الإسلام وأصول الحكم علي عبدالرازق كتاب الدوحة

Page 1


‫اإلسالم وأصول احلكم‬ ‫بحث‬ ‫في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم‬ ‫علي عبد الرازق‬


‫‪5‬‬

‫علي عبدالرازق‬

‫اإلسالم وأصول احلكم‬

‫بحث في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم‬

‫النا�رش‬ ‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬ ‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬ ‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬ ‫�إخراج وتنفيذ ‪ :‬الق�سم الفني ‪ -‬جملة الدوحة‬ ‫�صدرت الطبعة الأوىل من هذا الكتاب‬ ‫عام ‪1344‬هـ ‪1925 -‬م عن مطبعة م�رص‪.‬‬


‫لوحة الغالف ‪ :‬تف�صيل من �ضياء العزاوي ‪-‬العراق‬



‫اإلسالم وأصول احلكم‬

‫بحث‬ ‫في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم‬

‫علي عبد الرازق‬

‫تقدمي‬

‫د‪ .‬حيدر إبراهمي‬

‫تعقيب‬

‫السيد محمد الطاهر بن عاشور‬ ‫مفتي املالكية بالديار التونسية‬



‫علي عبد الرازق للفنان �إ�سماعيل عزام ‪ -‬العراق‬



‫علي عبدالرازق‪ . . .‬معا�رصاً‬ ‫حيدر ابراهيم علي‬

‫‪9‬‬



‫مدخل‬ ‫�ستظل �أ�سئلة (ال�شيخ علي عبدالرازق) حول عالقة الدين والدولة‪،‬‬ ‫دينية �أم مدنية الدولة يف املجتمعات العربية‪-‬الإ�سالمية‪ ،‬ماثلة‪ ،‬وحية‪،‬‬ ‫وملحة‪ .‬فهي موجودة‪ ،‬طاملا ا�ستمر جدل الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي‬ ‫حول هوية الدولةمن غري ح�سم قاطع‪ ،‬و�إجماع بني امل�سلمني‪ .‬وال�س�ؤال‬ ‫يف حقيقته ‪ ،‬هو جوهر الإ�شكاليةوالنقا�ش الدائر ب�شدة‪ ،‬حول الإ�سالم‬ ‫واحلداثة‪� ،‬أو عالقة الإ�سالم والآخر‪-‬احل�ضارة املعا�رصة‪ ،‬منظورا �إليها‬ ‫يف هذه احلالة‪ ،‬من خالل البحث عن منوذج ل�شكل احلكم يحقق �شعار‬ ‫كثري من الإ�سالميني عن الأ�صل والع�رص‪� ،‬أو الرتاث واملعا�رصة‪ .‬وهو‬ ‫يف نف�س الوقت م�شكل اللحاق بالغرب مع االحتفاظ بالذاتية بطريقة‬ ‫�أو اخري ‪ .‬وال�س�ؤال‪-‬بدوره‪ -‬ال يخرج من دائرة �أ�سئلة النه�ضة التي‬ ‫تنطلق دائما من ده�شة (�شكيب ار�سالن) ‪ :‬ملاذا ت�أخر امل�سلمون وتقدم‬ ‫غريهم؟و�أرجع (عبدالرازق) ال�سبب �إيل نظام احلكم‪ ،‬ولذلك مل تتوقف‬

‫‪11‬‬


‫تـقديـم‬

‫دعوته عند مطلب الإ�صالح الديني‪ ،‬لكنه ا�شرتط الإ�صالح ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ورغم ن�سبه الفكري �إيل �سل�سلة (ال�شيخ حممدعبده) وقبله (رفاعة رافع‬ ‫الطهطاوي) الذين �شغلهم التخلف عن الآخر (الغرب) ‪� ،‬إال �أنه مل ينظر �إيل‬ ‫الإ�سالم يف مر�آة الغرب بل اجته مبا�رشة �إيل ظاهرة من �صميم التاريخ‬ ‫اخلا�ص بحثا عن �أ�سباب التخلف والت�أخر يف حياة امل�سلمني‪ .‬فقد كان‬ ‫لتكوينه العلمي وبيئته ال�سيا�سية والتطورات الداخلية يف م�رص‪� ،‬أثرها‬ ‫يف ميالد الكتاب مب�ضمونه احلايل‪ ،‬ومواقفه امل�ستحدثة‪.‬‬ ‫يالحظ �أن الفقه الإ�سالمي رغم تفا�صيله الكثرية واهتماماته‬ ‫املتنوعة بالعديد من الق�ضايا حتي الثانوية‪ ،‬حيث مل يرتك حتي و�صف‬ ‫طريقة كيفية دخول املرحا�ض‪ .‬ولكنه يف نف�س الوقت‪ ،‬مل يعط االهتمام‬ ‫الالزم مل�سائل احلكم والفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي‪ .‬فهذه ميادين �شدديدة‬ ‫اخلطورة يف نظر ال�سلطان‪ ،‬ولها نتائج غري م�أمونة علي املتكلمني فيها‪.‬‬ ‫وهذا �سبب ونتيجة للإ�ستبداد‪ ،‬حني �صارت ال�سيا�سة من املحرمات‬ ‫�أو التابوهات القدمية‪ .‬لذلك‪ ،‬مل يرتك العقل الإ�سالمي تراثا مقنعا عن‬ ‫م�سائل‪ ،‬مثل‪ :‬ال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬طبيعتها وطرق تداولها‪ ،‬و�رشوط احلاكم‬ ‫وواجباته‪ ،‬و�سبل عزله‪ ،‬ودور اجلماهري (�أو الأمة) يف احلكم‪ ،‬ومفاهيم‬ ‫مثل ال�رشعية‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬وغريها من مكونات احلكم الرا�شد‪.‬‬ ‫وكان �أق�صى ما تركه الرتاث يف هذا املجال‪ ،‬هو كتب الآداب ال�سلطانية‪،‬‬ ‫ةهي �أقرب ايل الن�صائح والوعظ االخالقي للحكام‪ ،‬منها ايل النظريات‬ ‫ال�سيا�سية‪ .‬ورغم �أن �أكرث الدماء �سالت يف التاريخ الإ�سالمي‪ ،‬حول‬ ‫ق�ضايا و�رصاعات احلكم وال�سلطة‪� ،‬إال ان الفقه ال�سيا�سي بقي �شحيحا‪.‬‬ ‫فقد كانت ال�سيا�سة متار�س‪ ،‬واقعيا‪ ،‬من خالل النزاعات‬

‫‪12‬‬


‫وال�رصاعات الدموية التي الزمت الدولة الإ�سالمية منذ مقتل اخلليفة‬ ‫الثالث عثمان بن عفان (‪656‬م) ‪� ،‬إال �أنه مل يتم التنظري يف املعرفة‬ ‫والعلم ال�سيا�سني‪ .‬وهذا ما جعل البع�ض يت�ساءل عن �أهمية الدولة‪،‬‬ ‫باملعنى املعروف‪ ،‬يف التاريخ الإ�سالمي‪ .‬وهذا االهتمام املت�أخر‬ ‫بال�سيا�سة هو الذي �أثار ال�شكوك واالتهامات‪ ،‬والتي مل تتوقف‬ ‫حتي يومنا هذا‪ .‬وبقي كل نقا�ش وخالف حول ال�سيا�سة والإ�سالم‪،‬‬ ‫جديدا وحيا‪ ،‬والأهم من ذلك مفتوحا للإجتهاد والإ�ضافة‪ .‬وهذا مما‬ ‫يتطلب الت�سامح والقبول واحلرية‪ ،‬ويرف�ض �أحكام التكفري والتخوين‬ ‫والعمالة‪ .‬ولكن هذا مل يحدث‪� ،‬إذ يعود العنف اللفظي واالرهاب‬ ‫الفكري كامال وك�أننا مل نغادر منت�صف ع�رشينيات القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫فقد بقي مو�ضوع ال�سيا�سة يف الفكر الإ�سالمي حمتكرا ومهم�شا يف‬ ‫نف�س الوقت‪ ،‬لذلك يجر احلديث عنه امل�شكالت واملعارك احلادة وغري‬ ‫العقالنية يف �أغلب الأحيان‪.‬‬ ‫د�شن كتاب ال�شيخ علي عبدالرازق الذي ن�رش يف عام‪1925‬مرحلة‬ ‫التناول النقدي لبع�ض الثوابت الدينية من داخل امل�ؤ�س�سة الدينية‬ ‫(الأزهر) نف�سها‪ ،‬مما جعل ردود الفعل يف مثل هذه احلدة‪ .‬واعترب‬ ‫البع�ض �صدور الكتاب �أ�شد وقعا من قرار م�صطفي كامل �أتاتورك‪،‬‬ ‫الغاء اخلالفة‪ ،‬لأنه جمرد قرار �سيا�سي مل ي�ستهدف العقيدة مبا�رشة –‬ ‫ح�سب قول بع�ض الفقهاء‪ .‬يكتب �أحدهم‪" - :‬برغم ما يف هجمة �أتاتورك‬ ‫وجنايته على الإ�سالم من ال�رضاوة والق�سوة وال�رشا�سة ‪ -‬ف�إن جناية‬ ‫علي عبدالرازق يف كتابه (الإ�سالم و�أ�صول احلكم) �أ�شد و�أخطر؛ ذلك �أن‬ ‫�صنيع �أتاتورك ردة �رصيحة‪ ،‬وخروج على الإ�سالم بقوة ال�سلطان؛ فال‬ ‫‪13‬‬


‫تـقديـم‬

‫يكون لها �أثر �إال بقدر بقاء القوة‪.‬‬ ‫�أما �صنيع علي عبدالرازق فقد كان حماولة للتغيري يف �أ�صول‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وم�سلماته"‪( .‬مو�سوعة املذاهب الفكرية املعا�رصة‪ .‬ثامن ع�رش)‬ ‫‪ .‬ويري (ال�شيخ يو�سف القر�ضاوي) يف الكتاب‪� ،‬أبرز املظاهر لنجاح‬ ‫الغزو الثقايف الغربي‪ ،‬قائال‪� " - :‬أن الفكر العلماين الدخيل الذي ينادي‬ ‫بف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬مل يقف عند الرجال املدنيني وحدهم‪ ،‬بل‬ ‫تعداهم �إيل بع�ض الذين در�سوا درا�سة دينية يف معهد �إ�سالمي عريق‬ ‫كالأزهر‪ .)14 :2001( ”.‬و�سماه بع�ضهم"اجنيل العلمانيني" (حممد‬ ‫عمارة‪ ،2011/7/27‬جريدة امل�رصيون) ‪� .‬أما املنا�رصون للكتاب‬ ‫و�صاحبه‪ ،‬الذي يحا�رصهم دائما فكر القوى التقليدية واملحافظة‪ ،‬فقد‬ ‫وجدوا يف �صدوره مرجعية عقالنية دينية جديدة‪ .‬وهذا �سبب اال�ستنفار‬ ‫واحلملة ال�ضارية التي قادها الأزهر ورجال الدين وال�سيا�سيون‪ ،‬والتي‬ ‫بد�أت باملحاكمة وحرمانه من �شهادته العلمية و�إخراجه من زمرة‬ ‫العلماء‪ .‬ويدل احتفاء امل�ؤيدين علي الظروف ال�صعبة التي يعي�شها الفكر‬ ‫املختلف تهدف ال�سيا�سة يف فهم اال�سالم ال�سيا�سي املعا�رص‪ ،‬وكما‬ ‫تعرب عنه احلركات الإ�سالمية املنظمة وبع�ض املفكرين اال�سالميني‬ ‫امل�ستقلني‪� ،‬إيل خدمة �أغرا�ض الدين و�إ�صالح الب�رش وهديهم ايل الطريق‬ ‫امل�ستقيم املنجي يف الدنيا والآخرة‪ .‬ولكن مل يقدموا ت�صورا عقالنيا‬ ‫ومو�ضوعيا لإمكانية الو�صول ايل هذه الغايات بوا�سطة و�سائل العمل‬ ‫ال�سيا�سي املعروفة‪ ،‬والتي تعترب يف كثري من االحيان غري �أخالقية‪.‬‬ ‫فال�سيا�سة �رصاع م�ستمر حول امل�صالح‪ ،‬غالبا ما تلج�أ فيه الأطراف‬ ‫املتناف�سة ايل احليل والدهاء والكذب والت�آمر‪ .‬ويكتب (عبداحلكيم) ‪:‬‬ ‫‪14‬‬


‫"فامل�شكلة يف اخلطاب الإ�سالمي �أنه يكتفي بربط الإ�سالم بال�سيا�سة‬‫من دون �أن يو�ضح ت�صوراته ور�ؤيته للعمل ال�سيا�سي و�أهدافه والإطار‬ ‫ال�رشعي له‪� ،‬إنه ي�ؤكد علي �أن الإ�سالم هو �أي�ضا �سيا�سة‪ ،‬ولكنه ال يتحدث‬ ‫عن ماهية هذه ال�سيا�سة يف الإ�سالم‪ ،‬ويكاد ينح�رص تفكريه يف املناداة‬ ‫بتطبيق ال�رشيعة و�إعطاء احلكم هلل واعتبار ذلك معيارا وحيدا لل�رشعية‪".‬‬ ‫(‪ )197 :2011‬ورغم �أن الكثريين من الإ�سالميني يرف�ضون‪-‬نظريا‪-‬‬ ‫�إختزال احلكم الإ�سالمي يف تطبيق ال�رشيعة ثم �إختزالها هي نف�سها يف‬ ‫احلدود؛ولكن جتارب و�صول الإ�سالميني �إيل ال�سلطة يف عدد من البلدان‬ ‫�أثبتت �أن م�رشوعهم ال�سيا�سي ال يتعدي هذا املجال ال�ضيق واملحدود‬ ‫يف فهم ماهية احلكم الإ�سالمي‪ .‬فقد ف�شل التطبيق العملي‪-‬تاريخيا‬ ‫وحا�رضا‪-‬ال�شكال الدولة الإ�سالمية يف تقدمي النموذج املثايل �أو‬ ‫املقبول حلكم النا�س دون �صعوبات وتوترات‪.‬‬

‫اخللفية التاريخية ‪ -‬الثقافية للكتاب‬ ‫�شهد العامل يف �أواخر القرن التا�سع ع�رش والربع الإول من القرن‬ ‫الع�رشين حتوالت عميقة‪ ،‬داخلية وخارجية‪ ،‬كان البد �أن ترتك �أثرها‬ ‫الوا�ضح علي العاملني العربي والإ�سالمي ‪ .‬ومل يعد �أي جزء علي الكرة‬ ‫الأر�ضية قادرا علي عزل نف�سه عن الآخرين‪ .‬فقد ظهر عدد من احلركات‬ ‫الإ�صالحية واجلهادية مثل املهدية (‪ )1898-1885‬ال�سنو�سية‪ ،‬بالذات‬ ‫حقبة ال�شيخ احمد ال�رشيف ال�سنو�سي (‪ . )1933-1873‬وهي حركات‬ ‫ا�صالح ديني ولكن غلب عليها اجلهاد �ضد امل�ستعمر‪ .‬وانتهت تلك الفرتة‬ ‫باكتمال الهيمنة اال�ستعمارية علي �أغلب البلدان العربية والإ�سالمية‪،‬‬ ‫‪15‬‬


‫تـقديـم‬

‫وانطلق طور جديد يف املعركة احل�ضارية مع الغرب‪ .‬واختلف ال�رصاع‬ ‫هذه املرة عما عرفه امل�سلمون خالل �رصاعهم التاريخي مع ال�صليبني‪.‬‬ ‫فهذا"اال�ستعمار"يحمل املدفع يف يد‪ ،‬وح�ضارته وقوانينه ونظمه يف‬ ‫اليد االخري‪ .‬لذلك‪ ،‬كان البد �أن تكون املوجة الإ�صالحية ذات طابع‬ ‫فكري �أكرث‪ .‬فقد واجه الرواد امثال الطهطاوي وخريالدين التون�سي �س�ؤال‬ ‫التوفيق بني هذه احل�ضارة الغربية املتفوقة واملبهرة‪ ،‬وبني ح�ضارتهم‬ ‫الراكدة والغافية‪ .‬و�سادت فكرة اللحاق بالغرب واحلداثة مع االحتفاظ‬ ‫بالهوية الدينية �أي ما مثل االجتاه التوفيقي يف الفكر الإ�سالمي ‪.‬‬ ‫يف فرتة الحقة ‪ ،‬وبعد احتالل فرن�سا لتون�س يف‪ ،1881‬واحتالل‬ ‫اجنلرتة مل�رص يف‪ ،1882‬ولل�سودان عام‪1899‬؛ دخلت هذه البالد يف‬ ‫�أزمة‪ .‬ويكتب (حوراين) عن هذه الو�ضعية امل�ستجدة‪ . . ."- :‬لذلك �شغلت‬ ‫ق�ضية االنحطاط الداخلي عقولهم دوما‪� .‬أما الآن‪ ،‬فقد اقرتنت بها ق�ضية‬ ‫جديدة‪ ،‬هي ق�ضية البقاء‪ ،‬املطروحة علي ال�شكل الآتي‪ :‬كيف ميكن‬ ‫للدول الإ�سالمية مقاومة اخلطر اخلارجي اجلديد؟" (‪. )132 :1986‬‬ ‫وقد مثل جمال الدين الأفغاين (‪ )1897-1739‬املحاوالت املبكرة‬ ‫للإجابة علي الت�سا�ؤل ال�صعب‪ .‬وقد ر�أي يف الوحدة الإ�سالمية القائمة‬ ‫علي قيم الإ�سالم اال�صيلة امل�ؤدية ايل اكت�ساب القوة والعقل والف�ضيلة‪.‬‬ ‫واختلف عن (الطهطاوي) الذي مل ير يف �أوربا م�صدر تهديد‪ ،‬فقد �أبدي‬ ‫االعجاب بها وامكانية ا�ستعارة االيجابيات‪" ،‬مع روح الثقة بالنف�س‬ ‫امل�ستندة �إيل االميان ب�أن الإ�سالم‪ ،‬برغم كونه متخلفا‪ ،‬قادر علي اللحاق‬ ‫باوربا املعا�رصة"‪ .‬ومن ناحية اخري‪ ،‬كانت امل�س�ألة بالن�سبة الأفغاين‬ ‫وتالمذته‪ ،‬مل تكن"تنتهي بالإ�شارة ايل كيف هي اال�ستعارة احلكيمة من‬ ‫‪16‬‬


‫الغرب لأن مهمة العلماء هي االنقاذ يف و�ضع من التحطم املحدق"‪.‬‬ ‫(�رشابي‪ . )40 :1971‬وميثل ال�شيخ حممد عبده (‪ )1905-1849‬مرحلة‬ ‫اخري يف التطور الفكري للإحيائية الدينية التي ايقظها التفوق الغربي‬ ‫علي امل�سلمني‪ ،‬حماوال التوا�صل والتجاوز يف م�سرية الإ�صالح‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫اجهد نف�سه يف توفيقية ذهبت بعيدا من خالل مهمة فكرية �صعبة‪ .‬فقد‬ ‫حاول تعريف الإ�سالم احلقيقي وربط ذلك مبعطيات املجتمع احلديث‪،‬‬ ‫لي�صل ايل �أن الإ�سالم �صالح لأن يكون �أ�سا�سا للحياة املعا�رصة‪.‬‬ ‫(حوراين‪ ،‬م�صدر �سابق‪.)174 ،‬‬ ‫تزامنت هذه التيارات الفكرية مع متغريات �سيا�سية هامة �أثرت‬ ‫بطرق مبا�رشة �أو غري مبا�رشة علي ظهور الأفكار اجلديدة‪ ،‬خا�صة‬ ‫فيما يخ�ص العالقة مع الغرب‪ .‬فقد ابتهج البع�ض لهزمية رو�سيا علي‬ ‫يد اليابان الدولة ال�رشقية عام‪ .1905‬خا�صة وقد بد�أ دور اخلالفة‬ ‫العثمانية يف اال�ضمحالل‪ ،‬و�صارت تركيا تعرف ب�إ�سم"رجل اوربا‬ ‫املري�ض"‪ .‬وكانت احلرب العاملية االويل (‪ )1918-1914‬وكان‬ ‫من �أهم نتائجها نهاية االمرباطوريات القدمية‪ .‬ومتت ت�صفية تركة‬ ‫الرجل املري�ض يف اتفاقية �سيفر عام‪ 1920‬بتجريد تركيا من كل‬ ‫توابعها االقليمية بالذات يف ال�شام و�شبه اجلزيرة العربية والعراق‪،‬‬ ‫والتي انتهت ايل دولة انا�ضولية �صغرية حتدها اليونان وارمينيا‪ .‬وكان‬ ‫من النتائج العظيمة لهذه احلرب قيام الثورة البل�شفية وظهور االحتاد‬ ‫ال�سوفيتي عام‪ .1917‬وعرفت هذه احلقبة مبادئ ويل�سون حول تقرير‬ ‫م�صري ال�شعوب‪ ،‬وقيام ع�صبة االمم‪ .1918‬ويف هذا االثناء �شهدت م�رص‬ ‫ثورة‪ 1919‬ود�ستور‪ .1923‬اما تركيا فقد انت�رص كمال اتاتورك �أو‬ ‫‪17‬‬


‫تـقديـم‬

‫الكماليون‪ ،‬ومت الغاء معاهدة �سيفر وتوقيع معاهدة لوزان عام‪1923‬‬ ‫ح�سب �رشوطهم‪ .‬والغيت ال�سلطنة يف نوفمرب‪ 1922‬واعالن اجلمهورية‬ ‫الرتكية يف‪29‬اكتوير‪ .1923‬ورغم �أن هذا يعني �ضمنا الغاء اخلالفة‪� ،‬إال‬ ‫�أن الإلغاء ر�سميا كان يف مار�س‪ .1924‬وكان حدثا �صاعقا مل يتقبله‬ ‫امل�سلمون‪ ،‬وقامت حماوالت ادعت حماية وحدة امل�سلمني‪ .‬فقد �سعي‬ ‫االجنليز لتن�صيب امللك ف�ؤاد خليفة للم�سلمني‪ ،‬وطمع امللك ح�سني بن‬ ‫علي يف �أخذ البيعة لنف�سه يف فل�سطني و�رشق االردن‪ ،‬كذلك �أمان اهلل‬ ‫خان ملك الأفغان‪ .‬ويري امل�ؤرخون �أن هذا التناف�س علي املن�صب هو‬ ‫الذي �أف�سد امل�ؤمتر الإ�سالمي الذي انعقد يف القاهرة يف مايو‪ 1926‬ومل‬ ‫يخرج بنتيجة‪( .‬عبدالغني �سي بك‪. )40 :1995 ،‬‬ ‫كان البد �أن يثري �إلغاء اخلالفة جدال فكريا و�سيا�سيا حادا ووا�سعا‪.‬‬ ‫ولقد بادرت الثورة الكمالية فور �صدور قرار الف�صل بني اخلالفة‬ ‫وال�سلطنة‪ ،‬وفرار وحيد الدين �سلطان تركيا االخري؛ب�إ�صدار بيان يف‬ ‫�شكل كتيب عنوانه‪" :‬اخلالفة و�سلطة الأمة"عام‪ 1922‬بالرتكية‪ ،‬ثم‬ ‫ترجم ايل العربية يف‪ .1924‬ولقد تبني القرار مبد�أ‪� :‬سلطة الأمة كما‬ ‫ميثلها املجل�س الوطني الذي "يقوم ب�أمورها ال�سيا�سية والإدارية علي‬ ‫الوكالء‪-‬الوزراء‪ ،‬املنتخبني منه كهيئة م�س�ؤولة لديه"‪( .‬امل�صدر ال�سابق‪،‬‬ ‫�ص‪ . )89‬و�أعتربه امل�ؤرخون التمهيد االيديولوجي للقرار التاريخي‬ ‫بالغاء اخلالفة وقيام الدولة املدنية �أو كما يف�ضل البع�ض الدولة‬ ‫العلمانية‪ .‬وي�ستهل الكتاب ‪ ،‬قبل تعريف اخلالفة‪ ،‬بالقول‪�"- :‬أن م�س�ألة‬ ‫اخلالفة يف حد ذاتها هي من امل�سائل الفرعية والفقهية‪ ،‬ومن جملة‬ ‫احلقوق وامل�صالح العامة املخت�صة بالأمة‪ ،‬وال عالقة لها باالعتقاد"‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫(امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص‪ )91‬ونقر�أ يف مو�ضع �آخر‪"- :‬بل �أن هذه امل�س�ألة‬ ‫هي م�س�ألة دنيوية و�سيا�سية �أكرث من كونها من كونها دينية و�أنها‬ ‫من م�صلحة الأمة نف�سها مبا�رشة‪ .‬لذا مل توجد تفا�صيل يف �ش�أنها يف‬ ‫الن�صو�ص ال�رشعية‪ .‬ومل يرد بيان �رصيح يف القر�آن الكرمي وال يف‬ ‫االحاديث النبوية يف كيفية ن�صب اخلليفة وتعيينه‪ ،‬و�رشوط اخلالفة‬ ‫ما هي‪�( ”.‬ص‪ )92‬ويري �أن اخلالفة من الأمور الدنيوية �أكرث من الأمور‬ ‫الدينية‪" ،‬لذا ترك الر�سول (�ص) �أمرها �إيل �أمته ومل ين�صب خليفة له ومل‬ ‫يو�ص به حني ارحتاله اي�ضا‪�( ”.‬ص‪. )93‬‬ ‫يطرح البع�ض �س�ؤاال منطقيا‪ ،‬وهو‪� :‬إذا كان �أمر اخلالفة دينيا �رصفا‪،‬‬ ‫فلماذا �شغلت م�س�ألة الإمامة واخلالفة هذا احليز الالفت يف كتب‬ ‫العقائد؟ويرد م�شريا "ايل حقيقة �أن ال�رصاع الفكري الإيديولوجي بني‬ ‫الدولة الأموية وخ�صومها من اخلوارج وال�شيعة‪ -‬وهو�رصاع اجتماعي‬ ‫فجر م�س�ألة اخلالفة وهو الذي ح ّفز ايل البحث‬ ‫�سيا�سي �أ�سا�سا‪-‬هو الذي ّ‬ ‫مب�ؤلفاتهم يف االعتقادات عن م�س�ألة اخلالفة اي�ضا"‪�( .‬ص‪ . )44‬ويبد�أ‬ ‫الكتاب يف الق�سم الأول ب‪ :‬تعريف اخلالفة و�إي�ضاحها‪ ،‬ثم‪ :‬تق�سيم‬ ‫اخلالفة وهنا يفرق بني ااخلالفة الكاملة �أو احلقيقية واخلالفة ال�صورية‬ ‫�أو احلكمية‪ .‬الأويل هي اجلامعة لل�صفات وال�رشوط الالزمة مثل �إنتخاب‬ ‫الإمة وبيعتها بطوعها ور�ضاها‪ .‬وال�صورية هي التي ال جتمع ال�رشوط‬ ‫الالزمة واملكت�سبة بال انتخاب الأمة وبيعتها �أي بالتغلب واال�ستيالء‪-‬‬ ‫وهي عبارة عن امللك وال�سلطنة (�ص‪ . )99‬ويخ�ص�ص �أجزاء ل�رشوط‬ ‫اخلالفة‪ ،‬وكيفية اكت�ساب اخلالفة وكونها من نوع عقد الوكالة‪ ،‬ثم الغاية‬ ‫من اخلالفة ووظيفتها وتبعاتها‪ ،‬و�أخريا الوالية العامة و�سلطة الأمة‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫تـقديـم‬

‫وخ�ص�ص الق�سم الثاين ملو�ضوع‪ :‬تقييد حقوق اخلالفة �أو تفريق ال�سلطنة‬ ‫عن اخلالفة‪ .‬و�أخريا ي�صل �إيل نتيجة تقول‪�"- :‬إن ما ي�سمي ب‪ :‬اخلالفة‬ ‫منذ �أع�صار مل يكن �سوي �سلطنة مذمومة وحكومة مردودة �رشعا‪ ،‬و�أن‬ ‫الذين كانوا ي�سمون ب‪ :‬اخللفاء‪ ،‬مل يكونوا غري امللوك وال�سالطني"‪ .‬ولذلك‬ ‫البد من التقييد واقرار احلق يف عزل اخلليفة‪�( .‬ص‪ 127‬وما بعدها)‪.‬‬ ‫وا�ستمر اجلدل من خالل ردود الفعل امل�ضادة‪ .‬فقد ا�صدر حممد ر�شيد‬ ‫ر�ضا‪ ،‬كتابا عنوانه‪"- :‬اخلالفة والإمامة العظمى"‪ .‬وبعد �أ�شهر �أ�صدر‬ ‫م�صطفي �صربي كتابه‪" :‬النكري علي منكري النعمة من الدين واخلالفة‬ ‫الأمة"‪ .‬ويدرج (�أبوزيد) الكتاب الأول �ضمن ما ي�سميه حزب"الإ�صالح‬ ‫الإ�سالمي املعتدل"وهو حزب الإمام ال�شيخ حممد عبده‪ .‬والذي يجمع‬ ‫بني اال�ستقالل يف فهم فقه الدين وحكم ال�رشع الإ�سالمي‪ .‬فقد ا�ستند‬ ‫علي املقوالت الفقهية الكال�سيكية ملفهوم اخلالفة‪ ،‬بالإ�ضافة للمعاجلة‬ ‫ال�سيا�سية يف �ض�ؤ واقع االعامل الإ�سالمي‪( .‬مقدمة املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫�ص‪. )41-40‬‬ ‫جتديد الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي ‪ -‬علي عبدالرازق‬

‫اخلالفة‬ ‫�شكل �إلغاء اخلالفة و�سقوط االمرباطورية العثمانية �صدمة قوية‬ ‫للم�سلمني‪ ،‬ويف نف�س الوقت اختبارا قا�سيا لقدرتهم علي التعاي�ش يف‬ ‫الع�رص احلديث �أي حتدي احلداثة‪ .‬وعرف الربع الأول من القرن الع�رشين‪-‬‬ ‫كما ا�سلفنا‪ -‬تطورات دولية واقليمية‪ ،‬كان البد �أن حتدث حراكا يف العديد‬ ‫‪20‬‬


‫من �أوجه احلياة‪ .‬وكان لبع�ض املتعلمني الذين در�سوا يف جامعات الغرب‪،‬‬ ‫دورا تنويرا وا�ضحا كما ظهر يف كتابات عبدالرازق وطه ح�سني‪ .‬ومل يكن‬ ‫كتابي‪" :‬الإ�سالم و�أ�صول احلكم"و"يف ال�شعر‬ ‫من امل�صادفات البحتة‪� ،‬صدور‬ ‫ّ‬ ‫اجلاهلي"‪ ،‬يف تلك الفرتة بالذات‪ ،‬فقد اغري اجلو الليربايل ن�سبيا واالنفتاح‬ ‫علي اوربا‪ ،‬الكاتبني علي اجرتاح تلك املغامرة‪ .‬و�ضمن مناخات انت�صار‬ ‫(�أتاتورك) يف تركيا‪ ،‬جتر�أ (ال�شيخ علي عبدالرازق) ليطرح نظريته ال�سيا�سية‬ ‫غري امل�سبوقة عن اخلالفة والدولة يف الإ�سالم‪ .‬وقد طرح �أ�سئلة �صعبة ونرث‬ ‫�شكوكا جديدة‪ ،‬منطلقا من �أخطر ت�سا�ؤلني‪ :‬هل اخلالفة �رضورية حقا �أو‬ ‫هل هي واجبة �رشعا؟ثم‪ :‬هل هناك نظام حكم �إ�سالمي بعينه؟وقد كانت‬ ‫�أجوبته بالنفي مما يعني وقوفه – بال�رضورة‪-‬مع نظرية ف�صل الدين عن‬ ‫الدولة‪ ،‬بكل ما يعني يف الواقع الإ�سالمي من عداوات واتهامات‪ .‬وهذه‬ ‫القطيعة يف حد ذاتها‪ ،‬تدل علي نوعية هذا املفكر نفي ال�س�ؤال الأول يف‬ ‫م�ستهل م�ؤلفه الذي ق�سمه ايل ثالث كتب‪ ،‬حيث اعطي الكتاب الأول عنوان‪:‬‬ ‫" يف اخلالفة واال�سالم"‪ ،‬وهو يحوي ثالثة �أبواب‪:‬‬ ‫اخلالفة وطبيعتها‬ ‫حكم اخلالفة‬ ‫اخلالفة من الوجهة االجتماعية‬ ‫حاول (عبدالرازق) ت�أ�صيل دح�ض فكرة �رضورة �أو �إلزامية‬ ‫اخلالفة بالتوجه مبا�رشة �إيل الن�ص والإجماع لتجنب الدخول يف �أي‬ ‫مماحكات ومغالطات‪ .‬فقطع بعدم وجود ن�ص قر�آين �أو حديث نبوي‪،‬‬ ‫كما �أنه مل يتم الإجماع‪ ،‬حول �رضورة �أو �إلزامية اخلالفة‪ .‬وهو يبد�أ‬ ‫بالقول �أن الر�سالة النبوية روحية بحتة‪ ،‬وهنا مكمن اخلالف وال�ضيق‬ ‫‪21‬‬


‫تـقديـم‬

‫ي�صعب مهمة من يدعي اخلالفة ب�رشوط‬ ‫ب�آراء (عبدالرازق) والذي‬ ‫ّ‬ ‫جتعله يف مرتبة الر�سول يف �أخالقه ودوره وم�س�ؤوليته لكي يكون‬ ‫جديرا بالوالية �أو اخلالفة �أو الإنابة عن النبي (�ص) ‪ .‬ويقرر الكاتب‬ ‫بو�ضوح قاطع‪ "- :‬والية الر�سول علي قومه والية روحية من�ش�ؤها‬ ‫�إميان القلب وخ�ضوعه خ�ضوعا �صادقا تاما يتبعه خ�ضوع اجل�سم‪.‬‬ ‫ووالية احلاكم والية مادية تعتمد اخ�ضاع اجل�سم من غري �أن يكون‬ ‫لها بالقلوب ات�صال‪ .‬تلك والية هداية �إيل اهلل و�إر�شاد �إليه‪ .‬وهذه والية‬ ‫تدبري مل�صالح احلياة وعمارة الأر�ض‪ .‬تلك الدين‪ ،‬وهذه الدنيا‪ .‬تلك‬ ‫هلل وهذه للنا�س‪ .‬تلك زعامة دينية وهذه زعامة �سيا�سية‪ .‬ويا بعد ما‬ ‫بني ال�سيا�سة والدين"‪ )69 :1925( .‬وهذا الن�ص من �أكرث كتابات‬ ‫(عبدالرازق) ح�سما ملوقفه يف ف�صل الدين عن الدولة �أو ال�سيا�سة‪ .‬فقد‬ ‫ا�ستمد النبي (�ص) �سلطته من عند اهلل‪ ،‬ففي حالة اال�ستخالف يفرت�ض‬ ‫ان يكون م�صدر �سلطته اهلل مبا�رشة �أو من خالل الر�سول ولكن من‬ ‫عنده‪ .‬وهذه هي �أ�س�س ال�سلطة املطلقة التي ال ي�سائل احبها كما �أنها‬ ‫الدولة الدينية التي يترب�أ منها اجلميع‪ .‬فالنبي حممد (�ص) �أخ�ضع‬ ‫قلوب امل�ؤمنني له وهذه �سلطة ال ي�ستطيعها كل حاكم‪ ،‬لأن مثل هذه‬ ‫ال�سلطة ال تتم بالإكراه مثل ال�سلطة ال�سيا�سية‪ .‬ويكتب (حوراين) يف‬ ‫هذا ال�صدد عن هذه ال�سلطة‪"- :‬وهي ت�ستهدف‪ ،‬ال تنظيم �ش�ؤون احلياة‬ ‫يف هذه الدنيا‪ ،‬بل قيادة النا�س �إيل اهلل‪ .‬وقد �أن�ش�أ حممد‪ ،‬بف�ضل هذه‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬جماعة‪ ،‬لكنها مل تكن من النوع الذي ن�سميه عادة الدولة (‪. .‬‬ ‫‪ ).‬واحلقيقة�أن الإرادة الإلهية ال تعني ب�أ�شكال احلكم‪ .‬فقد ترك اهلل حقل‬ ‫احلكم املدين وامل�صلحة الدنيوية ملبا�رشة العقل الب�رشي"‪)229( .‬‬ ‫وهكذا �شجع كتاب (عبدالرازق) مثل هذه الآراء اجلرئية علي التعبري‬ ‫‪22‬‬


‫علنا عن نف�سها‪ .‬وهذا هو ا�سهامه احلقيقي يف جمال التجديد الديني‬ ‫واالجتهاد املحمود‪.‬‬ ‫وقد جاء يف حيثيات حكم املحكمة ال�رشعية فيما يخ�ص هذه‬ ‫الفكرة‪�" :‬أن ال�شيخ علي ًا جعل ال�رشيعة الإ�سالمية‪� ,‬رشيعة روحية‬ ‫حم�ضة‪ ,‬ال عالقة لها باحلكم والتنفيذ يف �أمور الدنيا‪ .‬وقد ردت الهيئة‬ ‫على هذا الزعم الباطل ب�أن الدين الإ�سالمي هو �إجماع امل�سلمني على ما‬ ‫جاء به النبي "‪,‬من عقائد‪ ,‬وعبادات‪ ,‬ومعامالت لإ�صالح �أمور الدنيا‬ ‫والآخرة‪ ,‬و�أن كتاب اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬و�سنة ر�سوله "‪ ,‬كالهما م�شتمل على‬ ‫�أحكام كثرية يف �أمور الدنيا‪ ,‬و�أحكام كثرية يف �أمور الآخرة‪ .‬وقالت‬ ‫الهيئة‪ :‬ووا�ضح من كالمه ‪ -‬امل�ؤلف ‪� -‬أن ال�رشيعة الإ�سالمية عنده‬ ‫�رشيعة روحية حم�ضة‪ ,‬جاءت لتنظيم العالقة بني الإن�سان وربه فقط‪,‬‬ ‫و�أن ما بني النا�س من املعامالت الدنيوية وتدبري ال�ش�ؤون العامة فال‬ ‫�ش�أن لل�رشيعة به‪ ,‬ولي�س من مقا�صدها‪ .‬وهل يف ا�ستطاعة ال�شيخ �أن‬ ‫ي�شطر الدين الإ�سالمي �شطرين‪ ,‬ويلغي منه �شطر الأحكام املتعلقة‬ ‫ب�أمور الدنيا‪ ,‬وي�رضب ب�آيات الكتاب العزيز‪ ,‬و�سنة ر�سول اهلل" عر�ض‬ ‫احلائط؟!" (مو�سوعة املذاهب الفكرية املعا�رصة‪ ،‬الف�صل الرابع‪ ،‬املطلب‬ ‫ثامن ع�رش‪-‬االنرتنت)‬ ‫يحاول امل�ؤلف ب�رصامة ودقة اثبات عدم وجود ن�صو�ص قاطعة‬ ‫يف القر�آن الكرمي‪ ،‬ويرد علي خ�صومه ب�أنهم لن يتوانوا يف عر�ض‬ ‫هذا الدليل لو وقع يف نظرهم! ويعرج علي ال�سنة النبوية‪ ،‬ليفحم من‬ ‫يت�صد‬ ‫هاجموه‪"- :‬لي�س القر�آن وحده هو الذي �أهمل تلك اخلالفة ومل‬ ‫ّ‬ ‫‪23‬‬


‫تـقديـم‬

‫لها‪ ،‬بل ال�سنة كالقر�آن اي�ضا‪ ،‬تركتها ومل تتعر�ض لها‪ .‬يدلك علي هذا‬ ‫�أن العلماء مل ي�ستطيعوا �أن ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شئ من احلديث‪،‬‬ ‫ولو وجدوا لهم يف احلديث دليال لقدموه يف اال�ستدالل علي الإجماع"‪.‬‬ ‫(�ص‪ )16‬وير�صد حماوالت البحث عن �سند �رشعي لدي املوالني‪ ،‬مثل‬ ‫حممد ر�شيد ر�ضا‪ ،‬لوجوب اخلالفة‪ ،‬ويري �أنها متهافتة لأنها ال تتعدي‬ ‫بع�ض اال�ست�شهادات الرتاثية‪ .‬ويجملها يف روايات مثل‪" :‬الأئمة من‬ ‫قري�ش"‪� ،‬أم‪" :‬تلزم جماعة امل�سلمني"‪� ،‬أو‪" :‬من مات ولي�س يف عنقه بيعة‬ ‫فقد مات ميتة جاهلية"‪� ،‬أو‪" :‬من بايع �إماما ف�أعطاه �صفقة يده وثمرة‬ ‫قلبه فليطعه �إن ا�ستطاع‪ ،‬ف�إن جاء �آخر ينازعه فا�رضبوا عنق الآخر"‪،‬‬ ‫�أو القول‪" :‬اقتدوا بالذين من بعدي �أبي بكر وعمر"‪ ،‬وغريها‪ .‬وي�ؤكد‬ ‫قائال‪"- :‬ولي�س يف �شئ من ذلك كله ماي�صلح دليال علي ما زعموه‪ ،‬من‬ ‫�أن ال�رشيعة اعرتفت بوجود اخلالفة �أو االمامة العظمى‪ ،‬مبعنى النيابة‬ ‫عن النبي (�ص) والقيام مقامه من امل�سلمني"‪�( .‬ص‪)17‬‬ ‫وي�صل ايل نهاية فر�ضيته م�ؤكدا �صحتها �أي عدم وجود �أي �سند‬ ‫�رشعي بوجوب و�إلزامية اخلالفة‪ .‬ويكتب يف خامتة الكتاب‪ "- :‬واحلق‬ ‫ان الدين اال�سالمي بريء من تلك اخلالفة التي يتعارفها امل�سلمون‬ ‫‪ ,‬وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة ‪ ,‬ومن عز وقوة‬ ‫‪ ,‬واخلالفة لي�ست يف �شيء من اخلطط الدينية ‪ ,‬كال وال الق�ضاء وال‬ ‫غريهما من وظائف احلكم ومراكز الدولة‪ .‬و�إمنا كلها خطط �سيا�سية‬ ‫�رصفة ‪ ,‬ال �شان للدين بها ‪ ,‬فهو مل يعرفها ومل ينكرها ‪ ,‬وال �أمر‬ ‫بها وال نهى عنها ‪ ,‬وامنا تركها لنا ’ لرنجع فيها �إىل �أحكام العقل‬ ‫‪ ,‬وجتارب الأمم ‪ ,‬وقواعد ال�سيا�سة"‪�( .‬ص‪ . )103‬ولذلك‪ ،‬مل ت�ؤ�س�س‬ ‫‪24‬‬


‫–ح�سب ر�أيه‪� -‬أي دولة خالل حياة الر�سول (�ص) حتي ما ي�سمي‬ ‫بدولة املدينة‪ ،‬فقد �أتي مب�رشا ونذيرا ورحمة‪ ،‬ومل تكن له �أي مهمة �أو‬ ‫وظيفة اخري‪.‬‬ ‫ولكن من �أين اكت�سبت م�ؤ�س�سة اخلالفة هذه القد�سية؟�سبق و�أن‬ ‫�أجبنا جزئيا علي �س�ؤال مماثل‪ .‬ولكن (عبدالرازق) ي�ضيف �أ�سبابا اخري‬ ‫يرجعها ايل احلكام �أنف�سهم الذين عملوا علي �إ�ضفاء �صبغة دينية علي‬ ‫حكمهم‪ ،‬و�ساعدهم علماء ال�سلطان يف ذلك‪ ،‬بالفتاوى واملربرات واحليل‬ ‫الفقهية‪ .‬وكان من املمكن االكتفاء بفكرة حتول اخلالفة الرا�شدة �إيل ملك‬ ‫ع�ضو�ض مع جمئ معاوية والأمويني �إيل ال�سلطة‪ .‬ويتعر�ض لظاهرة‬ ‫ا�ستغالل الدين امل�ستمرة تاريخيا حتي اليوم‪ ،‬كو�سيلة لتمجيد اخلالفة‬ ‫واالحتفاظ بالتميز الديني للخليفة كظل اهلل علي االر�ض‪ .‬ويهاجم هذا‬ ‫ويحمله كثريا من نواق�ص و�سلبيات امل�سلمني‪ ،‬ويكتب‪"- :‬كذاك‬ ‫التوجه‬ ‫ّ‬ ‫ف�شا بني امل�سلمني منذ ال�صدر الأول‪ ،‬الزعم ب�أن اخلالفة مقام ديني‪،‬‬ ‫ونيابة عن �صاحب ال�رشعية عليه ال�سالم‪ .‬كان من م�صلحة ال�سالطني‬ ‫�أن يروجوا ذلك اخلط�أ بني النا�س‪ ،‬حتي يتخذوا من الدين دروعا حتمي‬ ‫عرو�شهم‪ ،‬وتذود اخلارجني عليهم (‪ ). . .‬ثم �إذا تل�صق باملباحث الدينية‪،‬‬ ‫و�صارت جزءا من عقائد التوحيد‪ .‬تلك جناية امللوك وا�ستبدادهم‬ ‫بامل�سلمني‪� ،‬أ�ضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه احلق‪ ،‬وحجبوا‬ ‫عنهم م�سالك النور ب�إ�سم الدين‪ ،‬وب�إ�سم الدين ا�ستبدوا بهم و�أذلوهم"‪.‬‬ ‫(�ص‪ )102-101‬وي�ؤكد �أن الواقع الذي ي�ؤيده العقل وي�شهد به التاريخ‬ ‫قدميا وحديثا –كما يقول‪� -‬أن �شعائر اهلل تعايل ومظاهر دينه الكرمي‪،‬‬ ‫ال تتوقف علي ذلك النوع من احلكومة الذي ي�سميه الفقهاء خالفة‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫تـقديـم‬

‫ويري عدم احلاجة لها يف �أمور ديننا وال دنيانا‪" :‬ف�إمنا كانت اخلالفة‬ ‫ومل تزل نكبة علي الإ�سالم وعلي امل�سلمني‪ ،‬وينبوع �رش وف�ساد"‪.‬‬ ‫(�ص‪. )36-35‬‬ ‫‪lll‬‬

‫وعندما �صدر الكتاب حامال هذه الآراء اجلديدة متاما علي كثري‬ ‫روج‬ ‫من امل�سلمني‪� ،‬أقام الدنيا ومل يقعدها حتي اليوم‪ ،‬رغم �أن البع�ض ّ‬ ‫لرتاجعه عن هذه الآراء اجلريئة وامل�ستفزة للبع�ض‪ .‬وكانت حماكمته‬ ‫ب�سبب الكتاب‪ ،‬وحماكمة طه ح�سني‪ ،‬من �أهم حماكمات الر�أي يف تاريخ‬ ‫امل�سلمني احلديث‪ .‬ومتت ادانته خالفا لطه ح�سني‪ ،‬فقد كانت لق�ضيته‬ ‫�أبعادا �سيا�سية بالإ�ضافة لدور زمالئه �شيوخ الأزهر‪ .‬وتدفقت الردود‬ ‫دفاعا ملا ر�آه عدد من علماء الدين طعنا يف العقيدة‪ .‬ومتت ادانته وجرد‬ ‫من �ألقابه العلمية ووظيفته‪ .‬ولكن البع�ض يري يف هذه املعركة خطوة‬ ‫متقدمة و�إيجابية‪.‬‬ ‫ويقول (ال�رشيف) عن نتائج ن�رش الكتاب‪"- :‬ولكن الزوبعة التي‬ ‫�أثارها مل تكن مفتعلة البتة‪� ،‬إذ هي عنوان التحول احلا�سم الذي �شهدته‬ ‫قطاعات‪-‬مل ينفك يزداد عددها وت�أثريها‪ -‬من املفكرين العرب‬ ‫املحدثني الذين �ضاقوا ذرعا بقيود املا�ضي وجتر�ؤوا علي تقدمي قراءات‬ ‫املتخرجني‬ ‫للتاريخ والواقع الإ�سالميني ال تن�سجم مع ر�ؤى رجال الدين‬ ‫ّ‬ ‫رتين للحلول التي ارت�ضاها القدماء"‪.‬‬ ‫من املعاهد التقليدية واملج ّ‬ ‫(‪. )214-3‬‬ ‫ويري �آخرون ب�أن هذه نظرة �شديدة التفا�ؤل باعتبار �أن الطريق‬ ‫الذي �شقه (عبدالرازق) �شديد الوعورة وغايل الكلفة‪ .‬فقد تراجع – ح�سب‬ ‫‪26‬‬


‫ر�أيهم‪-‬تيار التجديد والإحياء الديني حل�ساب االجتاهات املحافظة‬ ‫وال�سلفية‪ .‬ويت�ساءل البع�ض ملاذا مل ي�ؤ�س�س علي التيار العقالين الذي‬ ‫د�شنه (عبدالرازق) ومل يت�سع ليكون حركة جماهريية كبرية مثلما فعل‬ ‫الأخوان امل�سلمون؟ومن املالحظ �أن حركات التجديد الإ�سالمي تظل‬ ‫دائما نخبوية وتندثر �رسيعا‪ ،‬ومثال ذلك الي�سار الإ�سالمي يف م�رص‬ ‫(ح�سن حنفي) والتقدميون الإ�سالميون يف تون�س (اجلور�شي والقوماين‬ ‫والنيفرة) ‪� .‬إذ يظل الدين �شديد املقاومة للتغيري ب�سبب الركود الن�سبي‬ ‫للمجتمعات العربية و�ضعف التطور الثقايف‪.‬‬ ‫مل يعدم التيار العقالين التحديثي بع�ض امل�ؤيدين‪ ،‬فقد �أ�ضاف بع�ض‬ ‫املفكرين �إ�سهامات مقدرة لهذا الرتاث الذي بادر به (عبدالرازق) ‪ .‬وكان‬ ‫من �أهم الداعمني لنظرية عدم �رشعية اخلالفة املفكر اجلزائري عبداحلميد‬ ‫بادي�س (‪ . )1940-1889‬ورغم �أنه كان من املعجبني مبحمد ر�شيد‬ ‫ر�ضا الذي هاجم كتاب"الإ�سالم و�أ�صول احلكم"‪ ،‬ب�أق�سي االلفاظ‪� ،‬إال �أنه‬ ‫كان يف نف�س الوقت معجبا بكمال �أتاتورك معتربا اياه"�أعظم رجل عرفته‬ ‫الب�رشية يف التاريخ"‪ .‬وكتب عن تطور م�ؤ�س�سة اخلالفة‪ ،‬وكيف حتولت‬ ‫من من�صب واحد وموحد ايل التعدد ب�سبب الفرقة واال�ضطراب‪ ،‬مما افقده‬ ‫معناه اال�صلي‪ .‬ويكتب‪"- :‬وبقي رمزا ظاهريا تقدي�سيا لي�س من �أو�ضاع‬ ‫الإ�سالم يف �شئ‪ .‬فيوم �ألغي الأتراك اخلالفة‪ ...‬مل يلغوا اخلالفة مبعناها‬ ‫الإ�سالمي و�إمنا �ألغوا نظاما حكوميا خا�صا بهم و�أزالوا رمزا خياليا فنت‬ ‫به امل�سلمون لغري جدوى"‪ .‬ويختم م�ؤكدا‪�"- :‬أن خيال اخلالفة لن يتحقق‪،‬‬ ‫و�أن امل�سلمني �سينتهون يوما ما‪�-‬إن �شاء اهلل‪� -‬إيل هذا الر�أي"‪�( .‬آثار ابن‬ ‫بادي�س‪� ،‬أورده ال�رشيف‪� ،‬ص‪. )215-4‬‬ ‫‪27‬‬


‫تـقديـم‬

‫ويعترب خالد حممد خالد (‪� )1996-1920‬ضمن �سل�سلة هذا التيار‪،‬‬ ‫رغم ظهوره املت�أخر‪ .‬فقد ن�رش كتابه املو�سوم‪"- :‬من هنا نبد�أ"مطلع‬ ‫اخلم�سينيات من القرن املا�ضي‪ .‬وهاجم فيه الدولة باعتبارها رمزا‬ ‫لال�ستبداد‪ ،‬ورجال الكهانة الذين يدعمون الدولة الدينية‪ .‬وقال ب�رضورة‬ ‫ف�صل الدين عن الدولة‪ .‬ولكنه تراجع عن كثري من تلك الأفكارواملواقف‬ ‫يف كتابه‪" :‬الدولة يف الإ�سالم" ال�صادر عام‪ .1981‬وغالبا ما يقوم‬ ‫بع�ض الكتاب الإ�سالميني ببناء مثال نظري ي�صنفون داخله ما‬ ‫يعتربونهم العلمانييني املوالني لأفكار (علي عبدالرازق) ‪ .‬وت�شمل هذه‬ ‫النماذج ت�شكيلة وا�سعة من �أ�صحاب االجتاهات التجديدية‪ ،‬والليربالية‪،‬‬ ‫والعقالنية واحلداثيني‪ .‬ويندرج �ضمن ه�ؤالء مفكرون مثل‪ :‬حممد �أحمد‬ ‫خلف اهلل ‪ ،‬م�ؤلف"الفن الق�ص�صي يف القر�آن الكرمي"‪ ،‬والذي دخل يف‬ ‫جدل مع بع�ض الإ�سالميني حول الدين والدولة يف الإ�سالم ‪ .‬وترد يف هذا‬ ‫املع�سكر العلماين االفرتا�ضي‪� ،‬شخ�صيات مثل‪ :‬لوي�س عو�ض‪ ،‬زكي جنيب‬ ‫حممود‪ ،‬ف�ؤاد زكريا‪ ،‬حممود �أمني العامل‪ ،‬فرج فودة وغريهم من الكتاب‬ ‫غري التقليديني‪ .‬و�ساهم املفكرون املغاربة عبداهلل العروي وحممد عابد‬ ‫اجلابري يف نقد فكرة اخلالفة‪ ،‬ولكنهم بعيدون‪-‬يف �أحيان كثرية‪-‬عن‬ ‫ال�سجال الذي يدور غالبا يف امل�رشق العربي‪.‬‬ ‫رغم اال�رضار ال�شخ�صية التي طالت (ال�شيخ علي عبدالرازق) ‪ ،‬و�إنت�شار‬ ‫االجتاهات املحافظة وال�سلفية؛ميكن القول ب�إنح�سار فكرة اخلالفة‪،‬‬ ‫خا�صة بعد �سقوطها واقعيا‪ .‬ومل تعد حتي احلركات الإ�سالمية و�أغلب‬ ‫املفكرين الإ�سالميني‪ ،‬ينادون –ب�صورة مبا�رشة‪ -‬بعودة اخلالفة عدا‬ ‫حزب التحرير و�أ�صوات قليلة بني اجلهاديني‪ .‬والأهم من ذلك‪ ،‬ظهر ما‬ ‫‪28‬‬


‫ي�شبه الإجماع حول م�صدر �رشعية اخلالفة‪ .‬فقد ح�سم النقا�ش الذي‬ ‫كانت تطغي عليه الآراء القائلة ب�أن �سلطة اخلليفة م�ستمدة من �سلطة اهلل‪،‬‬ ‫ل�صالح الر�أي القائل ب�أنها م�ستمدة من الأمة �أو الإرادة ال�شعبية‪ .‬وت�رسب‬ ‫هذا املوقف الإ�صالحي حتي ايل �أ�شد املنتقدين لل�شيخ عبدالرازق‪ ،‬وعلي‬ ‫ر�أ�سهم ال�شيخ حممد بخيت املطيعي‪ ،‬مفتى الديار امل�رصية يف ذلك الوقت‪،‬‬ ‫حني تبني نظرية �أن الأمة هي م�صدر ال�سلطة‪ .‬ويعلق �أحد الباحثني علي‬ ‫هذا املوقف بقوله‪ "- :‬وهكذا نري �أن التوفيق بني املفاهيم الإ�سالمية‬ ‫واملفاهيم احلديثة الذي نادي به الكتاب ال�سالفون �أ�صبح اليوم مقبوال‬ ‫بال ت�سا�ؤل‪ .‬ويبدو �أن ال�شيخ بخيت يعلم �أنه‪ ،‬بقوله هذا‪� ،‬إمنا كان ميهد‬ ‫ال�سبيل لتوغل العقالنية الغربية يف الإ�سالم‪ ،‬وهو ما من �أجله انتقد‬ ‫خ�صمه"‪( .‬حوراين‪� ،‬ص‪. )233‬‬

‫الدولة‪ :‬دينية �أم مدنية؟‬ ‫كانت مقاربة (عبدالرازق) اخلا�صة بعدم �رضورة و�إلزامية اخلالفة‪،‬‬ ‫هي مدخله للمطالبة بدولة �إ�سالمية مدنية قائمة علي ال�شورى‪ .‬فهي‬ ‫يري �رضورة وجود �سلطة �سيا�سية‪ ،‬ولكن لي�س الزما �أن تكون اخلالفة‪.‬‬ ‫لذلك ‪ ،‬اليتوقف عند عدم لزوم اخلالفة ك�شكل للحكم بني امل�سلمني‪ ،‬بل‬ ‫يدعوهم لالنفتاح علي جتارب العامل بال خوف �إذ ال يوجد دينيا ما‬ ‫مينعهم من ذلك‪ ،‬ويكتب‪"- :‬ال �شيء يف الدين مينع امل�سلمني ان ي�سابقوا‬ ‫الأمم الأخرى يف علوم االجتماع وال�سيا�سة كلها ‪ ,‬وان يهدموا ذلك‬ ‫النظام العتيق الذي ذلوا له وا�ستكانوا �إليه ’ وان يبنوا قواعد ملكهم ’‬ ‫ونظام حكومتهم ’ على احدث ما �أنتجت العقول الب�رشية ‪ ,‬وامنت ما دلت‬ ‫‪29‬‬


‫تـقديـم‬

‫جتارب الأمم على انه خري �أ�صول احلكم "‪�( .‬ص‪ )103‬وكانت هذه الدعوة‬ ‫هي التي ازعجت خ�صومه‪ ،‬وحتدثوا عن متي وكيف حدث االخرتاق‬ ‫الغربي للإ�سالم؟ثم عن علمنة الإ�سالم من الداخل‪� .‬إذ يكتب �أحدهم‪:‬‬ ‫"علي �أن كتاب ال�شيخ علي عبدالرازق‪ ،‬قد ذهب �أبعد مما ذهب �إليه‬‫الذين ب�رشوا بعلمانية الغرب �سبيال للتقدم الذي يتجنب خماطر الكهانة‬ ‫والدولة الدينية –باملعنى الغربي‪-‬لقد ذهب فادعي دعوى غري م�سبوقة‬ ‫من �أحد ممن در�س الإ�سالم وتاريخه احل�ضاري‪ ،‬م�سلما هذا الدار�س‬ ‫�أو غري م�سلم‪ . .‬لقد ادعي علمانية الإ�سالم‪ ،‬مبعنى انقطاع ال�صلة بينه‬ ‫وبني ال�سيا�سة والدولة والعمران االجتماعي‪ . .‬لقد �أنكر �إقامة الر�سول‬ ‫(�ص) دولة"‪( .‬عمارة‪ . )73 :2008 ،‬لقد قوله الكاتب ما مل يقل‪ ،‬ولكن‬ ‫العداء لل�شيخ وظروف معركة الكتاب‪ ،‬كانت تقت�ضي‪�-‬أحيانا‪-‬مدفعية‬ ‫ثقيلة من اللغة وامل�صطلحات‪ .‬وقد مت ا�ستخدامهما بطريقة جمانية‪ .‬مع‬ ‫التهاون والفو�ضى املفاهيمية واملنهجية التي ت�سود ال�ساحة الفكرية‪.‬‬ ‫رف�ض (عبدالرازق) اخلالفة درءا خلطر اال�ستبداد و�أن ي�ستغل الدين يف‬ ‫�إذالل النا�س وتغييب وعيهم‪ .‬ولكنه �أفرز حيزا معتربا يف كتابه للحكومة‬ ‫الإ�سالمية‪ .‬وكان الق�سم �أو الكتاب الثاين‪ ،‬بعنوان‪ :‬يف احلكومة واال�سالم‬ ‫‪ :‬وهو يحوي ثالثة �أبواب‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫ نظام احلكم يف ع�رص النبوة ‪.‬‬‫ الر�سالة واحلكم ‪.‬‬‫ ر�سالة ال حكم ‪ ,‬ودين ال دولة‪.‬‬‫ومن العناوين ال�سابقة يت�ضح مق�صد (عبدالرازق) وهو ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة‪ ،‬والر�سالة عن احلكم؛مع اميان بوجوب وجود الدولة �أو‬ ‫‪30‬‬


‫احلكومة‪ .‬ويكتب يف هذا ال�صدد‪"- :‬املعروف الذي ارت�ضاه علماء‬ ‫ال�سيا�سة �أنه البد ال�ستقامة الأمر يف �أمة متمدينة‪� ،‬سواء �أكانت ذات‬ ‫دين �أم ال دين لها‪ ،‬و�سواء �أكانت م�سلمة �أم م�سيحية �أم يهودية �أم‬ ‫خمتلطة الأديان‪ ،‬ال بد لأمة منظمة مهما كان معتقدها‪ ،‬ومهما كان‬ ‫جن�سها ولونها ول�سانها‪ ،‬من حكومة تبا�رش �ش�ؤونها‪ ،‬وتقوم ب�ضبط‬ ‫الأمر فيها‪ .‬قد تختلف �أ�شكال احلكومة و�أو�صافها بني د�ستورية‬ ‫وا�ستبدادية‪ ،‬وبني جمهورية وبول�شفية وغري ذلك‪ .‬وقد يتنازع علماء‬ ‫ال�سيا�سة يف تف�ضيل نوع من احلكومة علي نوع �آخر‪ .‬ولكننا ال نعرف‬ ‫لأحد منهم وال من غريهم نزاعا يف �أن �أمة من الأمم ال بد لها من‬ ‫نوع من �أنواع احلكم"‪�( .‬ص‪ )34-33‬ورغم الت�أكيد علي عمومية‬ ‫الدولة وعامليتها‪� ،‬إال �أن الإ�شارة وا�ضحة حلياديتها جتاه الدين �أو‬ ‫القومية وتو�صف طبيعتها ح�سب امل�شاركة واحلرية فقط‪ .‬ومل مينعه‬ ‫هذا املوقف من �رضورة الدولة‪ ،‬من �أن يفرق بني الر�سالة واحلكم �أو‬ ‫بني الدين والدولة‪ .‬لذلك‪ ،‬ركز يف هذا اجلزء من الكتاب علي تقدمي‬ ‫ال�شواهد التي تنفي‪-‬ا�ستنادا علي الكتاب وال�سنة‪-‬اململكة النبوية �أي‬ ‫�أن النبي كان ملكا‪ .‬ويظهر قدرا كبريا من اجلر�أة والثقة يف طروحاته‪،‬‬ ‫حني يكتب‪"- :‬وال يهولنك البحث يف �أن الر�سول (�ص) كان ملكا �أم ال‪،‬‬ ‫وال حت�سنب �أن ذلك البحث ذو خطر يف الدين قد يخ�شي �رشه علي �إميان‬ ‫الباحث‪ ،‬فالأمر‪� ،‬إن فطنت �إليه‪� ،‬أهون من �أن يخرج م�ؤمنا من حظرية‬ ‫االميان‪ ،‬بل �أهون من �أن يزحزح املتقي عن حظرية التقوى"‪�( .‬ص‪)48‬‬ ‫وك�أنه يخاطب ويطمئن نف�سه‪ ،‬خا�صة حني يقول ب�أن مثل هذا احلديث‬ ‫من" باب البحث العلمي منه يف باب الدين‪ ،‬فاقدم وال تخف‪� ،‬إنك‬ ‫من الآمنني"‪�( .‬ص‪ . )49‬وهذه بدورها دعوة جرئية ومتقدمة تقوم‬ ‫‪31‬‬


