تأملات في الحضارة والديموقراطية والغيرية تزيفتان تودوروف كتاب الدوحة

Page 1



‫تزيفتان تودوروف‬ ‫(تأمالت في الحضارة‪ ،‬والديموقراطية‪ ،‬والغيرية)‬ ‫ُّ‬ ‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬


‫‪38‬‬ ‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 82‬من مجلة الدوحة أغسطس ‪2014‬‬

‫تزيفتان تودوروف‬

‫(تأمُّ الت في الحضارة‪ ،‬والديموقراطية‪ ،‬والغيرية)‬

‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬

‫الناشر ‪:‬‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬ ‫اإلخراج والتصميم ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬ ‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬


‫فهرس الكتاب‬

‫مقدمة‬

‫(كتب)‬

‫‪6‬‬

‫“تزيفتان تودوروف” سميولوجي‪ ،‬مؤ ِّرخ وفيلسوف‬

‫‪12‬‬

‫هل ثمة وجود لبرابرة متخ ِ ّلفين؟‬

‫‪25‬‬

‫عالَمِ مُ نقَ سِ م بين الطموح‪ ،‬واالستياء‪ ،‬والخوف‬

‫‪38‬‬

‫أعداد الديموقراطية الحميمون‬

‫‪45‬‬

‫دفاع ًا عن الحضارة‬

‫الجرأة على التفكير في المُ حال‬

‫الليبرالية المُ طلَقة تع ِّرض الديموقراطية للخطر‬

‫تأمُّالت مواطن أوروبي‬

‫‪18‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪54‬‬

‫االتّحاد الديموقراطي للوسط السويسري‬

‫‪59‬‬

‫الديموقراطية المُ لَغّ مة‬

‫‪67‬‬

‫سوخها‪ ،‬ومستقبلها‬ ‫الديموقراطية‪ :‬مُ ُ‬

‫(مقاالت)‬

‫التعايش مع ثقافات مختلفة‬

‫‪62‬‬

‫‪72‬‬

‫لماذا نحن ‪-‬دوماً‪ -‬في حاجة إلى فكر األنوار؟‬

‫‪89‬‬

‫تحت أنظار اآلخرين‬

‫‪100‬‬

‫التخلُّص من األعداء‬

‫‪95‬‬


‫(حوارات)‬ ‫«ديموقراطية تفرز بنفسها أعداءها»‬

‫تتنكر لإلنسانية؟»‬ ‫َّ‬ ‫«من سيدافع عن حضارة‬

‫‪118‬‬ ‫‪126‬‬

‫اسمِ الله»‬ ‫اسمِ حقوق اإلنسان كما نقتل بِ ْ‬ ‫«من السهل أن نقتل بِ ْ‬

‫‪131‬‬

‫«ليس ثمّ ة وجود لصراع حضارات»‬

‫‪145‬‬

‫«ديموقراطية متآ كلة من الداخل»‬

‫«ب َ​َحثْنا عن العدو‪ ،‬فوجدنا أنه نحن»‬ ‫جدران تُشَ ِّوه اإلنسان‬

‫‪6‬‬

‫‪138‬‬ ‫‪150‬‬ ‫‪162‬‬


‫إهداء‬

‫إلى ذكرى أبي‪.‬‬

‫إلى أمي الحنون التي ثابرت من أجل تعليمنا‪.‬‬

‫إلى زوجتي الغالية التي نفذ حبها إلى أعماقي فأضاء حياتي‪ ،‬إلى‬ ‫فتيحة‪.‬‬

‫إلى ابنتي الغالية إسراء التي مألت دنياي بالبهجة والفرح‪.‬‬

‫إلى ابنتي جيهان التي أضاءت شعاع ًا أخر في حياتي‪.‬‬

‫ُ‬ ‫انطلقت إلى جانبه منذ الصغر في رحلة البحث‬ ‫إلى أخي أحمد الذي‬ ‫عن المعرفة‪ ،‬فكان لي دوم ًا المع ِ ّلم النصوح واألستاذ المرشد‪.‬‬

‫إلى خالي العزيز قاسم‪.‬‬

‫إلى أصدقائي األعزاء‪ :‬بريبري عزوز‪ ،‬وعادل القريب‪.‬‬

‫إلى كل من آمن بأن المعرفة هي أثمن شيء في الوجود‪.‬‬ ‫إلى هؤالء جميع ًا أهدي ترجمة هذا الكتاب‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫تقديم‬

‫تؤجج فيه مقولة «صدام الحضارات» الصراع‪،‬‬ ‫في عالم محتقن ومتو ِ ّتر ِ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫والمفكر الفرنسي‪ -‬البلغاري تزيفتان‬ ‫وتذكي األحقاد‪ ،‬انبرى الفيلسوف‬

‫تودوروف (‪ )1939‬لتفكيك الخطاب الذي يجنح إلى التبسيط‬

‫واالختزال‪ ،‬فيشير بأصابع اال ِ ّتهام إلى اآلخر األجنبي على أنه مصدر‬

‫الخطر‪ ،‬خصوص ًا إذا كان هذا اآلخر مسلم ًا‪.‬‬

‫إن كتاب تزيفتان تودوروف الموسوم بـ «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء‬ ‫صدام الحضارات» دفاع إنساني لبناء جسور الحوار بين الحضارات‪،‬‬

‫ونسف ألطروحة الصدام التي َروَّج لها صامويل هنتنغتون بهدف إشعال‬ ‫فتيل الحرب بين الغرب والشرق‪.‬‬

‫انطالق ًا من مقاربة‬ ‫متعددة األبعاد تتقاطع فيها حقول معرفية متن ِّوعة‪ :‬علم‬ ‫ِّ‬

‫ينبه تودوروف‬ ‫النفس‪ ،‬علم االجتماع‪ ،‬التاريخ‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬األنثروبولوجيا‪ّ ِ ،‬‬

‫الم َرضي من اآلخر‪-‬خصوص ًا اإلنسان المسلم‪-‬‬ ‫الغرب إلى خطر الخوف َ‬

‫ّ‬ ‫يقض مضجع الغربيين‬ ‫ألن اإلذعان لهذا الخوف الذي أضحى رهاب ًا‬

‫ضده سلوكيات أ كثر‬ ‫دفعهم إلى اعتبار اآلخر بربري ًا‪ ،‬ومن ث ََّم مارسوا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل ما حدث في سج َن ْي أبو غريب‬ ‫إغراق ًا في البربرية والوحشية‪.‬‬

‫‪8‬‬


‫وغوانتانامو يبقى خير شاهد‪ .‬لهذا يقول تودوروف‪« :‬إن الخوف من‬

‫البرابرة شعور يوشك أن يجعلنا نحن أنفسنا برابرة»‪.‬‬

‫يدعو تودوروف إلى التح ّلي بالتسامح مع اآلخر وإزاء األقليات التي‬

‫تعيش داخل الغرب‪ ،‬من خالل الدعوة إلى التعايش مع الثقافات‬ ‫المختلفة إلرساء أسس التعايش والحوار مع اآلخر‪ .‬ويهاجم‪ ،‬بعين‬

‫ّ‬ ‫وتوطدت‬ ‫حصيفة ورؤية ثاقبة‪ ،‬الشعبوية اليمينية المتط ِّرفة التي استقوت‪،‬‬ ‫بسبب خطابها المعادي لآلخر‪ ،‬حيث تنسب علل المجتمع الغربي إلى‬ ‫ّ‬ ‫التصدي للشعبوية التي‬ ‫يحث الغرب على‬ ‫األجنبي المسلم‪ .‬لذلك فهو‬ ‫ّ‬

‫ضد األجانب عن‬ ‫تغري الكتلة الجماهيرية وتجاملها بممارسة العنصرية ّ‬

‫طريق العزف على أوتار القيم الديموقراطية والمثل العليا لعصر األنوار‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫ويحذر صاحب «حول التنوُّع اإلنساني (‪ »)1993‬و«الحديقة‬

‫المنقوصة‪ :‬تركة اإلنسانية (‪ »)2002‬الغرب‪ ،‬بل العالم أجمع‪ ،‬من‬

‫خطاب الكونية الزائفة حيث يسعى الغرب بشكل جنوني وبطرق غير‬ ‫مشروعة إلى إسقاط منظوره الحضاري على الشرق على اعتبار أن‬

‫حضارته هي األرقى واألرفع منزلة‪ ،‬فيقصي ‪-‬من ث ََّم‪ -‬الطرف اآلخر‪،‬‬ ‫ويقضي على خصوصيته‪ .‬ولتحقيق هذا المبتغى‪ ،‬يلجأ الغرب إلى القوة‬

‫العسكرية التي ي ّ‬ ‫«التدخل اإلنساني» لنشر‬ ‫ُلطفها بعبارة بالغية توروية‬ ‫ُّ‬

‫النور والحضارة والديموقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬وهذا ما فعله الغرب‬

‫التدخل‬ ‫في العراق وأفغانستان‪ .‬لكن‪ ،‬كما يالحظ تودوروف‪ ،‬فإن هذا‬ ‫ُّ‬

‫مخيب ًا لآلمال بسبب ما ارتكبه الجيش األميركي من حروب قاتلة‬ ‫كان‬ ‫ِّ‬

‫ومد ِ ّمرة‪ .‬لهذا يدعو تودوروف الغرب إلى التس ُّلح بالقوّة الناعمة التي‬

‫تؤمن بجدوى الحوار واحترام خصوصية اآلخر‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫يضم هذا الكتاب حوارات ومقاالت وقراءات ن ُِشرت في الصحف‬ ‫ّ‬

‫والمجالت الفرنسية‪ ،‬وتعرض ‪-‬بتحليل دقيق‪ -‬وجهة نظر صاحب «األدب‬

‫في خطر» تجاه قضايا العالم الراهنة انطالق ًا من كتبه الصادرة في اآلونة‬ ‫األخيرة «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‪« ،‬الفوضى‬ ‫العالمية الجديدة‪ ،‬تأمُّ الت مواطن أوروبي»‪« ،‬أعداء الديموقراطية‬

‫ْ‬ ‫ينكب تودوروف على‬ ‫و«غ ِويّا في ظل األنوار»‪ .‬وفيها‬ ‫الحميمون»‪،‬‬ ‫ّ‬

‫دحض مقولة التفوُّق الحضاري للغرب التي تعيد إلى أذهاننا «عبء‬ ‫الرجل األبيض» الذي يجاهد لتمدين اآلخر ونشر الحضارة في أقطاره‪.‬‬ ‫بحس نقدي رفيع ونزعة إنسانية صادقة يهاجم األصوات المتط ِّرفة في‬ ‫ّ‬

‫تنم عن الغطرسة والصلف‪ .‬تق ِّوض‬ ‫الغرب التي تعادي اآلخر بطريقة ّ‬ ‫كتب تودوروف اآلراء العنصرية للكاتبة اإليطالية أوريانا فاالتشي التي‬

‫ترى أن «اإلقدام على الحديث عن ثقافتين أمر مزعج‪ ،‬أما وأن نتحدث‬ ‫عن المساواة بينهما فذلك أمر يثير غضبي»‪ ،‬كما ينسف تودوروف الرؤية‬ ‫المتعالية للكاتب إيلي برنافي في كتابه «األديان القاتلة» الذي يرى أن‬

‫«هناك الحضارة من جهة‪ ،‬والبربرية من جهة أخرى‪ ،‬وبينهما ال مجال‬ ‫للحديث عن الحوار»‪.‬‬

‫يستعين تودوروف بآراء أنثروبولوجيين ي َّتسمون بنزعة إنسانية‪ ،‬كالفرنسي‬

‫كلود ليفي ستروس الذي يرى «أن الحضارة تراث إنساني مشترك»‪.‬‬

‫وهذا ما يتردَّ د صداه في كتب تودوروف التي تدعو إلى الحوار‪ ،‬وتحمل‬

‫ّ‬ ‫يكف عن احتقار اآلخر‪ ،‬ولرجال السياسة‬ ‫الحكمة والنصيحة للغرب كي‬

‫التدخل العسكري المد ِ ّمر الذي يذكي جذوة‬ ‫كي يعملوا على وقف‬ ‫ُّ‬

‫الصراع‪ ،‬ويشعل نار الكراهية‪ ،‬فالخير عنده ال يُفرض بالقوة‪ ،‬بل بالحوار‬

‫‪10‬‬


‫واالقتراح‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫المفكرين المعاصرين الذين قاموا بإثراء‬ ‫تودوروف هو اليوم من أبرز‬

‫متعددة؛ وذلك لما‬ ‫الفكر اإلنساني‪ ،‬حيث تُرجمت أعماله إلى لغات‬ ‫ِّ‬

‫تحمله من رؤية مرجعية فكرية ال غنى عنها في تحليل القضايا الراهنة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫المثقفين الذين‬ ‫والمفكر العالمي‪ ،‬وواحد من نخبة‬ ‫إنه الكاتب الكوني‪،‬‬

‫بصموا التاريخ بمواقف جريئة من أجل بناء جسور الحوار بين الثقافات‬ ‫المختلفة عن طريق نقد مكامن االنحراف في الفكر الغربي‪ ،‬لكشف‬

‫تشوُّهاته وتح ُّيزاته المغرضة التي تتعارض مع الجوهر اإلنساني المؤمن‬

‫بغض النظر عن اللغة والدين والعرق‪.‬‬ ‫بالحوار والتعايش مع اآلخر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫المترجم‬

‫‪11‬‬



‫«أعداء الديموقراطية الحميمون»‬ ‫تأمالت مواطن أوروبي»‬ ‫«الفوضى العالمية الجديدة ‪ُّ :‬‬

‫«الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‬

‫كتب‬


‫تزيفتان تودوروف‬ ‫مؤرخ وفيلسوف‬ ‫سميولوجي‪ِّ ،‬‬ ‫ُو ِلد تزيفتان تودوروف سنة ‪ 1939‬بصوفيا في بلغاريا‪ ،‬وحصل سنة‬ ‫‪ 1963‬على تأشيرة للدراسة في فرنسا‪ ،‬ومنذ ذلك التاريخ وهو يعيش‬

‫في باريس‪ .‬ويم ِ ّثل ‪-‬إلى جانب روالن بارت‪ -‬واحد ًا من كبار البنيوية‪،‬‬

‫حدد تودوروف مع‬ ‫أسس مع جيرار جينيت مجلة «الشعرية»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫كما َّ‬ ‫جينيت المفاهيم األساسية للسرديات‪ ،‬العلم الذي يدرس التقنيات‬

‫المستخدمة في النصوص األدبية‪َ .‬ع ْنوَن تودوروف أوَّل‬ ‫والبنيات السردية‬ ‫َ‬ ‫أعماله بـ«نظرية األدب‪ ،‬نصوص الشكالنيين الروس» منشورات ساي‬

‫(‪ .)1966‬في سنة ‪ ،1972‬أتاح نشر «المعجم الموسوعي لعلوم اللغة»‬

‫لتودوروف اكتساب شهرة كبيرة‪.‬‬

‫في عام ‪ ،1978‬خالل جولة محاضرات في المكسيك‪ ،‬بدأ تودوروف‬

‫يهتم بغزو أميركا من ِق َبل اإلسبان‪ ،‬كما بدأ شغفه بقضية فهم اآلخر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تساءل تودوروف عن تنوُّع الثقافات والتصوُّرات البشرية والنتائج‬

‫المتر ِ ّتبة عن هذا التنوُّع في تاريخ العالقات الدولية‪ .‬قاد هذا التأمُّ ل‬

‫الفكري تودوروف إلى إعادة قراءة أعمال مونتين‪ ،‬مونتسكيو‪ ،‬كونسطو‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مفكر ًا إنساني ًا بالمعنى األكثر تقليدية‬ ‫توكفيل‪ ...‬وإلى تنصيب نفسه‬ ‫للمصطلح‪.‬‬

‫بصفته فيلسوف ًا‪ ،‬يشرع تودوروف في البحث عن رؤية أخالقية للتاريخ‪،‬‬ ‫‪14‬‬


‫ويتساءل ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬عن المآسي الكبيرة في القرن العشرين‪.‬‬

‫«مواجهة المتط ِّرف‪ :‬الحياة األخالقية في معسكرات االعتقال»‪،‬‬

‫(‪« ،)1991‬ذاكرة الشر‪ ،‬إغواء الخير»‪.)2000 ،‬‬

‫وبصفته سياسي ًا‪ ،‬يشارك تودوروف ‪-‬أيض ًا‪ -‬في قضايا التعليم مُ َّتخذ ًا‬ ‫موقف المناصر المقتنع بضرورة إصالح المدرسة‪ .‬يقرأ المرء اليوم‬

‫تودوروف ككاتب‪ ،‬تسعى أعماله إلى تحديد المعالم المعاصرة لليبرالية‬

‫إنسانية «الحديقة المنقوصة»‪.)1998( ،‬‬

‫ظهرت هواجس شباب تودوروف‪ ،‬الذي قضاه في ظل نظام كلياني‬ ‫(غادر بلغاريا الشيوعية في الرابعة والعشرين من عمره) في كتابه‬ ‫«ذاكرة الشر‪ ،‬إغواء الخير»‪ ،‬وفيه يقوم بتقديم تحقيق عن رعب النظام‬ ‫الكلياني‪ .‬يقول في هذا الكتاب إنه ال يرى أي فرق بين مذبحة معارضين‬

‫سياسيين واإلبادة الجماعية‪ .‬لكن‪ ،‬ليس إلى َح ّد االستفادة من ذلك في‬ ‫التحليالت السياسية حول اختيار النظام الحالي‪ ،‬كما يفعل ذلك بعض‬ ‫أنصار الليبرالية المتط ِّرفة المحافظة‪.‬‬

‫إن تحليل تودوروف األخير للصراع في يوغوسالفيا ي َّتسم بالتكامل‪ ،‬وال‬

‫تنم عن ألمعية الفكر‪ ،‬يطرح تودوروف أسئلة جذرية‬ ‫تشوبه شائبة‪ .‬بفطنة ّ‬ ‫عن الغموض المريع لواجب الذاكرة‪ ،‬التي يطيب للنفوس الجميلة أن‬

‫تؤدي إلى تقديس‬ ‫تضجرنا بها مع بعض التناقضات‪ ،‬والتي توشك أن ّ‬ ‫َ‬ ‫ضد اإلنسانية‪ ،‬من ِق َبل‬ ‫الشر‪« :‬إن العمل على وصم الجرائم‬ ‫المرتكبة ّ‬

‫فئة دون غيرها من البشر‪ ،‬يحثّنا على فصل هذه الجرائم عن السلوكيات‬

‫اإلنسانية األخرى وجعلها غير مفهومة»‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫أ ّل َ‬ ‫ف تودوروف العديد من الكتب التي تتط َّرق لألدب‪ ،‬التاريخ‪،‬‬ ‫السياسة‪ ،‬األخالق‪ .‬كما درّس في جامعة يال في الواليات المتحدة‪،‬‬

‫وفي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس‪ .‬ت ِ‬ ‫ُرجمت أعماله‬

‫إلى ما يزيد على ‪ 25‬لغة‪ .‬ويحكي عن حياته‪« :‬عندما كنت أعيش في‬ ‫بلغاريا‪ ،‬كان التعليم غارق ًا في اإليديولوجيا الماركسية‪ .‬الوسيلة الوحيدة‬ ‫للهروب منها كانت تكمن في دراسة الصور البالغية‪ ...‬عندما جئت إلى‬

‫فرنسا‪ ،‬اكتشفت تدريجي ًا أن بإمكان المرء الدفاع عن اآلراء دون خداع‬

‫أو سخرية‪ .‬في الوقت نفسه‪ ،‬لم أعد بحاجة إلى االقتصار‪ ،‬فقط‪ ،‬على‬ ‫دراسة الجانب الشكلي لألعمال األدبية‪ .‬كان‪ ،‬ثمة في الواقع‪ ،‬شيء من‬

‫التعسف حين يقوم ّ‬ ‫النقاد بِ َب ْتر فكر المؤ ِّلفين وطمسه‪ .‬أصبح بإمكاني‬ ‫ُّ‬ ‫االنغماس في دراسة األدب بكل تعقيداته‪ .‬يبقى األدب دوم ًا ظاهرة غير‬

‫خالصة‪ :‬إنه ليس لعبة لغوية‪ ،‬فاألدب يُلزم الكاتب بوجوده الكامل‪ ،‬إنه‬ ‫ال ُ‬ ‫ثراء لإلنسانية‪ .‬إذا كنا ما زلنا نقرأ أعما ً‬ ‫لك ّتاب من الماضي‪ ،‬فذلك‬ ‫ألنهم يع ّلموننا شيئ ًا جديد ًا عن وضعنا البشري»‪.‬‬

‫َّ‬ ‫يتدخل للتعليق على‬ ‫«يبقى تزيفتان تودوروف شخصية رزينة‪ ،‬نادر ًا ما‬

‫َّ‬ ‫المفضلة‪،‬‬ ‫األحداث الراهنة‪ ،‬لكن‪ ،‬من خالل مساره الفكري ومواضيعه‬ ‫يتموقع في مفترق الطرق بخصوص الكثير من قضايانا المعاصرة‪ .‬إنه‬

‫أ كثر تش ُّبث ًا بالروح الفرنسية مقارنة مع العديد من َّ‬ ‫مثقفينا‪ ،‬وذلك من‬ ‫َّ‬ ‫المثقفين الذين‬ ‫خالل اإلرث الثقافي الذي يضطلع به‪ ،‬كما ي َُع ّد من‬

‫ت ِ‬ ‫ُرجمت أعمالهم في العالم بشكل كبير‪ .‬يدافع عن نزعة إنسانية نقدية‬ ‫الدجالين»‪.‬‬ ‫خالية من التزمُّ ت التقليدي لبعض‬ ‫ّ‬

‫نشر تودوروف العديد من الكتب‪ ،‬منها‪« :‬األدب والداللة»‪« ،‬أنواع‬ ‫‪16‬‬


‫الخطاب»‪« ،‬سعادة عابرة»‪« ،‬نحن واآلخرون»‪« ،‬مواجهة المتط ِّرف»‪،‬‬ ‫« الحديقة المنقوصة»‪« ،‬ذاكرة الشر‪ ،‬إغواء الخير»‪...‬‬

‫ِّ‬ ‫مفكر ًا أصي ً‬ ‫تدخل حلف‬ ‫ال‪ ،‬تج َّن َد تزيفتان تودوروف لمعارضة‬ ‫بصفته‬ ‫ُّ‬

‫شمال األطلسي في كوسوفو‪ .‬وهو الحدث الذي تط ُّرق إليه بشكل‬ ‫مستفيض في كتابه «ذاكرة الشر‪ ،‬إغواء الخير» ( ‪ .)2000‬كما عارض‪،‬‬

‫بقوّة‪ ،‬غزو العراق من ِق َبل الجيش األميركي وحلفائه‪.‬‬

‫ليتصدى‪،‬‬ ‫والج َلد‪ ،‬ويتم َّيز بالحزم‬ ‫ينبغي على المرء أن يتح ّلى بالصبر‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫بروح نقدية‪ ،‬لنظرية «صدام الحضارات» التي قال بها‪ ،‬منذ سنة ‪،1993‬‬ ‫صموئيل هنتنغتون‪ .‬فالمؤ ِّرخ والفيلسوف تزيفتان تودوروف مجبر بقوّة‬

‫للرضوخ إلى حكم الواقع‪ :‬فكتاب «صدام الحضارات» للعا ِلم السياسي‬

‫هنتنغتون المنتمي إلى المحافظين الجدد في أميركا يبقى كتاب ًا عسير‬

‫الهضم وإن كان محدود ًا من الناحية الفكرية‪ .‬لقد ألهب هذا الكتاب‬

‫العالم ببساطة استنتاجاته الحاسمة‪ ،‬لدرجة أن المرء ال يعرف كيف‬ ‫ِّ‬ ‫يقدمها هنتنغتون في هذا‬ ‫يفكر في قضايا العالم خارج التصنيفات التي ِ ّ‬

‫الكتاب‪ .‬إن تقسيم العالم من طرف هنتنغتون إلى حضارات متصارعة‬

‫رسخ الخوف من اآلخر واالرتياب‬ ‫ومتناحرة وفق المعيار الديني قد َّ‬

‫قطعي ًا‪ ،‬عصر‬ ‫من ثقافته‪ .‬إن الحادي عشر من سبتمبر ‪ 2001‬فتح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«صراع الحضارات»‪ .‬في مقابل استياء اإلسالم ‪-‬وبشكل عام‪ ،‬الدول‬ ‫المستعمرة والمستعبدة سابق ًا بسبب الماضي الكولونيالي‪ -‬يهيمن على‬ ‫‪ٙ‬‬ ‫الغرب الشعور بالخوف من اآلخر‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬يقوم كل طرف (الغرب‬

‫واإلسالم) بإعادة تسليح هويَّته (الوحيدة) وثقافته األبدية‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫تبقى الغاية من تناوله موضوع صراع الحضارات‪ ،‬هي الضرورة‬ ‫وتؤجج مناخ العداء‬ ‫الملحة لتجاوز حالة التناحر التي تم ِ ّزق العالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬

‫ضد اإلرهاب ب َّررت العديد من الجرائم التي‬ ‫بين الحضارات‪ .‬الحرب ّ‬ ‫ُكبت بضمير مرتاح ‪( -‬خصوص ًا الشرعية التي ت ََّم إضفاؤها على‬ ‫ارت ِ‬

‫ِّ‬ ‫يحذرنا تودوروف من أن‬ ‫التعذيب من ِق َبل الديموقراطيات الغربية)‪.‬‬ ‫«الخوف من البرابرة هو شعور يوشك أن يجعلنا برابرة»‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن هذا‪،‬‬ ‫هناك ضرورة أخرى تتمثَّل في الرجوع إلى تاريخ األفكار‪ :‬إن تزيفتان‬ ‫تودوروف ليس األحسن واألفضل إال حين يتناول القضايا الكبيرة‬

‫والمفاهيم المشحونة بحمولة فكرية (البربرية‪ ،‬الهويّة الجماعية‪ ،‬الثقافة‪،‬‬ ‫الحضارة‪ ،‬القيم األخالقية‪ ،‬اإلرهاب‪ ،‬حقوق اإلنسان‪ ،‬ح ّريّة التعبير‪)...‬‬

‫فيزيل عنها الغشاوة واللبس لتستعيد صفاءها و َأ َلقها‪.‬‬

‫ينبغي على المرء‪ ،‬بعد قراءة «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام‬

‫الحضارات» لتودوروف‪ ،‬أن يغوص ثانية ‪-‬بشكل عميق‪ -‬في قراءة‬

‫كتابه اآلخر الموسوم بـ«نحن واآلخرون» الذي ي َُع ّد رحلة موسوعية‬ ‫شاملة حول التنوُّع البشري في الفكر الفرنسي‪ ،‬من مونتين إلى كلود‬

‫ليفي ستروس‪ .‬إن كتاب تودوروف دعوة للحوار بين الثقافات «كل‬

‫تتجدد وتتغ َّير هي ثقافة ميتة» كما ِ ّ‬ ‫يؤكد‪ .‬بناء جسور الحوار‬ ‫ثقافة ال‬ ‫َّ‬ ‫تعدد الهويّات‪ ،‬تلك هي األنماط‬ ‫بين البشر والحقول المعرفية‪ ،‬احترام ُّ‬ ‫التي يدعو إليها تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة»‪ .‬وهو يصبو‪،‬‬

‫في هذه الفترات العصيبة التي تم ّر بها البشرية‪ ،‬إلى أن يمنح الناس قوّة‬

‫جديدة كفيلة بدحر الخوف وإسقاط عوائق الحوار بين الحضارات‪.‬‬

‫َّ‬ ‫المثقفين الفرنسيين األكثر ترجمة في‬ ‫ي َُع ّد تزيفتان تودوروف واحد ًا من‬ ‫‪18‬‬


‫العالم‪ ،‬حيث ت َُع ّد كتبه تعبير ًا عن الفكر األوروبي‪ .‬وإذا كان الصوت‬

‫يرن غالب ًا‪ ،‬بشكل طفيف‪ ،‬في الساحة الثقافية فتلك‬ ‫المعتدل لتودوروف ّ‬

‫المتحجر‪.‬‬ ‫إحدى العالمات على النقاش اإليديولوجي‬ ‫ِّ‬

‫ي َّتسم تودوروف بمواقف إنسانية تؤمن باحترام معتقدات اآلخرين‪ .‬تج ّلى‬

‫هذا الموقف في قضية الرسوم الكاريكاتورية عن الرسول محمد (ص)‬ ‫وكلمة البابا راتيسبون‪ ،‬حيث ثار تودوروف على ما وصفه بـ«خطف‬

‫التنوير» من ِق َبل «المدافعين المحافظين في الثقافة الغربية السامية»‬

‫االدعاء‪ ،‬دون أي تخوُّف من إفساد‬ ‫ينصبون أنفسهم ‪-‬بكثير من‬ ‫ّ‬ ‫الذين ِ ّ‬

‫ضد ظالم القوى الرجعية‪.‬‬ ‫التوافق السائد ‪ -‬إلى جانب الح ّريّة ّ‬

‫لنراهن على أن كتاب «الخوف من البرابرة»‪ ،‬هذا الكتاب المنفتح‬ ‫والمكتوب برصانة عقلية ووضوح فكري‪ ،‬سينتشر بين الق ّراء الحريصين‪،‬‬ ‫بلهفة وطموح‪ ،‬على استنباط األدوات الالزمة لمقاومة النزعات المانوية‬

‫المحدقة بنا‪.‬‬

‫‪2012 /04/11‬‬

‫‪19‬‬


‫دفاع ًا عن الحضارة‬ ‫ما وراء صدام الحضارات‬ ‫ّ‬ ‫البت في النقاش الذي يدور في الغرب حول «صراع‬ ‫يتم ‪-‬عموم ًا‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫الحضارات» كتصوُّر سطحي وتبسيطي انطالق ًا من موقفين متنافرين‪:‬‬

‫يتوجب‬ ‫موقف المدافعين بضراوة‪ ،‬من جهة‪ ،‬عن األطروحة القائلة بأنه‬ ‫َّ‬

‫يهددها‬ ‫نرسخ قيمنا وندافع عنها‬ ‫ضد من ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫علينا نحن ‪-‬الغربيين‪ -‬أن ِ ّ‬

‫بالزوال‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬موقف المعارضين األشداء ألطروحة «صدام‬

‫الحضارات» التي ال تعني لهم شيئ ًا سوى نبوءة ذاتية التحقيق صادرة‬

‫كمرسوم من طرف غرب متعجرف يرغب في تطبيق أهدافه اإلمبريالية‬

‫زاحف ًا تحت قناع قيم التسامح والح ّريّة‪ .‬ينطوي هذان الموقفان على‬

‫نعد كال الموقفين‬ ‫المضاعفة بخطأ منهجي‪ :‬أن ّ‬ ‫الفرضية المسبقة نفسها‪ُ ،‬‬

‫نجمد‪ ،‬في كل مرة‪ ،‬الهويات‬ ‫متساويين أو متنافرين بشكل تراتبي فإننا‬ ‫ِّ‬ ‫ونحجرها انطالق ًا من سمة وحيدة‪ ،‬دون أن ندرك أن هذه السمات‬ ‫ِّ‬

‫تحيل تارة على جوانب ثقافية (كاالنتماء الديني)‪ ،‬وتارة على جوانب‬

‫سياسية (كاختيار األنموذج الديموقراطي)‪ .‬لكي نتآلف ونتك َّيف مع‬ ‫ّ‬ ‫نتخطى مقولة «صدام‬ ‫تعقيدات العالم‪ ،‬و«نتجاوز الصعوبات» يجب أن‬

‫الحضارات» لنقوم بالتفكير في أنموذج يضمن تنوُّع الخصائص الثقافية‪،‬‬

‫تقدم‬ ‫ويساهم في بناء نزعة عالمية كفيلة باستيعاب االختالفات ودعم ُّ‬

‫الحضارة ورق ّيها‪ .‬إن طموح تجاوز مقولة «صدام الحضارات» يبقى‬ ‫الهدف المركزي لمشروع تزيفتان تودوروف في كتابه األخير «الخوف‬ ‫‪20‬‬


‫َّ‬ ‫المثقف ذو األصل‬ ‫من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‪ ،‬إذ ي َّتخذ‬

‫البلغاري‪ ،‬كنقطة انطالق‪ ،‬التصنيفية التي يقترحها دومينيك مْوازي في‬

‫كتابه «صدام المشاعر» الذي يشير إلى أن الدول الغربية يهيمن عليها‪،‬‬

‫في الوقت الراهن‪ ،‬بشكل كبير‪ ،‬الشعور بالخوف‪ ،‬الخوف في الوقت‬

‫نفسه مما يسمى «دول الشهية» (أي دول البريكس المتميزة بالطموح‬

‫كالصين‪ ،‬روسيا‪ ،‬البرازيل‪ ..‬إلخ) وما تمتلكه من إمكانيات هائلة للتنمية‬

‫ُنعت بـ«دول االستياء والعداء»‬ ‫االقتصادية‪ ،‬ثم الخوف من الدول التي ت َ‬

‫تعمرة سابق ًا) التي قد يح ِّركها الشعور بالحقد والكراهية‬ ‫(الدول ُ‬ ‫الم ْس ‪ٙ‬‬ ‫ضدنا نحن الغربيين‪.‬‬ ‫ّ‬

‫إذا كان للغرب كامل الشرعية في ترسيخ قيمه والدفاع عنها بحزم‪،‬‬

‫فإنه يخاطر باالستسالم لهيمنة الشعور بالخوف الذي يقوده إلى القيام‬

‫بردود فعل مفرطة وغير مناسبة كالحرب في العراق‪ ،‬سجن غوانتانامو‪،‬‬

‫أو العودة إلى ممارسات التعذيب باعتبارها الكارثة األكثر هو ً‬ ‫يؤدي‬ ‫ال‪ّ .‬‬

‫الخوف إلى االعتقاد بأن ما هو غير مقبول يبقى باعث ًا ضروري ًا يدفعنا إلى‬

‫الرد على ّ‬ ‫لنرسخ قيم‬ ‫ّ‬ ‫أي تهديد‪ .‬كيف يمكننا الخروج من هذه الدوّامة ِ ّ‬

‫والتعددية من دون الوقوع تحت طائلة استعراض القوة؟ جواب‬ ‫التسامح‬ ‫ُّ‬

‫تزيفتان تودوروف هو نتاج لتحليل دقيق لمفاهيم الحضارة‪ ،‬البربرية‪،‬‬

‫العالمية‪ ،‬والهويّة‪ ،‬تحليل يسمح بتصحيح وتقويم النتائج الوخيمة‬

‫للمفاهيم الخاطئة التي يمتلكها المرء بصدد هذه المواضيع‪.‬‬ ‫ترسيخ قيم الحضارة‬

‫س له تزيفتان تودوروف الجزء األول‬ ‫ماذا يعني مفهوم الحضارة الذي َك َّر َ‬ ‫‪21‬‬


‫من عمله؟ مثلما أن مفهوم البربرية يتعارض مع مفهوم الحضارة فيمكن‬

‫فهم هذه األخيرة بالمعنى النسبي وبالمعنى المطلق‪ :‬يكمن المعنى‬

‫النسبي في اعتبار أن البربري هو الذي ال يتك َّلم لغتي‪ ،‬ومن ث ََّم يبقى‬ ‫بعيد ًا عن بنية عقلي‪ ،‬في حين أن المعنى المطلق يرى أن البربرية تكمن‬

‫التعددية اإلنسانية‪ ،‬والتي يكمن جوهر الحضارة في االعتراف‬ ‫في إنكار‬ ‫ُّ‬

‫بها‪ .‬ال ينفي تودوروف وجود شكل من أشكال الهمجية‪ ،‬كما ال ينفي‬

‫وجود شكل من أشكال الحضارة‪ .‬لكنه يرفض أن يربط‪ ،‬بشكل منهجي‪،‬‬

‫يشدد تودوروف على‬ ‫الحضارة‬ ‫ُّ‬ ‫بالتقدم التكنولوجي واالزدهار الفني‪ّ ِ .‬‬

‫فكرة أن الحضارة تكمن‪ ،‬أو ً‬ ‫ال‪ ،‬في القدرة على االعتراف بإنسانية‬

‫بتعدد أشكال‬ ‫اإلنسان اآلخر عن طريق ربط وحدة اإلنسانية‪ ،‬عموم ًا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تج ِ ّلياتها الثقافية‪.‬‬

‫ال يمكن للحضارة أن تقتصر على ثقافة واحدة‪ .‬إنها ليست سمة ثقافية‬

‫خاضعة‪ ،‬بشكل صارم‪ ،‬لعادات وتقاليد‪ ،‬بل تشير الحضارة إلى حالة‬

‫ذهنية قابلة لالنصهار مع كافة األشكال الثقافية‪ ،‬وقادرة ‪-‬بشكل أخص‪-‬‬ ‫على االعتراف بها على اختالفها وتنوُّعها‪ ،‬باعتبارها تع ِ ّبر عن اإلنسانية‬

‫المشتركة نفسها‪ .‬بالمقابل‪ ،‬فإن الهمجية هي الموقف الذي‪ ،‬بواسطته‪،‬‬

‫ننبذ شخص ًا ما خارج دائرة اإلنسانية من خالل نفي خالص الختالفه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يشكل سماته المختلفة‪ .‬إجما ً‬ ‫ال‪ ،‬فإن الحضارة تعبير عن إنسانية‬ ‫أو لما‬

‫خضم‬ ‫مشتركة واعية بوحدتها العميقة وقادرة على الترابط والتالحم في‬ ‫ّ‬ ‫تنوُّع أشكال التعبير الثقافي‪.‬‬ ‫الهو ّية والحضارة‬ ‫هناك ميزتان لالستفادة من هذا التعريف للحضارة‪ :‬الميزة األولى أنه‬ ‫‪22‬‬


‫ُّ‬ ‫التحفظ والحذر من نزعة عالمية مج َّردة‪ ،‬كما هو الشأن إزاء‬ ‫يساعد على‬

‫النزعة النسبية‪ ،‬والميزة الثانية هي أن هذا التعريف يسمح ببنينة مسألة‬

‫الهويّة عن طريق االنتماء الثقافي وحده‪ :‬بالتأ كيد يبقى هذا األخير سمة‬

‫يخص االنتماء لدولة ما واالعتراف‬ ‫أساسية‪ ،‬لكن بالطريقة نفسها‪ ،‬فيما‬ ‫ّ‬

‫بالقيم‪ .‬ال تتطابق هذه المستويات الثالثة لكنها قادرة على التعايش‪.‬‬

‫يتم تقويض الفكرة القائلة ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬إن الثقافة‬ ‫هكذا ّ‬ ‫عصية على معانقة القيم الديموقراطية‪.‬‬ ‫اإلسالمية تبقى‬ ‫ّ‬ ‫يجب أن تسود‪ ،‬في جميع المستويات المك ِّونة للهويّة‪ ،‬فكرة االنفتاح‪.‬‬

‫وفق ًا لتصوُّر تزيفتان تودوروف فإن أي انغالق للهويّة وتقوقعها يبقى‬

‫‪-‬على أية حال‪ ،‬من الناحية المنهجية‪ -‬أمر ًا مُ ض ّر ًا ومشوب ًا بالكثير من‬

‫العيوب‪ .‬إن التقوقع واالنكفاء ينفي ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬واقع أن كل‬

‫هويّة ثقافية هي نتاج لبناء ما على المستوى الفردي كما هو الشأن بالنسبة‬ ‫تتعدد اإلسهامات‪ ،‬وتتداخل التأثيرات‪ ،‬كما ينفي‬ ‫للجماعي‪ ،‬حيث‬ ‫َّ‬

‫االنغالق كون أن بنية الدولة ال تهدف إلى تنمية ثقافة وطنية تكون قادرة‬

‫‪-‬رغم كل شيء‪ -‬على ضمان االعتراف بالحقوق المتساوية لكل فرد‬

‫من خالل الربط بين مختلف المجموعات المكوّنة من دون محاصرتهم‬

‫في خصوصيتهم‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن هذا‪ ،‬فاالنغالق يجعل القيم مستق ّلة عن‬

‫الثقافات التي تنشأ عنها‪ ،‬كما يجعل هذه القيم قابلة لالعتناق والتب ّني‬ ‫ّ‬ ‫بغض النظر عن أي انتماء ثقافي‪.‬‬ ‫تعسفي ًا‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫في الواقع‪ ،‬إن الخيار الشعبوي الذي قام به نيكوال ساركوزي‪ ،‬بشكل‬

‫علني‪ ،‬والذي يهدف إلى إنشاء وزارة للهويّة الوطنية يبقى أمر ًا مثير ًا‬ ‫للجدل ومشكوك ًا في مصداقيته‪ .‬إن هذا الخيار ال يتطابق مع مهمة‬

‫‪23‬‬


‫ُّ‬ ‫تشكل‬ ‫الدولة ومصلحتها‪ ،‬ألنه يتجاهل حركة وت ُّنوع األشياء التي تحكم‬

‫الهويّة الثقافية‪ .‬إن هذا الخيار يمزج بين األنواع من خالل اعتبار‬ ‫السمات الدستورية واألخالقية والسياسية ِ ّ‬ ‫مكونات للهويّة الفرنسية (مثل‬ ‫العلمانية)‪ ،‬رغم أن هذه السمات ليست حصرية أو قاصرة على الهويّة‬ ‫الفرنسية فقط‪ ،‬أو مرتبطة بها على الدوام‪.‬‬

‫يلح تودوروف على أنه يجب علينا ما إن نشرع في التفكير في‬ ‫عموم ًا‪ّ ،‬‬

‫مفهوم الهويّة حتى نربطه بشكل وثيق بمفهوم الحضارة‪ .‬ينبغي علينا أن‬ ‫بينة ووعي تامّين بهويّتنا‪ ،‬ليس من أجل تمييز أنفسنا كأعضاء‬ ‫نكون على ِ ّ‬

‫في جماعة ما‪ ،‬بل لنكون أ كثر قدرة على القيام بخطوة إلى الوراء‪ ،‬وتأمُّ ل‬

‫وأخذها بعين االعتبار‪.‬‬ ‫الثقافات األخرى ْ‬

‫إن التوق للهويّة واكتساب ثقافة ما يوفران الشرط الضروري لبناء شخصية‬

‫إنسانية متكاملة‪ ،‬لكن وحده االنفتاح على الغيرية ذات األفق العالمي‬

‫ويمدنا بالشرط الكافي لبلوغ هذا المبتغى‪.‬‬ ‫هو ما يحقق معنى الحضارة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التخ ُّلص من منطق الصراع‬ ‫إن هذه الفروق الدقيقة لمفهوم الهويّة ليست محض حذلقة بالغية‪ .‬إنها‬ ‫تحمل في ثناياها رهانات سياسية هامّة‪.‬‬

‫يقدمها تزيفتان تودوروف حول الهويّة تسمح ‪-‬في‬ ‫إن التوضيحات التي ِ ّ‬

‫الوقت نفسه‪ -‬للمرء بأن ال ينخدع بنظرية «صدام الحضارات»‪ ،‬كما‬

‫أن حجب ُّ‬ ‫تعقد الهويات واختزالها‬ ‫تسمح له بأن يكون يقظ ًا إزاء حقيقة ّ‬

‫يؤدي إال إلى الصراع من خالل آلية تضع تبسيط الهويّة‬ ‫ال يمكن أن ّ‬ ‫‪24‬‬


‫واختزالها في ّ‬ ‫خط واحد مع النزعة المانوية (القائمة على عقيدة الصراع‬

‫بين النور والظالم‪ ،‬الخير والشر‪ ،‬الحضارة والبربرية)‪ .‬إن الحروب الحالية‬

‫ّ‬ ‫صلة إلى صراع الحضارات‪ ،‬كما أننا لن ننجح في محاربة‬ ‫ال‬ ‫تمت بِ ِ‬

‫اإلرهاب إال بفصله عن الدين اإلسالمي‪ ،‬والسعي إلى معرفة جذوره‬ ‫تمس شريحة كبيرة من ّ‬ ‫سكان العالم‪.‬‬ ‫المذ ّلة والمهينة التي‬ ‫ّ‬ ‫الم َّتبعة‪ ،‬في الوقت الراهن‪ ،‬من طرف الواليات المتحدة‬ ‫إن الطريقة ُ‬

‫تؤدي إلى‬ ‫في الحرب ضد اإلرهاب‪ ،‬ليست طريقة مثالية وج َّيدة ألنها ّ‬

‫اإلقصاء‪ ،‬وتسقط ‪-‬بدورها‪ -‬في منطق البربرية‪ :‬بتحديد أميركا ألعدائها‬

‫تسعى إلى تبرير الممارسات المشينة كالتعذيب الذي ي َُع ّد ‪-‬في حقيقته‪-‬‬

‫إقصا ًء آلدمية الفرد وانتمائه لإلنسانية‪ .‬منطق الهمجية هذا هو ‪-‬في‬

‫نهاية المطاف‪ -‬لعبة أولئك الذين يزعمون معارضته ّ‬ ‫مغذين ‪-‬في الوقت‬

‫نفسه‪ -‬الشعور بالضغينة والكراهية عن طريق إخضاع اآلخر ليصبح‬

‫خصم ًا في صراع ما‪ .‬عندما يكون ثمن القضاء على بربرية فرد ما هو‬

‫ّ‬ ‫تستحق كل هذا‬ ‫تجريد اآلخر من إنسانيته فإن لعبة هذا المنطق لم تعد‬

‫العناء‪ .‬إذا كان هزم العدو يقتضي تقليد تص ُّرفاته األكثر وحشية وبشاعة‪،‬‬

‫فإن البربرية ستظلّ حاضرة بثقلها بيننا‪.‬‬

‫األهم ّية‪ ،‬لكونها‬ ‫بهذا المعنى يمكن ألوروبا أن تلعب دور ًا في غاية‬ ‫ّ‬ ‫التعددية‪ ،‬االعتراف بالغيريات سمة جوهرية مالزمة لهويَّتها‪.‬‬ ‫جعلت من‬ ‫ُّ‬

‫ُقدم األنموذج األوروبي كأنموذج عالمي ألنه يجعل من االعتراف‬ ‫ي َّ‬ ‫بالتنوع في مجموعة مشتركة ِّ‬ ‫تنظمها مبادئ المساواة سمة إيجابية‪ .‬يتع َّين‬

‫التعددية‪ .‬وهذا ال يعني أن العالم يجب‬ ‫على أوروبا االنعطاف نحو‬ ‫ُّ‬

‫أن ينخرط في عملية الت َأ ْورُب (‪ ،)Européanisation‬التخ ُّلق بعادات‬

‫‪25‬‬


‫وثقافة األوروبيين‪ .‬يتع َّين على أوروبا أن تحافظ على الحدود الدقيقة‪،‬‬

‫وال تعني هذه الدعوة أن على أوروبا أن تغوص في نزعة مالئكية (سلوك‬ ‫مالئكي) تبعد عن أذهاننا أية احتماالت لصراع مس َّلح‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تخطي «صدام الحضارات»‪.‬‬ ‫يتوخى‬ ‫يقدم تودوروف موقف ًا إنساني ًا‬ ‫ّ‬

‫قراءة هذا الكتاب «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‬

‫تتيح دحض التنميطات التي ينزعون إلى إلصاقها بالواقع‪ ،‬كما تسمح‬

‫بإدراك ُّ‬ ‫تقدم‬ ‫تعقد الواقع‪ ،‬الشيء الذي يدفعنا إلى توجيه نداء لصالح ُّ‬

‫الح ّر باألفراد والشعوب والثقافات عن‬ ‫الحضارة‬ ‫ورقيها‪ ،‬أي االعتراف ُ‬ ‫ّ‬ ‫بالتصدي للعنف والتهديدات التي‬ ‫طريق الحوار والتفاهم الكفيلين‬ ‫ّ‬

‫ُخيم بثقلها علينا‪ ،‬نحن أعضاء اإلنسانية المشتركة‪.‬‬ ‫ت ّ‬

‫باستيان إنجلبيش‬

‫‪26‬‬


‫هل ثمة وجود لبرابرة متخ ِّلفين؟‬ ‫ّ‬ ‫يكف الفرنسيون واألوروبيون‬ ‫تحدو تودوروف رغبة عارمة في أن‬

‫والغربيون عن تغذية المقولة الشهيرة «صدام الحضارات» التي يزعمون‬

‫يدعون أنهم تح َّرروا منها‪ ،‬وتجاوزوها‪.‬‬ ‫أنهم يطعنون في‬ ‫صحتها‪ ،‬كما َّ‬ ‫َّ‬

‫ُسخر تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام‬ ‫ي ّ‬

‫ّ‬ ‫الفذة‪ ،‬وقناعته التي يستشعرها المرء في كل‬ ‫الحضارات» كل موهبته‬

‫صفحة من كتابه‪ ،‬كما ِ ّ‬ ‫يوظف ثقافته الفلسفية المتواضعة لتطهير وطرد‬

‫هذا الخوف من « البرابرة المتخ ِ ّلفين» الذي غزا الواليات المتحدة‬

‫األميركية‪ ،‬الغرب بكامله‪ ،‬بسبب أو بذريعة أحداث الحادي عشر من‬ ‫سبتمبر‪ .‬لقد قاد هذا الخوف الغرب إلى التخندق في نزعة مانوية‪.‬‬

‫ضد الرعب بنا ًء على مواقف‬ ‫كما قاد هذا الخوف إلى َش ّن حرب‬ ‫ّ‬

‫وذرائع يشوبها الكثير من االلتباس والغموض‪ ،‬بحيث أصبح الغرب ال‬

‫يرى المسلمين إال من خالل اإلسالم‪ ،‬كما عجز عن التمييز بين اإلسالم‬

‫واإلسالم المتط ِ ّ ّرف‪ ،‬واإلسالم المتط ِّرف واإلرهاب‪ .‬الشيء الذي‬ ‫جعل الغرب ال ِ ّ‬ ‫يفكر إال في استخدام القوة َك َر ّد فعل على هذه البربرية‬ ‫المزعومة‪ ،‬فامتنع بذلك عن كل تحليل أو إجراء سياسي‪ .‬في الوقت‬

‫يعبر المح ِ ّلل األميركي فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا»‬ ‫نفسه‪ّ ِ ،‬‬

‫عن دهشته في رؤية الدولة األقوى في العالم تعيش في براثن الخوف‬

‫من كل شيء‪ ،‬ومن اآلخرين أيض ًا‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫ّ‬ ‫النية‪،‬‬ ‫ي ُْسعف تودوروف‬ ‫الحظ ليجعل كل قارئ يتم َّيز باإلخالص وحسن ّ‬

‫يقوم بتفكيك االستعمال االستفهامي التخ ُّيلي الخادع لعبارة «برابرة‬ ‫يعد المرء دوم ًا بربري ًا متخ ِّلف ًا مقارنة‬‫متخ ِّلفون» المستخدمة تاريخي ًا‬ ‫ّ‬

‫يفسر تودوروف أن «الهويّات الجماعية» اتَّسمت‬ ‫مع اآلخر‪ ،-‬كما‬ ‫ِّ‬ ‫تاريخي ًا‪ ،‬بالتعايش بحيث لم تتو َّقف عن التفاعل واالغتناء القائم‬ ‫على روح المقايضة والتبادل‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن هذا‪ ،‬إنه يرى أن الحرب التي‬

‫تجري رحاها في العالم والتي تبدو حرب ًا ال مناص منها‪ ،‬يمكن للمرء أن‬ ‫يتج َّنبها‪ ،‬خصوص ًا‪ ،‬إذا عرف كيف يذ ِ ّلل العقبات‪ ،‬ويدرأ المخاطر حين‬

‫المتأججة لإلسالم مع الغرب‪.‬‬ ‫يتع َّلق األمر بالعالقة‬ ‫ِّ‬

‫بالنسبة لتودوروف‪ ،‬فالفكر األوروبي ‪ -‬الذي يستحضره بتعبير قوي‬

‫مستوحى من جورج سومبران‪ ،‬برونسالف جريميك حتى وفاته‪ ،‬وإليا‬

‫المضاد لجميع هذه‬ ‫بارنافي حتى وقت قريب ‪ -‬يحتوي على الترياق‬ ‫ّ‬

‫التعددية‪،‬‬ ‫االنقسامات الخطيرة‪ .‬إن الفكر األوروبي فكر قائم على قبول‬ ‫ُّ‬ ‫ومعط ً‬ ‫ّ‬ ‫بتحمله‪ ،‬بل كمبدأ‬ ‫ال ينوء المرء‬ ‫ال باعتبارها إرث ًا تاريخي ًا معيق ًا‬ ‫ُّ‬

