غسان كنفاني
برقوق نيسان القميص املسروق وقصص أخرى
درا�سة :د .في�صل دراج
2
غ�سان كنفاين
برقوق
نيسان ( رواية )
القميص املسروق
وقصص أخرى
النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : �إخراج وتنفيذ :الق�سم الفني -جملة الدوحة لوحة الغالف :ر�سم على جدار يف خميم برج الرباجنه
فهرس الكتاب
تقدمي
6
برقوق ني�سان
10
القمي�ص امل�رسوق وق�ص�ص �أخرى :
31
القمي�ص امل�رسوق
36
�إىل �أن نعود
42
املدفع
48
قرار موجز
53
ال�صغري يذهب �إىل املخيم غ�سان ..ال�شخ�ص والن�ص : �شهوة احلياة ومنازلة املوت العار الفل�سطيني يف رواية الكاتب
63 85
ملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة؟ «مل �أحب له غري برقوق ني�سان». قالت على الهاتف ،ومتنت يل ليلة طيبة لتنام يف بيتها ،بينما كنت �أعاين الأرق يف بيتي .قمت �إىل املكتبة و�أخرجت جملد الروايات من بني �أعمال غ�سان كنفاين ،لأطعم �أرقي تلك الرواية التي ر�شحتها من �أثق يف ذوقها. طالعت رقمي �صفحتي البداية والنهاية ،ح�سبتها :خم�س ًا وثالثني �صفحة بينها ثالث �صفحات للر�سوم! بدا احلجم ال�صغري حمبط ًا ،فالرواية بحجمها النحيل ال تكفي حل�سم املعركة ل�صالح النوم �ضد �أرق بدا يف تلك اللحظة عفي ًا مبا يكفي لل�صمود حتى ال�صباح. رن ! ل َ �أعادتني البداية التي ال تخلو من ملحة رومان�سية �إىل مفتتح «رجال يف ال�شم�س» من حيث �أن�سنة الأر�ض .تبد�أ «رجال يف ال�شم�س» هكذا�« :أراح الندي ،فبد�أت الأر�ض تخفق من حتته »....ومل �أبو قي�س �صدره فوق الرتاب ّ تبتعد بداية «برقوق ني�سان» عن هذه اللمحة الرومان�سية« :عندما جاء ني�سان �أخذت الأر�ض تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر وك�أنها بدن رجل �شا�سع ،مثقب 7
تقدمي
بالر�صا�ص .كان احلزن وكان الفرح املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون الأمل ،هكذا مات قا�سم قبل �سنة». لكن الأمور ال مت�ضي بالقارئ على النحو الذي ير�سمه املفتتح ،لأن الكاتب و�ضع �إ�شارة لهام�ش ي�أخذ القارئ �إىل �رسد �رسيع له مظهر الإخبار احليادي مثل تراجم القدماء لل�شخ�صيات ،ي�رشح باخت�صار �سرية قا�سم من مولده يف قرية طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول�/سبتمرب� ،إىل ا�ست�شهاده يف ني�سان�/إبريل 1970مع �ستة فدائيني من �أ�صل جمموعة عددها �سبعة يف معركة مع دورية �إ�رسائيلية. لفل�سطينيي تلك الفرتة :امليالد، بني املولد واال�ست�شهاد �سرية عادية ّ �سنوات قليلة من التعليم ،التحول �إىل الجئ ،النزول �إىل العمل مبكراً ،االن�ضمام �إىل تنظيم فدائيني. يلتزم الكاتب يف الهوام�ش حياد امل�ؤرخ وكاتب الرتجمة ال�شخ�صية ،لكن لي�س كل ما يريده الكاتب من قارئه يدركه ،يتوتر التلقي عند حادث �صغري «يجدر تذكره» فقد تعرف �أحد الفدائيني الأ�رسى جثة قا�سم امليكانيكي من �أريحا ،ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة �أباه الذي اعرتف ب�أن ولده يعي�ش �رشق نهر الأردن ،ولكنه بعد �أن تفح�ص اجلثة وتعرف فيها حلم قلبه �أنكر �أن تكون لولده! هذه الطلقة ال�شعورية العارية يف الهام�ش �ستتكرر يف هوام�ش �أخرى .وهي �أقرب ما تكون �إىل �رضبات همنجواي التي تبدو حيادية ،بينما ت�ضع �أع�صاب الكلمات فوق جلدها. اخليار اللغوي ،ال�صارم كلغة الأخبار ،يف الهام�ش يختلف مع خيار املنت الأكرث عاطفية ،و�سرنى من خالل الهام�ش جانب ًا �آخر ي�ضيء زاوية جديدة من الق�صة ،ت�أنيب �أبي القا�سم لنف�سه لأنه �أنكر ولده حتى ال يتعر�ض لل�رضب والإهانة يف �سنه املت�أخرة ،و�سرنى ت�أمالته ،ت�أمالت الراوي يف الواقع عن �أنواع املدن يف �شبهها ب�أوالد العائلة ،لكل منهم �شخ�صيته ومزاجه ،قبل �أن تقفز �إىل ر�أ�سه �صورة رجل مثقب بالر�صا�ص ،ت�رضج بزهر الربقوق ،ويكاد املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق من حتته. مت�ضي الرواية الق�صرية على هذا النحو من الت�صارع والتكامل يف �آن بني 8
املنت والهام�ش. وهي على ق�رصها ت�ستعري بنية �ألف ليلة وليلة ،برهافة تكاد ال تف�صح عن هذا الت�أثر ،وبينما يتناوب ال�شعر والنرث ال�رسد يف الليايل داخل منت احلكاية، بينما يف رواية غ�سان يقوم جدل املنازعة والتكامل بني املنت ،بلغته ال�شعرية، والهام�ش ،بلغته املحايدة التي حتمل بداخلها �شعرية املفارقة ال�صادمة. تتمثل الرواية كذلك بنية الليايل عرب حيلة توالد ق�صة من ق�صة ،ا�ست�شهاد قي�س ي�ستدعي �أباه وهذا ي�ستدعي ا�سم «�سعاد» من خالل مونولوج عن تق�صريه معها ،عندما يدخل عليها كل �شهر بيد خالية ،مما يجعلنا نتوقعها ابنته �أو زوجه ،ويتم �إرجاء التعريف بها بينما يتم الدفع بـ «طالل» املنا�ضل الذي �سيمنح اخلتيار خم�سة دنانري �شهرية ،وذات يوم يخربه ب�أنه �سينقطع عنه و�أن التي �ستزوره يف �أريحا هي �سيدة حتمل وردة حمراء ،وبعد ذلك يتوىل الهام�ش البحثي املراوغ تقدمي �سعاد التي تركت الدرا�سة يف دم�شق وعادت من �أجل الن�ضال. وال نكاد نتعرف �إىل �سعاد ونعرف وجه العالقة بينها وبني والد ال�شهيد الذي ر�أى �أن يجمع لها من طريقه باقة من زهر الربقوق ،لكنه يدخل �إىل البيت فال يجدها ،بل يجد قوة �إ�رسائيلية ،ويفاج�أ اخلتيار �أبو القا�سم بالكمني داخل البيت واختفاء �سعاد بينما كان هناك طفل ال يكف عن البكاء. مل يعرف �أبو القا�سم ماذا يفعل بباقة من زهور الربقوق جمعها لها من الطريق حتى ال يدخل بيد خاوية هذه املرة ،ويبد�أ ا�ستجواب عبثي للرجل امل�سن حول �رس حمله الزهور �إىل �سعاد و�إن كانت ع�شيقته. وال يرتك الكاتب الدورية الإ�رسائيلية قوة �رش م�صمتة ،بل يحكي �أن �أحد �أع�ضائها �أبراهام وهو لي�س �سوى �إبراهيم املغربي ،وكان �شقيقه قد ان�ضم �إىل تنظيم مغربي عمايل ،فتم الت�ضييق على العائلة حتى مل تعد جتد مفراً من التعامل مع يهودي فرن�سي توىل تهريبها �إىل باري�س ومنها �إىل تل �أبيب ،لكن ال�شقيق الأكرب الذي ت�سبب يف هذا النزوح عملي ًا قرر البقاء يف فرن�سا وعدم الهجرة �إىل �إ�رسائيل. وبعد فرتة يدخل �شخ�ص جديد هو زياد يفاج�أ بهذا احل�شد ويحاول التن�صل من معرفة �سعاد ،وتف�سري وجود طفله وليد ب�أن �أمه �أر�سلته ب�صحن من �صدر 9
تقدمي
كنافة �أعدته ،ملجرد �أنها جارتهم .ويقول �إنه جاء قلق ًا على طفله الذي ت�أخر. وهذه هي رواية املنت ،لكننا من الهام�ش �سنعرف �أن اجلار منا�ضل �شيوعي قدمي �أثارت �سعاد احرتامه بتمردها على �أبيها الذي يكرهه ويراه منوذج ًا للموظف البريوقراطي الذليل .ونعرف �أنها كلفته ب�أن يحاول اللحاق باخلتيار (�أبو القا�سم) قبل الو�صول �إىل البيت لي�أخذه �إىل طالل ،وهناك �سيعرف باقي املهمات. ويف املنت �ستكتمل الق�صة بجلبة يثريها �أبو القا�سم و�صوت هروب طالل ت�سمعه الدورية الإ�رسائيلية خارج البيت ،فيلكم �ضابطها اخلتيار ويكت�شف حيلته ،لكن (زياد) يقول �إن (طالل) الذي هرب لي�س �سوى طفل �صديق ابنه فر هارب ًا. يبدو �أنه جاء لي�س�أل عنه وعندما �سمع �أ�صوات اجللبة ّ نحن �إذاً �أمام �شيخ حمل الزهور �إليها وطفل حمل الكنافة ،واملحتلون ال ي�صدقون تربير وجودهما .فج�أة ينخرط الكبار يف ال�ضحك� :أبو القا�سم وزياد وال�ضابط! ويطلب �أبو القا�سم من زياد �أن يقنعهم ب�إطالق �رساحه ،ويرد زياد ب�أنه يف ذات الورطة ،ويلح ال�شيخ: �إنها باقة زهر يا �سيدي ،باقة زهر فقط.ويرد زياد: وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة؟ون�ستطيع �أن نقر�أ الإجابة بطريقة �أخرى :وملاذا يكون �صحن الكنافة �أكرث فل�سطينية من باقة زهر؟ بحثت يف كل املتواتر حول عدم اكتمال الرواية التي ا�ست�شهد عنها غ�سان يف متوز /يوليو فلم �أجد ما ي�ؤكد �أو ينفي ،لكنها تبدو يل مكتملة هكذا ،لأن تعليق امل�صائر كلها� :سعاد� ،أبو القا�سم ،زياد ،وطالل ،اليعني عدم اكتمال احلكاية ،لكن يعني �أن احلكاية الفل�سطينية قابلة للتوالد على هذا النحو �إىل ما ال نهاية ،متام ًا مثل حكايات �ألف ليلة ،وبني الن�صني متعة القراءة ،وبني احلكايتني فارق الواقعية امل�ؤملة يف احلكاية الفل�سطينية.
عزت القمحاوي 10
برقوق نيسان 11
برقوق ني�سان
�سنة ،وقد دفن حيث ال يعرف �أحد ،دون ا�سم( )2ويبدو الآن بعيداً ك�أنه مل يكن طوال العمر �إال واحداً من هذه الأحالم العظيمة التي تظ ّل مع املرء وك�أنها جزء منه ،وترافقه �إىل الفناء دون �أن توجد حق ًا ،ومع ذلك ف�إنها قادرة على �أن تكون مثل حقيقة ما ،يفتقدها املرء من حني �إىل �آخر، للتو من بني راحتيه. فرت ّ وي�شعر يف حلظة �أو �أخرى ملم�سها وك�أنها َّ
تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر عندما جاء ني�سان �أخذت الأر�ض ّ وك�أنها بدن رجل �شا�سع ،مث َّقب بالر�صا�ص .كان احلزن ،وكان الفرح املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون الأمل ،هكذا مات قا�سم 1قبل ( )1كان قا�سم خليل قد ولد يف طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول من عام ،1940 و�أ�صبح بعد �سنة واحدة االبن الأوحد يف العائلة بعد �أن مات �شقيقه الذي يكربه �سنتني �إثر �إ�صابته باحل�صبة ،ومل يتمكن قا�سم من �أن يدر�س يف مدر�سة القرية �إال حوايل �سنتني ،وقد �أ�صبح الجئ ًا يف ني�سان من عام ،1948قبل �أن يكمل العام الثامن من عمره ،وبعد ذلك �سكن يف �أحد بيوت ال�صفيح يف خميم عقبة جرب قرب �أريحا مع �أبويه ،ويف غ�ضون ذلك كان يعمل �إجرياً يف كاراج لل�سيارات يف �أريحا ،ومت ّكن –حني �صار يف الع�رشين -من �أن يطلق على نف�سه لقب ميكانيكي، وكانت �آماله تنح�رص يف �أن يتم ّكن ذات يوم من �أن ي�صبح ميكانيكي طائرات� ،أو على الأقل مالك ًا لكراجه اخلا�ص� ،إال �أنه يف اخلام�سة والع�رشين تخلى عن هذه املطامح .كانت الأحزاب الوطنية يف تلك الفرتة قد تخلخلت حتت ال�رضبات املتالحقة التي وجهتها ال�سلطات الأردنية ،وهكذا �ضاع �أمله يف االلتحاق باحلزب ال�شيوعي الذي كان �أحد رفقائه يف الكاراج ميتدحه �أمامه ،فقد �ضاعت �أخبار ذلك الرفيق فج�أة ،وهكذا ف ّكر يف �أن ين�شئ حزب ًا فدائي ًا بنف�سه ،والتحق بدورة تدريب للحر�س تفجرت حرب ،1967 الوطني لذلك الغر�ض ،وحني �رشع ير�سم خطط ًا �صغرية ليبد�أ ات�صاالته ّ و�سمع و�سط الفو�ضى �أن الفدائيني يح�شدون �صفوفهم وراء النهر ،فرتك والده ،وخميم عقبة جرب واجته �إىل ال�سلط يف الثاين ع�رش من حزيران .1967 12
وكانت نابل�س ،ذلك ال�صباح ،منكفئة على نف�سها وك�أنها ما تزال نائمة ،وقال �أبو القا�سم( )3لنف�سه� :إن املدن مثل الرجال ،ت�شعر باحلزن. �صدق ،وتتعاطف تفرح وتنام ،وتعرب عن نف�سها ب�صورة فريدة تكاد ال ُت ّ بغمو�ض مع الغرباء �أو تركلهم ..بل �إن الأحياء يف املدينة مثل الأوالد يف العائلة ،لكل منهم �شخ�صيته ومنزلته ومزاجه ،فثمة �شوارع حمببة، و�أخرى تتقاذف العابرين فيها بفظاظة ،و�شوارع خبيثة ،و�أخرى �رصيحة ،ولكن �أبا القا�سم كان الآن من�شغ ًال بتلك ال�صورة الغريبة التي ( )2يف ني�سان من عام 1970ن�رشت ال�صحف �أن دورية �إ�رسائيلية ا�صطدمت مبجموعة من الفدائيني جنوبي البحر امليت ،وقد ا�ستمرت املعركة عدة �ساعات ا�ست�شهد فيها من �أ�صل �سبعة فدائيني كانوا هناك �ستة ،ومتكن ال�سابع من الفرار ،وقد ظ ّلت �أ�سماء جميع ال�شهداء جمهولة حيث تذكره :فقد ُعر�ضت اجلثث ُدفنت مبعرفة ال�سلطات فح�سب� .إال �أن حادث ًا �صغرياً وقع عند ذاك يجدر ّ م�شوهة بحيث ا�ستحال على بع�ض الفدائيني الأ�رسى يف حماولة للتعرف �إليها ،وكانت �أربع جثث ّ التعرف �إىل �أي منها ،و�أبدى �أحد الأ�رسى �ش ّكه يف �أن تكون �إحدى اجلثتني الباقيتني ل�شاب يدعى ّ قا�سم ،كان يعمل ميكانيكي ًا يف �أريحا ،ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة والد قا�سم الذي اعرتف ب�أن ولده يعي�ش �رشقي النهر ولكنه بعدما تفح�ص اجلثة �أنكر �أن تكون لولده ،وكان الت�شويه مينع تعرف �إىل اجل ّثة بوالد قا�سم نفى �أن تكون من الو�صول �إىل قرار ،وحني ووجِ َه الفدائي الأ�سري الذي ّ مبنية على معرفة حميمة بال�شاب املجهول ،وما لبث �أن تراجع عن �شهادته ،وهكذا �أُ ِ لي خ �شكوكه ّ َ �سيتحمل بنف�سه أنه � على تن�ص عديدة أوراق � على وتعهداته توقيعه ل �سج بعدما العجوز �سبيل الرجل ّ ّ ّ م�س�ؤولية �أي عمل ميكن البنه قا�سم الذي يعي�ش �رشقي النهر �أن يرتكبه �ضد �سلطات االحتالل. ( )3يف الواقع �إنه ي�شعر الآن ب�أنه �أكرب �سن ًا مما هو حقاً ،ويردد لنف�سه �أن الكوارث الثالث التي نزلت به ينوء حتتها جبل :فقدان قريته ونزوحه عام ،1948وموت �أم قا�سم بال�سل عام ،1953 وا�ست�شهاد قا�سم قبل �سنة. 13
برقوق ني�سان
اقتحمته ك�أنها قذفت على ر�أ�سه بحجر :بدن الأر�ض مثل بدن رجل مث ّقب يت�رضج بزهر الربقوق ،ويكاد املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق بالر�صا�ص، ّ من حتته ،وال ريب �أن قا�سم بدا كذلك بعد هنيهات من �سقوطه ،ثم ذبلت بقع الدم على �سرتته اخلاكية مثلما جتفف �شم�س ال�صيف املتو ّقدة �أوراق اله�شة. الربقوق ّ ا�ستدار �أبو القا�سم ،و�أخذ يت�أمل من جديد تلك البقع احلمراء املمتدة �أمام عينيه فوق ت ّلة �صغرية ،ودون �أن يعرف بال�ضبط ما الذي يريده. املخ�ضب باالحمرار القاين، خطا نحو الت ّلة ،و�أخذ يجمع باقة من الزهر ّ ()4 قال لنف�سه وهو ينحني« :منذ �سنة و�أنا �آتي ل�سعاد بك ّفني فارغتني ( )4ولدت �سعاد و ّقاد يف نابل�س عام ،1945وكان والدها موظف ًا �صغرياً يف دائرة النفو�س التي كانت �آنذاك تابعة حلكومة االنتداب ،وقد ظل موظف ًا يف نف�س املرتبة والدائرة خالل هيمنة النظام الأردين على ال�ضفة الغربية ،وهكذا مت ّكن من �إر�سال ابنته �سعاد �إىل جامعة دم�شق عام ،1962وقد در�ست ملدة �سنة يف كلية الآداب� ،إال �أنها عادت والتحقت بق�سم العلوم ال�سيا�سية ،وهناك تعرفت ب�أحد ال�شبان املتحم�سني حلزب البعث ،وما لبث �أن �أحلقها باحلزب ولكنها مل ت�ستطع �أن تكون ّ ع�ضواً منظم الوالء والن�شاط ،وكانت هذه امل�شكلة بالذات هي التي فتحت عينيها على رغبة عميقة يف درا�سة امل�سائل التنظيمية يف العمل ال�سيا�سي ،و�ساقتها هذه الدرا�سة �إىل �إلقاء نظرة درا�سية على احلزب ال�شيوعي ،وعلى بنية حركة القوميني العرب التي �شعرت �آنذاك �أنها �آخذة بالتمزق حتت وط�أة �رصاع �سيا�سي حاد يف �صفوفها مل يكن من املمكن احلفاظ مع حدته على الوحدة التنظيمية للحركة لو مل تكن م�شدودة �إىل قانون �صارم للعالقات الداخلية ،ومل يكن من املمكن معرفة ماذا كان �سيحدث ل�سعاد وحلما�سها ال�سيا�سي لو مل ي�صعد حزب البعث يف تلك الآونة �إىل مرتبة ال�سلطة، وقد كان ل�سعاد �آراء غام�ضة ،ولكنها بالغة الت�أثري بالتغري الذي يطر�أ على الأحزاب ال�سيا�سية عموماً، وذات الربامج الف�ضفا�ضة والغام�ضة خ�صو�صاً ،حني تهيمن على د ّفة ال�سلطة ،وهكذا فقد �شهدت تلك احلدة ،ولكنها مع ذلك �أبدت اهتمام ًا خا�ص ًا الفرتة من حياة �سعاد وقاد خمو ًال �سيا�سي ًا وحرية بالغة ّ مبجموعة من ال�شبان �أبدوا ت�صميمهم على �إحداث تغيري نحو الي�سار يف حركة القوميني العرب ،وكان تعدها �سعاد عن مكانة النا�رصية يف امل�سرية الوطنية �سبب هذا االهتمام بالدرجة الأوىل درا�سة ُّ العربية يف تلك الفرتة� ،إال �أن االرتباط م�ضى �أبعد من ذلك ،فقد التحقت �سعاد بالذراع الفل�سطيني للحركة الذي كان قد بنى تنظيم ًا فدائي ًا �صغرياً �أطلق عليه ا�سم «�شباب الث�أر» وكانت ت�شعر ب�شيء من خلية االعتزاز حني كُ لِّ َفت بالقيام بات�صال �صغري يف نابل�س �إبان عطلتها ال�صيفية ،والعمل على بناء ّ هناك� ،إال �أن احلرب فج�أتها فقررت البقاء ،وكانت القدرات التي �أظهرتها يف االت�صال ويف العمل هي التي �أو�صلتها يف فرتة وجيزة �إىل مرتبة قيادية يف نابل�س. 14
كل �شهر ،وال ريب �أن منظر هذه الزهور �سيبدو على الطاولة البي�ضاء الغ�ضة ،وبدت له جمي ًال ،ثم �إن ».....وقد �شعر بالتعب وهو ي�ست ّل الزهور ّ خيل �إليه حني كان ينظر �إليها من بعيد ،وما مت�سك ًا بالأر�ض مما ّ �أ�شد ّ لبثت الأفكار التي كانت حتوم على غري هدى يف ر�أ�سه �أن �أخذت ترتابط تذكر �أنه حني ر�أى �سعاد لأول مرة يف ب�صورة تبعث على الده�شة ،فقد ّ �أريحا لفت نظره قر�ص �أحمر من زهر الربقوق يتوقد و�سط �شعرها الفاحم ال�سواد ،و�إن ذلك بعث فيه ال�سعادة لأن طالل قال ب�أن �سيدة حتمل وردة حمراء �ستزوره يف �أريحا( ،)5وحتدثه عن قا�سم ،وقد دقت هذه ال�سيدة الباب يف اليوم التايل ،وطلبت منه �أن يحدثها بالتف�صيل عما حدث له ا�ستد ِعي �إىل املخفر الإ�رسائيلي قبل �أ�سبوع لتعر�ض عليه جثة �أحد حني ُ ()6 الفدائيني القتلى وحني كان يروي لها ق�صته �أخذت عيناها ال�سوداوان تن�ضحان دمع ًا من تلقائهما ،وقالت له :يا �أبا القا�سم لي�س بو�سع �أحد ( )5كان طالل �شاب ًا ق�صري القامة مل يبلغ الع�رشين بعد ،ويبدو �أنه كان يتقن عبور النهر ونقل الر�سائل ،ويف املا�ضي كان يزور �أبا القا�سم مرة يف ال�شهر ويعطيه ثالثة دنانري ويقول له« :قا�سم ي�سلم عليك» وال يزيد كلمة واحدة .ويف �آخر مرة ر�آه قال له �إن �سيدة حتمل وردة حمراء �ستزوره، و�أنه لن يراه بعد .وكانت تلك ال�سيدة هي �سعاد ذاتها .ومنذ ذلك الوقت تولت �سعاد �إعالته ،وكانت تعطيه خم�سة دنانري يف كل مطلع �شهر. ( )6توج�س خيفة منذ ال�صباح ،وكان ي�شعر بثقل غام�ض يجثم على �صدره ،وعند الظهر جاء �رشطيان و�أخذاه �إىل املخفر ،و�أخذ رجل �أبر�ص ،يلمع ك�أنه مدهون ي�س�أله عن قا�سم ،وبعد وهلة عرف يف قرارة نف�سه �أن ولده قد قتل ،ولكن الأبر�ص مل يكن قد �أ�شار �إىل ذلك بعد�« .أتعرفني كيف ي�سد ثقوب ال�ساقية بك ّفيه .وظل الأبر�ص ي�س�أل يت�صارع الرجل مع دموعه؟ مثلما يحاول فالح �أن ّ ومل �أكن �أعرف مباذا كنت �أجيب» و�أخرياً �أدخلوه �إىل غرفة مرتعة برائحة املوت «وكان قا�سم هناك ،ممدداً على طاولة ،وقد نظرت �إليه حلظة واحدة فح�سب ،ثم �أخذت �أنظر �إىل راحة يده ور�أيت بالقوة ،وبعد فيها �إرادة رجل بطل ظل مم�سك ًا ب�سالحه حتى اللحظة الأخرية ،ومل تفرد �أ�صابعه �إال ّ ب�شدة�« :إن قا�سم �شاب �أطول قامة ،و�أ�شد �سمرة ،ثم �إنه �أن مات ،و�س�ألوه �إن كان يعرفه ،نفى ذلك ّ �سافر �إىل الكويت وهو يعمل يف كاراج لل�سيارات هناك» و�شعر بالعار لأنه يكذب ،ومل يكن يعرف أحتمل ال�سجن وال ملاذا كان خائف ًا �إىل هذا ّ احلد« .لقد �أنكرته ،ولكنه �سيغفر يل ،ف�أنا رجل عجوز ال � ّ ال�رضب ،و�أريد �أن �أموت هنا ،ولي�س �رشقي النهر� ،أنت تفهمني ذلك �أيتها ال�سيدة� ..ألي�س كذلك؟» 15
برقوق ني�سان
�أن ميلأ مكان �أحد ،وقد كان قا�سم بط ًال ،وعليك �أن تكون فخوراً به ،وقد فعلت �شيئ ًا ح�سن ًا حني �أنكرته لأنك �أنقذت الكثريين من رفاقه .ال تقل احلقيقة لأحد ،وخذين �أنا مكان قا�سم. ومنذ ذلك اليوم وهو يزورها يف نابل�س ،ويقيم يف بيتها يوم ًا �أو يومني ،وي�أخذ الدنانري اخلم�سة ويعود �إىل �أريحا ( )7وقد قال لها ذات يوم: حي ًا؟» وحني قالت له« :ال» �أجابها «:هل تقبلينني «اخلتيار ..هل ما زال ّ �أب ًا.؟» وقالت �سعاد« :يا �أبا القا�سم� ،أنت والدنا كلنا ،لأن ال�شهيد كان �أخانا كلنا »..وعندها �س�ألها عما �إذا كان ي�ستطيع �أن يفعل �شيئ ًا مفيداً، و�أجابته �سعاد بنربتها احلا�سمة« :ذات يوم ،رمبا» وقف �أبو القا�سم م�ست�شعراً الأمل يف خا�رصته من طول االنحناء وكانت باقة الزهر الأحمر قد �أ�صبحت كبرية وبدت يف يده اخل�شنة �شعلة من اللهب ،ووراء التلة كان بيت �سعاد ب�شبابيكه ال�صغرية يف الطابق يل الآن» ،وقرر �أن يبادرها الثاين ،وقال لنف�سه« :رمبا كانت تنظر �إ ّ ()8 باجلملة ذاتها التي بادرته بها حني زارته لأول مرة يف �أريحا ،ومن ثم انطلق ناز ًال التلة �إىل الطريق ،وم�ضى نحو منزل �سعاد. �آخر �شيء يذكره �أبو القا�سم من عامله القدمي كان ذلك ال�سلم الطويل اخل�شن الذي يو�صل �إىل بيت �سعاد� ،إال �أن الباقة احلمراء التي كانت تتو ّقد يف ك ّفه ظلت �أكرث ر�سوخ ًا يف ذاكرته ،منذ هذه اللحظة� ،أكرث من �أي �شيء يخوله ( )7كانت وكالة الغوث قد قطعت �إعا�شته ،و�سحبت منه الدفرت الأحمر الذي كان ّ يح�صل مدخو ًال �شهري ًا تناول امل�ؤن ،وذلك لأن تقارير �شعبة التحري يف الوكالة قد �أثبتت ب�أن ابنه ِّ يزيد عن ع�رشة دنانري. ( )8دخلت البيت ،وانتزعت الزهرة احلمراء من �شعرها وهي تقول له« :الربقوق ورد الفقراء يا �أبا القا�سم» وبعد هنيهة قالت له�« :أهل الق�سطل كانوا يقولون :هذه دماء ال�شهداء تط ّل علينا». 16
�آخر :لقد �صعد درجات ال�سلم ذلك ال�صباح دون �أن يراوده �أي �شك ب�أنه �سيعود فينزلها كما �صعدها ،ويعود �إىل عامله القدمي الذي يبدو له الآن �أنه غادره متام ًا� .إن للرجال �أقدارهم املكتوبة منذ الأزل ،والتي هي مثل �أ�سمائهم ،تلت�صق بهم يف حلظة ال يدركون كيف جاءت .لقد قرع الباب متوقع ًا وجه �سعاد مبالحمه القا�سية ،لكن اجلميلة� ،إال �أنه فوجئ بقب�ضة تع�ض كتفه ،وجتذبه بعنف �إىل الداخل ،ثم �سمع ا�صطفاق الباب قوية ّ وراءه مثل انفجار. وحني ا�سرتد توازنه على املقعد الذي ُق ِذف �إليه� ،أط ّلت عليه ثالثة ر�شي�شات ،ووراءها وقف جنديان و�ضابط .وفتح �أبو القا�سم فمه دون �أن ينوي قول �شيء معني� ،إال �أن ال�ضابط نهره« :ه�ش» و�أخذ �أحد اجلنديني يف ّت�شه ،باحث ًا يف جيوب قنبازه عن �شيء ما، تنبه �أبو القا�سم �إىل وجود ثالثة �أ�شخا�ص �آخرين يف الغرفة، وعندما ّ واقفني ووجوههم �إىل اجلدار ،ويف الزاوية كان ثمة طفل يف العا�رشة يبكي مبا ي�شبه الهم�س ،ومل تكن �سعاد هناك ،وبدت �صورة والدها املع ّلقة على اجلدار ،ب�شاربيه العظيمني(� )9أكرث غرابة مما كانت يف م�شو�ش ًا ،غري قادر على �إعادة ترتيب ما �أي وقت م�ضى ،وكان ما يزال َّ ب�شدة على زنده ورفع يده بعنف �إىل فوق. حدث ،حني قب�ضت يد اجلندي ّ عندها فقط �شهد باقة الزهر الأحمر مرة �أخرى ،وتعجب لهنيهة كيف مل ت�سقط من يده ،ومل تتمزق و�سط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون هدف معينّ .ودفعه اجلندي �إىل احلائط ،و�ساعده اجلندي الآخر يف �صلبه �شارب ْي والدها يف ال�صورة يبدوان خميفني� ،ضحكت برهة ،ثم ( )9حني قال ل�سعاد مرة �إن َ ان�رصفت �إىل التفكري ،و�أخرياً �س�ألته« :ماذا يحدث لل�شوارب يا �أبا القا�سم حني ي�أكل الدود ج�سد الرجل امليت.؟» ومنذ ذلك احلني وهو غري قادر على �رصف هذا ال�س�ؤال من ذهنه كلما ر�أى �صورة الأب ،ب�شاربيه الكبريين. 17
