رئيس الهيئة االستشارية
د .حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والرتاث
ثقافة العمل واإلنتاج
رئيس التحرير
د.علي �أحمد الكبي�سي مدير التحرير
عزت القمحاوي اإلشراف الفني
�سلمان املالك
سكرتير التحرير
نبيل خالد الأغا الهيئة االستشارية
�أ .مبارك بن نا�صر �آل خليفة �أ.د .حممد عبد الرحيم كافود �أ.د .حممد غامن الرميحي د .علي فخرو �أ.د .ر�ضوان ال�سيد �أ .خالد اخلمي�سي جميع امل�شاركات تر�سل با�سم رئي�س التحرير ويف�ضل �أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين للمجلة �أو على قر�ص مدمج يف حدود 1000 كلمة على العنوان الآتي: تليفون )+974( 44022281 : تليفون -فاك�س )+974( 44022690 : �ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر البريد اإللكتروني: editor@dohamagazine.com aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة:
� 34ش طلعت حرب ،الدور اخلام�س، �شقة 25ميدان التحرير تليفاك�س5783770 : الربيد الإلكرتوين:
samykamaleldeen@yahoo.com
املواد املن�شورة يف املجلة تعرب عن �آراء كتابها وال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة �أو املجلة وال تلتزم املجلة برد �أ�صول ما ال تن�شره.
في خطابه السامي أمام مجلس الشورى في دور انعقاده األربعين ،أشار حضرة صاحب الس���مو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البالد المفدى -حفظه اهلل ورعاه إل���ى جملة من القضايا المهم���ة ذات العالقة الوطيدة ببناء الدولة الحديثة ورس���مسياس���اتها المستقبلية من أجل تحقيق التطور والتنمية والرخاء لجميع المواطنين، ومن ضمن هذه القضايا تأكيد سموه على ثقافة العمل واإلنتاج وتحذيره من انتشار ثقافة الكس���ل واالستهالك ،وهذه بحق مش���كلة تعاني منها جميع البالد العربية بال اس���تثناء ،حيث تش���ير الدراس���ات والبحوث في هذا المجال إل���ى انخفاض إنتاجية الموظ���ف العرب���ي في ه���ذه البلدان مقارن���ة بإنتاجي���ة الموظفين في بل���دان أخرى متقدمة. وم���ع تعدد مفه���وم «اإلنتاجية» يظل للعنصر البش���ري دوره المه���م في العملية اإلنتاجي���ة ،ونكون أمام مس���تويات م���ن اإلنتاجية ،وأمام صنفين م���ن الموظفين: منتجين ،وغير منتجين ،وتبدو المش���كلة أكثر وضوح ًا وأش���د خطرًا في الموظفين ال عل���ى َم ِ واطن عملهم ،وعقبة غير المنتجين أي الكس���الى الذين يش���كلون عبئ ًا ثقي ً ف���ي طريق غيرهم من الموظفين المنتجين ،ولهذا ظهر مفهوم «تحس���ين اإلنتاجية»، وو ِ ضعت السياس���ات التي تس���اعد على رف���ع اإلنتاجية وزيادته���ا ،وال يقتصر هذا ُ المفهوم على الموظفين في مواقع عملهم بل يمتد ليش���مل تطوير التعليم األساس���ي وبن���اءه على مهارات تراعي احتياجات س���وق العمل الراهنة والمس���تقبلية من أجل إعداد موظف منتج مستقبالً. وإذا كانت إنتاجية الموظف تعكس مدى مساهمته بجهده وعلمه ومهاراته في عمله وم���دى رغبته فيه وعنايته به فإن كف���اءة األداء وفاعليته لهما األثر األكبر في زيادة تلك اإلنتاجية ،مما يوجب على المؤسس���ات األخذ باألساليب والوسائل التي تضمن الكفاءة والفاعلية في األداء ،وتؤدي إلى رفع مس���توى اإلنتاجية عند كل الموظفين، ومنها مدخل تكنولوجيا األداء البشري الذي يهدف إلى تحليل األداء وتحديد الحاجات ووضع الحلول من أجل زيادة إنتاجية الموظف ورفع كفاءته وفاعليته. وحين نس���تطلع األوضاع في مؤسس���اتنا العربية وخاص���ة الحكومية منها نجد انخفاض ًا ملحوظ ًا في إنتاجية الموظفين ،ولهذا أسبابه التي يتحمل الموظف شخصي ًا ال واضح ًا في جزءًا منها ،وتتحمل إدارة المؤسس���ة الجزء الباق���ي منها ،كما نجد خل ً عملي���ة تقييم األداء يجعلها مضللة وخاصة إذا لم تتس���م بالموضوعية والدقة ،ولم تعبر بصدق عن األداء الحقيقي للموظف. ويتطل���ب األمر لنش���ر ثقاف���ة العمل واإلنتاج أن تبادر كل مؤسس���ة إلى دراس���ة أوضاعه���ا وتحليل تلك األس���باب وإيجاد الحلول العاجلة