سليمان فياض
األ ئمة األربعة
سليمان فياض
األ ئمة األربعة
3
�سليمان فيا�ض
األ ئمة األربعة
النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : �إخراج وتنفيذ :الق�سم الفني -جملة الدوحة لوحة الغالف والأعمال الفنية :علي ح�سن -قطر
فهرس الكتاب
مقدمة
7
�أبو حنيفة النعمان
13
مالك بن �أن�س
63
ال�شافعي
107
�أحمد بن حنبل
137
مقـدمة يف التاريخ الإ�سالمي كان هناك فقهاء ،عا�شوا بفقههم يف القرن الثاين الهجري ،الثامن امليالدي ،وحملوا يف حياتهم ،وبعد مماتهم ،لقب: �إمام ،من علماء ع�رصهم وتالميذهم ،وعلماء الأجيال التالية ،لأنهم كانوا جمتهدين و�أ�صحاب مناهج يف الفقه الإ�سالمي ،وكانوا علماء ي�ستنبطون الأحكام ال�رشعية من �أدلتها التف�صيلية ،معتمدين يف �أ�س�س هذا اال�ستنباط على فهمهم لن�صو�ص القر�آن الكرمي ،والأحاديث ال�رشيفة، وال�سنة امل�أثورة. ويف التاريخ الإ�سالمي ،هناك طريقان رئي�سيان يف الفقه الإ�سالمي، هما :طريق �أهل ال�سنة �أو اجلماعة ،وطريق ال�شيعة العلويني .ويف كل من الطريقني كان �أئمة .وعلى ر�أ�س �أئمة �أهل ال�سنة ،كان فقهاء �أربعة عظام ،عا�شوا كفقهاء �أئمة ،هم� :أبو حنيفة النعمان ،ومالك بن �أن�س، وال�شافعي ،و�أحمد بن حنبل .وكانوا من جيل تابعي التابعني .والتابعون هم َمن تبعوا �صحابة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وعاي�شوهم حياة يروا ال�صحابة ،وعرفوا ال�صحابة من وعلم ًا .وتابعو التابعني وهم من مل ْ 9
مقدمة
التابعني ،حني تتلمذوا على �أيديهم. وكل املتفقهني من ال�صحابة ،وتابعيهم ،كانوا ي�ضعون لبنات �أوىل يف �رصوح الفهم :لعلوم القر�آن ،وعلوم احلديث ،و�آثار ال�سنة وال�سلف ال�صالح ،وي�ستنبطون الأحكام ال�رشعية يف �ضوء فهمهم لن�صو�ص القر�آن وال�سنة ،ويفتون فيما ي�ستجد من الوقائع واحلوادث ،بعد الفتوحات الإ�سالمية ،با�ستنباط الأحكام ،يف �ضوء ن�صو�ص القر�آن وال�سنة ،بالر�أي، وبالقيا�س ،فيما عرف بفتاوى ال�صحابة ،وفتاوى التابعني. والأئمة الأربعة ،املتفقهون على جيل التابعني ،جمعوا هذه اللبنات، و�أ�ضافوا �إليها ،و�ساروا بها يف طرائق �أربعة :طريق الر�أي ،و�إمامه «�أبو حنيفة النعمان» ،وطريق �أهل ال�سنة ،و�إمامه «مالك بن �أن�س»، وطريق يجمع بني هذين الطريقني ،هو طريق النقل والعقل مع ًا ،و�إمامه «ال�شافعي» ،وطريق رابع ،هو طريق االتباع ،و�إمامه «�أحمد بن حنبل»، وهو طريق يقرتب كثرياً من طريق الإمام مالك ،ويبتعد كثرياً عن طريق الإمام �أبي حنيفة النعمان ،ويفتح مثل الإمام مالك باب امل�صالح املر�سلة و�سد الذرائع ،كي ال يقول بالر�أي وبالقيا�س ،ال كثرياً مثل �أبي حنيفة ،وال قلي ًال مثل مالك .فما عدا االتباع عنده يحال يف �أحكامه �إىل امل�صالح املر�سلة ،فهو ابتداع ،ولي�س اتباع ًا ،وال �ش�أن له به. وكل فقيه جاء بعد ه�ؤالء الأئمة الأربعة ،من �أهل ال�سنة ،و�سار يف درب من دربهم ،جمتهداً كان �أو مقلداً ،وحمل لقب� :إمام ،فهو �إمام على �سبيل املجاز ال احلقيقة. وهذا الكتاب عن حياة ه�ؤالء الأئمة الأربعة ،وعلمهم ،وع�رصهم، و�شخ�صية كل منهم ،وفقهه ،ور�ؤيته يف العقائد ويف ال�سيا�سة على ال�سواء. ولي�س بينهم فقيه مل يتعر�ض يف حياته ملحنة ،كادت تودي بحياته، �أو �أودت بها ،ب�سبب ال�سيا�سة غالب ًا ،وقد باعدوا بينهم وبينها ،وب�سبب 10
هذا ال�رصاع ال�سيا�سي املرير بني كل من الأمويني والعبا�سيني من جهة، والعلويني من جهة �أخرى ،وذلك ال�رصاع الدامي يف العقائد ،بني نظرة الفقهاء ،ونظرة علماء الكالم. وقد حفظت لنا حياة ه�ؤالء الأئمة الأربعة ،كتب عن مناقب الأئمة، وكتب عن طبقات الفقهاء ،ومو�سوعات تاريخ بغداد و�سواها ،وكتب الرتاجم امل�ؤلفة يف القرن الع�رشين ،ويف �صدارتها تت�ألق ،كدرة وجوهرة، تراجم ال�شيخ« :حممد �أبو زهرة» له�ؤالء الأئمة. وبه�ؤالء الأئمة الأربعةُ ،جمع الفقه املتناثر الأبواب واملو�ضوعات، يف حقبتي ال�صحابة والتابعني ،و�أ�ضيف �إليه الكثري ،وو�ضعت له الأ�س�س والأ�صول ،ودونت فيه الكتب يف �أبواب وف�صول ،و�صار علم ًا متعدد الدروب ،غني ًا برثوته الفقهية والت�رشيعية ،يف زمن ال يزيد عن مائة عام �إال قلي ًال ،ويف مدائن �أربع ،هي :بغداد ،واملدينة ،ومكة ،والقاهرة .ففي هذه املدائن� ،أو يف �إحداها ،منا فقه كل فقيه �إمام ،وتفرع ،وتطور ،ثم انت�رش يف العامل الإ�سالمي .وتفاوت انت�شار فقه كل فقيه من ع�رص �إىل ع�رص، ومن مكان �إىل مكان ،يف العبادات ،ويف املعامالت ،ويف الق�ضاء. وجدير بنا هنا �أن نعرف يف اخلتام� ،أن الفقه ،مبعناه اال�صطالحي، ت�أثر يف ت�أ�صيله الحق ًا بالفقه الروماين ،ومبنطق �أر�سطو ،وكان لهذا الت�أثر دور كبري يف ت�أ�سي�س فقه ال�رشيعة الإ�سالمية ،و�أن لفظ الفقه يعني يف اللغة :الفهم ،ثم �أطلق ا�صطالح ًا� ،أو ًال على علم ال�رشيعة الإ�سالمية �أ�صو ًال وفروع ًا ،يف ع�رص ال�صحابة والتابعني ،ثم خ�ص�ص ثاني ًا بعلم الفروع يف ع�رص تابعي التابعني ،ويراد به عندهم العلم بالأحكام ال�رشعية، امل�أخوذة من �أدلتها التف�صيلية .ويف �إطار هذا التخ�صي�ص كانت جهود �أئمة الإ�سالم الأربعة ،وكانت اجتهادات ه�ؤالء الأئمة الفقهاء ،عن� :أفعال املكلف ،وحكمها ،ودليلها ،يف العبادات واملعامالت. وباهلل التوفيق، 11
أبو حنيفة النعمان إمـام أهــل الـ ّرأي َ
�أبو حنيفة النعمان
14
الإمام الأعظم يف ر�أي ال�شيخ الإمام« :حممد �أبو زهرة»� ،أن تاريخ الفقه الإ�سالمي، مل يعرف �إمام ًا يف الفقه كرث مادحوه ،وكرث ناقدوه ،مثل الإمام «�أبو حنيفة النعمان» ر�ضي اهلل عنه ،لأنه كان فقيه ًا م�ستق ًال� ،سلك يف تفكريه االجتهادي م�سلك ًا م�ستق ًال ،ال ي�ستطيع جماراته فيه �أحد من ناقديه� ،أو من املتزمتني امللتزمني ب�أقوال ال�سلف وحدها ،وما عداها عندهم فهو من البِدع املنكور� ،أو من الذين حنقوا عليه �إكثاره من الر�أي يف الفتوى، دون التوقف يف نظرهم عند �آراء ال�سلف� ،أو الأخذ بالر�أي يف قليل من الفتاوى. لكن تاريخ الفقه الإ�سالمي ،وبعد �أن ا�ستوت مذاهبه ومدار�سه، �أن�صف �أبا حنيفة فقيه العراق ،من كيد معا�رصيه له ،بني النا�س ،وعند ال�سلطان ،ومن افرتاء الكذب عليه بعد وداعه للدنيا .و�آية هذا الإن�صاف �أقوال الفقهاء ،من معا�رصيه ،ومن الأجيال التالية لزمانه. ف�أبو حنيفة عند معا�رصه :الف�ضل بن ِع َيا�ض ال�شهري بالورع« :كان 15
�أبو حنيفة النعمان
رج ًال فقيه ًا ،معروف ًا بالفقه ،وا�سع املال ،معروف ًا بالأف�ضال على كل من يطيف به� ،صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار ،ح�سن ال�صمت، قليل الكالم حتى ترد م�س�ألة يف حالل �أو حرام ،فكان يح�سن �آنئذ �أن يدل على احلق ،غري هياب من مال �أو �سلطان». و�أبو حنيفة قال عنه معا�رصه جعفر بن الربيع�« :أقمت على �أبي حنيفة خم�س �سنني ،فما ر�أيت �أطول �صمت ًا منه ،ف�إذا �سئل عن �شيء من الفقه تف َّتح ،و�سال كالوادي ،و�سمعت له دوي ًا وجهارة بالكالم». و�أبو حنيفة قال عنه معا�رصه مليح بن وكيع« :كان -واهلل - �أبو حنيفة عظيم الأمانة ،وكان -واهلل -يف قلبه جلي ًال كبرياً عظيم ًا. وكان ي�ؤثر ر�ضا ربه على كل �شيء ،ولو �أخذته ال�سيوف يف اهلل الحتمل، رحمه اهلل ،ور�ضي عنه ر�ضا الأبرار ،فقد كان منهم». و�أبو حنيفة و�صفه معا�رصه وتلميذه الورع التقي عبد اهلل بن املبارك ب�أنه« :مخ العلم». ريج ،فقال عنه: ويف مطلع حياة �أبي حنيفة ،ر�آه املحدث ابن ُج ْ «�سيكون له يف العلم �ش�أن عجيب» ،ثم قال فيه بعد �أن كرب ،وقد ذكر عنده�« :إنه الفقيه� .إنه الفقيه». ولقد �سئل الإمام مالك عن الفقيه «عثمان الب َني» فقال« :كان رج ًال مقارب ًا» .و�سئل عن القا�ضي الفقيه «ابن �شبرْ مة» ،فقال«:كان رج ًال مقارب ًا» ،و�سئل عن �أبي حنيفة فقال«:لو جاء �إىل �أ�ساطينكم هذه ( يعني ال�سواري احلجرية) فقاي�سكم على �أنها خ�شب ،لظننتم �أنها خ�شب». وروى التاريخ عن الإمام مالك� ،أن �أبا حنيفة «و�ضع ثالث ًا وثمانني �ألف م�س�ألة (يف الفقه الإ�سالمي) منها ثماين وثالثون �ألف م�س�ألة (هي) �أ�صل يف العبادات .وخم�س و�أربعون �ألف م�س�ألة (هي) �أ�صل يف املعامالت».
16
هذا هو الإمام «�أبو حنيفة النعمان» الذي منحته الأجيال لقب: «الإمام الأعظم». فكيف عا�ش؟� ،أو كيف كانت نظراته يف فقه الإ�سالم؟
ابن ح�ضارة بالكوفة ،ولد �أبو حنيفة النعمان ،يف �سنة 80من الهجرة النبوية، لأب فار�سي الن�سب ا�سمه« :ثابت بن زوطي» .وكان جده «زوطي» من «كابل» ،وهي مدينة ب�أفغان�ستان التي كانت تابعة لفار�س .وقد �أهل ُ �أ�رس عند فتح العرب لبالد �أفغان�ستان ،وا�سترُ ّق بالأ�رس لبع�ض بني تيم ،ثم �أُعتق كرم ًا تيم بن ثعلبة ،ثم �أ�سلم و�أُع ِتق ،وكان وال�ؤه لقبيلة ْ ْ حرا، أبوه � ولد قبله ومن ا، حر النعمان حنيفة أبو � فولد ة. ن وم آ�رسه � من َ ًّ ًّ ومل يكن �رشف �أبي حنيفة النعمان من مال ،وال ن�سب .ف�رشفه كان من تيمي يوم ًا�« :أنت موالي» فرد عليه مواهبه ،وعقله ،وتقاه .ولقد قال له ْ لك ،م ّنك يل». �أبو حنيفة بهدوء�« :أنا واهلل �أ�رشف َ من املوايل (غري العرب) �إذن كان �أبو حنيفة النعمان ،واملوايل يف زمانه كانوا هم حملة الفقه ،يف ع�رص التابعني ،و�أكرث فقهاء الأم�صار يف هذا الع�رص ،كانوا من املوايل ،وكان الفقهاء املوايل هم الو�سط العلمي للدولة الإ�سالمية .ولهذه الظاهرة �أ�سباب: فالعرب يف ع�رص الدولة الأموية ،كانت لهم ال�سيادة وال�سلطان، ف�شغلوا عن الدر�س والبحث .وتقدم املوايل، وكان عليهم احلرب والنـزالُ ، وهم �أبناء ح�ضارة قد فقدوا ال�سلطان ،وملأوا الفراغ لينالوا ال�رشف عن طريق املعرفة والعلم ،يدفعهم احلرمان �إىل الكمال ،وبلغوا يف العلم �ش�أواً� ،سيطروا فيه على الفكر العربي الإ�سالمي ،تاركني للعرب ال َغلب املادي .وكان �أبو حنيفة النعمان واحداً منهم. 17
�أبو حنيفة النعمان
واملوايل كانوا كرثة عند ال�صحابة بالأ�رس� ،أو بالعمل واالختيار، وكانوا كرثة مالزمة لل�صحابة ،ي�صاحبونهم يف البيت ،وخارج البيت، ي�أخذون عنهم ما �أخذوه عن ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم) .وحني انتهى ع�رص ال�صحابة مع نهاية القرن الأول الهجري ،كان املوايل هم حملة العلم يف الع�رص الذي يليه ،وكانوا هم �أكرث التابعني .وكان �أبو حنيفة النعمان واحداً من تابعي التابعني. واملوايل كانوا ينت�سبون �إىل �أمم عريقة ،ذات ثقافات وعلوم ،ولذلك كان النـزوع فيهم �إىل العلم جِ ِب َّلة وطبيعة .وكان �أبو حنيفة النعمان واحداً منهم ،فموطن �أجداده كان تابع ًا دائم ًا للفر�س ،وحل�ضارة الفر�س، قبل الإ�سالم.
تاجر احلرير وبالكوفة ن�ش�أ �أبو حنيفة ،وبها تربى ،يف بيت �أبيه ،تاجر احلرير، املو�رس ،وامل�سلم ،احل�سن الإ�سالم .وكان �أبوه «ثابت» قد التقى ،وهو «علي بن �أبي طالب» .ور�أى ثابت �أباه «زوطي» �صغري بالكوفة ،بالإمام ّ يهدي �إىل الإمام مقداراً من حلوى الفالوذج يف عيد النريوز الفار�سي، علي ،وهو ي�ضع ك ّفه على ومل يكن ي�أكلها �إال �أهل الي�سار ،ور�أى الإمام ّ ر�أ�س �أبيه ،ويدعو له بالربكة فيه ،ويف ذريته. ويف �سن ال�صبا ،حفظ �أبو حنيفة القر�آن الكرمي ،و�أخذ قراءته للقر�آن عن «عا�صم» �أحد القراء ال�سبعة ،و�أ�شع عقله ،يف جمتمع يعي�ش فيه العرب ،وال�رسيان ،والفر�س ،و�أبناء خرا�سان ،وبالد ما وراء النهر ،وتلتقي فيه فل�سفة اليونان بحكمة الفر�س ،وتتحاور فيه ،يف العقائد ،مذاهب الن�رصانية ،و�آراء ال�شيعة ،وال�سنة ،واخلوارج ،واملعتزلة ،وتت�ضارب فيه �آراء الفرق يف ال�سيا�سة ،مثل ت�ضاربها يف العقائد .ولقد راح �أبو حنيفة 18
يجادل ،دفاع ًا عن الإ�سالم ،مع املجادلني ،وينازل �أ�صحاب الأهواء بفطرته امل�ستقيمة.
ن�صيحة العمر ويف �سن ال�صبا ،و�إىل �سن الثانية والع�رشين من عمره ،كان �أبو حنيفة النعمان ي�شتغل بتجارة احلرير مثل �أبيه ،ويختلف �إىل الأ�سواق مثل التجار ،و�إىل حلقات العلم يف امل�سجد يف بع�ض الأحيان النادرة، مثل عامة امل�سلمني �إىل �أن ا�ستوقفه يوم ًا الفقيه «�إبراهيم ال�شعبي» ،وقد علميا .ولقد روى �أبو حنيفة ما ر�أى فيه ذكاء ،وملح وراء ذكائه عقال ًّ قاله له �إبراهيم ال�شعبي .قال �أبو حنيفة« :مررت يوم ًا على ال�شعبي ،وهو جال�س ،فدعاين فقال يل: �إىل من تختلف؟فقلت: �أختلف �إىل ال�سوق.فقال ال�شعبي: مل �أعن االختالف �إىل ال�سوق ،عنيت االختالف �إىل العلماء.فقلت له: �أنا قليل االختالف �إليهم.فقال يل: ال تغفل .وعليك بالنظر يف العلم ،وجمال�سة العلماء .ف�إين �أرى فيكيقظة وحركة. ووقعت ن�صيحة ال�شعبي موقع ًا طيب ًا من قلب �أبي حنيفة ،فقلل كثرياً من االختالف �إىل ال�سوق ،تارك ًا �أمر متجره �إىل �رشيكه حف�ص بن عبد الرحمن ،يرتدد عليه �أحيان ًا لرياجع ح�سابات املتجر� ،أو يطمئن على 19
�أبو حنيفة النعمان
�سري عمله� ،أو �أمانة �رشيكه يف التعامل مع النا�س .ويفرغ ُج ّل وقته، يف الليل والنهار ،للرتدد على حلقات العلم ،وكانت هناك يف م�سجد الكوفة حلقات للمذاكرة يف العقائد ،يخو�ض فيها �أهل الفرق الإ�سالمية املختلفة ،وحلقات ملذاكرة �أحاديث الر�سول (�صلى اهلل عليه و�سلم) وروايتها ،وحلقات ال�ستنباط الفقه من الكتاب وال�سنة ،والفتوى فيما وي�ستجد من احلوادث يف حياة النا�س. يقع ُ ف�أي حلقات �سوف يختار �أبو حنيفة �أن يجل�س فيها ،و�أن ي�ستفيد من علمائها؟ ذات ليلة ،وقد بلغ �أبو حنيفة من العلم �ش�أن ًا ،وجاوز الأربعني من العمر ،و�صار له تالميذ� ،س�أله تلميذه و�صديقه احلميم �أبو يو�سف: كيف ُو ّفقت �إىل الفقه؟فقال له �أبو حنيفة: �أخربك� :أما التوفيق فكان من اهلل ،وله احلمد هو �أهله وم�ستحقه:عيني ،فقر�أت ف ًّنا ف ًّنا �إين ملا �أردت تع ُّلم العلم ،جعلت العلوم كلها ن�صب ّ منها ،وتفكرت يف عاقبته ،ومو�ضع نفعه .فقلت �آخذ يف (علم) الكالم، ثم نظرت ،ف�إذا عاقبته �سوء ،ونفعه قليل ،و�إذا كمل الإن�سان فيه ،ال ورمي بكل �سوء ،ويقال (عنه) �صاحب هوى. ي�ستطيع �أن يتكلم جهاراًُ ، تتبعت �أمر الأدب والنحو ،ف�إذا عاقبة �أمره �أن �أجل�س مع �صبي �أعلمه ثم َ النحو والأدب ،ثم تتبعت �أمر ال�شعر ،فوجدت عاقبة �أمره املدح والهجاء، وقويل الكذب ،ومتزيق الدين .ثم تفكرت يف �أمر القراءات ،فقلت� :إذا بلغت علي ،والكالم يف الغاية من (علم) القراءات ،اجتمع �إيل �أحداث يقرءون ّ القر�آن ومعانيه �صعب .فقلت� :أطلب احلديث( ،فوجدت �أنني) �إذا جمعت يل ،و�إذا احتيج منه الكثري �أحتاج �إىل عمر طويل ،حتى يحتاج النا�س �إ ّ يل �إال الأحداث ،ولعلهم يرمونني بالكذب ،و�سوء احلفظ، يل ال يجتمع �إ ّ �إ ّ فيلزمني ذلك �إىل يوم الدين. 20
وروى �أبو حنيفة كيف اهتدى �إىل الفقه ،وحلقات علم الفقه ،وكان قد بلغ يف علم الكالم �ش�أواً ،حني كان يرتدد على الب�رصة ،وفيها �صفوة علماء الكالم ،و�صفوة دعاة الفرق الإ�سالمية املتكلمني .قال �أبو حنيفة: «كنا جنل�س (يف م�سجد الكوفة) بالقرب من حلقة (الفقيه) حماد بن �أبي �سليمان ،فجاءتني امر�أة يوم ًا فقالت« :رجل له � َأمة� ،أراد �أن يطلقها لل�س َّنة .كم يطلقها؟» .ف�أمر ُتها �أن ت�س�أل حماداً ،ثم ترجع فتخربين، ألت حماداً .فقال لها« :يطلقها وهي طاهرة من احلي�ض واجلماع ف�س� ْ تطليقة ،ثم يرتكها (عنده) حتى حتي�ض حي�ضتني ،ف�إذا اغت�سلت فقد حلت للأزواج» .ورجعت املر�أة ،و�أخربتني .فقلت (لنف�سي)« :ال حاجة يل نعلي ،فجل�ست �إىل حماد .فكنت �أ�سمع م�سائله، يف (علم) الكالم» ،و�أخذت َّ ف�أحفظ قوله ،ثم يعيدها من الغد ،ف�أحفظ ،ويخطئ �أ�صحابه (تالميذه). يل (يف) �صدر احللقة بحذائي غري �أبي حنيفة». فقال (يوم ًا)« :ال يجل�س �إ ّ والتفت �أبو حنيفة �إىل �صاحبه �أبي يو�سف ،وقال: وكلما ق َّلبت الفقه ،و�أدرته ،مل يزد �إال جاللة ،ومل �أجد فيه عيب ًا.ور�أيت اجللو�س مع العلماء والفقهاء ،وامل�شايخ والب�رصاء ،والتخلق والتعبد، ب�أخالقهم ،ور�أيت �أنه ال ي�ستقيم �أداء الفرائ�ض ،و�إقامة الدين، ّ �إال مبعرفته ،وطلب الدنيا والآخرة �إال به .ومن �أراد �أن يطلب به (بالفقه) الدنيا ،طلب به �أمراً ج�سيم ًا ،و�صار �إىل رفعة منها .ومن �أراد العبادة تع َبد بغري علم .و�إمنا والتخلي (عن الدنيا) مل ي�ستطع �أحد �أن يقول لهَ : يقول عنه :ف ِقهِ ، وعمل ب ِع ْلم.
يف م�سجد الكوفة كان عمر �أبي حنيفة النعمان حني جل�س �إىل �أ�ستاذه حماد بن �سليمان ،يف م�سجد الكوفة ،اثنني وع�رشين عام ًا ،وقد عرف قدراً من 21
�أبو حنيفة النعمان
النحو ،والأدب ،وال�شعر ،واحلديث ،وقدراً �أكرب يف علم الكالم ،وا�ستفاد، بعد �أن �صار فقيه ًا ،من قدرة علماء الكالم يف املناق�شة ،واحلوار ،واجلدل، و�رضب امل�شابهات للقيا�س عليها ،يف فهمه لأ�صول الدين ،وجمادلته لأهل الفرق ،حني يدخلون عليه م�سجد الكوفة ،وهو من�رصف �إىل الفقه، ابتغاء �إحراجه ،وتخطئته ،بل وتكفريه يف �أ�صول االعتقاد .ولزم �أبو حنيفة �أ�ستاذه حماداً مالزمة تامة ع�رش �سنوات ،ثم راودته نف�سه �أن يطلب الريا�سة يف الفقه مثل �شيخه حماد .يروي �أبو حنيفة ق�صة ما حدث فيقول�« :أردت �أن �أعتزله ،و�أجل�س يف حلقة لنف�سي ،فخرجت يوم ًا بالع�شي (ع�رصاً) .وعزمي �أن �أفعل .فلما دخلت امل�سجد ور�أيته ،مل تطب نعي نف�سي �أن اعتزله ،فجئت وجل�ست معه .فجاء �إىل حماد يف تلك الليلة ْ قرابة له قد مات بالب�رصة ،وترك ما ًال ،ولي�س له وارث غريه ،ف�أمرين �أن علي (من النا�س) �أجل�س مكانه ،فما هو �إال �أن خرج (لل�سفر) حتى وردت ّ م�سائل مل �أ�سمعها منه .فكنت �أجيب ،و�أكتب جوابي .ثم قدم حماد من �سفره فعر�ضت عليه امل�سائل ،وكانت نحواً من �ستني م�س�ألة .فوافقني يف �أربعني ،وخالفني يف ع�رشين ،ف�آليت على نف�سي �أال �أفارقه حتى ميوت �أو �أموت ،فلم �أفارقه حتى مات .ف�صحبته ثماين ع�رشة �سنة». ومع مالزمة �أبي حنيفة حلماد ،فقد جل�س �إىل غريه من الفقهاء واملحدثني ،وخ�صو�ص ًا من التابعني الذين ات�صلوا بال�صحابة ،وكانوا ِّ ممتازين يف الفقه واالجتهاد ،فتل َّقى عنهم فقه عمر بن اخلطاب ،وفقه عبد اهلل بن م�سعود ،وفقه عبد اهلل بن عبا�س ،تلقاه عن �أ�صحابهم من العرب واملوايل. حاجا ،ولذلك وكان �أبو حنيفة كثري الرحلة �إىل بيت اهلل احلرام ًّ كان يلتقي يف مكة واملدينة بالعلماء ،ومنهم كثريون من التابعني، علميا ،يروي عنهم الأحاديث ،ويذاكرهم الفقه، وكان لقا�ؤه بهم لقاء ًّ ويدار�سهم ما عنده من طرائقه ،وكانوا من مدار�س خمتلفة ،هي مدار�س: 22
علي زين العابدين� ،إمام الزيدية ،وجعفر ال�صادق ،وعبد اهلل بن زيد بن ّ ح�سن بن ح�سن بن �أبي حممد النف�س الزكية ،وكالهما من �أئمة العلويني، ودار�س بع�ض دعاة فرقة الكي�سانية ال�شيعية ،الذين يقولون بالرجعة (عودة الإمام). ولقد تويف حماد �أ�ستاذ �أبي حنيفة عام 120هجرية ،وكان �أبو حنيفة يف �سن الأربعني .و�إثر وفاته �أجل�سه تالميذ حماد ورفاقه يف جمل�س �شيخه و�شيخهم مب�سجد الكوفة ،وراح �أبو حنيفة يدار�س تالميذه من الرفاق ال�سابقني ،والقادمني اجلدد ،ما يعر�ض له ولهم من فتاوى، وما يبلغه ويبلغهم من �أق�ضية ،فقد كان ي�ؤثر م�شاركة الغري له يف البحث عن احلق ،ويقي�س الأ�شياء ب�أ�شباهها ،والأمثال ب�أمثالها ،بعقل قوي، ومنطق �سديد ،حتى و�ضع بهم ،ومعهم ،الطريقة الفقهية التي ا�شتق منها املذهب احلنفي ،طريقة القيا�س والر�أي.
و�صايا فقيه لفقيه التف تالميذ �أبي حنيفة حوله .كانوا ذات ليلة �إثر �صالة الع�شاءَّ ، يف جل�سة وداع لزميل لهم فقيه� ،سريحل �إىل الب�رصة ،لي�ستقر بها بقية عمره ،هو «يو�سف بن خالد ال�سمتي» (الب�رصي) .ويف نهاية اجلل�سة ،قال الطالب يو�سف الب�رصي الفقيه لأبي حنيفة: �أو�صني ،كيف �أحيا كفقيه؟ فقال له �أبو حنيفة: علي. �سلني� ،أقل لك ما يفتح اهلل به ّفقال الطالب الب�رصي الفقيه: خبرِّ ين عن العمل والعلم.فقال له �أبو حنيفة: 23
�أبو حنيفة النعمان
العمل القومي يجب �أن يكون مبني ًا على املعرفة ال�صحيحة ،فلي�ساخلري عندي من يعمل اخلري فقط ،بل اخلري عندي من يعلم اخلري وال�رش، ويق�صد �إىل اخلري عن معرفة ملزاياه ،ويجتنب ال�رش فاهم ًا مل�ساوئه. فالعادل مث ًال لي�س هو الذي يكون منه العدل ،من غري معرفة للظلم� ،إمنا العادل من يعرف الظلم ومغبته ،والعدل وغايته ،ويق�صد �إىل العدل ،ملا املغبة .واعلم �أن العمل تبع للعلم ،كما �أن فيه من �رشف الغاية ،وح�سن ّ الأع�ضاء تبع للب�رص ،والعلم مع العمل الي�سري �أنفع من اجلهل مع العمل الكثري .واعلم �أن العمل امل�ستقيم ال ينبني �إال على فكر م�ستقيم ،وعلم مقرر ثابت .واعلم �أن العلم يجب �أن يكون يف م�سائل االعتقاد واليقني، جزم ًا قاطع ًا ،ال تردد فيه .وهو يتحقق ب�إثبات ونفي� ،إثبات للمعتقد، ونفي ملا عداه .واعلم �أن العلم املت�صل بالعملُ ،يكتفى يف �إثباته بالأدلة الظنية ،فمع العمل ال يكون ثمة علم يقيني ،بل يكون ثمة ترجيح ظني. ويف مثل هذه احلال ،ال جتزم ببطالن قول خمالفك ،بل ترجح قول نف�سك وتقول« :فيه �صواب يحتمل اخلط�أ» وتقول يف قول خمالفك «فيه خط�أ يحتمل ال�صواب». كان تالميذ �أبي حنيفة يعرفون عنه ُبعد غوره العقلي يف التفكري، وعمق النظرة ،و�شدة غو�صه لتعرف البواعث والأ�سباب والغايات، لكل ما يعرفه من �أعمال و�أمور ،وهو يف ال�سوق يتجر ويعامل النا�س، يدر�س الفقه واحلديث ،ويجادل يف ويدر�س احلياة ،وهو يف جمل�س العلم ِّ �شئون العقيدة ،ومناهج ال�سيا�سة .وكانوا مطمئنني �إىل �آرائه املحكمة يف مناهج الفكر ،و�أخالق النا�س ومعاملة النا�س ،وما ينبغي �أن يتبعه كل فرد يف معاملة �سواه ،خا�صة الفقيه ،ويحرتمونه الحرتامه لعقولهم، و�إ�رشاكهم معه يف التفكري. وعاد الطالب الب�رصي الفقيه ي�س�أل �أبا حنيفة: فخبرِّ ين «يا �شيخي» كيف �أتعامل مع النا�س؟24
فقال له �أبو حنيفة: اعلم يا يو�سف� ،أنك متى �أ�س�أت ع�رشة النا�س �صاروا لك �أعداء،ولو كانوا لك �أمهات و�آباء .و�أنك متى �أح�سنت ع�رشة قوم ،لي�سوا لك ب�أقرباء� ،صاروا لك �أمهات و�آباء .وك�أين بك وقد دخلت الب�رصة ،و�أقبلت على املخالفة بها بالر�أي .ورفعت نف�سك عليهم ،وتطاولت بعلمك لديهم. وانقب�ضت عن معا�رشتهم وخمالطتهم ،وهجرتهم وهجروك ،و�شتمتهم وبدعوك ،وات�صل ذلك ال�شينْ بنا ،وبك، و�شتموك ،و�ضل ّلتهم و�ضل ّلوكّ ، فاحتجت �إىل الهرب منهم واالنتقال عنهم .ولي�س هذا بر�أي� .إنه لي�س بد ،حتى يجعل اهلل له بعاقل من مل يدا ِر من لي�س له من مداراته ّ خمرج ًا. و�سكت �أبو حنيفة حلظة ،ثم قال وهو ينظر يف عيني يو�سف: �إذا دخلت الب�رصة يا يو�سف ،ا�ستقبلك النا�س ،وزاروك ،وعرفواوعظم �أهل العلم، حقك :ف�أنزل كل رجل منـزلته ،و�أكرم �أهل ال�رشفّ ، الفجار، وو ّقر ال�شيوخ ،والطف الأحداث ،وتقرب من العامة ،ودا ِر ّ حتقرن �أحداً ،وال تق�صرِّ َ َّن يف وا�صحب الأخيار ،وال تتهاون ل�سلطان ،وال ّ �رسك �إىل �أحد ،وال تثق ب�صحبة �أحد حتى متتحنه. مروءتك ،وال ُت َ خرج ّن ّ والتخا ِد ْن خ�سي�س ًا وال و�ضيع ًا .و�إياك واالنب�ساط �إىل ال�سفهاء .وعليك وا�ستجد ثياب ك�سوتك، باملداراة وال�صرب ،وح�سن اخللق ،و�سعة ال�صدر. ّ وا�ستفره دا ِي َتك ،و�أكرث ا�ستعمال الطيب .وابذل طعامك يا يو�سف ،ف�إنه تعرفك �أخبار النا�س .ومتى عرفت ما �ساد بخيل قط .ولتكن لك بطانة ّ بف�ساد فبادر �إىل �صالح ،ومتى عرفت ب�صالح فازدد فيه رغبة وعناية. واعمل يا يو�سف يف زيارة من يزورك ،ومن ال يزورك .والإح�سان �إىل من يح�سن �إليك �أو ي�سيء .وخذ العفو و�أمر باملعروف ،وتغافل عما ال يعنيك، واترك كل ما ي�ؤذيك .وبادر يف �إقامة احلقوق .ومن مر�ض من �إخوانك بر�سلك .ومن غاب منهم افتقدت �أحواله ،ومن قعد ُ فعده بنف�سك .وتعاهده ُ 25
�أبو حنيفة النعمان
منهم عنك فال تقعد �أنت عنه. كان �أبو حنيفة يو�صي تلميذه يو�سف ،يف تلك الليلة ،مبا يفعله هو مع تالميذه و�أ�صحابه ومع النا�س جميع ًا .فكل و�صاياه تلك كان تالميذه يعرفونها عنه متج�سدة يف �شخ�صه ،حية يف �سلوكه .وعاد يو�سف يقول: هذا �أنا مع النا�س ،فكيف ينبغي �أن �أكون بني النا�س؟ فقال له �أبو حنيفة: تودداً للنا�س ما ا�ستطعت ،و�أف�ش ال�سالم ،ولو على قوم لئام. �أظهر ّومتى جمع بينك وبني غريك جمل�س� ،أو �ضمك و�إياهم م�سجد ،وجرت امل�سائل ،وخا�ضوا فيها بخالف ما عندك ،ال تبد لهم خالف ًا .ف�إن �سئلت عنها �أخربت مبا يعرفه القوم ،ثم تقول :فيها قول �آخر ،وهو كذا ،واحلجة له كذا .ف�إن �سمعوه منك ،عرفوا مقدار القول ،ومقدارك .ف�إن قالوا لك :هذا قول من؟ قل :قول بع�ض الفقهاء .و�إذا ا�ستمروا على ذلك و�ألفوهُ ،عظم وع َّظموا حم َّلك .و� ِ أعط يا يو�سف كل من يختلف �إليك نوع ًا من مقداركَ ، العلم ينظرون فيه .و�آن�سهم ،ومازحهم� ،أحيان ًا ،وحادثهم ،ف�إن املودة ت�ستدمي مواظبة العلم ،و�أطعمهم �أحيان ًا .واق�ض حوائجهم .واعرف مقدارهم وتغافل عن زالتهم ،وارفق بهم ،و�ساحمهم .وال تبد لأحد منهم �ضيق �صدر �أو �ضجراً .وكن كواحد منهم .وا�ستعن على نف�سك بال�صيانة لها ،واملراقبة لأحوالها .وال تكلف النا�س ما ال يطيقونه .وار�ض لهم ما ر�ضوا لأنف�سهم ،وقدم �إليهم ح�سن النية .وا�ستعمل ال�صدق .واطرح ال ِكبرْ ْ ومت�سك خانوك. إن � و أمانة ل ا أد � و بك. غدروا إن � و والغدر إياك � و . ا جانب ً ِّ َّ بالوفاء ،واعت�صم بالتقوى ،وعا�رش �أهل الأديان ،و�أح�سن معا�رشتهم. ويف تلك الليلة ،وعرب هذه الو�صايا ،بزغت قولة �أبي حنيفة عن نف�سه: «ر�أيت املعا�صي مذلة ،فرتكتها ،ف�صارت ديانة». ويف تلك الليلة ،وعرب هذه الو�صايا ،ك�شف �أبو حنيفة ،عن �أن م�صلح 26
وي�ؤلف ،ال يخالف وال ينافر ،بل اجلماعة يجب �أن يكون ودوداً ،ي�ألف ُ يجيء �إىل النا�س من ناحية ما ي�ألفون ويطيقون ،ال من ناحية ما ينكرون. ويف تلك الليلة ،وعرب هذه الو�صايا ،ك�شف �أبو حنيفة عن دور املربي، الذي يعرف كيف يتعهد تالميذه ،ويبث فيهم علمه و�آراءه ،بن�صائح اخلبري املجرب ،وهي ن�صائح يحتاج �إليها كل من يت�صدى لقيادة �سيا�سيا كان �أو م�صلح ًا� ،أو مفكراً� ،أو فقيه ًا� ،أو قائداً. النا�س: ًّ يدونون و�صاياه ليو�سف بن ويف تلك الليلة ،كان تالميذ �أبو حنيفة ِّ خالد ال�سمتي .لكي جتمع ،فيما بعد ،يف كتاب ،ن�سب �إىل �أبي حنيفة، بعنوان« :العامل واملتعلم».
املحنة الأوىل مل يكد «�أبو حنيفة النعمان» يجل�س يف جمل�س �شيخه حماد ،مب�سجد علي زين العابدين ،على اخلليفة الكوفة ،فقيه ًا مفتي ًا ،حتى خرج زيد بن ّ الأموي «ه�شام بن عبد امللك» ،متزعم ًا ثورة من ثورات العلويني �ضد الأمويني .وكانت عواطف �أبي حنيفة ك�إن�سان وفقيه مع العلويني امل�ضطهدين من بني �أمية ،فر�أى كفقيه ٍ مفت �أن الثورة على ملك الأمويني �أمر جائز �رشع ًا� ،إذا كانت الثورة من �إمام عادل ،مثل الإمام «زيد بن علي». ّ ويروي التاريخ �أن �أبا حنيفة قال لتالميذه عن ثورة هذا الإمام: «�ضاهى خروجه خروج ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يوم بدر» .فقيل: «مل تخ َّلفت عنه»؟ فقال« :حب�ستني عنه ودائع النا�س (عندي) .عر�ضتها على ابن �أبي ليلى (قا�ضي الكوفة) ،فلم يقبل .فخفت �أن �أموت جمه ًال (دون �أن �أرد ودائعي �إىل الغائبني)» .ويف مرة �أخرى قال �أبو حنيفة ،يف 27
�أبو حنيفة النعمان
معر�ض االعتذار عن عدم خروجه مع الثائر زيد« :لو علمت �أن النا�س ولكن �أعينه ال يخذلونه ،كما خذلوا �أباه ،جلاهدت معه لأنه �إمام حق، ْ مبايل» .وبعث �أبو حنيفة �إليه بع�رشة �آالف درهم ،قائ ًال لر�سول زيد �إليه: «اب�سط عذري له». ولقد انتهت ثورة الإمام «زيد» مبقتله �سنة 123هجرية ،وانتهت �أي�ض ًا ثورة ابنه «يحيى» من بعده مبقتله �سنة 125هجرية ،وثورة حفيده عبد اهلل ،مبقتله �سنة 130هجرية ،ا�ستغرقت هذه الثورات ع�رش وتكبد فيها الأمويون �سنوات ،عانى فيها العلويون من الأمويني العذاب، َ من العلويني امل�شاق .وكانت ثورات ي�ؤازرها العلماء والفقهاء ،يف ال�رس باملال ،ويف العلن بالت�أييد .ثم حان وقت ح�ساب الأمويني له�ؤالء العلماء والفقهاء بالعراق ،بعد الق�ضاء على ثورات العلويني الزيديني يف عهد «مروان بن حممد» �آخر اخللفاء الأمويني. وكان احل�ساب اختباراً من «ابن هبرية» ،وايل الأمويني على العراق لوالء العلماء والفقهاء لبني �أمية .وقبل علماء الكوفة :ابن �أبي ليلى، وابن �شربمة ،وداود بن هند ،و�سواهم� ،إعالن والئهم العملي لبني �أمية، الريب عن �أنف�سهم، بقبولهم �أعما ًال �شتى يف ديوان «ابن هبرية» ،لين ُفوا ّ ويتخل�صوا مما تورطوا فيه ،متخذين التقية دريئة لهم ،يف وقت ا�شتدت فيه الفنت بالعراق ،وكادت �أن ت�صري فيه فار�س وخرا�سان للعبا�سيني، وقد راحت جيو�ش العبا�سيني ،ي�ؤازرهم العلويون ،ت�ساور جيو�ش الأمويني يف العراق ،وغري العراق. ودعا ابن هبرية �إليه ب�أبي حنيفة يف ديوان الإمارة مبدينة وا�سط. وعر�ض عليه �أن يعمل له ،وعنده� ،أي عمل كان ،حتقق ًا من والئه للخليفة مروان بن حممد� ،إن قبل العمل معه� ،أو تثبت ًا من اتهامه له ،باالنحياز للأمويني� ،إن �أبى هذا العمل .و�أبى �أبو حنيفة �أن يلي عم ًال البن هبرية، فعاد ابن هبرية يعر�ض عليه �أن يجعل ديوان اخلامت حتت يده ،فال ينفذ 28
كتاب مهره بتوقيعه �إال من حتت يد �أبي حنيفة ،وختمه له بخامت الإمارة. لكن �أبا حنيفة امتنع عن قبول هذه املهمة ،قائ ًال له: كيف �أقبل هذا العمل؟ ت�أمر �أنت بقتل �إن�سان ظلم ًا� ،أو م�صادرة ماله، و�أختمه �أنا ،فيقتل هذا الإن�سان ،وي�صادر ذلك املال .هذا لن يكون �أبداً. عندئذ �أق�سم ابن هبرية �أمام العلماء �أن ي�سجن �أبا حنيفة وي�رضبه يف ال�سجن� ،إن مل يقبل اخلامت .وتقدم الفقهاء الذين قبلوا التعاون مع ابن هبرية ،وا�ست�أذنوا الأمري يف االنفراد ب�أبي حنيفة ،فغادر الأمري املكان غا�ضب ًا .وقال العلماء لأبي حنيفة: �إنا نن�شدك اهلل فال تهلك نف�سك .ف�إنا �إخوانك .وكلنا كارهون لهذا بدا من ذلك. الأمر .ومل جند ًّ فقال �أبو حنيفة ب�إ�رصار: لو �أرادين �أن �أعد له �أبواب م�سجد «وا�سط» مل �أدخل يف هذا الأمر. حمبا ،وال عن فقهه فقال ابن �أبي ليلى للعلماء ،ومل يكن لأبي حنيفة ًّ را�ضي ًا: دعوا �صاحبكم .فهو امل�صيب ،وغريه املخطئ!! و�أمر ابن هبرية �صاحب ال�رشطة بحب�س �أبي حنيفة .فحب�س ،و�رضب �أيام ًا متتالية ،يف كل يوم ع�رشة �أ�سواط ،لريجع عن موقفه .ويئ�س ال�ضارب اجلالد من �أبي حنيفة ،فذهب �إىل ابن هبرية ،وقال له: هذا الرجل �سيموت من ال�رضب ،ولن يعدل عن ر�أيه. فقال له ابن هبرية: فليخرجنا �إذن من مييننا �إذا �أراد احلياة. و�س�أل اجلالد �أبا حنيفة �أن يعدل عن موقفه ،ويعمل مع ابن هبرية، ف�أبى �أبو حنيفة م�ستعداً لال�ست�شهاد .فعاد اجلالد �إىل ابن هبرية ،بر�أي �أبي حنيفة ،ف�رصخ بي�أ�س ،وك�أنه قد خ�شي �أن ميوت �أبو حنيفة يف �سجنه ،فيثور من �أجله �أهل الكوفة ،واملوايل ،و�أهل العراق ب�أ�رسه: 29
�أبو حنيفة النعمان
�أال نا�صح لهذا املحبو�س� ،أن ي�ست�أجلني ف�أ�ؤجله؟ و�أخرب اجلالد �أبا حنيفة مبا قاله ابن هبرية ،وفهم �أبو حنيفة ،فقال: دعوين �أخرج �إذن ،و�أ�ست�شري �إخواين و�أهل بيتي ،و�أنظر يف ذلك. عندئذ �أمر ابن هبرية ب�إخالء �سبيل �أبي حنيفة .فعاد �إىل بيته ،و�أعد نف�سه و�أهل بيته ودوابه للرحيل ل�سفر طويل .وهرب �أبو حنيفة لي ًال �إىل مكة .وكان هروبه يف �سنة 130هجرية.