‫تـقديـم‬

‫ب�إخ�ضاع الظواهر الدينية للبحث العلمي وحتطيم بع�ض املحرمات‬ ‫وتو�سيع دائرة املعرفة والعقالنية‪.‬‬ ‫يعار�ض (عبدالرازق) ب�شجاعة‪ ،‬الآراء امل�ستقرة واملتفق عليها‪ ،‬وال‬ ‫يرتدد يف م�ساءلة �أفكار ك�سبت ا�ستمراريتها وانت�شارها ب�سبب التفاف‬ ‫ويفرق بني احلقيقة التاريخية‬ ‫غالبية النا�س حولها‪ ،‬خا�صة العامة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واملنطقية‪ ،‬وبني الآراء ال�سائدة واملجمع عليها‪ ،‬حني يكتب‪�"- :‬إن‬ ‫امل�سلم العامي يجنح غالبا �إيل اعتقاد �أن النبي (�ص) كان ملكا ور�سوال‬ ‫و�أنه ا�س�س بالإ�سالم دولة �سيا�سية مدنية كان ملكها و�سيدها‪ ،‬يتالءم‬ ‫مع ذوق امل�سلمني العام ولعله �أي�ضا ر�أي جمهور العلماء من امل�سلمني‪،‬‬ ‫ف�إنك تراهم‪� ،‬إذا عر�ض لهم الكالم يف �شئ يت�صل بذلك املو�ضوع‪ ،‬مييلون‬ ‫�إيل اعتبار الإ�سالم وحدة �سيا�سية ودولة �أ�س�سها النبي (�ص) "‪�( .‬ص‪. )50‬‬ ‫ويبد�أ يف نقا�ش ما ا�سماه"اململكة النبوية"‪ ،‬وهي فكرة مفرت�ضة و�أحيانا‬ ‫مرغوبة‪ ،‬ليجعل من دح�ضها ‪ ،‬و�سيلته املعرفية لنفي قيام الدولة الدينية‬ ‫يف الإ�سالم‪ .‬ويح�شد الكثري من الأدلة القر�آنية التي تنفي �أن النبي كان‬ ‫ملكا‪�( .‬ص‪ ، )70‬ومن ال�سنة النبوية (�ص‪ ، )76‬ويحاور بع�ض الفقهاء‬ ‫واملفكرين‪ .‬ويري �أن (ابن خلدون) ينحو ذلك املنحى‪ ،‬فقد جعل اخلالفة‬ ‫التي هي نيابة عن �صاحب ال�رشع يف حفظ الدين و�سيا�سة الدنيا‪� ،‬شاملة‬ ‫للملك وامللك مندرج حتتها‪ .‬ويرد عليه ب�أن اململكة النبوية عمل منف�صل‬ ‫عن دعوة الإ�سالم وخارج عن حدود الر�سالة‪ .‬ويختلف مع القائلني بدمج‬ ‫الدعوة وتنفيذها بالعمل يف نف�س الوقت‪.‬‬ ‫يرف�ض الكاتب فكرة �أن الإ�سالم �رشعي تبليغي وتطبيقي‪ ،‬و�أن‬ ‫ال�سلطة الدينية اجتمعت فيه وال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬دون �سائر الأديان‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫ويتبني خطر الدولة الدينية القائمة –يف ر�أي دعاتها‪-‬بوحى من اهلل‪،‬‬ ‫وت�صل درجة الكمال التي تعجز عنها عقول الب�رش‪ .‬وهنا ي�رشع يف‬ ‫الت�سا�ؤل ملاذا خلت "اململكة النبوية" من �أركان الدولة ودعائم احلكم‪،‬‬ ‫مثل تعيني الق�ضاة والوالة؟وملاذا مل يتحدث النبي (�ص) �إيل رعيته يف‬ ‫نظام امللك وقواعد ال�شورى؟وملاذا ترك العلماء يف حرية وا�ضطراب‬ ‫من �أمر النظام احلكومي يف زمنه؟ (�ص‪ )57‬وي�ؤكد خلو الع�رص النبوي‬ ‫من خمايل امللك (�ص‪ . )44‬ويقول‪"- :‬وقد رحل �صلي اهلل عليه و�سلم‬ ‫بالرفيق الأعلي من غري �أن ي�سمي �أحدا يخلفه من بعده‪ ،‬وال �أن ي�شري �إيل‬ ‫من يقوم يف �أمته مقامه‪ .‬بل مل ي�رش عليه ال�سالم طول حياته �إيل �شئ‬ ‫ي�سمي دولة �إ�سالمية‪� ،‬أو عربية"‪�( .‬ص‪ . )87‬ورغم ذلك ي�سمي البع�ض‪،‬‬ ‫الوحدة الدينية‪ ،‬دولة؛ويدعو ال�سلطان النبوي املطلق‪ ،‬ملكا �أو خالفة‪.‬‬ ‫ويجزم‪ ،‬وبح�سم �أن زعامة النبي انتهت مبوته‪ ،‬وال توجد بعده زعامة‬ ‫دينية‪ ،‬وما لأحد �أن يخلفه يف زعامته ور�سالته‪ .‬وما جاء بعده‪ ،‬هو نوع‬ ‫جديد من الزعامة‪ :‬مدنية �أو �سيا�سية‪ ،‬غري التي عرفناها زمن النبي‪.‬‬ ‫وهي زعامة احلكومة وال�سلطان‪ ،‬ال زعامة الدين‪�( .‬ص‪ . )90‬ويف هذا‬ ‫الردة حربا �سيا�سية ولي�ست دينية‪.‬‬ ‫ال�سياق يري حرب ّ‬ ‫ردة من اطلقت عليهم هذه ال�صفة‪ ،‬فهم يف الواقع مل‬ ‫وي�شكك يف ّ‬ ‫يكونوا مرتدين‪ ،‬كفروا باهلل ور�سوله‪"- :‬بل كان فيهم من بقي علي‬ ‫�إ�سالمه‪ ،‬ولكنه رف�ض �أن ين�ضم �إيل وحدة �أبي بكر‪ ،‬ل�سبب ما‪ ،‬من غري‬ ‫�أن يري يف ذلك حرجا عليه‪ ،‬وال غ�ضا�ضة يف دينه‪ .‬وما كان ه�ؤالء‬ ‫من غري �شك مرتدين‪ ،‬وما حماربتهم لتكون با�سم الدين‪ .‬فان كان والبد‬ ‫من حربهم ف�إمنا هي ال�سيا�سة‪ ،‬والدفاع عن وحدة العرب‪ ،‬والذود عن‬ ‫دولتهم"‪�( .‬ص‪ . )97‬وي�رضب مثال مبالك بن نويرة الذي قال ب�أنه مازال‬ ‫‪33‬‬


‫تـقديـم‬

‫علي الإ�سالم‪ ،‬ولكن ال ي�ؤدي الزكاة �إيل �أبي بكر‪ .‬ويعلق الكاتب‪"- :‬كان‬ ‫نزاعا يف ملوكية ملك‪ ،‬ال يف قواعد دين‪ ،‬وال يف �أ�صول �إميان"‪�( .‬ص‪)98‬‬ ‫‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يري ما جاء بعد وفاة النبي‪ ،‬هي دولة عربية قامت علي‬ ‫�أ�سا�س دعوة دينية‪ .‬وكان �شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها‪.‬‬ ‫(�ص‪. )92‬‬

‫نحو دولة �إ�سالمية‬ ‫جاءت الدولة الوطنية ب�شكلها احلديث من خارج ال�سياق التاريخي‪-‬‬ ‫االجتماعي العربي‪ .‬فقد مت ا�ستزراعها من اخلارج‪ ،‬ومن هنا جاءت‬ ‫امل�شكالت التي واجهت منوها وتقدمها‪ .‬وارتبط وجود الدولة بق�ضايا‬ ‫التحديث والغربنة‪ ،‬وال�رصاع مع اال�ستعمار والتحرر‪ .‬لذلك‪ ،‬ميكن القول‬ ‫�أن (عبدالرازق) �ساهم يف تخلي�ص فكرة الدولة يف العامل الإ�سالمي من‬ ‫�أ�رس النموذج املا�ضوي غري املتفق عليه (اخلالفة) ‪� .‬أما امل�ساهمة الثانية‬ ‫فقد كانت نزع ال�صفة الدينية والتقدي�سية عن الدولة يف بالد امل�سلمني‪.‬‬ ‫وقد هذا االجتاهان علي جممل التيارات واحلركات يف تناولها مل�س�ألة‬ ‫احلكم يف الإ�سالم‪� .‬إذ خبا متاما احلديث عن اخلالفة‪ ،‬كما يترب�أ اجلميع‬ ‫من و�صف دولتهم امل�أمولة ب�أنها دولة دينية‪.‬‬ ‫ومن �أهم ال�صعوبات التي واجهت الإ�سالميني املعا�رصين يف‬ ‫التنظري والتقعيد لفكر �سيا�سي حديث‪ ،‬الفقر املدقع الذي عا�شه الفكر‬ ‫ال�سيا�سي الإ�سالمي تاريخيا‪-‬كما ا�سلفنا‪ .‬لذلك‪ ،‬مل ي�سعفهم التاريخ‬ ‫والرتاث واخلربة مبعينات يف التجديد‬ ‫والت�أ�صيل‪ .‬ويرجع البع�ض هذا الق�صور لأ�سباب تاريخية �أو تعود ايل‬ ‫‪34‬‬


‫الدين نف�سه‪ .‬ويري (مو�صلي) �أن ت�شكل مفهوم"الدولة" باملعني ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫بد�أ تاريخيا منذ القرنني ال�ساد�س وال�سابع الهجريني‪ ،‬وذلك مع �ضعف‬ ‫اخلالفة‪ ،‬وفقدانها �سلطتها التنفيذية‪ ،‬وحتولها ايل جمرد رمز لوحدة‬ ‫الأمة‪ .‬وي�ضيف‪" - :‬وتكون الدولة عند اال�صوليني عمال تنظيميا يف‬ ‫خدمة م�صالح االمة ال عو�ضا عنها‪ .‬فالدولة م�س�ؤولة امام االمة واالمة‬ ‫بدورها م�س�ؤولة بدورها م�س�ؤولة امام اهلل‪ .‬بهذا يري اال�سالمييون �أن‬ ‫�شكل الدولة ال يحدد ماهية االمة‪ ،‬كما �أن زوالها ال يعني زوال االمة بل‬ ‫ي�ؤدي ايل تعطيل االحكام ال�رشيعة هذا من ناحية ال�رشعية"‪:1993( .‬‬ ‫‪ )12‬وينتهي بالقول‪ "- :‬وي�ستعمل اال�سالمويون مفهوم الدولة ك�أداة‬ ‫من االدوات التي ت�ستخدم حلماية الأمة والدفاع عنها ولكنها لي�ست‬ ‫بديلة عنها"‪( .‬نف�س امل�صدر ال�سابق) ‪ .‬ووظيفتها �أداة لن�رش الدين وتعميم‬ ‫العدل وتطبيق ال�رشيعة‪.‬‬ ‫ورغم �أن ق�ضية الدين وال�سلطة برزت منذ حادثة ال�سقيفة‪ ،‬ظل‬ ‫الكثريون يرددون �أن اال�سالم مل يكن ي�ستهدف بناء دولة جمتمع �أو �أمة‪.‬‬ ‫وهنا يتكرر ما قاله (عبدالرازق) يف التفرقة والف�صل بني الر�سالة واحلكم‬ ‫�أوال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية‪� .‬إذن‪ ،‬ماهي هذه الدولة التي مل‬ ‫يتوقف احلديث عنها‪ ،‬بل عاد قويا جارفا يف الآونة الأخرية؟هناك ر�أي‬ ‫يجد قبوال وا�سعا بني املفكرين املجددين والليرباليني‪� .‬إذ يعتقد �أ�صحاب‬ ‫هذا الر�أي �أن امل�سلمني يبحثون عن مثال �أو يوتبيا �أوطوبي‪ ،‬وبع�ضهم‬ ‫يعلم ب�أنها م�ستحيلة التحقق‪ .‬ويري (العروى) �أن عبارة دولة �إ�سالمية‬ ‫مرفو�ضة ما دامت الدولة الإ�سالمية يف احلقيقة هي اخلالفة‪ ،‬وقد تكون‬ ‫عبارة دولة �رشعية‪� ،‬أ�صح‪ .‬ولكنه يخ�شي �أن تت�سبب يف التبا�س كبري لأن‬ ‫‪35‬‬


‫تـقديـم‬

‫ال�شخ�ص العادي ال يفرق بني الدولة ال�رشعية واخلالفة‪ .‬ويف�ضل الكاتب‬ ‫مفهوما �آخر‪"- :‬اذا قلنا دولة الإ�سالم الإ�سالمية �أو دولة امل�سلمني‪.‬‬ ‫فالقول مقبول ما دمنا ال نعني به نظاما �إ�سالميا بل فقط نظاما تقام‬ ‫فيه �شعائر الإ�سالم ويعي�ش فيه م�سلمون م�ؤمنون"‪. )120 :1984( .‬‬ ‫ويجمل فكرته بالقول‪"- :‬ال يجوز �أن نقول �إنها الدولة الإ�سالمية‪� ،‬إن‬ ‫هذه العبارة متناق�ضة يف ذاتها �إذا �أخرجناها من عامل املعقوالت �إىل‬ ‫عامل املح�سو�سات‪ .‬ت�شري الدولة �إىل م�ستوى وي�شري الإ�سالم �إىل م�ستوى‬ ‫�آخر‪ .‬ت�ستقيم العبارة دولة – �إ�سالمية يف ظروف غري طبيعية ي�صبح‬ ‫الإن�سان غري الإن�سان وحيث تتغري القواعد العامة لل�سلوك الب�رشي‬ ‫فتتحول الدولة �إىل ال دولة ويذوب هدفها املحدود يف الغاية العظمى‬ ‫للأمة جمعاء‪� .‬أما يف الظروف العادية فتبقى الدولة يف نطاق احليوانية‬ ‫غايتها الغلبة واال�ستئثار باخلريات فال ميكن �أن تتحول تلقائي ًا �إىل �أداة‬ ‫تتوخى حتقيق مكارم الأخالق"‪( .‬نف�س امل�صدر ال�سابق) ‪.‬‬ ‫ميكن ارجاع �أزمة العديد من احلركات الإ�سالمية‪ ،‬وا�شكالية �أغلب‬ ‫املفكرين‪ ،‬وم�أزق احلكم؛�إيل االنف�صام املحزن بني املثال والواقع‪ ،‬بني‬ ‫املمكن واملنجز‪ .‬وقد ت�سبب هذا الواقع غري املقنع يف االحباط ‪ ،‬وال�شعور‬ ‫بالدونية املفرو�ضة جتاه تفوق الغرب‪ .‬وقاد يف بع�ض االحيان �إيل العنف‪،‬‬ ‫واخلوف املر�ضي (فوبيا) من العجز وعدم القدرة علي التعامل بندية مع‬ ‫الإخر‪ .‬ويهرب العقل الإ�سالمي‪ ،‬والفرد امل�سلم ايل املثال (اليوتوبيا) ‪.‬‬ ‫ويقع ه�ؤالء يف الأزمة ب�سبب مثالهم املا�ضوي‪ ،‬فقد �سبق حتقيق هذه‬ ‫اليوتوبيا يف املا�ضي‪� .‬إذ يتوق هذا الفكر �إيل ا�ستعادة �أجماد ال�سلف‬ ‫ال�صالح والتي جت�سدت عمليا يف اخلالفة الرا�شدة‪ .‬وي�صف �أحد الباحثني‬ ‫هذه احلالة‪ ،‬بقوله‪"- :‬واملواطن الفرد ينتمي عملياوجوديا" ايل دولتني‬ ‫‪36‬‬


‫واحدة قائمة والتاريخية وواحدة غري قائمة وتاريخية‪ .‬وب�سبب من‬ ‫ازدواجية العالقة وتناق�ضها يتجه املواطن عادة ايل تغليب "الذاكرة"‬ ‫علي "الواقع"وتاليا الالنتماء علي االنتماء‪ .‬والن الدولة احلديثة عندنا‬ ‫التاريخية فهي غالبا دولة �ضعيفة وغري قادرة علي التوحيد والدمج‬ ‫‪ .‬انها دولة م�ستقلة عن املجتمع (منف�صلة) ويف الآن عينه منق�سمة‬ ‫وت�ستمد قوتها من "اخلارج" وت�ستقوي به علي الداخل‪( .‬نويه�ض‪،‬‬ ‫‪ . )206 :1992‬ويبدي (رودن�سون) ا�ستغرابه لكون فكرة ا�ستعادة املثال‬ ‫عابرة للتاريخ ومل تخمد يف عقول كثري من امل�سلمني‪ .‬ويكتب‪ "- :‬ان من‬ ‫املده�ش �أنه بعد ع�رشات القرون من التجارب املت�ضافرة‪� ،‬أن يكون من‬ ‫ال�رضوري ا�ستعادة قانون تاريخي للم�آثر امل�ؤكدة‪ .‬ان النوايا االخالقية‬ ‫الطيبة �سواءا كانت ب�ضمانة االله �أم ال‪ ،‬لي�س لها وزن كبري يف توجيه‬ ‫ال�سيا�سة العملية للدول واف�ضل مثال علي ذلك هو الت�أثري ال�ضعيف‬ ‫للنزعة املناه�ضة للعنف عند امل�سيح علي توجهات ال�سلطات امل�سيحية‬ ‫(ومعظم رعاياها من جهة اخري) علي الرغم من �أن تلك النزعة ت�ستعاد‬ ‫دائما بف�ضل ن�صو�ص مقر�ؤة وحمرتمة وباقية يف الذاكرة‪ .‬وت�ستطيع‬ ‫تلون ا�سلوب املمار�سة ال�سيا�سية‬ ‫الروحانية اال�سالمية حل�سن احلظ �أن ّ‬ ‫لبع�ض القادة ومن املغامرة �أن ي�أمل املرء �أكرث من ذلك"‪:1996( .‬‬ ‫‪ )268‬وهو اليهمل ت�صور امل�سلمني القائل بتفوق الإ�سالم علي جميع‬ ‫االديان االخري‪ ،‬لذلك فهو �صالح‪-‬يف ر�أيهم‪-‬لكل زمان ومكان‪.‬‬ ‫ي�سعي عدد من املفكرين الإ�سالميني املعا�رصين علي اخلروج من‬ ‫�أ�رس اليوتوبيا �أو املثال التاريخي‪ ،‬بالقول �أن الدولة الإ�سالمية الفا�ضلة‬ ‫ممكنة الآن وهنا‪ .‬ويري البع�ض �أن غاية الإ�سالميني يف ال�سيا�سة‬ ‫‪37‬‬


‫تـقديـم‬

‫واحلكم‪ ،‬تبدو �سهلة نظريا‪ .‬وهي تخليق الدولة وال�سيا�سة عموما‪� ،‬أي‬ ‫ا�ضافة الأخالق لكل مناحي احلياة اخلا�صة والعامة‪ .‬ولكن بع�ض‬ ‫الباحثني يري �أن هذا التخليق ف�شل تاريخيا ب�سبب عدم ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة �أو ال�ستخدام الدين يف الدفاع عن الدولة‪ .‬وي�ستخدم (العناين)‬ ‫مفهوم (ماك�س فيرب) عن الهيمنة الدينية يف �رشح هذا التطور‪"- :‬‬ ‫حتول الدين كي ي�صبح اداة يف خدمة الدولة‪ ،‬فخلقت دولة القهر مقابل‬ ‫دولة االخالق‪ .‬وظهرت مع�ضلة تربير احلكم اجلائر وال�سلطان القاهر‬ ‫يف اطار ال�رشيعة"‪ .‬وي�ضيف خالل ع�رص النبوة كان الدين حمورا‬ ‫للن�شاط االن�ساين مقابل انزواء الدولة (ال�سلطة) ك�أداة لتمكني الدين من‬ ‫حتقيق ر�سالته العاملية‪ .‬مع دولة اخلالفة مت احالل الدولة حمل الدين‬ ‫وباتت هي مركز الن�شاط االن�ساين وا�صبح الدين حتت ا�رشاف الدولة‪.‬‬ ‫ثم يحدث الدمج الق�رسي بني الدين والدولة‘وحماوالت اخ�ضاع االول‬ ‫لهذه الأخرية‪ ،‬يف حتول الدين �إيل نوع من "الهيمنة" ال�سو�سيولوجية‪.‬‬ ‫(�صحيفة احلياة اللندنية‪. )2007/2/3‬‬ ‫متوج ال�ساحة حاليا‪ ،‬مبواقف فكرية جتديدية عديدة‪ ،‬التي يرجع‬ ‫ن�سبها ايل �أفكار (ال�شيخ علي عبدالرازق) رغم �إدانة �أ�صحابها –بقوة‪ -‬له‪.‬‬ ‫فهناك هدف معلن �أو م�ضمر‪ ،‬غايته حتديث الفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي‪ .‬وقد‬ ‫جاءت كتاباتهم يف لغة جديدة‪ ،‬ومفاهيم م�ستعارة من الغرب‪ ،‬ونظريات‬ ‫توفيقية‪ .‬وهذه عملية علمنة ال�شعورية يقودها معادون للعلمنة!وهنا‬ ‫نفرق بني العلمانية ك�أيديولوجية‪ ،‬زالعلمنة ك�سريورة اجتماعية‪-‬‬ ‫تاريخية تطابق العوملة‪ ،‬وتطال كل من يعي�ش علي هذا الكوكب‪.‬‬ ‫تطرح مناذج وتعريفات عديدة للدولة الإ�سالمية‪ ،‬واملالحظ �أنها‬ ‫‪38‬‬


‫كلها‪-‬تقريبا‪ -‬تن�أي بنف�سها عن �صفة الدينية‪ ،‬وحتاول ا�سكات اال�صوات‬ ‫التي تطلق عليها هذه ال�صفة وتعتربها مغر�ضة‪ .‬وهذا حتول عظيم يف‬ ‫التفكري ال�سيا�سي الإ�سالمي ب�سبب العلمنة احلياتية‪ ،‬و�صل لدرجة تخلي‬ ‫بع�ض جماعات وتنظيمات الإ�سالم ال�سيا�سي عن �أ�سمائها التاريخية‬ ‫رغم ما حملته من دالالت ورمزية‪ ،‬مثل اختيار االخوان امل�سلمني لإ�سم‪:‬‬ ‫احلرية والعدالة‪ .‬ولأول مرة ي�ضيف �أغلب الإ�سالميني �صفة‪ :‬املدنية‪،‬‬ ‫رغم عدم تعريف �أو حترير املفهوم وق�ضية مدنية الدولة‪ .‬ويكتب (ال�شيخ‬ ‫يو�سف القر�ضاوي) ‪"- :‬فاخلط�أ كل اخلط�أ الظن ب�أن الدولة الإ�سالمية‬ ‫التي ندعو �إليها دولة دينية‪� .‬إمنا الدولة الإ�سالمية دولة مدنية تقوم علي‬ ‫�أ�سا�س االختيار والبيعة وال�شورى‪ ،‬وم�س�ؤولية احلاكم �أمام الأمة‪ ،‬وحق‬ ‫كل فرد يف الرعية �أن ين�صح لهذا احلاكم‪ ،‬وي�أمره باملعروف وينهاه‬ ‫عن املنكر"‪� )58 :2001( .‬أو ‪�"- :‬إنها لي�ست دولة دينية �أو ثيوقراطية‬ ‫تتحكم يف رقاب النا�س‪� ،‬أو �ضمائرهم با�سم احلق الإلهي"‪� ،‬أو‪"- :‬فاحلق‬ ‫�أنها دولة مدنية حتكم بالإ�سالم‪ ،‬وتقوم علي البيعة وال�شورى"‪.‬‬ ‫(�ص‪ )30‬وك�أنه يعترب دولة الدميقراطية وامل�شاركة واملحا�سبة هي‬ ‫الدولة املدنية‪ ،‬والدينية بال�رضورة ا�ستبدادية وديكتاتورية‪ .‬ولكن‬ ‫(القر�ضاوي) مل يتكيف متاما مع م�صطلحات الدولة املدنية‪ .‬ويظهر‬ ‫ذلك يف ا�ستخدام كلمة‪ :‬الرعية عو�ضا عن املواطنني‪ .‬وقد فطن (ال�شيخ‬ ‫خالد حممد خالد) للفرق مبكرا‪ ،‬يف كتاب عنوانه‪ :‬مواطنون ال رعايا‬ ‫(‪ . )1951‬وبعد �رشح طويل للدولة الإ�سالمية املدنية‪ ،‬ومعاملها‪ ،‬يختم‪:‬‬ ‫"ولكن العلمانيني يف ديار العروبة والإ�سالم يدعون زورا علي الدولة‬‫يف الإ�سالم �أنها دولة دينية حتكم مبا �سموه احلق الإلهي‪�( ”.‬ص‪. )56‬‬ ‫وي�ضيف‪"- :‬ونريد �أن نقول له�ؤالء الذين يتهمون دعاة الإ�سالم ب�أنهم‬ ‫‪39‬‬


‫تـقديـم‬

‫يدعون لإقامة دولة دينية‪� :‬إنكم تقولون علي دعاة الإ�سالم غري احلق‪،‬‬ ‫وتقولونهم مامل يقولوا‪ ،‬فهم يدعون �أبدا �إيل �إقامة دولة �إ�سالمية‪ ،‬ومل‬ ‫ّ‬ ‫يدعوا يوما – ولن يدعوا – �إيل دولة دينية"‪�( .‬ص‪. )57‬‬ ‫يقدم (القر�ضاوي) دفاعا م�سهبا عن مدنية الدولة يف الإ�سالم‪،‬‬ ‫ويت�ساءل يف النهاية‪ :‬فعالم ا�ستند العلمانيون يف اتهامهم للإ�سالميني‬ ‫بالدعوة �إيل �إقامة دولة دينية تقوم علي �أ�سا�س احلق الإلهي؟ (�ص‪)59‬‬ ‫‪ .‬ويورد ما ي�سميه ال�شبهات التي � ّأدت ايل هذا املوقف‪ .‬و�أولها فكرة‬ ‫احلاكمية التي نادي بها �أبوالأعلي املودودي و�سيد قطب‪ ،‬م�ؤداها‪� :‬أن‬ ‫احلكم هلل تعايل‪ ،‬ولي�س لأحد من الب�رش‪ ،‬فالكون مملكته �سبحانه‪ ،‬ولي�س‬ ‫لأحد فيها حكم دونه‬ ‫وال معه‪ ،‬ح�سب الآية الكرمية‪�"- :‬إن احلكم �إال هلل‪� ،‬أمر �أال تعبدوا �إال‬ ‫�أياه"‪( ،‬يو�سف‪ . )40 :‬ثم كلمة قالها اخلليفة الثالث عثمان �أثناء ح�صاره‬ ‫وحني طلب منه الثوار �أن يعتزل اخلالفة‪،‬‬ ‫فرد قائال‪"- :‬ال واهلل �إين لن �أنزع رداءا �رسبلنيه اهلل"‪ ،‬والتي ف�رسها‪-‬‬ ‫البع�ض‪-‬ح�سب ر�أيه‪-‬ب�أن ال حق للرعية يف نزع الإمام من مكان رفعه‬ ‫اهلل �إليه‪�( .‬ص‪ . )60‬كذلك اال�ست�شهاد بكلمة �أخرى تن�سب �إيل اخلليفة‬ ‫العبا�سي �أبي جعفر املن�صور‪ ،‬جاءت يف خطبة بعد ا�ستيالء العبا�سيني‬ ‫علي ال�سلطة‪ ،‬جاء فيها‪�"- :‬أيها النا�س‪� ،‬إمنا �أنا �سلطان اهلل يف �أر�ضه‪،‬‬ ‫�أ�سو�سكم بتوفيقه وت�سديده وت�أييده‪ ،‬وحار�سه علي ماله‪� ،‬أعمل فيه‬ ‫مب�شيئته و�إرادته‪ ،‬و�أعطيه ب�إذنه‪ ،‬فقد جعلني اهلل عليه قفال‪� ،‬إن �شاء �أن‬ ‫يفتحني فتحني لإعطائكم وق�سم �إرزاقكم‪ ،‬و�إن �شاء �أن يقفلني عليها‬ ‫�أقفلني"‪� .‬أما "ال�شبهة"الرابعة وفق حتليله‪ ،‬فهي جتربة الثورة الإيرانية‬ ‫املعا�رصة‪ ،‬حيث يقوم علي احلكم فيها رجال الدين هناك‪ .‬ويقولون‬ ‫بوالية الفقيه‪ .‬ويدح�ض ب�إ�سهاب �أ�س�س هذه الأفكار داعيا يف النهاية �إيل‬ ‫‪40‬‬


‫�إغالق ملف الدولة �أو ال�سلطة الدينية‪� ،‬أن الإ�سالم ح�سم الأمر بالدعوة‪:‬‬ ‫"�إيل �سلطة �إ�سالمية مبعنى �أنها �سلطة مدنية تختارها الأمة‪ ،‬تعتمد‬‫املرجعية الإ�سالمية يف ت�رشيعها وتوجيهها و�سيا�ستيها الداخلية‬ ‫واخلارجية"‪�( .‬ص‪. )74‬‬ ‫تكون الآراء ال�سابقة خطاب تيار جديد يطلق علي نف�سه �أ�سم‪:‬‬ ‫الو�سطية الإ�سالمية‪ ،‬ويتبني حزب احلرية والعدالة (الأخوان امل�رصيون‬ ‫يف م�رص) يف برناجمه املعلن هذه املواقف الفكرية‪ .‬ويندرج �ضمن هذا‬ ‫التيار عدد مما ي�سمي باملفكرين الإ�سالميني امل�ستقلني مثل‪- :‬طارق‬ ‫الب�رشى‪� ،‬سليم العوا‪� ،‬أحمد كمال �أبو املجد‪ ،‬فهمي هويدي‪ ،‬حممد عمارة‬ ‫(يف م�رص) و�آخرين يف قطر واالردن وال�سودان‪ ،‬والغرب‪ .‬ولكن هناك‬ ‫التيارات ال�سلفية التي ال تورط نف�سها يف مثل هذه النقا�شات التي تهز‬ ‫ثوابتها وقناعاتها املطلقة‪ .‬وهي مازالت تف�رس �آيات مثل‪"- :‬ومن مل‬ ‫يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أ�ؤلئك هم الكافرون" (�سورة املائدة‪ ، )44 : :‬بطريقة‬ ‫تقربهم كثريا من فكرة الدولة الدينية‪.‬‬

‫خامتة‬ ‫و�أخريا‪ ،‬يت�ساءل املرء‪ ،‬بعد هذا الت�أكيد امل�ستمر علي مدنية الدولة‬ ‫الإ�سالمية‪ :‬ما هو �أ�سا�س االختالف بني الإ�سالميني وغريهم من‬ ‫الليرباليني والعلمانيني؟‬ ‫اعتقد �أن كل الإ�سالميني يتفقون حول �رضورة تطبيق ال�رشيعة‬ ‫الإ�سالمية‪� .‬إذ ي�رص البع�ض علي اختزال التدافع احلادث بني الأفكار‪،‬‬ ‫يف القانون �أو بني القوانني العلمانية الآتية من اوربا �أو الغرب‪ ،‬وتلك‬ ‫النابعة من تراث الأمة‪ .‬ومن هنا برز ال�رصاع املفتعل بني علمانيني‬ ‫‪41‬‬


‫تـقديـم‬

‫و�إ�سالميني‪ ،‬مما ا�ستدعي خلق هذا العدو العلماين ثم �صد خطره‪ .‬وهذا ما‬ ‫�سماه (عمارة) "العودة من علمنة الإ�سالم �إيل �إ�سالمية ال�سيا�سة"‪:2008( .‬‬ ‫‪ . )99‬ومازال اجلدل حمتدما حول تطبيق ال�رشيعة خا�صة بعد جتارب‬ ‫بع�ض البلدان الإ�سالمية التي �أثارت كثريا من املخاوف يف التطبيق‪ .‬وال‬ ‫�أظن �أن اخلالف حول ال�رشيعة‪ ،‬جوهري‪ .‬ولكن الق�ضية احلقيقية‪ ،‬هي‬ ‫كيف ندخل هذا الع�رص دون �أن تت�صادم هويتنا معه؟ واعيد اال�ست�شهاد‬ ‫هنا مرة اخرى‪ ،‬بدعوة (عبدالرازق) ‪ ،‬للم�سلمني‪ "- :‬وان يبنوا قواعد‬ ‫ملكهم ونظام حكومتهم على احدث ما �أنتجت العقول الب�رشية ‪ ,‬وامنت‬ ‫ما دلت جتارب الأمم على انه خري �أ�صول احلكم "‪�( .‬ص‪ )103‬ومثل هذه‬ ‫الدعوة هي التي ح ّفزت كتابات مثل‪ :‬ر�ؤية �إ�سالمية معا�رصة‪�-‬إعالن‬ ‫مبادئ‪ ،‬تقدمي‪� :‬أحمد كمال �أبو املجد‪ ،‬لكي تخرج من ممحاكات العلمانية‬ ‫والإ�سالم والتي انطلقت يف ع�رصنا منذ علي عبدالرازق وطه ح�سني‪ ،‬ومل‬ ‫تتوقف حتي اليوم‪� .‬إذ تقول الر�ؤية‪�"- :‬إن وجود تيار فكري �إ�سالمي‬ ‫جديد‪ ،‬ينري الطريق �أمام جماهري امل�سلمني علي امتداد العامل الإ�سالمي‪،‬‬ ‫ويعينها علي حل م�شاكلها املرتاكمة مبواقف واجتهادات وحلول تنبع‬ ‫من الر�ؤية الأ�سا�سية التي مينحها للفرد امل�سلم �إميانه باهلل ور�سوله‬ ‫ومببادئ الإ�سالم وقيمه العليا وتعاليمه"‪)18 :1991( .‬‬ ‫�أوحت �إ�شارات (عبدالرازق) عن �إعمال العقل وعدم تقدي�س املا�ضي‬ ‫لذاته‪ ،‬ب�أفكار الإ�سالميني التقدميني (تون�س) والي�سار الإ�سالمي‪ ،‬يف‬ ‫التجديد‪ .‬وبالت�أكيد‪ ،‬نلحظ ظالل ال�شيخ‪ ،‬حني يقولون عن �أنف�سهم‪. ." :‬‬ ‫‪ .‬يتم�سكون بانتمائهم الإ�سالمي لأن الإ�سالم عندهم معطى ح�ضاري‬ ‫وثقايف وهو منظومة عقائدية و�إطار مرجعي ي�ستمدون منه �أ�صول‬ ‫نظرتهم الفل�سفية واالخالقية واالجتماعية‪ .‬لكنهم يف الآن نف�سه‬ ‫يرف�ضون حتنيط الإ�سالم يف قوالب جاهزة وادعاء منذجته يف املا�ضي‬ ‫ويعتربونه ر�سالة عاملية تت�شكل با�ستمرار يف �ض�ؤ خ�صو�صيات ودرجة‬ ‫‪42‬‬


‫الوعى باملرحلة التاريخية التي تكون عليها حركة �إ�سالمية ما يف زمن‬ ‫رئي�سيا لتعميق‬ ‫حمددين‪ ،‬ويرون يف الوعى التاريخي مدخال‬ ‫ومكان ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتهاد وجتديد العلوم الدينية"‪. )33 :1989( .‬‬ ‫كانت نظرية (عبدالرازق) التي عرب عنها يف كتابه‪" :‬الإ�سالم وا�صول‬ ‫احلكم"‪ ،‬تهدف �إيل مزيد من التدخل الب�رشي (العقل) يف فهم الدين‪،‬‬ ‫وبالذات فيما يخ�ص احلكم وال�سيا�سة‪ .‬وقد فتح كوة فكرية م�ضئية ينهل‬ ‫منها الكثريون الآن‪� ،‬شعوريا �أو ال�شعوريا‪ .‬و�أغلب املحاوالت التجديدية‬ ‫الراهنة ميكن و�صلها‪-‬بال تع�سف‪-‬علي الأقل يف االجتاهات العامة‬ ‫لأفكاره‪ .‬وذلك‪ ،‬لأن ما �أتي به (عبدالرازق) توقف قبله �أو بعيدا عنه‪،‬‬ ‫املجددون ال�سابقون له‪ ،‬مثل‪ :‬االفغاين‪ ،‬وحممد عبده‪ ،‬وحممد ر�شيد ر�ضا‪.‬‬ ‫ومل ي�ضف الكثريون من الالحقني‪ ،‬جديدا م�ؤثرا لأنهم وقفوا يف املوقع‬ ‫املعاك�س له‪ ،‬خ�شية من م�صريه‪.‬‬ ‫ا�ستخدم البع�ض حيلة �أخري الغتيال افكاره‪ ،‬وهو القول ب�أنه قد‬ ‫تنازل عن كل ما قاله واعتذر عنها‪ ،‬قبل وفاته‪ .‬ونلج�أ لنظرية موت‬ ‫امل�ؤلف ونتم�سك مبا تركه الن�ص والذي ال ميكن قن�ص الأفكار التي‬ ‫اطلقها واغتيالها �أوحجبها و�إرجاعها �إيل قمم‪ .‬لذا‪ ،‬يعود (ال�شيخ علي‬ ‫عبدالرازق) معا�رصا بني كل فرتة واخرى‪ .‬فقد حاول الو�صول �إيل‬ ‫علمنة‪-‬ولي�س علمانية‪�-‬إ�سالمية عربية خا�صة‪ ،‬باعتبارها‪-‬يف هذا‬ ‫الع�رص‪-‬حاجة ان�سانية عامة‪ ،‬ولي�ست غربية‪ ،‬رغم م�صدرها الأول؛حني‬ ‫يتعلق الأمر بنظام حكم عادل وحر‪ ،‬وي�ستوجب الأمر ف�صل الديني عن‬ ‫ال�سيا�سي ملنع اال�ستبداد غري املقيد‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫تـقديـم‬

‫املراجع‬ ‫�أبو اللوز عبداحلكيم‪� :‬إ�شكالية الدين وال�سا�سية يف تون�س‪� .‬أزمة‬ ‫م�رشوع التحديث وظهور حركة النه�ضة‪ .‬القاهرة‪ ،‬ر�ؤية للن�رش والتوزيع‪،‬‬ ‫‪.2011‬‬ ‫�أحمد كمال �أبواملجد (تقدمي) ‪ :‬ر�ؤية �إ�سالمية معا�رصة‪�-‬إعالن‬ ‫مبادئ‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار ال�رشوق‪.1991 ،‬‬ ‫احمد مو�صللي‪ :‬قراءة نظرية ت�أ�سي�سية يف اخلطاب اال�سالمي‬ ‫اال�صويل‪( .‬ب‪ .‬مكان الطابع) ‪1993‬‬ ‫الربت حوراين‪ :‬الفكر العربي يف ع�رص النه�ضة‪.1939-1798‬‬ ‫بريوت‪ ،‬دار النهار‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.1986 ،‬‬ ‫جمال البنا‪ :‬الإ�سالم كما تقدمه دعوة الإحياء الإ�سالمي‪ .‬القاهرة‪،‬‬ ‫دار الفكر الإ�سالمي‪( ،‬ب‪ .‬ت‪).‬‬ ‫اخلالفة و�سلطة الأمة‪ :‬نقله عن الرتكية عبدالغني �سني بك‪ .‬القاهرة‪،‬‬ ‫دار النهر‪.1995 ،‬‬ ‫خليل العناين‪�" ،‬سو�سيولوجيا الهيمنة الدينية يف العامل العربي"يف‪:‬‬ ‫احلياة‪.2007/2/3‬‬ ‫طارق الب�رشى‪ :‬املالمح العامة للفكر ال�سيا�سي الإ�سالمي يف‬ ‫التاريخ املعا�رص‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار ال�رشوق‪.1996 ،‬‬ ‫عبدالإله بلقزيز‪ :‬الدولة يف الفكر الإ�سالمي املعا�رص‪ .‬بريوت‪ ،‬مركز‬ ‫درا�سات الوحدة العربية‪.2004 ،‬‬ ‫عبداملجيد ال�رشيف‪ :‬الإ�سالم واحلداثة‪ .‬تون�س‪ ،‬الدار التون�سية‪،‬‬ ‫‪.1991‬‬ ‫علي عبد الرازق‪ :‬الإ�سالم و�أ�صول احلكم –بحث يف اخلالفة‬ ‫واحلكومة فى الإ�سالم‪ .‬القاهرة‪ ،‬مطبعة م�رص‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.1925 ،‬‬ ‫‪44‬‬


‫فهمي جدعان‪ :‬نظرية الرتاث‪ .‬عمان‪ ،‬دار ال�رشوق‪.1985 ،‬‬ ‫حممد خامتي‪ :‬الدين والدولة‪ .‬القاهرة‪ ،‬الدار العاملية للكتب والن�رش‪،‬‬ ‫‪.1998‬‬ ‫حممد عمارة‪ :‬الإ�سالم وال�سيا�سة – الرد علي �شبهات العلمانيني‪.‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬مكتبة ال�رشوق الدولية‪.2008 ،‬‬ ‫املقدمات النظرية للإ�سالميني التقدميني‪ .‬ملاذا الإ�سالم –كيف‬ ‫نفهمه؟�صياغة‪� :‬صالح الدين اجلور�شي‪ ،‬حممد التوماين‪ ،‬عبدالعزيز‬ ‫التميمي‪ .‬تون�س‪ ،‬دار الرباق‪.1989 ،‬‬ ‫مك�سيم رودن�سون‪ :‬اال�سالم –�سيا�سة وعقيدة‪ .‬ترجمة �أ�سعد �صقر‪.‬‬ ‫بريوت‪ ،‬دار عطية‪.1996 ،‬‬ ‫نبيل هالل هالل‪ :‬خرافة �أ�سمها اخلالفة قراءة يف �سقوط الدولة‬ ‫الدينية‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار املحرو�سة‪.2010 ،‬‬ ‫نزيه ن�صيف االيوبي‪ :‬العرب وم�شكلة الدولة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار ال�ساقي‪،‬‬ ‫‪.1992‬‬ ‫ه�شام جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الدين وال�سيا�سة يف اال�سالم املبكر‪.‬‬ ‫بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1993 ،‬‬ ‫ه�شام �رشابي‪ :‬املثقفون العرب والغرب‪ .‬بريوت‪ ،‬دار النهار للن�رش‪،‬‬ ‫‪.1971‬‬ ‫وليد نويه�ض‪ :‬ا�شكالية الدولة العربية املعا�رصة‪ :‬االنف�صال عن‬ ‫املجتمع‪ .‬االجتهاد‪ 14‬ال�سنة الرابعة �شتاء‪1992‬‬ ‫يو�سف القر�ضاوي‪ :‬من فقه الدولة يف الإ�سالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫ال�رشوق ‪2001‬‬ ‫‪Lambton: The Clash of Civilization: Authority,Legitimacy‬‬ ‫‪and Perfectibility (in Burel,R. M,ed. Islamic Fundamentalism.‬‬ ‫)‪London,Royal Asiatic Studies Seminar Papers No 1,1989.‬‬

‫‪45‬‬



‫علي عبد الرازق‬

‫اإلسالم وأصول احلكم‬ ‫بحث‬

‫في اخلالفة واحلكومة في اإلسالم‬

‫‪47‬‬



‫فهر�ست الكتاب‬ ‫(‪)1‬‬ ‫مباحث الكتاب‬ ‫الكتاب الأول‬

‫اخلالفة والإ�سالم‬ ‫الباب الأول‬ ‫اخلالفة وطبيعتها‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة يف اللغة‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة يف اال�صطالح‬ ‫معنى قولهم بنيابة اخلليفة عن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ‬ ‫ ‬ ‫�سبب الت�سمية باخلليفة‬ ‫ ‬ ‫حقوق اخلليفة يف ر�أيهم‬ ‫اخلليفة مقيد عندهم بال�رشع ‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة وامللك‬ ‫من �أين ي�ستمد اخلليفة واليته ‬ ‫ ‬ ‫ا�ستمداده الوالية من اهلل‬ ‫ ‬ ‫ا�ستمداده الوالية من الأمة‬ ‫ ‬ ‫ظهور مثل ذلك اخلالف عند علماء الغرب‬

‫�أ‬

‫‪49‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫الباب الثاين‬ ‫حكم اخلالفة‬ ‫ ‬ ‫املوجبون لن�صب اخلليفة‬ ‫ ‬ ‫املخالفون يف ذلك‬ ‫ ‬ ‫�أدلة القائلني بالوجوب‬ ‫ ‬ ‫القر�آن واخلالفة‬ ‫ك�شف ال�شبهة عن بع�ض �آيات ‬ ‫ ‬ ‫ال�سنة واخلالفة‬ ‫ك�شف �شبهة من يح�سب يف ال�سنة دلي ًال ‬

‫‪13‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪17‬‬

‫الباب الثالث‬ ‫اخلالفة من الوجهة االجتماعية‬ ‫تتمة البحث‬ ‫ ‬ ‫دعوى الإجماع‬ ‫متحي�صها ‬ ‫ ‬ ‫انحطاط العلوم ال�سيا�سية عند امل�سلمني‬ ‫ ‬ ‫عناية امل�سلمني بعلوم اليونان‬ ‫ ‬ ‫ثورة امل�سلمني على اخلالفة‬ ‫ ‬ ‫�سبب �إهمالهم مباحث ال�سيا�سة‬ ‫ ‬ ‫اعتماد اخلالفة على القوة والقهر‬ ‫الإ�سالم دين امل�ساواة والعزة ‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة مقام عزيز وغرية �صاحبه عليه �شديدة‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة واال�ستبداد والظلم‬ ‫ال�ضغط امللوكي على النه�ضة العلمية وال�سيا�سية ‬ ‫ ‬ ‫ال تقبل دعوى الإجماع‬

‫ب‬

‫‪50‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬


‫ ‬ ‫�آخر �أدلتهم على اخلالفة‬ ‫ ‬ ‫البد للنا�س من نوع من احلكم‬ ‫ ‬ ‫الدين يعرتف بحكومة‬ ‫ ‬ ‫احلكومة غري اخلالفة‬ ‫ ‬ ‫ال حاجة بالدين وال بالدنيا �إىل اخلالفة‬ ‫ ‬ ‫انقرا�ض اخلالفة يف الإ�سالم‬ ‫ ‬ ‫اخلالفة اال�سمية يف م�رص‬ ‫ ‬ ‫النتيجة‬

‫‪33‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪38‬‬

‫الكتاب الثاين‬

‫احلكومة والإ�سالم‬ ‫الباب الأول‬ ‫نظام احلكم يف ع�رص النبوة‬ ‫ ‬ ‫ق�ضا�ؤه �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫ ‬ ‫هل وىل �صلى اهلل عليه و�سلم ق�ضاة؟‬ ‫ق�ضاء عمر ‬ ‫ ‬ ‫ق�ضاء علي‬ ‫ ‬ ‫ق�ضاء معاذ و�أبي مو�سى‬ ‫ ‬ ‫�صعوبة البحث عن نظام الق�ضاء يف ع�رص النبوة‬ ‫ ‬ ‫خلو الع�رص النبوي من خمايل امللك‬ ‫ ‬ ‫�إهمال عامة امل�ؤرخني البحث يف نظام احلكم النبوي‬ ‫ ‬ ‫هل كان �صلى اهلل عليه و�سلم ملك ًا؟‬

‫ج‬

‫‪51‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪ 45‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫الباب الثاين‬ ‫الر�سالة واحلكم‬ ‫ال حرج يف البحث عما �إذا كان (�صلعم) ملك ًا �أم ال ‬ ‫ ‬ ‫الر�سالة �شيء وامللك �شيء �آخر‬ ‫ ‬ ‫القول ب�أنه (�صلعم) كان ملك ًا �أي�ض ًا‬ ‫بع�ض العلماء ي�رشح بالتف�صيل الدقيق نظام حكومة‬ ‫ ‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫بع�ض ما ي�شبه �أن يكون من مظاهر الدولة زمن‬ ‫ ‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫ ‬ ‫اجلهاد‬ ‫ ‬ ‫الأعمال املالية‬ ‫ ‬ ‫�أمراء قيل �إن النبي (�صلعم) ا�ستعملهم على البالد‬ ‫ ‬ ‫هل كان ت�أ�سي�س النبي لدولة �سيا�سية جزءاً من ر�سالته؟‬ ‫ ‬ ‫الر�سالة والتنفيذ‬ ‫ ‬ ‫ابن خلدون يرى �أن الإ�سالم �رشع تبليغي وتنفيذي‬ ‫ ‬ ‫اعرتا�ض على ذلك الر�أي‬ ‫ ‬ ‫القول ب�أن احلكم النبوي جمع كل دقائق احلكومة‬ ‫احتمال جهلنا بنظام احلكومة النبوية ‬ ‫مناق�شة ذلك الوجه ‬ ‫احتمال �أن تكون الب�ساطة الفطرية هي نظام احلكم النبوي ‬ ‫ ‬ ‫ب�ساطة هذا الدين‬ ‫ ‬ ‫مناق�شة ذلك الر�أي‬

‫د‬

‫‪52‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪57‬‬ ‫‪57‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪63‬‬


‫الباب الثالث‬ ‫ر�سالة ال حكم ‪ -‬ودين ال دولة‬ ‫كان (�صلعم) ر�سو ًال غري ملك ‬ ‫زعامة الر�سالة وزعامة امللك ‬ ‫ ‬ ‫كمال الر�سل‬ ‫كماله �صلى اهلل عليه و�سلم اخلا�ص به ‬ ‫حتديد املراد بكلمات ملك وحكومة �إلخ ‬ ‫ ‬ ‫القر�آن ينفي �أنه (�صلعم) كان حاكم ًا‬ ‫ ‬ ‫ال�سنة كذلك‬ ‫ ‬ ‫طبيعة الإ�سالم ت�أبى ذلك �أي�ض ًا‬ ‫ ‬ ‫ت�أويل بع�ض ما ي�شبه �أن يكون مظهراً من مظاهر الدولة‬ ‫ ‬ ‫خامتة البحث‬

‫‪65‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪68‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪72‬‬ ‫‪77‬‬ ‫‪77‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪81‬‬

‫الكتاب الثالث‬

‫اخلالفة واحلكومة يف التاريخ‬ ‫الباب الأول‬ ‫الوحدة الدينية والعرب‬ ‫ ‬ ‫لي�س الإ�سالم دين ًا خا�ص ًا بالعرب‬ ‫ ‬ ‫العربية والدين‬ ‫ ‬ ‫احتاد العرب الديني مع اختالفهم ال�سيا�سي‬ ‫ ‬ ‫�أنظمة الإ�سالم دينية ال �سيا�سية‬ ‫ ‬ ‫�ضعف التباين عند العرب �أيام النبي (�صلعم)‬ ‫ ‬ ‫انتهاء الزعامة مبوت الر�سول عليه ال�سالم‬ ‫ ‬ ‫مل ي�سم النبي (�صلعم) خليفة من بعده‬

‫هـ‬ ‫‪53‬‬

‫‪83‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪85‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪88‬‬ ‫‪88‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ ‬ ‫مذهب ال�شيعة يف ا�ستخالف علي‬ ‫ ‬ ‫مذهب جماعة يف ا�ستخالف �أبي بكر‬

‫‪89‬‬ ‫‪89‬‬

‫الباب الثاين‬ ‫الدولة العربية‬ ‫الزعامة بعد النبي عليه ال�سالم �إمنا تكون زعامة �سيا�سي ة‬ ‫ ‬ ‫�أثر الإ�سالم يف العرب‬ ‫ن�ش�أة الدولة العربية ‬ ‫ ‬ ‫اختالف العرب يف البيعة‬

‫‪91‬‬ ‫‪92‬‬ ‫‪92‬‬ ‫‪94‬‬

‫الباب الثالث‬ ‫اخلالفة الإ�سالمية‬ ‫ظهور لقب (خليفة ر�سول اهلل) ‬ ‫ ‬ ‫املعنى احلقيقي خلالفة �أبي بكر عن الر�سول‬ ‫ ‬ ‫�سبب اختيار هذا اللقب‬ ‫ ‬ ‫ت�سميتهم اخلوارج على �أبي بكر باملرتدين‬ ‫مل يكن اخلوارج كلهم مرتدين ‬ ‫ ‬ ‫مانعو الزكاة‬ ‫ ‬ ‫حروب �سيا�سية ال دينية‬ ‫ ‬ ‫قد وجد حقيقة مرتدون‬ ‫ ‬ ‫�أخالق �أبي بكر الدينية‬ ‫ ‬ ‫�شيوع االعتقاد ب�أن اخلالفة مقام ديني‬ ‫ ‬ ‫ترويج امللوك لذلك االعتقاد‬ ‫ ‬ ‫ال خالفة يف الدين‬

‫و‬

‫‪54‬‬

‫‪97‬‬ ‫‪97‬‬ ‫‪98‬‬ ‫‪98‬‬ ‫‪99‬‬ ‫‪99‬‬ ‫‪101‬‬ ‫‪102‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪104‬‬


‫فهر�ست‬ ‫‪-2-‬‬

‫�أ�سماء الأ�شخا�ص والأماكن‬ ‫التي ذكرت يف الكتاب‬ ‫( �أ )‬ ‫هام�ش ‪22‬‬ ‫ ‬ ‫ �إبراهيم النظام‬‫‪،89 ،83 ،34 ،23 ،21 ،18 ،14 ،3‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبوبكر (ر�ضي اهلل عنه)‬‫‪116 ،112 ،104 ،103 ،102 ،101 ،100 ،99 ،98 ،97 ،95 ،94 ،93‬‬ ‫راجع الكا�ساين �ص‪10‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبوبكر (الكا�ساين)‬‫(‪ 7‬وهام�ش ‪)8‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبوجعفر (املن�صور)‬‫‪43 ،41‬‬ ‫ �أبو داود ‬‫‪94‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبو�سفيان‬‫‪29‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبو العبا�س (عبداهلل)‬‫‪44 ،41‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبوعمرو بن عبدالرب‬‫راجع ابن حزم �ص‪18‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبو حممد علي‬‫‪40‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبو مو�سى‬‫هام�ش ‪3‬‬ ‫ ‬ ‫ �أبوهريرة‬‫هام�ش ‪22‬‬ ‫ ‬ ‫‪� -‬أحمد (بن حنبل)‬

‫ز‬

‫‪55‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ ‬ ‫ ال�سيد �أحمد زيني دحالن‬‫ ‬ ‫ �أحمد بك �شوقي‬‫ ‬ ‫ �أحمد بن طولون‬‫ ‬ ‫ �أر�سطو‬‫ ‬ ‫ �أ�سامة بن زيد‬‫ ‬ ‫ ا�رسافيل‬‫ ‬ ‫ �إ�سماعيل (عليه ال�سالم)‬‫ ‬ ‫ �أ�صفهان‬‫ ‬ ‫ الأ�صفهاين‬‫ ‬ ‫ الأ�صم‬‫ ‬ ‫ العادل �أبوبكر‬‫ ‬ ‫ افالطون‬‫ �إجنلرتا ‬‫ ‬ ‫ �أن�س بن مالك‬‫ ‬ ‫ �أنقرة‬‫ ‬ ‫ انو�رشوان‬‫‪ -‬الأهواز ‬

‫‪ 43‬وهام�ش ‪44‬‬ ‫هام�ش ‪81‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪26 ،24‬‬ ‫هام�ش ‪53‬‬ ‫‪77‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪36‬‬ ‫هام�ش ‪1‬‬ ‫‪ 33 ،13‬هام�ش ‪12‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪32‬‬ ‫هام�ش ‪68‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪36‬‬

‫(ب)‬ ‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫ ابن باذام‬‫‪36‬‬ ‫ ‬ ‫ البحرين‬‫‪ 39‬هام�ش ‪ 101 ،42 ،40‬هام�ش‬ ‫ ‬ ‫ البخاري‬‫‪36‬‬ ‫ ‬ ‫ بغداد‬‫‪24‬‬ ‫ ‬ ‫ بيدبا‬‫‪2‬‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬البي�ضاوي‬

‫ح‬

‫‪56‬‬


‫(ت)‬ ‫ ‬ ‫ تركيا‬‫ ‬ ‫ الرتمزي‬‫ ‬ ‫ متيم‬‫ توم�س �أرنلد ‪ omas W. Arnold‬‬‫‪Th‬‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬توم�س (هبز) ‪Thomas Hobbes‬‬

‫‪25‬‬ ‫هام�ش ‪68‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪16‬‬ ‫راجع هبز ‪11‬‬

‫(ث)‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬ثقيف‬

‫هام�ش ‪8‬‬

‫(ج)‬ ‫ ‬ ‫ جربيل (عليه ال�سالم)‬‫ ‬ ‫ جرول‬‫ ‬ ‫ جرير بن عبداهلل البجلي‬‫ جن (لك) ‪ Johon Luke‬‬‫ ‬ ‫‪ -‬اجلند‬

‫‪77 ،41‬‬ ‫راجع احلطيئة ‪ 10‬هام�ش‬ ‫‪61‬‬ ‫راجع لك‬ ‫‪43 ،42 ،26‬‬

‫(ح)‬ ‫ ‬ ‫ حامت‬‫ احلار�س ‬‫ احلب�شة ‬‫ ‬ ‫ حذيفة‬‫‪-‬ابن حزم ‬

‫ط‬

‫‪57‬‬

‫راجع (الأ�صم) ‪ -‬هام�ش ‪13‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪ 18‬هام�ش ‪89 ،17‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪55‬‬ ‫‪ 10‬وهام�ش ‪10‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪36‬‬

‫ ‬ ‫ ح�رضموت‬‫ احلطيئة ‬‫ احل�سني ‬‫ ‬ ‫‪ -‬حلب‬

‫(خ)‬ ‫‪55‬‬ ‫‪100 ،41‬‬ ‫‪36‬‬ ‫هام�ش ‪100‬‬ ‫‪،33 ،32 ،26 ،13 ،6 ،2‬‬

‫ ‬ ‫ خالد بن �سعيد‬‫ ‬ ‫ خالد بن الوليد‬‫ ‬ ‫ خرا�سان‬‫ اخلطيل بن او�س ‬‫ ‬ ‫ ابن خلدون‬‫‪123 ،120 ،89 ،57 ،51 ،49 ،36‬‬

‫(د)‬ ‫هام�ش ‪22‬‬

‫ ‬ ‫‪ -‬داود الظاهري‬

‫(ر)‬ ‫‪،15 ،14 ،10 ،9 ،4 ،3 ،2 ،1‬‬ ‫ ‬ ‫ الر�سول (ر�سول اهلل)‬‫‪،56 ،53 ،52 ،51 ،50 ،49 ،44 ،43 ،42 ،41 ،40 ،29 ،27 ،22 ،21 ،17‬‬ ‫‪،87 ،86 ،85 ،82 ،81 ،75 ،74 ،71 ،70 ،69 ،68 ،67 ،65 ،63 ،59 ،58‬‬ ‫‪101 ،100 ،99 ،98 ،96 ،95 ،94 ،91 ،90 ،89 ،88‬‬ ‫‪6‬‬ ‫ ‬ ‫ الر�شيد‬‫هام�ش ‪7‬‬ ‫ ‬ ‫ الر�صافة‬‫‪ 40‬هام�ش ‪59 ،52 ،51 ،46‬‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬رفاعة بك رافع‬

‫ي‬

‫‪58‬‬


‫ ‬ ‫ َر ِمع‬‫ ‬ ‫‪ -‬الريان بن الوليد‬

‫‪55‬‬ ‫‪50‬‬

‫(ز)‬ ‫‪55‬‬

‫ ‬ ‫‪ -‬زبيد‬

‫(�س)‬ ‫‪ 17‬هام�ش ‪17‬‬ ‫‪99 ،94‬‬ ‫‪36‬‬ ‫راجع حممد ر�شيد ‪18 ،17 -‬‬

‫ ‬ ‫ �سعد الدين التفتازاين‬‫ ‬ ‫ �سعد بن عبادة‬‫ ‬ ‫ �سيف الدولة‬‫ ‬ ‫‪ -‬ال�سيد ر�شيد‬

‫(�ش)‬ ‫‪32‬‬ ‫راجع حممد ال�شوكاين‬

‫ ‬ ‫ ال�شام‬‫ ‬ ‫‪ -‬ال�شوكاين‬

‫(�ص)‬ ‫راجع جنم الدين ‪� -‬ص‪30‬‬ ‫ ‬ ‫ ال�صالح جنم الدين‬‫‪55‬‬ ‫ �صنعاء ‬‫راجع �أبوبكر‬ ‫‪ -‬ال�صديق ‬

‫ك‬

‫‪59‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(ط)‬ ‫‪75‬‬ ‫‪87‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪ 8‬هام�ش ‪8‬‬

‫ طه (عليه ال�سالم) ‬‫ الطائف ‬‫ ‬ ‫ الطاهر بن �أبي هالة‬‫ ‬ ‫ ابن طباطبا‬‫ الطربي ‬‫ ‬ ‫‪ -‬طريح‬

‫(ظ)‬ ‫‪37‬‬

‫‪-‬الظاهر بيرب�س ‬

‫(ع)‬ ‫راجع �أبوبكر‬ ‫‪55‬‬ ‫هام�ش ‪69‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪94‬‬ ‫‪ 9‬هام�ش ‪9‬‬ ‫هام�ش ‪28، 3‬‬ ‫‪3 ،2‬‬ ‫هام�ش ‪22‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪29 ،6‬‬

‫ ‬ ‫ العادل �أبوبكر‬‫ ‬ ‫ عامر بن �شهر‬‫ ‬ ‫ عائ�شة‬‫ ابن عبا�س ‬‫ العبا�س ‬‫ ‬ ‫ عبداحلكيم ال�سيالكوين‬‫ ‬ ‫ ابن عبدربه‬‫ عبدال�سالم �شارح اجلوهرة ‬‫ ‬ ‫ عبدالعزيز البخاري‬‫ ‬ ‫ عبدالغني �سني بك‬‫ ‬ ‫ عبداهلل بن عمر‬‫ ‬ ‫‪ -‬عبدامللك بن مروان‬

‫ل‬

‫‪60‬‬


‫‪40‬‬ ‫ ‬ ‫ عثمان (ر�ضي اهلل عنه)‬‫‪43‬‬ ‫ ‬ ‫ عدن‬‫‪32‬‬ ‫ ‬ ‫ العراق‬‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫عك‬‫‪،83 ،44 ،42 ،41 ،40 ،39 ،23 ،6‬‬ ‫ ‬ ‫ علي (بن �أبي طالب)‬‫‪117 ،115 ،114 ،99 ،94‬‬ ‫ ‬ ‫‪42‬‬ ‫ ‬ ‫ علي بن برهان الدين‬‫ علي (فخر الإ�سالم �أبو احل�سني البزدوي) هام�ش ‪22‬‬‫‪36‬‬ ‫ ‬ ‫ عمان‬‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫ عمرو بن حزم‬‫‪،40 ،39 ،18 ،10‬‬ ‫ ‬ ‫ عمر (بن اخلطاب)‬‫‪101 ،100 ،89‬‬ ‫ ‬ ‫‪125 ،124 ،123 ،66 ،50 ،19‬‬

‫ ‬ ‫‪ -‬عي�سى (عليه ال�سالم)‬

‫(غ)‬ ‫‪ -‬الغ�ساين ‬

‫‪44‬‬

‫(ف)‬ ‫ فار�س ‬‫ ‬ ‫ فاطمة‬‫ ‬ ‫ فخر الإ�سالم البزدوي‬‫ ‬ ‫ �أبوفرا�س (الفرزدق)‬‫ ‬ ‫فرج اهلل زكي الكردي‬‫ ‬ ‫‪ -‬في�صل‬

‫م‬

‫‪61‬‬

‫‪36‬‬ ‫‪29‬‬ ‫راجع علي‬ ‫‪7‬‬ ‫هام�ش ‪9‬‬ ‫‪32‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(ق)‬ ‫‪50‬‬ ‫هام�ش ‪22‬‬ ‫‪101 ،100 ،84 ،76 ،18‬‬ ‫هام�ش ‪8‬‬ ‫‪ 9‬هام�ش ‪9‬‬

‫ قابو�س ‬‫ ‬ ‫ القا�شاين‬‫ ‬ ‫ قري�ش‬‫ ‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬قطب الدين الرازي‬

‫(ك)‬ ‫‪ 10‬هام�ش ‪10‬‬ ‫‪84‬‬

‫ ‬ ‫ الكا�ساين‬‫ ‬ ‫‪ -‬كنانة‬

‫(ل)‬ ‫‪ 11‬هام�ش ‪11‬‬

‫ ‬ ‫‪ -‬لك ‪john locke‬‬

‫(م)‬ ‫‪55‬‬ ‫ ‬ ‫ م�أرب‬‫هام�ش ‪22‬‬ ‫ ‬ ‫ مالك (بن �أن�س)‬‫‪100‬‬ ‫ ‬ ‫ مالك بن نويرة‬‫‪94‬‬ ‫ املتلم�س ‬‫‪ 87 ،45 ،43‬هام�ش ‪22‬‬ ‫ املدينة ‬‫‪،64 ،60 ،58 ،50 ،42 ،21 ،5 ،2‬‬ ‫ حممد (�صلى اهلل عليه و�سلم) ‬‫‪،95 ،88 ،84 ،81 ،74 ،73 ،69‬‬ ‫ ‬ ‫‪116 ،109 ،105 ،104 ،102 ،98‬‬ ‫ ‬

‫ن‬

‫‪62‬‬


‫‪25‬‬ ‫‪ ،18 ،17‬هام�ش ‪25‬‬ ‫هام�ش ‪43‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪37‬‬ ‫راجع عي�سى‬ ‫‪37 ،36 ،21‬‬ ‫‪61 ،55 ،44 ،43 ،42 ،40 ،39‬‬ ‫‪32 ،29 ،28 ،25 ،6‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪77 ،42 ،41‬‬ ‫هام�ش ‪ 7 ،4‬هام�ش ‪8‬‬ ‫هام�ش ‪53‬‬ ‫‪125 ،124 ،123 ،66 ،7‬‬ ‫‪44‬‬

‫ حممد اخلام�س ‬‫ حممد ر�شيد ر�ضا ‬‫ ‬ ‫ حممد ال�شوكاين‬‫ ‬ ‫ مذحج‬‫ ‬ ‫ مروان (بن عبدامللك)‬‫ ‬ ‫ امل�ستع�صم‬‫ امل�سيح ‬‫ ‬ ‫ م�رص‬‫ ‬ ‫ معاذ‬‫ ‬ ‫ معاوية (بن �أبي �سفيان)‬‫ ‬ ‫ معز الدولة‬‫ املغرية ‬‫ ‬ ‫ مكة‬‫ ‬ ‫ املن�صور‬‫ ‬ ‫ م�ؤتة‬‫ ‬ ‫ مو�سى (عليه ال�سالم)‬‫ ‬ ‫‪ -‬ابن ميمون‬

‫(ن)‬ ‫ نا�رص الدين �أبو�سعيد (البي�ضاوي) هام�ش ‪15 ،2‬‬‫‪،39 ،21 ،20 ،19 ،18 ،11 ،3 ،2‬‬ ‫ ‬ ‫ النبي (عليه ال�سالم)‬‫‪،56 ،55 ،54 ،53 ،51 ،50 ،49 ،48 ،47 ،46 ،45 ،44 ،43 ،42 ،41 ،40‬‬ ‫‪،81 ،79 ،77 ،73 ،72 ،71 ،70 ،69 ،68 ،65 ،64 ،63 ،61 ،59 ،58 ،57‬‬ ‫‪،116 ،115 ،113 ،112 ،102 ،93 ،91 ،90 ،89 ،88 ،87 ،86 ،85 ،83‬‬ ‫‪126 ،125 ،124 ،123 ،121 ،120 ،119‬‬

‫�س‬ ‫‪63‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪55‬‬ ‫‪ 9‬هام�ش ‪9‬‬ ‫‪30‬‬ ‫راجع �إبراهيم‬