‫وكمؤهالت ب ّناءة‪.‬‬ ‫أساسي للمستقبل‬ ‫ِّ‬

‫يعبر عن افتتانه بمقاربة كهذه تخاطب‬ ‫ليس بمقدور المرء سوى أن ِ ّ‬

‫قضيتين مركزيتين‪ :‬قضية أميركا‪ ،‬وقضية أوروبا‪ .‬إن طرح تودوروف يبقى‬

‫تصوُّر ًا معاكس ًا‪ ،‬بشكل تام ومطلق‪ ،‬إليديولوجية وسياسة جورج بوش‬

‫خالل السنوات األخيرة‪ ،‬تلك اإليديولوجية التي كان لها التأثير األكبر‬

‫على الرأي الغربي‪ ،‬بما في ذلك الرأي الفرنسي أيض ًا‪ .‬يكتب تودوروف‬ ‫بطريقة معكوسة‪« :‬ليس بوسع اإلنسان أن يطمس قرون ًا من التاريخ‬

‫هيمنت خاللها الدول الخائفة ‪-‬حالي ًا‪( -‬الدول الغربية) على الدول‬

‫‪28‬‬


‫مصدر الخوف ‪-‬حالي ًا‪( -‬الدول التي تثير استياء الغرب وتخوّفه) أي‬ ‫الدول العربية المسلمة‪.».‬‬

‫في نظر تودوروف «إن الشرط المسبق هو أن تتو َّقف النخب الغربية‬

‫ّ‬ ‫للحق والفضيلة والنظام الكوني‪،‬‬ ‫المجسد المطلق‬ ‫عن اعتبار نفسها‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫تكف عن التعالي وازدراء قوانين وأحكام اآلخرين»‪.‬‬ ‫كما يجب أن‬

‫يلح‬ ‫غير أن هذه الخاصية تبقى ‪-‬لألسف‪ -‬جوهر تفكير النخبة الغربية‪ّ ،‬‬ ‫تودوروف قائ ً‬ ‫المثل العليا‬ ‫ال‪« :‬إن حق‬ ‫ُّ‬ ‫التدخل العسكري يع ِّرض للخطر ُ‬ ‫التي يدافع عنها الغربيون‪ :‬الح ّريّة‪ ،‬المساواة‪ ،‬العلمانية‪ ،‬حقوق اإلنسان‪،‬‬

‫مبسط لممارسة إرادتهم في السيطرة على العالم‪ ،‬ومن ث ََّم‬ ‫فتبدو كتمويه َّ‬

‫المثل العليا الحظوة لدى الجميع‪.».‬‬ ‫تفقد هذه ُ‬

‫ّ‬ ‫يحث تودوروف الغرب في كتابه قائ ً‬ ‫ال‪« :‬لكي يتس ّنى‬ ‫على عكس هذا‪،‬‬

‫للشعوب المسلمة‪ ،‬في الدول العربية‪ ،‬أن تح ِّول أنظارها‪ ،‬فتلتفت إلى‬

‫األسباب الداخلية الكامنة وراء خيبتها وإخفاقاتها‪ ،‬ينبغي معالجة‬

‫القضايا الخارجية األكثر بروز ًا وجذب ًا لألنظار‪ ،‬هذه القضايا التي يبقى‬ ‫الغرب مسؤو ً‬ ‫ال عنها‪ ،».‬أي قضية فلسطين‪ ،‬العراق‪ ،‬إيران‪ ،‬وأفغانستان‪.‬‬

‫على الرغم من أن بعض الجمهوريين والديموقراطيين الم َّتسمين بالواقعية‬

‫يحاولون إعادة التفكير في أسس السياسة الخارجية األميركية بعد فشل‬ ‫وإخفاق إدارة بوش‪ ،‬فهل سيكون بوسعهم التح ّلي بالشجاعة لمناقشة‬

‫وانتقاد األولويات األميركية بكل نزاهة‪ ،‬في الوقت الذي ينزع فيه العالم‬

‫تحدي روما الغربية؟ يتط َّلب هذا األمر ‪-‬على األقل‪ -‬اللجوء‬ ‫الناشئ إلى‬ ‫ّ‬

‫يتم إعادة دمج‬ ‫إلى تقرير بيكر‪ -‬هاملتون للمنطقة بأسرها لمعرفة كيف ّ‬

‫‪29‬‬


‫الحقائق والتعامل مع كل «البرابرة»‪.‬‬ ‫بالنسبة لالستجابة األوروبية‪ ،‬يتح ّلى تودوروف بالشجاعة ليعترف بذلك‪:‬‬

‫التعددية غير كافية‪ .‬النزعة المالئكية‬ ‫التش ُّبث بالفكرة نفسها كقوّة يجعل‬ ‫ُّ‬

‫(السلوك المالئكي) التي تسعى إلى إسقاط حالة أوروبا على بقية العالم‬

‫تبقى إجرا ًء غير مالئم‪ .‬يتع َّين على أوروبا أن تصبح «قوة ناعمة» حتى لو‬ ‫كانت غير قادرة ‪-‬من حيث المبدأ‪ -‬على استبعاد اللجوء إلى استخدام‬

‫القوة المس َّلحة‪ .‬يبقى تودوروف ‪-‬إذ ًا‪ -‬أ كثر واقعية من األشخاص‬

‫الذين يحلمون بأوروبا المكتفية «بقوتها اللينة» (معاييرها‪ ،‬مساعدتها‪،‬‬ ‫مشروطية أحكامها‪ ،‬خطاباتها)‪ ،‬لتسطع وتشرق عن طريق مثالها‬

‫الديموقراطي وأنموذجها االجتماعي‪ .‬هذا ما ينبغي إقناع األوروبيين‬

‫َّ‬ ‫سيتمكن المستقبل القريب من أن يفتح عيون الكثير‬ ‫بمصداقيته‪ .‬فهل‬ ‫على واقع العالم الذي مازال بعيد ًا عن تشكيل «المجتمع الدولي»؟‪.‬‬

‫‪2008-9-19‬‬

‫‪30‬‬


‫الجرأة على التفكير في المُ حال‬ ‫تسعى الواليات المتحدة األميركية إلى السيطرة على العالم بشكل أحادي‬

‫القطبية‪ .‬منذ انهيار جمهورية االتحاد السوفياتي االشتراكي‪ ،‬ال أحد‬

‫يستطيع أن يجرؤ على التشكيك في هيمنة أميركا على العالم‪ .‬لتوطيد‬

‫هذه السيطرة‪ ،‬لم تلجأ الواليات المتحدة‪ ،‬فقط‪ ،‬إلى استخدام ترسانتها‬

‫العسكرية‪ ،‬بل استعملت كل الوسائل لتوجيه االقتصاد العالمي وفق‬

‫مصالحها؛ فالعولمة الليبرالية الجديدة تخدم‪ ،‬إضافة إلى أمور أخرى‪،‬‬

‫المشروع األميركي‪ .‬أثّرت العولمة ‪-‬منذ نشأتها‪ -‬على بقاع العالم‪،‬‬

‫اهتمت العولمة بغزو األسواق العالمية‬ ‫وفرضت قواعدها وقيمها‪ .‬لقد‬ ‫َّ‬

‫أ كثر من اهتمامها بغزو الدول‪ .‬إنها السبب في تدمير قيم التضامن ونزوع‬

‫القطاع الخاص إلى تم ُّلك المجالين العام واالجتماعي‪ ،‬وخيبة األمل‬

‫واإلحباط الذي َح ّل بالعالم‪.‬‬

‫بدأ هذا المشروع في سنوات السبعينات‪ ،‬حين قام الرئيس األميركي‬

‫ريتشارد نيكسون بإلغاء النظام االقتصادي الذي نشأ عن اتفاقية بريتون‬

‫وودز سنة ‪ ،1944‬في أواخر الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وأرسى أسس‬

‫ُّ‬ ‫والتدفقات المالية‪ .‬سنوات‬ ‫العولمة الليبرالية التي َح َّررت رؤوس األموال‬

‫بعد ذلك‪ ،‬ستتب ّنى التشيلي في عهد بينوشيه‪ ،‬والواليات المتحدة في‬

‫عهد ريغان‪ ،‬وبريطانيا العظمى تحت قيادة مارغريت تاتشر‪ ،‬نظريات‬

‫يتزعمها‬ ‫الفكر االقتصادي للتشريع النقدي لمدرسة شيكاغو التي كان‬ ‫َّ‬ ‫ميلتون فريدمان (الحائز على نوبل في االقتصاد سنة ‪ .)1976‬كان‬

‫‪31‬‬


‫المع َلن هو القضاء‪ ،‬نهائي ًا‪ ،‬على التقليد القديم للكينزية (مدرسة‬ ‫الهدف ُ‬

‫الفكر االقتصادي التي أسسها عالم االقتصاد البريطاني جوهان ماينارد‬ ‫التدخل االقتصادي واالجتماعي للدولة‪ .‬اتَّبعت‬ ‫كينز) التي تدعو إلى‬ ‫ُّ‬

‫الواليات المتحدة هذه القوانين والمبادرات لتحطيم النقابات وتحرير‬

‫وسيؤدي هذا المشروع‪ ،‬خالل‬ ‫االقتصاد وخوصصة األمالك العامة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫سنوات الثمانينات‪ ،‬إلى ما ُس ِ ّمي بـ«توافق واشنطن»‪ ،‬هذا المذهب‬ ‫متعددة الجنسيات‪،‬‬ ‫االقتصادي الذي انخرطت فيه الشركات الكبرى‬ ‫ِّ‬

‫والمؤسسات المالية الدولية‪ .‬سيصبح توافق واشنطن‬ ‫بنوك وول ستريت‪،‬‬ ‫َّ‬

‫هذا األنموذج االقتصادي الليبرالي الجديد الذي سيفرضه الرأسمال‬ ‫األميركي كشرط الستثماراته‪.‬‬

‫بعد عقدين من الليبرالية الجديدة‪ ،‬نالحظ باستغراب‪ ،‬بل بذهول‬

‫كبير‪ ،‬إلى ّ‬ ‫لتوجهات األسواق المالية‪ ،‬وتستسلم‬ ‫أي َح ّد تخضع الدول‬ ‫ُّ‬

‫إلمالءات صندوق النقد الدولي (الذي سيطر عليه األميركيون) عن‬

‫الح ّد من اإلنفاق العام في مجاالت الصحة والتعليم والبيئة‪ ،‬وذلك‬ ‫طريق َ‬

‫لتشجيع شركات االستثمار الدولية‪ .‬ومنذئذ‪ ،‬فإن هذه الشركات الدولية‬

‫تسهل‬ ‫هي التي تمسك بزمام السلطة الحقيقية‪ ،‬لقد أصبحت الدولة أداة ِ ّ‬

‫البحث عن أرباح للمقاوالت على المستوى المح ّلي‪ ،‬كما هو الشأن على‬

‫المستوى العالمي‪ ،‬وتخلق ‪-‬إضافة إلى أشياء أخرى‪ -‬الظروف المناسبة‬

‫المجسد‬ ‫للمنافسة بين الشركات‪ .‬في عالم ليبرالي جديد‪ ،‬لم تعد الدولة‬ ‫ِّ‬ ‫السياسي لمصلحة الجميع‪ ،‬كما تق َّلص دورها ‪-‬أيض ًا‪ -‬في إعادة توزيع‬ ‫الثروات الجماعية‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫َّ‬ ‫المثقفين‬ ‫دور‬ ‫َّ‬ ‫المثقفين‬ ‫هذه الثورة الليبرالية الجديدة ما كانت لتصبح ممكنة دون دعم‬

‫اليمينيين الذين لم يتردَّ دوا في استلهام أطروحة الشيوعي أنطونيو‬

‫غرامشي وأفكاره القائلة بضرورة ممارسة الهيمنة الثقافية لتوطيد وتعزيز‬

‫السلطة االقتصادية والسياسية‪ ،‬وإضفاء الشرعية عليها في اآلن نفسه‪.‬‬

‫مؤسسات الفكر والرأي المرموقة‪ :‬مثل جمعية مون بيلران‪،‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن‬ ‫َّ‬

‫مؤسسة التراث‪ ،‬ومعهد كاتو‪ ،‬واللجنة الثالثية في الواليات المتحدة‬ ‫َّ‬

‫ومؤسسة أنتوني جيدنز وشركاؤه في بريطانيا‪ ،‬كما هو الشأن‬ ‫األميركية‪،‬‬ ‫َّ‬

‫لمؤسسة سان سيمون (التي يبقى مستثمرها األبرز آالن مينك) في‬ ‫أيض ًا‬ ‫َّ‬

‫ليتم اعتماد‬ ‫فرنسا‪ ،‬قد عملت كلها ‪-‬دون كلل‪ -‬على مدى سنوات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الليبرالية الجديدة من طرف الديموقراطيين ككلنتون‪ ،‬وحزب العمال‬

‫بقيادة طوني بلير‪ ،‬وأيض ًا االشتراكيين الفرنسيين (ناهيك عن الزحف‬ ‫المهمة! ففي فرنسا لم يعد اليسار‬ ‫المتحمس لليمين)‪ .‬وهكذا ت ََّم إنجاز‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬

‫يتحدث عن عالقات الهيمنة‪ ،‬بل عن عالقة اإلدراج‪ /‬االستبعاد‪ ،‬كما‬ ‫َّ‬

‫ت ََّم استبدال مبدأ المساواة بمبدأ العدالة كأساس فلسفي للدولة (حامية‬ ‫سماه بيير موروا‬ ‫األمة)‪ ،‬في حين سعى اليمين جاهد ًا إلخماد ما ّ‬

‫«فوانيس المستقبل»‪ :‬التربية والتعليم‪ ،‬البحث العلمي والثقافة‪ .‬أما في‬

‫حدد اتجاه «الطريق الثالث» هدفه في إقناع المواطنين‬ ‫بريطانيا‪ ،‬فقد َّ‬

‫(أو ما ّ‬ ‫تبقى منهم) على قبول العولمة بدل محاربتها‪ ،‬وهكذا نجح مؤ ِّيدو‬ ‫طوني بلير في سعيهم لتحقيق مرونة سوق العمل كهدف لليسار‪ .‬بالنسبة‬

‫لشخصية كلينتون الكاريزمية‪ ،‬فإنه لم يجد أدنى صعوبة في التقريب بين‬

‫الحزب الديموقراطي والسياسات الليبرالية الجديدة للحزب الجمهوري‪،‬‬ ‫‪33‬‬


‫بما أن هذه السياسات الليبرالية الجديدة التي ت ََّم تطبيقها على المستوى‬ ‫ِّ‬ ‫تشكل سالح ًا رهيب ًا‪ ،‬كما هو شأن الترسانة العسكرية األميركية‬ ‫العالمي‬

‫في السيطرة على العالم‪.‬‬

‫كسيد‬ ‫واآلن‪ ،‬بعد أن هيمنت الواليات المتحدة األميركية على العالم‬ ‫ِّ‬ ‫مطلق‪ ،‬وذلك بفضل قوتها الهائلة االقتصادية والعسكرية‪ ،‬فهل ُح ِكم‬

‫علينا بالعيش في عالم أحادي القطب؟ هذا هو السؤال المحوري الذي‬

‫يثيره تودوروف في كتابه « الفوضى العالمية الجديدة‪ :‬تأمُّ الت مواطن‬

‫أوروبي»‪ .‬في هذا البحث الغني وغير المكتمل يدعو تودوروف إلى‬ ‫َّ‬ ‫تمكنت من بناء‬ ‫متعدد األقطاب‪ ،‬تلعب فيه أوروبا دور ًا قيادي ًا إذا‬ ‫عالم‬ ‫ِّ‬

‫مؤسساتها من جهة أخرى‪ .‬ومع‬ ‫قوّة عسكرية كبيرة من جهة‪ ،‬وإصالح‬ ‫َّ‬

‫ذلك‪ ،‬يؤسفنا أن تودوروف غير قادر على تخ ُّيل القارة العجوز كفضاء‬ ‫اقتصادي قائم على قيم تتعارض مع قيم الليبرالية الجديدة‪.‬‬

‫اإلهانة‪ ..‬أم النعرة العصبية؟‬ ‫حتى ‪ 11‬من سبتمبر ‪ ،2001‬كانت الواليات المتحدة األميركية تخال‬

‫نفسها في مأمن من أي هجوم خارجي‪ .‬بعد أن أدركت‪ ،‬الخطر الذي‬

‫حد سواء‪ ،‬عززت استراتيجيتها‬ ‫يم ِ ّثله اإلرهاب‪ ،‬ونقاط ضعفها على ّ‬

‫مستحدثة كفكرة للدفاع عن‬ ‫العسكرية بمفهوم الحرب الوقائية‪ :‬مقاربة‬ ‫َ‬ ‫النفس‪ ،‬الشيء الذي ّ‬ ‫يدل على أن الواليات المتحدة تهيمن‪ ،‬منذ تلك‬

‫كسيد مطلق بال منازع على العالم أجمع‪ .‬وكان العراق أول بلد‬ ‫الفترة‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫دفع ثمن هذه السياسة الجديدة‪ ،‬لقد أصيب المرء بالخوف‪ ،‬وهو يرى‬ ‫‪34‬‬


‫األميركيون يواصلون تطبيق هذه السياسة بهدف تعزيز هيمنتهم‪ .‬على‬

‫الرغم من اإلطاحة بالديكتاتورية‪ ،‬فالواليات المتحدة لم تعمل إال على‬

‫نشر الفوضى والخراب‪ ،‬واتَّضح أن الديموقراطية مشروع أصعب بكثير‬

‫من الكالم الذي ردَّ ده على مسامعنا البنتاغون وهو يشعل نار الفتنة في‬

‫العراق‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك‪ ،‬يكتب تودوروف قائ ً‬ ‫ال‪« :‬سيسود الشعور‬

‫لدى الغالبية العظمى من السكان العرب والمسلمين‪ ،‬أو ‪-‬ببساطة‪-‬‬

‫السكان غير الغربيين بأن هذه الحرب هي بمثابة إهانة وإذالل‪ .‬والحالة‬

‫أم النعرة العصبية‪ ،‬وال شيء ّ‬ ‫يغذي‬ ‫هذه‪ ،‬فاإلهانة‪ ،‬كمعاناة أو تصوُّر‪ ،‬هي ّ‬

‫‪-‬بشكل كبير‪ -‬اإلرهاب أ كثر من التقارب بين القدرة على التضحية‬

‫بالنفس وتكنولوجيا التدمير التي أصبحت متاحة للجميع»‪ .‬ال يمكن‬

‫دحر اإلرهاب إال عندما نبذل جهد ًا صادق ًا للقضاء على أسبابه كالفقر‬

‫والمستقبل المظلم للشباب‪ .‬إن اللجوء إلى الحرب ليس من شأنه سوى‬

‫ضد اإلمبراطورية األميركية‪ .‬ليس من الوهم االعتقاد‬ ‫تأجيج الكراهية‬ ‫ّ‬

‫بأن أميركا كانت ستتص َّرف بشكل مختلف لو أن الثقل العسكري والثقل‬

‫أهميتها الديموغرافية‪.‬‬ ‫السياسي ألوروبا كانا ‪-‬على األقل‪ -‬متناسبين مع ّ‬ ‫«كل سلطة بال حدود‪ ،‬هي سلطة غير شرعية»‪ ،‬يكتب مونتسكيو في‬

‫«الرسائل الفارسية»‪ .‬في عالم يجرؤ فيه اليائس على مقارنة نفسه‬

‫بالقوي‪ ،‬حيث يصبح صلب ًا ال يقهر وهو يقارع القوي عن طريق التضحية‬

‫بحياته كسالح أخير‪ ،‬فإن القدرة على اإلقناع والحوار هي الطريقة‬ ‫األفضل لضمان السالم‪ .‬العمل على اإلقناع والحوار دون استبعاد‬

‫التسويات أو التوافقات‪ ،‬بما أن هذا السلوك هو جوهر السياسة نفسها‪،‬‬

‫وأيض ًا العمل على تقاسم السلطة كشرط ضروري لالعتراف بشرع َّيتها‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫هذه هي الشرعية التي افتقرت إليها الواليات المتحدة في حربها على‬ ‫العراق بسبب سلوكها أحادي الجانب‪ّ ِ .‬‬ ‫يؤكد تودوروف «من مصلحة‬

‫الواليات المتحدة‪ ،‬قبول حدود إرادية لقوتها‪ ،‬كما توصيها بذلك بقية‬

‫األصوات غير المناهضة إطالق ًا ألميركا داخل بلدها»‪ .‬إن الواليات‬

‫رغمت على ذلك‪ .‬من‬ ‫المتحدة األميركية لن تقبل بهذه الحدود إال إذا ُأ ِ‬

‫هنا تبقى الحاجة إلى قوّة أخرى‪ ،‬غير قوّة منظمة األمم المتحدة‪ ،‬قوّة‬

‫تكون قادرة على موازنة ومعادلة قوّة الواليات المتحدة‪ ،‬ألن هذه المنظمة‬ ‫ّ‬ ‫بغض النظر عن كونها خاضعة لمصالح متضاربة‪،‬‬ ‫الدولية المحترمة‪،‬‬

‫ّ‬ ‫الحق‪« .‬بدون قوة‪ ،‬يبقى الحق‬ ‫فإنها ال تملك القوة المطلوبة لمناصرة‬ ‫عاجز ًا» هذا ما كتبه بسكال‪ .‬وإزاء الرؤيتين األحاديتين للعالم‪ :‬رؤية‬

‫التدخل العسكري‪ ،‬ورؤية حكومة عالمية‪،‬‬ ‫السالم األميركي عن طريق‬ ‫ُّ‬

‫التعددية تساهم في الحفاظ‬ ‫يدعو تودوروف إلى رؤية أخرى قائمة على‬ ‫ُّ‬

‫على السلم عن طريق خلق توازن بين قوى عديدة‪ ،‬في هذا اإلطار وحده‬

‫ّ‬ ‫‪-‬يؤكد تودوروف‪ -‬يمكن ألوروبا المستقبل أن تجد مكان ًا لها‪.‬‬

‫األمل األوروبي‬ ‫يخص قضايا‬ ‫لكن أوروبا ال تزال منقسمة على نفسها بشكل كبير فيما‬ ‫ّ‬

‫األهم ّية‪ .‬عشرات الدول‪ ،‬التي منها بولونيا وهنغاريا‪ ،‬اختارت‬ ‫في غاية‬ ‫ّ‬

‫االعتماد على الواليات المتحدة األميركية من الناحية الدفاعية‪ ،‬دول‬

‫أخرى كسويسرا والنمسا اختارت الحياد‪ ،‬في حين أن فرنسا وألمانيا‬

‫ع َّبرتا بوضوح في أثناء الصراع األميركي ‪ -‬العراقي عن إرادتهما في‬ ‫‪36‬‬


‫التح ُّرر من الوصايا األميركية‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فيما وراء هذه االنقسامات‪ ،‬تتقاسم الدول األوروبية قيم العدالة‬

‫والعلمانية والديموقراطية فض ً‬ ‫ال عن كونها وارثة الحضارة اليونانية ‪-‬‬

‫الرومانية والمسيحية وعصر النهضة‪ .‬إن فكرة وجود عقلية مشتركة ليست‬

‫تحدث‪ ،‬من قبل‪،‬‬ ‫فكرة مبالغ ًا فيها أو جديدة‪ ،‬بما أن جان جاك روسو‬ ‫َّ‬ ‫عن «وجود نوع من األصول والتوافق في العادات بين األوروبيين»‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬وقد أصبح المشروع األوروبي يقوم على أسس أ كثر صالبة‪ ،‬يتع َّين‬

‫على أوروبا‪ ،‬حسب تودوروف‪ ،‬أن تتوافر على جيش قوي بما يكفي‬ ‫ّ‬ ‫الحل‪ ،‬كاستجابة صادقة‬ ‫لضمان أمنها وأمن الدول األخرى‪« .‬وحده هذا‬

‫لمشاكل الحرب والسالم في العالم‪ ،‬يستطيع أن يجعل الواليات المتحدة‬

‫تحيد عن اإلغراء اإلمبريالي الذي تستسلم له اليوم» في خرق سافر‬

‫للقانون الدولي‪.‬‬

‫لتحقيق هذا المشروع‪ ،‬ال ينبغي ‪-‬حسب مؤ ِ ّلف «الفوضى العالمية‬

‫المؤسسات األوروبية‪ .‬فبدل‬ ‫الجديدة»‪ -‬سوى العمل على إصالح‬ ‫َّ‬

‫متعددة األنظمة‪ ،‬يقترح تودوروف‪ ،‬أوروبا «المتعددة المجالس‪،‬‬ ‫أوروبا‬ ‫ِّ‬ ‫المتحدة حول مركز واحد» التي يتكوَّن مجلس مركزها‪ ،‬أساس ًا‪ ،‬من دول‬

‫كفرنسا وألمانيا وإيطاليا‪ .‬هذا المجلس األول لن يكون عبارة عن اتحاد‪،‬‬

‫تجمع لدول مستق ّلة‪ ،‬بل سيكون عبارة عن اتّحاد حقيقي‪ .‬يتكوَّن‬ ‫بمعنى‬ ‫ُّ‬

‫المجلس الثاني من االتحاد األوروبي الحالي‪ ،‬بينما يتو َّقف المجلس‬

‫يتم ‪-‬بما فيه الكفاية‪-‬‬ ‫الثالث عند حدود روسيا وشمال إفريقيا‪ .‬ولكي ّ‬

‫تأمين التماسك والشرعية لهذه المجموعة‪ ،‬فإنه سيتع َّين على كل عضو‬

‫‪37‬‬


‫يتم انتخاب رئيس االتحاد‬ ‫منتدب أن يم ِ ّثل عدد ًا من الناخبين‪ ،‬وأن ّ‬

‫األوروبي من طرف أعضاء البرلمان األوروبي‪ ،‬ويجب أن يتم َّتع هذا‬ ‫فعلية‪ ،‬كما ينبغي‪ ،‬أخير ًا‪ ،‬اعتماد اللغة اإلنجليزية كلغة‬ ‫الرئيس بسلطات‬ ‫ّ‬

‫مشتركة على شاكلة اللغة الالتينية نفسها في العصور الوسطى‪.‬‬

‫هنا يتو َّقف تأمُّل هذا المواطن األوروبي من أصل بلغاري‪ .‬رغم أن هذا‬

‫التأمُّل يبقى مثير ًا لالهتمام‪ ،‬إال أنه يبقى تأمُّ ً‬ ‫ال يشوبه النقص‪ .‬كيف‬

‫يمكننا أن نتو َّقع‪ ،‬من مواطن ُقمِ عت ح ّريته من طرف الطوق الشيوعي إلى‬

‫سن العشرين‪ ،‬أن يكون ناقد ًا للدولة الليبرالية‪ .‬عالوة على تأمُّ ل‬ ‫حدود ّ‬

‫تودوروف‪ ،‬أضيف‪ ،‬في هذا المقال‪ ،‬تأمُّل مواطن من شمال أميركا مُ ج َبر‬ ‫مخيب لألمل ومح َبط بسبب العقالنية التكنو‪ -‬علمية‬ ‫تحمل عالم‬ ‫على‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬

‫واإلنتاجية؛ حيث تجنح اإليديولوجيا الليبرالية الجديدة إلى إخضاع‬

‫العالقات االجتماعية إلى حالة مركنتيلية (الروح التجارية الجشعة)‪،‬‬

‫ويتساءل عما يمكننا القيام به‪.‬‬

‫نحن بحاجة إلى َّ‬ ‫مثقفين تقدميين يجرؤون على «التفكير في ما ال‬

‫يمكن تصوُّره» ( سيرجي حليمي‪ ،‬لوموند ديبلوماتيك)‪ ،‬أي التفكير في‬

‫مدينة فاضلة جديدة‪ ،‬كما فعل َّ‬ ‫مثقفو اليمين الذين عملوا خالل أعوام‬

‫لظهور مدينتهم الفاضلة‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن كونهم قد نجحوا في تقديم الليبرالية‬

‫الجديدة كحالة طبيعية لمسيرة العالم‪ .‬يجب رفض أبديّة الوضع القائم‬

‫وتفكيك آليات الحتمية التي تحكم‪ ،‬دوم ًا‪ ،‬على نفس األفراد‪ ،‬بعدم‬

‫األمان وبالمهانة وباالحتقار‪ .‬رغم انعطاف العديد من الدول األوروبية‬ ‫إلى صف اليمين‪ ،‬فليس ثمة من مف ّر من التشبث بالعوامل التي أدَّ ت إلى‬

‫‪38‬‬


‫ظهور الفلسفة‪ ،‬والتوقيع على الميثاق األعظم‪ ،‬وإعالن حقوق اإلنسان‬ ‫ليغدو بإمكان مدينة فاضلة جديدة أن ترى النور‪.‬‬

‫‪No 196/2004‬‬

‫‪39‬‬


‫عا َل ِم ُم َ‬ ‫نق ِسم بين الطموح‪ ،‬واالستياء‪ ،‬والخوف‬ ‫نعيش اليوم في عالم منقسم إلى ثالث مجموعات كبرى‪ ،‬تح ِّركها‬ ‫ّ‬ ‫والمفكر تزيفتان‬ ‫تجاذبات عاطفية مختلفة جد ًا‪ ،‬حسب منظور الفيلسوف‬

‫تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‪:‬‬

‫يتع َّلق األمر‪ ،‬في المجموعة األولى‪ ،‬بالدول الناشئة التي هي في طور‬

‫البروز (دول البريكس) كالصين‪ ،‬الهند‪ ،‬روسيا‪ ،‬البرازيل‪ ،‬المكسيك‬

‫وجنوب إفريقيا‪ .‬يح ِّرك هذه الدول الطموح‪ ،‬ويشعر سكانها بالرغبة‬

‫ِّ‬ ‫متعطشون للتع ُّلم واإلبداع واالبتكار‬ ‫في االستفادة من العولمة‪ .‬إنهم‬

‫واستكشاف األسواق الجديدة‪ .‬من الواضح أن مركز الثقل في االقتصاد‬

‫العالمي يتح َّرك مرة أخرى إلى آسيا‪ ،‬كما حدث في عصر ساللة مينغ‬

‫في الصين (من القرن ‪ - 14‬إلى القرن ‪ .)17‬تشير الدراسات إلى أن‬

‫مهمة من النم ّو العالمي في سنة ‪ 2010‬تحدث في الدول الناشئة‬ ‫ّ‬ ‫حصة ّ‬

‫(الصين‪ 10 + :‬في المئة‪ ،‬الهند‪ 8 + :‬في المئة)‪ ،‬بينما تشير التو َّقعات‪،‬‬

‫بالنسبة للبلدان الصناعية (الواليات المتحدة‪ ،‬ومنطقة اليورو)‪ ،‬إلى أن‬

‫نسبة النم ّو تتراوح ما بين ‪ 1‬في المئة و‪ 3‬في المئة من نم ّو الناتج المح ّلي‬

‫اإلجمالي‪.‬‬

‫تضم المجموعة الثانية الدول التي يهيمن عليها ‪-‬بشكل قوي‪ -‬الشعور‬ ‫ّ‬

‫باالستياء الناجم عن الشعور بالمهانة واإلذالل المفروض‪ ،‬تاريخي ًا‪،‬‬

‫من طرف الدول الصناعية‪ ،‬وخصوص ًا خالل الحقبة االستعمارية‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫تبقى ساكنة هذه الدول‪ ،‬في غالبيتها‪ ،‬مسلمة‪ ،‬وتمتد من المغرب إلى‬

‫باكستان‪ ،‬كما توجد في بعض البلدان في أميركا الالتينية وآسيا‪ .‬وهنا‬

‫متقدم‪،‬‬ ‫يطفو على السطح موضوع «صراع الحضارات» بين عالم غربي‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫يتمكن‪ ،‬بعد‪ ،‬من االستفادة من‬ ‫تخم بالثروة والرفاه‪ ،‬من جهة‪ ،‬وعالم لم‬ ‫مُ َ‬

‫«النهضة» من جهة أخرى‪ ،‬النهضة العربية في القرن التاسع عشر التي‬

‫شارك فيها َّ‬ ‫مثقفون مسلمون ومسيحيون استلهموا ثقافة عصر األنوار‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تتخط أسوار المدن التي كانت تحمل هذا األمل‪:‬‬ ‫غير أن «النهضة» لم‬

‫دمشق‪ ،‬بيروت‪ ،‬والقاهرة‪.‬‬

‫وأخير ًا‪ ،‬المجموعة الثالثة‪ ،‬وتتكوَّن من العالم الغربي عموم ًا الذي منه‬

‫أوروبا التي ترزح تحت الخوف‪ :‬الخوف من فقدان مكانتها وقدرتها‬

‫االقتصادية والعسكرية‪ ،‬الخوف من المستقبل أمام تنامي التهديدات‪،‬‬

‫الخوف من شيخوخة ساكنتها‪ ،‬الخوف من اإلحساس المتزايد‬

‫أدى إليه شطط أنموذجها‪ ،‬عن الدولة الحامية‪ .‬يثير‬ ‫بالمسؤولية‪ ،‬الذي ّ‬

‫هذا الخوف‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬الشعور بالذنب المرتبط بالتاريخ‪ ،‬وخصوص ًا‪،‬‬

‫تجاوزات المرحلة الكولونيالية‪ .‬ينعكس هذا الخوف في رفض مواجهة‬

‫الحقيقة والواقع‪ ،‬أو القيام بالبحث عن قيم روحية جديدة‪ .‬والحالة هذه‪،‬‬

‫تبقى مقولة جون كيندي خير عبرة للغرب الخائف من اآلخر‪« :‬دعونا ال‬

‫نتناقش‪ ،‬أو نتفاوض أبد ًا بدافع الخوف‪ ،‬لكن دعونا‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬ال نخشى‬

‫النقاش والتفاوض َق ّط»‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫كيف يمكن التخ ُّلص من هذه الرؤية للعالم وليدة االنفعاالت ومشاعر‬ ‫ّ‬ ‫بحس المسؤولية‬ ‫الحل في إنشاء قيادة تتم َّيز‬ ‫االستياء واالرتياب؟ يكمن‬ ‫ّ‬

‫والمواطنة دون هوادة وال ضعف‪ ،‬قيادة قائمة على المقاربة الكانتية‬

‫(نسبة إلمانويل كانت) للعالقات الدولية‪ ،‬وعلى مفهوم القوة الناعمة‪،‬‬

‫حددها البروفيسور جوزيف ناي من جامعة هارفارد‪ ،‬في كتابه‬ ‫كما َّ‬

‫الموسوم بـ«القوة الناعمة‪ ،‬السبيل إلى النجاح في عالم السياسة‬ ‫يتم هذا األمر على‬ ‫الدولية»‪( ،‬منشورات شؤون عامة‪ .)2004 ،‬يجب أن ّ‬

‫مستوى كل مواطن وكل حكومة وكل مجموعة من الدول‪ .‬وفق ًا لتصوُّر‬

‫تتحدد‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫جوزيف ناي‪ ،‬فقوّة دولة ما أو مجموعة من الدول ال‬ ‫َّ‬

‫بالقدرة العسكرية‪ ،‬بل بتكامل مجموعة من العوامل كالقدرة على التأثير‪،‬‬

‫تعزيز القيم‪ ،‬والقوة الجاذبة‪ ،‬التح ّلي بسلوك اإلقناع بدل اإللزام‪ ،‬الحوار‬

‫بدل اإلكراه‪ ،‬والجذب بدل التحريض‪.‬‬

‫إن موارد القوة الناعمة ‪ -‬على عكس القوّة الخشنة التي تحيل على العمل‬

‫العسكري واإلكراه والهيمنة االقتصادية ‪ -‬هي الثقافة‪ ،‬القيم السياسية‪،‬‬

‫تعدد األقطاب‪.‬‬ ‫وكيفية تطوير سياسة التعاون الب ّناءة القائمة على ُّ‬

‫إن القوة الناعمة تم ِ ّثل حقيقة جوهرية لها رسالة كونية ينبغي تقديمها‬

‫للعالم‪ ،‬كما تتط َّلع هذه القوة الناعمة إلى فرض نفسها على العالم‬

‫كسلطة أخالقية عن طريق سياسات التعاون‪ ،‬الدبلوماسية الوقائية‪ ،‬وأيض ًا‬

‫المساعدة على اإلنماء والتطوُّر‪ .‬يكمن التأثير في إنتاج المعايير‪ ،‬في‬

‫تنظيم العولمة‪ ،‬وفي نهج مقاربة للعالقات الدولية التي تنتصر للقانون‬ ‫والنظام عن طريق رفض تطبيق ارتكاس هوبز القائم على سياسة فرض‬

‫يتم تحقيق توازن القوى عن طريق ما‬ ‫األمر الواقع‪ .‬حسب جوزيف ناي‪ّ ،‬‬ ‫‪42‬‬


‫يسمى القوّة الناعمة‪ ،‬أي التوازن بين خصائص القوة الناعمة وخصائص‬ ‫ّ‬

‫القوة الخشنة (القوة العسكرية)‪.‬‬

‫يتم تحديد الزعامة والقيادة تبع ًا للقدرة على التفاوض وتحقيق المصالحة‬ ‫ّ‬

‫في عالم أ كثر إغراق ًا في الترابط‪ .‬من وجهة النظر هذه‪ ،‬فإن االتحاد‬

‫األوروبي يملك مزايا عديدة مقارنة مع فاعلين دوليين آخرين‪ .‬وكنتيجة‬

‫للمبدأ الديموقراطي لال ِ ّتحاد األوروبي‪ ،‬فتحديد هويّة أوروبا قائم على‬ ‫أسس سياسية‪.‬‬

‫َّ‬ ‫تأسست‬ ‫تتحقق الرسالة العالمية لال ِ ّتحاد األوروبي بنشر المبادئ التي َّ‬

‫عليها أوروبا‪ ،‬أي الديموقراطية‪ ،‬المجتمع المنفتح‪ ،‬االنسجام االجتماعي‪،‬‬

‫دولة الحق والقانون‪ ،‬الليبرالية االقتصادية‪ ،‬والفلسفة‪ .‬كلما نشرت أوروبا‬

‫رسخت هويَّتها على المستوى العالمي‪ ،‬واستطاعت رسالتها‬ ‫أفكارها‪َّ ،‬‬

‫العالمية المسؤولة والمتسامحة توليد المصالحة والتفاهم األفضل بين‬

‫بقاع العالم‪ .‬يجب أن نتش َّبث‪ ،‬على الدوام‪ ،‬بحلم رايمون أرون المتم ِ ّثل‬

‫في مجتمع مؤنسن بشكل حقيقي‪.‬‬

‫جيروم كوشلين‬ ‫‪18/09/2010‬‬

‫‪43‬‬


‫تعرض الديموقراطية للخطر‬ ‫الليبرالية المُ ط َلقة ِّ‬ ‫بعد أن هاجر من بلغاريا االشتراكية‪ ،‬يقول تزيفتان تودوروف اليوم‪:‬‬

‫مدة‪ ،‬أن استعما ً‬ ‫ال معين ًا للح ّريّة قد يشكل خطر ًا على‬ ‫«أدركت‪ ،‬منذ ّ‬

‫الديموقراطية»‪ .‬كما تابع قائ ً‬ ‫تخيم بثقلها على‬ ‫ال‪« :‬إن التهديدات التي ِ ّ‬

‫الديموقراطية ال تأتي من الخارج‪ ...‬بل‪ ،‬باألحرى‪ ،‬من الداخل‪ .»...‬فما‬

‫هذه التهديدات المحدقة بالديموقراطية؟‬

‫إذا كانت التجربة الشيوعية‪ ،‬من منظور تودوروف‪ ،‬قد كشفت عن‬

‫المسيحية السياسية (القائلة بإمكانية تحقيق عالم مثالي على األرض)‪،‬‬

‫فإن سلوك الواليات المتحدة األميركية والليبرالية المتط ِّرفة يكشف‪ ،‬على‬ ‫نحو ما‪ ،‬القرابة الحقيقية مع هذه المسيحية السياسية‪ .‬يستشهد تودوروف‬

‫بفرنسوا فالهو‪« :‬كل على طريقته الخاصة‪ ،‬اإليديولوجيا الشيوعية‬

‫والمذهب الذي يخالفها ويناقضها خاضعان لألسطورة البرومثيوسية‬

‫(المؤمنة باإلنسان ونشر الحضارة)‪ .‬نعم‪ ،‬فالليبرالية المتط ِّرفة التي يرى‬

‫تودوروف أنها تخدم استبداد األفراد‪ ،‬تع ِّرض الديموقراطية للخطر‪.‬‬

‫وأكثر من ذلك أيض ًا إلى ما حدث في اليابان‪ ،‬حسب تودوروف‪ ،‬هو‬

‫خير مُ َع ِ ّبر على هذا الوضع‪ ،‬فكارثة فوكوشيما حدثت في نهاية المطاف‬

‫بسبب «منطق الليبرالية الجديدة التي تنظر إلى اإلنسانية على أنها‬

‫كتلة من األفراد ال شأن لهم‪ ،‬يخضعون بأنفسهم لتضارب مصالحهم‬

‫االقتصادية»‪ .‬يشير تودوروف إلى أن «الفصل الجذري للجوانب‬ ‫ّ‬ ‫مستقل‬ ‫االقتصادية عن النسيج االجتماعي‪ ،‬وبناء االقتصاد في مجال‬ ‫‪44‬‬


‫بلغ ذروته في نظرية ثراء األمم التي قال بها آدم سميث (‪.»)1776‬‬ ‫يقدم تودوروف الوصف التالي‪« :‬اليوم‪،‬‬ ‫وعن انتصار هذه اإليديولوجيا‪ّ ِ ،‬‬

‫اطمأن القادة السياسيون لإليديولوجيا الليبرالية المتط ِّرفة‪ ،‬فإنهم‬ ‫وبعدما‬ ‫ّ‬

‫أ كثر استعداد ًا لخدمة القوى القائمة على النفوذ المالي‪ ...‬والنتيجة هذه‬

‫المرة هي‪ ،‬من جهة‪ ،‬إنشاء حكومات النخبة السياسية ‪ -‬االقتصادية‬

‫(حكومات أوليغارشية؛ حكم القلة) ومن جهة أخرى‪ ،‬إقصاء الخاسرين‪،‬‬

‫النفايات الحقيقية للنظام‪ ،‬المحكوم عليهم بالفقر والمهانة‪ :‬إنهم السبب‬

‫في مأساتهم‪ ،‬ولمساعدتهم ال ينبغي أن نناشد الدولة‪ ،‬أو نسعى إلى‬

‫التضامن االجتماعي‪ .‬فالولع بالـ(سوبرمان) يناسب تمام ًا المنطق‬ ‫الليبرالي المتط ِّرف‪».‬‬

‫هذا التغيير الحاصل في وقتنا الحاضر هو‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ّ ،‬‬ ‫أقل‬

‫جوهرية من التغيير الذي فرضته الثورة الفرنسية التي عملت على استبدال‬

‫سيادة الملك بسيادة الشعب‪.‬‬

‫تجسدها إرادة‬ ‫إن الليبرالية المتط ِّرفة تضع سيادة القوى االقتصادية التي‬ ‫ِّ‬

‫بعض األفراد فوق سيادة اإلرادة السياسية مهما كانت طبيعتها‪ ،‬وهي إذ‬

‫المؤسس للفكر‬ ‫تقوم بذلك‪ ،‬فإنها تنتهك ‪ -‬بشكل متناقض ‪ -‬المبدأ‬ ‫ِّ‬

‫الح ّد من سلطة ما بسلطة أخرى‪ .‬ما ينطبق على‬ ‫الليبرالي القائم على َ‬

‫األنظمة الكليانية الشمولية شبيه بقفازات النظام الحالي المدمّر القائم‬

‫على سلطة المال‪ « :‬إذا قمنا بتعريف البربرية على أنها رفض اعتبار‬

‫نعد هذا العالم الذي تحكمه سلطة أحادية‬ ‫اآلخرين بَشَ ر ًا مثلنا‪ ،‬فيجب أن ّ‬

‫قائمة على النفوذ االقتصادي تجسيد ًا تام ًا للبربرية»‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫بين حديقة الحيوان «أي الدولة» وشريعة الغاب «أي الفرد» التي‬

‫يحدثنا عنها جان فيرات‪ ،‬هناك طريق ثالث يجب أن نسلكه ونبنيه من‬ ‫ِّ‬

‫أجل كرامة اإلنسان وتح ُّرره‪ .‬فكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون»‬

‫لتزيفتان تودوروف ِ ّ‬ ‫يذكرنا بأن هذا الطريق‪ ،‬أي السياسة العادلة‪ ،‬تتناغم‬

‫في جميع الحاالت مع الديموقراطية‪.‬‬

‫فالير ستارسيلكي‬

‫‪11-05-2012‬‬

‫‪46‬‬


‫أعداء الديموقراطية الحميمون‬

‫ممجدة بشكل خالص؟‬ ‫هل ستصبح الديموقراطية «تعزيمة» سح ّريّة‬ ‫َّ‬

‫يساهم كتاب تودوروف «أعداء الديموقراطية الحميمون» في إحياء‬

‫النقاش حول الديموقراطية بإثارته ألسئلة محورية مزعجة في بعض‬

‫األحيان‪ ،‬لكنها أسئلة كفيلة بتجنيبنا خطر السخط الناجم عن قبولنا‬

‫ألوضاع غير معقولة بضمير مرتاح‪ .‬يس ِ ّلط َّ‬ ‫ملخص الكتاب الضوء على‬ ‫التحليل التاريخي واالستخدامات النظرية والعملية للديموقراطية في‬

‫الم َرض ّية‪ ،‬مقترح ًا‪ ،‬في نهاية المطاف مشروع ًا أوّلي ًا‬ ‫تجاوزاتها وانحرافاتها َ‬ ‫ّ‬ ‫لحل إشكاليتها المعاصرة والمستقبلية‪ .‬يعرف تودوروف دواليب موضوع‬

‫ويقدم ‪-‬في هذا‬ ‫مهم ًا من عمله‪.‬‬ ‫فيخصص لها جزء ًا‬ ‫الديموقراطية‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وتوقع ًا متفائ ً‬ ‫ُّ‬ ‫ال ومطمئن ًا‪ ،‬مشير ًا‬ ‫الكتاب‪ ،‬في اآلن نفسه‪ -‬تشخيص ًا مقلق ًا‬

‫إلى أن المطالبة الحصرية بالح ّريّة قد غدت سمة األحزاب األوروبية‬

‫لليمين المتط ِّرف‪ .‬ومن هنا انبثقت فكرة تزيفتان تودوروف التي تدعو‬

‫إلى التفكير في المرحلة الحالية للديموقراطية التي لم يعد لها أعداء‬

‫يهددونها من الخارج بعد موت النزعات الكليانية‪ .‬لكن الديموقراطية‬ ‫ِّ‬

‫أمست منذئذ متآ كلة من الداخل‪ .‬أعداؤها هم أبناؤها غير الشرعيين‪:‬‬

‫المبادئ الديموقراطية المعزولة عن مشروع الجماعة‪ ،‬والتي تنعكس‬

‫سلب ًا على الديموقراطية نفسها‪ .‬وخير مثال على ذلك النزعة المسيحية‬ ‫السياسية «التي تزعم إقامة عالم يسوده األمان والسالم»‪ ،‬المزايدة‬

‫الديموقراطية المزعومة ألحزاب القرصنة‪ ،‬ح ّريّة الصحافة التي هي في‬ ‫‪47‬‬


‫كس ْلطة مضاءة‪ ،‬لكنها قابلة لالنتقاد بصفتها ُس ْلطة‪.‬‬ ‫صميمها‪ -‬أمر جيد ُ‬ ‫يع ِ ّبر تودوروف عن قلقه بسبب انهيار النموذج الديموقراطي األوروبي‬

‫أمام سلسلة من الصعوبات المتشابكة فيما بينها‪ :‬مشكلة العقليات‪ ،‬انتصار‬

‫النزعة الشكلية الشرعوية‪ ،‬تجاهل أمر الح ّريّة المنوط بتطوير شخصية‬

‫ال عن ذلك‪ّ ِ ،‬‬ ‫الفرد وتف ُّتحه‪ .‬فض ً‬ ‫يؤكد أن التقهقر له نتائج وخيمة على‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬بما في ذلك الصعوبات ذات الطابع السياسي‪ .‬تبدو أوروبا‬

‫ّ‬ ‫تستغل هذه‬ ‫متقوقعة في تناقضاتها‪ ،‬الشيء الذي يجعل األحزاب الشعبوية‬

‫الثغرات الديموقراطية‪ .‬تعاني الديموقراطية من كونها أضحت موضوع ًا‬

‫للتوافقات؛ لم يعد ثمة أشخاص يدافعون عنها‪ ،‬ومن ث ََّم من الصعب‬

‫إثارة الحماسة من أجل قضيتها‪ .‬فالحركة الراهنة للساخطين‪ ،‬حتى لو لم‬

‫تقدم إجابات على الصعوبات التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫فإنها تبقى ِ ّ‬ ‫مؤشر ًا دا ّل ًا بما تحمله من شعار «الديموقراطية اآلن»‪ .‬بالنسبة‬

‫التجدد‪،‬‬ ‫لتودوروف الخالص ال يكمن خارج ذواتنا‪ ،‬بل في قدرتنا على‬ ‫ُّ‬

‫يردد‬ ‫نقد الذات‪ ،‬إرادة العمل‪ ،‬طموح البشرية لبلوغ الكمال‪ ،‬كما كان ِ ّ‬

‫روسو‪ ،‬المثال الذي ال ينبغي مطابقته مع االعتقاد األعمى بالمسيرة‬

‫َّ‬ ‫التقدم‪.‬‬ ‫المظفرة للبشرية في ركب‬ ‫ُّ‬

‫يقترح تودوروف تفكير ًا فلسفي ًا سياسي ًا مستوحى من تاريخ األفكار‬

‫وعلم االجتماع التاريخي حول الديموقراطية كأساس للح ّريّة‪ ،‬للمساواة‪،‬‬ ‫وللتماسك االجتماعي‪.‬‬

‫يمس تودوروف في هذا الكتاب جوهر البنى الكفيلة بهيكلة الحياة في‬ ‫ّ‬

‫المجتمعات الحديثة‪ .‬تنبثق حقيقة الديموقراطية من تاريخ يبقى‪ ،‬في‬ ‫‪48‬‬


‫جوهره‪ ،‬تاريخ ًا قائم ًا على السعي الكتساب الحقوق االجتماعية‪.‬‬ ‫إن النهج الذي اعتمده تودوروف في هذا الكتاب يبقى موضع ترحيب‬

‫لسببين‪ :‬أولهما‪ ،‬أن الديموقراطية ‪-‬باعتبارها عام ً‬ ‫ال مح ِّرك ًا في تاريخ‬

‫المنصب على السياسات‬ ‫التقدم االجتماعي‪ -‬تو ِ ّلد اليأس بسبب اإلقصاء‬ ‫ّ‬

‫والنخب‪ ،‬وثانيهما‪ ،‬وعلى المستوى النظري أ كثر‪ ،‬أن األعمال األساسية‬

‫اهتمت أ كثر بالقضايا الثالثية‪:‬‬ ‫حول الديموقراطية في العقود األخيرة‬ ‫َّ‬ ‫مشدد ًا على القضية‬ ‫حقوق اإلنسان‪ ،‬المجتمع المدني‪ ،‬والحكامة (‪،)1‬‬ ‫ِّ‬ ‫(المتخصصين‬ ‫المرتبطة ببقائها‪ ،‬في الوقت الذي يرى فيه علماء االنتقال‬ ‫ِّ‬

‫في علم االنتقال الديموقراطي) أن األمر مج َّرد عمليات دمقرطة غير‬ ‫يشخص فيه علماء السلطة ‪-‬وعلى رأسهم‬ ‫مكتملة‪ ،‬وفي الوقت الذي‬ ‫ّ‬

‫خوان لينز‪ -‬عمليات توطيد سلطوية‪.‬‬

‫نالحظ‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬أن هذا الكتاب يسعى ‪-‬بشكل مفيد‪ -‬إلى تكميل‬

‫أدبيات الدراسات الديموقراطية‪ .‬ولكن األهم من ذلك‪ ،‬أنه يع ِ ّزز أعمال‬

‫روزانفالون حول«الديموقراطية المضادة» و«الشرعية الديموقراطية»‬

‫(‪ .)2‬الشيء الجوهري في هذا الكتاب‪ ،‬أن تودوروف يرى أنه من‬

‫الضروري القيام بتجديد ديموقراطي عميق إزاء القضايا التي هي على‬

‫ّ‬ ‫المحك في الوضع الحالي‪ ،‬كانعدام المساواة المتزايدة‪ .‬في الواقع‪ ،‬هو‬

‫يدعو إلى تغيير في الرؤية الفكرية والسلوكيات الكفيلة بإضفاء معنى‬ ‫على المثال الديموقراطي‪.‬‬

