برقوق نيسان و قصص أخرى غسان كنفاني كتاب الدوحة

Page 1


‫غسان كنفاني‬

‫برقوق نيسان‬ ‫القميص املسروق‬ ‫وقصص أخرى‬

‫درا�سة‪ :‬د‪ .‬في�صل دراج‬


‫‪2‬‬

‫غ�سان كنفاين‬

‫برقوق‬

‫نيسان ( رواية )‬

‫القميص املسروق‬

‫وقصص أخرى‬

‫النا�رش‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬ ‫�إخراج وتنفيذ ‪ :‬الق�سم الفني ‪ -‬جملة الدوحة‬ ‫لوحة الغالف ‪ :‬ر�سم على جدار يف خميم برج الرباجنه‬


‫فهرس الكتاب‬

‫تقدمي‬

‫‪6‬‬

‫برقوق ني�سان‬

‫‪10‬‬

‫القمي�ص امل�رسوق وق�ص�ص �أخرى ‪:‬‬

‫‪31‬‬

‫القمي�ص امل�رسوق‬

‫‪36‬‬

‫�إىل �أن نعود‬

‫‪42‬‬

‫املدفع‬

‫‪48‬‬

‫قرار موجز‬

‫‪53‬‬

‫ال�صغري يذهب �إىل املخيم‬ ‫غ�سان ‪ ..‬ال�شخ�ص والن�ص ‪:‬‬ ‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬ ‫العار الفل�سطيني يف رواية الكاتب‬

‫‪63‬‬ ‫‪85‬‬


‫ملاذا تكون باقة الزهر‬ ‫�أكرث براءة من �صحن الكنافة؟‬ ‫«مل �أحب له غري برقوق ني�سان»‪.‬‬ ‫قالت على الهاتف‪ ،‬ومتنت يل ليلة طيبة لتنام يف بيتها‪ ،‬بينما كنت �أعاين‬ ‫الأرق يف بيتي‪ .‬قمت �إىل املكتبة و�أخرجت جملد الروايات من بني �أعمال‬ ‫غ�سان كنفاين‪ ،‬لأطعم �أرقي تلك الرواية التي ر�شحتها من �أثق يف ذوقها‪.‬‬ ‫طالعت رقمي �صفحتي البداية والنهاية‪ ،‬ح�سبتها‪ :‬خم�س ًا وثالثني �صفحة‬ ‫بينها ثالث �صفحات للر�سوم!‬ ‫بدا احلجم ال�صغري حمبط ًا‪ ،‬فالرواية بحجمها النحيل ال تكفي حل�سم‬ ‫املعركة ل�صالح النوم �ضد �أرق بدا يف تلك اللحظة عفي ًا مبا يكفي لل�صمود‬ ‫حتى ال�صباح‪.‬‬ ‫رن !‬ ‫ل َ‬ ‫�أعادتني البداية التي ال تخلو من ملحة رومان�سية �إىل مفتتح «رجال‬ ‫يف ال�شم�س» من حيث �أن�سنة الأر�ض‪ .‬تبد�أ «رجال يف ال�شم�س» هكذا‪�« :‬أراح‬ ‫الندي‪ ،‬فبد�أت الأر�ض تخفق من حتته‪ »....‬ومل‬ ‫�أبو قي�س �صدره فوق الرتاب‬ ‫ّ‬ ‫تبتعد بداية «برقوق ني�سان» عن هذه اللمحة الرومان�سية‪« :‬عندما جاء ني�سان‬ ‫�أخذت الأر�ض تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر وك�أنها بدن رجل �شا�سع‪ ،‬مثقب‬ ‫‪7‬‬


‫تقدمي‬

‫بالر�صا�ص‪ .‬كان احلزن وكان الفرح املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون‬ ‫الأمل‪ ،‬هكذا مات قا�سم قبل �سنة»‪.‬‬ ‫لكن الأمور ال مت�ضي بالقارئ على النحو الذي ير�سمه املفتتح‪ ،‬لأن الكاتب‬ ‫و�ضع �إ�شارة لهام�ش ي�أخذ القارئ �إىل �رسد �رسيع له مظهر الإخبار احليادي‬ ‫مثل تراجم القدماء لل�شخ�صيات‪ ،‬ي�رشح باخت�صار �سرية قا�سم من مولده يف‬ ‫قرية طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول‪�/‬سبتمرب‪� ،‬إىل ا�ست�شهاده يف‬ ‫ني�سان‪�/‬إبريل ‪ 1970‬مع �ستة فدائيني من �أ�صل جمموعة عددها �سبعة يف‬ ‫معركة مع دورية �إ�رسائيلية‪.‬‬ ‫لفل�سطينيي تلك الفرتة‪ :‬امليالد‪،‬‬ ‫بني املولد واال�ست�شهاد �سرية عادية‬ ‫ّ‬ ‫�سنوات قليلة من التعليم‪ ،‬التحول �إىل الجئ‪ ،‬النزول �إىل العمل مبكراً‪ ،‬االن�ضمام‬ ‫�إىل تنظيم فدائيني‪.‬‬ ‫يلتزم الكاتب يف الهوام�ش حياد امل�ؤرخ وكاتب الرتجمة ال�شخ�صية‪ ،‬لكن‬ ‫لي�س كل ما يريده الكاتب من قارئه يدركه‪ ،‬يتوتر التلقي عند حادث �صغري‬ ‫«يجدر تذكره» فقد تعرف �أحد الفدائيني الأ�رسى جثة قا�سم امليكانيكي من‬ ‫�أريحا‪ ،‬ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة �أباه الذي اعرتف ب�أن ولده يعي�ش‬ ‫�رشق نهر الأردن‪ ،‬ولكنه بعد �أن تفح�ص اجلثة وتعرف فيها حلم قلبه �أنكر �أن‬ ‫تكون لولده!‬ ‫هذه الطلقة ال�شعورية العارية يف الهام�ش �ستتكرر يف هوام�ش �أخرى‪ .‬وهي‬ ‫�أقرب ما تكون �إىل �رضبات همنجواي التي تبدو حيادية‪ ،‬بينما ت�ضع �أع�صاب‬ ‫الكلمات فوق جلدها‪.‬‬ ‫اخليار اللغوي‪ ،‬ال�صارم كلغة الأخبار‪ ،‬يف الهام�ش يختلف مع خيار املنت‬ ‫الأكرث عاطفية‪ ،‬و�سرنى من خالل الهام�ش جانب ًا �آخر ي�ضيء زاوية جديدة‬ ‫من الق�صة‪ ،‬ت�أنيب �أبي القا�سم لنف�سه لأنه �أنكر ولده حتى ال يتعر�ض لل�رضب‬ ‫والإهانة يف �سنه املت�أخرة‪ ،‬و�سرنى ت�أمالته‪ ،‬ت�أمالت الراوي يف الواقع عن‬ ‫�أنواع املدن يف �شبهها ب�أوالد العائلة‪ ،‬لكل منهم �شخ�صيته ومزاجه‪ ،‬قبل �أن‬ ‫تقفز �إىل ر�أ�سه �صورة رجل مثقب بالر�صا�ص‪ ،‬ت�رضج بزهر الربقوق‪ ،‬ويكاد‬ ‫املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق من حتته‪.‬‬ ‫مت�ضي الرواية الق�صرية على هذا النحو من الت�صارع والتكامل يف �آن بني‬ ‫‪8‬‬

‫املنت والهام�ش‪.‬‬ ‫وهي على ق�رصها ت�ستعري بنية �ألف ليلة وليلة‪ ،‬برهافة تكاد ال تف�صح عن‬ ‫هذا الت�أثر‪ ،‬وبينما يتناوب ال�شعر والنرث ال�رسد يف الليايل داخل منت احلكاية‪،‬‬ ‫بينما يف رواية غ�سان يقوم جدل املنازعة والتكامل بني املنت‪ ،‬بلغته ال�شعرية‪،‬‬ ‫والهام�ش‪ ،‬بلغته املحايدة التي حتمل بداخلها �شعرية املفارقة ال�صادمة‪.‬‬ ‫تتمثل الرواية كذلك بنية الليايل عرب حيلة توالد ق�صة من ق�صة‪ ،‬ا�ست�شهاد‬ ‫قي�س ي�ستدعي �أباه وهذا ي�ستدعي ا�سم «�سعاد» من خالل مونولوج عن تق�صريه‬ ‫معها‪ ،‬عندما يدخل عليها كل �شهر بيد خالية‪ ،‬مما يجعلنا نتوقعها ابنته �أو‬ ‫زوجه‪ ،‬ويتم �إرجاء التعريف بها بينما يتم الدفع بـ «طالل» املنا�ضل الذي‬ ‫�سيمنح اخلتيار خم�سة دنانري �شهرية‪ ،‬وذات يوم يخربه ب�أنه �سينقطع عنه و�أن‬ ‫التي �ستزوره يف �أريحا هي �سيدة حتمل وردة حمراء‪ ،‬وبعد ذلك يتوىل الهام�ش‬ ‫البحثي املراوغ تقدمي �سعاد التي تركت الدرا�سة يف دم�شق وعادت من �أجل‬ ‫الن�ضال‪.‬‬ ‫وال نكاد نتعرف �إىل �سعاد ونعرف وجه العالقة بينها وبني والد ال�شهيد‬ ‫الذي ر�أى �أن يجمع لها من طريقه باقة من زهر الربقوق‪ ،‬لكنه يدخل �إىل البيت‬ ‫فال يجدها‪ ،‬بل يجد قوة �إ�رسائيلية‪ ،‬ويفاج�أ اخلتيار �أبو القا�سم بالكمني داخل‬ ‫البيت واختفاء �سعاد بينما كان هناك طفل ال يكف عن البكاء‪.‬‬ ‫مل يعرف �أبو القا�سم ماذا يفعل بباقة من زهور الربقوق جمعها لها من‬ ‫الطريق حتى ال يدخل بيد خاوية هذه املرة‪ ،‬ويبد�أ ا�ستجواب عبثي للرجل‬ ‫امل�سن حول �رس حمله الزهور �إىل �سعاد و�إن كانت ع�شيقته‪.‬‬ ‫وال يرتك الكاتب الدورية الإ�رسائيلية قوة �رش م�صمتة‪ ،‬بل يحكي �أن �أحد‬ ‫�أع�ضائها �أبراهام وهو لي�س �سوى �إبراهيم املغربي‪ ،‬وكان �شقيقه قد ان�ضم‬ ‫�إىل تنظيم مغربي عمايل‪ ،‬فتم الت�ضييق على العائلة حتى مل تعد جتد مفراً من‬ ‫التعامل مع يهودي فرن�سي توىل تهريبها �إىل باري�س ومنها �إىل تل �أبيب‪ ،‬لكن‬ ‫ال�شقيق الأكرب الذي ت�سبب يف هذا النزوح عملي ًا قرر البقاء يف فرن�سا وعدم‬ ‫الهجرة �إىل �إ�رسائيل‪.‬‬ ‫وبعد فرتة يدخل �شخ�ص جديد هو زياد يفاج�أ بهذا احل�شد ويحاول التن�صل‬ ‫من معرفة �سعاد‪ ،‬وتف�سري وجود طفله وليد ب�أن �أمه �أر�سلته ب�صحن من �صدر‬ ‫‪9‬‬


‫تقدمي‬

‫كنافة �أعدته‪ ،‬ملجرد �أنها جارتهم‪ .‬ويقول �إنه جاء قلق ًا على طفله الذي ت�أخر‪.‬‬ ‫وهذه هي رواية املنت‪ ،‬لكننا من الهام�ش �سنعرف �أن اجلار منا�ضل �شيوعي‬ ‫قدمي �أثارت �سعاد احرتامه بتمردها على �أبيها الذي يكرهه ويراه منوذج ًا‬ ‫للموظف البريوقراطي الذليل‪ .‬ونعرف �أنها كلفته ب�أن يحاول اللحاق باخلتيار‬ ‫(�أبو القا�سم) قبل الو�صول �إىل البيت لي�أخذه �إىل طالل‪ ،‬وهناك �سيعرف باقي‬ ‫املهمات‪.‬‬ ‫ويف املنت �ستكتمل الق�صة بجلبة يثريها �أبو القا�سم و�صوت هروب طالل‬ ‫ت�سمعه الدورية الإ�رسائيلية خارج البيت‪ ،‬فيلكم �ضابطها اخلتيار ويكت�شف‬ ‫حيلته‪ ،‬لكن (زياد) يقول �إن (طالل) الذي هرب لي�س �سوى طفل �صديق ابنه‬ ‫فر هارب ًا‪.‬‬ ‫يبدو �أنه جاء لي�س�أل عنه وعندما �سمع �أ�صوات اجللبة ّ‬ ‫نحن �إذاً �أمام �شيخ حمل الزهور �إليها وطفل حمل الكنافة‪ ،‬واملحتلون ال‬ ‫ي�صدقون تربير وجودهما‪ .‬فج�أة ينخرط الكبار يف ال�ضحك‪� :‬أبو القا�سم وزياد‬ ‫وال�ضابط!‬ ‫ويطلب �أبو القا�سم من زياد �أن يقنعهم ب�إطالق �رساحه‪ ،‬ويرد زياد ب�أنه يف‬ ‫ذات الورطة‪ ،‬ويلح ال�شيخ‪:‬‬ ‫ �إنها باقة زهر يا �سيدي‪ ،‬باقة زهر فقط‪.‬‬‫ويرد زياد‪:‬‬ ‫ وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة؟‬‫ون�ستطيع �أن نقر�أ الإجابة بطريقة �أخرى‪ :‬وملاذا يكون �صحن الكنافة �أكرث‬ ‫فل�سطينية من باقة زهر؟‬ ‫بحثت يف كل املتواتر حول عدم اكتمال الرواية التي ا�ست�شهد عنها غ�سان‬ ‫يف متوز‪ /‬يوليو فلم �أجد ما ي�ؤكد �أو ينفي‪ ،‬لكنها تبدو يل مكتملة هكذا‪ ،‬لأن‬ ‫تعليق امل�صائر كلها‪� :‬سعاد‪� ،‬أبو القا�سم‪ ،‬زياد‪ ،‬وطالل‪ ،‬اليعني عدم اكتمال‬ ‫احلكاية‪ ،‬لكن يعني �أن احلكاية الفل�سطينية قابلة للتوالد على هذا النحو �إىل‬ ‫ما ال نهاية‪ ،‬متام ًا مثل حكايات �ألف ليلة‪ ،‬وبني الن�صني متعة القراءة‪ ،‬وبني‬ ‫احلكايتني فارق الواقعية امل�ؤملة يف احلكاية الفل�سطينية‪.‬‬

‫عزت القمحاوي‬ ‫‪10‬‬

‫برقوق نيسان‬ ‫‪11‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫�سنة‪ ،‬وقد دفن حيث ال يعرف �أحد‪ ،‬دون ا�سم(‪ )2‬ويبدو الآن بعيداً ك�أنه مل‬ ‫يكن طوال العمر �إال واحداً من هذه الأحالم العظيمة التي تظ ّل مع املرء‬ ‫وك�أنها جزء منه‪ ،‬وترافقه �إىل الفناء دون �أن توجد حق ًا‪ ،‬ومع ذلك ف�إنها‬ ‫قادرة على �أن تكون مثل حقيقة ما‪ ،‬يفتقدها املرء من حني �إىل �آخر‪،‬‬ ‫للتو من بني راحتيه‪.‬‬ ‫فرت ّ‬ ‫وي�شعر يف حلظة �أو �أخرى ملم�سها وك�أنها َّ‬

‫تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر‬ ‫عندما جاء ني�سان �أخذت الأر�ض‬ ‫ّ‬ ‫وك�أنها بدن رجل �شا�سع‪ ،‬مث َّقب بالر�صا�ص‪ .‬كان احلزن‪ ،‬وكان الفرح‬ ‫املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون الأمل‪ ،‬هكذا مات قا�سم‪ 1‬قبل‬ ‫(‪ )1‬كان قا�سم خليل قد ولد يف طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول من عام ‪،1940‬‬ ‫و�أ�صبح بعد �سنة واحدة االبن الأوحد يف العائلة بعد �أن مات �شقيقه الذي يكربه �سنتني �إثر �إ�صابته‬ ‫باحل�صبة‪ ،‬ومل يتمكن قا�سم من �أن يدر�س يف مدر�سة القرية �إال حوايل �سنتني‪ ،‬وقد �أ�صبح الجئ ًا‬ ‫يف ني�سان من عام ‪ ،1948‬قبل �أن يكمل العام الثامن من عمره‪ ،‬وبعد ذلك �سكن يف �أحد بيوت‬ ‫ال�صفيح يف خميم عقبة جرب قرب �أريحا مع �أبويه‪ ،‬ويف غ�ضون ذلك كان يعمل �إجرياً يف كاراج‬ ‫لل�سيارات يف �أريحا‪ ،‬ومت ّكن –حني �صار يف الع�رشين‪ -‬من �أن يطلق على نف�سه لقب ميكانيكي‪،‬‬ ‫وكانت �آماله تنح�رص يف �أن يتم ّكن ذات يوم من �أن ي�صبح ميكانيكي طائرات‪� ،‬أو على الأقل مالك ًا‬ ‫لكراجه اخلا�ص‪� ،‬إال �أنه يف اخلام�سة والع�رشين تخلى عن هذه املطامح‪ .‬كانت الأحزاب الوطنية‬ ‫يف تلك الفرتة قد تخلخلت حتت ال�رضبات املتالحقة التي وجهتها ال�سلطات الأردنية‪ ،‬وهكذا �ضاع‬ ‫�أمله يف االلتحاق باحلزب ال�شيوعي الذي كان �أحد رفقائه يف الكاراج ميتدحه �أمامه‪ ،‬فقد �ضاعت‬ ‫�أخبار ذلك الرفيق فج�أة‪ ،‬وهكذا ف ّكر يف �أن ين�شئ حزب ًا فدائي ًا بنف�سه‪ ،‬والتحق بدورة تدريب للحر�س‬ ‫تفجرت حرب ‪،1967‬‬ ‫الوطني لذلك الغر�ض‪ ،‬وحني �رشع ير�سم خطط ًا �صغرية ليبد�أ ات�صاالته ّ‬ ‫و�سمع و�سط الفو�ضى �أن الفدائيني يح�شدون �صفوفهم وراء النهر‪ ،‬فرتك والده‪ ،‬وخميم عقبة جرب‬ ‫واجته �إىل ال�سلط يف الثاين ع�رش من حزيران ‪.1967‬‬ ‫‪12‬‬

‫وكانت نابل�س‪ ،‬ذلك ال�صباح‪ ،‬منكفئة على نف�سها وك�أنها ما تزال‬ ‫نائمة‪ ،‬وقال �أبو القا�سم(‪ )3‬لنف�سه‪� :‬إن املدن مثل الرجال‪ ،‬ت�شعر باحلزن‪.‬‬ ‫�صدق‪ ،‬وتتعاطف‬ ‫تفرح وتنام‪ ،‬وتعرب عن نف�سها ب�صورة فريدة تكاد ال ُت ّ‬ ‫بغمو�ض مع الغرباء �أو تركلهم‪ ..‬بل �إن الأحياء يف املدينة مثل الأوالد‬ ‫يف العائلة‪ ،‬لكل منهم �شخ�صيته ومنزلته ومزاجه‪ ،‬فثمة �شوارع حمببة‪،‬‬ ‫و�أخرى تتقاذف العابرين فيها بفظاظة‪ ،‬و�شوارع خبيثة‪ ،‬و�أخرى‬ ‫�رصيحة‪ ،‬ولكن �أبا القا�سم كان الآن من�شغ ًال بتلك ال�صورة الغريبة التي‬ ‫(‪ )2‬يف ني�سان من عام ‪ 1970‬ن�رشت ال�صحف �أن دورية �إ�رسائيلية ا�صطدمت مبجموعة‬ ‫من الفدائيني جنوبي البحر امليت‪ ،‬وقد ا�ستمرت املعركة عدة �ساعات ا�ست�شهد فيها من �أ�صل �سبعة‬ ‫فدائيني كانوا هناك �ستة‪ ،‬ومتكن ال�سابع من الفرار‪ ،‬وقد ظ ّلت �أ�سماء جميع ال�شهداء جمهولة حيث‬ ‫تذكره‪ :‬فقد ُعر�ضت اجلثث‬ ‫ُدفنت مبعرفة ال�سلطات فح�سب‪� .‬إال �أن حادث ًا �صغرياً وقع عند ذاك يجدر ّ‬ ‫م�شوهة بحيث ا�ستحال‬ ‫على بع�ض الفدائيني الأ�رسى يف حماولة للتعرف �إليها‪ ،‬وكانت �أربع جثث ّ‬ ‫التعرف �إىل �أي منها‪ ،‬و�أبدى �أحد الأ�رسى �ش ّكه يف �أن تكون �إحدى اجلثتني الباقيتني ل�شاب يدعى‬ ‫ّ‬ ‫قا�سم‪ ،‬كان يعمل ميكانيكي ًا يف �أريحا‪ ،‬ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة والد قا�سم الذي اعرتف‬ ‫ب�أن ولده يعي�ش �رشقي النهر ولكنه بعدما تفح�ص اجلثة �أنكر �أن تكون لولده‪ ،‬وكان الت�شويه مينع‬ ‫تعرف �إىل اجل ّثة بوالد قا�سم نفى �أن تكون‬ ‫من الو�صول �إىل قرار‪ ،‬وحني ووجِ َه الفدائي الأ�سري الذي ّ‬ ‫مبنية على معرفة حميمة بال�شاب املجهول‪ ،‬وما لبث �أن تراجع عن �شهادته‪ ،‬وهكذا �أُ‬ ‫ِ‬ ‫لي‬ ‫خ‬ ‫�شكوكه ّ‬ ‫َ‬ ‫�سيتحمل بنف�سه‬ ‫أنه‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫تن�ص‬ ‫عديدة‬ ‫أوراق‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫وتعهداته‬ ‫توقيعه‬ ‫ل‬ ‫�سج‬ ‫بعدما‬ ‫العجوز‬ ‫�سبيل الرجل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�س�ؤولية �أي عمل ميكن البنه قا�سم الذي يعي�ش �رشقي النهر �أن يرتكبه �ضد �سلطات االحتالل‪.‬‬ ‫(‪ )3‬يف الواقع �إنه ي�شعر الآن ب�أنه �أكرب �سن ًا مما هو حقاً‪ ،‬ويردد لنف�سه �أن الكوارث الثالث التي‬ ‫نزلت به ينوء حتتها جبل‪ :‬فقدان قريته ونزوحه عام ‪ ،1948‬وموت �أم قا�سم بال�سل عام ‪،1953‬‬ ‫وا�ست�شهاد قا�سم قبل �سنة‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫اقتحمته ك�أنها قذفت على ر�أ�سه بحجر‪ :‬بدن الأر�ض مثل بدن رجل مث ّقب‬ ‫يت�رضج بزهر الربقوق‪ ،‬ويكاد املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق‬ ‫بالر�صا�ص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من حتته‪ ،‬وال ريب �أن قا�سم بدا كذلك بعد هنيهات من �سقوطه‪ ،‬ثم ذبلت‬ ‫بقع الدم على �سرتته اخلاكية مثلما جتفف �شم�س ال�صيف املتو ّقدة �أوراق‬ ‫اله�شة‪.‬‬ ‫الربقوق ّ‬ ‫ا�ستدار �أبو القا�سم‪ ،‬و�أخذ يت�أمل من جديد تلك البقع احلمراء املمتدة‬ ‫�أمام عينيه فوق ت ّلة �صغرية‪ ،‬ودون �أن يعرف بال�ضبط ما الذي يريده‪.‬‬ ‫املخ�ضب باالحمرار القاين‪،‬‬ ‫خطا نحو الت ّلة‪ ،‬و�أخذ يجمع باقة من الزهر‬ ‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬ ‫قال لنف�سه وهو ينحني‪« :‬منذ �سنة و�أنا �آتي ل�سعاد بك ّفني فارغتني‬ ‫(‪ )4‬ولدت �سعاد و ّقاد يف نابل�س عام ‪ ،1945‬وكان والدها موظف ًا �صغرياً يف دائرة النفو�س‬ ‫التي كانت �آنذاك تابعة حلكومة االنتداب‪ ،‬وقد ظل موظف ًا يف نف�س املرتبة والدائرة خالل هيمنة‬ ‫النظام الأردين على ال�ضفة الغربية‪ ،‬وهكذا مت ّكن من �إر�سال ابنته �سعاد �إىل جامعة دم�شق عام‬ ‫‪ ،1962‬وقد در�ست ملدة �سنة يف كلية الآداب‪� ،‬إال �أنها عادت والتحقت بق�سم العلوم ال�سيا�سية‪ ،‬وهناك‬ ‫تعرفت ب�أحد ال�شبان املتحم�سني حلزب البعث‪ ،‬وما لبث �أن �أحلقها باحلزب ولكنها مل ت�ستطع �أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫ع�ضواً منظم الوالء والن�شاط‪ ،‬وكانت هذه امل�شكلة بالذات هي التي فتحت عينيها على رغبة عميقة‬ ‫يف درا�سة امل�سائل التنظيمية يف العمل ال�سيا�سي‪ ،‬و�ساقتها هذه الدرا�سة �إىل �إلقاء نظرة درا�سية‬ ‫على احلزب ال�شيوعي‪ ،‬وعلى بنية حركة القوميني العرب التي �شعرت �آنذاك �أنها �آخذة بالتمزق حتت‬ ‫وط�أة �رصاع �سيا�سي حاد يف �صفوفها مل يكن من املمكن احلفاظ مع حدته على الوحدة التنظيمية‬ ‫للحركة لو مل تكن م�شدودة �إىل قانون �صارم للعالقات الداخلية‪ ،‬ومل يكن من املمكن معرفة ماذا‬ ‫كان �سيحدث ل�سعاد وحلما�سها ال�سيا�سي لو مل ي�صعد حزب البعث يف تلك الآونة �إىل مرتبة ال�سلطة‪،‬‬ ‫وقد كان ل�سعاد �آراء غام�ضة‪ ،‬ولكنها بالغة الت�أثري بالتغري الذي يطر�أ على الأحزاب ال�سيا�سية عموماً‪،‬‬ ‫وذات الربامج الف�ضفا�ضة والغام�ضة خ�صو�صاً‪ ،‬حني تهيمن على د ّفة ال�سلطة‪ ،‬وهكذا فقد �شهدت تلك‬ ‫احلدة‪ ،‬ولكنها مع ذلك �أبدت اهتمام ًا خا�ص ًا‬ ‫الفرتة من حياة �سعاد وقاد خمو ًال �سيا�سي ًا وحرية بالغة ّ‬ ‫مبجموعة من ال�شبان �أبدوا ت�صميمهم على �إحداث تغيري نحو الي�سار يف حركة القوميني العرب‪ ،‬وكان‬ ‫تعدها �سعاد عن مكانة النا�رصية يف امل�سرية الوطنية‬ ‫�سبب هذا االهتمام بالدرجة الأوىل درا�سة ُّ‬ ‫العربية يف تلك الفرتة‪� ،‬إال �أن االرتباط م�ضى �أبعد من ذلك‪ ،‬فقد التحقت �سعاد بالذراع الفل�سطيني‬ ‫للحركة الذي كان قد بنى تنظيم ًا فدائي ًا �صغرياً �أطلق عليه ا�سم «�شباب الث�أر» وكانت ت�شعر ب�شيء من‬ ‫خلية‬ ‫االعتزاز حني كُ لِّ َفت بالقيام بات�صال �صغري يف نابل�س �إبان عطلتها ال�صيفية‪ ،‬والعمل على بناء ّ‬ ‫هناك‪� ،‬إال �أن احلرب فج�أتها فقررت البقاء‪ ،‬وكانت القدرات التي �أظهرتها يف االت�صال ويف العمل هي‬ ‫التي �أو�صلتها يف فرتة وجيزة �إىل مرتبة قيادية يف نابل�س‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫كل �شهر‪ ،‬وال ريب �أن منظر هذه الزهور �سيبدو على الطاولة البي�ضاء‬ ‫الغ�ضة‪ ،‬وبدت له‬ ‫جمي ًال‪ ،‬ثم �إن‪ ».....‬وقد �شعر بالتعب وهو ي�ست ّل الزهور ّ‬ ‫خيل �إليه حني كان ينظر �إليها من بعيد‪ ،‬وما‬ ‫مت�سك ًا بالأر�ض مما ّ‬ ‫�أ�شد ّ‬ ‫لبثت الأفكار التي كانت حتوم على غري هدى يف ر�أ�سه �أن �أخذت ترتابط‬ ‫تذكر �أنه حني ر�أى �سعاد لأول مرة يف‬ ‫ب�صورة تبعث على الده�شة‪ ،‬فقد ّ‬ ‫�أريحا لفت نظره قر�ص �أحمر من زهر الربقوق يتوقد و�سط �شعرها الفاحم‬ ‫ال�سواد‪ ،‬و�إن ذلك بعث فيه ال�سعادة لأن طالل قال ب�أن �سيدة حتمل وردة‬ ‫حمراء �ستزوره يف �أريحا(‪ ،)5‬وحتدثه عن قا�سم‪ ،‬وقد دقت هذه ال�سيدة‬ ‫الباب يف اليوم التايل‪ ،‬وطلبت منه �أن يحدثها بالتف�صيل عما حدث له‬ ‫ا�ستد ِعي �إىل املخفر الإ�رسائيلي قبل �أ�سبوع لتعر�ض عليه جثة �أحد‬ ‫حني ُ‬ ‫(‪)6‬‬ ‫الفدائيني القتلى وحني كان يروي لها ق�صته �أخذت عيناها ال�سوداوان‬ ‫تن�ضحان دمع ًا من تلقائهما‪ ،‬وقالت له‪ :‬يا �أبا القا�سم لي�س بو�سع �أحد‬ ‫(‪ )5‬كان طالل �شاب ًا ق�صري القامة مل يبلغ الع�رشين بعد‪ ،‬ويبدو �أنه كان يتقن عبور النهر ونقل‬ ‫الر�سائل‪ ،‬ويف املا�ضي كان يزور �أبا القا�سم مرة يف ال�شهر ويعطيه ثالثة دنانري ويقول له‪« :‬قا�سم‬ ‫ي�سلم عليك» وال يزيد كلمة واحدة‪ .‬ويف �آخر مرة ر�آه قال له �إن �سيدة حتمل وردة حمراء �ستزوره‪،‬‬ ‫و�أنه لن يراه بعد‪ .‬وكانت تلك ال�سيدة هي �سعاد ذاتها‪ .‬ومنذ ذلك الوقت تولت �سعاد �إعالته‪ ،‬وكانت‬ ‫تعطيه خم�سة دنانري يف كل مطلع �شهر‪.‬‬ ‫(‪ )6‬توج�س خيفة منذ ال�صباح‪ ،‬وكان ي�شعر بثقل غام�ض يجثم على �صدره‪ ،‬وعند الظهر جاء‬ ‫�رشطيان و�أخذاه �إىل املخفر‪ ،‬و�أخذ رجل �أبر�ص‪ ،‬يلمع ك�أنه مدهون ي�س�أله عن قا�سم‪ ،‬وبعد وهلة‬ ‫عرف يف قرارة نف�سه �أن ولده قد قتل‪ ،‬ولكن الأبر�ص مل يكن قد �أ�شار �إىل ذلك بعد‪�« .‬أتعرفني كيف‬ ‫ي�سد ثقوب ال�ساقية بك ّفيه‪ .‬وظل الأبر�ص ي�س�أل‬ ‫يت�صارع الرجل مع دموعه؟ مثلما يحاول فالح �أن ّ‬ ‫ومل �أكن �أعرف مباذا كنت �أجيب» و�أخرياً �أدخلوه �إىل غرفة مرتعة برائحة املوت «وكان قا�سم‬ ‫هناك‪ ،‬ممدداً على طاولة‪ ،‬وقد نظرت �إليه حلظة واحدة فح�سب‪ ،‬ثم �أخذت �أنظر �إىل راحة يده ور�أيت‬ ‫بالقوة‪ ،‬وبعد‬ ‫فيها �إرادة رجل بطل ظل مم�سك ًا ب�سالحه حتى اللحظة الأخرية‪ ،‬ومل تفرد �أ�صابعه �إال‬ ‫ّ‬ ‫ب�شدة‪�« :‬إن قا�سم �شاب �أطول قامة‪ ،‬و�أ�شد �سمرة‪ ،‬ثم �إنه‬ ‫�أن مات‪ ،‬و�س�ألوه �إن كان يعرفه‪ ،‬نفى ذلك ّ‬ ‫�سافر �إىل الكويت وهو يعمل يف كاراج لل�سيارات هناك» و�شعر بالعار لأنه يكذب‪ ،‬ومل يكن يعرف‬ ‫أحتمل ال�سجن وال‬ ‫ملاذا كان خائف ًا �إىل هذا ّ‬ ‫احلد‪« .‬لقد �أنكرته‪ ،‬ولكنه �سيغفر يل‪ ،‬ف�أنا رجل عجوز ال � ّ‬ ‫ال�رضب‪ ،‬و�أريد �أن �أموت هنا‪ ،‬ولي�س �رشقي النهر‪� ،‬أنت تفهمني ذلك �أيتها ال�سيدة‪� ..‬ألي�س كذلك؟»‬ ‫‪15‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫�أن ميلأ مكان �أحد‪ ،‬وقد كان قا�سم بط ًال‪ ،‬وعليك �أن تكون فخوراً به‪ ،‬وقد‬ ‫فعلت �شيئ ًا ح�سن ًا حني �أنكرته لأنك �أنقذت الكثريين من رفاقه‪ .‬ال تقل‬ ‫احلقيقة لأحد‪ ،‬وخذين �أنا مكان قا�سم‪.‬‬ ‫ومنذ ذلك اليوم وهو يزورها يف نابل�س‪ ،‬ويقيم يف بيتها يوم ًا �أو‬ ‫يومني‪ ،‬وي�أخذ الدنانري اخلم�سة ويعود �إىل �أريحا (‪ )7‬وقد قال لها ذات يوم‪:‬‬ ‫حي ًا؟» وحني قالت له‪« :‬ال» �أجابها ‪«:‬هل تقبلينني‬ ‫«اخلتيار‪ ..‬هل ما زال ّ‬ ‫�أب ًا‪.‬؟» وقالت �سعاد‪« :‬يا �أبا القا�سم‪� ،‬أنت والدنا كلنا‪ ،‬لأن ال�شهيد كان‬ ‫�أخانا كلنا‪ »..‬وعندها �س�ألها عما �إذا كان ي�ستطيع �أن يفعل �شيئ ًا مفيداً‪،‬‬ ‫و�أجابته �سعاد بنربتها احلا�سمة‪« :‬ذات يوم‪ ،‬رمبا»‬ ‫وقف �أبو القا�سم م�ست�شعراً الأمل يف خا�رصته من طول االنحناء‬ ‫وكانت باقة الزهر الأحمر قد �أ�صبحت كبرية وبدت يف يده اخل�شنة �شعلة‬ ‫من اللهب‪ ،‬ووراء التلة كان بيت �سعاد ب�شبابيكه ال�صغرية يف الطابق‬ ‫يل الآن»‪ ،‬وقرر �أن يبادرها‬ ‫الثاين‪ ،‬وقال لنف�سه‪« :‬رمبا كانت تنظر �إ ّ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫باجلملة ذاتها التي بادرته بها حني زارته لأول مرة يف �أريحا‪ ،‬ومن‬ ‫ثم انطلق ناز ًال التلة �إىل الطريق‪ ،‬وم�ضى نحو منزل �سعاد‪.‬‬ ‫�آخر �شيء يذكره �أبو القا�سم من عامله القدمي كان ذلك ال�سلم الطويل‬ ‫اخل�شن الذي يو�صل �إىل بيت �سعاد‪� ،‬إال �أن الباقة احلمراء التي كانت تتو ّقد‬ ‫يف ك ّفه ظلت �أكرث ر�سوخ ًا يف ذاكرته‪ ،‬منذ هذه اللحظة‪� ،‬أكرث من �أي �شيء‬ ‫يخوله‬ ‫(‪ )7‬كانت وكالة الغوث قد قطعت �إعا�شته‪ ،‬و�سحبت منه الدفرت الأحمر الذي كان ّ‬ ‫يح�صل مدخو ًال �شهري ًا‬ ‫تناول امل�ؤن‪ ،‬وذلك لأن تقارير �شعبة التحري يف الوكالة قد �أثبتت ب�أن ابنه ِّ‬ ‫يزيد عن ع�رشة دنانري‪.‬‬ ‫(‪ )8‬دخلت البيت‪ ،‬وانتزعت الزهرة احلمراء من �شعرها وهي تقول له‪« :‬الربقوق ورد الفقراء يا‬ ‫�أبا القا�سم» وبعد هنيهة قالت له‪�« :‬أهل الق�سطل كانوا يقولون‪ :‬هذه دماء ال�شهداء تط ّل علينا»‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫�آخر‪ :‬لقد �صعد درجات ال�سلم ذلك ال�صباح دون �أن يراوده �أي �شك ب�أنه‬ ‫�سيعود فينزلها كما �صعدها‪ ،‬ويعود �إىل عامله القدمي الذي يبدو له الآن‬ ‫�أنه غادره متام ًا‪� .‬إن للرجال �أقدارهم املكتوبة منذ الأزل‪ ،‬والتي هي مثل‬ ‫�أ�سمائهم‪ ،‬تلت�صق بهم يف حلظة ال يدركون كيف جاءت‪ .‬لقد قرع الباب‬ ‫متوقع ًا وجه �سعاد مبالحمه القا�سية‪ ،‬لكن اجلميلة‪� ،‬إال �أنه فوجئ بقب�ضة‬ ‫تع�ض كتفه‪ ،‬وجتذبه بعنف �إىل الداخل‪ ،‬ثم �سمع ا�صطفاق الباب‬ ‫قوية ّ‬ ‫وراءه مثل انفجار‪.‬‬ ‫وحني ا�سرتد توازنه على املقعد الذي ُق ِذف �إليه‪� ،‬أط ّلت عليه ثالثة‬ ‫ر�شي�شات‪ ،‬ووراءها وقف جنديان و�ضابط‪ .‬وفتح �أبو القا�سم فمه دون �أن‬ ‫ينوي قول �شيء معني‪� ،‬إال �أن ال�ضابط نهره‪« :‬ه�ش»‬ ‫و�أخذ �أحد اجلنديني يف ّت�شه‪ ،‬باحث ًا يف جيوب قنبازه عن �شيء ما‪،‬‬ ‫تنبه �أبو القا�سم �إىل وجود ثالثة �أ�شخا�ص �آخرين يف الغرفة‪،‬‬ ‫وعندما ّ‬ ‫واقفني ووجوههم �إىل اجلدار‪ ،‬ويف الزاوية كان ثمة طفل يف العا�رشة‬ ‫يبكي مبا ي�شبه الهم�س‪ ،‬ومل تكن �سعاد هناك‪ ،‬وبدت �صورة والدها‬ ‫املع ّلقة على اجلدار‪ ،‬ب�شاربيه العظيمني(‪� )9‬أكرث غرابة مما كانت يف‬ ‫م�شو�ش ًا‪ ،‬غري قادر على �إعادة ترتيب ما‬ ‫�أي وقت م�ضى‪ ،‬وكان ما يزال َّ‬ ‫ب�شدة على زنده ورفع يده بعنف �إىل فوق‪.‬‬ ‫حدث‪ ،‬حني قب�ضت يد اجلندي ّ‬ ‫عندها فقط �شهد باقة الزهر الأحمر مرة �أخرى‪ ،‬وتعجب لهنيهة كيف مل‬ ‫ت�سقط من يده‪ ،‬ومل تتمزق و�سط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون‬ ‫هدف معينّ ‪ .‬ودفعه اجلندي �إىل احلائط‪ ،‬و�ساعده اجلندي الآخر يف �صلبه‬ ‫�شارب ْي والدها يف ال�صورة يبدوان خميفني‪� ،‬ضحكت برهة‪ ،‬ثم‬ ‫(‪ )9‬حني قال ل�سعاد مرة �إن‬ ‫َ‬ ‫ان�رصفت �إىل التفكري‪ ،‬و�أخرياً �س�ألته‪« :‬ماذا يحدث لل�شوارب يا �أبا القا�سم حني ي�أكل الدود ج�سد‬ ‫الرجل امليت‪.‬؟» ومنذ ذلك احلني وهو غري قادر على �رصف هذا ال�س�ؤال من ذهنه كلما ر�أى �صورة‬ ‫الأب‪ ،‬ب�شاربيه الكبريين‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫�أمام اجلدار بذراعيه املفتوحتني �إىل �أق�صى ما ي�ستطيع‪ ،‬وبهدوء �أرغمه‬ ‫ال�ضابط على فتح ك ّفه ببطء‪ ،‬وتناول الباقة بحذر مبالغ به‪ ،‬و�سحبها مبا‬ ‫ي�شبه االحتفال‬ ‫املنظم على الطاولة الرخامية(‪ )10‬ووقف يت� ّأملها حلظة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم ا�ستدار فج�أة بعنف‪:‬‬ ‫ ما هذا‪.‬؟‬‫ هذا‪.‬؟‬‫ �أجل ما هذا‪.‬؟‬‫ كما ترى‪ ،‬زهر يا �سيدي‪ ..‬برقوق ني�سان‪.‬‬‫ هه!‬‫وابت�سم ابت�سامة خبيثة ونظر من طرف عينيه �إىل اجلنديني‪ ،‬وعاد‬ ‫ي�س�أل وك�أن فرتة املزاح التي �أتاحها قد انتهت‪:‬‬ ‫ ما هذا‪.‬؟‬‫ ورد‪ ،‬زهر‪ ،‬برقوق‪ ،‬يا �سيدي‪..‬‬‫ �إنني �أ�س�ألك للمرة الأخرية‪ ..‬ما هذا‪..‬؟‬‫ومل ي�ستطع �أبو القا�سم �أن يعرف �إن كان ال�ضابط يحاول �أن يجعل‬ ‫منه �أ�ضحوكة �أم �أنه جاد حق ًا‪ ،‬واكت�سحته موجة من حرية حزينة‪ ،‬و�أخذ‬ ‫كف عن البكاء‪،‬‬ ‫ينظر حواليه حماو ًال اال�ستنجاد ب�شيء ما‪ ،‬كان الطفل قد ّ‬ ‫و�أخذ ينظر بف�ضول �إىل باقة الزهر الأحمر فيما كان وجهه يكت�سي‬ ‫وتذكر �سعاد فيما كانت الأفكار تعود �إىل الرتاكب‬ ‫مبالمح ت�شبه الده�شة‪َّ ،‬‬ ‫يف ر�أ�سه‪ ،‬وت�ساءل �إن كان يتعني عليه الآن مرة �أخرى �أن يدخل الغرفة‬ ‫الثانية وينظر �إليها ممددة على ال�رسير وراحة يدها مفرودة الأ�صابع‬ ‫وملطخة بالدم‪.‬‬ ‫بالقوة ّ‬ ‫ري اللون م�شغولة‬ ‫(‪ )10‬مرة قالت له �سعاد وهي ت�شري �إىل الطاولة‪ ،‬وكانت مغطاة ب�رش�شف �س ّك ّ‬ ‫حوا�شيه بال�صنارة‪« :‬انظر ماذا كانت تفعل �أمي طوال عمرها‪ ،‬ت�شتغل بال�صنارة وتفني عينيها كي‬ ‫تبدو طاولة �أبي حمرتمة �أمام �ضيوفه»‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫ ماذا ميكن �أن يكون هذا يا �سيدي غري زهر الربقوق الذي تف َّت َح هذا‬‫ال�صباح على قارعة الطريق‪.‬؟‬ ‫ �أنا الذي �أ�س�ألك‪.‬‬‫وه ّز �أبو القا�سم كتفيه و�سكت‪ .‬لقد �أدرك �أن الكالم مل يعد يفيد �أحداً‪،‬‬ ‫و�أن ثمة �شيئ ًا ال يفهمه يحدث بغمو�ض‪ ،‬و�أمام هذه احلرية ال ي�سعه يف‬ ‫الواقع �إال �أن ي�صمت‪� ،‬إال �أن ال�ضابط نهره‪:‬‬ ‫ ته ّز كتفيك وك�أنك بريء‪� !.‬أتريد �أن �أ�ساعدك قلي ًال‪.‬؟ من الذي �أعطاك‬‫هذه الباقة‪ ..‬وملاذا‪.‬؟‬ ‫ قطفتها عن الطريق‪ ،‬وكنت‪....‬‬‫ �أ�أنت ع�شيقها‪.‬؟‬‫ و�ضحك اجلندي‪ ،‬فيما ت�ساءل �أبو القا�سم‪:‬‬‫ا�ستغفر اهلل‪ ..‬ع�شيق من‪.‬؟‬‫ ع�شيق العفريتة التي ت�سكن هنا‪..‬‬‫ �أنا رجل عجوز يا �سيدي‪� ،‬أميكن �أن يحدث هذا‪.‬؟‬‫ �إذن ملاذا �أح�رضت الزهر‪.‬؟ من الذي �أر�سلك‪.‬؟‬‫ جئت‪...‬‬‫�إال �أن �صورة قا�سم جاءت عا�صفة مثل االرتطام‪ ،‬ووراءها جاءت‬ ‫�صورة �سعاد‪ .‬ومل يعد يعرف ماذا يتعني عليه �أن يقول‪ ،‬فيما �أخذ ينظر‬ ‫حواليه وهو �شديد االرتباك‪ ،‬حمتاراً حتت النظرات التي كان ي�س ّلطها‬ ‫عليه‪ ،‬ثم �س�أل ب�صوت �أده�شه كيف انفلت من �صدره مليئ ًا باال�ستجداء‪:‬‬ ‫ ماذا حدث ل�سعاد يا �سيدي‪.‬؟ هل هي بخري‪.‬؟‬‫ كفى متثي ًال �أيها ال�شائب‪ ،‬وقل يل ما معنى هذا‪.‬؟‬‫ونظر �أبو القا�سم �إىل حيث �أ�شار ال�ضابط‪ .‬كانت باقة الزهر الأحمر‬ ‫ملقاة فوق الطاولة‪ ،‬وبدت �أقل جما ًال مما كانت‪ ،‬و�أجاب‪:‬‬ ‫الود‪.‬؟‬ ‫ ماذا ميكن للزهر �أن يعني يا �سيدي غري ّ‬‫‪19‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫ هه!‬‫الود واالحرتام‪.‬؟‬ ‫ ا�س�أل ه�ؤالء كلهم‪� ..‬أيعني الزهر غري ّ‬‫ من الذي بعثك بالباقة‪.‬؟‬‫ �أنا الذي قطفتها‪.‬‬‫ من الذي طلب منك �أن تقطفها‪.‬؟‬‫ ال �أحد‪..‬‬‫ ما هي عالقتك ب�سعاد �إذن‪.‬؟ هل �أنت ع�شيقها‪.‬؟‬‫و�أخذ اجلندي(‪ )11‬الواقف قرب الطاولة ي�ضحك ب�صوت مكتوم‪ ،‬وقال‬ ‫(‪ )11‬كان يهودي ًا مغربي ًا ا�سمه �إبراهيم‪ ،‬ولد يف الدار البي�ضاء عام ‪ ،1945‬وكان �أبوه ميتلك‬ ‫حي �شعبي لبيع الأقم�شة وبع�ض الألب�سة اجلاهزة‪� ،‬أما �شقيقه الأكرب فقد كان‬ ‫دكان ًا �صغرياً يف ّ‬ ‫عام ًال يف م�صنع للن�سيج يقع على بعد ي�سري من املدينة‪ .‬كان الوالدان تقيني‪� ،‬إال �أن الأخ الأكرب‬ ‫يعقوب التحق بتنظيمات ال�شغيلة و�أخذ يظهر ميو ًال �شيوعية‪ ،‬وال �شك �أن ذلك َ�س َّب َب ارتباك ًا كبرياً‬ ‫يف املنزل‪ ،‬فقد كان الأب يربط ب�شدة بني ال�شيوعية وبني العالقات ال�سوفيتية امل�رصية‪ ،‬وبالنتيجة‬ ‫بني ال�شيوعية وبني احلرب الإ�رسائيلية العربية‪ ،‬ويف �أحيان كثرية كان اجلدل العنيف بني الأب‬ ‫ويعقوب يو�شك �أن ينتهي �إىل انف�صام يف العائلة التي مل تعتد على هذا النوع من التناق�ض‪،‬‬ ‫وقد و�صلت الأمور يف توترها �إىل الذروة حني �ألقى البولي�س املغربي القب�ض على يعقوب يف‬ ‫اال�ضطرابات العمالية التي وقعت يف عام ‪ ،1963‬وذاقت العائلة كلها من نتائج هذا احلادث‪،‬‬ ‫وتعر�ضت مثل عوائل العمال جميع ًا يف تلك الفرتة �إىل ت�شديد مبالغ فيه من قبل ال�سلطات التي‬ ‫واجهت الن�شاط الن�ضايل املتزايد الحتاد ال�شغيلة املغربي وللتحالف الذي ا�شتد �آنذاك بني االحتاد‬ ‫هذا وبني االحتاد الوطني لطلبة املغرب وبني عدة �أحزاب �سيا�سية تقدمية باملزيد من العمل‬ ‫القمعي‪ ،‬ويف تلك الفرتة وجد الأب يف ات�صال �أجراه معه رجل فرن�سي فر�صة للخال�ص من كل تلك‬ ‫ال�شدة‪ ،‬وقد انتظر على م�ض�ض خروج يعقوب من ال�سجن‪ ،‬فرحل مع العائلة على منت زورق �صغري‬ ‫ّ‬ ‫مع عدد �آخر من الأ�شخا�ص �إىل ال�ساحل الإ�سباين‪ ،‬ومن هناك بد�أت الرحلة الأكرب �إىل �إ�رسائيل‪� .‬إال‬ ‫�أن يعقوب قرر معانداً �أن يبقى يف فرن�سا‪ ،‬فلم تكن خطط الوكالة اليهودية ودوائر الهجرة لرتوقه‪،‬‬ ‫وهكذا م�ضى �إىل الأحياء الباري�سية التي يوجد فيها العمال املغاربة حيث وجد الكثريين من‬ ‫رفاقه القدامى‪� .‬أما �إبراهيم الذي �صار منذ تلك اللحظة �أبراهام‪ ،‬فقد و�صل يف �أواخر ‪ 1965‬مع‬ ‫عائلته �إىل ميناء حيفا‪ ،‬وكان الأب حمظوظ ًا �إذ �أ�سكن يف �ضاحية قريبة من تل �أبيب‪ ،‬وقد مت ّكن‬ ‫يف �أقل من عام �أن ي�شارك رج ًال �آخر يف ملكية دكان �صغرية لبيع الأقم�شة واملالب�س اجلاهزة‪� .‬أما‬ ‫ابراهام فقد �أ�صبح عام ًال يف معمل للن�سيج يقع غري بعيد من حيث ي�سكن‪� ،‬إال �أنه منذ حرب ‪1967‬‬ ‫ف�ضل �أن يظ ّل جندي ًا يف اجلي�ش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪20‬‬