البيعة الغام�ضة فر �أبو حنيفة بف�ضل جالده �إىل مكة ،و�أقام بها �ست �سنوات ،تزيد قلي ًال َّ �أو تنق�ص قلي ًال ،جماوراً بيت اهلل احلرام .وحلق به تالميذه احلري�صون على علمه ،والأخذ عنه .عكف �أبو حنيفة على احلديث والفقه يطلبهما مبكة ،التي ورثت علم ابن عبا�س ،عن تالميذ ابن عبا�س ،يذاكرهم علمه، ويذاكرونه ما عندهم من علم ،طوال �ست �سنوات .ومل يرتدد �أبو حنيفة على الكوفة يف هذه ال�سنوات� ،إال بعد �أن �آل �أمر العراق �إىل �أبي العبا�س ال�سفاح ،م�ؤ�س�س الدولة العبا�سية .ومل ي�ستقر يف الكوفة يف عودة له �إىل العراق� ،إال يف زمن �أبي جعفر املن�صور �سنة 136هجرية ،حني ا�ستقرت الأحوال بالعراق ،وبعد �أن ا�ستقرت الأمور لبني العبا�س .ويف مكة. حني دخل �أبو العبا�س �إىل العراق طالب ًا بيعة �أهلها ،كان �أبو حنيفة موجوداً مع العلماء ،ي�سمع منهم �أبو العبا�س ،وي�سمع منه العلماء .وتروي كتب املناقب ق�صة هذا اللقاء ،تقول: «ملا نزل �أبو العبا�س الكوفة توجه �إىل العلماء فجمعهم ،فقال لهم: �إن هذا الأمر قد �أف�ضى �إىل �أهل بيت نبيكم ،وجاءكم اهلل بالف�ضل،احلباء و�أقام احلق .و�أنتم معا�رش العلماء و�أحق من �أعان عليه .ولكم َ والكرامة وال�ضيافة من مال اهلل ما �أحببتم ،فبايعوا بيعة تكون عند 30
�إمامكم حجة لكم وعليكم .و�أمان ًا يف معادكم .ال تلقوا اهلل بال �إمام، فتكونوا ممن ال حجة له. عندئذ نظر العلماء �إىل �أبي حنيفة .وكانت يف �أعناقهم بيعة لبني �أمية ،حني تعاونوا مع ابن هبرية ،ومل تكن يف عنق �أبي حنيفة بيعة لبني �أمية ،حني �أبى �أن يعمل مع ابن هبرية .وقال �أبو حنيفة للعلماء: �إن �أحببتم �أن �أتكلم عني وعنكم .قالوا :قد �أحببنا ذلك .فقال �أبو حنيفة لأبي العبا�س�« :أحمد اهلل الذي بلغ احلق من قرابة نبيه �صلى اهلل عليه جور الظلمة ،وب�سط �أل�سنتنا باحلق .قد بايعناك على و�سلم ،و�أمات عنا ْ �أمر اهلل ،والوفاء لك بعهدك �إىل قيام ال�ساعة .فال �أخلى اهلل هذا الأمر من قرابة نبيه �صلى اهلل عليه و�سلم .ف�أجابه �أبو العبا�س بجواب جميل، وقال« :مثلك من خطب عن العلماء .لقد �أح�سنوا اختيارك ،و�أح�سنت يف البالغ» .فلما خرج العلماء قالوا لأبي حنيفة :ما �أردت بقولك�« :إىل قيام علي ،احتلت عليكم ،و�أ�سلمتكم �إىل البالء» ال�ساعة؟» قال« :ف�إن احتلتم ّ ف�سكت القوم (وتركهم حيارى :هل قيام ال�ساعة هو يوم القيامة� ،أم قيامه من مكانه؟ �أم وفاة �أبي العبا�س؟) .وعلموا �أن احلق ما فعل». وعاد �أبو حنيفة بعد البيعة �إىل مكة ،ومل يعد �إىل الكوفة� ،إال بعد �أن ا�ستقرت الأحوال لبني العبا�س �سنة 136هجرية يف عهد اخلليفة العبا�سي الثاين «�أبو جعفر املن�صور». وظل �أبو حنيفة على والئه وبيعته لبني العبا�س ،ما ر�ضي عنهم العلويون ،وما �أوفوا هم بحق العلويني ،وقد كانوا دعم ًا للخالفة العبا�سية ،و�سنداً لها ،وكان العبا�سيون مثل العلويني من �آل البيت.
التاجر الفقيه عا�ش �أبو حنيفة خم�سني �سنة من حياته يف الع�رص الأموي ،وع�رشين 31
�أبو حنيفة النعمان
�سنة يف الع�رص العبا�سي ،مل يتوقف طوالها عن اال�شتغال بالتجارة، منذ �أن �شب عن الطوق .ففي التجارة كانت معي�شته ،وم�صدر رزقه� ،إىل �أن ودع الدنيا ليلقى وجه ربه ،وعديدون يف ع�رص �أبي حنيفة جمعوا بني العلم والتجارةِ . فمثله ،مثال ،كان «وا�صل بن عطاء» �شيخ املعتزلة تاجراً ،وقد ولد يف ال�سنة نف�سها التي ولد فيها �أبو حنيفة ،ومثله كان «وا�صل» فار�سي الأ�صل ،ومثل �أبي حنيفة كان لوا�صل �رشيك �أمني يف جتارته ،تربطه به �صلة قرابة ،ومثله فرغ وا�صل للدر�س ،ولكن للدفاع عن الإ�سالم �ضد من يهاجمونه يف زمانه من �أ�صحاب الفرق الإ�سالمية، والديانات ال�سابقة ،على حني كان �أبو حنيفة ي�ؤ�س�س للفقه الإ�سالمي مذهب ًا فيه ،ويفتح لالجتهاد �أبواب ًا وا�سعة ،معتمداً على الر�أي والقيا�س، فيما مل يرد فيه ن�ص من كتاب �أو �سنة� ،أو فتوى جممع عليها من ال�صحابة. ترى ،كيف كانت �صفات التاجر الفقيه� ،أو الفقيه التاجر �أبو حنيفة النعمان؟ وال �إجابة لهذا ال�س�ؤال �أوفى و�أ�صدق و�أدق من �أحاديث معا�رصيه، وما وعته لنا كتب التواريخ اخلا�صة ،من حكايات عن �أبي حنيفة التاجر الفقيه. ي�ؤكد معا�رصو �أبي حنيفة �أنه كان عظيم الأمانة يف نف�سه ويف ثري النف�س مل يذق ذل احلاجة يوم ًا ،حتى يثور يف نف�سه جتارته .كان ّ ما يثور يف نفو�س التجار ،من �أطماع تفقر النفو�س .وي�ؤكدون �أنه كان �سمح النف�س ،فوقي مما تلقاه النفو�س من ال�شح .ولعل مرجع ذلك كله �أنه كان بالغ التدين� ،شديد التن�سك ،عظيم العبادة ،ي�صوم النهار ،ويقوم الليل ،ويقر�أ القر�آن الكرمي ثالثني مرة يف �شهر رم�ضان ،غيب ًا عن ظهر قلب. ولهذه ال�صفات جمتمعة �أثرها يف معامالت �أبي حنيفة التجارية، 32
حتى �صار غريب ًا متفرداً بني التجار بالكوفة .ولعل �رشيكه كان يلقى بع�ض هذه املعاناة من هذه الغرابة ،وذلك التفرد. ولقد �شبهه املعا�رصون له ،يف جتارته ،ب�أبي بكر ال�صديق ر�ضي اهلل عنه ،وهو من ال�سلف املتبع ،وك�أنه كان يحكي يف �شخ�صه مثاله، ويجري يف جتارته على منواله: جاءته مثال امر�أة بثوب من احلرير تبيعه له ،فقال لها: كم ثمنه؟ فقالت له: مائة درهم. فقال لها: هو خري من ذلك؟ فقالت غا�ضبة: �أتهز�أ بي؟ فقال لها با�سم ًا: يقومه. هاتي رج ًال ّ قومه ،فا�شرتاه بخم�سمائة درهم. فجاءت برجل ّ فلم ير �أبو حنيفة يف غفلة البائع فر�صة ينتهزها ،فهو يحتاط للبائع له ،قبل �أن يحتاط لنف�سه ،كم�ش ٍرت منه. وجاءته امر�أة �أخرى .فقالت له: �إين �ضعيفة ،و�إنها �أمانة .فبعني هذا الثوب الذي عندك ،مبا َيقوم عليك. فقال لها: ُخذيه ب�أربعة دراهم. فقالت له: ال ت�سخر بي .و�أنا عجوز. 33
�أبو حنيفة النعمان
فقال لها: �إين ا�شرتيت ثوبني .فبعت �أحدهما بر�أ�س املال �إال �أربعة دراهم .فبقي هذا الثوب على �أربعة دراهم. وجاءه �صديق له ،يطلب منه ثوب خ ّز (حرير) ،على و�صف ولون عي َنهما له ،فقال له: َّ ا�صرب حتى يقع ،و�آخذه لك �إن �شاء اهلل تعاىل. فما دارت اجلمعة ،حتى وقع الثوب املطلوب .فمر به ال�صديق ،فقال له �أبو حنيفة: قد وقعت حاجتك. و�أخرج �إليه الثوب .فقال له ال�صديق: بكم �إذن؟ فقال له �أبو حنيفة: درهم ًا. فقال ال�صديق عاتب ًا: ما كنت �أظنك تهز�أ بي!! فقال له �أبو حنيفة برفق: ما هز�أت� .إين ا�شرتيت ثوبني بع�رشين ديناراً ودرهم واحد .بعت �أحدهما بع�رشين ديناراً ،وبقي هذا بدرهم. هي معاملة �إذن من تاجر فقيه خالطها العطاء� ،أو هي عطاء قد لب�س �صورة البيع وال�رشاء ،معاملة تنبئ عن خلق تاجر فقيه� ،سمح القلب، عظيم يف نف�سه وعقله ،ودينه و�أمانته ،ووفائه للأ�صحاب. وكان �أبو حنيفة �شديد التحرج ،واحلرج ،يف كل ما تخالطه �شبهة الإثم ،يف جتارته وربحه ،ولو كانت بعيدة ،ف�إن ظن �إثم ًا �أو توهمه يف مال ،خرج منه كله ،وت�صدق به على الفقراء واملحتاجني. «يروى �أنه بعث �رشيكه حف�ص بن عبد الرحمن مبتاع ،و�أعلمه �أن 34
يف ثوب منه عيب ًا ،و�أوجب عليه �أن يبني العيب عند بيعه ،فباع حف�ص املتاع ،ون�سي �أن يبني العيب ،ومل يعلم من الذي ا�شرتاه منه .فلما علم �أبو حنيفة ت�صدق بثمن املتاع كله» فقد خالطته �شبهة الإثم. ومع اكتفاء �أبي حنيفة من الربح بالقدر احلالل ،فقد كانت جتارته تدر عليه ربح ًا وفرياً ينفق �أكرثه على امل�شايخ واملحدثني ،يجمع الأرباح عنده من �سنة �إىل �سنة ،في�شرتي منها حوائج الأ�شياخ واملحدثني، و�أقواتهم ،وك�سوتهم ،وجميع حوائجهم .ثم يدفع باقي الدنانري من الأرباح �إليهم ،فيقول�« :أنفقوا يف حوائجكم ،وال حتمدوا �إال اهلل ،ف�إين ما علي فيكم». �أعطيتكم من مايل �شيئ ًا .ولكن من ف�ضل اهلل ّ ومع ذلك الكرم وال�سخاء ،فقد كان مظهر �أبي حنيفة كمخربه ح�سن ًا. فهو كثري العناية بثيابه ،يختار جيده من الثياب التي تقوم بثالثني ذهبيا ،وهو ح�سن الهيئة كثري التعطر ،مل ير قط منقطع النعل، ديناراً ًّ وهو حري�ص على �أن يكون من يعرفه ،يف مثل عنايته مبظهره .فقد ر�أى مث ًال على بع�ض جل�سائه ثياب ًا رثة ،ف�أمره �أن ينتظر� ،إىل �أن تفرق املجل�س وبقي وحده ،فقال له �أبو حنيفة: مل�ص َّلى وخذ ما حتته. ارفع ا ُ مل�ص َّلى ،فكان حتته �ألف درهم .فقال له �أبو حنيفة فرفع الرجل ا ُ م�ؤكداً: خد الدراهم وغيرِّ بها من حالك. فقال له الرجل الرث الثياب: �إين مو�رس ،و�أنا يف نعمة .ول�ست �أحتاج �إليها. فقال له �أبو حنيفة: �أما بلغك احلديث�« :إن اهلل يحب �أن يرى �أثر نعمته على عبده» .فينبغي لك �أن تغري حالك .حتى ال يغتم بك �صديقك.
35
�أبو حنيفة النعمان
�رصاع بني اخلليفة والفقيه يف عهد اخلليفة املن�صور� ،صار �أبو حنيفة عزيزاً عليهُ ،يدنيه منه، ويعلي مكانته عنده ،ويرفع قدره يف جمل�سه ،ويحاول بني حني و�آخر �أن يعطيه العطايا اجلزيلة .ولكن �أبا حنيفة مل يكن يرى �أن يقبل الفقهاء هدايا اخللفاء .ولذلك كان يرد عطاء املن�صور وهداياه يف رفق وحيلة، �سواء �أجاءت من املن�صور بطريق مبا�رش� ،أم بطريق غري مبا�رش. وحدث يف فرتة ال�صفو والر�ضا بني العامل الفقيه �أبي حنيفة ،واخلليفة القوي املن�صور� ،أن �شقاق ًا وقع بني املن�صور وزوجه «احلرة» ،ب�سبب ّ ميله عنها .فطلبت «احلرة» العدل من املن�صور ،فقال لها: مبن تر�ضني يف احلكومة بيني وبينك؟ َ فقالت احلرة: بالفقيه �أبي حنيفة. ور�ضي املن�صور هو �أي�ض ًا بتحكيم �أبي حنيفة ،ف�أر�سل يف طلبه من الكوفة .ووفد �أبو حنيفة �إىل بغداد ،فقال له املن�صور: يا �أبا حنيفة .زوجي «احلرة» تخا�صمني ،ف�أن�صفني منها. وكانت «احلرة» جال�سة وراء �ستار ب�إيوان اخلالفة ترى وت�سمع .وقال �أبو حنيفة للمن�صور: ليتكلم �أمري امل�ؤمنني. فقال املن�صور: يا �أبا حنيفة .كم يحل للرجل �أن يتزوج من الن�ساء ،فيجمع بينهن؟ فقال �أبو حنيفة: �أربع. فقال املن�صور: وكم يحل له من الإماء؟ 36
فقال �أبو حنيفة: ما �شاء .لي�س لهن عدد. فقال املن�صور: وهل يجوز لأحد �أن يقول خالف ذلك؟ فقال �أبو حنيفة: ال. فقال املن�صور للحرة: قد �سمعت حكم �أبي حنيفة. و�أدرك �أبو حنيفة حقيقة املوقف ،فعاجل بقوله للمن�صور ،ما مل يكن قد قاله بعد: �إمنا �أحل اهلل هذا لأهل العدل يا �أمري امل�ؤمنني .فمن مل يعدل� ،أوخاف �أال يعدل ،فينبغي �أال يجاوز واحدة .قال اهلل تعاىل« :ف�إن خفتم �أال تعدلوا فواحدة» .وب�أدب اهلل ينبغي �أن نت�أدب ،ونتعظ مبواعظه. عندئذ �سكت �أبو جعفر املن�صور ،وطال �سكوته ،فقام �أبو حنيفة .وخرج من عنده مغادراً ق�رص اخلالفة ،عائداً �إىل دار له يف بغداد .ومل يكد ي�ستقر به املكان ،حتى جاء خادم من قبل «احلرة» .ومعه مال وثياب وجارية وحمار م�رصي .فردها �أبو حنيفة جميع ًا ،قائال للخادم: �أقرئ �سيدتك �سالمي ،وقل لها� :إمنا نا�ضلت عن ديني ،وقمت ذلك املقام هلل .مل �أرد بذلك تقرب ًا �إىل �أحد ،وال التم�ست به دنيا. ولعل املن�صور وقد �أ�سرَ َّ يف نف�سه �أمرين :موقف �أبي حنيفة منه يف حكمه للحرة ،وموقف �أبي حنيفة حني رد �إىل احلرة هداياها ،و�أدرك �أنه عا ِمل �صعب املنال. وانتهت �أيام ال�صفو بني �أبي حنيفة واملن�صور ،بني الفقيه واخلليفة. العلوي ،وحني ثار ابناه حممد النف�س حني �سجن املن�صور عبد اهلل ّ العلوي على �صلة علمية ب�أبي حنيفة. الزكية ،وابراهيم .وكان عبد اهلل ّ 37
�أبو حنيفة النعمان
ولقد انتهت هذه الثورة بقتل االبنني العلويني الثائرين ،ومبوت عبد اهلل يف �سجنه ،بعد مقتل ولديه. و�أثناء ذلك وبعده ،انتهت عالقة ال�صفو والر�ضا بني �أبي حنيفة واملن�صور ،بل بينه وبني العبا�سيني ،والدولة العبا�سية ،بانتهاء عالقة ال�صفو واملودة بني العبا�سيني والعلويني .وظهرت تبا�شري هذه النهاية يف الكالم القليل ،الناقم على العبا�سيني ،الذي كان يخرج من �شفتي �أبي علي بن �أبي طالب حنيفة ،بني احلني واحلني ،ويك�شف عن والئه لأبناء ّ خا�صة. وكان �أبو جعفر يدرك هذا امليل من �أبي حنيفة للعلويني� ،أو يظنه ظ ًّنا، فيغ�ضي عنه حين ًا ،ويخترب �أبا حنيفة حين ًا �آخر� ،إىل �أن كانت امل�أ�ساة، م�أ�ساة �أبي حنيفة على يدي املن�صور ،وم�أ�ساة املن�صور ملوقفه من �أبي حنيفة� ،أمام حمكمة التاريخ. ومل يكن �أبو حنيفة الفقيه ،متفرداً يف موقفه بني العلويني والعبا�سيني. فمعا�رصه الفقيه الإمام «مالك بن �أن�س» ،كان له موقف مماثل ،يف ميله �إىل العلويني ،وعدم ر�ضاه عن العبا�سيني ،حني ا�ضطهدوا العلويني ،ولقد قيل �إن مالك ًا �أفتى مببايعة حممد النف�س الزكية ،حني ثار على املن�صور، فقال له النا�س: لكن علينا ،يف �أعناقنا ،بيعة للمن�صور.فقال لهم: �إمنا كنتم مكرهني .ولي�س ملكره بيعة.وعندئذ بايع النا�س يف املدينة حممداً النف�س الزكية ،بناء على ما �أ�شيع عن مالك .ولزم مالك بيته .ولقد حا�سب وايل املدينة الإمام مالك على فتواه ،بعد مقتل حممد النف�س الزكية ،بال�رضب والأذى .حتى انخلعت كتفاه. ولقد كان لأبي حنيفة موقف يف هذه املحنة �أ�شد من موقف مالك. 38
فقد كان يجهر مبنا�رصة حممد النف�س الزكية ،يف در�سه بالكوفة ،بل لقد و�صل به الأمر �إىل �أنه ثبط بع�ض قواد املن�صور ،حتى ال يخرجوا حلرب حممد النف�س الزكية .ومن ه�ؤالء القواد« :احل�سن بن ُقحطبة». تروي كتب املناقب �أن احل�سن بن ُقحطبة دخل على �أبي حنيفة ،يف م�سجد الكوفة ،وقال له بحرج �شديد: عملي ال ُيخفى عليك .فهل يل من توبة؟فقال له �أبو حنيفة: �إذا علم اهلل �أنك نادم على ما فعلت .ولو ُخيرِّ ت بني قتل م�سلم،وقتلك �أنت ،الخرتت �أن تقتل �أنت على �أن يقتل هو .وجتعل مع اهلل عهداً، ف�إن وفيت به فهي التوبة. فقال له احل�سن بن قحطبة: �إين عاهدت اهلل تعاىل �أال �أعود �إىل قتل م�سلم.والتزم احل�سن مبوقفه بينه وبني نف�سه� ،إىل �أن ظهر «�إبراهيم بن عبد اهلل احل�سني العلوي» ،بثورته �ضد املن�صور .و�أ�صدر املن�صور �أمره �إىل احل�سن بن قحطبة �أن يذهب باجلي�ش لقمع ثورة �إبراهيم .و�سارع احل�سن وق�ص عليه ق�صة هذا التكليف. بالذهاب �إىل �أبي حنيفةّ ، فقال له �أبو حنيفة: خذت جاء �إذن �أوان توبتك� .إن وفيت مبا عاهدت ف�أنت تائب ،و�إال �أُ َبالأول والآخر. وجد ابن قحطبة عندئذ يف توبته ،وت�أهب للموت ،و�أ�سلم نف�سه �إىل ّ القتل .فدخل على املن�صور يف جمل�سه ،وكان بني اجلال�سني فيه «حميد بن قحطبة» �أخو احل�سن هذا .وقال احل�سن للمن�صور: يا �أمري امل�ؤمنني .لن �أ�سري �إىل هذا الوجه ،حلرب �إبراهيم� .إن كانهلل تعاىل طاعة يف �سلطانك ،فيما فعلت ،فلي منه �أوفر احلظ .و�إن كان مع�صية فح�سبي. 39
�أبو حنيفة النعمان
وغ�ضب املن�صور لع�صيان قائده له ،و�أ�رسع �أخوه «حميد بن قحطبة» يقول للمن�صور ،خمفف ًا عنه ع�صيان �أخيه له: يا �أمري امل�ؤمنني� .إننا نكره عقله منذ �سنة ،وك�أنه خ ّلط عليه .فدعه،و�أنا �أ�سري �إىل حرب �إبراهيم ،و�أنا �أحق بالف�ضل منه. ووافق املن�صور ،وخرج «حميد» لينه�ض مبهمة �أخيه .و�أمر املن�صور بحب�س احل�سن ،ثم �أمر بقتله ،بعد �أن هد�أت الأمور .ولقد �س�أل املن�صور بع�ض ثقاته� ،إثر �أمره ب�سجن احل�سن: احل�سن عليه من الفقهاء؟ يدخل منُ ُ فقال له: �إنه يرتدد على �أبي حنيفة.عندئذ �أدرك املن�صور �أن �أبا حنيفة قد جتاوز حق النقد املجرد له، وحد الوالء القلبي للعلويني� ،إىل العمل �ضد العبا�سيني ،و�إن ظل عمله ّ ذاك مق�صوراً على الفتوى ،ال يتعداها �إىل امل�شاركة بحمل ال�سالح .وال �شك �أن املن�صور قد �أدرك �أن هذا العمل بالفتوى من �أخطر الأمور على دولته .ولرمبا راح املن�صور يبث على �أبي حنيفة العيون والأر�صاد ،يف جمل�س در�سه وخارج در�سه. و�شاء املن�صور �أن ي�ضع �أبا حنيفة مو�ضع االختيار لوالئه ،والطاعة لإمامه ،مثلما فعل معه ابن هبرية� ،آخر والة الأمويني على العراق ،ويف وقت كان املن�صور قد جمع فيه ر�ؤو�س العلويني ،وو�ضعهم يف ال�سجون، و�صادر �أموالهم ،وحرمهم من �إقطاعيات منحها لهم �سلفه �أبو العبا�س ال�سفاح.
الفقيه حتت االختبار بد�أ هذا االختبار لأبي حنيفة ،حني �أر�سل �إليه املن�صور بجائزة ع�رشة �آالف درهم وجارية ،مع وزيره «عبد امللك بن َح َمد» .وكان لهذا 40
الوزير ر�أي جيد ،وفيه كرم نف�س .وحمل الوزير الهدية ،وذهب �إىل �أبي حنيفة بها ،لكن �أبا حنيفة رف�ضها ،مثلما رف�ض هدايا «احلرة» من قبل. و�أ�شفق عليه الوزير ،فقال له م�صارح ًا: �أن�شدك اهلل .اقبلها� .إن �أمري امل�ؤمنني يطلب عليك علة ،ليوقع بك.ف�إن مل تقبل �صدق عليك ما ظنه بك. و�أ�رص �أبو حنيفة على موقفه ،فقال له الوزير: ال عليك من املال ،فقد �أثبته يف بند اجلوائز .لكن .اقبل اجلاريةمني� ،أو ..قل عذرك لأمري امل�ؤمنني. فقال �أبو حنيفة للوزير: قل له� :إين �ضعفت عن الن�ساء (�أي كربت) فال �أ�ستحل �أن �أقبلجارية ال �أ�صل �إليها .وال �أجرتئ �أن �أبيع جارية خرجت من ملك �أمري امل�ؤمنني. وعاد الوزير �إىل املن�صور ،و�أخربه مبا حدث ،ومبا قاله �أبو حنيفة. وا�ستمع املن�صور لوزيره ولزم ال�صمت ،فما كان ليقتنع بحيل �أبي حنيفة كفقيه ذكي ،وعنيد. يحر�ضه على �أبي حنيفة ،من الو�شاة وكان يف حا�شية املن�صور من ّ واحلا�سدين واحلاقدين ،من رجال الدولة ،بل من الفقهاء ،ويجعلونه ظن عند املن�صور من �أقواله وفتاويه. بني احلني واحلني ،يف ّ روى «تاريخ بغداد» �أن املن�صور دعا �إليه �أبا حنيفة لي�شهد جمل�س ًا علميا عنده ،وي�شارك فيه .وكان الربيع حاجب املن�صور يعادي �أبا ًّ حنيفة .فانتهز وجوده يف املجل�س فر�صة ،وقال للمن�صور: يا �أمري امل�ؤمنني .هذا �أبو حنيفة يخالف جدك .كان عبد اهلل بنعبا�س يقول� :إذا حلف �شخ�ص على اليمني ،ثم ا�ستثنى بعد ذلك بيوم �أو بيومني جاز اال�ستثناء .و�أبو حنيفة يقول ،خمالف ًا جدك :ال يجوز اال�ستثناء �إال مت�ص ًال باليمني ،ويف جمل�سه. 41
�أبو حنيفة النعمان
عندئذ �سارع �أبو حنيفة بقوله للمن�صور ،ببديهة حا�رضة: يا �أمري امل�ؤمنني� .إن الربيع يزعم بقوله هذا� ،أنه لي�س لك يف رقابجندك بيعة. فقال له املن�صور بده�شة: كيف؟فقال �أبو حنيفة: يحلفون لك ح�سب قوله مبايعني ،ثم يرجعون �إىل منازلهم،في�ستثنون ،فتبطل �أميانهم ببيعتك. و�ضحك املن�صور ،والتفت قائ ًال للربيع: يا ربيع .ال تعر�ض لأبي حنيفة ،فلن تقدر عليه.وحني خرج الوزير والفقيه من املجل�س قال الوزير للفقيه ،حانق ًا: �أردت �أن ت�شيط بدمي (�أي :تقتلني).فقال له �أبو حنيفة با�سم ًا ،واثق ًا: ال .ولكنك �أردت �أن ت�شيط �أنت بدمي ،فخل�صتك ،وخل�صت نف�سي.كذلك كان الفقيه «�أبو العبا�س الطو�سي» �سيئ الر�أي يف �أبي حنيفة. وكان �أبو حنيفة يعرف ذلك .دخل �أبو حنيفة يوم ًا جمل�س املن�صور بدعوة منه ،وقد كرث النا�س يف جمل�سه ،فقال «الطو�سي» ملن معه: اليوم �أقتل �أبا حنيفة.والتفت «الطو�سي» �إىل �أبي حنيفة ،وقال له ،وقد �ساد ال�صمت، واملن�صور ي�سمع ما يقال: يا �أبا حنيفة� .إن �أمري امل�ؤمنني ي�أمر ب�أن ُي�رضب عنق الرجل ،لأمرال يدري ما هو� ،أي�سعه �أن ي�رضب عنقه؟ فقال له �أبو حنيفة بح�ضور بديهة م�ألوفة منه: يا �أبا العبا�س� .أمري امل�ؤمنني ي�أمر باحلق �أم بالباطل؟فقال الطو�سي بده�شة: 42
باحلق طبع ًا.فقال له �أبو حنيفة: �أنفذ احلق حيث كان .وال ت�سل عنه.والتفت �أبو حنيفة ،وقال هام�س ًا ملن قرب منه: �إن هذا �أراد �أن يوثقني فربطته.وجاء يوم قرر فيه املن�صور �أن يتوىل �أبا حنيفة له �أي عمل كان، فيبني ال�رصيح من نيته .ودعا املن�صور �إليه ب�أبي حنيفة ،وكان �سور بغداد ال يزال يبنى حولها .وعر�ض املن�صور على �أبي حنيفة �أن يلي له الق�ضاء ،ويكون القا�ضي الأول للخالفة ،فما دام يعطي النا�س فتاويه. فليحكم بني النا�س مبا يفتي به .فقال له �أبو حنيفة: يا �أمري امل�ؤمنني� .أنا �أقول بر�أيي ،فمن �شاء �أخذ به ،ومن �شاء ملي�أخذ ،حاكم ًا �أو حمكوم ًا� ،أو قا�ضي ًا. ويروي احلاجب الربيع بن يون�س بع�ض ما جرى يف هذا اللقاء. قال« :ر�أيت �أمري امل�ؤمنني ينازل �أبا حنيفة يف �أمر توليه الق�ضاء .و�أبو حنيفة يقول للمن�صور: يا �أمري امل�ؤمنني .اتق اهلل .وال ُت ْر ِع �أمانتك �إال من يخاف اهلل .واهللما �أنا مب�أمون الر�ضا ،فكيف �أكون م�أمون الغ�ضب .ولو اجته احلكم مني عليك ،ثم هددتني �أن تغرقني يف الفرات� ،أو �أن �ألغي هذا احلكم ،الخرتت �أن �أغرق .ولك يا �أمري امل�ؤمنني حا�شية يحتاجون �إىل من يكرمهم يف ق�ضائه لأجلك ،فال �أ�صلح لذلك. فقال له املن�صور بحدة: كذبت� .أنت ت�صلح.فقال �أبو حنيفة لفوره: قد حكمت على نف�سك يا �أمري امل�ؤمنني .كيف يحل لك �أن تويلقا�ضي ًا على �أمانتك ،وهو كذاب؟ 43
�أبو حنيفة النعمان
عندئذ حلف املن�صور على �أبي حنيفة� ،أنه ال بد �أن يتوىل له �أي عمل كان .و�أدرك �أبو حنيفة �أن املق�صود هو رقبته �إن �أبى هذا �أي�ض ًا ،ف�أراد يفوت غاية املن�صور عليه ،فقبل �أن يعمل له ما يكلفه به �إال الق�ضاء. �أن ِّ ف�أمره املن�صور ب�أن يتوىل القيام على �أمر ت�شييد �سور مدينة بغداد، و�رضب اللنب لهذا ال�سور ،و� ْأخذ الرجال بالعمل .وقبل مما يلي اخلندق، ْ �أبو حنيفة هذه املهمة .ونه�ض بها �إىل �أن فرغ العمال واملهند�سون من بناء �سور بغداد. يعد له اللبنات امل�ستخدمة يف وعاد املن�صور يكلف �أبا حنيفة ب�أن ّ ال�سور .فطلب �أبو حنيفة ق�صبة� ،أم�سك بها �أمام املن�صور وحا�شيته، عدا. وراح يعد لبنات �سور بغداد� ،إىل �أن �أمتها ّ ور�أى املن�صور �أنه قد مت له م�ؤقت ًا �إذالل �أبي حنيفة ،ف�أذن له بالعودة �إىل الكوفة». وحدث �أن �أهل املو�صل ،كانوا قد نق�ضوا عهدهم مع املن�صور ،ب�أال يثوروا عليه .وكان املن�صور قد ا�شرتط عليهم �أنهم �إذا نق�ضوا عهدهم له، حلت له دما�ؤهم .وجمع املن�صور عنده الفقهاء الكبار بالعراق ،وفيهم �أبو حنيفة .وتروي كتب املناقب ق�صة هذا االجتماع: قال املن�صور للفقهاء: �صح �أنه عليه ال�صالة وال�سالم قال« :امل�ؤمنون عند �ألي�س قد ّ�رشوطهم»؟ ف�إن �أهل املو�صل قد �رشطوا على �أنف�سهم �أال يخرجوا على عاملي على املو�صل .وقد حلت يل دما�ؤهم .و�سارع فقيه باملجل�س بالقول: يدك مب�سوطة عليهم يا �أمري امل�ؤمنني ،وقولك مقبول فيهم ،ف�إنعفوت ف�أنت �أهل العفو ،و�إن عاقبت فهم ي�ستحقون. فقال املن�صور لأبي حنيفة: ما تقول يا �شيخ؟ �أل�سنا يف خالفة نبوة ،وبيت �أمان؟44
فقال �أبو حنيفة: يا �أمري امل�ؤمنني� .إنهم �رشطوا لك ما ال ميلكونه .و�رشطت عليهمما لي�س لك ،لأن دم امل�سلم ال يحل �إال ب�أحد معان ثالثة .ف�إن �أخذتهم �أخذت مبا ال يحل .و�رشط اهلل �أحق �أن تويف به. �أفحم �أبو حنيفة املن�صور والفقهاء بفتواه املقنعة �رشع ًا ،ف�أمر املن�صور الفقهاء مبغادرة جمل�سه ،فتفرقوا خارجني من ق�رص اخلالفة، وعاد املن�صور يدعو �أبا حنيفة �إليه ،وقال له: القول يف �أهل املو�صل ما قلت .ان�رصف �إىل بالدك .وال تفت النا�سمبا هو �شني على �إمامك .فتب�سط �أيدي اخلوارج. و� ّأجل املن�صور بذلك �إنزال الأذى ب�أبي حنيفة ،الذي يح�سن التخل�ص من امل�آزق ،وي�رص على قول احلق ،وتخذيل الأعوان عن ن�رصة الظلم. و�إن ترتب على ذلك ه ّز �أعمدة احلكم.
املحنة الثانية وحانت الفر�صة التي ال ُترد للمن�صور ،كي يرغم �أبا حنيفة على العمل معه قا�ضي ًا للق�ضاة� ،أو ينـزل به �أذى ج�سيم ًا. كان من عادة �أبي حنيفة كفقيه �صاحب فتوى ،و�إمام �أول عند النا�س لفقهاء العراق� ،أنه كان ينق�ض �أحكام ًا حكم بها ق�ضاة الكوفة ،معطي ًا نف�سه بذلك احلق الذي تكفله يف �أيامنا حماكم النق�ض ،لي�س باحلكم ٍ كمفت .ومل يكن �أبو حنيفة يرتدد كقا�ض ،و�إمنا بالنظر يف الأحكام ٍ يف هذا النق�ض بالفتوى ،فكان يثري بنق�ضه هذا ،وعالنية على النا�س، حفيظة الق�ضاة عليه ،وظنهم ال�سوء به .وكثرياً ما كانوا يرفعون �شكاواهم �إىل �أمري الكوفة ،فيمنعه من الفتوى حين ًا باحلجر عليه يف الفتوى ،ثم ي�ضطر �أن يبيحها له بعد حظر ،حني ترد �إىل �أبي حنيفة م�سائل من ق�رص 45
�أبو حنيفة النعمان
اخلالفة ليقول فيها ر�أيه ،يحملها ويل العهد بنف�سه �إىل �أبي حنيفة. وكان القا�ضي «ابن �أبي ليلى» من ق�ضاة الكوفة ،ومن بني املقربني �إىل اخلليفة املن�صور ،والقابلني لهداياه وعطاياه .وحدث �أن �أبي ليلى نظر يف �أمر امر�أة جمنونة ،قذفت رج ًال من �أهل الكوفة ،قائلة له :يا ابن وحدها الزانيني .ف�أقام عليها ابن �أبي ليلى احلد يف امل�سجد ،قائمةَّ ، وحد لقذفها �أمه .وبلغ هذا احلد �أبا حنيفة، َّ حد لقذفها �أبا الرجلّ ، حدينّ : فقال عالنية يف م�سجد الكوفة: �أخط�أ ابن �أبي ليلى يف حكمه على املر�أة ،يف �ستة موا�ضع� :أقاماحلد يف امل�سجد ،وال تقام احلدود يف امل�ساجد .و�رضبها قائمة والن�ساء حدا ،ولو �أن رج ًال قذف جماعة حدا ،ولأمه ّ ي�رضبن قعوداً .و�رضب لأبيه ّ كان عليه حد واحد .وحد لأبويه وهما غائبان ،ومل يح�رضا فيدعيا .وال حد على جمنونة. ّ و�سارع ابن �أبي ليلى ب�شكوى �أبي حنيفة لأبي جعفر املن�صور، لتجريحه لق�ضائه ،ولق�ضاء ق�ضاة الكوفة ،ف�أ�سقط بذلك كرامة الق�ضاء، وهيبة الق�ضاء بني النا�س .وال �شك �أن �أبا جعفر املن�صور قد �ساءه هذا التجريح للق�ضاء من فقيه ٍ مفت ،و�إن كان يف جتريحه على حق بينِّ و�رصيح .ولعله ت�ساءل بينه وبني نف�سه :مل ال يلي �أبو حنيفة �أمور الق�ضاء كقا�ض للق�ضاة؟ وقرر يف �إذن ،لتكون له حق املراجعة لأحكام الق�ضاء، ٍ نف�سه �أمراً :البد �أن يلي �أبو حنيفة �أمور الق�ضاء يف بغداد والعراق .وحني عاد ابن �أبي ليلى �إىل الكوفة ،وحتدث �إىل النا�س عن �شكواه لأبي حنيفة، التي قدمها �إىل املن�صور ،قال �أبو حنيفة�« :إن ابن �أبي ليلى لي�ستحل مني ما ال ي�ستحله من حيوان». ودعا املن�صور �أبا حنيفة ليقابله يف ق�رصه ببغداد ،ف�أدرك �أنها املحنة. تروي كتب املناقب �أن �أبا حنيفة ملا �أ�شخ�ص �إىل بغداد ،خرج ملتمع 46
الوجه ،وقال�« :إن هذا دعاين للق�ضاء وقد �أعلمته من قبل �أنني ال �أ�صلح للق�ضاء .فال ي�صلح للق�ضاء �إال رجل يكون له نف�س ،يقدر بها �أن يحكم على اخلليفة ،وعلى ولده ،وعلى قواده ،ولي�ست تلك النف�س يل». وعن هذا اللقاء ،تروي كتب املناقب� :أن �أبا حنيفة قال للمن�صور: يل حتى �أفارقك. �إنك تدعوين �إليك ،فما ترجع نف�سي �إ ّفقال له املن�صور: فلم ال تقبل �صلتي؟فقال له �أبو حنيفة: ما و�صلني �أمري امل�ؤمنني ب�شيء من ماله فرددته .ولو و�صلنيلقبلته� .إمنا و�صلني �أمري امل�ؤمنني ،من بيت مال امل�سلمني ،وال حق يل يف بيت مالهم .ف�إين ل�ست ممن يقاتل من ورائهم ،ف�آخذ ما ي�أخذ املقاتل، ول�ست من ولدانهم ف�آخذ ما ي�أخذه الولدان ،ول�ست من فقرائهم ف�آخذ ما ي�أخذ الفقراء. فقال له املن�صور: ف�أقم �إذن معنا يف بغداد ،وي�أتك الق�ضاة ،فيما لعلهم �أن يحتاجوا�إليك فيه. و�أبى �أبو حنيفة ذلك الأمر ،م�ؤكداً �أنه جمرد ٍ مفت مبا يقبل منه ،وما ال يقبل منه ،وقد يقول بالر�أي اليوم ،ويرى غريه غداً .و�أق�سم املن�صور على �أبي حنيفة �أن يقبل تويل الق�ضاء ،و�أق�سم �أبو حنيفة �أنه لن يقبل. حدث ال�صدام �إذن والتحدي من الفقيه للخليفة ،وعندئذ �أمر املن�صور بحب�س �أبي حنيفة ،وجلده كل يوم ع�رشة �أ�سواط� ،إىل �أن يقبل �أن يكون القا�ضي الأول للخالفة. ويروى �أن �أبا حنيفة� ،أخرج يوم ًا من ال�سجن ،و�ألزم باب اخلالفة، وطلب منه �أن يفتي فيما يرفع �إليه من الأحكام� ،أو ير�سل �إليه من امل�سائل .لكن �أبا حنيفة لزم ال�صمت ،ومل يكن يفتي يف هذا الأمر �أو ذاك. 47
�أبو حنيفة النعمان
وذهب �إليه «الربيع بن يون�س» احلاجب ،وقال له: أبر له ق�سمه ،ف�إنه ال ي�ستطيع �أال ترى �أن �أمري امل�ؤمنني قد حلف .ف� ّ�أن يرجع عنه. فقال له �أبو حنيفة الفقيه املفتي: بل ي�ستطيع .وهو على كفارة �أميانه �أقدر مني.و�أعيد �أبو حنيفة �إىل �سجنه ،وغلظ عليه يف املعاملة ،و�ضيق عليه ت�ضييق ًا �شديداً� ،إىل �أن �آن ملحنة �أبي حنيفة �أن تنق�ضي مبوته .فقد مات �أبو حنيفة �أثناء هذه املحنة �أو �إثرها ،على اختالف يف الروايات ،بل على اختالف يف �سبب موته� :أكان من التعذيب و�آثار التعذيب� ،أم كان ب�سقيه ال�سم يف �سجنه �أو يف منـزله؟ ولقد كان الدعاء الذي يردده �أبو حنيفة �أبداً ،وهو يف �سجنه ،كلما تتابع عليه ال�رضب بال�سياط« :اللهم �أبعد عني �رشهم بقدرتك». ولقد �أبعد اهلل عنه �رشهم باختياره للقائه. ولقد �أو�صى �أبو حنيفة من كانوا يزورونه يف �سجنه� ،أو يف بيته عينها ،لأنه مل بعد خروجه من �سجنه ،ب�أن يدفن يف جانب من مقربة ّ يجر فيها غ�صب من اخلليفة .وتذكر الروايات �أن املن�صور قد �صلى على قرب �أبي حنيفة بعد موته ،وذلك ما ي�ؤكد �أنه مات يف بيته ،ومل ميت يف حمب�سه� ،سنة 150هجرية. وحني علم املن�صور بو�صية �أبي حنيفة ،و�رشطه يف مقربته ،قال: حيا ،وميت ًا!؟ -من يعذرين من �أبي حنيفةًّ :
الفقيه مع النا�س تو�صف �شخ�صية �أبي حنيفة ب�صفات جتعله يف الذروة بني العلماء. فقد كان من طراز الرجال الذين ي�سيطرون على م�شاعرهم ،ممن ال تعبث 48
بهم الكلمات العار�ضة ،وال تبعدهم عن احلق العبارات النابية. و�آية �ضبط �أبي حنيفة لنف�سه ،و�سيطرته على م�شاعره� ،أن حية �سقطت يف حجره ،وهو جال�س بحلقته يف م�سجد الكوفة ،فتفرق ل�سقوطها َم ْن حوله ،ولكنه ا�ستمر يف حديثه ،ونحاها بيده ،وك�أنها لي�ست حية بها �سم زعاف. و�آية �سيطرته على م�شاعره �أنه كان يناق�ش م�س�ألة� ،أفتى فيها واعظ العراق احل�سن الب�رصي ،فقال �أبو حنيفة: �أخط�أ احل�سن.تع�صب: فانربى له رجل من بني اجلال�سني ،قائ ًال له يف ّ �أ�أنت تقول �أخط�أ احل�سن يا ابن الزانية؟!ومل يتغري وجه �أبي حنيفة ،ومل يتهمه بقذف ،و�إمنا �أ�شار للجال�سني ليهد�أوا وال ي�ؤاخذوا الرجل على حدته ،وقال م�ؤكداً يف هدوء: واهلل �أخط�أ احل�سن ،و�أ�صاب عبد اهلل بن م�سعود.ثم قال �أبو حنيفة: اللهم من �ضاق بنا �صدره ،ف�إن قلوبنا تت�سع له.وذات مرة ،قال له �أحد مناظريه مب�سجد الكوفة: يا مبتدع .يا زنديق.فقال له �أبو حنيفة: غفر اهلل لك .اهلل يعلم مني خالف ذلك ،و�إين ما عدلت به منذ عرفته،وال �أرجو �إال عفوه .وال �أخاف �إال عقابه. وبكى �أبو حنيفة عند ذكر العقاب ،ف�سارع الرجل يقول بحزن لأبي حنيفة: اجعلني يف ح ّل مما قلت.فقال �أبو حنيفة: يف �شيئ ًا من �أهل اجلهل ،فهو يف حل مما قال .وكل كل من قال ّ49
�أبو حنيفة النعمان
يف ،من �أهل العلم ،فهو يف َح َرج ،ف�إن غيبة يف �شيئ ًا مما لي�س ّ من قال ّ العلماء تبقي �شيئ ًا بعدهم يف النفو�س. وكان �أبو حنيفة م�ستق ًال يف تفكريه ا�ستقال ًال يجعله ال يفنى يف تفكري غريه .فلم يكن ي�أخذ بفكرة �إال بعد �أن يعر�ضها على عقله ،ومل يكن يخ�ضع عقله كفقيه �إال لن�ص من كتاب �أو �سنة� ،أو فتوى جممع عليها من ال�صحابة .وما عدا ذلك من �أقوال �أفراد ال�صحابة ،ومن �أقوال التابعني، فعقله حر يف مواجهتها .فلي�س ر�أيهم بواجب التقليد ،ولي�س من الورع التقليد لأفراد من النا�س .وقد الحظ هذا اال�ستقالل يف �أبي حنيفة �شيخه حماد بن �أبي �سليمان ،فقد كان �أبو حنيفة ينازعه يف كل ق�ضية. و�آية هذا اال�ستقالل �أن �أهل الكوفة مل يكن �أحد منهم ،يف زمانه، يرتحم على عثمان بن عفان ،حني يذكر ا�سمه ،ما عدا �أبا حنيفة .روى «�سعيد ابن �أبي عروبة» قال: «قدمت الكوفة ،فح�رضت جمل�س �أبي حنيفة ،فذكر يف املجل�س عثمان ابن عفان ،فرتحم عليه .فقلت له: و�أنت يرحمك اهلل .فما �سمعت �أحداً ،يف هذا البلد ،يرتحم علىعثمان غريك». وحا�رض البديهة كان �أبو حنيفة ،جتيئه املعاين �أر�سا ًال متدافعة، حني يكون بحاجة �إليها ،ما دام احلق يف جانبه ،وما دامت الأدلة عنده ت�ؤيد هذا احلق. ووا�سع احليلة كان �أبو حنيفة ،ينفذ �إىل ما يفحم خ�صمه من �أي�رس �سبيل ،حتى قال له �أبو جعفر املن�صور يوم ًا�« :أنت �صاحب حيل». ويروى �أن رج ًال مات ،و�أو�صى �إىل �أبي حنيفة مبال ،وكان �أبو حنيفة غائب ًا عن الكوفة .وحني عاد ،رفع �أبو حنيفة الأمر �إىل قا�ضي حيه «ابن �شربمة» .و�أقام �أبو حنيفة البينة ،على �أن من �أو�صى له قد مات ،فقال له ابن �شربمة: 50
يا �أبا حنيفة� .أحتلف �أن �شهودك �شهدوا بحق؟فقال �أبو حنيفة: علي ميني .كنت غائباً. لي�س ّفقال ابن �شربمة لأبي حنيفة: �ضلت مقايي�سك.عندئذ قال �أبو حنيفة ببديهة حا�رضة ،و�سعة حيلة: فما تقول يا ابن �شربمة يف �أعمى ُ�شج ر�أ�سه ،ف�شهد له �شاهدان على�شجه� ،أعلى الأعمى �أن يحلف �أن �شاهديه �شهدا بحق ،وهو مل ير َمن َمن ّ �شجه؟ َّ ومل يجد ابن �شربمة �أمام قوة حجة �أبي حنيفة� ،إال �أن ينفذ الو�صية، ل�صالح �أبي حنيفة. ويروى �أن «ال�ضحاك بن قي�س» ،وكان من زعماء اخلوارج ،دخل على �أبي حنيفة وهو يف حلقته مب�سجد الكوفة .وكان مع ال�ضحاك رجال من اخلوارج مدججون بال�سالح .وقال ال�ضحاك لأبي حنيفة: تب.فقال له �أبو حنيفة: مم �أتوب؟فقال له ال�ضحاك: علي ومعاوية. من جتويزك احلكمني يف موقعة �صفني بني ّفقال �أبو حنيفة لل�ضحاك: تقتلني �أو تناظرين؟فقال ال�ضحاك: بل �أناظرك.فقال �أبو حنيفة لل�ضحاك: ف�إن اختلفنا يف �شيء مما تناظرنا فيه .فمن بيني وبينك؟51
�أبو حنيفة النعمان
فقال ال�ضحاك: اجعل �أنت من �شئت.فقال �أبو حنيفة لرجل من �أ�صحاب ال�ضحاك ،مدجج بال�سالح: اقعد فاحكم بيننا فيما نختلف فيه �إن اختلفنا.ثم قال لل�ضحاك: �أتر�ضى بهذا بيني وبينك؟فقال ال�ضحاك: نعم.فقال �أبو حنيفة لفوره: ها �أنت قد جوزت التحكيم.فانقطع قول ال�ضحاك ،ونه�ض من�رصف ًا برجاله من م�سجد الكوفة، ومن الكوفة. يهوديا، ويروى �أنه كان بالكوفة رجل يردد �أن «عثمان بن عفان» كان ًّ ومل ي�ستطع �أحد من علماء الكوفة �أن يقنعه بغري ما يقوله .فذهب �إليه «�أبو حنيفة» .وقال له: �أتيتك خاطب ًا ابنتك.فقال الرجل: ملن؟فقال �أبو حنيفة: لرجل �رشيف ،غني باملال� ،سخي ،حافظ لكتاب اهلل ،يقوم الليل يفركوع ،كثري البكاء من خوف اهلل. فقال الرجل: دون ذلك يكفي يا �أبا حنيفة.فقال �أبو حنيفة: لكن فيه خ�صلة� .أنه يهودي.52
فقال الرجل بده�شة: يهوديا من �سبحان اهلل� .أتخطب ابنتي لرجل يهودي؟ وكيف يكونًّ يحفظ كتاب اهلل؟ فقال له �أبو حنيفة: �إن �أمرتك� .أال تفعل؟فقال له الرجل: ال.فقال �أبو حنيفة لفوره: زوج ابنته �إذن من يهودي (يق�صد فالنبي �صلى اهلل عليه و�سلم َّعثمان بن عفان). فقال الرجل لأبي حنيفة: ا�ستغفر اهلل� .إين تائب �إىل اهلل عز وجل.كذلك كان �أبو حنيفة خمل�ص ًا يف طلب احلق .ينور بطلبه قلبه ،وي�ضيئ به ب�صريته ،بعيداً عن الغر�ض ،ودن�س الهوى .ولإخال�صه يف طلب احلق، مل يكن يفرت�ض يف ر�أيه �أنه احلق املطلق الذي ال �شك فيه .و�إمنا يقول: «قولنا هذا ر�أي .وهو �أح�سن ما قدرنا عليه .فمن جاءنا ب�أح�سن من قولنا ،فهو �أوىل بال�صواب منا». وقد يقال لأبي حنيفة: �أهذا الذي تفتي به هو احلق الذي ال �شك فيه.فيقول له �أبو حنيفة: واهلل ال �أدري .لعله الباطل الذي ال �شك فيه.ويروي تلميذه « ُزفر بن الهذيل» واقعة .يقول: «كنا نختلف �إىل �أبي حنيفة .ومعنا �أبو يو�سف ،وحممد بن احل�سن. فكنا نكتب عنه .فقال يوم ًا لأبي يو�سف: ويحك يا يعقوب .ال تكتب كل ما ت�سمعه مني .ف�إين قد �أرى الر�أي53
�أبو حنيفة النعمان
اليوم ،ف�أتركه غداً ،و�أرى الر�أي غداً ،ف�أتركه بعد غد».