‫َّ‬ ‫المثقفين‬ ‫يفرض تزيفتان تودوروف نفسه‪ ،‬بشكل كبير‪ ،‬كواحد من‬

‫الحادة والثاقبة حول الديموقراطية‪،‬‬ ‫المعاصرين األكثر احترام ًا‪ .‬إن نظرته‬ ‫ّ‬

‫‪49‬‬


‫وقدرته على التغلغل عميق ًا في تحليل األشياء لنزع القناع عن الرؤى‬ ‫السطحية‪ّ ِ ،‬‬ ‫المتميزة التي يتزاحم فيها الذكاء مع‬ ‫تشكالن األساس ألعماله‬ ‫ِّ‬

‫َّ‬ ‫المثقفين المشعوذين ذوي األخالق‬ ‫النزعة اإلنسانية الصادقة‪ ،‬بعيد ًا عن‬ ‫الملتوية‪ .‬لقد ظهر هذا الكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون» ليكمل‬

‫األخدود الذي َخ ّط تودوروف معالمه في كتبه «ذاكرة الشر‪ ،‬إغواء‬

‫الخير»(‪« ،)2000‬الفوضى العالمية الجديدة» (‪ )2003‬و«الخوف‬

‫من البرابرة» (‪.)2008‬‬

‫في وطنه األصلي (بلغاريا)‪ ،‬يالحظ تودوروف أن انعدام الح ّريّة كان‬

‫يمس الخيارات السياسية‪ ،‬بل ‪-‬أيض ًا‪ -‬الجوانب التي ليس لها أية‬ ‫ّ‬ ‫داللة إيديولوجية‪ :‬اختيار مكان اإلقامة‪ ،‬المهنة‪ ،‬ونوع المالبس أيض ًا‪.‬‬

‫كان النظام يضفي قيمة على كلمة الح ّريّة‪ ،‬لكن ذلك التمثيل الكاذب‬

‫كان يخدم إخفاء غيابها‪ .‬ولذلك‪ ،‬يالحظ تودوروف ‪-‬بقلق كبير‪ -‬في‬

‫المميز لألحزاب السياسية‬ ‫عام ‪ 2011‬أن مصطلح الح ّريّة أصبح االسم‬ ‫ّ‬ ‫المعادية لألجانب في أوروبا‪.‬‬

‫يشجب تودوروف المسيحية السياسية (التي تزعم أنها خالص العالم)‪،‬‬

‫ويرى أنها ترتكب أفعا ً‬ ‫ال ش ّريرة باسم الخير‪ .‬ألنها تب ِّرر أفعالها بدافع‬

‫سام لإلنسانية‪.‬‬ ‫يتم وصفها على أنها مبتغى ٍ‬ ‫الوصول إلى غاية ّ‬

‫يرى تودوروف أن الموجة األولى للمسيحية السياسية المؤمنة بالخالص‬

‫تتمثَّل في الحروب الثورية واالستعمارية‪ ،‬والموجة الثانية في المشروع‬ ‫الشيوعي‪ ،‬في حين أن الموجة الثالثة تتمثَّل في فرض الديموقراطية‬

‫يحدد تودوروف سببين بنيويَّين لفشل استراتيجيات هذا‬ ‫بالقنابل[‪.]3‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪50‬‬


‫الشكل الجديد للمسيحية السياسية المؤمنة بالخالص‪ :‬من جهة‪ ،‬إن‬

‫المتوخى‪ ،‬ومن جهة أخرى‪،‬‬ ‫عنف الوسائل المستخدمة يلغي نبل الهدف‬ ‫ّ‬

‫إن واقعة فرض الخير على اآلخرين بالقوة بدل االكتفاء باقتراح ذلك‬

‫عليهم فقط‪ ،‬يستدعي اإلقرار ‪-‬في البدء‪ -‬بأنهم غير قادرين على حكم‬

‫أنفسهم بأنفسهم‪ ،‬وأن تحريرهم يستوجب ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬إخضاعهم‪.‬‬

‫و على الصعيد المح ّلي‪(،‬على المستوى الداخلي للدولة الغربية)‪ ،‬يدين‬ ‫تودوروف تجاوزات ح ّريّة تمويل الحياة السياسية في الواليات المتحدة‬

‫التي تتعارض مع الديموقراطية‪ .‬إنه ِ ّ‬ ‫للقس والناشط‬ ‫يذكرنا بالعبارة الشهيرة‬ ‫ّ‬

‫السياسي هنري الكوردير الذي قال سنة ‪« :1848‬بين القوي والضعيف‪،‬‬

‫وبين الغني والفقير‪ ،‬وبين السيد والعبد‪ ،‬الح ّريّة هي التي تقمع وتظلم‪،‬‬

‫ضد‬ ‫والقانون هو الذي يح ِّرر»‪ .‬يشجب تودوروف أيض ًا العداء المستعر ّ‬ ‫اإلسالم الذي ّ‬ ‫تغذيه السلطات السياسية ووسائل اإلعالم[‪ .]4‬وخير مثال‬

‫على ذلك نزوع رئيس فرنسا الذي ينادي بضرورة دفاع المجتمع الفرنسي‬

‫عن نفسه لحماية نمط حياته‪ ،‬كما يذكر تودوروف أن الثقافة األكثر نفوذ ًا‬

‫في فرنسا‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬هي ثقافة الواليات المتحدة األميركية‪...‬‬

‫يالحظ تودوروف‪ ،‬باستياء‪ ،‬أن الديموقراطية أصبحت نظام ًا منفص ً‬ ‫ال‪،‬‬

‫وذلك أمر مؤسف‪ ،‬لقد أصبحت في حالة شاذة‪ ،‬وهي نفسها المسؤولة‬

‫عن ذلك‪ .‬حين تصبح الديموقراطية‪ ،‬في الغالب‪ ،‬قابلة للذوبان في‬

‫متعددة لها‪،‬‬ ‫تقدم السلطة السياسية مظاهر‬ ‫ِّ‬ ‫نزعة تس ُّلطية جامحة حيث ِ ّ‬

‫كماشة بين العملية المزدوجة للشرعية‪/‬‬ ‫فإن الديموقراطية تجد نفسها في ّ‬ ‫التشريع‪ .‬ما جدوى الديموقراطية إذا لم تعد قادرة على تدعيم األنظمة التي‬

‫تحكمها المبادئ الدستورية للح ّريّة واستقالل السلطة؟ يعتقد تودوروف‪،‬‬ ‫‪51‬‬


‫على شاكلة روزانفالون في كتابه «الديموقراطية المضادة»‪ ]5[،‬أنه‪ ،‬لكي‬

‫تحيا الديموقراطية في وضع سليم‪ ،‬يجب احترام متط َّلباتها‪ ،‬وخصوص ًا‬

‫ح ّريّة األفراد‪ .‬أما نقيض هذا األمر فيعني العمل على خلق «ديموقراطية‬

‫معزولة»[‪.]6‬‬

‫على غرار فوكوياما الذي أعلن «نهاية العالم»[‪ ،]7‬أو برتراند بادي الذي‬

‫أعلن «نهاية الحدود»[‪ ،]8‬فإن كتاب تودوروف‪ ،‬وبفضل استثماره‬

‫لمستوى ٍ‬ ‫عال من الثقافة العالمة‪ ،‬ينتصر النخراط القارئ في الشهادة‬

‫على األنموذج الممكن «لنهاية الديموقراطية»‪ .‬مرجعية األنموذج‬

‫متعددة‪ :‬نهاية‬ ‫متغيرات‬ ‫الديموقراطي في طريقها إلى الزوال بسبب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الحرب الباردة‪ ،‬الليبرالية الجديدة‪ ،‬وأزمة الدول‪ .‬يالحظ المتتبع للشأن‬

‫السياسي تكاثر الفضاءات واألماكن التي أصبحت فيها الديموقراطية‬

‫فاقدة للفعالية‪ ،‬حيث اختفى دورها كأداة للمراقبة والضبط‪ .‬وعالوة‬

‫مهددة بتضارب مصالح المعادين‬ ‫على ذلك‪ ،‬فالديموقراطية أصبحت‬ ‫َّ‬

‫للديموقراطية‪ ،‬الذين يرى تودوروف أنهم ِ ّ‬ ‫يوقعون على شهادة ابتذالها‬

‫وبطالنها‪.‬‬

‫يبين تودوروف كيف ت ََّم فرض النظام الديموقراطي باعتباره رؤية‬ ‫ّ‬

‫قانونية‪/‬عقالنية خاصة في أثناء مرحلة فكفكة االستعمار‪ ،‬ويالحظ أن‬ ‫ّ‬ ‫وأقل مي ً‬ ‫ال نحو الكونية‪ ،‬حيث أصبحت‬ ‫الهويات أ كثر ارتباط ًا بالثقافة‬

‫الديموقراطية أسلوب ًا معين ًا لتأ كيد سيادة شعب ما‪ ،‬هذه السيادة التي‬

‫ت ََّم إنكارها تارة هنا واالحتفال بها تارة هناك‪ ،‬كما أن هذه السيادة ت ََّم‬

‫بناؤها خارج الفضاء القومي ودون أخذ هذا الفضاء بعين االعتبار‪ .‬من‬

‫هنا‪ ،‬ينبثق عجز الديموقراطية وأزمة القيم األخالقية التي نعيشها اليوم‬ ‫‪52‬‬


‫ونحن ساخطون‪ .‬لكن نهاية الديموقراطية هاته تعكس أيض ًا اإلنكار‬

‫التدريجي لقدرة الدولة على السيطرة بسبب نهاية شرعية الديموقراطية‪.‬‬

‫يتم تناولها‬ ‫من المؤسف أن مسألة إجراء التحقيق في الرأي العام ال ّ‬ ‫بشكل جوهري في ارتباط وثيق بالديموقراطية‪ .‬إن إجراء تحقيق في‬

‫ِّ‬ ‫مغذي ًا للشعبوية‪ ،‬ومن جهة‬ ‫الرأي العام قد يكون‪ ،‬من جهة‪ ،‬عنصر ًا‬

‫أخرى‪ ،‬عنصر ًا جوهري ًا لمعرفة درجة المالءمة أو التناقض‪ ،‬في مرحلة‬

‫مع َّينة‪ ،‬بين الحاكمين والمحكومين أساس ًا‪ .‬إن عدم اإلشارة إلى غياب‬ ‫الديموقراطية في إفريقيا مسألة مزعجة‪ :‬هذا التقصير مقلق للغاية‪ ،‬السيما‬

‫تحديات كبيرة من‬ ‫أن ‪-‬في هذا الجزء من العالم‪ -‬تواجه الديموقراطية‬ ‫ّ‬

‫خالل مواجهتها لديكتاتوريين يمسكون‪ ،‬بشكل دائم‪ ،‬بزمام سلطة ذات‬ ‫توجه استبدادي‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫لماذا كتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون»؟‬ ‫ِّ‬ ‫أهم ّية تحسين النظام االجتماعي في النموذج‬ ‫يؤكد تودوروف على‬ ‫ّ‬ ‫الديموقراطي‪ ،‬الشيء الذي يتضمن المراقبة والحظر والحكم‪ .‬وهذا‬

‫هو الشيء الضروري‪ ،‬خاصة في الجمهوريات التي تحكمها المصالح‬

‫يتم النزوع إلى‬ ‫الخاصة‪ ،‬ويسود فيها اإلخالل بأمانة الوظيفة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫اختزال الديموقراطية في الفعل االنتخابي ورفض التركيز على نوعية‬

‫المؤسسات (الفصل بين السلطات)‪ ،‬نشاط‬ ‫(التعددية)‪ ،‬نشاط‬ ‫النقاش‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬

‫المؤسسات‪ .‬لكن‪ ،‬باختيار تودوروف عنوان ًا‬ ‫المجتمع في عالقته بهذه‬ ‫َّ‬

‫لكتابه بهذا الشكل «أعداء الديموقراطية الحميمون»‪ ،‬فإنه يخاطر‬

‫بالسقوط في سوء الفهم؛ ألننا لو قمنا بالتأويل الحرفي لعنوان كتابه‪،‬‬

‫فذلك يعني «نهاية الديموقراطية»‪ .‬وهذا ما سيكون كارثة في عالم‬

‫‪53‬‬


‫يصبح فيه الحيوان السياسي (الذي هو اإلنسان) ذئب ًا ألخيه اإلنسان‪.‬‬

‫للح ّد من صالحيات‬ ‫حتى لو كان هناك وجود ألزمة الثقة في الليبرالية‪َ ،‬‬ ‫متشددين‬ ‫السلطة‪ ،‬فإن ثمة ‪-‬أيض ًا‪ -‬أزمة ثقة ديموقراطية‪ ،‬لكي نكون‬ ‫ِّ‬

‫وصارمين إزاء السلطات‪ ،‬كما أن هناك أزمة ثقة شعبوية‪ ،‬لفضح ونبذ‬

‫السلطات بطريقة منهجية‪ ،‬فمن غير المستحسن وضع َح ّد للديموقراطية‬

‫التي تحتاج إلى إعادة التنظيم والقيام بتسويات من أجل االنتعاش‪.‬‬

‫يمنح هذا الكتاب لفرضيات توكفيل االتّساق النظري الكامل‪ .‬ال َّ‬ ‫شك‪،‬‬

‫أن المسألة التي تم َّي َز فيها توكفيل‪ ،‬بوصفه صاحب رؤية ثاقبة‪ ،‬هو قدرته‬ ‫ُّ‬ ‫التوقع بشكل مسبق للتأثيرات الوخيمة في مسألة المساواة االجتماعية‬ ‫على‬

‫(‪ ،)9‬غير أنه في هذا الكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون»‪ ،‬قد‬ ‫يعتقد المرء أن رتابة مجتمعاتنا واالنتصار العالمي للشعبوية ِ ّ‬ ‫يؤكدان‬

‫ُّ‬ ‫توقعات تودوروف المتشائمة‪.‬‬

‫رغم هذه المالحظات‪ ،‬فإن هذا الكتاب الذي يغني القائمة الهامّة‬ ‫لألعمال النقدية حول الديموقراطية‪ ،‬يبدو لي ‪-‬تمام ًا‪ -‬كتاب ًا جدير ًا‬

‫ُّ‬ ‫تحفظ‪.‬‬ ‫باالحترام دون‬

‫باتريس موندونغامويتي‬

‫‪18-02-2012‬‬

‫‪54‬‬


‫هوامش‬ ‫[‪ -]1‬انظر جون راولز‪ :‬نظرية العدالة‪ .‬أو ِ ّ‬ ‫منظرو االعتراف كـ«روزانفالون»‪.‬‬

‫[‪ -]2‬الديموقراطية المناهضة‪ .‬السياسة في زمن االرتياب‪ .‬ساي ‪ .2006‬الشرعية الديموقراطية‪ ،‬نظرية‬ ‫المصلحة العامة‪ .‬ساي ‪.2008‬‬

‫التدخل في‬ ‫[‪ -]3‬على ضوء أعماله السابقة‪ ،‬ي َّتضح التج ّلي لهذا النزوع في حرب كوسوفو ‪ ،1999‬ثم‬ ‫ُّ‬

‫والتدخل في ليبيا ‪.2011‬‬ ‫أفغانستان ‪ ،2001‬والحرب على العراق ‪2003‬‬ ‫ُّ‬

‫ُسمى‪ ،‬باألحرى‪ ،‬وزارة الشؤون‬ ‫[‪ -]4‬يرى تودوروف أن الوزارة الفرنسية للهويّة الوطنية كان يجب أن ت ّ‬

‫اإلسالمية بما أن السكان المسلمين هم مركز اهتمامها الرئيسي‪.‬‬

‫[‪ -]5‬روزانفالون‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬

‫[‪ -]6‬ديهاميل «الديموقراطية المعزولة»‪ ،‬مجلة السلطة‪ ،‬رقم ‪.2008 ،126‬‬

‫[‪ -]7‬فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» باريس‪ ،‬فلماريون ‪.1993‬‬ ‫[‪ -]8‬بادي « نهاية الحدود» باريس‪ ،‬فايارد‪.1995 .‬‬

‫[‪ -]9‬روزانفالون «مجتمع المساواة» باريس‪ ،‬ساي ‪.2011‬‬

‫‪55‬‬


‫تأمالت مواطن أوروبي‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫يوضح كتاب تزيفتان تودوروف‪« :‬الفوضى العالمية الجديدة» الصغير‬

‫الحجم والغني فكري ًا‪ ،‬كيف تخلق السياسة الخارجية للواليات المتحدة‬

‫محدد‪ ،‬إنه سياق الحرب في العراق‪.‬‬ ‫جد‬ ‫ّ‬ ‫الفوضى واالضطراب في سياق ّ‬ ‫كتب تزيفتان تودوروف هذا الكتاب في الوقت الذي ت ََّم فيه نشر مشروع‬

‫الدستور األوروبي الذي وضعته «االتفاقية حول مستقبل أوروبا»‪ .‬يتع َّين‬

‫على االتحاد األوروبي لعب دور أكبر في الساحة الدولية‪.‬‬

‫ي َُع ّد تودوروف مؤ ِّيد ًا ونصير ًا ألوروبا بشكل كبير‪ ،‬كما ِ ّ‬ ‫يؤكد ذلك العنوان‬

‫الفرعي لكتابه «تأمُّ الت مواطن أوروبي»‪ُ .‬و ِلد هذا المفكر في بلغاريا‪،‬‬ ‫ويعيش في فرنسا منذ أربعين عام ًا‪.‬‬

‫يحدد تودوروف في نهاية كتابه «الفوضى العالمية الجديدة» القيم‬ ‫ِّ‬

‫التي يتقاسمها األوروبيون‪ ،‬ثم يعرض مجموعة من األفكار لتعزيز فعالية‬

‫االتَّحاد األوروبي‪ ،‬ويجري تقاسم العديد من مقترحاته من ِق َبل معظم‬ ‫دول االتحاد األوروبي‪.‬‬

‫نقض الحرب الوقائية‬ ‫خصص تودوروف جزء ًا كبير ًا من كتابه للسياسة الخارجية األميركية‬ ‫َّ‬

‫‪56‬‬


‫بشدة وببصيرة ثاقبة‪ .‬بأسلوب سلس‪ّ ِ ،‬‬ ‫يفكك الحجج التي‬ ‫التي ينتقدها‬ ‫ّ‬

‫ضد العراق في مارس ‪ ،2003‬حيث‬ ‫ت ََّم تقديمها في أثناء إعالن الحرب ّ‬

‫تسعى الواليات المتحدة األميركية ‪-‬دوم ًا‪ -‬للدفاع عن مصالحها بدافع‬

‫الرغبة في حماية مواطنيها ونشر الح ّريّة في بقاع العالم‪ ،‬كما يحلل‬ ‫ويفسر ظهور مصطلح جديد‪« :‬الحرب‬ ‫العالقة بين «األمن» و«الح ّريّة»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الوقائية»‪.‬‬

‫تس ِ ّلط تأمُّ الت تودوروف الضوء على المفاهيم التي ت ََّم ترديدها في‬ ‫وسائل اإلعالم بشدة بقيت ‪-‬مع ذلك‪ -‬تفتقر إلى التفسير‪ ،‬كمصطلح‬ ‫« األصولية الجديدة» التي ِ ّ‬ ‫وتوجهاته‬ ‫تشكل األساس لفكر جورج بوش‬ ‫ُّ‬

‫السياسية‪ .‬وعندما تقوم دولة ما بفرض ما تعتقده أمر ًا مثالي ًا بالقوة‪ ،‬فإنها‬

‫ال تتص َّرف بطريقة ديموقراطية‪.‬‬

‫ي َّتخذ تودوروف‪ ،‬في هذا الكتاب‪ ،‬صفة المراقب للسياسة الخارجية‬

‫وص َفة المستشار النصوح في اآلن نفسه‪ .‬ومن منظوره ‪-‬بوصفه‬ ‫األميركية‪ِ ،‬‬

‫مواطن ًا أوروبي ًا‪ -‬فإن استخدام القوة نادر ًا ما كان أمر ًا جيد ًا‪ ،‬باستثناء‬

‫حالة الدفاع المشروع عن النفس أو حدوث إبادة جماعية‪ .‬لكن اندالع‬

‫ضد العراق ال عالقة له بالدفاع المشروع عن النفس‪ ،‬أو باإلبادة‪،‬‬ ‫الحرب ّ‬

‫صدام حسين‪.‬‬ ‫حتى لو ت ََّم االعتراف بخطورة رجل مثل ّ‬

‫في أفغانستان‪ ،‬كما هو الشأن في العراق‪ ،‬وفي الوقت الذي أنهى فيه‬

‫يتم بعد نشر الديموقراطية‬ ‫كتابة عمله «الفوضى العالمية الجديدة»‪ ،‬لم ّ‬

‫التي زعمت أميركا إرساء أسسها في هذه البلدان‪ .‬ليس‪ ،‬فقط‪ ،‬ألن‬ ‫فعالة من وجهة النظر هذه‪ ،‬بل ألن هذه الحرب ال‬ ‫الحرب الوقائية غير ّ‬

‫‪57‬‬


‫يمكنها محاربة اإلرهاب‪ ،‬ألن العدو لم يعد ممكن ًا التع ُّرف إليه‪ .‬لم تخرج‬

‫الواليات المتحدة من هذا الصراع منتصرة‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬ربما ّ‬ ‫غذت‬

‫بطريقة مباشرة‪ -‬اإلرهاب؛ لقد شعر جزء كبير من اإلنسانية بالمهانة‬‫واإلذالل بسبب حرب أميركا على العراق‪.‬‬

‫أوروبا‪« ..‬القوة الناعمة» لتحقيق توازن جديد‬ ‫التعددية وعلى الديموقراطية؛ إذ يستند‬ ‫ي َُع ّد كتاب تودوروف ثنا ًء على‬ ‫ُّ‬

‫فيه إلى أفكار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو الذي يدعو إلى استقالل‬

‫السلطات‪ :‬التنفيذية‪ ،‬والتشريعية‪ ،‬والقضائية‪ .‬على المستوى الوطني‪،‬‬

‫كما هو الشأن على المستوى العالمي‪ ،‬ال يمكن للسلطة أن تكون غير‬

‫محدودة‪ .‬بواقعية عميقة‪ ،‬ال يؤمن تودوروف بالقانون الدولي لحكم‬

‫العالم‪ ،‬بل ‪-‬باألحرى‪ -‬بـ«نظام عالمي»‪ .‬لكن‪ ،‬من المفروض أن تقوم‬

‫ّ‬ ‫كمنظمة األمم المتحدة (التي‬ ‫السلطات بفرض هيبة هذا النظام العالمي‪،‬‬

‫عجزت عن منع حدوث المجازر) أو المحكمة الجنائية الدولية‪ ،‬فهي‬

‫سلطات فاقدة للفعالية وم َّتسمة بالعجز‪.‬‬

‫أمام هذا العمالق العالمي كالواليات المتحدة األميركية التي ليس هناك‬

‫نظير لقوّتها العسكرية‪ ،‬يصعب على االتّحاد األوروبي أن يفرض نفسه‬ ‫كفاعل في الساحة الدولية‪ .‬من جهة‪ ،‬تسيطر الواليات المتحدة على حلف‬

‫شمال األطلسي‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬ال يملك االتّحاد األوروبي مقاربة‬

‫للدفاع المشترك‪ .‬فسيطرة الواليات المتحدة على حلف شمال األطلسي‬

‫ال تبدو ‪-‬مطلق ًا‪ -‬أمر ًا منطقي ًا لتزيفتان تودوروف؛ ألن أي عدوان على‬ ‫‪58‬‬


‫أوروبا ال يمكن أن يحدث من داخل القارة األوروبية‪« .‬قوة أوروبا»‬

‫ستسمح لالتحاد بالدفاع عن نفسه في حالة وقوع عدوان خارجي‪،‬‬

‫ومن ث ََّم سيمكن ألوروبا أن تتح َّرر من الوصايا والحماية األميركية‪ .‬يضع‬

‫تزيفتان تودوروف الخطوط العريضة لهذه «القوة الناعمة» الكفيلة‬

‫بتطوير شراكة وثيقة مع الواليات المتحدة‪ ،‬خصوص ًا في مجال مكافحة‬

‫اإلرهاب‪.‬‬

‫وجود هو ّية أوروبية‬ ‫يسعى تودوروف في نهاية هذا الكتاب إلى البرهنة على وجود هويّة‬

‫أوروبية قائمة ‪-‬بشكل فعلي‪ -‬على تراث مشترك وتقارب جغرافي وعدد‬ ‫من القيم التي ِ ّ‬ ‫يوضح تج ِّلياتها في‪ :‬العقالنية‪ ،‬العدالة‪ ،‬الديموقراطية‪،‬‬

‫الح ّريّة الفردية‪ ،‬العلمانية‪ ،‬والتسامح‪ .‬وأخير ًا‪ ،‬فإن الفصل األخير من‬

‫تقدمية لتعزيز‬ ‫عدة مقترحات يبقى العديد منها مقترحات ّ‬ ‫يقدم ّ‬ ‫الكتاب ِ ّ‬

‫فعالية اال ِ ّتحاد األوروبي وآليات اشتغاله‪ ،‬كما هو الشأن‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬في دوره‬

‫في الساحة العالمية‪:‬‬

‫يتم فيها تحقيق التكامل‬ ‫ أوروبا التي تتأ ّلف من «دوائر م َّتحدة المركز» ّ‬‫على نطاق شاسع‪.‬‬

‫مؤسسات أ كثر تمثي ً‬ ‫ال للمواطنين‪ ،‬وعلى رأسها البرلمان‬ ‫ إنشاء‬‫َّ‬ ‫األوروبي‪.‬‬

‫ انتخاب رئيس ألوروبا عن طريق البرلمان األوروبي‪.‬‬‫‪ -‬اعتماد لغة مشتركة للعمل (اللغة اإلنجليزية)‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫ إنشاء عطلة رسمية يوم ‪ 8‬أو ‪ 9‬ماي لالحتفال بعيد أوروبا‪.‬‬‫إن قادة أوروبا والواليات المتحدة ‪ -‬فيما يتع َّلق بالجزء األول من هذا‬

‫المؤ ّلف ‪ -‬سيكون بإمكانهم استلهام أفكار هذا الكتاب واالغتناء من‬ ‫بالحس السليم‪.‬‬ ‫هذا التأمُّ ل الفكري المفعم‬ ‫ّ‬

‫يقدم تزيفتان تودوروف ‪-‬دون تساهل‪ -‬صورة عن السياسة الخارجية‬ ‫ِّ‬

‫أعم صورة عن السياسة العالمية‪ .‬ما يهيمن‬ ‫للواليات المتحدة‪ ،‬وبشكل ّ‬ ‫على الدول هو الرغبة في الدفاع عن النفس وحماية مصالحها القومية‪.‬‬

‫بسبب ماضيه‪ ،‬يسعى تودوروف إلى إدراك العالم وفهمه انطالق ًا من‬

‫رؤيته أو غير ذلك فقط‪ .‬وهذا ما يمنح أصالة كبيرة لتأمُّ الته الفكرية‪،‬‬ ‫ويجعل منه َّ‬ ‫مثقف ًا صاحب رؤية ثاقبة في زمنه‪.‬‬

‫صوفي جيراردين‬

‫‪14-03-2008‬‬

‫‪60‬‬


‫اال ّتحاد الديموقراطي للوسط السويسري‬ ‫فعا ً‬ ‫ال في مجلة «المجال العام» التي ن ُِشر فيها هذا‬ ‫ّ‬ ‫يعد ألبير تيل مساهم ًا ّ‬

‫المقال‪ ،‬حيث يرى هذا الباحث أن كتاب تزيفتان تودوروف «أعداء‬ ‫الديموقراطية الحميمون»‪ ،‬منشورات روبيرت الفون‪ .‬لم يفقد شيئ ًا من‬

‫أهم ّيته حول األحداث الراهنة بعد نشره منذ ما يزيد على سنة‪ ،‬وأنه كفيل‬ ‫ّ‬

‫بالفصل في سلوك االتّحاد الديموقراطي للوسط‪.‬‬

‫والمهدد للديموقراطية الغربية‪،‬‬ ‫بعد زوال الشيوعية‪ ،‬المنافس الكبير‬ ‫ِّ‬ ‫أخذ ّ‬ ‫يوجهون مخاوفهم وقلقهم في اتّجاه آخر‪ .‬الخصم‬ ‫سكان أوروبا ِ ّ‬ ‫الشرير والبارز هو األجانب‪ .،‬إنه ألمر جيد أن يقرأ المرء هذا الكتاب‪،‬‬

‫ويعيد قراءته في مطلع سنة يحتلّ فيها االتّحاد الديموقراطي للوسط‬ ‫قدمها‪ ،‬وأعلن عنها‬ ‫الساحة السياسية عن طريق سيل من المبادرات التي َّ‬

‫حول‪ :‬الهجرة الجماعية‪ ،‬األجانب المجرمين‪ ،‬اعتقال طالبي اللجوء‬ ‫المرفوضين‪ ،‬وإنهاء القبول المؤ َّقت‪.‬‬ ‫يالحظ تودوروف‪ ،‬هذا المؤ ِّرخ الفرنسي من أصل بلغاري‪ ،‬الصعود‬

‫المتنامي والمعمم للشعبوية ونزعة كره األجانب في أوروبا‪ .‬فحتى هولندا‬ ‫والدانمارك اللتان كان ي َ‬ ‫ُنظر إليهما على أنهما دولتان منفتحتان لم تعودا‬ ‫ِّ‬ ‫تشكالن استثناء‪ ،‬كما هو الشأن أيض ًا في سويسرا التي «أصبح فيها‬

‫الحزب الكاره لألجانب بزعامة كريستوف بلوشر‪ ،‬الذي يختبئ تحت‬

‫ُشبه األجانب بالخراف السوداء‪،‬‬ ‫تسمية االتّحاد الديموقراطي للوسط‪ ،‬ي ّ‬ ‫ويدعو إلى استفتاء يمنع بناء المآذن في هذا البلد الجميل»‪ .‬بالنسبة‬

‫لالتحاد الديموقراطي للوسط السويسري‪ ،‬تكمن مبادئ الديموقراطية‬ ‫ليعبر ‪-‬بكل ح ّريّة‪ -‬عن اختياره‪ .‬لكن كشف‬ ‫في إعطاء الشعب الكلمة ِ ّ‬

‫‪61‬‬


‫يلخص جوهر المسألة‪ .‬يضيف تودوروف‬ ‫حساب أصوات اقتراع ما ال ِ ّ‬

‫إلى قضية االستفتاء الجوانب النوعية في هذا الموضوع‪.‬‬

‫يتوخى نظام ديموقراطي ما الصالح العام على المدى البعيد‪ ،‬ويحترم‬ ‫ّ‬

‫المساواة في الحقوق‪ ،‬بما في ذلك حقوق األق ّل ّيات‪ .‬ثمة العديد من‬

‫الخصائص والصفات التي يتجاهلها الشعبويون‪« .‬أحب أقاربي‪ ،‬ولذلك‬

‫من الطبيعي أن أمنحهم المزيد من الحقوق واالمتيازات أ كثر من‬

‫غيرهم»‪ ،‬يقول الشعبويون‪ .‬هذه األولوية القائمة على التأثّر تتناقض مع‬

‫العدالة والمساواة في الحقوق‪ .‬في سويسرا‪ ،‬ليس للمسلمين الحق في‬

‫بناء المآذن‪ ،‬حتى لو كانت أصغر حجم ًا وأكثر هدوء ًا من برج أجراس‬ ‫الكنائس في بلدنا‪.‬‬

‫تميز الشعبوية‪ :‬تقديم حلول سهلة للفهم‪ ،‬لكنها‬ ‫هناك خاصية أخرى ِ ّ‬ ‫مض ِّللة‪ ،‬ويستحيل تطبيقها‪ .‬تدعو الشعبوية إلى طرد كل طالبي اللجوء‬

‫المرفوضين‪ .‬لكن‪ ،‬هل سيعيش هؤالء األشخاص في الغاب إذا رفضتهم‬

‫كل الدول؟‬

‫تطالب الشعبوية بحلول فورية للمشاكل اليومية‪ .‬لكن مكافحة ازدحام‬

‫ّ‬ ‫وحل مشاكل السكن‪ ،‬تتط َّلب وضع خطة وطنية‬ ‫وسائل النقل والطرقات‪،‬‬

‫جديدة واستثمارات على المدى الطويل‪ .‬لكن االتّحاد الديموقراطي‬

‫للوسط يرفض إعادة النظر في قانون تسوية األراضي‪ ،‬ويكتفي بمطالبة‬

‫للح ّد من الهجرة من أجل َح ّل المشاكل الحقيقية في البلد‪،‬‬ ‫صارمة َ‬

‫وبشكل أقلّ انفتاح ًا‪ ،‬يتص َّرف رئيس الحزب االشتراكي السويسري‬ ‫يقدم مقترحاته حول ح ّريّة ُّ‬ ‫تنقل األشخاص‪ ،‬ومسألة‬ ‫بالطريقة نفسها‪ ،‬وهو ِ ّ‬ ‫‪62‬‬


‫االنفتاح على كرواتيا لتحقيق اإلصالحات في قطاع اإلسكان‪.‬‬ ‫لكن رفض االنفتاح على االتحاد األوروبي سيكون له نتائج وخيمة على‬ ‫ّ‬

‫مبادرة االتّحاد الديموقراطي للوسط السويسري‪ ،‬التي تدعو إلى تقنين‬

‫الهجرة بدعوى أن الكثافة السكانية في سويسرا بلغت حدودها القصوى‪.‬‬ ‫بالنسبة لتزيفتان تودوروف‪ ،‬فالغوغائية (سياسة تم ُّلق الشعب لتهييجه)‪،‬‬

‫مبسطة ومض ِ ّللة‪ ،‬هي قديمة ِق َدم الديموقراطية‪.‬‬ ‫التي تسعى إلى تقديم حلول َّ‬

‫يضاعف التليفزيون‪ ،‬بشكل كبير‪ ،‬فرص نجاحها‪ .‬ألن المعلومة تنتشر‬

‫بسرعة‪ّ ِ .‬‬ ‫تفضل الغوغائية الجمل القصيرة والصور المدهشة والمؤ ِ ّثرة التي‬

‫ُّ‬ ‫وتذكرها‪ .‬فالرسالة السياسية ال تملك فرص النجاح في‬ ‫يسهل حفظها‬ ‫معبر ًا بكلمات مأثورة‪ّ ِ .‬‬ ‫ّ‬ ‫التأثير على‬ ‫يفضل‬ ‫المتلقي إال إذا اتَّخذت شعار ًا ِ ّ‬

‫التليفزيون‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬اإلغراء على حساب اإلقناع والحجاج‪ .‬إذا لم تتوافر‬

‫الشعبوية على شخصية كاريزماتية‪ ،‬من خالل دعم وسائل اإلعالم‪ ،‬فإنها‬

‫تتعثَّر وتخفق بسرعة‪.‬‬

‫يفسر ‪-‬بداية‪-‬‬ ‫إذا اتَّبعنا رؤية تودوروف فإن انطفاء نجم كريستوف بلوشر ِ ّ‬ ‫ويفسر‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬محاولة هروبه‬ ‫أفول االتحاد الديموقراطي للوسط وتراجعه‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫عن طريق االستخدام المفرط للمبادرة الجديدة لتقنين الهجرة والدعوة‬ ‫إلى االستفتاء‪.‬‬

‫ألبير تيل‬

‫‪17-01-2013‬‬

‫‪63‬‬


‫ُ‬ ‫سوخها‪ ،‬ومستقبلها‬ ‫الديموقراطية‪ُ :‬م‬

‫عدة سنوات على قضية الغيرية‪ ،‬وعلى‬ ‫يشتغل تزيفتان تودوروف منذ ّ‬

‫العالقة القائمة بين «نحن» و«هم»‪ .‬يتبع في عمله منظور ًا ثالثي ًا‪ :‬تفكيك‬

‫ّ‬ ‫يغذيه الخوف من «البرابرة»‪،‬‬ ‫خطاب «صراع الحضارات» الذي‬

‫ّ‬ ‫تغذي وتطعم هذا الخطاب‪ ،‬والتي‬ ‫تحديد جينيالوجيا األفكار التي‬ ‫ينحدر بعضها من فكر األنوار‪ ،‬وضع قائمة جرد «ألعداء» الديموقراطية‬

‫ليقدم بعد ذلك‬ ‫(في الخارج وأيض ًا ‪-‬وبشكل خاص‪ -‬في الداخل)‬ ‫ِّ‬ ‫«العالج» لهذه المعضلة‪.‬‬

‫ينتمي الكتاب األخير «أعداء الديموقراطية الحميمون» للفيلسوف‬

‫تودوروف إلى هذا الموقع الثالث‪.‬‬

‫الالهوت البشري‬ ‫ونحن نقرأ صفحات كتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون» نالحظ‬

‫أن تودوروف يط ِّور التاريخ األصلي لألفكار‪ ،‬الذي يهيكل أسسه حول‬

‫التعارض القائم بين رؤيتين من األنظمة الالهوتية التي ورثناها‪ :‬أنظمة‬

‫الهوت بيالجيوس‪ ،‬وأنظمة القديس أوغسطين‪ .‬يطوّر بيالجيوس‪ ،‬هذا‬

‫ِّ‬ ‫ويؤكد‬ ‫اإلكليريكي البريتوني‪ ،‬رؤي ًة لإلنسان‪ ،‬قائم ًة على اإلرادة الح ّرة‪،‬‬

‫على إمكانية عدم ارتكاب اإلنسان للخطيئة بفضل إرادته الح ّرة في‬ ‫‪64‬‬


‫االختيار دون العمل على إدانته‪ .‬إرادة اإلنسان على «صورة الله» بما أن‬ ‫الله خلق اإلنسان على صورته‪.‬‬

‫يلخص تودوروف هذا األمر على النحو التالي‪« :‬إذا ارتكبنا الخطيئة‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫فذلك ليس ألننا ورثناها من آدم‪ ،‬بل ألننا نق ِّلد سلوك َس َل ِفنا‪ :‬هذه الخطيئة‬

‫ليست فطرية‪ ،‬بل من صنع اإلنسان» (ص ‪ .)25‬من ث َّم‪ ،‬فإن اإلنسان‬

‫‪-‬وحده‪ -‬المسؤول عن خالصه‪ ،‬ولديه القدرة على تغيير وإصالح العالم‬

‫يعد القديس أوغسطين‬ ‫وإصالح نفسه‪ .‬وبشكل معكوس لهذا الطرح‪ّ ،‬‬

‫الخطيئة بمثابة صفة جوهرية لإلنسان ووصمة عار ال تمحى‪ ،‬وال يمكنه‬

‫التح ُّرر منها وحده‪ .‬إن الخالص هو ثمرة الغفران والصالح ومحبة الله‬

‫الذي نؤمن به‪.‬‬

‫وفق ًا لهذه الرؤية‪ ،‬ليس بمقدورنا إنقاذ أنفسنا بوسائلنا الخاصة‪ ،‬والقضاء‬ ‫على الشر‬ ‫المتأصل في العالم‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫التوازن اإلنساني الهَ ّ‬ ‫ش‬ ‫حسب تودوروف‪ ،‬ترتبط هذه المناظرة الدينية برؤيتين أنثربولوجيتين‪:‬‬ ‫الرؤية األولى إيجابية‪ ،‬والثانية أ كثر إغراق ًا في التشاؤم‪ ،‬وترتبط أيض ًا‬

‫برؤيتين لإلنسان وبقدراته التي تهيكل تاريخ األفكار‪ .‬إن النزعة‬

‫اإلنسانية‪ ،‬التي هي األصل في قضية الديموقراطية‪ِّ ،‬‬ ‫توفق ‪-‬بطريقة‬

‫متوازنة‪ -‬بين هذين التصوُّرين‪ .‬لكن‪ ،‬اليوم‪ ،‬إن تصور بيالجيوس هو‬

‫الذي يجنح إلى الهيمنة على البشرية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فحسب مؤ ِ ّلف «أعداء‬

‫‪65‬‬


‫الديموقراطية الحميمون» إن تفاؤل بيالجيوس األساسي يعكس إغراء‬ ‫والتحسن في حياة البشر القائم على «مسيرة قسريّة» نحو الخير‪.‬‬ ‫التغيير‬ ‫ُّ‬

‫الم َع ْنوَن في هذا الكتاب بـ«عقيدة الخالص للمسيحية‬ ‫في الفصل ُ‬

‫السياسية»‪ ،‬يشير تودوروف إلى المحاولة األميركية لتصدير الديموقراطية‬

‫مهما كان الثمن‪.‬‬

‫س عدم االختيار هو أحد الخيارات؟‬ ‫َأ َل ْي َ‬ ‫تبقى الثقة المفرطة التي نمنحها لإلرادة الفردية إحدى مصائب‬

‫حجته‪،‬‬ ‫تهدد ديموقراطيتنا‪ .‬لدعم‬ ‫النزوع البيالجيوسي‪ ،‬وهي التي‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬

‫يستند تودوروف ‪-‬في المقام األول‪ -‬إلى أعمال فرنسوا فالهو الذي‬

‫استشهد بمقوالته بشكل كبير‪ ،‬والذي تبقى وجهة نظره مناهضة لليبرالية‬

‫بشكل حازم‪ .‬التجاوزات المفرطة الحال ّية لإلرادة الفردية؛ كاألنانية‬

‫االستهالكية‪ ،‬قابلة للمقارنة بالتجاوزات المفرطة لإلرادة الجماعية‬

‫ّ‬ ‫المخططة‪ .‬تبدو المقارنة في هذا الصدد مض ِ ّللة‪ .‬في الواقع‪ ،‬في‬ ‫وللدولة‬

‫الرؤية الليبرالية‪ ،‬ال تكون اإلرادة الفردية مطلقة العنان‪ ،‬بل تستند إلى‬

‫ّ‬ ‫حق طبيعي‪ .‬في المقابل‪ ،‬تنفي اإلرادة الجماعية‪ ،‬بتجاوزاتها المفرطة‪،‬‬

‫هذا الحق الطبيعي‪ .‬يوجد في الرؤية الليبرالية نوع من التواضع والتصاغر‬

‫اللذين يحميانها من الغطرسة التي ي ّتهمها بها تودوروف‪.‬‬

‫البروميثيوسية الليبرالية‬ ‫يوجه تودوروف عدة انتقادات إلى الليبرالية المعاصرة التي تجنح لتكون‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪66‬‬


‫بحسب منظور تودوروف‪ ،‬بروميثيوسية مؤمنة باإلنسان‪ .‬تشير الليبرالية‬ ‫إلى أن ُ‬ ‫الك ّتاب الليبراليين يطالبون باكتساب معرفة علمية وعملية تسمح‬

‫بتنظيم العالقات بين البشر‪ .‬لكن الليبرالية ال تعني اختزال الفرد في‬

‫البعد االقتصادي فقط‪ ،‬وعلى حساب ما هو اجتماعي وسياسي‪ .‬وحدها‬

‫االنحرافات والتجاوزات الليبرالية تتع َّرض لالنتقاد عندما جعلت من‬

‫الرخاء االقتصادي الهدف النهائي والوحيد للحياة البشرية بكاملها‪.‬‬

‫يقدم كتاب تودوروف رؤية سلبية عن الليبرالية التي يحيل أصلها اللغوي‬ ‫ِّ‬

‫على فكرة الح ّريّة‪ ،‬كما هو الشأن في فكرة الكرم أو السخاء‪.‬‬

‫المحاكمة‬ ‫ِّ‬ ‫لحة‬ ‫الم ّ‬ ‫يوضح تودوروف في هذا الكتاب‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬الحاجة ُ‬

‫للدفاع عن «الصالح العام السياسي»‪ .‬حسب منظور تودوروف‪« :‬من‬

‫المرجح‪ ،‬دون إكراه وضغط من ِق َبل الدولة‪ ،‬أن يقوم وكالء السوق‬ ‫غير‬ ‫َّ‬ ‫العالمية بالتأ كيد على ضرورة الحرص على حماية البيئة قبل مصالحهم‬

‫المباشرة ‪ -‬ال س َّيما حين يتع َّلق األمر في الغالب ‪ -‬ببيئة دولة بعيدة أو‬ ‫مستقبل مجهول‪ .‬على الرغم من نبل مفهوم « الصالح العام السياسي»‪،‬‬

‫فهل تبقى السياسة الوسيلة الوحيدة للوصول إلى «الصالح العام»؟ أال‬

‫تؤدي السياسة ‪-‬في كثير من األحيان‪ -‬إلى فرض إرادة مع َّينة وضد‬ ‫ّ‬ ‫رغبات المجتمع‪ ،‬فتخذل ‪-‬من ث ََّم‪ -‬المصلحة العليا؟‪ .‬بالمقابل‪ ،‬أليس‬

‫الفاعلون الفرديون غير قادرين على خدمة المجتمع؟‬

‫فعا ً‬ ‫ال ومفيد ًا لبعض المخاوف التي تزدهر‬ ‫ِّ‬ ‫يقدم كتاب تودوروف نقد ًا ّ‬ ‫‪67‬‬


‫في التربة الديموقراطية‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫تحفز‬ ‫إن لغة تودوروف وثقافته وحماسه وصرامة استدالله المنطقي‬

‫القارئ لمعانقة أطروحته في هذا الكتاب‪ ،‬وإن كانت فرضياته تفتقر إلى‬

‫الوضوح نوع ًا ما‪.‬‬

‫جان سينيه‬

‫‪15-03-2012‬‬

‫‪68‬‬


‫الديموقراطية المُ َلغّ مة‬ ‫تترصد الديموقراطية ال تأتي‪ ،‬فقط‪ ،‬من الخارج‪ .‬يكشف‬ ‫إن األخطار التي‬ ‫َّ‬

‫تودوروف عن هذه األخطار في خصوصية وقرارة النظام الديموقراطي‬ ‫نفسه‪.‬‬

‫ُو ِلد تزيفتان تودوروف‪ ،‬المؤرخ‪ ،‬الفيلسوف‪ ،‬اللغوي والكاتب الفرنسي‪،‬‬

‫في بلغاريا حيث «كانت الحياة بكاملها مراقبة»‪ .‬لهذا يفهم المرء افتتان‬

‫تودوروف وشغفه بالديموقراطية‪ .‬لكن اليوم‪ ،‬يُع ِ ّبر عن مخاوفه وقلقه‬ ‫على الديموقراطية‪ ،‬ألن التوازن بين مختلف المعايير الالزمة ألداء عمل‬ ‫الديموقراطية على نحو سليم يبدو توازن ًا هشّ ًا‪.‬‬

‫يدعم المؤ ِّرخ تودوروف في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون»‬

‫تحليله للديموقراطية‪ ،‬بشكل غير متو َّقع‪ ،‬بالمناظرات الفكرية بين‬

‫القديس بيالجيوس والقديس أوغسطين في القرنين الرابع والخامس‬ ‫للميالد‪ّ ِ .‬‬ ‫يؤكد بيالجيوس أننا نمتلك دوما الح ّريّة لفعل الخير‪ ،‬ألن هذا‬

‫األمر يتو َّقف على إرادتنا‪ .‬على خالف ذلك‪ ،‬يعتقد أوغسطين أننا غير‬ ‫ُّ‬ ‫التحكم في رغباتنا وأن بداخل كل فرد منا «غياهب مظلمة‬ ‫قادرين على‬ ‫مثيرة للرثاء» تجعلنا غير أحرار بشكل مطلق‪.‬‬

‫بشكل مضاد ألطروحة بيالجيوس‪ ،‬يتمثَّل أوغسطين مذهب الخطيئة‬

‫يتم إنقاذ اإلنسان‪ ،‬يجب االعتماد على الغفران وا ّ‬ ‫التكال‬ ‫األصلية‪ :‬لكي ّ‬ ‫ِّ‬ ‫فيذكرنا ببروميثيوس»‪،‬‬ ‫على تقاليد الكنيسة‪ .‬أما «الله عند بيالجيوس‪،‬‬

‫‪69‬‬


‫يخلص تودوروف «اإلنسان هو خالق كيانه ووجوده»‪.‬‬ ‫لقد وضع بيالجيوس «الدودة في الفاكهة» والتي سوف تنمو وتونع‬ ‫انطالق ًا من عصر النهضة مع العديد من ُ‬ ‫الك ّتاب العلمانيين‪ .‬ستتج ّلى‬

‫إحدى هذه الثمار في «المسيحية السياسية» (القائلة بالخالص وإمكانية‬

‫نشر قيم الديموقراطية والح ّريّة)‪ .‬يستشهد تودوروف بالعديد من األمثلة‬

‫التقدم‪ ،‬سانت جيست وإيمانه‬ ‫على ذلك‪ :‬كوندورسيه ومسيرته نحو‬ ‫ُّ‬

‫المش ِّرع والشعب «لقيادة المستقبل»‪ ،‬دانتون و«مالكه‬ ‫بالعالقة بين ُ‬ ‫ّ‬ ‫يشكالن قوّة مرعبة للقضاء على أولئك الذين‬ ‫المدمّر»‪ ،‬وهذان األخيران‬

‫يعيقون تحقيق األنموذج المثالي في المجتمع‪.‬‬

‫أما المستعمرون‪ ،‬فهم أيض ًا‪ ،‬زعموا أنهم يحملون للبشرية قيم التنوير‬

‫والتقدم والحضارة‪ .‬وهذا ما يقوم جول فيري بتبريره‪« :‬إن لألعراق‬ ‫ُّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنحطة»‪ ،‬فمن‬ ‫الحق في تنوير األعراق الدنيا‬ ‫المتف ِّوقة واألرفع منزلة‬ ‫واجب هذه األعراق السامية واألعلى مقام ًا أن تقوم بالتمدين ونشر‬

‫ّ‬ ‫والمنحطة!‬ ‫الحضارة بين ظهراني األعراق الوضيعة‬

‫الشيوعية‬ ‫األمثلة التوضيحية األقرب إلينا من عقيدة الخالص المسيحية في‬ ‫تج ِ ّلياتها السياسية تبقى‪ ،‬طبع ًا‪ ،‬الشيوعية التي تع ِ ّزز حلمها بإقامة مجتمع‬

‫عادل ومتكامل قائم على نزعة علمية (قوانين التاريخ)‪ ،‬والتوتاليتارية‬

‫النازية (الكليانية النازية) المستندة إلى البيولوجيا‪ .‬في هذه األنظمة‪،‬‬ ‫‪70‬‬


‫ُكبت كل الشرور باسم الخير‪ ،‬وت ََّم تبرير الش ّر بالتلويح بأهداف ت ََّم‬ ‫«ارت ِ‬ ‫تقديمها زور ًا وزعم ًا بأنها أهداف سامية»‪.‬‬ ‫واليوم‪ ،‬ها هي المسيحية السياسية الليبرالية تجنح إلى فرض الديموقراطية‪،‬‬

‫حقوق اإلنسان‪ ،‬وأنماطنا في الحياة‪ .‬عن طريق قنابل «حروبنا اإلنسانية»‬ ‫ننسب ألنفسنا الحق في تسيير شؤون العالم بأسره‪.‬‬

‫التهديد اآلخر من النوع البيالجيوسي والبروميثيوسي الذي يزعزع أركان‬

‫التعسفية المفرطة‬ ‫الديموقراطية يبقى مختلف ًا عن هذه «االمتدادات‬ ‫ُّ‬ ‫لألنظمة الجماعية»‪ ،‬إنه «استبداد األفراد» والليبرالية المتط ِّرفة التي‬ ‫أصبحت دين ًا علماني ًا ودنيوي ًا ونزعة كليانية‪.‬‬

‫يح ِ ّلل تودوروف في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون» اآلثار‬

‫متعددة‪ :‬من األخطار التي يتع َّرض لها‬ ‫المنحرفة والضارة في ميادين‬ ‫ِّ‬

‫الكوكب األرضي‪ ،‬إلى تجريد العمل من الطابع اإلنساني‪ ،‬ثم يستحضر‬

‫تنامي األحزاب الشعبوية وصعودها في أنحاء أوروبا‪ .‬حيث «يشعر كل‬

‫شعب بالحاجة إلى تحديد مصدر خوفه»‪ ،‬حسب تحليل تودوروف‪.‬‬

‫لقد ت ََّم استبدال الخوف من الشيوعية بالخوف من األجنبي‪ ،‬خصوص ًا‬ ‫إذا كان هذا األجنبي مسلم ًا‪ .‬يتم َّلق الخطاب الشعبوي الناس‪ ،‬ويع ِّللهم‬