برقوق ني�سان
�أمام اجلدار بذراعيه املفتوحتني �إىل �أق�صى ما ي�ستطيع ،وبهدوء �أرغمه ال�ضابط على فتح ك ّفه ببطء ،وتناول الباقة بحذر مبالغ به ،و�سحبها مبا ي�شبه االحتفال املنظم على الطاولة الرخامية( )10ووقف يت� ّأملها حلظة، ّ ثم ا�ستدار فج�أة بعنف: ما هذا.؟ هذا.؟ �أجل ما هذا.؟ كما ترى ،زهر يا �سيدي ..برقوق ني�سان. هه!وابت�سم ابت�سامة خبيثة ونظر من طرف عينيه �إىل اجلنديني ،وعاد ي�س�أل وك�أن فرتة املزاح التي �أتاحها قد انتهت: ما هذا.؟ ورد ،زهر ،برقوق ،يا �سيدي.. �إنني �أ�س�ألك للمرة الأخرية ..ما هذا..؟ومل ي�ستطع �أبو القا�سم �أن يعرف �إن كان ال�ضابط يحاول �أن يجعل منه �أ�ضحوكة �أم �أنه جاد حق ًا ،واكت�سحته موجة من حرية حزينة ،و�أخذ كف عن البكاء، ينظر حواليه حماو ًال اال�ستنجاد ب�شيء ما ،كان الطفل قد ّ و�أخذ ينظر بف�ضول �إىل باقة الزهر الأحمر فيما كان وجهه يكت�سي وتذكر �سعاد فيما كانت الأفكار تعود �إىل الرتاكب مبالمح ت�شبه الده�شةَّ ، يف ر�أ�سه ،وت�ساءل �إن كان يتعني عليه الآن مرة �أخرى �أن يدخل الغرفة الثانية وينظر �إليها ممددة على ال�رسير وراحة يدها مفرودة الأ�صابع وملطخة بالدم. بالقوة ّ ري اللون م�شغولة ( )10مرة قالت له �سعاد وهي ت�شري �إىل الطاولة ،وكانت مغطاة ب�رش�شف �س ّك ّ حوا�شيه بال�صنارة« :انظر ماذا كانت تفعل �أمي طوال عمرها ،ت�شتغل بال�صنارة وتفني عينيها كي تبدو طاولة �أبي حمرتمة �أمام �ضيوفه». 18
ماذا ميكن �أن يكون هذا يا �سيدي غري زهر الربقوق الذي تف َّت َح هذاال�صباح على قارعة الطريق.؟ �أنا الذي �أ�س�ألك.وه ّز �أبو القا�سم كتفيه و�سكت .لقد �أدرك �أن الكالم مل يعد يفيد �أحداً، و�أن ثمة �شيئ ًا ال يفهمه يحدث بغمو�ض ،و�أمام هذه احلرية ال ي�سعه يف الواقع �إال �أن ي�صمت� ،إال �أن ال�ضابط نهره: ته ّز كتفيك وك�أنك بريء� !.أتريد �أن �أ�ساعدك قلي ًال.؟ من الذي �أعطاكهذه الباقة ..وملاذا.؟ قطفتها عن الطريق ،وكنت.... �أ�أنت ع�شيقها.؟ و�ضحك اجلندي ،فيما ت�ساءل �أبو القا�سم:ا�ستغفر اهلل ..ع�شيق من.؟ ع�شيق العفريتة التي ت�سكن هنا.. �أنا رجل عجوز يا �سيدي� ،أميكن �أن يحدث هذا.؟ �إذن ملاذا �أح�رضت الزهر.؟ من الذي �أر�سلك.؟ جئت...�إال �أن �صورة قا�سم جاءت عا�صفة مثل االرتطام ،ووراءها جاءت �صورة �سعاد .ومل يعد يعرف ماذا يتعني عليه �أن يقول ،فيما �أخذ ينظر حواليه وهو �شديد االرتباك ،حمتاراً حتت النظرات التي كان ي�س ّلطها عليه ،ثم �س�أل ب�صوت �أده�شه كيف انفلت من �صدره مليئ ًا باال�ستجداء: ماذا حدث ل�سعاد يا �سيدي.؟ هل هي بخري.؟ كفى متثي ًال �أيها ال�شائب ،وقل يل ما معنى هذا.؟ونظر �أبو القا�سم �إىل حيث �أ�شار ال�ضابط .كانت باقة الزهر الأحمر ملقاة فوق الطاولة ،وبدت �أقل جما ًال مما كانت ،و�أجاب: الود.؟ ماذا ميكن للزهر �أن يعني يا �سيدي غري ّ19
برقوق ني�سان
هه!الود واالحرتام.؟ ا�س�أل ه�ؤالء كلهم� ..أيعني الزهر غري ّ من الذي بعثك بالباقة.؟ �أنا الذي قطفتها. من الذي طلب منك �أن تقطفها.؟ ال �أحد.. ما هي عالقتك ب�سعاد �إذن.؟ هل �أنت ع�شيقها.؟و�أخذ اجلندي( )11الواقف قرب الطاولة ي�ضحك ب�صوت مكتوم ،وقال ( )11كان يهودي ًا مغربي ًا ا�سمه �إبراهيم ،ولد يف الدار البي�ضاء عام ،1945وكان �أبوه ميتلك حي �شعبي لبيع الأقم�شة وبع�ض الألب�سة اجلاهزة� ،أما �شقيقه الأكرب فقد كان دكان ًا �صغرياً يف ّ عام ًال يف م�صنع للن�سيج يقع على بعد ي�سري من املدينة .كان الوالدان تقيني� ،إال �أن الأخ الأكرب يعقوب التحق بتنظيمات ال�شغيلة و�أخذ يظهر ميو ًال �شيوعية ،وال �شك �أن ذلك َ�س َّب َب ارتباك ًا كبرياً يف املنزل ،فقد كان الأب يربط ب�شدة بني ال�شيوعية وبني العالقات ال�سوفيتية امل�رصية ،وبالنتيجة بني ال�شيوعية وبني احلرب الإ�رسائيلية العربية ،ويف �أحيان كثرية كان اجلدل العنيف بني الأب ويعقوب يو�شك �أن ينتهي �إىل انف�صام يف العائلة التي مل تعتد على هذا النوع من التناق�ض، وقد و�صلت الأمور يف توترها �إىل الذروة حني �ألقى البولي�س املغربي القب�ض على يعقوب يف اال�ضطرابات العمالية التي وقعت يف عام ،1963وذاقت العائلة كلها من نتائج هذا احلادث، وتعر�ضت مثل عوائل العمال جميع ًا يف تلك الفرتة �إىل ت�شديد مبالغ فيه من قبل ال�سلطات التي واجهت الن�شاط الن�ضايل املتزايد الحتاد ال�شغيلة املغربي وللتحالف الذي ا�شتد �آنذاك بني االحتاد هذا وبني االحتاد الوطني لطلبة املغرب وبني عدة �أحزاب �سيا�سية تقدمية باملزيد من العمل القمعي ،ويف تلك الفرتة وجد الأب يف ات�صال �أجراه معه رجل فرن�سي فر�صة للخال�ص من كل تلك ال�شدة ،وقد انتظر على م�ض�ض خروج يعقوب من ال�سجن ،فرحل مع العائلة على منت زورق �صغري ّ مع عدد �آخر من الأ�شخا�ص �إىل ال�ساحل الإ�سباين ،ومن هناك بد�أت الرحلة الأكرب �إىل �إ�رسائيل� .إال �أن يعقوب قرر معانداً �أن يبقى يف فرن�سا ،فلم تكن خطط الوكالة اليهودية ودوائر الهجرة لرتوقه، وهكذا م�ضى �إىل الأحياء الباري�سية التي يوجد فيها العمال املغاربة حيث وجد الكثريين من رفاقه القدامى� .أما �إبراهيم الذي �صار منذ تلك اللحظة �أبراهام ،فقد و�صل يف �أواخر 1965مع عائلته �إىل ميناء حيفا ،وكان الأب حمظوظ ًا �إذ �أ�سكن يف �ضاحية قريبة من تل �أبيب ،وقد مت ّكن يف �أقل من عام �أن ي�شارك رج ًال �آخر يف ملكية دكان �صغرية لبيع الأقم�شة واملالب�س اجلاهزة� .أما ابراهام فقد �أ�صبح عام ًال يف معمل للن�سيج يقع غري بعيد من حيث ي�سكن� ،إال �أنه منذ حرب 1967 ف�ضل �أن يظ ّل جندي ًا يف اجلي�ش. ّ 20
�شيئ ًا مل ي�سمعه �أحد بو�ضوح ،وعاد ف�ضحك من جديد لفرتة ق�صرية ()12 و�صمت حني رمقه ال�ضابط ب�شدة� ،أما �أبو القا�سم فقد �شعر ب�أنه قد ّ جبارة تطبق على �صدره ،و�أنه بحاجة �إىل �سعاد الآن ا�صطيد ،وب�أن �أك ّف ًا ّ �أكرث من �أي وقت م�ضى� ..أترى انتهى ال�صمت.؟ �أ�صار بو�سعه �أن يقول امل�رضج املمدد على الطاولة يف خمفر �أريحا هو لهم ب�أن ذلك الفتى ّ �رساً �أكرث حاجة للكتمان مما ابنه قا�سم.؟ �أم �أن ذلك كله قد �أ�ضحى الآن ّ كان يف �أي وقت م�ضى.؟ لقد �أح�س فج�أة ب�أنه م�ؤمتن على �شيء خطري ال يعرف ما هو بال�ضبط ،ورمبا كانت حياة �سعاد نف�سها ،بل حياة ه�ؤالء ال�شبان الثالثة الواقفني ووجوههم �إىل احلائط ،بل رمبا حياة ذلك الطفل ال�صغري �أي�ض ًا .مع ّلقة يف كلمة واحدة قد يلفظها يف �أية حلظة دون �أن يدري� ،أميكن لذلك ك ّله �أن يكون حقيقي ًا..؟ �إنها باقة زهر يا �سيدي ،وهي ال تعني �شيئ ًا خطرياً على الإطالق.أمر من هنا :هذا بيت �صديقي القدمي ،وابنته وحيدة قلت لنف�سي و�أنا � ّ فيه ،وال ب�أ�س لو حملت لها باقة زهر! ال فائدة من الكذب �أيها ال�شيخ اخلبيث� .سوف ترى بعد برهة �أنال�صدق هو �أق�رص الطرق �إىل ال�سالمة� ..أتقول احلقيقة الآن �أم ماذا.؟ زهر يا �سيدي ..زهر. ه�ش..ويف اخلارج جاء ال�صوت خافت ًا يف البدء ،ثم �أخذ يعلو �شيئ ًا ف�شيئ ًا، كانت ثمة خطوات ت�صعد الدرج ،و�شعر �أبو القا�سم ب�أن الأمر �آخذ يف التع ّقد ،و�أن الفخ املن�صوب يف الغرفة �إمنا يتع ّلق بق�ضية �أكرث خطراً مما انق�ض يعتقد ،وبعد برهة د ّقت يد ما خ�شب الباب .ويف اللحظة التالية ّ اجلنديان ،وقد فتح ال�ضابط الباب فج�أة ،على الرجل الواقف هناك ( )12برتبة كابنت ،وكان جندي ًا حمرتف ًا مع الفرقة اليهودية يف اجلي�ش الربيطاين منذ احلرب العاملية الثانية ،وقد نال �أو�سمة عدة خلدماته يف املخابرات. 21
برقوق ني�سان
وقذفاه �إىل الداخل. وامتلأت الغرفة فج�أة بجلبة غريبة ،و�أخذ الطفل الذي كان قد ركن �إىل ال�صمت قبل برهة يبكي من جديد ،بن�شيج �أكرث مرارة ،فيما م�ضى اجلنديان يفت�شان الرجل بعنف و�رشا�سة ثم �ساقاه �إىل احلائط ،و�أرغماه على رفع ذراعيه �إىل الأعلى ووجهه نحو اجلدار ،وعاد اجلنديان فو�ضعا الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة ،ووقفا وراء ال�ضابط الذي قال ب�صوت ميل�ؤه رنني االنت�صار: �صيد ثمني اليوم ،هذه امللعونة �سعاد كانت تعي�ش حتت ب�رصناونحن ال نعرف ،وها هم �أفراد الع�صابة يتقاطرون �إىل بيتها واحداً �إثر الآخر� ..أنت !.ما ا�سمك..؟ و�أجاب الرجل اجلديد ووجهه ما يزال �إىل احلائط� :إنني زياد ح�سني والد الطفل اجلال�س هنا يا �سيدي ..جئت �أفت�ش عنه بعد �أن ت�أخر. قال ال�ضابط: �إذن �أنت الذي �أر�سلته.. نعم يا �سيدي ،خبزنا �صباح اليوم �صدراً من الكنافة ،كعادتنااحلي بعثنا مع وليد �صحن ًا ل�سعاد ..وعندما ت�أخر وليد جئت �أبحث يف ّ عنه.. ولأول مرة منذ �أن دخل الغرفة �شهد �أبو القا�سم �صحن الكنافة على الطاولة ،وكانت الق�رشة ال�شقراء تلمع من فرط ما �أ�شبعت قطراً ،وت�ساءل بينه وبني نف�سه�« :أتراها ق�صة حقيقية.؟ �أميكن �أن يكون زياد هذا والد �أو �شقيق فتى ما ا�ست�شهد ذات يوم وهو ي�أتي كل �شهر ل�سعاد كي ي�أخذ خم�سة دنانري.؟» وقال ال�ضابط فج�أة: ا�ستدر وانظر هنا..وا�ستدار زياد ،فبدا وجهه �شديد ال�صفرة ،كانت عيناه كبريتني ،ورمبا 22
ب�سبب حجمهما بدا خائف ًا �أكرث مما كان �صوته يوحي ،وكان �أول ما فعله �أن نظر حيث كان الطفل جال�س ًا ين�شج بهدوء ،وه ّز ر�أ�سه ه ّزة خفيفة متفح�ص ًا املوجودين ،و�س�أله جعلت الطفل ي�صمت ،ثم �أخذ ينظر حواليه ّ ال�ضابط :هل تعرف �أي ًا من ه�ؤالء.؟ ل�ست �أعرف �أحداً ،بل �إنني �أكاد ال �أعرف �سعاد نف�سها ،ولكنالعادات يا �سيدي تقت�ضي منا �أن نر�سل مثل هذه الهدايا ال�صغرية �إىل جرياننا. و�أ�شار نحو ال�صحن ،وافتعل ابت�سامة �سمجة� :إنني غالب ًا ما �أف�شل يف �صنع الكنافة ،و�أخ�شى �أن يكون طعم هذا ال�صحن هو اجلرمية الوحيدة التي ارتكبتها ..و�ضحك وحده �ضحكة �صغرية ،ثم �صمت دون �أن يخفي حرجه ،وعاد يتودد بعد حلظة: هل �أ�ستطيع �أن �آخذ وليد يا �سيدي و�أذهب �إىل البيت.؟ �إن � ّأمه�ست�شعر بالقلق؟ ه�ش.. هل حدث �شيء ل�سعاد يا �سيدي.؟ هل �أم�سكتموها.؟ ملاذا ت�س�أل.؟ لأنها جارتنا.. ماذا تعرف عنها.؟ �إنها طالبة ،تقيم هنا يف ال�صيف ،ونادراً ما يزورها �أحد ،وقد�أعطت هذه ال�سنة بع�ض الدرو�س يف «الأونروا» و�أين هي الآن.؟ ل�ست �أدري يا �سيدي ،كنت �أعتقد �أنها هنا ،ولذلك �أر�سلت لها �صحنالكنافة ..ماذا فعلت يا ترى.؟ يتجول يف الغرفة وهو يف ّكر، ونهره ال�ضابط بحركة من يده ،و�أخذ ّ ثم �س�أل فج�أة: 23
برقوق ني�سان
�أتعتقد �أنها �ستعود �إىل هنا.؟ من؟ �سعاد طبع ًا �أيها الغبي.. ل�ست �أدري ..هذا بيتها على �أي حال ،وكل �إن�سان يعود �إىل بيته..بحدة: وقاطعه ال�ضابط ّ �إال �إذا ا�ستطاع الهرب قبل ذلك.()13 وخيم ال�صمت من جديد ،فيما ظل زياد واقف ًا ينظر �إىل طفله بحرية ،وفج�أة حدث �شيء غريب مل يلحظه �إال �أبو القا�سم ،فقد التقت عيناه بعيني زياد ،وملح فيهما بوم�ضة ت�شبه الربق ر�سالة ق�صرية ،ت�شبه ()14 �أن يقول املرء للآخر�« :أيها الرجل� ،إننا نعرف بع�ضنا ،فاطمئن».. ( )13مل يكن زياد ح�سني يعرف �سعاد معرفة حقيقية ،كان يعرف �أهلها ب�صورة غام�ضة، وكان معجب ًا بها من بعيد لكونها �أظهرت عدة مرات خالف ًا مع والدها الذي كان يحتقره ب�صورة ما ،كان زياد ع�ضواً قدمي ًا يف احلزب ال�شيوعي ،ثم ترك احلزب منذ بد�أت امل�صاعب ت�شتد يف �أوائل ال�ستينات ،ولكنه مل يرتك حما�سه له .كان �أ�ستاذاً يف املدر�سة الثانوية ،وكان ُيع َترب من املثقفني الأكرث اطالع ًا يف نابل�س ،ورمبا كان هذا بالذات ما جعل كراهيته لوالد �سعاد تقليداً قدمي ًا ال يعرف �سماه «�أكاكي �أكايفت�ش» كيف ن�ش�أ ،وقد ظلت هذه الكراهية حتى بعد موته .وقبل ذلك كان قد ّ وكان بالفعل يرى فيه جت�سيداً حقيقي ًا لبطل «غوغول» يف ق�صة «املعطف» وي�شاهد يف ت�رصفاته �أمنوذج ًا لذلك البريوقراطي �ضحية البريوقراطية امل�ضحك الذي ال يكف عن الن�سخ ،ولهذا بالذات �أعجب ب�سعاد بالرغم من �أن �سعاد يف تلك الفرتة مل تكن لتخفي� ،ش�أنها �ش�أن �أع�ضاء حزب البعث و�أع�ضاء حركة القوميني العرب ،كراهيتها لل�شيوعيني وحمالتها الدائمة عليهم. ( )14ال�صحيح �أن تلك النظرة مل تكن ر�سالة باملعنى احلقيقي ،وال�صحيح �أكرث �أنها كانت ت�شبه �أن يقول املرء للآخر« :ها! هذا هو �أنت �إذن!» و�سببها ال ينف�صل عما حدث ليلة �أم�س ،فعند منت�صف الليل قرع باب بيته ب�شدة ،و�إذا ب�سعاد التي ال يذكر �أنها زارتهم من قبل ،تقف هناك م�ضطربة، وقد �أدخلها و�أيقظ زوجته ومل ي�شعل ال�ضوء ،وقالت له �سعاد ب�رسعة�« :أريد م�ساعدتك �أيها الرفيق وحارة ،ومع ذلك قال لنف�سه« :اهلل زياد ».والحظ هو كلمة «رفيق» التي ه ّزت فيه م�شاعر قدمية ّ اهلل يا زمان ..احلركيون يقولون رفيق »..و�أخذ �سعاد دون �أن يتكلم و�أجل�سها يف ال�صالون وم�ضت تقول« :لقد قب�ض الإ�رسائيليون على �إحدى الرفيقات ،و�أخ�شى �أن تعرتف بعالقتها بي .ال �أ�ستطيع الذهاب �إىل املنزل» و�أح�س ب�شيء من اخلوف� ..إال �أنها ا�ستطردت« :الق�صة هي �أنني ال �أريد �أن �أثري �ش ّكهم يف حال عدم اعرتاف الرفيقة ،ولذلك ف�إنني لن �أركن �إىل الفرار �إال �إذا ت�أكدت من �أنهم 24
و�أح�س �أبو القا�سم بكنز غام�ض ميلأ �صدره ،و�أن عليه الآن �أن يكون �أكرث حذراً ،فثمة �أمور كبرية جتري ،وهو بال ريب يلعب فيها دوراً كبرياً دون �أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا ،على �أنه تي ّقن الآن من �أن هذا الرجل ،الباحث بقلق عن ابنه ،هو الذي ينبغي �أن يقود خطواته منذ هذه اللحظة ،وا�ستجمع �أبو القا�سم �أطراف �شجاعته وقال: �أال ت�ستطيع �أن تقول لهم يا �سيدي �إنني رجل بريء ،و�أن عليهم�إطالق �رساحي..؟ وحدث �شيء غريب يف الغرفة� ،إذ �أخذ اجلميع ي�ضحك ،مبا يف ذلك الأ�ستاذ زياد وال�ضابط ..قال زياد: ماذا حت�سبني �أيها العجوز.؟ �إنني يف و�ضع �أكرث �سوءاً منو�ضعك.. م�رصاً: وقال �أبو القا�سم ّ �إنها باقة زهر يا �سيدي ..باقة زهر فقط. وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة.؟ و�صاح ال�ضابط: ه�ش..وقال زياد بلهجة �ضارعة ،متجه ًا نحو ال�ضابط: اكت�شفوا كل �شيء ..هل ت�ستطيع غداً �أن ت�ستك�شف يل البيت.؟ هل جا�ؤوا �أم �أنهم� »....أخذت نف�س ًا عميق ًا و�أكملت�« :أريد م�ساعدتك� ..إن امل�س�ألة مع ّقدة� ..أ�سلوبهم هو �أن يت�سللوا �إىل البيت كي يقب�ضوا على �أكرب عدد ممكن من املت�صلني بي ،ال �أريدهم �أن يقب�ضوا على طالل »..وبعد ذلك �أم�ضى زياد اخلطة ،وقد اهتديا �إىل النقطة التي يكت�شفان فيها تفا�صيل ما و�سعاد طيلة الليل وهما ير�سمان ّ �سيحدث يف بيت �سعاد عن طريق �إر�سال وليد ب�صحن الكنافة منذ ال�صباح ،ويف حال ت�أخره تنطلق �سعاد �رشقاً ،وي�صبح على زياد �أن يتدبر باقي املهمات�« ..سي�أتي رجل عجوز ا�سمه �أبو القا�سم، �إذا �أدركته قبل الو�صول �إىل البيت دعه ي�أخذك �إىل طالل� ،إنه وحده الذي يعرف �أين يجده »...وقد م�ضت �سعاد متن ّكرة باجتاه النهر بعد ربع �ساعة من غياب وليد الذي مل يكن يعرف �شيئ ًا عن دوره. 25
برقوق ني�سان
�أال �أ�ستطيع يا �سيدي �أن �آخذ ابني وليد و�أم�ضي.؟ �إن �صديقه طاللينتظره.. ه�ش..وملح �أبو القا�سم مرة �أخرى تلك الر�سالة الغام�ضة توم�ض كالربق عيني زياد وهما تطالن عليه وك�أنهما تعربان به ،ولكنهما كانتا يف ّ حتمالن ر�سالة ،و�أبو القا�سم يعرف �أكيداً �أنهما كانتا كذلك� ،إال �أنه مل يكن قادراً على فهمهما .ثمة عالقة ما بني باقة الزهر و�صحن الكنافة، ورمبا كان الطفل الذي ا�سمه طالل هو جزء من تلك الر�سالة الغام�ضة، ولكن �أبا القا�سم مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم �أولئك الأ�ساتذة �أو يتجاوب مع �إ�شاراتهم ،حتى يف مواقف �أكرث طالقة من هذا املوقف ،و�أورثه هذا ال�شعور غ�ضب ًا مهي�ض اجلناح ،ف�رضب راحتيه على ركبتيه وقال: ل�ست �أفهم �شيئ ًا ..ل�ست �أفهم �شيئ ًا..ونظر �إىل زياد� ،آم ًال �أن ت�ستطيع عيناه ال�شائختان �أن تر�سال �شيئ ًا �إىل الرجل الواقف هناك ،فيما �أخذ ال�ضابط واجلنديان ينظران بف�ضول �إىل الرجل العجوز وهو يوا�صل �رضب راحتيه على ركبتيه ،و�أخرياً قال ال�ضابط: «�إن ق�صتك مل تنته �أيها ال�شيخ اخلبيث ،بل �إنها مل تكد تبد�أ ،ف�أح�سنلك �أن تلتزم ال�صمت� ،أما �أنت ف�سوف تظل معهم� ..إن كل من ي�أتي �إىل هذا البيت ،طوال اليوم والأيام القادمة ،هو متهم بال�رضورة ،التحقيق �سينظر يف �أمر �إطالق �رساحكم �أو اعتقالكم ،والآن ال �أريد �أن �أ�سمع �صوت ًا».. و�صاح زياد: �أال ن�ستطيع �أن نر�سل كلمة �إىل �أهالينا.؟ قلت لكم �أن ت�صمتوا.. �أال ت�ستطيع �أن تقول لنا ملاذا نحن هنا.؟ ماذا فعلت �سعاد.؟ هذا لي�س من �ش�أين� ،ستعرفون كل �شيء يف التحقيق..26
ما ذنب هذا ال�شيخ.؟ �إنه يبدو �أكرث براءة منا جميع ًا� ،أال ت�سمحونله بالذهاب �إىل بيتي ليطمئن زوجتي ،ويطمئن طالل.؟ قلت لك �أغلق فمك ،و�إال �أغلقته بالقوة..و�أخذ �أبو القا�سم ينظر جمدداً �إىل زياد ،غري قادر على فهم ما يجري على وجه التحديد ،وقد ا�ستطاع �أن يلتقط للمرة الثانية ا�سم «طالل»، ولكنه مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم ماذا يعني هذا كله ،وماذا يتعني عليه �أن يفعل ،وم�ضى يتململ يف مقعده ،م�ستعيداً يف ذاكرته �صورة طالل القدمية ،الذي �صار يراه ملام ًا منذ �أن ت�سلمته �سعاد� .إنه يدرك �أن زياداً يريد �أن يقول �شيئ ًا عن طالل ،ولكن �أي طالل.؟ وما عالقته هو بالأمر.؟ لقد تذكر الآن �أنه مرة �س�أل �سعاد �إن كان طالل يعمل معهم .ف�ضحكت وقالت« :لوال طالل لكانت حالتنا حالة ..طالل يا �أبا القا�سم رجل ،رجل قادم من حتت� »..أميكن �أن يكون الأمر على هذه اخلطورة.؟ �إن املفتاح بيد الأ�ستاذ زياد ،وهو وحده الذي يجيب على هذه الأ�سئلة ،ولكن ملاذا ال يفعل.؟ �إذا كان الأمر خطرياً على هذه ال�صورة ،فلماذا ال يقدم الأ�ستاذ الت�رصف.؟ وفج�أة �س�أل �أبو القا�سم نف�سه :لو كان قا�سم هنا زياد على ّ �سيت�رصف.؟ ثم عاد ف�س�أل نف�سه مرة مكان الأ�ستاذ زياد ،كيف كان ّ �أخرى :لو كان مكاين ،ماذا كان يفعل.؟ وقاطعه �صوت مكتوم ي�شبه خطوة خائفة ،وكان ميكن لهذا ال�صوت �أن يعرب دون انتباه لو مل يتحرك ال�ضابط بهدوء ،ويرفع �سالحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو اجلنديني اللذين اجتها نحو الباب دون �أن ي�صدرا �أي �صوت ،وم�ضت فرتة من خيم فيها �صمت عميق ،ثم �صدر ذلك ال�صوت املكتوم خلطوة الوقت َّ خائفة مرة �أخرى ،وبدت وك�أنها يف �أول ال�سلم ،وعاد ال�صوت يخطو، وك�أنه ي�صعد بحذر .ودون �أن يتخذ قراره ب�صورة م�سبقة ،انت�صب �أبو القا�سم و�صاح: ملاذا تقب�ضون علينا.؟ ماذا فعلنا.؟ �إننا �أبرياء.27
برقوق ني�سان
وانق�ض عليه ال�ضابط و�صفعه بقفا ك ّفه ف�ألقاه على الأر�ض ،واندفع وجراه بعيداً �إىل الداخل ،فيما رك�ض ال�ضابط باجتاه اجلنديان نحوه ّ الباب ،و�أل�صق �أذنه هنيهة على اخل�شب ،ثم فتحه بعنف واجته �إىل اخلارج. و�صوب فوهة و�ضع �أحد اجلنديني ركبته على �صدر �أبي القا�سم، ّ الر�شا�ش �إىل ر�أ�سه ،فيما �أخذ �أبراهام يراقب بقية املحتجزين بحذر، وما لبث ال�ضابط �أن عاد ،و�أغلق الباب وراءه ب�إحكام وهدوء ،ثم �أ�شار للجنديني ف�أجل�سا �أبا القا�سم على املقعد .كان فمه ينزف خيط ًا رفيع ًا من الدم يت�رسب يف �شعر حليته ال�شائب ،ولكنه بدا يف حالة غري خطرة، وقال له ال�ضابط بهدوء مبالغ فيه: لقد تعمدت ذلك �أيها الثعلب العجوز.وقال �أبو القا�سم بوهن: تعمدت ماذا يا �سيدي.؟ لقد �رصخت كي يهرب.. من؟ �أنت الذي �ستقول لنا من ..يا �إلهي !.كنت على و�شك �أن �أعتقد �أنكعجوز بريء� ..أما الآن فقد تيقنت من كل �شيء ،مل �أكن على خط�أ حني �شككت بهذه الباقة اللعينة.. �إنها باقة زهر يا �سيدي ..برقوق ني�سان.. ها!وتناول ال�ضابط ع�صا ق�صرية عن الطاولة ،دقيقة ك�أنها من اخليزران ،و�أ�شار بها نحو زياد ،ثم �أخذ ينقلها كم�ؤ�رش بني زياد و�أبي القا�سم .و�أخرياً اجته نحو زياد: �أر�أيت �أيها الرثثار.؟ �أر�أيت.؟ كنت �أنت الذي اقرتحت �أن نطلق�رساح هذا ال�شيخ اخلبيث لأنه يبدو بريئ ًا !.ها! هذا ال�شغل �شغلنا� ,,إنه 28
يعتقد الآن �أنه �أتاح فر�صة الفرار لأحدكم .كم هو خمطئ هذا العجوز امل�سكني� !.سننتزع ا�سمه مثلما ُينت َزع ال�رض�س الننت. وتنحنح زياد ،وهو ما يزال واقف ًا مكانه ،وقال لل�ضابط: هذا ال�شغل �شغلكم يا �سيدي ،ولكن �إذا �سمحت يل �أرجو �أال تقلقمر �أمام ال�سلم هو الطفل طالل� ،صديق كثرياً ،فقد يكون ال�شخ�ص الذي ّ وليد ،جاء ي�س�أل عنه وخاف عندما �سمع اجللبة فهرب� ..أمل �أقل لك يا �سيدي قبل ذلك �إن طالل ينتظر وليد ليلعب معه.؟ وه ّز ال�ضابط ر�أ�سه مرتاب ًا وهو يبت�سم ابت�سامة العارف الذي الي�سهل خداعه ،وقال ب�صوت ال يكاد ي�سمع: مل تكن اخلطوة خطوة طفل..عيني زياد ،وهما ومرة �أخرى ،مبثل ملح الربق� ،شهد �أبو القا�سم يف ّ تعربان به وم�ضة ت�شبه الر�سالة.