الفقيه بني �إمامني يف حياته ،التقى �أبو حنيفة ب�صحابة من �صحابة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ممن عا�شوا بعد املائة الأوىل الهجرية� ،أو عا�شوا �شطراً من عمرهم يف العقد التا�سع من القرن الأول الهجري ،وبني ه�ؤالء ال�صحابة كان �أن�س بن مالك ،وعبد اهلل بن �أوفى ،ووائلة بن الأ�سفع ،و�أبو الطفيل عامر بن وائلة (وهو �آخر ال�صحابة موتاً) ،و�سهل بن �صاعد ،و�سواهم. ويف حياته التقى �أبو حنيفة ب�شيوخه يف العلم من التابعني ل�صحابة الر�سول ،وكانوا من نحل خمتلفة ،بينهم فقهاء اجلماعة ،وبينهم �أهل الر�أي ،وبينهم علماء احلديث .وبينهم من تلقى فقه القر�آن ،وبينهم دعاة من دعاة الفرق الإ�سالمية ال�شيعية. ومن ه�ؤالء وه�ؤالء ،عرف �أبو حنيفة فقه الأثر ،وفقه الر�أي ،وعرف فتاوى ال�صحابة .ويروي التاريخ هذا اخلرب: «دخل �أبو حنيفة يوم ًا على املن�صور ،وعنده عي�سى بن مو�سى .فقال (عي�سى) للمن�صور :هذا عامل الدنيا اليوم ،فقال له :يا نعمان .عمن �أخذت علي ،وعن علي عن ّ العلم؟ قال :عن �أ�صحاب عمر عن عمر .وعن �أ�صحاب ّ �أ�صحاب عبد اهلل (ابن م�سعود) عن عبد اهلل بن م�سعود .وما كان يف وقت ابن عبا�س على وجه الأر�ض �أعلم منه ،فقال له :لقد ا�ستوثقت لنف�سك». وتتلمذ �أبو حنيفة من التابعني خا�صة علي ال�شعبي ،وعكرمة ،وعطاء علي، ابن رباح ،وحماد بن �أبي �سليمان ،وابراهيم النخعي ،وزيد بن ّ وحممد الباقر ،وجعفر ال�صادق. ويف فرتة ال�صفو والر�ضا بني �أبي حنيفة و�أبي جعفر املن�صور ،وبني العلويني و�أبي جعفر املن�صور ،كلف �أبو جعفر املن�صور �أبا حنيفة بقوله: 54
«يا �أبا حنيفة �إن النا�س قد فتنوا بجعفر بن حممد (ال�صادق) .فهيئ له من امل�سائل ال�شداد .فهي�أ له (�أبو حنيفة) �أربعني م�س�ألة». وروي عن �أبي حنيفة ق�صة لقائه ب�أبي جعفر ال�صادق وهو عند �أبي جعفر املن�صور باحلرية .يقول �أبو حنيفة: «�أتيته (املن�صور) ،فدخلت عليه ،وجعفر بن حممد (ال�صادق) جال�س عن ميينه .فلما ب�رصت به دخلني من الهيبة جلعفر بن حممد ال�صادق، يل فجل�ست ،ثم ما مل يدخلني لأبي جعفر ،ف�سلمت عليه ،و�أوم�أ املن�صور �إ ّ التفت �إليه ،فقال املن�صور جلعفر ال�صادق :يا �أبا عبد اهلل ،هذا �أبو حنيفة؟ يل ،فقال :يا �أبا حنيفة� .ألق على �أبي عبد فقال :نعم .ثم التفت املن�صور �إ ّ اهلل من م�سائلك .فجعلت �ألقي عليه فيجيبني .فيقول� :أنتم (يا �أهل العراق) تقولون كذا ،و�أهل املدينة يقولون كذا .ونحن نقول كذا .فرمبا تابعنا، ورمبا تابعهم ،ورمبا خال َفنا ،حتى �أتيت على الأربعني م�س�ألة ،ما �أخل منها مب�س�ألة. وقال �أبو حنيفة تعقيب ًا على هذا اللقاء: �إن �أعلم النا�س �أعلمهم باختالف النا�س». ولأبي حنيفة ق�صة مع حممد الباقر� ،أبي جعفر ال�صادق ،وكان الباقر على علم غزير ،وقد التقى به �أبو حنيفة يف املدينة ،وهو يزورها ،يف طريقه �إىل احلج� .أو عائداً من احلج ،وتروي الق�صة �أن حممداً الباقر ،قال لأبي حنيفة ،لأنه يقول بالر�أي وبالقيا�س: �أ�أنت الذي حولت دين جدي و�أحاديثه بالقيا�س؟فقال له �أبو حنيفة: معاذ اهلل.فقال حممد الباقر: بل حولته.فقال �أبو حنيفة ملحمد الباقر: 55
�أبو حنيفة النعمان
اجل�س مكانك كما يحق لك .حتى �أجل�س مكاين كما يحق يل .ف�إن لكحرمة كحرمة جدك يف حياته على �أ�صحابه. فجل�س حممد الباقر ،وجثا �أبو حنيفة بني يديه على ركبتيه .ثم قال للباقر: �إين �سائلك عن ثالث كلمات ،ف�أجبني :الرجل �أ�ضعف �أم املر�أة؟فقال حممد الباقر: املر�أة.فقال �أبو حنيفة: كم �سهم للمر�أة؟فقال حممد الباقر: للرجل �سهمان ،وللمر�أة �سهم.فقال �أبو حنيفة: هذا قول جدك .ولو حولت دين جدك لكان ينبغي يف القيا�س �أنيكون للرجل �سهم ،وللمر�أة �سهمان لأن املر�أة �أ�ضعف من الرجل. ثم قال �أبو حنيفة ملحمد الباقر: ال�صالة �أف�ضل �أم ال�صوم؟فقال حممد الباقر: ال�صالة �أف�ضل.فقال �أبو حنيفة: هذا قول جدك .ولو حولت قول جدك لكان القيا�س �أن املر�أة �إذاطهرت من احلي�ض �أمرتها �أن تق�ضي ال�صالة ،وال تق�ضي ال�صوم. ثم قال �أبو حنيفة ملحمد الباقر: البول �أجن�س �أم النطفة؟فقال حممد الباقر: البول �أجن�س.56
فقال �أبو حنيفة: فلو كنت حولت دين جدك بالقيا�س ،لكنت �أمرت �أن يغت�سل منالبول ،ويتو�ض�أ من النطفة .ولكن معاذ اهلل �أن �أحول دين جدك بالقيا�س. وقبل وجهه و�أكرمه. عندئذ قام حممد الباقر ،وعانق �أبا حنيفةَّ ،
فقه الإمام الأعظم عا�ش �أبو حنيفة يف ع�رصين كانت البالد الإ�سالمية متوج فيهما مب�سائل يف الفكر الديني ،عقيدة وفقه ًا ،و�سيا�سة وعلم ًا ،وحياة اجتماعية .ومتوج بح�ضارات �أمم وعلومها ،وب�شعوب خمتلفة العادات والتقاليد والأعراف ،وبفنت ال�رصاع الديني بني ال�سنة وال�شيعة واخلوارج، وال�رصاع ال�سيا�سي االجتماعي بني الأمويني والعلويني والعبا�سيني ،ثم بني العبا�سيني والعلويني .وبعقائد ه�ؤالء وه�ؤالء ،و�سيا�ستهم .وبفقه ه�ؤالء وه�ؤالء ،يتوقف الفقه هنا عند �آراء ال�سلف ،ويتجدد هناك عند �أهل الر�أي. وكان على �أبي حنيفة �أن يتمثل ح�صاد ذلك كله ،خا�صة ما يت�صل بالفقه الإ�سالمي عند �أهل احلديث ،وعند �أهل الر�أي ،فل�سوف يكون فقيه ًا مفتي ًا ،والإفتاء يف الفقه مرحلة عليا ال ينالها �إال ال�صابرون يف طلب العلم ،وال يبلغها �إال من �أحاط علم ًا بحياة النا�س ،و�سيا�سة النا�س، ومعتقدات النا�س ،ومعارف العلوم يف ع�رصه .ومل يق�رص �أبو حنيفة يف طلب ذلك كله طوال ن�صف قرن من عمره ،وهو طالب يدر�س العلم ،وهو فقيه يت�صدر للإفتاء مب�سجد الكوفة� ،أو يف امل�سجد احلرام .و�آية معرفته هذه قدرته الفائقة على االجتهاد بالر�أي والقيا�س .وعلى جمادلة �أهل الفرق الإ�سالمية ممن فارقوا فقه اجلماعة ،وفقه الر�أي املرتكزين على الكتاب وال�سنة ،و�إجماع ال�صحابة. 57
�أبو حنيفة النعمان
وفقه �أبي حنيفة بالعراق يعتمد على م�صادر من الكتاب وال�سنة، ومن فقه ال�صحابة ،والقيا�س واال�ستح�سان ،والعرف .على حني كان معا�رصه الإمام «مالك بن �أن�س» ي�أخذ بالكتاب وال�سنة ،وفقه ال�صحابة، وعمل �أهل املدينة ،والقيا�س ،واال�ستح�سان ،وامل�صالح املر�سلة .وقد ا�شتهر الأخذ بامل�صالح املر�سلة يف املذهب املالكي ،مع �أنه مذهب يقلل من القيا�س ،ويت�سع يف اال�ستح�سان� ،إذا مل يكن ثمة ن�ص ،وال فتوى ل�صحابي ،وال عمل لأهل املدينة. ولقد اتهم �أبو حنيفة يف حياته وبعد وفاته مبخالفة ال�سنة .ولقد نفى �أبو حنيفة عن نف�سه هذه التهمة قائ ًال: «كذب واهلل وافرتى علينا من يقول� :إننا نقدم القيا�س على الن�ص. وهل يحتاج الن�ص �إىل قيا�س؟». وكان يقول: «نحن ال نقي�س �إال عند ال�رضورة ال�شديدة .وذلك �أننا ننظر يف دليل امل�س�ألة من الكتاب وال�سنة� ،أو �أق�ضية ال�صحابة ،ف�إن مل جند دلي ًال ق�سنا حينئذ م�سكوت ًا عنه على منطوق به». ويقول: «�إنا ن�أخذ �أو ًال بكتاب اهلل ،ثم ال�سنة ،ثم ب�أق�ضية ال�صحابة ،ونعمل مبا يتفقون عليه ،ف�إن اختلفوا ق�سنا حكم ًا على حكم بجامع العلة بني امل�س�ألتني حتى يت�ضح املعنى». وكان يقول�« :إنا نعمل �أو ًال بكتاب اهلل ،ثم ب�سنة ر�سول اهلل (�صلى وعلي ر�ضي اهلل اهلل عليه و�سلم) ثم ب�أحاديث �أبي بكر وعمر وعثمان ّ عنهم». وكان يقول: «ما جاء عن ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم) فعلى الر�أ�س والعني ب�أبي و�أمي ،ولي�س لنا خمالفته .وما جاء عن �أ�صحابه تخرينا ،وما جاء 58
عن غريهم فهم رجال ونحن رجال». ويروى �أن �أبا جعفر املن�صور كتب �إىل �أبي حنيفة قائ ًال« :بلغني �أنك تقدم القيا�س على احلديث». فرد عليه �أبو حنيفة بر�سالة جاء فيها« :لي�س الأمر كما بلغك يا �أمري امل�ؤمنني �إمنا �أعمل بكتاب اهلل ،ثم ب�سنة ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه وعلي ر�ضي اهلل عنهم ،ثم و�سلم) ،ثم ب�أق�ضية �أبي بكر وعمر وعثمان ّ ب�أق�ضية بقية ال�صحابة ،ثم �أقي�س بعد ذلك �إذا اختلفوا ،ولي�س بني اهلل وبني خلقه قرابة». والأحاديث املتواترة كانت حجة يف فقه �أبي حنيفة .ومل يعرف عن �أبي حنيفة �أنه �أنكر خرباً متواتراً� ،ساق حديث ًا مبعناه� ،أو �ساقه بلفظه. والأحاديث امل�شهورة ،وهي �أحاديث �آحاد يف طبقة روايتها الأوىل، �أو الثانية ،تنت�رش بعد ذلك وت�شتهر ،وهذه كان ي�أخذ بها �أبو حنيفة ،فقد ارتقت فوق مرتبة الظن ،و�إن وقفت دون مرتبة اليقني. و�أحاديث الآحاد ،التي مل ترتق �إىل مرتبة اال�شتهار ،وهذه كان �أبو حنيفة يقبلها بعد عر�ضها على عقله ،ومراعاة ال�ضبط للمنت ،وال�رشوط يف فقه الرواية ،ويقدم خرب الآحاد على القيا�س� ،إن كان الراوية عاد ًال قدم عليه القيا�س. وفقيه ًا ،و�إال َّ واحلديث املر�سل عن تابعي موثوق به ،وهو حديث مل ي�سند برواته �إىل الر�سول ،كان �أبو حنيفة ي�أخذ به ،ف�إذا مل يكن القائل به من املوثوق نحاه �أبو حنيفة جانب ًا. بفقههم ودينهم َّ وفتاوى ال�صحابة كان �أبو حنيفة ي�أخذ بها �إذا ارتقت �إىل درجة الإجماع ،ف�إذا حدث فيها خالف ،كان له ،معها� ،أن يختار منها بالر�أي، �أو يعدل عنها بالر�أي �أي�ض ًا ،وعلى �سبيل الرتجيح ال القطع يف فتواه. والقيا�س �أكرث منه �أبو حنيفة ،وقد �ضبطه الأحناف يف تعريف جامع مانع .فقالوا�« :إنه بيان �أمر غري من�صو�ص على حكمه ،ب�أمر معلوم 59
�أبو حنيفة النعمان
حكمه ،بالكتاب� ،أو ال�سنة� ،أو الإجماع ،ال�شرتاكه معه يف علة احلكم». و�إذا تنازعت املقايي�س يف االجتهاد ،ومل يقع وجه القيا�س ومل ي�ستقم ،جل�أ �أبو حنيفة �إىل ا�ستح�سان الفقيه لقيا�س دون قيا�س ،مالحظ ًا تعامل النا�س. ف�إن مل يكن ثمة قيا�س وال ا�ستح�سان ،نظر �أبو حنيفة �إىل تعامل النا�س والعرف اجلاري بينهم ،حيث ال ن�ص من كتاب �أو �سنة ،وال �إجماع ،وحيث ال حمل على من�صو�ص بطريق القيا�س �أو اال�ستح�سان لقيا�س �أو لأثر� ،أو الإجماع� ،أو ال�رضورة .فالعرف عنده �أ�صل فقهي يف ا�ستنباط حكم فقهي. وفقه �أبي حنيفة ،كان مييل �إىل �إطالق احلرية ال�شخ�صية يف امللك، واملال ،والوقف .ووالية املر�أة لأمر زواجها بنف�سها ب�رشط الكفاءة، و�رشط مهر املثل. وفقه �أبي حنيفة يرى �أن �أَ ْق َوم طريق الختيار خليفة ،من بني َمن هم �أهل للخالفة� ،أن تتم اخلالفة بانتخاب �سابق من امل�ؤمنني ،وببيعة كاملة .فاخلالفة عنده لي�ست بو�صاية ،وال يكون خليفة َمن يفر�ض نف�سه على امل�سلمني ،و�إن خ�ضعوا له بعد ذلك �أو ارت�ضوه .فاخلالفة �إمنا تكون حر �سابق على تويل احلكم. باختيار ّ وفقه �أبي حنيفة به فروع تك�شف عن عقليته كتاجر ،خبري بالأ�سواق يق�سم وقته بني التجارة ،والفقه ،والعبادة ق�سمة عادلة ،يف �أخذه باال�ستح�سان يف املعامالت ،ويف عنايته ب�أحكام عقود البيوع على �أ�سا�س من الأمانة ،وحفظ احلقوق ،وحيله ال�رشعية يف ذلك كثرية. ذلك هو فقه �أبي حنيفة ،يف خطوطه العامة ،وهو فقه مل يكتبه �أبو حنيفة بيده ،و�إمنا كان تالميذه يدونون �أقواله ،ويقر�ؤون عليه �أقواله يف الفروع ،ويبوبونها يف كتب ،وي�ضيفون �إليها يف م�ؤلفاتهم �أقوالهم هم يف الفقه احلنفي ،وكانوا من بعده طبقات �ست� ،أغلق بعدها باب االجتهاد 60
يف الفقه احلنفي .وج ّل فقهاء الطبقة الأخرية كانوا من املقلدين الذين مل يتغري فقههم مع تغري الأزمنة والأمكنة والأحوال. وبني تالميذ �أبي حنيفة ،كان� :أبو يو�سف ،وحممد بن احل�سن ال�شيباين، وزفر بن الهذيل ،واحل�سن بن زياد الل�ؤل�ؤي الكويف ،وحممد بن �سماعة، وعلي الرازي ،وعمر بن مهري .وكان ه�ؤالء هم فر�سان وحممد بن �شجاع، ّ الفقه احلنفي ،يف الطبقة الأوىل من العلماء الأحناف. lll
وبعد رحيل �أبي حنيفة عن الدنيا اكت�سب مذهب �أبي حنيفة نفوذاً يف الدولة العبا�سية ،من وقت �أن �صار تلميذه �أبو يو�سف قا�ضي ًا للق�ضاة، يف عهود اخللفاء العبا�سيني :املهدي ،والهادي ،والر�شيد ،و�شاع يف �أكرث البقاع الإ�سالمية ،يف م�رص ،وال�شام ،وبالد الروم ،والعراق ،وما وراء النهر ،ويف الهند وال�صني حيث ال مناف�س له وال مزاحم. وقد بد�أ مذهب �أبي حنيفة يكت�سب نفوذه يف �أول �أمره ،ب�سبب اختيار اخللفاء للق�ضاة ،من �أئمته واملجتهدين فيه ،ثم جتاوز هذا النفوذ الر�سمي له ،بن�شاط علمائه فيه ،وعملهم على ن�رشه ،باملناظرات للمخالفني ،ثم ب�إلف النا�س له .وكانت قوته و�ضعفه ،بن�شاط علمائه يف بالد ،و�ضعف ن�شاط علمائه يف بالد �أخرى.
61
مالك بن �أن�س إمـام أهـل السـنة َ
مالك بن �أن�س
64
عيون املعا�رصين ال �أحد يعطي �صورة �صادقة وحية عن �أحد ،مثل معا�رصيه، ومريديه ،من العلماء ،والتالميذ ،من رفاق العلم ،و�أهل العلم ،وطالب العلم .و�شهادات ه�ؤالء ت�ضع مالك ًا يف مرتبة الإمام ،فهو يف الذروة من العلم بال�سنة ،وهو يف الذروة من العلم بالفقه ،فقد بلغ فيه درجة جعلته دون علم فقيه احلجاز الأوحد ،وهو بني املحدثني �إمام ،ويعد �أول من ّ احلديث يف كتابه «املوط�أ» �أول �صحيح جمموع مدون للحديث ،وهو بني الفقهاء ثاقب النظر ،يجمع يف فقهه بني االلتزام بن�صو�ص القر�آن وال�سنة وفتاوى ال�صحابة ،ومراعاة م�صالح النا�س يف كل فتاواه .بل املحدث ،كان �أ�شد الفقهاء مراعاة للم�صالح الدنيوية �إنه ،وهو الفقيه ّ للنا�س يف فقهه ،ولذلك كان من املقرر عنده �أن امل�صالح املر�سلة �أ�صل قائم بذاته ،من �أ�صول الفقه الإ�سالمي. �شهد القا�ضي الفقيه �أبو يو�سف �صاحب �أبي حنيفة ،للإمام مالك، وكان قرينه يف الزمان ،وقال:
65
مالك بن �أن�س
«ما ر�أيت �أعلم من ثالثة :مالك ،وابن �أبي ليلى ،و�أبو حنيفة». وقال عبد الرحمن بن مهدي: «�أئمة احلديث الذين ُيقتدى بهم �أربعة� :سفيان الثوري بالكوفة ،ومالك باحلجاز ،والأوزاعي بال�شام ،وحماد بن زيد بالب�رصة .والثوري �إمام يف احلديث ،ولي�س ب�إمام يف ال�سنة .والأوزاعي �إمام يف ال�سنة ،ولي�س ب�إمام يف احلديث ،ومالك �إمام فيهما (املراد بال�سنة العلم ب�أق�ضية ال�صحابة وفتاواهم وب�أق�ضية التابعني وفتاواهم).».. وقال �سفيان بن ُع َي ْينة: «رحم اهلل مالك ًا ما كان �أ�شد انتقاءه للرجال .وما نحن عند مالك. �إمنا كنا نتتبع �آثار مالك ،وننظر ال�شيخ �إذا كتب عنه مالك كتبنا عنه. كان مالك ال ُيب ِلغ من احلديث �إال حديث ًا �صحيح ًا ،وال ُيحدث �إال عن ثقات النا�س .وما �أرى املدينة �إال �ستخرب بعد مالك بن �أن�س». وقال الليث بن �سعد �إمام �أهل م�رص: «علم مالك علم ُتقى� ،أمان ملن �أخذ عنه من الأنام». وقال الإمام ال�شافعي: «�إذا جاءك الأثر عن مالك َف ُ�ش ّد به .و�إذا جاء اخلرب فمالك النجم .و�إذا ذكر العلماء فمالك النجم ..ومل يبلغ �أحد يف العلم مبلغ مالك حلفظه و�إتقانه و�صيانته .ومن �أراد احلديث ال�صحيح ،فعليه مبالك». وقال الإمام �أحمد بن حنبل: «مالك �سيد من �سادات �أهل العلم ،وهو �إمام يف احلديث والفقه .ومن مثل مالك ،متبع لآثار من م�ضى ،مع عقل و�أدب». ولقد توفرت الأ�سباب ملالك ليكون بهذه الدرجة من العلم ،مبواهبه، و�صفاته ،وبع�رصه وبيئته ،وب�شيوخه ،ودرا�ساته التي �أبحر فيها ،فكيف كانت حياته ،و�شخ�صيته؟ وكيف كان يف عمله؟
66
طالب علم يف املدينة باملدينة ولد الإمام «مالك بن �أن�س بن مالك �أبو عامر الأ�صبحي اليمني»� ،سنة 93هجرية ،و�أمه هي« :العالية بنت �رشيك الأزدية» ،فهو عربي الأب والأم. وفد جده الأعلى «�أبو عامر» �إىل املدينة ،بعد وفاة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وا�ستقر بها وتزوج من بني متيم ،فربط بينه وبني بني متيم ال�صهر. حلف ،و ّثق َته عالقة ِّ ويف املدينة ن�ش�أ مالك بن �أن�س ،يف بيت ا�شتغل بعلم الأثر ،ويف بيئة كلها للأثر واحلديث ،وكان �آل بيته م�شتغلني بعلم احلديث .وا�ستطالع �آثار ال�سلف و�أخبار ال�صحابة وفتاواهم. فجده مالك كان من كبار التابعني وعلمائهم ،وقد روي عن :عمر بن اخلطاب ،وعثمان بن عفان ،وطلحة بن عبيد اهلل ،وعائ�شة �أم امل�ؤمنني. اجلد ،روى بنوه ربيع ،ونافع املك ّني ب�أبي �سهيل ،و�أن�س �أبو وعن هذا ّ الإمام مالك .وكان عمه «نافع» من �شيوخ ابن �شهاب الزهري ،الذي �سي�صبح بدوره من �شيوخ الإمام مالك .وكان �أن�س �أبو الإمام مالك� ،أقل �إخوته ا�شتغاال باحلديث ،ولذلك مل يتتلمذ الإمام مالك على يديه. عم ْيه ،فهما اللذان لكن الإمام مالك وجد يف ن�ش�أته الأوىل غناء يف َّ جعال بعد �أبيهما �أ�رسة الإمام مالك من الأ�رس امل�شهورة بالعلم .وكان ملالك الإمام �أخ ا�سمه الن�رض ،يكربه عمراً ،ويالزم العلماء ،ويتلقى العلم عليهم ،ولقد �أفاد مالك منه كثرياً يف ن�ش�أته .ول�شهرة �أخيه دونه �آنذاك، كان النا�س يعرفون مالك ًا ب�أنه �أخو الن�رض ،فلما ذاع �صيت مالك العلمي بني �شيوخه و�أهل املدينة� ،صار النا�س يعرفون الن�رض ب�أنه �أخو مالك. ال�سنن ،وموطن الفتوى امل�أثورة .فيها وكانت املدينة �آنذاك ،موطن ُّ كان الرعيل الأول من علماء ال�صحابة ،وفيها كان تالميذهم من بعدهم 67
مالك بن �أن�س
وهم املعروفون بالتابعني .ويف هذه املدينة منت مواهب الإمام مالك. يف املدينة حفظ مالك القر�آن الكرمي ،وتوجه من بعده �إىل حفظ احلديث ،حتر�ضه عليه �أ�رسته ،وي�شجعه على احلفظ مناخ املدينة العلمي املحتفل ب�سنة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم وحديثه ،ويروى �أنه طلب من �أهله �أن ي�أذنوا له بالذهاب �إىل جمال�س العلماء ،ليكتب العلم عنهم، ويدر�سه على �أيديهم ،يف بيوتهم حين ًا ،ويف امل�سجد النبوي �أكرث الأحيان. ويروى �أن �أمه قد �ألب�سته عندئذ �أح�سن الثياب ،وعممته ،ثم قالت له: اذهب فاكتب الآن ،واذهب �إىل ربيعة الر�أي ،فتعلم علمه قبل �أدبه.وكان مالك ال يزال حدث ًا �صغرياً .وكان حري�ص ًا منذ �صباه على حفظ ما يكتبه ،ففي طريق عودته �إىل بيته ،كان يتتبع يف �سريه ظالل الأ�شجار ،ويتوقف �أحيان ًا حتتها ،ويتمتم مبا كتبه ،ي�ستعيد ما �سمعه وتلقاه .وحني ر�أته �أخته يف هذه احلال ،ظنت به الظنون ،ف�أ�رسعت �إىل �أبيها �أن�س ،و�أخربته مبا ر�أته من حال �أخيها مالك فقال لها: يا بنية� .إنه يحفظ �أحاديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم.وعلى يدي ربيعة الر�أي در�س مالك فقه الر�أي ،وهو �صغري على قدر طاقته. ويذكر مالك ق�صة اجتاهه �إىل طلب الفقه .يقول: «كان يل �أخ (الن�رض) يف �سن ابن �شهاب الزهري ،ف�ألقى �أبي يوم ًا علينا م�س�ألة (فقهية) ف�أ�صاب �أخي ،و�أخط�أت ،فقال يل: �ألهتك ا ِحلمام (املنايا) عن طلب العلم. فغ�ضبت ،وانقطعت �إىل ابن هرمز (الفقيه) �سبع �سنني ،مل �أخلطه بغريه (من الفقهاء) وكنت �أجعل يف كمي متراً ،و�أناوله �صبيانه ،و�أقول لهم �إن �س�ألكم �أحد عن ال�شيخ ،فقولوا �إنه م�شغول. وذلك حتى ينفرد مالك به ويتلقى العلم منه. ويروى �أن الفقيه «ابن هرمز» قال يوم ًا خلادمته ،وقد �سمعا طرق ًا 68
على الباب: انظري من الباب؟وفتحت اخلادمة الباب فلم تر �إال مالك ًا ،فرجعت و�أخربته ،قائلة: ما ثم �إال ذاك الأ�شقر.فقال لها: ادعيه للدخول ،فذاك عامل النا�س.وكان مالك يتخذ لنف�سه و�سادة حم�شوة ،وي�ضعها حتته ،وهو جال�س فوق احلجر ،يتقي بها برد احلجر .وكثرياً ما كان ي�صحب هذه الو�سادة معه ليجل�س عليها فوق ال�صخر البارد بامل�سجد النبوي ،حيث كان يجل�س الفقيه ابن هرمز. ولقد ت�أثر الإمام مالك ب�شخ�صية ابن هرمز ت�أثراً �شديداً ،ووجهته هذه ال�شخ�صية الوجهة التي �صارت عليها �شخ�صية الإمام مالك .وكان مالك من طراز النا�س الذين يتخذون لأنف�سهم �أ�سوة �صاحلة .وقد جاء يف بع�ض الروايات �أن ال�سبب الأول يف �إكثار الإمام مالك من قول :ال �أدري ،التي كان يجيب بها عما ال يعلم .هو �أنه كان يقتدي بابن هرمز .يروى عن مالك �أنه قال�« :سمعت ابن هرمز يقول: «ينبغي �أن يورث العامل جل�ساءه قول :ال �أدري ،حتى يكون ذلك �أ�صال يف �أيديهم يفزعون �إليه .ف�إذا �سئل �أحدهم عما ال يدري قال :ال �أدري». ويقول ابن وهب: «كان مالك يقول يف �أكرث ما ي�س�أل عنه :ال �أدري». وقد تلقى مالك عن ابن هرمز احلديث ،وتلقى عنه ما اختلف فيه النا�س ،وتلقى عنه الرد على �أهل الأهواء ،حني تدعوه �رضورة �إىل ذلك. ولقد ق�رص مالك فيما بعد تعليمه لتالميذه على احلديث ،والفتوى يف امل�سائل الفقهية ،متجنب ًا الفتوى فيما �أثاره ويثريه �أهل الفرق ،من معتزلة وجربية ومرجئة وخوارج ،من �أمور تتحري فيها املدارك ،وتختلف حولها 69
مالك بن �أن�س
العقول ،بالفرو�ض والت�صورات النظرية ،لأنه كان يرى �أن اجلدل يف هذه الأمور ال ي�صل �إىل غاية ،وال ينتهي �إىل بر ال�سالمة. ووجد مالك يف �سنوات تكوينه العلمي بغيته ،يف «نافع» موىل «عبد اهلل ابن عمر» ،فجال�سه جمال�سة ابن هرمز ،و�أخذ عنه علم ًا كثرياً .يقول مالك: «كنت �آتي نافع ًا ن�صف النهار ،وما تظلني ال�شجرة� ،أحتني خروجه، ف�إذا خرج �أدعه �ساعة ك�أين مل �أره ،ثم �أتعر�ض له ف�أ�سلم عليه ،و�أدعه، حتى �إذا دخل (�إىل امل�سجد النبوي)� ،أقول له كيف قال ابن عمر يف كذا وكذا ،فيجيبني ،ثم �أحب�س عنه ،وكان فيه حدة». وكان نافع ي�سكن يف البقيع ،وكان مالك ي�س�أله يف احلديث والفقه. كذلك وجد مالك يف ابن �شهاب الزهري ،يف �سنوات تكوينه العلمي، بغيته ،يف طلب احلديث ،يروي مالك يقول: قدم علينا الزهري ،ومعنا ربيعة الر�أي .فحدثنا نيف ًا و�أربعني حديث ًا. ثم �أتيناه يف الغد .فقال: انظروا كتاب ًا حتى �أحدثكم� .أر�أيتم ما حدثتكم به �أم�س؟فقال له ربيعة: ههنا من يرد عليك ما حدثت به �أم�س.فقال نافع: ومن هو؟فقال ربيعة: ابن �أبي عمر (يق�صد مالك ًا).فقال نافع: هات.«فحدثته �أربعني حديث ًا منها ،فقال الزهري: ما كنت �أرى �أنه بقي �أحد يحفظ هذا غريي».70
وروى مالك موقف ًا له مع �أ�ستاذه ابن �شهاب ،قال: حدث عن «كان ابن �شهاب� ،إذا جل�س ،يحدث ثالثني حديث ًا .وكنت �إذا َّ ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم� ،أعقد عقدة بخيط حتى �أعرف من عدد العقد عدد الأحاديث ،وما علق بذاكرتي منها .فحدث يوم ًا وعقدت عقداً حلديثه ،ف�أن�سيت منها حديث ًا ،فلقيته ،ف�س�ألته عنه ،فقال: �أمل تكن يف املجل�س؟قلت له: بلى.قال يل: فما لك مل حتفظ؟قلت له: �إمنا ذهب عني منها واحد.فقال: لقد ذهب حفظ النا�س ،ما ا�ستودعت قلبي �شيئ ًا قط فن�سيته .هاتما عندك. ف�أ�سمعته ما حفظت ،ف�أنب�أين باحلديث الذي ن�سيته ،وان�رصفت عنه. وكان مالك حري�ص ًا على �إظهار االحرتام التام لأحاديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ال يتلقاها �إال وهو يف حال من اال�ستقرار التام، توقرياً لها ،وحر�ص ًا على �ضبطها ،وحتى ال يفوته �شيء منها ،فال ي�سمعها وهو يف حال �ضيق �أو ا�ضطراب ،وال يتلقاها وهو واقف ،و�إمنا يجل�س احرتام ًا لها .ولقد مر مالك ب�أبي زناد ،وهو يحدث النا�س ب�أحاديث ر�سول اهلل ،والنا�س قيام يف امل�سجد يكتبون ما ي�سمعون ،فلم يتوقف ل�سماع احلديث ،وان�رصف عنه .وحني التقى مالك ب�أبي زناد قال له: يل ،وتكتب عني؟ ما منعك �أن جتل�س �إ ّفقال له: 71
مالك بن �أن�س
كان امل�سجد �ضيق ًا ،وكرهت �أن �أ�سمع �أو �أكتب حديث ر�سول اهلل و�أناواقف ،فان�رصفت. ولقد تكررت هذه الق�صة ،وذلك املوقف مع عمر بن دينار ،ومع �أبي حازم .وكان العلم �آنذاك ي�ؤخذ من �أفواه الرجال ،ال من كتب م�سطورة، ولذلك �أرهفت ذاكرات النا�س ،واعتمدوا عليها .وكان العلماء قد ابتد�أوا يف تدوينه ،ويحر�ضون طالبهم على �أن يكتبوا ما ي�سمعونه ،خ�شية �أن ين�سوه ،وبني َمن كانوا يكتبون كان مالك بن �أن�س يكتب ما ي�سمعه يف �ألواح ،ويحفظه يف اللحظة نف�سها ،ولقد حدث �أن ابن �شهاب جذب اللوح تاما. من يدي مالك ،ثم اختربه فيما �سمعه ،فوجده قد حفظه حفظ ًا ًّ ومل يدخر مالك يف طلبه للعلم ما ًال ،فلقد نق�ض �سقف بيته .وباع خ�شبه ،ليتمكن من موا�صلة العلم ،وعا�ش زمن ًا يف بيت بال �سقف .وتعلم بهذا الإ�رصار :وجوه الرد على �أ�صحاب الأهواء ،من ابن هرمز ،وتعلم فقه الر�أي للتوفيق بني الن�صو�ص املختلفة وم�صالح النا�س ومنافعهم ،من ربيعة بن عبد الرحمن ،امللقب بني النا�س بربيعة الر�أي ،وتلقى �أحاديث ر�سول الإ�سالم ،متتبع ًا من �أجله رواة احلديث يف املدينة ،ومنتقي ًا الثقات يف رواية احلديث ،بفرا�سة قوية يف انتقائهم ،و�إدراك �سليم لقوة عقولهم، وجودة ذاكرتهم ،و�سالمة فقههم .ويروى عن مالك قوله: «لقد �أدركت �سبعني ممن يقولون :قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم، عند هذه الأ�ساطني (�أعمدة امل�سجد) .فما �أخذت عنهم �شيئ ًا .و�إن �أحدهم لو �أ�ؤمتن على بيت مال لكان �أمين ًا ،لكنهم مل يكونوا من �أهل هذا ال�ش�أن».