له���ا ،ولعل أولها التوجه الفوري إلى «التغيير» الذي يتطلب رفع درجة الوعي بالمسؤولية وتحملها من خالل توعية الموظفين بأهمية العمل وتفعيل مبدأ المحاس���بية مع ضرورة رفع مس���توى المهارات المطلوبة وتطويرها ،واختيار أفضل أساليب تنمية األداء وقياسه ،والتأكيد على أنه ال مكان في المؤسسة لموظف متكاسل. ولن تس���ود ثقافة العمل واإلنتاج في محيط عمل يرى جميع موظفيه أن رواتبهم ع���ن وظائفه���م حق لهم تلتزم به الدول���ة ولو لم يعملوا ولم ينتج���وا ،وعلى هؤالء «تغير» وأنه على قدر «العمل وأمثالهم أن يفيقوا من س���باتهم ،ويعلموا أن الزمن قد َّ واإلنت���اج» تأتي «الرواتب والحوافز» .لق���د آن األوان ألن ُي َط َّبق بح���زم مبدأ الثواب والعق���اب ،وأال يكون بالمؤسس���ة غي���ر الموظفين المنتجين الذي���ن يضربون المثل وتح ُّمل المسؤولية. األعلى في أداء الواجب َ
رئي�س التحرير
مجان ًا مع العدد:
العدد
50
ثـــــقــــــافـــيــة �شــــــــــهـــــريــــــة ال�سنة اخلام�سة -العدد خم�سون حمرم - 1432دي�سمرب2011
ت�صدر عن
وزارة الثقافة والفنون والتراث ال ــدوحـ ــة -قـ ـ ـطـ ــر �صالح جاهني �أمري �شعراء العامية
���ص��در ال� �ع ��دد الأول يف ن��وف �م�بر ،1969ويف ي �ن��اي��ر � 1976أخ�� ��ذت ت��وج �ه �ه��ا ال �ع��رب��ي وا�ستمرت يف ال� ��� �ص���دور ح� �ت ��ي ي� �ن ��اي ��ر ع � ��ام 1986ل �ت �� �س �ت ��أن��ف ال� ��� �ص���دور جم�� � ��دد ًا يف ن ��وف� �م�ب�ر . 2007 ت��واىل على رئ��ا��س��ة حت��ري��رال��دوح��ة �إب��راه�ي��م �أب��و ن��اب ،د .حممد �إب��راه�ي��م ال�شو�ش و رج��اء النقا�ش.
االشتراكات السنوية
رئيس قسم التوزيع واالشتراكات
داخل دولة قطر
عبد اهلل حممد عبداهلل املرزوقي
الأفراد الدوائر الر�سمية
120ريا ًال 240ريا ًال
خارج دولة قطر 300ريال دول اخلليج العربي باقي الدول العربية 300ريال دول االحتاد األوروبي 75يورو 100دوالر �أمـــــــــيــــركـــــــا كــــــنـــدا وا�ســـتــــرالــــيــــا 150دوالراً
الغالف األول:
الربيد الإلكرتوين:
al-marzouqi501@hotmail.com doha.distribution@yahoo.com
تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري با�سم وزارة الثقافة والفنون والرتاث على عنوان املجلة.
الموزعون
لوحة الغالف
�صقر القتيل -فل�سطني
رسائل إلى الجد
وكالء التوزيع يف اخلارج:
اململكة العربية ال�سعودية -ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع -الريا�ض -ت4871414 : فاك�س /4871460 :مملكة البحرين -م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف -املنامة -ت: - 17480800فاك�س/17480818 :دولة الإم��ارات العربية املتحدة -امل�ؤ�س�سة العربية لل�صحافة والإع�لام � -أبو ظبي -ت - 4477999 :فاك�س� /4475668 :سلطنة عُ مان - م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر والإعالن -م�سقط -ت - 24600196 :فاك�س: /24699672دولة الكويت � -شركةاملجموعة الت�سويقية للدعاية والإع�لان -الكويت - ت - 1838281 :فاك�س /24839487 :اجلمهورية اللبنانية -م�ؤ�س�سة نعنوع ال�صحفية للتوزيع -بريوت -ت - 653259 :فاك�س /653260 :اجلمهورية اليمنية -حمالت القائد التجارية � -صنعاء -ت - 240883 :فاك�س / 240883 :جمهورية م�صر العربية -م�ؤ�س�سة الأه��رام -القاهرة -ت - 25796997 :فاك�س /27703196اجلماهريية الليبية -دار الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر وتوزيع املطبوعات -طرابل�س -ت - 925639257 :فاك�س: / 213332610جمهورية ال�سودان -دار الريان للثقافة والن�شر والتوزيع -اخلرطوم -ت: - 466357فاك�س / 466951 :اململكة املغربية -ال�شركة العربية الإفريقية للتوزيع والن�شر وال�صحافة� ،سربي�س -الدار البي�ضاء -ت - 2249200 :فاك�س /2249214:اجلمهورية
