تزيفتان تودوروف (تأمالت في الحضارة ،والديموقراطية ،والغيرية) ُّ ترجمة :محمد الجرطي
38 يوزع مجانا ً مع العدد 82من مجلة الدوحة أغسطس 2014
تزيفتان تودوروف
(تأمُّ الت في الحضارة ،والديموقراطية ،والغيرية)
ترجمة :محمد الجرطي
الناشر : وزارة الثقافة والفنون والتراث -دولة قطر رقم اإليداع بدار الكتب القطرية : الترقيم الدولي (ردمك) : اإلخراج والتصميم :عالء األلفي -مجلة الدوحة المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة.
فهرس الكتاب
مقدمة
(كتب)
6
“تزيفتان تودوروف” سميولوجي ،مؤ ِّرخ وفيلسوف
12
هل ثمة وجود لبرابرة متخ ِ ّلفين؟
25
عالَمِ مُ نقَ سِ م بين الطموح ،واالستياء ،والخوف
38
أعداد الديموقراطية الحميمون
45
دفاع ًا عن الحضارة
الجرأة على التفكير في المُ حال
الليبرالية المُ طلَقة تع ِّرض الديموقراطية للخطر
تأمُّالت مواطن أوروبي
18 29 43 54
االتّحاد الديموقراطي للوسط السويسري
59
الديموقراطية المُ لَغّ مة
67
سوخها ،ومستقبلها الديموقراطية :مُ ُ
(مقاالت)
التعايش مع ثقافات مختلفة
62
72
لماذا نحن -دوماً -في حاجة إلى فكر األنوار؟
89
تحت أنظار اآلخرين
100
التخلُّص من األعداء
95
(حوارات) «ديموقراطية تفرز بنفسها أعداءها»
تتنكر لإلنسانية؟» َّ «من سيدافع عن حضارة
118 126
اسمِ الله» اسمِ حقوق اإلنسان كما نقتل بِ ْ «من السهل أن نقتل بِ ْ
131
«ليس ثمّ ة وجود لصراع حضارات»
145
«ديموقراطية متآ كلة من الداخل»
«ب ََحثْنا عن العدو ،فوجدنا أنه نحن» جدران تُشَ ِّوه اإلنسان
6
138 150 162
إهداء
إلى ذكرى أبي.
إلى أمي الحنون التي ثابرت من أجل تعليمنا.
إلى زوجتي الغالية التي نفذ حبها إلى أعماقي فأضاء حياتي ،إلى فتيحة.
إلى ابنتي الغالية إسراء التي مألت دنياي بالبهجة والفرح.
إلى ابنتي جيهان التي أضاءت شعاع ًا أخر في حياتي.
ُ انطلقت إلى جانبه منذ الصغر في رحلة البحث إلى أخي أحمد الذي عن المعرفة ،فكان لي دوم ًا المع ِ ّلم النصوح واألستاذ المرشد.
إلى خالي العزيز قاسم.
إلى أصدقائي األعزاء :بريبري عزوز ،وعادل القريب.
إلى كل من آمن بأن المعرفة هي أثمن شيء في الوجود. إلى هؤالء جميع ًا أهدي ترجمة هذا الكتاب.
7
تقديم
تؤجج فيه مقولة «صدام الحضارات» الصراع، في عالم محتقن ومتو ِ ّتر ِ ّ ِّ والمفكر الفرنسي -البلغاري تزيفتان وتذكي األحقاد ،انبرى الفيلسوف
تودوروف ( )1939لتفكيك الخطاب الذي يجنح إلى التبسيط
واالختزال ،فيشير بأصابع اال ِ ّتهام إلى اآلخر األجنبي على أنه مصدر
الخطر ،خصوص ًا إذا كان هذا اآلخر مسلم ًا.
إن كتاب تزيفتان تودوروف الموسوم بـ «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات» دفاع إنساني لبناء جسور الحوار بين الحضارات،
ونسف ألطروحة الصدام التي َروَّج لها صامويل هنتنغتون بهدف إشعال فتيل الحرب بين الغرب والشرق.
انطالق ًا من مقاربة متعددة األبعاد تتقاطع فيها حقول معرفية متن ِّوعة :علم ِّ
ينبه تودوروف النفس ،علم االجتماع ،التاريخ ،الفلسفة ،األنثروبولوجياّ ِ ،
الم َرضي من اآلخر-خصوص ًا اإلنسان المسلم- الغرب إلى خطر الخوف َ
ّ يقض مضجع الغربيين ألن اإلذعان لهذا الخوف الذي أضحى رهاب ًا
ضده سلوكيات أ كثر دفعهم إلى اعتبار اآلخر بربري ًا ،ومن ث ََّم مارسوا ّ ّ ولعل ما حدث في سج َن ْي أبو غريب إغراق ًا في البربرية والوحشية.
8
وغوانتانامو يبقى خير شاهد .لهذا يقول تودوروف« :إن الخوف من
البرابرة شعور يوشك أن يجعلنا نحن أنفسنا برابرة».
يدعو تودوروف إلى التح ّلي بالتسامح مع اآلخر وإزاء األقليات التي
تعيش داخل الغرب ،من خالل الدعوة إلى التعايش مع الثقافات المختلفة إلرساء أسس التعايش والحوار مع اآلخر .ويهاجم ،بعين
ّ وتوطدت حصيفة ورؤية ثاقبة ،الشعبوية اليمينية المتط ِّرفة التي استقوت، بسبب خطابها المعادي لآلخر ،حيث تنسب علل المجتمع الغربي إلى ّ التصدي للشعبوية التي يحث الغرب على األجنبي المسلم .لذلك فهو ّ
ضد األجانب عن تغري الكتلة الجماهيرية وتجاملها بممارسة العنصرية ّ
طريق العزف على أوتار القيم الديموقراطية والمثل العليا لعصر األنوار.
ِّ ويحذر صاحب «حول التنوُّع اإلنساني ( »)1993و«الحديقة
المنقوصة :تركة اإلنسانية ( »)2002الغرب ،بل العالم أجمع ،من
خطاب الكونية الزائفة حيث يسعى الغرب بشكل جنوني وبطرق غير مشروعة إلى إسقاط منظوره الحضاري على الشرق على اعتبار أن
حضارته هي األرقى واألرفع منزلة ،فيقصي -من ث ََّم -الطرف اآلخر، ويقضي على خصوصيته .ولتحقيق هذا المبتغى ،يلجأ الغرب إلى القوة
العسكرية التي ي ّ «التدخل اإلنساني» لنشر ُلطفها بعبارة بالغية توروية ُّ
النور والحضارة والديموقراطية وحقوق اإلنسان ،وهذا ما فعله الغرب
التدخل في العراق وأفغانستان .لكن ،كما يالحظ تودوروف ،فإن هذا ُّ
مخيب ًا لآلمال بسبب ما ارتكبه الجيش األميركي من حروب قاتلة كان ِّ
ومد ِ ّمرة .لهذا يدعو تودوروف الغرب إلى التس ُّلح بالقوّة الناعمة التي
تؤمن بجدوى الحوار واحترام خصوصية اآلخر.
9
يضم هذا الكتاب حوارات ومقاالت وقراءات ن ُِشرت في الصحف ّ
والمجالت الفرنسية ،وتعرض -بتحليل دقيق -وجهة نظر صاحب «األدب
في خطر» تجاه قضايا العالم الراهنة انطالق ًا من كتبه الصادرة في اآلونة األخيرة «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات»« ،الفوضى العالمية الجديدة ،تأمُّ الت مواطن أوروبي»« ،أعداء الديموقراطية
ْ ينكب تودوروف على و«غ ِويّا في ظل األنوار» .وفيها الحميمون»، ّ
دحض مقولة التفوُّق الحضاري للغرب التي تعيد إلى أذهاننا «عبء الرجل األبيض» الذي يجاهد لتمدين اآلخر ونشر الحضارة في أقطاره. بحس نقدي رفيع ونزعة إنسانية صادقة يهاجم األصوات المتط ِّرفة في ّ
تنم عن الغطرسة والصلف .تق ِّوض الغرب التي تعادي اآلخر بطريقة ّ كتب تودوروف اآلراء العنصرية للكاتبة اإليطالية أوريانا فاالتشي التي
ترى أن «اإلقدام على الحديث عن ثقافتين أمر مزعج ،أما وأن نتحدث عن المساواة بينهما فذلك أمر يثير غضبي» ،كما ينسف تودوروف الرؤية المتعالية للكاتب إيلي برنافي في كتابه «األديان القاتلة» الذي يرى أن
«هناك الحضارة من جهة ،والبربرية من جهة أخرى ،وبينهما ال مجال للحديث عن الحوار».
يستعين تودوروف بآراء أنثروبولوجيين ي َّتسمون بنزعة إنسانية ،كالفرنسي
كلود ليفي ستروس الذي يرى «أن الحضارة تراث إنساني مشترك».
وهذا ما يتردَّ د صداه في كتب تودوروف التي تدعو إلى الحوار ،وتحمل
ّ يكف عن احتقار اآلخر ،ولرجال السياسة الحكمة والنصيحة للغرب كي
التدخل العسكري المد ِ ّمر الذي يذكي جذوة كي يعملوا على وقف ُّ
الصراع ،ويشعل نار الكراهية ،فالخير عنده ال يُفرض بالقوة ،بل بالحوار
10
واالقتراح. ِّ المفكرين المعاصرين الذين قاموا بإثراء تودوروف هو اليوم من أبرز
متعددة؛ وذلك لما الفكر اإلنساني ،حيث تُرجمت أعماله إلى لغات ِّ
تحمله من رؤية مرجعية فكرية ال غنى عنها في تحليل القضايا الراهنة. ِّ َّ المثقفين الذين والمفكر العالمي ،وواحد من نخبة إنه الكاتب الكوني،
بصموا التاريخ بمواقف جريئة من أجل بناء جسور الحوار بين الثقافات المختلفة عن طريق نقد مكامن االنحراف في الفكر الغربي ،لكشف
تشوُّهاته وتح ُّيزاته المغرضة التي تتعارض مع الجوهر اإلنساني المؤمن
بغض النظر عن اللغة والدين والعرق. بالحوار والتعايش مع اآلخر، ّ
المترجم
11
«أعداء الديموقراطية الحميمون» تأمالت مواطن أوروبي» «الفوضى العالمية الجديدة ُّ :
«الخوف من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات»
كتب
تزيفتان تودوروف مؤرخ وفيلسوف سميولوجيِّ ، ُو ِلد تزيفتان تودوروف سنة 1939بصوفيا في بلغاريا ،وحصل سنة 1963على تأشيرة للدراسة في فرنسا ،ومنذ ذلك التاريخ وهو يعيش
في باريس .ويم ِ ّثل -إلى جانب روالن بارت -واحد ًا من كبار البنيوية،
حدد تودوروف مع أسس مع جيرار جينيت مجلة «الشعرية». َّ كما َّ جينيت المفاهيم األساسية للسرديات ،العلم الذي يدرس التقنيات
المستخدمة في النصوص األدبيةَ .ع ْنوَن تودوروف أوَّل والبنيات السردية َ أعماله بـ«نظرية األدب ،نصوص الشكالنيين الروس» منشورات ساي
( .)1966في سنة ،1972أتاح نشر «المعجم الموسوعي لعلوم اللغة»
لتودوروف اكتساب شهرة كبيرة.
في عام ،1978خالل جولة محاضرات في المكسيك ،بدأ تودوروف
يهتم بغزو أميركا من ِق َبل اإلسبان ،كما بدأ شغفه بقضية فهم اآلخر. ّ تساءل تودوروف عن تنوُّع الثقافات والتصوُّرات البشرية والنتائج
المتر ِ ّتبة عن هذا التنوُّع في تاريخ العالقات الدولية .قاد هذا التأمُّ ل
الفكري تودوروف إلى إعادة قراءة أعمال مونتين ،مونتسكيو ،كونسطو، ِّ مفكر ًا إنساني ًا بالمعنى األكثر تقليدية توكفيل ...وإلى تنصيب نفسه للمصطلح.
بصفته فيلسوف ًا ،يشرع تودوروف في البحث عن رؤية أخالقية للتاريخ، 14
ويتساءل -على سبيل المثال -عن المآسي الكبيرة في القرن العشرين.
«مواجهة المتط ِّرف :الحياة األخالقية في معسكرات االعتقال»،
(« ،)1991ذاكرة الشر ،إغواء الخير».)2000 ،
وبصفته سياسي ًا ،يشارك تودوروف -أيض ًا -في قضايا التعليم مُ َّتخذ ًا موقف المناصر المقتنع بضرورة إصالح المدرسة .يقرأ المرء اليوم
تودوروف ككاتب ،تسعى أعماله إلى تحديد المعالم المعاصرة لليبرالية
إنسانية «الحديقة المنقوصة».)1998( ،
ظهرت هواجس شباب تودوروف ،الذي قضاه في ظل نظام كلياني (غادر بلغاريا الشيوعية في الرابعة والعشرين من عمره) في كتابه «ذاكرة الشر ،إغواء الخير» ،وفيه يقوم بتقديم تحقيق عن رعب النظام الكلياني .يقول في هذا الكتاب إنه ال يرى أي فرق بين مذبحة معارضين
سياسيين واإلبادة الجماعية .لكن ،ليس إلى َح ّد االستفادة من ذلك في التحليالت السياسية حول اختيار النظام الحالي ،كما يفعل ذلك بعض أنصار الليبرالية المتط ِّرفة المحافظة.
إن تحليل تودوروف األخير للصراع في يوغوسالفيا ي َّتسم بالتكامل ،وال
تنم عن ألمعية الفكر ،يطرح تودوروف أسئلة جذرية تشوبه شائبة .بفطنة ّ عن الغموض المريع لواجب الذاكرة ،التي يطيب للنفوس الجميلة أن
تؤدي إلى تقديس تضجرنا بها مع بعض التناقضات ،والتي توشك أن ّ َ ضد اإلنسانية ،من ِق َبل الشر« :إن العمل على وصم الجرائم المرتكبة ّ
فئة دون غيرها من البشر ،يحثّنا على فصل هذه الجرائم عن السلوكيات
اإلنسانية األخرى وجعلها غير مفهومة».
15
أ ّل َ ف تودوروف العديد من الكتب التي تتط َّرق لألدب ،التاريخ، السياسة ،األخالق .كما درّس في جامعة يال في الواليات المتحدة،
وفي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس .ت ِ ُرجمت أعماله
إلى ما يزيد على 25لغة .ويحكي عن حياته« :عندما كنت أعيش في بلغاريا ،كان التعليم غارق ًا في اإليديولوجيا الماركسية .الوسيلة الوحيدة للهروب منها كانت تكمن في دراسة الصور البالغية ...عندما جئت إلى
فرنسا ،اكتشفت تدريجي ًا أن بإمكان المرء الدفاع عن اآلراء دون خداع
أو سخرية .في الوقت نفسه ،لم أعد بحاجة إلى االقتصار ،فقط ،على دراسة الجانب الشكلي لألعمال األدبية .كان ،ثمة في الواقع ،شيء من
التعسف حين يقوم ّ النقاد بِ َب ْتر فكر المؤ ِّلفين وطمسه .أصبح بإمكاني ُّ االنغماس في دراسة األدب بكل تعقيداته .يبقى األدب دوم ًا ظاهرة غير
خالصة :إنه ليس لعبة لغوية ،فاألدب يُلزم الكاتب بوجوده الكامل ،إنه ال ُ ثراء لإلنسانية .إذا كنا ما زلنا نقرأ أعما ً لك ّتاب من الماضي ،فذلك ألنهم يع ّلموننا شيئ ًا جديد ًا عن وضعنا البشري».
َّ يتدخل للتعليق على «يبقى تزيفتان تودوروف شخصية رزينة ،نادر ًا ما
َّ المفضلة، األحداث الراهنة ،لكن ،من خالل مساره الفكري ومواضيعه يتموقع في مفترق الطرق بخصوص الكثير من قضايانا المعاصرة .إنه
أ كثر تش ُّبث ًا بالروح الفرنسية مقارنة مع العديد من َّ مثقفينا ،وذلك من َّ المثقفين الذين خالل اإلرث الثقافي الذي يضطلع به ،كما ي َُع ّد من
ت ِ ُرجمت أعمالهم في العالم بشكل كبير .يدافع عن نزعة إنسانية نقدية الدجالين». خالية من التزمُّ ت التقليدي لبعض ّ
نشر تودوروف العديد من الكتب ،منها« :األدب والداللة»« ،أنواع 16
الخطاب»« ،سعادة عابرة»« ،نحن واآلخرون»« ،مواجهة المتط ِّرف»، « الحديقة المنقوصة»« ،ذاكرة الشر ،إغواء الخير»...
ِّ مفكر ًا أصي ً تدخل حلف ال ،تج َّن َد تزيفتان تودوروف لمعارضة بصفته ُّ
شمال األطلسي في كوسوفو .وهو الحدث الذي تط ُّرق إليه بشكل مستفيض في كتابه «ذاكرة الشر ،إغواء الخير» ( .)2000كما عارض،
بقوّة ،غزو العراق من ِق َبل الجيش األميركي وحلفائه.
ليتصدى، والج َلد ،ويتم َّيز بالحزم ينبغي على المرء أن يتح ّلى بالصبر ّ َ
بروح نقدية ،لنظرية «صدام الحضارات» التي قال بها ،منذ سنة ،1993 صموئيل هنتنغتون .فالمؤ ِّرخ والفيلسوف تزيفتان تودوروف مجبر بقوّة
للرضوخ إلى حكم الواقع :فكتاب «صدام الحضارات» للعا ِلم السياسي
هنتنغتون المنتمي إلى المحافظين الجدد في أميركا يبقى كتاب ًا عسير
الهضم وإن كان محدود ًا من الناحية الفكرية .لقد ألهب هذا الكتاب
العالم ببساطة استنتاجاته الحاسمة ،لدرجة أن المرء ال يعرف كيف ِّ يقدمها هنتنغتون في هذا يفكر في قضايا العالم خارج التصنيفات التي ِ ّ
الكتاب .إن تقسيم العالم من طرف هنتنغتون إلى حضارات متصارعة
رسخ الخوف من اآلخر واالرتياب ومتناحرة وفق المعيار الديني قد َّ
قطعي ًا ،عصر من ثقافته .إن الحادي عشر من سبتمبر 2001فتح، ّ «صراع الحضارات» .في مقابل استياء اإلسالم -وبشكل عام ،الدول المستعمرة والمستعبدة سابق ًا بسبب الماضي الكولونيالي -يهيمن على ٙ الغرب الشعور بالخوف من اآلخر .ومن ث ََّم ،يقوم كل طرف (الغرب
واإلسالم) بإعادة تسليح هويَّته (الوحيدة) وثقافته األبدية.
17
تبقى الغاية من تناوله موضوع صراع الحضارات ،هي الضرورة وتؤجج مناخ العداء الملحة لتجاوز حالة التناحر التي تم ِ ّزق العالم، ّ ِّ
ضد اإلرهاب ب َّررت العديد من الجرائم التي بين الحضارات .الحرب ّ ُكبت بضمير مرتاح ( -خصوص ًا الشرعية التي ت ََّم إضفاؤها على ارت ِ
ِّ يحذرنا تودوروف من أن التعذيب من ِق َبل الديموقراطيات الغربية). «الخوف من البرابرة هو شعور يوشك أن يجعلنا برابرة» ،فض ً ال عن هذا، هناك ضرورة أخرى تتمثَّل في الرجوع إلى تاريخ األفكار :إن تزيفتان تودوروف ليس األحسن واألفضل إال حين يتناول القضايا الكبيرة
والمفاهيم المشحونة بحمولة فكرية (البربرية ،الهويّة الجماعية ،الثقافة، الحضارة ،القيم األخالقية ،اإلرهاب ،حقوق اإلنسان ،ح ّريّة التعبير)...
فيزيل عنها الغشاوة واللبس لتستعيد صفاءها و َأ َلقها.
ينبغي على المرء ،بعد قراءة «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام
الحضارات» لتودوروف ،أن يغوص ثانية -بشكل عميق -في قراءة
كتابه اآلخر الموسوم بـ«نحن واآلخرون» الذي ي َُع ّد رحلة موسوعية شاملة حول التنوُّع البشري في الفكر الفرنسي ،من مونتين إلى كلود
ليفي ستروس .إن كتاب تودوروف دعوة للحوار بين الثقافات «كل
تتجدد وتتغ َّير هي ثقافة ميتة» كما ِ ّ يؤكد .بناء جسور الحوار ثقافة ال َّ تعدد الهويّات ،تلك هي األنماط بين البشر والحقول المعرفية ،احترام ُّ التي يدعو إليها تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة» .وهو يصبو،
في هذه الفترات العصيبة التي تم ّر بها البشرية ،إلى أن يمنح الناس قوّة
جديدة كفيلة بدحر الخوف وإسقاط عوائق الحوار بين الحضارات.
َّ المثقفين الفرنسيين األكثر ترجمة في ي َُع ّد تزيفتان تودوروف واحد ًا من 18
العالم ،حيث ت َُع ّد كتبه تعبير ًا عن الفكر األوروبي .وإذا كان الصوت
يرن غالب ًا ،بشكل طفيف ،في الساحة الثقافية فتلك المعتدل لتودوروف ّ
المتحجر. إحدى العالمات على النقاش اإليديولوجي ِّ
ي َّتسم تودوروف بمواقف إنسانية تؤمن باحترام معتقدات اآلخرين .تج ّلى
هذا الموقف في قضية الرسوم الكاريكاتورية عن الرسول محمد (ص) وكلمة البابا راتيسبون ،حيث ثار تودوروف على ما وصفه بـ«خطف
التنوير» من ِق َبل «المدافعين المحافظين في الثقافة الغربية السامية»
االدعاء ،دون أي تخوُّف من إفساد ينصبون أنفسهم -بكثير من ّ الذين ِ ّ
ضد ظالم القوى الرجعية. التوافق السائد -إلى جانب الح ّريّة ّ
لنراهن على أن كتاب «الخوف من البرابرة» ،هذا الكتاب المنفتح والمكتوب برصانة عقلية ووضوح فكري ،سينتشر بين الق ّراء الحريصين، بلهفة وطموح ،على استنباط األدوات الالزمة لمقاومة النزعات المانوية
المحدقة بنا.
2012 /04/11
19
دفاع ًا عن الحضارة ما وراء صدام الحضارات ّ البت في النقاش الذي يدور في الغرب حول «صراع يتم -عموم ًا- ّ الحضارات» كتصوُّر سطحي وتبسيطي انطالق ًا من موقفين متنافرين:
يتوجب موقف المدافعين بضراوة ،من جهة ،عن األطروحة القائلة بأنه َّ
يهددها نرسخ قيمنا وندافع عنها ضد من ِ ّ ّ علينا نحن -الغربيين -أن ِ ّ
بالزوال ،ومن جهة أخرى ،موقف المعارضين األشداء ألطروحة «صدام
الحضارات» التي ال تعني لهم شيئ ًا سوى نبوءة ذاتية التحقيق صادرة
كمرسوم من طرف غرب متعجرف يرغب في تطبيق أهدافه اإلمبريالية
زاحف ًا تحت قناع قيم التسامح والح ّريّة .ينطوي هذان الموقفان على
نعد كال الموقفين المضاعفة بخطأ منهجي :أن ّ الفرضية المسبقة نفسهاُ ،
نجمد ،في كل مرة ،الهويات متساويين أو متنافرين بشكل تراتبي فإننا ِّ ونحجرها انطالق ًا من سمة وحيدة ،دون أن ندرك أن هذه السمات ِّ
تحيل تارة على جوانب ثقافية (كاالنتماء الديني) ،وتارة على جوانب
سياسية (كاختيار األنموذج الديموقراطي) .لكي نتآلف ونتك َّيف مع ّ نتخطى مقولة «صدام تعقيدات العالم ،و«نتجاوز الصعوبات» يجب أن
الحضارات» لنقوم بالتفكير في أنموذج يضمن تنوُّع الخصائص الثقافية،
تقدم ويساهم في بناء نزعة عالمية كفيلة باستيعاب االختالفات ودعم ُّ
الحضارة ورق ّيها .إن طموح تجاوز مقولة «صدام الحضارات» يبقى الهدف المركزي لمشروع تزيفتان تودوروف في كتابه األخير «الخوف 20
َّ المثقف ذو األصل من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات» ،إذ ي َّتخذ
البلغاري ،كنقطة انطالق ،التصنيفية التي يقترحها دومينيك مْوازي في
كتابه «صدام المشاعر» الذي يشير إلى أن الدول الغربية يهيمن عليها،
في الوقت الراهن ،بشكل كبير ،الشعور بالخوف ،الخوف في الوقت
نفسه مما يسمى «دول الشهية» (أي دول البريكس المتميزة بالطموح
كالصين ،روسيا ،البرازيل ..إلخ) وما تمتلكه من إمكانيات هائلة للتنمية
ُنعت بـ«دول االستياء والعداء» االقتصادية ،ثم الخوف من الدول التي ت َ
تعمرة سابق ًا) التي قد يح ِّركها الشعور بالحقد والكراهية (الدول ُ الم ْس ٙ ضدنا نحن الغربيين. ّ
إذا كان للغرب كامل الشرعية في ترسيخ قيمه والدفاع عنها بحزم،
فإنه يخاطر باالستسالم لهيمنة الشعور بالخوف الذي يقوده إلى القيام
بردود فعل مفرطة وغير مناسبة كالحرب في العراق ،سجن غوانتانامو،
أو العودة إلى ممارسات التعذيب باعتبارها الكارثة األكثر هو ً يؤدي الّ .
الخوف إلى االعتقاد بأن ما هو غير مقبول يبقى باعث ًا ضروري ًا يدفعنا إلى
الرد على ّ لنرسخ قيم ّ أي تهديد .كيف يمكننا الخروج من هذه الدوّامة ِ ّ
والتعددية من دون الوقوع تحت طائلة استعراض القوة؟ جواب التسامح ُّ
تزيفتان تودوروف هو نتاج لتحليل دقيق لمفاهيم الحضارة ،البربرية،
العالمية ،والهويّة ،تحليل يسمح بتصحيح وتقويم النتائج الوخيمة
للمفاهيم الخاطئة التي يمتلكها المرء بصدد هذه المواضيع. ترسيخ قيم الحضارة
س له تزيفتان تودوروف الجزء األول ماذا يعني مفهوم الحضارة الذي َك َّر َ 21
من عمله؟ مثلما أن مفهوم البربرية يتعارض مع مفهوم الحضارة فيمكن
فهم هذه األخيرة بالمعنى النسبي وبالمعنى المطلق :يكمن المعنى
النسبي في اعتبار أن البربري هو الذي ال يتك َّلم لغتي ،ومن ث ََّم يبقى بعيد ًا عن بنية عقلي ،في حين أن المعنى المطلق يرى أن البربرية تكمن
التعددية اإلنسانية ،والتي يكمن جوهر الحضارة في االعتراف في إنكار ُّ
بها .ال ينفي تودوروف وجود شكل من أشكال الهمجية ،كما ال ينفي
وجود شكل من أشكال الحضارة .لكنه يرفض أن يربط ،بشكل منهجي،
يشدد تودوروف على الحضارة ُّ بالتقدم التكنولوجي واالزدهار الفنيّ ِ .
فكرة أن الحضارة تكمن ،أو ً ال ،في القدرة على االعتراف بإنسانية
بتعدد أشكال اإلنسان اآلخر عن طريق ربط وحدة اإلنسانية ،عموم ًا، ُّ تج ِ ّلياتها الثقافية.
ال يمكن للحضارة أن تقتصر على ثقافة واحدة .إنها ليست سمة ثقافية
خاضعة ،بشكل صارم ،لعادات وتقاليد ،بل تشير الحضارة إلى حالة
ذهنية قابلة لالنصهار مع كافة األشكال الثقافية ،وقادرة -بشكل أخص- على االعتراف بها على اختالفها وتنوُّعها ،باعتبارها تع ِ ّبر عن اإلنسانية
المشتركة نفسها .بالمقابل ،فإن الهمجية هي الموقف الذي ،بواسطته،
ننبذ شخص ًا ما خارج دائرة اإلنسانية من خالل نفي خالص الختالفه، ِّ يشكل سماته المختلفة .إجما ً ال ،فإن الحضارة تعبير عن إنسانية أو لما
خضم مشتركة واعية بوحدتها العميقة وقادرة على الترابط والتالحم في ّ تنوُّع أشكال التعبير الثقافي. الهو ّية والحضارة هناك ميزتان لالستفادة من هذا التعريف للحضارة :الميزة األولى أنه 22
ُّ التحفظ والحذر من نزعة عالمية مج َّردة ،كما هو الشأن إزاء يساعد على
النزعة النسبية ،والميزة الثانية هي أن هذا التعريف يسمح ببنينة مسألة
الهويّة عن طريق االنتماء الثقافي وحده :بالتأ كيد يبقى هذا األخير سمة
يخص االنتماء لدولة ما واالعتراف أساسية ،لكن بالطريقة نفسها ،فيما ّ
بالقيم .ال تتطابق هذه المستويات الثالثة لكنها قادرة على التعايش.
يتم تقويض الفكرة القائلة -على سبيل المثال -إن الثقافة هكذا ّ عصية على معانقة القيم الديموقراطية. اإلسالمية تبقى ّ يجب أن تسود ،في جميع المستويات المك ِّونة للهويّة ،فكرة االنفتاح.
وفق ًا لتصوُّر تزيفتان تودوروف فإن أي انغالق للهويّة وتقوقعها يبقى
-على أية حال ،من الناحية المنهجية -أمر ًا مُ ض ّر ًا ومشوب ًا بالكثير من
العيوب .إن التقوقع واالنكفاء ينفي -في الوقت نفسه -واقع أن كل
هويّة ثقافية هي نتاج لبناء ما على المستوى الفردي كما هو الشأن بالنسبة تتعدد اإلسهامات ،وتتداخل التأثيرات ،كما ينفي للجماعي ،حيث َّ
االنغالق كون أن بنية الدولة ال تهدف إلى تنمية ثقافة وطنية تكون قادرة
-رغم كل شيء -على ضمان االعتراف بالحقوق المتساوية لكل فرد
من خالل الربط بين مختلف المجموعات المكوّنة من دون محاصرتهم
في خصوصيتهم .فض ً ال عن هذا ،فاالنغالق يجعل القيم مستق ّلة عن
الثقافات التي تنشأ عنها ،كما يجعل هذه القيم قابلة لالعتناق والتب ّني ّ بغض النظر عن أي انتماء ثقافي. تعسفي ًا، ُّ
في الواقع ،إن الخيار الشعبوي الذي قام به نيكوال ساركوزي ،بشكل
علني ،والذي يهدف إلى إنشاء وزارة للهويّة الوطنية يبقى أمر ًا مثير ًا للجدل ومشكوك ًا في مصداقيته .إن هذا الخيار ال يتطابق مع مهمة
23
ُّ تشكل الدولة ومصلحتها ،ألنه يتجاهل حركة وت ُّنوع األشياء التي تحكم
الهويّة الثقافية .إن هذا الخيار يمزج بين األنواع من خالل اعتبار السمات الدستورية واألخالقية والسياسية ِ ّ مكونات للهويّة الفرنسية (مثل العلمانية) ،رغم أن هذه السمات ليست حصرية أو قاصرة على الهويّة الفرنسية فقط ،أو مرتبطة بها على الدوام.
يلح تودوروف على أنه يجب علينا ما إن نشرع في التفكير في عموم ًاّ ،
مفهوم الهويّة حتى نربطه بشكل وثيق بمفهوم الحضارة .ينبغي علينا أن بينة ووعي تامّين بهويّتنا ،ليس من أجل تمييز أنفسنا كأعضاء نكون على ِ ّ
في جماعة ما ،بل لنكون أ كثر قدرة على القيام بخطوة إلى الوراء ،وتأمُّ ل
وأخذها بعين االعتبار. الثقافات األخرى ْ
إن التوق للهويّة واكتساب ثقافة ما يوفران الشرط الضروري لبناء شخصية
إنسانية متكاملة ،لكن وحده االنفتاح على الغيرية ذات األفق العالمي
ويمدنا بالشرط الكافي لبلوغ هذا المبتغى. هو ما يحقق معنى الحضارة، ّ التخ ُّلص من منطق الصراع إن هذه الفروق الدقيقة لمفهوم الهويّة ليست محض حذلقة بالغية .إنها تحمل في ثناياها رهانات سياسية هامّة.
يقدمها تزيفتان تودوروف حول الهويّة تسمح -في إن التوضيحات التي ِ ّ
الوقت نفسه -للمرء بأن ال ينخدع بنظرية «صدام الحضارات» ،كما
أن حجب ُّ تعقد الهويات واختزالها تسمح له بأن يكون يقظ ًا إزاء حقيقة ّ
يؤدي إال إلى الصراع من خالل آلية تضع تبسيط الهويّة ال يمكن أن ّ 24
واختزالها في ّ خط واحد مع النزعة المانوية (القائمة على عقيدة الصراع
بين النور والظالم ،الخير والشر ،الحضارة والبربرية) .إن الحروب الحالية
ّ صلة إلى صراع الحضارات ،كما أننا لن ننجح في محاربة ال تمت بِ ِ
اإلرهاب إال بفصله عن الدين اإلسالمي ،والسعي إلى معرفة جذوره تمس شريحة كبيرة من ّ سكان العالم. المذ ّلة والمهينة التي ّ الم َّتبعة ،في الوقت الراهن ،من طرف الواليات المتحدة إن الطريقة ُ
تؤدي إلى في الحرب ضد اإلرهاب ،ليست طريقة مثالية وج َّيدة ألنها ّ
اإلقصاء ،وتسقط -بدورها -في منطق البربرية :بتحديد أميركا ألعدائها
تسعى إلى تبرير الممارسات المشينة كالتعذيب الذي ي َُع ّد -في حقيقته-
إقصا ًء آلدمية الفرد وانتمائه لإلنسانية .منطق الهمجية هذا هو -في
نهاية المطاف -لعبة أولئك الذين يزعمون معارضته ّ مغذين -في الوقت
نفسه -الشعور بالضغينة والكراهية عن طريق إخضاع اآلخر ليصبح
خصم ًا في صراع ما .عندما يكون ثمن القضاء على بربرية فرد ما هو
ّ تستحق كل هذا تجريد اآلخر من إنسانيته فإن لعبة هذا المنطق لم تعد
العناء .إذا كان هزم العدو يقتضي تقليد تص ُّرفاته األكثر وحشية وبشاعة،
فإن البربرية ستظلّ حاضرة بثقلها بيننا.
األهم ّية ،لكونها بهذا المعنى يمكن ألوروبا أن تلعب دور ًا في غاية ّ التعددية ،االعتراف بالغيريات سمة جوهرية مالزمة لهويَّتها. جعلت من ُّ
ُقدم األنموذج األوروبي كأنموذج عالمي ألنه يجعل من االعتراف ي َّ بالتنوع في مجموعة مشتركة ِّ تنظمها مبادئ المساواة سمة إيجابية .يتع َّين
التعددية .وهذا ال يعني أن العالم يجب على أوروبا االنعطاف نحو ُّ
أن ينخرط في عملية الت َأ ْورُب ( ،)Européanisationالتخ ُّلق بعادات
25
وثقافة األوروبيين .يتع َّين على أوروبا أن تحافظ على الحدود الدقيقة،
وال تعني هذه الدعوة أن على أوروبا أن تغوص في نزعة مالئكية (سلوك مالئكي) تبعد عن أذهاننا أية احتماالت لصراع مس َّلح.
ّ تخطي «صدام الحضارات». يتوخى يقدم تودوروف موقف ًا إنساني ًا ّ
قراءة هذا الكتاب «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات»
تتيح دحض التنميطات التي ينزعون إلى إلصاقها بالواقع ،كما تسمح
بإدراك ُّ تقدم تعقد الواقع ،الشيء الذي يدفعنا إلى توجيه نداء لصالح ُّ
الح ّر باألفراد والشعوب والثقافات عن الحضارة ورقيها ،أي االعتراف ُ ّ بالتصدي للعنف والتهديدات التي طريق الحوار والتفاهم الكفيلين ّ
ُخيم بثقلها علينا ،نحن أعضاء اإلنسانية المشتركة. ت ّ
باستيان إنجلبيش
26
هل ثمة وجود لبرابرة متخ ِّلفين؟ ّ يكف الفرنسيون واألوروبيون تحدو تودوروف رغبة عارمة في أن
والغربيون عن تغذية المقولة الشهيرة «صدام الحضارات» التي يزعمون
يدعون أنهم تح َّرروا منها ،وتجاوزوها. أنهم يطعنون في صحتها ،كما َّ َّ
ُسخر تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام ي ّ
ّ الفذة ،وقناعته التي يستشعرها المرء في كل الحضارات» كل موهبته
صفحة من كتابه ،كما ِ ّ يوظف ثقافته الفلسفية المتواضعة لتطهير وطرد
هذا الخوف من « البرابرة المتخ ِ ّلفين» الذي غزا الواليات المتحدة
األميركية ،الغرب بكامله ،بسبب أو بذريعة أحداث الحادي عشر من سبتمبر .لقد قاد هذا الخوف الغرب إلى التخندق في نزعة مانوية.
ضد الرعب بنا ًء على مواقف كما قاد هذا الخوف إلى َش ّن حرب ّ
وذرائع يشوبها الكثير من االلتباس والغموض ،بحيث أصبح الغرب ال
يرى المسلمين إال من خالل اإلسالم ،كما عجز عن التمييز بين اإلسالم
واإلسالم المتط ِ ّ ّرف ،واإلسالم المتط ِّرف واإلرهاب .الشيء الذي جعل الغرب ال ِ ّ يفكر إال في استخدام القوة َك َر ّد فعل على هذه البربرية المزعومة ،فامتنع بذلك عن كل تحليل أو إجراء سياسي .في الوقت
يعبر المح ِ ّلل األميركي فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا» نفسهّ ِ ،
عن دهشته في رؤية الدولة األقوى في العالم تعيش في براثن الخوف
من كل شيء ،ومن اآلخرين أيض ًا.
27
ّ النية، ي ُْسعف تودوروف الحظ ليجعل كل قارئ يتم َّيز باإلخالص وحسن ّ
يقوم بتفكيك االستعمال االستفهامي التخ ُّيلي الخادع لعبارة «برابرة يعد المرء دوم ًا بربري ًا متخ ِّلف ًا مقارنةمتخ ِّلفون» المستخدمة تاريخي ًا ّ
يفسر تودوروف أن «الهويّات الجماعية» اتَّسمت مع اآلخر ،-كما ِّ تاريخي ًا ،بالتعايش بحيث لم تتو َّقف عن التفاعل واالغتناء القائم على روح المقايضة والتبادل .فض ً ال عن هذا ،إنه يرى أن الحرب التي
تجري رحاها في العالم والتي تبدو حرب ًا ال مناص منها ،يمكن للمرء أن يتج َّنبها ،خصوص ًا ،إذا عرف كيف يذ ِ ّلل العقبات ،ويدرأ المخاطر حين
المتأججة لإلسالم مع الغرب. يتع َّلق األمر بالعالقة ِّ
بالنسبة لتودوروف ،فالفكر األوروبي -الذي يستحضره بتعبير قوي
مستوحى من جورج سومبران ،برونسالف جريميك حتى وفاته ،وإليا
المضاد لجميع هذه بارنافي حتى وقت قريب -يحتوي على الترياق ّ
التعددية، االنقسامات الخطيرة .إن الفكر األوروبي فكر قائم على قبول ُّ ومعط ً ّ بتحمله ،بل كمبدأ ال ينوء المرء ال باعتبارها إرث ًا تاريخي ًا معيق ًا ُّ
وكمؤهالت ب ّناءة. أساسي للمستقبل ِّ
يعبر عن افتتانه بمقاربة كهذه تخاطب ليس بمقدور المرء سوى أن ِ ّ
قضيتين مركزيتين :قضية أميركا ،وقضية أوروبا .إن طرح تودوروف يبقى
تصوُّر ًا معاكس ًا ،بشكل تام ومطلق ،إليديولوجية وسياسة جورج بوش
خالل السنوات األخيرة ،تلك اإليديولوجية التي كان لها التأثير األكبر
على الرأي الغربي ،بما في ذلك الرأي الفرنسي أيض ًا .يكتب تودوروف بطريقة معكوسة« :ليس بوسع اإلنسان أن يطمس قرون ًا من التاريخ
هيمنت خاللها الدول الخائفة -حالي ًا( -الدول الغربية) على الدول
28
مصدر الخوف -حالي ًا( -الدول التي تثير استياء الغرب وتخوّفه) أي الدول العربية المسلمة.».
