنت‪ ،‬وقد‬ ‫�أمرت بعدو اهلل �أن ي�ؤتى به (الوايل) من املدينة �إىل العراق على قتب‬ ‫(حممل �صغري) فوق �سنام البعري‪ .‬و�أمرت ب�ضيق حمب�سه‪ ،‬واال�ستبالغ يف‬ ‫امتهانه‪ .‬وال بد �أن �أنزل به من العقوبة �أ�ضعاف ما نالك منه‪.‬‬ ‫فقلت لأبي جعفر‪:‬‬ ‫ عافى اهلل �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬و�أكرم مثواه‪ .‬قد عفوت عنه لقرابته‬‫‪91‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وقرابته منك‪.‬‬ ‫فقال يل �أبو جعفر‪:‬‬ ‫ فعفا اهلل عنك وو�صلك‪.‬‬‫ثم قال �أبو جعفر يل‪:‬‬ ‫ �إن رابك ريب من عامل املدينة‪� ،‬أو عامل مكة‪� ،‬أو �أحد من عمال‬‫يل بذلك‪،‬‬ ‫احلجاز‪ ،‬يف ذاتك‪� ،‬أو ذات غريك‪� ،‬أو �سوء �أو �رش بالرعية‪ ،‬فاكتب �إ ّ‬ ‫�أنزل بهم ما ي�ستحقون‪.‬‬

‫العامل واحلكام‬ ‫مع �أن مالك ًا مل يكن يرى �أن حكم اخللفاء الأمويني والعبا�سيني‪،‬‬ ‫ير َق ّط جواز‬ ‫الذين عا�رصهم وعا�رصوه‪ ،‬مل يكن هو حكم الإ�سالم‪ ،‬ف�إنه مل َ‬ ‫االنتقا�ض عليهم‪ ،‬لي�أ�سه من الإ�صالح عن طريق التمرد عليهم‪ ،‬ولقد �سمع‬ ‫بنهايات هذا التمرد يف زمانه‪ ،‬ولذلك مل يقطع مالك �صلته باخللفاء‬ ‫والأمراء‪ ،‬فمن الواجب عليه �أن ير�شدهم بالر�أي‪ ،‬وي�صلحهم باملوعظة‬ ‫والو�صايا‪ ،‬بغية التقليل من �رشهم‪ ،‬و�إغرائهم باخلري ليكونوا مثل ال�سلف‬ ‫ال�صالح‪ .‬ولذلك كان يدخل على الأمراء واخللفاء لهذه الغاية‪ .‬وكلما كرب‬ ‫يف ال�سن‪ ،‬وكرب يف املكانة بني النا�س‪ ،‬زادت رغبته يف املوعظة لأويل‬ ‫الأمر‪ ،‬بل �إنه كان يحث العلماء على �أن ي�صنعوا معهم مثل �صنيعه‪ ،‬بقول‬ ‫احلق ما ا�ستطاعوا �إىل ذلك �سبيال‪ .‬فكان يقول للعلماء‪:‬‬ ‫«حق على كل م�سلم‪� ،‬أو رجل جعل اهلل يف �صدره �شيئ ًا من العلم والفقه‪،‬‬ ‫�أن يدخل �إىل ذي �سلطان‪ ،‬ي�أمره باخلري‪ ،‬وينهاه عن ال�رش‪ ،‬حتى يتبني‬ ‫دخول العامل من غريه‪ .‬ف�إذا كان‪ ،‬فهو الف�ضل الذي ال بعده ف�ضل»‪.‬‬ ‫وبع�ض تالميذ مالك‪ ،‬كانوا يقولون له عاتبني‪:‬‬ ‫ النا�س ي�ستكرثون �أنك ت�أتي الأمراء‪.‬‬‫‪92‬‬


‫فكان مالك يقول لهم‪:‬‬ ‫ �إن ذلك العناء �أحمله على نف�سي‪ ،‬فرمبا ا�ست�شاروا من ال ينبغي �أن‬‫ي�ست�شريوه‪ .‬ولوال �أين �آتيهم‪ ،‬ما ر�أينا للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف هذه‬ ‫املدينة �سنة معمو ًال بها‪.‬‬ ‫ون�صائح مالك وو�صاياه‪ ،‬ت�ؤيد ما كان يقوله‪ ،‬وما ي�سعى �إليه‪.‬‬ ‫قال مالك لوالٍ على املدينة‪:‬‬ ‫ افتقد �أمور الرعية‪ ،‬ف�إنك م�س�ؤول عنهم‪ ،‬ف�إن عمر بن اخلطاب قال‪:‬‬‫والذي نف�سي بيده لو عرثت دابة ب�أر�ض العراق‪ ،‬لظننت �أن اهلل ي�س�ألني‬ ‫عنها يوم القيامة»‪.‬‬ ‫ودخل مالك مرة على اخلليفة املهدي‪ ،‬وهو باملدينة‪ ،‬فقال له‬ ‫املهدي‪:‬‬ ‫ �أو�صني‪.‬‬‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �أو�صيك بتقوى اهلل وحده‪ ،‬والعطف على �أهل بلد ر�سول اهلل �صلى اهلل‬‫عليه و�سلم وجريانه‪ ،‬ف�إنه بلغنا �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قال‪:‬‬ ‫«املدينة مهاجري‪ ،‬وبها قربي‪ ،‬وبها مبعثي‪ ،‬و�أهلها جرياين‪ ،‬وحقيق‬ ‫على �أمتي حفظي يف جرياين‪ ،‬فمن حفظهم كنت له �شهيداً و�شفيع ًا يوم‬ ‫القيامة»‪.‬‬ ‫وعلى �إثر هذه الو�صية �أخرج املهدي عطاء كثرياً‪ ،‬وطاف بنف�سه‬ ‫على دور املدينة داراً داراً‪ .‬وحني �أراد الرحيل‪ ،‬دخل عليه مالك‪ ،‬فقال‬ ‫له املهدي‪:‬‬ ‫�سلمت ما غبت‬ ‫ �إين حمتفظ بو�صيتك التي حدثتنى بها‪ ،‬ولئن‬‫ُ‬ ‫عنهم‪.‬‬ ‫وكانت لهذا اللقاء بداية‪ ،‬فحني قدم املهدي املدينة‪ ،‬دخل النا�س‬ ‫لي�سلموا عليه‪ ،‬و�أخذوا جمال�سهم‪ ،‬وتهام�س النا�س ب�أن مالك ًا حني‬ ‫‪93‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫يقبل �سيجل�س �آخر النا�س‪ ،‬وحني اقرتب مالك ونظر زحام النا�س‪ ،‬قيل‬ ‫للمهدي‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬هذا �شيخك مالك‪ ،‬ف�أين يجل�س؟‬‫ف�صاح املهدي مبالك‪ ،‬من فوق ر�ؤو�س النا�س‪:‬‬ ‫ عندي يا �أبا عبد اهلل‪.‬‬‫فتخطى مالك النا�س حتى و�صل �إىل املهدي‪ ،‬فرفع املهدي ركبته‬ ‫اليمنى‪ ،‬وكان مرتبع ًا يف جل�سته‪ ،‬و�أجل�سه بجواره‪.‬‬ ‫و�أو�صى مالك مرة هارون الر�شيد يف لقاء معه باملدينة‪ ،‬قال فيما‬ ‫قال له‪:‬‬ ‫«لقد بلغنى �أن عمر بن اخلطاب كان يف ف�ضله‪ ،‬وتقدمه‪ ،‬ينفخ للنا�س‬ ‫النار حتت القدر يف عام الرمادة (عام اجلوع)‪ ،‬حتى يخرج الدخان من‬ ‫حليته‪ .‬وقد ر�ضي النا�س منكم بدون هذا»‪.‬‬ ‫وحني يلتقي مالك باخللفاء باملدينة‪� ،‬أو مبكة‪ ،‬مل يكن جلو�سه �إال‬ ‫بجوارهم‪ ،‬ك�شيخ �إمام لأهل احلجاز‪ ،‬ولكنه يف امل�سجد‪،‬عند ال�صالة‪ ،‬كان‬ ‫يجل�س حيث ينتهي به املجل�س‪.‬‬ ‫ومل يقت�رص مالك يف ن�صائحه للخلفاء على هذه اللقاءات‪ ،‬فقد كان‬ ‫يكتب �إليهم يذكرهم بواجبات احلكام يف الإ�سالم للمحكومني‪ ،‬وبحقوق‬ ‫املحكومني على احلاكمني‪� ،‬ضارب ًا الأمثال ومقيم ًا الرباهني‪ ،‬من‬ ‫�سنة الر�سول‪ ،‬وحديث الر�سول‪ ،‬و�سلوك اخللفاء الرا�شدين كحاكمني مع‬ ‫املحكومني‪ ،‬بالرفق بالرعية‪.‬‬ ‫ومل يبغ�ض مالك �شيئ ًا بغ�ضه للمدح الكاذب للخلفاء والوالة‪،‬‬ ‫فاملدح الكاذب يزين لهم �أعمالهم‪ ،‬في�صري ال�رش خرياً‪ ،‬والقبيح جميال‪،‬‬ ‫وينخدعون عن �أنف�سهم غروراً وكرباً‪ ،‬ووقوع ًا يف ال�سيئات‪ ،‬فحولهم‬ ‫بطانة من املداحني الكاذبني‪ ،‬واملربرين اخلادعني‪.‬‬ ‫روي �أن والي ًا للمدينة كان مرة عند الإمام مالك يف جمل�سه‪ ،‬فراح‬ ‫‪94‬‬


‫بع�ض احلا�رضين يثنون على هذا الوايل‪ ،‬فغ�ضب مالك‪ ،‬وقال للوايل‬ ‫حمذراً‪:‬‬ ‫ �إياك �أن يغرك ه�ؤالء بثنائهم عليك‪ ،‬ف�إن من �أثنى عليك‪ ،‬وقال فيك‬‫من اخلري ما لي�س فيك‪� ،‬أو�شك �أن يقول فيك من ال�رش ما لي�س فيك‪ .‬فاتق‬ ‫اهلل يف التزكية منك لنف�سك‪ .‬وقد بلغني �أن رجال ُم ِدح عند ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫«قطعتم ظهره‪�( ،‬أو عنقه)‪ ،‬لو �سمعها ما �أفلح»‪ .‬وقال �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪« :‬احثوا الرتاب يف وجوه املداحني»‪.‬‬

‫بني الواقع واملثال‬ ‫وكان مالك ي�ستنكر �سب ال�صحابة‪ ،‬ويعترب ذلك جرم ًا كبرياً‪ .‬ويرى‬ ‫�أنه �إن �ساد يف بلدة �سب �أ�صحاب من �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم وجب اخلروج منها‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫«ال ينبغي الإقامة يف �أر�ض يكون العمل فيها بغري احلق‪ ،‬وال�سب‬ ‫لل�سلف»‪.‬‬ ‫ومع نهي مالك عن �سب ال�صحابة‪ ،‬كان ميتنع عن املفا�ضلة بينهم‬ ‫خ�شية �أن ت�ؤدي املفا�ضلة �إىل املنازعة‪ ،‬وانتقا�ص �أقدار بع�ضهم‪ ،‬ومل‬ ‫يقل بف�ضل �أحد من ال�صحابة �سوى ثالثة هم‪� :‬أبو بكر وعمر وعثمان‪،‬‬ ‫لأنهم اختريوا للخالفة ب�إجماع ال�صحابة‪ ،‬فتف�ضيلهم عليهم ب�سبب هذا‬ ‫الإجماع‪.‬‬ ‫ومن امل�ؤكد �أن مالك ًا مل يكن يرى �أن تقت�رص اخلالفة على البيت‬ ‫الها�شمي‪� ،‬أو البيت العلوي‪ ،‬ويراها للعدل القادر الذي تختاره جماعة‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬ولي�س هناك دليل يدل على �أن مالك ًا كان يرى اخلالفة يف‬ ‫قري�ش وحدها‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫ومالك كان يقر نظام اال�ستخالف‪� ،‬إذا مل يكن الباعث عليه هو الهوى‪،‬‬ ‫ويرى �أن اخلالفة ال تنعقد لأحد �إال مببايعة حرة من امل�سلمني‪ ،‬و�أن‬ ‫مبايعة �أهل احلرمني مكة واملدينة كافية النعقاد البيعة الكاملة‪ ،‬التي‬ ‫ي�صبح بها اخلليفة �إمام ًا للم�سلمني‪ .‬وال يرى �أن بيعة من �سواهم تلزم‬ ‫امل�سلمني‪� ،‬إذا مل يدخل فيها بيعة �أهل مكة واملدينة‪ ،‬وهو ر�أي �أ�صبح‬ ‫حمل نظر الآن‪.‬‬ ‫وكان مالك يرى �أنه �إذا تغلب متغلب على امل�سلمني‪ ،‬ومل يكن قد توىل‬ ‫بر�ضا‪ ،‬ولكنه عدل‪ ،‬و�سكن النا�س �إىل حكمه‪ ،‬جتب طاعته‪ ،‬لأنه ال مطلب‬ ‫منه �سوى العدل‪ ،‬وال مطلب له �سوى ر�ضا النا�س‪ .‬ويف اخلروج عليه ال‬ ‫يكون ثمة عدل‪ ،‬وال دفع لظلم‪ .‬ويرى �أي�ض ًا �أنه �إذا كان غري عادل فال‬ ‫يجوز اخلروج عليه‪ ،‬ومن يخرج عليه فهو ظامل مثله‪ ،‬وينتقم اهلل من‬ ‫ظامل بظامل‪ .‬وال يجوز ن�رصة �أحدهما‪.‬‬ ‫فنظرة مالك ال�سيا�سية �إذن‪ ،‬كانت‪ ،‬كما يقول ال�شيخ �أبو زهرة‪ ،‬نظرة‬ ‫جتمع بني املثل الأعلى للحكم‪ ،‬واعتبار الواقع الذي ت�ستقيم به �أمور‬ ‫النا�س‪.‬‬

‫ت�ضل العقول‬ ‫هنا ّ‬ ‫ولأن مالك ًا كان �إمام �أهل ال�سنة‪ ،‬كان يبغ�ض �أقوال الفرق الإ�سالمية‬ ‫يف العقائد‪ .‬فقد �أثارت �أموراً مل يرثها ال�سلف ال�صالح‪ ،‬ولي�س من م�صلحة‬ ‫امل�سلمني �إثارتها‪ ،‬ولأن هذه الأقوال تقوم على النظر العقلي املجرد‪ ،‬يف‬ ‫�أمور هي من �أمور الغيب‪ ،‬والطريق �إليها هو طريق اجلدل واملراء‪ .‬ومعها‬ ‫وبها ي�سري العقل يف متاهة‪.‬‬ ‫وزمن مالك جرى فيه كالم‪ :‬عن �أن الإميان يزيد وينق�ص‪ ،‬وعن �أفعال‬ ‫الإن�سان هل هي اختيارية �أم �إجبارية‪ ،‬وعن مرتكب الكبرية‪ ،‬وعن ر�ؤية‬ ‫‪96‬‬


‫اهلل تعاىل يوم القيامة‪ ،‬وعن خلق القر�آن‪ .‬وكان ر�أي مالك يف كل هذه‬ ‫الق�ضايا العقلية املثارة‪ ،‬هي �أنه ينبغي الوقوف فيها عند ما وقف عنده‬ ‫ال�سلف‪ ،‬بفهم الن�ص وعدم جتاوزه‪� ،‬أو �إثارة املنازعات العقلية حوله‪،‬‬ ‫فال جدوى من مثل هذا اجلدل‪ ،‬وال ثمرة‪ ،‬وال و�صول �إىل �شاطئ حقيقة‪.‬‬ ‫�أول و�أقدم كتاب‬ ‫ويف زمن مالك مل يكن علم احلديث قد متيز متيزاً كامال عن الفقه‪،‬‬ ‫فقد كانا خمتلطني‪ ،‬فالفقيه يروي الأحاديث‪ ،‬فيكون بها حمدث ًا وفقيه ًا‬ ‫يف �آن واحد‪ ،‬لكن بع�ض الفقهاء كان يغلب عليه الإفتاء‪ ،‬با�ستنباط‬ ‫الأحكام من القر�آن وال�سنة‪ ،‬وبع�ضهم كانت تغلب عليه الرواية ليعرف‬ ‫�صحيحها من �ضعيفها‪ ،‬و�سندها من الرجال‪ .‬ومالك قد جمع بني االثنني‬ ‫يف كتابه «املوط�أ» فهو كتاب حديث‪ ،‬وكتاب فقه‪ ،‬ي�شتمل على ر�أيه‬ ‫فقهيا‪ ،‬جرى على مثله‪ ،‬من بعده‪،‬‬ ‫يف امل�سائل الفقهية‪ ،‬ومرتب ترتيب ًا‬ ‫ًّ‬ ‫جامعو الأحاديث وال�سنن‪ ،‬ولقد نقل �أ�صحابه �آراءه الفقهية يف امل�سائل‬ ‫املختلفة‪ ،‬وكانوا من بالد احلجاز‪ ،‬وم�رص‪ ،‬والأندل�س‪ ،‬و�شمال �أفريقية‪.‬‬ ‫ويف ع�رص ال�صحابة‪ ،‬كان املجتهدون ميتنعون عن تدوين فتاواهم‬ ‫�أو اجتهادهم‪ ،‬بل ميتنعون عن تدوين ال�سنة نف�سها ليبقى املدون من‬ ‫�أ�صول الدين هو القر�آن وحده‪ ،‬ثم ا�ضطر العلماء يف ع�رص التابعني‬ ‫لل�صحابة لتدوين ال�سنة‪ ،‬والفتاوى الفقهية‪ .‬فجمع فقهاء احلجاز فتاوى‬ ‫عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وعائ�شة‪ ،‬وابن عبا�س‪ ،‬وبنوا عليها‪ .‬وجمع فقهاء العراق‬ ‫وعلي‪ ،‬و�شرُ يح‪ ،‬وبنوا عليها‪ .‬وكان ما جمعوه‬ ‫فتاوى عبد اهلل بن م�سعود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�شبيه ًا باملذكرات يرجع �إليها املتفقه املجتهد‪ ،‬وال يعلنها كتاب ًا‪ .‬يكتبها‬ ‫فقط خ�شية الن�سيان لها‪.‬‬ ‫و�أول م�ؤلف معروف و�أقدمه ُجمع ككتاب‪ ،‬هو «موط�أ» مالك‪ ،‬يف‬ ‫احلديث والفقه‪ ،‬وتن�سب �إليه كتب �أخرى‪ ،‬من تدوين �أ�صحابه عنه‪ ،‬منها‬ ‫تف�سري م�سند للقر�آن الكرمي‪ ،‬ومنها «جمال�سات مع مالك»‪ ،‬ومنها ر�سالة‬ ‫‪97‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫يف القدر والرد على القدرية‪ ،‬ومنها كتاب يف النجوم وح�ساب دوران‬ ‫الزمان ومنازل القمر‪ ،‬ومنها ر�سالة يف الأق�ضية يف ع�رشة �أجزاء‪ ،‬ومنها‬ ‫ر�سالة يف الفتوى‪ ،‬ومنها كتاب ال�رسور‪ ،‬ومنها تف�سري لغريب القر�آن‪.‬‬ ‫وكلها كتب رواها واحد عن مالك‪� ،‬أو ا�شرتك يف كتابتها اثنان منهم‪.‬‬ ‫ومل تنت�رش هذه الكتب املن�سوبة �إليه بني النا�س‪ ،‬ولذلك فن�سبتها �إليه غري‬ ‫راجحة‪.‬‬ ‫لكن ملالك ر�سالة م�شهورة ومطبوعة كتبها �إىل الر�شيد‪ ،‬ولها �أكرث من‬ ‫�سند يرجح ن�سبتها �إليه‪ ،‬ويقربها من م�ستوى اليقني‪ ،‬من حيث ال�سند‪،‬‬ ‫لكن قراءتها‪ ،‬كما يرى ال�شيخ �أبو زهرة‪ ،‬ت�ضعف من هذا الرتجيح وذلك‬ ‫اليقني‪ ،‬فال كيا�سة فيها من �إمام يخاطب بها �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬وفيها‬ ‫�إر�شاد خلليفة‪ ،‬ال يليق توجيهه �إىل �أحد من ال�سوقة‪ ،‬مثل‪�« :‬إذا �أكلت‬ ‫طعام ًا‪ ،‬فعلق بني �أ�صابعك‪ ،‬فالعقها‪ ،‬و�أ�سنانك فتخلل»!!‬ ‫وكتاب «املوط�أ» ثابتة ن�سبته �إىل مالك من غري �شك‪ .‬وقد تناقلته‬ ‫الأجيال جي ًال بعد جيل‪ ،‬بالن�سخ وبالطباعة‪ ،‬وبال�رشح والتعليق‪ .‬وجاء‬ ‫تتويج ًا وبداية جلمع التابعني لأقوال ال�صحابة والتابعني‪ .‬وتلبية‬ ‫ملقت�ضيات الزمن يف جمع علم �أهل املدينة خا�صة‪ ،‬وللطلب امللح من‬ ‫اخلليفة �أبي جعفر املن�صور على الإمام مالك‪.‬‬ ‫يروون �أن املن�صور قال ملالك‪:‬‬ ‫ �ضع للنا�س كتاب ًا �أحملهم عليه‪.‬‬‫ويروون �أن املن�صور قال �أي�ض ًا ملالك‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬ضم هذا العمل‪ ،‬ودونه كتب ًا‪ ،‬وجتنب �شدائد عبد‬‫ورخ�ص ابن عبا�س‪ ،‬و�شواذ ابن م�سعود‪ ،‬واق�صد �أوا�سط‬ ‫اهلل بن م�سعود‪ُ ،‬‬ ‫الأمور‪ ،‬وما اجتمع عليه ال�صحابة‪.‬‬ ‫ويروون �أن املن�صور قال �أي�ض ًا ملالك‪:‬‬ ‫ اجعل العلم يا �أبا عبد اهلل علم ًا واحداً‪.‬‬‫‪98‬‬


‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �إن �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم تفرقوا يف البالد‪،‬‬‫ف�أفتى كل يف ع�رصه مبا ر�أى‪ ،‬و�إن لأهل هذا البلد (مكة) قو ًال‪ ،‬ولأهل‬ ‫املدينة قو ًال‪ ،‬ولأهل العراق قو ًال قد تعدوا فيه طورهم‪.‬‬ ‫فقال له املن�صور‪:‬‬ ‫ �أما �أهل العراق فل�ست �أقبل منهم �صرَ ف ًا وال عد ًال‪ .‬و�إمنا العلم ع ْلم‬‫�أهل املدينة‪ .‬ف�ضع للنا�س العلم‪.‬‬ ‫فقال له مالك‪:‬‬ ‫ �إن �أهل العراق ال ير�ضون علمنا‪.‬‬‫فقال له �أبو جعفر‪:‬‬ ‫ ي�رضب عليه عامتهم بال�سيف‪ .‬وتقطع ظهورهم بال�سياط‪.‬‬‫وكان احلديث يف الروايات كلها‪ ،‬يدور يف مكة‪ ،‬يف مو�سم حج‪ ،‬بني‬ ‫اخلليفة والإمام‪.‬‬ ‫ومن قبل �أبي جعفر املن�صور‪ ،‬كان عمر بن عبد العزيز قد فكر يف‬ ‫الأمر نف�سه‪ ،‬فقد �أمر عمر �أبا بكر احلَزمي للقيام بهذه املهمة‪ ،‬وطلب‬ ‫املن�صور من مالك �أن ينه�ض بهذه املهمة‪ ،‬والغاية واحدة‪ ،‬هي تدوين‬ ‫الد ُرو�س وال�ضياع‪ .‬وكان مق�صد‬ ‫العلم املدين (ن�سبة �إىل املدينة)‪ ،‬خ�شية ُّ‬ ‫اخلليفتني الأموي فالعبا�سي‪ ،‬هو توحيد الأق�ضية (القوانني)‪ ،‬يف كل‬ ‫�أم�صار الإ�سالم‪ ،‬فاخلالف بني الفقهاء قد ات�سعت �آفاقه‪ ،‬ومل يعد رحمة‬ ‫كما يقال‪ ،‬وال منجاة من تعدد الأق�ضية‪ ،‬بتعدد الأفهام والأقي�سة والآراء‪،‬‬ ‫�إال بجمع ال�سنة‪ ،‬واختيار �سبيل و�سط بني الفقهاء‪ ،‬يكون مذهب ًا للق�ضاة‬ ‫والق�ضاء‪.‬‬ ‫فجر‬ ‫وقبل هذا الطلب من املن�صور كان الكاتب عبد اهلل بن املقفع‪ ،‬قد ّ‬ ‫هذه امل�شكلة‪ ،‬وهو بالب�رصة‪ ،‬يف كتيبه ال�صغري الذي خطه‪ ،‬وجعل عنوانه‪:‬‬ ‫«ر�سالة ال�صحابة» حني قال خماطب ًا �أبا جعفر املن�صور‪ ،‬وعالنية �أمام‬ ‫‪99‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫النا�س‪ ،‬ويف �أوراق ين�سخها الوراقون ويبيعونها للنا�س‪:‬‬ ‫«‪ ..‬فلو ر�أى �أمري امل�ؤمنني �أن ي�أمر بهذه الأق�ضية‪ ،‬وال�سري املختلفة‪،‬‬ ‫فرتفع �إليه يف كتاب‪ ،‬ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من �سنة �أو‬ ‫قيا�س‪ ،‬ثم نظر �أمري امل�ؤمنني يف ذلك‪ ،‬و�أف�ضى يف كل ق�ضية بر�أيه الذي‬ ‫يلهمه اهلل‪ ،‬ويعزم عليه‪ ،‬وينهي عن الق�ضاء بخالفه‪ ،‬وكتب بذلك كتاب ًا‬ ‫جامع ًا‪ ،‬لرجونا �أن يجعل اهلل هذه الأحكام املختلطة ال�صواب باخلط�أ‬ ‫حكم ًا واحداً �صواب ًا‪� ،‬أو رجونا �أن يكون اجتماع ال�سري‪ ،‬قرب ًا الجتماع‬ ‫الأمر بر�أي �أمري امل�ؤمنني وعلى ل�سانه‪ ،‬ثم يكون ذلك من �إمام لآخر‪� ،‬إىل‬ ‫�آخر الدهر �إن �شاء اهلل»‪.‬‬ ‫ووافق �أبو جعفر على الفكرة والغاية‪ .‬لكنه �سار بها يف اجتاه �آخر‪،‬‬ ‫يعتمد فيه على علم �أهل املدينة‪ ،‬لأنه �أقرب �إىل ال�سنة يف جملته‪ ،‬وحتى‬ ‫ال يتحمل‪ ،‬وهو اخلليفة‪ ،‬التبعة وحده يف كل الأقطار‪.‬‬ ‫و�رشع مالك يف النهو�ض بهذه املهمة‪ ،‬لكن فراغه من التدوين‬ ‫والتمحي�ص والن�رش‪ ،‬ا�ستغرق منه �أحد ع�رش عام ًا �أو تزيد‪ .‬بني عامي‬ ‫‪ 148‬و ‪ 159‬هجرية‪ ،‬وكان �أبو جعفر املن�صور قد لقي وجه ربه‪ ،‬فلم ير‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬ومل يخرج هذا الكتاب �إىل النور �إال يف عهد هارون الر�شيد‪.‬‬ ‫و�أثناء هذه الفرتة بني ال�رشوع يف امل�رشوع ون�رشه على النا�س‪،‬‬ ‫�ألح اخلليفة املهدي بدوره بعد �أبيه املن�صور‪ ،‬على الإمام مالك‪ ،‬لينجز‬ ‫مهمته‪ .‬ومع �أنه كان ينجزها بالفعل‪ ،‬فقد قال للمهدي ما يفيد ب�أنه يرى‬ ‫عدم حمل النا�س يف كل الأم�صار على عمل �أهل املدينة‪ ،‬ويف زمانه‪،‬‬ ‫فالأزمنة تتغري‪ ،‬والأمكنة تتغري‪ ،‬والأق�ضية مبا فيه م�صالح النا�س‪ ،‬بعد‬ ‫القر�آن وال�سنة‪ ،‬تتغري‪ ،‬ومن اخلري تعددها ودورانها‪.‬‬ ‫وي�ؤكد ذلك قول مالك للر�شيد حني راح يلح على مالك لن�رش موطئه‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬إن اختالف العلماء رحمة على هذه الأمة‪ .‬كل‬‫‪100‬‬


‫يتبع ما �صح عنده‪ .‬وكل على هدى‪ .‬وكل يريد اهلل‪.‬‬ ‫ولقد روى مالك ق�صة حوار بينه وبني الر�شيد‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«�شاورين هارون الر�شيد يف ثالث‪� :‬أن يعلق املوط�أ يف الكعبة‪ ،‬ويحمل‬ ‫النا�س على ما فيه‪ ،‬ويف �أن ينق�ض منرب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫ويجعله من جوهر وذهب وف�ضة‪ ،‬ويف �أن يقدم نافع بن �أبي نعيم ي�صلي‬ ‫بالنا�س يف م�سجد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فقلت له‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬أما تعليق املوط�أ يف الكعبة‪ ،‬ف�إن �أ�صحاب ر�سول‬‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬اختلفوا يف الفروع‪ ،‬فافرتقوا يف البلدان‪ ،‬وكل‬ ‫عند نف�سه م�صيب‪ .‬و�أما نق�ض املنرب فال �أرى �أن حترم النا�س �أ َثر ر�سول‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬و�أما تقدميك نافع لي�صلي بالنا�س‪ ،‬ف�إن نافع ًا‬ ‫�إمام يف القراءة‪ ،‬ال ي�ؤمن �أن تبدر منه يف املحراب بادرة‪ ،‬فتحفظ عنه‪.‬‬ ‫فقال يل الر�شيد‪:‬‬ ‫ «وفقك اهلل يا �أبا عبد اهلل»‪.‬‬‫ومنهجه و�أثره يف‬ ‫دوره‬ ‫َ‬ ‫وكتاب «املوط�أ» جدير ب�أن ُي َق َّيم ّ‬ ‫ويبني َ‬ ‫كتاب‪.‬‬