العربية ال�سورية -م�ؤ�س�سة الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�شر والتوزيع -دم�شق -ت: - 2127797فاك�س2128664: اجلمهورية اللبنانية اجلمهورية العراقية اململكة الأردنية الها�شمية اجلمهورية اليمنية جمهورية ال�سودان موريتانيا فل�سطني ال�صومال بريطانيا دول االحتاد الأوروبي الواليات املتحدة الأمريكية كندا وا�سرتاليا
3000لرية 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال 1.5جنيه � 100أوقية 1دينار �أردين � 1500شلن 4جنيهات 4يورو 4دوالرات 5دوالرات
نجيب محفوظ في عيد ميالده المئة
دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاك�س44557819 :
10رياالت دينار واحد 10دراهم 800بي�سة دينار واحد 10رياالت جنيهان 3دنانري 2دينار 80دينار ًا 15درهم ًا 80لرية
80
تليفون )+974( 44022338 : فاك�س )+974( 44022343 :
وكيل التوزيع يف دولة قطر:
األسعار دولة قطر مملكة البحرين الإمارات العربية املتحدة �سلطنة عمان دولة الكويت اململكة العربية ال�سعودية جمهورية م�صر العربية اجلماهريية العربية الليبية اجلمهورية التون�سية اجلمهورية اجلزائرية اململكة املغربية اجلمهورية العربية ال�سورية
فتنة احلكاية
متابعات
الدوحة :جائزة قطر لأدب الطفل املغرب :مهرجان خريبكة�:إيطاليا �ضيف �شرف القاهرة .. :والق�صيدة �أي�ض ًا تغ�ضب اجلزائر :ل�صو�ص اجلوائز ميديا
�أوباما يف مرمى الثورات العربية �شباب متفائل على تويرت دليل املذيع الذكيَ ..كبِّلْ �ضيوفك مدونة تتعرى ..دعوة للفجور �أم للت�أمل؟ أماكنهم
حممد بنّيـ�س �َ -صداقـة املكْت َبة
دراسة
يف معنى الثورة... خال�صة جتربة �إن�سانية (د .عمار علي ح�سن)
6
10
76 52
صيد اللؤلؤ
95
اغرتاب اللغة يف وطنها (د .حممد عبد املطلب)
58
تشكيل
128
نور الدين فاحتي (�شفيق الزكاري) �صورة الزمن يف الفن والواقع (يو�سف ليمود) تفا�صيل لعزلة بالأبي�ض والأ�سود (حممد غندور)
فوتوغرافيا
134
حترير اجل�سد (جمال جربان)
سينما
ترايبكا 2011 روبي عندما ال ترق�ص �أو تغني عرب حتت برج �إيفل موريتانيا ..اجلمهور يتحدث لغة ال�صورة �سينما الهام�ش درد�شة مع �ضمري الغائب
من رأس القذافي إلى أصابع سيف اإلسالم
ثقافة الثأر أدب
البحث عن مقربة العائلة (حممود الورداين) مازارين باجنو� :أكتب وفاء للذكرى (موناليزا فريحة) الرواية الفرن�سية جوائزها و�أزمتها نصوص
امر�أة من ال�ضفة الأخرى (حممد الب�ساطي) يف ريف النم�سا (يا�سني عدنان) ا َلّذِ يْنَ قَ رَ �أُو ْا َكفِّيْ (�أَحْ ـمَد عَ ايِد) ال�سينات (بوزيد حرز اهلل) ترجمات
136
موسيقى
96
144
الأخوة جربان� ..أ�سفار للإرادة والفرح رحيل عادل الها�شمي..الناقد ال�صريح حار�س النغم اال�صيل يرتك املقام وحيداً.. �أغنية امل�ؤلف الرو�سية يف انتظار ثورة القيثارة دوحة العشاق
151
رب محُ ٌّب و َّد َعك (نزار عابدين) و َّد َع ال�ص َ 102
علوم
152
�أ�سرار ال�سواك ب�صمة احل�شرات..دليل جنائي! الإجهاد ..خلل يف طاقة اجل�سم عالج الأطفال بـ«الفياجرا»
109
وقت الرحيل (بهاء الدين �أُوزكِ �شي) �أدباء �أمريكا ال�سمراء (جني فرانكو)
18
مقاالت
العثمانية اجلديدة ..اليوم (خوان جويتي�سلو) من ليبيا �إىل �سورية (الطاهر بنجلون) �إرث «الدولة الوطنية» (�أجمد نا�صر) بعده (�ستفانو بيني ) الإبداع والرقابة (د .مرزوق ب�شري) ال�صخب والعنف (عبد ال�سالم بنعبد العايل) الكتابة والت�أرجح(�أمري تاج ال�سر) در�س �أومربتو �إيكو( �إيزابيلال كامريا) مفهوم الأ�سرة(فدوى اجلندي) حكايتي مع القارئ الأ�صعب( �إملي ن�صراهلل)
16 56 75 79 101 108 118 127 135 160
قضية العدد
فلسطين ماذا عن المستقبل؟
م�صافحة