في نظر تودوروف «إن الشرط المسبق هو أن تتو َّقف النخب الغربية
ّ للحق والفضيلة والنظام الكوني، المجسد المطلق عن اعتبار نفسها ِّ ّ تكف عن التعالي وازدراء قوانين وأحكام اآلخرين». كما يجب أن
يلح غير أن هذه الخاصية تبقى -لألسف -جوهر تفكير النخبة الغربيةّ ، تودوروف قائ ً المثل العليا ال« :إن حق ُّ التدخل العسكري يع ِّرض للخطر ُ التي يدافع عنها الغربيون :الح ّريّة ،المساواة ،العلمانية ،حقوق اإلنسان،
مبسط لممارسة إرادتهم في السيطرة على العالم ،ومن ث ََّم فتبدو كتمويه َّ
المثل العليا الحظوة لدى الجميع.». تفقد هذه ُ
ّ يحث تودوروف الغرب في كتابه قائ ً ال« :لكي يتس ّنى على عكس هذا،
للشعوب المسلمة ،في الدول العربية ،أن تح ِّول أنظارها ،فتلتفت إلى
األسباب الداخلية الكامنة وراء خيبتها وإخفاقاتها ،ينبغي معالجة
القضايا الخارجية األكثر بروز ًا وجذب ًا لألنظار ،هذه القضايا التي يبقى الغرب مسؤو ً ال عنها ،».أي قضية فلسطين ،العراق ،إيران ،وأفغانستان.
على الرغم من أن بعض الجمهوريين والديموقراطيين الم َّتسمين بالواقعية
يحاولون إعادة التفكير في أسس السياسة الخارجية األميركية بعد فشل وإخفاق إدارة بوش ،فهل سيكون بوسعهم التح ّلي بالشجاعة لمناقشة
وانتقاد األولويات األميركية بكل نزاهة ،في الوقت الذي ينزع فيه العالم
تحدي روما الغربية؟ يتط َّلب هذا األمر -على األقل -اللجوء الناشئ إلى ّ
يتم إعادة دمج إلى تقرير بيكر -هاملتون للمنطقة بأسرها لمعرفة كيف ّ
29
الحقائق والتعامل مع كل «البرابرة». بالنسبة لالستجابة األوروبية ،يتح ّلى تودوروف بالشجاعة ليعترف بذلك:
التعددية غير كافية .النزعة المالئكية التش ُّبث بالفكرة نفسها كقوّة يجعل ُّ
(السلوك المالئكي) التي تسعى إلى إسقاط حالة أوروبا على بقية العالم
تبقى إجرا ًء غير مالئم .يتع َّين على أوروبا أن تصبح «قوة ناعمة» حتى لو كانت غير قادرة -من حيث المبدأ -على استبعاد اللجوء إلى استخدام
القوة المس َّلحة .يبقى تودوروف -إذ ًا -أ كثر واقعية من األشخاص
الذين يحلمون بأوروبا المكتفية «بقوتها اللينة» (معاييرها ،مساعدتها، مشروطية أحكامها ،خطاباتها) ،لتسطع وتشرق عن طريق مثالها
الديموقراطي وأنموذجها االجتماعي .هذا ما ينبغي إقناع األوروبيين
َّ سيتمكن المستقبل القريب من أن يفتح عيون الكثير بمصداقيته .فهل على واقع العالم الذي مازال بعيد ًا عن تشكيل «المجتمع الدولي»؟.
2008-9-19
30
الجرأة على التفكير في المُ حال تسعى الواليات المتحدة األميركية إلى السيطرة على العالم بشكل أحادي
القطبية .منذ انهيار جمهورية االتحاد السوفياتي االشتراكي ،ال أحد
يستطيع أن يجرؤ على التشكيك في هيمنة أميركا على العالم .لتوطيد
هذه السيطرة ،لم تلجأ الواليات المتحدة ،فقط ،إلى استخدام ترسانتها
العسكرية ،بل استعملت كل الوسائل لتوجيه االقتصاد العالمي وفق
مصالحها؛ فالعولمة الليبرالية الجديدة تخدم ،إضافة إلى أمور أخرى،
المشروع األميركي .أثّرت العولمة -منذ نشأتها -على بقاع العالم،
اهتمت العولمة بغزو األسواق العالمية وفرضت قواعدها وقيمها .لقد َّ
أ كثر من اهتمامها بغزو الدول .إنها السبب في تدمير قيم التضامن ونزوع
القطاع الخاص إلى تم ُّلك المجالين العام واالجتماعي ،وخيبة األمل
واإلحباط الذي َح ّل بالعالم.
بدأ هذا المشروع في سنوات السبعينات ،حين قام الرئيس األميركي
ريتشارد نيكسون بإلغاء النظام االقتصادي الذي نشأ عن اتفاقية بريتون
وودز سنة ،1944في أواخر الحرب العالمية الثانية ،وأرسى أسس
ُّ والتدفقات المالية .سنوات العولمة الليبرالية التي َح َّررت رؤوس األموال
بعد ذلك ،ستتب ّنى التشيلي في عهد بينوشيه ،والواليات المتحدة في
عهد ريغان ،وبريطانيا العظمى تحت قيادة مارغريت تاتشر ،نظريات
يتزعمها الفكر االقتصادي للتشريع النقدي لمدرسة شيكاغو التي كان َّ ميلتون فريدمان (الحائز على نوبل في االقتصاد سنة .)1976كان
31
المع َلن هو القضاء ،نهائي ًا ،على التقليد القديم للكينزية (مدرسة الهدف ُ
الفكر االقتصادي التي أسسها عالم االقتصاد البريطاني جوهان ماينارد التدخل االقتصادي واالجتماعي للدولة .اتَّبعت كينز) التي تدعو إلى ُّ
الواليات المتحدة هذه القوانين والمبادرات لتحطيم النقابات وتحرير
وسيؤدي هذا المشروع ،خالل االقتصاد وخوصصة األمالك العامة. ّ
سنوات الثمانينات ،إلى ما ُس ِ ّمي بـ«توافق واشنطن» ،هذا المذهب متعددة الجنسيات، االقتصادي الذي انخرطت فيه الشركات الكبرى ِّ
والمؤسسات المالية الدولية .سيصبح توافق واشنطن بنوك وول ستريت، َّ
هذا األنموذج االقتصادي الليبرالي الجديد الذي سيفرضه الرأسمال األميركي كشرط الستثماراته.
بعد عقدين من الليبرالية الجديدة ،نالحظ باستغراب ،بل بذهول
كبير ،إلى ّ لتوجهات األسواق المالية ،وتستسلم أي َح ّد تخضع الدول ُّ
إلمالءات صندوق النقد الدولي (الذي سيطر عليه األميركيون) عن
الح ّد من اإلنفاق العام في مجاالت الصحة والتعليم والبيئة ،وذلك طريق َ
لتشجيع شركات االستثمار الدولية .ومنذئذ ،فإن هذه الشركات الدولية
تسهل هي التي تمسك بزمام السلطة الحقيقية ،لقد أصبحت الدولة أداة ِ ّ
البحث عن أرباح للمقاوالت على المستوى المح ّلي ،كما هو الشأن على
المستوى العالمي ،وتخلق -إضافة إلى أشياء أخرى -الظروف المناسبة
المجسد للمنافسة بين الشركات .في عالم ليبرالي جديد ،لم تعد الدولة ِّ السياسي لمصلحة الجميع ،كما تق َّلص دورها -أيض ًا -في إعادة توزيع الثروات الجماعية.
32
َّ المثقفين دور َّ المثقفين هذه الثورة الليبرالية الجديدة ما كانت لتصبح ممكنة دون دعم
اليمينيين الذين لم يتردَّ دوا في استلهام أطروحة الشيوعي أنطونيو
غرامشي وأفكاره القائلة بضرورة ممارسة الهيمنة الثقافية لتوطيد وتعزيز
السلطة االقتصادية والسياسية ،وإضفاء الشرعية عليها في اآلن نفسه.
مؤسسات الفكر والرأي المرموقة :مثل جمعية مون بيلران، وهكذا ،فإن َّ
مؤسسة التراث ،ومعهد كاتو ،واللجنة الثالثية في الواليات المتحدة َّ
ومؤسسة أنتوني جيدنز وشركاؤه في بريطانيا ،كما هو الشأن األميركية، َّ
لمؤسسة سان سيمون (التي يبقى مستثمرها األبرز آالن مينك) في أيض ًا َّ
ليتم اعتماد فرنسا ،قد عملت كلها -دون كلل -على مدى سنوات، ّ الليبرالية الجديدة من طرف الديموقراطيين ككلنتون ،وحزب العمال
بقيادة طوني بلير ،وأيض ًا االشتراكيين الفرنسيين (ناهيك عن الزحف المهمة! ففي فرنسا لم يعد اليسار المتحمس لليمين) .وهكذا ت ََّم إنجاز ّ ِّ
يتحدث عن عالقات الهيمنة ،بل عن عالقة اإلدراج /االستبعاد ،كما َّ
ت ََّم استبدال مبدأ المساواة بمبدأ العدالة كأساس فلسفي للدولة (حامية سماه بيير موروا األمة) ،في حين سعى اليمين جاهد ًا إلخماد ما ّ
«فوانيس المستقبل» :التربية والتعليم ،البحث العلمي والثقافة .أما في
حدد اتجاه «الطريق الثالث» هدفه في إقناع المواطنين بريطانيا ،فقد َّ
(أو ما ّ تبقى منهم) على قبول العولمة بدل محاربتها ،وهكذا نجح مؤ ِّيدو طوني بلير في سعيهم لتحقيق مرونة سوق العمل كهدف لليسار .بالنسبة
لشخصية كلينتون الكاريزمية ،فإنه لم يجد أدنى صعوبة في التقريب بين
الحزب الديموقراطي والسياسات الليبرالية الجديدة للحزب الجمهوري، 33
بما أن هذه السياسات الليبرالية الجديدة التي ت ََّم تطبيقها على المستوى ِّ تشكل سالح ًا رهيب ًا ،كما هو شأن الترسانة العسكرية األميركية العالمي
في السيطرة على العالم.
كسيد واآلن ،بعد أن هيمنت الواليات المتحدة األميركية على العالم ِّ مطلق ،وذلك بفضل قوتها الهائلة االقتصادية والعسكرية ،فهل ُح ِكم
علينا بالعيش في عالم أحادي القطب؟ هذا هو السؤال المحوري الذي
يثيره تودوروف في كتابه « الفوضى العالمية الجديدة :تأمُّ الت مواطن
أوروبي» .في هذا البحث الغني وغير المكتمل يدعو تودوروف إلى َّ تمكنت من بناء متعدد األقطاب ،تلعب فيه أوروبا دور ًا قيادي ًا إذا عالم ِّ
مؤسساتها من جهة أخرى .ومع قوّة عسكرية كبيرة من جهة ،وإصالح َّ
ذلك ،يؤسفنا أن تودوروف غير قادر على تخ ُّيل القارة العجوز كفضاء اقتصادي قائم على قيم تتعارض مع قيم الليبرالية الجديدة.
اإلهانة ..أم النعرة العصبية؟ حتى 11من سبتمبر ،2001كانت الواليات المتحدة األميركية تخال
نفسها في مأمن من أي هجوم خارجي .بعد أن أدركت ،الخطر الذي
حد سواء ،عززت استراتيجيتها يم ِ ّثله اإلرهاب ،ونقاط ضعفها على ّ
مستحدثة كفكرة للدفاع عن العسكرية بمفهوم الحرب الوقائية :مقاربة َ النفس ،الشيء الذي ّ يدل على أن الواليات المتحدة تهيمن ،منذ تلك
كسيد مطلق بال منازع على العالم أجمع .وكان العراق أول بلد الفترة، ِّ
دفع ثمن هذه السياسة الجديدة ،لقد أصيب المرء بالخوف ،وهو يرى 34
األميركيون يواصلون تطبيق هذه السياسة بهدف تعزيز هيمنتهم .على
الرغم من اإلطاحة بالديكتاتورية ،فالواليات المتحدة لم تعمل إال على
نشر الفوضى والخراب ،واتَّضح أن الديموقراطية مشروع أصعب بكثير
من الكالم الذي ردَّ ده على مسامعنا البنتاغون وهو يشعل نار الفتنة في
العراق .وباإلضافة إلى ذلك ،يكتب تودوروف قائ ً ال« :سيسود الشعور
لدى الغالبية العظمى من السكان العرب والمسلمين ،أو -ببساطة-
السكان غير الغربيين بأن هذه الحرب هي بمثابة إهانة وإذالل .والحالة
أم النعرة العصبية ،وال شيء ّ يغذي هذه ،فاإلهانة ،كمعاناة أو تصوُّر ،هي ّ
-بشكل كبير -اإلرهاب أ كثر من التقارب بين القدرة على التضحية
بالنفس وتكنولوجيا التدمير التي أصبحت متاحة للجميع» .ال يمكن
دحر اإلرهاب إال عندما نبذل جهد ًا صادق ًا للقضاء على أسبابه كالفقر
والمستقبل المظلم للشباب .إن اللجوء إلى الحرب ليس من شأنه سوى
ضد اإلمبراطورية األميركية .ليس من الوهم االعتقاد تأجيج الكراهية ّ
بأن أميركا كانت ستتص َّرف بشكل مختلف لو أن الثقل العسكري والثقل
أهميتها الديموغرافية. السياسي ألوروبا كانا -على األقل -متناسبين مع ّ «كل سلطة بال حدود ،هي سلطة غير شرعية» ،يكتب مونتسكيو في
«الرسائل الفارسية» .في عالم يجرؤ فيه اليائس على مقارنة نفسه
بالقوي ،حيث يصبح صلب ًا ال يقهر وهو يقارع القوي عن طريق التضحية
بحياته كسالح أخير ،فإن القدرة على اإلقناع والحوار هي الطريقة األفضل لضمان السالم .العمل على اإلقناع والحوار دون استبعاد
التسويات أو التوافقات ،بما أن هذا السلوك هو جوهر السياسة نفسها،
وأيض ًا العمل على تقاسم السلطة كشرط ضروري لالعتراف بشرع َّيتها.
35
هذه هي الشرعية التي افتقرت إليها الواليات المتحدة في حربها على العراق بسبب سلوكها أحادي الجانبّ ِ . يؤكد تودوروف «من مصلحة
الواليات المتحدة ،قبول حدود إرادية لقوتها ،كما توصيها بذلك بقية
األصوات غير المناهضة إطالق ًا ألميركا داخل بلدها» .إن الواليات
رغمت على ذلك .من المتحدة األميركية لن تقبل بهذه الحدود إال إذا ُأ ِ
هنا تبقى الحاجة إلى قوّة أخرى ،غير قوّة منظمة األمم المتحدة ،قوّة
تكون قادرة على موازنة ومعادلة قوّة الواليات المتحدة ،ألن هذه المنظمة ّ بغض النظر عن كونها خاضعة لمصالح متضاربة، الدولية المحترمة،
ّ الحق« .بدون قوة ،يبقى الحق فإنها ال تملك القوة المطلوبة لمناصرة عاجز ًا» هذا ما كتبه بسكال .وإزاء الرؤيتين األحاديتين للعالم :رؤية
التدخل العسكري ،ورؤية حكومة عالمية، السالم األميركي عن طريق ُّ
التعددية تساهم في الحفاظ يدعو تودوروف إلى رؤية أخرى قائمة على ُّ
على السلم عن طريق خلق توازن بين قوى عديدة ،في هذا اإلطار وحده
ّ -يؤكد تودوروف -يمكن ألوروبا المستقبل أن تجد مكان ًا لها.
األمل األوروبي يخص قضايا لكن أوروبا ال تزال منقسمة على نفسها بشكل كبير فيما ّ
األهم ّية .عشرات الدول ،التي منها بولونيا وهنغاريا ،اختارت في غاية ّ
االعتماد على الواليات المتحدة األميركية من الناحية الدفاعية ،دول
أخرى كسويسرا والنمسا اختارت الحياد ،في حين أن فرنسا وألمانيا
ع َّبرتا بوضوح في أثناء الصراع األميركي -العراقي عن إرادتهما في 36
التح ُّرر من الوصايا األميركية. ومع ذلك ،فيما وراء هذه االنقسامات ،تتقاسم الدول األوروبية قيم العدالة
والعلمانية والديموقراطية فض ً ال عن كونها وارثة الحضارة اليونانية -
الرومانية والمسيحية وعصر النهضة .إن فكرة وجود عقلية مشتركة ليست
تحدث ،من قبل، فكرة مبالغ ًا فيها أو جديدة ،بما أن جان جاك روسو َّ عن «وجود نوع من األصول والتوافق في العادات بين األوروبيين».
اآلن ،وقد أصبح المشروع األوروبي يقوم على أسس أ كثر صالبة ،يتع َّين
على أوروبا ،حسب تودوروف ،أن تتوافر على جيش قوي بما يكفي ّ الحل ،كاستجابة صادقة لضمان أمنها وأمن الدول األخرى« .وحده هذا
لمشاكل الحرب والسالم في العالم ،يستطيع أن يجعل الواليات المتحدة
تحيد عن اإلغراء اإلمبريالي الذي تستسلم له اليوم» في خرق سافر
للقانون الدولي.
لتحقيق هذا المشروع ،ال ينبغي -حسب مؤ ِ ّلف «الفوضى العالمية
المؤسسات األوروبية .فبدل الجديدة» -سوى العمل على إصالح َّ
متعددة األنظمة ،يقترح تودوروف ،أوروبا «المتعددة المجالس، أوروبا ِّ المتحدة حول مركز واحد» التي يتكوَّن مجلس مركزها ،أساس ًا ،من دول
كفرنسا وألمانيا وإيطاليا .هذا المجلس األول لن يكون عبارة عن اتحاد،
تجمع لدول مستق ّلة ،بل سيكون عبارة عن اتّحاد حقيقي .يتكوَّن بمعنى ُّ
المجلس الثاني من االتحاد األوروبي الحالي ،بينما يتو َّقف المجلس
يتم -بما فيه الكفاية- الثالث عند حدود روسيا وشمال إفريقيا .ولكي ّ
تأمين التماسك والشرعية لهذه المجموعة ،فإنه سيتع َّين على كل عضو
37
يتم انتخاب رئيس االتحاد منتدب أن يم ِ ّثل عدد ًا من الناخبين ،وأن ّ
األوروبي من طرف أعضاء البرلمان األوروبي ،ويجب أن يتم َّتع هذا فعلية ،كما ينبغي ،أخير ًا ،اعتماد اللغة اإلنجليزية كلغة الرئيس بسلطات ّ
مشتركة على شاكلة اللغة الالتينية نفسها في العصور الوسطى.
هنا يتو َّقف تأمُّل هذا المواطن األوروبي من أصل بلغاري .رغم أن هذا
التأمُّل يبقى مثير ًا لالهتمام ،إال أنه يبقى تأمُّ ً ال يشوبه النقص .كيف
يمكننا أن نتو َّقع ،من مواطن ُقمِ عت ح ّريته من طرف الطوق الشيوعي إلى
سن العشرين ،أن يكون ناقد ًا للدولة الليبرالية .عالوة على تأمُّ ل حدود ّ
تودوروف ،أضيف ،في هذا المقال ،تأمُّل مواطن من شمال أميركا مُ ج َبر مخيب لألمل ومح َبط بسبب العقالنية التكنو -علمية تحمل عالم على ُّ ِّ
واإلنتاجية؛ حيث تجنح اإليديولوجيا الليبرالية الجديدة إلى إخضاع
العالقات االجتماعية إلى حالة مركنتيلية (الروح التجارية الجشعة)،
ويتساءل عما يمكننا القيام به.
نحن بحاجة إلى َّ مثقفين تقدميين يجرؤون على «التفكير في ما ال
يمكن تصوُّره» ( سيرجي حليمي ،لوموند ديبلوماتيك) ،أي التفكير في
مدينة فاضلة جديدة ،كما فعل َّ مثقفو اليمين الذين عملوا خالل أعوام
لظهور مدينتهم الفاضلة ،فض ً ال عن كونهم قد نجحوا في تقديم الليبرالية
الجديدة كحالة طبيعية لمسيرة العالم .يجب رفض أبديّة الوضع القائم
وتفكيك آليات الحتمية التي تحكم ،دوم ًا ،على نفس األفراد ،بعدم
األمان وبالمهانة وباالحتقار .رغم انعطاف العديد من الدول األوروبية إلى صف اليمين ،فليس ثمة من مف ّر من التشبث بالعوامل التي أدَّ ت إلى
38
ظهور الفلسفة ،والتوقيع على الميثاق األعظم ،وإعالن حقوق اإلنسان ليغدو بإمكان مدينة فاضلة جديدة أن ترى النور.
No 196/2004
39
عا َل ِم ُم َ نق ِسم بين الطموح ،واالستياء ،والخوف نعيش اليوم في عالم منقسم إلى ثالث مجموعات كبرى ،تح ِّركها ّ والمفكر تزيفتان تجاذبات عاطفية مختلفة جد ًا ،حسب منظور الفيلسوف
تودوروف في كتابه «الخوف من البرابرة :ما وراء صدام الحضارات»:
يتع َّلق األمر ،في المجموعة األولى ،بالدول الناشئة التي هي في طور
البروز (دول البريكس) كالصين ،الهند ،روسيا ،البرازيل ،المكسيك
وجنوب إفريقيا .يح ِّرك هذه الدول الطموح ،ويشعر سكانها بالرغبة
ِّ متعطشون للتع ُّلم واإلبداع واالبتكار في االستفادة من العولمة .إنهم
واستكشاف األسواق الجديدة .من الواضح أن مركز الثقل في االقتصاد
العالمي يتح َّرك مرة أخرى إلى آسيا ،كما حدث في عصر ساللة مينغ
في الصين (من القرن - 14إلى القرن .)17تشير الدراسات إلى أن
مهمة من النم ّو العالمي في سنة 2010تحدث في الدول الناشئة ّ حصة ّ
(الصين 10 + :في المئة ،الهند 8 + :في المئة) ،بينما تشير التو َّقعات،
بالنسبة للبلدان الصناعية (الواليات المتحدة ،ومنطقة اليورو) ،إلى أن
نسبة النم ّو تتراوح ما بين 1في المئة و 3في المئة من نم ّو الناتج المح ّلي
اإلجمالي.
تضم المجموعة الثانية الدول التي يهيمن عليها -بشكل قوي -الشعور ّ
باالستياء الناجم عن الشعور بالمهانة واإلذالل المفروض ،تاريخي ًا،
من طرف الدول الصناعية ،وخصوص ًا خالل الحقبة االستعمارية.
40
تبقى ساكنة هذه الدول ،في غالبيتها ،مسلمة ،وتمتد من المغرب إلى
باكستان ،كما توجد في بعض البلدان في أميركا الالتينية وآسيا .وهنا
متقدم، يطفو على السطح موضوع «صراع الحضارات» بين عالم غربي ِّ َّ يتمكن ،بعد ،من االستفادة من تخم بالثروة والرفاه ،من جهة ،وعالم لم مُ َ
«النهضة» من جهة أخرى ،النهضة العربية في القرن التاسع عشر التي
شارك فيها َّ مثقفون مسلمون ومسيحيون استلهموا ثقافة عصر األنوار.
ّ تتخط أسوار المدن التي كانت تحمل هذا األمل: غير أن «النهضة» لم
دمشق ،بيروت ،والقاهرة.
وأخير ًا ،المجموعة الثالثة ،وتتكوَّن من العالم الغربي عموم ًا الذي منه
أوروبا التي ترزح تحت الخوف :الخوف من فقدان مكانتها وقدرتها
االقتصادية والعسكرية ،الخوف من المستقبل أمام تنامي التهديدات،
الخوف من شيخوخة ساكنتها ،الخوف من اإلحساس المتزايد
أدى إليه شطط أنموذجها ،عن الدولة الحامية .يثير بالمسؤولية ،الذي ّ
هذا الخوف ،أيض ًا ،الشعور بالذنب المرتبط بالتاريخ ،وخصوص ًا،
تجاوزات المرحلة الكولونيالية .ينعكس هذا الخوف في رفض مواجهة
الحقيقة والواقع ،أو القيام بالبحث عن قيم روحية جديدة .والحالة هذه،
تبقى مقولة جون كيندي خير عبرة للغرب الخائف من اآلخر« :دعونا ال
نتناقش ،أو نتفاوض أبد ًا بدافع الخوف ،لكن دعونا ،أيض ًا ،ال نخشى
النقاش والتفاوض َق ّط».
41
كيف يمكن التخ ُّلص من هذه الرؤية للعالم وليدة االنفعاالت ومشاعر ّ بحس المسؤولية الحل في إنشاء قيادة تتم َّيز االستياء واالرتياب؟ يكمن ّ
والمواطنة دون هوادة وال ضعف ،قيادة قائمة على المقاربة الكانتية
(نسبة إلمانويل كانت) للعالقات الدولية ،وعلى مفهوم القوة الناعمة،
حددها البروفيسور جوزيف ناي من جامعة هارفارد ،في كتابه كما َّ
الموسوم بـ«القوة الناعمة ،السبيل إلى النجاح في عالم السياسة يتم هذا األمر على الدولية»( ،منشورات شؤون عامة .)2004 ،يجب أن ّ
مستوى كل مواطن وكل حكومة وكل مجموعة من الدول .وفق ًا لتصوُّر
تتحدد ،فقط، جوزيف ناي ،فقوّة دولة ما أو مجموعة من الدول ال َّ
بالقدرة العسكرية ،بل بتكامل مجموعة من العوامل كالقدرة على التأثير،
تعزيز القيم ،والقوة الجاذبة ،التح ّلي بسلوك اإلقناع بدل اإللزام ،الحوار
بدل اإلكراه ،والجذب بدل التحريض.
إن موارد القوة الناعمة -على عكس القوّة الخشنة التي تحيل على العمل
العسكري واإلكراه والهيمنة االقتصادية -هي الثقافة ،القيم السياسية،
تعدد األقطاب. وكيفية تطوير سياسة التعاون الب ّناءة القائمة على ُّ
إن القوة الناعمة تم ِ ّثل حقيقة جوهرية لها رسالة كونية ينبغي تقديمها
للعالم ،كما تتط َّلع هذه القوة الناعمة إلى فرض نفسها على العالم
كسلطة أخالقية عن طريق سياسات التعاون ،الدبلوماسية الوقائية ،وأيض ًا
المساعدة على اإلنماء والتطوُّر .يكمن التأثير في إنتاج المعايير ،في
تنظيم العولمة ،وفي نهج مقاربة للعالقات الدولية التي تنتصر للقانون والنظام عن طريق رفض تطبيق ارتكاس هوبز القائم على سياسة فرض
يتم تحقيق توازن القوى عن طريق ما األمر الواقع .حسب جوزيف نايّ ، 42
يسمى القوّة الناعمة ،أي التوازن بين خصائص القوة الناعمة وخصائص ّ
القوة الخشنة (القوة العسكرية).
يتم تحديد الزعامة والقيادة تبع ًا للقدرة على التفاوض وتحقيق المصالحة ّ
في عالم أ كثر إغراق ًا في الترابط .من وجهة النظر هذه ،فإن االتحاد
األوروبي يملك مزايا عديدة مقارنة مع فاعلين دوليين آخرين .وكنتيجة
للمبدأ الديموقراطي لال ِ ّتحاد األوروبي ،فتحديد هويّة أوروبا قائم على أسس سياسية.
َّ تأسست تتحقق الرسالة العالمية لال ِ ّتحاد األوروبي بنشر المبادئ التي َّ
عليها أوروبا ،أي الديموقراطية ،المجتمع المنفتح ،االنسجام االجتماعي،
دولة الحق والقانون ،الليبرالية االقتصادية ،والفلسفة .كلما نشرت أوروبا
رسخت هويَّتها على المستوى العالمي ،واستطاعت رسالتها أفكارهاَّ ،
العالمية المسؤولة والمتسامحة توليد المصالحة والتفاهم األفضل بين
بقاع العالم .يجب أن نتش َّبث ،على الدوام ،بحلم رايمون أرون المتم ِ ّثل
في مجتمع مؤنسن بشكل حقيقي.
جيروم كوشلين 18/09/2010
43
تعرض الديموقراطية للخطر الليبرالية المُ ط َلقة ِّ بعد أن هاجر من بلغاريا االشتراكية ،يقول تزيفتان تودوروف اليوم:
مدة ،أن استعما ً ال معين ًا للح ّريّة قد يشكل خطر ًا على «أدركت ،منذ ّ
الديموقراطية» .كما تابع قائ ً تخيم بثقلها على ال« :إن التهديدات التي ِ ّ
الديموقراطية ال تأتي من الخارج ...بل ،باألحرى ،من الداخل .»...فما
هذه التهديدات المحدقة بالديموقراطية؟
إذا كانت التجربة الشيوعية ،من منظور تودوروف ،قد كشفت عن
المسيحية السياسية (القائلة بإمكانية تحقيق عالم مثالي على األرض)،
فإن سلوك الواليات المتحدة األميركية والليبرالية المتط ِّرفة يكشف ،على نحو ما ،القرابة الحقيقية مع هذه المسيحية السياسية .يستشهد تودوروف
بفرنسوا فالهو« :كل على طريقته الخاصة ،اإليديولوجيا الشيوعية
والمذهب الذي يخالفها ويناقضها خاضعان لألسطورة البرومثيوسية
(المؤمنة باإلنسان ونشر الحضارة) .نعم ،فالليبرالية المتط ِّرفة التي يرى
تودوروف أنها تخدم استبداد األفراد ،تع ِّرض الديموقراطية للخطر.
وأكثر من ذلك أيض ًا إلى ما حدث في اليابان ،حسب تودوروف ،هو
خير مُ َع ِ ّبر على هذا الوضع ،فكارثة فوكوشيما حدثت في نهاية المطاف
بسبب «منطق الليبرالية الجديدة التي تنظر إلى اإلنسانية على أنها
كتلة من األفراد ال شأن لهم ،يخضعون بأنفسهم لتضارب مصالحهم
االقتصادية» .يشير تودوروف إلى أن «الفصل الجذري للجوانب ّ مستقل االقتصادية عن النسيج االجتماعي ،وبناء االقتصاد في مجال 44
بلغ ذروته في نظرية ثراء األمم التي قال بها آدم سميث (.»)1776 يقدم تودوروف الوصف التالي« :اليوم، وعن انتصار هذه اإليديولوجياّ ِ ،
اطمأن القادة السياسيون لإليديولوجيا الليبرالية المتط ِّرفة ،فإنهم وبعدما ّ
أ كثر استعداد ًا لخدمة القوى القائمة على النفوذ المالي ...والنتيجة هذه
المرة هي ،من جهة ،إنشاء حكومات النخبة السياسية -االقتصادية
(حكومات أوليغارشية؛ حكم القلة) ومن جهة أخرى ،إقصاء الخاسرين،
النفايات الحقيقية للنظام ،المحكوم عليهم بالفقر والمهانة :إنهم السبب
في مأساتهم ،ولمساعدتهم ال ينبغي أن نناشد الدولة ،أو نسعى إلى
التضامن االجتماعي .فالولع بالـ(سوبرمان) يناسب تمام ًا المنطق الليبرالي المتط ِّرف».
هذا التغيير الحاصل في وقتنا الحاضر هو ،بمعنى من المعانيّ ، أقل
جوهرية من التغيير الذي فرضته الثورة الفرنسية التي عملت على استبدال
سيادة الملك بسيادة الشعب.
تجسدها إرادة إن الليبرالية المتط ِّرفة تضع سيادة القوى االقتصادية التي ِّ
بعض األفراد فوق سيادة اإلرادة السياسية مهما كانت طبيعتها ،وهي إذ
المؤسس للفكر تقوم بذلك ،فإنها تنتهك -بشكل متناقض -المبدأ ِّ
الح ّد من سلطة ما بسلطة أخرى .ما ينطبق على الليبرالي القائم على َ
األنظمة الكليانية الشمولية شبيه بقفازات النظام الحالي المدمّر القائم
على سلطة المال « :إذا قمنا بتعريف البربرية على أنها رفض اعتبار
نعد هذا العالم الذي تحكمه سلطة أحادية اآلخرين بَشَ ر ًا مثلنا ،فيجب أن ّ
قائمة على النفوذ االقتصادي تجسيد ًا تام ًا للبربرية».
45
بين حديقة الحيوان «أي الدولة» وشريعة الغاب «أي الفرد» التي
يحدثنا عنها جان فيرات ،هناك طريق ثالث يجب أن نسلكه ونبنيه من ِّ
أجل كرامة اإلنسان وتح ُّرره .فكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون»
لتزيفتان تودوروف ِ ّ يذكرنا بأن هذا الطريق ،أي السياسة العادلة ،تتناغم
في جميع الحاالت مع الديموقراطية.
فالير ستارسيلكي
11-05-2012
46
أعداء الديموقراطية الحميمون
ممجدة بشكل خالص؟ هل ستصبح الديموقراطية «تعزيمة» سح ّريّة َّ
يساهم كتاب تودوروف «أعداء الديموقراطية الحميمون» في إحياء
النقاش حول الديموقراطية بإثارته ألسئلة محورية مزعجة في بعض
األحيان ،لكنها أسئلة كفيلة بتجنيبنا خطر السخط الناجم عن قبولنا
ألوضاع غير معقولة بضمير مرتاح .يس ِ ّلط َّ ملخص الكتاب الضوء على التحليل التاريخي واالستخدامات النظرية والعملية للديموقراطية في
الم َرض ّية ،مقترح ًا ،في نهاية المطاف مشروع ًا أوّلي ًا تجاوزاتها وانحرافاتها َ ّ لحل إشكاليتها المعاصرة والمستقبلية .يعرف تودوروف دواليب موضوع
ويقدم -في هذا مهم ًا من عمله. فيخصص لها جزء ًا الديموقراطية ِّ ِّ ّ وتوقع ًا متفائ ً ُّ ال ومطمئن ًا ،مشير ًا الكتاب ،في اآلن نفسه -تشخيص ًا مقلق ًا
إلى أن المطالبة الحصرية بالح ّريّة قد غدت سمة األحزاب األوروبية
لليمين المتط ِّرف .ومن هنا انبثقت فكرة تزيفتان تودوروف التي تدعو
إلى التفكير في المرحلة الحالية للديموقراطية التي لم يعد لها أعداء
يهددونها من الخارج بعد موت النزعات الكليانية .لكن الديموقراطية ِّ
أمست منذئذ متآ كلة من الداخل .أعداؤها هم أبناؤها غير الشرعيين:
المبادئ الديموقراطية المعزولة عن مشروع الجماعة ،والتي تنعكس
سلب ًا على الديموقراطية نفسها .وخير مثال على ذلك النزعة المسيحية السياسية «التي تزعم إقامة عالم يسوده األمان والسالم» ،المزايدة
الديموقراطية المزعومة ألحزاب القرصنة ،ح ّريّة الصحافة التي هي في 47
كس ْلطة مضاءة ،لكنها قابلة لالنتقاد بصفتها ُس ْلطة. صميمها -أمر جيد ُ يع ِ ّبر تودوروف عن قلقه بسبب انهيار النموذج الديموقراطي األوروبي
أمام سلسلة من الصعوبات المتشابكة فيما بينها :مشكلة العقليات ،انتصار
النزعة الشكلية الشرعوية ،تجاهل أمر الح ّريّة المنوط بتطوير شخصية
ال عن ذلكّ ِ ، الفرد وتف ُّتحه .فض ً يؤكد أن التقهقر له نتائج وخيمة على الديموقراطية ،بما في ذلك الصعوبات ذات الطابع السياسي .تبدو أوروبا
ّ تستغل هذه متقوقعة في تناقضاتها ،الشيء الذي يجعل األحزاب الشعبوية
الثغرات الديموقراطية .تعاني الديموقراطية من كونها أضحت موضوع ًا
للتوافقات؛ لم يعد ثمة أشخاص يدافعون عنها ،ومن ث ََّم من الصعب
إثارة الحماسة من أجل قضيتها .فالحركة الراهنة للساخطين ،حتى لو لم
تقدم إجابات على الصعوبات التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية، ِّ
فإنها تبقى ِ ّ مؤشر ًا دا ّل ًا بما تحمله من شعار «الديموقراطية اآلن» .بالنسبة
التجدد، لتودوروف الخالص ال يكمن خارج ذواتنا ،بل في قدرتنا على ُّ
يردد نقد الذات ،إرادة العمل ،طموح البشرية لبلوغ الكمال ،كما كان ِ ّ
روسو ،المثال الذي ال ينبغي مطابقته مع االعتقاد األعمى بالمسيرة
َّ التقدم. المظفرة للبشرية في ركب ُّ
يقترح تودوروف تفكير ًا فلسفي ًا سياسي ًا مستوحى من تاريخ األفكار
وعلم االجتماع التاريخي حول الديموقراطية كأساس للح ّريّة ،للمساواة، وللتماسك االجتماعي.
يمس تودوروف في هذا الكتاب جوهر البنى الكفيلة بهيكلة الحياة في ّ
المجتمعات الحديثة .تنبثق حقيقة الديموقراطية من تاريخ يبقى ،في 48
جوهره ،تاريخ ًا قائم ًا على السعي الكتساب الحقوق االجتماعية. إن النهج الذي اعتمده تودوروف في هذا الكتاب يبقى موضع ترحيب
لسببين :أولهما ،أن الديموقراطية -باعتبارها عام ً ال مح ِّرك ًا في تاريخ
المنصب على السياسات التقدم االجتماعي -تو ِ ّلد اليأس بسبب اإلقصاء ّ
والنخب ،وثانيهما ،وعلى المستوى النظري أ كثر ،أن األعمال األساسية
اهتمت أ كثر بالقضايا الثالثية: حول الديموقراطية في العقود األخيرة َّ مشدد ًا على القضية حقوق اإلنسان ،المجتمع المدني ،والحكامة (،)1 ِّ (المتخصصين المرتبطة ببقائها ،في الوقت الذي يرى فيه علماء االنتقال ِّ
في علم االنتقال الديموقراطي) أن األمر مج َّرد عمليات دمقرطة غير يشخص فيه علماء السلطة -وعلى رأسهم مكتملة ،وفي الوقت الذي ّ
خوان لينز -عمليات توطيد سلطوية.
نالحظ ،أيض ًا ،أن هذا الكتاب يسعى -بشكل مفيد -إلى تكميل
أدبيات الدراسات الديموقراطية .ولكن األهم من ذلك ،أنه يع ِ ّزز أعمال
روزانفالون حول«الديموقراطية المضادة» و«الشرعية الديموقراطية»
( .)2الشيء الجوهري في هذا الكتاب ،أن تودوروف يرى أنه من
الضروري القيام بتجديد ديموقراطي عميق إزاء القضايا التي هي على
ّ المحك في الوضع الحالي ،كانعدام المساواة المتزايدة .في الواقع ،هو
يدعو إلى تغيير في الرؤية الفكرية والسلوكيات الكفيلة بإضفاء معنى على المثال الديموقراطي.