‫�شيئ ًا مل ي�سمعه �أحد بو�ضوح‪ ،‬وعاد ف�ضحك من جديد لفرتة ق�صرية‬ ‫(‪)12‬‬ ‫و�صمت حني رمقه ال�ضابط‬ ‫ب�شدة‪� ،‬أما �أبو القا�سم فقد �شعر ب�أنه قد‬ ‫ّ‬ ‫جبارة تطبق على �صدره‪ ،‬و�أنه بحاجة �إىل �سعاد الآن‬ ‫ا�صطيد‪ ،‬وب�أن �أك ّف ًا ّ‬ ‫�أكرث من �أي وقت م�ضى‪� ..‬أترى انتهى ال�صمت‪.‬؟ �أ�صار بو�سعه �أن يقول‬ ‫امل�رضج املمدد على الطاولة يف خمفر �أريحا هو‬ ‫لهم ب�أن ذلك الفتى‬ ‫ّ‬ ‫�رساً �أكرث حاجة للكتمان مما‬ ‫ابنه قا�سم‪.‬؟ �أم �أن ذلك كله قد �أ�ضحى الآن ّ‬ ‫كان يف �أي وقت م�ضى‪.‬؟ لقد �أح�س فج�أة ب�أنه م�ؤمتن على �شيء خطري ال‬ ‫يعرف ما هو بال�ضبط‪ ،‬ورمبا كانت حياة �سعاد نف�سها‪ ،‬بل حياة ه�ؤالء‬ ‫ال�شبان الثالثة الواقفني ووجوههم �إىل احلائط‪ ،‬بل رمبا حياة ذلك الطفل‬ ‫ال�صغري �أي�ض ًا‪ .‬مع ّلقة يف كلمة واحدة قد يلفظها يف �أية حلظة دون �أن‬ ‫يدري‪� ،‬أميكن لذلك ك ّله �أن يكون حقيقي ًا‪..‬؟‬ ‫ �إنها باقة زهر يا �سيدي‪ ،‬وهي ال تعني �شيئ ًا خطرياً على الإطالق‪.‬‬‫أمر من هنا‪ :‬هذا بيت �صديقي القدمي‪ ،‬وابنته وحيدة‬ ‫قلت لنف�سي و�أنا � ّ‬ ‫فيه‪ ،‬وال ب�أ�س لو حملت لها باقة زهر!‬ ‫ ال فائدة من الكذب �أيها ال�شيخ اخلبيث‪� .‬سوف ترى بعد برهة �أن‬‫ال�صدق هو �أق�رص الطرق �إىل ال�سالمة‪� ..‬أتقول احلقيقة الآن �أم ماذا‪.‬؟ زهر‬ ‫يا �سيدي‪ ..‬زهر‪.‬‬ ‫ ه�ش‪..‬‬‫ويف اخلارج جاء ال�صوت خافت ًا يف البدء‪ ،‬ثم �أخذ يعلو �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪،‬‬ ‫كانت ثمة خطوات ت�صعد الدرج‪ ،‬و�شعر �أبو القا�سم ب�أن الأمر �آخذ يف‬ ‫التع ّقد‪ ،‬و�أن الفخ املن�صوب يف الغرفة �إمنا يتع ّلق بق�ضية �أكرث خطراً مما‬ ‫انق�ض‬ ‫يعتقد‪ ،‬وبعد برهة د ّقت يد ما خ�شب الباب‪ .‬ويف اللحظة التالية‬ ‫ّ‬ ‫اجلنديان‪ ،‬وقد فتح ال�ضابط الباب فج�أة‪ ،‬على الرجل الواقف هناك‬ ‫(‪ )12‬برتبة كابنت‪ ،‬وكان جندي ًا حمرتف ًا مع الفرقة اليهودية يف اجلي�ش الربيطاين منذ احلرب‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬وقد نال �أو�سمة عدة خلدماته يف املخابرات‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫وقذفاه �إىل الداخل‪.‬‬ ‫وامتلأت الغرفة فج�أة بجلبة غريبة‪ ،‬و�أخذ الطفل الذي كان قد ركن‬ ‫�إىل ال�صمت قبل برهة يبكي من جديد‪ ،‬بن�شيج �أكرث مرارة‪ ،‬فيما م�ضى‬ ‫اجلنديان يفت�شان الرجل بعنف و�رشا�سة ثم �ساقاه �إىل احلائط‪ ،‬و�أرغماه‬ ‫على رفع ذراعيه �إىل الأعلى ووجهه نحو اجلدار‪ ،‬وعاد اجلنديان فو�ضعا‬ ‫الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة‪ ،‬ووقفا وراء ال�ضابط‬ ‫الذي قال ب�صوت ميل�ؤه رنني االنت�صار‪:‬‬ ‫ �صيد ثمني اليوم‪ ،‬هذه امللعونة �سعاد كانت تعي�ش حتت ب�رصنا‬‫ونحن ال نعرف‪ ،‬وها هم �أفراد الع�صابة يتقاطرون �إىل بيتها واحداً‬ ‫�إثر الآخر‪� ..‬أنت‪ !.‬ما ا�سمك‪..‬؟ و�أجاب الرجل اجلديد ووجهه ما يزال �إىل‬ ‫احلائط‪� :‬إنني زياد ح�سني والد الطفل اجلال�س هنا يا �سيدي‪ ..‬جئت �أفت�ش‬ ‫عنه بعد �أن ت�أخر‪.‬‬ ‫قال ال�ضابط‪:‬‬ ‫ �إذن �أنت الذي �أر�سلته‪..‬‬‫ نعم يا �سيدي‪ ،‬خبزنا �صباح اليوم �صدراً من الكنافة‪ ،‬كعادتنا‬‫احلي بعثنا مع وليد �صحن ًا ل�سعاد‪ ..‬وعندما ت�أخر وليد جئت �أبحث‬ ‫يف ّ‬ ‫عنه‪..‬‬ ‫ولأول مرة منذ �أن دخل الغرفة �شهد �أبو القا�سم �صحن الكنافة على‬ ‫الطاولة‪ ،‬وكانت الق�رشة ال�شقراء تلمع من فرط ما �أ�شبعت قطراً‪ ،‬وت�ساءل‬ ‫بينه وبني نف�سه‪�« :‬أتراها ق�صة حقيقية‪.‬؟ �أميكن �أن يكون زياد هذا والد‬ ‫�أو �شقيق فتى ما ا�ست�شهد ذات يوم وهو ي�أتي كل �شهر ل�سعاد كي ي�أخذ‬ ‫خم�سة دنانري‪.‬؟»‬ ‫وقال ال�ضابط فج�أة‪:‬‬ ‫ ا�ستدر وانظر هنا‪..‬‬‫وا�ستدار زياد‪ ،‬فبدا وجهه �شديد ال�صفرة‪ ،‬كانت عيناه كبريتني‪ ،‬ورمبا‬ ‫‪22‬‬

‫ب�سبب حجمهما بدا خائف ًا �أكرث مما كان �صوته يوحي‪ ،‬وكان �أول ما‬ ‫فعله �أن نظر حيث كان الطفل جال�س ًا ين�شج بهدوء‪ ،‬وه ّز ر�أ�سه ه ّزة خفيفة‬ ‫متفح�ص ًا املوجودين‪ ،‬و�س�أله‬ ‫جعلت الطفل ي�صمت‪ ،‬ثم �أخذ ينظر حواليه‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضابط‪ :‬هل تعرف �أي ًا من ه�ؤالء‪.‬؟‬ ‫ ل�ست �أعرف �أحداً‪ ،‬بل �إنني �أكاد ال �أعرف �سعاد نف�سها‪ ،‬ولكن‬‫العادات يا �سيدي تقت�ضي منا �أن نر�سل مثل هذه الهدايا ال�صغرية �إىل‬ ‫جرياننا‪.‬‬ ‫و�أ�شار نحو ال�صحن‪ ،‬وافتعل ابت�سامة �سمجة‪� :‬إنني غالب ًا ما �أف�شل يف‬ ‫�صنع الكنافة‪ ،‬و�أخ�شى �أن يكون طعم هذا ال�صحن هو اجلرمية الوحيدة‬ ‫التي ارتكبتها‪ ..‬و�ضحك وحده �ضحكة �صغرية‪ ،‬ثم �صمت دون �أن يخفي‬ ‫حرجه‪ ،‬وعاد يتودد بعد حلظة‪:‬‬ ‫ هل �أ�ستطيع �أن �آخذ وليد يا �سيدي و�أذهب �إىل البيت‪.‬؟ �إن � ّأمه‬‫�ست�شعر بالقلق؟‬ ‫ ه�ش‪..‬‬‫ هل حدث �شيء ل�سعاد يا �سيدي‪.‬؟ هل �أم�سكتموها‪.‬؟‬‫ ملاذا ت�س�أل‪.‬؟‬‫ لأنها جارتنا‪..‬‬‫ ماذا تعرف عنها‪.‬؟‬‫ �إنها طالبة‪ ،‬تقيم هنا يف ال�صيف‪ ،‬ونادراً ما يزورها �أحد‪ ،‬وقد‬‫�أعطت هذه ال�سنة بع�ض الدرو�س يف «الأونروا»‬ ‫ و�أين هي الآن‪.‬؟‬‫ ل�ست �أدري يا �سيدي‪ ،‬كنت �أعتقد �أنها هنا‪ ،‬ولذلك �أر�سلت لها �صحن‬‫الكنافة‪ ..‬ماذا فعلت يا ترى‪.‬؟‬ ‫يتجول يف الغرفة وهو يف ّكر‪،‬‬ ‫ونهره ال�ضابط بحركة من يده‪ ،‬و�أخذ‬ ‫ّ‬ ‫ثم �س�أل فج�أة‪:‬‬ ‫‪23‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫ �أتعتقد �أنها �ستعود �إىل هنا‪.‬؟‬‫ من؟‬‫ �سعاد طبع ًا �أيها الغبي‪..‬‬‫ ل�ست �أدري‪ ..‬هذا بيتها على �أي حال‪ ،‬وكل �إن�سان يعود �إىل بيته‪..‬‬‫بحدة‪:‬‬ ‫وقاطعه ال�ضابط ّ‬ ‫ �إال �إذا ا�ستطاع الهرب قبل ذلك‪.‬‬‫(‪)13‬‬ ‫وخيم ال�صمت من جديد‪ ،‬فيما ظل زياد واقف ًا ينظر �إىل طفله‬ ‫بحرية‪ ،‬وفج�أة حدث �شيء غريب مل يلحظه �إال �أبو القا�سم‪ ،‬فقد التقت‬ ‫عيناه بعيني زياد‪ ،‬وملح فيهما بوم�ضة ت�شبه الربق ر�سالة ق�صرية‪ ،‬ت�شبه‬ ‫(‪)14‬‬ ‫�أن يقول املرء للآخر‪�« :‬أيها الرجل‪� ،‬إننا نعرف بع�ضنا‪ ،‬فاطمئن‪»..‬‬ ‫(‪ )13‬مل يكن زياد ح�سني يعرف �سعاد معرفة حقيقية‪ ،‬كان يعرف �أهلها ب�صورة غام�ضة‪،‬‬ ‫وكان معجب ًا بها من بعيد لكونها �أظهرت عدة مرات خالف ًا مع والدها الذي كان يحتقره ب�صورة‬ ‫ما‪ ،‬كان زياد ع�ضواً قدمي ًا يف احلزب ال�شيوعي‪ ،‬ثم ترك احلزب منذ بد�أت امل�صاعب ت�شتد يف �أوائل‬ ‫ال�ستينات‪ ،‬ولكنه مل يرتك حما�سه له‪ .‬كان �أ�ستاذاً يف املدر�سة الثانوية‪ ،‬وكان ُيع َترب من املثقفني‬ ‫الأكرث اطالع ًا يف نابل�س‪ ،‬ورمبا كان هذا بالذات ما جعل كراهيته لوالد �سعاد تقليداً قدمي ًا ال يعرف‬ ‫�سماه «�أكاكي �أكايفت�ش»‬ ‫كيف ن�ش�أ‪ ،‬وقد ظلت هذه الكراهية حتى بعد موته‪ .‬وقبل ذلك كان قد ّ‬ ‫وكان بالفعل يرى فيه جت�سيداً حقيقي ًا لبطل «غوغول» يف ق�صة «املعطف» وي�شاهد يف ت�رصفاته‬ ‫�أمنوذج ًا لذلك البريوقراطي �ضحية البريوقراطية امل�ضحك الذي ال يكف عن الن�سخ‪ ،‬ولهذا بالذات‬ ‫�أعجب ب�سعاد بالرغم من �أن �سعاد يف تلك الفرتة مل تكن لتخفي‪� ،‬ش�أنها �ش�أن �أع�ضاء حزب البعث‬ ‫و�أع�ضاء حركة القوميني العرب‪ ،‬كراهيتها لل�شيوعيني وحمالتها الدائمة عليهم‪.‬‬ ‫(‪ )14‬ال�صحيح �أن تلك النظرة مل تكن ر�سالة باملعنى احلقيقي‪ ،‬وال�صحيح �أكرث �أنها كانت ت�شبه‬ ‫�أن يقول املرء للآخر‪« :‬ها! هذا هو �أنت �إذن!» و�سببها ال ينف�صل عما حدث ليلة �أم�س‪ ،‬فعند منت�صف‬ ‫الليل قرع باب بيته ب�شدة‪ ،‬و�إذا ب�سعاد التي ال يذكر �أنها زارتهم من قبل‪ ،‬تقف هناك م�ضطربة‪،‬‬ ‫وقد �أدخلها و�أيقظ زوجته ومل ي�شعل ال�ضوء‪ ،‬وقالت له �سعاد ب�رسعة‪�« :‬أريد م�ساعدتك �أيها الرفيق‬ ‫وحارة‪ ،‬ومع ذلك قال لنف�سه‪« :‬اهلل‬ ‫زياد‪ ».‬والحظ هو كلمة «رفيق» التي ه ّزت فيه م�شاعر قدمية‬ ‫ّ‬ ‫اهلل يا زمان‪ ..‬احلركيون يقولون رفيق‪ »..‬و�أخذ �سعاد دون �أن يتكلم و�أجل�سها يف ال�صالون وم�ضت‬ ‫تقول‪« :‬لقد قب�ض الإ�رسائيليون على �إحدى الرفيقات‪ ،‬و�أخ�شى �أن تعرتف بعالقتها بي‪ .‬ال �أ�ستطيع‬ ‫الذهاب �إىل املنزل» و�أح�س ب�شيء من اخلوف‪� ..‬إال �أنها ا�ستطردت‪« :‬الق�صة هي �أنني ال �أريد �أن‬ ‫�أثري �ش ّكهم يف حال عدم اعرتاف الرفيقة‪ ،‬ولذلك ف�إنني لن �أركن �إىل الفرار �إال �إذا ت�أكدت من �أنهم‬ ‫‪24‬‬

‫و�أح�س �أبو القا�سم بكنز غام�ض ميلأ �صدره‪ ،‬و�أن عليه الآن �أن يكون �أكرث‬ ‫حذراً‪ ،‬فثمة �أمور كبرية جتري‪ ،‬وهو بال ريب يلعب فيها دوراً كبرياً دون‬ ‫�أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا‪ ،‬على �أنه تي ّقن الآن من �أن‬ ‫هذا الرجل‪ ،‬الباحث بقلق عن ابنه‪ ،‬هو الذي ينبغي �أن يقود خطواته منذ‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬وا�ستجمع �أبو القا�سم �أطراف �شجاعته وقال‪:‬‬ ‫ �أال ت�ستطيع �أن تقول لهم يا �سيدي �إنني رجل بريء‪ ،‬و�أن عليهم‬‫�إطالق �رساحي‪..‬؟‬ ‫وحدث �شيء غريب يف الغرفة‪� ،‬إذ �أخذ اجلميع ي�ضحك‪ ،‬مبا يف ذلك‬ ‫الأ�ستاذ زياد وال�ضابط‪ ..‬قال زياد‪:‬‬ ‫ ماذا حت�سبني �أيها العجوز‪.‬؟ �إنني يف و�ضع �أكرث �سوءاً من‬‫و�ضعك‪..‬‬ ‫م�رصاً‪:‬‬ ‫وقال �أبو القا�سم‬ ‫ّ‬ ‫ �إنها باقة زهر يا �سيدي‪ ..‬باقة زهر فقط‪.‬‬‫ وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة‪.‬؟‬‫ و�صاح ال�ضابط‪:‬‬‫ ه�ش‪..‬‬‫وقال زياد بلهجة �ضارعة‪ ،‬متجه ًا نحو ال�ضابط‪:‬‬ ‫اكت�شفوا كل �شيء‪ ..‬هل ت�ستطيع غداً �أن ت�ستك�شف يل البيت‪.‬؟ هل جا�ؤوا �أم �أنهم‪� »....‬أخذت نف�س ًا‬ ‫عميق ًا و�أكملت‪�« :‬أريد م�ساعدتك‪� ..‬إن امل�س�ألة مع ّقدة‪� ..‬أ�سلوبهم هو �أن يت�سللوا �إىل البيت كي يقب�ضوا‬ ‫على �أكرب عدد ممكن من املت�صلني بي‪ ،‬ال �أريدهم �أن يقب�ضوا على طالل‪ »..‬وبعد ذلك �أم�ضى زياد‬ ‫اخلطة‪ ،‬وقد اهتديا �إىل النقطة التي يكت�شفان فيها تفا�صيل ما‬ ‫و�سعاد طيلة الليل وهما ير�سمان ّ‬ ‫�سيحدث يف بيت �سعاد عن طريق �إر�سال وليد ب�صحن الكنافة منذ ال�صباح‪ ،‬ويف حال ت�أخره تنطلق‬ ‫�سعاد �رشقاً‪ ،‬وي�صبح على زياد �أن يتدبر باقي املهمات‪�« ..‬سي�أتي رجل عجوز ا�سمه �أبو القا�سم‪،‬‬ ‫�إذا �أدركته قبل الو�صول �إىل البيت دعه ي�أخذك �إىل طالل‪� ،‬إنه وحده الذي يعرف �أين يجده‪ »...‬وقد‬ ‫م�ضت �سعاد متن ّكرة باجتاه النهر بعد ربع �ساعة من غياب وليد الذي مل يكن يعرف �شيئ ًا عن‬ ‫دوره‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫ �أال �أ�ستطيع يا �سيدي �أن �آخذ ابني وليد و�أم�ضي‪.‬؟ �إن �صديقه طالل‬‫ينتظره‪..‬‬ ‫ ه�ش‪..‬‬‫وملح �أبو القا�سم مرة �أخرى تلك الر�سالة الغام�ضة توم�ض كالربق‬ ‫عيني زياد وهما تطالن عليه وك�أنهما تعربان به‪ ،‬ولكنهما كانتا‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫حتمالن ر�سالة‪ ،‬و�أبو القا�سم يعرف �أكيداً �أنهما كانتا كذلك‪� ،‬إال �أنه مل‬ ‫يكن قادراً على فهمهما‪ .‬ثمة عالقة ما بني باقة الزهر و�صحن الكنافة‪،‬‬ ‫ورمبا كان الطفل الذي ا�سمه طالل هو جزء من تلك الر�سالة الغام�ضة‪،‬‬ ‫ولكن �أبا القا�سم مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم �أولئك الأ�ساتذة �أو يتجاوب‬ ‫مع �إ�شاراتهم‪ ،‬حتى يف مواقف �أكرث طالقة من هذا املوقف‪ ،‬و�أورثه هذا‬ ‫ال�شعور غ�ضب ًا مهي�ض اجلناح‪ ،‬ف�رضب راحتيه على ركبتيه وقال‪:‬‬ ‫ ل�ست �أفهم �شيئ ًا‪ ..‬ل�ست �أفهم �شيئ ًا‪..‬‬‫ونظر �إىل زياد‪� ،‬آم ًال �أن ت�ستطيع عيناه ال�شائختان �أن تر�سال �شيئ ًا‬ ‫�إىل الرجل الواقف هناك‪ ،‬فيما �أخذ ال�ضابط واجلنديان ينظران بف�ضول‬ ‫�إىل الرجل العجوز وهو يوا�صل �رضب راحتيه على ركبتيه‪ ،‬و�أخرياً قال‬ ‫ال�ضابط‪:‬‬ ‫ «�إن ق�صتك مل تنته �أيها ال�شيخ اخلبيث‪ ،‬بل �إنها مل تكد تبد�أ‪ ،‬ف�أح�سن‬‫لك �أن تلتزم ال�صمت‪� ،‬أما �أنت ف�سوف تظل معهم‪� ..‬إن كل من ي�أتي �إىل هذا‬ ‫البيت‪ ،‬طوال اليوم والأيام القادمة‪ ،‬هو متهم بال�رضورة‪ ،‬التحقيق �سينظر‬ ‫يف �أمر �إطالق �رساحكم �أو اعتقالكم‪ ،‬والآن ال �أريد �أن �أ�سمع �صوت ًا‪»..‬‬ ‫و�صاح زياد‪:‬‬ ‫ �أال ن�ستطيع �أن نر�سل كلمة �إىل �أهالينا‪.‬؟‬‫ قلت لكم �أن ت�صمتوا‪..‬‬‫ �أال ت�ستطيع �أن تقول لنا ملاذا نحن هنا‪.‬؟ ماذا فعلت �سعاد‪.‬؟‬‫ هذا لي�س من �ش�أين‪� ،‬ستعرفون كل �شيء يف التحقيق‪..‬‬‫‪26‬‬

‫ ما ذنب هذا ال�شيخ‪.‬؟ �إنه يبدو �أكرث براءة منا جميع ًا‪� ،‬أال ت�سمحون‬‫له بالذهاب �إىل بيتي ليطمئن زوجتي‪ ،‬ويطمئن طالل‪.‬؟‬ ‫ قلت لك �أغلق فمك‪ ،‬و�إال �أغلقته بالقوة‪..‬‬‫و�أخذ �أبو القا�سم ينظر جمدداً �إىل زياد‪ ،‬غري قادر على فهم ما يجري‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬وقد ا�ستطاع �أن يلتقط للمرة الثانية ا�سم «طالل»‪،‬‬ ‫ولكنه مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم ماذا يعني هذا كله‪ ،‬وماذا يتعني عليه‬ ‫�أن يفعل‪ ،‬وم�ضى يتململ يف مقعده‪ ،‬م�ستعيداً يف ذاكرته �صورة طالل‬ ‫القدمية‪ ،‬الذي �صار يراه ملام ًا منذ �أن ت�سلمته �سعاد‪� .‬إنه يدرك �أن زياداً‬ ‫يريد �أن يقول �شيئ ًا عن طالل‪ ،‬ولكن �أي طالل‪.‬؟ وما عالقته هو بالأمر‪.‬؟‬ ‫لقد تذكر الآن �أنه مرة �س�أل �سعاد �إن كان طالل يعمل معهم‪ .‬ف�ضحكت‬ ‫وقالت‪« :‬لوال طالل لكانت حالتنا حالة‪ ..‬طالل يا �أبا القا�سم رجل‪ ،‬رجل‬ ‫قادم من حتت‪� »..‬أميكن �أن يكون الأمر على هذه اخلطورة‪.‬؟ �إن املفتاح‬ ‫بيد الأ�ستاذ زياد‪ ،‬وهو وحده الذي يجيب على هذه الأ�سئلة‪ ،‬ولكن ملاذا‬ ‫ال يفعل‪.‬؟ �إذا كان الأمر خطرياً على هذه ال�صورة‪ ،‬فلماذا ال يقدم الأ�ستاذ‬ ‫الت�رصف‪.‬؟ وفج�أة �س�أل �أبو القا�سم نف�سه‪ :‬لو كان قا�سم هنا‬ ‫زياد على‬ ‫ّ‬ ‫�سيت�رصف‪.‬؟ ثم عاد ف�س�أل نف�سه مرة‬ ‫مكان الأ�ستاذ زياد‪ ،‬كيف كان‬ ‫ّ‬ ‫�أخرى‪ :‬لو كان مكاين‪ ،‬ماذا كان يفعل‪.‬؟ وقاطعه �صوت مكتوم ي�شبه‬ ‫خطوة خائفة‪ ،‬وكان ميكن لهذا ال�صوت �أن يعرب دون انتباه لو مل يتحرك‬ ‫ال�ضابط بهدوء‪ ،‬ويرفع �سالحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو اجلنديني‬ ‫اللذين اجتها نحو الباب دون �أن ي�صدرا �أي �صوت‪ ،‬وم�ضت فرتة من‬ ‫خيم فيها �صمت عميق‪ ،‬ثم �صدر ذلك ال�صوت املكتوم خلطوة‬ ‫الوقت َّ‬ ‫خائفة مرة �أخرى‪ ،‬وبدت وك�أنها يف �أول ال�سلم‪ ،‬وعاد ال�صوت يخطو‪،‬‬ ‫وك�أنه ي�صعد بحذر‪ .‬ودون �أن يتخذ قراره ب�صورة م�سبقة‪ ،‬انت�صب �أبو‬ ‫القا�سم و�صاح‪:‬‬ ‫ ملاذا تقب�ضون علينا‪.‬؟ ماذا فعلنا‪.‬؟ �إننا �أبرياء‪.‬‬‫‪27‬‬


‫برقوق ني�سان‬

‫وانق�ض عليه ال�ضابط و�صفعه بقفا ك ّفه ف�ألقاه على الأر�ض‪ ،‬واندفع‬ ‫وجراه بعيداً �إىل الداخل‪ ،‬فيما رك�ض ال�ضابط باجتاه‬ ‫اجلنديان نحوه ّ‬ ‫الباب‪ ،‬و�أل�صق �أذنه هنيهة على اخل�شب‪ ،‬ثم فتحه بعنف واجته �إىل‬ ‫اخلارج‪.‬‬ ‫و�صوب فوهة‬ ‫و�ضع �أحد اجلنديني ركبته على �صدر �أبي القا�سم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الر�شا�ش �إىل ر�أ�سه‪ ،‬فيما �أخذ �أبراهام يراقب بقية املحتجزين بحذر‪،‬‬ ‫وما لبث ال�ضابط �أن عاد‪ ،‬و�أغلق الباب وراءه ب�إحكام وهدوء‪ ،‬ثم �أ�شار‬ ‫للجنديني ف�أجل�سا �أبا القا�سم على املقعد‪ .‬كان فمه ينزف خيط ًا رفيع ًا‬ ‫من الدم يت�رسب يف �شعر حليته ال�شائب‪ ،‬ولكنه بدا يف حالة غري خطرة‪،‬‬ ‫وقال له ال�ضابط بهدوء مبالغ فيه‪:‬‬ ‫ لقد تعمدت ذلك �أيها الثعلب العجوز‪.‬‬‫وقال �أبو القا�سم بوهن‪:‬‬ ‫ تعمدت ماذا يا �سيدي‪.‬؟‬‫ لقد �رصخت كي يهرب‪..‬‬‫ من؟‬‫ �أنت الذي �ستقول لنا من‪ ..‬يا �إلهي‪ !.‬كنت على و�شك �أن �أعتقد �أنك‬‫عجوز بريء‪� ..‬أما الآن فقد تيقنت من كل �شيء‪ ،‬مل �أكن على خط�أ حني‬ ‫�شككت بهذه الباقة اللعينة‪..‬‬ ‫ �إنها باقة زهر يا �سيدي‪ ..‬برقوق ني�سان‪..‬‬‫ ها!‬‫وتناول ال�ضابط ع�صا ق�صرية عن الطاولة‪ ،‬دقيقة ك�أنها من‬ ‫اخليزران‪ ،‬و�أ�شار بها نحو زياد‪ ،‬ثم �أخذ ينقلها كم�ؤ�رش بني زياد و�أبي‬ ‫القا�سم‪ .‬و�أخرياً اجته نحو زياد‪:‬‬ ‫ �أر�أيت �أيها الرثثار‪.‬؟ �أر�أيت‪.‬؟ كنت �أنت الذي اقرتحت �أن نطلق‬‫�رساح هذا ال�شيخ اخلبيث لأنه يبدو بريئ ًا‪ !.‬ها! هذا ال�شغل �شغلنا‪� ,,‬إنه‬ ‫‪28‬‬

‫يعتقد الآن �أنه �أتاح فر�صة الفرار لأحدكم‪ .‬كم هو خمطئ هذا العجوز‬ ‫امل�سكني‪� !.‬سننتزع ا�سمه مثلما ُينت َزع ال�رض�س الننت‪.‬‬ ‫وتنحنح زياد‪ ،‬وهو ما يزال واقف ًا مكانه‪ ،‬وقال لل�ضابط‪:‬‬ ‫ هذا ال�شغل �شغلكم يا �سيدي‪ ،‬ولكن �إذا �سمحت يل �أرجو �أال تقلق‬‫مر �أمام ال�سلم هو الطفل طالل‪� ،‬صديق‬ ‫كثرياً‪ ،‬فقد يكون ال�شخ�ص الذي ّ‬ ‫وليد‪ ،‬جاء ي�س�أل عنه وخاف عندما �سمع اجللبة فهرب‪� ..‬أمل �أقل لك يا‬ ‫�سيدي قبل ذلك �إن طالل ينتظر وليد ليلعب معه‪.‬؟‬ ‫ وه ّز ال�ضابط ر�أ�سه مرتاب ًا وهو يبت�سم ابت�سامة العارف الذي ال‬‫ي�سهل خداعه‪ ،‬وقال ب�صوت ال يكاد ي�سمع‪:‬‬ ‫ مل تكن اخلطوة خطوة طفل‪..‬‬‫عيني زياد‪ ،‬وهما‬ ‫ومرة �أخرى‪ ،‬مبثل ملح الربق‪� ،‬شهد �أبو القا�سم يف‬ ‫ّ‬ ‫تعربان به وم�ضة ت�شبه الر�سالة‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫القميص املسروق‬

‫وقصص أخرى‬

‫‪30‬‬

‫‪31‬‬


‫القمي�ص امل�رسوق‬

‫‪1‬‬ ‫‪ -1‬القمي�ص امل�رسوق‬ ‫رفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء املظلمة وهو يقاوم �شتيمة كفر �صغرية �أو�شكت‬ ‫�أن تنزلق عن ل�سانه‪ ،‬وا�ستطاع �أن يح�س الغيوم ال�سوداء تتزاحم كقطع‬ ‫البازلت‪ ،‬وتندمج ثم تتمزق‪.‬‬ ‫�إن هذا املطر لن ينتهي الليلة‪ ،‬هذا يعني �أنه لن ينام‪ ،‬بل �سيظل منكب ًا‬ ‫على رف�شه‪ ،‬يحفر طريق ًا جتر املياه املوحلة بعيداً عن �أوتاد اخليمة‪ ،‬لقد‬ ‫�أو�شك ظهره �أن يعتاد �رضب املطر البارد‪ ..‬بل �إن هذا الربد يعطيه �شعوراً‬ ‫لذيذاً باخلدر‪.‬‬ ‫�إنه ي�شم رائحة الدخان‪ ،‬لقد �أ�شعلت زوجه النار لتخبز الطحني‪ ،‬كم يود‬ ‫لو �أنه ينتهي من هذا اخلندق‪ ،‬فيدخل اخليمة‪ ،‬ويد�س كفيه الباردتني يف‬ ‫النار حتى االحرتاق‪ ،‬ال �شك �أنه ي�ستطيع �أن يقب�ض على ال�شعلة ب�أ�صابعه‪،‬‬ ‫و�أن ينقلها من يد �إىل �أخرى حتى يذهب هذا اجلليد عنهما‪ ..‬ولكنه يخاف‬ ‫ري زوجه �س�ؤا ًال رهيب ًا ما زال يقرع‬ ‫حمج ْ‬ ‫�أن يدخل هذه اخليمة‪� ،‬إن يف َ‬ ‫فيهما منذ زمن بعيد‪ ،‬ال‪� ،‬إن الربد �أقل ق�سوة من ال�س�ؤال الرهيب‪� .‬ستقول‬