‫‪-‬خداع ًا‪ -‬بتحقيق مطالبهم األساسية‪ ،‬ويعزف على أوتار الخوف من‬

‫فقدان الهويّة الوطنية‪.‬‬ ‫الس ْلطة واألمن‬ ‫ُّ‬

‫من األكيد‪ ،‬أن الكائنات البشرية في حاجة إلى هويّة جماعية‪ ،‬لكن‪،‬‬ ‫‪71‬‬


‫يهددها‬ ‫يهددون هذه الهويّة؟ أليس من ِ ّ‬ ‫هل حق ًا أن األجانب هم من ِ ّ‬ ‫‪-‬باألحرى‪ -‬هو «العمل المشترك لعمليتين على نطاق واسع» صعود‬

‫وتنامي الفردانية (المعايير المشتركة تفسح المجال الختيار الفرد)‪،‬‬

‫وتسارع وتيرة العولمة؟‬

‫يشعر تودوروف‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬بالقلق إزاء ضعف السلطة‪ ،‬بما في ذلك السلطة‬

‫تضخم هاجس األمن‬ ‫أدى إلى‬ ‫ُّ‬ ‫داخل األسر والعائالت‪ ،‬الشيء الذي ّ‬ ‫والقمع‪.‬‬

‫لكي يغدو بإمكان الديموقراطية أن تصمد وتحافظ على بقائها‪ ،‬ينبغي‬

‫توفير «بيئة اجتماعية وبيئة «سياسية جديدتين» تسمحان بتحقيق‬ ‫التوازن بين الفرد والجماعة‪ ،‬بين األهداف االقتصادية والتط ُّلعات‬

‫الروحية‪ ،‬الرغبة في االستقالل والحاجة إلى االرتباط بالجماعة»‪ ،‬ثم‬ ‫العمل على «التخ ُّلص من التعارض العقيم بين المجتمع البطريركي‬

‫والمتوحش»‪.‬‬ ‫القمعي والمجتمع الليبرالي المتط ِّرف‬ ‫ِّ‬

‫إن كتاب تزيفتان تودوروف «أعداء الديموقراطية الحميمون» يدعونا‬

‫إلى التأمُّ ل الفكري‪ ،‬خارج الدروب المطروقة‪ ،‬على ضوء التاريخ‪ .‬رغم‬

‫أن بعض الفقرات من هذا الكتاب‪ ،‬وخصوص ًا التي تتع َّلق بالتعايش مع‬

‫األجانب‪ ،‬تفتقر ‪-‬نوع ًا ما‪ -‬إلى التماسك الفكري والترابط المنطقي‪.‬‬

‫مونيك هيبرارد‬

‫‪03-03-2012‬‬

‫‪72‬‬


‫«من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات»‬

‫مقاالت‬

‫‪73‬‬


‫التعايش مع ثقافات مختلفة‬

‫تعدد الثقافات‬ ‫لمعالجة الموضوع الذي طلبتم مني التط ُّرق إليه‪ ،‬وهو ُّ‬

‫داخل مجتمع ما‪ ،‬أجد نفسي ملزم ًا ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬بتوضيح معنى هذه الكلمة‬

‫«الثقافة»‪ .‬سأستخدم هذه الكلمة بحسب المفهوم الذي أطلقه‪ ،‬منذ ما‬

‫يزيد عن قرن‪ ،‬علماء اإليثنولوجيا على الثقافة‪ .‬بهذا المعنى الشاسع‪،‬‬

‫الوصفي ال التقييمي‪ ،‬كل جماعة إنسانية تمتلك ثقافة؛ إنها االسم الذي‬ ‫يُطلق على مجموع خصائص الحياة االجتماعية‪ ،‬على طرق العيش‬

‫والتفكير الجماع َّي ْين‪ ،‬على أشكال وأساليب تنظيم الوقت والفضاء‪،‬‬ ‫يتضمن اللغة‪ ،‬الدين‪ ،‬البنى األسرية‪ ،‬طرق بناء المنازل‪،‬‬ ‫الشيء الذي‬ ‫َّ‬ ‫األدوات‪ ،‬طرق تناول الطعام أو ارتداء المالبس‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪،‬‬

‫إن أعضاء الجماعة‪ ،‬مهما كانت أبعادهم‪ ،‬فإنهم يستبطنون هذه السمات‬

‫في شكل تمثيالت‪ .‬توجد الثقافة ‪-‬إذ ًا‪ -‬على مستويين مترابطين بشكل‬ ‫وثيق‪ :‬مستوى الممارسة الخاصة بجماعة ما‪ ،‬ومستوى الصورة التي‬

‫تتركها هذه الممارسات في أذهان أعضاء الجماعة‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫ِ‬ ‫متعدّ د الثقافة‬ ‫كل فرد‬ ‫إن الكائن البشري‪ ،‬وهنا تكمن إحدى خصائصه األكثر بروز ًا‪ ،‬يولد ليس‬ ‫فقط في حضن الطبيعة بل‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬ودوم ًا‪ ،‬وبالضرورة في حضن الثقافة‪.‬‬

‫تبقى السمة األولى لهويّة ثقافية ما أنها مفروضة على الطفل عوض أن‬ ‫يتم اختيارها من طرفه‪ .‬بمجيء الطفل إلى العالم‪ ،‬يجد نفسه منغمس ًا‬ ‫ّ‬

‫في ثقافة جماعة سابقة على والدته‪ .‬الواقعة األكثر جالء‪ ،‬بل‪ -‬ربما‪-‬‬

‫األكثر حسم ًا‪ ،‬هي أننا نولد بالضرورة في حضن اللغة‪ ،‬اللغة التي يتك َّلمها‬

‫ّ‬ ‫يتكفلون برعايتنا‪ .‬لن يكون بمقدور الطفل‬ ‫آباؤنا أو األشخاص الذين‬

‫أن يتج َّنب تب ّني اللغة‪ .‬والحالة هذه‪ ،‬فاللغة ليست أداة محايدة‪ .‬إن اللغة‬

‫مشبعة ومتش ِّربة ألفكار‪ ،‬لسلوكيات وألحكام متوارثة من الماضي‪ .‬تقوم‬

‫خاصة‪ ،‬وتنقل إلينا ‪-‬بطريقة خفية‪ -‬رؤية‬ ‫اللغة بتقطيع الواقع بطريقة‬ ‫ّ‬ ‫للعالم‪.‬‬

‫تظهر بجالء ‪-‬أيض ًا‪ -‬السمة الثانية لالنتماء الثقافي لكل فرد؛ ذلك أننا‬

‫متعددة قادرة على االندماج أو‬ ‫ال نملك هويّة ثقافية واحدة‪ ،‬بل هويات‬ ‫ِّ‬

‫الظهور في شكل مجموعات متقاطعة‪.‬‬

‫على سبيل المثال‪ ،‬ينحدر الفرنسي دوم ًا من منطقة ما ‪ -‬لنفترض أنه‬

‫من منطقة بروتون ‪ -‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬يتقاسم العديد من السمات مع‬ ‫كل األوربيين‪ .‬ومن ث ََّم يسهم ‪-‬في اآلن نفسه‪ -‬في الثقافة البريتونية‬

‫‪75‬‬


‫والفرنسية واألوربية‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬فداخل كيان جغرافي واحد‪ ،‬تبقى‬

‫متعددة‪ .‬هناك ثقافة المراهقين‪ ،‬وثقافة‬ ‫الطبقات االجتماعية الثقافية‬ ‫ِّ‬

‫المتقاعدين‪ ،‬ثقافة األطباء‪ ،‬وثقافة مك ِ ّنسي الشوارع‪ ،‬ثقافة النساء‪،‬‬

‫وثقافة الرجال‪ ،‬ثقافة األغنياء‪ ،‬وثقافة الفقراء‪ .‬مثل هذا الفرد يتع َّرف‬

‫إلى نفسه في الثقافة المتوسطية (ما له عالقة بالشعوب القاطنة حول‬ ‫البحر األبيض المتوسط)‪ ،‬والمسيحية‪ ،‬واألوربية‪ :‬معايير جغرافية ودينية‬

‫وسياسية واحدة‪ .‬لكن ‪-‬وهذا أمر جوهري‪ -‬هذه الهويات الثقافية‬

‫المختلفة ال تتوافق فيما بينها‪ ،‬وال تشكل أوطان ًا واضحة الحدود تتطابق‬

‫المتعددة‪.‬‬ ‫بداخلها هذه المك ِّونات‬ ‫ِّ‬

‫متعدد الثقافة‪ .‬ال تشبه ثقافته جزيرة متجانسة‪ ،‬بل تبدو‬ ‫يبقى كل فرد‬ ‫ِّ‬ ‫كنتيجة لقرائن متشابكة‪.‬‬

‫كل الثقافات خالسية‬ ‫الثقافة المشتركة‪ ،‬ثقافة جماعة إنسانية ما‪ ،‬ليست مختلفة في هذا الصدد‪.‬‬

‫إن ثقافة بلد كفرنسا تبقى في الواقع مجموعة َّ‬ ‫معقدة ومنسوجة من ثقافات‬ ‫خاصة‪ ،‬تلك الثقافات التي يتع َّرف فيها الفرد إلى نفسه‪ :‬ثقافات المناطق‬ ‫ّ‬

‫والتوجهات الروحية‪.‬‬ ‫والمهن‪ ،‬األعمار‪ ،‬والجنسين‪ ،‬األوضاع االجتماعية‬ ‫ُّ‬

‫فض ً‬ ‫ال عن هذا‪ ،‬كل ثقافة يسمها االتصال مع جيرانها‪ .‬فأصل ثقافة ما‬

‫يكون دوم ًا حاضر ًا في الثقافات السابقة‪ :‬في التالقي بين العديد من‬ ‫الثقافات ذات األبعاد متناهية الصغر‪ ،‬أو في ُّ‬ ‫تفكك ثقافة أ كثر انتشار ًا‪،‬‬ ‫‪76‬‬


‫أو في التفاعل مع ثقافة مجاورة‪ .‬ال يمكن أبد ًا الولوج إلى حياة إنسانية‬

‫سابقة على ظهور الثقافة‪ .‬ولسبب وجيه‪ :‬تبقى الخصائص «الثقافية»‬

‫حاضرة‪ ،‬بالفعل‪ ،‬عند حيوانات أخرى‪ ،‬خصوص ًا عند الرئيسات (رتبة من‬

‫الثدييات منها البشرية والقردية)‪ ،‬ال وجود لثقافات خالصة أو ثقافات‬

‫ممزوجة‪ ،‬فجميع الثقافات مخلوطة (إما « هجينة» أو «خالسية»)‪.‬‬

‫تعود اال ِ ّتصاالت بين الجماعات اإلنسانية إلى أصل ظهور الجنس‬

‫البشري‪ ،‬وتترك دوم ًا أثار ًا حول الطريقة التي يتواصل بها أعضاء كل‬

‫جماعة فيما بينهم‪ .‬ما إن نغوص عميق ًا في تاريخ بلد كفرنسا‪ ،‬حتى نجد‬ ‫ّ‬ ‫متعددة‪:‬‬ ‫السكان‪ ،‬ومن ث ََّم ثقافات‬ ‫متعددة من‬ ‫دوم ًا تالقي ًا بين أجناس‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬

‫الغاليين‪ ،‬اإلفرنج‪ ،‬الرومان‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬

‫ثقافة سكونية هي ثقافة ميتة‬ ‫نصل هنا إلى الخاصية الثالثة المم ِ ّيزة للثقافة‪ :‬تبقى الثقافة ‪-‬بالضرورة‪-‬‬

‫متغيرة وقابلة للتحوُّل‪ .‬جميع الثقافات تتغير وتتحوَّل‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الم َس ّماة «تقليدية» تبقى ّ‬ ‫وأقل‬ ‫أقل استعداد ًا‬ ‫من المؤكد أن الثقافات ُ‬

‫الم َس ّماة «حديثة»‪ .‬هذه التغييرات أو هذه‬ ‫استجابة من الثقافات ُ‬

‫متعددة‪ .‬بما أن كل ثقافة تفرز ثقافات أخرى‪ ،‬أو‬ ‫دواع‬ ‫التحوُّالت لها‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫تشكل توازن ًا غير‬ ‫تتقاطع مع ثقافات أخرى‪ ،‬فإن مك ِّوناتها المختلفة‬

‫مستق ّر‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬منح حق التصويت للنساء في فرنسا عام‬

‫‪ ،1944‬سمح للنساء بالمشاركة في نشاط الحياة العامة للبلد‪ ،‬ومن ث ََّم‬

‫‪77‬‬


‫طرأ تحوُّل في الهويّة الثقافية الفرنسية‪ .‬وبالمثل‪ ،‬حين ت ََّم منح المرأة‪ ،‬بعد‬ ‫مرور ‪ 23‬سنة على ّ‬ ‫حق التصويت‪ ،‬الحق في منع الحمل أو في اإلنجاب‪،‬‬

‫أحدث هذا األمر طفرة جديدة في الثقافة الفرنسية‪ .‬لو لم يكن لزام ًا‬

‫على الهويّة الثقافية أن تتغ َّير‪ ،‬لما استطاعت فرنسا أن تصبح بلد ًا مسيحي ًا‬

‫في مرحلة أولى‪ ،‬ثم بلد ًا علماني ًا في مرحلة ثانية‪ .‬باإلضافة إلى هذه‬

‫التفاعالت الداخلية‪ ،‬هناك أيض ًا ا ِ ّتصاالت خارجية مع ثقافات قريبة أو‬

‫بعيدة أحدثت‪ ،‬بدورها‪ ،‬تعديالت في منحى الهويّة‪ .‬قبل أن تؤ ِ ّثر الثقافة‬ ‫األوربية في ثقافات العالم األخرى‪ ،‬فإنها تش َّربَت‪ ،‬من قبل‪ ،‬تأثيرات‬

‫الثقافة المصرية‪ ،‬ثقافة بالد ما بين النهرين‪ ،‬الثقافة الفارسية‪ ،‬والهندية‪،‬‬ ‫وهلم ج ّر ًا‪.‬‬ ‫والصينية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫إذا كان يتع َّين علينا األخذ بعين االعتبار هذه السمات األخيرة للثقافة‪،‬‬ ‫تعد َدها وتنو َُّعها‪ ،‬فإننا نرى كم تبقى هذه االستعارات األكثر شيوع ًا‬ ‫ُّ‬

‫والمستخدمة في مكان الثقافة استعارات مربكة‪ .‬نقول ‪-‬على سبيل‬

‫ّ‬ ‫«مجتث من جذوره»‪ ،‬ونرثي لحاله‪ ،‬لكن‬ ‫المثال‪ -‬عن كائن بشري إنه‬

‫هذه المماثلة لإلنسان مع النبات غير شرعية؛ فاإلنسان يتم َّيز بحرك َّيته‬

‫عن السنديان والقصب‪ ،‬هذا فض ً‬ ‫ال عن أن اإلنسان لم يكن أبد ًا نتاج ًا‬

‫بماهية أو «روح» رغم ما ُك ِتب من‬ ‫لثقافة واحدة؛ فالثقافات ال تتم َّتع‬ ‫ّ‬

‫نتحدث عن «بقاء» لثقافة ما‪،‬‬ ‫صفحات جميلة في هذا الصدد‪ .‬كما‬ ‫َّ‬ ‫تتغير هي‪،‬‬ ‫بمعنى المحافظة عليها طبق ًا لألصل‪ .‬غير أن الثقافة التي ال‬ ‫ّ‬

‫على وجه التحديد‪ ،‬ثقافة ميتة‪ .‬إن مصطلح «لغة ميتة» هو مصطلح أ كثر‬

‫ّ‬ ‫دقة وحصافة‪ .‬الالتينية لغة ميتة‪ ،‬ال ألننا عاجزون عن استعمالها‪ ،‬بل ألن‬

‫تلك اللغة لم تعد قادرة على التغيير‪ .‬ليس هناك ما هو أكثر بداهة وأكثر‬ ‫‪78‬‬


‫شيوع ًا من اختفاء حالة سابقة للثقافة وتعويضها بحالة جديدة‪.‬‬ ‫نميز‪ ،‬اآلن‪ ،‬الهويّة الثقافية عن شكلين آخرين للهويّة الجماعية‪:‬‬ ‫يجب أن ِ ّ‬

‫االنتماء المدني أو الوطني من جهة‪ ،‬وااللتزام بالقيم األخالقية والسياسية‬

‫يغير طفولته‪ ،‬حتى‬ ‫من جهة أخرى‪ .‬ال أحد منا سيكون بمقدوره أن ِ ّ‬ ‫لو رغب في ذلك‪ ،‬حتى لو ُط ِلب منه ذلك بإلحاح‪ .‬بالمقابل‪ ،‬سيكون‬ ‫بمقدورنا أن نغ ِ ّير الوالء الوطني دون أن نعاني‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬من ج ّراء‬

‫ذلك‪ .‬ال يمكن للمرء أن يختار ثقافته األصلية‪ ،‬لكن بإمكان المرء أن‬

‫يختار أن يكون مواطن ًا لهذا البلد عوض ذلك البلد اآلخر‪ .‬إن اكتساب‬

‫ثقافة جديدة ‪-‬كما يعرف كل المهاجرين‪ -‬يتط َّلب سنوات عديدة‪ ،‬وإن‬

‫كان هذا االكتساب في األساس ال ّ‬ ‫يتوقف أبد ًا‪ ،‬اكتساب مواطنية جديدة‬

‫عشية وضحاها بفعل قوّة مرسوم ما‪ .‬الدولة ليست «ثقافة»‬ ‫قد يحدث بين‬ ‫ّ‬

‫شبيهة بحالة الناس‪ ،‬إنها كيان إداري وسياسي له حدود قائمة من قبل‪،‬‬

‫ويضم‪ ،‬طبع ًا‪ ،‬أفراد ًا حاملين لثقافات عديدة‪ ،‬بما أننا نجد داخل هذا‬ ‫ّ‬

‫الكيان؛ الرجال والنساء‪ ،‬الشباب والشيوخ‪ ،‬يمارسون كل المهن وفي‬

‫متعددة‪ ،‬ويتكلمون لغات‬ ‫أوضاع مختلفة‪ ،‬ينحدرون من مناطق ودول‬ ‫ِّ‬

‫متعددة‪ ،‬ويمارسون ديانات مختلفة‪ ،‬ويراعون عادات متن ِّوعة‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫ال وجود لقيم فرنسية‬ ‫متمسك أيض ًا‪ ،‬بمجموعة من المبادئ األخالقية‬ ‫أخير ًا‪ ،‬كل واحد منا‬ ‫ِّ‬

‫والسياسية‪ .‬هذه المبادئ ال يتقاسمها جميع المواطنين لبلد ما‪ ،‬كما يشهد‬ ‫‪79‬‬


‫عدة أحزاب سياسية من اليسار المتط ِّرف إلى اليمين‬ ‫على ذلك وجود ّ‬

‫عدة رؤى للعالم تدافع عن مُ ثل عليا مختلفة‪ .‬في‬ ‫المتط ِّرف‪ ،‬أو وجود ّ‬

‫الوقت نفسه‪ ،‬تتجاوز هذه المبادئ حدود البلدان‪ .‬بعض القيم تبقى‬

‫مشت َركة بين جميع الدول األعضاء في االتحاد األوربي‪ .‬مذهب حقوق‬

‫اإلنسان له نزوع كوني‪ .‬بإمكاننا أن نبحث عن اإللهام لهذا المذهب في‬

‫فكر اإليديولوجيين البعيدين عنا في الزمان والمكان‪ .‬إنه االنخراط في‬

‫هذه المجموعة من القيم والمبادئ التي ّ‬ ‫تغذي‪ ،‬عادة‪ ،‬النقاش العام‪ .‬في‬

‫حين‪ ،‬بالنسبة للغالبية العظمى من السكان‪ ،‬فإن االنتماء الثقافي والهويّة‬ ‫اإلدارية يبقيان أم َريْن مفروغ ًا منهما‪.‬‬

‫إذا كنت أجتهد أمامكم في التمييز بين هذه االنتماءات المختلفة‬

‫والملتبسة في صيغة «الهويّة الوطنية»‪ ،‬فإن ذلك ليس بدافع متعة‬

‫متحذلقة‪ ،‬بل ألننا حين نرغب في التأثير في هذه االنتماءات فإنه‬

‫التدخل لمعالجة‬ ‫يتع َّين علينا‪ ،‬باألحرى‪ ،‬اللجوء إلى مختلف أشكال‬ ‫ُّ‬ ‫األمر‪ .‬ألن ال وجود لثقافة فرنسية خالصة ومتجانسة‪ ،‬بل مجموعة من‬

‫المتعددة‪ ،‬بل المتناقضة في حالة من التحوُّل الدائم‪ ،‬والتي‬ ‫التقاليد‬ ‫ِّ‬ ‫تتنوَّع تراتبيتها‪ ،‬وتستم ّر في القيام بذلك‪ .‬إن وزارة التربية الوطنية‪ ،‬من‬

‫سن السادسة‬ ‫خالل البرامج التي تُدرَّس في أثناء التعليم اإللزامي حتى ّ‬

‫متغيرة في َح ّد ذاتها‪،‬‬ ‫عشرة‪ ،‬تسعى بالفعل إلنتاج صورة‪ ،‬لكنها صورة‬ ‫ِّ‬ ‫يتم مراجعتها كل عشر أو عشرين سنة‪ ،‬على ضوء ما يتع َّين على كل طفل‬ ‫ّ‬ ‫معرفته عن ثقافة بلده‪.‬‬

‫المبسطة ال تختزل ‪-‬بطبيعة الحال‪ -‬كل ما يمكن‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬هذه الصورة‬ ‫َّ‬

‫إدراجه تحت سمة «الثقافة الفرنسية»‪ .‬ثم إنه‪ ،‬ال وجود لقيم فرنسية‪ ،‬بل‬ ‫‪80‬‬


‫هناك قيم أخالقية وسياسية تبقى‪ ،‬بالقوة‪ ،‬قيم ًا كونية والتي ليس هناك‬ ‫إجماع حولها في البلد‪ .‬بالمقابل‪ ،‬توجد ‪-‬بالفعل‪ -‬هويّة مدنية فرنسية‬

‫تعتمد على القوانين المعمول بها في هذا البلد‪ ،‬والتي تبقى نفسها منوطة‬

‫بالمسؤولية البرلمانية والحكومية؛ لهذا يرى المرء لماذا تبقى النقاشات‬

‫ّ‬ ‫المنظمة من طرف حكومتنا حول الهويّة الوطنية نقاشات عقيمة‪ .‬ولماذا‬

‫تؤدي هذه النقاشات‬ ‫يبقى أيض ًا وجود وزارة الهويّة الوطنية أمر ًا مربك ًا‪ّ .‬‬

‫إلى االضطراب في الوقت الذي نكون فيه بحاجة إلى الوضوح والجالء‪.‬‬

‫الهجرة مسألة مفيدة‬ ‫َ‬ ‫مبتذل‪ ،‬وليس هناك ما يدعو للخوف من‬ ‫تعدد الثقافات بوضع‬ ‫يرتبط ُّ‬

‫ذلك‪ .‬تجلب الهجرة العديد من الفوائد على بلدان أوروبا الغربية‪ .‬هذا‬

‫دون الحديث عن أن المهاجرين الجدد يقبلون ممارسة مهن يحتقرها‬ ‫ّ‬ ‫السكان األصليون‪ ،‬كما يقبلون العمل بأجور زهيدة مقارنة مع هؤالء‬

‫السكان (وهذه ليست ميزة فخر لنا نحن األوربيون)‪ .‬يجب أن نكون على‬ ‫ّ‬ ‫للسكان‪ ،‬ومن ث ََّم‬ ‫وعي بمساهمة الهجرة في تجديد النشاط الضروري‬

‫الرفع من نسبة األصول بالنسبة للمتقاعدين‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬إن المهاجرين‬

‫يحفزهم الطموح والدينامية كخصائص فريدة لكل الوافدين الجدد؛‬

‫حيث يتم َّيزون بروح المبادرة والقدرة على االبتكار‪ .‬بطريقة غير مباشرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للسكان الذين يستقبلونهم على أراضيهم‪.‬‬ ‫خاصة‬ ‫يؤدي المهاجرون خدمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للسكان األصليين بالتع ُّرف إلى‬ ‫عن طريق اختالفهم‪ ،‬يسمح المهاجرون‬

‫أنفسهم من الخارج عبر نظرة اآلخر‪ .‬الشيء الذي يبقى جزء ًا من صميم‬ ‫‪81‬‬


‫َّ‬ ‫تتحقق‬ ‫نزوع الجنس البشري‪ .‬لكي يكون بمقدور هذه المساهمات أن‬

‫بالفعل لصالح الخير العام‪ ،‬فعلى المهاجرين أن يشاركوا بأنفسهم في‬

‫اندماجهم داخل المجتمع الذي يوجدون في داخله‪ ،‬فما الذي نعنيه‬

‫بهذا المصطلح المتداول بشكل كبير؟‬

‫يتغ َّلب القانون على العادات‬ ‫إن الشرط األول لجميع ّ‬ ‫سكان بلد ما‪ ،‬سواء الذين ولدوا فيه أو هاجروا‬

‫ومؤسساته‪ ،‬ومن ث ََّم االلتزام‬ ‫إليه من مكان آخر‪ ،‬هو احترام قوانينه‬ ‫َّ‬

‫باالنخراط في عقد اجتماعي كقاعدة أساسية‪ .‬بالمقابل‪ ،‬ليس هناك ما‬

‫يدعو إلى ممارسة رقابة على الهويّة الثقافية لكل م ّنا‪ .‬بشكل عام‪ ،‬تبقى‬

‫ثقافة المهاجرين مختلفة عن ثقافة األغلبية‪ ،‬وهي منذورة لالنضمام إلى‬ ‫المتعددة من قبل‪ ،‬والتي ِ ّ‬ ‫تشكل ثقافة البلد‪.‬‬ ‫جوقة األصوات‬ ‫ِّ‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬تتعارض بعض العادات ومق ِّومات التقاليد الثقافية مع قوانين‬

‫البلد الذي يعيش فيه األشخاص الذين يمارسون هذه األعراف‪ .‬فما‬

‫وجلي‪ ،‬حتى لو كان من الصعب تطبيقه‬ ‫العمل؟ الجواب المبدئي واضح‬ ‫ّ‬

‫دوم ًا‪ :‬في الديموقراطية‪ ،‬يتغ َّلب القانون على العادات واألعراف‪ .‬هذه‬

‫األولوية (أو ّ‬ ‫التقدم) ال تع ِّرض الثقافة الغربية أو األوربية أو الفرنسية‬ ‫حق‬ ‫ّ‬

‫للخطر‪ ،‬بل تحتكم إلى أساس قانوني تعتمده الدولة‪ ،‬ويبقى قيد النقاش‪.‬‬

‫ُنتهك‬ ‫إذا كانت العادات تنتهك القانون فينبغي التخ ّلي عنها‪ .‬إذا لم ي َ‬ ‫القانون‪ ،‬فهذا يعني أن العادات التي َّ‬ ‫نتكلم عليها عادات يمكن قبولها‬ ‫‪82‬‬


‫والتسامح معها؛ يمكننا انتقاد هذه العادات‪ ،،‬لكن ال يمكننا منعها‪ .‬على‬

‫سبيل المثال‪ ،‬طقوس الزواج التي يُف َرض فيها اختيار الشريك من طرف‬

‫العائلة تصبح جريمة إن ت ََّم فرض هذا الزواج بالقوّة‪ .‬وإذا اقترن هذا‬

‫الزواج المفروض برضاء الزوجة‪ ،‬فال نملك سوى األسف لذلك‪ ،‬لكن ال‬

‫يمكننا التنديد بهذا األمر عن طريق العدالة‪ .‬في المقابل‪ ،‬ال يمكن‪ ،‬على‬

‫ّ‬ ‫يخص «جرائم الشرف»‬ ‫مخففة فيما‬ ‫اإلطالق‪ ،‬التساهل أو منح ظروف‬ ‫ّ‬

‫المسماة على هذه الشاكلة حين يعمد اآلباء أو اإلخوة إلى معاقبة بناتهم‬ ‫ّ‬

‫قتلهن‪ .‬مثل هذه‬ ‫تعنيفهن بوحشية أو‬ ‫حبسهن أو‬ ‫أو أخواتهم عن طريق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الجرائم‪ ،‬العنف أو القتل‪ ،‬يجب معاقبة مرتكبيها بصرامة من طرف‬

‫القانون‪ ،‬حتى وإن كان غفران هذه الجرائم في بعض التقاليد مقبو ً‬ ‫ال‬ ‫كعذر‪ .‬في حاالت أخرى‪ ،‬تسمح الترتيبات الخاصة بتكييف بعض‬

‫العادات مع ظروف الوضع الراهن‪.‬‬

‫دور المدرسة‬ ‫يقتضي المبدأ الثاني للتعايش السلمي بين المجتمعات ذات األصول‬ ‫المختلفة‪ ،‬وتعيش في الوطن نفسه‪ ،‬أن تمتلك هذه المجتمعات ‪-‬بصرف‬

‫النظر عن التقاليد الخاصة بها‪ -‬قاعدة ثقافية مشتركة ومجموعة من‬

‫المعارف حول األنظمة المعمول بها في هذا المجتمع‪ .‬هنا يكمن دور‬

‫يتضمن المدرسة‪ ،‬ثم يتجاوزها‪ .‬ال تتع َّلق هذه‬ ‫التربية بالمعنى الذي‬ ‫َّ‬ ‫متعددة‪ ،‬بل تتع َّلق‬ ‫األنظمة بالقيم األخالقية والسياسية التي تبقى قيم ًا‬ ‫ِّ‬

‫هذه األنظمة بالمق ِّومات الثقافية التي تضمن اندماجنا في الفضاء‬

‫‪83‬‬


‫االجتماعي نفسه‪ .‬أو ً‬ ‫ال وقبل كل شيء تبقى اللغة هنا أمر ًا ضروري ًا‪،‬‬

‫وإتقانها مسألة حيوية للمشاركة في الحياة المشتركة واكتساب المق ِّومات‬ ‫األخرى للثقافة‪ .‬يبقى إتقان اللغة من مصلحة األفراد‪ ،‬كما يبقى إتقانها‬

‫أيض ًا من مصلحة الدولة التي تستفيد ‪-‬من ث ََّم‪ -‬من كفاءات مواطنيها‪ .‬لن‬ ‫يكون من الخطأ جعل التعليم مجاني ًا وإلزامي ًا‪ ،‬كما يقال‪ ،‬لجميع الذين‬

‫يتحدثون هذه اللغة‪ :‬سي َّتضح مثل هذا االستثمار بشكل سريع على أنه‬ ‫ال‬ ‫َّ‬ ‫عملية مربحة‪ .‬باإلضافة إلى اللغة‪ ،‬يبقى سكان بلد ما في حاجة أيض ًا‬

‫إلى ذاكرة مشتركة‪ .‬ومرة أخرى ي َّتضح الدور المحوري للمدرسة‪ ،‬لكن‪،‬‬

‫معقد ًا لكوننا نجد في القسم نفسه أطفا ً‬ ‫يحدث اليوم أن يبقى هذا الدور َّ‬ ‫ال‬

‫ينحدرون من خمسة عشر بلد ًا مختلف ًا‪ .‬فهل ينبغي السعي إلى تعزيز فرص‬

‫الحصول على ثقافة المنشأ؟ هذا ليس دور المدرسة العمومية التي‬

‫تتط َّلع إلى تأمين اكتساب الجميع للثقافة نفسها كضمان على اندماج‬

‫نعدل المنحى الفعلي لهذا التعليم‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫ناجح‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يمكن أن ِ ّ‬

‫يتم تدريسها في المدارس االبتدائية في‬ ‫في دروس التربية الوطنية التي ّ‬

‫نبين عن طريق األمثلة والقصص‪ ،‬أنه إذا‬ ‫فرنسا‪ ،‬سيكون بإمكاننا أن ِ ّ‬ ‫متعددة‬ ‫المواطنية شيء واحد‪ ،‬فإن الهويات الثقافية لكل فرد تبقى‬ ‫كانت‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬

‫ومتغيرة‪ ،‬وأن بعض مقومات الثقافة الوطنية يحكمها مبدأ الوحدة (وقبل‬ ‫ِّ‬

‫كل شيء اللغة)‪ ،‬بينما مق ِّومات أخرى مثل األديان يحكمها مبدأ التسامح‬ ‫والعلمانية‪.‬‬

‫في مرحلة التعليم اإلعدادي‪ ،‬يعني المرحلة التي يكون فيها التالميذ‬

‫بين الحادية عشرة والخامسة عشرة‪ ،‬حيث يتابعون دروس ًا في تاريخ‬

‫فرنسا‪ ،‬ودون أن نسقط في النقد المنهجي‪ ،‬يمكن لهذا الدرس في‬ ‫‪84‬‬


‫التاريخ أن يكون فرصة إلظهار أن هذا البلد لم يلعب دور ًا كفي ً‬ ‫ال بإثارة‬ ‫اإلعجاب أو التعاطف‪ ،‬دور البطل المِ قدام الذي جلب ِن َعم المسيحية‬

‫والحضارة إلى الشعوب البعيدة‪ ،‬أو دور الضحية البريئة التي عانت من‬

‫سيئي السمعة‪ .‬يمكن تسليط الضوء على العديد‬ ‫العدوان الشنيع لجيرانها ِ ّ‬

‫من أحداث التاريخ عن طريق التذكير بتصوُّر أعداء األمس وموقفهم‬ ‫من هذه األحداث‪ .‬أحداث الحروب الصليبية‪ ،‬االكتشافات الجغرافية‬

‫الكبرى التي تالها تكثيف تجارة الرقيق‪ ،‬حروب نابليون‪ ،‬االستعمار‬

‫في القرن التاسع عشر وفكفكة االستعمار في القرن العشرين‪ ،‬كل هذه‬

‫األحداث تسمح للتالميذ بالفصل والتفريق بين حكمهم على الخير‬

‫والشر‪ ،‬وشعورهم بالهويّة الجماعية‪ .‬ما يب ِّرر هذا العمل ليس أخذ التنوُّع‬ ‫بعين االعتبار‪ ،‬كما يقال أحيان ًا‪ ،‬بل إغناء الذات الذي يجلبه العمل‪.‬‬

‫لنهتم بخطر تقهقر الهو ّية الثقافية‬ ‫مثل هذا التحوُّل ال يعني‪ ،‬على اإلطالق‪ ،‬أن جميع القيم متعاوضة أو‬

‫قابلة للتبادل‪ .‬إن العزلة وتقوقع الثقافات والمجتمعات‪ ،‬سواء ُ‬ ‫أف ِرضت‬

‫تمت المطالبة بها من طرف هذه الثقافات‪ ،‬تبقى مواقف‬ ‫من الخارج أم َّ‬

‫أ كثر قرب ًا من قطب البربرية‪ ،‬بينما االعتراف المتبادل بينهم هو خطوة‬

‫ثمر في ما من شأنه أن‬ ‫نحو الحضارة‪ .‬إن األموال العامة يجب أن تُس َت َ‬ ‫ثمر هذه األموال في المدارس‬ ‫ِّ‬ ‫يوحد عوض ما يف ِّرق ويعزل‪ :‬يجب أن تُس َت َ‬

‫المفتوحة للجميع ولمتابعة برنامج مشترك‪ ،‬في بناء المستشفيات التي‬ ‫ّ‬ ‫تضمن الرعاية لكل المرضى‪،‬‬ ‫بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللغة‪،‬‬

‫‪85‬‬


‫في توفير وسائل النقل (القطارات والحافالت والطائرات‪ )...‬حيث‬

‫يمكن للمرء الجلوس بجانب أي أحد‪ .‬ونحن لن نمنع ‪-‬أبد ًا‪ -‬األفراد‬

‫من التالقي بطيبة خاطر مع األشخاص الذين يشبهونهم عن طريق التماثل‬

‫والمشاكلة‪ ،‬لكن هذا الميل يبقى من شأن الحياة الخاصة‪ .‬والدولة لن‬ ‫ُّ‬ ‫التكفل بهذا األمر أو منعه‪.‬‬ ‫يكون من شأنها‬

‫يمكن االعتراض على كالمي بالقول إن هذه اللوحة المرسومة على هذه‬

‫الشاكلة تبقى خاطئة بسبب هذه الدعوة المالئكية (تص ُّرف مالئكي)‪،‬‬

‫وإني أتجاهل ‪-‬عن قصد‪ -‬صعوبة التعايش بين أشخاص ينتمون إلى‬

‫ّ‬ ‫سيذكر قولي هؤالء المعارضين‪ ،‬في هذه الحالة‪،‬‬ ‫ثقافات مختلفة‪.‬‬ ‫بأحداث العنف التي كانت بعض أحياء المدن والضواحي مسرح ًا لها‪،‬‬

‫تتحدث عنها ‪-‬غالب ًا‪ -‬وسائل اإلعالم أو بعض‬ ‫وبأحداث العنف التي‬ ‫َّ‬

‫قادتنا السياسيين‪.‬‬

‫جوابي على هذا االعتراض كما يلي‪ :‬لنترك جانب ًا الخطر الوهمي‬

‫للتعددية الثقافية‪ ،‬ولنهتم ‪-‬بقوّة‪ -‬بالخطر الفعلي القائم لتقهقر الهويّة‬ ‫ُّ‬ ‫الثقافية‪ .‬أستعير‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬من علماء اإليثنولوجيا هذا المصطلح الذي يشير‬

‫ّ‬ ‫يحل مح َّله انتماء جديد‪.‬‬ ‫إلى فقدان االنتماء الجماعي المشترك دون أن‬

‫يمكننا توسيع نطاق هذا التعريف واإلشارة ‪-‬من ث ََّم‪ -‬إلى غياب شخصية‬

‫أساسية تُبنى تقليدي ًا في اإلطار األسري بفضل الحب واالحترام اللذين‬ ‫ي َتم َّتع بهما الطفل‪ ،‬هذه الشخصية األساسية التي ستكون نقطة االنطالق‬

‫في االكتساب الالحق لألنظمة الثقافية‪.‬‬

‫ينحدر أطفال المناطق السكنية الفقيرة في الغالب من عائالت تفتقر‬ ‫‪86‬‬


‫إلى الحضور الفعلي لألب‪ ،‬أو باألحرى‪ ،‬من عائالت يكون فيها األب‬

‫مهان ًا وفاقد ًا ألي اعتبار‪ .‬تكون األم طوال اليوم في العمل‪ ،‬أو هي أيض ًا‬

‫محرومة من االندماج االجتماعي‪ ،‬ال يتوافرون على إطار اجتماعي‬

‫يمكنهم بداخله استيعاب قواعد الحياة المشتركة‪ .‬يشعرون بالتهميش‬

‫انطالق ًا من السنوات الدراسية األولى في المدرسة‪ .‬حين يأتي هؤالء‬

‫األطفال عن طريق الهجرة‪ ،‬وهذه حالة متك ِّررة‪ ،‬لكن ليست عامة‪ ،‬يجدون‬

‫أنفسهم بعيدين عن ثقافة المنشأ بجيل أو عدة أجيال‪ ،‬وال يتوافرون على‬

‫هويّة سابقة يع ِّوضون بها الهويّة التي صعب عليهم بناؤها هنا‪ .‬ال يتقنون‬

‫اللغة بشكل ج ّيد‪ ،‬وال يجدون الظروف الالزمة لعمل هادئ في المنزل‬ ‫لعدم توافر مساحة مالئمة‪ ،‬ولبقاء التلفاز مُ شَ غَّ ً‬ ‫ال طوال اليوم‪ ،‬وهكذا‬

‫يك َّلل مسارهم الدراسي بالفشل‪.‬‬

‫َّ‬ ‫يتعذر على هؤالء األطفال الحصول على اعتراف عائلي أو دراسي‪،‬‬ ‫حين‬

‫تتم تنمية قيم السيطرة الذكورية‬ ‫فإنهم‬ ‫ّ‬ ‫ينضمون إلى عصابات الحي حيث ّ‬

‫ّ‬ ‫سن العمل ال يجدون‬ ‫داخل هذا النظام الثقافي‬ ‫المنحط‪ .‬وحين يبلغون ّ‬ ‫أي شخص يقبل بتوظيفهم‪ :‬ال يمتلكون كفاءة خاصة‪ ،‬كما أن مظهرهم‬

‫َّ‬ ‫يؤدي‬ ‫الخارجي ال يوحي باالطمئنان‪ .‬هكذا‬ ‫يتعذر عليهم ولوج أي طريق ّ‬

‫إلى النجاح االجتماعي‪ ،‬في ّتجه عدد منهم إلى ارتكاب الجرائم الصغيرة‬

‫وتجارة المخدرات أو العنف غير المب َّرر وتدمير اإلطار االجتماعي الذي‬ ‫يعيشون فيه‪.‬‬

‫َّ‬ ‫عجل بعض‬ ‫لنتذكر أحداث الشغب التي حدثت في نوفمبر ‪2005‬؛ ّ‬ ‫المحللين المتس ِّرعين االحتجاج والتنديد بغزو البرابرة وهجوم العرب‬

‫نددوا بالمذبحة المناهضة للروح الجمهورية‪،‬‬ ‫على فرنسا وقيمها‪ ،‬كما َّ‬ ‫‪87‬‬


‫ولكن خالل األحداث‪ ،‬األصوات اإلسالمية الوحيدة التي كنا نسمع‬

‫كانت أصوات الشخصيات الدينية‪ ،‬وهي تطالب الشباب بالعودة إلى‬

‫ديارهم‪ .‬وبعد التحقيق‪ ،‬لم يجد النائب العام في باريس بين مثيري‬ ‫الشغب «أي أثر للمطالبة بنوع من الهويّة‪ ،‬أية سمة لدافع ّ‬ ‫قوي أو تعويض‬

‫سياسي أو ديني»‪ .‬كشف تحقيق الشرطة أيض ًا أن ‪ 13‬في المئة من‬

‫األشخاص المعتقلين غير فرنسيين‪ .‬لكن بالمقابل هناك ‪ 50‬في المئة‬

‫سن التمدرس‪.‬‬ ‫من األشخاص كانوا منقطعين عن الدراسة‪ ،‬رغم أنهم في ّ‬ ‫األجانب الذين اختار هؤالء األطفال تقليدهم ليسوا أئمة القاهرة‪ ،‬بل‬ ‫مغني الراب في لوس أنجلس‪ .‬ملهمو هؤالء األطفال يقطنون الشاشة‬ ‫ّ‬

‫الصغيرة‪ ،‬هم بأنفسهم يخلطون‪ ،‬بسذاجة‪ ،‬بين الخيال والواقع لفرط ما‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التغذي بثقافة القرآن‪ ،‬يحلمون‬ ‫يتغذون بثقافة صورة التلفزيون‪ .‬عوض‬

‫بالهواتف ّ‬ ‫النقالة من آخر طراز‪ ،‬وباألحذية الرياضية ذات العالمة التجارية‬

‫وبألعاب الفيديو‪ .‬يُظهرون لهم الثراء في التلفزة في حين أنهم يعيشون‬ ‫في أحياء تفتقر لكل شيء‪ ،‬محاصرين بين الطرق السيارة وطرق السكة‬

‫محالت تجارية وال خدمات‪ ،‬ومن ث ََّم‬ ‫الحديدية‪ ،‬بال شوارع جميلة وال ّ‬ ‫ينهار سكنهم معتدل اإليجار‪ ،‬ويتداعى‪ .‬فيتص َّرفون كما لو أنهم يضرمون‬

‫النار في مسكنهم! مشكلة هؤالء الشباب‪ ،‬الذين في أغلبهم من جنسية‬

‫فرنسية‪ ،‬ليست حضور ثقافة أجنبية في بلدهم‪ ،‬بل غياب بنية أساسية‬ ‫ِّ‬ ‫تمكنهم من الحصول على وضع اجتماعي مناسب‪ .‬عالج هذا التطوُّر‬ ‫المثير للقلق ‪-‬حق ًا‪ -‬ليس ثقافي ًا بل اجتماعي ًا‪ ،‬إنه الدور المنوط بسياسة‬ ‫المدينة التي ينبغي أن تضمن لهم الوسائل الكافية‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫مصلحتنا ومعتقداتنا في خطر‬ ‫إن الديانات الكبرى‪ ،‬في الماضي والحاضر‪ ،‬توصي الفرد بأداء واجب‬

‫وحب القريب ( كما نعرف ليس‬ ‫الضيافة ومساعدة الجوعى والعطشى‬ ‫ّ‬

‫األقرب بل البعيد)‪ .‬ال يمكن توجيه مثل هذه الوصية إلى الدول‪ .‬لكن من‬

‫مصلحة هذه الدول أال تذكي جذوة األهواء البدائية المح ِّرضة على كره‬

‫األجانب‪ .‬في عالم اليوم الذي يتم َّيز بالتطوُّر السريع لوسائل اال ِ ّتصاالت‬

‫والتكنولوجيا‪ ،‬كما يتم َّيز بتوحيد االقتصاد‪ ،‬أصبحت شعوب مختلف‬ ‫الدول أ كثر قرب ًا‪ ،‬وأصبح كل منها يعتمد على اآلخر‪ .‬اللقاء مع األجانب‬ ‫منذور لمزيد من التكاثر‪ .‬ومن مسؤوليتنا االستفادة‪ ،‬بشكل أحسن‪ ،‬من‬

‫هذه اللقاءات‪ ،‬في ديارهم كما في ديارنا‪ ،‬ما يحدث هناك بالتعاون‬ ‫يجب أن ي َُك َّلل هنا باالندماج‪ .‬نقاط القوة في مصلحتنا ومعتقداتنا‬

‫تدفعنا للسير في االتجاه نفسه‪.‬‬

‫تزيفتان تودوروف‬

‫‪89‬‬


‫مراجع‬

-La conquête de l’Amérique, Seuil, 1982. -Nous et les autres, Seuil, 1989. -La vie commune, Seuil, 1995.

-L’Homme dépaysé, Seuil 1996. Devoirs et délices, Seuil, 2002. -Le Nouveau Désordre mondial. Réflexions d’un européen, Robert Laffont, 2003.

-Les Abus de la mémoire, Arléa, 2004.

-La Littérature en péril, Flammarion, 2007

-La Peur des barbares. Au-delà du choc des civilisations, Robert Laffont, 2008.

