اإلسالم وأصول احلكم بحث في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم علي عبد الرازق
5
علي عبدالرازق
اإلسالم وأصول احلكم
بحث في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم
النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : �إخراج وتنفيذ :الق�سم الفني -جملة الدوحة �صدرت الطبعة الأوىل من هذا الكتاب عام 1344هـ 1925 -م عن مطبعة م�رص.
لوحة الغالف :تف�صيل من �ضياء العزاوي -العراق
اإلسالم وأصول احلكم
بحث في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم
علي عبد الرازق
تقدمي
د .حيدر إبراهمي
تعقيب
السيد محمد الطاهر بن عاشور مفتي املالكية بالديار التونسية
علي عبد الرازق للفنان �إ�سماعيل عزام -العراق
علي عبدالرازق . . .معا�رصاً حيدر ابراهيم علي
9
مدخل �ستظل �أ�سئلة (ال�شيخ علي عبدالرازق) حول عالقة الدين والدولة، دينية �أم مدنية الدولة يف املجتمعات العربية-الإ�سالمية ،ماثلة ،وحية، وملحة .فهي موجودة ،طاملا ا�ستمر جدل الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي حول هوية الدولةمن غري ح�سم قاطع ،و�إجماع بني امل�سلمني .وال�س�ؤال يف حقيقته ،هو جوهر الإ�شكاليةوالنقا�ش الدائر ب�شدة ،حول الإ�سالم واحلداثة� ،أو عالقة الإ�سالم والآخر-احل�ضارة املعا�رصة ،منظورا �إليها يف هذه احلالة ،من خالل البحث عن منوذج ل�شكل احلكم يحقق �شعار كثري من الإ�سالميني عن الأ�صل والع�رص� ،أو الرتاث واملعا�رصة .وهو يف نف�س الوقت م�شكل اللحاق بالغرب مع االحتفاظ بالذاتية بطريقة �أو اخري .وال�س�ؤال-بدوره -ال يخرج من دائرة �أ�سئلة النه�ضة التي تنطلق دائما من ده�شة (�شكيب ار�سالن) :ملاذا ت�أخر امل�سلمون وتقدم غريهم؟و�أرجع (عبدالرازق) ال�سبب �إيل نظام احلكم ،ولذلك مل تتوقف
11
تـقديـم
دعوته عند مطلب الإ�صالح الديني ،لكنه ا�شرتط الإ�صالح ال�سيا�سي. ورغم ن�سبه الفكري �إيل �سل�سلة (ال�شيخ حممدعبده) وقبله (رفاعة رافع الطهطاوي) الذين �شغلهم التخلف عن الآخر (الغرب) � ،إال �أنه مل ينظر �إيل الإ�سالم يف مر�آة الغرب بل اجته مبا�رشة �إيل ظاهرة من �صميم التاريخ اخلا�ص بحثا عن �أ�سباب التخلف والت�أخر يف حياة امل�سلمني .فقد كان لتكوينه العلمي وبيئته ال�سيا�سية والتطورات الداخلية يف م�رص� ،أثرها يف ميالد الكتاب مب�ضمونه احلايل ،ومواقفه امل�ستحدثة. يالحظ �أن الفقه الإ�سالمي رغم تفا�صيله الكثرية واهتماماته املتنوعة بالعديد من الق�ضايا حتي الثانوية ،حيث مل يرتك حتي و�صف طريقة كيفية دخول املرحا�ض .ولكنه يف نف�س الوقت ،مل يعط االهتمام الالزم مل�سائل احلكم والفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي .فهذه ميادين �شدديدة اخلطورة يف نظر ال�سلطان ،ولها نتائج غري م�أمونة علي املتكلمني فيها. وهذا �سبب ونتيجة للإ�ستبداد ،حني �صارت ال�سيا�سة من املحرمات �أو التابوهات القدمية .لذلك ،مل يرتك العقل الإ�سالمي تراثا مقنعا عن م�سائل ،مثل :ال�سلطة ال�سيا�سية ،طبيعتها وطرق تداولها ،و�رشوط احلاكم وواجباته ،و�سبل عزله ،ودور اجلماهري (�أو الأمة) يف احلكم ،ومفاهيم مثل ال�رشعية ،واحلرية ،والعدالة ،وغريها من مكونات احلكم الرا�شد. وكان �أق�صى ما تركه الرتاث يف هذا املجال ،هو كتب الآداب ال�سلطانية، ةهي �أقرب ايل الن�صائح والوعظ االخالقي للحكام ،منها ايل النظريات ال�سيا�سية .ورغم �أن �أكرث الدماء �سالت يف التاريخ الإ�سالمي ،حول ق�ضايا و�رصاعات احلكم وال�سلطة� ،إال ان الفقه ال�سيا�سي بقي �شحيحا. فقد كانت ال�سيا�سة متار�س ،واقعيا ،من خالل النزاعات
12
وال�رصاعات الدموية التي الزمت الدولة الإ�سالمية منذ مقتل اخلليفة الثالث عثمان بن عفان (656م) � ،إال �أنه مل يتم التنظري يف املعرفة والعلم ال�سيا�سني .وهذا ما جعل البع�ض يت�ساءل عن �أهمية الدولة، باملعنى املعروف ،يف التاريخ الإ�سالمي .وهذا االهتمام املت�أخر بال�سيا�سة هو الذي �أثار ال�شكوك واالتهامات ،والتي مل تتوقف حتي يومنا هذا .وبقي كل نقا�ش وخالف حول ال�سيا�سة والإ�سالم، جديدا وحيا ،والأهم من ذلك مفتوحا للإجتهاد والإ�ضافة .وهذا مما يتطلب الت�سامح والقبول واحلرية ،ويرف�ض �أحكام التكفري والتخوين والعمالة .ولكن هذا مل يحدث� ،إذ يعود العنف اللفظي واالرهاب الفكري كامال وك�أننا مل نغادر منت�صف ع�رشينيات القرن املا�ضي. فقد بقي مو�ضوع ال�سيا�سة يف الفكر الإ�سالمي حمتكرا ومهم�شا يف نف�س الوقت ،لذلك يجر احلديث عنه امل�شكالت واملعارك احلادة وغري العقالنية يف �أغلب الأحيان. د�شن كتاب ال�شيخ علي عبدالرازق الذي ن�رش يف عام1925مرحلة التناول النقدي لبع�ض الثوابت الدينية من داخل امل�ؤ�س�سة الدينية (الأزهر) نف�سها ،مما جعل ردود الفعل يف مثل هذه احلدة .واعترب البع�ض �صدور الكتاب �أ�شد وقعا من قرار م�صطفي كامل �أتاتورك، الغاء اخلالفة ،لأنه جمرد قرار �سيا�سي مل ي�ستهدف العقيدة مبا�رشة – ح�سب قول بع�ض الفقهاء .يكتب �أحدهم" - :برغم ما يف هجمة �أتاتورك وجنايته على الإ�سالم من ال�رضاوة والق�سوة وال�رشا�سة -ف�إن جناية علي عبدالرازق يف كتابه (الإ�سالم و�أ�صول احلكم) �أ�شد و�أخطر؛ ذلك �أن �صنيع �أتاتورك ردة �رصيحة ،وخروج على الإ�سالم بقوة ال�سلطان؛ فال 13
تـقديـم
يكون لها �أثر �إال بقدر بقاء القوة. �أما �صنيع علي عبدالرازق فقد كان حماولة للتغيري يف �أ�صول الإ�سالم ،وم�سلماته"( .مو�سوعة املذاهب الفكرية املعا�رصة .ثامن ع�رش) .ويري (ال�شيخ يو�سف القر�ضاوي) يف الكتاب� ،أبرز املظاهر لنجاح الغزو الثقايف الغربي ،قائال� " - :أن الفكر العلماين الدخيل الذي ينادي بف�صل الدين عن الدولة ،مل يقف عند الرجال املدنيني وحدهم ،بل تعداهم �إيل بع�ض الذين در�سوا درا�سة دينية يف معهد �إ�سالمي عريق كالأزهر .)14 :2001( ”.و�سماه بع�ضهم"اجنيل العلمانيني" (حممد عمارة ،2011/7/27جريدة امل�رصيون) � .أما املنا�رصون للكتاب و�صاحبه ،الذي يحا�رصهم دائما فكر القوى التقليدية واملحافظة ،فقد وجدوا يف �صدوره مرجعية عقالنية دينية جديدة .وهذا �سبب اال�ستنفار واحلملة ال�ضارية التي قادها الأزهر ورجال الدين وال�سيا�سيون ،والتي بد�أت باملحاكمة وحرمانه من �شهادته العلمية و�إخراجه من زمرة العلماء .ويدل احتفاء امل�ؤيدين علي الظروف ال�صعبة التي يعي�شها الفكر املختلف تهدف ال�سيا�سة يف فهم اال�سالم ال�سيا�سي املعا�رص ،وكما تعرب عنه احلركات الإ�سالمية املنظمة وبع�ض املفكرين اال�سالميني امل�ستقلني� ،إيل خدمة �أغرا�ض الدين و�إ�صالح الب�رش وهديهم ايل الطريق امل�ستقيم املنجي يف الدنيا والآخرة .ولكن مل يقدموا ت�صورا عقالنيا ومو�ضوعيا لإمكانية الو�صول ايل هذه الغايات بوا�سطة و�سائل العمل ال�سيا�سي املعروفة ،والتي تعترب يف كثري من االحيان غري �أخالقية. فال�سيا�سة �رصاع م�ستمر حول امل�صالح ،غالبا ما تلج�أ فيه الأطراف املتناف�سة ايل احليل والدهاء والكذب والت�آمر .ويكتب (عبداحلكيم) : 14
"فامل�شكلة يف اخلطاب الإ�سالمي �أنه يكتفي بربط الإ�سالم بال�سيا�سةمن دون �أن يو�ضح ت�صوراته ور�ؤيته للعمل ال�سيا�سي و�أهدافه والإطار ال�رشعي له� ،إنه ي�ؤكد علي �أن الإ�سالم هو �أي�ضا �سيا�سة ،ولكنه ال يتحدث عن ماهية هذه ال�سيا�سة يف الإ�سالم ،ويكاد ينح�رص تفكريه يف املناداة بتطبيق ال�رشيعة و�إعطاء احلكم هلل واعتبار ذلك معيارا وحيدا لل�رشعية". ( )197 :2011ورغم �أن الكثريين من الإ�سالميني يرف�ضون-نظريا- �إختزال احلكم الإ�سالمي يف تطبيق ال�رشيعة ثم �إختزالها هي نف�سها يف احلدود؛ولكن جتارب و�صول الإ�سالميني �إيل ال�سلطة يف عدد من البلدان �أثبتت �أن م�رشوعهم ال�سيا�سي ال يتعدي هذا املجال ال�ضيق واملحدود يف فهم ماهية احلكم الإ�سالمي .فقد ف�شل التطبيق العملي-تاريخيا وحا�رضا-ال�شكال الدولة الإ�سالمية يف تقدمي النموذج املثايل �أو املقبول حلكم النا�س دون �صعوبات وتوترات.
اخللفية التاريخية -الثقافية للكتاب �شهد العامل يف �أواخر القرن التا�سع ع�رش والربع الإول من القرن الع�رشين حتوالت عميقة ،داخلية وخارجية ،كان البد �أن ترتك �أثرها الوا�ضح علي العاملني العربي والإ�سالمي .ومل يعد �أي جزء علي الكرة الأر�ضية قادرا علي عزل نف�سه عن الآخرين .فقد ظهر عدد من احلركات الإ�صالحية واجلهادية مثل املهدية ( )1898-1885ال�سنو�سية ،بالذات حقبة ال�شيخ احمد ال�رشيف ال�سنو�سي ( . )1933-1873وهي حركات ا�صالح ديني ولكن غلب عليها اجلهاد �ضد امل�ستعمر .وانتهت تلك الفرتة باكتمال الهيمنة اال�ستعمارية علي �أغلب البلدان العربية والإ�سالمية، 15
تـقديـم
وانطلق طور جديد يف املعركة احل�ضارية مع الغرب .واختلف ال�رصاع هذه املرة عما عرفه امل�سلمون خالل �رصاعهم التاريخي مع ال�صليبني. فهذا"اال�ستعمار"يحمل املدفع يف يد ،وح�ضارته وقوانينه ونظمه يف اليد االخري .لذلك ،كان البد �أن تكون املوجة الإ�صالحية ذات طابع فكري �أكرث .فقد واجه الرواد امثال الطهطاوي وخريالدين التون�سي �س�ؤال التوفيق بني هذه احل�ضارة الغربية املتفوقة واملبهرة ،وبني ح�ضارتهم الراكدة والغافية .و�سادت فكرة اللحاق بالغرب واحلداثة مع االحتفاظ بالهوية الدينية �أي ما مثل االجتاه التوفيقي يف الفكر الإ�سالمي . يف فرتة الحقة ،وبعد احتالل فرن�سا لتون�س يف ،1881واحتالل اجنلرتة مل�رص يف ،1882ولل�سودان عام1899؛ دخلت هذه البالد يف �أزمة .ويكتب (حوراين) عن هذه الو�ضعية امل�ستجدة . . ."- :لذلك �شغلت ق�ضية االنحطاط الداخلي عقولهم دوما� .أما الآن ،فقد اقرتنت بها ق�ضية جديدة ،هي ق�ضية البقاء ،املطروحة علي ال�شكل الآتي :كيف ميكن للدول الإ�سالمية مقاومة اخلطر اخلارجي اجلديد؟" (. )132 :1986 وقد مثل جمال الدين الأفغاين ( )1897-1739املحاوالت املبكرة للإجابة علي الت�سا�ؤل ال�صعب .وقد ر�أي يف الوحدة الإ�سالمية القائمة علي قيم الإ�سالم اال�صيلة امل�ؤدية ايل اكت�ساب القوة والعقل والف�ضيلة. واختلف عن (الطهطاوي) الذي مل ير يف �أوربا م�صدر تهديد ،فقد �أبدي االعجاب بها وامكانية ا�ستعارة االيجابيات" ،مع روح الثقة بالنف�س امل�ستندة �إيل االميان ب�أن الإ�سالم ،برغم كونه متخلفا ،قادر علي اللحاق باوربا املعا�رصة" .ومن ناحية اخري ،كانت امل�س�ألة بالن�سبة الأفغاين وتالمذته ،مل تكن"تنتهي بالإ�شارة ايل كيف هي اال�ستعارة احلكيمة من 16
الغرب لأن مهمة العلماء هي االنقاذ يف و�ضع من التحطم املحدق". (�رشابي . )40 :1971وميثل ال�شيخ حممد عبده ( )1905-1849مرحلة اخري يف التطور الفكري للإحيائية الدينية التي ايقظها التفوق الغربي علي امل�سلمني ،حماوال التوا�صل والتجاوز يف م�سرية الإ�صالح .لذلك، اجهد نف�سه يف توفيقية ذهبت بعيدا من خالل مهمة فكرية �صعبة .فقد حاول تعريف الإ�سالم احلقيقي وربط ذلك مبعطيات املجتمع احلديث، لي�صل ايل �أن الإ�سالم �صالح لأن يكون �أ�سا�سا للحياة املعا�رصة. (حوراين ،م�صدر �سابق.)174 ، تزامنت هذه التيارات الفكرية مع متغريات �سيا�سية هامة �أثرت بطرق مبا�رشة �أو غري مبا�رشة علي ظهور الأفكار اجلديدة ،خا�صة فيما يخ�ص العالقة مع الغرب .فقد ابتهج البع�ض لهزمية رو�سيا علي يد اليابان الدولة ال�رشقية عام .1905خا�صة وقد بد�أ دور اخلالفة العثمانية يف اال�ضمحالل ،و�صارت تركيا تعرف ب�إ�سم"رجل اوربا املري�ض" .وكانت احلرب العاملية االويل ( )1918-1914وكان من �أهم نتائجها نهاية االمرباطوريات القدمية .ومتت ت�صفية تركة الرجل املري�ض يف اتفاقية �سيفر عام 1920بتجريد تركيا من كل توابعها االقليمية بالذات يف ال�شام و�شبه اجلزيرة العربية والعراق، والتي انتهت ايل دولة انا�ضولية �صغرية حتدها اليونان وارمينيا .وكان من النتائج العظيمة لهذه احلرب قيام الثورة البل�شفية وظهور االحتاد ال�سوفيتي عام .1917وعرفت هذه احلقبة مبادئ ويل�سون حول تقرير م�صري ال�شعوب ،وقيام ع�صبة االمم .1918ويف هذا االثناء �شهدت م�رص ثورة 1919ود�ستور .1923اما تركيا فقد انت�رص كمال اتاتورك �أو 17
تـقديـم
الكماليون ،ومت الغاء معاهدة �سيفر وتوقيع معاهدة لوزان عام1923 ح�سب �رشوطهم .والغيت ال�سلطنة يف نوفمرب 1922واعالن اجلمهورية الرتكية يف29اكتوير .1923ورغم �أن هذا يعني �ضمنا الغاء اخلالفة� ،إال �أن الإلغاء ر�سميا كان يف مار�س .1924وكان حدثا �صاعقا مل يتقبله امل�سلمون ،وقامت حماوالت ادعت حماية وحدة امل�سلمني .فقد �سعي االجنليز لتن�صيب امللك ف�ؤاد خليفة للم�سلمني ،وطمع امللك ح�سني بن علي يف �أخذ البيعة لنف�سه يف فل�سطني و�رشق االردن ،كذلك �أمان اهلل خان ملك الأفغان .ويري امل�ؤرخون �أن هذا التناف�س علي املن�صب هو الذي �أف�سد امل�ؤمتر الإ�سالمي الذي انعقد يف القاهرة يف مايو 1926ومل يخرج بنتيجة( .عبدالغني �سي بك. )40 :1995 ، كان البد �أن يثري �إلغاء اخلالفة جدال فكريا و�سيا�سيا حادا ووا�سعا. ولقد بادرت الثورة الكمالية فور �صدور قرار الف�صل بني اخلالفة وال�سلطنة ،وفرار وحيد الدين �سلطان تركيا االخري؛ب�إ�صدار بيان يف �شكل كتيب عنوانه" :اخلالفة و�سلطة الأمة"عام 1922بالرتكية ،ثم ترجم ايل العربية يف .1924ولقد تبني القرار مبد�أ� :سلطة الأمة كما ميثلها املجل�س الوطني الذي "يقوم ب�أمورها ال�سيا�سية والإدارية علي الوكالء-الوزراء ،املنتخبني منه كهيئة م�س�ؤولة لديه"( .امل�صدر ال�سابق، �ص . )89و�أعتربه امل�ؤرخون التمهيد االيديولوجي للقرار التاريخي بالغاء اخلالفة وقيام الدولة املدنية �أو كما يف�ضل البع�ض الدولة العلمانية .وي�ستهل الكتاب ،قبل تعريف اخلالفة ،بالقول�"- :أن م�س�ألة اخلالفة يف حد ذاتها هي من امل�سائل الفرعية والفقهية ،ومن جملة احلقوق وامل�صالح العامة املخت�صة بالأمة ،وال عالقة لها باالعتقاد".
18
(امل�صدر ال�سابق� ،ص )91ونقر�أ يف مو�ضع �آخر"- :بل �أن هذه امل�س�ألة هي م�س�ألة دنيوية و�سيا�سية �أكرث من كونها من كونها دينية و�أنها من م�صلحة الأمة نف�سها مبا�رشة .لذا مل توجد تفا�صيل يف �ش�أنها يف الن�صو�ص ال�رشعية .ومل يرد بيان �رصيح يف القر�آن الكرمي وال يف االحاديث النبوية يف كيفية ن�صب اخلليفة وتعيينه ،و�رشوط اخلالفة ما هي�( ”.ص )92ويري �أن اخلالفة من الأمور الدنيوية �أكرث من الأمور الدينية" ،لذا ترك الر�سول (�ص) �أمرها �إيل �أمته ومل ين�صب خليفة له ومل يو�ص به حني ارحتاله اي�ضا�( ”.ص. )93 يطرح البع�ض �س�ؤاال منطقيا ،وهو� :إذا كان �أمر اخلالفة دينيا �رصفا، فلماذا �شغلت م�س�ألة الإمامة واخلالفة هذا احليز الالفت يف كتب العقائد؟ويرد م�شريا "ايل حقيقة �أن ال�رصاع الفكري الإيديولوجي بني الدولة الأموية وخ�صومها من اخلوارج وال�شيعة -وهو�رصاع اجتماعي فجر م�س�ألة اخلالفة وهو الذي ح ّفز ايل البحث �سيا�سي �أ�سا�سا-هو الذي ّ مب�ؤلفاتهم يف االعتقادات عن م�س�ألة اخلالفة اي�ضا"�( .ص . )44ويبد�أ الكتاب يف الق�سم الأول ب :تعريف اخلالفة و�إي�ضاحها ،ثم :تق�سيم اخلالفة وهنا يفرق بني ااخلالفة الكاملة �أو احلقيقية واخلالفة ال�صورية �أو احلكمية .الأويل هي اجلامعة لل�صفات وال�رشوط الالزمة مثل �إنتخاب الإمة وبيعتها بطوعها ور�ضاها .وال�صورية هي التي ال جتمع ال�رشوط الالزمة واملكت�سبة بال انتخاب الأمة وبيعتها �أي بالتغلب واال�ستيالء- وهي عبارة عن امللك وال�سلطنة (�ص . )99ويخ�ص�ص �أجزاء ل�رشوط اخلالفة ،وكيفية اكت�ساب اخلالفة وكونها من نوع عقد الوكالة ،ثم الغاية من اخلالفة ووظيفتها وتبعاتها ،و�أخريا الوالية العامة و�سلطة الأمة. 19
تـقديـم
وخ�ص�ص الق�سم الثاين ملو�ضوع :تقييد حقوق اخلالفة �أو تفريق ال�سلطنة عن اخلالفة .و�أخريا ي�صل �إيل نتيجة تقول�"- :إن ما ي�سمي ب :اخلالفة منذ �أع�صار مل يكن �سوي �سلطنة مذمومة وحكومة مردودة �رشعا ،و�أن الذين كانوا ي�سمون ب :اخللفاء ،مل يكونوا غري امللوك وال�سالطني" .ولذلك البد من التقييد واقرار احلق يف عزل اخلليفة�( .ص 127وما بعدها). وا�ستمر اجلدل من خالل ردود الفعل امل�ضادة .فقد ا�صدر حممد ر�شيد ر�ضا ،كتابا عنوانه"- :اخلالفة والإمامة العظمى" .وبعد �أ�شهر �أ�صدر م�صطفي �صربي كتابه" :النكري علي منكري النعمة من الدين واخلالفة الأمة" .ويدرج (�أبوزيد) الكتاب الأول �ضمن ما ي�سميه حزب"الإ�صالح الإ�سالمي املعتدل"وهو حزب الإمام ال�شيخ حممد عبده .والذي يجمع بني اال�ستقالل يف فهم فقه الدين وحكم ال�رشع الإ�سالمي .فقد ا�ستند علي املقوالت الفقهية الكال�سيكية ملفهوم اخلالفة ،بالإ�ضافة للمعاجلة ال�سيا�سية يف �ض�ؤ واقع االعامل الإ�سالمي( .مقدمة املرجع ال�سابق، �ص. )41-40 جتديد الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي -علي عبدالرازق
اخلالفة �شكل �إلغاء اخلالفة و�سقوط االمرباطورية العثمانية �صدمة قوية للم�سلمني ،ويف نف�س الوقت اختبارا قا�سيا لقدرتهم علي التعاي�ش يف الع�رص احلديث �أي حتدي احلداثة .وعرف الربع الأول من القرن الع�رشين- كما ا�سلفنا -تطورات دولية واقليمية ،كان البد �أن حتدث حراكا يف العديد 20
من �أوجه احلياة .وكان لبع�ض املتعلمني الذين در�سوا يف جامعات الغرب، دورا تنويرا وا�ضحا كما ظهر يف كتابات عبدالرازق وطه ح�سني .ومل يكن كتابي" :الإ�سالم و�أ�صول احلكم"و"يف ال�شعر من امل�صادفات البحتة� ،صدور ّ اجلاهلي" ،يف تلك الفرتة بالذات ،فقد اغري اجلو الليربايل ن�سبيا واالنفتاح علي اوربا ،الكاتبني علي اجرتاح تلك املغامرة .و�ضمن مناخات انت�صار (�أتاتورك) يف تركيا ،جتر�أ (ال�شيخ علي عبدالرازق) ليطرح نظريته ال�سيا�سية غري امل�سبوقة عن اخلالفة والدولة يف الإ�سالم .وقد طرح �أ�سئلة �صعبة ونرث �شكوكا جديدة ،منطلقا من �أخطر ت�سا�ؤلني :هل اخلالفة �رضورية حقا �أو هل هي واجبة �رشعا؟ثم :هل هناك نظام حكم �إ�سالمي بعينه؟وقد كانت �أجوبته بالنفي مما يعني وقوفه – بال�رضورة-مع نظرية ف�صل الدين عن الدولة ،بكل ما يعني يف الواقع الإ�سالمي من عداوات واتهامات .وهذه القطيعة يف حد ذاتها ،تدل علي نوعية هذا املفكر نفي ال�س�ؤال الأول يف م�ستهل م�ؤلفه الذي ق�سمه ايل ثالث كتب ،حيث اعطي الكتاب الأول عنوان: " يف اخلالفة واال�سالم" ،وهو يحوي ثالثة �أبواب: اخلالفة وطبيعتها حكم اخلالفة اخلالفة من الوجهة االجتماعية حاول (عبدالرازق) ت�أ�صيل دح�ض فكرة �رضورة �أو �إلزامية اخلالفة بالتوجه مبا�رشة �إيل الن�ص والإجماع لتجنب الدخول يف �أي مماحكات ومغالطات .فقطع بعدم وجود ن�ص قر�آين �أو حديث نبوي، كما �أنه مل يتم الإجماع ،حول �رضورة �أو �إلزامية اخلالفة .وهو يبد�أ بالقول �أن الر�سالة النبوية روحية بحتة ،وهنا مكمن اخلالف وال�ضيق 21
تـقديـم
ي�صعب مهمة من يدعي اخلالفة ب�رشوط ب�آراء (عبدالرازق) والذي ّ جتعله يف مرتبة الر�سول يف �أخالقه ودوره وم�س�ؤوليته لكي يكون جديرا بالوالية �أو اخلالفة �أو الإنابة عن النبي (�ص) .ويقرر الكاتب بو�ضوح قاطع "- :والية الر�سول علي قومه والية روحية من�ش�ؤها �إميان القلب وخ�ضوعه خ�ضوعا �صادقا تاما يتبعه خ�ضوع اجل�سم. ووالية احلاكم والية مادية تعتمد اخ�ضاع اجل�سم من غري �أن يكون لها بالقلوب ات�صال .تلك والية هداية �إيل اهلل و�إر�شاد �إليه .وهذه والية تدبري مل�صالح احلياة وعمارة الأر�ض .تلك الدين ،وهذه الدنيا .تلك هلل وهذه للنا�س .تلك زعامة دينية وهذه زعامة �سيا�سية .ويا بعد ما بني ال�سيا�سة والدين" )69 :1925( .وهذا الن�ص من �أكرث كتابات (عبدالرازق) ح�سما ملوقفه يف ف�صل الدين عن الدولة �أو ال�سيا�سة .فقد ا�ستمد النبي (�ص) �سلطته من عند اهلل ،ففي حالة اال�ستخالف يفرت�ض ان يكون م�صدر �سلطته اهلل مبا�رشة �أو من خالل الر�سول ولكن من عنده .وهذه هي �أ�س�س ال�سلطة املطلقة التي ال ي�سائل احبها كما �أنها الدولة الدينية التي يترب�أ منها اجلميع .فالنبي حممد (�ص) �أخ�ضع قلوب امل�ؤمنني له وهذه �سلطة ال ي�ستطيعها كل حاكم ،لأن مثل هذه ال�سلطة ال تتم بالإكراه مثل ال�سلطة ال�سيا�سية .ويكتب (حوراين) يف هذا ال�صدد عن هذه ال�سلطة"- :وهي ت�ستهدف ،ال تنظيم �ش�ؤون احلياة يف هذه الدنيا ،بل قيادة النا�س �إيل اهلل .وقد �أن�ش�أ حممد ،بف�ضل هذه ال�سلطة ،جماعة ،لكنها مل تكن من النوع الذي ن�سميه عادة الدولة (. . ).واحلقيقة�أن الإرادة الإلهية ال تعني ب�أ�شكال احلكم .فقد ترك اهلل حقل احلكم املدين وامل�صلحة الدنيوية ملبا�رشة العقل الب�رشي")229( . وهكذا �شجع كتاب (عبدالرازق) مثل هذه الآراء اجلرئية علي التعبري 22
علنا عن نف�سها .وهذا هو ا�سهامه احلقيقي يف جمال التجديد الديني واالجتهاد املحمود. وقد جاء يف حيثيات حكم املحكمة ال�رشعية فيما يخ�ص هذه الفكرة�" :أن ال�شيخ علي ًا جعل ال�رشيعة الإ�سالمية� ,رشيعة روحية حم�ضة ,ال عالقة لها باحلكم والتنفيذ يف �أمور الدنيا .وقد ردت الهيئة على هذا الزعم الباطل ب�أن الدين الإ�سالمي هو �إجماع امل�سلمني على ما جاء به النبي ",من عقائد ,وعبادات ,ومعامالت لإ�صالح �أمور الدنيا والآخرة ,و�أن كتاب اهلل -تعاىل -و�سنة ر�سوله " ,كالهما م�شتمل على �أحكام كثرية يف �أمور الدنيا ,و�أحكام كثرية يف �أمور الآخرة .وقالت الهيئة :ووا�ضح من كالمه -امل�ؤلف � -أن ال�رشيعة الإ�سالمية عنده �رشيعة روحية حم�ضة ,جاءت لتنظيم العالقة بني الإن�سان وربه فقط, و�أن ما بني النا�س من املعامالت الدنيوية وتدبري ال�ش�ؤون العامة فال �ش�أن لل�رشيعة به ,ولي�س من مقا�صدها .وهل يف ا�ستطاعة ال�شيخ �أن ي�شطر الدين الإ�سالمي �شطرين ,ويلغي منه �شطر الأحكام املتعلقة ب�أمور الدنيا ,وي�رضب ب�آيات الكتاب العزيز ,و�سنة ر�سول اهلل" عر�ض احلائط؟!" (مو�سوعة املذاهب الفكرية املعا�رصة ،الف�صل الرابع ،املطلب ثامن ع�رش-االنرتنت) يحاول امل�ؤلف ب�رصامة ودقة اثبات عدم وجود ن�صو�ص قاطعة يف القر�آن الكرمي ،ويرد علي خ�صومه ب�أنهم لن يتوانوا يف عر�ض هذا الدليل لو وقع يف نظرهم! ويعرج علي ال�سنة النبوية ،ليفحم من يت�صد هاجموه"- :لي�س القر�آن وحده هو الذي �أهمل تلك اخلالفة ومل ّ 23
تـقديـم
لها ،بل ال�سنة كالقر�آن اي�ضا ،تركتها ومل تتعر�ض لها .يدلك علي هذا �أن العلماء مل ي�ستطيعوا �أن ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شئ من احلديث، ولو وجدوا لهم يف احلديث دليال لقدموه يف اال�ستدالل علي الإجماع". (�ص )16وير�صد حماوالت البحث عن �سند �رشعي لدي املوالني ،مثل حممد ر�شيد ر�ضا ،لوجوب اخلالفة ،ويري �أنها متهافتة لأنها ال تتعدي بع�ض اال�ست�شهادات الرتاثية .ويجملها يف روايات مثل" :الأئمة من قري�ش"� ،أم" :تلزم جماعة امل�سلمني"� ،أو" :من مات ولي�س يف عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"� ،أو" :من بايع �إماما ف�أعطاه �صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه �إن ا�ستطاع ،ف�إن جاء �آخر ينازعه فا�رضبوا عنق الآخر"، �أو القول" :اقتدوا بالذين من بعدي �أبي بكر وعمر" ،وغريها .وي�ؤكد قائال"- :ولي�س يف �شئ من ذلك كله ماي�صلح دليال علي ما زعموه ،من �أن ال�رشيعة اعرتفت بوجود اخلالفة �أو االمامة العظمى ،مبعنى النيابة عن النبي (�ص) والقيام مقامه من امل�سلمني"�( .ص)17 وي�صل ايل نهاية فر�ضيته م�ؤكدا �صحتها �أي عدم وجود �أي �سند �رشعي بوجوب و�إلزامية اخلالفة .ويكتب يف خامتة الكتاب "- :واحلق ان الدين اال�سالمي بريء من تلك اخلالفة التي يتعارفها امل�سلمون ,وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة ,ومن عز وقوة ,واخلالفة لي�ست يف �شيء من اخلطط الدينية ,كال وال الق�ضاء وال غريهما من وظائف احلكم ومراكز الدولة .و�إمنا كلها خطط �سيا�سية �رصفة ,ال �شان للدين بها ,فهو مل يعرفها ومل ينكرها ,وال �أمر بها وال نهى عنها ,وامنا تركها لنا ’ لرنجع فيها �إىل �أحكام العقل ,وجتارب الأمم ,وقواعد ال�سيا�سة"�( .ص . )103ولذلك ،مل ت�ؤ�س�س 24
–ح�سب ر�أيه� -أي دولة خالل حياة الر�سول (�ص) حتي ما ي�سمي بدولة املدينة ،فقد �أتي مب�رشا ونذيرا ورحمة ،ومل تكن له �أي مهمة �أو وظيفة اخري. ولكن من �أين اكت�سبت م�ؤ�س�سة اخلالفة هذه القد�سية؟�سبق و�أن �أجبنا جزئيا علي �س�ؤال مماثل .ولكن (عبدالرازق) ي�ضيف �أ�سبابا اخري يرجعها ايل احلكام �أنف�سهم الذين عملوا علي �إ�ضفاء �صبغة دينية علي حكمهم ،و�ساعدهم علماء ال�سلطان يف ذلك ،بالفتاوى واملربرات واحليل الفقهية .وكان من املمكن االكتفاء بفكرة حتول اخلالفة الرا�شدة �إيل ملك ع�ضو�ض مع جمئ معاوية والأمويني �إيل ال�سلطة .ويتعر�ض لظاهرة ا�ستغالل الدين امل�ستمرة تاريخيا حتي اليوم ،كو�سيلة لتمجيد اخلالفة واالحتفاظ بالتميز الديني للخليفة كظل اهلل علي االر�ض .ويهاجم هذا ويحمله كثريا من نواق�ص و�سلبيات امل�سلمني ،ويكتب"- :كذاك التوجه ّ ف�شا بني امل�سلمني منذ ال�صدر الأول ،الزعم ب�أن اخلالفة مقام ديني، ونيابة عن �صاحب ال�رشعية عليه ال�سالم .كان من م�صلحة ال�سالطني �أن يروجوا ذلك اخلط�أ بني النا�س ،حتي يتخذوا من الدين دروعا حتمي عرو�شهم ،وتذود اخلارجني عليهم ( ). . .ثم �إذا تل�صق باملباحث الدينية، و�صارت جزءا من عقائد التوحيد .تلك جناية امللوك وا�ستبدادهم بامل�سلمني� ،أ�ضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه احلق ،وحجبوا عنهم م�سالك النور ب�إ�سم الدين ،وب�إ�سم الدين ا�ستبدوا بهم و�أذلوهم". (�ص )102-101وي�ؤكد �أن الواقع الذي ي�ؤيده العقل وي�شهد به التاريخ قدميا وحديثا –كما يقول� -أن �شعائر اهلل تعايل ومظاهر دينه الكرمي، ال تتوقف علي ذلك النوع من احلكومة الذي ي�سميه الفقهاء خالفة. 25
تـقديـم
ويري عدم احلاجة لها يف �أمور ديننا وال دنيانا" :ف�إمنا كانت اخلالفة ومل تزل نكبة علي الإ�سالم وعلي امل�سلمني ،وينبوع �رش وف�ساد". (�ص. )36-35 lll
وعندما �صدر الكتاب حامال هذه الآراء اجلديدة متاما علي كثري روج من امل�سلمني� ،أقام الدنيا ومل يقعدها حتي اليوم ،رغم �أن البع�ض ّ لرتاجعه عن هذه الآراء اجلريئة وامل�ستفزة للبع�ض .وكانت حماكمته ب�سبب الكتاب ،وحماكمة طه ح�سني ،من �أهم حماكمات الر�أي يف تاريخ امل�سلمني احلديث .ومتت ادانته خالفا لطه ح�سني ،فقد كانت لق�ضيته �أبعادا �سيا�سية بالإ�ضافة لدور زمالئه �شيوخ الأزهر .وتدفقت الردود دفاعا ملا ر�آه عدد من علماء الدين طعنا يف العقيدة .ومتت ادانته وجرد من �ألقابه العلمية ووظيفته .ولكن البع�ض يري يف هذه املعركة خطوة متقدمة و�إيجابية. ويقول (ال�رشيف) عن نتائج ن�رش الكتاب"- :ولكن الزوبعة التي �أثارها مل تكن مفتعلة البتة� ،إذ هي عنوان التحول احلا�سم الذي �شهدته قطاعات-مل ينفك يزداد عددها وت�أثريها -من املفكرين العرب املحدثني الذين �ضاقوا ذرعا بقيود املا�ضي وجتر�ؤوا علي تقدمي قراءات املتخرجني للتاريخ والواقع الإ�سالميني ال تن�سجم مع ر�ؤى رجال الدين ّ رتين للحلول التي ارت�ضاها القدماء". من املعاهد التقليدية واملج ّ (. )214-3 ويري �آخرون ب�أن هذه نظرة �شديدة التفا�ؤل باعتبار �أن الطريق الذي �شقه (عبدالرازق) �شديد الوعورة وغايل الكلفة .فقد تراجع – ح�سب 26
ر�أيهم-تيار التجديد والإحياء الديني حل�ساب االجتاهات املحافظة وال�سلفية .ويت�ساءل البع�ض ملاذا مل ي�ؤ�س�س علي التيار العقالين الذي د�شنه (عبدالرازق) ومل يت�سع ليكون حركة جماهريية كبرية مثلما فعل الأخوان امل�سلمون؟ومن املالحظ �أن حركات التجديد الإ�سالمي تظل دائما نخبوية وتندثر �رسيعا ،ومثال ذلك الي�سار الإ�سالمي يف م�رص (ح�سن حنفي) والتقدميون الإ�سالميون يف تون�س (اجلور�شي والقوماين والنيفرة) � .إذ يظل الدين �شديد املقاومة للتغيري ب�سبب الركود الن�سبي للمجتمعات العربية و�ضعف التطور الثقايف. مل يعدم التيار العقالين التحديثي بع�ض امل�ؤيدين ،فقد �أ�ضاف بع�ض املفكرين �إ�سهامات مقدرة لهذا الرتاث الذي بادر به (عبدالرازق) .وكان من �أهم الداعمني لنظرية عدم �رشعية اخلالفة املفكر اجلزائري عبداحلميد بادي�س ( . )1940-1889ورغم �أنه كان من املعجبني مبحمد ر�شيد ر�ضا الذي هاجم كتاب"الإ�سالم و�أ�صول احلكم" ،ب�أق�سي االلفاظ� ،إال �أنه كان يف نف�س الوقت معجبا بكمال �أتاتورك معتربا اياه"�أعظم رجل عرفته الب�رشية يف التاريخ" .وكتب عن تطور م�ؤ�س�سة اخلالفة ،وكيف حتولت من من�صب واحد وموحد ايل التعدد ب�سبب الفرقة واال�ضطراب ،مما افقده معناه اال�صلي .ويكتب"- :وبقي رمزا ظاهريا تقدي�سيا لي�س من �أو�ضاع الإ�سالم يف �شئ .فيوم �ألغي الأتراك اخلالفة ...مل يلغوا اخلالفة مبعناها الإ�سالمي و�إمنا �ألغوا نظاما حكوميا خا�صا بهم و�أزالوا رمزا خياليا فنت به امل�سلمون لغري جدوى" .ويختم م�ؤكدا�"- :أن خيال اخلالفة لن يتحقق، و�أن امل�سلمني �سينتهون يوما ما�-إن �شاء اهلل� -إيل هذا الر�أي"�( .آثار ابن بادي�س� ،أورده ال�رشيف� ،ص. )215-4 27
تـقديـم
ويعترب خالد حممد خالد (� )1996-1920ضمن �سل�سلة هذا التيار، رغم ظهوره املت�أخر .فقد ن�رش كتابه املو�سوم"- :من هنا نبد�أ"مطلع اخلم�سينيات من القرن املا�ضي .وهاجم فيه الدولة باعتبارها رمزا لال�ستبداد ،ورجال الكهانة الذين يدعمون الدولة الدينية .وقال ب�رضورة ف�صل الدين عن الدولة .ولكنه تراجع عن كثري من تلك الأفكارواملواقف يف كتابه" :الدولة يف الإ�سالم" ال�صادر عام .1981وغالبا ما يقوم بع�ض الكتاب الإ�سالميني ببناء مثال نظري ي�صنفون داخله ما يعتربونهم العلمانييني املوالني لأفكار (علي عبدالرازق) .وت�شمل هذه النماذج ت�شكيلة وا�سعة من �أ�صحاب االجتاهات التجديدية ،والليربالية، والعقالنية واحلداثيني .ويندرج �ضمن ه�ؤالء مفكرون مثل :حممد �أحمد خلف اهلل ،م�ؤلف"الفن الق�ص�صي يف القر�آن الكرمي" ،والذي دخل يف جدل مع بع�ض الإ�سالميني حول الدين والدولة يف الإ�سالم .وترد يف هذا املع�سكر العلماين االفرتا�ضي� ،شخ�صيات مثل :لوي�س عو�ض ،زكي جنيب حممود ،ف�ؤاد زكريا ،حممود �أمني العامل ،فرج فودة وغريهم من الكتاب غري التقليديني .و�ساهم املفكرون املغاربة عبداهلل العروي وحممد عابد اجلابري يف نقد فكرة اخلالفة ،ولكنهم بعيدون-يف �أحيان كثرية-عن ال�سجال الذي يدور غالبا يف امل�رشق العربي. رغم اال�رضار ال�شخ�صية التي طالت (ال�شيخ علي عبدالرازق) ،و�إنت�شار االجتاهات املحافظة وال�سلفية؛ميكن القول ب�إنح�سار فكرة اخلالفة، خا�صة بعد �سقوطها واقعيا .ومل تعد حتي احلركات الإ�سالمية و�أغلب املفكرين الإ�سالميني ،ينادون –ب�صورة مبا�رشة -بعودة اخلالفة عدا حزب التحرير و�أ�صوات قليلة بني اجلهاديني .والأهم من ذلك ،ظهر ما 28
ي�شبه الإجماع حول م�صدر �رشعية اخلالفة .فقد ح�سم النقا�ش الذي كانت تطغي عليه الآراء القائلة ب�أن �سلطة اخلليفة م�ستمدة من �سلطة اهلل، ل�صالح الر�أي القائل ب�أنها م�ستمدة من الأمة �أو الإرادة ال�شعبية .وت�رسب هذا املوقف الإ�صالحي حتي ايل �أ�شد املنتقدين لل�شيخ عبدالرازق ،وعلي ر�أ�سهم ال�شيخ حممد بخيت املطيعي ،مفتى الديار امل�رصية يف ذلك الوقت، حني تبني نظرية �أن الأمة هي م�صدر ال�سلطة .ويعلق �أحد الباحثني علي هذا املوقف بقوله "- :وهكذا نري �أن التوفيق بني املفاهيم الإ�سالمية واملفاهيم احلديثة الذي نادي به الكتاب ال�سالفون �أ�صبح اليوم مقبوال بال ت�سا�ؤل .ويبدو �أن ال�شيخ بخيت يعلم �أنه ،بقوله هذا� ،إمنا كان ميهد ال�سبيل لتوغل العقالنية الغربية يف الإ�سالم ،وهو ما من �أجله انتقد خ�صمه"( .حوراين� ،ص. )233
الدولة :دينية �أم مدنية؟ كانت مقاربة (عبدالرازق) اخلا�صة بعدم �رضورة و�إلزامية اخلالفة، هي مدخله للمطالبة بدولة �إ�سالمية مدنية قائمة علي ال�شورى .فهي يري �رضورة وجود �سلطة �سيا�سية ،ولكن لي�س الزما �أن تكون اخلالفة. لذلك ،اليتوقف عند عدم لزوم اخلالفة ك�شكل للحكم بني امل�سلمني ،بل يدعوهم لالنفتاح علي جتارب العامل بال خوف �إذ ال يوجد دينيا ما مينعهم من ذلك ،ويكتب"- :ال �شيء يف الدين مينع امل�سلمني ان ي�سابقوا الأمم الأخرى يف علوم االجتماع وال�سيا�سة كلها ,وان يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له وا�ستكانوا �إليه ’ وان يبنوا قواعد ملكهم ’ ونظام حكومتهم ’ على احدث ما �أنتجت العقول الب�رشية ,وامنت ما دلت 29
تـقديـم
جتارب الأمم على انه خري �أ�صول احلكم "�( .ص )103وكانت هذه الدعوة هي التي ازعجت خ�صومه ،وحتدثوا عن متي وكيف حدث االخرتاق الغربي للإ�سالم؟ثم عن علمنة الإ�سالم من الداخل� .إذ يكتب �أحدهم: "علي �أن كتاب ال�شيخ علي عبدالرازق ،قد ذهب �أبعد مما ذهب �إليهالذين ب�رشوا بعلمانية الغرب �سبيال للتقدم الذي يتجنب خماطر الكهانة والدولة الدينية –باملعنى الغربي-لقد ذهب فادعي دعوى غري م�سبوقة من �أحد ممن در�س الإ�سالم وتاريخه احل�ضاري ،م�سلما هذا الدار�س �أو غري م�سلم . .لقد ادعي علمانية الإ�سالم ،مبعنى انقطاع ال�صلة بينه وبني ال�سيا�سة والدولة والعمران االجتماعي . .لقد �أنكر �إقامة الر�سول (�ص) دولة"( .عمارة . )73 :2008 ،لقد قوله الكاتب ما مل يقل ،ولكن العداء لل�شيخ وظروف معركة الكتاب ،كانت تقت�ضي�-أحيانا-مدفعية ثقيلة من اللغة وامل�صطلحات .وقد مت ا�ستخدامهما بطريقة جمانية .مع التهاون والفو�ضى املفاهيمية واملنهجية التي ت�سود ال�ساحة الفكرية. رف�ض (عبدالرازق) اخلالفة درءا خلطر اال�ستبداد و�أن ي�ستغل الدين يف �إذالل النا�س وتغييب وعيهم .ولكنه �أفرز حيزا معتربا يف كتابه للحكومة الإ�سالمية .وكان الق�سم �أو الكتاب الثاين ،بعنوان :يف احلكومة واال�سالم :وهو يحوي ثالثة �أبواب ،هي: نظام احلكم يف ع�رص النبوة . الر�سالة واحلكم . ر�سالة ال حكم ,ودين ال دولة.ومن العناوين ال�سابقة يت�ضح مق�صد (عبدالرازق) وهو ف�صل الدين عن الدولة ،والر�سالة عن احلكم؛مع اميان بوجوب وجود الدولة �أو 30
احلكومة .ويكتب يف هذا ال�صدد"- :املعروف الذي ارت�ضاه علماء ال�سيا�سة �أنه البد ال�ستقامة الأمر يف �أمة متمدينة� ،سواء �أكانت ذات دين �أم ال دين لها ،و�سواء �أكانت م�سلمة �أم م�سيحية �أم يهودية �أم خمتلطة الأديان ،ال بد لأمة منظمة مهما كان معتقدها ،ومهما كان جن�سها ولونها ول�سانها ،من حكومة تبا�رش �ش�ؤونها ،وتقوم ب�ضبط الأمر فيها .قد تختلف �أ�شكال احلكومة و�أو�صافها بني د�ستورية وا�ستبدادية ،وبني جمهورية وبول�شفية وغري ذلك .وقد يتنازع علماء ال�سيا�سة يف تف�ضيل نوع من احلكومة علي نوع �آخر .ولكننا ال نعرف لأحد منهم وال من غريهم نزاعا يف �أن �أمة من الأمم ال بد لها من نوع من �أنواع احلكم"�( .ص )34-33ورغم الت�أكيد علي عمومية الدولة وعامليتها� ،إال �أن الإ�شارة وا�ضحة حلياديتها جتاه الدين �أو القومية وتو�صف طبيعتها ح�سب امل�شاركة واحلرية فقط .ومل مينعه هذا املوقف من �رضورة الدولة ،من �أن يفرق بني الر�سالة واحلكم �أو بني الدين والدولة .لذلك ،ركز يف هذا اجلزء من الكتاب علي تقدمي ال�شواهد التي تنفي-ا�ستنادا علي الكتاب وال�سنة-اململكة النبوية �أي �أن النبي كان ملكا .ويظهر قدرا كبريا من اجلر�أة والثقة يف طروحاته، حني يكتب"- :وال يهولنك البحث يف �أن الر�سول (�ص) كان ملكا �أم ال، وال حت�سنب �أن ذلك البحث ذو خطر يف الدين قد يخ�شي �رشه علي �إميان الباحث ،فالأمر� ،إن فطنت �إليه� ،أهون من �أن يخرج م�ؤمنا من حظرية االميان ،بل �أهون من �أن يزحزح املتقي عن حظرية التقوى"�( .ص)48 وك�أنه يخاطب ويطمئن نف�سه ،خا�صة حني يقول ب�أن مثل هذا احلديث من" باب البحث العلمي منه يف باب الدين ،فاقدم وال تخف� ،إنك من الآمنني"�( .ص . )49وهذه بدورها دعوة جرئية ومتقدمة تقوم 31
تـقديـم
ب�إخ�ضاع الظواهر الدينية للبحث العلمي وحتطيم بع�ض املحرمات وتو�سيع دائرة املعرفة والعقالنية. يعار�ض (عبدالرازق) ب�شجاعة ،الآراء امل�ستقرة واملتفق عليها ،وال يرتدد يف م�ساءلة �أفكار ك�سبت ا�ستمراريتها وانت�شارها ب�سبب التفاف ويفرق بني احلقيقة التاريخية غالبية النا�س حولها ،خا�صة العامة. ّ واملنطقية ،وبني الآراء ال�سائدة واملجمع عليها ،حني يكتب�"- :إن امل�سلم العامي يجنح غالبا �إيل اعتقاد �أن النبي (�ص) كان ملكا ور�سوال و�أنه ا�س�س بالإ�سالم دولة �سيا�سية مدنية كان ملكها و�سيدها ،يتالءم مع ذوق امل�سلمني العام ولعله �أي�ضا ر�أي جمهور العلماء من امل�سلمني، ف�إنك تراهم� ،إذا عر�ض لهم الكالم يف �شئ يت�صل بذلك املو�ضوع ،مييلون �إيل اعتبار الإ�سالم وحدة �سيا�سية ودولة �أ�س�سها النبي (�ص) "�( .ص. )50 ويبد�أ يف نقا�ش ما ا�سماه"اململكة النبوية" ،وهي فكرة مفرت�ضة و�أحيانا مرغوبة ،ليجعل من دح�ضها ،و�سيلته املعرفية لنفي قيام الدولة الدينية يف الإ�سالم .ويح�شد الكثري من الأدلة القر�آنية التي تنفي �أن النبي كان ملكا�( .ص ، )70ومن ال�سنة النبوية (�ص ، )76ويحاور بع�ض الفقهاء واملفكرين .ويري �أن (ابن خلدون) ينحو ذلك املنحى ،فقد جعل اخلالفة التي هي نيابة عن �صاحب ال�رشع يف حفظ الدين و�سيا�سة الدنيا� ،شاملة للملك وامللك مندرج حتتها .ويرد عليه ب�أن اململكة النبوية عمل منف�صل عن دعوة الإ�سالم وخارج عن حدود الر�سالة .ويختلف مع القائلني بدمج الدعوة وتنفيذها بالعمل يف نف�س الوقت. يرف�ض الكاتب فكرة �أن الإ�سالم �رشعي تبليغي وتطبيقي ،و�أن ال�سلطة الدينية اجتمعت فيه وال�سلطة ال�سيا�سية ،دون �سائر الأديان. 32