َّ المثقفين يفرض تزيفتان تودوروف نفسه ،بشكل كبير ،كواحد من
الحادة والثاقبة حول الديموقراطية، المعاصرين األكثر احترام ًا .إن نظرته ّ
49
وقدرته على التغلغل عميق ًا في تحليل األشياء لنزع القناع عن الرؤى السطحيةّ ِ ، المتميزة التي يتزاحم فيها الذكاء مع تشكالن األساس ألعماله ِّ
َّ المثقفين المشعوذين ذوي األخالق النزعة اإلنسانية الصادقة ،بعيد ًا عن الملتوية .لقد ظهر هذا الكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون» ليكمل
األخدود الذي َخ ّط تودوروف معالمه في كتبه «ذاكرة الشر ،إغواء
الخير»(« ،)2000الفوضى العالمية الجديدة» ( )2003و«الخوف
من البرابرة» (.)2008
في وطنه األصلي (بلغاريا) ،يالحظ تودوروف أن انعدام الح ّريّة كان
يمس الخيارات السياسية ،بل -أيض ًا -الجوانب التي ليس لها أية ّ داللة إيديولوجية :اختيار مكان اإلقامة ،المهنة ،ونوع المالبس أيض ًا.
كان النظام يضفي قيمة على كلمة الح ّريّة ،لكن ذلك التمثيل الكاذب
كان يخدم إخفاء غيابها .ولذلك ،يالحظ تودوروف -بقلق كبير -في
المميز لألحزاب السياسية عام 2011أن مصطلح الح ّريّة أصبح االسم ّ المعادية لألجانب في أوروبا.
يشجب تودوروف المسيحية السياسية (التي تزعم أنها خالص العالم)،
ويرى أنها ترتكب أفعا ً ال ش ّريرة باسم الخير .ألنها تب ِّرر أفعالها بدافع
سام لإلنسانية. يتم وصفها على أنها مبتغى ٍ الوصول إلى غاية ّ
يرى تودوروف أن الموجة األولى للمسيحية السياسية المؤمنة بالخالص
تتمثَّل في الحروب الثورية واالستعمارية ،والموجة الثانية في المشروع الشيوعي ،في حين أن الموجة الثالثة تتمثَّل في فرض الديموقراطية
يحدد تودوروف سببين بنيويَّين لفشل استراتيجيات هذا بالقنابل[.]3 ِّ 50
الشكل الجديد للمسيحية السياسية المؤمنة بالخالص :من جهة ،إن
المتوخى ،ومن جهة أخرى، عنف الوسائل المستخدمة يلغي نبل الهدف ّ
إن واقعة فرض الخير على اآلخرين بالقوة بدل االكتفاء باقتراح ذلك
عليهم فقط ،يستدعي اإلقرار -في البدء -بأنهم غير قادرين على حكم
أنفسهم بأنفسهم ،وأن تحريرهم يستوجب -أو ً ال -إخضاعهم.
و على الصعيد المح ّلي(،على المستوى الداخلي للدولة الغربية) ،يدين تودوروف تجاوزات ح ّريّة تمويل الحياة السياسية في الواليات المتحدة
التي تتعارض مع الديموقراطية .إنه ِ ّ للقس والناشط يذكرنا بالعبارة الشهيرة ّ
السياسي هنري الكوردير الذي قال سنة « :1848بين القوي والضعيف،
وبين الغني والفقير ،وبين السيد والعبد ،الح ّريّة هي التي تقمع وتظلم،
ضد والقانون هو الذي يح ِّرر» .يشجب تودوروف أيض ًا العداء المستعر ّ اإلسالم الذي ّ تغذيه السلطات السياسية ووسائل اإلعالم[ .]4وخير مثال
على ذلك نزوع رئيس فرنسا الذي ينادي بضرورة دفاع المجتمع الفرنسي
عن نفسه لحماية نمط حياته ،كما يذكر تودوروف أن الثقافة األكثر نفوذ ًا
في فرنسا ،حتى اآلن ،هي ثقافة الواليات المتحدة األميركية...
يالحظ تودوروف ،باستياء ،أن الديموقراطية أصبحت نظام ًا منفص ً ال،
وذلك أمر مؤسف ،لقد أصبحت في حالة شاذة ،وهي نفسها المسؤولة
عن ذلك .حين تصبح الديموقراطية ،في الغالب ،قابلة للذوبان في
متعددة لها، تقدم السلطة السياسية مظاهر ِّ نزعة تس ُّلطية جامحة حيث ِ ّ
كماشة بين العملية المزدوجة للشرعية/ فإن الديموقراطية تجد نفسها في ّ التشريع .ما جدوى الديموقراطية إذا لم تعد قادرة على تدعيم األنظمة التي
تحكمها المبادئ الدستورية للح ّريّة واستقالل السلطة؟ يعتقد تودوروف، 51
على شاكلة روزانفالون في كتابه «الديموقراطية المضادة» ]5[،أنه ،لكي
تحيا الديموقراطية في وضع سليم ،يجب احترام متط َّلباتها ،وخصوص ًا
ح ّريّة األفراد .أما نقيض هذا األمر فيعني العمل على خلق «ديموقراطية
معزولة»[.]6
على غرار فوكوياما الذي أعلن «نهاية العالم»[ ،]7أو برتراند بادي الذي
أعلن «نهاية الحدود»[ ،]8فإن كتاب تودوروف ،وبفضل استثماره
لمستوى ٍ عال من الثقافة العالمة ،ينتصر النخراط القارئ في الشهادة
على األنموذج الممكن «لنهاية الديموقراطية» .مرجعية األنموذج
متعددة :نهاية متغيرات الديموقراطي في طريقها إلى الزوال بسبب ِّ ِّ الحرب الباردة ،الليبرالية الجديدة ،وأزمة الدول .يالحظ المتتبع للشأن
السياسي تكاثر الفضاءات واألماكن التي أصبحت فيها الديموقراطية
فاقدة للفعالية ،حيث اختفى دورها كأداة للمراقبة والضبط .وعالوة
مهددة بتضارب مصالح المعادين على ذلك ،فالديموقراطية أصبحت َّ
للديموقراطية ،الذين يرى تودوروف أنهم ِ ّ يوقعون على شهادة ابتذالها
وبطالنها.
يبين تودوروف كيف ت ََّم فرض النظام الديموقراطي باعتباره رؤية ّ
قانونية/عقالنية خاصة في أثناء مرحلة فكفكة االستعمار ،ويالحظ أن ّ وأقل مي ً ال نحو الكونية ،حيث أصبحت الهويات أ كثر ارتباط ًا بالثقافة
الديموقراطية أسلوب ًا معين ًا لتأ كيد سيادة شعب ما ،هذه السيادة التي
ت ََّم إنكارها تارة هنا واالحتفال بها تارة هناك ،كما أن هذه السيادة ت ََّم
بناؤها خارج الفضاء القومي ودون أخذ هذا الفضاء بعين االعتبار .من
هنا ،ينبثق عجز الديموقراطية وأزمة القيم األخالقية التي نعيشها اليوم 52
ونحن ساخطون .لكن نهاية الديموقراطية هاته تعكس أيض ًا اإلنكار
التدريجي لقدرة الدولة على السيطرة بسبب نهاية شرعية الديموقراطية.
يتم تناولها من المؤسف أن مسألة إجراء التحقيق في الرأي العام ال ّ بشكل جوهري في ارتباط وثيق بالديموقراطية .إن إجراء تحقيق في
ِّ مغذي ًا للشعبوية ،ومن جهة الرأي العام قد يكون ،من جهة ،عنصر ًا
أخرى ،عنصر ًا جوهري ًا لمعرفة درجة المالءمة أو التناقض ،في مرحلة
مع َّينة ،بين الحاكمين والمحكومين أساس ًا .إن عدم اإلشارة إلى غياب الديموقراطية في إفريقيا مسألة مزعجة :هذا التقصير مقلق للغاية ،السيما
تحديات كبيرة من أن -في هذا الجزء من العالم -تواجه الديموقراطية ّ
خالل مواجهتها لديكتاتوريين يمسكون ،بشكل دائم ،بزمام سلطة ذات توجه استبدادي. ُّ
لماذا كتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون»؟ ِّ أهم ّية تحسين النظام االجتماعي في النموذج يؤكد تودوروف على ّ الديموقراطي ،الشيء الذي يتضمن المراقبة والحظر والحكم .وهذا
هو الشيء الضروري ،خاصة في الجمهوريات التي تحكمها المصالح
يتم النزوع إلى الخاصة ،ويسود فيها اإلخالل بأمانة الوظيفة ،حيث ّ اختزال الديموقراطية في الفعل االنتخابي ورفض التركيز على نوعية
المؤسسات (الفصل بين السلطات) ،نشاط (التعددية) ،نشاط النقاش ُّ َّ
المؤسسات .لكن ،باختيار تودوروف عنوان ًا المجتمع في عالقته بهذه َّ
لكتابه بهذا الشكل «أعداء الديموقراطية الحميمون» ،فإنه يخاطر
بالسقوط في سوء الفهم؛ ألننا لو قمنا بالتأويل الحرفي لعنوان كتابه،
فذلك يعني «نهاية الديموقراطية» .وهذا ما سيكون كارثة في عالم
53
يصبح فيه الحيوان السياسي (الذي هو اإلنسان) ذئب ًا ألخيه اإلنسان.
للح ّد من صالحيات حتى لو كان هناك وجود ألزمة الثقة في الليبراليةَ ، متشددين السلطة ،فإن ثمة -أيض ًا -أزمة ثقة ديموقراطية ،لكي نكون ِّ
وصارمين إزاء السلطات ،كما أن هناك أزمة ثقة شعبوية ،لفضح ونبذ
السلطات بطريقة منهجية ،فمن غير المستحسن وضع َح ّد للديموقراطية
التي تحتاج إلى إعادة التنظيم والقيام بتسويات من أجل االنتعاش.
يمنح هذا الكتاب لفرضيات توكفيل االتّساق النظري الكامل .ال َّ شك،
أن المسألة التي تم َّي َز فيها توكفيل ،بوصفه صاحب رؤية ثاقبة ،هو قدرته ُّ التوقع بشكل مسبق للتأثيرات الوخيمة في مسألة المساواة االجتماعية على
( ،)9غير أنه في هذا الكتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون» ،قد يعتقد المرء أن رتابة مجتمعاتنا واالنتصار العالمي للشعبوية ِ ّ يؤكدان
ُّ توقعات تودوروف المتشائمة.
رغم هذه المالحظات ،فإن هذا الكتاب الذي يغني القائمة الهامّة لألعمال النقدية حول الديموقراطية ،يبدو لي -تمام ًا -كتاب ًا جدير ًا
ُّ تحفظ. باالحترام دون
باتريس موندونغامويتي
18-02-2012
54
هوامش [ -]1انظر جون راولز :نظرية العدالة .أو ِ ّ منظرو االعتراف كـ«روزانفالون».
[ -]2الديموقراطية المناهضة .السياسة في زمن االرتياب .ساي .2006الشرعية الديموقراطية ،نظرية المصلحة العامة .ساي .2008
التدخل في [ -]3على ضوء أعماله السابقة ،ي َّتضح التج ّلي لهذا النزوع في حرب كوسوفو ،1999ثم ُّ
والتدخل في ليبيا .2011 أفغانستان ،2001والحرب على العراق 2003 ُّ
ُسمى ،باألحرى ،وزارة الشؤون [ -]4يرى تودوروف أن الوزارة الفرنسية للهويّة الوطنية كان يجب أن ت ّ
اإلسالمية بما أن السكان المسلمين هم مركز اهتمامها الرئيسي.
[ -]5روزانفالون ،المرجع السابق.
[ -]6ديهاميل «الديموقراطية المعزولة» ،مجلة السلطة ،رقم .2008 ،126
[ -]7فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» باريس ،فلماريون .1993 [ -]8بادي « نهاية الحدود» باريس ،فايارد.1995 .
[ -]9روزانفالون «مجتمع المساواة» باريس ،ساي .2011
55
تأمالت مواطن أوروبي ُّ ِّ يوضح كتاب تزيفتان تودوروف« :الفوضى العالمية الجديدة» الصغير
الحجم والغني فكري ًا ،كيف تخلق السياسة الخارجية للواليات المتحدة
محدد ،إنه سياق الحرب في العراق. جد ّ الفوضى واالضطراب في سياق ّ كتب تزيفتان تودوروف هذا الكتاب في الوقت الذي ت ََّم فيه نشر مشروع
الدستور األوروبي الذي وضعته «االتفاقية حول مستقبل أوروبا» .يتع َّين
على االتحاد األوروبي لعب دور أكبر في الساحة الدولية.
ي َُع ّد تودوروف مؤ ِّيد ًا ونصير ًا ألوروبا بشكل كبير ،كما ِ ّ يؤكد ذلك العنوان
الفرعي لكتابه «تأمُّ الت مواطن أوروبي»ُ .و ِلد هذا المفكر في بلغاريا، ويعيش في فرنسا منذ أربعين عام ًا.
يحدد تودوروف في نهاية كتابه «الفوضى العالمية الجديدة» القيم ِّ
التي يتقاسمها األوروبيون ،ثم يعرض مجموعة من األفكار لتعزيز فعالية
االتَّحاد األوروبي ،ويجري تقاسم العديد من مقترحاته من ِق َبل معظم دول االتحاد األوروبي.
نقض الحرب الوقائية خصص تودوروف جزء ًا كبير ًا من كتابه للسياسة الخارجية األميركية َّ
56
بشدة وببصيرة ثاقبة .بأسلوب سلسّ ِ ، يفكك الحجج التي التي ينتقدها ّ
ضد العراق في مارس ،2003حيث ت ََّم تقديمها في أثناء إعالن الحرب ّ
تسعى الواليات المتحدة األميركية -دوم ًا -للدفاع عن مصالحها بدافع
الرغبة في حماية مواطنيها ونشر الح ّريّة في بقاع العالم ،كما يحلل ويفسر ظهور مصطلح جديد« :الحرب العالقة بين «األمن» و«الح ّريّة»، ِّ الوقائية».
تس ِ ّلط تأمُّ الت تودوروف الضوء على المفاهيم التي ت ََّم ترديدها في وسائل اإلعالم بشدة بقيت -مع ذلك -تفتقر إلى التفسير ،كمصطلح « األصولية الجديدة» التي ِ ّ وتوجهاته تشكل األساس لفكر جورج بوش ُّ
السياسية .وعندما تقوم دولة ما بفرض ما تعتقده أمر ًا مثالي ًا بالقوة ،فإنها
ال تتص َّرف بطريقة ديموقراطية.
ي َّتخذ تودوروف ،في هذا الكتاب ،صفة المراقب للسياسة الخارجية
وص َفة المستشار النصوح في اآلن نفسه .ومن منظوره -بوصفه األميركيةِ ،
مواطن ًا أوروبي ًا -فإن استخدام القوة نادر ًا ما كان أمر ًا جيد ًا ،باستثناء
حالة الدفاع المشروع عن النفس أو حدوث إبادة جماعية .لكن اندالع
ضد العراق ال عالقة له بالدفاع المشروع عن النفس ،أو باإلبادة، الحرب ّ
صدام حسين. حتى لو ت ََّم االعتراف بخطورة رجل مثل ّ
في أفغانستان ،كما هو الشأن في العراق ،وفي الوقت الذي أنهى فيه
يتم بعد نشر الديموقراطية كتابة عمله «الفوضى العالمية الجديدة» ،لم ّ
التي زعمت أميركا إرساء أسسها في هذه البلدان .ليس ،فقط ،ألن فعالة من وجهة النظر هذه ،بل ألن هذه الحرب ال الحرب الوقائية غير ّ
57
يمكنها محاربة اإلرهاب ،ألن العدو لم يعد ممكن ًا التع ُّرف إليه .لم تخرج
الواليات المتحدة من هذا الصراع منتصرة ،بل بالعكس ،ربما ّ غذت
بطريقة مباشرة -اإلرهاب؛ لقد شعر جزء كبير من اإلنسانية بالمهانةواإلذالل بسبب حرب أميركا على العراق.
أوروبا« ..القوة الناعمة» لتحقيق توازن جديد التعددية وعلى الديموقراطية؛ إذ يستند ي َُع ّد كتاب تودوروف ثنا ًء على ُّ
فيه إلى أفكار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو الذي يدعو إلى استقالل
السلطات :التنفيذية ،والتشريعية ،والقضائية .على المستوى الوطني،
كما هو الشأن على المستوى العالمي ،ال يمكن للسلطة أن تكون غير
محدودة .بواقعية عميقة ،ال يؤمن تودوروف بالقانون الدولي لحكم
العالم ،بل -باألحرى -بـ«نظام عالمي» .لكن ،من المفروض أن تقوم
ّ كمنظمة األمم المتحدة (التي السلطات بفرض هيبة هذا النظام العالمي،
عجزت عن منع حدوث المجازر) أو المحكمة الجنائية الدولية ،فهي
سلطات فاقدة للفعالية وم َّتسمة بالعجز.
أمام هذا العمالق العالمي كالواليات المتحدة األميركية التي ليس هناك
نظير لقوّتها العسكرية ،يصعب على االتّحاد األوروبي أن يفرض نفسه كفاعل في الساحة الدولية .من جهة ،تسيطر الواليات المتحدة على حلف
شمال األطلسي ،ومن ناحية أخرى ،ال يملك االتّحاد األوروبي مقاربة
للدفاع المشترك .فسيطرة الواليات المتحدة على حلف شمال األطلسي
ال تبدو -مطلق ًا -أمر ًا منطقي ًا لتزيفتان تودوروف؛ ألن أي عدوان على 58
أوروبا ال يمكن أن يحدث من داخل القارة األوروبية« .قوة أوروبا»
ستسمح لالتحاد بالدفاع عن نفسه في حالة وقوع عدوان خارجي،
ومن ث ََّم سيمكن ألوروبا أن تتح َّرر من الوصايا والحماية األميركية .يضع
تزيفتان تودوروف الخطوط العريضة لهذه «القوة الناعمة» الكفيلة
بتطوير شراكة وثيقة مع الواليات المتحدة ،خصوص ًا في مجال مكافحة
اإلرهاب.
وجود هو ّية أوروبية يسعى تودوروف في نهاية هذا الكتاب إلى البرهنة على وجود هويّة
أوروبية قائمة -بشكل فعلي -على تراث مشترك وتقارب جغرافي وعدد من القيم التي ِ ّ يوضح تج ِّلياتها في :العقالنية ،العدالة ،الديموقراطية،
الح ّريّة الفردية ،العلمانية ،والتسامح .وأخير ًا ،فإن الفصل األخير من
تقدمية لتعزيز عدة مقترحات يبقى العديد منها مقترحات ّ يقدم ّ الكتاب ِ ّ
فعالية اال ِ ّتحاد األوروبي وآليات اشتغاله ،كما هو الشأن ،أيض ًا ،في دوره
في الساحة العالمية:
يتم فيها تحقيق التكامل أوروبا التي تتأ ّلف من «دوائر م َّتحدة المركز» ّعلى نطاق شاسع.
مؤسسات أ كثر تمثي ً ال للمواطنين ،وعلى رأسها البرلمان إنشاءَّ األوروبي.
انتخاب رئيس ألوروبا عن طريق البرلمان األوروبي. -اعتماد لغة مشتركة للعمل (اللغة اإلنجليزية).
59
إنشاء عطلة رسمية يوم 8أو 9ماي لالحتفال بعيد أوروبا.إن قادة أوروبا والواليات المتحدة -فيما يتع َّلق بالجزء األول من هذا
المؤ ّلف -سيكون بإمكانهم استلهام أفكار هذا الكتاب واالغتناء من بالحس السليم. هذا التأمُّ ل الفكري المفعم ّ
يقدم تزيفتان تودوروف -دون تساهل -صورة عن السياسة الخارجية ِّ
أعم صورة عن السياسة العالمية .ما يهيمن للواليات المتحدة ،وبشكل ّ على الدول هو الرغبة في الدفاع عن النفس وحماية مصالحها القومية.
بسبب ماضيه ،يسعى تودوروف إلى إدراك العالم وفهمه انطالق ًا من
رؤيته أو غير ذلك فقط .وهذا ما يمنح أصالة كبيرة لتأمُّ الته الفكرية، ويجعل منه َّ مثقف ًا صاحب رؤية ثاقبة في زمنه.
صوفي جيراردين
14-03-2008
60
اال ّتحاد الديموقراطي للوسط السويسري فعا ً ال في مجلة «المجال العام» التي ن ُِشر فيها هذا ّ يعد ألبير تيل مساهم ًا ّ
المقال ،حيث يرى هذا الباحث أن كتاب تزيفتان تودوروف «أعداء الديموقراطية الحميمون» ،منشورات روبيرت الفون .لم يفقد شيئ ًا من
أهم ّيته حول األحداث الراهنة بعد نشره منذ ما يزيد على سنة ،وأنه كفيل ّ
بالفصل في سلوك االتّحاد الديموقراطي للوسط.
والمهدد للديموقراطية الغربية، بعد زوال الشيوعية ،المنافس الكبير ِّ أخذ ّ يوجهون مخاوفهم وقلقهم في اتّجاه آخر .الخصم سكان أوروبا ِ ّ الشرير والبارز هو األجانب .،إنه ألمر جيد أن يقرأ المرء هذا الكتاب،
ويعيد قراءته في مطلع سنة يحتلّ فيها االتّحاد الديموقراطي للوسط قدمها ،وأعلن عنها الساحة السياسية عن طريق سيل من المبادرات التي َّ
حول :الهجرة الجماعية ،األجانب المجرمين ،اعتقال طالبي اللجوء المرفوضين ،وإنهاء القبول المؤ َّقت. يالحظ تودوروف ،هذا المؤ ِّرخ الفرنسي من أصل بلغاري ،الصعود
المتنامي والمعمم للشعبوية ونزعة كره األجانب في أوروبا .فحتى هولندا والدانمارك اللتان كان ي َ ُنظر إليهما على أنهما دولتان منفتحتان لم تعودا ِّ تشكالن استثناء ،كما هو الشأن أيض ًا في سويسرا التي «أصبح فيها
الحزب الكاره لألجانب بزعامة كريستوف بلوشر ،الذي يختبئ تحت
ُشبه األجانب بالخراف السوداء، تسمية االتّحاد الديموقراطي للوسط ،ي ّ ويدعو إلى استفتاء يمنع بناء المآذن في هذا البلد الجميل» .بالنسبة
لالتحاد الديموقراطي للوسط السويسري ،تكمن مبادئ الديموقراطية ليعبر -بكل ح ّريّة -عن اختياره .لكن كشف في إعطاء الشعب الكلمة ِ ّ
61
يلخص جوهر المسألة .يضيف تودوروف حساب أصوات اقتراع ما ال ِ ّ
إلى قضية االستفتاء الجوانب النوعية في هذا الموضوع.
يتوخى نظام ديموقراطي ما الصالح العام على المدى البعيد ،ويحترم ّ
المساواة في الحقوق ،بما في ذلك حقوق األق ّل ّيات .ثمة العديد من
الخصائص والصفات التي يتجاهلها الشعبويون« .أحب أقاربي ،ولذلك
من الطبيعي أن أمنحهم المزيد من الحقوق واالمتيازات أ كثر من
غيرهم» ،يقول الشعبويون .هذه األولوية القائمة على التأثّر تتناقض مع
العدالة والمساواة في الحقوق .في سويسرا ،ليس للمسلمين الحق في
بناء المآذن ،حتى لو كانت أصغر حجم ًا وأكثر هدوء ًا من برج أجراس الكنائس في بلدنا.
تميز الشعبوية :تقديم حلول سهلة للفهم ،لكنها هناك خاصية أخرى ِ ّ مض ِّللة ،ويستحيل تطبيقها .تدعو الشعبوية إلى طرد كل طالبي اللجوء
المرفوضين .لكن ،هل سيعيش هؤالء األشخاص في الغاب إذا رفضتهم
كل الدول؟
تطالب الشعبوية بحلول فورية للمشاكل اليومية .لكن مكافحة ازدحام
ّ وحل مشاكل السكن ،تتط َّلب وضع خطة وطنية وسائل النقل والطرقات،
جديدة واستثمارات على المدى الطويل .لكن االتّحاد الديموقراطي
للوسط يرفض إعادة النظر في قانون تسوية األراضي ،ويكتفي بمطالبة
للح ّد من الهجرة من أجل َح ّل المشاكل الحقيقية في البلد، صارمة َ
وبشكل أقلّ انفتاح ًا ،يتص َّرف رئيس الحزب االشتراكي السويسري يقدم مقترحاته حول ح ّريّة ُّ تنقل األشخاص ،ومسألة بالطريقة نفسها ،وهو ِ ّ 62
االنفتاح على كرواتيا لتحقيق اإلصالحات في قطاع اإلسكان. لكن رفض االنفتاح على االتحاد األوروبي سيكون له نتائج وخيمة على ّ
مبادرة االتّحاد الديموقراطي للوسط السويسري ،التي تدعو إلى تقنين
الهجرة بدعوى أن الكثافة السكانية في سويسرا بلغت حدودها القصوى. بالنسبة لتزيفتان تودوروف ،فالغوغائية (سياسة تم ُّلق الشعب لتهييجه)،
مبسطة ومض ِ ّللة ،هي قديمة ِق َدم الديموقراطية. التي تسعى إلى تقديم حلول َّ
يضاعف التليفزيون ،بشكل كبير ،فرص نجاحها .ألن المعلومة تنتشر
بسرعةّ ِ . تفضل الغوغائية الجمل القصيرة والصور المدهشة والمؤ ِ ّثرة التي
ُّ وتذكرها .فالرسالة السياسية ال تملك فرص النجاح في يسهل حفظها معبر ًا بكلمات مأثورةّ ِ . ّ التأثير على يفضل المتلقي إال إذا اتَّخذت شعار ًا ِ ّ
التليفزيون ،أيض ًا ،اإلغراء على حساب اإلقناع والحجاج .إذا لم تتوافر
الشعبوية على شخصية كاريزماتية ،من خالل دعم وسائل اإلعالم ،فإنها
تتعثَّر وتخفق بسرعة.
يفسر -بداية- إذا اتَّبعنا رؤية تودوروف فإن انطفاء نجم كريستوف بلوشر ِ ّ ويفسر ،أيض ًا ،محاولة هروبه أفول االتحاد الديموقراطي للوسط وتراجعه، ِّ
عن طريق االستخدام المفرط للمبادرة الجديدة لتقنين الهجرة والدعوة إلى االستفتاء.
ألبير تيل
17-01-2013
63
ُ سوخها ،ومستقبلها الديموقراطيةُ :م
عدة سنوات على قضية الغيرية ،وعلى يشتغل تزيفتان تودوروف منذ ّ
العالقة القائمة بين «نحن» و«هم» .يتبع في عمله منظور ًا ثالثي ًا :تفكيك
ّ يغذيه الخوف من «البرابرة»، خطاب «صراع الحضارات» الذي
ّ تغذي وتطعم هذا الخطاب ،والتي تحديد جينيالوجيا األفكار التي ينحدر بعضها من فكر األنوار ،وضع قائمة جرد «ألعداء» الديموقراطية
ليقدم بعد ذلك (في الخارج وأيض ًا -وبشكل خاص -في الداخل) ِّ «العالج» لهذه المعضلة.
ينتمي الكتاب األخير «أعداء الديموقراطية الحميمون» للفيلسوف
تودوروف إلى هذا الموقع الثالث.
الالهوت البشري ونحن نقرأ صفحات كتاب «أعداء الديموقراطية الحميمون» نالحظ
أن تودوروف يط ِّور التاريخ األصلي لألفكار ،الذي يهيكل أسسه حول
التعارض القائم بين رؤيتين من األنظمة الالهوتية التي ورثناها :أنظمة
الهوت بيالجيوس ،وأنظمة القديس أوغسطين .يطوّر بيالجيوس ،هذا
ِّ ويؤكد اإلكليريكي البريتوني ،رؤي ًة لإلنسان ،قائم ًة على اإلرادة الح ّرة،
على إمكانية عدم ارتكاب اإلنسان للخطيئة بفضل إرادته الح ّرة في 64
االختيار دون العمل على إدانته .إرادة اإلنسان على «صورة الله» بما أن الله خلق اإلنسان على صورته.
يلخص تودوروف هذا األمر على النحو التالي« :إذا ارتكبنا الخطيئة، ِّ
فذلك ليس ألننا ورثناها من آدم ،بل ألننا نق ِّلد سلوك َس َل ِفنا :هذه الخطيئة
ليست فطرية ،بل من صنع اإلنسان» (ص .)25من ث َّم ،فإن اإلنسان
-وحده -المسؤول عن خالصه ،ولديه القدرة على تغيير وإصالح العالم
يعد القديس أوغسطين وإصالح نفسه .وبشكل معكوس لهذا الطرحّ ،
الخطيئة بمثابة صفة جوهرية لإلنسان ووصمة عار ال تمحى ،وال يمكنه
التح ُّرر منها وحده .إن الخالص هو ثمرة الغفران والصالح ومحبة الله
الذي نؤمن به.
وفق ًا لهذه الرؤية ،ليس بمقدورنا إنقاذ أنفسنا بوسائلنا الخاصة ،والقضاء على الشر المتأصل في العالم. ِّ
التوازن اإلنساني الهَ ّ ش حسب تودوروف ،ترتبط هذه المناظرة الدينية برؤيتين أنثربولوجيتين: الرؤية األولى إيجابية ،والثانية أ كثر إغراق ًا في التشاؤم ،وترتبط أيض ًا
برؤيتين لإلنسان وبقدراته التي تهيكل تاريخ األفكار .إن النزعة
اإلنسانية ،التي هي األصل في قضية الديموقراطيةِّ ، توفق -بطريقة
متوازنة -بين هذين التصوُّرين .لكن ،اليوم ،إن تصور بيالجيوس هو
الذي يجنح إلى الهيمنة على البشرية .ومع ذلك ،فحسب مؤ ِ ّلف «أعداء
65
الديموقراطية الحميمون» إن تفاؤل بيالجيوس األساسي يعكس إغراء والتحسن في حياة البشر القائم على «مسيرة قسريّة» نحو الخير. التغيير ُّ
الم َع ْنوَن في هذا الكتاب بـ«عقيدة الخالص للمسيحية في الفصل ُ
السياسية» ،يشير تودوروف إلى المحاولة األميركية لتصدير الديموقراطية
مهما كان الثمن.
س عدم االختيار هو أحد الخيارات؟ َأ َل ْي َ تبقى الثقة المفرطة التي نمنحها لإلرادة الفردية إحدى مصائب
حجته، تهدد ديموقراطيتنا .لدعم النزوع البيالجيوسي ،وهي التي ِّ ّ
يستند تودوروف -في المقام األول -إلى أعمال فرنسوا فالهو الذي
استشهد بمقوالته بشكل كبير ،والذي تبقى وجهة نظره مناهضة لليبرالية
بشكل حازم .التجاوزات المفرطة الحال ّية لإلرادة الفردية؛ كاألنانية
االستهالكية ،قابلة للمقارنة بالتجاوزات المفرطة لإلرادة الجماعية
ّ المخططة .تبدو المقارنة في هذا الصدد مض ِ ّللة .في الواقع ،في وللدولة
الرؤية الليبرالية ،ال تكون اإلرادة الفردية مطلقة العنان ،بل تستند إلى
ّ حق طبيعي .في المقابل ،تنفي اإلرادة الجماعية ،بتجاوزاتها المفرطة،
هذا الحق الطبيعي .يوجد في الرؤية الليبرالية نوع من التواضع والتصاغر
اللذين يحميانها من الغطرسة التي ي ّتهمها بها تودوروف.
البروميثيوسية الليبرالية يوجه تودوروف عدة انتقادات إلى الليبرالية المعاصرة التي تجنح لتكون، ِّ 66
بحسب منظور تودوروف ،بروميثيوسية مؤمنة باإلنسان .تشير الليبرالية إلى أن ُ الك ّتاب الليبراليين يطالبون باكتساب معرفة علمية وعملية تسمح
بتنظيم العالقات بين البشر .لكن الليبرالية ال تعني اختزال الفرد في
البعد االقتصادي فقط ،وعلى حساب ما هو اجتماعي وسياسي .وحدها
االنحرافات والتجاوزات الليبرالية تتع َّرض لالنتقاد عندما جعلت من
الرخاء االقتصادي الهدف النهائي والوحيد للحياة البشرية بكاملها.
يقدم كتاب تودوروف رؤية سلبية عن الليبرالية التي يحيل أصلها اللغوي ِّ
على فكرة الح ّريّة ،كما هو الشأن في فكرة الكرم أو السخاء.
المحاكمة ِّ لحة الم ّ يوضح تودوروف في هذا الكتاب ،من جهة أخرى ،الحاجة ُ
للدفاع عن «الصالح العام السياسي» .حسب منظور تودوروف« :من
المرجح ،دون إكراه وضغط من ِق َبل الدولة ،أن يقوم وكالء السوق غير َّ العالمية بالتأ كيد على ضرورة الحرص على حماية البيئة قبل مصالحهم
المباشرة -ال س َّيما حين يتع َّلق األمر في الغالب -ببيئة دولة بعيدة أو مستقبل مجهول .على الرغم من نبل مفهوم « الصالح العام السياسي»،
فهل تبقى السياسة الوسيلة الوحيدة للوصول إلى «الصالح العام»؟ أال
تؤدي السياسة -في كثير من األحيان -إلى فرض إرادة مع َّينة وضد ّ رغبات المجتمع ،فتخذل -من ث ََّم -المصلحة العليا؟ .بالمقابل ،أليس
الفاعلون الفرديون غير قادرين على خدمة المجتمع؟
فعا ً ال ومفيد ًا لبعض المخاوف التي تزدهر ِّ يقدم كتاب تودوروف نقد ًا ّ 67
في التربة الديموقراطية. ِّ تحفز إن لغة تودوروف وثقافته وحماسه وصرامة استدالله المنطقي
القارئ لمعانقة أطروحته في هذا الكتاب ،وإن كانت فرضياته تفتقر إلى
الوضوح نوع ًا ما.
جان سينيه
15-03-2012
68
الديموقراطية المُ َلغّ مة تترصد الديموقراطية ال تأتي ،فقط ،من الخارج .يكشف إن األخطار التي َّ
تودوروف عن هذه األخطار في خصوصية وقرارة النظام الديموقراطي نفسه.
ُو ِلد تزيفتان تودوروف ،المؤرخ ،الفيلسوف ،اللغوي والكاتب الفرنسي،
في بلغاريا حيث «كانت الحياة بكاملها مراقبة» .لهذا يفهم المرء افتتان
تودوروف وشغفه بالديموقراطية .لكن اليوم ،يُع ِ ّبر عن مخاوفه وقلقه على الديموقراطية ،ألن التوازن بين مختلف المعايير الالزمة ألداء عمل الديموقراطية على نحو سليم يبدو توازن ًا هشّ ًا.
يدعم المؤ ِّرخ تودوروف في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون»
تحليله للديموقراطية ،بشكل غير متو َّقع ،بالمناظرات الفكرية بين
القديس بيالجيوس والقديس أوغسطين في القرنين الرابع والخامس للميالدّ ِ . يؤكد بيالجيوس أننا نمتلك دوما الح ّريّة لفعل الخير ،ألن هذا
األمر يتو َّقف على إرادتنا .على خالف ذلك ،يعتقد أوغسطين أننا غير ُّ التحكم في رغباتنا وأن بداخل كل فرد منا «غياهب مظلمة قادرين على مثيرة للرثاء» تجعلنا غير أحرار بشكل مطلق.
بشكل مضاد ألطروحة بيالجيوس ،يتمثَّل أوغسطين مذهب الخطيئة
يتم إنقاذ اإلنسان ،يجب االعتماد على الغفران وا ّ التكال األصلية :لكي ّ ِّ فيذكرنا ببروميثيوس»، على تقاليد الكنيسة .أما «الله عند بيالجيوس،
69
يخلص تودوروف «اإلنسان هو خالق كيانه ووجوده». لقد وضع بيالجيوس «الدودة في الفاكهة» والتي سوف تنمو وتونع انطالق ًا من عصر النهضة مع العديد من ُ الك ّتاب العلمانيين .ستتج ّلى
إحدى هذه الثمار في «المسيحية السياسية» (القائلة بالخالص وإمكانية
نشر قيم الديموقراطية والح ّريّة) .يستشهد تودوروف بالعديد من األمثلة
التقدم ،سانت جيست وإيمانه على ذلك :كوندورسيه ومسيرته نحو ُّ
المش ِّرع والشعب «لقيادة المستقبل» ،دانتون و«مالكه بالعالقة بين ُ ّ يشكالن قوّة مرعبة للقضاء على أولئك الذين المدمّر» ،وهذان األخيران
يعيقون تحقيق األنموذج المثالي في المجتمع.
أما المستعمرون ،فهم أيض ًا ،زعموا أنهم يحملون للبشرية قيم التنوير
والتقدم والحضارة .وهذا ما يقوم جول فيري بتبريره« :إن لألعراق ُّ
ّ ّ المنحطة» ،فمن الحق في تنوير األعراق الدنيا المتف ِّوقة واألرفع منزلة واجب هذه األعراق السامية واألعلى مقام ًا أن تقوم بالتمدين ونشر
ّ والمنحطة! الحضارة بين ظهراني األعراق الوضيعة
الشيوعية األمثلة التوضيحية األقرب إلينا من عقيدة الخالص المسيحية في تج ِ ّلياتها السياسية تبقى ،طبع ًا ،الشيوعية التي تع ِ ّزز حلمها بإقامة مجتمع
عادل ومتكامل قائم على نزعة علمية (قوانين التاريخ) ،والتوتاليتارية
النازية (الكليانية النازية) المستندة إلى البيولوجيا .في هذه األنظمة، 70
ُكبت كل الشرور باسم الخير ،وت ََّم تبرير الش ّر بالتلويح بأهداف ت ََّم «ارت ِ تقديمها زور ًا وزعم ًا بأنها أهداف سامية». واليوم ،ها هي المسيحية السياسية الليبرالية تجنح إلى فرض الديموقراطية،
حقوق اإلنسان ،وأنماطنا في الحياة .عن طريق قنابل «حروبنا اإلنسانية» ننسب ألنفسنا الحق في تسيير شؤون العالم بأسره.
التهديد اآلخر من النوع البيالجيوسي والبروميثيوسي الذي يزعزع أركان
التعسفية المفرطة الديموقراطية يبقى مختلف ًا عن هذه «االمتدادات ُّ لألنظمة الجماعية» ،إنه «استبداد األفراد» والليبرالية المتط ِّرفة التي أصبحت دين ًا علماني ًا ودنيوي ًا ونزعة كليانية.
يح ِ ّلل تودوروف في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون» اآلثار
متعددة :من األخطار التي يتع َّرض لها المنحرفة والضارة في ميادين ِّ
الكوكب األرضي ،إلى تجريد العمل من الطابع اإلنساني ،ثم يستحضر
تنامي األحزاب الشعبوية وصعودها في أنحاء أوروبا .حيث «يشعر كل
شعب بالحاجة إلى تحديد مصدر خوفه» ،حسب تحليل تودوروف.
لقد ت ََّم استبدال الخوف من الشيوعية بالخوف من األجنبي ،خصوص ًا إذا كان هذا األجنبي مسلم ًا .يتم َّلق الخطاب الشعبوي الناس ،ويع ِّللهم
-خداع ًا -بتحقيق مطالبهم األساسية ،ويعزف على أوتار الخوف من
فقدان الهويّة الوطنية. الس ْلطة واألمن ُّ
من األكيد ،أن الكائنات البشرية في حاجة إلى هويّة جماعية ،لكن، 71
يهددها يهددون هذه الهويّة؟ أليس من ِ ّ هل حق ًا أن األجانب هم من ِ ّ -باألحرى -هو «العمل المشترك لعمليتين على نطاق واسع» صعود
وتنامي الفردانية (المعايير المشتركة تفسح المجال الختيار الفرد)،
وتسارع وتيرة العولمة؟
يشعر تودوروف ،أيض ًا ،بالقلق إزاء ضعف السلطة ،بما في ذلك السلطة
تضخم هاجس األمن أدى إلى ُّ داخل األسر والعائالت ،الشيء الذي ّ والقمع.