الدوحة تبلغ الخمسين هذا هو العدد الخمسون من مجلة الدوحة ،المصافحة الخمسين لعيون قرائها في حقبة اإلصدار الجديدة التي بدأت أول نوفمبر/تشرين الثاني ،2007بينما تكون المجلة العريقة قد تجاوزت األربعين من عمرها المديد ،حيث صدر العدد األول من مجلة «الدوحة» الثقافية الفنية عام ،1969 محلية سرعان ما تحولت إلى مجلة عربية ومركز إشعاع من قطر إلى كل العرب من المحيط إلى الخليج ،حتى توقفت في .1986 في عرف خبراء الصحافة فإن إنشاء الجديد أسهل ألف مرة من إحياء القديم ،لكن «الدوحة» لم تكن ميتة .توقفت في قمة مجدها ثم عادت بعد غفوة استمرت عشرين عام ًا فحسب. وهذا هو العدد السابع منذ بدأت الدوحة خطتها التحريرية الجديدة في العدد (( )44يونيو/حزيران .)2011وبهذه المناسبة ّ نزف إلى أصدقاء المجلة المخلصين خبر االستعداد لزيادة عدد النسخ خمس عشرة مرة من خالل طبعة جديدة تصدر من القاهرة لمصر والسودان وشمال إفريقيا والعواصم العالمية المهمة ،باإلضافة إلى العمل على موقع إلكتروني تفاعلي يستخدم أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا اإلعالم اإللكتروني ،من أجل أن تكون «الدوحة» في متناول محبيها في كل مكان. ورغم السهر المتواصل من فريق العمل الذي لم يكتمل بعد ،واألقل عددًا مما يمكن ألحد أن يتصور ،فإن أسرة التحرير الصغيرة لم تصنع هذا النجاح وحدها ،بل صنعه 4
معها الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الثقافة الذي يذلل العقبات الموجودة بالضرورة كإحدى حقائق اإلدارة، مثلما المرض حقيقة من حقائق الوجود. ويشاركنا هذا النجاح ثلة من خيرة كتاب العالم العربي. لهم كل الشكر على استجاباتهم ومساهماتهم القيمة .وإن كان لنا أن ننسب ألنفسنا شيئ ًا من الفضل ،فهو في أننا عرفنا إلى أي من الكتاب يجب أن نتوجه. والبد أن قارئ الثقافة األكثر انتباه ًا من أي قارئ آخر يستطيع أن يراجع األعداد السبعة ليرى حجم التنوع في أسماء الكتاب العرب المشاركين في الدوحة ،والبد أنه لن يفتقد إال المثقفين الفلول الذين أفسدوا الثقافة العربية، تصدر جنازتها الفخمة. ونعقوا بموتها ويصرون على ُّ بدأنا خطة التطوير وسط زخم الربيع العربي ونحن على ثقة بأن انسداد اآلفاق السياسية الذي خلق هذا االنفجار السياسي موجود في الحياة الثقافية ،وبشكل أعمق ـ لشديد األسف ـ ألن الثقافة لم تتمكن من االرتفاع على بؤس الواقع السياسي ،وعاشت تابعة له بد ًال من أن تقوده أو تحاول تهذيبه. هذه الرؤية لواقع الثقافة العربية هي التي بلورت طموح «الدوحة» في أن تكون صوت التغيير في الثقافة. وقد تطلب هذا رؤية تحريرية وإخراجية تعتمد السهولة والوضوح والسرعة .وهذه القيم أو المبادئ التحريرية هي
9
9
ﻋﲇ ﻋﺒﺪاﻟﺮازق
9 ¢F* P ½9 9
V. ¶ía º ·p s
´¥ H F Z/
źŝƺŤƧŏ ŵŶƘƫř
÷ H+ ¤
E ¤9 ; 92
ŠǀƳŚƀƳDžř ŠƟŚƤŨƫřƹ ƾŝźƘƫř ƕřŶŝDžř ƼƤŤƬƯ
W H]9 91
H
ﺗﻘﺪﻳﻢ :رﺿﻮان اﻟﺴﻴﺪ
V F- V3 H ¤F3 * :3- ! ¤í 9 W H 9( F0 F3
في عملنا لم نبتدع من فراغ ،وإنما احترمنا التاريخ الذي تحمله المجلة على ظهرها ،وتحمله لها في القلوب األجيال التي عايشت حياة المجلة األولى ،من دون أن ننسى أن اهتمامنا يجب أن ينصب على األجيال الجديدة صاحبة الفضل في الربيع العربي. وال تعني السهولة خفة في التناول ،بل تعني شجاعة عدم االختفاء وراء طبل البالغة الفارغة ،وال يعني الوضوح أن يكون النص مسطح ًا ومبسط ًا بال ظالل تحتاج مشاركة قارئ متمرس يضيف إلى المادة التي يتلقاها من عقله وخياله. وال تعني السرعة المعالجة المبتسرة لقضية من القضايا ،إذ عوضنا صغر حجم المقاالت بالملفات التي يشارك بها العديد من الكتاب ،ويتناول كل منهم زاوية محددة من القضية المطروحة. وكان االنحياز إلى جيل جديد من القراء يعني كذلك االنحياز للرؤى الجديدة وزوايا النظر المبتكرة ،حيث يجب أن تهتم
ﺑﺮﻗﻮﻕ ﻧﻴﺴﺎﻥ
30ﻛﺎﺗﺒ ﹰﺎ ﻓﻲ ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻌﺪﺩ
ﻭﻣﻦ ﺣﻤﻞ
H-/ F F 5 9, P
كما أضافت «الدوحة» إلى جانب الجديد الذي يتضمنه كل عدد من أعدادها «كتاب الدوحة» الشهري الذي يقدم كتب ًا من لحظة الصعود الثقافي العربي أوائل القرن الماضي بعد أن اختبرها الزمن وأثبت أنها لم تزل صالحة إلثارة العقل. وإلى جانب الكتاب الشهري يصدر هذا الشهر الكتاب األول من سلسلة الترجمة ،التي ستصدر أربع مرات في العام.
ﻣﺠﺎﻧ ﹰﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺪﺩ:
ﺭﻭﺍﻳﺔ ﻏﺴﺎﻥ ﻛﻨﻔﺎﻧﻲ
ﺍﻟﻜﺮﺳﻲ
H 0 ÷ ¢F 9
نفسها التي حكمت «الدوحة» في عصرها الذهبي ،وجعلتها مجلة العرب الثقافية األولى.