ويتبني خطر الدولة الدينية القائمة –يف ر�أي دعاتها-بوحى من اهلل، وت�صل درجة الكمال التي تعجز عنها عقول الب�رش .وهنا ي�رشع يف الت�سا�ؤل ملاذا خلت "اململكة النبوية" من �أركان الدولة ودعائم احلكم، مثل تعيني الق�ضاة والوالة؟وملاذا مل يتحدث النبي (�ص) �إيل رعيته يف نظام امللك وقواعد ال�شورى؟وملاذا ترك العلماء يف حرية وا�ضطراب من �أمر النظام احلكومي يف زمنه؟ (�ص )57وي�ؤكد خلو الع�رص النبوي من خمايل امللك (�ص . )44ويقول"- :وقد رحل �صلي اهلل عليه و�سلم بالرفيق الأعلي من غري �أن ي�سمي �أحدا يخلفه من بعده ،وال �أن ي�شري �إيل من يقوم يف �أمته مقامه .بل مل ي�رش عليه ال�سالم طول حياته �إيل �شئ ي�سمي دولة �إ�سالمية� ،أو عربية"�( .ص . )87ورغم ذلك ي�سمي البع�ض، الوحدة الدينية ،دولة؛ويدعو ال�سلطان النبوي املطلق ،ملكا �أو خالفة. ويجزم ،وبح�سم �أن زعامة النبي انتهت مبوته ،وال توجد بعده زعامة دينية ،وما لأحد �أن يخلفه يف زعامته ور�سالته .وما جاء بعده ،هو نوع جديد من الزعامة :مدنية �أو �سيا�سية ،غري التي عرفناها زمن النبي. وهي زعامة احلكومة وال�سلطان ،ال زعامة الدين�( .ص . )90ويف هذا الردة حربا �سيا�سية ولي�ست دينية. ال�سياق يري حرب ّ ردة من اطلقت عليهم هذه ال�صفة ،فهم يف الواقع مل وي�شكك يف ّ يكونوا مرتدين ،كفروا باهلل ور�سوله"- :بل كان فيهم من بقي علي �إ�سالمه ،ولكنه رف�ض �أن ين�ضم �إيل وحدة �أبي بكر ،ل�سبب ما ،من غري �أن يري يف ذلك حرجا عليه ،وال غ�ضا�ضة يف دينه .وما كان ه�ؤالء من غري �شك مرتدين ،وما حماربتهم لتكون با�سم الدين .فان كان والبد من حربهم ف�إمنا هي ال�سيا�سة ،والدفاع عن وحدة العرب ،والذود عن دولتهم"�( .ص . )97وي�رضب مثال مبالك بن نويرة الذي قال ب�أنه مازال 33
تـقديـم
علي الإ�سالم ،ولكن ال ي�ؤدي الزكاة �إيل �أبي بكر .ويعلق الكاتب"- :كان نزاعا يف ملوكية ملك ،ال يف قواعد دين ،وال يف �أ�صول �إميان"�( .ص)98 .وبالتايل ،يري ما جاء بعد وفاة النبي ،هي دولة عربية قامت علي �أ�سا�س دعوة دينية .وكان �شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها. (�ص. )92
نحو دولة �إ�سالمية جاءت الدولة الوطنية ب�شكلها احلديث من خارج ال�سياق التاريخي- االجتماعي العربي .فقد مت ا�ستزراعها من اخلارج ،ومن هنا جاءت امل�شكالت التي واجهت منوها وتقدمها .وارتبط وجود الدولة بق�ضايا التحديث والغربنة ،وال�رصاع مع اال�ستعمار والتحرر .لذلك ،ميكن القول �أن (عبدالرازق) �ساهم يف تخلي�ص فكرة الدولة يف العامل الإ�سالمي من �أ�رس النموذج املا�ضوي غري املتفق عليه (اخلالفة) � .أما امل�ساهمة الثانية فقد كانت نزع ال�صفة الدينية والتقدي�سية عن الدولة يف بالد امل�سلمني. وقد هذا االجتاهان علي جممل التيارات واحلركات يف تناولها مل�س�ألة احلكم يف الإ�سالم� .إذ خبا متاما احلديث عن اخلالفة ،كما يترب�أ اجلميع من و�صف دولتهم امل�أمولة ب�أنها دولة دينية. ومن �أهم ال�صعوبات التي واجهت الإ�سالميني املعا�رصين يف التنظري والتقعيد لفكر �سيا�سي حديث ،الفقر املدقع الذي عا�شه الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي تاريخيا-كما ا�سلفنا .لذلك ،مل ي�سعفهم التاريخ والرتاث واخلربة مبعينات يف التجديد والت�أ�صيل .ويرجع البع�ض هذا الق�صور لأ�سباب تاريخية �أو تعود ايل 34
الدين نف�سه .ويري (مو�صلي) �أن ت�شكل مفهوم"الدولة" باملعني ال�سيا�سي، بد�أ تاريخيا منذ القرنني ال�ساد�س وال�سابع الهجريني ،وذلك مع �ضعف اخلالفة ،وفقدانها �سلطتها التنفيذية ،وحتولها ايل جمرد رمز لوحدة الأمة .وي�ضيف" - :وتكون الدولة عند اال�صوليني عمال تنظيميا يف خدمة م�صالح االمة ال عو�ضا عنها .فالدولة م�س�ؤولة امام االمة واالمة بدورها م�س�ؤولة بدورها م�س�ؤولة امام اهلل .بهذا يري اال�سالمييون �أن �شكل الدولة ال يحدد ماهية االمة ،كما �أن زوالها ال يعني زوال االمة بل ي�ؤدي ايل تعطيل االحكام ال�رشيعة هذا من ناحية ال�رشعية":1993( . )12وينتهي بالقول "- :وي�ستعمل اال�سالمويون مفهوم الدولة ك�أداة من االدوات التي ت�ستخدم حلماية الأمة والدفاع عنها ولكنها لي�ست بديلة عنها"( .نف�س امل�صدر ال�سابق) .ووظيفتها �أداة لن�رش الدين وتعميم العدل وتطبيق ال�رشيعة. ورغم �أن ق�ضية الدين وال�سلطة برزت منذ حادثة ال�سقيفة ،ظل الكثريون يرددون �أن اال�سالم مل يكن ي�ستهدف بناء دولة جمتمع �أو �أمة. وهنا يتكرر ما قاله (عبدالرازق) يف التفرقة والف�صل بني الر�سالة واحلكم �أوال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية� .إذن ،ماهي هذه الدولة التي مل يتوقف احلديث عنها ،بل عاد قويا جارفا يف الآونة الأخرية؟هناك ر�أي يجد قبوال وا�سعا بني املفكرين املجددين والليرباليني� .إذ يعتقد �أ�صحاب هذا الر�أي �أن امل�سلمني يبحثون عن مثال �أو يوتبيا �أوطوبي ،وبع�ضهم يعلم ب�أنها م�ستحيلة التحقق .ويري (العروى) �أن عبارة دولة �إ�سالمية مرفو�ضة ما دامت الدولة الإ�سالمية يف احلقيقة هي اخلالفة ،وقد تكون عبارة دولة �رشعية� ،أ�صح .ولكنه يخ�شي �أن تت�سبب يف التبا�س كبري لأن 35
تـقديـم
ال�شخ�ص العادي ال يفرق بني الدولة ال�رشعية واخلالفة .ويف�ضل الكاتب مفهوما �آخر"- :اذا قلنا دولة الإ�سالم الإ�سالمية �أو دولة امل�سلمني. فالقول مقبول ما دمنا ال نعني به نظاما �إ�سالميا بل فقط نظاما تقام فيه �شعائر الإ�سالم ويعي�ش فيه م�سلمون م�ؤمنون". )120 :1984( . ويجمل فكرته بالقول"- :ال يجوز �أن نقول �إنها الدولة الإ�سالمية� ،إن هذه العبارة متناق�ضة يف ذاتها �إذا �أخرجناها من عامل املعقوالت �إىل عامل املح�سو�سات .ت�شري الدولة �إىل م�ستوى وي�شري الإ�سالم �إىل م�ستوى �آخر .ت�ستقيم العبارة دولة – �إ�سالمية يف ظروف غري طبيعية ي�صبح الإن�سان غري الإن�سان وحيث تتغري القواعد العامة لل�سلوك الب�رشي فتتحول الدولة �إىل ال دولة ويذوب هدفها املحدود يف الغاية العظمى للأمة جمعاء� .أما يف الظروف العادية فتبقى الدولة يف نطاق احليوانية غايتها الغلبة واال�ستئثار باخلريات فال ميكن �أن تتحول تلقائي ًا �إىل �أداة تتوخى حتقيق مكارم الأخالق"( .نف�س امل�صدر ال�سابق) . ميكن ارجاع �أزمة العديد من احلركات الإ�سالمية ،وا�شكالية �أغلب املفكرين ،وم�أزق احلكم؛�إيل االنف�صام املحزن بني املثال والواقع ،بني املمكن واملنجز .وقد ت�سبب هذا الواقع غري املقنع يف االحباط ،وال�شعور بالدونية املفرو�ضة جتاه تفوق الغرب .وقاد يف بع�ض االحيان �إيل العنف، واخلوف املر�ضي (فوبيا) من العجز وعدم القدرة علي التعامل بندية مع الإخر .ويهرب العقل الإ�سالمي ،والفرد امل�سلم ايل املثال (اليوتوبيا) . ويقع ه�ؤالء يف الأزمة ب�سبب مثالهم املا�ضوي ،فقد �سبق حتقيق هذه اليوتوبيا يف املا�ضي� .إذ يتوق هذا الفكر �إيل ا�ستعادة �أجماد ال�سلف ال�صالح والتي جت�سدت عمليا يف اخلالفة الرا�شدة .وي�صف �أحد الباحثني هذه احلالة ،بقوله"- :واملواطن الفرد ينتمي عملياوجوديا" ايل دولتني 36
واحدة قائمة والتاريخية وواحدة غري قائمة وتاريخية .وب�سبب من ازدواجية العالقة وتناق�ضها يتجه املواطن عادة ايل تغليب "الذاكرة" علي "الواقع"وتاليا الالنتماء علي االنتماء .والن الدولة احلديثة عندنا التاريخية فهي غالبا دولة �ضعيفة وغري قادرة علي التوحيد والدمج .انها دولة م�ستقلة عن املجتمع (منف�صلة) ويف الآن عينه منق�سمة وت�ستمد قوتها من "اخلارج" وت�ستقوي به علي الداخل( .نويه�ض، . )206 :1992ويبدي (رودن�سون) ا�ستغرابه لكون فكرة ا�ستعادة املثال عابرة للتاريخ ومل تخمد يف عقول كثري من امل�سلمني .ويكتب "- :ان من املده�ش �أنه بعد ع�رشات القرون من التجارب املت�ضافرة� ،أن يكون من ال�رضوري ا�ستعادة قانون تاريخي للم�آثر امل�ؤكدة .ان النوايا االخالقية الطيبة �سواءا كانت ب�ضمانة االله �أم ال ،لي�س لها وزن كبري يف توجيه ال�سيا�سة العملية للدول واف�ضل مثال علي ذلك هو الت�أثري ال�ضعيف للنزعة املناه�ضة للعنف عند امل�سيح علي توجهات ال�سلطات امل�سيحية (ومعظم رعاياها من جهة اخري) علي الرغم من �أن تلك النزعة ت�ستعاد دائما بف�ضل ن�صو�ص مقر�ؤة وحمرتمة وباقية يف الذاكرة .وت�ستطيع تلون ا�سلوب املمار�سة ال�سيا�سية الروحانية اال�سالمية حل�سن احلظ �أن ّ لبع�ض القادة ومن املغامرة �أن ي�أمل املرء �أكرث من ذلك":1996( . )268وهو اليهمل ت�صور امل�سلمني القائل بتفوق الإ�سالم علي جميع االديان االخري ،لذلك فهو �صالح-يف ر�أيهم-لكل زمان ومكان. ي�سعي عدد من املفكرين الإ�سالميني املعا�رصين علي اخلروج من �أ�رس اليوتوبيا �أو املثال التاريخي ،بالقول �أن الدولة الإ�سالمية الفا�ضلة ممكنة الآن وهنا .ويري البع�ض �أن غاية الإ�سالميني يف ال�سيا�سة 37
تـقديـم
واحلكم ،تبدو �سهلة نظريا .وهي تخليق الدولة وال�سيا�سة عموما� ،أي ا�ضافة الأخالق لكل مناحي احلياة اخلا�صة والعامة .ولكن بع�ض الباحثني يري �أن هذا التخليق ف�شل تاريخيا ب�سبب عدم ف�صل الدين عن الدولة �أو ال�ستخدام الدين يف الدفاع عن الدولة .وي�ستخدم (العناين) مفهوم (ماك�س فيرب) عن الهيمنة الدينية يف �رشح هذا التطور"- : حتول الدين كي ي�صبح اداة يف خدمة الدولة ،فخلقت دولة القهر مقابل دولة االخالق .وظهرت مع�ضلة تربير احلكم اجلائر وال�سلطان القاهر يف اطار ال�رشيعة" .وي�ضيف خالل ع�رص النبوة كان الدين حمورا للن�شاط االن�ساين مقابل انزواء الدولة (ال�سلطة) ك�أداة لتمكني الدين من حتقيق ر�سالته العاملية .مع دولة اخلالفة مت احالل الدولة حمل الدين وباتت هي مركز الن�شاط االن�ساين وا�صبح الدين حتت ا�رشاف الدولة. ثم يحدث الدمج الق�رسي بني الدين والدولة‘وحماوالت اخ�ضاع االول لهذه الأخرية ،يف حتول الدين �إيل نوع من "الهيمنة" ال�سو�سيولوجية. (�صحيفة احلياة اللندنية. )2007/2/3 متوج ال�ساحة حاليا ،مبواقف فكرية جتديدية عديدة ،التي يرجع ن�سبها ايل �أفكار (ال�شيخ علي عبدالرازق) رغم �إدانة �أ�صحابها –بقوة -له. فهناك هدف معلن �أو م�ضمر ،غايته حتديث الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي .وقد جاءت كتاباتهم يف لغة جديدة ،ومفاهيم م�ستعارة من الغرب ،ونظريات توفيقية .وهذه عملية علمنة ال�شعورية يقودها معادون للعلمنة!وهنا نفرق بني العلمانية ك�أيديولوجية ،زالعلمنة ك�سريورة اجتماعية- تاريخية تطابق العوملة ،وتطال كل من يعي�ش علي هذا الكوكب. تطرح مناذج وتعريفات عديدة للدولة الإ�سالمية ،واملالحظ �أنها 38
كلها-تقريبا -تن�أي بنف�سها عن �صفة الدينية ،وحتاول ا�سكات اال�صوات التي تطلق عليها هذه ال�صفة وتعتربها مغر�ضة .وهذا حتول عظيم يف التفكري ال�سيا�سي الإ�سالمي ب�سبب العلمنة احلياتية ،و�صل لدرجة تخلي بع�ض جماعات وتنظيمات الإ�سالم ال�سيا�سي عن �أ�سمائها التاريخية رغم ما حملته من دالالت ورمزية ،مثل اختيار االخوان امل�سلمني لإ�سم: احلرية والعدالة .ولأول مرة ي�ضيف �أغلب الإ�سالميني �صفة :املدنية، رغم عدم تعريف �أو حترير املفهوم وق�ضية مدنية الدولة .ويكتب (ال�شيخ يو�سف القر�ضاوي) "- :فاخلط�أ كل اخلط�أ الظن ب�أن الدولة الإ�سالمية التي ندعو �إليها دولة دينية� .إمنا الدولة الإ�سالمية دولة مدنية تقوم علي �أ�سا�س االختيار والبيعة وال�شورى ،وم�س�ؤولية احلاكم �أمام الأمة ،وحق كل فرد يف الرعية �أن ين�صح لهذا احلاكم ،وي�أمره باملعروف وينهاه عن املنكر"� )58 :2001( .أو �"- :إنها لي�ست دولة دينية �أو ثيوقراطية تتحكم يف رقاب النا�س� ،أو �ضمائرهم با�سم احلق الإلهي"� ،أو"- :فاحلق �أنها دولة مدنية حتكم بالإ�سالم ،وتقوم علي البيعة وال�شورى". (�ص )30وك�أنه يعترب دولة الدميقراطية وامل�شاركة واملحا�سبة هي الدولة املدنية ،والدينية بال�رضورة ا�ستبدادية وديكتاتورية .ولكن (القر�ضاوي) مل يتكيف متاما مع م�صطلحات الدولة املدنية .ويظهر ذلك يف ا�ستخدام كلمة :الرعية عو�ضا عن املواطنني .وقد فطن (ال�شيخ خالد حممد خالد) للفرق مبكرا ،يف كتاب عنوانه :مواطنون ال رعايا ( . )1951وبعد �رشح طويل للدولة الإ�سالمية املدنية ،ومعاملها ،يختم: "ولكن العلمانيني يف ديار العروبة والإ�سالم يدعون زورا علي الدولةيف الإ�سالم �أنها دولة دينية حتكم مبا �سموه احلق الإلهي�( ”.ص. )56 وي�ضيف"- :ونريد �أن نقول له�ؤالء الذين يتهمون دعاة الإ�سالم ب�أنهم 39
تـقديـم
يدعون لإقامة دولة دينية� :إنكم تقولون علي دعاة الإ�سالم غري احلق، وتقولونهم مامل يقولوا ،فهم يدعون �أبدا �إيل �إقامة دولة �إ�سالمية ،ومل ّ يدعوا يوما – ولن يدعوا – �إيل دولة دينية"�( .ص. )57 يقدم (القر�ضاوي) دفاعا م�سهبا عن مدنية الدولة يف الإ�سالم، ويت�ساءل يف النهاية :فعالم ا�ستند العلمانيون يف اتهامهم للإ�سالميني بالدعوة �إيل �إقامة دولة دينية تقوم علي �أ�سا�س احلق الإلهي؟ (�ص)59 .ويورد ما ي�سميه ال�شبهات التي � ّأدت ايل هذا املوقف .و�أولها فكرة احلاكمية التي نادي بها �أبوالأعلي املودودي و�سيد قطب ،م�ؤداها� :أن احلكم هلل تعايل ،ولي�س لأحد من الب�رش ،فالكون مملكته �سبحانه ،ولي�س لأحد فيها حكم دونه وال معه ،ح�سب الآية الكرمية�"- :إن احلكم �إال هلل� ،أمر �أال تعبدوا �إال �أياه"( ،يو�سف . )40 :ثم كلمة قالها اخلليفة الثالث عثمان �أثناء ح�صاره وحني طلب منه الثوار �أن يعتزل اخلالفة، فرد قائال"- :ال واهلل �إين لن �أنزع رداءا �رسبلنيه اهلل" ،والتي ف�رسها- البع�ض-ح�سب ر�أيه-ب�أن ال حق للرعية يف نزع الإمام من مكان رفعه اهلل �إليه�( .ص . )60كذلك اال�ست�شهاد بكلمة �أخرى تن�سب �إيل اخلليفة العبا�سي �أبي جعفر املن�صور ،جاءت يف خطبة بعد ا�ستيالء العبا�سيني علي ال�سلطة ،جاء فيها�"- :أيها النا�س� ،إمنا �أنا �سلطان اهلل يف �أر�ضه، �أ�سو�سكم بتوفيقه وت�سديده وت�أييده ،وحار�سه علي ماله� ،أعمل فيه مب�شيئته و�إرادته ،و�أعطيه ب�إذنه ،فقد جعلني اهلل عليه قفال� ،إن �شاء �أن يفتحني فتحني لإعطائكم وق�سم �إرزاقكم ،و�إن �شاء �أن يقفلني عليها �أقفلني"� .أما "ال�شبهة"الرابعة وفق حتليله ،فهي جتربة الثورة الإيرانية املعا�رصة ،حيث يقوم علي احلكم فيها رجال الدين هناك .ويقولون بوالية الفقيه .ويدح�ض ب�إ�سهاب �أ�س�س هذه الأفكار داعيا يف النهاية �إيل 40
�إغالق ملف الدولة �أو ال�سلطة الدينية� ،أن الإ�سالم ح�سم الأمر بالدعوة: "�إيل �سلطة �إ�سالمية مبعنى �أنها �سلطة مدنية تختارها الأمة ،تعتمداملرجعية الإ�سالمية يف ت�رشيعها وتوجيهها و�سيا�ستيها الداخلية واخلارجية"�( .ص. )74 تكون الآراء ال�سابقة خطاب تيار جديد يطلق علي نف�سه �أ�سم: الو�سطية الإ�سالمية ،ويتبني حزب احلرية والعدالة (الأخوان امل�رصيون يف م�رص) يف برناجمه املعلن هذه املواقف الفكرية .ويندرج �ضمن هذا التيار عدد مما ي�سمي باملفكرين الإ�سالميني امل�ستقلني مثل- :طارق الب�رشى� ،سليم العوا� ،أحمد كمال �أبو املجد ،فهمي هويدي ،حممد عمارة (يف م�رص) و�آخرين يف قطر واالردن وال�سودان ،والغرب .ولكن هناك التيارات ال�سلفية التي ال تورط نف�سها يف مثل هذه النقا�شات التي تهز ثوابتها وقناعاتها املطلقة .وهي مازالت تف�رس �آيات مثل"- :ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أ�ؤلئك هم الكافرون" (�سورة املائدة ، )44 : :بطريقة تقربهم كثريا من فكرة الدولة الدينية.
خامتة و�أخريا ،يت�ساءل املرء ،بعد هذا الت�أكيد امل�ستمر علي مدنية الدولة الإ�سالمية :ما هو �أ�سا�س االختالف بني الإ�سالميني وغريهم من الليرباليني والعلمانيني؟ اعتقد �أن كل الإ�سالميني يتفقون حول �رضورة تطبيق ال�رشيعة الإ�سالمية� .إذ ي�رص البع�ض علي اختزال التدافع احلادث بني الأفكار، يف القانون �أو بني القوانني العلمانية الآتية من اوربا �أو الغرب ،وتلك النابعة من تراث الأمة .ومن هنا برز ال�رصاع املفتعل بني علمانيني 41
تـقديـم
و�إ�سالميني ،مما ا�ستدعي خلق هذا العدو العلماين ثم �صد خطره .وهذا ما �سماه (عمارة) "العودة من علمنة الإ�سالم �إيل �إ�سالمية ال�سيا�سة":2008( . . )99ومازال اجلدل حمتدما حول تطبيق ال�رشيعة خا�صة بعد جتارب بع�ض البلدان الإ�سالمية التي �أثارت كثريا من املخاوف يف التطبيق .وال �أظن �أن اخلالف حول ال�رشيعة ،جوهري .ولكن الق�ضية احلقيقية ،هي كيف ندخل هذا الع�رص دون �أن تت�صادم هويتنا معه؟ واعيد اال�ست�شهاد هنا مرة اخرى ،بدعوة (عبدالرازق) ،للم�سلمني "- :وان يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على احدث ما �أنتجت العقول الب�رشية ,وامنت ما دلت جتارب الأمم على انه خري �أ�صول احلكم "�( .ص )103ومثل هذه الدعوة هي التي ح ّفزت كتابات مثل :ر�ؤية �إ�سالمية معا�رصة�-إعالن مبادئ ،تقدمي� :أحمد كمال �أبو املجد ،لكي تخرج من ممحاكات العلمانية والإ�سالم والتي انطلقت يف ع�رصنا منذ علي عبدالرازق وطه ح�سني ،ومل تتوقف حتي اليوم� .إذ تقول الر�ؤية�"- :إن وجود تيار فكري �إ�سالمي جديد ،ينري الطريق �أمام جماهري امل�سلمني علي امتداد العامل الإ�سالمي، ويعينها علي حل م�شاكلها املرتاكمة مبواقف واجتهادات وحلول تنبع من الر�ؤية الأ�سا�سية التي مينحها للفرد امل�سلم �إميانه باهلل ور�سوله ومببادئ الإ�سالم وقيمه العليا وتعاليمه")18 :1991( . �أوحت �إ�شارات (عبدالرازق) عن �إعمال العقل وعدم تقدي�س املا�ضي لذاته ،ب�أفكار الإ�سالميني التقدميني (تون�س) والي�سار الإ�سالمي ،يف التجديد .وبالت�أكيد ،نلحظ ظالل ال�شيخ ،حني يقولون عن �أنف�سهم. ." : .يتم�سكون بانتمائهم الإ�سالمي لأن الإ�سالم عندهم معطى ح�ضاري وثقايف وهو منظومة عقائدية و�إطار مرجعي ي�ستمدون منه �أ�صول نظرتهم الفل�سفية واالخالقية واالجتماعية .لكنهم يف الآن نف�سه يرف�ضون حتنيط الإ�سالم يف قوالب جاهزة وادعاء منذجته يف املا�ضي ويعتربونه ر�سالة عاملية تت�شكل با�ستمرار يف �ض�ؤ خ�صو�صيات ودرجة 42
الوعى باملرحلة التاريخية التي تكون عليها حركة �إ�سالمية ما يف زمن رئي�سيا لتعميق حمددين ،ويرون يف الوعى التاريخي مدخال ومكان ّ ّ االجتهاد وجتديد العلوم الدينية". )33 :1989( . كانت نظرية (عبدالرازق) التي عرب عنها يف كتابه" :الإ�سالم وا�صول احلكم" ،تهدف �إيل مزيد من التدخل الب�رشي (العقل) يف فهم الدين، وبالذات فيما يخ�ص احلكم وال�سيا�سة .وقد فتح كوة فكرية م�ضئية ينهل منها الكثريون الآن� ،شعوريا �أو ال�شعوريا .و�أغلب املحاوالت التجديدية الراهنة ميكن و�صلها-بال تع�سف-علي الأقل يف االجتاهات العامة لأفكاره .وذلك ،لأن ما �أتي به (عبدالرازق) توقف قبله �أو بعيدا عنه، املجددون ال�سابقون له ،مثل :االفغاين ،وحممد عبده ،وحممد ر�شيد ر�ضا. ومل ي�ضف الكثريون من الالحقني ،جديدا م�ؤثرا لأنهم وقفوا يف املوقع املعاك�س له ،خ�شية من م�صريه. ا�ستخدم البع�ض حيلة �أخري الغتيال افكاره ،وهو القول ب�أنه قد تنازل عن كل ما قاله واعتذر عنها ،قبل وفاته .ونلج�أ لنظرية موت امل�ؤلف ونتم�سك مبا تركه الن�ص والذي ال ميكن قن�ص الأفكار التي اطلقها واغتيالها �أوحجبها و�إرجاعها �إيل قمم .لذا ،يعود (ال�شيخ علي عبدالرازق) معا�رصا بني كل فرتة واخرى .فقد حاول الو�صول �إيل علمنة-ولي�س علمانية�-إ�سالمية عربية خا�صة ،باعتبارها-يف هذا الع�رص-حاجة ان�سانية عامة ،ولي�ست غربية ،رغم م�صدرها الأول؛حني يتعلق الأمر بنظام حكم عادل وحر ،وي�ستوجب الأمر ف�صل الديني عن ال�سيا�سي ملنع اال�ستبداد غري املقيد.
43
تـقديـم
املراجع �أبو اللوز عبداحلكيم� :إ�شكالية الدين وال�سا�سية يف تون�س� .أزمة م�رشوع التحديث وظهور حركة النه�ضة .القاهرة ،ر�ؤية للن�رش والتوزيع، .2011 �أحمد كمال �أبواملجد (تقدمي) :ر�ؤية �إ�سالمية معا�رصة�-إعالن مبادئ .القاهرة ،دار ال�رشوق.1991 ، احمد مو�صللي :قراءة نظرية ت�أ�سي�سية يف اخلطاب اال�سالمي اال�صويل( .ب .مكان الطابع) 1993 الربت حوراين :الفكر العربي يف ع�رص النه�ضة.1939-1798 بريوت ،دار النهار ،الطبعة الرابعة.1986 ، جمال البنا :الإ�سالم كما تقدمه دعوة الإحياء الإ�سالمي .القاهرة، دار الفكر الإ�سالمي( ،ب .ت). اخلالفة و�سلطة الأمة :نقله عن الرتكية عبدالغني �سني بك .القاهرة، دار النهر.1995 ، خليل العناين�" ،سو�سيولوجيا الهيمنة الدينية يف العامل العربي"يف: احلياة.2007/2/3 طارق الب�رشى :املالمح العامة للفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي يف التاريخ املعا�رص .القاهرة ،دار ال�رشوق.1996 ، عبدالإله بلقزيز :الدولة يف الفكر الإ�سالمي املعا�رص .بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية.2004 ، عبداملجيد ال�رشيف :الإ�سالم واحلداثة .تون�س ،الدار التون�سية، .1991 علي عبد الرازق :الإ�سالم و�أ�صول احلكم –بحث يف اخلالفة واحلكومة فى الإ�سالم .القاهرة ،مطبعة م�رص ،الطبعة الثالثة.1925 ، 44
فهمي جدعان :نظرية الرتاث .عمان ،دار ال�رشوق.1985 ، حممد خامتي :الدين والدولة .القاهرة ،الدار العاملية للكتب والن�رش، .1998 حممد عمارة :الإ�سالم وال�سيا�سة – الرد علي �شبهات العلمانيني. القاهرة ،مكتبة ال�رشوق الدولية.2008 ، املقدمات النظرية للإ�سالميني التقدميني .ملاذا الإ�سالم –كيف نفهمه؟�صياغة� :صالح الدين اجلور�شي ،حممد التوماين ،عبدالعزيز التميمي .تون�س ،دار الرباق.1989 ، مك�سيم رودن�سون :اال�سالم –�سيا�سة وعقيدة .ترجمة �أ�سعد �صقر. بريوت ،دار عطية.1996 ، نبيل هالل هالل :خرافة �أ�سمها اخلالفة قراءة يف �سقوط الدولة الدينية .القاهرة ،دار املحرو�سة.2010 ، نزيه ن�صيف االيوبي :العرب وم�شكلة الدولة .بريوت ،دار ال�ساقي، .1992 ه�شام جعيط :الفتنة – جدلية الدين وال�سيا�سة يف اال�سالم املبكر. بريوت ،دار الطليعة ،الطبعة الثانية1993 ، ه�شام �رشابي :املثقفون العرب والغرب .بريوت ،دار النهار للن�رش، .1971 وليد نويه�ض :ا�شكالية الدولة العربية املعا�رصة :االنف�صال عن املجتمع .االجتهاد 14ال�سنة الرابعة �شتاء1992 يو�سف القر�ضاوي :من فقه الدولة يف الإ�سالم ،القاهرة ،دار ال�رشوق 2001 Lambton: The Clash of Civilization: Authority,Legitimacy and Perfectibility (in Burel,R. M,ed. Islamic Fundamentalism. )London,Royal Asiatic Studies Seminar Papers No 1,1989.
45
علي عبد الرازق
اإلسالم وأصول احلكم بحث
في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم
47
فهر�ست الكتاب ()1 مباحث الكتاب الكتاب الأول
اخلالفة والإ�سالم الباب الأول اخلالفة وطبيعتها اخلالفة يف اللغة اخلالفة يف اال�صطالح معنى قولهم بنيابة اخلليفة عن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم �سبب الت�سمية باخلليفة حقوق اخلليفة يف ر�أيهم اخلليفة مقيد عندهم بال�رشع اخلالفة وامللك من �أين ي�ستمد اخلليفة واليته ا�ستمداده الوالية من اهلل ا�ستمداده الوالية من الأمة ظهور مثل ذلك اخلالف عند علماء الغرب
�أ
49
1 2 2 3 3 7 7 8 9 10 11
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
الباب الثاين حكم اخلالفة املوجبون لن�صب اخلليفة املخالفون يف ذلك �أدلة القائلني بالوجوب القر�آن واخلالفة ك�شف ال�شبهة عن بع�ض �آيات ال�سنة واخلالفة ك�شف �شبهة من يح�سب يف ال�سنة دلي ًال
13 13 14 15 15 17 17
الباب الثالث اخلالفة من الوجهة االجتماعية تتمة البحث دعوى الإجماع متحي�صها انحطاط العلوم ال�سيا�سية عند امل�سلمني عناية امل�سلمني بعلوم اليونان ثورة امل�سلمني على اخلالفة �سبب �إهمالهم مباحث ال�سيا�سة اعتماد اخلالفة على القوة والقهر الإ�سالم دين امل�ساواة والعزة اخلالفة مقام عزيز وغرية �صاحبه عليه �شديدة اخلالفة واال�ستبداد والظلم ال�ضغط امللوكي على النه�ضة العلمية وال�سيا�سية ال تقبل دعوى الإجماع
ب
50
21 22 22 23 23 24 24 26 28 29 30 31
�آخر �أدلتهم على اخلالفة البد للنا�س من نوع من احلكم الدين يعرتف بحكومة احلكومة غري اخلالفة ال حاجة بالدين وال بالدنيا �إىل اخلالفة انقرا�ض اخلالفة يف الإ�سالم اخلالفة اال�سمية يف م�رص النتيجة
33 33 35 35 36 37 37 38
الكتاب الثاين
احلكومة والإ�سالم الباب الأول نظام احلكم يف ع�رص النبوة ق�ضا�ؤه �صلى اهلل عليه و�سلم هل وىل �صلى اهلل عليه و�سلم ق�ضاة؟ ق�ضاء عمر ق�ضاء علي ق�ضاء معاذ و�أبي مو�سى �صعوبة البحث عن نظام الق�ضاء يف ع�رص النبوة خلو الع�رص النبوي من خمايل امللك �إهمال عامة امل�ؤرخني البحث يف نظام احلكم النبوي هل كان �صلى اهلل عليه و�سلم ملك ًا؟
ج
51
39 40 40 41 42 44 44 45 45
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
الباب الثاين الر�سالة واحلكم ال حرج يف البحث عما �إذا كان (�صلعم) ملك ًا �أم ال الر�سالة �شيء وامللك �شيء �آخر القول ب�أنه (�صلعم) كان ملك ًا �أي�ض ًا بع�ض العلماء ي�رشح بالتف�صيل الدقيق نظام حكومة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بع�ض ما ي�شبه �أن يكون من مظاهر الدولة زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم اجلهاد الأعمال املالية �أمراء قيل �إن النبي (�صلعم) ا�ستعملهم على البالد هل كان ت�أ�سي�س النبي لدولة �سيا�سية جزءاً من ر�سالته؟ الر�سالة والتنفيذ ابن خلدون يرى �أن الإ�سالم �رشع تبليغي وتنفيذي اعرتا�ض على ذلك الر�أي القول ب�أن احلكم النبوي جمع كل دقائق احلكومة احتمال جهلنا بنظام احلكومة النبوية مناق�شة ذلك الوجه احتمال �أن تكون الب�ساطة الفطرية هي نظام احلكم النبوي ب�ساطة هذا الدين مناق�شة ذلك الر�أي
د
52
49 50 51 51 53 55 55 55 56 57 57 58 59 59 60 60 61 63
الباب الثالث ر�سالة ال حكم -ودين ال دولة كان (�صلعم) ر�سو ًال غري ملك زعامة الر�سالة وزعامة امللك كمال الر�سل كماله �صلى اهلل عليه و�سلم اخلا�ص به حتديد املراد بكلمات ملك وحكومة �إلخ القر�آن ينفي �أنه (�صلعم) كان حاكم ًا ال�سنة كذلك طبيعة الإ�سالم ت�أبى ذلك �أي�ض ًا ت�أويل بع�ض ما ي�شبه �أن يكون مظهراً من مظاهر الدولة خامتة البحث
65 66 66 68 70 72 77 77 80 81
الكتاب الثالث
اخلالفة واحلكومة يف التاريخ الباب الأول الوحدة الدينية والعرب لي�س الإ�سالم دين ًا خا�ص ًا بالعرب العربية والدين احتاد العرب الديني مع اختالفهم ال�سيا�سي �أنظمة الإ�سالم دينية ال �سيا�سية �ضعف التباين عند العرب �أيام النبي (�صلعم) انتهاء الزعامة مبوت الر�سول عليه ال�سالم مل ي�سم النبي (�صلعم) خليفة من بعده
هـ 53
83 84 84 85 86 88 88
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
مذهب ال�شيعة يف ا�ستخالف علي مذهب جماعة يف ا�ستخالف �أبي بكر
89 89
الباب الثاين الدولة العربية الزعامة بعد النبي عليه ال�سالم �إمنا تكون زعامة �سيا�سي ة �أثر الإ�سالم يف العرب ن�ش�أة الدولة العربية اختالف العرب يف البيعة
91 92 92 94
الباب الثالث اخلالفة الإ�سالمية ظهور لقب (خليفة ر�سول اهلل) املعنى احلقيقي خلالفة �أبي بكر عن الر�سول �سبب اختيار هذا اللقب ت�سميتهم اخلوارج على �أبي بكر باملرتدين مل يكن اخلوارج كلهم مرتدين مانعو الزكاة حروب �سيا�سية ال دينية قد وجد حقيقة مرتدون �أخالق �أبي بكر الدينية �شيوع االعتقاد ب�أن اخلالفة مقام ديني ترويج امللوك لذلك االعتقاد ال خالفة يف الدين
و
54
97 97 98 98 99 99 101 102 103 103 103 104
فهر�ست -2-
�أ�سماء الأ�شخا�ص والأماكن التي ذكرت يف الكتاب ( �أ ) هام�ش 22 �إبراهيم النظام،89 ،83 ،34 ،23 ،21 ،18 ،14 ،3 �أبوبكر (ر�ضي اهلل عنه)116 ،112 ،104 ،103 ،102 ،101 ،100 ،99 ،98 ،97 ،95 ،94 ،93 راجع الكا�ساين �ص10 �أبوبكر (الكا�ساين)( 7وهام�ش )8 �أبوجعفر (املن�صور)43 ،41 �أبو داود 94 �أبو�سفيان29 �أبو العبا�س (عبداهلل)44 ،41 �أبوعمرو بن عبدالربراجع ابن حزم �ص18 �أبو حممد علي40 �أبو مو�سىهام�ش 3 �أبوهريرةهام�ش 22 � -أحمد (بن حنبل)
ز
55
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ال�سيد �أحمد زيني دحالن �أحمد بك �شوقي �أحمد بن طولون �أر�سطو �أ�سامة بن زيد ا�رسافيل �إ�سماعيل (عليه ال�سالم) �أ�صفهان الأ�صفهاين الأ�صم العادل �أبوبكر افالطون �إجنلرتا �أن�س بن مالك �أنقرة انو�رشوان -الأهواز
43وهام�ش 44 هام�ش 81 36 26 ،24 هام�ش 53 77 84 36 هام�ش 1 33 ،13هام�ش 12 30 24 32 هام�ش 68 11 26 36
(ب) 55 ابن باذام36 البحرين 39هام�ش 101 ،42 ،40هام�ش البخاري36 بغداد24 بيدبا2 -البي�ضاوي
ح
56
(ت) تركيا الرتمزي متيم توم�س �أرنلد omas W. ArnoldTh -توم�س (هبز) Thomas Hobbes
25 هام�ش 68 100 16 راجع هبز 11
(ث) -ثقيف
هام�ش 8
(ج) جربيل (عليه ال�سالم) جرول جرير بن عبداهلل البجلي جن (لك) Johon Luke -اجلند
77 ،41 راجع احلطيئة 10هام�ش 61 راجع لك 43 ،42 ،26
(ح) حامت احلار�س احلب�شة حذيفة-ابن حزم
ط
57
راجع (الأ�صم) -هام�ش 13 43 53 17 18هام�ش 89 ،17
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
55 10وهام�ش 10 29 36
ح�رضموت احلطيئة احل�سني -حلب
(خ) 55 100 ،41 36 هام�ش 100 ،33 ،32 ،26 ،13 ،6 ،2
خالد بن �سعيد خالد بن الوليد خرا�سان اخلطيل بن او�س ابن خلدون123 ،120 ،89 ،57 ،51 ،49 ،36
(د) هام�ش 22
-داود الظاهري
(ر) ،15 ،14 ،10 ،9 ،4 ،3 ،2 ،1 الر�سول (ر�سول اهلل)،56 ،53 ،52 ،51 ،50 ،49 ،44 ،43 ،42 ،41 ،40 ،29 ،27 ،22 ،21 ،17 ،87 ،86 ،85 ،82 ،81 ،75 ،74 ،71 ،70 ،69 ،68 ،67 ،65 ،63 ،59 ،58 101 ،100 ،99 ،98 ،96 ،95 ،94 ،91 ،90 ،89 ،88 6 الر�شيدهام�ش 7 الر�صافة 40هام�ش 59 ،52 ،51 ،46 -رفاعة بك رافع
ي
58
َر ِمع -الريان بن الوليد
55 50
(ز) 55
-زبيد
(�س) 17هام�ش 17 99 ،94 36 راجع حممد ر�شيد 18 ،17 -
�سعد الدين التفتازاين �سعد بن عبادة �سيف الدولة -ال�سيد ر�شيد
(�ش) 32 راجع حممد ال�شوكاين
ال�شام -ال�شوكاين
(�ص) راجع جنم الدين � -ص30 ال�صالح جنم الدين55 �صنعاء راجع �أبوبكر -ال�صديق
ك
59
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
(ط) 75 87 55 36 55 8هام�ش 8
طه (عليه ال�سالم) الطائف الطاهر بن �أبي هالة ابن طباطبا الطربي -طريح
(ظ) 37
-الظاهر بيرب�س
(ع) راجع �أبوبكر 55 هام�ش 69 61 94 9هام�ش 9 هام�ش 28، 3 3 ،2 هام�ش 22 11 40 29 ،6
العادل �أبوبكر عامر بن �شهر عائ�شة ابن عبا�س العبا�س عبداحلكيم ال�سيالكوين ابن عبدربه عبدال�سالم �شارح اجلوهرة عبدالعزيز البخاري عبدالغني �سني بك عبداهلل بن عمر -عبدامللك بن مروان
ل
60
40 عثمان (ر�ضي اهلل عنه)43 عدن32 العراق55 عك،83 ،44 ،42 ،41 ،40 ،39 ،23 ،6 علي (بن �أبي طالب)117 ،115 ،114 ،99 ،94 42 علي بن برهان الدين علي (فخر الإ�سالم �أبو احل�سني البزدوي) هام�ش 2236 عمان55 عمرو بن حزم،40 ،39 ،18 ،10 عمر (بن اخلطاب)101 ،100 ،89 125 ،124 ،123 ،66 ،50 ،19
-عي�سى (عليه ال�سالم)
(غ) -الغ�ساين
44
(ف) فار�س فاطمة فخر الإ�سالم البزدوي �أبوفرا�س (الفرزدق) فرج اهلل زكي الكردي -في�صل
م
61
36 29 راجع علي 7 هام�ش 9 32
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
(ق) 50 هام�ش 22 101 ،100 ،84 ،76 ،18 هام�ش 8 9هام�ش 9
قابو�س القا�شاين قري�ش -قطب الدين الرازي
(ك) 10هام�ش 10 84
الكا�ساين -كنانة
(ل) 11هام�ش 11
-لك john locke
(م) 55 م�أربهام�ش 22 مالك (بن �أن�س)100 مالك بن نويرة94 املتلم�س 87 ،45 ،43هام�ش 22 املدينة ،64 ،60 ،58 ،50 ،42 ،21 ،5 ،2 حممد (�صلى اهلل عليه و�سلم) ،95 ،88 ،84 ،81 ،74 ،73 ،69 116 ،109 ،105 ،104 ،102 ،98
ن
62
25 ،18 ،17هام�ش 25 هام�ش 43 42 6 37 راجع عي�سى 37 ،36 ،21 61 ،55 ،44 ،43 ،42 ،40 ،39 32 ،29 ،28 ،25 ،6 36 43 77 ،42 ،41 هام�ش 7 ،4هام�ش 8 هام�ش 53 125 ،124 ،123 ،66 ،7 44
حممد اخلام�س حممد ر�شيد ر�ضا حممد ال�شوكاين مذحج مروان (بن عبدامللك) امل�ستع�صم امل�سيح م�رص معاذ معاوية (بن �أبي �سفيان) معز الدولة املغرية مكة املن�صور م�ؤتة مو�سى (عليه ال�سالم) -ابن ميمون
(ن) نا�رص الدين �أبو�سعيد (البي�ضاوي) هام�ش 15 ،2،39 ،21 ،20 ،19 ،18 ،11 ،3 ،2 النبي (عليه ال�سالم)،56 ،55 ،54 ،53 ،51 ،50 ،49 ،48 ،47 ،46 ،45 ،44 ،43 ،42 ،41 ،40 ،81 ،79 ،77 ،73 ،72 ،71 ،70 ،69 ،68 ،65 ،64 ،63 ،61 ،59 ،58 ،57 ،116 ،115 ،113 ،112 ،102 ،93 ،91 ،90 ،89 ،88 ،87 ،86 ،85 ،83 126 ،125 ،124 ،123 ،121 ،120 ،119
�س 63
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
55 9هام�ش 9 30 راجع �إبراهيم
جنران جنم الدين القزويني ال�صالح جنم الدين -النظام
(هـ ) 11هام�ش 11 7 55 ،42
هبز Hobbes ه�شام -همدان
(و) 36 8هام�ش 8
وا�سط -الوليد (بن يزيد)
(ي) 32 ،31 ،29 ،28 هام�ش 28 55 25 55 ،44 ،43 ،42 ،41 ،36 50
يزيد (بن معاوية) يزيد (بن املقفع) يعلي بن �أمية يلدز اليمن -يو�سف (عليه ال�سالم)
ع
64
املراجع التي وقفنا عليها
()3 )1املفردات يف غريب القر�آن )2جوهرة التوحيد و�رشوحها )3ر�سالة التوحيد لل�شيخ حممد عبده )4طوالع الأنوار و�رشوحها )5مقا�صد الطالبني )6العقائد الن�سفية و�رشوحها )7القول املفيد على الر�سالة امل�سماة و�سيلة العبيد يف علم التوحيد لل�شيخ حممد بخيت )8املواقف و�رشوحها )9الر�سالة ال�شم�سية يف علم املنطق و�رشوحها )10مقدمة ابن خلدون )11تاريخ �أبي الفداء )12الفوائد البهية يف تراجم احلنفية )13فوات الوفيات )14تاريخ الت�رشيع الإ�سالمي ملحمد بك اخل�رضي )15تاريخ اخللفاء
ف 65
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
)16نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز )17ال�سرية النبوية )18ال�سرية احللبية )19تاريخ الطربي )20اكتفاء القنوع مبا هو مطبوع )21البدائع يف �أ�صول ال�رشائع )22الف�صل يف امللل والأهواء والنحل )23ك�شف الأ�رسار للبزدوي � )24إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم الأ�صول )25تي�سري الو�صول �إىل جامع الأ�صول )26العقد الفريد البن عبد ربه )27ديوان الفرزدق )28الأغاين )29الكامل للمربد )30اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا )31اخلالفة و�سلطة الأمة تعريب عبدالغني �سني بك )32 Astudent`s History of Philosophy by Arthur Kenson Roger )33 The Khilafet by professor Mohammad
)Barakaiallah (maulasie of Bhopul.India 34 The Khalifate by sir Thomas Arnold )35غري ما ذكر من كتب التف�سري واحلديث والفقه والأ�صول والتوحيد والأحكام ال�سلطانية واخلطب واملقاالت التي ظهر كثري منها يف اجلرائد العربية والإنكليزية
�ص 66
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم �أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل ،وال �أعبد �إال �إياه ،وال �أخ�شى �أحداً �سواه .له القوة والعزة ،وما �سواه �ضعيف ذليل ،وله احلمد يف الأوىل والآخرة ،وهو ح�سبي ونعم الوكيل. و�أ�شهد �أن حممداً ر�سول اهلل� ،أر�سله �شاهداً ومب�رشاً ونذيراً ،وداعي ًا �إىل اهلل ب�إذنه و�رساج ًا منريا� .صلى اهلل ومالئكته عليه و�سلموا ت�سليم ًا كثرياً. وليت الق�ضاء مبحاكم م�رص ال�رشعية ،منذ ثالث وثالثني وثالثمئة و�ألف هجرية (1915م) ،فحفزين ذلك �إىل البحث عن تاريخ الق�ضاء ال�رشعي .والق�ضاء بجميع �أنواعه من فروع احلكومة ،وتاريخه يت�صل بتاريخها ات�صا ًال كبرياً ،وكذلك الق�ضاء ال�رشعي ركن من �أركان احلكومة الإ�سالمية ،و�شعبة من ُ�شعبها ،فال بد حينئذ ملن يدر�س تاريخ ذلك الق�ضاء �أن يبد�أ بدرا�سة ركنه الأول� ،أعني احلكومة يف الإ�سالم. و�أ�سا�س كل حكم يف الإ�سالم هو اخلالفة والإمامة العظمى -على ما يقولون -فكان البد من بحثها. �رشعت يف بحث ذلك كله منذ ب�ضع �سنني ،وما �أزال بعد عند مراحل البحث الأوىل ،ومل �أظفر بعد اجلهد �إال بهذه الورقات� ،أقدمها على ا�ستحياء، �إىل من يعنيهم ذلك املو�ضوع. جعلتها متهيداً للبحث يف تاريخ الق�ضاء ،و�ضمنتها جملة ما اهتديت �إليه يف �ش�أن اخلالفة ونظرية احلكم يف الإ�سالم .وما �أدعي �أنني قد �أحطت فيها بجوانب ذلك البحث ،وال �أنني ا�ستطعت �أن �أحتامى �شيئ ًا من الإجمال
ق
67
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
يف كثري من املوا�ضع ،بل قد �أكون اكتفيت �أحيان ًا ب�إ�شارات رمبا خفيت على �صنف من القارئني جهتها ،وبتلويحات قد تفوتهم داللتها ،وبكنايات تو�شك �أن ت�صري عليهم �ألغازاً ،ومبجاز رمبا ح�سبوه حقيقة ،وبحقيقة رمبا ح�سبوها جمازاً. و�إين لأرجو � -إن �أراد اهلل يل موا�صلة ذلك البحث � -أن �أتدارك ما �أعرف يف هذه الورقات من نق�ص ،و�إال فقد تركت بها بني �أيدي الباحثني �أثراً ع�سى �أن يجدوا فيه �شيئ ًا من جدة الر�أي ،يف �رصاحة ال ت�شوبها مماراة، وع�سى �أن يجدوا فيه �أي�ض ًا �أ�سا�س ًا �صاحل ًا ملن يريد البناء ،و�أعالم ًا وا�ضحة رمبا اهتدى بها ال�ساري �إىل مواطن احلق. �أما بعد ف�إن تلك الورقات هي ثمرة عمل بذلت له �أق�صى ما �أملك من جهد ،و�أنفقت فيه �سنني كثرية العدد ،كانت �سنني متوا�صلة ال�شدائد، متعاقبة ال�شواغل ،م�شوبة ب�أنواع الهم ،مرتعة ك�أ�سها بالأمل� .أ�ستطيع العمل فيها يوم ًا ثم ت�رصفني احلوادث �أيام ًا ،و�أعود �إليه �شهراً ثم �أنقطع �أعوام ًا، فال غرو �أن جاء عم ًال دون ما �أردت له من كمال ،وما ينبغي له من �إتقان، بيد �أنه على كل حال هو �أق�صى ما و�صل �إليه بحثي ،وغاية ما و�سعت نف�سي. « َال ُي َك ِّل ُف َهّ ُ الل َن ْف ً�سا �إِ َّال ُو ْ�س َع َها َل َها َما َك َ�س َب ْت َو َع َل ْي َها َما ْاك َت َ�س َب ْت َر َّب َنا َال ُت َ�ؤ ِ اخ ْذ َنا �إِن َّن ِ�سي َنا َ�أ ْو َ�أ ْخ َط ْ�أ َنا َر َّب َنا َو َال تحَ ْ ِم ْل َع َل ْي َنا �إِ�صرْ ً ا َك َما َح َم ْل َت ُه َع َلى ين ِمن َق ْب ِل َنا َر َّب َنا َو َال تحُ َ ِّم ْل َنا َما َال َطا َق َة َل َنا ِب ِه َو ْاع ُف َع َّنا َو ْاغ ِف ْر َل َنا ا َّل ِذ َ نت َم ْوال َنا َفان�صرُ ْ َنا َع َلى ا ْل َق ْو ِم ا ْل َك ِ ِين». افر َ َو ْار َح ْم َنا �أَ َ
(علي عبدالرازق)
املن�صورة يف يوم الأربعاء املوافق 7رم�ضان �سنة 1343هـ 1ني�سان 1925م.