‫‪32‬‬

‫له �إذا ما دخل وهي تغر�س كفيها يف العجني‪ ،‬وتغر�س عينيها يف عيونه‪:‬‬ ‫هل وجدت عم ًال؟ماذا �سن�أكل �إذن؟ كيف ا�ستطاع (�أبو فالن) �أن ي�شتغل‬ ‫هنا؟ وكيف ا�ستطاع(�أبو علنتان) �أن ي�شتغل هناك؟ ثم �ست�شري �إىل عبد‬ ‫الرحمن املكور يف زاوية اخليمة كالقط الكبول‪ ،‬و�ستهز ر�أ�سها ب�صمت‬ ‫�أبلغ من �ألف �ألف عتاب‪ ..‬ماذا عنده الليلة ليقول لها �سوى ما يقوله يف‬ ‫كل ليلة‪..‬؟‪:‬‬ ‫هل تريدينني �أن �أ�رسق لأحل م�شاكل عبد الرحمن؟‬‫ون�صب قامته بهدوء الهث‪ ،‬ثم ما لبث �أن عاد‪ ،‬فاتك�أ على الرف�ش‬ ‫املك�سور‪ ،‬و�أن�ش�أ يحدق باخليمة الداكنة‪ ،‬م�ست�شعراً قلق ًا عظيم ًا وهو ي�س�أل‬ ‫نف�سه‪:‬‬ ‫ وماذا لو �رسقت؟‬‫�إن خمازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من اخليام‪� ،‬إن قرر‬ ‫�أن يبد�أ فهو ي�ستطيع بالت�أكيد �أن ينزلق �إىل حيث يتكد�س الطحني والرز‪،‬‬ ‫من ثقب ما �سيجده هنا �أو هناك‪ ،‬ثم �إن املال لي�س حالل �أحد‪ ،‬لقد �آتى من‬ ‫هناك‪ ،‬من عند نا�س قال عنهم �أ�ستاذ املدر�سة لعبد الرحمن �إنهم «يقتلون‬ ‫القتيل ومي�شون يف جنازته» فماذا ي�رض النا�س لو �أنه �رسق كي�س طحني‪..‬‬ ‫كي�سني‪ ..‬ع�رشة؟ وماذا لو باع �شيئ ًا من هذا الطحني �إىل واحد من �أولئك‬ ‫الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على ا�ستن�شاق روائح م�رسوقات‪ ،‬وبقدرة‬ ‫�أعظم يف امل�ساومة على ثمنها؟‬ ‫ولذت له الفكرة‪ ،‬فد�أب بعزم �أ�شد على �إمتام حفر اخلندق فيما حول‬ ‫اخليمة و�أخذ ي�س�أل نف�سه من جديد �أن ملاذا ال يبد�أ مغامرته منذ الآن؟‬ ‫�إن املطر �شديد واحلار�س م�شغول ب�أمر الربد �أكرث من ان�شغاله مب�صلحة‬ ‫وكالة الغوث الدولية‪ ،‬فلماذا ال يبد�أ الآن؟ ملاذا؟‬ ‫ ماذا تعمل يا �أبا العبد؟‬‫ورفع ر�أ�سه �إىل جهة ال�صوت‪ ،‬وميز �شبح �أبي �سمري قادم ًا من بني‬ ‫‪33‬‬


‫القمي�ص امل�رسوق‬

‫�ص َّفي اخليام املغرو�سة �إىل ما ال نهاية الظلمة‪..‬‬ ‫�إنني �أحفر طحين ًا‪..‬‬‫ حتفر ماذا؟‬‫ �أحفر‪� ..‬أحفر‪ ..‬خندق ًا‪..‬‬‫و�سمع �ضحكة �أبي �سمري الرفيعة التي �رسعان ما تال�شت يف ثرثرته‪:‬‬ ‫ يبدو �أنك تفكر بالطحني‪� ،‬إن التوزيع �سيت�أخر �إىل ما بعد الأيام‬‫الع�رشة الأوىل من ال�شهر القادم‪� ،‬أي بعد خم�سة ع�رش يوم ًا تقريب ًا‪ ،‬فال‬ ‫تفكر منذ الآن �إال �إذا كنت تنوي �أن ت�ستعري كي�س ًا �أو كي�سني من املخزن‪..‬‬ ‫ور�أى ذراع �أبي �سمري ت�شري باجتاه املخازن‪ ،‬وملح على �شفتيه‬ ‫ال�سميكتني ظ ًال البت�سامة خبيثة‪ ،‬و�شعر ب�صعوبة املوقف‪ ،‬فعاد ي�رضب‬ ‫الأر�ض برف�شه املك�سور‪.‬‬ ‫ خد هذه ال�سيكارة‪ ..‬ولكن ال‪� ،‬إنك لن ت�ستفيد منها‪ ،‬فاملطر مزعج‪..‬‬‫لقد ن�سيت �أن ال�سماء متطر‪ ،‬عقل من الطحني‪ ..‬مثل احلجر‪..‬‬ ‫و�أح�س ب�ضيق ي�أخذ بخناقه‪� ،‬إنه يكره �أبا �سمري منذ زمن بعيد‪ ،‬هذا‬ ‫الرثثار اخلبيث‪:‬‬ ‫ ما الذي �أخرجك يف هذا املطر؟‬‫ خرجت‪ ..‬خرجت لأ�س�ألك �إن كنت تريد امل�ساعدة‪.‬‬‫ ال‪� ..‬شكراً‪..‬‬‫هل �ستحفر طوي ًال؟‬‫ معظم الليل‪..‬‬‫ �أ مل �أقل لك �أن حتفر خندقك يف النهار؟ �إنك دائم ًا تذهب �إىل حيث ال‬‫�أدري وترتك اخليمة‪ ..‬هل تذهب للبحث عن خامت �سليمان؟‬ ‫ ال‪ ..‬عن �شغل‪..‬‬‫ورفع ر�أ�سه عن الرف�ش وهو يلهث‪..‬‬ ‫ ملاذا ال تذهب لتنام وترتكني وحدي؟‬‫‪34‬‬

‫واقرتب منه �أبو �سمري بهدوء جم وو�ضع ك ّفه يهزها ببطء وهو يقول‬ ‫ب�صوت خمنوق‪:‬‬ ‫ ا�سمع يا �أبا العبد‪� ،‬إن ر�أيت الآن كي�س طحني مي�شي من �أمامك فال‬‫تذع اخلرب لأحد!‬ ‫ كيف؟‬‫قالها �أبو العبد و�صدره ينب�ض بعنف‪ ،‬و�شم رائحة التبغ من فم �أبي‬ ‫�سمري وهو يهم�س وقد فتح عيونه على و�سعها‪:‬‬ ‫ هناك �أكيا�س طحني مت�شي يف الليل وتذهب �إىل هناك‪..‬‬‫ �إىل �أين؟‬‫ �إىل هناك‪..‬‬‫حاول �أبو العبد �أن يرى �إىل �أين ي�شري �أبو �سمري ولكنه وجد ذراعيه‬ ‫م�سدلتني على جنبيه‪ ،‬بينما �سمع �صوته يهم�س ببحة عميقة‪:‬‬ ‫ �ست�أخذ ن�صيبك‪.‬‬‫ هل هناك ثقب تدخلون منه؟‬‫ورفع �أبو �سمري ر�أ�سه نافي ًا ومفرقع ًا ل�سانه مبرح‪ ،‬ثم هم�س ب�صوت‬ ‫ن�صف مبحوح‪:‬‬ ‫ �إن �أكيا�س الطحني تخرج لوحدها‪� ..‬إنها مت�شي!‬‫ �إنك جمنون‪..‬‬‫ ال‪ ،‬بل �أنت م�سكني‪ ..‬ا�سمع‪ ،‬ولندخل يف املو�ضوع مبا�رشة‪� ،‬إن ما‬‫علينا هو �أن نخرج �أكيا�س الطحني من املخزن ونذهب بها هناك‪� ،‬إن‬ ‫احلار�س �سيمهد لنا كل �شيء كما يفعل دائم ًا‪� ،‬إن الذي �سيتوىل البيع لي�س‬ ‫�أنا‪ ،‬وال �أنت‪� ،‬إنه املوظف الأمريكي الأ�شقر يف الوكالة‪ ..‬ال‪ ،‬ال تعجب‪ ،‬كل‬ ‫�شيء ي�صبح جائزاً ومعقو ًال بعد االتفاق‪.‬الأمريكي يبيع‪ ،‬و�أنا �أقب�ض‪،‬‬ ‫واحلار�س يقب�ض‪ ..‬و�أنت تقب�ض‪ ،‬وكله باالتفاق‪ ،‬فما ر�أيك؟‬ ‫و�شعر �أبو العبد �أن الق�ضية �أ�شد تعقيداً من �رسقة كي�س �أو كي�سني‪� ،‬أو‬ ‫‪35‬‬


‫القمي�ص امل�رسوق‬

‫ع�رشة‪ ،‬وراوده �شعور لزج بالقرف من املعاملة مع هذا الإن�سان‪ ..‬ثقيل‬ ‫الدم كما تعارفوا عليه يف املخيم كله‪ ..‬ولكنه يف الوقت ذاته راقه �أن‬ ‫يعود يوم ًا �إىل خيمته ويف يده قمي�ص جديد لعبد الرحمن‪ ،‬و�أغرا�ض‬ ‫�صغرية لأم العبد بعد هذا احلرمان الطويل‪ ،‬كم �ستكون ابت�سامتاهما‬ ‫جميلتني‪� ،‬إن ابت�سامة عبد الرحمن‪ ،‬لوحدها‪ ،‬ت�ستحق املغامرة ال �شك‪،‬‬ ‫ولكنه لو ف�شل‪� ..‬أي م�صري �أ�سود ينتظر �أم العبد وولدها‪.‬؟‪ .‬يومها �سيحمل‬ ‫عبدالرحمن �صندوق م�سح الأحذية ليتكور يف ال�شارع هازاً ر�أ�سه ال�صغري‬ ‫فوق الأحذية الأنيقة‪ ،‬يا للم�صري الأ�سود! ولكنه لو جنح ف�سيبدو عبد‬ ‫الرحمن �إن�سان ًا جديداً‪ ،‬و�سيقتلع من عيون زوجه ذلك ال�س�ؤال املخيف‪.‬‬ ‫لو جنح‪ ،‬ف�ستنتهي م�أ�ساة اخلندق يف كل ليلة ممطرة‪ ،‬و�سيعي�ش حيث ال‬ ‫ي�ستطيع �أن يت�صور الآن‪..‬‬ ‫ ملاذا ال ترتك هذا اخلندق امللعون‪ ،‬ابد�أ قبل �أن ت�رشق ال�شم�س؟‬‫نعم ملاذا ال يرتك اخلندق‪..‬؟ �إن عبد الرحمن يلهث من الربد يف طرف‬ ‫اخليمة‪ ،‬ويكاد يح�س �أنفا�سه تلفح جبينه البارد‪ ..‬كم يود لو �أنه ينت�شل‬ ‫عبد الرحمن من هزاله وخوفه‪ ،‬لقد �أو�شك املطر �أن ينقطع‪ ،‬وبد�أ القمر يف‬ ‫ال�سماء ميزق طريق ًا وعراً‪.‬‬ ‫و�أبو�سمري‪ ،‬ما زال واقف ًا �أمامه كال�شبح الأ�سود‪ ،‬غار�س ًا قدميه‬ ‫الكبريتني يف الوحل‪ ،‬رافع ًا ياقة معطفه العتيق �إىل ما فوق �أذنيه‪� ،‬إنه‬ ‫ما زال واقف ًا ينتظر‪ ،‬هذا الإن�سان الواقف �أمامه‪ ،‬يحمل معه قدراً جديداً‬ ‫غام�ض ًا‪ ،‬ي�ساومه لريفع معه الأكيا�س من املخزن‪� ،‬إىل مكان ما‪ ،‬ي�أتيه‬ ‫الأمريكي كل �شهر ويقف �أمام �أكوام الطحني يفرك راحتيه النظيفتني‪،‬‬ ‫وي�ضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز �أمام جحر ف�أر م�سكني‪.‬‬ ‫ منذ متى و�أنت تتعامل مع هذا احلار�س وذلك املوظف؟‬‫ هل تريد �أن حتقق معي �أم ت�أخذ ثمن الطحني وتذهب لت�شرتي‬‫ال�شياطني؟ا�سمع �إن هذا الأمريكي �صديقي‪ ،‬وهو �إن�سان يحب العمل‬ ‫‪36‬‬

‫املنظم‪� ،‬إنه يطلب مني دائم ًا �أن �أ�ضع الوقت باملقدمة‪ .‬وهو ال يحب‬ ‫الت�أخري يف املواعيد‪ ..‬علينا �أن نبد�أ الآن‪� .‬أ�رسع‪.‬‬ ‫و عاد يت�صور الأمريكي واقف ًا امام �أكيا�س الطحني‪ ،‬ي�ضحك بعيون‬ ‫زرقاء �ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتني بحبور وطم�أنينة‪ ،‬ف�شعر ب�ضيق‬ ‫غريب‪ ،‬وخطر له �أن ذلك الأمريكي كان يبيع الطحني يف الوقت الذي‬ ‫كان يقول فيه لرجال املخيم ولن�سائه �إن توزيع الإغاثة �سيت�أجل �إىل‬ ‫نهاية الأيام الع�رشة الأوىل من ال�شهر‪ ،‬و�أح�س بنقمة طاغية‪ ،‬هي �صدى‬ ‫لإح�سا�ساته يوم كان يرجع من املخازن ليقول لزوجته ب�صوت ك�سري‬ ‫�إنهم �أجلوا توزيع الطحني ع�رشة �أيام‪ ،‬كم هي م�ؤملة خيبة الأمل التي‬ ‫كانت ترت�سم يف وجهها الأ�سمر املجهد‪ ،‬لقد كان يح�س الغ�صة تتعلق‬ ‫ب�ألف ذراع يف حنجرته وهي تنظر ب�صمت مريع �إىل كي�س الطحني الفارغ‬ ‫يت�أرجح على ذراعه كامل�شنوق‪ ..‬لقد كانت تعني يف نظرتها تلك �أن ع�رشة‬ ‫�أيام �ستم�ضي قبل �أن يجدوا طحين ًا للأكل‪ .‬كان يبدو له �أي�ض ًا �أن عبد‬ ‫الرحمن يفهم املوقف متام ًا‪ ،‬لقد كان يكف عن طلب الأكل ب�إحلاح‪..‬‬ ‫يف كل خيام قرية النازحني كانت العيون املتلهفة تقع يف خيبة‬ ‫الأمل ذاتها‪ ،‬كان على كل طفل يف املخيم �أن ينتظر ع�رشة �أيام لي�أكل‬ ‫خبزاً‪ .‬هذا �إذن هو �سبب الت�أجيل‪� ،‬أبو �سمري الواقف �أمامه كال�شبح الأ�سود‪،‬‬ ‫غار�س ًا قدميه يف الطني قلق ًا مل�صري م�ساوماته‪ ،‬هو والأمريكي الذي‬ ‫يفرك راحتيه النظيفتني �أمام �أكوام الطحني وهو ي�ضحك بعيون زرقاء‬ ‫�ضيقة‪..‬‬ ‫مل يدر كيف رفع الرف�ش �إىل ما فوق ر�أ�سه وكيف هوى به بعنف رهيب‬ ‫على ر�أ�س �أبي �سمري‪ ،‬وهو ي�صيح يف وجهه �إن الطحني لن يت�أجل توزيعه‬ ‫هذا ال�شهر‪..‬‬ ‫كان ال يزال راغب ًا يف �أن يراه يبت�سم لقمي�ص جديد‪..‬‬ ‫ف�أخذ يبكي‪..‬‬ ‫‪37‬‬


‫�إىل �أن نعود‬

‫‪2‬‬ ‫‪� -2‬إىل �أن نعود‬ ‫‪ ..‬مع �أ�شعة ال�شم�س التي كانت ت�أكل ر�أ�سه وهو وحيد يف �صحراء‬ ‫النقب‪ ،‬كان ي�سمع �صخب �أفكاره يف ر�أ�سه ك�أنها جمموعة م�سامري تدق‪..‬‬ ‫وال تنغر�س‪.‬‬ ‫�إن �أنفه يعمل الآن متام ًا كما تعمل البو�صلة‪ ،‬وهو ي�شعر �أنه يقرتب‬ ‫من هدفه‪� ،‬إنه يعجب لنف�سه كيف مل ينقطع عن التفكري العنيف طوال هذه‬ ‫ال�ساعات املم�ضة‪ ،‬لقد فكر يف هذه ال�ساعات كما مل يفكر �أبداً طوال ثماين‬ ‫�سنوات‪.‬‬ ‫ويغر�س قدميه يف الرمال الناعمة‪ ،‬ويقتلعها كما تقتلع قطعة اخل�شب‬ ‫العتيقة عن غراء مل يجف بعد كما يجب‪ ،‬ثمة �أحا�سي�س �ضخمة متتلك عنه‬ ‫ذكرياته‪� ،‬إن هذه الأحا�سي�س لتتداخل يف بع�ضها وتت�شابك حتى لي�شعر‬ ‫�أنها الزمته زمن ًا طوي ًال‪ ،‬وي�صعب عليه الآن �أن يت�صور نف�سه كيف كان‬ ‫بدونها‪� ..‬إنه عط�شان �إىل حد ي�شعر فيه ب�أن حلقه �أ�ضحى جاف ًا جامداً‪ ،‬فلم‬ ‫‪38‬‬

‫يعد ثمة �رضورة لبقائه‪ ،‬وي�شعر بالتايل �أنه تعب‪ ،‬مرهق‪ ،‬يكاد يتهاوى‪،‬‬ ‫ك�أمنا انتهى لتوه من �شد قارب كبري من البحر �إىل رمل ال�شاطئ املبلول‬ ‫لكنه مع هذا كله‪ ،‬كان ي�سري‪ ،‬مندفع ًا ك�أنه ي�سابق نف�سه‪ ،‬كان ن�صفه العلوي‬ ‫يتقدم منحني ًا عن بقية ج�سده‪ ..‬فالرمل الناعم يعوق �رسعة قدميه‪ ،‬كان‬ ‫ق�صرياً‪� ،‬أ�سمر الب�رشة‪ ،‬حمروقاً‪ ،‬مل يكن يف وجهه �أي �شيء ي�ستلفت النظر‬ ‫لأول وهلة‪ ،‬كل ما هنالك �أن لفمه �شفتني رقيقتني تنطبقان يف ت�صميم‪،‬‬ ‫�إن �شكل وجهه يثري يف الإن�سان لدن تدقيق النظر �شعوراً ب�أنه ي�شاهد حق ًال‬ ‫�صغرياً‪ ،‬بل و�أكرث من هذا‪ ،‬ف�إن اخلطني اللذين ي�شقان جبهته يحب الإن�سان‬ ‫�أن ي�شبههما ب�آثار «�شفرات» حمراث مر لتوه من ذلك املكان‪..‬‬ ‫لقد بد�أت رائحة �أر�ضه تذيب �أحا�سي�سه‪� ،‬شيء جميل �أن ي�شم املرء جزءاً‬ ‫من ما�ضيه‪� ،‬إن ر�أ�سه الآن تنفتح ك�أنها �صندوق عر�س منقو�ش بال�صدف‬ ‫ويحوي كل �شيء‪ ،‬ويرى فيه داره ال�صغرية الرطبة‪ ،‬وزوجه تر�ش الرتاب‬ ‫باملاء‪ ،‬ثم يرى نف�سه �آتي ًا من حقله بقدميه املوحلتني‪� ،‬إن ال�صورة يراها‬ ‫�أمامه هكذا‪ ،‬بل و�أكرث من ذا‪ ،‬ك�أنه ي�ستعيد منظراً عا�شه قبل دقائق فح�سب‪،‬‬ ‫�إنه يرى ال�صورة بكل تقاطيعها الدقيقة‪ ،‬حتى لريى نف�سه كيف ي�سري‪ ،‬مل‬ ‫يتي�رس له قبل الآن �أن يراقب �سريه بهذا الو�ضوح وهذا الإمكان‪.‬‬ ‫وهو يقرتب من �أر�ضه‪ ،‬هكذا ي�شعر يف �أعماقه عندما بدت له �أول‬ ‫(بيارة) من (بيارات) �أهل قريته‪ ،‬ابتد�أ ال�صوت الذي ودعه على فوهة‬ ‫النقب اجلنوبية يدق ر�أ�سه‪ ،‬ويتجاوب �صداه يف ج�سده‪:‬‬ ‫ «هي �أر�ضك‪� ،‬أمل تع�ش هناك؟ ح�سناً‪� ،‬إنك تعرفها �أكرث من �سواك‪ ،‬يف‬‫واحد من احلقول بنى اليهود خزان ًا ي�سقي امل�ستعمرات القريبة‪� ،‬أعتقد �أنك‬ ‫فهمت‪� ،‬أن الديناميت الذي حتمله يكفيك‪.»...‬‬ ‫مل يتكلم بعدها‪ ،‬بل انطلق عرب النقب وحيداً‪ ،‬وحيداً �إال من هذه الزوبعة‬ ‫التي تثور يف �أعماقه‪ ..‬وها هي �أر�ضه‪ ،‬حيث درج يلهو‪ ،‬ت�ستلقي يف‬ ‫�أح�ضان اجلبل با�ست�سالم‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫�إىل �أن نعود‬

‫و انزلق بني احلقول اخليالية يف حذر‪ ،‬م�ستمداً من رائحة ترابه �شعوراً‬ ‫بقدرة ال تقهر‪ ،‬و�أ�صابعه تطبق على �سكينه يف تهي�ؤ «وح�شي»‪� .‬إن ر�أ�سه‬ ‫ت�شتط به وتختلط يف تاريخ احلقول التي يعرفها جيداً‪ ،‬ويجد عنت ًا �شديداً‬ ‫يف العودة �إىل احلقيقة‪.‬‬ ‫وعندما ا�ستدار حول حقل كان لأبي ح�سن ‪ -‬جاره ‪ -‬يف يوم من‬ ‫الأيام‪ ،‬ر�أى نف�سه ي�شد ر�أ�سه عالي ًا وهو يرقب ب�شعور غام�ض خزان املياه‪،‬‬ ‫يرتفع ك�أمنا لي�صل الأر�ض بال�سماء‪ ..‬لي�ؤمن لها املاء‪ .‬لكنه �ساءه �أن يقف‬ ‫اخلزان‪ ،‬هكذا‪ ،‬يف احلقل املعطاء‪� ..‬إنه بوقوفه هذا ي�شوه �إح�سا�س ًا جمي ًال‬ ‫�أح�سه هو‪ ،‬وجميع جريانه‪ ،‬طوال حياتهم‪� ..‬أنهم ‪ -‬الفالحني ‪ -‬يح�سون‬ ‫الأر�ض �إح�سا�س ًا بينما ينظر �سواهم �إليها كم�شهد عابر‪� ،‬إن �أي حقل‪ ،‬يبعث‬ ‫بالفالح �شعوراً تلقائي ًا ب�أنه ‪ -‬ذلك احلقل‪ ،‬يلقي على موجوداته ظل الأبوة‬ ‫مهما عظمت‪ ،‬في�شعر الإن�سان �أنها يف حماية قوة غام�ضة‪ ،‬هائلة‪ ،‬خميفة‪،‬‬ ‫لكنها حمببة‪.‬‬ ‫ولكن اخلزان يدمر هذا الإح�سا�س‪ ،‬وهو واقف هناك كحقيقة مرة‬ ‫تعطيه نوع ًا �آخر من امل�شاعر‪ ،‬بل �إنه يح�س �إح�سا�س ًا عميق ًا �ساكن ًا ب�أن‬ ‫الأر�ض نف�سها ترف�ض اخلزان‪ ..‬ال تريد �أن حتميه‪� ،‬إنه يعني �شيئ ًا �آخر‪ ،‬غري‬ ‫الري واملاء‪� ،‬شيئ ًا كبرياً دامي ًا كامل�أ�ساة‪.‬‬ ‫وحب�س �أنفا�سه وهو يرقب من خالل العوا�سج �أر�ضه التي تك�سب عليها‬ ‫عرقة ليخلقها من العدم‪ ،‬ها هو �إذن البيت ال�صغري الذي كان ي�أوي �إليه مع‬ ‫زوجه �أيام العمل املتوا�صل يف مو�سم احل�صاد‪ ،‬فلقد كان بيت ًا جمي ًال على‬ ‫ما فيه من توا�ضع‪� ،‬أما الآن‪ ،‬فلقد تهدمت ناحية منه‪ ،‬والناحية الثانية‬ ‫التي تتكئ على �صخور اجلبل قد عالها الغبار و�صبغتها ذرات ر�صا�صية‬ ‫من دخان (املوتور)‪� ،‬إن اخلزان يقتحم حياته ب�شكل مزعج‪ ،‬لقد �أقيم يف‬ ‫ال�ساحة التي كان يجل�س فيها وزوجته قبل �أن يناما‪ ،‬يتحدثان فيها عن‬ ‫الذرة والقمح‪ ،‬لقد كان يف مكان قائمة اخلزان الأقرب للدار �شجرة �أجا�ص‬ ‫‪40‬‬

‫فريدة من نوعها‪ ،‬كان يحبها ويعنى بها‪ ،‬هنا‪ ،‬قرب الباب املتداعي كانت‬ ‫تنام زوجته ليايل ال�صيف‪ ،‬كان يف تلك الأيام يدعو جريانه للجلو�س‪،‬‬ ‫فت�رسه زوجته وتر�ش ال�ساحة باملاء فتك�سبها رطوبة حمببة‪.‬‬ ‫وفج�أة وبدون �أي �سابق �إعالم �سقطت من �أعماقه الالواعية �إىل حياته‬ ‫الواعية �صورة مدوية مروعة‪ ،‬اجتاحته كالطوفان‪ ،‬هوت �إىل حوا�سه كلها‬ ‫دفعة واحدة ف�شغلتها كلها‪ ،‬قبل �أن يرحال بيوم واحد‪.‬‬ ‫بيوم واحد فقط‪ ،‬دخل اليهود �إىل البيارات‪ ،‬ووجد �أن عليه �أن يرتك ولو‬ ‫وجر زوجته وترك �أر�ضه‪ ،‬و�سار‪� ...‬إال �أنه قبل �أن‬ ‫�إىل حني ‪ -‬ذلك العطاء‪ّ ..‬‬ ‫يجتاز باب حقله املقطع‪ ،‬دنا �إىل زوجته‪ ،‬و�ألفى نف�سه م�شدوداً �إىل دمعة‬ ‫كبرية يف عينيها الوا�سعتني‪ ..‬ك�أمنا هي ذوب حنني‪ ...‬كان يريد �أن يقاوم‬ ‫لكنه ر�أى نف�سه حماط ًا بالت�سا�ؤالت التي غر�ستها دمعة زوجه يف عروقه‬ ‫الزرقاء ‪� :‬إىل �أين؟ و�أر�ضك؟ �ألي�س من الأف�ضل �أن تعيد �إىل الرتاب عطاءه‬ ‫حلم ًا ودم ًا ؟‬ ‫ودون �أن يتكلم‪� ،‬سحب زوجه من يدها �إىل حقله‪ ،‬ومل ي�ستطع �أبداً �أن‬ ‫يحرر نف�سه من النداء الطيب يف العيون الوا�سعة‪.‬‬ ‫يف تلك الليلة‪� ..‬شنق اليهود زوجه على ال�شجرة العجوز بني ال�ساحة‬ ‫واجلبل‪� .‬إنه يراها مدالة عارية متاماً‪ ...‬كان �شعرها حملوق ًا ومربوط ًا �إىل‬ ‫عنقها وينزف من فمها دم �أ�سود ملاع‪ ..‬لقد �شدوا خ�رصها النحيل �شداً‬ ‫جمنوناً‪ ،‬مل يكن يف وجهها كله‪ ،‬ما ي�شري �إىل �أنها كانت‪ ،‬قبل هنيهة‪ ،‬متلأ‬ ‫ال�ساح ر�صا�ص ًا وناراً ودماً‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬كان هو مربوط ًا �إىل ال�شجرة‬ ‫املقابلة ي�شهد كل ما فعلوه عاجزاً‪ ،‬لقد �شدوه �إىل ال�شجرة بحبال احلراثة‬ ‫بعد �أن �سلخوا ظهره بالكرابيج اجللدية طوال بعد الظهر‪ ،‬وتركوه ي�شهد كل‬ ‫�شيء‪ ،‬تركوه يحدق وي�صيح كاملنجون‪ ..‬لقد ح�شوا فمها بالرتاب عندما‬ ‫قالت له مع ال�سالمة وماتت‪ .‬وتركوه مي�ضي كي ميوت بال�صحراء مع‬ ‫ذكرياته‪..‬‬ ‫‪41‬‬


‫�إىل �أن نعود‬

‫�إنه ال ينظر الآن �إىل هذه ال�صورة نظرة امل�شاهد‪ ،‬ال‪� ،‬أبدا‪� ،‬إنها تتفاعل‬ ‫ب�أعماق �أعماقه ويح�سها ويراها تن�سكب على �أع�صابه كالر�صا�ص‬ ‫املذاب‪� ،‬إن ذاته تتفاعل الآن مع املا�ضي ب�شكل عجيب‪ ،‬مل ي�ستطع �أن‬ ‫يخلع نف�سه من ال�صورة الدموية‪ ،‬وال �أن يخلعها من نف�سه‪ ،‬كان حا�رضه‬ ‫ميتزج مع ما�ضيه مزج ًا معقداً‪� ،‬إن �صوت ا�ستغاثات زوجه و�أنينها املقطع‬ ‫املحروق‪ ،‬و�صوت �أ�سنانها مت�ضغ الرتاب‪ ،‬و�صوت حنجرته وهي تطبق‬ ‫على �صياحه يف بحات ه�ستريية‪ ،‬كل هذا‪ ،‬كان ميتزج امتزاج ًا مت�شابك ًا‬ ‫ب�صوت االنفجار املروع‪ ،‬و�صوت اخلزان العمالق يقتلع من الوجود‪..‬‬ ‫وميت�ص الدخان الأ�سود بع�ض �أحا�سي�سه الدامية‪ ،‬ويرنو �إىل احلطام‬ ‫بهدوء �صاخب‪..‬‬ ‫يح�س ك�أمنا قد‬ ‫لقد عاد يف امل�ساء �إىل خيمته‪ ،‬كان متعب ًا منهوك ًا‪ّ ،‬‬ ‫تباعدت مفا�صله عن بع�ضها‪ ،‬وعلى ع�ضالته �أن تتوتر �إىل الأبد كيما‬ ‫تن�شد بينها‪ ،‬و�أح�س وهو ي�صافح الإن�سان الذي ودعه قبل �أن يذهب �إىل‬ ‫مهمته �أنه ما زال يف املعركة التي بد�أت منذ زمن بعيد‪ ..‬و�سمع �صوته‪:‬‬ ‫ماذا ؟ انتهى كل �شيء على ما يرام ؟‬ ‫ وه ّز ر�أ�سه يف �إعياء‪..‬وعاد ي�سمع �صوت الرئي�س‪:‬‬‫ هل �أنت تعب؟ وه ّز ر�أ�سه نفي ًا وهم�س ب�صوته العميق املجروح‪:‬‬‫ هل �أعددت مهمة �صباح الغد؟‬‫وو�صله �صوت رئي�سه من بعيد‪:‬‬ ‫ولكنك ال ت�ستطيع �أن تتابع غداً‪ ..‬يجب �أن ت�سرتيح‪..‬‬ ‫ودون �أن يفكر �أجاب ‪ :‬بل �أ�ستطيع‪..‬‬ ‫ �إىل متى حت�سب �أنك ت�ستطيع �أن توا�صل على هذه ال�صورة ؟‬‫قال وهو ي�سند ر�أ�سه على كي�س املتفجرات ‪:‬‬ ‫ �إىل �أن نعود‪..‬‬‫دم�شق ‪1957/6/24‬‬ ‫‪42‬‬

‫‪43‬‬


‫املدفع‬

‫‪3‬‬ ‫‪ -3‬املدفع‬ ‫لقد عرفه اجلميع‪ ..‬وكادوا �أن يعهدوا وجهه كجزء ال ينف�صل عن‬ ‫القرية كلها‪ :‬وجهه املربع يعرت�ضه حاجبان يت�صالن ببع�ضهما البع�ض‬ ‫ب�أخدود يعني طرف �أنفه العلوي‪ ،‬و�أنفه املفلطح تدور ب�أ�سفله دائرتان‬ ‫وا�سعتان فوق �شارب رمادي كثيف‪ ،‬يتدىل‪ ،‬فيخفي �شفته العليا‪� ..‬أما‬ ‫ذقنه فلقد كانت عري�ضة حادة‪ ،‬ك�أنها قطعت لتوها من �صدره‪ ،‬ومن‬ ‫ثم‪ ،‬بردت رقبته الثخينة برداً‪.‬‬ ‫�إن �سعيد احلم�ضوين نادراً ما يتكلم عن ما�ضيه‪� ،‬إنه دائم ًا يتحدث‬ ‫عما �سي�أتي‪ ،‬وما ينفك يعتقد �أن غداً �سيكون �أح�سن من اليوم‪ ،‬ولكن‬ ‫�أهل(ال�سلمة) يتناقلون فيما بينهم‪ ،‬ب�شيء كثري من املبالغة‪� ،‬أخبار‬ ‫�سعيد احلم�ضوين �أيام كان يقود حركات ثورية يف ‪ ،1936‬يقولون ‪-‬‬ ‫هناك يف القرية ‪� -‬إن �سعيداً �أطلق �رساحه من املعتقل لأنه مل يدن‪..‬‬ ‫ويقال �إنه مل يقب�ض عليه بعد‪ ،‬ومهما يكن‪ ،‬فهو الآن ميلأ القرية‪ ،‬ويربط‬ ‫‪44‬‬

‫ال�صبيان كل �أحا�سي�سهم وتخيالتهم التي ير�سمونها للرجل املمتاز‪..‬‬ ‫وليد املغامرة القا�سية‪.‬‬ ‫لقد عاد �سعيد م�ؤخراً من يافا‪ ،‬و�أح�رض معه ر�شا�ش ًا من طراز‬ ‫(املا�شينغن) كان قد ق�ضى قرابة �أ�سبوع كامل يجمع ثمنه من‬ ‫التربعات‪ ،‬ومع �أن �سكان ال�سلمة كانوا على يقني كبري �أن ثمن مدفع‬ ‫من هذا الطراز ال ميكن �أن يجمع من التربعات‪ ،‬فلقد �آثروا �أن ي�سكتوا‪،‬‬ ‫لأن و�صول املدفع الرائع �أهم بكثري جداً من طريقة و�صوله‪ ،‬فالقرية‬ ‫يف �أ�شد احلاجة �إىل �أي نوع من �أنواع ال�سالح‪ ،‬فكيف �إذا ح�صلت على‬ ‫�سالح من نوع جيد؟‪.‬‬ ‫لقد عرف �سعيد احلم�ضوين ماذا ي�شرتي! �إن هذا املدفع‪ ،‬مدفع‬ ‫(املا�شينغن) كفيل برد �أي هجوم يهودي م�سعور‪� ،‬إنه نوع راق من‬ ‫ال�سالح‪ ،‬والقرية يف �أ�شد احلاجة �إليه‪ ..‬فلماذا يفكرون يف طريقة و�صول‬ ‫املدفع ؟‪ .‬ولكن �سكوت رجال ال�سلمة‪ ،‬ال يعني �سكوت ن�سائها‪ ،‬لقد بقيت‬ ‫امل�شكلة بالن�سبة لهن تلح �إحلاح ًا قا�سي ًا‪ ،‬وملا مل يجدن من يدلهن على‬ ‫حقيقة الأمر‪ ،‬ا�ستطعن �أن يقنعن �أنف�سهن‪� ،‬أن �سعيد احلم�ضوين كان قد‬ ‫�سلم يف ثورة ‪ 1936‬مدفع ًا من هذا الطراز �أبلى من خلفه بالء ح�سن ًا‪،‬‬ ‫ثم خب�أه يف اجلبال �إىل �أن �آن �أوان ا�ستعماله من جديد‪ ..‬ولكن الت�سا�ؤل‬ ‫بقي مت�ضمن ًا يف �أعمق �أعماق ال�سلمة‪ ،‬مل يكن من الي�سري �أن يجمع‬ ‫الإن�سان ثمن مدفع من طراز املا�شينغن‪..‬‬ ‫�إذن فمن �أين �أتى �سعيد احلم�ضوين بهذا املدفع ؟ نعم‪.‬‬ ‫من �أين؟‬ ‫املهم‪� ..‬أن هذا املدفع الأ�سود �صار قوة هائلة تكمن يف نفو�س �أهل‬ ‫ال�سلمة‪ ،‬وهو يعني بالن�سبة لهم �أ�شياء كثرية‪� ،‬أ�شياء كثرية يعرفونها‪،‬‬ ‫و�أ�شياء �أكرث ال يعرفونها‪ ..‬ولكنهم ي�شعرون بها‪ ،‬هكذا‪ ،‬يف �إبهام مطمئن‪..‬‬ ‫�إن كل كهل وكل �شاب يف ال�سلمة‪� ،‬صار يربط حياته ربط ًا وثيق ًا بوجود‬ ‫‪45‬‬


‫املدفع‬

‫هذا املدفع‪ ،‬و�صار من �صوته املتتابع الثقيل‪� ،‬أثناء جتربته يف كل‬ ‫�أم�سيتني‪ ،‬نوع ًا من ال�شعور باحلماية‪..‬‬ ‫وكما يرتبط ال�شيء بالآخر‪� ،‬إذا تالزما‪ ،‬ربط النا�س �صورة املدفع‬ ‫بوجه �سعيد احلم�ضوين املربع‪ ،‬مل تعد جتد من يف�صل هذا عن ذاك يف‬ ‫حديث الدفاع عن ال�سلمة‪� ،‬إن �سعيد احلم�ضوين �أ�صبح الآن �رضورة‬ ‫مكملة‪ ..‬بل �أ�سا�سية‪ ،‬للمدفع‪ ،‬وعندما يتحدث النا�س عن �سعيد‪ ،‬كانوا‬ ‫ي�شعرون �أنه �أداة من �أدوات املدفع املعقدة‪� ..‬شيء كحبل الر�صا�ص‪،‬‬ ‫كقائمتي املدفع‪ ..‬كاملا�سورة‪ :‬كل متما�سك ال تنف�صل �أطرافه عن‬ ‫بع�ضها البع�ض‪ .‬بل و�أكرث من ذلك‪ ،‬لقد �صار يربط �سعيد احلم�ضوين‬ ‫حياته نف�سها ربط ًا �شديداً بوجود املدفع‪ .‬كان املدفع يعني بالن�سبة‬ ‫له �شعوراً هادئ ًا بالطم�أنينة‪� ،‬شعوراً يوحي باملنعة ‪ :‬فهو دائم التفكري‬ ‫باملدفع‪ ،‬دائم االعتناء به‪ ،‬تكاد ال تراه �إال وهو يدرب �شباب القرية‬ ‫على ا�ستعماله‪ ،‬ويدلهم يف نهاية التدريب على املكان الذي و�ضع فيه‬ ‫خرقة مل�سح املدفع‪ ،‬هذا املكان الذي �سي�صري –فيما بعد – معتاداً‪.‬‬ ‫ومع مرور الأيام بد�أ �سعيد احلم�ضوين يتغري‪ ..‬لقد تبدل لونه عن ذي‬ ‫قبل‪ .‬وبدا ك�أنه ي�ضمر �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬و�أح�س �شباب ال�سلمة �أن �سعيد‬ ‫احلم�ضوين �صار يبدو �أكرب من ذي قبل‪ ،‬و�أنه �صار يفقد هذه احلركة‬ ‫احلية يف وجهه ويف �صوته‪� ..‬إنه �صامت الآن‪� ،‬صامت �إىل حد يخيل‬ ‫ّ‬ ‫للإن�سان معه �أنه ن�سي كيف كان يتكلم النا�س‪ ،‬و�صار �شيئ ًا م�ألوف ًا‬ ‫�أن يجده النا�س منطلق ًا �إىل جنوب ال�سلمة‪ ،‬حيث ركز املدفع‪ ،‬ليجل�س‬ ‫وحيداً بقربه �إىل الع�شية‪.‬‬ ‫هذا الرجل اجلبار‪ ..‬الهادئ‪ ..‬الثائر‪ ..‬هل كان يعتقد �إن�سان �أنه‬ ‫�سريجتف كذرة من القطن املندوف على قو�س املنجد؟ لقد فتحوا عليه‬ ‫باب داره وال�صباح يو�شك �أن ينبلج‪ ،‬وت�ضاخمت �أمامه كتلة �سوداء‪،‬‬ ‫و�رضبت الأر�ض وبرز منها �صوت �أحد رجاله‪ ،‬يدور كالدوامة‪ ،‬ليبتلع‬ ‫‪46‬‬