29
القميص املسروق
وقصص أخرى
30
31
القمي�ص امل�رسوق
1 -1القمي�ص امل�رسوق رفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء املظلمة وهو يقاوم �شتيمة كفر �صغرية �أو�شكت �أن تنزلق عن ل�سانه ،وا�ستطاع �أن يح�س الغيوم ال�سوداء تتزاحم كقطع البازلت ،وتندمج ثم تتمزق. �إن هذا املطر لن ينتهي الليلة ،هذا يعني �أنه لن ينام ،بل �سيظل منكب ًا على رف�شه ،يحفر طريق ًا جتر املياه املوحلة بعيداً عن �أوتاد اخليمة ،لقد �أو�شك ظهره �أن يعتاد �رضب املطر البارد ..بل �إن هذا الربد يعطيه �شعوراً لذيذاً باخلدر. �إنه ي�شم رائحة الدخان ،لقد �أ�شعلت زوجه النار لتخبز الطحني ،كم يود لو �أنه ينتهي من هذا اخلندق ،فيدخل اخليمة ،ويد�س كفيه الباردتني يف النار حتى االحرتاق ،ال �شك �أنه ي�ستطيع �أن يقب�ض على ال�شعلة ب�أ�صابعه، و�أن ينقلها من يد �إىل �أخرى حتى يذهب هذا اجلليد عنهما ..ولكنه يخاف ري زوجه �س�ؤا ًال رهيب ًا ما زال يقرع حمج ْ �أن يدخل هذه اخليمة� ،إن يف َ فيهما منذ زمن بعيد ،ال� ،إن الربد �أقل ق�سوة من ال�س�ؤال الرهيب� .ستقول
32
له �إذا ما دخل وهي تغر�س كفيها يف العجني ،وتغر�س عينيها يف عيونه: هل وجدت عم ًال؟ماذا �سن�أكل �إذن؟ كيف ا�ستطاع (�أبو فالن) �أن ي�شتغل هنا؟ وكيف ا�ستطاع(�أبو علنتان) �أن ي�شتغل هناك؟ ثم �ست�شري �إىل عبد الرحمن املكور يف زاوية اخليمة كالقط الكبول ،و�ستهز ر�أ�سها ب�صمت �أبلغ من �ألف �ألف عتاب ..ماذا عنده الليلة ليقول لها �سوى ما يقوله يف كل ليلة..؟: هل تريدينني �أن �أ�رسق لأحل م�شاكل عبد الرحمن؟ون�صب قامته بهدوء الهث ،ثم ما لبث �أن عاد ،فاتك�أ على الرف�ش املك�سور ،و�أن�ش�أ يحدق باخليمة الداكنة ،م�ست�شعراً قلق ًا عظيم ًا وهو ي�س�أل نف�سه: وماذا لو �رسقت؟�إن خمازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من اخليام� ،إن قرر �أن يبد�أ فهو ي�ستطيع بالت�أكيد �أن ينزلق �إىل حيث يتكد�س الطحني والرز، من ثقب ما �سيجده هنا �أو هناك ،ثم �إن املال لي�س حالل �أحد ،لقد �آتى من هناك ،من عند نا�س قال عنهم �أ�ستاذ املدر�سة لعبد الرحمن �إنهم «يقتلون القتيل ومي�شون يف جنازته» فماذا ي�رض النا�س لو �أنه �رسق كي�س طحني.. كي�سني ..ع�رشة؟ وماذا لو باع �شيئ ًا من هذا الطحني �إىل واحد من �أولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على ا�ستن�شاق روائح م�رسوقات ،وبقدرة �أعظم يف امل�ساومة على ثمنها؟ ولذت له الفكرة ،فد�أب بعزم �أ�شد على �إمتام حفر اخلندق فيما حول اخليمة و�أخذ ي�س�أل نف�سه من جديد �أن ملاذا ال يبد�أ مغامرته منذ الآن؟ �إن املطر �شديد واحلار�س م�شغول ب�أمر الربد �أكرث من ان�شغاله مب�صلحة وكالة الغوث الدولية ،فلماذا ال يبد�أ الآن؟ ملاذا؟ ماذا تعمل يا �أبا العبد؟ورفع ر�أ�سه �إىل جهة ال�صوت ،وميز �شبح �أبي �سمري قادم ًا من بني 33
القمي�ص امل�رسوق
�ص َّفي اخليام املغرو�سة �إىل ما ال نهاية الظلمة.. �إنني �أحفر طحين ًا.. حتفر ماذا؟ �أحفر� ..أحفر ..خندق ًا..و�سمع �ضحكة �أبي �سمري الرفيعة التي �رسعان ما تال�شت يف ثرثرته: يبدو �أنك تفكر بالطحني� ،إن التوزيع �سيت�أخر �إىل ما بعد الأيامالع�رشة الأوىل من ال�شهر القادم� ،أي بعد خم�سة ع�رش يوم ًا تقريب ًا ،فال تفكر منذ الآن �إال �إذا كنت تنوي �أن ت�ستعري كي�س ًا �أو كي�سني من املخزن.. ور�أى ذراع �أبي �سمري ت�شري باجتاه املخازن ،وملح على �شفتيه ال�سميكتني ظ ًال البت�سامة خبيثة ،و�شعر ب�صعوبة املوقف ،فعاد ي�رضب الأر�ض برف�شه املك�سور. خد هذه ال�سيكارة ..ولكن ال� ،إنك لن ت�ستفيد منها ،فاملطر مزعج..لقد ن�سيت �أن ال�سماء متطر ،عقل من الطحني ..مثل احلجر.. و�أح�س ب�ضيق ي�أخذ بخناقه� ،إنه يكره �أبا �سمري منذ زمن بعيد ،هذا الرثثار اخلبيث: ما الذي �أخرجك يف هذا املطر؟ خرجت ..خرجت لأ�س�ألك �إن كنت تريد امل�ساعدة. ال� ..شكراً..هل �ستحفر طوي ًال؟ معظم الليل.. �أ مل �أقل لك �أن حتفر خندقك يف النهار؟ �إنك دائم ًا تذهب �إىل حيث ال�أدري وترتك اخليمة ..هل تذهب للبحث عن خامت �سليمان؟ ال ..عن �شغل..ورفع ر�أ�سه عن الرف�ش وهو يلهث.. ملاذا ال تذهب لتنام وترتكني وحدي؟34
واقرتب منه �أبو �سمري بهدوء جم وو�ضع ك ّفه يهزها ببطء وهو يقول ب�صوت خمنوق: ا�سمع يا �أبا العبد� ،إن ر�أيت الآن كي�س طحني مي�شي من �أمامك فالتذع اخلرب لأحد! كيف؟قالها �أبو العبد و�صدره ينب�ض بعنف ،و�شم رائحة التبغ من فم �أبي �سمري وهو يهم�س وقد فتح عيونه على و�سعها: هناك �أكيا�س طحني مت�شي يف الليل وتذهب �إىل هناك.. �إىل �أين؟ �إىل هناك..حاول �أبو العبد �أن يرى �إىل �أين ي�شري �أبو �سمري ولكنه وجد ذراعيه م�سدلتني على جنبيه ،بينما �سمع �صوته يهم�س ببحة عميقة: �ست�أخذ ن�صيبك. هل هناك ثقب تدخلون منه؟ورفع �أبو �سمري ر�أ�سه نافي ًا ومفرقع ًا ل�سانه مبرح ،ثم هم�س ب�صوت ن�صف مبحوح: �إن �أكيا�س الطحني تخرج لوحدها� ..إنها مت�شي! �إنك جمنون.. ال ،بل �أنت م�سكني ..ا�سمع ،ولندخل يف املو�ضوع مبا�رشة� ،إن ماعلينا هو �أن نخرج �أكيا�س الطحني من املخزن ونذهب بها هناك� ،إن احلار�س �سيمهد لنا كل �شيء كما يفعل دائم ًا� ،إن الذي �سيتوىل البيع لي�س �أنا ،وال �أنت� ،إنه املوظف الأمريكي الأ�شقر يف الوكالة ..ال ،ال تعجب ،كل �شيء ي�صبح جائزاً ومعقو ًال بعد االتفاق.الأمريكي يبيع ،و�أنا �أقب�ض، واحلار�س يقب�ض ..و�أنت تقب�ض ،وكله باالتفاق ،فما ر�أيك؟ و�شعر �أبو العبد �أن الق�ضية �أ�شد تعقيداً من �رسقة كي�س �أو كي�سني� ،أو 35
القمي�ص امل�رسوق
ع�رشة ،وراوده �شعور لزج بالقرف من املعاملة مع هذا الإن�سان ..ثقيل الدم كما تعارفوا عليه يف املخيم كله ..ولكنه يف الوقت ذاته راقه �أن يعود يوم ًا �إىل خيمته ويف يده قمي�ص جديد لعبد الرحمن ،و�أغرا�ض �صغرية لأم العبد بعد هذا احلرمان الطويل ،كم �ستكون ابت�سامتاهما جميلتني� ،إن ابت�سامة عبد الرحمن ،لوحدها ،ت�ستحق املغامرة ال �شك، ولكنه لو ف�شل� ..أي م�صري �أ�سود ينتظر �أم العبد وولدها.؟ .يومها �سيحمل عبدالرحمن �صندوق م�سح الأحذية ليتكور يف ال�شارع هازاً ر�أ�سه ال�صغري فوق الأحذية الأنيقة ،يا للم�صري الأ�سود! ولكنه لو جنح ف�سيبدو عبد الرحمن �إن�سان ًا جديداً ،و�سيقتلع من عيون زوجه ذلك ال�س�ؤال املخيف. لو جنح ،ف�ستنتهي م�أ�ساة اخلندق يف كل ليلة ممطرة ،و�سيعي�ش حيث ال ي�ستطيع �أن يت�صور الآن.. ملاذا ال ترتك هذا اخلندق امللعون ،ابد�أ قبل �أن ت�رشق ال�شم�س؟نعم ملاذا ال يرتك اخلندق..؟ �إن عبد الرحمن يلهث من الربد يف طرف اخليمة ،ويكاد يح�س �أنفا�سه تلفح جبينه البارد ..كم يود لو �أنه ينت�شل عبد الرحمن من هزاله وخوفه ،لقد �أو�شك املطر �أن ينقطع ،وبد�أ القمر يف ال�سماء ميزق طريق ًا وعراً. و�أبو�سمري ،ما زال واقف ًا �أمامه كال�شبح الأ�سود ،غار�س ًا قدميه الكبريتني يف الوحل ،رافع ًا ياقة معطفه العتيق �إىل ما فوق �أذنيه� ،إنه ما زال واقف ًا ينتظر ،هذا الإن�سان الواقف �أمامه ،يحمل معه قدراً جديداً غام�ض ًا ،ي�ساومه لريفع معه الأكيا�س من املخزن� ،إىل مكان ما ،ي�أتيه الأمريكي كل �شهر ويقف �أمام �أكوام الطحني يفرك راحتيه النظيفتني، وي�ضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز �أمام جحر ف�أر م�سكني. منذ متى و�أنت تتعامل مع هذا احلار�س وذلك املوظف؟ هل تريد �أن حتقق معي �أم ت�أخذ ثمن الطحني وتذهب لت�شرتيال�شياطني؟ا�سمع �إن هذا الأمريكي �صديقي ،وهو �إن�سان يحب العمل 36
املنظم� ،إنه يطلب مني دائم ًا �أن �أ�ضع الوقت باملقدمة .وهو ال يحب الت�أخري يف املواعيد ..علينا �أن نبد�أ الآن� .أ�رسع. و عاد يت�صور الأمريكي واقف ًا امام �أكيا�س الطحني ،ي�ضحك بعيون زرقاء �ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتني بحبور وطم�أنينة ،ف�شعر ب�ضيق غريب ،وخطر له �أن ذلك الأمريكي كان يبيع الطحني يف الوقت الذي كان يقول فيه لرجال املخيم ولن�سائه �إن توزيع الإغاثة �سيت�أجل �إىل نهاية الأيام الع�رشة الأوىل من ال�شهر ،و�أح�س بنقمة طاغية ،هي �صدى لإح�سا�ساته يوم كان يرجع من املخازن ليقول لزوجته ب�صوت ك�سري �إنهم �أجلوا توزيع الطحني ع�رشة �أيام ،كم هي م�ؤملة خيبة الأمل التي كانت ترت�سم يف وجهها الأ�سمر املجهد ،لقد كان يح�س الغ�صة تتعلق ب�ألف ذراع يف حنجرته وهي تنظر ب�صمت مريع �إىل كي�س الطحني الفارغ يت�أرجح على ذراعه كامل�شنوق ..لقد كانت تعني يف نظرتها تلك �أن ع�رشة �أيام �ستم�ضي قبل �أن يجدوا طحين ًا للأكل .كان يبدو له �أي�ض ًا �أن عبد الرحمن يفهم املوقف متام ًا ،لقد كان يكف عن طلب الأكل ب�إحلاح.. يف كل خيام قرية النازحني كانت العيون املتلهفة تقع يف خيبة الأمل ذاتها ،كان على كل طفل يف املخيم �أن ينتظر ع�رشة �أيام لي�أكل خبزاً .هذا �إذن هو �سبب الت�أجيل� ،أبو �سمري الواقف �أمامه كال�شبح الأ�سود، غار�س ًا قدميه يف الطني قلق ًا مل�صري م�ساوماته ،هو والأمريكي الذي يفرك راحتيه النظيفتني �أمام �أكوام الطحني وهو ي�ضحك بعيون زرقاء �ضيقة.. مل يدر كيف رفع الرف�ش �إىل ما فوق ر�أ�سه وكيف هوى به بعنف رهيب على ر�أ�س �أبي �سمري ،وهو ي�صيح يف وجهه �إن الطحني لن يت�أجل توزيعه هذا ال�شهر.. كان ال يزال راغب ًا يف �أن يراه يبت�سم لقمي�ص جديد.. ف�أخذ يبكي.. 37
�إىل �أن نعود
2 � -2إىل �أن نعود ..مع �أ�شعة ال�شم�س التي كانت ت�أكل ر�أ�سه وهو وحيد يف �صحراء النقب ،كان ي�سمع �صخب �أفكاره يف ر�أ�سه ك�أنها جمموعة م�سامري تدق.. وال تنغر�س. �إن �أنفه يعمل الآن متام ًا كما تعمل البو�صلة ،وهو ي�شعر �أنه يقرتب من هدفه� ،إنه يعجب لنف�سه كيف مل ينقطع عن التفكري العنيف طوال هذه ال�ساعات املم�ضة ،لقد فكر يف هذه ال�ساعات كما مل يفكر �أبداً طوال ثماين �سنوات. ويغر�س قدميه يف الرمال الناعمة ،ويقتلعها كما تقتلع قطعة اخل�شب العتيقة عن غراء مل يجف بعد كما يجب ،ثمة �أحا�سي�س �ضخمة متتلك عنه ذكرياته� ،إن هذه الأحا�سي�س لتتداخل يف بع�ضها وتت�شابك حتى لي�شعر �أنها الزمته زمن ًا طوي ًال ،وي�صعب عليه الآن �أن يت�صور نف�سه كيف كان بدونها� ..إنه عط�شان �إىل حد ي�شعر فيه ب�أن حلقه �أ�ضحى جاف ًا جامداً ،فلم 38
يعد ثمة �رضورة لبقائه ،وي�شعر بالتايل �أنه تعب ،مرهق ،يكاد يتهاوى، ك�أمنا انتهى لتوه من �شد قارب كبري من البحر �إىل رمل ال�شاطئ املبلول لكنه مع هذا كله ،كان ي�سري ،مندفع ًا ك�أنه ي�سابق نف�سه ،كان ن�صفه العلوي يتقدم منحني ًا عن بقية ج�سده ..فالرمل الناعم يعوق �رسعة قدميه ،كان ق�صرياً� ،أ�سمر الب�رشة ،حمروقاً ،مل يكن يف وجهه �أي �شيء ي�ستلفت النظر لأول وهلة ،كل ما هنالك �أن لفمه �شفتني رقيقتني تنطبقان يف ت�صميم، �إن �شكل وجهه يثري يف الإن�سان لدن تدقيق النظر �شعوراً ب�أنه ي�شاهد حق ًال �صغرياً ،بل و�أكرث من هذا ،ف�إن اخلطني اللذين ي�شقان جبهته يحب الإن�سان �أن ي�شبههما ب�آثار «�شفرات» حمراث مر لتوه من ذلك املكان.. لقد بد�أت رائحة �أر�ضه تذيب �أحا�سي�سه� ،شيء جميل �أن ي�شم املرء جزءاً من ما�ضيه� ،إن ر�أ�سه الآن تنفتح ك�أنها �صندوق عر�س منقو�ش بال�صدف ويحوي كل �شيء ،ويرى فيه داره ال�صغرية الرطبة ،وزوجه تر�ش الرتاب باملاء ،ثم يرى نف�سه �آتي ًا من حقله بقدميه املوحلتني� ،إن ال�صورة يراها �أمامه هكذا ،بل و�أكرث من ذا ،ك�أنه ي�ستعيد منظراً عا�شه قبل دقائق فح�سب، �إنه يرى ال�صورة بكل تقاطيعها الدقيقة ،حتى لريى نف�سه كيف ي�سري ،مل يتي�رس له قبل الآن �أن يراقب �سريه بهذا الو�ضوح وهذا الإمكان. وهو يقرتب من �أر�ضه ،هكذا ي�شعر يف �أعماقه عندما بدت له �أول (بيارة) من (بيارات) �أهل قريته ،ابتد�أ ال�صوت الذي ودعه على فوهة النقب اجلنوبية يدق ر�أ�سه ،ويتجاوب �صداه يف ج�سده: «هي �أر�ضك� ،أمل تع�ش هناك؟ ح�سناً� ،إنك تعرفها �أكرث من �سواك ،يفواحد من احلقول بنى اليهود خزان ًا ي�سقي امل�ستعمرات القريبة� ،أعتقد �أنك فهمت� ،أن الديناميت الذي حتمله يكفيك.»... مل يتكلم بعدها ،بل انطلق عرب النقب وحيداً ،وحيداً �إال من هذه الزوبعة التي تثور يف �أعماقه ..وها هي �أر�ضه ،حيث درج يلهو ،ت�ستلقي يف �أح�ضان اجلبل با�ست�سالم. 39
�إىل �أن نعود
و انزلق بني احلقول اخليالية يف حذر ،م�ستمداً من رائحة ترابه �شعوراً بقدرة ال تقهر ،و�أ�صابعه تطبق على �سكينه يف تهي�ؤ «وح�شي»� .إن ر�أ�سه ت�شتط به وتختلط يف تاريخ احلقول التي يعرفها جيداً ،ويجد عنت ًا �شديداً يف العودة �إىل احلقيقة. وعندما ا�ستدار حول حقل كان لأبي ح�سن -جاره -يف يوم من الأيام ،ر�أى نف�سه ي�شد ر�أ�سه عالي ًا وهو يرقب ب�شعور غام�ض خزان املياه، يرتفع ك�أمنا لي�صل الأر�ض بال�سماء ..لي�ؤمن لها املاء .لكنه �ساءه �أن يقف اخلزان ،هكذا ،يف احلقل املعطاء� ..إنه بوقوفه هذا ي�شوه �إح�سا�س ًا جمي ًال �أح�سه هو ،وجميع جريانه ،طوال حياتهم� ..أنهم -الفالحني -يح�سون الأر�ض �إح�سا�س ًا بينما ينظر �سواهم �إليها كم�شهد عابر� ،إن �أي حقل ،يبعث بالفالح �شعوراً تلقائي ًا ب�أنه -ذلك احلقل ،يلقي على موجوداته ظل الأبوة مهما عظمت ،في�شعر الإن�سان �أنها يف حماية قوة غام�ضة ،هائلة ،خميفة، لكنها حمببة. ولكن اخلزان يدمر هذا الإح�سا�س ،وهو واقف هناك كحقيقة مرة تعطيه نوع ًا �آخر من امل�شاعر ،بل �إنه يح�س �إح�سا�س ًا عميق ًا �ساكن ًا ب�أن الأر�ض نف�سها ترف�ض اخلزان ..ال تريد �أن حتميه� ،إنه يعني �شيئ ًا �آخر ،غري الري واملاء� ،شيئ ًا كبرياً دامي ًا كامل�أ�ساة. وحب�س �أنفا�سه وهو يرقب من خالل العوا�سج �أر�ضه التي تك�سب عليها عرقة ليخلقها من العدم ،ها هو �إذن البيت ال�صغري الذي كان ي�أوي �إليه مع زوجه �أيام العمل املتوا�صل يف مو�سم احل�صاد ،فلقد كان بيت ًا جمي ًال على ما فيه من توا�ضع� ،أما الآن ،فلقد تهدمت ناحية منه ،والناحية الثانية التي تتكئ على �صخور اجلبل قد عالها الغبار و�صبغتها ذرات ر�صا�صية من دخان (املوتور)� ،إن اخلزان يقتحم حياته ب�شكل مزعج ،لقد �أقيم يف ال�ساحة التي كان يجل�س فيها وزوجته قبل �أن يناما ،يتحدثان فيها عن الذرة والقمح ،لقد كان يف مكان قائمة اخلزان الأقرب للدار �شجرة �أجا�ص 40
فريدة من نوعها ،كان يحبها ويعنى بها ،هنا ،قرب الباب املتداعي كانت تنام زوجته ليايل ال�صيف ،كان يف تلك الأيام يدعو جريانه للجلو�س، فت�رسه زوجته وتر�ش ال�ساحة باملاء فتك�سبها رطوبة حمببة. وفج�أة وبدون �أي �سابق �إعالم �سقطت من �أعماقه الالواعية �إىل حياته الواعية �صورة مدوية مروعة ،اجتاحته كالطوفان ،هوت �إىل حوا�سه كلها دفعة واحدة ف�شغلتها كلها ،قبل �أن يرحال بيوم واحد. بيوم واحد فقط ،دخل اليهود �إىل البيارات ،ووجد �أن عليه �أن يرتك ولو وجر زوجته وترك �أر�ضه ،و�سار� ...إال �أنه قبل �أن �إىل حني -ذلك العطاءّ .. يجتاز باب حقله املقطع ،دنا �إىل زوجته ،و�ألفى نف�سه م�شدوداً �إىل دمعة كبرية يف عينيها الوا�سعتني ..ك�أمنا هي ذوب حنني ...كان يريد �أن يقاوم لكنه ر�أى نف�سه حماط ًا بالت�سا�ؤالت التي غر�ستها دمعة زوجه يف عروقه الزرقاء � :إىل �أين؟ و�أر�ضك؟ �ألي�س من الأف�ضل �أن تعيد �إىل الرتاب عطاءه حلم ًا ودم ًا ؟ ودون �أن يتكلم� ،سحب زوجه من يدها �إىل حقله ،ومل ي�ستطع �أبداً �أن يحرر نف�سه من النداء الطيب يف العيون الوا�سعة. يف تلك الليلة� ..شنق اليهود زوجه على ال�شجرة العجوز بني ال�ساحة واجلبل� .إنه يراها مدالة عارية متاماً ...كان �شعرها حملوق ًا ومربوط ًا �إىل عنقها وينزف من فمها دم �أ�سود ملاع ..لقد �شدوا خ�رصها النحيل �شداً جمنوناً ،مل يكن يف وجهها كله ،ما ي�شري �إىل �أنها كانت ،قبل هنيهة ،متلأ ال�ساح ر�صا�ص ًا وناراً ودماً ،يف ذلك الوقت ،كان هو مربوط ًا �إىل ال�شجرة املقابلة ي�شهد كل ما فعلوه عاجزاً ،لقد �شدوه �إىل ال�شجرة بحبال احلراثة بعد �أن �سلخوا ظهره بالكرابيج اجللدية طوال بعد الظهر ،وتركوه ي�شهد كل �شيء ،تركوه يحدق وي�صيح كاملنجون ..لقد ح�شوا فمها بالرتاب عندما قالت له مع ال�سالمة وماتت .وتركوه مي�ضي كي ميوت بال�صحراء مع ذكرياته.. 41
�إىل �أن نعود
�إنه ال ينظر الآن �إىل هذه ال�صورة نظرة امل�شاهد ،ال� ،أبدا� ،إنها تتفاعل ب�أعماق �أعماقه ويح�سها ويراها تن�سكب على �أع�صابه كالر�صا�ص املذاب� ،إن ذاته تتفاعل الآن مع املا�ضي ب�شكل عجيب ،مل ي�ستطع �أن يخلع نف�سه من ال�صورة الدموية ،وال �أن يخلعها من نف�سه ،كان حا�رضه ميتزج مع ما�ضيه مزج ًا معقداً� ،إن �صوت ا�ستغاثات زوجه و�أنينها املقطع املحروق ،و�صوت �أ�سنانها مت�ضغ الرتاب ،و�صوت حنجرته وهي تطبق على �صياحه يف بحات ه�ستريية ،كل هذا ،كان ميتزج امتزاج ًا مت�شابك ًا ب�صوت االنفجار املروع ،و�صوت اخلزان العمالق يقتلع من الوجود.. وميت�ص الدخان الأ�سود بع�ض �أحا�سي�سه الدامية ،ويرنو �إىل احلطام بهدوء �صاخب.. يح�س ك�أمنا قد لقد عاد يف امل�ساء �إىل خيمته ،كان متعب ًا منهوك ًاّ ، تباعدت مفا�صله عن بع�ضها ،وعلى ع�ضالته �أن تتوتر �إىل الأبد كيما تن�شد بينها ،و�أح�س وهو ي�صافح الإن�سان الذي ودعه قبل �أن يذهب �إىل مهمته �أنه ما زال يف املعركة التي بد�أت منذ زمن بعيد ..و�سمع �صوته: ماذا ؟ انتهى كل �شيء على ما يرام ؟ وه ّز ر�أ�سه يف �إعياء..وعاد ي�سمع �صوت الرئي�س: هل �أنت تعب؟ وه ّز ر�أ�سه نفي ًا وهم�س ب�صوته العميق املجروح: هل �أعددت مهمة �صباح الغد؟وو�صله �صوت رئي�سه من بعيد: ولكنك ال ت�ستطيع �أن تتابع غداً ..يجب �أن ت�سرتيح.. ودون �أن يفكر �أجاب :بل �أ�ستطيع.. �إىل متى حت�سب �أنك ت�ستطيع �أن توا�صل على هذه ال�صورة ؟قال وهو ي�سند ر�أ�سه على كي�س املتفجرات : �إىل �أن نعود..دم�شق 1957/6/24 42
43
املدفع
3 -3املدفع لقد عرفه اجلميع ..وكادوا �أن يعهدوا وجهه كجزء ال ينف�صل عن القرية كلها :وجهه املربع يعرت�ضه حاجبان يت�صالن ببع�ضهما البع�ض ب�أخدود يعني طرف �أنفه العلوي ،و�أنفه املفلطح تدور ب�أ�سفله دائرتان وا�سعتان فوق �شارب رمادي كثيف ،يتدىل ،فيخفي �شفته العليا� ..أما ذقنه فلقد كانت عري�ضة حادة ،ك�أنها قطعت لتوها من �صدره ،ومن ثم ،بردت رقبته الثخينة برداً. �إن �سعيد احلم�ضوين نادراً ما يتكلم عن ما�ضيه� ،إنه دائم ًا يتحدث عما �سي�أتي ،وما ينفك يعتقد �أن غداً �سيكون �أح�سن من اليوم ،ولكن �أهل(ال�سلمة) يتناقلون فيما بينهم ،ب�شيء كثري من املبالغة� ،أخبار �سعيد احلم�ضوين �أيام كان يقود حركات ثورية يف ،1936يقولون - هناك يف القرية � -إن �سعيداً �أطلق �رساحه من املعتقل لأنه مل يدن.. ويقال �إنه مل يقب�ض عليه بعد ،ومهما يكن ،فهو الآن ميلأ القرية ،ويربط 44
ال�صبيان كل �أحا�سي�سهم وتخيالتهم التي ير�سمونها للرجل املمتاز.. وليد املغامرة القا�سية. لقد عاد �سعيد م�ؤخراً من يافا ،و�أح�رض معه ر�شا�ش ًا من طراز (املا�شينغن) كان قد ق�ضى قرابة �أ�سبوع كامل يجمع ثمنه من التربعات ،ومع �أن �سكان ال�سلمة كانوا على يقني كبري �أن ثمن مدفع من هذا الطراز ال ميكن �أن يجمع من التربعات ،فلقد �آثروا �أن ي�سكتوا، لأن و�صول املدفع الرائع �أهم بكثري جداً من طريقة و�صوله ،فالقرية يف �أ�شد احلاجة �إىل �أي نوع من �أنواع ال�سالح ،فكيف �إذا ح�صلت على �سالح من نوع جيد؟. لقد عرف �سعيد احلم�ضوين ماذا ي�شرتي! �إن هذا املدفع ،مدفع (املا�شينغن) كفيل برد �أي هجوم يهودي م�سعور� ،إنه نوع راق من ال�سالح ،والقرية يف �أ�شد احلاجة �إليه ..فلماذا يفكرون يف طريقة و�صول املدفع ؟ .ولكن �سكوت رجال ال�سلمة ،ال يعني �سكوت ن�سائها ،لقد بقيت امل�شكلة بالن�سبة لهن تلح �إحلاح ًا قا�سي ًا ،وملا مل يجدن من يدلهن على حقيقة الأمر ،ا�ستطعن �أن يقنعن �أنف�سهن� ،أن �سعيد احلم�ضوين كان قد �سلم يف ثورة 1936مدفع ًا من هذا الطراز �أبلى من خلفه بالء ح�سن ًا، ثم خب�أه يف اجلبال �إىل �أن �آن �أوان ا�ستعماله من جديد ..ولكن الت�سا�ؤل بقي مت�ضمن ًا يف �أعمق �أعماق ال�سلمة ،مل يكن من الي�سري �أن يجمع الإن�سان ثمن مدفع من طراز املا�شينغن.. �إذن فمن �أين �أتى �سعيد احلم�ضوين بهذا املدفع ؟ نعم. من �أين؟ املهم� ..أن هذا املدفع الأ�سود �صار قوة هائلة تكمن يف نفو�س �أهل ال�سلمة ،وهو يعني بالن�سبة لهم �أ�شياء كثرية� ،أ�شياء كثرية يعرفونها، و�أ�شياء �أكرث ال يعرفونها ..ولكنهم ي�شعرون بها ،هكذا ،يف �إبهام مطمئن.. �إن كل كهل وكل �شاب يف ال�سلمة� ،صار يربط حياته ربط ًا وثيق ًا بوجود 45
املدفع
هذا املدفع ،و�صار من �صوته املتتابع الثقيل� ،أثناء جتربته يف كل �أم�سيتني ،نوع ًا من ال�شعور باحلماية.. وكما يرتبط ال�شيء بالآخر� ،إذا تالزما ،ربط النا�س �صورة املدفع بوجه �سعيد احلم�ضوين املربع ،مل تعد جتد من يف�صل هذا عن ذاك يف حديث الدفاع عن ال�سلمة� ،إن �سعيد احلم�ضوين �أ�صبح الآن �رضورة مكملة ..بل �أ�سا�سية ،للمدفع ،وعندما يتحدث النا�س عن �سعيد ،كانوا ي�شعرون �أنه �أداة من �أدوات املدفع املعقدة� ..شيء كحبل الر�صا�ص، كقائمتي املدفع ..كاملا�سورة :كل متما�سك ال تنف�صل �أطرافه عن بع�ضها البع�ض .بل و�أكرث من ذلك ،لقد �صار يربط �سعيد احلم�ضوين حياته نف�سها ربط ًا �شديداً بوجود املدفع .كان املدفع يعني بالن�سبة له �شعوراً هادئ ًا بالطم�أنينة� ،شعوراً يوحي باملنعة :فهو دائم التفكري باملدفع ،دائم االعتناء به ،تكاد ال تراه �إال وهو يدرب �شباب القرية على ا�ستعماله ،ويدلهم يف نهاية التدريب على املكان الذي و�ضع فيه خرقة مل�سح املدفع ،هذا املكان الذي �سي�صري –فيما بعد – معتاداً. ومع مرور الأيام بد�أ �سعيد احلم�ضوين يتغري ..لقد تبدل لونه عن ذي قبل .وبدا ك�أنه ي�ضمر �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،و�أح�س �شباب ال�سلمة �أن �سعيد احلم�ضوين �صار يبدو �أكرب من ذي قبل ،و�أنه �صار يفقد هذه احلركة احلية يف وجهه ويف �صوته� ..إنه �صامت الآن� ،صامت �إىل حد يخيل ّ للإن�سان معه �أنه ن�سي كيف كان يتكلم النا�س ،و�صار �شيئ ًا م�ألوف ًا �أن يجده النا�س منطلق ًا �إىل جنوب ال�سلمة ،حيث ركز املدفع ،ليجل�س وحيداً بقربه �إىل الع�شية. هذا الرجل اجلبار ..الهادئ ..الثائر ..هل كان يعتقد �إن�سان �أنه �سريجتف كذرة من القطن املندوف على قو�س املنجد؟ لقد فتحوا عليه باب داره وال�صباح يو�شك �أن ينبلج ،وت�ضاخمت �أمامه كتلة �سوداء، و�رضبت الأر�ض وبرز منها �صوت �أحد رجاله ،يدور كالدوامة ،ليبتلع 46
كل �إح�سا�س بالوجود : املدفع ..لقد �أ�صابه العطب� ..إن ما�سورته تتحرك بغري ما توجيه..اليهود يتقدمون. و�أح�س �سعيد احلم�ضوين بقوة جبارة تقتلع من جوفه �شيئ ًا يع ّز عليه �أن ي�ضيع منه� ،شيئ ًا كقلبه ال ي�ستطيع �أن يتابع وجوده �إال معه ..كان ي�شعر بكل هذا وهو منطلق عرب احلقول الباهتة النائمة يف �آخر الليل.. وو�صل �إىل حيث كان الر�شا�ش يتكئ كالطفل امليت على الأغ�صان الياب�سة ،كل �شيء �ساكن� ،إال طلقات البنادق الهزيلة ،حتاول عبث ًا الوقوف يف وجه الهجوم� ..إما املدفع� ..إما جهنم.. وه ّز �سعيد احلم�ضوين ر�أ�سه وك�أنه يوا�سي نف�سه مب�صاب ابنه ،ثم فكر � :أن ال بد من �إجراء ..البد� ..شيء قوي كالكالبة يجب �أن مي�سك الفوهة الهاربة �إىل بطن املدفع� ..شيء قوي.. ا�سمع� ..س�أ�شد املا�سورة �إىل بطن املدفع بكفي .وحاول �أن تطلق..ال يوجد �أية دقيقة لت�ضيع يف كالم ..دعنا جنرب، لكن.. �أطلق! �سريانا اليهود و�أنت فوق احلفرة. �أطلق! �ستحرق كفيك بلهب الر�صا�ص.. �أطلق� ..أطلق!.وبد�أ املدفع يهدر ب�صوته املتتابع الثقيل ،ومع �صوته املحبوب، �شعر �سعيد احلم�ضوين بنف�سيته التي تغذت طوي ًال بالثورة والدم والقتال يف اجلبال� ،شعر ب�أنها النهاية ..نهاية تاق �إليها طوي ًال وها هي ذي تتقدم �إليه بت�ؤدة ،كم هو ب�شع املوت ..وكم هو جميل �أن يختار الإن�سان القدر الذي يريد ..و�سمع �صوته من خالل دقات الر�صا�ص: 47
املدفع
ا�سمع �أريد �أن �أو�صيك و�صية هامة.. وعاد ي�صيخ �إىل املدفع وا�ستخل�ص من �صوت الر�صا�ص ثقةجديدة ليتابع وهو يحاول �أن مي�ضغ �أمله: قرب قرية (�أبو كبري) �أبعد منها قلي ًال ،يوجد م�ست�شفى لل�سل..عرفته؟ح�سن ًا! يل هناك مبلغ جيد من املال ،قالوا يل� ..أن �أرجع لأقب�ضه بعد �أن يفح�صوا الدم� ..أنا مت�أكد �أنه ..دم جيد ..يف كل مرة يقولون �إنهم يريدون �أن يفح�صوا الدم ك�أن دم الإن�سان يتغري يف خالل �أ�سبوع ون�صف ..ا�سمع� ..إن ثمن املدفع مل ي�سدد كله� ..ستجد ا�سم التاجر يف داري ..هو من يافا .لقد دفعت ق�سم ًا كبرياً من ثمنه من تربعاتكم .لقد �أو�شك ثمنه �أن يتم ..هل تعرف �أنهم ي�شرتون الدم مببلغ كبري؟ لو ع�شت �شهرين فقط؟ �شهرين �آخرين ال�ستطعت �أن �أ�سدد كل ثمنه� ..إنني �أعطيهم دم ًا جيداً ..ثمنه جيد ..خذ ح�سن وح�سني واذهب �إىل ذلك امل�ست�شفى.. �أال تريد �أن يبقى املدفع عندكم� ..إن ح�سن وح�سني ..ولداي ..يعرفان كيف يذهبان �إىل هناك ..لقد كانا يذهبان معي يف كل مرة� ..إن دماءنا جميع ًا جيدة ..جيدة جداً ..الق�ضية ق�ضية احلليب الذي ر�ضعناه.. ق�ضية� ..أريد �أن �أقول لك �شيئ ًا �آخر� ..إذا تراجع اليهود هذه املرة ..تكون �آخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية� ..سيخافون ..فعليكم �أن تنقلوا املدفع �إىل ال�شمال ..لأن الهجوم التايل �سيكون من هناك.. وا�شتد �شعوره بالنار تل�سع كفيه بق�سوة ..و�أح�س �إح�سا�س ًا ملح ًا �أنه لو كان يف �صحته العادية ال�ستطاع �أن يقاوم �أح�سن من الآن ،وراوده �شعور قامت بالندم على �أنه �سلك يف �رشاء املدفع ذلك ال�سبيل ،ولكنه �أح�س �إح�سا�س ًا دافق ًا �أن املدفع طرف �آخر من املو�ضوع ،طرف هام� ..أن وجوده يحافظ على �أهميته قبل �أن ميوت هو ،وبعد �أن ميوت.. ف�أغم�ض عينيه ،وحاول جاهداً �أن يحرر نف�سه من �سجن ذاته كي ين�سى �أمله ..لكنه مل ي�ستطع ..ف�أ�سقط ركبته على الأر�ض يف ثقل.. 48