ر
68
الكتاب الأول
اخلالفة والإ�سالم (الباب الأول) اخلالفة وطبيعتها اخلالفة يف اللغة -يف اال�صطالح -معنى قولهم بنيابة اخلليفة عن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم � -سبب الق�سمية باخلليفة -حقوق اخلليفة يف ر�أيهم -اخلليفة مقيد عندهم بال�رشع -اخلالفة وامللك -من �أين ي�ستمد اخلليفة واليته -ا�ستمداده الوالية من اهلل -ا�ستمداده الوالية من الأمة -ظهور مثل ذلك اخلالف بني علماء الغرب. - 1اخلالفة لغة م�صدر تخ ّلف فالن فالن ًا �إذا ت�أخر عنه ،و�إذا جاء خلف �آخر ،و�إذا قام مقامه .ويقال خلف فالن فالن ًا �إذا قام بالأمر 1 «و َل ْو َن َ�ش ُاء جَل ََع ْل َنا ِمن ُكم َّمال ِئ َك ًة يِف عنه� ،إما معه و�إما بعده .قال تعاىل َ الأَ ْر ِ ون» واخلالفة النيابة عن الغري� ،إما لغيبة املنوب عنه و�إما �ض َي ْخ ُل ُف َ ملوته و�إما لعجزه� ..إلخ ،واخلالئف جمع خليفة ،وخلفاء جمع خليف،2 واخلليفة ال�سلطان الأعظم.3 (� )1سورة الزخرف ( )2راجع املفردات يف غريب القر�آن للأ�صفهاين ( )3القامو�س وال�صحاح وغريهما 1
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
- 2واخلالفة يف ل�سان امل�سلمني ،وترادفها الإمامة ،هي «ريا�سة عامة يف �أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم».1 ويقرب من ذلك قول البي�ضاوي( :2الإمامة عبارة عن خالفة �شخ�ص من الأ�شخا�ص للر�سول عليه ال�سالم يف �إقامة القوانني ال�رشعية وحفظ حوزة امللة ،على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة).3 وتو�ضيح ذلك ما قال ابن خلدون «واخلالفة هي حمل الكافة على مقت�ضى النظر ال�رشعي ،يف م�صاحلهم الأخروية ،والدنيوية الراجعة �إليها �إذ �أحوال الدنيا ترجع كلها عند ال�رشع �إىل اعتبارها مب�صالح الآخرة ،فهي يف احلقيقة خالفة عن �صاحب ال�رشع يف حرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا به».4 - 3وبيان ذلك �أن اخلليفة عندهم يقوم يف من�صبه مقام الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ،وقد كان عليه ال�صالة وال�سالم يف حياته يقوم على �أمر ذلك الدين ،الذي تلقاه من جانب القد�س الأعلى ،ويتوىل تنفيذه والدفاع عنه ،كما توىل �إبالغه عن اهلل تعاىل ،ودعوة النا�س �إليه .وعندهم �أن اهلل جل �ش�أنه كما اختار حممداً �صلى اهلل عليه و�سلم لدعوة احلق ،و�إبالغ �رشيعته �إىل اخللق ،قد اختاره �أي�ض ًا حلفظ ذلك الدين 5 و�سيا�سة الدنيا به فلما حلق �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفيق الأعلى قام اخللفاء من بعده مقامه يف حفظ الدين و�سيا�سة الدنيا به. ( )1عبدال�سالم يف حا�شيته على اجلوهرة �ص242 ( )2نا�رص الدين �أبو�سعيد عبداهلل بن عمر بن حممد ال�شريازي البي�ضاوي توفى �سنة 791هـ ( )3مطالع الأنظار على طوالع الأنوار ( )4مقدمة ابن خلدون �ص180 ( )5مقدمة ابن خلدون �ص181 2
- 4و�سمي القائم بذلك «خليفة و�إمام ًا ،ف�أما ت�سميته �إمام ًا فت�شبيه ب�إمام ال�صالة ،يف اتباعه واالقتداء به ،و�أما ت�سميته خليفة فكونه يخلف النبي يف �أمته فيقال خليفة ب�إطالق ،وخليفة ر�سول اهلل ،واختلف يف ت�سميته خليفة اهلل ،ف�أجازه بع�ضهم ..ومنع اجلمهور منه ...وقد نهى �أبو بكر عنه ملا ُدعي به ،وقال ل�ست خليفة اهلل ،ولكني خليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم.1 - 5فاخلليفة عندهم ينزل من �أمته مبنزلة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم من امل�ؤمنني ،له عليهم الوالية العامة ،والطاعة التامة، وال�سلطان ال�شامل ،وله حق القيام على دينهم ،فيقيم فيهم حدوده، وينفذ �رشائعه ،وله بالأوىل حق القيام على �ش�ؤون دنياهم �أي�ض ًا، وعليهم �أن يحبوه بالكرامة كلها لأنه نائب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ولي�س عند امل�سلمني مقام �أ�رشف من مقام ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فمن �سما �إىل مقامه فقد بلغ الغاية التي ال جمال فوقها ملخلوق من الب�رش ،عليهم �أن يحرتموه لإ�ضافته �إىل ر�سول اهلل ،ولأنه القائم على دين اهلل ،واملهيمن عليه ،والأمني على حفظه ،والدين عند امل�سلمني هو �أعز ما يعرفون يف هذا الكون ،فمن ويل �أمره فقد ويل �أعز �شيء يف احلياة و�أ�رشفه. 2 عليهم �أن ي�سمعوا له ويطيعوه «ظاهراً وباطن ًا» لأن طاعة الأئمة من طاعة اهلل ،وع�صيانهم من ع�صيان اهلل.3 فن�صح الإمام ولزوم طاعته فر�ض واجب ،و�أمر الزم ،وال يتم �إميان ( )1مقدمة ابن خلدون �ص181 ( )2حا�شية الباجوري على اجلوهرة ( )3روى ذلك عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه .راجع العقد الفريد البن عبد ربه ج ا� -ص 5طبع مطبعة ال�شيخ عثمان عبدالرازق مب�رص �سنة 1302هـ 3
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
�إال به ،وال يثبت �إ�سالم �إال عليه.1 وجملة القول �إن ال�سلطان خليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم، وهو �أي�ض ًا حمى 2اهلل يف بالده ،وظله املمدود على عباده ،ومن كان ظل اهلل يف �أر�ضه وخليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فواليته عامة ومطلقة ،كوالية اهلل تعاىل ووالية ر�سوله الكرمي ،وال غرو حينئذ �أن يكون له حق الت�رصف «يف رقاب النا�س و�أموالهم و�أب�ضاعهم».3 و�أن يكون له وحده الأمر والنهي ،وبيده وحده زمام الأمة ،وتدبري ما جل من �ش�ؤونها وما �صغر .كل والية دونه فهي م�ستمدة منه ،وكل وظيفة حتته فهي مندرجة يف �سلطانه ،وكل خطة دينية �أو دنيوية فهي 4 متفرعة عن من�صبه «ال�شتمال من�صب اخلالفة على الدين والدنيا» فك�أنها الإمام الكبري ،والأ�صل اجلامع ،وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها ،لعموم نظر اخلالفة ،وت�رصفها يف �سائر �أحوال امللة الدينية والدنيوية ،وتنفيذ �أحكام ال�رشع فيها على العموم.5 ولي�س للخليفة �رشيك يف واليته ،وال لغريه على امل�سلمني� ،إال والية م�ستمدة من مقام اخلالفة ،وبطريق الوكالة عن اخلليفة ،فعمال الدولة الإ�سالمية وكل من يلي �شيئ ًا من �أمر امل�سلمني يف دينهم �أو دنياهم من وزير �أو قا�ض �أو وال �أو حمت�سب �أو غريهم ،كل �أولئك وكالء لل�سلطان ( )1منه �أي�ض ًا ( )2ويف خطبة للمن�صور مبكة قال� :أيها النا�س �إمنا �أنا �سلطان اهلل يف �أر�ضه� ،أ�سو�سكم بتوفيقه وت�سديده وت�أييده ،وحار�سه على ماله� ،أعمل فيه مب�شيئته و�إرادته و�أعطيه ب�إذنه ،فقد جعلني اهلل عليه قف ًال �إن �شاء �أن يفتحني فتحني لإعطائكم وق�سم �أرزاقكم و�إن �شاء �أن يقفلني عليها �أقفلني، �إلخ .راجع العقد الفريد ج � 2ص 179 ( )3طوالع الأنوار و�رشحه مطالع الأنظار �ص470 ( )4ابن خلدون �ص ( )5ابن خلدون �ص207 4
ونواب عنه ،وهو وحده �صاحب الر�أي يف اختيارهم وعزلهم ،ويف �إفا�ضة الوالية عليهم ،و�إعطائهم من ال�سلطة بالقدر الذي يرى ،ويف احلد الذي يختار. - 6قد يظهر من تعريفهم للخالفة ومن مباحثهم فيها �أنهم يعتربون اخلليفة مقيداً يف �سلطانه بحدود ال�رشع ال يتخطاها ،و�أنه مطالب حتم ًا ب�أن ي�سلك بامل�سلمني �سبي ًال واحدة معينة من بني �شتى ال�سبل .هي �سبيل وا�ضحة من غري لب�س ،وم�ستقيمة من غري عوج .قد ك�شف ال�رشع ال�رشيف عن مبادئها وغاياتها ،و�أقام فيها �إماراتها، ومهد مدارجها ،و�أنار فجاجها ،وو�ضع فيها منازل لل�سالكني ،ووحد اخلطى لل�سائرين ،فما كان لأحد �أن ي�ضل فيها وال ي�شقى ،وما كان خلليفة �أن يفرط فيها وال �أن يطغى ،هي �سبيل الدين الإ�سالمي التي �أقام حممد �صلى اهلل عليه و�سلم يو�ضحها للنا�س حقبة من الدهر طويلة .هي ال�سبيل التي حددها كتاب اهلل الكرمي و�س ّنة حممد و�إجماع امل�سلمني. نعم هم يعتربون اخلليفة مقيداً بقيود ال�رشع ،ويرون ذلك كافي ًا يف �ضبطه يوم ًا �إن �أراد �أن يجمح ،ويف تقومي ميله �إذا خيف �أن يجنح ،وقد ذهب قوم منهم �إىل �أن اخلليفة �إذا جار �أو فجر انعزل عن اخلالفة. - 7وقد فرقوا من �أجل ذلك بني اخلالفة وامللك ،ب�أن «امللك الطبيعي هو حمل الكافة على مقت�ضى الغر�ض وال�شهوة ،وال�سيا�سي هو حمل الكافة على مقت�ضى النظر العقلي يف جلب امل�صالح الدنيوية ودفع امل�ضار ،واخلالفة هي حمل الكافة على مقت�ضى النظر ال�رشعي...
5
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
�إلخ»1لذلك يقرر ابن خلدون �أن اخلالفة اخلال�صة كانت يف ال�صدر الأول �إىل �آخر عهد علي. «ثم �صار الأمر �إىل امللك ،وبقيت معاين اخلالفة من حتري الدين ومذاهبه ،واجلري على منهج احلق ،ومل يظهر التغري �إال يف الوازع الذي كان دين ًا ثم انقلب ع�صبية و�سيف ًا ،وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبدامللك .وال�صدر الأول من خلفاء بني العبا�س� ،إىل الر�شيد وبع�ض ولده ،ثم ذهبت معاين اخلالفة ومل يبق �إال ا�سمها، و�صار الأمر ملك ًا بحت ًا وجرت طبيعة التغلب �إىل غايتها ،وا�ستعملت يف �أغرا�ضها ،من القهر والتقلب يف ال�شهوات واملالذ ،وهكذا كان الأمر لولد عبدامللك ،وملن جاء بعد الر�شيد من بني العبا�س ،وا�سم اخلالفة باقي ًا فيهم لبقاء ع�صبية العرب ،واخلالفة وامللك يف الطورين ملتب�س بع�ضهما ببع�ض ،ثم ذهب ر�سم اخلالفة و�أثرها بذهاب ع�صبية العرب وفناء جيلهم ،وتال�شي �أحوالهم ،وبقي الأمر ملك ًا بحت ًا كما كان ال�ش�أن يف ملوك العجم بامل�رشق ،يدينون بطاعة اخلليفة تربك ًا ،وامللك بجميع �ألقابه ومناحيه لهم ولي�س للخليفة منه �شيء� ...إلخ».2 - 8قد كان واجب ًا عليهم� ،إذا �أفا�ضوا على اخلليفة كل تلك القوة، ورفعوه �إىل ذلك املقام ،وخ�صوه بكل هذا ال�سلطان� ،أن يذكروا لنا م�صدر تلك القوة التي زعموها للخليفة� ،أ ّنى جاءته ؟ ومن الذي حباه بها ،و�أفا�ضها عليه ؟ لكنهم �أهملوا ذلك البحث� ،ش�أنهم يف �أمثاله من مباحث ال�سيا�سة الأخرى التي قد يكون فيها �شبه تعر�ض ملقام اخلالفة وحماولة البحث فيه واملناق�شة. ( )1مقدمة ابن خلدون �ص 180 ( )2راجع (ف�صل يف انقالب اخلالفة �إىل امللك) �ص 191وما بعدها من مقدمة ابن خلدون 6
على �أن الذي ي�ستقرئ عبارات القوم املت�صلة بهذا املو�ضوع ي�ستطيع �أن ي�أخذ منها بطريق اال�ستن�ساخ �أن للم�سلمني يف ذلك مذهبني: - 9املذهب الأول �أن اخلليفة ي�ستمد �سلطانه من �سلطان اهلل تعاىل وقوته من قوته. ذلك ر�أي جتد روحه �سارية بني عامة العلماء وعامة امل�سلمني �أي�ض ًا. وكل كلماتهم عن اخلالفة وبحثهم فيها تنحو ذلك النحو ،وت�شري �إىل هذه العقيدة ،وقد ر�أيت ،يف ما نقلنا لك �آنفا� ،1أنهم جعلوا اخلليفة يف ظل اهلل تعاىل ،و�أن �أبا جعفر املن�صور زعم �أنه �إمنا هو �سلطان اهلل يف �أر�ضه. وكذلك �شاع هذا الر�أي وحتدث به العلماء وال�شعراء منذ القرون الأوىل ،فرتاهم يذهبون دائم ًا �إىل �أن اهلل ج ّل �شانه ،هو الذي يختار اخلليفة وي�سوق �إليه اخلالفة ،على نحو ما ترى يف قوله: جاء اخلالفة �أو كانت له قدراً كما �أتى ربه مو�سى على قدر وقول الآخر: ولقد �أراد اهلل �إذ والكها من �أمة �إ�صالحها ور�شادها وقال الفرزدق:2 ه�شام 3خيار اهلل للنا�س والذي به ينجلي عن كل �أر�ض ظالمها و�أنت لهذا النــــا�س بعــد نبيهم �سمــــاء يرجى للمحول غمامهـــا (� )1ص4 �سني عمره وتويف بالب�رص (� )2أبو فرا�س همام بن غالب بن �صع�صة قيل �إنه جتاوز املائة من ّ �سنة 110وقيل ،112وقيل .114راجع ديوان الفرزدق طبع املكتبة الأهلية بريوت. ( )3ه�شام بن عبدامللك عا�رش اخللفاء الأمويني .تويف �سنة 125بالر�صافة وكان عمره خم�س ًا وخم�سني �سنة ،راجع تاريخ �أبي الفداج � 1ص 204 ،203الطبعة الأوىل باملطبعة احل�سينية مب�رص 7
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
�سهل على ولقد كان �شيوع هذا الر�أي وجريانه على الأل�سنة مما ّ ال�شعراء �أن ي�صلوا يف مبالغتهم �إىل و�ضع اخللفاء يف موا�ضع العزة القد�سية �أو قريبا منها حتى قال قائلهم: فاحكم ف�أنت الواحد القهار ما �شئت ال ما �شاءت الأقدار وقال طريح 1ميدح الوليد بن يزيد:2 �أنت 3ابن م�سلنطح البطــاح ومل طوبى لفـــرعيك مـن هنـا وهنـا لـو قلت لل�سيل دع طريقك واملو ل�ســــــــــــاخ وارتـد �أو لكـان لـه
تطرق عليك احلنى والولــج طوبى لأعراقك التي ن�شـــج ج عليه كـــــاله�ضب يعتلـج يف �سائر الأر�ض عنك منعرج
و�إذا �أنت رجعت �إىل كثري مما ا ّلف العلماء ،خ�صو�ص ًا بعد القرن اخلام�س الهجري .وجدتهم �إذا ذكروا يف �أول كتبهم �أحد امللوك �أو ال�سالطني رفعوه فوق �صف الب�رش ،وو�ضعوه غري بعيد من مقام العزة
( )1طريح بن �إ�سماعيل الثقفي مدح الوليد بن يزيد ،ثم مدح �أبا جعفر املن�صور ،راجع الأغاين ج� 4ص 74وما بعدها .طبع مطبعة التقدم مب�رص. ( )2هو حادي ع�رش خلفاء بني �أمية ،قتل �سنة 126هـ .راجع �أبا الفداء ج � 1ص205 ( )3امل�سلنطح من البطاح ما ات�سع وا�ستوى �سطحه ،وتطرق عليك :تطبق عليك وتغطك وت�ضيق كالع�صي جمع حنا واحلني مكانك ،يقال :طرقت احلادثة بكذا وكذا �إذا اتت ب�أمر �ضيق مع�ضل، ّ ّ كع�صا .ما انخف�ض من الأر�ض .والولج كل مت�سع يف الوادي الواحدة وجلت ويقال الوجلات بني اجلبال مثل الرحبات� .أي مل تكن بني احلنى والولج فيخفى مكانك� ،أي ل�ست يف مو�ضع خفي من احل�سب ،والو�شيج �أ�صول النبت يقال� :أعراقك وا�شجة يف الكرم �أي ثابتة فيه ،يعني �أنه كرمي الأبوين من قري�ش وثقيف .الأغاين ج� 4ص 81مع ت�رصف 8
الإلهية .ودونك مثا ًال لذلك ما جاء يف خطبة جنم الدين القزويني 1يف �أول «الر�سالة ال�شم�سية يف القواعد املنطقية» حيث قال (:ف�أ�شار �إيل من �سعد بلطف احلق ،وامتاز بت�أييده من بني كافة اخللق ،ومال �إىل جنابه الداين والقا�صي ،و�أفلح مبتابعته املطيع والعا�صي� ..إلخ). وقال �شارح تلك الر�سالة قطب الدين الرازي ،2يف خطبة �رشحه وخدمت به عايل ح�رضة من خ�صه اهلل تعاىل بالنف�س القد�سية ،والريا�سة الإن�سية ...الالئح من غرته الغراء لوائح ال�سعادة الأبدية ،الفائح من همته العلياء روائح العناية ال�رسمدية� ...رشف احلق والدولة والدين ،ر�شيد الإ�سالم ومر�شد امل�سلمني� ..إلخ. ويقول عبداحلكيم ال�سيالكوتي 3يف حا�شيته على ال�رشح املذكور «جعلته عرا�ضة حل�رضة من خ�صه اهلل تعاىل بال�سلطة الأبدية ،و�أيده بالدولة ال�رسمدية ...مروج امللة احلنفية البي�ضاء ،م�ؤ�س�س قواعد ال�رشيعة الغراء ،ظل اهلل يف الأر�ضني ،غياث الإ�سالم وامل�سلمني ،عامر بالد اهلل، خليفة ر�سول اهلل ،امل�ؤيد بالت�أييد والن�رص الرباين� ..إلخ».4 وجملة القول �إن ا�ستمداد اخلليفة ل�سطانه من اهلل تعاىل مذهب جار على الأل�سنة ،فا�ش بني امل�سلمني.
( )1جنم الدين عمر بن علي القزويني املعروف بالكاتبي توفى �سنة 493هـ ( )2قطب الدين حممود بن حممد الرازي توفى �سنة 766هـ ( )3القا�ضي عبداحلكيم ال�سيالكوين املتوفى �سنة 1067هـ املدفون ب�سيالكوت .من كتاب اكتفاء القنوع مبا هو مطبوع ( )4راجع يف ذلك كله املجموعة التي طبعها ال�شيخ فرج اهلل زكي الكردي باملطبعة الأمريية �سنة 1323هـ و�سنة 1905م. 9
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
- 10وهنالك مذهب ثان قد نزع �إليه بع�ض العلماء وحتدثوا به، ذلك هو �أن اخلليفة �إمنا ي�ستمد �سلطانه من الأمة ،فهي م�صدر قوته، وهي التي تختاره لهذا املقام ،ولعل احلطيئة 1قد نزع ذلك املنزع حني يقول لعمر بن اخلطاب: �ألقى �إليك مقاليد النهى الب�رش �أنت الإمام الذي من بعد �صاحبه لكن لأنف�سهم كانت بك الأثر مل ي�ؤثروك بهــا �إذ قدموك لـهـا وقد وجدنا ذلك املذهب �رصيح ًا يف كالم العالمة الكا�ساين 2يف كتابه البدائع .قــــــال« 3:وكل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به القا�ضي عن الق�ضاء ..ال يختلفان �إال يف �شيء واحد ،وهو �أن املوكل �إذا مات �أو خلع ينعزل الوكيل ،واخلليفة �إذا مات �أو خلع ال تنعزل ق�ضاته ووالته» .ووجه الفرق �أن الوكيل يعمل بوالية املوكل ويف خال�ص حقه �أي�ض ًا ،وقد بطلت �أهلية الوالية فينعزل الوكيل .والقا�ضي ال يعمل بوالية اخلليفة ويف حقه ،بل بوالية امل�سلمني ويف حقوقهم .و�إمنا اخلليفة مبنزل الر�سول عنهم ،لهذا مل تلحقه العهدة كالر�سول يف �سائر العقود ،والوكيل يف النكاح ،و�إذا كان ر�سو ًال كان فعله مبنزلة فعل عامة امل�سلمني، وواليتهم بعد موت اخلليفة باقية ،فيبقى القا�ضي على واليته ،وهذا بخالف العزل ،فان اخلليفة �إذا عزل القا�ضي �أو الوايل ينعزل بعزله وال ينعزل مبوته ،لأنه ال ينعزل بعزل اخلليفة �أي�ض ًا حقيقة بل بعزل العامة ( )1جرول بن �أو�س بن مالك تويف يف حدود الثالثني للهجرة ا هـ من فوات الوفيات ج� 1ص 126وما بعدها (� )2أبوبكر بن م�سعود بن �أحمد عالء الدين ملك العلماء الكا�ساين مات �سنة 587ودفن بظاهر حلب ا هـ من الفوائد البهية يف تراجم احلنفية ( )3بدائع ج � 7ص16 10
ملا ذكرنا �أن توليته بتوليه العامة ،والعامة ولوه اال�ستبدال داللة ،لتعلق م�صلحتهم بذلك فكانت واليته منهم معنى يف العزل �أي�ض ًا ،فهو الفرق بني العزل واملوت. ومن �أوفى ما وجدنا يف بيان هذا املذهب واالنت�صار له ر�سالة اخلالفة و�سلطة الأمة التي ن�رشتها حكومة املجل�س الكبري الوطني ب�أنقرة ونقلها من الرتكية �إىل العربية عبدالغني �سني بك وطبعها مبطبعة الهالل مب�رص �سنة 1342هـ 1924 -م. - 11مثل هذا اخلالف بني امل�سلمني يف م�صدر �سلطان اخلليفة قد ظهر بني الأوروبيني وكان له �أثر فعلي كبري يف تطور التاريخ الأوروبي. ويكاد املذهب الأول يكون موافق ًا ملا ا�شتهر به الفيل�سوف «هوبز »1من �أن �سلطان امللوك مقد�س وحقهم �سماوي .و�أما املذهب الثاين فهو ي�شبه �أن يكون املذهب نف�سه الذي ا�شتهر به الفيل�سوف « ُل ْك».2 نرجو �أن يكون ما �سبق كافي ًا لك يف بيان معنى اخلالفة عند علماء امل�سلمني ومعنى قولهم�« :3إنها ريا�سة عامة يف الدين والدنيا خالفة عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم».
( )1توم�س هبز Thomas Hobbesولد �سنة 1588م راجع كتاب
A Student`s History of Philosophy.by Arthur Kenyon Roger. P242- 250
( )2جون لك John Lockeولد �سنة 1632 ( )3مقا�صد الطالبني ل�سعد الدين التفتازاين 11
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
12
(الباب الثاين)
حكم اخلالفة املوجبون لن�صب اخلليفة -املخالفون يف ذلك � -أدلة القائلني بالوجوب -القر�آن واخلالفة -ك�شف ال�شبهة عن بع�ض �آيات -ال�سنة واخلالفة -ك�شف �شبهة من يح�سب يف ال�سنة دليل. )1ن�صب اخلليفة عندهم واجب �إذا تركه امل�سلمون �أثموا كلهم �أجمعون .يختلفون بينهم يف �أن ذلك الوجوب عقلي �أو �رشعي ،وذلك خالف ال �ش�أن لنا به هنا ،ولكنهم ال يختلفون يف �أنه واجب على كل حال حتى زعم ابن خلدون �أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع .قال:1 )2وقد �شذ بع�ض النا�س فقال بعدم وجوب هذا الن�صب ر�أ�س ًا ال بالعقل وال بال�رشع منهم الأ�صم ،2من املعتزلة وبع�ض اخلوارج
3
( )1مقدمة ابن خلدون �ص181 ( )2حامت الأ�صم الزاهد امل�شهور البلخي توفى �سنة 237هـ �أبو الفداء ج� 2ص38 ( )3و�أعلم �أن اخلوارج مل يوجبوا ن�صب الإمام لكن الطائفة منهم �أوجبته عند الفتنة وطائفة �أخرى عند الأمن ،ا هـ حا�شية الك�ستالين على العقائد الن�سفية 13
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
وغريهم .والواجب عند ه�ؤالء �إمنا هو �إم�ضاء �أحكام ال�رشع ف�إذا تواط�أت الأمة على العدل وتنفيذ �أحكام اهلل تعاىل مل يحتج �إىل �إمام وال يجب ن�صبه ،وه�ؤالء حمجومون بالإجماع. )3ودليلهم على ذلك الوجوب� :أو ًال� :إجماع ال�صحابة والتابعني «لأن �أ�صحاب الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم عند وفاته بادروا �إىل بيعة �أبي بكر ر�ضي اهلل عنه ،وت�سليم النظر �إليه يف �أمورهم ،وكذا يف كل ع�رص من بعد ذلك ،ومل ترتك النا�س فو�ضى يف ع�رص من الأع�صار، وا�ستقر ذلك �إجماع ًا دا ًال على وجوب ن�صب الإمام».1 ثاني ًا� :إن ن�صب الإمام «يتوقف عليه �إظهار ال�شعائر الدينية، و�صالح الرعية ،وذلك كالأمر باملعروف والنهي عن املنكر ،اللذين هما فر�ضان بال �شك ..ودون ن�صب الإمام ال ميكن القيام بهما ،و�إذا مل يقم بهما �أحد ال تنتظم �أمور الرعية ،بل يقوم التناهب يف ما بينهم مقام التواهب ،ويكرث الظلم ،وتعم الفو�ضى ،وال تف�صل اخل�صومات التي هي من �رضوريات املجتمع الإن�ساين ،وال �شك �أن ما يتوقف عليه الفر�ض فر�ض ،فكان ن�صب الإمام فر�ض ًا كذلك ..ومثل الأمر والنهي يف التوقف على ن�صب الإمام الكليات ال�ست التي جتب املحافظة عليها بالزواجر واحلدود التي بينها ال�شارع ال بغري ذلك .والكليات ال�ست هي حفظ الدين ...وحفظ النف�س ...وحفظ العقل وحفظ الن�سب ...وحفظ املال ...وحفظ العر�ض.»2
( )1مقدمة ابن خلدون �ص181 ( )2القول املفيد على الر�سالة امل�سماة و�سيلة العبيد يف علم التوحيد لل�شيخ حممد بخيت �ص100 14
)4مل جند فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا �أن �إقامة الإمام فر�ض من حاول �أن يقيم الدليل على فر�ضيته ب�آية من كتاب اهلل الكرمي ،ولعمري لو كان يف الكتاب دليل واحد ملا تردد العلماء يف التنويه والإ�شادة به� ،أو لو كان يف الكتاب الكرمي ما ي�شبه �أن يكون دلي ًال على وجوب الإمامة لوجد من �أن�صار اخلالفة املتكلفني ،و�أنهم لكرث ،من يحاول �أن يتخذ من �شبه الدليل دلي ًال .ولكن املن�صفني من العلماء واملتكلفني منهم قد �أعجزهم �أن يجدوا يف كتاب اهلل تعاىل حجة لر�أيهم فان�رصفوا عنه �إىل ما ر�أيت ،من دعوى الإجماع تارة، ومن االلتجاء �إىل �أقي�سة املنطق واحكام العقل تارة �أخرى. )5هنالك بع�ض �آيات من القر�آن كنا نح�سب من احلق علينا �أن نبني لك حقيقة معناها ،حتى ال يخيل �إليك �أنها تت�صل ب�شيء من �أمر الإمامة ،مثل قوله تعاىل: ول يعواْ َهّ َ الر ُ�س َ ول َو�أُ يِ «يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذ َ الل َو َ�أ ِط ُ ين � َآم ُنواْ �أَ ِط ُ (َ )62 :4 يعواْ َّ ول الر ُ�سولِ َو�إِلىَ �أُ يِ «و َل ْو َر ُّد ُ الأَ ْم ِر ِمن ُك ْم» ..وقوله تعاىل (َ )85 :4 وه �إِلىَ َّ ين َي ْ�س َتنب ُِطو َن ُه ِم ْن ُه ْم»� ..إلخ. الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّل ِذ َ ولكنا مل جند من يزعم �أن يجد يف �شيء من تلك الآيات دلي ًال ،وال من يحاول �أن يتم�سك بها ،لذلك ال نريد �أن نطيل القول فيها ،جتنب ًا للغو البحث ،واجلهاد مع غري خ�صم. و�أعلم على كل حال �أن �أويل الأمر قد حملهم املف�رسون يف الآية الأوىل 1على (�أمراء امل�سلمني يف عهد الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم، وبعده يندرج فيهم اخللفاء والق�ضاة و�أمراء ال�رسية ...وقيل علماء ال�رشع ،لقوله تعاىل« :ولو ردوه �إىل الر�سول و�إىل �أويل الأمر منهم (� )1رشح البي�ضاوي 15
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
لعلمه الذين ي�ستنبطونه منهم»). و�أما �أولو الأمر يف الآية الثانية فهم «كرباء ال�صحابة الب�رصاء باالمور� ،أو الذين كانوا ي�ؤمرون منهم» ،1وكيفما كان الأمر فالآيتان ال �شيء فيهما ي�صلح دلي ًال على اخلالفة التي يتكلمون فيها. وغاية ما قد ميكن �إرهاق الآيتني به �أن يقال �إنهما تدالن على �أن للم�سلمني قوم ًا منهم ترجع �إليهم الأمور .وذلك معنى �أو�سع كثرياً و�أعم من تلك اخلالفة باملعـنى الذي يذكرون ،بل ذلك معنى يغاير الآخر وال يكاد يت�صل به. و�إذا �أردت مزيداً يف هذا البحث ف�أرجع �إىل «كتاب اخلالفة» للعالمة ،2ال�سري تومــ�س �أرنلد ،ففي البابني الثاين والثالث منه بيان ممتع مقنع. وقد يكون مما ي�ؤن�سك يف هذا املقام كلمة ذكرها �صاحب املواقف بعد �أن ا�ستدل على وجوب ن�صب الإمام ب�إجماع امل�سلمني ،قال «:ف�إن قيل البد للإجماع من م�ستند ،ولو كان لنقل نق ًال متواتراً لتوفر الدواعي �إليه ،قلنا ا�ستغنى عن نقله بالإجماع فال توفر للدواعي� ،أو نقول كان م�ستنده من قبيل ما ال ميكن نقله من قرائن الأحوال التي ال ميكن معرفتها �إال بامل�شاهدة والعيان ،ملن كان يف زمنه عليه ال�سالم.»3 فهو كما ترى يقول� ،إن ذلك الإجماع ال يعرف له م�ستند ،وما كان �صاحب املواقف ليلج�أ �إىل هذه القولة لو وجد يف كتاب اهلل تعاىل ما ي�صلح له م�ستنداً. ( )1الك�شاف للزخم�رشي (The Caliphate.by Sir Thomas W.Arnold;Printed at the )2 Clarendon Press OxFord.1924 ( )3املواقف � 2ص464 16
�إنه لعجب عجيب �أن ت�أخذ بيدك كتاب اهلل الكرمي ،وتراجع النظر يف ما بني فاحتته و�سورة النا�س ،فرتى فيه ت�رصيف كل مثل ،وتف�صيل 1 فرطنا يف الكتاب من �شيء) .ثم ال جتد كل �شيء من �أمر هذا الدين (ما ّ فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة �أو اخلالفة� ،أن يف ذلك ملجا ًال للمقال. )6لي�س القر�آن وحده هو الذي �أهمل تلك اخلالفة ومل يت�صد لها، بل ال�سنة كالقر�آن �أي�ض ًا ،قد تركتها ومل تتعر�ض لها .يدلك على هذا �أن العلماء مل ي�ستطيعوا �أن ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شيء من احلديث ،ولو وجدوا لهم يف احلديث دلي ًال لقدموه يف اال�ستدالل على الإجماع ،وملا قال �صاحب املواقف �إن هذا الإجماع مما مل ينقل له �سند. )7يريد ال�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �أن يجد يف ال�سنة دلي ًال على وجوب اخلالفة ف�إنه نقل عن �سعد الدين 2التفتازاين يف املقا�صد ما ا�ستدل به على وجوب الإمامة .ومل يكن من بني تلك الأدلة بال�رضورة �شيء من كتاب اهلل وال من �سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فقام ال�سيد ر�شيد يعرت�ض على ال�سعد ،ب�أنه «قد غفل هو و�أمثاله عن اال�ستدالل على ن�صب الإمام بالأحاديث ال�صحيحة الواردة يف التزام جماعة امل�سلمني و�إمامهم ،ويف بع�ضها الت�رصيح ب�أن من مات ولي�س يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية .و�سي�أتي حديث حذيفة املتفق عليه ،وفيه قوله �صلى اهلل عليه و�سلم« ،تلزم جماعة امل�سلمني و�إمامهم.»3 (� )1سورة الأنعام (� )2سعد الدين التفتازاين ا�سمه م�سعود بن عمر ،وقيل عمر بن م�سعود ،ولد يف تفتازان بلدة بخر�سانة �سنة 723هـ وتويف �سنة 792ب�سمرقند ،ثم نقل �إىل �رسخ�س ا هـ راجع الفوائد البهية يف تراجم احلنفية من 135وما بعدها ( )3اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �ص11 17
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
قبل �أن نحدثك يف ذلك االعرتا�ض نلفتك �إىل �أنه يت�ضمن ت�أييد ما قلناه لك ،من �أن العلماء مل ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شيء من احلديث. ولي�س ال�سيد ر�شيد بدع ًا فيما يريد �أن يحتج به ،فقد �سبقه �إىل ذلك ابن حزم 1الظاهري بل قد زعم هذا. �إن القر�آن وال�سنة قد وردا ب�إيجاب الإمام ،من ذلك قول اهلل تعاىل (4 يعواْ َهّ َ ول الأَ ْم ِر ِمن ُك ْم) مع �أحاديث كثرية الر ُ�س َ ول َو ُ�أ يِ الل َو�أَ ِط ُ � 62أَ ِط ُيعواْ َّ �صحاح يف طاعة الأئمة و�إيجاب الإمامة.2 و�أنت �إذا تتبعت كل ما يريدون الرجوع �إليه من �أحاديث الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ومل جتد فيها �شيئ ًا �أكرث من �أنها ذكرت الإمامة �أو البيعة �أو اجلماعة�..إلخ ،مثل ما روى «الأئمة من قري�ش» «تلزم جماعة امل�سلمني» «من مات ولي�س يف عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية» «من بايع �إمام ًا ف�أعطاه �صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه �إن ا�ستطاع ،ف�إن جاء �آخر ينازعه فا�رضبوا عنق الآخر»3« ،اقتدوا باللذين من بعدي �أبي بكر وعمر� ...إلخ �إلخ ،»4ولي�س يف �شيء من ذلك كله ما ي�صلح دلي ًال على ما زعموه ،مبعنى النيابة عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم والقيام مقامه من امل�سلمني. ال نريد �أن نناق�شهم يف �صحة الأحاديث التي ي�سوقونها يف هذا الباب ،وقد كان لنا يف مناق�شتهم يف ذلك جمال ف�سيح ،ولكنا نتنزل (� )1أبوحممد علي بن �أحمد بن �سعيد ولد بقرطبة �سنة 384وتويف �سنة 456نق ًال عن ديباجة كتاب الف�صل ( )2الف�صل يف امللل والأهواء والنحل ج� 4ص 87 ي�صح ويعيذنا اهلل من االحتجاج مبا ال ي�صح .الف�صل ج4 ( )3قال ابن حزم �إن هذا احلديث مل ّ �ص108 ( )4ذكرت كل هذه الأحاديث مفرقة يف ر�سالة اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا وغالبها خمرج 18
جد ًال �إىل افرتا�ض �صحتها كلها .ثم ال نناق�شهـم يف املعنى الذي يريده ال�شارع من كلمات� ،إمامة وبيعة وجماعة� ...إلخ. وقد كانت تتح�سن مناق�شتهم يف ذلك ،ليعرفوا �أن تلك العبارات و�أمثالها يف ل�سان ال�رشع ،ال ترمي �إىل �شيء من املعاين التي ا�ستحدثوها بعد ،ثم زعموا �أن يحملوا عليها لغة الإ�سالم. نتجاوز لهم عن كل تلك الأبواب من اجلدل ،نقول �إن الأحاديث كلها �صحيحة ،نقول �إن الأئمة و�أويل الأمر ونحوهما �إذا وردت يف ل�سان ال�رشع فاملراد به �أهل اخلالفة و�أ�صحاب الإمامة العظمى .و�أن البيعة معناها بيعة اخلليفة ،و�أن جماعة امل�سلمني معناها حكومة اخلالفة الإ�سالمية� ...إلخ. نفتـــر�ض ذلك كله ،ونتنزل كل ذلك التنزل ،ثم ال جند يف تلك الأحاديث ،بعد كل ذلك ،ما ينه�ض دلي ًال لأولئك الذين يتخذون اخلالفة عقيدة �رشعية ،وحكم ًا من �أحكام الدين. تكلم عي�سى بن مرمي عليه ال�سالم عن حكومة القيا�رصة ،و�أمر ب�أن يعطي ما لقي�رص لقي�رص ،فما كان هذا اعرتاف ًا من عي�سى ب�أن احلكومة القي�رصية من �رشيعة اهلل تعاىل ،وال مما يعرتف به ديــن امل�سيحية ،وما كان لأحد ممن يفهم لغة الب�شـر يف تخاطبهم �أن يتخذ من كلمة عي�سى حجة له على ذلك. وكل ما جرى يف �أحاديث النبي عليه ال�صالة وال�سالم من ذكر الإمامة واخلالفة والبيعة� ...إلخ ،ال يدل على �شيء �أكرث مما دل عليه امل�سيح حينما ذكر بع�ض الأحكام ال�رشعية عن حكومة قي�رص. و�إذا كان �صحيح ًا �أن النبي عليه ال�صالة وال�سالم قد �أمرنا �أن نطيع �إمام ًا بايعناه .فقد �أمرنا اهلل تعاىل كذلك �أن نفي بعهدنا مل�رشك عاهدناه ،و�أن ن�ستقيم له ما ا�ستقام لنا ،فما كان ذلك دلي ًال على �أن اهلل تعاىل ر�ضي ال�رشك ،وال كان �أمره تعاىل بالوفاء للم�رشكني م�ستلزم ًا 19
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
لإقرارهم على �رشكهم. �أول�سنا م�أمورين �رشع ًا بطاعة البغاة والعا�صني ،وتنفيذ �أمرهم �إذا تغلبوا علينا وكان يف خمالفتهم فتنة تخ�شى ،من غري �أن يكون ذلك م�ستلزم ًا مل�رشوعية البغي ،وال جلواز اخلروج على احلكومة. �أول�سنا قد �أمرنا �رشع ًا ب�إكرام ال�سائلني ،واحرتام الفقراء ،والإح�سان �إليهم ،والرحمة بهم ،فهل ي�ستطيع ذو عقل �أن يقول �إن ذلك يوجب علينا �رشع ًا �أن نوجد بيننا فقراء وم�ساكني. ولقد حدثنا اهلل تعاىل عن الرق ،و�أمرنا �أن نفك رقاب الأرقاء ،و�أمرنا �أن نعاملهم باحل�سنى ،و�أمرنا بكثري غري ذلك يف �ش�أن الأرقاء ،فما دل ذلك على �أن الرق م�أمور به يف الدين ،وال على �أنه مرغوب فيه. وكثرياً ما ذكر اهلل تعاىل الطالق ،واال�ستدانة ،والبيع والرهن، وغريها ،و�رشع لها �أحكام ًا فما دل ذلك مبجرده على �أن �شيئ ًا منها واجب يف الدين ،وال على �أن لها عند اهلل �ش�أن ًا خا�ص ًا. ف�إذا كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد ذكر البيعة واحلكم واحلكومة وتكلم عن طاعة الأمراء ،و�رشع لنا الأحكام يف ذلك فوجه ذلك ما قد عرفت وفهمت. �أما بعد ف�إن دعوى الوجوب ال�رشعي دعوى كبرية ،ولي�س كل حديث و�إن �صح ب�صالح ملوازنة تلك الدعوى.
20
(الباب الثالث)
اخلالفة من الوجهة االجتماعية دعوى الإجماع -متحي�صها -انحطاط العلوم ال�سيا�سية عند امل�سلمني عناية امل�سلمني بعلوم اليونان -ثورة امل�سلمني على اخلالفة -اعتماداخلالفة على القوة والقهر -الإ�سالم دين امل�ساواة والعزة -اخلالفة مقام عزيز وغرية �صاحبه عليه �شديدة -اخلالفة واال�ستبداد والظلم -ال�ضغط امللوكي على النه�ضة العلمية وال�سيا�سية -ال تقبل دعوى الإجماع � -آخر �أدلتهم على اخلالفة -البد للم�سا�س من نوع من احلكم -الدين يعرتف بحكومة -احلكومة غري اخلالفة -ال حاجة بالدين وال بالدنيا �إىل اخلالفة انقرا�ض اخلالفة يف الإ�سالم -اخلالفة اال�سمية يف م�رص -النتيجة. .1زعموا وقد فاتهم كتاب اهلل تعاىل و�سنة ر�سوله �صلى اهلل عليه و�سلم «�أنه تواتر �إجماع امل�سلمني يف ال�صدر الأول ،بعد وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،على امتناع خلو الوقت من �إمام ،حتى قال �أبو بكر ر�ضي اهلل عنه يف خطبته امل�شهورة ،حني وفاته عليه ال�سالم� ،أال �إن حممداً قد مات ،وال بد لهذا الدين ممن يقوم به ،فبادر الكل �إىل قبوله، وتركوا له �أهم الأ�شياء ،وهو دفن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ومل يزل النا�س على ذلك ،يف كل ع�رص �إىل زماننا هذا ،من ن�صب �إمام متبع يف كل ع�رص» .1 ( )1املواقف و�رشحه 21
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
.2ن�سلم �أن الإجماع حجة �رشعية ،وال نثري خالف ًا يف ذلك مع املخالفني .1ثم ن�سلم �أن الإجماع يف ذاته ممكن الوقوع والثبوت ،2وال نقول مع القائل� ،3إن من ادعى الإجماع فهو كاذب� .أما دعوى الإجماع يف هذه امل�س�ألة فال جند م�ساغ ًا لقبولها على �أي حال .وحمال �إذا طالبناهم بالدليل �أن يفروا بدليل ،على �أننا مثبتون لك فيما يلي �أن دعوى الإجماع هنا غري �صحيحة وال م�سموعة� ،سواء �أرادوا بها �إجماع ال�صحابة وحدهم� ،أم ال�صحابة والتابعني� ،أم علماء امل�سلمني� ،أم امل�سلمني كلهم ،بعد �أن منهد لهذا متهيداً. .3من املالحظ البني يف تاريخ احلركة العلمية عند امل�سلمني �أن حظ العلوم ال�سيا�سية فيهم كان بالن�سبة لغريها من العلوم الأخرى �أ�سو�أ حظ ،و�أن وجودها بينهم كان �أ�ضعف وجود ،فل�سنا نعرف لهم م�ؤلف ًا يف ال�سيا�سة وال مرتجم ًا ،وال نعرف لهم بحث ًا يف �شيء من �أنظمة احلكم وال �أ�صول ال�سيا�سة ،اللهم �إال قلي ًال ال يقام له وزن �إزاء حركتهم العلمية يف غري ال�سيا�سة من الفنون.