‫كل �إح�سا�س بالوجود ‪:‬‬ ‫ املدفع‪ ..‬لقد �أ�صابه العطب‪� ..‬إن ما�سورته تتحرك بغري ما توجيه‪..‬‬‫اليهود يتقدمون‪.‬‬ ‫و�أح�س �سعيد احلم�ضوين بقوة جبارة تقتلع من جوفه �شيئ ًا يع ّز عليه‬ ‫�أن ي�ضيع منه‪� ،‬شيئ ًا كقلبه ال ي�ستطيع �أن يتابع وجوده �إال معه‪ ..‬كان‬ ‫ي�شعر بكل هذا وهو منطلق عرب احلقول الباهتة النائمة يف �آخر الليل‪..‬‬ ‫وو�صل �إىل حيث كان الر�شا�ش يتكئ كالطفل امليت على الأغ�صان‬ ‫الياب�سة‪ ،‬كل �شيء �ساكن‪� ،‬إال طلقات البنادق الهزيلة‪ ،‬حتاول عبث ًا‬ ‫الوقوف يف وجه الهجوم‪� ..‬إما املدفع‪� ..‬إما جهنم‪..‬‬ ‫وه ّز �سعيد احلم�ضوين ر�أ�سه وك�أنه يوا�سي نف�سه مب�صاب ابنه‪ ،‬ثم‬ ‫فكر ‪� :‬أن ال بد من �إجراء‪ ..‬البد‪� ..‬شيء قوي كالكالبة يجب �أن مي�سك‬ ‫الفوهة الهاربة �إىل بطن املدفع‪� ..‬شيء قوي‪..‬‬ ‫ ا�سمع‪� ..‬س�أ�شد املا�سورة �إىل بطن املدفع بكفي‪ .‬وحاول �أن تطلق‪..‬‬‫ال يوجد �أية دقيقة لت�ضيع يف كالم‪ ..‬دعنا جنرب‪،‬‬ ‫ لكن‪..‬‬‫ �أطلق!‬‫ �سريانا اليهود و�أنت فوق احلفرة‪.‬‬‫ �أطلق!‬‫ �ستحرق كفيك بلهب الر�صا�ص‪..‬‬‫ �أطلق‪� ..‬أطلق!‪.‬‬‫وبد�أ املدفع يهدر ب�صوته املتتابع الثقيل‪ ،‬ومع �صوته املحبوب‪،‬‬ ‫�شعر �سعيد احلم�ضوين بنف�سيته التي تغذت طوي ًال بالثورة والدم والقتال‬ ‫يف اجلبال‪� ،‬شعر ب�أنها النهاية‪ ..‬نهاية تاق �إليها طوي ًال وها هي ذي‬ ‫تتقدم �إليه بت�ؤدة‪ ،‬كم هو ب�شع املوت‪ ..‬وكم هو جميل �أن يختار الإن�سان‬ ‫القدر الذي يريد‪ ..‬و�سمع �صوته من خالل دقات الر�صا�ص‪:‬‬ ‫‪47‬‬


‫املدفع‬

‫ ا�سمع �أريد �أن �أو�صيك و�صية هامة‪..‬‬‫ وعاد ي�صيخ �إىل املدفع وا�ستخل�ص من �صوت الر�صا�ص ثقة‬‫جديدة ليتابع وهو يحاول �أن مي�ضغ �أمله‪:‬‬ ‫ قرب قرية (�أبو كبري) �أبعد منها قلي ًال‪ ،‬يوجد م�ست�شفى لل�سل‪..‬‬‫عرفته؟ح�سن ًا! يل هناك مبلغ جيد من املال‪ ،‬قالوا يل‪� ..‬أن �أرجع لأقب�ضه‬ ‫بعد �أن يفح�صوا الدم‪� ..‬أنا مت�أكد �أنه‪ ..‬دم جيد‪ ..‬يف كل مرة يقولون‬ ‫�إنهم يريدون �أن يفح�صوا الدم ك�أن دم الإن�سان يتغري يف خالل �أ�سبوع‬ ‫ون�صف‪ ..‬ا�سمع‪� ..‬إن ثمن املدفع مل ي�سدد كله‪� ..‬ستجد ا�سم التاجر يف‬ ‫داري‪ ..‬هو من يافا‪ .‬لقد دفعت ق�سم ًا كبرياً من ثمنه من تربعاتكم‪ .‬لقد‬ ‫�أو�شك ثمنه �أن يتم‪ ..‬هل تعرف �أنهم ي�شرتون الدم مببلغ كبري؟ لو ع�شت‬ ‫�شهرين فقط؟ �شهرين �آخرين ال�ستطعت �أن �أ�سدد كل ثمنه‪� ..‬إنني �أعطيهم‬ ‫دم ًا جيداً‪ ..‬ثمنه جيد‪ ..‬خذ ح�سن وح�سني واذهب �إىل ذلك امل�ست�شفى‪..‬‬ ‫�أال تريد �أن يبقى املدفع عندكم‪� ..‬إن ح�سن وح�سني‪ ..‬ولداي‪ ..‬يعرفان‬ ‫كيف يذهبان �إىل هناك‪ ..‬لقد كانا يذهبان معي يف كل مرة‪� ..‬إن دماءنا‬ ‫جميع ًا جيدة‪ ..‬جيدة جداً‪ ..‬الق�ضية ق�ضية احلليب الذي ر�ضعناه‪..‬‬ ‫ق�ضية‪� ..‬أريد �أن �أقول لك �شيئ ًا �آخر‪� ..‬إذا تراجع اليهود هذه املرة‪ ..‬تكون‬ ‫�آخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية‪� ..‬سيخافون‪ ..‬فعليكم �أن تنقلوا‬ ‫املدفع �إىل ال�شمال‪ ..‬لأن الهجوم التايل �سيكون من هناك‪..‬‬ ‫وا�شتد �شعوره بالنار تل�سع كفيه بق�سوة‪ ..‬و�أح�س �إح�سا�س ًا ملح ًا �أنه‬ ‫لو كان يف �صحته العادية ال�ستطاع �أن يقاوم �أح�سن من الآن‪ ،‬وراوده‬ ‫�شعور قامت بالندم على �أنه �سلك يف �رشاء املدفع ذلك ال�سبيل‪ ،‬ولكنه‬ ‫�أح�س �إح�سا�س ًا دافق ًا �أن املدفع طرف �آخر من املو�ضوع‪ ،‬طرف هام‪� ..‬أن‬ ‫وجوده يحافظ على �أهميته قبل �أن ميوت هو‪ ،‬وبعد �أن ميوت‪..‬‬ ‫ف�أغم�ض عينيه‪ ،‬وحاول جاهداً �أن يحرر نف�سه من �سجن ذاته كي‬ ‫ين�سى �أمله‪ ..‬لكنه مل ي�ستطع‪ ..‬ف�أ�سقط ركبته على الأر�ض يف ثقل‪..‬‬ ‫‪48‬‬

‫وعلى �صوت الطلقات املتقطعة بانتظام وعنف‪� ..‬أح�س �سعيد‬ ‫احلم�ضوين ب�أ�شياء كثرية‪ ..‬ك�أنها ماليني الإبر تدخل يف �رشايينه‬ ‫فت�سلبه ما تبقى من دمه‪ ،‬ثم �شعر ب�أطرافه جميعها تنكم�ش ك�أنها ورقة‬ ‫جافة يف نهاية ال�صيف‪ ..‬وبجهد �رش�س حاول �أن يرفع ر�أ�سه لي�شم‬ ‫احلياة‪� ،‬إال �أنه وجد نف�سه فج�أة يف تنور من ذلك النوع الذي يكرث‪ ..‬يف‬ ‫ال�سلمة‪ ،‬والذي عا�ش �إىل جواره فرتات طويلة من �صباه‪ ،‬وجد نف�سه‬ ‫يف ذلك التنور جنب ًا �إىل جنب مع الأرغفة ال�ساخنة حتمر حتت �أل�سنة‬ ‫اللهب‪ ،‬ور�أى بعينيه فقاقيع العجني امللتهبة‪ ،‬تطري عن رغيف املرقوق‬ ‫وتلت�صق على �شفتيه‪ ،‬و�شعر بيد قا�سية ت�شد ر�أ�سه �إىل �أدنى‪� ..‬إىل �أدنى‪..‬‬ ‫�إىل �أدنى‪ ..‬في�سمع لفقرات رقبته �صوت ًا منتظم ًا ثقي ًال وهي تتك�رس حتت‬ ‫ثقل ر�أ�سه‪ ..‬و�أح�س �أنه فع ًال ال يريد �أن ميوت‪ ،‬و�أعطته الفكرة دفقة‬ ‫�أخرى من احلياة‪ ..‬فاكت�شف �أن �صوت تك�رس فقرات رقبته هو �صوت‬ ‫الر�صا�ص الذي ينطلق من املدفع الر�شا�ش‪ ،‬و�شعر مبوا�ساة من نوع‬ ‫غريب‪ ،‬موا�ساة ت�شبه تلك التي يراها الوالد يف ولد عا�ش بعد م�رصع‬ ‫�أخيه‪ ،‬فابت�سم باطمئنان‪ ،‬وخرج من(التنور)‪ ،‬لكنه �شعر �أنه مل يلم�س‬ ‫الأر�ض بقدميه‪..‬‬ ‫و�شيعته القرية كلها �إىل مقره الأخري‪� ..‬أو الأول‪� ..‬سيان‪..‬‬ ‫دم�شق ‪57/8/12‬‬

‫‪49‬‬


‫قرار موجز‬

‫‪4‬‬ ‫‪ -4‬قرار موجز‬ ‫كان من هواة الفل�سفة‪..‬واحلياة بالن�سبة له هي جمرد نظرية‪ ..‬لقد‬ ‫بد�أ يتفل�سف منذ كان طف ًال‪ ،‬ويذكر متام ًا كيف �أوجد لنف�سه �س�ؤا ًال �شغله‬ ‫طيلة �أ�سبوع كامل‪ ،‬واعتربه م�شكلة جديرة بالتفكري العميق ‪ :‬ملاذا‬ ‫يلب�س الإن�سان القبعة يف ر�أ�سه واحلذاء يف قدمه ؟ ملاذا ال ي�ضع على‬ ‫ر�أ�سه حذاء ويلب�س قبعة يف قدمه؟‪.‬ملاذا؟‪ .‬وفكر مرة �أخرى ب�س�ؤال‬ ‫جديد‪ :‬ملاذا ال ي�سري الإن�سان على يديه ورجليه �ش�أن �سائر احليوانات‪..‬‬ ‫�أال يكون م�سريه ذاك مدعاة لراحة �أكرث؟‬ ‫وتو�صل‬ ‫�إال �أن م�ستوى فل�سفته ارتفع مع م�سري الزمن‪ .‬وتو�صل‬ ‫َّ‬ ‫م�ؤخراً �إىل قرار موجز‪« :‬طاملا �أن الإن�سان ُد ِفع ليعي�ش دون �أن ي�ؤخذ‬ ‫ر�أيه بذلك‪ ،‬فلماذا ال يختار هو وحده نهايته؟»‪ .‬ومن هذا القرار املوجز‬ ‫تو�صل �إىل قرار �أكرث �إيجازاً‪« :‬املوت هو خال�صة احلياة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬تو�صل �إىل ا�ستقرار دعاه بنهاية املطاف‪ ..‬و�أخذ ينتظر‬ ‫‪50‬‬

‫اللحظة التي ي�ستطيع فيها �أن ي�رشع باختيار طريقة م�رشفة مليتة ما‪..‬‬ ‫�إذن‪ ،‬ف�إن من يدعي �أن عبد اجلبار ُد ِفع دفع ًا لي�شرتك يف ثورة‪ ..‬ال‬ ‫يعرف احلقيقة مطلق ًا‪ ..‬فهو قد اختار بنف�سه �أن يذهب ملركز التطوع‬ ‫و�أن يقف �أمام طاولة ال�ضابط الذي يقول ب�صوت ثابت‪:‬‬ ‫ �أريد بارودة لأ�ستطيع �أن �أ�شرتك بالثورة‪..‬‬‫و�رسعان ما اكت�شف �أن ق�ضية البارودة لي�ست �سهلة باملرة‪..‬و�أن‬ ‫عليه هو �أن ي�صطاد بارودة ما بالكيفية التي يريد‪ ..‬ومن ثم ي�ستطيع‬ ‫�أن ي�شرتك بالثورة‪..‬‬ ‫ ولكنني قد �أموت قبل �أن �أح�صل على بارودة‪..‬هكذا قال خانق ًا‪،‬‬‫ولكنه ما لبث �أن �سكت وهو ي�سمع جواب ًا غريب ًا‪ ،‬ولكنه �صحيح تقريب ًا‪:‬‬ ‫ وهل �أتيت �إىل هنا كي ت�ستمتع ب�صيفية لطيفة‪ ..‬ثم لتعود �إىل‬‫دارك ؟‬ ‫هنا‪ ،‬فكر �أن فل�سفته تقت�ضي تعدي ًال طفيف ًا‪� ..‬إذ �أنه رمبا مات قبل‬ ‫�أن يح�صل على بارودة‪ ،‬ومل تنق�ض فرتة طويلة جداً كي يتو�صل لقرار‬ ‫موجز جديد‪« :‬لي�س املهم �أن ميوت الإن�سان‪� ،‬أن يحقق فكرته النبيلة‪..‬‬ ‫بل املهم �أن يجد لنف�سه فكرة نبيلة قبل �أن ميوت‪»..‬‬ ‫وهكذا ا�ستطاع عبد اجلبار �أن ي�ستح�صل على بارودة جديدة تقريب ًا‪،‬‬ ‫أعد‪ ،‬اذ �أنه كان‬ ‫ومل تكلِّفه جهداً بال�شكل الذي‬ ‫ت�صور �أو بال�شكل الذي � ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتجول خارج «‪ »....‬بعد معركة حدثت يف ال�صباح‪ ،‬فوجد جندي ًا ميت ًا‬ ‫«وامليت ال يحتاج لبارودة»‪ ،‬هكذا قال لنف�سه وهو يقلب اجلثة عن‬ ‫بارودة فرن�سية ذات فوهة مدببة‪.‬‬ ‫وبني رفاق املرتا�س عرف عبد اجلبار بـ«الفيل�سوف»‪ ،‬وجد‬ ‫املنا�ضلون يف فل�سفته منطق ًا �صاحل ًا لتربير الأمور التي حتدث‪ ..‬كان‬ ‫ي�رسه �أنه يكربهم قلي ًال و�أنه ي�ستطيع‬ ‫معظم الثوار من ال�شباب‪ ،‬وكان ّ‬ ‫در�سهم قراره املوجز اجلديد ب�ش�أن املوت‪.‬‬ ‫�أن يجمعهم بعد كل معركة ُ‬ ‫لي ِّ‬ ‫‪51‬‬


‫قرار موجز‬

‫وبعد كل قتيل‪ ،‬كانت الفل�سفة تتطور وتتغري‪ ..‬ففي ليلة مظلمة مات‬ ‫فالح �أمي‪ ..‬وقبل �أن ي�سقط فوق الرتا�س �شتم «‪ ».....‬ورجال «‪ ..».....‬وفكر‬ ‫عبد اجلبار بكلمة ت�صلح لت�أبني ال�شهيد‪ ،‬ف�إذا بالكلمة ت�صبح قراره‬ ‫املوجز اجلديد ‪�«:‬إن الفكرة النبيلة ال حتتاج غالب ًا للفهم‪ ..‬بل حتتاج‬ ‫للإح�سا�س!» وبعد ليلة واحدة مات �شاب كان قد خرج من املرتا�س‬ ‫وهجم بال�سكني على جندي كان يزحف قرب اجلدار‪ ،‬و�أطلقت النار عليه‬ ‫وهو يف طريق عودته �إىل املرتا�س‪ ..‬وقال عبداجلبار «�إن ال�شجاعة هي‬ ‫مقيا�س الإخال�ص‪ »..‬وكان عبداجلبار بالذات �شجاع ًا‪ ..‬فلقد طلب منه‬ ‫ال�ضابط‪ ،‬وكان قد تو�صل �أخرياً �إىل �إيجاد بذلة ع�سكرية مالئمة‪� ،‬أن‬ ‫يذهب للميناء كي يرى ماذا يجري هناك‪ ،‬وقال له �إن منظر وجهه‬ ‫الهادئ احلزين ال يثري الريبة يف قلوب اخلائفني‪..‬‬ ‫و�سار عبداجلبار يف ال�شوارع بال �سالح‪ ،‬وو�صل للميناء وجتول ما‬ ‫التجول‪ ،‬ثم قفل عائداً �إىل مرتا�سه‪..‬‬ ‫�شاء له‬ ‫ُّ‬ ‫�إن الأمور جتري عك�س ما يفرت�ض املرء‪ ..‬فلقد عرفه واحد ممن‬ ‫ا�شرتكوا مرة يف الهجوم‪ ..‬وقب�ض عليه‪ ..‬و�ساقه �إىل حيث قال له �ضابط‬ ‫خائف بعد �أن �صفعه‪:‬‬ ‫ �إنك ثائر‪...‬‬‫ نعم‪...‬‬‫ ملعون‪..‬‬‫ كال!‬‫ومل ين�س عبد اجلبار وهو حتت ال�رضب الذي ال يرحم �أن ي�ضع قراراً‬ ‫موجزاً جديداً ‪�« :‬إن �رضب ال�سجني هو تعبري مغرور عن اخلوف‪»...‬‬ ‫و�شعر �إثر ذلك القرار‪ ،‬ب�شيء من االرتياح‪..‬‬

‫�أخرياً �إىل فكرة اعتربها‪ ،‬بينه وبني �أعوانه املخل�صني فكرة ذكية‪ ..‬بينما‬ ‫عدها عبداجلبار ت�رصف ًا مغروراً �آخر ينتج يف العادة عن اخلوف‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫قال له ال�ضابط‪:‬‬ ‫ �ست�سري �أمامنا �إىل مرتا�سكم امللعون‪ ...‬و�ستعلن لرفاقك املجانني‬‫�أنك �أح�رضت معك عدداً جديداً من الثوار‪ ..‬ثم �سيكمل جنودي بقية‬ ‫الق�صة‪...‬‬ ‫ و�أنا؟‬‫مكرم ًا‪� ..‬أو �ستموت كالكلب �إن حاولت خيانتنا‪..‬‬ ‫ �ستعي�ش مع َّززاً َّ‬‫حد ذاتها ميتة‬ ‫وقال عبد اجلبار يف ذات نف�سه «�إن اخليانة يف ّ‬ ‫حقرية»‪.‬‬ ‫و�أمام �صفني من اجلنود �سار عبداجلبار مرفوع اجلبني‪ ،‬وفوهة‬ ‫مدفع ر�شا�ش تنخر خا�رصته‪ ..‬وقبل �أن ي�صل �إىل املرتا�س بقليل �سمع‬ ‫يفح يف الظالم‪:‬‬ ‫�صوت ال�ضابط املبحوح ّ‬ ‫ هيا‪..‬‬‫مل يكن عبد اجلبار خائف ًا �إذ �إن رفاق الرتا�س قالوا �إن �صوته كان‬ ‫ثابت ًا قوي ًا عندما �سمعوه ي�صيح ‪:‬‬ ‫‪ ..‬لقد �أح�رضت لكم خم�سني جنديا‪.‬‬‫***‬ ‫مل يكن عبداجلبار قد مات‪ ،‬بعد‪ ،‬عندما و�صل رفاقه اليه ملقى بني‬ ‫جمة �سمع �أحدهم �صوته ميلي قراره املوجز‬ ‫جثث اجلنود‪ ..‬وب�صعوبة ّ‬ ‫الأخري‪:‬‬ ‫«لي�س املهم �أن ميوت �أحدنا‪ ..‬املهم �أن ت�ستمروا‪»..‬‬ ‫ثم مات‪.‬‬

‫ولكن الأمور جرت‪ ،‬من ثم‪ ،‬على نحو مغاير‪.‬فلقد تو�صل ال�ضابط‬

‫دم�شق ‪1958/7/21‬‬

‫‪52‬‬

‫‪53‬‬


‫ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم‬

‫‪ .55‬ال�صغري يذهب �إىل املخيم‬ ‫كان ذلك زمن احلرب‪ .‬احلرب؟ كال‪ ،‬اال�شتباك ذاته‪ ..‬االلتحام املتوا�صل‬ ‫بالعدو لأنه �أثناء احلرب قد تهب ن�سمة �سالم يلتقط فيها املقاتل �أنفا�سه‪.‬‬ ‫راحة‪ .‬هدنة‪� .‬إجازة تقهقر‪� .‬أما يف اال�شتباك ف�إنه دائم ًا على بعد طلقة‪.‬‬ ‫متر ب�أعجوبة بني طلقتني‪ ،‬وهذا ما كان‪ ،‬كما قلت لك‪ ،‬زمن‬ ‫�أنت دائم ًا ّ‬ ‫اال�شتباك امل�ستمر‪.‬‬ ‫يحب‬ ‫كنت �أ�سكن مع �سبعة �أخوة كلهم ذكور �شديدو املرا�س‪ ،‬و�أب ال ّ‬ ‫زوجته رمبا لأنها �أجنبت له زمن اال�شتباك ثمانية �أطفال‪ .‬وكانت عمتنا‬ ‫وجدنا العجوز الذي كان‬ ‫وزوجها و�أوالدها اخلم�سة ي�سكنون معنا �أي�ض ًا‪ّ ،‬‬ ‫�إذا ما عرث على خم�سة قرو�ش على الطاولة �أو يف جيب �أحد ال�رساويل‬ ‫الكثرية املع ّلقة م�ضى دون تردد وا�شرتى جريدة‪ ،‬ومل يكن يعرف‪ ،‬كما‬ ‫تعلم‪ ،‬القراءة‪ ،‬وهكذا كان م�ضطراً لالعرتاف دائم ًا مبا اقرتف كي يقر�أ‬ ‫�أحدنا على م�سمعه الثقيلني �آخر الأخبار‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫يف ذلك الزمن – دعني �أو ًال �أقل لك �إنه مل يكن زمن ا�شتباك باملعنى‬ ‫يخيل �إليك‪ ،‬ك ّال مل تكن ثمة حرب حقيقية‪ .‬مل تكن ثمة �أي حرب على‬ ‫الذي ّ‬ ‫الإطالق‪ .‬كل ما يف الأمر �أننا كنا ثمانية ع�رش �شخ�ص ًا يف بيت واحد من‬ ‫جميع الأجيال التي ميكن �أن تتو ّفر يف وقت واحد‪ .‬مل يكن �أي واحد م ّنا قد‬ ‫همنا‬ ‫جنح بعد يف احل�صول على عمل‪ ،‬وكان اجلوع ‪ -‬الذي ت�سمع عنه ‪َّ -‬‬ ‫اليومي‪ .‬ذلك �أ�سميه زمن اال�شتباك‪� .‬أنت تعلم‪ .‬ال فرق على الإطالق‪.‬‬ ‫كنا نقاتل من �أجل الأكل‪ ،‬ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا‪ ،‬ثم نتقاتل‬ ‫جدي جريدته املطوية باعتناء‬ ‫بعد ذلك‪ .‬ثم يف �أية حلظة �سكون ُيخرج ّ‬ ‫من بني مالب�سه ناظراً �إىل اجلميع بعينيه ال�صغريتني املتح ّفزتني‪،‬‬ ‫معنى ذلك �أن خم�سة قرو�ش قد �رسقت من جيب ما ‪� -‬إذا كان فيه هناك‬ ‫متم�سك ًا‬ ‫جدي‬ ‫خم�سة قرو�ش ‪� -‬أو من مكان ما‪ .‬و�أن �شجاراً �سيقع‪ .‬ويظل ّ‬ ‫ّ‬ ‫يت�صدى للأ�صوات ب�سكون ال�شيخ الذي عا�ش وقت ًا كافي ًا‬ ‫باجلريدة وهو‬ ‫ّ‬ ‫وال�شجار دون �أن يرى فيها ما ي�ستحق‬ ‫لال�ستماع �إىل كل هذا ال�ضجيج ّ‬ ‫اجلواب �أو االهتمام‪ ..‬وحني تهد�أ الأ�صوات مييل �أقرب ال�صبيان �إليه (ذلك‬ ‫�أنه مل يكن يثق بالبنات) ويدفع له ال�صحيفة وهو مي�سك طرفها‪ ،‬كي ال‬ ‫تخطف‪.‬‬ ‫وكنت مع ع�صام يف العا�رشة – كان �أ�ضخم مني قلي ًال كما هو الآن‪..‬‬ ‫وكان يعترب نف�سه زعيم �إخوته �أبناء عمتي ‪ -‬كما كنت �أعترب نف�سي زعيم‬ ‫عمتي �أن يجدا لنا‬ ‫�إخوتي‪ ..‬وبعد حماوالت عديدة ا�ستطاع والدي وزوج ّ‬ ‫مهنة يومية‪ :‬نحمل ال�سلة الكبرية مع ًا ون�سري حوايل �ساعة وربع‪ ،‬حتى‬ ‫ن�صل �إىل �سوق اخل�ضار بعد الع�رص بقليل‪ .‬يف ذلك الوقت �أنت ال تعرف‬ ‫كيف يكون �سوق اخل�ضار‪ :‬تكون الدكاكني قد بد�أت ب�إغالق �أبوابها و�آخر‬ ‫ال�شاحنات التي تعرب مبا تب ّقى‪ ،‬ت�ستعد ملغادرة ذلك ال�شارع املزحوم‪.‬‬ ‫هينة و�صعبة يف �آن واحد‪ .‬فقد كان‬ ‫وكانت مهمتنا ‪ -‬ع�صام و�أنا ‪ّ -‬‬ ‫يتعينّ علينا �أن جند ما نعبئ به �س َّلتنا‪� :‬أمام الدكاكني‪ .‬وراء ال�سيارات‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم‬

‫املعني يف قيلولة �أو داخل حانوته‪.‬‬ ‫وفوق املفار�ش �أي�ض ًا �إذا كان‬ ‫ّ‬ ‫مير املقاتل‬ ‫�أقول لك �إنه كان زمن اال�شتباك‪� :‬أنت ال تعرف كيف ّ‬ ‫بني طلقتني طوال نهاره‪ .‬كان ع�صام يندفع كال�سهم ليخطف ر�أ�س‬ ‫ملفوف مم ّزق �أو حزمة ب�صل‪ ،‬ورمبا تفاحة من بني عجالت ال�شاحنة‬ ‫أت�صدى لل�شياطني ‪� -‬أي بقية‬ ‫وهي تت� ّأهب‬ ‫للتحرك‪ .‬وكنت �أنا بدوري � ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأطفال‪� -‬إذا ما حاولوا تناول برتقالة �شاهدتها يف الوحل قبلهم‪ .‬وكنا‬ ‫نعمل طوال الع�رص‪ :‬نت�شاجر ع�صام و�أنا من جهة‪ ،‬مع بقية الأطفال �أو‬ ‫�أ�صحاب الدكاكني �أو ال�سائقني �أو رجال ال�رشطة �أحيان ًا‪ ،‬ثم �أت�شاجر مع‬ ‫ع�صام فيما تب ّقى من الوقت‪.‬‬ ‫كان ذلك زمن اال�شتباك‪� .‬أقول هذا لأنك ال تعرف‪� :‬إن العامل وقتئذ‬ ‫يق ّل على ر�أ�سه‪ ،‬ال �أحد يطالبه بالف�ضيلة‪� .‬سيبدو م�ضحك ًا من يفعل‪� ..‬أن‬ ‫تعي�ش كيفما كان وب�أية و�سيلة هو انت�صار مرموق للف�ضيلة‪ .‬ح�سن ًا‪ .‬حني‬ ‫ميوت املرء متوت الف�ضيلة �أي�ض ًا‪� .‬ألي�س كذلك؟ �إذن دعنا نتفق ب�أنه يف‬ ‫زمن اال�شتباك يكون من مهمتك �أن حتقق الف�ضيلة الأوىل‪� ،‬أي �أن حتتفظ‬ ‫حي ًا‪ .‬وفيما عدا ذلك ي�أتي ثاني ًا‪ .‬ولأنك يف ا�شتباك م�ستمر ف�إنه ال‬ ‫بنف�سك ّ‬ ‫يوجد ثاني ًا‪� :‬أنت دائم ًا ال تنتهي من �أو ًال‪.‬‬ ‫وكان يتعينّ علينا �أن نحمل ال�س ّلة مع ًا حني متتلئ ومن�ضي عائدين‬ ‫�إىل البيت‪ :‬ذلك كان طعامنا جميع ًا لليوم التايل‪ ..‬بالطبع كنا �أنا وع�صام‬ ‫متفقني على �أن ن�أكل �أجود ما يف ال�س ّلة على الطريق‪ .‬ذلك اتفاق مل‬ ‫نناق�شه �أبداً‪ ،‬مل نعلن عنه �أبداً‪ .‬ولكنه كان يحدث وحده‪ .‬ذلك �أننا كنا مع ًا‬ ‫يف زمن اال�شتباك‪.‬‬ ‫وكان ال�شتاء �شديد الق�سوة ذلك العام امللعون‪ ،‬وك ّنا نحمل �س ّلة ثقيلة‬ ‫حق ًا‪( ،‬هذا �شيء ال �أن�ساه‪ ،‬ك�أنك وقعت �أثناء املعركة يف خندق ف�إذا به‬ ‫يحوي �رسيراً) وكنت �آكل تفاحة‪ ،‬فقد ك ّنا خرجنا من بوابة ال�سوق و�رسنا‬ ‫يف ال�شارع الرئي�سي‪ .‬قطعنا ما يقرب من م�سري ع�رش دقائق بني النا�س‬ ‫‪56‬‬

‫وال�سيارات واحلافالت وواجهات الدكاكني دون �أن نتبادل كلمة (لأن‬ ‫ال�سلة كانت ثقيلة حق ًا وكنا نحن ‪ -‬االثنني ‪ -‬من�رصفني متام ًا �إىل‬ ‫الأكل) وفج�أة‪..‬‬ ‫ال‪ .‬هذا �شيء ال يو�صف‪ .‬ال ميكن و�صفه‪ :‬ك�أنك على ن�صل �سكني من‬ ‫عدوك و�أنت دون �سالح و�إذا بك يف اللحظة ذاتها جتل�س يف ح�ضن �أمك‪..‬‬ ‫دعني �أقل لك ما حدث‪ :‬ك ّنا نحمل ال�س ّلة كما قلت لك‪ ،‬وكان �رشطي‬ ‫يقف يف منت�صف الطريق‪ ،‬وكان ال�شارع مبت ًال‪ ،‬وكنا تقريب ًا دون �أحذية‪.‬‬ ‫رمبا كنت �أنظر �إىل حذاء ال�رشطي الثقيل وال�سميك حني �شهدتها فج�أة‬ ‫هناك‪ ،‬كان طرفها حتت حذائه‪� ،‬أي كنت بعيداً حوايل �ستة �أمتار ولكنني‬ ‫عرفت‪ ،‬رمبا من لونها �أنها �أكرث من لرية واحدة‪.‬‬ ‫طيب‪� .‬أنا ال‬ ‫نحن يف مثل هذه احلاالت ال نف ّكر‪ّ .‬‬ ‫يتحدثون عن الغريزة‪ّ .‬‬ ‫�أعرف ما �إذا كان لون الأوراق املالية �شيئ ًا له عالقة بالغريزة‪ .‬له عالقة‬ ‫بتلك القوة الوح�شية‪ ،‬املجرمة‪ ،‬القادرة على اخلنق يف حلظة‪ ،‬املوجودة‬ ‫يف �أعماق كل منا‪ .‬ولكن ما �أعرفه هو �أن املرء يف زمن اال�شتباك ال‬ ‫ينبغي له �أن يف ّكر حني يرى ورقة مالية حتت حذاء ال�رشطي وهو يحمل‬ ‫�سلة من اخل�ضار الفا�سد على بعد �ستة �أمتار‪ .‬وهذا ما فعلته‪� :‬ألقيت ببقايا‬ ‫التفاحة وتركت ال�سلة يف اللحظة ذاتها‪ .‬وال �شك �أن ع�صام متايل فج�أة‬ ‫حتت ثقل ال�سلة التي تركت يف يده ولكن كان قد �شاهدها بعدي بلحظة‬ ‫واحدة‪� .‬إ ّال �أنني بالطبع كنت قد اندفعت حتت وط�أة تلك القوة املجهولة‬ ‫التي جترب وحيد القرون على هجوم �أعمى‪ ،‬غايته �آخر الأر�ض‪ ،‬ونطحت‬ ‫�ساقي ال�رشطي بكتفي فرتاجع مذعوراً‪ .‬وكان توازين �أنا الآخر قد‬ ‫اخت ّل‪ .‬ولكنني مل �أقع على الأر�ض ‪ -‬ويف تلك اللحظة التي يح�سب فيها‬ ‫الأغبياء �أن ال�شيء ميكن له �أن يحدث ‪� -‬شاهدتها‪ :‬كانت خم�س لريات‪ .‬مل‬ ‫�أ�شاهدها فح�سب بل التقطتها وا�ستكملت �سقوطي‪� .‬إ ّال �أنني وقفت ب�أ�رسع‬ ‫مما �سقطت وبد�أت �أرك�ض ب�أ�رسع مما وقفت‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم‬

‫وم�ضى العامل ب�أجمعه يرك�ض ورائي‪� :‬ص ّفارة ال�رشطي‪ ،‬و�صوت‬ ‫حذائه يقرع بالط ال�شارع ورائي متام ًا‪� .‬رصاخ ع�صام‪� ،‬أجرا�س احلافالت‪.‬‬ ‫نداء النا�س‪ ..‬هل كانوا حق ًا ورائي؟ لي�س بو�سعك �أن تقول ولي�س بو�سعي‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬لقد عدوت مت�أكداً حتى �صميمي �أن ال �أحد يف كل الكواكب ال�سيارة‬ ‫ي�ستطيع �أن مي�سكني‪ ..‬وبعقل طفل الع�رش �سنوات �سلكت طريق ًا �آخر‪.‬‬ ‫�سيدل ال�رشطي على طريقي‪ .‬ل�ست �أدري‪.‬‬ ‫رمبا لأنني ح�سبت �أن ع�صام‬ ‫ّ‬ ‫مل �ألتفت‪ .‬كنت �أرك�ض وال �أذكر �أنني تعبت‪ ..‬كنت جندي ًا هرب من ميدان‬ ‫حرب �أجرب على خو�ضها ولي�س �أمامه �إ ّال �أن يظل يعدو والعامل وراء‬ ‫كعبي حذائه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وو�صلت �إىل البيت بعد الغروب‪ ،‬وحني فتح يل الباب �شهدت ما كنت‬ ‫�أ�شعر يف �أعماقي �أنني �س�أ�شهده‪ :‬كان ال�سبعة ع�رش خملوق ًا يف البيت‬ ‫در�سوين ب�رسعة‪ ،‬ولكن بدقة‪ ،‬حني وقفت يف حلق‬ ‫ينتظرونني‪ .‬وقد ّ‬ ‫الباب �أبادلهم النظر‪:‬كفي مطبقة على اخلم�س لريات يف جيبي‪ ،‬وقدماي‬ ‫ثابتتان يف الأر�ض‪.‬‬ ‫كان ع�صام يقف بني �أمه و�أبيه‪ ،‬وكان غا�ضب ًا‪ .‬ال �شك �أن �شجاراً قد‬ ‫وقع بني العائلتني قبل مقدمي‪ .‬وا�ستنجدت بجدي الذي كان جال�س ًا يف‬ ‫يل ب�إعجاب‪ :‬رج ًال كان‬ ‫الركن ملتحف ًا بعباءته البنية النظيفة ينظر �إ ّ‬ ‫حكيم ًا كان‪ .‬رج ًال حقيقي ًا يعرف كيف ينبغي له �أن ينظر �إىل الدنيا‪.‬‬ ‫وكان كل ما يريده من اخلم�س لريات‪ :‬جريدة كبرية هذه املرة‪.‬‬ ‫وانتظرت ال�شجار بفارغ ال�صرب‪ .‬كان ع�صام بالطبع قد كذب‪ :‬قال‬ ‫لهم �إنه هو الذي وجد اخلم�س لريات و�أنني �أخذتها منه بالقوة‪ .‬لي�س ذلك‬ ‫فقط‪ ،‬بل �أجربته على حمل ال�سلة الثقيلة وحده طوال امل�سافة املنهكة‪:‬‬ ‫�أمل �أقل لك �إنه زمن اال�شتباك؟ مل يكن �أي واحد منا مهتم ًا فقط بل كان‬ ‫مت�أكداً من �أن �أحداً مل يهتم باحلقيقة‪ .‬لي�س ذلك فقط بل �إنه ارت�ضى �أن‬ ‫يذل نف�سه ويعلن رمبا للمرة الأوىل �أنني �رضبته و�أنني �أقوى منه‪ ..‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫‪58‬‬

‫ما قيمة ذلك كله �أمام امل�س�ألة احلقيقية الأوىل‪.‬‬ ‫كان �أبوه يف ّكر ب�شيء �آخر متام ًا‪ :‬كان م�ستعداً لقبول ن�صف املبلغ‬ ‫وكان �أبي يريد الن�صف الآخر لأنني لو جنحت يف االحتفاظ باملبلغ‬ ‫كله ل�صار من حقي وحدي‪� ،‬أما �إذا تخ ّليت عن هذا احلق ف�أفقد كل �شيء‬ ‫و�سيتقا�سمون املبلغ‪.‬‬ ‫ولكنهم مل يكونوا يعرفون حق ًا معنى �أن يكون الطفل مم�سك ًا بخم�س‬ ‫لريات يف جيبه زمن اال�شتباك‪ ..‬وقد قلت لهم جميع ًا بلهجة حملت لأول‬ ‫مرة يف حياتي طابع التهديد برتك البيت و�إىل الأبد‪� :‬إن اخلم�س لريات‬ ‫يل وحدي‪.‬‬ ‫جن جنونهم‪� ،‬ضاع رابط الدم فوقفوا جميع ًا‬ ‫و�أنت تعرف ال �شك‪ّ :‬‬ ‫�ضدي‪ .‬لقد �أنذروين �أو ًال‪ .‬ولكنني كنت م�ستعداً ملا هو �أكرث من ذلك ثم‬ ‫بد�أوا ي�رضبونني‪ .‬وكان بو�سعي بالطبع �أن �أدافع عن نف�سي‪ ،‬ولكن لأنني‬ ‫�أردت �أن �أحتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على اخلم�س لريات فقد كان‬ ‫جدي على‬ ‫تفرج ّ‬ ‫من الع�سري حق ًا �أن �أجتنب ال�رضبات املحكمة‪ .‬وقد ّ‬ ‫املعركة با�ستثناء بادئ الأمر‪ ،‬ثم ملا بد�أت املعركة تفقد طرافتها قام‬ ‫فوقف �أمامهم‪ ،‬وبذلك ي�سرَّ يل �أن �ألت�صق به‪ .‬اقرتح ت�سوية‪ .‬قال �إن الكبار‬ ‫ال حق لهم باملبلغ‪ .‬ولكن من واجبي �أن �آخذ كل �أطفال البيت ذات يوم‬ ‫�صحو �إىل حيث ن�رصف جميع ًا مبلغ اخلم�س لريات كما ن�شاء‪.‬‬ ‫تقدمت �إىل الأمام معتزم ًا الرف�ض‪� ،‬إ ّال �أنني يف اللحظة ذاتها‬ ‫عندها ّ‬ ‫�شهدت يف عينيه ما �أم�سكني‪ .‬مل �أفهم بال�ضبط �آنذاك ما كان يف عينيه‪،‬‬ ‫ولكنني �شعرت فقط �أنه كان يكذب و�أنه كان يرجوين �أن �أ�صمت‪.‬‬ ‫�أنت تعرف �أن طفل الع�رش �سنوات – زمن اال�شتباك – ال ي�ستطيع �أن‬ ‫جدي‪.‬‬ ‫يفهم الأمور (�إذا كان ثمة حاجة لفهمها) كما ي�ستطيع عجوز مثل ّ‬ ‫ولكن هذا هو ما ح�صل‪ .‬كان يريد جريدته رمبا كل يوم ملدة �أ�سبوع –‬ ‫وكان يهمه �أن ير�ضيني ب�أي ثمن‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم‬