‫�شيوخ وتالميذ‬ ‫وملالك كان �شيوخ‪ ،‬وكان تالميذ‪ ،‬وتالميذ تالميذ‪.‬‬ ‫وتالميذ مالك وتالميذهم‪ ،‬كانوا نقلة فقهه‪ ،‬والوا�ضعون لأ�صوله‪،‬‬ ‫فلم ي�ضع مالك لفقهه �أ�صو ًال مثلما فعل ال�شافعي من بعده‪ ،‬ومن ه�ؤالء‬ ‫التالميذ‪ :‬ابن وهب‪ ،‬وعبد الرحمن بن القا�سم‪ ،‬و�أ�سد بن الفرات‪ ،‬و�أ�شهب‬ ‫بن عبد العزيز القي�سي العامري‪ ،‬وعبد امللك املاج�شون‪ ،‬و�سواهم‪.‬‬ ‫ومن تالميذ تالميذ مالك‪� :‬سحنون‪ ،‬وعبد امللك بن حبيب العتيبي‪.‬‬ ‫وله�ؤالء التالميذ كتب يف الفقه املالكي �أمهات‪ ،‬هي‪ :‬املدونة‪،‬‬ ‫‪101‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫والوا�ضحة‪ ،‬والعتبية‪ ،‬واملوازية‪ ،‬واملدونة دونها �أ�سد‪ ،‬و�رشحها �سحنون‪،‬‬ ‫وراجعها ابن القا�سم‪ .‬وقد تلقاها العلماء املالكيون بالقبول‪.‬‬ ‫و�شيوخ مالك املبا�رشون كانوا �سبعة‪ ،‬تلقوا علمهم عن ثمانية �شيوخ‪،‬‬ ‫وه�ؤالء تلقوا علمهم عن �أعالم ال�صحابة يف العلم‪.‬‬ ‫و�شيوخ مالك املبا�رشون‪ ،‬هم‪ :‬ابن هرمز‪ ،‬و�أبو الزناد‪ ،‬وربيعة الر�أي‪،‬‬ ‫والأن�صاري‪ ،‬ونافع‪ ،‬وبحر العلم بن �شهاب‪ ،‬الذي تلقى علمه عن‪� :‬سعيد‬ ‫امل�سيب‪ ،‬و�أبو �سلمة‪ ،‬وعروة‪ ،‬والقا�سم‪ ،‬و�سامل‪ ،‬وخارجة‪ ،‬و�سليمان‪،‬‬ ‫بن‬ ‫ّ‬ ‫ونافع موىل ابن عمر‪.‬‬ ‫و�شيوخ مالك كانوا فريقني‪ :‬فريق �أخذ عنه الفقه والر�أي‪ ،‬وفريق �أخذ‬ ‫عنه احلديث‪ .‬فريق الر�أي متثل يف اثنني من �شيوخ مالك هما‪ :‬ربيعة الر�أي‪،‬‬ ‫ويحيى بن �سعيد الأن�صاري‪ .‬وفريق احلديث متثل يف من عداهما‪.‬‬ ‫وكانت املدينة يف زمان مالك‪ ،‬لقرب عهدها بالر�سول‪ ،‬وبال�صحابة‪،‬‬ ‫متتلئ بالعلماء‪ ،‬حتى لقد قال مالك �إنه جل�س بها �إىل �سبعني عامل ًا‪،‬‬ ‫وكلهم يحدثه باحلديث‪ ،‬ومل ينتق مالك منهم من يثق بحديثه �إال خم�سة‪،‬‬ ‫على ثقته ب�أمانة الآخرين‪ .‬ومل يكن باملدينة من هو �أعلى علم ًا من عامل‬ ‫املدينة يف ع�رص ال�صحابة‪ ،‬ثم يف ع�رص تابعي التابعني‪ ،‬ثم يف ع�رص‬ ‫االجتهاد من بعدهم‪ .‬ويف تلك البيئة العلمية ن�ش�أ مالك ن�ش�أة متكن بها‬ ‫�أن يختار �شيوخه من بني ع�رشات ال�شيوخ العلماء‪ .‬وكلهم له كعب‪ ،‬يف‬ ‫احلديث‪ ،‬والفقه‪ ،‬ويف الأثر ويف الر�أي‪.‬‬

‫فقه �إمام‬ ‫يدون �أ�صول مذهبه‪ ،‬ودونها‬ ‫على �أ�صول بنى مالك فقهه‪ ،‬ولكنه مل َ‬ ‫بعده‪ ،‬ا�ستقاء من موطئه‪ ،‬ومدونات تالميذه‪ ،‬فقهاء املذهب املالكي‪.‬‬ ‫وميكن ح�رص �أ�صول مالك يف‪ :‬القر�آن الكرمي‪ ،‬وال�سنة ال�رشيفة‪ ،‬والإجماع‪،‬‬ ‫‪102‬‬


‫وفتوى ال�صحابي‪ ،‬وعمل �أهل املدينة‪ ،‬ثم‪ :‬القيا�س‪ ،‬واال�ستح�سان‪،‬‬ ‫واال�ست�صحاب‪ ،‬وامل�صالح املر�سلة‪ ،‬والذرائع‪ ،‬والعادات والعرف‪� ،‬أحد‬ ‫ع�رش �أ�صال‪ ،‬و�صل بها بع�ض املالكية �إىل �ستة ع�رش �أ�صال‪ ،‬يف املذهب‬ ‫املالكي‪ .‬والأ�صول الأحد ع�رش م�ستقاة كلها من موط�أ مالك‪ ،‬وما زاد‬ ‫عليها فمن مدونات تالميذ مالك‪ .‬فاملذاهب بعد �أ�صحاب املذهب تنمو‬ ‫وتتفرع‪� ،‬أ�شجاراً و�شجريات‪ ،‬و�أغ�صان ًا وغ�صينات‪.‬‬ ‫ومل ينظر مالك �إىل القر�آن الكرمي نظرة اجلدليني‪ ،‬يف �أنه لفظ ومعنى‪،‬‬ ‫�أو لفظ فقط‪� ،‬أو معنى فقط‪ ،‬وال يف �أنه خملوق �أو غري خملوق‪ .‬فالقر�آن‬ ‫كليا‪ ،‬وال�سنة بيانه كم�صدر ثانٍ‬ ‫عنده ي�شتمل على ال�رشيعة ا�شتما ًال ًّ‬ ‫بن�ص‬ ‫للت�رشيع‪ ،‬تف�رسه‪ ،‬وتف�صل جممله‪ ،‬وتقيد مطلقه‪ .‬ومالك كان ي�أخذ ّ‬ ‫القر�آن وظاهره‪ ،‬وبدليله مبفهوم املوافقة‪ ،‬ومفهوم املخالفة‪ ،‬وبالعلة‬ ‫التي ينبه عليها‪.‬‬ ‫وال�سنة عند مالك بيان للقر�آن الكرمي‪ ،‬بتقريرها لأحكام القر�آن‪،‬‬ ‫وببيانها للمراد منه‪ ،‬تقييداً ملطلقه‪ ،‬وتف�صيال ملجمله‪ ،‬وبيانها ملا �سكت‬ ‫عنه القر�آن كاحلكم بال�شاهد واليمني‪ .‬والأحاديث النبوية ال�صحيحة‬ ‫يف ال�سنة تثبت ب�سند مت�صل ب�أحد طرق ثالثة‪ :‬بالتواتر‪ ،‬وباال�ستفا�ضة‬ ‫وال�شهرة‪ ،‬وبخرب الآحاد‪ .‬و�سل�سلة رواة الأحاديث التي �ساقها مالك يف‬ ‫موطئه‪ ،‬هي �أقوى �سال�سل الإ�سناد‪ ،‬وي�سميها بع�ض املحدثني‪ :‬ال�سل�سلة‬ ‫الذهبية‪ .‬ومل يكن مالك يف �أخذه باحلديث مق ًال يف الر�أي‪ ،‬فهو فقيه ر�أي‪،‬‬ ‫مثلما هو فقيه حديث و�سنة‪ .‬والر�أي عنده كان في�ص ًال يف قبوله بفتوى‬ ‫ال�صحابي الواحد‪ ،‬وخرب الآحاد‪ ،‬والقيا�س‪ ،‬واحلديث املر�سل‪.‬‬ ‫و�أخطر ما ا�ستند �إليه مالك من �أ�صول‪ ،‬بعد القر�آن وال�سنة‪ ،‬هو يف‬ ‫ر�أينا‪ :‬امل�صالح املر�سلة‪ .‬فالفقه الإ�سالمي يف جملته �أ�سا�سه م�صالح‬ ‫الأمة‪ ،‬فما هو م�صلحة فيه مطلوب للنا�س جاءت الأدلة بطلبه‪ ،‬وما هو‬ ‫�رضر منهي عنه‪ ،‬ت�ضافرت الأدلة على منعه‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫لكن اخلالف بني الفقهاء يف القول بامل�صالح املر�سلة يتناول‬ ‫التطبيق‪.‬‬ ‫فالأحناف وال�شافعيون يرون �أن امل�صلحة التي ال ت�ؤخذ بالن�ص من‬ ‫القر�آن وال�سنة‪ ،‬ت�ؤخذ بالقيا�س حمال على الن�ص‪ ،‬و�إذا حدث خالف يف‬ ‫الأقي�سة �أخذ باال�ستح�سان‪ ،‬من بني ما اختلف فيه‪.‬‬ ‫�أما املالكية واحلنابلة‪ ،‬فيعتربان �أن امل�صلحة �أ�صل قائم بذاته يف‬ ‫الفقه الإ�سالمي‪ ،‬وما مل يعرف بالن�ص‪ ،‬يعرف بالن�صو�ص العامة يف‬ ‫ال�رشيعة‪ ،‬مثل‪« :‬ما جعل عليكم يف الدين من حرج»‪ ،‬ومثل حديث‪« :‬ال‬ ‫�رضر وال �رضار»‪ .‬بل لقد زاد احلنابلة واملالكية �أمراً‪ ،‬هو تخ�صي�ص‬ ‫الن�صو�ص القر�آنية والنبوية بامل�صالح‪� ،‬إذا كان مو�ضوع هذه الن�صو�ص‬ ‫من املعامالت الإن�سانية‪ ،‬ال من العبادات‪ .‬بل لقد غاىل الفقيه احلنبلي‬ ‫«الطويف» وجتاوز فقال يف كتابه «الر�سالة»‪�« :‬إن رعاية امل�صلحة �إذا‬ ‫ّ‬ ‫�أدت �إىل خمالفة حكم جممع عليه‪� ،‬أو ن�ص من الكتاب �أو ال�سنة‪ ،‬وجب‬ ‫تقدمي رعاية امل�صلحة بطريق التخ�صي�ص لهما‪ ،‬بطريق البيان»‪.‬‬ ‫وال �شك �أن الأخذ بامل�صالح املر�سلة‪ ،‬يجعل ال�رشيعة الإ�سالمية‬ ‫خ�صبة‪ ،‬تنا�سب النا�س يف كل ع�رص‪ ،‬ويف كل مكان‪.‬‬ ‫والأخذ بامل�صالح املر�سلة كم�صدر من م�صادر الت�رشيع‪ ،‬يجعل‬ ‫املنفعة �أو امل�صلحة مقيا�س ًا �ضابط ًا لكل ما هو م�أمور به يف الدين‪� ،‬أو‬ ‫منهي عنه‪ ،‬يف املعامالت خا�صة‪ ،‬ويف الأخالق ويف القانون‪ ،‬والآداب‬ ‫العامة‪ .‬وتعني امل�صلحة املر�سلة فيما تعنيه‪ :‬تغليب املنفعة العامة على‬ ‫املنفعة اخلا�صة‪ ،‬وما لي�س فيه �رضر على ما فيه �رضر‪ ،‬جلب ًا للم�صلحة‬ ‫ودفع ًا للمف�سدة‪ ،‬يف الكليات‪ ،‬ويف اجلزئيات‪ .‬ولي�س من امل�صلحة تغليب‬ ‫الأهواء وال�شهوات‪.‬‬ ‫كما وكيف ًا‪ ،‬وزمان ًا ومكان ًا‪ ،‬هو الذي ي�ؤخذ به عند‬ ‫و�أهم امل�صالح ًّ‬ ‫‪104‬‬


‫تعدد امل�صالح بني النا�س‪.‬‬ ‫وكذلك فامل�صالح املر�سلة تعني �سد الذرائع‪ ،‬فو�سيلة املحرم حمرمة‪،‬‬ ‫وو�سيلة الواجب واجبة‪ .‬وم�آالت الأفعال �إن اجتهت نحو امل�صالح‬ ‫مطلوبة‪ ،‬و�إذا عار�ضتها حمرمة‪ .‬فالدنيا تقوم على م�صالح العباد‪ ،‬وعلى‬ ‫الق�سطا�س والعدل‪ ،‬والق�صد احل�سن‪ ،‬والو�سيلة احل�سنة‪ ،‬والغايات احل�سنة‪.‬‬ ‫ومالك يرجع النظر �إىل الواقع‪ ،‬ال �إىل املقا�صد‪ ،‬يف الأخذ بامل�صالح‬ ‫املر�سلة‪ ،‬فغاية امل�صالح تكون يف دورانها وجوداً وعدم ًا مع الواقع‪،‬‬ ‫وما يقت�ضيه‪.‬‬ ‫و�أ�صول مالك الفقهية كما ترى مرنة‪ ،‬تخ�ضع عام الن�ص للتخ�صي�ص‪،‬‬ ‫ومطلق الن�ص للتقييد‪ .‬وحتقق امل�صلحة من �أقرب طريق‪ ،‬وجتعلها �أ�سا�س ًا‬ ‫يف اال�ستدالل مثل �سد الذرائع‪ ،‬والأخذ بالعرف‪ ،‬رفع ًا للحرج‪ ،‬ودفع ًا‬ ‫للم�شقة‪ ،‬وكلها �أ�صول يكمل بع�ضها بع�ض ًا من القر�آن الكرمي‪� ،‬إىل الأخذ‬ ‫بالعرف والعادات احل�سنة‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫مبذهب مالك اخت�ص �أهل املغرب والأندل�س‪ ،‬منذ �أن كانوا يرحلون‬ ‫للحج‪� ،‬إىل مكة‪ ،‬وللزيارة للمدينة‪ ،‬وقد انت�رش هذا املذهب بالب�رصة‪،‬‬ ‫واحلجاز‪ ،‬وتون�س‪ ،‬و�صقلية‪ ،‬وال�سودان‪ .‬و�ساد فرتة من الزمان يف م�رص‪،‬‬ ‫�إىل �أن غلب عليها املذهب ال�شافعي‪.‬‬ ‫وملرونة املذهب املالكي‪ ،‬وتعدد �أ�صوله‪ ،‬و�أخذه بامل�صالح املر�سلة‪،‬‬ ‫توفرت لهذا املذهب �أ�سباب القوة‪ ،‬خا�صة يف �أمور احلكم‪ ،‬والق�ضاء‪ ،‬فثمة‬ ‫جماالت تقنينية مفتوحة‪ ،‬للتفريع والتخريج‪ ،‬واال�ستنباط‪ ،‬ومراعاة‬ ‫م�صالح العباد يف املعامالت والأخالق والآداب‪.‬‬ ‫وملرونة املذهب املالكي كرث االجتهاد بني �أ�صحاب مالك‪ ،‬فكانوا‬ ‫بني‪ :‬جمتهدين منت�سبني‪ ،‬هم �أ�صحاب الوجوه الذين لهم حق خمالفة‬ ‫‪105‬‬


‫مالك بن �أن�س‬

‫خمرجني ولي�س لهم حق خمالفة‬ ‫مالك يف الفتوى يف الفروع‪ ،‬وجمتهدين ّ‬ ‫مالك يف الفتوى يف الفروع‪ ،‬ولهم حق الرتجيح فقط‪ ،‬وجمتهدين نف�سيني‬ ‫ولي�س لهم حق الفتوى عند البع�ض‪ ،‬ولهم حق الفتوى‪ ،‬عند البع�ض الآخر‪،‬‬ ‫عند ال�رضورة‪.‬‬

‫‪106‬‬


‫الشـافعـي‬

‫إمـام النقل والعقــل‬ ‫َ‬


‫ال�شـافعـي‬

‫‪108‬‬


‫�شهادات لإمام‬ ‫قالئل هم الرجال الذين ي�شغلون النا�س يف حياتهم وبعد مماتهم‪،‬‬ ‫بعلمهم وعقلهم‪ .‬ومن ه�ؤالء الرجال الإمام ال�شافعي‪ .‬فقد �شغل النا�س‬ ‫بعقله وعلمه يف مكة‪ ،‬وجنران‪ ،‬وبغداد‪ ،‬والقاهرة‪ ،‬يف حياته‪ ،‬و�شغل‬ ‫العامل الإ�سالمي كله‪ ،‬بعد موته‪ .‬و�شهد له �شيوخه‪ ،‬ورفاقه‪ ،‬وتالميذه‬ ‫�شهادات ال تن�سى‪.‬‬ ‫قر�أ الفقيه «عبد الرحمن بن مهدي» ر�سالة ال�شافعي يف الأ�صول‪،‬‬ ‫وكان ال�شافعي قد �أجاب طلبه بكتابتها له‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫«هذا �شاب ُمفهم»‪.‬‬ ‫و«حممد بن عبد احلكم» كان �أحد تالميذ ال�شافعي‪ ،‬مب�رص‪ ،‬ولقد‬ ‫اعرتف يف �شهادته بجميل ال�شافعي عليه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫«لوال ال�شافعي ما عرفت كيف �أرد على �أحد‪ .‬وبه عرفت ما عرفت‪.‬‬ ‫وهو الذي علمني القيا�س‪ .‬رحمه اهلل فقد كان �صاحب �سنة‪ ،‬و�أثر‪ ،‬وف�ضل‪،‬‬ ‫وخري‪ ،‬مع ل�سان ف�صيح طويل‪ ،‬وعقل �صحيح ر�صني»‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫والإمام «�أحمد بن حنبل»‪ ،‬كان �أحد رفاق ال�شافعي يف الإفتاء‪ ،‬وقد‬ ‫�شهد لعلم ال�شافعي وعقله‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫يروى عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪�« :‬إن اهلل عز وجل يبعث على‬ ‫ر�أ�س كل مائة �سنة رجال يقيم لها �أمر دينها‪ ،‬فكان عمر بن عبد العزيز‬ ‫على ر�أ�س املائة‪ .‬و�أرجو �أن يكون ال�شافعي على ر�أ�س املائة الأخرى»‪.‬‬ ‫و«داود بن علي الظاهري»‪ ،‬كان من �شيوخ ال�شافعي‪ ،‬ولقد قال عنه‪:‬‬ ‫«لل�شافعي من الف�ضائل‪ ،‬ما مل يجتمع لغريه‪ ،‬من �رشف ن�سبه‪ ،‬و�صحة‬ ‫دينه ومعتقده‪ ،‬و�سخاوة نف�سه‪ ،‬ومعرفته ب�صحة احلديث و�سقيمه‪،‬‬ ‫ونا�سخه ومن�سوخه‪ ،‬وحفظه للكتاب وال�سنة‪ ،‬و�سرية اخللفاء‪ ،‬وكان ح�سن‬ ‫الت�صنيف»‪.‬‬ ‫وروى بع�ض تالميذ ال�شافعي عن علمه بالعربية‪ ،‬وبفقه علم الكتاب‪.‬‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫«كان ال�شافعي �إذا �أخذ يف التف�سري‪ ،‬ك�أنه �شاهد التنــزيل‪ ،‬و�أوتي‬ ‫علم احلديث‪ ،‬فحفظ موط�أ مالك‪ ،‬و�ضبط قواعد ال�سنة‪ ،‬وفهم مراميها‪،‬‬ ‫واال�ست�شهاد بها‪ ،‬وعرف النا�سخ واملن�سوخ منها‪ ،‬و�أوتي فقه الر�أي‬ ‫والقيا�س‪ ،‬وو�ضع �ضوابط للقيا�س واملوازين‪ ،‬وملعرفة �صحيحه من‬ ‫�سقيمه‪ ،‬وكان يدعو �إىل طلب العلوم‪ ،‬فقد كان يقول‪ :‬من تعلم القر�آن‬ ‫نبل‬ ‫عظمت قيمته‪ ،‬ومن كتب احلديث قويت حجته‪ ،‬ومن نظر يف الفقه ُ‬ ‫رق طبعه‪ ،‬ومن نظر يف احل�ساب ج ُزل ر�أيه‪ ،‬و‪..‬‬ ‫قدره‪ ،‬ومن نظر يف اللغة ّ‬ ‫من مل ي�صن نف�سه مل ينفعه علمه»‪.‬‬ ‫وحتدث «الربيع بن �سليمان» عن جمل�س علم ال�شافعي يف القاهرة‪،‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫«كان ال�شافعي رحمه اهلل يجل�س يف حلقته �إذا �صلى ال�صبح‪ ،‬فيجيئه‬ ‫�أهل القر�آن‪ ،‬ف�إذا طلعت ال�شم�س قاموا‪ ،‬فا�ستوت احللقة للنظر واملذاكرة‪،‬‬ ‫ف�إذا ارتفع ال�ضحى تفرقوا‪ ،‬وجاء �أهل العربية والعرو�ض والنحو وال�شعر‪،‬‬ ‫‪110‬‬


‫فال يزالون �إىل قرب انت�صاف النهار»‪.‬‬ ‫�أي نحو من �ست �ساعات كل يوم‪ ،‬بني �صالتي الفجر والظهر كان‬ ‫ال�شافعي يجل�سها مع �أنواع من طالب العلم‪ ،‬مع القر�آن‪ ،‬واحلديث‪،‬‬ ‫واملناق�شة‪ ،‬وعلوم العربية‪.‬‬ ‫فكيف كانت حياة ال�شافعي‪ ،‬ومواهبه؟ وكيف كان ع�رصه‪ ،‬وجتاربه‬ ‫يف هذا الع�رص؟ ومن كان �شيوخه وتالميذه؟ وما �أثره يف الفقه‬ ‫الإ�سالمي؟‬

‫بني غزة وجنران‬ ‫يف مدينة غزة‪ ،‬بفل�سطني‪ ،‬وكانت �آنذاك جزءاً من ال�شام الكبري‪ ،‬ولد‬ ‫«حممد بن �إدري�س ال�شافعي» �سنة ‪ 150‬هجرية يف عهد الدولة العبا�سية‪،‬‬ ‫وهي ال�سنة نف�سها التي تويف فيها الإمام �أبو حنيفة‪.‬‬ ‫لبيا‪ ،‬فهو‪�« :‬إدري�س بن العبا�س‪ ،‬بن عثمان‪ ،‬بن‬ ‫وكان �أبوه قر�شي ًا ُم ّط ًّ‬ ‫�شافع‪ ،‬بن عبيد‪ ،‬بن عبد يزيد‪ ،‬بن ها�شم‪ ،‬بن املطلب‪ ،‬بن عبد مناف»‪.‬‬ ‫ويف عبد مناف يلتقي ن�سب ال�شافعي‪ ،‬مع ن�سب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫مل ّطلب (جد ال�شافعي الأكرب) هو الذي ربى ابن �أخيه عبد‬ ‫و�سلم‪ .‬وكان ا ُ‬ ‫املطلب‪ ،‬ودعا النا�س‪� ،‬إىل ُن�رصة بني ها�شم‪ ،‬حني قاطعت قري�ش الر�سول‬ ‫ومن ينا�رصه‪ ،‬ولذلك جعل النبي لبني املطلب ن�صيب ًا يف �سهم ذوي‬ ‫القربى يف الفيء‪ ،‬ومل يجعل ن�صيب ًا يف هذا ال�سهم لبني عبد �شم�س‪ ،‬وبني‬ ‫نوفل القر�شيني‪ ،‬وهما �أخوا املطلب وها�شم‪ .‬ولقد قال ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬معل ًال هذا االخت�صا�ص لبني املطلب‪�« :‬إنهم مل يفارقونا‬ ‫يف جاهلية وال �إ�سالم‪� .‬إمنا بنو ها�شم‪ ،‬وبنو املطلب‪� ،‬شيء واحد»‪ .‬ثم‬ ‫�شبك ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �إحدى يديه يف الأخرى‪.‬‬ ‫وكانت �أم ال�شافعي من بني الأ ْزد باليمن‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫ن�ش�أ ال�شافعي يف �أ�رسة فقرية‪ ،‬تنتقل بني الأحياء اليمنية‪ ،‬بغزة‪،‬‬ ‫وع�سقالن‪ ،‬وتويف �أبوه وهو �صغري‪ ،‬له من العمر عامان‪ ،‬فانتقلت به �أمه‬ ‫�إىل مكة‪ ،‬خ�شية �أن ي�ضيع ن�سبه القر�شي املطلبي‪ ،‬وظلت ترتدد بني قومها‬ ‫باليمن‪ ،‬وقومها بفل�سطني‪ ،‬وقوم �أبيه مبكة‪ ،‬وا�ستقرت به يف مكة حني‬ ‫بلغ من العمر ع�رش �سنني‪ ،‬فراح يحفظ القر�آن‪ ،‬ويعي�ش عي�شة اليتامى‬ ‫الفقراء‪ ،‬الذين يتجهون مع �رشف ن�سبهم �إىل معايل الأمور‪ .‬وعرف من‬ ‫دخائل النا�س ما ال يعرفه �أبناء املي�سورين عن حياة الب�سطاء‪.‬‬ ‫و�إثر �إمتامه حلفظ القر�آن الكرمي‪ ،‬راح ال�شافعي ي�ستمع �إىل املحدثني‬ ‫يف احلرم املكي‪ ،‬فيحفظ احلديث الذي ي�سمعه‪ ،‬ويكتبه �أحيان ًا على اخلزف‪،‬‬ ‫وعلى اجللود‪ ،‬ويذهب �إىل ديوان الإمارة‪ ،‬وي�أخذ �أوراق ًا من �أوراق الربدي‬ ‫املطروحة وقد ُكتب على �أحد وجهيها‪ ،‬ليكتب على وجهها الآخر‪.‬‬ ‫التف�صح يف العربية‪ ،‬خرج �إىل البادية‪.‬‬ ‫ولكي ي�صل ال�شافعي �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ذيل»‪ ،‬وهم �آنذاك �أف�صح العرب‪ ،‬و�أ�شعرها‪ ،‬يقيم معها‬ ‫ولزم قبيلة ُ‬ ‫«ه ْ‬ ‫بنـزولها وا�ستقرارها‪ ،‬ويرحل معها برحيلها‪ ،‬وحني عاد �إىل مكة‪� ،‬صار‬ ‫ين�شد الأ�شعار‪ ،‬ويذكر الآداب والأخبار‪ .‬ولقد لقيه الأ�صمعي‪ ،‬و�سمع منه‪،‬‬ ‫و�أدرك مكانته‪ ،‬فقال بعد �أن تعلم على يديه‪:‬‬ ‫ذيل على فتى من قري�ش‪ ،‬يقال له‪ :‬حممد ابن‬ ‫«�صححت �أ�شعار ُه ْ‬ ‫�إدري�س»‪.‬‬ ‫ولقد طال مقام ال�شافعي بني بني هذيل حتى بلغ ع�رش �سنني‪ ،‬تعلم‬ ‫فيها عادات �أهل البادية‪ ،‬وتعلم الرماية لل�سهام بالقو�س و�أجادها‪ ،‬ويف‬ ‫ذلك يقول ال�شافعي جلل�سائه‪:‬‬ ‫«وكانت همتي يف �شيئني‪ :‬العلم‪ ،‬والرمي‪ ،‬ف�رصت يف الرمي بحيث‬ ‫�أ�صيب ع�رشة من ع�رشة»‪.‬‬ ‫و�سكت ال�شافعي عن العلم‪ ،‬فقال له بع�ض احلا�رضين معه‪:‬‬ ‫«و�أنت واهلل يف العلم �أكرث منك يف الرمي»‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫ويف مكة‪ ،‬بلغ ال�شافعي من العلم �ش�أن ًا عظيم ًا‪ ،‬حتى �أذن له �شيخه‬ ‫«م�سلم ابن خالد الزجني» بالفتوى‪ ،‬بقوله له‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫«افت يا �أبا عبد اهلل‪ .‬فقد �آن �أن تفتي»‪.‬‬ ‫لكن ال�شافعي مل ُيفت‪ ،‬فال يزال �أمامه وقت طويل‪ ،‬لكي ي�سيح يف‬ ‫بحر العلم‪ ،‬وفيه الكثري من ُد َرره وجواهره التي ال يعرفها بعد‪ ،‬وبينها‬ ‫علم مالك باملدينة‪ ،‬وكان مالك قد �أجنز كتابه «املوط�أ»‪ ،‬وذاع �صيته‬ ‫يف الآفاق‪ .‬و�سارع ال�شافعي با�ستعارة «املوط�أ» من رجل مي�سور مبكة‪،‬‬ ‫وقر�أه‪ ،‬وحفظه‪ ،‬و�سارع بالهجرة �إىل دار الهجرة‪ ،‬حيث يعي�ش مالك‪،‬‬ ‫ليتتلمذ على يديه‪ ،‬وي�أخذ العلم عن �إمام �أهل املدينة‪ .‬وحمل ال�شافعي‬ ‫كتابي تو�صية من وايل مكة (�أ�رشنا �إليه يف حديثنا عن مالك) �إىل‬ ‫معه ْ‬ ‫وايل املدينة‪ ،‬و�إىل الإمام مالك‪.‬‬ ‫وكانت ملالك فرا�سة يف الرجال‪ ،‬ومدى �أهليتهم لطلب العلم‪ ،‬فقال‬ ‫مالك لل�شافعي‪:‬‬ ‫«يا حممد اتق اهلل‪ .‬واجتنب املعا�صي‪ ،‬ف�إنه �سيكون لك �ش�أن من‬ ‫ال�ش�أن‪� .‬إن اهلل تعاىل قد �ألقى على قلبك نوراً‪ ،‬فال تطفئه باملع�صية»‪.‬‬ ‫ثم قال له مالك‪:‬‬ ‫يل‪ ،‬ويجيء (معك) ما ُيقر�أ لك»‪.‬‬ ‫الغد جتيء �إ ّ‬ ‫«�إذا ما جاء ُ‬ ‫يقول ال�شافعي‪:‬‬ ‫«فغدوت عليه‪ ،‬وابتد�أت اقر�أ ظاهراً (�أي‪ :‬من حفظه دون �أن ينظر يف‬ ‫ْ‬ ‫كتاب املوط�أ) والكتاب يف يدي‪ ،‬فكلما تهيبت مالك ًا‪ ،‬و�أردت �أن �أقطع‬ ‫قراءتي‪� ،‬أعجبه ح�سن قراءتي‪ ،‬و�إعرابي‪ ،‬فيقول (يل)‪« :‬يا فتى زد‪ .‬حتى‬ ‫قر�أته عليه يف �أيام ي�سرية»‪.‬‬ ‫وبعد «املوط�أ» لزم ال�شافعي مالك ًا‪ ،‬يدار�سه امل�سائل‪ ،‬فيفتيه مالك‪،‬‬ ‫ودع مالك الدنيا �سنة ‪ 179‬هجرية‪ .‬وكان ال�شافعي قد بلغ من‬ ‫�إىل �أن ّ‬ ‫العمر ثالثني �سنة‪ .‬وكان ال�شافعي يقطع مالزمته ملالك برحالت يف‬ ‫‪113‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫البالد الإ�سالمية‪ ،‬ويذهب لزيارة �أمه مبكة‪ ،‬وي�ست�أن�س بن�صائحها‪.‬‬ ‫كان مالك ي�سهم يف الإنفاق على الطالب الذين يطلبون علمه‪ ،‬و�إثر‬ ‫وفاة مالك‪� ،‬صار على ال�شافعي �أن يجد لنف�سه عم ًال‪ ،‬يكت�سب منه قوته‪.‬‬ ‫وعاد �إىل مكة‪ ،‬يبحث عن عمل‪ ،‬ويفكر يف نوع العمل الذي ي�صلح له‪.‬‬ ‫مر مبكة وايل العبا�سيني على اليمن‪ ،‬فكلمه بع�ض القر�شيني‬ ‫وحدث �أن ّ‬ ‫يف �أمر ال�شافعي‪ ،‬ف�أخذه الوايل معه‪ ،‬ومل يجد ال�شافعي تكاليف رحلته‪،‬‬ ‫فرهنت له �أمه دارها مبكة‪ ،‬لكي يتمكن ال�شافعي من ال�سفر مع الوايل‪.‬‬ ‫و�أ�صبح ال�شافعي عام ًال على جنران‪ ،‬وحر�ص على �إقامة العدل بني‬ ‫�أهل جنران‪ ،‬وبها بنو احلارث‪ ،‬وموايل ثقيف‪ ،‬وكانوا ممن ي�صانعون‬ ‫الوالة والق�ضاة‪ ،‬ويتملقونهم‪ .‬يقول ال�شافعي‪:‬‬ ‫«و ّليت جنران‪ ،‬وبها بنو احلارث بن عبد املدان‪ ،‬وموايل ثقيف‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫الوايل �إذا �أتاهم �صانعوه‪ ،‬ف�أرادوين على نحو ذلك‪ ،‬فلم يجدوا عندي‬ ‫(قبو ًال)»‪.‬‬ ‫وعندئذ وقعت املحنة الأوىل يف حياة ال�شافعي‪ ،‬ف�إقامة العدل تغلق‬ ‫باب امل�صانعة وامللق‪ ،‬و�إغالق هذا الباب يف وجوه النا�س‪ ،‬والأعيان‬ ‫خا�صة‪ُ ،‬يحر�ضهم على تدبري امل�ؤامرات �ضده‪ ،‬عند وايل اليمن‪ .‬وكان‬ ‫بالد�س وال�سعاية والو�شاية‪،‬‬ ‫والي ًا غ�شوم ًا ظلوم ًا‪ ،‬فراح الوايل يكيد له‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عند اخلليفة ببغداد‪ ،‬وراح ال�شافعي كعامل ينقد ذلك الوايل‪ ،‬وي�سلقه‬ ‫بل�سانه العربي الف�صيح‪ .‬وكان البد مما لي�س منه بد‪ .‬فقد جنحت و�شاية‬ ‫الوايل به لدى اخلليفة العبا�سي ببغداد‪.‬‬