بني جمل�سني يف امل�سجد النبوي ،اتخذ مالك له جمل�س ًا للدر�س والإفتاء ،وهو يدور حول الأربعني من عمره .فجل�س يف جمل�س التابعني وقد �صار له حظ 72
كبري من العلم .وكان له يف جمل�سه �إجالل واحرتام وتوقري ،يحر�ص هو عليها ،ويحر�ص على �أن ينالها من النا�س ،ويحر�ص على �أن ي�س�أل �شيوخه عن ح�سن جمل�سه يف نظر النا�س ،ويقول معلم ًا تالميذه: «ال خري يف من يرى نف�سه يف حال ال يراه النا�س لها �أهال». ولقد حدث �أنه ر�أى ابن القا�سم جال�س ًا يف امل�سجد ،وجاء �إليه رجل ف�أفتاه ،وغ�ضب منه مالك ،وتوجه �إليه قائال: �أج�رست على �أن تفتي يا �أبا عبد الرحمن؟!وكررها عليه مراراً ،ثم قال له مالك: ما �أفتيت حتى �س�ألت :هل �أنا للفتوى مو�ضع؟وحني �سكن غ�ضبه �س�أله النا�س: من �س�ألته؟فاكتفى مالك بقوله: الزهري ،وربيعة الر�أي.لكنه كان قد �س�أل �سبعني �شيخ ًا من �شيوخ العلم باملدينة ،ف�شهدوا له ب�أنه �أهل للفتوى. وكان ملالك يف املدينة جمل�سان :جمل�س يف امل�سجد النبوي ال�رشيف، املكان الذي كان يجل�س فيه عمر بن اخلطاب لل�شورى ،واحلكم والق�ضاء. وهو املكان نف�سه الذي كان يجل�س فيه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. وجمل�س يف م�سكنه ،وكان ي�سكن يف دار عبد اهلل بن م�سعود ،ويف املجل�سني كان مالك يقتفي �أثر عمر ،و�أثر عبد اهلل بن م�سعود ،ويت�أثر بهما ،وي�ؤثر يف فتاواه �أن يكون متبع ًا ال مبتدع ًا ،ويرى يف �أعمال �أهل املدينة ما ينري ال�سبيل �أمامه يف فتاواه وفقهه. ومل يالزم مالك امل�سجد النبوي يف در�سه طول حياته ،فقد لزم ب�س ِ ل�س البول ،فانقطع عن اخلروج بدر�سه جمل�سه يف بيته عندما مر�ض َ �إىل النا�س ،وعن عقد جمل�س علمه يف امل�سجد النبوي ،ولكنه مل ينقطع 73
مالك بن �أن�س
عن اخلروج لل�صالة يف امل�سجد ،ومل ينقطع عن احلديث والعلم والدر�س والفتوى يف بيته ،ي�شهد ال�صلوات واجلمعة واجلنائز ،ويعود املر�ضى، ويق�ضي احلقوق ،وال يطيل يف �أدائه لهذا �أو ذاك ،وي�سارع بالعودة �إىل بيته. ولقد عا�ش مالك طويال� ،إىل عام 179هجرية ،فقارب بعمره الت�سعني �سنة ،و�أجربه مر�ضه يف ال�سنوات الأخرية من حياته على مالزمة بيته، فال يغادره لأي �سبب قائال ملن ي�س�أله: لي�س كل النا�س يقدر �أن يتكلم بعذره.فلم يبح طوال حياته لأحد �أنه مري�ض مبر�ض �سل�س البول� ،إال يف حلظة وداعه للدنيا ملن حوله ،يف حلظة الوداع هذه قال: لوال �أين يف �آخر يوم ما �أخربتكم ،مر�ضي �سل�س البول ،وكرهت �أن�آتى م�سجد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم بغري و�ضوء .وكرهت �أن �أذكر ع ّلتي ف�أ�شكو ربي.
�شخ�صية �إمام كان مالك ،منذ �صباه ،حافظة تعي ،و�صبوراً ومثابراً ،وخمل�ص ًا فى طلب العلم ،و�صاحب َفرا�سة نفاذة ،وهيبة ووقار .واكت�سب ال�صفتني الأخريتني يف كهولته. و�آية حفظه� ،أنه كان ي�سمع يف املجل�س الواحد نيف ًا و�أربعني حديث ًا مرة واحدة .فيحفظها وهو يكتبها عن �شيخه .ولقد بلغت �أ�صول �أحاديثه املكتوبة اثني ع�رش �ألف حديث ،من حديث �أهل املدينة .كان يحفظها حديث ًا حديث ًا برواياتها ،ومل يحدث مالك طالبه �إال بنحو من ثلثها �أو ربعها ،فهي التي �صحت عنده .ولقد قيل ملالك يوم ًا: عند �أبي عيينة �أحاديث لي�ست عندك.74
فقال مالك لفوره يف ا�ستنكار: �إذن �أحدث النا�س بكل ما �سمعت� .إين �إذن لأحمق� .إين �أريد �أن�أ�ض ّلهم �إذن .وقد خرجت مني �أحاديث ،لوددت �أين �رضبت بكل حديث منها �سوط ًا ،ومل �أحدث بها �أحداً. و�آية �صربه ومثابرته ،مغالبته للفقر الذي دفعه يوم ًا �إىل �أن يبيع �سقف خ�شب بيته ،يف �سبيل العلم ،ودفعه �إىل �أن يجل�س على باب دار �شيخه يف الربد ال�شديد ،ولي�س بينه وبني احلجر الذي يجل�س عليه ،يف جانب من الطريق� ،سوى و�سادة .ولقد روى م�صعب الزبريي عن مالك ورفاقه ،يف طلبهم للعلم ،هذه احلادثة .قال م�صعب: كان حبيب يقر�أ لنا من ورقة �إىل ورقتني ون�صف ،ال يبلغ ثالثورقات ،والنا�س يف ناحية (من امل�سجد) ال يدنون ،وال ينظرون ،ف�إذا خرجنا ،وخرج النا�س ،كانوا يعار�ضون ما كتبوه مبا كتبناه .ونذهب �إىل بيوتنا .ون�صري بالع�شي (الع�رص) �إىل (جمل�س) مالك .ف�أ�صابنا املطر يوم ًا ،فلم ن�أته تلك الع�شية ،ومل ينتظرنا ،وعر�ض عليه النا�س ما كتبوه (دوننا) .ف�أتيناه بالغد .فقلنا: يا �أبا عبد اهلل� .أ�صابنا �أم�س مطر �شغلنا عن احل�ضور ،ف�أعد علينادر�س الأم�س. فقال لنا: فمن طلب هذا الأمر �صرب عليه.العدة لطلب العلم ،عند مالك ،وكانا فال�صرب ،وقوة الإرادة ،كانا هما ُ من بني ما يعلمه لتالميذه. و�آية �إخال�صه يف طلب العلم ،قوله لتلميذه ابن وهب: «�إن كنت تريد مبا طلبت ما عند اهلل ،فقد �أ�صبت ما تنتفع به ،و�إن كنت تريد مبا تعلمت الدنيا ،فلي�س فى يدك �شيء». وكان يقول لتالميذه: 75
مالك بن �أن�س
«العلم نور ال ي�أن�س �إال بقلب تقي خا�شع .وما زهد �أحد يف الدنيا �إال �أنطقه اهلل باحلكمة». وكان يقول لتالميذه: «�إن هذا العلم (احلديث والفقه) دين ،فانظروا عمن ت�أخذونه .وخري بينا .و�إن كنت يف �أمرين ،و�أنت الأمور ما كان منها �ضاحي ًا (وا�ضح ًا) ّ منهما يف �شك ،فخذ الذي هو �أوثق (عندك). ويروي تلميذه ابن القا�سم ،قال: «�سمعت مالك ًا يقول� :إين لأفكر يف م�س�ألة منذ ب�ضع ع�رشة �سنة .ما علي م�س�ألة ف�أ�سهر فيها عامة اتفق يل فيها ر�أي �إىل الآن .ورمبا وردت ّ ليلتي». وروي امل�ؤرخ عبد اهلل بن احلكم ،قال: «كان مالك �إذا �سئل عن م�س�ألة قال لل�سائل :ان�رصف حتى �أنظر. فين�رصف ويرتدد (مالك مفكراً) فيها .فحدثناه يف ذلك الت�أجيل فبكى. وقال�« :إين �أخاف اهلل �أن يكون يل من امل�سائل يوم و�أي يوم .ومن �أحب �أن يجيب عن م�س�ألة ،فليعر�ض نف�سه على اجلنة والنار .وكيف يكون خال�صه يف الآخرة». ولقد �س�أل �سائل م�س�ألة ،قائال ملالك: م�س�ألة خفيفة.فغ�ضب مالك ،وقال م�ستنكراً: «م�س�ألة خفيفة �سهلة؟! لي�س يف العلم �شيء خفيف� .أما �سمعت قول اهلل تعاىل�« :إنا �سنلقي عليك قوال ثقيال» .فالعلم كله ثقيل ،وخا�صة ما ي�س�أل عنه يوم القيامة». ولقد روي عنه �أنه قال م�ستنكراً �صنيع فقهاء ع�رصه: علي من �أن �أ�س�أل عن م�س�ألة من احلالل واحلرام. «ما من �شيء �أ�شد ّ ف�إن هذا هو القطع فى حكم اهلل .ولقد �أدركت �أهل العلم والفقه ببلدنا 76
(املدينة) .و�إن �أحدهم �إذا �سئل عن م�س�ألة ،فك�أن املوت �أ�رشف عليه. ور�أيت �أهل زماننا هذا ي�شتهون الكالم ،والفتوى ،ولو وقفوا على ما وعليا ،وخيار ي�صريون �إليه غداً .لقللوا من هذا .و�إن عمر بن اخلطابًّ ، ال�صحابة ،كانت ترتدد عليهم امل�سائل ،وهم خري القرون ،الذين بعث فيهم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وكانوا يجمعون �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وي�س�ألون ،ثم حينئذ يفتون ،و�أهل زماننا هذا قد �صار همهم الفتوى .ومل يكن من �أمر النا�س ،وال من م�ضى من �سلفنا الذين ويعول �أهل الإ�سالم عليهم� ،أن يقولوا :هذا حالل ،وهذا حرام. ُيقتدى بهمّ ، ولكن يقول� :أنا �أكره كذا .و�أما حالل وحرام ،فهذا االفرتاء على اهلل« :قل الرزق ،فجعلتم منه حرام ًا وحال ًال» ،لأن �أر�أيتم ما �أنزل اهلل لكم من ّ احلالل ما �أحله اهلل ور�سوله». ولقد كان امل�ستف ِتي يجيء �إىل مالك من �أق�صى الأر�ض ،وي�س�أله ،ف�إذا كان مالك ال يعرف وجه الفتوى على اليقني ،مل ُي ِ فت ،وقال :ال �أح�سن .ال �أدري .وما يبايل خيبة ظن ال�سائل فيه. ومن �إخال�صه يف �أن يطلب بالعلم وجه اهلل ،ابتعاده عن اجلدل واملجادلة ،لأن املجادلة نوع من املنازلة بني النا�س ،والدين �أعلى من �أن يكون مو�ضع ًا لنزال امل�سلمني وعلماء امل�سلمني ،واجلدل يدفع كثرياً �إىل التع�صب ،واملتع�صب ال يدرك الأمور �إال من وجه واحد .ويحر�ص على �أن ينال �إعجاب ال�سامعني ،في�أخذ يف القول باحلق وبالباطل، وبال�صدق وبالكذب .ولقد جابه مالك الر�شيد وقا�ضيه �أبا يو�سف ،بقوله كلمة رائعة: «�إن العلم لي�س كالتحري�ض بني البهائم والديكة». وكان يقول لتالميذه معلم ًا �إياهم: «اجلدال يف الدين لي�س ب�شيء .املراء واجلدال يف الدين يذهب بنور ال�ضغن (احلقد يق�سي القلب ،ويورث ّ العلم من قلب العبد� .إن اجلدال ّ 77
مالك بن �أن�س
والكراهية).».. ولقد ر�أى مالك قوم ًا يتجادلون عنده ،فقام ،ونف�ض رداءه ،وقال: «�إمنا �أنتم يف حرب». ولقد قيل ملالك من �سائل: «رجل له علم بال�سنة� ،أيجادل عنها؟». فقال له مالك: «ال .ولكن ،ليخرب بال�سنة ،ف�إن قبل منه (فبها) و�إال �سكت». وكان مالك يقول: «كلما جاء رجل �أجدل من رجل ،تركنا ما نزل به جربيل». ومع ذلك كانت ملالك مناظرات مع العلماء من طرازه .ومع بع�ض اخللفاء ممن لهم نزعة علمية� ،أو لهم يف العلم مكان ،مثل �أبي جعفر املن�صور ،حول �سنية الرتجيع يف الآذان ،و�سنية «الوقف» ،ومقدار ال�صاع يف ال�صدقة والزكاة. ومن �إخال�ص مالك للعلم �أنه كان يبتعد عن الإكثار من التحديث بالأحاديث ،والإكثار من الإفتاء ،ويق�رص الإفتاء على ما يقع من الأمور. ويتجنب الإفتاء فيما يتوقع �أو يفرت�ض من الأمور ،فالفتوى يف مثل هذه الأمور فتنة من الفتنة ،وم�صادرة على الغيب .ف�شعاره لأ�صحابه، قوله: ح�سبكمَ .من �أكرث �أخط�أ.وكان مالك ي�س�أل يف �أمر من �أمور الق�ضاء ،فيقول: هذا من متاع ال�سلطان.وكان ي�أبى �أن يتعر�ض مثل �أبي حنيفة ،لأحكام الق�ضاة فيفتح للنا�س باب الطعن يف الأحكام باحلق وبالباطل ،وي�ؤثر �أن يق�رص قوله على الفتوى� ،إن �سئل من طالب للفتوى. و�آية فرا�سة مالك ،نفاذه بفرا�سته �إىل بواطن الأمور ،و�إىل نفو�س 78
الأ�شخا�ص .وروى �أحد تالميذه قال: «كانت يف مالك فرا�سة ال تخطئ». و�آية مهابة مالك� ،أنه كان يف جمل�س مع �أبي جعفر املن�صور� .إذا ب�صبي يخرج ثم يرجع ،فقال له �أبو جعفر: �أتدري من هذا؟فقال له مالك: ال:فقال له جعفر: هذا ابني ،و�إمنا يفزع من �شيبتك.ولعل مالك ا�ستمد هيبته من حر�صه على �أن يظهر بها حني يكون يف جمل�س علم ،ومن جتنبه لل�ضحك دون جفاف يف قول �أو �سلوك .ولقد �أعطاه اهلل ب�سطة يف اجل�سم ،والعلم .وقد و�صفه غري واحد من تالميذه. قالوا: «كان مالك من �أح�سن النا�س وجه ًا ،و�أحالهم عين ًا ،و�أنقاهم بيا�ض ًا ،و�أمتهم طوال ،يف جودة بدن ،كان طويال ج�سيم ًا ،عظيم الهامة، �أبي�ض الر�أ�س واللحية� ،شديد البيا�ض يف لونهْ � ،أعينَ (وا�سع العينني)، ح�سن ال�صورة� ،أ�شم الأنف ،عظيم اللحية ،تبلغ حليته �صدره ،يف �سعة يحفيه ،وكان يرتك وطول .وكان ي�أخذ �أطراف �شاربه ،وال يحلقه ،وال ُ ل�شاربه �سبلتني طويلتني ،ويفتل �شاربه �إذا �أهمه �أمر ،ويح َتج بفتل عمر ل�شاربه». وحكى �سعيد بن هند الأندل�سي ،قال: «ما هبت �أحداً هيبتي لعبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) فدخلت على مالك ،فهبته هيبة �شديدة� ،صغرت معها هيبتي البن معاوية». ويقول ال�شافعي: 79
مالك بن �أن�س
«ما هبت �أحداً قط هيبتي من مالك بن ان�س». روى ال�شافعي ق�صة لقائه مبالك ،لأول مرة ،وهيبة وايل املدينة له قال: «دخلت �إىل وايل مكة ،و�أخذت كتابيه� ،إىل وايل املدينة ،و�إىل مالك ابن �أن�س .فقدمت املدينة ،ف�أبلغت كتاب وايل املدينة �إليه ،فلما قر�أه، قال يل: يا فتى� .إن م�شيي من جوف املدينة� ،إىل جوف مكة حافي ًا� ،أهونعلي من امل�شي �إىل باب مالك بن �أن�س ،ف�إين ال �أرى الذل �إال حني �أقف ّ على بابه. فقلت لوايل املدينة: �أ�صلح اهلل الأمري� .إن ر�أى الأمري يوجه �إليه ،ليح�رض.فقال يل: هيهات .ليت �أين �إذا ركبت �أنا ومن معي ،و�أ�صابنا من تراب العقيق،نلنا بع�ض حاجتنا. فواعدته الع�رص .وركبنا جميع ًا .فتقدم الرجل ،فقرع الباب ،فخرجت لنا جارية �سوداء ،فقال لها الأمري: قويل ملوالك �إن وايل املدينة بالباب.فدخلت ،ف�أبط�أت ،ثم خرجت ،فقالت: �إن موالي يقرئك ال�سالم ،ويقول� :إن كانت لديك م�س�ألة ،فارفعها(�إليه) يف رقعة ،يخرج �إليك اجلواب .و�إن كان للحديث ،فقد عرفت يوم املجل�س ،فان�رصف (�إىل يوم املجل�س). فقال لها وايل املدينة: قويل له� :إن معي كتاب ًا من وايل مكة �إليه يف حاجة مهمة.فدخلت ،وخرجت ،ويف يدها كر�سي ،فو�ضعته ،ثم �إذا مبالك قد خرج، وعليه املهابة والوقار ،وهو �شيخ طويل ،وهو متط ّل�س (يلب�س عمامة 80
على ر�أ�سه) ،فرفع �إليه الوايل الكتاب (املر�سل �إليه من وايل مكة) فبلغ مالك يف قراءته �إىل قول الوايل�« :إن هذا الرجل «ال�شافعي» من �أمره وحاله كذا وكذا ،فتحدثه ،وتفعل معه (كذا) وت�صنع معه (كذا)» ،فرمى مالك الكتاب من يده ،ثم قال: �سبحان اهلل� ،أو �صار علم ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ي�ؤخذبالر�سائل؟! فر�أيت وايل املدينة قد تهيب �أن يكلمه ،فتقدمت �إليه ،وقلت له: املطلب بن عبد مناف) ،ومن �أ�صلحك اهلل� ،إين رجل ُم ّطلبي (ن�سبة �إىل ّ يل �ساعة ،وكان ملالك حايل (كذا) ،وق�صتي (كذا) .فلما �سمع كالمي نظر �إ ّ فرا�سة ،ثم قال يل: ما ا�سمك؟قلت: حممد.فقال يل: يا حممد .اتق اهلل .واجتنب املعا�صي .ف�إنه �سيكون لك �ش�أن منال�ش�أن. هدايا اخللفاء كان �أن�س والد مالك �صانع ًا للنبال ،لكن مالك ًا مل ي�أخذ عنه ال�صناعة، فقد اجته �إىل طلب العلم وهو حدث �صغري ،و�شارك �أخاه الن�رض ب�أربعمائة الب ّز (احلرير) ،وكان مالك يبيع معه ويتجر ،ومن هذه دينار يف جتارة َ الدنانري الأربعمائة كان يعي�ش هو و�أ�رسته ،ويعاين �شظف العي�ش� ،إىل �أن �أقبلت عليه الدنيا ،بهدايا فقيه م�رص :الليث بن �سعد ،وهدايا اخللفاء من بني العبا�س. ففي كل عام ،كان الليث بن �سعد ،وكان من �أغنياء م�رص ،ير�سل �إىل �صديقه الفقيه مالك بن �أن�س بحمل مائة بعري من خريات م�رص .وبني 81
مالك بن �أن�س
احلني واحلني كان اخللفاء العبا�سيون ير�سلون �إليه بالهدايا ،والعطاء، فقبلها من املن�صور ،ومن املهدي ،ومن الهادي ،ومن الر�شيد .ومل يكن مالك من املتزهدين يف �أموال اخللفاء ،ومل يكن يعرتيه �شك يف �أخذها، كما كان ي�شك �أبو حنيفة ،لكن مالك كان يتعفف �أن ي�أخذ ممن دونهم �إال من �صديق زاده اهلل من نعمته .ولقد �سئل مالك عن حل الأخذ من ال�سالطني ،فقال: �أما اخللفاء فال �شك (ال ب�أ�س به) ،و�أما من دونهم ف�إن فيه �شيئ ًا.ولقد كان بع�ض النا�س ي�ستكرث من مالك قبوله لهدايا اخللفاء� ،أو ي�ستكرث بع�ض هداياهم �إليه ،فقد قال له �أحدهم ،وكان الر�شيد قد �أجازه بثالثة �آالف دينار: يا �أبا عبد اهلل .ثالثة �آالف دينار ،ت�أخذها من �أمري امل�ؤمنني؟فقال له مالك: �إمام ،و�أن�صف �أهل املروءة .فلم �أر به ب�أ�س ًا.ويبدو �أن مالك ًا كان يقبل هدايا اخللفاء وعطاياهم على م�ض�ض، فهو يعرف �أنها و�سيلة اختبار من اخللفاء للعلماء ،ويعرف �أن �أموالهم فيها �شيء يريب ،ولذلك كان مالك ينهي غريه عن قبول هذه الهدايا، خ�شية �أال تكون له مثل نيته ،يف دفع حاجته و�سد حاجة املحتاجني، و�إيواء الطالب الفقراء ،ولذلك كان يقول ل�سائله عن هدايا اخللفاء: ال ت�أخذها.فيقول له: �أنت تقبلها.فيقول له مالك: �أتريد �أن تبوء ب�إثمي و�إثمك؟و�أحيان ًا يقول ل�سواه: �أحببت �أن تبكتني بذنوبي.82
و�إىل عهد �أبي جعفر املن�صور ،كان ابن مالك يف ُع�سرْ َ ة �شديدة ،حتى �أن ابنته كانت تبكي من اجلوع �أحيان ًا ،فيدعو بحجر الرحى ويديره، لئال ي�سمع اجلريان �صوت بكائها و�شكواها من اجلوع .ولقد حدث �أن مالك ًا وعظ �أبا جعفر املن�صور يف �رضورة تفقده لأحوال الرعية ،وكان �أبو جعفر قد مر باملدينة يف طريقه �إىل مكة� ،أو يف طريق عودته منها، فقال له املن�صور م�ؤكداً �أنه تفقد �أحوال رعيته: �أال ت�أمر �إذا بكت ابنتك من اجلوع بتحريك حجر الرحى ،لئال ي�سمعاجلريان؟ فده�ش مالك ،وقال له: واهلل ما علم بهذا �أحد �إال اهلل.فقال له املن�صور: فقد علمت حالك و�أنت يف بيتك ،فكيف ال �أعلم �أحوال رعيتي.وهكذا انتقل من نق�ض �سقف بيته يوم ًا ليعي�ش ،ومن حتريك الرحى لئال ي�سمع اجلريان �صوت بكاء ابنته اجلائعة ،ومن �ضيق الرزق وتقتريه، �إىل ب�سطة العي�ش وتي�سريه ،فانقطع عن االجتار يف القليل ،والعمل يف املتجر لك�سب القوت .وبدت عليه �آثار الراحة يف م�أكله ،وملب�سه وم�سكنه، وكان يقول: ما �أحب المرئ �أنعم اهلل عليه �إال �أن ُيرِي النا�س �أثر نعمة اهلل عليه،وخا�صة �أهل العلم. وكان يقول لطالبه: �أحب للقارئ �أن يكون �أبي�ض الثياب.ومع ي�سار العي�ش �صار م�سكن مالك ي�رس العني ب�أثاثه ومنظره ،وما فيه من �أ�سباب الراحة يف املجل�س وامل�ضجع ،ففيه منارق م�صفوفة، ومطروحة يف نواحي البيت مينة وي�رسة ،يجل�س عليه َمن ي�أتيه من قري�ش والأن�صار ،ووجوه النا�س وطالب العلم. 83
مالك بن �أن�س
ومن ي�سار العي�ش ،كانت ثياب مالك بي�ضاء ،جديدة .يظهر ما فيها من �صفاء� ،صفاء نف�سه و�صحو ذهنه ،وكانت ثيابه املدنية واخلرا�سانية وامل�رصية غالية الثمن .وكان مالك ُيعنى بنظافتها عنايته باختيار �أجودها و�أح�سنها و�أليقها ،مهما يكن ثمنها ،وي�ضمخها ب�أطيب العطر. ولقد حكى ابن �أخي مالك� ،أنه مل ير يف ثياب مالك حرباً قط. ومن ي�سار العي�ش �أن مالك ًا كان �شديد العناية مب�أكله ،ال ي�أكل جاف العي�ش ،وال يكتفي ب�أدنى معي�شة منه ،يطلب جيده من غري جماوزة للحد، وينال من اللحم قدراً كبرياً كل يوم بدرهمني .ولقد روى �أحد تالميذ مالك� ،أن مالك ًا لو مل يجد يف كل يوم درهمني ي�أتدم بهما حلم ًا �إال �أن يبيع يف ذلك بع�ض متاعه لفعل .وكان ملالك يف طعامه ذوق رفيع، يح�سن تخري �أنواعه ،ويعجبه من الفاكهة املوز ،ويقول فيه: «ال �شيء �أ�شبه بثمر اجلنة منه .وال تطلبه يف �شتاء وال �صيف �إال وجدته .قال اهلل تعاىل�« :أكلها دائم ،وظلها.» .. ويروي تاريخ مالك� ،أن مالك ًا كان �إذا �أ�صبح لب�س ثيابه وتعمم ،فال يراه �أحد من �أهله وال �أ�صدقائه �إال متعمم ًا ،الب�س ًا ثيابه ،وما ر�آه �أحد قط �أكل و�رشب حيث يراه النا�س.
�آداب العامل يف امل�سجد النبوي ويف بيته .كان در�س مالك يف �أول �أمره ،ثم �صار در�سه يف بيته وحده .ويف احلالتني كان مالك يلتزم يف در�سه الوقار وال�سكينة ،والبعد عن لغو القول� ،ضارب ًا بذلك املثل لطالب العلم اجلال�سني من حوله ،وكان يقول لطالبه: من �آداب العامل �أال ي�ضحك �إال مبت�سم ًا.وكان يقول لهم: 84
حق على من طلب العلم ان يكون فيه وقار و�سكينة وخ�شية ،و�أنيكون متبع ًا لآثار من م�ضى ،وينبغي لأهل العلم �أن يخلوا �أنف�سهم من املزاح ،وبخا�صة �إذا ذكروا العلم. ولقد �أخذ �أبو حنيفة نف�سه بهذا النهج �أكرث من خم�سني �سنة ،فما ُعدت له يف در�سه �إال �ضحكة �أو �ضحكتان ،ومل ي�أخذ �أحد عليه لغواً يف قول، �أو مزحة� ،أو تندراً بنادرة ،ودون �أن يكون جافي ًا� ،أو خ�شن الطبع .فمالك كان يعرف التب�سط مع طالب العلم و�أ�صدقائه ،حني ال يكون يف حال در�س .روى �أحد تالميذه ،قال: «كان مالك �إذا جل�س معنا ،ك�أنه واحد منا ،يتب�سط معنا يف احلديث، وهو �أ�شد توا�ضع ًا لنا ،منا له ،ف�إذا �أخذ يف حديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم تهيبنا كالمه ،ك�أنه ما عرفنا وال عرفناه» .وروى �أحد معا�رصي مالك ،قال: «دخلت املدينة �سنة �أربع و�أربعني ومائة ،ومالك �أ�سود الر�أ�س واللحية ،والنا�س حوله �سكوت ،ال يتكلم �أحد هيبة له». وحني يكون الدر�س در�س حديث ،ف�إن مالك ًا مل يكن يحدث� ،إال �إذا تو�ض�أ ،وتهي�أ ولب�س �أح�سن ثيابه ،ومل يكن يحدث �إال �إذا جل�س �إىل من�صة، ف�إذا كان الدر�س لغري احلديث ،مل يكن يلزم نف�سه ب�شيء من هذا كله ،ومل يجل�س �إىل من�صة يحدث من ورائها. وحني �آل در�س مالك �إىل بيته وحده ،ب�سبب مر�ضه كان ي�أتيه النا�س، فيما يرويه تلميذه مطرف ،فتخرج �إليهم جارية ،فتقول لهم: يقول لكم ال�شيخ� :أتريدون احلديث �أم امل�سائل؟ف�إن قالوا امل�سائل خرج �إليهم ،ف�أفتاهم ،و�إن قالوا احلديث ،قالت لهم: اجل�سوا.ويدخل مالك مغت�سله ،فيغت�سل ويتطيب ،ويلب�س ثياب ًا جديدة ،وي�ضع 85
مالك بن �أن�س
على ر�أ�سه �ساجة (لبا�س ر�أ�س كلبا�س امللوك) ويتعمم .وجاءت اجلارية فو�ضعت املن�صة ،ويخرج مالك �إىل القائمني ،وقد اغت�سل ولب�س ،وتطيب، وعليه اخل�شوع ،ويو�ضع عود ،فال يزال يبخر ،حتى يفرغ مالك من حتديثه بحديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. ومن �أق�صى امل�رشق �إىل �أق�صى املغرب ،كان العلماء وطالب العلم يفدون �إىل مالك ،ل�سماع احلديث ،في�سمعهم �إياه ،واال�ستفتاء يف امل�سائل التي تقع ،فيعرفهم حكمها مبين ًا �أ�صلها من ال�رشع الإ�سالمي ،يف الكتاب وال�سنة وفتاوى ال�صحابة. ولقد ازدحمت على بابه الوفود خا�صة يف موا�سم احلج .وب�سبب هذا االزدحام� ،صار له يف تلك املوا�سم حاجب كامللوك ،وحرا�س من تالميذه ومريديه (ي�شبهون ال�رشطة اخلا�صة اليوم). وحني كان در�س مالك بامل�سجد ،كان بو�سع كل من �شاء �أن يجل�س وي�ستمع �إليه ،ولي�س لأحد �أن يبعده عن املجل�س �أو امل�سجد� ،إال �إذا خالف �أدب اال�ستماع .ولكن حني �صار در�س مالك يف بيته� ،صار مالك يخت�ص بدر�سه �أوال �أ�صحابه ،ثم ي�أذن بعدهم لعامة النا�س ،كي يحدث كل طائفة مبا تطيق من العلم. ويف مو�سم احلج كان مالك ي�أذن للعامة من �أهل املدينة ،ثم لأهل احلجاز ،ثم لأهل ال�شام ،ثم لأهل العراق ،ثم ملن �سواهم من عامة النا�س. ويف م�سائل الفقه مل يكن مالك يجيب �إال عما يقع ،وال يفر�ض م�سائل ملا ال يقع ،وال يجيب �سائال عن �س�ؤال يف م�س�ألة مل تقع ،راف�ض ًا الفر�ض والتقدير ،متوقف ًا عند حد الواقع الذي يجب على املفتي �أن يتوقف عنده، وهو �أمر مل يكن يلتزم به الإمام �أبو حنيفة النعمان ،لكي يدرب طالبه على تطبيق ال�رشيعة التي تعلموها. وكانت وجهة نظر مالك �أن الإفتاء دين من الدين .وم�سايرة �شهوة 86
العقل يف الفر�ض والتقدير قد تدفع امل�ساير لها �إىل خمالفة الآثار من غري بينة ،والإفتاء بغري علم وال �سلطان من كتاب �أو �سنة. ولقد كان مالك ال يبتدئ �إجابته �إال بقوله« :ما �شاء اهلل وال قوة �إال باهلل» .وكان يكرث من قوله« :ال �أدري» حني ال يدري وجه ًا للفتوى. وكان يتبع كثرياً من فتاواه حني يفتي بقوله�« :إن نظن �إال ظ ًّنا وما نحن مب�ستيقنني». ولقد وفد رجل من املغرب على م�سرية �ستة �أ�شهر ،لي�س�أل مالك ًا �س�ؤاال، فقال له مالك: �أخرب الذي �أر�سلك �أن ال علم يل بها.فقال له الرجل املغربي: ومن يعلمها؟فقال له مالك: الذي ع ّلمه اهلل .ما ابتلينا بهذه امل�س�ألة يف بلدنا ،وما �سمعنا �أحداًمن �أ�شياخنا تكلم فيها ..ولكن ..تعود �إلينا غداً. ويف الغد جاء الرجل املغربي �إىل مالك ،وقد حمل متاعه على بغلة يقودها ،فقال له مالك: �س�ألتني .وما �أدري ما هي.فقال له الرجل املغربي: يا �أبا عبد اهلل .تركت خلفي من يقول :لي�س على وجه الأر�ض �أعلممنك. فقال له مالك ،غري م�ستوح�ش: �إين ال �أح�سن .ال �أدري.ويف احلديث كان مالك يحث �أ�صحابه على �أن يحفظوا ويكتبوا ما حفظوه ،فقد ين�سى العقل ،وت�ضعف الذاكرة ،لكنه يف الفتاوى مل يكن يحر�ض �أ�صحابه على كتابة فتاواه ،ومل يكن مينعهم منها ،بل قد 87
مالك بن �أن�س
ي�ستنكر �أحيان ًا �أن يكتبوا عنه كل �شيء ،قائال ملن يكتب: ال تكتبها .ف�إين ال �أدري �أ�أثبت عليها غداً� ،أم ال.وهو نف�سه ما كان يقوله �أبو حنيفة لتالميذه ،حني تكون الفتوى ظ ًّنا� ،أو ا�ستح�سان ًا لر�أي ،ومل تكن قاطعة بن�ص من كتاب �أو �سنة �أو �إجماع لل�صحابة. الغاية ال تربر الو�سيلة يف طفولته� ،أو بني الطفولة وال�صبا� ،سمع مالك �أخبار اخلليفة العادل عمر بن عبد العزيز ،وكان عمره نحواً من ثماين �سنني .ولقد ظل مالك طول حياته يرى يف عمر بن عبد العزيز �صورة عظيمة من التقوى والزهادة واحلزم والقوة� ،أ�شبه بحكم عمر بن اخلطاب ،وكان حكمه ومي�ض ًا كال�شهاب فلم تزد خالفته عن ثالث �سنوات و�سبعة �أ�شهر .ولقد روى عبد اهلل بن احلكم يف تاريخه ،الكثري يف كتابه عن عمر بن عبد العزيز ،نقال عن الإمام مالك بن �أن�س. ولقد عا�ش مالك لريى من بعد عمر خلفاء قهر ،و�أهواء ،و�شهوات ،مل ت� ِأت ال�شورى بهم �إىل احلكم من الأمويني والعبا�سيني ،ور�أى مبقابلهم خروج اخلوارج عليهم ،وانتقا�ض العلويني �ضدهم ،وبني طريف ال�رصاع تنزل امل�ضار بالأمة ،من غري حق يقام ،وال باطل يدفع. وال �شك �أن مالك ًا قد رويت له كيف ا�ستبيحت املدينة حرم ر�سول اهلل، وهتكت حرمات املحارم ،و�أ�رس الأن�صار ،يف موقعة احلرة ،يف عهد يزيد بن معاوية بن �أبي �سفيان ،وكيف رميت الكعبة �آنذاك باملنجنيق .ولذلك مل يكن مالك يرى يف اخلروج على احلكام ،و�إن كانوا ظاملني� ،إال ما ي�ؤدي �إىل مزيد من الفنت ،و�إباحة الدماء ،فيكون القاعد خرياً من القائم، والقائم خرياً من ال�سائر ،كما روى عن �أبي مو�سى الأ�شعري. ويف �سنة 130هجرية ،وقد بلغ مالك من العمر ثماين وثالثني �سنة اقتحم رجال �أبو حمزة اخلارجي املدينة ،وقتلوا املدافعني عنها، 88
وكانت املقتلة يف قري�ش ،وكرثت النائحات على رجالهن �آباء و�أبناء و�إخوة .وجاء جند مروان ف�أخرجوا اخلوارج من املدينة .واملدينة يف هذا كله مكان لعبث اخلوارج ،ثم لعبث اجلند الأمويني .ور�أى مالك� ،أن غايات اخلوارج لإقامة العدل ال تربر ذرائعهم وو�سائلهم و�إرهابهم للنا�س .فطرائقهم �إثم ،ونتائجهم ال خري فيها للأمة .ولذلك مل يكن مالك را�ضي ًا عن حكم اخلالفة ،وال را�ضي ًا عن املتمردين عليها ،من اخلوارج والعلويني ،فلم يدع �إىل اخللفاء ،ومل ي�ؤيد والتهم ،ومل ير ،مع ذلك، اخلروج على طاعتهم ،لأنه بال ثمرة .ولذلك �أجاب عندما �سئل عن قتال اخلارجني على خليفة عبا�سي: �أيجوز قتالهم؟فقال مالك: �إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز.قال ال�سائل: ف�إن مل يكن مثله.فقال مالك: دعهم .ينتقم اهلل من ظامل بظامل ،ثم ينتقم من كليهما.ولقد �سئل ح�سن الب�رصي من قبل ،من رجل من �أهل ال�شام ،عن اخلارجني على اخلليفة الأموي عبد امللك بن مروان ،فقال له احل�سن الب�رصي: ال تكن مع ه�ؤالء وال مع ه�ؤالء.فقال له الرجل: وال مع �أمري امل�ؤمنني يا �أبا �سعيد.فغ�ضب احل�سن الب�رصي ،ثم قال: نعم .وال مع �أمري امل�ؤمنني.ومل يكن مالك ميا ًال بالقلب وال بالقول مع العلويني ،بل �إنه كان ال 89
مالك بن �أن�س
يعد من اخللفاء بعد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �سوى �أبي بكر وعمر فعلي عنده مثل �سائر ال�صحابة وعثمان ،ثم يتوقف دون �أن يذكر ًّ علياّ ، ال ميتاز عنهم ب�شيء ،خمالف ًا بذلك اثنني من الأئمة ،هما� :أبو حنيفة، وال�شافعي .كان يتوقف بعد عثمان قائال: فعلي كان يطلب اخلالفة وي�سعى �إليها ،و�أبو بكر «هنا ي�ستوى النا�سّ . وعمر وعثمان مل يطلبها �أحد منهم ،ومل ي�سع �إليها .ولي�س من طلب الأمر عندي كمن مل يطلبه .والطلب يدل على الرغبة ،والرغبة تثري االتهام». وحدث �أن اخلليفة هارون الر�شيد وجه لوم ًا �إىل الإمام مالك ،لأنه عليا وابن عبا�س يف كتابه «املوط�أ» كراويني من رواة احلديث، يذكر ًّ فقال له مالك: مل يكونا ببلدي (�أي املدينة) ومل �ألق رجالهما (�أي الرواة عنهما).عليا ،وابن عبا�س ،لكنه واحلقيقة �أن مالك ًا ذكر ،يف كتابه «املوط�أ» ًّ علي كانوا بالعراق ،والرواة عن ابن مل يذكرهما كثرياً ،فالرواة عن ّ عبا�س كانوا مبكة ،ولذلك مل يلق مالك الرواة عنهما.
حمنة �إمام يف الع�رص العبا�سي ،ويف عهد �أبي جعفر املن�صور ،نزلت مبالك حمنة .عام 146هجرية� ،رضب فيها بال�سياط ،ومدت يداه حتى انخلعت كتفاه ،ففي هذه ال�سنة حدث خروج حممد بن عبد اهلل (النف�س الزكية)، على اخلالفة العبا�سية ،وت�صادف �أن مالك ًا كان يحدث النا�س �آنذاك بحديث «لي�س مل�ستكره طالق» .ووجد النا�س باملدينة يف هذا احلديث، وكانوا �أن�صاراً للنف�س الزكية ،ما يدل على �أنه ،باملثل ،لي�س مل�ستكره بيعة ،ولذلك فال بيعة للمن�صور يف �أعناقهم .ووجد الكائدون ملالك، واحلا�سدون له ،والغيارى منه ،فر�صة للكيد له عند وايل املدينة من قبل 90
املن�صور« :جعفر بن �سليمان» ،قائلني له: «�إن مالك ًا ال يرى �أيمْ ان بيعتكم هذه ب�شيء ،فهو ي�أخذ يف البيعة بحديث روي عن «ثابت بن الأحنف» يف طالق املكره� ،أنه ال يجوز». ومل يكن احلديث هو ال�سبب يف حمنة مالك ،و�إمنا التحديث به يف وقت الفنت ،وا�ستخدام الثائرين لذلك احلديث .ومل يكف مال ًَكا للدفاع عن نف�سه �أنه كان يلزم بيته يف وقت الفتنة ،خا�صة و�أن مقتل النف�س الزكية حدث عام 145هجرية ،وحمنة مالك وقعت عام 146هجرية. و�إثر املحنة التي نزلت مبالك� ،سخط �أهل املدينة على بني العبا�س ووالتهم ،فمالك كان مظلوم ًا ،ومالك مل يتجاوز حد الإفتاء ،يف مو�ضوع طالق املكره. ولزم مالك بيته �إىل �أن �شفي من جراحه ،وا�ستمر يف در�سه ال يحر�ض على �أحد ،وال ي�شكو لأحد ما نزل به ،فزاد موقفه من نقمة �أهل املدينة على احلاكمني. و�أدرك �أبو جعفر من عيونه موقف النا�س ،فانتظر الفر�صة حني خرج حاجا �إىل مكة ،ونزل يف بيت الإمارة باملدينة ،و�أر�سل �إىل مالك يدعوه ًّ �إليه ،ليعتذر له .ويروى مالك ق�صة هذا اللقاء .يقول: «ملا دخلت على �أبي جعفر ..قال يل: واهلل الذي ال �إله �إال هو ،ما �أمرت بالذي كان ،وال علمته� .إنه ال يزالكنت بني �أظهرهم .و�إين �إخالك �أمان ًا لهم من عذاب. �أهل احلرمني بخري ،ما َ ولقد رفع اهلل بك عنهم �سطوة عظيمة ،ف�إنهم �أ�رسع النا�س �إىل الفنت ،وقد �أمرت بعدو اهلل �أن ي�ؤتى به (الوايل) من املدينة �إىل العراق على قتب (حممل �صغري) فوق �سنام البعري .و�أمرت ب�ضيق حمب�سه ،واال�ستبالغ يف امتهانه .وال بد �أن �أنزل به من العقوبة �أ�ضعاف ما نالك منه. فقلت لأبي جعفر: عافى اهلل �أمري امل�ؤمنني ،و�أكرم مثواه .قد عفوت عنه لقرابته91
مالك بن �أن�س
لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وقرابته منك. فقال يل �أبو جعفر: فعفا اهلل عنك وو�صلك.ثم قال �أبو جعفر يل: �إن رابك ريب من عامل املدينة� ،أو عامل مكة� ،أو �أحد من عماليل بذلك، احلجاز ،يف ذاتك� ،أو ذات غريك� ،أو �سوء �أو �رش بالرعية ،فاكتب �إ ّ �أنزل بهم ما ي�ستحقون.
العامل واحلكام مع �أن مالك ًا مل يكن يرى �أن حكم اخللفاء الأمويني والعبا�سيني، ير َق ّط جواز الذين عا�رصهم وعا�رصوه ،مل يكن هو حكم الإ�سالم ،ف�إنه مل َ االنتقا�ض عليهم ،لي�أ�سه من الإ�صالح عن طريق التمرد عليهم ،ولقد �سمع بنهايات هذا التمرد يف زمانه ،ولذلك مل يقطع مالك �صلته باخللفاء والأمراء ،فمن الواجب عليه �أن ير�شدهم بالر�أي ،وي�صلحهم باملوعظة والو�صايا ،بغية التقليل من �رشهم ،و�إغرائهم باخلري ليكونوا مثل ال�سلف ال�صالح .ولذلك كان يدخل على الأمراء واخللفاء لهذه الغاية .وكلما كرب يف ال�سن ،وكرب يف املكانة بني النا�س ،زادت رغبته يف املوعظة لأويل الأمر ،بل �إنه كان يحث العلماء على �أن ي�صنعوا معهم مثل �صنيعه ،بقول احلق ما ا�ستطاعوا �إىل ذلك �سبيال .فكان يقول للعلماء: «حق على كل م�سلم� ،أو رجل جعل اهلل يف �صدره �شيئ ًا من العلم والفقه، �أن يدخل �إىل ذي �سلطان ،ي�أمره باخلري ،وينهاه عن ال�رش ،حتى يتبني دخول العامل من غريه .ف�إذا كان ،فهو الف�ضل الذي ال بعده ف�ضل». وبع�ض تالميذ مالك ،كانوا يقولون له عاتبني: النا�س ي�ستكرثون �أنك ت�أتي الأمراء.92
فكان مالك يقول لهم: �إن ذلك العناء �أحمله على نف�سي ،فرمبا ا�ست�شاروا من ال ينبغي �أني�ست�شريوه .ولوال �أين �آتيهم ،ما ر�أينا للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف هذه املدينة �سنة معمو ًال بها. ون�صائح مالك وو�صاياه ،ت�ؤيد ما كان يقوله ،وما ي�سعى �إليه. قال مالك لوالٍ على املدينة: افتقد �أمور الرعية ،ف�إنك م�س�ؤول عنهم ،ف�إن عمر بن اخلطاب قال:والذي نف�سي بيده لو عرثت دابة ب�أر�ض العراق ،لظننت �أن اهلل ي�س�ألني عنها يوم القيامة». ودخل مالك مرة على اخلليفة املهدي ،وهو باملدينة ،فقال له املهدي: �أو�صني.فقال له مالك: �أو�صيك بتقوى اهلل وحده ،والعطف على �أهل بلد ر�سول اهلل �صلى اهللعليه و�سلم وجريانه ،ف�إنه بلغنا �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قال: «املدينة مهاجري ،وبها قربي ،وبها مبعثي ،و�أهلها جرياين ،وحقيق على �أمتي حفظي يف جرياين ،فمن حفظهم كنت له �شهيداً و�شفيع ًا يوم القيامة». وعلى �إثر هذه الو�صية �أخرج املهدي عطاء كثرياً ،وطاف بنف�سه على دور املدينة داراً داراً .وحني �أراد الرحيل ،دخل عليه مالك ،فقال له املهدي: �سلمت ما غبت �إين حمتفظ بو�صيتك التي حدثتنى بها ،ولئنُ عنهم. وكانت لهذا اللقاء بداية ،فحني قدم املهدي املدينة ،دخل النا�س لي�سلموا عليه ،و�أخذوا جمال�سهم ،وتهام�س النا�س ب�أن مالك ًا حني 93
مالك بن �أن�س
يقبل �سيجل�س �آخر النا�س ،وحني اقرتب مالك ونظر زحام النا�س ،قيل للمهدي: يا �أمري امل�ؤمنني .هذا �شيخك مالك ،ف�أين يجل�س؟ف�صاح املهدي مبالك ،من فوق ر�ؤو�س النا�س: عندي يا �أبا عبد اهلل.فتخطى مالك النا�س حتى و�صل �إىل املهدي ،فرفع املهدي ركبته اليمنى ،وكان مرتبع ًا يف جل�سته ،و�أجل�سه بجواره. و�أو�صى مالك مرة هارون الر�شيد يف لقاء معه باملدينة ،قال فيما قال له: «لقد بلغنى �أن عمر بن اخلطاب كان يف ف�ضله ،وتقدمه ،ينفخ للنا�س النار حتت القدر يف عام الرمادة (عام اجلوع) ،حتى يخرج الدخان من حليته .وقد ر�ضي النا�س منكم بدون هذا». وحني يلتقي مالك باخللفاء باملدينة� ،أو مبكة ،مل يكن جلو�سه �إال بجوارهم ،ك�شيخ �إمام لأهل احلجاز ،ولكنه يف امل�سجد،عند ال�صالة ،كان يجل�س حيث ينتهي به املجل�س. ومل يقت�رص مالك يف ن�صائحه للخلفاء على هذه اللقاءات ،فقد كان يكتب �إليهم يذكرهم بواجبات احلكام يف الإ�سالم للمحكومني ،وبحقوق املحكومني على احلاكمني� ،ضارب ًا الأمثال ومقيم ًا الرباهني ،من �سنة الر�سول ،وحديث الر�سول ،و�سلوك اخللفاء الرا�شدين كحاكمني مع املحكومني ،بالرفق بالرعية. ومل يبغ�ض مالك �شيئ ًا بغ�ضه للمدح الكاذب للخلفاء والوالة، فاملدح الكاذب يزين لهم �أعمالهم ،في�صري ال�رش خرياً ،والقبيح جميال، وينخدعون عن �أنف�سهم غروراً وكرباً ،ووقوع ًا يف ال�سيئات ،فحولهم بطانة من املداحني الكاذبني ،واملربرين اخلادعني. روي �أن والي ًا للمدينة كان مرة عند الإمام مالك يف جمل�سه ،فراح 94
بع�ض احلا�رضين يثنون على هذا الوايل ،فغ�ضب مالك ،وقال للوايل حمذراً: �إياك �أن يغرك ه�ؤالء بثنائهم عليك ،ف�إن من �أثنى عليك ،وقال فيكمن اخلري ما لي�س فيك� ،أو�شك �أن يقول فيك من ال�رش ما لي�س فيك .فاتق اهلل يف التزكية منك لنف�سك .وقد بلغني �أن رجال ُم ِدح عند ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم .فقال: «قطعتم ظهره�( ،أو عنقه) ،لو �سمعها ما �أفلح» .وقال �صلى اهلل عليه و�سلم« :احثوا الرتاب يف وجوه املداحني».