لكي يغدو بإمكان الديموقراطية أن تصمد وتحافظ على بقائها ،ينبغي
توفير «بيئة اجتماعية وبيئة «سياسية جديدتين» تسمحان بتحقيق التوازن بين الفرد والجماعة ،بين األهداف االقتصادية والتط ُّلعات
الروحية ،الرغبة في االستقالل والحاجة إلى االرتباط بالجماعة» ،ثم العمل على «التخ ُّلص من التعارض العقيم بين المجتمع البطريركي
والمتوحش». القمعي والمجتمع الليبرالي المتط ِّرف ِّ
إن كتاب تزيفتان تودوروف «أعداء الديموقراطية الحميمون» يدعونا
إلى التأمُّ ل الفكري ،خارج الدروب المطروقة ،على ضوء التاريخ .رغم
أن بعض الفقرات من هذا الكتاب ،وخصوص ًا التي تتع َّلق بالتعايش مع
األجانب ،تفتقر -نوع ًا ما -إلى التماسك الفكري والترابط المنطقي.
مونيك هيبرارد
03-03-2012
72
«من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات»
مقاالت
73
التعايش مع ثقافات مختلفة
تعدد الثقافات لمعالجة الموضوع الذي طلبتم مني التط ُّرق إليه ،وهو ُّ
داخل مجتمع ما ،أجد نفسي ملزم ًا -أو ً ال -بتوضيح معنى هذه الكلمة
«الثقافة» .سأستخدم هذه الكلمة بحسب المفهوم الذي أطلقه ،منذ ما
يزيد عن قرن ،علماء اإليثنولوجيا على الثقافة .بهذا المعنى الشاسع،
الوصفي ال التقييمي ،كل جماعة إنسانية تمتلك ثقافة؛ إنها االسم الذي يُطلق على مجموع خصائص الحياة االجتماعية ،على طرق العيش
والتفكير الجماع َّي ْين ،على أشكال وأساليب تنظيم الوقت والفضاء، يتضمن اللغة ،الدين ،البنى األسرية ،طرق بناء المنازل، الشيء الذي َّ األدوات ،طرق تناول الطعام أو ارتداء المالبس .باإلضافة إلى ذلك،
إن أعضاء الجماعة ،مهما كانت أبعادهم ،فإنهم يستبطنون هذه السمات
في شكل تمثيالت .توجد الثقافة -إذ ًا -على مستويين مترابطين بشكل وثيق :مستوى الممارسة الخاصة بجماعة ما ،ومستوى الصورة التي
تتركها هذه الممارسات في أذهان أعضاء الجماعة.
74
ِ متعدّ د الثقافة كل فرد إن الكائن البشري ،وهنا تكمن إحدى خصائصه األكثر بروز ًا ،يولد ليس فقط في حضن الطبيعة بل ،أيض ًا ،ودوم ًا ،وبالضرورة في حضن الثقافة.
تبقى السمة األولى لهويّة ثقافية ما أنها مفروضة على الطفل عوض أن يتم اختيارها من طرفه .بمجيء الطفل إلى العالم ،يجد نفسه منغمس ًا ّ
في ثقافة جماعة سابقة على والدته .الواقعة األكثر جالء ،بل -ربما-
األكثر حسم ًا ،هي أننا نولد بالضرورة في حضن اللغة ،اللغة التي يتك َّلمها
ّ يتكفلون برعايتنا .لن يكون بمقدور الطفل آباؤنا أو األشخاص الذين
أن يتج َّنب تب ّني اللغة .والحالة هذه ،فاللغة ليست أداة محايدة .إن اللغة
مشبعة ومتش ِّربة ألفكار ،لسلوكيات وألحكام متوارثة من الماضي .تقوم
خاصة ،وتنقل إلينا -بطريقة خفية -رؤية اللغة بتقطيع الواقع بطريقة ّ للعالم.
تظهر بجالء -أيض ًا -السمة الثانية لالنتماء الثقافي لكل فرد؛ ذلك أننا
متعددة قادرة على االندماج أو ال نملك هويّة ثقافية واحدة ،بل هويات ِّ
الظهور في شكل مجموعات متقاطعة.
على سبيل المثال ،ينحدر الفرنسي دوم ًا من منطقة ما -لنفترض أنه
من منطقة بروتون -ومن ناحية أخرى ،يتقاسم العديد من السمات مع كل األوربيين .ومن ث ََّم يسهم -في اآلن نفسه -في الثقافة البريتونية
75
والفرنسية واألوربية .من جهة أخرى ،فداخل كيان جغرافي واحد ،تبقى
متعددة .هناك ثقافة المراهقين ،وثقافة الطبقات االجتماعية الثقافية ِّ
المتقاعدين ،ثقافة األطباء ،وثقافة مك ِ ّنسي الشوارع ،ثقافة النساء،
وثقافة الرجال ،ثقافة األغنياء ،وثقافة الفقراء .مثل هذا الفرد يتع َّرف
إلى نفسه في الثقافة المتوسطية (ما له عالقة بالشعوب القاطنة حول البحر األبيض المتوسط) ،والمسيحية ،واألوربية :معايير جغرافية ودينية
وسياسية واحدة .لكن -وهذا أمر جوهري -هذه الهويات الثقافية
المختلفة ال تتوافق فيما بينها ،وال تشكل أوطان ًا واضحة الحدود تتطابق
المتعددة. بداخلها هذه المك ِّونات ِّ
متعدد الثقافة .ال تشبه ثقافته جزيرة متجانسة ،بل تبدو يبقى كل فرد ِّ كنتيجة لقرائن متشابكة.
كل الثقافات خالسية الثقافة المشتركة ،ثقافة جماعة إنسانية ما ،ليست مختلفة في هذا الصدد.
إن ثقافة بلد كفرنسا تبقى في الواقع مجموعة َّ معقدة ومنسوجة من ثقافات خاصة ،تلك الثقافات التي يتع َّرف فيها الفرد إلى نفسه :ثقافات المناطق ّ
والتوجهات الروحية. والمهن ،األعمار ،والجنسين ،األوضاع االجتماعية ُّ
فض ً ال عن هذا ،كل ثقافة يسمها االتصال مع جيرانها .فأصل ثقافة ما
يكون دوم ًا حاضر ًا في الثقافات السابقة :في التالقي بين العديد من الثقافات ذات األبعاد متناهية الصغر ،أو في ُّ تفكك ثقافة أ كثر انتشار ًا، 76
أو في التفاعل مع ثقافة مجاورة .ال يمكن أبد ًا الولوج إلى حياة إنسانية
سابقة على ظهور الثقافة .ولسبب وجيه :تبقى الخصائص «الثقافية»
حاضرة ،بالفعل ،عند حيوانات أخرى ،خصوص ًا عند الرئيسات (رتبة من
الثدييات منها البشرية والقردية) ،ال وجود لثقافات خالصة أو ثقافات
ممزوجة ،فجميع الثقافات مخلوطة (إما « هجينة» أو «خالسية»).
تعود اال ِ ّتصاالت بين الجماعات اإلنسانية إلى أصل ظهور الجنس
البشري ،وتترك دوم ًا أثار ًا حول الطريقة التي يتواصل بها أعضاء كل
جماعة فيما بينهم .ما إن نغوص عميق ًا في تاريخ بلد كفرنسا ،حتى نجد ّ متعددة: السكان ،ومن ث ََّم ثقافات متعددة من دوم ًا تالقي ًا بين أجناس ِّ ِّ
الغاليين ،اإلفرنج ،الرومان ،وغيرهم كثير.
ثقافة سكونية هي ثقافة ميتة نصل هنا إلى الخاصية الثالثة المم ِ ّيزة للثقافة :تبقى الثقافة -بالضرورة-
متغيرة وقابلة للتحوُّل .جميع الثقافات تتغير وتتحوَّل ،حتى لو كان ِّ ّ الم َس ّماة «تقليدية» تبقى ّ وأقل أقل استعداد ًا من المؤكد أن الثقافات ُ
الم َس ّماة «حديثة» .هذه التغييرات أو هذه استجابة من الثقافات ُ
متعددة .بما أن كل ثقافة تفرز ثقافات أخرى ،أو دواع التحوُّالت لها ِّ ٍ ِّ تشكل توازن ًا غير تتقاطع مع ثقافات أخرى ،فإن مك ِّوناتها المختلفة
مستق ّر .على سبيل المثال ،منح حق التصويت للنساء في فرنسا عام
،1944سمح للنساء بالمشاركة في نشاط الحياة العامة للبلد ،ومن ث ََّم
77
طرأ تحوُّل في الهويّة الثقافية الفرنسية .وبالمثل ،حين ت ََّم منح المرأة ،بعد مرور 23سنة على ّ حق التصويت ،الحق في منع الحمل أو في اإلنجاب،
أحدث هذا األمر طفرة جديدة في الثقافة الفرنسية .لو لم يكن لزام ًا
على الهويّة الثقافية أن تتغ َّير ،لما استطاعت فرنسا أن تصبح بلد ًا مسيحي ًا
في مرحلة أولى ،ثم بلد ًا علماني ًا في مرحلة ثانية .باإلضافة إلى هذه
التفاعالت الداخلية ،هناك أيض ًا ا ِ ّتصاالت خارجية مع ثقافات قريبة أو
بعيدة أحدثت ،بدورها ،تعديالت في منحى الهويّة .قبل أن تؤ ِ ّثر الثقافة األوربية في ثقافات العالم األخرى ،فإنها تش َّربَت ،من قبل ،تأثيرات
الثقافة المصرية ،ثقافة بالد ما بين النهرين ،الثقافة الفارسية ،والهندية، وهلم ج ّر ًا. والصينية، ّ
إذا كان يتع َّين علينا األخذ بعين االعتبار هذه السمات األخيرة للثقافة، تعد َدها وتنو َُّعها ،فإننا نرى كم تبقى هذه االستعارات األكثر شيوع ًا ُّ
والمستخدمة في مكان الثقافة استعارات مربكة .نقول -على سبيل
ّ «مجتث من جذوره» ،ونرثي لحاله ،لكن المثال -عن كائن بشري إنه
هذه المماثلة لإلنسان مع النبات غير شرعية؛ فاإلنسان يتم َّيز بحرك َّيته
عن السنديان والقصب ،هذا فض ً ال عن أن اإلنسان لم يكن أبد ًا نتاج ًا
بماهية أو «روح» رغم ما ُك ِتب من لثقافة واحدة؛ فالثقافات ال تتم َّتع ّ
نتحدث عن «بقاء» لثقافة ما، صفحات جميلة في هذا الصدد .كما َّ تتغير هي، بمعنى المحافظة عليها طبق ًا لألصل .غير أن الثقافة التي ال ّ
على وجه التحديد ،ثقافة ميتة .إن مصطلح «لغة ميتة» هو مصطلح أ كثر
ّ دقة وحصافة .الالتينية لغة ميتة ،ال ألننا عاجزون عن استعمالها ،بل ألن
تلك اللغة لم تعد قادرة على التغيير .ليس هناك ما هو أكثر بداهة وأكثر 78
شيوع ًا من اختفاء حالة سابقة للثقافة وتعويضها بحالة جديدة. نميز ،اآلن ،الهويّة الثقافية عن شكلين آخرين للهويّة الجماعية: يجب أن ِ ّ
االنتماء المدني أو الوطني من جهة ،وااللتزام بالقيم األخالقية والسياسية
يغير طفولته ،حتى من جهة أخرى .ال أحد منا سيكون بمقدوره أن ِ ّ لو رغب في ذلك ،حتى لو ُط ِلب منه ذلك بإلحاح .بالمقابل ،سيكون بمقدورنا أن نغ ِ ّير الوالء الوطني دون أن نعاني ،بالضرورة ،من ج ّراء
ذلك .ال يمكن للمرء أن يختار ثقافته األصلية ،لكن بإمكان المرء أن
يختار أن يكون مواطن ًا لهذا البلد عوض ذلك البلد اآلخر .إن اكتساب
ثقافة جديدة -كما يعرف كل المهاجرين -يتط َّلب سنوات عديدة ،وإن
كان هذا االكتساب في األساس ال ّ يتوقف أبد ًا ،اكتساب مواطنية جديدة
عشية وضحاها بفعل قوّة مرسوم ما .الدولة ليست «ثقافة» قد يحدث بين ّ
شبيهة بحالة الناس ،إنها كيان إداري وسياسي له حدود قائمة من قبل،
ويضم ،طبع ًا ،أفراد ًا حاملين لثقافات عديدة ،بما أننا نجد داخل هذا ّ
الكيان؛ الرجال والنساء ،الشباب والشيوخ ،يمارسون كل المهن وفي
متعددة ،ويتكلمون لغات أوضاع مختلفة ،ينحدرون من مناطق ودول ِّ
متعددة ،ويمارسون ديانات مختلفة ،ويراعون عادات متن ِّوعة. ِّ
ال وجود لقيم فرنسية متمسك أيض ًا ،بمجموعة من المبادئ األخالقية أخير ًا ،كل واحد منا ِّ
والسياسية .هذه المبادئ ال يتقاسمها جميع المواطنين لبلد ما ،كما يشهد 79
عدة أحزاب سياسية من اليسار المتط ِّرف إلى اليمين على ذلك وجود ّ
عدة رؤى للعالم تدافع عن مُ ثل عليا مختلفة .في المتط ِّرف ،أو وجود ّ
الوقت نفسه ،تتجاوز هذه المبادئ حدود البلدان .بعض القيم تبقى
مشت َركة بين جميع الدول األعضاء في االتحاد األوربي .مذهب حقوق
اإلنسان له نزوع كوني .بإمكاننا أن نبحث عن اإللهام لهذا المذهب في
فكر اإليديولوجيين البعيدين عنا في الزمان والمكان .إنه االنخراط في
هذه المجموعة من القيم والمبادئ التي ّ تغذي ،عادة ،النقاش العام .في
حين ،بالنسبة للغالبية العظمى من السكان ،فإن االنتماء الثقافي والهويّة اإلدارية يبقيان أم َريْن مفروغ ًا منهما.
إذا كنت أجتهد أمامكم في التمييز بين هذه االنتماءات المختلفة
والملتبسة في صيغة «الهويّة الوطنية» ،فإن ذلك ليس بدافع متعة
متحذلقة ،بل ألننا حين نرغب في التأثير في هذه االنتماءات فإنه
التدخل لمعالجة يتع َّين علينا ،باألحرى ،اللجوء إلى مختلف أشكال ُّ األمر .ألن ال وجود لثقافة فرنسية خالصة ومتجانسة ،بل مجموعة من
المتعددة ،بل المتناقضة في حالة من التحوُّل الدائم ،والتي التقاليد ِّ تتنوَّع تراتبيتها ،وتستم ّر في القيام بذلك .إن وزارة التربية الوطنية ،من
سن السادسة خالل البرامج التي تُدرَّس في أثناء التعليم اإللزامي حتى ّ
متغيرة في َح ّد ذاتها، عشرة ،تسعى بالفعل إلنتاج صورة ،لكنها صورة ِّ يتم مراجعتها كل عشر أو عشرين سنة ،على ضوء ما يتع َّين على كل طفل ّ معرفته عن ثقافة بلده.
المبسطة ال تختزل -بطبيعة الحال -كل ما يمكن ومع ذلك ،هذه الصورة َّ
إدراجه تحت سمة «الثقافة الفرنسية» .ثم إنه ،ال وجود لقيم فرنسية ،بل 80
هناك قيم أخالقية وسياسية تبقى ،بالقوة ،قيم ًا كونية والتي ليس هناك إجماع حولها في البلد .بالمقابل ،توجد -بالفعل -هويّة مدنية فرنسية
تعتمد على القوانين المعمول بها في هذا البلد ،والتي تبقى نفسها منوطة
بالمسؤولية البرلمانية والحكومية؛ لهذا يرى المرء لماذا تبقى النقاشات
ّ المنظمة من طرف حكومتنا حول الهويّة الوطنية نقاشات عقيمة .ولماذا
تؤدي هذه النقاشات يبقى أيض ًا وجود وزارة الهويّة الوطنية أمر ًا مربك ًاّ .
إلى االضطراب في الوقت الذي نكون فيه بحاجة إلى الوضوح والجالء.
الهجرة مسألة مفيدة َ مبتذل ،وليس هناك ما يدعو للخوف من تعدد الثقافات بوضع يرتبط ُّ
ذلك .تجلب الهجرة العديد من الفوائد على بلدان أوروبا الغربية .هذا
دون الحديث عن أن المهاجرين الجدد يقبلون ممارسة مهن يحتقرها ّ السكان األصليون ،كما يقبلون العمل بأجور زهيدة مقارنة مع هؤالء
السكان (وهذه ليست ميزة فخر لنا نحن األوربيون) .يجب أن نكون على ّ للسكان ،ومن ث ََّم وعي بمساهمة الهجرة في تجديد النشاط الضروري
الرفع من نسبة األصول بالنسبة للمتقاعدين .وبشكل عام ،إن المهاجرين
يحفزهم الطموح والدينامية كخصائص فريدة لكل الوافدين الجدد؛
حيث يتم َّيزون بروح المبادرة والقدرة على االبتكار .بطريقة غير مباشرة، ّ للسكان الذين يستقبلونهم على أراضيهم. خاصة يؤدي المهاجرون خدمة ّ ّ ّ للسكان األصليين بالتع ُّرف إلى عن طريق اختالفهم ،يسمح المهاجرون
أنفسهم من الخارج عبر نظرة اآلخر .الشيء الذي يبقى جزء ًا من صميم 81
َّ تتحقق نزوع الجنس البشري .لكي يكون بمقدور هذه المساهمات أن
بالفعل لصالح الخير العام ،فعلى المهاجرين أن يشاركوا بأنفسهم في
اندماجهم داخل المجتمع الذي يوجدون في داخله ،فما الذي نعنيه
بهذا المصطلح المتداول بشكل كبير؟
يتغ َّلب القانون على العادات إن الشرط األول لجميع ّ سكان بلد ما ،سواء الذين ولدوا فيه أو هاجروا
ومؤسساته ،ومن ث ََّم االلتزام إليه من مكان آخر ،هو احترام قوانينه َّ
باالنخراط في عقد اجتماعي كقاعدة أساسية .بالمقابل ،ليس هناك ما
يدعو إلى ممارسة رقابة على الهويّة الثقافية لكل م ّنا .بشكل عام ،تبقى
ثقافة المهاجرين مختلفة عن ثقافة األغلبية ،وهي منذورة لالنضمام إلى المتعددة من قبل ،والتي ِ ّ تشكل ثقافة البلد. جوقة األصوات ِّ ومع ذلك ،تتعارض بعض العادات ومق ِّومات التقاليد الثقافية مع قوانين
البلد الذي يعيش فيه األشخاص الذين يمارسون هذه األعراف .فما
وجلي ،حتى لو كان من الصعب تطبيقه العمل؟ الجواب المبدئي واضح ّ
دوم ًا :في الديموقراطية ،يتغ َّلب القانون على العادات واألعراف .هذه
األولوية (أو ّ التقدم) ال تع ِّرض الثقافة الغربية أو األوربية أو الفرنسية حق ّ
للخطر ،بل تحتكم إلى أساس قانوني تعتمده الدولة ،ويبقى قيد النقاش.
ُنتهك إذا كانت العادات تنتهك القانون فينبغي التخ ّلي عنها .إذا لم ي َ القانون ،فهذا يعني أن العادات التي َّ نتكلم عليها عادات يمكن قبولها 82
والتسامح معها؛ يمكننا انتقاد هذه العادات ،،لكن ال يمكننا منعها .على
سبيل المثال ،طقوس الزواج التي يُف َرض فيها اختيار الشريك من طرف
العائلة تصبح جريمة إن ت ََّم فرض هذا الزواج بالقوّة .وإذا اقترن هذا
الزواج المفروض برضاء الزوجة ،فال نملك سوى األسف لذلك ،لكن ال
يمكننا التنديد بهذا األمر عن طريق العدالة .في المقابل ،ال يمكن ،على
ّ يخص «جرائم الشرف» مخففة فيما اإلطالق ،التساهل أو منح ظروف ّ
المسماة على هذه الشاكلة حين يعمد اآلباء أو اإلخوة إلى معاقبة بناتهم ّ
قتلهن .مثل هذه تعنيفهن بوحشية أو حبسهن أو أو أخواتهم عن طريق ّ ّ ّ
الجرائم ،العنف أو القتل ،يجب معاقبة مرتكبيها بصرامة من طرف
القانون ،حتى وإن كان غفران هذه الجرائم في بعض التقاليد مقبو ً ال كعذر .في حاالت أخرى ،تسمح الترتيبات الخاصة بتكييف بعض
العادات مع ظروف الوضع الراهن.
دور المدرسة يقتضي المبدأ الثاني للتعايش السلمي بين المجتمعات ذات األصول المختلفة ،وتعيش في الوطن نفسه ،أن تمتلك هذه المجتمعات -بصرف
النظر عن التقاليد الخاصة بها -قاعدة ثقافية مشتركة ومجموعة من
المعارف حول األنظمة المعمول بها في هذا المجتمع .هنا يكمن دور
يتضمن المدرسة ،ثم يتجاوزها .ال تتع َّلق هذه التربية بالمعنى الذي َّ متعددة ،بل تتع َّلق األنظمة بالقيم األخالقية والسياسية التي تبقى قيم ًا ِّ
هذه األنظمة بالمق ِّومات الثقافية التي تضمن اندماجنا في الفضاء
83
االجتماعي نفسه .أو ً ال وقبل كل شيء تبقى اللغة هنا أمر ًا ضروري ًا،
وإتقانها مسألة حيوية للمشاركة في الحياة المشتركة واكتساب المق ِّومات األخرى للثقافة .يبقى إتقان اللغة من مصلحة األفراد ،كما يبقى إتقانها
أيض ًا من مصلحة الدولة التي تستفيد -من ث ََّم -من كفاءات مواطنيها .لن يكون من الخطأ جعل التعليم مجاني ًا وإلزامي ًا ،كما يقال ،لجميع الذين
يتحدثون هذه اللغة :سي َّتضح مثل هذا االستثمار بشكل سريع على أنه ال َّ عملية مربحة .باإلضافة إلى اللغة ،يبقى سكان بلد ما في حاجة أيض ًا
إلى ذاكرة مشتركة .ومرة أخرى ي َّتضح الدور المحوري للمدرسة ،لكن،
معقد ًا لكوننا نجد في القسم نفسه أطفا ً يحدث اليوم أن يبقى هذا الدور َّ ال
ينحدرون من خمسة عشر بلد ًا مختلف ًا .فهل ينبغي السعي إلى تعزيز فرص
الحصول على ثقافة المنشأ؟ هذا ليس دور المدرسة العمومية التي
تتط َّلع إلى تأمين اكتساب الجميع للثقافة نفسها كضمان على اندماج
نعدل المنحى الفعلي لهذا التعليم .وهكذا، ناجح .ومع ذلك ،يمكن أن ِ ّ
يتم تدريسها في المدارس االبتدائية في في دروس التربية الوطنية التي ّ
نبين عن طريق األمثلة والقصص ،أنه إذا فرنسا ،سيكون بإمكاننا أن ِ ّ متعددة المواطنية شيء واحد ،فإن الهويات الثقافية لكل فرد تبقى كانت ِّ ِ
ومتغيرة ،وأن بعض مقومات الثقافة الوطنية يحكمها مبدأ الوحدة (وقبل ِّ
كل شيء اللغة) ،بينما مق ِّومات أخرى مثل األديان يحكمها مبدأ التسامح والعلمانية.
في مرحلة التعليم اإلعدادي ،يعني المرحلة التي يكون فيها التالميذ
بين الحادية عشرة والخامسة عشرة ،حيث يتابعون دروس ًا في تاريخ
فرنسا ،ودون أن نسقط في النقد المنهجي ،يمكن لهذا الدرس في 84
التاريخ أن يكون فرصة إلظهار أن هذا البلد لم يلعب دور ًا كفي ً ال بإثارة اإلعجاب أو التعاطف ،دور البطل المِ قدام الذي جلب ِن َعم المسيحية
والحضارة إلى الشعوب البعيدة ،أو دور الضحية البريئة التي عانت من
سيئي السمعة .يمكن تسليط الضوء على العديد العدوان الشنيع لجيرانها ِ ّ
من أحداث التاريخ عن طريق التذكير بتصوُّر أعداء األمس وموقفهم من هذه األحداث .أحداث الحروب الصليبية ،االكتشافات الجغرافية
الكبرى التي تالها تكثيف تجارة الرقيق ،حروب نابليون ،االستعمار
في القرن التاسع عشر وفكفكة االستعمار في القرن العشرين ،كل هذه
األحداث تسمح للتالميذ بالفصل والتفريق بين حكمهم على الخير
والشر ،وشعورهم بالهويّة الجماعية .ما يب ِّرر هذا العمل ليس أخذ التنوُّع بعين االعتبار ،كما يقال أحيان ًا ،بل إغناء الذات الذي يجلبه العمل.
لنهتم بخطر تقهقر الهو ّية الثقافية مثل هذا التحوُّل ال يعني ،على اإلطالق ،أن جميع القيم متعاوضة أو
قابلة للتبادل .إن العزلة وتقوقع الثقافات والمجتمعات ،سواء ُ أف ِرضت
تمت المطالبة بها من طرف هذه الثقافات ،تبقى مواقف من الخارج أم َّ
أ كثر قرب ًا من قطب البربرية ،بينما االعتراف المتبادل بينهم هو خطوة
ثمر في ما من شأنه أن نحو الحضارة .إن األموال العامة يجب أن تُس َت َ ثمر هذه األموال في المدارس ِّ يوحد عوض ما يف ِّرق ويعزل :يجب أن تُس َت َ
المفتوحة للجميع ولمتابعة برنامج مشترك ،في بناء المستشفيات التي ّ تضمن الرعاية لكل المرضى، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللغة،
85
في توفير وسائل النقل (القطارات والحافالت والطائرات )...حيث
يمكن للمرء الجلوس بجانب أي أحد .ونحن لن نمنع -أبد ًا -األفراد
من التالقي بطيبة خاطر مع األشخاص الذين يشبهونهم عن طريق التماثل
والمشاكلة ،لكن هذا الميل يبقى من شأن الحياة الخاصة .والدولة لن ُّ التكفل بهذا األمر أو منعه. يكون من شأنها
يمكن االعتراض على كالمي بالقول إن هذه اللوحة المرسومة على هذه
الشاكلة تبقى خاطئة بسبب هذه الدعوة المالئكية (تص ُّرف مالئكي)،
وإني أتجاهل -عن قصد -صعوبة التعايش بين أشخاص ينتمون إلى
ّ سيذكر قولي هؤالء المعارضين ،في هذه الحالة، ثقافات مختلفة. بأحداث العنف التي كانت بعض أحياء المدن والضواحي مسرح ًا لها،
تتحدث عنها -غالب ًا -وسائل اإلعالم أو بعض وبأحداث العنف التي َّ
قادتنا السياسيين.
جوابي على هذا االعتراض كما يلي :لنترك جانب ًا الخطر الوهمي
للتعددية الثقافية ،ولنهتم -بقوّة -بالخطر الفعلي القائم لتقهقر الهويّة ُّ الثقافية .أستعير ،أيض ًا ،من علماء اإليثنولوجيا هذا المصطلح الذي يشير
ّ يحل مح َّله انتماء جديد. إلى فقدان االنتماء الجماعي المشترك دون أن
يمكننا توسيع نطاق هذا التعريف واإلشارة -من ث ََّم -إلى غياب شخصية
أساسية تُبنى تقليدي ًا في اإلطار األسري بفضل الحب واالحترام اللذين ي َتم َّتع بهما الطفل ،هذه الشخصية األساسية التي ستكون نقطة االنطالق
في االكتساب الالحق لألنظمة الثقافية.
ينحدر أطفال المناطق السكنية الفقيرة في الغالب من عائالت تفتقر 86
إلى الحضور الفعلي لألب ،أو باألحرى ،من عائالت يكون فيها األب
مهان ًا وفاقد ًا ألي اعتبار .تكون األم طوال اليوم في العمل ،أو هي أيض ًا
محرومة من االندماج االجتماعي ،ال يتوافرون على إطار اجتماعي
يمكنهم بداخله استيعاب قواعد الحياة المشتركة .يشعرون بالتهميش
انطالق ًا من السنوات الدراسية األولى في المدرسة .حين يأتي هؤالء
األطفال عن طريق الهجرة ،وهذه حالة متك ِّررة ،لكن ليست عامة ،يجدون
أنفسهم بعيدين عن ثقافة المنشأ بجيل أو عدة أجيال ،وال يتوافرون على
هويّة سابقة يع ِّوضون بها الهويّة التي صعب عليهم بناؤها هنا .ال يتقنون
اللغة بشكل ج ّيد ،وال يجدون الظروف الالزمة لعمل هادئ في المنزل لعدم توافر مساحة مالئمة ،ولبقاء التلفاز مُ شَ غَّ ً ال طوال اليوم ،وهكذا
يك َّلل مسارهم الدراسي بالفشل.
َّ يتعذر على هؤالء األطفال الحصول على اعتراف عائلي أو دراسي، حين
تتم تنمية قيم السيطرة الذكورية فإنهم ّ ينضمون إلى عصابات الحي حيث ّ
ّ سن العمل ال يجدون داخل هذا النظام الثقافي المنحط .وحين يبلغون ّ أي شخص يقبل بتوظيفهم :ال يمتلكون كفاءة خاصة ،كما أن مظهرهم
َّ يؤدي الخارجي ال يوحي باالطمئنان .هكذا يتعذر عليهم ولوج أي طريق ّ
إلى النجاح االجتماعي ،في ّتجه عدد منهم إلى ارتكاب الجرائم الصغيرة
وتجارة المخدرات أو العنف غير المب َّرر وتدمير اإلطار االجتماعي الذي يعيشون فيه.
َّ عجل بعض لنتذكر أحداث الشغب التي حدثت في نوفمبر 2005؛ ّ المحللين المتس ِّرعين االحتجاج والتنديد بغزو البرابرة وهجوم العرب
نددوا بالمذبحة المناهضة للروح الجمهورية، على فرنسا وقيمها ،كما َّ 87
ولكن خالل األحداث ،األصوات اإلسالمية الوحيدة التي كنا نسمع
كانت أصوات الشخصيات الدينية ،وهي تطالب الشباب بالعودة إلى
ديارهم .وبعد التحقيق ،لم يجد النائب العام في باريس بين مثيري الشغب «أي أثر للمطالبة بنوع من الهويّة ،أية سمة لدافع ّ قوي أو تعويض
سياسي أو ديني» .كشف تحقيق الشرطة أيض ًا أن 13في المئة من
األشخاص المعتقلين غير فرنسيين .لكن بالمقابل هناك 50في المئة
سن التمدرس. من األشخاص كانوا منقطعين عن الدراسة ،رغم أنهم في ّ األجانب الذين اختار هؤالء األطفال تقليدهم ليسوا أئمة القاهرة ،بل مغني الراب في لوس أنجلس .ملهمو هؤالء األطفال يقطنون الشاشة ّ
الصغيرة ،هم بأنفسهم يخلطون ،بسذاجة ،بين الخيال والواقع لفرط ما
ّ ّ التغذي بثقافة القرآن ،يحلمون يتغذون بثقافة صورة التلفزيون .عوض
بالهواتف ّ النقالة من آخر طراز ،وباألحذية الرياضية ذات العالمة التجارية
وبألعاب الفيديو .يُظهرون لهم الثراء في التلفزة في حين أنهم يعيشون في أحياء تفتقر لكل شيء ،محاصرين بين الطرق السيارة وطرق السكة
محالت تجارية وال خدمات ،ومن ث ََّم الحديدية ،بال شوارع جميلة وال ّ ينهار سكنهم معتدل اإليجار ،ويتداعى .فيتص َّرفون كما لو أنهم يضرمون
النار في مسكنهم! مشكلة هؤالء الشباب ،الذين في أغلبهم من جنسية
فرنسية ،ليست حضور ثقافة أجنبية في بلدهم ،بل غياب بنية أساسية ِّ تمكنهم من الحصول على وضع اجتماعي مناسب .عالج هذا التطوُّر المثير للقلق -حق ًا -ليس ثقافي ًا بل اجتماعي ًا ،إنه الدور المنوط بسياسة المدينة التي ينبغي أن تضمن لهم الوسائل الكافية.
88
مصلحتنا ومعتقداتنا في خطر إن الديانات الكبرى ،في الماضي والحاضر ،توصي الفرد بأداء واجب
وحب القريب ( كما نعرف ليس الضيافة ومساعدة الجوعى والعطشى ّ
األقرب بل البعيد) .ال يمكن توجيه مثل هذه الوصية إلى الدول .لكن من
مصلحة هذه الدول أال تذكي جذوة األهواء البدائية المح ِّرضة على كره
األجانب .في عالم اليوم الذي يتم َّيز بالتطوُّر السريع لوسائل اال ِ ّتصاالت
والتكنولوجيا ،كما يتم َّيز بتوحيد االقتصاد ،أصبحت شعوب مختلف الدول أ كثر قرب ًا ،وأصبح كل منها يعتمد على اآلخر .اللقاء مع األجانب منذور لمزيد من التكاثر .ومن مسؤوليتنا االستفادة ،بشكل أحسن ،من
هذه اللقاءات ،في ديارهم كما في ديارنا ،ما يحدث هناك بالتعاون يجب أن ي َُك َّلل هنا باالندماج .نقاط القوة في مصلحتنا ومعتقداتنا
تدفعنا للسير في االتجاه نفسه.
تزيفتان تودوروف
89
مراجع
-La conquête de l’Amérique, Seuil, 1982. -Nous et les autres, Seuil, 1989. -La vie commune, Seuil, 1995.
-L’Homme dépaysé, Seuil 1996. Devoirs et délices, Seuil, 2002. -Le Nouveau Désordre mondial. Réflexions d’un européen, Robert Laffont, 2003.
-Les Abus de la mémoire, Arléa, 2004.
-La Littérature en péril, Flammarion, 2007
-La Peur des barbares. Au-delà du choc des civilisations, Robert Laffont, 2008.
90
لماذا نحن -دوم ًا -في حاجة إلى فكر األنوار؟
المتعدد والمتناقض في كثير من األحيان ،ليس حركة إن فكر األنوار ِّ
ّ بغض النظر عن البلد األصلي لفكر األنوار ،فإنه ساهم فكرية متواطئة.
ضد السلطة والدين ،ودافع عن فكرة الصالح العام في استقالل الفرد ّ
ومهددة. والكونية ،والمبادئ التي ال تزال هشَّ ة َّ
يتم تعريف فكر األنوار بكلمات قليلة؟ ت َّتضح التجربة من خالل هل ّ
المراهنة .في الواقع ،دامت هذه الحركة أ كثر من قرن ،وهي تتطوَّر في
عدة آراء متناقضة. عدة دول بشكل خاص ،وتواجه ّ ّ
ِّ المميزة لسمة األنوار ،وعلى يشكل هذا التعقيد الفكري الخاصية األولى ِّ
العكس مما يُفهم ،في غالب األحيان ،أنه من االختزال أن نتك َّلم على
فكر األنوار كأنه تيار فكري أحادي الجانب .في الواقع ،يحيل فكر
األنوار على عصر التأليف والتركيب األصيل بشكل خالص ،يتش َّرب فكر
األنوار اإلرث الفكري الذي ظهر في أوروبا منذ نهاية العصر الوسيط
ترسخت مق ِّوماته خالل عصر النهضة والقرن السابع عشر .يستثمر حيث َّ
فكر األنوار -على َح ّد سواء -العقالنية والنزعة التجريبية ،عن طريق
الفصل ال الجمع ،ويشيد بمعرفة القوانين الخالدة كما هو الشأن لتاريخ
91
ِّ تعدد الثقافات بدل وحدانية الحضارة. الشعوب، ويؤكد -أيض ًا -على ُّ
في الوقت نفسه ،يدافع فكر األنوار عن العقل واألهواء ،الجسد والروح،
الفنون والعلوم ،االصطناعي والطبيعي ،متش ِّرب ًا كل مجاالت اإلبداع
الفكري ،من الفلسفة إلى العلوم مرور ًا باآلداب ،القانون ،الرسم...
ليتم تطبيقها عملي ًا الطريف في األمر ،أن األفكار تهجر عالم الكتب ّ في الحياة اليومية ،عبور سي َّتخذ في نهاية القرن أشكا ً تفجرية :حرب ال ُّ
االستقالل في أميركا ،والثورة في فرنسا.
والنتيجة ،ال يمكن تعريف فكر األنوار إال على حساب العديد من
يتم إقراره ،فسيكون االختزاالت التبسيطية .أي ًا كان التعريف الذي ّ بمقدورنا أن نعارضه على الدوام باستثناءات. يعتقد الفرنسيون -في غالب األحيان -أن فكر األنوار من صنيعتهم،
ولكن األمر ليس كذلك؛ في بادئ األمر ،تطوَّرت األفكار في ما وراء
تعمقت ونضجت في وقت الحق في بحر المانش أو في إيطاليا ،ثم َّ
ألمانيا .بكل بساطة ،كانت فرنسا صندوق الصدى الذي أتاح لهذه
األفكار االنتشار في ربوع العالم بفضل إشعاع العقل الفرنسي ،وبفضل ِّ مفكرين من الطراز األول ،كفولتير أو جماعة الموسوعيين التي نتجاهلها
أحيان ًا ،في حين ظهرت َك َر ّد فعل على الموسوعة اإلنجليزية التي نُشرت
في وقت سابق .ومن ث ََّم ،فالوطن الحقيقي لفكر األنوار هو أوروبا.
عدة دول من القارة األوربية ،واستقر فولتير في لقد طاف مونتسكيو ّ
إنجلترا ،أما األسكتلندي هيوم ،واإليطالي بيكاريا فقد سكنا في باريس ِّ لفترة طويلة .ت ِ ُرجمت كتب هؤالء المفكرين ،والقت الكثير من الترحاب
واإلطراء وأيض ًا االنتقاد ،رغم أنها لم تُنشَ ر سوى في الخارج ،ألن
92
مضطهدين في أوطانهم بسبب أفكارهم المزعجة. مؤ ِّلفوها كانوا َ إذا أردنا أن نختزل إرث فكر األنوار الثقافي إلى نواة صغرى ،فما الذي
يجب تسليط الضوء عليه؟ إنها فكرة االستقاللية؛ إمكانية التح ُّرر من
الوصاية التي تفرض على كل فرد طريقة أحادية للتفكير واإلحساس ،كما
أدى إلى إعادة كان األمر ،آنذاك ،مع الديانة المسيحية ،الشيء الذي ّ
النظر في المكانة التي يحت ّلها الدين في المجتمع .وقد شمل البحث عن
االستقاللية كافة مناحي الوجود ،وفي المقام األول المعرفة.
ِّ وتحقق -من ث ََّم -نجاحات تتح َّرر المعرفة من كل رقابة إيديولوجية، تتم باهرة .لكن ،ينبغي االهتمام -أيض ًا -بالقانون ،التربية ،الفنونّ .
المطالبة باالستقاللية على المستويين الفردي والجماعي (يجب على
كل فرد أن يدير حياته الخاصة كما يفهمها) ،وتتمثَّل سيادة الشعب في تسير حياته ،وفي اختيار األشخاص الذين يقودون صياغة القوانين التي ِ ّ
شؤون البلد.
التعددية االستقاللية ،من الواجب أن تكون السلطات في بسبب هذه ُّ
تقيد يد الدولة ،ويراقب بعضها بعض ًا حتى ال تصبح سلطات مطلقةّ ِ .