‫املحنة الأوىل‬ ‫كان العبا�سيون يف بغداد‪ ،‬يخ�شون خ�صومهم العلويني الأقوياء‪،‬‬ ‫وكانوا �إذا ر�أوا دعوة علوية‪ ،‬ق�ضوا عليها يف مهدها‪ ،‬وقتلوا العلويينّ ‪،‬‬ ‫‪114‬‬


‫واملتهمني بالعلوية بال�شبهة‪ ،‬وباليقني‪ ،‬فقتل بريء �أوىل عندهم من‬ ‫ترك متهم يف�سد الأمن عليهم‪.‬‬ ‫وا�ستغل وايل اليمن هذا ال�ضعف يف نفو�س العبا�سيني‪ ،‬ف�أر�سل �إىل‬ ‫اخلليفة هارون الر�شيد يقول‪:‬‬ ‫«�إن ت�سعة من العلويني حتركوا‪ ..‬و�إين �أخاف �أن يخرجوا (بالثورة)‪..‬‬ ‫و�إن ها هنا رج ًال من �أوالد �شافع املطلبي‪ ،‬ال �أمر يل معه وال نهي‪ .‬يعمل‬ ‫بل�سانه ما ال يقدر عليه املقاتل ب�سيفه»‪.‬‬ ‫و�أر�سل الر�شيد �إىل وايل اليمن ي�أمره ب�إر�سال ه�ؤالء العلويني الت�سعة‬ ‫�إليه‪ ،‬ومعهم ذلك ال�شافعي املطلبي‪ ،‬وكان عا�رشهم‪.‬‬ ‫وقتل الر�شيد الت�سعة‪ ،‬وكاد �أن يقتل ال�شافعي‪ ،‬لوال حجة ال�شافعي بني‬ ‫يديه‪ ،‬ولوال �شهادة «حممد بن احل�سن ال�شيباين» تلميذ �أبي حنيفة له‪.‬‬ ‫قال ال�شافعي للر�شيد‪:‬‬ ‫ يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬ما تقول يف رجلني‪� :‬أحدهما يراين �أخاه‪ ،‬والآخر‬‫يل؟‬ ‫يراين عبده‪� .‬أيهما �أحب �إ ّ‬ ‫فقال الر�شيد‪:‬‬ ‫ الذي يراك �أخاه‪.‬‬‫فقال ال�شافعي‪:‬‬ ‫ فذلك (الأخ هو) �أنت يا �أمري امل�ؤمنني‪� .‬إنكم ولد العبا�س‪ ،‬وهم ولد‬‫علي‪ ،‬ونحن بنو املطلب‪ ،‬ف�أنتم ولد العبا�س تروننا �إخوتكم‪ ،‬وهم يروننا‬ ‫ّ‬ ‫عبيدهم‪.‬‬ ‫ولأن العلم رحم بني �أهله‪ ،‬فقد �شهد «حممد بن احل�سن ال�شيباين»‬ ‫حظا من العلم والفقه يعرفه‪ .‬قال‪:‬‬ ‫لل�شافعي‪ ،‬ب�أن له ًّ‬ ‫ وله من العلم يا �أمري امل�ؤمنني حظ كبري‪ .‬ولي�س الذي رفع عليه‬‫(من وايل اليمن) من �ش�أنه‪.‬‬ ‫فقال له الر�شيد‪:‬‬ ‫‪115‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫ فخذه �إليك‪ ،‬حتى �أنظر يف �أمره‪.‬‬‫ومرت املحنة الأوىل على‬ ‫وبهذا جنا ال�شافعي من القتل ظلم ًا‪ّ ،‬‬ ‫ال�شافعي‪ ،‬وهو يف الرابعة والثالثني من عمره‪� ،‬سنة ‪ 184‬هجرية‪ .‬و�أدرك‬ ‫ال�شافعي من هذه املحنة �أن عليه �أن يتجه �إىل العلم‪ ،‬ال �إىل الوالية‪،‬‬ ‫وخدمة �ش�ؤون ال�سلطان‪ ،‬و�صار �ضيف ًا مقيم ًا‪ ،‬على الفقيه «حممد بن‬ ‫احل�سن»‪ ،‬حامل فقه العراقيني ونا�رشه‪.‬‬ ‫عامان ببغداد‬ ‫يف بغداد �أقام ال�شافعي قرابة عامني‪ ،‬قر�أ فيها كتب «حممد بن احل�سن‬ ‫ال�شيباين» جامع كتب فقه العراق‪ ،‬فاجتمع له بقراءته فقه احلجاز الذي‬ ‫يغلب عليه النقل‪ ،‬وفقه العراق الذي يغلب عليه العقل‪ .‬وحني �آن له‬ ‫�أن يرحل من بغداد �إىل مكة‪ ،‬حمل معه كتب ًا ملحمد بن احل�سن‪ .‬يقول‬ ‫ال�شافعي‪:‬‬ ‫«حملت عن حممد بن احل�سن َوقر (حمل) بعري‪ ،‬لي�س عليه (من الكتب)‬ ‫ِ‬ ‫�سماعي (ما �سمعته) منه»‪.‬‬ ‫�إال‬ ‫وطوال �إقامة ال�شافعي ببغداد‪� ،‬أكرم «حممد بن احل�سن» منـزلة‬ ‫ال�شافعي‪ ،‬بل �إنه كان يف�ضل جمل�س ال�شافعي على جمل�س اخلليفة‪ .‬يروى‬ ‫�أن حممداً خرج راكب ًا �إىل دار اخلالفة‪ ،‬فر�أى ال�شافعي قد جاء‪ ،‬فثنى‬ ‫دابته‪ ،‬وقال لغالمه‪:‬‬ ‫رجله‪ ،‬ونزل عن ّ‬ ‫ اذهب فاعتذر عنا‪.‬‬‫فقال له ال�شافعي‪:‬‬ ‫ لنا وقت غري هذا‪.‬‬‫فقال له حممد بن احل�سن‪:‬‬ ‫ ال‪.‬‬‫و�أخذ بيده فدخال �إىل الدار‪.‬‬ ‫وكانت ملحمد بن احل�سن حلقة در�س‪ ،‬فكان ال�شافعي‪ ،‬وهو من‬ ‫‪116‬‬


‫«موطئه»‪ ،‬يلزم حلقته‪ .‬وكان‬ ‫�أ�صحاب مالك‪ ،‬وفقهاء مذهبه‪ ،‬وحملة ُ‬ ‫ابن احل�سن جمل�سه‪� ،‬أن يناظر �أ�صحاب‬ ‫من عادة ال�شافعي �إذا غادر ُ‬ ‫ابن احل�سن‪ ،‬مدافع ًا عن فقه احلجاز‪ ،‬وطريقة احلجاز يف الفقه‪ .‬وحني‬ ‫عرف ابن احل�سن �أن ال�شافعي يناظر �أ�صحابه وال يناظره هو‪ ،‬دعاه �إىل‬ ‫مناظرته‪ ،‬فا�ستحيا ال�شافعي وامتنع‪ .‬ف�أ�رص ابن احل�سن‪ ،‬فناظره ال�شافعي‬ ‫م�ستكره ًا‪ .‬يف م�س�ألة ال�شاهد واليمني‪ ،‬وفاز ال�شافعي يف مناظرته على‬ ‫ودا بينهما‪.‬‬ ‫ابن احل�سن‪ .‬ومل يف�سد خالفهما‪ ،‬وال فوز ال�شافعي عليه‪ًّ ،‬‬ ‫ومنذ ذلك اليوم �صار ال�شافعي يناظر ابن احل�سن و�أ�صحابه مع ًا‪� ،‬إىل‬ ‫�أن غادر بغداد عائداً �إىل مكة‪.‬‬

‫يف فناء زمزم‬ ‫يف مكة �أخذ ال�شافعي يلقي درو�سه يف احلرم املكي‪ ،‬ويف مو�سم‬ ‫احلج كان يلتقي به �أكرب العلماء‪ ،‬وبينهم كان �أحمد بن حنبل‪ ،‬وكان‬ ‫ال�شافعي قد �أخذ يظهر بفقه جديد‪ ،‬مزج فيه بني فقه �أهل احلجاز وفقه‬ ‫�أهل العراق‪� ،‬أي بني فقه النقل وفقه العقل‪ ،‬بعقل �أن�ضجه علم الكتاب‬ ‫وال�سنة‪ ،‬وعلم العربية‪ ،‬والقيا�س والر�أي‪ ،‬وهدته �إليهما معرفته ب�أخبار‬ ‫النا�س‪ ،‬و�أحوال النا�س‪.‬‬ ‫يروي «�إ�سحق بن راهويه»‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«كنا (مبكة) عند �سفيان بن عيينة‪ ،‬نكتب �أحاديث عمرو بن دينار‪،‬‬ ‫فجاءين �أحمد بن حنبل فقال يل‪:‬‬ ‫ قم يا �أبا يعقوب حتى �أريك رج ًال مل تر عيناك مثله‪.‬‬‫فقمت معه‪ ،‬ف�أتى بي فناء زمزم‪ ،‬ف�إذا هناك رجل عليه ثياب بي�ض‪،‬‬ ‫تعلو وجهه ال�سمرة‪ ،‬ح�سن ال�سمت (املظهر)‪ ،‬ح�سن العقل‪ .‬و�أجل�سني (�أحمد)‬ ‫�إىل جانبه (جانب ال�شافعي) وقال له‪:‬‬ ‫‪117‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫ يا �أبا عبد اهلل‪ .‬هذا �إ�سحق بن راهويه احلنظلي‪.‬‬‫فرحب بي (ال�شافعي) وحياين‪ .‬فذاكرته وذاكرين‪ ،‬فانفجر يل منه علم‬ ‫�أعجبني حفظه‪.‬‬ ‫الزورة‪ ،‬نحواً من ت�سع �سنوات‪،‬‬ ‫وقد �أقام ال�شافعي مبكة‪ ،‬يف هذه ْ‬ ‫اكت�شف فيها �أن عليه �أن ي�ضع يف الفقه قواعد ومقايي�س يعرف بها‬ ‫احلق من الباطل‪� ،‬أو على الأقل ما هو �أقرب للحق‪ ،‬من فقه احلجازيني‬ ‫والعراقيني مع ًا‪ .‬و�ساعدته فرتة �إقامته الهادئة مبكة على �إجناز هذه‬ ‫الغاية‪ ،‬بو�ضع قواعد للفقه يف كتاب‪ ،‬يعرف به طرق دالالته‪ ،‬و�أحكام‬ ‫النا�سخ واملن�سوخ وخ�صائ�صهما‪ ،‬ومكانة ال�سنة يف علم ال�رشيعة‪،‬‬ ‫ومعرفة �صحيحها من �سقيمها‪ ،‬وطرق اال�ستدالل بها‪ ،‬ومقامها من‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬ويعرف به كيف ت�ستخرج الأحكام �إذا مل يكن ثمة ن�ص‬ ‫من كتاب وال �سنة‪ ،‬و�ضوابط االجتهاد يف ذلك‪ ،‬واحلدود التي ينبغي �أن‬ ‫يلتزم بها املجتهد يف اجتهاده‪.‬‬ ‫وحني انتهى ال�شافعي من �إجنازه لهذا الكتاب‪� ،‬سافر به لعر�ضه على‬ ‫جمهرة الفقهاء يف بغداد‪ ،‬من �أهل النقل والعقل‪ ،‬و�أهل احلديث والر�أي‪،‬‬ ‫ع�شا للفقهاء‪.‬‬ ‫مع ًا‪ .‬فبغداد كانت �آنذاك ًّ‬

‫يف ع�ش الفقهاء‬ ‫عاد ال�شافعي �إىل بغداد �سنة ‪ 195‬هجرية‪ ،‬وله من العمر خم�س‬ ‫و�أربعون �سنة‪ ،‬وقد �صار �صاحب طريقة يف الفقه مل ي�سبق �إليها‪� ،‬أ�صبح‬ ‫قواعد و�أ�صول‪ ،‬ت�رشيع ًا‪ ،‬واجتهاداً‪ ،‬قواعد كلية‪ّ � ،‬أ�صل �أ�صولها‪،‬‬ ‫بها للفقه‬ ‫ُ‬ ‫و�ضبط بها امل�سائل اجلزئية‪ ،‬ف�صار للفقه عام كلي‪ ،‬وقواعد عامة لأول‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫واجتمع حول ال�شافعي بكتابه ذاك (كتاب الر�سالة) العلماء والفقهاء‪،‬‬ ‫‪118‬‬


‫من �أهل الر�أي واملحدثني‪ .‬وكان ال�شافعي قد و�ضع كتابه تلبية لطلب‬ ‫«عبد الرحمن بن مهدي»‪ ،‬مثلما و�ضع مالك «موط�أه» تلبية لطلب‬ ‫اخلليفة �أبي جعفر املن�صور‪.‬‬ ‫وخالل �سنتني وب�ضعة �أ�شهر‪ ،‬كان ال�شافعي ين�رش بالعراق طريقته‬ ‫اجلديدة‪ ،‬ويجادل بها الفقهاء‪ ،‬وينقد يف �ضوئها �آراء الفقهاء‪ ،‬وين�رش‬ ‫الكتب والر�سائل‪ ،‬ثم اعتزم ال�سفر �إىل م�رص يف �سنة ‪ 199‬هجرية‪.‬‬ ‫املرجح يف هجرة ال�شافعي �إىل م�رص‪ ،‬ومغادرته ع�ش‬ ‫وكان ال�سبب‬ ‫َّ‬ ‫العلماء‪ :‬بغداد‪� ،‬أن اخلالفة �صارت لعبد اهلل امل�أمون‪ ،‬و�أن الغلبة يف عهد‬ ‫امل�أمون كانت للعن�رص الفار�سي‪ ،‬و�أن امل�أمون كان يقرب �إليه املعتزلة‬ ‫من علماء الكالم‪ ،‬وال�شافعي نفور من املعتزلة‪ ،‬ومناهج بحثهم‪ ،‬ويخ�شى‬ ‫�أذى من امل�أمون قد يلحق الفقهاء‪ ،‬وقد �صار املعتزلة كتابه وحجابه‬ ‫وجل�ساءه‪ ،‬خا�صة و�أن امل�أمون عر�ض على ال�شافعي �أن يوليه الق�ضاء‬ ‫فاعتذر‪ .‬ولعله خ�شى �أن يتكرر هذا العر�ض‪ ،‬و�أن يواجه م�صرياً كم�صري‬ ‫بدا من الرحيل �إىل‬ ‫�أبي حنيفة‪ ،‬عند �أبي جعفر املن�صور‪ ،‬ولذلك مل يجد ًّ‬ ‫م�رص‪ ،‬ومل يجد مهجراً وا�سع ًا �إال يف م�رص‪ ،‬فواليها قر�شي ها�شمي‬ ‫معتزليا‪.‬‬ ‫فار�سيا‪ ،‬وال‬ ‫عبا�سي‪ ،‬ولي�س‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ويروي ياقوت يف معجمه يقول‪:‬‬ ‫«وكان �سبب قدومه (ال�شافعي) �إىل م�رص‪� ،‬أن العبا�س بن عبد اهلل بن‬ ‫العبا�س بن مو�سى بن عبد اهلل بن عبا�س دعاه‪ .‬وكان العبا�س والي ًا لعبد‬ ‫اهلل امل�أمون على م�رص»‪.‬‬ ‫ويروي ياقوت �أن ال�شافعي قال عندما �أراد ال�سفر �إىل م�رص‪:‬‬ ‫م�رص‬ ‫لقد �أ�صبحت نف�سي تتوق �إىل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫املهام ِه والفق ِر‬ ‫ومن دونها قطع‬ ‫فواهلل ما �أدري ا ْلفو َز والغنى‬ ‫أ�ساق �إىل القرب‬ ‫� َأ�ساق �إليها‪� ،‬أم � ُ‬ ‫‪119‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫ولقد � ِ‬ ‫أعطي ال�شافعي يف م�رص الأمرين‪ ،‬فنال الغنى بن�صيبه من �سهم‬ ‫ذوي القربى بن�سبه ال�رشيف‪ ،‬ونال الفوز بن�رش علمه و�آرائه وفقهه‪ ،‬وناله‬ ‫املوت ب�سوقه �إىل قربه يف م�رص‪� ،‬سنة ‪ 204‬هجرية‪� ،‬أي �أنه �أقام يف‬ ‫م�رص قرابة �أربع �سنوات‪� ،‬أو تزيد قليال‪.‬‬ ‫املحنة الثانية‬ ‫يف م�رص‪ ،‬راح ال�شافعي يلقي ب�آرائه الفقهية هو‪ ،‬ال يتعر�ض فيها‬ ‫بنقد �أو تزييف لآراء �شيخه مالك‪ ،‬وافقه �أو خالفه‪ ،‬ولذلك كان ال�شافعي‬ ‫يعد من �أ�صحاب مالك بني فقهاء م�رص‪ ،‬مع � ّأن يف �آرائه ما يخالف �آراء‬ ‫بع�ض �أ�صحاب مالك‪ ،‬ومثلما خالف‬ ‫مالك‪ ،‬مثلما خالف مالك ًا‪ ،‬من قبل‪ُ ،‬‬ ‫�أبا حنيفة‪ ،‬من قبل‪ ،‬بع�ض �أ�صحاب �أبي حنيفة‪.‬‬ ‫ثم حدث ما ا�ضطر ال�شافعي �إىل �أن ينقد �آراء مالك‪ ،‬ويك�شف ما فيها‬ ‫من خط�أ يف ر�أيه‪ ،‬فقد بلغه الإمام �أن مالك ُتقد�س �آثاره‪ ،‬وثيابه‪ ،‬يف‬ ‫بع�ض البالد الإ�سالمية‪ ،‬و�أن م�سلمني من امل�سلمني يعار�ضون �أحاديث‬ ‫للر�سول‪ ،‬ب�أقوال مالك‪ .‬ف�أدرك ال�شافعي �أن النا�س ُمقدمون على �أمر خطري‪،‬‬ ‫ت�صبح به �أقوال مالك دين ًا داخل الدين‪ ،‬فمالك ي�صيب ويخطئ‪ ،‬ولي�س‬ ‫لر�أي مالك وال لر�أي �سواه مع احلديث ر�أي‪ ،‬وهو (ال�شافعي) معروف بني‬ ‫النا�س ب�أنه نا�رص احلديث‪ .‬وعليه �أن ينقد �آراء مالك‪ ،‬ويعلن عن اخلط�أ‬ ‫فيها للنا�س‪ ،‬ليعلم النا�س �أنه ال ر�أي ملالك مع احلديث ال�صحيح‪ ،‬الذي‬ ‫مل يبلغ مالك ًا‪.‬‬ ‫وعكف ال�شافعي و�ألف كتاب ًا بعنوان «خالف مالك»‪ .‬وتردد فرتة يف‬ ‫�إعالنه‪ ،‬فهو عنده «الأ�ستاذ» ثم ا�ستخار اهلل و�أذاعه للنا�س‪.‬‬ ‫يروي «الفخر الرازي» يف كتابه عن مناقب ال�شافعي‪ .‬قال‪:‬‬ ‫«�إن ال�شافعي �إمنا و�ضع الكتاب على مالك‪ ،‬لأنه بلغه �أن بالأندل�س‬ ‫قلن�سوة (غطاء ر�أ�س) َي�س َت ِقي بها (النا�س)‪ .‬وكان يقال لهم قال ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فيقولون قال مالك‪ .‬فقال ال�شافعي‪� :‬إن مالك ًا �آدمي‬ ‫‪120‬‬


‫قد يخطئ ويغلط‪ .‬فكان ذلك داعي ًا ال�شافعي �إىل و�ضع الكتاب على مالك‪،‬‬ ‫وكان يقول‪ :‬كرهت �أن �أفعل ذلك‪ .‬ولكني ا�ستخرت اهلل فيه �سنة»‪.‬‬ ‫ويروي الربيع تلميذ ال�شافعي‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«�سمعت ال�شافعي ر�ضي اهلل عنه يقول‪ :‬قدمت م�رص‪ ،‬وال �أعرف �أن‬ ‫مالك ًا يخالف من �أحاديثه �إال �ستة ع�رش حديث ًا‪ .‬فنظرت ف�إذا هو (مالك)‬ ‫يقول بالفرع‪ ،‬ويدع الأ�صل‪ ،‬ويقول بالأ�صل‪ ،‬ويدع الفرع»‪.‬‬ ‫وكان ملالك مب�رص املكان الأول بني املجتهدين‪ .‬ولذلك ثار املالكيون‬ ‫ويجرحونه‪ ،‬ويطعنون عليه‪ ،‬بل ذهب‬ ‫على ال�شافعي‪ ،‬وراحوا ينقدونه‬ ‫ّ‬ ‫جماعة منهم �إىل الوايل طالبني �إخراج ال�شافعي من م�رص‪ .‬فدافع عنه‬ ‫الوايل ب�أنه مل ينقد مالك ًا فقط‪ ،‬و�إمنا نقد من قبله �آراء العراقيني‪ ،‬ونقد‬ ‫وذكرهم بقول لأحمد بن حنبل فيه‪« :‬ال�شافعي‬ ‫�آراء الأوزاعي فقيه ال�شام‪ّ .‬‬ ‫فيل�سوف يف �أربعة �أ�شياء‪ :‬يف اللغة‪ ،‬واختالف النا�س‪ ،‬واملعاين‪،‬‬ ‫والفقه»‪ ،‬وذكرهم ب�أن النا�س كانوا قبل ال�شافعي فريقني‪� :‬أ�صحاب‬ ‫احلديث‪ ،‬و�أ�صحاب الر�أي‪ ،‬و�أن ال�شافعي جمع ب�أ�صول بينهما‪ ،‬فانقطع‬ ‫ب�سببه ا�ستيالء �أهل الر�أي على �أهل احلديث‪ ،‬ومالك كان غالب ًا من �أهل‬ ‫احلديث‪.‬‬ ‫وقف الوايل مع ال�شافعي‪ ،‬تارك ًا �إياه جلداله مع العلماء‪ ،‬ال يخرجه‬ ‫من م�رص‪� ،‬إىل �أن اندفع �شاب‪ ،‬واعتدى عليه‪ .‬ويروي ياقوت يف معجمه‬ ‫ق�صة هذا االعتداء‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«كان مب�رص رجل من �أ�صحاب مالك بن �أن�س‪ ،‬يقال له ِ‬ ‫«ف ْت َيان»‬ ‫فيه حدة وطي�ش‪ ،‬وكان يناظر ال�شافعي كثرياً‪ ،‬ويجتمع النا�س عليهما‪،‬‬ ‫فتناظرا يوم ًا يف م�س�ألة بيع احلر‪ ،‬وهو العبد املرهون‪� ،‬إذا اعتقه الراهن‪،‬‬ ‫تيان بيعه‪ ،‬وظهر ال�شافعي على‬ ‫ف�أجاب ال�شافعي بجواز بيعه‪،‬‬ ‫ومنع ِف ُ‬ ‫َ‬ ‫يان يف ا ِ‬ ‫ال�شافعي‬ ‫حلجاج (اجلدال)‪ ،‬ف�ضاق ف ْتيان لذلك ذرع ًا‪ ،‬ف�شتم‬ ‫ِف ْت َ‬ ‫ّ‬ ‫�ش ْتم ًا قبيح ًا‪ ،‬فلم يرد ال�شافعي عليه حرف ًا‪ ،‬وم�ضى يف كالمه يف امل�س�ألة‪.‬‬ ‫‪121‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫فر ِفع (ما حدث) �إىل الوايل‪ ،‬فدعا الوايل ال�شافعي‪ ،‬و�س�أله عن ذلك‪ ،‬وعزم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تيان‬ ‫عليه (�ألح عليه) ف�أخربه (ال�شافعي) مبا جرى‪ ،‬و�شهد ال�شهود على ف َ‬ ‫بذلك‪ .‬و�أمر (الوايل) بف ْتيان ف�ضرُ ب بال�سياط‪ِ ،‬‬ ‫وطيف به على جمل‪ ،‬وبني‬ ‫�سب �آل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫يديه (من) ينادي‪ :‬هذا جزاء من ّ‬ ‫تع�صبوا لفتيان من �سفهاء النا�س‪ ،‬وق�صدوا حلقة ال�شافعي‪،‬‬ ‫ثم �إن قوم ًا ّ‬ ‫(وانتظروا) حتى خلت من �أ�صحابه‪ ،‬وبقي وحده‪ ،‬فهجموا عليه و�رضبوه‪،‬‬ ‫فحمل ال�شافعي �إىل منـزله‪ ،‬فلم يزل فيه علي ًال حتى مات»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقد ال يكون ال�رضب هو �سبب املوت‪ ،‬فالعلة التي مات بها ال�شافعي‬ ‫هي مر�ضه بالبوا�سري‪ ،‬وقد �أ�صابه ب�سبب البوا�سري ن ْزف �شديد‪ ،‬فلقي وجه‬ ‫ربه را�ضي ًا مر�ضي ًا‪.‬‬

‫�شخ�صية �إمام‬ ‫حظا من املواهب‪،‬‬ ‫ويرى ال�شيخ حممد �أبو زهرة �أن ال�شافعي �أوتي ًّ‬ ‫تتحدد بها �شخ�صيته‪ .‬فهو قوي املدارك العقلية‪ ،‬وخمل�ص يف طلب احلق‬ ‫واملعرفة‪ ،‬وقوي البيان ف�صيح الل�سان‪ ،‬عميق ال�صوت‪ ،‬ونافذ الب�صرية‬ ‫يف نفو�س النا�س‪ ،‬بفرا�سته التي اكت�سبها من �شيخه مالك بن �أن�س‪.‬‬ ‫و�آية قوة مدارك ال�شافعي‪ ،‬ح�ضور بديهته‪ ،‬وعمق �أفكاره‪ ،‬وبعد مداه‬ ‫يف الفهم‪ ،‬واجتاهه �إىل و�ضع �ضوابط عامة للحوادث و�أحكامه‪ ،‬طالب ًا‬ ‫بها الكليات والنظريات العامة من خالل اجلزئيات‪ ،‬وبقوة مداركه هذه‬ ‫و�ضع ال�شافعي �أ�سا�س الفقه و�أ�صوله‪ ،‬وجعله علم ًا لأول مرة‪.‬‬ ‫و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق واملعرفة‪ ،‬طلبه للعلم لوجه‬ ‫اهلل‪ ،‬بنظرة �صادقة تتجه �إىل احلقائق وحدها‪ ،‬يف كل مراحل طلبه للعلم‪،‬‬ ‫ويعلنها يف جر�أة حتى لو خالفت ما ي�ألفه النا�س‪ .‬وقد حدثت هذه اجلر�أة‪،‬‬ ‫حني خالف �شيخه «حممد بن احل�سن ال�شيباين» وناظره و�أ�صحابه‪ ،‬وفاز‬ ‫‪122‬‬