ﺍﻟﻌﺪﺩ - 45ﻳﻮﻟﻴﻮ 2011
ﻣﻠﺘﻘﻰ ﺍﻹﺑﺪﺍﻉ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ
2011 ƒ«dƒj - 1432
ﴍوط اﻟﻨﻬﻀﺔ
Year 4 - No. 45 - SHABAN 1432 - JULY
ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﻧﺒﻲ
¿ÉÑ©°T - ¿ƒ©HQC’Gh ¢ùeÉÿG Oó©dG - á©HGôdG áæ°ùdG
اﻹﺳﻼم وأﺻﻮل اﻟﺤﻜﻢ
* 5&°* w E µb D* Ä J ÃvB x F EyD
bKFb£0&* b~z F b F(* ¢g0 hEb~8 x F DH ,¡~{F H&* f D* ib<b~6 ¯ i*4b~}²* ¢~z -H * ib<b~6 ¤ A D3 EH 9¡ - ° ¤gD* g £B ² * ,yJx + EyD* f £B oyg tJ4bgD* ¯ x ³ *´ wG ¤ A h £g~6* *3(* $b cD* ¢ < f Abp * ° e¡ ~{D* ib~9b gF* b £A lv« ¤gD* ib<b~zD v D* ¢ E < ¤ g J b C b´b+ hB¡D* Q¡ OJ *( 4v OJ ° ¥wD* ,b£²* xG¡/ qc~|OJ F
AL-DOHA MAGAZINE
P
*
¢F
¤í º :
R- 0 ;*,a AL-DOHA MAGAZINE
½9
H 0 í H2 9
48
&÷ ¶9
’ N] H
9.3 H ; ºF
& Z / º Z 3/
*vE ¤9 F 9
¥H Z/ ÷ 9
45
ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ﺑﻨﺠﻠﻮﻥ ﺧﻮﺍﻥ ﻏﻮﻳﺘﺴﻴﻠﻮ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺍﻟﻤﻘﻤﻮﻉ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻲ
ﺇﻣﻴﻞ ﺳﻴﻮﺭﺍﻥ ﺃﺣﻤﺪ ﻓﺆﺍﺩ ﻧﺠﻢ ﻣﺎﺕ ﻧﺎﺳﻴ ﹰﺎ ﺣﻴﺎﺓ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺎﻷﻓﻼﻡ
مجلة ثقافية تصدر في القرن الحادي والعشرين بما أنجزته الكتابة األدبية والعلوم اإلنسانية في الثقافات األخرى ،حيث تنفتح الفلسفة على التحليل النفسي والنقد األدبي ودراسات الصورة .وحيث تصلح كل تفصيالت الحياة حتى المبتذل منها لتكون موضوع ًا لنقاش ثقافي عميق. ولهذا لم تخل األعداد السابقة من ملفات تتناول الديكتاتورية من خالل مفردة كـ «الكرسي» التي قد تبدو مفردة يومية عادية ،وأخرى تتناول الثورة من خالل صدام إرادات أجساد القامعين والمقموعين وتأمل الجديد في قامات الشباب المنتفضين ونفسياتهم ،أو تأمل مساهمة المرأة في الربيع العربي «نصف الثورة الحلو» وكيف حولت األنظمة جسد المرأة إلى ساحة لحربها اغتيا ًال مادي ًا ومعنوياً. وقبل الدقة والسرعة والوضوح وحداثة التناول ،كان البد من احترام الزمن ،الذي هو أساس حياة أية مطبوعة، فالتزمنا بمالحقة األحداث السياسية والثقافية ومحاولة تقديم تفسيرها الثقافي الذي ال تتسع له الصحافة اليومية واألسبوعية .وكان البد أن نقدم وجبة شهرية ساخنة ونبتعد بالضرورة عن اإلنشاء والتنظير في قضايا مطلقة تصلح لهذا القرن أو القرن الماضي أو القادم. وسيبقى االبتعاد عن الكالم الساكت عهد «الدوحة» والتزامها تجاه إرادة التغيير العربية ،على أمل مصافحتكم أول كل شهر ،مصافحة يدوم أثرها شهرًا. ومن أجل هذا سنعمل.
مدير التحرير 5
متابعات
مصري وسوري يفوزان بجائزة قطر ألدب الطفل الدوحة -علي النويشي أقام���ت وزارة الثقاف���ة القطري���ة في العش���رين من الش���هر الماض���ي مؤتمرًا صحفي ًا جائ���زة الدول���ة ألدب الطفل في دورته���ا الثالثة .ف���از بالجائزة ش���هاب سلطان شهاب من مصر في مجال القصة عن المجموعة القصصية (حلم العصفور الصغير) ،ومن س���ورية ف���از الكاتب د. س���مر بن محمد روحي الفيصل في مجال قضايا أدب األطفال .وقد اختارتهما لجنة التحكيم من بين مئ���ات األعمال المتقدمة للفوز بالجائزة وليتم حجب الجائزة في مجاالت رسوم كتب األطفال ،وموسيقى أغاني األطفال ،واألفالم الكرتونية. وأك���د الدكت���ور حم���د ب���ن عبدالعزيز الك���واري وزي���ر الثقاف���ة ف���ي كلمته أن الحديث ع���ن أدب الطفل ه���و بالضرورة حديث عن مستقبل أمتنا العربية وعالقة الطفل بثقافت���ه وتراث���ه وانتمائه ،وأن جائ���زة الدول���ة ألدب الطف���ل تقوم على رؤية مفادها أن األطف���ال هم ثروة األمة وعماده���ا لتحقي���ق رؤيته���ا الوطني���ة وبصورة تعزز االنتماء للوطن. وق���ال الدكت���ور الك���واري« :ف���ي ظل ن���درة اإلنتاج الفكري المعن���ي بالطفولة ارتأت دول���ة قطر إطالق جائ���زة الدولة ألدب الطف���ل إس���هام ًا منها ف���ي االرتقاء بثقاف���ة الطفل من خالل مج���االت األدب المختلفة». وأضاف س���عادة الوزي���ر« :إن إعالن نتائ���ج ال���دورة الثالثة للجائ���زة يعني االس���تمرارية حيث إنها ليس���ت هدف ًا بحد ذاتها .لكنها تهدف لتثقيف الطفل ولتجعل من���ه مواطنً���ا راش���دًا لخدم���ة أمت���ه في المستقبل. ونح���ن س���عداء ألن نص���ل بالجائزة لتل���ك الدورة لنبدأ مع ًا ال���دورة الرابعة، 6