يحد هاجس الصالح الح ّريّة الفردية السيادة الشعبية ،والعكس صحيح؛ ّ
العام من طموح الفرد إلى تحقيق الرضا الشخصي .في الوقت نفسه،
محددة ومق َّيدة الملحة لالستقاللية ذاتها غير مطلقة .إنها تبقى الضرورة َّ ّ
بالقصدية المنسوبة إلى المجال العام من جهة؛ حيث تخدم رفاهية الشعب (ومن ث ََّم تكون القصدية إنسانية بشكل صرف) ومن جهة أخرى، يحدها مبدأ الكونية ،بمعنى االعتراف بالكرامة التي يجب أن يتم َّتع بها ّ
93
نسميه اليوم الحقوق اإلنسانية. الجنس البشري بالتساوي .وهو ما ّ
ُّ والتحول المنهجي لحقول المعرفة بين النزعة الظالمية مهدد ًا ،في بادئ األمر، في الماضي كما في الحاضر ،كان فكر األنوار َّ من طرف أعدائه المعلنين الذين يرفضونه جملة وتفصي ً ال .يتج ّلى هؤالء
توجهاتها .ترفض األعداء ،أساس ًا ،في التيارات الدينية ِّ المتعددة بجميع ُّ
التيارات الدينية ،بحسب الحاالت االجتماعية ،أن تقوم قوانين الدولة ّ بالكف عن الحكم على على قاعدة إنسانية خالصة ،وتطالب الدولة
المقدسة. معتقدات مواطنيها ،وأن تبتعد المعرفة عن تناول الكتب َّ
أما التهديد الثاني الذي يطال فكر األنوار فيبقى في غاية الخطورة ،ألنه
أهم ّية إال ناجم عن األشخاص الذين ينادون بالتنوير ،لكنهم ال يعيرون ّ
يمهدون الطريق لجزء من أفكار األنوار متجاهلين العناصر األخرى ،من ث ََّم ِ ّ
لقاعدة دوغمائية جديدة .فإذا كان التهديد األول ظالمي ًا تجهيلي ًا ،فإن
التهديد الثاني يوصف على أنه تحوُّل منهجي في صميم فكر األنوار.
في القرن الثامن عشر نفسه ،كان البعض يعتقدون أن التاريخ يتبع نسق ًا
ّ بالتمسك بنزعة تفاؤلية الخطي والمنهجي ،فيما نادى آخرون التقدم من ُّ ُّ
اجتماعية ،مقتنعين أنه بإمكاننا القضاء على كل شرور اإلنسانية عن
طريق التربية المثالية والحكومة الجيدة .لكن ،لم تكن هذه هي قناعة ِّ المفكرين األلمعيين لعصر األنوار ،كما هو الشأن مع جان جاك روسو
في فرنسا؛ كان الكاتب المولود في جنيف واعي ًا بالبعد المأسوي العصي 94
للوضع البشري ،لم يتجاهل روسو ترابط المكاسب والخسائر في كل محاولة فكرية تروم تحسين وضع اإلنسانية ،حيث أ َّكد أن «الخير والشر
يتد َّفقان من المنبع نفسه».
توازن دقيق ال تعوزنا ،في هذا الصدد ،األمثلة على تحوُّالت الفكر وانحرافاته .في
األمس ،صادرت النزعة الكليانية الح ّريّة الفردية باسم إرادة الشعب
المطلقة التي احتكرتها في الواقع زمرة من الحاكمين .أخضعت الكليانية
أدى إلى عوز لم َس َّلمات سياسية ،الشيء الذي ّ أيض ًا الحياة االقتصادية ُ
دائم في البلد .واليوم ،تزيح الليبرالية المتط ِّرفة أي عائق أمام الرغبات
الفردية ،وتتنازل عن الصالح العام بإخضاع السلطات السياسية لخدمة المتط َّلبات االقتصادية التي أصبحت غاية في َح ّد ذاتها .وبهذه الطريقة،
تمت خيانة الروح الفكرية وعن طريق التق ُّيد بوفاء ببعض أفكار األنوارَّ ،
للتنوير عن طريق انحراف هذه األفكار عن المسار الحقيقي الذي رسمه ِّ المفكرون لهذه الحركة. ومع ذلك ،تبقى مبادئ األنوار الكبرى راهنية أ كثر من أي وقت مضى.
بمقدورنا -على سبيل المثال -أن نعود إلى فكر األنوار للدفاع عن
نظرية داروين بدل نظريات القائلين بالخلقية (نظرية خلق العالم القائمة
على نص سفر التكوين) ،كما بإمكاننا إدانة التعذيب حين يمارَس
باسم دواعي المصلحة العليا للدولة .فض ً ال عن هذا ،بإمكاننا التس ُّلح
بفكر األنوار لنشجب وندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الح ّريّة
95
والديموقراطية والتنوير بالقوة في األقطار التي تفتقر إليها ،كما يجب وضمها إلى القيم الكونية ،والعمل على تعدد الثقافات علينا احترام ُّ ّ
التعددية السياسية اعتبار النجاح االقتصادي وسيلة ال غاية ،والقيام بتعزيز ُّ
داخل كل بلد كما بين جميع البلدان.
ومن هنا ،سيكون بإمكاننا تحقيق هذه المثل العليا ،لكن ،بشرط عدم
اختزال هذا اإلرث في كلمات ذات طابع منعزل ،والعمل على الحفاظ على تراث فكر األنوار والتوازن الدقيق الذي يسعى إلى إقامته بين مختلف مظاهر الوضع البشري.
تزيفتان تودوروف No 26-2010
96
التخ ُّلص من األعداء تتعالى -في أيامنا هذه ،بشكل كبير -بعض األصوات التي تسعى إلى
تحذيرنا من ظهور عد ّو جديد ،ت ََّم تحديده بسمات مختلفة ،لكن ،يبدو أن سمته المشتركة تتج ّلى في «اإلسالم الفاشي».
للس ْلم تتجسد هذه (الفاشية اإلسالمية) تارة في الدول المسلمة ِّ َّ المهددة ِ ّ
العالمي ،وتارة في منظمات دولية كتنظيم القاعدة ،وتارة أخرى في
المهاجرين المسلمين في الدول األوربية الذين -كما يقال -يجنحون ّ األقل في بعض المدن الكبرى. إلى تشكيل األغلبية ،على إن التنديد بهذا الخطر الوافد من اآلخر األجنبي هو تنديد وشجب
تقليدي في خطاب اليمين المتط ِّرف ،لكن هذا الخطاب بدأ يتردَّ د اليوم
يتم فيها توبيخ وسوط في دوائر أ كثر ا ِ ّتساع ًا ،دوائر سياسية أو فكريةّ ، النزعة المالئكية المسالمة وسذاجة الرأي العام اللتين تقودان إلى موقف
نهيئ هزيمتنا بأنفسنا. من السلبية والتسامح المفرط :برفضنا للحربّ ِ ،
يتم تطبيقه والتعامل ي َّتخذ مصطلح «العدو» داللة واضحة وبسيطة حين ّ
معه في وضعية الحرب؛ يشير مصطلح العدو إلى الدولة التي يحاول
97
متأهب ًا إلبادتناَ ، وك َر ّد فعل على جيشها غزو بلدنا ،ويكون -من ث ََّم- ِّ
مضاد والعمل محاولته ،نسعى نحن بدورنا إلى إحباط مشروعه بعمل ّ
ّ يكف القتل عن أن يكون جريمة ،ويصبح واجب ًا. على تدميره .وهنا
غير أن األنظمة الكليانية استخدمت مصطلح «العدو» في نطاق أوسع.
يرددون على مسامعنا مصطلح (األعداء) في طفولتي الشيوعية ،كانوا ِ ّ
الس ْلم .كان االفتقار إلى في كل يوم ،حتى ونحن نعيش في وضعية ّ النجاح االقتصادي يُعزى دوم ًا إلى أعداء خارجيين ،يتمثَّلون ،أساس ًا،
في اإلمبرياليات األنجلو -أميركية ،وإلى أعداء داخليين يتمثَّلون في
ُنسب إلى كل أولئك الذين الجواسيس والمخ ِّربين ،األسماء التي كانت ت َ
ال يظهرون ما يكفي من الحماسة لإليدولوجيا الماركسية -اللينينية .كان
النظام الكلياني يفرض مصطلح «وضع حربي» على كل حاالت السلم،
وال يقبل أي فروق دقيقة في هذا الشأن .كل شخص مختلف كان ي َ ُنظر إليه على أنه خصم ،وكل خصم هو عد ّو -من ث ََّم ،من المشروع ،بل من المحمود ،إبادة هؤالء األوباش.
لم يساهم انهيار األنظمة الشيوعية في اختفاء النظرة إلى الحياة الدولية
ضد العدو .يبدو أن األعداء القدامى استبطنوا منطقهم، على أنها معركة ّ
فإقصاء عد ّو مع َّين والقضاء عليه ،دفعهم إلى البحث عن َّ مرشح جديد كفيل بلعب الدور نفسه .ينطلق قادة الواليات المتحدة ومستشاروهم
الثقافيون من مُ َس َّلمة ثابتة ال جدال فيها« :الكراهية جزء من صميم إنسانية
اإلنسان .لتحديد هويَّتنا وإذكاء مشاعرنا ،سنكون في حاجة إلى أعداء»
(هذا ما يقوله صامويل هنتنغتون) .إنها اإلسالموية الراديكالية التي تبدو
المؤهَّ لة -بشكل أفضل -لضمان استمرار هذه الوظيفة األبدية .ينبغي 98
القول إن اإليديولوجيين اإلسالمويين قسموا ،منذ مدة طويلة العالم بين
يتم تحديد هوي َّتهم في إسرائيل «هم» و«أعداء لدودين» ،األعداء الذين ّ
والواليات المتحدة األميركية ،الشيطان األصغر والشيطان األكبر...
سيكون بمقدورنا -أو ً ال -أن ننتقد القصور األخالقي والفكري لهذه
الرؤية للعالم .صحيح أن الكراهية شعور إنساني ،لكن هذا ال يعني أنه
ال غنى عن البحث عن عد ّو بشكل دائم لتأ كيد هويّة اآلخر ،ال على
المستوى الفردي ،وال على المستوى الجماعي.
يحدد المرء هويّته ،ومن جهة أخرى يعيش ،فسيكون من الالزم كي ّ
يحدد موقعه بالنسبة إلى األناس اآلخرين ،لكن على كل كائن بشري أن ِ ّ
ال ينبغي اختزال هذه العالقة في حالة من الحرب؛ بل في الدعوة إلى
الحب ،االحترام ،طلب االعتراف ،التقليد ،الغيرة ،روح المنافسة... ّ يقل إنسانية عن الكراهية .مثل ّ أي رؤية مانوية تقصي فالتفاوض ال
الموقف الثالث ،فإن تقسيم اإلنسانية إلى أصدقاء وأعداء يجنح إلى
تحويل الجماعة اإلنسانية إلى كبش محرقة ،مسؤول عن كل شرورنا. بتطبيق مفهوم «العدوّ» وراء حاالت الحرب ،فإننا نخاطر أ كثر بطمس
الفرق والفصل بين األخالق (أو الدين) والسياسة ،هذا الفصل الذي
يبقى أحد اإلنجازات األكثر قيمة في النظام الديموقراطي ،هذا الفصل
نتأسف لغيابه في األصوليات الدينية. الذي َّ
ِّ مشكلة أن نعمل على وصف خصومنا السياسيين واالقتصاديين كوحدات
لـ «محور الشر» يعني أننا نساهم في تفاقم هذه الفوضى المثيرة للرثاء.
إن اختزال العالقات الدولية في مزدوجة «حلفاء -أعداء» يبقى إجراء 99
بعيد ًا كل البعد عن ضمان انتصار المثل العليا التي نرغب في الدفاع
عنها .وبسبب شعور المرء بحضور العد ّو في كل مكان ،يحدث تصعيد
خطير ومنحرف في اختيار وسائل الدفاع ،وهذا هو ما تحدثت عنه
«جيرمين تيليون» في زمن حرب الجزائر في كتاب يحمل عنوان ًا دا ّل ًا «األعداء التكميليون».
ضد الواليات المتحدة ،في نظر واليوم ،تب ِّرر االعتداءات اإلرهابية ّ
التعذيب الممنهج في سجن أبو غريب أو في الحكومة األميركية، َ المؤسسة لدولة القانون، معسكر غوانتانامو والتخ ّلي عن المبادئ ِّ
مواقف ،بدورها ،تضفي الشرعية ،في نظر أعدائهم ،على ارتكاب أفعال ويتأجج إرهابية جديدة أ كثر إغراق ًا في الدموية .وهكذا ،تُذكى األحقاد، ّ
الصراع بين الطرفين.
والنتيجة هي عدوى اإلصابة بالش ّر الذي نرغب في محاربته ،تراجع
وانتكاس القيم الديموقراطية التي نسعى للدفاع عنها وتعزيزها .إذا كان
هزم العدو يدفعنا إلى التص ُّرف مثله وإ ِ ّتباع خصائصه وصفاته األكثر إغراق ًا
في البشاعة ،فإن هذا العدو هو من سينتصر .في صراعنا مع الخصم، المنافع والمغانم التي قد نحصل عليها ،بممارستنا لوحشية طاغية ،ال
يمكن أن تع ِّوض لنا خسارة هيبتنا واعتبارنا األخالقي والسياسي .في
الوقت نفسه ،التص ُّلب في معارضة صدامية يدفع العدو إلى ارتكاب
أفعال أ كثر تط ُّرف ًا :وخير شاهد على ذلك هو تطوُّر الصراع اإلسرائيلي
الفلسطيني .إن األشخاص الذين ن َِس ُمهم بأنهم أعداء هم بش ٌر مثلنا،عاقلون مثلنا ،ومن غير المعقول أن نع ِّرض وجودهم ذاته للخطر بذريعة حماية أنفسنا.
100
كيف نتج َّنب ونتفادى الوقوع في الدوامة التي يج ُّرنا إليها نموذج
العدو ،المرتسم بظالله على تعقيد العالم؟ ال يكفي العمل على تغيير
العدو (في األمس البعيد كانت الرأسمالية العالمية ،وفي األمس القريب
الشيوعية ،واليوم اإلسالم الفاشي) ،كما يفعل اليساريون السابقون الذين
أصبحوا الصقور والمدافعين بعدوانية عن «العالم الحر» ،بل علينا أن
نتخ ّلى عن الفكر المانوي نفسه (القائم على عقيدة الصراع بين النور
يتوجب علينا -أيض ًا -أن نح ِّول تركيزنا على والظالم ،الخير والشر). َّ نجمد ونحجر الهويّات الجماعية الفاعل لنح ِ ّلل الفعل نفسه :بدل أن ِّ
ماهية ثابتة وسكونية ،علينا أن نثابر لتحليل األوضاع والمواقف في ّ الم َّتسمة دوم ًا بخصوصية معينة .سيكون بمقدورنا أن نكسب ونربح
أشياء كثيرة :ليست الهويّات المعادية هي التي تس َّبب الصراعات ،بل الصراعات هي التي تجعل الهويّات معادية. متعددة ومرنة ،في حين أن الحروب تجبر هذه تتم َّيز الشعوب بهويّات ِّ
الشعوب على التمسك ببعد واحد ،كل شعب يلزم كيانه ووجوده ،ويلقي
بهما في أتون المعركة من أجل هزيمة العدو .إن أوضاع الناس ومواقفهم
غير قابلة للتنميط في تقابالت تبسيطية واختزالية ،ومن ث ََّم ،تبقى عصية على تصنيفات الخير والشر.
ضد الجميع ليست ،فقط ،صورة إن صورة العالم على أنها حرب الجميع ّ زائفة ،بل تساهم -أيض ًا -في جعل هذا العالم أ كثر خطورة.
101
تحت أنظار اآلخرين نحن ،جميع ًا ،في حاجة إلى اعتراف اآلخر بنا حتى يغدو بإمكاننا
نوجد؛ فالطفل في حاجة إلى نظرة والديه ،واألستاذ يوجد بفضل أن َ
تالمذته ،أما األصدقاء فيقيمون مقارنة فيما بينهم .وسواء أسعى اإلنسان
ليكون مماث ً ال لآلخرين أم ليكون مختلف ًا عنهم ،فإن اآلخرين هم الذين ِّ يؤكدون لنا وجودنا.
ليس من قبيل الصدفة أن يقوم جان جاك روسو ،آدم سميث ،وجورج
هيجل -من بين كل السيرورات األولية -بتسليط الضوء على االعتراف
باآلخر .هذا االعتراف هو -في الواقع -مسألة استثنائية بصفة مزدوجة.
أو ً يميز -أ كثر من أي فعل ال بالمحتوى نفسه :فاعتراف األخر هو الذي ِ ّ
آخر -دخول الفرد إلى الوجود اإلنساني بشكل خاص .لكن ،لهذا االعتراف -أيض ًا -فرادة بنيوية :إنه يبدو -على نحو ما -الوجه الحتمي
لكل األفعال األخرى .في الواقع ،حين يشارك الطفل في أفعال شبيهة
يهيئ بالتناوب أو التعاون ،فإنه يحصل -من ث ََّم -على تأ كيد لوجوده حين ّ له شريكه مكان ًا معين ًا ،حيث يتوقف لسماع غنائه ،أو للغناء معه .حين
يغير العالم المحيط به ،حين يق ِ ّلد إنسان ًا راشد ًا ،فإنه يستكشف الطفل أو ِ ّ
يتع َّرف إلى نفسه باعتباره موضوع أفعاله الخاصة ،ومن ث ََّم يتع َّرف إلى 102
يتم مواساة المرء أو التعارك معه ،أو يدخل نفسه ككائن موجود .حين ّ ّ يتلقى ،كربح إضافي ،البرهان على وجوده. في شراكة مع اآلخر ،فإنه
يفسر ،كذلك ،األهمية التي ّ يعد كل تعايش اعتراف ًا باآلخر أيض ًا .وهذا ما ِ ّ
َّ المفضلة على كل السيرورات األخرى. أعيرها لهذه السيرورة
من البديهي أن االعتراف باآلخر يشمل أنشطة عديدة ذات مظاهر أ كثر إغراق ًا في التنوُّع .من الالزم أن نتساءل ،بمجرد إدماج مفهوم شامل إلى
الح ّد ،عن دواعي وأشكال هذا التنوُّع. هذا َ
سيكون بمقدورنا ،في بادئ األمر ،أن نذكر بعض مصادر التنوُّع الخارجة
مادي ًا أو غير عن المفهوم في َح ّد ذاته .قد ي َّتخذ االعتراف باآلخر طابع ًا ّ
متضمن ممارسة متضمن ًا أو غير مادي ،االعتراف بالثروة أو باألمجاد، ّ ّ ِّ السلطة على اآلخرين .إن الطموح والتط ُّلع إلى االعتراف باآلخر يمكن
أن يكون واعي ًا أو غير واع ،مستخدم ًا آليات عقالنية أو غير عقالنية.
بإمكاني -أيض ًا -أن أسعى إلى جذب نظرة اآلخر عبر مختلف مظاهر
كياني ،عبر جسدي ،عبر ذكائي ،عبر صوتي ،أو عبر صمتي.
المالبس والكرامة يلعب اللباس ،من هذا المنظور ،دور ًا هام ًا ،ألنه -تمام ًا -مجال تالقي
أحدد موقعي إزاء اآلخرين :أريد نظرة اآلخرين وإرادتي ،ويسمح لي أن ِ ّ
أن أتش َّبه بهم ،أو بالبعض منهم ،لكن ليس بهم جميع ًا ،أو ال أتشبه بأي
شخص .خالصة القول ،أختار لباسي ،تبع ًا لآلخرين ،كي أقول لهم إنهم 103
غير مختلفين عني .في مقابل ذلك ،فالشخص الذي لم يعد يستطيع
أن يمارس رقابة على لباسه (بسبب الفقر مث ً ال) يشعر بنفسه مشلو ً ال
أمام اآلخرين ،محروم ًا من كرامته .ومن ث ََّم ليس من الخطأ ،تمام ًا ،أن َّ «يتشكل الكائن البشري من ثالثة أقسام :الروح، تقول الدعابة القديمة: الجسد ،اللباس.»...
يؤ ِ ّثر االعتراف باآلخر في كل مناطق كينونتنا ،ولن يكون بمقدور مختلف َّ ّ ّ ستتمكن هذه األشكال ،عند محل اآلخر: يحل الواحد منها أشكاله أن
االقتضاء ،أن تحمل بعض العزاء .أنا في حاجة إلى اعتراف اآلخر بي
على المستوى المهني ،كما هو الشأن في عالقتي الشخصية ،في الحب
كما في الصداقة ،وإخالص أصدقائي ال يع ِّوض حق ًا خسارة الحب،
الخاصة وكثافتها ال يمكن أن تحجب الفشل في حدة الحياة كما أن ّ ّ
الحياة السياسية .إذا ركز فرد ما -أساس ًا -في مطالبته بنيل االعتراف في
المجال العمومي ،ولم يحصل على ّ أي اهتمام ،فسيكتشف نفسه ،فجأة،
أنه محروم من الشعور بكينونته .إنسان كهذا أمضى حياته في خدمة
يستمد األساس في شعوره بالوجود ،بمج ّرد المجتمع والدولة ،ومنهما ّ ّ تحل مرحلة الشيخوخة ،ويختفي الطلب االجتماعي ،وال يستطيع أن أن
يوازن هذا النقص بالعناية التي هو موضوعها إزاء ذويه ،فينعدم وجوده
جهار ًا ،سينتابه ببساطة الشعور بأنه غير موجود إطالق ًا .لقد رأينا مع
هيجل أن طلب االعتراف قد يصاحب الصراع من أجل السلطة ،لكن، يمكن لهذا االعتراف أن يرتبط بعالقات يسمح فيها حضور تراتبية ما
بتفادي الصراعات .سم ّو أو دونية الشركاء تُعطى غالب ًا بشكل مسبق،
كل واحد منهم يصبو إلى االعتراف بنظرة اآلخر .يصدر أول اعتراف 104
ّ يتلقاه الطفل من كائنات أرفع منه من الناحية التراتبية :أب َويْه أو البديل عنهما ،ثم إن هذا الدور تستأنفه سلطات أخرى مك ّلفة من قبل المجتمع
بأداء وظيفة الجزاء؛ المع ِ ّلمون ،المد ِّرسون ،األساتذة ،مشغّ لونا ،المدراء
أو الرؤساء .يحوز ّ النقاد في الغالب مفاتيح االعتراف بالنسبة للفنانين
والك ّتاب المبتدئين ،أو بالنسبة للذين يفتقرون للثقة الداخلية .لقد َق َّلد
المجتمع كل هذه الشخصيات المتف ِّوقة واألرفع منزلة وظيفة جوهرية: النطق بالجزاء العمومي.
عمن هم في وضع أدنى ،ال ينبغي تجاهله االعتراف الذي يصدر ،بدورهّ ،
يتم التس ُّتر عليه :كما نعلم ،إن أيض ًا ،ولو أنه -في الغالب األعمّ -
السيد في حاجة إلى خادمه ،كما هو الشأن في حاجة الخادم إلى سيده،
واألستاذ يتأ َّكد شعوره بالوجود من طرف التالميذ المتع ِّلقين به ،والمغ ّني يحتاج ،في كل األمسيات ،إلى تصفيقات المعجبين به ،واآلباء يعيشون شعور ًا شبيه ًا بالصدمة النفسية إثر رحيل أبنائهم عنهم وهم الذين ،مع
ذلك ،يبدون أنهم الوحيدون المطالبون باالعتراف.
لماذا االمتثال لألعراف والمعايير؟ المتغيرات التراتبية لالعتراف جملة وتفصي ً ال مع وضعيات تتعارض هذه ِّ
وتطهر داخلها -بكل سهولة -مشاعر المنافسة. تنادي بالمساواة، ِّ
متعددة :الحب ،الصداقة ،العمل، تبقى هذه الوضعيات في َح ّد ذاتها ِّ
الحياة العائلية .في نهاية المطاف ،بإمكان اإلنسان نفسه أن يصبح
105
ُ التقوقع، المصدر الوحيد لالعتراف بذاته ،سواء باالنعطاف نحو طريق
واالنكفاء ،رافض ًا أي اتّصال بالعالم الخارجي ،أو بتنمية كبريائه بشكل ّ بالحق الحصري في اإلعجاب بمزاياه الخاصة .أو في مفرط محتفظ ًا
ليجسد الله الذي يستحسن أو يستنكر األخير ،أن يثير ما في داخل ذاته ِّ
القديس إلى تجاوز حاجته إلى االعتراف سلوكاتنا؛ هكذا ،يسعى ّ
اإلنساني ،ويقنع بفعل الخير .يستطيع بعض الفنانين أن يك ِّرسوا حياتهم
للعمل ،دون االكتراث مطلق ًا بآراء اآلخرين فيهم .لكن ،من الالزم أن ال كهذه ليست ،أبد ًا ،إال حلو ً نضيف ،أن حلو ً ال جزئية أو مؤقتة ،كما
الحظ ذلك وليام جيمس« :بالكاد يوجد اإليثار االجتماعي الشامل،
كما أن االنتحار االجتماعي الشامل ال يخطر تقريب ًا على بال اإلنسان مطلق ًا».)1(.
يجب اآلن أن نفصل بين شكلين من االعتراف نصبو إليهما جميع ًا ،لكن
جد متن ِّوعة .يمكننا الحديث ،بخصوص هذه األشكال، ضمن درجات ّ
عن اعتراف المطابقة والتشابه ،واعتراف االختالف والتمييز.
يتعارض هذان الصنفان ،كل منهما مع اآلخر؛ إما أن يعتبرني اآلخرون
مختلف ًا عنهم ،أو شبيه ًا بهم .الشخص الذي يأمل أن يبدو األحسن،
متميز ًا األقوى ،األجمل ،األكثر تم ُّيز ًا ،يريد ،بطبيعة الحال ،أن يكون ِّ عن الجميع ،هذا الموقف موجود -بشكل خاص -في مرحلة الشباب.
لكن ،ثمة نوع آخر من االعتراف الذي هو ،باألحرى ،ميزة الطفولة،
سن النضج ،خصوص ًا عند األشخاص الذين ال ي َّتمتعون وفيما بعدّ ،
يستمد األشخاص بحياة نشيطة وبعالقات حميمية أ كثر دينامية وحركة: ّ ّ االعتراف بوجودهم من فعل االمتثال ،المتناهي الدقة قدر اإلمكان،
106
لألعراف والمعايير االجتماعية التي يعتبرونها مالئمة لوضعهم اإلنساني.
يشعر هؤالء األطفال أو هؤالء الراشدون بالرضا عندما يلبسون وفق فئتهم
يرصعون أحاديثهم العمرية ،أو وفق وسطهم االجتماعي ،أو حينما ِّ بمرجعيات مالئمة ،أو حينما يبرهنون على انتمائهم الثابت إلى الجماعة.
يعدها المجتمع مفيدة له ،فقد إذا كنت عن طريق عملي أضطلع بوظيفة ّ
ال أكون في حاجة إلى ّ يتم مدحي تلقي اعتراف بالتم ُّيز (ال أتو َّقع أن ّ باستمرار) :أ كتفي تمام ًا باعتراف المطابقة والمشابهة (أقوم بواجبي،
أخدم بلدي ،أو مشروعي) .ومن ث ََّم ،لكي أنال هذا االعتراف ،لن أ كون
دوم ًا في حاجة إلى ا ْلتمِ اس نظرة اآلخرين :لقد استنبطت هذه النظرة في
شكل معايير وأعراف ،وبشكل محتمل من اإلحساس بالتعاظم ،وامتثالي
إلي صورة إيجابية عن نفسي ،إذ ًا ،أنا موجود. الوحيد للقواعد يبعث ّ
لم أعد أصبو إلى أن أ كون مم َّيز ًا ،بل شخص ًا طبيعي ًا ،ومع ذلك ،تبقى النتيجة ذاتها .الشخص االمتثالي يبدو ،ظاهري ًا ،أ كثر تواضع ًا من المزه ّو بنفسه ،لكن كل واحد منهما ليس ّ أقل حاجة إلى االعتراف من اآلخر.
يفسر في إن الرضا الذي ّ يستمده المرء من االمتثال لمعايير الجماعة ِ ّ
جزء كبير ،تأثير المشاعر الجماعية ،الحاجة إلى االنتماء إلى جماعة ما،
دولة ما ،جماعة دينية ما .يجلب ا ِ ّتباع المرء لعادات وسطهّ ، بدقة ،رضا اإلحساس الناجم من الشعور بالوجود من خالل الجماعة.
لدي ّ ّ أي شيء كفيل بأن يجعلني فخور ًا بحياتي الخاصة، إذا لم يكن
فإني سأثابر ،بكل ضراوة واستبسال ،على البرهنة والدفاع عن السمعة الحسنة ألمّتي أو عائلتي الدينية .لن يكون بمقدور ّ أي تق ّلبات تصيب
107
همتي؛ ليس لإلنسان سوى وجود واحد ،قد يخفق الجماعة أن تحبط ّ
وقد يفشل ،أما الشعب فله مصير ضارب في القدم بشكل سحيق ،تصبح فيه إخفاقات اليوم ِ مبشّ رة بانتصارات الغد.
ِّ يشكالن يدخل هذان الشكالن من االعتراف في حالة من الصراع ،أو
تراتبيات متح ِّركة ،في تاريخ المجتمعات ،كما هو الشأن بالنسبة لتاريخ
التميز التنافس ،أما االمتثال فيجنح نحو التوافق .هل ُسهل األفراد :ي ِ ّ ّ
ُّ بتعقل ورصانة في قارعة الطريق كي أخضع للقواعد الجماعية، سأمكث
وأمنح نفسي االعتراف الداخلي باالمتثال ،أم أعبر الشارع وسط
السيارات الهادرة حتى أثير إعجاب رفاقي (اعتراف بالتم ُّيز ،لكن هذا التم ُّيز قد يتحوَّل بدوره إلى االعتراف بالمطابقة والتشابه داخل
معين ،يكون االعتراف جماعة َّ محددة جد ًا ،جماعة عصبتنا)؟ في ّ سن ّ
أو االستحسان الذي نحصل عليه من قبل نظرائنا أثمن من أي شيء
نستمده من االمتثال للقواعد العامة آخر ،وبالتأ كيد أكبر من الرضا الذي ّ
عدة مخاطر :ينتهك المرء للمجتمع .ومن ث ََّم ،تنطوي هذه الوضعية على ّ
بسهولة «األخالق» إذا كان من الممكن التأ ُّكد من إثارة ضحك أو
دهشة المشاهدين .وليس للجرائم المرتكبة في هذه العصبة في غالب
األحيان ّ أي مصدر آخر.
يتضمن ال يتع َّلق التمييز بأشكال االعتراف ،بل بسياق التمييز نفسه. َّ
االعتراف في الواقع مرحلتين؛ ما نطلبه ،أو ً ال ،من اآلخرين هو االعتراف
الضيق) ،وثاني ًا التأ كيد على قيمتنا .ال بوجودنا (إنه االعتراف بالمعنى ِّ
يتحدد موقع هذه ُّ التدخالت الملتمسة في المستوى نفسه؛ إذ ال يمكن َّ
َّ تحقق من قبل .إذا قيل لنا أن ما للثاني أن يحدث إال إذا كان األول قد 108
جيد ،فهذا يعني ،قبل كل شيء االعتراف بوجودنا نفسه. نقوم به أمر ِ ّ يتع َّلق التأ كيد باالعتراف بمحمول قضية ما واالعتراف بموضوعها (أو
بقضية مضمرة لها شكل xالذي هو عبارة عن قضية وجود خالصة).
ربما كان الروشفوكو من األوائل الذين أقاموا تمييز ًا بين االثنين حين
«نحب -باألحرى -أن نتك َّلم بالسوء على أنفسنا بدل أن كتب يقول: ّ حساس ًا إزاء هذه ال نتك َّلم مطلق ًا» .أما آدم سميث فقد كان -أيض ًاّ -
يحذرنا قائ ً ِّ ال: الثنائية وإزاء االختالف بين «االهتمام واإلقرار» حيث
منسي ًا من طرف الناس أو مستهجن ًا من قبلهم ،فتلك «أن يكون المرء ّ أشياء مختلفة تمام ًا»(.)2
وبالمقابل ،إن إعجاب اآلخرين ليس سوى الشكل األكثر وضوح ًا
العترافهم ،ألن هذا الشكل له عالقة بقيمتنا ،لكن كراهيتهم أو
معبرة عن االعتراف ،وإن كانت تفتقر عدوانيتهم هي -أيض ًا -أشكال ِ ّ بحدة على وجودنا. إلى الوضوح .وإنها تشهد ّ إن التمييز بين هاتين الدرجتين من االعتراف أساسي؛ ألنهما في الغالب
منفصلتين ،وتثيران ردود فعل خاصة :قد ال نعير أهمية لرأي اآلخرين فينا،
لكن ،ليس في اإلمكان أن نبقى عديمي اإلحساس إزاء غياب االعتراف
بوجودنا ذاته .وكما الحظ وليام جيمس حين قال« :ثمة أشخاص ال يهمنا رأيهم كثير ًا ،ومع ذلك نسعى إلى إثارة اهتمامهم» .يم ِ ّيز أطباء ّ
النفس المعاصرون بين شكلين من غياب االعتراف باآلخر ،والذي يو ِ ّلد تبعات مختلفة تمام ًا :الرفض أو غياب التأ كيد باالعتراف ،واإلنكار أو
غياب االعتراف .الرفض تعبير عن غياب االتّفاق حول مضمون حكم
ما ،اإلنكار ،رفض اعتبار حصول الحكم .اإلهانة المفروضة على الذات
109
يمس هذا النفي أمر خطير جد ًا .الرفض هو بمثابة نفي نحوي :حين ّ
يتضمن في الواقع التأ كيد الجزئي باالعتراف المحمول الوحيد ،فإنه َّ
بمضمون القضية ،المضمون الذي تحمله الذات.
أن يكون المرء وحيد ًا ،معناه أن ال يكون موجود ًا على اإلطالق لقد َب َّي َن كارل موريتز هذا االختالف عن طريق رصده لآلثار السلبية
للسخرية والكراهية« :أن يشعر المرء بأنه موضع سخرية ،يوحي ،على
ّ محط سخرية ،فذلك نحو ما ،بالشعور بالعدم ،وحين نجعل من األخر
يوازي ،تقريب ًا ،التصويب نحو ذاتك تصويب ًا قات ً ال ال يعادله أي إحساس
يكن لك الجميع الكراهية باستثناء ذاتك، بمهانة أخرى .في المقابل ،أن ّ
تؤدي كراهية عامّة كهذه إلى فتلك حالة مرغوب فيها ،بل مشتهاة .ال ّ
بالتحدي الذي سيتيح لها أن موت األنا ،بالعكس :ستمأل الكراهية األنا ّ تعبر عن غضبها إزاء عالم الكراهية. تعيش ،وتخلد قرون ًا عديدة ،وأن ِ ّ
لكن ،أن ال يكون للمرء صديق أو عدوّ ،فذلك هو الجحيم الحقيقي ِّ المفكر بعذابات العدم المتنامي في جميع الذي يشعر بداخله الكائن أشكاله» (.)3
إن كراهية شخص ما ،تعبير عن رفضه ،من ث ََّم يمكن لهذه الكراهية أن
تقوّي إحساسه بالوجود .لكن أن تسخر من شخص ما ،يعني أن ال تأخذه
الجد ،أن تحكم عليه بالصمت وبالعزلة ،أن تجعله يشعر بما على محمل ّ
مهدد ًا بالعدم. هو أكثر من هذا :أن يرى نفسه َّ 110
لقد َم َّيز دوستويفسكي بين هاتين التجربتين :رفض التأ كيد باالعتراف ِّ يشكل أحد التيمات (اإلقصاء) ،ورفض االعتراف (اإلنكار) ،الذي ِّ «مذكرات رجل السرداب» .يتخوَّف السارد لهذه األساسية لعمله
الحكاية من اإلنكار إلى َح ّد كبير ،في حين يقبل اإلقصاء بكل سرور،
ألن هذا األخير يبرهن -وإن بطريقة غير مناسبة -على وجوده .التقى
هذا السارد بضابط تظاهر بعدم رؤيته ،وأخذ يحلم بالتعارك معه ،وهو
يعرف أنه س ُيهزَم بكل سهولة :يفعل ذلك ،ليس بدافع نزعة مازوشية،
بل ألن التعارك مع شخص ما يعني أن هذا األخير اعترف بوجودك. الضابط ،من جهته ،ال يريد حق ًا أن يتنازل .لذلك ،حين يلتقيان في
تبجح في اعتراض الضابط ،لكن هذا األخير الشارع يشرع السارد بكل ُّ
يرفض المعركة« :أمسك بي من كتفي ،دون أية كلمة تحذير أو تفسير،
أخذ يزيحني عن مكاني ،ثم يم ّر كما لو أنه لم يالحظ وجودي» .المنطق مستعد ًا ذاته يحكم عالقات السارد مع معارفه اآلخرين .ويبقى السارد ّ
لتحمل الوضعيات األكثر مهانة وإذال ً ال شرط أن يالحظ اآلخرون وجوده؛ ُّ
فالحديث المفعم بالشتائم أحسن من غياب االعتراف .إذا كانت حالة
العبودية تضمن نظرة اآلخرين ،فإنها تصبح حالة مرغوب ًا فيها .فرجل
السرداب -وإن كان يقول الحقيقة عن كل إنسان -فإنه ال يوجد خارج
العالقة مع اآلخر ،والحالة هذه ،أن ال تكون موجود ًا هو أكثر إيالم ًا من أن تكون عبد ًا« .أن يسارع المرء إلى االندماج في المجتمع» ،تصبح
بالنسبة له «حاجة ال تقاوَم» :أن يكون المرء وحيد ًا ،معناه أن ال يكون
موجود ًا على اإلطالق.
وفي الحالتين مع ًا يبقى اإلحساس باإلهانة مختلف ًا .يمكن التفاوض 111
لم َج َّرد بشأن اإلقصاء ،سواء بتحليل مماثل لتحليل رجل السرداب أو ُ
يهمني رأي هؤالء اآلخرين الذين أحتقرهم؟ يبقى، فيم الكبرياء: ّ َ صحيح ًا مع ذلك ،أن بعض حاالت اإلقصاء من الصعب أن تُعاش .أن
يتم تجاهل المرء من ِق َبل اآلخرين ،بدوره يعطينا االنطباع بانعدامه، ّ ويسبب االختناق. ِّ
إن االعتراف ،كما رأينا آنف ًا ،عالقة غير مماثلة :يمنح الفاعل االعتراف،
والفاقد لالعتراف يستقبله ،تبقى هذه األدوار قابلة للتبادل .ومع ذلك،
كما رأينا سابق ًا ،تحمل كل األفعال األولية -في الوقت نفسه -اعتراف ًا لم َج َّرد أن ثانوي ًا أو غير مباشر ،اعتراف ًا ال يعزى إلى نظرة األخر ،بل ُ
نجد أنفسنا مأخوذين في عالقة تفاعلية .وتؤ ِ ّثر هذه الواقعة على عالقة
االعتراف ذاتهاّ . يتلقى الفاعل الذي يمنح االعتراف المباشر عن طريق
ممارسته لدوره ،مزايا اعتراف غير مباشر .أن يشعر المرء أنه ضروري
لآلخرين (لكي يمنحهم االعتراف) يعني أن يشعر هو بنفسه أنه موجود ومعت َرف به.
حدة حدة هذا االعتراف غير المباشر تبقى ،عموم ًا ،أعلى منزلة من ّ ّ
االعتراف المباشر .يحكي أحد الناجين من غيتو فرصوفيا ،ويدعى
تضحي أن أضمن طريقة للبقاء على قيد الحياة هي أن ماريك إيدلمنَّ ، ّ بنفسك من أجل شخص آخر« :كان من الالزم علينا أن نجد شخص ًا ما نوجه حياتنا نحوه ،شخص ًا ما نجهد أنفسنا من أجله «[ .]4إن األب ِّ
الذي يضحي بنفسه من أجل ولده يشعر بألم كبير في اليوم الذي يستشعر ّ
فيه أن ولده لم يعد في حاجة إليه ،كما كان طوال المرحلة السابقة التي
ّ يتلقى شيئ ًا في المقابل .عالوة يقدم فيها األب دون أن يشعر أنه كان ِ ّ 112
على ذلك ،يفلت االعتراف غير المباشر من كل رقابة أخالقية ،دوم ًا
متس ِّرعة لمحاكمة من يصبو ،جهر ًا ،إلى كلمات المديح والتقريظ .أن
يكون المرء قوي ًا ،أن يساند ،أن يشجع اآلخرين فذلك يعني -في الوقت
يتضمن نفسه -العمل على مكافأة نفسه ،أن يطلب المرء المساعدة فذلك َّ
التسليم بانكسار اإلنسان وضعفه :يبقى هذا السلوك بالغ الصعوبة حين ال يكون المرء طف ً ال أو شيخ ًا ،مريض ًا أو سجين ًا.