‫ ‬ ‫ جنران‬‫ ‬ ‫ جنم الدين القزويني‬‫ ‬ ‫ ال�صالح جنم الدين‬‫ ‬ ‫‪ -‬النظام‬

‫(هـ )‬ ‫‪ 11‬هام�ش ‪11‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪55 ،42‬‬

‫ ‬ ‫ هبز ‪Hobbes‬‬‫ ‬ ‫ ه�شام‬‫ ‬ ‫‪ -‬همدان‬

‫(و)‬ ‫‪36‬‬ ‫‪ 8‬هام�ش ‪8‬‬

‫ ‬ ‫وا�سط‬‫ ‬ ‫‪ -‬الوليد (بن يزيد)‬

‫(ي)‬ ‫‪32 ،31 ،29 ،28‬‬ ‫هام�ش ‪28‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪55 ،44 ،43 ،42 ،41 ،36‬‬ ‫‪50‬‬

‫ ‬ ‫ يزيد (بن معاوية)‬‫ يزيد (بن املقفع) ‬‫ ‬ ‫ يعلي بن �أمية‬‫ ‬ ‫ يلدز‬‫ ‬ ‫ اليمن‬‫ ‬ ‫‪ -‬يو�سف (عليه ال�سالم)‬

‫ع‬

‫‪64‬‬


‫املراجع التي وقفنا عليها‬

‫(‪)3‬‬ ‫‪ )1‬املفردات يف غريب القر�آن‬ ‫‪ )2‬جوهرة التوحيد و�رشوحها‬ ‫‪ )3‬ر�سالة التوحيد لل�شيخ حممد عبده‬ ‫‪ )4‬طوالع الأنوار و�رشوحها‬ ‫‪ )5‬مقا�صد الطالبني‬ ‫‪ )6‬العقائد الن�سفية و�رشوحها‬ ‫‪ )7‬القول املفيد على الر�سالة امل�سماة و�سيلة العبيد يف‬ ‫علم التوحيد لل�شيخ حممد بخيت‬ ‫‪ )8‬املواقف و�رشوحها‬ ‫‪ )9‬الر�سالة ال�شم�سية يف علم املنطق و�رشوحها‬ ‫‪ )10‬مقدمة ابن خلدون‬ ‫‪ )11‬تاريخ �أبي الفداء‬ ‫‪ )12‬الفوائد البهية يف تراجم احلنفية‬ ‫‪ )13‬فوات الوفيات‬ ‫‪ )14‬تاريخ الت�رشيع الإ�سالمي ملحمد بك اخل�رضي‬ ‫‪ )15‬تاريخ اخللفاء‬

‫ف‬ ‫‪65‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪ )16‬نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز‬ ‫‪ )17‬ال�سرية النبوية‬ ‫‪ )18‬ال�سرية احللبية‬ ‫‪ )19‬تاريخ الطربي‬ ‫‪ )20‬اكتفاء القنوع مبا هو مطبوع‬ ‫‪ )21‬البدائع يف �أ�صول ال�رشائع‬ ‫‪ )22‬الف�صل يف امللل والأهواء والنحل‬ ‫‪ )23‬ك�شف الأ�رسار للبزدوي‬ ‫‪� )24‬إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم الأ�صول‬ ‫‪ )25‬تي�سري الو�صول �إىل جامع الأ�صول‬ ‫‪ )26‬العقد الفريد البن عبد ربه‬ ‫‪ )27‬ديوان الفرزدق‬ ‫‪ )28‬الأغاين‬ ‫‪ )29‬الكامل للمربد‬ ‫‪ )30‬اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا‬ ‫‪ )31‬اخلالفة و�سلطة الأمة تعريب عبدالغني �سني بك‬ ‫‪)32‬‬ ‫‪Astudent`s History of Philosophy by Arthur‬‬ ‫‪Kenson Roger‬‬ ‫‪)33‬‬ ‫‪The Khilafet by professor Mohammad‬‬

‫‪)Barakaiallah (maulasie of Bhopul.India 34‬‬ ‫‪The Khalifate by sir Thomas Arnold‬‬ ‫‪ )35‬غري ما ذكر من كتب التف�سري واحلديث والفقه والأ�صول والتوحيد‬ ‫والأحكام ال�سلطانية واخلطب واملقاالت التي ظهر كثري منها يف اجلرائد‬ ‫العربية والإنكليزية‬

‫�ص‬ ‫‪66‬‬


‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‬ ‫�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬وال �أعبد �إال �إياه‪ ،‬وال �أخ�شى �أحداً �سواه‪ .‬له القوة‬ ‫والعزة‪ ،‬وما �سواه �ضعيف ذليل‪ ،‬وله احلمد يف الأوىل والآخرة‪ ،‬وهو ح�سبي‬ ‫ونعم الوكيل‪.‬‬ ‫و�أ�شهد �أن حممداً ر�سول اهلل‪� ،‬أر�سله �شاهداً ومب�رشاً ونذيراً‪ ،‬وداعي ًا �إىل‬ ‫اهلل ب�إذنه و�رساج ًا منريا‪� .‬صلى اهلل ومالئكته عليه و�سلموا ت�سليم ًا كثرياً‪.‬‬ ‫وليت الق�ضاء مبحاكم م�رص ال�رشعية‪ ،‬منذ ثالث وثالثني وثالثمئة‬ ‫و�ألف هجرية (‪1915‬م)‪ ،‬فحفزين ذلك �إىل البحث عن تاريخ الق�ضاء‬ ‫ال�رشعي‪ .‬والق�ضاء بجميع �أنواعه من فروع احلكومة‪ ،‬وتاريخه يت�صل‬ ‫بتاريخها ات�صا ًال كبرياً‪ ،‬وكذلك الق�ضاء ال�رشعي ركن من �أركان احلكومة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬و�شعبة من ُ�شعبها‪ ،‬فال بد حينئذ ملن يدر�س تاريخ ذلك الق�ضاء‬ ‫�أن يبد�أ بدرا�سة ركنه الأول‪� ،‬أعني احلكومة يف الإ�سالم‪.‬‬ ‫و�أ�سا�س كل حكم يف الإ�سالم هو اخلالفة والإمامة العظمى ‪ -‬على ما‬ ‫يقولون ‪ -‬فكان البد من بحثها‪.‬‬ ‫�رشعت يف بحث ذلك كله منذ ب�ضع �سنني‪ ،‬وما �أزال بعد عند مراحل‬ ‫البحث الأوىل‪ ،‬ومل �أظفر بعد اجلهد �إال بهذه الورقات‪� ،‬أقدمها على ا�ستحياء‪،‬‬ ‫�إىل من يعنيهم ذلك املو�ضوع‪.‬‬ ‫جعلتها متهيداً للبحث يف تاريخ الق�ضاء‪ ،‬و�ضمنتها جملة ما اهتديت‬ ‫�إليه يف �ش�أن اخلالفة ونظرية احلكم يف الإ�سالم‪ .‬وما �أدعي �أنني قد �أحطت‬ ‫فيها بجوانب ذلك البحث‪ ،‬وال �أنني ا�ستطعت �أن �أحتامى �شيئ ًا من الإجمال‬

‫ق‬

‫‪67‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫يف كثري من املوا�ضع‪ ،‬بل قد �أكون اكتفيت �أحيان ًا ب�إ�شارات رمبا خفيت‬ ‫على �صنف من القارئني جهتها‪ ،‬وبتلويحات قد تفوتهم داللتها‪ ،‬وبكنايات‬ ‫تو�شك �أن ت�صري عليهم �ألغازاً‪ ،‬ومبجاز رمبا ح�سبوه حقيقة‪ ،‬وبحقيقة رمبا‬ ‫ح�سبوها جمازاً‪.‬‬ ‫و�إين لأرجو ‪� -‬إن �أراد اهلل يل موا�صلة ذلك البحث ‪� -‬أن �أتدارك ما �أعرف‬ ‫يف هذه الورقات من نق�ص‪ ،‬و�إال فقد تركت بها بني �أيدي الباحثني �أثراً‬ ‫ع�سى �أن يجدوا فيه �شيئ ًا من جدة الر�أي‪ ،‬يف �رصاحة ال ت�شوبها مماراة‪،‬‬ ‫وع�سى �أن يجدوا فيه �أي�ض ًا �أ�سا�س ًا �صاحل ًا ملن يريد البناء‪ ،‬و�أعالم ًا وا�ضحة‬ ‫رمبا اهتدى بها ال�ساري �إىل مواطن احلق‪.‬‬ ‫�أما بعد ف�إن تلك الورقات هي ثمرة عمل بذلت له �أق�صى ما �أملك‬ ‫من جهد‪ ،‬و�أنفقت فيه �سنني كثرية العدد‪ ،‬كانت �سنني متوا�صلة ال�شدائد‪،‬‬ ‫متعاقبة ال�شواغل‪ ،‬م�شوبة ب�أنواع الهم‪ ،‬مرتعة ك�أ�سها بالأمل‪� .‬أ�ستطيع العمل‬ ‫فيها يوم ًا ثم ت�رصفني احلوادث �أيام ًا‪ ،‬و�أعود �إليه �شهراً ثم �أنقطع �أعوام ًا‪،‬‬ ‫فال غرو �أن جاء عم ًال دون ما �أردت له من كمال‪ ،‬وما ينبغي له من �إتقان‪،‬‬ ‫بيد �أنه على كل حال هو �أق�صى ما و�صل �إليه بحثي‪ ،‬وغاية ما و�سعت‬ ‫نف�سي‪.‬‬ ‫« َال ُي َك ِّل ُف َهّ ُ‬ ‫الل َن ْف ً�سا �إِ َّال ُو ْ�س َع َها َل َها َما َك َ�س َب ْت َو َع َل ْي َها َما ْاك َت َ�س َب ْت َر َّب َنا َال‬ ‫ُت َ�ؤ ِ‬ ‫اخ ْذ َنا �إِن َّن ِ�سي َنا َ�أ ْو َ�أ ْخ َط ْ�أ َنا َر َّب َنا َو َال تحَ ْ ِم ْل َع َل ْي َنا �إِ�صرْ ً ا َك َما َح َم ْل َت ُه َع َلى‬ ‫ين ِمن َق ْب ِل َنا َر َّب َنا َو َال تحُ َ ِّم ْل َنا َما َال َطا َق َة َل َنا ِب ِه َو ْاع ُف َع َّنا َو ْاغ ِف ْر َل َنا‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫نت َم ْوال َنا َفان�صرُ ْ َنا َع َلى ا ْل َق ْو ِم ا ْل َك ِ‬ ‫ِين»‪.‬‬ ‫افر َ‬ ‫َو ْار َح ْم َنا �أَ َ‬

‫(علي عبدالرازق)‬

‫املن�صورة يف يوم الأربعاء املوافق ‪ 7‬رم�ضان �سنة ‪ 1343‬هـ ‪ 1‬ني�سان ‪ 1925‬م‪.‬‬

‫ر‬

‫‪68‬‬


‫الكتاب الأول‬

‫اخلالفة والإ�سالم‬ ‫(الباب الأول)‬ ‫اخلالفة وطبيعتها‬ ‫اخلالفة يف اللغة‪ -‬يف اال�صطالح‪ -‬معنى قولهم بنيابة اخلليفة عن‬ ‫الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ‪� -‬سبب الق�سمية باخلليفة ‪ -‬حقوق اخلليفة‬ ‫يف ر�أيهم ‪ -‬اخلليفة مقيد عندهم بال�رشع ‪ -‬اخلالفة وامللك ‪ -‬من �أين‬ ‫ي�ستمد اخلليفة واليته ‪ -‬ا�ستمداده الوالية من اهلل ‪ -‬ا�ستمداده الوالية من‬ ‫الأمة ‪ -‬ظهور مثل ذلك اخلالف بني علماء الغرب‪.‬‬ ‫‪ - 1‬اخلالفة لغة م�صدر تخ ّلف فالن فالن ًا �إذا ت�أخر عنه‪ ،‬و�إذا جاء‬ ‫خلف �آخر‪ ،‬و�إذا قام مقامه‪ .‬ويقال خلف فالن فالن ًا �إذا قام بالأمر‬ ‫‪1‬‬ ‫«و َل ْو َن َ�ش ُاء جَل َ​َع ْل َنا ِمن ُكم َّمال ِئ َك ًة يِف‬ ‫عنه‪� ،‬إما معه و�إما بعده‪ .‬قال تعاىل َ‬ ‫الأَ ْر ِ‬ ‫ون» واخلالفة النيابة عن الغري‪� ،‬إما لغيبة املنوب عنه و�إما‬ ‫�ض َي ْخ ُل ُف َ‬ ‫ملوته و�إما لعجزه‪� ..‬إلخ‪ ،‬واخلالئف جمع خليفة‪ ،‬وخلفاء جمع خليف‪،2‬‬ ‫واخلليفة ال�سلطان الأعظم‪.3‬‬ ‫(‪� )1‬سورة الزخرف‬ ‫(‪ )2‬راجع املفردات يف غريب القر�آن للأ�صفهاين‬ ‫(‪ )3‬القامو�س وال�صحاح وغريهما‬ ‫‪1‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪ - 2‬واخلالفة يف ل�سان امل�سلمني‪ ،‬وترادفها الإمامة‪ ،‬هي «ريا�سة‬ ‫عامة يف �أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم»‪.1‬‬ ‫ويقرب من ذلك قول البي�ضاوي‪( :2‬الإمامة عبارة عن خالفة �شخ�ص‬ ‫من الأ�شخا�ص للر�سول عليه ال�سالم يف �إقامة القوانني ال�رشعية وحفظ‬ ‫حوزة امللة‪ ،‬على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة)‪.3‬‬ ‫وتو�ضيح ذلك ما قال ابن خلدون «واخلالفة هي حمل الكافة على‬ ‫مقت�ضى النظر ال�رشعي‪ ،‬يف م�صاحلهم الأخروية‪ ،‬والدنيوية الراجعة‬ ‫�إليها �إذ �أحوال الدنيا ترجع كلها عند ال�رشع �إىل اعتبارها مب�صالح‬ ‫الآخرة‪ ،‬فهي يف احلقيقة خالفة عن �صاحب ال�رشع يف حرا�سة الدين‬ ‫و�سيا�سة الدنيا به»‪.4‬‬ ‫‪ - 3‬وبيان ذلك �أن اخلليفة عندهم يقوم يف من�صبه مقام الر�سول‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وقد كان عليه ال�صالة وال�سالم يف حياته يقوم‬ ‫على �أمر ذلك الدين‪ ،‬الذي تلقاه من جانب القد�س الأعلى‪ ،‬ويتوىل‬ ‫تنفيذه والدفاع عنه‪ ،‬كما توىل �إبالغه عن اهلل تعاىل‪ ،‬ودعوة النا�س‬ ‫�إليه‪ .‬وعندهم �أن اهلل جل �ش�أنه كما اختار حممداً �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫لدعوة احلق‪ ،‬و�إبالغ �رشيعته �إىل اخللق‪ ،‬قد اختاره �أي�ض ًا حلفظ ذلك الدين‬ ‫‪5‬‬ ‫و�سيا�سة الدنيا به‬ ‫فلما حلق �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفيق الأعلى قام اخللفاء من بعده‬ ‫مقامه يف حفظ الدين و�سيا�سة الدنيا به‪.‬‬ ‫(‪ )1‬عبدال�سالم يف حا�شيته على اجلوهرة �ص‪242‬‬ ‫(‪ )2‬نا�رص الدين �أبو�سعيد عبداهلل بن عمر بن حممد ال�شريازي البي�ضاوي توفى �سنة ‪791‬هـ‬ ‫(‪ )3‬مطالع الأنظار على طوالع الأنوار‬ ‫(‪ )4‬مقدمة ابن خلدون �ص‪180‬‬ ‫(‪ )5‬مقدمة ابن خلدون �ص‪181‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪ - 4‬و�سمي القائم بذلك «خليفة و�إمام ًا‪ ،‬ف�أما ت�سميته �إمام ًا فت�شبيه‬ ‫ب�إمام ال�صالة‪ ،‬يف اتباعه واالقتداء به‪ ،‬و�أما ت�سميته خليفة فكونه يخلف‬ ‫النبي يف �أمته فيقال خليفة ب�إطالق‪ ،‬وخليفة ر�سول اهلل‪ ،‬واختلف يف‬ ‫ت�سميته خليفة اهلل‪ ،‬ف�أجازه بع�ضهم‪ ..‬ومنع اجلمهور منه‪ ...‬وقد نهى �أبو‬ ‫بكر عنه ملا ُدعي به‪ ،‬وقال ل�ست خليفة اهلل‪ ،‬ولكني خليفة ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪.1‬‬ ‫‪ - 5‬فاخلليفة عندهم ينزل من �أمته مبنزلة الر�سول �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم من امل�ؤمنني‪ ،‬له عليهم الوالية العامة‪ ،‬والطاعة التامة‪،‬‬ ‫وال�سلطان ال�شامل‪ ،‬وله حق القيام على دينهم‪ ،‬فيقيم فيهم حدوده‪،‬‬ ‫وينفذ �رشائعه‪ ،‬وله بالأوىل حق القيام على �ش�ؤون دنياهم �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫وعليهم �أن يحبوه بالكرامة كلها لأنه نائب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬ولي�س عند امل�سلمني مقام �أ�رشف من مقام ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬فمن �سما �إىل مقامه فقد بلغ الغاية التي ال جمال فوقها‬ ‫ملخلوق من الب�رش‪ ،‬عليهم �أن يحرتموه لإ�ضافته �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬ولأنه‬ ‫القائم على دين اهلل‪ ،‬واملهيمن عليه‪ ،‬والأمني على حفظه‪ ،‬والدين عند‬ ‫امل�سلمني هو �أعز ما يعرفون يف هذا الكون‪ ،‬فمن ويل �أمره فقد ويل �أعز‬ ‫�شيء يف احلياة و�أ�رشفه‪.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫عليهم �أن ي�سمعوا له ويطيعوه «ظاهراً وباطن ًا» لأن طاعة الأئمة من‬ ‫طاعة اهلل‪ ،‬وع�صيانهم من ع�صيان اهلل‪.3‬‬ ‫فن�صح الإمام ولزوم طاعته فر�ض واجب‪ ،‬و�أمر الزم‪ ،‬وال يتم �إميان‬ ‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون �ص‪181‬‬ ‫(‪ )2‬حا�شية الباجوري على اجلوهرة‬ ‫(‪ )3‬روى ذلك عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه‪ .‬راجع العقد الفريد البن عبد ربه ج ا‪� -‬ص‪ 5‬طبع‬ ‫مطبعة ال�شيخ عثمان عبدالرازق مب�رص �سنة ‪1302‬هـ‬ ‫‪3‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫�إال به‪ ،‬وال يثبت �إ�سالم �إال عليه‪.1‬‬ ‫وجملة القول �إن ال�سلطان خليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫وهو �أي�ض ًا حمى‪ 2‬اهلل يف بالده‪ ،‬وظله املمدود على عباده‪ ،‬ومن كان‬ ‫ظل اهلل يف �أر�ضه وخليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فواليته‬ ‫عامة ومطلقة‪ ،‬كوالية اهلل تعاىل ووالية ر�سوله الكرمي‪ ،‬وال غرو حينئذ‬ ‫�أن يكون له حق الت�رصف «يف رقاب النا�س و�أموالهم و�أب�ضاعهم»‪.3‬‬ ‫و�أن يكون له وحده الأمر والنهي‪ ،‬وبيده وحده زمام الأمة‪ ،‬وتدبري‬ ‫ما جل من �ش�ؤونها وما �صغر‪ .‬كل والية دونه فهي م�ستمدة منه‪ ،‬وكل‬ ‫وظيفة حتته فهي مندرجة يف �سلطانه‪ ،‬وكل خطة دينية �أو دنيوية فهي‬ ‫‪4‬‬ ‫متفرعة عن من�صبه «ال�شتمال من�صب اخلالفة على الدين والدنيا»‬ ‫فك�أنها الإمام الكبري‪ ،‬والأ�صل اجلامع‪ ،‬وهذه كلها متفرعة عنها‪،‬‬ ‫وداخلة فيها‪ ،‬لعموم نظر اخلالفة‪ ،‬وت�رصفها يف �سائر �أحوال امللة‬ ‫الدينية والدنيوية‪ ،‬وتنفيذ �أحكام ال�رشع فيها على العموم‪.5‬‬ ‫ولي�س للخليفة �رشيك يف واليته‪ ،‬وال لغريه على امل�سلمني‪� ،‬إال والية‬ ‫م�ستمدة من مقام اخلالفة‪ ،‬وبطريق الوكالة عن اخلليفة‪ ،‬فعمال الدولة‬ ‫الإ�سالمية وكل من يلي �شيئ ًا من �أمر امل�سلمني يف دينهم �أو دنياهم من‬ ‫وزير �أو قا�ض �أو وال �أو حمت�سب �أو غريهم‪ ،‬كل �أولئك وكالء لل�سلطان‬ ‫(‪ )1‬منه �أي�ض ًا‬ ‫(‪ )2‬ويف خطبة للمن�صور مبكة قال‪� :‬أيها النا�س �إمنا �أنا �سلطان اهلل يف �أر�ضه‪� ،‬أ�سو�سكم بتوفيقه‬ ‫وت�سديده وت�أييده‪ ،‬وحار�سه على ماله‪� ،‬أعمل فيه مب�شيئته و�إرادته و�أعطيه ب�إذنه‪ ،‬فقد جعلني اهلل‬ ‫عليه قف ًال �إن �شاء �أن يفتحني فتحني لإعطائكم وق�سم �أرزاقكم و�إن �شاء �أن يقفلني عليها �أقفلني‪،‬‬ ‫�إلخ‪ .‬راجع العقد الفريد ج ‪� 2‬ص ‪179‬‬ ‫(‪ )3‬طوالع الأنوار و�رشحه مطالع الأنظار �ص‪470‬‬ ‫(‪ )4‬ابن خلدون �ص‬ ‫(‪ )5‬ابن خلدون �ص‪207‬‬ ‫‪4‬‬


‫ونواب عنه‪ ،‬وهو وحده �صاحب الر�أي يف اختيارهم وعزلهم‪ ،‬ويف‬ ‫�إفا�ضة الوالية عليهم‪ ،‬و�إعطائهم من ال�سلطة بالقدر الذي يرى‪ ،‬ويف‬ ‫احلد الذي يختار‪.‬‬ ‫‪ - 6‬قد يظهر من تعريفهم للخالفة ومن مباحثهم فيها �أنهم‬ ‫يعتربون اخلليفة مقيداً يف �سلطانه بحدود ال�رشع ال يتخطاها‪ ،‬و�أنه‬ ‫مطالب حتم ًا ب�أن ي�سلك بامل�سلمني �سبي ًال واحدة معينة من بني �شتى‬ ‫ال�سبل‪ .‬هي �سبيل وا�ضحة من غري لب�س‪ ،‬وم�ستقيمة من غري عوج‪ .‬قد‬ ‫ك�شف ال�رشع ال�رشيف عن مبادئها وغاياتها‪ ،‬و�أقام فيها �إماراتها‪،‬‬ ‫ومهد مدارجها‪ ،‬و�أنار فجاجها‪ ،‬وو�ضع فيها منازل لل�سالكني‪ ،‬ووحد‬ ‫اخلطى لل�سائرين‪ ،‬فما كان لأحد �أن ي�ضل فيها وال ي�شقى‪ ،‬وما كان‬ ‫خلليفة �أن يفرط فيها وال �أن يطغى‪ ،‬هي �سبيل الدين الإ�سالمي التي‬ ‫�أقام حممد �صلى اهلل عليه و�سلم يو�ضحها للنا�س حقبة من الدهر‬ ‫طويلة‪ .‬هي ال�سبيل التي حددها كتاب اهلل الكرمي و�س ّنة حممد و�إجماع‬ ‫امل�سلمني‪.‬‬ ‫نعم هم يعتربون اخلليفة مقيداً بقيود ال�رشع‪ ،‬ويرون ذلك كافي ًا يف‬ ‫�ضبطه يوم ًا �إن �أراد �أن يجمح‪ ،‬ويف تقومي ميله �إذا خيف �أن يجنح‪ ،‬وقد‬ ‫ذهب قوم منهم �إىل �أن اخلليفة �إذا جار �أو فجر انعزل عن اخلالفة‪.‬‬ ‫‪ - 7‬وقد فرقوا من �أجل ذلك بني اخلالفة وامللك‪ ،‬ب�أن «امللك‬ ‫الطبيعي هو حمل الكافة على مقت�ضى الغر�ض وال�شهوة‪ ،‬وال�سيا�سي‬ ‫هو حمل الكافة على مقت�ضى النظر العقلي يف جلب امل�صالح الدنيوية‬ ‫ودفع امل�ضار‪ ،‬واخلالفة هي حمل الكافة على مقت�ضى النظر ال�رشعي‪...‬‬

‫‪5‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫�إلخ»‪1‬لذلك يقرر ابن خلدون �أن اخلالفة اخلال�صة كانت يف ال�صدر الأول‬ ‫�إىل �آخر عهد علي‪.‬‬ ‫«ثم �صار الأمر �إىل امللك‪ ،‬وبقيت معاين اخلالفة من حتري الدين‬ ‫ومذاهبه‪ ،‬واجلري على منهج احلق‪ ،‬ومل يظهر التغري �إال يف الوازع الذي‬ ‫كان دين ًا ثم انقلب ع�صبية و�سيف ًا‪ ،‬وهكذا كان الأمر لعهد معاوية‬ ‫ومروان وابنه عبدامللك‪ .‬وال�صدر الأول من خلفاء بني العبا�س‪� ،‬إىل‬ ‫الر�شيد وبع�ض ولده‪ ،‬ثم ذهبت معاين اخلالفة ومل يبق �إال ا�سمها‪،‬‬ ‫و�صار الأمر ملك ًا بحت ًا وجرت طبيعة التغلب �إىل غايتها‪ ،‬وا�ستعملت‬ ‫يف �أغرا�ضها‪ ،‬من القهر والتقلب يف ال�شهوات واملالذ‪ ،‬وهكذا كان الأمر‬ ‫لولد عبدامللك‪ ،‬وملن جاء بعد الر�شيد من بني العبا�س‪ ،‬وا�سم اخلالفة‬ ‫باقي ًا فيهم لبقاء ع�صبية العرب‪ ،‬واخلالفة وامللك يف الطورين ملتب�س‬ ‫بع�ضهما ببع�ض‪ ،‬ثم ذهب ر�سم اخلالفة و�أثرها بذهاب ع�صبية العرب‬ ‫وفناء جيلهم‪ ،‬وتال�شي �أحوالهم‪ ،‬وبقي الأمر ملك ًا بحت ًا كما كان ال�ش�أن‬ ‫يف ملوك العجم بامل�رشق‪ ،‬يدينون بطاعة اخلليفة تربك ًا‪ ،‬وامللك بجميع‬ ‫�ألقابه ومناحيه لهم ولي�س للخليفة منه �شيء‪� ...‬إلخ»‪.2‬‬ ‫‪ - 8‬قد كان واجب ًا عليهم‪� ،‬إذا �أفا�ضوا على اخلليفة كل تلك القوة‪،‬‬ ‫ورفعوه �إىل ذلك املقام‪ ،‬وخ�صوه بكل هذا ال�سلطان‪� ،‬أن يذكروا لنا‬ ‫م�صدر تلك القوة التي زعموها للخليفة‪� ،‬أ ّنى جاءته ؟ ومن الذي حباه‬ ‫بها‪ ،‬و�أفا�ضها عليه ؟ لكنهم �أهملوا ذلك البحث‪� ،‬ش�أنهم يف �أمثاله من‬ ‫مباحث ال�سيا�سة الأخرى التي قد يكون فيها �شبه تعر�ض ملقام اخلالفة‬ ‫وحماولة البحث فيه واملناق�شة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون �ص ‪180‬‬ ‫(‪ )2‬راجع (ف�صل يف انقالب اخلالفة �إىل امللك) �ص‪ 191‬وما بعدها من مقدمة ابن خلدون‬ ‫‪6‬‬


‫على �أن الذي ي�ستقرئ عبارات القوم املت�صلة بهذا املو�ضوع ي�ستطيع‬ ‫�أن ي�أخذ منها بطريق اال�ستن�ساخ �أن للم�سلمني يف ذلك مذهبني‪:‬‬ ‫‪ - 9‬املذهب الأول �أن اخلليفة ي�ستمد �سلطانه من �سلطان اهلل تعاىل‬ ‫وقوته من قوته‪.‬‬ ‫ذلك ر�أي جتد روحه �سارية بني عامة العلماء وعامة امل�سلمني �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫وكل كلماتهم عن اخلالفة وبحثهم فيها تنحو ذلك النحو‪ ،‬وت�شري �إىل هذه‬ ‫العقيدة‪ ،‬وقد ر�أيت‪ ،‬يف ما نقلنا لك �آنفا‪� ،1‬أنهم جعلوا اخلليفة يف ظل اهلل‬ ‫تعاىل‪ ،‬و�أن �أبا جعفر املن�صور زعم �أنه �إمنا هو �سلطان اهلل يف �أر�ضه‪.‬‬ ‫وكذلك �شاع هذا الر�أي وحتدث به العلماء وال�شعراء منذ القرون‬ ‫الأوىل‪ ،‬فرتاهم يذهبون دائم ًا �إىل �أن اهلل ج ّل �شانه‪ ،‬هو الذي يختار‬ ‫اخلليفة وي�سوق �إليه اخلالفة‪ ،‬على نحو ما ترى يف قوله‪:‬‬ ‫جاء اخلالفة �أو كانت له قدراً ‪ ‬كما �أتى ربه مو�سى على قدر‬ ‫وقول الآخر‪:‬‬ ‫ولقد �أراد اهلل �إذ والكها‪ ‬من �أمة �إ�صالحها ور�شادها‬ ‫وقال الفرزدق‪:2‬‬ ‫ه�شام ‪ 3‬خيار اهلل للنا�س والذي به ينجلي عن كل �أر�ض ظالمها‬ ‫و�أنت لهذا النــــا�س بعــد نبيهم �سمــــاء يرجى للمحول غمامهـــا‬ ‫(‪� )1‬ص‪4‬‬ ‫�سني عمره وتويف بالب�رص‬ ‫(‪� )2‬أبو فرا�س همام بن غالب بن �صع�صة قيل �إنه جتاوز املائة من ّ‬ ‫�سنة ‪ 110‬وقيل ‪ ،112‬وقيل ‪ .114‬راجع ديوان الفرزدق طبع املكتبة الأهلية بريوت‪.‬‬ ‫(‪ )3‬ه�شام بن عبدامللك عا�رش اخللفاء الأمويني‪ .‬تويف �سنة ‪ 125‬بالر�صافة وكان عمره خم�س ًا‬ ‫وخم�سني �سنة‪ ،‬راجع تاريخ �أبي الفداج ‪� 1‬ص ‪ 204 ،203‬الطبعة الأوىل باملطبعة احل�سينية مب�رص‬ ‫‪7‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫�سهل على‬ ‫ولقد كان �شيوع هذا الر�أي وجريانه على الأل�سنة مما ّ‬ ‫ال�شعراء �أن ي�صلوا يف مبالغتهم �إىل و�ضع اخللفاء يف موا�ضع العزة‬ ‫القد�سية �أو قريبا منها حتى قال قائلهم‪:‬‬ ‫فاحكم ف�أنت الواحد القهار‬ ‫ ‬ ‫ما �شئت ال ما �شاءت الأقدار‬ ‫وقال طريح‪ 1‬ميدح الوليد بن يزيد‪:2‬‬ ‫ ‬ ‫�أنت‪ 3‬ابن م�سلنطح البطــاح ومل‬ ‫ ‬ ‫طوبى لفـــرعيك مـن هنـا وهنـا‬ ‫ ‬ ‫لـو قلت لل�سيل دع طريقك واملو‬ ‫ ‬ ‫ل�ســــــــــــاخ وارتـد �أو لكـان لـه‬

‫تطرق عليك احلنى والولــج‬ ‫طوبى لأعراقك التي ن�شـــج‬ ‫ج عليه كـــــاله�ضب يعتلـج‬ ‫يف �سائر الأر�ض عنك منعرج‬

‫و�إذا �أنت رجعت �إىل كثري مما ا ّلف العلماء‪ ،‬خ�صو�ص ًا بعد القرن‬ ‫اخلام�س الهجري‪ .‬وجدتهم �إذا ذكروا يف �أول كتبهم �أحد امللوك �أو‬ ‫ال�سالطني رفعوه فوق �صف الب�رش‪ ،‬وو�ضعوه غري بعيد من مقام العزة‬

‫(‪ )1‬طريح بن �إ�سماعيل الثقفي مدح الوليد بن يزيد‪ ،‬ثم مدح �أبا جعفر املن�صور‪ ،‬راجع الأغاين‬ ‫ج‪� 4‬ص ‪ 74‬وما بعدها‪ .‬طبع مطبعة التقدم مب�رص‪.‬‬ ‫(‪ )2‬هو حادي ع�رش خلفاء بني �أمية‪ ،‬قتل �سنة ‪126‬هـ ‪ .‬راجع �أبا الفداء ج ‪� 1‬ص‪205‬‬ ‫(‪ )3‬امل�سلنطح من البطاح ما ات�سع وا�ستوى �سطحه‪ ،‬وتطرق عليك‪ :‬تطبق عليك وتغطك وت�ضيق‬ ‫كالع�صي جمع حنا‬ ‫واحلني‬ ‫مكانك‪ ،‬يقال‪ :‬طرقت احلادثة بكذا وكذا �إذا اتت ب�أمر �ضيق مع�ضل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كع�صا‪ .‬ما انخف�ض من الأر�ض‪ .‬والولج كل مت�سع يف الوادي الواحدة وجلت ويقال الوجلات بني‬ ‫اجلبال مثل الرحبات‪� .‬أي مل تكن بني احلنى والولج فيخفى مكانك‪� ،‬أي ل�ست يف مو�ضع خفي من‬ ‫احل�سب‪ ،‬والو�شيج �أ�صول النبت يقال‪� :‬أعراقك وا�شجة يف الكرم �أي ثابتة فيه‪ ،‬يعني �أنه كرمي الأبوين‬ ‫من قري�ش وثقيف‪ .‬الأغاين ج‪� 4‬ص‪ 81‬مع ت�رصف‬ ‫‪8‬‬


‫الإلهية‪ .‬ودونك مثا ًال لذلك ما جاء يف خطبة جنم الدين القزويني‪ 1‬يف‬ ‫�أول «الر�سالة ال�شم�سية يف القواعد املنطقية» حيث قال ‪ (:‬ف�أ�شار �إيل من‬ ‫�سعد بلطف احلق‪ ،‬وامتاز بت�أييده من بني كافة اخللق‪ ،‬ومال �إىل جنابه‬ ‫الداين والقا�صي‪ ،‬و�أفلح مبتابعته املطيع والعا�صي‪� ..‬إلخ)‪.‬‬ ‫وقال �شارح تلك الر�سالة قطب الدين الرازي‪ ،2‬يف خطبة �رشحه‬ ‫وخدمت به عايل ح�رضة من خ�صه اهلل تعاىل بالنف�س القد�سية‪ ،‬والريا�سة‬ ‫الإن�سية‪ ...‬الالئح من غرته الغراء لوائح ال�سعادة الأبدية‪ ،‬الفائح من همته‬ ‫العلياء روائح العناية ال�رسمدية‪� ...‬رشف احلق والدولة والدين‪ ،‬ر�شيد‬ ‫الإ�سالم ومر�شد امل�سلمني‪� ..‬إلخ‪.‬‬ ‫ويقول عبداحلكيم ال�سيالكوتي‪ 3‬يف حا�شيته على ال�رشح املذكور‬ ‫«جعلته عرا�ضة حل�رضة من خ�صه اهلل تعاىل بال�سلطة الأبدية‪ ،‬و�أيده‬ ‫بالدولة ال�رسمدية‪ ...‬مروج امللة احلنفية البي�ضاء‪ ،‬م�ؤ�س�س قواعد ال�رشيعة‬ ‫الغراء‪ ،‬ظل اهلل يف الأر�ضني‪ ،‬غياث الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬عامر بالد اهلل‪،‬‬ ‫خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬امل�ؤيد بالت�أييد والن�رص الرباين‪� ..‬إلخ»‪.4‬‬ ‫وجملة القول �إن ا�ستمداد اخلليفة ل�سطانه من اهلل تعاىل مذهب جار‬ ‫على الأل�سنة‪ ،‬فا�ش بني امل�سلمني‪.‬‬

‫(‪ )1‬جنم الدين عمر بن علي القزويني املعروف بالكاتبي توفى �سنة ‪493‬هـ‬ ‫(‪ )2‬قطب الدين حممود بن حممد الرازي توفى �سنة ‪766‬هـ‬ ‫(‪ )3‬القا�ضي عبداحلكيم ال�سيالكوين املتوفى �سنة ‪1067‬هـ املدفون ب�سيالكوت‪ .‬من كتاب‬ ‫اكتفاء القنوع مبا هو مطبوع‬ ‫(‪ )4‬راجع يف ذلك كله املجموعة التي طبعها ال�شيخ فرج اهلل زكي الكردي باملطبعة الأمريية‬ ‫�سنة ‪1323‬هـ و�سنة ‪1905‬م‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪ - 10‬وهنالك مذهب ثان قد نزع �إليه بع�ض العلماء وحتدثوا به‪،‬‬ ‫ذلك هو �أن اخلليفة �إمنا ي�ستمد �سلطانه من الأمة‪ ،‬فهي م�صدر قوته‪،‬‬ ‫وهي التي تختاره لهذا املقام‪ ،‬ولعل احلطيئة‪ 1‬قد نزع ذلك املنزع حني‬ ‫يقول لعمر بن اخلطاب‪:‬‬ ‫ �ألقى �إليك مقاليد النهى الب�رش‬ ‫�أنت الإمام الذي من بعد �صاحبه‬ ‫لكن لأنف�سهم كانت بك الأثر‬ ‫ ‬ ‫مل ي�ؤثروك بهــا �إذ قدموك لـهـا‬ ‫وقد وجدنا ذلك املذهب �رصيح ًا يف كالم العالمة الكا�ساين‪ 2‬يف‬ ‫كتابه البدائع‪ .‬قــــــال‪« 3:‬وكل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به‬ ‫القا�ضي عن الق�ضاء‪ ..‬ال يختلفان �إال يف �شيء واحد‪ ،‬وهو �أن املوكل �إذا‬ ‫مات �أو خلع ينعزل الوكيل‪ ،‬واخلليفة �إذا مات �أو خلع ال تنعزل ق�ضاته‬ ‫ووالته»‪ .‬ووجه الفرق �أن الوكيل يعمل بوالية املوكل ويف خال�ص حقه‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬وقد بطلت �أهلية الوالية فينعزل الوكيل‪ .‬والقا�ضي ال يعمل بوالية‬ ‫اخلليفة ويف حقه‪ ،‬بل بوالية امل�سلمني ويف حقوقهم‪ .‬و�إمنا اخلليفة مبنزل‬ ‫الر�سول عنهم‪ ،‬لهذا مل تلحقه العهدة كالر�سول يف �سائر العقود‪ ،‬والوكيل‬ ‫يف النكاح‪ ،‬و�إذا كان ر�سو ًال كان فعله مبنزلة فعل عامة امل�سلمني‪،‬‬ ‫وواليتهم بعد موت اخلليفة باقية‪ ،‬فيبقى القا�ضي على واليته‪ ،‬وهذا‬ ‫بخالف العزل‪ ،‬فان اخلليفة �إذا عزل القا�ضي �أو الوايل ينعزل بعزله وال‬ ‫ينعزل مبوته‪ ،‬لأنه ال ينعزل بعزل اخلليفة �أي�ض ًا حقيقة بل بعزل العامة‬ ‫(‪ )1‬جرول بن �أو�س بن مالك تويف يف حدود الثالثني للهجرة ا هـ من فوات الوفيات ج‪� 1‬ص‬ ‫‪ 126‬وما بعدها‬ ‫(‪� )2‬أبوبكر بن م�سعود بن �أحمد عالء الدين ملك العلماء الكا�ساين مات �سنة ‪ 587‬ودفن بظاهر‬ ‫حلب ا هـ من الفوائد البهية يف تراجم احلنفية‬ ‫(‪ )3‬بدائع ج ‪� 7‬ص‪16‬‬ ‫‪10‬‬


‫ملا ذكرنا �أن توليته بتوليه العامة‪ ،‬والعامة ولوه اال�ستبدال داللة‪ ،‬لتعلق‬ ‫م�صلحتهم بذلك فكانت واليته منهم معنى يف العزل �أي�ض ًا‪ ،‬فهو الفرق‬ ‫بني العزل واملوت‪.‬‬ ‫ومن �أوفى ما وجدنا يف بيان هذا املذهب واالنت�صار له ر�سالة‬ ‫اخلالفة و�سلطة الأمة التي ن�رشتها حكومة املجل�س الكبري الوطني‬ ‫ب�أنقرة ونقلها من الرتكية �إىل العربية عبدالغني �سني بك وطبعها‬ ‫مبطبعة الهالل مب�رص �سنة ‪ 1342‬هـ ‪ 1924 -‬م‪.‬‬ ‫‪ - 11‬مثل هذا اخلالف بني امل�سلمني يف م�صدر �سلطان اخلليفة قد‬ ‫ظهر بني الأوروبيني وكان له �أثر فعلي كبري يف تطور التاريخ الأوروبي‪.‬‬ ‫ويكاد املذهب الأول يكون موافق ًا ملا ا�شتهر به الفيل�سوف «هوبز‪ »1‬من‬ ‫�أن �سلطان امللوك مقد�س وحقهم �سماوي‪ .‬و�أما املذهب الثاين فهو ي�شبه‬ ‫�أن يكون املذهب نف�سه الذي ا�شتهر به الفيل�سوف « ُل ْك»‪.2‬‬ ‫نرجو �أن يكون ما �سبق كافي ًا لك يف بيان معنى اخلالفة عند علماء‬ ‫امل�سلمني ومعنى قولهم‪�« :3‬إنها ريا�سة عامة يف الدين والدنيا خالفة‬ ‫عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم»‪.‬‬ ‫‪ ‬‬

‫(‪ )1‬توم�س هبز ‪ Thomas Hobbes‬ولد �سنة ‪1588‬م راجع كتاب‬

‫‪A Student`s History of Philosophy.by Arthur Kenyon Roger. P242- 250‬‬

‫(‪ )2‬جون لك ‪ John Locke‬ولد �سنة ‪1632‬‬ ‫(‪ )3‬مقا�صد الطالبني ل�سعد الدين التفتازاين‬ ‫‪11‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪12‬‬


‫(الباب الثاين)‬

‫حكم اخلالفة‬ ‫املوجبون لن�صب اخلليفة ‪ -‬املخالفون يف ذلك ‪� -‬أدلة القائلني‬ ‫بالوجوب ‪ -‬القر�آن واخلالفة ‪ -‬ك�شف ال�شبهة عن بع�ض �آيات ‪ -‬ال�سنة‬ ‫واخلالفة ‪ -‬ك�شف �شبهة من يح�سب يف ال�سنة دليل‪.‬‬ ‫‪ )1‬ن�صب اخلليفة عندهم واجب �إذا تركه امل�سلمون �أثموا كلهم‬ ‫�أجمعون‪ .‬يختلفون بينهم يف �أن ذلك الوجوب عقلي �أو �رشعي‪ ،‬وذلك‬ ‫خالف ال �ش�أن لنا به هنا‪ ،‬ولكنهم ال يختلفون يف �أنه واجب على كل‬ ‫حال حتى زعم ابن خلدون �أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع‪ .‬قال‪:1‬‬ ‫‪ )2‬وقد �شذ بع�ض النا�س فقال بعدم وجوب هذا الن�صب ر�أ�س ًا‬ ‫ال بالعقل وال بال�رشع منهم الأ�صم‪ ،2‬من املعتزلة وبع�ض اخلوارج‬

‫‪3‬‬

‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون �ص‪181‬‬ ‫(‪ )2‬حامت الأ�صم الزاهد امل�شهور البلخي توفى �سنة ‪ 237‬هـ �أبو الفداء ج‪� 2‬ص‪38‬‬ ‫(‪ )3‬و�أعلم �أن اخلوارج مل يوجبوا ن�صب الإمام لكن الطائفة منهم �أوجبته عند الفتنة وطائفة‬ ‫�أخرى عند الأمن‪ ،‬ا هـ حا�شية الك�ستالين على العقائد الن�سفية‬ ‫‪13‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫وغريهم‪ .‬والواجب عند ه�ؤالء �إمنا هو �إم�ضاء �أحكام ال�رشع ف�إذا تواط�أت‬ ‫الأمة على العدل وتنفيذ �أحكام اهلل تعاىل مل يحتج �إىل �إمام وال يجب‬ ‫ن�صبه‪ ،‬وه�ؤالء حمجومون بالإجماع‪.‬‬ ‫‪ )3‬ودليلهم على ذلك الوجوب‪� :‬أو ًال‪� :‬إجماع ال�صحابة والتابعني‬ ‫«لأن �أ�صحاب الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم عند وفاته بادروا �إىل‬ ‫بيعة �أبي بكر ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬وت�سليم النظر �إليه يف �أمورهم‪ ،‬وكذا يف‬ ‫كل ع�رص من بعد ذلك‪ ،‬ومل ترتك النا�س فو�ضى يف ع�رص من الأع�صار‪،‬‬ ‫وا�ستقر ذلك �إجماع ًا دا ًال على وجوب ن�صب الإمام»‪.1‬‬ ‫ثاني ًا‪� :‬إن ن�صب الإمام «يتوقف عليه �إظهار ال�شعائر الدينية‪،‬‬ ‫و�صالح الرعية‪ ،‬وذلك كالأمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬اللذين‬ ‫هما فر�ضان بال �شك‪ ..‬ودون ن�صب الإمام ال ميكن القيام بهما‪ ،‬و�إذا‬ ‫مل يقم بهما �أحد ال تنتظم �أمور الرعية‪ ،‬بل يقوم التناهب يف ما بينهم‬ ‫مقام التواهب‪ ،‬ويكرث الظلم‪ ،‬وتعم الفو�ضى‪ ،‬وال تف�صل اخل�صومات‬ ‫التي هي من �رضوريات املجتمع الإن�ساين‪ ،‬وال �شك �أن ما يتوقف عليه‬ ‫الفر�ض فر�ض‪ ،‬فكان ن�صب الإمام فر�ض ًا كذلك‪ ..‬ومثل الأمر والنهي‬ ‫يف التوقف على ن�صب الإمام الكليات ال�ست التي جتب املحافظة عليها‬ ‫بالزواجر واحلدود التي بينها ال�شارع ال بغري ذلك‪ .‬والكليات ال�ست‬ ‫هي حفظ الدين‪ ...‬وحفظ النف�س‪ ...‬وحفظ العقل وحفظ الن�سب‪ ...‬وحفظ‬ ‫املال‪ ...‬وحفظ العر�ض‪.»2‬‬

‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون �ص‪181‬‬ ‫(‪ )2‬القول املفيد على الر�سالة امل�سماة و�سيلة العبيد يف علم التوحيد لل�شيخ حممد بخيت‬ ‫�ص‪100‬‬ ‫‪14‬‬


‫‪ )4‬مل جند فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا �أن �إقامة‬ ‫الإمام فر�ض من حاول �أن يقيم الدليل على فر�ضيته ب�آية من كتاب‬ ‫اهلل الكرمي‪ ،‬ولعمري لو كان يف الكتاب دليل واحد ملا تردد العلماء‬ ‫يف التنويه والإ�شادة به‪� ،‬أو لو كان يف الكتاب الكرمي ما ي�شبه �أن يكون‬ ‫دلي ًال على وجوب الإمامة لوجد من �أن�صار اخلالفة املتكلفني‪ ،‬و�أنهم‬ ‫لكرث‪ ،‬من يحاول �أن يتخذ من �شبه الدليل دلي ًال‪ .‬ولكن املن�صفني من‬ ‫العلماء واملتكلفني منهم قد �أعجزهم �أن يجدوا يف كتاب اهلل تعاىل‬ ‫حجة لر�أيهم فان�رصفوا عنه �إىل ما ر�أيت‪ ،‬من دعوى الإجماع تارة‪،‬‬ ‫ومن االلتجاء �إىل �أقي�سة املنطق واحكام العقل تارة �أخرى‪.‬‬ ‫‪ )5‬هنالك بع�ض �آيات من القر�آن كنا نح�سب من احلق علينا �أن‬ ‫نبني لك حقيقة معناها‪ ،‬حتى ال يخيل �إليك �أنها تت�صل ب�شيء من �أمر‬ ‫الإمامة‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪:‬‬ ‫ول‬ ‫يعواْ َهّ َ‬ ‫الر ُ�س َ‬ ‫ول َو�أُ يِ‬ ‫«يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫الل َو َ�أ ِط ُ‬ ‫ين � َآم ُنواْ �أَ ِط ُ‬ ‫(‪َ )62 :4‬‬ ‫يعواْ َّ‬ ‫ول‬ ‫الر ُ�سولِ َو�إِلىَ �أُ يِ‬ ‫«و َل ْو َر ُّد ُ‬ ‫الأَ ْم ِر ِمن ُك ْم»‪ ..‬وقوله تعاىل (‪َ )85 :4‬‬ ‫وه �إِلىَ َّ‬ ‫ين َي ْ�س َتنب ُِطو َن ُه ِم ْن ُه ْم»‪� ..‬إلخ‪.‬‬ ‫الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّل ِذ َ‬ ‫ولكنا مل جند من يزعم �أن يجد يف �شيء من تلك الآيات دلي ًال‪ ،‬وال‬ ‫من يحاول �أن يتم�سك بها‪ ،‬لذلك ال نريد �أن نطيل القول فيها‪ ،‬جتنب ًا‬ ‫للغو البحث‪ ،‬واجلهاد مع غري خ�صم‪.‬‬ ‫و�أعلم على كل حال �أن �أويل الأمر قد حملهم املف�رسون يف الآية‬ ‫الأوىل ‪1‬على (�أمراء امل�سلمني يف عهد الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫وبعده يندرج فيهم اخللفاء والق�ضاة و�أمراء ال�رسية‪ ...‬وقيل علماء‬ ‫ال�رشع‪ ،‬لقوله تعاىل‪« :‬ولو ردوه �إىل الر�سول و�إىل �أويل الأمر منهم‬ ‫(‪� )1‬رشح البي�ضاوي‬ ‫‪15‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫لعلمه الذين ي�ستنبطونه منهم»)‪.‬‬ ‫و�أما �أولو الأمر يف الآية الثانية فهم «كرباء ال�صحابة الب�رصاء‬ ‫باالمور‪� ،‬أو الذين كانوا ي�ؤمرون منهم»‪ ،1‬وكيفما كان الأمر فالآيتان‬ ‫ال �شيء فيهما ي�صلح دلي ًال على اخلالفة التي يتكلمون فيها‪.‬‬ ‫وغاية ما قد ميكن �إرهاق الآيتني به �أن يقال �إنهما تدالن على �أن‬ ‫للم�سلمني قوم ًا منهم ترجع �إليهم الأمور‪ .‬وذلك معنى �أو�سع كثرياً و�أعم‬ ‫من تلك اخلالفة باملعـنى الذي يذكرون‪ ،‬بل ذلك معنى يغاير الآخر وال‬ ‫يكاد يت�صل به‪.‬‬ ‫و�إذا �أردت مزيداً يف هذا البحث ف�أرجع �إىل «كتاب اخلالفة»‬ ‫للعالمة‪ ،2‬ال�سري تومــ�س �أرنلد‪ ،‬ففي البابني الثاين والثالث منه بيان‬ ‫ممتع مقنع‪.‬‬ ‫وقد يكون مما ي�ؤن�سك يف هذا املقام كلمة ذكرها �صاحب املواقف‬ ‫بعد �أن ا�ستدل على وجوب ن�صب الإمام ب�إجماع امل�سلمني‪ ،‬قال ‪«:‬ف�إن‬ ‫قيل البد للإجماع من م�ستند‪ ،‬ولو كان لنقل نق ًال متواتراً لتوفر الدواعي‬ ‫�إليه‪ ،‬قلنا ا�ستغنى عن نقله بالإجماع فال توفر للدواعي‪� ،‬أو نقول كان‬ ‫م�ستنده من قبيل ما ال ميكن نقله من قرائن الأحوال التي ال ميكن‬ ‫معرفتها �إال بامل�شاهدة والعيان‪ ،‬ملن كان يف زمنه عليه ال�سالم‪.»3‬‬ ‫فهو كما ترى يقول‪� ،‬إن ذلك الإجماع ال يعرف له م�ستند‪ ،‬وما كان‬ ‫�صاحب املواقف ليلج�أ �إىل هذه القولة لو وجد يف كتاب اهلل تعاىل ما‬ ‫ي�صلح له م�ستنداً‪.‬‬ ‫(‪ )1‬الك�شاف للزخم�رشي‬ ‫(‪The Caliphate.by Sir Thomas W.Arnold;Printed at the )2‬‬ ‫‪Clarendon Press OxFord.1924‬‬ ‫(‪ )3‬املواقف ‪� 2‬ص‪464‬‬ ‫‪16‬‬


‫�إنه لعجب عجيب �أن ت�أخذ بيدك كتاب اهلل الكرمي‪ ،‬وتراجع النظر يف‬ ‫ما بني فاحتته و�سورة النا�س‪ ،‬فرتى فيه ت�رصيف كل مثل‪ ،‬وتف�صيل‬ ‫‪1‬‬ ‫فرطنا يف الكتاب من �شيء)‪ .‬ثم ال جتد‬ ‫كل �شيء من �أمر هذا الدين (ما ّ‬ ‫فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة �أو اخلالفة‪� ،‬أن يف ذلك ملجا ًال للمقال‪.‬‬ ‫‪ )6‬لي�س القر�آن وحده هو الذي �أهمل تلك اخلالفة ومل يت�صد لها‪،‬‬ ‫بل ال�سنة كالقر�آن �أي�ض ًا‪ ،‬قد تركتها ومل تتعر�ض لها‪ .‬يدلك على هذا �أن‬ ‫العلماء مل ي�ستطيعوا �أن ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شيء من احلديث‪ ،‬ولو‬ ‫وجدوا لهم يف احلديث دلي ًال لقدموه يف اال�ستدالل على الإجماع‪ ،‬وملا‬ ‫قال �صاحب املواقف �إن هذا الإجماع مما مل ينقل له �سند‪.‬‬ ‫‪ )7‬يريد ال�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �أن يجد يف ال�سنة دلي ًال على وجوب‬ ‫اخلالفة ف�إنه نقل عن �سعد الدين‪ 2‬التفتازاين يف املقا�صد ما ا�ستدل‬ ‫به على وجوب الإمامة‪ .‬ومل يكن من بني تلك الأدلة بال�رضورة �شيء‬ ‫من كتاب اهلل وال من �سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فقام ال�سيد‬ ‫ر�شيد يعرت�ض على ال�سعد‪ ،‬ب�أنه «قد غفل هو و�أمثاله عن اال�ستدالل على‬ ‫ن�صب الإمام بالأحاديث ال�صحيحة الواردة يف التزام جماعة امل�سلمني‬ ‫و�إمامهم‪ ،‬ويف بع�ضها الت�رصيح ب�أن من مات ولي�س يف عنقه بيعة مات‬ ‫ميتة جاهلية‪ .‬و�سي�أتي حديث حذيفة املتفق عليه‪ ،‬وفيه قوله �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪« ،‬تلزم جماعة امل�سلمني و�إمامهم‪.»3‬‬ ‫(‪� )1‬سورة الأنعام‬ ‫(‪� )2‬سعد الدين التفتازاين ا�سمه م�سعود بن عمر‪ ،‬وقيل عمر بن م�سعود‪ ،‬ولد يف تفتازان بلدة‬ ‫بخر�سانة �سنة ‪ 723‬هـ وتويف �سنة ‪ 792‬ب�سمرقند‪ ،‬ثم نقل �إىل �رسخ�س ا هـ راجع الفوائد البهية يف‬ ‫تراجم احلنفية من ‪ 135‬وما بعدها‬ ‫(‪ )3‬اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �ص‪11‬‬ ‫‪17‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫قبل �أن نحدثك يف ذلك االعرتا�ض نلفتك �إىل �أنه يت�ضمن ت�أييد ما‬ ‫قلناه لك‪ ،‬من �أن العلماء مل ي�ستدلوا يف هذا الباب ب�شيء من احلديث‪.‬‬ ‫ولي�س ال�سيد ر�شيد بدع ًا فيما يريد �أن يحتج به‪ ،‬فقد �سبقه �إىل ذلك ابن‬ ‫حزم‪ 1‬الظاهري بل قد زعم هذا‪.‬‬ ‫�إن القر�آن وال�سنة قد وردا ب�إيجاب الإمام‪ ،‬من ذلك قول اهلل تعاىل (‪4‬‬ ‫يعواْ َهّ َ‬ ‫ول الأَ ْم ِر ِمن ُك ْم) مع �أحاديث كثرية‬ ‫الر ُ�س َ‬ ‫ول َو ُ�أ يِ‬ ‫الل َو�أَ ِط ُ‬ ‫ ‪� 62‬أَ ِط ُ‬‫يعواْ َّ‬ ‫�صحاح يف طاعة الأئمة و�إيجاب الإمامة‪.2‬‬ ‫و�أنت �إذا تتبعت كل ما يريدون الرجوع �إليه من �أحاديث الر�سول‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم ومل جتد فيها �شيئ ًا �أكرث من �أنها ذكرت الإمامة �أو‬ ‫البيعة �أو اجلماعة‪�..‬إلخ‪ ،‬مثل ما روى «الأئمة من قري�ش» «تلزم جماعة‬ ‫امل�سلمني» «من مات ولي�س يف عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية» «من‬ ‫بايع �إمام ًا ف�أعطاه �صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه �إن ا�ستطاع‪ ،‬ف�إن جاء‬ ‫�آخر ينازعه فا�رضبوا عنق الآخر»‪3« ،‬اقتدوا باللذين من بعدي �أبي بكر‬ ‫وعمر‪� ...‬إلخ �إلخ‪ ،»4‬ولي�س يف �شيء من ذلك كله ما ي�صلح دلي ًال على ما‬ ‫زعموه‪ ،‬مبعنى النيابة عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم والقيام مقامه من‬ ‫امل�سلمني‪.‬‬ ‫ال نريد �أن نناق�شهم يف �صحة الأحاديث التي ي�سوقونها يف هذا‬ ‫الباب‪ ،‬وقد كان لنا يف مناق�شتهم يف ذلك جمال ف�سيح‪ ،‬ولكنا نتنزل‬ ‫(‪� )1‬أبوحممد علي بن �أحمد بن �سعيد ولد بقرطبة �سنة ‪ 384‬وتويف �سنة ‪ 456‬نق ًال عن ديباجة‬ ‫كتاب الف�صل‬ ‫(‪ )2‬الف�صل يف امللل والأهواء والنحل ج‪� 4‬ص ‪87‬‬ ‫ي�صح ويعيذنا اهلل من االحتجاج مبا ال ي�صح‪ .‬الف�صل ج‪4‬‬ ‫(‪ )3‬قال ابن حزم �إن هذا احلديث مل‬ ‫ّ‬ ‫�ص‪108‬‬ ‫(‪ )4‬ذكرت كل هذه الأحاديث مفرقة يف ر�سالة اخلالفة �أو الإمامة العظمى لل�سيد حممد ر�شيد‬ ‫ر�ضا وغالبها خمرج‬ ‫‪18‬‬


‫جد ًال �إىل افرتا�ض �صحتها كلها‪ .‬ثم ال نناق�شهـم يف املعنى الذي يريده‬ ‫ال�شارع من كلمات‪� ،‬إمامة وبيعة وجماعة‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وقد كانت تتح�سن مناق�شتهم يف ذلك‪ ،‬ليعرفوا �أن تلك العبارات‬ ‫و�أمثالها يف ل�سان ال�رشع‪ ،‬ال ترمي �إىل �شيء من املعاين التي ا�ستحدثوها‬ ‫بعد‪ ،‬ثم زعموا �أن يحملوا عليها لغة الإ�سالم‪.‬‬ ‫نتجاوز لهم عن كل تلك الأبواب من اجلدل‪ ،‬نقول �إن الأحاديث كلها‬ ‫�صحيحة‪ ،‬نقول �إن الأئمة و�أويل الأمر ونحوهما �إذا وردت يف ل�سان‬ ‫ال�رشع فاملراد به �أهل اخلالفة و�أ�صحاب الإمامة العظمى‪ .‬و�أن البيعة‬ ‫معناها بيعة اخلليفة‪ ،‬و�أن جماعة امل�سلمني معناها حكومة اخلالفة‬ ‫الإ�سالمية‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫نفتـــر�ض ذلك كله‪ ،‬ونتنزل كل ذلك التنزل‪ ،‬ثم ال جند يف تلك‬ ‫الأحاديث‪ ،‬بعد كل ذلك‪ ،‬ما ينه�ض دلي ًال لأولئك الذين يتخذون اخلالفة‬ ‫عقيدة �رشعية‪ ،‬وحكم ًا من �أحكام الدين‪.‬‬ ‫تكلم عي�سى بن مرمي عليه ال�سالم عن حكومة القيا�رصة‪ ،‬و�أمر ب�أن‬ ‫يعطي ما لقي�رص لقي�رص‪ ،‬فما كان هذا اعرتاف ًا من عي�سى ب�أن احلكومة‬ ‫القي�رصية من �رشيعة اهلل تعاىل‪ ،‬وال مما يعرتف به ديــن امل�سيحية‪ ،‬وما‬ ‫كان لأحد ممن يفهم لغة الب�شـر يف تخاطبهم �أن يتخذ من كلمة عي�سى‬ ‫حجة له على ذلك‪.‬‬ ‫وكل ما جرى يف �أحاديث النبي عليه ال�صالة وال�سالم من ذكر‬ ‫الإمامة واخلالفة والبيعة‪� ...‬إلخ‪ ،‬ال يدل على �شيء �أكرث مما دل عليه‬ ‫امل�سيح حينما ذكر بع�ض الأحكام ال�رشعية عن حكومة قي�رص‪.‬‬ ‫و�إذا كان �صحيح ًا �أن النبي عليه ال�صالة وال�سالم قد �أمرنا �أن‬ ‫نطيع �إمام ًا بايعناه‪ .‬فقد �أمرنا اهلل تعاىل كذلك �أن نفي بعهدنا مل�رشك‬ ‫عاهدناه‪ ،‬و�أن ن�ستقيم له ما ا�ستقام لنا‪ ،‬فما كان ذلك دلي ًال على �أن اهلل‬ ‫تعاىل ر�ضي ال�رشك‪ ،‬وال كان �أمره تعاىل بالوفاء للم�رشكني م�ستلزم ًا‬ ‫‪19‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫لإقرارهم على �رشكهم‪.‬‬ ‫�أول�سنا م�أمورين �رشع ًا بطاعة البغاة والعا�صني‪ ،‬وتنفيذ �أمرهم �إذا‬ ‫تغلبوا علينا وكان يف خمالفتهم فتنة تخ�شى‪ ،‬من غري �أن يكون ذلك‬ ‫م�ستلزم ًا مل�رشوعية البغي‪ ،‬وال جلواز اخلروج على احلكومة‪.‬‬ ‫�أول�سنا قد �أمرنا �رشع ًا ب�إكرام ال�سائلني‪ ،‬واحرتام الفقراء‪ ،‬والإح�سان‬ ‫�إليهم‪ ،‬والرحمة بهم‪ ،‬فهل ي�ستطيع ذو عقل �أن يقول �إن ذلك يوجب علينا‬ ‫�رشع ًا �أن نوجد بيننا فقراء وم�ساكني‪.‬‬ ‫ولقد حدثنا اهلل تعاىل عن الرق‪ ،‬و�أمرنا �أن نفك رقاب الأرقاء‪ ،‬و�أمرنا‬ ‫�أن نعاملهم باحل�سنى‪ ،‬و�أمرنا بكثري غري ذلك يف �ش�أن الأرقاء‪ ،‬فما دل‬ ‫ذلك على �أن الرق م�أمور به يف الدين‪ ،‬وال على �أنه مرغوب فيه‪.‬‬ ‫وكثرياً ما ذكر اهلل تعاىل الطالق‪ ،‬واال�ستدانة‪ ،‬والبيع والرهن‪،‬‬ ‫وغريها‪ ،‬و�رشع لها �أحكام ًا فما دل ذلك مبجرده على �أن �شيئ ًا منها‬ ‫واجب يف الدين‪ ،‬وال على �أن لها عند اهلل �ش�أن ًا خا�ص ًا‪.‬‬ ‫ف�إذا كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد ذكر البيعة واحلكم واحلكومة‬ ‫وتكلم عن طاعة الأمراء‪ ،‬و�رشع لنا الأحكام يف ذلك فوجه ذلك ما قد‬ ‫عرفت وفهمت‪.‬‬ ‫�أما بعد ف�إن دعوى الوجوب ال�رشعي دعوى كبرية‪ ،‬ولي�س كل حديث‬ ‫و�إن �صح ب�صالح ملوازنة تلك الدعوى‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫(الباب الثالث)‬