بني الواقع واملثال وكان مالك ي�ستنكر �سب ال�صحابة ،ويعترب ذلك جرم ًا كبرياً .ويرى �أنه �إن �ساد يف بلدة �سب �أ�صحاب من �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وجب اخلروج منها .ويقول: «ال ينبغي الإقامة يف �أر�ض يكون العمل فيها بغري احلق ،وال�سب لل�سلف». ومع نهي مالك عن �سب ال�صحابة ،كان ميتنع عن املفا�ضلة بينهم خ�شية �أن ت�ؤدي املفا�ضلة �إىل املنازعة ،وانتقا�ص �أقدار بع�ضهم ،ومل يقل بف�ضل �أحد من ال�صحابة �سوى ثالثة هم� :أبو بكر وعمر وعثمان، لأنهم اختريوا للخالفة ب�إجماع ال�صحابة ،فتف�ضيلهم عليهم ب�سبب هذا الإجماع. ومن امل�ؤكد �أن مالك ًا مل يكن يرى �أن تقت�رص اخلالفة على البيت الها�شمي� ،أو البيت العلوي ،ويراها للعدل القادر الذي تختاره جماعة امل�سلمني ،ولي�س هناك دليل يدل على �أن مالك ًا كان يرى اخلالفة يف قري�ش وحدها. 95
مالك بن �أن�س
ومالك كان يقر نظام اال�ستخالف� ،إذا مل يكن الباعث عليه هو الهوى، ويرى �أن اخلالفة ال تنعقد لأحد �إال مببايعة حرة من امل�سلمني ،و�أن مبايعة �أهل احلرمني مكة واملدينة كافية النعقاد البيعة الكاملة ،التي ي�صبح بها اخلليفة �إمام ًا للم�سلمني .وال يرى �أن بيعة من �سواهم تلزم امل�سلمني� ،إذا مل يدخل فيها بيعة �أهل مكة واملدينة ،وهو ر�أي �أ�صبح حمل نظر الآن. وكان مالك يرى �أنه �إذا تغلب متغلب على امل�سلمني ،ومل يكن قد توىل بر�ضا ،ولكنه عدل ،و�سكن النا�س �إىل حكمه ،جتب طاعته ،لأنه ال مطلب منه �سوى العدل ،وال مطلب له �سوى ر�ضا النا�س .ويف اخلروج عليه ال يكون ثمة عدل ،وال دفع لظلم .ويرى �أي�ض ًا �أنه �إذا كان غري عادل فال يجوز اخلروج عليه ،ومن يخرج عليه فهو ظامل مثله ،وينتقم اهلل من ظامل بظامل .وال يجوز ن�رصة �أحدهما. فنظرة مالك ال�سيا�سية �إذن ،كانت ،كما يقول ال�شيخ �أبو زهرة ،نظرة جتمع بني املثل الأعلى للحكم ،واعتبار الواقع الذي ت�ستقيم به �أمور النا�س.
ت�ضل العقول هنا ّ ولأن مالك ًا كان �إمام �أهل ال�سنة ،كان يبغ�ض �أقوال الفرق الإ�سالمية يف العقائد .فقد �أثارت �أموراً مل يرثها ال�سلف ال�صالح ،ولي�س من م�صلحة امل�سلمني �إثارتها ،ولأن هذه الأقوال تقوم على النظر العقلي املجرد ،يف �أمور هي من �أمور الغيب ،والطريق �إليها هو طريق اجلدل واملراء .ومعها وبها ي�سري العقل يف متاهة. وزمن مالك جرى فيه كالم :عن �أن الإميان يزيد وينق�ص ،وعن �أفعال الإن�سان هل هي اختيارية �أم �إجبارية ،وعن مرتكب الكبرية ،وعن ر�ؤية 96
اهلل تعاىل يوم القيامة ،وعن خلق القر�آن .وكان ر�أي مالك يف كل هذه الق�ضايا العقلية املثارة ،هي �أنه ينبغي الوقوف فيها عند ما وقف عنده ال�سلف ،بفهم الن�ص وعدم جتاوزه� ،أو �إثارة املنازعات العقلية حوله، فال جدوى من مثل هذا اجلدل ،وال ثمرة ،وال و�صول �إىل �شاطئ حقيقة. �أول و�أقدم كتاب ويف زمن مالك مل يكن علم احلديث قد متيز متيزاً كامال عن الفقه، فقد كانا خمتلطني ،فالفقيه يروي الأحاديث ،فيكون بها حمدث ًا وفقيه ًا يف �آن واحد ،لكن بع�ض الفقهاء كان يغلب عليه الإفتاء ،با�ستنباط الأحكام من القر�آن وال�سنة ،وبع�ضهم كانت تغلب عليه الرواية ليعرف �صحيحها من �ضعيفها ،و�سندها من الرجال .ومالك قد جمع بني االثنني يف كتابه «املوط�أ» فهو كتاب حديث ،وكتاب فقه ،ي�شتمل على ر�أيه فقهيا ،جرى على مثله ،من بعده، يف امل�سائل الفقهية ،ومرتب ترتيب ًا ًّ جامعو الأحاديث وال�سنن ،ولقد نقل �أ�صحابه �آراءه الفقهية يف امل�سائل املختلفة ،وكانوا من بالد احلجاز ،وم�رص ،والأندل�س ،و�شمال �أفريقية. ويف ع�رص ال�صحابة ،كان املجتهدون ميتنعون عن تدوين فتاواهم �أو اجتهادهم ،بل ميتنعون عن تدوين ال�سنة نف�سها ليبقى املدون من �أ�صول الدين هو القر�آن وحده ،ثم ا�ضطر العلماء يف ع�رص التابعني لل�صحابة لتدوين ال�سنة ،والفتاوى الفقهية .فجمع فقهاء احلجاز فتاوى عبد اهلل بن عمر ،وعائ�شة ،وابن عبا�س ،وبنوا عليها .وجمع فقهاء العراق وعلي ،و�شرُ يح ،وبنوا عليها .وكان ما جمعوه فتاوى عبد اهلل بن م�سعود، ّ �شبيه ًا باملذكرات يرجع �إليها املتفقه املجتهد ،وال يعلنها كتاب ًا .يكتبها فقط خ�شية الن�سيان لها. و�أول م�ؤلف معروف و�أقدمه ُجمع ككتاب ،هو «موط�أ» مالك ،يف احلديث والفقه ،وتن�سب �إليه كتب �أخرى ،من تدوين �أ�صحابه عنه ،منها تف�سري م�سند للقر�آن الكرمي ،ومنها «جمال�سات مع مالك» ،ومنها ر�سالة 97
مالك بن �أن�س
يف القدر والرد على القدرية ،ومنها كتاب يف النجوم وح�ساب دوران الزمان ومنازل القمر ،ومنها ر�سالة يف الأق�ضية يف ع�رشة �أجزاء ،ومنها ر�سالة يف الفتوى ،ومنها كتاب ال�رسور ،ومنها تف�سري لغريب القر�آن. وكلها كتب رواها واحد عن مالك� ،أو ا�شرتك يف كتابتها اثنان منهم. ومل تنت�رش هذه الكتب املن�سوبة �إليه بني النا�س ،ولذلك فن�سبتها �إليه غري راجحة. لكن ملالك ر�سالة م�شهورة ومطبوعة كتبها �إىل الر�شيد ،ولها �أكرث من �سند يرجح ن�سبتها �إليه ،ويقربها من م�ستوى اليقني ،من حيث ال�سند، لكن قراءتها ،كما يرى ال�شيخ �أبو زهرة ،ت�ضعف من هذا الرتجيح وذلك اليقني ،فال كيا�سة فيها من �إمام يخاطب بها �أمري امل�ؤمنني ،وفيها �إر�شاد خلليفة ،ال يليق توجيهه �إىل �أحد من ال�سوقة ،مثل�« :إذا �أكلت طعام ًا ،فعلق بني �أ�صابعك ،فالعقها ،و�أ�سنانك فتخلل»!! وكتاب «املوط�أ» ثابتة ن�سبته �إىل مالك من غري �شك .وقد تناقلته الأجيال جي ًال بعد جيل ،بالن�سخ وبالطباعة ،وبال�رشح والتعليق .وجاء تتويج ًا وبداية جلمع التابعني لأقوال ال�صحابة والتابعني .وتلبية ملقت�ضيات الزمن يف جمع علم �أهل املدينة خا�صة ،وللطلب امللح من اخلليفة �أبي جعفر املن�صور على الإمام مالك. يروون �أن املن�صور قال ملالك: �ضع للنا�س كتاب ًا �أحملهم عليه.ويروون �أن املن�صور قال �أي�ض ًا ملالك: يا �أبا عبد اهلل� .ضم هذا العمل ،ودونه كتب ًا ،وجتنب �شدائد عبدورخ�ص ابن عبا�س ،و�شواذ ابن م�سعود ،واق�صد �أوا�سط اهلل بن م�سعودُ ، الأمور ،وما اجتمع عليه ال�صحابة. ويروون �أن املن�صور قال �أي�ض ًا ملالك: اجعل العلم يا �أبا عبد اهلل علم ًا واحداً.98
فقال له مالك: �إن �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم تفرقوا يف البالد،ف�أفتى كل يف ع�رصه مبا ر�أى ،و�إن لأهل هذا البلد (مكة) قو ًال ،ولأهل املدينة قو ًال ،ولأهل العراق قو ًال قد تعدوا فيه طورهم. فقال له املن�صور: �أما �أهل العراق فل�ست �أقبل منهم �صرَ ف ًا وال عد ًال .و�إمنا العلم ع ْلم�أهل املدينة .ف�ضع للنا�س العلم. فقال له مالك: �إن �أهل العراق ال ير�ضون علمنا.فقال له �أبو جعفر: ي�رضب عليه عامتهم بال�سيف .وتقطع ظهورهم بال�سياط.وكان احلديث يف الروايات كلها ،يدور يف مكة ،يف مو�سم حج ،بني اخلليفة والإمام. ومن قبل �أبي جعفر املن�صور ،كان عمر بن عبد العزيز قد فكر يف الأمر نف�سه ،فقد �أمر عمر �أبا بكر احلَزمي للقيام بهذه املهمة ،وطلب املن�صور من مالك �أن ينه�ض بهذه املهمة ،والغاية واحدة ،هي تدوين الد ُرو�س وال�ضياع .وكان مق�صد العلم املدين (ن�سبة �إىل املدينة) ،خ�شية ُّ اخلليفتني الأموي فالعبا�سي ،هو توحيد الأق�ضية (القوانني) ،يف كل �أم�صار الإ�سالم ،فاخلالف بني الفقهاء قد ات�سعت �آفاقه ،ومل يعد رحمة كما يقال ،وال منجاة من تعدد الأق�ضية ،بتعدد الأفهام والأقي�سة والآراء، �إال بجمع ال�سنة ،واختيار �سبيل و�سط بني الفقهاء ،يكون مذهب ًا للق�ضاة والق�ضاء. فجر وقبل هذا الطلب من املن�صور كان الكاتب عبد اهلل بن املقفع ،قد ّ هذه امل�شكلة ،وهو بالب�رصة ،يف كتيبه ال�صغري الذي خطه ،وجعل عنوانه: «ر�سالة ال�صحابة» حني قال خماطب ًا �أبا جعفر املن�صور ،وعالنية �أمام 99
مالك بن �أن�س
النا�س ،ويف �أوراق ين�سخها الوراقون ويبيعونها للنا�س: « ..فلو ر�أى �أمري امل�ؤمنني �أن ي�أمر بهذه الأق�ضية ،وال�سري املختلفة، فرتفع �إليه يف كتاب ،ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من �سنة �أو قيا�س ،ثم نظر �أمري امل�ؤمنني يف ذلك ،و�أف�ضى يف كل ق�ضية بر�أيه الذي يلهمه اهلل ،ويعزم عليه ،وينهي عن الق�ضاء بخالفه ،وكتب بذلك كتاب ًا جامع ًا ،لرجونا �أن يجعل اهلل هذه الأحكام املختلطة ال�صواب باخلط�أ حكم ًا واحداً �صواب ًا� ،أو رجونا �أن يكون اجتماع ال�سري ،قرب ًا الجتماع الأمر بر�أي �أمري امل�ؤمنني وعلى ل�سانه ،ثم يكون ذلك من �إمام لآخر� ،إىل �آخر الدهر �إن �شاء اهلل». ووافق �أبو جعفر على الفكرة والغاية .لكنه �سار بها يف اجتاه �آخر، يعتمد فيه على علم �أهل املدينة ،لأنه �أقرب �إىل ال�سنة يف جملته ،وحتى ال يتحمل ،وهو اخلليفة ،التبعة وحده يف كل الأقطار. و�رشع مالك يف النهو�ض بهذه املهمة ،لكن فراغه من التدوين والتمحي�ص والن�رش ،ا�ستغرق منه �أحد ع�رش عام ًا �أو تزيد .بني عامي 148و 159هجرية ،وكان �أبو جعفر املن�صور قد لقي وجه ربه ،فلم ير هذا الكتاب ،ومل يخرج هذا الكتاب �إىل النور �إال يف عهد هارون الر�شيد. و�أثناء هذه الفرتة بني ال�رشوع يف امل�رشوع ون�رشه على النا�س، �ألح اخلليفة املهدي بدوره بعد �أبيه املن�صور ،على الإمام مالك ،لينجز مهمته .ومع �أنه كان ينجزها بالفعل ،فقد قال للمهدي ما يفيد ب�أنه يرى عدم حمل النا�س يف كل الأم�صار على عمل �أهل املدينة ،ويف زمانه، فالأزمنة تتغري ،والأمكنة تتغري ،والأق�ضية مبا فيه م�صالح النا�س ،بعد القر�آن وال�سنة ،تتغري ،ومن اخلري تعددها ودورانها. وي�ؤكد ذلك قول مالك للر�شيد حني راح يلح على مالك لن�رش موطئه. قال: يا �أمري امل�ؤمنني� .إن اختالف العلماء رحمة على هذه الأمة .كل100
يتبع ما �صح عنده .وكل على هدى .وكل يريد اهلل. ولقد روى مالك ق�صة حوار بينه وبني الر�شيد ،قال: «�شاورين هارون الر�شيد يف ثالث� :أن يعلق املوط�أ يف الكعبة ،ويحمل النا�س على ما فيه ،ويف �أن ينق�ض منرب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم، ويجعله من جوهر وذهب وف�ضة ،ويف �أن يقدم نافع بن �أبي نعيم ي�صلي بالنا�س يف م�سجد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فقلت له: يا �أمري امل�ؤمنني� .أما تعليق املوط�أ يف الكعبة ،ف�إن �أ�صحاب ر�سولاهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،اختلفوا يف الفروع ،فافرتقوا يف البلدان ،وكل عند نف�سه م�صيب .و�أما نق�ض املنرب فال �أرى �أن حترم النا�س �أ َثر ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم .و�أما تقدميك نافع لي�صلي بالنا�س ،ف�إن نافع ًا �إمام يف القراءة ،ال ي�ؤمن �أن تبدر منه يف املحراب بادرة ،فتحفظ عنه. فقال يل الر�شيد: «وفقك اهلل يا �أبا عبد اهلل».ومنهجه و�أثره يف دوره َ وكتاب «املوط�أ» جدير ب�أن ُي َق َّيم ّ ويبني َ كتاب.
�شيوخ وتالميذ وملالك كان �شيوخ ،وكان تالميذ ،وتالميذ تالميذ. وتالميذ مالك وتالميذهم ،كانوا نقلة فقهه ،والوا�ضعون لأ�صوله، فلم ي�ضع مالك لفقهه �أ�صو ًال مثلما فعل ال�شافعي من بعده ،ومن ه�ؤالء التالميذ :ابن وهب ،وعبد الرحمن بن القا�سم ،و�أ�سد بن الفرات ،و�أ�شهب بن عبد العزيز القي�سي العامري ،وعبد امللك املاج�شون ،و�سواهم. ومن تالميذ تالميذ مالك� :سحنون ،وعبد امللك بن حبيب العتيبي. وله�ؤالء التالميذ كتب يف الفقه املالكي �أمهات ،هي :املدونة، 101
مالك بن �أن�س
والوا�ضحة ،والعتبية ،واملوازية ،واملدونة دونها �أ�سد ،و�رشحها �سحنون، وراجعها ابن القا�سم .وقد تلقاها العلماء املالكيون بالقبول. و�شيوخ مالك املبا�رشون كانوا �سبعة ،تلقوا علمهم عن ثمانية �شيوخ، وه�ؤالء تلقوا علمهم عن �أعالم ال�صحابة يف العلم. و�شيوخ مالك املبا�رشون ،هم :ابن هرمز ،و�أبو الزناد ،وربيعة الر�أي، والأن�صاري ،ونافع ،وبحر العلم بن �شهاب ،الذي تلقى علمه عن� :سعيد امل�سيب ،و�أبو �سلمة ،وعروة ،والقا�سم ،و�سامل ،وخارجة ،و�سليمان، بن ّ ونافع موىل ابن عمر. و�شيوخ مالك كانوا فريقني :فريق �أخذ عنه الفقه والر�أي ،وفريق �أخذ عنه احلديث .فريق الر�أي متثل يف اثنني من �شيوخ مالك هما :ربيعة الر�أي، ويحيى بن �سعيد الأن�صاري .وفريق احلديث متثل يف من عداهما. وكانت املدينة يف زمان مالك ،لقرب عهدها بالر�سول ،وبال�صحابة، متتلئ بالعلماء ،حتى لقد قال مالك �إنه جل�س بها �إىل �سبعني عامل ًا، وكلهم يحدثه باحلديث ،ومل ينتق مالك منهم من يثق بحديثه �إال خم�سة، على ثقته ب�أمانة الآخرين .ومل يكن باملدينة من هو �أعلى علم ًا من عامل املدينة يف ع�رص ال�صحابة ،ثم يف ع�رص تابعي التابعني ،ثم يف ع�رص االجتهاد من بعدهم .ويف تلك البيئة العلمية ن�ش�أ مالك ن�ش�أة متكن بها �أن يختار �شيوخه من بني ع�رشات ال�شيوخ العلماء .وكلهم له كعب ،يف احلديث ،والفقه ،ويف الأثر ويف الر�أي.
فقه �إمام يدون �أ�صول مذهبه ،ودونها على �أ�صول بنى مالك فقهه ،ولكنه مل َ بعده ،ا�ستقاء من موطئه ،ومدونات تالميذه ،فقهاء املذهب املالكي. وميكن ح�رص �أ�صول مالك يف :القر�آن الكرمي ،وال�سنة ال�رشيفة ،والإجماع، 102
وفتوى ال�صحابي ،وعمل �أهل املدينة ،ثم :القيا�س ،واال�ستح�سان، واال�ست�صحاب ،وامل�صالح املر�سلة ،والذرائع ،والعادات والعرف� ،أحد ع�رش �أ�صال ،و�صل بها بع�ض املالكية �إىل �ستة ع�رش �أ�صال ،يف املذهب املالكي .والأ�صول الأحد ع�رش م�ستقاة كلها من موط�أ مالك ،وما زاد عليها فمن مدونات تالميذ مالك .فاملذاهب بعد �أ�صحاب املذهب تنمو وتتفرع� ،أ�شجاراً و�شجريات ،و�أغ�صان ًا وغ�صينات. ومل ينظر مالك �إىل القر�آن الكرمي نظرة اجلدليني ،يف �أنه لفظ ومعنى، �أو لفظ فقط� ،أو معنى فقط ،وال يف �أنه خملوق �أو غري خملوق .فالقر�آن كليا ،وال�سنة بيانه كم�صدر ثانٍ عنده ي�شتمل على ال�رشيعة ا�شتما ًال ًّ بن�ص للت�رشيع ،تف�رسه ،وتف�صل جممله ،وتقيد مطلقه .ومالك كان ي�أخذ ّ القر�آن وظاهره ،وبدليله مبفهوم املوافقة ،ومفهوم املخالفة ،وبالعلة التي ينبه عليها. وال�سنة عند مالك بيان للقر�آن الكرمي ،بتقريرها لأحكام القر�آن، وببيانها للمراد منه ،تقييداً ملطلقه ،وتف�صيال ملجمله ،وبيانها ملا �سكت عنه القر�آن كاحلكم بال�شاهد واليمني .والأحاديث النبوية ال�صحيحة يف ال�سنة تثبت ب�سند مت�صل ب�أحد طرق ثالثة :بالتواتر ،وباال�ستفا�ضة وال�شهرة ،وبخرب الآحاد .و�سل�سلة رواة الأحاديث التي �ساقها مالك يف موطئه ،هي �أقوى �سال�سل الإ�سناد ،وي�سميها بع�ض املحدثني :ال�سل�سلة الذهبية .ومل يكن مالك يف �أخذه باحلديث مق ًال يف الر�أي ،فهو فقيه ر�أي، مثلما هو فقيه حديث و�سنة .والر�أي عنده كان في�ص ًال يف قبوله بفتوى ال�صحابي الواحد ،وخرب الآحاد ،والقيا�س ،واحلديث املر�سل. و�أخطر ما ا�ستند �إليه مالك من �أ�صول ،بعد القر�آن وال�سنة ،هو يف ر�أينا :امل�صالح املر�سلة .فالفقه الإ�سالمي يف جملته �أ�سا�سه م�صالح الأمة ،فما هو م�صلحة فيه مطلوب للنا�س جاءت الأدلة بطلبه ،وما هو �رضر منهي عنه ،ت�ضافرت الأدلة على منعه. 103
مالك بن �أن�س
لكن اخلالف بني الفقهاء يف القول بامل�صالح املر�سلة يتناول التطبيق. فالأحناف وال�شافعيون يرون �أن امل�صلحة التي ال ت�ؤخذ بالن�ص من القر�آن وال�سنة ،ت�ؤخذ بالقيا�س حمال على الن�ص ،و�إذا حدث خالف يف الأقي�سة �أخذ باال�ستح�سان ،من بني ما اختلف فيه. �أما املالكية واحلنابلة ،فيعتربان �أن امل�صلحة �أ�صل قائم بذاته يف الفقه الإ�سالمي ،وما مل يعرف بالن�ص ،يعرف بالن�صو�ص العامة يف ال�رشيعة ،مثل« :ما جعل عليكم يف الدين من حرج» ،ومثل حديث« :ال �رضر وال �رضار» .بل لقد زاد احلنابلة واملالكية �أمراً ،هو تخ�صي�ص الن�صو�ص القر�آنية والنبوية بامل�صالح� ،إذا كان مو�ضوع هذه الن�صو�ص من املعامالت الإن�سانية ،ال من العبادات .بل لقد غاىل الفقيه احلنبلي «الطويف» وجتاوز فقال يف كتابه «الر�سالة»�« :إن رعاية امل�صلحة �إذا ّ �أدت �إىل خمالفة حكم جممع عليه� ،أو ن�ص من الكتاب �أو ال�سنة ،وجب تقدمي رعاية امل�صلحة بطريق التخ�صي�ص لهما ،بطريق البيان». وال �شك �أن الأخذ بامل�صالح املر�سلة ،يجعل ال�رشيعة الإ�سالمية خ�صبة ،تنا�سب النا�س يف كل ع�رص ،ويف كل مكان. والأخذ بامل�صالح املر�سلة كم�صدر من م�صادر الت�رشيع ،يجعل املنفعة �أو امل�صلحة مقيا�س ًا �ضابط ًا لكل ما هو م�أمور به يف الدين� ،أو منهي عنه ،يف املعامالت خا�صة ،ويف الأخالق ويف القانون ،والآداب العامة .وتعني امل�صلحة املر�سلة فيما تعنيه :تغليب املنفعة العامة على املنفعة اخلا�صة ،وما لي�س فيه �رضر على ما فيه �رضر ،جلب ًا للم�صلحة ودفع ًا للمف�سدة ،يف الكليات ،ويف اجلزئيات .ولي�س من امل�صلحة تغليب الأهواء وال�شهوات. كما وكيف ًا ،وزمان ًا ومكان ًا ،هو الذي ي�ؤخذ به عند و�أهم امل�صالح ًّ 104
تعدد امل�صالح بني النا�س. وكذلك فامل�صالح املر�سلة تعني �سد الذرائع ،فو�سيلة املحرم حمرمة، وو�سيلة الواجب واجبة .وم�آالت الأفعال �إن اجتهت نحو امل�صالح مطلوبة ،و�إذا عار�ضتها حمرمة .فالدنيا تقوم على م�صالح العباد ،وعلى الق�سطا�س والعدل ،والق�صد احل�سن ،والو�سيلة احل�سنة ،والغايات احل�سنة. ومالك يرجع النظر �إىل الواقع ،ال �إىل املقا�صد ،يف الأخذ بامل�صالح املر�سلة ،فغاية امل�صالح تكون يف دورانها وجوداً وعدم ًا مع الواقع، وما يقت�ضيه. و�أ�صول مالك الفقهية كما ترى مرنة ،تخ�ضع عام الن�ص للتخ�صي�ص، ومطلق الن�ص للتقييد .وحتقق امل�صلحة من �أقرب طريق ،وجتعلها �أ�سا�س ًا يف اال�ستدالل مثل �سد الذرائع ،والأخذ بالعرف ،رفع ًا للحرج ،ودفع ًا للم�شقة ،وكلها �أ�صول يكمل بع�ضها بع�ض ًا من القر�آن الكرمي� ،إىل الأخذ بالعرف والعادات احل�سنة. lll
مبذهب مالك اخت�ص �أهل املغرب والأندل�س ،منذ �أن كانوا يرحلون للحج� ،إىل مكة ،وللزيارة للمدينة ،وقد انت�رش هذا املذهب بالب�رصة، واحلجاز ،وتون�س ،و�صقلية ،وال�سودان .و�ساد فرتة من الزمان يف م�رص، �إىل �أن غلب عليها املذهب ال�شافعي. وملرونة املذهب املالكي ،وتعدد �أ�صوله ،و�أخذه بامل�صالح املر�سلة، توفرت لهذا املذهب �أ�سباب القوة ،خا�صة يف �أمور احلكم ،والق�ضاء ،فثمة جماالت تقنينية مفتوحة ،للتفريع والتخريج ،واال�ستنباط ،ومراعاة م�صالح العباد يف املعامالت والأخالق والآداب. وملرونة املذهب املالكي كرث االجتهاد بني �أ�صحاب مالك ،فكانوا بني :جمتهدين منت�سبني ،هم �أ�صحاب الوجوه الذين لهم حق خمالفة 105
مالك بن �أن�س
خمرجني ولي�س لهم حق خمالفة مالك يف الفتوى يف الفروع ،وجمتهدين ّ مالك يف الفتوى يف الفروع ،ولهم حق الرتجيح فقط ،وجمتهدين نف�سيني ولي�س لهم حق الفتوى عند البع�ض ،ولهم حق الفتوى ،عند البع�ض الآخر، عند ال�رضورة.
106
الشـافعـي
إمـام النقل والعقــل َ
ال�شـافعـي
108
�شهادات لإمام قالئل هم الرجال الذين ي�شغلون النا�س يف حياتهم وبعد مماتهم، بعلمهم وعقلهم .ومن ه�ؤالء الرجال الإمام ال�شافعي .فقد �شغل النا�س بعقله وعلمه يف مكة ،وجنران ،وبغداد ،والقاهرة ،يف حياته ،و�شغل العامل الإ�سالمي كله ،بعد موته .و�شهد له �شيوخه ،ورفاقه ،وتالميذه �شهادات ال تن�سى. قر�أ الفقيه «عبد الرحمن بن مهدي» ر�سالة ال�شافعي يف الأ�صول، وكان ال�شافعي قد �أجاب طلبه بكتابتها له ،فقال: «هذا �شاب ُمفهم». و«حممد بن عبد احلكم» كان �أحد تالميذ ال�شافعي ،مب�رص ،ولقد اعرتف يف �شهادته بجميل ال�شافعي عليه ،فقال: «لوال ال�شافعي ما عرفت كيف �أرد على �أحد .وبه عرفت ما عرفت. وهو الذي علمني القيا�س .رحمه اهلل فقد كان �صاحب �سنة ،و�أثر ،وف�ضل، وخري ،مع ل�سان ف�صيح طويل ،وعقل �صحيح ر�صني».
109
ال�شـافعـي
والإمام «�أحمد بن حنبل» ،كان �أحد رفاق ال�شافعي يف الإفتاء ،وقد �شهد لعلم ال�شافعي وعقله ،فقال: يروى عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم�« :إن اهلل عز وجل يبعث على ر�أ�س كل مائة �سنة رجال يقيم لها �أمر دينها ،فكان عمر بن عبد العزيز على ر�أ�س املائة .و�أرجو �أن يكون ال�شافعي على ر�أ�س املائة الأخرى». و«داود بن علي الظاهري» ،كان من �شيوخ ال�شافعي ،ولقد قال عنه: «لل�شافعي من الف�ضائل ،ما مل يجتمع لغريه ،من �رشف ن�سبه ،و�صحة دينه ومعتقده ،و�سخاوة نف�سه ،ومعرفته ب�صحة احلديث و�سقيمه، ونا�سخه ومن�سوخه ،وحفظه للكتاب وال�سنة ،و�سرية اخللفاء ،وكان ح�سن الت�صنيف». وروى بع�ض تالميذ ال�شافعي عن علمه بالعربية ،وبفقه علم الكتاب. قالوا: «كان ال�شافعي �إذا �أخذ يف التف�سري ،ك�أنه �شاهد التنــزيل ،و�أوتي علم احلديث ،فحفظ موط�أ مالك ،و�ضبط قواعد ال�سنة ،وفهم مراميها، واال�ست�شهاد بها ،وعرف النا�سخ واملن�سوخ منها ،و�أوتي فقه الر�أي والقيا�س ،وو�ضع �ضوابط للقيا�س واملوازين ،وملعرفة �صحيحه من �سقيمه ،وكان يدعو �إىل طلب العلوم ،فقد كان يقول :من تعلم القر�آن نبل عظمت قيمته ،ومن كتب احلديث قويت حجته ،ومن نظر يف الفقه ُ رق طبعه ،ومن نظر يف احل�ساب ج ُزل ر�أيه ،و.. قدره ،ومن نظر يف اللغة ّ من مل ي�صن نف�سه مل ينفعه علمه». وحتدث «الربيع بن �سليمان» عن جمل�س علم ال�شافعي يف القاهرة، فقال: «كان ال�شافعي رحمه اهلل يجل�س يف حلقته �إذا �صلى ال�صبح ،فيجيئه �أهل القر�آن ،ف�إذا طلعت ال�شم�س قاموا ،فا�ستوت احللقة للنظر واملذاكرة، ف�إذا ارتفع ال�ضحى تفرقوا ،وجاء �أهل العربية والعرو�ض والنحو وال�شعر، 110
فال يزالون �إىل قرب انت�صاف النهار». �أي نحو من �ست �ساعات كل يوم ،بني �صالتي الفجر والظهر كان ال�شافعي يجل�سها مع �أنواع من طالب العلم ،مع القر�آن ،واحلديث، واملناق�شة ،وعلوم العربية. فكيف كانت حياة ال�شافعي ،ومواهبه؟ وكيف كان ع�رصه ،وجتاربه يف هذا الع�رص؟ ومن كان �شيوخه وتالميذه؟ وما �أثره يف الفقه الإ�سالمي؟
بني غزة وجنران يف مدينة غزة ،بفل�سطني ،وكانت �آنذاك جزءاً من ال�شام الكبري ،ولد «حممد بن �إدري�س ال�شافعي» �سنة 150هجرية يف عهد الدولة العبا�سية، وهي ال�سنة نف�سها التي تويف فيها الإمام �أبو حنيفة. لبيا ،فهو�« :إدري�س بن العبا�س ،بن عثمان ،بن وكان �أبوه قر�شي ًا ُم ّط ًّ �شافع ،بن عبيد ،بن عبد يزيد ،بن ها�شم ،بن املطلب ،بن عبد مناف». ويف عبد مناف يلتقي ن�سب ال�شافعي ،مع ن�سب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه مل ّطلب (جد ال�شافعي الأكرب) هو الذي ربى ابن �أخيه عبد و�سلم .وكان ا ُ املطلب ،ودعا النا�س� ،إىل ُن�رصة بني ها�شم ،حني قاطعت قري�ش الر�سول ومن ينا�رصه ،ولذلك جعل النبي لبني املطلب ن�صيب ًا يف �سهم ذوي القربى يف الفيء ،ومل يجعل ن�صيب ًا يف هذا ال�سهم لبني عبد �شم�س ،وبني نوفل القر�شيني ،وهما �أخوا املطلب وها�شم .ولقد قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،معل ًال هذا االخت�صا�ص لبني املطلب�« :إنهم مل يفارقونا يف جاهلية وال �إ�سالم� .إمنا بنو ها�شم ،وبنو املطلب� ،شيء واحد» .ثم �شبك ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �إحدى يديه يف الأخرى. وكانت �أم ال�شافعي من بني الأ ْزد باليمن. 111
ال�شـافعـي
ن�ش�أ ال�شافعي يف �أ�رسة فقرية ،تنتقل بني الأحياء اليمنية ،بغزة، وع�سقالن ،وتويف �أبوه وهو �صغري ،له من العمر عامان ،فانتقلت به �أمه �إىل مكة ،خ�شية �أن ي�ضيع ن�سبه القر�شي املطلبي ،وظلت ترتدد بني قومها باليمن ،وقومها بفل�سطني ،وقوم �أبيه مبكة ،وا�ستقرت به يف مكة حني بلغ من العمر ع�رش �سنني ،فراح يحفظ القر�آن ،ويعي�ش عي�شة اليتامى الفقراء ،الذين يتجهون مع �رشف ن�سبهم �إىل معايل الأمور .وعرف من دخائل النا�س ما ال يعرفه �أبناء املي�سورين عن حياة الب�سطاء. و�إثر �إمتامه حلفظ القر�آن الكرمي ،راح ال�شافعي ي�ستمع �إىل املحدثني يف احلرم املكي ،فيحفظ احلديث الذي ي�سمعه ،ويكتبه �أحيان ًا على اخلزف، وعلى اجللود ،ويذهب �إىل ديوان الإمارة ،وي�أخذ �أوراق ًا من �أوراق الربدي املطروحة وقد ُكتب على �أحد وجهيها ،ليكتب على وجهها الآخر. التف�صح يف العربية ،خرج �إىل البادية. ولكي ي�صل ال�شافعي �إىل ّ ذيل» ،وهم �آنذاك �أف�صح العرب ،و�أ�شعرها ،يقيم معها ولزم قبيلة ُ «ه ْ بنـزولها وا�ستقرارها ،ويرحل معها برحيلها ،وحني عاد �إىل مكة� ،صار ين�شد الأ�شعار ،ويذكر الآداب والأخبار .ولقد لقيه الأ�صمعي ،و�سمع منه، و�أدرك مكانته ،فقال بعد �أن تعلم على يديه: ذيل على فتى من قري�ش ،يقال له :حممد ابن «�صححت �أ�شعار ُه ْ �إدري�س». ولقد طال مقام ال�شافعي بني بني هذيل حتى بلغ ع�رش �سنني ،تعلم فيها عادات �أهل البادية ،وتعلم الرماية لل�سهام بالقو�س و�أجادها ،ويف ذلك يقول ال�شافعي جلل�سائه: «وكانت همتي يف �شيئني :العلم ،والرمي ،ف�رصت يف الرمي بحيث �أ�صيب ع�رشة من ع�رشة». و�سكت ال�شافعي عن العلم ،فقال له بع�ض احلا�رضين معه: «و�أنت واهلل يف العلم �أكرث منك يف الرمي». 112
ويف مكة ،بلغ ال�شافعي من العلم �ش�أن ًا عظيم ًا ،حتى �أذن له �شيخه «م�سلم ابن خالد الزجني» بالفتوى ،بقوله له: ِ «افت يا �أبا عبد اهلل .فقد �آن �أن تفتي». لكن ال�شافعي مل ُيفت ،فال يزال �أمامه وقت طويل ،لكي ي�سيح يف بحر العلم ،وفيه الكثري من ُد َرره وجواهره التي ال يعرفها بعد ،وبينها علم مالك باملدينة ،وكان مالك قد �أجنز كتابه «املوط�أ» ،وذاع �صيته يف الآفاق .و�سارع ال�شافعي با�ستعارة «املوط�أ» من رجل مي�سور مبكة، وقر�أه ،وحفظه ،و�سارع بالهجرة �إىل دار الهجرة ،حيث يعي�ش مالك، ليتتلمذ على يديه ،وي�أخذ العلم عن �إمام �أهل املدينة .وحمل ال�شافعي كتابي تو�صية من وايل مكة (�أ�رشنا �إليه يف حديثنا عن مالك) �إىل معه ْ وايل املدينة ،و�إىل الإمام مالك. وكانت ملالك فرا�سة يف الرجال ،ومدى �أهليتهم لطلب العلم ،فقال مالك لل�شافعي: «يا حممد اتق اهلل .واجتنب املعا�صي ،ف�إنه �سيكون لك �ش�أن من ال�ش�أن� .إن اهلل تعاىل قد �ألقى على قلبك نوراً ،فال تطفئه باملع�صية». ثم قال له مالك: يل ،ويجيء (معك) ما ُيقر�أ لك». الغد جتيء �إ ّ «�إذا ما جاء ُ يقول ال�شافعي: «فغدوت عليه ،وابتد�أت اقر�أ ظاهراً (�أي :من حفظه دون �أن ينظر يف ْ كتاب املوط�أ) والكتاب يف يدي ،فكلما تهيبت مالك ًا ،و�أردت �أن �أقطع قراءتي� ،أعجبه ح�سن قراءتي ،و�إعرابي ،فيقول (يل)« :يا فتى زد .حتى قر�أته عليه يف �أيام ي�سرية». وبعد «املوط�أ» لزم ال�شافعي مالك ًا ،يدار�سه امل�سائل ،فيفتيه مالك، ودع مالك الدنيا �سنة 179هجرية .وكان ال�شافعي قد بلغ من �إىل �أن ّ العمر ثالثني �سنة .وكان ال�شافعي يقطع مالزمته ملالك برحالت يف 113
ال�شـافعـي
البالد الإ�سالمية ،ويذهب لزيارة �أمه مبكة ،وي�ست�أن�س بن�صائحها. كان مالك ي�سهم يف الإنفاق على الطالب الذين يطلبون علمه ،و�إثر وفاة مالك� ،صار على ال�شافعي �أن يجد لنف�سه عم ًال ،يكت�سب منه قوته. وعاد �إىل مكة ،يبحث عن عمل ،ويفكر يف نوع العمل الذي ي�صلح له. مر مبكة وايل العبا�سيني على اليمن ،فكلمه بع�ض القر�شيني وحدث �أن ّ يف �أمر ال�شافعي ،ف�أخذه الوايل معه ،ومل يجد ال�شافعي تكاليف رحلته، فرهنت له �أمه دارها مبكة ،لكي يتمكن ال�شافعي من ال�سفر مع الوايل. و�أ�صبح ال�شافعي عام ًال على جنران ،وحر�ص على �إقامة العدل بني �أهل جنران ،وبها بنو احلارث ،وموايل ثقيف ،وكانوا ممن ي�صانعون الوالة والق�ضاة ،ويتملقونهم .يقول ال�شافعي: «و ّليت جنران ،وبها بنو احلارث بن عبد املدان ،وموايل ثقيف ،وكان ُ الوايل �إذا �أتاهم �صانعوه ،ف�أرادوين على نحو ذلك ،فلم يجدوا عندي (قبو ًال)». وعندئذ وقعت املحنة الأوىل يف حياة ال�شافعي ،ف�إقامة العدل تغلق باب امل�صانعة وامللق ،و�إغالق هذا الباب يف وجوه النا�س ،والأعيان خا�صةُ ،يحر�ضهم على تدبري امل�ؤامرات �ضده ،عند وايل اليمن .وكان بالد�س وال�سعاية والو�شاية، والي ًا غ�شوم ًا ظلوم ًا ،فراح الوايل يكيد له، ّ عند اخلليفة ببغداد ،وراح ال�شافعي كعامل ينقد ذلك الوايل ،وي�سلقه بل�سانه العربي الف�صيح .وكان البد مما لي�س منه بد .فقد جنحت و�شاية الوايل به لدى اخلليفة العبا�سي ببغداد.