ال يتو َّقف االختيار بين نماذج االعتراف ،فقط ،على استعداد الفرد ِّ تفضل بعض المجتمعات في حقب معينة أن تمنح االمتياز وإرادته.
نتفحص ،في وتقصي نماذج أخرى .من الالزم هنا أن ألنموذج مع َّين، َّ ّ
يعد حق ًا التط َّلع إلى االعتراف مسألة كونية، بادئ األمر ،مسألة هامة :هل ّ
يخص إال المجتمع الغربي ،المجتمع الوحيد الذي تطرقت إليه أم أنه ال ّ حتى اآلن؟
حين يذكر روسو «الرغبة الكونية في الشهرة ،في الشرف وفي
األفضلية» ،أ ال يكون بصدد تحديد سمات المجتمع الذي يعيش فيه،
تتهيأ على سطح البسيطة؟ أ ال يتع َّلق أو تلك المجتمعات التي سبقته ،أو ّ
األمر ،هنا بإحدى النتائج التي كان مناصرو تقاليد أخرى ،كالبوذية ،على
سبيل المثال ،ينتقدون األوربيين على الدوام بسببها ،بمعنى انشغالهم
المفرط برفاهية ذواتهم؟ وحتى داخل الحضارة الغربية نفسها ،أال ينطبق
هذا الوصف ،بشكل كبير ،على الحياة المدنية العمومية أ كثر من الحياة المجهولة والوديعة ألناس بسطاء ،ألطفال يضحكون ،لفتيات يحلمن،
لصيادين يتأمّلون ،ولفالحين يحرثون األرض؟
113
وأخير ًا ،في هذا النص الحاسم بالنسبة للتقليد الغربي الذي يم ِ ّثله
يعبر ،بوضوح ،أنه من الواجب علينا أن ال نتص َّرف «أمام اإلنجيل ،ألم ِ ّ
الناس بهدف جلب االهتمام ،وبهدف نيل المجد من الناس» ،بل
باالكتفاء بما يعرفه أبونا «الذي ينظر في الس ّر والخفاء» وما سيوزِّ عه من جزاء بكل عدل وإنصاف؟
ِ المتعدّ دة أشكال االعتراف ما هو كوني ومك ِّون لإلنسانية ،هو أننا ندخل ،منذ الوالدة ،في شبكة
من عالقات بين -إنسانية ،ومن ث ََّم في عالم اجتماعي ،ما هو كوني هو أننا نصبو جميع ًا إلى اإلحساس بوجودنا .بالمقابل ،إن الطرق التي
تخ ِّول لنا بلوغ هذا المبتغى ،تتنوَّع تبع ًا للثقافات ،للجماعات واألفراد.
وطالما أن القدرة على الحديث كونية ومكوّن أساسي لإلنسانية ،فإن اللغات متن ِّوعة ،والحياة االجتماعية كونية ،فأما أشكالها فليست كذلك.
أسميه إنجاز ًا ،االتّصال دون وساطة قد يكون الشعور بالوجود نتيجة ما ّ
مع الكون ،كما هو شأن التعايش مع اآلخرين ،يمكن أن يأخذ هذا األخير
شكل اعتراف أو تعاون ،شكل معرفة أو مشاركة ،وأخير ًا ،فاالعتراف
ليس له الداللة نفسها تبع ًا لكونه مباشر ًا أو غير مباشر ،اعتراف التم ُّيز
أو المطابقة ،اعتراف داخلي أو خارجي .إن الرغبة في الشهرة ،في
اكتساب األمجاد وفي األفضلية ،وإن كانت رغبة حاضرة في كل مكان،
فإنها ال تحكم حياتنا بكاملها (تبرهن هذه الرغبة على االعتزاز بالنفس، ال على فكرة االحترام) ،هذه الرغبة -فقط -هي التي أتاحت لروسو أن
114
يفهم أنه ليس ثمة وجود إنساني في غياب النظرة التي يحملها البعض عن البعض اآلخر.
َّ المؤكد أن قضية االعتراف االجتماعي ال تتج ّلى بالطريقة نفسها في من
مجتمع تراتبي (أو تقليدي) ،وفي مجتمع قائم على المساواة ،كما هو
الشأن في الديموقراطيات الحديثة (لقد َح َّدد فرنسيس فوكوياما بعض المعالم لتاريخ االعتراف باآلخر من هذا المنظور).
من جهة ،في المجتمع األول (أي التراتبي أو التقليدي) ،فإن الفرد يصبو
جد بشكل أ كثر إلى أن يشغل مكانة ُح ِ ّددت له مسبق ًا ( يبقى اختياره ّ
محدود) ،إذا ما وجد نفسه في هذه المكانة ،فإنه يستشعر اإلحساس
باالنتماء إلى الجماعة؛ إذ ًا ،هو موجود اجتماعي ًا؛ سيصبح ابن الفالح فالح ًا ،وسيكتسب ،من َج ّراء ذلك ،الشعور بأنه معت َرف به .ومن ث ََّم،
يمكن الحديث ،هنا ،عن االعتراف بهيمنة المطابقة .هذه المكانة
المحددة سلف ًا تختفي في المجتمع الديموقراطي حيث يبقى االختيار، َّ
بشكل مخالف ،غير محدود من الناحية النظرية ،حيث لن يعود االمتثال
للنظام هو العالمة على االعتراف االجتماعي ،بل النجاح واالستحقاق هو المعيار األوحد ،الشيء الذي يشير إلى وضعية مقلقة للغاية .ينجم
هذا السباق إلى النجاح من االعتراف بالتم ُّيز .ومع ذلك ،يبقى هذا
التميز غير مجهول في المجتمع التقليدي؛ ي َّتخذ التم ُّيز في هذا السباق
يرسخ السم ّو شكل التط ُّلع والطموح إلى بلوغ المجد أو الفخر الذي ِ ّ
الشخصي .إنه الطريق الذي يختاره األبطال الذين يطمحون إلى إثارة
انتباه خاص عن طريق المنجزات الباهرة التي ينجزونها .في المجتمع ّ الحديث ،يخضع هذا الطموح األخير ،أيض ًا ،إلى تحوُّالت؛ يتع َّلق األمر 115
يعد النجاح ،اليوم ،قيمة اجتماعية نسارع إلى اآلن بالبحث عن الشهرةّ .
إبرازها ،إال أن الشهرة ال تثير الشعور باالحترام الشبيه بحيازة المجد
نفسه (تنتابنا الغيرة من األشخاص األكثر شهرة ،كنجوم التلفزة أ كثر مما نحترمهم).
من جهة أخرى ،يمنح المجتمع القائم على المساواة الكرامة للجميع
بعدل وإنصاف (إنها مساواة العبيد ،كما يقول هيجل) ،وهذا ما ال
يفعله ،مطلق ًا ،المجتمع التقليدي القائم على مفهوم الفرد .إجما ً ال،
يسهل المجتمع التقليدي االعتراف االجتماعي في حين أن المجتمع الحديث يمنح لكل مواطنيه اعتراف ًا سياسي ًا وقانوني ًا ( للجميع الحقوق
نفسها ،وهو ما يتعارض مع نظام االمتيازات الذي يحكم المجتمعات
التراتبية) ،ويضفي قيمة -في الوقت نفسه -على الحياة الخاصة،
العاطفية والعائلية .تبقى الحاجة إلى االعتراف ،أيض ًا ،حاجة قوية إلى
الح ّد .نسمع ،غالب ًا في الوقت الحاضر ،العديد من رجال السياسة هذا َ
وهم يرددون أن المثل األعلى لمجتمع ما هو المجتمع الذي يشتغل فيه المرء ّ أقل فترة ليبقى له الكثير من الوقت ،ويتم َّتع بأوقات فراغ أ كبر.
لكن فكرة كهذه تفترض تصوّر ًا مُ ت ِع ّي ًا لإلنسان (نصير مذهب المتعة)، ّ للملذات ،والذي هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. باعتباره حيوان ًا مستهلك ًا َّ المؤكد ،على اإلطالق ،أن أوقات الفراغ والبطالة مالئمة لتف ُّتح ليس من
الشخص .ليس ثمة من قيمة للحياة الرغيدة حين ينتفي الوجود .تصبو
الكائنات البشرية ،بال حدود ،إلى نيل االعترافات الرمزية أ كثر من سعيها إلى إشباع الحواس ،وهي على استعداد للتضحية بحياتها ،كما الحظ
من قبل آدم سميث ،من أجل شيء تافه تفاهة علم وطني. 116
أما في العمل ،فإن الفرد ال ينال -فقط -أجر ًا يسمح له باالستمرار في
البقاء ،بل ينال أيض ًا الشعور بالفائدة والمنفعة ،الجدارة واالستحقاق
التي تعقبها متع المشاركة واالنصهار االجتماعي ،يسعى الفرد إلى
اإلحساس بأنه موجود ،ويصبو إلى أشياء أ كبر منزلة من الشعور ،فقط، َّ المؤكد أن يجد الفرد كل هذه األشياء في وقت بأنه يحيا .ليس من
الفراغ :ال أحد في حاجة إلى فراغ كهذا ،فالعالقات اإلنسانية التي
تنسج فيه تبقى خالية من كل ضرورة .يمكن الترحيب بالراحة الجسدية،
لكن غياب االعتراف يو ِّلد القلق .إضفاء قيمة على العمل ذاته ،وما
يو ِ ّلده من متعة هو -دون شك -أ كثر فائدة من مضاعفة أوقات الفراغ.
أهم خصائصه األوّلية: مهما َّ تعددت أشكال االعتراف ،فال ينبغي نسيان ّ
إن طلب االعتراف طبيعة متأصلة في الكائن البشري ،وإشباعه ال يمكن ِّ أن يكون أبد ًا تا ّم ًا ونهائي ًا.
بتوافر اإلرادة السامية لإلنسان في كل أشكالها ،لن يكون بإمكان
األبوين أن يسهرا على رعاية رضيعهما في كل الليالي؛ ألن ثمة آخرين،
إلى جانب هذا الرضيع ،يلتمسون هذه الرعاية ،ثم إن اآلباء أنفسهم في
حاجة إلى أشكال أخرى من االعتراف ،وليس ،فقط ،االعتراف الذي يمنحهم إياه رضيعهم بشكل غير مباشر .عالوة على ذلك ،سرعان ما
يوسع هذا الرضيع من دائرة جشعه ،فيصبح اآلخرون ال اآلباء فقط ،م َْن ِّ يتوجب عليهم أن يمنحوه االهتمام والرعاية ،بل أيض ًا الزوّار واألقارب، َّ
ألنه يشرع في توجيه النداء إلى الجميع .لماذا سيكون ثمة أشخاص
يض ّنون بنظراتهم على هذا الرضيع؟ إن الشهية والتوق إلى االعتراف
محبطان .كما الحظ ذلك سيجموند فرويد بكل طرافة« :بمقدور المرء
117
كم ًا غير محدود من عبارات الثناء والتقريظ»( .)5حتى أن يتق َّبل ّ اعتراف المطابقة األكثر وداعة من االعتراف الذي يجلبه لنا التم ُّيز،
يقتضي م ّنا أن نبدأ ،يومي ًا ،المالحقة والسعي الحثيث .ومن ث ََّم ،ليس الشعور بالنقص أو عدم االكتمال أمر ًا أساسي ًا فحسب ،بل هو ،أيض ًا، وباء ال يشفى ،وإال سنكون قد ُ «شفينا» أيض ًا من إنسانيتنا.
تزيفتان تودوروف 9/11/2010
هوامش - 1وليام جيمس« :مبادئ علم النفس» هولت.1904 ،
- 2آدم سميث« :نظرية المشاعر األخالقية» ،منشورات اليوم.1982 ، - 3بول واتزليك « :منطق التواصل» ساي.1972 ،
- 4ماريك إيدلمن « :ذاكرة غيتو فرصوفيا» منشورات سكريب.1983 ،
- 5ويليام جونز« :سيجموند فرويد ،المجلد الثالث» مطابع هوغارت.1957 ،
118
الحضارة،الديموقراطية ،التعايش
حوارات
«ديموقراطية تفرز بنفسها أعداءها» في كتابه الموسوم بـ«أعداء الديموقراطية الحميمون»،يفحص الفيلسوف تزيفتان تودوروف ،بعين ثاقبة ،اللحظة التي أصبحت فيها التأثيرات يفسر تودوروف في المنحرفة للديموقراطية ِ ّ تهدد وجودها في َح ّد ذاتهّ ِ .
هذا الحوار ،الذي أجراه معه دانييل سالفاتور شيفر ،األخطار المحدقة مهددة من الخارج ،كما كان بالديموقراطية .لم تعد الديموقراطية اليوم َّ األمر مع النزعات الكليانية اإليديولوجية كالفاشية ،الشيوعية أو اإلرهاب.
مهددة من الداخل :من طرف قوى تفرزها بل إن الديموقراطية باتت َّ تهدد وجودها الديموقراطية -دون علم بذلك -من الداخل إلى درجة ِ ّ
الخاص بشكل مفارق .تلك هي األطروحة التي يط ِّور المؤ ِّرخ تودوروف إشكاالتها في كتابه «أعداء الديموقراطية الحميمون» (منشورات روبير
الفون ،باريس .)2012
دانييل سالفاتور شيفر :عديدة هي األعمال التي تندِّ د بأعداء الديموقراطية الخارجيين والمعلنين صراحة
كالفاشية والشيوعية واإلرهاب وتنتقدهم ..من جهتك،
قمت في كتابك األخير ،وبكيفية بارعة للغاية ،بل وبطريقة مركَّ بة جداً ،بتحليل ما وصفتموه بـ«األعداء الحميمين» لديموقراطية كهذه ،أو الذين كانوا إفراز ًا لها .هل لك أن
تشرح لنا هذه الفروق الدقيقة؟
تزيفتان تودوروف :في البدء ،بالنسبة إلنسان مثلي ُو ِلد في القرن العشرين 120
قبل اندالع الحرب العالمية الثانية ،وفي بلد كبلغاريا التي كانت ترزح تحت نير االستبداد السوفياتي ،كان أعداء الديموقراطية ،قبل كل شيء،
أعداء خارجيين؛ أولئك الذين كانوا يرفضون مبدأ الديموقراطية نفسه،
يدعون أنه األكثر سمو ًا .في دول أوروبا ويزعمون استبدالها بشيء آخرّ ، الغربية ،كان األمر يتع َّلق -في فترة ما بين الحربين -بالفاشية .كان عدد
هام من العقول الالمعة المناصرة للفاشية يعتقد من جهة أخرى ،في تلك المرحلة بالذات ،أن الديموقراطية أصابها اإلعياء والوهن ،وأن هذا النظام لم يعد قادر ًا على االستجابة للتطلعات الشعبية ،ومن ث ََّم من
الواجب أن يحلّ محله نظام آخر .هذا النوع من الرؤية إلى األشياء أدى -بشكل كبير -إلى تنامي النزعات الديكتاتورية الفاشية في العديد من
الدول (إيطاليا ،كرواتيا ،إسبانيا ،والبرتغال .)...إال أنه حتى في الدول التي لم يكن سائد ًا فيها ،على المستوى السياسي -اإليديولوجي هذا
النوع من النزعات الكليانية كفرنسا أو بلجيكا ،كان ثمة -مع ذلك- مهمة من اليمين المتط ِّرف ،كما كان هناك رأي عام عريض أحزاب ّ
يحلم ،على سبيل المثال ،بالعيش في ظل فرنسا بيتان ،أو في بلجيكا
ديغريل .وبعد الحرب العالمية الثانية ،ظهرت ديكتاتورية أخرى مختلفة تمثَّلت في التهديد الوافد آنذاك من دول أوروبا الشرقية ،من أنظمة تجسدها الكتلة السوفياتية. شيوعية كليانية ِّ
ِدت دانييل سالفاتور شيفر :هل كانت بلغاريا ،التي وُ ل َ وترعرعت فيها ،قبل أن تغادرها إلى الغرب ،واحدة من َ
هذه الدول التي كانت ترزح تحت وطأة الديكتاتورية الستالينية؟
121
تزيفتان تودوروف :بكل تأ كيد .لقد كانوا يصفون لنا ،في بلغاريا آنذاك، الغرب والواليات المتحدة األميركية على الخصوص بالقوة اإلمبريالية والمتأهب دوم ًا لالنقضاض علينا في كل لحظة ،ومن والعدو المعتدي ِّ
ث ََّم من الواجب االحتراس واالستعداد للحرب بكل قوانا .أنا بنفسي تربَّيت في أجواء هذه الحالة الشعورية .غير أني كنت سعيد ًا وأنا أعاين
اختفاء التهديد الكلياني وزواله ّ حق ًا منذ ما يزيد على عشرين سنة على
إثر سقوط جدار برلين سنة .1989كما كنت سعيد ًا بالضربة القاضية التي ُو ِ ّجهت إلى األنظمة الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية ،فوضعت حد ًا لها .ومنذ انهيار اإلمبراطورية السوفياتيةُ ،و ِلد أمل جديد تقاسمه ّ
العديد من حولنا ،ألننا كنا نرى في هذا االنهيار السوفياتي نوع ًا من االنتصار الناعم للديموقراطية في النطاق الذي لم يعد ،لهذه األخيرة، من ث ََّم ،أعداء خارجيون ومع َلنون بشكل سافر.
دانييل سالفاتور شيفر :خالف ًا لهذا األمر ،لقد تَمَّ استبدال هذين النمطين من الديكتاتورية بنمط ثالث من والزمته الطبيعية (اإلرهاب). ِ الديكتاتورية :التطرُّ ف الديني رغم خطورة هذا النمط الثالث من الديكتاتورية ،فأنت ترى أنه ال يمكن أن يقارَ ن مع النمطين السابقين (كليانية االتحاد السوفياتي واألنظمة الفاشية) .كيف تفسِّ ر ذلك؟
تزيفتان تودوروف :نعم ،ليس ثمة مجال للمقارنة .من البديهي أن ندين ونشجب هذا النظام الديني المتط ِّرف أو ذاك ،لكن أ ّي ًا من هذه األنظمة
ال يمكن مقارنته إطالق ًا بالخطر الذي كانت تمثّله بعض األنظمة في ظل النزعة الستالينية والجيش األحمر .هذه األنظمة الكليانية ال نظير لها!
122
ومع ذلك ،بإمكاننا القول ،بطريقة ما ،إن (اإلرهابيين اإلسالميين) ورغم
إدانتهم ،يشبهون اليوم تلك الجماعات المس َّلحة الصغيرة التي ظهرت فيما مضى في ألمانيا ،مثل «جماعة الجيش األحمر» أو «األلوية الحمراء»
في إيطاليا .يتع َّلق األمر ،بأعمال إرهابية ممنهجة يمكن ،بطبيعة الحال، أن تقتل ،وت ِ ُحدث الكثير من الخسائر واألضرار ،غير أنها تبقى عاجزة
عن تهديد أسس الدولة نفسها ،وعلى الشاكلة نفسها ،فأنظمة الحكم الثيوقراطي التي توجد اليوم خارج أوروبا ،كما في إيران والسعودية، أو الديكتاتوريات السياسية -العسكرية ،كتلك التي في الصين وكوريا الشمالية ،ال يمكن أن تمثل في نظر الديموقراطيات الغربية أنظمة منافسة
حد العداء والتهديد. ّ
دانييل سالفاتور شيفر :لماذا؟ تزيفتان تودوروف :ألنها ال تم ِ ّثل خيار ًا أو بدي ً ال صادق ًا وجد ّي ًا في نظر
ّ نتوقعهما، الشعوب األوروبية .ومع ذلك ،فالهدوء واالستقرار اللذين ك ّنا
َّ يتحقق ك ّل ّي ًا. بعد انهيار جدار برلين ونهاية ما ُس ّمي «الحرب الباردة» لم وذلك ألنه بات واضح ًا للعيان أن الديموقراطية أفرزت أعداءها السيئين
الذين نشأوا من رحمها نفسه بسبب تآ كلها الداخلي .إنهم يم ِ ّثلون ،على
نحو ما ،أبناءها غير الشرعيين الذين ي َ وح ٙيدان مرتبط ُنظر إليهم كانحراف ٙ
بالمبادئ الديموقراطية نفسها.
دانييل سالفاتور شيفر :إذاً ،فالديموقراطيةَ ولّدت بنفسها ،وبشكل مفارق ،آثارها المنحرفة التي باتت تهدِّ دها من الداخل ،ال من الخارج كما كان عليه األمر سابقاً :المثال الديموقراطي المنحرف وكأنه خان نفسه بنفسه دون علم منه ،أو -إذا جاز القول -عن حسن نية. 123
مهددة بفعل التأثيرات المنحرفة تزيفتان تودوروف :فعال ،فالديموقراطية َّ الم ِل ّحة! في كتابي األخير «أعداء الديموقراطية للمتط َّلبات الديموقراطية ُ
الحميمون» ،تو َّقفت عند ثالثة نماذج كبرى قمت بتحليلها في هذا
مفصل. الكتاب بشكل َّ
دانييل سالفاتور شيفر :ما هو ،تحديداً ،النموذج األول؟ تزيفتان تودوروف :النموذج األول هو ما أسميته في هذا الكتاب
بـ«االقتضاء الديموقراطي» المالزم للمشروع الديموقراطي نفسه .ألن
مبدئي ًا ،عن وضعية موجودة سابق ًا. الديموقراطية ليست حالة نتجت، ّ كما أنها ال تنصاع لفلسفة محافظة أو فكر حتمي ،أو لمحاولة الحفاظ على ما هو موجود سلف ًا أو الحترام غير مشروط للتقاليد .كما ال تستند
ومقدس كنوع من القانون الديموقراطية في مرجعيتها إلى كتاب قديم َّ
الذي يجب -دوم ًا -تطبيقه بطريقة متكاملة .وبالتأ كيد ،فإن هذا العامل
من االقتضاء خليق بالثناء في ذاته ،غير أن ما حدث في مراحل مع َّينة من
الديموقراطية ،هو أنها كانت تنشط بدافع قناعة راسخة :قناعة تحملها على االعتقاد أنها حاملة للخير األسمى ،ومن ث ََّم ترى أنه من المشروع
أن تفرض هذا الخير على اآلخرين بالقوة ،بما في ذلك اللجوء إلى القوة العسكرية .وهذا ما حدث -لألسف -خالل الشهور األخيرة في التقدم، ليبيا ،وقبل ذلك في مسار الديموقراطية ،إذ يصبح التط ُّلع إلى ُّ ِّ أهم مبادئ الديموقراطية ،مصدر دمار وتخريب للدول يشكل الذي ّ
التي ال تتقاسم معنا هذه المبادئ .وبتعبير آخر ،ي َّتخذ الش ّر -في هذه
الحالة -صبغة الخير ،وليس ثمة ،في الواقع ،مفارقة أ كبر من هذا! ولقد استلهمت من هذا األمر عنوان أحد كتبي السابقة «ذاكرة الش ّر ،إغواء
124
الخير» الصادر سنة .2000 دانييل سالفاتور شيفر :لكي نتابع -بشكل منطقي- محاكمتك للديموقراطية ،ما الخطر الذي أفرزته -في الغالب -الديموقراطية من نفسها ،ومن غير علم منها؟
أهم تزيفتان تودوروف :ينشأ الخطر وبشكل مناقض أيض ًا ،من أحد ّ مظاهر الديموقراطية ومكتسباتها الهامّة .وخصوص ًا الديموقراطية الليبرالية
التي تدافع عن الح ّريّة الفردية ،ذلك أن الديموقراطية ال تنافح ،فحسب،
عن سيادة الشعب ،وإنما تنبري ،أيض ًا ،لحماية ح ّريّة الفرد ،حتى من
عما ك ّنا شطط ُّ تدخل الشعب نفسه .وبهذا تختلف الديموقراطية الليبرالية ّ نسميه ،في الماضي ،تحت األنظمة الستالينية «الديموقراطيات الشعبية» ّ
التي كانت تحرم الفرد من االستقاللية .لكن المشكل في ديموقراطيتنا
الليبرالية يكمن في أن االقتصاد الذي هو ثمرة المشاريع الح ّرة لدى األفراد ،قد أزاح السياسة ،وأصبح خاضع ًا لهاجس الربح ،وهو ما ِ ّ يشكل أحد النتائج المنحرفة للمبادرة الفردية التي تنفلت من كل مراقبة وضبط، حتمي إلى هيمنة األكثر غنى على األكثر فقر ًا. أدى بشكل الشيء الذي ّ ّ
وخالصة القول ،لقد أصبح هذا النوع من الديموقراطية ،كنتيجة لهذا الوضع ،شك ً ال آخر من السلطة الديكتاتورية :استبداد الرأسمالية أض َّر
بحماية الشعب عن طريق الدولة .إن هذا اإلغراء الجاذب للربح الفردي
يهدد رفاهية نسيج الجسد االجتماعي. هو ما ِ ّ
125
دانييل سالفاتور شيفر :في نهاية المطاف ،ما هو الخطر الداخلي الثالث الذي يهدِّ د الديموقراطية؟ تزيفتان تودوروف :يكمن الخطر الثالث في الشعبوية ،وهي بمثابة
الوجه الباطل والمنحرف للديموقراطية ،بما أن المقصود هنا هو العمل على استشارة الشعب والذي من دونه ،تحديد ًا ،لن يكون ثمة مجال للحديث عن الديموقراطية .لكن الجانب السلبي األكبر في الشعبوية يتمثَّل في البحث عن انخراط الجماهير الشعبية انخراط ًا مباشر ًا وك ّل ّي ًا،
فج ومفرط للغاية ،ألن الهدف هو فيسهل الهيمنة عليها إعالمي ًا بشكل ّ
دفع هذه الجماهير الشعبية إلى اتّخاذ القرار بنفسها تحت تأثير العاطفة
وأهوائها ،وبعيد ًا عن كل تفكير عقالني .إن خطر االفتقار إلى التمييز ّ يشكل العقالني الضروري في اتّخاذ القرارات الهامّة للمجتمع ،هو ما
الخطر الحقيقي على آليات الديموقراطية الجيدة والجديرة بهذا االسم، الديموقراطية القائمة على الفصل الصائب والمالئم بين السلطات (التشريعية ،التنفيذية ،والقضائية).
دانييل سالفاتور شيفر :كل ما عَ بَّرت عنه للتوّ نجده ملخص ًا في الصفحات األولى للكتاب ،وفي الفصل الذي َّ عَ نْوَ نْته بـ«انحراف في الديموقراطية» ،كتبت حرفياً« :إن الديموقراطية أفرزت بنفسها من الداخل القوى التي صارت تهدِّ دها ،ومن مستجدّ ات عصرنا أن هذه القوى تتفوّ ق على تلك القوى التي تهاجمها من الخارج .العمل على محاربة هذه القوى الداخلية وإبطال مفعولها يبقى أمر ًا في غاية الصعوبة ألن هذه القوى تتذرَّ ع بدورها ،وتطالب بالروح الديموقراطية ،ومن ثَمَّ تمتلك مظاهر الشرعية». 126
المتميزة تزيفتان تودوروف :هنا تكمن ،في الواقع ،الخالصة التركيبية ِّ للموضوع المحوري لكتابي.
04/04/2012
127
َّ تتنكر لإلنسانية؟» «من سيدافع عن حضارة بالنسبة للفيلسوف والمؤرخ تزيفتان تودوروف ،فإن خطاب وزير الداخلية
الفرنسي األسبق كلود غييو يصدر عن سياسة شعبوية مانوية (قائمة على
عقيدة الصراع بين النور والظالم ،الخير والشر ،الحضارة والبربرية) إنه
ِ يكتف وزير الداخلية الفرنسي خطاب يثير تعليقات ال نهاية لها ...لم
التمسك بخطابه المثير للجدل والقائل إنه «ال كلود غييو باإلصرار على ُّ
يمكن التعامل مع كل الحضارات على قدم المساواة» .بل انبرى أيض ًا
للعب دور المج َّندين المدافعين عن أصوات الجبهة الوطنية لجون ماري
لوبن.
س ،في كتابه الموسوم بـ «الخوف من يتو َّقف تودوروف الذي ك َّر َ
ال كام ً البرابرة :ما وراء صدام الحضارات» ،فص ً ال عن مفهوم الحضارة،
مدة في المجال السياسي ،كما هو الشأن في عند اللغط المستعر منذ ّ المجال اإلعالمي.
مجلة لوبوان :هل لتراتبية الحضارات معنى؟ ُّ التوقف عند خطاب السيد غييو ،هذا أود في البدء تزيفتان تودوروفّ : َّ المؤكد بشكل رسمي ،وما ت ََّم تقديمه إلينا أذهلني تبسيطه إلى التصريح
الح ّد؟ إنه ألمر يبسط األمر إلى هذا َ أقصى َح ّد .كيف يمكن للمرء أن ِ ّ ُفسد اإليديولوجية النسبية تفكير المرءّ ِ . يؤكد مؤ ِ ّثر أن نرى إلى أي َح ّد ت ِ
128
كلود غييو أن كل الحضارات غير متساوية .أجيب :حسن ًا ،لكن من َّ تتنكر لإلنسانية؟ سيدافع عن حضارة هذا أمر مثير للسخرية .هذا التصريح متخ َّلف ،ويثير الكثير
من اللبس ،كما ينطوي على الكثير من الخلط .يصعب على المرء أيض ًا
أن يتب َّين -بالضبط -ما المقصود بهذا التصريح وما األهداف الكامنة وراءه.
لوبوان :بالضبط ،ما الغاية الكامنة وراء طرح هذه الفكرة غير الواضحة نسبياً؟ * تزيفتان تودوروف :إن كلمة «الحضارة» المستعملة في
صيغة المفرد تتعارض مع «البربرية» ،وتنطوي على مطلب أخالقي،
ُّ التحفظ والحذر ،فهذه حركة معينة ،مجموعة من الصفات .لكن ينبغي
خاصة ،بل هي صفات مشتركة الصفات ليست حكر ًا على جماعة ّ لإلنسانية جمعاء .بعبارة أخرى ،يكمن جوهر الحضارة في االعتراف
وبالتعدد الثقافي لآلخرين .فالحضارة قائمة -إجما ً ال- باإلنسانية الكاملة ُّ
يلح على ذلك وزيرنا. على االنفتاح ال على االنكفاء والتقوقع ،كما ّ
لوبوان :لكن ،هل يفهم الوزير كلود غييو الحضارة بهذا المعنى الذي تتحدَّ ث عنه؟
يتم تزيفتان تودوروف :مطلقا ال ،أتط َّرق للمفهوم الثاني ،عندما ّ ّ يحل مح ّله مفهوم استخدام هذا المفهوم في صيغة الجمع يمكن أن
ُفهم معنى الحضارة في فكرة «الثقافة» .على األقلّ ،على هذه الشاكلة ي َ
129
األنثروبولوجيا (علم اإلنسان) واإليثنولوجيا (علم األعراق البشرية) .في
تلك الحقبة من عصر األنوار ،تب َّين أن لكل ساكنة في العالم ثقافة خاصة
بها .كانت هذه الثقافة -على وجه التحديد -هي التي تسمح لجماعة ما بالعمل بصورة جيدة .اللغة ،على سبيل المثال ،التي تسمح ألعضاء
المجموعة نفسها بالتواصل .فالجميع يتك َّلم لغة ما ،البعض يتك َّلم لغات متعددة .ولكن ،هل هناك لغة أفضل من غيرها؟ السؤال ال معنى له. ِّ لوبوان :لكن بعض اللغات لها تأثير أ كثر من غيرها!...
تزيفتان تودوروف :بالتأ كيد ،ولكن حين يتع َّلق األمر باللغات والعادات
والسلوكيات أو الرموز الثقافية ،فكل هذه العناصر ليست حكم قيمة.
هذا ال يعني أن بعض الخصائص الثقافية تبقى بمنأى عن الصراع مع
يخص شعب الحضارة .هناك مثال بسيط جد ًا يخاطب الجميع ،مثال ّ
األزتيك .حين يتبين للمرء أن شعب األزتيك غارق في التضحية البشرية،
يتم نعته بـ«البرابرة المتخ ِ ّلفين» .لكن هذه التضحية ت َُع ّد في ثقافتهم ّ متعددة الجوانب ،وال يُنظر إليها إطالق ًا على أنها مشاركة في طقوس ّ
إهانة للكرامة البشرية .بل على العكس تمام ًا.
لوبوان :ولكن ،هل هناك -أيضاً -سمات مشتركة لجميع الحضارات؟ تزيفتان تودوروف :هذا أمر َّ مؤكد ،فالتقنية ،على سبيل المثال ،ت َُع ّد جزء ًا
من حياة المجتمع ،وهي ،على عكس الثقافات ،لها حمولة كونية .األمر
بسيط جد ًا :ال يتط َّلب سوى القيام بنزهة في الهند ،الصين ،أميركا، 130
إفريقيا وأوروبا .فالجميع يستخدمون الهواتف المحمولة نفسها ،أجهزة
الكومبيوتر ،السيارات ،الطائرات نفسها ...تشتهر بعض الثقافات
األهم ّية الكبيرة. باالختراعات التقنية أو باالكتشافات العلمية ذات ّ تفتقر ثقافات أخرى لهذا ،هذا أمر َّ مؤكد ،لكن هذا لن يمنعها من تب ّني ابتكارات اآلخرين .أحيان ًا ،تأتي هذه التطورات في وقت الحق .في
أوروبا ،لقد ت ََّم انتظار القرن السابع عشر حتى يتح َّرر ال ِع ْلم من الدين. فما الذي يقصده كلود غييو بالضبط؟ أن األخيار أحسن من األشرار؟ال بأس!
لوبوان :هل بإمكاننا القول ،رغم كل هذا ،إن الثقافات متساوية فيما بينها؟
تزيفتان تودوروف :هذا ما يعتقده -في الغالب -علماء اإليثنولوجيا، لكنني ال أتَّفق حقيقة مع هذا الرأي .في الواقع ،تمتلك كل ثقافة عدد ًا مُ َع َّين ًا من الخصائص التي يمكن الحكم عليها بشكل كامل وفق ًا لمعايير
كونية .قد يتع َّلق األمر بمعايير أخالقية أو بمعايير إيثنولوجية أو -بكل
التقدم التي يمكن مالحظتها في وقت مُ َع َّين. بساطة -بمعايير ُّ
لوبوان :لماذا يثير مفهوم «الحضارة» األهواء إلى هذا الحدّ ؟ َ تزيفتان تودوروف :ألن خطاب كلود غييو يخلق الكثير من اللبس،
وينطوي على الكثير من الخلط .هذا اللبس يساهم في انخراط كل
األشخاص الذين يشعرون بالقلق إزاء التأ كيد على الهوية الوطنية،
فيعدون كل ما هو وافد من الخارج خطر ًا ،غير أن كل مجتمع يعزل نفسه ّ
131
عن بقية العالم سيكون مآله االنحطاط .هذا الخطاب يجعلني ِ ّ أفكر
-بشكل ما -في خطاب جون ماري لوبن حين َص َّرح أن فرنسا لديها
ثالثة ماليين عاطل وثالثة ماليين مهاجر .خطابات كهذه تصدر عن
سياسة شعبوية مانوية تثير تعليقات ال حدود لها.
07/02/2012
132
اس ِم حقوق اإلنسان «من السهل أن نقتل بِ ْ اس ِم الله» كما نقتل بِ ْ في كتاب ْ «غويّا في ظلّ األنوار» ،يقوم تزيفتان تودوروف ،المنحدر وتفحص أعمال الفنان اإلسباني ْغويّا .هل من أصل بلغاري ،بسبر ُّ
يمتلك الفن التشكيلي َم َلكة التفكير؟ هل بإمكاننا قراءة لوحة فنية كما ِّ المفكر نقرأ أطروحة سياسية وفلسفية؟ تلك هي األسئلة التي يطرحها
ْ بـ«غويّا في ظلّ األنوار» حيث تزيفتان تودوروف في كتابه الموسوم يرى تودوروف أن الفنان التشكيلي اإلسباني ْغويّا هو واحد من أبرز
المفسرين لعصره ،وأنه مح ّلل يتم َّيز برؤية ثاقبة في سبر أغوار الجانب ِّ القاتم والمظلم من عصر التنوير. يفسر تودوروف رؤيته ألعمال الفنان اإلسباني ْغويّا. في هذا الحوار ِ ّ
صوفي بوجاس :لماذا هذا السعي إلى تفسير فكر الفنان غْ ويّا من خالل لوحاته الفنية؟
تزيفتان تودوروف :ت َُع ّد الصور ،وذلك منذ أقدم العصور ،القناة الناقلة للمعنى ،ألجل هذا يبدو لي التساؤل عن معناها أمر ًا مس َّلم ًا به .هذه
المهمة تصبح أمر ًا سه ً ال في حالة الفنان ْغويّا الذي اختار عناوين ّ
المتعددة. (ساخرة ،مسلية ،ومفعمة بالمفارقة) لكل لوحاته ورسوماته ِّ
لقد ت ََّم إنجاز كل النصوص والصور -بالفعل -تحت تسمية فنية واحدة.
باحتكاكي بأعمال الفنان ْغويّا ،انتابني الشعور أنني أمام أحد العقول
133
وس َم ْتها أفكار األنوار والثورة .إذا األكثر ألمعية في تلك المرحلة التي َ أخص كانت هذه األفكار القت صدى فوري ًا ومباشر ًا في إسبانيا ،وبشكل ّ
رد فعله كان أ كثر في األوساط التي كان يتردد عليها الفنان ْغويّا ،فإن ّ ّ
حدة وأكثر كشف ًا وداللة .فغْ ويّا لم يقع تحت طائلة أوهام عصر األنوار ّ
ألنه كان ينظر ،بشكل حصيف وبيقظة شديدة ،إلى ما كان يحدث حوله. الشك إزاء فشل األنوار؟ ّ صوفي بوجاس :هل كان ينتابه
تزيفتان تودوروف :لنقل ،باألحرى ،إنه كان ينظر إلى الجانب القاتم ضد من عصر األنوار .صحيح أن الفنان ْغويّا كان يعترف بمعركة األنوار ّ
الخرافات واألوهام والجهل ...إلخ .لكنه أدرك -أيض ًا -أن إغواء الخير
قد يكون أ كثر خطورة من إغواء الشر أحيان ًا! اتَّضح لغْ ويّا ،بمقتضى
األحداث التي وقعت في زمنه ،أنه ال يكفي للمرء أن يطالب بالتس ُّلح
والمثُل العليا كالمساواة واإلخاء ،ليتطابق بالضرورة بالعقل والحكمة ُ سلوكه معها .لقد ّ شكك عصر األنوار في أسس المعتقدات التي عاشت أدى هذا الشك إلى إحداث هزّة كانت عليها الشعوب لقرون وقرون؛ ّ باعثة على األمل :بمقدور اإلنسان أن يسعى بنفسه إلى البحث عن سبل
خالصه بدل انتظار ذلك من اإلله والقدر .كانت تحدو الثوار الفرنسيين رغبة في تحقيق هذا المثال .لكن ْغويّا كان شاهد ًا على احتالل نابليون
إلسبانيا ،كما رأى أن الجيش الفرنسي المك َّلل بهالة األنوار والثورة،
والمبارك من قبل جزء من أصدقائه المستنيرين ،قد جلب الحرب والقمع والعنف .واكتشف ْغويّا أنه من السهل أن نقتل باسم حقوق اإلنسان كما
توصل ْغويّا إلى هذا االكتشاف في ظرف وجيز نقتل -أيض ًا باس ِم الله! َّْ
بينما تطلب األمر من الفرنسيين ثالثين أو أربعين سنة كي يشعروا بخيبة
134
األمل ،كما وصفها الكاتب ستندال -على نحو ما -في أعماله األدبية.