‫اخلالفة من الوجهة االجتماعية‬ ‫دعوى الإجماع ‪ -‬متحي�صها ‪ -‬انحطاط العلوم ال�سيا�سية عند امل�سلمني‬ ‫ عناية امل�سلمني بعلوم اليونان ‪ -‬ثورة امل�سلمني على اخلالفة ‪ -‬اعتماد‬‫اخلالفة على القوة والقهر ‪ -‬الإ�سالم دين امل�ساواة والعزة ‪ -‬اخلالفة مقام‬ ‫عزيز وغرية �صاحبه عليه �شديدة ‪ -‬اخلالفة واال�ستبداد والظلم ‪ -‬ال�ضغط‬ ‫امللوكي على النه�ضة العلمية وال�سيا�سية ‪ -‬ال تقبل دعوى الإجماع ‪� -‬آخر‬ ‫�أدلتهم على اخلالفة ‪ -‬البد للم�سا�س من نوع من احلكم‪ -‬الدين يعرتف‬ ‫بحكومة ‪ -‬احلكومة غري اخلالفة‪ -‬ال حاجة بالدين وال بالدنيا �إىل اخلالفة‬ ‫ انقرا�ض اخلالفة يف الإ�سالم ‪ -‬اخلالفة اال�سمية يف م�رص ‪ -‬النتيجة‪.‬‬‫‪ .1‬زعموا وقد فاتهم كتاب اهلل تعاىل و�سنة ر�سوله �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم «�أنه تواتر �إجماع امل�سلمني يف ال�صدر الأول‪ ،‬بعد وفاة النبي‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬على امتناع خلو الوقت من �إمام‪ ،‬حتى قال �أبو‬ ‫بكر ر�ضي اهلل عنه يف خطبته امل�شهورة‪ ،‬حني وفاته عليه ال�سالم‪� ،‬أال �إن‬ ‫حممداً قد مات‪ ،‬وال بد لهذا الدين ممن يقوم به‪ ،‬فبادر الكل �إىل قبوله‪،‬‬ ‫وتركوا له �أهم الأ�شياء‪ ،‬وهو دفن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ومل‬ ‫يزل النا�س على ذلك‪ ،‬يف كل ع�رص �إىل زماننا هذا‪ ،‬من ن�صب �إمام متبع‬ ‫يف كل ع�رص» ‪.1‬‬ ‫(‪ )1‬املواقف و�رشحه‬ ‫‪21‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪ .2‬ن�سلم �أن الإجماع حجة �رشعية‪ ،‬وال نثري خالف ًا يف ذلك مع‬ ‫املخالفني‪ .1‬ثم ن�سلم �أن الإجماع يف ذاته ممكن الوقوع والثبوت‪ ،2‬وال‬ ‫نقول مع القائل‪� ،3‬إن من ادعى الإجماع فهو كاذب‪� .‬أما دعوى الإجماع‬ ‫يف هذه امل�س�ألة فال جند م�ساغ ًا لقبولها على �أي حال‪ .‬وحمال �إذا‬ ‫طالبناهم بالدليل �أن يفروا بدليل‪ ،‬على �أننا مثبتون لك فيما يلي �أن‬ ‫دعوى الإجماع هنا غري �صحيحة وال م�سموعة‪� ،‬سواء �أرادوا بها �إجماع‬ ‫ال�صحابة وحدهم‪� ،‬أم ال�صحابة والتابعني‪� ،‬أم علماء امل�سلمني‪� ،‬أم‬ ‫امل�سلمني كلهم‪ ،‬بعد �أن منهد لهذا متهيداً‪.‬‬ ‫‪ .3‬من املالحظ البني يف تاريخ احلركة العلمية عند امل�سلمني �أن‬ ‫حظ العلوم ال�سيا�سية فيهم كان بالن�سبة لغريها من العلوم الأخرى‬ ‫�أ�سو�أ حظ‪ ،‬و�أن وجودها بينهم كان �أ�ضعف وجود‪ ،‬فل�سنا نعرف لهم‬ ‫م�ؤلف ًا يف ال�سيا�سة وال مرتجم ًا‪ ،‬وال نعرف لهم بحث ًا يف �شيء من �أنظمة‬ ‫احلكم وال �أ�صول ال�سيا�سة‪ ،‬اللهم �إال قلي ًال ال يقام له وزن �إزاء حركتهم‬ ‫العلمية يف غري ال�سيا�سة من الفنون‪.‬‬

‫(‪ )1‬الإجماع حجة مقطوع بها عند عامة امل�سلمني‪ .‬ومن �أهل الأهواء من مل يجعله حجة مثل‬ ‫�إبراهيم النظام والقا�شاين من املعتزلة واخلوارج و�أكرث الرواف�ض �إلخ‪ ..‬ك�شف الأ�رسار‬ ‫(‪� )2‬أنكر بع�ض الرواف�ض والنظام من املعتزلة ت�صور انعقاد الإجماع على �أمر غري �رضوري‪..‬‬ ‫وذهب داود و�شيعته من �أهل الظاهر و�أحمد بن حنبل يف �إحدى الروايتني عنه �إىل �أنه ال �إجماع‬ ‫�إال لل�صحابة‪ ..‬وقال الزيدية والإمامية من الرواف�ض ال ي�صح الإجماع �إال من عرتة الر�سول عليه‬ ‫ال�سالم �أي قرابته‪ ..‬ونقل عن مالك رحمه اهلل �أنه قال ال �إجماع �إال لأهل املدينة اهـ‪ .‬راجع كتاب‬ ‫ك�شف الأ�رسار لعبدالعزيز البخاري على �أ�صول الإمامة لفخر الإ�سالم �أبي احل�سني علي بن حممد بن‬ ‫ح�سني البزدوي طبع دار اخلالفة �سنة ‪1307‬هـ ج‪ 3‬من ‪ 946‬وما بعدها‬ ‫(‪ )3‬روى ذلك الإمام �أحمد بن حنبل‪ .‬راجع تاريخ الت�رشيع الإ�سالمي مل�ؤلفه حممد اخل�رضي‬ ‫�ص‪.206‬‬ ‫‪22‬‬


‫ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم �إىل البحث الدقيق‬ ‫يف علوم ال�سيا�سة‪ ،‬وتظاهرت لديهم الأ�سباب التي تعدهم للتعمق‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫‪ .4‬و�أقل تلك الأ�سباب �أنهم مع ذكائهم الفطري‪ ،‬ون�شاطهم العلمي‪،‬‬ ‫كانوا مولعني مبا عند اليونان من فل�سفة وعلم‪ ،‬وقد كانت كتب‬ ‫اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودر�سها كافية يف �أن تغريهم‬ ‫بعلم ال�سيا�سة وحتببه �إليهم‪ ،‬ف�إن ذلك العلم قدمي‪ ،‬وقد �شغل كثرياً‬ ‫من قدماء الفال�سفة اليونانيني وكان له يف فل�سفة اليونان‪ ،‬بل يف‬ ‫حياتهم‪� ،‬ش�أن خطري‪.‬‬ ‫‪ .5‬وهناك �سبب �آخر �أهم‪ .‬ذلك �أن مقام اخلالفة الإ�سالمية كان‬ ‫منذ اخلليفة الأول‪� ،‬أبي بكر ال�صديق‪ ،‬ر�ضي اهلل تعاىل عنه‪� ،‬إىل يومنا‬ ‫هذا‪ ،‬عر�ضة للخارجني عليه املنكرين له‪ ،‬وال يكاد التاريخ الإ�سالمي‬ ‫يعرف خليفة �إال عليه خارج‪ ،‬وال جي ًال من الأجيال م�ضى من دون �أن‬ ‫ي�شاهد م�رصع ًا من م�صارع اخللفاء‪.‬‬ ‫نعم رمبا كان ذلك غالب ًا �ش�أن امللوك يف كل �أمة وكل ملة وجيل‪،‬‬ ‫ولكن ال نظن �أن �أمة من الأمم ت�ضارع امل�سلمني يف ذلك‪ ،‬ف�إن معار�ضتهم‬ ‫للخالفة ن�ش�أت �إذ ن�ش�أت اخلالفة نف�سها‪ ،‬وبقيت ببقائها‪.‬‬ ‫وحلركة املعار�ضة هذه تاريخ كبري جدير باالعتبار‪ ،‬وقد كانت‬ ‫املعار�ضة �أحيان ًا تتخذ لها �شكل قوة كبرية‪ ،‬ذات نظام بني كما فعل‬ ‫اخلوارج يف زمن علي بن �أبي طالب‪ ،‬وكانت حينا ت�سري حتت �ستار‬ ‫الأنظمة الباطنية‪ ،‬كما كان جلماعة االحتاد والرتقي مثال‪ ،‬وكانت‬ ‫ت�ضعف �أحيان ًا حتى ال يكاد يح�س لها وجود‪ ،‬وتقوى �أحيان ًا حتى لو‬

‫‪23‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫تزلزل عرو�ش امللوك‪ ،‬وكانت رمبا �سلكت طريق العمل متى ا�ستطاعت‪،‬‬ ‫ورمبا �سارت على طريقة الدعوة العلمية �أو الدينية على ح�سب ظروفها‬ ‫و�أحوالها‪.‬‬ ‫مثل هذه احلركة كان من �ش�أنها �أن تدفع القائمني بها �إىل البحث‬ ‫يف احلكم‪ ،‬وحتليل م�صادره ومذاهبه‪ ،‬ودر�س احلكومات وكل ما يت�صل‬ ‫بها‪ .‬ونقد اخلالفة وما تقوم عليه‪� ،‬إىل �آخر ما تتكون منه علوم ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ال جرم �أن العرب قد كانوا �أحق بهذا العلم‪ ،‬و�أوىل من يواليه‪.‬‬ ‫‪ .6‬فما لهم قد وقفوا حيارى �أمام ذلك العلم‪ ،‬وارتدوا دون مباحثه‬ ‫ح�سريين ؟ ما لهم �أهملوا النظر يف كتاب اجلمهورية ‪Republic‬‬ ‫لأفالطون وكتاب ال�سيا�سة ‪ Politics‬لأر�سطو‪ ،‬وهم الذين بلغ من‬ ‫�إعجابهم ب�أر�سطو �أن لقبوه املعلم الأول ؟ وما لهم �أن يرتكوا امل�سلمني‬ ‫يف جهالة مطبقة مببادئ ال�سيا�سة و�أنواع احلكومات عند اليونان‪ ،‬وهم‬ ‫الذين ارت�ضوا �أن ينهجوا بامل�سلمني مناهج ال�رسيان يف علم النحو‪ ،‬و�أن‬ ‫يرو�ضوهم بريا�ضة بيدبا الهندي يف كتاب كليلة ودمنة‪ ،‬بل ر�ضوا ب�أن‬ ‫ميزجوا لهم علوم دينهم مبا يف فل�سفة اليونان من خري و�رش‪ ،‬و�إميان‬ ‫وكفر ؟‬ ‫مل يرتك علما�ؤنا �أن يهتموا بعلوم ال�سيا�سة اهتمامهم بغريها غفلة‬ ‫منهم عن تلك العلوم‪ ،‬وال جه ًال بخطرها‪ ،‬ولكن ال�سبب يف ذلك هو ما‬ ‫نق�صه عليك‪.‬‬ ‫‪ .7‬الأ�صل يف اخلالفة عند امل�سلمني �أن تكون «راجعة �إىل اختيار‬ ‫�أهل العقد واحلل‪� 1‬إذ «الإمامة عقد يح�صل باملبايعة من �أهل احلل‬ ‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‬ ‫‪24‬‬


‫والعقد ملن اختاروه �إمام ًا للأمة بعد الت�شاور بينهم‪.»1‬‬ ‫قد يكون معنى ذلك �أن اخلالفة تقوم عند امل�سلمني على �أ�سا�س‬ ‫البيعة االختيارية‪ ،‬وترتكز على رغبة �أهل العقد واحلل من امل�سلمني‬ ‫ور�ضاهم‪ ،‬وقد يكون من املعقول �أن توجد يف الدنيا خالفة على احلد‬ ‫الذي ذكروا‪ ،‬غري �أننا �إذا رجعنا �إىل الواقع والأمر نف�سه وجدنا �أن‬ ‫اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على �أ�سا�س القوة الرهيبة‪ ،‬و�أن تلك‬ ‫القوة كانت‪� ،‬إال يف النادر‪ ،‬قوة مادية م�سلحة‪ ،‬فلم يكن للخليفة ما‬ ‫يحوط مقامه �إال الرماح وال�سيوف‪ ،‬واجلي�ش املدجج والب�أ�س ال�شديد‪،‬‬ ‫فبتلك دون غريها يطمئن مركزه‪ ،‬ويتم �أمره‪.‬‬ ‫قد ي�سهل الرتدد يف �أن الثالثة الأول من اخللفاء الرا�شدين مث ًال‬ ‫�شادوا مقامهم على �أ�سا�س القوة املادية‪ ،‬وبنوه على قواعد الغلبة‬ ‫والقهر‪ ،‬ولكن �أي�سهل ال�شك يف �أن علي ًا ومعاوية (ر�ضي اهلل تعاىل‬ ‫عنهما) مل يتبو�آ عر�ش اخلالفة �إال حتت ظالل ال�سيف‪ ،‬وعلى �أ�سنة الرمح؟‬ ‫وكذلك اخللفاء من بعد �إىل يومنا هذا‪ .‬وما ‪2‬كان لأمري امل�ؤمنني حممد‬ ‫اخلام�س �سلطان تركيا‪� ،‬أن ي�سكن اليوم يلدز لوال تلك اجليو�ش التي‬ ‫حتر�س ق�رصه‪ ،‬وحتمي عر�شه‪ ،‬وتفنى دون الدفاع عنه‪.‬‬ ‫ال ن�شك مطلق ًا يف �أن الغلبة كانت دائم ًا عماد اخلالفة‪ ،‬وال يذكر‬ ‫التاريخ لنا خليفة �إال اقرتن يف �أذهاننا بتلك الرهبة امل�سلحة التي‬ ‫حتوطه‪ ،‬والقوة القاهرة التي تظله‪ ،‬وال�سيوف امل�صلتة التي تذود‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫(‪ )1‬اخلالفة لل�سيد حممد ر�شيد ر�ضا �ص ‪25-24‬‬ ‫(‪ )2‬كتبنا ذلك يوم كانت اخلالفة يف تركيا‪ .‬وكان اخلليفة حممداً اخلام�س ‪ -‬وقد ذهبت بعد‬ ‫ذلك اخلالفة من تركيا ‪ -‬وذهب حممد اخلام�س وغري حممد اخلام�س من اخللفاء‪ .‬ملا ذهبت تلك‬ ‫القوة التي قلنا �إنها �أ�سا�س اخلالفة‬ ‫‪25‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ولوال �أن نرتكب �شطط ًا يف القول لعر�ضنا على القارئ �سل�سلة‬ ‫اخلالفة �إىل وقتنا هذا لريى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر‬ ‫والغلبة‪ ،‬وليتبني �أن ذلك الذي ي�سمى عر�ش ًا ال يرتفع �إال على ر�ؤو�س‬ ‫الب�رش‪ ،‬وال ي�ستقر �إال فوق �أعناقهم‪ ،‬و�أن ذلك الذي ي�سمى تاج ًا ال حياة‬ ‫له �إال مبا ي�أخذ من حياة الب�رش‪ ،‬وال قوة �إال مبا يغتال من قوتهم‪ ،‬وال‬ ‫عظمة له وال كرامة �إال مبا ي�سلب من عظمتهم وكرامتهم ‪ -‬كالليل �أن‬ ‫طال غال ال�صبح بالق�رص ‪ -‬و�أن بريقه �إمنا هو من بريق ال�سيوف‪،‬‬ ‫ولهيب احلروب‪.‬‬ ‫قد يالحظ يف بع�ض �سني التاريخ �أن تلك القوة امل�سلحة‪ ،‬التي هي‬ ‫دعامة اخلالفة‪ ،‬ال تكون ظاهرة الوجود‪ ،‬حم�سو�سة للعامة‪ ،‬فال حت�سنب‬ ‫ذلك �شذوذاً عما قررنا‪ ،‬ف�إن القوة موجودة حتم ًا‪ ،‬وعليها يرتكز مقام‬ ‫اخلليفة‪ ،‬غري �أنه قد مير زمن ال ت�ستعمل فيه تلك القوة‪ ،‬لعدم احلاجة‬ ‫�إىل ا�ستعمالها‪ ،‬ف�إذا طال اختفا�ؤها عن النا�س غفلوا عنها‪ ،‬ورمبا‬ ‫ح�سب بع�ضهم �أنها مل تكن موجودة‪ ،‬ولو كانت غري موجودة حقيقة‬ ‫ملا كان للخليفة بعدها وجود (وما امللك �إال التغلب واحلكم بالقهر)‬ ‫كما قال ابن خلدون‪« 1‬ومن كالم انو�رشوان يف هذا املعنى بعينه‪،‬‬ ‫امللك باجلند‪ ،‬وين�سب �إىل �أر�سطو‪ ،‬امللك نظام يع�ضده اجلند‪.»2‬‬ ‫‪ .8‬طبيعي �أن امللك يف كل �أمة ال يقوم �إال على الغلب والقهر‪،‬‬ ‫«ف�إن امللك من�صب �رشيف ملذوذ‪ ،‬ي�شتمل على جميع اخلريات‬ ‫الدنيوية‪ ،‬وال�شهوات البدنية‪ ،‬واملالذ النف�سانية‪ ،‬فيقع فيه التناف�س‬ ‫(‪ )1‬املقدمة �ص‪132‬‬ ‫(‪ )2‬مقدمة ابن خلدون �ص‪38‬‬ ‫‪26‬‬


‫غالب ًا‪ ،‬وقل �إن ي�سلمه �أحد ل�صاحبه �إال �إذا غلب عليه‪ »1‬وطبيعي يف‬ ‫الأمم الإ�سالمية بنوع خا�ص �أن ال يقوم فيهم ملك‪� ،‬إال بحكم الغلب‬ ‫والقهر �أي�ض ًا‪ ،‬ف�إن الإ�سالم هو الدين الذي مل يكتف بتعليم �أتباعه‬ ‫فكرة الإخاء وامل�ساواة‪ ،‬وتلقينهم مذهب �أن النا�س �سوا�سية ك�أ�سنان‬ ‫امل�شط‪ ،‬و�أن عبيدكم الذين هم ملك ميينكم �إخوانكم يف الدين‪ ،‬و�أن‬ ‫امل�ؤمنني بع�ضهم �أولياء بع�ض‪ ،‬مل يكتف الإ�سالم بتعليم �أتباعه ذلك‬ ‫املذهب تعليم ًا نظري ًا جمرداً‪ ،‬ولكنه �أخذ امل�سلمني به �أخذاً عملي ًا‪،‬‬ ‫و�أدبهم به ت�أديب ًا‪ ،‬ومرنهم عليه مترين ًا‪ ،‬و�رشع لهم الأحكام قائمة‬ ‫على الأخوة وامل�ساواة‪ ،‬و�أجرى عليهم الواقعات‪ ،‬و�أراهم احلادثات‪،‬‬ ‫ف�أح�سوا بالأخوة �إح�سا�س ًا‪ ،‬ومل�سوا امل�ساواة مل�س ًا‪ .‬ومل يرتكهم‬ ‫ر�سولهم الأمني‪� ،‬صلوات اهلل عليه و�سالمه‪� ،‬إال من بعد ما طبع قلوبهم‬ ‫على ذلك الدين و�أ�رشبها ذلك املذهب‪ ،‬ومل تقم دولتهم �إال حني كان‬ ‫ينادي �أحدهم خليفته فوق املنرب‪ ،‬لو وجدنا فيك اعوجاج ًا لقومناه‬ ‫ب�سيوفنا‪.‬‬ ‫من الطبيعي يف �أولئك امل�سلمني الذين يدينون باحلرية ر�أي ًا‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬وي�أنفون اخل�ضوع �إال هلل رب العاملني‪،‬‬ ‫وي�سلكون مذاهبها عم ً‬ ‫ويناجون ربهم بذلك االعتقاد يف كل يوم �سبع ع�رشة مرة يف الأقل‪،‬‬ ‫يف خم�سة �أوقاتهم لل�صالة‪ ،‬من الطبيعي يف �أولئك الأباة الأحرار �أن‬ ‫ي�أنفوا اخل�ضوع لرجل منهم �أو من غريهم ذلك اخل�ضوع الذي يطالب‬ ‫به امللوك رعيتهم‪� ،‬إال خ�ضوعا للقوة‪ ،‬ونزو ًال على حكم ال�سيف‬ ‫القاهر‪.‬‬

‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون �ص‪146‬‬ ‫‪27‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫فذلك ما ذكرناه من �أن اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على‬ ‫�أ�سا�س القوة الرهيبة‪ ،‬و�أن تلك القوة كانت‪� ،‬إال يف النادر‪ ،‬قوة مادية‬ ‫م�سلحة‪.‬‬ ‫�إنه ال يعنينا كثرياً �أن نعرف ال�رس كله يف ذلك‪ ،‬وقد يكون ال�رس‬ ‫هو ما ذكرنا‪ ،‬ورمبا كانت ثمة �أ�سباب �أخرى غري ما ذكرنا‪ ،‬و�إمنا‬ ‫الذي يعنينا يف هذا املقام هو �أن نقرر لك �أن ارتكاز اخلالفة على‬ ‫القوة حقيقية واقعة‪ ،‬الريب فيها‪ ،‬و�سيان عندنا بعد ذلك �أن يكون هذا‬ ‫الواقع املح�سو�س جاري ًا على نوامي�س العقل �أم ال‪ ،‬وموافقا لأحكام‬ ‫الدين �أم ال‪.‬‬ ‫ال معنى لقيام اخلالفة على القوة والقهر �إال �إر�صادهما ملن يخرج‬ ‫على مقام اخلالفة‪� ،‬أو يعتدي عليه‪ ،‬و�إعداد ال�سيف ملن مي�س ب�سوء ذلك‬ ‫العر�ش‪ ،‬ويعمل على زلزلة قوائمه‪.‬‬ ‫ال لذلك يف ق�صة البيعة ليزيد‪ ،‬حني‬ ‫و�أنت ت�ستطيع �أن تدرك مث ً‬ ‫قام �أحد‪ 1‬الدعاة �إىل تلك البيعة خطيب ًا يف احلفل‪ ،‬ف�أوجز البيان يف‬ ‫ب�ضع كلمات مل تدع ‪ -‬لذي �إربة يف القول جداً وال هز ًال ‪ -‬قال (�أمري‬ ‫امل�ؤمنني هذا) (و�أ�شار �إىل معاوية) ف�إن هلك فهذا (و�أ�شار �إىل يزيد)‬ ‫فمن �أبى فهذا و�أ�شار �إىل �سيفه‪.‬‬ ‫‪ .9‬كل �شيء ي�ؤخذ بحد ال�سيف ويحمى بحده يكون عزيزاً على‬ ‫النف�س‪ ،‬ال يهون الت�سامح فيه‪ ،‬وال التنازل عن �شيء منه‪ ،‬وناهيك‬ ‫(‪ )1‬يف اجلزء الثاين من العقد الفريد البن عبد ربه �ص ‪� 307‬أن معاوية بن �أبي �سفيان‪ ،‬ملا‬ ‫�أراد �أخذ البيعة ليزيد‪ ،‬كتب يف �سنة خم�س وخم�سني �إىل �سائر الأم�صار �أن يفدوا عليه‪ ،‬فوفد عليه‬ ‫من كل م�رص قوم‪ ،‬فجل�س يف �أ�صحابه‪ ،‬و�أذن للوفود‪ ،‬فدخلوا عليه‪ ،‬وقد تقدم �إىل �أ�صحابه �أن يقولوا‬ ‫يف يزيد‪ ،‬فتكلم جماعة منهم‪ ،‬ثم قام يزيد بن املقفع فقال «�أمري امل�ؤمنني هذا» �إىل �آخر اجلملة‬ ‫املذكورة فوق فقال معاوية «اجل�س ف�إنك �سيد اخلطباء» اهـ ملخ�ص ًا ‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫مبقام ال�سيادة وال�سلطان فهو عزيز على النف�س‪ ،‬حتى ولو جاء من‬ ‫غري عمل ال�سيف‪ ،‬ف�إذا جاء من طريق القوة والغلب كانت النف�س فيه‬ ‫�أ�شد تعلق ًا‪ ،‬ويف الدفاع عنه �أ�شد تفاني ًا‪ ،‬وكانت غريتها عليه �أكرث من‬ ‫الغرية على املال واحلرم‪ ،‬وولعها به فوق الولع بكل ما يف الدنيا من‬ ‫خريات ونعم‪.‬‬ ‫‪ .10‬و�إذا كان يف هذه احلياة الدنيا �شيء يدفع املرء �إىل اال�ستبداد‬ ‫والظلم‪ ،‬وي�سهل عليه العدوان والبغي‪ ،‬فذلك هو مقام اخلليفة‪ ،‬وقد‬ ‫ر�أيت �أنه �أ�شهى ما تتعلق به النفو�س‪ ،‬و�أهم ما تغار عليه‪ ،‬و�إذا اجتمع‬ ‫احلب البالغ والغرية ال�شديدة‪ ،‬و�أمدتهما القوة الغالبة‪ ،‬فال �شيء �إال‬ ‫الع�سف‪ ،‬وال حكم �إال ال�سيف‪.‬‬ ‫دع عنك كل ذلك احلديث الذي ن�سوقه �إليك قواعد عامة‪ ،‬ونظريات‬ ‫جمردة‪ ،‬ودونك وقائع التاريخ ثابتة يف لوح حمفوظ‪.‬‬ ‫�أفهل غري حب اخلالفة والغرية عليها‪ ،‬ووفرة القوة‪ ،‬دفعت يزيد بن‬ ‫معاوية �إىل ا�ستباحة ذلك الدم الزكي الطاهر‪ ،‬دم احل�سني بن فاطمة‬ ‫بنت ر�سول اهلل‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم ؟ وهل غري تلك العوامل �سلطت‬ ‫يزيد بن معاوية على ع�صمة اخلالفة الأوىل‪ ،‬ينتهك حرمتها‪ ،‬وهي‬ ‫مدينة الر�سول‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم ؟‪ ،‬وهل ا�ستحل عبدامللك بن‬ ‫مروان بيت اهلل احلرام ووطئ حماه‪� ،‬إال حب ًا باخلالفة وغرية عليها‬ ‫مع توافر القوة له؟‪.‬‬ ‫وهل بغري تلك الأ�سباب �صار �أبو العبا�س عبداهلل بن حممد بن علي‬ ‫ابن عبداهلل بن العبا�س‪� ،‬سفاح ًا‪ ،‬وما كانت �إال دماء امل�سلمني‪ ،‬وما‬ ‫كان بنو �أمية �إال من قومه‪.‬‬ ‫كذلك تناحر بنو العبا�س �أي�ض ًا‪ ،‬وبغى بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬وفعل‬ ‫‪29‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫بنو �سبكتكني مثل ذلك‪ ،‬وحارب ال�صالح جنم الدين الأيوبي �أخاه‬ ‫العادل �أبا بكر بن الكامل‪ ،‬فخلعه و�سجنه‪ ،‬وامتلأت دولتا املماليك‬ ‫واجلراك�سة بخلع امللوك وقتلهم‪ ،‬كل ذلك مل يكن �إال �أثراً من �آثار حب‬ ‫اخلالفة والغرية عليها‪ ،‬ومن وراء احلب والغرية قوة قاهرة‪ .‬وكذلك‬ ‫القول يف دولة بني عثمان‪.1‬‬ ‫‪ .11‬الغرية على امللك حتمل امللك على �أن ي�صون عر�شه من‬ ‫كل �شيء يزلزل �أركانه‪� ،‬أو ينق�ص من حرمته‪� ،‬أو يقلل من قد�سيته‪،‬‬ ‫لذلك كان طبيعي ًا �أن ي�ستحيل امللك وح�ش ًا �سفاح ًا‪ ،‬و�شيطان ًا مارداً‪،‬‬ ‫�إذا ظفرت يداه مبن يحاول اخلروج عن طاعته‪ ،‬وتقوي�ض كر�سيه‪.‬‬ ‫و�أنه من الطبيعي كذلك يف امللك �أن يكون عدواً لدوداً لكل بحث ولو‬ ‫كان علمي ًا يتخيل �أنه قد مي�س قواعد ملكه �أو يريح من تلقائه ريح‬ ‫اخلطر‪ ،‬ولو كان بعيداً‪.‬‬ ‫من هنا ن�ش�أ ال�ضغط امللوكي على حرية العلم‪ ،‬وا�ستبداد امللوك‬ ‫ال‪ ،‬وال �شك �أن علم ال�سيا�سة‬ ‫مبعاهد التعليم‪ ،‬كلما وجدوا �إىل ذلك �سبي ً‬ ‫هو من �أخطر العلوم على امللك‪ ،‬مبا يك�شف من �أنواع احلكم وخ�صائ�صه‬ ‫و�أنظمته �إىل �آخره‪ ،‬لذلك كان حتم ًا على امللوك �أن يعادوه و�أن ي�سدوا‬ ‫�سبيله على النا�س‪.‬‬ ‫ذلك ت�أويل ما يالحظ من ق�صور النه�ضة الإ�سالمية يف فروع‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬وخلو حركة امل�سلمني العلمية من مباحثها‪ ،‬ونكو�ص‬ ‫العلماء عن التعر�ض لها‪ ،‬على النحو الذي يليق بذكائهم‪ ،‬وعلى النحو‬ ‫الذي تعر�ضوا به لبقية العلوم‪.‬‬ ‫(‪ )1‬راجع يف هذا البحث �أي�ض ًا كتاب اخلالفة لل�سري �أرنلد‬ ‫‪30‬‬


‫‪ .12‬ل�سنا نعجب‪ ،‬والأمر ما قد عرفت‪ ،‬من �ضعف احلركة العلمية‬ ‫ال�سيا�سية عند امل�سلمني‪ ،‬وال من انحطاط �ش�أن ال�سيا�سة عندهم‪،‬‬ ‫ولكن العجب هو �أن ال ميوت بينهم ذلك العلم‪ ،‬و�أن ال يق�ضي عليه‬ ‫الق�ضاء كله‪ ،‬العجب العجيب هو �أن يت�رسب من خالل ذلك ال�ضغط‬ ‫اخلانق‪ ،‬والقوة املرت�صدة‪ ،‬والب�أ�س املحيط‪ ،‬بع�ض مباحث ال�سيا�سة‬ ‫�إىل جمال�س العلم‪ ،‬و�أن يعرف لبع�ض قليل من العلماء‪ ،‬ر�أي يف م�س�ألة‬ ‫�سيا�سية على غري ما يهوى اخللفاء‪.‬‬ ‫لو و�ضعنا هذا الكتاب كله يف بيان ال�ضغط امللوكي الإ�سالمي‬ ‫على كل علم �سيا�سي‪ .‬وكل حركة �سيا�سية‪� ،‬أو نزعة �سيا�سية‪ ،‬ل�ضاق‬ ‫هذا الكتاب و�أ�ضعافه عن ا�ستيعاب القول يف ذلك‪ ،‬ثم لعجزنا عن‬ ‫بيانه على وجه كامل‪ ،‬فح�سبنا الآن تلك الإ�شارة املجملة‪ ،‬وع�سى �أن‬ ‫مير بك قريب ًا ما يت�صل بهذا البحث‪.‬‬ ‫ونعود بك الآن �إىل حيث كنا عند قولهم «�إن الأمة قد �أجمعت على‬ ‫ن�صب الإمام‪ ،‬فكان ذلك �إجماع ًا دا ًال على وجوبه»‪.‬‬ ‫لو ثبت عندنا �أن الأمة يف كل ع�رص �سكتت على بيعة الإمامة‪،‬‬ ‫فكان ذلك �إجماع ًا �سكوتي ًا‪ ،‬بل لو ثبت �أن الأمة بجملتها وتف�صيلها‬ ‫قد ا�شرتكت بالفعل يف كل ع�رص يف بيعة الإمامة واعرتفت بها‪ ،‬فكان‬ ‫ذلك �إجماع ًا �رصيح ًا‪ ،‬لو نقل �إلينا ذلك لأنكرنا �أن يكون �إجماع ًا‬ ‫حقيقي ًا‪ ،‬ولرف�ضنا �أن ن�ستخل�ص منه حكم ًا �رشعي ًا‪ ،‬و�أن نتخذه حجة‬ ‫يف الدين‪.‬‬ ‫وقد عرفت من ق�صة ‪1‬يزيد كيف كانت ت�ؤخذ البيعة‪ ،‬ويغت�صب‬ ‫ال فلدينا مزيد‪.‬‬ ‫الإقرار‪ ،‬وانتظر قلي ً‬ ‫(‪� )1‬ص‪28‬‬ ‫‪31‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫تذكرنا ق�صة يزيد بن معاوية بق�صة في�صل بن ح�سني بن علي‪،‬‬ ‫كان �أبوه ح�سني بن علي �أحد �أمراء العرب‪ ،‬الذين انحازوا يف احلرب‬ ‫العظمى �إىل جانب احللفاء‪ ،‬خروج ًا على الرتك‪ ،‬وعلى �سلطان الرتك‬ ‫خليفة للم�سلمني‪ ،‬فقام �أوالده يف بالد العرب ويف جوانبها ين�رصون‬ ‫جيو�ش احللفاء ن�رصاً مبين ًا‪ ،‬ويخذلون �أعداءهم من الرتك والأملان‬ ‫وغريهم‪ ،‬وامتاز في�صل‪� ،‬أحد �أولئك امللوك‪ ،‬بالزلفى من الإنكليز‬ ‫حل�سن بالئه يف م�ساعدتهم‪ ،‬و�إخال�صه يف خدمتهم‪ ،‬فعينوه ملك ًا على‬ ‫ال�شام‪ ،‬ومل يكد ي�ستقر بها حتى هاجمت ملكه جيو�ش الفرن�سيني‪،‬‬ ‫فولىّ في�صل هارب ًا‪ ،‬تارك ًا مملكته وعر�شه وغريهما‪ ،‬حتى و�صل �إىل‬ ‫�إجنلرتا‪ ،‬ومن هناك حمله الإنكليز �إىل بالد العراق‪ ،‬ون�صبوه عليها‬ ‫ملك ًا وقد زعم الإنكليز �أن �أهل احلل والعقد من �أمة العراق انتخبوا‬ ‫ال ليكون ملك ًا عليهم بالإجماع‪ ،‬اللهم �إال �أن يكون قد خالف يف‬ ‫في�ص ً‬ ‫ذلك نفر قليل ال يعتد بهم‪ ،‬ك�أولئك الذين دعاهم ابن خلدون من قبل‬ ‫�شواذ‪.‬‬ ‫ولعمرك ما كذب الإنكليز‪ ،‬ف�إنهم قد عملوا انتخاب ًا‪ ،‬له كل مظاهر‬ ‫االنتخاب احلر القانوين‪ ،‬و�أخذوا يومئذ ر�أي الكثريين من �أهل الزعامة‬ ‫ال ملك ًا عليهم‪.‬‬ ‫يف العراق‪ ،‬فكان ر�أيهم �أن ينتخبوا في�ص ً‬ ‫ولكن مما ال �شك عندك فيه �أن «هذا» الذي �أخذ به خطيب معاوية‬ ‫البيعة ليزيد هو عينه «هذا» الذي �أخذ به الإنكليز �إجماع العراقيني‬ ‫لإمامة في�صل ! �أفهل ت�سمي ذلك �إجماع ًا ؟‪.‬‬ ‫لو ثبت الإجماع الذي زعموا ملا كان �إجماع ًا يعتد به‪ ،‬فكيف‬

‫‪32‬‬


‫ال‪ ،1‬وكذلك قال الأ�صم‬ ‫وقد قالت اخلوارج ال يجب ن�صب الإمام �أ�ص ً‬ ‫يف املعتزلة‪ ،‬وقال غريهم �أي�ض ًا‪ ،‬كما �سبقت‪ 2‬الإ�شارة �إليه‪ .‬وح�سبنا‬ ‫يف هذا املقام نق�ضا لدعوى الإجماع �أن يثبت عندنا خالف الأ�صم‬ ‫واخلوارج وغريهم‪ ،‬و�إن قال ابن خلدون �إنهم �شواذ‪.‬‬ ‫‪ .13‬عرفت �أن الكتاب الكرمي قد تنزه عن ذكر اخلالفة والإ�شارة‬ ‫�إليها‪ ،‬وكذلك ال�سنة النبوية قد �أهملتها‪ ،‬و�أن الإجماع مل ينعقد عليها‪،‬‬ ‫�أفهل بقي لهم من دليل يف الدين غري الكتاب �أو ال�سنة �أو الإجماع ؟‪.‬‬ ‫نعم‪ ..‬بقي لهم دليل �آخر ال نعرف غريه‪ ،‬هو �آخر ما يلج�أون �إليه‪ ،‬وهو‬ ‫�أهون �أدلتهم و�أ�ضعفها‪.‬‬ ‫قالوا �إن اخلالفة تتوقف عليها �إقامة ال�شعائر الدينية و�صالح‬ ‫الرعية‪� ...3‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ .14‬املعروف الذي ارت�ضاه علماء ال�سيا�سة �أنه البد ال�ستقامة‬ ‫الأمر يف �أمة متمدينة‪� ،‬سواء �أكانت ذات دين �أم ال دين لها‪ ،‬و�سواء‬ ‫�أكانت م�سلمة �أم م�سيحية �أم يهودية �أم خمتلطة الأديان ‪ -‬البد لأمة‬ ‫منظمة‪ ،‬مهما كان معتقدها‪ ،‬ومهما كان جن�سها ولونها ول�سانها‪ ،‬من‬ ‫حكومة تبا�رش �ش�ؤونها‪ ،‬وتقوم ب�ضبط الأمر فيها‪ ،‬قد تختلف �أ�شكال‬ ‫احلكومة و�أو�صافها بني د�ستورية وا�ستبدادية‪ ،‬وبني جمهورية‬ ‫وبول�شيفية وغري ذلك‪ .‬قد يتنازع علماء ال�سيا�سة يف تف�ضيل نوع من‬ ‫(‪ )1‬املواقف �ص ‪463‬‬ ‫(‪� )2‬ص‪12‬‬ ‫(‪� )3‬سبق نقل هذا الدليل �ص‪13‬‬ ‫‪33‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫احلكومة على نوع �آخر‪ .‬ولكنا ال نعرف لأحد منهم وال من غريهم نزاع ًا‬ ‫يف �أن �أمة من الأمم البد لها من نوع ما من �أنواع احلكم‪ .‬ولهم على‬ ‫ذلك �أدلة لي�س من غر�ضنا هنا �أن نعر�ض لها‪ .‬فلي�س ذلك مبو�ضوعنا‪،‬‬ ‫على �أننا ال ن�شك يف �أن ذلك الر�أي يف جملته �صحيح‪ ،‬و�أن النا�س ال‬ ‫ي�صلحون فو�ضى ال �رساة لهم‪ ،‬ولعل �أبوبكر‪ ،‬ر�ضي اهلل تعاىل عنه‪� ،‬إمنا‬ ‫كان ي�شري �إىل ذلك الر�أي حينما قال يف خطبته التي �سبقت الإ�شارة‬ ‫ممن يقوم به» ولعل الكتاب الكرمي ينحو ذلك‬ ‫�إليها «البد لهذا الدين ّ‬ ‫ون َر ْح َم َت‬ ‫املذهب �أحيان ًا‪ .‬قال تعاىل يف �سورة ال ُّزخرف ‪�( :‬أَ ُه ْم َي ْق�سِ ُم َ‬ ‫الد ْن َيا َو َر َف ْع َنا َب ْع َ�ض ُه ْم‬ ‫َر ِّب َك َن ْح ُن َق َ�س ْم َنا َب ْي َن ُهم َّم ِع َ‬ ‫ي�ش َت ُه ْم يِف الحْ َ َيا ِة ُّ‬ ‫�ض َد َر َج ٍ‬ ‫َف ْو َق َب ْع ٍ‬ ‫ات ِل َي َّت ِخ َذ َب ْع ُ�ض ُهم َب ْع ً�ضا ُ�س ْخ ِر ًّيا َو َر ْح َم ُت َر ِّب َك َخيرْ ٌ‬ ‫ون)‪.‬‬ ‫مِمّ َّ ا َي ْج َم ُع َ‬ ‫(و ْل َي ْح ُك ْم �أَ ْه ُل الإِجنِ يلِ بمِ َ ا �أَن َز َل‬ ‫وقال تعاىل يف �سورة املائدة َ‬ ‫ون‪َ .‬و�أَن َز ْل َنا‬ ‫ل َي ْح ُكم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ‬ ‫َهّ ُ‬ ‫الل ِفي ِه َو َمن َمّ ْ‬ ‫الل َف�أُو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل َفا�سِ ُق َ‬ ‫اب َو ُم َه ْي ِم ًنا َع َل ْي ِه‬ ‫اب ِبالحْ َ ِّق ُم َ�ص ِّد ًقا لِمّ َ ا َبينْ َ َي َد ْي ِه ِم َن ا ْل ِك َت ِ‬ ‫�إِ َل ْي َك ا ْل ِك َت َ‬ ‫اء َك ِم َن الحْ َ ِّق‬ ‫اح ُكم َب ْي َن ُهم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ‬ ‫الل َو َال َت َّتب ِْع �أَ ْه َو ُ‬ ‫اءه ْم َع َّما َج َ‬ ‫َف ْ‬ ‫ل َع َل ُك ْم �أُ َّم ًة َو ِ‬ ‫اح َد ًة‬ ‫اجا َو َل ْو َ�شاء َهّ ُ‬ ‫الل جَ َ‬ ‫ِل ُك ٍ ّل َج َع ْل َنا ِمن ُك ْم �شرِ ْ َع ًة َو ِم ْن َه ً‬ ‫ا�س َت ِب ُقوا الخْ َ يرْ َ ِ‬ ‫يعا‬ ‫ات �إِلىَ َهّ‬ ‫َو َل ِكن ِّل َي ْب ُل َو ُك ْم يِف َما �آ َت ُ‬ ‫الل َم ْر ِج ُع ُك ْم َج ِم ً‬ ‫اكم َف ْ‬ ‫الل َو َال‬ ‫اح ُكم َب ْي َن ُهم بمِ َ ا �أَن َز َل َهّ ُ‬ ‫َف ُي َن ِّب ُئ ُكم بمِ َ ا ُكن ُت ْم ِفي ِه َت ْخ َت ِل ُف َ‬ ‫ون‪َ .‬و�أَنِ ْ‬ ‫وك َعن َب ْع ِ‬ ‫الل ِ�إ َل ْي َك َف�إِن‬ ‫�ض َما َ�أن َز َل َهّ ُ‬ ‫اح َذ ْر ُه ْم �أَن َي ْف ِت ُن َ‬ ‫َت َّتب ِْع �أَ ْه َو ُ‬ ‫اءه ْم َو ْ‬ ‫يب ُهم ب َِب ْع ِ‬ ‫ريا ِّم َن‬ ‫ِيد َهّ ُ‬ ‫اع َل ْم �أَ َمّ َ‬ ‫نا ُير ُ‬ ‫َت َو َّل ْوا َف ْ‬ ‫الل �أَن ُي ِ�ص َ‬ ‫�ض ُذ ُنوبِهِ ْم َو�إ َِّن َك ِث ً‬ ‫ون َو َم ْن َ�أ ْح َ�س ُن ِم َن َهِّ‬ ‫ال ِ‬ ‫الل ُح ْك ًما‬ ‫ون‪� .‬أَ َف ُح ْك َم جْ َ‬ ‫اه ِل َّي ِة َي ْب ُغ َ‬ ‫ال َّنا�سِ َل َفا�سِ ُق َ‬ ‫‪34‬‬


‫ِّل َق ْو ٍم ُي ِ‬ ‫ارى �أَ ْو ِل َياء‬ ‫ون‪َ .‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫وق ُن َ‬ ‫ين � َآم ُنواْ َال َت َّت ِخ ُذواْ ا ْل َي ُه َ‬ ‫ود َوال َّن َ�ص َ‬ ‫َب ْع ُ�ض ُه ْم �أَ ْو ِل َياء َب ْع ٍ‬ ‫الل َال َي ْه ِدي‬ ‫�ض َو َمن َي َت َو َّل ُهم ِّمن ُك ْم َف�إِ َّن ُه ِم ْن ُه ْم �إ َِّن َهّ َ‬ ‫ني)‪� ..‬إلخ‪.‬‬ ‫ا ْل َق ْو َم َّ‬ ‫الظالمِ​ِ َ‬ ‫‪ .15‬ميكن حينئذ �أن يقال بحق �إن امل�سلمني‪� ،‬إذا اعتربناهم‬ ‫جماعة منف�صلني وحدهم‪ ،‬كانوا كغريهم من �أمم العامل كله‪،‬‬ ‫حمتاجني �إىل حكومة ت�ضبط �أمورهم‪ ،‬وترعى �ش�ؤونهم‪.‬‬ ‫�إن يكن الفقهاء �أرادوا بالإمامة واخلالفة ذلك الذي يريده علماء‬ ‫ال�سيا�سة باحلكومة كان �صحيح ًا ما يقولون‪ ،‬من �أن �إقامة ال�شعائر‬ ‫الدينية‪ ،‬و�صالح الرعية‪ ،‬يتوقفان على اخلالفة‪ ،‬مبعنى احلكومة‪ ،‬يف‬ ‫�أي �صورة كانت احلكومة‪ ،‬ومن �أي نوع‪ .‬مطلقة �أو مقيدة‪ ،‬فردية �أو‬ ‫جمهورية‪ ،‬ا�ستبدادية �أو د�ستورية �أو �شورية‪ ،‬دميقراطية �أو ا�شرتاكية‬ ‫�أو بل�شفية‪ .‬ال ينتج لهم الدليل �أبعد من ذلك‪� .‬أما �أن �أرادوا باخلالفة‬ ‫ذلك النوع اخلا�ص من احلكم الذي يعرفون فدليلهم �أق�رص من‬ ‫دعواهم‪ ،‬وحجتهم غري ناه�ضة‪.‬‬ ‫‪ .16‬الواقع املح�سو�س الذي ي�ؤيده العقل‪ ،‬وي�شهد به التاريخ‬ ‫قدمي ًا وحديث ًا‪� ،‬أن �شعائر اهلل تعاىل ومظاهر دينه الكرمي ال تتوقف‬ ‫على ذلك النوع من احلكومة الذي ي�سميه الفقهاء خالفة‪ .‬وال على‬ ‫�أولئك الذين يلقبهم النا�س خلفاء‪ .‬والواقع �أي�ض ًا �أن �صالح امل�سلمني‬ ‫يف دنياهم ال يتوقف على �شيء من ذلك‪ .‬فلي�س بنا من حاجة �إىل‬ ‫تلك اخلالفة لأمور ديننا وال لأمور دنيانا‪ .‬ولو �شئنا لقلنا �أكرث من‬ ‫ذلك‪ .‬ف�إمنا كانت اخلالفة ومل تزل نكبة على الإ�سالم وعلى امل�سلمني‪،‬‬ ‫وينبوع �رش وف�ساد‪ ،‬ورمبا ب�سطنا لك بعد ذلك‪� ،‬أما الآن فح�سبنا �أن‬ ‫‪35‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫نك�شف لك عن الواقع املح�سو�س لت�ؤمن ب�أن ديننا غني عن تلك‬ ‫اخلالفة الفقهية‪ ،‬ودنيانا كذلك‪.‬‬ ‫‪ .17‬علمت مما نقلنا ‪1‬لك عن ابن خلدون «�أنه قد ذهب ر�سم اخلالفة‬ ‫و�أثرها بذهاب ع�صبية العرب‪ ،‬وفناء جيلهم‪ ،‬وتال�شي �أحوالهم‪ ،‬وبقي‬ ‫الأمر ملك ًا بحت ًا‪ ...،‬ولي�س للخليفة منه �شيء»‪� ،‬أفهل علمت �أن �شيئ ًا من‬ ‫ذلك قد �صدع �أركان الدين‪ ،‬و�أ�ضاع م�صلحة امل�سلمني‪ ،‬على وجه كان‬ ‫ميكن للخالفة �أن تتالفاه لو وجدت؟!‬ ‫منذ منت�صف القرن الثالث الهجري �أخذت اخلالفة الإ�سالمية تنق�ص‬ ‫من �أطرافها‪ ،‬حتى مل تعد تتجاوز ما بني البتي دائرة �ضيقة حول بغداد‬ ‫«و�صارت‪ 2‬خرا�سان وما وراء النهر البن �سامان وذريته من بعده‬ ‫وبالد البحرين للقرامطة‪ ،‬واليمن البن طباطبا‪ ،‬و�أ�صفهان وفار�س لبني‬ ‫بويه‪ ،‬والبحرين وعمان لفرع من عائلة القرامطة‪ ،‬قد �أ�س�س فيها دولة‬ ‫م�ستقلة‪ ....‬والأهواز ووا�سط ملعز الدولة‪ ،‬وحلب ل�سيف الدولة وم�رص‬ ‫لأحمد بن طولون‪ ،‬ومن بعده للملوك الذين تغلبوا عليها وامتلكوها‬ ‫وا�ستقلوا ب�أحكامها‪ ،‬كالأخ�شيديني والفاطميني والأيوبيني واملماليك‬ ‫وغريهم»‪ .‬ح�صل ذلك فما كان الدين �أيامئذ يف بغداد مقر اخلالفة خرياً‬ ‫منه يف غريها من البالد التي ان�سلخت عن اخلالفة وال كانت �شعائره‬ ‫�أظهر‪ ،‬وال كان �ش�أنه �أكرب‪ ،‬وال كانت الدنيا يف بغداد �أح�سن‪ ،‬وال �ش�أن‬ ‫الرعية �أ�صلح‪.‬‬

‫(‪�)1‬سبق ذلك �ص‪6‬‬ ‫(‪ )2‬تاريخ اخللفاء ترجم من اللغة الفرن�ساوية بقلم نخلة بك �صالح �شفوات �ص‪ 64‬وما‬ ‫بعدها‬ ‫‪36‬‬


‫‪ .18‬هوت اخلالفة عن بغداد‪ ،‬يف منت�صف القرن ال�سابع الهجري‪،‬‬ ‫حني هاجمها الترت‪ ،‬وقتلوا اخلليفة العبا�سي امل�ستع�صم باهلل‪ ،‬وقتلوا‬ ‫معه �أهله و�أكابر دولته «وبقي‪ 1‬الإ�سالم ثالث �سنني من دون خليفة»‪.‬‬ ‫‪ .19‬وكان امللك يف م�رص يومئذ للظاهر بيرب�س‪ .‬ولأمر ما �أخذ‬ ‫ذلك الداهية ينب�ش بني م�صارع العبا�سيني‪ ،‬حتى �أعرثه احلظ برجل‪،‬‬ ‫زعموا �أنه من فلول اخلالفة العبا�سية‪ ،‬ومن �أنقا�ض بيتها‪ ،‬وكذلك‬ ‫�أراده الظاهر �أن يكون‪ ،‬ف�أن�ش�أ منه بيت ًا للخالفة يف م�رص‪ ،‬ي�أخذ الظاهر‬ ‫بجميع مفاتيحه و�إغالقه‪ ،‬واتخذ هياكل �سماهم خلفاء امل�سلمني‪ ،‬وحمل‬ ‫امل�سلمني على �أن يدينوا جلاللتهم‪ ،‬ويف يديه وحده �أزمة تلك الهياكل‬ ‫وت�رصيف حركاتهم و�سكناتهم‪ ،‬و�أطراف �أل�سنتهم‪ ،‬ثم كانت تلك �سنة‬ ‫امللوك اجلراك�سة يف م�رص بعد امللك الظاهر‪� ،‬إىل �أن �أخذ اخلالفة امللوك‬ ‫العثمانيون �سنة ‪ 923‬هـ‪.‬‬ ‫هل كان يف �شيء من م�صلحة امل�سلمني لدينهم �أو دنياهم تلك‬ ‫التماثيل ال�شالء‪ ،‬التي كان يقيمها ملوك م�رص ويلقبونها خلفاء‪.‬‬ ‫بل تلك الأ�صنام يحركونها‪ ،‬واحليوانات ي�سخرونها؟ ثم ما بال تلك‬ ‫البالد الإ�سالمية الوا�سعة غري م�رص نزعت عنها ربقة اخلالفة‪ ،‬و�أنكرت‬ ‫�سلطانها‪ ،‬وعا�شت وما زال يعي�ش كثري منها بعيداً عن ظل اخللفاء‪ ،‬وعن‬ ‫اخل�ضوع الوثني جللهم الديني املزعوم؟ �أر�أيت �شعائر الدين فيها من‬ ‫دون غريها �أهملت‪ ،‬و�ش�ؤون الرعية عطلت ‪� -‬أم هل �أظلمت دنياهم ملا‬ ‫�سقط عنها كوكب اخلالفة‪ ،‬وهل جفتهم رحمة الأر�ض وال�سماء‪ ،‬ملا بان‬ ‫عنهم اخللفاء؟ كال‪..‬‬ ‫بانوا فما بكت الدنيا مل�رصعهم‬

‫وال تعطلت الأعياد واجلمع‪.‬‬

‫(‪ )1‬تاريخ اخللفاء �ص‪77‬‬ ‫‪37‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫‪ .20‬معاذ اهلل ال يريد اهلل جل �ش�أنه لهذا الدين‪ ،‬الذي كفل له البقاء‪،‬‬ ‫�أن يجعل عزه وذله منوطني بنوع من احلكومة‪ ،‬وال ب�صنف من الأمراء‪.‬‬ ‫وال يريد اهلل جل �ش�أنه لعباده امل�سلمني �أن يكون �صالحهم وف�سادهم‬ ‫رهن اخلالفة‪ ،‬وال حتت رحمة اخللفاء‪.‬‬ ‫اهلل جل �ش�أنه �أحفظ لدينه‪ ،‬و�أرحم بعباده‪.‬‬ ‫ع�سى �أن يكون فيما �أ�سلفنا مقنع لك ب�أن تلك التي دعوها اخلالفة �أو‬ ‫الإمامة العظمى مل تكن �شيئ ًا قام على �أ�سا�س من الدين القومي‪� ،‬أو العقل‬ ‫ال�سليم‪ ،‬وب�أن ما زعموا �أن يكون برهان ًا لها هو �إذا نظرت وجدته غري‬ ‫برهان‪.‬‬ ‫ولعل من حقك علينا �أن ت�س�أل الآن عن ر�أينا اخلا�ص يف اخلالفة‬ ‫ويف من�شئها‪ .‬و�أن علينا �أن ن�أخذ بك يف بيان ذلك‪ .‬م�ستمدين من اهلل جل‬ ‫�ش�أنه ح�سن املعونة والهدى والتوفيق؟‬

‫‪38‬‬


‫الباب الثاين‬

‫احلكومة والإ�سالم‬ ‫الباب الأول‬

‫نظام احلكم يف ع�رص النبوة‬ ‫ق�ضا�ؤه (�صلعم) ‪ -‬هل وىل (�صلعم) ق�ضاة؟ ‪ -‬ق�ضاء عمر ‪ -‬ق�ضاء‬ ‫علي ‪ -‬ق�ضاء معاذ و�أبي مو�سى ‪� -‬صعوبة البحث عن نظام الق�ضاء‬ ‫يف ع�رص النبوة ‪ -‬خلو الع�رص النبوي من خمايل امللك ‪� -‬إهمال عامة‬ ‫امل�ؤرخني البحث يف نظام احلكم النبوي ‪ -‬هل كان (�صلعم) ملك ًا؟‬ ‫(‪ )1‬الحظنا �إذ كنا نبحث عن تاريخ الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪� ،‬أن حال الق�ضاء يف ذلك الوقت ال يخلو من غمو�ض و�إبهام‬ ‫ي�صعب معهما البحث‪ ،‬وال يكاد يتي�رس معهما الو�صول �إىل ر�أي نا�ضج‪،‬‬ ‫يقره العلم‪ ،‬وتطيب به نف�س الباحث‪.‬‬ ‫ال �شك يف �أن الق�ضاء مبعنى احلكم يف املنازعات وف�ضها‪ ،‬كان‬ ‫موجوداً يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬كما كان موجوداً عند‬ ‫العرب وغريهم‪ ،‬قبل �أن يجيء الإ�سالم‪ .‬وقد رفعت �إىل النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم خ�صومات فق�ضى فيها‪ .‬وقال �صلى اهلل عليه و�سلم‪�« 1،‬إنكم‬ ‫(‪ )1‬البخاري يف كتاب ال�شهادات �ص ‪170‬ج‪3‬‬ ‫‪39‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫تخت�صمون �إيل‪ ،‬ولعل بع�ضكم �أحلن بحجته من بع�ض‪ ،‬فمن ق�ضيت له‬ ‫بحق �أخيه �شيئ ًا بقوله‪ ،‬ف�إمنا �أقطع له قطعة من النار‪ ،‬فال ي�أخذها»‪.‬‬ ‫ويف التاريخ ال�صحيح �شيء من ق�ضائه عليه ال�سالم فيما كان يرفع‬ ‫�إليه‪ ،‬ولكنا �إذا �أردنا �أن ن�ستنبط �شيئ ًا من نظامه �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫يف الق�ضاء جند �أن ا�ستنباط �شيء من ذلك غري ي�سري‪ ،‬بل غري ممكن‪ ،‬لأن‬ ‫الذي نقل �إلينا من �أحاديث الق�ضاء النبوي ال يبلغ �أن يعطيك �صورة‬ ‫بينة لذلك الق�ضاء وال ملا كان له من نظام‪� ،‬أن كان له نظام‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الحظنا �أن حال الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم غام�ضة‬ ‫ومبهمة من كل جانب‪ ،‬حتى مل يكن من ال�سهل على الباحث �أن يعرف‬ ‫هل ولىّ �صلى اهلل عليه و�سلم �أحداً غريه الق�ضاء �أم ال‪.‬‬ ‫هنالك ثالثة من ال�صحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ويل الق�ضاء‬ ‫يف زمن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫قال بع�ضهم‪« 1‬وقد ق ّلد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم الق�ضاء لعمر‬ ‫بن اخلطاب‪ ،‬وعلي ابن �أبي طالب‪ ،‬ومعاذ بن جبل ر�ضي اهلل عنه» �أهـ‪،‬‬ ‫وينبغي �أن ي�ضاف �إليهم �أبو مو�سى الأ�شعري ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬فقد كان‬ ‫يف عمله‪ ،‬على ما يظهر‪ ،‬نظرياً ملعاذ بن جبل �سواء ب�سواء‪.‬‬ ‫(‪� )3‬أما �أن عمر ر�ضي اهلل عنه تقلد الق�ضاء يف زمن النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فرواية غريبة من اجلهة التاريخية‪ ،‬ويظهر �أنها �إمنا‬ ‫�أخذت بطريق اال�ستنتاج‪ ،2‬ففي �سنن الرتمذي‪� ،‬أن عثمان قال لعبداهلل‬ ‫(‪ )1‬هو رفاعة بك رافع يف كتابه نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز �ص‪ 429‬نق ًال عن كتاب‬ ‫تخريج الدالالت ال�سمعية‬ ‫(‪ )2‬نهاية الإيجاز �ص‪429‬‬ ‫‪40‬‬


‫بن عمر اذهب فاق�ض بني النا�س‪ .‬قال �أو تعافيني يا �أمري امل�ؤمنني‪،‬‬ ‫قال وما تكره من ذلك وقد كان �أبوك يق�ضي؟ قال �إن �أبي كان يق�ضي‬ ‫ف�إن �أ�شكل عليه �شيء �س�أل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ف�إن �أ�شكل‬ ‫على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �س�أل جربيل‪ .‬و�أين ال �أجد من‬ ‫�أ�س�أله‪� ....‬إلخ‪.‬‬ ‫(‪ )4‬و�أما علي بن �أبي طالب‪ ،‬ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬فقد بعثه ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬إىل اليمن‪ ،‬وهو �شاب‪ ،‬ليق�ضي بينهم‪ ...‬وروى �أبو‬ ‫داود‪ ،‬رحمه اهلل تعاىل‪ ،‬عن علي بن �أبي طالب‪ ،‬ر�ضي اهلل تعاىل عنه‪،‬‬ ‫وقال بعثني ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬إىل اليمن قا�ضي ًا‪ ،‬و�أنا‬ ‫حديث ال�سن‪ ،‬وال علم يل بالق�ضاء‪ ،‬وقال �إن اهلل �سيهدي قلبك‪ ،‬ويثبت‬ ‫ل�سانك‪ ،‬ف�إذا جل�س بني يديك اخل�صمان فال تق�ضني حتى ت�سمع من‬ ‫الآخر‪ ،‬كما �سمعت من الأول‪ ،‬ف�إنه �أحرى �أن يتبني لك الق�ضاء‪ .‬قال‬ ‫فما زلت قا�ضي ًا‪ ،‬وما �شككت يف ق�ضاء بعد‪ .‬كذا ذكره �أبو عمر وبن‬ ‫عبد الرب يف اال�ستيعاب‪ .‬وقال �أي�ض ًا‪ .‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم يف �أ�صحابه‪�« ،‬أق�ضاهم علي بن �أبي طالب»‪.‬‬ ‫والذي يف البخاري‪ 1‬مما يت�صل بهذا املو�ضوع‪� ،‬أن ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬بعث خالد بن الوليد �إىل اليمن قبل حجة الوداع‪ ،‬مع‬ ‫جماعة من ال�صحابة‪ ،‬وبعث علي ًا بعد ذلك مكانه ليقب�ض اخلم�س‪،‬‬ ‫وقدم علي من اليمن ب�سعايته �إىل مكة‪ ،‬والنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫بها‪.‬‬ ‫(‪ )1‬راجع اجلزء اخلام�س �ص‪ 164-163‬بعث علي بن �أبي طالب عليه ال�سالم وخالد ابن‬ ‫الوليد ر�ضي اهلل عنه �إىل اليمن قبل حجة الوداع ‪� -‬صحيح البخاري‬ ‫‪41‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ونقل علي بن برهان الدين احللبي‪� 1‬أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫كرم اهلل وجهه‪ ،‬يف �رسية �إىل اليمن‪ ،‬ف�أ�سلمت همدان‬ ‫و�سلم‪ ،‬بعث علي ًا ّ‬ ‫كلها يف يوم واحد‪ ،‬فكتب بذلك �إىل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫فلما ر�أى كتابه خر �ساجداً‪ ،‬ثم جل�س‪ ،‬فقال‪ :‬ال�سالم على همدان‪ .‬وتتابع‬ ‫�أهل اليمن �إىل الإ�سالم‪ ،‬وهذه هي ال�رسية الأوىل‪ .‬وال�رسية الثانية بعث‬ ‫كرم اهلل وجهه‪� ،‬إىل بالد‬ ‫فيها ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم علي ًا ّ‬ ‫مذحج من �أر�ض اليمن يف ثالثمئة فار�س‪ ،‬فغزاهم‪ ....‬وجمع الغنائم‪....‬‬ ‫كرم اهلل وجهه‪ ،‬فوافى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مبكة‪،‬‬ ‫ثم رجع علي ّ‬ ‫قدمها حلجة الوداع‪�..‬إلخ‪.‬‬ ‫(‪ )5‬و�أما معاذ‪ 2‬بن جبل‪ ،‬فقد بعثه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫قا�ضي ًا �إىل اجلند من اليمن‪ ،‬يعلم النا�س القر�آن‪ ،‬و�رشائع الإ�سالم‪،‬‬ ‫ويق�ضي بينهم‪ ،‬وجعل له قب�ض ال�صدقات من العمال‪ ،‬الذين باليمن‪،‬‬ ‫جل َند (بفتح اجليم‬ ‫وذلك عام فتح مكة‪ ،‬يف ال�سنة الثامنة من الهجرة‪ .‬وا َ‬ ‫والنون مع ًا)‪ ،‬بلدة باليمن‪.‬‬ ‫وقال البخاري‪ 3‬يف هذا املو�ضوع بعث ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم �أبا مو�سى ومعاذ بن جبل �إىل اليمن‪ ،‬قال وبعث كل واحد منهما‬ ‫على خمالف‪ ،‬واليمن خمالفان‪ ،‬ثم قال‪ ،‬ي�رسا وال تع�رسا‪ ،‬وب�رشا وال‬ ‫تنفرا‪.‬‬

‫(‪ )1‬راجع ال�سرية احللبية‪.‬ج‪� 3‬ص‪228-227‬‬ ‫(‪ )2‬نهاية الإيجاز‬ ‫(‪� )3‬صحيح البخاري ج‪� 5‬ص‪163-161‬‬ ‫‪42‬‬