وعلى �صوت الطلقات املتقطعة بانتظام وعنف� ..أح�س �سعيد احلم�ضوين ب�أ�شياء كثرية ..ك�أنها ماليني الإبر تدخل يف �رشايينه فت�سلبه ما تبقى من دمه ،ثم �شعر ب�أطرافه جميعها تنكم�ش ك�أنها ورقة جافة يف نهاية ال�صيف ..وبجهد �رش�س حاول �أن يرفع ر�أ�سه لي�شم احلياة� ،إال �أنه وجد نف�سه فج�أة يف تنور من ذلك النوع الذي يكرث ..يف ال�سلمة ،والذي عا�ش �إىل جواره فرتات طويلة من �صباه ،وجد نف�سه يف ذلك التنور جنب ًا �إىل جنب مع الأرغفة ال�ساخنة حتمر حتت �أل�سنة اللهب ،ور�أى بعينيه فقاقيع العجني امللتهبة ،تطري عن رغيف املرقوق وتلت�صق على �شفتيه ،و�شعر بيد قا�سية ت�شد ر�أ�سه �إىل �أدنى� ..إىل �أدنى.. �إىل �أدنى ..في�سمع لفقرات رقبته �صوت ًا منتظم ًا ثقي ًال وهي تتك�رس حتت ثقل ر�أ�سه ..و�أح�س �أنه فع ًال ال يريد �أن ميوت ،و�أعطته الفكرة دفقة �أخرى من احلياة ..فاكت�شف �أن �صوت تك�رس فقرات رقبته هو �صوت الر�صا�ص الذي ينطلق من املدفع الر�شا�ش ،و�شعر مبوا�ساة من نوع غريب ،موا�ساة ت�شبه تلك التي يراها الوالد يف ولد عا�ش بعد م�رصع �أخيه ،فابت�سم باطمئنان ،وخرج من(التنور) ،لكنه �شعر �أنه مل يلم�س الأر�ض بقدميه.. و�شيعته القرية كلها �إىل مقره الأخري� ..أو الأول� ..سيان.. دم�شق 57/8/12
49
قرار موجز
4 -4قرار موجز كان من هواة الفل�سفة..واحلياة بالن�سبة له هي جمرد نظرية ..لقد بد�أ يتفل�سف منذ كان طف ًال ،ويذكر متام ًا كيف �أوجد لنف�سه �س�ؤا ًال �شغله طيلة �أ�سبوع كامل ،واعتربه م�شكلة جديرة بالتفكري العميق :ملاذا يلب�س الإن�سان القبعة يف ر�أ�سه واحلذاء يف قدمه ؟ ملاذا ال ي�ضع على ر�أ�سه حذاء ويلب�س قبعة يف قدمه؟.ملاذا؟ .وفكر مرة �أخرى ب�س�ؤال جديد :ملاذا ال ي�سري الإن�سان على يديه ورجليه �ش�أن �سائر احليوانات.. �أال يكون م�سريه ذاك مدعاة لراحة �أكرث؟ وتو�صل �إال �أن م�ستوى فل�سفته ارتفع مع م�سري الزمن .وتو�صل َّ م�ؤخراً �إىل قرار موجز« :طاملا �أن الإن�سان ُد ِفع ليعي�ش دون �أن ي�ؤخذ ر�أيه بذلك ،فلماذا ال يختار هو وحده نهايته؟» .ومن هذا القرار املوجز تو�صل �إىل قرار �أكرث �إيجازاً« :املوت هو خال�صة احلياة». ّ وهكذا ،تو�صل �إىل ا�ستقرار دعاه بنهاية املطاف ..و�أخذ ينتظر 50
اللحظة التي ي�ستطيع فيها �أن ي�رشع باختيار طريقة م�رشفة مليتة ما.. �إذن ،ف�إن من يدعي �أن عبد اجلبار ُد ِفع دفع ًا لي�شرتك يف ثورة ..ال يعرف احلقيقة مطلق ًا ..فهو قد اختار بنف�سه �أن يذهب ملركز التطوع و�أن يقف �أمام طاولة ال�ضابط الذي يقول ب�صوت ثابت: �أريد بارودة لأ�ستطيع �أن �أ�شرتك بالثورة..و�رسعان ما اكت�شف �أن ق�ضية البارودة لي�ست �سهلة باملرة..و�أن عليه هو �أن ي�صطاد بارودة ما بالكيفية التي يريد ..ومن ثم ي�ستطيع �أن ي�شرتك بالثورة.. ولكنني قد �أموت قبل �أن �أح�صل على بارودة..هكذا قال خانق ًا،ولكنه ما لبث �أن �سكت وهو ي�سمع جواب ًا غريب ًا ،ولكنه �صحيح تقريب ًا: وهل �أتيت �إىل هنا كي ت�ستمتع ب�صيفية لطيفة ..ثم لتعود �إىلدارك ؟ هنا ،فكر �أن فل�سفته تقت�ضي تعدي ًال طفيف ًا� ..إذ �أنه رمبا مات قبل �أن يح�صل على بارودة ،ومل تنق�ض فرتة طويلة جداً كي يتو�صل لقرار موجز جديد« :لي�س املهم �أن ميوت الإن�سان� ،أن يحقق فكرته النبيلة.. بل املهم �أن يجد لنف�سه فكرة نبيلة قبل �أن ميوت».. وهكذا ا�ستطاع عبد اجلبار �أن ي�ستح�صل على بارودة جديدة تقريب ًا، أعد ،اذ �أنه كان ومل تكلِّفه جهداً بال�شكل الذي ت�صور �أو بال�شكل الذي � ّ ّ يتجول خارج « »....بعد معركة حدثت يف ال�صباح ،فوجد جندي ًا ميت ًا «وامليت ال يحتاج لبارودة» ،هكذا قال لنف�سه وهو يقلب اجلثة عن بارودة فرن�سية ذات فوهة مدببة. وبني رفاق املرتا�س عرف عبد اجلبار بـ«الفيل�سوف» ،وجد املنا�ضلون يف فل�سفته منطق ًا �صاحل ًا لتربير الأمور التي حتدث ..كان ي�رسه �أنه يكربهم قلي ًال و�أنه ي�ستطيع معظم الثوار من ال�شباب ،وكان ّ در�سهم قراره املوجز اجلديد ب�ش�أن املوت. �أن يجمعهم بعد كل معركة ُ لي ِّ 51
قرار موجز
وبعد كل قتيل ،كانت الفل�سفة تتطور وتتغري ..ففي ليلة مظلمة مات فالح �أمي ..وقبل �أن ي�سقط فوق الرتا�س �شتم « ».....ورجال « ..».....وفكر عبد اجلبار بكلمة ت�صلح لت�أبني ال�شهيد ،ف�إذا بالكلمة ت�صبح قراره املوجز اجلديد �«:إن الفكرة النبيلة ال حتتاج غالب ًا للفهم ..بل حتتاج للإح�سا�س!» وبعد ليلة واحدة مات �شاب كان قد خرج من املرتا�س وهجم بال�سكني على جندي كان يزحف قرب اجلدار ،و�أطلقت النار عليه وهو يف طريق عودته �إىل املرتا�س ..وقال عبداجلبار «�إن ال�شجاعة هي مقيا�س الإخال�ص »..وكان عبداجلبار بالذات �شجاع ًا ..فلقد طلب منه ال�ضابط ،وكان قد تو�صل �أخرياً �إىل �إيجاد بذلة ع�سكرية مالئمة� ،أن يذهب للميناء كي يرى ماذا يجري هناك ،وقال له �إن منظر وجهه الهادئ احلزين ال يثري الريبة يف قلوب اخلائفني.. و�سار عبداجلبار يف ال�شوارع بال �سالح ،وو�صل للميناء وجتول ما التجول ،ثم قفل عائداً �إىل مرتا�سه.. �شاء له ُّ �إن الأمور جتري عك�س ما يفرت�ض املرء ..فلقد عرفه واحد ممن ا�شرتكوا مرة يف الهجوم ..وقب�ض عليه ..و�ساقه �إىل حيث قال له �ضابط خائف بعد �أن �صفعه: �إنك ثائر... نعم... ملعون.. كال!ومل ين�س عبد اجلبار وهو حتت ال�رضب الذي ال يرحم �أن ي�ضع قراراً موجزاً جديداً �« :إن �رضب ال�سجني هو تعبري مغرور عن اخلوف»... و�شعر �إثر ذلك القرار ،ب�شيء من االرتياح..
�أخرياً �إىل فكرة اعتربها ،بينه وبني �أعوانه املخل�صني فكرة ذكية ..بينما عدها عبداجلبار ت�رصف ًا مغروراً �آخر ينتج يف العادة عن اخلوف... َّ قال له ال�ضابط: �ست�سري �أمامنا �إىل مرتا�سكم امللعون ...و�ستعلن لرفاقك املجانني�أنك �أح�رضت معك عدداً جديداً من الثوار ..ثم �سيكمل جنودي بقية الق�صة... و�أنا؟مكرم ًا� ..أو �ستموت كالكلب �إن حاولت خيانتنا.. �ستعي�ش مع َّززاً َّحد ذاتها ميتة وقال عبد اجلبار يف ذات نف�سه «�إن اخليانة يف ّ حقرية». و�أمام �صفني من اجلنود �سار عبداجلبار مرفوع اجلبني ،وفوهة مدفع ر�شا�ش تنخر خا�رصته ..وقبل �أن ي�صل �إىل املرتا�س بقليل �سمع يفح يف الظالم: �صوت ال�ضابط املبحوح ّ هيا..مل يكن عبد اجلبار خائف ًا �إذ �إن رفاق الرتا�س قالوا �إن �صوته كان ثابت ًا قوي ًا عندما �سمعوه ي�صيح : ..لقد �أح�رضت لكم خم�سني جنديا.*** مل يكن عبداجلبار قد مات ،بعد ،عندما و�صل رفاقه اليه ملقى بني جمة �سمع �أحدهم �صوته ميلي قراره املوجز جثث اجلنود ..وب�صعوبة ّ الأخري: «لي�س املهم �أن ميوت �أحدنا ..املهم �أن ت�ستمروا».. ثم مات.
ولكن الأمور جرت ،من ثم ،على نحو مغاير.فلقد تو�صل ال�ضابط
دم�شق 1958/7/21
52
53
ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم
.55ال�صغري يذهب �إىل املخيم كان ذلك زمن احلرب .احلرب؟ كال ،اال�شتباك ذاته ..االلتحام املتوا�صل بالعدو لأنه �أثناء احلرب قد تهب ن�سمة �سالم يلتقط فيها املقاتل �أنفا�سه. راحة .هدنة� .إجازة تقهقر� .أما يف اال�شتباك ف�إنه دائم ًا على بعد طلقة. متر ب�أعجوبة بني طلقتني ،وهذا ما كان ،كما قلت لك ،زمن �أنت دائم ًا ّ اال�شتباك امل�ستمر. يحب كنت �أ�سكن مع �سبعة �أخوة كلهم ذكور �شديدو املرا�س ،و�أب ال ّ زوجته رمبا لأنها �أجنبت له زمن اال�شتباك ثمانية �أطفال .وكانت عمتنا وجدنا العجوز الذي كان وزوجها و�أوالدها اخلم�سة ي�سكنون معنا �أي�ض ًاّ ، �إذا ما عرث على خم�سة قرو�ش على الطاولة �أو يف جيب �أحد ال�رساويل الكثرية املع ّلقة م�ضى دون تردد وا�شرتى جريدة ،ومل يكن يعرف ،كما تعلم ،القراءة ،وهكذا كان م�ضطراً لالعرتاف دائم ًا مبا اقرتف كي يقر�أ �أحدنا على م�سمعه الثقيلني �آخر الأخبار. 54
يف ذلك الزمن – دعني �أو ًال �أقل لك �إنه مل يكن زمن ا�شتباك باملعنى يخيل �إليك ،ك ّال مل تكن ثمة حرب حقيقية .مل تكن ثمة �أي حرب على الذي ّ الإطالق .كل ما يف الأمر �أننا كنا ثمانية ع�رش �شخ�ص ًا يف بيت واحد من جميع الأجيال التي ميكن �أن تتو ّفر يف وقت واحد .مل يكن �أي واحد م ّنا قد همنا جنح بعد يف احل�صول على عمل ،وكان اجلوع -الذي ت�سمع عنه َّ - اليومي .ذلك �أ�سميه زمن اال�شتباك� .أنت تعلم .ال فرق على الإطالق. كنا نقاتل من �أجل الأكل ،ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا ،ثم نتقاتل جدي جريدته املطوية باعتناء بعد ذلك .ثم يف �أية حلظة �سكون ُيخرج ّ من بني مالب�سه ناظراً �إىل اجلميع بعينيه ال�صغريتني املتح ّفزتني، معنى ذلك �أن خم�سة قرو�ش قد �رسقت من جيب ما � -إذا كان فيه هناك متم�سك ًا جدي خم�سة قرو�ش � -أو من مكان ما .و�أن �شجاراً �سيقع .ويظل ّ ّ يت�صدى للأ�صوات ب�سكون ال�شيخ الذي عا�ش وقت ًا كافي ًا باجلريدة وهو ّ وال�شجار دون �أن يرى فيها ما ي�ستحق لال�ستماع �إىل كل هذا ال�ضجيج ّ اجلواب �أو االهتمام ..وحني تهد�أ الأ�صوات مييل �أقرب ال�صبيان �إليه (ذلك �أنه مل يكن يثق بالبنات) ويدفع له ال�صحيفة وهو مي�سك طرفها ،كي ال تخطف. وكنت مع ع�صام يف العا�رشة – كان �أ�ضخم مني قلي ًال كما هو الآن.. وكان يعترب نف�سه زعيم �إخوته �أبناء عمتي -كما كنت �أعترب نف�سي زعيم عمتي �أن يجدا لنا �إخوتي ..وبعد حماوالت عديدة ا�ستطاع والدي وزوج ّ مهنة يومية :نحمل ال�سلة الكبرية مع ًا ون�سري حوايل �ساعة وربع ،حتى ن�صل �إىل �سوق اخل�ضار بعد الع�رص بقليل .يف ذلك الوقت �أنت ال تعرف كيف يكون �سوق اخل�ضار :تكون الدكاكني قد بد�أت ب�إغالق �أبوابها و�آخر ال�شاحنات التي تعرب مبا تب ّقى ،ت�ستعد ملغادرة ذلك ال�شارع املزحوم. هينة و�صعبة يف �آن واحد .فقد كان وكانت مهمتنا -ع�صام و�أنا ّ - يتعينّ علينا �أن جند ما نعبئ به �س َّلتنا� :أمام الدكاكني .وراء ال�سيارات. 55
ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم
املعني يف قيلولة �أو داخل حانوته. وفوق املفار�ش �أي�ض ًا �إذا كان ّ مير املقاتل �أقول لك �إنه كان زمن اال�شتباك� :أنت ال تعرف كيف ّ بني طلقتني طوال نهاره .كان ع�صام يندفع كال�سهم ليخطف ر�أ�س ملفوف مم ّزق �أو حزمة ب�صل ،ورمبا تفاحة من بني عجالت ال�شاحنة أت�صدى لل�شياطني � -أي بقية وهي تت� ّأهب للتحرك .وكنت �أنا بدوري � ّ ّ الأطفال� -إذا ما حاولوا تناول برتقالة �شاهدتها يف الوحل قبلهم .وكنا نعمل طوال الع�رص :نت�شاجر ع�صام و�أنا من جهة ،مع بقية الأطفال �أو �أ�صحاب الدكاكني �أو ال�سائقني �أو رجال ال�رشطة �أحيان ًا ،ثم �أت�شاجر مع ع�صام فيما تب ّقى من الوقت. كان ذلك زمن اال�شتباك� .أقول هذا لأنك ال تعرف� :إن العامل وقتئذ يق ّل على ر�أ�سه ،ال �أحد يطالبه بالف�ضيلة� .سيبدو م�ضحك ًا من يفعل� ..أن تعي�ش كيفما كان وب�أية و�سيلة هو انت�صار مرموق للف�ضيلة .ح�سن ًا .حني ميوت املرء متوت الف�ضيلة �أي�ض ًا� .ألي�س كذلك؟ �إذن دعنا نتفق ب�أنه يف زمن اال�شتباك يكون من مهمتك �أن حتقق الف�ضيلة الأوىل� ،أي �أن حتتفظ حي ًا .وفيما عدا ذلك ي�أتي ثاني ًا .ولأنك يف ا�شتباك م�ستمر ف�إنه ال بنف�سك ّ يوجد ثاني ًا� :أنت دائم ًا ال تنتهي من �أو ًال. وكان يتعينّ علينا �أن نحمل ال�س ّلة مع ًا حني متتلئ ومن�ضي عائدين �إىل البيت :ذلك كان طعامنا جميع ًا لليوم التايل ..بالطبع كنا �أنا وع�صام متفقني على �أن ن�أكل �أجود ما يف ال�س ّلة على الطريق .ذلك اتفاق مل نناق�شه �أبداً ،مل نعلن عنه �أبداً .ولكنه كان يحدث وحده .ذلك �أننا كنا مع ًا يف زمن اال�شتباك. وكان ال�شتاء �شديد الق�سوة ذلك العام امللعون ،وك ّنا نحمل �س ّلة ثقيلة حق ًا( ،هذا �شيء ال �أن�ساه ،ك�أنك وقعت �أثناء املعركة يف خندق ف�إذا به يحوي �رسيراً) وكنت �آكل تفاحة ،فقد ك ّنا خرجنا من بوابة ال�سوق و�رسنا يف ال�شارع الرئي�سي .قطعنا ما يقرب من م�سري ع�رش دقائق بني النا�س 56
وال�سيارات واحلافالت وواجهات الدكاكني دون �أن نتبادل كلمة (لأن ال�سلة كانت ثقيلة حق ًا وكنا نحن -االثنني -من�رصفني متام ًا �إىل الأكل) وفج�أة.. ال .هذا �شيء ال يو�صف .ال ميكن و�صفه :ك�أنك على ن�صل �سكني من عدوك و�أنت دون �سالح و�إذا بك يف اللحظة ذاتها جتل�س يف ح�ضن �أمك.. دعني �أقل لك ما حدث :ك ّنا نحمل ال�س ّلة كما قلت لك ،وكان �رشطي يقف يف منت�صف الطريق ،وكان ال�شارع مبت ًال ،وكنا تقريب ًا دون �أحذية. رمبا كنت �أنظر �إىل حذاء ال�رشطي الثقيل وال�سميك حني �شهدتها فج�أة هناك ،كان طرفها حتت حذائه� ،أي كنت بعيداً حوايل �ستة �أمتار ولكنني عرفت ،رمبا من لونها �أنها �أكرث من لرية واحدة. طيب� .أنا ال نحن يف مثل هذه احلاالت ال نف ّكرّ . يتحدثون عن الغريزةّ . �أعرف ما �إذا كان لون الأوراق املالية �شيئ ًا له عالقة بالغريزة .له عالقة بتلك القوة الوح�شية ،املجرمة ،القادرة على اخلنق يف حلظة ،املوجودة يف �أعماق كل منا .ولكن ما �أعرفه هو �أن املرء يف زمن اال�شتباك ال ينبغي له �أن يف ّكر حني يرى ورقة مالية حتت حذاء ال�رشطي وهو يحمل �سلة من اخل�ضار الفا�سد على بعد �ستة �أمتار .وهذا ما فعلته� :ألقيت ببقايا التفاحة وتركت ال�سلة يف اللحظة ذاتها .وال �شك �أن ع�صام متايل فج�أة حتت ثقل ال�سلة التي تركت يف يده ولكن كان قد �شاهدها بعدي بلحظة واحدة� .إ ّال �أنني بالطبع كنت قد اندفعت حتت وط�أة تلك القوة املجهولة التي جترب وحيد القرون على هجوم �أعمى ،غايته �آخر الأر�ض ،ونطحت �ساقي ال�رشطي بكتفي فرتاجع مذعوراً .وكان توازين �أنا الآخر قد اخت ّل .ولكنني مل �أقع على الأر�ض -ويف تلك اللحظة التي يح�سب فيها الأغبياء �أن ال�شيء ميكن له �أن يحدث � -شاهدتها :كانت خم�س لريات .مل �أ�شاهدها فح�سب بل التقطتها وا�ستكملت �سقوطي� .إ ّال �أنني وقفت ب�أ�رسع مما �سقطت وبد�أت �أرك�ض ب�أ�رسع مما وقفت. 57
ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم
وم�ضى العامل ب�أجمعه يرك�ض ورائي� :ص ّفارة ال�رشطي ،و�صوت حذائه يقرع بالط ال�شارع ورائي متام ًا� .رصاخ ع�صام� ،أجرا�س احلافالت. نداء النا�س ..هل كانوا حق ًا ورائي؟ لي�س بو�سعك �أن تقول ولي�س بو�سعي �أي�ض ًا .لقد عدوت مت�أكداً حتى �صميمي �أن ال �أحد يف كل الكواكب ال�سيارة ي�ستطيع �أن مي�سكني ..وبعقل طفل الع�رش �سنوات �سلكت طريق ًا �آخر. �سيدل ال�رشطي على طريقي .ل�ست �أدري. رمبا لأنني ح�سبت �أن ع�صام ّ مل �ألتفت .كنت �أرك�ض وال �أذكر �أنني تعبت ..كنت جندي ًا هرب من ميدان حرب �أجرب على خو�ضها ولي�س �أمامه �إ ّال �أن يظل يعدو والعامل وراء كعبي حذائه. َ وو�صلت �إىل البيت بعد الغروب ،وحني فتح يل الباب �شهدت ما كنت �أ�شعر يف �أعماقي �أنني �س�أ�شهده :كان ال�سبعة ع�رش خملوق ًا يف البيت در�سوين ب�رسعة ،ولكن بدقة ،حني وقفت يف حلق ينتظرونني .وقد ّ الباب �أبادلهم النظر:كفي مطبقة على اخلم�س لريات يف جيبي ،وقدماي ثابتتان يف الأر�ض. كان ع�صام يقف بني �أمه و�أبيه ،وكان غا�ضب ًا .ال �شك �أن �شجاراً قد وقع بني العائلتني قبل مقدمي .وا�ستنجدت بجدي الذي كان جال�س ًا يف يل ب�إعجاب :رج ًال كان الركن ملتحف ًا بعباءته البنية النظيفة ينظر �إ ّ حكيم ًا كان .رج ًال حقيقي ًا يعرف كيف ينبغي له �أن ينظر �إىل الدنيا. وكان كل ما يريده من اخلم�س لريات :جريدة كبرية هذه املرة. وانتظرت ال�شجار بفارغ ال�صرب .كان ع�صام بالطبع قد كذب :قال لهم �إنه هو الذي وجد اخلم�س لريات و�أنني �أخذتها منه بالقوة .لي�س ذلك فقط ،بل �أجربته على حمل ال�سلة الثقيلة وحده طوال امل�سافة املنهكة: �أمل �أقل لك �إنه زمن اال�شتباك؟ مل يكن �أي واحد منا مهتم ًا فقط بل كان مت�أكداً من �أن �أحداً مل يهتم باحلقيقة .لي�س ذلك فقط بل �إنه ارت�ضى �أن يذل نف�سه ويعلن رمبا للمرة الأوىل �أنني �رضبته و�أنني �أقوى منه ..ولكن ّ 58
ما قيمة ذلك كله �أمام امل�س�ألة احلقيقية الأوىل. كان �أبوه يف ّكر ب�شيء �آخر متام ًا :كان م�ستعداً لقبول ن�صف املبلغ وكان �أبي يريد الن�صف الآخر لأنني لو جنحت يف االحتفاظ باملبلغ كله ل�صار من حقي وحدي� ،أما �إذا تخ ّليت عن هذا احلق ف�أفقد كل �شيء و�سيتقا�سمون املبلغ. ولكنهم مل يكونوا يعرفون حق ًا معنى �أن يكون الطفل مم�سك ًا بخم�س لريات يف جيبه زمن اال�شتباك ..وقد قلت لهم جميع ًا بلهجة حملت لأول مرة يف حياتي طابع التهديد برتك البيت و�إىل الأبد� :إن اخلم�س لريات يل وحدي. جن جنونهم� ،ضاع رابط الدم فوقفوا جميع ًا و�أنت تعرف ال �شكّ : �ضدي .لقد �أنذروين �أو ًال .ولكنني كنت م�ستعداً ملا هو �أكرث من ذلك ثم بد�أوا ي�رضبونني .وكان بو�سعي بالطبع �أن �أدافع عن نف�سي ،ولكن لأنني �أردت �أن �أحتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على اخلم�س لريات فقد كان جدي على تفرج ّ من الع�سري حق ًا �أن �أجتنب ال�رضبات املحكمة .وقد ّ املعركة با�ستثناء بادئ الأمر ،ثم ملا بد�أت املعركة تفقد طرافتها قام فوقف �أمامهم ،وبذلك ي�سرَّ يل �أن �ألت�صق به .اقرتح ت�سوية .قال �إن الكبار ال حق لهم باملبلغ .ولكن من واجبي �أن �آخذ كل �أطفال البيت ذات يوم �صحو �إىل حيث ن�رصف جميع ًا مبلغ اخلم�س لريات كما ن�شاء. تقدمت �إىل الأمام معتزم ًا الرف�ض� ،إ ّال �أنني يف اللحظة ذاتها عندها ّ �شهدت يف عينيه ما �أم�سكني .مل �أفهم بال�ضبط �آنذاك ما كان يف عينيه، ولكنني �شعرت فقط �أنه كان يكذب و�أنه كان يرجوين �أن �أ�صمت. �أنت تعرف �أن طفل الع�رش �سنوات – زمن اال�شتباك – ال ي�ستطيع �أن جدي. يفهم الأمور (�إذا كان ثمة حاجة لفهمها) كما ي�ستطيع عجوز مثل ّ ولكن هذا هو ما ح�صل .كان يريد جريدته رمبا كل يوم ملدة �أ�سبوع – وكان يهمه �أن ير�ضيني ب�أي ثمن. 59
ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم
وهكذا اتفقنا ذلك امل�ساء .ولكنني كنت �أعرف �أن مهمتي مل تنته. علي �أن فعلي �أن �أحمي اللريات اخلم�س كل حلظات الليل والنهار .ثم ّ ّ وعلي �أي�ض ًا �أن �أواجه حماوالت �إقناع وتغرير لن أطفال. ل ا بقية أماطل � ّ تكف عنها �أمي .قالت يل ذلك امل�ساء �أن اللريات اخلم�س ت�شرتي رطلني من اللحم� ،أو قمي�ص ًا جديداً يل� ،أو دواء حني تقت�ضي احلاجة� ،أو كتاب ًا �إذا ما ف ّكروا ب�إر�سايل �إىل مدر�سة جمانية يف ال�صيف القادم ...ولكن ما نفع الكالم؟ ك�أنها كانت تطلب مني و�أنا �أعرب بني طلقتني �أن �أنظف حذائي. ومل �أكن �أعرف بال�ضبط ماذا كنت �أنوي �أن �أفعل .ولكنني طوال الأ�سبوع الذي جاء بعد ذلك جنحت يف مماطلة الأطفال ،ب�آالف من الكذبات التي كانوا يعرفون �أنها كذلك ولكنهم مل يقولوا �إطالق ًا �أنها �أكاذيب .مل تكن الف�ضيلة هنا� .أنت تعلم .كانت م�س�ألة �أخرى تدور حول الف�ضيلة الوحيدة �آنذاك :اخلم�س لريات. جدي كان يفهم الأمور ،وكان يريد جريدته ثمن ًا معاد ًال لدوره ولكن ّ يف الق�صة ،وحني م�ضى الأ�سبوع بد�أ يتململ .لقد �شعر (من امل�ؤكد �أنه �شعر ،ذلك لأن رج ًال عجوزاً مثله ال ميكن �أن تفوته تلك احلقيقة) �أنني لن �أ�شرتي له اجلريدة ،و�أنه فقد فر�صته ،ولكنه مل يكن ميتلك �أية و�سيلة ال�سرتدادها. مرت ع�رشة �أيام �أخرى اعتقد اجلميع �أنني �رصفت اللريات وحني ّ جدي اخلم�س ،و�أن يدي يف جيبي تقب�ض على فراغ .على خديعة .ولكن ّ كان يعرف �أن اللريات اخلم�س ما تزال يف جيبي .ويف الواقع قام ذات ليلة مبحاولة ل�سحبها من جيبي و�أنا م�ستغرق يف النوم( ،كنت �أنام مبالب�سي) �إ ّال �أنني �صحوت فرتاجع �إىل فرا�شه ونام دومنا كلمة. جدي حزين ًا لأنه مل يح�صل على قلت لك� .إنه زمن اال�شتباك .كان ّ جريدة ،ولي�س لأنني نكثت بوعد مل ُي َّت َفق عليه .كان يفهم زمن اال�شتباك، ولذلك مل يلمني طوال ال�سنتني اللتني عا�شهما بعد ذلك على ما فعلته. 60
وقد ن�سي ع�صام الق�صة �أي�ض ًا .كان يف �أعماقه – كطفل �صعب املرا�س- يفهم متام ًا ما حدث .وا�صلنا رحالتنا اليومية �إىل �سوق اخل�ضار ،كنا نت�شاجر �أقل من �أي وقت م�ضى ونتحادث قلي ًال .يبدو �أن �شيئ ًا ما – جداراً جمهو ًال ارتفع فج�أة بينه – هو الذي ما زال يف اال�شتباك – و�أنا الذي تن ّف�ست – لي�س يدري كم – هواء �آخر. و�أذكر �أنني احتفظت باخلم�س لريات يف جيبي طوال اخلم�سة �أ�سابيع: عد خروج ًا الئق ًا لها يف زمن اال�شتباك� .إ ّال �أن كل �شيء حني يقرتب كنت �أُ ّ من التنفيذ كان يبدو وك�أنه ج�رس للعودة �إىل زمن اال�شتباك ولي�س للخروج منه. كيف ت�ستطيع �أن تفهم ذلك؟ كان بقاء اللريات اخلم�س معي �شيئ ًا يفوق ا�ستعمالها .كانت تبدو يف جيبي وك�أنها مفتاح �أمتلكه يف راحتي و�أ�ستطيع يف �أية حلظة �أن �أفتح باب اخلروج و�أم�ضي .ولكن حني كنت أ�شم وراء الباب زمن ا�شتباك �آخر� .أبعد مدى .ك�أنه �أقرتب من القفل كنت � ّ عودة �إىل بداية الطريق من جديد. وما بقي لي�س مهم ًا :ذات يوم م�ضيت مع ع�صام �إىل ال�سوق وقد تتحرك اندفعت لأخطف حزمة من ال�سلق كانت �أمام عجالت �شاحنة ّ ببطء .ويف اللحظة الأخرية زلقت و�سقطت حتت ال�شاحنة .كان حظي جيداً فلم متر العجالت فوق �ساقي� ،إمنا تو ّقفت بال�ضبط بعد مالم�ستها. وعلى �أية حال �صحوت من �إغمائي يف امل�ست�شفى .وكان �أول ما فعلته – تخمن – �أن تف ّقدت اخلم�س لريات� .إ ّال �أنها مل تكن هناك. ما ال �شك ّ �أعتقد �أن ع�صام هو الذي �أخذها حني حملوه معي يف ال�سيارة �إىل امل�ست�شفى .ولكنه مل يقل و�أنا مل �أ�س�أل .كنا نتبادل النظر فقط ونفهم. ال ،مل �أكن غا�ضب ًا لأنه كان ملهي ًا و�أنا �أنزف دمي ب�أخذ اللريات اخلم�س. كنت حزين ًا فقط لأنني فقدتها. و�أنت لن تفهم .ذلك كان يف زمن اال�شتباك. 61
غسان
الشخص والنص
دراج درا�سة :د.في�صل ّ 62
63
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
توليد جن�س جديد من الب�رشُ .تخت�رص حياة غ�سان ،رمبا ،يف جملة غا�ضبة وردت يف م�رسحيته« :الباب» تقول :ي�ستطيع الإن�سان الذي فاته اختيار ميالده �أن يختار موته .ولهذا انتهى مم ّزق الأو�صال ،بعد �أن �شطرته قنبلة موقوته �إىل ن�صفني 8يوليو/متوز .1972
� -1إن�سان حمل ذاكرة جريحة
�شهوة احلياة ومنازلة املوت كان يف حياته غربة مثرية :ولد غ�سان كنفاين يف حيفا � 9إبريل/ ني�سان عام ،1936خالل الثورة الفل�سطينية الكربى ،واغتاله الإ�رسائيليون بعد �ستة وثالثني عام ًا ،حني كان الفل�سطينيون يحاولون ثورة جديدة ،وخ ّلف وراءه كتابة متعددة الأجنا�س ،ب�شرّ ت بالثورة، ومايزت بني ب�رش حقيقيني و�آخرين �سمتهم العقم والبالدة .وكان يف حياته الق�صرية املديدة متعدداً :احرتف ال�صحافة وعالج الأدب، وغدا قائداً �سيا�سي ًا ،واقرتب من «العمليات الع�سكرية» ،احلاملة بوطن م�ستعاد. جعل هذا من حياته مر�آة مل�سار �شعبه ،ومن كتاباته �شهادة على والتمرد واملقاومة .غ�سان من ه�ؤالء احلاملني، معنى املنفى واللجوء، ّ الذين يعملون على تق�صري امل�سافة بني الفعل والكلمة ،ويتطلعون �إىل
64
عمان ،وعلى �رشفة ك�أنها نافذة و�سجن مع ًا ،ويف ذات م�ساء يف ّ �صحبة ال�صديق املبدع مريد الربغوثي� ،س�ألنا الراحل د� .إح�سان عبا�س، الذي عرف غ�سان طوي ًال :ماذا تذكر من هذا الإن�سان الذي غادر قبل الأوان؟ قال� :أذكر ف�ضوله �إىل ما ال يعرف ،وقلقه الذي ال ميكن حجبه، وتوزعه على �أكرث من مكان ووظيفة ،و�سعيه املرهق �إىل «مت ّلك اللحظة»، والت�رصف ال�سديد بالوقت .كان يف حديث عبا�س �شيء من تلك البهجة، ّ التي حت�رض عند ا�ستدعاء ذكرى �إن�سان عزيز ال ي�شبه غريه. تابع د� .إح�سان :جاءين ،ذات يوم ،و�أعطاين خمطوطة «رجال يف ال�شم�س» ،وانتظر ر�أيي .جاءين الهث ًا ،بعد يومني ،وكان يف جوابي بع�ض الت�سا�ؤل .قال غ�سان مبا�رشة :الر�سالة مل ت�صل .وعاد بعد يومني و�أعطاين املخطوطة من جديد ،وكان يف جوابي ر�ضا �رصيح ،قال عندئذ: الر�سالة و�صلت ،و�س�أل قبل �أن يخرج :ما الذي ا�ستوقفك يف الر�سالة؟ قلت� :شخ�صية �أبي اخليزران� ،ضحك وقال� :إنه ال يزال بيننا .غري �أن ما ا�ستوقف الناقد الراحل كانت كلمة «الر�سالة» ،التي ا�ستعا�ض بها غ�سان عن كلمة :الرواية ،كما لو كان ي�ؤدي واجب ًا ،ويريد �أن ي�ؤديه كام ًال بال نق�صان.