( )1الإجماع حجة مقطوع بها عند عامة امل�سلمني .ومن �أهل الأهواء من مل يجعله حجة مثل �إبراهيم النظام والقا�شاين من املعتزلة واخلوارج و�أكرث الرواف�ض �إلخ ..ك�شف الأ�رسار (� )2أنكر بع�ض الرواف�ض والنظام من املعتزلة ت�صور انعقاد الإجماع على �أمر غري �رضوري.. وذهب داود و�شيعته من �أهل الظاهر و�أحمد بن حنبل يف �إحدى الروايتني عنه �إىل �أنه ال �إجماع �إال لل�صحابة ..وقال الزيدية والإمامية من الرواف�ض ال ي�صح الإجماع �إال من عرتة الر�سول عليه ال�سالم �أي قرابته ..ونقل عن مالك رحمه اهلل �أنه قال ال �إجماع �إال لأهل املدينة اهـ .راجع كتاب ك�شف الأ�رسار لعبدالعزيز البخاري على �أ�صول الإمامة لفخر الإ�سالم �أبي احل�سني علي بن حممد بن ح�سني البزدوي طبع دار اخلالفة �سنة 1307هـ ج 3من 946وما بعدها ( )3روى ذلك الإمام �أحمد بن حنبل .راجع تاريخ الت�رشيع الإ�سالمي مل�ؤلفه حممد اخل�رضي �ص.206 22
ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم �إىل البحث الدقيق يف علوم ال�سيا�سة ،وتظاهرت لديهم الأ�سباب التي تعدهم للتعمق فيها. .4و�أقل تلك الأ�سباب �أنهم مع ذكائهم الفطري ،ون�شاطهم العلمي، كانوا مولعني مبا عند اليونان من فل�سفة وعلم ،وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودر�سها كافية يف �أن تغريهم بعلم ال�سيا�سة وحتببه �إليهم ،ف�إن ذلك العلم قدمي ،وقد �شغل كثرياً من قدماء الفال�سفة اليونانيني وكان له يف فل�سفة اليونان ،بل يف حياتهم� ،ش�أن خطري. .5وهناك �سبب �آخر �أهم .ذلك �أن مقام اخلالفة الإ�سالمية كان منذ اخلليفة الأول� ،أبي بكر ال�صديق ،ر�ضي اهلل تعاىل عنه� ،إىل يومنا هذا ،عر�ضة للخارجني عليه املنكرين له ،وال يكاد التاريخ الإ�سالمي يعرف خليفة �إال عليه خارج ،وال جي ًال من الأجيال م�ضى من دون �أن ي�شاهد م�رصع ًا من م�صارع اخللفاء. نعم رمبا كان ذلك غالب ًا �ش�أن امللوك يف كل �أمة وكل ملة وجيل، ولكن ال نظن �أن �أمة من الأمم ت�ضارع امل�سلمني يف ذلك ،ف�إن معار�ضتهم للخالفة ن�ش�أت �إذ ن�ش�أت اخلالفة نف�سها ،وبقيت ببقائها. وحلركة املعار�ضة هذه تاريخ كبري جدير باالعتبار ،وقد كانت املعار�ضة �أحيان ًا تتخذ لها �شكل قوة كبرية ،ذات نظام بني كما فعل اخلوارج يف زمن علي بن �أبي طالب ،وكانت حينا ت�سري حتت �ستار الأنظمة الباطنية ،كما كان جلماعة االحتاد والرتقي مثال ،وكانت ت�ضعف �أحيان ًا حتى ال يكاد يح�س لها وجود ،وتقوى �أحيان ًا حتى لو
23
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
تزلزل عرو�ش امللوك ،وكانت رمبا �سلكت طريق العمل متى ا�ستطاعت، ورمبا �سارت على طريقة الدعوة العلمية �أو الدينية على ح�سب ظروفها و�أحوالها. مثل هذه احلركة كان من �ش�أنها �أن تدفع القائمني بها �إىل البحث يف احلكم ،وحتليل م�صادره ومذاهبه ،ودر�س احلكومات وكل ما يت�صل بها .ونقد اخلالفة وما تقوم عليه� ،إىل �آخر ما تتكون منه علوم ال�سيا�سة. ال جرم �أن العرب قد كانوا �أحق بهذا العلم ،و�أوىل من يواليه. .6فما لهم قد وقفوا حيارى �أمام ذلك العلم ،وارتدوا دون مباحثه ح�سريين ؟ ما لهم �أهملوا النظر يف كتاب اجلمهورية Republic لأفالطون وكتاب ال�سيا�سة Politicsلأر�سطو ،وهم الذين بلغ من �إعجابهم ب�أر�سطو �أن لقبوه املعلم الأول ؟ وما لهم �أن يرتكوا امل�سلمني يف جهالة مطبقة مببادئ ال�سيا�سة و�أنواع احلكومات عند اليونان ،وهم الذين ارت�ضوا �أن ينهجوا بامل�سلمني مناهج ال�رسيان يف علم النحو ،و�أن يرو�ضوهم بريا�ضة بيدبا الهندي يف كتاب كليلة ودمنة ،بل ر�ضوا ب�أن ميزجوا لهم علوم دينهم مبا يف فل�سفة اليونان من خري و�رش ،و�إميان وكفر ؟ مل يرتك علما�ؤنا �أن يهتموا بعلوم ال�سيا�سة اهتمامهم بغريها غفلة منهم عن تلك العلوم ،وال جه ًال بخطرها ،ولكن ال�سبب يف ذلك هو ما نق�صه عليك. .7الأ�صل يف اخلالفة عند امل�سلمني �أن تكون «راجعة �إىل اختيار �أهل العقد واحلل� 1إذ «الإمامة عقد يح�صل باملبايعة من �أهل احلل ( )1مقدمة ابن خلدون 24
والعقد ملن اختاروه �إمام ًا للأمة بعد الت�شاور بينهم.»1 قد يكون معنى ذلك �أن اخلالفة تقوم عند امل�سلمني على �أ�سا�س البيعة االختيارية ،وترتكز على رغبة �أهل العقد واحلل من امل�سلمني ور�ضاهم ،وقد يكون من املعقول �أن توجد يف الدنيا خالفة على احلد الذي ذكروا ،غري �أننا �إذا رجعنا �إىل الواقع والأمر نف�سه وجدنا �أن اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على �أ�سا�س القوة الرهيبة ،و�أن تلك القوة كانت� ،إال يف النادر ،قوة مادية م�سلحة ،فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه �إال الرماح وال�سيوف ،واجلي�ش املدجج والب�أ�س ال�شديد، فبتلك دون غريها يطمئن مركزه ،ويتم �أمره. قد ي�سهل الرتدد يف �أن الثالثة الأول من اخللفاء الرا�شدين مث ًال �شادوا مقامهم على �أ�سا�س القوة املادية ،وبنوه على قواعد الغلبة والقهر ،ولكن �أي�سهل ال�شك يف �أن علي ًا ومعاوية (ر�ضي اهلل تعاىل عنهما) مل يتبو�آ عر�ش اخلالفة �إال حتت ظالل ال�سيف ،وعلى �أ�سنة الرمح؟ وكذلك اخللفاء من بعد �إىل يومنا هذا .وما 2كان لأمري امل�ؤمنني حممد اخلام�س �سلطان تركيا� ،أن ي�سكن اليوم يلدز لوال تلك اجليو�ش التي حتر�س ق�رصه ،وحتمي عر�شه ،وتفنى دون الدفاع عنه. ال ن�شك مطلق ًا يف �أن الغلبة كانت دائم ًا عماد اخلالفة ،وال يذكر التاريخ لنا خليفة �إال اقرتن يف �أذهاننا بتلك الرهبة امل�سلحة التي حتوطه ،والقوة القاهرة التي تظله ،وال�سيوف امل�صلتة التي تذود عنه. ( )1اخلالفة لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �ص 25-24 ( )2كتبنا ذلك يوم كانت اخلالفة يف تركيا .وكان اخلليفة حممداً اخلام�س -وقد ذهبت بعد ذلك اخلالفة من تركيا -وذهب حممد اخلام�س وغري حممد اخلام�س من اخللفاء .ملا ذهبت تلك القوة التي قلنا �إنها �أ�سا�س اخلالفة 25
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ولوال �أن نرتكب �شطط ًا يف القول لعر�ضنا على القارئ �سل�سلة اخلالفة �إىل وقتنا هذا لريى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة ،وليتبني �أن ذلك الذي ي�سمى عر�ش ًا ال يرتفع �إال على ر�ؤو�س الب�رش ،وال ي�ستقر �إال فوق �أعناقهم ،و�أن ذلك الذي ي�سمى تاج ًا ال حياة له �إال مبا ي�أخذ من حياة الب�رش ،وال قوة �إال مبا يغتال من قوتهم ،وال عظمة له وال كرامة �إال مبا ي�سلب من عظمتهم وكرامتهم -كالليل �أن طال غال ال�صبح بالق�رص -و�أن بريقه �إمنا هو من بريق ال�سيوف، ولهيب احلروب. قد يالحظ يف بع�ض �سني التاريخ �أن تلك القوة امل�سلحة ،التي هي دعامة اخلالفة ،ال تكون ظاهرة الوجود ،حم�سو�سة للعامة ،فال حت�سنب ذلك �شذوذاً عما قررنا ،ف�إن القوة موجودة حتم ًا ،وعليها يرتكز مقام اخلليفة ،غري �أنه قد مير زمن ال ت�ستعمل فيه تلك القوة ،لعدم احلاجة �إىل ا�ستعمالها ،ف�إذا طال اختفا�ؤها عن النا�س غفلوا عنها ،ورمبا ح�سب بع�ضهم �أنها مل تكن موجودة ،ولو كانت غري موجودة حقيقة ملا كان للخليفة بعدها وجود (وما امللك �إال التغلب واحلكم بالقهر) كما قال ابن خلدون« 1ومن كالم انو�رشوان يف هذا املعنى بعينه، امللك باجلند ،وين�سب �إىل �أر�سطو ،امللك نظام يع�ضده اجلند.»2 .8طبيعي �أن امللك يف كل �أمة ال يقوم �إال على الغلب والقهر، «ف�إن امللك من�صب �رشيف ملذوذ ،ي�شتمل على جميع اخلريات الدنيوية ،وال�شهوات البدنية ،واملالذ النف�سانية ،فيقع فيه التناف�س ( )1املقدمة �ص132 ( )2مقدمة ابن خلدون �ص38 26
غالب ًا ،وقل �إن ي�سلمه �أحد ل�صاحبه �إال �إذا غلب عليه »1وطبيعي يف الأمم الإ�سالمية بنوع خا�ص �أن ال يقوم فيهم ملك� ،إال بحكم الغلب والقهر �أي�ض ًا ،ف�إن الإ�سالم هو الدين الذي مل يكتف بتعليم �أتباعه فكرة الإخاء وامل�ساواة ،وتلقينهم مذهب �أن النا�س �سوا�سية ك�أ�سنان امل�شط ،و�أن عبيدكم الذين هم ملك ميينكم �إخوانكم يف الدين ،و�أن امل�ؤمنني بع�ضهم �أولياء بع�ض ،مل يكتف الإ�سالم بتعليم �أتباعه ذلك املذهب تعليم ًا نظري ًا جمرداً ،ولكنه �أخذ امل�سلمني به �أخذاً عملي ًا، و�أدبهم به ت�أديب ًا ،ومرنهم عليه مترين ًا ،و�رشع لهم الأحكام قائمة على الأخوة وامل�ساواة ،و�أجرى عليهم الواقعات ،و�أراهم احلادثات، ف�أح�سوا بالأخوة �إح�سا�س ًا ،ومل�سوا امل�ساواة مل�س ًا .ومل يرتكهم ر�سولهم الأمني� ،صلوات اهلل عليه و�سالمه� ،إال من بعد ما طبع قلوبهم على ذلك الدين و�أ�رشبها ذلك املذهب ،ومل تقم دولتهم �إال حني كان ينادي �أحدهم خليفته فوق املنرب ،لو وجدنا فيك اعوجاج ًا لقومناه ب�سيوفنا. من الطبيعي يف �أولئك امل�سلمني الذين يدينون باحلرية ر�أي ًا، ال ،وي�أنفون اخل�ضوع �إال هلل رب العاملني، وي�سلكون مذاهبها عم ً ويناجون ربهم بذلك االعتقاد يف كل يوم �سبع ع�رشة مرة يف الأقل، يف خم�سة �أوقاتهم لل�صالة ،من الطبيعي يف �أولئك الأباة الأحرار �أن ي�أنفوا اخل�ضوع لرجل منهم �أو من غريهم ذلك اخل�ضوع الذي يطالب به امللوك رعيتهم� ،إال خ�ضوعا للقوة ،ونزو ًال على حكم ال�سيف القاهر.
( )1مقدمة ابن خلدون �ص146 27
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
فذلك ما ذكرناه من �أن اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على �أ�سا�س القوة الرهيبة ،و�أن تلك القوة كانت� ،إال يف النادر ،قوة مادية م�سلحة. �إنه ال يعنينا كثرياً �أن نعرف ال�رس كله يف ذلك ،وقد يكون ال�رس هو ما ذكرنا ،ورمبا كانت ثمة �أ�سباب �أخرى غري ما ذكرنا ،و�إمنا الذي يعنينا يف هذا املقام هو �أن نقرر لك �أن ارتكاز اخلالفة على القوة حقيقية واقعة ،الريب فيها ،و�سيان عندنا بعد ذلك �أن يكون هذا الواقع املح�سو�س جاري ًا على نوامي�س العقل �أم ال ،وموافقا لأحكام الدين �أم ال. ال معنى لقيام اخلالفة على القوة والقهر �إال �إر�صادهما ملن يخرج على مقام اخلالفة� ،أو يعتدي عليه ،و�إعداد ال�سيف ملن مي�س ب�سوء ذلك العر�ش ،ويعمل على زلزلة قوائمه. ال لذلك يف ق�صة البيعة ليزيد ،حني و�أنت ت�ستطيع �أن تدرك مث ً قام �أحد 1الدعاة �إىل تلك البيعة خطيب ًا يف احلفل ،ف�أوجز البيان يف ب�ضع كلمات مل تدع -لذي �إربة يف القول جداً وال هز ًال -قال (�أمري امل�ؤمنني هذا) (و�أ�شار �إىل معاوية) ف�إن هلك فهذا (و�أ�شار �إىل يزيد) فمن �أبى فهذا و�أ�شار �إىل �سيفه. .9كل �شيء ي�ؤخذ بحد ال�سيف ويحمى بحده يكون عزيزاً على النف�س ،ال يهون الت�سامح فيه ،وال التنازل عن �شيء منه ،وناهيك ( )1يف اجلزء الثاين من العقد الفريد البن عبد ربه �ص � 307أن معاوية بن �أبي �سفيان ،ملا �أراد �أخذ البيعة ليزيد ،كتب يف �سنة خم�س وخم�سني �إىل �سائر الأم�صار �أن يفدوا عليه ،فوفد عليه من كل م�رص قوم ،فجل�س يف �أ�صحابه ،و�أذن للوفود ،فدخلوا عليه ،وقد تقدم �إىل �أ�صحابه �أن يقولوا يف يزيد ،فتكلم جماعة منهم ،ثم قام يزيد بن املقفع فقال «�أمري امل�ؤمنني هذا» �إىل �آخر اجلملة املذكورة فوق فقال معاوية «اجل�س ف�إنك �سيد اخلطباء» اهـ ملخ�ص ًا . 28
مبقام ال�سيادة وال�سلطان فهو عزيز على النف�س ،حتى ولو جاء من غري عمل ال�سيف ،ف�إذا جاء من طريق القوة والغلب كانت النف�س فيه �أ�شد تعلق ًا ،ويف الدفاع عنه �أ�شد تفاني ًا ،وكانت غريتها عليه �أكرث من الغرية على املال واحلرم ،وولعها به فوق الولع بكل ما يف الدنيا من خريات ونعم. .10و�إذا كان يف هذه احلياة الدنيا �شيء يدفع املرء �إىل اال�ستبداد والظلم ،وي�سهل عليه العدوان والبغي ،فذلك هو مقام اخلليفة ،وقد ر�أيت �أنه �أ�شهى ما تتعلق به النفو�س ،و�أهم ما تغار عليه ،و�إذا اجتمع احلب البالغ والغرية ال�شديدة ،و�أمدتهما القوة الغالبة ،فال �شيء �إال الع�سف ،وال حكم �إال ال�سيف. دع عنك كل ذلك احلديث الذي ن�سوقه �إليك قواعد عامة ،ونظريات جمردة ،ودونك وقائع التاريخ ثابتة يف لوح حمفوظ. �أفهل غري حب اخلالفة والغرية عليها ،ووفرة القوة ،دفعت يزيد بن معاوية �إىل ا�ستباحة ذلك الدم الزكي الطاهر ،دم احل�سني بن فاطمة بنت ر�سول اهلل� ،صلى اهلل عليه و�سلم ؟ وهل غري تلك العوامل �سلطت يزيد بن معاوية على ع�صمة اخلالفة الأوىل ،ينتهك حرمتها ،وهي مدينة الر�سول� ،صلى اهلل عليه و�سلم ؟ ،وهل ا�ستحل عبدامللك بن مروان بيت اهلل احلرام ووطئ حماه� ،إال حب ًا باخلالفة وغرية عليها مع توافر القوة له؟. وهل بغري تلك الأ�سباب �صار �أبو العبا�س عبداهلل بن حممد بن علي ابن عبداهلل بن العبا�س� ،سفاح ًا ،وما كانت �إال دماء امل�سلمني ،وما كان بنو �أمية �إال من قومه. كذلك تناحر بنو العبا�س �أي�ض ًا ،وبغى بع�ضهم على بع�ض ،وفعل 29
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
بنو �سبكتكني مثل ذلك ،وحارب ال�صالح جنم الدين الأيوبي �أخاه العادل �أبا بكر بن الكامل ،فخلعه و�سجنه ،وامتلأت دولتا املماليك واجلراك�سة بخلع امللوك وقتلهم ،كل ذلك مل يكن �إال �أثراً من �آثار حب اخلالفة والغرية عليها ،ومن وراء احلب والغرية قوة قاهرة .وكذلك القول يف دولة بني عثمان.1 .11الغرية على امللك حتمل امللك على �أن ي�صون عر�شه من كل �شيء يزلزل �أركانه� ،أو ينق�ص من حرمته� ،أو يقلل من قد�سيته، لذلك كان طبيعي ًا �أن ي�ستحيل امللك وح�ش ًا �سفاح ًا ،و�شيطان ًا مارداً، �إذا ظفرت يداه مبن يحاول اخلروج عن طاعته ،وتقوي�ض كر�سيه. و�أنه من الطبيعي كذلك يف امللك �أن يكون عدواً لدوداً لكل بحث ولو كان علمي ًا يتخيل �أنه قد مي�س قواعد ملكه �أو يريح من تلقائه ريح اخلطر ،ولو كان بعيداً. من هنا ن�ش�أ ال�ضغط امللوكي على حرية العلم ،وا�ستبداد امللوك ال ،وال �شك �أن علم ال�سيا�سة مبعاهد التعليم ،كلما وجدوا �إىل ذلك �سبي ً هو من �أخطر العلوم على امللك ،مبا يك�شف من �أنواع احلكم وخ�صائ�صه و�أنظمته �إىل �آخره ،لذلك كان حتم ًا على امللوك �أن يعادوه و�أن ي�سدوا �سبيله على النا�س. ذلك ت�أويل ما يالحظ من ق�صور النه�ضة الإ�سالمية يف فروع ال�سيا�سة ،وخلو حركة امل�سلمني العلمية من مباحثها ،ونكو�ص العلماء عن التعر�ض لها ،على النحو الذي يليق بذكائهم ،وعلى النحو الذي تعر�ضوا به لبقية العلوم. ( )1راجع يف هذا البحث �أي�ض ًا كتاب اخلالفة لل�سري �أرنلد 30
.12ل�سنا نعجب ،والأمر ما قد عرفت ،من �ضعف احلركة العلمية ال�سيا�سية عند امل�سلمني ،وال من انحطاط �ش�أن ال�سيا�سة عندهم، ولكن العجب هو �أن ال ميوت بينهم ذلك العلم ،و�أن ال يق�ضي عليه الق�ضاء كله ،العجب العجيب هو �أن يت�رسب من خالل ذلك ال�ضغط اخلانق ،والقوة املرت�صدة ،والب�أ�س املحيط ،بع�ض مباحث ال�سيا�سة �إىل جمال�س العلم ،و�أن يعرف لبع�ض قليل من العلماء ،ر�أي يف م�س�ألة �سيا�سية على غري ما يهوى اخللفاء. لو و�ضعنا هذا الكتاب كله يف بيان ال�ضغط امللوكي الإ�سالمي على كل علم �سيا�سي .وكل حركة �سيا�سية� ،أو نزعة �سيا�سية ،ل�ضاق هذا الكتاب و�أ�ضعافه عن ا�ستيعاب القول يف ذلك ،ثم لعجزنا عن بيانه على وجه كامل ،فح�سبنا الآن تلك الإ�شارة املجملة ،وع�سى �أن مير بك قريب ًا ما يت�صل بهذا البحث. ونعود بك الآن �إىل حيث كنا عند قولهم «�إن الأمة قد �أجمعت على ن�صب الإمام ،فكان ذلك �إجماع ًا دا ًال على وجوبه». لو ثبت عندنا �أن الأمة يف كل ع�رص �سكتت على بيعة الإمامة، فكان ذلك �إجماع ًا �سكوتي ًا ،بل لو ثبت �أن الأمة بجملتها وتف�صيلها قد ا�شرتكت بالفعل يف كل ع�رص يف بيعة الإمامة واعرتفت بها ،فكان ذلك �إجماع ًا �رصيح ًا ،لو نقل �إلينا ذلك لأنكرنا �أن يكون �إجماع ًا حقيقي ًا ،ولرف�ضنا �أن ن�ستخل�ص منه حكم ًا �رشعي ًا ،و�أن نتخذه حجة يف الدين. وقد عرفت من ق�صة 1يزيد كيف كانت ت�ؤخذ البيعة ،ويغت�صب ال فلدينا مزيد. الإقرار ،وانتظر قلي ً (� )1ص28 31
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
تذكرنا ق�صة يزيد بن معاوية بق�صة في�صل بن ح�سني بن علي، كان �أبوه ح�سني بن علي �أحد �أمراء العرب ،الذين انحازوا يف احلرب العظمى �إىل جانب احللفاء ،خروج ًا على الرتك ،وعلى �سلطان الرتك خليفة للم�سلمني ،فقام �أوالده يف بالد العرب ويف جوانبها ين�رصون جيو�ش احللفاء ن�رصاً مبين ًا ،ويخذلون �أعداءهم من الرتك والأملان وغريهم ،وامتاز في�صل� ،أحد �أولئك امللوك ،بالزلفى من الإنكليز حل�سن بالئه يف م�ساعدتهم ،و�إخال�صه يف خدمتهم ،فعينوه ملك ًا على ال�شام ،ومل يكد ي�ستقر بها حتى هاجمت ملكه جيو�ش الفرن�سيني، فولىّ في�صل هارب ًا ،تارك ًا مملكته وعر�شه وغريهما ،حتى و�صل �إىل �إجنلرتا ،ومن هناك حمله الإنكليز �إىل بالد العراق ،ون�صبوه عليها ملك ًا وقد زعم الإنكليز �أن �أهل احلل والعقد من �أمة العراق انتخبوا ال ليكون ملك ًا عليهم بالإجماع ،اللهم �إال �أن يكون قد خالف يف في�ص ً ذلك نفر قليل ال يعتد بهم ،ك�أولئك الذين دعاهم ابن خلدون من قبل �شواذ. ولعمرك ما كذب الإنكليز ،ف�إنهم قد عملوا انتخاب ًا ،له كل مظاهر االنتخاب احلر القانوين ،و�أخذوا يومئذ ر�أي الكثريين من �أهل الزعامة ال ملك ًا عليهم. يف العراق ،فكان ر�أيهم �أن ينتخبوا في�ص ً ولكن مما ال �شك عندك فيه �أن «هذا» الذي �أخذ به خطيب معاوية البيعة ليزيد هو عينه «هذا» الذي �أخذ به الإنكليز �إجماع العراقيني لإمامة في�صل ! �أفهل ت�سمي ذلك �إجماع ًا ؟. لو ثبت الإجماع الذي زعموا ملا كان �إجماع ًا يعتد به ،فكيف
32
ال ،1وكذلك قال الأ�صم وقد قالت اخلوارج ال يجب ن�صب الإمام �أ�ص ً يف املعتزلة ،وقال غريهم �أي�ض ًا ،كما �سبقت 2الإ�شارة �إليه .وح�سبنا يف هذا املقام نق�ضا لدعوى الإجماع �أن يثبت عندنا خالف الأ�صم واخلوارج وغريهم ،و�إن قال ابن خلدون �إنهم �شواذ. .13عرفت �أن الكتاب الكرمي قد تنزه عن ذكر اخلالفة والإ�شارة �إليها ،وكذلك ال�سنة النبوية قد �أهملتها ،و�أن الإجماع مل ينعقد عليها، �أفهل بقي لهم من دليل يف الدين غري الكتاب �أو ال�سنة �أو الإجماع ؟. نعم ..بقي لهم دليل �آخر ال نعرف غريه ،هو �آخر ما يلج�أون �إليه ،وهو �أهون �أدلتهم و�أ�ضعفها. قالوا �إن اخلالفة تتوقف عليها �إقامة ال�شعائر الدينية و�صالح الرعية� ...3إلخ. .14املعروف الذي ارت�ضاه علماء ال�سيا�سة �أنه البد ال�ستقامة الأمر يف �أمة متمدينة� ،سواء �أكانت ذات دين �أم ال دين لها ،و�سواء �أكانت م�سلمة �أم م�سيحية �أم يهودية �أم خمتلطة الأديان -البد لأمة منظمة ،مهما كان معتقدها ،ومهما كان جن�سها ولونها ول�سانها ،من حكومة تبا�رش �ش�ؤونها ،وتقوم ب�ضبط الأمر فيها ،قد تختلف �أ�شكال احلكومة و�أو�صافها بني د�ستورية وا�ستبدادية ،وبني جمهورية وبول�شيفية وغري ذلك .قد يتنازع علماء ال�سيا�سة يف تف�ضيل نوع من ( )1املواقف �ص 463 (� )2ص12 (� )3سبق نقل هذا الدليل �ص13 33
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
احلكومة على نوع �آخر .ولكنا ال نعرف لأحد منهم وال من غريهم نزاع ًا يف �أن �أمة من الأمم البد لها من نوع ما من �أنواع احلكم .ولهم على ذلك �أدلة لي�س من غر�ضنا هنا �أن نعر�ض لها .فلي�س ذلك مبو�ضوعنا، على �أننا ال ن�شك يف �أن ذلك الر�أي يف جملته �صحيح ،و�أن النا�س ال ي�صلحون فو�ضى ال �رساة لهم ،ولعل �أبوبكر ،ر�ضي اهلل تعاىل عنه� ،إمنا كان ي�شري �إىل ذلك الر�أي حينما قال يف خطبته التي �سبقت الإ�شارة ممن يقوم به» ولعل الكتاب الكرمي ينحو ذلك �إليها «البد لهذا الدين ّ ون َر ْح َم َت املذهب �أحيان ًا .قال تعاىل يف �سورة ال ُّزخرف �( :أَ ُه ْم َي ْق�سِ ُم َ الد ْن َيا َو َر َف ْع َنا َب ْع َ�ض ُه ْم َر ِّب َك َن ْح ُن َق َ�س ْم َنا َب ْي َن ُهم َّم ِع َ ي�ش َت ُه ْم يِف الحْ َ َيا ِة ُّ �ض َد َر َج ٍ َف ْو َق َب ْع ٍ ات ِل َي َّت ِخ َذ َب ْع ُ�ض ُهم َب ْع ً�ضا ُ�س ْخ ِر ًّيا َو َر ْح َم ُت َر ِّب َك َخيرْ ٌ ون). مِمّ َّ ا َي ْج َم ُع َ (و ْل َي ْح ُك ْم �أَ ْه ُل الإِجنِ يلِ بمِ َ ا �أَن َز َل وقال تعاىل يف �سورة املائدة َ ونَ .و�أَن َز ْل َنا ل َي ْح ُكم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ َهّ ُ الل ِفي ِه َو َمن َمّ ْ الل َف�أُو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل َفا�سِ ُق َ اب َو ُم َه ْي ِم ًنا َع َل ْي ِه اب ِبالحْ َ ِّق ُم َ�ص ِّد ًقا لِمّ َ ا َبينْ َ َي َد ْي ِه ِم َن ا ْل ِك َت ِ �إِ َل ْي َك ا ْل ِك َت َ اء َك ِم َن الحْ َ ِّق اح ُكم َب ْي َن ُهم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ الل َو َال َت َّتب ِْع �أَ ْه َو ُ اءه ْم َع َّما َج َ َف ْ ل َع َل ُك ْم �أُ َّم ًة َو ِ اح َد ًة اجا َو َل ْو َ�شاء َهّ ُ الل جَ َ ِل ُك ٍ ّل َج َع ْل َنا ِمن ُك ْم �شرِ ْ َع ًة َو ِم ْن َه ً ا�س َت ِب ُقوا الخْ َ يرْ َ ِ يعا ات �إِلىَ َهّ َو َل ِكن ِّل َي ْب ُل َو ُك ْم يِف َما �آ َت ُ الل َم ْر ِج ُع ُك ْم َج ِم ً اكم َف ْ الل َو َال اح ُكم َب ْي َن ُهم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ َف ُي َن ِّب ُئ ُكم بمِ َ ا ُكن ُت ْم ِفي ِه َت ْخ َت ِل ُف َ ونَ .و�أَنِ ْ وك َعن َب ْع ِ الل ِ�إ َل ْي َك َف�إِن �ض َما َ�أن َز َل َهّ ُ اح َذ ْر ُه ْم �أَن َي ْف ِت ُن َ َت َّتب ِْع �أَ ْه َو ُ اءه ْم َو ْ يب ُهم ب َِب ْع ِ ريا ِّم َن ِيد َهّ ُ اع َل ْم �أَ َمّ َ نا ُير ُ َت َو َّل ْوا َف ْ الل �أَن ُي ِ�ص َ �ض ُذ ُنوبِهِ ْم َو�إ َِّن َك ِث ً ون َو َم ْن َ�أ ْح َ�س ُن ِم َن َهِّ ال ِ الل ُح ْك ًما ون� .أَ َف ُح ْك َم جْ َ اه ِل َّي ِة َي ْب ُغ َ ال َّنا�سِ َل َفا�سِ ُق َ 34
ِّل َق ْو ٍم ُي ِ ارى �أَ ْو ِل َياء ونَ .يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذ َ وق ُن َ ين � َآم ُنواْ َال َت َّت ِخ ُذواْ ا ْل َي ُه َ ود َوال َّن َ�ص َ َب ْع ُ�ض ُه ْم �أَ ْو ِل َياء َب ْع ٍ الل َال َي ْه ِدي �ض َو َمن َي َت َو َّل ُهم ِّمن ُك ْم َف�إِ َّن ُه ِم ْن ُه ْم �إ َِّن َهّ َ ني)� ..إلخ. ا ْل َق ْو َم َّ الظالمِِ َ .15ميكن حينئذ �أن يقال بحق �إن امل�سلمني� ،إذا اعتربناهم جماعة منف�صلني وحدهم ،كانوا كغريهم من �أمم العامل كله، حمتاجني �إىل حكومة ت�ضبط �أمورهم ،وترعى �ش�ؤونهم. �إن يكن الفقهاء �أرادوا بالإمامة واخلالفة ذلك الذي يريده علماء ال�سيا�سة باحلكومة كان �صحيح ًا ما يقولون ،من �أن �إقامة ال�شعائر الدينية ،و�صالح الرعية ،يتوقفان على اخلالفة ،مبعنى احلكومة ،يف �أي �صورة كانت احلكومة ،ومن �أي نوع .مطلقة �أو مقيدة ،فردية �أو جمهورية ،ا�ستبدادية �أو د�ستورية �أو �شورية ،دميقراطية �أو ا�شرتاكية �أو بل�شفية .ال ينتج لهم الدليل �أبعد من ذلك� .أما �أن �أرادوا باخلالفة ذلك النوع اخلا�ص من احلكم الذي يعرفون فدليلهم �أق�رص من دعواهم ،وحجتهم غري ناه�ضة. .16الواقع املح�سو�س الذي ي�ؤيده العقل ،وي�شهد به التاريخ قدمي ًا وحديث ًا� ،أن �شعائر اهلل تعاىل ومظاهر دينه الكرمي ال تتوقف على ذلك النوع من احلكومة الذي ي�سميه الفقهاء خالفة .وال على �أولئك الذين يلقبهم النا�س خلفاء .والواقع �أي�ض ًا �أن �صالح امل�سلمني يف دنياهم ال يتوقف على �شيء من ذلك .فلي�س بنا من حاجة �إىل تلك اخلالفة لأمور ديننا وال لأمور دنيانا .ولو �شئنا لقلنا �أكرث من ذلك .ف�إمنا كانت اخلالفة ومل تزل نكبة على الإ�سالم وعلى امل�سلمني، وينبوع �رش وف�ساد ،ورمبا ب�سطنا لك بعد ذلك� ،أما الآن فح�سبنا �أن 35
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
نك�شف لك عن الواقع املح�سو�س لت�ؤمن ب�أن ديننا غني عن تلك اخلالفة الفقهية ،ودنيانا كذلك. .17علمت مما نقلنا 1لك عن ابن خلدون «�أنه قد ذهب ر�سم اخلالفة و�أثرها بذهاب ع�صبية العرب ،وفناء جيلهم ،وتال�شي �أحوالهم ،وبقي الأمر ملك ًا بحت ًا ...،ولي�س للخليفة منه �شيء»� ،أفهل علمت �أن �شيئ ًا من ذلك قد �صدع �أركان الدين ،و�أ�ضاع م�صلحة امل�سلمني ،على وجه كان ميكن للخالفة �أن تتالفاه لو وجدت؟! منذ منت�صف القرن الثالث الهجري �أخذت اخلالفة الإ�سالمية تنق�ص من �أطرافها ،حتى مل تعد تتجاوز ما بني البتي دائرة �ضيقة حول بغداد «و�صارت 2خرا�سان وما وراء النهر البن �سامان وذريته من بعده وبالد البحرين للقرامطة ،واليمن البن طباطبا ،و�أ�صفهان وفار�س لبني بويه ،والبحرين وعمان لفرع من عائلة القرامطة ،قد �أ�س�س فيها دولة م�ستقلة ....والأهواز ووا�سط ملعز الدولة ،وحلب ل�سيف الدولة وم�رص لأحمد بن طولون ،ومن بعده للملوك الذين تغلبوا عليها وامتلكوها وا�ستقلوا ب�أحكامها ،كالأخ�شيديني والفاطميني والأيوبيني واملماليك وغريهم» .ح�صل ذلك فما كان الدين �أيامئذ يف بغداد مقر اخلالفة خرياً منه يف غريها من البالد التي ان�سلخت عن اخلالفة وال كانت �شعائره �أظهر ،وال كان �ش�أنه �أكرب ،وال كانت الدنيا يف بغداد �أح�سن ،وال �ش�أن الرعية �أ�صلح.
(�)1سبق ذلك �ص6 ( )2تاريخ اخللفاء ترجم من اللغة الفرن�ساوية بقلم نخلة بك �صالح �شفوات �ص 64وما بعدها 36
.18هوت اخلالفة عن بغداد ،يف منت�صف القرن ال�سابع الهجري، حني هاجمها الترت ،وقتلوا اخلليفة العبا�سي امل�ستع�صم باهلل ،وقتلوا معه �أهله و�أكابر دولته «وبقي 1الإ�سالم ثالث �سنني من دون خليفة». .19وكان امللك يف م�رص يومئذ للظاهر بيرب�س .ولأمر ما �أخذ ذلك الداهية ينب�ش بني م�صارع العبا�سيني ،حتى �أعرثه احلظ برجل، زعموا �أنه من فلول اخلالفة العبا�سية ،ومن �أنقا�ض بيتها ،وكذلك �أراده الظاهر �أن يكون ،ف�أن�ش�أ منه بيت ًا للخالفة يف م�رص ،ي�أخذ الظاهر بجميع مفاتيحه و�إغالقه ،واتخذ هياكل �سماهم خلفاء امل�سلمني ،وحمل امل�سلمني على �أن يدينوا جلاللتهم ،ويف يديه وحده �أزمة تلك الهياكل وت�رصيف حركاتهم و�سكناتهم ،و�أطراف �أل�سنتهم ،ثم كانت تلك �سنة امللوك اجلراك�سة يف م�رص بعد امللك الظاهر� ،إىل �أن �أخذ اخلالفة امللوك العثمانيون �سنة 923هـ. هل كان يف �شيء من م�صلحة امل�سلمني لدينهم �أو دنياهم تلك التماثيل ال�شالء ،التي كان يقيمها ملوك م�رص ويلقبونها خلفاء. بل تلك الأ�صنام يحركونها ،واحليوانات ي�سخرونها؟ ثم ما بال تلك البالد الإ�سالمية الوا�سعة غري م�رص نزعت عنها ربقة اخلالفة ،و�أنكرت �سلطانها ،وعا�شت وما زال يعي�ش كثري منها بعيداً عن ظل اخللفاء ،وعن اخل�ضوع الوثني جللهم الديني املزعوم؟ �أر�أيت �شعائر الدين فيها من دون غريها �أهملت ،و�ش�ؤون الرعية عطلت � -أم هل �أظلمت دنياهم ملا �سقط عنها كوكب اخلالفة ،وهل جفتهم رحمة الأر�ض وال�سماء ،ملا بان عنهم اخللفاء؟ كال.. بانوا فما بكت الدنيا مل�رصعهم
وال تعطلت الأعياد واجلمع.
( )1تاريخ اخللفاء �ص77 37
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
.20معاذ اهلل ال يريد اهلل جل �ش�أنه لهذا الدين ،الذي كفل له البقاء، �أن يجعل عزه وذله منوطني بنوع من احلكومة ،وال ب�صنف من الأمراء. وال يريد اهلل جل �ش�أنه لعباده امل�سلمني �أن يكون �صالحهم وف�سادهم رهن اخلالفة ،وال حتت رحمة اخللفاء. اهلل جل �ش�أنه �أحفظ لدينه ،و�أرحم بعباده. ع�سى �أن يكون فيما �أ�سلفنا مقنع لك ب�أن تلك التي دعوها اخلالفة �أو الإمامة العظمى مل تكن �شيئ ًا قام على �أ�سا�س من الدين القومي� ،أو العقل ال�سليم ،وب�أن ما زعموا �أن يكون برهان ًا لها هو �إذا نظرت وجدته غري برهان. ولعل من حقك علينا �أن ت�س�أل الآن عن ر�أينا اخلا�ص يف اخلالفة ويف من�شئها .و�أن علينا �أن ن�أخذ بك يف بيان ذلك .م�ستمدين من اهلل جل �ش�أنه ح�سن املعونة والهدى والتوفيق؟
38
الباب الثاين
احلكومة والإ�سالم الباب الأول
نظام احلكم يف ع�رص النبوة ق�ضا�ؤه (�صلعم) -هل وىل (�صلعم) ق�ضاة؟ -ق�ضاء عمر -ق�ضاء علي -ق�ضاء معاذ و�أبي مو�سى � -صعوبة البحث عن نظام الق�ضاء يف ع�رص النبوة -خلو الع�رص النبوي من خمايل امللك � -إهمال عامة امل�ؤرخني البحث يف نظام احلكم النبوي -هل كان (�صلعم) ملك ًا؟ ( )1الحظنا �إذ كنا نبحث عن تاريخ الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم� ،أن حال الق�ضاء يف ذلك الوقت ال يخلو من غمو�ض و�إبهام ي�صعب معهما البحث ،وال يكاد يتي�رس معهما الو�صول �إىل ر�أي نا�ضج، يقره العلم ،وتطيب به نف�س الباحث. ال �شك يف �أن الق�ضاء مبعنى احلكم يف املنازعات وف�ضها ،كان موجوداً يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،كما كان موجوداً عند العرب وغريهم ،قبل �أن يجيء الإ�سالم .وقد رفعت �إىل النبي �صلى اهلل عليه و�سلم خ�صومات فق�ضى فيها .وقال �صلى اهلل عليه و�سلم�« 1،إنكم ( )1البخاري يف كتاب ال�شهادات �ص 170ج3 39
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
تخت�صمون �إيل ،ولعل بع�ضكم �أحلن بحجته من بع�ض ،فمن ق�ضيت له بحق �أخيه �شيئ ًا بقوله ،ف�إمنا �أقطع له قطعة من النار ،فال ي�أخذها». ويف التاريخ ال�صحيح �شيء من ق�ضائه عليه ال�سالم فيما كان يرفع �إليه ،ولكنا �إذا �أردنا �أن ن�ستنبط �شيئ ًا من نظامه �صلى اهلل عليه و�سلم يف الق�ضاء جند �أن ا�ستنباط �شيء من ذلك غري ي�سري ،بل غري ممكن ،لأن الذي نقل �إلينا من �أحاديث الق�ضاء النبوي ال يبلغ �أن يعطيك �صورة بينة لذلك الق�ضاء وال ملا كان له من نظام� ،أن كان له نظام. ( )2الحظنا �أن حال الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم غام�ضة ومبهمة من كل جانب ،حتى مل يكن من ال�سهل على الباحث �أن يعرف هل ولىّ �صلى اهلل عليه و�سلم �أحداً غريه الق�ضاء �أم ال. هنالك ثالثة من ال�صحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ويل الق�ضاء يف زمن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. قال بع�ضهم« 1وقد ق ّلد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم الق�ضاء لعمر بن اخلطاب ،وعلي ابن �أبي طالب ،ومعاذ بن جبل ر�ضي اهلل عنه» �أهـ، وينبغي �أن ي�ضاف �إليهم �أبو مو�سى الأ�شعري ر�ضي اهلل عنه ،فقد كان يف عمله ،على ما يظهر ،نظرياً ملعاذ بن جبل �سواء ب�سواء. (� )3أما �أن عمر ر�ضي اهلل عنه تقلد الق�ضاء يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فرواية غريبة من اجلهة التاريخية ،ويظهر �أنها �إمنا �أخذت بطريق اال�ستنتاج ،2ففي �سنن الرتمذي� ،أن عثمان قال لعبداهلل ( )1هو رفاعة بك رافع يف كتابه نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز �ص 429نق ًال عن كتاب تخريج الدالالت ال�سمعية ( )2نهاية الإيجاز �ص429 40
بن عمر اذهب فاق�ض بني النا�س .قال �أو تعافيني يا �أمري امل�ؤمنني، قال وما تكره من ذلك وقد كان �أبوك يق�ضي؟ قال �إن �أبي كان يق�ضي ف�إن �أ�شكل عليه �شيء �س�أل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ف�إن �أ�شكل على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �س�أل جربيل .و�أين ال �أجد من �أ�س�أله� ....إلخ. ( )4و�أما علي بن �أبي طالب ،ر�ضي اهلل عنه ،فقد بعثه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم� ،إىل اليمن ،وهو �شاب ،ليق�ضي بينهم ...وروى �أبو داود ،رحمه اهلل تعاىل ،عن علي بن �أبي طالب ،ر�ضي اهلل تعاىل عنه، وقال بعثني ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم� ،إىل اليمن قا�ضي ًا ،و�أنا حديث ال�سن ،وال علم يل بالق�ضاء ،وقال �إن اهلل �سيهدي قلبك ،ويثبت ل�سانك ،ف�إذا جل�س بني يديك اخل�صمان فال تق�ضني حتى ت�سمع من الآخر ،كما �سمعت من الأول ،ف�إنه �أحرى �أن يتبني لك الق�ضاء .قال فما زلت قا�ضي ًا ،وما �شككت يف ق�ضاء بعد .كذا ذكره �أبو عمر وبن عبد الرب يف اال�ستيعاب .وقال �أي�ض ًا .قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف �أ�صحابه�« ،أق�ضاهم علي بن �أبي طالب». والذي يف البخاري 1مما يت�صل بهذا املو�ضوع� ،أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،بعث خالد بن الوليد �إىل اليمن قبل حجة الوداع ،مع جماعة من ال�صحابة ،وبعث علي ًا بعد ذلك مكانه ليقب�ض اخلم�س، وقدم علي من اليمن ب�سعايته �إىل مكة ،والنبي �صلى اهلل عليه و�سلم بها. ( )1راجع اجلزء اخلام�س �ص 164-163بعث علي بن �أبي طالب عليه ال�سالم وخالد ابن الوليد ر�ضي اهلل عنه �إىل اليمن قبل حجة الوداع � -صحيح البخاري 41
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ونقل علي بن برهان الدين احللبي� 1أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه كرم اهلل وجهه ،يف �رسية �إىل اليمن ،ف�أ�سلمت همدان و�سلم ،بعث علي ًا ّ كلها يف يوم واحد ،فكتب بذلك �إىل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم، فلما ر�أى كتابه خر �ساجداً ،ثم جل�س ،فقال :ال�سالم على همدان .وتتابع �أهل اليمن �إىل الإ�سالم ،وهذه هي ال�رسية الأوىل .وال�رسية الثانية بعث كرم اهلل وجهه� ،إىل بالد فيها ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم علي ًا ّ مذحج من �أر�ض اليمن يف ثالثمئة فار�س ،فغزاهم ....وجمع الغنائم.... كرم اهلل وجهه ،فوافى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مبكة، ثم رجع علي ّ قدمها حلجة الوداع�..إلخ. ( )5و�أما معاذ 2بن جبل ،فقد بعثه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قا�ضي ًا �إىل اجلند من اليمن ،يعلم النا�س القر�آن ،و�رشائع الإ�سالم، ويق�ضي بينهم ،وجعل له قب�ض ال�صدقات من العمال ،الذين باليمن، جل َند (بفتح اجليم وذلك عام فتح مكة ،يف ال�سنة الثامنة من الهجرة .وا َ والنون مع ًا) ،بلدة باليمن. وقال البخاري 3يف هذا املو�ضوع بعث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أبا مو�سى ومعاذ بن جبل �إىل اليمن ،قال وبعث كل واحد منهما على خمالف ،واليمن خمالفان ،ثم قال ،ي�رسا وال تع�رسا ،وب�رشا وال تنفرا.
( )1راجع ال�سرية احللبية.ج� 3ص228-227 ( )2نهاية الإيجاز (� )3صحيح البخاري ج� 5ص163-161 42
ويف حديث �آخر للبخاري� ،أنه قال ملعاذ بن جبل� ،إنك �ست�أتي قوم ًا من �أهل الكتاب ،ف�إذا جئتهم فادعهم �إىل �أن ي�شهدوا �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل ،قال ف�إن هم �أطاعوا لك بذلك ،ف�أخربهم �أن اهلل قد فر�ض عليهم خم�س �صلوات يف كل يوم وليلة ،ف�إن هم �أطاعوا لك بذلك ،ف�أخربهم �أن اهلل قد فر�ض عليهم �صدقة ت�ؤخذ من �أغنيائهم فرتد على فقرائهم ،ف�إن هم �أطاعوا لك بذلك ف�إياك وكرائم �أموالهم، واتق دعوة املظلوم ف�إنه لي�س بينه وبني اهلل حجاب. 1 ويقرب من هذا رواية ال�سيد �أحمد زيني دحالن يف ال�سرية النبوية قال« :بعث �صلى اهلل عليه و�سلم �أبا مو�سى الأ�شعري ومعاذ بن جبل ر�ضي اهلل عنهما �إىل اليمن قبل حجة الوداع ،يف ال�سنة العا�رشة، وقيل يف التا�سعة ...وقيل عام الفتح �سنة ثمان ،وكل واحد منهما على خمالف ،وكانت جهة معاذ العليا �صوب عدن ،وكان من عمله اجلند .وكانت جهة �أبي مو�سى ال�سفلى. و�أخرج � 2أحمد و�أبو داود والرتمذي وغريهم ،من حديث احلار�س بن عمرو ،ابن �أخي املغرية بن �شعبة ،قال حدثنا نا�س من �أ�صحاب معاذ عن معاذ ،قال ملا بعثه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل اليمن قال كيف تق�ضي �إذا عر�ض لك ق�ضاء؟ قال �أق�ضي بكتاب اهلل ،قال ف�إن مل جتد يف كتاب اهلل؟ قال فب�سنة ر�سول اهلل ،قال ف�إن مل جتد يف �سنة ر�سول اهلل وال يف كتاب اهلل؟ قال اجتهد ر�أيي وال �آلو .قال ( )1املطبوعةعلى هام�ش ال�سرية احللبية ج� 2ص 368-367 ( )2منقول من «كتاب �إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم الأ�صول» لل�شوكاين �ص،188 وقال امل�ؤلف «حممد بن علي ال�شوكاين املتوفى �سنة 1255هـ عن هذا احلديث «الكالم يف �إ�سناده يطول ،وقد قيل �إنه مما تلقى بالقبول».