املحنة الأوىل كان العبا�سيون يف بغداد ،يخ�شون خ�صومهم العلويني الأقوياء، وكانوا �إذا ر�أوا دعوة علوية ،ق�ضوا عليها يف مهدها ،وقتلوا العلويينّ ، 114
واملتهمني بالعلوية بال�شبهة ،وباليقني ،فقتل بريء �أوىل عندهم من ترك متهم يف�سد الأمن عليهم. وا�ستغل وايل اليمن هذا ال�ضعف يف نفو�س العبا�سيني ،ف�أر�سل �إىل اخلليفة هارون الر�شيد يقول: «�إن ت�سعة من العلويني حتركوا ..و�إين �أخاف �أن يخرجوا (بالثورة).. و�إن ها هنا رج ًال من �أوالد �شافع املطلبي ،ال �أمر يل معه وال نهي .يعمل بل�سانه ما ال يقدر عليه املقاتل ب�سيفه». و�أر�سل الر�شيد �إىل وايل اليمن ي�أمره ب�إر�سال ه�ؤالء العلويني الت�سعة �إليه ،ومعهم ذلك ال�شافعي املطلبي ،وكان عا�رشهم. وقتل الر�شيد الت�سعة ،وكاد �أن يقتل ال�شافعي ،لوال حجة ال�شافعي بني يديه ،ولوال �شهادة «حممد بن احل�سن ال�شيباين» تلميذ �أبي حنيفة له. قال ال�شافعي للر�شيد: يا �أمري امل�ؤمنني .ما تقول يف رجلني� :أحدهما يراين �أخاه ،والآخريل؟ يراين عبده� .أيهما �أحب �إ ّ فقال الر�شيد: الذي يراك �أخاه.فقال ال�شافعي: فذلك (الأخ هو) �أنت يا �أمري امل�ؤمنني� .إنكم ولد العبا�س ،وهم ولدعلي ،ونحن بنو املطلب ،ف�أنتم ولد العبا�س تروننا �إخوتكم ،وهم يروننا ّ عبيدهم. ولأن العلم رحم بني �أهله ،فقد �شهد «حممد بن احل�سن ال�شيباين» حظا من العلم والفقه يعرفه .قال: لل�شافعي ،ب�أن له ًّ وله من العلم يا �أمري امل�ؤمنني حظ كبري .ولي�س الذي رفع عليه(من وايل اليمن) من �ش�أنه. فقال له الر�شيد: 115
ال�شـافعـي
فخذه �إليك ،حتى �أنظر يف �أمره.ومرت املحنة الأوىل على وبهذا جنا ال�شافعي من القتل ظلم ًاّ ، ال�شافعي ،وهو يف الرابعة والثالثني من عمره� ،سنة 184هجرية .و�أدرك ال�شافعي من هذه املحنة �أن عليه �أن يتجه �إىل العلم ،ال �إىل الوالية، وخدمة �ش�ؤون ال�سلطان ،و�صار �ضيف ًا مقيم ًا ،على الفقيه «حممد بن احل�سن» ،حامل فقه العراقيني ونا�رشه. عامان ببغداد يف بغداد �أقام ال�شافعي قرابة عامني ،قر�أ فيها كتب «حممد بن احل�سن ال�شيباين» جامع كتب فقه العراق ،فاجتمع له بقراءته فقه احلجاز الذي يغلب عليه النقل ،وفقه العراق الذي يغلب عليه العقل .وحني �آن له �أن يرحل من بغداد �إىل مكة ،حمل معه كتب ًا ملحمد بن احل�سن .يقول ال�شافعي: «حملت عن حممد بن احل�سن َوقر (حمل) بعري ،لي�س عليه (من الكتب) ِ �سماعي (ما �سمعته) منه». �إال وطوال �إقامة ال�شافعي ببغداد� ،أكرم «حممد بن احل�سن» منـزلة ال�شافعي ،بل �إنه كان يف�ضل جمل�س ال�شافعي على جمل�س اخلليفة .يروى �أن حممداً خرج راكب ًا �إىل دار اخلالفة ،فر�أى ال�شافعي قد جاء ،فثنى دابته ،وقال لغالمه: رجله ،ونزل عن ّ اذهب فاعتذر عنا.فقال له ال�شافعي: لنا وقت غري هذا.فقال له حممد بن احل�سن: ال.و�أخذ بيده فدخال �إىل الدار. وكانت ملحمد بن احل�سن حلقة در�س ،فكان ال�شافعي ،وهو من 116
«موطئه» ،يلزم حلقته .وكان �أ�صحاب مالك ،وفقهاء مذهبه ،وحملة ُ ابن احل�سن جمل�سه� ،أن يناظر �أ�صحاب من عادة ال�شافعي �إذا غادر ُ ابن احل�سن ،مدافع ًا عن فقه احلجاز ،وطريقة احلجاز يف الفقه .وحني عرف ابن احل�سن �أن ال�شافعي يناظر �أ�صحابه وال يناظره هو ،دعاه �إىل مناظرته ،فا�ستحيا ال�شافعي وامتنع .ف�أ�رص ابن احل�سن ،فناظره ال�شافعي م�ستكره ًا .يف م�س�ألة ال�شاهد واليمني ،وفاز ال�شافعي يف مناظرته على ودا بينهما. ابن احل�سن .ومل يف�سد خالفهما ،وال فوز ال�شافعي عليهًّ ، ومنذ ذلك اليوم �صار ال�شافعي يناظر ابن احل�سن و�أ�صحابه مع ًا� ،إىل �أن غادر بغداد عائداً �إىل مكة.
يف فناء زمزم يف مكة �أخذ ال�شافعي يلقي درو�سه يف احلرم املكي ،ويف مو�سم احلج كان يلتقي به �أكرب العلماء ،وبينهم كان �أحمد بن حنبل ،وكان ال�شافعي قد �أخذ يظهر بفقه جديد ،مزج فيه بني فقه �أهل احلجاز وفقه �أهل العراق� ،أي بني فقه النقل وفقه العقل ،بعقل �أن�ضجه علم الكتاب وال�سنة ،وعلم العربية ،والقيا�س والر�أي ،وهدته �إليهما معرفته ب�أخبار النا�س ،و�أحوال النا�س. يروي «�إ�سحق بن راهويه» ،قال: «كنا (مبكة) عند �سفيان بن عيينة ،نكتب �أحاديث عمرو بن دينار، فجاءين �أحمد بن حنبل فقال يل: قم يا �أبا يعقوب حتى �أريك رج ًال مل تر عيناك مثله.فقمت معه ،ف�أتى بي فناء زمزم ،ف�إذا هناك رجل عليه ثياب بي�ض، تعلو وجهه ال�سمرة ،ح�سن ال�سمت (املظهر) ،ح�سن العقل .و�أجل�سني (�أحمد) �إىل جانبه (جانب ال�شافعي) وقال له: 117
ال�شـافعـي
يا �أبا عبد اهلل .هذا �إ�سحق بن راهويه احلنظلي.فرحب بي (ال�شافعي) وحياين .فذاكرته وذاكرين ،فانفجر يل منه علم �أعجبني حفظه. الزورة ،نحواً من ت�سع �سنوات، وقد �أقام ال�شافعي مبكة ،يف هذه ْ اكت�شف فيها �أن عليه �أن ي�ضع يف الفقه قواعد ومقايي�س يعرف بها احلق من الباطل� ،أو على الأقل ما هو �أقرب للحق ،من فقه احلجازيني والعراقيني مع ًا .و�ساعدته فرتة �إقامته الهادئة مبكة على �إجناز هذه الغاية ،بو�ضع قواعد للفقه يف كتاب ،يعرف به طرق دالالته ،و�أحكام النا�سخ واملن�سوخ وخ�صائ�صهما ،ومكانة ال�سنة يف علم ال�رشيعة، ومعرفة �صحيحها من �سقيمها ،وطرق اال�ستدالل بها ،ومقامها من القر�آن الكرمي ،ويعرف به كيف ت�ستخرج الأحكام �إذا مل يكن ثمة ن�ص من كتاب وال �سنة ،و�ضوابط االجتهاد يف ذلك ،واحلدود التي ينبغي �أن يلتزم بها املجتهد يف اجتهاده. وحني انتهى ال�شافعي من �إجنازه لهذا الكتاب� ،سافر به لعر�ضه على جمهرة الفقهاء يف بغداد ،من �أهل النقل والعقل ،و�أهل احلديث والر�أي، ع�شا للفقهاء. مع ًا .فبغداد كانت �آنذاك ًّ
يف ع�ش الفقهاء عاد ال�شافعي �إىل بغداد �سنة 195هجرية ،وله من العمر خم�س و�أربعون �سنة ،وقد �صار �صاحب طريقة يف الفقه مل ي�سبق �إليها� ،أ�صبح قواعد و�أ�صول ،ت�رشيع ًا ،واجتهاداً ،قواعد كليةّ � ،أ�صل �أ�صولها، بها للفقه ُ و�ضبط بها امل�سائل اجلزئية ،ف�صار للفقه عام كلي ،وقواعد عامة لأول مرة. واجتمع حول ال�شافعي بكتابه ذاك (كتاب الر�سالة) العلماء والفقهاء، 118
من �أهل الر�أي واملحدثني .وكان ال�شافعي قد و�ضع كتابه تلبية لطلب «عبد الرحمن بن مهدي» ،مثلما و�ضع مالك «موط�أه» تلبية لطلب اخلليفة �أبي جعفر املن�صور. وخالل �سنتني وب�ضعة �أ�شهر ،كان ال�شافعي ين�رش بالعراق طريقته اجلديدة ،ويجادل بها الفقهاء ،وينقد يف �ضوئها �آراء الفقهاء ،وين�رش الكتب والر�سائل ،ثم اعتزم ال�سفر �إىل م�رص يف �سنة 199هجرية. املرجح يف هجرة ال�شافعي �إىل م�رص ،ومغادرته ع�ش وكان ال�سبب َّ العلماء :بغداد� ،أن اخلالفة �صارت لعبد اهلل امل�أمون ،و�أن الغلبة يف عهد امل�أمون كانت للعن�رص الفار�سي ،و�أن امل�أمون كان يقرب �إليه املعتزلة من علماء الكالم ،وال�شافعي نفور من املعتزلة ،ومناهج بحثهم ،ويخ�شى �أذى من امل�أمون قد يلحق الفقهاء ،وقد �صار املعتزلة كتابه وحجابه وجل�ساءه ،خا�صة و�أن امل�أمون عر�ض على ال�شافعي �أن يوليه الق�ضاء فاعتذر .ولعله خ�شى �أن يتكرر هذا العر�ض ،و�أن يواجه م�صرياً كم�صري بدا من الرحيل �إىل �أبي حنيفة ،عند �أبي جعفر املن�صور ،ولذلك مل يجد ًّ م�رص ،ومل يجد مهجراً وا�سع ًا �إال يف م�رص ،فواليها قر�شي ها�شمي معتزليا. فار�سيا ،وال عبا�سي ،ولي�س ًّ ًّ ويروي ياقوت يف معجمه يقول: «وكان �سبب قدومه (ال�شافعي) �إىل م�رص� ،أن العبا�س بن عبد اهلل بن العبا�س بن مو�سى بن عبد اهلل بن عبا�س دعاه .وكان العبا�س والي ًا لعبد اهلل امل�أمون على م�رص». ويروي ياقوت �أن ال�شافعي قال عندما �أراد ال�سفر �إىل م�رص: م�رص لقد �أ�صبحت نف�سي تتوق �إىل َ ِ املهام ِه والفق ِر ومن دونها قطع فواهلل ما �أدري ا ْلفو َز والغنى أ�ساق �إىل القرب � َأ�ساق �إليها� ،أم � ُ 119
ال�شـافعـي
ولقد � ِ أعطي ال�شافعي يف م�رص الأمرين ،فنال الغنى بن�صيبه من �سهم ذوي القربى بن�سبه ال�رشيف ،ونال الفوز بن�رش علمه و�آرائه وفقهه ،وناله املوت ب�سوقه �إىل قربه يف م�رص� ،سنة 204هجرية� ،أي �أنه �أقام يف م�رص قرابة �أربع �سنوات� ،أو تزيد قليال. املحنة الثانية يف م�رص ،راح ال�شافعي يلقي ب�آرائه الفقهية هو ،ال يتعر�ض فيها بنقد �أو تزييف لآراء �شيخه مالك ،وافقه �أو خالفه ،ولذلك كان ال�شافعي يعد من �أ�صحاب مالك بني فقهاء م�رص ،مع � ّأن يف �آرائه ما يخالف �آراء بع�ض �أ�صحاب مالك ،ومثلما خالف مالك ،مثلما خالف مالك ًا ،من قبلُ ، �أبا حنيفة ،من قبل ،بع�ض �أ�صحاب �أبي حنيفة. ثم حدث ما ا�ضطر ال�شافعي �إىل �أن ينقد �آراء مالك ،ويك�شف ما فيها من خط�أ يف ر�أيه ،فقد بلغه الإمام �أن مالك ُتقد�س �آثاره ،وثيابه ،يف بع�ض البالد الإ�سالمية ،و�أن م�سلمني من امل�سلمني يعار�ضون �أحاديث للر�سول ،ب�أقوال مالك .ف�أدرك ال�شافعي �أن النا�س ُمقدمون على �أمر خطري، ت�صبح به �أقوال مالك دين ًا داخل الدين ،فمالك ي�صيب ويخطئ ،ولي�س لر�أي مالك وال لر�أي �سواه مع احلديث ر�أي ،وهو (ال�شافعي) معروف بني النا�س ب�أنه نا�رص احلديث .وعليه �أن ينقد �آراء مالك ،ويعلن عن اخلط�أ فيها للنا�س ،ليعلم النا�س �أنه ال ر�أي ملالك مع احلديث ال�صحيح ،الذي مل يبلغ مالك ًا. وعكف ال�شافعي و�ألف كتاب ًا بعنوان «خالف مالك» .وتردد فرتة يف �إعالنه ،فهو عنده «الأ�ستاذ» ثم ا�ستخار اهلل و�أذاعه للنا�س. يروي «الفخر الرازي» يف كتابه عن مناقب ال�شافعي .قال: «�إن ال�شافعي �إمنا و�ضع الكتاب على مالك ،لأنه بلغه �أن بالأندل�س قلن�سوة (غطاء ر�أ�س) َي�س َت ِقي بها (النا�س) .وكان يقال لهم قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فيقولون قال مالك .فقال ال�شافعي� :إن مالك ًا �آدمي 120
قد يخطئ ويغلط .فكان ذلك داعي ًا ال�شافعي �إىل و�ضع الكتاب على مالك، وكان يقول :كرهت �أن �أفعل ذلك .ولكني ا�ستخرت اهلل فيه �سنة». ويروي الربيع تلميذ ال�شافعي ،يقول: «�سمعت ال�شافعي ر�ضي اهلل عنه يقول :قدمت م�رص ،وال �أعرف �أن مالك ًا يخالف من �أحاديثه �إال �ستة ع�رش حديث ًا .فنظرت ف�إذا هو (مالك) يقول بالفرع ،ويدع الأ�صل ،ويقول بالأ�صل ،ويدع الفرع». وكان ملالك مب�رص املكان الأول بني املجتهدين .ولذلك ثار املالكيون ويجرحونه ،ويطعنون عليه ،بل ذهب على ال�شافعي ،وراحوا ينقدونه ّ جماعة منهم �إىل الوايل طالبني �إخراج ال�شافعي من م�رص .فدافع عنه الوايل ب�أنه مل ينقد مالك ًا فقط ،و�إمنا نقد من قبله �آراء العراقيني ،ونقد وذكرهم بقول لأحمد بن حنبل فيه« :ال�شافعي �آراء الأوزاعي فقيه ال�شامّ . فيل�سوف يف �أربعة �أ�شياء :يف اللغة ،واختالف النا�س ،واملعاين، والفقه» ،وذكرهم ب�أن النا�س كانوا قبل ال�شافعي فريقني� :أ�صحاب احلديث ،و�أ�صحاب الر�أي ،و�أن ال�شافعي جمع ب�أ�صول بينهما ،فانقطع ب�سببه ا�ستيالء �أهل الر�أي على �أهل احلديث ،ومالك كان غالب ًا من �أهل احلديث. وقف الوايل مع ال�شافعي ،تارك ًا �إياه جلداله مع العلماء ،ال يخرجه من م�رص� ،إىل �أن اندفع �شاب ،واعتدى عليه .ويروي ياقوت يف معجمه ق�صة هذا االعتداء ،يقول: «كان مب�رص رجل من �أ�صحاب مالك بن �أن�س ،يقال له ِ «ف ْت َيان» فيه حدة وطي�ش ،وكان يناظر ال�شافعي كثرياً ،ويجتمع النا�س عليهما، فتناظرا يوم ًا يف م�س�ألة بيع احلر ،وهو العبد املرهون� ،إذا اعتقه الراهن، تيان بيعه ،وظهر ال�شافعي على ف�أجاب ال�شافعي بجواز بيعه، ومنع ِف ُ َ يان يف ا ِ ال�شافعي حلجاج (اجلدال) ،ف�ضاق ف ْتيان لذلك ذرع ًا ،ف�شتم ِف ْت َ ّ �ش ْتم ًا قبيح ًا ،فلم يرد ال�شافعي عليه حرف ًا ،وم�ضى يف كالمه يف امل�س�ألة. 121
ال�شـافعـي
فر ِفع (ما حدث) �إىل الوايل ،فدعا الوايل ال�شافعي ،و�س�أله عن ذلك ،وعزم ُ ِ تيان عليه (�ألح عليه) ف�أخربه (ال�شافعي) مبا جرى ،و�شهد ال�شهود على ف َ بذلك .و�أمر (الوايل) بف ْتيان ف�ضرُ ب بال�سياطِ ، وطيف به على جمل ،وبني �سب �آل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. يديه (من) ينادي :هذا جزاء من ّ تع�صبوا لفتيان من �سفهاء النا�س ،وق�صدوا حلقة ال�شافعي، ثم �إن قوم ًا ّ (وانتظروا) حتى خلت من �أ�صحابه ،وبقي وحده ،فهجموا عليه و�رضبوه، فحمل ال�شافعي �إىل منـزله ،فلم يزل فيه علي ًال حتى مات». ُ وقد ال يكون ال�رضب هو �سبب املوت ،فالعلة التي مات بها ال�شافعي هي مر�ضه بالبوا�سري ،وقد �أ�صابه ب�سبب البوا�سري ن ْزف �شديد ،فلقي وجه ربه را�ضي ًا مر�ضي ًا.
�شخ�صية �إمام حظا من املواهب، ويرى ال�شيخ حممد �أبو زهرة �أن ال�شافعي �أوتي ًّ تتحدد بها �شخ�صيته .فهو قوي املدارك العقلية ،وخمل�ص يف طلب احلق واملعرفة ،وقوي البيان ف�صيح الل�سان ،عميق ال�صوت ،ونافذ الب�صرية يف نفو�س النا�س ،بفرا�سته التي اكت�سبها من �شيخه مالك بن �أن�س. و�آية قوة مدارك ال�شافعي ،ح�ضور بديهته ،وعمق �أفكاره ،وبعد مداه يف الفهم ،واجتاهه �إىل و�ضع �ضوابط عامة للحوادث و�أحكامه ،طالب ًا بها الكليات والنظريات العامة من خالل اجلزئيات ،وبقوة مداركه هذه و�ضع ال�شافعي �أ�سا�س الفقه و�أ�صوله ،وجعله علم ًا لأول مرة. و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق واملعرفة ،طلبه للعلم لوجه اهلل ،بنظرة �صادقة تتجه �إىل احلقائق وحدها ،يف كل مراحل طلبه للعلم، ويعلنها يف جر�أة حتى لو خالفت ما ي�ألفه النا�س .وقد حدثت هذه اجلر�أة، حني خالف �شيخه «حممد بن احل�سن ال�شيباين» وناظره و�أ�صحابه ،وفاز 122
يف مناظرته ،وحني �ألف كتابه عن «خالف مالك» ،وهو �شيخه الأكرب، لأن النا�س قد�سوا �آثاره و�آراءه .فاحلق العام فوق حق ال�شيخ ،وفوق حق ال�صديق. و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق دعوته لأ�صحابه �أن يطلبوا احلديث ال�صحيح ،ويرف�ضوا �آراءه هو �إذا خالفت احلديث ال�صحيح. روى ياقوت يف معجمه �أن تلميذ ال�شافعي «الربيع بن �سليمان» ،قال: «�سمعت ال�شافعي ،وقد �س�أله رجل عن م�س�ألة ،فقال ال�شافعي: يروى عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أنه قال كذا وكذا.فده�ش ال�سائل لأن ال�شافعي يعتمد يف ر�أيه على احلديث ،وقال: يا �أبا عبد اهلل� .أتقول بهذا؟!وا�صفر لونه ،وحال وت َغيرّ ،وقال: فارتعد ال�شافعي، ّ � ّأي �أر�ض ُتق ّلني ،و� ّأي �سماء ُتظلني� ،إذا رويت عن ر�سول اهلل �صلىاهلل عليه و�سلم ،ومل �أقل :نعم على الر�أ�س والعينني؟!. ويروي الربيع ،يقول: «�سمعت ال�شافعي ،يقول: ما من �أحد �إال وتذهب عنه �سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلموتع ُزب ،فمهما قلت من قول� ،أو � ّأ�صلت من �أ�صل ،فيه عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم خالف ما قلت ،فالقول ما قال ر�سول اهلل عليه و�سلم ،وهو قويل. وجعل يردد هذا الكالم». و�آية �إخال�ص ال�شافعي يف طلب احلق ،قوله: «لو كان الكذب مباح ًا لكانت مروءة املرء متنعه �أن يكذب .ولوددت يل �شيء منه ،ف�أوجز �أن النا�س تعلموا هذا العلم (علم الفقه) ،وال ين�سب �إ ّ يحمدوين». عليه وال ُ و�آية قوة بيان ال�شافعي ،ف�صاحة ل�سانه ،وعمق ت�أثري �صوته، 123
ال�شـافعـي
ف�سامعوه كانوا يبكون حني ي�سمعون قراءته للقر�آن ،وكان مالك يرغب يف �أن ي�سمع منه ،ب�صوته كل «املوط�أ» .وكلما توقف ال�شافعي خوف الإمالل ،قال له مالك :زد يا فتى. وقد روى تاريخ بغداد عن بع�ض ُمعا�رصي ال�شافعي ،قول �أحدهم: «كنا �إذا �أردنا �أن نبكي ،قلنا لبع�ضنا البع�ض: املطلبي ،نقر�أ القر�آن. قوموا بنا �إىل هذا الفتى ّف�إذا �آتيناه ا�ستفتح القر�آن ،حتى ي�ساقط النا�س بني يديه ،ويكرث عجيجهم بالبكاء ،ف�إذا ر�أى ذلك �أم�سك عن القراءة». وكان «ابن راهويه» ،ي�سمي ال�شافعي «خطيب العلماء» ،ويروي �أن «ابن �أبي اجلارود» قال عن ال�شافعي: «ما ر�أيت �أحداً �إال وكتبه �أكرث من م�شافهاته� ،إال ال�شافعي ،ف�إن ل�سانه �أكرث من كتابته». ولقد كانت كتب ال�شافعي ،جيدة التعبري ،ح�سنة الت�صوير للفكرة، عالية العبارة ،ف�صيحة الل�سان. و�آية فرا�سة ال�شافعي ،معرفته ،ب�أحوال �أ�صحابه وجمال�سيه ،وما تطيقه نفو�سهم من العلم ،فلم يكن يعطي من العلم �أحداً منهم� ،إال على قدر ما يطيقه ،ولهذا ال�سبب التف حوله �أكرب عدد من التالميذ والأ�صحاب، يف مكة ،وبغداد ،والقاهرة. ويروى �أن ال�شافعي دخل امل�سجد اجلامع ببغداد ،وعقد حلقة لدر�سه، مل تلبث �أن ات�سعت ،وات�سعت ،حتى مل يبق بامل�سجد حلقة لغريه ،وكانت قب ًال تقارب اخلم�سني حلقة يف امل�سجد نف�سه. ذيل مع بع�ض معا�رصيه، ويروى �أن ال�شافعي كان يتنا�شد �شعر ُه ْ ف�أتى عليه ال�شافعي حفظ ًا ،وقال ملن كان يتنا�شد معه: علم �أحداً من �أهل احلديث ،ف�إنهم ال يحتملون ذلك». «ال ُت ْ �شيوخ ع�رصه 124
عن �شيوخ مبكة ،و�شيوخ باملدينة ،و�شيوخ باليمن ،و�شيوخ بالعراق، �أخذ ال�شافعي علمه بفقه احلديث ،وفقه الر�أي ،بل لقد �أخذ علم الكالم من علماء االعتزال ،وهو العلم الذي كان ال�شافعي ينهى عنه ،مثلما كان ينهى عنه الإمام مالك .ف�أخذ من كل �أف�ضل ما لديه ،مما يجب �أخذه، الرد والرتك. وترك من كل ما يراه واجب ّ عد الفخر الرازي ،م�ؤلف كتاب :مناقب ال�شافعي ،من بني �شيوخ وقد ّ ال�شافعي الكثريين ،ت�سعة ع�رش �شيخ ًا :خم�سة من مكة ،و�ستة من املدينة، و�أربعة من اليمن ،و�أربعة من العراق ،ون�سى �أن يذكر معهم حممد ابن احل�سن ال�شيباين. و�أخذ ال�شافعي من بع�ض �شيوخه ،فقه احلديث ،ومن بع�ضهم فقه الر�أي ،ومن بع�ضهم علم الكالم ،ومزج علم ه�ؤالء بعلم ه�ؤالء ،فكان فقه ال�شافعي فقه حديث ور�أي مع ًا ،على �أمت ما يكون الفقه .وتوجه بو�ضعه لعلم �أ�صول الفقه ،حني اجتمع له فقه مكة واملدينة ،وال�شام، وم�رص ،والعراق ،ومل يجد حرج ًا يف طلب فقه االعتزال وفقه ال�شيعة، وهما فقهان يخو�ضان يف �أ�صول االعتقاد التي ال يخو�ض فيها الفقهاء، و�أ�ضاف �إليها جميع ًا درا�ساته اخلا�صة ،وجتاربه يف رحالته التي عرف بها النا�س ،و�أحوال النا�س هنا وهناك ،من اليمن� ،إىل مكة� ،إىل املدينة، �إىل بغداد� ،إىل القاهرة ،وكلها كانت يف الوقت نف�سه رحالت علمية، يتبادل فيها الأخذ والعطاء. ومن قبل هذا وذاك ،كان ال�شافعي قد ملك نوا�صي العربية ،و�أدبها، و�شعرها. وكان ع�رص ال�شافعي ع�رصاً التقت فيه احل�ضارات القدمية يف منطقة واحدة من العامل ،يظلها دين جديد ،ح�ضارات الهند ،وفار�س ،واليونان. وكان ع�رص اخل�صب العقلي امل�ستقل املنتج ،من رجال احلديث ،ورجال الر�أي ،ورجال االعتقاد ،وع�رصاً يبد�أ فيه تدوين الكتب يف �شتى 125
ال�شـافعـي
العلوم ،وتكرث فيه املناظرات .ويف و�سط هذا الع�رص املتعدد الوجوه، الغني بالتفاعالت ،والرثوة العلمية ،خرج ال�شافعي ب�آرائه ومذاهبه واجتاهاته ،معتمداً على ثقافته اللغوية والدينية والفكرية ،وعلى قوة مواهبه العقلية ،و�أفق درا�ساته الوا�سعة ،ويف عمر ق�صري مل يزد على خم�س وخم�سني �سنة ،من املهد �إىل احلد.
ال�شافعي وعلماء الكالم املحدث ،بعلم الكالم، كان ال�شافعي على علم ومعرفة ،وهو الفقيه ّ و�آرائه عن املعتزلة خا�صة ،وال�شيعة و�سواهم عامة .ولكن ال�شافعي كان واملحدثون يف يبغ�ض علم الكالم و�أهله ،مثلما كان يبغ�ضهما الفقهاء َ ع�رصه .فقد �أثار �أهل الكالم ،من دعاة العقل م�سائل معقدة و�شائكة يف العقيدة ،لي�س بو�سع العقل الب�رشي� ،أن ي�صل فيها �إىل ر�أي واحد ،واجتهوا فل�سفيا. بدرا�سة العقيدة اجتاه ًا ًّ ولذلك كان ال�شافعي ينهى يف جمال�س درو�سه عن اال�شتغال بعلم الكالم ،ويقول لأ�صحاب جمل�سه: «حكمي يف �أ�صحاب الكالم �أن ُي�رضبوا باجلريد ،ويحملوا على الإبل منك�سني ،ويطاف بهم يف الع�شائر والقبائل ،ويقال :هذا جزاء من ترك الكتاب وال�سنة ،و�أخذ يف الكالم». وكان يقول: «�إياكم والنظر يف الكالم ،ف�إن الرجل لو �سئل عن م�س�ألة يف الفقه، و�أخط�أ فيها ،كان �أكرث �شيء �أن ُي�ضحك منه ،كما لو �سئل عن رجل قتل رج ًال ،فقال :ديته بي�ضة .ولو �سئل عن م�س�ألة يف الكالم ،ف�أخط�أ ،ن�سب �إىل البدعة». وكان يقول: 126
يخطئ «ر�أيت �أهل الكالم يكفر بع�ضهم بع�ض ًا .ور�أيت �أهل احلديث ّ بع�ضهم بع�ض ًا ،والتخطئة �أهون من الكفر». بل بلغ بغ�ض ال�شافعي لعلماء الكالم ،وطرائق علماء الكالم� ،أنه كان ال يعدهم علماء .روى عنه تلميذه الربيع قوله: «لو �أن رج ًال �أو�صى بكتبه من العلم ،وفيها كتب الكالم ،مل تدخل كتب الكالم يف تلك الو�صية». ملزين ،ما يفيد �أن ال�شافعي على كراهيته لعلم الكالم، وروى تلميذه ا ُ مل يكن على جهلٍ به .قال: «كنا على باب ال�شافعي رحمه اهلل ،نتناظر يف الكالم ،فخرج ال�شافعي �إلينا .ف�سمع بع�ض ما كنا فيه ،فرجع عنا ،ثم خرج �إلينا ،وقال: ما منعني من اخلروج �إليكم� ،إال �أنني �سمعتكم تتناظرون يفالكالم� ،أتظنون �أين ال �أح�سنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت مبلغ ًا عظيم ًا، �إال �أن الكالم ال غاية له ،تناظروا يف �شيء �إن �أخط�أمت فيه يقال� :أخط�أمت، وال يقال كفرمت». ومن العجيب ،كما يقول ال�شيخ حممد �أبو زهرة� ،أن علماء الكالم، أخ�صهم بهذا العلم هم املعتزلة ،كانت غايتهم مثل غاية الفقهاء و� ّ واملحدثني :تقرير الدين والدفاع عن الدين� ،ضد �أهل الفرق الإ�سالمية وكل كان يقرر مبادئ الدين ،ويدافع عن ال�ضالة ،وخ�صوم الإ�سالمُّ ، الدين بطريقته ،هذا بطريق النقل ،وذاك بطريق العقل .والأكرث عجب ًا �أن يكفر الفقهاء من هذه طريقته ،وتلك غايته ،من دعاة العقل ،من علماء الكالم ،وفال�سفة الإ�سالم. ومع ذلك كان لل�شافعي «كالم» يف كثري من �أبواب «علم الكالم»، تتعلق بالعقيدة ،لكنه كالم فقيه حمدث ،ال بد له من ا�ستخدام العقل ،مع النقل ،عند احلديث عن العقيدة. كان ال�شافعي يرى �أن كالم اهلل غري خملوق ،ويعتقد بر�ؤية اهلل يوم 127
ال�شـافعـي
القيامة ،وي�ؤمن بالق�ضاء والقدر خريه و�رشه ،ويرى �أن الإميان ت�صديق وعمل ،و�أنه يزيد وينق�ص بزيادة العمل ونق�صه ،وهذه الآراء هي �إحدى وجهات النظر لعلماء الكالم. علي بن ويف ال�سيا�سة كان ال�شافعي يرى �أن الإمامة ،هي كما قال ّ �أبي طالب ،ال بد منها ،ويعمل حتت ظلها امل�ؤمن ،وي�ستمتع الكافر ،و�أن الإمامة يف قري�ش .ويروي عنه تلميذه حرملة امل�رصي قوله: «كل قر�شي عال اخلالفة بال�سيف ،واجتمع عليه النا�س ،فهو خليفة». قر�شيا� ،أو ًال، فاخلالفة عند ال�شافعي تنح�رص يف كون اخلليفة ًّ واجتماع النا�س عليه ثاني ًا� ،سواء كان هذا االجتماع ببيعة �سابقة� ،أو ببيعة الحقة� ،أو بغري بيعة على الإطالق .والها�شمية لي�ست �رشط ًا يف القر�شية ،فعمر بن عبد العزيز كان عنده اخلليفة اخلام�س الرا�شد ،وكان أمويا� ،أي غري ها�شمي .ومع ذلك كان ال�شافعي يرى �أن معاوية قر�شيا � ًّ ًّ علي بن �أبي طالب، و�أ�صحابه كانوا هم الفئة الباغية ،يف موقفهم من ّ وكانوا ،مثل عمر بن عبد العزيز ،قر�شيني �أمويني ،غري ها�شميني. �أدوار الفقه ال�شافعي عام 184الهجري ،كان ال�شافعي قد بلغ من العمر خم�س ًا وثالثني �سنة ،ويف تلك ال�سنة ,وكان ال�شافعي مبكة� ،رشع يف تكوين مذهب فقهي م�ستقل ،عن �آراء �شيخه مالك بن �أن�س .وكان ال�شافعي قد عاد �إىل مكة ،بعد رحلته القهرية الأوىل من اليمن �إىل بغداد ،وبعد �أن تتلمذ زمن ًا على حممد بن احل�سن ال�شيباين ،يف بغداد ،وهو من فقهاء الر�أي .وقد �آن له وهو مبكة �أن يجمع يف مذهبه بني مذهبي احلديث والر�أي ،والنقل والعقل. ولقد مر املذهب الفقهي لل�شافعي ،خالل ما بقي من عمره بثالثة �أدوار� :أولها كان مبكة ملدة ت�سع �سنوات تقريب ًا ،وثانيها كان ببغداد (يف رحلته الثانية) ملدة ثالث �سنوات تقريب ًا ،وثالثها كان بالقاهرة ملدة 128
�أربع �سنوات تقريب ًا. ويف املرحلة الأوىل من فقه ال�شافعي ،جنح ال�شافعي يف ن�سج خيوط مذهبه ،مبا جتمع لديه من ثروة من الأحاديث ،والآراء الفقهية، وراح ي�ستنبط �أدلة القر�آن ،و�أدلة ال�سنة ،ويوازن بني امل�صادر الفقهية، وي�ستخدم الرتجيح بني ما يتعار�ض من الأحاديث� ،أو من الآراء ،حتى و�صل �إىل كليات الفقه و�أ�س�سه .وهي الكليات التي ا�سرتعت نظر الإمام �أحمد بن حنبل .وكانت تلك الفرتة هي �أخ�صب فرتات الفقه ال�شافعي ،فقد كتب فيها كتابه «الر�سالة» الذي جمع فيه �أ�صول الفقه الإ�سالمي. وكان ذلك الدور هو دور االبتكار. ويف املرحلة الثانية من فقه ال�شافعي ببغداد� ،أذاع ال�شافعي ر�سالته، وعقد لها حلقات در�س مب�سجد بغداد اجلامع ،ا�ستعر�ض فيها �آراء معا�رصيه من الفقهاء ،و�آراء ال�صحابة والتابعني ،يف �ضوء ما و�صل �إليه من �أ�صول كلية ،وراح يرجح بينها على مقت�ضى هذه الأ�صول، �أو يخرج عنها جميع ًا ،بر�أي جديد� ،إن مل يجد واحداً منها يندرج حتت لرد هذه الآراء جميع ًا .يقول الكرابي�سي ،بعد �أن �أ�صوله ،وكان ثمة مربر ّ ا�ستمع �إىل حلقات در�س ال�شافعي ببغداد: «ما كنا ندري ما الكتاب ،وما ال�سنة ،وما الإجماع (يق�صد �إجماع ال�صحابة ،و�إجماع الفقهاء) حتى �سمعنا ال�شافعي ،يقول :الكتاب، وال�سنة ،والإجماع». ويقول «�أبو ثور» عن تلك الفرتة: «دخلنا على ال�شافعي ،فكان يقول: �إن اهلل تعاىل قد يذكر العام ،ويريد به اخلا�ص ،ويذكر اخلا�ص،ويريد به العام. وكنا ال نعرف هذه الأ�شياء ،ف�س�ألنا عنها ال�شافعي ،فقال: �إن اهلل تعاىل يقول�( :إن النا�س قد جمعوا لكم) .واملراد �أبو �سفيان129
ال�شـافعـي
(فهو عام يراد به خا�ص) .وقال تعاىل( :يا �أيها النبي �إذا طلقتم الن�ساء) فهذا خا�ص واملراد به عام. وهذا الكالم ،يف �أ�صول ال�شافعي ،مل يكن النا�س يقولون به قبل ال�شافعي. وكان ذلك الدور هو دور املناق�شة واالختبار. ويف املرحلة الثالثة بالقاهرة ،ر�أى ال�شافعي يف م�رص ما مل يكن قد ر�آه من قبل .ر�أى عرف ًا وح�ضارة ،و�آثاراً للتابعني ،فراجع �آراءه ،و�أ�صوله فقهيا ال�سابقة ،على �ضوء جتربته اجلديدة ،و�أثمرت املراجعة فكراً ًّ جديداً� ،أعاد به كتابة «ر�سالته» املكية الأ�صول ،فزاد وحذف ،و�أبقى اجلوهر ،و�أعاد به درا�سة �آرائه يف فروع الفقه ،فعدل عن قدمي ،واهتدى �إىل جديد ،وتردد بني جديده وقدميه ،فجمع بينهما ،فكانت «ر�سالته القاهرية اجلديدة». وكان ذلك الدور هو دور التمحي�ص واملراجعة. ويف كل دور كان لل�شافعي تالميذ نقلوا فقهه عنه ،يف مكة ،وبغداد، إمالء ،وتدوين ًا .ومن بني ه�ؤالء التالميذ ،كان�« :أحمد والقاهرة ،قراء ًة ،و� ً راهو ْيه» ،وهما فقيهان عظيمان. بن حنبل» و «�إ�سحق بن َ ولقد روى «ابن حرملة» امل�رصي عن ال�شافعي فقهه وكتبه (ويقال �إن ال�شافعي قد نزل عنده يف داره بالقاهرة) .وهذه الكتب هي :ال�رشوط (ثالثة �أجزاء) ،وكتاب ال�سنن (ع�رشة �أجزاء) ،وكتاب �ألوان الإبل والغنم و�صفاتها و�أ�سنانها ،وكتاب النكاح ،وكتب �أخرى. وروى الربيع بن �سليمان املرادي (اجليزي امل�رصي) ،وهو �آخر من روى عن ال�شافعي ،كتب ًا �أخرى ،و�آراء �أخرى. والكتب التي كتبها ال�شافعي بنف�سه ،هي :الر�سالة يف مرحلتيها مبكة والقاهرة ،وتعرف ب�أ�سماء :احلجة ،واملب�سوط ،والأم ،و :كتاب ال�سنن ،و: الإمالء ال�صغري .و�أخطرها و�أهمها ،كتابه :الر�سالة ،يف ثوبها امل�رصي 130
اجلديد ،ويقع يف �ألفني من ال�صفحات.
الفقيه يكتب ولقد حتدث «الربيع» امل�رصي عن بع�ض طرق ال�شافعي ،يف الت�أليف، فقال: لزمت ال�شافعي قبل �أن يدخل م�رص .وكانت له جارية �سوداء ،فكانيعمل (يفكر يف) الباب من العلم (يف الكالم) ،ثم يقول: يا جارية ،قومي ،ف�أ�رسجي (�أ�ضيئي امل�صباح).فت�رسج له فيكتب ما يحتاج �إليه ،ثم يطفئ ال�رساج .فدام على ذلك �سنة ،قلت: يا �أبا عبد اهلل� .إن هذه اجلاري ُة منك يف جهد.فقال يل: �إن ال�رساج ي�شغل قلبي (عن التفكري).روى حرملة ،قال: وكثرياً ما كان ال�شافعي يكتب بامل�سجدَ . «كان ال�شافعي يجل�س �إىل هذه الأ�سطوانة (العمود) يف امل�سجد (بالف�سطاط) ،فتلقى له طنف�سة ،فيجل�س عليها ،وينحني لوجهه ،لأنه كان ِم ْ�س َقام ًا (كثري املر�ض) في�صنف». وكان ال�شافعي ي�ستعني بكتب غريه (مراجعهم) عند الت�صنيف ،طلب ًا للأحاديث ،والآراء الفقهية. وكان �أحيان ًا ميلي على َمن يح�رضه من تالميذه ،في�أتي ما ميليه بلفظه ومعناه. وكان تالميذه يكتبون ما ي�سمعونه منه ،في�أتي ما يكتبونه مبعانيه، و�ألفاظهم هم. وكتاب «الأم» (الر�سالة اجلديدة) لل�شافعي ،كتاب فريد يف جزالة 131
ال�شـافعـي
لفظ ،وجمال عبارة ،وعمق معنى ،وابتكار منهج ،وو�ضع لأ�صول.
من �أ�صول ال�شافعي و�ضع ال�شافعي كليات الفقه يف مذهبه ،يف كتاب «الأم» ،فو�ضع بها وفرع عنها امل�سائل. علم الأ�صول ،وا�ست�شهد لهاّ ، وال�شافعي يق�سم يف �أ�صوله علم ال�رشيعة ق�سمني: علم العامة :وهو العلم مبا هو معلوم من الدين بال�رضورة ،من �أركان الإ�سالم ،وحمرماته ،والعلم بها واجب على كل م�سلم �أن يعرفه .وهو ن�صا ال ت�أويل فيه ،ويف ال�سنة املتواترة بني الكافة. موجود يف القر�آن ًّ وعلم اخلا�صة :وهو العلم بفروع ال�رشيعة ،مما فيه ت�أويل من ن�صو�ص القر�آن الكرمي ،ومما لي�س فيه ن�ص متواتر عن الر�سول ،مثل �أخبار الآحاد .وعلم اخلا�صة فر�ض كفاية ال يطلبه �إال اخلا�صة من الفقهاء، وهو مو�ضوع بحثهم وتنازعهم ،وبحاجة �إىل �ضوابط يف اال�ستنباط، لتكون مقيا�س ًا يبني به اخلط�أ وال�صواب. وعلم اخلا�صة عند ال�شافعي خم�سة �أنواع هي بالرتتيب :الكتاب، وال�سنة �إذا ثبتت .و�إجماع الفقهاء ،وفيما لي�س فيه كتاب وال �سنة ،ور�أي بع�ض ال�صحابة ،واختالف �آراء ال�صحابة يف امل�س�ألة الواحدة ،وي�ؤخذ منها ما هو �أقرب �إىل الكتاب وال�سنة. والكتاب وال�سنة مرتبة واحدة يف العلم ب�رشيعة الإ�سالم .ولل�سنة مراتب �إ�سناد .وللدالالت يف الكتاب وال�سنة مراتب �إ�سناد. والألفاظ العامة يف القر�آن ،قد يراد بها العام ،وقد يراد بها اخلا�ص، وقد يراد بها عام يندرج حتت اخل�صو�ص. فهم بالقر�آن ،يف املو�ضوع الواحد ،و�إ ّال فيما يبينه والقر�آن الكرمي ُي َ من ال�سنة ،لبيان اجلزئيات ،وملعرفة النا�سخ من املن�سوخ .وال�سنة يف 132
بيانها درجات من اال�ستدالل ،ح�سب درجات التواتر ،وال�شهرة ،و�أخبار الآحاد ،وات�صال ال�سند �أو انقطاعه .وقد جتيء ال�سنة ب�أمر زائد لي�س يف القر�آن الكرمي .وال�سنة ال تن�سخها �إال �سنة .وال�سنة ال تن�سخ � ًّآيا من القر�آن، ولكنها تبني �أنها قد ن�سخت تالوة� ،أو حكم ًا. و�إجماع ال�صحابة عند ال�شافعي من م�صادر الت�رشيع ،وهو مقدم على القيا�س ،ويف املرتبة الثالثة بعد الكتاب وال�سنة. و�إجماع الفقهاء حجة عنده يف الت�رشيع ،وي�أتي بعد �إجماع ال�صحابة. والقيا�س عند ال�شافعي من �أ�س�س الت�رشيع بالر�أي ،وكان ال�شافعي �أول من �ضبط قواعده ،وهو خا�ص بقيا�س م�س�ألة مل يرد فيها ن�ص ،وال �إجماع ،على م�س�ألة ورد فيها ن�ص� ،أو �إجماع ،لع ّلة �أو �صفة م�شرتكة بينهما ،فت�أخذ هذه امل�س�ألة حكم ما قي�ست عليه .و�إذا مل يكن ثمة ن�ص، فال قيا�س وال اجتهاد بالر�أي. وال�شافعي يرف�ض ويبطل اال�ستح�سان الفقهي يف الت�رشيع ،فهو عنده ال ميت �إىل ال�رشع ب�صلة ،لأنه ال يعتمد على ن�ص� ،أو �إجماع� ،أو قيا�س، وقد �أخذ املالكية والأحناف باال�ستح�سان. وال�شافعي ال ي�أخذ بامل�صالح املر�سلة� ،إال �إذا كانت م�شابهة مل�صلحة معتربة ،بن�ص من قر�آن �أو �سنة �أو �إجماع ،ولي�ست امل�صالح املر�سلة �أ�ص ًال قائم ًا بذاته يف الت�رشيع ،وال م�صدراً من م�صادره ،عند ال�شافعي. وال�شافعي كان ي�أخذ بر�أي �أحد ال�صحابة �إذا اختلفوا يف مذهبه القدمي مبكة وبغداد ،ويف مذهبه اجلديد بالقاهرة ،وبر�أي ال�صحابي الواحد �إذا مل يخالفه غريه من ال�صحابة. وقد �أخذ احلنابلة ب�أ�صول ال�شافعي ،ولكنهم مل يت�صوروا �إجماع ًا غري �إجماع ال�صحابة ،فرف�ضوا ما يقال عن �إجماع الفقهاء. وقد فتحت �أ�صول ال�شافعي الباب ،لو�ضع كتب �أ�صول يف مذاهب 133
ال�شـافعـي
�أخرى ،من مذاهب الفقه الإ�سالمي ،خا�صة تلك املذاهب ،التي خالفت اجلماعة الإ�سالمية ،يف مواقفها ال�سيا�سية ،مثل :الإبا�ضية وال�شيعة الإمامية. ولقد منا علم الأ�صول على �أيدي علماء الكالم املعتزلة ،واملاتريدية والأ�شاعرة ،وفقهاء ال�شافعية ،وفقهاء احلنفية ،حتى يف ع�صور التقليد يف الت�رشيع ،ف�أ�صبح علم الأ�صول ال�شافعي طريقة للمتكلمني ،واجتاه ًا فل�سفيا يف الت�رشيع. ًّ و�أ�شهر كتب علم الأ�صول بعد �أ�صول ال�شافعي كتاب« :املعتمد» لأبي احل�سني حممد بن الب�رصي املعتزيل ال�شافعي ،وكتاب «الربهان» لإمام احلرمني ال�شافعي ،وكتاب «امل�ست�صفى» للغزايل الأ�شعري. lll
بعد ال�شافعي ،كان هناك �أتباع للمذهب ال�شافعي مبكة ،وبالعراق، ومب�رص وبخرا�سان ،وباليمن ،ويف ع�صور متالحقة .وكانوا يف املذهب ال�شافعي ،بني جمته ٍد منت�سب اجتهاداً مطلق ًا ،ينهج نهج ال�شافعي يف االجتهادَ ،وفق �أ�صوله ،لكنه ال يقلده ،ال يف �أ�صوله ،وال يف �أدلته ،وجمته ٍد متقييد مبذهب ال�شافعي ،ال يخالف نهجه ،وال �أ�صوله ،يف الفتوى فيما ي�ستجد من امل�سائل ،وبني فقيه غري جمتهد ،له الف�ضل يف جمع الفقه ال�شافعي ،وترتيب �أدلته ،وتهذيب م�سائله ،وجمع فروعه� ،أو له الف�ضل يف حفظ مذهبه ،ونقله ،وفهمه ،و�رشحه ،وتلخي�صه .وفئتا املجتهدين كانتا غالب ًا يف الفقه ال�شافعي �إىل �آخر املئة الرابعة الهجرية ،وبعدها كانت فئة الفقهاء ال�شافعيني غري املجتهدين غالب ًا. وقد انت�رش مذهب ال�شافعي يف م�رص �أكرث من �سواها ،وانت�رش بالعراق، وخرا�سان ،وما وراء النهر ،وال�شام ،واليمن ،وفار�س ،واحلجاز ،وبع�ض بالد الهند .وقا�سم ال�شافعيون الأحناف يف الفتوى ،ويف التدري�س ،يف جميع الأم�صار الإ�سالمية. 134
ويف م�رص� ،ساد املذهب ال�شافعي �إىل عهد الدولة الفاطمية ال�شيعية الإمامية .ثم عاد �إىل الوجود يف م�رص ،مع غريه من مذاهب الأئمة الأربعة يف عهود الدولة الأيوبية ،ودولتي املماليك .ويف عهد الدولة العثمانية مب�رص ،ظل املذهب ال�شافعي موجوداً ،ولكن الق�ضاء انح�رص يف الع�رص العثماين يف املذهب احلنفي ،وال يزال منح�رصاً فيه �إىل اليوم. ومل ينت�رش املذهب ال�شافعي بالأندل�س ،وال باملغرب ،لغلبة املذهب املالكي يف هذين امل�رصين الإ�سالميني. وجدير بالذكر �أن التع�صب املذهبي بني �أتباع املذاهب الأربعة ،يف امل�رشق الإ�سالمي ،كان ظاهرة متكررة ،مثلما كان التع�صب ال ِف َرقي بني �أهل ال�سنة ،وال�شيعة� ،سائداً هناك ،ولقد نتجت عن ذلك ،يف امل�رشق حروب وفنت ومذابح ،بني العامة واخلا�صة ،خروج ًا عن روح الت�سامح الديني يف الإ�سالم ،لكن هذا التع�صب و�آثاره ،ظل حم�صوراً يف م�رص، بني فقهاء املذاهب ،ال يتجاوزهم �إىل عامة النا�س ،ويف �إطار املناظرات العلمية التي قد تكون عالية ال�صوت �أحيان ًا ،ولكنها ال ت�ؤدي �إىل فنت بني عامة امل�سلمني ،يف �أكرث الأحيان.