65
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
�س�ألنا الناقد الراحل :من �أين جاء بفكرة الرواية؟ قال� :سمع عن حكاية ت�شبهها ،مو�ضوعها تهريب «الالجئني» الباحثني عن عمل �إىل الكويت .لكن غ�سان �أ�ضاف �إىل احلكاية غ�ضبه ال�شديد :كان يف كلمة الالجئ ما يجرح كرامته ،وكان يف �أحوال املخيمات ما ي�ستفز روحه، يتحدثون عن «الالجئني» وين�سون وكان غا�ضب ًا على ه�ؤالء العرب الذين ّ الق�ضية الفل�سطينية. �س�ألناه ،وهو يت�أمل ال�رشفة ال�سجن ،ماذا يتبقى من غ�سان بعد كل هذه ال�سنني؟ �أجاب :قلقه الأدبي ،الباحث عن �شكل «يقول كل �شيء ردد �أمامي دفعة واحدة ،وير�سم الواقع من دون زيادة �أو نق�صان» ،كما ّ ميز �أكرث من مرة .وا�ستدرك الناقد الكبري وقال بجدية عالية� :أهم ما ّ ّ غ�سان هو املثقف الذي كان فيه ،مل يكن ي�ساوم ومل يعرف �أن�صاف احللول ،وكان يعمل على حذف امل�سافة بني القول واملعي�ش ،حماو ًال �أن يرم يعي�ش خارج الكتابة ما قاله داخلها .كان يف ات�ساقه الأخالقي مّ «فل�سطينيته املتهمة» ،ويرد على ه�ؤالء الذين اتهموا الفل�سطينيني ببيع �أر�ضهم والتط ّفل على موائد الآخرين. يف مطلع ت�سعينيات القرن املا�ضي ،ويف مكتب جملة «الهدف» ، قال يل الراحل «�أبو ماهر اليماين» ،النقابي الفل�سطيني القدمي ورفيق غ�سان يف اجلبهة ال�شعبية« :كان غ�سان يرى يف اللجوء كابو�س ًا ،ينظر �إىل امل�ستقبل ويحن �إىل فل�سطني الثالثينيات ،التي �شهدت ثورة عظيمة مغدورة» .كان يف عالقة غ�سان بفل�سطينه ال�ضائعة بعد �صويف ،عبرّ عنه يف روايته «العا�شق» ،وكان يف عالقته مبنفاه �رصاخ له طعم الفجيعة. ولهذا كان يكره الهدوء والطم�أنينة ،ويرى يف الفل�سطينيني امل�ستكينني خملوقات بذيئة .كان ،يف احلالني ،يعبرّ عما عا�شه ور�آه واختربه ،و�أيقظ 66
يف روحه غ�ضب ًا حارق ًا. يتذكر الراحل اجلميل ح�سني الربغوثي يف كتابه البديع« :ال�ضوء مر ببريوت ،و�س�أل يف مكان ما عن �أحد �أقربائه ،جاءه الأزرق»� ،أنه ّ اجلواب« :يف هذه البناية يف واحد فل�سطيني» .مل يكن الفل�سطيني فل�سطينيته �إن�سان ًا نكرة، املجهول اال�سم �إ ّال غ�سان كنفاين ،الذي �صيرّ ته ّ ال ا�سم له ،وال يحق له �أن ميتلك ا�سم ًا ،كبقية الب�رش .رمبا ما عا�شه غ�سان هو الذي جعله «ي�ستعجل» العودة �إىل الوطن ،وخلق منه �إن�سان ًا ،ي�أخذ نف�سه بال�شدة ،ال يعبث بالوقت ويكره الت�أين والت�سويف ،كما لو كان اللجوء �صياداً والالجئ طريدة. كان ي�أتي �إىل مركز الأبحاث ،يف بريوت ،يف متام الثامنة �صباح ًا، وا�ضح الأناقة كموظف من موظفي البنوك� ،رسيع اخلطوة مندفع ًا �إىل الأمام ،وعلى وجهه رذاذ من الراحة والر�ضا .كان هذا هو الراحل د� .أني�س �صايغ ،مدير املركز ،الذي عرف غ�سان طوي ًال ،وطلب مني ،ذات مرة، درا�سة عن غ�سان ،حني عملت باحث ًا متفرغ ًا ملدة عامني تقريب ًا .حني بد�أ الكالم قال :جمعت بيني وبني غ�سان �أ�سباب كثرية� ،أولها و�أكرثها عدوك» ،الذي �أواله املركز اهتمام ًا خا�ص ًا .كان �أهمية �شعار« :اعرف ّ غ�سان مهجو�س ًا مبعرفة كل ما له عالقة بالعدو ال�صهيوين ،بل �إنه قر�أ تاريخ فل�سطني احلديث من وجهة نظر الدمار الذي �أحلقه ال�صهيونيون به. قال له د� .أني�س مرة :ما زلت �أنتظر �إ�سهامك يف جمال «اعرف عدوك». مل تت�أخر الإجابة طوي ًال ،عاد �إليه بعد �أ�سابيع قليلة و�أعطاه كتابه الرائد «عن الأدب ال�صهيوين» ،الذي كتب له �أني�س ،الحق ًا ،مقدمة� ،أ�ضاءت معنى :اعرف عدوك. 67
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
حني �س ّلمه غ�سان املخطوطة �س�أل :د� .أني�س :هل العدو موجود ب�صيغة املفرد �أم ب�صيغة اجلمع؟ �أجاب مدير املركز :العدو الرئي�سي يتبعه العمالء واملتخ ّلفون واحلمقى ،الذين يعتربون الدرا�سة يف «جامعة رد غ�سان :وهناك كيمربدج» ،كما الأناقة والنظام»« ،عاهة برجوازية»ّ . املتزعمون الزائفون يف زمن م�ضى ،والذين غيرّ وا لبا�سهم، «املخاتري»، ِّ هذه الأيام ،وظ ّلوا «خماتري» .قال د� .أني�س :ك�شفت كلمة «املخاتري» ،التي ا�ستعملها غ�سان ،عن ذاكرة جريحة ال تن�سى املا�ضي ،ذلك �أن بع�ض املخاتري لعب دوراً �سيئ ًا خالل فرتة االنتداب الربيطاين .ومع �أن غ�سان خرج من فل�سطني وعمره اثنا ع�رش عام ًا ،فقد كان ي�سرتجع وقائعها بال التبا�س ،بدءاً من الفالح املقاتل ،و�صو ًال �إىل جندي يهودي يعاقب ِ�ص ْبية فل�سطينيني ،مروراً بـ «مثقف» يرى يف احلديث مع «الفالح» �أمراً �صعب ًا. ولعل االلتفات �إىل املا�ضي ،جتنب ًا للأخطاء التي وقعت فيه ،هو الذي حذف امل�سافة بينه وبني احلا�رض ،ف�أدرجه غ�سان يف ق�ص�صه الق�صرية ورواياته ،وكتب درا�سة ممتازة عن ثورة .1936 حني �أنهى �أني�س �صايغ كالمه عن غ�سان و�شخ�صيته قال� :ساوى غ�سان بني الكتابة وبرنامج «العمل الثوري» ،الذي ال يقبل بالت�أجيل� ،أو بني الكتابة و«املهمة احلزبية» ،حيث املرجع احلزبي هو غ�سان نف�سه، والنقد و«النقد الذاتي» يحددهما هو ال غريه. ولأنه مرجع ذاته ،وهي حال كل �إن�سان حقيقي ،عطف غ�سان «اعرف مكملة« :اعرف ذاتك» ،التي دفعته �إىل كتابة «�أدب عدوك» على قاعدة ّ املقاومة يف فل�سطني املحتلة» .كان ي�شتق الكتابة من ال�رضورة ،في�صبح م�ؤرخ ًا� ،أو ي�شتقها من وظيفتها الوطنية ،ويغدو ناقداً �أدبي ًا .كان ،يف 68
احلالني ،عفوي ًا ،يقوم مبا يجب عليه �أن يقوم به ،وكان يف احلالني هناك ،حيث ال ينتظره �أحد .كان الناقد اللبناين حممد دكروب ي�شاك�سه ويقول له« :م�ستعجل كتري يا غ�سان» ،كان الأخري يجيب :الزمن ال ينتظر، ووظيفة الكلمة تقرر كل �شيء .كان يعتقد هذا الفل�سطيني ال�شاحب �أن غ�ضبه الداخلي قادر ،رمبا ،على تخلي�ص «الكتابة العجلى» من ال�شوائب، علواً ،ي�صل الكاتب بقارئه ،وي�صل و�أن وراء �صوت الكتابة �صوت ًا �أكرث ّ الكاتب والقارئ مبعركة مزهرة منتظرة .كان غ�سان يكتب من وجهة نظر القارئ املطلوب ،طارداً الوحدة واملعادالت املجردة ،وكان بعد «الكتابة امل�شرتكة» يجل�س مع روحه ،ويزرع يف ذراعه «�إبرة الأن�سولني» ،التي ت�صده متام ًا. ت�صد عنه �آثار مر�ض ال�سكري ،وال ّ «اعرف عدوك تعرف ملاذا خرجت �إىل املنفى» ،كان يقول غ�سان، «واعرف ذاتك تعرف كيف تعود �إىل الوطن» .كان فيه روح فالح فل�سطيني قاتل يف ثورة ،1936قال د� .صايغ ،وكانت يف ذاكرته �أطياف جندي ورحل �س�ؤال يهودي �أحرق قرى فل�سطينية .حمل �صورة الفالح يف روحهّ ، اجلندي القاتل �إىل عقله .عرث يف هذين العن�رصين على الإن�سان الق�ضية، الذي يتع ّلم من املقاتلني ويع ّلمهم. حني كنا ندخل مكتب جملة الهدف ،يف كورني�ش املزرعة يف بريوت، كنا نعرف �أنه هناك .الكل من�رصف �إىل عمله وفرح به ،وبني اجلميع يقيم وينقد ويو ّزع تناف�س نظيف ،ويف اجلو فرح ّ منظم ،وهو هناك ّ املالحظات ،ف�إن قابلناه قال فرح ًا« :العدد جاهز» .هكذا كان ي�صف الراحل �صابر حمي الدين ،الذي �أ�صبح الحق ًا رئي�س حترير املجلة، �صورة غ�سان ،كما ر�آها� ،أو �سمعها من غريه ،مع ّلق ًا« :كان معنا ومل يكن منا متام ًا :كان معنا يقا�سمنا العمل ،ومل يكن منا متام ًا ،فقد كان يعمل 69
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
ما ال ن�ستطيع القيام به» .كان يبدو كما �أراد �أن يبدو ،ذاهب ًا �إىل فل�سطني وراجع ًا منها ،حماوراً غريه وذاته وناظراً �إىل جنم بعيد .حني �أراد �صابر حمي الدين حماكاته �أرهقه قلبه يف منت�صف الطريق ورحل ،وهو يف حدود اخلم�سني .الوفاء من عالمات النجباء واملوت يف الطريق مكاف�أة ظاملة على حياة �أرادت �أن تكون جنيبة.
-2الغ�ضب املقاتل ورعب املنفى: ا�ستعاد املخرج امل�رصي النبيه توفيق �صالح حواراً بعيداً مع غ�سان وقال�« :أدان �صاحب «رجال يف ال�شم�س» اخلروج من فل�سطني �إدانة كاملة ،م�ساوي ًا بني اخلروج و«الفرار» املميت .هكذا فهمت روايته .حني �س�ألته عن اجلملة ال�شهرية يف روايته« :ملاذا مل يدقوا جدران اخل ّزان» وهل ق�صد بها التحري�ض ،يف �سياق قومي كان يدعو �إىل التحري�ض� ،أم جزاء عاد ًال؟ قال: �أنه كان يق�صد �أن ه�ؤالء «الهاربني» من وطنهم لقوا ً ق�صدت بها الإدانة ال�شاملة .فهذه اجلملة مل تكن موجهة �إىل حا�رض عليه �أن يتع ّلم من املا�ضي ،وال �إىل م�ستقبل جتاوز �أخطاء احلا�رض واملا�ضي مع ًا ،بل كان مق�صوداً منها و�صف «الهاربني وحماكمتهم و�إنزال احلد الأعلى من العقاب بهم» .وهذا ما �أردت �أن �أقوله يف فلمي «املخدعون»، امل�أخوذ من الرواية ،لكن الرقابة ،امل�أخوذة بالت�صفيق والهتاف ،يف ذاك الزمان� ،أرادت ت�أوي ًال حتري�ضي ًا للجملة ال�شهرية ،يتوجه �إىل احلا�رض �أكرث مما يتوجه �إىل املا�ضي ،ويتعاطف مع «املخدوعون» ويلتم�س لهم الأعذار. تابع الأ�ستاذ توفيق :قال يل غ�سان �إنه يرف�ض �أن ينطلق من ال�سياق، مهما كانت �شعاراته ،و�أنه ال ينطلق من الق�ضايا الكبرية ،عادلة كانت �أم 70
وي�رص عليه هو :الإن�سان ،الذي ي�صل �إىل هدفه غري عادلة ،فما يبد�أ منه ّ املنظمة ،والذي �إن ا�ست�سلم �إىل وحد بني الوعي ال�صحيح واملمار�سة ّ � ْإن ّ الوعي ال�ضليل انتهى �إىل «مزبلة». ترجم غ�سان يف منظوره العنيف �أ�صداء كلمة «الجئ» التي حا�رصت الفل�سطينيني بعد اخلروج ،و�أطياف الذين تركوا قراهم واندفعوا �إىل حدود جماورة .يرجع تعبري «الذاكرة اجلريحة» ،بلغة �أني�س �صايغ ،مرة حول جميع الالجئني ،يف «رجال يف ال�شم�س» �إىل «خماتري» �أخرى وقد ّ فاقدي ال�صالحية� ،أو �إىل «�أموات � ّأجل دفنهم» ،طاملا «�أن الفرار موت»، و�أن ب�ؤ�س اللجوء ال يليق �إال بالأموات. يذكر �أخو غ�سان كنفاين يف كتاب عن �أيام الهجرة الأوىل� ،أحوال الالجئني الذين «ا�ست�ضافتهم» �صيدا ،املدينة اللبنانية الكرمية، تتكد�س فيها ووزعتهم على «امل�ساجد» و«املدار�س» وقاعات كبرية ّ عائالت ،تتو�سل «ال�سواتر» جدران ًا ،وتخلق من «ال�سواتر» جدران ًا وهمية وا�شية .ر�أى غ�سان ،كما يقول �أخوه ،يف «امل�ساجد امل�ضيفة» تعبرياً عن اليتم ال�شامل ،ذلك �أن امل�سجد بيت اهلل ،و�أن بيت اهلل ال يق�صده �إال اليتيم، يتو�سل الإح�سان وال�شفقة ،متناز ًال عن جزء من روحه ال ينبغي الذي ّ املت�سول يف ذاكرة غ�سان ،ودفعته التنازل عنه .ر�سبت �صورة اليتيم ّ �إىل ت�صور بطويل عدمي ،ي�أمر الإن�سان ب�أن يقاي�ض روحه بكرامته، ف�إن رف�ض املقاي�ضة الت�صقت به �صفة «الالجئ» ،و�سقطت عنه �صفة الفل�سطيني« .على الإن�سان �أن ينام يف بيته �أو يبقى �صاحي ًا» ،كان يقول غ�سان وهو يبعث من ذاكرته �صور «الأكوام الالجئة» التي اعت�صمت بكرم امل�ساجد وخ�رست كرامتها الذاتية .ترجم معنى هذه الذكريات يف التمرد على الوجود ،كي يكون حر�ضت على ّ م�رسحيته «الباب» ،التي ّ 71
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
الإن�سان الكرمي كما يريد �أن يكون. �أما �ضيافة «املدار�س» وقاعات اجلدران الوهمية فقد ر�أى فيها ال�صبي ،الذي كان ينطلق من «نومه» �إىل �شاطئ البحر ،ف�ضيحة وعري ًا �شام ًال« :كيف يعي�ش الإن�سان �إن كانت روحه عارية»؟ على �شواطئ �صيدا ،وقبل ثالثة و�ستني عام ًا ،كان مي�شي �صبي فل�سطني« ،يت�أبط ف�ضيحته» ،وي�س�أل الوجود عن معنى الظلم والعدل ،وي�ستنه�ض ج�سده النحيف ليحمل عبئ ًا مل يخرته ومي�شي �صامت ًا .بعد ذلك ب�أربعة وع�رشين عام ًا �سيم�ضي غ�سان تارك ًا العبء لغريه ،بعد �أن ح َّل ج�سد ال�صبي يف ج�سد الرجل ،وبعد �أن عالج «الأمن الإ�رسائيلي» اجل�سد الرا�ضي بخياره ب�أدوات قاتلة و�أعطاه �صورة جديدة :الوجه يف مكانه ،والعينان تنظران �إىل �أعلى ،ودم على الأذنني ،وال�صدر انف�صل عن بقية اجل�سد ب�شكل مائل م�ستقيم ،كما لو كان قد قطع ب�سكني حادة ال تعرف اخلط�أ ،والذراعان ك�أنهما يف مكانهما ،واليد التي تكتب ا�ستقرت �شظايا يف مكان َع ِ�ص ّي على التحديد .هكذا بدا غ�سان بعد «اغتياله» ،وقد ا�ستقر ن�صفه الأعلى على �أر�ض مرتبة �إىل جانب جدار. ذكر �إميل حبيبي ،يف مقابلة قبل �أن يغادر بعامني� ،أن غ�سان ،يف مييز الغرب من اجلنوب. روايته «عائد �إىل حيفا» ،خلط بني اجلهات ،ومل ّ وواقع الأمر �أن هواج�س غ�سان كانت مغايرة لهواج�س �إميل ،فلم يكن الأول م�شغو ًال بتفا�صيل املكان بل كان ،وهو يتذكر ويت�أمل ويحا�سب، حتت وط�أة «فرار» اجلموع املتالطمة ،التي كانت تتقي «الطلقات الإ�رسائيلية» ،باللواذ بـ «البور» حيث القوارب ال�ضيقة حتمل «الأرواح ال�ضائعة» �إىل مالذ عنوانه :الف�ضيحة« .علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا» قال غ�سان ،ذات �صيف ،يف منت�صف ال�ستينات يف دم�شق ،لزميله الفل�سطيني 72
«نواف �أبو الهيجا» ،الكاتب الذي كان يعي�ش يف خميم الريموك ،ثم عمان ،كي يعود �إىل خميم الريموك ،بعد ذهب �إىل بغداد ،ثم رحل �إىل ّ �سقوط بغداد« .علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا»« ،لأن اخلروج من فل�سطني، املوحدة أتذكره ،كان ي�شبه يوم القيامة ،الذي يختل�س من العائلة كما � ّ ّ ح�س االجتاه وامل�س�ؤولية» .وب�سبب العالقة بني «اخلروج» ويوم القيامة، «اختار غ�سان جمازاً «العقاب اجلماعي» ،يقول نواف ،حيث «الأب» ال يلحق بعائلته ،والأم �شاردة عن ر�ضيعها الذي �ضاع �إىل الأبد ،و«االبن» �سوي ًا انك�رس ،وكل ما كان بريئ ًا ينتظر و�صول �أمه امل� ّؤجل .كل ما كان ّ تلوث ،و«كل ما �أخل�صت له الأر�ض خانها». ّ حدثه عن �صورة «الكهل الأعمى» نواف ،قبل زمن طويل� ،أن غ�سان ّ ذكر ّ الذي كان ي�أخذ الهاربون �إىل امليناء بيده ،يف ربيع « :1948حني علت �صيحات الهاربني وهم يقرتبون من «القارب» توقف الأعمى يف مكانه، قال �شيئ ًا ،رفع يده ورجع �إىل الوراء ،حماو ًال �أن يعود �إىل املكان الذي جاء منه ،وعار�ض اجلموع املتالطمة وغاب عن الب�رص» .كان غ�سان ي�س�أل :ماذا قال الرجل؟ وملاذا ان�سحب حني اقرتب من القارب؟ و�إىل �أين عاد؟ وكيف مات؟ «اجلميع ميوت ولكن كيف؟» كان الأعمى حمق ًا لأنه مل يكن �أعمى مات كما يريد وو ّفر على ذاته «ذل املخيم». املخيم هو املجاز الكامل الذي قر�أ غ�سان فيه «العار الفل�سطيني»، واملخيم الفل�سطيني ،يف �صورته اللبنانية حتديداً ،حيث الالجئون ي�أكلون �أقل وي�رشبون �أقل ويتنف�سون �أقل ،ف�إن رفعوا �صوتهم جاءتهم �صفعة «الدركي» الغليظة .ولهذا و ّزع غ�سان «املخيم» على جميع رواياته :يف «رجال يف ال�شم�س» �شيء من املخيم ،ويف «الأعمى والأطر�ش» �أ�شياء من املخيم ،واملخيم له احل�ضور كله يف «ما تبقى لكم» .املخيم لي�س هو 73
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
بالبيت ،وال هو بال�سجن ،وال هو باملنفى متام ًا� ،إنه بقايا مكان وبقايا بيت ،وفيه بقية من �سجن ،وفيه ب�رش �سقطت عليه «النقمة» ،يف انتظار يوم ي�صحو فيه من خذل كرامته.
جتمع الالجئون يف «خميم الأليان�س»، وب�سبب عدد الالجئني الكبري ّ ن�سبة �إىل بناء كبري حائل اللون يدعى «مدر�سة الأليان�س» ،التي �أ�صبحت خا�صة بالتالميذ الفل�سطينيني.
كان الراحل ناجي العلي ،ر�سام الكاريكاتور ،مي�شي يف �أزقة خميم «عني احللوة» يف �صيدا ،قبل �أن يذهب �إىل مكتبه يف جريدة «ال�سفري»، يف بريوت ،وير�سم �أكرث من «لوحة» ،مدرك ًا �أن الرقيب يقبل ب�أ�شياء ويرف�ض �أخرى .كان لـ «امل�شي» يف الأزقة �شكل القاعدة« :الزم �أتن ّف�س هواء املخيم قبل �أن �أر�سم» ،كان يقول ناجي ،م�ست�أنف ًا غ�ضب غ�سان، الذي اتخذ من االحتجاج على املخيم منهج ًا يف القراءة والكتابة .من �أين ت�أتي الأفكار التي ترتجمها الروايات وتفرت�ش الر�سوم؟ ت�أتي من املعي�ش ،وتكون جارحة ومع ََّذبة ومع ِّذبة( الأوىل بفتح الذال والثانية بك�رسها) حني ت�أتي من املعي�ش الفل�سطيني يف املخيم« .كانوا يطوون هزائمهم كما ُتطوى الرايات» ،كان يقول غ�سان ،الذي ا�ست�أنف ناجي ملينْ مع ًا برايات �أخرى .قتل الإ�رسائيليون الأول ،و ُقتل ر�سالته ،حا َ الثاين بر�صا�صات لي�ست «�إ�رسائيلية».