‫يف مناظرته‪ ،‬وحني �ألف كتابه عن «خالف مالك»‪ ،‬وهو �شيخه الأكرب‪،‬‬ ‫لأن النا�س قد�سوا �آثاره و�آراءه‪ .‬فاحلق العام فوق حق ال�شيخ‪ ،‬وفوق حق‬ ‫ال�صديق‪.‬‬ ‫و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق دعوته لأ�صحابه �أن يطلبوا‬ ‫احلديث ال�صحيح‪ ،‬ويرف�ضوا �آراءه هو �إذا خالفت احلديث ال�صحيح‪.‬‬ ‫روى ياقوت يف معجمه �أن تلميذ ال�شافعي «الربيع بن �سليمان»‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«�سمعت ال�شافعي‪ ،‬وقد �س�أله رجل عن م�س�ألة‪ ،‬فقال ال�شافعي‪:‬‬ ‫ يروى عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أنه قال كذا وكذا‪.‬‬‫فده�ش ال�سائل لأن ال�شافعي يعتمد يف ر�أيه على احلديث‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬أتقول بهذا؟!‬‫وا�صفر لونه‪ ،‬وحال وت َغيرّ ‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫فارتعد ال�شافعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ � ّأي �أر�ض ُتق ّلني‪ ،‬و� ّأي �سماء ُتظلني‪� ،‬إذا رويت عن ر�سول اهلل �صلى‬‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ومل �أقل‪ :‬نعم على الر�أ�س والعينني؟!‪.‬‬ ‫ويروي الربيع‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«�سمعت ال�شافعي‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ ما من �أحد �إال وتذهب عنه �سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬‫وتع ُزب‪ ،‬فمهما قلت من قول‪� ،‬أو � ّأ�صلت من �أ�صل‪ ،‬فيه عن ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم خالف ما قلت‪ ،‬فالقول ما قال ر�سول اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وهو‬ ‫قويل‪.‬‬ ‫وجعل يردد هذا الكالم»‪.‬‬ ‫و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق‪ ،‬قوله‪:‬‬ ‫«لو كان الكذب مباح ًا لكانت مروءة املرء متنعه �أن يكذب‪ .‬ولوددت‬ ‫يل �شيء منه‪ ،‬ف�أوجز‬ ‫�أن النا�س تعلموا هذا العلم (علم الفقه)‪ ،‬وال ين�سب �إ ّ‬ ‫يحمدوين»‪.‬‬ ‫عليه وال‬ ‫ُ‬ ‫و�آية قوة بيان ال�شافعي‪ ،‬ف�صاحة ل�سانه‪ ،‬وعمق ت�أثري �صوته‪،‬‬ ‫‪123‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫ف�سامعوه كانوا يبكون حني ي�سمعون قراءته للقر�آن‪ ،‬وكان مالك يرغب‬ ‫يف �أن ي�سمع منه‪ ،‬ب�صوته كل «املوط�أ»‪ .‬وكلما توقف ال�شافعي خوف‬ ‫الإمالل‪ ،‬قال له مالك‪ :‬زد يا فتى‪.‬‬ ‫وقد روى تاريخ بغداد عن بع�ض ُمعا�رصي ال�شافعي‪ ،‬قول �أحدهم‪:‬‬ ‫«كنا �إذا �أردنا �أن نبكي‪ ،‬قلنا لبع�ضنا البع�ض‪:‬‬ ‫املطلبي‪ ،‬نقر�أ القر�آن‪.‬‬ ‫ قوموا بنا �إىل هذا الفتى ّ‬‫ف�إذا �آتيناه ا�ستفتح القر�آن‪ ،‬حتى ي�ساقط النا�س بني يديه‪ ،‬ويكرث‬ ‫عجيجهم بالبكاء‪ ،‬ف�إذا ر�أى ذلك �أم�سك عن القراءة»‪.‬‬ ‫وكان «ابن راهويه»‪ ،‬ي�سمي ال�شافعي «خطيب العلماء»‪ ،‬ويروي �أن‬ ‫«ابن �أبي اجلارود» قال عن ال�شافعي‪:‬‬ ‫«ما ر�أيت �أحداً �إال وكتبه �أكرث من م�شافهاته‪� ،‬إال ال�شافعي‪ ،‬ف�إن ل�سانه‬ ‫�أكرث من كتابته»‪.‬‬ ‫ولقد كانت كتب ال�شافعي‪ ،‬جيدة التعبري‪ ،‬ح�سنة الت�صوير للفكرة‪،‬‬ ‫عالية العبارة‪ ،‬ف�صيحة الل�سان‪.‬‬ ‫و�آية فرا�سة ال�شافعي‪ ،‬معرفته‪ ،‬ب�أحوال �أ�صحابه وجمال�سيه‪ ،‬وما‬ ‫تطيقه نفو�سهم من العلم‪ ،‬فلم يكن يعطي من العلم �أحداً منهم‪� ،‬إال على قدر‬ ‫ما يطيقه‪ ،‬ولهذا ال�سبب التف حوله �أكرب عدد من التالميذ والأ�صحاب‪،‬‬ ‫يف مكة‪ ،‬وبغداد‪ ،‬والقاهرة‪.‬‬ ‫ويروى �أن ال�شافعي دخل امل�سجد اجلامع ببغداد‪ ،‬وعقد حلقة لدر�سه‪،‬‬ ‫مل تلبث �أن ات�سعت‪ ،‬وات�سعت‪ ،‬حتى مل يبق بامل�سجد حلقة لغريه‪ ،‬وكانت‬ ‫قب ًال تقارب اخلم�سني حلقة يف امل�سجد نف�سه‪.‬‬ ‫ذيل مع بع�ض معا�رصيه‪،‬‬ ‫ويروى �أن ال�شافعي كان يتنا�شد �شعر ُه ْ‬ ‫ف�أتى عليه ال�شافعي حفظ ًا‪ ،‬وقال ملن كان يتنا�شد معه‪:‬‬ ‫علم �أحداً من �أهل احلديث‪ ،‬ف�إنهم ال يحتملون ذلك»‪.‬‬ ‫«ال ُت ْ‬ ‫�شيوخ ع�رصه‬ ‫‪124‬‬


‫عن �شيوخ مبكة‪ ،‬و�شيوخ باملدينة‪ ،‬و�شيوخ باليمن‪ ،‬و�شيوخ بالعراق‪،‬‬ ‫�أخذ ال�شافعي علمه بفقه احلديث‪ ،‬وفقه الر�أي‪ ،‬بل لقد �أخذ علم الكالم من‬ ‫علماء االعتزال‪ ،‬وهو العلم الذي كان ال�شافعي ينهى عنه‪ ،‬مثلما كان‬ ‫ينهى عنه الإمام مالك‪ .‬ف�أخذ من كل �أف�ضل ما لديه‪ ،‬مما يجب �أخذه‪،‬‬ ‫الرد والرتك‪.‬‬ ‫وترك من كل ما يراه واجب ّ‬ ‫عد الفخر الرازي‪ ،‬م�ؤلف كتاب‪ :‬مناقب ال�شافعي‪ ،‬من بني �شيوخ‬ ‫وقد ّ‬ ‫ال�شافعي الكثريين‪ ،‬ت�سعة ع�رش �شيخ ًا‪ :‬خم�سة من مكة‪ ،‬و�ستة من املدينة‪،‬‬ ‫و�أربعة من اليمن‪ ،‬و�أربعة من العراق‪ ،‬ون�سى �أن يذكر معهم حممد ابن‬ ‫احل�سن ال�شيباين‪.‬‬ ‫و�أخذ ال�شافعي من بع�ض �شيوخه‪ ،‬فقه احلديث‪ ،‬ومن بع�ضهم فقه‬ ‫الر�أي‪ ،‬ومن بع�ضهم علم الكالم‪ ،‬ومزج علم ه�ؤالء بعلم ه�ؤالء‪ ،‬فكان‬ ‫فقه ال�شافعي فقه حديث ور�أي مع ًا‪ ،‬على �أمت ما يكون الفقه‪ .‬وتوجه‬ ‫بو�ضعه لعلم �أ�صول الفقه‪ ،‬حني اجتمع له فقه مكة واملدينة‪ ،‬وال�شام‪،‬‬ ‫وم�رص‪ ،‬والعراق‪ ،‬ومل يجد حرج ًا يف طلب فقه االعتزال وفقه ال�شيعة‪،‬‬ ‫وهما فقهان يخو�ضان يف �أ�صول االعتقاد التي ال يخو�ض فيها الفقهاء‪،‬‬ ‫و�أ�ضاف �إليها جميع ًا درا�ساته اخلا�صة‪ ،‬وجتاربه يف رحالته التي عرف‬ ‫بها النا�س‪ ،‬و�أحوال النا�س هنا وهناك‪ ،‬من اليمن‪� ،‬إىل مكة‪� ،‬إىل املدينة‪،‬‬ ‫�إىل بغداد‪� ،‬إىل القاهرة‪ ،‬وكلها كانت يف الوقت نف�سه رحالت علمية‪،‬‬ ‫يتبادل فيها الأخذ والعطاء‪.‬‬ ‫ومن قبل هذا وذاك‪ ،‬كان ال�شافعي قد ملك نوا�صي العربية‪ ،‬و�أدبها‪،‬‬ ‫و�شعرها‪.‬‬ ‫وكان ع�رص ال�شافعي ع�رصاً التقت فيه احل�ضارات القدمية يف منطقة‬ ‫واحدة من العامل‪ ،‬يظلها دين جديد‪ ،‬ح�ضارات الهند‪ ،‬وفار�س‪ ،‬واليونان‪.‬‬ ‫وكان ع�رص اخل�صب العقلي امل�ستقل املنتج‪ ،‬من رجال احلديث‪ ،‬ورجال‬ ‫الر�أي‪ ،‬ورجال االعتقاد‪ ،‬وع�رصاً يبد�أ فيه تدوين الكتب يف �شتى‬ ‫‪125‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫العلوم‪ ،‬وتكرث فيه املناظرات‪ .‬ويف و�سط هذا الع�رص املتعدد الوجوه‪،‬‬ ‫الغني بالتفاعالت‪ ،‬والرثوة العلمية‪ ،‬خرج ال�شافعي ب�آرائه ومذاهبه‬ ‫واجتاهاته‪ ،‬معتمداً على ثقافته اللغوية والدينية والفكرية‪ ،‬وعلى قوة‬ ‫مواهبه العقلية‪ ،‬و�أفق درا�ساته الوا�سعة‪ ،‬ويف عمر ق�صري مل يزد على‬ ‫خم�س وخم�سني �سنة‪ ،‬من املهد �إىل احلد‪.‬‬

‫ال�شافعي وعلماء الكالم‬ ‫املحدث‪ ،‬بعلم الكالم‪،‬‬ ‫كان ال�شافعي على علم ومعرفة‪ ،‬وهو الفقيه‬ ‫ّ‬ ‫و�آرائه عن املعتزلة خا�صة‪ ،‬وال�شيعة و�سواهم عامة‪ .‬ولكن ال�شافعي كان‬ ‫واملحدثون يف‬ ‫يبغ�ض علم الكالم و�أهله‪ ،‬مثلما كان يبغ�ضهما الفقهاء‬ ‫َ‬ ‫ع�رصه‪ .‬فقد �أثار �أهل الكالم‪ ،‬من دعاة العقل م�سائل معقدة و�شائكة يف‬ ‫العقيدة‪ ،‬لي�س بو�سع العقل الب�رشي‪� ،‬أن ي�صل فيها �إىل ر�أي واحد‪ ،‬واجتهوا‬ ‫فل�سفيا‪.‬‬ ‫بدرا�سة العقيدة اجتاه ًا‬ ‫ًّ‬ ‫ولذلك كان ال�شافعي ينهى يف جمال�س درو�سه عن اال�شتغال بعلم‬ ‫الكالم‪ ،‬ويقول لأ�صحاب جمل�سه‪:‬‬ ‫«حكمي يف �أ�صحاب الكالم �أن ُي�رضبوا باجلريد‪ ،‬ويحملوا على الإبل‬ ‫منك�سني‪ ،‬ويطاف بهم يف الع�شائر والقبائل‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا جزاء من ترك‬ ‫الكتاب وال�سنة‪ ،‬و�أخذ يف الكالم»‪.‬‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫«�إياكم والنظر يف الكالم‪ ،‬ف�إن الرجل لو �سئل عن م�س�ألة يف الفقه‪،‬‬ ‫و�أخط�أ فيها‪ ،‬كان �أكرث �شيء �أن ُي�ضحك منه‪ ،‬كما لو �سئل عن رجل قتل‬ ‫رج ًال‪ ،‬فقال‪ :‬ديته بي�ضة‪ .‬ولو �سئل عن م�س�ألة يف الكالم‪ ،‬ف�أخط�أ‪ ،‬ن�سب‬ ‫�إىل البدعة»‪.‬‬ ‫وكان يقول‪:‬‬ ‫‪126‬‬


‫يخطئ‬ ‫«ر�أيت �أهل الكالم يكفر بع�ضهم بع�ض ًا‪ .‬ور�أيت �أهل احلديث ّ‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬والتخطئة �أهون من الكفر»‪.‬‬ ‫بل بلغ بغ�ض ال�شافعي لعلماء الكالم‪ ،‬وطرائق علماء الكالم‪� ،‬أنه كان‬ ‫ال يعدهم علماء‪ .‬روى عنه تلميذه الربيع قوله‪:‬‬ ‫«لو �أن رج ًال �أو�صى بكتبه من العلم‪ ،‬وفيها كتب الكالم‪ ،‬مل تدخل‬ ‫كتب الكالم يف تلك الو�صية»‪.‬‬ ‫ملزين‪ ،‬ما يفيد �أن ال�شافعي على كراهيته لعلم الكالم‪،‬‬ ‫وروى تلميذه ا ُ‬ ‫مل يكن على جهلٍ به‪ .‬قال‪:‬‬ ‫«كنا على باب ال�شافعي رحمه اهلل‪ ،‬نتناظر يف الكالم‪ ،‬فخرج ال�شافعي‬ ‫�إلينا‪ .‬ف�سمع بع�ض ما كنا فيه‪ ،‬فرجع عنا‪ ،‬ثم خرج �إلينا‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ ما منعني من اخلروج �إليكم‪� ،‬إال �أنني �سمعتكم تتناظرون يف‬‫الكالم‪� ،‬أتظنون �أين ال �أح�سنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت مبلغ ًا عظيم ًا‪،‬‬ ‫�إال �أن الكالم ال غاية له‪ ،‬تناظروا يف �شيء �إن �أخط�أمت فيه يقال‪� :‬أخط�أمت‪،‬‬ ‫وال يقال كفرمت»‪.‬‬ ‫ومن العجيب‪ ،‬كما يقول ال�شيخ حممد �أبو زهرة‪� ،‬أن علماء الكالم‪،‬‬ ‫أخ�صهم بهذا العلم هم املعتزلة‪ ،‬كانت غايتهم مثل غاية الفقهاء‬ ‫و� ّ‬ ‫واملحدثني‪ :‬تقرير الدين والدفاع عن الدين‪� ،‬ضد �أهل الفرق الإ�سالمية‬ ‫وكل كان يقرر مبادئ الدين‪ ،‬ويدافع عن‬ ‫ال�ضالة‪ ،‬وخ�صوم الإ�سالم‪ُّ ،‬‬ ‫الدين بطريقته‪ ،‬هذا بطريق النقل‪ ،‬وذاك بطريق العقل‪ .‬والأكرث عجب ًا �أن‬ ‫يكفر الفقهاء من هذه طريقته‪ ،‬وتلك غايته‪ ،‬من دعاة العقل‪ ،‬من علماء‬ ‫الكالم‪ ،‬وفال�سفة الإ�سالم‪.‬‬ ‫ومع ذلك كان لل�شافعي «كالم» يف كثري من �أبواب «علم الكالم»‪،‬‬ ‫تتعلق بالعقيدة‪ ،‬لكنه كالم فقيه حمدث‪ ،‬ال بد له من ا�ستخدام العقل‪ ،‬مع‬ ‫النقل‪ ،‬عند احلديث عن العقيدة‪.‬‬ ‫كان ال�شافعي يرى �أن كالم اهلل غري خملوق‪ ،‬ويعتقد بر�ؤية اهلل يوم‬ ‫‪127‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫القيامة‪ ،‬وي�ؤمن بالق�ضاء والقدر خريه و�رشه‪ ،‬ويرى �أن الإميان ت�صديق‬ ‫وعمل‪ ،‬و�أنه يزيد وينق�ص بزيادة العمل ونق�صه‪ ،‬وهذه الآراء هي �إحدى‬ ‫وجهات النظر لعلماء الكالم‪.‬‬ ‫علي بن‬ ‫ويف ال�سيا�سة كان ال�شافعي يرى �أن الإمامة‪ ،‬هي كما قال ّ‬ ‫�أبي طالب‪ ،‬ال بد منها‪ ،‬ويعمل حتت ظلها امل�ؤمن‪ ،‬وي�ستمتع الكافر‪ ،‬و�أن‬ ‫الإمامة يف قري�ش‪ .‬ويروي عنه تلميذه حرملة امل�رصي قوله‪:‬‬ ‫«كل قر�شي عال اخلالفة بال�سيف‪ ،‬واجتمع عليه النا�س‪ ،‬فهو خليفة»‪.‬‬ ‫قر�شيا‪� ،‬أو ًال‪،‬‬ ‫فاخلالفة عند ال�شافعي تنح�رص يف كون اخلليفة‬ ‫ًّ‬ ‫واجتماع النا�س عليه ثاني ًا‪� ،‬سواء كان هذا االجتماع ببيعة �سابقة‪� ،‬أو‬ ‫ببيعة الحقة‪� ،‬أو بغري بيعة على الإطالق‪ .‬والها�شمية لي�ست �رشط ًا يف‬ ‫القر�شية‪ ،‬فعمر بن عبد العزيز كان عنده اخلليفة اخلام�س الرا�شد‪ ،‬وكان‬ ‫أمويا‪� ،‬أي غري ها�شمي‪ .‬ومع ذلك كان ال�شافعي يرى �أن معاوية‬ ‫قر�شيا � ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫علي بن �أبي طالب‪،‬‬ ‫و�أ�صحابه كانوا هم الفئة الباغية‪ ،‬يف موقفهم من ّ‬ ‫وكانوا‪ ،‬مثل عمر بن عبد العزيز‪ ،‬قر�شيني �أمويني‪ ،‬غري ها�شميني‪.‬‬ ‫�أدوار الفقه ال�شافعي‬ ‫عام ‪ 184‬الهجري‪ ،‬كان ال�شافعي قد بلغ من العمر خم�س ًا وثالثني‬ ‫�سنة‪ ،‬ويف تلك ال�سنة‪ ,‬وكان ال�شافعي مبكة‪� ،‬رشع يف تكوين مذهب‬ ‫فقهي م�ستقل‪ ،‬عن �آراء �شيخه مالك بن �أن�س‪ .‬وكان ال�شافعي قد عاد �إىل‬ ‫مكة‪ ،‬بعد رحلته القهرية الأوىل من اليمن �إىل بغداد‪ ،‬وبعد �أن تتلمذ زمن ًا‬ ‫على حممد بن احل�سن ال�شيباين‪ ،‬يف بغداد‪ ،‬وهو من فقهاء الر�أي‪ .‬وقد �آن‬ ‫له وهو مبكة �أن يجمع يف مذهبه بني مذهبي احلديث والر�أي‪ ،‬والنقل‬ ‫والعقل‪.‬‬ ‫ولقد مر املذهب الفقهي لل�شافعي‪ ،‬خالل ما بقي من عمره بثالثة‬ ‫�أدوار‪� :‬أولها كان مبكة ملدة ت�سع �سنوات تقريب ًا‪ ،‬وثانيها كان ببغداد (يف‬ ‫رحلته الثانية) ملدة ثالث �سنوات تقريب ًا‪ ،‬وثالثها كان بالقاهرة ملدة‬ ‫‪128‬‬


‫�أربع �سنوات تقريب ًا‪.‬‬ ‫ويف املرحلة الأوىل من فقه ال�شافعي‪ ،‬جنح ال�شافعي يف ن�سج‬ ‫خيوط مذهبه‪ ،‬مبا جتمع لديه من ثروة من الأحاديث‪ ،‬والآراء الفقهية‪،‬‬ ‫وراح ي�ستنبط �أدلة القر�آن‪ ،‬و�أدلة ال�سنة‪ ،‬ويوازن بني امل�صادر الفقهية‪،‬‬ ‫وي�ستخدم الرتجيح بني ما يتعار�ض من الأحاديث‪� ،‬أو من الآراء‪ ،‬حتى‬ ‫و�صل �إىل كليات الفقه و�أ�س�سه‪ .‬وهي الكليات التي ا�سرتعت نظر الإمام‬ ‫�أحمد بن حنبل‪ .‬وكانت تلك الفرتة هي �أخ�صب فرتات الفقه ال�شافعي‪ ،‬فقد‬ ‫كتب فيها كتابه «الر�سالة» الذي جمع فيه �أ�صول الفقه الإ�سالمي‪.‬‬ ‫وكان ذلك الدور هو دور االبتكار‪.‬‬ ‫ويف املرحلة الثانية من فقه ال�شافعي ببغداد‪� ،‬أذاع ال�شافعي ر�سالته‪،‬‬ ‫وعقد لها حلقات در�س مب�سجد بغداد اجلامع‪ ،‬ا�ستعر�ض فيها �آراء‬ ‫معا�رصيه من الفقهاء‪ ،‬و�آراء ال�صحابة والتابعني‪ ،‬يف �ضوء ما و�صل‬ ‫�إليه من �أ�صول كلية‪ ،‬وراح يرجح بينها على مقت�ضى هذه الأ�صول‪،‬‬ ‫�أو يخرج عنها جميع ًا‪ ،‬بر�أي جديد‪� ،‬إن مل يجد واحداً منها يندرج حتت‬ ‫لرد هذه الآراء جميع ًا‪ .‬يقول الكرابي�سي‪ ،‬بعد �أن‬ ‫�أ�صوله‪ ،‬وكان ثمة مربر ّ‬ ‫ا�ستمع �إىل حلقات در�س ال�شافعي ببغداد‪:‬‬ ‫«ما كنا ندري ما الكتاب‪ ،‬وما ال�سنة‪ ،‬وما الإجماع (يق�صد �إجماع‬ ‫ال�صحابة‪ ،‬و�إجماع الفقهاء) حتى �سمعنا ال�شافعي‪ ،‬يقول‪ :‬الكتاب‪،‬‬ ‫وال�سنة‪ ،‬والإجماع»‪.‬‬ ‫ويقول «�أبو ثور» عن تلك الفرتة‪:‬‬ ‫«دخلنا على ال�شافعي‪ ،‬فكان يقول‪:‬‬ ‫ �إن اهلل تعاىل قد يذكر العام‪ ،‬ويريد به اخلا�ص‪ ،‬ويذكر اخلا�ص‪،‬‬‫ويريد به العام‪.‬‬ ‫وكنا ال نعرف هذه الأ�شياء‪ ،‬ف�س�ألنا عنها ال�شافعي‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ �إن اهلل تعاىل يقول‪�( :‬إن النا�س قد جمعوا لكم)‪ .‬واملراد �أبو �سفيان‬‫‪129‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫(فهو عام يراد به خا�ص)‪ .‬وقال تعاىل‪( :‬يا �أيها النبي �إذا طلقتم الن�ساء)‬ ‫فهذا خا�ص واملراد به عام‪.‬‬ ‫وهذا الكالم‪ ،‬يف �أ�صول ال�شافعي‪ ،‬مل يكن النا�س يقولون به قبل‬ ‫ال�شافعي‪.‬‬ ‫وكان ذلك الدور هو دور املناق�شة واالختبار‪.‬‬ ‫ويف املرحلة الثالثة بالقاهرة‪ ،‬ر�أى ال�شافعي يف م�رص ما مل يكن قد‬ ‫ر�آه من قبل‪ .‬ر�أى عرف ًا وح�ضارة‪ ،‬و�آثاراً للتابعني‪ ،‬فراجع �آراءه‪ ،‬و�أ�صوله‬ ‫فقهيا‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬على �ضوء جتربته اجلديدة‪ ،‬و�أثمرت املراجعة فكراً‬ ‫ًّ‬ ‫جديداً‪� ،‬أعاد به كتابة «ر�سالته» املكية الأ�صول‪ ،‬فزاد وحذف‪ ،‬و�أبقى‬ ‫اجلوهر‪ ،‬و�أعاد به درا�سة �آرائه يف فروع الفقه‪ ،‬فعدل عن قدمي‪ ،‬واهتدى‬ ‫�إىل جديد‪ ،‬وتردد بني جديده وقدميه‪ ،‬فجمع بينهما‪ ،‬فكانت «ر�سالته‬ ‫القاهرية اجلديدة»‪.‬‬ ‫وكان ذلك الدور هو دور التمحي�ص واملراجعة‪.‬‬ ‫ويف كل دور كان لل�شافعي تالميذ نقلوا فقهه عنه‪ ،‬يف مكة‪ ،‬وبغداد‪،‬‬ ‫إمالء‪ ،‬وتدوين ًا‪ .‬ومن بني ه�ؤالء التالميذ‪ ،‬كان‪�« :‬أحمد‬ ‫والقاهرة‪ ،‬قراء ًة‪ ،‬و� ً‬ ‫راهو ْيه»‪ ،‬وهما فقيهان عظيمان‪.‬‬ ‫بن حنبل» و «�إ�سحق بن َ‬ ‫ولقد روى «ابن حرملة» امل�رصي عن ال�شافعي فقهه وكتبه (ويقال‬ ‫�إن ال�شافعي قد نزل عنده يف داره بالقاهرة)‪ .‬وهذه الكتب هي‪ :‬ال�رشوط‬ ‫(ثالثة �أجزاء)‪ ،‬وكتاب ال�سنن (ع�رشة �أجزاء)‪ ،‬وكتاب �ألوان الإبل والغنم‬ ‫و�صفاتها و�أ�سنانها‪ ،‬وكتاب النكاح‪ ،‬وكتب �أخرى‪.‬‬ ‫وروى الربيع بن �سليمان املرادي (اجليزي امل�رصي)‪ ،‬وهو �آخر من‬ ‫روى عن ال�شافعي‪ ،‬كتب ًا �أخرى‪ ،‬و�آراء �أخرى‪.‬‬ ‫والكتب التي كتبها ال�شافعي بنف�سه‪ ،‬هي‪ :‬الر�سالة يف مرحلتيها مبكة‬ ‫والقاهرة‪ ،‬وتعرف ب�أ�سماء‪ :‬احلجة‪ ،‬واملب�سوط‪ ،‬والأم‪ ،‬و‪ :‬كتاب ال�سنن‪ ،‬و‪:‬‬ ‫الإمالء ال�صغري‪ .‬و�أخطرها و�أهمها‪ ،‬كتابه‪ :‬الر�سالة‪ ،‬يف ثوبها امل�رصي‬ ‫‪130‬‬


‫اجلديد‪ ،‬ويقع يف �ألفني من ال�صفحات‪.‬‬

‫الفقيه يكتب‬ ‫ولقد حتدث «الربيع» امل�رصي عن بع�ض طرق ال�شافعي‪ ،‬يف الت�أليف‪،‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫ لزمت ال�شافعي قبل �أن يدخل م�رص‪ .‬وكانت له جارية �سوداء‪ ،‬فكان‬‫يعمل (يفكر يف) الباب من العلم (يف الكالم)‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬ ‫ يا جارية‪ ،‬قومي‪ ،‬ف�أ�رسجي (�أ�ضيئي امل�صباح)‪.‬‬‫فت�رسج له فيكتب ما يحتاج �إليه‪ ،‬ثم يطفئ ال�رساج‪ .‬فدام على ذلك‬ ‫�سنة‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬إن هذه اجلاري ُة منك يف جهد‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ �إن ال�رساج ي�شغل قلبي (عن التفكري)‪.‬‬‫روى حرملة‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫وكثرياً ما كان ال�شافعي يكتب بامل�سجد‪َ .‬‬ ‫«كان ال�شافعي يجل�س �إىل هذه الأ�سطوانة (العمود) يف امل�سجد‬ ‫(بالف�سطاط)‪ ،‬فتلقى له طنف�سة‪ ،‬فيجل�س عليها‪ ،‬وينحني لوجهه‪ ،‬لأنه‬ ‫كان ِم ْ�س َقام ًا (كثري املر�ض) في�صنف»‪.‬‬ ‫وكان ال�شافعي ي�ستعني بكتب غريه (مراجعهم) عند الت�صنيف‪ ،‬طلب ًا‬ ‫للأحاديث‪ ،‬والآراء الفقهية‪.‬‬ ‫وكان �أحيان ًا ميلي على َمن يح�رضه من تالميذه‪ ،‬في�أتي ما ميليه‬ ‫بلفظه ومعناه‪.‬‬ ‫وكان تالميذه يكتبون ما ي�سمعونه منه‪ ،‬في�أتي ما يكتبونه مبعانيه‪،‬‬ ‫و�ألفاظهم هم‪.‬‬ ‫وكتاب «الأم» (الر�سالة اجلديدة) لل�شافعي‪ ،‬كتاب فريد يف جزالة‬ ‫‪131‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫لفظ‪ ،‬وجمال عبارة‪ ،‬وعمق معنى‪ ،‬وابتكار منهج‪ ،‬وو�ضع لأ�صول‪.‬‬

‫من �أ�صول ال�شافعي‬ ‫و�ضع ال�شافعي كليات الفقه يف مذهبه‪ ،‬يف كتاب «الأم»‪ ،‬فو�ضع بها‬ ‫وفرع عنها امل�سائل‪.‬‬ ‫علم الأ�صول‪ ،‬وا�ست�شهد لها‪ّ ،‬‬ ‫وال�شافعي يق�سم يف �أ�صوله علم ال�رشيعة ق�سمني‪:‬‬ ‫علم العامة‪ :‬وهو العلم مبا هو معلوم من الدين بال�رضورة‪ ،‬من �أركان‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وحمرماته‪ ،‬والعلم بها واجب على كل م�سلم �أن يعرفه‪ .‬وهو‬ ‫ن�صا ال ت�أويل فيه‪ ،‬ويف ال�سنة املتواترة بني الكافة‪.‬‬ ‫موجود يف القر�آن ًّ‬ ‫وعلم اخلا�صة‪ :‬وهو العلم بفروع ال�رشيعة‪ ،‬مما فيه ت�أويل من ن�صو�ص‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬ومما لي�س فيه ن�ص متواتر عن الر�سول‪ ،‬مثل �أخبار‬ ‫الآحاد‪ .‬وعلم اخلا�صة فر�ض كفاية ال يطلبه �إال اخلا�صة من الفقهاء‪،‬‬ ‫وهو مو�ضوع بحثهم وتنازعهم‪ ،‬وبحاجة �إىل �ضوابط يف اال�ستنباط‪،‬‬ ‫لتكون مقيا�س ًا يبني به اخلط�أ وال�صواب‪.‬‬ ‫وعلم اخلا�صة عند ال�شافعي خم�سة �أنواع هي بالرتتيب‪ :‬الكتاب‪،‬‬ ‫وال�سنة �إذا ثبتت‪ .‬و�إجماع الفقهاء‪ ،‬وفيما لي�س فيه كتاب وال �سنة‪ ،‬ور�أي‬ ‫بع�ض ال�صحابة‪ ،‬واختالف �آراء ال�صحابة يف امل�س�ألة الواحدة‪ ،‬وي�ؤخذ‬ ‫منها ما هو �أقرب �إىل الكتاب وال�سنة‪.‬‬ ‫والكتاب وال�سنة مرتبة واحدة يف العلم ب�رشيعة الإ�سالم‪ .‬ولل�سنة‬ ‫مراتب �إ�سناد‪ .‬وللدالالت يف الكتاب وال�سنة مراتب �إ�سناد‪.‬‬ ‫والألفاظ العامة يف القر�آن‪ ،‬قد يراد بها العام‪ ،‬وقد يراد بها اخلا�ص‪،‬‬ ‫وقد يراد بها عام يندرج حتت اخل�صو�ص‪.‬‬ ‫فهم بالقر�آن‪ ،‬يف املو�ضوع الواحد‪ ،‬و�إ ّال فيما يبينه‬ ‫والقر�آن الكرمي ُي َ‬ ‫من ال�سنة‪ ،‬لبيان اجلزئيات‪ ،‬وملعرفة النا�سخ من املن�سوخ‪ .‬وال�سنة يف‬ ‫‪132‬‬