حيث إن لكل دورة مجا ًال أوس���ع لإلبداع وتعدد الوس���ائل الثقافية لخدمة العروبة واإلسالم». وفي رده على األسئلة المطروحة في المؤتمر قال« :عندما طرحنا جائزة الدولة ألدب الطفل من أج���ل كل طفل في العالم العربي من المحيط إلى الخليج كنا نضع الطفل القطري في قلب اهتماماتنا فالطفل القط���ري ال يقتصر االهتم���ام به فقط من قب���ل وزارة الثقافة ،بل من جهات عديدة إن لم تكن كل جهات الدولة مجندة لتقديم جهودها للطفل القطري. وقصدن���ا بالجائ���زة ه���و الوص���ول لش���ريحة الكت���اب والفناني���ن المهتمين بأدب الطفل ،وتش���جيعهم لك���ي يقدموا أفضل ما لديهم من إبداعات وفنون للطفل العربي». وط���رح وزير الثقاف���ة قضية االهتمام قائ�ل�ا: ً بالوس���ائط اإلعالمي���ة الجدي���دة «ونحن نتطلع للوس���يلة التي من خاللها نس���تطيع تقديم خدمة مهم���ة للطفل من خالل الوسائط اإلعالمية ترضي اهتمامه وتعبر عن طموحاته. وأعلن س���عادة الوزير أن الدراس���ات
تج���ري حالي ًا إلصدار خ���اص بالطفل قد يك���ون مجلة مس���تقلة أو ملحق ًا لألطفال مع مجلة الدوحة جنب ًا إلى جنب مع كتاب الدوحة اإلحيائ���ي والكتاب المترجم ربع السنوي والملحق الشهري ،وسيصاحب ذلك إنشاء موقع إلكتروني متكامل لقراء المجلة. كما أعلن عن تدش���ين موق���ع لوزارة الثقافة بعنوان «بوابة قطر اإللكترونية» يخ���دم كل وجوه الحياة الثقافية القطرية ال عن أصدار كتاب مترجم والعربية ،فض ً وزع مجان ًا مع مجلة الدوحة إضافي ُي َّ وتحدثت د .كلثم الغانم رئيسة مجلس أمناء الجائ���زة بعد إعالن الفائزين لتؤكد عل���ى أن حصيل���ة األعمال ل���م تكن على مستوى االرتقاء للفوز بالجائزة مما أدى إلى حج���ب عدد من الجوائ���ز وذلك :ألن قلي�ل�ا ،ما دفعنا ألن ً الناتج الثقافي كان نعط���ي الفرصة للمبدعي���ن للتركيز على مجاالت جديدة ،حيث لم يعد اهتمام الطفل بالقراءة مقتصرًا على القصص فقط ،ولذا ركزنا على أفالم الكارتون والموس���يقى ورس���وم كتب األطفال وه���ي في مجملها مجاالت تنمي الجوانب الثقافية للطفل.
الدورة الثالثة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة:
إيطاليا ضيف شرف واحتفاء بقطر المغرب -عبدالحق ميفراني في ظل زحمة المهرجانات الفنية التي يش���هدها المغرب ،عرف���ت مدينة خريبكة الواقــــعة بوس���ــــــط الـبــلد ،احتــضانها لمهرج���ان س���ينمائي رائد ه���و مهرجان الس���ينما اإلفريقية .وقبل ثالث س���نوات أضافت المدينة ألجندتها الفنية المهرجان الدول���ي للفيل���م الوثائقي ،ال���ذي يحاول تج���اوز حاج���ز ميزانيت���ه الضعيف���ة مع رغب���ة القائمين عليه في جع���ل فعاليات هذه التظاهرة الفنية بملمح دولي يحتفي بالفيلم الوثائق���ي وبتجاربه العالمية .إذ ال ننسى أن بداية السينما انطلقت وثائقي ًا قبل أن تتحول إلى أفالم روائية ،وتجربة االخوان لوميير ش���اهد على هذا المنحى. رغ���م أن الفيل���م الوثائق���ي تط���ور عبر التاريخ السينمائي وأمسى يطرح العديد من األسئلة حول «وثائقيته» و«واقعيته» اإليهامية .على اعتبار أن سؤال «الواقع»
يظل مغيب ًا بحكم قدرة فريق العمل وعلى رأس���ه المخ���رج يقوم بتمثل م���ا يراه من خالل كاميراته ومن خ�ل�ال رؤيته الفنية الخاصة .وتظل الحاجة دائمة ،على األقل عربياً ،لمهرجان يختص بالفيلم الوثائقي خصوص ًا أن العديد من األقالم اليوم ،ترى الحاج���ة المزدوجة له���ذا الجنس الفيلمي في قدرته على ق���راءة واقعنا العربي في حراكه الجديد. مهرجان خريبكة الدولي للفيلم الوثائقي ،عرف هذه السنة (29 - 26 أكتوبر/تشرين األول) استضافة 11 بلدًا( :بلجيكا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا والواليات المتحدة األميركية وفلسطين وتونس ومصر والجزائر ثم البلد المنظم المغرب) ،إضافة إلى إيطاليا كضيف شرف .كما عرفت فقرة التكريم احتفاء خاص ًا بالفنانين عبد الرزاق لحرش من المغرب ،ونبيل العتيبي من قطر .وتبارت الدول المشاركة للفوز بأهم جوائز