135
أحمد بن حنبـل بـاع َ إمـام اال ّت َ
�أحمد بن حنبل
138
النا�س والإمام قليل من النا�س من ينال اخللود بعلمه وعقله ،غالب ًا بعد وداعه حي ي�سعى على قدمني. للدنيا ،و�أقل هذا القليل من ينال هذا اخللود ،وهو ّ والإمام «�أحمد بن حنبل» كان واحداً فريداً من �أقل هذا القليل ،ف�أحداث ع�رصه قد �ألقت به يف �ساحة املواجهة ،لي�س بني الفقهاء وعلماء الكالم فقط ،و�إمنا� ،أي�ض ًا ،بني الفقهاء و�سلطة اخلالفة العبا�سية. ففي حياة الإمام �أحمد ،ذاع علمه ،وا�شتهرت مواقفه .بل �إن علمه �شاب ًا يطلب العلم عن �شيوخ باحلديث والأثر ذاع وانت�رش ،وهو ال يزال ّ العلم. ويروى �أن «�أحمد بن �سعيد الرازي» ،وهو �أحد �شيوخ الإمام �أحمد ،قال عنه وهو �شاب: «ما ر�أيت �أ�سود الر�أ�س� ،أحفظ حلديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم، وال �أعلم بفقهه ،من �أحمد بن حنبل». وقال الإمام ال�شافعي لأحمد ،وهو �أحد �شيوخه ،وقد ا�ستمع حلفظه، 139
�أحمد بن حنبل
�شاب ًا: وكان ال يزال ّ «�أنت �أعلم بالأخبار (الأحاديث والآثار) ال�صحاح منا ،ف�إذا كان كوفي ًا كان� ،أو خرب �صحيح ًا ،ف�أعلمني ،حتى �أذهب �إليه (�إىل م�صدره): ّ �شامي ًا». م�رصي ًا� ،أو ّ ّ وروى «املُزين» �أن ال�شافعي قال ملن مبجل�سه من طالب العلم ،عن ال�شاب �أحمد: «ثالثة من عجائب الزمان :عربي ال ُيعرب كلمة ،وهو� :أبو ثور. و�أعجمي (فار�سي) ال يخطئ يف كلمة ،وهو :احل�سن الزعفراين .و�صغري كلما قال �شيئ ًا �صدقه الكبار ،وهو� :أحمد بن حنبل». وحني غادر ال�شافعي بغداد �إىل م�رص ،وا�ستقر بها ،قال ال�شافعي لتلميذه حرملة امل�رصي ،عن �أحمد بن حنبل ،وكان عمر �أحمد �س ّت ًا وثالثني �سنة: «خرجت من بغداد ،وما خ ّلفت بها �أورع وال �أتقى ،وال �أفقه ،من �أحمد بن حنبل». وو�صف ال�شافعي اثنني بالعقل ،مع علم بالرواية ،والفقه ،فقال لتالميذه ،فيما يرويه «حممد بن ال�صباح»: «ما ر�أيت �أعقل وال �أروى وال �أفقه من� :أحمد بن حنبل ،و�سليمان بن داود الها�شمي». مل ِديني»: وقال عن ابن حنبل ،معا�رصه «علي بن ا َ «�أعرف �أبا عبد اهلل بن حنبل منذ خم�سني �سنة ،وهو يزداد خرياً .ولي�س فينا �أحفظ منه». وقال عنه قرينه ،ومعا�رصه «القا�سم بن �سالم»: وعلي بن املديني ،ويحيى «انتهى العلم �إىل �أربعة� :أحمد بن حنبل، ّ بن معني ،و�أبو بكر بن �شيبة ،و�أحمد �أفقههم ،فما ر�أيت رج ًال �أعلم بال�سنة منه». 140
و�شهد له رفيقه ومعا�رصه «يحيى بن م ِعني» .قال: «واهلل ال نقوى على ما يقوى عليه �أحمد ،وال على طريقة �أحمد». وحدث «عبد الرحمن بن مهدي» جل�ساءه ،عن �أحمد بن حنبل ،فقال: ّ «هذا �أعلم النا�س بحديث �سفيان الثوري .وما نظرت �إىل �أحمد بن حنبل �إال تذكرت به �سفيان الثوري». وكان �سفيان الثوري فقيه ًا زاهداً ،ويلقبه النا�س ب�أمري امل�ؤمنني يف احلديث. الرحالة عام 164الهجري ،ولد «�أحمد بن حنبل» مبدينة بغداد ،وكانت �أمه حام ًال به حني عادت من مدينة «مرو» (بو�سط �آ�سيا) �إىل مدينة بغداد. و�أحمد بن حنبل عربي� ،شيباين ،من جهتني مع ًا� :أبوه ،و�أمه .وقبيلة �شيبان التي ينت�سب �إليها �أحمد قبيلة رب َِعية (ن�سبة �إىل بني ربيعة) عدنانية ،تلتقي مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف« :نزار بن معد بن وحمية ،فمنها كان عدنان» .وقبيلة �شيبان كان برجالها �إباء ،وعزم، ّ «املثنى بن حارثة» قائد اجليو�ش الإ�سالمية عند مهاجمتها العراق يف عهد �أبي بكر ال�صديق .وتوىل بهمته �أوىل احلمالت العربية الإ�سالمية �ضد الر َبعية .وقيل فيها ما رواه الفر�س .وقبيلة �شيبان كانت �أبرز القبائل ّ تاريخ بغداد: ب�شيبان ،وحارب ب�شيبان ،وفاخر ْ «�إذا كنت يف ربيعة ،فكاثر ْ ب�شيبان». ْ وكانت منازل �شيبان بالب�رصة ،بعد �إن�شاء عمر بن اخلطاب لها �سنة 16هجرية .وكانت �أ�رسة �أحمد ،و�أ�رسة �أمه ،مقيمتني ببيداء الب�رصة. وجداً لأ�رسة وكان «عبد امللك بن �سوادة بن هند» من وجوه �شيبانّ ، �أحمد ،وي�ضيف قبائل العرب عندما ينـزلون الب�رصة. وكان لآل �شيبان بالب�رصة م�سجد ،هو م�سجد «مازن» .ولقد اعتاد 141
�أحمد بن حنبل
�أحمد �أن ي�صلي فيه كلما نزل �إىل الب�رصة ،ويقول ملن ي�س�أله�« :إنه م�سجد �آبائي». واجلد الأقرب لأحمد هو« :حنبل بن هالل» ،وكان هذا اجلد قد انتقل ب�أ�رسته �إىل خرا�سان ،حني �صار واليا ،يف العهد الأموي ،على والية اجلد �إىل �صفوت الداعني �ضد بني �أمية. «�سرَ ْ خ�س» .ولقد ان�ضم هذا ّ جندي ًا باجلي�ش العبا�سي. و�أبو �أحمد ،هو« :حممد بن حنبل» ،وكان ّ ويقال �إنه كان قائداً ،يرتدي زي الغزاة فيما وراء احلدود الإ�سالمية. �شاب ًا ،وعمره ثالثون �سنة. ولقد مات هذا الأب ّ وعم �أحمد كان من عيون الوالة يف بغداد ،ير�سل �إليهم بالأخبار، ليعلم بها اخلليفة العبا�سي ،حني يكون يف �سفرة بال�رشق �أو ال�شمال. وكان �أحمد يتورع (يتنزه) وهو يف �صغره ،عن م�شاركة عمه يف عمله، قيم ًا (و�صي ًا) �إثر وفاة �أبيه عنه وهو �صغري. وكان عمه قد �صار عليه ّ ويروي كتاب املناقب البن اجلوزي هذه الواقعة: روى بع�ض الوالة ،قال: مل علي �أخبار بغداد ،فوجهت �إىل عم �أحمد بن حنبل� ،أ�س�أله :لمِ َ ْ «�أبط�أت ّ ت�صل �إلينا الأخبار اليوم؟ وكنت �أريد �أن �أحررها ،و�أو�صلها �إىل اخلليفة. يل عم �أحمد ،وقال يل :بعثت بها مع �أحمد ابن �أخي .ف�أمرته فجاء �إ ّ ف�أح�رض �أحمد ،وهو بعد غالم ،وقال له: �أمل �أبعث معك الأخبار؟فقال �أحمد: نعم.فقال له عمه: فلأي �سبب مل تو�صلها؟فقال له �أحمد: �أنا كنت �أرفع تلك الأخبار!! رميت بها يف املاء.142
فجعلت �أ�سرتجع (يقول�« :إنا هلل و�إنا �إليه راجعون») .وقلت :هذا غالم يتورع ،فكيف نحن». َ ف�أ�رسة �أحمد مل تقطع �صلتها باخلالفة العبا�سية ،وال بوالة الدولة العبا�سية ،ومل يكن �أحمد ال�صغري ي�ستح�سن تلك ال�صلة ،بل كان يتورع منها ،ويبتعد عنها ،منذ �صباه. ون�ش�أ �أحمد يتيم ًا ،مثلما ن�ش�أ �شيخه ال�شافعي يتيم ًا ،فلم ير �أحمد �أباه وال جده .وكان على �أمه و�أ�رسة �أبيه القيام على تربيته .وحل�سن حظ �أحمد ،فقد كان له من مرياث �أبيه ،ببغداد ،منـزل ي�سكنه مع �أمه ،ومنـزل �آخر ،به حوانيت (دكاكني) يدر عليه عائداً ،يتيح له كفاف ًا من العي�ش، فا�ستغنى بهذا العائد عما يف �أيدي النا�س ،ووجد امل�أوى. ودفع �أحمد يتمه ،و�رشف ن�سبه ،وحرمانه من ترف العي�ش ،وقناعته، ونزوعه للتقوى� ،إىل �أن يكون �سامي النف�س ،ويكر�س ما وهبه اهلل له ،من ذكاء العقل يف طلب العلم. وحفظ �أحمد القر�آن الكرمي ،ثم �أخذ يرتدد على الديوان ،ليتمرن على الكتابة والتحرير .يقول �أحمد: «كنت ،و�أنا ُغ َل ْيم (غالم �صغري)� ،أختلف �إىل الك ّتاب ،ثم اختلفت �إىل الديوان ،و�أنا ابن �أربع ع�رشة �سنة». وكان �أحمد ،وهو �صبي حمل ثقة الرجال والن�ساء ،الذين ذهب �أبنا�ؤهم �أو �إخوتهم �أو �آبا�ؤهم �إىل �ساحات القتال .فقد كانوا ي�ستكتبونه ،وهو ال يزال �صغرياً ببغداد ،ر�سائل �إىل ذويهم املقاتلني مع الر�شيد ،فيكتبها لهم، ويجيئون �إليه بالردود ،فيقر�أها عليهم .ولقد قال �أحد الآباء �آنذاك: «�أنا �أنفق على �أوالدي ،و�أجيء �إليهم بامل�ؤدبني ،كي يت�أدبوا ،فما �أراهم يفلحون .وهذا �أحمد بن حنبل غالم يتيم .انظروا كيف هو». ويروح الأب يعجب من �أدب �أحمد ،وح�سن طريقة �أحمد .ويف النواة ال�صغرية �رس ال�شجرة الكبرية. 143
�أحمد بن حنبل
ومنذ ال�صبا كانت يف �أحمد رجولة ،و�صرب وجد ،وعناية بالعمل، وقدرة على احتمال ما يكره ،وبروح من التقوى .ولقد دفعت هذه الروح «الهيثم بن جميل» �إىل �أن يقول عن �أحمد: «�إن عا�ش هذا الفتى ف�سيكون حجة على �أهل زمانه». ويف بغداد اجته �أحمد �إىل طلب العلم ،وكانت بغداد �آنذاك منارة لعلوم الدين واللغة ،والريا�ضة والفل�سفة ،والت�صوف .واختار �أحمد علم احلديث، وبه بد�أ ،ثم �أردفه بطلب الفقه .ويروى عن �أحمد بن حنبل قوله: «�أول من كتبت عنه احلديث �أبو يو�سف». وكان �أبو يو�سف قا�ضي ًا لق�ضاة الر�شيد .لكن �أحمد �رسعان ما ان�رصف عنه �إىل جمال�س املحدثني ،ف�أبو يو�سف من فقهاء الر�أي �أو ًال ،واحلديث ثاني ًا .و�أردف طلبه للحديث بطلبه للفقه ،فقه الر�أي بالعراق ،وفقه احلديث باحلجاز .وكانت مدن العراق وال�شام واحلجاز مع ًا ،تزخر باملحدثني. وراح �أحمد ي�سافر يف طلب الأحاديث من املحدثني ،ويدونها ،حتى مت له جمع م�سند ،ي�ضم الأحاديث :العراقية ،واحلجازية ،وال�شامية ،والب�رصية، والكوفية. وبد�أت م�سرية �أحمد يف طلب احلديث ببغداد بني عامي 179و186 هجرية ،ثم توالت �أ�سفاره يف طلب احلديث خارج بغداد. �شيم بن ب�شري بن و�أول �إمام طلب منه �أحمد علم احلديث والآثار ،هوُ :ه ْ �أبي خازم الوا�سطي» ( ت 183هجرية ) فكتب �أحمد عنه نحواً من ثالثة �آالف حديث يف احلج ،وبع�ض التف�سري ،وكتاب الق�ضاء ،وكتب ًا �أخرى �صغرية ،من كتب (�أبواب) احلديث. ومع «ه�شيم» �سمع �أحمد احلديث وكتبه ،من« :عبد الرحمن بن مهدي»، و«�أبو بكر بن عبا�س» ،و�سواهما. ولقد توالت رحالت �أحمد يف طلب احلديث خالل عمره ،وبينها خم�س رحالت �إىل الب�رصة ،وخم�س رحالت �إىل احلجاز ،ويف �أوىل رحالته �إىل 144
مكة التقى بال�شافعي وعمره � 24سنة ،حني كان ي�ؤدي فري�ضة احلج لأول مرة ،ما�شي ًا على قدميه ،من بغداد �إىل مكة .ولكم متنى �أحمد �أن الري ،ليلقى بها املحدث« :جرير يكون قادراً للقيام برحلة �إىل مدينة ّ بن عبد احلميد» لكن هذه الرحلة كانت حتتاج منه �إىل ت�سعني درهم ًا ،مل تكن معه. وحج �أحمد مرة �إىل البيت احلرام مع رفيقه يف طلب العلم «يحيى ابن معني» �سنة 198هجرية ،وكانا قد اتفقا على ال�سفر بعد احلج �إىل باملحدث «عبد الرازق بن همام» .و�إذا كانا يطوفان �صنعاء ،ليلتقيا ّ طواف القدوم ،ر�أيا املحدث عبد الرازق يطوف ،فتوجه �إليه يحيى ،وكان يعرفه ،و�سلم عليه ،قائ ًال له: هذا �أحمد بن حنبل �أخوك.فقال له عبده الرازق: حياه اهلل وثبته ،ف�إنه يبلغني عنه كل جميل.فقال له يحيى: جنيء �إليك غداً �إن �شاء اهلل ،حتى ن�سمع (منك) ،ونكتب (عنك).فلما ان�رصف عبد الرازق ،قال �أحمد ليحيى معرت�ض ًا: مل �أخذت من ال�شيخ موعداً؟فقال له يحيى: لن�سمع منه .قد � ْأربحك اهلل م�سرية �شهر ،ورجوع �شهر ،و�أراحك منالنفقة. فقال له �أحمد: ما كان اهلل لرياين ،وقد نويت نية� ،أن �أف�سدها مبا تقول .من�ضي(الآن) فن�سمع منه .ثم من�ضي معه بعد احلج ،لن�سمع منه ب�صنعاء. ويف �سبيل هذه الرحلة ،واجه �أحمد العي�ش اخل�شن ،واملركب ال�صعب، فقد نفدت نقوده بالطريق ،فعمل حما ًال ب�أجر للقافلة� ،إىل �أن بلغت 145
�أحمد بن حنبل
القافلة �صنعاء .وكان من معه يحاولون �أن ميدوا له يد العون ،فكان يردها ،حامداً هلل ف�ضل قوته ،التي متكنه من �أن يح�صل بعرقه على ّ نفقات الطريق. ويف �صنعاء ،حاول املحدث عبد الرازق� ،أن يعني �أحمد بن حنبل، فقال له: يا �أبا عبد اهلل .خذ هذا ال�شيء فانتفع به ،ف�إن �أر�ضنا لي�ست ب�أر�ضمتجر ،وال مك�سب. ومد عبد الرازق يده �إىل �أحمد بدنانري ،فقال له �أحمد: ّ �أنا بخري.ومكث �أحمد يعاين م�شقة العي�ش مدة �سنتني ب�صنعاء ،ا�ستفاد فيهما، امل�سيب ،ما فقد �سمع من عبد الرازق �أحاديث عن طريق الزهري ،وابن ّ كان يعلمها من قبل. وظل �أحمد يطوف يف الأقاليم الإ�سالمية ،طالب ًا للحديث ،يحمل حقائب كتبه على ظهره ،وي�سري على قدميه غالب ًا يف رحالته ،ويعمل �أحيان ًا ليك�سب قوت �أيامه يف �أ�سفاره و�إقاماته ،م�ستهين ًا باملتاعب يف طلب احلديث. ولكرثة ما رواه �أحمد ،وكتبه ،وحفظه من الأحاديث ،قال له �أحد عارفيه عاتب ًا: مرة �إىل الكوفة ،ومرة �إىل الب�رصة!! �إىل متى؟!وقال له �آخر ،وكان �أحمد قد بلغ مبلغ الإمامة: يا �أبا عبد اهلل� .أنت قد بلغت هذا املبلغ ،و�أنت (الآن) �إمامامل�سلمني. فقال له �أحمد: مع املحربة �إىل املقربة� .أنا �أطلب العلم �إىل �أن �أدخل القرب.ويف هذه الرحالت كان �أحمد معني ًا بتدوين كل ما ي�سمعه من 146
�أحاديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،و�آثار �أ�صحابه ،وال يعتمد على ذاكرته وحدها .وحني كان �أحمد يحدث النا�س باحلديث مل يكن يحدثهم من ذاكرته ،خ�شية �أن ي�ضل وين�سى ،و�إمنا كان يحدثهم مما كتبه ونقله، حر�ص ًا على التقوى ،والدقة ،مع �أنه كان كثري احلفظ ،قوي الذاكرة. يروى �أن رج ًال من �أهل مرو ،جاء �إىل �أحمد ،طالب ًا حديث ًا بعينه .ومع �أن �أحمد كان يحفظه ،فقد �أمر ابنه عبد اهلل� ،أن يح�رض له «كتاب الفوائد» ليبحث للرجل عن ن�ص احلديث الذي يريده .وعاد �إليه ابنه ،قائ ًال �إنه مل يجد الكتاب .فقام �أحمد بنف�سه ،وعاد بالكتاب ،وكان يف ع�رشة �أجزاء، وقعد يبحث عن احلديث بن�صه ،ثم �أماله على الرجل القادم من مرو �إليه. وجاءه مرة �أخرى رجل يطلب احلديث ،وقال لأحمد: علمني مما علمك اهلل.فدخل �أحمد منـزله ،و�أخرج كتب احلديث ،وجعل ميلي على الرجل، جل�سة بعد جل�سة ،ويوم ًا بعد يوم .وحني انتهى ،قال لذلك الرجل ،لي�ضبط له ما كتبه: علي ما كتبت. الآن .اقر�أ ّومع تعلم �أحمد للحديث� ،سماع ًا ،وحفظ ًا ،وتدوين ًا ،كان يتعلم اال�ستنباط ،والتحري ،وفهم الن�صو�ص ،وغاياتها ،ويطلب لقاء الفقهاء، كطلبه للقاء املحدثني .وكان الإمام ال�شافعي هو �أ�شهر من التقى به �أحمد ،وتعلم على يديه التخريج الفقهي ،و�أ�صول اال�ستنباط للأحكام، ومناهجه ،حني كان يلقى ال�شافعي مبكة �أو ببغداد .فعرف منه الفقه، والر�أي ،والقيا�س ،واال�ستنباط ،وعرف فقه فقهاء �أهل ال�سنة باحلجاز .ومل ير�ض عن فقهاء الر�أي بالعراق ،فنـزعتهم الفقهية ،تختلف عن نزعته. ولقد جمع ابن حنبل يف رحلة حياته فتاوى ال�صحابة ،مع جمعه للأحاديث ،ومعرفته ملراميها ،وغاياتها ،ومعانيها الفقهية ،ويحوي 147
�أحمد بن حنبل
«م�سنده» طائفة كبرية من فقه وفتاوى و�أق�ضية كل �صحابي .فالتقى ُ بذلك احلديث والفقه مع ًا ،يف �شخ�ص �أحمد بن حنبل ،وم�سنده ،ومذهبه ك�إمام.
درو�س �إمام يف �سن الأربعني ،جل�س �أحمد بن حنبل للتحديث والفتوى ،مب�ساجد بغداد ،وم�ساجد املدائن الإ�سالمية التي يرحتل �إليها ،طلب ًا يف الوقت نف�سه ،ملزيد من العلم ،فكان يف وقت واحد ،عامل ًا وطالب علم .وبد�أ �أحمد جمل�سه العلمي ك�إمام ،يف بغداد� ،سنة 204هجرية ،وهي ال�سنة التي تويف فيها الإمام ال�شافعي بالقاهرة ،فلم ي�ست�سغ �أحمد �أن يجل�س من قبل حدث ويفتي. حيُ ،ي ِّ للتحديث والفتوى ،وبع�ض من �شيوخه الكبار ّ يحد �أحمد يف جمال�سه وحياته على ال�سواء ،عن اتباع ال�سنة .فهو ومل ّ يفعل كل ما كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يفعله ،وال يفعل ما مل يكن يفعله. يروى �أنه كان �إذا احتجم (جل�س للحالق) �أعطى احلجام ديناراً ،لأنه ُروي �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم احتجم ،و�أعطى حجامه «�أبا طيبة» ديناراً .ولقد ا�ستحيا �أحمد �أن يجل�س للتحديث والفتوى �إال بعد �أن بلغ الأربعني ،لأن الر�سول مل يبلغ ر�سالة ربه �إال يف هذه ال�سن. ومل يكتم �أحمد طوال حياته ،عن �أحد علم ًا ،وال حديث ًا ،لأن اهلل تعاىل نهى عن كتمان العلم ،ولأن الدين يوجب �إف�شاء �أحاديث الر�سول، ون�رشها. ولأن ذكر �أحمد ،يف طلبه احلديث ،قد ذاع يف الآفاق ،قبل �أن يجل�س للدر�س والإفتاء ،فقد كان االزدحام على در�سه �شديداً ،ولقد بلغ امل�ستمعون �إىل در�سه ،يف املجل�س الواحد ،خم�سة �آالف ،وكان يكتب عنه 148
ما يقوله خم�سمئة منهم .وب�سبب هذه الكرثة كرث رواة فقه �أحمد ،وحديث �أحمد .وبني احل�ضور يف جمل�سه العلمي ،كان هناك نا�س ال يطلبون علم ًا، ويتيمنوا مبر�آه. يروه، َّ و�إمنا يريدون فقط �أن ْ روى ابن اجلوزي �أن �أحد معا�رصي �أحمد ،قال: «اختلفت �إىل �أبي عبد اهلل �أحمد بن حنبل اثنتي ع�رشة �سنة ،وهو يقر�أ امل�سند على �أوالده ،فما كتبت منه حديث ًا واحداً ،و�إمنا كنت �أميل �إىل هديه و�أخالقه و�آدابه». وكان لأحمد جمل�سان للدر�س والتحديث :جمل�س يف منـزله لتالميذه و�أوالده ،وجمل�س يف امل�سجد للعامة ولتالميذه �أي�ض ًا .وخا�صة اخلا�صة من تالميذه كانوا هم الذين يذهبون �إىل بيته. ويف امل�سجد ،كان وقت در�س �أحمد ،هو وقت الع�رص ،واختار �أحمد هذا الوقت ،لأنه قبل عتمة الليل ،وبعد وهج النهار ،ولأنه وقت راحة لأكرث النا�س ،فيتي�رس لهم �أن ُي ْقبلوا �إىل امل�سجد ،ولأنه وقت �صفاء النف�س، وفراغها من م�شاكل العمل ،وم�شاغل احلياة. وجمل�س �أحمد ،كان جمل�س ًا ي�سوده الوقار ،والتوا�ضع ،واطمئنان النف�س �إىل رعاية اهلل له .ولقد روى ابن نعيم� ،أن خلف بن �سامل ،قال: «كنا يف جمل�س الفقيه يزيد بن هارون ،فمزح يزيد مع من ميلي عليه، فتنحنح �أحمد بن حنبل ،ف�رضب يزيد (بكفه) على جبينه ،وقال: �أال �أعلمتموين �أن �أحمد هنا ،حتى ال �أمزح».وقد جتنب �أحمد املزاح ،لأن ال�سنة عبادة عنده ،وال َم ْزح يف وقت العبادة. ويف جمال�س �أحمد ،مل يكن �أحمد يلقي الدر�س من غري طلب ،ف�إذا �سئل دون فيه عن الأحاديث املروية يف مو�ضوع معني ،طلب الكتاب الذي ّ �أحاديث ذلك املو�ضوع. وطوال �أربعني عام ًا مل يقل �أحمد فيها �أحاديث من ذاكرته� ،إال مئة 149
�أحمد بن حنبل
حديث .و�إذا �سئل يف مو�ضوع فقهي ،ي�ضطر �إىل ا�ستنباط حكم فيه ،مل يكن ي�سمح لتالميذه �أن يدونوا ا�ستنباطه� ،أو ينقلوه عنه ،خوف رجوعه عن فتواه .وكان يكره من �أ�صحابه �أن ينقلوا عنه فتاواه ،بل ينكر ن�سبتها �إليه ،لأنه مل يحفظ ما قاله .وكان �أبغ�ض الأ�شياء لديه �أن يرى فتوى له مكتوبة .ويحكى �أن �أحد تالميذه روى عنه م�سائل يف الفقه ،ون�رشها بخرا�سان .وبلغ ذلك اخلرب �أحمد بن حنبل ،فقال: «ا�شهدوا �أين رجعت عن ذلك كله». ولقد جاء �إليه رجل خرا�ساين بكتب .فنظر �أحمد يف كتاب من بينها. فوقع نظره ،فوجد كالم ًا له مكتوب ًا بالكتاب ،فغ�ضب ،ورمى الكتاب من يديه. ومل يكن ذلك املوقف هو موقف �أحمد من فقهه هو ،فقد كان ذلك هو موقفه من فقه �سواه .ولقد �س�أله رجل يوم ًا: هل �أكتب كتب الر�أي؟فقال له �أحمد: ال.فقال له ال�سائل: فعبد اهلل بن املبارك قد كتبها.فقال له �أحمد: ابن املبارك مل ينـزل من ال�سماء� .إمنا �أمرنا �أن ن�أخذ العلم منفوق. ولقد نهى �أحمد املحدثني �أن يكتبوا كتب ال�شافعي ،و�أبي ثور ،مع �أن ال�شافعي كان �شيخ ًا له .وبرغم هذا النهي ،جمعت كل الروايات عنه يف احلديث ،ويف الفقه ،يف جملدات �ضخام. وكانت حياة �أحمد ،خا�صة حني �صارت له جمال�س علم ،حياة اتباع �سلفية .خرج بها عن مناحرات الع�رص ال�سيا�سية ،والفكرية ،واالجتماعية، 150
خمتاراً �أن يحلق بروحه يف جو ال�صحابة وعامل ال�صفوة من التابعني. ومل يكن ي�ستجيز لنف�سه �أن يرد على �أي مو�ضوع مثار يف ع�رصه من علماء الكالم� ،أو يفتي يف �أي م�س�ألة مل ترد يف كتاب ،وال �سنة� ،أو مل يعرفها ال�صحابة ،ويكتفي ب�أن يقول ر�أيهم فيها ،حري�ص ًا على �أال ي ْق ُف (يتبع) ما لي�س له به علم ،حتى ال يخرج عن نهج ال�سلف ،وي�ضل يف متاهات العقل الب�رشي .بل لقد قاطع �أحمد كل من �شغل نف�سه بغري ما �أُ ِثر عن ال�سلف مقاطعة تامة. ولقد كتب �أحمد �إىل رجل �أر�سل �إليه ي�س�أله عن مناظرة �أهل الكالم، يقول: «�أح�سن اهلل عاقبتك .الذي كنا ن�سمع ،و�أدركنا عليه من �أدركنا� ،أنهم كانوا يكرهون الكالم �أي علمه ،واجللو�س مع �أهل ال َّزيغ .و�إمنا الأمر يف الت�سليم واالنتهاء �إىل ما يف كتاب اهلل .ال يعدون (ال يتجاوزون) ذلك. ومل يزل النا�س من بعد �أحمد يكرهون كل محُ ّ دث ي�ضع كتاب ًا يف الكالم، ويكرهون اجللو�س مع مبتدع ،ويرددون عليه بع�ض ما ُيلتب�س عليه يف دينه». كان �أحمد �إذن ينهى النا�س عن الكالم ،ويرف�ض التفكري يف العقيدة بالتفل�سف فيها .وب�سبب هذا الرف�ض ،وقع �أحمد يف حمنة مع الدولة، ومع علماء الدولة املتكلمني .يف ع�رص �سيطر فيه الكالم على العلماء الذين يحاولون التوفيق بني الفل�سفة والدين ،وبني الدين والعلم ،والذين اعتمدت عليهم الدولة يف عهد اخلليفة امل�أمون ،لتعبيد الطريق حل�ضارة �إ�سالمية جديدة ،تقوم على الدين وعلوم الدين ،وتقوم على الفل�سفة وعلوم الدين ،فهو التقي الورع ،ال�سلفي املتبع ،دون قبول بالبدع ،واالبتداع، والذي ي�ؤثر �أن يعي�ش هادئا يف بيته� ،آمنا يف م�سجده .هكذا كان اختياره لنف�سه ،ودعوته �سواه �إىل هذا االختيار.
151
�أحمد بن حنبل
غنى الفقر وقد عا�ش �أحمد بن حنبل حياة فقرية ،ي�ؤثر خ�صا�صة العي�ش على �أن يكون ذا مال ال يعرف �أنه حالل� ،أو فيه ِم ّنة العطاء .ويعمل بيديه ليك�سب عي�شه ،وين�سخ كتاب ًا� ،أو ين�سج تكة ل�رسوال� ،أو ي�ؤجر نف�سه يف عمل يعمله، حني ينقطع به الطريق يف �سفر ،وال مال معه ،م�ؤثراً العمل على �أن يقبل عطاء من �أحد يعجز عن رده يف زمن قريب .من عائد عقاره املوروث عا�ش �أحمد ،وكان ذلك العقار ب�ضع دكاكني ي�ؤجرها .وقد روي �أن �أحمد وقع من يده مقرا�ض (ملقاط) يف بئر ،فجاءه �ساكن عنده ،ف�أخرج له املقرا�ض ،ف�أعطاه �أحمد ن�صف درهم ،فغ�ضب ال�ساكن من قلة �أجره، وقال لأحمد: املقرا�ض ي�ساوي قرياط ًا (من الأوزان) .ال �آخذ �شيئ ًا.وترك ال�ساكن �أحمد مغا�ضب ًا .وبعد �أيام قابله �أحمد ،و�س�أله: كم عليك من �أجر احلانوت؟فقال ال�ساكن له: �أجر ثالثة �أ�شهر ،و�أجرها يف كل �شهر ثالثة دراهم.ف�أعطاه �أحمد �أجرة احلانوت ،عن ثالثة �أ�شهر� ،أجراً له عن ا�ستخراجه للمقرا�ض. وكانت �أجرة �أحمد من دكاكينه �سبعة ع�رش درهم ًا يف كل �شهر ،هي نفقته ،ونفقة من يعولهم. وكان �أحمد يحتال ل�سد رمقه ،وحاجة عياله ،فيحمل حبله على عاتقه ،ويذهب �إىل املزارع ،وي�ست�أذن �أ�صحابها ،ويجمع بقايا ح�صاد الزروع ،حني ال يجد عم ًال �آخر ي�ستكمل ب�أجره .نفقات معي�شته� ،أو ي�ؤجر نف�سه حلمل متاع النا�س� ،أو ين�سخ كتاب ًا لطالبه نظري �أجر معني. روى «علي بن اجلهم» قال: 152
«كان لنا جار ،ف�أخرج �إلينا كتاب ًا ،فقال: �أتعرفون هذا اخلط؟فقلنا: هذا خط �أحمد بن حنبل .فكيف كتب لك؟فقال اجلار: كنا مقيمني مبكة ،عند �سفيان بن ُعيينة ،ففقدنا �أحمد �أيام ًا ،ثمجئنا لن�س�أل عنه ،ف�إذا الباب مردود عليه ،فقلت له: ما خربك؟فقال يل: �سرُ قت ثيابي.فقلت له: معي دنانري .ف�إن �شئتها �صلة (عطاء) ،و�إن �شئتها قر�ض ًا.ف�أبى �أحمد �أن ي�أخذها (عطاء �أو قر�ض ًا) فقلت له: تكتب يل ب�أجرة؟فقال يل: نعم.ف�أخرجت ديناراً ،فقال يل: ا�شرت يل ثوب ًا ،واقطعه ن�صفني (يعني �إزاراً ورداء) وجئني بورق.ففعلت ،وجئته بورق ،فكتب يل هذا (الكتاب)». وكان �أحمد� ،أحيان ًا ين�سج ،ويبيع ما ين�سجه .حكى �إ�سحق بن راهويه، قال: «كنت �أنا و�أحمد باليمن ،وكنت �أنا فوق يف غرفة ،وكان هو يف الغرفة التي حتتها .واطلعت على �أن نفقة �أحمد فنيت ،فعر�ضت عليه ما ًال، فامتنع �أن ي�أخذه قر�ض ًا �أو عطاء .وعرفت �أنه ين�سج التكك (لل�رساويل) ويبيعها ،وينفق منها». 153
�أحمد بن حنبل
و�أحيان ًا ،حني يكون �أحمد مقيم ًا ،ولي�س على �سفر ،كان �أحمد يلج�أ �إىل االقرتا�ض ،حني يكون ثمة عائد قريب ينتظره ،فمظنة �سداده للقر�ض قريبة ،وهو يف احل�رض مقيم يف �أمن وا�ستقرار ،ولي�س على �سفر .و�أحيان ًا كان من �أقر�ضه يرف�ض �أن ي�سرتد قر�ضه ،في�رص �أحمد على �أن يرد قر�ضه. ومل يزد هذا القر�ض على مئتي درهم� ،أو ثالثمئة درهم. كان �أحمد �إذن ي�ؤثر تعب اجل�سم ،على تعب النف�س ،وي�ؤثر �أن تكون يده العليا ،وال ي�أخذ عطاء .ويفي ب�سداد ما اقرت�ضه ،ويعاين متاعب ك�سب حراً ،بريء الذمة يف تعامله مع النا�س ،عفيف النف�س، العي�ش لكي يكون ّ م�سرتيح ال�ضمري ،وهو �إمام ي�شار �إليه بالبنان ،يوده النا�س مبالهم ،لكنه ي�أبى مودة املال� ،أ�صدقاء كانوا �أو خلفاء �أو �أمراء .ويف الوقت نف�سه يجود بالقليل من هذا املال ملن يطلبه منه. ويروى �أن �أحمد قد لزم جمل�س ال�شافعي ،عندما جاء �إىل بغداد يف املرة الثانية التي �أقام فيها ببغداد ت�سع �سنوات ،ون�رش مذهبه بها لأول مرة .ومل يكن �أحمد يفارق جمل�س ال�شافعي� ،إال لطلب حديث يف ال�سفر� ،أو يف الإقامة .وحني عزم �أحمد على ال�سفر �إىل اليمن ،طلب ًا حلديث عي�سى بن همام ،وكان ماله قلي ًال ،عر�ض عليه ال�شافعي �أن يكون قا�ضي ًا باليمن، فقد طلب منه اخلليفة الأمني رج ًال يوليه ق�ضاء اليمن ،فرف�ض �أحمد عر�ض �شيخه ال�شافعي ،مراراً ،ثم قال لل�شافعي: يا �أبا عبد اهلل� .إن �سمعت منك هذا ثاني ًا ،مل ترين عندك.ف�أحمد يريد �أن يكون �سفره للعلم وحده .و�أحمد ما كان يجيز الق�ضاء لنف�سه ،مثله مثل �أبي حنيفة .و�أحمد ال ينال ما ًال �إال �إذا كان خالي ًا من كل �شبهة .ولذلك تعفف �أحمد عن قبول عطاء اخللفاء ،مثل �أبي حنيفة ،و�آثر �أن يحيا فقرياً ،غني النف�س. ويروى �أن اخلليفة امل�أمون ،دفع �إىل �شيخ من �شيوخ احلديث ما ًال، ليق�سمه على �أ�صحاب احلديث .ففيهم �ضعفاء ،بحاجة �إىل العون يف طلب 154
احلديث ،ومل يبق �أحد من املحدثني �إال �أخذ من هذا املال ،عدا �أحمد بن حنبل .حدث ذلك قبل �أن ميتحن امل�أمون الفقهاء واملحدثني مبحنة خلق القر�آن. وحني ذهبت املحنة ،يف عهد اخلليفة املتوكل ،عن �أحمد بن حنبل، والفقهاء ،واملحدثني ،عر�ض املتوكل على �أحمد ما ًال كثرياً ،و�ألح عليه يف العر�ض ،لكي يقبل ماله ،ف�أبى �إباء �شديداً �أن ي�أخذه لنف�سه ،و�أن ي�أخذه للت�صدق به. وحدث يف عهد املتوكل �أن دار �أحمد فت�شت ،ب�سبب �سعاية كاذبة ،بحث ًا عن علوي خارج على اخلالفة ،ومل جتد ال�رشطة ذلك العلوي الهارب يف بيت �أحمد .وعند ذلك بعث �إليه املتوكل مبال ،حمله �إليه وزير املتوكل، وقال الوزير لأحمد: �إن �أمري امل�ؤمنني قد وجه �إليك جائزة .وي�أمرك باخلروج (بالذهاب)�إليه .فاهلل اهلل �أن ت�ستعفي (ترف�ض)� ،أو ترد املال ،فيت�سع القول عليك ملن يبغ�ضك. مي�سه .ويف اليوم التايل �أمر �أحمد وا�ضطر �أحمد لقبول املال ،لكنه مل ّ ابنه �صاحل ًا ،ف�أخذ املال ووزعه على �أبناء املهاجرين والأن�صار و�سواهم، من املتعففني الذين يتجملون ،وال يظهرون للنا�س حاجتهم وفقرهم. واطم�أن املتوكل �إىل جانب �أحمد ،وتبني له تقاه و�إميانه .ثم جاء �إىل املتوكل �ساع ب�سعاية ،قائ ًال له: �إن �أحمد ال ي�أكل من طعامك ،وال يجل�س على فرا�شك ،ويحرم هذاال�رشاب الذي ت�رشبه. عندئذ قال له املتوكل ناهراً: حي ًا ،اخلليفة) املعت�صم ،وقال يل عنه �شيئ ًا (كقولك لو ُن�رش (عاد ّهذا) مل �أقبله. ولقد ترك املتوكل لأحمد ،منذ ذلك احلني ،حريته يف قبول عطائه، 155
�أحمد بن حنبل
�أو رده. ولقد روي �أن املتوكل وجه �إىل �أحمد �ألف دينار ليوزعها على �أهل احلاجة ،فردها �أحمد قائ ًال: �أنا يف البيت منقطع عن النا�س .وقد �أعفاين �أمري امل�ؤمنني مما�أكره .وهذا ما �أكره. لكن �أوالد �أحمد ،وذوي قرباه كانوا ي�أخذون مال اخلليفة ،وكان �أحمد ينهاهم عن �أخذه ،فال ينتهون .وكان �أحمد يقول لهم: مل ت�أخذونه ،والثغور معطلة غري م�شحونة (باجلند وال�سالح)،والفيء غري مق�سوم بني �أهله؟! ويقاطع �أحمد �أوالده ،وال ي�ؤاكلهم ،وال ي�شاربهم ،وال ي�أكل اخلبز الذي يخبز يف �أفرانهم ،وعلى نارهم ،لأنهم ي�أخذون جوائز ال�سلطان .وي�صل اخلرب �إىل اخلليفة املتوكل فال يغ�ضب منه ،وال ين ُقم عليه ،لأنه يعرف �إميانه و�إخال�صه ،ويقول: بر ولده. �إن �أحمد ليمنعنا من ّوي�أمر املتوكل ب�إعطاء املال لأوالد �أحمد ،و�أقارب �أحمد ،يف خفية عنه. وحدث �أن �أحمد مر�ض يوم ًا ،وجاءه ابنه يعوده يف مر�ضه ،وقال له فيما قاله: يا � ِيربنا به املتوكل .هل �أحج منه؟ أبت .عندنا �شيء بقي مما كان ّ فقال له �أحمد: نعم.فقال ابنه: فلم �إذن ال ت�أخذ مال املتوكل؟فقال له �أحمد: يا بني .لي�س ما له عندي بحرام ،ولكنني تنـ ّزهت عنه.156
ف�أحمد كان من الزهاد ،الذين يردون املال حني ي�شتبهون يف ح ّله، ليحرر نف�سه من ال�شك واحلرية.