يف نهاية خم�سينيات القرن املا�ضي �أو يف بداية �ستيني اته ،كنا منر، وقد �أ�صبحنا �شباب ًا� ،إىل جانب «مدر�سة الأليان�س» ،ونرى �إىل بقايا ر�سم على جدارها اخلارجي ،ل�صبية يتطايرون يف الهواء يلعبون كرة القدم. املحوطة كان يف �أو�ضاع ال�صبية ما يثري الف�ضول ،ب�أج�سادهم الطائرة ّ بالفراغ ،كما لو كانوا ي�ستندون �إىل �أرواحهم �أو مي�سكون بحبال من هواء .قال �أحدنا ،وكان قومي ًا عربي ًا ،بلهجة فخورة :هذا من ر�سم غ�سان كنفاين ،الذي بد�أ بن�رش ق�ص�ص ق�صرية� ،آنذاك ،يقر�ؤها القوميون العرب قبل غريهم.
-3تو�سيع الزمن واال�شتباك مع احلياة: يتحدثون عن «حارة بعد النكبة بعام �أو �أكرث ،كان الفل�سطينيون ّ اليهود» يف دم�شق القدمية ،التي �سافر عدد من �أهلها �إىل فل�سطني املحتلة .كانت ال�سلطات قد و ّزعت الالجئني على عدد من البيوت التي غادرها �أهلها� ،أ�شهرها «ق�رص �شمعايا» ،البناء الوا�سع ذو «الأ�صل تكد�ست فيه عائالت فل�سطينية الجئة ،كان �صبيتها العريق» ،الذي ّ يت�أملون ،با�ستغراب« ،يهوديات» يتناق�ص عددهن يوم ًا بعد يوم. 74
�أكمل القومي العربي ،الذي �أ�صبح تاجراً ثري ًا و�رصعته نوبة قلب يف �إحدى دول اخلليج« :كان غ�سان يعرف هذه املنطقة معرفة كاملة ،فقد عمل �أ�ستاذ ريا�ضة يف مدر�سة الأليان�س ،وكان ير�سم يف �أوقات الفراغ، ويتق�صى �أحوالهم ،ويدرجهم يف ق�ص�صه ويتحدث مع التالميذ الفقراء ّ ّ الق�صرية» .نظر �إىل اجلهة املقابلة ،و�إىل الأ�سفل قلي ًال ،وقال« :ذلك �سوق �سماها( :زمن اال�شتباك) ،حتدث فيها اخل�ضار الذي �أخذ منه غ�سان ق�صة ّ ظن �أن عن �صبي فقري عرث على (خم�س لريات) ،و�أخذ بالرك�ض بعد �أن ّ «ال�رشطي» ر�آه ،و�أ�رسع يف رك�ضه بعد �أن ظن �أن امل�شرتين والبائعني يطاردونه ،و�أمعن يف الرك�ض حني اعتقد �أن املدينة كلها تالحقه، جتد يف �إثره». و�سابق الهواء حني ا�ستقر يف نف�سه �أن الب�رشية كلها ّ تابع القومي العربي الراحل وقال« :الأرجح �أن ال�صبي الذي �سابق 75
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
الهواء كان غ�سان نف�سه ،والأرجح �أن غ�سان بالغ يف الو�صف ،لأنه كان م�أخوذاً بفكرة املطاردة ،ويرى احلياة كلها لعبة بني �صياد وطريدة ،بل كان يقول لنا ،وهو ي�رشح لنا فكر القوميني العرب :ال تنجو الطريدة �إال ال�صياد ،لأن الرك�ض وحده ال يقود �إىل النجاة». �إذا عرفت كيف يف ّكر ّ ل�ست �أدري �إن كان القومي العربي ،قد �ساوى بني اال�شتباك واملطاردة، ذلك �أن غ�سان كان م�سكون ًا بفكرة اال�شتباك ،التي تعني املواجهة ال الهرب .ولعل فكرة اال�شتباك هي التي دعته �إىل الكتابة عن موظف احلدود الفا�سد و«املختار» املتواطئ والفل�سطيني املتداعي الذي قاي�ض ذاكرته بقرو�ش قليلة ،و�إىل كتابة ق�صته الق�صرية املده�شة «العرو�س»، حيث البندقية امتداد للفل�سطيني الأ�صيل .كل �شيء فعله غ�سان �أو اقرتب منه كان ينطوي على �شكل من اال�شتباك :ال�صبية املتطايرون يف الهواء كانوا ي�شتبكون مع الكرة ومع خ�صم يرونه وال يراه غريهم ،والكتابة املقاتلة ا�شتباك مع كتابة �أخرى ،وللأفكار داخل غ�سان معاركها التي ال تنتهي ،بد�أت بقومي عربي وانتهت مبثقف يحاور الأفكار جميع ًا، وللج�سد املري�ض بال�سكري ا�شتباك ال يخرج منه منت�رصاً. وما اال�شتباك املتواتر �إال فعل تقوده ذات حرة ،تقوم مبا ترغب به وتنحي م�سبق ًا �أحكام الآخرين .روى الراحل العزيز عبد الرحمن منيف ّ حكاية �شهدها� ،أو �سمعها من غريه« :كان القوميون العرب ،وغريهم من �أن�صار الثقافة وال�سيا�سة ،يرتددون على مطعم «في�صل» ،القريب من اجلامعة الأمريكية يف بريوت .دخل غ�سان كنفاين ،مرة �إىل املطعم ومعارفه يتناولون الغداء ،وكان �شاحب ًا و�ضاحك ًا مع ًا ،كما كان دائم ًا. حني دعاه معارفه �إىل مقا�سمتهم الطعام قال�« :سبقتكم»� :أخذت الن�سخة الأوىل من كتابي اجلديد وذهبت �إىل مطعم ،تناولت الغداء وطلبت من 76
�صاحبه �أن يقبل كتابي ثمن ًا لوجبة ،لأين ال �أملك ما يكفي من النقود، ور�ضي �صاحب املطعم وخرجت �سعيداً .قال عبد الرحمن :قد تكون الق�صة م�سلية ،فقد �ضحك غ�سان و�أ�ضحك غريه عليه ،لكنها «يبدو يل» (وهي من تعابري عبد الرحمن الأثرية) تعبري عن عفوية غ�سان الطليقة، التي كانت تتيح له �أن يخترب احلياة ،بال قيود ،و�أن يخترب ذاته وهو يخترب احلياة». تذكر بق�ص�ص (�أو .هرني ) رمبا ما ي�ست�أنف يف الق�صة ال�ساخرة ،التي ّ فكرة اال�شتباك ،التي تبد�أ بثمن وجبة ب�سيطة� ،أو متتد بعيداً �إىل التن�سيق مع «اجلي�ش الثوري الياباين» من �أجل �رضب امل�صالح الإ�رسائيلية ،وقد تتمهل قلي ًال وتواجه روائي ًا كبرياً ،يريد غ�سان �أن ي�ستفيد منه و�أن يطبق تقنيته على «مادة فل�سطينية»: روى ال�صحايف الفل�سطيني املعروف بالل احل�سن �أن غ�سان ،وهو يكتب روايته «ما تبقى لكم» ،كان يقول له :كل يوم يجل�س �إىل جانبي الروائي الأمريكي وليم فوكرن� ،أحاوره يف روايته «ال�صخب والعنف»، و�آخذ مكانه بالطريقة التي �أريدها ،وا�ستعري منه تقنية الأ�صوات أود الو�صول �إليه .مل يكرتث املتقاطعة وتقطيع الزمن ،و�أ�صل �إىل ما � ّ غ�سان بالفرق بني قدرين من �أقدار احلياة ،كان للأمريكي املكان والزمان اللذان يريد وكان لغ�سان «�أحد ع�رش يوم ًا» كي ينهي روايته، وكانت له متاهة بريوت التي دخلها عمالء املو�ساد وم ّزقوا غ�سان وابنة متفجرة. �أخته بعبوة ّ «م ْن ي�سيطر على اللحظة يفعل ما يريد» قال غ�سان للدكتور �إح�سان َ رد الأخري على �أ�ستاذه عبا�س� ،أجابه الأخري« :اهد�أ قلي ًال يا غ�سان»ّ ، 77
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
اجلليل« :ال يليق الهدوء بحالتنا ،وعندي �أ�شياء كثرية يجب �أن �أقوم بها» .هذه الأ�شياء الكثرية ،كما هذه الـ «يجب» املتواترة ،هي التي دعت د� .إح�سان عبا�س �إىل القول« :كان موزع ًا على �أكرث من مكان ووظيفة»: يذهب �إىل اجلريدة واملخيم ومركز الأبحاث و�إىل اجتماعاته احلزبية و�إىل مكان خام�س �أكرم به عليه اقت�صاد الوقت ،فيكتب املقالة والدرا�سة والرواية والق�صة الق�صرية و«التعميم احلزبي» ...كان ي�سري مع ذاته الأوىل وي�ستولد منها ذات ًا ثانية ،مف�سح ًا الطريق لذات ثالثة متوالدة، وكان عليه �أن يجمع هذا «الكثري» يف واحد ،معتمداً الإرادة والهوى وتروي�ض اللحظة وقلة النوم ،ومعتمداً على �أطياف ذاكرة م� ّؤرقة حتمله �إىل حيث تريد ،ويقنعها بالإقامة معه طوي ًال. التقى توفيق �صالح ،وهو يتهي�أ لإخراج فيلم «املخدوعون» ،غ�سان يف مقهى بريوتي ،قريب من منطقة «الرو�شة» ،يف ال�ساعة ال�ساد�سة م�ساء ،وطلب منه �أن يكتب حوار الفيلم ،حفاظ ًا على روح املعنى املو ّزع يف تفا�صيل «رجال يف ال�شم�س» ،وعلى اللهجة الفل�سطينية التي تتحدث بها �شخ�صيات الرواية .نظر الروائي �إىل �ساعته ،وقال بنربة عادية ت�شي بروح �صاحبها :نلتقي غداً يف مثل هذه ال�ساعة ،يف هذا املكان .مل ي�ستف�رس الفنان امل�رصي عن �شيء� ،أغلق مو�ضوعه وتابع حديث ًا عادي ًا، واحتفظ بتلك الإجابة غري املتوقعة ،التي ين�ساها بع�ض «الأدباء» بعد انتهاء اللقاء .يف اليوم التايل ،ويف املوعد املحدد ،جاء �صالح وكان غ�سان هناك� ،أعطاه ب�صوت عادي احلوار املطلوب ،وعاد �إىل م�شاغله العادية .كل �شيء بدا عادي ًا با�ستثناء هذه «الأربع والع�رشين» �ساعة غري العادية ،التي تو ّزعت على التفكري والكتابة وااللتزام بالقول ،ومل يكن فيها مكان للراحة والنوم� .إنها الفل�سفة اخلا�صة برجل ي�ضع كل مقيد كي يوم يف مكانه املحدد من مدار ال�سنة ،ويحا�رص نف�سه بزمن ّ 78
يكون طليق ًا. كان املخرج يدرك �أن هذا ال�سلوك غري عادي ،وكان العاملون يف يرددون احلكاية� ،أن ما قام به غ�سان ال يقوم به «مركز الأبحاث» ،الذين ّ غريه ،با�ستثناء غ�سان الذي كان يعتقد �أن عمله العادي امتداد لأعمال «عادية» �أخرى ،تف�صح عن عالقة «الالجئ» بزمنه ،وعن متط ّلبات «الر�سالة» ،التي ي�ؤديها �إن�سان حذف امل�سافة بني املوت واحلياة .حني كان غ�سان يزجر عجز الالجئني كان يقول« :يطوون هزائمهم كما تطوى رد الرايات» ،و«ين�رشون عجزهم على حبال الهزمية» .ومل يكن �سلوكه �إال ّ روح غا�ضبة على العجز والهزمية ،متكئ على طيف «الإن�سان الأعلى»، الذي يرفع راية املقاومة ويلقي ب�أعالم الهزمية �إىل النار .كان غ�سان يو�سع النهار ،م�ستعج ًال رحيل الليل الفل�سطيني ،مفرت�ض ًا �أن يف الإرادة ّ ما يعيد تعريف الليل والنهار. يف يوم قائظ ،وعلى �ضفاف النيل ،ويف حوار �أني�س حول جنيب حمفوظ وعاداته ،وحول �أحوال الب�رش وطبائع احلياة ،ا�ستذكر توفيق �صالح �أ�شياء من غ�سان�« :أعطاين غ�سان ،ذات مرة ،موعداً يف جملة الهدف ،يف ال�ساعة احلادية ع�رشة �صباح ًا� .صادف يف ذلك اليوم �أن «اجلبهة ال�شعبية»، وكان غ�سان متحدث ًا با�سمهاْ � ،أن قامت بعملية تناقلتها و�سائل الإعالم. وقررت �إلغاء املوعد ،لكن الف�ضول ،كما �ضيق الإقامة راجعت نف�سي ّ يف بريوت ،دفعاين دفع ًا �إىل الذهاب .دخلت متلكئ ًا �إىل املكان املحت�شد برجال الإعالم ،ووقفت حيث �أ�ستطيع الوقوف .يف ال�ساعة احلادية خرج حياين ونظر �إىل ال�ساعة وطلب غ�سان من مكتبه ،وكان بابه مفتوح ًاّ ، مني الدخول ،و�س�ألني عما �أريد ،كما لو كان املكتب فارغ ًا� ،أو كما لو كان قد انتزع ق�سط ًا من ذاته وو�ضعه حتت ت�رصيف� .أذكر �أنني �س�ألته 79
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
�أكرث من �س�ؤال ،و�أذكر �أن كان يجيب ويرد على الهاتف بكلمات �إنكليزية، يل و�إىل �آخرين حوله ،و�أذكر �أنني كنت �أتابع �إجاباته و�أنه كان يتحدث �إ ّ الوا�ضحة وهو يتابع �أ�سئلة ال�صحافيني التي تقع عليه ،و�أذكر �أنني خرجت من مكتبه ومعي �إجابات الأ�سئلة التي طرحتها ...بدا يل �أنه �أكرث من فرد و�أكرث من �صوت و�أكرث من م�س�ؤول.».. �إذا كان يف حياة الب�رش ما يف�صل بن الزمن الفيزيائي ،املحدود باملرئي واملبا�رش واملعي�ش ،والزمن النف�سي املتمتع بدميومة ال ترى، ي�ساكنها االنفعال والرغبة واالنتظار ،فقد كان عند غ�سان «زمن الروح حترر من �سطوة العادات ،وخلق �شيئ ًا حترر به �إن�سان ّ املتمردة» ،الذي ّ ّ متحرك ًا ،ال تقع عليه العادة �إال وطردها �رسيع ًا. مبدع ًا حائراً قلق ًا ّ فالعادة ا�ستبداد ال يقبل به �إن�سان ،يحرق «خيمة» �أوىل وين�صب «خيمة �أخرى» ،ينتظرها احلريق. كيف ميكن تو�سيع الزمن وال�سيطرة عليه ،وكيف ت�شتق الروح الكارهة للعادات زمنها الذي ال عادات فيه ،وكيف يذهب ال�صبي �إىل �صحراء موح�شة وي�ست�أن�س بلهاثه؟ هذه �أ�سئلة من حياة ق�صرية بدت، حلظة انطفائها� ،أنها ال ت�شكو من الق�رص �أبداً .فقد ترك غ�سان وراءه �أربعة جملدات ،عالج فيها الق�صة الق�صرية وامل�رسحية والرواية و ،...وترك وراءه مئات املقاالت ال�سيا�سية ،و«فار�س فار�س» ،اال�سم امل�ستعار، الذي كان يتيح لغ�سان �أن يبوح وال يعرفه �أحد ،و�أن ي�ضيف �إىل «وجوه الكثري» بعداً جديداً .ولهذا كان �أول من كتب عن «الأدب ال�صهيوين» وعن «�أدب املقاومة يف فل�سطني املحتلة» ،وهو الذي �أ�ضاف جديداً �إىل الق�صة الق�صرية العربية ،كما قال يو�سف �إدري�س ،و�صاحب �أف�ضل معاجلة لثورة « ،»1939 - 1936التي ا�ستخل�ص منها قو ًال جوهري ًا« :الذين يقودون 80
ال يقاتلون ،والذين يقاتلون ال يقودون» .تطلع ذلك الإن�سان الناحل يوحد بني القيادة القامة �إىل «�إن�سان �أعلى» ،يقرتحه الفقراء املتمردونّ ، ّ و«املتزعمني» خارج ًا. والقتال ،ويطرد «املخاتري» ّ
-4ملاذا مل يكمل غ�سان كنفاين رواياته؟ متيزت بالكثافة ترك غ�سان ثالث روايات غري مكتملة� ،أو هكذا تبدوّ ، الفكرية وبجدة فنية� :أوالها «العا�شق» ،الرواية امللحمة ،التي ا�ستعادت �أطياف ثورة ،1939 1936التي و�ضع عنها غ�سان درا�سة ،هي الأف�ضل ،رمبا ،يف جمالها .قر�أت الرواية زمن الرباءة ،الذي �أعقبه زمن الإثم ،حني كان الفل�سطيني الربيء و�أر�ضه كيان ًا واحداً ،يتناجيان ويكمل �أحدهما الآخر بتناغم ،ي�صيرّ ال�شوك ورداً واخليول دلي ًال يف الطريق .غري �أن العمل مل يكتمل ،دون �أن مينع هذا غ�سان ،القلق املثابر، عن تع ّقب مو�ضوعه ب�أ�شكال �أخرى ،فكتب «بنادق يف اجلليل» ،التي ميكن �أن تكون متهيداً لـ «العا�شق» �أو تتويج ًا لها ،وكتب ق�صة ق�صرية عامرة بالإ�شارات والرموز عنوانها« :العرو�س» ،التي هي بندقية فاتنة، يفت�ش عنها حمارب �ساوى بني «املرتينة» واحللم. من هام�ش املخيم والكرامة املفقودة امل�ستعادة ،جاءت «الأعمى والأطر�ش» ،احلكاية الأمثولة ،التي حكت عن رذائل العادات الثابتة وعينت الف�ضول املعريف املتحالف مع وب�ؤ�س الوعي امل�ستقر، ّ يعو�ض عن املجازفة ،مرجع ًا للف�ضيلة ،ذلك �أن يف الف�ضول النجيب ما ّ يحرره من العماء ال�سمع والب�رص ،وما يفتح لـ «الإن�سان الالجئ» طريق ًا ّ واملخيم مع ًا .كتب غ�سان ،يف «الأعمى والأطر�ش»� ،صفحات �سعيدة، اعتربها حممود دروي�ش �أف�ضل ما جاد به الأديب ،وتوقف يف منت�صف 81
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
الطريق. وهناك «برقوق ني�سان» �آخر ما كتب� ،أو �آخر ما حاول كتابته ،التي حمددي الأماكن تبد�أ مب�شهد جليل ،ومتر على التاريخ وعلى فل�سطينيني ّ والأزمنة ،وت�صل �إىل موقع �أخري ،يبدو للقارئ �أنه لي�س املوقع الأخري متام ًا. ال�س�ؤال املنتظر :ملاذا مل يكمل غ�سان رواياته الثالث؟ للإجابة �أكرث من وجه ،ال ت�صل جميعها �إىل جواب �أخري. ُي َر ّد اجلواب البديهي �إىل رحيل غ�سان املبكر ،الذي ق�سمه العنف الإ�رسائيلي �إىل �شطرين ومزق متناثرة .فلو كان الزمن �أكرث ت�ساحم ًا، لعاد �إىل �أوراقه و�أقالمه و�أكمل ما بد�أه .لكنها م�أ�ساة ال�سرية الذاتية الفل�سطينية ،التي تنق�سم �إىل وطن ومنفى ،و�إىل �شباب وكهولة م�رسوقة، و�إىل اغرتاب وحتقق ال يراهن عليه. ي�أتي اجلواب الثاين من فر�ضيات يف القراءة ،تعترب �أن غ�سان كتب ما يريد ،و�أنه مل يرجع �إىل �أعماله ،التي تبدو ناق�صة ،لأنه كان مقتنع ًا �أنها جاءت بال�س�ؤال واجلواب ،وال حتتاج �إىل حذف �أو �إ�ضافة .ف�إذا كان املطلوب االحتفاء بزمن الرباءة ،الذي �سبق زمن اللجوء ،ف�إن ما قالت به «العا�شق» جاء وا�ضح ًا ،ذلك �أن «زمن الإثم» عبرّ ت عنه «رجال يف ال�شم�س» بو�ضوح ال ي�ضارع. وكذلك احلال يف «الأعمى والأطر�ش» ،التي هي ،منطقي ًا ،مقدمة لرواية «�أم �سعد» وحديثها عن «خيمة عن خيمة تفرق»� ،إذ خيمة الب�ؤ�س 82
جت�سيد للعمى وال�صمم ،وخيمة الفدائي مكان عاقل نظيف ال موقع فيه للوعي ال�ضليل .ولن يختلف الأمر يف «برقوق ني�سان» ،القائمة يعبد «درب الفداء» ،ويجابه عنف الآلة على التكافل الفل�سطيني الذي ّ الإ�رسائيلية بجمالية التكامل. يتم ّثل اجلواب الثالث يف منهج غ�سان ،الذي جمع بني اقت�صاد الزمن وواجب الر�سالة ،واعترب �أن ما يجيء به جيل تطوره �أجيال الحقة ،و�أن الأ�سا�سي هو «الفكرة النواة» ،التي تعلن �أن للم�أ�ساة الفل�سطينية �شك ًال حيز �أدبي ًا خا�ص ًا بها ،و�أن �أدب فل�سطني بحث �أدبي ال يكتمل ،يقع يف ّ التجريب وال ي�أخذ �صيغة �أخرية .ولعل املنظور التجريبي ،الذي يالحق ق�ضية �شائكة �سائرة �إىل «هدف ما» ،هو الذي يف�سرّ اقرتاحات غ�سان الأدبية املتالحقة ،التي تنفي كل اقرتاح ب�آخر ،يجاوره وال يتجاوزه بال�رضورة .ولهذا تبدو «برقوق ني�سان» اقرتاح ًا لكتابة رواية عن الكفاح الفل�سطيني ،تبتعد عن الرواية باملعنى التقليدي .ولأنها اقرتاح ،فهي ال حتتاج �إىل حذف و�إ�ضافة ،ذلك �أن تو�سيعها يعود �إىل الذين ي�ست�أنفون االقرتاح ويقبلون به .لي�س هناك وقت ،كان يقول غ�سان لنف�سه ولرفاقه يف اجلبهة ال�شعبية وكان رفاقه يفهمون ما يقول ،وكان يعي�ش ما يقول، تارك ًا ما و�صلت �إليه الكتابة ،وذاهب ًا �إىل بيت «�أم �سعد». يتو ّزع اجلواب الأخري على اجتاهني :اجتاه �أول حدوده غياب اليقني، �إذ يف ال�شكل �أكرث من �شكل ،ويف اجل�سد �أكرث من ج�سد ،ويف العمل التعدد ،يف ال�سيا�سي �أكرث من رهان ،ولنهاية احلكاية نهايات .ولأن ّ الفل�سفة ،هو الاليقني ،فقد ر�أى غ�سان �أن النهاية الأكيدة �ش�أن من �ش�ؤون امليتافيزيقيا.
83
�شهوة احلياة ومنازلة املوت
رد االجتاه الثاين �إىل الأدب التحري�ضي ،الذي ي�ضيف �إىل الواقع ُي ّ يقره غ�سان كثرياً ،و�إىل الرهان الذي �سار غ�سان وراءه طيلة �شيئ ًا ال ّ حياته ،ومل يهج�س بالن�رص �أو بالهزمية. اتكاء على وقائع الفرار واملخيمات ،وخداع الطريق الذي ي�شد الفل�سطيني �إىل حيث يريد� ،أدرك غ�سان �أن جوهر ال�رشط الفل�سطيني من جوهر امل�أ�ساة ،التي تعد الفل�سطينيني باخليبة وترمي بهم �إىل جهنم، و�أن الفل�سطيني احلقيقي بطل م�أ�ساوي ،ي�صارع ال�صهيوين يف ال�صحراء وي�رصعه ،وينتظر طلقة قادمة .قاده وعيه العميق بامل�أ�ساة ،وهو وعي �صحيح � ،إىل كتابة �أف�ضل �أعماله« :رجال يف ال�شم�س» ،و«ما تبقى لكم»، التي اعتربت املغامرة غري املح�سوبة مدخ ًال �إىل احلياة .امل�أ�ساة وجود ملمو�س له قامة جبل ،و«الب�شارة» احتمال تنتظره �أرواح مقاتلة. يف مرحلته التحري�ضية ،املتمثلة يف «�أم �سعد» و«عائد �إىل حيفا» وجزء من «ما تبقى لكم» �أ�ضاف غ�سان �إىل الواقع �شيئ ًا م�سايراً �سياق ًا �أيديولوجي ًا �سيا�سي ًا ،ق�ضى ب�رضورة التب�شري ،خمالف ًا ما اقتنع به يف البدايات ،حني قال�« :أريد �أن �أر�سم الواقع كما هو ،مئة باملئة» .ولهذا بدا غ�سان منق�سم ًا بني ت�صوره العميق لل�رشط «امل�أ�ساوي» الفل�سطيني الذي يحتاج �إىل الت�أمل والنفاذ �إىل احلقائق ،وت�صوره «املتح ّزب» املتفائل، الذي قاده ،يف بع�ض الأعمال� ،إىل م�سايرة الظواهر .ولعل هذا التوتر بني «الوعي الأ�صلي» و«الوعي احلزبي» هو الذي قاد غ�سان �إىل تعليق نهايات رواياته ،مقيم ًا حداً فا�ص ًال بني «فكرة الرهان» والنهايات املكتملة.