‫وهكذا اتفقنا ذلك امل�ساء‪ .‬ولكنني كنت �أعرف �أن مهمتي مل تنته‪.‬‬ ‫علي �أن‬ ‫فعلي �أن �أحمي اللريات اخلم�س كل حلظات الليل والنهار‪ .‬ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعلي �أي�ض ًا �أن �أواجه حماوالت �إقناع وتغرير لن‬ ‫أطفال‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بقية‬ ‫أماطل‬ ‫�‬ ‫ّ‬ ‫تكف عنها �أمي‪ .‬قالت يل ذلك امل�ساء �أن اللريات اخلم�س ت�شرتي رطلني‬ ‫من اللحم‪� ،‬أو قمي�ص ًا جديداً يل‪� ،‬أو دواء حني تقت�ضي احلاجة‪� ،‬أو كتاب ًا �إذا‬ ‫ما ف ّكروا ب�إر�سايل �إىل مدر�سة جمانية يف ال�صيف القادم‪ ...‬ولكن ما نفع‬ ‫الكالم؟ ك�أنها كانت تطلب مني و�أنا �أعرب بني طلقتني �أن �أنظف حذائي‪.‬‬ ‫ومل �أكن �أعرف بال�ضبط ماذا كنت �أنوي �أن �أفعل‪ .‬ولكنني طوال‬ ‫الأ�سبوع الذي جاء بعد ذلك جنحت يف مماطلة الأطفال‪ ،‬ب�آالف من‬ ‫الكذبات التي كانوا يعرفون �أنها كذلك ولكنهم مل يقولوا �إطالق ًا �أنها‬ ‫�أكاذيب‪ .‬مل تكن الف�ضيلة هنا‪� .‬أنت تعلم‪ .‬كانت م�س�ألة �أخرى تدور حول‬ ‫الف�ضيلة الوحيدة �آنذاك‪ :‬اخلم�س لريات‪.‬‬ ‫جدي كان يفهم الأمور‪ ،‬وكان يريد جريدته ثمن ًا معاد ًال لدوره‬ ‫ولكن ّ‬ ‫يف الق�صة‪ ،‬وحني م�ضى الأ�سبوع بد�أ يتململ‪ .‬لقد �شعر (من امل�ؤكد �أنه‬ ‫�شعر‪ ،‬ذلك لأن رج ًال عجوزاً مثله ال ميكن �أن تفوته تلك احلقيقة) �أنني‬ ‫لن �أ�شرتي له اجلريدة‪ ،‬و�أنه فقد فر�صته‪ ،‬ولكنه مل يكن ميتلك �أية و�سيلة‬ ‫ال�سرتدادها‪.‬‬ ‫مرت ع�رشة �أيام �أخرى اعتقد اجلميع �أنني �رصفت اللريات‬ ‫وحني ّ‬ ‫جدي‬ ‫اخلم�س‪ ،‬و�أن يدي يف جيبي تقب�ض على فراغ‪ .‬على خديعة‪ .‬ولكن ّ‬ ‫كان يعرف �أن اللريات اخلم�س ما تزال يف جيبي‪ .‬ويف الواقع قام ذات‬ ‫ليلة مبحاولة ل�سحبها من جيبي و�أنا م�ستغرق يف النوم‪( ،‬كنت �أنام‬ ‫مبالب�سي) �إ ّال �أنني �صحوت فرتاجع �إىل فرا�شه ونام دومنا كلمة‪.‬‬ ‫جدي حزين ًا لأنه مل يح�صل على‬ ‫قلت لك‪� .‬إنه زمن اال�شتباك‪ .‬كان ّ‬ ‫جريدة‪ ،‬ولي�س لأنني نكثت بوعد مل ُي َّت َفق عليه‪ .‬كان يفهم زمن اال�شتباك‪،‬‬ ‫ولذلك مل يلمني طوال ال�سنتني اللتني عا�شهما بعد ذلك على ما فعلته‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫وقد ن�سي ع�صام الق�صة �أي�ض ًا‪ .‬كان يف �أعماقه – كطفل �صعب املرا�س‪-‬‬ ‫يفهم متام ًا ما حدث‪ .‬وا�صلنا رحالتنا اليومية �إىل �سوق اخل�ضار‪ ،‬كنا‬ ‫نت�شاجر �أقل من �أي وقت م�ضى ونتحادث قلي ًال‪ .‬يبدو �أن �شيئ ًا ما –‬ ‫جداراً جمهو ًال ارتفع فج�أة بينه – هو الذي ما زال يف اال�شتباك – و�أنا‬ ‫الذي تن ّف�ست – لي�س يدري كم – هواء �آخر‪.‬‬ ‫و�أذكر �أنني احتفظت باخلم�س لريات يف جيبي طوال اخلم�سة �أ�سابيع‪:‬‬ ‫عد خروج ًا الئق ًا لها يف زمن اال�شتباك‪� .‬إ ّال �أن كل �شيء حني يقرتب‬ ‫كنت �أُ ّ‬ ‫من التنفيذ كان يبدو وك�أنه ج�رس للعودة �إىل زمن اال�شتباك ولي�س‬ ‫للخروج منه‪.‬‬ ‫كيف ت�ستطيع �أن تفهم ذلك؟ كان بقاء اللريات اخلم�س معي �شيئ ًا‬ ‫يفوق ا�ستعمالها‪ .‬كانت تبدو يف جيبي وك�أنها مفتاح �أمتلكه يف راحتي‬ ‫و�أ�ستطيع يف �أية حلظة �أن �أفتح باب اخلروج و�أم�ضي‪ .‬ولكن حني كنت‬ ‫أ�شم وراء الباب زمن ا�شتباك �آخر‪� .‬أبعد مدى‪ .‬ك�أنه‬ ‫�أقرتب من القفل كنت � ّ‬ ‫عودة �إىل بداية الطريق من جديد‪.‬‬ ‫وما بقي لي�س مهم ًا‪ :‬ذات يوم م�ضيت مع ع�صام �إىل ال�سوق وقد‬ ‫تتحرك‬ ‫اندفعت لأخطف حزمة من ال�سلق كانت �أمام عجالت �شاحنة‬ ‫ّ‬ ‫ببطء‪ .‬ويف اللحظة الأخرية زلقت و�سقطت حتت ال�شاحنة‪ .‬كان حظي‬ ‫جيداً فلم متر العجالت فوق �ساقي‪� ،‬إمنا تو ّقفت بال�ضبط بعد مالم�ستها‪.‬‬ ‫وعلى �أية حال �صحوت من �إغمائي يف امل�ست�شفى‪ .‬وكان �أول ما فعلته –‬ ‫تخمن – �أن تف ّقدت اخلم�س لريات‪� .‬إ ّال �أنها مل تكن هناك‪.‬‬ ‫ما ال �شك ّ‬ ‫�أعتقد �أن ع�صام هو الذي �أخذها حني حملوه معي يف ال�سيارة �إىل‬ ‫امل�ست�شفى‪ .‬ولكنه مل يقل و�أنا مل �أ�س�أل‪ .‬كنا نتبادل النظر فقط ونفهم‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬مل �أكن غا�ضب ًا لأنه كان ملهي ًا و�أنا �أنزف دمي ب�أخذ اللريات اخلم�س‪.‬‬ ‫كنت حزين ًا فقط لأنني فقدتها‪.‬‬ ‫و�أنت لن تفهم‪ .‬ذلك كان يف زمن اال�شتباك‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫غسان‬

‫الشخص والنص‬

‫دراج‬ ‫درا�سة ‪ :‬د‪.‬في�صل ّ‬ ‫‪62‬‬

‫‪63‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫توليد جن�س جديد من الب�رش‪ُ .‬تخت�رص حياة غ�سان‪ ،‬رمبا‪ ،‬يف جملة‬ ‫غا�ضبة وردت يف م�رسحيته‪« :‬الباب» تقول‪ :‬ي�ستطيع الإن�سان الذي فاته‬ ‫اختيار ميالده �أن يختار موته‪ .‬ولهذا انتهى مم ّزق الأو�صال‪ ،‬بعد �أن‬ ‫�شطرته قنبلة موقوته �إىل ن�صفني ‪ 8‬يوليو‪/‬متوز ‪.1972‬‬

‫‪� -1‬إن�سان حمل ذاكرة جريحة‬

‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬ ‫كان يف حياته غربة مثرية‪ :‬ولد غ�سان كنفاين يف حيفا ‪� 9‬إبريل‪/‬‬ ‫ني�سان عام ‪ ،1936‬خالل الثورة الفل�سطينية الكربى‪ ،‬واغتاله‬ ‫الإ�رسائيليون بعد �ستة وثالثني عام ًا‪ ،‬حني كان الفل�سطينيون يحاولون‬ ‫ثورة جديدة‪ ،‬وخ ّلف وراءه كتابة متعددة الأجنا�س‪ ،‬ب�شرّ ت بالثورة‪،‬‬ ‫ومايزت بني ب�رش حقيقيني و�آخرين �سمتهم العقم والبالدة‪ .‬وكان‬ ‫يف حياته الق�صرية املديدة متعدداً‪ :‬احرتف ال�صحافة وعالج الأدب‪،‬‬ ‫وغدا قائداً �سيا�سي ًا‪ ،‬واقرتب من «العمليات الع�سكرية»‪ ،‬احلاملة بوطن‬ ‫م�ستعاد‪.‬‬ ‫جعل هذا من حياته مر�آة مل�سار �شعبه‪ ،‬ومن كتاباته �شهادة على‬ ‫والتمرد واملقاومة‪ .‬غ�سان من ه�ؤالء احلاملني‪،‬‬ ‫معنى املنفى واللجوء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الذين يعملون على تق�صري امل�سافة بني الفعل والكلمة‪ ،‬ويتطلعون �إىل‬

‫‪64‬‬

‫عمان‪ ،‬وعلى �رشفة ك�أنها نافذة و�سجن مع ًا‪ ،‬ويف‬ ‫ذات م�ساء يف ّ‬ ‫�صحبة ال�صديق املبدع مريد الربغوثي‪� ،‬س�ألنا الراحل د‪� .‬إح�سان عبا�س‪،‬‬ ‫الذي عرف غ�سان طوي ًال‪ :‬ماذا تذكر من هذا الإن�سان الذي غادر قبل‬ ‫الأوان؟ قال‪� :‬أذكر ف�ضوله �إىل ما ال يعرف‪ ،‬وقلقه الذي ال ميكن حجبه‪،‬‬ ‫وتوزعه على �أكرث من مكان ووظيفة‪ ،‬و�سعيه املرهق �إىل «مت ّلك اللحظة»‪،‬‬ ‫والت�رصف ال�سديد بالوقت‪ .‬كان يف حديث عبا�س �شيء من تلك البهجة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التي حت�رض عند ا�ستدعاء ذكرى �إن�سان عزيز ال ي�شبه غريه‪.‬‬ ‫تابع د‪� .‬إح�سان‪ :‬جاءين‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬و�أعطاين خمطوطة «رجال يف‬ ‫ال�شم�س»‪ ،‬وانتظر ر�أيي‪ .‬جاءين الهث ًا‪ ،‬بعد يومني‪ ،‬وكان يف جوابي‬ ‫بع�ض الت�سا�ؤل‪ .‬قال غ�سان مبا�رشة‪ :‬الر�سالة مل ت�صل‪ .‬وعاد بعد يومني‬ ‫و�أعطاين املخطوطة من جديد‪ ،‬وكان يف جوابي ر�ضا �رصيح‪ ،‬قال عندئذ‪:‬‬ ‫الر�سالة و�صلت‪ ،‬و�س�أل قبل �أن يخرج‪ :‬ما الذي ا�ستوقفك يف الر�سالة؟‬ ‫قلت‪� :‬شخ�صية �أبي اخليزران‪� ،‬ضحك وقال‪� :‬إنه ال يزال بيننا‪ .‬غري �أن ما‬ ‫ا�ستوقف الناقد الراحل كانت كلمة «الر�سالة»‪ ،‬التي ا�ستعا�ض بها غ�سان‬ ‫عن كلمة‪ :‬الرواية‪ ،‬كما لو كان ي�ؤدي واجب ًا‪ ،‬ويريد �أن ي�ؤديه كام ًال بال‬ ‫نق�صان‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫�س�ألنا الناقد الراحل‪ :‬من �أين جاء بفكرة الرواية؟ قال‪� :‬سمع عن‬ ‫حكاية ت�شبهها‪ ،‬مو�ضوعها تهريب «الالجئني» الباحثني عن عمل �إىل‬ ‫الكويت‪ .‬لكن غ�سان �أ�ضاف �إىل احلكاية غ�ضبه ال�شديد‪ :‬كان يف كلمة‬ ‫الالجئ ما يجرح كرامته‪ ،‬وكان يف �أحوال املخيمات ما ي�ستفز روحه‪،‬‬ ‫يتحدثون عن «الالجئني» وين�سون‬ ‫وكان غا�ضب ًا على ه�ؤالء العرب الذين ّ‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫�س�ألناه‪ ،‬وهو يت�أمل ال�رشفة ال�سجن‪ ،‬ماذا يتبقى من غ�سان بعد كل‬ ‫هذه ال�سنني؟ �أجاب‪ :‬قلقه الأدبي‪ ،‬الباحث عن �شكل «يقول كل �شيء‬ ‫ردد �أمامي‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬وير�سم الواقع من دون زيادة �أو نق�صان»‪ ،‬كما ّ‬ ‫ميز‬ ‫�أكرث من مرة‪ .‬وا�ستدرك الناقد الكبري وقال‬ ‫بجدية عالية‪� :‬أهم ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫غ�سان هو املثقف الذي كان فيه‪ ،‬مل يكن ي�ساوم ومل يعرف �أن�صاف‬ ‫احللول‪ ،‬وكان يعمل على حذف امل�سافة بني القول واملعي�ش‪ ،‬حماو ًال �أن‬ ‫يرم‬ ‫يعي�ش خارج الكتابة ما قاله داخلها‪ .‬كان يف ات�ساقه الأخالقي مّ‬ ‫«فل�سطينيته املتهمة»‪ ،‬ويرد على ه�ؤالء الذين اتهموا الفل�سطينيني ببيع‬ ‫�أر�ضهم والتط ّفل على موائد الآخرين‪.‬‬ ‫يف مطلع ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬ويف مكتب جملة «الهدف» ‪،‬‬ ‫قال يل الراحل «�أبو ماهر اليماين»‪ ،‬النقابي الفل�سطيني القدمي ورفيق‬ ‫غ�سان يف اجلبهة ال�شعبية‪« :‬كان غ�سان يرى يف اللجوء كابو�س ًا‪ ،‬ينظر‬ ‫�إىل امل�ستقبل ويحن �إىل فل�سطني الثالثينيات‪ ،‬التي �شهدت ثورة عظيمة‬ ‫مغدورة»‪ .‬كان يف عالقة غ�سان بفل�سطينه ال�ضائعة بعد �صويف‪ ،‬عبرّ عنه‬ ‫يف روايته «العا�شق»‪ ،‬وكان يف عالقته مبنفاه �رصاخ له طعم الفجيعة‪.‬‬ ‫ولهذا كان يكره الهدوء والطم�أنينة‪ ،‬ويرى يف الفل�سطينيني امل�ستكينني‬ ‫خملوقات بذيئة‪ .‬كان‪ ،‬يف احلالني‪ ،‬يعبرّ عما عا�شه ور�آه واختربه‪ ،‬و�أيقظ‬ ‫‪66‬‬

‫يف روحه غ�ضب ًا حارق ًا‪.‬‬ ‫يتذكر الراحل اجلميل ح�سني الربغوثي يف كتابه البديع‪« :‬ال�ضوء‬ ‫مر ببريوت‪ ،‬و�س�أل يف مكان ما عن �أحد �أقربائه‪ ،‬جاءه‬ ‫الأزرق»‪� ،‬أنه ّ‬ ‫اجلواب‪« :‬يف هذه البناية يف واحد فل�سطيني»‪ .‬مل يكن الفل�سطيني‬ ‫فل�سطينيته �إن�سان ًا نكرة‪،‬‬ ‫املجهول اال�سم �إ ّال غ�سان كنفاين‪ ،‬الذي �صيرّ ته‬ ‫ّ‬ ‫ال ا�سم له‪ ،‬وال يحق له �أن ميتلك ا�سم ًا‪ ،‬كبقية الب�رش‪ .‬رمبا ما عا�شه غ�سان‬ ‫هو الذي جعله «ي�ستعجل» العودة �إىل الوطن‪ ،‬وخلق منه �إن�سان ًا‪ ،‬ي�أخذ‬ ‫نف�سه بال�شدة‪ ،‬ال يعبث بالوقت ويكره الت�أين والت�سويف‪ ،‬كما لو كان‬ ‫اللجوء �صياداً والالجئ طريدة‪.‬‬ ‫كان ي�أتي �إىل مركز الأبحاث‪ ،‬يف بريوت‪ ،‬يف متام الثامنة �صباح ًا‪،‬‬ ‫وا�ضح الأناقة كموظف من موظفي البنوك‪� ،‬رسيع اخلطوة مندفع ًا �إىل‬ ‫الأمام‪ ،‬وعلى وجهه رذاذ من الراحة والر�ضا‪ .‬كان هذا هو الراحل د‪� .‬أني�س‬ ‫�صايغ‪ ،‬مدير املركز‪ ،‬الذي عرف غ�سان طوي ًال‪ ،‬وطلب مني‪ ،‬ذات مرة‪،‬‬ ‫درا�سة عن غ�سان‪ ،‬حني عملت باحث ًا متفرغ ًا ملدة عامني تقريب ًا‪ .‬حني‬ ‫بد�أ الكالم قال‪ :‬جمعت بيني وبني غ�سان �أ�سباب كثرية‪� ،‬أولها و�أكرثها‬ ‫عدوك»‪ ،‬الذي �أواله املركز اهتمام ًا خا�ص ًا‪ .‬كان‬ ‫�أهمية �شعار‪« :‬اعرف ّ‬ ‫غ�سان مهجو�س ًا مبعرفة كل ما له عالقة بالعدو ال�صهيوين‪ ،‬بل �إنه قر�أ‬ ‫تاريخ فل�سطني احلديث من وجهة نظر الدمار الذي �أحلقه ال�صهيونيون‬ ‫به‪.‬‬ ‫قال له د‪� .‬أني�س مرة‪ :‬ما زلت �أنتظر �إ�سهامك يف جمال «اعرف عدوك»‪.‬‬ ‫مل تت�أخر الإجابة طوي ًال‪ ،‬عاد �إليه بعد �أ�سابيع قليلة و�أعطاه كتابه الرائد‬ ‫«عن الأدب ال�صهيوين»‪ ،‬الذي كتب له �أني�س‪ ،‬الحق ًا‪ ،‬مقدمة‪� ،‬أ�ضاءت‬ ‫معنى‪ :‬اعرف عدوك‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫حني �س ّلمه غ�سان املخطوطة �س�أل‪ :‬د‪� .‬أني�س‪ :‬هل العدو موجود ب�صيغة‬ ‫املفرد �أم ب�صيغة اجلمع؟ �أجاب مدير املركز‪ :‬العدو الرئي�سي يتبعه‬ ‫العمالء واملتخ ّلفون واحلمقى‪ ،‬الذين يعتربون الدرا�سة يف «جامعة‬ ‫رد غ�سان‪ :‬وهناك‬ ‫كيمربدج»‪ ،‬كما الأناقة والنظام»‪« ،‬عاهة برجوازية»‪ّ .‬‬ ‫املتزعمون الزائفون يف زمن م�ضى‪ ،‬والذين غيرّ وا لبا�سهم‪،‬‬ ‫«املخاتري»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫هذه الأيام‪ ،‬وظ ّلوا «خماتري»‪ .‬قال د‪� .‬أني�س‪ :‬ك�شفت كلمة «املخاتري»‪ ،‬التي‬ ‫ا�ستعملها غ�سان‪ ،‬عن ذاكرة جريحة ال تن�سى املا�ضي‪ ،‬ذلك �أن بع�ض‬ ‫املخاتري لعب دوراً �سيئ ًا خالل فرتة االنتداب الربيطاين‪ .‬ومع �أن غ�سان‬ ‫خرج من فل�سطني وعمره اثنا ع�رش عام ًا‪ ،‬فقد كان ي�سرتجع وقائعها بال‬ ‫التبا�س‪ ،‬بدءاً من الفالح املقاتل‪ ،‬و�صو ًال �إىل جندي يهودي يعاقب ِ�ص ْبية‬ ‫فل�سطينيني‪ ،‬مروراً بـ «مثقف» يرى يف احلديث مع «الفالح» �أمراً �صعب ًا‪.‬‬ ‫ولعل االلتفات �إىل املا�ضي‪ ،‬جتنب ًا للأخطاء التي وقعت فيه‪ ،‬هو الذي‬ ‫حذف امل�سافة بينه وبني احلا�رض‪ ،‬ف�أدرجه غ�سان يف ق�ص�صه الق�صرية‬ ‫ورواياته‪ ،‬وكتب درا�سة ممتازة عن ثورة ‪.1936‬‬ ‫حني �أنهى �أني�س �صايغ كالمه عن غ�سان و�شخ�صيته قال‪� :‬ساوى‬ ‫غ�سان بني الكتابة وبرنامج «العمل الثوري»‪ ،‬الذي ال يقبل بالت�أجيل‪� ،‬أو‬ ‫بني الكتابة و«املهمة احلزبية»‪ ،‬حيث املرجع احلزبي هو غ�سان نف�سه‪،‬‬ ‫والنقد و«النقد الذاتي» يحددهما هو ال غريه‪.‬‬ ‫ولأنه مرجع ذاته‪ ،‬وهي حال كل �إن�سان حقيقي‪ ،‬عطف غ�سان «اعرف‬ ‫مكملة‪« :‬اعرف ذاتك»‪ ،‬التي دفعته �إىل كتابة «�أدب‬ ‫عدوك» على قاعدة ّ‬ ‫املقاومة يف فل�سطني املحتلة»‪ .‬كان ي�شتق الكتابة من ال�رضورة‪ ،‬في�صبح‬ ‫م�ؤرخ ًا‪� ،‬أو ي�شتقها من وظيفتها الوطنية‪ ،‬ويغدو ناقداً �أدبي ًا‪ .‬كان‪ ،‬يف‬ ‫‪68‬‬

‫احلالني‪ ،‬عفوي ًا‪ ،‬يقوم مبا يجب عليه �أن يقوم به‪ ،‬وكان يف احلالني‬ ‫هناك‪ ،‬حيث ال ينتظره �أحد‪ .‬كان الناقد اللبناين حممد دكروب ي�شاك�سه‬ ‫ويقول له‪« :‬م�ستعجل كتري يا غ�سان»‪ ،‬كان الأخري يجيب‪ :‬الزمن ال ينتظر‪،‬‬ ‫ووظيفة الكلمة تقرر كل �شيء‪ .‬كان يعتقد هذا الفل�سطيني ال�شاحب �أن‬ ‫غ�ضبه الداخلي قادر‪ ،‬رمبا‪ ،‬على تخلي�ص «الكتابة العجلى» من ال�شوائب‪،‬‬ ‫علواً‪ ،‬ي�صل الكاتب بقارئه‪ ،‬وي�صل‬ ‫و�أن وراء �صوت الكتابة �صوت ًا �أكرث ّ‬ ‫الكاتب والقارئ مبعركة مزهرة منتظرة‪ .‬كان غ�سان يكتب من وجهة نظر‬ ‫القارئ املطلوب‪ ،‬طارداً الوحدة واملعادالت املجردة‪ ،‬وكان بعد «الكتابة‬ ‫امل�شرتكة» يجل�س مع روحه‪ ،‬ويزرع يف ذراعه «�إبرة الأن�سولني»‪ ،‬التي‬ ‫ت�صده متام ًا‪.‬‬ ‫ت�صد عنه �آثار مر�ض ال�سكري‪ ،‬وال ّ‬ ‫«اعرف عدوك تعرف ملاذا خرجت �إىل املنفى»‪ ،‬كان يقول غ�سان‪،‬‬ ‫«واعرف ذاتك تعرف كيف تعود �إىل الوطن»‪ .‬كان فيه روح فالح فل�سطيني‬ ‫قاتل يف ثورة ‪ ،1936‬قال د‪� .‬صايغ‪ ،‬وكانت يف ذاكرته �أطياف جندي‬ ‫ورحل �س�ؤال‬ ‫يهودي �أحرق قرى فل�سطينية‪ .‬حمل �صورة الفالح يف روحه‪ّ ،‬‬ ‫اجلندي القاتل �إىل عقله‪ .‬عرث يف هذين العن�رصين على الإن�سان الق�ضية‪،‬‬ ‫الذي يتع ّلم من املقاتلني ويع ّلمهم‪.‬‬ ‫حني كنا ندخل مكتب جملة الهدف‪ ،‬يف كورني�ش املزرعة يف بريوت‪،‬‬ ‫كنا نعرف �أنه هناك‪ .‬الكل من�رصف �إىل عمله وفرح به‪ ،‬وبني اجلميع‬ ‫يقيم وينقد ويو ّزع‬ ‫تناف�س نظيف‪ ،‬ويف اجلو فرح ّ‬ ‫منظم‪ ،‬وهو هناك ّ‬ ‫املالحظات‪ ،‬ف�إن قابلناه قال فرح ًا‪« :‬العدد جاهز»‪ .‬هكذا كان ي�صف‬ ‫الراحل �صابر حمي الدين‪ ،‬الذي �أ�صبح الحق ًا رئي�س حترير املجلة‪،‬‬ ‫�صورة غ�سان‪ ،‬كما ر�آها‪� ،‬أو �سمعها من غريه‪ ،‬مع ّلق ًا‪« :‬كان معنا ومل يكن‬ ‫منا متام ًا‪ :‬كان معنا يقا�سمنا العمل‪ ،‬ومل يكن منا متام ًا‪ ،‬فقد كان يعمل‬ ‫‪69‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫ما ال ن�ستطيع القيام به»‪ .‬كان يبدو كما �أراد �أن يبدو‪ ،‬ذاهب ًا �إىل فل�سطني‬ ‫وراجع ًا منها‪ ،‬حماوراً غريه وذاته وناظراً �إىل جنم بعيد‪ .‬حني �أراد �صابر‬ ‫حمي الدين حماكاته �أرهقه قلبه يف منت�صف الطريق ورحل‪ ،‬وهو يف‬ ‫حدود اخلم�سني‪ .‬الوفاء من عالمات النجباء واملوت يف الطريق مكاف�أة‬ ‫ظاملة على حياة �أرادت �أن تكون جنيبة‪.‬‬

‫‪ -2‬الغ�ضب املقاتل ورعب املنفى‪:‬‬ ‫ا�ستعاد املخرج امل�رصي النبيه توفيق �صالح حواراً بعيداً مع غ�سان‬ ‫وقال‪�« :‬أدان �صاحب «رجال يف ال�شم�س» اخلروج من فل�سطني �إدانة‬ ‫كاملة‪ ،‬م�ساوي ًا بني اخلروج و«الفرار» املميت‪ .‬هكذا فهمت روايته‪ .‬حني‬ ‫�س�ألته عن اجلملة ال�شهرية يف روايته‪« :‬ملاذا مل يدقوا جدران اخل ّزان»‬ ‫وهل ق�صد بها التحري�ض‪ ،‬يف �سياق قومي كان يدعو �إىل التحري�ض‪� ،‬أم‬ ‫جزاء عاد ًال؟ قال‪:‬‬ ‫�أنه كان يق�صد �أن ه�ؤالء «الهاربني» من وطنهم لقوا ً‬ ‫ق�صدت بها الإدانة ال�شاملة‪ .‬فهذه اجلملة مل تكن موجهة �إىل حا�رض عليه‬ ‫�أن يتع ّلم من املا�ضي‪ ،‬وال �إىل م�ستقبل جتاوز �أخطاء احلا�رض واملا�ضي‬ ‫مع ًا‪ ،‬بل كان مق�صوداً منها و�صف «الهاربني وحماكمتهم و�إنزال احلد‬ ‫الأعلى من العقاب بهم»‪ .‬وهذا ما �أردت �أن �أقوله يف فلمي «املخدعون»‪،‬‬ ‫امل�أخوذ من الرواية‪ ،‬لكن الرقابة‪ ،‬امل�أخوذة بالت�صفيق والهتاف‪ ،‬يف‬ ‫ذاك الزمان‪� ،‬أرادت ت�أوي ًال حتري�ضي ًا للجملة ال�شهرية‪ ،‬يتوجه �إىل احلا�رض‬ ‫�أكرث مما يتوجه �إىل املا�ضي‪ ،‬ويتعاطف مع «املخدوعون» ويلتم�س لهم‬ ‫الأعذار‪.‬‬ ‫تابع الأ�ستاذ توفيق‪ :‬قال يل غ�سان �إنه يرف�ض �أن ينطلق من ال�سياق‪،‬‬ ‫مهما كانت �شعاراته‪ ،‬و�أنه ال ينطلق من الق�ضايا الكبرية‪ ،‬عادلة كانت �أم‬ ‫‪70‬‬

‫وي�رص عليه هو‪ :‬الإن�سان‪ ،‬الذي ي�صل �إىل هدفه‬ ‫غري عادلة‪ ،‬فما يبد�أ منه‬ ‫ّ‬ ‫املنظمة‪ ،‬والذي �إن ا�ست�سلم �إىل‬ ‫وحد بني الوعي ال�صحيح واملمار�سة‬ ‫ّ‬ ‫� ْإن ّ‬ ‫الوعي ال�ضليل انتهى �إىل «مزبلة»‪.‬‬ ‫ترجم غ�سان يف منظوره العنيف �أ�صداء كلمة «الجئ» التي حا�رصت‬ ‫الفل�سطينيني بعد اخلروج‪ ،‬و�أطياف الذين تركوا قراهم واندفعوا �إىل‬ ‫حدود جماورة‪ .‬يرجع تعبري «الذاكرة اجلريحة»‪ ،‬بلغة �أني�س �صايغ‪ ،‬مرة‬ ‫حول جميع الالجئني‪ ،‬يف «رجال يف ال�شم�س» �إىل «خماتري»‬ ‫�أخرى وقد ّ‬ ‫فاقدي ال�صالحية‪� ،‬أو �إىل «�أموات � ّأجل دفنهم»‪ ،‬طاملا «�أن الفرار موت»‪،‬‬ ‫و�أن ب�ؤ�س اللجوء ال يليق �إال بالأموات‪.‬‬ ‫يذكر �أخو غ�سان كنفاين يف كتاب عن �أيام الهجرة الأوىل‪� ،‬أحوال‬ ‫الالجئني الذين «ا�ست�ضافتهم» �صيدا‪ ،‬املدينة اللبنانية الكرمية‪،‬‬ ‫تتكد�س فيها‬ ‫ووزعتهم على «امل�ساجد» و«املدار�س» وقاعات كبرية‬ ‫ّ‬ ‫عائالت‪ ،‬تتو�سل «ال�سواتر» جدران ًا‪ ،‬وتخلق من «ال�سواتر» جدران ًا وهمية‬ ‫وا�شية‪ .‬ر�أى غ�سان‪ ،‬كما يقول �أخوه‪ ،‬يف «امل�ساجد امل�ضيفة» تعبرياً عن‬ ‫اليتم ال�شامل‪ ،‬ذلك �أن امل�سجد بيت اهلل‪ ،‬و�أن بيت اهلل ال يق�صده �إال اليتيم‪،‬‬ ‫يتو�سل الإح�سان وال�شفقة‪ ،‬متناز ًال عن جزء من روحه ال ينبغي‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬ ‫املت�سول يف ذاكرة غ�سان‪ ،‬ودفعته‬ ‫التنازل عنه‪ .‬ر�سبت �صورة اليتيم‬ ‫ّ‬ ‫�إىل ت�صور بطويل عدمي ‪ ،‬ي�أمر الإن�سان ب�أن يقاي�ض روحه بكرامته‪،‬‬ ‫ف�إن رف�ض املقاي�ضة الت�صقت به �صفة «الالجئ»‪ ،‬و�سقطت عنه �صفة‬ ‫الفل�سطيني‪« .‬على الإن�سان �أن ينام يف بيته �أو يبقى �صاحي ًا»‪ ،‬كان يقول‬ ‫غ�سان وهو يبعث من ذاكرته �صور «الأكوام الالجئة» التي اعت�صمت‬ ‫بكرم امل�ساجد وخ�رست كرامتها الذاتية‪ .‬ترجم معنى هذه الذكريات يف‬ ‫التمرد على الوجود‪ ،‬كي يكون‬ ‫حر�ضت على‬ ‫ّ‬ ‫م�رسحيته «الباب»‪ ،‬التي ّ‬ ‫‪71‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫الإن�سان الكرمي كما يريد �أن يكون‪.‬‬ ‫�أما �ضيافة «املدار�س» وقاعات اجلدران الوهمية فقد ر�أى فيها‬ ‫ال�صبي‪ ،‬الذي كان ينطلق من «نومه» �إىل �شاطئ البحر‪ ،‬ف�ضيحة وعري ًا‬ ‫�شام ًال‪« :‬كيف يعي�ش الإن�سان �إن كانت روحه عارية»؟ على �شواطئ‬ ‫�صيدا‪ ،‬وقبل ثالثة و�ستني عام ًا‪ ،‬كان مي�شي �صبي فل�سطني‪« ،‬يت�أبط‬ ‫ف�ضيحته»‪ ،‬وي�س�أل الوجود عن معنى الظلم والعدل‪ ،‬وي�ستنه�ض ج�سده‬ ‫النحيف ليحمل عبئ ًا مل يخرته ومي�شي �صامت ًا‪ .‬بعد ذلك ب�أربعة وع�رشين‬ ‫عام ًا �سيم�ضي غ�سان تارك ًا العبء لغريه‪ ،‬بعد �أن ح َّل ج�سد ال�صبي يف‬ ‫ج�سد الرجل‪ ،‬وبعد �أن عالج «الأمن الإ�رسائيلي» اجل�سد الرا�ضي بخياره‬ ‫ب�أدوات قاتلة و�أعطاه �صورة جديدة‪ :‬الوجه يف مكانه‪ ،‬والعينان تنظران‬ ‫�إىل �أعلى‪ ،‬ودم على الأذنني‪ ،‬وال�صدر انف�صل عن بقية اجل�سد ب�شكل مائل‬ ‫م�ستقيم‪ ،‬كما لو كان قد قطع ب�سكني حادة ال تعرف اخلط�أ‪ ،‬والذراعان‬ ‫ك�أنهما يف مكانهما‪ ،‬واليد التي تكتب ا�ستقرت �شظايا يف مكان َع ِ�ص ّي‬ ‫على التحديد‪ .‬هكذا بدا غ�سان بعد «اغتياله»‪ ،‬وقد ا�ستقر ن�صفه الأعلى‬ ‫على �أر�ض مرتبة �إىل جانب جدار‪.‬‬ ‫ذكر �إميل حبيبي‪ ،‬يف مقابلة قبل �أن يغادر بعامني‪� ،‬أن غ�سان‪ ،‬يف‬ ‫مييز الغرب من اجلنوب‪.‬‬ ‫روايته «عائد �إىل حيفا»‪ ،‬خلط بني اجلهات‪ ،‬ومل ّ‬ ‫وواقع الأمر �أن هواج�س غ�سان كانت مغايرة لهواج�س �إميل‪ ،‬فلم يكن‬ ‫الأول م�شغو ًال بتفا�صيل املكان بل كان‪ ،‬وهو يتذكر ويت�أمل ويحا�سب‪،‬‬ ‫حتت وط�أة «فرار» اجلموع املتالطمة‪ ،‬التي كانت تتقي «الطلقات‬ ‫الإ�رسائيلية»‪ ،‬باللواذ بـ «البور» حيث القوارب ال�ضيقة حتمل «الأرواح‬ ‫ال�ضائعة» �إىل مالذ عنوانه‪ :‬الف�ضيحة‪« .‬علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا» قال‬ ‫غ�سان‪ ،‬ذات �صيف‪ ،‬يف منت�صف ال�ستينات يف دم�شق‪ ،‬لزميله الفل�سطيني‬ ‫‪72‬‬

‫«نواف �أبو الهيجا»‪ ،‬الكاتب الذي كان يعي�ش يف خميم الريموك‪ ،‬ثم‬ ‫عمان‪ ،‬كي يعود �إىل خميم الريموك‪ ،‬بعد‬ ‫ذهب �إىل بغداد‪ ،‬ثم رحل �إىل ّ‬ ‫�سقوط بغداد‪« .‬علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا»‪« ،‬لأن اخلروج من فل�سطني‪،‬‬ ‫املوحدة‬ ‫أتذكره‪ ،‬كان ي�شبه يوم القيامة‪ ،‬الذي يختل�س من العائلة‬ ‫كما � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح�س االجتاه وامل�س�ؤولية»‪ .‬وب�سبب العالقة بني «اخلروج» ويوم القيامة‪،‬‬ ‫«اختار غ�سان جمازاً «العقاب اجلماعي»‪ ،‬يقول نواف‪ ،‬حيث «الأب» ال‬ ‫يلحق بعائلته‪ ،‬والأم �شاردة عن ر�ضيعها الذي �ضاع �إىل الأبد‪ ،‬و«االبن»‬ ‫�سوي ًا انك�رس‪ ،‬وكل ما كان بريئ ًا‬ ‫ينتظر و�صول �أمه امل� ّؤجل‪ .‬كل ما كان ّ‬ ‫تلوث‪ ،‬و«كل ما �أخل�صت له الأر�ض خانها»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حدثه عن �صورة «الكهل الأعمى»‬ ‫نواف‪ ،‬قبل زمن طويل‪� ،‬أن غ�سان ّ‬ ‫ذكر ّ‬ ‫الذي كان ي�أخذ الهاربون �إىل امليناء بيده‪ ،‬يف ربيع ‪« :1948‬حني علت‬ ‫�صيحات الهاربني وهم يقرتبون من «القارب» توقف الأعمى يف مكانه‪،‬‬ ‫قال �شيئ ًا‪ ،‬رفع يده ورجع �إىل الوراء‪ ،‬حماو ًال �أن يعود �إىل املكان الذي‬ ‫جاء منه‪ ،‬وعار�ض اجلموع املتالطمة وغاب عن الب�رص»‪ .‬كان غ�سان‬ ‫ي�س�أل‪ :‬ماذا قال الرجل؟ وملاذا ان�سحب حني اقرتب من القارب؟ و�إىل �أين‬ ‫عاد؟ وكيف مات؟ «اجلميع ميوت ولكن كيف؟» كان الأعمى حمق ًا لأنه‬ ‫مل يكن �أعمى مات كما يريد وو ّفر على ذاته «ذل املخيم»‪.‬‬ ‫املخيم هو املجاز الكامل الذي قر�أ غ�سان فيه «العار الفل�سطيني»‪،‬‬ ‫واملخيم الفل�سطيني‪ ،‬يف �صورته اللبنانية حتديداً‪ ،‬حيث الالجئون ي�أكلون‬ ‫�أقل وي�رشبون �أقل ويتنف�سون �أقل‪ ،‬ف�إن رفعوا �صوتهم جاءتهم �صفعة‬ ‫«الدركي» الغليظة‪ .‬ولهذا و ّزع غ�سان «املخيم» على جميع رواياته‪ :‬يف‬ ‫«رجال يف ال�شم�س» �شيء من املخيم‪ ،‬ويف «الأعمى والأطر�ش» �أ�شياء‬ ‫من املخيم‪ ،‬واملخيم له احل�ضور كله يف «ما تبقى لكم»‪ .‬املخيم لي�س هو‬ ‫‪73‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫بالبيت‪ ،‬وال هو بال�سجن‪ ،‬وال هو باملنفى متام ًا‪� ،‬إنه بقايا مكان وبقايا‬ ‫بيت‪ ،‬وفيه بقية من �سجن‪ ،‬وفيه ب�رش �سقطت عليه «النقمة»‪ ،‬يف انتظار‬ ‫يوم ي�صحو فيه من خذل كرامته‪.‬‬

‫جتمع الالجئون يف «خميم الأليان�س»‪،‬‬ ‫وب�سبب عدد الالجئني الكبري ّ‬ ‫ن�سبة �إىل بناء كبري حائل اللون يدعى «مدر�سة الأليان�س»‪ ،‬التي �أ�صبحت‬ ‫خا�صة بالتالميذ الفل�سطينيني‪.‬‬

‫كان الراحل ناجي العلي‪ ،‬ر�سام الكاريكاتور‪ ،‬مي�شي يف �أزقة خميم‬ ‫«عني احللوة» يف �صيدا‪ ،‬قبل �أن يذهب �إىل مكتبه يف جريدة «ال�سفري»‪،‬‬ ‫يف بريوت‪ ،‬وير�سم �أكرث من «لوحة»‪ ،‬مدرك ًا �أن الرقيب يقبل ب�أ�شياء‬ ‫ويرف�ض �أخرى‪ .‬كان لـ «امل�شي» يف الأزقة �شكل القاعدة‪« :‬الزم �أتن ّف�س‬ ‫هواء املخيم قبل �أن �أر�سم»‪ ،‬كان يقول ناجي‪ ،‬م�ست�أنف ًا غ�ضب غ�سان‪،‬‬ ‫الذي اتخذ من االحتجاج على املخيم منهج ًا يف القراءة والكتابة‪ .‬من‬ ‫�أين ت�أتي الأفكار التي ترتجمها الروايات وتفرت�ش الر�سوم؟ ت�أتي من‬ ‫املعي�ش‪ ،‬وتكون جارحة ومع َ​َّذبة ومع ِّذبة( الأوىل بفتح الذال والثانية‬ ‫بك�رسها) حني ت�أتي من املعي�ش الفل�سطيني يف املخيم‪« .‬كانوا يطوون‬ ‫هزائمهم كما ُتطوى الرايات»‪ ،‬كان يقول غ�سان‪ ،‬الذي ا�ست�أنف ناجي‬ ‫ملينْ مع ًا برايات �أخرى‪ .‬قتل الإ�رسائيليون الأول‪ ،‬و ُقتل‬ ‫ر�سالته‪ ،‬حا َ‬ ‫الثاين بر�صا�صات لي�ست «�إ�رسائيلية»‪.‬‬