90


‫لماذا نحن ‪-‬دوم ًا‪ -‬في حاجة إلى فكر األنوار؟‬

‫المتعدد والمتناقض في كثير من األحيان‪ ،‬ليس حركة‬ ‫إن فكر األنوار‬ ‫ِّ‬

‫ّ‬ ‫بغض النظر عن البلد األصلي لفكر األنوار‪ ،‬فإنه ساهم‬ ‫فكرية متواطئة‪.‬‬

‫ضد السلطة والدين‪ ،‬ودافع عن فكرة الصالح العام‬ ‫في استقالل الفرد ّ‬

‫ومهددة‪.‬‬ ‫والكونية‪ ،‬والمبادئ التي ال تزال هشَّ ة‬ ‫َّ‬

‫يتم تعريف فكر األنوار بكلمات قليلة؟ ت َّتضح التجربة من خالل‬ ‫هل ّ‬

‫المراهنة‪ .‬في الواقع‪ ،‬دامت هذه الحركة أ كثر من قرن‪ ،‬وهي تتطوَّر في‬

‫عدة آراء متناقضة‪.‬‬ ‫عدة دول بشكل خاص‪ ،‬وتواجه ّ‬ ‫ّ‬

‫ِّ‬ ‫المميزة لسمة األنوار‪ ،‬وعلى‬ ‫يشكل هذا التعقيد الفكري الخاصية األولى‬ ‫ِّ‬

‫العكس مما يُفهم‪ ،‬في غالب األحيان‪ ،‬أنه من االختزال أن نتك َّلم على‬

‫فكر األنوار كأنه تيار فكري أحادي الجانب‪ .‬في الواقع‪ ،‬يحيل فكر‬

‫األنوار على عصر التأليف والتركيب األصيل بشكل خالص‪ ،‬يتش َّرب فكر‬

‫األنوار اإلرث الفكري الذي ظهر في أوروبا منذ نهاية العصر الوسيط‬

‫ترسخت مق ِّوماته خالل عصر النهضة والقرن السابع عشر‪ .‬يستثمر‬ ‫حيث َّ‬

‫فكر األنوار ‪-‬على َح ّد سواء‪ -‬العقالنية والنزعة التجريبية‪ ،‬عن طريق‬

‫الفصل ال الجمع‪ ،‬ويشيد بمعرفة القوانين الخالدة كما هو الشأن لتاريخ‬

‫‪91‬‬


‫ِّ‬ ‫تعدد الثقافات بدل وحدانية الحضارة‪.‬‬ ‫الشعوب‪،‬‬ ‫ويؤكد ‪-‬أيض ًا‪ -‬على ُّ‬

‫في الوقت نفسه‪ ،‬يدافع فكر األنوار عن العقل واألهواء‪ ،‬الجسد والروح‪،‬‬

‫الفنون والعلوم‪ ،‬االصطناعي والطبيعي‪ ،‬متش ِّرب ًا كل مجاالت اإلبداع‬

‫الفكري‪ ،‬من الفلسفة إلى العلوم مرور ًا باآلداب‪ ،‬القانون‪ ،‬الرسم‪...‬‬

‫ليتم تطبيقها عملي ًا‬ ‫الطريف في األمر‪ ،‬أن األفكار تهجر عالم الكتب‬ ‫ّ‬ ‫في الحياة اليومية‪ ،‬عبور سي َّتخذ في نهاية القرن أشكا ً‬ ‫تفجرية‪ :‬حرب‬ ‫ال ُّ‬

‫االستقالل في أميركا‪ ،‬والثورة في فرنسا‪.‬‬

‫والنتيجة‪ ،‬ال يمكن تعريف فكر األنوار إال على حساب العديد من‬

‫يتم إقراره‪ ،‬فسيكون‬ ‫االختزاالت التبسيطية‪ .‬أي ًا كان التعريف الذي ّ‬ ‫بمقدورنا أن نعارضه على الدوام باستثناءات‪.‬‬ ‫يعتقد الفرنسيون ‪-‬في غالب األحيان‪ -‬أن فكر األنوار من صنيعتهم‪،‬‬

‫ولكن األمر ليس كذلك؛ في بادئ األمر‪ ،‬تطوَّرت األفكار في ما وراء‬

‫تعمقت ونضجت في وقت الحق في‬ ‫بحر المانش أو في إيطاليا‪ ،‬ثم َّ‬

‫ألمانيا‪ .‬بكل بساطة‪ ،‬كانت فرنسا صندوق الصدى الذي أتاح لهذه‬

‫األفكار االنتشار في ربوع العالم بفضل إشعاع العقل الفرنسي‪ ،‬وبفضل‬ ‫ِّ‬ ‫مفكرين من الطراز األول‪ ،‬كفولتير أو جماعة الموسوعيين التي نتجاهلها‬

‫أحيان ًا‪ ،‬في حين ظهرت َك َر ّد فعل على الموسوعة اإلنجليزية التي نُشرت‬

‫في وقت سابق‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬فالوطن الحقيقي لفكر األنوار هو أوروبا‪.‬‬

‫عدة دول من القارة األوربية‪ ،‬واستقر فولتير في‬ ‫لقد طاف مونتسكيو ّ‬

‫إنجلترا‪ ،‬أما األسكتلندي هيوم‪ ،‬واإليطالي بيكاريا فقد سكنا في باريس‬ ‫ِّ‬ ‫لفترة طويلة‪ .‬ت ِ‬ ‫ُرجمت كتب هؤالء‬ ‫المفكرين‪ ،‬والقت الكثير من الترحاب‬

‫واإلطراء وأيض ًا االنتقاد‪ ،‬رغم أنها لم تُنشَ ر سوى في الخارج‪ ،‬ألن‬

‫‪92‬‬


‫مضطهدين في أوطانهم بسبب أفكارهم المزعجة‪.‬‬ ‫مؤ ِّلفوها كانوا‬ ‫َ‬ ‫إذا أردنا أن نختزل إرث فكر األنوار الثقافي إلى نواة صغرى‪ ،‬فما الذي‬

‫يجب تسليط الضوء عليه؟ إنها فكرة االستقاللية؛ إمكانية التح ُّرر من‬

‫الوصاية التي تفرض على كل فرد طريقة أحادية للتفكير واإلحساس‪ ،‬كما‬

‫أدى إلى إعادة‬ ‫كان األمر‪ ،‬آنذاك‪ ،‬مع الديانة المسيحية‪ ،‬الشيء الذي ّ‬

‫النظر في المكانة التي يحت ّلها الدين في المجتمع‪ .‬وقد شمل البحث عن‬

‫االستقاللية كافة مناحي الوجود‪ ،‬وفي المقام األول المعرفة‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫وتحقق ‪-‬من ث ََّم‪ -‬نجاحات‬ ‫تتح َّرر المعرفة من كل رقابة إيديولوجية‪،‬‬ ‫تتم‬ ‫باهرة‪ .‬لكن‪ ،‬ينبغي االهتمام ‪-‬أيض ًا‪ -‬بالقانون‪ ،‬التربية‪ ،‬الفنون‪ّ .‬‬

‫المطالبة باالستقاللية على المستويين الفردي والجماعي (يجب على‬

‫كل فرد أن يدير حياته الخاصة كما يفهمها)‪ ،‬وتتمثَّل سيادة الشعب في‬ ‫تسير حياته‪ ،‬وفي اختيار األشخاص الذين يقودون‬ ‫صياغة القوانين التي ِ ّ‬

‫شؤون البلد‪.‬‬

‫التعددية االستقاللية‪ ،‬من الواجب أن تكون السلطات في‬ ‫بسبب هذه‬ ‫ُّ‬

‫تقيد‬ ‫يد الدولة‪ ،‬ويراقب بعضها بعض ًا حتى ال تصبح سلطات مطلقة‪ّ ِ .‬‬

‫يحد هاجس الصالح‬ ‫الح ّريّة الفردية السيادة الشعبية‪ ،‬والعكس صحيح؛‬ ‫ّ‬

‫العام من طموح الفرد إلى تحقيق الرضا الشخصي‪ .‬في الوقت نفسه‪،‬‬

‫محددة ومق َّيدة‬ ‫الملحة لالستقاللية ذاتها غير مطلقة‪ .‬إنها‬ ‫تبقى الضرورة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫بالقصدية المنسوبة إلى المجال العام من جهة؛ حيث تخدم رفاهية‬ ‫الشعب (ومن ث ََّم تكون القصدية إنسانية بشكل صرف) ومن جهة أخرى‪،‬‬ ‫يحدها مبدأ الكونية‪ ،‬بمعنى االعتراف بالكرامة التي يجب أن يتم َّتع بها‬ ‫ّ‬

‫‪93‬‬


‫نسميه اليوم الحقوق اإلنسانية‪.‬‬ ‫الجنس البشري بالتساوي‪ .‬وهو ما‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬ ‫والتحول المنهجي لحقول المعرفة‬ ‫بين النزعة الظالمية‬ ‫مهدد ًا‪ ،‬في بادئ األمر‪،‬‬ ‫في الماضي كما في الحاضر‪ ،‬كان فكر األنوار‬ ‫َّ‬ ‫من طرف أعدائه المعلنين الذين يرفضونه جملة وتفصي ً‬ ‫ال‪ .‬يتج ّلى هؤالء‬

‫توجهاتها‪ .‬ترفض‬ ‫األعداء‪ ،‬أساس ًا‪ ،‬في التيارات الدينية‬ ‫ِّ‬ ‫المتعددة بجميع ُّ‬

‫التيارات الدينية‪ ،‬بحسب الحاالت االجتماعية‪ ،‬أن تقوم قوانين الدولة‬ ‫ّ‬ ‫بالكف عن الحكم على‬ ‫على قاعدة إنسانية خالصة‪ ،‬وتطالب الدولة‬

‫المقدسة‪.‬‬ ‫معتقدات مواطنيها‪ ،‬وأن تبتعد المعرفة عن تناول الكتب‬ ‫َّ‬

‫أما التهديد الثاني الذي يطال فكر األنوار فيبقى في غاية الخطورة‪ ،‬ألنه‬

‫أهم ّية إال‬ ‫ناجم عن األشخاص الذين ينادون بالتنوير‪ ،‬لكنهم ال يعيرون ّ‬

‫يمهدون الطريق‬ ‫لجزء من أفكار األنوار متجاهلين العناصر األخرى‪ ،‬من ث ََّم ِ ّ‬

‫لقاعدة دوغمائية جديدة‪ .‬فإذا كان التهديد األول ظالمي ًا تجهيلي ًا‪ ،‬فإن‬

‫التهديد الثاني يوصف على أنه تحوُّل منهجي في صميم فكر األنوار‪.‬‬

‫في القرن الثامن عشر نفسه‪ ،‬كان البعض يعتقدون أن التاريخ يتبع نسق ًا‬

‫ّ‬ ‫بالتمسك بنزعة تفاؤلية‬ ‫الخطي والمنهجي‪ ،‬فيما نادى آخرون‬ ‫التقدم‬ ‫من‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬

‫اجتماعية‪ ،‬مقتنعين أنه بإمكاننا القضاء على كل شرور اإلنسانية عن‬

‫طريق التربية المثالية والحكومة الجيدة‪ .‬لكن‪ ،‬لم تكن هذه هي قناعة‬ ‫ِّ‬ ‫المفكرين األلمعيين لعصر األنوار‪ ،‬كما هو الشأن مع جان جاك روسو‬

‫في فرنسا؛ كان الكاتب المولود في جنيف واعي ًا بالبعد المأسوي العصي‬ ‫‪94‬‬


‫للوضع البشري‪ ،‬لم يتجاهل روسو ترابط المكاسب والخسائر في كل‬ ‫محاولة فكرية تروم تحسين وضع اإلنسانية‪ ،‬حيث أ َّكد أن «الخير والشر‬

‫يتد َّفقان من المنبع نفسه»‪.‬‬

‫توازن دقيق‬ ‫ال تعوزنا‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬األمثلة على تحوُّالت الفكر وانحرافاته‪ .‬في‬

‫األمس‪ ،‬صادرت النزعة الكليانية الح ّريّة الفردية باسم إرادة الشعب‬

‫المطلقة التي احتكرتها في الواقع زمرة من الحاكمين‪ .‬أخضعت الكليانية‬

‫أدى إلى عوز‬ ‫لم َس َّلمات سياسية‪ ،‬الشيء الذي ّ‬ ‫أيض ًا الحياة االقتصادية ُ‬

‫دائم في البلد‪ .‬واليوم‪ ،‬تزيح الليبرالية المتط ِّرفة أي عائق أمام الرغبات‬

‫الفردية‪ ،‬وتتنازل عن الصالح العام بإخضاع السلطات السياسية لخدمة‬ ‫المتط َّلبات االقتصادية التي أصبحت غاية في َح ّد ذاتها‪ .‬وبهذه الطريقة‪،‬‬

‫تمت خيانة الروح الفكرية‬ ‫وعن طريق التق ُّيد بوفاء ببعض أفكار األنوار‪َّ ،‬‬

‫للتنوير عن طريق انحراف هذه األفكار عن المسار الحقيقي الذي رسمه‬ ‫ِّ‬ ‫المفكرون لهذه الحركة‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬تبقى مبادئ األنوار الكبرى راهنية أ كثر من أي وقت مضى‪.‬‬

‫بمقدورنا ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬أن نعود إلى فكر األنوار للدفاع عن‬

‫نظرية داروين بدل نظريات القائلين بالخلقية (نظرية خلق العالم القائمة‬

‫على نص سفر التكوين)‪ ،‬كما بإمكاننا إدانة التعذيب حين يمارَس‬

‫باسم دواعي المصلحة العليا للدولة‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن هذا‪ ،‬بإمكاننا التس ُّلح‬

‫بفكر األنوار لنشجب وندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الح ّريّة‬

‫‪95‬‬


‫والديموقراطية والتنوير بالقوة في األقطار التي تفتقر إليها‪ ،‬كما يجب‬ ‫وضمها إلى القيم الكونية‪ ،‬والعمل على‬ ‫تعدد الثقافات‬ ‫علينا احترام ُّ‬ ‫ّ‬

‫التعددية السياسية‬ ‫اعتبار النجاح االقتصادي وسيلة ال غاية‪ ،‬والقيام بتعزيز‬ ‫ُّ‬

‫داخل كل بلد كما بين جميع البلدان‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬سيكون بإمكاننا تحقيق هذه المثل العليا‪ ،‬لكن‪ ،‬بشرط عدم‬

‫اختزال هذا اإلرث في كلمات ذات طابع منعزل‪ ،‬والعمل على الحفاظ‬ ‫على تراث فكر األنوار والتوازن الدقيق الذي يسعى إلى إقامته بين‬ ‫مختلف مظاهر الوضع البشري‪.‬‬

‫تزيفتان تودوروف‬ ‫‪No 26-2010‬‬

‫‪96‬‬


‫التخ ُّلص من األعداء‬ ‫تتعالى ‪-‬في أيامنا هذه‪ ،‬بشكل كبير‪ -‬بعض األصوات التي تسعى إلى‬

‫تحذيرنا من ظهور عد ّو جديد‪ ،‬ت ََّم تحديده بسمات مختلفة‪ ،‬لكن‪ ،‬يبدو‬ ‫أن سمته المشتركة تتج ّلى في «اإلسالم الفاشي»‪.‬‬

‫للس ْلم‬ ‫تتجسد هذه (الفاشية اإلسالمية) تارة في الدول المسلمة‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫المهددة ِ ّ‬

‫العالمي‪ ،‬وتارة في منظمات دولية كتنظيم القاعدة‪ ،‬وتارة أخرى في‬

‫المهاجرين المسلمين في الدول األوربية الذين ‪-‬كما يقال‪ -‬يجنحون‬ ‫ّ‬ ‫األقل في بعض المدن الكبرى‪.‬‬ ‫إلى تشكيل األغلبية‪ ،‬على‬ ‫إن التنديد بهذا الخطر الوافد من اآلخر األجنبي هو تنديد وشجب‬

‫تقليدي في خطاب اليمين المتط ِّرف‪ ،‬لكن هذا الخطاب بدأ يتردَّ د اليوم‬

‫يتم فيها توبيخ وسوط‬ ‫في دوائر أ كثر ا ِ ّتساع ًا‪ ،‬دوائر سياسية أو فكرية‪ّ ،‬‬ ‫النزعة المالئكية المسالمة وسذاجة الرأي العام اللتين تقودان إلى موقف‬

‫نهيئ هزيمتنا بأنفسنا‪.‬‬ ‫من السلبية والتسامح المفرط‪ :‬برفضنا للحرب‪ّ ِ ،‬‬

‫يتم تطبيقه والتعامل‬ ‫ي َّتخذ مصطلح «العدو» داللة واضحة وبسيطة حين ّ‬

‫معه في وضعية الحرب؛ يشير مصطلح العدو إلى الدولة التي يحاول‬

‫‪97‬‬


‫متأهب ًا إلبادتنا‪َ ،‬‬ ‫وك َر ّد فعل على‬ ‫جيشها غزو بلدنا‪ ،‬ويكون ‪-‬من ث ََّم‪-‬‬ ‫ِّ‬

‫مضاد والعمل‬ ‫محاولته‪ ،‬نسعى نحن بدورنا إلى إحباط مشروعه بعمل‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يكف القتل عن أن يكون جريمة‪ ،‬ويصبح واجب ًا‪.‬‬ ‫على تدميره‪ .‬وهنا‬

‫غير أن األنظمة الكليانية استخدمت مصطلح «العدو» في نطاق أوسع‪.‬‬

‫يرددون على مسامعنا مصطلح (األعداء)‬ ‫في طفولتي الشيوعية‪ ،‬كانوا ِ ّ‬

‫الس ْلم‪ .‬كان االفتقار إلى‬ ‫في كل يوم‪ ،‬حتى ونحن نعيش في وضعية ّ‬ ‫النجاح االقتصادي يُعزى دوم ًا إلى أعداء خارجيين‪ ،‬يتمثَّلون‪ ،‬أساس ًا‪،‬‬

‫في اإلمبرياليات األنجلو‪ -‬أميركية‪ ،‬وإلى أعداء داخليين يتمثَّلون في‬

‫ُنسب إلى كل أولئك الذين‬ ‫الجواسيس والمخ ِّربين‪ ،‬األسماء التي كانت ت َ‬

‫ال يظهرون ما يكفي من الحماسة لإليدولوجيا الماركسية ‪ -‬اللينينية‪ .‬كان‬

‫النظام الكلياني يفرض مصطلح «وضع حربي» على كل حاالت السلم‪،‬‬

‫وال يقبل أي فروق دقيقة في هذا الشأن‪ .‬كل شخص مختلف كان ي َ‬ ‫ُنظر‬ ‫إليه على أنه خصم‪ ،‬وكل خصم هو عد ّو ‪ -‬من ث ََّم‪ ،‬من المشروع‪ ،‬بل من‬ ‫المحمود‪ ،‬إبادة هؤالء األوباش‪.‬‬

‫لم يساهم انهيار األنظمة الشيوعية في اختفاء النظرة إلى الحياة الدولية‬

‫ضد العدو‪ .‬يبدو أن األعداء القدامى استبطنوا منطقهم‪،‬‬ ‫على أنها معركة ّ‬

‫فإقصاء عد ّو مع َّين والقضاء عليه‪ ،‬دفعهم إلى البحث عن َّ‬ ‫مرشح جديد‬ ‫كفيل بلعب الدور نفسه‪ .‬ينطلق قادة الواليات المتحدة ومستشاروهم‬

‫الثقافيون من مُ َس َّلمة ثابتة ال جدال فيها‪« :‬الكراهية جزء من صميم إنسانية‬

‫اإلنسان‪ .‬لتحديد هويَّتنا وإذكاء مشاعرنا‪ ،‬سنكون في حاجة إلى أعداء»‬

‫(هذا ما يقوله صامويل هنتنغتون)‪ .‬إنها اإلسالموية الراديكالية التي تبدو‬

‫المؤهَّ لة ‪-‬بشكل أفضل‪ -‬لضمان استمرار هذه الوظيفة األبدية‪ .‬ينبغي‬ ‫‪98‬‬


‫القول إن اإليديولوجيين اإلسالمويين قسموا‪ ،‬منذ مدة طويلة العالم بين‬

‫يتم تحديد هوي َّتهم في إسرائيل‬ ‫«هم» و«أعداء لدودين»‪ ،‬األعداء الذين ّ‬

‫والواليات المتحدة األميركية‪ ،‬الشيطان األصغر والشيطان األكبر‪...‬‬

‫سيكون بمقدورنا ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬أن ننتقد القصور األخالقي والفكري لهذه‬

‫الرؤية للعالم‪ .‬صحيح أن الكراهية شعور إنساني‪ ،‬لكن هذا ال يعني أنه‬

‫ال غنى عن البحث عن عد ّو بشكل دائم لتأ كيد هويّة اآلخر‪ ،‬ال على‬

‫المستوى الفردي‪ ،‬وال على المستوى الجماعي‪.‬‬

‫يحدد المرء هويّته‪ ،‬ومن جهة أخرى يعيش‪ ،‬فسيكون من الالزم‬ ‫كي‬ ‫ّ‬

‫يحدد موقعه بالنسبة إلى األناس اآلخرين‪ ،‬لكن‬ ‫على كل كائن بشري أن ِ ّ‬

‫ال ينبغي اختزال هذه العالقة في حالة من الحرب؛ بل في الدعوة إلى‬

‫الحب‪ ،‬االحترام‪ ،‬طلب االعتراف‪ ،‬التقليد‪ ،‬الغيرة‪ ،‬روح المنافسة‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫يقل إنسانية عن الكراهية‪ .‬مثل ّ‬ ‫أي رؤية مانوية تقصي‬ ‫فالتفاوض ال‬

‫الموقف الثالث‪ ،‬فإن تقسيم اإلنسانية إلى أصدقاء وأعداء يجنح إلى‬

‫تحويل الجماعة اإلنسانية إلى كبش محرقة‪ ،‬مسؤول عن كل شرورنا‪.‬‬ ‫بتطبيق مفهوم «العدوّ» وراء حاالت الحرب‪ ،‬فإننا نخاطر أ كثر بطمس‬

‫الفرق والفصل بين األخالق (أو الدين) والسياسة‪ ،‬هذا الفصل الذي‬

‫يبقى أحد اإلنجازات األكثر قيمة في النظام الديموقراطي‪ ،‬هذا الفصل‬

‫نتأسف لغيابه في األصوليات الدينية‪.‬‬ ‫الذي‬ ‫َّ‬

‫ِّ‬ ‫مشكلة‬ ‫أن نعمل على وصف خصومنا السياسيين واالقتصاديين كوحدات‬

‫لـ «محور الشر» يعني أننا نساهم في تفاقم هذه الفوضى المثيرة للرثاء‪.‬‬

‫إن اختزال العالقات الدولية في مزدوجة «حلفاء ‪ -‬أعداء» يبقى إجراء‬ ‫‪99‬‬


‫بعيد ًا كل البعد عن ضمان انتصار المثل العليا التي نرغب في الدفاع‬

‫عنها‪ .‬وبسبب شعور المرء بحضور العد ّو في كل مكان‪ ،‬يحدث تصعيد‬

‫خطير ومنحرف في اختيار وسائل الدفاع‪ ،‬وهذا هو ما تحدثت عنه‬

‫«جيرمين تيليون» في زمن حرب الجزائر في كتاب يحمل عنوان ًا دا ّل ًا‬ ‫«األعداء التكميليون»‪.‬‬

‫ضد الواليات المتحدة‪ ،‬في نظر‬ ‫واليوم‪ ،‬تب ِّرر االعتداءات اإلرهابية‬ ‫ّ‬

‫التعذيب الممنهج في سجن أبو غريب أو في‬ ‫الحكومة األميركية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المؤسسة لدولة القانون‪،‬‬ ‫معسكر غوانتانامو والتخ ّلي عن المبادئ‬ ‫ِّ‬

‫مواقف‪ ،‬بدورها‪ ،‬تضفي الشرعية‪ ،‬في نظر أعدائهم‪ ،‬على ارتكاب أفعال‬ ‫ويتأجج‬ ‫إرهابية جديدة أ كثر إغراق ًا في الدموية‪ .‬وهكذا‪ ،‬تُذكى األحقاد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الصراع بين الطرفين‪.‬‬

‫والنتيجة هي عدوى اإلصابة بالش ّر الذي نرغب في محاربته‪ ،‬تراجع‬

‫وانتكاس القيم الديموقراطية التي نسعى للدفاع عنها وتعزيزها‪ .‬إذا كان‬

‫هزم العدو يدفعنا إلى التص ُّرف مثله وإ ِ ّتباع خصائصه وصفاته األكثر إغراق ًا‬

‫في البشاعة‪ ،‬فإن هذا العدو هو من سينتصر‪ .‬في صراعنا مع الخصم‪،‬‬ ‫المنافع والمغانم التي قد نحصل عليها‪ ،‬بممارستنا لوحشية طاغية‪ ،‬ال‬

‫يمكن أن تع ِّوض لنا خسارة هيبتنا واعتبارنا األخالقي والسياسي‪ .‬في‬

‫الوقت نفسه‪ ،‬التص ُّلب في معارضة صدامية يدفع العدو إلى ارتكاب‬

‫أفعال أ كثر تط ُّرف ًا ‪ :‬وخير شاهد على ذلك هو تطوُّر الصراع اإلسرائيلي‬

‫ الفلسطيني‪ .‬إن األشخاص الذين ن َِس ُمهم بأنهم أعداء هم بش ٌر مثلنا‪،‬‬‫عاقلون مثلنا‪ ،‬ومن غير المعقول أن نع ِّرض وجودهم ذاته للخطر بذريعة‬ ‫حماية أنفسنا‪.‬‬

‫‪100‬‬


‫كيف نتج َّنب ونتفادى الوقوع في الدوامة التي يج ُّرنا إليها نموذج‬

‫العدو‪ ،‬المرتسم بظالله على تعقيد العالم؟ ال يكفي العمل على تغيير‬

‫العدو (في األمس البعيد كانت الرأسمالية العالمية‪ ،‬وفي األمس القريب‬

‫الشيوعية‪ ،‬واليوم اإلسالم الفاشي)‪ ،‬كما يفعل اليساريون السابقون الذين‬

‫أصبحوا الصقور والمدافعين بعدوانية عن «العالم الحر»‪ ،‬بل علينا أن‬

‫نتخ ّلى عن الفكر المانوي نفسه (القائم على عقيدة الصراع بين النور‬

‫يتوجب علينا ‪-‬أيض ًا‪ -‬أن نح ِّول تركيزنا على‬ ‫والظالم‪ ،‬الخير والشر)‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫نجمد ونحجر الهويّات الجماعية‬ ‫الفاعل لنح ِ ّلل الفعل نفسه ‪ :‬بدل أن‬ ‫ِّ‬

‫ماهية ثابتة وسكونية‪ ،‬علينا أن نثابر لتحليل األوضاع والمواقف‬ ‫في‬ ‫ّ‬ ‫الم َّتسمة دوم ًا بخصوصية معينة‪ .‬سيكون بمقدورنا أن نكسب ونربح‬

‫أشياء كثيرة ‪ :‬ليست الهويّات المعادية هي التي تس َّبب الصراعات‪ ،‬بل‬ ‫الصراعات هي التي تجعل الهويّات معادية‪.‬‬ ‫متعددة ومرنة‪ ،‬في حين أن الحروب تجبر هذه‬ ‫تتم َّيز الشعوب بهويّات‬ ‫ِّ‬

‫الشعوب على التمسك ببعد واحد‪ ،‬كل شعب يلزم كيانه ووجوده‪ ،‬ويلقي‬

‫بهما في أتون المعركة من أجل هزيمة العدو‪ .‬إن أوضاع الناس ومواقفهم‬

‫غير قابلة للتنميط في تقابالت تبسيطية واختزالية‪ ،‬ومن ث ََّم‪ ،‬تبقى عصية‬ ‫على تصنيفات الخير والشر‪.‬‬

‫ضد الجميع ليست‪ ،‬فقط‪ ،‬صورة‬ ‫إن صورة العالم على أنها حرب الجميع ّ‬ ‫زائفة‪ ،‬بل تساهم ‪-‬أيض ًا‪ -‬في جعل هذا العالم أ كثر خطورة‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫تحت أنظار اآلخرين‬ ‫نحن‪ ،‬جميع ًا‪ ،‬في حاجة إلى اعتراف اآلخر بنا حتى يغدو بإمكاننا‬

‫نوجد؛ فالطفل في حاجة إلى نظرة والديه‪ ،‬واألستاذ يوجد بفضل‬ ‫أن‬ ‫َ‬

‫تالمذته‪ ،‬أما األصدقاء فيقيمون مقارنة فيما بينهم‪ .‬وسواء أسعى اإلنسان‬

‫ليكون مماث ً‬ ‫ال لآلخرين أم ليكون مختلف ًا عنهم‪ ،‬فإن اآلخرين هم الذين‬ ‫ِّ‬ ‫يؤكدون لنا وجودنا‪.‬‬

‫ليس من قبيل الصدفة أن يقوم جان جاك روسو‪ ،‬آدم سميث‪ ،‬وجورج‬

‫هيجل ‪ -‬من بين كل السيرورات األولية ‪ -‬بتسليط الضوء على االعتراف‬

‫باآلخر‪ .‬هذا االعتراف هو ‪-‬في الواقع‪ -‬مسألة استثنائية بصفة مزدوجة‪.‬‬

‫أو ً‬ ‫يميز‪ -‬أ كثر من أي فعل‬ ‫ال بالمحتوى نفسه‪ :‬فاعتراف األخر هو الذي ِ ّ‬

‫آخر ‪ -‬دخول الفرد إلى الوجود اإلنساني بشكل خاص‪ .‬لكن‪ ،‬لهذا‬ ‫االعتراف ‪-‬أيض ًا‪ -‬فرادة بنيوية‪ :‬إنه يبدو ‪-‬على نحو ما‪ -‬الوجه الحتمي‬

‫لكل األفعال األخرى‪ .‬في الواقع‪ ،‬حين يشارك الطفل في أفعال شبيهة‬

‫يهيئ‬ ‫بالتناوب أو التعاون‪ ،‬فإنه يحصل ‪-‬من ث ََّم‪ -‬على تأ كيد لوجوده حين ّ‬ ‫له شريكه مكان ًا معين ًا‪ ،‬حيث يتوقف لسماع غنائه‪ ،‬أو للغناء معه‪ .‬حين‬

‫يغير العالم المحيط به‪ ،‬حين يق ِ ّلد إنسان ًا راشد ًا‪ ،‬فإنه‬ ‫يستكشف الطفل أو ِ ّ‬

‫يتع َّرف إلى نفسه باعتباره موضوع أفعاله الخاصة‪ ،‬ومن ث ََّم يتع َّرف إلى‬ ‫‪102‬‬


‫يتم مواساة المرء أو التعارك معه‪ ،‬أو يدخل‬ ‫نفسه ككائن موجود‪ .‬حين ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتلقى‪ ،‬كربح إضافي‪ ،‬البرهان على وجوده‪.‬‬ ‫في شراكة مع اآلخر‪ ،‬فإنه‬

‫يفسر‪ ،‬كذلك‪ ،‬األهمية التي‬ ‫ّ‬ ‫يعد كل تعايش اعتراف ًا باآلخر أيض ًا‪ .‬وهذا ما ِ ّ‬

‫َّ‬ ‫المفضلة على كل السيرورات األخرى‪.‬‬ ‫أعيرها لهذه السيرورة‬

‫من البديهي أن االعتراف باآلخر يشمل أنشطة عديدة ذات مظاهر أ كثر‬ ‫إغراق ًا في التنوُّع‪ .‬من الالزم أن نتساءل‪ ،‬بمجرد إدماج مفهوم شامل إلى‬

‫الح ّد‪ ،‬عن دواعي وأشكال هذا التنوُّع‪.‬‬ ‫هذا َ‬

‫سيكون بمقدورنا‪ ،‬في بادئ األمر‪ ،‬أن نذكر بعض مصادر التنوُّع الخارجة‬

‫مادي ًا أو غير‬ ‫عن المفهوم في َح ّد ذاته‪ .‬قد ي َّتخذ االعتراف باآلخر طابع ًا ّ‬

‫متضمن ممارسة‬ ‫متضمن ًا أو غير‬ ‫مادي‪ ،‬االعتراف بالثروة أو باألمجاد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫السلطة على اآلخرين‪ .‬إن الطموح والتط ُّلع إلى االعتراف باآلخر يمكن‬

‫أن يكون واعي ًا أو غير واع‪ ،‬مستخدم ًا آليات عقالنية أو غير عقالنية‪.‬‬

‫بإمكاني ‪-‬أيض ًا‪ -‬أن أسعى إلى جذب نظرة اآلخر عبر مختلف مظاهر‬

‫كياني‪ ،‬عبر جسدي‪ ،‬عبر ذكائي‪ ،‬عبر صوتي‪ ،‬أو عبر صمتي‪.‬‬

‫المالبس والكرامة‬ ‫يلعب اللباس‪ ،‬من هذا المنظور‪ ،‬دور ًا هام ًا‪ ،‬ألنه ‪-‬تمام ًا‪ -‬مجال تالقي‬

‫أحدد موقعي إزاء اآلخرين‪ :‬أريد‬ ‫نظرة اآلخرين وإرادتي‪ ،‬ويسمح لي أن ِ ّ‬

‫أن أتش َّبه بهم‪ ،‬أو بالبعض منهم‪ ،‬لكن ليس بهم جميع ًا‪ ،‬أو ال أتشبه بأي‬

‫شخص‪ .‬خالصة القول‪ ،‬أختار لباسي‪ ،‬تبع ًا لآلخرين‪ ،‬كي أقول لهم إنهم‬ ‫‪103‬‬


‫غير مختلفين عني‪ .‬في مقابل ذلك‪ ،‬فالشخص الذي لم يعد يستطيع‬

‫أن يمارس رقابة على لباسه (بسبب الفقر مث ً‬ ‫ال) يشعر بنفسه مشلو ً‬ ‫ال‬

‫أمام اآلخرين‪ ،‬محروم ًا من كرامته‪ .‬ومن ث ََّم ليس من الخطأ‪ ،‬تمام ًا‪ ،‬أن‬ ‫َّ‬ ‫«يتشكل الكائن البشري من ثالثة أقسام‪ :‬الروح‪،‬‬ ‫تقول الدعابة القديمة‪:‬‬ ‫الجسد‪ ،‬اللباس‪.»...‬‬

‫يؤ ِ ّثر االعتراف باآلخر في كل مناطق كينونتنا‪ ،‬ولن يكون بمقدور مختلف‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ستتمكن هذه األشكال‪ ،‬عند‬ ‫محل اآلخر‪:‬‬ ‫يحل الواحد منها‬ ‫أشكاله أن‬

‫االقتضاء‪ ،‬أن تحمل بعض العزاء‪ .‬أنا في حاجة إلى اعتراف اآلخر بي‬

‫على المستوى المهني‪ ،‬كما هو الشأن في عالقتي الشخصية‪ ،‬في الحب‬

‫كما في الصداقة‪ ،‬وإخالص أصدقائي ال يع ِّوض حق ًا خسارة الحب‪،‬‬

‫الخاصة وكثافتها ال يمكن أن تحجب الفشل في‬ ‫حدة الحياة‬ ‫كما أن ّ‬ ‫ّ‬

‫الحياة السياسية‪ .‬إذا ركز فرد ما ‪-‬أساس ًا‪ -‬في مطالبته بنيل االعتراف في‬

‫المجال العمومي‪ ،‬ولم يحصل على ّ‬ ‫أي اهتمام‪ ،‬فسيكتشف نفسه‪ ،‬فجأة‪،‬‬

‫أنه محروم من الشعور بكينونته‪ .‬إنسان كهذا أمضى حياته في خدمة‬

‫يستمد األساس في شعوره بالوجود‪ ،‬بمج ّرد‬ ‫المجتمع والدولة‪ ،‬ومنهما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحل مرحلة الشيخوخة‪ ،‬ويختفي الطلب االجتماعي‪ ،‬وال يستطيع أن‬ ‫أن‬

‫يوازن هذا النقص بالعناية التي هو موضوعها إزاء ذويه‪ ،‬فينعدم وجوده‬

‫جهار ًا‪ ،‬سينتابه ببساطة الشعور بأنه غير موجود إطالق ًا‪ .‬لقد رأينا مع‬

‫هيجل أن طلب االعتراف قد يصاحب الصراع من أجل السلطة‪ ،‬لكن‪،‬‬ ‫يمكن لهذا االعتراف أن يرتبط بعالقات يسمح فيها حضور تراتبية ما‬

‫بتفادي الصراعات‪ .‬سم ّو أو دونية الشركاء تُعطى غالب ًا بشكل مسبق‪،‬‬

‫كل واحد منهم يصبو إلى االعتراف بنظرة اآلخر‪ .‬يصدر أول اعتراف‬ ‫‪104‬‬


‫ّ‬ ‫يتلقاه الطفل من كائنات أرفع منه من الناحية التراتبية‪ :‬أب َويْه أو البديل‬ ‫عنهما‪ ،‬ثم إن هذا الدور تستأنفه سلطات أخرى مك ّلفة من قبل المجتمع‬

‫بأداء وظيفة الجزاء؛ المع ِ ّلمون‪ ،‬المد ِّرسون‪ ،‬األساتذة‪ ،‬مشغّ لونا‪ ،‬المدراء‬

‫أو الرؤساء‪ .‬يحوز ّ‬ ‫النقاد في الغالب مفاتيح االعتراف بالنسبة للفنانين‬

‫والك ّتاب المبتدئين‪ ،‬أو بالنسبة للذين يفتقرون للثقة الداخلية‪ .‬لقد َق َّلد‬

‫المجتمع كل هذه الشخصيات المتف ِّوقة واألرفع منزلة وظيفة جوهرية‪:‬‬ ‫النطق بالجزاء العمومي‪.‬‬

‫عمن هم في وضع أدنى‪ ،‬ال ينبغي تجاهله‬ ‫االعتراف الذي يصدر‪ ،‬بدوره‪ّ ،‬‬

‫يتم التس ُّتر عليه ‪ :‬كما نعلم‪ ،‬إن‬ ‫أيض ًا‪ ،‬ولو أنه ‪-‬في الغالب األعم‪ّ -‬‬

‫السيد في حاجة إلى خادمه‪ ،‬كما هو الشأن في حاجة الخادم إلى سيده‪،‬‬

‫واألستاذ يتأ َّكد شعوره بالوجود من طرف التالميذ المتع ِّلقين به‪ ،‬والمغ ّني‬ ‫يحتاج‪ ،‬في كل األمسيات‪ ،‬إلى تصفيقات المعجبين به‪ ،‬واآلباء يعيشون‬ ‫شعور ًا شبيه ًا بالصدمة النفسية إثر رحيل أبنائهم عنهم وهم الذين‪ ،‬مع‬

‫ذلك‪ ،‬يبدون أنهم الوحيدون المطالبون باالعتراف‪.‬‬

‫لماذا االمتثال لألعراف والمعايير؟‬ ‫المتغيرات التراتبية لالعتراف جملة وتفصي ً‬ ‫ال مع وضعيات‬ ‫تتعارض هذه‬ ‫ِّ‬

‫وتطهر داخلها ‪-‬بكل سهولة‪ -‬مشاعر المنافسة‪.‬‬ ‫تنادي بالمساواة‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫متعددة‪ :‬الحب‪ ،‬الصداقة‪ ،‬العمل‪،‬‬ ‫تبقى هذه الوضعيات في َح ّد ذاتها‬ ‫ِّ‬

‫الحياة العائلية‪ .‬في نهاية المطاف‪ ،‬بإمكان اإلنسان نفسه أن يصبح‬

‫‪105‬‬


‫ُ‬ ‫التقوقع‪،‬‬ ‫المصدر الوحيد لالعتراف بذاته‪ ،‬سواء باالنعطاف نحو طريق‬

‫واالنكفاء‪ ،‬رافض ًا أي اتّصال بالعالم الخارجي‪ ،‬أو بتنمية كبريائه بشكل‬ ‫ّ‬ ‫بالحق الحصري في اإلعجاب بمزاياه الخاصة‪ .‬أو في‬ ‫مفرط محتفظ ًا‬

‫ليجسد الله الذي يستحسن أو يستنكر‬ ‫األخير‪ ،‬أن يثير ما في داخل ذاته‬ ‫ِّ‬

‫القديس إلى تجاوز حاجته إلى االعتراف‬ ‫سلوكاتنا؛ هكذا‪ ،‬يسعى‬ ‫ّ‬

‫اإلنساني‪ ،‬ويقنع بفعل الخير‪ .‬يستطيع بعض الفنانين أن يك ِّرسوا حياتهم‬

‫للعمل‪ ،‬دون االكتراث مطلق ًا بآراء اآلخرين فيهم‪ .‬لكن‪ ،‬من الالزم أن‬ ‫ال كهذه ليست‪ ،‬أبد ًا‪ ،‬إال حلو ً‬ ‫نضيف‪ ،‬أن حلو ً‬ ‫ال جزئية أو مؤقتة‪ ،‬كما‬

‫الحظ ذلك وليام جيمس‪« :‬بالكاد يوجد اإليثار االجتماعي الشامل‪،‬‬

‫كما أن االنتحار االجتماعي الشامل ال يخطر تقريب ًا على بال اإلنسان‬ ‫مطلق ًا»‪.)1(.‬‬

‫يجب اآلن أن نفصل بين شكلين من االعتراف نصبو إليهما جميع ًا‪ ،‬لكن‬

‫جد متن ِّوعة‪ .‬يمكننا الحديث‪ ،‬بخصوص هذه األشكال‪،‬‬ ‫ضمن درجات ّ‬

‫عن اعتراف المطابقة والتشابه‪ ،‬واعتراف االختالف والتمييز‪.‬‬

‫يتعارض هذان الصنفان‪ ،‬كل منهما مع اآلخر؛ إما أن يعتبرني اآلخرون‬

‫مختلف ًا عنهم‪ ،‬أو شبيه ًا بهم‪ .‬الشخص الذي يأمل أن يبدو األحسن‪،‬‬

‫متميز ًا‬ ‫األقوى‪ ،‬األجمل‪ ،‬األكثر تم ُّيز ًا‪ ،‬يريد‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬أن يكون‬ ‫ِّ‬ ‫عن الجميع‪ ،‬هذا الموقف موجود ‪-‬بشكل خاص‪ -‬في مرحلة الشباب‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬ثمة نوع آخر من االعتراف الذي هو‪ ،‬باألحرى‪ ،‬ميزة الطفولة‪،‬‬

‫سن النضج‪ ،‬خصوص ًا عند األشخاص الذين ال ي َّتمتعون‬ ‫وفيما بعد‪ّ ،‬‬

‫يستمد األشخاص‬ ‫بحياة نشيطة وبعالقات حميمية أ كثر دينامية وحركة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االعتراف بوجودهم من فعل االمتثال‪ ،‬المتناهي‬ ‫الدقة قدر اإلمكان‪،‬‬

‫‪106‬‬


‫لألعراف والمعايير االجتماعية التي يعتبرونها مالئمة لوضعهم اإلنساني‪.‬‬

‫يشعر هؤالء األطفال أو هؤالء الراشدون بالرضا عندما يلبسون وفق فئتهم‬

‫يرصعون أحاديثهم‬ ‫العمرية‪ ،‬أو وفق وسطهم االجتماعي‪ ،‬أو حينما‬ ‫ِّ‬ ‫بمرجعيات مالئمة‪ ،‬أو حينما يبرهنون على انتمائهم الثابت إلى الجماعة‪.‬‬

‫يعدها المجتمع مفيدة له‪ ،‬فقد‬ ‫إذا كنت عن طريق عملي أضطلع بوظيفة ّ‬

‫ال أكون في حاجة إلى ّ‬ ‫يتم مدحي‬ ‫تلقي اعتراف بالتم ُّيز (ال أتو َّقع أن ّ‬ ‫باستمرار)‪ :‬أ كتفي تمام ًا باعتراف المطابقة والمشابهة (أقوم بواجبي‪،‬‬

‫أخدم بلدي‪ ،‬أو مشروعي)‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬لكي أنال هذا االعتراف‪ ،‬لن أ كون‬

‫دوم ًا في حاجة إلى ا ْلتمِ اس نظرة اآلخرين‪ :‬لقد استنبطت هذه النظرة في‬

‫شكل معايير وأعراف‪ ،‬وبشكل محتمل من اإلحساس بالتعاظم‪ ،‬وامتثالي‬

‫إلي صورة إيجابية عن نفسي‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬أنا موجود‪.‬‬ ‫الوحيد للقواعد يبعث ّ‬

‫لم أعد أصبو إلى أن أ كون مم َّيز ًا‪ ،‬بل شخص ًا طبيعي ًا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬تبقى‬ ‫النتيجة ذاتها‪ .‬الشخص االمتثالي يبدو‪ ،‬ظاهري ًا‪ ،‬أ كثر تواضع ًا من المزه ّو‬ ‫بنفسه‪ ،‬لكن كل واحد منهما ليس ّ‬ ‫أقل حاجة إلى االعتراف من اآلخر‪.‬‬

‫يفسر في‬ ‫إن الرضا الذي‬ ‫ّ‬ ‫يستمده المرء من االمتثال لمعايير الجماعة ِ ّ‬

‫جزء كبير‪ ،‬تأثير المشاعر الجماعية‪ ،‬الحاجة إلى االنتماء إلى جماعة ما‪،‬‬

‫دولة ما‪ ،‬جماعة دينية ما‪ .‬يجلب ا ِ ّتباع المرء لعادات وسطه‪ّ ،‬‬ ‫بدقة‪ ،‬رضا‬ ‫اإلحساس الناجم من الشعور بالوجود من خالل الجماعة‪.‬‬

‫لدي ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي شيء كفيل بأن يجعلني فخور ًا بحياتي الخاصة‪،‬‬ ‫إذا لم يكن‬

‫فإني سأثابر‪ ،‬بكل ضراوة واستبسال‪ ،‬على البرهنة والدفاع عن السمعة‬ ‫الحسنة ألمّتي أو عائلتي الدينية‪ .‬لن يكون بمقدور ّ‬ ‫أي تق ّلبات تصيب‬

‫‪107‬‬


‫همتي؛ ليس لإلنسان سوى وجود واحد‪ ،‬قد يخفق‬ ‫الجماعة أن تحبط ّ‬

‫وقد يفشل‪ ،‬أما الشعب فله مصير ضارب في القدم بشكل سحيق‪ ،‬تصبح‬ ‫فيه إخفاقات اليوم ِ‬ ‫مبشّ رة بانتصارات الغد‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫يشكالن‬ ‫يدخل هذان الشكالن من االعتراف في حالة من الصراع‪ ،‬أو‬

‫تراتبيات متح ِّركة‪ ،‬في تاريخ المجتمعات‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة لتاريخ‬

‫التميز التنافس‪ ،‬أما االمتثال فيجنح نحو التوافق‪ .‬هل‬ ‫ُسهل‬ ‫األفراد‪ :‬ي ِ ّ‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬ ‫بتعقل ورصانة في قارعة الطريق كي أخضع للقواعد الجماعية‪،‬‬ ‫سأمكث‬

‫وأمنح نفسي االعتراف الداخلي باالمتثال‪ ،‬أم أعبر الشارع وسط‬

‫السيارات الهادرة حتى أثير إعجاب رفاقي (اعتراف بالتم ُّيز‪ ،‬لكن‬ ‫هذا التم ُّيز قد يتحوَّل بدوره إلى االعتراف بالمطابقة والتشابه داخل‬

‫معين‪ ،‬يكون االعتراف‬ ‫جماعة‬ ‫َّ‬ ‫محددة جد ًا‪ ،‬جماعة عصبتنا)؟ في ّ‬ ‫سن ّ‬

‫أو االستحسان الذي نحصل عليه من قبل نظرائنا أثمن من أي شيء‬

‫نستمده من االمتثال للقواعد العامة‬ ‫آخر‪ ،‬وبالتأ كيد أكبر من الرضا الذي‬ ‫ّ‬

‫عدة مخاطر‪ :‬ينتهك المرء‬ ‫للمجتمع‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬تنطوي هذه الوضعية على ّ‬

‫بسهولة «األخالق» إذا كان من الممكن التأ ُّكد من إثارة ضحك أو‬

‫دهشة المشاهدين‪ .‬وليس للجرائم المرتكبة في هذه العصبة في غالب‬

‫األحيان ّ‬ ‫أي مصدر آخر‪.‬‬

‫يتضمن‬ ‫ال يتع َّلق التمييز بأشكال االعتراف‪ ،‬بل بسياق التمييز نفسه‪.‬‬ ‫َّ‬

‫االعتراف في الواقع مرحلتين؛ ما نطلبه‪ ،‬أو ً‬ ‫ال‪ ،‬من اآلخرين هو االعتراف‬

‫الضيق)‪ ،‬وثاني ًا التأ كيد على قيمتنا‪ .‬ال‬ ‫بوجودنا (إنه االعتراف بالمعنى‬ ‫ِّ‬

‫يتحدد موقع هذه‬ ‫ُّ‬ ‫التدخالت الملتمسة في المستوى نفسه؛ إذ ال يمكن‬ ‫َّ‬

‫َّ‬ ‫تحقق من قبل‪ .‬إذا قيل لنا أن ما‬ ‫للثاني أن يحدث إال إذا كان األول قد‬ ‫‪108‬‬


‫جيد‪ ،‬فهذا يعني‪ ،‬قبل كل شيء االعتراف بوجودنا نفسه‪.‬‬ ‫نقوم به أمر ِ ّ‬ ‫يتع َّلق التأ كيد باالعتراف بمحمول قضية ما واالعتراف بموضوعها (أو‬

‫بقضية مضمرة لها شكل ‪ x‬الذي هو عبارة عن قضية وجود خالصة)‪.‬‬

‫ربما كان الروشفوكو من األوائل الذين أقاموا تمييز ًا بين االثنين حين‬

‫«نحب ‪-‬باألحرى‪ -‬أن نتك َّلم بالسوء على أنفسنا بدل أن‬ ‫كتب يقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫حساس ًا إزاء هذه‬ ‫ال نتك َّلم مطلق ًا»‪ .‬أما آدم سميث فقد كان ‪-‬أيض ًا‪ّ -‬‬

‫يحذرنا قائ ً‬ ‫ِّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫الثنائية وإزاء االختالف بين «االهتمام واإلقرار» حيث‬

‫منسي ًا من طرف الناس أو مستهجن ًا من قبلهم‪ ،‬فتلك‬ ‫«أن يكون المرء‬ ‫ّ‬ ‫أشياء مختلفة تمام ًا»(‪.)2‬‬

‫وبالمقابل‪ ،‬إن إعجاب اآلخرين ليس سوى الشكل األكثر وضوح ًا‬

‫العترافهم‪ ،‬ألن هذا الشكل له عالقة بقيمتنا‪ ،‬لكن كراهيتهم أو‬

‫معبرة عن االعتراف‪ ،‬وإن كانت تفتقر‬ ‫عدوانيتهم هي ‪-‬أيض ًا‪ -‬أشكال ِ ّ‬ ‫بحدة على وجودنا‪.‬‬ ‫إلى الوضوح‪ .‬وإنها تشهد‬ ‫ّ‬ ‫إن التمييز بين هاتين الدرجتين من االعتراف أساسي؛ ألنهما في الغالب‬

‫منفصلتين‪ ،‬وتثيران ردود فعل خاصة‪ :‬قد ال نعير أهمية لرأي اآلخرين فينا‪،‬‬

‫لكن‪ ،‬ليس في اإلمكان أن نبقى عديمي اإلحساس إزاء غياب االعتراف‬

‫بوجودنا ذاته‪ .‬وكما الحظ وليام جيمس حين قال‪« :‬ثمة أشخاص ال‬ ‫يهمنا رأيهم كثير ًا‪ ،‬ومع ذلك نسعى إلى إثارة اهتمامهم»‪ .‬يم ِ ّيز أطباء‬ ‫ّ‬

‫النفس المعاصرون بين شكلين من غياب االعتراف باآلخر‪ ،‬والذي يو ِ ّلد‬ ‫تبعات مختلفة تمام ًا‪ :‬الرفض أو غياب التأ كيد باالعتراف‪ ،‬واإلنكار أو‬

‫غياب االعتراف‪ .‬الرفض تعبير عن غياب االتّفاق حول مضمون حكم‬

‫ما‪ ،‬اإلنكار‪ ،‬رفض اعتبار حصول الحكم‪ .‬اإلهانة المفروضة على الذات‬

‫‪109‬‬


‫يمس هذا النفي‬ ‫أمر خطير جد ًا‪ .‬الرفض هو بمثابة نفي نحوي‪ :‬حين‬ ‫ّ‬

‫يتضمن في الواقع التأ كيد الجزئي باالعتراف‬ ‫المحمول الوحيد‪ ،‬فإنه‬ ‫َّ‬

‫بمضمون القضية‪ ،‬المضمون الذي تحمله الذات‪.‬‬

‫أن يكون المرء وحيد ًا‪ ،‬معناه أن ال يكون موجود ًا على اإلطالق‬ ‫لقد َب َّي َن كارل موريتز هذا االختالف عن طريق رصده لآلثار السلبية‬

‫للسخرية والكراهية‪« :‬أن يشعر المرء بأنه موضع سخرية‪ ،‬يوحي‪ ،‬على‬

‫ّ‬ ‫محط سخرية‪ ،‬فذلك‬ ‫نحو ما‪ ،‬بالشعور بالعدم‪ ،‬وحين نجعل من األخر‬

‫يوازي‪ ،‬تقريب ًا‪ ،‬التصويب نحو ذاتك تصويب ًا قات ً‬ ‫ال ال يعادله أي إحساس‬

‫يكن لك الجميع الكراهية باستثناء ذاتك‪،‬‬ ‫بمهانة أخرى‪ .‬في المقابل‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬

‫تؤدي كراهية عامّة كهذه إلى‬ ‫فتلك حالة مرغوب فيها‪ ،‬بل مشتهاة‪ .‬ال ّ‬

‫بالتحدي الذي سيتيح لها أن‬ ‫موت األنا‪ ،‬بالعكس‪ :‬ستمأل الكراهية األنا‬ ‫ّ‬ ‫تعبر عن غضبها إزاء عالم الكراهية‪.‬‬ ‫تعيش‪ ،‬وتخلد قرون ًا عديدة‪ ،‬وأن ِ ّ‬

‫لكن‪ ،‬أن ال يكون للمرء صديق أو عدوّ‪ ،‬فذلك هو الجحيم الحقيقي‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر بعذابات العدم المتنامي في جميع‬ ‫الذي يشعر بداخله الكائن‬ ‫أشكاله» (‪.)3‬‬

‫إن كراهية شخص ما‪ ،‬تعبير عن رفضه‪ ،‬من ث ََّم يمكن لهذه الكراهية أن‬

‫تقوّي إحساسه بالوجود‪ .‬لكن أن تسخر من شخص ما‪ ،‬يعني أن ال تأخذه‬

‫الجد‪ ،‬أن تحكم عليه بالصمت وبالعزلة‪ ،‬أن تجعله يشعر بما‬ ‫على محمل‬ ‫ّ‬

‫مهدد ًا بالعدم‪.‬‬ ‫هو أكثر من هذا‪ :‬أن يرى نفسه َّ‬ ‫‪110‬‬


‫لقد َم َّيز دوستويفسكي بين هاتين التجربتين‪ :‬رفض التأ كيد باالعتراف‬ ‫ِّ‬ ‫يشكل أحد التيمات‬ ‫(اإلقصاء)‪ ،‬ورفض االعتراف (اإلنكار)‪ ،‬الذي‬ ‫ِّ‬ ‫«مذكرات رجل السرداب»‪ .‬يتخوَّف السارد لهذه‬ ‫األساسية لعمله‬

‫الحكاية من اإلنكار إلى َح ّد كبير‪ ،‬في حين يقبل اإلقصاء بكل سرور‪،‬‬

‫ألن هذا األخير يبرهن ‪-‬وإن بطريقة غير مناسبة‪ -‬على وجوده‪ .‬التقى‬

‫هذا السارد بضابط تظاهر بعدم رؤيته‪ ،‬وأخذ يحلم بالتعارك معه‪ ،‬وهو‬

‫يعرف أنه س ُيهزَم بكل سهولة‪ :‬يفعل ذلك‪ ،‬ليس بدافع نزعة مازوشية‪،‬‬

‫بل ألن التعارك مع شخص ما يعني أن هذا األخير اعترف بوجودك‪.‬‬ ‫الضابط‪ ،‬من جهته‪ ،‬ال يريد حق ًا أن يتنازل‪ .‬لذلك‪ ،‬حين يلتقيان في‬

‫تبجح في اعتراض الضابط‪ ،‬لكن هذا األخير‬ ‫الشارع يشرع السارد بكل ُّ‬

‫يرفض المعركة‪« :‬أمسك بي من كتفي‪ ،‬دون أية كلمة تحذير أو تفسير‪،‬‬

‫أخذ يزيحني عن مكاني‪ ،‬ثم يم ّر كما لو أنه لم يالحظ وجودي»‪ .‬المنطق‬ ‫مستعد ًا‬ ‫ذاته يحكم عالقات السارد مع معارفه اآلخرين‪ .‬ويبقى السارد‬ ‫ّ‬

‫لتحمل الوضعيات األكثر مهانة وإذال ً‬ ‫ال شرط أن يالحظ اآلخرون وجوده؛‬ ‫ُّ‬

‫فالحديث المفعم بالشتائم أحسن من غياب االعتراف‪ .‬إذا كانت حالة‬

‫العبودية تضمن نظرة اآلخرين‪ ،‬فإنها تصبح حالة مرغوب ًا فيها‪ .‬فرجل‬

‫السرداب ‪ -‬وإن كان يقول الحقيقة عن كل إنسان ‪ -‬فإنه ال يوجد خارج‬

‫العالقة مع اآلخر‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬أن ال تكون موجود ًا هو أكثر إيالم ًا من‬ ‫أن تكون عبد ًا‪« .‬أن يسارع المرء إلى االندماج في المجتمع»‪ ،‬تصبح‬

‫بالنسبة له «حاجة ال تقاوَم»‪ :‬أن يكون المرء وحيد ًا‪ ،‬معناه أن ال يكون‬

‫موجود ًا على اإلطالق‪.‬‬

‫وفي الحالتين مع ًا يبقى اإلحساس باإلهانة مختلف ًا‪ .‬يمكن التفاوض‬ ‫‪111‬‬


‫لم َج َّرد‬ ‫بشأن اإلقصاء‪ ،‬سواء بتحليل مماثل لتحليل رجل السرداب أو ُ‬

‫يهمني رأي هؤالء اآلخرين الذين أحتقرهم؟ يبقى‪،‬‬ ‫فيم‬ ‫الكبرياء‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫صحيح ًا مع ذلك‪ ،‬أن بعض حاالت اإلقصاء من الصعب أن تُعاش‪ .‬أن‬