‫بيانها درجات من اال�ستدالل‪ ،‬ح�سب درجات التواتر‪ ،‬وال�شهرة‪ ،‬و�أخبار‬ ‫الآحاد‪ ،‬وات�صال ال�سند �أو انقطاعه‪ .‬وقد جتيء ال�سنة ب�أمر زائد لي�س يف‬ ‫القر�آن الكرمي‪ .‬وال�سنة ال تن�سخها �إال �سنة‪ .‬وال�سنة ال تن�سخ � ًّآيا من القر�آن‪،‬‬ ‫ولكنها تبني �أنها قد ن�سخت تالوة‪� ،‬أو حكم ًا‪.‬‬ ‫و�إجماع ال�صحابة عند ال�شافعي من م�صادر الت�رشيع‪ ،‬وهو مقدم‬ ‫على القيا�س‪ ،‬ويف املرتبة الثالثة بعد الكتاب وال�سنة‪.‬‬ ‫و�إجماع الفقهاء حجة عنده يف الت�رشيع‪ ،‬وي�أتي بعد �إجماع‬ ‫ال�صحابة‪.‬‬ ‫والقيا�س عند ال�شافعي من �أ�س�س الت�رشيع بالر�أي‪ ،‬وكان ال�شافعي‬ ‫�أول من �ضبط قواعده‪ ،‬وهو خا�ص بقيا�س م�س�ألة مل يرد فيها ن�ص‪ ،‬وال‬ ‫�إجماع‪ ،‬على م�س�ألة ورد فيها ن�ص‪� ،‬أو �إجماع‪ ،‬لع ّلة �أو �صفة م�شرتكة‬ ‫بينهما‪ ،‬فت�أخذ هذه امل�س�ألة حكم ما قي�ست عليه‪ .‬و�إذا مل يكن ثمة ن�ص‪،‬‬ ‫فال قيا�س وال اجتهاد بالر�أي‪.‬‬ ‫وال�شافعي يرف�ض ويبطل اال�ستح�سان الفقهي يف الت�رشيع‪ ،‬فهو عنده‬ ‫ال ميت �إىل ال�رشع ب�صلة‪ ،‬لأنه ال يعتمد على ن�ص‪� ،‬أو �إجماع‪� ،‬أو قيا�س‪،‬‬ ‫وقد �أخذ املالكية والأحناف باال�ستح�سان‪.‬‬ ‫وال�شافعي ال ي�أخذ بامل�صالح املر�سلة‪� ،‬إال �إذا كانت م�شابهة مل�صلحة‬ ‫معتربة‪ ،‬بن�ص من قر�آن �أو �سنة �أو �إجماع‪ ،‬ولي�ست امل�صالح املر�سلة‬ ‫�أ�ص ًال قائم ًا بذاته يف الت�رشيع‪ ،‬وال م�صدراً من م�صادره‪ ،‬عند ال�شافعي‪.‬‬ ‫وال�شافعي كان ي�أخذ بر�أي �أحد ال�صحابة �إذا اختلفوا يف مذهبه القدمي‬ ‫مبكة وبغداد‪ ،‬ويف مذهبه اجلديد بالقاهرة‪ ،‬وبر�أي ال�صحابي الواحد �إذا‬ ‫مل يخالفه غريه من ال�صحابة‪.‬‬ ‫وقد �أخذ احلنابلة ب�أ�صول ال�شافعي‪ ،‬ولكنهم مل يت�صوروا �إجماع ًا غري‬ ‫�إجماع ال�صحابة‪ ،‬فرف�ضوا ما يقال عن �إجماع الفقهاء‪.‬‬ ‫وقد فتحت �أ�صول ال�شافعي الباب‪ ،‬لو�ضع كتب �أ�صول يف مذاهب‬ ‫‪133‬‬


‫ال�شـافعـي‬

‫�أخرى‪ ،‬من مذاهب الفقه الإ�سالمي‪ ،‬خا�صة تلك املذاهب‪ ،‬التي خالفت‬ ‫اجلماعة الإ�سالمية‪ ،‬يف مواقفها ال�سيا�سية‪ ،‬مثل‪ :‬الإبا�ضية وال�شيعة‬ ‫الإمامية‪.‬‬ ‫ولقد منا علم الأ�صول على �أيدي علماء الكالم املعتزلة‪ ،‬واملاتريدية‬ ‫والأ�شاعرة‪ ،‬وفقهاء ال�شافعية‪ ،‬وفقهاء احلنفية‪ ،‬حتى يف ع�صور التقليد‬ ‫يف الت�رشيع‪ ،‬ف�أ�صبح علم الأ�صول ال�شافعي طريقة للمتكلمني‪ ،‬واجتاه ًا‬ ‫فل�سفيا يف الت�رشيع‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫و�أ�شهر كتب علم الأ�صول بعد �أ�صول ال�شافعي كتاب‪« :‬املعتمد» لأبي‬ ‫احل�سني حممد بن الب�رصي املعتزيل ال�شافعي‪ ،‬وكتاب «الربهان» لإمام‬ ‫احلرمني ال�شافعي‪ ،‬وكتاب «امل�ست�صفى» للغزايل الأ�شعري‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫بعد ال�شافعي‪ ،‬كان هناك �أتباع للمذهب ال�شافعي مبكة‪ ،‬وبالعراق‪،‬‬ ‫ومب�رص وبخرا�سان‪ ،‬وباليمن‪ ،‬ويف ع�صور متالحقة‪ .‬وكانوا يف املذهب‬ ‫ال�شافعي‪ ،‬بني جمته ٍد منت�سب اجتهاداً مطلق ًا‪ ،‬ينهج نهج ال�شافعي يف‬ ‫االجتهاد‪َ ،‬وفق �أ�صوله‪ ،‬لكنه ال يقلده‪ ،‬ال يف �أ�صوله‪ ،‬وال يف �أدلته‪ ،‬وجمته ٍد‬ ‫متقييد مبذهب ال�شافعي‪ ،‬ال يخالف نهجه‪ ،‬وال �أ�صوله‪ ،‬يف الفتوى فيما‬ ‫ي�ستجد من امل�سائل‪ ،‬وبني فقيه غري جمتهد‪ ،‬له الف�ضل يف جمع الفقه‬ ‫ال�شافعي‪ ،‬وترتيب �أدلته‪ ،‬وتهذيب م�سائله‪ ،‬وجمع فروعه‪� ،‬أو له الف�ضل‬ ‫يف حفظ مذهبه‪ ،‬ونقله‪ ،‬وفهمه‪ ،‬و�رشحه‪ ،‬وتلخي�صه‪ .‬وفئتا املجتهدين‬ ‫كانتا غالب ًا يف الفقه ال�شافعي �إىل �آخر املئة الرابعة الهجرية‪ ،‬وبعدها‬ ‫كانت فئة الفقهاء ال�شافعيني غري املجتهدين غالب ًا‪.‬‬ ‫وقد انت�رش مذهب ال�شافعي يف م�رص �أكرث من �سواها‪ ،‬وانت�رش بالعراق‪،‬‬ ‫وخرا�سان‪ ،‬وما وراء النهر‪ ،‬وال�شام‪ ،‬واليمن‪ ،‬وفار�س‪ ،‬واحلجاز‪ ،‬وبع�ض‬ ‫بالد الهند‪ .‬وقا�سم ال�شافعيون الأحناف يف الفتوى‪ ،‬ويف التدري�س‪ ،‬يف‬ ‫جميع الأم�صار الإ�سالمية‪.‬‬ ‫‪134‬‬


‫ويف م�رص‪� ،‬ساد املذهب ال�شافعي �إىل عهد الدولة الفاطمية ال�شيعية‬ ‫الإمامية‪ .‬ثم عاد �إىل الوجود يف م�رص‪ ،‬مع غريه من مذاهب الأئمة الأربعة‬ ‫يف عهود الدولة الأيوبية‪ ،‬ودولتي املماليك‪ .‬ويف عهد الدولة العثمانية‬ ‫مب�رص‪ ،‬ظل املذهب ال�شافعي موجوداً‪ ،‬ولكن الق�ضاء انح�رص يف الع�رص‬ ‫العثماين يف املذهب احلنفي‪ ،‬وال يزال منح�رصاً فيه �إىل اليوم‪.‬‬ ‫ومل ينت�رش املذهب ال�شافعي بالأندل�س‪ ،‬وال باملغرب‪ ،‬لغلبة املذهب‬ ‫املالكي يف هذين امل�رصين الإ�سالميني‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر �أن التع�صب املذهبي بني �أتباع املذاهب الأربعة‪ ،‬يف‬ ‫امل�رشق الإ�سالمي‪ ،‬كان ظاهرة متكررة‪ ،‬مثلما كان التع�صب ال ِف َرقي‬ ‫بني �أهل ال�سنة‪ ،‬وال�شيعة‪� ،‬سائداً هناك‪ ،‬ولقد نتجت عن ذلك‪ ،‬يف امل�رشق‬ ‫حروب وفنت ومذابح‪ ،‬بني العامة واخلا�صة‪ ،‬خروج ًا عن روح الت�سامح‬ ‫الديني يف الإ�سالم‪ ،‬لكن هذا التع�صب و�آثاره‪ ،‬ظل حم�صوراً يف م�رص‪،‬‬ ‫بني فقهاء املذاهب‪ ،‬ال يتجاوزهم �إىل عامة النا�س‪ ،‬ويف �إطار املناظرات‬ ‫العلمية التي قد تكون عالية ال�صوت �أحيان ًا‪ ،‬ولكنها ال ت�ؤدي �إىل فنت‬ ‫بني عامة امل�سلمني‪ ،‬يف �أكرث الأحيان‪.‬‬

‫‪135‬‬



‫أحمد بن حنبـل‬ ‫بـاع‬ ‫َ‬ ‫إمـام اال ّت َ‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫‪138‬‬


‫النا�س والإمام‬ ‫قليل من النا�س من ينال اخللود بعلمه وعقله‪ ،‬غالب ًا بعد وداعه‬ ‫حي ي�سعى على قدمني‪.‬‬ ‫للدنيا‪ ،‬و�أقل هذا القليل من ينال هذا اخللود‪ ،‬وهو ّ‬ ‫والإمام «�أحمد بن حنبل» كان واحداً فريداً من �أقل هذا القليل‪ ،‬ف�أحداث‬ ‫ع�رصه قد �ألقت به يف �ساحة املواجهة‪ ،‬لي�س بني الفقهاء وعلماء الكالم‬ ‫فقط‪ ،‬و�إمنا‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬بني الفقهاء و�سلطة اخلالفة العبا�سية‪.‬‬ ‫ففي حياة الإمام �أحمد‪ ،‬ذاع علمه‪ ،‬وا�شتهرت مواقفه‪ .‬بل �إن علمه‬ ‫�شاب ًا يطلب العلم عن �شيوخ‬ ‫باحلديث والأثر ذاع وانت�رش‪ ،‬وهو ال يزال ّ‬ ‫العلم‪.‬‬ ‫ويروى �أن «�أحمد بن �سعيد الرازي»‪ ،‬وهو �أحد �شيوخ الإمام �أحمد‪ ،‬قال‬ ‫عنه وهو �شاب‪:‬‬ ‫«ما ر�أيت �أ�سود الر�أ�س‪� ،‬أحفظ حلديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫وال �أعلم بفقهه‪ ،‬من �أحمد بن حنبل»‪.‬‬ ‫وقال الإمام ال�شافعي لأحمد‪ ،‬وهو �أحد �شيوخه‪ ،‬وقد ا�ستمع حلفظه‪،‬‬ ‫‪139‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫�شاب ًا‪:‬‬ ‫وكان ال يزال ّ‬ ‫«�أنت �أعلم بالأخبار (الأحاديث والآثار) ال�صحاح منا‪ ،‬ف�إذا كان‬ ‫كوفي ًا كان‪� ،‬أو‬ ‫خرب �صحيح ًا‪ ،‬ف�أعلمني‪ ،‬حتى �أذهب �إليه (�إىل م�صدره)‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫�شامي ًا»‪.‬‬ ‫م�رصي ًا‪� ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وروى «املُزين» �أن ال�شافعي قال ملن مبجل�سه من طالب العلم‪ ،‬عن‬ ‫ال�شاب �أحمد‪:‬‬ ‫«ثالثة من عجائب الزمان‪ :‬عربي ال ُيعرب كلمة‪ ،‬وهو‪� :‬أبو ثور‪.‬‬ ‫و�أعجمي (فار�سي) ال يخطئ يف كلمة‪ ،‬وهو‪ :‬احل�سن الزعفراين‪ .‬و�صغري‬ ‫كلما قال �شيئ ًا �صدقه الكبار‪ ،‬وهو‪� :‬أحمد بن حنبل»‪.‬‬ ‫وحني غادر ال�شافعي بغداد �إىل م�رص‪ ،‬وا�ستقر بها‪ ،‬قال ال�شافعي‬ ‫لتلميذه حرملة امل�رصي‪ ،‬عن �أحمد بن حنبل‪ ،‬وكان عمر �أحمد �س ّت ًا‬ ‫وثالثني �سنة‪:‬‬ ‫«خرجت من بغداد‪ ،‬وما خ ّلفت بها �أورع وال �أتقى‪ ،‬وال �أفقه‪ ،‬من �أحمد‬ ‫بن حنبل»‪.‬‬ ‫وو�صف ال�شافعي اثنني بالعقل‪ ،‬مع علم بالرواية‪ ،‬والفقه‪ ،‬فقال‬ ‫لتالميذه‪ ،‬فيما يرويه «حممد بن ال�صباح»‪:‬‬ ‫«ما ر�أيت �أعقل وال �أروى وال �أفقه من‪� :‬أحمد بن حنبل‪ ،‬و�سليمان بن‬ ‫داود الها�شمي»‪.‬‬ ‫مل ِديني»‪:‬‬ ‫وقال عن ابن حنبل‪ ،‬معا�رصه «علي بن ا َ‬ ‫«�أعرف �أبا عبد اهلل بن حنبل منذ خم�سني �سنة‪ ،‬وهو يزداد خرياً‪ .‬ولي�س‬ ‫فينا �أحفظ منه»‪.‬‬ ‫وقال عنه قرينه‪ ،‬ومعا�رصه «القا�سم بن �سالم»‪:‬‬ ‫وعلي بن املديني‪ ،‬ويحيى‬ ‫«انتهى العلم �إىل �أربعة‪� :‬أحمد بن حنبل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بن معني‪ ،‬و�أبو بكر بن �شيبة‪ ،‬و�أحمد �أفقههم‪ ،‬فما ر�أيت رج ًال �أعلم بال�سنة‬ ‫منه»‪.‬‬ ‫‪140‬‬


‫و�شهد له رفيقه ومعا�رصه «يحيى بن م ِعني»‪ .‬قال‪:‬‬ ‫«واهلل ال نقوى على ما يقوى عليه �أحمد‪ ،‬وال على طريقة �أحمد»‪.‬‬ ‫وحدث «عبد الرحمن بن مهدي» جل�ساءه‪ ،‬عن �أحمد بن حنبل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«هذا �أعلم النا�س بحديث �سفيان الثوري‪ .‬وما نظرت �إىل �أحمد بن حنبل‬ ‫�إال تذكرت به �سفيان الثوري»‪.‬‬ ‫وكان �سفيان الثوري فقيه ًا زاهداً‪ ،‬ويلقبه النا�س ب�أمري امل�ؤمنني يف‬ ‫احلديث‪.‬‬ ‫الرحالة‬ ‫عام ‪ 164‬الهجري‪ ،‬ولد «�أحمد بن حنبل» مبدينة بغداد‪ ،‬وكانت �أمه‬ ‫حام ًال به حني عادت من مدينة «مرو» (بو�سط �آ�سيا) �إىل مدينة بغداد‪.‬‬ ‫و�أحمد بن حنبل عربي‪� ،‬شيباين‪ ،‬من جهتني مع ًا‪� :‬أبوه‪ ،‬و�أمه‪ .‬وقبيلة‬ ‫�شيبان التي ينت�سب �إليها �أحمد قبيلة رب َِعية (ن�سبة �إىل بني ربيعة)‬ ‫عدنانية‪ ،‬تلتقي مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف‪« :‬نزار بن معد بن‬ ‫وحمية‪ ،‬فمنها كان‬ ‫عدنان»‪ .‬وقبيلة �شيبان كان برجالها �إباء‪ ،‬وعزم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«املثنى بن حارثة» قائد اجليو�ش الإ�سالمية عند مهاجمتها العراق يف‬ ‫عهد �أبي بكر ال�صديق‪ .‬وتوىل بهمته �أوىل احلمالت العربية الإ�سالمية �ضد‬ ‫الر َبعية‪ .‬وقيل فيها ما رواه‬ ‫الفر�س‪ .‬وقبيلة �شيبان كانت �أبرز القبائل ّ‬ ‫تاريخ بغداد‪:‬‬ ‫ب�شيبان‪ ،‬وحارب‬ ‫ب�شيبان‪ ،‬وفاخر ْ‬ ‫«�إذا كنت يف ربيعة‪ ،‬فكاثر ْ‬ ‫ب�شيبان»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫وكانت منازل �شيبان بالب�رصة‪ ،‬بعد �إن�شاء عمر بن اخلطاب لها �سنة‬ ‫‪ 16‬هجرية‪ .‬وكانت �أ�رسة �أحمد‪ ،‬و�أ�رسة �أمه‪ ،‬مقيمتني ببيداء الب�رصة‪.‬‬ ‫وجداً لأ�رسة‬ ‫وكان «عبد امللك بن �سوادة بن هند» من وجوه �شيبان‪ّ ،‬‬ ‫�أحمد‪ ،‬وي�ضيف قبائل العرب عندما ينـزلون الب�رصة‪.‬‬ ‫وكان لآل �شيبان بالب�رصة م�سجد‪ ،‬هو م�سجد «مازن»‪ .‬ولقد اعتاد‬ ‫‪141‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫�أحمد �أن ي�صلي فيه كلما نزل �إىل الب�رصة‪ ،‬ويقول ملن ي�س�أله‪�« :‬إنه م�سجد‬ ‫�آبائي»‪.‬‬ ‫واجلد الأقرب لأحمد هو‪« :‬حنبل بن هالل»‪ ،‬وكان هذا اجلد قد انتقل‬ ‫ب�أ�رسته �إىل خرا�سان‪ ،‬حني �صار واليا‪ ،‬يف العهد الأموي‪ ،‬على والية‬ ‫اجلد �إىل �صفوت الداعني �ضد بني �أمية‪.‬‬ ‫«�سرَ ْ خ�س»‪ .‬ولقد ان�ضم هذا ّ‬ ‫جندي ًا باجلي�ش العبا�سي‪.‬‬ ‫و�أبو �أحمد‪ ،‬هو‪« :‬حممد بن حنبل»‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫ويقال �إنه كان قائداً‪ ،‬يرتدي زي الغزاة فيما وراء احلدود الإ�سالمية‪.‬‬ ‫�شاب ًا‪ ،‬وعمره ثالثون �سنة‪.‬‬ ‫ولقد مات هذا الأب ّ‬ ‫وعم �أحمد كان من عيون الوالة يف بغداد‪ ،‬ير�سل �إليهم بالأخبار‪،‬‬ ‫ليعلم بها اخلليفة العبا�سي‪ ،‬حني يكون يف �سفرة بال�رشق �أو ال�شمال‪.‬‬ ‫وكان �أحمد يتورع (يتنزه) وهو يف �صغره‪ ،‬عن م�شاركة عمه يف عمله‪،‬‬ ‫قيم ًا (و�صي ًا) �إثر وفاة �أبيه عنه وهو �صغري‪.‬‬ ‫وكان عمه قد �صار عليه ّ‬ ‫ويروي كتاب املناقب البن اجلوزي هذه الواقعة‪:‬‬ ‫روى بع�ض الوالة‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫مل‬ ‫علي �أخبار بغداد‪ ،‬فوجهت �إىل عم �أحمد بن حنبل‪� ،‬أ�س�أله‪ :‬لمِ َ ْ‬ ‫«�أبط�أت ّ‬ ‫ت�صل �إلينا الأخبار اليوم؟ وكنت �أريد �أن �أحررها‪ ،‬و�أو�صلها �إىل اخلليفة‪.‬‬ ‫يل عم �أحمد‪ ،‬وقال يل‪ :‬بعثت بها مع �أحمد ابن �أخي‪ .‬ف�أمرته‬ ‫فجاء �إ ّ‬ ‫ف�أح�رض �أحمد‪ ،‬وهو بعد غالم‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫ �أمل �أبعث معك الأخبار؟‬‫فقال �أحمد‪:‬‬ ‫ نعم‪.‬‬‫فقال له عمه‪:‬‬ ‫ فلأي �سبب مل تو�صلها؟‬‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ �أنا كنت �أرفع تلك الأخبار!! رميت بها يف املاء‪.‬‬‫‪142‬‬


‫فجعلت �أ�سرتجع (يقول‪�« :‬إنا هلل و�إنا �إليه راجعون»)‪ .‬وقلت‪ :‬هذا غالم‬ ‫يتورع‪ ،‬فكيف نحن»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ف�أ�رسة �أحمد مل تقطع �صلتها باخلالفة العبا�سية‪ ،‬وال بوالة الدولة‬ ‫العبا�سية‪ ،‬ومل يكن �أحمد ال�صغري ي�ستح�سن تلك ال�صلة‪ ،‬بل كان يتورع‬ ‫منها‪ ،‬ويبتعد عنها‪ ،‬منذ �صباه‪.‬‬ ‫ون�ش�أ �أحمد يتيم ًا‪ ،‬مثلما ن�ش�أ �شيخه ال�شافعي يتيم ًا‪ ،‬فلم ير �أحمد �أباه‬ ‫وال جده‪ .‬وكان على �أمه و�أ�رسة �أبيه القيام على تربيته‪ .‬وحل�سن حظ‬ ‫�أحمد‪ ،‬فقد كان له من مرياث �أبيه‪ ،‬ببغداد‪ ،‬منـزل ي�سكنه مع �أمه‪ ،‬ومنـزل‬ ‫�آخر‪ ،‬به حوانيت (دكاكني) يدر عليه عائداً‪ ،‬يتيح له كفاف ًا من العي�ش‪،‬‬ ‫فا�ستغنى بهذا العائد عما يف �أيدي النا�س‪ ،‬ووجد امل�أوى‪.‬‬ ‫ودفع �أحمد يتمه‪ ،‬و�رشف ن�سبه‪ ،‬وحرمانه من ترف العي�ش‪ ،‬وقناعته‪،‬‬ ‫ونزوعه للتقوى‪� ،‬إىل �أن يكون �سامي النف�س‪ ،‬ويكر�س ما وهبه اهلل له‪ ،‬من‬ ‫ذكاء العقل يف طلب العلم‪.‬‬ ‫وحفظ �أحمد القر�آن الكرمي‪ ،‬ثم �أخذ يرتدد على الديوان‪ ،‬ليتمرن على‬ ‫الكتابة والتحرير‪ .‬يقول �أحمد‪:‬‬ ‫«كنت‪ ،‬و�أنا ُغ َل ْيم (غالم �صغري)‪� ،‬أختلف �إىل الك ّتاب‪ ،‬ثم اختلفت �إىل‬ ‫الديوان‪ ،‬و�أنا ابن �أربع ع�رشة �سنة»‪.‬‬ ‫وكان �أحمد‪ ،‬وهو �صبي حمل ثقة الرجال والن�ساء‪ ،‬الذين ذهب �أبنا�ؤهم‬ ‫�أو �إخوتهم �أو �آبا�ؤهم �إىل �ساحات القتال‪ .‬فقد كانوا ي�ستكتبونه‪ ،‬وهو ال‬ ‫يزال �صغرياً ببغداد‪ ،‬ر�سائل �إىل ذويهم املقاتلني مع الر�شيد‪ ،‬فيكتبها لهم‪،‬‬ ‫ويجيئون �إليه بالردود‪ ،‬فيقر�أها عليهم‪ .‬ولقد قال �أحد الآباء �آنذاك‪:‬‬ ‫«�أنا �أنفق على �أوالدي‪ ،‬و�أجيء �إليهم بامل�ؤدبني‪ ،‬كي يت�أدبوا‪ ،‬فما‬ ‫�أراهم يفلحون‪ .‬وهذا �أحمد بن حنبل غالم يتيم‪ .‬انظروا كيف هو»‪.‬‬ ‫ويروح الأب يعجب من �أدب �أحمد‪ ،‬وح�سن طريقة �أحمد‪ .‬ويف النواة‬ ‫ال�صغرية �رس ال�شجرة الكبرية‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫ومنذ ال�صبا كانت يف �أحمد رجولة‪ ،‬و�صرب وجد‪ ،‬وعناية بالعمل‪،‬‬ ‫وقدرة على احتمال ما يكره‪ ،‬وبروح من التقوى‪ .‬ولقد دفعت هذه الروح‬ ‫«الهيثم بن جميل» �إىل �أن يقول عن �أحمد‪:‬‬ ‫«�إن عا�ش هذا الفتى ف�سيكون حجة على �أهل زمانه»‪.‬‬ ‫ويف بغداد اجته �أحمد �إىل طلب العلم‪ ،‬وكانت بغداد �آنذاك منارة لعلوم‬ ‫الدين واللغة‪ ،‬والريا�ضة والفل�سفة‪ ،‬والت�صوف‪ .‬واختار �أحمد علم احلديث‪،‬‬ ‫وبه بد�أ‪ ،‬ثم �أردفه بطلب الفقه‪ .‬ويروى عن �أحمد بن حنبل قوله‪:‬‬ ‫«�أول من كتبت عنه احلديث �أبو يو�سف»‪.‬‬ ‫وكان �أبو يو�سف قا�ضي ًا لق�ضاة الر�شيد‪ .‬لكن �أحمد �رسعان ما ان�رصف‬ ‫عنه �إىل جمال�س املحدثني‪ ،‬ف�أبو يو�سف من فقهاء الر�أي �أو ًال‪ ،‬واحلديث‬ ‫ثاني ًا‪ .‬و�أردف طلبه للحديث بطلبه للفقه‪ ،‬فقه الر�أي بالعراق‪ ،‬وفقه احلديث‬ ‫باحلجاز‪ .‬وكانت مدن العراق وال�شام واحلجاز مع ًا‪ ،‬تزخر باملحدثني‪.‬‬ ‫وراح �أحمد ي�سافر يف طلب الأحاديث من املحدثني‪ ،‬ويدونها‪ ،‬حتى مت له‬ ‫جمع م�سند‪ ،‬ي�ضم الأحاديث‪ :‬العراقية‪ ،‬واحلجازية‪ ،‬وال�شامية‪ ،‬والب�رصية‪،‬‬ ‫والكوفية‪.‬‬ ‫وبد�أت م�سرية �أحمد يف طلب احلديث ببغداد بني عامي ‪ 179‬و‪186‬‬ ‫هجرية‪ ،‬ثم توالت �أ�سفاره يف طلب احلديث خارج بغداد‪.‬‬ ‫�شيم بن ب�شري بن‬ ‫و�أول �إمام طلب منه �أحمد علم احلديث والآثار‪ ،‬هو‪ُ :‬ه ْ‬ ‫�أبي خازم الوا�سطي» ( ت ‪ 183‬هجرية ) فكتب �أحمد عنه نحواً من ثالثة‬ ‫�آالف حديث يف احلج‪ ،‬وبع�ض التف�سري‪ ،‬وكتاب الق�ضاء‪ ،‬وكتب ًا �أخرى‬ ‫�صغرية‪ ،‬من كتب (�أبواب) احلديث‪.‬‬ ‫ومع «ه�شيم» �سمع �أحمد احلديث وكتبه‪ ،‬من‪« :‬عبد الرحمن بن مهدي»‪،‬‬ ‫و«�أبو بكر بن عبا�س»‪ ،‬و�سواهما‪.‬‬ ‫ولقد توالت رحالت �أحمد يف طلب احلديث خالل عمره‪ ،‬وبينها خم�س‬ ‫رحالت �إىل الب�رصة‪ ،‬وخم�س رحالت �إىل احلجاز‪ ،‬ويف �أوىل رحالته �إىل‬ ‫‪144‬‬


‫مكة التقى بال�شافعي وعمره ‪� 24‬سنة‪ ،‬حني كان ي�ؤدي فري�ضة احلج‬ ‫لأول مرة‪ ،‬ما�شي ًا على قدميه‪ ،‬من بغداد �إىل مكة‪ .‬ولكم متنى �أحمد �أن‬ ‫الري‪ ،‬ليلقى بها املحدث‪« :‬جرير‬ ‫يكون قادراً للقيام برحلة �إىل مدينة ّ‬ ‫بن عبد احلميد» لكن هذه الرحلة كانت حتتاج منه �إىل ت�سعني درهم ًا‪ ،‬مل‬ ‫تكن معه‪.‬‬ ‫وحج �أحمد مرة �إىل البيت احلرام مع رفيقه يف طلب العلم «يحيى‬ ‫ابن معني» �سنة ‪ 198‬هجرية‪ ،‬وكانا قد اتفقا على ال�سفر بعد احلج �إىل‬ ‫باملحدث «عبد الرازق بن همام»‪ .‬و�إذا كانا يطوفان‬ ‫�صنعاء‪ ،‬ليلتقيا‬ ‫ّ‬ ‫طواف القدوم‪ ،‬ر�أيا املحدث عبد الرازق يطوف‪ ،‬فتوجه �إليه يحيى‪ ،‬وكان‬ ‫يعرفه‪ ،‬و�سلم عليه‪ ،‬قائ ًال له‪:‬‬ ‫ هذا �أحمد بن حنبل �أخوك‪.‬‬‫فقال له عبده الرازق‪:‬‬ ‫ حياه اهلل وثبته‪ ،‬ف�إنه يبلغني عنه كل جميل‪.‬‬‫فقال له يحيى‪:‬‬ ‫ جنيء �إليك غداً �إن �شاء اهلل‪ ،‬حتى ن�سمع (منك)‪ ،‬ونكتب (عنك)‪.‬‬‫فلما ان�رصف عبد الرازق‪ ،‬قال �أحمد ليحيى معرت�ض ًا‪:‬‬ ‫ مل �أخذت من ال�شيخ موعداً؟‬‫فقال له يحيى‪:‬‬ ‫ لن�سمع منه‪ .‬قد � ْأربحك اهلل م�سرية �شهر‪ ،‬ورجوع �شهر‪ ،‬و�أراحك من‬‫النفقة‪.‬‬ ‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ ما كان اهلل لرياين‪ ،‬وقد نويت نية‪� ،‬أن �أف�سدها مبا تقول‪ .‬من�ضي‬‫(الآن) فن�سمع منه‪ .‬ثم من�ضي معه بعد احلج‪ ،‬لن�سمع منه ب�صنعاء‪.‬‬ ‫ويف �سبيل هذه الرحلة‪ ،‬واجه �أحمد العي�ش اخل�شن‪ ،‬واملركب ال�صعب‪،‬‬ ‫فقد نفدت نقوده بالطريق‪ ،‬فعمل حما ًال ب�أجر للقافلة‪� ،‬إىل �أن بلغت‬ ‫‪145‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫القافلة �صنعاء‪ .‬وكان من معه يحاولون �أن ميدوا له يد العون‪ ،‬فكان‬ ‫يردها‪ ،‬حامداً هلل ف�ضل قوته‪ ،‬التي متكنه من �أن يح�صل بعرقه على‬ ‫ّ‬ ‫نفقات الطريق‪.‬‬ ‫ويف �صنعاء‪ ،‬حاول املحدث عبد الرازق‪� ،‬أن يعني �أحمد بن حنبل‪،‬‬ ‫فقال له‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪ .‬خذ هذا ال�شيء فانتفع به‪ ،‬ف�إن �أر�ضنا لي�ست ب�أر�ض‬‫متجر‪ ،‬وال مك�سب‪.‬‬ ‫ومد عبد الرازق يده �إىل �أحمد بدنانري‪ ،‬فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ �أنا بخري‪.‬‬‫ومكث �أحمد يعاين م�شقة العي�ش مدة �سنتني ب�صنعاء‪ ،‬ا�ستفاد فيهما‪،‬‬ ‫امل�سيب‪ ،‬ما‬ ‫فقد �سمع من عبد الرازق �أحاديث عن طريق الزهري‪ ،‬وابن‬ ‫ّ‬ ‫كان يعلمها من قبل‪.‬‬ ‫وظل �أحمد يطوف يف الأقاليم الإ�سالمية‪ ،‬طالب ًا للحديث‪ ،‬يحمل‬ ‫حقائب كتبه على ظهره‪ ،‬وي�سري على قدميه غالب ًا يف رحالته‪ ،‬ويعمل‬ ‫�أحيان ًا ليك�سب قوت �أيامه يف �أ�سفاره و�إقاماته‪ ،‬م�ستهين ًا باملتاعب يف‬ ‫طلب احلديث‪.‬‬ ‫ولكرثة ما رواه �أحمد‪ ،‬وكتبه‪ ،‬وحفظه من الأحاديث‪ ،‬قال له �أحد‬ ‫عارفيه عاتب ًا‪:‬‬ ‫ مرة �إىل الكوفة‪ ،‬ومرة �إىل الب�رصة!! �إىل متى؟!‬‫وقال له �آخر‪ ،‬وكان �أحمد قد بلغ مبلغ الإمامة‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬أنت قد بلغت هذا املبلغ‪ ،‬و�أنت (الآن) �إمام‬‫امل�سلمني‪.‬‬ ‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ مع املحربة �إىل املقربة‪� .‬أنا �أطلب العلم �إىل �أن �أدخل القرب‪.‬‬‫ويف هذه الرحالت كان �أحمد معني ًا بتدوين كل ما ي�سمعه من‬ ‫‪146‬‬