وعرفته ،مواجه ًا التب�شري باملعي�ش ،وقاده الرهان �إىل فكرة الوثيقة يف «برقوق ني�سان» ،التي كتب فيها عن منا�ضلني يعرفهم ،حماذراً مرة �أخرى �أن ي�ضيف �إىل الواقع �شيئ ًا ال يحتمله .كان يكتب ،يف احلالني ،عن الواقع املعي�ش ،الذي ي�ضيق بال�شعارات االنت�صارية. ماذا تفعل يا «فار�س فار�س»؟ كان يقول اللبناين حممد دكروب لغ�سان ،وكان الأخري يجيب� :أكتب .ولكن ماذا تكتب يا غ�سان :ق�صة ق�صرية �أم رواية �أم م�رسحية �أم بيان حزبي� ،أم درا�سة عن جيفارا؟ كان ي�ضحك ويجيب :كل هذا مع ًا .يتابع دكروب م�شاك�سته :ما هو الأ�سا�سي وما هو غري الأ�سا�سي يف كل هذا؟ كان غ�سان يجيب :الأ�سا�سي يا رفيقي �أن �أكتب عن الق�ضية الفل�سطينية. ا�ستطاع الكتابة من �سن الثامنة ع�رشة �إىل ال�ساد�سة والثالثني من عمره ،وذهب �إىل موته يف الثامن من متوز يوليو عام .1972
�سمح الرهان بكتابة رواية وثيقة�« :أم �سعد» ،الإن�سانة التي عرفها 84
85
العار الفل�سطيني يف روايته
�آخر يدعى« :ال�صهيوين� .أخذ الأول �صفات �إيجابية متعددة ،جتعله منت�رصاً يف معركة �ضد عدو له �صفات مغايرة ،كما لو كان الأول ر�سول اخلري والنقاء ،وكان الثاين مر�آة لل�رش واخلطيئة .عبرّ ت عن هذه الق�سمة الباترة رواية جربا �إبراهيم جربا ،التي ن�سبت الفل�سطيني �إىل �أر�ض مقد�سة ،و�آمنت �أن قتاله مك ّلل باالنت�صار.1
العار الفل�سطيني يف روايته
ما الذي تبقى من �أديب فل�سطيني يدعى غ�سان كنفاين ،بدا يف حقبته منت�رصاً ،ويبدو اليوم «طل ًال» نزلت به هزمية �ساحقة؟ وملاذا بدا على ما بدا عليه ،يف زمن بالغة قومية انت�صارية وحديث متفائل عن «حرب ال�شعب» و«�رصاع الطبقات» ،وفقد اليوم ما بدا عليه فقدان ًا كام ًال؟ ي�أتي اجلواب من �شكل القراءة يف حقبتني خمتلفتني ،تقوالن ما يريد ال�سياق وت�ضعان ما �أراد الكاتب قوله جانب ًا .و�شكل القراءة هذا له ما يربره، ذلك �أن الفل�سطينيني �أ�سهبوا يف «ت�سيي�س الكتابة» ،واقت�صدوا يف �إدراك معنى ال�سيا�سة. ر�أت كثري من الن�صو�ص الفل�سطينية التحري�ضية ،يف زمن «الكفاح امل�سلح» بخا�صة ،يف الفل�سطيني كيان ًا متجان�س ًا ،يقاتل كيان ًا متجان�س ًا 86
تعامل غ�سان كنفاين مع فل�سطيني �آخر ،ال يح�سن القتال �إال �إذا �أح�سن �إ�صالح ذاته ،و�أدرك وجـوه النق�ص واخللل يف وعيه وممار�سته ووعى ب�شكل موازٍ � ،أ�سباب «فراره» من فل�سطني ،والأ�سباب التي �أقام عليها ال�صهيوين انت�صاره .قال «الأديب» الراحل ب�شكلني �أ�سا�سيني من القتال: قتال الفل�سطيني �ضد جوانب ال�سلب يف �شخ�صيته ووجوده ،وقتاله �ضد عدوه ،معترباً القتال الأول مقدمة للقتال الثاين و�رشط ًا له ،ذلك �أن القتال امل�ؤ�س�س على اخلط�أ ،ي�ضيف �إىل الهزائم ال�سابقة هزائم جديدة. ولهذا مل يتعامل كنفاين مع «الفل�سطيني» ب�صيغة املفرد ،ومل يقبل بوهم الفل�سطيني املتجان�س ،قائ ًال بفل�سطينيني يحملون قيم ًا خمتفلة ،حتيل على ال�صدق والإخال�ص والت�ضحية� ،أو على كل ما يخالف ذلك خمالفة كاملة. «فروا» �أقام ق�سمته على فكرة «العار» ،الذي حلق بالفل�سطينيني الذين ّ من وطنهم ،والذي توالد من جديد يف �أر�ض الغربة واللجوء .واتكاء على هذه الفكرة ،ونقي�ضها فكرة ال�رشف ،كتب غ�سان رواياته ما اكتمل منها وما منعه املوت عن �إكمالها. )1انظر جربا �إبراهيم جربا�« :صيادون يف �شارع �ضيق» ،دار الآداب ،بريت،1974 ، و«البحث عن وليد م�سعود» ال�صادرة عن نف�س الدار عام .1978 87
العار الفل�سطيني يف روايته
.1رجال يف ال�شم�س وثمن العار: �أنهى غ�سان كنفاين روايته «رجال يف ال�شم�س» 1963بال�سطور التالية« :انزلقت الفكرة من ر�أ�سه ثم تدحرجت على ل�سانه« :ملاذا مل يدقوا جدران اخلزان؟ ..دار حول نف�سه دورة ولكنه خ�شي �أن يقع ف�صعد الدرجة �إىل مقعده و�أ�سند ر�أ�سه فوق املقود :ملاذا مل تدقوا جدران اخلزان؟.. وفج�أة بد�أت ال�صحراء كلها تردد ال�صدى :ملاذا مل تدقوا جدران اخلزان؟ ملاذا مل تقرعوا جدران اخلزان؟ ملاذا ؟ ملاذا ؟ ملاذا ؟» .2 تت� ّأ�سى اجلملة ال�شهرية« :ملاذا مل يدقوا جدران اخلزان؟» على الجئني فل�سطينيني ماتوا اختناق ًا يف خ ّزان �شاحنة وهم يت�س ّللون �إىل الكويت، وترثي فقراء م�ست�سلمني مل يعرفوا االحتجاج ،وت� ّأمل الت�صاق ًا باملوت �أقرب �إىل الأحجية .بيد �أن دخول ال�صحراء ،ب�صوتها ال�شا�سع ،ي�ضع الأخالقي والوجداين جانب ًا ،ويف�صح عن م�أ�ساة تتجاوز «ال�ضحايا»، كما لو كان يف اختناقهم م�أ�ساة كاملة مغلقة ،ال �سبيل �إىل الفرار منها. املتكررة ،املحت�شدة باللوم والغ�ضب ،برغبة «الكتابة» توحي اجلملة ّ يف �إنقاذ الذين مل ينقذوا �أنف�سهم ،م�ستنفرة املحاكمة العقالنية واحل�س الإن�ساين ال�سليم ،فه�ؤالء الذين قامروا بحياتهم البائ�سة تطلعوا �إىل حياة مغايرة .غري �أن قراءة ن�ص غ�سان ت�ؤكد �شيئ ًا �آخر ،وتقوله مرتني :تقود �صفات «ال�ضحايا» ،املثقلة بالي�أ�س والإحباط وفقر اخلربة �إىل نتيجة وحيدة هي :املوت ،وتقول �أي�ض ًا� :أغلق الروائي �أمام «�شخ�صياته» املنافذ جميعها ودفعهم ،ب�شكل م�ستقيم� ،إىل موت م�ؤكد ال كرامة فيه ،مقتنع ًا االقتناع كله ب�أن املوت املهني هو القدر الوحيد املتاح ل�شخ�صيات بائ�سة مت�ساقطة. ( )2غ�سان كنفاين يف :الآثار الكاملة الروايات ،م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية ،بريوت،2005 ، �ص.152 : 88
تذكر ،وهو ملقى ا�ستهل الروائي حكايته بفل�سطيني متعب القلب ّ يف �صحراء غريبة ،ب�أنه ترك قلبه ال�سليم يف الأر�ض التي تركها ،و�أن «الغربة الآ�سنة» دفعت �إىل �صدره قلب ًا مري�ض ًا« :لي�س يدري ملاذا امتلأ ،فج�أة ،ب�شعور �آ�سن من الغربة ،وح�سب لوهلة �أنه على و�شك �أن يبكي� ..،ص� .»38 :أف�ضت الغربة املوح�شة �إىل يقظة مفاجئة مت�أخرة، فبني رمل ال�صحراء وتراب الأر�ض البعيدة م�سافة ت�ستدعي «البكاء»، وت�أمر بتقريع �أرواح �ض ّلت ال�سبيل .دفعت اليقظة املت�أخرة الفل�سطيني تذكر فل�سطيني �شاء خياراً �آخر ،و ّفر عليه املهانة والت�سل�سل املهان �إىل ّ املهلك يف ال�صحراء .ولهذا تعقد الرواية ،يف �صفحتها الرابعة ،مقارنة بني الفل�سطيني التائه يف ال�صحراء ومعلم «يجيد �إطالق الر�صا�ص»، �سقط مدافع ًا عن �أر�ضه ،وحظي بـ «نعمة �إلهية» وافرة ،وفرت عليه «الذل وامل�سكنة و�أنقذت �شيخوخته من العار» ،كما تقول الرواية. عقدت الرواية ،يف م�ستهلها ،مقارنة بني �شخ�صني وقدرين ،عنوان �أحدهما البندقية والقتال واملوت الكرمي وااللتحاق برتاب الأر�ض، وعنوان ثانيهما الفرار وامل�سكنة والتيه يف ال�صحراء� .أف�صحت الرواية عن املوت القادم قبل جميئه ،مقررة موت ًا ،هو عقاب و�أمثولة مع ًا: عقاب عادل ل�شخ�صيات فقرية ال تعرف احل�سبان ،موت �أمثولة ،ا�ستح ّقه فل�سطيني خلط بني تراب الوطن ورمل ال�صحراء .حمل الفل�سطيني ،قبل يعبد الطريق �إىل املوت ،وحمل بعد يقظته املفاجئة املت�أخرة ،وهم ًا ّ يقظته ي�أ�س ًا فادح ًا مينعه من الوقوف� .صاغ م�صريه من الوهم والعجز، و�صاغه م�صريه �ضحية ملقاة على قارعة الطريق. ال حتيل اجلملة ال�شهرية« :ملاذا مل يدقوا جدران اخلزان ؟» ،واحلال هذه ،على تعاطف �أخالقي ،فالذين فروا من �أر�ضهم ال ي�ستحقون 89
العار الفل�سطيني يف روايته
التعاطف ،وال تطرح �س�ؤا ًال يبحث عن �إجابة ،لأن الإجابة جاهزة وا�ضحة يف مبتد�أ امل�سار .و�إذا كان هناك من �س�ؤال ،فهو احتجاج على اخلروج من الوطن ال على �صمت الهالكني ،بل �إن يف عنف ال�س�ؤال وحرقته دعوة �إىل الفل�سطينيني ،كي يفكروا يف ما�ضيهم وحا�رضهم وم�ستقبلهم ،فقد يرد على العار اقرتفوا �إثم ًا ال ميحوه �إال عقاب �شديد ،وال يغفره �إال ما ّ بف�ضائل غري م�سبوقة ،تدير ظهرها �إىل ال�صحراء وت�سلك درب ًا �صعب ًا �إىل الوطن .وواقع الأمر �أن غ�سان ،الذي عا�ش جتربة اللجوء يف �أكرث �أ�شكالها ب�ؤ�س ًا ،كان خج ًال من �شعبه الالجئ ،وغا�ضب ًا �شديد الغ�ضب على �شخ�صياته ،التي مل ت�شعر بالعار� ،أو �شعرت به يف حلظة مفاجئة مت�أخرة .ولهذا حكم عليها باملوت ،بعد �أن �ألقى �ضوءاً نافذاً على فقرها الروحي واملعنوي :فهي ال تعرف احل�سبان وال حتتج على الإهانة، واهنة مك�سورة �ضعيفة الذاكرة ،م�شدودة �إىل �أحالم �صغرية و�أوهام ما�ض مل كبرية� ،أنانية تعرف الهرب وال تعرف املواجهة ،تعي�ش يف ٍ حت�سن الدفاع عنه ،ويف حا�رض ال تعرف التعامل معه ،وتبني �أحالم ًا من ورق وتراها يف م�ستقبل ال تدرك من معناه �شيئ ًا. ي�أتي املوت �إىل �شخ�صيات «رجال يف ال�شم�س» من طرق متعددة: متوت لأنها تفتقر �إىل الوعي وامل�س�ؤولية ،ومتوت من�صاعة �إىل «خالقها»، �أي الروائي ،الذي ر�أى يف ا�ستمرارها يف احلياة عاراً ،ومتوت لأن املوت مكتوب يف م�سارها ،ب�سبب قدر �أقرب �إىل اللعنة .فالالجئ الباحث عن «الزيتون» يف ال�صحراء يح�صده املوت ،واملعلم النزيه املقاتل ي�سقط قتي ًال فوق �أر�ضه ،وقريب ال�شاب املهان قاتل وانتهى �إىل الرتاب، والأنثى املبتورة ال�ساق لها وجه مري�ض ال �شفاء له ..يت�ساقط املوت على الفل�سطيني ،يف رواية غ�سان� ،إن قاتل ومت�سك ب�رشفه� ،أو � ْإن هرب مع عاره والذ بالفرار .ي�ضيء هذا الو�ضع امل�أ�ساوي ال�س�ؤال اللحوح: 90
«ملاذا مل يقرعوا جدران اخلزان؟» ،الذي يرتجم قدراً ظامل ًا ال هرب منه، قرع الفل�سطيني اجلدار ال�صدئ �أو ارت�ضى مب�صريه ورحل �صامت ًا .وهذا الإ�شكال هو الذي يعني رواية غ�سان عم ًال �أدبي ًا فريداً ،يف جمال الأدب الفل�سطيني ،نفذ �إىل قرار امل�أ�ساة الفل�سطينية ب�شكل غري م�سبوق ومل يتكرر ،حتى الآن.3 ا�ستهل غ�سان ن�صه بفل�سطيني عاجز منوذجي ،يجمع بني الوهم وال�شيخوخة و�ضعف احليلة ،و�أعاد �إنتاجه يف �شخ�صيات فل�سطينية متعددة ،تختلف يف العمر وتتوازع جميع ًا تداعي ًا قات ًال .فال�شخ�صية املفتتح (�أبو قي�س) احتاجت �إىل «ع�رش �سنوات كبرية جائعة» ،كي ت�صدق �أنها فقدت ال�شجر والبيت وال�شباب والقرية كلها ،وال�شاب (�أ�سعد) ال يحرك �ساكن ًا �أمام �ضابط ب�صق «على وجهه و�أخذت الب�صقة ت�سيل ببطء نازلة من جبينه» ،وال �أمام �إن�سان بليد �سخر منه ون�صحه ب�أن «ال ت�أكله اجلرذان قبل �أن ي�سافر» .وكذلك حال «ال�صبي» الذي «م�ضغ ذله» حني هوت على وجهه يد ثقيلة متوعدة ،و�صفه �صاحبها ب�أنه «ينوح كالأرامل »..والدليل العنينّ ،الذي قاتل وانهزم ،وال يزال يعتقد �أنه قادر على «قيادة» غريه �إىل «�أر�ض ال�سعادة» .بل � ّإن يف هذا الدليل طريق ًا �آخر �إىل املوت ،فهو دليل ج ّثة ،ال ي�ستطيع الإجناب ،ي�سوق �أمامه جثث ًا �أخرى ،منتظراً بدوره قرباً مزبلة .ر�سم غ�سان �رشط ًا م�أ�ساوي ًا ،يفتقر �إىل �أبطال م�أ�ساويني� ،رشط ًا �أقرب �إىل اللعنة ،وقوده ب�رش �أ�ضيق من �رشطهم التاريخي ،ووجهه الآخر �صهيونية مقاتلة حملت معها� ،إ�ضافة �إىل الدعم الإمربيايل ،حداثة �أوروبية ت�ضبط العالقة بني الهدف والغاية. و�إذا كانت امل�أ�ساة ،يف بعدها التاريخي ،ت�صدر عن م�رشوع �صهيوين ( )3انظر يف هذا املو�ضوع الدرا�سة الالمعة للناقد الف�سطيني يو�سف �سامي اليو�سف« :غ�سان كنفاين :رع�شة امل�أ�ساة» ،دار �أزمنة ،عمان.1999 ، 91
العار الفل�سطيني يف روايته
وعن فل�سطيني ي�سري يف درب ال ي�سيطر عليه ،فقد جاء بعدها الوجودي من «�صدفة عمياء» وقعت على الفل�سطيني ومل تقع على غريه .فقد اختار امل�رشوع ال�صهيوين فل�سطني ،بعد �أن �رصف النظر عن �أوغندا و�سيناء وموزامبيق والأرجنتني ،مدخراً �شقاء االختيار ل�شعب فل�سطني ،الأمي يف �أغلبيته ال�ساحقة ،املحمل ب�إرث عثماين من الفقر والتخ ّلف وغياب الوحدة املجتمعية .4وهذه الأ�سباب متنع الفل�سطيني ،الذي يعي�ش �رشط ًا م�أ�ساوي ًا ،عن �أن يكون بط ًال تراجيدي ًا ،الذي يحت�شد ،منطقي ًا ،بقيم نبيلة يفتقر �إليها الالجئ الباحث عن ظالل الزيتون على حدود الكويت. ملاذا و�ضع الروائي يف ال�شخ�صيات �صفات تقودها �إىل املوت ،وملاذا اختار لها م�صرياً قا�سي ًا ،جمع بني املوت اختناق ًا واالنتهاء �إىل مزبلة، بال قرب �أو �صالة �أو طقو�س؟ ي�أتي اجلواب من اجتاهني :ت�صور غ�سان كنفاين ملعنى اللجوء و«الفرار» من الوطن ،ووظيفة الكتابة الأدبية يف هذا الت�صور .كثف كنفاين معنى اللجوء يف �أحوال �شخ�صياته و�أقوالها وممار�ساتها ،م�ساوي ًا بني اخلروج من فل�سطني والعار ،فال يهرب الإن�سان من وطنه �إال �إذا كان غري جدير به ،وغري جدير ب�صفة الإن�سان ال�سوي �أي�ض ًا .يتعني املوت يف هذا الت�صور عقاب ًا عاد ًال� ،إنه ثمن العار ،بقدر ما يف�صح املوت املهيمن عن عار وا�سع ،يك�سو الفل�سطيني من ر�أ�سه �إىل قدميه .ولعل م�ساواة التخلي عن الوطن بالعار ال�شامل هي التي قادت غ�سان �إىل و�ضع �أبطاله يف دائرة مغلقة مهلكة ،لها باب وحيد ينفتح على املوت واملزبلة ،وهي التي �أملت عليه �أن ي�سوقهم ،بق�سوة باردة، �إىل م�صريهم احلزين. ( )4د .عبد الرحمن الكيايل :تاريخ فل�سطني احلديث الطبعة الثالثة امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�رش ،بريوت� ،1973 ،ص.45-43: 92
�إذا كان قرب الفل�سطيني املك�شوف جاهزاً يف بداية الطريق �أو يف نهايته ،فلماذا �أرهق غ�سان كنفاين قارئه ب�س�ؤاله اللحوح« :ملاذا مل يقرعوا جدران اخل ّزان؟» .ينطوي الإقرار باملوت الفل�سطيني الذي ال هروب منه على اجلواب ،ذلك �أن ال�س�ؤال يدور حول عمق وات�ساع امل�أ�ساة الفل�سطينية ،التي تلتب�س باللعنة،ال حول الجئني �ضائعني خدعهم الطريق .انطلق غ�سان من فكرة العار ،داعي ًا �إىل «�رشف فل�سطيني» ميحو العار ،ويعيد الفل�سطيني «�سوي ًا» كما كان .مع ذلك ف�إن منظوره ،كما جاء يف الرواية ،يتوزع على اجتاهني :اجتاه �أول عالقاته اللجوء والوطن، يق�ضي بتوليد وعي فل�سطيني متحرر من الأوهام ،وي�ضبط العالقة بني الغاية والو�سيلة .والوا�ضح يف هذا االجتاه :بطولة القيم ،فقد يقود احل�س الأخالقي النبيل �إىل «الكفاح امل�سلح» ،بينما ال يفرت�ض الكفاح امل�سلح، دائم ًا ،االن�ضباط الأخالقي .يحيل االجتاه الثاين على «اللعنة»� ،أو على تعقد امل�أ�ساة الفل�سطينية ،التي تواجه �إ�رسائيل واحلداثة الأوروبية التي �أنتجتها ،م�صيرّ ة «حترير فل�سطني» �إىل هدف �صعب «بعيد». قر�أ غ�سان م�أ�ساة الفل�سطيني يف الفرق بني �إمكانياته و�إمكانيات عدوه ،ويف «تخ ّلف عربي» ال �أفق له .فـ «العرب» الذين قابلهم الفل�سطيني، يتميزون بالغلظة واجل�شع والكذب، وهو ينتقل من بلد عربي �إىل �آخرّ ، ي�ضيفون �إىل الفل�سطيني املقهور قهراً جديداً .ال غرابة ان كتب غ�سان رواية مفعمة بالت�شا�ؤم يف زمن بدا متفائ ًال ،1963 :حيث القومية العربية �صاعدة وحديث التحرر م�سيطر و«النا�رصية» عالية ال�صوت يف كل مكان ،موحي ًا ب�أن للفل�سطيني قدراً خا�ص ًا به ال يتقا�سمه مع جميع العرب. واجه غ�سان فكرة العار بفكرة ال�رشف ،مبتدئ ًا من الإن�سان ال من 93
العار الفل�سطيني يف روايته
موحداً بني االنتماء �إىل فل�سطني وبطولة القيم .قاده «قد�سية الرتاب»ّ ، االجتاه الثاين القائم يف �س�ؤاله �إىل فكرة �أكرث حتديداً عنوانها :اال�ستعداد الكامل الطليق للموت ،الذي يجعل الإن�سان احلقيقي �سيداً على م�صريه، ويتيح له �أن يواجه «اللعنات» متى ي�شاء وبالطريقة التي ي�شاء .ف�صل غ�سان يف �أعماله الأدبية ،با�ستثناء روايته «�أم �سعد» ،بني البطولة واالنت�صار ،وبني الفعل البطويل وم�آله ،معترباً �أن معنى الإن�سان ماثل يف ما �أراد ال يف ما و�صل �إليه .قاده هذا الف�صل ،القريب من «عدمية مقاتلة»� ،إىل ف�صل موازٍ بني املوت املثمر الذي يرعى احلياة واحلياة العقيمة التي حتتفي باملوت .وب�سبب ذلك تبدو «رجال يف ال�شم�س» رواية عن املوت يف �شكليه :فاحلياة الذليلة التي ي�ساكنها موت ذليل وا�ضحة يف الالجئ الذي باع عائلته طمع ًا بغرفة من اال�سمنت ،ويف املر�أة الك�سيحة التي ت�شرتي زوج ًا بغرفة مريحة ،ويف الدليل الذي يهرب �أرواح ًا ويزهقها ،ويف موظف احلدود امل�شغول براق�صة وهمية.. ّ �أما املوت املزهر فيتوزع على الفل�سطينيني الذين مت�سكوا برتاب وطنهم ودفنوا فيه. تطرح رواية «رجال يف ال�شم�س» �س�ؤال الهوية :من هو الفل�سطيني؟ وما هو ال�رشط الذي يحقق هوية فل�سطينية؟ ي�أتي اجلواب من �شكل املوت الذي يختاره الفل�سطيني �أو ي�أتي ،بلغة �أقل م�أ�ساوية ،من عامل القيم ،حيث «الفل�سطيني اجلوهري» حري�ص على �رشفه .بيد �أن تعقد امل�س�ألة الفل�سطينية ،الذي يحيل على عامل القيم والوعي التاريخي ويحول الهوية ومبادئ احلداثة ،يجعل �س�ؤال الهوية �أكرث �صعوبة، ّ املن�شودة �إىل م�رشوع م�ستقبلي مفتوح .ف�إذا كانت الهوية ال وجود لها، نظري ًا� ،إال مبواجهة هوية مه ِددة (بك�رس الدال) مغايرة ،ف�إن حتقق الهوية املهددة (بفتح الدال) يقا�س بقدرتها على هزمية نقي�ضها� ،أو �إخ�ضاعه، َ 94
وهو �س�ؤال مرهون مبيزان القوى ال مببادئ الأخالق.5 يك�شف الكفاح من �أجل هوية وطنية مت�سقة عن الفرق بني الت�صور الفقري للكفاح الفل�سطيني ،الذي يربط حياة الق�ضية بحياة الناطقني والت�صور الأخالقي للتحرر ،الذي يعت�صم بالقيم الكبرية وينبذ با�سمها، ّ «امل�ساومات املو�سمية» جانب ًا. بد�أ غ�سان من �س�ؤال العار وو�صل �إىل امل�أ�ساة ال�شاملة ،وت�أمل عالقة مزود بالأخالق والوعي الفل�سطيني بعدوه ،وطالب بـ فل�سطيني نوعي ّ واملعرفة يقاتل ،بثبات ،وال ينتظر ن�رصاً قريب ًا .ي�صبح الفل�سطيني، تعريف ًا ،الإن�سان ال�سائر �أبداً �إىل التحرر من «عاره» ،و�إىل ا�ستئناف حياة �سوية ممكنة وغري ممكنة مع ًا. ّ
والتدرب على م�سح العار: « .2ما تبقى لكم» ّ من �أقوال غ�سان كنفاين« :كان الفرار موت ًا» .تك ّثف اجلملة حكاية «رجال يف ال�شم�س» والقول الذي �أرادت الربهنة عنه .فهي ترى يف «الفارين» �أموات ًا �أُ ِّج ّل دفنهم� ،أو موتى بال قبورّ � ،إما لأن �أنفا�سهم مل ّ تخمد متام ًا ،حال الدليل العاجز� ،أو لأنهم غري جديرين بقبور ت�سرتهم. ي�رسد احلرمان من القرب حكاية الأموات الذين حرموا منه ،ويعلن �أنهم ال ي�ساوون الب�رش العاديني الذين ينتهون �إىل قبور تخ�صهم .يظهر عار الفرار يف عار الحق ،ويرمي على الفل�سطيني بف�ضيحة ال ي�ستطيع الت�سرت عليها. ( )5راجع «العروبة وق�ضية فل�سطني» (حوار مع ق�سطنطني زريق) ،م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية ببريوت .1995 95
العار الفل�سطيني يف روايته
عاد غ�سان �إىل مو�ضوع العار يف روايته الالحقة «ما تبقى لكم» ،1966حماو ًال �أن يرتب ،كتابي ًا ،عامل ًا فل�سطيني ًا «غري مرتب» على الإطالق ،كما جاء يف «التو�ضيح» ،الذي ُت�ستهل به الرواية .و�إذا كان يف روايته الأوىل قد ترجم وجوداً فل�سطيني ًا ين�ضح بالعار ،دون �أن يلج�أ �إىل الكلمة �إال بقدر حمدود ،فهو يف روايته الثانية يتناول حكاية العار، ب�شكلها الأكرث مبا�رشة رابط ًا ،رمزي ًا ،بني البعدين االجتماعي والوطني. حتدث الرواية عن �أنثى «فقدت �رشفها» وتزوجت «بعد احلمل» زواج ًا بائ�س ًا ،تخفيف ًا من «الف�ضيحة» التي ال ميكن تخفيفها .بيد �أن احلكاية التي تبدو تقليدية ال تلبث �أن حتت�شد ب�أبعاد رمزية تدع «العار الوطني الفل�سطيني» عاري ًا .فعائلة الفتاة امل�ستباحة هربت ،يف عام �سقوط فل�سطني ،من يافا �إىل غزة ،وهو ما يعني الهرب مبتد�أ للعار ،خم ّلفة وراءها ،ب�سبب الرعب و«�ضيق القارب» «�أم ًا �ضائعة»� ،إ�شارة �إىل عائلة رخوة يتلو كل خلل فيها خلل �آخر .وواقع الأمر �أن غ�سان ال�ساخط على �شعب رخو ،يفتقر �إىل العزمية وو�ضوح احل�سبان ،ير�سم وجوداً فل�سطيني ًا يدفعه تداعيه ،ب�شكل م�ستقيم� ،إىل الكارثة .فقد فقدت العائلة «الأب» قبل الهرب ،و�ضاعت «الأم» حلظة الهرب ،و�سقط «�رشف الفتاة» ،الحق ًا، بعد �أن رحلت «اخلالة املري�ضة» ،تاركة وراءها «�شابة جائعة» و�صبي ًا تائه ًا ،يف انتظار «جنني غري �رشعي» ،وزواج ما هو بالزواج بـ«�صداق م�ؤجل». ي�ست�أنف غ�سان يف «ما تبقى لكم» الت�صور الذي �أقام عليه «رجال يف ال�شم�س» .فمثلما �أن «الفرار موت» ،يواجه الالجئ يف بداية الطريق �أو يتك�شف يف عام الهرب �أو بعده بقليل .ي�صبح نهايته ،ف�إن «الفرار عار»ّ ، العار موت ًا �آخر ،ويتعينّ «الفرار» مرجع ًا للموت والعار مع ًا ،فهو اخلطيئة تبدل معنى املوت واحلياة ،وهو البداية الزمنية الغرتاب ال القاتلة التي ّ 96
خروج منه ،ول�سقوط مدو لن يعود الوجود الفل�سطيني بعده كما كان. ومع �أن يف حا�رض اللجوء ب�ؤ�س ًا معلن ًا ،ف�إن �آماد الب�ؤ�س ال تتج ّلى وا�ضحة �إال با�ستذكار �صورة الوطن الذي كان .كانت الفتاة امل�ستباحة، قبل عام الفرار ،ذكية المعة واعدة «وردة املن�شية» تنتظر زوج ًا حمرتم ًا قبل �أن تتزوج ،وهي حامل يف �شهرها الرابع ،من «الجئ ننت» متزوج وله خم�سة �أطفال .يجعل ال�سقوط من زمن �إىل �آخر ،ومن مكان �إىل غريه، املوت حا�رضاً قبل جميئه ،والعار حا�ص ًال قبل وقوعه ،فلوال الفرار ملا جاء املوت املهني وال �ضاع ال�رشف .ولعل وحدة املوت والعار ،الذي هو موت �آخر ،هو الذي يدفع بال�سارد �إىل القول :ما تبقى لكم« ،ما تبقى يل، «جحر قميء» ،وزوج «ي�شبه القرد» ،و�أم غائبة ما تبقى لها» ..واملتبقي ُ منذ �ستة ع�رش عام ًا. ميز غ�سان بني امل�أ�ساة الأ�صل ،وامل�آ�سي ال�صغرية الالحقة ،التي ّ تعبرّ عن امل�أ�ساة الكربى وال ت�ضيف �إليها �شيئ ًا ،وبني العار الأ�صل ،الذي يتنا�سل طليق ًا يف عار فتاة �أو عائلة .وب�سبب �سيطرة الأ�صل على غريه، يكون فل�سطينيو اللجوء �شظايا �إن�سانية ال قوام لها� ،أو دمى م�ست�سلمة يت�رصف بها الزمن وال ت�سيطر عليه يف �شيء .ولهذا تذهب «الأرواح امليتة» �إىل التمني « :لو كانت �أمك هنا ،و�أمه مل تكن هناك �أبداً ،ولو كانت جدتك هنا ،لو ..لو ..منذ �ستة ع�رش عـام ًا .وهـو يقول لها :لو كانت �أمك هنا» .6والأم هي «الأر�ض القريبة» ،التي ال ميكن الو�صول �إليها، التي تقود الفل�سطيني �إىل «موت جاهز» ،ي�سبقه العار وتتلوه الف�ضيحة. عينّ ال�سارد «الوجود الآ�سن الفل�سطيني» ب�شخ�صية الزوج ،الذي انتهت �إليه «وردة املن�شية» ،و�أعطاه �صفات مطابقة« :الكلب الذي جمرد لطخة يف مكان غري �سي�صبح �صهره ،كان �ضئي ًال ب�شع ًا كالقردّ ، ( )6الأعمال الكاملة« :ما تبقى لكم»� ،ص.179 : 97
العار الفل�سطيني يف روايته
منا�سب ،الننت ،املخادع ،الوا�شي ،املتطامن �أمام الإ�رسائيليني» .ومع �أن ال�صفات ،يف �سلبها املوجع ،تقع على فرد حمدد منحط الأخالق فهي تقع ،يف الوقت نف�سه ،على ال�شخ�صيات التي قبلت به ،متثلت بالفتاة املتعلمة اجلميلة العريقة الأ�صل ،التي هي «الق�ضية الفل�سطينية» يف التحديد الأخري� ،أو متثلت بـ «ال�صبي» ،الذي �سقط والده يف فل�سطني. ولهذا يقول ال�صبي�« :أنت ملطخة و�أنا خمدوع ..لو كانت �أمك هنا ..لقد يلوثها� ..ص .»167 - 165يبدو امل�آل الفل�سطيني ،بعد الهرب، تركته ّ ملوث ًا وملطخ ًا وخمدوع ًا ،ويبدو كل �شيء «م�ؤج ًال» ،كما لو كانت الروح ّ الفل�سطينية قد �أدمنت املهانة .وكما هو احلال يف «رجال يف ال�شم�س» يك�شف غ�سان عن كراهية �شديدة لذل �شعبه ،وعن مقت حارق لهوانه وم�سكنته ،والكلمات الثالث :الذل ،املهانة ،امل�سكنة ،واردة يف روايتيه غري مرة� .أين تكمن امل�أ�ساة الفل�سطينية يف هذه احلدود ؟ ت�أتي امل�أ�ساة من الفقد ،الأمان املنق�ضي والي�رس الراحل والتميز االجتماعي املندثر ولوعة الفقد ،التي جتعل املا�ضي عالقة يف احلا�رض، ومن العجز عن ا�ستعادة ما كان �أو ن�سيانه« :منذ �ستة ع�رش عام ًا ،وهو يقول لها :لو كانت �أمك هنا»« ،لو كانت �أمي هنا لكان جل�أ �إليها»�« ،أي ب�ؤ�س �أم�ضيت حياتك فيه جعلك تقبلني بهذه النهاية� ،أي حياة تع�سة جـعلتك تقبلني به»»« ،لقد جعل من �أمه البعـيدة ملج�أ ي�ؤمه ذات يوم �صعب ،وان�رصف �إىل تكبـريه و�إعداده �إىل درجة ن�سي فيها �أن يبني يف نف�سه رج ًال ال يحتاج يف اليوم ال�صعب �إىل ملج�أ� ،ص.»195 ،194 : ت�صدر امل�أ�ساة ،يف وجه منهما ،عن اخلطيئة الأ�صل ،وت�صدر �صارخة، وفق ًا ملنطق غ�سان ،عن اال�ستكانة الفل�سطينية التي جتايف مبادئ الكرامة
الب�سيطة ،وعن انتظار بليد ال ينتظر �شيئ ًا .7وغ�ضب غ�سان احلارق على �شعب ال يعرف معنى الزمن ،يدفعه �إىل حتديد �سنوات االنتظار القاتلة. فهو ي�شري يف «رجال يف ال�شم�س» �إىل ع�رش �سنوات من االنتظار البليد، و�إىل �ستة ع�رش عام ًا من عقم االنتظار يف «ما تبقى لكم» ،و�إىل ع�رشين �سنة من وهم الذكريات يف «عائد �إىل حيفا»� .أملى عليه انتباهه �إىل قيمة الزمن ومعناه ،كما ت�صوره الغا�ضب من ب�رش ي�ساوون بني الزمن واالنتظار� ،إىل تعيني «ال�ساعة» �شخ�صية بني �شخ�صيات �أخرى ،تر�صد اليقظة والهمود ونب�ض القلب وحركة اليد ،وتنطق با�سم املوت وامليالد دمع ًا. خلق غ�سان �شخ�صيات« :ما تبقى لكم» ،ثم قذف بها �إىل قرار املذلة، كي ي�أخذ بيدها �إىل مترد ال �ضمان فيه ،ي�ستوي فيه الربح واخل�سارة، كما لو كانت قيمة التمرد قائمة فيه لأنه قيمة عليا ،دون النظر �إىل النتائج الالحقة به .مت ّثل ذلك يف واقع الفتاة وم�آلها :عان�س تعتمد على �أخ ال ُيعتمد عليه ،تعي�ش يف «جحر قميء» يف منطقة بائ�سة ،ترى �إىل �ساعة ت�شبه «النع�ش» تتزوج ،دفع ًا للعار ،بـ «�صداق م�ؤجل» ،من رجل متزوج ي�شبه القرد .وهذا الأخري ،الذي خدع �صديق ًا وو�شى ب�آخر �أعدمه الإ�رسائيليون ،يطلب من زوجة مل تكلفه �شيئ�أً :الإجها�ض»، ويهددها بالطالق والعقاب ،يراكم غ�سان مذلة ال حتتمل م�ستعيداً� ،شكل �آخر ،جملة «ملاذا مل يقرعوا باب اخل ّزان» ،ليقول �إن م�أ�ساة الفل�سطيني هي الفل�سطينيون �أنف�سهم ،الذين يبلعون احل�صا واحلجارة والغبار والأ�سالك ال�شائكة ،دون �أن يلتفتوا �إىل حلوقهم� ،أو يرفعوا �شكوى قليلة �أو كثرية� .إنه ي�ضع �إ�صبعه يف عيون امل�ستذلني املهانني ،كي يعلمهم ( )7يجد القارئ مدخ ًال �إىل مو�ضوع امل�أ�ساة يفRebecca Bushnell: Tragedy, : Black well, London, 2008بخا�صة يف الف�صل الثالـــث �ص.83 - 52 :
98
99
العار الفل�سطيني يف روايته
ف�ضيلى الوقوف ،ويخربهم ب�أن �أي خيار يقعون عليه �أف�ضل من الب�ؤ�س الذي يعي�شونه .ولذلك يدعو �إىل مترد بال �ضمان ،و�إىل خروج من اجللد امل�ستهلك القدمي� ،سيان �إن ح�صل الفل�سطيني على قمي�ص �أو بقي عاري ًا، لأن قبوله باملهانة امل�ستدمية هو :العري الكامل ،الذي يتنا�سل منه عار متعدد الوجوه. يتجلى التمرد الذي ال �ضامن له يف م�آل ال�صبي ،الذي علك �أ�سنانه طوي ًال ومل يعرف قرب �أبيه وال مكان �أمه ،ويف م�آل �أخته ،التي اتخذ منها «القرد الوا�شي» ت�سلية جمانية يختلف �إليها وهو راجع من املدر�سة �إىل بيت زوجته الأوىل� ،أو ذاهب منه �إىل املدر�سة .ك�أن غ�سان ي�سوط «�شخ�صيتيه» لتتمردا ،فهو خجل من عجزهما وخجل �أكرث من انت�سابهما �إىل ال�شعب الذي ينت�سب �إليه .ومع �أن يف م�آل ال�شخ�صيتني ما يوحي باالنت�صار ،فهو �أقرب �إىل «اخل�سارة» من �أي �شيء �آخر :فالفتاة حتمل �سكين ًا وتقتل زوجها ،وال�صبي يت�أهب لقتل جندي �صهيوين يف مكان ي�سيطر عليه اجلي�ش الإ�رسائيلي� .أراد غ�سان �أن يعطي امل�ستذلني در�س ًا يف الوقوف ،يحررهم من عار اخل�ضوع وال يعدهم ب�شيء ،لأن الإح�سا�س بالعار والتمرد عليه هو االنت�صار الأكرب .لكن حترر الفل�سطيني من عاره ،الذي هو جوهر م�أ�ساته ،يحمل يف طياته م�أ�ساة الحقة ،فال قتل «الوا�شي القبيح» يعطي للمر�أة حياة جديدة ،وال قتل اجلندي الإ�رسائيلي ي�ستقدم الأم البعيدة .فما يتغري يدور داخل الفل�سطيني وال ينفتح على خارجه ،وما يختلف ال يبدل من املعي�ش الفل�سطيني �شيئ ًا. ي�ضع العامل الفل�سطيني املغلق على �أحزانه و�أوهامه ومترده يف كتابة غ�سان نربة م�أ�سوية وا�سعة ،ذلك �أن الفل�سطيني مهان �إن �صمت وخا�رس �إن حترك .ولأن اخل�سارة الآتية من ال�صمت �أكرث فداحة من اخل�سارة 100
يتكيف مع «املوت» املت�أتية من التمرد ،يكون على الفل�سطيني �أن ّ وال يهابه �أبداً .تنتهي الرواية بالكلمات التالية�« :أ�ضاء �شعاع ال�شم�س ودوى �صوت ال�صمت ال�ضيق امل�سرتب من النافذة خط ًا رفيع ًا من الدمّ .. «ودوى فج�أة� ،ص .»233 :تنطوي جملة «�أ�ضاء �شعاع ال�شم�س» ،كما ّ �صوت ال�صمت» ،على نربة انت�صارية ،من دون �أن تكون انت�صارية على الإطالق فما يجري «داخل الفل�سطيني» ال مي�س «خارجه» يف �شيء .يقول ال�صبي الذي اختار التمرد« :لقد حملت �أمي ال�سـر معها وتركتنا .ما تبقى لها ما تبقى لكم .ما تبقى يل .ح�ساب البقايا .ح�ساب اخل�سارة .ح�ساب املوت .ما تبقى يل يف العامل كله :ممر من الرمال ال�سوداء ،عبارة بني خ�سارتني ،نفق م�سدود من طرفيه .كله م� ّؤجل ،كله م� ّؤجل� .ص.»215 : �إن «املتبقي الف�سطيني» ،كما يقول ال�صبي ،ب�ؤ�س يجر الفل�سطيني �إىل يحرر الفل�سطيني من ب�ؤ�سه .و�إذا كان «املتبقي الفعلي» موته� ،أو موت ّ موت ًا مهين ًا ،فمن الأف�ضل والأر�شد �أن يختار الفل�سطيني «موت ًا كرمي ًا» ي�سرت به عريه وعاره مع ًا� .أعاد غ�سان يف «ما تبقى لكم» حكاية «رجال يف ال�شم�س» ب�شكل �آخر .ر�سم يف الرواية الأوىل بائ�سني اختار لهم دليل بائ�س موت ًا بائ�س ًا ،ور�سم يف الرواية الثانية بائ�سني طردوا «الدليل» الب�شع كالقرد واختاروا موت ًا مغايراً .والنتيجة ،يف احلالني ،هو املوت، و�إن كان «موت عن موت يفرق» ،وهو ما عبرّ عنه غ�سان ب�صيغة �أخرى، حني قال على ل�سان «�أم �سعد»« :خيمة عن خيمة تفرق»� .8أخذ «الوا�شي القبيح» ،يف «ما تبقى لكم» دور الدليل يف «رجال يف ال�شم�س» .فالطرفان فل�سطينيان ،وكل منهما �أناين مهزوم م�شغول مبنافعه الفقرية .و�إذا كان الأول قد دفع فل�سطيني ًا بائ�س ًا �إىل قتله ،فقد تابع الثاين حياة خالية من احلياة ،فهو عقيم وعاجز عن الإجناب. ( )8غ�سان كنفاين :الآثار الكاملة ،م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية ،بريوت ،2005 ،رواية �أم �سعد، الف�صل الثاين� ،ص.257 : 101
العار الفل�سطيني يف روايته
ترجم غ�سان يف «ما تبقى لكم» جملة «ملاذا مل يقرعوا جدران اخل ّزان؟» بت�شا�ؤم �أقل ،فه�ؤالء الذين ينتظرون يف «خ ّزان ال يطاق» ،خرجوا منه وقتلوا «�سائق ال�شاحنة»� .رشح امل�ؤلف يف رواية كثيفة الرموز معقدة «مبادئ التمرد على العار» و�أ�ساليب مواجهته :املغامرة« ،التحالف مع الطريق» ،ا�ستعمال ال�سكني ،النقد الذاتي واخلروج من «القرب» �إىل �سطح الأر�ض ..ومـع �أن الروائي �شاء بنية فنية غري تقليدية ،فقد كان م�سكون ًا بهدف تربوي ،يف�صل بني الزائف واحلقيقي ،وبني ما هو قائم وما يجب �أن يكون .عينّ «الزمن» �شاهداً على االنتقال من مكان �إىل مكان ،ومن «�أرواح �آ�سنة» �إىل �أرواح م�ضطربة قلقة متوترة� ،إعالن ًا عن وليدة �سعيدة حزينة� :سعيدة هي لأنها مت�سح العار بالت�ضحية بالذات ،وحزينة هي لأن م�آل «الفرد ال�شجاع» ال ي�ساوي م�آل الق�ضية التي يدافع عنها .فبني رغبة الأفراد وم�شيئة التاريخ هوة يحتاج جت�سريها �إىل زمن ال ميكن ح�سبانه.