43
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ف�رضب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �صدره ،وقال احلمد هلل الذي وفق ر�سول ر�سولِ اهلل ملا ير�ضاه ر�سول اهلل. ( )6تلك الروايات املختلفة ،التي ق�ص�صنا عليك �أمنوذج ًا منها، تريك كيف ي�سوغ لنا �أن ن�ستنتج ما قلناه لك قبل ،من �أنه ال تتي�رس الإحاطة ب�شيء كثري من �أحوال الق�ضاء يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وها �أنت ذا قد ر�أيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة بعينها .فبعث علي �إىل اليمن يرويه �أحدهم �أنه تولية للق�ضاء ،ويروي الآخر �أنه كان لقب�ض اخلم�س من الزكاة ،ومعاذ بن جبل كذلك ،ذهب �إىل اليمن قا�ضي ًا يف ر�أي ،وغازي ًا يف ر�أي ،ومعلم ًا يف ر�أي. ونقل �صاحب ال�سرية النبوية 1خالف ًا يف �أن معاذاً كان والي ًا �أو قا�ضي ًا «فقال ابن عبد الرب �إنه كان قا�ضي ًا ،وقال الغ�ساين �إنه كان �أمرياً على املال .وحديث ابن ميمون فيه الت�رصيح ب�أنه كان �أمرياً على ال�صالة .وهذا يرجح �أنه كان والي ًا». ( )7و�أن البحث العميق فيما كان عليه الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم� ،إطاعة التفكري يف ذلك ،وح�سن التفهم ملا و�صل �إلينا ال بهذا املو�ضوع من الأحاديث والأخبار ،كل �أولئك يدفعنا �إىل مت�ص ً البحث بوجه عام يف نظام احلكومة الإ�سالمية� ،أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ويف كيفية تدبري ذلك امللك الإ�سالمي� ،إن �ساغ لنا بحق �أن ن�سمي ما فتح اهلل لنبيه من البالد دولة وملك ًا. ذلك ب�أننا وجدنا عند البحث يف نظام الق�ضاء يف ع�رص النبوة ( )1راجع ال�سرية النبوية لدحالن املطبوعة على هام�ش ال�سرية احللبية �ص 368ج2 44
�أن غري الق�ضاء �أي�ض ًا من �أعمال احلكومات ووظائفها الأ�سا�سية مل يكن يف �أيام الر�سالة موجوداً على وجه ال لب�س فيه ،حتى ي�ستطيع باحث من�صف �أن يذهب �إىل �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يعني يف ال لإدارة �ش�ؤونها ،وتدبري �أحوالها البالد التي فتحها اهلل له والة مث ً و�ضبط الأمر فيها .وما يروى من ذاك فكله عبارة عن توليته �أمرياً ال على املال� ،أو �إمام ًا لل�صالة� ،أو معلم ًا للقر�آن، على اجلي�ش� ،أو عام ً �أو داعي ًا �إىل كلمة الإ�سالم ،ومل يكن �شيء من ذلك مطرداً ،و�إمنا كان يح�صل لوقت حمدود ،كما ترى فيمن كان ي�ستعملهم �صلى اهلل عليه و�سلم على البعوث وال�رسايا� ،أو ي�ستخلفهم على املدينة �إذا خرج للغزو. �إذاً نحن جتاوزنا عمل الق�ضاء والوالية �إىل غريهما من الأعمال، التي ال يكمل معنى الدولة �إال بها ،كالعماالت التي تت�صل بالأموال وم�صارفها (املالية) وحرا�سة الأنف�س والأموال (البولي�س) وغري ذلك مما ال يقوم من دونه �أقل احلكومات و�أعرقها يف الب�ساطة ،فمن امل�ؤكد �أننا ال جند فيما و�صل �إلينا من ذلك عن زمن الر�سالة �شيئ ًا وا�ضح ًا ميكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون� ،أن نقول �إنه كان نظام احلكومة النبوية. ( )8ومما قد ي�ست�أن�س به يف هذا املو�ضوع� ،أننا الحظنا �أن عامة امل�ؤلفني ،من رواة الأخبار يعنون يف الغالب� ،إذا ترجموا خلليفة من اخللفاء �أو ملك من امللوك ،بذكر عماله من والة وقواد وق�ضاة�...إلخ. ويفردون له بحث ًا خا�ص ًا ،يدل على �أنهم عرفوا متام ًا قيمة ذلك البحث من اجلهة العلمية ،ف�رصفوا من اجلهد فيه والعناية به ما ينا�سبه، ولكنهم يف تاريخ النبي �صلى اهلل عليه و�سلم� ،أن عاجلوا ذلك البحث 45
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ر�أيتهم يزجون احلديث فيه مبعرثاً غري مت�سق ،ويخو�ضون غمار ذلك البحث على ن�سق ال مياثل طريقتهم يف بحث بقية الع�صور .ما ر�أينا م�ؤرخ ًا �شذ عن ذلك ،اللهم �إال ما �سننقله لك بعد عن رفاعة 1بك رافع ال عن الطهطاوي ،يف كتاب نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز ،نق ً �صاحب كتاب تخريج الدالالت ال�سمعية. ( )9كلما �أمعنا تفكرياً يف حال الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ويف حال غري الق�ضاء �أي�ض ًا ،من �أعمال احلكم ،و�أنواع الوالية، وجدنا �إبهام ًا يف البحث يتزايد ،وخفاء يف الأمر ي�شتد .ثم ال تزال حرية الفكر تنقلنا من لب�س �إىل لب�س ،وتردنا من بحث �إىل بحث� ،إىل �أن ينتهي النظر بنا �إىل غاية ذلك املجال امل�شتبه احلائر .و�إذا نحن �إزاء عوي�صة �أخرى هي كربى تلكم املع�ضالت ،وهي من�ش�أ ما لقينا من حرية وا�ضطراب .هي الأ�صل وما عداها فروع ،وهي الأم وما عداها تبع. تلك م�شكلة �إذا وفق العقل حللها فقد هانت من بعدها امل�شكالت، واجنلى كل لب�س و�إبهام. ال ون�ؤخر �أخرى، �إننا لنقرتب بك �إىل هذه امل�شكلة ونحن نقدم رج ً �أما �أو ًال فلأن حلها ع�سري ،ومزالق الفكر فيها كثرية .وما مل يكن عون من اهلل تعاىل �أي عون فال �أمل يف الو�صول �إىل وجه ال�صواب فيها. و�أما ثاني ًا فلأن املغامرة يف بحث هذا املو�ضوع قد تكون مثاراً لغارة ي�شب نارها �أولئك الذين ال يعرفون الدين �إال �صورة جامدة ،لي�س للعقل �أن يحوم حولها ،وال للر�أي �أن يتناولها: ( )1رفاعة بن بدوي بن علي بن حممد بن علي بن رافع .ويت�صل ن�سبه مبحمد الباقر بن علي زين العابدين توفى �سنة 1290هـ من كتاب اكتفاء القنوع 46
ولكننا ن�ستعني باهلل تعاىل ،ونرجو منه جل �ش�أنه ح�سن التوفيق، ع�سى �أن نك�شف لك ما غم�ض ،ونفتح عليك ما ا�ستغلق ،ون�صل بك �إىل احلق �أبلج الوجه ،وا�ضح الغرة� ،إن �شاء اهلل. فاعلم �أن امل�س�ألة الآن هي �أن النبي � -صلى اهلل تعاىل عليه و�سلم - كان �صاحب دولة �سيا�سية ورئي�س حكومة كما كان ر�سول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية �أم ال؟
47
48
الباب الثاين
الر�سالة واحلكم ال حرج يف البحث عما �إذا كان «�صلى اهلل عليه و�سلم» ملك ًا �أم ال -الر�سالة �شيء وامللك �شيء �آخر -القول �إنه «�صلى اهلل عليه و�سلم» كان ملك ًا �أي�ض ًا -بع�ض العلماء ي�رشح بالتف�صيل الدقيق نظام حكومة النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» -بع�ض ما ي�شبه �أن يكون من مظاهر الدولة زمن النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» -اجلهاد -الأعمال املثالية � -أمراء قيل �إن النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» ا�ستعملهم على البالد -هل كان ت�أ�سي�س النبي لدولة �سيا�سية جزءاً من ر�سالة؟ - الر�سالة والتنفيذ -ابن خلدون يرى �أن الإ�سالم �رشع تبليغي وتنفيذي اعرتا�ض على ذلك الر�أي -القول ب�أن احلكم النبوي جمع كل دقائقاحلكومة -احتمال جهلنا بنظام احلكومة النبوية -مناق�شة ذلك الوجه -احتمال �أن تكون الب�ساطة الفطرية هي نظام احلكم النبوي - ب�ساطة هذا الدين -مناق�شة ذلك الر�أي: ( )1ال يهولنك البحث يف �أن الر�سول «�صلى اهلل عليه و�سلم» كان ملك ًا �أم ال ،وال حت�سنب �أن ذلك البحث ذو خطر يف الدين قد يخ�شى �رشه على �إميان الباحث ،فالأمر� ،إن فطنت �إليه� ،أهون من �أن يخرج م�ؤمن ًا من حظرية الإميان ،بل و�أهون من �أن يزحزح املتقي عن حظرية التقوى.
49
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
و�إمنا قد يبدو لك الأمر خطرياً لأنه يت�صل مبقام النبوة ،ويرتبط مبركز الر�سول «�صلى اهلل عليه و�سلم» ،ولكنه على ذلك ال مي�س يف احلقيقة �شيئ ًا من جوهر الدين ،وال �أركان الإ�سالم .ورمبا كان ذلك البحث جديداً يف الإ�سالم مل يتناوله امل�سلمون من قبل على وجه �رصيح ومل ي�ستقر للعلماء فيه ر�أي وا�ضح ،و�إذاً فلي�س بدع ًا يف الدين ،وال �شذوذاً عن مذاهب امل�سلمني� ،أن يذهب باحث �إىل �أن النبي عليه ال�سالم كان ر�سو ًال وملك ًا، ولي�س بدع ًا وال �شذوذاً �أن يخالف يف ذلك خمالف ،فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها ،وا�ستقر لهم فيها مذهب ،وهو �أَ ْد َخ ُل يف باب البحث العلمي منه يف باب الدين ف�أقدم وال تخف� ،إنك من الآمنني. (� )2أنت تعلم �أن الر�سالة غري امللك ،و�أنه لي�س بينهما �شيء من التالزم بوجه من الوجوه ،و�أن الر�سالة مقام وامللك مقام �آخر ،فكم من ملك لي�س نبي ًا وال ر�سو ًال ،وكم هلل جل �ش�أنه من ر�سل مل يكونوا ملوك ًا ،بل �أن �أكرث من عرفنا من الر�سل �إمنا كانوا ر�س ًال فح�سب. ولقد كان عي�سى ابن مرمي عليه ال�سالم ر�سول الدعوة امل�سيحية، وزعيم امل�سيحيني ،وكان مع هذا يدعو �إىل الإذعان لقي�رص ،وي�ؤمن بل�سطانه .وهو الذي �أر�سل بني �أتباعه تلك الكلمة البالغة�« :1أعطوا ما لقي�رص لقي�رص وما هلل هلل». وكان يو�سف بن يعقوب عليه ال�سالم ،عام ًال من العمال ،يف دولةالريان بن الوليد ،فرعون م�رص .ومن بعده كان عام ًال لقابو�س بن م�صعب ،2وال « »1اجنيل م ّتى من الإ�صحاح الثاين والع�رشين �آية «»21 « »2راجع تاريخ �أبى الفداء ج� 1ص18 50
نعرف يف تاريخ الر�سل من جمع اهلل له بني الر�سالة وامللك �إال قلي ًال. فهل كان حممد �صلى اهلل عليه و�سلم ممكن جمع اهلل له بني الر�سالة وامللك� ،أم كان ر�سو ًال غري ملك؟ ( )3ال نعرف لأحد من العلماء ر�أي ًا �رصيح ًا يف ذلك البحث وال جند من تعر�ض للكالم فيه ،بح�سب ما �أتيح لنا .ولكنا قد ن�ستطيع بطريق اال�ستنتاج �أن نقول� :إن امل�سلم العامي يجنح غالب ًا �إىل اعتقاد �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان ملك ًا ر�سو ًال ،و�أنه �أ�س�س بالإ�سالم دولة �سيا�سية مدنية ،كان هو ملكها و�سيدها ،لعل ذلك هو الر�أي الذي يتالءم مـع ذوق امل�سلمني العـام ،ومع ما يتبادر من �أحوالهم يف اجلملة ،ولعله �أي�ضـ ًا هو ر�أي جمهور العلمـاء من امل�سلمني ،فـ�إنك تراهم� ،إذا عر�ض لـهـم الكالم يف �شيء يت�صل بذلك املو�ضوع ،مييلون �إىل اعتبـار الإ�سـالم وحـدة �سيا�سيـة ،ودولــة � َّأ�س�سـهـا الـنــبـي �صلى اهلل عليه و�سلم. وكالم ابـن خلـدون فـي مـقدمـتـه ينحـو ذلـك املنـحى ،فـقـد جـعـل الـخـالفـة الـتي هي نيابة عن �صاحب ال�رشع يف حفظ الدين و�سيا�سة الدنيا� ،شاملة للملك وامللك مندرج ًا حتتها �إلخ.1 ( )4وقـــد نقـل املرحوم رفاعة بـك رافـع عن كتـاب تخريـج الـدالالت ال�سمعية مـا ي�شبه �أن يـكون �رصيحـ ًا يف ذلك الـر�أي ،بـل
« »1راجع املقدمة :ف�صل يف اخلطط الدينية اخلالفية �ص 206وغريه. 51
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
الواقـع �أنـه �رصيح ،قال مــا ملخ�صه�« :1إن من مل تر�سخ يف املعارف قدمه ،ولي�س لديه من �أدوات الطالب �إال يداه وقلمه ،يح�سب كثرياً من الأعمال ال�سلطانية مبتدع ًا ال متبع ًا ،و�أن العامل على خطة دنيوية، ال يف عمالة �سنية ،ويظن �أن عمالته دنية ،فلهذا جمعت لي�س عام ً ما علمته من تلك العماالت يف كتاب يو�ضح ن�رشها ،ويبني الأمر ملن جهل �أمرها ،فذكرت يف كل عمالة من واله عليها الر�سول من ال�صحابة ،ليعلم ذلك من يليها الآن ،في�شكر اهلل على �أن ا�ستعمله يف عمل �رشعي ،كان يتواله من �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم من �صلح له ،و�أقامه املوىل يف ذلك مقامه». ثم خل�ص رفاعة بك الكالم يف الوظائف والعماالت البلدية ،خ�صو�صية وعمومية� ،أهلية داخلية وجهادية التي هي عبارة عن نظام ال�سلطنة الإ�سالمية وما يتعلق بها من احلرف وال�صنائع ،والعماالت ال�رشعية، على ما كان يف عهد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وجمع يف ذلك بني الكالم على خدمه اخلا�صة به �صلى اهلل عليه و�سلم ،وما ي�ضاف �إىل 2 الب ْدن الإمامة العظمى من الأعمال الأولية كالوزارة واحلجابة ووالية ُ وال�سقاية 3والكتابة وما ي�ضاف �إىل العماالت الفقهية من معلم القر�آن ومعلم الكتابة ومعلم الفقه ،واملفتي و�إمام ال�صالة وامل�ؤذن ،..ثم ذكر الرتاجمة وكتابة اجلي�ش والعطاء والديوان والزمام ،وبينّ �أن للديوان �أ�ص ًال يف عهد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ثم ذكر العماالت املتعلقة « »1نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز �ص 350طبع مبطبعة املعارف امللكية حتت نظارة قلم الرو�ضة واملطبوعات �سنة 1291هـ الب ْدن واحدتها بدنة وهي ناقة �أو بقرة تنحر مبكة «ُ »2 «� »3سقاية احلاج 52
بالأحكام ،كالإمارة العامة على النواحي ،والق�ضاء وما يتعلق به من �إ�شهاد ال�شهود وكتابة ال�رشوط والعقود واملواريث والنفقات ،والق�سام وناظر البناء للتحديد ،وذكر املحت�سب واملنادى ،ومتويل حرا�سة املدينة ،واجلا�سو�س لأهل املدينة ،وال�سجان ومقيمي احلدود ،ثم ذهب يعدد الأعمال احلكومية واحداً بعد واحد ،حتى مل يكد يدع �شيئ ًا ،وحتى قال رفاعة بك�« :إن ذلك �شيء مل يف به غالب م�ؤلفي كتب ال�سري بل جميعهم». ( )5ال �شك يف �أن احلكومة النبوية كان فيها بع�ض ما ي�شبه �أن يكون من مظاهر احلكومة ال�سيا�سية و�آثار ال�سلطنة وامللك. (� )6أول ما يخطر بالبال مثا ًال من �أمثلة ال�ش�ؤون امللكية ،التي ظهرت �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،م�س�ألة اجلهاد ،فقد غزا �صلى اهلل عليه و�سلم املخالفني لدينه من قومه العرب ،وفتح بالدهم ،وغنم �أموالهم، و�سبى رجالهم ون�ساءهم ،وال �شك يف �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم قد امتد ب�رصه �إىل ما وراء جزيرة العرب ،وا�ستعد لالن�سياب بجي�شه يف �أقطار الأر�ض ،وبد�أ 1فع ًال ي�صارع دولة الرومان يف الغرب ،ويدعو �إىل االنقياد لدينه ك�رسى الفر�س يف ال�رشق ،وجنا�شي احلب�شة ومقوق�س م�رص �إلخ. وظاهر �أول وهلة �أن اجلهاد ال يكون ملجرد الدعوة �إىل الدين ،وال حلمل النا�س على الإميان باهلل ور�سوله ،و�إمنا يكون اجلهاد لتثبيت ال�سلطان ،وتو�سيع امللك. دعوة الدين دعوة �إىل اهلل تعاىل ،وقوام تلك الدعوة ال يكون �إال «� »1إ�شارة �إىل غزوة م�ؤتة و�رسية �أ�سامة بن زيد �إىل �أبنى 53
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
البيان ،وحتريك القلوب بو�سائل الت�أثري والإقناع ف�أما القوة والإكراه فال ينا�سبان دعوة يكون الغر�ض منها هداية القلوب ،وتطهري العقائد، وما عرفنا يف تاريخ الر�سل رج ًال حمل النا�س على الإميان باهلل بحد ال�سيف ،والغزا قوم ًا يف �سبيل الإقناع بدينه ،وذلك هو نف�س املبد�أ الذي يقرره النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيما كان يبلغ من كتاب اهلل. 2 1 «اد ُع الر ْ�ش ُد ِم َن ا ْل َغ ِّي» وقالْ : قال تعاىل « َال �إ ِْك َر َاه يِف ِّ الدينِ َقد َّت َبينَّ َ ُّ �إِلىَ َ�سبِيلِ َر ِّب َك بِالحِْ ْك َم ِة َوالمْ َ ْو ِع َظ ِة الحْ ََ�س َن ِة َو َجا ِد ْل ُهم بِا َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن» 4 3 وك اج َ وقالَ « :ف َذ ِّك ْر �إِنمَّ َ ا �أَ َ نت ُم َذ ِّك ٌرَّ ،ل ْ�س َت َع َل ْيهِ م بمِ ُ َ�ص ْي ِطرٍ»َ « ،ف�إ ِْن َح ُّ ني اب َوالأُ ِّم ِّي َ َف ُق ْل �أَ ْ�س َل ْم ُت َو ْجهِ َي للِهَِّ َو َمنِ ا َّت َب َعنِ َو ُقل ِّل َّل ِذ َ ين �أُو ُتواْ ا ْل ِك َت َ ري اه َت َد ْوا َّو�إِن َت َو َّل ْوا َف�إِنمَّ َ ا َع َل ْي َك ا ْل َب ُ �أَ�أَ ْ�س َل ْم ُت ْم َف�إ ِْن �أَ ْ�س َل ُمواْ َف َق ِد ْ الغ َواللهَّ ُ َب ِ�ص ٌ 5 ني». ا�س َح َّتى َي ُكو ُنواْ ُم ْ�ؤ ِم ِن َ بِا ْل ِع َبا ِد» «�أَ َف َ�أ َ نت ُت ْكر ُِه ال َّن َ
تلك مبادئ �رصيحة يف ر�سالة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،كر�سالة �إخوانه من قبل� ،إمنا تعتمد على الإقناع والوعظ ،وما كان لها �أن تعتمد على القوة والبط�ش ،و�إذا كان �صلى اهلل عليه و�سلم قد جل�أ �إىل القوة والرهبة ،فذلك ال يكون يف �سبيل الدعوة �إىل الدين ،و�إبالغ ر�سالته �إىل «� »1سورة البقرة «� »2سورة النحل «� »3سورة الغا�شية «� »4سورة �آل عمران «� »5سورة يون�س 54
العاملني ،وما يكون لنا �أن نفهم �إال �أنه كان يف �سبيل امللك ،ولتكوين احلكومة الإ�سالمية .وال تقوم حكومة �إال على ال�سيف ،وبحكم القهر والغلبة ،فذلك عندهم هو �رس اجلهاد النبوي ومعناه. ( )7قلنا �إن اجلهاد كان �آية من �آيات الدولة الإ�سالمية ،ومثا ًال من �أمثلة ال�ش�ؤون امللكية ،و�إليك مث ًال �آخر: كان يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم عمل كبري متعلق بال�ش�ؤون املالية ،من حيث الإيرادات وامل�رصوفات ،ومن حيث جمع املال من جهاته العديدة« ،الزكاة واجلزية والغنائم �إلخ» ،ومن حيث توزيع ذلك كله بني م�صارفه ،وكان له �صلى اهلل عليه و�سلم �سعاة وجباة، يتولون ذلك له ،وال �شك �أن تدبري املال عمل ملكي ،بل هو �أهم مقومات احلكومات ،على �أنه خارج عن وظيفة الر�سالة من حيث هي ،وبعيد عن عمل الر�سل باعتبارهم ر�س ًال فح�سب. ( )8وقد يكون من �أقوى الأمثلة يف هذا الباب ما روى الطربي ب�إ�سناده� ،أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وجه �إمارة اليمن وفرقها بني بحيزه وا�ستعمل عمرو بن حزم على جنران، رجاله ،و�أفرد كل رجل ِّ وخالد بن �سعيد بن العا�ص على ما بني جنران ور َِمع وزبيد ،وعامر بن �شهر على همدان ،وعلى �صنعاء ابن ب�إذام ،وعلى عك والأ�شعرين الطاهر جل َند َي ْعلى بن �أبي بن �أبي هالة ،وعلى م�أرب �أبا مو�سى الأ�شعري ،وعلى ا َ 1 �أمية ،وكان معاذ معلم ًا يتنقل يف عمالة كل عامل باليمن وح�رضموت �إلخ. « »1تاريخ الطربي ج� 3ص214 55
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
هنالك كثري غري ما ذكرنا قد وجد يف الع�رص النبوي ،مما ميكن اعتباره �أثراً من �آثار الدولة ،ومظهراً من مظاهر احلكومة ،وخمايل ال�سلطنة ،فمن نظر �إىل ذلك من هذه اجلهة� ،ساغ له القول �إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان ر�سول اهلل تعاىل ،وكان ملك ًا �سيا�سي ًا �أي�ض ًا. (� )9إذا ترجح عند بع�ض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة ،واطم�أن �إىل احلكم ب�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم كان ر�سو ًال وملك ًا ،ف�سوف يعرت�ضه، حينئذ بحث �آخر جدير بالتفكري .فهل كان ت�أ�سي�سه �صلى اهلل عليه و�سلم للمملكة الإ�سالمية ،وت�رصفه يف ذلك اجلانب �شيئ ًا خارج ًا عن حدود ر�سالته �صلى اهلل عليه و�سلم� ،أم كان جزءاً مما بعثه اهلل له و�أوحى به �إليه ،ف�أما �أن اململكة النبوية عمل منف�صل عن دعوة الإ�سالم ،وخارج عن حدود الر�سالة ،فذلك ر�أي ال َنعرف يف مذاهب امل�سلمني ما ي�شاكله ،وال نذكر يف كالمهم ما يدل عليه ،وهو على ذلك ر�أي �صالح لأن يذهب �إليه ،وال نرى القول به يكون كفراً وال �إحلاداً، ورمبا كان حممو ًال على هذا املذهب ما يراه بع�ض الفرق الإ�سالمية من �إنكار اخلالفة يف الإ�سالم مرة واحدة. ال كهذا وال يهولنك �أن ت�سمع �أن للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم عم ً خارج ًا عن وظيفة الر�سالة ،و�أن ملكه الذي �شيده هو من قبيل ذلك العمل الدنيوي الذي ال عالقة له بالر�سالة ،فذلك قول �إن انكرته الأذن، لأن الت�شدق به غري م�ألوف يف لغة امل�سلمني ،فقواعد الإ�سالم ،ومعنى الر�سالة ،وروح الت�رشيع ،وتاريخ النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كل ذلك ال ي�صادم ر�أي ًا كهذا وال ي�ستفظعه ،بل رمبا وجد ما ي�صلح له دعامة و�سنداً ،ولكنه على كل حال ر�أي نراه بعيداً.
56
( )10و�أما �أن اململكة النبوية جزء من عمل الر�سالة متمم لها، وداخل فيها ،فذلك هو الر�أي الذي تتلقاه نفو�س امل�سلمني يف ما يظهر بالر�ضا ،وهو الذي ت�شري اليه �أ�ساليبهم ،وت�ؤيده مبادئهم ومذاهبهم، ومن البينّ �أن ذلك الر�أي ال ميكن تع ُّقله �إال �إذا ثبت �أن من عمل الر�سالة �أن يقوم الر�سول ،بعد تبليغ الدعوة الإلهية بتنفيذها على وجه عملي، �أي �أن الر�سول يكون مبلِّغ ًا ومن ِّفذاً مع ًا. ( )11غري �أن الذين بحثوا يف معنى الر�سالة ،ووقفنا على مباحثهم، �أغفلوا دائم ًا �أن يعتربوا التنفيذ جزءاً من حقيقة الر�سالة� ،إال ابن خلدون ،فقد جاء يف كالمه ما ي�شري �إىل �أن الإ�سالم دون غريه من امللل الأخرى قد اخت�ص ب�أنه جمع بني الدعوة الدينية وتنفيذها بالفعل، وذلك املعنى ظاهر يف عدة موا�ضيع من مقدمته التاريخية ،وقد بينه بنوع من البيان يف الف�صل الذي �رشح فيه ا�سم البابا والبطرق يف امللـّة الن�رصانية ،وا�سم الكوهن عند اليهود ،فقال: «اعلم �أن امللة البد لها من قائم عند غيبة النبي ،يحملهم على �أحكامها ال�رشعية و�رشائعها ويكون كاخلليفة فيهم للنبي يف ما جاء به من التكاليف ،والنوع الإن�ساين �أي�ض ًا ،مبا تقدم من �رضورة ال�سيا�سة فيهم لالجتماع الب�رشي ،البد لهم من �شخ�ص يحملهم على م�صاحلهم، يزعهم عن مفا�سدهم ،بالقهر ،وهو امل�سمى بامللك ،وامللة الإ�سالمية َو ُ ملا كان اجلهاد فيها م�رشوع ًا ،لعموم الدعوة ،وحمل الكافة على دين لتوجه ال�شوكة الإ�سالم طوع ًا �أو كرها ،احتدت فيها اخلالفة وامللك، ّ من القائمني بها �إليهما مع ًا ،واما ما �سوى امللة الإ�سالمية فلم تكن دعوتهم عامة ،وال اجلهاد عندهم م�رشوع ًا� ،إال يف املدافعة فقط، 57
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ف�صار القائم ب�أمر الدين فيها من �سيا�سة امللك ،لأنهم غري مكلفني بالتغلب على الأمم الأخرى ،و�إمنا هم مطلوبون ب�إقامة دينهم يف خا�صة �أنف�سهم� ...إلخ). فـهـو كمـا ترى يـقـول� ،إن الإ�سـالم �رشعـي تبليغي وتطبيقي، و�أن ال�سلطـة الـدينيـة اجتمعت فيه ال�سلطة وال�سيا�سـة ،دون �سائـر الأديـان. ( )12ال نـرى لـذلـك القـول دعـامـة ،وال نـجـد لـه �سـنـداً ،وهـو عـلى ذلـك ينـايف معنى الر�سالة ،وال يتالءم مع ما تق�ضي به طبيعة الدعوة الدينية كمـا عـرفت ،وليـكـن ذلك القول �صحيح ًا ،فقد بقي م�شكل �آخر عليهم �أن يجدوا له جواب ًا ،و�أن يلتم�سوا منه خمرجـ ًا ،ذلك هـو امل�شـكـل الذي بد�أنــا عنده هـذا املبحث فدفعنـا �إىل بـحـث �آخـر. �إذا كـان ر�سـول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قد �أ�س�س دولة �سيا�سية، �أو �رشع يف ت�أ�سي�سها ،فلماذا خلت دولته �إذن من كثري من �أركان الدولة ودعائم احلكم ،وملاذا مل يعرف نظامه يف تعيني الق�ضاة والوالة؟ وملاذا مل يتحدث �إىل رعيته يف نظام الـملك وفـي قـواعد الـ�شــورى؟ وملاذا ترك العلماء يف حرية وا�ضطراب من �أمر النظام احلكومي يف زمنه؟ وملاذا وملاذا؟ نـريـد �أن نـعرف من�ش�أ ذلك الذي يبدو للناظر ك�أنه �إبهـام �أو ا�ضطـراب �أو نقـ�ص� ،أو مــا �شئت َف َ�س ِّمه، يف بناء احلكومة �أيـــام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وكيف كان ذلك؟ ومـا �سرِ ُّ ه؟ لعــل �أولئك الذين ي�رصون على اعتقادهم �أن حممداً �صـلى اهلل عليـه و�سـلم قــام بدعوة �إىل دين جديد ،و�إىل ت�أ�سي�س دولة جديدة، وي�رصون على �أن الدولة التي �أن�ش�أها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم 58
تو�ضع �أ�س�سها ،و ُتدار �ش�ؤونها ،و ُت َن َّظم �أمورها ،بوحي اهلل تعاىل كانت َ �أحـكم احلـاكمني ،ثـم ي�ضطرهم ذلك �إىل اعـتقـاد �أن نظـام الـدولـة زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بلغ غاية الكمال التي تعجز عنها عقول الب�رش ،وترتد دونها �أفكارهم ،لعل �أولئك �إذا �سئلوا عن �رس هذا الذي يبدو نق�ص ًا يف �أنظمة احلكم ،و�إبهامـ ًا يف قـواعده ،قـد يــلتم�سون للـجواب �إحدى تلك اخلطط التي �سنـ�أخـذ الآن يف بيانهـا. (� )13أمـا �صـاحـب كتـاب «تخريج الدالئل ال�سمعية» ويـوافقه ال ،فزعم �أن رفاعة بك ،فقد وجد له من ذلك املـ�أزق خمل�ص ًا �سه ً احلكومة كانت ت�شتمل يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم على كــل مـا يـلـزم للدولة من عمــال و�أعمــال ،و�أنظمة م�ضبوطة ،وقواعد ال ،الجمال بعده جلديد ،وال زيادة حمدودة ،و�سنن مف�صلة تف�صيـ ً َّ مل�ستزيد ،وع�سى �أن ال يكون بك حـاجـة �إىل �إعـادة هـذا القول عليك بعدمـا �سبـق. ( )14قـد يقـول قـائــل يــريـد �أن ي�ؤيد ذلك املذهب بنوع من الت�أييد ،على طريقة �أخرى� :إنه ال �شيء مينعنا من �أن نعتقد �أن نظام الدولة زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان متين ًا وحمكم ًا ،وكان ال على جميع �أوجه الكمال ،التي تلزم لدولة يدبرها ر�سول من م�شتم ً اهلل ،ي�ؤيده الوحي ،وت�ؤازره مالئكة اهلل ،غري �أننا مل ن�صل �إىل علم التفا�صيل احلقيقية ،ودقائق ما كانت عليه احلكومة النبوية ،من نظام بالغ ،و�إحكام �سابغ ،لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك �إلينا� ،أو �أنهم
59
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
نقلوه ،ولكن غاب علمه عنا� ،أو ل�سبب �آخر«1 ،وما �أوتيتم من العلم �إال ال». قلي ً ( )15تلك خطة ال ينبغي �أن يرف�ضها لأول وهلة عقل العلماء ،ف�أنه ال حرج على نفو�سنا �أن يخالطها ال�شك يف �أننا جنهل كثرياً من �ش�ؤون التاريخ النبوي ،بل الواقع �أننا جنهل منه ومن غريه اكرث مما نعرف. على �أهل العلم �أن ي�ؤمنوا دائم ًا ب�أن كثرياً من احلقائق حمجوب عنهم ،وعليهم �أن يد�أبوا �أبداً يف ك�شف مغيبها ،وا�ستنباط اجلديد منها، ففي ذلك حياة العلم ومنا�ؤه ،غري �أن احتمال جهلنا ببع�ض احلقائق ال ينبغي �أن مينعنا من الوثوق مبا علمنا منها ،واعتباره حقائق علمية، نبني عليها الأحكام ،ونقيم املذاهب ،ونبني لها الأ�سباب ،ون�ستخل�ص منها النتائج ،حتى يظهر لنا ما يخالفها ويثبت ثبوت ًا علمي ًا. لذلك نقول �إنه من املحتمل حقيقة �أن يكون نظام احلكومة النبوية قد خفي علينا خربه ،وقد تك�شف لنا الأيام �أنه كان املثل الأعلى يف احلكم، ولكن ذلك االحتمال ال مينعنا �أن نعود -وملا ينك�شف لنا بالفعل ما يخالف معلومنا -فن�س�أل من جديد عن من�ش�أ ذلك الذي عرفنا �إىل الآن من الإبهام واال�ضطراب يف نظام احلكومة النبوية ،وعن �رسه ومعناه. ( )16هنالك خطة �أخرى للجواب عن ذلك ال�س�ؤال. ذلك �أن كثرياً مما ن�سميه اليوم �أركان احلكومة ،و�أنظمة الدولة ،و�أ�سا�س احلكم� ،إمنا هي ا�صطالحات عار�ضة ،و�أو�ضاع م�صنوعة ،ولي�ست هي يف الواقع �رضورية لنظام دولة نريد �أن تكون دولة الب�ساطة ،وحكومة «� »1سورة الإ�رساء 60
الفطرة ،التي ترف�ض كل تكلف ،وكل ما ال حاجة بالفطرة الب�سيطة �إليه. وكل ما متكن مالحظته على الدولة النبوية يرجع عند الت�أمل �إىل خلوها من تلك املظاهر التي �صارت اليوم عند معنى واحد ،ذلك هو ّ علماء ال�سيا�سة من �أركان احلكومة املدنية ،وهي يف حقيقة الأمر غري واجبة ،وال يكون الإخالل بها حتم ًا نق�ص ًا يف احلكم ،وال مظهراً من مظاهر الفو�ضى واالختالل ،فذلك ت�أويل ما يالحظ على الدولة النبوية مما قد ُي َع ّد ا�ضطراب ًا. ( )17كان حممد �صلى اهلل عليه و�سلم يحب الب�ساطة ،ويكره التكلف. وعلى الب�ساطة اخلال�صة التي ال �شائبة فيها قامت حياته اخلا�صة والعامة ،كان يدعو �إىل الب�ساطة يف القول والعمل ،كما يف حديثه مع جرير بن عبد اهلل البجلي« ،1يا جرير �إذا قلت ف�أوجز ،و�إذا بلغت حاجتك فال تتكلف». كان يعا�رش النا�س من غري تكلف ،ويجري معهم على منهج الب�ساطة، وقد روي� 2أنه � -صلى اهلل عليه و�سلم -كان ميازح �أ�صحابه ...وعن ابن عبا�س ر�ضي اهلل عنهما« :كانت يف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم دعابة» وكان يقول لأ�صحابه�« :إين �أكره �أن �أمتيز عليكم ،ف�إن اهلل يكره من عبده �أن يراه متميزاً بني �أ�صحابه» .وروي �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم«« »1ما ُخيرِّ بني �أمرين �إال اختار �أي�رسهما ما مل يكن �إثماً» .ويف حديثه لأبي مو�سى الأ�شعري ومعاذ ،و�سبقت روايته «3ي�سرّ ا وال تع�سرّ ا ،وب�شرِّ ا وال تن ِّفرا». « »1الكامل للمُبرَ ِّد -ج � 1ص 4املطبعة العلمية « »2ال�سرية احلبية ج� 3ص262 « »3ال�سرية النبوية على هام�ش ال�سرية احللبية ج� 3ص360 61
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
كان � -صلى اهلل عليه و�سلم - 1يكره الرياء والتكلف ،ويقول يف حجة الوداع« 2اللهم اجعله حج ًا مربوراً ،ال رياء فيه وال �سمعة» .وقال اهلل تعاىل خماطب ًا له عليه ال�سالم« 3قل ما �أ�س�ألكم عليه من �أجر وما �أنا من املتكلفني» .وكان فيما يبلغ عن �رشيعة اهلل تعاىل ي�أمر النا�س بالقواعد الب�سيطة ،وينهاهم عن التكلف ،ويناديهم «�إذا �أمرتكم ب�أمر ف�أتوا منه ما ا�ستطعتم» و«�إن هذا الدين متني ف�أوغل فيه برفق»4و«ما جعل عليكم يف الدين من َحرج». وال جتد فيما جاء به من ال�رشائع حكم ًا يرجع �إال �إىل املبادئ الأمية ال�ساذجة .فلم يكلفهم يف �أوقات ال�صالة �أن يح�سبوا درج ال�شم�س ،وال مطالع النجوم ،بل جعل مناط ذلك ما يح�س به كل �إن�سان من حركة ال�شم�س امل�شاهدة يف ال�سماء ،وجعل ال�صوم واحلج ومنا�سك العبادة مت�صلة بحركة القمر ،وحركة القمر حم�سو�سة ال حتتاج �إىل ح�ساب وال ر�صد ،ومل يكلفنا يف ال�صوم �أن نح�سب لهالل رم�ضان ،بل جعل ذلك منوط ًا بر�ؤية الهالل ر�ؤية ب�سيطة ال تكلف فيها ،وجاء يف ذلك احلديث:5 «نحن �أمة �أمية�...إلخ» ،وحديث� 6صوموا لر�ؤيته�...إلخ ،ومل يكلفنا ح�ساب اليوم بال�ساعات والدقائق ،بل ربطه كذلك بال�شيء املح�سو�س ،الذي ال �ض ِم َن الخْ َْي ِط ي َل ُك ُم الخْ َْي ُط الأَ ْب َي ُ «و ُك ُلواْ َوا�شرْ َ ُبواْ َح َّتى َي َت َب َنّ َ خفاء فيه َ « »1منه �ص 273 « »2ال�سرية احللبية ج� 3ص284 «� »3سورة �ص «� »4سورة احلج « »5فتح الباري ج� 4ص 89املطبعة اخلريية ،برواية انا ،بدل نحن «� »6رشح الع�سقالين للبخاري ج� 4ص 88املطبعة اخلريية 62
ام �إِلىَ ال َّل ْيلِ ».1 الأَ ْ�س َو ِد ِم َن ا ْل َف ْج ِر ُث َّم َ�أ ّ ال�ص َي َ متواْ ِّ كان �صلى اهلل عليه و�سلم �أمي ًا ور�سو ًال �إىل الأميني ،فيما كان يخرج يف �شيء من حياته اخلا�صة والعامة وال يف �رشيعته عن �أ�صول الأمية، وال عن مقت�ضيات ال�سذاجة والفطرة ال�سليمة التي فطر اهلل النا�س عليها، فلعل ذلك الذي ر�أينا يف نظام احلكم �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم هو النظام الذي تقت�ضي به الب�ساطة الفطرية .وال ريب يف �أن كثرياً من نظم احلكم يف الوقت احلا�رض �إمنا هي �أو�ضاع وتكلفات ،وزخارف طال بنا عهدها ف�ألفناها ،حتى تخيلناها من �أركان احلكم و�أ�صول النظام ،وهي �إذا ت�أملت لي�ست من ذلك يف �شيء. �إن هذا الذي يبدو لنا �إبهام ًا �أو ا�ضطراب ًا �أو نق�ص ًا يف نظام احلكومة النبوية مل يكن �إال الب�ساطة بعينها ،والفطرة التي ال عيب فيها. ( )18لو كنا نريد �أن نختار لنا طريق ًا من بني تلك الطرق التي ق�ص�صنا عليك ،لكان ذلك الر�أي �أدنى �إىل اختيارنا ،ف�إنه بالدين �أ�شبه. لكنا ال ن�ستطيع �أن نتخذه لنا ر�أي ًا ،لأنك �إن ت�أملت وجدته غري وجيه وال �صحيح. حق �أن كثرياً من �أنظمة احلكومات احلديثة �أو�ضاع وتكلفات ،و�أن فيها ما ال يدعو �إليه طبع �سليم ،وال تر�ضاه فطرة �صحيحة ،ولكن من الأكيد الذي ال يقبل �شك ًا �أي�ض ًا �أن يف كثري مما ا�ستحدث يف �أنظمة احلكم ما لي�س متكلف ًا وال م�صنوع ًا ،وال هو مما ينايف الذوق الفطري الب�سيط، وهو مع ذلك �رضوري ونافع ،وال ينفي حلكومة ذات مدنية وعمران �أن تهمل الأخذ به. «� »1سورة البقرة 63
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
وهل من �سالمة الفطرة وب�ساطة الطبع مث ًال �أن ال يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد �إيرادها وم�رصوفاتها� ،أو �أن ال يكون لها دواوين ت�ضبط �شتى �ش�ؤونها الداخلية واخلارجية� ،إىل غري ذلك -و�أنه لكثري - مما مل يوجــد منه �شيء يف �أيام النبوة ،وال �أ�شار �إليه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم. �إنه ليكون تع�ســـف ًا غري مقبول �أن يعلل ذلك الذي يبدو من نق�ص املظاهر احلــكومية زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ب�أن من�شــ�أه �سالمــة الفطرة ،وجمانبة التكلف. فنلتم�س وجه ًا �آخر حلـل ذلك الإ�شـكال.