‫�أحاديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�آثار �أ�صحابه‪ ،‬وال يعتمد على‬ ‫ذاكرته وحدها‪ .‬وحني كان �أحمد يحدث النا�س باحلديث مل يكن يحدثهم‬ ‫من ذاكرته‪ ،‬خ�شية �أن ي�ضل وين�سى‪ ،‬و�إمنا كان يحدثهم مما كتبه ونقله‪،‬‬ ‫حر�ص ًا على التقوى‪ ،‬والدقة‪ ،‬مع �أنه كان كثري احلفظ‪ ،‬قوي الذاكرة‪.‬‬ ‫يروى �أن رج ًال من �أهل مرو‪ ،‬جاء �إىل �أحمد‪ ،‬طالب ًا حديث ًا بعينه‪ .‬ومع‬ ‫�أن �أحمد كان يحفظه‪ ،‬فقد �أمر ابنه عبد اهلل‪� ،‬أن يح�رض له «كتاب الفوائد»‬ ‫ليبحث للرجل عن ن�ص احلديث الذي يريده‪ .‬وعاد �إليه ابنه‪ ،‬قائ ًال �إنه مل‬ ‫يجد الكتاب‪ .‬فقام �أحمد بنف�سه‪ ،‬وعاد بالكتاب‪ ،‬وكان يف ع�رشة �أجزاء‪،‬‬ ‫وقعد يبحث عن احلديث بن�صه‪ ،‬ثم �أماله على الرجل القادم من مرو‬ ‫�إليه‪.‬‬ ‫وجاءه مرة �أخرى رجل يطلب احلديث‪ ،‬وقال لأحمد‪:‬‬ ‫ علمني مما علمك اهلل‪.‬‬‫فدخل �أحمد منـزله‪ ،‬و�أخرج كتب احلديث‪ ،‬وجعل ميلي على الرجل‪،‬‬ ‫جل�سة بعد جل�سة‪ ،‬ويوم ًا بعد يوم‪ .‬وحني انتهى‪ ،‬قال لذلك الرجل‪ ،‬لي�ضبط‬ ‫له ما كتبه‪:‬‬ ‫علي ما كتبت‪.‬‬ ‫ الآن‪ .‬اقر�أ ّ‬‫ومع تعلم �أحمد للحديث‪� ،‬سماع ًا‪ ،‬وحفظ ًا‪ ،‬وتدوين ًا‪ ،‬كان يتعلم‬ ‫اال�ستنباط‪ ،‬والتحري‪ ،‬وفهم الن�صو�ص‪ ،‬وغاياتها‪ ،‬ويطلب لقاء الفقهاء‪،‬‬ ‫كطلبه للقاء املحدثني‪ .‬وكان الإمام ال�شافعي هو �أ�شهر من التقى به‬ ‫�أحمد‪ ،‬وتعلم على يديه التخريج الفقهي‪ ،‬و�أ�صول اال�ستنباط للأحكام‪،‬‬ ‫ومناهجه‪ ،‬حني كان يلقى ال�شافعي مبكة �أو ببغداد‪ .‬فعرف منه الفقه‪،‬‬ ‫والر�أي‪ ،‬والقيا�س‪ ،‬واال�ستنباط‪ ،‬وعرف فقه فقهاء �أهل ال�سنة باحلجاز‪ .‬ومل‬ ‫ير�ض عن فقهاء الر�أي بالعراق‪ ،‬فنـزعتهم الفقهية‪ ،‬تختلف عن نزعته‪.‬‬ ‫ولقد جمع ابن حنبل يف رحلة حياته فتاوى ال�صحابة‪ ،‬مع جمعه‬ ‫للأحاديث‪ ،‬ومعرفته ملراميها‪ ،‬وغاياتها‪ ،‬ومعانيها الفقهية‪ ،‬ويحوي‬ ‫‪147‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫«م�سنده» طائفة كبرية من فقه وفتاوى و�أق�ضية كل �صحابي‪ .‬فالتقى‬ ‫ُ‬ ‫بذلك احلديث والفقه مع ًا‪ ،‬يف �شخ�ص �أحمد بن حنبل‪ ،‬وم�سنده‪ ،‬ومذهبه‬ ‫ك�إمام‪.‬‬

‫درو�س �إمام‬ ‫يف �سن الأربعني‪ ،‬جل�س �أحمد بن حنبل للتحديث والفتوى‪ ،‬مب�ساجد‬ ‫بغداد‪ ،‬وم�ساجد املدائن الإ�سالمية التي يرحتل �إليها‪ ،‬طلب ًا يف الوقت‬ ‫نف�سه‪ ،‬ملزيد من العلم‪ ،‬فكان يف وقت واحد‪ ،‬عامل ًا وطالب علم‪ .‬وبد�أ �أحمد‬ ‫جمل�سه العلمي ك�إمام‪ ،‬يف بغداد‪� ،‬سنة ‪ 204‬هجرية‪ ،‬وهي ال�سنة التي‬ ‫تويف فيها الإمام ال�شافعي بالقاهرة‪ ،‬فلم ي�ست�سغ �أحمد �أن يجل�س من قبل‬ ‫حدث ويفتي‪.‬‬ ‫حي‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫للتحديث والفتوى‪ ،‬وبع�ض من �شيوخه الكبار ّ‬ ‫يحد �أحمد يف جمال�سه وحياته على ال�سواء‪ ،‬عن اتباع ال�سنة‪ .‬فهو‬ ‫ومل ّ‬ ‫يفعل كل ما كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يفعله‪ ،‬وال يفعل ما مل يكن‬ ‫يفعله‪.‬‬ ‫يروى �أنه كان �إذا احتجم (جل�س للحالق) �أعطى احلجام ديناراً‪ ،‬لأنه‬ ‫ُروي �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم احتجم‪ ،‬و�أعطى حجامه «�أبا‬ ‫طيبة» ديناراً‪ .‬ولقد ا�ستحيا �أحمد �أن يجل�س للتحديث والفتوى �إال بعد �أن‬ ‫بلغ الأربعني‪ ،‬لأن الر�سول مل يبلغ ر�سالة ربه �إال يف هذه ال�سن‪.‬‬ ‫ومل يكتم �أحمد طوال حياته‪ ،‬عن �أحد علم ًا‪ ،‬وال حديث ًا‪ ،‬لأن اهلل‬ ‫تعاىل نهى عن كتمان العلم‪ ،‬ولأن الدين يوجب �إف�شاء �أحاديث الر�سول‪،‬‬ ‫ون�رشها‪.‬‬ ‫ولأن ذكر �أحمد‪ ،‬يف طلبه احلديث‪ ،‬قد ذاع يف الآفاق‪ ،‬قبل �أن‬ ‫يجل�س للدر�س والإفتاء‪ ،‬فقد كان االزدحام على در�سه �شديداً‪ ،‬ولقد بلغ‬ ‫امل�ستمعون �إىل در�سه‪ ،‬يف املجل�س الواحد‪ ،‬خم�سة �آالف‪ ،‬وكان يكتب عنه‬ ‫‪148‬‬


‫ما يقوله خم�سمئة منهم‪ .‬وب�سبب هذه الكرثة كرث رواة فقه �أحمد‪ ،‬وحديث‬ ‫�أحمد‪ .‬وبني احل�ضور يف جمل�سه العلمي‪ ،‬كان هناك نا�س ال يطلبون علم ًا‪،‬‬ ‫ويتيمنوا مبر�آه‪.‬‬ ‫يروه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫و�إمنا يريدون فقط �أن ْ‬ ‫روى ابن اجلوزي �أن �أحد معا�رصي �أحمد‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«اختلفت �إىل �أبي عبد اهلل �أحمد بن حنبل اثنتي ع�رشة �سنة‪ ،‬وهو يقر�أ‬ ‫امل�سند على �أوالده‪ ،‬فما كتبت منه حديث ًا واحداً‪ ،‬و�إمنا كنت �أميل �إىل‬ ‫هديه و�أخالقه و�آدابه»‪.‬‬ ‫وكان لأحمد جمل�سان للدر�س والتحديث‪ :‬جمل�س يف منـزله لتالميذه‬ ‫و�أوالده‪ ،‬وجمل�س يف امل�سجد للعامة ولتالميذه �أي�ض ًا‪ .‬وخا�صة اخلا�صة‬ ‫من تالميذه كانوا هم الذين يذهبون �إىل بيته‪.‬‬ ‫ويف امل�سجد‪ ،‬كان وقت در�س �أحمد‪ ،‬هو وقت الع�رص‪ ،‬واختار �أحمد‬ ‫هذا الوقت‪ ،‬لأنه قبل عتمة الليل‪ ،‬وبعد وهج النهار‪ ،‬ولأنه وقت راحة‬ ‫لأكرث النا�س‪ ،‬فيتي�رس لهم �أن ُي ْقبلوا �إىل امل�سجد‪ ،‬ولأنه وقت �صفاء النف�س‪،‬‬ ‫وفراغها من م�شاكل العمل‪ ،‬وم�شاغل احلياة‪.‬‬ ‫وجمل�س �أحمد‪ ،‬كان جمل�س ًا ي�سوده الوقار‪ ،‬والتوا�ضع‪ ،‬واطمئنان‬ ‫النف�س �إىل رعاية اهلل له‪ .‬ولقد روى ابن نعيم‪� ،‬أن خلف بن �سامل‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«كنا يف جمل�س الفقيه يزيد بن هارون‪ ،‬فمزح يزيد مع من ميلي عليه‪،‬‬ ‫فتنحنح �أحمد بن حنبل‪ ،‬ف�رضب يزيد (بكفه) على جبينه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ �أال �أعلمتموين �أن �أحمد هنا‪ ،‬حتى ال �أمزح»‪.‬‬‫وقد جتنب �أحمد املزاح‪ ،‬لأن ال�سنة عبادة عنده‪ ،‬وال َم ْزح يف وقت‬ ‫العبادة‪.‬‬ ‫ويف جمال�س �أحمد‪ ،‬مل يكن �أحمد يلقي الدر�س من غري طلب‪ ،‬ف�إذا �سئل‬ ‫دون فيه‬ ‫عن الأحاديث املروية يف مو�ضوع معني‪ ،‬طلب الكتاب الذي ّ‬ ‫�أحاديث ذلك املو�ضوع‪.‬‬ ‫وطوال �أربعني عام ًا مل يقل �أحمد فيها �أحاديث من ذاكرته‪� ،‬إال مئة‬ ‫‪149‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫حديث‪ .‬و�إذا �سئل يف مو�ضوع فقهي‪ ،‬ي�ضطر �إىل ا�ستنباط حكم فيه‪ ،‬مل‬ ‫يكن ي�سمح لتالميذه �أن يدونوا ا�ستنباطه‪� ،‬أو ينقلوه عنه‪ ،‬خوف رجوعه‬ ‫عن فتواه‪ .‬وكان يكره من �أ�صحابه �أن ينقلوا عنه فتاواه‪ ،‬بل ينكر ن�سبتها‬ ‫�إليه‪ ،‬لأنه مل يحفظ ما قاله‪ .‬وكان �أبغ�ض الأ�شياء لديه �أن يرى فتوى له‬ ‫مكتوبة‪ .‬ويحكى �أن �أحد تالميذه روى عنه م�سائل يف الفقه‪ ،‬ون�رشها‬ ‫بخرا�سان‪ .‬وبلغ ذلك اخلرب �أحمد بن حنبل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫«ا�شهدوا �أين رجعت عن ذلك كله»‪.‬‬ ‫ولقد جاء �إليه رجل خرا�ساين بكتب‪ .‬فنظر �أحمد يف كتاب من بينها‪.‬‬ ‫فوقع نظره‪ ،‬فوجد كالم ًا له مكتوب ًا بالكتاب‪ ،‬فغ�ضب‪ ،‬ورمى الكتاب من‬ ‫يديه‪.‬‬ ‫ومل يكن ذلك املوقف هو موقف �أحمد من فقهه هو‪ ،‬فقد كان ذلك هو‬ ‫موقفه من فقه �سواه‪ .‬ولقد �س�أله رجل يوم ًا‪:‬‬ ‫ هل �أكتب كتب الر�أي؟‬‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ ال‪.‬‬‫فقال له ال�سائل‪:‬‬ ‫ فعبد اهلل بن املبارك قد كتبها‪.‬‬‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ ابن املبارك مل ينـزل من ال�سماء‪� .‬إمنا �أمرنا �أن ن�أخذ العلم من‬‫فوق‪.‬‬ ‫ولقد نهى �أحمد املحدثني �أن يكتبوا كتب ال�شافعي‪ ،‬و�أبي ثور‪ ،‬مع �أن‬ ‫ال�شافعي كان �شيخ ًا له‪ .‬وبرغم هذا النهي‪ ،‬جمعت كل الروايات عنه يف‬ ‫احلديث‪ ،‬ويف الفقه‪ ،‬يف جملدات �ضخام‪.‬‬ ‫وكانت حياة �أحمد‪ ،‬خا�صة حني �صارت له جمال�س علم‪ ،‬حياة اتباع‬ ‫�سلفية‪ .‬خرج بها عن مناحرات الع�رص ال�سيا�سية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬ ‫‪150‬‬


‫خمتاراً �أن يحلق بروحه يف جو ال�صحابة وعامل ال�صفوة من التابعني‪.‬‬ ‫ومل يكن ي�ستجيز لنف�سه �أن يرد على �أي مو�ضوع مثار يف ع�رصه من‬ ‫علماء الكالم‪� ،‬أو يفتي يف �أي م�س�ألة مل ترد يف كتاب‪ ،‬وال �سنة‪� ،‬أو مل‬ ‫يعرفها ال�صحابة‪ ،‬ويكتفي ب�أن يقول ر�أيهم فيها‪ ،‬حري�ص ًا على �أال ي ْق ُف‬ ‫(يتبع) ما لي�س له به علم‪ ،‬حتى ال يخرج عن نهج ال�سلف‪ ،‬وي�ضل يف‬ ‫متاهات العقل الب�رشي‪ .‬بل لقد قاطع �أحمد كل من �شغل نف�سه بغري ما �أُ ِثر‬ ‫عن ال�سلف مقاطعة تامة‪.‬‬ ‫ولقد كتب �أحمد �إىل رجل �أر�سل �إليه ي�س�أله عن مناظرة �أهل الكالم‪،‬‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫«�أح�سن اهلل عاقبتك‪ .‬الذي كنا ن�سمع‪ ،‬و�أدركنا عليه من �أدركنا‪� ،‬أنهم‬ ‫كانوا يكرهون الكالم �أي علمه‪ ،‬واجللو�س مع �أهل ال َّزيغ‪ .‬و�إمنا الأمر يف‬ ‫الت�سليم واالنتهاء �إىل ما يف كتاب اهلل‪ .‬ال يعدون (ال يتجاوزون) ذلك‪.‬‬ ‫ومل يزل النا�س من بعد �أحمد يكرهون كل محُ ّ دث ي�ضع كتاب ًا يف الكالم‪،‬‬ ‫ويكرهون اجللو�س مع مبتدع‪ ،‬ويرددون عليه بع�ض ما ُيلتب�س عليه يف‬ ‫دينه»‪.‬‬ ‫كان �أحمد �إذن ينهى النا�س عن الكالم‪ ،‬ويرف�ض التفكري يف العقيدة‬ ‫بالتفل�سف فيها‪ .‬وب�سبب هذا الرف�ض‪ ،‬وقع �أحمد يف حمنة مع الدولة‪،‬‬ ‫ومع علماء الدولة املتكلمني‪ .‬يف ع�رص �سيطر فيه الكالم على العلماء‬ ‫الذين يحاولون التوفيق بني الفل�سفة والدين‪ ،‬وبني الدين والعلم‪ ،‬والذين‬ ‫اعتمدت عليهم الدولة يف عهد اخلليفة امل�أمون‪ ،‬لتعبيد الطريق حل�ضارة‬ ‫�إ�سالمية جديدة‪ ،‬تقوم على الدين وعلوم الدين‪ ،‬وتقوم على الفل�سفة وعلوم‬ ‫الدين‪ ،‬فهو التقي الورع‪ ،‬ال�سلفي املتبع‪ ،‬دون قبول بالبدع‪ ،‬واالبتداع‪،‬‬ ‫والذي ي�ؤثر �أن يعي�ش هادئا يف بيته‪� ،‬آمنا يف م�سجده‪ .‬هكذا كان اختياره‬ ‫لنف�سه‪ ،‬ودعوته �سواه �إىل هذا االختيار‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫غنى الفقر‬ ‫وقد عا�ش �أحمد بن حنبل حياة فقرية‪ ،‬ي�ؤثر خ�صا�صة العي�ش على �أن‬ ‫يكون ذا مال ال يعرف �أنه حالل‪� ،‬أو فيه ِم ّنة العطاء‪ .‬ويعمل بيديه ليك�سب‬ ‫عي�شه‪ ،‬وين�سخ كتاب ًا‪� ،‬أو ين�سج تكة ل�رسوال‪� ،‬أو ي�ؤجر نف�سه يف عمل يعمله‪،‬‬ ‫حني ينقطع به الطريق يف �سفر‪ ،‬وال مال معه‪ ،‬م�ؤثراً العمل على �أن يقبل‬ ‫عطاء من �أحد يعجز عن رده يف زمن قريب‪ .‬من عائد عقاره املوروث‬ ‫عا�ش �أحمد‪ ،‬وكان ذلك العقار ب�ضع دكاكني ي�ؤجرها‪ .‬وقد روي �أن �أحمد‬ ‫وقع من يده مقرا�ض (ملقاط) يف بئر‪ ،‬فجاءه �ساكن عنده‪ ،‬ف�أخرج له‬ ‫املقرا�ض‪ ،‬ف�أعطاه �أحمد ن�صف درهم‪ ،‬فغ�ضب ال�ساكن من قلة �أجره‪،‬‬ ‫وقال لأحمد‪:‬‬ ‫ املقرا�ض ي�ساوي قرياط ًا (من الأوزان)‪ .‬ال �آخذ �شيئ ًا‪.‬‬‫وترك ال�ساكن �أحمد مغا�ضب ًا‪ .‬وبعد �أيام قابله �أحمد‪ ،‬و�س�أله‪:‬‬ ‫ كم عليك من �أجر احلانوت؟‬‫فقال ال�ساكن له‪:‬‬ ‫ �أجر ثالثة �أ�شهر‪ ،‬و�أجرها يف كل �شهر ثالثة دراهم‪.‬‬‫ف�أعطاه �أحمد �أجرة احلانوت‪ ،‬عن ثالثة �أ�شهر‪� ،‬أجراً له عن ا�ستخراجه‬ ‫للمقرا�ض‪.‬‬ ‫وكانت �أجرة �أحمد من دكاكينه �سبعة ع�رش درهم ًا يف كل �شهر‪ ،‬هي‬ ‫نفقته‪ ،‬ونفقة من يعولهم‪.‬‬ ‫وكان �أحمد يحتال ل�سد رمقه‪ ،‬وحاجة عياله‪ ،‬فيحمل حبله على‬ ‫عاتقه‪ ،‬ويذهب �إىل املزارع‪ ،‬وي�ست�أذن �أ�صحابها‪ ،‬ويجمع بقايا ح�صاد‬ ‫الزروع‪ ،‬حني ال يجد عم ًال �آخر ي�ستكمل ب�أجره‪ .‬نفقات معي�شته‪� ،‬أو ي�ؤجر‬ ‫نف�سه حلمل متاع النا�س‪� ،‬أو ين�سخ كتاب ًا لطالبه نظري �أجر معني‪.‬‬ ‫روى «علي بن اجلهم» قال‪:‬‬ ‫‪152‬‬


‫«كان لنا جار‪ ،‬ف�أخرج �إلينا كتاب ًا‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ �أتعرفون هذا اخلط؟‬‫فقلنا‪:‬‬ ‫ هذا خط �أحمد بن حنبل‪ .‬فكيف كتب لك؟‬‫فقال اجلار‪:‬‬ ‫ كنا مقيمني مبكة‪ ،‬عند �سفيان بن ُعيينة‪ ،‬ففقدنا �أحمد �أيام ًا‪ ،‬ثم‬‫جئنا لن�س�أل عنه‪ ،‬ف�إذا الباب مردود عليه‪ ،‬فقلت له‪:‬‬ ‫ ما خربك؟‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ �سرُ قت ثيابي‪.‬‬‫فقلت له‪:‬‬ ‫ معي دنانري‪ .‬ف�إن �شئتها �صلة (عطاء)‪ ،‬و�إن �شئتها قر�ض ًا‪.‬‬‫ف�أبى �أحمد �أن ي�أخذها (عطاء �أو قر�ض ًا) فقلت له‪:‬‬ ‫ تكتب يل ب�أجرة؟‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ نعم‪.‬‬‫ف�أخرجت ديناراً‪ ،‬فقال يل‪:‬‬ ‫ ا�شرت يل ثوب ًا‪ ،‬واقطعه ن�صفني (يعني �إزاراً ورداء) وجئني بورق‪.‬‬‫ففعلت‪ ،‬وجئته بورق‪ ،‬فكتب يل هذا (الكتاب)»‪.‬‬ ‫وكان �أحمد‪� ،‬أحيان ًا ين�سج‪ ،‬ويبيع ما ين�سجه‪ .‬حكى �إ�سحق بن راهويه‪،‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫«كنت �أنا و�أحمد باليمن‪ ،‬وكنت �أنا فوق يف غرفة‪ ،‬وكان هو يف‬ ‫الغرفة التي حتتها‪ .‬واطلعت على �أن نفقة �أحمد فنيت‪ ،‬فعر�ضت عليه ما ًال‪،‬‬ ‫فامتنع �أن ي�أخذه قر�ض ًا �أو عطاء‪ .‬وعرفت �أنه ين�سج التكك (لل�رساويل)‬ ‫ويبيعها‪ ،‬وينفق منها»‪.‬‬ ‫‪153‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫و�أحيان ًا‪ ،‬حني يكون �أحمد مقيم ًا‪ ،‬ولي�س على �سفر‪ ،‬كان �أحمد يلج�أ‬ ‫�إىل االقرتا�ض‪ ،‬حني يكون ثمة عائد قريب ينتظره‪ ،‬فمظنة �سداده للقر�ض‬ ‫قريبة‪ ،‬وهو يف احل�رض مقيم يف �أمن وا�ستقرار‪ ،‬ولي�س على �سفر‪ .‬و�أحيان ًا‬ ‫كان من �أقر�ضه يرف�ض �أن ي�سرتد قر�ضه‪ ،‬في�رص �أحمد على �أن يرد قر�ضه‪.‬‬ ‫ومل يزد هذا القر�ض على مئتي درهم‪� ،‬أو ثالثمئة درهم‪.‬‬ ‫كان �أحمد �إذن ي�ؤثر تعب اجل�سم‪ ،‬على تعب النف�س‪ ،‬وي�ؤثر �أن تكون‬ ‫يده العليا‪ ،‬وال ي�أخذ عطاء‪ .‬ويفي ب�سداد ما اقرت�ضه‪ ،‬ويعاين متاعب ك�سب‬ ‫حراً‪ ،‬بريء الذمة يف تعامله مع النا�س‪ ،‬عفيف النف�س‪،‬‬ ‫العي�ش لكي يكون ّ‬ ‫م�سرتيح ال�ضمري‪ ،‬وهو �إمام ي�شار �إليه بالبنان‪ ،‬يوده النا�س مبالهم‪ ،‬لكنه‬ ‫ي�أبى مودة املال‪� ،‬أ�صدقاء كانوا �أو خلفاء �أو �أمراء‪ .‬ويف الوقت نف�سه‬ ‫يجود بالقليل من هذا املال ملن يطلبه منه‪.‬‬ ‫ويروى �أن �أحمد قد لزم جمل�س ال�شافعي‪ ،‬عندما جاء �إىل بغداد يف‬ ‫املرة الثانية التي �أقام فيها ببغداد ت�سع �سنوات‪ ،‬ون�رش مذهبه بها لأول‬ ‫مرة‪ .‬ومل يكن �أحمد يفارق جمل�س ال�شافعي‪� ،‬إال لطلب حديث يف ال�سفر‪� ،‬أو‬ ‫يف الإقامة‪ .‬وحني عزم �أحمد على ال�سفر �إىل اليمن‪ ،‬طلب ًا حلديث عي�سى بن‬ ‫همام‪ ،‬وكان ماله قلي ًال‪ ،‬عر�ض عليه ال�شافعي �أن يكون قا�ضي ًا باليمن‪،‬‬ ‫فقد طلب منه اخلليفة الأمني رج ًال يوليه ق�ضاء اليمن‪ ،‬فرف�ض �أحمد‬ ‫عر�ض �شيخه ال�شافعي‪ ،‬مراراً‪ ،‬ثم قال لل�شافعي‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬إن �سمعت منك هذا ثاني ًا‪ ،‬مل ترين عندك‪.‬‬‫ف�أحمد يريد �أن يكون �سفره للعلم وحده‪ .‬و�أحمد ما كان يجيز الق�ضاء‬ ‫لنف�سه‪ ،‬مثله مثل �أبي حنيفة‪ .‬و�أحمد ال ينال ما ًال �إال �إذا كان خالي ًا من كل‬ ‫�شبهة‪ .‬ولذلك تعفف �أحمد عن قبول عطاء اخللفاء‪ ،‬مثل �أبي حنيفة‪ ،‬و�آثر‬ ‫�أن يحيا فقرياً‪ ،‬غني النف�س‪.‬‬ ‫ويروى �أن اخلليفة امل�أمون‪ ،‬دفع �إىل �شيخ من �شيوخ احلديث ما ًال‪،‬‬ ‫ليق�سمه على �أ�صحاب احلديث‪ .‬ففيهم �ضعفاء‪ ،‬بحاجة �إىل العون يف طلب‬ ‫‪154‬‬


‫احلديث‪ ،‬ومل يبق �أحد من املحدثني �إال �أخذ من هذا املال‪ ،‬عدا �أحمد بن‬ ‫حنبل‪ .‬حدث ذلك قبل �أن ميتحن امل�أمون الفقهاء واملحدثني مبحنة خلق‬ ‫القر�آن‪.‬‬ ‫وحني ذهبت املحنة‪ ،‬يف عهد اخلليفة املتوكل‪ ،‬عن �أحمد بن حنبل‪،‬‬ ‫والفقهاء‪ ،‬واملحدثني‪ ،‬عر�ض املتوكل على �أحمد ما ًال كثرياً‪ ،‬و�ألح عليه يف‬ ‫العر�ض‪ ،‬لكي يقبل ماله‪ ،‬ف�أبى �إباء �شديداً �أن ي�أخذه لنف�سه‪ ،‬و�أن ي�أخذه‬ ‫للت�صدق به‪.‬‬ ‫وحدث يف عهد املتوكل �أن دار �أحمد فت�شت‪ ،‬ب�سبب �سعاية كاذبة‪ ،‬بحث ًا‬ ‫عن علوي خارج على اخلالفة‪ ،‬ومل جتد ال�رشطة ذلك العلوي الهارب يف‬ ‫بيت �أحمد‪ .‬وعند ذلك بعث �إليه املتوكل مبال‪ ،‬حمله �إليه وزير املتوكل‪،‬‬ ‫وقال الوزير لأحمد‪:‬‬ ‫ �إن �أمري امل�ؤمنني قد وجه �إليك جائزة‪ .‬وي�أمرك باخلروج (بالذهاب)‬‫�إليه‪ .‬فاهلل اهلل �أن ت�ستعفي (ترف�ض)‪� ،‬أو ترد املال‪ ،‬فيت�سع القول عليك ملن‬ ‫يبغ�ضك‪.‬‬ ‫مي�سه‪ .‬ويف اليوم التايل �أمر �أحمد‬ ‫وا�ضطر �أحمد لقبول املال‪ ،‬لكنه مل ّ‬ ‫ابنه �صاحل ًا‪ ،‬ف�أخذ املال ووزعه على �أبناء املهاجرين والأن�صار و�سواهم‪،‬‬ ‫من املتعففني الذين يتجملون‪ ،‬وال يظهرون للنا�س حاجتهم وفقرهم‪.‬‬ ‫واطم�أن املتوكل �إىل جانب �أحمد‪ ،‬وتبني له تقاه و�إميانه‪ .‬ثم جاء �إىل‬ ‫املتوكل �ساع ب�سعاية‪ ،‬قائ ًال له‪:‬‬ ‫ �إن �أحمد ال ي�أكل من طعامك‪ ،‬وال يجل�س على فرا�شك‪ ،‬ويحرم هذا‬‫ال�رشاب الذي ت�رشبه‪.‬‬ ‫عندئذ قال له املتوكل ناهراً‪:‬‬ ‫حي ًا‪ ،‬اخلليفة) املعت�صم‪ ،‬وقال يل عنه �شيئ ًا (كقولك‬ ‫ لو ُن�رش (عاد ّ‬‫هذا) مل �أقبله‪.‬‬ ‫ولقد ترك املتوكل لأحمد‪ ،‬منذ ذلك احلني‪ ،‬حريته يف قبول عطائه‪،‬‬ ‫‪155‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫�أو رده‪.‬‬ ‫ولقد روي �أن املتوكل وجه �إىل �أحمد �ألف دينار ليوزعها على �أهل‬ ‫احلاجة‪ ،‬فردها �أحمد قائ ًال‪:‬‬ ‫ �أنا يف البيت منقطع عن النا�س‪ .‬وقد �أعفاين �أمري امل�ؤمنني مما‬‫�أكره‪ .‬وهذا ما �أكره‪.‬‬ ‫لكن �أوالد �أحمد‪ ،‬وذوي قرباه كانوا ي�أخذون مال اخلليفة‪ ،‬وكان �أحمد‬ ‫ينهاهم عن �أخذه‪ ،‬فال ينتهون‪ .‬وكان �أحمد يقول لهم‪:‬‬ ‫ مل ت�أخذونه‪ ،‬والثغور معطلة غري م�شحونة (باجلند وال�سالح)‪،‬‬‫والفيء غري مق�سوم بني �أهله؟!‬ ‫ويقاطع �أحمد �أوالده‪ ،‬وال ي�ؤاكلهم‪ ،‬وال ي�شاربهم‪ ،‬وال ي�أكل اخلبز الذي‬ ‫يخبز يف �أفرانهم‪ ،‬وعلى نارهم‪ ،‬لأنهم ي�أخذون جوائز ال�سلطان‪ .‬وي�صل‬ ‫اخلرب �إىل اخلليفة املتوكل فال يغ�ضب منه‪ ،‬وال ين ُقم عليه‪ ،‬لأنه يعرف‬ ‫�إميانه و�إخال�صه‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫بر ولده‪.‬‬ ‫ �إن �أحمد ليمنعنا من ّ‬‫وي�أمر املتوكل ب�إعطاء املال لأوالد �أحمد‪ ،‬و�أقارب �أحمد‪ ،‬يف خفية‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫وحدث �أن �أحمد مر�ض يوم ًا‪ ،‬وجاءه ابنه يعوده يف مر�ضه‪ ،‬وقال له‬ ‫فيما قاله‪:‬‬ ‫ يا � ِ‬‫يربنا به املتوكل‪ .‬هل �أحج منه؟‬ ‫أبت‪ .‬عندنا �شيء بقي مما كان ّ‬ ‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ نعم‪.‬‬‫فقال ابنه‪:‬‬ ‫ فلم �إذن ال ت�أخذ مال املتوكل؟‬‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ يا بني‪ .‬لي�س ما له عندي بحرام‪ ،‬ولكنني تنـ ّزهت عنه‪.‬‬‫‪156‬‬