‫يف نهاية خم�سينيات القرن املا�ضي �أو يف بداية �ستيني اته‪ ،‬كنا منر‪،‬‬ ‫وقد �أ�صبحنا �شباب ًا‪� ،‬إىل جانب «مدر�سة الأليان�س»‪ ،‬ونرى �إىل بقايا ر�سم‬ ‫على جدارها اخلارجي‪ ،‬ل�صبية يتطايرون يف الهواء يلعبون كرة القدم‪.‬‬ ‫املحوطة‬ ‫كان يف �أو�ضاع ال�صبية ما يثري الف�ضول‪ ،‬ب�أج�سادهم الطائرة‬ ‫ّ‬ ‫بالفراغ‪ ،‬كما لو كانوا ي�ستندون �إىل �أرواحهم �أو مي�سكون بحبال من‬ ‫هواء‪ .‬قال �أحدنا‪ ،‬وكان قومي ًا عربي ًا‪ ،‬بلهجة فخورة‪ :‬هذا من ر�سم غ�سان‬ ‫كنفاين‪ ،‬الذي بد�أ بن�رش ق�ص�ص ق�صرية‪� ،‬آنذاك‪ ،‬يقر�ؤها القوميون العرب‬ ‫قبل غريهم‪.‬‬

‫‪ -3‬تو�سيع الزمن واال�شتباك مع احلياة‪:‬‬ ‫يتحدثون عن «حارة‬ ‫بعد النكبة بعام �أو �أكرث‪ ،‬كان الفل�سطينيون‬ ‫ّ‬ ‫اليهود» يف دم�شق القدمية‪ ،‬التي �سافر عدد من �أهلها �إىل فل�سطني‬ ‫املحتلة‪ .‬كانت ال�سلطات قد و ّزعت الالجئني على عدد من البيوت التي‬ ‫غادرها �أهلها‪� ،‬أ�شهرها «ق�رص �شمعايا»‪ ،‬البناء الوا�سع ذو «الأ�صل‬ ‫تكد�ست فيه عائالت فل�سطينية الجئة‪ ،‬كان �صبيتها‬ ‫العريق»‪ ،‬الذي ّ‬ ‫يت�أملون‪ ،‬با�ستغراب‪« ،‬يهوديات» يتناق�ص عددهن يوم ًا بعد يوم‪.‬‬ ‫‪74‬‬

‫�أكمل القومي العربي‪ ،‬الذي �أ�صبح تاجراً ثري ًا و�رصعته نوبة قلب يف‬ ‫�إحدى دول اخلليج‪« :‬كان غ�سان يعرف هذه املنطقة معرفة كاملة‪ ،‬فقد‬ ‫عمل �أ�ستاذ ريا�ضة يف مدر�سة الأليان�س‪ ،‬وكان ير�سم يف �أوقات الفراغ‪،‬‬ ‫ويتق�صى �أحوالهم‪ ،‬ويدرجهم يف ق�ص�صه‬ ‫ويتحدث مع التالميذ الفقراء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الق�صرية»‪ .‬نظر �إىل اجلهة املقابلة‪ ،‬و�إىل الأ�سفل قلي ًال‪ ،‬وقال‪« :‬ذلك �سوق‬ ‫�سماها‪( :‬زمن اال�شتباك)‪ ،‬حتدث فيها‬ ‫اخل�ضار الذي �أخذ منه غ�سان ق�صة ّ‬ ‫ظن �أن‬ ‫عن �صبي فقري عرث على (خم�س لريات)‪ ،‬و�أخذ بالرك�ض بعد �أن ّ‬ ‫«ال�رشطي» ر�آه‪ ،‬و�أ�رسع يف رك�ضه بعد �أن ظن �أن امل�شرتين والبائعني‬ ‫يطاردونه‪ ،‬و�أمعن يف الرك�ض حني اعتقد �أن املدينة كلها تالحقه‪،‬‬ ‫جتد يف �إثره»‪.‬‬ ‫و�سابق الهواء حني ا�ستقر يف نف�سه �أن الب�رشية كلها ّ‬ ‫تابع القومي العربي الراحل وقال‪« :‬الأرجح �أن ال�صبي الذي �سابق‬ ‫‪75‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫الهواء كان غ�سان نف�سه‪ ،‬والأرجح �أن غ�سان بالغ يف الو�صف‪ ،‬لأنه كان‬ ‫م�أخوذاً بفكرة املطاردة‪ ،‬ويرى احلياة كلها لعبة بني �صياد وطريدة‪ ،‬بل‬ ‫كان يقول لنا‪ ،‬وهو ي�رشح لنا فكر القوميني العرب‪ :‬ال تنجو الطريدة �إال‬ ‫ال�صياد‪ ،‬لأن الرك�ض وحده ال يقود �إىل النجاة»‪.‬‬ ‫�إذا عرفت كيف يف ّكر‬ ‫ّ‬ ‫ل�ست �أدري �إن كان القومي العربي‪ ،‬قد �ساوى بني اال�شتباك واملطاردة‪،‬‬ ‫ذلك �أن غ�سان كان م�سكون ًا بفكرة اال�شتباك‪ ،‬التي تعني املواجهة ال‬ ‫الهرب‪ .‬ولعل فكرة اال�شتباك هي التي دعته �إىل الكتابة عن موظف‬ ‫احلدود الفا�سد و«املختار» املتواطئ والفل�سطيني املتداعي الذي قاي�ض‬ ‫ذاكرته بقرو�ش قليلة‪ ،‬و�إىل كتابة ق�صته الق�صرية املده�شة «العرو�س»‪،‬‬ ‫حيث البندقية امتداد للفل�سطيني الأ�صيل‪ .‬كل �شيء فعله غ�سان �أو اقرتب‬ ‫منه كان ينطوي على �شكل من اال�شتباك‪ :‬ال�صبية املتطايرون يف الهواء‬ ‫كانوا ي�شتبكون مع الكرة ومع خ�صم يرونه وال يراه غريهم‪ ،‬والكتابة‬ ‫املقاتلة ا�شتباك مع كتابة �أخرى‪ ،‬وللأفكار داخل غ�سان معاركها التي‬ ‫ال تنتهي‪ ،‬بد�أت بقومي عربي وانتهت مبثقف يحاور الأفكار جميع ًا‪،‬‬ ‫وللج�سد املري�ض بال�سكري ا�شتباك ال يخرج منه منت�رصاً‪.‬‬ ‫وما اال�شتباك املتواتر �إال فعل تقوده ذات حرة‪ ،‬تقوم مبا ترغب به‬ ‫وتنحي م�سبق ًا �أحكام الآخرين‪ .‬روى الراحل العزيز عبد الرحمن منيف‬ ‫ّ‬ ‫حكاية �شهدها‪� ،‬أو �سمعها من غريه‪« :‬كان القوميون العرب‪ ،‬وغريهم‬ ‫من �أن�صار الثقافة وال�سيا�سة‪ ،‬يرتددون على مطعم «في�صل»‪ ،‬القريب‬ ‫من اجلامعة الأمريكية يف بريوت‪ .‬دخل غ�سان كنفاين‪ ،‬مرة �إىل املطعم‬ ‫ومعارفه يتناولون الغداء‪ ،‬وكان �شاحب ًا و�ضاحك ًا مع ًا‪ ،‬كما كان دائم ًا‪.‬‬ ‫حني دعاه معارفه �إىل مقا�سمتهم الطعام قال‪�« :‬سبقتكم»‪� :‬أخذت الن�سخة‬ ‫الأوىل من كتابي اجلديد وذهبت �إىل مطعم‪ ،‬تناولت الغداء وطلبت من‬ ‫‪76‬‬

‫�صاحبه �أن يقبل كتابي ثمن ًا لوجبة‪ ،‬لأين ال �أملك ما يكفي من النقود‪،‬‬ ‫ور�ضي �صاحب املطعم وخرجت �سعيداً‪ .‬قال عبد الرحمن‪ :‬قد تكون‬ ‫الق�صة م�سلية‪ ،‬فقد �ضحك غ�سان و�أ�ضحك غريه عليه‪ ،‬لكنها «يبدو يل»‬ ‫(وهي من تعابري عبد الرحمن الأثرية) تعبري عن عفوية غ�سان الطليقة‪،‬‬ ‫التي كانت تتيح له �أن يخترب احلياة‪ ،‬بال قيود‪ ،‬و�أن يخترب ذاته وهو‬ ‫يخترب احلياة»‪.‬‬ ‫تذكر بق�ص�ص (�أو‪ .‬هرني ) رمبا ما ي�ست�أنف‬ ‫يف الق�صة ال�ساخرة‪ ،‬التي ّ‬ ‫فكرة اال�شتباك‪ ،‬التي تبد�أ بثمن وجبة ب�سيطة‪� ،‬أو متتد بعيداً �إىل التن�سيق‬ ‫مع «اجلي�ش الثوري الياباين» من �أجل �رضب امل�صالح الإ�رسائيلية‪ ،‬وقد‬ ‫تتمهل قلي ًال وتواجه روائي ًا كبرياً‪ ،‬يريد غ�سان �أن ي�ستفيد منه و�أن يطبق‬ ‫تقنيته على «مادة فل�سطينية»‪:‬‬ ‫روى ال�صحايف الفل�سطيني املعروف بالل احل�سن �أن غ�سان‪ ،‬وهو‬ ‫يكتب روايته «ما تبقى لكم»‪ ،‬كان يقول له‪ :‬كل يوم يجل�س �إىل جانبي‬ ‫الروائي الأمريكي وليم فوكرن‪� ،‬أحاوره يف روايته «ال�صخب والعنف»‪،‬‬ ‫و�آخذ مكانه بالطريقة التي �أريدها‪ ،‬وا�ستعري منه تقنية الأ�صوات‬ ‫أود الو�صول �إليه‪ .‬مل يكرتث‬ ‫املتقاطعة وتقطيع الزمن‪ ،‬و�أ�صل �إىل ما � ّ‬ ‫غ�سان بالفرق بني قدرين من �أقدار احلياة‪ ،‬كان للأمريكي املكان‬ ‫والزمان اللذان يريد وكان لغ�سان «�أحد ع�رش يوم ًا» كي ينهي روايته‪،‬‬ ‫وكانت له متاهة بريوت التي دخلها عمالء املو�ساد وم ّزقوا غ�سان وابنة‬ ‫متفجرة‪.‬‬ ‫�أخته بعبوة‬ ‫ّ‬ ‫«م ْن ي�سيطر على اللحظة يفعل ما يريد» قال غ�سان للدكتور �إح�سان‬ ‫َ‬ ‫رد الأخري على �أ�ستاذه‬ ‫عبا�س‪� ،‬أجابه الأخري‪« :‬اهد�أ قلي ًال يا غ�سان»‪ّ ،‬‬ ‫‪77‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫اجلليل‪« :‬ال يليق الهدوء بحالتنا‪ ،‬وعندي �أ�شياء كثرية يجب �أن �أقوم‬ ‫بها»‪ .‬هذه الأ�شياء الكثرية‪ ،‬كما هذه الـ «يجب» املتواترة‪ ،‬هي التي دعت‬ ‫د‪� .‬إح�سان عبا�س �إىل القول‪« :‬كان موزع ًا على �أكرث من مكان ووظيفة»‪:‬‬ ‫يذهب �إىل اجلريدة واملخيم ومركز الأبحاث و�إىل اجتماعاته احلزبية‬ ‫و�إىل مكان خام�س �أكرم به عليه اقت�صاد الوقت‪ ،‬فيكتب املقالة والدرا�سة‬ ‫والرواية والق�صة الق�صرية و«التعميم احلزبي» ‪ ...‬كان ي�سري مع ذاته‬ ‫الأوىل وي�ستولد منها ذات ًا ثانية‪ ،‬مف�سح ًا الطريق لذات ثالثة متوالدة‪،‬‬ ‫وكان عليه �أن يجمع هذا «الكثري» يف واحد‪ ،‬معتمداً الإرادة والهوى‬ ‫وتروي�ض اللحظة وقلة النوم‪ ،‬ومعتمداً على �أطياف ذاكرة م� ّؤرقة حتمله‬ ‫�إىل حيث تريد‪ ،‬ويقنعها بالإقامة معه طوي ًال‪.‬‬ ‫التقى توفيق �صالح‪ ،‬وهو يتهي�أ لإخراج فيلم «املخدوعون»‪ ،‬غ�سان‬ ‫يف مقهى بريوتي‪ ،‬قريب من منطقة «الرو�شة»‪ ،‬يف ال�ساعة ال�ساد�سة‬ ‫م�ساء‪ ،‬وطلب منه �أن يكتب حوار الفيلم‪ ،‬حفاظ ًا على روح املعنى املو ّزع‬ ‫يف تفا�صيل «رجال يف ال�شم�س»‪ ،‬وعلى اللهجة الفل�سطينية التي تتحدث‬ ‫بها �شخ�صيات الرواية‪ .‬نظر الروائي �إىل �ساعته‪ ،‬وقال بنربة عادية‬ ‫ت�شي بروح �صاحبها‪ :‬نلتقي غداً يف مثل هذه ال�ساعة‪ ،‬يف هذا املكان‪ .‬مل‬ ‫ي�ستف�رس الفنان امل�رصي عن �شيء‪� ،‬أغلق مو�ضوعه وتابع حديث ًا عادي ًا‪،‬‬ ‫واحتفظ بتلك الإجابة غري املتوقعة‪ ،‬التي ين�ساها بع�ض «الأدباء» بعد‬ ‫انتهاء اللقاء‪ .‬يف اليوم التايل‪ ،‬ويف املوعد املحدد‪ ،‬جاء �صالح وكان‬ ‫غ�سان هناك‪� ،‬أعطاه ب�صوت عادي احلوار املطلوب‪ ،‬وعاد �إىل م�شاغله‬ ‫العادية‪ .‬كل �شيء بدا عادي ًا با�ستثناء هذه «الأربع والع�رشين» �ساعة‬ ‫غري العادية‪ ،‬التي تو ّزعت على التفكري والكتابة وااللتزام بالقول‪ ،‬ومل‬ ‫يكن فيها مكان للراحة والنوم‪� .‬إنها الفل�سفة اخلا�صة برجل ي�ضع كل‬ ‫مقيد كي‬ ‫يوم يف مكانه املحدد من مدار ال�سنة‪ ،‬ويحا�رص نف�سه بزمن ّ‬ ‫‪78‬‬

‫يكون طليق ًا‪.‬‬ ‫كان املخرج يدرك �أن هذا ال�سلوك غري عادي‪ ،‬وكان العاملون يف‬ ‫يرددون احلكاية‪� ،‬أن ما قام به غ�سان ال يقوم به‬ ‫«مركز الأبحاث»‪ ،‬الذين ّ‬ ‫غريه‪ ،‬با�ستثناء غ�سان الذي كان يعتقد �أن عمله العادي امتداد لأعمال‬ ‫«عادية» �أخرى‪ ،‬تف�صح عن عالقة «الالجئ» بزمنه‪ ،‬وعن متط ّلبات‬ ‫«الر�سالة»‪ ،‬التي ي�ؤديها �إن�سان حذف امل�سافة بني املوت واحلياة‪ .‬حني‬ ‫كان غ�سان يزجر عجز الالجئني كان يقول‪« :‬يطوون هزائمهم كما تطوى‬ ‫رد‬ ‫الرايات»‪ ،‬و«ين�رشون عجزهم على حبال الهزمية»‪ .‬ومل يكن �سلوكه �إال ّ‬ ‫روح غا�ضبة على العجز والهزمية‪ ،‬متكئ على طيف «الإن�سان الأعلى»‪،‬‬ ‫الذي يرفع راية املقاومة ويلقي ب�أعالم الهزمية �إىل النار‪ .‬كان غ�سان‬ ‫يو�سع النهار‪ ،‬م�ستعج ًال رحيل الليل الفل�سطيني‪ ،‬مفرت�ض ًا �أن يف الإرادة‬ ‫ّ‬ ‫ما يعيد تعريف الليل والنهار‪.‬‬ ‫يف يوم قائظ‪ ،‬وعلى �ضفاف النيل‪ ،‬ويف حوار �أني�س حول جنيب حمفوظ‬ ‫وعاداته‪ ،‬وحول �أحوال الب�رش وطبائع احلياة‪ ،‬ا�ستذكر توفيق �صالح �أ�شياء‬ ‫من غ�سان‪�« :‬أعطاين غ�سان‪ ،‬ذات مرة‪ ،‬موعداً يف جملة الهدف‪ ،‬يف ال�ساعة‬ ‫احلادية ع�رشة �صباح ًا‪� .‬صادف يف ذلك اليوم �أن «اجلبهة ال�شعبية»‪،‬‬ ‫وكان غ�سان متحدث ًا با�سمها‪ْ � ،‬أن قامت بعملية تناقلتها و�سائل الإعالم‪.‬‬ ‫وقررت �إلغاء املوعد‪ ،‬لكن الف�ضول ‪ ،‬كما �ضيق الإقامة‬ ‫راجعت نف�سي ّ‬ ‫يف بريوت‪ ،‬دفعاين دفع ًا �إىل الذهاب‪ .‬دخلت متلكئ ًا �إىل املكان املحت�شد‬ ‫برجال الإعالم‪ ،‬ووقفت حيث �أ�ستطيع الوقوف‪ .‬يف ال�ساعة احلادية خرج‬ ‫حياين ونظر �إىل ال�ساعة وطلب‬ ‫غ�سان من مكتبه‪ ،‬وكان بابه مفتوح ًا‪ّ ،‬‬ ‫مني الدخول‪ ،‬و�س�ألني عما �أريد‪ ،‬كما لو كان املكتب فارغ ًا‪� ،‬أو كما لو‬ ‫كان قد انتزع ق�سط ًا من ذاته وو�ضعه حتت ت�رصيف‪� .‬أذكر �أنني �س�ألته‬ ‫‪79‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫�أكرث من �س�ؤال‪ ،‬و�أذكر �أن كان يجيب ويرد على الهاتف بكلمات �إنكليزية‪،‬‬ ‫يل و�إىل �آخرين حوله‪ ،‬و�أذكر �أنني كنت �أتابع �إجاباته‬ ‫و�أنه كان يتحدث �إ ّ‬ ‫الوا�ضحة وهو يتابع �أ�سئلة ال�صحافيني التي تقع عليه‪ ،‬و�أذكر �أنني‬ ‫خرجت من مكتبه ومعي �إجابات الأ�سئلة التي طرحتها‪ ...‬بدا يل �أنه �أكرث‬ ‫من فرد و�أكرث من �صوت و�أكرث من م�س�ؤول‪.»..‬‬ ‫�إذا كان يف حياة الب�رش ما يف�صل بن الزمن الفيزيائي‪ ،‬املحدود‬ ‫باملرئي واملبا�رش واملعي�ش‪ ،‬والزمن النف�سي املتمتع بدميومة ال ترى‪،‬‬ ‫ي�ساكنها االنفعال والرغبة واالنتظار‪ ،‬فقد كان عند غ�سان «زمن الروح‬ ‫حترر من �سطوة العادات‪ ،‬وخلق �شيئ ًا‬ ‫حترر به �إن�سان ّ‬ ‫املتمردة»‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫متحرك ًا‪ ،‬ال تقع عليه العادة �إال وطردها �رسيع ًا‪.‬‬ ‫مبدع ًا حائراً قلق ًا‬ ‫ّ‬ ‫فالعادة ا�ستبداد ال يقبل به �إن�سان‪ ،‬يحرق «خيمة» �أوىل وين�صب «خيمة‬ ‫�أخرى»‪ ،‬ينتظرها احلريق‪.‬‬ ‫كيف ميكن تو�سيع الزمن وال�سيطرة عليه‪ ،‬وكيف ت�شتق الروح‬ ‫الكارهة للعادات زمنها الذي ال عادات فيه‪ ،‬وكيف يذهب ال�صبي �إىل‬ ‫�صحراء موح�شة وي�ست�أن�س بلهاثه؟ هذه �أ�سئلة من حياة ق�صرية بدت‪،‬‬ ‫حلظة انطفائها‪� ،‬أنها ال ت�شكو من الق�رص �أبداً‪ .‬فقد ترك غ�سان وراءه �أربعة‬ ‫جملدات‪ ،‬عالج فيها الق�صة الق�صرية وامل�رسحية والرواية و‪ ،...‬وترك‬ ‫وراءه مئات املقاالت ال�سيا�سية‪ ،‬و«فار�س فار�س»‪ ،‬اال�سم امل�ستعار‪،‬‬ ‫الذي كان يتيح لغ�سان �أن يبوح وال يعرفه �أحد‪ ،‬و�أن ي�ضيف �إىل «وجوه‬ ‫الكثري» بعداً جديداً‪ .‬ولهذا كان �أول من كتب عن «الأدب ال�صهيوين» وعن‬ ‫«�أدب املقاومة يف فل�سطني املحتلة»‪ ،‬وهو الذي �أ�ضاف جديداً �إىل الق�صة‬ ‫الق�صرية العربية‪ ،‬كما قال يو�سف �إدري�س‪ ،‬و�صاحب �أف�ضل معاجلة لثورة‬ ‫«‪ ،»1939 - 1936‬التي ا�ستخل�ص منها قو ًال جوهري ًا‪« :‬الذين يقودون‬ ‫‪80‬‬

‫ال يقاتلون‪ ،‬والذين يقاتلون ال يقودون»‪ .‬تطلع ذلك الإن�سان الناحل‬ ‫يوحد بني القيادة‬ ‫القامة �إىل «�إن�سان �أعلى»‪ ،‬يقرتحه الفقراء‬ ‫املتمردون‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫و«املتزعمني» خارج ًا‪.‬‬ ‫والقتال‪ ،‬ويطرد «املخاتري»‬ ‫ّ‬

‫‪ -4‬ملاذا مل يكمل غ�سان كنفاين رواياته؟‬ ‫متيزت بالكثافة‬ ‫ترك غ�سان ثالث روايات غري مكتملة‪� ،‬أو هكذا تبدو‪ّ ،‬‬ ‫الفكرية وبجدة فنية‪� :‬أوالها «العا�شق»‪ ،‬الرواية امللحمة‪ ،‬التي ا�ستعادت‬ ‫�أطياف ثورة ‪ ،1939 1936‬التي و�ضع عنها غ�سان درا�سة ‪ ،‬هي‬ ‫الأف�ضل‪ ،‬رمبا‪ ،‬يف جمالها‪ .‬قر�أت الرواية زمن الرباءة‪ ،‬الذي �أعقبه زمن‬ ‫الإثم‪ ،‬حني كان الفل�سطيني الربيء و�أر�ضه كيان ًا واحداً‪ ،‬يتناجيان‬ ‫ويكمل �أحدهما الآخر بتناغم‪ ،‬ي�صيرّ ال�شوك ورداً واخليول دلي ًال يف‬ ‫الطريق‪ .‬غري �أن العمل مل يكتمل‪ ،‬دون �أن مينع هذا غ�سان‪ ،‬القلق املثابر‪،‬‬ ‫عن تع ّقب مو�ضوعه ب�أ�شكال �أخرى‪ ،‬فكتب «بنادق يف اجلليل»‪ ،‬التي‬ ‫ميكن �أن تكون متهيداً لـ «العا�شق» �أو تتويج ًا لها‪ ،‬وكتب ق�صة ق�صرية‬ ‫عامرة بالإ�شارات والرموز عنوانها‪« :‬العرو�س»‪ ،‬التي هي بندقية فاتنة‪،‬‬ ‫يفت�ش عنها حمارب �ساوى بني «املرتينة» واحللم‪.‬‬ ‫من هام�ش املخيم والكرامة املفقودة امل�ستعادة‪ ،‬جاءت «الأعمى‬ ‫والأطر�ش»‪ ،‬احلكاية الأمثولة‪ ،‬التي حكت عن رذائل العادات الثابتة‬ ‫وعينت الف�ضول املعريف املتحالف مع‬ ‫وب�ؤ�س الوعي امل�ستقر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يعو�ض عن‬ ‫املجازفة‪ ،‬مرجع ًا للف�ضيلة‪ ،‬ذلك �أن يف الف�ضول النجيب ما ّ‬ ‫يحرره من العماء‬ ‫ال�سمع والب�رص‪ ،‬وما يفتح لـ «الإن�سان الالجئ» طريق ًا ّ‬ ‫واملخيم مع ًا‪ .‬كتب غ�سان ‪ ،‬يف «الأعمى والأطر�ش»‪� ،‬صفحات �سعيدة‪،‬‬ ‫اعتربها حممود دروي�ش �أف�ضل ما جاد به الأديب‪ ،‬وتوقف يف منت�صف‬ ‫‪81‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫الطريق‪.‬‬ ‫وهناك «برقوق ني�سان» �آخر ما كتب‪� ،‬أو �آخر ما حاول كتابته‪ ،‬التي‬ ‫حمددي الأماكن‬ ‫تبد�أ مب�شهد جليل‪ ،‬ومتر على التاريخ وعلى فل�سطينيني ّ‬ ‫والأزمنة‪ ،‬وت�صل �إىل موقع �أخري‪ ،‬يبدو للقارئ �أنه لي�س املوقع الأخري‬ ‫متام ًا‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال املنتظر‪ :‬ملاذا مل يكمل غ�سان رواياته الثالث؟ للإجابة �أكرث‬ ‫من وجه‪ ،‬ال ت�صل جميعها �إىل جواب �أخري‪.‬‬ ‫ُي َر ّد اجلواب البديهي �إىل رحيل غ�سان املبكر‪ ،‬الذي ق�سمه العنف‬ ‫الإ�رسائيلي �إىل �شطرين ومزق متناثرة‪ .‬فلو كان الزمن �أكرث ت�ساحم ًا‪،‬‬ ‫لعاد �إىل �أوراقه و�أقالمه و�أكمل ما بد�أه‪ .‬لكنها م�أ�ساة ال�سرية الذاتية‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬التي تنق�سم �إىل وطن ومنفى‪ ،‬و�إىل �شباب وكهولة م�رسوقة‪،‬‬ ‫و�إىل اغرتاب وحتقق ال يراهن عليه‪.‬‬ ‫ي�أتي اجلواب الثاين من فر�ضيات يف القراءة‪ ،‬تعترب �أن غ�سان كتب‬ ‫ما يريد‪ ،‬و�أنه مل يرجع �إىل �أعماله‪ ،‬التي تبدو ناق�صة‪ ،‬لأنه كان مقتنع ًا‬ ‫�أنها جاءت بال�س�ؤال واجلواب‪ ،‬وال حتتاج �إىل حذف �أو �إ�ضافة‪ .‬ف�إذا كان‬ ‫املطلوب االحتفاء بزمن الرباءة‪ ،‬الذي �سبق زمن اللجوء‪ ،‬ف�إن ما قالت‬ ‫به «العا�شق» جاء وا�ضح ًا ‪ ،‬ذلك �أن «زمن الإثم» عبرّ ت عنه «رجال يف‬ ‫ال�شم�س» بو�ضوح ال ي�ضارع‪.‬‬ ‫وكذلك احلال يف «الأعمى والأطر�ش»‪ ،‬التي هي‪ ،‬منطقي ًا‪ ،‬مقدمة‬ ‫لرواية «�أم �سعد» وحديثها عن «خيمة عن خيمة تفرق»‪� ،‬إذ خيمة الب�ؤ�س‬ ‫‪82‬‬

‫جت�سيد للعمى وال�صمم‪ ،‬وخيمة الفدائي مكان عاقل نظيف ال موقع‬ ‫فيه للوعي ال�ضليل‪ .‬ولن يختلف الأمر يف «برقوق ني�سان»‪ ،‬القائمة‬ ‫يعبد «درب الفداء»‪ ،‬ويجابه عنف الآلة‬ ‫على التكافل الفل�سطيني الذي ّ‬ ‫الإ�رسائيلية بجمالية التكامل‪.‬‬ ‫يتم ّثل اجلواب الثالث يف منهج غ�سان‪ ،‬الذي جمع بني اقت�صاد الزمن‬ ‫وواجب الر�سالة‪ ،‬واعترب �أن ما يجيء به جيل تطوره �أجيال الحقة‪ ،‬و�أن‬ ‫الأ�سا�سي هو «الفكرة النواة»‪ ،‬التي تعلن �أن للم�أ�ساة الفل�سطينية �شك ًال‬ ‫حيز‬ ‫�أدبي ًا خا�ص ًا بها‪ ،‬و�أن �أدب فل�سطني بحث �أدبي ال يكتمل‪ ،‬يقع يف ّ‬ ‫التجريب وال ي�أخذ �صيغة �أخرية‪ .‬ولعل املنظور التجريبي‪ ،‬الذي يالحق‬ ‫ق�ضية �شائكة �سائرة �إىل «هدف ما»‪ ،‬هو الذي يف�سرّ اقرتاحات غ�سان‬ ‫الأدبية املتالحقة‪ ،‬التي تنفي كل اقرتاح ب�آخر‪ ،‬يجاوره وال يتجاوزه‬ ‫بال�رضورة‪ .‬ولهذا تبدو «برقوق ني�سان» اقرتاح ًا لكتابة رواية عن الكفاح‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬تبتعد عن الرواية باملعنى التقليدي‪ .‬ولأنها اقرتاح‪ ،‬فهي ال‬ ‫حتتاج �إىل حذف و�إ�ضافة‪ ،‬ذلك �أن تو�سيعها يعود �إىل الذين ي�ست�أنفون‬ ‫االقرتاح ويقبلون به‪ .‬لي�س هناك وقت‪ ،‬كان يقول غ�سان لنف�سه ولرفاقه‬ ‫يف اجلبهة ال�شعبية وكان رفاقه يفهمون ما يقول‪ ،‬وكان يعي�ش ما يقول‪،‬‬ ‫تارك ًا ما و�صلت �إليه الكتابة‪ ،‬وذاهب ًا �إىل بيت «�أم �سعد»‪.‬‬ ‫يتو ّزع اجلواب الأخري على اجتاهني‪ :‬اجتاه �أول حدوده غياب اليقني‪،‬‬ ‫�إذ يف ال�شكل �أكرث من �شكل‪ ،‬ويف اجل�سد �أكرث من ج�سد‪ ،‬ويف العمل‬ ‫التعدد‪ ،‬يف‬ ‫ال�سيا�سي �أكرث من رهان‪ ،‬ولنهاية احلكاية نهايات‪ .‬ولأن‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سفة‪ ،‬هو الاليقني‪ ،‬فقد ر�أى غ�سان �أن النهاية الأكيدة �ش�أن من �ش�ؤون‬ ‫امليتافيزيقيا‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫�شهوة احلياة ومنازلة املوت‬

‫رد االجتاه الثاين �إىل الأدب التحري�ضي‪ ،‬الذي ي�ضيف �إىل الواقع‬ ‫ُي ّ‬ ‫يقره غ�سان كثرياً‪ ،‬و�إىل الرهان الذي �سار غ�سان وراءه طيلة‬ ‫�شيئ ًا ال ّ‬ ‫حياته‪ ،‬ومل يهج�س بالن�رص �أو بالهزمية‪.‬‬ ‫اتكاء على وقائع الفرار واملخيمات‪ ،‬وخداع الطريق الذي ي�شد‬ ‫الفل�سطيني �إىل حيث يريد‪� ،‬أدرك غ�سان �أن جوهر ال�رشط الفل�سطيني من‬ ‫جوهر امل�أ�ساة‪ ،‬التي تعد الفل�سطينيني باخليبة وترمي بهم �إىل جهنم‪،‬‬ ‫و�أن الفل�سطيني احلقيقي بطل م�أ�ساوي‪ ،‬ي�صارع ال�صهيوين يف ال�صحراء‬ ‫وي�رصعه‪ ،‬وينتظر طلقة قادمة‪ .‬قاده وعيه العميق بامل�أ�ساة‪ ،‬وهو وعي‬ ‫�صحيح ‪� ،‬إىل كتابة �أف�ضل �أعماله‪« :‬رجال يف ال�شم�س» ‪ ،‬و«ما تبقى لكم»‪،‬‬ ‫التي اعتربت املغامرة غري املح�سوبة مدخ ًال �إىل احلياة‪ .‬امل�أ�ساة وجود‬ ‫ملمو�س له قامة جبل‪ ،‬و«الب�شارة» احتمال تنتظره �أرواح مقاتلة‪.‬‬ ‫يف مرحلته التحري�ضية‪ ،‬املتمثلة يف «�أم �سعد» و«عائد �إىل حيفا»‬ ‫وجزء من «ما تبقى لكم» �أ�ضاف غ�سان �إىل الواقع �شيئ ًا م�سايراً �سياق ًا‬ ‫�أيديولوجي ًا �سيا�سي ًا‪ ،‬ق�ضى ب�رضورة التب�شري‪ ،‬خمالف ًا ما اقتنع به يف‬ ‫البدايات‪ ،‬حني قال‪�« :‬أريد �أن �أر�سم الواقع كما هو‪ ،‬مئة باملئة»‪ .‬ولهذا بدا‬ ‫غ�سان منق�سم ًا بني ت�صوره العميق لل�رشط «امل�أ�ساوي» الفل�سطيني الذي‬ ‫يحتاج �إىل الت�أمل والنفاذ �إىل احلقائق‪ ،‬وت�صوره «املتح ّزب» املتفائل‪،‬‬ ‫الذي قاده‪ ،‬يف بع�ض الأعمال‪� ،‬إىل م�سايرة الظواهر‪ .‬ولعل هذا التوتر‬ ‫بني «الوعي الأ�صلي» و«الوعي احلزبي» هو الذي قاد غ�سان �إىل تعليق‬ ‫نهايات رواياته‪ ،‬مقيم ًا حداً فا�ص ًال بني «فكرة الرهان» والنهايات‬ ‫املكتملة‪.‬‬

‫وعرفته‪ ،‬مواجه ًا التب�شري باملعي�ش‪ ،‬وقاده الرهان �إىل فكرة الوثيقة يف‬ ‫«برقوق ني�سان»‪ ،‬التي كتب فيها عن منا�ضلني يعرفهم‪ ،‬حماذراً مرة‬ ‫�أخرى �أن ي�ضيف �إىل الواقع �شيئ ًا ال يحتمله‪ .‬كان يكتب ‪ ،‬يف احلالني‪ ،‬عن‬ ‫الواقع املعي�ش‪ ،‬الذي ي�ضيق بال�شعارات االنت�صارية‪.‬‬ ‫ماذا تفعل يا «فار�س فار�س»؟ كان يقول اللبناين حممد دكروب‬ ‫لغ�سان‪ ،‬وكان الأخري يجيب‪� :‬أكتب‪ .‬ولكن ماذا تكتب يا غ�سان‪ :‬ق�صة‬ ‫ق�صرية �أم رواية �أم م�رسحية �أم بيان حزبي‪� ،‬أم درا�سة عن جيفارا؟ كان‬ ‫ي�ضحك ويجيب‪ :‬كل هذا مع ًا‪ .‬يتابع دكروب م�شاك�سته‪ :‬ما هو الأ�سا�سي‬ ‫وما هو غري الأ�سا�سي يف كل هذا؟ كان غ�سان يجيب‪ :‬الأ�سا�سي يا رفيقي‬ ‫�أن �أكتب عن الق�ضية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫ا�ستطاع الكتابة من �سن الثامنة ع�رشة �إىل ال�ساد�سة والثالثني من‬ ‫عمره‪ ،‬وذهب �إىل موته يف الثامن من متوز يوليو عام ‪.1972‬‬

‫�سمح الرهان بكتابة رواية وثيقة‪�« :‬أم �سعد» ‪ ،‬الإن�سانة التي عرفها‬ ‫‪84‬‬

‫‪85‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫�آخر يدعى‪« :‬ال�صهيوين‪� .‬أخذ الأول �صفات �إيجابية متعددة‪ ،‬جتعله‬ ‫منت�رصاً يف معركة �ضد عدو له �صفات مغايرة‪ ،‬كما لو كان الأول ر�سول‬ ‫اخلري والنقاء‪ ،‬وكان الثاين مر�آة لل�رش واخلطيئة‪ .‬عبرّ ت عن هذه الق�سمة‬ ‫الباترة رواية جربا �إبراهيم جربا‪ ،‬التي ن�سبت الفل�سطيني �إىل �أر�ض‬ ‫مقد�سة‪ ،‬و�آمنت �أن قتاله مك ّلل باالنت�صار‪.1‬‬

‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫ما الذي تبقى من �أديب فل�سطيني يدعى غ�سان كنفاين‪ ،‬بدا يف حقبته‬ ‫منت�رصاً‪ ،‬ويبدو اليوم «طل ًال» نزلت به هزمية �ساحقة؟ وملاذا بدا على‬ ‫ما بدا عليه‪ ،‬يف زمن بالغة قومية انت�صارية وحديث متفائل عن «حرب‬ ‫ال�شعب» و«�رصاع الطبقات»‪ ،‬وفقد اليوم ما بدا عليه فقدان ًا كام ًال؟ ي�أتي‬ ‫اجلواب من �شكل القراءة يف حقبتني خمتلفتني‪ ،‬تقوالن ما يريد ال�سياق‬ ‫وت�ضعان ما �أراد الكاتب قوله جانب ًا‪ .‬و�شكل القراءة هذا له ما يربره‪،‬‬ ‫ذلك �أن الفل�سطينيني �أ�سهبوا يف «ت�سيي�س الكتابة»‪ ،‬واقت�صدوا يف �إدراك‬ ‫معنى ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ر�أت كثري من الن�صو�ص الفل�سطينية التحري�ضية‪ ،‬يف زمن «الكفاح‬ ‫امل�سلح» بخا�صة‪ ،‬يف الفل�سطيني كيان ًا متجان�س ًا‪ ،‬يقاتل كيان ًا متجان�س ًا‬ ‫‪86‬‬

‫تعامل غ�سان كنفاين مع فل�سطيني �آخر‪ ،‬ال يح�سن القتال �إال �إذا �أح�سن‬ ‫�إ�صالح ذاته‪ ،‬و�أدرك وجـوه النق�ص واخللل يف وعيه وممار�سته ووعى‬ ‫ب�شكل موازٍ ‪� ،‬أ�سباب «فراره» من فل�سطني‪ ،‬والأ�سباب التي �أقام عليها‬ ‫ال�صهيوين انت�صاره‪ .‬قال «الأديب» الراحل ب�شكلني �أ�سا�سيني من القتال‪:‬‬ ‫قتال الفل�سطيني �ضد جوانب ال�سلب يف �شخ�صيته ووجوده‪ ،‬وقتاله �ضد‬ ‫عدوه‪ ،‬معترباً القتال الأول مقدمة للقتال الثاين و�رشط ًا له‪ ،‬ذلك �أن‬ ‫القتال امل�ؤ�س�س على اخلط�أ‪ ،‬ي�ضيف �إىل الهزائم ال�سابقة هزائم جديدة‪.‬‬ ‫ولهذا مل يتعامل كنفاين مع «الفل�سطيني» ب�صيغة املفرد‪ ،‬ومل يقبل بوهم‬ ‫الفل�سطيني املتجان�س‪ ،‬قائ ًال بفل�سطينيني يحملون قيم ًا خمتفلة‪ ،‬حتيل‬ ‫على ال�صدق والإخال�ص والت�ضحية‪� ،‬أو على كل ما يخالف ذلك خمالفة‬ ‫كاملة‪.‬‬ ‫«فروا»‬ ‫�أقام ق�سمته على فكرة «العار»‪ ،‬الذي حلق بالفل�سطينيني الذين ّ‬ ‫من وطنهم‪ ،‬والذي توالد من جديد يف �أر�ض الغربة واللجوء‪ .‬واتكاء على‬ ‫هذه الفكرة‪ ،‬ونقي�ضها فكرة ال�رشف‪ ،‬كتب غ�سان رواياته ما اكتمل منها‬ ‫وما منعه املوت عن �إكمالها‪.‬‬ ‫‪ )1‬انظر جربا �إبراهيم جربا‪�« :‬صيادون يف �شارع �ضيق»‪ ،‬دار الآداب‪ ،‬بريت‪،1974 ،‬‬ ‫و«البحث عن وليد م�سعود» ال�صادرة عن نف�س الدار عام ‪.1978‬‬ ‫‪87‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫‪ .1‬رجال يف ال�شم�س وثمن العار‪:‬‬ ‫�أنهى غ�سان كنفاين روايته «رجال يف ال�شم�س» ‪ 1963‬بال�سطور‬ ‫التالية‪« :‬انزلقت الفكرة من ر�أ�سه ثم تدحرجت على ل�سانه‪« :‬ملاذا مل يدقوا‬ ‫جدران اخلزان؟‪ ..‬دار حول نف�سه دورة ولكنه خ�شي �أن يقع ف�صعد الدرجة‬ ‫�إىل مقعده و�أ�سند ر�أ�سه فوق املقود‪ :‬ملاذا مل تدقوا جدران اخلزان؟‪..‬‬ ‫وفج�أة بد�أت ال�صحراء كلها تردد ال�صدى‪ :‬ملاذا مل تدقوا جدران اخلزان؟‬ ‫ملاذا مل تقرعوا جدران اخلزان؟ ملاذا ؟ ملاذا ؟ ملاذا ؟» ‪.2‬‬ ‫تت� ّأ�سى اجلملة ال�شهرية‪« :‬ملاذا مل يدقوا جدران اخلزان؟» على الجئني‬ ‫فل�سطينيني ماتوا اختناق ًا يف خ ّزان �شاحنة وهم يت�س ّللون �إىل الكويت‪،‬‬ ‫وترثي فقراء م�ست�سلمني مل يعرفوا االحتجاج‪ ،‬وت� ّأمل الت�صاق ًا باملوت‬ ‫�أقرب �إىل الأحجية‪ .‬بيد �أن دخول ال�صحراء‪ ،‬ب�صوتها ال�شا�سع‪ ،‬ي�ضع‬ ‫الأخالقي والوجداين جانب ًا‪ ،‬ويف�صح عن م�أ�ساة تتجاوز «ال�ضحايا»‪،‬‬ ‫كما لو كان يف اختناقهم م�أ�ساة كاملة مغلقة‪ ،‬ال �سبيل �إىل الفرار منها‪.‬‬ ‫املتكررة‪ ،‬املحت�شدة باللوم والغ�ضب‪ ،‬برغبة «الكتابة»‬ ‫توحي اجلملة‬ ‫ّ‬ ‫يف �إنقاذ الذين مل ينقذوا �أنف�سهم‪ ،‬م�ستنفرة املحاكمة العقالنية واحل�س‬ ‫الإن�ساين ال�سليم‪ ،‬فه�ؤالء الذين قامروا بحياتهم البائ�سة تطلعوا �إىل حياة‬ ‫مغايرة‪ .‬غري �أن قراءة ن�ص غ�سان ت�ؤكد �شيئ ًا �آخر‪ ،‬وتقوله مرتني‪ :‬تقود‬ ‫�صفات «ال�ضحايا»‪ ،‬املثقلة بالي�أ�س والإحباط وفقر اخلربة �إىل نتيجة‬ ‫وحيدة هي‪ :‬املوت‪ ،‬وتقول �أي�ض ًا‪� :‬أغلق الروائي �أمام «�شخ�صياته» املنافذ‬ ‫جميعها ودفعهم‪ ،‬ب�شكل م�ستقيم‪� ،‬إىل موت م�ؤكد ال كرامة فيه‪ ،‬مقتنع ًا‬ ‫االقتناع كله ب�أن املوت املهني هو القدر الوحيد املتاح ل�شخ�صيات‬ ‫بائ�سة مت�ساقطة‪.‬‬ ‫(‪ )2‬غ�سان كنفاين يف‪ :‬الآثار الكاملة الروايات‪ ،‬م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية‪ ،‬بريوت‪،2005 ،‬‬ ‫�ص‪.152 :‬‬ ‫‪88‬‬