المهرجان وأرفعها الجائزة الكبرى ،حيث تكونت لجنة التحكيم لهذه الدورة ،من المخرج نبيل العتيبي رئيس قسم اإلنتاج بالجزيرة الوثائقية بقطر ،الناقد المغربي سعيد يقطين والصحافية بالشركة الوطنية لإلذاعة والتلفزة فاطمة يهدي والمخرجة اإليطالية جيوفانا تافياني والمخرج الجزائري عبد المالك لعقون، فض ً ال عن الناقد والجامعي يوسف آيت همو والناقد اإلعالمي أحمد سجلماسي ورئيس جمعية النقاد السينمائيين بالمغرب خليل الدامون. وفاز بالجائزة الكبرى للمهرجان فيلم «بين الجبال السود» لمخرجته الفرنسية فرجيني هوفمان ،فيما توجت جائزة اإلخراج لفيلم «أحالم نساء» لمخرجه محمد نبيل من ألمانيا ،أما جائزة التحكيم فعادت لفيلم «كل ما أريد» لمخرجته األميركية مشال ميدنا .وذهبت جائزة النقد للفيلم الجزائري «السينما الجزائرية نفس جديد» لمخرجته مونا ميدور ،فيما عادت جائزة الجمهور للفيلم األميركي «كل ما أريد» ،أما جائزة أحسن مخرج هاو فكانت من نصيب المخرج المغربي محمد العنق عن فيلمه «عندما تنطق الورود» ،ونوهت لجنة النقد بفيلمي «دورة من سياج» للمخرج البلجيكي سبستيان ويمانس، وفيلم «أحالم نساء» من ألمانيا. وحظي بدرع المهرجان كل من مديرة المركز الثقافي اإليطالي بالمغرب أنا باستوري ،كما كرم المهرجان ،رئيس قسم اإلنتاج بقناة الجزيرة الوثائقية نبيل العتيبي ،فض ً ال عن اإلعالمي المغربي عبد الرزاق لحرش .وتكريم ًا للسينما اإليطالية ،تم تنظيم لقاء مفتوح مع المخرجة اإليطالية جيوفانا تافياني ومديرة المركز الثقافي اإليطالي بالمغرب أنا باستوري .كما تم بالمناسبة تنظيم لقاء مفتوح مع المغربي محمد بلحاج مخرج بالجزيرة الوثائقية. مهرجان خريبكة الدولي للسينما الوثائقية يسعى إلى التحسيس بقيمة هذا النوع السينمائي ،واإلجابة عن الحاجة عربي ًا إلى تنظيم مهرجان يختص بهذه األفالم التي تعيدنا إلى أصل السينما. 7
..والقصيدة أيض ًا تغضب القاهرة -سامي كمال الدين «ش���عرية م���ا بع���د التحري���ر» ..عنوان الملتقى الثالث لقصي���دة النثر الذي عقد في مبن���ى نقابة الصحافيي���ن بالقاهرة الذي ش���ارك في لجنته التأسيس���ية كل من عاطف عب���د العزيز ،لين���ا الطيبي، غ���ادة نبيل،فارس خضر ،يس���ري عبد اهلل ،غادة خليفة ،محمود قرني. الملتق���ى الذي ش���ارك في���ه عدد من الش���عراء منهم الس���ماح عبد اهلل األنور، جرجس شكري ،جيهان عمر ،فتحي عبد اهلل ،إبراهي���م داود ،،عزة حس���ين،أتى بعد بيان ثائر بعد إصدار بيانحمل توقيع «حركة شعراء غضب» ،يحاول واضعوه الفصل بين الش���عر الذي يتبع السلطة، والش���عر الذي يحمل بين أبياته سلطته الخاصة .لكن في ظل األجواء السياسية المحتدمة بعد ثورة 25يناير وحتى اآلن فع�ل�ا إلى ثورة فنية، هل مصر بحاجة ً خاصة أنها تأتي بعد مؤتمرين متضادين في قصيدة النثر عقدًا منذ عامين؟ الشاعر محمود قرني يرى أن التوقيت مناس���ب ،فالحركة الجديدة ه���ي امتداد لملتقيي���ن س���ابقين صعدا إلى س���طح
السماح عبداهلل األنور
8
محمود قرني
الحياة الثقافية ف���ي لحظة كانت تحتاج فيه إلى بيارق أكثر ش���جاعة من بيارق الرواد الذين تحالفوا مع فساد السلطة. ج���اء الملتق���ى األول بمثاب���ة إعادة اعتبار لكل فصائل الش���عر الموس���ومة بالم���روق والتمرد .والفع���ل في مجمله ال يمك���ن انت���زاع بعده السياس���ي ،ألنه كان بقدر رفضه لمثقف الس���لطة وأدائه وعمل���ه كأداة تبريري���ة ألفعال ش���ائنة ال يمك���ن الدفاع عنه���ا ،كان الملتقى في المقابل ش���علة من الني���ران الرمضاوية التي احتفل الشعراء باحتراق أصابعهم بينها .