‫ف�أحمد كان من الزهاد‪ ،‬الذين يردون املال حني ي�شتبهون يف ح ّله‪،‬‬ ‫ليحرر نف�سه من ال�شك واحلرية‪.‬‬

‫املحنة العظمى‬ ‫كان اخلليفة امل�أمون‪� ،‬صاحب ًا للمعتزلة‪ ،‬ومن بينهم اختار وزراءه‪،‬‬ ‫و�أ�صحابه‪ ،‬وكان يقول مثلما يقولون‪ ،‬ومن بني ما يقولونه يف م�سائل‬ ‫العقائد‪ ،‬يف علم الكالم‪� ،‬إن القر�آن الكرمي خملوق وحمدث‪ ،‬وكانوا يقولون‬ ‫بذلك منذ عهد الدولة الأموية‪ ،‬لكن اخلليفة امل�أمون حني قال مبثل ما‬ ‫قالوا به‪ ،‬وهو اخلليفة الإمام‪� ،‬أراد من الفقهاء واملحدثني‪ ،‬الذين يكرهون‬ ‫علماء الكالم‪ ،‬ويكرهون طرائقهم الفل�سفية يف عقائد الإ�سالم‪� ،‬أن يقولوا‬ ‫وحمدث‪ ،‬ولقد �أو�صى امل�أمون‬ ‫مقالته يف خلق القر�آن‪ ،‬ب�أن القر�آن خملوق‬ ‫ّ‬ ‫من بعده من اخللفاء �أن يقولوا مبثل ما يقول‪ ،‬و�أن يحملوا الفقهاء‬ ‫واملحدثني على مثل ما يحملهم عليه‪ ،‬فاتبع و�صيته خليفتان من بعده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هما‪ :‬املعت�صم‪ ،‬والواثق‪ ،‬و�سلكا م�سلكه‪.‬‬ ‫حمدث ع�رصه الفقيه‪،‬‬ ‫ولقد �أراد امل�أمون �أن يحمل �أحمد بن حنبل‪ّ ،‬‬ ‫على القول بخلق القر�آن‪ ،‬وب�أنه حمدث‪ .‬ف�أبى �أحمد ذلك القول‪ ،‬و�أ�رص‬ ‫على قوله ب�أن القر�آن كالم اهلل‪ .‬فكانت حمنته حمنة مدوية ا�ستمرت يف‬ ‫عهد امل�أمون‪ ،‬ويف عهدي املعت�صم والواثق من بعده‪ ،‬وحمنة لقي فيها‬ ‫العذاب‪.‬‬ ‫«اجلعد بن درهم» يف‬ ‫و�أول من دعا �إىل القر�آن خملوق وحمدث‪ ،‬هو‬ ‫ُ‬ ‫الع�رص الأموي‪ ،‬ف�أتى به الوايل خالد بن عبد اهلل الق�رسي‪� ،‬إىل م�سجد‬ ‫الكوفة‪ ،‬مقيداً بالأغالل يف يوم عيد الأ�ضحى‪ .‬و�ص ّلى خالد بالنا�س �صالة‬ ‫العيد‪ ،‬وخطب يف النا�س خطبة العيد‪ ،‬ثم قال لهم يف �آخر خطبته‪:‬‬ ‫ اذهبوا (عائدين �إىل بيوتكم)‪ ،‬و�ضحوا ب�ضحاياكم‪ ،‬تقبل اهلل (منكم)‪،‬‬‫‪157‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫(�أما �أنا) ف�إين �أريد �أن �أ�ضحي باجلعد بن درهم‪ ،‬ف�إنه يقول (بقوله �إن‬ ‫القر�آن خملوق‪� :‬إن اهلل) ما ك ّلم مو�سى تكليم ًا‪ ،‬وال اتخذ �إبراهيم خلي ًال‪.‬‬ ‫تعاىل اهلل عما يقول علواً كبرياً‪...‬‬ ‫ونزل الوايل خالد عن املنرب‪ ،‬وقتل اجلعد بن درهم‪ ،‬مطيح ًا بر�أ�سه يف‬ ‫عنف‪ ،‬بحد �سيفه‪.‬‬ ‫اجلعد‪ ،‬قال «اجلهم بن �صفوان» نافي ًا بقوله �صفة الكالم‬ ‫ومبثل قول ْ‬ ‫عن اهلل �سبحانه‪ ،‬تنزيه ًا هلل عن احلوادث و�صفاتها‪ ،‬فالقر�آن عنده خملوق‪،‬‬ ‫ولي�س بقدمي‪.‬‬ ‫وعندما ظهر املعتزلة‪ ،‬نفوا �صفات املعاين عن اهلل �سبحانه‪ ،‬و�أنكروا‬ ‫معها �صفة الكالم‪ ،‬و� ّأولوا كالم اهلل ملو�سى‪ ،‬ب�أنه �سبحانه خلق الكالم‬ ‫يف ال�شجرة‪ ،‬مثلما يخلق كل �شيء‪ .‬فالقر�آن مثل كل �شيء خملوق حمدث‪.‬‬ ‫وزاد خو�ض املعتزلة يف هذه امل�س�ألة يف عهد الر�شيد‪ ،‬ومل يكن الر�شيد‬ ‫ي�شجع �أحداً من رعيته على اخلو�ض يف العقائد‪ ،‬بل �إنه حب�س جماعة من‬ ‫املجادلني يف الكالم‪ ،‬من املعتزلة‪ ،‬وقال عن املعتزيل املتكلم العايل‬ ‫ال�صوت‪« ،‬ب�رش بن غياث»‪:‬‬ ‫ �إن �أظفرين اهلل بابن غياث �أقتله‪.‬‬‫فظل ب�رش م�ستخفي ًا طوال خالفة الر�شيد‪ ،‬ثم عاد �إىل الظهور �آمن ًا‪،‬‬ ‫وعايل ال�صوت‪ ،‬يف عهد ابنه امل�أمون‪ ،‬وكان امل�أمون تلميذاً يف الأديان‬ ‫الهذيل العالف‪� ،‬أحد ر�ؤو�س علماء االعتزال‬ ‫واملقاالت يف الأديان‪ ،‬لأبي ُ‬ ‫الكبار‪ .‬وحني �صار امل�أمون خليفة‪ ،‬وا�ستقر له �أمر اخلالفة يف بغداد‪،‬‬ ‫�صار يعقد املجال�س للمناظرات واملناق�شات‪ ،‬يف املقاالت وال ّنحل وا ِ‬ ‫مللل‪،‬‬ ‫خ�ص امل�أمون‬ ‫وكان فر�سان هذه املناظرات‪ ،‬هم علماء املعتزلة‪ ،‬ولذلك ّ‬ ‫ه�ؤالء العلماء‪ ،‬ب�أن يكون من بينهم وزرا�ؤه‪ ،‬و�أ�صحابه‪ ،‬ويف مقدمتهم‪:‬‬ ‫«�أحمد بن �أبي د�ؤاد»‪ ،‬وو�صل امل�أمون من ا�صطفائه له‪� ،‬أنه �أو�صى �أخاه‬ ‫املعت�صم ب�أن يجعله م�ست�شاره‪ ،‬يف كل �أموره‪ ،‬قائ ًال له‪:‬‬ ‫‪158‬‬


‫«‪ ..‬و�أبو عبد اهلل بن �أبي د�ؤاد‪ ،‬فال يفارقك‪ ،‬و�أ�رشكه يف امل�شورة يف كل‬ ‫�أمرك‪ ،‬ف�إنه مو�ضع لذلك منك»‪.‬‬ ‫وبد�أ امل�أمون يف ت�أييده لالعتزال �سنة ‪ 212‬هجرية‪ ،‬و�أظهر هذا‬ ‫الت�أييد ب�إبداء ر�أيه يف املناظرات التي كان يعقدها لأهل الفرق الإ�سالمية‪،‬‬ ‫معتزلة كانوا‪� ،‬أو غري معتزلة‪ ،‬تارك ًا احلرية للعلماء‪ ،‬وللنا�س‪ ،‬يف القول‬ ‫باالعتزال‪ ،‬وغري االعتزال‪ ،‬طوال �ست �سنوات‪ ،‬ثم بدا له يف �سنة ‪218‬‬ ‫هجرية‪� ،‬أن يحمل النا�س‪ ،‬علماء وغري علماء‪ ،‬بقوة الإمامة‪ ،‬على القول‬ ‫قهراً‪ ،‬بفكرة خلق القر�آن‪.‬‬ ‫بد�أ ذلك امل�أمون وهو مبدينة الرقة‪ ،‬حني �أر�سل ر�سالة �إىل «�إ�سحق بن‬ ‫�إبراهيم»‪ ،‬نائبه على بغداد‪ ،‬ليحمل الفقهاء واملحدثني‪ ،‬على القول بخلق‬ ‫القر�آن‪ ،‬ومعهم من يلون منا�صب يف الدولة‪ ،‬ومن يلون الق�ضاء‪ ،‬ومن‬ ‫يتقدمون لل�شهادة �أمام الق�ضاة‪ ،‬وليعزل كل من ال يقول بخلق القر�آن من‬ ‫من�صبه‪� ،‬أو من الإدالء ب�شهادته‪� ،‬أو من عمله كقا�ض‪ ،‬وليمنع من الفتوى‬ ‫كفقيه‪� ،‬أو من التحديث كمحدث‪ ،‬كل من ال يقول بخلق القر�آن‪ .‬وطلب‬ ‫امل�أمون من �إ�سحق �أن ير�سل �إليه يف الرقة‪ ،‬با�ستجابات امل�ستجيبني‪،‬‬ ‫ورف�ض الراف�ضني‪ ،‬و�أر�سل �إليه �إ�سحق مبواقف الراف�ضني‪ ،‬وبينهم ق�ضاة‪،‬‬ ‫وفقهاء وحمدثون‪� ،‬أبوا �أن يقولوا بخلق القر�آن‪.‬‬ ‫وكتب امل�أمون ثانية �إىل �إ�سحق‪ ،‬ي�أمره ب�أن ير�سل به�ؤالء الراف�ضني‬ ‫�إليه يف مع�سكره بالرقة‪ ،‬وحتت حرا�سة م�شددة‪ ،‬مقيدين بالأغالل‪،‬‬ ‫لي�ستتيبهم امل�أمون عن ال�رشك‪ ،‬وينذرهم بعقوبة الإعدام‪.‬‬ ‫و�سيق املحدثون والفقهاء املفتون‪ ،‬وبينهم �أحمد بن حنبل‪� ،‬إىل �أمري‬ ‫امل�ؤمنني امل�أمون‪.‬‬ ‫وبني يدي امل�أمون‪ ،‬و�أمام التهديد والوعيد‪ ،‬اعتنق الراف�ضون جميع ًا‬ ‫مذهب االعتزال‪ ،‬والقول بخلق القر�آن‪� ،‬إال �أربعة‪� ،‬أ�رصوا على موقفهم‪ ،‬هم‪:‬‬ ‫و�سجادة‪ ،‬فباتوا ليلتهم‬ ‫�أحمد بن حنبل‪ ،‬وحممد بن نوح‪ ،‬والقواريري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪159‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫م�صفدين يف الأغالل‪.‬‬ ‫ويف ال�صباح تراجع «�سجادة» �أمام امل�أمون‪ ،‬وقال بخلق القر�آن‪،‬‬ ‫ففكت قيوده‪ ،‬و�أطلق �رساحه‪ ،‬و�أعيد الثالثة الآخرون �إىل �سجنهم‬ ‫باملع�سكر‪ ،‬مقيدين بالأغالل‪.‬‬ ‫ويف ال�صباح التايل‪ ،‬خار «القواريري» و�سلم بالقول بخلق القر�آن‪،‬‬ ‫ف�أطلق �رساحه‪ .‬وبقي يف القيود‪� :‬أحمد بن حنبل‪ ،‬وحممد بن نوح‪ ،‬وحمل‬ ‫االثنان �إىل طر�سو�س‪ ،‬مع امل�أمون‪ .‬ويف الطريق‪ ،‬ا�ست�شهد حممد بن نوح‪.‬‬ ‫ثم نعى الناعي بغتة وفاة امل�أمون‪ ،‬وكان على اخلليفة املعت�صم‪ ،‬من‬ ‫بعده‪� ،‬أن ين�رص دعوة االعتزال‪ ،‬و�أن يقرر م�صري �أحمد بن حنبل‪ ،‬الذي‬ ‫رف�ض اخلو�ض ب�أي قول يف هذه الق�ضية‪ ،‬فقد رف�ض �أن يقول ب�أن القر�آن‬ ‫خملوق‪ ،‬ورف�ض ب�أن يقول ب�أن القر�آن غري خملوق‪ ،‬م�ؤكداً �أمراً واحداً هو‬ ‫�أن القر�آن كالم اهلل‪ ،‬وال دخل له بكونه خملوق ًا �أو غري خملوق‪ .‬وهكذا‬ ‫توقف �أحمد لأنه مل ي�ؤثر عن ال�سلف كالم يف هذه امل�س�ألة‪ ،‬وعلمها هو‬ ‫عند اهلل وحده‪.‬‬ ‫وراح املعت�صم ينزل الأذى مبخالفيه‪ ،‬وخمالفي م�ست�شاره ابن �أبي‬ ‫د�ؤاد‪ ،‬يف القول بخلق القر�آن‪ ،‬ممتحن ًا ال�ضمائر‪ ،‬كا�شف ًا لل�رسائر‪ ،‬ولذلك‬ ‫انتقد كثريون ممن يقولون بخلق القر�آن‪ ،‬املعت�صم وم�ست�شاره‪ ،‬وعلى‬ ‫ر�أ�س ه�ؤالء املنتقدين كان اجلاحظ املعتزيل‪ ،‬لأنهما يدعوان �إىل حرية‬ ‫الفكر كمعتزلة‪ ،‬ويف الوقت نف�سه يعذبان من ميار�س هذه احلرية!! وتقع‬ ‫م�س�ؤولية اال�ضطهاد‪ ،‬بالأكرث‪ ،‬على ابن �أبي د�ؤاد‪ ،‬فهو عامل‪ ،‬واملعت�صم‬ ‫رجل �سيف‪ .‬وقد ترك له املعت�صم حرية الت�رصف‪ ،‬مع �أحمد بن حنبل‪.‬‬ ‫�أمر ابن �أبي د�ؤاد ب�أحمد بن حنبل‪ ،‬ف�سيق مقيداً �إىل ال�سجن ببغداد‪،‬‬ ‫واتخذت بال�سجن مع ابن حنبل و�سائل الإغراء والإرهاب‪ ،‬لكنه �صمد عند‬ ‫توقفه يف �أمر خلق القر�آن‪ .‬ويف كل يوم‪ ،‬طوال ثمانية وع�رشين �شهراً‪،‬‬ ‫وينخ�س بال�سيف فال‬ ‫كان �أحمد ي�رضب بال�سياط �إىل �أن ُيغمى عليه‪ُ ،‬‬ ‫‪160‬‬


‫ح�س‪ ،‬وعندئذ فقط يرتك �إىل اليوم التايل‪.‬‬ ‫ُي ّ‬ ‫وحني يئ�س معذبو �أحمد من �أحمد‪ ،‬رحموه‪ ،‬و�أطلقوا �رساحه‪ ،‬و�أعادوه‬ ‫�إىل بيته مثخن ًا باجلراح‪ ،‬ال يقوى على ال�سري‪ ،‬وقد انت�رص بتقاه‪ ،‬وهزم‬ ‫�أ�صحاب ال�سياط‪.‬‬ ‫وانقطع �أحمد عن الدر�س والتحديث‪� ،‬إىل �أن �شفيت جراحه‪ ،‬فعاد �إىل‬ ‫امل�سجد معافى‪� ،‬إال من �آثار التعذيب‪ ،‬وندوب ال�سياط‪ ،‬و�أوجاع الأع�ضاء‪،‬‬ ‫وراح يدر�س يف امل�سجد‪ ،‬ويحدث النا�س يف امل�سجد‪� ،‬إىل �أن مات اخلليفة‬ ‫املعت�صم‪ ،‬وتوىل اخلليفة الواثق‪ ،‬وعندئذ �أعاد الواثق مب�شورة ابن �أبي‬ ‫د�ؤاد املحنة �إىل حياة �أحمد بن حنبل‪.‬‬ ‫لكن هذه املحنة مل تكن �سجن ًا‪ ،‬وال �رضب ًا ب�سوط‪ .‬كانت فقط منع ًا‬ ‫لأحمد‪ ،‬من الدر�س‪ ،‬والتحديث‪ ،‬يف امل�سجد‪� ،‬أو يف غري امل�سجد‪ ،‬ومنع ًا‬ ‫لأحمد من �أي اجتماع بالنا�س‪� ،‬أو ال�سكنى ببلد يقيم فيه اخلليفة الواثق‪،‬‬ ‫فلقد زادت منزلة ابن حنبل عند النا�س‪ ،‬وزاد �سخط العامة على اخلالفة‪،‬‬ ‫وعلى ابن �أبي د�ؤاد‪ ،‬و�شاعت بني النا�س فكرة التوقف عن القول بخلق‬ ‫القر�آن‪� .‬أو عدم القول به‪ ،‬فهو فقط كالم اهلل‪ ،‬كما قال القر�آن‪ ،‬ودون ت�أويل‬ ‫لظاهر القر�آن‪ ،‬كما قال �أحمد‪.‬‬ ‫قال الواثق لأحمد بن حنبل‪:‬‬ ‫ ال جتمعن �إليك �أحداً‪ ،‬وال ت�ساكني يف بلد �أنا فيه‪.‬‬‫وامتثل �أحمد بن حنبل للأمر يف هذه املرة‪ ،‬ف�أقام خمتفي ًا‪ ،‬ال يراه‬ ‫�أحد‪ ،‬وال يخرج من بيت يختفي فيه �إىل �صالة‪� ،‬أو �إىل غري �صالة‪ ،‬طوال‬ ‫خم�س �سنوات‪ ،‬من �سنة ‪ 228‬هجرية �إىل �سنة ‪ 232‬هجرية‪� ،‬إىل �أن مات‬ ‫اخلليفة الواثق‪.‬‬ ‫وجاء املتوكل بعد الواثق‪ ،‬ف�أوقف اال�ضطهاد‪ ،‬وحارب االعتزال‪،‬‬ ‫وعندئذ عاد �أحمد‪ ،‬عزيزاً مكرم ًا‪� ،‬إىل التدري�س‪ ،‬والتحديث‪ ،‬يف امل�سجد‪،‬‬ ‫ويف غري امل�سجد‪.‬‬ ‫‪161‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫ولقد تركت حمنة القول بخلق القر�آن وراءها �شهداء‪ ،‬بينهم كان‪:‬‬ ‫يو�سف بن يحيى البويطي الفقيه امل�رصي‪ ،‬ونعيم بن حماد‪.‬‬

‫�شخ�صية �أحمد‬ ‫�صفات �أحمد‪ ،‬هي ال�سبب الأول يف �شهرته‪ ،‬وعلمه الغزير‪ ،‬وبع�ضها‬ ‫هبة من اهلل‪ ،‬وبع�ضها اكت�سبها �أحمد بالن�ش�أة والرتبية‪ ،‬والتوجيه‪ ،‬وحمل‬ ‫النف�س على طلب معايل الأمور‪ .‬وتتج�سد هذه ال�صفات‪ ،‬كما يراها ال�شيخ‬ ‫�أبو زهرة‪ ،‬يف ذاكرة �أحمد القوية الواعية‪ ،‬كمحدث �إمام‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن‬ ‫مالك وال�شافعي‪ ،‬وجودة فهمه ملا ينقله ويحفظه من �أحاديث وفتاوى‪،‬‬ ‫ويف �صربه وجلده‪ ،‬وقوة احتماله يف طلب العلم‪ ،‬واحتمال الفقر‪ ،‬ويف‬ ‫نزاهته النف�سية عن مال الغري‪ ،‬ونزاهته العقلية عن اجلدل مع �أهل البدع‬ ‫والأهواء‪ ،‬ونزاهته الفقهية بعدم خروج عن ال�سنة‪ ،‬ويف �إخال�صه يف طلب‬ ‫العلم‪ ،‬وطلب احلقيقة‪ ،‬ال ير�ضى عنهما بدي ًال‪ ،‬ويف مهابته بني �شيوخه‬ ‫وتالميذه‪ ،‬و�سائر النا�س‪.‬‬ ‫و�آية قوة ذاكرة �أحمد‪ ،‬قول «�أبي زرعة» معا�رص �أحمد عنه‪:‬‬ ‫ �أحفظ امل�شايخ واملحدثني �أحمد بن حنبل‪.‬‬‫و�آية جودة فهم �أحمد ملا حفظه‪ ،‬قول «�إ�سحق بن راهويه»‪:‬‬ ‫«كنت �أجال�س بالعراق �أحمد بن حنبل‪ ،‬ويحيى بن ُمعني‪ ،‬و�أ�صحابنا‪،‬‬ ‫فكنا نتذكر احلديث من طريق‪ ،‬وطريقني‪ ،‬وثالثة‪ ،‬ف�أقول‪ :‬ما مراده؟ ما‬ ‫تف�سريه؟ ما فهمه؟ فيتوقفون كلهم عن الإجابة‪� ،‬إال �أحمد بن حنبل‪ ،‬وقد‬ ‫كان علمه باحلديث وال�سنة‪ ،‬وفتاوى التابعني‪ ،‬وا�ستنباطه الأحكام منها‪،‬‬ ‫�سبب ًا يف �أنه كان �إمام ًا يف احلديث‪ ،‬و�إمام ًا يف الفقه»‪.‬‬ ‫وقال �إبراهيم احلربي عن الإمام �أحمد‪:‬‬ ‫ �أدركت ثالثة مل ُير مثلهم‪ ،‬ويعجز الن�ساء �أن يلدن مثلهم ر�أيت‪� :‬أبا‬‫‪162‬‬


‫عبيد القا�سم ابن �سالم‪ ،‬ما �أمثله �إال بجبل نفخ فيه روح‪ .‬ور�أيت‪ :‬ب�رش ابن‬ ‫احلارث‪ ،‬فما �شبهته �إال برجل ُعجِ ن من قرنه �إىل قدمه عقال‪ ،‬ور�أيت‪� :‬أحمد‬ ‫بن حنبل‪ ،‬فر�أيت ك�أن اهلل جمع فيه علم الأولني والآخرين من كل �صنف‪،‬‬ ‫يقول ما �شاء اهلل‪ ،‬ومي�سك ما �شاء‪ .‬وجمعه لعلم الأولني والآخرين‪ ،‬هو‬ ‫بحفظه للأحاديث‪ ،‬و�آثار ال�سلف‪ ،‬وفهمه لفقههم‪.‬‬ ‫و�آية �صربه‪ ،‬وقوة �إرادته‪ ،‬تفوي�ضه �أمر حياته كلها �إىل اهلل‪ُ ،‬يروى �أنه‬ ‫هولوا عليه املوقف‪،‬‬ ‫حني �أدخل على اخلليفة بالرقة‪ ،‬يف �أيام حمنته‪ّ ،‬‬ ‫لينطق مبا ُينجيه‪ ،‬ف�ضرُ ب �أمامه عنق رجلني‪ ،‬ويف و�سط ذلك امل�شهد‬ ‫املروع‪ ،‬وقع نظر �أحمد على �أحد �أ�صحاب ال�شافعي‪ ،‬ف�س�أله‪ ،‬وك�أنه ال‬ ‫يواجه املوت‪:‬‬ ‫ �أي �شيء حتفظ يف امل�سح على اخلفني؟‬‫وده�ش احلا�رضون لثباته‪ ،‬و�س�ؤاله مع ًا‪ .‬و�صاح خ�صمه �أحمد بن �أبي‬ ‫د�ؤاد متعجب ًا‪:‬‬ ‫الرجل‪ ،‬هو ذا يقدم ل�رضب عنقه‪ ،‬فيناظر يف الفقه‪.‬‬ ‫ انظروا ّ‬‫ويروى �أن رجال قد اغتاب �أحمد بن حنبل‪ ،‬ولقيه فقال له‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪ ،‬اغتبتك‪ ،‬فاجعلني يف حل‪.‬‬‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ �أنت يف حل‪� ،‬إن مل تعد‪.‬‬‫ويروى �أنه �أظهر مرة‪ ،‬لأنه م ّتبع‪ ،‬عدم تقديره لفقه �أبي حنيفة‪ ،‬فقال‬ ‫له �أحد املتع�صبني لأبي حنيفة‪:‬‬ ‫ َب ْول �أبي حنيفة �أكرث من ملء الأر�ض مثلك‪.‬‬‫ثم تركه القائل غا�ضب ًا‪ ،‬وعاد �إليه بعد زمن نادم ًا‪ ،‬وقال معتذراً‪:‬‬ ‫ يا �أبا عبد اهلل‪� .‬إن الذي كان مني كان عن غري تعمد‪ ،‬ف�أنا �أحب �أن‬‫جتعلني يف حل‪.‬‬ ‫فقال له بهدوء‪:‬‬ ‫‪163‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫ مازالت (ما حتركت) قدماي عن مكانهما‪ ،‬حتى جعلتك يف ح ّل‪.‬‬‫و�آية نزاهة �أحمد العقلية‪� ،‬أنه مل ِ‬ ‫يفت يف م�س�ألة �سئل فيها �أفتى فيها‬ ‫قبله �أحد ال�صحابة‪ .‬و�أنه �أخذ على نف�سه �أن يختار فتوى من فتاوى‬ ‫ال�صحابة يف م�س�ألة ما‪� ،‬إذا اختلفوا فيها‪ ،‬على �أن يفتي هو فيها بر�أي‪.‬‬ ‫فنزاهته توجب عليه االتباع اتباع ًا مطلق ًا‪.‬‬ ‫و�آية نزاهة �أحمد النف�سية‪ ،‬زهده الذي جعل �شعاره طلب احلالل‪ ،‬من‬ ‫غري تدني�س للنف�س‪ .‬روى «�أبو حف�ص عمر بن �صالح الطر�سو�سي» قال‪:‬‬ ‫«ذهبت �إىل �أبي عبد اهلل‪ ،‬ف�س�ألته‪:‬‬ ‫ مب تلني القلوب؟‬‫فنظر �إىل �أ�صحابه‪ ،‬ثم �أطرق‪ ،‬ثم رفع ر�أ�سه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ يا بني‪ ،‬ب�أكل احلالل‪.‬‬‫فمررت �إىل �أبي ن�رص ب�رش بن احلارث‪ ،‬فقلت له‪:‬‬ ‫ مب تلني القلوب؟‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ «�أال بذكر اهلل تطمئن القلوب»‪.‬‬‫فقلت له‪:‬‬ ‫ ف�إين جئت من عند �أبي عبد اهلل‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ هيه‪ .‬ما قال لك �أبو عبد اهلل؟‬‫قلت‪:‬‬ ‫ قال‪ :‬ب�أكل احلالل‪.‬‬‫فقال يل‪:‬‬ ‫ جاءك باجلوهر‪ .‬الأ�صل كما قال‪ .‬الأ�صل كما قال‪.‬‬‫وكان �أحمد يحب ال�صداقة والأ�صدقاء‪ ،‬ويرى �أن احلياة من غري‬ ‫�أ�صدقاء حياة جافة ذليلة‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫‪164‬‬