‫تذكر‪ ،‬وهو ملقى‬ ‫ا�ستهل الروائي حكايته بفل�سطيني متعب القلب ّ‬ ‫يف �صحراء غريبة‪ ،‬ب�أنه ترك قلبه ال�سليم يف الأر�ض التي تركها‪ ،‬و�أن‬ ‫«الغربة الآ�سنة» دفعت �إىل �صدره قلب ًا مري�ض ًا‪« :‬لي�س يدري ملاذا‬ ‫امتلأ‪ ،‬فج�أة‪ ،‬ب�شعور �آ�سن من الغربة‪ ،‬وح�سب لوهلة �أنه على و�شك �أن‬ ‫يبكي‪� ..،‬ص‪� .»38 :‬أف�ضت الغربة املوح�شة �إىل يقظة مفاجئة مت�أخرة‪،‬‬ ‫فبني رمل ال�صحراء وتراب الأر�ض البعيدة م�سافة ت�ستدعي «البكاء»‪،‬‬ ‫وت�أمر بتقريع �أرواح �ض ّلت ال�سبيل‪ .‬دفعت اليقظة املت�أخرة الفل�سطيني‬ ‫تذكر فل�سطيني �شاء خياراً �آخر‪ ،‬و ّفر عليه املهانة والت�سل�سل‬ ‫املهان �إىل ّ‬ ‫املهلك يف ال�صحراء‪ .‬ولهذا تعقد الرواية‪ ،‬يف �صفحتها الرابعة‪ ،‬مقارنة‬ ‫بني الفل�سطيني التائه يف ال�صحراء ومعلم «يجيد �إطالق الر�صا�ص»‪،‬‬ ‫�سقط مدافع ًا عن �أر�ضه‪ ،‬وحظي بـ «نعمة �إلهية» وافرة‪ ،‬وفرت عليه «الذل‬ ‫وامل�سكنة و�أنقذت �شيخوخته من العار»‪ ،‬كما تقول الرواية‪.‬‬ ‫عقدت الرواية‪ ،‬يف م�ستهلها‪ ،‬مقارنة بني �شخ�صني وقدرين‪ ،‬عنوان‬ ‫�أحدهما البندقية والقتال واملوت الكرمي وااللتحاق برتاب الأر�ض‪،‬‬ ‫وعنوان ثانيهما الفرار وامل�سكنة والتيه يف ال�صحراء‪� .‬أف�صحت الرواية‬ ‫عن املوت القادم قبل جميئه‪ ،‬مقررة موت ًا‪ ،‬هو عقاب و�أمثولة مع ًا‪:‬‬ ‫عقاب عادل ل�شخ�صيات فقرية ال تعرف احل�سبان‪ ،‬موت �أمثولة‪ ،‬ا�ستح ّقه‬ ‫فل�سطيني خلط بني تراب الوطن ورمل ال�صحراء‪ .‬حمل الفل�سطيني‪ ،‬قبل‬ ‫يعبد الطريق �إىل املوت‪ ،‬وحمل بعد‬ ‫يقظته املفاجئة املت�أخرة‪ ،‬وهم ًا ّ‬ ‫يقظته ي�أ�س ًا فادح ًا مينعه من الوقوف‪� .‬صاغ م�صريه من الوهم والعجز‪،‬‬ ‫و�صاغه م�صريه �ضحية ملقاة على قارعة الطريق‪.‬‬ ‫ال حتيل اجلملة ال�شهرية‪« :‬ملاذا مل يدقوا جدران اخلزان ؟»‪ ،‬واحلال‬ ‫هذه‪ ،‬على تعاطف �أخالقي‪ ،‬فالذين فروا من �أر�ضهم ال ي�ستحقون‬ ‫‪89‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫التعاطف‪ ،‬وال تطرح �س�ؤا ًال يبحث عن �إجابة‪ ،‬لأن الإجابة جاهزة وا�ضحة‬ ‫يف مبتد�أ امل�سار‪ .‬و�إذا كان هناك من �س�ؤال‪ ،‬فهو احتجاج على اخلروج‬ ‫من الوطن ال على �صمت الهالكني‪ ،‬بل �إن يف عنف ال�س�ؤال وحرقته دعوة‬ ‫�إىل الفل�سطينيني‪ ،‬كي يفكروا يف ما�ضيهم وحا�رضهم وم�ستقبلهم‪ ،‬فقد‬ ‫يرد على العار‬ ‫اقرتفوا �إثم ًا ال ميحوه �إال عقاب �شديد‪ ،‬وال يغفره �إال ما ّ‬ ‫بف�ضائل غري م�سبوقة‪ ،‬تدير ظهرها �إىل ال�صحراء وت�سلك درب ًا �صعب ًا‬ ‫�إىل الوطن‪ .‬وواقع الأمر �أن غ�سان‪ ،‬الذي عا�ش جتربة اللجوء يف �أكرث‬ ‫�أ�شكالها ب�ؤ�س ًا‪ ،‬كان خج ًال من �شعبه الالجئ‪ ،‬وغا�ضب ًا �شديد الغ�ضب‬ ‫على �شخ�صياته‪ ،‬التي مل ت�شعر بالعار‪� ،‬أو �شعرت به يف حلظة مفاجئة‬ ‫مت�أخرة‪ .‬ولهذا حكم عليها باملوت‪ ،‬بعد �أن �ألقى �ضوءاً نافذاً على فقرها‬ ‫الروحي واملعنوي‪ :‬فهي ال تعرف احل�سبان وال حتتج على الإهانة‪،‬‬ ‫واهنة مك�سورة �ضعيفة الذاكرة‪ ،‬م�شدودة �إىل �أحالم �صغرية و�أوهام‬ ‫ما�ض مل‬ ‫كبرية‪� ،‬أنانية تعرف الهرب وال تعرف املواجهة‪ ،‬تعي�ش يف ٍ‬ ‫حت�سن الدفاع عنه‪ ،‬ويف حا�رض ال تعرف التعامل معه‪ ،‬وتبني �أحالم ًا‬ ‫من ورق وتراها يف م�ستقبل ال تدرك من معناه �شيئ ًا‪.‬‬ ‫ي�أتي املوت �إىل �شخ�صيات «رجال يف ال�شم�س» من طرق متعددة‪:‬‬ ‫متوت لأنها تفتقر �إىل الوعي وامل�س�ؤولية‪ ،‬ومتوت من�صاعة �إىل «خالقها»‪،‬‬ ‫�أي الروائي‪ ،‬الذي ر�أى يف ا�ستمرارها يف احلياة عاراً‪ ،‬ومتوت لأن املوت‬ ‫مكتوب يف م�سارها‪ ،‬ب�سبب قدر �أقرب �إىل اللعنة‪ .‬فالالجئ الباحث عن‬ ‫«الزيتون» يف ال�صحراء يح�صده املوت‪ ،‬واملعلم النزيه املقاتل ي�سقط‬ ‫قتي ًال فوق �أر�ضه‪ ،‬وقريب ال�شاب املهان قاتل وانتهى �إىل الرتاب‪،‬‬ ‫والأنثى املبتورة ال�ساق لها وجه مري�ض ال �شفاء له‪ ..‬يت�ساقط املوت‬ ‫على الفل�سطيني‪ ،‬يف رواية غ�سان‪� ،‬إن قاتل ومت�سك ب�رشفه‪� ،‬أو � ْإن هرب‬ ‫مع عاره والذ بالفرار‪ .‬ي�ضيء هذا الو�ضع امل�أ�ساوي ال�س�ؤال اللحوح‪:‬‬ ‫‪90‬‬

‫«ملاذا مل يقرعوا جدران اخلزان؟»‪ ،‬الذي يرتجم قدراً ظامل ًا ال هرب منه‪،‬‬ ‫قرع الفل�سطيني اجلدار ال�صدئ �أو ارت�ضى مب�صريه ورحل �صامت ًا‪ .‬وهذا‬ ‫الإ�شكال هو الذي يعني رواية غ�سان عم ًال �أدبي ًا فريداً‪ ،‬يف جمال الأدب‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬نفذ �إىل قرار امل�أ�ساة الفل�سطينية ب�شكل غري م�سبوق ومل‬ ‫يتكرر‪ ،‬حتى الآن‪.3‬‬ ‫ا�ستهل غ�سان ن�صه بفل�سطيني عاجز منوذجي‪ ،‬يجمع بني الوهم‬ ‫وال�شيخوخة و�ضعف احليلة‪ ،‬و�أعاد �إنتاجه يف �شخ�صيات فل�سطينية‬ ‫متعددة‪ ،‬تختلف يف العمر وتتوازع جميع ًا تداعي ًا قات ًال‪ .‬فال�شخ�صية‬ ‫املفتتح (�أبو قي�س) احتاجت �إىل «ع�رش �سنوات كبرية جائعة»‪ ،‬كي‬ ‫ت�صدق �أنها فقدت ال�شجر والبيت وال�شباب والقرية كلها‪ ،‬وال�شاب (�أ�سعد)‬ ‫ال يحرك �ساكن ًا �أمام �ضابط ب�صق «على وجهه و�أخذت الب�صقة ت�سيل‬ ‫ببطء نازلة من جبينه»‪ ،‬وال �أمام �إن�سان بليد �سخر منه ون�صحه ب�أن «ال‬ ‫ت�أكله اجلرذان قبل �أن ي�سافر»‪ .‬وكذلك حال «ال�صبي» الذي «م�ضغ ذله»‬ ‫حني هوت على وجهه يد ثقيلة متوعدة‪ ،‬و�صفه �صاحبها ب�أنه «ينوح‬ ‫كالأرامل ‪ »..‬والدليل العنينّ ‪ ،‬الذي قاتل وانهزم‪ ،‬وال يزال يعتقد �أنه قادر‬ ‫على «قيادة» غريه �إىل «�أر�ض ال�سعادة»‪ .‬بل � ّإن يف هذا الدليل طريق ًا‬ ‫�آخر �إىل املوت‪ ،‬فهو دليل ج ّثة‪ ،‬ال ي�ستطيع الإجناب‪ ،‬ي�سوق �أمامه جثث ًا‬ ‫�أخرى‪ ،‬منتظراً بدوره قرباً مزبلة‪ .‬ر�سم غ�سان �رشط ًا م�أ�ساوي ًا‪ ،‬يفتقر‬ ‫�إىل �أبطال م�أ�ساويني‪� ،‬رشط ًا �أقرب �إىل اللعنة‪ ،‬وقوده ب�رش �أ�ضيق من‬ ‫�رشطهم التاريخي‪ ،‬ووجهه الآخر �صهيونية مقاتلة حملت معها‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�إىل الدعم الإمربيايل‪ ،‬حداثة �أوروبية ت�ضبط العالقة بني الهدف والغاية‪.‬‬ ‫و�إذا كانت امل�أ�ساة‪ ،‬يف بعدها التاريخي‪ ،‬ت�صدر عن م�رشوع �صهيوين‬ ‫(‪ )3‬انظر يف هذا املو�ضوع الدرا�سة الالمعة للناقد الف�سطيني يو�سف �سامي اليو�سف‪« :‬غ�سان‬ ‫كنفاين‪ :‬رع�شة امل�أ�ساة»‪ ،‬دار �أزمنة‪ ،‬عمان‪.1999 ،‬‬ ‫‪91‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫وعن فل�سطيني ي�سري يف درب ال ي�سيطر عليه‪ ،‬فقد جاء بعدها الوجودي‬ ‫من «�صدفة عمياء» وقعت على الفل�سطيني ومل تقع على غريه‪ .‬فقد اختار‬ ‫امل�رشوع ال�صهيوين فل�سطني‪ ،‬بعد �أن �رصف النظر عن �أوغندا و�سيناء‬ ‫وموزامبيق والأرجنتني‪ ،‬مدخراً �شقاء االختيار ل�شعب فل�سطني‪ ،‬الأمي‬ ‫يف �أغلبيته ال�ساحقة‪ ،‬املحمل ب�إرث عثماين من الفقر والتخ ّلف وغياب‬ ‫الوحدة املجتمعية ‪ .4‬وهذه الأ�سباب متنع الفل�سطيني‪ ،‬الذي يعي�ش �رشط ًا‬ ‫م�أ�ساوي ًا‪ ،‬عن �أن يكون بط ًال تراجيدي ًا‪ ،‬الذي يحت�شد‪ ،‬منطقي ًا‪ ،‬بقيم نبيلة‬ ‫يفتقر �إليها الالجئ الباحث عن ظالل الزيتون على حدود الكويت‪.‬‬ ‫ملاذا و�ضع الروائي يف ال�شخ�صيات �صفات تقودها �إىل املوت‪ ،‬وملاذا‬ ‫اختار لها م�صرياً قا�سي ًا‪ ،‬جمع بني املوت اختناق ًا واالنتهاء �إىل مزبلة‪،‬‬ ‫بال قرب �أو �صالة �أو طقو�س؟ ي�أتي اجلواب من اجتاهني‪ :‬ت�صور غ�سان‬ ‫كنفاين ملعنى اللجوء و«الفرار» من الوطن‪ ،‬ووظيفة الكتابة الأدبية يف‬ ‫هذا الت�صور‪ .‬كثف كنفاين معنى اللجوء يف �أحوال �شخ�صياته و�أقوالها‬ ‫وممار�ساتها‪ ،‬م�ساوي ًا بني اخلروج من فل�سطني والعار‪ ،‬فال يهرب الإن�سان‬ ‫من وطنه �إال �إذا كان غري جدير به‪ ،‬وغري جدير ب�صفة الإن�سان ال�سوي‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬يتعني املوت يف هذا الت�صور عقاب ًا عاد ًال‪� ،‬إنه ثمن العار‪ ،‬بقدر‬ ‫ما يف�صح املوت املهيمن عن عار وا�سع‪ ،‬يك�سو الفل�سطيني من ر�أ�سه �إىل‬ ‫قدميه‪ .‬ولعل م�ساواة التخلي عن الوطن بالعار ال�شامل هي التي قادت‬ ‫غ�سان �إىل و�ضع �أبطاله يف دائرة مغلقة مهلكة‪ ،‬لها باب وحيد ينفتح‬ ‫على املوت واملزبلة‪ ،‬وهي التي �أملت عليه �أن ي�سوقهم‪ ،‬بق�سوة باردة‪،‬‬ ‫�إىل م�صريهم احلزين‪.‬‬ ‫(‪ )4‬د‪ .‬عبد الرحمن الكيايل‪ :‬تاريخ فل�سطني احلديث الطبعة الثالثة امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬ ‫والن�رش‪ ،‬بريوت‪� ،1973 ،‬ص‪.45-43:‬‬ ‫‪92‬‬

‫�إذا كان قرب الفل�سطيني املك�شوف جاهزاً يف بداية الطريق �أو يف‬ ‫نهايته‪ ،‬فلماذا �أرهق غ�سان كنفاين قارئه ب�س�ؤاله اللحوح‪« :‬ملاذا مل‬ ‫يقرعوا جدران اخل ّزان؟»‪ .‬ينطوي الإقرار باملوت الفل�سطيني الذي ال‬ ‫هروب منه على اجلواب‪ ،‬ذلك �أن ال�س�ؤال يدور حول عمق وات�ساع امل�أ�ساة‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬التي تلتب�س باللعنة‪،‬ال حول الجئني �ضائعني خدعهم‬ ‫الطريق‪ .‬انطلق غ�سان من فكرة العار‪ ،‬داعي ًا �إىل «�رشف فل�سطيني» ميحو‬ ‫العار‪ ،‬ويعيد الفل�سطيني «�سوي ًا» كما كان‪ .‬مع ذلك ف�إن منظوره‪ ،‬كما جاء‬ ‫يف الرواية‪ ،‬يتوزع على اجتاهني‪ :‬اجتاه �أول عالقاته اللجوء والوطن‪،‬‬ ‫يق�ضي بتوليد وعي فل�سطيني متحرر من الأوهام‪ ،‬وي�ضبط العالقة بني‬ ‫الغاية والو�سيلة‪ .‬والوا�ضح يف هذا االجتاه‪ :‬بطولة القيم‪ ،‬فقد يقود احل�س‬ ‫الأخالقي النبيل �إىل «الكفاح امل�سلح»‪ ،‬بينما ال يفرت�ض الكفاح امل�سلح‪،‬‬ ‫دائم ًا‪ ،‬االن�ضباط الأخالقي‪ .‬يحيل االجتاه الثاين على «اللعنة»‪� ،‬أو على‬ ‫تعقد امل�أ�ساة الفل�سطينية‪ ،‬التي تواجه �إ�رسائيل واحلداثة الأوروبية التي‬ ‫�أنتجتها‪ ،‬م�صيرّ ة «حترير فل�سطني» �إىل هدف �صعب «بعيد»‪.‬‬ ‫قر�أ غ�سان م�أ�ساة الفل�سطيني يف الفرق بني �إمكانياته و�إمكانيات‬ ‫عدوه‪ ،‬ويف «تخ ّلف عربي» ال �أفق له‪ .‬فـ «العرب» الذين قابلهم الفل�سطيني‪،‬‬ ‫يتميزون بالغلظة واجل�شع والكذب‪،‬‬ ‫وهو ينتقل من بلد عربي �إىل �آخر‪ّ ،‬‬ ‫ي�ضيفون �إىل الفل�سطيني املقهور قهراً جديداً‪ .‬ال غرابة ان كتب غ�سان‬ ‫رواية مفعمة بالت�شا�ؤم يف زمن بدا متفائ ًال‪ ،1963 :‬حيث القومية‬ ‫العربية �صاعدة وحديث التحرر م�سيطر و«النا�رصية» عالية ال�صوت يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬موحي ًا ب�أن للفل�سطيني قدراً خا�ص ًا به ال يتقا�سمه مع جميع‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫واجه غ�سان فكرة العار بفكرة ال�رشف‪ ،‬مبتدئ ًا من الإن�سان ال من‬ ‫‪93‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫موحداً بني االنتماء �إىل فل�سطني وبطولة القيم‪ .‬قاده‬ ‫«قد�سية الرتاب»‪ّ ،‬‬ ‫االجتاه الثاين القائم يف �س�ؤاله �إىل فكرة �أكرث حتديداً عنوانها‪ :‬اال�ستعداد‬ ‫الكامل الطليق للموت‪ ،‬الذي يجعل الإن�سان احلقيقي �سيداً على م�صريه‪،‬‬ ‫ويتيح له �أن يواجه «اللعنات» متى ي�شاء وبالطريقة التي ي�شاء‪ .‬ف�صل‬ ‫غ�سان يف �أعماله الأدبية‪ ،‬با�ستثناء روايته «�أم �سعد»‪ ،‬بني البطولة‬ ‫واالنت�صار‪ ،‬وبني الفعل البطويل وم�آله‪ ،‬معترباً �أن معنى الإن�سان ماثل‬ ‫يف ما �أراد ال يف ما و�صل �إليه‪ .‬قاده هذا الف�صل‪ ،‬القريب من «عدمية‬ ‫مقاتلة»‪� ،‬إىل ف�صل موازٍ بني املوت املثمر الذي يرعى احلياة واحلياة‬ ‫العقيمة التي حتتفي باملوت‪ .‬وب�سبب ذلك تبدو «رجال يف ال�شم�س»‬ ‫رواية عن املوت يف �شكليه‪ :‬فاحلياة الذليلة التي ي�ساكنها موت ذليل‬ ‫وا�ضحة يف الالجئ الذي باع عائلته طمع ًا بغرفة من اال�سمنت‪ ،‬ويف‬ ‫املر�أة الك�سيحة التي ت�شرتي زوج ًا بغرفة مريحة‪ ،‬ويف الدليل الذي‬ ‫يهرب �أرواح ًا ويزهقها‪ ،‬ويف موظف احلدود امل�شغول براق�صة وهمية‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫�أما املوت املزهر فيتوزع على الفل�سطينيني الذين مت�سكوا برتاب وطنهم‬ ‫ودفنوا فيه‪.‬‬ ‫تطرح رواية «رجال يف ال�شم�س» �س�ؤال الهوية‪ :‬من هو الفل�سطيني؟‬ ‫وما هو ال�رشط الذي يحقق هوية فل�سطينية؟ ي�أتي اجلواب من �شكل‬ ‫املوت الذي يختاره الفل�سطيني �أو ي�أتي‪ ،‬بلغة �أقل م�أ�ساوية‪ ،‬من عامل‬ ‫القيم‪ ،‬حيث «الفل�سطيني اجلوهري» حري�ص على �رشفه‪ .‬بيد �أن تعقد‬ ‫امل�س�ألة الفل�سطينية‪ ،‬الذي يحيل على عامل القيم والوعي التاريخي‬ ‫ويحول الهوية‬ ‫ومبادئ احلداثة‪ ،‬يجعل �س�ؤال الهوية �أكرث �صعوبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املن�شودة �إىل م�رشوع م�ستقبلي مفتوح‪ .‬ف�إذا كانت الهوية ال وجود لها‪،‬‬ ‫نظري ًا‪� ،‬إال مبواجهة هوية مه ِددة (بك�رس الدال) مغايرة‪ ،‬ف�إن حتقق الهوية‬ ‫املهددة (بفتح الدال) يقا�س بقدرتها على هزمية نقي�ضها‪� ،‬أو �إخ�ضاعه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫‪94‬‬

‫وهو �س�ؤال مرهون مبيزان القوى ال مببادئ الأخالق‪.5‬‬ ‫يك�شف الكفاح من �أجل هوية وطنية مت�سقة عن الفرق بني الت�صور‬ ‫الفقري للكفاح الفل�سطيني‪ ،‬الذي يربط حياة الق�ضية بحياة الناطقني‬ ‫والت�صور الأخالقي للتحرر‪ ،‬الذي يعت�صم بالقيم الكبرية وينبذ‬ ‫با�سمها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«امل�ساومات املو�سمية» جانب ًا‪.‬‬ ‫بد�أ غ�سان من �س�ؤال العار وو�صل �إىل امل�أ�ساة ال�شاملة‪ ،‬وت�أمل عالقة‬ ‫مزود بالأخالق والوعي‬ ‫الفل�سطيني بعدوه‪ ،‬وطالب بـ فل�سطيني نوعي ّ‬ ‫واملعرفة يقاتل‪ ،‬بثبات‪ ،‬وال ينتظر ن�رصاً قريب ًا‪ .‬ي�صبح الفل�سطيني‪،‬‬ ‫تعريف ًا‪ ،‬الإن�سان ال�سائر �أبداً �إىل التحرر من «عاره»‪ ،‬و�إىل ا�ستئناف حياة‬ ‫�سوية ممكنة وغري ممكنة مع ًا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫والتدرب على م�سح العار‪:‬‬ ‫‪« .2‬ما تبقى لكم»‬ ‫ّ‬ ‫من �أقوال غ�سان كنفاين‪« :‬كان الفرار موت ًا»‪ .‬تك ّثف اجلملة حكاية‬ ‫«رجال يف ال�شم�س» والقول الذي �أرادت الربهنة عنه‪ .‬فهي ترى يف‬ ‫«الفارين» �أموات ًا �أُ ِّج ّل دفنهم‪� ،‬أو موتى بال قبور‪ّ � ،‬إما لأن �أنفا�سهم مل‬ ‫ّ‬ ‫تخمد متام ًا‪ ،‬حال الدليل العاجز‪� ،‬أو لأنهم غري جديرين بقبور ت�سرتهم‪.‬‬ ‫ي�رسد احلرمان من القرب حكاية الأموات الذين حرموا منه‪ ،‬ويعلن �أنهم‬ ‫ال ي�ساوون الب�رش العاديني الذين ينتهون �إىل قبور تخ�صهم‪ .‬يظهر عار‬ ‫الفرار يف عار الحق‪ ،‬ويرمي على الفل�سطيني بف�ضيحة ال ي�ستطيع الت�سرت‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫(‪ )5‬راجع «العروبة وق�ضية فل�سطني» (حوار مع ق�سطنطني زريق)‪ ،‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية ببريوت ‪.1995‬‬ ‫‪95‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫عاد غ�سان �إىل مو�ضوع العار يف روايته الالحقة «ما تبقى لكم»‬ ‫‪ ،1966‬حماو ًال �أن يرتب‪ ،‬كتابي ًا‪ ،‬عامل ًا فل�سطيني ًا «غري مرتب» على‬ ‫الإطالق‪ ،‬كما جاء يف «التو�ضيح»‪ ،‬الذي ُت�ستهل به الرواية‪ .‬و�إذا كان يف‬ ‫روايته الأوىل قد ترجم وجوداً فل�سطيني ًا ين�ضح بالعار‪ ،‬دون �أن يلج�أ‬ ‫�إىل الكلمة �إال بقدر حمدود‪ ،‬فهو يف روايته الثانية يتناول حكاية العار‪،‬‬ ‫ب�شكلها الأكرث مبا�رشة رابط ًا‪ ،‬رمزي ًا‪ ،‬بني البعدين االجتماعي والوطني‪.‬‬ ‫حتدث الرواية عن �أنثى «فقدت �رشفها» وتزوجت «بعد احلمل» زواج ًا‬ ‫بائ�س ًا‪ ،‬تخفيف ًا من «الف�ضيحة» التي ال ميكن تخفيفها‪ .‬بيد �أن احلكاية‬ ‫التي تبدو تقليدية ال تلبث �أن حتت�شد ب�أبعاد رمزية تدع «العار الوطني‬ ‫الفل�سطيني» عاري ًا‪ .‬فعائلة الفتاة امل�ستباحة هربت‪ ،‬يف عام �سقوط‬ ‫فل�سطني‪ ،‬من يافا �إىل غزة‪ ،‬وهو ما يعني الهرب مبتد�أ للعار‪ ،‬خم ّلفة‬ ‫وراءها‪ ،‬ب�سبب الرعب و«�ضيق القارب» «�أم ًا �ضائعة»‪� ،‬إ�شارة �إىل عائلة‬ ‫رخوة يتلو كل خلل فيها خلل �آخر‪ .‬وواقع الأمر �أن غ�سان ال�ساخط على‬ ‫�شعب رخو‪ ،‬يفتقر �إىل العزمية وو�ضوح احل�سبان‪ ،‬ير�سم وجوداً فل�سطيني ًا‬ ‫يدفعه تداعيه‪ ،‬ب�شكل م�ستقيم‪� ،‬إىل الكارثة‪ .‬فقد فقدت العائلة «الأب»‬ ‫قبل الهرب‪ ،‬و�ضاعت «الأم» حلظة الهرب‪ ،‬و�سقط «�رشف الفتاة»‪ ،‬الحق ًا‪،‬‬ ‫بعد �أن رحلت «اخلالة املري�ضة»‪ ،‬تاركة وراءها «�شابة جائعة» و�صبي ًا‬ ‫تائه ًا‪ ،‬يف انتظار «جنني غري �رشعي»‪ ،‬وزواج ما هو بالزواج بـ«�صداق‬ ‫م�ؤجل»‪.‬‬ ‫ي�ست�أنف غ�سان يف «ما تبقى لكم» الت�صور الذي �أقام عليه «رجال‬ ‫يف ال�شم�س»‪ .‬فمثلما �أن «الفرار موت»‪ ،‬يواجه الالجئ يف بداية الطريق �أو‬ ‫يتك�شف يف عام الهرب �أو بعده بقليل‪ .‬ي�صبح‬ ‫نهايته‪ ،‬ف�إن «الفرار عار»‪ّ ،‬‬ ‫العار موت ًا �آخر‪ ،‬ويتعينّ «الفرار» مرجع ًا للموت والعار مع ًا‪ ،‬فهو اخلطيئة‬ ‫تبدل معنى املوت واحلياة‪ ،‬وهو البداية الزمنية الغرتاب ال‬ ‫القاتلة التي ّ‬ ‫‪96‬‬

‫خروج منه‪ ،‬ول�سقوط مدو لن يعود الوجود الفل�سطيني بعده كما كان‪.‬‬ ‫ومع �أن يف حا�رض اللجوء ب�ؤ�س ًا معلن ًا‪ ،‬ف�إن �آماد الب�ؤ�س ال تتج ّلى‬ ‫وا�ضحة �إال با�ستذكار �صورة الوطن الذي كان‪ .‬كانت الفتاة امل�ستباحة‪،‬‬ ‫قبل عام الفرار‪ ،‬ذكية المعة واعدة «وردة املن�شية» تنتظر زوج ًا حمرتم ًا‬ ‫قبل �أن تتزوج‪ ،‬وهي حامل يف �شهرها الرابع‪ ،‬من «الجئ ننت» متزوج‬ ‫وله خم�سة �أطفال‪ .‬يجعل ال�سقوط من زمن �إىل �آخر‪ ،‬ومن مكان �إىل غريه‪،‬‬ ‫املوت حا�رضاً قبل جميئه‪ ،‬والعار حا�ص ًال قبل وقوعه‪ ،‬فلوال الفرار ملا‬ ‫جاء املوت املهني وال �ضاع ال�رشف‪ .‬ولعل وحدة املوت والعار‪ ،‬الذي هو‬ ‫موت �آخر‪ ،‬هو الذي يدفع بال�سارد �إىل القول‪ :‬ما تبقى لكم‪« ،‬ما تبقى يل‪،‬‬ ‫«جحر قميء»‪ ،‬وزوج «ي�شبه القرد»‪ ،‬و�أم غائبة‬ ‫ما تبقى لها»‪ ..‬واملتبقي ُ‬ ‫منذ �ستة ع�رش عام ًا‪.‬‬ ‫ميز غ�سان بني امل�أ�ساة الأ�صل‪ ،‬وامل�آ�سي ال�صغرية الالحقة‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫تعبرّ عن امل�أ�ساة الكربى وال ت�ضيف �إليها �شيئ ًا‪ ،‬وبني العار الأ�صل‪ ،‬الذي‬ ‫يتنا�سل طليق ًا يف عار فتاة �أو عائلة‪ .‬وب�سبب �سيطرة الأ�صل على غريه‪،‬‬ ‫يكون فل�سطينيو اللجوء �شظايا �إن�سانية ال قوام لها‪� ،‬أو دمى م�ست�سلمة‬ ‫يت�رصف بها الزمن وال ت�سيطر عليه يف �شيء‪ .‬ولهذا تذهب «الأرواح‬ ‫امليتة» �إىل التمني‪ « :‬لو كانت �أمك هنا‪ ،‬و�أمه مل تكن هناك �أبداً‪ ،‬ولو‬ ‫كانت جدتك هنا‪ ،‬لو‪ ..‬لو‪ ..‬منذ �ستة ع�رش عـام ًا‪ .‬وهـو يقول لها‪ :‬لو كانت‬ ‫�أمك هنا»‪ .6‬والأم هي «الأر�ض القريبة»‪ ،‬التي ال ميكن الو�صول �إليها‪،‬‬ ‫التي تقود الفل�سطيني �إىل «موت جاهز»‪ ،‬ي�سبقه العار وتتلوه الف�ضيحة‪.‬‬ ‫عينّ ال�سارد «الوجود الآ�سن الفل�سطيني» ب�شخ�صية الزوج‪ ،‬الذي‬ ‫انتهت �إليه «وردة املن�شية»‪ ،‬و�أعطاه �صفات مطابقة‪« :‬الكلب الذي‬ ‫جمرد لطخة يف مكان غري‬ ‫�سي�صبح �صهره‪ ،‬كان �ضئي ًال ب�شع ًا كالقرد‪ّ ،‬‬ ‫(‪ )6‬الأعمال الكاملة‪« :‬ما تبقى لكم»‪� ،‬ص‪.179 :‬‬ ‫‪97‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫منا�سب‪ ،‬الننت‪ ،‬املخادع‪ ،‬الوا�شي‪ ،‬املتطامن �أمام الإ�رسائيليني»‪ .‬ومع‬ ‫�أن ال�صفات‪ ،‬يف �سلبها املوجع‪ ،‬تقع على فرد حمدد منحط الأخالق فهي‬ ‫تقع‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬على ال�شخ�صيات التي قبلت به‪ ،‬متثلت بالفتاة‬ ‫املتعلمة اجلميلة العريقة الأ�صل‪ ،‬التي هي «الق�ضية الفل�سطينية» يف‬ ‫التحديد الأخري‪� ،‬أو متثلت بـ «ال�صبي»‪ ،‬الذي �سقط والده يف فل�سطني‪.‬‬ ‫ولهذا يقول ال�صبي‪�« :‬أنت ملطخة و�أنا خمدوع‪ ..‬لو كانت �أمك هنا‪ ..‬لقد‬ ‫يلوثها‪� ..‬ص ‪ .»167 - 165‬يبدو امل�آل الفل�سطيني‪ ،‬بعد الهرب‪،‬‬ ‫تركته ّ‬ ‫ملوث ًا وملطخ ًا وخمدوع ًا‪ ،‬ويبدو كل �شيء «م�ؤج ًال»‪ ،‬كما لو كانت الروح‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينية قد �أدمنت املهانة‪ .‬وكما هو احلال يف «رجال يف ال�شم�س»‬ ‫يك�شف غ�سان عن كراهية �شديدة لذل �شعبه‪ ،‬وعن مقت حارق لهوانه‬ ‫وم�سكنته‪ ،‬والكلمات الثالث‪ :‬الذل‪ ،‬املهانة‪ ،‬امل�سكنة‪ ،‬واردة يف روايتيه‬ ‫غري مرة‪� .‬أين تكمن امل�أ�ساة الفل�سطينية يف هذه احلدود ؟‬ ‫ت�أتي امل�أ�ساة من الفقد‪ ،‬الأمان املنق�ضي والي�رس الراحل والتميز‬ ‫االجتماعي املندثر ولوعة الفقد‪ ،‬التي جتعل املا�ضي عالقة يف احلا�رض‪،‬‬ ‫ومن العجز عن ا�ستعادة ما كان �أو ن�سيانه‪« :‬منذ �ستة ع�رش عام ًا‪ ،‬وهو‬ ‫يقول لها‪ :‬لو كانت �أمك هنا»‪« ،‬لو كانت �أمي هنا لكان جل�أ �إليها»‪�« ،‬أي‬ ‫ب�ؤ�س �أم�ضيت حياتك فيه جعلك تقبلني بهذه النهاية‪� ،‬أي حياة تع�سة‬ ‫جـعلتك تقبلني به»»‪« ،‬لقد جعل من �أمه البعـيدة ملج�أ ي�ؤمه ذات يوم‬ ‫�صعب‪ ،‬وان�رصف �إىل تكبـريه و�إعداده �إىل درجة ن�سي فيها �أن يبني يف‬ ‫نف�سه رج ًال ال يحتاج يف اليوم ال�صعب �إىل ملج�أ‪� ،‬ص‪.»195 ،194 :‬‬ ‫ت�صدر امل�أ�ساة‪ ،‬يف وجه منهما‪ ،‬عن اخلطيئة الأ�صل‪ ،‬وت�صدر �صارخة‪،‬‬ ‫وفق ًا ملنطق غ�سان‪ ،‬عن اال�ستكانة الفل�سطينية التي جتايف مبادئ الكرامة‬

‫الب�سيطة‪ ،‬وعن انتظار بليد ال ينتظر �شيئ ًا‪ .7‬وغ�ضب غ�سان احلارق على‬ ‫�شعب ال يعرف معنى الزمن‪ ،‬يدفعه �إىل حتديد �سنوات االنتظار القاتلة‪.‬‬ ‫فهو ي�شري يف «رجال يف ال�شم�س» �إىل ع�رش �سنوات من االنتظار البليد‪،‬‬ ‫و�إىل �ستة ع�رش عام ًا من عقم االنتظار يف «ما تبقى لكم»‪ ،‬و�إىل ع�رشين‬ ‫�سنة من وهم الذكريات يف «عائد �إىل حيفا»‪� .‬أملى عليه انتباهه �إىل‬ ‫قيمة الزمن ومعناه‪ ،‬كما ت�صوره الغا�ضب من ب�رش ي�ساوون بني الزمن‬ ‫واالنتظار‪� ،‬إىل تعيني «ال�ساعة» �شخ�صية بني �شخ�صيات �أخرى‪ ،‬تر�صد‬ ‫اليقظة والهمود ونب�ض القلب وحركة اليد‪ ،‬وتنطق با�سم املوت وامليالد‬ ‫دمع ًا‪.‬‬ ‫خلق غ�سان �شخ�صيات‪« :‬ما تبقى لكم»‪ ،‬ثم قذف بها �إىل قرار املذلة‪،‬‬ ‫كي ي�أخذ بيدها �إىل مترد ال �ضمان فيه‪ ،‬ي�ستوي فيه الربح واخل�سارة‪،‬‬ ‫كما لو كانت قيمة التمرد قائمة فيه لأنه قيمة عليا‪ ،‬دون النظر �إىل‬ ‫النتائج الالحقة به‪ .‬مت ّثل ذلك يف واقع الفتاة وم�آلها‪ :‬عان�س تعتمد‬ ‫على �أخ ال ُيعتمد عليه‪ ،‬تعي�ش يف «جحر قميء» يف منطقة بائ�سة‪ ،‬ترى‬ ‫�إىل �ساعة ت�شبه «النع�ش» تتزوج‪ ،‬دفع ًا للعار‪ ،‬بـ «�صداق م�ؤجل»‪ ،‬من‬ ‫رجل متزوج ي�شبه القرد‪ .‬وهذا الأخري‪ ،‬الذي خدع �صديق ًا وو�شى ب�آخر‬ ‫�أعدمه الإ�رسائيليون‪ ،‬يطلب من زوجة مل تكلفه �شيئ�أً‪ :‬الإجها�ض»‪،‬‬ ‫ويهددها بالطالق والعقاب‪ ،‬يراكم غ�سان مذلة ال حتتمل م�ستعيداً‪� ،‬شكل‬ ‫�آخر‪ ،‬جملة «ملاذا مل يقرعوا باب اخل ّزان»‪ ،‬ليقول �إن م�أ�ساة الفل�سطيني‬ ‫هي الفل�سطينيون �أنف�سهم‪ ،‬الذين يبلعون احل�صا واحلجارة والغبار‬ ‫والأ�سالك ال�شائكة‪ ،‬دون �أن يلتفتوا �إىل حلوقهم‪� ،‬أو يرفعوا �شكوى قليلة‬ ‫�أو كثرية‪� .‬إنه ي�ضع �إ�صبعه يف عيون امل�ستذلني املهانني‪ ،‬كي يعلمهم‬ ‫(‪ )7‬يجد القارئ مدخ ًال �إىل مو�ضوع امل�أ�ساة يف‪Rebecca Bushnell: Tragedy, :‬‬ ‫‪ Black well, London, 2008‬بخا�صة يف الف�صل الثالـــث �ص‪.83 - 52 :‬‬