‫ويف حديث �آخر للبخاري‪� ،‬أنه قال ملعاذ بن جبل‪� ،‬إنك �ست�أتي‬ ‫قوم ًا من �أهل الكتاب‪ ،‬ف�إذا جئتهم فادعهم �إىل �أن ي�شهدوا �أن ال �إله �إال‬ ‫اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪ ،‬قال ف�إن هم �أطاعوا لك بذلك‪ ،‬ف�أخربهم �أن‬ ‫اهلل قد فر�ض عليهم خم�س �صلوات يف كل يوم وليلة‪ ،‬ف�إن هم �أطاعوا‬ ‫لك بذلك‪ ،‬ف�أخربهم �أن اهلل قد فر�ض عليهم �صدقة ت�ؤخذ من �أغنيائهم‬ ‫فرتد على فقرائهم‪ ،‬ف�إن هم �أطاعوا لك بذلك ف�إياك وكرائم �أموالهم‪،‬‬ ‫واتق دعوة املظلوم ف�إنه لي�س بينه وبني اهلل حجاب‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ويقرب من هذا رواية ال�سيد �أحمد زيني دحالن يف ال�سرية النبوية‬ ‫قال‪« :‬بعث �صلى اهلل عليه و�سلم �أبا مو�سى الأ�شعري ومعاذ بن جبل‬ ‫ر�ضي اهلل عنهما �إىل اليمن قبل حجة الوداع‪ ،‬يف ال�سنة العا�رشة‪،‬‬ ‫وقيل يف التا�سعة‪ ...‬وقيل عام الفتح �سنة ثمان‪ ،‬وكل واحد منهما‬ ‫على خمالف‪ ،‬وكانت جهة معاذ العليا �صوب عدن‪ ،‬وكان من عمله‬ ‫اجلند‪ .‬وكانت جهة �أبي مو�سى ال�سفلى‪.‬‬ ‫و�أخرج ‪� 2‬أحمد و�أبو داود والرتمذي وغريهم‪ ،‬من حديث احلار�س‬ ‫بن عمرو‪ ،‬ابن �أخي املغرية بن �شعبة‪ ،‬قال حدثنا نا�س من �أ�صحاب‬ ‫معاذ عن معاذ‪ ،‬قال ملا بعثه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل اليمن‬ ‫قال كيف تق�ضي �إذا عر�ض لك ق�ضاء؟ قال �أق�ضي بكتاب اهلل‪ ،‬قال‬ ‫ف�إن مل جتد يف كتاب اهلل؟ قال فب�سنة ر�سول اهلل‪ ،‬قال ف�إن مل جتد‬ ‫يف �سنة ر�سول اهلل وال يف كتاب اهلل؟ قال اجتهد ر�أيي وال �آلو‪ .‬قال‬ ‫(‪ )1‬املطبوعةعلى هام�ش ال�سرية احللبية ج‪� 2‬ص ‪368-367‬‬ ‫(‪ )2‬منقول من «كتاب �إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم الأ�صول» لل�شوكاين �ص‪،188‬‬ ‫وقال امل�ؤلف «حممد بن علي ال�شوكاين املتوفى �سنة ‪1255‬هـ عن هذا احلديث «الكالم يف �إ�سناده‬ ‫يطول‪ ،‬وقد قيل �إنه مما تلقى بالقبول»‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ف�رضب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �صدره‪ ،‬وقال احلمد هلل الذي‬ ‫وفق ر�سول ر�سولِ اهلل ملا ير�ضاه ر�سول اهلل‪.‬‬ ‫(‪ )6‬تلك الروايات املختلفة‪ ،‬التي ق�ص�صنا عليك �أمنوذج ًا منها‪،‬‬ ‫تريك كيف ي�سوغ لنا �أن ن�ستنتج ما قلناه لك قبل‪ ،‬من �أنه ال تتي�رس‬ ‫الإحاطة ب�شيء كثري من �أحوال الق�ضاء يف زمن النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬وها �أنت ذا قد ر�أيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة‬ ‫بعينها‪ .‬فبعث علي �إىل اليمن يرويه �أحدهم �أنه تولية للق�ضاء‪ ،‬ويروي‬ ‫الآخر �أنه كان لقب�ض اخلم�س من الزكاة‪ ،‬ومعاذ بن جبل كذلك‪ ،‬ذهب‬ ‫�إىل اليمن قا�ضي ًا يف ر�أي‪ ،‬وغازي ًا يف ر�أي‪ ،‬ومعلم ًا يف ر�أي‪.‬‬ ‫ونقل �صاحب ال�سرية النبوية‪ 1‬خالف ًا يف �أن معاذاً كان والي ًا �أو‬ ‫قا�ضي ًا «فقال ابن عبد الرب �إنه كان قا�ضي ًا‪ ،‬وقال الغ�ساين �إنه كان‬ ‫�أمرياً على املال‪ .‬وحديث ابن ميمون فيه الت�رصيح ب�أنه كان �أمرياً‬ ‫على ال�صالة‪ .‬وهذا يرجح �أنه كان والي ًا»‪.‬‬ ‫(‪ )7‬و�أن البحث العميق فيما كان عليه الق�ضاء زمن النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪� ،‬إطاعة التفكري يف ذلك‪ ،‬وح�سن التفهم ملا و�صل �إلينا‬ ‫ال بهذا املو�ضوع من الأحاديث والأخبار‪ ،‬كل �أولئك يدفعنا �إىل‬ ‫مت�ص ً‬ ‫البحث بوجه عام يف نظام احلكومة الإ�سالمية‪� ،‬أيام النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬ويف كيفية تدبري ذلك امللك الإ�سالمي‪� ،‬إن �ساغ لنا بحق‬ ‫�أن ن�سمي ما فتح اهلل لنبيه من البالد دولة وملك ًا‪.‬‬ ‫ذلك ب�أننا وجدنا عند البحث يف نظام الق�ضاء يف ع�رص النبوة‬ ‫(‪ )1‬راجع ال�سرية النبوية لدحالن املطبوعة على هام�ش ال�سرية احللبية �ص ‪ 368‬ج‪2‬‬ ‫‪44‬‬


‫�أن غري الق�ضاء �أي�ض ًا من �أعمال احلكومات ووظائفها الأ�سا�سية مل‬ ‫يكن يف �أيام الر�سالة موجوداً على وجه ال لب�س فيه‪ ،‬حتى ي�ستطيع‬ ‫باحث من�صف �أن يذهب �إىل �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يعني يف‬ ‫ال لإدارة �ش�ؤونها‪ ،‬وتدبري �أحوالها‬ ‫البالد التي فتحها اهلل له والة مث ً‬ ‫و�ضبط الأمر فيها‪ .‬وما يروى من ذاك فكله عبارة عن توليته �أمرياً‬ ‫ال على املال‪� ،‬أو �إمام ًا لل�صالة‪� ،‬أو معلم ًا للقر�آن‪،‬‬ ‫على اجلي�ش‪� ،‬أو عام ً‬ ‫�أو داعي ًا �إىل كلمة الإ�سالم‪ ،‬ومل يكن �شيء من ذلك مطرداً‪ ،‬و�إمنا كان‬ ‫يح�صل لوقت حمدود‪ ،‬كما ترى فيمن كان ي�ستعملهم �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم على البعوث وال�رسايا‪� ،‬أو ي�ستخلفهم على املدينة �إذا خرج‬ ‫للغزو‪.‬‬ ‫�إذاً نحن جتاوزنا عمل الق�ضاء والوالية �إىل غريهما من الأعمال‪،‬‬ ‫التي ال يكمل معنى الدولة �إال بها‪ ،‬كالعماالت التي تت�صل بالأموال‬ ‫وم�صارفها (املالية) وحرا�سة الأنف�س والأموال (البولي�س) وغري ذلك‬ ‫مما ال يقوم من دونه �أقل احلكومات و�أعرقها يف الب�ساطة‪ ،‬فمن امل�ؤكد‬ ‫�أننا ال جند فيما و�صل �إلينا من ذلك عن زمن الر�سالة �شيئ ًا وا�ضح ًا‬ ‫ميكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون‪� ،‬أن نقول �إنه كان نظام احلكومة‬ ‫النبوية‪.‬‬ ‫(‪ )8‬ومما قد ي�ست�أن�س به يف هذا املو�ضوع‪� ،‬أننا الحظنا �أن عامة‬ ‫امل�ؤلفني‪ ،‬من رواة الأخبار يعنون يف الغالب‪� ،‬إذا ترجموا خلليفة من‬ ‫اخللفاء �أو ملك من امللوك‪ ،‬بذكر عماله من والة وقواد وق�ضاة‪�...‬إلخ‪.‬‬ ‫ويفردون له بحث ًا خا�ص ًا‪ ،‬يدل على �أنهم عرفوا متام ًا قيمة ذلك البحث‬ ‫من اجلهة العلمية‪ ،‬ف�رصفوا من اجلهد فيه والعناية به ما ينا�سبه‪،‬‬ ‫ولكنهم يف تاريخ النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬أن عاجلوا ذلك البحث‬ ‫‪45‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ر�أيتهم يزجون احلديث فيه مبعرثاً غري مت�سق‪ ،‬ويخو�ضون غمار ذلك‬ ‫البحث على ن�سق ال مياثل طريقتهم يف بحث بقية الع�صور‪ .‬ما ر�أينا‬ ‫م�ؤرخ ًا �شذ عن ذلك‪ ،‬اللهم �إال ما �سننقله لك بعد عن رفاعة‪ 1‬بك رافع‬ ‫ال عن‬ ‫الطهطاوي‪ ،‬يف كتاب نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز‪ ،‬نق ً‬ ‫�صاحب كتاب تخريج الدالالت ال�سمعية‪.‬‬ ‫(‪ )9‬كلما �أمعنا تفكرياً يف حال الق�ضاء زمن النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬ويف حال غري الق�ضاء �أي�ض ًا‪ ،‬من �أعمال احلكم‪ ،‬و�أنواع الوالية‪،‬‬ ‫وجدنا �إبهام ًا يف البحث يتزايد‪ ،‬وخفاء يف الأمر ي�شتد‪ .‬ثم ال تزال‬ ‫حرية الفكر تنقلنا من لب�س �إىل لب�س‪ ،‬وتردنا من بحث �إىل بحث‪� ،‬إىل‬ ‫�أن ينتهي النظر بنا �إىل غاية ذلك املجال امل�شتبه احلائر‪ .‬و�إذا نحن‬ ‫�إزاء عوي�صة �أخرى هي كربى تلكم املع�ضالت‪ ،‬وهي من�ش�أ ما لقينا‬ ‫من حرية وا�ضطراب‪ .‬هي الأ�صل وما عداها فروع‪ ،‬وهي الأم وما‬ ‫عداها تبع‪.‬‬ ‫تلك م�شكلة �إذا وفق العقل حللها فقد هانت من بعدها امل�شكالت‪،‬‬ ‫واجنلى كل لب�س و�إبهام‪.‬‬ ‫ال ون�ؤخر �أخرى‪،‬‬ ‫�إننا لنقرتب بك �إىل هذه امل�شكلة ونحن نقدم رج ً‬ ‫�أما �أو ًال فلأن حلها ع�سري‪ ،‬ومزالق الفكر فيها كثرية‪ .‬وما مل يكن عون‬ ‫من اهلل تعاىل �أي عون فال �أمل يف الو�صول �إىل وجه ال�صواب فيها‪.‬‬ ‫و�أما ثاني ًا فلأن املغامرة يف بحث هذا املو�ضوع قد تكون مثاراً‬ ‫لغارة ي�شب نارها �أولئك الذين ال يعرفون الدين �إال �صورة جامدة‪ ،‬لي�س‬ ‫للعقل �أن يحوم حولها‪ ،‬وال للر�أي �أن يتناولها‪:‬‬ ‫(‪ )1‬رفاعة بن بدوي بن علي بن حممد بن علي بن رافع‪ .‬ويت�صل ن�سبه مبحمد الباقر بن علي‬ ‫زين العابدين توفى �سنة ‪1290‬هـ من كتاب اكتفاء القنوع‬ ‫‪46‬‬


‫ولكننا ن�ستعني باهلل تعاىل‪ ،‬ونرجو منه جل �ش�أنه ح�سن التوفيق‪،‬‬ ‫ع�سى �أن نك�شف لك ما غم�ض‪ ،‬ونفتح عليك ما ا�ستغلق‪ ،‬ون�صل بك �إىل‬ ‫احلق �أبلج الوجه‪ ،‬وا�ضح الغرة‪� ،‬إن �شاء اهلل‪.‬‬ ‫فاعلم �أن امل�س�ألة الآن هي �أن النبي ‪� -‬صلى اهلل تعاىل عليه و�سلم ‪-‬‬ ‫كان �صاحب دولة �سيا�سية ورئي�س حكومة كما كان ر�سول دعوة دينية‬ ‫وزعيم وحدة دينية �أم ال؟‬

‫‪47‬‬


48


‫الباب الثاين‬

‫الر�سالة واحلكم‬ ‫ال حرج يف البحث عما �إذا كان «�صلى اهلل عليه و�سلم» ملك ًا �أم‬ ‫ال ‪ -‬الر�سالة �شيء وامللك �شيء �آخر ‪ -‬القول �إنه «�صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم» كان ملك ًا �أي�ض ًا ‪ -‬بع�ض العلماء ي�رشح بالتف�صيل الدقيق نظام‬ ‫حكومة النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» ‪ -‬بع�ض ما ي�شبه �أن يكون من‬ ‫مظاهر الدولة زمن النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» ‪ -‬اجلهاد ‪ -‬الأعمال‬ ‫املثالية ‪� -‬أمراء قيل �إن النبي «�صلى اهلل عليه و�سلم» ا�ستعملهم على‬ ‫البالد ‪ -‬هل كان ت�أ�سي�س النبي لدولة �سيا�سية جزءاً من ر�سالة؟ ‪-‬‬ ‫الر�سالة والتنفيذ ‪ -‬ابن خلدون يرى �أن الإ�سالم �رشع تبليغي وتنفيذي‬ ‫ اعرتا�ض على ذلك الر�أي ‪ -‬القول ب�أن احلكم النبوي جمع كل دقائق‬‫احلكومة ‪ -‬احتمال جهلنا بنظام احلكومة النبوية ‪ -‬مناق�شة ذلك‬ ‫الوجه ‪ -‬احتمال �أن تكون الب�ساطة الفطرية هي نظام احلكم النبوي ‪-‬‬ ‫ب�ساطة هذا الدين ‪ -‬مناق�شة ذلك الر�أي‪:‬‬ ‫(‪ )1‬ال يهولنك البحث يف �أن الر�سول «�صلى اهلل عليه و�سلم» كان ملك ًا‬ ‫�أم ال‪ ،‬وال حت�سنب �أن ذلك البحث ذو خطر يف الدين قد يخ�شى �رشه على‬ ‫�إميان الباحث‪ ،‬فالأمر‪� ،‬إن فطنت �إليه‪� ،‬أهون من �أن يخرج م�ؤمن ًا من‬ ‫حظرية الإميان‪ ،‬بل و�أهون من �أن يزحزح املتقي عن حظرية التقوى‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫و�إمنا قد يبدو لك الأمر خطرياً لأنه يت�صل مبقام النبوة‪ ،‬ويرتبط مبركز‬ ‫الر�سول «�صلى اهلل عليه و�سلم»‪ ،‬ولكنه على ذلك ال مي�س يف احلقيقة‬ ‫�شيئ ًا من جوهر الدين‪ ،‬وال �أركان الإ�سالم‪ .‬ورمبا كان ذلك البحث جديداً‬ ‫يف الإ�سالم مل يتناوله امل�سلمون من قبل على وجه �رصيح ومل ي�ستقر‬ ‫للعلماء فيه ر�أي وا�ضح‪ ،‬و�إذاً فلي�س بدع ًا يف الدين‪ ،‬وال �شذوذاً عن مذاهب‬ ‫امل�سلمني‪� ،‬أن يذهب باحث �إىل �أن النبي عليه ال�سالم كان ر�سو ًال وملك ًا‪،‬‬ ‫ولي�س بدع ًا وال �شذوذاً �أن يخالف يف ذلك خمالف‪ ،‬فذلك بحث خارج‬ ‫عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها‪ ،‬وا�ستقر لهم فيها‬ ‫مذهب‪ ،‬وهو �أَ ْد َخ ُل يف باب البحث العلمي منه يف باب الدين ف�أقدم وال‬ ‫تخف‪� ،‬إنك من الآمنني‪.‬‬ ‫(‪� )2‬أنت تعلم �أن الر�سالة غري امللك‪ ،‬و�أنه لي�س بينهما �شيء من التالزم‬ ‫بوجه من الوجوه‪ ،‬و�أن الر�سالة مقام وامللك مقام �آخر‪ ،‬فكم من ملك لي�س‬ ‫نبي ًا وال ر�سو ًال‪ ،‬وكم هلل جل �ش�أنه من ر�سل مل يكونوا ملوك ًا‪ ،‬بل �أن �أكرث‬ ‫من عرفنا من الر�سل �إمنا كانوا ر�س ًال فح�سب‪.‬‬ ‫ولقد كان عي�سى ابن مرمي عليه ال�سالم ر�سول الدعوة امل�سيحية‪،‬‬ ‫وزعيم امل�سيحيني‪ ،‬وكان مع هذا يدعو �إىل الإذعان لقي�رص‪ ،‬وي�ؤمن‬ ‫بل�سطانه‪ .‬وهو الذي �أر�سل بني �أتباعه تلك الكلمة البالغة‪�« :1‬أعطوا ما‬ ‫لقي�رص لقي�رص وما هلل هلل»‪.‬‬ ‫وكان يو�سف بن يعقوب عليه ال�سالم‪ ،‬عام ًال من العمال‪ ،‬يف دولةالريان‬ ‫بن الوليد‪ ،‬فرعون م�رص‪ .‬ومن بعده كان عام ًال لقابو�س بن م�صعب‪ ،2‬وال‬ ‫«‪ »1‬اجنيل م ّتى من الإ�صحاح الثاين والع�رشين �آية «‪»21‬‬ ‫«‪ »2‬راجع تاريخ �أبى الفداء ج‪� 1‬ص‪18‬‬ ‫‪50‬‬


‫نعرف يف تاريخ الر�سل من جمع اهلل له بني الر�سالة وامللك �إال قلي ًال‪.‬‬ ‫فهل كان حممد �صلى اهلل عليه و�سلم ممكن جمع اهلل له بني الر�سالة‬ ‫وامللك‪� ،‬أم كان ر�سو ًال غري ملك؟‬ ‫(‪ )3‬ال نعرف لأحد من العلماء ر�أي ًا �رصيح ًا يف ذلك البحث وال‬ ‫جند من تعر�ض للكالم فيه‪ ،‬بح�سب ما �أتيح لنا‪ .‬ولكنا قد ن�ستطيع‬ ‫بطريق اال�ستنتاج �أن نقول‪� :‬إن امل�سلم العامي يجنح غالب ًا �إىل اعتقاد‬ ‫�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان ملك ًا ر�سو ًال‪ ،‬و�أنه �أ�س�س بالإ�سالم‬ ‫دولة �سيا�سية مدنية‪ ،‬كان هو ملكها و�سيدها‪ ،‬لعل ذلك هو الر�أي‬ ‫الذي يتالءم مـع ذوق امل�سلمني العـام‪ ،‬ومع ما يتبادر من �أحوالهم‬ ‫يف اجلملة‪ ،‬ولعله �أي�ضـ ًا هو ر�أي جمهور العلمـاء من امل�سلمني‪ ،‬فـ�إنك‬ ‫تراهم‪� ،‬إذا عر�ض لـهـم الكالم يف �شيء يت�صل بذلك املو�ضوع‪ ،‬مييلون‬ ‫�إىل اعتبـار الإ�سـالم وحـدة �سيا�سيـة‪ ،‬ودولــة � َّأ�س�سـهـا الـنــبـي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫وكالم ابـن خلـدون فـي مـقدمـتـه ينحـو ذلـك املنـحى‪ ،‬فـقـد‬ ‫جـعـل الـخـالفـة الـتي هي نيابة عن �صاحب ال�رشع يف حفظ الدين‬ ‫و�سيا�سة الدنيا‪� ،‬شاملة للملك وامللك مندرج ًا حتتها �إلخ‪.1‬‬ ‫(‪ )4‬وقـــد نقـل املرحوم رفاعة بـك رافـع عن كتـاب تخريـج‬ ‫الـدالالت ال�سمعية مـا ي�شبه �أن يـكون �رصيحـ ًا يف ذلك الـر�أي‪ ،‬بـل‬

‫«‪ »1‬راجع املقدمة‪ :‬ف�صل يف اخلطط الدينية اخلالفية �ص ‪ 206‬وغريه‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫الواقـع �أنـه �رصيح‪ ،‬قال مــا ملخ�صه‪�« :1‬إن من مل تر�سخ يف املعارف‬ ‫قدمه‪ ،‬ولي�س لديه من �أدوات الطالب �إال يداه وقلمه‪ ،‬يح�سب كثرياً من‬ ‫الأعمال ال�سلطانية مبتدع ًا ال متبع ًا‪ ،‬و�أن العامل على خطة دنيوية‪،‬‬ ‫ال يف عمالة �سنية‪ ،‬ويظن �أن عمالته دنية‪ ،‬فلهذا جمعت‬ ‫لي�س عام ً‬ ‫ما علمته من تلك العماالت يف كتاب يو�ضح ن�رشها‪ ،‬ويبني الأمر‬ ‫ملن جهل �أمرها‪ ،‬فذكرت يف كل عمالة من واله عليها الر�سول من‬ ‫ال�صحابة‪ ،‬ليعلم ذلك من يليها الآن‪ ،‬في�شكر اهلل على �أن ا�ستعمله يف‬ ‫عمل �رشعي‪ ،‬كان يتواله من �أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫من �صلح له‪ ،‬و�أقامه املوىل يف ذلك مقامه»‪.‬‬ ‫ثم خل�ص رفاعة بك الكالم يف الوظائف والعماالت البلدية‪ ،‬خ�صو�صية‬ ‫وعمومية‪� ،‬أهلية داخلية وجهادية التي هي عبارة عن نظام ال�سلطنة‬ ‫الإ�سالمية وما يتعلق بها من احلرف وال�صنائع‪ ،‬والعماالت ال�رشعية‪،‬‬ ‫على ما كان يف عهد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وجمع يف ذلك‬ ‫بني الكالم على خدمه اخلا�صة به �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وما ي�ضاف �إىل‬ ‫‪2‬‬ ‫الب ْدن‬ ‫الإمامة العظمى من الأعمال الأولية كالوزارة واحلجابة ووالية ُ‬ ‫وال�سقاية‪ 3‬والكتابة وما ي�ضاف �إىل العماالت الفقهية من معلم القر�آن‬ ‫ومعلم الكتابة ومعلم الفقه‪ ،‬واملفتي و�إمام ال�صالة وامل�ؤذن‪ ،..‬ثم ذكر‬ ‫الرتاجمة وكتابة اجلي�ش والعطاء والديوان والزمام‪ ،‬وبينّ �أن للديوان‬ ‫�أ�ص ًال يف عهد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ثم ذكر العماالت املتعلقة‬ ‫«‪ »1‬نهاية الإيجاز يف �سرية �ساكن احلجاز �ص ‪ 350‬طبع مبطبعة املعارف امللكية حتت‬ ‫نظارة قلم الرو�ضة واملطبوعات �سنة ‪1291‬هـ‬ ‫الب ْدن واحدتها بدنة وهي ناقة �أو بقرة تنحر مبكة‬ ‫«‪ُ »2‬‬ ‫«‪� »3‬سقاية احلاج‬ ‫‪52‬‬


‫بالأحكام‪ ،‬كالإمارة العامة على النواحي‪ ،‬والق�ضاء وما يتعلق به من‬ ‫�إ�شهاد ال�شهود وكتابة ال�رشوط والعقود واملواريث والنفقات‪ ،‬والق�سام‬ ‫وناظر البناء للتحديد‪ ،‬وذكر املحت�سب واملنادى‪ ،‬ومتويل حرا�سة‬ ‫املدينة‪ ،‬واجلا�سو�س لأهل املدينة‪ ،‬وال�سجان ومقيمي احلدود‪ ،‬ثم ذهب‬ ‫يعدد الأعمال احلكومية واحداً بعد واحد‪ ،‬حتى مل يكد يدع �شيئ ًا‪ ،‬وحتى‬ ‫قال رفاعة بك‪�« :‬إن ذلك �شيء مل يف به غالب م�ؤلفي كتب ال�سري بل‬ ‫جميعهم»‪.‬‬ ‫(‪ )5‬ال �شك يف �أن احلكومة النبوية كان فيها بع�ض ما ي�شبه �أن يكون‬ ‫من مظاهر احلكومة ال�سيا�سية و�آثار ال�سلطنة وامللك‪.‬‬ ‫(‪� )6‬أول ما يخطر بالبال مثا ًال من �أمثلة ال�ش�ؤون امللكية‪ ،‬التي ظهرت‬ ‫�أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬م�س�ألة اجلهاد‪ ،‬فقد غزا �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم املخالفني لدينه من قومه العرب‪ ،‬وفتح بالدهم‪ ،‬وغنم �أموالهم‪،‬‬ ‫و�سبى رجالهم ون�ساءهم‪ ،‬وال �شك يف �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم قد امتد‬ ‫ب�رصه �إىل ما وراء جزيرة العرب‪ ،‬وا�ستعد لالن�سياب بجي�شه يف �أقطار‬ ‫الأر�ض‪ ،‬وبد�أ‪ 1‬فع ًال ي�صارع دولة الرومان يف الغرب‪ ،‬ويدعو �إىل االنقياد‬ ‫لدينه ك�رسى الفر�س يف ال�رشق‪ ،‬وجنا�شي احلب�شة ومقوق�س م�رص �إلخ‪.‬‬ ‫وظاهر �أول وهلة �أن اجلهاد ال يكون ملجرد الدعوة �إىل الدين‪ ،‬وال‬ ‫حلمل النا�س على الإميان باهلل ور�سوله‪ ،‬و�إمنا يكون اجلهاد لتثبيت‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬وتو�سيع امللك‪.‬‬ ‫دعوة الدين دعوة �إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وقوام تلك الدعوة ال يكون �إال‬ ‫«‪� »1‬إ�شارة �إىل غزوة م�ؤتة و�رسية �أ�سامة بن زيد �إىل �أبنى‬ ‫‪53‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫البيان‪ ،‬وحتريك القلوب بو�سائل الت�أثري والإقناع ف�أما القوة والإكراه‬ ‫فال ينا�سبان دعوة يكون الغر�ض منها هداية القلوب‪ ،‬وتطهري العقائد‪،‬‬ ‫وما عرفنا يف تاريخ الر�سل رج ًال حمل النا�س على الإميان باهلل بحد‬ ‫ال�سيف‪ ،‬والغزا قوم ًا يف �سبيل الإقناع بدينه‪ ،‬وذلك هو نف�س املبد�أ الذي‬ ‫يقرره النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيما كان يبلغ من كتاب اهلل‪.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫«اد ُع‬ ‫الر ْ�ش ُد ِم َن ا ْل َغ ِّي» وقال‪ْ :‬‬ ‫قال تعاىل « َال �إ ِْك َر َاه يِف ِّ‬ ‫الدينِ َقد َّت َبينَّ َ ُّ‬ ‫�إِلىَ َ�سبِيلِ َر ِّب َك بِالحِْ ْك َم ِة َوالمْ َ ْو ِع َظ ِة الحْ َ​َ�س َن ِة َو َجا ِد ْل ُهم بِا َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن»‬ ‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬ ‫وك‬ ‫اج َ‬ ‫وقال‪َ « :‬ف َذ ِّك ْر �إِنمَّ َ ا �أَ َ‬ ‫نت ُم َذ ِّك ٌر‪َّ ،‬ل ْ�س َت َع َل ْيهِ م بمِ ُ َ�ص ْي ِطرٍ»‪َ « ،‬ف�إ ِْن َح ُّ‬ ‫ني‬ ‫اب َوالأُ ِّم ِّي َ‬ ‫َف ُق ْل �أَ ْ�س َل ْم ُت َو ْجهِ َي للِهَِّ َو َمنِ ا َّت َب َعنِ َو ُقل ِّل َّل ِذ َ‬ ‫ين �أُو ُتواْ ا ْل ِك َت َ‬ ‫ري‬ ‫اه َت َد ْوا َّو�إِن َت َو َّل ْوا َف�إِنمَّ َ ا َع َل ْي َك ا ْل َب ُ‬ ‫�أَ�أَ ْ�س َل ْم ُت ْم َف�إ ِْن �أَ ْ�س َل ُمواْ َف َق ِد ْ‬ ‫الغ َواللهَّ ُ َب ِ�ص ٌ‬ ‫‪5‬‬ ‫ني»‪.‬‬ ‫ا�س َح َّتى َي ُكو ُنواْ ُم ْ�ؤ ِم ِن َ‬ ‫بِا ْل ِع َبا ِد» «�أَ َف َ�أ َ‬ ‫نت ُت ْكر ُِه ال َّن َ‬

‫تلك مبادئ �رصيحة يف ر�سالة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬كر�سالة‬ ‫�إخوانه من قبل‪� ،‬إمنا تعتمد على الإقناع والوعظ‪ ،‬وما كان لها �أن تعتمد‬ ‫على القوة والبط�ش‪ ،‬و�إذا كان �صلى اهلل عليه و�سلم قد جل�أ �إىل القوة‬ ‫والرهبة‪ ،‬فذلك ال يكون يف �سبيل الدعوة �إىل الدين‪ ،‬و�إبالغ ر�سالته �إىل‬ ‫«‪� »1‬سورة البقرة‬ ‫«‪� »2‬سورة النحل‬ ‫«‪� »3‬سورة الغا�شية‬ ‫«‪� »4‬سورة �آل عمران‬ ‫«‪� »5‬سورة يون�س‬ ‫‪54‬‬


‫العاملني‪ ،‬وما يكون لنا �أن نفهم �إال �أنه كان يف �سبيل امللك‪ ،‬ولتكوين‬ ‫احلكومة الإ�سالمية‪ .‬وال تقوم حكومة �إال على ال�سيف‪ ،‬وبحكم القهر‬ ‫والغلبة‪ ،‬فذلك عندهم هو �رس اجلهاد النبوي ومعناه‪.‬‬ ‫(‪ )7‬قلنا �إن اجلهاد كان �آية من �آيات الدولة الإ�سالمية‪ ،‬ومثا ًال من‬ ‫�أمثلة ال�ش�ؤون امللكية‪ ،‬و�إليك مث ًال �آخر‪:‬‬ ‫كان يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم عمل كبري متعلق بال�ش�ؤون‬ ‫املالية‪ ،‬من حيث الإيرادات وامل�رصوفات‪ ،‬ومن حيث جمع املال من‬ ‫جهاته العديدة‪« ،‬الزكاة واجلزية والغنائم �إلخ»‪ ،‬ومن حيث توزيع‬ ‫ذلك كله بني م�صارفه‪ ،‬وكان له �صلى اهلل عليه و�سلم �سعاة وجباة‪،‬‬ ‫يتولون ذلك له‪ ،‬وال �شك �أن تدبري املال عمل ملكي‪ ،‬بل هو �أهم مقومات‬ ‫احلكومات‪ ،‬على �أنه خارج عن وظيفة الر�سالة من حيث هي‪ ،‬وبعيد عن‬ ‫عمل الر�سل باعتبارهم ر�س ًال فح�سب‪.‬‬ ‫(‪ )8‬وقد يكون من �أقوى الأمثلة يف هذا الباب ما روى الطربي‬ ‫ب�إ�سناده‪� ،‬أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وجه �إمارة اليمن وفرقها بني‬ ‫بحيزه وا�ستعمل عمرو بن حزم على جنران‪،‬‬ ‫رجاله‪ ،‬و�أفرد كل رجل ِّ‬ ‫وخالد بن �سعيد بن العا�ص على ما بني جنران ور َِمع وزبيد‪ ،‬وعامر بن‬ ‫�شهر على همدان‪ ،‬وعلى �صنعاء ابن ب�إذام‪ ،‬وعلى عك والأ�شعرين الطاهر‬ ‫جل َند َي ْعلى بن �أبي‬ ‫بن �أبي هالة‪ ،‬وعلى م�أرب �أبا مو�سى الأ�شعري‪ ،‬وعلى ا َ‬ ‫‪1‬‬ ‫�أمية‪ ،‬وكان معاذ معلم ًا يتنقل يف عمالة كل عامل باليمن وح�رضموت‬ ‫�إلخ‪.‬‬ ‫«‪ »1‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪214‬‬ ‫‪55‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫هنالك كثري غري ما ذكرنا قد وجد يف الع�رص النبوي‪ ،‬مما ميكن‬ ‫اعتباره �أثراً من �آثار الدولة‪ ،‬ومظهراً من مظاهر احلكومة‪ ،‬وخمايل‬ ‫ال�سلطنة‪ ،‬فمن نظر �إىل ذلك من هذه اجلهة‪� ،‬ساغ له القول �إن النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم كان ر�سول اهلل تعاىل‪ ،‬وكان ملك ًا �سيا�سي ًا �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫(‪� )9‬إذا ترجح عند بع�ض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة‪ ،‬واطم�أن �إىل‬ ‫احلكم ب�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم كان ر�سو ًال وملك ًا‪ ،‬ف�سوف يعرت�ضه‪،‬‬ ‫حينئذ بحث �آخر جدير بالتفكري‪ .‬فهل كان ت�أ�سي�سه �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم للمملكة الإ�سالمية‪ ،‬وت�رصفه يف ذلك اجلانب �شيئ ًا خارج ًا‬ ‫عن حدود ر�سالته �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬أم كان جزءاً مما بعثه اهلل‬ ‫له و�أوحى به �إليه‪ ،‬ف�أما �أن اململكة النبوية عمل منف�صل عن دعوة‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وخارج عن حدود الر�سالة‪ ،‬فذلك ر�أي ال َنعرف يف مذاهب‬ ‫امل�سلمني ما ي�شاكله‪ ،‬وال نذكر يف كالمهم ما يدل عليه‪ ،‬وهو على ذلك‬ ‫ر�أي �صالح لأن يذهب �إليه‪ ،‬وال نرى القول به يكون كفراً وال �إحلاداً‪،‬‬ ‫ورمبا كان حممو ًال على هذا املذهب ما يراه بع�ض الفرق الإ�سالمية‬ ‫من �إنكار اخلالفة يف الإ�سالم مرة واحدة‪.‬‬ ‫ال كهذا‬ ‫وال يهولنك �أن ت�سمع �أن للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم عم ً‬ ‫خارج ًا عن وظيفة الر�سالة‪ ،‬و�أن ملكه الذي �شيده هو من قبيل ذلك‬ ‫العمل الدنيوي الذي ال عالقة له بالر�سالة‪ ،‬فذلك قول �إن انكرته الأذن‪،‬‬ ‫لأن الت�شدق به غري م�ألوف يف لغة امل�سلمني‪ ،‬فقواعد الإ�سالم‪ ،‬ومعنى‬ ‫الر�سالة‪ ،‬وروح الت�رشيع‪ ،‬وتاريخ النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كل ذلك‬ ‫ال ي�صادم ر�أي ًا كهذا وال ي�ستفظعه‪ ،‬بل رمبا وجد ما ي�صلح له دعامة‬ ‫و�سنداً‪ ،‬ولكنه على كل حال ر�أي نراه بعيداً‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫(‪ )10‬و�أما �أن اململكة النبوية جزء من عمل الر�سالة متمم لها‪،‬‬ ‫وداخل فيها‪ ،‬فذلك هو الر�أي الذي تتلقاه نفو�س امل�سلمني يف ما يظهر‬ ‫بالر�ضا‪ ،‬وهو الذي ت�شري اليه �أ�ساليبهم‪ ،‬وت�ؤيده مبادئهم ومذاهبهم‪،‬‬ ‫ومن البينّ �أن ذلك الر�أي ال ميكن تع ُّقله �إال �إذا ثبت �أن من عمل الر�سالة‬ ‫�أن يقوم الر�سول‪ ،‬بعد تبليغ الدعوة الإلهية بتنفيذها على وجه عملي‪،‬‬ ‫�أي �أن الر�سول يكون مبلِّغ ًا ومن ِّفذاً مع ًا‪.‬‬ ‫(‪ )11‬غري �أن الذين بحثوا يف معنى الر�سالة‪ ،‬ووقفنا على مباحثهم‪،‬‬ ‫�أغفلوا دائم ًا �أن يعتربوا التنفيذ جزءاً من حقيقة الر�سالة‪� ،‬إال ابن‬ ‫خلدون‪ ،‬فقد جاء يف كالمه ما ي�شري �إىل �أن الإ�سالم دون غريه من امللل‬ ‫الأخرى قد اخت�ص ب�أنه جمع بني الدعوة الدينية وتنفيذها بالفعل‪،‬‬ ‫وذلك املعنى ظاهر يف عدة موا�ضيع من مقدمته التاريخية‪ ،‬وقد بينه‬ ‫بنوع من البيان يف الف�صل الذي �رشح فيه ا�سم البابا والبطرق يف‬ ‫امللـّة الن�رصانية‪ ،‬وا�سم الكوهن عند اليهود‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫«اعلم �أن امللة البد لها من قائم عند غيبة النبي‪ ،‬يحملهم على‬ ‫�أحكامها ال�رشعية و�رشائعها ويكون كاخلليفة فيهم للنبي يف ما جاء‬ ‫به من التكاليف‪ ،‬والنوع الإن�ساين �أي�ض ًا‪ ،‬مبا تقدم من �رضورة ال�سيا�سة‬ ‫فيهم لالجتماع الب�رشي‪ ،‬البد لهم من �شخ�ص يحملهم على م�صاحلهم‪،‬‬ ‫يزعهم عن مفا�سدهم‪ ،‬بالقهر‪ ،‬وهو امل�سمى بامللك‪ ،‬وامللة الإ�سالمية‬ ‫َو ُ‬ ‫ملا كان اجلهاد فيها م�رشوع ًا‪ ،‬لعموم الدعوة‪ ،‬وحمل الكافة على دين‬ ‫لتوجه ال�شوكة‬ ‫الإ�سالم طوع ًا �أو كرها‪ ،‬احتدت فيها اخلالفة وامللك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من القائمني بها �إليهما مع ًا‪ ،‬واما ما �سوى امللة الإ�سالمية فلم تكن‬ ‫دعوتهم عامة‪ ،‬وال اجلهاد عندهم م�رشوع ًا‪� ،‬إال يف املدافعة فقط‪،‬‬ ‫‪57‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ف�صار القائم ب�أمر الدين فيها من �سيا�سة امللك‪ ،‬لأنهم غري مكلفني‬ ‫بالتغلب على الأمم الأخرى‪ ،‬و�إمنا هم مطلوبون ب�إقامة دينهم يف‬ ‫خا�صة �أنف�سهم‪� ...‬إلخ)‪.‬‬ ‫فـهـو كمـا ترى يـقـول‪� ،‬إن الإ�سـالم �رشعـي تبليغي وتطبيقي‪،‬‬ ‫و�أن ال�سلطـة الـدينيـة اجتمعت فيه ال�سلطة وال�سيا�سـة‪ ،‬دون �سائـر‬ ‫الأديـان‪.‬‬ ‫(‪ )12‬ال نـرى لـذلـك القـول دعـامـة‪ ،‬وال نـجـد لـه �سـنـداً‪ ،‬وهـو عـلى‬ ‫ذلـك ينـايف معنى الر�سالة‪ ،‬وال يتالءم مع ما تق�ضي به طبيعة الدعوة‬ ‫الدينية كمـا عـرفت‪ ،‬وليـكـن ذلك القول �صحيح ًا‪ ،‬فقد بقي م�شكل �آخر‬ ‫عليهم �أن يجدوا له جواب ًا‪ ،‬و�أن يلتم�سوا منه خمرجـ ًا‪ ،‬ذلك هـو امل�شـكـل‬ ‫الذي بد�أنــا عنده هـذا املبحث فدفعنـا �إىل بـحـث �آخـر‪.‬‬ ‫�إذا كـان ر�سـول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قد �أ�س�س دولة �سيا�سية‪،‬‬ ‫�أو �رشع يف ت�أ�سي�سها‪ ،‬فلماذا خلت دولته �إذن من كثري من �أركان‬ ‫الدولة ودعائم احلكم‪ ،‬وملاذا مل يعرف نظامه يف تعيني الق�ضاة‬ ‫والوالة؟ وملاذا مل يتحدث �إىل رعيته يف نظام الـملك وفـي قـواعد‬ ‫الـ�شــورى؟ وملاذا ترك العلماء يف حرية وا�ضطراب من �أمر النظام‬ ‫احلكومي يف زمنه؟ وملاذا وملاذا؟ نـريـد �أن نـعرف من�ش�أ ذلك الذي‬ ‫يبدو للناظر ك�أنه �إبهـام �أو ا�ضطـراب �أو نقـ�ص‪� ،‬أو مــا �شئت َف َ�س ِّمه‪،‬‬ ‫يف بناء احلكومة �أيـــام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وكيف كان ذلك؟‬ ‫ومـا �سرِ ُّ ه؟‬ ‫‪ ‬لعــل �أولئك الذين ي�رصون على اعتقادهم �أن حممداً �صـلى اهلل‬ ‫عليـه و�سـلم قــام بدعوة �إىل دين جديد‪ ،‬و�إىل ت�أ�سي�س دولة جديدة‪،‬‬ ‫وي�رصون على �أن الدولة التي �أن�ش�أها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫‪58‬‬


‫تو�ضع �أ�س�سها‪ ،‬و ُتدار �ش�ؤونها‪ ،‬و ُت َن َّظم �أمورها‪ ،‬بوحي اهلل تعاىل‬ ‫كانت َ‬ ‫�أحـكم احلـاكمني‪ ،‬ثـم ي�ضطرهم ذلك �إىل اعـتقـاد �أن نظـام الـدولـة‬ ‫زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بلغ غاية الكمال التي تعجز عنها‬ ‫عقول الب�رش‪ ،‬وترتد دونها �أفكارهم‪ ،‬لعل �أولئك �إذا �سئلوا عن �رس هذا‬ ‫الذي يبدو نق�ص ًا يف �أنظمة احلكم‪ ،‬و�إبهامـ ًا يف قـواعده‪ ،‬قـد يــلتم�سون‬ ‫للـجواب �إحدى تلك اخلطط التي �سنـ�أخـذ الآن يف بيانهـا‪.‬‬ ‫(‪� )13‬أمـا �صـاحـب كتـاب «تخريج الدالئل ال�سمعية» ويـوافقه‬ ‫ال‪ ،‬فزعم �أن‬ ‫رفاعة بك‪ ،‬فقد وجد له من ذلك املـ�أزق خمل�ص ًا �سه ً‬ ‫احلكومة كانت ت�شتمل يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم على كــل‬ ‫مـا يـلـزم للدولة من عمــال و�أعمــال‪ ،‬و�أنظمة م�ضبوطة‪ ،‬وقواعد‬ ‫ال‪ ،‬الجمال بعده جلديد‪ ،‬وال زيادة‬ ‫حمدودة‪ ،‬و�سنن‬ ‫مف�صلة تف�صيـ ً‬ ‫َّ‬ ‫مل�ستزيد‪ ،‬وع�سى �أن ال يكون بك حـاجـة �إىل �إعـادة هـذا القول عليك‬ ‫بعدمـا �سبـق‪.‬‬ ‫(‪ )14‬قـد يقـول قـائــل يــريـد �أن ي�ؤيد ذلك املذهب بنوع من‬ ‫الت�أييد‪ ،‬على طريقة �أخرى‪� :‬إنه ال �شيء مينعنا من �أن نعتقد �أن نظام‬ ‫الدولة زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان متين ًا وحمكم ًا‪ ،‬وكان‬ ‫ال على جميع �أوجه الكمال‪ ،‬التي تلزم لدولة يدبرها ر�سول من‬ ‫م�شتم ً‬ ‫اهلل‪ ،‬ي�ؤيده الوحي‪ ،‬وت�ؤازره مالئكة اهلل‪ ،‬غري �أننا مل ن�صل �إىل علم‬ ‫التفا�صيل احلقيقية‪ ،‬ودقائق ما كانت عليه احلكومة النبوية‪ ،‬من‬ ‫نظام بالغ‪ ،‬و�إحكام �سابغ‪ ،‬لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك �إلينا‪� ،‬أو �أنهم‬

‫‪59‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫نقلوه‪ ،‬ولكن غاب علمه عنا‪� ،‬أو ل�سبب �آخر‪«1 ،‬وما �أوتيتم من العلم �إال‬ ‫ال»‪.‬‬ ‫قلي ً‬ ‫(‪ )15‬تلك خطة ال ينبغي �أن يرف�ضها لأول وهلة عقل العلماء‪ ،‬ف�أنه‬ ‫ال حرج على نفو�سنا �أن يخالطها ال�شك يف �أننا جنهل كثرياً من �ش�ؤون‬ ‫التاريخ النبوي‪ ،‬بل الواقع �أننا جنهل منه ومن غريه اكرث مما نعرف‪.‬‬ ‫على �أهل العلم �أن ي�ؤمنوا دائم ًا ب�أن كثرياً من احلقائق حمجوب‬ ‫عنهم‪ ،‬وعليهم �أن يد�أبوا �أبداً يف ك�شف مغيبها‪ ،‬وا�ستنباط اجلديد منها‪،‬‬ ‫ففي ذلك حياة العلم ومنا�ؤه‪ ،‬غري �أن احتمال جهلنا ببع�ض احلقائق ال‬ ‫ينبغي �أن مينعنا من الوثوق مبا علمنا منها‪ ،‬واعتباره حقائق علمية‪،‬‬ ‫نبني عليها الأحكام‪ ،‬ونقيم املذاهب‪ ،‬ونبني لها الأ�سباب‪ ،‬ون�ستخل�ص‬ ‫منها النتائج‪ ،‬حتى يظهر لنا ما يخالفها ويثبت ثبوت ًا علمي ًا‪.‬‬ ‫لذلك نقول �إنه من املحتمل حقيقة �أن يكون نظام احلكومة النبوية قد‬ ‫خفي علينا خربه‪ ،‬وقد تك�شف لنا الأيام �أنه كان املثل الأعلى يف احلكم‪،‬‬ ‫ولكن ذلك االحتمال ال مينعنا �أن نعود ‪ -‬وملا ينك�شف لنا بالفعل ما‬ ‫يخالف معلومنا ‪ -‬فن�س�أل من جديد عن من�ش�أ ذلك الذي عرفنا �إىل الآن‬ ‫من الإبهام واال�ضطراب يف نظام احلكومة النبوية‪ ،‬وعن �رسه ومعناه‪.‬‬ ‫(‪ )16‬هنالك خطة �أخرى للجواب عن ذلك ال�س�ؤال‪.‬‬ ‫ذلك �أن كثرياً مما ن�سميه اليوم �أركان احلكومة‪ ،‬و�أنظمة الدولة‪ ،‬و�أ�سا�س‬ ‫احلكم‪� ،‬إمنا هي ا�صطالحات عار�ضة‪ ،‬و�أو�ضاع م�صنوعة‪ ،‬ولي�ست هي‬ ‫يف الواقع �رضورية لنظام دولة نريد �أن تكون دولة الب�ساطة‪ ،‬وحكومة‬ ‫«‪� »1‬سورة الإ�رساء‬ ‫‪60‬‬


‫الفطرة‪ ،‬التي ترف�ض كل تكلف‪ ،‬وكل ما ال حاجة بالفطرة الب�سيطة �إليه‪.‬‬ ‫وكل ما متكن مالحظته على الدولة النبوية يرجع عند الت�أمل �إىل‬ ‫خلوها من تلك املظاهر التي �صارت اليوم عند‬ ‫معنى واحد‪ ،‬ذلك هو ّ‬ ‫علماء ال�سيا�سة من �أركان احلكومة املدنية‪ ،‬وهي يف حقيقة الأمر غري‬ ‫واجبة‪ ،‬وال يكون الإخالل بها حتم ًا نق�ص ًا يف احلكم‪ ،‬وال مظهراً من‬ ‫مظاهر الفو�ضى واالختالل‪ ،‬فذلك ت�أويل ما يالحظ على الدولة النبوية‬ ‫مما قد ُي َع ّد ا�ضطراب ًا‪.‬‬ ‫(‪ )17‬كان حممد �صلى اهلل عليه و�سلم يحب الب�ساطة‪ ،‬ويكره التكلف‪.‬‬ ‫وعلى الب�ساطة اخلال�صة التي ال �شائبة فيها قامت حياته اخلا�صة‬ ‫والعامة‪ ،‬كان يدعو �إىل الب�ساطة يف القول والعمل‪ ،‬كما يف حديثه مع‬ ‫جرير بن عبد اهلل البجلي‪« ،1‬يا جرير �إذا قلت ف�أوجز‪ ،‬و�إذا بلغت حاجتك‬ ‫فال تتكلف»‪.‬‬ ‫كان يعا�رش النا�س من غري تكلف‪ ،‬ويجري معهم على منهج الب�ساطة‪،‬‬ ‫وقد روي‪� 2‬أنه ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬كان ميازح �أ�صحابه‪ ...‬وعن ابن‬ ‫عبا�س ر�ضي اهلل عنهما‪« :‬كانت يف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم دعابة»‬ ‫وكان يقول لأ�صحابه‪�« :‬إين �أكره �أن �أمتيز عليكم‪ ،‬ف�إن اهلل يكره من عبده‬ ‫�أن يراه متميزاً بني �أ�صحابه»‪ .‬وروي �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم«‪« »1‬ما ُخيرِّ‬ ‫بني �أمرين �إال اختار �أي�رسهما ما مل يكن �إثماً»‪ .‬ويف حديثه لأبي مو�سى‬ ‫الأ�شعري ومعاذ‪ ،‬و�سبقت روايته «‪3‬ي�سرّ ا وال تع�سرّ ا‪ ،‬وب�شرِّ ا وال تن ِّفرا»‪.‬‬ ‫«‪ »1‬الكامل للمُبرَ ِّد ‪ -‬ج ‪� 1‬ص‪ 4‬املطبعة العلمية‬ ‫«‪ »2‬ال�سرية احلبية ج‪� 3‬ص‪262‬‬ ‫«‪ »3‬ال�سرية النبوية على هام�ش ال�سرية احللبية ج‪� 3‬ص‪360‬‬ ‫‪61‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫كان ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ - 1‬يكره الرياء والتكلف‪ ،‬ويقول يف‬ ‫حجة الوداع‪« 2‬اللهم اجعله حج ًا مربوراً‪ ،‬ال رياء فيه وال �سمعة»‪ .‬وقال‬ ‫اهلل تعاىل خماطب ًا له عليه ال�سالم‪« 3‬قل ما �أ�س�ألكم عليه من �أجر وما‬ ‫�أنا من املتكلفني»‪ .‬وكان فيما يبلغ عن �رشيعة اهلل تعاىل ي�أمر النا�س‬ ‫بالقواعد الب�سيطة‪ ،‬وينهاهم عن التكلف‪ ،‬ويناديهم «�إذا �أمرتكم ب�أمر‬ ‫ف�أتوا منه ما ا�ستطعتم» و«�إن هذا الدين متني ف�أوغل فيه برفق»‪4‬و«ما‬ ‫جعل عليكم يف الدين من َحرج»‪.‬‬ ‫وال جتد فيما جاء به من ال�رشائع حكم ًا يرجع �إال �إىل املبادئ الأمية‬ ‫ال�ساذجة‪ .‬فلم يكلفهم يف �أوقات ال�صالة �أن يح�سبوا درج ال�شم�س‪ ،‬وال‬ ‫مطالع النجوم‪ ،‬بل جعل مناط ذلك ما يح�س به كل �إن�سان من حركة‬ ‫ال�شم�س امل�شاهدة يف ال�سماء‪ ،‬وجعل ال�صوم واحلج ومنا�سك العبادة‬ ‫مت�صلة بحركة القمر‪ ،‬وحركة القمر حم�سو�سة ال حتتاج �إىل ح�ساب وال‬ ‫ر�صد‪ ،‬ومل يكلفنا يف ال�صوم �أن نح�سب لهالل رم�ضان‪ ،‬بل جعل ذلك‬ ‫منوط ًا بر�ؤية الهالل ر�ؤية ب�سيطة ال تكلف فيها‪ ،‬وجاء يف ذلك احلديث‪:5‬‬ ‫«نحن �أمة �أمية‪�...‬إلخ»‪ ،‬وحديث‪� 6‬صوموا لر�ؤيته‪�...‬إلخ‪ ،‬ومل يكلفنا ح�ساب‬ ‫اليوم بال�ساعات والدقائق‪ ،‬بل ربطه كذلك بال�شيء املح�سو�س‪ ،‬الذي ال‬ ‫�ض ِم َن الخْ َْي ِط‬ ‫ي َل ُك ُم الخْ َْي ُط الأَ ْب َي ُ‬ ‫«و ُك ُلواْ َوا�شرْ َ ُبواْ َح َّتى َي َت َب َنّ َ‬ ‫خفاء فيه َ‬ ‫«‪ »1‬منه �ص ‪273‬‬ ‫«‪ »2‬ال�سرية احللبية ج‪� 3‬ص‪284‬‬ ‫«‪� »3‬سورة �ص‬ ‫«‪� »4‬سورة احلج‬ ‫«‪ »5‬فتح الباري ج‪� 4‬ص ‪ 89‬املطبعة اخلريية‪ ،‬برواية انا‪ ،‬بدل نحن‬ ‫«‪� »6‬رشح الع�سقالين للبخاري ج‪� 4‬ص‪ 88‬املطبعة اخلريية‬ ‫‪62‬‬


‫ام �إِلىَ ال َّل ْيلِ »‪.1‬‬ ‫الأَ ْ�س َو ِد ِم َن ا ْل َف ْج ِر ُث َّم َ�أ ّ‬ ‫ال�ص َي َ‬ ‫متواْ ِّ‬ ‫كان �صلى اهلل عليه و�سلم �أمي ًا ور�سو ًال �إىل الأميني‪ ،‬فيما كان يخرج‬ ‫يف �شيء من حياته اخلا�صة والعامة وال يف �رشيعته عن �أ�صول الأمية‪،‬‬ ‫وال عن مقت�ضيات ال�سذاجة والفطرة ال�سليمة التي فطر اهلل النا�س عليها‪،‬‬ ‫فلعل ذلك الذي ر�أينا يف نظام احلكم �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم هو‬ ‫النظام الذي تقت�ضي به الب�ساطة الفطرية‪ .‬وال ريب يف �أن كثرياً من نظم‬ ‫احلكم يف الوقت احلا�رض �إمنا هي �أو�ضاع وتكلفات‪ ،‬وزخارف طال بنا‬ ‫عهدها ف�ألفناها‪ ،‬حتى تخيلناها من �أركان احلكم و�أ�صول النظام‪ ،‬وهي‬ ‫�إذا ت�أملت لي�ست من ذلك يف �شيء‪.‬‬ ‫�إن هذا الذي يبدو لنا �إبهام ًا �أو ا�ضطراب ًا �أو نق�ص ًا يف نظام احلكومة‬ ‫النبوية مل يكن �إال الب�ساطة بعينها‪ ،‬والفطرة التي ال عيب فيها‪.‬‬ ‫(‪ )18‬لو كنا نريد �أن نختار لنا طريق ًا من بني تلك الطرق التي‬ ‫ق�ص�صنا عليك‪ ،‬لكان ذلك الر�أي �أدنى �إىل اختيارنا‪ ،‬ف�إنه بالدين �أ�شبه‪.‬‬ ‫لكنا ال ن�ستطيع �أن نتخذه لنا ر�أي ًا‪ ،‬لأنك �إن ت�أملت وجدته غري وجيه وال‬ ‫�صحيح‪.‬‬ ‫حق �أن كثرياً من �أنظمة احلكومات احلديثة �أو�ضاع وتكلفات‪ ،‬و�أن‬ ‫فيها ما ال يدعو �إليه طبع �سليم‪ ،‬وال تر�ضاه فطرة �صحيحة‪ ،‬ولكن من‬ ‫الأكيد الذي ال يقبل �شك ًا �أي�ض ًا �أن يف كثري مما ا�ستحدث يف �أنظمة احلكم‬ ‫ما لي�س متكلف ًا وال م�صنوع ًا‪ ،‬وال هو مما ينايف الذوق الفطري الب�سيط‪،‬‬ ‫وهو مع ذلك �رضوري ونافع‪ ،‬وال ينفي حلكومة ذات مدنية وعمران �أن‬ ‫تهمل الأخذ به‪.‬‬ ‫«‪� »1‬سورة البقرة‬ ‫‪63‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫وهل من �سالمة الفطرة وب�ساطة الطبع مث ًال �أن ال يكون لدولة من‬ ‫الدول ميزانية تقيد �إيرادها وم�رصوفاتها‪� ،‬أو �أن ال يكون لها دواوين‬ ‫ت�ضبط �شتى �ش�ؤونها الداخلية واخلارجية‪� ،‬إىل غري ذلك ‪ -‬و�أنه لكثري ‪-‬‬ ‫مما مل يوجــد منه �شيء يف �أيام النبوة‪ ،‬وال �أ�شار �إليه النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم‪.‬‬ ‫�إنه ليكون تع�ســـف ًا غري مقبول �أن يعلل ذلك الذي يبدو من نق�ص‬ ‫املظاهر احلــكومية زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ب�أن من�شــ�أه �سالمــة‬ ‫الفطرة‪ ،‬وجمانبة التكلف‪.‬‬ ‫فنلتم�س وجه ًا �آخر حلـل ذلك الإ�شـكال‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫الباب الثالث‬

‫ر�سالة ال حكم‪ ،‬ودين ال دولة‬ ‫كان ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ر�سو ًال غري ملك ‪ -‬زعامة الر�سالة‬ ‫وزعامة امللك ‪ -‬كمال الر�سل ‪ -‬كماله �صلى اهلل عليه و�سلم اخلا�ص‬ ‫به ‪ -‬حتديد املراد بكلمات ملك وحكومة‪�...‬إلخ ‪ -‬القر�آن ينفي �أنه �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم كان حاكم ًا ‪ -‬ال�سنة كذلك ‪ -‬طبيعة الإ�سالم ت�أبى ذلك‬ ‫�أي�ض ًا ‪ -‬ت�أويل بع�ض ما ي�شبه �أن يكون مظهراً من مظاهر الدولة ‪-‬‬ ‫خامتة البحث‪.‬‬ ‫(‪ )1‬ر�أيت �إذن �أن هنالك عقبات ال ي�سهل �أن يتخطاها �أولئك الذين‬ ‫يريدون �أن يذهب بهم الر�أي �إىل اعتقاد �أن النبي ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫ كان يجمع �إىل �صفة الر�سالة �أنه كان ملك ًا �سيا�سي ًا‪ ،‬وم�ؤ�س�س ًا لدولة‬‫�سيا�سية‪ ،‬ر�أيت �أنهم كلما حاولوا �أن يقوموا من عرثة لقيتهم عرثات‪،‬‬ ‫وكلما �أرادوا اخلال�ص من ذلك امل�شكل عاد ذلك امل�شكل عليهم جذع ًا‪.‬‬ ‫مل يبق �أمامك بعد الذي �سبق �إال مذهب واحد‪ ،‬وع�سى �أن جتده منهج ًا‬ ‫وا�ضح ًا‪ ،‬ال تخ�شى فيه عرثات‪ ،‬وال تلقى عقبات‪ ،‬وال ت�ضل بك �شعابه‪ ،‬وال‬ ‫يغمرك ترابه‪ ،‬م�أمون الغوائل‪ ،‬خالي ًا من امل�شاكل‪ .‬ذلك هو القول ب�أن‬ ‫حممداً ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ما كان �إال ر�سو ًال لدعوة دينية خال�صة‬ ‫‪65‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫للدين‪ ،‬ال ت�شوبها نزعة ملك‪ ،‬وال دعوة لدولة‪ ،‬و�أنه مل يكن للنبي �صلىاهلل‬ ‫عليه و�سلم ملك وال حكومة‪ ،‬و�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم مل يقم بت�أ�سي�س‬ ‫مملكة‪ ،‬باملعنىالذي يفهم �سيا�سة من هذه الكلمة ومرادفاتها‪ ،‬وما كان‬ ‫�إال ر�سو ًال ك�أخوانه اخلالني من الر�سل‪ ،‬وما كان ملك ًا وال م�ؤ�س�س دولة‬ ‫وال داعي ًا �إىل ملك‪.‬‬ ‫قول غري معروف‪ ،‬ورمبا ا�ستكرهه �سمع امل�سلم‪ ،‬بيد �أن له حظ ًا كبرياً‬ ‫من النظر وقوةالدليل‪.‬‬ ‫(‪ )2‬وقبل �أن ن�أخذ بك يف بيان ذلك‪ ،‬يجب �أن نحذرك من خط�أ قد‬ ‫يتعر�ض له الناظر �إذا هو مل يح�سن النظر‪ ،‬ومل يكن من �أمره على حذر‪،‬‬ ‫ذلك �أن الر�سالة لذاتها ت�ستلزم للر�سول نوع ًا من الزعامة يف قومه‪،‬‬ ‫وال�سلطان عليهم‪ ،‬ولكن ذلك لي�س يف �شيء من زعامة امللوك و�سلطانهم‬ ‫على رعيتهم‪ ،‬فال تخلط بني زعامة الر�سالة وزعامة امللك‪ ،‬والحظ‬ ‫�أن بينهما خالف ًا يو�شك �أن يكون تباين ًا‪ .‬وقد ر�أيت �أن زعامة مو�سى‬ ‫وعي�سى يف �أتباعهما مل تكن زعامة ملوكية‪ ،‬وال كانت كذلك زعامة �أكرث‬ ‫املر�سلني‪.‬‬ ‫(‪� )3‬إن طبيعة الدعوة الدينية ال�صادقة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من‬ ‫الكمال احل�سي �أو ًال‪ ،‬فال يكون يف تركيب ج�سمه وال يف حوا�سه وم�شاعره‬ ‫نق�ص‪ ،‬وال �شيء يدعو �إىل النفور‪ ،‬والبد له «لأنه زعيم» من هيبة متلأ‬ ‫النفو�س من خ�شيته‪ ،‬وجاذبيته تعطف الرجال والن�ساء �إىل حمبته‪ ،‬ثم‬ ‫البد له �أي�ض ًا من الكمال الروحي‪ ،‬لذلك‪ ،‬وملا يفي�ض عليه‪� ،‬رضورة‬ ‫ات�صاله بامللأ الأعلى‪.‬‬ ‫والر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها �شيئ ًا كثرياً من التميز االجتماعي بني‬ ‫‪66‬‬