.3عائد �إىل حيفا وال�صهيوين املعلّم: �رشح غ�سان يف «ما تب ّقى لكم» الطريقة الوحيدة التي ي�ستعيد بها الفل�سطيني «�رشفه املفقود»ّ � .أما يف روايته «عائد �إىل حيفا» ،في�رشح ق�ضية» ،و�أن مقرراً �أن «الإن�سان ّ الفرق بني «الإن�سان ال�رشيف» ونقي�ضهّ ، ال�رشيف هو الذي يقاتل من �أجل ق�ضيته ،و�أن الإن�سان املج ّلل بالعار هو الذي يتخ ّلى عنها ويرتكها يف العراء .يتم ّثل «ال�رشيف» ،الذي �أدار غ�سان حديثه عنه بـ «املقاتل ال�صهيوين» ،الذي التزم بق�ضية �آمن بها ،وقاتل من �أجلها ومات يف �سبيلها.9 ( )9في�صل دراج :ذاكرة املغلوبني ،املركز الثقايف العربي ،بريوت� 2002 ،ص.65 - 59 : 102
تدور الرواية حول زوجني فل�سطينيينْ من حيفا �أن�ساهما رعب اخلروج ،يف «�صباح الأربعاء الواقع يف 21ني�سان�/إبريل ،1948 طفلهما ،وعادا يبحثان عنه ،بعد حرب ،1967التي جعلت فل�سطني موحدة حتت االحتالل الإ�رسائيلي .اكت�شف الزوجان �أن الطفل �أ�صبح ّ جمنداً يف اجلي�ش الإ�رسائيلي ،بعد �أن عرثت عليه ورعته وتب ّنته امر�أة يهودية .حتكي الرواية عن معنى اال�سم وانتقال امللكية ووظيفة الأبوة والأمومة وحقوق «امللكية ال�رشعية» وداللة الن�سب واالنتماء� .أخذ «الطفل املفقود» ا�سم ًا يهودي ًا «دوف» ،فمن يظفر ب�شيء يحق له ت�سميته، انتماء جديداً يطابق انتماء الطرف اليهودي الذي تعهده بالرعاية، و�أخذ ً و�ألزمه «التبني» مبهنة �أبيه ،الذي قاتل من �أجل «�أر�ض �إ�رسائيل» ومات يف �سيناء .فال ملكية �إال بالدفاع عنها ،لأن امللكية متلك الأدوات التي حتمي امللكية. بحث الفل�سطينيان عن «طفلهما ال�ضائع» مدفوعينْ بالذكريات و«بداهة احلق» ،نا�سيني �أن «الت�سمية» من حقوق امللكية ،و�أن االحتفاظ بامللكية فعل مقاتل ،ال يلتفت �إىل «التوريث الطبيعي» .وب�سبب ذلك ،ف�إن الطفل الفل�سطيني ،الذي مل يعد طف ًال وال فل�سطيني ًا ،ي�سخر من «عربي مهزوم» ،هو �أبيه القدمي ،الذي �أقنعته �أوهامه �أن «الوطن حفنة من تدعيه الذاكرة يلبيه الواقع .و�ضع غ�سان يف رواية الذكريات» ،و�أن ما ّ عقالنية املحاكمة الالجئ الفل�سطيني يف مواجهة املحتل ال�صهيوين، و�أدار بينهما حديث ًا وا�ضح ًا عن الوطن وااللتزام ،منتهي ًا �إىل نتيجة «منطقية» تقول� :إن الأر�ض ملن يقاتل يف �سبيلها ،و�أن من ال يح�سن تعهده القتال عن �أر�ضه ال �أر�ض له ،و�أن «الطفل» من حق الطرف الذي ّ بالرعاية ،ال من حق الطرف الذي �أجنبه. 103
العار الفل�سطيني يف روايته
حتدثت رواية «عائد �إىل حيفا» عن الوطن وامللكية وال�رشف ،قائلة ّ بـ «�إ�رسائيلي �رشيف» ،وبفل�سطيني لن ي�ستعيد �رشفه �إال �إذا قاتل عدوه ب�أدوات عنوانها :اال�ستعداد امل�ستمر للموت يف �سبيل الوطن .انتهت الرواية ،يف عالقاتها املختلفة� ،إىل ثالث نتائج ،هج�س بها الروائي ومل ي�سيطر عليها متام ًا .تقول الأوىل :ا�ستولد ال�صهيوين حقه مرتكن ًا �إىل جدارة ذاتية ملتزمة مقاتلة ،م�ؤكداً �أن احلق من القوة ،و�أن املقاتل من �أجل حقه يحيل على «ال�رشف» ،قبل �أن يحيل على �صفات �أخرى .وتقول الثانية ،ي�صبح الفل�سطيني جديراً بوطنه املغت�صب� ،إذا حاكى عدوه يف ووحد مثله بني الفعل والعقيدة ،وبني الفكرة واملوت التزامه املقاتلّ ، من �أجلها .تف�ضي النتيجتان �إىل الثالثة التي تقول� :أجنز ال�صهيوين فع ًال �رشد منطقي ًا وم�رشوع ًا و�أخط�أ يف اختيار املكان ،ال �أكرث ،لأن م�رشوعه ّ �أهل حيفا وحرمهم من وطنهم. تقو�ض النتائج الثالث التقييم الأخالقي للحق والباطل ،معتربة القوة ّ مرجع ًا للطرفني ،وت�ؤكد التاريخ م�ساحة مفتوحة ،متتثل �إىل ال�رصاع املادي وال تلتفت �إىل الذكريات والأماين .ولعل مفهوم القوة الواعية لأهدافها ،كما الهدف الذي يقرتح و�سائل حتققه ،هو الذي يعينّ املقاتل ال�صهيوين �أ�ستاذاً للفل�سطيني ،الذي يريد �أن ي�سرتجع وطنه .فقد «خلق» ورباه و�أعطاه ا�سم ًا، ال�صهيوين انت�صاره ،حني عرث على «طفل مهجور» ّ وخلق الفل�سطيني هزميته� ،أو عاره ب�شكل �أدق ،حني تخلى عن وطنه «عرث عليه» و�آخر �أ�ضاعه �صاحبه، و«طفله» مع ًا .تدور العالقة بني وطن ُ من ناحية ،وبني �إن�سان يعرف معنى الت�ضحية وااللتزام الوطني و�آخر ت�ساهل يف الأمرين مع ًا .تلخ�ص الرواية قولها يف اجلملة التالية« :كيف ويربياه ع�رشين ي�ستطيع من هو لي�س �أمه ولي�س �أباه� :أن يحت�ضناه ّ 104
حولها �سنة ؟» .تنقد الرواية ،التي �أخذها غ�سان من �أ�سطورة قدمية ّ الأملاين بري�شت �إىل م�رسحية ،النزعة اال�سمية ،التي ت�ساوي بني الكلمات والأ�شياء ،معتقدة �أن القول بفل�سطني امتالك لها .ك�شف اللقاء املبا�رش بني الفل�سطيني وال�صهيوين عن َو َهن القول و�صالبة الفعل ،وع ّلم الأول بالتعرف عليه. �أن ال�صدام مع العدو يق�ضي ّ يقول الفل�سطيني امل�صدوم بعد �أن �أيقظته ال�صدمة من �أوهامه: «فل�سطني ،بالن�سبة لنا ،جمرد تفتي�ش عن �شيء حتت غبار الذاكرة، ماذا وجدنا حتت ذلك الغبار ..غباراً جديداً �أي�ض ًا� .ص .»412 :ولأن فل�سطني �أكرث من ذاكرة ،يلتقي الفل�سطيني باجلندي ال�صهيوين وال يلتقي بفل�سطني ،التي يحتاج اللقاء بها �إىل �أكرث من ذاكرة ،وهو �أمر يتفق عليه ال�صهيوين والفل�سطيني« ،الذي ر�أى يف ال�صهيوين �أ�ستاذاً له». ولهذا يقول الأول متوجه ًا �إىل الثاين« :ت�ستطيعان البقاء م�ؤقت ًا يف بيتنا فذلك �شيء حتتاج ت�سويته �إىل حرب� .ص ،»413 :ويقول الفل�سطيني متوجه ًا �إىل زوجته�« :أمل �أقل لك� ..إنه كان يتوجب علينا �أ ّال ن�أتي .و�إن ذلك يحتاج �إىل حرب؟ هيا بنا� .ص� .»413 :أقام غ�سان ن�صه على تزيد بالغي، منظور عقالين �صارم ،قوامه وحدة احلق والدفاع عنه ،دون ّ ال ي�ضيف �إىل املو�ضوع الأ�سا�سي �شيئ ًا .فقد قابل ال�صهيوين املنت�رص الفل�سطيني املهزوم ،وحاوره وحاججه وا�ستعد ال�ست�ضافته ،ذلك �أن ما هو �أ�سا�سي يف ت�صور غ�سان يتعينّ باملمار�سة والقيم ،التي جتمع بني ال�صهيوين املتحقق والفل�سطيني كما يجب �أن يكون .يتبادل ال�صهيوين املتحقق والفل�سطيني املحتمل املواقع ،فالأول هو الثاين بعد �أن م�سح تتك�شف هذه املعادلة عاره ،والثاين هو الأول الذي حافظ على �رشفه. ّ امل�ضطربة يف قول الفل�سطيني املهزوم�« :إن دوف هو عارنا ،ولكن خالد هو �رشفنا الباقي» .العار هو «خلدون» الذي �أ�ضاعه �أبواه و�أ�صبح 105
العار الفل�سطيني يف روايته
�صهيوني ًا ،وال�رشف هو �أخوه الفدائي الذي �سي�صبح «دوف» فل�سطيني ًا. تدرب على ال�سالح ،يتقا�سمان والنتيجة �صهيوين مقاتل وفل�سطيني ّ اجلدارة �إىل تخوم التطابق .ومهما يكن م�آل احلرب ،التي يحتاجها حمدد بينّ :االلتزام ب�رشف القتال الطرفان ،فامل�شرتك بينهما وا�ضح ّ والربهنة ،يف احلالني� ،إن الإن�سان ق�ضية. نقر�أ يف الرواية�« :إن الإن�سان هو يف نهاية الأمر ق�ضية ،الدموع ال ت�سرتد املفقودين وال ال�ضائعني ،وال جترتح املعجزات� ..أفت�ش عن فل�سطني احلقيقية ،فل�سطني التي هي �أكرث من ذاكرة» .تتو ّزع هذه الأقوال على ال�صهيوين ،الذي يعي�ش ق�ضيته بال �أوهام ،وعلى الفل�سطيني بعد �أن قابل ال�صهيوين ور�أى احلقيقة عارية .ت�ساوي فل�سطني احلقيقية، يف ت�صور غ�سان ،الفل�سطيني احلقيقي املنت�سب �إليها ،الذي ي�ساوي بدوره ُم ُث ًال �إيجابية ،ال تقبل بالعار واال�ست�سالم .فال معنى للأر�ض �إن مزود بالأخالق وال�شجاعة مل تكن وطن ًا ،وال وجود للوطن �إال ب�إن�سان ّ حيز واملعرفة ،ينجبه الوعي والإرادة� ،إن�سان احتمال ،يجب نقله من ّ حيز الواقع .ولهذا ،ف�إن احلديث عن «فل�سطني حقيقية» حديث الفكرة �إىل ّ عن «فل�سطيني حقيقي» ،يجب توليده ،يختلف عن «الفل�سطيني املعطى» امل�شغول بـ «الغبار» والذكريات. ر�أى غ�سان يف ا�ستعادة فل�سطني املحتلة م�رشوع ًا نوعي ًا ا�ستثنائي ًا، يحتاج �إىل فل�سطيني ا�ستثنائي متحرر من ما�ضيه ال�سلبي وحا�رضه القائم على الذكريات .دفعه هذا املنظور �إىل ت�أكيد عن�رصين :ت�أكيد دور املمار�سة� ،إذ الرجوع �إىل فل�سطني بحث م�ستمر عن العنا�رص التي ت�ؤمن ذلك ،والإميان بتوليد جديد حا�سم ،يغاير الفل�سطيني الذي �سبق حيز جديد هو الذي �أملى �سقوط فل�سطني وتاله .ولعل توليد الأ�سئلة من ّ 106
ويتعرف عليه عن على غ�سان �أن يخلق فل�سطيني ًا يعرف ال�صهيوين ّ قرب ،وال يكتفي ب�صورة متوهمة له .فقد ان�رصف اخلطاب امل�سيطر ،بعد هزمية 1967وقبلها� ،إىل ر�سم �صورة جمردة ل�صهيوين جمرد ،ي�ستطيع الفل�سطيني �أن يقاتله دون �أن يعرفه ،ودون �أن يعرف ذاته �أي�ض ًا .ق�صدت مزدوج:التعرف على الآخر ال�صهيوين تعرف ّ رواية «عائد �إىل حيفا» �إىل ّ والتعرف الفعلي على «مادة» الفل�سطيني الذي يريد �أن تعرف ًا فعلي ًا، ّ ّ يحاربه. ا�ستعاد غ�سان ،يف ال�رشط الفل�سطيني ،قاعدة �سقراط« :اعرف نف�سك»، التي ت�أخذ لدى الفل�سطيني �شك ًال �آخر :اعرف نف�سك كي تعرف عدوك، فتقييم العدو �إعادة تقييم للذات ،واعرف عدوك كي تعرف نف�سك، فاملعركة معرفة قبل �أن تكون �شجاعة .ت�أمر القاعدة ،يف وجهيها، الإن�سان الفل�سطيني املقاتل �أو الذي يريد القتال �أن يخلع جلده القدمي، و�أن يعرف الفرق بني اجللد املت�ساقط املهزوم واجللد اجلديد املطلوب احل�صول عليه .يقول «دوف» الع�سكري ال�صهيوين خماطب ًا الفل�سطيني العاجز« :ماذا فعلت خالل ع�رشين �سنة كي ت�سرتد ابنك؟ لو كنت مكانك حلملت ال�سالح من �أجل هذا� ،أيوجد �سبب �أكرث قوة؟ عاجزون ..عاجزون.. مقيدون لتلك ال�سال�سل الثقيلة من التخ ّلف وال�شلل� ..ص .»49 :ما يقوله ّ الع�سكري ال�صهيوين للفل�سطيني هو ما يجب �أن يقوله الفل�سطيني العاجز لنف�سه ،وهو ما يقوله غ�سان ،الذي يتفق كلي ًا مع كلمات املجند الإ�رسائيلي.10 ينطوي لقاء الفل�سطيني مع عدوه على عدة وجوه :معرفة الذات عن ( )10ي�ضيء هذا املو�ضوع كتاب جوزيف م�سعد« :دميومة امل�س�ألة الفل�سطينية» ،دار الآداب، بريوت� ،2009 ،ص 246 - 213:و ،264 - 260على �سبيل املثال. 107
العار الفل�سطيني يف روايته
التعرف على الآخر والتع ّلم منه� ،إدراك معنى املقارنة� ،إذ طريق الآخر، ّ ال معنى لإن�سان �إال مقارنة ب�آخر ،الو�صول الطوعي �إىل النقد الذاتي، حترر احل�ض على االكت�شاف والتجربة ،فلوال اللقاء بالآخر امل�س ّلح ملا ّ الفل�سطيني من �أوهامه ..ترتافد العنا�رص املختلفة مف�ضية �إىل العن�رص امل�سيطر احلاكم لها جميع ًا املتمثل بـ «عامل القيم الوطنية احلقيقية»، الذي يبدو املجند ال�صهيوين مر�آة له ،ويتطلع الفل�سطيني الذي �صدمته بد منه هو التايل :ملاذا التجربة �إىل حماكاته .وال�س�ؤال ال�رضوري الذي ال ّ �أنتج ن�ص غ�سان فل�سطيني ًا �ضاق بجلده ،اقتنع مبحاكاة عدوه واعتربه مقات ًال جنيب ًا؟ للجواب مداخل عديدة� :أولها ذلك القانون القدمي الذي يق�ضي على «املت�أخر» ب�أن يقلد «املتقدم» ،ويدفع بال�ضعيف �إىل مطاولة القوي .يوحي هذا القانون ،يف �سياق كتابة الرواية 1969بفكرة :فتنة املنت�رص ،التي تقنع املهزوم بالت�شبه بنقي�ض له ح ّقق انت�صاراً �ساحقـ ًا، وهو حال اجلندي ال�صهيوين يف حرب .1967ويتعينّ املدخل الثاين با�سرتاتيجية غ�سان الكتابية ،التي ترمي �إىل «ال�صدمة» التي جترب الفل�سطيني� ،إن كان عاق ًال� ،أن يقذف ب�أ�سئلته و�إجاباته التقليدية جانب ًا، و�أن ي�سعى �إىل �أ�سئلة و�إجابات جديدة .ي�ضاف �إىل ذلك افتتان غ�سان امل�ؤكد بفكرة «املوت الإرادي»� ،أو «املوت ال�رشيف» ،التي تالزم �إن�سان ًا نوعي ًا ،يريد �أن يختار موته ،بعد �أن فاته �أن يختار ميالده ،كما جاء يف م�رسحية «الباب» .ي�أتي املدخل الثالث ،وهو ي�ستدعي النظرية الأدبية، من خمادعة الن�ص لكاتبه ،حيث الن�ص ينتج ،يف عالقاته املختلفة، القول الذي �صاغه ال القول الذي �أراده م�ؤلفه. ال تنف�صل رواية «عائد �إىل حيفا» عن ن�صو�ص �سابقة ،من ذلك التجريب الفني �أو القول الرتبوي املق�صود :فقد حاول غ�سان �إدراج تقنية وليم فوكرن يف روايته «ما تبقى لكم» ،كما يعلم الذين در�سوا 108
�أعماله ،وا�ستعاد يف «عائد �إىل حيفا» م�رسحية بري�شت «دائرة الطبا�شري القوقازية» ،و�أعطاها «�صياغة فل�سطينية» .و�ضع يف العملني لقاء بني الفل�سطيني وعدوه ،وو�ضع يف العملني فل�سطيني ًا قلق ًا يذهب �إىل مواجهة عدوه .بيد �أن ما هو م�سيطر يف الن�صني ،كما يف ن�صو�ص �أخرى ،هو: فكرة العار ،الذي �سقط على الفل�سطيني ودفع ثمنه ،وفكرة ا�ستعادة ال�رشف املفقود ،التي ال ترفع الفل�سطيني �إىل مقام «البطل» ،بل جتعل منه «�إن�سان ًا �سوي ًا» ،ال �أكرث وال �أقل ،فال وجود لإن�سان �سوي �أ�ضاع �رشفه. �أقام غ�سان ن�صه على ثنائية �أ�سا�سية تتوالد يف ثنائيات متناظرة: املقاتل وامل�ست�سلم ،القادر والعاجز ،ال�سوي وال�شاذ ..حتت�ضن الثنائية، يف وجوهها املختلفة ،ال�صهيوين والفل�سطيني ،الذي ينفي كل منهما الآخر ،وتظل م�شدوداً �إىل مقولة «الإن�سان ال�سوي» ،الذي يلبي القيم ال�سوية� ،صهيوني ًا احتل �أر�ض غريه �أو فل�سطيني ًا �سقط يف ال�شذوذ ّ وتخ ّل�ص منه .ولعل فكرة «اجلوهر الإن�ساين» ،كما فكرة الإن�سان الذي يت�رصف ب�أقداره وال يدع �أقداره تت�رصف به ،هي التي جعلت غ�سان ّ ي�ستقدم يهودي ًا من خارج فل�سطني �إىل داخلها ،كي تطلب من الفل�سطيني �أن يتحرر من «خارج فل�سطني» و�أن ي�ستعيد «داخلها». انتهى ن�ص غ�سان �إىل ثنائية :اجل ّالد الالمع وال�ضحية القادرة على التع ّلم .يتبادل الطرفان االتهام ويتفقان على امل�ضامني .يقول الإ�رسائيلي للفل�سطيني« :لقد �أم�ضيت ع�رشين �سنة تبكي� ،أهذا ما تقوله يل الآن؟ �أهذا هو �سالحك املفلول ؟� ..ص .»409 :يعيد الفل�سطيني ،وهو يخاطب زوجته ،ما قاله عدوه ب�شكل �آخر« :لقد �شاخت هذه املر�أة حق ًا، وا�ستنزفت �شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة ،دون �أن تعرف �أنها حلظة 109
العار الفل�سطيني يف روايته
مروعة»� .إن اللحظة املروعة حم�صلة لع�رشين �سنة من البكاء والأوهام، واللحظة «الرائعة» هي ا�ستبدال «ال�سالح املفلول» ب�سالح �آخر .تنتهي الرواية بجملة ق�صرية وا�ضحة�« :أرجو �أن يكون خالد قد ذهب� ...أثناء غيابنا»!»� .إن خالد «الفدائي» امتداد مغاير لـ «خلدون» الذي �أ�ضاعه والداه ،و�صورة عن «دوف» املجند الإ�رسائيلي� .إنه ال�رشف الفل�سطيني املتحقق ،الذي يختلف مع ال�رشف ال�صهيوين على «الأر�ض» ،وال يختلف معه يف القيم .فلو كان ال�صهيوين فوق �أر�ض �أخرى لكانا «تو�أمني»، فكالهما م�ستعد للموت يف �سبيل ق�ضيته.
.4ما الذي تب ّقى من غ�سان يف زمن خمتلف؟ عزا كنفاين «العار الفل�سطيني» �إىل وهن الكرامة واجلهل بحقيقة امل�أ�ساة الفل�سطينية ،يف عنا�رصها املعقدة املركبة ،ور�أى بداية احلل يف �أخالق نوعية ومعرفة جديدتني .ومع �أنه نقد خطاب «منظمة التحرير» نقداً �شديداً بعد هزمية حزيران/يونيو ،1967فقد ر�أى يف «الكفاح امل�سلح» ،وكما ر�سمه يف روايته «�أم �سعد» ،مدخ ًال �إىل مرحلة فل�سطينية نوعية« ،اعتربت النقد بال�سالح» قاعدة لكل نقد �آخر .ا�شتق التفا�ؤل من معنى «الفدائي» ،الذي يذهب �إىل «خياره» حراً ،ويعطيه ا�ستعداده للقتال �شخ�صية جديدة ،ومن اعتقاده �أن «الفدائيني» يعبرّ ون عن «روح ال�شعب» ،بعيداً عن «�إدارة تقليدية» مل يثق بها.
واحتفت بغايات يطغى فيها الوهم على الواقع والفئوي على اجلماعي وال�سلطوي على الوطني .ومل يكن ذلك االحتفاء �إال انزياح ًا عن القاعدة التي هج�س بها غ�سان املتمثلة بوحدة :الأخالق ال�صارمة واملعرفة املو�ضوعية .مل يتوقع الأديب الراحل �أن قاعدته �ست�سقط يف مفارقة فاجعة ،ذلك �أن الكفاح امل�سلح ،الذي انطلق ليمحو العار ،دار حول ذاته طوي ًال لينتهي �إىل «عار جديد» .فبعد عقود من الكفاح ابتعدت فل�سطني ومل تقرتب ،و�أ�ضيف �إىل االحتالل الأول احتالل جديد ،وبقي الالجئون يف خميماتهم ،وظل «املجند الإ�رسائيلي» م�سيطراً ،وا�ست�أنف «اخلمود» طريقه �إىل �أرواح كثرية. مل ُتهزم قاعدة غ�سان ب�سبب خلل داخلي ،ومل يهزمها الإرهاب ال�صهيوين� ،إمنا هزمت «فل�سطيني ًا» ،لأن العمل ال�سيا�سي الفل�سطيني فرط بالعالقة ال�رضورية بني الفعل الوطني وال�سيا�سة الأخالقية ،وبني ّ االقرتاح ال�سيا�سي واملعرفة املو�ضوعية ب�سيا�سة �إ�رسائيل و�أهدافها. والآن ماذا تبقى من غ�سان؟ بقيت �أفكاره �صحيحة ،و«تداعت الأطراف الفل�سطينية» القادرة على وعي هذه الأفكار وتطبيقها .ولهذا ا�ستمر «العار القدمي» و�أخذ �أ�شكا ًال جديدة ،جتعل «ح�صاره» �أمراً �صعب ًا وبالغ ال�صعوبة.
جت�سده �أخالق حتررية ّ ميز غ�سان ،منذ البداية ،بني «ال�صحيح» ،الذي ّ ال تعرف امل�ساومة ،وبني «املفيد اليومي» ،الذي يلتفت �إىل «م�صالح فئوية» وي�ضع مبادئ التحرر جانب ًا .وعن هذا «املفيد» املتعدد هم�شت «املبادئ» العنا�رص تطورت ،لأ�سباب خمتلفة� ،سيا�سة فل�سطينية ّ 110
111
112