64
الباب الثالث
ر�سالة ال حكم ،ودين ال دولة كان � -صلى اهلل عليه و�سلم -ر�سو ًال غري ملك -زعامة الر�سالة وزعامة امللك -كمال الر�سل -كماله �صلى اهلل عليه و�سلم اخلا�ص به -حتديد املراد بكلمات ملك وحكومة�...إلخ -القر�آن ينفي �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم كان حاكم ًا -ال�سنة كذلك -طبيعة الإ�سالم ت�أبى ذلك �أي�ض ًا -ت�أويل بع�ض ما ي�شبه �أن يكون مظهراً من مظاهر الدولة - خامتة البحث. ( )1ر�أيت �إذن �أن هنالك عقبات ال ي�سهل �أن يتخطاها �أولئك الذين يريدون �أن يذهب بهم الر�أي �إىل اعتقاد �أن النبي � -صلى اهلل عليه و�سلم كان يجمع �إىل �صفة الر�سالة �أنه كان ملك ًا �سيا�سي ًا ،وم�ؤ�س�س ًا لدولة�سيا�سية ،ر�أيت �أنهم كلما حاولوا �أن يقوموا من عرثة لقيتهم عرثات، وكلما �أرادوا اخلال�ص من ذلك امل�شكل عاد ذلك امل�شكل عليهم جذع ًا. مل يبق �أمامك بعد الذي �سبق �إال مذهب واحد ،وع�سى �أن جتده منهج ًا وا�ضح ًا ،ال تخ�شى فيه عرثات ،وال تلقى عقبات ،وال ت�ضل بك �شعابه ،وال يغمرك ترابه ،م�أمون الغوائل ،خالي ًا من امل�شاكل .ذلك هو القول ب�أن حممداً � -صلى اهلل عليه و�سلم -ما كان �إال ر�سو ًال لدعوة دينية خال�صة 65
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
للدين ،ال ت�شوبها نزعة ملك ،وال دعوة لدولة ،و�أنه مل يكن للنبي �صلىاهلل عليه و�سلم ملك وال حكومة ،و�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم مل يقم بت�أ�سي�س مملكة ،باملعنىالذي يفهم �سيا�سة من هذه الكلمة ومرادفاتها ،وما كان �إال ر�سو ًال ك�أخوانه اخلالني من الر�سل ،وما كان ملك ًا وال م�ؤ�س�س دولة وال داعي ًا �إىل ملك. قول غري معروف ،ورمبا ا�ستكرهه �سمع امل�سلم ،بيد �أن له حظ ًا كبرياً من النظر وقوةالدليل. ( )2وقبل �أن ن�أخذ بك يف بيان ذلك ،يجب �أن نحذرك من خط�أ قد يتعر�ض له الناظر �إذا هو مل يح�سن النظر ،ومل يكن من �أمره على حذر، ذلك �أن الر�سالة لذاتها ت�ستلزم للر�سول نوع ًا من الزعامة يف قومه، وال�سلطان عليهم ،ولكن ذلك لي�س يف �شيء من زعامة امللوك و�سلطانهم على رعيتهم ،فال تخلط بني زعامة الر�سالة وزعامة امللك ،والحظ �أن بينهما خالف ًا يو�شك �أن يكون تباين ًا .وقد ر�أيت �أن زعامة مو�سى وعي�سى يف �أتباعهما مل تكن زعامة ملوكية ،وال كانت كذلك زعامة �أكرث املر�سلني. (� )3إن طبيعة الدعوة الدينية ال�صادقة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من الكمال احل�سي �أو ًال ،فال يكون يف تركيب ج�سمه وال يف حوا�سه وم�شاعره نق�ص ،وال �شيء يدعو �إىل النفور ،والبد له «لأنه زعيم» من هيبة متلأ النفو�س من خ�شيته ،وجاذبيته تعطف الرجال والن�ساء �إىل حمبته ،ثم البد له �أي�ض ًا من الكمال الروحي ،لذلك ،وملا يفي�ض عليه� ،رضورة ات�صاله بامللأ الأعلى. والر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها �شيئ ًا كثرياً من التميز االجتماعي بني 66
قومه ،كما ورد�« :أنه ال يبعث اهلل نبي ًا �إال يف عز من قومه ،ومنعة من ع�شريته».1 والر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من القوة التي ُت ِعده لأن يكون نافذ القول ،جماب الدعوة ،ف�إن اهلل جل �ش�أنه ال يتخذ الر�سالة عبث ًا ،وال يبعث باحلق ر�سو ًال �إال وقد �أراد لدعوته �أن تتم ،و�أن تر�سخ �أ�صولها يف لوح العامل املحفوظ ،و�أن متتزج بحقائق هذا العامل امتزاج ًا «وما �أر�سلنا من ر�سول �إال ليطاع ب�إذن اهلل» ،2وحا�ش هلل ،ال ير�سل اهلل دعوة احلق لت�ضيع، ا�س ُت ْهز َِئ ب ُِر ُ�سلٍ ِّمن َق ْب ِل َك وال يبعث ر�سو ًال من عنده لريتد خمزي ًا َ «و َل َق ِد ْ ريواْ يِف الأَ ْر ِ �ض َف َح َ ين َ�س ِخ ُرواْ ِم ْن ُهم َّما َكا ُنواْ ِب ِه َي ْ�س َت ْهزِ�ؤُ َ اق بِا َّل ِذ َ ونُ ،ق ْل �سِ ُ 3 ان َع ِ ِيد َهّ ُ الل �أَن ُي ِح َّق الحْ ََّق ِب َك ِل َما ِت ِه ُث َّم ُ اق َب ُة المْ ُ َك ِّذ ِب َ انظ ُرواْ َك ْي َف َك َ «و ُير ُ ني» َ 4 ِين ِل ُي ِح َّق الحْ ََّق َو ُي ْب ِط َل ا ْل َب ِ َو َي ْق َط َع َداب َِر ا ْل َك ِ ون» اط َل َو َل ْو َكر َِه المْ ُ ْجر ُِم َ افر َ ند َنا ور َ «و َل َق ْد َ�س َب َق ْت َك ِل َم ُت َنا ِل ِع َبا ِد َنا المْ ُ ْر َ�س ِل َ ون َو�إ َِّن ُج َ ني �إِ َّن ُه ْم َل ُه ُم المْ َ ُ َ ن�ص ُ 5 الد ْن َيا َو َي ْو َم َل ُه ُم ا ْل َغا ِل ُب َ ون» «�إِ َّنا َل َنن�صرُ ُ ُر ُ�س َل َنا َوا َّل ِذ َ ين � َآم ُنوا يِف الحْ ََيا ِة ُّ وء اد َي ْو َم ال َين َف ُع َّ الظالمِِ َ وم الأَ ْ�ش َه ُ ني َم ْع ِذ َر ُت ُه ْم َو َل ُه ُم ال َّل ْع َن ُة َو َل ُه ْم ُ�س ُ َي ُق ُ الدارِ».6 َّ « »1رواه ال�شيخان بلفظ :كذلك الر�سل تبعث يف �أح�ساب قومها ..من حديث طويل ،راجع تي�سري الو�صول �إىل اجلامع الأ�صول ج� 3ص320 «� »2سورة الن�ساء «� »3سورة الأنعام «� »4سورة الأنفال «� »5سورة ال�صافات «� »6سورة امل�ؤمنون 67
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
�إن مقام الر�سالة يقت�ضي ل�صاحبه �سلطان ًا �أو�سع مما يكون بني احلاكم واملحكومني ،بل واو�سع مما يكون بني الأب و�أبنائه. قد يتناول الر�سول من �سيا�سة الأمة مثل ما يتناول امللوك ،ولكن للر�سول وحده وظيفة ال �رشيك له فيها ،من وظيفته �أي�ض ًا �أن يت�صل ليطلع على القلوب التي بالأرواح التي يف الأج�ساد ،وينزع احلجب َّ يف ال�صدور ،له بل عليه �أن ي�شق عن قلوب �أتباعه ،لي�صل �إىل جمامع احلب وال�ضغينة ،ومنابت احل�سنة وال�سيئة ،وجماري اخلواطر ،ومكامن الو�ساو�س ،ومنابع النيات .وم�ستودع الأخالق ،له عمل ظاهري يف �سيا�سة العامة ،وله �أي�ض ًا عمل خفي يف تدبري ال�صلة التي جتمع بني ال�رشيك وال�رشيك ،واحلليف واحلليف ،واملوىل وعبده ،والوالد وولده، ويف تدبري تلك الروابط التي ال يطلع عليها �إال احلليل وحليلته ،له رعاية الظاهر والباطن ،وتدبري �أمور اجل�سم والروح ،وعالقاتنا الأر�ضية وال�سماوية ،له �سيا�سة الدنيا والآخرة .الر�سالة تقت�ضي ل�صاحبها ،وهي كما ترى وفوق ما ترى ،حق االت�صال بكل نف�س ات�صال رعاية وتدبري، وحق الت�رصيف لكل قلب ت�رصيف ًا غري حمدود. ( )4ذلك ،والحظنا �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،قد اخت�صت ر�سالته بكثري مما مل يكن لغريه من املر�سلني .فقد جاء �صلى اهلل عليه و�سلم بدعوة اختاره اهلل تعاىل لأن يدعو اليها النا�س كلهم اجمعني ،وقدر له �أن يبلغها كاملة ،و�أن يقوم عليها حتى يكمل الدين ،وتتم النعمة ،وحتى ال تكون فتنة ،ويكون الدين كله هلل ،تلك الر�سالة توجب ل�صاحبها من الكمال �أق�صى ما ت�سمو �إليه الطبيعة الب�رشية ،ومن القوة النف�سية منتهى ما قدر اهلل لر�سله امل�صطفني الأخيار ،ومن ت�أييد اهلل ما يتنا�سب مع تلك الدعوة الكبرية العامة. 68
فذلك قوله تعاىل «وكان ف�ضل اهلل عليك عظيم ًا»1وقوله تعاىل «ف�إنك ب�أعيننا» .2ويف احلديث «واهلل ال يخزيك اهلل ابداً»�« ،3أنا �أكرم ولد �آدم على ربي وال فخر».4 من �أجل ذلك كان �سلطان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مبقت�ضى ر�سالته �سلطان ًا عام ًا ،و�أمره يف امل�سلمني مطاع ًا ،وحكمه �شام ًال ،فال �شيء مما متتد اليه يد احلكم �إال وقد �شمله �سلطان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وال نوع مما يت�صور من الريا�سة وال�سلطان �إال وهو داخل حتت والية حممد �صلى اهلل عليه و�سلم على امل�ؤمنني .و�إذا كان العقل يجوز �أن تتفاوت درجات ال�سلطان الذي يكون الر�سول على �أمته فقد ر�أيت �أن حممداً �صلى اهلل عليه و�سلم �أحق الر�سل عليهم ال�سالم ب�أن يكون له على �أمته �أق�صى ما يكون من ال�سلطان ونفوذ العقول .قوة النبوة .و�سلطان الر�سالة، قدر اهلل تعاىل �أن تعلو على دعوة الباطل ،و�أن ونفوذ الدعوة ال�صادقة ّ متكث يف الأر�ض. ذلك �سلطان تر�سله ال�سماء من عند اهلل تعاىل على من تنزل عليه مالئكة ال�سماء بوحي اهلل تعاىل ،تلك قوة قد�سية يخت�ص بها عباد اهلل املر�سلون ،لي�ست يف �شيء من معنى امللوكية ،وال ت�شابهها قوة امللوك، وال يدانيها �سلطان ال�سالطني. تلك زعامة الدعوة ال�صادقة �إىل اهلل و�إبالغ ر�سالته ،ال زعامة امللك، �إنها ر�سالة الدين ،وحكم النبوة ال حكم ال�سالطني. «� »1سورة الن�ساء «� »2سورة الطور « »3من حديث عائ�شة ر�ضي اهلل عنها يف بدء الوحي� .أخرجه ال�شيخان « »4من حديث لأن�س رواه الرتمذي 69
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ونعود ثاني ًا فنحذرك من �أن تخلط بني احلكمني ،و�أن يلتب�س عليك �أمر الواليتني ،والية الر�سول من حيث هو ر�سول ،ووالية امللوك والأمراء. والية الر�سول على قومه والية روحية ،من�ش�ؤها �إميان القلب، وخ�ضوعه خ�ضوع ًا �صادق ًا تام ًا يتبعه خ�ضوع اجل�سم ،ووالية احلاكم والية مادية ،تعتمد �إخ�ضاع اجل�سم من غري �أن يكون لها بالقلوب ات�صال، تلك والية هداية �إىل اهلل و�إر�شاد �إليه ،وهذه والية تدبري مل�صالح احلياة وعمارة الأر�ض .تلك الدين ،وهذه الدنيا ،تلك هلل ،وهذه للنا�س ،تلك زعامة دينية ،وهذه زعامة �سيا�سية ،ويا بعد ما بني ال�سيا�سة والدين. ( )5نريد بعد ذلك �أن نلفتك �إىل �شيء �آخر ،ف�إن ثمة كلمات ت�ستعمل �أحيان ًا ا�ستعمال املرتادفات ،وت�ستعمل �أحيان ًا ا�ستعمال املتغايرات، وين�ش�أ عن ذلك يف بع�ض الأحوال م�شاحة واختالف يف النظر ،وا�ضطراب يف احلكم ،فمن ذلك كلمات ،ملك ،و�سلطان ،وحاكم ،و�أمري ،وخليفة، ودولة ،ومملكة ،وحكومة ،وخالفة� ،إلخ. ونحن هنا �إذا �س�ألنا :هل كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ملك ًا �أم ال؟ ف�إننا نريد �أن ن�س�أل :هل كان له �صلى اهلل عليه و�سلم� ،صفة غري �صفة الر�سالة؟ بها ي�صح �أن يقال �إنه �أ�س�س فع ًال� ،أو �رشع يف ت�أ�سي�س وحدة �سيا�سية �أم ال؟ فامللك يف ا�ستعمالنا هذا ،وال حرج �إن َ�س َّميته خليفة �أو ف�س ِّمه ،معناه احلاكم على �أمة ذات وحدة �سلطان ًا �أو �أمرياً� ،أو ما �شئت َ �سيا�سية ومدنية ،ونريد باحلكومة والدولة وال�سلطنة واململكة ما يريد علماء ال�سيا�سة بكلمات � governementأو � stateأو Kingdom �أو ما �شابه ذلك. نحن ال ن�شك يف �أن الإ�سالم وحدة دينية ،وامل�سلمني من حيث هم، متها جماعة واحدة ،والنبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،دعا �إىل تلك الوحدة ،و�أ َّ 70
بالفعل قبل وفاته ،و�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم ،كان على ر�أ�س هذه ومدبرها الفذ ،و�سيدها الذي ال يراجع الوحدة الدينية� ،إمامها الأوحد، ِّ له �أمر ،وال يخالف له قول ،ويف �سبيل هذه الوحدة الإ�سالمية نا�ضل عليه ال�سالم بل�سانه و�سنانه ،وجاءه ن�رص اهلل والفتح ،و� َّأيدته مالئكة اهلل و َق َّوته ،حتى ب َّلغ ر�سالته ،و�أدى �أمانته ،وكان له �صلى اهلل عليه 1 و�سلم من ال�سلطان على �أمته ما مل يكن للملك قبله وال بعده «النبي ّ �أوىل بامل�ؤمنني من �أنف�سهم»« 2وما كان مل�ؤمن وال م�ؤمنة �إذا ق�ضى اهلل ور�سوله �أمراً �أن يكون لهم اخلرية من �أمرهم ،ومن يع�ص اهلل ور�سوله فقد �ض ّل �ضال ًال مبين ًا». ي�سمي تلك الوحدة الدينية دولة ،ويدعو �سلطان من كان يريد �أن ِّ النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ذلك ال�سلطان النبوي املطلق ،ملك ًا �أو خالفة، والنبي عليه ال�سالم ملك ًا �أو خليف ًة �أو �سلطان ًا�...إلخ فهو يف حل من �أن يفعل ،ف�إن هي �إال ا�سماء ،وال ينبغي الوقوف عندها ،و�إمنا املهم كما قلنا هو املعنى ،وقد حددناه لك حتديداً. املهم هو �أن نعرف هل كانت زعامة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،يف قومه زعامة ر�سالة� ،أم زعامة ملك؟ وهل كانت مظاهر الوالية التي نراها �أحيان ًا يف �سرية النبي عليه ال�سالم دولة �سيا�سية� ،أم مظاهر ريا�سة دينية؟ وهل كانت تلك الوحدة التي قام على ر�أ�سها النبي عليه ال�سالم وحدة حكومة ودولة� ،أم وحدة دينية �رصفة ال �سيا�سية؟ و�أخرياً هل كان �صلى اهلل عليه و�سلم ر�سو ًال فقط �أم ملك ًا ور�سو ًال؟
«� »1سورة الأحزاب «� »2سورة الأحزاب 71
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
( )6ظواهر القر�آن املجيد ت�ؤيد القول ب�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له �ش�أن يف امللك ال�سيا�سي ،و�آياته مت�ضافرة على �أن عمله ال�سماوي مل يتجاوز حدود البالغ املجرد من كل معاين ال�سلطان. اع َهّ َ اك َع َل ْيهِ ْم الل َو َمن َت َو َىّل َف َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ الر ُ�س َ ول َف َق ْد َ�أ َط َ َّ «م ْن ُي ِط ِع َّ
1 «و َك َّذ َب ِب ِه َق ْو ُم َك َو ُه َو الحْ َ ُّق ُقل َّل ْ�س ُت َع َل ْي ُكم ب َِو ِكيلٍ ِّ ،ل ُك ِّل َن َب�إٍ َح ِف ً يظا» َ ون»« 2ا َّتب ِْع َما �أُ ِ وح َي �إِ َل ْي َك ِمن َّر ِّب َك ال �إِ َل َه �إ َِّال ُه َو ُّم ْ�س َت َق ٌّر َو َ�س ْو َف َت ْع َل ُم َ ِ�ض َعنِ المْ ُ ِ نيَ ،و َل ْو َ�شاء َهّ ُ اك َع َل ْيهِ ْم الل َما �أَ�شرْ َ ُكواْ َو َما َج َع ْل َن َ َو�أَ ْعر ْ �شرِْك َ 3 «و َل ْو َ�شاء َر ُّب َك ل َآم َن َمن يِف الأَ ْر ِ �ض َح ِف ً يظا َو َما �أَ َ نت َع َل ْيهِ م ب َِو ِكيلٍ » َ ني»ُ « 4ق ْل َيا َ�أ ُّي َها ا�س َح َّتى َي ُكو ُنواْ ُم�ؤْ ِم ِن َ يعا �أَ َف َ�أ َ ُك ُّل ُه ْم َج ِم ً نت ُت ْكر ُِه ال َّن َ إِنا َي ْه َت ِدي ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن اه َت َدى َف� َمّ َ اء ُك ُم الحْ َ ُّق ِمن َّر ِّب ُك ْم َف َمنِ ْ ا�س َق ْد َج َ ال َّن ُ 5 اك َع َل ْيهِ ْم «و َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ َ�ض َّل َف� َمّ َ إِنا َي�ضِ ُّل َع َل ْي َها َو َما �أَ َن ْا َع َل ْي ُكم ب َِو ِكيلٍ » َ 6 ون َع َل ْي ِه َو ِكيال»�« 7إِ َّنا نت َت ُك ُ َو ِكي ًال» « َ�أ َر َ�أ ْي َت َمنِ ا َّت َخ َذ �إِ َل َه ُه َه َو ُاه َ�أ َف َ�أ َ إِنا اه َت َدى َف ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن َ�ض َّل َف� َمّ َ اب ِلل َّنا�سِ ِبالحْ َ ِّق َف َمنِ ْ �أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ
«� »1سورة الن�ساء « »2الأنعام « »3الأنعام « »4يون�س «� »5سورة يون�س «� »6سورة الإ�رساء «� »7سورة الفرقان 72
اك َع َل ْيهِ ْم نت َع َل ْيهِ م ب َِو ِكيلٍ »َ « 1ف�إ ِْن �أَ ْع َر ُ�ضوا َف َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ َي�ضِ ُّل َع َل ْي َها َو َما �أَ َ نت َع َل ْيهِ م َح ِف ً يظا �إ ِْن َع َل ْي َك �إ َِّال ا ْل َب ُ الغ»َ « 2ن ْح ُن �أَ ْع َل ُم بمِ َ ا َي ُقو ُل َ ون َو َما �أَ َ نت ُم َذ ِّك ٌرَّ ،ل ْ�س َت ب َِج َّبارٍ َف َذ ِّك ْر بِا ْل ُق ْر�آنِ َمن َي َخ ُ اف َو ِعي ِد»َ « 3ف َذ ِّك ْر � َمّ َ إِنا �أَ َ َع َل ْيهِ م بمِ ُ َ�ص ْي ِطرٍ� ،إ َِّال َمن َت َو َىّل َو َك َف َرَ ،ف ُي َع ِّذ ُب ُه َهّ ُ اب ا َلأ ْكبرَ َ ».4 الل ا ْل َع َذ َ القر�آن كما ترى مينع �رصيح ًا �أن يكون النبي �صلى اهلل عليه و�سلم، حفيظ ًا على النا�س ،وال وكي ًال ،وال جباراً 5وال م�سيطراً ،و�أن يكون له حق �إكراه النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني :ومن مل يكن حفيظ ًا وال م�سيطراً فلي�س مبلك ،لأن من لوازم امللك ال�سيطرة العامة واجلربوت� ،سلطان ًا غري حمدود. ومن مل يكن وكي ًال على الأمة فلي�س مبلك �أي�ض ًا. ول اهلل رجا ِل ُك ْم َو َل ِكن َّر ُ�س َ «ما َك َ ان محُ َ َّم ٌد �أَ َبا �أَ َح ٍد ِّمن َ وقال تعاىل َّ ان َهّ ُ يما».6 ني َو َك َ َو َخاتمَ َ ال َّن ِب ِّي َ الل ِب ُك ِّل َ�ش ْي ٍء َع ِل ً القر�آن �رصيح يف �أن حممداً �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له من احلق على �أمته غري حق الر�سالة ،ولو كان � -صلى اهلل عليه و�سلم -ملك ًا «� »1سورة الزمر «� »2سورة ال�شورى «� »3سورة ق «� »4سورة الغا�شية « »5يخيل �إىل �أنني قر�أت يف كتاب .مل ا�ستطع الآن �أن �أتذكره� .أن اجلبار ا�سم امللك -عند بع�ض العرب -وعليه قوله تعاىل «وما �أنت عليهم بجبار» ،ولكن الذي وجدته فيما بني يدي من متوج على كتب اللغة �أن امللك ي�سمى جربا ،وقالوا طلع اجلبار .وهو اجلوزاء .لأنها على �صورة ملك َّ كر�سي ،وقالوا هو كذا ذراع ًا بذراع اجلبار� .أي بذراع امللك .واهلل �أعلم «� »6سورة الأحزاب 73
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
لكان له على �أمته حق امللك �أي�ض ًا .و�أن للملك حق ًا غري حق الر�سالة، وف�ض ًال غري ف�ضلها ،و�أثراً غري �أثرها. نت �أَ ْع َل ُم « ُقل َّال �أَ ْم ِل ُك ِل َن ْف�سِ ي َن ْف ًعا َو َال �ضرَ ًّ ا �إ َِّال َما َ�شاء َهّ ُ الل َو َل ْو ُك ُ ري ِّل َق ْو ٍم ال�س ُ ير َو َب�شِ ٌ وء �إ ِْن �أَ َن ْا �إ َِّال َن ِذ ٌ ا ْل َغ ْي َب َال ْ�س َتكْثرَ ْ ُت ِم َن الخْ َ يرِْ َو َما َم َّ�س ِن َي ُّ وحى �إِ َل ْي َك َو َ�ضا ِئ ٌق ِب ِه َ�ص ْد ُر َك �أَن ون»َ « ،1ف َل َع َّل َك َتار ٌِك َب ْع َ ُي ْ�ؤ ِم ُن َ �ض َما ُي َ الل َع َلى ُك ِّل ير َو َهّ ُ اء َم َع ُه َم َل ٌك � َمّ َ إِنا �أَ َ َي ُقو ُلواْ َل ْو َال �أُنز َِل َع َل ْي ِه َكن ٌز �أَ ْو َج َ نت َن ِذ ٌ إِنا �أَ َنا َب�شرَ ٌ ِّم ْث ُل ُك ْم َ�ش ْي ٍء َو ِكي ٌل»َ �«،2مّ َ نت ُمن ِذ ٌر َو ِل ُك ِّل َق ْو ٍم َه ٍاد»ُ « ،3ق ْل � َمّ َ إِنا �أَ َ نا �إِ َل ُه ُك ْم �إِ َل ٌه َو ِ ان َي ْر ُجو ِل َقاء َر ِّب ِه َف ْل َي ْع َم ْل َع َمال وحى �إِليَ َّ �أَ َمّ َ اح ٌد َف َمن َك َ ُي َ 4 ِنا �أَ َنا َل ُك ْم َ�صالحِ ً ا َوال ُي ْ ا�س �إ َمّ َ �شرِْك ِب ِع َب َ اد ِة َر ِّب ِه �أَ َح ًدا» « ُق ْل َيا �أَ ّي َها ال َّن ُ 5 ني»ُ « 6ق ْل � َمّ َ وحى �إِليَ َّ �إ َِّال �أَ َمّ َ ير م ِب ٌ ير ُّم ِب ٌ إِنا �أَ َنا َب�شرَ ٌ ني» «�إِن ُي َ نا �أَ َنا َن ِذ ٌ َن ِذ ٌ نا �إِ َل ُه ُك ْم �إِ َل ٌه َو ِ اح ٌد».7 وحى �إِليَ َّ �أَ َمّ َ ِّم ْث ُل ُك ْم ُي َ القر�آن كما ر�أيت �رصيح يف �أن حممداً � -صلى اهلل عليه و�سلم -مل يكن �إال ر�سو ًال قد خلت من قبله الر�سل ،ثم هو بعد ذلك �رصيح يف «� »1سورة الأعراف «� »2سورة هود «� »3سورة الرعد «� »4سورة الكهف «� »5سورةاحلج «� »6سورة �ص «� »7سورة ال�سجدة 74
�أنه عليه ال�صالة وال�سالم مل يكن من عمله �شيء غري �إبالغ ر�سالة اهلل تعاىل �إىل النا�س ،و�أنه مل يكلف �شيئ ًا غري ذلك البالغ ،ولي�س عليه �أن اع َل ُمواْ ي�أخذ النا�س مبا جاءهم به ،وال �أن يحملهم عليه « َف�إِن َت َو َّل ْي ُت ْم َف ْ 1 الل َي ْع َل ُم الغ َو َهّ ُ نا َع َلى َر ُ�سو ِل َنا ا ْل َب ُ الر ُ�سولِ �إ َِّال ا ْل َب ُ �أَ َمّ َ الغ المْ ُ ِب ُ ني» َّ ، «ما َع َلى َّ 2 ِ�ص ِ احبِهِ م ِّمن ِج َّن ٍة �إ ِْن ُه َو ون َو َما َت ْك ُت ُم َ َما ُت ْب ُد َ «ولمَ ْ َي َت َف َّك ُرواْ َما ب َ ون» َ ، 3 ان ِلل َّنا�سِ َع َج ًبا �أَ ْن َ�أ ْو َح ْي َنا �إِلىَ َر ُجلٍ ِّم ْن ُه ْم �أَ ْن �أَن ِذ ِر ني» �« ،أَ َك َ ير ُّم ِب ٌ �إ َِّال َن ِذ ٌ 4 «و�إِن َّما ُنر َِي َّن َك ا�س َو َب�شِرِّ ا َّل ِذ َ ين � َآم ُنواْ �أَ َّن َل ُه ْم َق َد َم ِ�ص ْدقٍ ِع َ ند َر ِّبهِ ْم» َ ، ال َّن َ اب»،5 إِنا َع َل ْي َك ا ْل َب ُ �ض ا َّل ِذي َن ِع ُد ُه ْم �أَ ْو َن َت َو َّف َي َّن َك َف� َمّ َ َب ْع َ الغ َو َع َل ْي َنا الحِْ َ�س ُ 6 الر ُ�سلِ �إ َِّال ا ْل َب ُ الغ المْ ُ ِب ُ اب �إ َِّال ِل ُت َبيِنّ َ ني َ «،و َما �أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ « َف َه ْل َع َلى ُّ إِنا ون»َ «،7ف�إِن َت َو َّل ْوا َف� َمّ َ اخ َت َل ُفواْ ِفي ِه َو ُه ًدى َو َر ْح َم ًة ِّل َق ْو ٍم ُي�ؤْ ِم ُن َ َل ُه ُم ا َّل ِذي ْ 8 اه «،و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ َع َل ْي َك ا ْل َب ُ يرا»َ «،9ف� َمّ َ الغ المْ ُ ِب ُ �س َن ُ إِنا َي َرّ ْ ني» َ اك �إ َِّال ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً ني َو ُتن ِذ َر ِب ِه َق ْو ًما ُّل ًّدا»«،10طه َما �أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك ِب ِل َ�سا ِن َك ِل ُت َب�شِرّ َ ِب ِه المْ ُ َّت ِق َ 11 الغ الر ُ�سولِ �إ َِّال ا ْل َب ُ ا ْل ُق ْر� َآن ِل َت ْ�ش َقى� ،إ َِّال َت ْذ ِك َر ًة لِمّ َ ن َي ْخ َ�شى» َ «،و َما َع َلى َّ 12 إِنا �أُ ِم ْر ُت �أَ ْن َ�أ ْع ُب َد َر َّب «،و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ يرا»َ �«،13مّ َ المْ ُ ِب ُ ني» َ اك �إ َِّال ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً ني، َه ِذ ِه ا ْل َب ْل َد ِة ا َّل ِذي َح َّر َم َها َو َل ُه ُك ُّل َ�ش ْي ٍء َو ُ�أ ِم ْر ُت َ �أ ْن �أَ ُك َ ون ِم َن المْ ُ ْ�س ِل ِم َ إِن َا �أ َنا إِنا َي ْه َت ِدي ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن َ�ض َّل َف ُق ْل � َمّ َ اه َت َدى َف� َمّ َ َو�أَ ْن �أَ ْت ُل َو ا ْل ُق ْر� َآن َف َمنِ ْ 14 الر ُ�سولِ ِم َن المْ ُ ن ِذر َ ِين» َ ، «و�إِن ُت َك ِّذ ُبوا َف َق ْد َك َّذ َب �أُممَ ٌ ِّمن َق ْب ِل ُك ْم َو َما َع َلى َّ «� »1سورة املائدة � »2« -سورة املائدة � »3« -سورة الأعراف «� »4سورة يون�س «� »5سورة الرعد � »6« -سورة النحل «� »7سورة النحل � »8«-سورة النحل «� »9سورة الإ�رساء � »10«-سورة مرمي � »11«-سورة طه � »12« -سورة النور � »13« -سورة الفرقان � »14« -سورة النمل 75
الإ�سالم و�أ�صول احلكم 1 اك َ�ش ِ يرا، «يا �أَ ُّي َها ال َّنب ُِّي �إِ َّنا َ�أ ْر َ�س ْل َن َ �إ َِّال ا ْل َب ُ الغ المْ ُ ِب ُ ني» َ ، اه ًدا َو ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً 2 َو َد ِاع ًيا �إِلىَ َهِّ اك �إ َِّال َكا َّف ًة ِّلل َّنا�سِ «،و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ اجا ُّم ِن ً الل بِ�إِ ْذ ِن ِه َو�سرِ َ ً ريا» َ 3 ِ�ص ِ اح ِب ُكم ِّمن ِج َّن ٍة �إ ِْن يرا َو َل ِك َّن �أَ ْكثرَ َ ال َّنا�سِ ال َي ْع َل ُم َ َب�شِ ً «،ما ب َ ون» َ ريا َو َن ِذ ً
4 اك ير َّل ُكم َبينْ َ َي َد ْي َع َذ ٍ ير� ،إِ َّنا َ�أ ْر َ�س ْل َن َ نت �إ َّ اب َ�ش ِدي ٍد» �« ،إ ِْن �أَ َ ِال َن ِذ ٌ ُه َو �إ َِّال َن ِذ ٌ 5 «،و َما َع َل ْي َنا �إ َِّال يرا َو�إِن ِّم ْن �أُ َّم ٍة �إ َِّال َخال ِف َ ِبالحْ َ ِّق َب�شِ ً ير» َ ريا َو َن ِذ ً يها َن ِذ ٌ الل ا ْل َو ِ ار»،7 إِنا �أَ َنا ُمن ِذ ٌر َو َما ِم ْن �إِ َل ٍه �إ َِّال َهّ ُ ني»ْ 6 ا ْل َب ُ «،ل � َمّ َ الغ المْ ُ ِب ُ اح ُد ا ْل َق َّه ُ
الر ُ�سلِ َو َما �أَ ْدرِي َما ُي ْف َع ُل بِي َوال ِب ُك ْم �إ ِْن َ�أ َّتب ُِع « ُق ْل َما ُك ُ نت ب ِْد ًعا ِّم ْن ُّ اك َ�ش ِ اه ًدا َو ُم َب�شِرّ ً ا ني»�«،8إِ َّنا �أَ ْر َ�س ْل َن َ ير ُّم ِب ٌ �إ َِّال َما ُي َ وحى �إِليَ َّ َو َما �أَ َنا �إ َِّال َن ِذ ٌ 9 يعواْ َهّ َ اع َل ُمواْ الر ُ�س َ اح َذ ُرواْ َف�إِن َت َو َّل ْي ُت ْم َف ْ الل َو�أَ ِط ُ «،و�أَ ِط ُ ول َو ْ يرا» َ َو َن ِذ ً يعواْ َّ ند َهِّ إِنا �أَ َنا نا َع َلى َر ُ�سو ِل َنا ا ْل َب ُ الل َو� َمّ َ ني»ُ « ،10ق ْل � َمّ َ �أَ َمّ َ الغ المْ ُ ِب ُ إِنا ا ْل ِع ْل ُم ِع َ �شرِْك ِب ِه �أَ َح ًداُ ،ق ْل �إِنِيّ ال �أَ ْم ِل ُك إِنا �أَ ْد ُعو َر ِّبي َوال �أُ ُ ني»ُ « ،11ق ْل � َمّ َ ير ُّم ِب ٌ َن ِذ ٌ ري يِن ِم َن َهِّ الل َ�أ َح ٌد َو َل ْن َ�أ ِج َد ِمن ُدو ِن ِه َل ُك ْم �ضرَ ًّ ا َوال َر َ�ش ًداُ ،ق ْل �إِنِيّ َلن ُيجِ َ
الغا ِّم َن َهِّ الل َور َِ�ساال ِت ِه».12 ُم ْل َت َح ًدا� ،إ َِّال َب ً
«� »1سورة العنكبوت � »2« -سورة الأحزاب � »3« -سورة �سب�أ � »4« -سورة �سب�أ «� »5سورة فاطر � »6« -سورة ي�س � »7« -سورة �ص � »8« -سورة الأحقاف «� »9سورة الفتح � »10« -سورة املائدة � »11« -سورة امللك � »12« -سورة اجلن 76
(� )7إذا نحن جتاوزنا كتاب اهلل تعاىل �إىل �سنة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وجدنا الأمر فيها �أ�رصح ،واحلجة �أقطع. روى �صاحب ال�سرية النبوية� 1أن رج ًال جاء �إىل النبي� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،حلاجة يذكرها ،فقام بني يديه ف�أخذته رعدة �شديدة ومهابة، هون عليك ف�إين ل�ست مبلك وال جبار، فقال له �صلى اهلل عليه و�سلم ّ : و�إمنا �أنا ابن امر�أة من قري�ش ت�أكل القديد مبكة ...وقد جاء يف احلديث �أنه ملا ُخيرِّ على ل�سـان �إ�رسافيل بني �أن يكون نبي ًا ملك ًا� ،أو نبي ًا عبداً، نظر -عليه ال�صالة وال�سالم � -إىل جربيل ،عليه ال�سالم ،كامل�ست�شري له، فنظر جربيل �إىل الأر�ض ،ي�شــــري �إىل التوا�ضع ،ويف رواية «ف�أ�شار �إليه جربيل �أن توا�ضع فقلت نبي ًا عبداً» .فذلك �رصيح �أي�ض ًا يف �أنه �صلى اهلل مللك ،وال توجهت نف�سه عليه ال�سالم عليه و�سلم مل يكن ملك ًا ،ومل يطلب ا ُ �إليه. ال َت ِم ْ�س بني د َّف َتي امل�صحف الكرمي �أثراً ظاهراً �أو خفي ًا ملا يريدون �أن يعتقدوا من �صفة �سيا�ســـية للدين الإ�سالمي ،ثم ال َت ِم ْ�س ذلك الأثر مبلغ جهدك بني �أحاديث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم .تلك منابع الدين ال�صـــافية متناول يديك ،وعلى كثب منك ،فالتمــ�س منها دلي ًال �أو �شبه دليل ،ف�إنك لن جتد عليها برهان ًا� ،إال ظن ًا ،و�إن الظن ال يغني من احلق �شيئ ًا. ( )8الإ�سالم دعوة دينية �إىل اهلل تعاىل ،ومذهب من مذاهب الإ�صالح لهذا النوع الب�رشي وهدايته �إىل ما يدنيه من اهلل جل �ش�أنه ،ويفتح له �سبيل ال�سعادة الأبدية التي �أعدها اهلل لعباده ال�صاحلني .وهو وحدة « »1ال�سرية النبوية لأحمد بن زين دخالل املتوفى �سنة 1304هـ من كتاب اكتفاء القنوع 77
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
دينية �أراد اهلل جل �ش�أنه �أن يربط الب�رش �أجمعني ،و�أن يحيط بها �أقطار الأر�ض كلها. تلك دعوة قد�سية لهذا العامل� ،أحمره و�أ�سوده� ،أن يعت�صموا بحبل اهلل الواحد ،و�أن يكونوا �أمة واحدة ،يعبدون �إله ًا واحداً ،ويكونون يف عبادته �إخوان ًا ،تلك دعوة �إىل املثل الأعلى ل�سالم هذا العامل ،و�أخذه �إىل ما يليق به من الكمال ،و�إىل ما �أعده له من ال�سعادة ،تلك رحمة ال�سماء بالأر�ض، وف�ضل اهلل على العاملني. دعوة العامل كله �إىل الت�آخي يف الدين دعوة معقولة ،ويف طبيعة الب�رش ا�ستعداداً لتحقيقها. بلى .ولقد وعد اهلل جل �ش�أنه لهذه الدعوة �أن تتم « َف َال تحَ ْ َ�سبنَ َّ 1 ال�صالحِ َ ِ ات «،و َع َد َهّ ُ َهّ َ الل ا َّل ِذ َ الل مخُ ْ ِل َف َو ْع ِد ِه » َ ين � َآم ُنوا ِمن ُك ْم َو َع ِم ُلوا َّ َل َي ْ�س َت ْخ ِل َف َّن ُهم يِف ا َلأ ْر ِ ين ِمن َق ْب ِلهِ ْم َو َل ُي َم ِّكننَ َّ َل ُه ْم ا�س َت ْخ َل َف ا َّل ِذ َ �ض َك َما ْ
ِدي َن ُه ُم ا َّل ِذي ْار َت َ�ضى َل ُه ْم َو َل ُي َب ِّد َل َّن ُهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْو ِفهِ ْم �أَ ْم ًنا َي ْع ُب ُدو َن ِني ال 2 «،ه َو ا َّل ِذي ُي ُ ون بِي َ�ش ْي ًئا َو َمن َك َف َر َب ْع َد َذ ِل َك َف ُ�أو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل َفا�سِ ُق َ �شرِْك َ ون» ُ َ�أ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِّق ِل ُي ْظهِ َر ُه َع َلى ال ِّدينِ ُك ِّل ِه َو َك َفى ب َهِّ ِالل
3 «،و َم ْن َ�أ ْظ َل ُم ممِ َّ نِ ا ْفترَ َ ى َع َلى َهِّ الم الل ا ْل َك ِذ َب َو ُه َو ُي ْد َعى �إِلىَ الإ ِْ�س ِ َ�شهِ ً يدا» َ ور َهِّ الل بِ�أَ ْف َو ِ الل اههِ ْم َو َهّ ُ َو َهّ ُ الل ال َي ْه ِدي ا ْل َق ْو َم َّ ِيد َ الظالمِِ َ نيُ ،ير ُ ون ِل ُي ْطفِ�ؤُوا ُن َ
«� »1سورة �إبراهيم «� »2سورة النور «� »3سورة الفتح 78
ُم ِت ُّم ُنو ِر ِه َو َل ْو َكر َِه ا ْل َك ِ ونُ ،ه َو ا َّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِّق اف ُر َ ون».1 ِل ُي ْظهِ َر ُه َع َلى ال ِّدينِ ُك ِّل ِه َو َل ْو َكر َِه المْ ُ ُ �شرِْك َ معقول �أن ي�ؤخذ العامل كله بدين واحد ،و�أن تنتظم الب�رشية وحدة دينية ،ف�أما �أخذ العامل كله بحكومة واحدة ،وجمعه حتت وحدة �سيا�سية م�شرتكة ،فذلك مما يو�شك �أن يكون خارج ًا عن الطبيعة الب�رشية ،وال تتعلق به �إرادة اهلل. على �أن ذلك �إمنا هو غر�ض من الأغرا�ض الدنيوية التي خلى اهلل �سبحانه وتعاىل بينها وبني عقولنا ،وترك النا�س �أحراراً يف تدبريها على ما تهديهم �إليه عقولهم وعلومهم ،وم�صاحلهم ،و�أهوا�ؤهم، خمتلفني«و َل ْو َ�شاء َر ُّب َك ونزعاتهم ،حكمة اهلل يف ذلك بالغة ليبقى النا�س َ ا�س �أُ َّم ًة َو ِ ني� ،إ َِّال َمن َّر ِح َم َر ُّب َك َو ِل َذ ِل َك ون مخُ ْ َت ِل ِف َ اح َد ًة َو َال َي َزا ُل َ جَل ََع َل ال َّن َ 2 ليتم العمران َخ َل َق ُه ْم» ،وليبقى بني النا�س ذلك التدافع الذي �أراده اهلل َّ «و َل ْو َال َد ْف ُع َهِّ �ض َو َل ِك َّن َهّ َ الل ُذو َف ْ�ضلٍ ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ب َِب ْع ٍ �ض َّل َف َ�س َد ِت الأَ ْر ُ َ الل ال َّن َ 3 ني» . َع َلى ا ْل َعالمَِ َ وحتى يبلغ الكتاب �أجله ،ويتم امر اهلل .ذلك من الأغرا�ض الدنيوية التي �أنكر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يكون له فيها حكم �أو تدبري، فقال عليه ال�سالم �( :أنتم �أعلم ب�ش�ؤون دنياكم). ذلك من �أغرا�ض الدنيا ،والدنيا من �أولها لآخرها ،وجميع ما فيها «� »1سورة ال�صف «� »2سورة هود «� »3سورة البقرة 79
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
من �أغرا�ض وغايات� ،أهون عند اهلل تعاىل من �أن يقيم على تدبريها غري ما ركب فينا من عقول ،وحبانا من عواطف و�شهوات ،وعلمنا من �أ�سماء وم�سميات ،هي �أهون عند اهلل تعاىل من �أن يبعث لها ر�سو ًال ،و�أهون عند ر�سل اهلل تعاىل من �أن ي�شغلوا بها وين�صبوا لتدبريها. ( )9وال يريب َّنك هذا الذي ترى �أحيان ًا يف �سرية النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فيبدو لك ك�أنه عمل حكومي ،ومظهر للملك والدولة ،ف�إنك �إذا ت�أملت مل جتده كذلك ،بل هو مل يكن �إال و�سيلة من الو�سائل التي كان عليه � -صلى اهلل عليه و�سلم � -أن يلج�أ �إليها ،تثبيت ًا للدين ،وت�أييداً للدعوة. ولي�س عجيب ًا �أن يكون اجلهاد و�سيلة من تلكم الو�سائل .هو و�سيلة عنيفة وقا�سية ،ولكن ما يدريك ،فلعل ال�رش �رضوري للخري يف بع�ض الأحيان ،ورمبا وجب التخريب ليتم العمران. «قالوا كان ال يخلو من غلب «بالتحريك» قلنا تلك �سنة اهلل يف اخللق، ال تزال امل�صارعة بني احلق والباطل ،والر�شد والغي ،قائمة يف هذا العامل �إىل �أن يق�ضي اهلل بق�ضائه فيه. �إذا �ساق اهلل ربيع ًا �إىل �أر�ض جدبة ،ليحيي ميتها ،وينفع من غلتها وينمي اخل�صب فيها� ،أفينق�ص من قدره �إن �أتى يف طريقه على عقبة فعالها� ،أو بيت رفيع العماد فهوى به».1 قالوا غزوت ! ور�سل اهلل ما بعثت لقتل نف�س وال جاءت ل�سفك دم فتحت بال�سيف بعد الفتح بالقلم جـــــهل وت�ضليل �أحالم و�سف�سفة تك َّفل ال�سيــــف باجلهال والعمــم ملا �آتى لك عفواً كــــل ذي ح�سب « »1ر�سالة التوحيد لل�شيخ حممد عبده �ص123 - 122 80
وال�رش �إن تلقه باخلري �ضقت به علمتهم كــــل �شيء يجهلون بـه
ذرع ًا و�إن تلقه بال�شــــــــر ينح�سـم 1 حتى القتال وما فيه من الذمــم
( )10ترى من هذا �أنه لي�س القر�آن هو وحده الذي مينعنا من اعتقاد �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان يدعو مع ر�سالته الدينية �إىل دولة �سيا�سية ،ولي�ست ال�سنـّة هي وحدها التي متنعنا من ذلك ،لكن مع الكتاب وال�س ّنة حكم العقل يق�ضي به معنى الر�سالة وطبيعتها� ،إمنا كانت والية حممد �صلى اهلل عليه و�سلم على امل�ؤمنني والية الر�سالة غري م�شوبة ب�شيء من احلكم. هيهات هيهات ،مل يكن ثمة حكومة ،وال دولة ،وال �شيء من نزاعات ال�سيا�سة وال �أغرا�ض امللوك والأمراء. لعلك الآن اهتديت �إىل ما كنت ت�س�أل عنه قب ًال ،من خلو الع�رص النبوي من مظاهر احلكم و�أغرا�ض الدولة ،وعرفت كيف مل يكن هناك ترتيب حكومي ،ومل يكن ثمة والة وال ديوان� ..إلخ .ولعل ظالم تلك احلرية التي �صادفتك قد ا�ستحال نوراً .و�صارت النار عليك برداً و�سالم ًا.
« »1لأحمد بك �شوقي 81
82
الكتاب الثالث
اخلالفة واحلكومة يف التاريخ الباب الأول
الوحدة الدينية والعرب لي�س الإ�سالم دين ًا خا�ص ًا بالعرب -العربية والدين -احتاد العرب الديني اختالفهم ال�سيا�سي � -أنظمة الإ�سالم ال �سيا�سة � -ضعف التباين ال�سيا�سي عند العرب � -أيام النبي -انتهاء الزعامة مبوت الر�سول عليه ال�سالم -مل ُي َ�س ِّم النبي � -صلى اهلل عليه -و�سلم خليفة من بعده -مذهب ال�شيعة يف ا�ستخالف علي -مذهب اجلماعة يف ا�ستخالف �أبي بكر. ( )1الإ�سالم كما عرفت دعوة �سامية� ،أر�سلها اهلل خلري هذا العامل كله� ،رشقيه وغربيه ،عربيه و�أعجميه ،رجاله ون�سائه� ،أغنيائه وفقرائه، عامليه وجهالئه ،وما كان الإ�سالم دعوة عربية ،وال وحدة عربية ،وال دين ًا عربي ًا ،وما كان الإ�سالم ليعرف ف�ض ًال لأمة على �أمة ،وال للغة على لغة ،وال لقطر على قطر ،وال لزمن على زمن ،وال جليل على جيل� ،إال بالتقوى ،ذلك برغم ما ترى ،من �أن النبي عليه ال�سالم كان عربي ًا ،وكان يحب العرب بالطبع ،ويثني عليهم ،وكان كتاب اهلل عربي ًا مبين ًا.
83
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
( )2كان البد لدعوة الإ�سالم �أن تخرج �إىل هذا الوجود ،و�أن تربز حقيقة ثابتة بني حقائق هذا الكون ،و�أن يحملها عن جانب القد�س الأعلى ر�سول يختاره اهلل تعاىل ،ليبلغها �إىل النا�س. ولقد ر�ضي اهلل َج َّل �ش�أنه ،وتعاىل حكمه� ،أن يختار ر�سوله لتلك الدعوة من بني القبائل العربية دون غريها ،و�أن يختار يف العرب ولد �إ�سماعيل ،و�أن يختاره من بني ولد ا�سماعيل يف كنانة ،و�أن يختاره يف كنانة من قري�ش ،و�أن يختاره يف قري�ش من بني ها�شم ،و�أن يختار من بني ها�شم حممد بن عبد اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. هلل جل �ش�أنه حكمة يف ذلك بالغة ،قد نعرفها وقد ال نعرفها. ان َهِّ الل َو َت َعالىَ ان َل ُه ُم الخِْيرَ َ ُة ُ�س ْب َح َ ار َما َك َ َ «و َر ُّب َك َي ْخ ُل ُق َما َي َ�شاء َو َي ْخ َت ُ 1 ِ ِ ون» . ن ل ع ي ا م و م ه ور د �ص ن ك ت ا م م ل ع ي ك ب ر و ، ون �شرِْك ي َ ُ َ ُ َ َ َ ُّ َ ْ ُ َ ُ َّ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َع َّما ُ كتاب عربي ،ور�سول عربي ،فال منا�ص بالطبع من �أن تبد�أ دعوة الإ�سالم بني العرب ،قبل �أن ت�صل �إىل غريهم ،وال منا�ص بالطبع من �أن يكون العرب �أول من ت�شق �آذانهم دعوة ذلك الب�شري النذير ،و�أول من يهيب بهم ذلك الداعي �إىل اهلل ،و�أول من يحاول �أن يجمعهم على الهدى. وكذلك بد�أ الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم الدعوة بني ع�شريته االقربني، ثم بني قومه العرب ،ومازال بهم ،ي�ؤيده ن�رص اهلل ،حتى �أتوا لدعوته خا�ضعني ،وكانواحتت زعامة ذلك الر�سول الأمني� ،أول داخل يف وحدة الدين. ( )3البالد العربية ،كما تعرف ،كانت حتوي �أ�صناف ًا من العرب خمتلفة ال�شعوب والقبائل ،متباينة اللهجات ،متنائية اجلهات ،وكانت خمتلفة �أي�ض ًا يف الوحدات ال�سيا�سية ،فمنها ما كان خا�ضع ًا للدولة الرومية ومنها ما كان قائم ًا بذاته م�ستق ًال. «� »1سورة الق�ص�ص 84
كان ذلك ي�ستتبع ،بال�رضورة ،تباين ًا كبرياً بني تلك الأمم العربية، يف مناهج احلكم ،و�أ�ساليب الإدارة ،ويف الآداب والعادات ،ويف كثري من مرافق احلياة االقت�صادية واملادية. هذه الأمم املتنافرة اجتمعت كلها يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم، حول دعوة الإ�سالم ،وحتت لوائه ،ف�أ�صبحوا بنعمة اهلل �إخوان ًا ،تربطهم و�شيجة واحدة من الدين ،وي�ضمهم �سياج واحد ،من زعامة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،من عطفه ورحمته ،و�صاروا �أمة واحدة ذات زعيم واحد، هو النبي عليه ال�سالم. تلك الوحدة العربية التي وجدت زمن النبي -عليه ال�سالم -مل تكن وحدة �سيا�سية ب�أي وجه من الوجوه ،وال كان فيها معنى من معاين الدولة واحلكومة ،بل تعد �أبداً �أن تكون وحدة دينية خال�صة من �شوائب ال�سيا�سة .وحدة الإميان واملذهب الديني .ال وحدة الدولة ومذاهب امللك. ( )4يدلك على هذا �سرية النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فما عرفنا �أنه تعر�ض ل�شيء من �سيا�سة الأمم ال�شتيتة ،وال غيرَّ �شيئ ًا من �أ�ساليب احلكم عندهم ،وال مما كان لكل قبيلة منهم من نظام �إداري �أو ق�ضائي ،وال حاول �أن مي�س ما كان بني تلك الأمم بع�ضها مع بع�ض ،وال ما كان بينها وبني غريها ،من �صالت اجتماعية �أو اقت�صادية ،وال �سمعنا �أنه عزل نظم فيها ع�س�س ًا ،وال و�ضع قواعد لتجاراتهم والي ًا ،وال عينّ قا�ضي ًا ،وال ّ وال لزراعاتهم وال ل�صناعاتهم ،بل ترك لهم عليه ال�سالم كل ال�ش�ؤون، وقال لهم «�أنتم �أعلم بها» ،فكانت كل �أمة وما لها ،من وحدة مدنية و�سيا�سية ،وما فيها من فو�ضى �أو نظام ،ال يربطهم �إال ما قلناه ،من وحدة الإ�سالم وقواعده و�آدابه. رمبا �أمكن �أن يقال �إن تلك القواعد والآداب وال�رشائع التي جاء بها النبي عليه ال�سالم ،للأمم العربية ولغري العربية �أي�ض ًا ،كانت كثرية، 85
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
وكان فيها ما مي�س �إىل حد كبري �أكرث مظاهر احلياة يف الأمم ،فكان فيها بع�ض �أنظمة للعقوبات ،وللجي�ش واجلهاد ،وللبيع واملداينة والرهن، ولآداب اجللو�س وامل�شي واحلديث ،وكثري غري ذلك .فمن جمع العرب وو َّح َد بني مرافقهم و�آدابهم و�رشائعهم �إىل ذلك على تلك القواعد الكثريةَ ، وحد �أنظمتهم املدنية وجعلهم احلد الوا�سع الذي جاء به الإ�سالم ،فقد َّ بال�رضورة وحدة �سيا�سية ،فقد كانوا �أذن دولة واحدة ،وكان النبي - عليه ال�سالم -زعيمها وحاكمها. ولكنك �إذا ت�أملت وجدت �أن كل ما �رشعه الإ�سالم ،و�أخذ به النبي امل�سلمني ،من �أنظمة وقواعد و�آداب مل يكن يف �شيء كثري وال قليل من �أ�ساليب احلكم ال�سيا�سي ،وال من �أنظمة الدولة املدنية ،وهو بعد �إذا جمعته مل يبلغ �أن يكون جزءاً ي�سرياً مما يلزم لدولة مدنية من �أ�صول �سيا�سية وقوانني. �إن كل ما جاء به الإ�سالم من عقائد ومعامالت ،و�آداب وعقوبات، ف�إمنا هو �رشع ديني خال�ص هلل تعاىل ،ومل�صلحة الب�رش الدينية الغري، و�سيان بعد ذلك �أن تت�ضح لنا تلك امل�صالح الدينية �أم تخفى علينا، و�سيان �أن يكون منها للب�رش م�صلحة مدنية �أم ال ،فذلك ما ال ينظر ال�رشع ال�سماوي �إليه ،وال ينظر �إليه الر�سول. ( )5والعرب و�إن جمعتهم �رشيعة الإ�سالم مل يزالوا يومئذ على ما عرفت من تباين يف ال�سيا�سة ويف غريها من مظاهر احلياة املدنية واالجتماعية واالقت�صادية ،وي�ساوي ذلك �أن تقول �إنهم كانوا دو ًال �شتى، على قدر ما ت�سمح به حياة العرب يومئذ من معنى الدولة واحلكومة. تلك حال العرب يوم حلق -عليه ال�سالم -بالرفيق الأعلى ،وحدة دينية عامة من حتتها دول تامة التباين �إال قلي ًال .ذلك احلق ال ريب فيه. 86
قد نخاف �أن يخفى عليك �أمر ذلك التباين ،الذي نقول �إنه كان بني �أمم العرب زمن النبي� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،و�أن تخدعك تلك ال�صورة املن�سجمة التي يحاول امل�ؤرخون �أن ي�ضعوها لذلك الع�رص ،فاعلم �أو ًال: �أن يف فن التاريخ خط�أ كثرياً ،وكم يخطئ التاريخ وكم يكون �ضال ًال كبرياً!. واعلم ثاني ًا � :أنه يف احلق �أن كثرياً من تنافر العرب وتباينهم قد تال�شت �آثاره ،مبا ربط الإ�سالم بني قلوبهم ،وما جمعهم عليه من دين واحد ،ومن �أنظمة و�آداب م�شرتكة ،واذكر ،ثالث ًا :ما �أ�سلفنا لك الإ�شارة اليه ،من �أثر الزعامة الدينية التي كانت للر�سول عليه ال�سالم .فال عجب وخ َّفت �إذن �أن يكون تباين االمم العربية قد وهت �آثاره ،وخفيت مظاهرهَ ، «وا ْذ ُك ُرواْ ِن ْع َم َة َهِّ الل َع َل ْي ُك ْم �إِ ْذ ُكن ُت ْم �أَ ْع َداء َف�أَ َّل َف َبينْ َ حدته ،وذهبت َّ َّ �شدته َ َ َ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ُقلُوب ُك ْم َف�أ ْ�ص َب ْح ُتم بن ْع َمته �إ ِْخ َوا ًنا َو ُكن ُت ْم َع َل َى َ�ش َفا ُح ْف َرة ّم َن ال َّنا ِر َف�أن َق َذ ُكم م ْن َها ».1 ولكن العرب على ذلك ما برحوا �أمم ًا متباينة ،ودو ًال �شتى ،كان ذلك طبيعي ًا ،وما كان طبيعي ًا فقد ميكن �أن تخفف حدته ،وتقلل �آثاره ،ولكن الميكن التخل�ص منه بوجه من الوجوه. مل يكد عليه ال�سالم يلحق بالرفيق الأعلى حتى �أخذت تبدو جلية وا�ضحة �أ�سباب ذلك التباين بني �أمم العرب ،وعادت كل �أمة منهم ت�شعر ب�شخ�صيتها املتميزة ،ووجودها امل�ستقل من غريه ،و�أو�شكت �أن تنتق�ض تلك الوحدة العربية ،التي متت يف حياة الر�سول� ،صلى اهلل عليه و�سلم«،وارتد �أكرث العرب� ،إال �أهل املدينة ومكة والطائف ،ف�إنه مل يدخلها ردة».2 «� »1سورة �آل عمران «� »2أبوالفداء ج� 1ص152 87
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
( )6كانت وحدة العرب كما عرفت وحدة �إ�سالمية ال �سيا�سية ،وكانت زعامة الر�سول فيهم زعامة دينية ال مدنية ،وكان خ�ضوعهم له خ�ضوع عقيدة و�إميان ،ال خ�ضوع حكومة و�سلطان ،وكان اجتماعهم حوله اجتماع ًا خال�ص ًا هلل تعاىل ،يتلقون فيه خطرات الوحي ،ونفحات ال�سماء و�أوامر اهلل تعاىل ونواهيه «ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة». تلك زعامة كانت ملحمد بن عبد اهلل بن عبد املطلب الها�شمي «و َما َي ِ نط ُق القر�شي ،لي�ست ل�شخ�صيته وال لن�سبه ولكن لأنه ر�سول اهلل َ َعنِ ا ْل َه َوى» ،1بل عن اهلل تعاىل وبوا�سطة مالئكته املكرمني ،ف�إذا ما حلق عليه ال�سالم بامللأ الأعلى مل يكن لأحد �أن يقوم من بعده ذلك املقام الديني .لأنه كان -عليه ال�سالم « -خامت النبيني»2وما كانت ر�سالة اهلل تعاىل لتورث عن الر�سول ،وال لت�ؤخذ منه عطاء وال توكي ًال. ( )7وقد حلق � -صلى اهلل عليه و�سلم -بالرفيق الأعلى من غري �أن ي�سمي �أحداً يخلفه من بعده ،وال �أن ي�شري �إىل من يقوم يف �أمته مقامه. بل مل ي�رش عليه ال�سالم طوال حياته �إىل �شيء ي�سمى دولة �إ�سالمية� ،أو دولة عربية. وحا�شا هلل ،ما حلق �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفيق الأعلى �إال بعد �أن وبينَّ لأمته قواعد الدين كله ،ال لب�س �أدى عن اهلل تعاىل ر�سالته كاملةَ ، فيها وال �إبهام ،فكيف � -إذا كان من عمله �أن ين�شىء دولة -يرتك �أمر تلك الدولة مبهم ًا على امل�سلمني ،لريجعوا �رسيع ًا من بعده حيارى ي�رضب بع�ضهم رقاب بع�ض! وكيف ال يتعر�ض لأمر من يقوم بالدولة من بعده. وذلك �أول ما ينبغي �أن يتعر�ض له بناة الدولة قدمي ًا وحديثاً! كيف ال «� »1سورة النجم «� »2سورة الأحزاب 88
يرتك للم�سلمني ما يهديهم يف ذلك! وكيف يرتكهم عر�ضة لتلك احلرية القائمة ال�سوداء التي غ�شيتهم وكادوا يف غ�سقها يتناحرون ،وج�سد النبي بينهم ملا يتم جتهيزه ودفنه!. ( )8واعلم �أن ال�شيعة جميع ًا متفقون على �أن ر�سول اهلل � -صلى اهلل عليه و�سلم -قد عني علي ًا -ر�ضي اهلل عنه -للخالفة على امل�سلمني من بعده وال نريد �أن نقف بك عند مناق�شة ذلك الر�أي ،ف�إن حظه من النظر العلمي قليل ال ينبغي �أن ُيل َت َفت �إليه. قال ابن خلدون�« :إن الن�صو�ص التي ينقلونها وي� ِّؤولونها على مقت�ضى مذهبهم ال يعرفها جهابذة ال�س ّنة وال نقلة ال�رشيعة ،بل �أكرثها مو�ضوع �أو مطعون يف طريقه �أو بعيد عن ت�أويالتهم الفا�سدة».1 ( )9وقد ذهب الإمام ابن حزم الظاهري �إىل ر�أي طائفة قالت �إن ر�سول ن�ص على ا�ستخالف �أبي بكر بعده على �أمور النا�س ن�ص ًا جلياً، اهلل تعاىل َّ �سموه خليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل لإجماع املهاجرين والأن�صار على �أن ّ عليه و�سلم ،ومعنى اخلليفة يف اللغة هو الذي ي�ستخلفه ،ال الذي يخلفه 2 دون �أن ي�ستخلفه هو ،ال يجوز غري هذا البتة يف اللغة بال خالف� ...إلخ وقد �أطال يف ذلك. تع�سف ال نرى له وجه ًا �صحيحاً ،ولقد راجعنا والذهاب مع هذا الر�أي ُّ ما تي�رس لنا من كتب اللغة فما وجدنا فيها ما يع�ضد كالم الإمام ابن حزم ،ثم وجدنا �إجماع الرواة على اختالف ال�صحابة يف بيعة �أبي بكر، وامتناع �أج َّلة منهم عنها ،وقول عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه معتذراً « »1مقدمة ابن خلدون �ص 176 « »2الف�صول يف امللل والأهواء والنحل ج� 4ص 107وما بعدها 89
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
عما قاله 1يوم قب�ض الر�سول �صلى اهلل تعاىل عليه و�سلم�« :أيها النا�س �إين قد كنت قلت لكم بالأم�س مقالة ما كانت �إال عن ر�أيي ،وما وجدتها يف يل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ولكني كتاب اهلل ،وال كانت عهداً عهده �إ ّ قد كنت �أرى �أن ر�سول اهلل �سيدبر �أمرنا حتى يكون �آخرنا .و�أن اهلل قد �أبقى فيكم كتابه الذي هدى به ر�سول اهلل ،ف�إن اعت�صمتم به هداكم اهلل ملا كان هداه له ،و�أن اهلل قد جمع �أمركم على خريكم� ،صاحب ر�سول اهلل ،وثاين اثنني �إذ هما يف الغار ،فقوموا فبايعوه».2 وجدنا ذلك ووجدنا كثرياً غريه فعلمنا �أن الذهاب �إىل �أن النبي - �صلى اهلل عليه و�سلم -قد بينّ �أمر اخلالفة من بعده ر�أي غري وجيه ،بل احلق �أنه � -صلى اهلل عليه و�سلم -ما تعر�ض ل�شيء من �أمر احلكومة بعده ،وال جاء للم�سلمني فيها ب�رشع يرجعون �إليه. وما حلق عليه ال�سالم بالرفيق االعلى �إال من بعد ما كمل الدين ،ومتت النعمة ور�سخت يف حقيقة الوجود دعوة الإ�سالم ،ويومئذ مات عليه ال�صالة وال�سالم ،وانتهت ر�سالته ،وانقطعت تلك ال�صلة اخلا�صة التي كانت بني ال�سماء واالر�ض يف �شخ�صه الكرمي عليه ال�سالم.