‫قومه‪ ،‬كما ورد‪�« :‬أنه ال يبعث اهلل نبي ًا �إال يف عز من قومه‪ ،‬ومنعة من‬ ‫ع�شريته»‪.1‬‬ ‫والر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من القوة التي ُت ِعده لأن يكون نافذ‬ ‫القول‪ ،‬جماب الدعوة‪ ،‬ف�إن اهلل جل �ش�أنه ال يتخذ الر�سالة عبث ًا‪ ،‬وال يبعث‬ ‫باحلق ر�سو ًال �إال وقد �أراد لدعوته �أن تتم‪ ،‬و�أن تر�سخ �أ�صولها يف لوح‬ ‫العامل املحفوظ‪ ،‬و�أن متتزج بحقائق هذا العامل امتزاج ًا «وما �أر�سلنا من‬ ‫ر�سول �إال ليطاع ب�إذن اهلل»‪ ،2‬وحا�ش هلل‪ ،‬ال ير�سل اهلل دعوة احلق لت�ضيع‪،‬‬ ‫ا�س ُت ْهز َِئ ب ُِر ُ�سلٍ ِّمن َق ْب ِل َك‬ ‫وال يبعث ر�سو ًال من عنده لريتد خمزي ًا َ‬ ‫«و َل َق ِد ْ‬ ‫ريواْ يِف الأَ ْر ِ‬ ‫�ض‬ ‫َف َح َ‬ ‫ين َ�س ِخ ُرواْ ِم ْن ُهم َّما َكا ُنواْ ِب ِه َي ْ�س َت ْهزِ�ؤُ َ‬ ‫اق بِا َّل ِذ َ‬ ‫ون‪ُ ،‬ق ْل �سِ ُ‬ ‫‪3‬‬ ‫ان َع ِ‬ ‫ِيد َهّ ُ‬ ‫الل �أَن ُي ِح َّق الحْ ََّق ِب َك ِل َما ِت ِه‬ ‫ُث َّم ُ‬ ‫اق َب ُة المْ ُ َك ِّذ ِب َ‬ ‫انظ ُرواْ َك ْي َف َك َ‬ ‫«و ُير ُ‬ ‫ني» َ‬ ‫‪4‬‬ ‫ِين ِل ُي ِح َّق الحْ ََّق َو ُي ْب ِط َل ا ْل َب ِ‬ ‫َو َي ْق َط َع َداب َِر ا ْل َك ِ‬ ‫ون»‬ ‫اط َل َو َل ْو َكر َِه المْ ُ ْجر ُِم َ‬ ‫افر َ‬ ‫ند َنا‬ ‫ور َ‬ ‫«و َل َق ْد َ�س َب َق ْت َك ِل َم ُت َنا ِل ِع َبا ِد َنا المْ ُ ْر َ�س ِل َ‬ ‫ون َو�إ َِّن ُج َ‬ ‫ني �إِ َّن ُه ْم َل ُه ُم المْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن�ص ُ‬ ‫‪5‬‬ ‫الد ْن َيا َو َي ْو َم‬ ‫َل ُه ُم ا ْل َغا ِل ُب َ‬ ‫ون» «�إِ َّنا َل َنن�صرُ ُ ُر ُ�س َل َنا َوا َّل ِذ َ‬ ‫ين � َآم ُنوا يِف الحْ َ​َيا ِة ُّ‬ ‫وء‬ ‫اد َي ْو َم ال َين َف ُع َّ‬ ‫الظالمِ​ِ َ‬ ‫وم الأَ ْ�ش َه ُ‬ ‫ني َم ْع ِذ َر ُت ُه ْم َو َل ُه ُم ال َّل ْع َن ُة َو َل ُه ْم ُ�س ُ‬ ‫َي ُق ُ‬ ‫الدارِ»‪.6‬‬ ‫َّ‬ ‫«‪ »1‬رواه ال�شيخان بلفظ‪ :‬كذلك الر�سل تبعث يف �أح�ساب قومها‪ ..‬من حديث طويل‪ ،‬راجع تي�سري‬ ‫الو�صول �إىل اجلامع الأ�صول ج‪� 3‬ص‪320‬‬ ‫«‪� »2‬سورة الن�ساء‬ ‫«‪� »3‬سورة الأنعام‬ ‫«‪� »4‬سورة الأنفال‬ ‫«‪� »5‬سورة ال�صافات‬ ‫«‪� »6‬سورة امل�ؤمنون‬ ‫‪67‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫�إن مقام الر�سالة يقت�ضي ل�صاحبه �سلطان ًا �أو�سع مما يكون بني‬ ‫احلاكم واملحكومني‪ ،‬بل واو�سع مما يكون بني الأب و�أبنائه‪.‬‬ ‫قد يتناول الر�سول من �سيا�سة الأمة مثل ما يتناول امللوك‪ ،‬ولكن‬ ‫للر�سول وحده وظيفة ال �رشيك له فيها‪ ،‬من وظيفته �أي�ض ًا �أن يت�صل‬ ‫ليطلع على القلوب التي‬ ‫بالأرواح التي يف الأج�ساد‪ ،‬وينزع احلجب َّ‬ ‫يف ال�صدور‪ ،‬له بل عليه �أن ي�شق عن قلوب �أتباعه‪ ،‬لي�صل �إىل جمامع‬ ‫احلب وال�ضغينة‪ ،‬ومنابت احل�سنة وال�سيئة‪ ،‬وجماري اخلواطر‪ ،‬ومكامن‬ ‫الو�ساو�س‪ ،‬ومنابع النيات‪ .‬وم�ستودع الأخالق‪ ،‬له عمل ظاهري يف‬ ‫�سيا�سة العامة‪ ،‬وله �أي�ض ًا عمل خفي يف تدبري ال�صلة التي جتمع بني‬ ‫ال�رشيك وال�رشيك‪ ،‬واحلليف واحلليف‪ ،‬واملوىل وعبده‪ ،‬والوالد وولده‪،‬‬ ‫ويف تدبري تلك الروابط التي ال يطلع عليها �إال احلليل وحليلته‪ ،‬له رعاية‬ ‫الظاهر والباطن‪ ،‬وتدبري �أمور اجل�سم والروح‪ ،‬وعالقاتنا الأر�ضية‬ ‫وال�سماوية‪ ،‬له �سيا�سة الدنيا والآخرة‪ .‬الر�سالة تقت�ضي ل�صاحبها‪ ،‬وهي‬ ‫كما ترى وفوق ما ترى‪ ،‬حق االت�صال بكل نف�س ات�صال رعاية وتدبري‪،‬‬ ‫وحق الت�رصيف لكل قلب ت�رصيف ًا غري حمدود‪.‬‬ ‫(‪ )4‬ذلك‪ ،‬والحظنا �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬قد اخت�صت ر�سالته‬ ‫بكثري مما مل يكن لغريه من املر�سلني‪ .‬فقد جاء �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫بدعوة اختاره اهلل تعاىل لأن يدعو اليها النا�س كلهم اجمعني‪ ،‬وقدر له‬ ‫�أن يبلغها كاملة‪ ،‬و�أن يقوم عليها حتى يكمل الدين‪ ،‬وتتم النعمة‪ ،‬وحتى‬ ‫ال تكون فتنة‪ ،‬ويكون الدين كله هلل‪ ،‬تلك الر�سالة توجب ل�صاحبها من‬ ‫الكمال �أق�صى ما ت�سمو �إليه الطبيعة الب�رشية‪ ،‬ومن القوة النف�سية منتهى‬ ‫ما قدر اهلل لر�سله امل�صطفني الأخيار‪ ،‬ومن ت�أييد اهلل ما يتنا�سب مع تلك‬ ‫الدعوة الكبرية العامة‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫فذلك قوله تعاىل «وكان ف�ضل اهلل عليك عظيم ًا»‪1‬وقوله تعاىل «ف�إنك‬ ‫ب�أعيننا»‪ .2‬ويف احلديث «واهلل ال يخزيك اهلل ابداً»‪�« ،3‬أنا �أكرم ولد �آدم‬ ‫على ربي وال فخر»‪.4‬‬ ‫من �أجل ذلك كان �سلطان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مبقت�ضى ر�سالته‬ ‫�سلطان ًا عام ًا‪ ،‬و�أمره يف امل�سلمني مطاع ًا‪ ،‬وحكمه �شام ًال‪ ،‬فال �شيء مما‬ ‫متتد اليه يد احلكم �إال وقد �شمله �سلطان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وال‬ ‫نوع مما يت�صور من الريا�سة وال�سلطان �إال وهو داخل حتت والية حممد‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم على امل�ؤمنني‪ .‬و�إذا كان العقل يجوز �أن تتفاوت‬ ‫درجات ال�سلطان الذي يكون الر�سول على �أمته فقد ر�أيت �أن حممداً �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم �أحق الر�سل عليهم ال�سالم ب�أن يكون له على �أمته �أق�صى‬ ‫ما يكون من ال�سلطان ونفوذ العقول‪ .‬قوة النبوة‪ .‬و�سلطان الر�سالة‪،‬‬ ‫قدر اهلل تعاىل �أن تعلو على دعوة الباطل‪ ،‬و�أن‬ ‫ونفوذ الدعوة ال�صادقة ّ‬ ‫متكث يف الأر�ض‪.‬‬ ‫ذلك �سلطان تر�سله ال�سماء من عند اهلل تعاىل على من تنزل عليه‬ ‫مالئكة ال�سماء بوحي اهلل تعاىل‪ ،‬تلك قوة قد�سية يخت�ص بها عباد اهلل‬ ‫املر�سلون‪ ،‬لي�ست يف �شيء من معنى امللوكية‪ ،‬وال ت�شابهها قوة امللوك‪،‬‬ ‫وال يدانيها �سلطان ال�سالطني‪.‬‬ ‫تلك زعامة الدعوة ال�صادقة �إىل اهلل و�إبالغ ر�سالته‪ ،‬ال زعامة امللك‪،‬‬ ‫�إنها ر�سالة الدين‪ ،‬وحكم النبوة ال حكم ال�سالطني‪.‬‬ ‫«‪� »1‬سورة الن�ساء‬ ‫«‪� »2‬سورة الطور‬ ‫«‪ »3‬من حديث عائ�شة ر�ضي اهلل عنها يف بدء الوحي‪� .‬أخرجه ال�شيخان‬ ‫«‪ »4‬من حديث لأن�س رواه الرتمذي‬ ‫‪69‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ونعود ثاني ًا فنحذرك من �أن تخلط بني احلكمني‪ ،‬و�أن يلتب�س عليك �أمر‬ ‫الواليتني‪ ،‬والية الر�سول من حيث هو ر�سول‪ ،‬ووالية امللوك والأمراء‪.‬‬ ‫والية الر�سول على قومه والية روحية‪ ،‬من�ش�ؤها �إميان القلب‪،‬‬ ‫وخ�ضوعه خ�ضوع ًا �صادق ًا تام ًا يتبعه خ�ضوع اجل�سم‪ ،‬ووالية احلاكم‬ ‫والية مادية‪ ،‬تعتمد �إخ�ضاع اجل�سم من غري �أن يكون لها بالقلوب ات�صال‪،‬‬ ‫تلك والية هداية �إىل اهلل و�إر�شاد �إليه‪ ،‬وهذه والية تدبري مل�صالح احلياة‬ ‫وعمارة الأر�ض‪ .‬تلك الدين‪ ،‬وهذه الدنيا‪ ،‬تلك هلل‪ ،‬وهذه للنا�س‪ ،‬تلك‬ ‫زعامة دينية‪ ،‬وهذه زعامة �سيا�سية‪ ،‬ويا بعد ما بني ال�سيا�سة والدين‪.‬‬ ‫(‪ )5‬نريد بعد ذلك �أن نلفتك �إىل �شيء �آخر‪ ،‬ف�إن ثمة كلمات ت�ستعمل‬ ‫�أحيان ًا ا�ستعمال املرتادفات‪ ،‬وت�ستعمل �أحيان ًا ا�ستعمال املتغايرات‪،‬‬ ‫وين�ش�أ عن ذلك يف بع�ض الأحوال م�شاحة واختالف يف النظر‪ ،‬وا�ضطراب‬ ‫يف احلكم‪ ،‬فمن ذلك كلمات‪ ،‬ملك‪ ،‬و�سلطان‪ ،‬وحاكم‪ ،‬و�أمري‪ ،‬وخليفة‪،‬‬ ‫ودولة‪ ،‬ومملكة‪ ،‬وحكومة‪ ،‬وخالفة‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫ونحن هنا �إذا �س�ألنا‪ :‬هل كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ملك ًا �أم ال؟‬ ‫ف�إننا نريد �أن ن�س�أل ‪ :‬هل كان له �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬صفة غري �صفة‬ ‫الر�سالة؟ بها ي�صح �أن يقال �إنه �أ�س�س فع ًال‪� ،‬أو �رشع يف ت�أ�سي�س وحدة‬ ‫�سيا�سية �أم ال؟ فامللك يف ا�ستعمالنا هذا‪ ،‬وال حرج �إن َ�س َّميته خليفة �أو‬ ‫ف�س ِّمه‪ ،‬معناه احلاكم على �أمة ذات وحدة‬ ‫�سلطان ًا �أو �أمرياً‪� ،‬أو ما �شئت َ‬ ‫�سيا�سية ومدنية‪ ،‬ونريد باحلكومة والدولة وال�سلطنة واململكة ما يريد‬ ‫علماء ال�سيا�سة بكلمات ‪� governement‬أو ‪� state‬أو ‪Kingdom‬‬ ‫�أو ما �شابه ذلك‪.‬‬ ‫نحن ال ن�شك يف �أن الإ�سالم وحدة دينية‪ ،‬وامل�سلمني من حيث هم‪،‬‬ ‫متها‬ ‫جماعة واحدة‪ ،‬والنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬دعا �إىل تلك الوحدة‪ ،‬و�أ َّ‬ ‫‪70‬‬


‫بالفعل قبل وفاته‪ ،‬و�أنه �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬كان على ر�أ�س هذه‬ ‫ومدبرها الفذ‪ ،‬و�سيدها الذي ال يراجع‬ ‫الوحدة الدينية‪� ،‬إمامها الأوحد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫له �أمر‪ ،‬وال يخالف له قول‪ ،‬ويف �سبيل هذه الوحدة الإ�سالمية نا�ضل‬ ‫عليه ال�سالم بل�سانه و�سنانه‪ ،‬وجاءه ن�رص اهلل والفتح‪ ،‬و� َّأيدته مالئكة‬ ‫اهلل و َق َّوته‪ ،‬حتى ب َّلغ ر�سالته‪ ،‬و�أدى �أمانته‪ ،‬وكان له �صلى اهلل عليه‬ ‫‪1‬‬ ‫و�سلم من ال�سلطان على �أمته ما مل يكن للملك قبله وال بعده‬ ‫«النبي‬ ‫ّ‬ ‫�أوىل بامل�ؤمنني من �أنف�سهم»‪« 2‬وما كان مل�ؤمن وال م�ؤمنة �إذا ق�ضى اهلل‬ ‫ور�سوله �أمراً �أن يكون لهم اخلرية من �أمرهم‪ ،‬ومن يع�ص اهلل ور�سوله فقد‬ ‫�ض ّل �ضال ًال مبين ًا»‪.‬‬ ‫ي�سمي تلك الوحدة الدينية دولة‪ ،‬ويدعو �سلطان‬ ‫من كان يريد �أن ِّ‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ذلك ال�سلطان النبوي املطلق‪ ،‬ملك ًا �أو خالفة‪،‬‬ ‫والنبي عليه ال�سالم ملك ًا �أو خليف ًة �أو �سلطان ًا‪�...‬إلخ فهو يف حل من �أن‬ ‫يفعل‪ ،‬ف�إن هي �إال ا�سماء‪ ،‬وال ينبغي الوقوف عندها‪ ،‬و�إمنا املهم كما‬ ‫قلنا هو املعنى‪ ،‬وقد حددناه لك حتديداً‪.‬‬ ‫املهم هو �أن نعرف هل كانت زعامة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬يف‬ ‫قومه زعامة ر�سالة‪� ،‬أم زعامة ملك؟‪ ‬وهل كانت مظاهر الوالية التي‬ ‫نراها �أحيان ًا يف �سرية النبي عليه ال�سالم دولة �سيا�سية‪� ،‬أم مظاهر‬ ‫ريا�سة دينية؟ وهل كانت تلك الوحدة التي قام على ر�أ�سها النبي عليه‬ ‫ال�سالم وحدة حكومة ودولة‪� ،‬أم وحدة دينية �رصفة ال �سيا�سية؟ و�أخرياً‬ ‫هل كان �صلى اهلل عليه و�سلم ر�سو ًال فقط �أم ملك ًا ور�سو ًال؟‬

‫«‪� »1‬سورة الأحزاب‬ ‫«‪� »2‬سورة الأحزاب‬ ‫‪71‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(‪ )6‬ظواهر القر�آن املجيد ت�ؤيد القول ب�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫مل يكن له �ش�أن يف امللك ال�سيا�سي‪ ،‬و�آياته مت�ضافرة على �أن عمله‬ ‫ال�سماوي مل يتجاوز حدود البالغ املجرد من كل معاين ال�سلطان‪.‬‬ ‫اع َهّ َ‬ ‫اك َع َل ْيهِ ْم‬ ‫الل َو َمن َت َو َىّل َف َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫الر ُ�س َ‬ ‫ول َف َق ْد َ�أ َط َ‬ ‫َّ‬ ‫«م ْن ُي ِط ِع َّ‬

‫‪1‬‬ ‫«و َك َّذ َب ِب ِه َق ْو ُم َك َو ُه َو الحْ َ ُّق ُقل َّل ْ�س ُت َع َل ْي ُكم ب َِو ِكيلٍ ‪ِّ ،‬ل ُك ِّل َن َب�إٍ‬ ‫َح ِف ً‬ ‫يظا» َ‬ ‫ون»‪« 2‬ا َّتب ِْع َما �أُ ِ‬ ‫وح َي �إِ َل ْي َك ِمن َّر ِّب َك ال �إِ َل َه �إ َِّال ُه َو‬ ‫ُّم ْ�س َت َق ٌّر َو َ�س ْو َف َت ْع َل ُم َ‬ ‫ِ�ض َعنِ المْ ُ ِ‬ ‫ني‪َ ،‬و َل ْو َ�شاء َهّ ُ‬ ‫اك َع َل ْيهِ ْم‬ ‫الل َما �أَ�شرْ َ ُكواْ َو َما َج َع ْل َن َ‬ ‫َو�أَ ْعر ْ‬ ‫�شرِْك َ‬ ‫‪3‬‬ ‫«و َل ْو َ�شاء َر ُّب َك ل َآم َن َمن يِف الأَ ْر ِ‬ ‫�ض‬ ‫َح ِف ً‬ ‫يظا َو َما �أَ َ‬ ‫نت َع َل ْيهِ م ب َِو ِكيلٍ » َ‬ ‫ني»‪ُ « 4‬ق ْل َيا َ�أ ُّي َها‬ ‫ا�س َح َّتى َي ُكو ُنواْ ُم�ؤْ ِم ِن َ‬ ‫يعا �أَ َف َ�أ َ‬ ‫ُك ُّل ُه ْم َج ِم ً‬ ‫نت ُت ْكر ُِه ال َّن َ‬ ‫إِنا َي ْه َت ِدي ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن‬ ‫اه َت َدى َف� َمّ َ‬ ‫اء ُك ُم الحْ َ ُّق ِمن َّر ِّب ُك ْم َف َمنِ ْ‬ ‫ا�س َق ْد َج َ‬ ‫ال َّن ُ‬ ‫‪5‬‬ ‫اك َع َل ْيهِ ْم‬ ‫«و َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫َ�ض َّل َف� َمّ َ‬ ‫إِنا َي�ضِ ُّل َع َل ْي َها َو َما �أَ َن ْا َع َل ْي ُكم ب َِو ِكيلٍ » َ‬ ‫‪6‬‬ ‫ون َع َل ْي ِه َو ِكيال»‪�« 7‬إِ َّنا‬ ‫نت َت ُك ُ‬ ‫َو ِكي ًال» « َ�أ َر َ�أ ْي َت َمنِ ا َّت َخ َذ �إِ َل َه ُه َه َو ُاه َ�أ َف َ�أ َ‬ ‫إِنا‬ ‫اه َت َدى َف ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن َ�ض َّل َف� َمّ َ‬ ‫اب ِلل َّنا�سِ ِبالحْ َ ِّق َف َمنِ ْ‬ ‫�أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ‬

‫«‪� »1‬سورة الن�ساء‬ ‫«‪ »2‬الأنعام‬ ‫«‪ »3‬الأنعام‬ ‫«‪ »4‬يون�س‬ ‫«‪� »5‬سورة يون�س‬ ‫«‪� »6‬سورة الإ�رساء‬ ‫«‪� »7‬سورة الفرقان‬ ‫‪72‬‬


‫اك َع َل ْيهِ ْم‬ ‫نت َع َل ْيهِ م ب َِو ِكيلٍ »‪َ « 1‬ف�إ ِْن �أَ ْع َر ُ�ضوا َف َما َ�أ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫َي�ضِ ُّل َع َل ْي َها َو َما �أَ َ‬ ‫نت َع َل ْيهِ م‬ ‫َح ِف ً‬ ‫يظا �إ ِْن َع َل ْي َك �إ َِّال ا ْل َب ُ‬ ‫الغ»‪َ « 2‬ن ْح ُن �أَ ْع َل ُم بمِ َ ا َي ُقو ُل َ‬ ‫ون َو َما �أَ َ‬ ‫نت ُم َذ ِّك ٌر‪َّ ،‬ل ْ�س َت‬ ‫ب َِج َّبارٍ َف َذ ِّك ْر بِا ْل ُق ْر�آنِ َمن َي َخ ُ‬ ‫اف َو ِعي ِد»‪َ « 3‬ف َذ ِّك ْر � َمّ َ‬ ‫إِنا �أَ َ‬ ‫َع َل ْيهِ م بمِ ُ َ�ص ْي ِطرٍ‪� ،‬إ َِّال َمن َت َو َىّل َو َك َف َر‪َ ،‬ف ُي َع ِّذ ُب ُه َهّ ُ‬ ‫اب ا َلأ ْكبرَ َ »‪.4‬‬ ‫الل ا ْل َع َذ َ‬ ‫القر�آن كما ترى مينع �رصيح ًا �أن يكون النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫حفيظ ًا على النا�س‪ ،‬وال وكي ًال‪ ،‬وال جباراً ‪ 5‬وال م�سيطراً‪ ،‬و�أن يكون له‬ ‫حق �إكراه النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني‪ :‬ومن مل يكن حفيظ ًا وال م�سيطراً‬ ‫فلي�س مبلك‪ ،‬لأن من لوازم امللك ال�سيطرة العامة واجلربوت‪� ،‬سلطان ًا غري‬ ‫حمدود‪.‬‬ ‫ومن مل يكن وكي ًال على الأمة فلي�س مبلك �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ول اهلل‬ ‫رجا ِل ُك ْم َو َل ِكن َّر ُ�س َ‬ ‫«ما َك َ‬ ‫ان محُ َ َّم ٌد �أَ َبا �أَ َح ٍد ِّمن َ‬ ‫وقال تعاىل َّ‬ ‫ان َهّ ُ‬ ‫يما»‪.6‬‬ ‫ني َو َك َ‬ ‫َو َخاتمَ َ ال َّن ِب ِّي َ‬ ‫الل ِب ُك ِّل َ�ش ْي ٍء َع ِل ً‬ ‫القر�آن �رصيح يف �أن حممداً �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له من احلق‬ ‫على �أمته غري حق الر�سالة‪ ،‬ولو كان ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ملك ًا‬ ‫«‪� »1‬سورة الزمر‬ ‫«‪� »2‬سورة ال�شورى‬ ‫«‪� »3‬سورة ق‬ ‫«‪� »4‬سورة الغا�شية‬ ‫«‪ »5‬يخيل �إىل �أنني قر�أت يف كتاب‪ .‬مل ا�ستطع الآن �أن �أتذكره‪� .‬أن اجلبار ا�سم امللك ‪ -‬عند‬ ‫بع�ض العرب ‪ -‬وعليه قوله تعاىل «وما �أنت عليهم بجبار»‪ ،‬ولكن الذي وجدته فيما بني يدي من‬ ‫متوج على‬ ‫كتب اللغة �أن امللك ي�سمى جربا‪ ،‬وقالوا طلع اجلبار‪ .‬وهو اجلوزاء‪ .‬لأنها على �صورة ملك َّ‬ ‫كر�سي‪ ،‬وقالوا هو كذا ذراع ًا بذراع اجلبار‪� .‬أي بذراع امللك‪ .‬واهلل �أعلم‬ ‫«‪� »6‬سورة الأحزاب‬ ‫‪73‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫لكان له على �أمته حق امللك �أي�ض ًا‪ .‬و�أن للملك حق ًا غري حق الر�سالة‪،‬‬ ‫وف�ض ًال غري ف�ضلها‪ ،‬و�أثراً غري �أثرها‪.‬‬ ‫نت �أَ ْع َل ُم‬ ‫« ُقل َّال �أَ ْم ِل ُك ِل َن ْف�سِ ي َن ْف ًعا َو َال �ضرَ ًّ ا �إ َِّال َما َ�شاء َهّ ُ‬ ‫الل َو َل ْو ُك ُ‬ ‫ري ِّل َق ْو ٍم‬ ‫ال�س ُ‬ ‫ير َو َب�شِ ٌ‬ ‫وء �إ ِْن �أَ َن ْا �إ َِّال َن ِذ ٌ‬ ‫ا ْل َغ ْي َب َال ْ�س َتكْثرَ ْ ُت ِم َن الخْ َ يرِْ َو َما َم َّ�س ِن َي ُّ‬ ‫وحى �إِ َل ْي َك َو َ�ضا ِئ ٌق ِب ِه َ�ص ْد ُر َك �أَن‬ ‫ون»‪َ « ،1‬ف َل َع َّل َك َتار ٌِك َب ْع َ‬ ‫ُي ْ�ؤ ِم ُن َ‬ ‫�ض َما ُي َ‬ ‫الل َع َلى ُك ِّل‬ ‫ير َو َهّ ُ‬ ‫اء َم َع ُه َم َل ٌك � َمّ َ‬ ‫إِنا �أَ َ‬ ‫َي ُقو ُلواْ َل ْو َال �أُنز َِل َع َل ْي ِه َكن ٌز �أَ ْو َج َ‬ ‫نت َن ِذ ٌ‬ ‫إِنا �أَ َنا َب�شرَ ٌ ِّم ْث ُل ُك ْم‬ ‫َ�ش ْي ٍء َو ِكي ٌل»‪َ �«،2‬مّ َ‬ ‫نت ُمن ِذ ٌر َو ِل ُك ِّل َق ْو ٍم َه ٍاد»‪ُ « ،3‬ق ْل � َمّ َ‬ ‫إِنا �أَ َ‬ ‫نا �إِ َل ُه ُك ْم �إِ َل ٌه َو ِ‬ ‫ان َي ْر ُجو ِل َقاء َر ِّب ِه َف ْل َي ْع َم ْل َع َمال‬ ‫وحى �إِليَ َّ �أَ َمّ َ‬ ‫اح ٌد َف َمن َك َ‬ ‫ُي َ‬ ‫‪4‬‬ ‫ِنا �أَ َنا َل ُك ْم‬ ‫َ�صالحِ ً ا َوال ُي ْ‬ ‫ا�س �إ َمّ َ‬ ‫�شرِْك ِب ِع َب َ‬ ‫اد ِة َر ِّب ِه �أَ َح ًدا» « ُق ْل َيا �أَ ّي َها ال َّن ُ‬ ‫‪5‬‬ ‫ني»‪ُ « 6‬ق ْل � َمّ َ‬ ‫وحى �إِليَ َّ �إ َِّال �أَ َمّ َ‬ ‫ير م ِب ٌ‬ ‫ير ُّم ِب ٌ‬ ‫إِنا �أَ َنا َب�شرَ ٌ‬ ‫ني» «�إِن ُي َ‬ ‫نا �أَ َنا َن ِذ ٌ‬ ‫َن ِذ ٌ‬ ‫نا �إِ َل ُه ُك ْم �إِ َل ٌه َو ِ‬ ‫اح ٌد»‪.7‬‬ ‫وحى �إِليَ َّ �أَ َمّ َ‬ ‫ِّم ْث ُل ُك ْم ُي َ‬ ‫القر�آن كما ر�أيت �رصيح يف �أن حممداً ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬مل‬ ‫يكن �إال ر�سو ًال قد خلت من قبله الر�سل‪ ،‬ثم هو بعد ذلك �رصيح يف‬ ‫«‪� »1‬سورة الأعراف‬ ‫«‪� »2‬سورة هود‬ ‫«‪� »3‬سورة الرعد‬ ‫«‪� »4‬سورة الكهف‬ ‫«‪� »5‬سورةاحلج‬ ‫«‪� »6‬سورة �ص‬ ‫«‪� »7‬سورة ال�سجدة‬ ‫‪74‬‬


‫�أنه عليه ال�صالة وال�سالم مل يكن من عمله �شيء غري �إبالغ ر�سالة اهلل‬ ‫تعاىل �إىل النا�س‪ ،‬و�أنه مل يكلف �شيئ ًا غري ذلك البالغ‪ ،‬ولي�س عليه �أن‬ ‫اع َل ُمواْ‬ ‫ي�أخذ النا�س مبا جاءهم به‪ ،‬وال �أن يحملهم عليه « َف�إِن َت َو َّل ْي ُت ْم َف ْ‬ ‫‪1‬‬ ‫الل َي ْع َل ُم‬ ‫الغ َو َهّ ُ‬ ‫نا َع َلى َر ُ�سو ِل َنا ا ْل َب ُ‬ ‫الر ُ�سولِ �إ َِّال ا ْل َب ُ‬ ‫�أَ َمّ َ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫ني» ‪َّ ،‬‬ ‫«ما َع َلى َّ‬ ‫‪2‬‬ ‫ِ�ص ِ‬ ‫احبِهِ م ِّمن ِج َّن ٍة �إ ِْن ُه َو‬ ‫ون َو َما َت ْك ُت ُم َ‬ ‫َما ُت ْب ُد َ‬ ‫«ولمَ ْ َي َت َف َّك ُرواْ َما ب َ‬ ‫ون» ‪َ ،‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ان ِلل َّنا�سِ َع َج ًبا �أَ ْن َ�أ ْو َح ْي َنا �إِلىَ َر ُجلٍ ِّم ْن ُه ْم �أَ ْن �أَن ِذ ِر‬ ‫ني» ‪�« ،‬أَ َك َ‬ ‫ير ُّم ِب ٌ‬ ‫�إ َِّال َن ِذ ٌ‬ ‫‪4‬‬ ‫«و�إِن َّما ُنر َِي َّن َك‬ ‫ا�س َو َب�شِرِّ ا َّل ِذ َ‬ ‫ين � َآم ُنواْ �أَ َّن َل ُه ْم َق َد َم ِ�ص ْدقٍ ِع َ‬ ‫ند َر ِّبهِ ْم» ‪َ ،‬‬ ‫ال َّن َ‬ ‫اب»‪،5‬‬ ‫إِنا َع َل ْي َك ا ْل َب ُ‬ ‫�ض ا َّل ِذي َن ِع ُد ُه ْم �أَ ْو َن َت َو َّف َي َّن َك َف� َمّ َ‬ ‫َب ْع َ‬ ‫الغ َو َع َل ْي َنا الحِْ َ�س ُ‬ ‫‪6‬‬ ‫الر ُ�سلِ �إ َِّال ا ْل َب ُ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫اب �إ َِّال ِل ُت َبيِنّ َ‬ ‫ني َ‬ ‫‪«،‬و َما �أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ‬ ‫« َف َه ْل َع َلى ُّ‬ ‫إِنا‬ ‫ون»‪َ «،7‬ف�إِن َت َو َّل ْوا َف� َمّ َ‬ ‫اخ َت َل ُفواْ ِفي ِه َو ُه ًدى َو َر ْح َم ًة ِّل َق ْو ٍم ُي�ؤْ ِم ُن َ‬ ‫َل ُه ُم ا َّل ِذي ْ‬ ‫‪8‬‬ ‫اه‬ ‫‪«،‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫َع َل ْي َك ا ْل َب ُ‬ ‫يرا»‪َ «،9‬ف� َمّ َ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫�س َن ُ‬ ‫إِنا َي َرّ ْ‬ ‫ني» َ‬ ‫اك �إ َِّال ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً‬ ‫ني َو ُتن ِذ َر ِب ِه َق ْو ًما ُّل ًّدا»‪«،10‬طه َما �أَن َز ْل َنا َع َل ْي َك‬ ‫ِب ِل َ�سا ِن َك ِل ُت َب�شِرّ َ ِب ِه المْ ُ َّت ِق َ‬ ‫‪11‬‬ ‫الغ‬ ‫الر ُ�سولِ �إ َِّال ا ْل َب ُ‬ ‫ا ْل ُق ْر� َآن ِل َت ْ�ش َقى‪� ،‬إ َِّال َت ْذ ِك َر ًة لِمّ َ ن َي ْخ َ�شى» َ‬ ‫‪«،‬و َما َع َلى َّ‬ ‫‪12‬‬ ‫إِنا �أُ ِم ْر ُت �أَ ْن َ�أ ْع ُب َد َر َّب‬ ‫‪«،‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫يرا»‪َ �«،13‬مّ َ‬ ‫المْ ُ ِب ُ‬ ‫ني» َ‬ ‫اك �إ َِّال ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً‬ ‫ني‪،‬‬ ‫َه ِذ ِه ا ْل َب ْل َد ِة ا َّل ِذي َح َّر َم َها َو َل ُه ُك ُّل َ�ش ْي ٍء َو ُ�أ ِم ْر ُت َ �أ ْن �أَ ُك َ‬ ‫ون ِم َن المْ ُ ْ�س ِل ِم َ‬ ‫إِن َا �أ َنا‬ ‫إِنا َي ْه َت ِدي ِل َن ْف�سِ ِه َو َمن َ�ض َّل َف ُق ْل � َمّ َ‬ ‫اه َت َدى َف� َمّ َ‬ ‫َو�أَ ْن �أَ ْت ُل َو ا ْل ُق ْر� َآن َف َمنِ ْ‬ ‫‪14‬‬ ‫الر ُ�سولِ‬ ‫ِم َن المْ ُ ن ِذر َ‬ ‫ِين» ‪َ ،‬‬ ‫«و�إِن ُت َك ِّذ ُبوا َف َق ْد َك َّذ َب �أُممَ ٌ ِّمن َق ْب ِل ُك ْم َو َما َع َلى َّ‬ ‫«‪� »1‬سورة املائدة ‪� »2« -‬سورة املائدة ‪� »3« -‬سورة الأعراف «‪� »4‬سورة يون�س‬ ‫«‪� »5‬سورة الرعد ‪� »6« -‬سورة النحل «‪� »7‬سورة النحل ‪� »8«-‬سورة النحل‬ ‫«‪� »9‬سورة الإ�رساء ‪� »10«-‬سورة مرمي ‪� »11«-‬سورة طه ‪� »12« -‬سورة النور ‪� »13« -‬سورة‬ ‫الفرقان ‪� »14« -‬سورة النمل‬ ‫‪75‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬ ‫‪1‬‬ ‫اك َ�ش ِ‬ ‫يرا‪،‬‬ ‫«يا �أَ ُّي َها ال َّنب ُِّي �إِ َّنا َ�أ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫�إ َِّال ا ْل َب ُ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫ني» ‪َ ،‬‬ ‫اه ًدا َو ُم َب�شِرّ ً ا َو َن ِذ ً‬ ‫‪2‬‬ ‫َو َد ِاع ًيا �إِلىَ َهِّ‬ ‫اك �إ َِّال َكا َّف ًة ِّلل َّنا�سِ‬ ‫‪«،‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫اجا ُّم ِن ً‬ ‫الل بِ�إِ ْذ ِن ِه َو�سرِ َ ً‬ ‫ريا» َ‬ ‫‪3‬‬ ‫ِ�ص ِ‬ ‫اح ِب ُكم ِّمن ِج َّن ٍة �إ ِْن‬ ‫يرا َو َل ِك َّن �أَ ْكثرَ َ ال َّنا�سِ ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫َب�شِ ً‬ ‫‪«،‬ما ب َ‬ ‫ون» َ‬ ‫ريا َو َن ِذ ً‬

‫‪4‬‬ ‫اك‬ ‫ير َّل ُكم َبينْ َ َي َد ْي َع َذ ٍ‬ ‫ير‪� ،‬إِ َّنا َ�أ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫نت �إ َّ‬ ‫اب َ�ش ِدي ٍد» ‪�« ،‬إ ِْن �أَ َ‬ ‫ِال َن ِذ ٌ‬ ‫ُه َو �إ َِّال َن ِذ ٌ‬ ‫‪5‬‬ ‫‪«،‬و َما َع َل ْي َنا �إ َِّال‬ ‫يرا َو�إِن ِّم ْن �أُ َّم ٍة �إ َِّال َخال ِف َ‬ ‫ِبالحْ َ ِّق َب�شِ ً‬ ‫ير» َ‬ ‫ريا َو َن ِذ ً‬ ‫يها َن ِذ ٌ‬ ‫الل ا ْل َو ِ‬ ‫ار»‪،7‬‬ ‫إِنا �أَ َنا ُمن ِذ ٌر َو َما ِم ْن �إِ َل ٍه �إ َِّال َهّ ُ‬ ‫ني»‪ْ 6‬‬ ‫ا ْل َب ُ‬ ‫‪«،‬ل � َمّ َ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫اح ُد ا ْل َق َّه ُ‬

‫الر ُ�سلِ َو َما �أَ ْدرِي َما ُي ْف َع ُل بِي َوال ِب ُك ْم �إ ِْن َ�أ َّتب ُِع‬ ‫« ُق ْل َما ُك ُ‬ ‫نت ب ِْد ًعا ِّم ْن ُّ‬ ‫اك َ�ش ِ‬ ‫اه ًدا َو ُم َب�شِرّ ً ا‬ ‫ني»‪�«،8‬إِ َّنا �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬ ‫ير ُّم ِب ٌ‬ ‫�إ َِّال َما ُي َ‬ ‫وحى �إِليَ َّ َو َما �أَ َنا �إ َِّال َن ِذ ٌ‬ ‫‪9‬‬ ‫يعواْ َهّ َ‬ ‫اع َل ُمواْ‬ ‫الر ُ�س َ‬ ‫اح َذ ُرواْ َف�إِن َت َو َّل ْي ُت ْم َف ْ‬ ‫الل َو�أَ ِط ُ‬ ‫‪«،‬و�أَ ِط ُ‬ ‫ول َو ْ‬ ‫يرا» َ‬ ‫َو َن ِذ ً‬ ‫يعواْ َّ‬ ‫ند َهِّ‬ ‫إِنا �أَ َنا‬ ‫نا َع َلى َر ُ�سو ِل َنا ا ْل َب ُ‬ ‫الل َو� َمّ َ‬ ‫ني»‪ُ « ،10‬ق ْل � َمّ َ‬ ‫�أَ َمّ َ‬ ‫الغ المْ ُ ِب ُ‬ ‫إِنا ا ْل ِع ْل ُم ِع َ‬ ‫�شرِْك ِب ِه �أَ َح ًدا‪ُ ،‬ق ْل �إِنِيّ ال �أَ ْم ِل ُك‬ ‫إِنا �أَ ْد ُعو َر ِّبي َوال �أُ ُ‬ ‫ني»‪ُ « ،11‬ق ْل � َمّ َ‬ ‫ير ُّم ِب ٌ‬ ‫َن ِذ ٌ‬ ‫ري يِن ِم َن َهِّ‬ ‫الل َ�أ َح ٌد َو َل ْن َ�أ ِج َد ِمن ُدو ِن ِه‬ ‫َل ُك ْم �ضرَ ًّ ا َوال َر َ�ش ًدا‪ُ ،‬ق ْل �إِنِيّ َلن ُيجِ َ‬

‫الغا ِّم َن َهِّ‬ ‫الل َور َِ�ساال ِت ِه»‪.12‬‬ ‫ُم ْل َت َح ًدا‪� ،‬إ َِّال َب ً‬

‫«‪� »1‬سورة العنكبوت ‪� »2« -‬سورة الأحزاب ‪� »3« -‬سورة �سب�أ ‪� »4« -‬سورة �سب�أ‬ ‫«‪� »5‬سورة فاطر ‪� »6« -‬سورة ي�س ‪� »7« -‬سورة �ص ‪� »8« -‬سورة الأحقاف‬ ‫«‪� »9‬سورة الفتح ‪� »10« -‬سورة املائدة ‪� »11« -‬سورة امللك ‪� »12« -‬سورة اجلن‬ ‫‪76‬‬


‫(‪� )7‬إذا نحن جتاوزنا كتاب اهلل تعاىل �إىل �سنة النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬وجدنا الأمر فيها �أ�رصح‪ ،‬واحلجة �أقطع‪.‬‬ ‫روى �صاحب ال�سرية النبوية‪� 1‬أن رج ًال جاء �إىل النبي‪� ،‬صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬حلاجة يذكرها‪ ،‬فقام بني يديه ف�أخذته رعدة �شديدة ومهابة‪،‬‬ ‫هون عليك ف�إين ل�ست مبلك وال جبار‪،‬‬ ‫فقال له �صلى اهلل عليه و�سلم ‪ّ :‬‬ ‫و�إمنا �أنا ابن امر�أة من قري�ش ت�أكل القديد مبكة‪ ...‬وقد جاء يف احلديث‬ ‫�أنه ملا ُخيرِّ على ل�سـان �إ�رسافيل بني �أن يكون نبي ًا ملك ًا‪� ،‬أو نبي ًا عبداً‪،‬‬ ‫نظر ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم ‪� -‬إىل جربيل‪ ،‬عليه ال�سالم‪ ،‬كامل�ست�شري له‪،‬‬ ‫فنظر جربيل �إىل الأر�ض‪ ،‬ي�شــــري �إىل التوا�ضع‪ ،‬ويف رواية «ف�أ�شار �إليه‬ ‫جربيل �أن توا�ضع فقلت نبي ًا عبداً»‪ .‬فذلك �رصيح �أي�ض ًا يف �أنه �صلى اهلل‬ ‫مللك‪ ،‬وال توجهت نف�سه عليه ال�سالم‬ ‫عليه و�سلم مل يكن ملك ًا‪ ،‬ومل يطلب ا ُ‬ ‫�إليه‪.‬‬ ‫ال َت ِم ْ�س بني د َّف َتي امل�صحف الكرمي �أثراً ظاهراً �أو خفي ًا ملا يريدون‬ ‫�أن يعتقدوا من �صفة �سيا�ســـية للدين الإ�سالمي‪ ،‬ثم ال َت ِم ْ�س ذلك الأثر‬ ‫مبلغ جهدك بني �أحاديث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬تلك منابع الدين‬ ‫ال�صـــافية متناول يديك‪ ،‬وعلى كثب منك‪ ،‬فالتمــ�س منها دلي ًال �أو �شبه‬ ‫دليل‪ ،‬ف�إنك لن جتد عليها برهان ًا‪� ،‬إال ظن ًا‪ ،‬و�إن الظن ال يغني من احلق‬ ‫�شيئ ًا‪.‬‬ ‫(‪ )8‬الإ�سالم دعوة دينية �إىل اهلل تعاىل‪ ،‬ومذهب من مذاهب الإ�صالح‬ ‫لهذا النوع الب�رشي وهدايته �إىل ما يدنيه من اهلل جل �ش�أنه‪ ،‬ويفتح له‬ ‫�سبيل ال�سعادة الأبدية التي �أعدها اهلل لعباده ال�صاحلني‪ .‬وهو وحدة‬ ‫«‪ »1‬ال�سرية النبوية لأحمد بن زين دخالل املتوفى �سنة ‪1304‬هـ من كتاب اكتفاء القنوع‬ ‫‪77‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫دينية �أراد اهلل جل �ش�أنه �أن يربط الب�رش �أجمعني‪ ،‬و�أن يحيط بها �أقطار‬ ‫الأر�ض كلها‪.‬‬ ‫تلك دعوة قد�سية لهذا العامل‪� ،‬أحمره و�أ�سوده‪� ،‬أن يعت�صموا بحبل اهلل‬ ‫الواحد‪ ،‬و�أن يكونوا �أمة واحدة‪ ،‬يعبدون �إله ًا واحداً‪ ،‬ويكونون يف عبادته‬ ‫�إخوان ًا‪ ،‬تلك دعوة �إىل املثل الأعلى ل�سالم هذا العامل‪ ،‬و�أخذه �إىل ما يليق‬ ‫به من الكمال‪ ،‬و�إىل ما �أعده له من ال�سعادة‪ ،‬تلك رحمة ال�سماء بالأر�ض‪،‬‬ ‫وف�ضل اهلل على العاملني‪.‬‬ ‫دعوة العامل كله �إىل الت�آخي يف الدين دعوة معقولة‪ ،‬ويف طبيعة‬ ‫الب�رش ا�ستعداداً لتحقيقها‪.‬‬ ‫بلى‪ .‬ولقد وعد اهلل جل �ش�أنه لهذه الدعوة �أن تتم « َف َال تحَ ْ َ�سبنَ َّ‬ ‫‪1‬‬ ‫ال�صالحِ َ ِ‬ ‫ات‬ ‫‪«،‬و َع َد َهّ ُ‬ ‫َهّ َ‬ ‫الل ا َّل ِذ َ‬ ‫الل مخُ ْ ِل َف َو ْع ِد ِه » َ‬ ‫ين � َآم ُنوا ِمن ُك ْم َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫َل َي ْ�س َت ْخ ِل َف َّن ُهم يِف ا َلأ ْر ِ‬ ‫ين ِمن َق ْب ِلهِ ْم َو َل ُي َم ِّكننَ َّ َل ُه ْم‬ ‫ا�س َت ْخ َل َف ا َّل ِذ َ‬ ‫�ض َك َما ْ‬

‫ِدي َن ُه ُم ا َّل ِذي ْار َت َ�ضى َل ُه ْم َو َل ُي َب ِّد َل َّن ُهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْو ِفهِ ْم �أَ ْم ًنا َي ْع ُب ُدو َن ِني ال‬ ‫‪2‬‬ ‫‪«،‬ه َو ا َّل ِذي‬ ‫ُي ُ‬ ‫ون بِي َ�ش ْي ًئا َو َمن َك َف َر َب ْع َد َذ ِل َك َف ُ�أو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل َفا�سِ ُق َ‬ ‫�شرِْك َ‬ ‫ون» ُ‬ ‫َ�أ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِّق ِل ُي ْظهِ َر ُه َع َلى ال ِّدينِ ُك ِّل ِه َو َك َفى ب َهِّ‬ ‫ِالل‬

‫‪3‬‬ ‫‪«،‬و َم ْن َ�أ ْظ َل ُم ممِ َّ نِ ا ْفترَ َ ى َع َلى َهِّ‬ ‫الم‬ ‫الل ا ْل َك ِذ َب َو ُه َو ُي ْد َعى �إِلىَ الإ ِْ�س ِ‬ ‫َ�شهِ ً‬ ‫يدا» َ‬ ‫ور َهِّ‬ ‫الل بِ�أَ ْف َو ِ‬ ‫الل‬ ‫اههِ ْم َو َهّ ُ‬ ‫َو َهّ ُ‬ ‫الل ال َي ْه ِدي ا ْل َق ْو َم َّ‬ ‫ِيد َ‬ ‫الظالمِ​ِ َ‬ ‫ني‪ُ ،‬ير ُ‬ ‫ون ِل ُي ْطفِ�ؤُوا ُن َ‬

‫«‪� »1‬سورة �إبراهيم‬ ‫«‪� »2‬سورة النور‬ ‫«‪� »3‬سورة الفتح‬ ‫‪78‬‬


‫ُم ِت ُّم ُنو ِر ِه َو َل ْو َكر َِه ا ْل َك ِ‬ ‫ون‪ُ ،‬ه َو ا َّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِّق‬ ‫اف ُر َ‬ ‫ون»‪.1‬‬ ‫ِل ُي ْظهِ َر ُه َع َلى ال ِّدينِ ُك ِّل ِه َو َل ْو َكر َِه المْ ُ ُ‬ ‫�شرِْك َ‬ ‫معقول �أن ي�ؤخذ العامل كله بدين واحد‪ ،‬و�أن تنتظم الب�رشية وحدة‬ ‫دينية‪ ،‬ف�أما �أخذ العامل كله بحكومة واحدة‪ ،‬وجمعه حتت وحدة �سيا�سية‬ ‫م�شرتكة‪ ،‬فذلك مما يو�شك �أن يكون خارج ًا عن الطبيعة الب�رشية‪ ،‬وال‬ ‫تتعلق به �إرادة اهلل‪.‬‬ ‫على �أن ذلك �إمنا هو غر�ض من الأغرا�ض الدنيوية التي خلى اهلل‬ ‫�سبحانه وتعاىل بينها وبني عقولنا‪ ،‬وترك النا�س �أحراراً يف تدبريها‬ ‫على ما تهديهم �إليه عقولهم وعلومهم‪ ،‬وم�صاحلهم‪ ،‬و�أهوا�ؤهم‪،‬‬ ‫خمتلفني«و َل ْو َ�شاء َر ُّب َك‬ ‫ونزعاتهم‪ ،‬حكمة اهلل يف ذلك بالغة ليبقى النا�س‬ ‫َ‬ ‫ا�س �أُ َّم ًة َو ِ‬ ‫ني‪� ،‬إ َِّال َمن َّر ِح َم َر ُّب َك َو ِل َذ ِل َك‬ ‫ون مخُ ْ َت ِل ِف َ‬ ‫اح َد ًة َو َال َي َزا ُل َ‬ ‫جَل َ​َع َل ال َّن َ‬ ‫‪2‬‬ ‫ليتم العمران‬ ‫َخ َل َق ُه ْم» ‪،‬وليبقى بني النا�س ذلك التدافع الذي �أراده اهلل َّ‬ ‫«و َل ْو َال َد ْف ُع َهِّ‬ ‫�ض َو َل ِك َّن َهّ َ‬ ‫الل ُذو َف ْ�ضلٍ‬ ‫ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ب َِب ْع ٍ‬ ‫�ض َّل َف َ�س َد ِت الأَ ْر ُ‬ ‫َ‬ ‫الل ال َّن َ‬ ‫‪3‬‬ ‫ني» ‪.‬‬ ‫َع َلى ا ْل َعالمَِ َ‬ ‫وحتى يبلغ الكتاب �أجله‪ ،‬ويتم امر اهلل‪ .‬ذلك من الأغرا�ض الدنيوية‬ ‫التي �أنكر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يكون له فيها حكم �أو تدبري‪،‬‬ ‫فقال عليه ال�سالم ‪�( :‬أنتم �أعلم ب�ش�ؤون دنياكم)‪.‬‬ ‫ذلك من �أغرا�ض الدنيا‪ ،‬والدنيا من �أولها لآخرها‪ ،‬وجميع ما فيها‬ ‫«‪� »1‬سورة ال�صف‬ ‫«‪� »2‬سورة هود‬ ‫«‪� »3‬سورة البقرة‬ ‫‪79‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫من �أغرا�ض وغايات‪� ،‬أهون عند اهلل تعاىل من �أن يقيم على تدبريها غري‬ ‫ما ركب فينا من عقول‪ ،‬وحبانا من عواطف و�شهوات‪ ،‬وعلمنا من �أ�سماء‬ ‫وم�سميات‪ ،‬هي �أهون عند اهلل تعاىل من �أن يبعث لها ر�سو ًال‪ ،‬و�أهون عند‬ ‫ر�سل اهلل تعاىل من �أن ي�شغلوا بها وين�صبوا لتدبريها‪.‬‬ ‫(‪ )9‬وال يريب َّنك هذا الذي ترى �أحيان ًا يف �سرية النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬فيبدو لك ك�أنه عمل حكومي‪ ،‬ومظهر للملك والدولة‪ ،‬ف�إنك �إذا‬ ‫ت�أملت مل جتده كذلك‪ ،‬بل هو مل يكن �إال و�سيلة من الو�سائل التي كان‬ ‫عليه ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪� -‬أن يلج�أ �إليها‪ ،‬تثبيت ًا للدين‪ ،‬وت�أييداً‬ ‫للدعوة‪.‬‬ ‫ولي�س عجيب ًا �أن يكون اجلهاد و�سيلة من تلكم الو�سائل‪ .‬هو و�سيلة‬ ‫عنيفة وقا�سية‪ ،‬ولكن ما يدريك‪ ،‬فلعل ال�رش �رضوري للخري يف بع�ض‬ ‫الأحيان‪ ،‬ورمبا وجب التخريب ليتم العمران‪.‬‬ ‫«قالوا كان ال يخلو من غلب «بالتحريك» قلنا تلك �سنة اهلل يف اخللق‪،‬‬ ‫ال تزال امل�صارعة بني احلق والباطل‪ ،‬والر�شد والغي‪ ،‬قائمة يف هذا‬ ‫العامل �إىل �أن يق�ضي اهلل بق�ضائه فيه‪.‬‬ ‫�إذا �ساق اهلل ربيع ًا �إىل �أر�ض جدبة‪ ،‬ليحيي ميتها‪ ،‬وينفع من غلتها‬ ‫وينمي اخل�صب فيها‪� ،‬أفينق�ص من قدره �إن �أتى يف طريقه على عقبة‬ ‫فعالها‪� ،‬أو بيت رفيع العماد فهوى به»‪.1‬‬ ‫قالوا غزوت ! ور�سل اهلل ما بعثت لقتل نف�س وال جاءت ل�سفك دم‬ ‫فتحت بال�سيف بعد الفتح بالقلم‬ ‫جـــــهل وت�ضليل �أحالم و�سف�سفة‬ ‫تك َّفل ال�سيــــف باجلهال والعمــم‬ ‫ملا �آتى لك عفواً كــــل ذي ح�سب‬ ‫«‪ »1‬ر�سالة التوحيد لل�شيخ حممد عبده �ص‪123 - 122‬‬ ‫‪80‬‬


‫وال�رش �إن تلقه باخلري �ضقت به‬ ‫علمتهم كــــل �شيء يجهلون بـه‬

‫ذرع ًا و�إن تلقه بال�شــــــــر ينح�سـم‬ ‫‪1‬‬ ‫حتى القتال وما فيه من الذمــم‬

‫(‪ )10‬ترى من هذا �أنه لي�س القر�آن هو وحده الذي مينعنا من اعتقاد‬ ‫�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان يدعو مع ر�سالته الدينية �إىل دولة‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬ولي�ست ال�سنـّة هي وحدها التي متنعنا من ذلك‪ ،‬لكن مع الكتاب‬ ‫وال�س ّنة حكم العقل يق�ضي به معنى الر�سالة وطبيعتها‪� ،‬إمنا كانت والية‬ ‫حممد �صلى اهلل عليه و�سلم على امل�ؤمنني والية الر�سالة غري م�شوبة‬ ‫ب�شيء من احلكم‪.‬‬ ‫هيهات هيهات‪ ،‬مل يكن ثمة حكومة‪ ،‬وال دولة‪ ،‬وال �شيء من نزاعات‬ ‫ال�سيا�سة وال �أغرا�ض امللوك والأمراء‪.‬‬ ‫لعلك الآن اهتديت �إىل ما كنت ت�س�أل عنه قب ًال‪ ،‬من خلو الع�رص النبوي‬ ‫من مظاهر احلكم و�أغرا�ض الدولة‪ ،‬وعرفت كيف مل يكن هناك ترتيب‬ ‫حكومي‪ ،‬ومل يكن ثمة والة وال ديوان‪� ..‬إلخ‪ .‬ولعل ظالم تلك احلرية التي‬ ‫�صادفتك قد ا�ستحال نوراً‪ .‬و�صارت النار عليك برداً و�سالم ًا‪.‬‬

‫«‪ »1‬لأحمد بك �شوقي‬ ‫‪81‬‬


82


‫الكتاب الثالث‬

‫اخلالفة واحلكومة يف التاريخ‬ ‫الباب الأول‬

‫الوحدة الدينية والعرب‬ ‫لي�س الإ�سالم دين ًا خا�ص ًا بالعرب ‪ -‬العربية والدين ‪ -‬احتاد العرب‬ ‫الديني اختالفهم ال�سيا�سي ‪� -‬أنظمة الإ�سالم ال �سيا�سة ‪� -‬ضعف‬ ‫التباين ال�سيا�سي عند العرب ‪� -‬أيام النبي ‪ -‬انتهاء الزعامة مبوت‬ ‫الر�سول عليه ال�سالم ‪ -‬مل ُي َ�س ِّم النبي ‪� -‬صلى اهلل عليه ‪ -‬و�سلم خليفة‬ ‫من بعده ‪ -‬مذهب ال�شيعة يف ا�ستخالف علي ‪ -‬مذهب اجلماعة يف‬ ‫ا�ستخالف �أبي بكر‪.‬‬ ‫(‪ )1‬الإ�سالم كما عرفت دعوة �سامية‪� ،‬أر�سلها اهلل خلري هذا العامل‬ ‫كله‪� ،‬رشقيه وغربيه‪ ،‬عربيه و�أعجميه‪ ،‬رجاله ون�سائه‪� ،‬أغنيائه وفقرائه‪،‬‬ ‫عامليه وجهالئه‪ ،‬وما كان الإ�سالم دعوة عربية‪ ،‬وال وحدة عربية‪ ،‬وال‬ ‫دين ًا عربي ًا‪ ،‬وما كان الإ�سالم ليعرف ف�ض ًال لأمة على �أمة‪ ،‬وال للغة على‬ ‫لغة‪ ،‬وال لقطر على قطر‪ ،‬وال لزمن على زمن‪ ،‬وال جليل على جيل‪� ،‬إال‬ ‫بالتقوى‪ ،‬ذلك برغم ما ترى‪ ،‬من �أن النبي عليه ال�سالم كان عربي ًا‪ ،‬وكان‬ ‫يحب العرب بالطبع‪ ،‬ويثني عليهم‪ ،‬وكان كتاب اهلل عربي ًا مبين ًا‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(‪ )2‬كان البد لدعوة الإ�سالم �أن تخرج �إىل هذا الوجود‪ ،‬و�أن تربز‬ ‫حقيقة ثابتة بني حقائق هذا الكون‪ ،‬و�أن يحملها عن جانب القد�س‬ ‫الأعلى ر�سول يختاره اهلل تعاىل‪ ،‬ليبلغها �إىل النا�س‪.‬‬ ‫ولقد ر�ضي اهلل َج َّل �ش�أنه‪ ،‬وتعاىل حكمه‪� ،‬أن يختار ر�سوله لتلك‬ ‫الدعوة من بني القبائل العربية دون غريها‪ ،‬و�أن يختار يف العرب ولد‬ ‫�إ�سماعيل‪ ،‬و�أن يختاره من بني ولد ا�سماعيل يف كنانة‪ ،‬و�أن يختاره يف‬ ‫كنانة من قري�ش‪ ،‬و�أن يختاره يف قري�ش من بني ها�شم‪ ،‬و�أن يختار من‬ ‫بني ها�شم حممد بن عبد اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫هلل جل �ش�أنه حكمة يف ذلك بالغة‪ ،‬قد نعرفها وقد ال نعرفها‪.‬‬ ‫ان َهِّ‬ ‫الل َو َت َعالىَ‬ ‫ان َل ُه ُم الخِْيرَ َ ُة ُ�س ْب َح َ‬ ‫ار َما َك َ‬ ‫َ‬ ‫«و َر ُّب َك َي ْخ ُل ُق َما َي َ�شاء َو َي ْخ َت ُ‬ ‫‪1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون» ‪.‬‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ور‬ ‫د‬ ‫�ص‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ون‬ ‫�شرِْك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُّ َ ْ ُ َ ُ َّ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َع َّما ُ‬ ‫كتاب عربي‪ ،‬ور�سول عربي‪ ،‬فال منا�ص بالطبع من �أن تبد�أ دعوة‬ ‫الإ�سالم بني العرب‪ ،‬قبل �أن ت�صل �إىل غريهم‪ ،‬وال منا�ص بالطبع من‬ ‫�أن يكون العرب �أول من ت�شق �آذانهم دعوة ذلك الب�شري النذير‪ ،‬و�أول من‬ ‫يهيب بهم ذلك الداعي �إىل اهلل‪ ،‬و�أول من يحاول �أن يجمعهم على الهدى‪.‬‬ ‫وكذلك بد�أ الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم الدعوة بني ع�شريته االقربني‪،‬‬ ‫ثم بني قومه العرب‪ ،‬ومازال بهم‪ ،‬ي�ؤيده ن�رص اهلل‪ ،‬حتى �أتوا لدعوته‬ ‫خا�ضعني‪ ،‬وكانواحتت زعامة ذلك الر�سول الأمني‪� ،‬أول داخل يف وحدة‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫(‪ )3‬البالد العربية‪ ،‬كما تعرف‪ ،‬كانت حتوي �أ�صناف ًا من العرب‬ ‫خمتلفة ال�شعوب والقبائل‪ ،‬متباينة اللهجات‪ ،‬متنائية اجلهات‪ ،‬وكانت‬ ‫خمتلفة �أي�ض ًا يف الوحدات ال�سيا�سية‪ ،‬فمنها ما كان خا�ضع ًا للدولة‬ ‫الرومية ومنها ما كان قائم ًا بذاته م�ستق ًال‪.‬‬ ‫«‪� »1‬سورة الق�ص�ص‬ ‫‪84‬‬


‫كان ذلك ي�ستتبع‪ ،‬بال�رضورة‪ ،‬تباين ًا كبرياً بني تلك الأمم العربية‪،‬‬ ‫يف مناهج احلكم‪ ،‬و�أ�ساليب الإدارة‪ ،‬ويف الآداب والعادات‪ ،‬ويف كثري من‬ ‫مرافق احلياة االقت�صادية واملادية‪.‬‬ ‫هذه الأمم املتنافرة اجتمعت كلها يف زمن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫حول دعوة الإ�سالم‪ ،‬وحتت لوائه‪ ،‬ف�أ�صبحوا بنعمة اهلل �إخوان ًا‪ ،‬تربطهم‬ ‫و�شيجة واحدة من الدين‪ ،‬وي�ضمهم �سياج واحد‪ ،‬من زعامة النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬من عطفه ورحمته‪ ،‬و�صاروا �أمة واحدة ذات زعيم واحد‪،‬‬ ‫هو النبي عليه ال�سالم‪.‬‬ ‫تلك الوحدة العربية التي وجدت زمن النبي ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬مل تكن‬ ‫وحدة �سيا�سية ب�أي وجه من الوجوه‪ ،‬وال كان فيها معنى من معاين‬ ‫الدولة واحلكومة‪ ،‬بل تعد �أبداً �أن تكون وحدة دينية خال�صة من �شوائب‬ ‫ال�سيا�سة‪ .‬وحدة الإميان واملذهب الديني‪ .‬ال وحدة الدولة ومذاهب امللك‪.‬‬ ‫(‪ )4‬يدلك على هذا �سرية النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فما عرفنا �أنه‬ ‫تعر�ض ل�شيء من �سيا�سة الأمم ال�شتيتة‪ ،‬وال غيرَّ �شيئ ًا من �أ�ساليب احلكم‬ ‫عندهم‪ ،‬وال مما كان لكل قبيلة منهم من نظام �إداري �أو ق�ضائي‪ ،‬وال‬ ‫حاول �أن مي�س ما كان بني تلك الأمم بع�ضها مع بع�ض‪ ،‬وال ما كان بينها‬ ‫وبني غريها‪ ،‬من �صالت اجتماعية �أو اقت�صادية‪ ،‬وال �سمعنا �أنه عزل‬ ‫نظم فيها ع�س�س ًا‪ ،‬وال و�ضع قواعد لتجاراتهم‬ ‫والي ًا‪ ،‬وال عينّ قا�ضي ًا‪ ،‬وال ّ‬ ‫وال لزراعاتهم وال ل�صناعاتهم‪ ،‬بل ترك لهم عليه ال�سالم كل ال�ش�ؤون‪،‬‬ ‫وقال لهم «�أنتم �أعلم بها»‪ ،‬فكانت كل �أمة وما لها‪ ،‬من وحدة مدنية‬ ‫و�سيا�سية‪ ،‬وما فيها من فو�ضى �أو نظام‪ ،‬ال يربطهم �إال ما قلناه‪ ،‬من‬ ‫وحدة الإ�سالم وقواعده و�آدابه‪.‬‬ ‫رمبا �أمكن �أن يقال �إن تلك القواعد والآداب وال�رشائع التي جاء بها‬ ‫النبي عليه ال�سالم‪ ،‬للأمم العربية ولغري العربية �أي�ض ًا‪ ،‬كانت كثرية‪،‬‬ ‫‪85‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫وكان فيها ما مي�س �إىل حد كبري �أكرث مظاهر احلياة يف الأمم‪ ،‬فكان فيها‬ ‫بع�ض �أنظمة للعقوبات‪ ،‬وللجي�ش واجلهاد‪ ،‬وللبيع واملداينة والرهن‪،‬‬ ‫ولآداب اجللو�س وامل�شي واحلديث‪ ،‬وكثري غري‪ ‬ذلك‪ .‬فمن جمع العرب‬ ‫وو َّح َد بني مرافقهم و�آدابهم و�رشائعهم �إىل ذلك‬ ‫على تلك القواعد الكثرية‪َ ،‬‬ ‫وحد �أنظمتهم املدنية وجعلهم‬ ‫احلد الوا�سع الذي جاء به الإ�سالم‪ ،‬فقد َّ‬ ‫بال�رضورة وحدة �سيا�سية‪ ،‬فقد كانوا �أذن دولة واحدة‪ ،‬وكان النبي ‪-‬‬ ‫عليه ال�سالم ‪ -‬زعيمها وحاكمها‪.‬‬ ‫ولكنك �إذا ت�أملت وجدت �أن كل ما �رشعه الإ�سالم‪ ،‬و�أخذ به النبي‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬من �أنظمة وقواعد و�آداب مل يكن يف �شيء كثري وال قليل من‬ ‫�أ�ساليب احلكم ال�سيا�سي‪ ،‬وال من �أنظمة الدولة املدنية‪ ،‬وهو بعد �إذا جمعته‬ ‫مل يبلغ �أن يكون جزءاً ي�سرياً مما يلزم لدولة مدنية من �أ�صول �سيا�سية‬ ‫وقوانني‪.‬‬ ‫�إن كل ما جاء به الإ�سالم من عقائد ومعامالت‪ ،‬و�آداب وعقوبات‪،‬‬ ‫ف�إمنا هو �رشع ديني خال�ص هلل تعاىل‪ ،‬ومل�صلحة الب�رش الدينية الغري‪،‬‬ ‫و�سيان بعد ذلك �أن تت�ضح لنا تلك امل�صالح الدينية �أم تخفى علينا‪،‬‬ ‫و�سيان �أن يكون منها للب�رش م�صلحة مدنية �أم ال‪ ،‬فذلك ما ال ينظر ال�رشع‬ ‫ال�سماوي �إليه‪ ،‬وال ينظر �إليه الر�سول‪.‬‬ ‫(‪ )5‬والعرب و�إن جمعتهم �رشيعة الإ�سالم مل يزالوا يومئذ على ما‬ ‫عرفت من تباين يف ال�سيا�سة ويف غريها من مظاهر احلياة املدنية‬ ‫واالجتماعية واالقت�صادية‪ ،‬وي�ساوي ذلك �أن تقول �إنهم كانوا دو ًال �شتى‪،‬‬ ‫على قدر ما ت�سمح به حياة العرب يومئذ من معنى الدولة واحلكومة‪.‬‬ ‫تلك حال العرب يوم حلق ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬بالرفيق الأعلى‪ ،‬وحدة‬ ‫دينية عامة من حتتها دول تامة التباين �إال قلي ًال‪ .‬ذلك احلق ال ريب‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫قد نخاف �أن يخفى عليك �أمر ذلك التباين‪ ،‬الذي نقول �إنه كان بني‬ ‫�أمم العرب زمن النبي‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�أن تخدعك تلك ال�صورة‬ ‫املن�سجمة التي يحاول امل�ؤرخون �أن ي�ضعوها لذلك الع�رص‪ ،‬فاعلم �أو ًال‪:‬‬ ‫�أن يف فن التاريخ خط�أ كثرياً‪ ،‬وكم يخطئ التاريخ وكم يكون �ضال ًال‬ ‫كبرياً!‪.‬‬ ‫واعلم ثاني ًا ‪� :‬أنه يف احلق �أن كثرياً من تنافر العرب وتباينهم قد‬ ‫تال�شت �آثاره‪ ،‬مبا ربط الإ�سالم بني قلوبهم‪ ،‬وما جمعهم عليه من دين‬ ‫واحد‪ ،‬ومن �أنظمة و�آداب م�شرتكة‪ ،‬واذكر‪ ،‬ثالث ًا ‪ :‬ما �أ�سلفنا لك الإ�شارة‬ ‫اليه‪ ،‬من �أثر الزعامة الدينية التي كانت للر�سول عليه ال�سالم‪ .‬فال عجب‬ ‫وخ َّفت‬ ‫�إذن �أن يكون تباين االمم العربية قد وهت �آثاره‪ ،‬وخفيت مظاهره‪َ ،‬‬ ‫«وا ْذ ُك ُرواْ ِن ْع َم َة َهِّ‬ ‫الل َع َل ْي ُك ْم �إِ ْذ ُكن ُت ْم �أَ ْع َداء َف�أَ َّل َف َبينْ َ‬ ‫حدته‪ ،‬وذهبت َّ‬ ‫َّ‬ ‫�شدته َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُقلُوب ُك ْم َف�أ ْ�ص َب ْح ُتم بن ْع َمته �إ ِْخ َوا ًنا َو ُكن ُت ْم َع َل َى َ�ش َفا ُح ْف َرة ّم َن ال َّنا ِر َف�أن َق َذ ُكم‬ ‫م ْن َها »‪.1‬‬ ‫ولكن العرب على ذلك ما برحوا �أمم ًا متباينة‪ ،‬ودو ًال �شتى‪ ،‬كان ذلك‬ ‫طبيعي ًا‪ ،‬وما كان طبيعي ًا فقد ميكن �أن تخفف حدته‪ ،‬وتقلل �آثاره‪ ،‬ولكن‬ ‫الميكن التخل�ص منه بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫مل يكد عليه ال�سالم يلحق بالرفيق الأعلى حتى �أخذت تبدو جلية‬ ‫وا�ضحة �أ�سباب ذلك التباين بني �أمم العرب‪ ،‬وعادت كل �أمة منهم‬ ‫ت�شعر ب�شخ�صيتها املتميزة‪ ،‬ووجودها امل�ستقل من غريه‪ ،‬و�أو�شكت �أن‬ ‫تنتق�ض تلك الوحدة العربية‪ ،‬التي متت يف حياة الر�سول‪� ،‬صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪«،‬وارتد �أكرث العرب‪� ،‬إال �أهل املدينة ومكة والطائف‪ ،‬ف�إنه مل يدخلها‬ ‫ردة»‪.2‬‬ ‫«‪� »1‬سورة �آل عمران‬ ‫«‪� »2‬أبوالفداء ج‪� 1‬ص‪152‬‬ ‫‪87‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(‪ )6‬كانت وحدة العرب كما عرفت وحدة �إ�سالمية ال �سيا�سية‪ ،‬وكانت‬ ‫زعامة الر�سول فيهم زعامة دينية ال مدنية‪ ،‬وكان خ�ضوعهم له خ�ضوع‬ ‫عقيدة و�إميان‪ ،‬ال خ�ضوع حكومة و�سلطان‪ ،‬وكان اجتماعهم حوله‬ ‫اجتماع ًا خال�ص ًا هلل تعاىل‪ ،‬يتلقون فيه خطرات الوحي‪ ،‬ونفحات ال�سماء‬ ‫و�أوامر اهلل تعاىل ونواهيه «ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة»‪.‬‬ ‫تلك زعامة كانت ملحمد بن عبد اهلل بن عبد املطلب الها�شمي‬ ‫«و َما َي ِ‬ ‫نط ُق‬ ‫القر�شي‪ ،‬لي�ست ل�شخ�صيته وال لن�سبه ولكن لأنه ر�سول اهلل َ‬ ‫َعنِ ا ْل َه َوى»‪ ،1‬بل عن اهلل تعاىل وبوا�سطة مالئكته املكرمني‪ ،‬ف�إذا ما حلق‬ ‫عليه ال�سالم بامللأ الأعلى مل يكن لأحد �أن يقوم من بعده ذلك املقام‬ ‫الديني‪ .‬لأنه كان ‪ -‬عليه ال�سالم ‪« -‬خامت النبيني»‪2‬وما كانت ر�سالة اهلل‬ ‫تعاىل لتورث عن الر�سول‪ ،‬وال لت�ؤخذ منه عطاء وال توكي ًال‪.‬‬ ‫(‪ )7‬وقد حلق ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬بالرفيق الأعلى من غري �أن‬ ‫ي�سمي �أحداً يخلفه من بعده‪ ،‬وال �أن ي�شري �إىل من يقوم يف �أمته مقامه‪.‬‬ ‫بل مل ي�رش عليه ال�سالم طوال حياته �إىل �شيء ي�سمى دولة �إ�سالمية‪� ،‬أو‬ ‫دولة عربية‪.‬‬ ‫وحا�شا هلل‪ ،‬ما حلق �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفيق الأعلى �إال بعد �أن‬ ‫وبينَّ لأمته قواعد الدين كله‪ ،‬ال لب�س‬ ‫�أدى عن اهلل تعاىل ر�سالته كاملة‪َ ،‬‬ ‫فيها وال �إبهام‪ ،‬فكيف ‪� -‬إذا كان من عمله �أن ين�شىء دولة ‪ -‬يرتك �أمر‬ ‫تلك الدولة مبهم ًا على امل�سلمني‪ ،‬لريجعوا �رسيع ًا من بعده حيارى ي�رضب‬ ‫بع�ضهم رقاب بع�ض! وكيف ال يتعر�ض لأمر من يقوم بالدولة من بعده‪.‬‬ ‫وذلك �أول ما ينبغي �أن يتعر�ض له بناة الدولة قدمي ًا وحديثاً! كيف ال‬ ‫«‪� »1‬سورة النجم‬ ‫«‪� »2‬سورة الأحزاب‬ ‫‪88‬‬