املحنة العظمى كان اخلليفة امل�أمون� ،صاحب ًا للمعتزلة ،ومن بينهم اختار وزراءه، و�أ�صحابه ،وكان يقول مثلما يقولون ،ومن بني ما يقولونه يف م�سائل العقائد ،يف علم الكالم� ،إن القر�آن الكرمي خملوق وحمدث ،وكانوا يقولون بذلك منذ عهد الدولة الأموية ،لكن اخلليفة امل�أمون حني قال مبثل ما قالوا به ،وهو اخلليفة الإمام� ،أراد من الفقهاء واملحدثني ،الذين يكرهون علماء الكالم ،ويكرهون طرائقهم الفل�سفية يف عقائد الإ�سالم� ،أن يقولوا وحمدث ،ولقد �أو�صى امل�أمون مقالته يف خلق القر�آن ،ب�أن القر�آن خملوق ّ من بعده من اخللفاء �أن يقولوا مبثل ما يقول ،و�أن يحملوا الفقهاء واملحدثني على مثل ما يحملهم عليه ،فاتبع و�صيته خليفتان من بعده، ّ هما :املعت�صم ،والواثق ،و�سلكا م�سلكه. حمدث ع�رصه الفقيه، ولقد �أراد امل�أمون �أن يحمل �أحمد بن حنبلّ ، على القول بخلق القر�آن ،وب�أنه حمدث .ف�أبى �أحمد ذلك القول ،و�أ�رص على قوله ب�أن القر�آن كالم اهلل .فكانت حمنته حمنة مدوية ا�ستمرت يف عهد امل�أمون ،ويف عهدي املعت�صم والواثق من بعده ،وحمنة لقي فيها العذاب. «اجلعد بن درهم» يف و�أول من دعا �إىل القر�آن خملوق وحمدث ،هو ُ الع�رص الأموي ،ف�أتى به الوايل خالد بن عبد اهلل الق�رسي� ،إىل م�سجد الكوفة ،مقيداً بالأغالل يف يوم عيد الأ�ضحى .و�ص ّلى خالد بالنا�س �صالة العيد ،وخطب يف النا�س خطبة العيد ،ثم قال لهم يف �آخر خطبته: اذهبوا (عائدين �إىل بيوتكم) ،و�ضحوا ب�ضحاياكم ،تقبل اهلل (منكم)،157
�أحمد بن حنبل
(�أما �أنا) ف�إين �أريد �أن �أ�ضحي باجلعد بن درهم ،ف�إنه يقول (بقوله �إن القر�آن خملوق� :إن اهلل) ما ك ّلم مو�سى تكليم ًا ،وال اتخذ �إبراهيم خلي ًال. تعاىل اهلل عما يقول علواً كبرياً... ونزل الوايل خالد عن املنرب ،وقتل اجلعد بن درهم ،مطيح ًا بر�أ�سه يف عنف ،بحد �سيفه. اجلعد ،قال «اجلهم بن �صفوان» نافي ًا بقوله �صفة الكالم ومبثل قول ْ عن اهلل �سبحانه ،تنزيه ًا هلل عن احلوادث و�صفاتها ،فالقر�آن عنده خملوق، ولي�س بقدمي. وعندما ظهر املعتزلة ،نفوا �صفات املعاين عن اهلل �سبحانه ،و�أنكروا معها �صفة الكالم ،و� ّأولوا كالم اهلل ملو�سى ،ب�أنه �سبحانه خلق الكالم يف ال�شجرة ،مثلما يخلق كل �شيء .فالقر�آن مثل كل �شيء خملوق حمدث. وزاد خو�ض املعتزلة يف هذه امل�س�ألة يف عهد الر�شيد ،ومل يكن الر�شيد ي�شجع �أحداً من رعيته على اخلو�ض يف العقائد ،بل �إنه حب�س جماعة من املجادلني يف الكالم ،من املعتزلة ،وقال عن املعتزيل املتكلم العايل ال�صوت« ،ب�رش بن غياث»: �إن �أظفرين اهلل بابن غياث �أقتله.فظل ب�رش م�ستخفي ًا طوال خالفة الر�شيد ،ثم عاد �إىل الظهور �آمن ًا، وعايل ال�صوت ،يف عهد ابنه امل�أمون ،وكان امل�أمون تلميذاً يف الأديان الهذيل العالف� ،أحد ر�ؤو�س علماء االعتزال واملقاالت يف الأديان ،لأبي ُ الكبار .وحني �صار امل�أمون خليفة ،وا�ستقر له �أمر اخلالفة يف بغداد، �صار يعقد املجال�س للمناظرات واملناق�شات ،يف املقاالت وال ّنحل وا ِ مللل، خ�ص امل�أمون وكان فر�سان هذه املناظرات ،هم علماء املعتزلة ،ولذلك ّ ه�ؤالء العلماء ،ب�أن يكون من بينهم وزرا�ؤه ،و�أ�صحابه ،ويف مقدمتهم: «�أحمد بن �أبي د�ؤاد» ،وو�صل امل�أمون من ا�صطفائه له� ،أنه �أو�صى �أخاه املعت�صم ب�أن يجعله م�ست�شاره ،يف كل �أموره ،قائ ًال له: 158
« ..و�أبو عبد اهلل بن �أبي د�ؤاد ،فال يفارقك ،و�أ�رشكه يف امل�شورة يف كل �أمرك ،ف�إنه مو�ضع لذلك منك». وبد�أ امل�أمون يف ت�أييده لالعتزال �سنة 212هجرية ،و�أظهر هذا الت�أييد ب�إبداء ر�أيه يف املناظرات التي كان يعقدها لأهل الفرق الإ�سالمية، معتزلة كانوا� ،أو غري معتزلة ،تارك ًا احلرية للعلماء ،وللنا�س ،يف القول باالعتزال ،وغري االعتزال ،طوال �ست �سنوات ،ثم بدا له يف �سنة 218 هجرية� ،أن يحمل النا�س ،علماء وغري علماء ،بقوة الإمامة ،على القول قهراً ،بفكرة خلق القر�آن. بد�أ ذلك امل�أمون وهو مبدينة الرقة ،حني �أر�سل ر�سالة �إىل «�إ�سحق بن �إبراهيم» ،نائبه على بغداد ،ليحمل الفقهاء واملحدثني ،على القول بخلق القر�آن ،ومعهم من يلون منا�صب يف الدولة ،ومن يلون الق�ضاء ،ومن يتقدمون لل�شهادة �أمام الق�ضاة ،وليعزل كل من ال يقول بخلق القر�آن من من�صبه� ،أو من الإدالء ب�شهادته� ،أو من عمله كقا�ض ،وليمنع من الفتوى كفقيه� ،أو من التحديث كمحدث ،كل من ال يقول بخلق القر�آن .وطلب امل�أمون من �إ�سحق �أن ير�سل �إليه يف الرقة ،با�ستجابات امل�ستجيبني، ورف�ض الراف�ضني ،و�أر�سل �إليه �إ�سحق مبواقف الراف�ضني ،وبينهم ق�ضاة، وفقهاء وحمدثون� ،أبوا �أن يقولوا بخلق القر�آن. وكتب امل�أمون ثانية �إىل �إ�سحق ،ي�أمره ب�أن ير�سل به�ؤالء الراف�ضني �إليه يف مع�سكره بالرقة ،وحتت حرا�سة م�شددة ،مقيدين بالأغالل، لي�ستتيبهم امل�أمون عن ال�رشك ،وينذرهم بعقوبة الإعدام. و�سيق املحدثون والفقهاء املفتون ،وبينهم �أحمد بن حنبل� ،إىل �أمري امل�ؤمنني امل�أمون. وبني يدي امل�أمون ،و�أمام التهديد والوعيد ،اعتنق الراف�ضون جميع ًا مذهب االعتزال ،والقول بخلق القر�آن� ،إال �أربعة� ،أ�رصوا على موقفهم ،هم: و�سجادة ،فباتوا ليلتهم �أحمد بن حنبل ،وحممد بن نوح ،والقواريري، ّ 159
�أحمد بن حنبل
م�صفدين يف الأغالل. ويف ال�صباح تراجع «�سجادة» �أمام امل�أمون ،وقال بخلق القر�آن، ففكت قيوده ،و�أطلق �رساحه ،و�أعيد الثالثة الآخرون �إىل �سجنهم باملع�سكر ،مقيدين بالأغالل. ويف ال�صباح التايل ،خار «القواريري» و�سلم بالقول بخلق القر�آن، ف�أطلق �رساحه .وبقي يف القيود� :أحمد بن حنبل ،وحممد بن نوح ،وحمل االثنان �إىل طر�سو�س ،مع امل�أمون .ويف الطريق ،ا�ست�شهد حممد بن نوح. ثم نعى الناعي بغتة وفاة امل�أمون ،وكان على اخلليفة املعت�صم ،من بعده� ،أن ين�رص دعوة االعتزال ،و�أن يقرر م�صري �أحمد بن حنبل ،الذي رف�ض اخلو�ض ب�أي قول يف هذه الق�ضية ،فقد رف�ض �أن يقول ب�أن القر�آن خملوق ،ورف�ض ب�أن يقول ب�أن القر�آن غري خملوق ،م�ؤكداً �أمراً واحداً هو �أن القر�آن كالم اهلل ،وال دخل له بكونه خملوق ًا �أو غري خملوق .وهكذا توقف �أحمد لأنه مل ي�ؤثر عن ال�سلف كالم يف هذه امل�س�ألة ،وعلمها هو عند اهلل وحده. وراح املعت�صم ينزل الأذى مبخالفيه ،وخمالفي م�ست�شاره ابن �أبي د�ؤاد ،يف القول بخلق القر�آن ،ممتحن ًا ال�ضمائر ،كا�شف ًا لل�رسائر ،ولذلك انتقد كثريون ممن يقولون بخلق القر�آن ،املعت�صم وم�ست�شاره ،وعلى ر�أ�س ه�ؤالء املنتقدين كان اجلاحظ املعتزيل ،لأنهما يدعوان �إىل حرية الفكر كمعتزلة ،ويف الوقت نف�سه يعذبان من ميار�س هذه احلرية!! وتقع م�س�ؤولية اال�ضطهاد ،بالأكرث ،على ابن �أبي د�ؤاد ،فهو عامل ،واملعت�صم رجل �سيف .وقد ترك له املعت�صم حرية الت�رصف ،مع �أحمد بن حنبل. �أمر ابن �أبي د�ؤاد ب�أحمد بن حنبل ،ف�سيق مقيداً �إىل ال�سجن ببغداد، واتخذت بال�سجن مع ابن حنبل و�سائل الإغراء والإرهاب ،لكنه �صمد عند توقفه يف �أمر خلق القر�آن .ويف كل يوم ،طوال ثمانية وع�رشين �شهراً، وينخ�س بال�سيف فال كان �أحمد ي�رضب بال�سياط �إىل �أن ُيغمى عليهُ ، 160
ح�س ،وعندئذ فقط يرتك �إىل اليوم التايل. ُي ّ وحني يئ�س معذبو �أحمد من �أحمد ،رحموه ،و�أطلقوا �رساحه ،و�أعادوه �إىل بيته مثخن ًا باجلراح ،ال يقوى على ال�سري ،وقد انت�رص بتقاه ،وهزم �أ�صحاب ال�سياط. وانقطع �أحمد عن الدر�س والتحديث� ،إىل �أن �شفيت جراحه ،فعاد �إىل امل�سجد معافى� ،إال من �آثار التعذيب ،وندوب ال�سياط ،و�أوجاع الأع�ضاء، وراح يدر�س يف امل�سجد ،ويحدث النا�س يف امل�سجد� ،إىل �أن مات اخلليفة املعت�صم ،وتوىل اخلليفة الواثق ،وعندئذ �أعاد الواثق مب�شورة ابن �أبي د�ؤاد املحنة �إىل حياة �أحمد بن حنبل. لكن هذه املحنة مل تكن �سجن ًا ،وال �رضب ًا ب�سوط .كانت فقط منع ًا لأحمد ،من الدر�س ،والتحديث ،يف امل�سجد� ،أو يف غري امل�سجد ،ومنع ًا لأحمد من �أي اجتماع بالنا�س� ،أو ال�سكنى ببلد يقيم فيه اخلليفة الواثق، فلقد زادت منزلة ابن حنبل عند النا�س ،وزاد �سخط العامة على اخلالفة، وعلى ابن �أبي د�ؤاد ،و�شاعت بني النا�س فكرة التوقف عن القول بخلق القر�آن� .أو عدم القول به ،فهو فقط كالم اهلل ،كما قال القر�آن ،ودون ت�أويل لظاهر القر�آن ،كما قال �أحمد. قال الواثق لأحمد بن حنبل: ال جتمعن �إليك �أحداً ،وال ت�ساكني يف بلد �أنا فيه.وامتثل �أحمد بن حنبل للأمر يف هذه املرة ،ف�أقام خمتفي ًا ،ال يراه �أحد ،وال يخرج من بيت يختفي فيه �إىل �صالة� ،أو �إىل غري �صالة ،طوال خم�س �سنوات ،من �سنة 228هجرية �إىل �سنة 232هجرية� ،إىل �أن مات اخلليفة الواثق. وجاء املتوكل بعد الواثق ،ف�أوقف اال�ضطهاد ،وحارب االعتزال، وعندئذ عاد �أحمد ،عزيزاً مكرم ًا� ،إىل التدري�س ،والتحديث ،يف امل�سجد، ويف غري امل�سجد. 161
�أحمد بن حنبل
ولقد تركت حمنة القول بخلق القر�آن وراءها �شهداء ،بينهم كان: يو�سف بن يحيى البويطي الفقيه امل�رصي ،ونعيم بن حماد.
�شخ�صية �أحمد �صفات �أحمد ،هي ال�سبب الأول يف �شهرته ،وعلمه الغزير ،وبع�ضها هبة من اهلل ،وبع�ضها اكت�سبها �أحمد بالن�ش�أة والرتبية ،والتوجيه ،وحمل النف�س على طلب معايل الأمور .وتتج�سد هذه ال�صفات ،كما يراها ال�شيخ �أبو زهرة ،يف ذاكرة �أحمد القوية الواعية ،كمحدث �إمام� ،ش�أنه يف ذلك �ش�أن مالك وال�شافعي ،وجودة فهمه ملا ينقله ويحفظه من �أحاديث وفتاوى، ويف �صربه وجلده ،وقوة احتماله يف طلب العلم ،واحتمال الفقر ،ويف نزاهته النف�سية عن مال الغري ،ونزاهته العقلية عن اجلدل مع �أهل البدع والأهواء ،ونزاهته الفقهية بعدم خروج عن ال�سنة ،ويف �إخال�صه يف طلب العلم ،وطلب احلقيقة ،ال ير�ضى عنهما بدي ًال ،ويف مهابته بني �شيوخه وتالميذه ،و�سائر النا�س. و�آية قوة ذاكرة �أحمد ،قول «�أبي زرعة» معا�رص �أحمد عنه: �أحفظ امل�شايخ واملحدثني �أحمد بن حنبل.و�آية جودة فهم �أحمد ملا حفظه ،قول «�إ�سحق بن راهويه»: «كنت �أجال�س بالعراق �أحمد بن حنبل ،ويحيى بن ُمعني ،و�أ�صحابنا، فكنا نتذكر احلديث من طريق ،وطريقني ،وثالثة ،ف�أقول :ما مراده؟ ما تف�سريه؟ ما فهمه؟ فيتوقفون كلهم عن الإجابة� ،إال �أحمد بن حنبل ،وقد كان علمه باحلديث وال�سنة ،وفتاوى التابعني ،وا�ستنباطه الأحكام منها، �سبب ًا يف �أنه كان �إمام ًا يف احلديث ،و�إمام ًا يف الفقه». وقال �إبراهيم احلربي عن الإمام �أحمد: �أدركت ثالثة مل ُير مثلهم ،ويعجز الن�ساء �أن يلدن مثلهم ر�أيت� :أبا162
عبيد القا�سم ابن �سالم ،ما �أمثله �إال بجبل نفخ فيه روح .ور�أيت :ب�رش ابن احلارث ،فما �شبهته �إال برجل ُعجِ ن من قرنه �إىل قدمه عقال ،ور�أيت� :أحمد بن حنبل ،فر�أيت ك�أن اهلل جمع فيه علم الأولني والآخرين من كل �صنف، يقول ما �شاء اهلل ،ومي�سك ما �شاء .وجمعه لعلم الأولني والآخرين ،هو بحفظه للأحاديث ،و�آثار ال�سلف ،وفهمه لفقههم. و�آية �صربه ،وقوة �إرادته ،تفوي�ضه �أمر حياته كلها �إىل اهللُ ،يروى �أنه هولوا عليه املوقف، حني �أدخل على اخلليفة بالرقة ،يف �أيام حمنتهّ ، لينطق مبا ُينجيه ،ف�ضرُ ب �أمامه عنق رجلني ،ويف و�سط ذلك امل�شهد املروع ،وقع نظر �أحمد على �أحد �أ�صحاب ال�شافعي ،ف�س�أله ،وك�أنه ال يواجه املوت: �أي �شيء حتفظ يف امل�سح على اخلفني؟وده�ش احلا�رضون لثباته ،و�س�ؤاله مع ًا .و�صاح خ�صمه �أحمد بن �أبي د�ؤاد متعجب ًا: الرجل ،هو ذا يقدم ل�رضب عنقه ،فيناظر يف الفقه. انظروا ّويروى �أن رجال قد اغتاب �أحمد بن حنبل ،ولقيه فقال له: ُ يا �أبا عبد اهلل ،اغتبتك ،فاجعلني يف حل.فقال له �أحمد: �أنت يف حل� ،إن مل تعد.ويروى �أنه �أظهر مرة ،لأنه م ّتبع ،عدم تقديره لفقه �أبي حنيفة ،فقال له �أحد املتع�صبني لأبي حنيفة: َب ْول �أبي حنيفة �أكرث من ملء الأر�ض مثلك.ثم تركه القائل غا�ضب ًا ،وعاد �إليه بعد زمن نادم ًا ،وقال معتذراً: يا �أبا عبد اهلل� .إن الذي كان مني كان عن غري تعمد ،ف�أنا �أحب �أنجتعلني يف حل. فقال له بهدوء: 163
�أحمد بن حنبل
مازالت (ما حتركت) قدماي عن مكانهما ،حتى جعلتك يف ح ّل.و�آية نزاهة �أحمد العقلية� ،أنه مل ِ يفت يف م�س�ألة �سئل فيها �أفتى فيها قبله �أحد ال�صحابة .و�أنه �أخذ على نف�سه �أن يختار فتوى من فتاوى ال�صحابة يف م�س�ألة ما� ،إذا اختلفوا فيها ،على �أن يفتي هو فيها بر�أي. فنزاهته توجب عليه االتباع اتباع ًا مطلق ًا. و�آية نزاهة �أحمد النف�سية ،زهده الذي جعل �شعاره طلب احلالل ،من غري تدني�س للنف�س .روى «�أبو حف�ص عمر بن �صالح الطر�سو�سي» قال: «ذهبت �إىل �أبي عبد اهلل ،ف�س�ألته: مب تلني القلوب؟فنظر �إىل �أ�صحابه ،ثم �أطرق ،ثم رفع ر�أ�سه ،فقال: يا بني ،ب�أكل احلالل.فمررت �إىل �أبي ن�رص ب�رش بن احلارث ،فقلت له: مب تلني القلوب؟فقال يل: «�أال بذكر اهلل تطمئن القلوب».فقلت له: ف�إين جئت من عند �أبي عبد اهلل.فقال يل: هيه .ما قال لك �أبو عبد اهلل؟قلت: قال :ب�أكل احلالل.فقال يل: جاءك باجلوهر .الأ�صل كما قال .الأ�صل كما قال.وكان �أحمد يحب ال�صداقة والأ�صدقاء ،ويرى �أن احلياة من غري �أ�صدقاء حياة جافة ذليلة ،ويقول: 164
ذل. �إذا مات �أ�صدقاء الرجل ّوكان �أحمد يجود باحلالل القليل الذي ناله من الدنيا ،ويقول: «لو �أن الدنيا ت ِق ّل ،حتى تكون يف مقدار لقمة ،ثم �أخذها امر�ؤ م�سلم، فو�ضعها يف فم �أخيه امل�سلم ،ما كان م�رسف ًا». وكان �أحمد يرى �أن القوة احلقيقية هي يف قوة نف�سه ،ولي�س يف قوة بدنه ،فيقت�رص على احلالل ،وال ي�سري وراء �شهوات الدنيا ،فالفتوة عنده، هي كما يقول: «ترك ما تهوى ،ملا تخ�شى». و�آية نزاهة عقيدة �أحمد ،بعده عن اجلدل ،مع �أهل اجلدل ،وحتذيره لأ�صحابه من اجلدل ،و�أهل اجلدل� .س�أله �صاحب له ،قال: �إن ها هنا من يناظر اجلهمية (من الطرق الإ�سالمية القائلة باجلربدون اختيار) ،ويبني خط�أهم ،فما ترى؟ فقال له �أحمد: �أمل يقل معاوية بن ُق ّرة :اخل�صومات حتبط الأعمال ،والكالم الرديءال يدعو �إىل خري؟! جتنبوا �أهل اجلدال والكالم ،وعليكم بال�سنن ،وما كان عليه �أهل العلم قبلكم ،ف�إنهم كانوا يكرهون الكالم ،واخلو�ض من �أهل البدع .و�إمنا ال�سالمة يف ترك هذا .مل ن�ؤمر باجلدال واخل�صومات .و�إذا ر�أيتم من يحب الكالم ،فاحذروه. وهو نهج ماثل فيه �أحمد مالك ًا ،وغاير فيه �أحمد �أبا حنيفة وال�شافعي. و�آية نزاهة فقه �أحمد ،حر�صه على �أال يرد يف فقهه حديث ًا ن�سب لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم� ،إال �إذا عار�ضه حديث �أقوى منه ،ويقول: «من رد حديث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم فهو على �شفا هلكة، وما كتبت حديث ًا عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم� ،إال وقد عملت به». و�إذا مل يجد �أحمد احلديث وال ال�سنة عن ال�صحابة ،اجتهد يف تخريج 165
�أحمد بن حنبل
امل�س�ألة على منهاج من �سبقه متبع ًا ،غري مبتدع ،ناهي ًا عن االجتهاد يف م�س�ألة مل يتكلم فيها� ،أو يف منهاجها �أحد من ال�سابقني ،ولذلك كان يقول ل�صاحبه: «�إياك �أن تتكلم يف م�س�ألة ،لي�س لك فيها �إمام». و�آية �إخال�ص �أحمد يف طلب احلقيقة ،تواريه عن الظهور ب�أنه طالب �شهرة ،وجاه دنيا ،ومتنيه �أال يكون �شيئ ًا مذكوراً بني النا�س ،وجتنبه للرياء ،قائ ًال: «طوبى ملن �أخمل اهلل عز وجل ذكره». وحر�صه على �أال يظهر املحربة ،حتى ال يذكره النا�س ب�أنه حري�ص على الكتابة .يقول �أحمد: «�إظهار املحربة من الرياء». ومن �إيثاره �أال ي�سمع به �أحد ،قوله: «�أريد النزول مبكة� ،ألقي نف�سي يف �شعب من تلك ال�شعاب ،حتى ال �أعرف». حدث يحيى بن معني ،قال: «ما ر�أيت مثل �أحمد بن حنبل� ،صحبته خم�سني �سنة ،ما افتخر علينا ب�شيء مما كان فيه من ال�صالح واخلري». و�آية هيبة �أحمد يف نفو�س �سامعيه ،هيبة �شيوخه وتالميذه له ،وهو الألوف امل�ألوف ،الوديع املتوا�ضع .حدث �أحد تالميذه ،قال: «دخلت على �إ�سحق بن �إبراهيم ،وكان من ال�سالطني ،فما ر�أيت �أهيب من �أحمد بن حنبل� .رصت �إليه �أكلمه يف �شيء ،فوقعت يف رعدة ،حني ر�أيته ،من هيبته». وحدث �أبو عبيدة القا�سم بن �سالم ،قال: «جال�ست �أبا يو�سف ،وحممد بن احل�سن ،ويحيى بن �سعيد ،وعبد الرحمن بن مهدي ،فما هبت �أحداً منهم ،ما هبت �أحمد بن حنبل». 166
ومع هيبة �أحمد ،كان �أحمد حيي ًا� ،شديد احلياء ،ي�ستحي من اهلل، وي�ستحي من النا�س ،يقول �أحد وا�صفيه: «كان �أحمد من �أحيى النا�س (�أكرثهم حياء) ،و�أكرمهم نف�س ًا، و�أح�سنهم ع�رشة و�أدب ًا ،كثري الإطراق والغ�ض ،معر�ض ًا عن القبح واللغو، ال ت�سمع منه �إال املذاكرة باحلديث ،وذكر ال�صاحلني ،يف وقار و�سكون، ب�ش به ،و�أقبل عليه .وكان يتوا�ضع لل�شيوخ ولفظ ح�سن .و�إذا لقيه �إن�سان َّ توا�ضع ًا �شديداً .وكانوا يكرمونه ويعظمونه.
ع�رص �أحمد على �شيوخ بلغوا املئة ،تتلمذ �أحمد بن حنبل ببغداد ،ومكة ،والب�رصة، والكوفة ،واليمن ،يف فقه� ،أو حديث .ولكن �أكرثهم �أثراً يف نف�سه ،وتوجيهه علمي ًا ،كان �شيخان: توجيه ًا ّ �أولهما هو« :ه�شيم بن ب�شري بن �أبي خازم» ،وقد الزمه �أحمد نحواً من خم�س �سنوات� ،إىل �سن الع�رشين من عمره ،ويف هذه ال�سنوات تكونت بخاري الأ�صل، النواة الأوىل يف علم �أحمد باحلديث ،وكان «ه�شيم» ّ وكان �أبوه مقيم ًا يف وا�سط ،طباخ ًا للحجاج بن يو�سف الثقفي ،ثم انتقل ب�أ�رسته �إىل بغداد. وثانيهما ،بعد وفاة «ه�شيم» هو الإمام« :ال�شافعي» ،وقد التقى به �أحمد يف مكة ،و�أعجب �أحمد بعقل ال�شافعي الفقهي ،وب�ضوابطه ومقايي�سه التي جعلها �أ�صوال يف اال�ستنباط الفقهي ،وكان ال�شافعي يلقي درو�سه بامل�سجد احلرام. وجها �أحمد� ،أولهما يف احلديث ،وثانيهما يف الفقه. وكال ال�شيخني َّ ولقد �أوغل �أحمد يف طلب احلديث وال�سنة ،وجاب من �أجلهما الأم�صار، رحله �أبداً ،يدون طالب ًا العلم ،كما كان يقول� ،إىل القرب ،وحمربته يف ْ 167
�أحمد بن حنبل
مبدادها ما يحفظه ،مردداً قولته ال�شهرية« :مع املحربة �إىل املقربة». ولقد ح�صد �أحمد يف مرياثه العلمي �أحاديث ثالثة �أعالم من املحدثني العظام ،هم�« :سفيان الثوري ،و�سعيد بن امل�سيب ،وعبد اهلل بن املبارك. فكان تلميذاً لعلمهم ،و�إن مل يكن تلميذاً لأ�شخا�صهم ،فقد ودعوا الدنيا، قبل �أن يلتقي ب�أحدهم. وكان ع�رص �أحمد و�شيوخه ،هو ع�رص الن�ضج يف الفقه الإ�سالمي ،فقد جاوز الفقه �إقليمياته ومدائنه ،ودونت املجاميع الفقهية لكل مذهب، وتلقاها جميع ًا �أحمد ابن حنبل .وهو ع�رص الن�ضج يف علم احلديث وال�سنة والآثار ،وقد �أ�سهم �أحمد يف جمع هذا العلم ،برواياته املتعددة، فكان ال�سابق بو�ضع �أول م�سند جامع لأحاديث الأم�صار ،حتى �صار به �إمام ًا ،وكان حري�ص ًا على طلب ال�سند ،والعلة ،ب�أخذ احلديث من راوية �إذا حي ًا ،وي�سافر �إليه ،وي�أخذ احلديث عن راويه� ،إذا كان غائب ًا. كان ّ وكان ع�رص �أحمد و�شيوخه ع�رص جدل ،واحتكاك فكريُ ،وجد فيه من ينكر ال�سنة ،ووجد فيه من ينكر �أخبار الآحاد ،واالحتجاج ب�أخبار الآحاد ،ويقدم عليها القيا�س .ووجد فيه من يدافع عن ال�سنة ،ويقبل �أخبار الآحاد ،ويحتج بها ،ويقدمها على �أي قيا�س .وقد اختار �أحمد طريق الدفاع عن ال�سنة ،واحلديث ،واالتباع ،يف وجه فقهاء الر�أي، وعلماء الكالم على ال�سواء.
بني العقيدة وال�سيا�سة متبع ًا ،ال يتبع وكانت لأحمد �آراء يف العقائد ،كان فيها �سلفي ًا َّ ّ املت�شابه ابتغاء ت�أويله ،وكانت له �آراء يف ال�سيا�سة. ويف العقائد كان �أحمد يرى �أن الإميان قول وعمل ،ويزيد وينق�ص، و�أن جمرد الإ�سالم هو مرحلة بني الإميان والكفر ،و�أن الإميان ال يكون 168
معه ع�صيان ،وال يكفر �أحداً من �أهل التوحيد ،و�إن عملوا بالكبائر ،عدا تارك ال�صالة. وكان �أحمد ي�ؤمن بالقدر خريه و�رشه ،ويرف�ض اخلو�ض يف عالقة القدر ب�أفعال الإن�سان ،فذلك �أمر يف علم اهلل ،وال يبحث عن كنه �صفات اهلل، وال عن حقيقتها ،بل ي�سلم بها كما جاءت يف القر�آن الكرمي والأحاديث، ويعترب الت�أويل فيها خروج ًا على ال�سنة ،وي�ؤمن �أن اهلل �سبحانه قدمي، فكذلك �صفاته ،ومنها �صفة الكالم ،والقر�آن الكرمي قدمي لأنه كالم اهلل. ولقد روي عن �أحمد �أنه قال: مي ،كافر ،ومن زعم �أنه غري «من زعم �أن القر�آن خملوق ،فهو َج ْه ّ خملوق فهو مبتدع». وكان �أحمد ي�ؤمن بر�ؤية امل�ؤمنني هلل ،يوم القيامة� ،إميان ًا كام ًال دون ت�أويل ،معتمداً على القر�آن وال�سنة. ويف ال�سيا�سة كان �أحمد يرى ر�أي مالك فيها ،كرجل واقعي يتجنب ي�سب ال�صحابة، الفنت .فكان يج ّل ال�صحابة جميع ًا ،وي�شك يف �إ�سالم من ّ ي�ستوي يف ذلك كل �صحابي �صحب الر�سول �ساعة �أو �سنة ،فله من ال�صحبة على قدر ما �صحبه ،و�سمع منه ،ونظر �إليه ،ولو نظرة .ويعرتف علي قائ ًال: بخالفة على خالفة �رشعية ،وي�شتد يف الدفاع عن ّ زينها، وعلي بن �أبي طالب من علي ّ «�إن اخلالفة مل تزين ّ ّ علي ًا ،بل ّ �أهل بيت ال يقا�س بهم �أحد .وما لأحد ال�صحابة ،من الف�ضائل ،والعلم بالأحاديث ال�صحاح ،مثل ما لعلي ر�ضي اهلل عنه». علي ،ما كان �أحمد ي�سمح لأحد بالطعن يف ومع هذا الدفاع عن ّ علي من ال�صحابة ،قائال: خ�صوم ّ «ما �أقول فيهم �إال احل�سنى». علي ومعاوية� ،أيهما كان على حق ،الئذاً وكان ال ي�سمح باجلدل يف ّ بقول اهلل �سبحانه: 169
�أحمد بن حنبل
«تلك �أمة قد خلت لها ما ك�سبت ،ولكم ما ك�سبتم ،وال ت�س�ألون عما كانوا يعملون». وكان �أحمد يرى �أن الإمامة (اخلالفة) كما تكون بالر�ضا ال�سابق على التولية ،وجتيء الوالية تابعة لها ،قد تكون بالغلب ،فتكون العافية للجماعة يف عدم اخلروج عليه ،و�إ�صالح احلاكم بالأمر املعروف والنهي إخال�ص له يف ال�رس عن املنكر .والطاعة له من البرَ ّ والفاجر واجبة ،وال ُ و�شق لوحدة اجلماعة ،وخروج على والعالنية واجب ،واخلروج عليه ب ْغيّ ، ال�سنة ،وميل �إىل البدعة. ومع هذا الر�أي مل ُيعرف عن �أحمد �أنه �سعى �إىل االت�صال باخللفاء، �سلبي ًا .ولرمبا كان هذا �أو �سعى �إىل ن�صح احلكام ،فقد كان موقفه منهم ّ املوقف منه لر�ؤيته غلبة املعتزلة على اخلليفة والدولة ،فاجتهت جِ هوده كلها لإحياء ال�سنة ،يف وقت تغيب فيه �شم�س ال�سنة. ولقد كان �أحمد ينهي �أ�صحابه و�سامعيه ،عن كتابة غري احلديث، خ�شية �أن ين�رصف النا�س عن احلديث وال�سنة �إىل �آراء الفقهاء يف الفروع، ولأنه قد يقول بفتوى اليوم ويغريها غداً ،حني ي�ستبني وجه ًا �آخر للفتوى، من قر�آن� ،أو حديث� ،أو �سنة� ،أو فتوى لل�صحابة ،وكان يكره �أن تروى عنه فتاواه كتابة �أو �شفاهة� ،أو كان هكذا على الأقل يف �أول �أمره ،حني كان يرى �أن الإقناع نوع من االبتالء ينزل بالفقيه ،حيث ال يكون هناك ن�ص متبع� .أو �سنة م�أثورة .ف�أحمد كان يعد نف�سه حمدث ًا قبل كل �شيء ،ولقد نذر حياته كمحدث للم�سند الذي جمع فيه الأحاديث. م�سند �أحمد وم�سند �أحمد ،هو خال�صة ما تلقاه �أحمد بن حنبل من الأحاديث، ودونها ب�إ�سنادها ،منذ �أن كان يف ال�ساد�سة ع�رشة من عمره .وقد بد�أ �أحمد طلب احلديث ،وجمع امل�سند �سنة 180هجرية ،عن الثقات الذين يلتقي بهم ويروي عنهم. 170
وحني �رشع �أحمد يف جمع �أحاديث م�سنده ،كان يكتبها يف �أوراق منفردة ،وحني �شعر بدنو �أجله ،بادر ب�إ�سماع �أحاديث م�سنده لأوالده و�أهل بيته .لكنه مات قبل حتقيقه وتهذيبه ،فبقي على حاله دون تبويب، �أو ترتيب .وقد �ضم �إليه ابنه عبد اهلل ما ي�شابهه ومياثله من الأحاديث. وراوي امل�سند الذي بني �أيدينا اليوم ،هو عبد اهلل بن �أحمد بن حنبل، وكان �شغوف ًا منذ �صغره بطلب احلديث ،من �أبيه ،ومن غري �أبيه ،ويف حياة �أبيه ،وبعد حياة �أبيه .ولقد بلغ من منزلته يف احلديث �أن �أباه �أحمد كان يروي عنه ،ويقول: «ابني عبد اهلل حمفوظ يف علم احلديث ،ويذكرين مبا ال �أحفظ». ولقد قرر العلماء �أن هذا االبن كان �أروى للحديث من �أبيه .وقد حاول عبد اهلل ترتيب م�سند �أبيه ،وتبويبه ،على معجم ال�صحابة ،والرواة. ول�صعوبة هذا الرتتيب فقد �أعاد ترتيبه �إ�سماعيل بن عمر ،و�أ�ضاف �إليه �أحاديث الكتب ال�ستة ،ومعجم الطرباين الكبري ،وم�سند بن البزار ،وم�سند �أبي يعلى املو�صلي .وللعلماء على هذا امل�سند ،وقوة �أحاديثه� ،أو �ضعفها، مالحظات �شتى.
�إمام االتباع مل يكتب �أحمد بن حنبل �إال احلديث ،ومل يكتب �أحمد كتاب ًا يف الفقه، ميكن �أن يعد �أ�ص ًال ومرجع ًا ،لكن له �أبواب ًا متناثرة ،مكتوبة يف الفقه، فيها فهم للن�صو�ص القر�آنية والأحاديث ،ولي�س فيها ر�أي مبتدع ،وال ا�ستنباط ،وال قيا�س. من هذه الأبواب ر�سالة يف ال�صالة ،ور�سالتان يف املنا�سك ،كبرية، و�صغرية .ور�سالة كتبها �إىل �إمام م�سجد� ،صلى �أحمد وراءه ،ف�أ�ساء يف �صالته .وكلها كتب حديث يف مو�ضوعات فقهية ،ويف جمال العبادات 171
�أحمد بن حنبل
ال املعامالت. ولأحمد ر�سائل �أخرى ،يرد بها على الزنادقة ،واجلهمية ،ويبني فيها مذهبه يف فهم القر�آن. وقد كان �أحمد يكره وينهي �أن تنقل عنه الفتاوى �أو تدون� ،أو تن�رش با�سمه ،وقد جتاوز البع�ض من �أ�صحابه نهيه ،مثل :حرب الكرماين ،و�أبو بكر اخلالل ،فقد نقال عنه ر�أيه يف �أربعة �آالف م�س�ألة من م�سائل الفقه، فهمها �أحمد يف �ضوء الن�صو�ص والآثار املروية. ولقد ت�ضارب الفقه املنقول عن �أحمد ت�ضارب ًا يثري ال�شك يف �صحة ن�سبة هذا الفقه �إليه ،فهي بني نفي و�إثبات .وجدير بالذكر �أن كثرياً يعدوه من الفقهاء ،ومنهم ابن جرير من الفقهاء املعا�رصين لأحمد مل ّ الطربي ،وابن قتيبة ،ففتاوى �أحمد يف امل�سائل �أقرب �إىل الرواية منها �إىل التخريج الفقهي ،بل �إنه لي�س له مثل مالك منهاج فقهي معني يف در�سه للأحاديث ،ولي�ست له قدرة �أبي حنيفة على تف�سري الروايات امل�أثورة املخرج ،الذي يبني قيا�سه على تخريجه ،كذلك مل يكن مثل تف�سري الفقيه ِّ ال�شافعي يف درا�سته ملناهج الفقه ،وحتريره لأ�صوله. ومع ذلك فقد ذاعت م�سائل �أحمد الفقهية ،االتباعية ،يف حياته، وا�شتهرت ب�شهرته ،نق ًال عن تالميذه. والنقلة عن �أحمد ،كانوا بني راوٍ عنه للحديث ،وراوٍ عنه لفقه احلديث، �أو لهما مع ًا ،وكانوا بني مكرث يف هذا النقل ،ومق ّل .وكان �أكرثهم ف�ض ًال يف ن�رش علم �أحمد� :صالح ابنه ،وعبد اهلل ابنه ،و�أحمد بن حممد الأقرم، املر َوز ِّي ،وحرب وعبد امللك بن عبد احلميد امليموين ،و�أحمد بن حممد ُ ين ،و�إبراهيم بن ا�سحق احلربي ،و�أحمد بن هارون الكرما ّ بن �إ�سماعيل ْ اخلالل ،وبعدهم جاء كثريون ،ممن نقلوا عنهم. وقد احتاج ا�ضطراب الروايات يف النقل عن �أحمد� ،إىل جهود من العلماء للموازنة بينها ،واختيار الأقوى يف ن�سبته لأحمد� ،أو ُيحكم بتعدد 172
الأقوال حني يتعذر االختيار �أو التوفيق. الوراق ،قال: ولقد حكى عبد الوهاب ّ «ما ر�أيت مثل �أحمد بن حنبل .رجل �سئل عن �ستني �ألف م�س�ألة، ف�أجاب فيها :حدثنا و�أخربنا. فقد كان �أحمد يكره الفتوى بالر�أي ،ويكره االبتداع يف الدين ،وي�ؤثر، مثل مالك� ،أال يفتي �إال فيما يقع من الأمور .وكان الأ�صل عنده هو جعل معامالت النا�س على �أ�صل العفو �أو الإباحة� ،إىل �أن يقوم دليل من ال�شارع على التحرمي ،يف ن�صو�ص القر�آن واحلديث �أو �آثار ال�سنة املروية. و�أحمد كان يفتي بامل�صلحة �إن �أعوزه الن�ص� ،أو الأثر املتبع ،ومل يحجم �أحمد عنها مثلما �أحجم ال�شافعي ،لكنه مل يعط امل�صالح املر�سلة القوة التي �أعطاها لها مالك. و�أحمد كان يكرث من الأخذ بالذرائع ،ويجعل للو�سائل حكم غاياتها، وللمقدمات حكم نتائجها ،حتليال وحترمي ًا. والأ�صول التي بنى عليها �أحمد فتاواه ،هي ،كما ذكرها ابن القيم، خم�سة :الن�صو�ص ،ثم ما �أفتى به ال�صحابة ،ثم االختيار من بني ما اختلف فيه ال�صحابة ،مما هو �أقرب �إىل الكتاب وال�سنة ،ثم الأخذ باحلديث املر�سل ،واحلديث ال�ضعيف ،ثم بالقيا�س عند ال�رضورة الق�صوى. lll
قوي ًا ،ووجد �أر�ض ًا منا فيها ،ب�أمور ثالثة: وكان مذهب �أحمد من بعده ّ ب�أ�صوله وفتاواه ،وبالتخريج فيه ،وبرجاله من احلنابلة ،الذين �أبقوا على باب االجتهاد يف املذهب احلنبلي مفتوح ًا. وقد ترك �أحمد للفقهاء جميع ًا حنابلة وغري حنابلة ،ح�صاداً من ن�صو�ص احلديث والآثار ،وح�صاداً من فهمه لهذه الن�صو�ص ،يرتكز عليها ،ويلج�أ �إليها �سائر الفقهاء ،عندما يفتون بامل�صالح املر�سلة، ن�ص ًا من كتاب �أو �سنة. وعندما يفتون بالقيا�س والر�أي ،حني ال يجدون ّ 173
�أحمد بن حنبل
وكان فقهاء املذهب احلنبلي بعد �أحمد ،بني جمتهد يف الفتوى اجتهاداً مطلق ًا ،مثل �أحمد ،وجمتهد مقيد مبذهب �أحمد ،يف قيا�سه لفتاواه على فتاوى �أحمد ،وجمتهد موازن بني �أقوال �أحمد يف امل�س�ألة الواحدة، ومقلد ملتزم مبذهب �أحمد ،ال يجاوزه �إىل ن�ص من كتاب �أو �سنة ،و�إذا ر�أى حديث ًا �صحيح ًا يخالف ما قال به �أحمد ،جتاوز عن احلديث و�أخذ بقول �أحمد. وعلماء الفقه احلنبلي يق�سمون فتاوى �أحمد و�أقواله �إىل :روايات تن�سب �إىل �أحمد ،وتنبيهات تومئ �إليها عبارات �أحمد ،و�أوجه مل يقل بها �أحمد ،و�إمنا قال بها املجتهدون يف مذهبه .وهم كثريون كرثة عظيمة �إىل يومنا. و�أتباع مذهب �أحمد من العامة قليلون �إىل يومنا ،لأنه كان �آخر املذاهب الأربعة وجوداً ،ولأن �أتباعه من العلماء كانوا يرف�ضون الواليات والق�ضاء ،ف�شجعوا النا�س على اتباعه ،ولأن ه�ؤالء الأتباع �صاروا متع�صبني ب�سبب املحنة الكربى التي نزلت ب�أحمد ،ولأنهم كانوا مت�شددين يف التم�سك مبا جاء عن �أحمد يف الفروع الفقهية ،ولأنهم ب�سبب هذا التع�صب فر�ضوا �أنف�سهم حمت�سبني متزمتني على اخلا�صة والعامة والأ�سواق .ولأن ال�سلطان والنا�س حاربوه لتع�صب معتنقيه من العامة. وقد انت�رش املذهب احلنبلي �أول انت�شاره يف العراق ،ثم �ضعف بالعراق ب�سبب فنت التع�صب التي �أثارها �أتباعه .ومل يظهر املذهب احلنبلي يف م�رص� ،إال يف القرن ال�سابع الهجري ،وبني قلة قليلة ،وكذلك كان حال هذا املذهب يف �سائر الأم�صار� ،إىل �أن انت�رش و�ساد يف الع�رص احلا�رض ،يف بالد احلجاز ،ويف جند ،التي اتبع فيها النجديون املذهب الوهابي ،وهو �صدى ملذهب بن تيمية ،وهو بدوره �صدى وامتداد للمذهب احلنبلي.
174