« »1ملا توفى ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قام عمر بن اخلطاب فقال�« :إن رجا ًال من املنافقني يزعمون �أن ر�سول اهلل توفى ،و�إن ر�سول اهلل واهلل مامات ولكنه ذهب �إىل ربه ،كما ذهب مو�سى بن عمران فغاب عن قومه �أربعني ليلة ثم رجع بعد �أن قيل قد مات ،واهلل لريجعن ر�سول اهلل فليقطعن �أيدي رجال و�أرجلهم يزعمون �أن ر�سول اهلل مات ،تاريخ الطربي ج� 3ص 197 « »2تاريخ الطربي ج� 3ص203 90
الباب الثاين
الدولة العربية الزعامة بعد النبي عليه ال�سالم �إمنا تكون زعامة �سيا�سية - اثر الإ�سالم يف العرب -ن�ش�أة الدولة العربية -اختالف العرب يف البيعة. ( )1زعامة النبي عليه ال�سالم كانت ،كما قلنا ،زعامة دينية ،جاءت عن طريق الر�سالة ال غري .وقد انتهت الر�سالة مبوته �صلى اهلل عليه و�سلم فانتهت الزعامة �أي�ض ًا ،وما كان لأحد �أن يخلفه يف زعامته ،كما �أنه مل يكن لأحد �أن يخلفه يف ر�سالته. ف�إن كان والبد من زعامة بني �أتباع النبي -عليه ال�صالة وال�سالم بعد وفاته ،ف�إمنا تلك زعامة جديدة غري التي عرفناها لر�سول اهلل�صلى اهلل عليه و�سلم. طبيعي ومعقول �إىل درجة البداهة �أن ال توجد بعد النبي زعامة دينية ،و�أما الذي ميكن �أن يت�صور وجوده بعد ذلك ف�إمنا هو نوع من الزعامة جديد .لي�س مت�ص ًال بالر�سالة وال قائم ًا على الدين .هو �إذن نوع ال ديني.
91
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
و�إذا كانت الزعامة ال دينية فهي لي�ست �شيئ ًا �أقل وال �أكرث من الزعامة املدنية �أو ال�سيا�سية ،زعامة احلكومة وال�سلطان ،ال زعامة الدين .وهذا الذي قد كان. ( )2رفعت الدعوة الإ�سالمية �ش�أن ال�شعوب العربية من جهات �شتى، ومل يكن �إال ريثما �أهاب بهم الداعي �إىل الإ�سالم ،حتى ا�ستحالوا واحدة من خري الأمم يف زمانهم وا�ستعدوا مبثل ما ي�ستعد به �شعوب الب�رش لأن يكونوا �سادة وم�ستعمرين. عقيدة �صافية من دن�س ال�رشك ،و�إميان را�سخ يف �أعماق النف�س، و�أخالق ه َّذبها اهلل ،وذكاء �أمنته الفطرة ال�سليمة ،ون�شاط � َأم َّد ْتهم به الطبيعة ،ووحدة يف اهلل قاربت منهم ما تباعد ،والءمت ما تباين، وجعلتهم يف دين اهلل �إخوان ًا ،ذلك �ش�أن العرب يوم مات الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم. �شعب ناه�ض كالعرب يومئذ ال ميكن �إذا انحلت عنه زعامة النبوة �أن يعود را�ضي ًا كما كان� ،أمم ًا جاهلية ،و�شعوب ًا همجية ،وقبائل متعادية، ووحدات م�ست�ضعفة. �إذاً ،هي�أ اهلل لأمة �أ�سباب القوة والغلبة فالبد �أن تقوى والبد �أن تغلب، والبد �أن ت�أخذ حظها من الوجود كام ًال غري منقو�ص ،فالبد �إذن �أن تقوم دولة العرب ،كما قامت من قبلها دول وقامت من بعدها دول. ( )3مل يكن خافي ًا على العرب �أن اهلل تعاىل قد هي�أ لهم �أ�سباب الدولة ومهد لهم مقدماتها ،بل رمبا كانوا قد �أح�سوا بذلك من قبل �أن يفارقهم ّ ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ولكنهم حني قب�ض ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أخذوا من غري �شك يت�شاورون يف �أمر تلك الدولة ال�سيا�سية، 92
التي مل يكن لها منا�ص من �أن يبنوها على �أ�سا�س وحدتهم الدينية التي خلفها فيهم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم «وما كانت نبوة �إال تنا�سخها ملوك جربية».1 كانوا يومئذ �إمنا يت�شاورون يف �أمر مملكة تقام ،ودولة ت�شاد، وحكومة تن�ش�أ �إن�شاء .لذلك جرى على ل�سانهم يومئذ ذكر الإمارة والأمراء ،والوزارة والوزراء ،وتذاكروا القوة وال�سيف ،والعز والرثوة، والعدد واملنعة ،والب�أ�س والنجدة ،وما كان كل ذلك �إال خو�ض ًا يف امللك، وقيام ًا بالدولة ،والب�أ�س واملنعة ،وما تناف�س املهاجرون والأن�صار وكبار ال�صحابة بع�ضهم مع بع�ض ،حتى متت البيعة لأبي بكر ،فكان �أول ملك يف الإ�سالم. و�إذا �أنت ر�أيت كيف متت البيعة لأبي بكر ،وا�ستقام له الأمر ،تبني لك �أنها كانت بيعة �سيا�سية ملكية ،عليها كل طوابع الدولة املحدثة و�أنها �إمنا قامت كما تقوم احلكومات ،على �أ�سا�س القوة وال�سيف. تلك دولة جديدة �أن�ش�أها العرب ،فهي دولة عربية وحكم عربي ،ولكن الإ�سالم كما عرفت دين الب�رشية كلها ال هو عربي وال هو �أعجمي. كانت دولة عربية قامت على �أ�سا�س دولة دينية ،وكان �شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها� .أجل ولعلها كانت يف الواقع ذات �أثر حتول الإ�سالم كبري يف �أمر تلك الدعوة .وكان لها عمل غري منكور يف ُّ وتطوره .ولكنها على ذلك ال تخرج عن �أن تكون دولة عربية� ،أيدت وم ِّكنت لهم يف �أقطار الأر�ض، ورو َجت م�صالح العربَ ، �سلطان العربَّ ، فا�ستعمروها ا�ستعماراً ،وا�ستغلوا خريها ا�ستغال ًال� .ش�أن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح واال�ستعمار. «� »1أي �إال جتبرُّ امللوك بعدها� .أ�سا�س البالغة 93
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
( )4كان ذلك �أمراً مفهوم ًا للم�سلمني حينما كانوا يت�آمرون يف عمن يولونه �أمرهم .وحني قال الأن�صار للمهاجرين« :منا �أمري ال�سقيفة ّ ال�صديق ر�ضي اهلل عنه« :منا الأمراء ومنكم ومنكم �أمري» .وحني يجيبهم ِّ الوزراء» .1وحني ينادي �أبو �سفيان« :واهلل �أين لأرى عجاجة ال يطفئها �إال فيم �أبو بكر من �أموركم؟ �أين امل�ست�ضعفان؟ �أين الدم .يا �آل عبد منافَ . الأذالن؟ علي والعبا�س». علي عليه ال�سالم، وقال :يا �أبا ح�سن ،اب�سط يدك حتى �أبايعك ،ف�أبى ّ فجعل يتمثل ب�شعر املتلم�س: ولـــن يقيم على �ضيم يراد بـــه �إال الأذالن عري احلي والوتد 2 مربوط برمته وذا ي�شج فال يرثي له �أحــــــد هذا على اخل�سف ٌ وحني �سعد بن عبادة -ر�ضي اهلل عنه -يرف�ض البيعة لأبي بكر وهو يقول« :واهلل حتى �أرميكم مبا يف كنانتي من نبلي ،و�أُ َخ ِّ�ضب �سنان رحمي ،و�أ�رضبكم ب�سيفي ما ملكته يدي ،و�أقاتلكم ب�أهل بيتي ،ومن �أطاعني من قومي ،فال �أفعل وامي احلق ،لو �أن اجلن اجتمعت لكم مع الأن�س ما بايعتكم حتى �أعر�ض على ربي و�أعلم ما ح�سابي». فكان �سعد ال ي�صلي ب�صالتهم وال يجمع معهم ،ويحج وال يفي�ض معهم ب�إفا�ضتهم .فلم يزل كذلك حتى هلك �أبو بكر رحمه اهلل».3 كان معروف ًا للم�سلمني يومئذ �أنهم �إمنا يقدمون على �إقامة حكومة مدنية دنيوية .لذلك ا�ستحلوا اخلروج عليها .واخلالف لها .وهم يعلمون « »1تاريخ الطربي ج� 3ص197 « »2منه �ص 203وما بعدها « »3منه �ص210 94
�أنهم �إمنا يختلفون يف �أمر من �أمور الدنيا ،ال من �أمور الدين ،و�أنهم �إمنا يتنازعون يف �ش�أن �سيا�سي ال مي�س دينهم وال يزعزع �إميانهم. وما زعم �أبو بكر وال غريه من خا�صة القوم �أن �إمارة امل�سلمني كانت مقام ًا ديني ًا .وال �أن اخلروج عليها خروج على الدين ،و�إمنا كان يقول �أبو بكر« :يا �أيها النا�س �إمنا �أنا مثلكم ،و�إين ال �أدري ،لعلكم �ستكلفوين ما كان ر�سول اهلل � -صلى اهلل عليه و�سلم -يطيق ،و�أن اهلل ا�صطفى حممداً على العاملني ،وع�صمه من الآفات .و�إمنا �أنا متبع ول�ست مبتدع ًا».1 ولكن �أ�سباب ًا كثرية وجدت يومئذ قد �ألقت على �أبي بكر �شيئ ًا من ال�صبغة الدينية ،وخيلت لبع�ض النا�س �أنه يقوم مقام ًا ديني ًا ،ينوب فيه عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وكذلك وجد الزعم ب�أن الإمارة على امل�سلمني مركز ديني ،ونيابة عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم .و�أن من �أهم تلك الأ�سباب التي ن�ش�أ عنها ذلك الزعم بني امل�سلمني ما ُل ِّق َب به �أبو بكر من �أنه ( خليفة ر�سول اهلل).
« »1تاريخ الطربي ج� 3ص211 95
96
الباب الثالث
اخلالفة الإ�سالمية ظهور لقب (خليفة ر�سول اهلل) -املعنى احلقيقي خلالفة �أبي بكر عن الر�سول �سبب اختيار هذا اللقب -ت�سميتهم اخلوارج على �أبي بكر باملرتدين -مل يكن اخلوارج كلهم مرتدين -مانعو الزكاة -حدود �سيا�سية ال دينية -قد وجد حقيقة مرتدون � -أخالق �أبي بكر الدينية - �شيوع االعتقاد ب�أن اخلالفة مقام ديني -ترويج امللوك لذلك االعتقاد ال خالفة يف الدين.( )1مل ن�ستطع �أن نعرف على وجه �أكيد ذلك الذي اخرتع لأبي بكر ر�ضي اهلل عنه لقب خليفة ر�سول اهلل ،ولكنا عرفنا �أن �أبا بكر قد �أجازه وارت�ضاه. ووجدنا �أنه ا�ستهل به كتبه �إىل قبائل العرب املرتدة ،وعهده �إىل �أمراء اجلنود ،ولعلها �أول ما كتب �أبو بكر ،ولعلها �أول ما و�صل �إلينا حمتوي ًا على ذلك اللقب.1 ( )2ال �شك يف �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم كان زعيم ًا للعرب ومناط وحدتهم ،على الوجه الذي �رشحنا من قبل .ف�إذا قام �أبو بكر من « »1راجع تاريخ الطربي ج� 3ص227 ، 226 97
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
بعده ملك ًا على العربَ ،ج َّماع ًا لوحدتهم ،على الوجه ال�سيا�سي احلادث، فقد �ساغ يف لغة العرب �أن يقال عنه ،بهذا االعتبار ،خليفة ر�سول اهلل، ي�سوغ �أن ي�سمى خليفة ب�إطالق ،ملا عرفت يف معنى اخلالفة ،ف�أبو كما ّ بكر كان �إذن بهذا املعنى ،خليفة ر�سول اهلل ،ال معنى خلالفته غري ذلك. ( )3ولهذا اللقب روعة ،وفيه قوة ،وعليه جاذبية ،فال غرو �أن يختاره ال�صديق ،وهو الناه�ض بدولة حادثة ،يريد �أن ي�ضم �أطرافها بني �أعا�صري من الفنت ،وزوابع من الأهواء العا�صفة املتناق�ضة ،وبني قوم حديثي العهد بجاهلية ،وفيهم كثري من بقايا الع�صبية ،و�شدة البداوة، و�صعوبة املرا�س .لكنهم كانوا حديثي عهد بر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،واخل�ضوع له ،واالنقياد التام لكلمته ،فهذا اللقب جدير ب�أن يكبح من جماحهم ،ويلني بع�ض ما ا�ستع�صى من قيادهم .ولعله قد فعل. ولقد ح�سب نفر منهم �أن خالفة �أبي بكر للر�سول � -صلى اهلل عليه و�سلم -خالفة حقيقية ،بكل معناها ،فقالوا �إن �أبا بكر خليفة حممد، وكان حممد خليفة اهلل ،فذهبوا يدعون �أبا بكر خليفة اهلل ،وما كانوا يكونون خمطئني يف ذلك لو �أن خالفة ال�صديق للنبي -عليه ال�سالم كانت على املعنى الذي فهموه وال يزال يفهمه كثري غريهم �إىل الآن.ولكن �أبا بكر غ�ضب لهذا اللقب ،وقال« :ل�ست خليفة اهلل ،ولكني خليفة ر�سول اهلل».1 ( )4حمل ذلك اللقب جماعة من العرب وامل�سلمني على �أن ينقادوا لإمارة �أبي بكر انقياداً ديني ًا ،كانقيادهم لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه « »1مقدمة ابن خلدون �ص ()181 98
و�سلم ،و�أن يرعوا مقامه امللوكي مبا يجب �أن يرعوا به كل ما مي�س دينهم .لذلك كان اخلروج على �أبي بكر يف ر�أيهم خروج ًا على الدين، وارتداداً عن الإ�سالم. والراجح عندنا �أن ذلك هو من�ش�أ قولهم �إن الذين رف�ضوا �إطاعة �أبي بكر كانوا مرتدين ،وت�سميتهم حروب �أبي بكر معهم حروب الردة. ( )5ولعل جميعهم مل يكونوا يف الواقع مرتدين ،كفروا باهلل ور�سوله، بل كان فيهم من بقي على �إ�سالمه ،ولكنه رف�ض �أن ين�ضم �إىل وحدة �أبي بكر ،ل�سبب ما ،من غري �أن يرى يف ذلك حرج ًا عليه ،وال غ�ضا�ضة يف دينه .وما كان ه�ؤالء من غري �شك مرتدين ،وما كانت حماربتهم لتكون با�سم الدين .ف�إن كان وال بد من حربهم ف�إمنا هي ال�سيا�سة ،والدفاع عن وحدة العرب ،والذود عن دولتهم. وقد وجدنا �أن بع�ض من رف�ض بيعة �أبي بكر ،بعد �أن متت له البيعة من امل�سلمني ،كعلي بن �أبي طالب و�سعد بن عبادة ،مل يعاملوا معاملة املرتدين ،وال قيل ذلك عنهم. ( )6ولعل بع�ض �أولئك الذين حاربهم �أبو بكر لأنهم رف�ضوا �أن ي�ؤدوا �إليه الزكاة ،مل يكونوا يريدون بذلك �أن يرف�ضوا الدين ،و�أن يكفروا به، ولكنهم -ال غري -رف�ضوا الإذعان حلكومة �أبي بكر ،كما رف�ض غريهم من جلة امل�سلمني ،فكان بديهي ًا �أن مينعوا الزكاة عنه ،لأنهم ال يعرتفون به ،وال يخ�ضعون ل�سلطانه وحكومته. كم ن�شعر بظلمة التاريخ وظلمه ،كلما حاولنا �أن نبحث جيداً يف ما رواه لنا التاريخ عن �أولئك الذين خرجوا على �أبي بكر ،فلقبوا املرتدين، وعن حروبهم تلك التي لقبوها (حروب الردة)!. 99
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
ولكن قب�س ًا من نور احلقيقة اليزال ينبعث من بني ظلمات التاريخ، و�سيتجه العلماء يوم ًا نحو ذلك القب�س ،وع�سى �أن يجدوا على تلك النار هدى. دونك حوار خالد بن الوليد ،مع مالك بن نويرة� ،أحد �أولئك الذين ف�ضرِْبت عنقه ،ثم �أخذت ر�أ�سه بعد �سموهم مرتدين ،وهو الذي �أمر خالد َ َّ 1 ُ ِ ذلك فجعلت �أثفية ِبق ْدر. يعلن مالك ،يف �رصاحة وا�ضحة� ،إىل خالد �أنه ال يزال على الإ�سالم، ولكنه ال ي�ؤدي الزكاة �إىل �صاحب خالد ( �أبي بكر). كان ذلك �إذن نزاع ًا غري ديني .كان نزاع ًا بني مالك ،امل�سلم الثابت على دينه ولكنه من متيم ،وبني �أبي بكر القر�شي ،الناه�ض بدولة عربية �أئمتها من قري�ش ،كان نزاع ًا يف ملوكية ملك ،ال يف قواعد دين ،وال يف �أ�صول �إميان. لي�س مالك هو وحده الذي ي�شهد لنف�سه بالإ�سالم ،بل ي�شهد له به �أي�ض ًا عمر بن اخلطاب� ،إذ يقول لأبي بكر�« :إن خالداً قتل م�سلم ًا فاقتله» بل ي�شهد له بالإ�سالم �أي�ض ًا �أبو بكر �إذ يجيب« :ما كنت �أقتله ،ف�إنه ت� َّأو َل ف�أخط�أ».2 ودونك مثا ًال �آخر ،قول �شاعر منهم: �أطعنا ر�سول اهلل ما كان بيننا فيا لعباد اهلل مـــــــــــا لأبي بكر؟ �أيورثنا بكراً �إذا مـــــات بعده؟ وتلك -لعمر اهلل -قا�صمة الظهر «»1تو�ضع القدر عند ما توقد عليها النار للطبخ فوق حجرين متقابلني .ومن خلفهما حجر ثالث ،ف�إذا مل يجدوا حجراً ثالث ًا �أ�سندوا القدر �إىل اجلبل ،والأُث ِفية ب�ضم الهمزة وك�رسها وك�رس الفاء احلجر تو�ضع عليه القدر واجلمع �أثايف و�أثاف .ورماه اهلل بثالثة الأثايف �أي باجلبل.« »2راجع ذلك احلديث يف اجلزء الأول من تاريخ �أبي الفداء من 158-157 « »3هو اخلطيل بن �أو�س �أخو احل�صني بن �أو�س .تاريخ الطربي ج� 3ص.223 100
ف�أنت ال جتد يف هذا �إال رج ًال ثائراً على �أبي بكر ،منكراً لواليته، راف�ض ًا لطاعته� ،آبي ًا لبيعته ولكنه يف الوقت نف�سه ي�ؤمن بر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وال يعلن �إباءه ل�شيء من الإ�سالم. ثم �أل�سنا نقر�أ يف التاريخ �أي�ض ًا� ،أن عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه قد �أنكر على �أبي بكر قتاله املرتدين وقال ( :كيف تقاتل النا�س وقد قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم� ،أمرت �أن اقاتل النا�س حتى يقولوا ال اله اال اهلل ،فمن قالها ع�صم مني ماله ونف�سه �إال بحقه ،وح�سابه على اهلل1؟). ذلك قليل مما بقي يف الأخبار من �صدق كان يعفي التاريخ على �أثره ،ومن حق كاد يذهب بخربه ،وابحث َف َث َّم مزيد. �سموه حرب املرتدين ( )7ل�سنا نرتدد حلظة يف القطع ب�أن كثرياً مما َّ يف الأيام الأوىل من خالفة �أبي بكر مل يكن حرب ًا دينية ،و�إمنا كان حرب ًا �سيا�سية �رصفة ،ح�سبها العامة دين ًا ،وما كانت كلها للدين. لي�س من عملنا يف هذا املقام �أن نبني لك تلك الأ�سباب احلقيقية، التي كانت يف الواقع مثاراً لكثري من حرب الردة ،وال ن�ستطيع �أن ندعي ا�ضطالعنا بهذا البحث� ،إن نحن حاولناه .ولكن يخيل �إلينا �أنك قد تظفر ببع�ض الأ�سباب الأ�سا�سية املهمة �إذا �أنت دققت النظر يف �أن�ساب وقبائل الثائرين على �أبي بكر ،وعرفت �صلتهم من قري�ش ،جد البيت القائم بامللك ،و�إذا �أنت فطنت �إىل �سنن اهلل تعاىل يف الدول النا�شئة، والع�صبيات املتغلبة على امللك ،وكنت مع ذلك ب�صرياً بطبائع العرب و�آدابهم ،ثم رزقت التوفيق. (« )1البخاري» ج� 2ص105 101
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
( )8نحن منيل �إىل االعتقاد ب�أنه قد ارتد بالفعل جماعة من امل�سلمني، بعد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم .فذلك �شيء تكاد تق�ضي به �سنن الطبيعة و�أنظمتها التي عرفنا .و�أ�سهل من ذلك نعتقد ب�أنه قد ادعى النبوة ،يف حياة حممد � -صلى اهلل عليه و�سلم -وبعد وفاته ،متنبئون كذابون ،وقد نرى يف م�شاهداتنا �أن دعوى النبوة لي�ست بعيدة من ذهن امل�ضلل الغوي� ،إذا هو لقي من العامة اجنذاب ًا ،و�أغوى منهم �صحاب ًا و�أحباب ًا ،وال �شيء �أ�سهل عند العامة من الإميان بنبوة ذلك الغوي� ،إذا هو عرف كيف يغريهم بال�ضالل ،وميدهم يف الغي ،لذلك نرجح �أنه قد وجد بالفعل ،يف �أول عهد �أبي بكر ،جماعة ارتدوا عن الإ�سالم ،بوفاة النبي عليه ال�سالم وجد من ادعى النبوة يف قبائل العرب. وقد كان من �أول ما عمل �أبو بكر نهو�ضه حلرب �أولئك املرتدين احلقيقيني ،واملتنبئني الكذابني حتى غلبهم وق�ضى على باطلهم. ال نريد البحث يف ما �إذا كانت لأبي بكر �صفة دينية �رصفة جعلته م�س�ؤو ًال عن �أمر من يريد الإ�سالم �أم ال ،وال نريد البحث فيما �إذا كانت ثمة �أ�سباب غري دينية حفزت لتلك احلرب عزمية �أبي بكر �أم ال. ومهما يكن الأمر فال �شك �أن �أبا بكر قد بد�أ عمله يف الدولة اجلديدة بحرب �أولئك املرتدين ،وهنا ن�ش�أ لقب املرتدين ،ن�ش�أ لقب ًا حقيقي ًا، ملرتدين حقيقيني ،ثم بقي لقب ًا لكل من حاربهم �أبو بكر من العرب بعد ذلك� ،سواء �أكانوا خ�صوم ًا دينيني ومرتدين حقيقة� ،أم كانوا خ�صوم ًا �سيا�سيني غري مرتدين ،ومن �أجل ذلك انطبعت حروب �أبي بكر يف جملتها بطابع الدين ،ودخلت حتت ا�سم الإ�سالم و�شعاره ،وكان االن�ضمام �إىل �أبي بكر دخو ًال حتت لواء الإ�سالم ،واخلروج عليه ردة وف�سوق ًا.
102
( )9رمبا كانت ثمة ظروف �أخرى خا�صة ب�أبي بكر ،قد �ساعدت على خط�أ العامة ،و�سهلت عليهم �أن ُي�رشِبوا �إمارة �أبي بكر معنى ديني ًا. فقد كانت لل�صديق ر�ضي اهلل عنه منزلة رفيعة ممتازة عند ر�سول كر يف الدعوة الدينية ممتاز وكذلك كانت اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،و ِذ ٌ منزلته عند امل�سلمني. وقد كان ال�صديق مع هذا يحذو حذو الر�سول ،ومي�شي على قدميه، يف خا�صة نف�سه ،ويف عامة �أموره ،وال�شك يف �أن ذلك كان �ش�أنه �أي�ض ًا يف �سيا�سة �أمر الدولة ،فقد �سار بها ،مبلغ جهده ،يف طريق ديني ،ونهج بها ،على القدر املمكن ،منهج ر�سول اهلل ،فال غرو �أن �أفا�ض �أبو بكر على مركزه يف الدولة اجلديدة ،التي كان هو �أول ملك عليها ،كل ما ميكن من مظاهر الدين. ( )10تبني لك من هذا �أن ذلك اللقب «خليفة ر�سول اهلل» مع ما �أحاط به من االعتبارات التي �أ�رشنا �إىل بع�ضها ومل ن�رش �إىل باقيها ،كان �سبب ًا من �أ�سباب اخلط�أ الذي ت�رسب �إىل عامة امل�سلمني ،فخيل لهم �أن اخلالفة مركز ديني ،و�أن من ويل �أمر امل�سلمني فقد حل منهم يف املقام الذي كان يحله ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم. وكذلك ف�شا بني امل�سلمني منذ ال�صدر الأول ،الزعم ب�أن اخلالفة مقام ديني ،ونيابة عن �صاحب ال�رشيعة عليه ال�سالم. يروجوا ذلك اخلط�أ بني النا�س، ( )11كان من م�صلحة ال�سالطني �أن ِّ حتى يتخذوا من الدين دروع ًا حتمي عرو�شهم ،وتذود اخلارجني عليهم، ومازالوا يعملون على ذلك ،من طرق �شتى -وما �أكرث تلك الطرق لو تنبه لها الباحثون -حتى �أفهموا النا�س �أن طاعة الأئمة من طاعة 103
الإ�سالم و�أ�صول احلكم
اهلل ،وع�صيانهم من ع�صيان اهلل ،ثم ما كان اخللفاء ليكتفوا بذلك، وال لري�ضوا مبا ر�ضي �أبو بكر ،وال ليغ�ضبوا مما غ�ضب منه ،بل جعلوا ال�سلطان خليفة هلل يف �أر�ضه ،وظ ّله املمدود على عباده� ،سبحان اهلل وتعاىل عما ي�رشكون. ثم �إذا اخلالفة قد �أ�صبحت تل�صق باملباحث الدينية ،و�صارت جزءاً من عقائد التوحيد ،يدر�سه امل�سلم مع �صفات اهلل تعاىل و�صفات ر�سله وي َل َّقنه كما ُي َل َّقن �شهادة �أن ال �إله اال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل. الكرامُ ، تلك جناية امللوك وا�ستبدادهم بامل�سلمني� ،أ�ضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه احلق ،وحجبوا عنهم م�سالك النور با�سم الدين، وبا�سم الدين �أي�ض ًا ا�ستبدوا بهم ،و�أذلوهم ،وحرموا عليهم النظر يف علوم ال�سيا�سة ،وب�إ�سم الدين خدعوهم و�ضيقوا على عقولهم ،ف�صاروا ال يرون لهم وراء ذلك الدين مرجع ًا ،حتى يف م�سائل الإدارة ال�رصفة ،وال�سيا�سة اخلال�صة. ذلك وقد �ضيقوا عليهم �أي�ض ًا يف فهم الدين ،وحجروا عليهم يف دوائر عيونها لهم ثم حرموا عليهم كل �أبواب العلم التي مت�س حظائر اخلالفة. كل ذلك انتهى مبوت قوى البحث ،ون�شاط الفكر بني امل�سلمني ،ف�أ�صيبوا ب�شلل يف التفكري ال�سيا�سي ،والنظر يف كل ما يت�صل ب�ش�أن اخلالفة واخللفاء. ( )12واحلق �أن الدين الإ�سالمي بريء من تلك اخلالفة التي يتعارفها امل�سلمون وبريء من كل ما هي�أوا حولها من رغبة ورهبة ،ومن عز وقوة .واخلالفة لي�ست يف �شيء من اخلطط الدينية ،كال وال الق�ضاء وال غريهما من وظائف احلكم ومراكز الدولة .وامنا تلك كلها خطط �سيا�سية �رصفة ،ال �ش�أن للدين بها ،فهو مل يعرفها ومل ينكرها ،وال �أمر بها وال 104
نهى عنها ،و�إمنا تركها لنا ،لرنجع فيها �إىل �إحكام العقل ،وجتارب الأمم وقواعد ال�سيا�سة. كما �أن تدبري اجليو�ش الإ�سالمية ،وعمارة املدن والثغور ،ونظام الدواوين ال �ش�أن للدين بها ،و�إمنا يرجع الأمر فيها �إىل العقل والتجريب، �أو �إىل قواعد احلروب �أو هند�سة املباين و�آراء العارفني. ال �شيء يف الدين مينع امل�سلمني �أن ي�سابقوا الأمم الأخرى ،يف علوم االجتماع وال�سيا�سة كلها ،و�أن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له وا�ستكانوا �إليه ،و�أن يبنوا قواعد ملكهم ،ونظام حكومتهم ،على �أحدث ما �أنتجت العقول الب�رشية ،و�أمنت ما دلت جتارب الأمم على �أنه خري �أ�صول احلكم. واحلمد هلل الذي هدانا لهذا ،وما كنا لنهتدي لوال �أن هدانا اهلل ،و�صلى اهلل على حممد و�آله و�صحبه ومن وااله.
105
106
نقد علمي
لكتاب (الإ�سالم و�أ�صول احلكم) بقلم العلمة اجلليل الأ�ستاذ اَّ ال�سيد حممد الطاهر بن عا�شور ّ مفتي املالكية بالديار التون�سية
�صدرت الطبعة الأوىل من هذا البحث عن املطبعة ال�سلفية ومكتبتها -القاهرة 1344
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم احلمد هلل وحده ،و�صلى اهلل على �سيدنا حممد و�آله و�صحبه و�سلم، �أحتفني بع�ض الأبناء الأعزاء يف خالل الراحة ال�صيفية بكتاب عنوانه الإ�سالم و�أ�صول احلكم� .ألفه ال�شيخ علي عبدالرازق امل�رصي من علماء الأزهر وق�ضاة املحاكم ال�رشعية .ف�رسين �أفراد هذا البحث بالت�أليف، وقلت :هذا بلبل امل�صيف ،قد ا�ستقر على فنن مورق وح�صيف .و�صادف مني فراغ ًا من ال�شواغل� ،أعانني على ا�ستق�صاء مطالعته يف ليال قالئل. فلم �أعتم ،حني عجمت عوده وتو�سمت حتليق طائره يف �أوج املعارف و�صعوده� ،أن تبينت يف الأمرين لين ًا وا�ضطرابا ،حتى خ�شيت �أن يبدل الفنن خمطة وبلبله غرابا .وكنت يف �أثناء تلك املطالعة تعر�ض يل خواطر نقد ف�أطلقها عن التقييد و�أرجىء ذلك لفر�صة من بعد� .إىل �أن أنبه على مبره .ثم بدا يل بعد ذلك �أن � ّ غره ،واختالط حلوه ِّ طويته على ِّ ما الح من النقود ،خيفة �أن تتلقفه طلبة العلم كد�أب النا�س يف تل ُّقف اجلديد ،فتقع من �أذهانهم موقع ال�صد�أ من خال�ص احلديد. وكنت �أود �أن �أب�سط القول يف حتقيق ما وقع فيه من م�س�ألة خمتلطة �أو �شبهة متبعة .ولكن ملا �أ�صبح الوقت باملهم م�شغوال ،فقد اكتفيت عن من املالحظات و�أوجز قوال. بالإملام مبا َّ ال�سيد حممد الطاهر بن عا�شور ّ تون�س -ربيع الأنور� -سنة 1344
3
قال امل�ؤلف:
الكتاب الأول -اخلالفة والإ�سالم «الباب الأول -اخلالفة وطبيعتها»
ذكر يف �صحيفة � 7أنهم مل يبنوا م�صدر القوة التي للخليفة ،و�أنه ا�ستقر�أ من عبارات القوم �أن للم�سلمني يف ذلك مذهبني :منهم من يرى �أن اخلليفة ي�ستمد قوته من قوة اهلل تعاىل ،ومنهم من يرى �أن م�صدر قوته هي الأمة .وهذا الكالم الذي �أطال به هنا بعيد عن التحقيق ا�شتبه عليه فيه احلقيقة باملجاز واحلقائق العلمية باملعاين ال�شعرية واملبالغات يف املدح والغلو فيه فجعل م�ستنده يف �إثبات املذهب الأول نحو قولهم للخليفة ظل اهلل يف الأر�ض ونحوه من الأبيات التي ذكرها وديباجات الت�آليف التي �رسدها .هذا ومل يقل �أحد من علماء الإ�سالم �أن اخلليفة ي�ستمد قوته من اهلل تعاىل ،و�إمنا �أطبقت كلمتهم على �أن اخلالفة ال تنعقد �إال ب�أحد �أمرين� :إما البيعة من �أهل احلل والعقد من الأمة ،و�إما بالعهد ممن بايعته الأمة ملن يراه �صاحل ًا .وال يخفى �أن كال الطريقني 5
نقد علمي
راجع للأمة لأن وكيل الوكيل وكيل ،ف�إذا بويع فقد وجب له ما جعله حدد اهلل من احلقوق التي هي القوة املبينة يف �رشع اهلل تعاىل لأن اهلل َّ قوة اخلليفة وجعلها خلدمة م�صلحة الأمة ،وجعل اختيار ويل �أمرها بيد الأمة ومل يقل �أحد �إنه ي�ستمد من اهلل تعاىل بوحي وال بات�صال روحاين وال بع�صمة .وال خالف �أن حكم اخلليفة حكم الوكيل �إال يف امتناع العزل بدون �سبب من الأ�سباب املبينة يف موا�ضعها من كتب الفقه و�أ�صول الدين. ثم نظر يف �صحيفة 11بني اختالف امل�سلمني (املوهوم) وبني اختالف الأورباويني .وهو تنظري لي�س مب�ستقيم.
«الباب الثاين -يف حكم اخلالفة» �أطال امل�ؤلف يف هذا الباب الرتديد والت�شكيك يف �أن الكتاب وال�س َّنة ال دليل فيهما على وجوب ن�صب اخلليفة ثم �أف�صح عن ذلك يف �صحائف ،15-14-13ف�إن كان ينحو بذلك �إىل مذهب اخلوارج من �إنكار وجوب الأمراء فليذكر �أن الأدلة ال�رشعية غري منح�رصة يف الكتاب وال�سنة ف�إن الإجماع والتواتر وتظاهر ال�رشعية هي دالئل قاطعة تربو على داللة الكتاب وال�سنة �إذا كانت ظنية ،وقد تواتر بعث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم الأمراء والق�ضاء للبلدان النائية ،و�أمر بال�سمع والطاعة بل و�أمر القر�آن بذلك �أي�ض ًا فح�صل من جمموع ذلك ما �أوجب �إجماع الأمة من عهد ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم على �إقامة اخلليفة بعد وفاة ر�سول اهلل � -صلى اهلل عليه و�سلم -فبايعوا �أبا بكر ر�ضي اهلل عنه و�أطاعته امل�سلمون يف �سائر الأقطار ومل ينكر بيعته �أحد و�إمنا خرج من خرج �إما لالرتداد عن الدين و�إما ملنع دفع الزكاة ومل يغفل علماء الإ�سالم عن هاته الأدلة.. و�إمنا الغفلة ملن غفل عن خطة ال�سعد يف كتاب املقا�صد ف�إنه كغريه من 6
علماء الكالم ب�صدد �إثبات الأدلة القطعية املقنعة يف الرد على اخلوارج و�إ�رضابهم ،والأحاديث الواردة يف هذا ال�ش�أن ال داللة يف �آحادها على ذلك لأن كل دليل منها فيه احتمال قد مينع اخل�صم ب�سببه اال�ستدالل به عند املناظرة ،ولهذا �أدرج علماء الكالم م�س�ألة اخلالفة يف امل�سائل االعتقادية ت�ساحم ًا مل�شابهتها مب�سائل االعتقاد يف قطعية الأدلة ويف بينوه يف كتبهم وقد �أف�صح عن ذلك ترتيب ال�رضر علىالغلط فيها كما َّ �إمام احلرمني رحمه اهلل �إذ قال يف كتاب الإر�شاد« :الكالم يف الإمامة لي�س من �أ�صول االعتقاد ،واخلطر على من يزل فيه يربى على اخلطر على من يجهل �أ�ص ًال من �أ�صول الدين ،ويعتوره نوعان حمظوران عند ذوي وتعدي حد احلق ،والثاين عد احلجاج� :أحدهما ميل كل فئة �إىل التع�صب ِّ املحتمالت التي ال جمال للقطع فيها من القطعيات ا هـ » فلما تطلبوا الأدلة القطعية وجدوها يف الإجماع واملراد من الإجماع �أعلى مراتبه، وهو �إجماع الأمة من الع�رص الأول ا�ستناداً للأدلة القاطعة القائمة مقام التواتر وهو يف احلقيقة مظهر من مظاهر التواتر املعنوي ،و�أي دليل على اعتبارهم اخلالفة من قواعد الدين �أعظم من اتفاق ال�صحابة عليه وهرعهم يوم وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل ذلك من غري خمالف على �أن القر�آن قد �رشَّ ع �أحكام ًا كثرية لي�ست من الأفعال التي يقوم بها الواحد ،فتعني �أن املخاطب بها والة الأمور نحو قوله« :ف�أ�صلحوا بينهما ف�إن بغت �إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي» .ونحو قوله: «فابعثوا حكم ًا من �أهله وحكم ًا من �أهلها» وقوله« :وال ت�ؤتوا ال�سفهاء �أموالكم» �إلخ. املعب وهذا النوع من الإجماع هو الذي ثبتت به قواطع ال�رشعية رَّ عنها باملعلومات �رضورة .ولو اقت�رصنا على مفردات �آيات القر�آن وال�سنة ملا ثبتت املعلومات ال�رضورية من الدين �إال نادراً لأن معظم تلك الأدلة بانفراده ال تعدو الداللة الظنية كما هو مقرر يف الأ�صول 7
نقد علمي
عند الكالم على الفرق بني كون املنت قطعي ًا وكون الداللة قطعية ،فقول امل�ؤلف يف �صحيفة « :16ولو وجدوا لهم يف احلديث دلي ًال لقدموه يف اال�ستدالل على الإجماع» كالم يتعجب من �صدوره عن ممار�س لعلوم ال�رشيعة حتى يعتقد �أن داللة �أخبار الآحاد �أقوى من دالله الإجماع على �أنهم كيف يتحاجون لال�ستدالل مع عدم االختالف ومل يعرف خالف �أحد من امل�سلمني يف وجوب ن�صب الإمام �إال مارمز �إليه احلرورية يوم التحكيم بعد وقعة �صفني �إذ قالوا ملا �سمعوا التحكيم «ال حكم �إال هلل» كلمة مموهة جمملة فقال علي ر�ضي اهلل عنه حني �سمعها« :كلمة حق �أريد بها باطل» ولهذا اقت�رص �إمام احلرمني يف الإر�شاد على داللة الإجماع يف �أمر الإمامة فقال« :ومما ترتتب عليه الإمامة القطع ب�صحة الإجماع وهذا ال مطمع يف تقريره ههنا .ولكنا نع�ضد هذا املعتقد بقاطع يف �صحة الإجماع ،فنقول� :إذا �أجمع علماء الع�رص على حكم �رشعي وقطعوا به فال يخلو ذلك احلكم �إما �أن يكون مظنون ًا ال يتو�صل �إىل العلم به و�إما �أن يكون مقطوع ًا به على ح�سب اتفاقهم .ف�إن كان مقطوع ًا به فهو املق�صود و�إن كان مظنون ًا في�ستحيل يف م�ستقر العادة �أن يح�سب العاملون بطرق الظنون والعلوم الظن علم ًا مطبقني عليه من غري �أن يختلج لطائفة �شك �أو يخامرهم ريب .وتقرير ذلك خرق للعادة ا هـ». و�أعجب من هذا �أن امل�ؤلف حاول يف �صحائف �19-18-17أن يجيب عن الأحاديث التي ا�ستدل بها العلماء على وجوب ن�صب الإمام مبا حا�صله بعد نخله� :إن ذكر القر�آن لطاعة �أولياء الأمور وذكر الأحاديث للخالفة �أو الإمامة �أو ال�سمع والطاعة -وقال بعد �أن �شك يف �صحة ما هو معلوم ال�صحة منها � :-إن معنى ذلك �أنه ان وقع ذلك وقدره اهلل ف�إننا نقابله مبا �أمرنا به ال على معنى �إنا ملزمون ب�إيجاد ذلك .ثم نظره ملا حكته الأناجيل �أن �أعط ما لقي�رص لقي�رص وما هلل هلل ،فما دل ذلك على �أن حكومة قي�رص من �رشيعة اهلل .قال علي �إننا �أمرنا بطاعة البغاة 8
والع�صاة فما كان ذلك لي ًال على م�رشوعية البغي �إلخ ،وهذا الكالم �ضغث من �أغالط وكان للناظر اللبيب غنى عن التوقيف على ما فيه ومالك ذلك �أن الأوامر النبوية دالئل على م�رشوعية اخلالفة �إذ النبي ال ي�أمر باملنكر وال ي�ؤيد �أمراً غري معترب �رشع ًا ،وقد احتج الفقهاء يف الإ�سالم بدالالت الألفاظ النبوية حتى بداللة الإ�شارة وحتى مبا ي�رضب فيها من الأمثال وتنظريه مبا يف الإجنيل خروج عن جادة القيل .وقوله �إنا �أمرنا بطاعة البغاة كالم باطل بل قد �أمرنا ب�أن ال نطيع يف منكر و�إمنا �أمرنا بطاعة والة الأمور الع�صاة �إذا كان ع�صيانهم متلب�س ًا بذواتهم ال ب�أوامرهم .على �أن يف هذا خالف ًا قدمي ًا بني علماء الأمة فال ميكن جعله �أ�ص ًال ي�ستنبط منه.
الباب الثالث «يف اخلالفة -من الوجهة االجتماعية» قال يف �صحيفة «: 22ن�سلِّم �أن الإجماع حجة �رشعية ،وال نثري خالف ًا مع املخالفني �إلخ» وع َّلق عليه يف احلا�شية �أنه ينظر �إىل خمالفة والنظام و�أ�رضابهم ،وهذا توهم بينِّ لأن الإجماع املختلف فيه الرواف�ض ّ هو �إجماع املجتهدين على�أمر اجتهادي .على�أن املخالفني فيه ال ُيع َت ُّد بخالفهم لأنهم طائفة قليلة �ضعيفة العلم من بني طوائف الإ�سالم .غري �أننا ال حاجة بنا �إىل اخلو�ض يف هذا الغر�ض لأن الإجماع الذي ثبتت به م�رشوعية الإمامة العظمى هو الإجماع املنعقد عن دليل �رضوري من يعبون عنه تارة بالإجماع وتارة باملعلوم �رضورة. ال�رشع وهو الذي رِّ وقد تقدم من كالم �إمام احلرمني ما ير�شد لذلك �إذ قال�« :إذا �أجمع علماء الع�رص على حكم �رشعي وقطعوا به� »..إىل �آخر ما تقدم. وقال امل�ؤلف يف �صحيفة � 23إن مقام اخلالفة كان منذ اخلليفة 9
نقد علمي
الأول عر�ضة للخارجني عليه املنكرين له �إلخ وهو كالم يزيفه التاريخ واحلديث والفقه :ف�إن بيعة �أبي بكر مل ينكرها �أحد من امل�سلمني وال دعا داع ملنازعته ،ولكن خرجت طوائف من العرب منهم من خرج من جامعة الإ�سالم وهذا ال حجة فيه ،ومنهم من منع حق الزكاة ور�أى �أن ذلك من حقوق النبي � -صلى اهلل عليه و�سلم -فقط فما خرجوا املنازعة يف الوالية ،وح�سبك ما ثبت يف ال�صحيح �أن عمر قال لأبي بكر ر�ضي اهلل عنهما ملا عزم على قتالهم :كيف تقاتلهم وقد قالوا ال �إله �إال اهلل حممد ر�سول اهلل؟ فقال �أبو بكر :واهلل لو منعوين عقا ًال كانوا ي�ؤدونه �إىل ر�سول اهلل لقاتلتهم عليه ،وبعد ،فهل يف فعل اجلفاة من الأعراب حجة دينية و�إثبات حال م�س�ألة اجتماعية؟ دام خ�ضوع امل�سلمني للخليفة مدة اخللفاء الثالثة حتى خرج �أهل م�رص على عثمان ر�ضي اهلل عنه ولي�س ذلك اخلروج �إنكاراً للخالفة ،ولكنه خروج عن �شخ�ص اخلليفة على �أن ذلك لي�س من فعل من يعتد بفعله من �أهل العلم وذوي احلل والعقد. ف�إن كان امل�ؤلف يحوم بهذا التحليق حول الوقوع على مذهب طوائف من اخلوارج كما �أر�سى عليه يف �صحيفة 23فقد ظهر مطاره وعلم مقداره .وقال يف �صحيفة « :25غري �أننا �إذا رجعنا �إىل الواقع ونف�س الأمر وجدنا اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على �أ�سا�س القوة الرهيبة �إلخ» ،وقد ا�شتبه عليه هنا حياطة اخلالفة بالقوة العامة لتنفيذ ال�رشيعة على من ي�أباها ب�أخذ اخلالفة بوا�سطة القوة ،وقد كان الر�سول نف�سه ي�ؤيد الدين ويذب عنه من يريد مناو�أته بوا�سطة القوة .نعم نحن ال ننكر �أن من الأمراء من ا�ستعمل القوة لنوال االمارة �إال �أن ذلك ال يقدح يف ماهية اخلالفة لأن العوار�ض التي تعر�ض لل�شيء يف بع�ض الأوقات ال تق�ضي على الأ�صل بالبطالن. ثم �أفا�ض القول من �صحيفة � 27إىل �صحيفة 31بيان �أن �سبب �إباية امل�سلمني من �إقامة اخلليفة � -إال �إذا قهرهم وغلبهم � -أن ذلك نا�شئ 10
عودتهم تعاليم الإ�سالم من فكرة الإخاء وامل�ساواة وترك اخل�ضوع عما َّ لغري اهلل ،و�أيد ذلك مبا حدث من التغالب على الإماراة يف بع�ض وقائع التاريخ الإ�سالمي فك�أنه ينزع بذلك �إىل �أن دين الإ�سالم بث يف متابعيه مبادىء الفو�ضى ،و�أنه ال تعقل خالفة عادلة (يف نظره) �إال �إذا كان مت�شه �صاحبها مغلول اليدين ميتثل لكل خارج ،ويغ�ض النظر عن كل ٍّ وال يذب عن اجلامعة من يعتدي عليها .ثم عاد يف �صحيفة 31و�صحيفة � 32إىل �إبطال انعقاد الإجماع يف الإ�سالم على اخلالفة مبا ي�ؤول �إىل �أن �سكوتهم �إمنا كان عن تقية وخوف وهي قولة لبع�ض الرواف�ض يف اعتذارهم عن �سكوت علي -ر�ضي اهلل عنه ،و�أمثاله للخلفاء الثالثة قبله و�سخافتها ظاهرة. lll
هذا حا�صل ما يتعلق بالرد على موا�ضع الزلل من كالم م�ؤلف الإ�سالم و�أ�صول احلكم يف الكتاب الأول منه ،وقد تعني �أن نذكر الآن خال�صة جتمع ف�صل املقال يف هاته الردود وننبه �إىل ما وقع له من الأغالط يف �صحائف 38-37-36-35-34-33فنقول: �إن اخلالفة الإ�سالمية التي م�سماها ما حددها به الإمام الرازي يف النهاية بقوله« :هي خالفة �شخ�ص للر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يف �إقامة ال�رشع وحفظ امللة على وجه يوجب اتباعه على كافة النا�س» ،هي عبارة عن حكومة الأمة الإ�سالمية ،وهي والية �رضورية حلفظ اجلامعة و�إقامة دولة الإ�سالم على �أ�صلها .ومما يجب علمه هنا �أن الإ�سالم دين مع�ضد بالدولة و�أن دولته يف �ضمنه لأن امتزاج الدين بالدولة -كون مرجعهما واحد -هو مالك قوام الدين ودوامه ومنتهى �سعادة الب�رش يف اتباعه حتى ال يحتاج الدين -الذي هو م�صلح الب�رش -يف ت�أييده �إىل الوقوف ب�أبواب غري بابه .واخلالفة فهذا املعنى احلقيقي لي�ست لقب ًا يعطى لكبري وال طريق ًا روحاني ًا يو�صل الروح �إىل عامل امللكوت� ،أو يربط 11
نقد علمي
النفو�س يف الدين ب�أ�سالك نورانية بل هي خطة حقيقية جتمع الأمة الإ�سالمية حتت وقايتها بتدبري م�صاحلها وال َّذ ّب عن حوزتها. و�إن اخلالفة بهذا املعنى ظهرت يف �صدر الإ�سالم يف �أجلى مظاهرها، ثم �أخذت تت�ضاءل من عهد اخلليفة الرابع ،فلم تزل يف ت�ضا�ؤل وتراجع ومر�ض و�سالمة �إىل �أوا�سط الدولة العبا�سية� ،إذ ا�ستمر خروج اخلارجني حتى بلغت �إىل حد �صارت به بقية ا�سم يورث ولي�س ل�صاحبها من احلظ كما قال ابن اخلطيب يف رقم احللل:من كل حمجوب عن الأمر بري �إال الدعاء فوق عود املنرب �سوغته عالقة اعتبار ف�صاراللقب يومئذ جمازاً ال حقيقة� ،إال �أنه جماز َّ ما كان ،ولو �أريد �إعطا�ؤه من �أول الأمر على تلك احلالة ملا كان� .إذ كيف مينح هذا اللقب ملن يكون حاله بعد منحه كحاله قبله؟ وماذا ي�ستطيع �أن يفعل �إذا كان �أعزل عن كل قوة؟ وهل ي�ستطيع بالألقاب اللفظية �أن الهوة؟ وكيف يطمع يف ذلك من ال يدفع عن نف�سه ،وال يكون ي�ساب من َّ غده �أف�ضل من �أم�سه؟ فلي�س �إيجاد هذا املن�صب ال�سامي من باب �إيجاد املوهوم كما حتاوله جميعات اخلالفة اليوم وال �أح�سب هذا ي�شتبه على من له حظ من العلوم.