‫يتم تجاهل المرء من ِق َبل اآلخرين‪ ،‬بدوره يعطينا االنطباع بانعدامه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويسبب االختناق‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫إن االعتراف‪ ،‬كما رأينا آنف ًا‪ ،‬عالقة غير مماثلة‪ :‬يمنح الفاعل االعتراف‪،‬‬

‫والفاقد لالعتراف يستقبله‪ ،‬تبقى هذه األدوار قابلة للتبادل‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬

‫كما رأينا سابق ًا‪ ،‬تحمل كل األفعال األولية ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬اعتراف ًا‬ ‫لم َج َّرد أن‬ ‫ثانوي ًا أو غير مباشر‪ ،‬اعتراف ًا ال يعزى إلى نظرة األخر‪ ،‬بل ُ‬

‫نجد أنفسنا مأخوذين في عالقة تفاعلية‪ .‬وتؤ ِ ّثر هذه الواقعة على عالقة‬

‫االعتراف ذاتها‪ّ .‬‬ ‫يتلقى الفاعل الذي يمنح االعتراف المباشر عن طريق‬

‫ممارسته لدوره‪ ،‬مزايا اعتراف غير مباشر‪ .‬أن يشعر المرء أنه ضروري‬

‫لآلخرين (لكي يمنحهم االعتراف) يعني أن يشعر هو بنفسه أنه موجود‬ ‫ومعت َرف به‪.‬‬

‫حدة‬ ‫حدة هذا االعتراف غير المباشر تبقى‪ ،‬عموم ًا‪ ،‬أعلى منزلة من ّ‬ ‫ّ‬

‫االعتراف المباشر‪ .‬يحكي أحد الناجين من غيتو فرصوفيا‪ ،‬ويدعى‬

‫تضحي‬ ‫أن أضمن طريقة للبقاء على قيد الحياة هي أن‬ ‫ماريك إيدلمن‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بنفسك من أجل شخص آخر‪« :‬كان من الالزم علينا أن نجد شخص ًا ما‬ ‫نوجه حياتنا نحوه‪ ،‬شخص ًا ما نجهد أنفسنا من أجله «[‪ .]4‬إن األب‬ ‫ِّ‬

‫الذي‬ ‫يضحي بنفسه من أجل ولده يشعر بألم كبير في اليوم الذي يستشعر‬ ‫ّ‬

‫فيه أن ولده لم يعد في حاجة إليه‪ ،‬كما كان طوال المرحلة السابقة التي‬

‫ّ‬ ‫يتلقى شيئ ًا في المقابل‪ .‬عالوة‬ ‫يقدم فيها األب دون أن يشعر أنه‬ ‫كان ِ ّ‬ ‫‪112‬‬


‫على ذلك‪ ،‬يفلت االعتراف غير المباشر من كل رقابة أخالقية‪ ،‬دوم ًا‬

‫متس ِّرعة لمحاكمة من يصبو‪ ،‬جهر ًا‪ ،‬إلى كلمات المديح والتقريظ‪ .‬أن‬

‫يكون المرء قوي ًا‪ ،‬أن يساند‪ ،‬أن يشجع اآلخرين فذلك يعني ‪-‬في الوقت‬

‫يتضمن‬ ‫نفسه‪ -‬العمل على مكافأة نفسه‪ ،‬أن يطلب المرء المساعدة فذلك‬ ‫َّ‬

‫التسليم بانكسار اإلنسان وضعفه‪ :‬يبقى هذا السلوك بالغ الصعوبة حين‬ ‫ال يكون المرء طف ً‬ ‫ال أو شيخ ًا‪ ،‬مريض ًا أو سجين ًا‪.‬‬

‫ال يتو َّقف االختيار بين نماذج االعتراف‪ ،‬فقط‪ ،‬على استعداد الفرد‬ ‫ِّ‬ ‫تفضل بعض المجتمعات في حقب معينة أن تمنح االمتياز‬ ‫وإرادته‪.‬‬

‫نتفحص‪ ،‬في‬ ‫وتقصي نماذج أخرى‪ .‬من الالزم هنا أن‬ ‫ألنموذج مع َّين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫يعد حق ًا التط َّلع إلى االعتراف مسألة كونية‪،‬‬ ‫بادئ األمر‪ ،‬مسألة هامة‪ :‬هل ّ‬

‫يخص إال المجتمع الغربي‪ ،‬المجتمع الوحيد الذي تطرقت إليه‬ ‫أم أنه ال‬ ‫ّ‬ ‫حتى اآلن؟‬

‫حين يذكر روسو «الرغبة الكونية في الشهرة‪ ،‬في الشرف وفي‬

‫األفضلية»‪ ،‬أ ال يكون بصدد تحديد سمات المجتمع الذي يعيش فيه‪،‬‬

‫تتهيأ على سطح البسيطة؟ أ ال يتع َّلق‬ ‫أو تلك المجتمعات التي سبقته‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬

‫األمر‪ ،‬هنا بإحدى النتائج التي كان مناصرو تقاليد أخرى‪ ،‬كالبوذية‪ ،‬على‬

‫سبيل المثال‪ ،‬ينتقدون األوربيين على الدوام بسببها‪ ،‬بمعنى انشغالهم‬

‫المفرط برفاهية ذواتهم؟ وحتى داخل الحضارة الغربية نفسها‪ ،‬أال ينطبق‬

‫هذا الوصف‪ ،‬بشكل كبير‪ ،‬على الحياة المدنية العمومية أ كثر من الحياة‬ ‫المجهولة والوديعة ألناس بسطاء‪ ،‬ألطفال يضحكون‪ ،‬لفتيات يحلمن‪،‬‬

‫لصيادين يتأمّلون‪ ،‬ولفالحين يحرثون األرض؟‬

‫‪113‬‬


‫وأخير ًا‪ ،‬في هذا النص الحاسم بالنسبة للتقليد الغربي الذي يم ِ ّثله‬

‫يعبر‪ ،‬بوضوح‪ ،‬أنه من الواجب علينا أن ال نتص َّرف «أمام‬ ‫اإلنجيل‪ ،‬ألم ِ ّ‬

‫الناس بهدف جلب االهتمام‪ ،‬وبهدف نيل المجد من الناس»‪ ،‬بل‬

‫باالكتفاء بما يعرفه أبونا «الذي ينظر في الس ّر والخفاء» وما سيوزِّ عه من‬ ‫جزاء بكل عدل وإنصاف؟‬

‫ِ‬ ‫المتعدّ دة‬ ‫أشكال االعتراف‬ ‫ما هو كوني ومك ِّون لإلنسانية‪ ،‬هو أننا ندخل‪ ،‬منذ الوالدة‪ ،‬في شبكة‬

‫من عالقات بين ‪-‬إنسانية‪ ،‬ومن ث ََّم في عالم اجتماعي‪ ،‬ما هو كوني‬ ‫هو أننا نصبو جميع ًا إلى اإلحساس بوجودنا‪ .‬بالمقابل‪ ،‬إن الطرق التي‬

‫تخ ِّول لنا بلوغ هذا المبتغى‪ ،‬تتنوَّع تبع ًا للثقافات‪ ،‬للجماعات واألفراد‪.‬‬

‫وطالما أن القدرة على الحديث كونية ومكوّن أساسي لإلنسانية‪ ،‬فإن‬ ‫اللغات متن ِّوعة‪ ،‬والحياة االجتماعية كونية‪ ،‬فأما أشكالها فليست كذلك‪.‬‬

‫أسميه إنجاز ًا‪ ،‬االتّصال دون وساطة‬ ‫قد يكون الشعور بالوجود نتيجة ما‬ ‫ّ‬

‫مع الكون‪ ،‬كما هو شأن التعايش مع اآلخرين‪ ،‬يمكن أن يأخذ هذا األخير‬

‫شكل اعتراف أو تعاون‪ ،‬شكل معرفة أو مشاركة‪ ،‬وأخير ًا‪ ،‬فاالعتراف‬

‫ليس له الداللة نفسها تبع ًا لكونه مباشر ًا أو غير مباشر‪ ،‬اعتراف التم ُّيز‬

‫أو المطابقة‪ ،‬اعتراف داخلي أو خارجي‪ .‬إن الرغبة في الشهرة‪ ،‬في‬

‫اكتساب األمجاد وفي األفضلية‪ ،‬وإن كانت رغبة حاضرة في كل مكان‪،‬‬

‫فإنها ال تحكم حياتنا بكاملها (تبرهن هذه الرغبة على االعتزاز بالنفس‪،‬‬ ‫ال على فكرة االحترام)‪ ،‬هذه الرغبة ‪-‬فقط‪ -‬هي التي أتاحت لروسو أن‬

‫‪114‬‬


‫يفهم أنه ليس ثمة وجود إنساني في غياب النظرة التي يحملها البعض‬ ‫عن البعض اآلخر‪.‬‬

‫َّ‬ ‫المؤكد أن قضية االعتراف االجتماعي ال تتج ّلى بالطريقة نفسها في‬ ‫من‬

‫مجتمع تراتبي (أو تقليدي)‪ ،‬وفي مجتمع قائم على المساواة‪ ،‬كما هو‬

‫الشأن في الديموقراطيات الحديثة (لقد َح َّدد فرنسيس فوكوياما بعض‬ ‫المعالم لتاريخ االعتراف باآلخر من هذا المنظور)‪.‬‬

‫من جهة‪ ،‬في المجتمع األول (أي التراتبي أو التقليدي)‪ ،‬فإن الفرد يصبو‬

‫جد‬ ‫بشكل أ كثر إلى أن يشغل مكانة ُح ِ ّددت له مسبق ًا ( يبقى اختياره ّ‬

‫محدود)‪ ،‬إذا ما وجد نفسه في هذه المكانة‪ ،‬فإنه يستشعر اإلحساس‬

‫باالنتماء إلى الجماعة؛ إذ ًا‪ ،‬هو موجود اجتماعي ًا؛ سيصبح ابن الفالح‬ ‫فالح ًا‪ ،‬وسيكتسب‪ ،‬من َج ّراء ذلك‪ ،‬الشعور بأنه معت َرف به‪ .‬ومن ث ََّم‪،‬‬

‫يمكن الحديث‪ ،‬هنا‪ ،‬عن االعتراف بهيمنة المطابقة‪ .‬هذه المكانة‬

‫المحددة سلف ًا تختفي في المجتمع الديموقراطي حيث يبقى االختيار‪،‬‬ ‫َّ‬

‫بشكل مخالف‪ ،‬غير محدود من الناحية النظرية‪ ،‬حيث لن يعود االمتثال‬

‫للنظام هو العالمة على االعتراف االجتماعي‪ ،‬بل النجاح واالستحقاق‬ ‫هو المعيار األوحد‪ ،‬الشيء الذي يشير إلى وضعية مقلقة للغاية‪ .‬ينجم‬

‫هذا السباق إلى النجاح من االعتراف بالتم ُّيز‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبقى هذا‬

‫التميز غير مجهول في المجتمع التقليدي؛ ي َّتخذ التم ُّيز في هذا السباق‬

‫يرسخ السم ّو‬ ‫شكل التط ُّلع والطموح إلى بلوغ المجد أو الفخر الذي ِ ّ‬

‫الشخصي‪ .‬إنه الطريق الذي يختاره األبطال الذين يطمحون إلى إثارة‬

‫انتباه‬ ‫خاص عن طريق المنجزات الباهرة التي ينجزونها‪ .‬في المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الحديث‪ ،‬يخضع هذا الطموح األخير‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬إلى تحوُّالت؛ يتع َّلق األمر‬ ‫‪115‬‬


‫يعد النجاح‪ ،‬اليوم‪ ،‬قيمة اجتماعية نسارع إلى‬ ‫اآلن بالبحث عن الشهرة‪ّ .‬‬

‫إبرازها‪ ،‬إال أن الشهرة ال تثير الشعور باالحترام الشبيه بحيازة المجد‬

‫نفسه (تنتابنا الغيرة من األشخاص األكثر شهرة‪ ،‬كنجوم التلفزة أ كثر مما‬ ‫نحترمهم)‪.‬‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬يمنح المجتمع القائم على المساواة الكرامة للجميع‬

‫بعدل وإنصاف (إنها مساواة العبيد‪ ،‬كما يقول هيجل)‪ ،‬وهذا ما ال‬

‫يفعله‪ ،‬مطلق ًا‪ ،‬المجتمع التقليدي القائم على مفهوم الفرد‪ .‬إجما ً‬ ‫ال‪،‬‬

‫يسهل المجتمع التقليدي االعتراف االجتماعي في حين أن المجتمع‬ ‫الحديث يمنح لكل مواطنيه اعتراف ًا سياسي ًا وقانوني ًا ( للجميع الحقوق‬

‫نفسها‪ ،‬وهو ما يتعارض مع نظام االمتيازات الذي يحكم المجتمعات‬

‫التراتبية)‪ ،‬ويضفي قيمة ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬على الحياة الخاصة‪،‬‬

‫العاطفية والعائلية‪ .‬تبقى الحاجة إلى االعتراف‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬حاجة قوية إلى‬

‫الح ّد‪ .‬نسمع‪ ،‬غالب ًا في الوقت الحاضر‪ ،‬العديد من رجال السياسة‬ ‫هذا َ‬

‫وهم يرددون أن المثل األعلى لمجتمع ما هو المجتمع الذي يشتغل فيه‬ ‫المرء ّ‬ ‫أقل فترة ليبقى له الكثير من الوقت‪ ،‬ويتم َّتع بأوقات فراغ أ كبر‪.‬‬

‫لكن فكرة كهذه تفترض تصوّر ًا مُ ت ِع ّي ًا لإلنسان (نصير مذهب المتعة)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للملذات‪ ،‬والذي هو أبعد ما يكون عن الحقيقة‪.‬‬ ‫باعتباره حيوان ًا مستهلك ًا‬ ‫َّ‬ ‫المؤكد‪ ،‬على اإلطالق‪ ،‬أن أوقات الفراغ والبطالة مالئمة لتف ُّتح‬ ‫ليس من‬

‫الشخص‪ .‬ليس ثمة من قيمة للحياة الرغيدة حين ينتفي الوجود‪ .‬تصبو‬

‫الكائنات البشرية‪ ،‬بال حدود‪ ،‬إلى نيل االعترافات الرمزية أ كثر من سعيها‬ ‫إلى إشباع الحواس‪ ،‬وهي على استعداد للتضحية بحياتها‪ ،‬كما الحظ‬

‫من قبل آدم سميث‪ ،‬من أجل شيء تافه تفاهة علم وطني‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫أما في العمل‪ ،‬فإن الفرد ال ينال ‪-‬فقط‪ -‬أجر ًا يسمح له باالستمرار في‬

‫البقاء‪ ،‬بل ينال أيض ًا الشعور بالفائدة والمنفعة‪ ،‬الجدارة واالستحقاق‬

‫التي تعقبها متع المشاركة واالنصهار االجتماعي‪ ،‬يسعى الفرد إلى‬

‫اإلحساس بأنه موجود‪ ،‬ويصبو إلى أشياء أ كبر منزلة من الشعور‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫المؤكد أن يجد الفرد كل هذه األشياء في وقت‬ ‫بأنه يحيا‪ .‬ليس من‬

‫الفراغ‪ :‬ال أحد في حاجة إلى فراغ كهذا‪ ،‬فالعالقات اإلنسانية التي‬

‫تنسج فيه تبقى خالية من كل ضرورة‪ .‬يمكن الترحيب بالراحة الجسدية‪،‬‬

‫لكن غياب االعتراف يو ِّلد القلق‪ .‬إضفاء قيمة على العمل ذاته‪ ،‬وما‬

‫يو ِ ّلده من متعة هو ‪-‬دون شك‪ -‬أ كثر فائدة من مضاعفة أوقات الفراغ‪.‬‬

‫أهم خصائصه األوّلية‪:‬‬ ‫مهما َّ‬ ‫تعددت أشكال االعتراف‪ ،‬فال ينبغي نسيان ّ‬

‫إن طلب االعتراف طبيعة‬ ‫متأصلة في الكائن البشري‪ ،‬وإشباعه ال يمكن‬ ‫ِّ‬ ‫أن يكون أبد ًا تا ّم ًا ونهائي ًا‪.‬‬

‫بتوافر اإلرادة السامية لإلنسان في كل أشكالها‪ ،‬لن يكون بإمكان‬

‫األبوين أن يسهرا على رعاية رضيعهما في كل الليالي؛ ألن ثمة آخرين‪،‬‬

‫إلى جانب هذا الرضيع‪ ،‬يلتمسون هذه الرعاية‪ ،‬ثم إن اآلباء أنفسهم في‬

‫حاجة إلى أشكال أخرى من االعتراف‪ ،‬وليس‪ ،‬فقط‪ ،‬االعتراف الذي‬ ‫يمنحهم إياه رضيعهم بشكل غير مباشر‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬سرعان ما‬

‫يوسع هذا الرضيع من دائرة جشعه‪ ،‬فيصبح اآلخرون ال اآلباء فقط‪ ،‬م َْن‬ ‫ِّ‬ ‫يتوجب عليهم أن يمنحوه االهتمام والرعاية‪ ،‬بل أيض ًا الزوّار واألقارب‪،‬‬ ‫َّ‬

‫ألنه يشرع في توجيه النداء إلى الجميع‪ .‬لماذا سيكون ثمة أشخاص‬

‫يض ّنون بنظراتهم على هذا الرضيع؟ إن الشهية والتوق إلى االعتراف‬

‫محبطان‪ .‬كما الحظ ذلك سيجموند فرويد بكل طرافة‪« :‬بمقدور المرء‬

‫‪117‬‬


‫كم ًا غير محدود من عبارات الثناء والتقريظ»(‪ .)5‬حتى‬ ‫أن يتق َّبل ّ‬ ‫اعتراف المطابقة األكثر وداعة من االعتراف الذي يجلبه لنا التم ُّيز‪،‬‬

‫يقتضي م ّنا أن نبدأ‪ ،‬يومي ًا‪ ،‬المالحقة والسعي الحثيث‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬ليس‬ ‫الشعور بالنقص أو عدم االكتمال أمر ًا أساسي ًا فحسب‪ ،‬بل هو‪ ،‬أيض ًا‪،‬‬ ‫وباء ال يشفى‪ ،‬وإال سنكون قد ُ‬ ‫«شفينا» أيض ًا من إنسانيتنا‪.‬‬

‫تزيفتان تودوروف‬ ‫‪9/11/2010‬‬

‫هوامش‬ ‫‪ - 1‬وليام جيمس‪« :‬مبادئ علم النفس» هولت‪.1904 ،‬‬

‫‪ - 2‬آدم سميث‪« :‬نظرية المشاعر األخالقية»‪ ،‬منشورات اليوم‪.1982 ،‬‬ ‫‪ - 3‬بول واتزليك‪ « :‬منطق التواصل» ساي‪.1972 ،‬‬

‫‪ - 4‬ماريك إيدلمن‪ « :‬ذاكرة غيتو فرصوفيا» منشورات سكريب‪.1983 ،‬‬

‫‪ - 5‬ويليام جونز‪« :‬سيجموند فرويد‪ ،‬المجلد الثالث» مطابع هوغارت‪.1957 ،‬‬

‫‪118‬‬


‫ ‬

‫الحضارة‪،‬الديموقراطية‪ ،‬التعايش‬

‫حوارات‬


‫«ديموقراطية تفرز بنفسها أعداءها»‬ ‫في كتابه الموسوم بـ«أعداء الديموقراطية الحميمون»‪،‬يفحص الفيلسوف‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ ،‬بعين ثاقبة‪ ،‬اللحظة التي أصبحت فيها التأثيرات‬ ‫يفسر تودوروف في‬ ‫المنحرفة للديموقراطية ِ ّ‬ ‫تهدد وجودها في َح ّد ذاته‪ّ ِ .‬‬

‫هذا الحوار‪ ،‬الذي أجراه معه دانييل سالفاتور شيفر‪ ،‬األخطار المحدقة‬ ‫مهددة من الخارج‪ ،‬كما كان‬ ‫بالديموقراطية‪ .‬لم تعد الديموقراطية اليوم‬ ‫َّ‬ ‫األمر مع النزعات الكليانية اإليديولوجية كالفاشية‪ ،‬الشيوعية أو اإلرهاب‪.‬‬

‫مهددة من الداخل‪ :‬من طرف قوى تفرزها‬ ‫بل إن الديموقراطية باتت‬ ‫َّ‬ ‫تهدد وجودها‬ ‫الديموقراطية ‪ -‬دون علم بذلك ‪ -‬من الداخل إلى درجة ِ ّ‬

‫الخاص بشكل مفارق‪ .‬تلك هي األطروحة التي يط ِّور المؤ ِّرخ تودوروف‬ ‫إشكاالتها في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون» (منشورات روبير‬

‫الفون‪ ،‬باريس ‪.)2012‬‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬عديدة هي األعمال التي تندِّ د‬ ‫بأعداء الديموقراطية الخارجيين والمعلنين صراحة‬

‫كالفاشية والشيوعية واإلرهاب وتنتقدهم‪ ..‬من جهتك‪،‬‬

‫قمت في كتابك األخير‪ ،‬وبكيفية بارعة للغاية‪ ،‬بل وبطريقة‬ ‫مركَّ بة جداً‪ ،‬بتحليل ما وصفتموه بـ«األعداء الحميمين»‬ ‫لديموقراطية كهذه‪ ،‬أو الذين كانوا إفراز ًا لها‪ .‬هل لك أن‬

‫تشرح لنا هذه الفروق الدقيقة؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬في البدء‪ ،‬بالنسبة إلنسان مثلي ُو ِلد في القرن العشرين‬ ‫‪120‬‬


‫قبل اندالع الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وفي بلد كبلغاريا التي كانت ترزح‬ ‫تحت نير االستبداد السوفياتي‪ ،‬كان أعداء الديموقراطية‪ ،‬قبل كل شيء‪،‬‬

‫أعداء خارجيين؛ أولئك الذين كانوا يرفضون مبدأ الديموقراطية نفسه‪،‬‬

‫يدعون أنه األكثر سمو ًا‪ .‬في دول أوروبا‬ ‫ويزعمون استبدالها بشيء آخر‪ّ ،‬‬ ‫الغربية‪ ،‬كان األمر يتع َّلق ‪-‬في فترة ما بين الحربين‪ -‬بالفاشية‪ .‬كان عدد‬

‫هام من العقول الالمعة المناصرة للفاشية يعتقد من جهة أخرى‪ ،‬في‬ ‫تلك المرحلة بالذات‪ ،‬أن الديموقراطية أصابها اإلعياء والوهن‪ ،‬وأن‬ ‫هذا النظام لم يعد قادر ًا على االستجابة للتطلعات الشعبية‪ ،‬ومن ث ََّم من‬

‫الواجب أن يحلّ محله نظام آخر‪ .‬هذا النوع من الرؤية إلى األشياء أدى‬ ‫‪-‬بشكل كبير‪ -‬إلى تنامي النزعات الديكتاتورية الفاشية في العديد من‬

‫الدول (إيطاليا‪ ،‬كرواتيا‪ ،‬إسبانيا‪ ،‬والبرتغال‪ .)...‬إال أنه حتى في الدول‬ ‫التي لم يكن سائد ًا فيها‪ ،‬على المستوى السياسي‪ -‬اإليديولوجي هذا‬

‫النوع من النزعات الكليانية كفرنسا أو بلجيكا‪ ،‬كان ثمة ‪-‬مع ذلك‪-‬‬ ‫مهمة من اليمين المتط ِّرف‪ ،‬كما كان هناك رأي عام عريض‬ ‫أحزاب‬ ‫ّ‬

‫يحلم‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬بالعيش في ظل فرنسا بيتان‪ ،‬أو في بلجيكا‬

‫ديغريل‪ .‬وبعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ظهرت ديكتاتورية أخرى مختلفة‬ ‫تمثَّلت في التهديد الوافد آنذاك من دول أوروبا الشرقية‪ ،‬من أنظمة‬ ‫تجسدها الكتلة السوفياتية‪.‬‬ ‫شيوعية كليانية‬ ‫ِّ‬

‫ِدت‬ ‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬هل كانت بلغاريا‪ ،‬التي وُ ل َ‬ ‫وترعرعت فيها‪ ،‬قبل أن تغادرها إلى الغرب‪ ،‬واحدة من‬ ‫َ‬

‫هذه الدول التي كانت ترزح تحت وطأة الديكتاتورية‬ ‫الستالينية؟‬

‫‪121‬‬


‫تزيفتان تودوروف‪ :‬بكل تأ كيد‪ .‬لقد كانوا يصفون لنا‪ ،‬في بلغاريا آنذاك‪،‬‬ ‫الغرب والواليات المتحدة األميركية على الخصوص بالقوة اإلمبريالية‬ ‫والمتأهب دوم ًا لالنقضاض علينا في كل لحظة‪ ،‬ومن‬ ‫والعدو المعتدي‬ ‫ِّ‬

‫ث ََّم من الواجب االحتراس واالستعداد للحرب بكل قوانا‪ .‬أنا بنفسي‬ ‫تربَّيت في أجواء هذه الحالة الشعورية‪ .‬غير أني كنت سعيد ًا وأنا أعاين‬

‫اختفاء التهديد الكلياني وزواله ّ‬ ‫حق ًا منذ ما يزيد على عشرين سنة على‬

‫إثر سقوط جدار برلين سنة ‪ .1989‬كما كنت سعيد ًا بالضربة القاضية‬ ‫التي ُو ِ ّجهت إلى األنظمة الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬فوضعت‬ ‫حد ًا لها‪ .‬ومنذ انهيار اإلمبراطورية السوفياتية‪ُ ،‬و ِلد أمل جديد تقاسمه‬ ‫ّ‬

‫العديد من حولنا‪ ،‬ألننا كنا نرى في هذا االنهيار السوفياتي نوع ًا من‬ ‫االنتصار الناعم للديموقراطية في النطاق الذي لم يعد‪ ،‬لهذه األخيرة‪،‬‬ ‫من ث ََّم‪ ،‬أعداء خارجيون ومع َلنون بشكل سافر‪.‬‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬خالف ًا لهذا األمر‪ ،‬لقد تَمَّ استبدال‬ ‫هذين النمطين من الديكتاتورية بنمط ثالث من‬ ‫والزمته الطبيعية (اإلرهاب)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الديكتاتورية‪ :‬التطرُّ ف الديني‬ ‫رغم خطورة هذا النمط الثالث من الديكتاتورية‪ ،‬فأنت‬ ‫ترى أنه ال يمكن أن يقارَ ن مع النمطين السابقين (كليانية‬ ‫االتحاد السوفياتي واألنظمة الفاشية)‪ .‬كيف تفسِّ ر ذلك؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬نعم‪ ،‬ليس ثمة مجال للمقارنة‪ .‬من البديهي أن ندين‬ ‫ونشجب هذا النظام الديني المتط ِّرف أو ذاك‪ ،‬لكن أ ّي ًا من هذه األنظمة‬

‫ال يمكن مقارنته إطالق ًا بالخطر الذي كانت تمثّله بعض األنظمة في ظل‬ ‫النزعة الستالينية والجيش األحمر‪ .‬هذه األنظمة الكليانية ال نظير لها!‬

‫‪122‬‬


‫ومع ذلك‪ ،‬بإمكاننا القول‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬إن (اإلرهابيين اإلسالميين) ورغم‬

‫إدانتهم‪ ،‬يشبهون اليوم تلك الجماعات المس َّلحة الصغيرة التي ظهرت فيما‬ ‫مضى في ألمانيا‪ ،‬مثل «جماعة الجيش األحمر» أو «األلوية الحمراء»‬

‫في إيطاليا‪ .‬يتع َّلق األمر‪ ،‬بأعمال إرهابية ممنهجة يمكن‪ ،‬بطبيعة الحال‪،‬‬ ‫أن تقتل‪ ،‬وت ِ‬ ‫ُحدث الكثير من الخسائر واألضرار‪ ،‬غير أنها تبقى عاجزة‬

‫عن تهديد أسس الدولة نفسها‪ ،‬وعلى الشاكلة نفسها‪ ،‬فأنظمة الحكم‬ ‫الثيوقراطي التي توجد اليوم خارج أوروبا‪ ،‬كما في إيران والسعودية‪،‬‬ ‫أو الديكتاتوريات السياسية ‪ -‬العسكرية‪ ،‬كتلك التي في الصين وكوريا‬ ‫الشمالية‪ ،‬ال يمكن أن تمثل في نظر الديموقراطيات الغربية أنظمة منافسة‬

‫حد العداء والتهديد‪.‬‬ ‫ّ‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬لماذا؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ألنها ال تم ِ ّثل خيار ًا أو بدي ً‬ ‫ال صادق ًا وجد ّي ًا في نظر‬

‫ّ‬ ‫نتوقعهما‪،‬‬ ‫الشعوب األوروبية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فالهدوء واالستقرار اللذين ك ّنا‬

‫َّ‬ ‫يتحقق ك ّل ّي ًا‪.‬‬ ‫بعد انهيار جدار برلين ونهاية ما ُس ّمي «الحرب الباردة» لم‬ ‫وذلك ألنه بات واضح ًا للعيان أن الديموقراطية أفرزت أعداءها السيئين‬

‫الذين نشأوا من رحمها نفسه بسبب تآ كلها الداخلي‪ .‬إنهم يم ِ ّثلون‪ ،‬على‬

‫نحو ما‪ ،‬أبناءها غير الشرعيين الذين ي َ‬ ‫وح ‪ٙ‬يدان مرتبط‬ ‫ُنظر إليهم كانحراف ‪ٙ‬‬

‫بالمبادئ الديموقراطية نفسها‪.‬‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬إذاً‪ ،‬فالديموقراطيةَ ولّدت بنفسها‪ ،‬وبشكل‬ ‫مفارق‪ ،‬آثارها المنحرفة التي باتت تهدِّ دها من الداخل‪ ،‬ال من الخارج‬ ‫كما كان عليه األمر سابقاً‪ :‬المثال الديموقراطي المنحرف وكأنه خان‬ ‫نفسه بنفسه دون علم منه‪ ،‬أو ‪-‬إذا جاز القول‪ -‬عن حسن نية‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫مهددة بفعل التأثيرات المنحرفة‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬فعال‪ ،‬فالديموقراطية َّ‬ ‫الم ِل ّحة! في كتابي األخير «أعداء الديموقراطية‬ ‫للمتط َّلبات الديموقراطية ُ‬

‫الحميمون»‪ ،‬تو َّقفت عند ثالثة نماذج كبرى قمت بتحليلها في هذا‬

‫مفصل‪.‬‬ ‫الكتاب بشكل‬ ‫َّ‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬ما هو‪ ،‬تحديداً‪ ،‬النموذج األول؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬النموذج األول هو ما أسميته في هذا الكتاب‬

‫بـ«االقتضاء الديموقراطي» المالزم للمشروع الديموقراطي نفسه‪ .‬ألن‬

‫مبدئي ًا‪ ،‬عن وضعية موجودة سابق ًا‪.‬‬ ‫الديموقراطية ليست حالة نتجت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كما أنها ال تنصاع لفلسفة محافظة أو فكر حتمي‪ ،‬أو لمحاولة الحفاظ‬ ‫على ما هو موجود سلف ًا أو الحترام غير مشروط للتقاليد‪ .‬كما ال تستند‬

‫ومقدس كنوع من القانون‬ ‫الديموقراطية في مرجعيتها إلى كتاب قديم‬ ‫َّ‬

‫الذي يجب ‪-‬دوم ًا‪ -‬تطبيقه بطريقة متكاملة‪ .‬وبالتأ كيد‪ ،‬فإن هذا العامل‬

‫من االقتضاء خليق بالثناء في ذاته‪ ،‬غير أن ما حدث في مراحل مع َّينة من‬

‫الديموقراطية‪ ،‬هو أنها كانت تنشط بدافع قناعة راسخة‪ :‬قناعة تحملها‬ ‫على االعتقاد أنها حاملة للخير األسمى‪ ،‬ومن ث ََّم ترى أنه من المشروع‬

‫أن تفرض هذا الخير على اآلخرين بالقوة‪ ،‬بما في ذلك اللجوء إلى‬ ‫القوة العسكرية‪ .‬وهذا ما حدث ‪-‬لألسف‪ -‬خالل الشهور األخيرة في‬ ‫التقدم‪،‬‬ ‫ليبيا‪ ،‬وقبل ذلك في مسار الديموقراطية‪ ،‬إذ يصبح التط ُّلع إلى‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫أهم مبادئ الديموقراطية‪ ،‬مصدر دمار وتخريب للدول‬ ‫يشكل‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬

‫التي ال تتقاسم معنا هذه المبادئ‪ .‬وبتعبير آخر‪ ،‬ي َّتخذ الش ّر ‪-‬في هذه‬

‫الحالة‪ -‬صبغة الخير‪ ،‬وليس ثمة‪ ،‬في الواقع‪ ،‬مفارقة أ كبر من هذا! ولقد‬ ‫استلهمت من هذا األمر عنوان أحد كتبي السابقة «ذاكرة الش ّر‪ ،‬إغواء‬

‫‪124‬‬


‫الخير» الصادر سنة ‪.2000‬‬ ‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬لكي نتابع ‪-‬بشكل منطقي‪-‬‬ ‫محاكمتك للديموقراطية‪ ،‬ما الخطر الذي أفرزته ‪-‬في‬ ‫الغالب‪ -‬الديموقراطية من نفسها‪ ،‬ومن غير علم منها؟‬

‫أهم‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ينشأ الخطر وبشكل مناقض أيض ًا‪ ،‬من أحد‬ ‫ّ‬ ‫مظاهر الديموقراطية ومكتسباتها الهامّة‪ .‬وخصوص ًا الديموقراطية الليبرالية‬

‫التي تدافع عن الح ّريّة الفردية‪ ،‬ذلك أن الديموقراطية ال تنافح‪ ،‬فحسب‪،‬‬

‫عن سيادة الشعب‪ ،‬وإنما تنبري‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬لحماية ح ّريّة الفرد‪ ،‬حتى من‬

‫عما ك ّنا‬ ‫شطط ُّ‬ ‫تدخل الشعب نفسه‪ .‬وبهذا تختلف الديموقراطية الليبرالية ّ‬ ‫نسميه‪ ،‬في الماضي‪ ،‬تحت األنظمة الستالينية «الديموقراطيات الشعبية»‬ ‫ّ‬

‫التي كانت تحرم الفرد من االستقاللية‪ .‬لكن المشكل في ديموقراطيتنا‬

‫الليبرالية يكمن في أن االقتصاد الذي هو ثمرة المشاريع الح ّرة لدى‬ ‫األفراد‪ ،‬قد أزاح السياسة‪ ،‬وأصبح خاضع ًا لهاجس الربح‪ ،‬وهو ما ِ ّ‬ ‫يشكل‬ ‫أحد النتائج المنحرفة للمبادرة الفردية التي تنفلت من كل مراقبة وضبط‪،‬‬ ‫حتمي إلى هيمنة األكثر غنى على األكثر فقر ًا‪.‬‬ ‫أدى بشكل‬ ‫الشيء الذي ّ‬ ‫ّ‬

‫وخالصة القول‪ ،‬لقد أصبح هذا النوع من الديموقراطية‪ ،‬كنتيجة لهذا‬ ‫الوضع‪ ،‬شك ً‬ ‫ال آخر من السلطة الديكتاتورية‪ :‬استبداد الرأسمالية أض َّر‬

‫بحماية الشعب عن طريق الدولة‪ .‬إن هذا اإلغراء الجاذب للربح الفردي‬

‫يهدد رفاهية نسيج الجسد االجتماعي‪.‬‬ ‫هو ما ِ ّ‬

‫‪125‬‬


‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬في نهاية المطاف‪ ،‬ما هو الخطر‬ ‫الداخلي الثالث الذي يهدِّ د الديموقراطية؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يكمن الخطر الثالث في الشعبوية‪ ،‬وهي بمثابة‬

‫الوجه الباطل والمنحرف للديموقراطية‪ ،‬بما أن المقصود هنا هو العمل‬ ‫على استشارة الشعب والذي من دونه‪ ،‬تحديد ًا‪ ،‬لن يكون ثمة مجال‬ ‫للحديث عن الديموقراطية‪ .‬لكن الجانب السلبي األكبر في الشعبوية‬ ‫يتمثَّل في البحث عن انخراط الجماهير الشعبية انخراط ًا مباشر ًا وك ّل ّي ًا‪،‬‬

‫فج ومفرط للغاية‪ ،‬ألن الهدف هو‬ ‫فيسهل الهيمنة عليها إعالمي ًا بشكل ّ‬

‫دفع هذه الجماهير الشعبية إلى اتّخاذ القرار بنفسها تحت تأثير العاطفة‬

‫وأهوائها‪ ،‬وبعيد ًا عن كل تفكير عقالني‪ .‬إن خطر االفتقار إلى التمييز‬ ‫ّ‬ ‫يشكل‬ ‫العقالني الضروري في اتّخاذ القرارات الهامّة للمجتمع‪ ،‬هو ما‬

‫الخطر الحقيقي على آليات الديموقراطية الجيدة والجديرة بهذا االسم‪،‬‬ ‫الديموقراطية القائمة على الفصل الصائب والمالئم بين السلطات‬ ‫(التشريعية‪ ،‬التنفيذية‪ ،‬والقضائية)‪.‬‬

‫دانييل سالفاتور شيفر‪ :‬كل ما عَ بَّرت عنه للتوّ نجده‬ ‫ملخص ًا في الصفحات األولى للكتاب‪ ،‬وفي الفصل الذي‬ ‫َّ‬ ‫عَ نْوَ نْته بـ«انحراف في الديموقراطية»‪ ،‬كتبت حرفياً‪« :‬إن‬ ‫الديموقراطية أفرزت بنفسها من الداخل القوى التي صارت‬ ‫تهدِّ دها‪ ،‬ومن مستجدّ ات عصرنا أن هذه القوى تتفوّ ق على‬ ‫تلك القوى التي تهاجمها من الخارج‪ .‬العمل على محاربة‬ ‫هذه القوى الداخلية وإبطال مفعولها يبقى أمر ًا في غاية‬ ‫الصعوبة ألن هذه القوى تتذرَّ ع بدورها‪ ،‬وتطالب بالروح‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬ومن ثَمَّ تمتلك مظاهر الشرعية»‪.‬‬ ‫‪126‬‬


‫المتميزة‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬هنا تكمن‪ ،‬في الواقع‪ ،‬الخالصة التركيبية‬ ‫ِّ‬ ‫للموضوع المحوري لكتابي‪.‬‬

‫‪04/04/2012‬‬

‫‪127‬‬


‫َّ‬ ‫تتنكر لإلنسانية؟»‬ ‫«من سيدافع عن حضارة‬ ‫بالنسبة للفيلسوف والمؤرخ تزيفتان تودوروف‪ ،‬فإن خطاب وزير الداخلية‬

‫الفرنسي األسبق كلود غييو يصدر عن سياسة شعبوية مانوية (قائمة على‬

‫عقيدة الصراع بين النور والظالم‪ ،‬الخير والشر‪ ،‬الحضارة والبربرية) إنه‬

‫ِ‬ ‫يكتف وزير الداخلية الفرنسي‬ ‫خطاب يثير تعليقات ال نهاية لها‪ ...‬لم‬

‫التمسك بخطابه المثير للجدل والقائل إنه «ال‬ ‫كلود غييو باإلصرار على‬ ‫ُّ‬

‫يمكن التعامل مع كل الحضارات على قدم المساواة»‪ .‬بل انبرى أيض ًا‬

‫للعب دور المج َّندين المدافعين عن أصوات الجبهة الوطنية لجون ماري‬

‫لوبن‪.‬‬

‫س‪ ،‬في كتابه الموسوم بـ «الخوف من‬ ‫يتو َّقف تودوروف الذي ك َّر َ‬

‫ال كام ً‬ ‫البرابرة‪ :‬ما وراء صدام الحضارات»‪ ،‬فص ً‬ ‫ال عن مفهوم الحضارة‪،‬‬

‫مدة في المجال السياسي‪ ،‬كما هو الشأن في‬ ‫عند اللغط المستعر منذ ّ‬ ‫المجال اإلعالمي‪.‬‬

‫مجلة لوبوان‪ :‬هل لتراتبية الحضارات معنى؟‬ ‫ُّ‬ ‫التوقف عند خطاب السيد غييو‪ ،‬هذا‬ ‫أود في البدء‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ّ :‬‬ ‫َّ‬ ‫المؤكد بشكل رسمي‪ ،‬وما ت ََّم تقديمه إلينا أذهلني تبسيطه إلى‬ ‫التصريح‬

‫الح ّد؟ إنه ألمر‬ ‫يبسط األمر إلى هذا َ‬ ‫أقصى َح ّد‪ .‬كيف يمكن للمرء أن ِ ّ‬ ‫ُفسد اإليديولوجية النسبية تفكير المرء‪ّ ِ .‬‬ ‫يؤكد‬ ‫مؤ ِ ّثر أن نرى إلى أي َح ّد ت ِ‬

‫‪128‬‬


‫كلود غييو أن كل الحضارات غير متساوية‪ .‬أجيب‪ :‬حسن ًا‪ ،‬لكن من‬ ‫َّ‬ ‫تتنكر لإلنسانية؟‬ ‫سيدافع عن حضارة‬ ‫هذا أمر مثير للسخرية‪ .‬هذا التصريح متخ َّلف‪ ،‬ويثير الكثير‬

‫من اللبس‪ ،‬كما ينطوي على الكثير من الخلط‪ .‬يصعب على المرء أيض ًا‬

‫أن يتب َّين ‪-‬بالضبط‪ -‬ما المقصود بهذا التصريح وما األهداف الكامنة‬ ‫وراءه‪.‬‬

‫لوبوان‪ :‬بالضبط‪ ،‬ما الغاية الكامنة وراء طرح هذه الفكرة‬ ‫غير الواضحة نسبياً؟‬ ‫* تزيفتان تودوروف‪ :‬إن كلمة «الحضارة» المستعملة في‬

‫صيغة المفرد تتعارض مع «البربرية»‪ ،‬وتنطوي على مطلب أخالقي‪،‬‬

‫ُّ‬ ‫التحفظ والحذر‪ ،‬فهذه‬ ‫حركة معينة‪ ،‬مجموعة من الصفات‪ .‬لكن ينبغي‬

‫خاصة‪ ،‬بل هي صفات مشتركة‬ ‫الصفات ليست حكر ًا على جماعة‬ ‫ّ‬ ‫لإلنسانية جمعاء‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يكمن جوهر الحضارة في االعتراف‬

‫وبالتعدد الثقافي لآلخرين‪ .‬فالحضارة قائمة ‪-‬إجما ً‬ ‫ال‪-‬‬ ‫باإلنسانية الكاملة‬ ‫ُّ‬

‫يلح على ذلك وزيرنا‪.‬‬ ‫على االنفتاح ال على االنكفاء والتقوقع‪ ،‬كما ّ‬

‫لوبوان‪ :‬لكن‪ ،‬هل يفهم الوزير كلود غييو الحضارة بهذا‬ ‫المعنى الذي تتحدَّ ث عنه؟‬

‫يتم‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬مطلقا ال‪ ،‬أتط َّرق للمفهوم الثاني‪ ،‬عندما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحل مح ّله مفهوم‬ ‫استخدام هذا المفهوم في صيغة الجمع يمكن أن‬

‫ُفهم معنى الحضارة في‬ ‫فكرة «الثقافة»‪ .‬على األقلّ‪ ،‬على هذه الشاكلة ي َ‬

‫‪129‬‬


‫األنثروبولوجيا (علم اإلنسان) واإليثنولوجيا (علم األعراق البشرية)‪ .‬في‬

‫تلك الحقبة من عصر األنوار‪ ،‬تب َّين أن لكل ساكنة في العالم ثقافة خاصة‬

‫بها‪ .‬كانت هذه الثقافة ‪-‬على وجه التحديد‪ -‬هي التي تسمح لجماعة‬ ‫ما بالعمل بصورة جيدة‪ .‬اللغة‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬التي تسمح ألعضاء‬

‫المجموعة نفسها بالتواصل‪ .‬فالجميع يتك َّلم لغة ما‪ ،‬البعض يتك َّلم لغات‬ ‫متعددة‪ .‬ولكن‪ ،‬هل هناك لغة أفضل من غيرها؟ السؤال ال معنى له‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫لوبوان‪ :‬لكن بعض اللغات لها تأثير أ كثر من غيرها‪!...‬‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬بالتأ كيد‪ ،‬ولكن حين يتع َّلق األمر باللغات والعادات‬

‫والسلوكيات أو الرموز الثقافية‪ ،‬فكل هذه العناصر ليست حكم قيمة‪.‬‬

‫هذا ال يعني أن بعض الخصائص الثقافية تبقى بمنأى عن الصراع مع‬

‫يخص شعب‬ ‫الحضارة‪ .‬هناك مثال بسيط جد ًا يخاطب الجميع‪ ،‬مثال‬ ‫ّ‬

‫األزتيك‪ .‬حين يتبين للمرء أن شعب األزتيك غارق في التضحية البشرية‪،‬‬

‫يتم نعته بـ«البرابرة المتخ ِ ّلفين»‪ .‬لكن هذه التضحية ت َُع ّد في ثقافتهم‬ ‫ّ‬ ‫متعددة الجوانب‪ ،‬وال يُنظر إليها إطالق ًا على أنها‬ ‫مشاركة في طقوس‬ ‫ّ‬

‫إهانة للكرامة البشرية‪ .‬بل على العكس تمام ًا‪.‬‬

‫لوبوان‪ :‬ولكن‪ ،‬هل هناك ‪-‬أيضاً‪ -‬سمات مشتركة لجميع‬ ‫الحضارات؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬هذا أمر َّ‬ ‫مؤكد‪ ،‬فالتقنية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ت َُع ّد جزء ًا‬

‫من حياة المجتمع‪ ،‬وهي‪ ،‬على عكس الثقافات‪ ،‬لها حمولة كونية‪ .‬األمر‬

‫بسيط جد ًا‪ :‬ال يتط َّلب سوى القيام بنزهة في الهند‪ ،‬الصين‪ ،‬أميركا‪،‬‬ ‫‪130‬‬


‫إفريقيا وأوروبا‪ .‬فالجميع يستخدمون الهواتف المحمولة نفسها‪ ،‬أجهزة‬

‫الكومبيوتر‪ ،‬السيارات‪ ،‬الطائرات نفسها‪ ...‬تشتهر بعض الثقافات‬

‫األهم ّية الكبيرة‪.‬‬ ‫باالختراعات التقنية أو باالكتشافات العلمية ذات‬ ‫ّ‬ ‫تفتقر ثقافات أخرى لهذا‪ ،‬هذا أمر َّ‬ ‫مؤكد‪ ،‬لكن هذا لن يمنعها من تب ّني‬ ‫ابتكارات اآلخرين‪ .‬أحيان ًا‪ ،‬تأتي هذه التطورات في وقت الحق‪ .‬في‬

‫أوروبا‪ ،‬لقد ت ََّم انتظار القرن السابع عشر حتى يتح َّرر ال ِع ْلم من الدين‪.‬‬ ‫فما الذي يقصده كلود غييو بالضبط؟ أن األخيار أحسن من األشرار؟ال‬ ‫بأس!‬

‫لوبوان‪ :‬هل بإمكاننا القول‪ ،‬رغم كل هذا‪ ،‬إن الثقافات‬ ‫متساوية فيما بينها؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬هذا ما يعتقده ‪-‬في الغالب‪ -‬علماء اإليثنولوجيا‪،‬‬ ‫لكنني ال أتَّفق حقيقة مع هذا الرأي‪ .‬في الواقع‪ ،‬تمتلك كل ثقافة عدد ًا‬ ‫مُ َع َّين ًا من الخصائص التي يمكن الحكم عليها بشكل كامل وفق ًا لمعايير‬

‫كونية‪ .‬قد يتع َّلق األمر بمعايير أخالقية أو بمعايير إيثنولوجية أو ‪-‬بكل‬

‫التقدم التي يمكن مالحظتها في وقت مُ َع َّين‪.‬‬ ‫بساطة‪ -‬بمعايير‬ ‫ُّ‬

‫لوبوان‪ :‬لماذا يثير مفهوم «الحضارة» األهواء إلى هذا‬ ‫الحدّ ؟‬ ‫َ‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ألن خطاب كلود غييو يخلق الكثير من اللبس‪،‬‬

‫وينطوي على الكثير من الخلط‪ .‬هذا اللبس يساهم في انخراط كل‬

‫األشخاص الذين يشعرون بالقلق إزاء التأ كيد على الهوية الوطنية‪،‬‬

‫فيعدون كل ما هو وافد من الخارج خطر ًا‪ ،‬غير أن كل مجتمع يعزل نفسه‬ ‫ّ‬

‫‪131‬‬


‫عن بقية العالم سيكون مآله االنحطاط‪ .‬هذا الخطاب يجعلني ِ ّ‬ ‫أفكر‬

‫‪-‬بشكل ما‪ -‬في خطاب جون ماري لوبن حين َص َّرح أن فرنسا لديها‬

‫ثالثة ماليين عاطل وثالثة ماليين مهاجر‪ .‬خطابات كهذه تصدر عن‬

‫سياسة شعبوية مانوية تثير تعليقات ال حدود لها‪.‬‬

‫‪07/02/2012‬‬

‫‪132‬‬


‫اس ِم حقوق اإلنسان‬ ‫«من السهل أن نقتل بِ ْ‬ ‫اس ِم الله»‬ ‫كما نقتل بِ ْ‬ ‫في كتاب ْ‬ ‫«غويّا في ظلّ األنوار»‪ ،‬يقوم تزيفتان تودوروف‪ ،‬المنحدر‬ ‫وتفحص أعمال الفنان اإلسباني ْغويّا‪ .‬هل‬ ‫من أصل بلغاري‪ ،‬بسبر‬ ‫ُّ‬

‫يمتلك الفن التشكيلي َم َلكة التفكير؟ هل بإمكاننا قراءة لوحة فنية كما‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر‬ ‫نقرأ أطروحة سياسية وفلسفية؟ تلك هي األسئلة التي يطرحها‬

‫ْ‬ ‫بـ«غويّا في ظلّ األنوار» حيث‬ ‫تزيفتان تودوروف في كتابه الموسوم‬ ‫يرى تودوروف أن الفنان التشكيلي اإلسباني ْغويّا هو واحد من أبرز‬

‫المفسرين لعصره‪ ،‬وأنه مح ّلل يتم َّيز برؤية ثاقبة في سبر أغوار الجانب‬ ‫ِّ‬ ‫القاتم والمظلم من عصر التنوير‪.‬‬ ‫يفسر تودوروف رؤيته ألعمال الفنان اإلسباني ْغويّا‪.‬‬ ‫في هذا الحوار ِ ّ‬

‫صوفي بوجاس‪ :‬لماذا هذا السعي إلى تفسير فكر الفنان‬ ‫غْ ويّا من خالل لوحاته الفنية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ت َُع ّد الصور‪ ،‬وذلك منذ أقدم العصور‪ ،‬القناة الناقلة‬ ‫للمعنى‪ ،‬ألجل هذا يبدو لي التساؤل عن معناها أمر ًا مس َّلم ًا به‪ .‬هذه‬

‫المهمة تصبح أمر ًا سه ً‬ ‫ال في حالة الفنان ْغويّا الذي اختار عناوين‬ ‫ّ‬

‫المتعددة‪.‬‬ ‫(ساخرة‪ ،‬مسلية‪ ،‬ومفعمة بالمفارقة) لكل لوحاته ورسوماته‬ ‫ِّ‬

‫لقد ت ََّم إنجاز كل النصوص والصور‪ -‬بالفعل ‪ -‬تحت تسمية فنية واحدة‪.‬‬

‫باحتكاكي بأعمال الفنان ْغويّا‪ ،‬انتابني الشعور أنني أمام أحد العقول‬

‫‪133‬‬


‫وس َم ْتها أفكار األنوار والثورة‪ .‬إذا‬ ‫األكثر ألمعية في تلك المرحلة التي َ‬ ‫أخص‬ ‫كانت هذه األفكار القت صدى فوري ًا ومباشر ًا في إسبانيا‪ ،‬وبشكل‬ ‫ّ‬

‫رد فعله كان أ كثر‬ ‫في األوساط التي كان‬ ‫يتردد عليها الفنان ْغويّا‪ ،‬فإن ّ‬ ‫ّ‬

‫حدة وأكثر كشف ًا وداللة‪ .‬فغْ ويّا لم يقع تحت طائلة أوهام عصر األنوار‬ ‫ّ‬

‫ألنه كان ينظر‪ ،‬بشكل حصيف وبيقظة شديدة‪ ،‬إلى ما كان يحدث حوله‪.‬‬ ‫الشك إزاء فشل األنوار؟‬ ‫ّ‬ ‫صوفي بوجاس‪ :‬هل كان ينتابه‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬لنقل‪ ،‬باألحرى‪ ،‬إنه كان ينظر إلى الجانب القاتم‬ ‫ضد‬ ‫من عصر األنوار‪ .‬صحيح أن الفنان ْغويّا كان يعترف بمعركة األنوار ّ‬