‫يرتك للم�سلمني ما يهديهم يف ذلك! وكيف يرتكهم عر�ضة لتلك احلرية‬ ‫القائمة ال�سوداء التي غ�شيتهم وكادوا يف غ�سقها يتناحرون‪ ،‬وج�سد النبي‬ ‫بينهم ملا يتم جتهيزه ودفنه!‪.‬‬ ‫(‪ )8‬واعلم �أن ال�شيعة جميع ًا متفقون على �أن ر�سول اهلل ‪� -‬صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم ‪ -‬قد عني علي ًا ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه ‪ -‬للخالفة على امل�سلمني‬ ‫من بعده وال نريد �أن نقف بك عند مناق�شة ذلك الر�أي‪ ،‬ف�إن حظه من النظر‬ ‫العلمي قليل ال ينبغي �أن ُيل َت َفت �إليه‪.‬‬ ‫قال ابن خلدون‪�« :‬إن الن�صو�ص التي ينقلونها وي� ِّؤولونها على مقت�ضى‬ ‫مذهبهم ال يعرفها جهابذة ال�س ّنة وال نقلة ال�رشيعة‪ ،‬بل �أكرثها مو�ضوع �أو‬ ‫مطعون يف طريقه �أو بعيد عن ت�أويالتهم الفا�سدة»‪.1‬‬ ‫(‪ )9‬وقد ذهب الإمام ابن حزم الظاهري �إىل ر�أي طائفة قالت �إن ر�سول‬ ‫ن�ص على ا�ستخالف �أبي بكر بعده على �أمور النا�س ن�ص ًا جلياً‪،‬‬ ‫اهلل تعاىل َّ‬ ‫�سموه خليفة ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫لإجماع املهاجرين والأن�صار على �أن ّ‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬ومعنى اخلليفة يف اللغة هو الذي ي�ستخلفه‪ ،‬ال الذي يخلفه‬ ‫‪2‬‬ ‫دون �أن ي�ستخلفه هو‪ ،‬ال يجوز غري هذا البتة يف اللغة بال خالف‪� ...‬إلخ‬ ‫وقد �أطال يف ذلك‪.‬‬ ‫تع�سف ال نرى له وجه ًا �صحيحاً‪ ،‬ولقد راجعنا‬ ‫والذهاب مع هذا الر�أي ُّ‬ ‫ما تي�رس لنا من كتب اللغة فما وجدنا فيها ما يع�ضد كالم الإمام ابن‬ ‫حزم‪ ،‬ثم وجدنا �إجماع الرواة على اختالف ال�صحابة يف بيعة �أبي بكر‪،‬‬ ‫وامتناع �أج َّلة منهم عنها‪ ،‬وقول عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه معتذراً‬ ‫«‪ »1‬مقدمة ابن خلدون �ص ‪176‬‬ ‫«‪ »2‬الف�صول يف امللل والأهواء والنحل ج‪� 4‬ص‪ 107‬وما بعدها‬ ‫‪89‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫عما قاله‪ 1‬يوم قب�ض الر�سول �صلى اهلل تعاىل عليه و�سلم‪�« :‬أيها النا�س �إين‬ ‫قد كنت قلت لكم بالأم�س مقالة ما كانت �إال عن ر�أيي‪ ،‬وما وجدتها يف‬ ‫يل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ولكني‬ ‫كتاب اهلل‪ ،‬وال كانت عهداً عهده �إ ّ‬ ‫قد كنت �أرى �أن ر�سول اهلل �سيدبر �أمرنا حتى يكون �آخرنا‪ .‬و�أن اهلل قد �أبقى‬ ‫فيكم كتابه الذي هدى به ر�سول اهلل‪ ،‬ف�إن اعت�صمتم به هداكم اهلل ملا كان‬ ‫هداه له‪ ،‬و�أن اهلل قد جمع �أمركم على خريكم‪� ،‬صاحب ر�سول اهلل‪ ،‬وثاين‬ ‫اثنني �إذ هما يف الغار‪ ،‬فقوموا فبايعوه»‪.2‬‬ ‫وجدنا ذلك ووجدنا كثرياً غريه فعلمنا �أن الذهاب �إىل �أن النبي ‪-‬‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬قد بينّ �أمر اخلالفة من بعده ر�أي غري وجيه‪ ،‬بل‬ ‫احلق �أنه ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ما تعر�ض ل�شيء من �أمر احلكومة‬ ‫بعده‪ ،‬وال جاء للم�سلمني فيها ب�رشع يرجعون �إليه‪.‬‬ ‫وما حلق عليه ال�سالم بالرفيق االعلى �إال من بعد ما كمل الدين‪ ،‬ومتت‬ ‫النعمة ور�سخت يف حقيقة الوجود دعوة الإ�سالم‪ ،‬ويومئذ مات عليه‬ ‫ال�صالة وال�سالم‪ ،‬وانتهت ر�سالته‪ ،‬وانقطعت تلك ال�صلة اخلا�صة التي‬ ‫كانت بني ال�سماء واالر�ض يف �شخ�صه الكرمي عليه ال�سالم‪.‬‬

‫«‪ »1‬ملا توفى ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم قام عمر بن اخلطاب فقال‪�« :‬إن رجا ًال من‬ ‫املنافقني يزعمون �أن ر�سول اهلل توفى‪ ،‬و�إن ر�سول اهلل واهلل مامات ولكنه ذهب �إىل ربه‪ ،‬كما ذهب‬ ‫مو�سى بن عمران فغاب عن قومه �أربعني ليلة ثم رجع بعد �أن قيل قد مات‪ ،‬واهلل لريجعن ر�سول اهلل‬ ‫فليقطعن �أيدي رجال و�أرجلهم يزعمون �أن ر�سول اهلل مات‪ ،‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص ‪197‬‬ ‫«‪ »2‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪203‬‬ ‫‪90‬‬


‫الباب الثاين‬

‫الدولة العربية‬ ‫الزعامة بعد النبي عليه ال�سالم �إمنا تكون زعامة �سيا�سية ‪-‬‬ ‫اثر الإ�سالم يف العرب ‪ -‬ن�ش�أة الدولة العربية ‪ -‬اختالف العرب يف‬ ‫البيعة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬زعامة النبي عليه ال�سالم كانت‪ ،‬كما قلنا‪ ،‬زعامة دينية‪ ،‬جاءت‬ ‫عن طريق الر�سالة ال غري‪ .‬وقد انتهت الر�سالة مبوته �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫فانتهت الزعامة �أي�ض ًا‪ ،‬وما كان لأحد �أن يخلفه يف زعامته‪ ،‬كما �أنه مل‬ ‫يكن لأحد �أن يخلفه يف ر�سالته‪.‬‬ ‫ف�إن كان والبد من زعامة بني �أتباع النبي ‪ -‬عليه ال�صالة وال�سالم‬ ‫ بعد وفاته‪ ،‬ف�إمنا تلك زعامة جديدة غري التي عرفناها لر�سول اهلل‬‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫طبيعي ومعقول �إىل درجة البداهة �أن ال توجد بعد النبي زعامة‬ ‫دينية‪ ،‬و�أما الذي ميكن �أن يت�صور وجوده بعد ذلك ف�إمنا هو نوع من‬ ‫الزعامة جديد‪ .‬لي�س مت�ص ًال بالر�سالة وال قائم ًا على الدين‪ .‬هو �إذن نوع‬ ‫ال ديني‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫و�إذا كانت الزعامة ال دينية فهي لي�ست �شيئ ًا �أقل وال �أكرث من الزعامة‬ ‫املدنية �أو ال�سيا�سية‪ ،‬زعامة احلكومة وال�سلطان‪ ،‬ال زعامة الدين‪ .‬وهذا‬ ‫الذي قد كان‪.‬‬ ‫(‪ )2‬رفعت الدعوة الإ�سالمية �ش�أن ال�شعوب العربية من جهات �شتى‪،‬‬ ‫ومل يكن �إال ريثما �أهاب بهم الداعي �إىل الإ�سالم‪ ،‬حتى ا�ستحالوا واحدة‬ ‫من خري الأمم يف زمانهم وا�ستعدوا مبثل ما ي�ستعد به �شعوب الب�رش لأن‬ ‫يكونوا �سادة وم�ستعمرين‪.‬‬ ‫عقيدة �صافية من دن�س ال�رشك‪ ،‬و�إميان را�سخ يف �أعماق النف�س‪،‬‬ ‫و�أخالق ه َّذبها اهلل‪ ،‬وذكاء �أمنته الفطرة ال�سليمة‪ ،‬ون�شاط � َأم َّد ْتهم به‬ ‫الطبيعة‪ ،‬ووحدة يف اهلل قاربت منهم ما تباعد‪ ،‬والءمت ما تباين‪،‬‬ ‫وجعلتهم يف دين اهلل �إخوان ًا‪ ،‬ذلك �ش�أن العرب يوم مات الر�سول عليه‬ ‫ال�صالة وال�سالم‪.‬‬ ‫�شعب ناه�ض كالعرب يومئذ ال ميكن �إذا انحلت عنه زعامة النبوة �أن‬ ‫يعود را�ضي ًا كما كان‪� ،‬أمم ًا جاهلية‪ ،‬و�شعوب ًا همجية‪ ،‬وقبائل متعادية‪،‬‬ ‫ووحدات م�ست�ضعفة‪.‬‬ ‫�إذاً‪ ،‬هي�أ اهلل لأمة �أ�سباب القوة والغلبة فالبد �أن تقوى والبد �أن تغلب‪،‬‬ ‫والبد �أن ت�أخذ حظها من الوجود كام ًال غري منقو�ص‪ ،‬فالبد �إذن �أن تقوم‬ ‫دولة العرب‪ ،‬كما قامت من قبلها دول وقامت من بعدها دول‪.‬‬ ‫(‪ )3‬مل يكن خافي ًا على العرب �أن اهلل تعاىل قد هي�أ لهم �أ�سباب الدولة‬ ‫ومهد لهم مقدماتها‪ ،‬بل رمبا كانوا قد �أح�سوا بذلك من قبل �أن يفارقهم‬ ‫ّ‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ولكنهم حني قب�ض ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم �أخذوا من غري �شك يت�شاورون يف �أمر تلك الدولة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫‪92‬‬


‫التي مل يكن لها منا�ص من �أن يبنوها على �أ�سا�س وحدتهم الدينية التي‬ ‫خلفها فيهم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم «وما كانت نبوة �إال تنا�سخها‬ ‫ملوك جربية»‪.1‬‬ ‫كانوا يومئذ �إمنا يت�شاورون يف �أمر مملكة تقام‪ ،‬ودولة ت�شاد‪،‬‬ ‫وحكومة تن�ش�أ �إن�شاء‪ .‬لذلك جرى على ل�سانهم يومئذ ذكر الإمارة‬ ‫والأمراء‪ ،‬والوزارة والوزراء‪ ،‬وتذاكروا القوة وال�سيف‪ ،‬والعز والرثوة‪،‬‬ ‫والعدد واملنعة‪ ،‬والب�أ�س والنجدة‪ ،‬وما كان كل ذلك �إال خو�ض ًا يف امللك‪،‬‬ ‫وقيام ًا بالدولة‪ ،‬والب�أ�س واملنعة‪ ،‬وما تناف�س املهاجرون والأن�صار‬ ‫وكبار ال�صحابة بع�ضهم مع بع�ض‪ ،‬حتى متت البيعة لأبي بكر‪ ،‬فكان‬ ‫�أول ملك يف الإ�سالم‪.‬‬ ‫و�إذا �أنت ر�أيت كيف متت البيعة لأبي بكر‪ ،‬وا�ستقام له الأمر‪ ،‬تبني لك‬ ‫�أنها كانت بيعة �سيا�سية ملكية‪ ،‬عليها كل طوابع الدولة املحدثة و�أنها‬ ‫�إمنا قامت كما تقوم احلكومات‪ ،‬على �أ�سا�س القوة وال�سيف‪.‬‬ ‫تلك دولة جديدة �أن�ش�أها العرب‪ ،‬فهي دولة عربية وحكم عربي‪ ،‬ولكن‬ ‫الإ�سالم كما عرفت دين الب�رشية كلها ال هو عربي وال هو �أعجمي‪.‬‬ ‫كانت دولة عربية قامت على �أ�سا�س دولة دينية‪ ،‬وكان �شعارها‬ ‫حماية تلك الدعوة والقيام عليها‪� .‬أجل ولعلها كانت يف الواقع ذات �أثر‬ ‫حتول الإ�سالم‬ ‫كبري يف �أمر تلك الدعوة‪ .‬وكان لها عمل غري منكور يف ُّ‬ ‫وتطوره‪ .‬ولكنها على ذلك ال تخرج عن �أن تكون دولة عربية‪� ،‬أيدت‬ ‫وم ِّكنت لهم يف �أقطار الأر�ض‪،‬‬ ‫ورو َجت م�صالح العرب‪َ ،‬‬ ‫�سلطان العرب‪َّ ،‬‬ ‫فا�ستعمروها ا�ستعماراً‪ ،‬وا�ستغلوا خريها ا�ستغال ًال‪� .‬ش�أن الأمم القوية‬ ‫التي تتمكن من الفتح واال�ستعمار‪.‬‬ ‫«‪� »1‬أي �إال جتبرُّ امللوك بعدها‪� .‬أ�سا�س البالغة‬ ‫‪93‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(‪ )4‬كان ذلك �أمراً مفهوم ًا للم�سلمني حينما كانوا يت�آمرون يف‬ ‫عمن يولونه �أمرهم‪ .‬وحني قال الأن�صار للمهاجرين‪« :‬منا �أمري‬ ‫ال�سقيفة ّ‬ ‫ال�صديق ر�ضي اهلل عنه‪« :‬منا الأمراء ومنكم‬ ‫ومنكم �أمري»‪ .‬وحني يجيبهم‬ ‫ِّ‬ ‫الوزراء»‪ .1‬وحني ينادي �أبو �سفيان‪« :‬واهلل �أين لأرى عجاجة ال يطفئها �إال‬ ‫فيم �أبو بكر من �أموركم؟ �أين امل�ست�ضعفان؟ �أين‬ ‫الدم‪ .‬يا �آل عبد مناف‪َ .‬‬ ‫الأذالن؟ علي والعبا�س»‪.‬‬ ‫علي عليه ال�سالم‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬يا �أبا ح�سن‪ ،‬اب�سط يدك حتى �أبايعك‪ ،‬ف�أبى ّ‬ ‫فجعل يتمثل ب�شعر املتلم�س‪:‬‬ ‫ولـــن يقيم على �ضيم يراد بـــه �إال الأذالن عري احلي والوتد‬ ‫‪2‬‬ ‫مربوط برمته وذا ي�شج فال يرثي له �أحــــــد‬ ‫هذا على اخل�سف‬ ‫ٌ‬ ‫وحني �سعد بن عبادة ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه ‪ -‬يرف�ض البيعة لأبي بكر‬ ‫وهو يقول‪« :‬واهلل حتى �أرميكم مبا يف كنانتي من نبلي‪ ،‬و�أُ َخ ِّ�ضب �سنان‬ ‫رحمي‪ ،‬و�أ�رضبكم ب�سيفي ما ملكته يدي‪ ،‬و�أقاتلكم ب�أهل بيتي‪ ،‬ومن‬ ‫�أطاعني من قومي‪ ،‬فال �أفعل وامي احلق‪ ،‬لو �أن اجلن اجتمعت لكم مع‬ ‫الأن�س ما بايعتكم حتى �أعر�ض على ربي و�أعلم ما ح�سابي»‪.‬‬ ‫فكان �سعد ال ي�صلي ب�صالتهم وال يجمع معهم‪ ،‬ويحج وال يفي�ض‬ ‫معهم ب�إفا�ضتهم‪ .‬فلم يزل كذلك حتى هلك �أبو بكر رحمه اهلل»‪.3‬‬ ‫كان معروف ًا للم�سلمني يومئذ �أنهم �إمنا يقدمون على �إقامة حكومة‬ ‫مدنية دنيوية‪ .‬لذلك ا�ستحلوا اخلروج عليها‪ .‬واخلالف لها‪ .‬وهم يعلمون‬ ‫«‪ »1‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪197‬‬ ‫«‪ »2‬منه �ص ‪ 203‬وما بعدها‬ ‫«‪ »3‬منه �ص‪210‬‬ ‫‪94‬‬


‫�أنهم �إمنا يختلفون يف �أمر من �أمور الدنيا‪ ،‬ال من �أمور الدين‪ ،‬و�أنهم �إمنا‬ ‫يتنازعون يف �ش�أن �سيا�سي ال مي�س دينهم وال يزعزع �إميانهم‪.‬‬ ‫وما زعم �أبو بكر وال غريه من خا�صة القوم �أن �إمارة امل�سلمني كانت‬ ‫مقام ًا ديني ًا‪ .‬وال �أن اخلروج عليها خروج على الدين‪ ،‬و�إمنا كان يقول‬ ‫�أبو بكر‪« :‬يا �أيها النا�س �إمنا �أنا مثلكم‪ ،‬و�إين ال �أدري‪ ،‬لعلكم �ستكلفوين ما‬ ‫كان ر�سول اهلل ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬يطيق‪ ،‬و�أن اهلل ا�صطفى حممداً‬ ‫على العاملني‪ ،‬وع�صمه من الآفات‪ .‬و�إمنا �أنا متبع ول�ست مبتدع ًا»‪.1‬‬ ‫ولكن �أ�سباب ًا كثرية وجدت يومئذ قد �ألقت على �أبي بكر �شيئ ًا من‬ ‫ال�صبغة الدينية‪ ،‬وخيلت لبع�ض النا�س �أنه يقوم مقام ًا ديني ًا‪ ،‬ينوب فيه‬ ‫عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وكذلك وجد الزعم ب�أن الإمارة على‬ ‫امل�سلمني مركز ديني‪ ،‬ونيابة عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬و�أن‬ ‫من �أهم تلك الأ�سباب التي ن�ش�أ عنها ذلك الزعم بني امل�سلمني ما ُل ِّق َب به‬ ‫�أبو بكر من �أنه ( خليفة ر�سول اهلل)‪.‬‬

‫«‪ »1‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪211‬‬ ‫‪95‬‬


96


‫الباب الثالث‬

‫اخلالفة الإ�سالمية‬ ‫ظهور لقب (خليفة ر�سول اهلل) ‪ -‬املعنى احلقيقي خلالفة �أبي بكر‬ ‫عن الر�سول �سبب اختيار هذا اللقب ‪ -‬ت�سميتهم اخلوارج على �أبي بكر‬ ‫باملرتدين ‪ -‬مل يكن اخلوارج كلهم مرتدين ‪ -‬مانعو الزكاة ‪ -‬حدود‬ ‫�سيا�سية ال دينية ‪ -‬قد وجد حقيقة مرتدون ‪� -‬أخالق �أبي بكر الدينية ‪-‬‬ ‫�شيوع االعتقاد ب�أن اخلالفة مقام ديني ‪ -‬ترويج امللوك لذلك االعتقاد‬ ‫ ال خالفة يف الدين‪.‬‬‫(‪ )1‬مل ن�ستطع �أن نعرف على وجه �أكيد ذلك الذي اخرتع لأبي بكر‬ ‫ر�ضي اهلل عنه لقب خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬ولكنا عرفنا �أن �أبا بكر قد �أجازه‬ ‫وارت�ضاه‪.‬‬ ‫ووجدنا �أنه ا�ستهل به كتبه �إىل قبائل العرب املرتدة‪ ،‬وعهده �إىل‬ ‫�أمراء اجلنود‪ ،‬ولعلها �أول ما كتب �أبو بكر‪ ،‬ولعلها �أول ما و�صل �إلينا‬ ‫حمتوي ًا على ذلك اللقب‪.1‬‬ ‫(‪ )2‬ال �شك يف �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم كان زعيم ًا للعرب‬ ‫ومناط وحدتهم‪ ،‬على الوجه الذي �رشحنا من قبل‪ .‬ف�إذا قام �أبو بكر من‬ ‫«‪ »1‬راجع تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪227 ، 226‬‬ ‫‪97‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫بعده ملك ًا على العرب‪َ ،‬ج َّماع ًا لوحدتهم‪ ،‬على الوجه ال�سيا�سي احلادث‪،‬‬ ‫فقد �ساغ يف لغة العرب �أن يقال عنه‪ ،‬بهذا االعتبار‪ ،‬خليفة ر�سول اهلل‪،‬‬ ‫ي�سوغ �أن ي�سمى خليفة ب�إطالق‪ ،‬ملا عرفت يف معنى اخلالفة‪ ،‬ف�أبو‬ ‫كما ّ‬ ‫بكر كان �إذن بهذا املعنى‪ ،‬خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬ال معنى خلالفته غري ذلك‪.‬‬ ‫(‪ )3‬ولهذا اللقب روعة‪ ،‬وفيه قوة‪ ،‬وعليه جاذبية‪ ،‬فال غرو �أن يختاره‬ ‫ال�صديق‪ ،‬وهو الناه�ض بدولة حادثة‪ ،‬يريد �أن ي�ضم �أطرافها بني‬ ‫�أعا�صري من الفنت‪ ،‬وزوابع من الأهواء العا�صفة املتناق�ضة‪ ،‬وبني قوم‬ ‫حديثي العهد بجاهلية‪ ،‬وفيهم كثري من بقايا الع�صبية‪ ،‬و�شدة البداوة‪،‬‬ ‫و�صعوبة املرا�س‪ .‬لكنهم كانوا حديثي عهد بر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ ،‬واخل�ضوع له‪ ،‬واالنقياد التام لكلمته‪ ،‬فهذا اللقب جدير ب�أن يكبح‬ ‫من جماحهم‪ ،‬ويلني بع�ض ما ا�ستع�صى من قيادهم‪ .‬ولعله قد فعل‪.‬‬ ‫ولقد ح�سب نفر منهم �أن خالفة �أبي بكر للر�سول ‪� -‬صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم ‪ -‬خالفة حقيقية‪ ،‬بكل معناها‪ ،‬فقالوا �إن �أبا بكر خليفة حممد‪،‬‬ ‫وكان حممد خليفة اهلل‪ ،‬فذهبوا يدعون �أبا بكر خليفة اهلل‪ ،‬وما كانوا‬ ‫يكونون خمطئني يف ذلك لو �أن خالفة ال�صديق للنبي ‪ -‬عليه ال�سالم‬ ‫ كانت على املعنى الذي فهموه وال يزال يفهمه كثري غريهم �إىل الآن‪.‬‬‫ولكن �أبا بكر غ�ضب لهذا اللقب‪ ،‬وقال‪« :‬ل�ست خليفة اهلل‪ ،‬ولكني خليفة‬ ‫ر�سول اهلل»‪.1‬‬ ‫(‪ )4‬حمل ذلك اللقب جماعة من العرب وامل�سلمني على �أن ينقادوا‬ ‫لإمارة �أبي بكر انقياداً ديني ًا‪ ،‬كانقيادهم لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫«‪ »1‬مقدمة ابن خلدون �ص (‪)181‬‬ ‫‪98‬‬


‫و�سلم‪ ،‬و�أن يرعوا مقامه امللوكي مبا يجب �أن يرعوا به كل ما مي�س‬ ‫دينهم‪ .‬لذلك كان اخلروج على �أبي بكر يف ر�أيهم خروج ًا على الدين‪،‬‬ ‫وارتداداً عن الإ�سالم‪.‬‬ ‫والراجح عندنا �أن ذلك هو من�ش�أ قولهم �إن الذين رف�ضوا �إطاعة �أبي‬ ‫بكر كانوا مرتدين‪ ،‬وت�سميتهم حروب �أبي بكر معهم حروب الردة‪.‬‬ ‫(‪ )5‬ولعل جميعهم مل يكونوا يف الواقع مرتدين‪ ،‬كفروا باهلل ور�سوله‪،‬‬ ‫بل كان فيهم من بقي على �إ�سالمه‪ ،‬ولكنه رف�ض �أن ين�ضم �إىل وحدة �أبي‬ ‫بكر‪ ،‬ل�سبب ما‪ ،‬من غري �أن يرى يف ذلك حرج ًا عليه‪ ،‬وال غ�ضا�ضة يف‬ ‫دينه‪ .‬وما كان ه�ؤالء من غري �شك مرتدين‪ ،‬وما كانت حماربتهم لتكون‬ ‫با�سم الدين‪ .‬ف�إن كان وال بد من حربهم ف�إمنا هي ال�سيا�سة‪ ،‬والدفاع عن‬ ‫وحدة العرب‪ ،‬والذود عن دولتهم‪.‬‬ ‫وقد وجدنا �أن بع�ض من رف�ض بيعة �أبي بكر‪ ،‬بعد �أن متت له البيعة‬ ‫من امل�سلمني‪ ،‬كعلي بن �أبي طالب و�سعد بن عبادة‪ ،‬مل يعاملوا معاملة‬ ‫املرتدين‪ ،‬وال قيل ذلك عنهم‪.‬‬ ‫(‪ )6‬ولعل بع�ض �أولئك الذين حاربهم �أبو بكر لأنهم رف�ضوا �أن ي�ؤدوا‬ ‫�إليه الزكاة‪ ،‬مل يكونوا يريدون بذلك �أن يرف�ضوا الدين‪ ،‬و�أن يكفروا به‪،‬‬ ‫ولكنهم ‪ -‬ال غري ‪ -‬رف�ضوا الإذعان حلكومة �أبي بكر‪ ،‬كما رف�ض غريهم‬ ‫من جلة امل�سلمني‪ ،‬فكان بديهي ًا �أن مينعوا الزكاة عنه‪ ،‬لأنهم ال يعرتفون‬ ‫به‪ ،‬وال يخ�ضعون ل�سلطانه وحكومته‪.‬‬ ‫كم ن�شعر بظلمة التاريخ وظلمه‪ ،‬كلما حاولنا �أن نبحث جيداً يف ما‬ ‫رواه لنا التاريخ عن �أولئك الذين خرجوا على �أبي بكر‪ ،‬فلقبوا املرتدين‪،‬‬ ‫وعن حروبهم تلك التي لقبوها (حروب الردة)!‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫ولكن قب�س ًا من نور احلقيقة اليزال ينبعث من بني ظلمات التاريخ‪،‬‬ ‫و�سيتجه العلماء يوم ًا نحو ذلك القب�س‪ ،‬وع�سى �أن يجدوا على تلك النار‬ ‫هدى‪.‬‬ ‫دونك حوار خالد بن الوليد‪ ،‬مع مالك بن نويرة‪� ،‬أحد �أولئك الذين‬ ‫ف�ضرِْبت عنقه‪ ،‬ثم �أخذت ر�أ�سه بعد‬ ‫�سموهم مرتدين‪ ،‬وهو الذي �أمر خالد‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫‪1‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ذلك فجعلت �أثفية ِبق ْدر‪.‬‬ ‫يعلن مالك‪ ،‬يف �رصاحة وا�ضحة‪� ،‬إىل خالد �أنه ال يزال على الإ�سالم‪،‬‬ ‫ولكنه ال ي�ؤدي الزكاة �إىل �صاحب خالد ( �أبي بكر)‪.‬‬ ‫كان ذلك �إذن نزاع ًا غري ديني‪ .‬كان نزاع ًا بني مالك‪ ،‬امل�سلم الثابت‬ ‫على دينه ولكنه من متيم‪ ،‬وبني �أبي بكر القر�شي‪ ،‬الناه�ض بدولة عربية‬ ‫�أئمتها من قري�ش‪ ،‬كان نزاع ًا يف ملوكية ملك‪ ،‬ال يف قواعد دين‪ ،‬وال يف‬ ‫�أ�صول �إميان‪.‬‬ ‫لي�س مالك هو وحده الذي ي�شهد لنف�سه بالإ�سالم‪ ،‬بل ي�شهد له به‬ ‫�أي�ض ًا عمر بن اخلطاب‪� ،‬إذ يقول لأبي بكر‪�« :‬إن خالداً قتل م�سلم ًا فاقتله»‬ ‫بل ي�شهد له بالإ�سالم �أي�ض ًا �أبو بكر �إذ يجيب‪« :‬ما كنت �أقتله‪ ،‬ف�إنه ت� َّأو َل‬ ‫ف�أخط�أ»‪.2‬‬ ‫ودونك مثا ًال �آخر‪ ،‬قول �شاعر منهم‪:‬‬ ‫�أطعنا ر�سول اهلل ما كان بيننا فيا لعباد اهلل مـــــــــــا لأبي بكر؟‬ ‫�أيورثنا بكراً �إذا مـــــات بعده؟ وتلك ‪ -‬لعمر اهلل ‪ -‬قا�صمة الظهر‬ ‫«‪»1‬تو�ضع القدر عند ما توقد عليها النار للطبخ فوق حجرين متقابلني‪ .‬ومن خلفهما حجر‬ ‫ثالث‪ ،‬ف�إذا مل يجدوا حجراً ثالث ًا �أ�سندوا القدر �إىل اجلبل‪ ،‬والأُث ِفية ب�ضم الهمزة وك�رسها وك�رس الفاء‬ ‫ احلجر تو�ضع عليه القدر واجلمع �أثايف و�أثاف‪ .‬ورماه اهلل بثالثة الأثايف �أي باجلبل‪.‬‬‫«‪ »2‬راجع ذلك احلديث يف اجلزء الأول من تاريخ �أبي الفداء من ‪158-157‬‬ ‫«‪ »3‬هو اخلطيل بن �أو�س �أخو احل�صني بن �أو�س‪ .‬تاريخ الطربي ج‪� 3‬ص‪.223‬‬ ‫‪100‬‬


‫ف�أنت ال جتد يف هذا �إال رج ًال ثائراً على �أبي بكر‪ ،‬منكراً لواليته‪،‬‬ ‫راف�ض ًا لطاعته‪� ،‬آبي ًا لبيعته ولكنه يف الوقت نف�سه ي�ؤمن بر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وال يعلن �إباءه ل�شيء من الإ�سالم‪.‬‬ ‫ثم �أل�سنا نقر�أ يف التاريخ �أي�ض ًا‪� ،‬أن عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه‬ ‫قد �أنكر على �أبي بكر قتاله املرتدين وقال ‪( :‬كيف تقاتل النا�س وقد قال‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬أمرت �أن اقاتل النا�س حتى يقولوا ال‬ ‫اله اال اهلل‪ ،‬فمن قالها ع�صم مني ماله ونف�سه �إال بحقه‪ ،‬وح�سابه على‬ ‫اهلل‪1‬؟)‪.‬‬ ‫ذلك قليل مما بقي يف الأخبار من �صدق كان يعفي التاريخ على‬ ‫�أثره‪ ،‬ومن حق كاد يذهب بخربه‪ ،‬وابحث َف َث َّم مزيد‪.‬‬ ‫�سموه حرب املرتدين‬ ‫(‪ )7‬ل�سنا نرتدد حلظة يف القطع ب�أن كثرياً مما َّ‬ ‫يف الأيام الأوىل من خالفة �أبي بكر مل يكن حرب ًا دينية‪ ،‬و�إمنا كان حرب ًا‬ ‫�سيا�سية �رصفة‪ ،‬ح�سبها العامة دين ًا‪ ،‬وما كانت كلها للدين‪.‬‬ ‫لي�س من عملنا يف هذا املقام �أن نبني لك تلك الأ�سباب احلقيقية‪،‬‬ ‫التي كانت يف الواقع مثاراً لكثري من حرب الردة‪ ،‬وال ن�ستطيع �أن ندعي‬ ‫ا�ضطالعنا بهذا البحث‪� ،‬إن نحن حاولناه‪ .‬ولكن يخيل �إلينا �أنك قد‬ ‫تظفر ببع�ض الأ�سباب الأ�سا�سية املهمة �إذا �أنت دققت النظر يف �أن�ساب‬ ‫وقبائل الثائرين على �أبي بكر‪ ،‬وعرفت �صلتهم من قري�ش‪ ،‬جد البيت‬ ‫القائم بامللك‪ ،‬و�إذا �أنت فطنت �إىل �سنن اهلل تعاىل يف الدول النا�شئة‪،‬‬ ‫والع�صبيات املتغلبة على امللك‪ ،‬وكنت مع ذلك ب�صرياً بطبائع العرب‬ ‫و�آدابهم‪ ،‬ثم رزقت التوفيق‪.‬‬ ‫(‪« )1‬البخاري» ج‪� 2‬ص‪105‬‬ ‫‪101‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫(‪ )8‬نحن منيل �إىل االعتقاد ب�أنه قد ارتد بالفعل جماعة من امل�سلمني‪،‬‬ ‫بعد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬فذلك �شيء تكاد تق�ضي به �سنن‬ ‫الطبيعة و�أنظمتها التي عرفنا‪ .‬و�أ�سهل من ذلك نعتقد ب�أنه قد ادعى‬ ‫النبوة‪ ،‬يف حياة حممد ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬وبعد وفاته‪ ،‬متنبئون‬ ‫كذابون‪ ،‬وقد نرى يف م�شاهداتنا �أن دعوى النبوة لي�ست بعيدة من ذهن‬ ‫امل�ضلل الغوي‪� ،‬إذا هو لقي من العامة اجنذاب ًا‪ ،‬و�أغوى منهم �صحاب ًا‬ ‫و�أحباب ًا‪ ،‬وال �شيء �أ�سهل عند العامة من الإميان بنبوة ذلك الغوي‪� ،‬إذا هو‬ ‫عرف كيف يغريهم بال�ضالل‪ ،‬وميدهم يف الغي‪ ،‬لذلك نرجح �أنه قد وجد‬ ‫بالفعل‪ ،‬يف �أول عهد �أبي بكر‪ ،‬جماعة ارتدوا عن الإ�سالم‪ ،‬بوفاة النبي‬ ‫عليه ال�سالم وجد من ادعى النبوة يف قبائل العرب‪.‬‬ ‫وقد كان من �أول ما عمل �أبو بكر نهو�ضه حلرب �أولئك املرتدين‬ ‫احلقيقيني‪ ،‬واملتنبئني الكذابني حتى غلبهم وق�ضى على باطلهم‪.‬‬ ‫ال نريد البحث يف ما �إذا كانت لأبي بكر �صفة دينية �رصفة جعلته‬ ‫م�س�ؤو ًال عن �أمر من يريد الإ�سالم �أم ال‪ ،‬وال نريد البحث فيما �إذا كانت‬ ‫ثمة �أ�سباب غري دينية حفزت لتلك احلرب عزمية �أبي بكر �أم ال‪.‬‬ ‫ومهما يكن الأمر فال �شك �أن �أبا بكر قد بد�أ عمله يف الدولة اجلديدة‬ ‫بحرب �أولئك املرتدين‪ ،‬وهنا ن�ش�أ لقب املرتدين‪ ،‬ن�ش�أ لقب ًا حقيقي ًا‪،‬‬ ‫ملرتدين حقيقيني‪ ،‬ثم بقي لقب ًا لكل من حاربهم �أبو بكر من العرب بعد‬ ‫ذلك‪� ،‬سواء �أكانوا خ�صوم ًا دينيني ومرتدين حقيقة‪� ،‬أم كانوا خ�صوم ًا‬ ‫�سيا�سيني غري مرتدين‪ ،‬ومن �أجل ذلك انطبعت حروب �أبي بكر يف جملتها‬ ‫بطابع الدين‪ ،‬ودخلت حتت ا�سم الإ�سالم و�شعاره‪ ،‬وكان االن�ضمام �إىل‬ ‫�أبي بكر دخو ًال حتت لواء الإ�سالم‪ ،‬واخلروج عليه ردة وف�سوق ًا‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫(‪ )9‬رمبا كانت ثمة ظروف �أخرى خا�صة ب�أبي بكر‪ ،‬قد �ساعدت على‬ ‫خط�أ العامة‪ ،‬و�سهلت عليهم �أن ُي�رشِبوا �إمارة �أبي بكر معنى ديني ًا‪.‬‬ ‫فقد كانت لل�صديق ر�ضي اهلل عنه منزلة رفيعة ممتازة عند ر�سول‬ ‫كر يف الدعوة الدينية ممتاز وكذلك كانت‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و ِذ ٌ‬ ‫منزلته عند امل�سلمني‪.‬‬ ‫وقد كان ال�صديق مع هذا يحذو حذو الر�سول‪ ،‬ومي�شي على قدميه‪،‬‬ ‫يف خا�صة نف�سه‪ ،‬ويف عامة �أموره‪ ،‬وال�شك يف �أن ذلك كان �ش�أنه �أي�ض ًا‬ ‫يف �سيا�سة �أمر الدولة‪ ،‬فقد �سار بها‪ ،‬مبلغ جهده‪ ،‬يف طريق ديني‪ ،‬ونهج‬ ‫بها‪ ،‬على القدر املمكن‪ ،‬منهج ر�سول اهلل‪ ،‬فال غرو �أن �أفا�ض �أبو بكر على‬ ‫مركزه يف الدولة اجلديدة‪ ،‬التي كان هو �أول ملك عليها‪ ،‬كل ما ميكن من‬ ‫مظاهر الدين‪.‬‬ ‫(‪ )10‬تبني لك من هذا �أن ذلك اللقب «خليفة ر�سول اهلل» مع ما �أحاط‬ ‫به من االعتبارات التي �أ�رشنا �إىل بع�ضها ومل ن�رش �إىل باقيها‪ ،‬كان �سبب ًا‬ ‫من �أ�سباب اخلط�أ الذي ت�رسب �إىل عامة امل�سلمني‪ ،‬فخيل لهم �أن اخلالفة‬ ‫مركز ديني‪ ،‬و�أن من ويل �أمر امل�سلمني فقد حل منهم يف املقام الذي‬ ‫كان يحله ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬ ‫وكذلك ف�شا بني امل�سلمني منذ ال�صدر الأول‪ ،‬الزعم ب�أن اخلالفة مقام‬ ‫ديني‪ ،‬ونيابة عن �صاحب ال�رشيعة عليه ال�سالم‪.‬‬ ‫يروجوا ذلك اخلط�أ بني النا�س‪،‬‬ ‫(‪ )11‬كان من م�صلحة ال�سالطني �أن ِّ‬ ‫حتى يتخذوا من الدين دروع ًا حتمي عرو�شهم‪ ،‬وتذود اخلارجني عليهم‪،‬‬ ‫ومازالوا يعملون على ذلك‪ ،‬من طرق �شتى‪ -‬وما �أكرث تلك الطرق لو‬ ‫تنبه لها الباحثون ‪ -‬حتى �أفهموا النا�س �أن طاعة الأئمة من طاعة‬ ‫‪103‬‬


‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‬

‫اهلل‪ ،‬وع�صيانهم من ع�صيان اهلل‪ ،‬ثم ما كان اخللفاء ليكتفوا بذلك‪،‬‬ ‫وال لري�ضوا مبا ر�ضي �أبو بكر‪ ،‬وال ليغ�ضبوا مما غ�ضب منه‪ ،‬بل جعلوا‬ ‫ال�سلطان خليفة هلل يف �أر�ضه‪ ،‬وظ ّله املمدود على عباده‪� ،‬سبحان اهلل‬ ‫وتعاىل عما ي�رشكون‪.‬‬ ‫ثم �إذا اخلالفة قد �أ�صبحت تل�صق باملباحث الدينية‪ ،‬و�صارت جزءاً‬ ‫من عقائد التوحيد‪ ،‬يدر�سه امل�سلم مع �صفات اهلل تعاىل و�صفات ر�سله‬ ‫وي َل َّقنه كما ُي َل َّقن �شهادة �أن ال �إله اال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪.‬‬ ‫الكرام‪ُ ،‬‬ ‫تلك جناية امللوك وا�ستبدادهم بامل�سلمني‪� ،‬أ�ضلوهم عن الهدى‬ ‫وعموا عليهم وجوه احلق‪ ،‬وحجبوا عنهم م�سالك النور با�سم الدين‪،‬‬ ‫وبا�سم الدين �أي�ض ًا ا�ستبدوا بهم‪ ،‬و�أذلوهم‪ ،‬وحرموا عليهم النظر يف علوم‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬وب�إ�سم الدين خدعوهم و�ضيقوا على عقولهم‪ ،‬ف�صاروا ال يرون‬ ‫لهم وراء ذلك الدين مرجع ًا‪ ،‬حتى يف م�سائل الإدارة ال�رصفة‪ ،‬وال�سيا�سة‬ ‫اخلال�صة‪.‬‬ ‫ذلك وقد �ضيقوا عليهم �أي�ض ًا يف فهم الدين‪ ،‬وحجروا عليهم يف دوائر‬ ‫عيونها لهم ثم حرموا عليهم كل �أبواب العلم التي مت�س حظائر اخلالفة‪.‬‬ ‫كل ذلك انتهى مبوت قوى البحث‪ ،‬ون�شاط الفكر بني امل�سلمني‪ ،‬ف�أ�صيبوا‬ ‫ب�شلل يف التفكري ال�سيا�سي‪ ،‬والنظر يف كل ما يت�صل ب�ش�أن اخلالفة‬ ‫واخللفاء‪.‬‬ ‫(‪ )12‬واحلق �أن الدين الإ�سالمي بريء من تلك اخلالفة التي يتعارفها‬ ‫امل�سلمون وبريء من كل ما هي�أوا حولها من رغبة ورهبة‪ ،‬ومن عز‬ ‫وقوة‪ .‬واخلالفة لي�ست يف �شيء من اخلطط الدينية‪ ،‬كال وال الق�ضاء وال‬ ‫غريهما من وظائف احلكم ومراكز الدولة‪ .‬وامنا تلك كلها خطط �سيا�سية‬ ‫�رصفة‪ ،‬ال �ش�أن للدين بها‪ ،‬فهو مل يعرفها ومل ينكرها‪ ،‬وال �أمر بها وال‬ ‫‪104‬‬


‫نهى عنها‪ ،‬و�إمنا تركها لنا‪ ،‬لرنجع فيها �إىل �إحكام العقل‪ ،‬وجتارب الأمم‬ ‫وقواعد ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫كما �أن تدبري اجليو�ش الإ�سالمية‪ ،‬وعمارة املدن والثغور‪ ،‬ونظام‬ ‫الدواوين ال �ش�أن للدين بها‪ ،‬و�إمنا يرجع الأمر فيها �إىل العقل والتجريب‪،‬‬ ‫�أو �إىل قواعد احلروب �أو هند�سة املباين و�آراء العارفني‪.‬‬ ‫ال �شيء يف الدين مينع امل�سلمني �أن ي�سابقوا الأمم الأخرى‪ ،‬يف علوم‬ ‫االجتماع وال�سيا�سة كلها‪ ،‬و�أن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له‬ ‫وا�ستكانوا �إليه‪ ،‬و�أن يبنوا قواعد ملكهم‪ ،‬ونظام حكومتهم‪ ،‬على �أحدث‬ ‫ما �أنتجت العقول الب�رشية‪ ،‬و�أمنت ما دلت جتارب الأمم على �أنه خري‬ ‫�أ�صول احلكم‪.‬‬ ‫واحلمد هلل الذي هدانا لهذا‪ ،‬وما كنا لنهتدي لوال �أن هدانا اهلل‪ ،‬و�صلى‬ ‫اهلل على حممد و�آله و�صحبه ومن وااله‪.‬‬

‫‪105‬‬


106


‫نقد علمي‬

‫لكتاب (الإ�سالم و�أ�صول احلكم)‬ ‫بقلم‬ ‫العلمة اجلليل‬ ‫الأ�ستاذ اَّ‬ ‫ال�سيد حممد الطاهر بن عا�شور‬ ‫ّ‬ ‫مفتي املالكية بالديار التون�سية‬

‫�صدرت الطبعة الأوىل من هذا البحث عن‬ ‫املطبعة ال�سلفية ومكتبتها ‪ -‬القاهرة ‪1344‬‬



‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‬ ‫احلمد هلل وحده‪ ،‬و�صلى اهلل على �سيدنا حممد و�آله و�صحبه و�سلم‪،‬‬ ‫�أحتفني بع�ض الأبناء الأعزاء يف خالل الراحة ال�صيفية بكتاب عنوانه‬ ‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‪� .‬ألفه ال�شيخ علي عبدالرازق امل�رصي من علماء‬ ‫الأزهر وق�ضاة املحاكم ال�رشعية‪ .‬ف�رسين �أفراد هذا البحث بالت�أليف‪،‬‬ ‫وقلت‪ :‬هذا بلبل امل�صيف‪ ،‬قد ا�ستقر على فنن مورق وح�صيف‪ .‬و�صادف‬ ‫مني فراغ ًا من ال�شواغل‪� ،‬أعانني على ا�ستق�صاء مطالعته يف ليال قالئل‪.‬‬ ‫فلم �أعتم‪ ،‬حني عجمت عوده وتو�سمت حتليق طائره يف �أوج املعارف‬ ‫و�صعوده‪� ،‬أن تبينت يف الأمرين لين ًا وا�ضطرابا‪ ،‬حتى خ�شيت �أن يبدل‬ ‫الفنن خمطة وبلبله غرابا‪ .‬وكنت يف �أثناء تلك املطالعة تعر�ض يل‬ ‫خواطر نقد ف�أطلقها عن التقييد و�أرجىء ذلك لفر�صة من بعد‪� .‬إىل �أن‬ ‫أنبه على‬ ‫مبره‪ .‬ثم بدا يل بعد ذلك �أن � ّ‬ ‫غره‪ ،‬واختالط حلوه ِّ‬ ‫طويته على ِّ‬ ‫ما الح من النقود‪ ،‬خيفة �أن تتلقفه طلبة العلم كد�أب النا�س يف تل ُّقف‬ ‫اجلديد‪ ،‬فتقع من �أذهانهم موقع ال�صد�أ من خال�ص احلديد‪.‬‬ ‫وكنت �أود �أن �أب�سط القول يف حتقيق ما وقع فيه من م�س�ألة خمتلطة‬ ‫�أو �شبهة متبعة‪ .‬ولكن ملا �أ�صبح الوقت باملهم م�شغوال‪ ،‬فقد اكتفيت‬ ‫عن من املالحظات و�أوجز قوال‪.‬‬ ‫بالإملام مبا َّ‬ ‫ال�سيد حممد الطاهر بن عا�شور‬ ‫ّ‬ ‫تون�س‪ -‬ربيع الأنور‪� -‬سنة ‪1344‬‬

‫‪3‬‬



‫قال امل�ؤلف‪:‬‬

‫الكتاب الأول ‪ -‬اخلالفة والإ�سالم‬ ‫«الباب الأول ‪ -‬اخلالفة وطبيعتها»‬

‫ذكر يف �صحيفة ‪� 7‬أنهم مل يبنوا م�صدر القوة التي للخليفة‪ ،‬و�أنه‬ ‫ا�ستقر�أ من عبارات القوم �أن للم�سلمني يف ذلك مذهبني‪ :‬منهم من يرى‬ ‫�أن اخلليفة ي�ستمد قوته من قوة اهلل تعاىل‪ ،‬ومنهم من يرى �أن م�صدر‬ ‫قوته هي الأمة‪ .‬وهذا الكالم الذي �أطال به هنا بعيد عن التحقيق‬ ‫ا�شتبه عليه فيه احلقيقة باملجاز واحلقائق العلمية باملعاين ال�شعرية‬ ‫واملبالغات يف املدح والغلو فيه فجعل م�ستنده يف �إثبات املذهب الأول‬ ‫نحو قولهم للخليفة ظل اهلل يف الأر�ض ونحوه من الأبيات التي ذكرها‬ ‫وديباجات الت�آليف التي �رسدها‪ .‬هذا ومل يقل �أحد من علماء الإ�سالم �أن‬ ‫اخلليفة ي�ستمد قوته من اهلل تعاىل‪ ،‬و�إمنا �أطبقت كلمتهم على �أن اخلالفة‬ ‫ال تنعقد �إال ب�أحد �أمرين‪� :‬إما البيعة من �أهل احلل والعقد من الأمة‪ ،‬و�إما‬ ‫بالعهد ممن بايعته الأمة ملن يراه �صاحل ًا‪ .‬وال يخفى �أن كال الطريقني‬ ‫‪5‬‬


‫نقد علمي‬

‫راجع للأمة لأن وكيل الوكيل وكيل‪ ،‬ف�إذا بويع فقد وجب له ما جعله‬ ‫حدد‬ ‫اهلل من احلقوق التي هي القوة املبينة يف �رشع اهلل تعاىل لأن اهلل َّ‬ ‫قوة اخلليفة وجعلها خلدمة م�صلحة الأمة‪ ،‬وجعل اختيار ويل �أمرها بيد‬ ‫الأمة ومل يقل �أحد �إنه ي�ستمد من اهلل تعاىل بوحي وال بات�صال روحاين‬ ‫وال بع�صمة‪ .‬وال خالف �أن حكم اخلليفة حكم الوكيل �إال يف امتناع العزل‬ ‫بدون �سبب من الأ�سباب املبينة يف موا�ضعها من كتب الفقه و�أ�صول‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫ثم نظر يف �صحيفة ‪ 11‬بني اختالف امل�سلمني (املوهوم) وبني‬ ‫اختالف الأورباويني‪ .‬وهو تنظري لي�س مب�ستقيم‪.‬‬

‫«الباب الثاين ‪ -‬يف حكم اخلالفة»‬ ‫�أطال امل�ؤلف يف هذا الباب الرتديد والت�شكيك يف �أن الكتاب وال�س َّنة‬ ‫ال دليل فيهما على وجوب ن�صب اخلليفة ثم �أف�صح عن ذلك يف �صحائف‬ ‫‪ ،15-14-13‬ف�إن كان ينحو بذلك �إىل مذهب اخلوارج من �إنكار وجوب‬ ‫الأمراء فليذكر �أن الأدلة ال�رشعية غري منح�رصة يف الكتاب وال�سنة ف�إن‬ ‫الإجماع والتواتر وتظاهر ال�رشعية هي دالئل قاطعة تربو على داللة‬ ‫الكتاب وال�سنة �إذا كانت ظنية‪ ،‬وقد تواتر بعث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫الأمراء والق�ضاء للبلدان النائية‪ ،‬و�أمر بال�سمع والطاعة بل و�أمر القر�آن‬ ‫بذلك �أي�ض ًا فح�صل من جمموع ذلك ما �أوجب �إجماع الأمة من عهد‬ ‫ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم على �إقامة اخلليفة بعد وفاة ر�سول اهلل ‪� -‬صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ‪ -‬فبايعوا �أبا بكر ر�ضي اهلل عنه و�أطاعته امل�سلمون يف‬ ‫�سائر الأقطار ومل ينكر بيعته �أحد و�إمنا خرج من خرج �إما لالرتداد عن‬ ‫الدين و�إما ملنع دفع الزكاة ومل يغفل علماء الإ�سالم عن هاته الأدلة‪..‬‬ ‫و�إمنا الغفلة ملن غفل عن خطة ال�سعد يف كتاب املقا�صد ف�إنه كغريه من‬ ‫‪6‬‬


‫علماء الكالم ب�صدد �إثبات الأدلة القطعية املقنعة يف الرد على اخلوارج‬ ‫و�إ�رضابهم‪ ،‬والأحاديث الواردة يف هذا ال�ش�أن ال داللة يف �آحادها على‬ ‫ذلك لأن كل دليل منها فيه احتمال قد مينع اخل�صم ب�سببه اال�ستدالل‬ ‫به عند املناظرة‪ ،‬ولهذا �أدرج علماء الكالم م�س�ألة اخلالفة يف امل�سائل‬ ‫االعتقادية ت�ساحم ًا مل�شابهتها مب�سائل االعتقاد يف قطعية الأدلة ويف‬ ‫بينوه يف كتبهم وقد �أف�صح عن ذلك‬ ‫ترتيب ال�رضر علىالغلط فيها كما َّ‬ ‫�إمام احلرمني رحمه اهلل �إذ قال يف كتاب الإر�شاد‪« :‬الكالم يف الإمامة‬ ‫لي�س من �أ�صول االعتقاد‪ ،‬واخلطر على من يزل فيه يربى على اخلطر على‬ ‫من يجهل �أ�ص ًال من �أ�صول الدين‪ ،‬ويعتوره نوعان حمظوران عند ذوي‬ ‫وتعدي حد احلق‪ ،‬والثاين عد‬ ‫احلجاج‪� :‬أحدهما ميل كل فئة �إىل التع�صب ِّ‬ ‫املحتمالت التي ال جمال للقطع فيها من القطعيات ا هـ » فلما تطلبوا‬ ‫الأدلة القطعية وجدوها يف الإجماع واملراد من الإجماع �أعلى مراتبه‪،‬‬ ‫وهو �إجماع الأمة من الع�رص الأول ا�ستناداً للأدلة القاطعة القائمة مقام‬ ‫التواتر وهو يف احلقيقة مظهر من مظاهر التواتر املعنوي‪ ،‬و�أي دليل‬ ‫على اعتبارهم اخلالفة من قواعد الدين �أعظم من اتفاق ال�صحابة عليه‬ ‫وهرعهم يوم وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل ذلك من غري خمالف‬ ‫على �أن القر�آن قد �رشَّ ع �أحكام ًا كثرية لي�ست من الأفعال التي يقوم‬ ‫بها الواحد‪ ،‬فتعني �أن املخاطب بها والة الأمور نحو قوله‪« :‬ف�أ�صلحوا‬ ‫بينهما ف�إن بغت �إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي»‪ .‬ونحو قوله‪:‬‬ ‫«فابعثوا حكم ًا من �أهله وحكم ًا من �أهلها» وقوله‪« :‬وال ت�ؤتوا ال�سفهاء‬ ‫�أموالكم» �إلخ‪.‬‬ ‫املعب‬ ‫وهذا النوع من الإجماع هو الذي ثبتت به قواطع ال�رشعية‬ ‫رَّ‬ ‫عنها باملعلومات �رضورة‪ .‬ولو اقت�رصنا على مفردات �آيات القر�آن‬ ‫وال�سنة ملا ثبتت املعلومات ال�رضورية من الدين �إال نادراً لأن معظم‬ ‫تلك الأدلة بانفراده ال تعدو الداللة الظنية كما هو مقرر يف الأ�صول‬ ‫‪7‬‬


‫نقد علمي‬

‫عند الكالم على الفرق بني كون املنت قطعي ًا وكون الداللة قطعية‪ ،‬فقول‬ ‫امل�ؤلف يف �صحيفة ‪« :16‬ولو وجدوا لهم يف احلديث دلي ًال لقدموه يف‬ ‫اال�ستدالل على الإجماع» كالم يتعجب من �صدوره عن ممار�س لعلوم‬ ‫ال�رشيعة حتى يعتقد �أن داللة �أخبار الآحاد �أقوى من دالله الإجماع على‬ ‫�أنهم كيف يتحاجون لال�ستدالل مع عدم االختالف ومل يعرف خالف‬ ‫�أحد من امل�سلمني يف وجوب ن�صب الإمام �إال مارمز �إليه احلرورية‬ ‫يوم التحكيم بعد وقعة �صفني �إذ قالوا ملا �سمعوا التحكيم «ال حكم �إال‬ ‫هلل» كلمة مموهة جمملة فقال علي ر�ضي اهلل عنه حني �سمعها‪« :‬كلمة‬ ‫حق �أريد بها باطل» ولهذا اقت�رص �إمام احلرمني يف الإر�شاد على داللة‬ ‫الإجماع يف �أمر الإمامة فقال‪« :‬ومما ترتتب عليه الإمامة القطع ب�صحة‬ ‫الإجماع وهذا ال مطمع يف تقريره ههنا‪ .‬ولكنا نع�ضد هذا املعتقد بقاطع‬ ‫يف �صحة الإجماع‪ ،‬فنقول‪� :‬إذا �أجمع علماء الع�رص على حكم �رشعي‬ ‫وقطعوا به فال يخلو ذلك احلكم �إما �أن يكون مظنون ًا ال يتو�صل �إىل العلم‬ ‫به و�إما �أن يكون مقطوع ًا به على ح�سب اتفاقهم‪ .‬ف�إن كان مقطوع ًا به‬ ‫فهو املق�صود و�إن كان مظنون ًا في�ستحيل يف م�ستقر العادة �أن يح�سب‬ ‫العاملون بطرق الظنون والعلوم الظن علم ًا مطبقني عليه من غري �أن‬ ‫يختلج لطائفة �شك �أو يخامرهم ريب‪ .‬وتقرير ذلك خرق للعادة ا هـ»‪.‬‬ ‫و�أعجب من هذا �أن امل�ؤلف حاول يف �صحائف ‪�19-18-17‬أن‬ ‫يجيب عن الأحاديث التي ا�ستدل بها العلماء على وجوب ن�صب الإمام‬ ‫مبا حا�صله بعد نخله‪� :‬إن ذكر القر�آن لطاعة �أولياء الأمور وذكر الأحاديث‬ ‫للخالفة �أو الإمامة �أو ال�سمع والطاعة ‪ -‬وقال بعد �أن �شك يف �صحة ما‬ ‫هو معلوم ال�صحة منها ‪� :-‬إن معنى ذلك �أنه ان وقع ذلك وقدره اهلل‬ ‫ف�إننا نقابله مبا �أمرنا به ال على معنى �إنا ملزمون ب�إيجاد ذلك‪ .‬ثم نظره‬ ‫ملا حكته الأناجيل �أن �أعط ما لقي�رص لقي�رص وما هلل هلل‪ ،‬فما دل ذلك‬ ‫على �أن حكومة قي�رص من �رشيعة اهلل‪ .‬قال علي �إننا �أمرنا بطاعة البغاة‬ ‫‪8‬‬


‫والع�صاة فما كان ذلك لي ًال على م�رشوعية البغي �إلخ‪ ،‬وهذا الكالم �ضغث‬ ‫من �أغالط وكان للناظر اللبيب غنى عن التوقيف على ما فيه ومالك‬ ‫ذلك �أن الأوامر النبوية دالئل على م�رشوعية اخلالفة �إذ النبي ال ي�أمر‬ ‫باملنكر وال ي�ؤيد �أمراً غري معترب �رشع ًا‪ ،‬وقد احتج الفقهاء يف الإ�سالم‬ ‫بدالالت الألفاظ النبوية حتى بداللة الإ�شارة وحتى مبا ي�رضب فيها‬ ‫من الأمثال وتنظريه مبا يف الإجنيل خروج عن جادة القيل‪ .‬وقوله �إنا‬ ‫�أمرنا بطاعة البغاة كالم باطل بل قد �أمرنا ب�أن ال نطيع يف منكر و�إمنا‬ ‫�أمرنا بطاعة والة الأمور الع�صاة �إذا كان ع�صيانهم متلب�س ًا بذواتهم ال‬ ‫ب�أوامرهم‪ .‬على �أن يف هذا خالف ًا قدمي ًا بني علماء الأمة فال ميكن جعله‬ ‫�أ�ص ًال ي�ستنبط منه‪.‬‬

‫الباب الثالث‬ ‫«يف اخلالفة ‪ -‬من الوجهة االجتماعية»‬ ‫قال يف �صحيفة ‪«: 22‬ن�سلِّم �أن الإجماع حجة �رشعية‪ ،‬وال نثري‬ ‫خالف ًا مع املخالفني �إلخ» وع َّلق عليه يف احلا�شية �أنه ينظر �إىل خمالفة‬ ‫والنظام و�أ�رضابهم‪ ،‬وهذا توهم بينِّ لأن الإجماع املختلف فيه‬ ‫الرواف�ض‬ ‫ّ‬ ‫هو �إجماع املجتهدين على�أمر اجتهادي‪ .‬على�أن املخالفني فيه ال ُيع َت ُّد‬ ‫بخالفهم لأنهم طائفة قليلة �ضعيفة العلم من بني طوائف الإ�سالم‪ .‬غري‬ ‫�أننا ال حاجة بنا �إىل اخلو�ض يف هذا الغر�ض لأن الإجماع الذي ثبتت به‬ ‫م�رشوعية الإمامة العظمى هو الإجماع املنعقد عن دليل �رضوري من‬ ‫يعبون عنه تارة بالإجماع وتارة باملعلوم �رضورة‪.‬‬ ‫ال�رشع وهو الذي رِّ‬ ‫وقد تقدم من كالم �إمام احلرمني ما ير�شد لذلك �إذ قال‪�« :‬إذا �أجمع علماء‬ ‫الع�رص على حكم �رشعي وقطعوا به‪� »..‬إىل �آخر ما تقدم‪.‬‬ ‫وقال امل�ؤلف يف �صحيفة ‪� 23‬إن مقام اخلالفة كان منذ اخلليفة‬ ‫‪9‬‬


‫نقد علمي‬

‫الأول عر�ضة للخارجني عليه املنكرين له �إلخ وهو كالم يزيفه التاريخ‬ ‫واحلديث والفقه‪ :‬ف�إن بيعة �أبي بكر مل ينكرها �أحد من امل�سلمني وال‬ ‫دعا داع ملنازعته‪ ،‬ولكن خرجت طوائف من العرب منهم من خرج من‬ ‫جامعة الإ�سالم وهذا ال حجة فيه‪ ،‬ومنهم من منع حق الزكاة ور�أى �أن‬ ‫ذلك من حقوق النبي ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬فقط فما خرجوا املنازعة‬ ‫يف الوالية‪ ،‬وح�سبك ما ثبت يف ال�صحيح �أن عمر قال لأبي بكر ر�ضي‬ ‫اهلل عنهما ملا عزم على قتالهم‪ :‬كيف تقاتلهم وقد قالوا ال �إله �إال اهلل‬ ‫حممد ر�سول اهلل؟ فقال �أبو بكر‪ :‬واهلل لو منعوين عقا ًال كانوا ي�ؤدونه �إىل‬ ‫ر�سول اهلل لقاتلتهم عليه‪ ،‬وبعد‪ ،‬فهل يف فعل اجلفاة من الأعراب حجة‬ ‫دينية و�إثبات حال م�س�ألة اجتماعية؟ دام خ�ضوع امل�سلمني للخليفة مدة‬ ‫اخللفاء الثالثة حتى خرج �أهل م�رص على عثمان ر�ضي اهلل عنه ولي�س‬ ‫ذلك اخلروج �إنكاراً للخالفة‪ ،‬ولكنه خروج عن �شخ�ص اخلليفة على �أن‬ ‫ذلك لي�س من فعل من يعتد بفعله من �أهل العلم وذوي احلل والعقد‪.‬‬ ‫ف�إن كان امل�ؤلف يحوم بهذا التحليق حول الوقوع على مذهب‬ ‫طوائف من اخلوارج كما �أر�سى عليه يف �صحيفة ‪ 23‬فقد ظهر مطاره‬ ‫وعلم مقداره‪ .‬وقال يف �صحيفة ‪« :25‬غري �أننا �إذا رجعنا �إىل الواقع‬ ‫ونف�س الأمر وجدنا اخلالفة يف الإ�سالم مل ترتكز �إال على �أ�سا�س القوة‬ ‫الرهيبة �إلخ»‪ ،‬وقد ا�شتبه عليه هنا حياطة اخلالفة بالقوة العامة لتنفيذ‬ ‫ال�رشيعة على من ي�أباها ب�أخذ اخلالفة بوا�سطة القوة‪ ،‬وقد كان الر�سول‬ ‫نف�سه ي�ؤيد الدين ويذب عنه من يريد مناو�أته بوا�سطة القوة‪ .‬نعم نحن ال‬ ‫ننكر �أن من الأمراء من ا�ستعمل القوة لنوال االمارة �إال �أن ذلك ال يقدح‬ ‫يف ماهية اخلالفة لأن العوار�ض التي تعر�ض لل�شيء يف بع�ض الأوقات‬ ‫ال تق�ضي على الأ�صل بالبطالن‪.‬‬ ‫ثم �أفا�ض القول من �صحيفة ‪� 27‬إىل �صحيفة ‪ 31‬بيان �أن �سبب �إباية‬ ‫امل�سلمني من �إقامة اخلليفة ‪� -‬إال �إذا قهرهم وغلبهم ‪� -‬أن ذلك نا�شئ‬ ‫‪10‬‬