12
الكتاب الثاين -احلكومة والإ�سالم «الباب الثاين -الر�سالة واحلكم»
تكلم يف �صحائف 52-51-50-49-48على �أن النبي � -صلى اهلل عليه و�سلم -هل ثبت له و�صف امللك مع و�صف الر�سالة؟ وهل يف هذا البحث حرج؟ وهل َو�صف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بامللك �أو عدم وفرق بني و�صفه به مي�س جوهر الإ�سالم� ،أو مي�س بالباحث يف ذلك؟ َّ مفهوم الر�سالة ومفهوم امللك ،و�أثبت �أن بع�ض الر�سل مل يكونوا ملوك ًا �إلخ .وكل ذلك م�سلم ال نزاع فيه .و�إننا �إن نظرنا �إىل امل�سميات فال منافاة وم�سمى الر�سالة �إذ امللك عبارة عن تويل �أحد لأمر م�سمى امللك ّ بني ّ �أمة يتوىل �ش�ؤونها و�سيا�ستها وتنفيذ �رشيعتها بالرغبة والرهبة ،وذلك مما ينفذ مقا�صد الر�سالة ،ويكمل خطتها كما �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من �أن تعا�ضد الدين والدولة واجتماعهما يف جهة واحدة �أجلى مظاهر الدين م�سمى امللكية لر�سول �أو نبي، و�أن�سب ب�رشفه االلهي ،فال ما نع من ثبوت ّ وقد حكى القر�آن عن �سليمان -عليه ال�سالم -قوله« :وهب يل ملك ًا ال 13
نقد علمي
ينبغي لأحد من بعدي» .غري �أن لفظ امللك ملا علق به منذ الأزمنة القدمية من عوار�ض اجلربوت والرتف واللهو عن احلقيقة وال�شغل بال�سفا�سف وا�ستخدام القوة يف الظلم واالعتداء والف�ساد يف الأر�ض �صارت هاته الأو�صاف وتوابعها ت�سبق للأذهان عند �سماع لفظ ملك وملك ،فلأجل ذلك ِ حتا�شي النا�س عن و�صف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بامللك �أو بكونه ملك ًا وي�شهد لهذا ما وقع لأبي �سفيان مع العبا�س بن عبداملطلب يوم ا�سلم �أبو�سفيان قبيل يوم فتح مكة ،ثم وقف مع العبا�س ي�شاهد متر بني يديه وهو ي�س�أل العبا�س عن كل كتائب جي�ش الفتح املبارك ُّ يعرفه قبائلها ،فلما بهره ذلك امل�شهد قال للعبا�س «قد كتيبة والعبا�س ِّ �أ�صبح ملك �أخيك عظيم ًا» ف�أنكر عليه العبا�س قوله «ملك» وقال له� :إمنا هي ر�سالة ال ملك ،وقد كنت ا�سمع من رجل عظيم من �أهل العلم وال�سيا�سة يعد قد�س اهلل روحه ينكر على ابن خلدون حتوميه يف موا�ضع حول �أن ّ ع�رص النبوة ع�رصاً ملكي ًا ،ويعلل �إنكاره ب�أن و�صف النبوة �أعظم و�أ�شمل من و�صف ر�سخت له يف نفو�س النا�س عوار�ض غري حممودة �صارت كاللوازم له. lll
ثم قال يف �صحائف � :54-53-52إن دعوة الدين دعوة �إىل اهلل بتحريك القلوب بو�سائل الإقناع ف�أما القوة والإكراه فال ينا�سبان دعوة غر�ضها هداية القلوب ،وما عرفنا يف تاريخ الر�سل رج ًال حمل النا�س على الإميان بحد ال�سيف :ثم تال �آية الإكراه يف الدين وغريها وقال: و�إذا كان �صلى اهلل عليه و�سلم قد جل�أ �إىل القوة فذلك ال يكون يف �سبيل الدعوة �إىل الدين ،وما نفهم �إال �أنه كان يف �سبيل امللك ولتكوين احلكومة �رس اجلهاد ومثله الزكاة واجلزية والغنائم ،فذلك الإ�سالمية ،فذلك هو ّ خارج عن وظيفة الر�سالة من حيث هي وبعيد عن عمل الر�سل ،وكذلك توجيه الأمراء �إلخ. 14
وهنا قد ارتكب امل�ؤلف �رضوب ًا من اخلط�أ ف�أما زعمه �أن الدعوة �إىل الدين تنايف ا�ستعمال القوة والإكراه فمردود ،لأن الدعوة للدين يق�صد منها حمل النا�س على �صالح �أمرهم فاالبتداء بالدعوة ظاهر ثم �إن هم عاندوا وجحدوا ومل تقنعهم الدعوة والأدلة فال جرم �أن يكون ا�ست�صالحهم هو القوة كما يحمل ال�صبي على �صالحه بالت�أديب ،وكما يحمل �أفراد النا�س على االمتثال لل�رشيعة بالرغبة والرهبة .وهذا ال ي�شك فيه عامل مت�رشع بل وال عامل قانوين. يدعي �أن ا�ستعمال القوة لي�س من توابع الر�سالة وجعله و�إذا كان ّ ت�رصف ًا من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ب�صفة امللك وال�سيا�سة فهل يدعي �أي�ض ًا �أن تعر�ض القر�آن لذلك يف نحو �آية «فقاتلوا التي تبغى حتى ت�رصف بال�سيا�سة وال ي�سعه �إال التزام ذلك، تفيء �إىل �أمر اهلل» ،هو �أي�ض ًا ُّ ف�إذا ي�صري القر�آن مع كونه كتاب دين هو �أي�ض ًا د�ستور �سيا�سة وكفى بهذا خبط ًا ،ف�إن �أ�صاب ف�أجاب ب�أن ال�رشيعة وال�سيا�سة �أخوان ،و�أنه ال يتم �رشع بدون امتزاجه باحلكومة فقد تاب �إىل احلق وعلم �أن البد من الأمرين ل�صالح اخللق. و�س ّماه اجلهاد يف �سبيل ال جرم �أن اهلل تعاىل ذكر اجلهاد يف كتابه َ اهلل فكيف يعده امل�ؤلف من �أمثلة ال�ش�ؤون امللكية بعد �أن �أثبت الفرق بينها وبني �أحوال الر�سالة .ولقد جتاوز هذا احلد يف �صحيفة 54 فجعل �أخذ الزكاة واجلزية والغنائم من �ش�ؤون احلكومات خارج ًا عن وظيفة الر�سالة وبعيداً عن �أعمال الر�سل باعتبار �أنهم ر�سل فح�سب. وهذا كالم �إن �أراد به التفرقة بني مفهوم الر�سالة املجردة والر�سالة املقرتنة بال�سلطان فهو �صحيح ،لكنه ال فائدة فيه هنا و�إن �أراد �إثبات �أنه غري الر�سالة و�أنه عمل حكومة و�أنه قد اتفق يف الوجود �أن �صار امللك ر�سو ًال و�صار الر�سول ملك ًا مع تنايف ال�صفتني ف�سخافة ذلك ال تخفى القت�ضائها �أن يكون الر�سول قد ي�شتغل بالر�سالة يف �أوقات ثم 15
نقد علمي
يتفرغ عنها �إىل اال�شتغال يف �أوقات �أخرى ب�صناعة امللك .كيف واهلل أعلم حيث يجعل ر�سالته»؟ ثم �أ َّنى يكون �صحيح ًا وهذا تعاىل يقول« :اهلل � ُ القر�آن قد قرن ال�صالة بالزكاة يف كثري من �آياته؟. lll
ثم ذكر امل�ؤلف يف �صحيفة 59بحث ًا يف �أن ت�أ�سي�س النبي للمملكة وجوز �أن يكون ذلك الإ�سالمية هل يكون خارج ًا عن حدود ر�سالته َّ خارج ًا عن حدود الر�سالة ،و�أن القول به ال يكون كفراً وال �إحلاداً وت� ّأوله ب�أنه مراد قول بع�ض ال ِف َرق ب�إنكار اخلالفة يف الإ�سالم �إلخ. ولقد �أف�صح هنا عن مقاربته اختيار قول غالة اخلوارج بعدم ن�صب الإمامة بني النا�س لأنه ال يلتئم مع ما قدمه من �أن ت�أ�سي�س احلكومة الإ�سالمية غري داخل يف مفهوم الدين الذي �أر�سل لأجله النبي حتى ال يلزم اقتفاء النبي فيما منع منه. �إال �أن اال�ستدالل ينقلب عليه ب�أن ما ا�ستدل به لنف�سه وللخوارج هو عليهم ال لهم لأنه �إذا كان ذلك عم ًال زائداً على الر�سالة فقد فعله النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ف�إذا �س َّلمنا �أنه لكونه خارج ًا عن حقيقة الر�سالة ال يجب اتباعه �رشع ًا يف كل زمان فهل مننع �أن �أحد احلالني هو االقتفاء بالنبى فيما فعله ف�إنه ما فعل �إال ما كان فيه ال�صالح ،فيكون ت�أ�سي�س احلكومة من مقا�صد ال�شارع .ثم �إنه قال يف �صحيفة � 55إن هذا الر�أي يراه بعيداً. تعر�ض من �صحيفة � 56إىل �صحيفة 62لكالم فر�ضه على وجه ثم َّ ف�رصح ب�أن ر�أي اجلمهور �أن �إقامة اململكة الإ�سالمية عمل االحتمال، َّ متمم للر�سالة وداخل فيها غري �أن العلماء �أغفلوا اعتبار �رشط التنفيذ ِّ يف حقيقة الر�سالة �إال ابن خلدون ،و�ساق كالمه بعد �أن قدم يف �صحيفة � 50أن اعتبار النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ر�سو ًال وملك ًا مع ًا هو ر�أي تعجب امل�سلم العامي ،وهنا جعله ر�أي العلماء وال�سيما ابن خلدون ،ثم َّ 16
خلو دولة الر�سالة عن كثري من �أركان الدول وعن اخلو�ض يف نظام من ّ امللك �إال �إذا كان ذلك مل يبلغ �إلينا على �أن كثرياً من الأنظمة املتبعة يف الدول �إمنا هو م�صطلحات لي�ست �رضورية لنظام الدولة ،وال تنا�سب �أخالق النبي � -صلى اهلل عليه و�سلم -من ترك التكلف وترك الرياء وال�سمعة ،فلذلك كان نظام احلكم يف زمانه � -صلى اهلل عليه و�سلم - بعيداً عن التكلفات �إلخ .وما �أجدر هذا الكالم ب�أن يكون ف�صل املقال لوال �رصح يف �صحيفة 62و 63بعدم ارت�ضائه ،فتطلب حلل الإ�شكال �أنه َّ وجه ًا �آخر من ورائه. وخال�صة احلق يف هذ املبحث �أن امللك العادل احلق ال ينايف الر�سالة بل هو تنفيذ لها و�أن من الأنبياء من اجتمع له امللك والنبوة مثل داود عليه ال�سالم ،قال اهلل تعاىل« :و�آتاه اهلل العلم واحلكمة وعلمه مما ي�شاء».
الباب الثالث «ر�سالة ال حكم ،ودين ال دولة» ذكر من �صحيفة � 64إىل �صحيفة 70ما خال�صته� :أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له ملك وال حكومة وال قام بت�أ�سي�س مملكة :نعم �إن الر�سالة ت�ستلزم للر�سول نوع زعامة يف قومه ،وما هي كزعامة امللوك على رعيتهم ف�إن زعامة مو�سى وعي�سى مل تكن زعامة ملوكية كما �أن الر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من القوة وت�ستلزم له �سلطان ًا �أو�سع مما يكون بني احلاكم واملحكومني وبني الأب و�أبنائه .وقد ي�سو�س الر�سول الأمة �سيا�سة امللوك وله وظيفة زائدة وهي ات�صاله ب�أرواح الأمة ال�سيما ور�سول اهلل � -صلى اهلل عليه و�سلم -جاء بدعوة عامة ،فهي توجب له من ت�أييد اهلل ما ينا�سب تلك الدعوة .فلذلك كان �سلطانه �سلطان ًا عام ًا له 17
نقد علمي
�أق�صى ما ميكن من درجات نفوذ القول ،وهو �سلطان تر�سله ال�سماء ،وهي والية روحية ال والية تدبري م�صالح احلياة وعمارة الأر�ض �إلخ. �سقنا خال�صة كالمه ليظهر هنا مقدار ا�ضطرابه ف�إن �أوله ينكر �أن تكون للر�سول حكومة ،ثم �أثبت زعامته ثم حكم ب�أنها �أقوى من زعامة �صاحب احلكومة ،ثم �أثبت �أنها قد تكون مثل �سيا�سة امللوك ،ثم �أثبت له �سلطان ًا عام ًا ،ثم جعل �سلطانه مر�س ًال من ال�سماء ،ثم حكم ب�أن واليته روحية ال والية تدبري م�صالح �إلخ،وال يعزب عن ذي م�سكة ما يف هذا الكالم من اال�ضطراب وف�ساد الو�ضع بالن�سبة لإثبات الدعوى التي عقد لها الباب وهي قوله :ر�سالة ال حكم ودين ال دولة ،وقوله يف طالعها� :إن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له ملك وال قام بت�أ�سي�س مملكة .ثم نحن ن�سائله :هل كانت الأمة يف زمن النبوة ذات نظام وحكومة �أم كانت فو�ضى؟ ف�إن اختار الأول ف�إما �أن تكون حكومة الأمة يومئذ بيد النبي �أو بيد غريه ،ف�إن كانت بيد النبي فقد ثبتت احلكومة املقارنة للر�سالة وبطُ ل ما �أ�س�سه امل�ؤلف و�أعاله ،ورجعنا �إىل اعتبارات امل�سميات دون َ الأ�سماء وهو ال�صواب والر�شد ،و�إن فر�ضت بيد غري النبي فالتاريخ ينايف �إثباتها والعقل يقت�ضي �أن وجود الر�سالة معها ي�صري عبث ًا. و�إن اختار �أن الأمة يومئذ باقية على الفو�ضى فما تنفع الر�سالة هذه قيمة لكالمه يف هاته ال�صحائف .ف�إن قال �إنها زعامة وقتية ال تثبت لأحد بعد الر�سول فقد رجع لقول بع�ض عرب الردة وبع�ض اخلوارج وقد �أبطلناه .و�أما تنظريه بزعامة مو�سى وعي�سى عليهما ال�سالم فبع�ضه �صحيح وب�ضعه باطل :ف�إن مو�سى �أ�س�س جامعة وحكومة ،وجاهد ،وفتح البلد املقد�س ،و�أما عي�سى فجاء داعي ًا فقط ،ونحن ال نقول �إن كل ر�سول له حكومة بل نقول �إن بع�ض الر�سل �أر�سل بالدين وع�ضد باحلكومة .وهذا كما �رشحناه �أو ًال هو �أكمل مظاهر الر�سالة. lll
18
ثم قال يف �صحيفة � 70إىل نهاية �صحيفة � 75إن الإ�سالم وحدة دينية دعا لها النبي و�أمتها ،وقد كان هو مديرها ومنفذها ،و�أن من �أراد ي�سمي تلك الوحدة دولة وملك ًا فهو يف ِح ّل فما هي �إال �أ�سماء ،واملهم �أن ّ هو املعنى وقد حددناه لك حتديداً ،و�إمنا املهم �أن نعرف هل كان � -صلى اهلل عليه و�سلم -ر�سو ًال فقط �أم كان ر�سو ًال وملك ًا؟ و�أن ظواهر القر�آن ت�ؤيد �أنه مل يكن له �ش�أن يف امللك ال�سيا�سي (و�ساق �آيات كثرية تخيلها �شاهدة ملدعاه) تنفي �أن يكون الر�سول حفيظ ًا �أو وكي ًال �أو جباراً �أو م�سيطراً، و�أنه ك�سائر الر�سل ،و�أنه مل يكن من عمله غري �إبالغ الر�سالة .و�أقول الإ�سالم وحدة دينية وجامعة و�رشيعة و�سلطان وال معنى للحكومة �إال مبجموع هاته الأمور ،و�أي �شيء مييزه عن احلكومة وقد جمع الأمة يف و�س َّن لها قوانني معامالتها الفردية واالجتماعية وتوىل بنف�سه دعوته َ االنت�صاف من املظلوم للظامل فق�ضى وغرم و�أقام احلدود من العقوبات و�أبطل كل �سلطة ورئا�سة مدنية لي�ست جارية على �أ�صول الإ�سالم كما ي�شهد له حديث �إ�سالم بني حنيفة وما عر�ضه م�سيلمة الكذاب حني �رشط لقبوله دين الإ�سالم �أن يجعل �أعداءها ومن يريد تفريق جامعتها ثم قاتل لتو�سيع �سلطانها وت�أمني بالدها و�رشع لها موارد مالية لإقامة م�صاحلها �أفتقوم الدولة واحلكومات بغري هذه الأعمال دع عنك ما يعر�ض لها من الألقاب الفارغة والر�سوم املعتادة واملواكب العري�ضة. �أما ما احتج به من الآيات يف �صحيفة 71و�صحيفة 72فهو احتجاج من مل يفهم داللة �ألفاظها ف�إنها نفت �أن يكون وكي ًال �أو م�سيطراً على الذين �أبوا قبول دعوته من امل�رشكني ال على من �آمن به من امل�سلمني وامل�ؤلف �ساقها يف االحتجاج على نفي �سلطانه يف دائرة اجلامعة الإ�سالمية ف�أخط�أ فيه. �أما بقية الآيات يف �صحائف 75 - 74 - 73فمنها ما �ساقه يف تفوي�ض احلول والقوة هلل تعاىل ومنها ما فيه �صيغة ح�رص حاله �صلى 19
نقد علمي
اهلل عليه و�سلم يف النبوة �أما النذارة �أو الب�رشية �أو البالغ وا�ستدالله بها يدل على �أنه ال ُيح�سن باب الق�رص من علم املعاين وال يفرق بني احلقيقي والإ�ضايف وال يفرق مفاد الق�رص الإ�ضايف من قلب �أو تعيني �أو �إفراد .فما عليه �إال �إتقانه ليعلم ما �أفاده برهانه. ثم ا�ستدل يف �صحيفة 76بقوله �صلى اهلل عليه و�سلم للذي تلجلج بني يديه «هون عليك ف�إين ل�ست مبلك» ،وبقوله «فاخرتت �أن �أكون نبي ًا عبداً» �إلخ .وهذا ا�ستدالل �سف�سطاءي مبني على اختالف معاين اللفظ الواحد فقد �أو�ضحناه غري مرة �أن امللك والقهر لل�ضعفاء وم�شاركة اخلالق يف �صفة الكربياء. و�أعجب من هذا كله ا�ستدالله يف �صحيفة 78على نفي �أن يكون النبي له حكم يف الأغرا�ض الدنيوية بقوله �صلى اهلل عليه و�سلم �أنتم «�أعلم ب�أمور دنياكم» بعد �أن حذف منه جذره و�سببه .وهذا �أي�ضا من ال�سف�سطة لأن الدنيا تطلق على هذا العامل ب�أ�رسه وهي مزرعة الآخرة ومطية اجلنة �أو النار وتطلق على ما عدا الأمور الدنية واملعاين العلمية فيقال هذا الإطالق بالدين وباحلق و�إطالق احلديث من هذا الثاين لأنه راجع �إىل �إ�صالح النخل بالتابري ولي�س من يطلق على ما عر�ض مل�سماه من مظاهر اجلربوت �رشط الر�سول وال امللك �أن يكون عامل ًا مبا يتجاوز ر�سالته وحكمه من �أحوال ال�صنايع واحلرف. املنعم الأ�ستاذ ال�شيخ ثم احتج يف �صحيفة 79بكلمات �صدرت عن َّ حممد عبده يف ر�سالة التوحيد يف �ش�أنها اجلهاد الواقع يف ع�رص النبوة ب�أنه جهاد لإقامة احلق وب�أبيات يف املعنى لل�شاعر �أحمد �شوي وكل ذلك �إمنا ينفع لإثبات �أن جهاده �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن لق�صد اال�ستكثار من الدنيا وال لإفزاع الآمنني ولكنه كان لت�أييد احلق و�إي�صال النفع .فماذا يغني عنه هذا الكالم يف �إثبات �أن احلكومة لي�ست من �شعار الإ�سالم.
20
الكتاب الثالث
اخلالفة واحلكومة يف التاريخ (الباب الأول -الوحدة الدينية والعرب) قدم مقدمة يف �أن الإ�سالم دعوة خلري الب�رش كله ورابطة لهم يف �أقطار الأر�ض و�أن اهلل اختار ظهوره بني العرب حلكمة و�أن �أول من اجتمع حوله هم العرب على تخالف �شعوبهم .وهي مقدمة �صحيحة م�سلمة �إال �أنه ا�ستنتج منها ما ال يالقيها فقال يف �صحائف � 83إىل �صحيفة :89 �إن هاته الوحدة العربية مل تكن �سيا�سية وال كان فيها معنى من معاين الدولة ف�إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يغري �شيئ ًا من �أ�ساليب احلكم عندهم وال مما كان لكل قبيلة من نظام �إداري وق�ضائي وال عزل والي ًا وال عني قا�ضي ًا ،بل ترك لهم كل ال�ش�ؤون وقال �أنتم �أعلم بها و�إن ما ا�شتملت عليه ال�رشيعة من �أنظمة العقوبات واجلي�ش والبيع والرهن لي�س يف احلقيقة من �أ�ساليب احلكم ال�سيا�سي وال من �أنظمة الدولة وهو �إذا جمعته مل يبلغ جزءاً ي�سرياً من لوازم دولة و�إمنا هو �رشع ديني خال�ص هلل ومل�صلحة الب�رش و�أن الرب مع دخولهم حتت جامعة الإ�سالم بقوا دو ًال 21
نقد علمي
�شتى بح�سب ما اقت�ضته حياتهم بخ�ضوع العرب للنبي خ�ضوع عقيدة ال خ�ضوع حكومة فلما تويف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أو�شكت �أن تنق�ض تلك الوحدة العربية وارتد �أكرث العرب �إال �أهل املدينة ومكة والطائف .وقد تويف �صلى اهلل عليه و�سلم من غري �أن ي�شري �إىل �شيء ي�سمى دولة ومن غري �أن ي�سمي �أحداً يخلفه �أ.هـ. و�أقول لي�س احلق ما ذكره ف�إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أقام للنا�س �أمر دنياهم �إذ املق�صود من الدين �صالح العاجل والآجل وال يتم �صالح العاجل �إال ب�إقامة من يحمل النا�س على ال�صالح بالرغبة والرهبة وقد ن�ص القر�آن على والية الأمر فقال «ي�أيها الذين �آمنوا اطيعوا اهلل واطيعوا الر�سول و�أويل الأمر منكم» وال جرم �أن دين الإ�سالم قد �رشعه اهلل �رشع ًا تدريجي ًا فابتد�أ دين ًا يدعو النا�س لأ�صول ال�صالح بتطهري النف�س وذلك ب�إعالن التوحيد و�آداب النف�س من العبادات والأمر بالعدل فلما تهي�أت النفو�س لقبول ال�رشيعة �أخذ الت�رشيع ينمو حتى بلغ �أو�سع تفاريعه فكان يف هذا التدرج حكمة �إلهية (وقالوا لوال ن ّزل عليه القر�آن جملة واحدة لنثبت به ف�ؤادك) و�إذا علمنا �أن الإ�سالم �رشع �أوجب على النا�س كذلك ّ التعامل ب�أحكامه فغري عوائدهم وقمع املعاندين من ر�ؤ�سائهم وتركهم م�سلوبي ال�سلطة وعو�ضهم بر�ؤ�ساء وامراء وق�ضاة من متابعيه وهذا ما ال يرتاب فيه من له اطالع على احلديث وال�سرية والتاريخ فقد وجه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم امراءه �إىل اجلهات التي �أ�سلم �أهلها من بالد العرب وقرر من قرر من �أقيال اليمن على ما ب�أيديهم حني �أ�سلموا على �أنهم قائمون مقام امرائه كما فعل مع وائل بن حجر َق ْيل ح�رضموت وجعله رئي�س �أقيال بالد اليمن وقد قدمنا فيما تقدم من املباحث �أن مظاهر الدولة كلها متوفرة يف نظام ال�رشيعة الإ�سالمية و�أعظمها احلرب وال�صلح والعهد والأ�رس وبيت املال والإمارة والق�ضاء و�سن القوانني والعقوبات �إىل �أق�صاها وهو الإعدام ،بحيث مل يغادر �شيئ ًا مما يلزم لإقامة نظام 22
داع يدع �إليها ٍ �أمة بح�سب الع�رص والقوم وما ترك من التفا�صيل التي مل ُ يومئذ �إال وقد �أ�س�س له �أ�صو ًال ميكن ا�ستخراج تفا�صيلها منها كما هو فرطنا يف الكتاب معلوم من علم �أ�صول الفقه وهو معنى قوله تعاىل ما ّ من �شيء على ما بينه ال�شاطبي يف كتاب املوافقات، علمنا بال ريب �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد �أ�س�س بيده �أ�صول الدولة الإ�سالمية و�أعلن ذلك بن�ص القر�آن وقد قال تعاىل «و�أنزلنا �إليك الكتاب باحلق م�صدق ًا ملا بني يديه من الكتاب ومهيمنا عليه» �إىل قوله «�أفحكم اجلاهلية يبغون ومن �أح�سن من اهلل حكما لقوم يعقلون» وكيف ي�ستقيم �أن يكون الإ�سالم �رشيعة ثم ال يكون له حكومة تنفذ تلك ال�رشيعة وحتمل الراعي والرعية على العمل بها ف�إنه لو وكل الأمر الختيار النا�س لأو�شك �أن ال يعمل به �أحد ،ولي�ست الدولة �إال �سلطان ًا حتيي به ال�رشيعة كما قال �أر�سطو. لأجل هذا كله مل يرتدد �أهل احلل والعقد يف م� ِرص الإ�سالم وهو املدنية عند وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف وجوب املبادرة ب�إقامة اخلليفة عن النبي يف تدبري �أمر الأمة ،مع القطع ب�أنه ال يخلفه يف غري ذلك من الت�رشيع وتبليغ الر�سالة .وهذا اخلليفة و�إن جارينا �صاحب الكتاب يف �أنه مل يعينه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فقد كانت ت�سميته ب�إجماع �أهل العلم والدين من �أ�صحاب النبي املهاجرين والأن�صار وذلك الإجماع حجة �أعظم من خرب �أو خربين .على �أنه ثبت �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �رصح ب�إقامة اخلليفة من بعده فقد ورد يف �صحيح البخاري وغريه عن جبري بن مطعم �أن امر�أة �أتت النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أمرها ب�أمر فقالت �أر�أيت يا ر�سول اهلل �إن مل �أجدك -ك�أنها تعني املوت -فقال لها �إن مل جتديني ف� ِأت �أبابكر. وورد يف حديث �آخر �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم قال ي�أبى اهلل وامل�سلمون غري �أبي بكر. 23
نقد علمي
الباب الثاين الدولة العربية �أتى يف هذا الكتاب على بيان �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم زعامته دينية حم�ضة و�أنه بعد وفاته يتعني �أن يكون لأتباعه زعيم بعده لكنها زعامة غري دينية بل �سيا�سية .وملا كان العرب يومئذ يف حال نهو�ض فكان من املتعني �أنهم يفكرون يف �إقامة مملكة ف�أقاموا دولة عربية على �أ�سا�س دعوة دينية ولذلك اتفقوا على �إقامة زعيم واختلفوا يف ولكن �أبابكر له الر�ضا ب�أبي بكر فلي�ست �إمارة امل�سلمني مقام ًا ديني ًا ّ مقام ديني لأ�سباب كثرية. هذا حا�صل كالمه (يف �صحيفة � 90إىل )94وقد بناه على ما توهمه من �أن الدين �شيء يخت�ص بالنفوذ الروحي ولذلك قال� :إن زعامة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم دينية فقط .وقال �إن زعامة من بعده لي�ست دينية لأن الزعامة الدينية انق�ضت بوفاة النبي .وكل هذا خط�أ قد بيناه فيما تقدم وقد ادعى �أن اتفاق ال�صحابة على �إقامة زعيم للأمة هو ر�أي �سيا�سي ومن علم �شدة تعلق ال�صحابة بالدين ورف�ضهم كل ما ال تعلق له بالدين علم �أنهم ما �أجمعوا على �إقامة اخلليفة �إال لعلمهم �أنه �أمر مرتبط ب�إقامة الدين �أمت ارتباط� ،إذ ال انفكاك بني الدين واحلكومة يف الإ�سالم كما قدمناه و�أما اختالفهم يف تعيني اخلليفة من هو فذلك �أمر من لوازم كل انتخاب ولكن املهم هو �أنهم ملا عينوا �أبابكر مل يخالف فيه �أحد و�أجمع عليه امل�سلمون �إال الذين خرجوا من ربقة الإ�سالم .ولقد ظهر �سواد ر�أيهم مبا قمع به �أبوبكر �أهل الردة و�أرجعهم �إىل الإ�سالم بعد �أن كادت اجلامعة �أن تنتق�ض .ومل يكن �سبب الردة نزوع ًا من العرب �إىل عهدهم القدمي ف�إنه لو كان كذلك لكان �أوىل النا�س به ر�ؤ�سا�ؤهم و�أعيانهم مثل �أبي �سفيان .و�إمنا كان �سبب الردة �أن كثرياً من العرب الذين �أ�سلموا بعد 24
فتح مكة كانوا حديثي عهد بالإ�سالم مل يتمكن الإميان من قلوبهم ومل يفقهوا حقيقته فظنوه طاعة ل�شخ�ص الر�سول و�أنه ملا توفى فقد انحلت ربقة الإميان عنهم ومثل ه�ؤالء و�إن كرثوا فال تعجبك كرثتهم جلفائهم وجهلهم ولذلك ملا فهموا من ت�صدي امل�سلمني لقتالهم ان �أمر الدين لي�س باللعب كانوا �رسيعي الرجوع �إىل الدين يف �أمد وجيز.
الباب الثالث اخلالفة الإ�سالمية قال :مل نعرف من اخرتع لأبي بكر لقب خليفة ر�سول اهلل ولكنا عرفنا �أن �أبابكر قد �أجازه وارت�ضاه وال �شك �أن ر�سول اهلل كان زعيم ًا للعرب ومناط وحدتهم ف�إذا قام �أبوبكر بعده ملك ًا على العرب �ساغ يف اللغة �أن يقال �إنه خليفة ر�سول اهلل فال معنى خلالفته غري ذلك ولهذا اللقب روعة فال غرو �أن يختاره ال�صديق وهو ناه�ض بدولة حادثة بني قوم حديثي عهد بجاهلية فهذا اللقب جدير ب�أن يكبح من جماحهم وقد حمل هذا اللقب جماعة على االنقياد لأبي بكر انقياداً ديني ًا لذلك �سموا اخلروج على �أبي بكر خروج ًا على الدين ولذلك �سموا الذين رف�ضوا طاعة �أبي بكر مرتدين ولعل جميعهم مل يكونوا يف الواقع مرتدين ،وقد رف�ض بيعة �أبي بكر علي بن �أبي طالب و�سعد بن عبادة فلم يو�صفوا ب�أنهم مرتدون هذا كالمه �صحايف .97 - 96 - 95 �أقول� :إن الذي اخرتع لأبي بكر لقب خليفة هو اللغة والقر�آن ف�إنه قد �أقيم خلف ًا عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف تدبري �أمر الأمة فهو خليفته ،فال يحتاج �إطالق هذا الو�صف �إىل اخرتاع �أو و�ضع� ،إذ كل من قام مقام غريه يف عمله فهو خليفته :قال تعاىل «ثم جعلناكم خالئف يف الأر�ض من بعدهم» على �أن القر�آن قد علمهم �أن ي�صفوا من �إقامة 25
نقد علمي
اهلل لتدبري اخللق بو�صف خليفة �إذ قال يا داود �أنا جعلناك خليفة يف الأر�ض فاحكم بني النا�س باحلق و�أما قوله �إن �أبابكر كان خليفة لأنه قام بعد ر�سول اهلل بزعامة العرب على وجه ملكي فهو ا�ضطراب مع ما تقدم وما ي�أتي ف�إنه منع �سابق ًا �أن يكون للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم زعامة �سيا�سية ومنع هنا وفيما ي�أتي �أن تكون لأبي بكر زعامة دينية و�أثبت فيما بني ذلك �أن �أبابكر �سمي خليفة لأنه قام بعد النبي بزعامة العرب وك�أنه ينحو بهذا �إىل �أن �إطالق ا�سم اخلليفة على �أبي بكر �رضب من املجاز و�إن �شئت من التمويه يق�صد به �إخ�ضاع امل�سلمني كما �رصح بذلك قوله «ولهذا اللقب روعة فال غرو �أن يختاره ال�صديق وهو الناه�ض بدولة حادثة �إلخ» ،ثم ا�ستنتج �أن ت�سمية اخلارجني على �أبي بكر باملرتدين قريب من هذا التهويل و�أغم�ض عينيه عما ملئ به التاريخ واحلديث من انق�سام امل�سلمني بعد وفاة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل ثالث طوائف :طائفة ثابتة على الدين وعلى اجلامعة الإ�سالمية وهم �أفا�ضل امل�سلمني وعلما�ؤهم و�أعيانهم وال�سابقون منهم ،ه�ؤالء �أهل مكة واملدينة والطائف .وطائفة ثبتت على الدين وخرجت عن اجلامعة وهم الذين منعوا الزكاة ،وه�ؤالء هم جفاة العرب ومن �أجراهم من ر�ؤ�سائهم الذين مل يفهموا من الدين �إال ظاهراً وكانوا ي�رسون لكيده ح�سداً يف ارتقاء مثل مالك بن نويره ومن ه�ؤالء هوازن وبنو �سليم وبنو عامر وعب�س وذبيان وبع�ض بني �أ�سد وبني كنانة .وطائفة كفروا باهلل ور�سوله مثل غطفان وطي و�أ�سد وتغلب واليمامة وقد ظهر فيهم من ادعى النبوءة مثل طليحة الأ�سدي يف بني �أ�سد و�سجاح التغلبية وم�سيلمة الكذاب ،وقد �سمى امل�سلمون يومئذ الطائفة الأوىل ب�أهل اجلماعة وهو معنى قول العلماء بعد ذلك فالن من �أهل ال�سنة واجلماعة �أو ممن ال يرى اخلروج على �أئمة الإ�سالم .وقد قاتل �أبوبكر الفريقني ب�سيوف ال�صحابة و�أفا�ضل امل�سلمني �إال �أن قتاله ملانعي الزكاة قتال ت�أديب وقتاله للمرتدين قتال 26
ارتداد و�سموا تلك احلروب حروب الردة تغليب ًا لأن غالب العرب قد كفروا. وحا�شا �أبابكر وال�صحابة �أن يجعلوا اخلروج عن بيعة �أبي بكر كفراً لق�صد التهويل ،و�أما قوله �إن علي ًا و�سعداً رف�ضا بيعة �أبي بكر فهو افرتاء على �صحابيني جليلني .ف�أما علي فقد �شغله ما �أ�صابه من وفاة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ثم من مر�ض زوجه فاطمة ر�ضي اهلل عنها كما اعتذر به هو نف�سه عن تخلفه وقد ذكر ابن عبدالرب عن احل�سن الب�رصي عن علي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنه �أنه قال :مر�ض ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ليايل و�أيام ًا ينادي بال�صالة فيقول مروا �أبابكر لي�صلي بالنا�س فلما قب�ض ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم نظرت ف�إذا ال�صالة َع َلم الإ�سالم وقوام الدين فر�ضينا لدنيانا من ر�ضيه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم لديننا فبايعنا �أبابكر .وقد قيل يف ت�أخر علي ر�ضي اهلل عنه عن البيعة مدة� :إنه ملا تويف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حلف على �أن ال يخرج �إىل ال�صالة حتى يجمع القر�آن .فقد ات�ضح من هذا كله �أن علي ًا ر�ضي اهلل عنه كان معرتف ًا ب�صحة بيعة �أبي بكر (ر�ضي اهلل عنهما) غري راف�ض لها و�أن ت�أخره مدة قليلة كان ل�شواغل مهمة والتخلف غري الرف�ض ف�إن معنى الرف�ض �أن ُيطلب من �أحد �شيء في�أباه. و�أما تخلف �سعد بن عبادة ر�ضي اهلل عنه عن بيعة �أبي بكر �إىل �أن تويف فهو ال�صحابي الوحيد الذي مل يبايع لأبي بكر فالبد من ت�أول فعله مبا يليق ب�صحابي جليل مثل �سعد بن عبادة ولعله ملا ر�أى الأن�صار قد �أعدته للخالفة يوم ال�سقيفة ثم ر�أى �إجماع ال�صحابة على �أبي بكر وان�رصافه عن بيعة �سعد ا�ستوح�ش نف�سه بني النا�س وكان �سعد رج ًال عزيز النف�س فخرج من املدينة ومل يرجع �إليها حتى مات بحوران من �أر�ض ال�شام يف خالفة عمر وقيل يف خالفة �أبي بكر ومل ينقل عنه طعن يف بيعة ال�صديق وال نواء بخروج ،فتخلفه عن البيعة ال يقت�ضي رف�ضه لها وال خمالفته فيها حتى يكون تخلفه قادح ًا يف انعقاد الإجماع �إذ 27
نقد علمي
ال ين�سب لل�ساكت قول كما قال ال�شافعي ال �سيما وقد قال جماعة �إن خمالفة الواحد ال ت�رض انعقاد الإجماع كما تقرر يف الأ�صول ومل ينقل �أحد �أن ال�صحابة طلبوا منه بيعة وال حترجوا من تخلفه .وقد �أ�شار �إىل هذا املعنى ابن �أبي غرة اجلمحي حني قال بعد يوم ال�سقيفة: ذهب اللجاج وبويع ال�صديق حمداً ملــــــن هـــو بالثناء حقيق ورجـــا رجــــاء دونه العيوق من بعد مـــــا رك�ضت ب�سعد نعله فـــ�أتاهم ال�صديق والفـــاروق جاءت به الأن�صار عا�صب ر�أ�سه نف�س امل�ؤمــــل للبقـــــاء تتوق و�أبـــــــوعبيدة والــــذيــــن �إليهم �أن املنوه بــــــا�سـمـه املوثوق فدعت قري�ش با�سمه ف�أجابها هذا كنه ما يروى عن �صحابيني جليلني هما من �أعلم النا�س بامل�صلحة الإ�سالمية وحفظ جامعتها ولو �أرخينا العنان وتنازلنا يف اجلدال و�سلمنا ت�سليم ًا جدلي ًا ب�أن علي ًا و�سعداً قد رف�ضا �رصاحة �أن يبايعا لأبي بكر وهو ما ال راوي له فال جند للم�ؤلف يف ذلك كله دلي ًال على ما يريد من �إنكار كون اخلالفة من�صب ًا ديني ًا عظيم ًا هو من �أركان الإ�سالم حتى كانت على معناه احلقيقي الذي �رشحناه يف �أول مقاالتنا. وهل يكون امتناعها حينئذ �إال ر�أي ًا يف الدين واجتهاداً يف حتقيق �أولوية �أبي بكر باخلالفة وذلك ال ينق�ض الإجماع على �أ�صل م�رشوعية اخلالفة �أو الإمامة للم�سلمني لأنهما �إذا امتنعا من بيعة �أبي بكر فقد كان �سعد را�ضي ًا ب�أن يبايعه الأن�صار فهو قابل بوجوب ن�صب الإمام وكون علي ر�ضي اهلل عنه قائ ًال بوجوب ذلك �أظهر لأنه كان ممن ويل تلك اخلالفة. lll
ثم ذكر يف �صحائف 100 - 99 - 98ما وقع من مالك بن نويرة من امتناعه من �إعطاء الزكاة لأبي بكر و�أن خالد بن الوليد قتله و�أن �أبا بكر �أنكر قتله و�أن �شاعراً من �شعرائهم قال: فيا لعباد اهلل ما لأبي بكر؟ اطعنا ر�سول اهلل �إذا كان بيننا 28
وذكر معار�ضة عمر لأبي بكر حني قال له :كيف تقاتل النا�س وقد قالوا ال �إله �إال اهلل .ثم حتري امل�ؤلف يف �سبب حروب الردة وغمز هنالك مغامز �سيئة ترى �أن �أ�سبابها التناف�س ثم ذكر �أنه �أ�صفح عن البحث يف �أن �أبابكر هل كانت له �صفة دينية جتعله م�س�ؤو ًال عن �أمر من يرتد عن الإ�سالم �أو هل لها �أ�سباب غري دينية؟ وال فائدة يف �إطالة اخلو�ض معه هنا لأن تلك احلروب �سواء كانت دينية �أم �سيا�سية و�سواء كان �سببها االرتداد �أو اخلروج عن الطاعة فال دليل يف �صفتها على �شيء يتعلق بانت�ساب اخلالفة �إىل الدين لأن اخلالفة �إن كانت خطة دينية كما و�ضحناه فحرب اخلارجني عن الدين من �ش�ؤونها وكذلك حرب اخلارجني عن اجلامعة الإ�سالمية �إذ الدين واجلامعة متالزمان كما قدمنا بيانه و�إن كانت اخلالفة زعامة �سيا�سية فقط كما يزعمه امل�ؤلف فحري ب�صاحبها قتال من يخرج عن الطاعة �سواء اقرتن خروجه برف�ض الدين �أم كان جمرد ع�صيان لأن احلالتني يتحقق فيهما اخلروج عن الطاعة ف�إذا ت�أملت هذا علمت �أنه ما كان من حق امل�ؤلف �أن يخو�ض يف تعليق حرب الردة بهذا املو�ضع �إال �إذا كان يريد حمل تبعته على �أبي بكر �إذ ال �صفة له ت�سوغ له قتال قوم مل يكن م�س�ؤو ًال عن كفرهم لكنه قد ناق�ض نف�سه من حيث ال يدري لأنه �إذا كان يدعي �أن �أبابكر زعيم �سيا�سي فيجب �أن يعرتف له باحلق يف قتال اخلارجني من �أهل مملكته. �أما حماورة مالك بن نويرة خلالد بن الوليد فهي نف�س ما قام به الفريق الثاين من �أهل حروب الردة وكان مالك بن نويرة من زعمائهم ولعل ذلك �سبب قتل خالد بن الوليد له لأنه ر�آه مثورا للعامة ومغري ًا لهم -كما هو ال�ش�أن يف حمل التبعات على القادة والر�ؤ�ساء � -إذ العامة �أتباع كل ناعق. و�أما مراجعة عمر بن اخلطاب لأبي بكر ر�ضي اهلل عنهما فقد �أبدى 29
نقد علمي
م�ؤلف الكتاب بع�ضها و�أخفى كثرياً ،ف�إن يف �آخر اخلرب �أن عمر بن اخلطاب قال «فعلمت �أن ما �رشح اهلل له �صدر �أبي بكر هو احلق» فتكون معار�ضة عمر له معار�ضة مل يظهر له دليل احلكم وذلك �أنه قال لأبي بكر «كيف تقاتلهم وقد قالوا ال �إله �إال اهلل» فقال له �أبوبكر «لأقاتلن من فرق بني ال�صالة والزكاة ف�إن الزكاة حق املال واهلل لو منعوين عقاال كانوا ي�ؤدونه �إىل ر�سول اهلل لقاتلتهم عليه» قال عمر «فعلمت �أن اهلل قد �رشح لذلك �صدر �أبي بكر وعلمت �أنه احلق» وروى فعلمت �أن ما �رشح اهلل له �صدر �أبي بكر هو احلق .ولي�س معنى ذلك �أنه قاله تقليداً لأبي بكر ولكن معناه �أن حجة �أبي بكر قد نه�ضت يف نظر عمر ف�صار موافق ًا له يف اجتهاده ذلك �أن �أبابكر بني لعمر �أن جمرد النطق بال�شهادتني مانع من القتل لأجل الكفر وبقي القتل لأجل حقوق الإ�سالم وقد ثبت القتل على ال�صالة وثبتت مقارنة الزكاة لل�صالة يف �آيات القر�آن مع �أن الزكاة حق املال .وفيه منزع جليل ف�إن اهلل تعاىل خاطب بني �إ�رسائيل حني خاطبهم بالدعوة للإ�سالم يف �سورة البقرة فقال «و�أقيموا ال�صالة و�آتوا الزكاة واركعوا مع الراكعني» فخ�ص هذين العملني من بني �أعمال الإ�سالم تنبيه ًا على �أنهما الدليل على �صدق �إ�سالم من �أ�سلم لأن كلمة ال�شهادة قد ي�سهل النطق بها على من مل يعتقد الإ�سالم فجعلت ال�صالة والزكاة دلي ًال على �صدق امل�سلم فيما نطق به لأنه لو مل يكن �صادق ًا ملا جت�شم كلفة ال�صالة وملا هان عليه بذل ماله فلما قرن اهلل ال�صالة بالزكاة فذلك تنبيه على احتاد حكمهما فكما يعد تارك ال�صالة - اباية ال جحوداً -كافراً عند بع�ض العلماء وم�ستوجب القتل عند بع�ض وللتعزير الذي قد يبلغ القتل عند �آخرين فكذلك �ش�أن الزكاة. ثم قال رمبا كانت هنالك ظروف �ساعدت على �أن ت�رشب �إمارة �أبي بكر معنى ديني ًا لأنه كانت له منزلة رفيعة عند الر�سول وكان يحذو حذوه يف خا�صته وعامة �أموره فذلك من �أ�سباب ت�رسب اخلط�أ �إىل عامة 30
امل�سلمني فغ�شا بينهم �أن اخلالفة مقام ديني ثم روج ذلك ال�سالطني حتى �صارت م�س�ألة اخلالفة من عقائد التوحيد �ص .103 - 110ونحن نكتفي مبا قدمناه يف ت�ضاعيف ردودنا مما �أراك �أيها املطالع �أن اخلالفة مبعناها احلقيقي هي ركن ديني ،بل هو احلافظ لأركان الدين كلها .وال يخفى عن فطنتك �أن احلكم يف مثل هاته املهمات مل يكن يومئذ من �ش�ؤون العامة ،بل �إن الذين �سموا �أبابكر خليفة ولقبوا �إمارته بخالفة هم �أعيان ال�صحابة وجميع �أهل احلل والعقد ،و�أن مثلهم ممن ال تختلط عليه الأحوال. lll
وختم كالمه ب�أن احلق �أن الدين بريء من اخلالفة ولي�ست هي بخطة دينية ال هي وال الق�ضاء وال غريهما من وظائف احلكم ،فتلك خطط �سيا�سية كتدبري اجليو�ش وعمارة املدن وكلها مل يعرفها الدين ومل ينكرها و�إمنا تركها لنا لرنجع �إىل احكام العقل وقواعد ال�سيا�سة �إلخ .ويف هاته اجلمل قد ك�شف القناع عن مراده وترك النورية والتوجيه ونفى عن اخلالفة وعن الق�ضاء االرتباط بالدين وجعل ذلك خطط ًا �سيا�سية وجزم ب�أن ربطها بالدين غلط ومتويه وبذلك �سفه كل خليفة وفقيه. ف�إن من يطلع على كتب احلديث وال�سرية والتاريخ يرى �أن علماء امل�سلمني وقواد جيو�شهم و�أفا�ضل كل ع�رص كانوا �إذا بايعوا اخلليفة من عهد �أبي بكر فما بعد بايعوه على كتاب اهلل و�سنة ر�سوله .ف�إذا كانت اخلالفة خطة �سيا�سية فما وجه ربطها بالكتاب وال�سنة .وقد جعلوا خروج اخلليفة عن �أ�صول الدين يف موا�ضع معينة موجبة خللعه كما جعلوا خروج القا�ضي عن ال�رشوط املعروفة ويف الفقه �أو عن الق�ضاء بالطريق ال�رشعي موجب ًا لعزله �أو لعدم انعقاد �أحكامه .ف�إذا كان يرى جميع ذلك من التهويل والتمويه ،وال يرى �أن �سلف الأمة وعلماءها عن 31
نقد علمي
هاته املقا�صد يف مقام التنزيه ،فح�سبك بهذا دلي ًال على قيمة كتاب �أ�صول احلكم وما فيه. ولعل فيما �أتينا به من جممل القول وتف�صيله ما يكون لتعط�ش املطلع خري �شاف ،وال حاجة �إىل زيادة الإطناب فلي�س الر�أي عن املت�شاف �أ.هـ. (مت الكتاب)
32
فهر�س مقدمة
3
(الكتاب الأول -اخلالفة والإ�سالم)
الباب الأول :اخلالفة وطبيعتها الباب الثاين :يف حكم اخلالفة الباب الثالث :يف اخلالفة من الوجهة االجتماعية
5 6 9
(الكتاب الثاين -احلكومة والإ�سالم) الباب الثاين :الر�سالة واحلكم الباب الثالث :ر�سالة ال حكم ،ودين ال دولة
13 17
(الكتاب الثالث -اخلالفة واحلكومة يف التاريخ) الباب الأول :الوحدة الدينية والعرب الباب الثاين :الدولة العربية الباب الثالث :اخلالفة الإ�سالمية
33
21 24 25