‫الخرافات واألوهام والجهل‪ ...‬إلخ‪ .‬لكنه أدرك ‪-‬أيض ًا‪ -‬أن إغواء الخير‬

‫قد يكون أ كثر خطورة من إغواء الشر أحيان ًا! اتَّضح لغْ ويّا‪ ،‬بمقتضى‬

‫األحداث التي وقعت في زمنه‪ ،‬أنه ال يكفي للمرء أن يطالب بالتس ُّلح‬

‫والمثُل العليا كالمساواة واإلخاء‪ ،‬ليتطابق بالضرورة‬ ‫بالعقل والحكمة‬ ‫ُ‬ ‫سلوكه معها‪ .‬لقد ّ‬ ‫شكك عصر األنوار في أسس المعتقدات التي عاشت‬ ‫أدى هذا الشك إلى إحداث هزّة كانت‬ ‫عليها الشعوب لقرون وقرون؛ ّ‬ ‫باعثة على األمل‪ :‬بمقدور اإلنسان أن يسعى بنفسه إلى البحث عن سبل‬

‫خالصه بدل انتظار ذلك من اإلله والقدر‪ .‬كانت تحدو الثوار الفرنسيين‬ ‫رغبة في تحقيق هذا المثال‪ .‬لكن ْغويّا كان شاهد ًا على احتالل نابليون‬

‫إلسبانيا‪ ،‬كما رأى أن الجيش الفرنسي المك َّلل بهالة األنوار والثورة‪،‬‬

‫والمبارك من قبل جزء من أصدقائه المستنيرين‪ ،‬قد جلب الحرب والقمع‬ ‫والعنف‪ .‬واكتشف ْغويّا أنه من السهل أن نقتل باسم حقوق اإلنسان كما‬

‫توصل ْغويّا إلى هذا االكتشاف في ظرف وجيز‬ ‫نقتل ‪-‬أيض ًا‬ ‫باس ِم الله! َّ‬‫ْ‬

‫بينما تطلب األمر من الفرنسيين ثالثين أو أربعين سنة كي يشعروا بخيبة‬

‫‪134‬‬


‫األمل‪ ،‬كما وصفها الكاتب ستندال ‪-‬على نحو ما‪ -‬في أعماله األدبية‪.‬‬

‫والحالة هذه‪ ،‬لقد كان هذا االكتشاف خطير ًا للغاية وكفي ً‬ ‫ال بإغراق المرء‬

‫في نزعة تشاؤمية عميقة‪ ،‬غير أن الفنان ْغويّا لم يتقاعس أو يتنازل يوم ًا‬

‫ما عن دعوته إلى تحقيق العدالة والح ّريّة والحكمة التي ظلت محور مُ ثُله‬ ‫العليا‪.‬‬

‫صوفي بوجاس‪ :‬هل يساعدنا الفنان غْ ويّا في تحليل‬

‫الكوارث الكبرى في التاريخ الحديث؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬أنا مندهش على الدوام لكوننا نرى في كل مرة‬ ‫ وهذا أمر حقيقي ‪ -‬إلى ّ‬‫أي َح ّد يتب َّين لنا أن لوحات ْغويّا الفنية‬

‫موجهة لتفسير أحداث وقعت بعده‪ .‬لقد رأى ْغويّا كل شيء! فعمله‬ ‫َّ‬

‫الفني الموسوم بـ«درب الجحيم»‪ ،‬حيث يص ِّور أناس ًا مدفوعين نحو‬

‫اللهب‪ ،‬يبعث ‪-‬على نحو ما‪ -‬على الشعور بنذير مرعب‪ .‬ال يمكننا‬

‫أن نتغاضى عن التفكير في األفران التي التهمت البشر‪ .‬وإزاء عمله‬ ‫«خراب الحرب» الذي يص ِّور اللحظة التي تلي انفجار الحمم البركانية‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫نتذكر على الفور «غيرنيكا» بيكاسو‪ ،‬لكأن ْغويّا كان يرى مسبق ًا في‬

‫كومة الجثث نتائج هذا الجنون الذي يسيطر علينا أحيان ًا‪ّ ِ .‬‬ ‫تذكرنا مشاهد‬ ‫التعذيب في أعمال ْغويّا بالصور المأخوذة في سجن أبو غريب‪ّ ِ .‬‬ ‫أفكر‬

‫في مشهد ذلك الجندي الفرنسي الذي نلمح بجانبه شخص ًا مشنوق ًا‪.‬‬

‫يصاب المرء بالصدمة لرؤية الوجه الهادئ لذلك الجندي الفرنسي‪ ،‬كما‬ ‫يصاب المرء أيض ًا بالصدمة إزاء ابتسامة أولئك األميركيين الذين كانوا‬

‫المتكدسة في‬ ‫ينظرون بابتهاج إلى آثار التعذيب على األجساد البشرية‬ ‫ِّ‬

‫سجن أبو غريب‪ .‬كان الفنان ْغويّا رؤيوي ًا متج ِّرد ًا من أية نزعة عاطفية‪،‬‬ ‫‪135‬‬


‫أو أي هاجس ميلودرامي‪ ،‬إنه ال يطلب منا أن نبكي‪ ،‬بل أن نصبح أ كثر‬ ‫فطنة وحذر ًا‪.‬‬

‫التدخل العسكري في‬ ‫ُّ‬ ‫صوفي بوجاس‪ :‬لكي تقوم بمعارضة‬ ‫ليبيا‪ ،‬تدعو اإلنسانية إلى تأمُّ ل هذا الدرس المستفاد من‬ ‫غْ ويّا‪ :‬ليس ثمة وجود لحرب نظيفة‪...‬‬ ‫حد الخالص بتب ّنيه‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬لقد كان الفنان ْغويّا على صواب ّ‬ ‫وجهة النظر تلك‪ّ ِ .‬‬ ‫يذكرنا الفنان ْغويّا بحقيقة تكمن خلف الشعارات‬

‫الب ّراقة الكفيلة بزرع الحماس داخلنا في لحظة ما‪ ،‬أال وهي الدعوة إلى‬ ‫الحرب‪ ،‬ويكشف لنا وجهها البشع‪ .‬ليس الهدف هو تثبيط كل نزوع‬

‫َّ‬ ‫يتمخض عن‬ ‫نحو الخير أو نحو اآلخر‪ ،‬بل إدراك الواقع الشنيع الذي‬

‫هذه الحرب‪ ،‬واقع الصواريخ والبنادق واالنفجارات‪ .‬بسبب هذا الثمن‬

‫الباهظ حق ًا‪ ،‬يجب أن نتأنّى كثير ًا‪ ،‬ونتساءل دوم ًا ‪-‬برويّة‪ -‬عما إذا‬

‫كانت هناك طرق أخرى كفيلة ببلوغ المبتغى ذاته‪ .‬وهذه مسألة في غاية‬ ‫األهم ّية في الوقت الحاضر بخالف ما كان عليه األمر منذ عشرين سنة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تح ِّركنا دوافع رسولية تنطوي على اإليمان بإمكانية تحقيق الديموقراطية‬ ‫ِّ‬ ‫متشكك ًا بشكل عميق‪.‬‬ ‫وحقوق اإلنسان بالقوة! إن هذا المشروع يجعلني‬ ‫صوفي بوجاس‪ :‬يرفض الفنان غْ ويّا تجميل الفظاعة‪ ،‬غير أنه‬ ‫ليس بمقدورنا تأمُّ ل أعماله دون الوقوع تحت سحر جمالها‬ ‫وروعتها‪...‬‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ال مناص من االضطراب في فهم أعمال الفنان ْغويّا‪،‬‬

‫ألننا حين نتأمَّل أعماله لن يكون في مقدورنا مقاومة اإلعجاب بجمالها‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫حاولت في كتابي ْ‬ ‫«غويّا في ظلّ األنوار» التذكير بأن ْغويّا لم يكن يسعى‬

‫إلى الجمال‪ ،‬بل إلى بلوغ الحقيقة‪ .‬فالفن التشكيلي بالنسبة لغْ ويّا كان‬

‫شك ً‬ ‫ال من أشكال المعرفة‪ :‬معرفة الحقيقة الداخلية‪ ،‬وأيض ًا حقيقة العالم‬ ‫نتوجه اليوم إلى المتاحف كي نتم َّتع بآثاره الفنية‪،‬‬ ‫الخارجي‪ .‬صحيح أننا‬ ‫َّ‬ ‫لكني أعتقد أن ْغويّا لم يتقوقع ك ّل ّي ًا فيما هو جمالي (إستطيقي) محض‪.‬‬

‫يتم استخدام أعماله الفنية لتسليط الضوء‬ ‫والدليل على ذلك أنه غالب ًا ما ّ‬

‫َّ‬ ‫مؤخر ًا رأيت عمله الفني «العمالق»‬ ‫على كوارث الماضي أو الحاضر‪.‬‬

‫تتحدث عن الحرب الشاملة‪ .‬لم‬ ‫على غالف أحد الكتب المعاصرة التي‬ ‫َّ‬ ‫تفقد أعماله الفنية ‪-‬أبد ًا‪ -‬قدرتها التأويلية المثيرة لألسئلة‪ .‬وال أعتقد‬ ‫تتوخى أعماله البوح به‪.‬‬ ‫عما‬ ‫ّ‬ ‫أنني الوحيد الذي يتساءل ّ‬

‫صوفي بوجاس‪ :‬كان غْ ويّا يراهن على أن تعيد األجيال‬ ‫القادمة قراءة أعماله الفنية‪ .‬أليس كذلك؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬على ّ‬ ‫أي حال‪ ،‬إن ْغويّا‪ ،‬وفي حدود معرفتي‪ ،‬هو الفنان‬

‫الوحيد الذي ت َّم اكتشاف أعماله األكثر تأثير ًا‪ ،‬والتي تؤ ِ ّثر فينا بعمق‪،‬‬ ‫موجهة لغايات شخصية‪،‬‬ ‫اليوم‪ ،‬بعد مماته‪ .‬تبقى العديد من رسوماته‬ ‫َّ‬

‫دون أن تكون مج َّرد أعمال تحضيرية للوحات‪ ،‬كما هو األمر لدى فنانين‬

‫آخرين‪ .‬يضع ْغويّا عناوين شارحة‪ ،‬ث ََّم يجمعها في ألبوم ِّ‬ ‫مرقم ًا إياها تبع ًا‬

‫للترتيب األكثر تالؤم ًا مع المنطق‪ ...‬إجما ً‬ ‫يهيئ ْغويّا هذه األعمال‬ ‫ال‪ّ ،‬‬ ‫ليتم تلقيها من ِق َبل اآلخرين‪ ،‬غير أن ال أحد كان ّ‬ ‫يطلع على أعماله! من‬ ‫ّ‬

‫األكيد أن المجموعة األولى من نقوشه الفنية الموسومة بـ«نزوات» ت ََّم‬ ‫ِّ‬ ‫المتحفظة التي أثارتها‪،‬‬ ‫تنفيذها بهدف بيعها‪ ،‬لكن‪ ،‬أمام ردود الفعل‬

‫قام بسحبها من التداول بعد خمسة عشر يوم ًا! واحتفظ في حوزته‪،‬‬ ‫‪137‬‬


‫بمجموعته الثانية من النقوش الفنية الموسومة بـ«خراب الحرب» ألنه‬ ‫أسميه «خراب السلم»؛ حاالت القهر والعنف‬ ‫َق َّدم فيها ‪-‬بال شك‪ -‬ما‬ ‫ّ‬ ‫التي تع َّرض لها اإلسبانيون في حقبة اإلصالح حين استعادت محاكم‬

‫التفتيش قوّتها‪ ،‬واستأنفت االضطهاد‪ ،‬كل هذا جعل مجموعته ممنوعة‬

‫من النشر‪ .‬أما باقته األخيرة «اللوحات السوداء»‪ ،‬فهي تلك الوسائط‬ ‫الفنية التي استعملها في تزيين حجرتين كبيرتين في بيته الذي اشتراه‪،‬‬ ‫ولم يطلع أحد عليها! قد يصاب المرء بالدهشة والذهول حين ِ ّ‬ ‫يفكر كيف‬

‫ِّ‬ ‫سيشكل ذروة أعماله‬ ‫أن ْغويّا أمضى سنتين وهو يزخرف الجدران بما‬

‫الفنية‪ ،‬ثم يغلق البيت بالمفتاح‪ ،‬ويرحل خارج البالد دون أن يتس ّنى‬ ‫ألحد ‪-‬مطلق ًا‪ -‬رؤية أعماله أو التعليق عليها‪ ...‬لكن ْغويّا كان يحتفظ‬

‫بفكره لألجيال القادمة‪ .‬لكأنه أغلق على أعماله في قارورة‪ ،‬ورمى بها‬ ‫في البحر على أمل أن تبلغ‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬شاطئ ًا مضياف ًا‪ ،‬وتجد رسالته من‬ ‫ّ‬ ‫يفك رموزها‪ .‬وهذا ما حدث بعد أربعين سنة من وفاته‪ ،‬حين ت ََّم الشروع‬

‫في نشر أعماله «ويالت الحرب»‪ ،‬واكتشاف عمله الفني «اللوحات‬

‫السوداء»‪ ،‬ونقلها إلى لوحات بهدف عرضها في المتاحف‪.‬‬

‫صوفي بوجاس‪ :‬هل كان غْ ويّا يبشِّ ر بمفهوم جديد للفرد؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ال جدال في ذلك‪ .‬يحدث ْغويّا ثورة بالمعنى الذي‬ ‫يص ِّور به األشياء وفق ًا إلدراكه الشخصي‪ .‬فال يصبح العالم على ما هو‬

‫عليه‪ ،‬بل كما يراه الفنان‪ .‬في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪،‬‬

‫ّ‬ ‫تشظي الصورة‪ .‬كان ْغويّا‬ ‫سيعمم االنطباعيون هذا المفهوم من خالل‬ ‫ِّ‬ ‫قد أدرك تمام ًا هذه الرؤية القائلة إن كل إدراك هو إدراك فردي أي‬

‫ذاتي‪ .‬إنه ذلك الكانتي (نسبة إلى إيمانويل كانت) الذي يعتقد أنه‬ ‫‪138‬‬


‫ليس بمقدورنا الولوج إلى العالم في ذاته‪ ،‬وإنما ‪-‬فقط‪ -‬إلى العالم‬ ‫كما يتراءى لنا‪ .‬كل هذه االكتشافات التصوُّرية والفلسفية لم تدفع ْغويّا‬

‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫يعبر عن ذاته بلغة‬ ‫التشظي الـ(ما بعد‪-‬حداثي) الذي يجعل كل فرد ِ ّ‬

‫خاصة به‪ .‬إن ْغويّا منشغل بلغة مشتركة يق ّرها اإلدراك العادي والمألوف‪.‬‬

‫نشاهد االنتهاكات‪ ،‬األفعال‪ ،‬الكائنات البشرية‪ ،‬الجثث‪ ،‬وندرك ماذا‬ ‫تعني‪ ،‬وبماذا يتع َّلق األمر‪ .‬فيما بعد‪ ،‬نستسلم إلرادة العزوف عن العالم‬

‫يعبر‬ ‫المشترك التي ِ ّ‬ ‫تهدد الفن المعاصر بفقدان المعنى‪ :‬نخال أن الفنان ِ ّ‬ ‫عن شيء ما‪ ،‬لكننا ال ندري ما هو‪ ،‬إال إذا زوَّدنا بملحوظة توضيحية‪...‬‬

‫ّ‬ ‫التشظي التام للمعنى‪ .‬تبقى رؤيته فردية لكن‬ ‫يبقى ْغويّا بمنأى عن هذا‬

‫متعدد المعاني والدالالت‪ .‬وهذا درس لإلنسانية‪ ،‬كما هو الشأن‪،‬‬ ‫تأويلها‬ ‫ِّ‬

‫بالنسبة للفن التشكيلي في الوقت الحاضر‪ .‬لكي يكون الفنان من أبناء‬ ‫ْغويّا حق ًا‪ ،‬عليه أن يطمح لتحقيق هذا التوازن‪ .‬إذا أراد الفنان أن ينتج‬

‫توجه كوني‪ ،‬عليه أن يبدع دون أن يعيد إنتاج الواقع‬ ‫رسالة فردية ذات ُّ‬

‫َ‬ ‫ومبتذل‪ ،‬ودون أن يكتفي ‪-‬في اآلن نفسه‪ -‬بالتعبير عن‬ ‫بشكل خاضع‬ ‫فردية أ كثر إغراق ًا في االختالف‪.‬‬

‫‪15/04/2011‬‬

‫‪139‬‬


‫«ديموقراطية متآ كلة من الداخل»‬ ‫يكتب تودوروف من النزعة الكليانية (النظام السياسي ذو‬

‫الحزب الواحد الذي ال يقبل أية معارضة منظمة)‪ .‬هاجر من بلغاريا إلى‬

‫مجدد ًا‪.‬‬ ‫باريس كطالب في أوائل الستينيات بهدف أن ال يعود إلى بالده‬ ‫َّ‬

‫َّ‬ ‫المثقف المولع بجان جاك روسو‪ ،‬وبنيامين كونسطو الثمن‬ ‫يعرف هذا‬ ‫مهم ًا في كتابه «أعداء‬ ‫الجوهري للديموقراطية‪ ،‬سويك ِّرس لها جزء ًا‬ ‫ّ‬ ‫الديموقراطية الحميمون»؛ هذا الكتاب الذي يبقى ‪-‬في جانب منه‪-‬‬

‫تهددها األزمات االقتصادية والسياسية‪.‬‬ ‫سفر ًا في أرخبيل الح ّريّات التي ِ ّ‬ ‫بالنسبة لمؤ ِّرخ األفكار‪ ،‬تودوروف‪ ،‬ينتاب األوروبيون شعور بأن‬ ‫مستقبلهم قد ُس ِلب منهم‪ .‬هذا ما يبرهن عليه تودوروف في كتابه أيض ًا‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪« :‬إن قضية الحرّ يّة اقتحمت ‪-‬بشكل مفاجئ‬ ‫مبكر‪-‬حياتي»‪ ،‬هذا ما تكتبونه في السطر األول‬ ‫وفي وقت ِّ‬ ‫في كتابكم «أعداء الديموقراطية الحميمون»‪ .‬هل هذه‬

‫القضية هي الخط األحمر لتشخيصكم المقلق؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ما دمت قد عشت في بلد كلياني‪ ،‬فإن الحرية كانت‬

‫تبدو لي النعمة المرغوب فيها بشوق كبير‪ .‬والحالة هذه‪ ،‬في غضون‬

‫هذه السنوات األخيرة‪ ،‬فوجئت بأن رؤية المطالبة الحصرية بالح ّريّة‬

‫غدت سمة األحزاب األوروبية لليمين المتط ِّرف‪ .‬يقودني هذا‬ ‫قد َ‬

‫طي‬ ‫األمر إلى إعادة التفكير في المرحلة الحالية للديموقراطية‪ .‬لقد ت َّم ّ‬

‫‪140‬‬


‫يهددونها من الخارج‪.‬‬ ‫صفحة من التاريخ‪ :‬لم يعد للديموقراطية أعداء ِ ّ‬

‫لقد ماتت النزعات الكليانية‪ .‬وليس ثمة وجود ألي مشروع مجتمعي‬ ‫نظير قادر على منافسة الديموقراطية‪ .‬المحاوالت التي تسعى إلى تقديم‬ ‫َّ‬ ‫كمرشح للعب هذا الدور قد باءت بالفشل‪ .‬بل إن‬ ‫النزعة اإلسالمية‬

‫مهددة ومتآ كلة من الداخل‪ .‬أعداؤها هم‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬منذ اآلن‪ ،‬باتت َّ‬

‫أبناؤها غير الشرعيين‪ ،‬والمبادئ الديموقراطية المعزولة والمقتطعة من‬ ‫مشروع الجماعة‪ ،‬هي التي تنعكس سلب ًا على الديموقراطية‪.‬‬ ‫ريتشارد ويرلي‪ :‬على سبيل المثال؟‬ ‫تقدم نفسها‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬المسيحية السياسية للمحافظين الجدد ِ ّ‬ ‫للتقدم وحقوق اإلنسان واالزدهار االقتصادي للجميع‪ ،‬غير أنها‬ ‫كحامل‬ ‫ُّ‬

‫تتوجه إليهم‪ ،‬وترسل‬ ‫تتناسى أن تطلب رضا وموافقة هؤالء الناس الذين‬ ‫ّ‬

‫يتم إضفاء طابع الشرعية‬ ‫إليهم جيشها ليح ِّررهم‪ .‬وكنتيجة لهذا النزوع‪ّ ،‬‬ ‫على التعذيب الذي‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬وافقت عليه الدول األوروبية بال‬

‫تردد‪ .‬إن الديموقراطية‪ ،‬في الواليات المتحدة كما هو الشأن في أوروبا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ومهددة من طرف السلطة المفرطة في التجاوزات التي‬ ‫أصبحت متآ كلة‬ ‫َّ‬

‫اكتسبها أصحاب النفوذ المالي‪ ...‬إن تمويل الحمالت االنتخابية من‬

‫طرف المقاوالت والشركات الذي أصبح يحظى بالشرعية‪ ،‬يفسد العملية‬

‫الديموقراطية‪ .‬وكل هذا يحدث باسم أرقى الديموقراطيات وأعرقها‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬يتجلّى شكل آخر من المزايدة الديموقراطية‬

‫المزعومة في أوروبا في ظهور أحزاب « القراصنة» الذين‬ ‫يطالبون بحرّ يّة شاملة على اإلنترنت‪...‬‬

‫‪141‬‬


‫تزيفتان تودوروف‪ :‬إن ح ّريّة الصحافة مسألة إيجابية لكونها سلطة‪،‬‬

‫مضاد‪ ،‬وتبقى مع َّرضة للنقد لكونها سلطة تفلت من كل ضبط‬ ‫ونفوذ‬ ‫ّ‬

‫وحصر وكل مراقبة وفحص‪ ...‬لكن الفوضى أسوأ من االستبداد‪ِ .‬ل َن ِع‬ ‫َّ‬ ‫ونتذكر هذه المقولة الشهيرة‪« :‬بين القوي والضعيف‪ ،‬الح ّريّة هي‬ ‫جيد ًا‪،‬‬

‫التي تظلم وتجور‪ ،‬والقانون هو الذي يح ِّرر ويُع ِتق»‪ .‬على النقيض من‬

‫تحد من نفوذ الدويالت وسلطتها‪،‬‬ ‫المضادة التي‬ ‫ذلك‪ ،‬إن نفوذ السلطة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كـ«ويكيليكس»‪ ،‬تبدو لي سلطة خالصية‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ُ :‬ت ‪ٙ‬ع ِّبرون‪ ،‬في نهاية كتابكم‪ ،‬عن قلق كبير‬

‫بسبب انحطاط النموذج الديموقراطي األوروبي وتقهقره‪.‬‬ ‫كيف تفسِّ رون ذلك؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يعود انحطاط النموذج الديموقراطي األوروبي‬ ‫إلى مجموعة من الصعوبات المتشابكة فيما بينها‪ .‬هناك أوال معضلة‬ ‫العقليات‪ .‬نفتقر في أوروبا إلى هذه الحيوية االجتماعية التي ّ‬ ‫تغذي‬ ‫الديموقراطية في الواليات المتحدة‪ .‬هناك ‪ -‬رغم أنهم يعانون من‬ ‫معضالت أخرى كثيرة ‪ -‬يبقى تشجيع الشباب الموهوب أمر ًا طبيعي ًا؛‬

‫لهذا السبب تبقى أميركا الشمالية منطقة ّ‬ ‫جذابة‪ .‬في أوروبا‪ ،‬تقضي‬ ‫النزعة الشكالنية الشرعوية (نزعة االهتمام باحترام الشرع بدقة) على‬

‫وتحد من طموحه بشكل كبير‪ .‬دولة الحق التي نعيش‬ ‫الشباب الموهوب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في ظاللها تبقى إرث ًا ثمين ًا يجب حمايته والذود عنه‪ .‬لكننا نتناسى‪ ،‬في‬

‫الكثير من دول القارة العجوز‪ ،‬أن الح ّريّة تتو َّقف على التف ُّتح الفردي‪.‬‬ ‫ُفسر جزء من هذه المعادلة ‪-‬بال شك‪ -‬بالشيخوخة الساكنة‪ .‬ليس‬ ‫ي َّ‬

‫بمقدورنا أن نملك‪ ،‬بهذه الديموقراطية األوروبية‪ ،‬نمط اشتغال نشيط‬ ‫‪142‬‬


‫سن كهذا‪،‬‬ ‫وجاذبية الدول البارزة‪ .‬ال يمكن أن نطلب من قارّة‪ ،‬في ّ‬

‫أن تكون القارة الظافرة بشكل أ كبر‪ .‬يهدف خطابي إلى لفت االنتباه‬ ‫ُّ‬ ‫والتيقظ؛ كل هذه األمور لها تأثيرات وخيمة على ديموقراطيتنا‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬هل تبقى الصعوبات األخرى ذات طبيعة‬ ‫سياسية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬تبدو أوروبا كأنها متقوقعة في تناقضاتها‪ .‬يعاني‬

‫مؤسساتية‪ ،‬ويوجد ‪-‬حسب التعبير الشائع‪-‬‬ ‫االتحاد األوروبي من معضلة َّ‬

‫«وسط مخاضات»‪ .‬لقد كشفت األزمة الراهنة عن ضرورة التوافر على‬

‫وسائل مشتركة التّخاذ القرار كي نحمي أنفسنا من المخاطر المشتركة‬ ‫بكل تأ كيد‪ ،‬هذه الوسائل غير موجودة‪ .‬تبقى الدول الكبرى‪ ،‬والحالة‬

‫هذه‪ ،‬كألمانيا وفرنسا‪ ،‬هي التي تضطلع بلعب هذا الدور‪ .‬وهنا موطن‬ ‫عجز واضح و«امتيازات إشكالية»‪ .‬يكمن المثال‪ ،‬من جهة‪ ،‬في وحدة‬ ‫الموجهة التي تو ِ ّلد االضطراب في الوقت‬ ‫مختلف هذه السلطات‬ ‫ّ‬

‫الراهن‪ -‬رئيس اللجنة األوروبية‪ ،‬رئيس المجلس والرئاسة الحلزونية‬ ‫الموجهة‬ ‫ُنتخب هذه السلطة‬ ‫للمجلس نفسه ‪ -‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يجب أن ت َ‬ ‫َّ‬

‫من طرف البرلمان األوروبي‪ ،‬بوصفه المؤسسة األكثر ديموقراطية في‬

‫االتحاد‪ ،‬ألنه نتاج النتخابات مباشرة‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬ال سيّما أن هذا التصدُّ ع الديموقراطي يتمّ‬

‫استغالله من طرف األحزاب الشعبوية التي تغالي في إثارة‬ ‫المخاوف‪...‬‬

‫ّ‬ ‫وتوطدت في‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬إن األحزاب الشعبوية‪ ،‬التي استقوت‬ ‫‪143‬‬


‫أوروبا في غضون العقود األخيرة‪ ،‬تك ّرس نزعة مانوية للقيم تشبه البالغة‬ ‫الشيوعية في فترة مراهقتي‪ .‬لقد عشت إلى حدود الرابعة والعشرين من‬ ‫أنس التنديدات والوسم السكوني الثابت لألعداء‬ ‫عمري في بلغاريا‪ ،‬ولم َ‬ ‫المجسدون للشر‪.‬‬ ‫الرأسماليين على أنهم‬ ‫ِّ‬

‫في الحاضر‪ ،‬تثير األحزاب الشعبوية‪ ،‬باستمرار‪ ،‬قضية تهديد‬

‫«النزعة اإلسالمو‪-‬فاشية» كما لو أن ما يعيق حياتنا‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬هو‬

‫المحجبات في الشارع‪.‬‬ ‫مصادفة النساء‬ ‫َّ‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬ماذا يوحي لكم كون الحزب الشعبوي‬

‫والمعادي لإلسالم «لغيريت ويلديزر» يسمّ ى في هولندا‬ ‫«الحزب من أجل الحرّ يّة»؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ّ ِ :‬‬ ‫توضح هذه التسمية جيد ًا التحريف أو التشويه الذي‬

‫تعاني منه كلمة «ح ّريّة»‪ .‬لكن هذه ليست المرة األولى التي يحدث فيها‬ ‫هذا األمر‪ ،‬في القرن التاسع عشر‪ ،‬كانت في فرنسا صحيفة «دريمونت‪-‬‬ ‫ُسمى «الكلمة الح ّرة»‪ ،‬كانت‬ ‫‪ ,»Drumont‬اللسان المناهض‬ ‫للسامية‪ ،‬ت ّ‬ ‫ّ‬

‫ح ّريّته تكمن في تحقير اليهود‪ .‬إن نزعة كراهية األجانب التي تر ِّوج‬

‫لها األحزاب الشعبوية نابعة من عقلية مناوئة لعقلية أوروبا‪ .‬نتناسى أن‬

‫التوسع األوروبي يعزى إلى كون أوروبا احت َّلت‪ ،‬طيلة قرون مقام ًا رفيع ًا‬ ‫ُّ‬ ‫كملتقى للثقافات ومكان ًا للتعايش‪ .‬لقد استطاعت دولنا أن تتش َّرب‬ ‫المكاسب واألفكار الطليعية التي ت ََّم إنجازها في البدء‪ ،‬في مكان آخر‪،‬‬

‫وبشكل جوهري في آسيا‪ ،‬والتي تبقى قارّتنا ِشناخها الشامخ‪ .‬إن السعي‬

‫إلى اجتثاث أوروبا وعزلها عن بقية العالم وحبسها وراء جدار يمثّل‬ ‫‪144‬‬


‫محاولة لتقسيم أوروبا إلى مقاطعات‪.‬‬ ‫الحظ‪ ،‬في فرنسا‪ ،‬العمل غير المعقول هو الذي يسعى إلى منع‬

‫الطالب األجانب من العمل في هذا البلد بينما هذا العمل من الممكن‬

‫أن يكون وسيلة لتنمية اإلشعاع الدولي لفرنسا‪ .‬وعلى الشاكلة نفسها‪،‬‬ ‫تتم ممارستها في‬ ‫تبقى سياسة عدد المهاجرين الواجب طردهم‪ ،‬والتي ّ‬

‫فرنسا‪ ،‬سياسة مدانة ومذمومة‪ ،‬ألننا بهذه الطريقة لن نعامل الكائنات‬

‫البشرية كأفراد‪ .‬وليس من العدل التعامل مع اإلنسان كرقم‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬هل يعني هذا أن الشبيبة األوروبية تنازلت‬ ‫عن الديموقراطية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ال أعتقد ذلك مطلق ًا‪ .‬ربما تعاني الديموقراطية من‬ ‫كونها أصبحت موضوع ًا للتوافقات‪ :‬لم يعد ثمة شخص ِ ّ‬ ‫جد ّي ًا في‬ ‫يفكر ّ‬

‫الديموقراطية‪ ،‬ومن ث َّم من الصعب العمل بحماسة من أجل هذه القضية‪.‬‬

‫تقدم إجابات على التحديات‬ ‫إن الحركة الراهنة «للساخطين» حتى لو لم ِ ّ‬ ‫التي نواجهها فإنها تبقى ‪-‬من وجهة النظر هاته‪ -‬داللة موحية وكاشفة‬

‫للس ّر بما تحمله من شعار «الديموقراطية اآلن»‪ .‬وهنا تتج ّلى فكرة أوروبا‬

‫المصطدمة بالصعوبة نفسها‪ .‬أن نطالب بالديموقراطية ألننا نرغب في‬

‫العيش بسالم بين األمم لم تعد فكرة مُ َع َّبأة وج ّياشة‪ .‬السالم قائم هنا‪،‬‬ ‫يبدو أمر ًا بديهي ًا ومُ َس ّلم ًا به لألجيال الشابة التي تنتقل من بلد إلى آخر‬

‫دون أن تشعر بذلك‪ .‬والحالة هذه‪ ،‬فالدفاع عن فكرة الديموقراطية يمنحنا‬

‫حياة جديدة إذا َّ‬ ‫تذكرنا أن أوروبا تم ِ ّثل نموذج ًا ديموقراطي ًا جوهري ًا قائم ًا‬

‫على توازنات تحرص على الصالح العام وحماية الح ّريّات الفردية‪ .‬من‬ ‫‪145‬‬


‫الصعب تعريف وتحديد آداب السلوك‪ ،‬لكن يبقى ‪-‬إذا شئنا ذلك‪-‬‬

‫قاب ً‬ ‫ال لإلدراك بوضوح حين نالحظ أوروبا من الخارج‪.‬‬

‫ريتشارد ويرلي‪ :‬تندِّ د بـ«أعداء الديموقراطية الحميمين»‪،‬‬

‫وتنتقدهم‪ ،‬فأين هم أصدقاؤها؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ليس بوسعنا االعتماد سوى على أنفسنا‪ .‬إن‬

‫التجدد‪ ،‬النقد الذاتي‪،‬‬ ‫الخالص ال يأتي من الخارج‪ ،‬بل من قدرتنا على‬ ‫ُّ‬

‫الجرأة على العمل من جديد‪ ،‬نزوعنا نحو «الكمال» كما كان يقول‬

‫جان جاك روسو‪ ،‬التوق إلى المثل األعلى الذي ال ينبغي أن يلتبس‬ ‫َّ‬ ‫التقدم‪ .‬إن‬ ‫المظفرة للبشرية على طريق‬ ‫مع اإليمان األعمى بالمسيرة‬ ‫ُّ‬

‫العلم والتكنولوجيا أدوات عون مؤ ِ ّثرة وناجعة‪ ،‬لكننا نعرف أن هذه‬ ‫ضعت في خدمة البحث الجامح‬ ‫األدوات قد تنعكس سلب ًا علينا إذا ما ُو ِ‬

‫يتوخى الربح السريع‪ .‬هذا ما برهنت عليه كارثة فوكوشيما الحالية‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬

‫(انفجار مفاعل فوكوشيما النووي في اليابان)‪ .‬ليست الثقة في العلم أو‬ ‫التكنولوجيا هي المسؤولة عن ذلك‪ ،‬بل تجاهل الصالح العام‪ .‬تعتمد‬

‫رفاهيتنا‪ ،‬بشكل مباشر‪ ،‬على اآلخرين من حولنا‪ .‬إن فكرة االكتفاء‬

‫الذاتي للفرد وهم وخداع‪.‬‬

‫‪24/01/2012‬‬

‫‪146‬‬


‫«ليس ثمّ ة وجود لصراع حضارات»‬ ‫يس ِّلط تودوروف‪،‬في كتابه «الخوف من البرابرة‪ :‬ما وراء‬

‫صدام الحضارات»‪ ،‬الضوء على مفاهيم الحضارة والصراعات الحالية‪.‬‬

‫تودوروف يم ِ ّثل روح الوحدة األوروبية بين الغرب والشرق‪ ،‬كما َع َّبرت‬

‫مؤسسة أمير أستورياس‪ ،‬وأشادت بحكمته‪ ،‬و َم َن َحته جائزتها في‬ ‫عن ذلك َّ‬

‫العلوم االجتماعية لهذه السنة (‪ .)2008‬وفيما يلي خالصة المقابلة التي‬

‫أجراها مع قناة «أورونيوز»‪.‬‬

‫ِدت في بلغاريا‪ ،‬ومنذ ‪ 45‬سنة وأنت‬ ‫قناة «أورونيوز»‪ :‬وُ ل َ‬

‫تعيش في فرنسا‪ ،‬وتكتب كل كتبك باللغة الفرنسية‪ .‬هل‬ ‫تشعر بأنك استثناء‪ ،‬أم أن األمر ليس كذلك؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ال أشعر بأني استثناء‪ ،‬ألنه في الواقع هناك العديد‬

‫أود أن أقول إن هناك امتياز ًا يمكن‬ ‫من األفراد الذين يغ ِ ّيرون بلدانهم‪ّ .‬‬

‫االستفادة منه في هذا الوضع‪ .‬هذا االمتياز هو امتياز النظرة عن بعد‪،‬‬

‫نظرة اإلنسان المغترب‪ ،‬ألننا تربَّينا وفق تقاليد مع َّينة‪ ،‬ونعتقد‪ ،‬بسبب‬ ‫هذا األمر‪ ،‬أن ما شربناه من حليب األم وما تع َّلمانه في المدرسة هو‬

‫القاعدة ومعيار الحقيقة‪ .‬القدرة على الترحال وتغيير األمكنة‪ ،‬القدرة‬ ‫على النظر إلى الذات عبر نظرة اآلخر بدل الذات‪ ،‬تسمح بالتج ُّرد من‬

‫الوهم‪ .‬أعتقد أن االتّحاد األوروبي يملك مزايا تتيح خلق أفضل الظروف‬ ‫لتحقيق هذا المثل األعلى‪.‬‬

‫‪147‬‬


‫«أورونيوز»‪ :‬في كتبك‪ ،‬تقترح فكرة «القوّ ة الناعمة» التي‬

‫يجب أن يجسّ دها االتحاد األوروبي‪ .‬ماذا تقصد بهذا األمر؟‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬لست ‪-‬على اإلطالق‪ -‬مسالم ًا بشكل مالئكي‪ .‬ال‬

‫أعتقد أننا يجب أن نتخ ّلى عن القوة العسكرية‪ .‬إن االتحاد األوروبي‬

‫تحميه قوات حلف شمال األطلسي الذي تهيمن عليه حكومة الواليات‬ ‫المتحدة‪ .‬إذا ك ّنا نرغب في أن تكون ألوروبا سياستها الخاصة فمن‬

‫أسمي هذا الطرح‬ ‫الواجب عليها أن تمتلك قيادة عسكرية منفصلة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫«القوّة الناعمة»‪ ،‬وليس المقصود من هذه األطروحة العمل على وضع‬ ‫أراض أجنبية‪ ،‬وإنما المقصود هو أن تكون‬ ‫خطة ومشروع الحتالل‬ ‫ٍ‬

‫ضد ّ‬ ‫أي هجوم‪.‬‬ ‫أوروبا قادرة على حماية نفسها ّ‬

‫«أورونيوز»‪ :‬لقد كنت مناهض ًا لقصف الناتو دولة‬

‫يوغوسالفيا سابقاً‪ .‬هل إعالن االستقالل الذاتي لكوسوفو‬

‫يستتب في نظركم؟‬ ‫ّ‬ ‫جعل النظام‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬لقد أصبحت كوسوفو مشكلة‪ ،‬على ما يبدو لي؛ إذ‬ ‫من الصعب أن تتحوَّل‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬إلى دولة معترف بها كما هو‬

‫الحال من قبل العديد من الدول األوروبية‪ ،‬وذلك لكون إقليم كوسوفو هو‬ ‫‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬بلد ًا صغير ًا جد ًا وضعيف ًا‪ .‬لقد كان في البدء‪ ،‬وإلى‬

‫حد ما‪ ،‬تحت إدارة حلف شمال األطلسي‪ ،‬واليوم أصبح تحت عهدة‬ ‫ّ‬

‫االتحاد األوروبي‪ .‬ال أعتقد أن هدف االتّحاد األوروبي هو الحفاظ‬ ‫«مارتـي‬ ‫على مثل هذه الجيوب في وضع «غير حكومي»‪ .‬أعتقد أن‬ ‫ّ‬ ‫أهتيسآري» الذي نال جائزة نوبل للسالم لجهوده في هذا الصدد‪ ،‬قد‬

‫‪148‬‬


‫وأود أن أقول إنه‬ ‫سيء في هذا الوضع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حاول جاهد ًا إصالح ما هو ّ‬ ‫‪-‬بمج ّرد حدوث القصف‪ -‬أصبح من الواضح أن هذين الشعبين لم يعد‬

‫بإمكانهما العيش مع ًا داخل دولة واحدة‪ .‬ربما سيتع َّين علينا‪ ،‬يوم ًا ما‪،‬‬

‫االعتراف أيض ًا بحق األقاليم الصربية في كوسوفو باالنضمام إلى بقية‬ ‫إقليم صربيا‪ ،‬وفق ًا لمبدأ التطهير العرقي الذي زعموا محاربته من خالل‬

‫هذا القصف‪.‬‬

‫«أورونيوز»‪ :‬كتبت أن تركيا بإمكانها االنضمام إلى االتحاد‬

‫األوروبي ألنها دولة علمانية تودّ االنضمام إلى اتّحاد‬

‫علماني‪ ،‬في حين أن روسيا ال يمكنها ذلك ألنها كبيرة جد ًا‬ ‫من الناحية الجغرافية والكثافة السكانية‪ .‬أين يجب ‪-‬إذاً‪-‬‬

‫رسم حدود االتّحاد الموسَّ ع؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ال أستطيع أن أتخ َّيل االتّحاد األوروبي كاتّحاد مفتوح‬ ‫على جميع األطراف‪ .‬سيكون األمر في هذه الحالة عبارة عن مجتمع‬

‫جديد من األمم‪ ،‬في حين أن هذا ليس هو المشروع األوروبي على‬

‫اإلطالق‪ .‬وفع ً‬ ‫تمتد من سمولينسك إلى فالديفوستوك هي‬ ‫ال‪ ،‬روسيا التي‬ ‫ّ‬ ‫نتخيل‪ ،‬يوم ًا ما‪ ،‬أنها ستكون‬ ‫مجموعة كبيرة جد ًا‪ ،‬لدرجة ال يمكن أن‬ ‫ّ‬

‫جزء ًا من االتّحاد األوروبي‪ ،‬على الرغم من أن الثقافة الروسية متش ّربة‪،‬‬ ‫بعمق‪ ،‬ثقافة أوروبا الغربية نتيجة تالقي هذه الثقافات وتشابكها‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فتركيا تطرح مشكلة كون هذا البلد إذا ما أصبح جزء ًا من االتحاد‬

‫األوروبي‪ ،‬فالحدود األوروبية سترتبط بإيران والعراق وسوريا‪ .‬وأعتقد‬ ‫أن هذه الدول ( إيران‪ ،‬العراق وسوريا) تتم َّيز بأنظمة سياسية وكثافة‬

‫جد مختلفة‪ ،‬وبشكل كبير‪ ،‬عن خصوصية االتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫سكانية ّ‬ ‫‪149‬‬


‫لدرجة أنه ال يمكن أن ِ ّ‬ ‫نفكر في القيام بتقارب مع هذه الدول‪ .‬إن‬

‫يصب في مصلحة أوروبا‪ ،‬هو قبل كل شيء‪ ،‬التم ُّتع بحسن الجوار‪.‬‬ ‫ما‬ ‫ّ‬

‫وأفضل الجيران هي الدول القريبة ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬من أوروبا دون‬ ‫أن تنتمي إليها‪.‬‬

‫مؤخر ًا «الخوف من البرابرة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫«أورونيوز»‪ :‬في كتابك الصادر‬ ‫ما وراء صدام الحضارات» تقول إن الخوف من البرابرة هو‬

‫ما يوشك على جعلنا نحن أنفسنا برابرة‪ .‬هل مفهوم «صدام‬

‫ومؤذ؟‬ ‫ٍ‬ ‫الحضارات» هو ‪-‬بكل بساطة‪ -‬مفهوم سطحي‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬إن مفهوم «صدام الحضارات» هو ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬مفهوم‬

‫قابل للنقد والدحض من الناحية العلمية‪ ،‬ألن الحضارات ال تتطابق‬ ‫يتحدث عنها مؤ ِّلفوها‪.‬‬ ‫مع هذه الكتل وهذه الكيانات المنغلقة التي‬ ‫َّ‬

‫إن الصدام ال يحدث بين الحضارات‪ ،‬بل بين الدول ومجموعات من‬ ‫الدول‪ .‬إن الصراعات التي تحتدم اليوم ليست صراعات ذات طبيعة‬ ‫دينية مهما جاهد البعض إليهامنا بذلك‪ ،‬بل إنها صراعات ذات طبيعة‬

‫سياسية‪ .‬ليس ثمة وجود لمشاكل مع اإلسالم‪ .‬هناك مشاكل مع عدد من‬

‫البلدان‪ ،‬ولكن ليس مع كل الدول اإلسالمية‪ .‬لنتأمّل هذا المثل‬ ‫المعبر‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫والدال‪ :‬إن البلدين الثيوقراطيين اليوم هما إيران والسعودية‪ .‬فالبلد األول‬

‫هو بمثابة العدو اللدود للواليات المتحدة األميركية ‪ ،‬والثاني هو الصديق‬ ‫الحميم لها‪ .‬وأخير ًا‪،‬إن «الخوف من البرابرة» هو شعور يوشك أن يجعلنا‬

‫برابرة‪ ،‬ألننا بدافع الخوف نرتكب األعمال األكثر فظاعة‪ .‬ذلك أني حين‬ ‫مهددون‪ ،‬فإني سأ كون على استعداد لممارسة‬ ‫أعتقد أن زوجتي وأبنائي َّ‬

‫القتل والتعذيب‪ .‬والحالة هذه‪ ،‬إذا كانت هذه التهديدات توجد‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫‪150‬‬


‫على نحو تجريدي وفي عالم افتراضي‪ ،‬فإنها ستكون بعيدة عن الواقع‬

‫وغير موجودة‪ .‬ليس هناك ما يب ِّرر ‪-‬على اإلطالق‪ -‬منهجة التعذيب‬

‫الذي اعتمدته وكاالت االستخبارات األميركية‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ ،‬الجيش‬ ‫األميركي‪ ،‬بما أن هذا التعذيب الممنهج كان يحدث داخل القواعد‬

‫العسكرية‪ ،‬بما في ذلك قواعد حلف شمال األطلسي‪ ،‬حيث كان الجنود‬

‫األوروبيين يخاطرون بحياتهم من أجل أن يستم ّر التعذيب‪.‬‬

‫‪22-10-2008‬‬

‫‪151‬‬


‫حثْنا عن العدو‪ ،‬فوجدنا أنه نحن»‬ ‫« َب َ‬ ‫باتريس دوميرتين‪ :‬كيف كانت الشرارة األولى‪ ،‬نقطة‬ ‫االنطالقة الدقيـقـة لكـتـابـك «أعـــــــداء الديموقراطية‬

‫الحميمون»؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬نبعت نقطة االنطالقة األولى لتأليف هذا الكتاب من‬

‫ُ‬ ‫انطلقت في هذا‬ ‫الحاجة التي أشعر بها لفهم جيد وأفضل لتاريخ قارّتنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يمثل‬ ‫الكتاب من فكر عصر األنوار‪ .‬لقد انبهرت بفكر عصر األنوار ألنه‬ ‫تأسست خاللها المبادئ الكبرى التي نعيش في‬ ‫اللحظة التاريخية التي َّ‬

‫المخصصة للعقل والعلم‪،‬‬ ‫كنفها اليوم‪ ،‬المثل العليا للجمهورية‪ ،‬المكانة‬ ‫َّ‬

‫العقل الكوني‪ .‬غير أن هذا الفكر تشوبه بعض الشوائب بحيث يبدو لي‬ ‫فكر ًا مسؤو ً‬ ‫ال عن اآلمال المفرطة والمنحرفة وفق ًا لفكر األنوار‪ :‬نشر أنوار‬

‫المعرفة في كل مكان‪ ،‬وأن نلتزم بتعاليم العقل‪ ،‬وأن نبرهن على حسن‬ ‫َّ‬ ‫سنتمكن من ّ‬ ‫حل جميع مشاكل‬ ‫النية‪ ،‬وإذا استطعنا القيام بذلك فإننا‬

‫االدعاء المفرط‬ ‫اإلنسانية والقضاء‪ ،‬نهائي ًا‪ ،‬على الش ّر في األرض! هذا ّ‬ ‫الذي َّ‬ ‫تقدم غير محدود‪،‬‬ ‫شكل نقيصة فكر عصر األنوار َ‬ ‫أوه َم بإمكانية َّ‬

‫وال يقاوَم‪ .‬ومثل هذا األمل ال يبدو فقط فاقد ًا لألساس بل إنه في غاية‬

‫الخطورة؛ ألنه يصيب المعرفة بالتقهقر‪ ،‬بعدما تش َّربتها اإلنسانية على‬

‫نطاق واسع في عصور سابقة‪ ،‬فالقدرة اإلنسانية على تغيير العالم تبقى‬ ‫محدودة‪ ،‬وهذا ما كان يقصده المسيحيون وهم يتك َّلمون عن الخطيئة‬ ‫األصلية‪.‬‬

‫‪152‬‬


‫هذه النظرة الطوباوية خطيرة ألنها تقود إلى بناء مشاريع‬

‫أسميه «غواية الخير» والتي تمثَّلت تج ّلياتها‬ ‫وهمية‪ .‬تخلق هذه الرؤية ما ّ‬ ‫ّ‬

‫القصوى في القرن العشرين في المغامرة الشيوعية‪ :‬التص ُّرف باسم الخير‬

‫يو ِ ّلد الشر‪ .‬عن طريق الوعي بالبعد المأساوي في فكر األنوار‪ ،‬وحضور‬ ‫النزعة اإلرادية التي ِ ّ‬ ‫تشكل‪ ،‬في نهاية المطاف تح ّو ً‬ ‫ال حقيقي ًا لهذا العقل‪،‬‬

‫أحدد بعض أشكاله المعاصرة‪ ،‬ومن جهة أخرى‬ ‫أردت‪ ،‬من جهة‪ ،‬أن‬ ‫ِّ‬

‫العودة إلى مصادره‪.‬‬

‫توضح هذا التصوُّ ر؟‬ ‫ِّ‬ ‫باتريس دوميرتين‪ :‬هل لك أن‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يمكننا االنطالق‪ ،‬في هذا البحث‪ ،‬من اليونان القديمة‬ ‫حيث التط ُّرف والغطرسة يُنظر إليهما كأسوأ انحراف للعقل البشري‪،‬‬

‫أما النقيض المتم ِ ّثل في االعتدال‪ ،‬فكان بمثابة الفضيلة السياسية‬ ‫بامتياز‪ .‬ترك لنا اإلغريق‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬أسطورة بروميثيوس (المؤمنة بقدرات‬

‫يقدم خدمات لإلنسان‬ ‫اإلنسان)‪ ،‬هذا‬ ‫الجبار هائل القوة الذي يريد أن ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى يستغني عن اآللهة‪ .‬لكني عثرت ‪-‬بشكل خاص‪ -‬على لحظة منيرة‬

‫في تاريخ اإلنسانية في وقت الحق‪ ،‬في بداية القرن الرابع الميالدي‪،‬‬ ‫َج َريين فكريَّين في علم الالهوت بخصوص هذا‬ ‫حين وقع تصادم بين م ْ‬

‫الموضوع‪ :‬إلى أي مدى يمكن أن نذهب في إضفاء الكمال والقداسة‬ ‫على اإلنسان؟ من جهة‪ ،‬يفترض بيالجيوس‪ ،‬هذا الراهب البريطاني‬

‫الذي جاء إلى روما‪ ،‬أن الكائن البشري‪ ،‬عن طريق بذله لمجهود نابع‬ ‫من إرادته‪ ،‬يستطيع أن ينقد نفسه بنفسه‪ .‬فالطبيعة البشرية ليست بكاملها‬

‫فاسدة‪ ،‬بما أن اإلنسان ُخلق على صورة الله‪ .‬وذلك شرط أن نبذل جهد ًا‬ ‫حقيقي ًا‪ .‬ال شيء سيمنعنا من أن نصبح‪ ،‬على صورة الله‪ ،‬أحرار ًا بالكامل‬

‫‪153‬‬


‫وسادة مصيرنا‪ .‬بل إن اإلنسان سيرتكب خطيئة إذا لم يتط َّلع إلى هذا‬

‫الكمال! في مقابل تصوُّر بيالجيوس‪ ،‬يعتقد القديس أوغسطين‪ ،‬أن‬

‫اإلنسان مصاب بقصور فطري؛ لذلك فإنه يرى في تص ٍ ّور بيالجيوس‪،‬‬

‫يمجد طموح اإلنسان إلى القداسة‪ ،‬التجسيد الحقيقي للخطيئة‬ ‫الذي‬ ‫ِّ‬

‫األصلية نفسها‪ :‬الغطرسة والكبرياء‪ ،‬رغبة اإلنسان في معرفة الخير والشر‬ ‫بنفسه‪ ،‬تجاهل الحدود التي فرضها الله على اإلرادة اإلنسانية‪ .‬إن‬