‫عودتهم تعاليم الإ�سالم من فكرة الإخاء وامل�ساواة وترك اخل�ضوع‬ ‫عما َّ‬ ‫لغري اهلل‪ ،‬و�أيد ذلك مبا حدث من التغالب على الإماراة يف بع�ض وقائع‬ ‫التاريخ الإ�سالمي فك�أنه ينزع بذلك �إىل �أن دين الإ�سالم بث يف متابعيه‬ ‫مبادىء الفو�ضى‪ ،‬و�أنه ال تعقل خالفة عادلة (يف نظره) �إال �إذا كان‬ ‫مت�شه‬ ‫�صاحبها مغلول اليدين ميتثل لكل خارج‪ ،‬ويغ�ض النظر عن كل‬ ‫ٍّ‬ ‫وال يذب عن اجلامعة من يعتدي عليها‪ .‬ثم عاد يف �صحيفة ‪ 31‬و�صحيفة‬ ‫‪� 32‬إىل �إبطال انعقاد الإجماع يف الإ�سالم على اخلالفة مبا ي�ؤول �إىل‬ ‫�أن �سكوتهم �إمنا كان عن تقية وخوف وهي قولة لبع�ض الرواف�ض يف‬ ‫اعتذارهم عن �سكوت علي ‪ -‬ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬و�أمثاله للخلفاء الثالثة قبله‬ ‫و�سخافتها ظاهرة‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫هذا حا�صل ما يتعلق بالرد على موا�ضع الزلل من كالم م�ؤلف‬ ‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم يف الكتاب الأول منه‪ ،‬وقد تعني �أن نذكر الآن‬ ‫خال�صة جتمع ف�صل املقال يف هاته الردود وننبه �إىل ما وقع له من‬ ‫الأغالط يف �صحائف ‪ 38-37-36-35-34-33‬فنقول‪:‬‬ ‫�إن اخلالفة الإ�سالمية التي م�سماها ما حددها به الإمام الرازي يف‬ ‫النهاية بقوله‪« :‬هي خالفة �شخ�ص للر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يف‬ ‫�إقامة ال�رشع وحفظ امللة على وجه يوجب اتباعه على كافة النا�س»‪ ،‬هي‬ ‫عبارة عن حكومة الأمة الإ�سالمية‪ ،‬وهي والية �رضورية حلفظ اجلامعة‬ ‫و�إقامة دولة الإ�سالم على �أ�صلها‪ .‬ومما يجب علمه هنا �أن الإ�سالم دين‬ ‫مع�ضد بالدولة و�أن دولته يف �ضمنه لأن امتزاج الدين بالدولة ‪ -‬كون‬ ‫مرجعهما واحد ‪ -‬هو مالك قوام الدين ودوامه ومنتهى �سعادة الب�رش‬ ‫يف اتباعه حتى ال يحتاج الدين ‪ -‬الذي هو م�صلح الب�رش ‪ -‬يف ت�أييده‬ ‫�إىل الوقوف ب�أبواب غري بابه‪ .‬واخلالفة فهذا املعنى احلقيقي لي�ست لقب ًا‬ ‫يعطى لكبري وال طريق ًا روحاني ًا يو�صل الروح �إىل عامل امللكوت‪� ،‬أو يربط‬ ‫‪11‬‬


‫نقد علمي‬

‫النفو�س يف الدين ب�أ�سالك نورانية بل هي خطة حقيقية جتمع الأمة‬ ‫الإ�سالمية حتت وقايتها بتدبري م�صاحلها وال َّذ ّب عن حوزتها‪.‬‬ ‫و�إن اخلالفة بهذا املعنى ظهرت يف �صدر الإ�سالم يف �أجلى مظاهرها‪،‬‬ ‫ثم �أخذت تت�ضاءل من عهد اخلليفة الرابع‪ ،‬فلم تزل يف ت�ضا�ؤل وتراجع‬ ‫ومر�ض و�سالمة �إىل �أوا�سط الدولة العبا�سية‪� ،‬إذ ا�ستمر خروج اخلارجني‬ ‫حتى بلغت �إىل حد �صارت به بقية ا�سم يورث ولي�س ل�صاحبها من احلظ‬ ‫ كما قال ابن اخلطيب يف رقم احللل‪:‬‬‫من كل حمجوب عن الأمر بري‬ ‫�إال الدعاء فوق عود املنرب‬ ‫�سوغته عالقة اعتبار‬ ‫ف�صاراللقب يومئذ جمازاً ال حقيقة‪� ،‬إال �أنه جماز َّ‬ ‫ما كان‪ ،‬ولو �أريد �إعطا�ؤه من �أول الأمر على تلك احلالة ملا كان‪� .‬إذ كيف‬ ‫مينح هذا اللقب ملن يكون حاله بعد منحه كحاله قبله؟ وماذا ي�ستطيع‬ ‫�أن يفعل �إذا كان �أعزل عن كل قوة؟ وهل ي�ستطيع بالألقاب اللفظية �أن‬ ‫الهوة؟ وكيف يطمع يف ذلك من ال يدفع عن نف�سه‪ ،‬وال يكون‬ ‫ي�ساب من َّ‬ ‫غده �أف�ضل من �أم�سه؟ فلي�س �إيجاد هذا املن�صب ال�سامي من باب �إيجاد‬ ‫املوهوم كما حتاوله جميعات اخلالفة اليوم وال �أح�سب هذا ي�شتبه على‬ ‫من له حظ من العلوم‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫الكتاب الثاين ‪ -‬احلكومة والإ�سالم‬ ‫«الباب الثاين ‪ -‬الر�سالة واحلكم»‬

‫تكلم يف �صحائف ‪ 52-51-50-49-48‬على �أن النبي ‪� -‬صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ‪ -‬هل ثبت له و�صف امللك مع و�صف الر�سالة؟ وهل يف‬ ‫هذا البحث حرج؟ وهل َو�صف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بامللك �أو عدم‬ ‫وفرق بني‬ ‫و�صفه به مي�س جوهر الإ�سالم‪� ،‬أو مي�س بالباحث يف ذلك؟ َّ‬ ‫مفهوم الر�سالة ومفهوم امللك‪ ،‬و�أثبت �أن بع�ض الر�سل مل يكونوا ملوك ًا‬ ‫�إلخ‪ .‬وكل ذلك م�سلم ال نزاع فيه‪ .‬و�إننا �إن نظرنا �إىل امل�سميات فال منافاة‬ ‫وم�سمى الر�سالة �إذ امللك عبارة عن تويل �أحد لأمر‬ ‫م�سمى امللك‬ ‫ّ‬ ‫بني ّ‬ ‫�أمة يتوىل �ش�ؤونها و�سيا�ستها وتنفيذ �رشيعتها بالرغبة والرهبة‪ ،‬وذلك‬ ‫مما ينفذ مقا�صد الر�سالة‪ ،‬ويكمل خطتها كما �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من �أن‬ ‫تعا�ضد الدين والدولة واجتماعهما يف جهة واحدة �أجلى مظاهر الدين‬ ‫م�سمى امللكية لر�سول �أو نبي‪،‬‬ ‫و�أن�سب ب�رشفه االلهي‪ ،‬فال ما نع من ثبوت ّ‬ ‫وقد حكى القر�آن عن �سليمان ‪ -‬عليه ال�سالم ‪ -‬قوله‪« :‬وهب يل ملك ًا ال‬ ‫‪13‬‬


‫نقد علمي‬

‫ينبغي لأحد من بعدي»‪ .‬غري �أن لفظ امللك ملا علق به منذ الأزمنة القدمية‬ ‫من عوار�ض اجلربوت والرتف واللهو عن احلقيقة وال�شغل بال�سفا�سف‬ ‫وا�ستخدام القوة يف الظلم واالعتداء والف�ساد يف الأر�ض �صارت هاته‬ ‫الأو�صاف وتوابعها ت�سبق للأذهان عند �سماع لفظ ملك وملك‪ ،‬فلأجل‬ ‫ذلك ِ‬ ‫حتا�شي النا�س عن و�صف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بامللك �أو‬ ‫بكونه ملك ًا وي�شهد لهذا ما وقع لأبي �سفيان مع العبا�س بن عبداملطلب‬ ‫يوم ا�سلم �أبو�سفيان قبيل يوم فتح مكة‪ ،‬ثم وقف مع العبا�س ي�شاهد‬ ‫متر بني يديه وهو ي�س�أل العبا�س عن كل‬ ‫كتائب جي�ش الفتح املبارك ُّ‬ ‫يعرفه قبائلها‪ ،‬فلما بهره ذلك امل�شهد قال للعبا�س «قد‬ ‫كتيبة والعبا�س ِّ‬ ‫�أ�صبح ملك �أخيك عظيم ًا» ف�أنكر عليه العبا�س قوله «ملك» وقال له‪� :‬إمنا‬ ‫هي ر�سالة ال ملك‪ ،‬وقد كنت ا�سمع من رجل عظيم من �أهل العلم وال�سيا�سة‬ ‫يعد‬ ‫قد�س اهلل روحه ينكر على ابن خلدون حتوميه يف موا�ضع حول �أن ّ‬ ‫ع�رص النبوة ع�رصاً ملكي ًا‪ ،‬ويعلل �إنكاره ب�أن و�صف النبوة �أعظم و�أ�شمل‬ ‫من و�صف ر�سخت له يف نفو�س النا�س عوار�ض غري حممودة �صارت‬ ‫كاللوازم له‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫ثم قال يف �صحائف ‪� :54-53-52‬إن دعوة الدين دعوة �إىل اهلل‬ ‫بتحريك القلوب بو�سائل الإقناع ف�أما القوة والإكراه فال ينا�سبان دعوة‬ ‫غر�ضها هداية القلوب‪ ،‬وما عرفنا يف تاريخ الر�سل رج ًال حمل النا�س‬ ‫على الإميان بحد ال�سيف‪ :‬ثم تال �آية الإكراه يف الدين وغريها وقال‪:‬‬ ‫و�إذا كان �صلى اهلل عليه و�سلم قد جل�أ �إىل القوة فذلك ال يكون يف �سبيل‬ ‫الدعوة �إىل الدين‪ ،‬وما نفهم �إال �أنه كان يف �سبيل امللك ولتكوين احلكومة‬ ‫�رس اجلهاد ومثله الزكاة واجلزية والغنائم‪ ،‬فذلك‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬فذلك هو ّ‬ ‫خارج عن وظيفة الر�سالة من حيث هي وبعيد عن عمل الر�سل‪ ،‬وكذلك‬ ‫توجيه الأمراء �إلخ‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫وهنا قد ارتكب امل�ؤلف �رضوب ًا من اخلط�أ ف�أما زعمه �أن الدعوة‬ ‫�إىل الدين تنايف ا�ستعمال القوة والإكراه فمردود‪ ،‬لأن الدعوة للدين‬ ‫يق�صد منها حمل النا�س على �صالح �أمرهم فاالبتداء بالدعوة ظاهر ثم‬ ‫�إن هم عاندوا وجحدوا ومل تقنعهم الدعوة والأدلة فال جرم �أن يكون‬ ‫ا�ست�صالحهم هو القوة كما يحمل ال�صبي على �صالحه بالت�أديب‪ ،‬وكما‬ ‫يحمل �أفراد النا�س على االمتثال لل�رشيعة بالرغبة والرهبة‪ .‬وهذا ال ي�شك‬ ‫فيه عامل مت�رشع بل وال عامل قانوين‪.‬‬ ‫يدعي �أن ا�ستعمال القوة لي�س من توابع الر�سالة وجعله‬ ‫و�إذا كان ّ‬ ‫ت�رصف ًا من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ب�صفة امللك وال�سيا�سة فهل‬ ‫يدعي �أي�ض ًا �أن تعر�ض القر�آن لذلك يف نحو �آية «فقاتلوا التي تبغى حتى‬ ‫ت�رصف بال�سيا�سة وال ي�سعه �إال التزام ذلك‪،‬‬ ‫تفيء �إىل �أمر اهلل»‪ ،‬هو �أي�ض ًا ُّ‬ ‫ف�إذا ي�صري القر�آن مع كونه كتاب دين هو �أي�ض ًا د�ستور �سيا�سة وكفى‬ ‫بهذا خبط ًا‪ ،‬ف�إن �أ�صاب ف�أجاب ب�أن ال�رشيعة وال�سيا�سة �أخوان‪ ،‬و�أنه ال‬ ‫يتم �رشع بدون امتزاجه باحلكومة فقد تاب �إىل احلق وعلم �أن البد من‬ ‫الأمرين ل�صالح اخللق‪.‬‬ ‫و�س ّماه اجلهاد يف �سبيل‬ ‫ال جرم �أن اهلل تعاىل ذكر اجلهاد يف كتابه َ‬ ‫اهلل فكيف يعده امل�ؤلف من �أمثلة ال�ش�ؤون امللكية بعد �أن �أثبت الفرق‬ ‫بينها وبني �أحوال الر�سالة‪ .‬ولقد جتاوز هذا احلد يف �صحيفة ‪54‬‬ ‫فجعل �أخذ الزكاة واجلزية والغنائم من �ش�ؤون احلكومات خارج ًا عن‬ ‫وظيفة الر�سالة وبعيداً عن �أعمال الر�سل باعتبار �أنهم ر�سل فح�سب‪.‬‬ ‫وهذا كالم �إن �أراد به التفرقة بني مفهوم الر�سالة املجردة والر�سالة‬ ‫املقرتنة بال�سلطان فهو �صحيح‪ ،‬لكنه ال فائدة فيه هنا و�إن �أراد �إثبات‬ ‫�أنه غري الر�سالة و�أنه عمل حكومة و�أنه قد اتفق يف الوجود �أن �صار‬ ‫امللك ر�سو ًال و�صار الر�سول ملك ًا مع تنايف ال�صفتني ف�سخافة ذلك ال‬ ‫تخفى القت�ضائها �أن يكون الر�سول قد ي�شتغل بالر�سالة يف �أوقات ثم‬ ‫‪15‬‬


‫نقد علمي‬

‫يتفرغ عنها �إىل اال�شتغال يف �أوقات �أخرى ب�صناعة امللك‪ .‬كيف واهلل‬ ‫أعلم حيث يجعل ر�سالته»؟ ثم �أ َّنى يكون �صحيح ًا وهذا‬ ‫تعاىل يقول‪« :‬اهلل � ُ‬ ‫القر�آن قد قرن ال�صالة بالزكاة يف كثري من �آياته؟‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫ثم ذكر امل�ؤلف يف �صحيفة ‪ 59‬بحث ًا يف �أن ت�أ�سي�س النبي للمملكة‬ ‫وجوز �أن يكون ذلك‬ ‫الإ�سالمية هل يكون خارج ًا عن حدود ر�سالته َّ‬ ‫خارج ًا عن حدود الر�سالة‪ ،‬و�أن القول به ال يكون كفراً وال �إحلاداً وت� ّأوله‬ ‫ب�أنه مراد قول بع�ض ال ِف َرق ب�إنكار اخلالفة يف الإ�سالم �إلخ‪.‬‬ ‫ولقد �أف�صح هنا عن مقاربته اختيار قول غالة اخلوارج بعدم ن�صب‬ ‫الإمامة بني النا�س لأنه ال يلتئم مع ما قدمه من �أن ت�أ�سي�س احلكومة‬ ‫الإ�سالمية غري داخل يف مفهوم الدين الذي �أر�سل لأجله النبي حتى ال‬ ‫يلزم اقتفاء النبي فيما منع منه‪.‬‬ ‫�إال �أن اال�ستدالل ينقلب عليه ب�أن ما ا�ستدل به لنف�سه وللخوارج هو‬ ‫عليهم ال لهم لأنه �إذا كان ذلك عم ًال زائداً على الر�سالة فقد فعله النبي‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ف�إذا �س َّلمنا �أنه لكونه خارج ًا عن حقيقة الر�سالة ال‬ ‫يجب اتباعه �رشع ًا يف كل زمان فهل مننع �أن �أحد احلالني هو االقتفاء‬ ‫بالنبى فيما فعله ف�إنه ما فعل �إال ما كان فيه ال�صالح‪ ،‬فيكون ت�أ�سي�س‬ ‫احلكومة من مقا�صد ال�شارع‪ .‬ثم �إنه قال يف �صحيفة ‪� 55‬إن هذا الر�أي‬ ‫يراه بعيداً‪.‬‬ ‫تعر�ض من �صحيفة ‪� 56‬إىل �صحيفة ‪ 62‬لكالم فر�ضه على وجه‬ ‫ثم َّ‬ ‫ف�رصح ب�أن ر�أي اجلمهور �أن �إقامة اململكة الإ�سالمية عمل‬ ‫االحتمال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫متمم للر�سالة وداخل فيها غري �أن العلماء �أغفلوا اعتبار �رشط التنفيذ‬ ‫ِّ‬ ‫يف حقيقة الر�سالة �إال ابن خلدون‪ ،‬و�ساق كالمه بعد �أن قدم يف �صحيفة‬ ‫‪� 50‬أن اعتبار النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ر�سو ًال وملك ًا مع ًا هو ر�أي‬ ‫تعجب‬ ‫امل�سلم العامي‪ ،‬وهنا جعله ر�أي العلماء وال�سيما ابن خلدون‪ ،‬ثم َّ‬ ‫‪16‬‬


‫خلو دولة الر�سالة عن كثري من �أركان الدول وعن اخلو�ض يف نظام‬ ‫من ّ‬ ‫امللك �إال �إذا كان ذلك مل يبلغ �إلينا على �أن كثرياً من الأنظمة املتبعة‬ ‫يف الدول �إمنا هو م�صطلحات لي�ست �رضورية لنظام الدولة‪ ،‬وال تنا�سب‬ ‫�أخالق النبي ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬من ترك التكلف وترك الرياء‬ ‫وال�سمعة‪ ،‬فلذلك كان نظام احلكم يف زمانه ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪-‬‬ ‫بعيداً عن التكلفات �إلخ‪ .‬وما �أجدر هذا الكالم ب�أن يكون ف�صل املقال لوال‬ ‫�رصح يف �صحيفة ‪ 62‬و‪ 63‬بعدم ارت�ضائه‪ ،‬فتطلب حلل الإ�شكال‬ ‫�أنه َّ‬ ‫وجه ًا �آخر من ورائه‪.‬‬ ‫وخال�صة احلق يف هذ املبحث �أن امللك العادل احلق ال ينايف‬ ‫الر�سالة بل هو تنفيذ لها و�أن من الأنبياء من اجتمع له امللك والنبوة‬ ‫مثل داود عليه ال�سالم‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪« :‬و�آتاه اهلل العلم واحلكمة وعلمه‬ ‫مما ي�شاء»‪.‬‬

‫الباب الثالث‬ ‫«ر�سالة ال حكم‪ ،‬ودين ال دولة»‬ ‫ذكر من �صحيفة ‪� 64‬إىل �صحيفة ‪ 70‬ما خال�صته‪� :‬أن النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم مل يكن له ملك وال حكومة وال قام بت�أ�سي�س مملكة‪ :‬نعم �إن‬ ‫الر�سالة ت�ستلزم للر�سول نوع زعامة يف قومه‪ ،‬وما هي كزعامة امللوك‬ ‫على رعيتهم ف�إن زعامة مو�سى وعي�سى مل تكن زعامة ملوكية كما �أن‬ ‫الر�سالة ت�ستلزم ل�صاحبها نوع ًا من القوة وت�ستلزم له �سلطان ًا �أو�سع مما‬ ‫يكون بني احلاكم واملحكومني وبني الأب و�أبنائه‪ .‬وقد ي�سو�س الر�سول‬ ‫الأمة �سيا�سة امللوك وله وظيفة زائدة وهي ات�صاله ب�أرواح الأمة ال�سيما‬ ‫ور�سول اهلل ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬جاء بدعوة عامة‪ ،‬فهي توجب له‬ ‫من ت�أييد اهلل ما ينا�سب تلك الدعوة‪ .‬فلذلك كان �سلطانه �سلطان ًا عام ًا له‬ ‫‪17‬‬


‫نقد علمي‬

‫�أق�صى ما ميكن من درجات نفوذ القول‪ ،‬وهو �سلطان تر�سله ال�سماء‪ ،‬وهي‬ ‫والية روحية ال والية تدبري م�صالح احلياة وعمارة الأر�ض �إلخ‪.‬‬ ‫�سقنا خال�صة كالمه ليظهر هنا مقدار ا�ضطرابه ف�إن �أوله ينكر �أن‬ ‫تكون للر�سول حكومة‪ ،‬ثم �أثبت زعامته ثم حكم ب�أنها �أقوى من زعامة‬ ‫�صاحب احلكومة‪ ،‬ثم �أثبت �أنها قد تكون مثل �سيا�سة امللوك‪ ،‬ثم �أثبت له‬ ‫�سلطان ًا عام ًا‪ ،‬ثم جعل �سلطانه مر�س ًال من ال�سماء‪ ،‬ثم حكم ب�أن واليته‬ ‫روحية ال والية تدبري م�صالح �إلخ‪،‬وال يعزب عن ذي م�سكة ما يف هذا‬ ‫الكالم من اال�ضطراب وف�ساد الو�ضع بالن�سبة لإثبات الدعوى التي عقد‬ ‫لها الباب وهي قوله‪ :‬ر�سالة ال حكم ودين ال دولة‪ ،‬وقوله يف طالعها‪� :‬إن‬ ‫الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن له ملك وال قام بت�أ�سي�س مملكة‪ .‬ثم‬ ‫نحن ن�سائله‪ :‬هل كانت الأمة يف زمن النبوة ذات نظام وحكومة �أم كانت‬ ‫فو�ضى؟ ف�إن اختار الأول ف�إما �أن تكون حكومة الأمة يومئذ بيد النبي‬ ‫�أو بيد غريه‪ ،‬ف�إن كانت بيد النبي فقد ثبتت احلكومة املقارنة للر�سالة‬ ‫وبطُ ل ما �أ�س�سه امل�ؤلف و�أعاله‪ ،‬ورجعنا �إىل اعتبارات امل�سميات دون‬ ‫َ‬ ‫الأ�سماء وهو ال�صواب والر�شد‪ ،‬و�إن فر�ضت بيد غري النبي فالتاريخ ينايف‬ ‫�إثباتها والعقل يقت�ضي �أن وجود الر�سالة معها ي�صري عبث ًا‪.‬‬ ‫و�إن اختار �أن الأمة يومئذ باقية على الفو�ضى فما تنفع الر�سالة هذه‬ ‫قيمة لكالمه يف هاته ال�صحائف‪ .‬ف�إن قال �إنها زعامة وقتية ال تثبت‬ ‫لأحد بعد الر�سول فقد رجع لقول بع�ض عرب الردة وبع�ض اخلوارج وقد‬ ‫�أبطلناه‪ .‬و�أما تنظريه بزعامة مو�سى وعي�سى عليهما ال�سالم فبع�ضه‬ ‫�صحيح وب�ضعه باطل‪ :‬ف�إن مو�سى �أ�س�س جامعة وحكومة‪ ،‬وجاهد‪ ،‬وفتح‬ ‫البلد املقد�س‪ ،‬و�أما عي�سى فجاء داعي ًا فقط‪ ،‬ونحن ال نقول �إن كل ر�سول‬ ‫له حكومة بل نقول �إن بع�ض الر�سل �أر�سل بالدين وع�ضد باحلكومة‪ .‬وهذا‬ ‫كما �رشحناه �أو ًال هو �أكمل مظاهر الر�سالة‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫‪18‬‬


‫ثم قال يف �صحيفة ‪� 70‬إىل نهاية �صحيفة ‪� 75‬إن الإ�سالم وحدة‬ ‫دينية دعا لها النبي و�أمتها‪ ،‬وقد كان هو مديرها ومنفذها‪ ،‬و�أن من �أراد‬ ‫ي�سمي تلك الوحدة دولة وملك ًا فهو يف ِح ّل فما هي �إال �أ�سماء‪ ،‬واملهم‬ ‫�أن ّ‬ ‫هو املعنى وقد حددناه لك حتديداً‪ ،‬و�إمنا املهم �أن نعرف هل كان ‪� -‬صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ر�سو ًال فقط �أم كان ر�سو ًال وملك ًا؟ و�أن ظواهر القر�آن ت�ؤيد‬ ‫�أنه مل يكن له �ش�أن يف امللك ال�سيا�سي (و�ساق �آيات كثرية تخيلها �شاهدة‬ ‫ملدعاه) تنفي �أن يكون الر�سول حفيظ ًا �أو وكي ًال �أو جباراً �أو م�سيطراً‪،‬‬ ‫و�أنه ك�سائر الر�سل‪ ،‬و�أنه مل يكن من عمله غري �إبالغ الر�سالة‪ .‬و�أقول‬ ‫الإ�سالم وحدة دينية وجامعة و�رشيعة و�سلطان وال معنى للحكومة �إال‬ ‫مبجموع هاته الأمور‪ ،‬و�أي �شيء مييزه عن احلكومة وقد جمع الأمة يف‬ ‫و�س َّن لها قوانني معامالتها الفردية واالجتماعية وتوىل بنف�سه‬ ‫دعوته َ‬ ‫االنت�صاف من املظلوم للظامل فق�ضى وغرم و�أقام احلدود من العقوبات‬ ‫و�أبطل كل �سلطة ورئا�سة مدنية لي�ست جارية على �أ�صول الإ�سالم كما‬ ‫ي�شهد له حديث �إ�سالم بني حنيفة وما عر�ضه م�سيلمة الكذاب حني �رشط‬ ‫لقبوله دين الإ�سالم �أن يجعل �أعداءها ومن يريد تفريق جامعتها ثم‬ ‫قاتل لتو�سيع �سلطانها وت�أمني بالدها و�رشع لها موارد مالية لإقامة‬ ‫م�صاحلها �أفتقوم الدولة واحلكومات بغري هذه الأعمال دع عنك ما‬ ‫يعر�ض لها من الألقاب الفارغة والر�سوم املعتادة واملواكب العري�ضة‪.‬‬ ‫�أما ما احتج به من الآيات يف �صحيفة ‪ 71‬و�صحيفة ‪ 72‬فهو احتجاج‬ ‫من مل يفهم داللة �ألفاظها ف�إنها نفت �أن يكون وكي ًال �أو م�سيطراً على‬ ‫الذين �أبوا قبول دعوته من امل�رشكني ال على من �آمن به من امل�سلمني‬ ‫وامل�ؤلف �ساقها يف االحتجاج على نفي �سلطانه يف دائرة اجلامعة‬ ‫الإ�سالمية ف�أخط�أ فيه‪.‬‬ ‫�أما بقية الآيات يف �صحائف ‪ 75 - 74 - 73‬فمنها ما �ساقه يف‬ ‫تفوي�ض احلول والقوة هلل تعاىل ومنها ما فيه �صيغة ح�رص حاله �صلى‬ ‫‪19‬‬


‫نقد علمي‬

‫اهلل عليه و�سلم يف النبوة �أما النذارة �أو الب�رشية �أو البالغ وا�ستدالله بها‬ ‫يدل على �أنه ال ُيح�سن باب الق�رص من علم املعاين وال يفرق بني احلقيقي‬ ‫والإ�ضايف وال يفرق مفاد الق�رص الإ�ضايف من قلب �أو تعيني �أو �إفراد‪ .‬فما‬ ‫عليه �إال �إتقانه ليعلم ما �أفاده برهانه‪.‬‬ ‫ثم ا�ستدل يف �صحيفة ‪ 76‬بقوله �صلى اهلل عليه و�سلم للذي تلجلج بني‬ ‫يديه «هون عليك ف�إين ل�ست مبلك»‪ ،‬وبقوله «فاخرتت �أن �أكون نبي ًا عبداً»‬ ‫�إلخ‪ .‬وهذا ا�ستدالل �سف�سطاءي مبني على اختالف معاين اللفظ الواحد فقد‬ ‫�أو�ضحناه غري مرة �أن امللك والقهر لل�ضعفاء وم�شاركة اخلالق يف �صفة‬ ‫الكربياء‪.‬‬ ‫و�أعجب من هذا كله ا�ستدالله يف �صحيفة ‪ 78‬على نفي �أن يكون‬ ‫النبي له حكم يف الأغرا�ض الدنيوية بقوله �صلى اهلل عليه و�سلم �أنتم‬ ‫«�أعلم ب�أمور دنياكم» بعد �أن حذف منه جذره و�سببه‪ .‬وهذا �أي�ضا من‬ ‫ال�سف�سطة لأن الدنيا تطلق على هذا العامل ب�أ�رسه وهي مزرعة الآخرة‬ ‫ومطية اجلنة �أو النار وتطلق على ما عدا الأمور الدنية واملعاين العلمية‬ ‫فيقال هذا الإطالق بالدين وباحلق و�إطالق احلديث من هذا الثاين لأنه‬ ‫راجع �إىل �إ�صالح النخل بالتابري ولي�س من يطلق على ما عر�ض مل�سماه‬ ‫من مظاهر اجلربوت �رشط الر�سول وال امللك �أن يكون عامل ًا مبا يتجاوز‬ ‫ر�سالته وحكمه من �أحوال ال�صنايع واحلرف‪.‬‬ ‫املنعم الأ�ستاذ ال�شيخ‬ ‫ثم احتج يف �صحيفة ‪ 79‬بكلمات �صدرت عن‬ ‫َّ‬ ‫حممد عبده يف ر�سالة التوحيد يف �ش�أنها اجلهاد الواقع يف ع�رص النبوة‬ ‫ب�أنه جهاد لإقامة احلق وب�أبيات يف املعنى لل�شاعر �أحمد �شوي وكل ذلك‬ ‫�إمنا ينفع لإثبات �أن جهاده �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن لق�صد اال�ستكثار‬ ‫من الدنيا وال لإفزاع الآمنني ولكنه كان لت�أييد احلق و�إي�صال النفع‪ .‬فماذا‬ ‫يغني عنه هذا الكالم يف �إثبات �أن احلكومة لي�ست من �شعار الإ�سالم‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫الكتاب الثالث‬

‫اخلالفة واحلكومة يف التاريخ‬ ‫(الباب الأول ‪ -‬الوحدة الدينية والعرب)‬ ‫قدم مقدمة يف �أن الإ�سالم دعوة خلري الب�رش كله ورابطة لهم يف �أقطار‬ ‫الأر�ض و�أن اهلل اختار ظهوره بني العرب حلكمة و�أن �أول من اجتمع‬ ‫حوله هم العرب على تخالف �شعوبهم‪ .‬وهي مقدمة �صحيحة م�سلمة �إال‬ ‫�أنه ا�ستنتج منها ما ال يالقيها فقال يف �صحائف ‪� 83‬إىل �صحيفة ‪:89‬‬ ‫�إن هاته الوحدة العربية مل تكن �سيا�سية وال كان فيها معنى من معاين‬ ‫الدولة ف�إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يغري �شيئ ًا من �أ�ساليب احلكم‬ ‫عندهم وال مما كان لكل قبيلة من نظام �إداري وق�ضائي وال عزل والي ًا‬ ‫وال عني قا�ضي ًا‪ ،‬بل ترك لهم كل ال�ش�ؤون وقال �أنتم �أعلم بها و�إن ما‬ ‫ا�شتملت عليه ال�رشيعة من �أنظمة العقوبات واجلي�ش والبيع والرهن لي�س‬ ‫يف احلقيقة من �أ�ساليب احلكم ال�سيا�سي وال من �أنظمة الدولة وهو �إذا‬ ‫جمعته مل يبلغ جزءاً ي�سرياً من لوازم دولة و�إمنا هو �رشع ديني خال�ص‬ ‫هلل ومل�صلحة الب�رش و�أن الرب مع دخولهم حتت جامعة الإ�سالم بقوا دو ًال‬ ‫‪21‬‬


‫نقد علمي‬

‫�شتى بح�سب ما اقت�ضته حياتهم بخ�ضوع العرب للنبي خ�ضوع عقيدة ال‬ ‫خ�ضوع حكومة فلما تويف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أو�شكت �أن تنق�ض‬ ‫تلك الوحدة العربية وارتد �أكرث العرب �إال �أهل املدينة ومكة والطائف‪ .‬وقد‬ ‫تويف �صلى اهلل عليه و�سلم من غري �أن ي�شري �إىل �شيء ي�سمى دولة ومن‬ ‫غري �أن ي�سمي �أحداً يخلفه �أ‪.‬هـ‪.‬‬ ‫و�أقول لي�س احلق ما ذكره ف�إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أقام للنا�س‬ ‫�أمر دنياهم �إذ املق�صود من الدين �صالح العاجل والآجل وال يتم �صالح‬ ‫العاجل �إال ب�إقامة من يحمل النا�س على ال�صالح بالرغبة والرهبة وقد‬ ‫ن�ص القر�آن على والية الأمر فقال «ي�أيها الذين �آمنوا اطيعوا اهلل واطيعوا‬ ‫الر�سول و�أويل الأمر منكم» وال جرم �أن دين الإ�سالم قد �رشعه اهلل �رشع ًا‬ ‫تدريجي ًا فابتد�أ دين ًا يدعو النا�س لأ�صول ال�صالح بتطهري النف�س وذلك‬ ‫ب�إعالن التوحيد و�آداب النف�س من العبادات والأمر بالعدل فلما تهي�أت‬ ‫النفو�س لقبول ال�رشيعة �أخذ الت�رشيع ينمو حتى بلغ �أو�سع تفاريعه فكان‬ ‫يف هذا التدرج حكمة �إلهية (وقالوا لوال ن ّزل عليه القر�آن جملة واحدة‬ ‫لنثبت به ف�ؤادك) و�إذا علمنا �أن الإ�سالم �رشع �أوجب على النا�س‬ ‫كذلك ّ‬ ‫التعامل ب�أحكامه فغري عوائدهم وقمع املعاندين من ر�ؤ�سائهم وتركهم‬ ‫م�سلوبي ال�سلطة وعو�ضهم بر�ؤ�ساء وامراء وق�ضاة من متابعيه وهذا ما‬ ‫ال يرتاب فيه من له اطالع على احلديث وال�سرية والتاريخ فقد وجه النبي‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم امراءه �إىل اجلهات التي �أ�سلم �أهلها من بالد العرب‬ ‫وقرر من قرر من �أقيال اليمن على ما ب�أيديهم حني �أ�سلموا على �أنهم‬ ‫قائمون مقام امرائه كما فعل مع وائل بن حجر َق ْيل ح�رضموت وجعله‬ ‫رئي�س �أقيال بالد اليمن وقد قدمنا فيما تقدم من املباحث �أن مظاهر‬ ‫الدولة كلها متوفرة يف نظام ال�رشيعة الإ�سالمية و�أعظمها احلرب وال�صلح‬ ‫والعهد والأ�رس وبيت املال والإمارة والق�ضاء و�سن القوانني والعقوبات‬ ‫�إىل �أق�صاها وهو الإعدام‪ ،‬بحيث مل يغادر �شيئ ًا مما يلزم لإقامة نظام‬ ‫‪22‬‬


‫داع‬ ‫يدع �إليها ٍ‬ ‫�أمة بح�سب الع�رص والقوم وما ترك من التفا�صيل التي مل ُ‬ ‫يومئذ �إال وقد �أ�س�س له �أ�صو ًال ميكن ا�ستخراج تفا�صيلها منها كما هو‬ ‫فرطنا يف الكتاب‬ ‫معلوم من علم �أ�صول الفقه وهو معنى قوله تعاىل ما ّ‬ ‫من �شيء على ما بينه ال�شاطبي يف كتاب املوافقات‪،‬‬ ‫علمنا بال ريب �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد �أ�س�س بيده �أ�صول‬ ‫الدولة الإ�سالمية و�أعلن ذلك بن�ص القر�آن وقد قال تعاىل «و�أنزلنا �إليك‬ ‫الكتاب باحلق م�صدق ًا ملا بني يديه من الكتاب ومهيمنا عليه» �إىل قوله‬ ‫«�أفحكم اجلاهلية يبغون ومن �أح�سن من اهلل حكما لقوم يعقلون» وكيف‬ ‫ي�ستقيم �أن يكون الإ�سالم �رشيعة ثم ال يكون له حكومة تنفذ تلك ال�رشيعة‬ ‫وحتمل الراعي والرعية على العمل بها ف�إنه لو وكل الأمر الختيار النا�س‬ ‫لأو�شك �أن ال يعمل به �أحد‪ ،‬ولي�ست الدولة �إال �سلطان ًا حتيي به ال�رشيعة‬ ‫كما قال �أر�سطو‪.‬‬ ‫لأجل هذا كله مل يرتدد �أهل احلل والعقد يف م� ِرص الإ�سالم وهو املدنية‬ ‫عند وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف وجوب املبادرة ب�إقامة اخلليفة‬ ‫عن النبي يف تدبري �أمر الأمة‪ ،‬مع القطع ب�أنه ال يخلفه يف غري ذلك من‬ ‫الت�رشيع وتبليغ الر�سالة‪ .‬وهذا اخلليفة و�إن جارينا �صاحب الكتاب يف‬ ‫�أنه مل يعينه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فقد كانت ت�سميته ب�إجماع �أهل‬ ‫العلم والدين من �أ�صحاب النبي املهاجرين والأن�صار وذلك الإجماع‬ ‫حجة �أعظم من خرب �أو خربين‪ .‬على �أنه ثبت �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫�رصح ب�إقامة اخلليفة من بعده فقد ورد يف �صحيح البخاري وغريه عن‬ ‫جبري بن مطعم �أن امر�أة �أتت النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أمرها ب�أمر‬ ‫فقالت �أر�أيت يا ر�سول اهلل �إن مل �أجدك ‪ -‬ك�أنها تعني املوت ‪ -‬فقال لها‬ ‫�إن مل جتديني ف� ِأت �أبابكر‪.‬‬ ‫وورد يف حديث �آخر �أنه �صلى اهلل عليه و�سلم قال ي�أبى اهلل وامل�سلمون‬ ‫غري �أبي بكر‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫نقد علمي‬

‫الباب الثاين‬ ‫الدولة العربية‬ ‫�أتى يف هذا الكتاب على بيان �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم زعامته‬ ‫دينية حم�ضة و�أنه بعد وفاته يتعني �أن يكون لأتباعه زعيم بعده لكنها‬ ‫زعامة غري دينية بل �سيا�سية‪ .‬وملا كان العرب يومئذ يف حال نهو�ض‬ ‫فكان من املتعني �أنهم يفكرون يف �إقامة مملكة ف�أقاموا دولة عربية‬ ‫على �أ�سا�س دعوة دينية ولذلك اتفقوا على �إقامة زعيم واختلفوا يف‬ ‫ولكن �أبابكر له‬ ‫الر�ضا ب�أبي بكر فلي�ست �إمارة امل�سلمني مقام ًا ديني ًا‬ ‫ّ‬ ‫مقام ديني لأ�سباب كثرية‪.‬‬ ‫هذا حا�صل كالمه (يف �صحيفة ‪� 90‬إىل ‪ )94‬وقد بناه على ما توهمه‬ ‫من �أن الدين �شيء يخت�ص بالنفوذ الروحي ولذلك قال‪� :‬إن زعامة النبي‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم دينية فقط‪ .‬وقال �إن زعامة من بعده لي�ست دينية‬ ‫لأن الزعامة الدينية انق�ضت بوفاة النبي‪ .‬وكل هذا خط�أ قد بيناه فيما‬ ‫تقدم وقد ادعى �أن اتفاق ال�صحابة على �إقامة زعيم للأمة هو ر�أي‬ ‫�سيا�سي ومن علم �شدة تعلق ال�صحابة بالدين ورف�ضهم كل ما ال تعلق له‬ ‫بالدين علم �أنهم ما �أجمعوا على �إقامة اخلليفة �إال لعلمهم �أنه �أمر مرتبط‬ ‫ب�إقامة الدين �أمت ارتباط‪� ،‬إذ ال انفكاك بني الدين واحلكومة يف الإ�سالم‬ ‫كما قدمناه و�أما اختالفهم يف تعيني اخلليفة من هو فذلك �أمر من لوازم‬ ‫كل انتخاب ولكن املهم هو �أنهم ملا عينوا �أبابكر مل يخالف فيه �أحد‬ ‫و�أجمع عليه امل�سلمون �إال الذين خرجوا من ربقة الإ�سالم‪ .‬ولقد ظهر �سواد‬ ‫ر�أيهم مبا قمع به �أبوبكر �أهل الردة و�أرجعهم �إىل الإ�سالم بعد �أن كادت‬ ‫اجلامعة �أن تنتق�ض‪ .‬ومل يكن �سبب الردة نزوع ًا من العرب �إىل عهدهم‬ ‫القدمي ف�إنه لو كان كذلك لكان �أوىل النا�س به ر�ؤ�سا�ؤهم و�أعيانهم مثل‬ ‫�أبي �سفيان‪ .‬و�إمنا كان �سبب الردة �أن كثرياً من العرب الذين �أ�سلموا بعد‬ ‫‪24‬‬


‫فتح مكة كانوا حديثي عهد بالإ�سالم مل يتمكن الإميان من قلوبهم ومل‬ ‫يفقهوا حقيقته فظنوه طاعة ل�شخ�ص الر�سول و�أنه ملا توفى فقد انحلت‬ ‫ربقة الإميان عنهم ومثل ه�ؤالء و�إن كرثوا فال تعجبك كرثتهم جلفائهم‬ ‫وجهلهم ولذلك ملا فهموا من ت�صدي امل�سلمني لقتالهم ان �أمر الدين لي�س‬ ‫باللعب كانوا �رسيعي الرجوع �إىل الدين يف �أمد وجيز‪.‬‬

‫الباب الثالث‬ ‫اخلالفة الإ�سالمية‬ ‫قال‪ :‬مل نعرف من اخرتع لأبي بكر لقب خليفة ر�سول اهلل ولكنا عرفنا‬ ‫�أن �أبابكر قد �أجازه وارت�ضاه وال �شك �أن ر�سول اهلل كان زعيم ًا للعرب‬ ‫ومناط وحدتهم ف�إذا قام �أبوبكر بعده ملك ًا على العرب �ساغ يف اللغة �أن‬ ‫يقال �إنه خليفة ر�سول اهلل فال معنى خلالفته غري ذلك ولهذا اللقب روعة‬ ‫فال غرو �أن يختاره ال�صديق وهو ناه�ض بدولة حادثة بني قوم حديثي‬ ‫عهد بجاهلية فهذا اللقب جدير ب�أن يكبح من جماحهم وقد حمل هذا‬ ‫اللقب جماعة على االنقياد لأبي بكر انقياداً ديني ًا لذلك �سموا اخلروج‬ ‫على �أبي بكر خروج ًا على الدين ولذلك �سموا الذين رف�ضوا طاعة �أبي بكر‬ ‫مرتدين ولعل جميعهم مل يكونوا يف الواقع مرتدين‪ ،‬وقد رف�ض بيعة �أبي‬ ‫بكر علي بن �أبي طالب و�سعد بن عبادة فلم يو�صفوا ب�أنهم مرتدون هذا‬ ‫كالمه �صحايف ‪.97 - 96 - 95‬‬ ‫�أقول‪� :‬إن الذي اخرتع لأبي بكر لقب خليفة هو اللغة والقر�آن ف�إنه قد‬ ‫�أقيم خلف ًا عن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف تدبري �أمر الأمة فهو‬ ‫خليفته‪ ،‬فال يحتاج �إطالق هذا الو�صف �إىل اخرتاع �أو و�ضع‪� ،‬إذ كل من‬ ‫قام مقام غريه يف عمله فهو خليفته‪ :‬قال تعاىل «ثم جعلناكم خالئف‬ ‫يف الأر�ض من بعدهم» على �أن القر�آن قد علمهم �أن ي�صفوا من �إقامة‬ ‫‪25‬‬


‫نقد علمي‬

‫اهلل لتدبري اخللق بو�صف خليفة �إذ قال يا داود �أنا جعلناك خليفة يف‬ ‫الأر�ض فاحكم بني النا�س باحلق و�أما قوله �إن �أبابكر كان خليفة لأنه‬ ‫قام بعد ر�سول اهلل بزعامة العرب على وجه ملكي فهو ا�ضطراب مع ما‬ ‫تقدم وما ي�أتي ف�إنه منع �سابق ًا �أن يكون للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫زعامة �سيا�سية ومنع هنا وفيما ي�أتي �أن تكون لأبي بكر زعامة دينية‬ ‫و�أثبت فيما بني ذلك �أن �أبابكر �سمي خليفة لأنه قام بعد النبي بزعامة‬ ‫العرب وك�أنه ينحو بهذا �إىل �أن �إطالق ا�سم اخلليفة على �أبي بكر �رضب‬ ‫من املجاز و�إن �شئت من التمويه يق�صد به �إخ�ضاع امل�سلمني كما �رصح‬ ‫بذلك قوله «ولهذا اللقب روعة فال غرو �أن يختاره ال�صديق وهو الناه�ض‬ ‫بدولة حادثة �إلخ»‪ ،‬ثم ا�ستنتج �أن ت�سمية اخلارجني على �أبي بكر‬ ‫باملرتدين قريب من هذا التهويل و�أغم�ض عينيه عما ملئ به التاريخ‬ ‫واحلديث من انق�سام امل�سلمني بعد وفاة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫�إىل ثالث طوائف‪ :‬طائفة ثابتة على الدين وعلى اجلامعة الإ�سالمية وهم‬ ‫�أفا�ضل امل�سلمني وعلما�ؤهم و�أعيانهم وال�سابقون منهم‪ ،‬ه�ؤالء �أهل مكة‬ ‫واملدينة والطائف‪ .‬وطائفة ثبتت على الدين وخرجت عن اجلامعة وهم‬ ‫الذين منعوا الزكاة‪ ،‬وه�ؤالء هم جفاة العرب ومن �أجراهم من ر�ؤ�سائهم‬ ‫الذين مل يفهموا من الدين �إال ظاهراً وكانوا ي�رسون لكيده ح�سداً يف ارتقاء‬ ‫مثل مالك بن نويره ومن ه�ؤالء هوازن وبنو �سليم وبنو عامر وعب�س‬ ‫وذبيان وبع�ض بني �أ�سد وبني كنانة‪ .‬وطائفة كفروا باهلل ور�سوله مثل‬ ‫غطفان وطي و�أ�سد وتغلب واليمامة وقد ظهر فيهم من ادعى النبوءة‬ ‫مثل طليحة الأ�سدي يف بني �أ�سد و�سجاح التغلبية وم�سيلمة الكذاب‪ ،‬وقد‬ ‫�سمى امل�سلمون يومئذ الطائفة الأوىل ب�أهل اجلماعة وهو معنى قول‬ ‫العلماء بعد ذلك فالن من �أهل ال�سنة واجلماعة �أو ممن ال يرى اخلروج‬ ‫على �أئمة الإ�سالم‪ .‬وقد قاتل �أبوبكر الفريقني ب�سيوف ال�صحابة و�أفا�ضل‬ ‫امل�سلمني �إال �أن قتاله ملانعي الزكاة قتال ت�أديب وقتاله للمرتدين قتال‬ ‫‪26‬‬


‫ارتداد و�سموا تلك احلروب حروب الردة تغليب ًا لأن غالب العرب قد كفروا‪.‬‬ ‫وحا�شا �أبابكر وال�صحابة �أن يجعلوا اخلروج عن بيعة �أبي بكر كفراً‬ ‫لق�صد التهويل‪ ،‬و�أما قوله �إن علي ًا و�سعداً رف�ضا بيعة �أبي بكر فهو افرتاء‬ ‫على �صحابيني جليلني‪ .‬ف�أما علي فقد �شغله ما �أ�صابه من وفاة ر�سول‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ثم من مر�ض زوجه فاطمة ر�ضي اهلل عنها كما‬ ‫اعتذر به هو نف�سه عن تخلفه وقد ذكر ابن عبدالرب عن احل�سن الب�رصي‬ ‫عن علي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنه �أنه قال‪ :‬مر�ض ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ليايل و�أيام ًا ينادي بال�صالة فيقول مروا �أبابكر لي�صلي‬ ‫بالنا�س فلما قب�ض ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم نظرت ف�إذا ال�صالة‬ ‫َع َلم الإ�سالم وقوام الدين فر�ضينا لدنيانا من ر�ضيه ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم لديننا فبايعنا �أبابكر‪ .‬وقد قيل يف ت�أخر علي ر�ضي اهلل‬ ‫عنه عن البيعة مدة‪� :‬إنه ملا تويف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حلف على‬ ‫�أن ال يخرج �إىل ال�صالة حتى يجمع القر�آن‪ .‬فقد ات�ضح من هذا كله �أن‬ ‫علي ًا ر�ضي اهلل عنه كان معرتف ًا ب�صحة بيعة �أبي بكر (ر�ضي اهلل عنهما)‬ ‫غري راف�ض لها و�أن ت�أخره مدة قليلة كان ل�شواغل مهمة والتخلف غري‬ ‫الرف�ض ف�إن معنى الرف�ض �أن ُيطلب من �أحد �شيء في�أباه‪.‬‬ ‫و�أما تخلف �سعد بن عبادة ر�ضي اهلل عنه عن بيعة �أبي بكر �إىل �أن‬ ‫تويف فهو ال�صحابي الوحيد الذي مل يبايع لأبي بكر فالبد من ت�أول فعله‬ ‫مبا يليق ب�صحابي جليل مثل �سعد بن عبادة ولعله ملا ر�أى الأن�صار‬ ‫قد �أعدته للخالفة يوم ال�سقيفة ثم ر�أى �إجماع ال�صحابة على �أبي بكر‬ ‫وان�رصافه عن بيعة �سعد ا�ستوح�ش نف�سه بني النا�س وكان �سعد رج ًال‬ ‫عزيز النف�س فخرج من املدينة ومل يرجع �إليها حتى مات بحوران من‬ ‫�أر�ض ال�شام يف خالفة عمر وقيل يف خالفة �أبي بكر ومل ينقل عنه طعن‬ ‫يف بيعة ال�صديق وال نواء بخروج‪ ،‬فتخلفه عن البيعة ال يقت�ضي رف�ضه‬ ‫لها وال خمالفته فيها حتى يكون تخلفه قادح ًا يف انعقاد الإجماع �إذ‬ ‫‪27‬‬


‫نقد علمي‬

‫ال ين�سب لل�ساكت قول كما قال ال�شافعي ال �سيما وقد قال جماعة �إن‬ ‫خمالفة الواحد ال ت�رض انعقاد الإجماع كما تقرر يف الأ�صول ومل ينقل‬ ‫�أحد �أن ال�صحابة طلبوا منه بيعة وال حترجوا من تخلفه‪ .‬وقد �أ�شار �إىل‬ ‫هذا املعنى ابن �أبي غرة اجلمحي حني قال بعد يوم ال�سقيفة‪:‬‬ ‫ذهب اللجاج وبويع ال�صديق‬ ‫حمداً ملــــــن هـــو بالثناء حقيق‬ ‫ورجـــا رجــــاء دونه العيوق‬ ‫من بعد مـــــا رك�ضت ب�سعد نعله‬ ‫فـــ�أتاهم ال�صديق والفـــاروق‬ ‫جاءت به الأن�صار عا�صب ر�أ�سه‬ ‫نف�س امل�ؤمــــل للبقـــــاء تتوق‬ ‫و�أبـــــــوعبيدة والــــذيــــن �إليهم‬ ‫�أن املنوه بــــــا�سـمـه املوثوق‬ ‫فدعت قري�ش با�سمه ف�أجابها‬ ‫هذا كنه ما يروى عن �صحابيني جليلني هما من �أعلم النا�س‬ ‫بامل�صلحة الإ�سالمية وحفظ جامعتها ولو �أرخينا العنان وتنازلنا يف‬ ‫اجلدال و�سلمنا ت�سليم ًا جدلي ًا ب�أن علي ًا و�سعداً قد رف�ضا �رصاحة �أن‬ ‫يبايعا لأبي بكر وهو ما ال راوي له فال جند للم�ؤلف يف ذلك كله دلي ًال‬ ‫على ما يريد من �إنكار كون اخلالفة من�صب ًا ديني ًا عظيم ًا هو من �أركان‬ ‫الإ�سالم حتى كانت على معناه احلقيقي الذي �رشحناه يف �أول مقاالتنا‪.‬‬ ‫وهل يكون امتناعها حينئذ �إال ر�أي ًا يف الدين واجتهاداً يف حتقيق �أولوية‬ ‫�أبي بكر باخلالفة وذلك ال ينق�ض الإجماع على �أ�صل م�رشوعية اخلالفة‬ ‫�أو الإمامة للم�سلمني لأنهما �إذا امتنعا من بيعة �أبي بكر فقد كان �سعد‬ ‫را�ضي ًا ب�أن يبايعه الأن�صار فهو قابل بوجوب ن�صب الإمام وكون علي‬ ‫ر�ضي اهلل عنه قائ ًال بوجوب ذلك �أظهر لأنه كان ممن ويل تلك اخلالفة‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫ثم ذكر يف �صحائف ‪ 100 - 99 - 98‬ما وقع من مالك بن نويرة‬ ‫من امتناعه من �إعطاء الزكاة لأبي بكر و�أن خالد بن الوليد قتله و�أن �أبا‬ ‫بكر �أنكر قتله و�أن �شاعراً من �شعرائهم قال‪:‬‬ ‫فيا لعباد اهلل ما لأبي بكر؟‬ ‫اطعنا ر�سول اهلل �إذا كان بيننا‬ ‫‪28‬‬


‫وذكر معار�ضة عمر لأبي بكر حني قال له‪ :‬كيف تقاتل النا�س وقد‬ ‫قالوا ال �إله �إال اهلل‪ .‬ثم حتري امل�ؤلف يف �سبب حروب الردة وغمز هنالك‬ ‫مغامز �سيئة ترى �أن �أ�سبابها التناف�س ثم ذكر �أنه �أ�صفح عن البحث يف‬ ‫�أن �أبابكر هل كانت له �صفة دينية جتعله م�س�ؤو ًال عن �أمر من يرتد عن‬ ‫الإ�سالم �أو هل لها �أ�سباب غري دينية؟‬ ‫وال فائدة يف �إطالة اخلو�ض معه هنا لأن تلك احلروب �سواء كانت‬ ‫دينية �أم �سيا�سية و�سواء كان �سببها االرتداد �أو اخلروج عن الطاعة‬ ‫فال دليل يف �صفتها على �شيء يتعلق بانت�ساب اخلالفة �إىل الدين لأن‬ ‫اخلالفة �إن كانت خطة دينية كما و�ضحناه فحرب اخلارجني عن الدين‬ ‫من �ش�ؤونها وكذلك حرب اخلارجني عن اجلامعة الإ�سالمية �إذ الدين‬ ‫واجلامعة متالزمان كما قدمنا بيانه و�إن كانت اخلالفة زعامة �سيا�سية‬ ‫فقط كما يزعمه امل�ؤلف فحري ب�صاحبها قتال من يخرج عن الطاعة‬ ‫�سواء اقرتن خروجه برف�ض الدين �أم كان جمرد ع�صيان لأن احلالتني‬ ‫يتحقق فيهما اخلروج عن الطاعة ف�إذا ت�أملت هذا علمت �أنه ما كان‬ ‫من حق امل�ؤلف �أن يخو�ض يف تعليق حرب الردة بهذا املو�ضع �إال �إذا‬ ‫كان يريد حمل تبعته على �أبي بكر �إذ ال �صفة له ت�سوغ له قتال قوم مل‬ ‫يكن م�س�ؤو ًال عن كفرهم لكنه قد ناق�ض نف�سه من حيث ال يدري لأنه �إذا‬ ‫كان يدعي �أن �أبابكر زعيم �سيا�سي فيجب �أن يعرتف له باحلق يف قتال‬ ‫اخلارجني من �أهل مملكته‪.‬‬ ‫�أما حماورة مالك بن نويرة خلالد بن الوليد فهي نف�س ما قام به‬ ‫الفريق الثاين من �أهل حروب الردة وكان مالك بن نويرة من زعمائهم‬ ‫ولعل ذلك �سبب قتل خالد بن الوليد له لأنه ر�آه مثورا للعامة ومغري ًا‬ ‫لهم ‪ -‬كما هو ال�ش�أن يف حمل التبعات على القادة والر�ؤ�ساء ‪� -‬إذ العامة‬ ‫�أتباع كل ناعق‪.‬‬ ‫و�أما مراجعة عمر بن اخلطاب لأبي بكر ر�ضي اهلل عنهما فقد �أبدى‬ ‫‪29‬‬


‫نقد علمي‬

‫م�ؤلف الكتاب بع�ضها و�أخفى كثرياً‪ ،‬ف�إن يف �آخر اخلرب �أن عمر بن‬ ‫اخلطاب قال «فعلمت �أن ما �رشح اهلل له �صدر �أبي بكر هو احلق» فتكون‬ ‫معار�ضة عمر له معار�ضة مل يظهر له دليل احلكم وذلك �أنه قال لأبي‬ ‫بكر «كيف تقاتلهم وقد قالوا ال �إله �إال اهلل» فقال له �أبوبكر «لأقاتلن من‬ ‫فرق بني ال�صالة والزكاة ف�إن الزكاة حق املال واهلل لو منعوين عقاال‬ ‫كانوا ي�ؤدونه �إىل ر�سول اهلل لقاتلتهم عليه» قال عمر «فعلمت �أن اهلل قد‬ ‫�رشح لذلك �صدر �أبي بكر وعلمت �أنه احلق» وروى فعلمت �أن ما �رشح‬ ‫اهلل له �صدر �أبي بكر هو احلق‪ .‬ولي�س معنى ذلك �أنه قاله تقليداً لأبي‬ ‫بكر ولكن معناه �أن حجة �أبي بكر قد نه�ضت يف نظر عمر ف�صار موافق ًا‬ ‫له يف اجتهاده ذلك �أن �أبابكر بني لعمر �أن جمرد النطق بال�شهادتني‬ ‫مانع من القتل لأجل الكفر وبقي القتل لأجل حقوق الإ�سالم وقد ثبت‬ ‫القتل على ال�صالة وثبتت مقارنة الزكاة لل�صالة يف �آيات القر�آن مع �أن‬ ‫الزكاة حق املال‪ .‬وفيه منزع جليل ف�إن اهلل تعاىل خاطب بني �إ�رسائيل‬ ‫حني خاطبهم بالدعوة للإ�سالم يف �سورة البقرة فقال «و�أقيموا ال�صالة‬ ‫و�آتوا الزكاة واركعوا مع الراكعني» فخ�ص هذين العملني من بني �أعمال‬ ‫الإ�سالم تنبيه ًا على �أنهما الدليل على �صدق �إ�سالم من �أ�سلم لأن كلمة‬ ‫ال�شهادة قد ي�سهل النطق بها على من مل يعتقد الإ�سالم فجعلت ال�صالة‬ ‫والزكاة دلي ًال على �صدق امل�سلم فيما نطق به لأنه لو مل يكن �صادق ًا‬ ‫ملا جت�شم كلفة ال�صالة وملا هان عليه بذل ماله فلما قرن اهلل ال�صالة‬ ‫بالزكاة فذلك تنبيه على احتاد حكمهما فكما يعد تارك ال�صالة ‪-‬‬ ‫اباية ال جحوداً ‪ -‬كافراً عند بع�ض العلماء وم�ستوجب القتل عند بع�ض‬ ‫وللتعزير الذي قد يبلغ القتل عند �آخرين فكذلك �ش�أن الزكاة‪.‬‬ ‫ثم قال رمبا كانت هنالك ظروف �ساعدت على �أن ت�رشب �إمارة �أبي‬ ‫بكر معنى ديني ًا لأنه كانت له منزلة رفيعة عند الر�سول وكان يحذو‬ ‫حذوه يف خا�صته وعامة �أموره فذلك من �أ�سباب ت�رسب اخلط�أ �إىل عامة‬ ‫‪30‬‬


‫امل�سلمني فغ�شا بينهم �أن اخلالفة مقام ديني ثم روج ذلك ال�سالطني‬ ‫حتى �صارت م�س�ألة اخلالفة من عقائد التوحيد �ص‪ .103 - 110‬ونحن‬ ‫نكتفي مبا قدمناه يف ت�ضاعيف ردودنا مما �أراك �أيها املطالع �أن‬ ‫اخلالفة مبعناها احلقيقي هي ركن ديني‪ ،‬بل هو احلافظ لأركان الدين‬ ‫كلها‪ .‬وال يخفى عن فطنتك �أن احلكم يف مثل هاته املهمات مل يكن‬ ‫يومئذ من �ش�ؤون العامة‪ ،‬بل �إن الذين �سموا �أبابكر خليفة ولقبوا �إمارته‬ ‫بخالفة هم �أعيان ال�صحابة وجميع �أهل احلل والعقد‪ ،‬و�أن مثلهم ممن ال‬ ‫تختلط عليه الأحوال‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫وختم كالمه ب�أن احلق �أن الدين بريء من اخلالفة ولي�ست هي‬ ‫بخطة دينية ال هي وال الق�ضاء وال غريهما من وظائف احلكم‪ ،‬فتلك‬ ‫خطط �سيا�سية كتدبري اجليو�ش وعمارة املدن وكلها مل يعرفها الدين‬ ‫ومل ينكرها و�إمنا تركها لنا لرنجع �إىل احكام العقل وقواعد ال�سيا�سة‬ ‫�إلخ‪ .‬ويف هاته اجلمل قد ك�شف القناع عن مراده وترك النورية والتوجيه‬ ‫ونفى عن اخلالفة وعن الق�ضاء االرتباط بالدين وجعل ذلك خطط ًا‬ ‫�سيا�سية وجزم ب�أن ربطها بالدين غلط ومتويه وبذلك �سفه كل خليفة‬ ‫وفقيه‪.‬‬ ‫ف�إن من يطلع على كتب احلديث وال�سرية والتاريخ يرى �أن علماء‬ ‫امل�سلمني وقواد جيو�شهم و�أفا�ضل كل ع�رص كانوا �إذا بايعوا اخلليفة‬ ‫من عهد �أبي بكر فما بعد بايعوه على كتاب اهلل و�سنة ر�سوله‪ .‬ف�إذا كانت‬ ‫اخلالفة خطة �سيا�سية فما وجه ربطها بالكتاب وال�سنة‪ .‬وقد جعلوا‬ ‫خروج اخلليفة عن �أ�صول الدين يف موا�ضع معينة موجبة خللعه كما‬ ‫جعلوا خروج القا�ضي عن ال�رشوط املعروفة ويف الفقه �أو عن الق�ضاء‬ ‫بالطريق ال�رشعي موجب ًا لعزله �أو لعدم انعقاد �أحكامه‪ .‬ف�إذا كان يرى‬ ‫جميع ذلك من التهويل والتمويه‪ ،‬وال يرى �أن �سلف الأمة وعلماءها عن‬ ‫‪31‬‬


‫نقد علمي‬

‫هاته املقا�صد يف مقام التنزيه‪ ،‬فح�سبك بهذا دلي ًال على قيمة كتاب‬ ‫�أ�صول احلكم وما فيه‪.‬‬ ‫ولعل فيما �أتينا به من جممل القول وتف�صيله ما يكون لتعط�ش‬ ‫املطلع خري �شاف‪ ،‬وال حاجة �إىل زيادة الإطناب فلي�س الر�أي عن‬ ‫املت�شاف �أ‪.‬هـ‪.‬‬ ‫(مت الكتاب)‬

‫‪32‬‬


‫فهر�س‬ ‫مقدمة ‬ ‫ ‬

‫‪3‬‬

‫(الكتاب الأول ‪ -‬اخلالفة والإ�سالم)‬

‫ ‬ ‫الباب الأول‪ :‬اخلالفة وطبيعتها‬ ‫ ‬ ‫الباب الثاين‪ :‬يف حكم اخلالفة‬ ‫الباب الثالث‪ :‬يف اخلالفة من الوجهة االجتماعية ‬

‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪9‬‬

‫(الكتاب الثاين ‪ -‬احلكومة والإ�سالم)‬ ‫ ‬ ‫الباب الثاين‪ :‬الر�سالة واحلكم‬ ‫ ‬ ‫الباب الثالث‪ :‬ر�سالة ال حكم‪ ،‬ودين ال دولة‬

‫‪13‬‬ ‫‪17‬‬

‫(الكتاب الثالث ‪ -‬اخلالفة واحلكومة يف التاريخ)‬ ‫ ‬ ‫الباب الأول‪ :‬الوحدة الدينية والعرب‬ ‫الباب الثاين‪ :‬الدولة العربية ‬ ‫ ‬ ‫الباب الثالث‪ :‬اخلالفة الإ�سالمية‬

‫‪33‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.