والحالة هذه ،لقد كان هذا االكتشاف خطير ًا للغاية وكفي ً ال بإغراق المرء
في نزعة تشاؤمية عميقة ،غير أن الفنان ْغويّا لم يتقاعس أو يتنازل يوم ًا
ما عن دعوته إلى تحقيق العدالة والح ّريّة والحكمة التي ظلت محور مُ ثُله العليا.
صوفي بوجاس :هل يساعدنا الفنان غْ ويّا في تحليل
الكوارث الكبرى في التاريخ الحديث؟
تزيفتان تودوروف :أنا مندهش على الدوام لكوننا نرى في كل مرة وهذا أمر حقيقي -إلى ّأي َح ّد يتب َّين لنا أن لوحات ْغويّا الفنية
موجهة لتفسير أحداث وقعت بعده .لقد رأى ْغويّا كل شيء! فعمله َّ
الفني الموسوم بـ«درب الجحيم» ،حيث يص ِّور أناس ًا مدفوعين نحو
اللهب ،يبعث -على نحو ما -على الشعور بنذير مرعب .ال يمكننا
أن نتغاضى عن التفكير في األفران التي التهمت البشر .وإزاء عمله «خراب الحرب» الذي يص ِّور اللحظة التي تلي انفجار الحمم البركانية، ْ نتذكر على الفور «غيرنيكا» بيكاسو ،لكأن ْغويّا كان يرى مسبق ًا في
كومة الجثث نتائج هذا الجنون الذي يسيطر علينا أحيان ًاّ ِ . تذكرنا مشاهد التعذيب في أعمال ْغويّا بالصور المأخوذة في سجن أبو غريبّ ِ . أفكر
في مشهد ذلك الجندي الفرنسي الذي نلمح بجانبه شخص ًا مشنوق ًا.
يصاب المرء بالصدمة لرؤية الوجه الهادئ لذلك الجندي الفرنسي ،كما يصاب المرء أيض ًا بالصدمة إزاء ابتسامة أولئك األميركيين الذين كانوا
المتكدسة في ينظرون بابتهاج إلى آثار التعذيب على األجساد البشرية ِّ
سجن أبو غريب .كان الفنان ْغويّا رؤيوي ًا متج ِّرد ًا من أية نزعة عاطفية، 135
أو أي هاجس ميلودرامي ،إنه ال يطلب منا أن نبكي ،بل أن نصبح أ كثر فطنة وحذر ًا.
التدخل العسكري في ُّ صوفي بوجاس :لكي تقوم بمعارضة ليبيا ،تدعو اإلنسانية إلى تأمُّ ل هذا الدرس المستفاد من غْ ويّا :ليس ثمة وجود لحرب نظيفة... حد الخالص بتب ّنيه تزيفتان تودوروف :لقد كان الفنان ْغويّا على صواب ّ وجهة النظر تلكّ ِ . يذكرنا الفنان ْغويّا بحقيقة تكمن خلف الشعارات
الب ّراقة الكفيلة بزرع الحماس داخلنا في لحظة ما ،أال وهي الدعوة إلى الحرب ،ويكشف لنا وجهها البشع .ليس الهدف هو تثبيط كل نزوع
َّ يتمخض عن نحو الخير أو نحو اآلخر ،بل إدراك الواقع الشنيع الذي
هذه الحرب ،واقع الصواريخ والبنادق واالنفجارات .بسبب هذا الثمن
الباهظ حق ًا ،يجب أن نتأنّى كثير ًا ،ونتساءل دوم ًا -برويّة -عما إذا
كانت هناك طرق أخرى كفيلة ببلوغ المبتغى ذاته .وهذه مسألة في غاية األهم ّية في الوقت الحاضر بخالف ما كان عليه األمر منذ عشرين سنة. ّ
تح ِّركنا دوافع رسولية تنطوي على اإليمان بإمكانية تحقيق الديموقراطية ِّ متشكك ًا بشكل عميق. وحقوق اإلنسان بالقوة! إن هذا المشروع يجعلني صوفي بوجاس :يرفض الفنان غْ ويّا تجميل الفظاعة ،غير أنه ليس بمقدورنا تأمُّ ل أعماله دون الوقوع تحت سحر جمالها وروعتها...
تزيفتان تودوروف :ال مناص من االضطراب في فهم أعمال الفنان ْغويّا،
ألننا حين نتأمَّل أعماله لن يكون في مقدورنا مقاومة اإلعجاب بجمالها.
136
حاولت في كتابي ْ «غويّا في ظلّ األنوار» التذكير بأن ْغويّا لم يكن يسعى
إلى الجمال ،بل إلى بلوغ الحقيقة .فالفن التشكيلي بالنسبة لغْ ويّا كان
شك ً ال من أشكال المعرفة :معرفة الحقيقة الداخلية ،وأيض ًا حقيقة العالم نتوجه اليوم إلى المتاحف كي نتم َّتع بآثاره الفنية، الخارجي .صحيح أننا َّ لكني أعتقد أن ْغويّا لم يتقوقع ك ّل ّي ًا فيما هو جمالي (إستطيقي) محض.
يتم استخدام أعماله الفنية لتسليط الضوء والدليل على ذلك أنه غالب ًا ما ّ
َّ مؤخر ًا رأيت عمله الفني «العمالق» على كوارث الماضي أو الحاضر.
تتحدث عن الحرب الشاملة .لم على غالف أحد الكتب المعاصرة التي َّ تفقد أعماله الفنية -أبد ًا -قدرتها التأويلية المثيرة لألسئلة .وال أعتقد تتوخى أعماله البوح به. عما ّ أنني الوحيد الذي يتساءل ّ
صوفي بوجاس :كان غْ ويّا يراهن على أن تعيد األجيال القادمة قراءة أعماله الفنية .أليس كذلك؟
تزيفتان تودوروف :على ّ أي حال ،إن ْغويّا ،وفي حدود معرفتي ،هو الفنان
الوحيد الذي ت َّم اكتشاف أعماله األكثر تأثير ًا ،والتي تؤ ِ ّثر فينا بعمق، موجهة لغايات شخصية، اليوم ،بعد مماته .تبقى العديد من رسوماته َّ
دون أن تكون مج َّرد أعمال تحضيرية للوحات ،كما هو األمر لدى فنانين
آخرين .يضع ْغويّا عناوين شارحة ،ث ََّم يجمعها في ألبوم ِّ مرقم ًا إياها تبع ًا
للترتيب األكثر تالؤم ًا مع المنطق ...إجما ً يهيئ ْغويّا هذه األعمال الّ ، ليتم تلقيها من ِق َبل اآلخرين ،غير أن ال أحد كان ّ يطلع على أعماله! من ّ
األكيد أن المجموعة األولى من نقوشه الفنية الموسومة بـ«نزوات» ت ََّم ِّ المتحفظة التي أثارتها، تنفيذها بهدف بيعها ،لكن ،أمام ردود الفعل
قام بسحبها من التداول بعد خمسة عشر يوم ًا! واحتفظ في حوزته، 137
بمجموعته الثانية من النقوش الفنية الموسومة بـ«خراب الحرب» ألنه أسميه «خراب السلم»؛ حاالت القهر والعنف َق َّدم فيها -بال شك -ما ّ التي تع َّرض لها اإلسبانيون في حقبة اإلصالح حين استعادت محاكم
التفتيش قوّتها ،واستأنفت االضطهاد ،كل هذا جعل مجموعته ممنوعة
من النشر .أما باقته األخيرة «اللوحات السوداء» ،فهي تلك الوسائط الفنية التي استعملها في تزيين حجرتين كبيرتين في بيته الذي اشتراه، ولم يطلع أحد عليها! قد يصاب المرء بالدهشة والذهول حين ِ ّ يفكر كيف
ِّ سيشكل ذروة أعماله أن ْغويّا أمضى سنتين وهو يزخرف الجدران بما
الفنية ،ثم يغلق البيت بالمفتاح ،ويرحل خارج البالد دون أن يتس ّنى ألحد -مطلق ًا -رؤية أعماله أو التعليق عليها ...لكن ْغويّا كان يحتفظ
بفكره لألجيال القادمة .لكأنه أغلق على أعماله في قارورة ،ورمى بها في البحر على أمل أن تبلغ ،ذات يوم ،شاطئ ًا مضياف ًا ،وتجد رسالته من ّ يفك رموزها .وهذا ما حدث بعد أربعين سنة من وفاته ،حين ت ََّم الشروع
في نشر أعماله «ويالت الحرب» ،واكتشاف عمله الفني «اللوحات
السوداء» ،ونقلها إلى لوحات بهدف عرضها في المتاحف.
صوفي بوجاس :هل كان غْ ويّا يبشِّ ر بمفهوم جديد للفرد؟ تزيفتان تودوروف :ال جدال في ذلك .يحدث ْغويّا ثورة بالمعنى الذي يص ِّور به األشياء وفق ًا إلدراكه الشخصي .فال يصبح العالم على ما هو
عليه ،بل كما يراه الفنان .في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،
ّ تشظي الصورة .كان ْغويّا سيعمم االنطباعيون هذا المفهوم من خالل ِّ قد أدرك تمام ًا هذه الرؤية القائلة إن كل إدراك هو إدراك فردي أي
ذاتي .إنه ذلك الكانتي (نسبة إلى إيمانويل كانت) الذي يعتقد أنه 138
ليس بمقدورنا الولوج إلى العالم في ذاته ،وإنما -فقط -إلى العالم كما يتراءى لنا .كل هذه االكتشافات التصوُّرية والفلسفية لم تدفع ْغويّا
ّ إلى يعبر عن ذاته بلغة التشظي الـ(ما بعد-حداثي) الذي يجعل كل فرد ِ ّ
خاصة به .إن ْغويّا منشغل بلغة مشتركة يق ّرها اإلدراك العادي والمألوف.
نشاهد االنتهاكات ،األفعال ،الكائنات البشرية ،الجثث ،وندرك ماذا تعني ،وبماذا يتع َّلق األمر .فيما بعد ،نستسلم إلرادة العزوف عن العالم
يعبر المشترك التي ِ ّ تهدد الفن المعاصر بفقدان المعنى :نخال أن الفنان ِ ّ عن شيء ما ،لكننا ال ندري ما هو ،إال إذا زوَّدنا بملحوظة توضيحية...
ّ التشظي التام للمعنى .تبقى رؤيته فردية لكن يبقى ْغويّا بمنأى عن هذا
متعدد المعاني والدالالت .وهذا درس لإلنسانية ،كما هو الشأن، تأويلها ِّ
بالنسبة للفن التشكيلي في الوقت الحاضر .لكي يكون الفنان من أبناء ْغويّا حق ًا ،عليه أن يطمح لتحقيق هذا التوازن .إذا أراد الفنان أن ينتج
توجه كوني ،عليه أن يبدع دون أن يعيد إنتاج الواقع رسالة فردية ذات ُّ
َ ومبتذل ،ودون أن يكتفي -في اآلن نفسه -بالتعبير عن بشكل خاضع فردية أ كثر إغراق ًا في االختالف.
15/04/2011
139
«ديموقراطية متآ كلة من الداخل» يكتب تودوروف من النزعة الكليانية (النظام السياسي ذو
الحزب الواحد الذي ال يقبل أية معارضة منظمة) .هاجر من بلغاريا إلى
مجدد ًا. باريس كطالب في أوائل الستينيات بهدف أن ال يعود إلى بالده َّ
َّ المثقف المولع بجان جاك روسو ،وبنيامين كونسطو الثمن يعرف هذا مهم ًا في كتابه «أعداء الجوهري للديموقراطية ،سويك ِّرس لها جزء ًا ّ الديموقراطية الحميمون»؛ هذا الكتاب الذي يبقى -في جانب منه-
تهددها األزمات االقتصادية والسياسية. سفر ًا في أرخبيل الح ّريّات التي ِ ّ بالنسبة لمؤ ِّرخ األفكار ،تودوروف ،ينتاب األوروبيون شعور بأن مستقبلهم قد ُس ِلب منهم .هذا ما يبرهن عليه تودوروف في كتابه أيض ًا.
ريتشارد ويرلي« :إن قضية الحرّ يّة اقتحمت -بشكل مفاجئ مبكر-حياتي» ،هذا ما تكتبونه في السطر األول وفي وقت ِّ في كتابكم «أعداء الديموقراطية الحميمون» .هل هذه
القضية هي الخط األحمر لتشخيصكم المقلق؟
تزيفتان تودوروف :ما دمت قد عشت في بلد كلياني ،فإن الحرية كانت
تبدو لي النعمة المرغوب فيها بشوق كبير .والحالة هذه ،في غضون
هذه السنوات األخيرة ،فوجئت بأن رؤية المطالبة الحصرية بالح ّريّة
غدت سمة األحزاب األوروبية لليمين المتط ِّرف .يقودني هذا قد َ
طي األمر إلى إعادة التفكير في المرحلة الحالية للديموقراطية .لقد ت َّم ّ
140
يهددونها من الخارج. صفحة من التاريخ :لم يعد للديموقراطية أعداء ِ ّ
لقد ماتت النزعات الكليانية .وليس ثمة وجود ألي مشروع مجتمعي نظير قادر على منافسة الديموقراطية .المحاوالت التي تسعى إلى تقديم َّ كمرشح للعب هذا الدور قد باءت بالفشل .بل إن النزعة اإلسالمية
مهددة ومتآ كلة من الداخل .أعداؤها هم الديموقراطية ،منذ اآلن ،باتت َّ
أبناؤها غير الشرعيين ،والمبادئ الديموقراطية المعزولة والمقتطعة من مشروع الجماعة ،هي التي تنعكس سلب ًا على الديموقراطية. ريتشارد ويرلي :على سبيل المثال؟ تقدم نفسها تزيفتان تودوروف :المسيحية السياسية للمحافظين الجدد ِ ّ للتقدم وحقوق اإلنسان واالزدهار االقتصادي للجميع ،غير أنها كحامل ُّ
تتوجه إليهم ،وترسل تتناسى أن تطلب رضا وموافقة هؤالء الناس الذين ّ
يتم إضفاء طابع الشرعية إليهم جيشها ليح ِّررهم .وكنتيجة لهذا النزوعّ ، على التعذيب الذي ،فض ً ال عن ذلك ،وافقت عليه الدول األوروبية بال
تردد .إن الديموقراطية ،في الواليات المتحدة كما هو الشأن في أوروبا، ُّ ومهددة من طرف السلطة المفرطة في التجاوزات التي أصبحت متآ كلة َّ
اكتسبها أصحاب النفوذ المالي ...إن تمويل الحمالت االنتخابية من
طرف المقاوالت والشركات الذي أصبح يحظى بالشرعية ،يفسد العملية
الديموقراطية .وكل هذا يحدث باسم أرقى الديموقراطيات وأعرقها.
ريتشارد ويرلي :يتجلّى شكل آخر من المزايدة الديموقراطية
المزعومة في أوروبا في ظهور أحزاب « القراصنة» الذين يطالبون بحرّ يّة شاملة على اإلنترنت...
141
تزيفتان تودوروف :إن ح ّريّة الصحافة مسألة إيجابية لكونها سلطة،
مضاد ،وتبقى مع َّرضة للنقد لكونها سلطة تفلت من كل ضبط ونفوذ ّ
وحصر وكل مراقبة وفحص ...لكن الفوضى أسوأ من االستبدادِ .ل َن ِع َّ ونتذكر هذه المقولة الشهيرة« :بين القوي والضعيف ،الح ّريّة هي جيد ًا،
التي تظلم وتجور ،والقانون هو الذي يح ِّرر ويُع ِتق» .على النقيض من
تحد من نفوذ الدويالت وسلطتها، المضادة التي ذلك ،إن نفوذ السلطة ّ ّ كـ«ويكيليكس» ،تبدو لي سلطة خالصية.
ريتشارد ويرليُ :ت ٙع ِّبرون ،في نهاية كتابكم ،عن قلق كبير
بسبب انحطاط النموذج الديموقراطي األوروبي وتقهقره. كيف تفسِّ رون ذلك؟
تزيفتان تودوروف :يعود انحطاط النموذج الديموقراطي األوروبي إلى مجموعة من الصعوبات المتشابكة فيما بينها .هناك أوال معضلة العقليات .نفتقر في أوروبا إلى هذه الحيوية االجتماعية التي ّ تغذي الديموقراطية في الواليات المتحدة .هناك -رغم أنهم يعانون من معضالت أخرى كثيرة -يبقى تشجيع الشباب الموهوب أمر ًا طبيعي ًا؛
لهذا السبب تبقى أميركا الشمالية منطقة ّ جذابة .في أوروبا ،تقضي النزعة الشكالنية الشرعوية (نزعة االهتمام باحترام الشرع بدقة) على
وتحد من طموحه بشكل كبير .دولة الحق التي نعيش الشباب الموهوب، ّ في ظاللها تبقى إرث ًا ثمين ًا يجب حمايته والذود عنه .لكننا نتناسى ،في
الكثير من دول القارة العجوز ،أن الح ّريّة تتو َّقف على التف ُّتح الفردي. ُفسر جزء من هذه المعادلة -بال شك -بالشيخوخة الساكنة .ليس ي َّ
بمقدورنا أن نملك ،بهذه الديموقراطية األوروبية ،نمط اشتغال نشيط 142
سن كهذا، وجاذبية الدول البارزة .ال يمكن أن نطلب من قارّة ،في ّ
أن تكون القارة الظافرة بشكل أ كبر .يهدف خطابي إلى لفت االنتباه ُّ والتيقظ؛ كل هذه األمور لها تأثيرات وخيمة على ديموقراطيتنا.
ريتشارد ويرلي :هل تبقى الصعوبات األخرى ذات طبيعة سياسية؟
تزيفتان تودوروف :تبدو أوروبا كأنها متقوقعة في تناقضاتها .يعاني
مؤسساتية ،ويوجد -حسب التعبير الشائع- االتحاد األوروبي من معضلة َّ
«وسط مخاضات» .لقد كشفت األزمة الراهنة عن ضرورة التوافر على
وسائل مشتركة التّخاذ القرار كي نحمي أنفسنا من المخاطر المشتركة بكل تأ كيد ،هذه الوسائل غير موجودة .تبقى الدول الكبرى ،والحالة
هذه ،كألمانيا وفرنسا ،هي التي تضطلع بلعب هذا الدور .وهنا موطن عجز واضح و«امتيازات إشكالية» .يكمن المثال ،من جهة ،في وحدة الموجهة التي تو ِ ّلد االضطراب في الوقت مختلف هذه السلطات ّ
الراهن -رئيس اللجنة األوروبية ،رئيس المجلس والرئاسة الحلزونية الموجهة ُنتخب هذه السلطة للمجلس نفسه -ومن جهة أخرى ،يجب أن ت َ َّ
من طرف البرلمان األوروبي ،بوصفه المؤسسة األكثر ديموقراطية في
االتحاد ،ألنه نتاج النتخابات مباشرة.
ريتشارد ويرلي :ال سيّما أن هذا التصدُّ ع الديموقراطي يتمّ
استغالله من طرف األحزاب الشعبوية التي تغالي في إثارة المخاوف...
ّ وتوطدت في تزيفتان تودوروف :إن األحزاب الشعبوية ،التي استقوت 143
أوروبا في غضون العقود األخيرة ،تك ّرس نزعة مانوية للقيم تشبه البالغة الشيوعية في فترة مراهقتي .لقد عشت إلى حدود الرابعة والعشرين من أنس التنديدات والوسم السكوني الثابت لألعداء عمري في بلغاريا ،ولم َ المجسدون للشر. الرأسماليين على أنهم ِّ
في الحاضر ،تثير األحزاب الشعبوية ،باستمرار ،قضية تهديد
«النزعة اإلسالمو-فاشية» كما لو أن ما يعيق حياتنا ،قبل كل شيء ،هو
المحجبات في الشارع. مصادفة النساء َّ
ريتشارد ويرلي :ماذا يوحي لكم كون الحزب الشعبوي
والمعادي لإلسالم «لغيريت ويلديزر» يسمّ ى في هولندا «الحزب من أجل الحرّ يّة»؟
تزيفتان تودوروفّ ِ : توضح هذه التسمية جيد ًا التحريف أو التشويه الذي
تعاني منه كلمة «ح ّريّة» .لكن هذه ليست المرة األولى التي يحدث فيها هذا األمر ،في القرن التاسع عشر ،كانت في فرنسا صحيفة «دريمونت- ُسمى «الكلمة الح ّرة» ،كانت ,»Drumontاللسان المناهض للسامية ،ت ّ ّ
ح ّريّته تكمن في تحقير اليهود .إن نزعة كراهية األجانب التي تر ِّوج
لها األحزاب الشعبوية نابعة من عقلية مناوئة لعقلية أوروبا .نتناسى أن
التوسع األوروبي يعزى إلى كون أوروبا احت َّلت ،طيلة قرون مقام ًا رفيع ًا ُّ كملتقى للثقافات ومكان ًا للتعايش .لقد استطاعت دولنا أن تتش َّرب المكاسب واألفكار الطليعية التي ت ََّم إنجازها في البدء ،في مكان آخر،
وبشكل جوهري في آسيا ،والتي تبقى قارّتنا ِشناخها الشامخ .إن السعي
إلى اجتثاث أوروبا وعزلها عن بقية العالم وحبسها وراء جدار يمثّل 144
محاولة لتقسيم أوروبا إلى مقاطعات. الحظ ،في فرنسا ،العمل غير المعقول هو الذي يسعى إلى منع
الطالب األجانب من العمل في هذا البلد بينما هذا العمل من الممكن
أن يكون وسيلة لتنمية اإلشعاع الدولي لفرنسا .وعلى الشاكلة نفسها، تتم ممارستها في تبقى سياسة عدد المهاجرين الواجب طردهم ،والتي ّ
فرنسا ،سياسة مدانة ومذمومة ،ألننا بهذه الطريقة لن نعامل الكائنات
البشرية كأفراد .وليس من العدل التعامل مع اإلنسان كرقم.
ريتشارد ويرلي :هل يعني هذا أن الشبيبة األوروبية تنازلت عن الديموقراطية؟
تزيفتان تودوروف :ال أعتقد ذلك مطلق ًا .ربما تعاني الديموقراطية من كونها أصبحت موضوع ًا للتوافقات :لم يعد ثمة شخص ِ ّ جد ّي ًا في يفكر ّ
الديموقراطية ،ومن ث َّم من الصعب العمل بحماسة من أجل هذه القضية.
تقدم إجابات على التحديات إن الحركة الراهنة «للساخطين» حتى لو لم ِ ّ التي نواجهها فإنها تبقى -من وجهة النظر هاته -داللة موحية وكاشفة
للس ّر بما تحمله من شعار «الديموقراطية اآلن» .وهنا تتج ّلى فكرة أوروبا
المصطدمة بالصعوبة نفسها .أن نطالب بالديموقراطية ألننا نرغب في
العيش بسالم بين األمم لم تعد فكرة مُ َع َّبأة وج ّياشة .السالم قائم هنا، يبدو أمر ًا بديهي ًا ومُ َس ّلم ًا به لألجيال الشابة التي تنتقل من بلد إلى آخر
دون أن تشعر بذلك .والحالة هذه ،فالدفاع عن فكرة الديموقراطية يمنحنا
حياة جديدة إذا َّ تذكرنا أن أوروبا تم ِ ّثل نموذج ًا ديموقراطي ًا جوهري ًا قائم ًا
على توازنات تحرص على الصالح العام وحماية الح ّريّات الفردية .من 145
الصعب تعريف وتحديد آداب السلوك ،لكن يبقى -إذا شئنا ذلك-
قاب ً ال لإلدراك بوضوح حين نالحظ أوروبا من الخارج.
ريتشارد ويرلي :تندِّ د بـ«أعداء الديموقراطية الحميمين»،
وتنتقدهم ،فأين هم أصدقاؤها؟
تزيفتان تودوروف :ليس بوسعنا االعتماد سوى على أنفسنا .إن
التجدد ،النقد الذاتي، الخالص ال يأتي من الخارج ،بل من قدرتنا على ُّ
الجرأة على العمل من جديد ،نزوعنا نحو «الكمال» كما كان يقول
جان جاك روسو ،التوق إلى المثل األعلى الذي ال ينبغي أن يلتبس َّ التقدم .إن المظفرة للبشرية على طريق مع اإليمان األعمى بالمسيرة ُّ
العلم والتكنولوجيا أدوات عون مؤ ِ ّثرة وناجعة ،لكننا نعرف أن هذه ضعت في خدمة البحث الجامح األدوات قد تنعكس سلب ًا علينا إذا ما ُو ِ
يتوخى الربح السريع .هذا ما برهنت عليه كارثة فوكوشيما الحالية الذي ّ
(انفجار مفاعل فوكوشيما النووي في اليابان) .ليست الثقة في العلم أو التكنولوجيا هي المسؤولة عن ذلك ،بل تجاهل الصالح العام .تعتمد
رفاهيتنا ،بشكل مباشر ،على اآلخرين من حولنا .إن فكرة االكتفاء
الذاتي للفرد وهم وخداع.
24/01/2012
146
«ليس ثمّ ة وجود لصراع حضارات» يس ِّلط تودوروف،في كتابه «الخوف من البرابرة :ما وراء
صدام الحضارات» ،الضوء على مفاهيم الحضارة والصراعات الحالية.
تودوروف يم ِ ّثل روح الوحدة األوروبية بين الغرب والشرق ،كما َع َّبرت
مؤسسة أمير أستورياس ،وأشادت بحكمته ،و َم َن َحته جائزتها في عن ذلك َّ
العلوم االجتماعية لهذه السنة ( .)2008وفيما يلي خالصة المقابلة التي
أجراها مع قناة «أورونيوز».
ِدت في بلغاريا ،ومنذ 45سنة وأنت قناة «أورونيوز» :وُ ل َ
تعيش في فرنسا ،وتكتب كل كتبك باللغة الفرنسية .هل تشعر بأنك استثناء ،أم أن األمر ليس كذلك؟
تزيفتان تودوروف :ال أشعر بأني استثناء ،ألنه في الواقع هناك العديد
أود أن أقول إن هناك امتياز ًا يمكن من األفراد الذين يغ ِ ّيرون بلدانهمّ .
االستفادة منه في هذا الوضع .هذا االمتياز هو امتياز النظرة عن بعد،
نظرة اإلنسان المغترب ،ألننا تربَّينا وفق تقاليد مع َّينة ،ونعتقد ،بسبب هذا األمر ،أن ما شربناه من حليب األم وما تع َّلمانه في المدرسة هو
القاعدة ومعيار الحقيقة .القدرة على الترحال وتغيير األمكنة ،القدرة على النظر إلى الذات عبر نظرة اآلخر بدل الذات ،تسمح بالتج ُّرد من
الوهم .أعتقد أن االتّحاد األوروبي يملك مزايا تتيح خلق أفضل الظروف لتحقيق هذا المثل األعلى.
147
«أورونيوز» :في كتبك ،تقترح فكرة «القوّ ة الناعمة» التي
يجب أن يجسّ دها االتحاد األوروبي .ماذا تقصد بهذا األمر؟ تزيفتان تودوروف :لست -على اإلطالق -مسالم ًا بشكل مالئكي .ال
أعتقد أننا يجب أن نتخ ّلى عن القوة العسكرية .إن االتحاد األوروبي
تحميه قوات حلف شمال األطلسي الذي تهيمن عليه حكومة الواليات المتحدة .إذا ك ّنا نرغب في أن تكون ألوروبا سياستها الخاصة فمن
أسمي هذا الطرح الواجب عليها أن تمتلك قيادة عسكرية منفصلة. ّ
«القوّة الناعمة» ،وليس المقصود من هذه األطروحة العمل على وضع أراض أجنبية ،وإنما المقصود هو أن تكون خطة ومشروع الحتالل ٍ
ضد ّ أي هجوم. أوروبا قادرة على حماية نفسها ّ
«أورونيوز» :لقد كنت مناهض ًا لقصف الناتو دولة
يوغوسالفيا سابقاً .هل إعالن االستقالل الذاتي لكوسوفو
يستتب في نظركم؟ ّ جعل النظام
تزيفتان تودوروف :لقد أصبحت كوسوفو مشكلة ،على ما يبدو لي؛ إذ من الصعب أن تتحوَّل ،بطريقة أو بأخرى ،إلى دولة معترف بها كما هو
الحال من قبل العديد من الدول األوروبية ،وذلك لكون إقليم كوسوفو هو -في الوقت نفسه -بلد ًا صغير ًا جد ًا وضعيف ًا .لقد كان في البدء ،وإلى
حد ما ،تحت إدارة حلف شمال األطلسي ،واليوم أصبح تحت عهدة ّ
االتحاد األوروبي .ال أعتقد أن هدف االتّحاد األوروبي هو الحفاظ «مارتـي على مثل هذه الجيوب في وضع «غير حكومي» .أعتقد أن ّ أهتيسآري» الذي نال جائزة نوبل للسالم لجهوده في هذا الصدد ،قد
148
وأود أن أقول إنه سيء في هذا الوضع. ّ حاول جاهد ًا إصالح ما هو ّ -بمج ّرد حدوث القصف -أصبح من الواضح أن هذين الشعبين لم يعد
بإمكانهما العيش مع ًا داخل دولة واحدة .ربما سيتع َّين علينا ،يوم ًا ما،
االعتراف أيض ًا بحق األقاليم الصربية في كوسوفو باالنضمام إلى بقية إقليم صربيا ،وفق ًا لمبدأ التطهير العرقي الذي زعموا محاربته من خالل
هذا القصف.
«أورونيوز» :كتبت أن تركيا بإمكانها االنضمام إلى االتحاد
األوروبي ألنها دولة علمانية تودّ االنضمام إلى اتّحاد
علماني ،في حين أن روسيا ال يمكنها ذلك ألنها كبيرة جد ًا من الناحية الجغرافية والكثافة السكانية .أين يجب -إذاً-
رسم حدود االتّحاد الموسَّ ع؟
تزيفتان تودوروف :ال أستطيع أن أتخ َّيل االتّحاد األوروبي كاتّحاد مفتوح على جميع األطراف .سيكون األمر في هذه الحالة عبارة عن مجتمع
جديد من األمم ،في حين أن هذا ليس هو المشروع األوروبي على
اإلطالق .وفع ً تمتد من سمولينسك إلى فالديفوستوك هي ال ،روسيا التي ّ نتخيل ،يوم ًا ما ،أنها ستكون مجموعة كبيرة جد ًا ،لدرجة ال يمكن أن ّ
جزء ًا من االتّحاد األوروبي ،على الرغم من أن الثقافة الروسية متش ّربة، بعمق ،ثقافة أوروبا الغربية نتيجة تالقي هذه الثقافات وتشابكها .ومع ذلك ،فتركيا تطرح مشكلة كون هذا البلد إذا ما أصبح جزء ًا من االتحاد
األوروبي ،فالحدود األوروبية سترتبط بإيران والعراق وسوريا .وأعتقد أن هذه الدول ( إيران ،العراق وسوريا) تتم َّيز بأنظمة سياسية وكثافة
جد مختلفة ،وبشكل كبير ،عن خصوصية االتحاد األوروبي، سكانية ّ 149
لدرجة أنه ال يمكن أن ِ ّ نفكر في القيام بتقارب مع هذه الدول .إن
يصب في مصلحة أوروبا ،هو قبل كل شيء ،التم ُّتع بحسن الجوار. ما ّ
وأفضل الجيران هي الدول القريبة -في الوقت نفسه -من أوروبا دون أن تنتمي إليها.
مؤخر ًا «الخوف من البرابرة: َّ «أورونيوز» :في كتابك الصادر ما وراء صدام الحضارات» تقول إن الخوف من البرابرة هو
ما يوشك على جعلنا نحن أنفسنا برابرة .هل مفهوم «صدام
ومؤذ؟ ٍ الحضارات» هو -بكل بساطة -مفهوم سطحي
تزيفتان تودوروف :إن مفهوم «صدام الحضارات» هو -أو ً ال -مفهوم
قابل للنقد والدحض من الناحية العلمية ،ألن الحضارات ال تتطابق يتحدث عنها مؤ ِّلفوها. مع هذه الكتل وهذه الكيانات المنغلقة التي َّ
إن الصدام ال يحدث بين الحضارات ،بل بين الدول ومجموعات من الدول .إن الصراعات التي تحتدم اليوم ليست صراعات ذات طبيعة دينية مهما جاهد البعض إليهامنا بذلك ،بل إنها صراعات ذات طبيعة
سياسية .ليس ثمة وجود لمشاكل مع اإلسالم .هناك مشاكل مع عدد من
البلدان ،ولكن ليس مع كل الدول اإلسالمية .لنتأمّل هذا المثل المعبر ِّ ّ والدال :إن البلدين الثيوقراطيين اليوم هما إيران والسعودية .فالبلد األول
هو بمثابة العدو اللدود للواليات المتحدة األميركية ،والثاني هو الصديق الحميم لها .وأخير ًا،إن «الخوف من البرابرة» هو شعور يوشك أن يجعلنا
برابرة ،ألننا بدافع الخوف نرتكب األعمال األكثر فظاعة .ذلك أني حين مهددون ،فإني سأ كون على استعداد لممارسة أعتقد أن زوجتي وأبنائي َّ
القتل والتعذيب .والحالة هذه ،إذا كانت هذه التهديدات توجد ،فقط، 150
على نحو تجريدي وفي عالم افتراضي ،فإنها ستكون بعيدة عن الواقع
وغير موجودة .ليس هناك ما يب ِّرر -على اإلطالق -منهجة التعذيب
الذي اعتمدته وكاالت االستخبارات األميركية ،وأكثر من ذلك ،الجيش األميركي ،بما أن هذا التعذيب الممنهج كان يحدث داخل القواعد
العسكرية ،بما في ذلك قواعد حلف شمال األطلسي ،حيث كان الجنود
األوروبيين يخاطرون بحياتهم من أجل أن يستم ّر التعذيب.
22-10-2008
151
حثْنا عن العدو ،فوجدنا أنه نحن» « َب َ باتريس دوميرتين :كيف كانت الشرارة األولى ،نقطة االنطالقة الدقيـقـة لكـتـابـك «أعـــــــداء الديموقراطية
الحميمون»؟
تزيفتان تودوروف :نبعت نقطة االنطالقة األولى لتأليف هذا الكتاب من
ُ انطلقت في هذا الحاجة التي أشعر بها لفهم جيد وأفضل لتاريخ قارّتنا. ّ يمثل الكتاب من فكر عصر األنوار .لقد انبهرت بفكر عصر األنوار ألنه تأسست خاللها المبادئ الكبرى التي نعيش في اللحظة التاريخية التي َّ
المخصصة للعقل والعلم، كنفها اليوم ،المثل العليا للجمهورية ،المكانة َّ
العقل الكوني .غير أن هذا الفكر تشوبه بعض الشوائب بحيث يبدو لي فكر ًا مسؤو ً ال عن اآلمال المفرطة والمنحرفة وفق ًا لفكر األنوار :نشر أنوار
المعرفة في كل مكان ،وأن نلتزم بتعاليم العقل ،وأن نبرهن على حسن َّ سنتمكن من ّ حل جميع مشاكل النية ،وإذا استطعنا القيام بذلك فإننا
االدعاء المفرط اإلنسانية والقضاء ،نهائي ًا ،على الش ّر في األرض! هذا ّ الذي َّ تقدم غير محدود، شكل نقيصة فكر عصر األنوار َ أوه َم بإمكانية َّ
وال يقاوَم .ومثل هذا األمل ال يبدو فقط فاقد ًا لألساس بل إنه في غاية
الخطورة؛ ألنه يصيب المعرفة بالتقهقر ،بعدما تش َّربتها اإلنسانية على
نطاق واسع في عصور سابقة ،فالقدرة اإلنسانية على تغيير العالم تبقى محدودة ،وهذا ما كان يقصده المسيحيون وهم يتك َّلمون عن الخطيئة األصلية.
152
هذه النظرة الطوباوية خطيرة ألنها تقود إلى بناء مشاريع
أسميه «غواية الخير» والتي تمثَّلت تج ّلياتها وهمية .تخلق هذه الرؤية ما ّ ّ
القصوى في القرن العشرين في المغامرة الشيوعية :التص ُّرف باسم الخير
يو ِ ّلد الشر .عن طريق الوعي بالبعد المأساوي في فكر األنوار ،وحضور النزعة اإلرادية التي ِ ّ تشكل ،في نهاية المطاف تح ّو ً ال حقيقي ًا لهذا العقل،
أحدد بعض أشكاله المعاصرة ،ومن جهة أخرى أردت ،من جهة ،أن ِّ
العودة إلى مصادره.
توضح هذا التصوُّ ر؟ ِّ باتريس دوميرتين :هل لك أن تزيفتان تودوروف :يمكننا االنطالق ،في هذا البحث ،من اليونان القديمة حيث التط ُّرف والغطرسة يُنظر إليهما كأسوأ انحراف للعقل البشري،
أما النقيض المتم ِ ّثل في االعتدال ،فكان بمثابة الفضيلة السياسية بامتياز .ترك لنا اإلغريق ،أيض ًا ،أسطورة بروميثيوس (المؤمنة بقدرات
يقدم خدمات لإلنسان اإلنسان) ،هذا الجبار هائل القوة الذي يريد أن ِ ّ ّ حتى يستغني عن اآللهة .لكني عثرت -بشكل خاص -على لحظة منيرة
في تاريخ اإلنسانية في وقت الحق ،في بداية القرن الرابع الميالدي، َج َريين فكريَّين في علم الالهوت بخصوص هذا حين وقع تصادم بين م ْ
الموضوع :إلى أي مدى يمكن أن نذهب في إضفاء الكمال والقداسة على اإلنسان؟ من جهة ،يفترض بيالجيوس ،هذا الراهب البريطاني
الذي جاء إلى روما ،أن الكائن البشري ،عن طريق بذله لمجهود نابع من إرادته ،يستطيع أن ينقد نفسه بنفسه .فالطبيعة البشرية ليست بكاملها
فاسدة ،بما أن اإلنسان ُخلق على صورة الله .وذلك شرط أن نبذل جهد ًا حقيقي ًا .ال شيء سيمنعنا من أن نصبح ،على صورة الله ،أحرار ًا بالكامل
153
وسادة مصيرنا .بل إن اإلنسان سيرتكب خطيئة إذا لم يتط َّلع إلى هذا
الكمال! في مقابل تصوُّر بيالجيوس ،يعتقد القديس أوغسطين ،أن
اإلنسان مصاب بقصور فطري؛ لذلك فإنه يرى في تص ٍ ّور بيالجيوس،
يمجد طموح اإلنسان إلى القداسة ،التجسيد الحقيقي للخطيئة الذي ِّ
األصلية نفسها :الغطرسة والكبرياء ،رغبة اإلنسان في معرفة الخير والشر بنفسه ،تجاهل الحدود التي فرضها الله على اإلرادة اإلنسانية .إن
خالص اإلنسان ينشأ من الطاعة واالمتثال للكنيسة ال من إرادته الح ّرة.
سيستم ّر هذا الصراع ،في أشكال مختلفة ،طوال تاريخ البشرية.
من جهة ،يدافع أنصار النزعة اإلنسانية ،المتفائلون الثوريون عن إحكام
السيطرة على مصيرنا ،ومن جهة أخرى ،يطالب المحافظون ،الخاضعون، المتواضعون بالخضوع لتعاليم الكنيسة األم ،وللسلطة الم َل َكية ،حيث
يعتقدون أنه إذا كان قدر اإلنسانية أن تنال الخير األسمى ،فهذا لن يكون
يتم الحسم بصرامة في هذا الموضوع إال خالل إال في العالم اآلخر .لم ّ عصر األنوار ،حيث ت ََّم التأ كيد أن بيالجيوس على صواب ،في حين أن
أوغسطين على خطأ .وهذه هي نقيصة عصر األنوار ...ولكن إذا كان هذا هو الرأي المشترك في ذلك الوقت ،فإن أعظم ِ ّ مفكري عصر التنوير،
في فرنسا كمونتسكيو وروسو ،ال ي َّتفقون مع هذا التصور؛ فهم يحتفظون،
بطريقة بارعة ،بجزء من تعاليم أوغسطين ،كما هو الشأن أيض ًا بجزء آخر
من تعاليم بيالجيوس .هذه الطريقة المعتدلة هي التي أسلك أنا أيض ًا في
رؤيتي لألشياء .تكمن هذه الطريقة في عدم التنازل عن القيام بأي عمل
يهدف إلى تحسين أوضاعنا ،وأ ّلا نكون جبريين ،أال نخضع ،بشكل أعمى ،للتقاليد ،مع األخذ بعين االعتبار الحدود التي يفرضها علينا
154
سيئ غير كاف الستئصال الشر وضعنا البشري :العمل على إزالة قانون ّ واالنعطاف نحو الفردوس األرضي.