‫خالص اإلنسان ينشأ من الطاعة واالمتثال للكنيسة ال من إرادته الح ّرة‪.‬‬

‫سيستم ّر هذا الصراع‪ ،‬في أشكال مختلفة‪ ،‬طوال تاريخ البشرية‪.‬‬

‫من جهة‪ ،‬يدافع أنصار النزعة اإلنسانية‪ ،‬المتفائلون الثوريون عن إحكام‬

‫السيطرة على مصيرنا‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يطالب المحافظون‪ ،‬الخاضعون‪،‬‬ ‫المتواضعون بالخضوع لتعاليم الكنيسة األم‪ ،‬وللسلطة الم َل َكية‪ ،‬حيث‬

‫يعتقدون أنه إذا كان قدر اإلنسانية أن تنال الخير األسمى‪ ،‬فهذا لن يكون‬

‫يتم الحسم بصرامة في هذا الموضوع إال خالل‬ ‫إال في العالم اآلخر‪ .‬لم ّ‬ ‫عصر األنوار‪ ،‬حيث ت ََّم التأ كيد أن بيالجيوس على صواب‪ ،‬في حين أن‬

‫أوغسطين على خطأ‪ .‬وهذه هي نقيصة عصر األنوار‪ ...‬ولكن إذا كان‬ ‫هذا هو الرأي المشترك في ذلك الوقت‪ ،‬فإن أعظم ِ ّ‬ ‫مفكري عصر التنوير‪،‬‬

‫في فرنسا كمونتسكيو وروسو‪ ،‬ال ي َّتفقون مع هذا التصور؛ فهم يحتفظون‪،‬‬

‫بطريقة بارعة‪ ،‬بجزء من تعاليم أوغسطين‪ ،‬كما هو الشأن أيض ًا بجزء آخر‬

‫من تعاليم بيالجيوس‪ .‬هذه الطريقة المعتدلة هي التي أسلك أنا أيض ًا في‬

‫رؤيتي لألشياء‪ .‬تكمن هذه الطريقة في عدم التنازل عن القيام بأي عمل‬

‫يهدف إلى تحسين أوضاعنا‪ ،‬وأ ّلا نكون جبريين‪ ،‬أال نخضع‪ ،‬بشكل‬ ‫أعمى‪ ،‬للتقاليد‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار الحدود التي يفرضها علينا‬

‫‪154‬‬


‫سيئ غير كاف الستئصال الشر‬ ‫وضعنا البشري‪ :‬العمل على إزالة قانون ّ‬ ‫واالنعطاف نحو الفردوس األرضي‪.‬‬

‫باتريس دوميرتين ‪ :‬كيف يعقل أن الديموقراطية ما زال لها‬ ‫أعداء‪ ،‬في حين أن النزعات الكليانية قد اختفت إلى غير‬

‫رجعة؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ألنه بعد القضاء على األعداء الخارجيين‪ ،‬و ّلدت‬ ‫الديموقراطية بنفسها أعدا ًء داخليين‪ .‬في كتاب «نهاية التاريخ واإلنسان‬

‫األخير»‪ ،‬يالحظ فرنسيس فوكوياما منذ عشرين سنة‪ ،‬أنه‪ ،‬منذ انهيار‬ ‫المثال الشيوعي لم يعد بإمكان أي نموذج آخر منافس أن يواجه‬

‫الديموقراطية ويعارضها‪ .‬لكن فوكوياما لم يالحظ أن الديموقراطية‬ ‫أفرزت بنفسها أعداءها الجدد‪ ،‬هؤالء األطفال غير الشرعيين‪ ،‬األعداء‬

‫الحميمين الذين ُولدوا من اختالل التوازن الخاص بالنظام الديموقراطي‪.‬‬

‫إن الفضيلة األساسية للديموقراطية هي االعتدال بالمعنى الذي يقصده‬ ‫مونتسكيو‪ ،‬بمعنى التحديد المتبادل لمبادئها‪ ،‬أي سيطرة متط ِّرفة لمبدأ‬

‫للتقدم‪ ،‬جوهر‬ ‫يهدد الديموقراطية‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬فإن المثل العليا‬ ‫ّ‬ ‫على آخر ِ ّ‬ ‫الفكر الديموقراطي‪ ،‬بمج َّرد أن تحوَّلت إلى حزب يجنح إلى فرض‬

‫أسميه نزعة‬ ‫هذه المثل بالقوة‪ ،‬أصبحت الديموقراطية في خطر‪ .‬هذا ما‬ ‫ّ‬

‫الخالص المسيحية العلمانية أو السياسية التي تكوَّنت منذ عصر األنوار‪،‬‬

‫وأدَّ ت‪ ،‬في الماضي‪ ،‬إلى حروب ثورية في أوروبا‪ ،‬ثم إلى حروب‬ ‫استعمارية في بقية العالم‪.‬‬

‫متأخرة‬ ‫التوسع اإلمبريالي للمشروع الشيوعي هو صورة رمزية‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪155‬‬


‫تسمى‪،‬‬ ‫لهذه النزعة‪ .‬واليوم‪ ،‬يجد الغرب نفسه متو ِّرط ًا في حروب‬ ‫ّ‬

‫أحيان ًا‪ ،‬الحروب اإلنسانية‪ ،‬المفروض أن تجلب الخير لآلخرين‪ :‬حقوق‬

‫التدخل في العراق‪،‬‬ ‫اإلنسان‪ ،‬الديموقراطية‪ ،‬االزدهار‪ ...‬وهكذا حدث‬ ‫ُّ‬ ‫التدخل وهذه الحروب لم‬ ‫في أفغانستان‪ ،‬في ليبيا‪ ،‬غير أن نتائج هذا‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ترق إلى مستوى ُّ‬ ‫توقعاتنا‪ .‬ولسبب وجيه‪ :‬ليس إخضاع الشعوب هو الذي‬

‫سيجعلها تنعم بالح ّريّة‪ ،‬وليس القصف هو الذي سيجعلها تعيش في‬ ‫«التدخل اإلنساني»‬ ‫السالم‪ .‬هناك مفارقة أ كيدة نراها اليوم في عبارة‬ ‫ُّ‬

‫«التدخل العسكري»‪ .‬هناك عد ّو‬ ‫التي أصبحت تورية تلطيفية لعبارة‬ ‫ُّ‬ ‫حميمي آخر للديموقراطية؛ الليبرالية المتط ِّرفة‪ .‬تنطلق هذه اإليديولوجية‬

‫الخف ّية ‪-‬التي تهيمن في وقتنا الحاضر‪ -‬من مُ َس َّلمات ثابتة ال جدال‬ ‫تنص على أن الفرد قادر على تحقيق االكتفاء بذاته‬ ‫فيها‪ ،‬مُ َس َّلمات‬ ‫ّ‬ ‫ولذاته‪ ،‬وأن إشباع وتحقيق الحاجيات المادية ِ ّ‬ ‫يشكل القيمة العليا للحياة‬

‫تؤدي هذه اإليديولوجية ‪-‬بالتأ كيد‪ -‬إلى نتائج كليانية‪.‬‬ ‫البشرية‪ .‬وهكذا‪ّ ،‬‬

‫يتم عزل النشاط االقتصادي عن الجوانب األخرى للوجود اإلنساني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويشغل ‪ -‬في الوقت نفسه ‪-‬مكانه مركزية تهيمن على باقي مناحي‬

‫الح ّد من نفوذ‬ ‫الحياة‪ .‬باسم الح ّريّة الفردية‪ ،‬تقلع السلطة السياسية عن َ‬

‫السلطة االقتصادية‪ ،‬وتنتهك ‪-‬على هذا النحو‪ -‬القاعدة الذهبية التي‬

‫صاغها مونتسكيو في هذه العبارة‪« :‬كل سلطة بال حدود‪ ،‬ال يمكن أن‬

‫تكون سلطة مشروعة»‪ .‬حين ينفلت االقتصاد من رقابة السياسة‪ ،‬فإنه‬

‫يصبح قضية خبراء منفصلين عن الوطن وبعيدين عن الصالح العام‪ .‬ليس‬ ‫المقصود هو التخندق في الطرف اآلخر والدعوة إلى اقتصاد مُ َؤمَّم‪،‬‬

‫بل الهدف هو تج ُّنب العقبات التناظرية المد ِ ّمرة للح ّريّة‪ ،‬كما هو الشأن‬

‫أيض ًا بالنسبة للنزعات التي تستهدف تدمير بعض الطبقات االجتماعية‪.‬‬ ‫‪156‬‬


‫يؤدي هذا البحث الجامح عن الربح الفوري إلى‬ ‫في الحياة اليومية‪ّ ،‬‬

‫فقدان المعنى في الحياة وبرمجة العقول على تجريد الكائن البشري من‬ ‫إنسانيته‪.‬‬

‫ثمة خطر آخر ناجم عن القيم الديموقراطية؛ هو الشعبوية التي أصبحت‬ ‫تؤدي خياراتها‪ ،‬التي ت َّتسم بقصر‬ ‫تتم َّتع بنفوذ متزايد في أوروبا والتي ّ‬

‫َ‬ ‫المق ّنعة‬ ‫النظر‪ ،‬إلى اختيار أ كباش المحرقة وإلى تنامي نزعة كره األجانب‬

‫بشكل كبير‪ ،‬في حين أن االنفتاح على العالم هو شرط ضروري لتف ُّتح‬ ‫البلد وتطوُّره‪.‬‬

‫باتريس دوميرتين‪ :‬سيردّ عليك الشعبويون أنهم انبثاق‬

‫إلرادة الشعب‪ ،‬وأنهم يجسّ دون الديموقراطية‪...‬‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يدعو جميع أعداء الديموقراطية الحميمون إلى‬ ‫احترام المبادئ المالزمة ّ‬ ‫حق ًا للديموقراطية‪ ،‬لكنهم‪ ،‬في نهاية المطاف‪،‬‬

‫يعمدون إلى خيانة روح الديموقراطية‪ .‬هكذا زعمت المسيحية السياسية‬

‫أنها ستنشر الخير في العراق‪ ،‬لكن هذه المسيحية السياسية مارست‬ ‫تمت تزكيته وإضفاء الشرعية عليه‪ ،‬حتى ال نقول‬ ‫التعذيب الذي َّ‬

‫ُّ‬ ‫تحقق الح ّريّة‬ ‫المؤسس‪ .‬تستند الليبرالية المتط ِّرفة إلى شرط‬ ‫التعذيب‬ ‫َّ‬ ‫الفردية‪ ،‬باعتبارها قيمة أساسية للديموقراطية‪ ،‬لكنها تضع المواطن في‬

‫قبضة أصحاب النفوذ االقتصادي‪ .‬ومن ث ََّم‪ ،‬فإن «الشعب» الذي تزعم‬ ‫الشعبوية الدفاع عن مصالحه‪ ،‬يجد نفسه‪ ،‬أخير ًا‪ ،‬ألعوبة في مناورات‬ ‫الديموقراطية نفسها‪ ،‬لكن المقصود في هذه الحالة وبطريقة حصرية‪،‬‬ ‫سيد نفسه‬ ‫العمل على تأويل هذا المفهوم‪ .‬يجب أن يكون الشعب ِ ّ‬ ‫‪157‬‬


‫وصاحب الحق في تقرير مصيره‪ ،‬لكن ال ينبغي أن ننسى ونتجاهل أن‬ ‫هذا الشعب نفسه ت ََّم التأثير عليه‪ ،‬بل التالعب بقيمه‪ ،‬وأن هذا االنكسار‬

‫وهذا الضعف تفاقم‪ ،‬بشكل كبير‪ ،‬في عصرنا الحالي بسبب انتشار وسائل‬ ‫اإلعالم‪ ،‬وما ت َّتسم به من نفوذ وسلطة ال حدود لهما‪ .‬لهذا السبب تحتمي‬

‫والح ّد المتبادل‬ ‫الديموقراطية بجميع أنواع اآلليات المناسبة‪ :‬الفصل‬ ‫َ‬ ‫للصالحيات‪ ،‬مع التشديد‪ ،‬بشكل أ كبر‪ ،‬على استقالل القضاء‪ ،‬احترام‬ ‫مبادئ الدستور‪ ،‬حقوق األقليات‬ ‫يعبر‬ ‫ُّ‬ ‫وتعدد المجالس المنتخبة‪ .‬سوف ِ ّ‬

‫الشعب ‪-‬في هذه الحالة‪ -‬عن إرادته بشكل أفضل من خالل مم ِ ّثليه‬

‫تؤدي إلى الشعبوية‪.‬‬ ‫بدل العمل على انخراط الكتلة الجماهيرية التي ّ‬ ‫ال ِ ّتخاذ القرارت السليمة يجب على المواطن ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬أن يكون على‬

‫يؤدي إلى استبعاد التص ُّرف على عجل تحت‬ ‫ب ِ َّينة من أمره‪ ،‬الشيء الذي ّ‬

‫متعددة مذهلة‪ّ ِ .‬‬ ‫تركز الشعبوية‪،‬‬ ‫تأثير العاطفة التي قد تؤ ِ ّثر فيها وقائع‬ ‫ِّ‬

‫بشكل مفرط‪ ،‬على الحاضر‪ ،‬متجاهلة أنه من الالزم‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬ا ِ ّتخاذ‬

‫قرارات غير شعبية لضمان رفاهية األجيال القادمة‪ .‬كما تغري الشعبوية‬

‫ضد األجانب‬ ‫السكان األصليين‪ ،‬وتجاملهم بممارسة التمييز العنصري ّ‬ ‫توسع وإثراء البلد بأ كمله‪.‬‬ ‫حيث تتناسى أن المبادالت مع اآلخرين تع ِ ّزز ُّ‬

‫يجسد‬ ‫ضد الطلبة األجانب خير مثال‬ ‫تبقى اإلجراءات الشعبوية األخيرة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ضد اآلخر‪.‬‬ ‫العنصرية ّ‬ ‫باتريس دوميرتين ‪ :‬في خضمّ السياق الشعبوي الحالي‪،‬‬ ‫كيف تتصوَّ ر التعدُّ دية الثقافية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يجب أن ننظر إلى وضع كهذا بشكل واضح‪ ،‬ألننا‬

‫نخلط ‪-‬في كثير من األحيان‪ -‬بين الكلمة التي تصف واقع ًا اجتماعي ًا‬

‫‪158‬‬


‫والكلمة المستخدمة لتسمية سياسة إرادوية‪ .‬إذا نظرنا إلى األمر من مستوى‬

‫متعدد الثقافات‪ ،‬ال وجود ألي مجتمع متجانس‬ ‫وصفي‪ ،‬كل مجتمع هو‬ ‫ِّ‬ ‫تمام ًا‪ .‬الثقافة هي مجموعة من الرموز المشتركة لجماعة اجتماعية‪ .‬ال‬ ‫َّ‬ ‫تتشكل الجماعة على أساس اللغة أو األصول العرقية المختلفة فقط‪،‬‬ ‫بل ألن األفراد ‪-‬أيض ًا‪ -‬ي َّتسمون بعادات وخصائص وسمات اجتماعية‬ ‫محددة‪ .‬ي َُه َّيأ األفراد إلطار يسمى «اإلطار الثقافي» بالمعنى األنثربولوجي‬ ‫َّ‬

‫للمصطلح‪ :‬هناك ثقافة الشباب‪ ،‬وثقافة المتقاعدين‪ ،‬ثقافة المقاولين‪،‬‬

‫وثقافة األطباء‪ ،‬بل ‪-‬أيض ًا‪ -‬ثقافة المتش ِّردين الذين يتفاهمون باإلشارة‪،‬‬

‫في حين أن بعض الجماعات تجد في الغالب صعوبة في التواصل مع‬

‫التعددية الثقافية؟ يكفي القول‪ :‬إنها نزعة إنسانية‪.‬‬ ‫هذه الفئات‪ .‬ما هي‬ ‫ُّ‬ ‫إنها سمة سياسية تكمن في نقد االختالفات بين المجتمعات داخل بلد‬ ‫التعددية الثقافية‪ ،‬التي كانت غائبة في معظم دول‬ ‫ما‪ .‬تطوَّرت سياسات‬ ‫ُّ‬

‫التعددية الثقافية‬ ‫أوروبا‪ ،‬في بريطانيا والواليات المتحدة األميركية‪ .‬إن‬ ‫ُّ‬ ‫تؤد إلى نتائج حاسمة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ثمة حقائق‬ ‫كاستراتيجية سياسية لم ِ ّ‬

‫أ كيدة؛ نعيش في عالم يسافر فيه الناس أ كثر من أي وقت مضى‪ ،‬عالم‬ ‫تختلط فيه مختلف الطبقات االجتماعية‪ .‬تلتقي‪ ،‬في بلدك‪ ،‬بأناس ال‬

‫يشبهونك‪ .‬فكيف ينبغي التص ُّرف إزاء هذا الوضع؟ طبع ًا لن نعمد إلى‬

‫خلق استثناءات قانونية للمجتمعات المختلفة؛ ينبغي تطبيق القانون‬ ‫على الجميع بال تمييز‪ .‬إن العمل على صياغة قوانين تحترم عادات‬ ‫ّ‬ ‫السكان األصليين وعادات المهاجرين يتعارض مع مبدأ المساواة‪ ،‬ويض ّر‬

‫أ كثر باألقليات التي ال تنجح في تحقيق االندماج‪ ،‬بمعنى أن األق ّل ّيات‬ ‫يجب أن تستفيد من حقوقها الكاملة في مجتمعها الجديد‪ .‬بالمقابل‪،‬‬

‫ثمة العديد من مميزات وخصائص حياتنا‪ ،‬ال يعود مصدرها إلى القانون؛‬ ‫‪159‬‬


‫وبناء عليه فالتسامح‪ ،‬كفضيلة ديموقراطية أخرى‪ ،‬هو من يجب أن ينتصر‬

‫ويتو ّلى المسؤولية‪ .‬أن تقوم متاجر السوبر ماركت ببيع وجبات خاصة‬ ‫متعددة لزبنائها يبقى أمر ًا مقبو ً‬ ‫ال بشكل تام‪.‬‬ ‫من خالل توفير خيارات‬ ‫ِّ‬

‫بس ّن قوانين على الحالل أو الكاشير يبدو لي هذا أمر ًا سخيف ًا‪.‬‬ ‫أن نقوم َ‬

‫مخز أو شائن في أن تقوم النساء بارتداء الحجاب في‬ ‫ال أرى أي شيء‬ ‫ٍ‬

‫أثناء مرافقة أبنائهن في الرحلة المدرسية‪ .‬أو أن ِ ّ‬ ‫يفضل بعض النساء أن‬

‫حمام السباحة‪.‬‬ ‫ال يشاهدهم الرجال حين يذهبن إلى ّ‬

‫باتريس دوميرتين‪ :‬دون أعداء كليانيين‪ ،‬إلى أين نحن‬ ‫ذاهبون؟ وما نوع العالم الذي نريد أن نعيش في ظالله؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬دعونا نبدأ ‪-‬أو ً‬ ‫ال‪ -‬باالبتهاج لكوننا َه َزمْنا األعداد‬

‫الكليانيين ومع ذلك‪ ،‬ال ينبغي أن ينسينا هذا االنتصار األعداء الجدد‬

‫الذين يولدون من أنفسنا‪ .‬إنها عبارة ستانلي كوبريك وهو يع ِ ّلق على‬

‫فيلمه «سترة معدنية كاملة‪ :‬لقد بحثنا عن العدو فوجدناه أنه نحن»‪.‬‬ ‫ي َّتفق القديس أوغسطين تمام ًا مع هذا الرأي‪ ،‬وهو الذي يعتقد أن الش ّر‬

‫ليس قوة خارجة عن إرادة اإلنسان‪ ،‬بل الشر كامن في أعماقه وجزء من‬ ‫ميوله الخاصة‪.‬‬

‫على عكس اليوتوبيات الحالمة‪ ،‬سواء ذات الطبيعة الدينية‬

‫تقدم نفسها كتجسيد‬ ‫وذات الطبيعة السياسية‪ ،‬فإن الديموقراطية ال‬ ‫ّ‬ ‫للكمال‪ .‬أ كثر من ذلك‪ ،‬ممارسة النقد الذاتي ِ ّ‬ ‫تشكل سمة مرتبطة بتعريف‬

‫الديموقراطية نفسها‪ .‬لكن ال ينبغي االكتفاء‪ ،‬فقط‪ ،‬باألشكال الوحيدة‬

‫ّ‬ ‫كالحق في التصويت‪ ،‬ألن هذه األشكال قد تفقد روحها‪،‬‬ ‫للديموقراطية‪،‬‬ ‫‪160‬‬


‫وتتحوَّل إلى َص َدفة فارغة‪ .‬في هذا الصدد‪ ،‬فإن حركات الساخطين‪،‬‬

‫باعتبارها حركات متق ِّلبة وغير منطقية حين يقرأ المرء مشاريعهم السياسية‪،‬‬

‫تصبح حركات كاشفة للحقيقة بمج َّرد أن يالحظ المرء هذه الحركات‬

‫كأعراض وداللة على ضعف الرؤية السياسية‪ .‬أن يصرخوا في الشوارع‬

‫«الديموقراطية اآلن!» بد ً‬ ‫ال من عبارة «تحيا الثورة» هي بدعة في قارّتنا‬

‫األوروبية‪ .‬إنهم يصرخون للتعبير عن استيائهم‪ ،‬عن عدم فهمهم‪ ،‬وعن‬

‫متوحش ومج َّرد‬ ‫الخاصة وعاداته‪ ،‬عالم‬ ‫ملبد ًا بأنظمته‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫رفضهم لعالم يبدو ّ‬ ‫من اإلنسانية‪.‬‬

‫باتريس دوميرتين‪ :‬من هذا المنظور‪ ،‬ما المكانة التي يجب‬

‫أن تحتلّها أوروبا في هذا السياق؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬بعد الصدمة الرهيبة التي أحدثتها الحرب العالمية‬

‫الثانية التي َش َّنها هتلر‪ ،‬انخرطت أوروبا في سياق منظور جديد قائم على‬

‫السالم‪ ،‬مع حلم بناء عالم جديد يستحيل أن تندلع فيه حرب جديدة بين‬ ‫األوروبيين‪ .‬فيما بعد‪ ،‬ولمواجهة التهديد السوفياتي والجيش األحمر‬ ‫الستاليني الذي كان على مشارف أوروبا الغربية‪ ،‬كان من الواجب على‬

‫أوروبا أن تع ِ ّبئ قواتها المشتركة للدفاع عن نظامها السياسي‪ .‬لكن‪ ،‬منذ‬ ‫ذلك الزمن‪ ،‬لم يعد الخطر الخارجي موجود ًا‪ ،‬غير أن سكان أوروبا لم‬

‫يعودوا يؤمنون بفكرة اال ِ ّتحاد‪ .‬أو أصبح بإمكان هذه الساكنة أن تجد‬ ‫هذا اال ِ ّتحاد في نموذج المجتمع الذي تميل أوروبا إلى تجسيده (والذي‬

‫يتضح لنا‪ ،‬بشكل أفضل‪ ،‬حين ننظر إلى أوروبا من بقاع أخرى من‬ ‫العالم)‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫تتم َّتع أوروبا بآداب السلوك التي أتع َّلق بها أنا شخصي ًا‬

‫بشكل كبير؛ إنها آداب سلوك منسوجة من التوازن بين الح ّريّات الفردية‬

‫والحرص على الصالح العام‪ ،‬بين الوفاء للتقاليد واالنفتاح على اآلخرين‪،‬‬

‫بين التط ُّلعات الروحية والحساسيات المادية‪ .‬ربما نشأت آداب السلوك‬

‫هذه من تاريخنا القديم‪ ،‬من الجغرافيا المتن ِّوعة‪ ،‬من التعايش العريق‬

‫الضارب في ال ِق َدم بين دول ت َّتسم بعادات ولغات وأنماط حياة مختلفة‪.‬‬ ‫أعتقد أن التجديد الديموقراطي سيجد مكان ًا مناسب ًا في القارة‬

‫التي شهدت هذا النوع من النظام‪ ،‬قارة أوروبا‪ ،‬التي تتم َّيز بمزايا تجابه‬

‫أهم ّية جغرافية ضخمة وهائلة‪ ،‬دو ً‬ ‫بها دو ً‬ ‫ال بحجم قارات‪،‬‬ ‫ال أخرى ذات ّ‬ ‫َّ‬ ‫تمكنت‬ ‫مثل الصين‪ ،‬الهند‪ ،‬روسيا‪ ،‬الواليات المتحدة‪ ،‬البرازيل‪ .‬إذا‬

‫أوروبا من اغتنام الفرصة السانحة أمامها إلعادة بناء الديموقراطية على‬

‫أسس متينة‪ ،‬فإنها ستساهم في صقل النموذج الديموقراطي الذي يتيح‬

‫الخروج من التعارض العقيم بين مجتمع بطريركي قمعي ومجتمع ليبرالي‬

‫ومتوحش‪ ،‬هذا النموذج الذي مازالت دول أخرى َت َّتبعه في بقاع‬ ‫متط ِّرف‬ ‫ِّ‬

‫أخرى من العالم‪ .‬إننا نحلم ونتط َّلع إلى «ربيع أوروبي «يعقب» الربيع‬ ‫معنى عميق ًا على المغامرة الديموقراطية التي‬ ‫العربي»‪ ،‬ربيع يضفي‬ ‫ً‬

‫بدأتها اإلنسانية منذ مئات السنين‪ .‬لقد حان الوقت لسماع وتنفيذ هذا‬ ‫النداء الحالي‪« :‬الديموقراطية اآلن!» ألننا‪ ،‬جميع ًا‪ ،‬ملتزمون ومنخرطون‬

‫اليوم في المغامرة نفسها‪ ،‬ومحكوم علينا ‪-‬جميع ًا‪ -‬إما بالنجاح أو‬ ‫بالفشل‪.‬‬

‫على الرغم من أن كل فرد منا يبقى عاجز ًا أمام ضخامة‬

‫متحجرة غير‬ ‫التحديات‪ ،‬فمن األكيد أن التاريخ ال يخضع لقوانين‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫‪162‬‬


‫قابلة للتغيير‪ ،‬وأن االتّكال ال يق ِّرر المصير‪ ،‬وأن المستقبل رهين اإلرادة‬ ‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪20/01/2012‬‬

‫‪163‬‬


‫جدران ُت َش ِ ّوه اإلنسان‬ ‫«ثمة جدار وجدار‪ ...‬وطبيعة الجدار اإلسرائيلي ليست كطبيعة جدار‬ ‫ّ‬

‫برلين‪ ..‬والحاجز المنصوب بين المكسيك والواليات المتحدة يخضع‬ ‫لمنطق آخر‪ .‬تكمن النقطة المشتركة بين هذه الحواجز في إقامة جدار‬ ‫صد الخوف من اآلخرين‪».‬‬ ‫منيع‬ ‫ّ‬ ‫يتوخى ّ‬

‫منذ سقوط جدار برلين سنة ‪ ،1989‬ظهرت العديد من‬

‫الجدران في شتّى بقاع العالم بهدف الفصل بين الشعوب‪،‬‬ ‫البعض من هذه الجدران تَمَّ بناؤه‪ ،‬والبعض اآلخر قيد‬

‫التشييد‪ .‬هل تم ِّثل هذه الجدران ‪-‬بطريقة أو بأخرى‪ -‬هذا‬ ‫«الخوف من البرابرة» الذي وَ سَ مْ تُم به كتابكم األخير؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬في الواقع‪ ،‬لست على يقين من مدى مصداقية‬ ‫وجدوى توحيد مجمل األسئلة التي تثيرها إقامة العديد من الجدران‪،‬‬

‫هنا وهناك‪ ،‬للفصل بين مختلف الشعوب‪.‬‬

‫جد متنوعة‪ .‬فجدار برلين‬ ‫الهوية المادية للمسألة تخفي وظائف ّ‬

‫‪ -‬حتى يكون هو أ ُول ما نبدأ به ‪ -‬ينتمي إلى فئة نادرة من الجدران‪.‬‬

‫ففي الوقت الذي ُش ِ ّيدت فيه العديد من الجدران األخرى لمنع دخول‬ ‫األجانب إلى البلد‪ ،‬ت ََّم بناء جدار برلين ‪-‬خصوص ًا‪ -‬لمنع المواطنين من‬

‫السفر إلى الخارج‪ .‬لقد كان هذا الجدار بمثابة التج ّلي المادي القائم‬

‫‪164‬‬


‫للستار الحديدي‪ .‬إنه سجن أقامته الحكومات الشيوعية لشعوبها حتى ال‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫السكان‪ ،‬بل‬ ‫تتمكن من الهرب‪ .‬لم يكن ذلك الجدار يهدف إلى حماية‬

‫إلى محاصرتهم وسجنهم في فضاء محدود‪.‬‬

‫تقدم مثا ً‬ ‫ال واضح ًا للجدران‬ ‫هناك فئة أخرى من الجدران ِ ّ‬

‫الحديدية التي تفصل بين بلدان كانت في حالة حرب‪ .‬ذلك هو حال‬

‫الجدار الذي يفصل بين الكوريَّتين‪ ،‬أو بين الهند وباكستان في كشمير‪،‬‬

‫أو في قبرص بين األجزاء اليونانية والتركية‪ .‬ورغم أن الحرب انتهت‪ ،‬إال‬ ‫أن السالم لم يحلّ بعد بين األطراف المتناحرة‪ ،‬لهذا نرى أن كل طرف‬ ‫يتمترس خلف حاجزه المنيع‪.‬‬

‫أال تم ِّثل ‪ -‬على الرغم من كل هذا ‪ -‬جميع الجدران األخرى‬ ‫الخوف من البربري؟ أو باألحرى الخوف من اآلخر؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬في الواقع‪ ،‬إن أ كثر الجدران انتشار ًا هي تلك‬ ‫يتم بناؤها بهدف تحقيق األمن‪ .‬لقد لعبت هذه الجدران‬ ‫الجدران التي ّ‬

‫األهم ّية في الماضي البعيد‪ ،‬في تلك المرحلة التي كان‬ ‫دور ًا في منتهى‬ ‫ّ‬ ‫مهمة بالغة الصعوبة‪ .‬ويبقى خير مثال‬ ‫فيها اإلقدام على تدمير أي جدار ّ‬

‫على هذه الجدران‪ ،‬جدار هادريان الذي ت ََّم تشييده لحماية اإلمبراطورية‬

‫الرومانية‪ ،‬أو سور الصين العظيم‪ ،‬أو تلك الحصون المنيعة المش َّيدة حول‬

‫المدن في القرون الوسطى‪ .‬لقد كانت الغاية من هذه الجدران الدفاعات‬ ‫أدى إلى التخلي‬ ‫التقدم التقني لصناعة‬ ‫العسكرية‪ ،‬غير أن‬ ‫المتفجرات ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬

‫المتفجرات التي أفقدتها الفعالية والنجاعة‪.‬‬ ‫عنها‪ ،‬تدريجي ًا‪ ،‬بسبب‬ ‫ِّ‬

‫َس َم ْ‬ ‫ت‬ ‫ظهر نوع جديد من الجدران‪ ،‬في العقود األخيرة‪ ،‬و َ‬ ‫‪165‬‬


‫‪-‬بشكل خاص‪ -‬عصرنا‪ :‬إنه الجدار المناهض للمهاجرين الذي يكمن‬

‫دوره في منع الفقراء من دخول الدول الغنية لكسب لقمة العيش والحياة‬ ‫الكريمة‪ ،‬إنه الجدار األ كثر إثارة‪ ،‬ألنه جدار قائم بين الواليات المتحدة‬

‫والمكسيك‪ ،‬ويفصل القارة إلى جزأين‪ .‬هناك أيض ًا وبصورة دقيقة الحاجز‬

‫المنصوب لتسييج إسبانيا من جهة شمال إفريقيا‪ ،‬وبالضبط‪ ،‬في سبتة‬

‫ومليلية‪ .‬وتنضاف لهذه الصورة جدران أخرى بنيت ‪-‬بشكل خاص‪-‬‬ ‫لدواع عسكرية (كما هو الحال في المنطقة الخضراء‬ ‫لحماية رقعة مع َّينة‬ ‫ٍ‬

‫في بغداد) أو ‪-‬أيض ًا‪ -‬بدافع الخوف من مجاورة األحياء الفقيرة سيئة‬

‫ُنصب لحماية‬ ‫السمعة‪ ،‬كما هو الشأن في بادوفا‪ .‬هناك أخير ًا أسيجة ت َ‬

‫بعض اإلقامات الفاخرة‪ ،‬وهي فئة مثيرة لالهتمام‪ :‬إنها معازل ذهبية‬ ‫اختار ّ‬ ‫سكانها‪ ،‬بطيبة خاطر‪ ،‬التخندق داخلها‪.‬‬ ‫لماذا لم تذكر الجدار الذي يتحدَّ ث عنه الجميع في غالب‬

‫األحيان‪ ،‬الجدار الذي أنشأته إسرائيل في الضفة الغربية؟‬

‫يؤديه من‬ ‫تزيفتان تودوروف‪ :‬ألن هذا الجدار ال مثيل له‪ ،‬وذلك لما ّ‬

‫وظائف عديدة ومختلفة في آن واحد‪ .‬بالطبع يأسف المرء لعدم إيجاد‬ ‫أية وسيلة لتجاوز الصراع‪ ...‬لكن من المالحظ أنه منذ بناء هذا الجدار‬

‫انخفضت هجمات المقاتلين الفلسطينيين بنسبة ‪ 80‬في المئة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬

‫يتم بناء هذا‬ ‫فهذا الجدار ليس منوط ًا بهذا األمر فقط‪ .‬في الواقع‪ ،‬لم ّ‬ ‫يسمى«الخط األخضر»‪ ،‬بل ُب ِني‬ ‫الجدار على الحدود بين بلدين أو ما‬ ‫ّ‬

‫على األراضي الفلسطينية باالعتداء عليها أحيان ًابعشرات األمتار‪ ،‬وفي‬

‫أحيان أخرى بعشرات الكيلومترات‪ .‬وبهذا أصبح هذا الجدار الصلد‬

‫والعازل يم ِ ّثل الحدود السابقة (لم يعد بإمكان الفلسطينيين الذهاب‬ ‫‪166‬‬


‫ضم‬ ‫إلى أراضيهم في الطرف اآلخر)‪ .‬أما وظيفته الثانية فتكمن في‬ ‫ّ‬

‫أجزاء جديدة من األراضي الفلسطينية‪ .‬وهذه ليست آخر وظائفه‪ ،‬فالغاية‬ ‫من بناء هذا الجدار لها عالقة وثيقة بسياسة احتالل األراضي والتي‬ ‫المخصصة‪ ،‬ومن خالل الفصل‬ ‫تتوخى ‪ -‬عن طريق شبكة من الطرق‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬

‫ضم المستوطنات الموجودة داخل فلسطين في إسرائيل‪.‬‬ ‫والمراقبة ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتبقية من األراضي الفلسطينية التي يجد‬ ‫أما في المناطق المختلفة‬ ‫ّ‬ ‫مشقة كبيرة للتواصل بينهم‪ ،‬فقد غدت أوضاعهم شبيهة‬ ‫السكان داخلها‬

‫باألوضاع التي كانت قائمة في البانتوستانات زمن الميز العنصري في‬

‫جنوب إفريقيا (نظام األبرتهايد العنصري)‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فالجدار الذي كان الهدف منه تحقيق األمن والحماية‬

‫أضحى ‪ -‬بالنسبة لحياة الفلسطينيين ‪ -‬جدار ًا للخنق والسجن‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن‬

‫هذا‪ ،‬فالجدار له وظيفة سياسية‪ :‬جعل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة‬

‫وقابلة للحياة إلى جنب إسرائيل أمر ًا غير قابل للتحقيق‪.‬‬

‫أي جدار ‪-‬في غالب األحيان‪ -‬الجزء المادي لجدران‬ ‫يُعَ دّ ّ‬

‫أقل إثارة (الحدود على سبيل المثال)‪ ،‬وقد يُعَ دّ جدار ًا‬ ‫ّ‬ ‫افتراضياً‪ ،‬ومن هذا المنظور إن الجدار المقام في مناطق‬ ‫الطوق اإلسبانية في سبتة ومليلية هو نقطة تثبيت‪ ،‬أو ما‬

‫يسمّ يه سكان أوروبا الشرقية «جدار شينغين»‪ ،‬جهاز مراقبة‬

‫الهجرة إلى أوروبا‪ .‬أال تلعب الجدران االفتراضية دور ًا بالغ‬ ‫األهمية كما هو شأن الجدران المرئية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬تم ِ ّثل الجدران غير المرئية حدود ًا غير قابلة للعبور‪،‬‬

‫المبنية من الطوب أو الحجارة‬ ‫وفعالية من الجدران‬ ‫إنها أكثر نجاعة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪167‬‬


‫أو الفوالذ؛ تلك كانت حالة جدار برلين مع الكتلة السوفيتية قبل سنة‬ ‫‪ ،1989‬لم يكن جدار برلين سوى جزء من الستار الحديدي الذي لم‬ ‫سد ًا منيع ًا بسبب التسريبات التي كانت داخله‪ .‬كنت أعيش في‬ ‫يكن ّ‬

‫ذلك الوقت في بلغاريا (إلى حدود سنة ‪ ،)1963‬لم يكن بمقدور أي‬

‫تتردد في‬ ‫مواطن اجتياز الجدار دون ترخيص‪ .‬لقد كانت الدوريّات ال‬ ‫ّ‬ ‫إطالق النار‪ .‬كانت األخبار والمعلومات الوافدة من الجهة األخرى‬ ‫مراقبة‪ .‬لم يكن بمقدور المرء إجراء مكالمة هاتفية إلى للخارج‪ ،‬ولم‬

‫تكن قراءة الصحف الغربية أمر ًا متاح ًا‪ ،‬باستثناء الشيوعية منها‪ ،‬أما‬

‫ّ‬ ‫يتم التشويش عليها في بلغاريا‪ .‬أما‬ ‫محطات اإلذاعات الغربية فكان ّ‬

‫الجدران الصغيرة التي تحيط بسبتة ومليلية فلها نتائج من خالل وسائل‬

‫يحد بلدك البحر؟ الشأن نفسه مع‬ ‫أخرى‪.‬ما الهدف من إقامة حاجز حين‬ ‫ّ‬

‫الواليات المتحدة األميركية التي ال تضاعف حدودها عبر إقامة جدار‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مرشحي‬ ‫همة‬ ‫تثبطان ّ‬ ‫ما دامت منطقة الريوغراندي وصحراء أريزونا ّ‬

‫الهجرة‪ .‬أصبح األفارقة الذين يسعون لاللتحاق بأوروبا ي ّتخذون من‬

‫ّ‬ ‫وللح ّد من‬ ‫ّلية‪ :‬جزر الكناري‪ ،‬مالطا والمبيدوزا‪.‬‬ ‫الجزر‬ ‫َ‬ ‫محطات عبور أو ّ‬

‫الهجرة‪ ،‬باإلضافة لهذه الحواجز‪ ،‬أصبح األوروبيون يستثمرون في أجهزة‬ ‫المراقبة والطائرات والبواخر المزوَّدة بالرادارات وكاشفات األشعة ما‬

‫فوق الحمراء‪ .‬حتى إجراءات التفتيش المعتمدة بمطار رواسي تساهم‬ ‫هي األخرى في هذا الجدار االفتراضي‪ .‬وفي حال تنامي الهجرة بشكل‬ ‫كبير‪ ،‬من الجهة الشرقية ألوروبا‪ ،‬عبر تركيا وأوكرانيا وبيالروسيا حيث ال‬

‫وجود لبحار فاصلة‪ ،‬فإني ال أستبعد إقامة جدران فعلية مزوَّدة بأسالك‬ ‫شائكة‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫أليس من الغريب اإلقدام على إقامة هذه الجدران الفعلية‬ ‫واالفتراضية‪ ،‬في حين أننا نعيش‪ ،‬بامتياز‪ ،‬زمن «العولمة»؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬من بين كل الجدران التي ذكرنا‪ ،‬هناك فئة من‬ ‫تسم ‪-‬بشكل حصري‪ -‬عصرنا الحديث‪ :‬الجدران المناهضة‬ ‫الجدران ِ‬ ‫متأصل بشكل جوهري في العولمة‪،‬‬ ‫للمهاجرين‪ .‬وهذا النوع من الجدران‬ ‫ِّ‬

‫المالي‬ ‫وذلك ما يشكل تناقض ًا في طبيعتها‪ .‬في الماضي لم يكن الفالح‬ ‫ّ‬ ‫(نسبة إلى مالي) يرغب في الهجرة إلى باريس‪ ،‬وفالح الهندوراس‬

‫لم يكن يحلم باإلقامة في لوس أنجلس‪ .‬لم يكن في علمهم وجود‬

‫هذه األمكنة‪ .‬كان لزام ًا علينا انتظار حدوث هذا الترابط في العالقات‬ ‫الحالية‪ ،‬بشكل مذهل‪ ،‬بين مختلف أطراف العالم ليظهر هذا الحلم‪.‬‬

‫ُص َّنع في الشمال تتجوَّل بح ّريّة‬ ‫في وقتنا الحالي أصبحت المواد التي ت َ‬

‫في الجنوب‪ ،‬وبشكل أ كثر كثافة‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬المعلومات والصور‪ .‬أعتقد أن‬ ‫رد فعل األغنياء إزاء تداعيات‬ ‫إقامة الجدران المناهضة للمهاجرين هو ّ‬ ‫العولمة على الفقراء‪ .‬إن ر َّد الفعل هذا أو الشعور الجديد المتم ِ ّثل في‬

‫«الخوف من البرابرة» ألمر مؤسف حق ًا‪ .‬إنه خوف فاقد للفعالية من‬

‫يتصدى لإلثارة دون االهتمام باألسباب‪ .‬والحالة هذه‪ ،‬فإن‬ ‫حيث كونه‬ ‫ّ‬

‫األسباب واضحة؛ إنما الفرق في المكافأة عن العمل بين الجنوب‬ ‫والشمال‪ ،‬والذي يمتد من ‪ 1‬إلى ‪ ،10‬أو من ‪ 1‬إلى ‪ .100‬وما لم‬

‫تتم تسوية هذه الوضعية‪ ،‬سيستم ّر الفقراء بش ّتى الوسائل‪ ،‬في محاولة‬ ‫ّ‬

‫التوافد إلى مناطق األغنياء‪ ،‬ألن ذلك هو سبيل خالصهم الوحيد‪ .‬إن‬

‫مستعدون لركوب كل المخاطر‪ ،‬كالمشي ألسابيع في‬ ‫هؤالء المهاجرين‬ ‫ّ‬

‫الصحراء الملتهبة‪ ،‬أو البقاء أليام وأيام واألمواج تتقاذفهم داخل قوارب‬

‫‪169‬‬


‫متهالكة‪ ...‬الس َّيما وأنهم يقحمون معادلة الشرف في هذه القضية‪ ،‬ألنهم‬

‫يشعرون بثقل المسؤولية في إيجاد غذاء لزوجاتهم وأبنائهم في بالدهم‪.‬‬

‫حين ال ينجحون في طريقة ما فإنهم يج ِّربون طريقة أخرى قد تكون على‬

‫مستوى ٍ‬ ‫عال من الخطورة بالنسبة لهم ولنا‪ ،‬نحن ‪-‬األوروبيين‪ .‬وفي نهاية‬

‫المطاف ينتج عن هذا الوضع شعور بالضغينة‪ .‬لهذا السبب يتع َّين علينا‬

‫أن نبذل قصارى جهدنا لتحسين مستوى المعيشة في بالدهم ألن ذلك‬ ‫من صميم مصلحتنا؛ شئنا ذلك أم أبينا‪ ،‬فنحن نعيش في عالم واحد‪ .‬لن‬

‫يكون األمر سه ً‬ ‫ال (ألن الفساد والرشوة تسود النخب القيادية في الدول‬

‫ّ‬ ‫المهدرة في‬ ‫الفقيرة)‪ ،‬لكن نبل المحاولة‬ ‫يستحق كل العناء‪ .‬إن األموال ُ‬ ‫مراقبة الحدود وبناء الجدران يمكن استثمارها في الشراكة مع البلدان‬

‫الفقيرة‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن هذا يجب أن نغ ِ ّير طابع عالقتنا مع األجانب‪ .‬فلو‬

‫أن هؤالء المهاجرين كانوا أحرار ًا في ُّ‬ ‫تنقالتهم لكان بوسعهم العودة‪،‬‬

‫يقدموا خدمات‬ ‫باستمرار‪ ،‬إلى بلدانهم األصلية؛ وبهذه الطريقة يمكن أن ِ ّ‬ ‫تحصلوا عليها في أقطار أخرى‪ .‬أما‬ ‫لبلدانهم بما تع َّلموا من معارف‬ ‫َّ‬

‫يهددوا وجودنا على قيد الحياة‪ .‬إن الهوية الثقافية‪،‬‬ ‫الباقون بيننا فلن ِ ّ‬ ‫لشعب ما‪ ،‬غير ثابتة‪ ،‬وحدها الحضارات الميتة هي التي ال تتغ َّير‪ .‬وإن‬

‫ماسة إلسهامات جماعات بشرية أ كثر‬ ‫أوروبا اآليلة للشيخوخة في حاجة ّ‬

‫شباب ًا وحيوية‪.‬‬

‫هام في إطار الشراكة مع اآلخرين‪،‬‬ ‫من الواجب القيام بعمل ّ‬

‫سواء حينما يكونون في بلدانهم أو في حال وجودههم بيننا عن طريق‬ ‫اإلدماج‪ ،‬ألن العولمة حركة في اتجاه واحد‪ ،‬وال رجوع فيها‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن‬

‫هذا‪ ،‬يجب االنخراط في عمل مشترك على مستوى االتحاد األوروبي‬ ‫‪170‬‬


‫المتشددة‬ ‫حتى ال تنقاد الشعوب األوروبية‪ ،‬وتخضع لألصوات اليمينية‬ ‫ِّ‬ ‫يهم فرنسا التي تسعى إلى إقامة وزارة‬ ‫والمتعالية هنا وهناك‪ .‬فاألمر ّ‬ ‫تتوخى تحويل الكرم والضيافة‬ ‫عجيبة للهوية الوطنية‪ ،‬وتشريعاتها التي‬ ‫ّ‬ ‫إلى جريمة‪.‬‬

‫حين نقرأ التاريخ الضارب في القِ دَ م‪ ،‬ندرك أن مصير‬ ‫الجدران هو السقوط‪ ،‬مثلما كان الشأن مع جدار برلين‪،‬‬

‫وندرك أيض ًا أنه بإمكاننا االلتفاف والتحايل على هذه‬ ‫خط ماجينو‪ ،‬وكذلك‬ ‫ّ‬ ‫الجدران مثلما كان الشأن مع‬

‫باإلمكان أن تفقد الجدران علّة وجودها كما حصل مع سور‬ ‫الصين العظيم‪ .‬هل ترون في مآل هذه الجدران باعث ًا على‬

‫التفاؤل حيال الجدران الحالية؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬أن يدرك المرء مآل سقوط جميع الجدران ال ِ ّ‬ ‫يشكل‬ ‫إال قدر ًا صغير ًا من العزاء للذين يعانون تحت وطأتها اليوم‪ .‬يجب أن‬

‫نأخذ في الحسبان مدى تأثير هذه الجدران على حياة اإلنسان وهو َح ّي‪،‬‬

‫وال على مستوى التاريخ أو بدرجة ّ‬ ‫أقل‪ ،‬فيما يتع َّلق بتآ كلها الطبيعي‪.‬‬

‫لقد سقط جدار برلين أربعين عام ًا بعد تطويق االتحاد السوفياتي لمناطق‬

‫نفوذه بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬أربعون سنة من االختناق وضيق‬ ‫األنفاس داخل سجن مفتوح‪ ،‬في الوقت الذي ال يملك فيه اإلنسان‬ ‫سوى حياة واحدة‪ .‬ليس بمقدورنا أن نتغاضى عن وجود السجن‪ ،‬ونحيا‬

‫سيما بالنسبة لنا‪ ،‬نحن الذين كنا نرزح تحت وطأة‬ ‫بانتظار التغيير‪ ،‬ال ّ‬

‫الوضع‪ ،‬وينتابنا الشعور بأن األمر سيدوم لقرون‪ .‬هذا ويجب أن نأخذ في‬ ‫الحسبان أن النشأة داخل الجدران تش ِّوه اإلنسان من الداخل‪ ،‬فينتهي به‬ ‫‪171‬‬


‫المطاف إلى نسيان أن هناك حياة خارج السجن‪ .‬وفي أحسن األحوال‬ ‫يتأجج داخل المرء المطوَّق بالجدران شعور بالكراهية يد ِ ّمر الذات‪،‬‬ ‫َّ‬

‫الشيء الذي يجعل اإلنسان يفقد القدرة على تمييز األلوان‪ ،‬فال يرى‬ ‫من حوله سوى األبيض واألسود؛ ولذلك ليس هناك ما يدعو لالطمئنان‬

‫فالجدران‪ ،‬حتى لو تحوَّلت إلى أنقاض‪ ،‬تبقى َح ّية أ كثر من حياة البشر‪.‬‬

‫ترمز جميع الجدران التي ذكرنا ‪ -‬سواء أ كانت جدران ًا‬ ‫حقيقية أم كانت افتراضية ‪ -‬إلى الخوف من اآلخر‪ .‬أليس‬

‫هذا األمر قضية إنسانية بحتة؟ ثم هل يكمن قدر اإلنسانية‬

‫في تشييد الجدران؟‬

‫تزيفتان تودوروف‪ :‬يكمن جوهر الجماعات البشرية والحيوانات الراقية‬ ‫في القدرة على إقامة عالقات مع مجموعات غريبة عنها تكون من جنسها‬ ‫نفسه‪ .‬يبقى الخوف هو ر َّد فعل ممكن في هذه الظروف‪ ،‬ولكنه ليس‬

‫ر َّد الفعل الوحيد‪ .‬فحين تنسج جماعة بشرية روابط مع جماعة أخرى‪،‬‬ ‫ويحدث أن تتضارب مصالحهما فإن خيار االنفصال أو الهروب أو إقامة‬

‫جدار فاصل هو الحلّ الممكن‪ .‬بوسعهم أيض ًا ‪ -‬وهذا أمر رهيب حق ًا‬ ‫ أن يشعلوا فتيل حرب تد ِ ّمر الخصم‪ ،‬أو تفرض عليه الخضوع (فرض‬‫عالقة تراتبية بالقوة كفيلة بإيقاف الحرب)‪ .‬ولكن‪ ،‬وعلى ضوء تضارب‬

‫المصالح‪ ،‬يمكن للطرفين االنخراط في عملية مفاوضات؛ وهذا يتطلب‬ ‫تنازالت من الجانبين‪ .‬يكتسي التفاوض أشكا ً‬ ‫ال عديدة هدفها النهائي‬ ‫تج ُّنب القطيعة والحرب والخضوع‪ .‬بدل الخوف من اآلخر يجب‬

‫التش ُّبث بالتفاوض ألنه جوهر النوع البشري؛ وذلك لكونه يحثّنا على‬ ‫الحوار واألخذ بعين االعتبار البعد الزمني‪ ،‬الماضي كما المستقبل‪ .‬وهذا‬ ‫‪172‬‬


‫تسميه المؤ ِّرخة وعالمة اإليثنولوجيا الفرنسية الشهيرة جيرمان تيللو‬ ‫ما‬ ‫ّ‬

‫«سياسة المحاورة»‪ ،‬وهو األمر نفسه الذي يدافع عنه الرئيس األميركي‬

‫الحالي باراك أوباما الذي نأمل أن تتطابق تصريحاته مع أقواله‪.‬‬

‫‪24/09/2009‬‬

‫‪173‬‬


‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪38‬‬

‫‪174‬‬

‫طبائع االستبداد‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫الغربال‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫الشيخان‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫ثورة األدب‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫عن َ‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫غسان كنفاين‬ ‫سليامن فياض‬ ‫عمر فاخوري‬ ‫عيل عبدالرازق‬ ‫نبي‬ ‫مالك بن ّ‬ ‫محمد بغدادي‬ ‫أبو القاسم الشايب‬ ‫سالمة موىس‬ ‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الشيخ محمد عبده‬ ‫بدر شاكر السياب‬ ‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫الطاهر الحداد‬ ‫طه حسني‬ ‫محمود درويش‬ ‫توفيق الحكيم‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫ميخائيل الصقال‬ ‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ريجيس دوبريه‬ ‫اإلمام محمد عبده‬ ‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫روحي الخالدي‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫يحيى حقي‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫خالد النجار‬ ‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫ابن طفيل‬ ‫ميشال سار‬ ‫محمد إقبال‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.