‫‪98‬‬

‫‪99‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫ف�ضيلى الوقوف‪ ،‬ويخربهم ب�أن �أي خيار يقعون عليه �أف�ضل من الب�ؤ�س‬ ‫الذي يعي�شونه‪ .‬ولذلك يدعو �إىل مترد بال �ضمان‪ ،‬و�إىل خروج من اجللد‬ ‫امل�ستهلك القدمي‪� ،‬سيان �إن ح�صل الفل�سطيني على قمي�ص �أو بقي عاري ًا‪،‬‬ ‫لأن قبوله باملهانة امل�ستدمية هو‪ :‬العري الكامل‪ ،‬الذي يتنا�سل منه عار‬ ‫متعدد الوجوه‪.‬‬ ‫يتجلى التمرد الذي ال �ضامن له يف م�آل ال�صبي‪ ،‬الذي علك �أ�سنانه‬ ‫طوي ًال ومل يعرف قرب �أبيه وال مكان �أمه‪ ،‬ويف م�آل �أخته‪ ،‬التي اتخذ منها‬ ‫«القرد الوا�شي» ت�سلية جمانية يختلف �إليها وهو راجع من املدر�سة‬ ‫�إىل بيت زوجته الأوىل‪� ،‬أو ذاهب منه �إىل املدر�سة‪ .‬ك�أن غ�سان ي�سوط‬ ‫«�شخ�صيتيه» لتتمردا‪ ،‬فهو خجل من عجزهما وخجل �أكرث من انت�سابهما‬ ‫�إىل ال�شعب الذي ينت�سب �إليه‪ .‬ومع �أن يف م�آل ال�شخ�صيتني ما يوحي‬ ‫باالنت�صار‪ ،‬فهو �أقرب �إىل «اخل�سارة» من �أي �شيء �آخر‪ :‬فالفتاة حتمل‬ ‫�سكين ًا وتقتل زوجها‪ ،‬وال�صبي يت�أهب لقتل جندي �صهيوين يف مكان‬ ‫ي�سيطر عليه اجلي�ش الإ�رسائيلي‪� .‬أراد غ�سان �أن يعطي امل�ستذلني در�س ًا‬ ‫يف الوقوف‪ ،‬يحررهم من عار اخل�ضوع وال يعدهم ب�شيء‪ ،‬لأن الإح�سا�س‬ ‫بالعار والتمرد عليه هو االنت�صار الأكرب‪ .‬لكن حترر الفل�سطيني من‬ ‫عاره‪ ،‬الذي هو جوهر م�أ�ساته‪ ،‬يحمل يف طياته م�أ�ساة الحقة‪ ،‬فال قتل‬ ‫«الوا�شي القبيح» يعطي للمر�أة حياة جديدة‪ ،‬وال قتل اجلندي الإ�رسائيلي‬ ‫ي�ستقدم الأم البعيدة‪ .‬فما يتغري يدور داخل الفل�سطيني وال ينفتح على‬ ‫خارجه‪ ،‬وما يختلف ال يبدل من املعي�ش الفل�سطيني �شيئ ًا‪.‬‬ ‫ي�ضع العامل الفل�سطيني املغلق على �أحزانه و�أوهامه ومترده يف كتابة‬ ‫غ�سان نربة م�أ�سوية وا�سعة‪ ،‬ذلك �أن الفل�سطيني مهان �إن �صمت وخا�رس‬ ‫�إن حترك‪ .‬ولأن اخل�سارة الآتية من ال�صمت �أكرث فداحة من اخل�سارة‬ ‫‪100‬‬

‫يتكيف مع «املوت»‬ ‫املت�أتية من التمرد‪ ،‬يكون على الفل�سطيني �أن‬ ‫ّ‬ ‫وال يهابه �أبداً‪ .‬تنتهي الرواية بالكلمات التالية‪�« :‬أ�ضاء �شعاع ال�شم�س‬ ‫ودوى �صوت ال�صمت‬ ‫ال�ضيق امل�سرتب من النافذة خط ًا رفيع ًا من الدم‪ّ ..‬‬ ‫«ودوى‬ ‫فج�أة‪� ،‬ص‪ .»233 :‬تنطوي جملة «�أ�ضاء �شعاع ال�شم�س»‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫�صوت ال�صمت»‪ ،‬على نربة انت�صارية‪ ،‬من دون �أن تكون انت�صارية على‬ ‫الإطالق فما يجري «داخل الفل�سطيني» ال مي�س «خارجه» يف �شيء‪ .‬يقول‬ ‫ال�صبي الذي اختار التمرد‪« :‬لقد حملت �أمي ال�سـر معها وتركتنا‪ .‬ما تبقى‬ ‫لها ما تبقى لكم‪ .‬ما تبقى يل‪ .‬ح�ساب البقايا‪ .‬ح�ساب اخل�سارة‪ .‬ح�ساب‬ ‫املوت‪ .‬ما تبقى يل يف العامل كله‪ :‬ممر من الرمال ال�سوداء‪ ،‬عبارة بني‬ ‫خ�سارتني‪ ،‬نفق م�سدود من طرفيه‪ .‬كله م� ّؤجل‪ ،‬كله م� ّؤجل‪� .‬ص‪.»215 :‬‬ ‫�إن «املتبقي الف�سطيني»‪ ،‬كما يقول ال�صبي‪ ،‬ب�ؤ�س يجر الفل�سطيني �إىل‬ ‫يحرر الفل�سطيني من ب�ؤ�سه‪ .‬و�إذا كان «املتبقي الفعلي»‬ ‫موته‪� ،‬أو موت ّ‬ ‫موت ًا مهين ًا‪ ،‬فمن الأف�ضل والأر�شد �أن يختار الفل�سطيني «موت ًا كرمي ًا»‬ ‫ي�سرت به عريه وعاره مع ًا‪� .‬أعاد غ�سان يف «ما تبقى لكم» حكاية «رجال‬ ‫يف ال�شم�س» ب�شكل �آخر‪ .‬ر�سم يف الرواية الأوىل بائ�سني اختار لهم دليل‬ ‫بائ�س موت ًا بائ�س ًا‪ ،‬ور�سم يف الرواية الثانية بائ�سني طردوا «الدليل»‬ ‫الب�شع كالقرد واختاروا موت ًا مغايراً‪ .‬والنتيجة‪ ،‬يف احلالني‪ ،‬هو املوت‪،‬‬ ‫و�إن كان «موت عن موت يفرق»‪ ،‬وهو ما عبرّ عنه غ�سان ب�صيغة �أخرى‪،‬‬ ‫حني قال على ل�سان «�أم �سعد»‪« :‬خيمة عن خيمة تفرق»‪� .8‬أخذ «الوا�شي‬ ‫القبيح»‪ ،‬يف «ما تبقى لكم» دور الدليل يف «رجال يف ال�شم�س»‪ .‬فالطرفان‬ ‫فل�سطينيان‪ ،‬وكل منهما �أناين مهزوم م�شغول مبنافعه الفقرية‪ .‬و�إذا كان‬ ‫الأول قد دفع فل�سطيني ًا بائ�س ًا �إىل قتله‪ ،‬فقد تابع الثاين حياة خالية من‬ ‫احلياة‪ ،‬فهو عقيم وعاجز عن الإجناب‪.‬‬ ‫(‪ )8‬غ�سان كنفاين‪ :‬الآثار الكاملة‪ ،‬م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية‪ ،‬بريوت‪ ،2005 ،‬رواية �أم �سعد‪،‬‬ ‫الف�صل الثاين‪� ،‬ص‪.257 :‬‬ ‫‪101‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫ترجم غ�سان يف «ما تبقى لكم» جملة «ملاذا مل يقرعوا جدران اخل ّزان؟»‬ ‫بت�شا�ؤم �أقل‪ ،‬فه�ؤالء الذين ينتظرون يف «خ ّزان ال يطاق»‪ ،‬خرجوا منه‬ ‫وقتلوا «�سائق ال�شاحنة»‪� .‬رشح امل�ؤلف يف رواية كثيفة الرموز معقدة‬ ‫«مبادئ التمرد على العار» و�أ�ساليب مواجهته‪ :‬املغامرة‪« ،‬التحالف مع‬ ‫الطريق»‪ ،‬ا�ستعمال ال�سكني‪ ،‬النقد الذاتي واخلروج من «القرب» �إىل �سطح‬ ‫الأر�ض‪ ..‬ومـع �أن الروائي �شاء بنية فنية غري تقليدية‪ ،‬فقد كان م�سكون ًا‬ ‫بهدف تربوي‪ ،‬يف�صل بني الزائف واحلقيقي‪ ،‬وبني ما هو قائم وما يجب‬ ‫�أن يكون‪ .‬عينّ «الزمن» �شاهداً على االنتقال من مكان �إىل مكان‪ ،‬ومن‬ ‫«�أرواح �آ�سنة» �إىل �أرواح م�ضطربة قلقة متوترة‪� ،‬إعالن ًا عن وليدة �سعيدة‬ ‫حزينة‪� :‬سعيدة هي لأنها مت�سح العار بالت�ضحية بالذات‪ ،‬وحزينة هي‬ ‫لأن م�آل «الفرد ال�شجاع» ال ي�ساوي م�آل الق�ضية التي يدافع عنها‪ .‬فبني‬ ‫رغبة الأفراد وم�شيئة التاريخ هوة يحتاج جت�سريها �إىل زمن ال ميكن‬ ‫ح�سبانه‪.‬‬

‫‪ .3‬عائد �إىل حيفا وال�صهيوين املعلّم‪:‬‬ ‫�رشح غ�سان يف «ما تب ّقى لكم» الطريقة الوحيدة التي ي�ستعيد بها‬ ‫الفل�سطيني «�رشفه املفقود»‪ّ � .‬أما يف روايته «عائد �إىل حيفا»‪ ،‬في�رشح‬ ‫ق�ضية»‪ ،‬و�أن‬ ‫مقرراً �أن «الإن�سان ّ‬ ‫الفرق بني «الإن�سان ال�رشيف» ونقي�ضه‪ّ ،‬‬ ‫ال�رشيف هو الذي يقاتل من �أجل ق�ضيته‪ ،‬و�أن الإن�سان املج ّلل بالعار هو‬ ‫الذي يتخ ّلى عنها ويرتكها يف العراء‪ .‬يتم ّثل «ال�رشيف»‪ ،‬الذي �أدار غ�سان‬ ‫حديثه عنه بـ «املقاتل ال�صهيوين»‪ ،‬الذي التزم بق�ضية �آمن بها‪ ،‬وقاتل‬ ‫من �أجلها ومات يف �سبيلها‪.9‬‬ ‫(‪ )9‬في�صل دراج‪ :‬ذاكرة املغلوبني‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بريوت‪� 2002 ،‬ص‪.65 - 59 :‬‬ ‫‪102‬‬

‫تدور الرواية حول زوجني فل�سطينيينْ من حيفا �أن�ساهما رعب‬ ‫اخلروج‪ ،‬يف «�صباح الأربعاء الواقع يف ‪ 21‬ني�سان‪�/‬إبريل ‪،1948‬‬ ‫طفلهما‪ ،‬وعادا يبحثان عنه‪ ،‬بعد حرب ‪ ،1967‬التي جعلت فل�سطني‬ ‫موحدة حتت االحتالل الإ�رسائيلي‪ .‬اكت�شف الزوجان �أن الطفل �أ�صبح‬ ‫ّ‬ ‫جمنداً يف اجلي�ش الإ�رسائيلي‪ ،‬بعد �أن عرثت عليه ورعته وتب ّنته امر�أة‬ ‫يهودية‪ .‬حتكي الرواية عن معنى اال�سم وانتقال امللكية ووظيفة الأبوة‬ ‫والأمومة وحقوق «امللكية ال�رشعية» وداللة الن�سب واالنتماء‪� .‬أخذ‬ ‫«الطفل املفقود» ا�سم ًا يهودي ًا «دوف»‪ ،‬فمن يظفر ب�شيء يحق له ت�سميته‪،‬‬ ‫انتماء جديداً يطابق انتماء الطرف اليهودي الذي تعهده بالرعاية‪،‬‬ ‫و�أخذ‬ ‫ً‬ ‫و�ألزمه «التبني» مبهنة �أبيه‪ ،‬الذي قاتل من �أجل «�أر�ض �إ�رسائيل» ومات‬ ‫يف �سيناء‪ .‬فال ملكية �إال بالدفاع عنها‪ ،‬لأن امللكية متلك الأدوات التي‬ ‫حتمي امللكية‪.‬‬ ‫بحث الفل�سطينيان عن «طفلهما ال�ضائع» مدفوعينْ بالذكريات‬ ‫و«بداهة احلق»‪ ،‬نا�سيني �أن «الت�سمية» من حقوق امللكية‪ ،‬و�أن االحتفاظ‬ ‫بامللكية فعل مقاتل‪ ،‬ال يلتفت �إىل «التوريث الطبيعي»‪ .‬وب�سبب ذلك‪ ،‬ف�إن‬ ‫الطفل الفل�سطيني‪ ،‬الذي مل يعد طف ًال وال فل�سطيني ًا‪ ،‬ي�سخر من «عربي‬ ‫مهزوم»‪ ،‬هو �أبيه القدمي‪ ،‬الذي �أقنعته �أوهامه �أن «الوطن حفنة من‬ ‫تدعيه الذاكرة يلبيه الواقع‪ .‬و�ضع غ�سان يف رواية‬ ‫الذكريات»‪ ،‬و�أن ما ّ‬ ‫عقالنية املحاكمة الالجئ الفل�سطيني يف مواجهة املحتل ال�صهيوين‪،‬‬ ‫و�أدار بينهما حديث ًا وا�ضح ًا عن الوطن وااللتزام‪ ،‬منتهي ًا �إىل نتيجة‬ ‫«منطقية» تقول‪� :‬إن الأر�ض ملن يقاتل يف �سبيلها‪ ،‬و�أن من ال يح�سن‬ ‫تعهده‬ ‫القتال عن �أر�ضه ال �أر�ض له‪ ،‬و�أن «الطفل» من حق الطرف الذي ّ‬ ‫بالرعاية‪ ،‬ال من حق الطرف الذي �أجنبه‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫حتدثت رواية «عائد �إىل حيفا» عن الوطن وامللكية وال�رشف‪ ،‬قائلة‬ ‫ّ‬ ‫بـ «�إ�رسائيلي �رشيف»‪ ،‬وبفل�سطيني لن ي�ستعيد �رشفه �إال �إذا قاتل عدوه‬ ‫ب�أدوات عنوانها‪ :‬اال�ستعداد امل�ستمر للموت يف �سبيل الوطن‪ .‬انتهت‬ ‫الرواية‪ ،‬يف عالقاتها املختلفة‪� ،‬إىل ثالث نتائج‪ ،‬هج�س بها الروائي ومل‬ ‫ي�سيطر عليها متام ًا‪ .‬تقول الأوىل‪ :‬ا�ستولد ال�صهيوين حقه مرتكن ًا �إىل‬ ‫جدارة ذاتية ملتزمة مقاتلة‪ ،‬م�ؤكداً �أن احلق من القوة‪ ،‬و�أن املقاتل من‬ ‫�أجل حقه يحيل على «ال�رشف»‪ ،‬قبل �أن يحيل على �صفات �أخرى‪ .‬وتقول‬ ‫الثانية‪ ،‬ي�صبح الفل�سطيني جديراً بوطنه املغت�صب‪� ،‬إذا حاكى عدوه يف‬ ‫ووحد مثله بني الفعل والعقيدة‪ ،‬وبني الفكرة واملوت‬ ‫التزامه املقاتل‪ّ ،‬‬ ‫من �أجلها‪ .‬تف�ضي النتيجتان �إىل الثالثة التي تقول‪� :‬أجنز ال�صهيوين فع ًال‬ ‫�رشد‬ ‫منطقي ًا وم�رشوع ًا و�أخط�أ يف اختيار املكان‪ ،‬ال �أكرث‪ ،‬لأن م�رشوعه ّ‬ ‫�أهل حيفا وحرمهم من وطنهم‪.‬‬ ‫تقو�ض النتائج الثالث التقييم الأخالقي للحق والباطل‪ ،‬معتربة القوة‬ ‫ّ‬ ‫مرجع ًا للطرفني‪ ،‬وت�ؤكد التاريخ م�ساحة مفتوحة‪ ،‬متتثل �إىل ال�رصاع‬ ‫املادي وال تلتفت �إىل الذكريات والأماين‪ .‬ولعل مفهوم القوة الواعية‬ ‫لأهدافها‪ ،‬كما الهدف الذي يقرتح و�سائل حتققه‪ ،‬هو الذي يعينّ املقاتل‬ ‫ال�صهيوين �أ�ستاذاً للفل�سطيني‪ ،‬الذي يريد �أن ي�سرتجع وطنه‪ .‬فقد «خلق»‬ ‫ورباه و�أعطاه ا�سم ًا‪،‬‬ ‫ال�صهيوين انت�صاره‪ ،‬حني عرث على «طفل مهجور» ّ‬ ‫وخلق الفل�سطيني هزميته‪� ،‬أو عاره ب�شكل �أدق‪ ،‬حني تخلى عن وطنه‬ ‫«عرث عليه» و�آخر �أ�ضاعه �صاحبه‪،‬‬ ‫و«طفله» مع ًا‪ .‬تدور العالقة بني وطن ُ‬ ‫من ناحية‪ ،‬وبني �إن�سان يعرف معنى الت�ضحية وااللتزام الوطني و�آخر‬ ‫ت�ساهل يف الأمرين مع ًا‪ .‬تلخ�ص الرواية قولها يف اجلملة التالية‪« :‬كيف‬ ‫ويربياه ع�رشين‬ ‫ي�ستطيع من هو لي�س �أمه ولي�س �أباه‪� :‬أن يحت�ضناه‬ ‫ّ‬ ‫‪104‬‬

‫حولها‬ ‫�سنة ؟»‪ .‬تنقد الرواية‪ ،‬التي �أخذها غ�سان من �أ�سطورة قدمية ّ‬ ‫الأملاين بري�شت �إىل م�رسحية‪ ،‬النزعة اال�سمية‪ ،‬التي ت�ساوي بني الكلمات‬ ‫والأ�شياء‪ ،‬معتقدة �أن القول بفل�سطني امتالك لها‪ .‬ك�شف اللقاء املبا�رش‬ ‫بني الفل�سطيني وال�صهيوين عن َو َهن القول و�صالبة الفعل‪ ،‬وع ّلم الأول‬ ‫بالتعرف عليه‪.‬‬ ‫�أن ال�صدام مع العدو يق�ضي‬ ‫ّ‬ ‫يقول الفل�سطيني امل�صدوم بعد �أن �أيقظته ال�صدمة من �أوهامه‪:‬‬ ‫«فل�سطني‪ ،‬بالن�سبة لنا‪ ،‬جمرد تفتي�ش عن �شيء حتت غبار الذاكرة‪،‬‬ ‫ماذا وجدنا حتت ذلك الغبار‪ ..‬غباراً جديداً �أي�ض ًا‪� .‬ص‪ .»412 :‬ولأن‬ ‫فل�سطني �أكرث من ذاكرة‪ ،‬يلتقي الفل�سطيني باجلندي ال�صهيوين وال‬ ‫يلتقي بفل�سطني‪ ،‬التي يحتاج اللقاء بها �إىل �أكرث من ذاكرة‪ ،‬وهو �أمر‬ ‫يتفق عليه ال�صهيوين والفل�سطيني‪« ،‬الذي ر�أى يف ال�صهيوين �أ�ستاذاً له»‪.‬‬ ‫ولهذا يقول الأول متوجه ًا �إىل الثاين‪« :‬ت�ستطيعان البقاء م�ؤقت ًا يف بيتنا‬ ‫فذلك �شيء حتتاج ت�سويته �إىل حرب‪� .‬ص‪ ،»413 :‬ويقول الفل�سطيني‬ ‫متوجه ًا �إىل زوجته‪�« :‬أمل �أقل لك‪� ..‬إنه كان يتوجب علينا �أ ّال ن�أتي‪ .‬و�إن‬ ‫ذلك يحتاج �إىل حرب؟ هيا بنا‪� .‬ص‪� .»413 :‬أقام غ�سان ن�صه على‬ ‫تزيد بالغي‪،‬‬ ‫منظور عقالين �صارم‪ ،‬قوامه وحدة احلق والدفاع عنه‪ ،‬دون ّ‬ ‫ال ي�ضيف �إىل املو�ضوع الأ�سا�سي �شيئ ًا‪ .‬فقد قابل ال�صهيوين املنت�رص‬ ‫الفل�سطيني املهزوم‪ ،‬وحاوره وحاججه وا�ستعد ال�ست�ضافته‪ ،‬ذلك �أن ما‬ ‫هو �أ�سا�سي يف ت�صور غ�سان يتعينّ باملمار�سة والقيم‪ ،‬التي جتمع بني‬ ‫ال�صهيوين املتحقق والفل�سطيني كما يجب �أن يكون‪ .‬يتبادل ال�صهيوين‬ ‫املتحقق والفل�سطيني املحتمل املواقع‪ ،‬فالأول هو الثاين بعد �أن م�سح‬ ‫تتك�شف هذه املعادلة‬ ‫عاره‪ ،‬والثاين هو الأول الذي حافظ على �رشفه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�ضطربة يف قول الفل�سطيني املهزوم‪�« :‬إن دوف هو عارنا‪ ،‬ولكن‬ ‫خالد هو �رشفنا الباقي»‪ .‬العار هو «خلدون» الذي �أ�ضاعه �أبواه و�أ�صبح‬ ‫‪105‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫�صهيوني ًا‪ ،‬وال�رشف هو �أخوه الفدائي الذي �سي�صبح «دوف» فل�سطيني ًا‪.‬‬ ‫تدرب على ال�سالح‪ ،‬يتقا�سمان‬ ‫والنتيجة �صهيوين مقاتل وفل�سطيني ّ‬ ‫اجلدارة �إىل تخوم التطابق‪ .‬ومهما يكن م�آل احلرب‪ ،‬التي يحتاجها‬ ‫حمدد بينّ ‪ :‬االلتزام ب�رشف القتال‬ ‫الطرفان‪ ،‬فامل�شرتك بينهما وا�ضح ّ‬ ‫والربهنة‪ ،‬يف احلالني‪� ،‬إن الإن�سان ق�ضية‪.‬‬ ‫نقر�أ يف الرواية‪�« :‬إن الإن�سان هو يف نهاية الأمر ق�ضية‪ ،‬الدموع‬ ‫ال ت�سرتد املفقودين وال ال�ضائعني‪ ،‬وال جترتح املعجزات‪� ..‬أفت�ش عن‬ ‫فل�سطني احلقيقية‪ ،‬فل�سطني التي هي �أكرث من ذاكرة»‪ .‬تتو ّزع هذه‬ ‫الأقوال على ال�صهيوين‪ ،‬الذي يعي�ش ق�ضيته بال �أوهام‪ ،‬وعلى الفل�سطيني‬ ‫بعد �أن قابل ال�صهيوين ور�أى احلقيقة عارية‪ .‬ت�ساوي فل�سطني احلقيقية‪،‬‬ ‫يف ت�صور غ�سان‪ ،‬الفل�سطيني احلقيقي املنت�سب �إليها‪ ،‬الذي ي�ساوي‬ ‫بدوره ُم ُث ًال �إيجابية‪ ،‬ال تقبل بالعار واال�ست�سالم‪ .‬فال معنى للأر�ض �إن‬ ‫مزود بالأخالق وال�شجاعة‬ ‫مل تكن وطن ًا‪ ،‬وال وجود للوطن �إال ب�إن�سان ّ‬ ‫حيز‬ ‫واملعرفة‪ ،‬ينجبه الوعي والإرادة‪� ،‬إن�سان احتمال‪ ،‬يجب نقله من ّ‬ ‫حيز الواقع‪ .‬ولهذا‪ ،‬ف�إن احلديث عن «فل�سطني حقيقية» حديث‬ ‫الفكرة �إىل ّ‬ ‫عن «فل�سطيني حقيقي»‪ ،‬يجب توليده‪ ،‬يختلف عن «الفل�سطيني املعطى»‬ ‫امل�شغول بـ «الغبار» والذكريات‪.‬‬ ‫ر�أى غ�سان يف ا�ستعادة فل�سطني املحتلة م�رشوع ًا نوعي ًا ا�ستثنائي ًا‪،‬‬ ‫يحتاج �إىل فل�سطيني ا�ستثنائي متحرر من ما�ضيه ال�سلبي وحا�رضه‬ ‫القائم على الذكريات‪ .‬دفعه هذا املنظور �إىل ت�أكيد عن�رصين‪ :‬ت�أكيد‬ ‫دور املمار�سة‪� ،‬إذ الرجوع �إىل فل�سطني بحث م�ستمر عن العنا�رص التي‬ ‫ت�ؤمن ذلك‪ ،‬والإميان بتوليد جديد حا�سم‪ ،‬يغاير الفل�سطيني الذي �سبق‬ ‫حيز جديد هو الذي �أملى‬ ‫�سقوط فل�سطني وتاله‪ .‬ولعل توليد الأ�سئلة من ّ‬ ‫‪106‬‬

‫ويتعرف عليه عن‬ ‫على غ�سان �أن يخلق فل�سطيني ًا يعرف ال�صهيوين‬ ‫ّ‬ ‫قرب‪ ،‬وال يكتفي ب�صورة متوهمة له‪ .‬فقد ان�رصف اخلطاب امل�سيطر‪ ،‬بعد‬ ‫هزمية ‪ 1967‬وقبلها‪� ،‬إىل ر�سم �صورة جمردة ل�صهيوين جمرد‪ ،‬ي�ستطيع‬ ‫الفل�سطيني �أن يقاتله دون �أن يعرفه‪ ،‬ودون �أن يعرف ذاته �أي�ض ًا‪ .‬ق�صدت‬ ‫مزدوج‪:‬التعرف على الآخر ال�صهيوين‬ ‫تعرف‬ ‫ّ‬ ‫رواية «عائد �إىل حيفا» �إىل ّ‬ ‫والتعرف الفعلي على «مادة» الفل�سطيني الذي يريد �أن‬ ‫تعرف ًا فعلي ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحاربه‪.‬‬ ‫ا�ستعاد غ�سان‪ ،‬يف ال�رشط الفل�سطيني‪ ،‬قاعدة �سقراط‪« :‬اعرف نف�سك»‪،‬‬ ‫التي ت�أخذ لدى الفل�سطيني �شك ًال �آخر‪ :‬اعرف نف�سك كي تعرف عدوك‪،‬‬ ‫فتقييم العدو �إعادة تقييم للذات‪ ،‬واعرف عدوك كي تعرف نف�سك‪،‬‬ ‫فاملعركة معرفة قبل �أن تكون �شجاعة‪ .‬ت�أمر القاعدة‪ ،‬يف وجهيها‪،‬‬ ‫الإن�سان الفل�سطيني املقاتل �أو الذي يريد القتال �أن يخلع جلده القدمي‪،‬‬ ‫و�أن يعرف الفرق بني اجللد املت�ساقط املهزوم واجللد اجلديد املطلوب‬ ‫احل�صول عليه‪ .‬يقول «دوف» الع�سكري ال�صهيوين خماطب ًا الفل�سطيني‬ ‫العاجز‪« :‬ماذا فعلت خالل ع�رشين �سنة كي ت�سرتد ابنك؟ لو كنت مكانك‬ ‫حلملت ال�سالح من �أجل هذا‪� ،‬أيوجد �سبب �أكرث قوة؟ عاجزون‪ ..‬عاجزون‪..‬‬ ‫مقيدون لتلك ال�سال�سل الثقيلة من التخ ّلف وال�شلل‪� ..‬ص‪ .»49 :‬ما يقوله‬ ‫ّ‬ ‫الع�سكري ال�صهيوين للفل�سطيني هو ما يجب �أن يقوله الفل�سطيني‬ ‫العاجز لنف�سه‪ ،‬وهو ما يقوله غ�سان‪ ،‬الذي يتفق كلي ًا مع كلمات املجند‬ ‫الإ�رسائيلي‪.10‬‬ ‫ينطوي لقاء الفل�سطيني مع عدوه على عدة وجوه‪ :‬معرفة الذات عن‬ ‫(‪ )10‬ي�ضيء هذا املو�ضوع كتاب جوزيف م�سعد‪« :‬دميومة امل�س�ألة الفل�سطينية»‪ ،‬دار الآداب‪،‬‬ ‫بريوت‪� ،2009 ،‬ص‪ 246 - 213:‬و‪ ،264 - 260‬على �سبيل املثال‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫التعرف على الآخر والتع ّلم منه‪� ،‬إدراك معنى املقارنة‪� ،‬إذ‬ ‫طريق الآخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال معنى لإن�سان �إال مقارنة ب�آخر‪ ،‬الو�صول الطوعي �إىل النقد الذاتي‪،‬‬ ‫حترر‬ ‫احل�ض على االكت�شاف والتجربة‪ ،‬فلوال اللقاء بالآخر امل�س ّلح ملا ّ‬ ‫الفل�سطيني من �أوهامه‪ ..‬ترتافد العنا�رص املختلفة مف�ضية �إىل العن�رص‬ ‫امل�سيطر احلاكم لها جميع ًا املتمثل بـ «عامل القيم الوطنية احلقيقية»‪،‬‬ ‫الذي يبدو املجند ال�صهيوين مر�آة له‪ ،‬ويتطلع الفل�سطيني الذي �صدمته‬ ‫بد منه هو التايل‪ :‬ملاذا‬ ‫التجربة �إىل حماكاته‪ .‬وال�س�ؤال ال�رضوري الذي ال ّ‬ ‫�أنتج ن�ص غ�سان فل�سطيني ًا �ضاق بجلده‪ ،‬اقتنع مبحاكاة عدوه واعتربه‬ ‫مقات ًال جنيب ًا؟ للجواب مداخل عديدة‪� :‬أولها ذلك القانون القدمي الذي‬ ‫يق�ضي على «املت�أخر» ب�أن يقلد «املتقدم»‪ ،‬ويدفع بال�ضعيف �إىل مطاولة‬ ‫القوي‪ .‬يوحي هذا القانون‪ ،‬يف �سياق كتابة الرواية ‪ 1969‬بفكرة‪ :‬فتنة‬ ‫املنت�رص‪ ،‬التي تقنع املهزوم بالت�شبه بنقي�ض له ح ّقق انت�صاراً �ساحقـ ًا‪،‬‬ ‫وهو حال اجلندي ال�صهيوين يف حرب ‪ .1967‬ويتعينّ املدخل الثاين‬ ‫با�سرتاتيجية غ�سان الكتابية‪ ،‬التي ترمي �إىل «ال�صدمة» التي جترب‬ ‫الفل�سطيني‪� ،‬إن كان عاق ًال‪� ،‬أن يقذف ب�أ�سئلته و�إجاباته التقليدية جانب ًا‪،‬‬ ‫و�أن ي�سعى �إىل �أ�سئلة و�إجابات جديدة‪ .‬ي�ضاف �إىل ذلك افتتان غ�سان‬ ‫امل�ؤكد بفكرة «املوت الإرادي»‪� ،‬أو «املوت ال�رشيف»‪ ،‬التي تالزم �إن�سان ًا‬ ‫نوعي ًا‪ ،‬يريد �أن يختار موته‪ ،‬بعد �أن فاته �أن يختار ميالده‪ ،‬كما جاء يف‬ ‫م�رسحية «الباب»‪ .‬ي�أتي املدخل الثالث‪ ،‬وهو ي�ستدعي النظرية الأدبية‪،‬‬ ‫من خمادعة الن�ص لكاتبه‪ ،‬حيث الن�ص ينتج‪ ،‬يف عالقاته املختلفة‪،‬‬ ‫القول الذي �صاغه ال القول الذي �أراده م�ؤلفه‪.‬‬ ‫ال تنف�صل رواية «عائد �إىل حيفا» عن ن�صو�ص �سابقة‪ ،‬من ذلك‬ ‫التجريب الفني �أو القول الرتبوي املق�صود‪ :‬فقد حاول غ�سان �إدراج‬ ‫تقنية وليم فوكرن يف روايته «ما تبقى لكم»‪ ،‬كما يعلم الذين در�سوا‬ ‫‪108‬‬

‫�أعماله‪ ،‬وا�ستعاد يف «عائد �إىل حيفا» م�رسحية بري�شت «دائرة الطبا�شري‬ ‫القوقازية»‪ ،‬و�أعطاها «�صياغة فل�سطينية»‪ .‬و�ضع يف العملني لقاء بني‬ ‫الفل�سطيني وعدوه‪ ،‬وو�ضع يف العملني فل�سطيني ًا قلق ًا يذهب �إىل مواجهة‬ ‫عدوه‪ .‬بيد �أن ما هو م�سيطر يف الن�صني‪ ،‬كما يف ن�صو�ص �أخرى‪ ،‬هو‪:‬‬ ‫فكرة العار‪ ،‬الذي �سقط على الفل�سطيني ودفع ثمنه‪ ،‬وفكرة ا�ستعادة‬ ‫ال�رشف املفقود‪ ،‬التي ال ترفع الفل�سطيني �إىل مقام «البطل»‪ ،‬بل جتعل‬ ‫منه «�إن�سان ًا �سوي ًا»‪ ،‬ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬فال وجود لإن�سان �سوي �أ�ضاع‬ ‫�رشفه‪.‬‬ ‫�أقام غ�سان ن�صه على ثنائية �أ�سا�سية تتوالد يف ثنائيات متناظرة‪:‬‬ ‫املقاتل وامل�ست�سلم‪ ،‬القادر والعاجز‪ ،‬ال�سوي وال�شاذ‪ ..‬حتت�ضن الثنائية‪،‬‬ ‫يف وجوهها املختلفة‪ ،‬ال�صهيوين والفل�سطيني‪ ،‬الذي ينفي كل منهما‬ ‫الآخر‪ ،‬وتظل م�شدوداً �إىل مقولة «الإن�سان ال�سوي»‪ ،‬الذي يلبي القيم‬ ‫ال�سوية‪� ،‬صهيوني ًا احتل �أر�ض غريه �أو فل�سطيني ًا �سقط يف ال�شذوذ‬ ‫ّ‬ ‫وتخ ّل�ص منه‪ .‬ولعل فكرة «اجلوهر الإن�ساين»‪ ،‬كما فكرة الإن�سان الذي‬ ‫يت�رصف ب�أقداره وال يدع �أقداره تت�رصف به‪ ،‬هي التي جعلت غ�سان‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقدم يهودي ًا من خارج فل�سطني �إىل داخلها‪ ،‬كي تطلب من الفل�سطيني‬ ‫�أن يتحرر من «خارج فل�سطني» و�أن ي�ستعيد «داخلها»‪.‬‬ ‫انتهى ن�ص غ�سان �إىل ثنائية‪ :‬اجل ّالد الالمع وال�ضحية القادرة‬ ‫على التع ّلم‪ .‬يتبادل الطرفان االتهام ويتفقان على امل�ضامني‪ .‬يقول‬ ‫الإ�رسائيلي للفل�سطيني‪« :‬لقد �أم�ضيت ع�رشين �سنة تبكي‪� ،‬أهذا ما تقوله‬ ‫يل الآن؟ �أهذا هو �سالحك املفلول ؟‪� ..‬ص‪ .»409 :‬يعيد الفل�سطيني‪ ،‬وهو‬ ‫يخاطب زوجته‪ ،‬ما قاله عدوه ب�شكل �آخر‪« :‬لقد �شاخت هذه املر�أة حق ًا‪،‬‬ ‫وا�ستنزفت �شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة‪ ،‬دون �أن تعرف �أنها حلظة‬ ‫‪109‬‬


‫العار الفل�سطيني يف روايته‬

‫مروعة»‪� .‬إن اللحظة املروعة حم�صلة لع�رشين �سنة من البكاء والأوهام‪،‬‬ ‫واللحظة «الرائعة» هي ا�ستبدال «ال�سالح املفلول» ب�سالح �آخر‪ .‬تنتهي‬ ‫الرواية بجملة ق�صرية وا�ضحة‪�« :‬أرجو �أن يكون خالد قد ذهب‪� ...‬أثناء‬ ‫غيابنا»!»‪� .‬إن خالد «الفدائي» امتداد مغاير لـ «خلدون» الذي �أ�ضاعه‬ ‫والداه‪ ،‬و�صورة عن «دوف» املجند الإ�رسائيلي‪� .‬إنه ال�رشف الفل�سطيني‬ ‫املتحقق‪ ،‬الذي يختلف مع ال�رشف ال�صهيوين على «الأر�ض»‪ ،‬وال يختلف‬ ‫معه يف القيم‪ .‬فلو كان ال�صهيوين فوق �أر�ض �أخرى لكانا «تو�أمني»‪،‬‬ ‫فكالهما م�ستعد للموت يف �سبيل ق�ضيته‪.‬‬

‫‪ .4‬ما الذي تب ّقى من غ�سان يف زمن خمتلف؟‬ ‫عزا كنفاين «العار الفل�سطيني» �إىل وهن الكرامة واجلهل بحقيقة‬ ‫امل�أ�ساة الفل�سطينية‪ ،‬يف عنا�رصها املعقدة املركبة‪ ،‬ور�أى بداية احلل يف‬ ‫�أخالق نوعية ومعرفة جديدتني‪ .‬ومع �أنه نقد خطاب «منظمة التحرير»‬ ‫نقداً �شديداً بعد هزمية حزيران‪/‬يونيو ‪ ،1967‬فقد ر�أى يف «الكفاح‬ ‫امل�سلح»‪ ،‬وكما ر�سمه يف روايته «�أم �سعد»‪ ،‬مدخ ًال �إىل مرحلة فل�سطينية‬ ‫نوعية‪« ،‬اعتربت النقد بال�سالح» قاعدة لكل نقد �آخر‪ .‬ا�شتق التفا�ؤل‬ ‫من معنى «الفدائي»‪ ،‬الذي يذهب �إىل «خياره» حراً‪ ،‬ويعطيه ا�ستعداده‬ ‫للقتال �شخ�صية جديدة‪ ،‬ومن اعتقاده �أن «الفدائيني» يعبرّ ون عن «روح‬ ‫ال�شعب»‪ ،‬بعيداً عن «�إدارة تقليدية» مل يثق بها‪.‬‬

‫واحتفت بغايات يطغى فيها الوهم على الواقع والفئوي على اجلماعي‬ ‫وال�سلطوي على الوطني‪ .‬ومل يكن ذلك االحتفاء �إال انزياح ًا عن القاعدة‬ ‫التي هج�س بها غ�سان املتمثلة بوحدة‪ :‬الأخالق ال�صارمة واملعرفة‬ ‫املو�ضوعية‪ .‬مل يتوقع الأديب الراحل �أن قاعدته �ست�سقط يف مفارقة‬ ‫فاجعة‪ ،‬ذلك �أن الكفاح امل�سلح‪ ،‬الذي انطلق ليمحو العار‪ ،‬دار حول ذاته‬ ‫طوي ًال لينتهي �إىل «عار جديد»‪ .‬فبعد عقود من الكفاح ابتعدت فل�سطني‬ ‫ومل تقرتب‪ ،‬و�أ�ضيف �إىل االحتالل الأول احتالل جديد‪ ،‬وبقي الالجئون‬ ‫يف خميماتهم‪ ،‬وظل «املجند الإ�رسائيلي» م�سيطراً‪ ،‬وا�ست�أنف «اخلمود»‬ ‫طريقه �إىل �أرواح كثرية‪.‬‬ ‫مل ُتهزم قاعدة غ�سان ب�سبب خلل داخلي‪ ،‬ومل يهزمها الإرهاب‬ ‫ال�صهيوين‪� ،‬إمنا هزمت «فل�سطيني ًا»‪ ،‬لأن العمل ال�سيا�سي الفل�سطيني‬ ‫فرط بالعالقة ال�رضورية بني الفعل الوطني وال�سيا�سة الأخالقية‪ ،‬وبني‬ ‫ّ‬ ‫االقرتاح ال�سيا�سي واملعرفة املو�ضوعية ب�سيا�سة �إ�رسائيل و�أهدافها‪.‬‬ ‫والآن ماذا تبقى من غ�سان؟ بقيت �أفكاره �صحيحة‪ ،‬و«تداعت الأطراف‬ ‫الفل�سطينية» القادرة على وعي هذه الأفكار وتطبيقها‪ .‬ولهذا ا�ستمر‬ ‫«العار القدمي» و�أخذ �أ�شكا ًال جديدة‪ ،‬جتعل «ح�صاره» �أمراً �صعب ًا وبالغ‬ ‫ال�صعوبة‪.‬‬

‫جت�سده �أخالق حتررية‬ ‫ّ‬ ‫ميز غ�سان‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬بني «ال�صحيح»‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ال تعرف امل�ساومة‪ ،‬وبني «املفيد اليومي»‪ ،‬الذي يلتفت �إىل «م�صالح‬ ‫فئوية» وي�ضع مبادئ التحرر جانب ًا‪ .‬وعن هذا «املفيد» املتعدد‬ ‫هم�شت «املبادئ»‬ ‫العنا�رص تطورت‪ ،‬لأ�سباب خمتلفة‪� ،‬سيا�سة فل�سطينية ّ‬ ‫‪110‬‬

‫‪111‬‬


112


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.