باتريس دوميرتين :كيف يعقل أن الديموقراطية ما زال لها أعداء ،في حين أن النزعات الكليانية قد اختفت إلى غير
رجعة؟
تزيفتان تودوروف :ألنه بعد القضاء على األعداء الخارجيين ،و ّلدت الديموقراطية بنفسها أعدا ًء داخليين .في كتاب «نهاية التاريخ واإلنسان
األخير» ،يالحظ فرنسيس فوكوياما منذ عشرين سنة ،أنه ،منذ انهيار المثال الشيوعي لم يعد بإمكان أي نموذج آخر منافس أن يواجه
الديموقراطية ويعارضها .لكن فوكوياما لم يالحظ أن الديموقراطية أفرزت بنفسها أعداءها الجدد ،هؤالء األطفال غير الشرعيين ،األعداء
الحميمين الذين ُولدوا من اختالل التوازن الخاص بالنظام الديموقراطي.
إن الفضيلة األساسية للديموقراطية هي االعتدال بالمعنى الذي يقصده مونتسكيو ،بمعنى التحديد المتبادل لمبادئها ،أي سيطرة متط ِّرفة لمبدأ
للتقدم ،جوهر يهدد الديموقراطية .ومن ث ََّم ،فإن المثل العليا ّ على آخر ِ ّ الفكر الديموقراطي ،بمج َّرد أن تحوَّلت إلى حزب يجنح إلى فرض
أسميه نزعة هذه المثل بالقوة ،أصبحت الديموقراطية في خطر .هذا ما ّ
الخالص المسيحية العلمانية أو السياسية التي تكوَّنت منذ عصر األنوار،
وأدَّ ت ،في الماضي ،إلى حروب ثورية في أوروبا ،ثم إلى حروب استعمارية في بقية العالم.
متأخرة التوسع اإلمبريالي للمشروع الشيوعي هو صورة رمزية ِّ ُّ 155
تسمى، لهذه النزعة .واليوم ،يجد الغرب نفسه متو ِّرط ًا في حروب ّ
أحيان ًا ،الحروب اإلنسانية ،المفروض أن تجلب الخير لآلخرين :حقوق
التدخل في العراق، اإلنسان ،الديموقراطية ،االزدهار ...وهكذا حدث ُّ التدخل وهذه الحروب لم في أفغانستان ،في ليبيا ،غير أن نتائج هذا ُّ َ ترق إلى مستوى ُّ توقعاتنا .ولسبب وجيه :ليس إخضاع الشعوب هو الذي
سيجعلها تنعم بالح ّريّة ،وليس القصف هو الذي سيجعلها تعيش في «التدخل اإلنساني» السالم .هناك مفارقة أ كيدة نراها اليوم في عبارة ُّ
«التدخل العسكري» .هناك عد ّو التي أصبحت تورية تلطيفية لعبارة ُّ حميمي آخر للديموقراطية؛ الليبرالية المتط ِّرفة .تنطلق هذه اإليديولوجية
الخف ّية -التي تهيمن في وقتنا الحاضر -من مُ َس َّلمات ثابتة ال جدال تنص على أن الفرد قادر على تحقيق االكتفاء بذاته فيها ،مُ َس َّلمات ّ ولذاته ،وأن إشباع وتحقيق الحاجيات المادية ِ ّ يشكل القيمة العليا للحياة
تؤدي هذه اإليديولوجية -بالتأ كيد -إلى نتائج كليانية. البشرية .وهكذاّ ،
يتم عزل النشاط االقتصادي عن الجوانب األخرى للوجود اإلنساني، ّ ويشغل -في الوقت نفسه -مكانه مركزية تهيمن على باقي مناحي
الح ّد من نفوذ الحياة .باسم الح ّريّة الفردية ،تقلع السلطة السياسية عن َ
السلطة االقتصادية ،وتنتهك -على هذا النحو -القاعدة الذهبية التي
صاغها مونتسكيو في هذه العبارة« :كل سلطة بال حدود ،ال يمكن أن
تكون سلطة مشروعة» .حين ينفلت االقتصاد من رقابة السياسة ،فإنه
يصبح قضية خبراء منفصلين عن الوطن وبعيدين عن الصالح العام .ليس المقصود هو التخندق في الطرف اآلخر والدعوة إلى اقتصاد مُ َؤمَّم،
بل الهدف هو تج ُّنب العقبات التناظرية المد ِ ّمرة للح ّريّة ،كما هو الشأن
أيض ًا بالنسبة للنزعات التي تستهدف تدمير بعض الطبقات االجتماعية. 156
يؤدي هذا البحث الجامح عن الربح الفوري إلى في الحياة اليوميةّ ،
فقدان المعنى في الحياة وبرمجة العقول على تجريد الكائن البشري من إنسانيته.
ثمة خطر آخر ناجم عن القيم الديموقراطية؛ هو الشعبوية التي أصبحت تؤدي خياراتها ،التي ت َّتسم بقصر تتم َّتع بنفوذ متزايد في أوروبا والتي ّ
َ المق ّنعة النظر ،إلى اختيار أ كباش المحرقة وإلى تنامي نزعة كره األجانب
بشكل كبير ،في حين أن االنفتاح على العالم هو شرط ضروري لتف ُّتح البلد وتطوُّره.
باتريس دوميرتين :سيردّ عليك الشعبويون أنهم انبثاق
إلرادة الشعب ،وأنهم يجسّ دون الديموقراطية...
تزيفتان تودوروف :يدعو جميع أعداء الديموقراطية الحميمون إلى احترام المبادئ المالزمة ّ حق ًا للديموقراطية ،لكنهم ،في نهاية المطاف،
يعمدون إلى خيانة روح الديموقراطية .هكذا زعمت المسيحية السياسية
أنها ستنشر الخير في العراق ،لكن هذه المسيحية السياسية مارست تمت تزكيته وإضفاء الشرعية عليه ،حتى ال نقول التعذيب الذي َّ
ُّ تحقق الح ّريّة المؤسس .تستند الليبرالية المتط ِّرفة إلى شرط التعذيب َّ الفردية ،باعتبارها قيمة أساسية للديموقراطية ،لكنها تضع المواطن في
قبضة أصحاب النفوذ االقتصادي .ومن ث ََّم ،فإن «الشعب» الذي تزعم الشعبوية الدفاع عن مصالحه ،يجد نفسه ،أخير ًا ،ألعوبة في مناورات الديموقراطية نفسها ،لكن المقصود في هذه الحالة وبطريقة حصرية، سيد نفسه العمل على تأويل هذا المفهوم .يجب أن يكون الشعب ِ ّ 157
وصاحب الحق في تقرير مصيره ،لكن ال ينبغي أن ننسى ونتجاهل أن هذا الشعب نفسه ت ََّم التأثير عليه ،بل التالعب بقيمه ،وأن هذا االنكسار
وهذا الضعف تفاقم ،بشكل كبير ،في عصرنا الحالي بسبب انتشار وسائل اإلعالم ،وما ت َّتسم به من نفوذ وسلطة ال حدود لهما .لهذا السبب تحتمي
والح ّد المتبادل الديموقراطية بجميع أنواع اآلليات المناسبة :الفصل َ للصالحيات ،مع التشديد ،بشكل أ كبر ،على استقالل القضاء ،احترام مبادئ الدستور ،حقوق األقليات يعبر ُّ وتعدد المجالس المنتخبة .سوف ِ ّ
الشعب -في هذه الحالة -عن إرادته بشكل أفضل من خالل مم ِ ّثليه
تؤدي إلى الشعبوية. بدل العمل على انخراط الكتلة الجماهيرية التي ّ ال ِ ّتخاذ القرارت السليمة يجب على المواطن -أو ً ال -أن يكون على
يؤدي إلى استبعاد التص ُّرف على عجل تحت ب ِ َّينة من أمره ،الشيء الذي ّ
متعددة مذهلةّ ِ . تركز الشعبوية، تأثير العاطفة التي قد تؤ ِ ّثر فيها وقائع ِّ
بشكل مفرط ،على الحاضر ،متجاهلة أنه من الالزم ،أحيان ًا ،ا ِ ّتخاذ
قرارات غير شعبية لضمان رفاهية األجيال القادمة .كما تغري الشعبوية
ضد األجانب السكان األصليين ،وتجاملهم بممارسة التمييز العنصري ّ توسع وإثراء البلد بأ كمله. حيث تتناسى أن المبادالت مع اآلخرين تع ِ ّزز ُّ
يجسد ضد الطلبة األجانب خير مثال تبقى اإلجراءات الشعبوية األخيرة ّ ِّ ضد اآلخر. العنصرية ّ باتريس دوميرتين :في خضمّ السياق الشعبوي الحالي، كيف تتصوَّ ر التعدُّ دية الثقافية؟
تزيفتان تودوروف :يجب أن ننظر إلى وضع كهذا بشكل واضح ،ألننا
نخلط -في كثير من األحيان -بين الكلمة التي تصف واقع ًا اجتماعي ًا
158
والكلمة المستخدمة لتسمية سياسة إرادوية .إذا نظرنا إلى األمر من مستوى
متعدد الثقافات ،ال وجود ألي مجتمع متجانس وصفي ،كل مجتمع هو ِّ تمام ًا .الثقافة هي مجموعة من الرموز المشتركة لجماعة اجتماعية .ال َّ تتشكل الجماعة على أساس اللغة أو األصول العرقية المختلفة فقط، بل ألن األفراد -أيض ًا -ي َّتسمون بعادات وخصائص وسمات اجتماعية محددة .ي َُه َّيأ األفراد إلطار يسمى «اإلطار الثقافي» بالمعنى األنثربولوجي َّ
للمصطلح :هناك ثقافة الشباب ،وثقافة المتقاعدين ،ثقافة المقاولين،
وثقافة األطباء ،بل -أيض ًا -ثقافة المتش ِّردين الذين يتفاهمون باإلشارة،
في حين أن بعض الجماعات تجد في الغالب صعوبة في التواصل مع
التعددية الثقافية؟ يكفي القول :إنها نزعة إنسانية. هذه الفئات .ما هي ُّ إنها سمة سياسية تكمن في نقد االختالفات بين المجتمعات داخل بلد التعددية الثقافية ،التي كانت غائبة في معظم دول ما .تطوَّرت سياسات ُّ
التعددية الثقافية أوروبا ،في بريطانيا والواليات المتحدة األميركية .إن ُّ تؤد إلى نتائج حاسمة .ومع ذلك ،ثمة حقائق كاستراتيجية سياسية لم ِ ّ
أ كيدة؛ نعيش في عالم يسافر فيه الناس أ كثر من أي وقت مضى ،عالم تختلط فيه مختلف الطبقات االجتماعية .تلتقي ،في بلدك ،بأناس ال
يشبهونك .فكيف ينبغي التص ُّرف إزاء هذا الوضع؟ طبع ًا لن نعمد إلى
خلق استثناءات قانونية للمجتمعات المختلفة؛ ينبغي تطبيق القانون على الجميع بال تمييز .إن العمل على صياغة قوانين تحترم عادات ّ السكان األصليين وعادات المهاجرين يتعارض مع مبدأ المساواة ،ويض ّر
أ كثر باألقليات التي ال تنجح في تحقيق االندماج ،بمعنى أن األق ّل ّيات يجب أن تستفيد من حقوقها الكاملة في مجتمعها الجديد .بالمقابل،
ثمة العديد من مميزات وخصائص حياتنا ،ال يعود مصدرها إلى القانون؛ 159
وبناء عليه فالتسامح ،كفضيلة ديموقراطية أخرى ،هو من يجب أن ينتصر
ويتو ّلى المسؤولية .أن تقوم متاجر السوبر ماركت ببيع وجبات خاصة متعددة لزبنائها يبقى أمر ًا مقبو ً ال بشكل تام. من خالل توفير خيارات ِّ
بس ّن قوانين على الحالل أو الكاشير يبدو لي هذا أمر ًا سخيف ًا. أن نقوم َ
مخز أو شائن في أن تقوم النساء بارتداء الحجاب في ال أرى أي شيء ٍ
أثناء مرافقة أبنائهن في الرحلة المدرسية .أو أن ِ ّ يفضل بعض النساء أن
حمام السباحة. ال يشاهدهم الرجال حين يذهبن إلى ّ
باتريس دوميرتين :دون أعداء كليانيين ،إلى أين نحن ذاهبون؟ وما نوع العالم الذي نريد أن نعيش في ظالله؟
تزيفتان تودوروف :دعونا نبدأ -أو ً ال -باالبتهاج لكوننا َه َزمْنا األعداد
الكليانيين ومع ذلك ،ال ينبغي أن ينسينا هذا االنتصار األعداء الجدد
الذين يولدون من أنفسنا .إنها عبارة ستانلي كوبريك وهو يع ِ ّلق على
فيلمه «سترة معدنية كاملة :لقد بحثنا عن العدو فوجدناه أنه نحن». ي َّتفق القديس أوغسطين تمام ًا مع هذا الرأي ،وهو الذي يعتقد أن الش ّر
ليس قوة خارجة عن إرادة اإلنسان ،بل الشر كامن في أعماقه وجزء من ميوله الخاصة.
على عكس اليوتوبيات الحالمة ،سواء ذات الطبيعة الدينية
تقدم نفسها كتجسيد وذات الطبيعة السياسية ،فإن الديموقراطية ال ّ للكمال .أ كثر من ذلك ،ممارسة النقد الذاتي ِ ّ تشكل سمة مرتبطة بتعريف
الديموقراطية نفسها .لكن ال ينبغي االكتفاء ،فقط ،باألشكال الوحيدة
ّ كالحق في التصويت ،ألن هذه األشكال قد تفقد روحها، للديموقراطية، 160
وتتحوَّل إلى َص َدفة فارغة .في هذا الصدد ،فإن حركات الساخطين،
باعتبارها حركات متق ِّلبة وغير منطقية حين يقرأ المرء مشاريعهم السياسية،
تصبح حركات كاشفة للحقيقة بمج َّرد أن يالحظ المرء هذه الحركات
كأعراض وداللة على ضعف الرؤية السياسية .أن يصرخوا في الشوارع
«الديموقراطية اآلن!» بد ً ال من عبارة «تحيا الثورة» هي بدعة في قارّتنا
األوروبية .إنهم يصرخون للتعبير عن استيائهم ،عن عدم فهمهم ،وعن
متوحش ومج َّرد الخاصة وعاداته ،عالم ملبد ًا بأنظمته ّ ِّ رفضهم لعالم يبدو ّ من اإلنسانية.
باتريس دوميرتين :من هذا المنظور ،ما المكانة التي يجب
أن تحتلّها أوروبا في هذا السياق؟
تزيفتان تودوروف :بعد الصدمة الرهيبة التي أحدثتها الحرب العالمية
الثانية التي َش َّنها هتلر ،انخرطت أوروبا في سياق منظور جديد قائم على
السالم ،مع حلم بناء عالم جديد يستحيل أن تندلع فيه حرب جديدة بين األوروبيين .فيما بعد ،ولمواجهة التهديد السوفياتي والجيش األحمر الستاليني الذي كان على مشارف أوروبا الغربية ،كان من الواجب على
أوروبا أن تع ِ ّبئ قواتها المشتركة للدفاع عن نظامها السياسي .لكن ،منذ ذلك الزمن ،لم يعد الخطر الخارجي موجود ًا ،غير أن سكان أوروبا لم
يعودوا يؤمنون بفكرة اال ِ ّتحاد .أو أصبح بإمكان هذه الساكنة أن تجد هذا اال ِ ّتحاد في نموذج المجتمع الذي تميل أوروبا إلى تجسيده (والذي
يتضح لنا ،بشكل أفضل ،حين ننظر إلى أوروبا من بقاع أخرى من العالم).
161
تتم َّتع أوروبا بآداب السلوك التي أتع َّلق بها أنا شخصي ًا
بشكل كبير؛ إنها آداب سلوك منسوجة من التوازن بين الح ّريّات الفردية
والحرص على الصالح العام ،بين الوفاء للتقاليد واالنفتاح على اآلخرين،
بين التط ُّلعات الروحية والحساسيات المادية .ربما نشأت آداب السلوك
هذه من تاريخنا القديم ،من الجغرافيا المتن ِّوعة ،من التعايش العريق
الضارب في ال ِق َدم بين دول ت َّتسم بعادات ولغات وأنماط حياة مختلفة. أعتقد أن التجديد الديموقراطي سيجد مكان ًا مناسب ًا في القارة
التي شهدت هذا النوع من النظام ،قارة أوروبا ،التي تتم َّيز بمزايا تجابه
أهم ّية جغرافية ضخمة وهائلة ،دو ً بها دو ً ال بحجم قارات، ال أخرى ذات ّ َّ تمكنت مثل الصين ،الهند ،روسيا ،الواليات المتحدة ،البرازيل .إذا
أوروبا من اغتنام الفرصة السانحة أمامها إلعادة بناء الديموقراطية على
أسس متينة ،فإنها ستساهم في صقل النموذج الديموقراطي الذي يتيح
الخروج من التعارض العقيم بين مجتمع بطريركي قمعي ومجتمع ليبرالي
ومتوحش ،هذا النموذج الذي مازالت دول أخرى َت َّتبعه في بقاع متط ِّرف ِّ
أخرى من العالم .إننا نحلم ونتط َّلع إلى «ربيع أوروبي «يعقب» الربيع معنى عميق ًا على المغامرة الديموقراطية التي العربي» ،ربيع يضفي ً
بدأتها اإلنسانية منذ مئات السنين .لقد حان الوقت لسماع وتنفيذ هذا النداء الحالي« :الديموقراطية اآلن!» ألننا ،جميع ًا ،ملتزمون ومنخرطون
اليوم في المغامرة نفسها ،ومحكوم علينا -جميع ًا -إما بالنجاح أو بالفشل.
على الرغم من أن كل فرد منا يبقى عاجز ًا أمام ضخامة
متحجرة غير التحديات ،فمن األكيد أن التاريخ ال يخضع لقوانين ّ ِّ 162
قابلة للتغيير ،وأن االتّكال ال يق ِّرر المصير ،وأن المستقبل رهين اإلرادة اإلنسانية.
20/01/2012
163
جدران ُت َش ِ ّوه اإلنسان «ثمة جدار وجدار ...وطبيعة الجدار اإلسرائيلي ليست كطبيعة جدار ّ
برلين ..والحاجز المنصوب بين المكسيك والواليات المتحدة يخضع لمنطق آخر .تكمن النقطة المشتركة بين هذه الحواجز في إقامة جدار صد الخوف من اآلخرين». منيع ّ يتوخى ّ
منذ سقوط جدار برلين سنة ،1989ظهرت العديد من
الجدران في شتّى بقاع العالم بهدف الفصل بين الشعوب، البعض من هذه الجدران تَمَّ بناؤه ،والبعض اآلخر قيد
التشييد .هل تم ِّثل هذه الجدران -بطريقة أو بأخرى -هذا «الخوف من البرابرة» الذي وَ سَ مْ تُم به كتابكم األخير؟
تزيفتان تودوروف :في الواقع ،لست على يقين من مدى مصداقية وجدوى توحيد مجمل األسئلة التي تثيرها إقامة العديد من الجدران،
هنا وهناك ،للفصل بين مختلف الشعوب.
جد متنوعة .فجدار برلين الهوية المادية للمسألة تخفي وظائف ّ
-حتى يكون هو أ ُول ما نبدأ به -ينتمي إلى فئة نادرة من الجدران.
ففي الوقت الذي ُش ِ ّيدت فيه العديد من الجدران األخرى لمنع دخول األجانب إلى البلد ،ت ََّم بناء جدار برلين -خصوص ًا -لمنع المواطنين من
السفر إلى الخارج .لقد كان هذا الجدار بمثابة التج ّلي المادي القائم
164
للستار الحديدي .إنه سجن أقامته الحكومات الشيوعية لشعوبها حتى ال َّ ّ السكان ،بل تتمكن من الهرب .لم يكن ذلك الجدار يهدف إلى حماية
إلى محاصرتهم وسجنهم في فضاء محدود.
تقدم مثا ً ال واضح ًا للجدران هناك فئة أخرى من الجدران ِ ّ
الحديدية التي تفصل بين بلدان كانت في حالة حرب .ذلك هو حال
الجدار الذي يفصل بين الكوريَّتين ،أو بين الهند وباكستان في كشمير،
أو في قبرص بين األجزاء اليونانية والتركية .ورغم أن الحرب انتهت ،إال أن السالم لم يحلّ بعد بين األطراف المتناحرة ،لهذا نرى أن كل طرف يتمترس خلف حاجزه المنيع.
أال تم ِّثل -على الرغم من كل هذا -جميع الجدران األخرى الخوف من البربري؟ أو باألحرى الخوف من اآلخر؟
تزيفتان تودوروف :في الواقع ،إن أ كثر الجدران انتشار ًا هي تلك يتم بناؤها بهدف تحقيق األمن .لقد لعبت هذه الجدران الجدران التي ّ
األهم ّية في الماضي البعيد ،في تلك المرحلة التي كان دور ًا في منتهى ّ مهمة بالغة الصعوبة .ويبقى خير مثال فيها اإلقدام على تدمير أي جدار ّ
على هذه الجدران ،جدار هادريان الذي ت ََّم تشييده لحماية اإلمبراطورية
الرومانية ،أو سور الصين العظيم ،أو تلك الحصون المنيعة المش َّيدة حول
المدن في القرون الوسطى .لقد كانت الغاية من هذه الجدران الدفاعات أدى إلى التخلي التقدم التقني لصناعة العسكرية ،غير أن المتفجرات ّ ُّ ِّ
المتفجرات التي أفقدتها الفعالية والنجاعة. عنها ،تدريجي ًا ،بسبب ِّ
َس َم ْ ت ظهر نوع جديد من الجدران ،في العقود األخيرة ،و َ 165
-بشكل خاص -عصرنا :إنه الجدار المناهض للمهاجرين الذي يكمن
دوره في منع الفقراء من دخول الدول الغنية لكسب لقمة العيش والحياة الكريمة ،إنه الجدار األ كثر إثارة ،ألنه جدار قائم بين الواليات المتحدة
والمكسيك ،ويفصل القارة إلى جزأين .هناك أيض ًا وبصورة دقيقة الحاجز
المنصوب لتسييج إسبانيا من جهة شمال إفريقيا ،وبالضبط ،في سبتة
ومليلية .وتنضاف لهذه الصورة جدران أخرى بنيت -بشكل خاص- لدواع عسكرية (كما هو الحال في المنطقة الخضراء لحماية رقعة مع َّينة ٍ
في بغداد) أو -أيض ًا -بدافع الخوف من مجاورة األحياء الفقيرة سيئة
ُنصب لحماية السمعة ،كما هو الشأن في بادوفا .هناك أخير ًا أسيجة ت َ
بعض اإلقامات الفاخرة ،وهي فئة مثيرة لالهتمام :إنها معازل ذهبية اختار ّ سكانها ،بطيبة خاطر ،التخندق داخلها. لماذا لم تذكر الجدار الذي يتحدَّ ث عنه الجميع في غالب
األحيان ،الجدار الذي أنشأته إسرائيل في الضفة الغربية؟
يؤديه من تزيفتان تودوروف :ألن هذا الجدار ال مثيل له ،وذلك لما ّ
وظائف عديدة ومختلفة في آن واحد .بالطبع يأسف المرء لعدم إيجاد أية وسيلة لتجاوز الصراع ...لكن من المالحظ أنه منذ بناء هذا الجدار
انخفضت هجمات المقاتلين الفلسطينيين بنسبة 80في المئة .ومع ذلك،
يتم بناء هذا فهذا الجدار ليس منوط ًا بهذا األمر فقط .في الواقع ،لم ّ يسمى«الخط األخضر» ،بل ُب ِني الجدار على الحدود بين بلدين أو ما ّ
على األراضي الفلسطينية باالعتداء عليها أحيان ًابعشرات األمتار ،وفي
أحيان أخرى بعشرات الكيلومترات .وبهذا أصبح هذا الجدار الصلد
والعازل يم ِ ّثل الحدود السابقة (لم يعد بإمكان الفلسطينيين الذهاب 166
ضم إلى أراضيهم في الطرف اآلخر) .أما وظيفته الثانية فتكمن في ّ
أجزاء جديدة من األراضي الفلسطينية .وهذه ليست آخر وظائفه ،فالغاية من بناء هذا الجدار لها عالقة وثيقة بسياسة احتالل األراضي والتي المخصصة ،ومن خالل الفصل تتوخى -عن طريق شبكة من الطرق ّ َّ
ضم المستوطنات الموجودة داخل فلسطين في إسرائيل. والمراقبة - ّ ّ المتبقية من األراضي الفلسطينية التي يجد أما في المناطق المختلفة ّ مشقة كبيرة للتواصل بينهم ،فقد غدت أوضاعهم شبيهة السكان داخلها
باألوضاع التي كانت قائمة في البانتوستانات زمن الميز العنصري في
جنوب إفريقيا (نظام األبرتهايد العنصري).
وهكذا ،فالجدار الذي كان الهدف منه تحقيق األمن والحماية
أضحى -بالنسبة لحياة الفلسطينيين -جدار ًا للخنق والسجن .فض ً ال عن
هذا ،فالجدار له وظيفة سياسية :جعل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة
وقابلة للحياة إلى جنب إسرائيل أمر ًا غير قابل للتحقيق.
أي جدار -في غالب األحيان -الجزء المادي لجدران يُعَ دّ ّ
أقل إثارة (الحدود على سبيل المثال) ،وقد يُعَ دّ جدار ًا ّ افتراضياً ،ومن هذا المنظور إن الجدار المقام في مناطق الطوق اإلسبانية في سبتة ومليلية هو نقطة تثبيت ،أو ما
يسمّ يه سكان أوروبا الشرقية «جدار شينغين» ،جهاز مراقبة
الهجرة إلى أوروبا .أال تلعب الجدران االفتراضية دور ًا بالغ األهمية كما هو شأن الجدران المرئية؟
تزيفتان تودوروف :تم ِ ّثل الجدران غير المرئية حدود ًا غير قابلة للعبور،
المبنية من الطوب أو الحجارة وفعالية من الجدران إنها أكثر نجاعة ّ ّ 167
أو الفوالذ؛ تلك كانت حالة جدار برلين مع الكتلة السوفيتية قبل سنة ،1989لم يكن جدار برلين سوى جزء من الستار الحديدي الذي لم سد ًا منيع ًا بسبب التسريبات التي كانت داخله .كنت أعيش في يكن ّ
ذلك الوقت في بلغاريا (إلى حدود سنة ،)1963لم يكن بمقدور أي
تتردد في مواطن اجتياز الجدار دون ترخيص .لقد كانت الدوريّات ال ّ إطالق النار .كانت األخبار والمعلومات الوافدة من الجهة األخرى مراقبة .لم يكن بمقدور المرء إجراء مكالمة هاتفية إلى للخارج ،ولم
تكن قراءة الصحف الغربية أمر ًا متاح ًا ،باستثناء الشيوعية منها ،أما
ّ يتم التشويش عليها في بلغاريا .أما محطات اإلذاعات الغربية فكان ّ
الجدران الصغيرة التي تحيط بسبتة ومليلية فلها نتائج من خالل وسائل
يحد بلدك البحر؟ الشأن نفسه مع أخرى.ما الهدف من إقامة حاجز حين ّ
الواليات المتحدة األميركية التي ال تضاعف حدودها عبر إقامة جدار، َّ مرشحي همة تثبطان ّ ما دامت منطقة الريوغراندي وصحراء أريزونا ّ
الهجرة .أصبح األفارقة الذين يسعون لاللتحاق بأوروبا ي ّتخذون من
ّ وللح ّد من ّلية :جزر الكناري ،مالطا والمبيدوزا. الجزر َ محطات عبور أو ّ
الهجرة ،باإلضافة لهذه الحواجز ،أصبح األوروبيون يستثمرون في أجهزة المراقبة والطائرات والبواخر المزوَّدة بالرادارات وكاشفات األشعة ما
فوق الحمراء .حتى إجراءات التفتيش المعتمدة بمطار رواسي تساهم هي األخرى في هذا الجدار االفتراضي .وفي حال تنامي الهجرة بشكل كبير ،من الجهة الشرقية ألوروبا ،عبر تركيا وأوكرانيا وبيالروسيا حيث ال
وجود لبحار فاصلة ،فإني ال أستبعد إقامة جدران فعلية مزوَّدة بأسالك شائكة.
168
أليس من الغريب اإلقدام على إقامة هذه الجدران الفعلية واالفتراضية ،في حين أننا نعيش ،بامتياز ،زمن «العولمة»؟
تزيفتان تودوروف :من بين كل الجدران التي ذكرنا ،هناك فئة من تسم -بشكل حصري -عصرنا الحديث :الجدران المناهضة الجدران ِ متأصل بشكل جوهري في العولمة، للمهاجرين .وهذا النوع من الجدران ِّ
المالي وذلك ما يشكل تناقض ًا في طبيعتها .في الماضي لم يكن الفالح ّ (نسبة إلى مالي) يرغب في الهجرة إلى باريس ،وفالح الهندوراس
لم يكن يحلم باإلقامة في لوس أنجلس .لم يكن في علمهم وجود
هذه األمكنة .كان لزام ًا علينا انتظار حدوث هذا الترابط في العالقات الحالية ،بشكل مذهل ،بين مختلف أطراف العالم ليظهر هذا الحلم.
ُص َّنع في الشمال تتجوَّل بح ّريّة في وقتنا الحالي أصبحت المواد التي ت َ
في الجنوب ،وبشكل أ كثر كثافة ،أيض ًا ،المعلومات والصور .أعتقد أن رد فعل األغنياء إزاء تداعيات إقامة الجدران المناهضة للمهاجرين هو ّ العولمة على الفقراء .إن ر َّد الفعل هذا أو الشعور الجديد المتم ِ ّثل في
«الخوف من البرابرة» ألمر مؤسف حق ًا .إنه خوف فاقد للفعالية من
يتصدى لإلثارة دون االهتمام باألسباب .والحالة هذه ،فإن حيث كونه ّ
األسباب واضحة؛ إنما الفرق في المكافأة عن العمل بين الجنوب والشمال ،والذي يمتد من 1إلى ،10أو من 1إلى .100وما لم
تتم تسوية هذه الوضعية ،سيستم ّر الفقراء بش ّتى الوسائل ،في محاولة ّ
التوافد إلى مناطق األغنياء ،ألن ذلك هو سبيل خالصهم الوحيد .إن
مستعدون لركوب كل المخاطر ،كالمشي ألسابيع في هؤالء المهاجرين ّ
الصحراء الملتهبة ،أو البقاء أليام وأيام واألمواج تتقاذفهم داخل قوارب
169
متهالكة ...الس َّيما وأنهم يقحمون معادلة الشرف في هذه القضية ،ألنهم
يشعرون بثقل المسؤولية في إيجاد غذاء لزوجاتهم وأبنائهم في بالدهم.
حين ال ينجحون في طريقة ما فإنهم يج ِّربون طريقة أخرى قد تكون على
مستوى ٍ عال من الخطورة بالنسبة لهم ولنا ،نحن -األوروبيين .وفي نهاية
المطاف ينتج عن هذا الوضع شعور بالضغينة .لهذا السبب يتع َّين علينا
أن نبذل قصارى جهدنا لتحسين مستوى المعيشة في بالدهم ألن ذلك من صميم مصلحتنا؛ شئنا ذلك أم أبينا ،فنحن نعيش في عالم واحد .لن
يكون األمر سه ً ال (ألن الفساد والرشوة تسود النخب القيادية في الدول
ّ المهدرة في الفقيرة) ،لكن نبل المحاولة يستحق كل العناء .إن األموال ُ مراقبة الحدود وبناء الجدران يمكن استثمارها في الشراكة مع البلدان
الفقيرة .فض ً ال عن هذا يجب أن نغ ِ ّير طابع عالقتنا مع األجانب .فلو
أن هؤالء المهاجرين كانوا أحرار ًا في ُّ تنقالتهم لكان بوسعهم العودة،
يقدموا خدمات باستمرار ،إلى بلدانهم األصلية؛ وبهذه الطريقة يمكن أن ِ ّ تحصلوا عليها في أقطار أخرى .أما لبلدانهم بما تع َّلموا من معارف َّ
يهددوا وجودنا على قيد الحياة .إن الهوية الثقافية، الباقون بيننا فلن ِ ّ لشعب ما ،غير ثابتة ،وحدها الحضارات الميتة هي التي ال تتغ َّير .وإن
ماسة إلسهامات جماعات بشرية أ كثر أوروبا اآليلة للشيخوخة في حاجة ّ
شباب ًا وحيوية.
هام في إطار الشراكة مع اآلخرين، من الواجب القيام بعمل ّ
سواء حينما يكونون في بلدانهم أو في حال وجودههم بيننا عن طريق اإلدماج ،ألن العولمة حركة في اتجاه واحد ،وال رجوع فيها .فض ً ال عن
هذا ،يجب االنخراط في عمل مشترك على مستوى االتحاد األوروبي 170
المتشددة حتى ال تنقاد الشعوب األوروبية ،وتخضع لألصوات اليمينية ِّ يهم فرنسا التي تسعى إلى إقامة وزارة والمتعالية هنا وهناك .فاألمر ّ تتوخى تحويل الكرم والضيافة عجيبة للهوية الوطنية ،وتشريعاتها التي ّ إلى جريمة.
حين نقرأ التاريخ الضارب في القِ دَ م ،ندرك أن مصير الجدران هو السقوط ،مثلما كان الشأن مع جدار برلين،
وندرك أيض ًا أنه بإمكاننا االلتفاف والتحايل على هذه خط ماجينو ،وكذلك ّ الجدران مثلما كان الشأن مع
باإلمكان أن تفقد الجدران علّة وجودها كما حصل مع سور الصين العظيم .هل ترون في مآل هذه الجدران باعث ًا على
التفاؤل حيال الجدران الحالية؟
تزيفتان تودوروف :أن يدرك المرء مآل سقوط جميع الجدران ال ِ ّ يشكل إال قدر ًا صغير ًا من العزاء للذين يعانون تحت وطأتها اليوم .يجب أن
نأخذ في الحسبان مدى تأثير هذه الجدران على حياة اإلنسان وهو َح ّي،
وال على مستوى التاريخ أو بدرجة ّ أقل ،فيما يتع َّلق بتآ كلها الطبيعي.
لقد سقط جدار برلين أربعين عام ًا بعد تطويق االتحاد السوفياتي لمناطق
نفوذه بعد الحرب العالمية الثانية .أربعون سنة من االختناق وضيق األنفاس داخل سجن مفتوح ،في الوقت الذي ال يملك فيه اإلنسان سوى حياة واحدة .ليس بمقدورنا أن نتغاضى عن وجود السجن ،ونحيا
سيما بالنسبة لنا ،نحن الذين كنا نرزح تحت وطأة بانتظار التغيير ،ال ّ
الوضع ،وينتابنا الشعور بأن األمر سيدوم لقرون .هذا ويجب أن نأخذ في الحسبان أن النشأة داخل الجدران تش ِّوه اإلنسان من الداخل ،فينتهي به 171
المطاف إلى نسيان أن هناك حياة خارج السجن .وفي أحسن األحوال يتأجج داخل المرء المطوَّق بالجدران شعور بالكراهية يد ِ ّمر الذات، َّ
الشيء الذي يجعل اإلنسان يفقد القدرة على تمييز األلوان ،فال يرى من حوله سوى األبيض واألسود؛ ولذلك ليس هناك ما يدعو لالطمئنان
فالجدران ،حتى لو تحوَّلت إلى أنقاض ،تبقى َح ّية أ كثر من حياة البشر.
ترمز جميع الجدران التي ذكرنا -سواء أ كانت جدران ًا حقيقية أم كانت افتراضية -إلى الخوف من اآلخر .أليس
هذا األمر قضية إنسانية بحتة؟ ثم هل يكمن قدر اإلنسانية
في تشييد الجدران؟
تزيفتان تودوروف :يكمن جوهر الجماعات البشرية والحيوانات الراقية في القدرة على إقامة عالقات مع مجموعات غريبة عنها تكون من جنسها نفسه .يبقى الخوف هو ر َّد فعل ممكن في هذه الظروف ،ولكنه ليس
ر َّد الفعل الوحيد .فحين تنسج جماعة بشرية روابط مع جماعة أخرى، ويحدث أن تتضارب مصالحهما فإن خيار االنفصال أو الهروب أو إقامة
جدار فاصل هو الحلّ الممكن .بوسعهم أيض ًا -وهذا أمر رهيب حق ًا أن يشعلوا فتيل حرب تد ِ ّمر الخصم ،أو تفرض عليه الخضوع (فرضعالقة تراتبية بالقوة كفيلة بإيقاف الحرب) .ولكن ،وعلى ضوء تضارب
المصالح ،يمكن للطرفين االنخراط في عملية مفاوضات؛ وهذا يتطلب تنازالت من الجانبين .يكتسي التفاوض أشكا ً ال عديدة هدفها النهائي تج ُّنب القطيعة والحرب والخضوع .بدل الخوف من اآلخر يجب
التش ُّبث بالتفاوض ألنه جوهر النوع البشري؛ وذلك لكونه يحثّنا على الحوار واألخذ بعين االعتبار البعد الزمني ،الماضي كما المستقبل .وهذا 172
تسميه المؤ ِّرخة وعالمة اإليثنولوجيا الفرنسية الشهيرة جيرمان تيللو ما ّ
«سياسة المحاورة» ،وهو األمر نفسه الذي يدافع عنه الرئيس األميركي
الحالي باراك أوباما الذي نأمل أن تتطابق تصريحاته مع أقواله.
24/09/2009
173
صدر يف سلسلة كتاب الدوحة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38
174
طبائع االستبداد برقوق نيسان األمئة األربعة الفصول األربعة اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم رشوط النهضة صالح جاهني -أمري شعراء العامية نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ الغربال اإلسالم بني العلم واملدنية أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته • فتنة الحكاية جون أيديك -سينثيا أوزيك -جيل ماكوركل -باتريشيا هامبل امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع الشيخان ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية يوميات نائب يف األرياف عبقرية عمر عبقرية الصدّيق رحلتان إىل اليابان لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) ثورة األدب يف مديح الحدود الكتابات السياسية نحو فكر مغاير تاريخ علم األدب عبقرية خالد أصوات الضمري مرايا يحيى حقي عبقرية محمد عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني) مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) عن َ سريت ابن بطوطة وابن خلدون حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل محمد إقبال -مختارات شعرية
عبد الرحمن الكواكبي غسان كنفاين سليامن فياض عمر فاخوري عيل عبدالرازق نبي مالك بن ّ محمد بغدادي أبو القاسم الشايب سالمة موىس ميخائيل نعيمة الشيخ محمد عبده بدر شاكر السياب ترجمة :غادة حلواين الطاهر الحداد طه حسني محمود درويش توفيق الحكيم عباس محمود العقاد عباس محمود العقاد عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ ميخائيل الصقال د .محمد حسني هيكل ريجيس دوبريه اإلمام محمد عبده عبد الكبري الخطيبي روحي الخالدي عباس محمود العقاد خمسون قصيدة من الشعر العاملي يحيى حقي عباس محمود العقاد حوار أجراه محمد الداهي ترجمة :رشف الدين شكري خالد النجار ترجمة :مصطفى صفوان د.بنسامل حِ ّميش ابن طفيل ميشال سار محمد إقبال