‫ذل‪.‬‬ ‫ �إذا مات �أ�صدقاء الرجل ّ‬‫وكان �أحمد يجود باحلالل القليل الذي ناله من الدنيا‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫«لو �أن الدنيا ت ِق ّل‪ ،‬حتى تكون يف مقدار لقمة‪ ،‬ثم �أخذها امر�ؤ م�سلم‪،‬‬ ‫فو�ضعها يف فم �أخيه امل�سلم‪ ،‬ما كان م�رسف ًا»‪.‬‬ ‫وكان �أحمد يرى �أن القوة احلقيقية هي يف قوة نف�سه‪ ،‬ولي�س يف قوة‬ ‫بدنه‪ ،‬فيقت�رص على احلالل‪ ،‬وال ي�سري وراء �شهوات الدنيا‪ ،‬فالفتوة عنده‪،‬‬ ‫هي كما يقول‪:‬‬ ‫«ترك ما تهوى‪ ،‬ملا تخ�شى»‪.‬‬ ‫و�آية نزاهة عقيدة �أحمد‪ ،‬بعده عن اجلدل‪ ،‬مع �أهل اجلدل‪ ،‬وحتذيره‬ ‫لأ�صحابه من اجلدل‪ ،‬و�أهل اجلدل‪� .‬س�أله �صاحب له‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ �إن ها هنا من يناظر اجلهمية (من الطرق الإ�سالمية القائلة باجلرب‬‫دون اختيار)‪ ،‬ويبني خط�أهم‪ ،‬فما ترى؟‬ ‫فقال له �أحمد‪:‬‬ ‫ �أمل يقل معاوية بن ُق ّرة‪ :‬اخل�صومات حتبط الأعمال‪ ،‬والكالم الرديء‬‫ال يدعو �إىل خري؟! جتنبوا �أهل اجلدال والكالم‪ ،‬وعليكم بال�سنن‪ ،‬وما كان‬ ‫عليه �أهل العلم قبلكم‪ ،‬ف�إنهم كانوا يكرهون الكالم‪ ،‬واخلو�ض من �أهل‬ ‫البدع‪ .‬و�إمنا ال�سالمة يف ترك هذا‪ .‬مل ن�ؤمر باجلدال واخل�صومات‪ .‬و�إذا‬ ‫ر�أيتم من يحب الكالم‪ ،‬فاحذروه‪.‬‬ ‫وهو نهج ماثل فيه �أحمد مالك ًا‪ ،‬وغاير فيه �أحمد �أبا حنيفة‬ ‫وال�شافعي‪.‬‬ ‫و�آية نزاهة فقه �أحمد‪ ،‬حر�صه على �أال يرد يف فقهه حديث ًا ن�سب لر�سول‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬إال �إذا عار�ضه حديث �أقوى منه‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫«من رد حديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم فهو على �شفا هلكة‪،‬‬ ‫وما كتبت حديث ًا عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬إال وقد عملت به»‪.‬‬ ‫و�إذا مل يجد �أحمد احلديث وال ال�سنة عن ال�صحابة‪ ،‬اجتهد يف تخريج‬ ‫‪165‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫امل�س�ألة على منهاج من �سبقه متبع ًا‪ ،‬غري مبتدع‪ ،‬ناهي ًا عن االجتهاد‬ ‫يف م�س�ألة مل يتكلم فيها‪� ،‬أو يف منهاجها �أحد من ال�سابقني‪ ،‬ولذلك كان‬ ‫يقول ل�صاحبه‪:‬‬ ‫«�إياك �أن تتكلم يف م�س�ألة‪ ،‬لي�س لك فيها �إمام»‪.‬‬ ‫و�آية �إخال�ص �أحمد يف طلب احلقيقة‪ ،‬تواريه عن الظهور ب�أنه طالب‬ ‫�شهرة‪ ،‬وجاه دنيا‪ ،‬ومتنيه �أال يكون �شيئ ًا مذكوراً بني النا�س‪ ،‬وجتنبه‬ ‫للرياء‪ ،‬قائ ًال‪:‬‬ ‫«طوبى ملن �أخمل اهلل عز وجل ذكره»‪.‬‬ ‫وحر�صه على �أال يظهر املحربة‪ ،‬حتى ال يذكره النا�س ب�أنه حري�ص‬ ‫على الكتابة‪ .‬يقول �أحمد‪:‬‬ ‫«�إظهار املحربة من الرياء»‪.‬‬ ‫ومن �إيثاره �أال ي�سمع به �أحد‪ ،‬قوله‪:‬‬ ‫«�أريد النزول مبكة‪� ،‬ألقي نف�سي يف �شعب من تلك ال�شعاب‪ ،‬حتى ال‬ ‫�أعرف»‪.‬‬ ‫حدث يحيى بن معني‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«ما ر�أيت مثل �أحمد بن حنبل‪� ،‬صحبته خم�سني �سنة‪ ،‬ما افتخر علينا‬ ‫ب�شيء مما كان فيه من ال�صالح واخلري»‪.‬‬ ‫و�آية هيبة �أحمد يف نفو�س �سامعيه‪ ،‬هيبة �شيوخه وتالميذه له‪ ،‬وهو‬ ‫الألوف امل�ألوف‪ ،‬الوديع املتوا�ضع‪ .‬حدث �أحد تالميذه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«دخلت على �إ�سحق بن �إبراهيم‪ ،‬وكان من ال�سالطني‪ ،‬فما ر�أيت �أهيب‬ ‫من �أحمد بن حنبل‪� .‬رصت �إليه �أكلمه يف �شيء‪ ،‬فوقعت يف رعدة‪ ،‬حني‬ ‫ر�أيته‪ ،‬من هيبته»‪.‬‬ ‫وحدث �أبو عبيدة القا�سم بن �سالم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫«جال�ست �أبا يو�سف‪ ،‬وحممد بن احل�سن‪ ،‬ويحيى بن �سعيد‪ ،‬وعبد‬ ‫الرحمن بن مهدي‪ ،‬فما هبت �أحداً منهم‪ ،‬ما هبت �أحمد بن حنبل»‪.‬‬ ‫‪166‬‬


‫ومع هيبة �أحمد‪ ،‬كان �أحمد حيي ًا‪� ،‬شديد احلياء‪ ،‬ي�ستحي من اهلل‪،‬‬ ‫وي�ستحي من النا�س‪ ،‬يقول �أحد وا�صفيه‪:‬‬ ‫«كان �أحمد من �أحيى النا�س (�أكرثهم حياء)‪ ،‬و�أكرمهم نف�س ًا‪،‬‬ ‫و�أح�سنهم ع�رشة و�أدب ًا‪ ،‬كثري الإطراق والغ�ض‪ ،‬معر�ض ًا عن القبح واللغو‪،‬‬ ‫ال ت�سمع منه �إال املذاكرة باحلديث‪ ،‬وذكر ال�صاحلني‪ ،‬يف وقار و�سكون‪،‬‬ ‫ب�ش به‪ ،‬و�أقبل عليه‪ .‬وكان يتوا�ضع لل�شيوخ‬ ‫ولفظ ح�سن‪ .‬و�إذا لقيه �إن�سان َّ‬ ‫توا�ضع ًا �شديداً‪ .‬وكانوا يكرمونه ويعظمونه‪.‬‬

‫ع�رص �أحمد‬ ‫على �شيوخ بلغوا املئة‪ ،‬تتلمذ �أحمد بن حنبل ببغداد‪ ،‬ومكة‪ ،‬والب�رصة‪،‬‬ ‫والكوفة‪ ،‬واليمن‪ ،‬يف فقه‪� ،‬أو حديث‪ .‬ولكن �أكرثهم �أثراً يف نف�سه‪ ،‬وتوجيهه‬ ‫علمي ًا‪ ،‬كان �شيخان‪:‬‬ ‫توجيه ًا ّ‬ ‫�أولهما هو‪« :‬ه�شيم بن ب�شري بن �أبي خازم»‪ ،‬وقد الزمه �أحمد نحواً‬ ‫من خم�س �سنوات‪� ،‬إىل �سن الع�رشين من عمره‪ ،‬ويف هذه ال�سنوات تكونت‬ ‫بخاري الأ�صل‪،‬‬ ‫النواة الأوىل يف علم �أحمد باحلديث‪ ،‬وكان «ه�شيم»‬ ‫ّ‬ ‫وكان �أبوه مقيم ًا يف وا�سط‪ ،‬طباخ ًا للحجاج بن يو�سف الثقفي‪ ،‬ثم انتقل‬ ‫ب�أ�رسته �إىل بغداد‪.‬‬ ‫وثانيهما‪ ،‬بعد وفاة «ه�شيم» هو الإمام‪« :‬ال�شافعي»‪ ،‬وقد التقى به‬ ‫�أحمد يف مكة‪ ،‬و�أعجب �أحمد بعقل ال�شافعي الفقهي‪ ،‬وب�ضوابطه ومقايي�سه‬ ‫التي جعلها �أ�صوال يف اال�ستنباط الفقهي‪ ،‬وكان ال�شافعي يلقي درو�سه‬ ‫بامل�سجد احلرام‪.‬‬ ‫وجها �أحمد‪� ،‬أولهما يف احلديث‪ ،‬وثانيهما يف الفقه‪.‬‬ ‫وكال ال�شيخني َّ‬ ‫ولقد �أوغل �أحمد يف طلب احلديث وال�سنة‪ ،‬وجاب من �أجلهما الأم�صار‪،‬‬ ‫رحله �أبداً‪ ،‬يدون‬ ‫طالب ًا العلم‪ ،‬كما كان يقول‪� ،‬إىل القرب‪ ،‬وحمربته يف ْ‬ ‫‪167‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫مبدادها ما يحفظه‪ ،‬مردداً قولته ال�شهرية‪« :‬مع املحربة �إىل املقربة»‪.‬‬ ‫ولقد ح�صد �أحمد يف مرياثه العلمي �أحاديث ثالثة �أعالم من املحدثني‬ ‫العظام‪ ،‬هم‪�« :‬سفيان الثوري‪ ،‬و�سعيد بن امل�سيب‪ ،‬وعبد اهلل بن املبارك‪.‬‬ ‫فكان تلميذاً لعلمهم‪ ،‬و�إن مل يكن تلميذاً لأ�شخا�صهم‪ ،‬فقد ودعوا الدنيا‪،‬‬ ‫قبل �أن يلتقي ب�أحدهم‪.‬‬ ‫وكان ع�رص �أحمد و�شيوخه‪ ،‬هو ع�رص الن�ضج يف الفقه الإ�سالمي‪ ،‬فقد‬ ‫جاوز الفقه �إقليمياته ومدائنه‪ ،‬ودونت املجاميع الفقهية لكل مذهب‪،‬‬ ‫وتلقاها جميع ًا �أحمد ابن حنبل‪ .‬وهو ع�رص الن�ضج يف علم احلديث‬ ‫وال�سنة والآثار‪ ،‬وقد �أ�سهم �أحمد يف جمع هذا العلم‪ ،‬برواياته املتعددة‪،‬‬ ‫فكان ال�سابق بو�ضع �أول م�سند جامع لأحاديث الأم�صار‪ ،‬حتى �صار به‬ ‫�إمام ًا‪ ،‬وكان حري�ص ًا على طلب ال�سند‪ ،‬والعلة‪ ،‬ب�أخذ احلديث من راوية �إذا‬ ‫حي ًا‪ ،‬وي�سافر �إليه‪ ،‬وي�أخذ احلديث عن راويه‪� ،‬إذا كان غائب ًا‪.‬‬ ‫كان ّ‬ ‫وكان ع�رص �أحمد و�شيوخه ع�رص جدل‪ ،‬واحتكاك فكري‪ُ ،‬وجد فيه‬ ‫من ينكر ال�سنة‪ ،‬ووجد فيه من ينكر �أخبار الآحاد‪ ،‬واالحتجاج ب�أخبار‬ ‫الآحاد‪ ،‬ويقدم عليها القيا�س‪ .‬ووجد فيه من يدافع عن ال�سنة‪ ،‬ويقبل‬ ‫�أخبار الآحاد‪ ،‬ويحتج بها‪ ،‬ويقدمها على �أي قيا�س‪ .‬وقد اختار �أحمد‬ ‫طريق الدفاع عن ال�سنة‪ ،‬واحلديث‪ ،‬واالتباع‪ ،‬يف وجه فقهاء الر�أي‪،‬‬ ‫وعلماء الكالم على ال�سواء‪.‬‬

‫بني العقيدة وال�سيا�سة‬ ‫متبع ًا‪ ،‬ال يتبع‬ ‫وكانت لأحمد �آراء يف العقائد‪ ،‬كان فيها‬ ‫�سلفي ًا َّ‬ ‫ّ‬ ‫املت�شابه ابتغاء ت�أويله‪ ،‬وكانت له �آراء يف ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ويف العقائد كان �أحمد يرى �أن الإميان قول وعمل‪ ،‬ويزيد وينق�ص‪،‬‬ ‫و�أن جمرد الإ�سالم هو مرحلة بني الإميان والكفر‪ ،‬و�أن الإميان ال يكون‬ ‫‪168‬‬


‫معه ع�صيان‪ ،‬وال يكفر �أحداً من �أهل التوحيد‪ ،‬و�إن عملوا بالكبائر‪ ،‬عدا‬ ‫تارك ال�صالة‪.‬‬ ‫وكان �أحمد ي�ؤمن بالقدر خريه و�رشه‪ ،‬ويرف�ض اخلو�ض يف عالقة‬ ‫القدر ب�أفعال الإن�سان‪ ،‬فذلك �أمر يف علم اهلل‪ ،‬وال يبحث عن كنه �صفات اهلل‪،‬‬ ‫وال عن حقيقتها‪ ،‬بل ي�سلم بها كما جاءت يف القر�آن الكرمي والأحاديث‪،‬‬ ‫ويعترب الت�أويل فيها خروج ًا على ال�سنة‪ ،‬وي�ؤمن �أن اهلل �سبحانه قدمي‪،‬‬ ‫فكذلك �صفاته‪ ،‬ومنها �صفة الكالم‪ ،‬والقر�آن الكرمي قدمي لأنه كالم اهلل‪.‬‬ ‫ولقد روي عن �أحمد �أنه قال‪:‬‬ ‫مي‪ ،‬كافر‪ ،‬ومن زعم �أنه غري‬ ‫«من زعم �أن القر�آن خملوق‪ ،‬فهو َج ْه ّ‬ ‫خملوق فهو مبتدع»‪.‬‬ ‫وكان �أحمد ي�ؤمن بر�ؤية امل�ؤمنني هلل‪ ،‬يوم القيامة‪� ،‬إميان ًا كام ًال دون‬ ‫ت�أويل‪ ،‬معتمداً على القر�آن وال�سنة‪.‬‬ ‫ويف ال�سيا�سة كان �أحمد يرى ر�أي مالك فيها‪ ،‬كرجل واقعي يتجنب‬ ‫ي�سب ال�صحابة‪،‬‬ ‫الفنت‪ .‬فكان يج ّل ال�صحابة جميع ًا‪ ،‬وي�شك يف �إ�سالم من ّ‬ ‫ي�ستوي يف ذلك كل �صحابي �صحب الر�سول �ساعة �أو �سنة‪ ،‬فله من‬ ‫ال�صحبة على قدر ما �صحبه‪ ،‬و�سمع منه‪ ،‬ونظر �إليه‪ ،‬ولو نظرة‪ .‬ويعرتف‬ ‫علي قائ ًال‪:‬‬ ‫بخالفة على خالفة �رشعية‪ ،‬وي�شتد يف الدفاع عن ّ‬ ‫زينها‪،‬‬ ‫وعلي بن �أبي طالب من‬ ‫علي ّ‬ ‫«�إن اخلالفة مل تزين ّ‬ ‫ّ‬ ‫علي ًا‪ ،‬بل ّ‬ ‫�أهل بيت ال يقا�س بهم �أحد‪ .‬وما لأحد ال�صحابة‪ ،‬من الف�ضائل‪ ،‬والعلم‬ ‫بالأحاديث ال�صحاح‪ ،‬مثل ما لعلي ر�ضي اهلل عنه»‪.‬‬ ‫علي‪ ،‬ما كان �أحمد ي�سمح لأحد بالطعن يف‬ ‫ومع هذا الدفاع عن ّ‬ ‫علي من ال�صحابة‪ ،‬قائال‪:‬‬ ‫خ�صوم ّ‬ ‫«ما �أقول فيهم �إال احل�سنى»‪.‬‬ ‫علي ومعاوية‪� ،‬أيهما كان على حق‪ ،‬الئذاً‬ ‫وكان ال ي�سمح باجلدل يف ّ‬ ‫بقول اهلل �سبحانه‪:‬‬ ‫‪169‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫«تلك �أمة قد خلت لها ما ك�سبت‪ ،‬ولكم ما ك�سبتم‪ ،‬وال ت�س�ألون عما‬ ‫كانوا يعملون»‪.‬‬ ‫وكان �أحمد يرى �أن الإمامة (اخلالفة) كما تكون بالر�ضا ال�سابق‬ ‫على التولية‪ ،‬وجتيء الوالية تابعة لها‪ ،‬قد تكون بالغلب‪ ،‬فتكون العافية‬ ‫للجماعة يف عدم اخلروج عليه‪ ،‬و�إ�صالح احلاكم بالأمر املعروف والنهي‬ ‫إخال�ص له يف ال�رس‬ ‫عن املنكر‪ .‬والطاعة له من البرَ ّ والفاجر واجبة‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫و�شق لوحدة اجلماعة‪ ،‬وخروج على‬ ‫والعالنية واجب‪ ،‬واخلروج عليه ب ْغي‪ّ ،‬‬ ‫ال�سنة‪ ،‬وميل �إىل البدعة‪.‬‬ ‫ومع هذا الر�أي مل ُيعرف عن �أحمد �أنه �سعى �إىل االت�صال باخللفاء‪،‬‬ ‫�سلبي ًا‪ .‬ولرمبا كان هذا‬ ‫�أو �سعى �إىل ن�صح احلكام‪ ،‬فقد كان موقفه منهم ّ‬ ‫املوقف منه لر�ؤيته غلبة املعتزلة على اخلليفة والدولة‪ ،‬فاجتهت جِ هوده‬ ‫كلها لإحياء ال�سنة‪ ،‬يف وقت تغيب فيه �شم�س ال�سنة‪.‬‬ ‫ولقد كان �أحمد ينهي �أ�صحابه و�سامعيه‪ ،‬عن كتابة غري احلديث‪،‬‬ ‫خ�شية �أن ين�رصف النا�س عن احلديث وال�سنة �إىل �آراء الفقهاء يف الفروع‪،‬‬ ‫ولأنه قد يقول بفتوى اليوم ويغريها غداً‪ ،‬حني ي�ستبني وجه ًا �آخر للفتوى‪،‬‬ ‫من قر�آن‪� ،‬أو حديث‪� ،‬أو �سنة‪� ،‬أو فتوى لل�صحابة‪ ،‬وكان يكره �أن تروى عنه‬ ‫فتاواه كتابة �أو �شفاهة‪� ،‬أو كان هكذا على الأقل يف �أول �أمره‪ ،‬حني كان‬ ‫يرى �أن الإقناع نوع من االبتالء ينزل بالفقيه‪ ،‬حيث ال يكون هناك ن�ص‬ ‫متبع‪� .‬أو �سنة م�أثورة‪ .‬ف�أحمد كان يعد نف�سه حمدث ًا قبل كل �شيء‪ ،‬ولقد‬ ‫نذر حياته كمحدث للم�سند الذي جمع فيه الأحاديث‪.‬‬ ‫م�سند �أحمد‬ ‫وم�سند �أحمد‪ ،‬هو خال�صة ما تلقاه �أحمد بن حنبل من الأحاديث‪،‬‬ ‫ودونها ب�إ�سنادها‪ ،‬منذ �أن كان يف ال�ساد�سة ع�رشة من عمره‪ .‬وقد بد�أ‬ ‫�أحمد طلب احلديث‪ ،‬وجمع امل�سند �سنة ‪ 180‬هجرية‪ ،‬عن الثقات الذين‬ ‫يلتقي بهم ويروي عنهم‪.‬‬ ‫‪170‬‬


‫وحني �رشع �أحمد يف جمع �أحاديث م�سنده‪ ،‬كان يكتبها يف �أوراق‬ ‫منفردة‪ ،‬وحني �شعر بدنو �أجله‪ ،‬بادر ب�إ�سماع �أحاديث م�سنده لأوالده‬ ‫و�أهل بيته‪ .‬لكنه مات قبل حتقيقه وتهذيبه‪ ،‬فبقي على حاله دون تبويب‪،‬‬ ‫�أو ترتيب‪ .‬وقد �ضم �إليه ابنه عبد اهلل ما ي�شابهه ومياثله من الأحاديث‪.‬‬ ‫وراوي امل�سند الذي بني �أيدينا اليوم‪ ،‬هو عبد اهلل بن �أحمد بن حنبل‪،‬‬ ‫وكان �شغوف ًا منذ �صغره بطلب احلديث‪ ،‬من �أبيه‪ ،‬ومن غري �أبيه‪ ،‬ويف‬ ‫حياة �أبيه‪ ،‬وبعد حياة �أبيه‪ .‬ولقد بلغ من منزلته يف احلديث �أن �أباه �أحمد‬ ‫كان يروي عنه‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫«ابني عبد اهلل حمفوظ يف علم احلديث‪ ،‬ويذكرين مبا ال �أحفظ»‪.‬‬ ‫ولقد قرر العلماء �أن هذا االبن كان �أروى للحديث من �أبيه‪ .‬وقد حاول‬ ‫عبد اهلل ترتيب م�سند �أبيه‪ ،‬وتبويبه‪ ،‬على معجم ال�صحابة‪ ،‬والرواة‪.‬‬ ‫ول�صعوبة هذا الرتتيب فقد �أعاد ترتيبه �إ�سماعيل بن عمر‪ ،‬و�أ�ضاف �إليه‬ ‫�أحاديث الكتب ال�ستة‪ ،‬ومعجم الطرباين الكبري‪ ،‬وم�سند بن البزار‪ ،‬وم�سند‬ ‫�أبي يعلى املو�صلي‪ .‬وللعلماء على هذا امل�سند‪ ،‬وقوة �أحاديثه‪� ،‬أو �ضعفها‪،‬‬ ‫مالحظات �شتى‪.‬‬

‫�إمام االتباع‬ ‫مل يكتب �أحمد بن حنبل �إال احلديث‪ ،‬ومل يكتب �أحمد كتاب ًا يف الفقه‪،‬‬ ‫ميكن �أن يعد �أ�ص ًال ومرجع ًا‪ ،‬لكن له �أبواب ًا متناثرة‪ ،‬مكتوبة يف الفقه‪،‬‬ ‫فيها فهم للن�صو�ص القر�آنية والأحاديث‪ ،‬ولي�س فيها ر�أي مبتدع‪ ،‬وال‬ ‫ا�ستنباط‪ ،‬وال قيا�س‪.‬‬ ‫من هذه الأبواب ر�سالة يف ال�صالة‪ ،‬ور�سالتان يف املنا�سك‪ ،‬كبرية‪،‬‬ ‫و�صغرية‪ .‬ور�سالة كتبها �إىل �إمام م�سجد‪� ،‬صلى �أحمد وراءه‪ ،‬ف�أ�ساء يف‬ ‫�صالته‪ .‬وكلها كتب حديث يف مو�ضوعات فقهية‪ ،‬ويف جمال العبادات‬ ‫‪171‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫ال املعامالت‪.‬‬ ‫ولأحمد ر�سائل �أخرى‪ ،‬يرد بها على الزنادقة‪ ،‬واجلهمية‪ ،‬ويبني فيها‬ ‫مذهبه يف فهم القر�آن‪.‬‬ ‫وقد كان �أحمد يكره وينهي �أن تنقل عنه الفتاوى �أو تدون‪� ،‬أو تن�رش‬ ‫با�سمه‪ ،‬وقد جتاوز البع�ض من �أ�صحابه نهيه‪ ،‬مثل‪ :‬حرب الكرماين‪ ،‬و�أبو‬ ‫بكر اخلالل‪ ،‬فقد نقال عنه ر�أيه يف �أربعة �آالف م�س�ألة من م�سائل الفقه‪،‬‬ ‫فهمها �أحمد يف �ضوء الن�صو�ص والآثار املروية‪.‬‬ ‫ولقد ت�ضارب الفقه املنقول عن �أحمد ت�ضارب ًا يثري ال�شك يف �صحة‬ ‫ن�سبة هذا الفقه �إليه‪ ،‬فهي بني نفي و�إثبات‪ .‬وجدير بالذكر �أن كثرياً‬ ‫يعدوه من الفقهاء‪ ،‬ومنهم ابن جرير‬ ‫من الفقهاء املعا�رصين لأحمد مل ّ‬ ‫الطربي‪ ،‬وابن قتيبة‪ ،‬ففتاوى �أحمد يف امل�سائل �أقرب �إىل الرواية منها �إىل‬ ‫التخريج الفقهي‪ ،‬بل �إنه لي�س له مثل مالك منهاج فقهي معني يف در�سه‬ ‫للأحاديث‪ ،‬ولي�ست له قدرة �أبي حنيفة على تف�سري الروايات امل�أثورة‬ ‫املخرج‪ ،‬الذي يبني قيا�سه على تخريجه‪ ،‬كذلك مل يكن مثل‬ ‫تف�سري الفقيه‬ ‫ِّ‬ ‫ال�شافعي يف درا�سته ملناهج الفقه‪ ،‬وحتريره لأ�صوله‪.‬‬ ‫ومع ذلك فقد ذاعت م�سائل �أحمد الفقهية‪ ،‬االتباعية‪ ،‬يف حياته‪،‬‬ ‫وا�شتهرت ب�شهرته‪ ،‬نق ًال عن تالميذه‪.‬‬ ‫والنقلة عن �أحمد‪ ،‬كانوا بني راوٍ عنه للحديث‪ ،‬وراوٍ عنه لفقه احلديث‪،‬‬ ‫�أو لهما مع ًا‪ ،‬وكانوا بني مكرث يف هذا النقل‪ ،‬ومق ّل‪ .‬وكان �أكرثهم ف�ض ًال‬ ‫يف ن�رش علم �أحمد‪� :‬صالح ابنه‪ ،‬وعبد اهلل ابنه‪ ،‬و�أحمد بن حممد الأقرم‪،‬‬ ‫املر َوز ِّي‪ ،‬وحرب‬ ‫وعبد امللك بن عبد احلميد امليموين‪ ،‬و�أحمد بن حممد ُ‬ ‫ين‪ ،‬و�إبراهيم بن ا�سحق احلربي‪ ،‬و�أحمد بن هارون‬ ‫الكرما ّ‬ ‫بن �إ�سماعيل ْ‬ ‫اخلالل‪ ،‬وبعدهم جاء كثريون‪ ،‬ممن نقلوا عنهم‪.‬‬ ‫وقد احتاج ا�ضطراب الروايات يف النقل عن �أحمد‪� ،‬إىل جهود من‬ ‫العلماء للموازنة بينها‪ ،‬واختيار الأقوى يف ن�سبته لأحمد‪� ،‬أو ُيحكم بتعدد‬ ‫‪172‬‬


‫الأقوال حني يتعذر االختيار �أو التوفيق‪.‬‬ ‫الوراق‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ولقد حكى عبد الوهاب ّ‬ ‫«ما ر�أيت مثل �أحمد بن حنبل‪ .‬رجل �سئل عن �ستني �ألف م�س�ألة‪،‬‬ ‫ف�أجاب فيها‪ :‬حدثنا و�أخربنا‪.‬‬ ‫فقد كان �أحمد يكره الفتوى بالر�أي‪ ،‬ويكره االبتداع يف الدين‪ ،‬وي�ؤثر‪،‬‬ ‫مثل مالك‪� ،‬أال يفتي �إال فيما يقع من الأمور‪ .‬وكان الأ�صل عنده هو جعل‬ ‫معامالت النا�س على �أ�صل العفو �أو الإباحة‪� ،‬إىل �أن يقوم دليل من ال�شارع‬ ‫على التحرمي‪ ،‬يف ن�صو�ص القر�آن واحلديث �أو �آثار ال�سنة املروية‪.‬‬ ‫و�أحمد كان يفتي بامل�صلحة �إن �أعوزه الن�ص‪� ،‬أو الأثر املتبع‪ ،‬ومل‬ ‫يحجم �أحمد عنها مثلما �أحجم ال�شافعي‪ ،‬لكنه مل يعط امل�صالح املر�سلة‬ ‫القوة التي �أعطاها لها مالك‪.‬‬ ‫و�أحمد كان يكرث من الأخذ بالذرائع‪ ،‬ويجعل للو�سائل حكم غاياتها‪،‬‬ ‫وللمقدمات حكم نتائجها‪ ،‬حتليال وحترمي ًا‪.‬‬ ‫والأ�صول التي بنى عليها �أحمد فتاواه‪ ،‬هي‪ ،‬كما ذكرها ابن القيم‪،‬‬ ‫خم�سة‪ :‬الن�صو�ص‪ ،‬ثم ما �أفتى به ال�صحابة‪ ،‬ثم االختيار من بني ما‬ ‫اختلف فيه ال�صحابة‪ ،‬مما هو �أقرب �إىل الكتاب وال�سنة‪ ،‬ثم الأخذ باحلديث‬ ‫املر�سل‪ ،‬واحلديث ال�ضعيف‪ ،‬ثم بالقيا�س عند ال�رضورة الق�صوى‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫قوي ًا‪ ،‬ووجد �أر�ض ًا منا فيها‪ ،‬ب�أمور ثالثة‪:‬‬ ‫وكان مذهب �أحمد من بعده ّ‬ ‫ب�أ�صوله وفتاواه‪ ،‬وبالتخريج فيه‪ ،‬وبرجاله من احلنابلة‪ ،‬الذين �أبقوا‬ ‫على باب االجتهاد يف املذهب احلنبلي مفتوح ًا‪.‬‬ ‫وقد ترك �أحمد للفقهاء جميع ًا حنابلة وغري حنابلة‪ ،‬ح�صاداً من‬ ‫ن�صو�ص احلديث والآثار‪ ،‬وح�صاداً من فهمه لهذه الن�صو�ص‪ ،‬يرتكز‬ ‫عليها‪ ،‬ويلج�أ �إليها �سائر الفقهاء‪ ،‬عندما يفتون بامل�صالح املر�سلة‪،‬‬ ‫ن�ص ًا من كتاب �أو �سنة‪.‬‬ ‫وعندما يفتون بالقيا�س والر�أي‪ ،‬حني ال يجدون ّ‬ ‫‪173‬‬


‫�أحمد بن حنبل‬

‫وكان فقهاء املذهب احلنبلي بعد �أحمد‪ ،‬بني جمتهد يف الفتوى‬ ‫اجتهاداً مطلق ًا‪ ،‬مثل �أحمد‪ ،‬وجمتهد مقيد مبذهب �أحمد‪ ،‬يف قيا�سه لفتاواه‬ ‫على فتاوى �أحمد‪ ،‬وجمتهد موازن بني �أقوال �أحمد يف امل�س�ألة الواحدة‪،‬‬ ‫ومقلد ملتزم مبذهب �أحمد‪ ،‬ال يجاوزه �إىل ن�ص من كتاب �أو �سنة‪ ،‬و�إذا‬ ‫ر�أى حديث ًا �صحيح ًا يخالف ما قال به �أحمد‪ ،‬جتاوز عن احلديث و�أخذ‬ ‫بقول �أحمد‪.‬‬ ‫وعلماء الفقه احلنبلي يق�سمون فتاوى �أحمد و�أقواله �إىل‪ :‬روايات‬ ‫تن�سب �إىل �أحمد‪ ،‬وتنبيهات تومئ �إليها عبارات �أحمد‪ ،‬و�أوجه مل يقل بها‬ ‫�أحمد‪ ،‬و�إمنا قال بها املجتهدون يف مذهبه‪ .‬وهم كثريون كرثة عظيمة‬ ‫�إىل يومنا‪.‬‬ ‫و�أتباع مذهب �أحمد من العامة قليلون �إىل يومنا‪ ،‬لأنه كان �آخر‬ ‫املذاهب الأربعة وجوداً‪ ،‬ولأن �أتباعه من العلماء كانوا يرف�ضون‬ ‫الواليات والق�ضاء‪ ،‬ف�شجعوا النا�س على اتباعه‪ ،‬ولأن ه�ؤالء الأتباع‬ ‫�صاروا متع�صبني ب�سبب املحنة الكربى التي نزلت ب�أحمد‪ ،‬ولأنهم كانوا‬ ‫مت�شددين يف التم�سك مبا جاء عن �أحمد يف الفروع الفقهية‪ ،‬ولأنهم ب�سبب‬ ‫هذا التع�صب فر�ضوا �أنف�سهم حمت�سبني متزمتني على اخلا�صة والعامة‬ ‫والأ�سواق‪ .‬ولأن ال�سلطان والنا�س حاربوه لتع�صب معتنقيه من العامة‪.‬‬ ‫وقد انت�رش املذهب احلنبلي �أول انت�شاره يف العراق‪ ،‬ثم �ضعف بالعراق‬ ‫ب�سبب فنت التع�صب التي �أثارها �أتباعه‪ .‬ومل يظهر املذهب احلنبلي يف‬ ‫م�رص‪� ،‬إال يف القرن ال�سابع الهجري‪ ،‬وبني قلة قليلة‪ ،‬وكذلك كان حال هذا‬ ‫املذهب يف �سائر الأم�صار‪� ،‬إىل �أن انت�رش و�ساد يف الع�رص احلا�رض‪ ،‬يف‬ ‫بالد احلجاز‪ ،‬ويف جند‪ ،‬التي اتبع فيها النجديون املذهب الوهابي‪ ،‬وهو‬ ‫�صدى ملذهب بن تيمية‪ ،‬وهو بدوره �صدى وامتداد للمذهب احلنبلي‪.‬‬

‫‪174‬‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.