وكان الفعل في مجمله أيض ًا يمثل ردًا عل���ى هؤالء الذين عاش���وا س���نين يحذفون الش���اعر لصالح ظالل ش���عراء أنصاف وأرباع الموهوبين من المدلسين ورجال المؤسسة الذين يناضلون نهارًا ويأكلون فتات موائد السلطة ليالً. يضيف قرني :الفن ال يمكن فصله عما يحدث في المجتمع ،المأفونون وحدهم هم الذي���ن اصطنع���وا جدارًا بي���ن الفن والمجتمع ،فنحن نتحدث عن المسؤولية دون أن نتحس���ب لما يكم���ن وراءها من التزام���ات أخالقي���ة ،ألننا لس���نا أبناء التطهرية الكاذبة ،ولسنا أبناء الخطاب المغالي في انغالقه ،المتعالي والتلفيقي في الوقت نفس���ه .فقد خرجنا لألبد على
فارس خضر
الكَذبة ممن اعتقدوا أنهم قناعات األنبياء َ يملكون وحدهم معابد اللغة وصكوكها، وتعاملوا مع أنفس���هم على أنهم سدنة، وعلى الرعاع من األمة أن يقبلوا أياديهم كل صب���اح ،الش���عر بالنس���بة لنا ليس هكذا ،الش���عر كما قال بورخيس« :على أف���واه الفالحين والصيادي���ن والعمال، وليس في جعبة السدنة ومجامع اللغة» ويواص :لقد سمعنا عشرات األسماء يتم تدشينها أثناء الثورة بألقاب عجيبة من قبي���ل فالن ش���اعر الث���ورة وفالنة ش���اعرة الثورة ..هذا النوع من الش���عر حمل م���ن الفجاج���ة ومن المباش���رة ما يجعله عبئ��� ًا على الثورة وليس س���ندًا له���ا ،فالث���ورة تس���تحق أن نتأم���ل ما طرحته في الواقع م���ن تغيرات جمالية وتغي���رات في الوع���ي بقدر م���ا نرصد ما زرعته م���ن تغيرات على المس���توى االجتماع���ي والسياس���ي ،وه���و بعد ال يقل أهمية عن إصالح البنية األساس���ية للمجتمع على سبيل المثال ،لكن من هنا نحن نس���عى باعتبارنا أبناء الثورة ألن نكون رديف��� ًا لها وإضافة إليه���ا ال عبئ ًا ينتقص من قيمته���ا ،بحيث نتحدث عن الث���ورة المجيدة التي تح���دث في القرن الواحد والعشرين ،بينما نخاطبها بلغة القرن الرابع الهجري». من جهته الشاعر فارس خضر يكشف أنه تم حل اللجنة التحضيرية في نهاية الملتق���ى الثان���ي للتخل���ص م���ن اإلرث الثقيل الذي ورث���وه عن الملتقيين األول والثان���ي ،إذ يقول« :م���ا حدث معنا هو ذات���ه الذي كان يفعل���ه جهازمباحث أمن الدول���ة مع األح���زاب المصري���ة ،وذلك بزرع عميل ينتمي إلى الحزب ،فإذا أراد جهاز أمن الدولة تفجير الحزب َف َّجره من خالل هذا الشخص ،فما حدث في الملتقى الثاني لقصي���دة النثر لي���س مؤتمرًا أو ملتقى متض���ادًا مع ملتقانا ،ولكن مثلما ً يحدث في األحزاب فنحن نجد الكثير من المعوق���ات ،لكن المضاد لنا تفتح له كل األبواب من اتحاد الكتاب إلى تمويل من رجال األعمال إضافة على استيالئه على موعد ملتقانا نفس���ه ،هي إذن تحركات أمنية وليست شعرية إلجهاض الملتقى. ويواص���ل« :الس���لفيون تص���وروا أن
الدول���ة جاءت إليهم على طبق من ذهب لك���ي يحصل���وا عليها ،ولك���ي يعودوا بنا 1400س���نة إلى الوراء ،كما أن كل القوى الثوري���ة العميلة أصبحت تدعي النض���ال ،لذا لم تعد تس���تطيع التفرقة بين التجار القدامى والتجار المحدثين، ومن هنا نحن أحوج ما نكون إلى ثورة ثقافية». ف���ي النهاي���ة ه���ذه الحرك���ة وليدة الملتقيي���ن الس���ابقين ،وأح���زن حين يحدثني أحد عن ملتق���ى آخر ما هو إال ملتقى أمني». الش���اعر والروائي صبحي موس���ي ال���ذي أق���ام الملتق���ى الثان���ي الموازي لمؤتم���ر قصي���دة النثر رف���ض التعليق عل���ى الملتقيين أو الملتق���ى الثالث ،أو تدشين حركة غضب ،وقال« :من يحرث فليحرث ،التاريخ يبقي ما يشاء». أما الش���اعر محمد أب���و المجد فيرى أن هذا الفع���ل يخدم الصالح العام« :لذا فإن طرح مسألة التضاد ما هي إال نوع م���ن اإلث���ارة» ،وهو ال ي���رى أي تضاد بين بع���ض التص���ورات أو االتجاهات م���واز حتى لو لم حول تنظي���م مؤتمر ٍ يكن هناك تكامل .هذا ش���كل من أشكال التجاور. وأضاف أبو المجد« :ال أرى أن هناك مؤتمرًا ضد مؤتمر ،في الثقافة ال يوجد تنافس ،الجدوى يحك���م عليها التاريخ والتق���ادم ،فال أرى منافس���ة في الفعل الثقافي». أما بالنسبة لحركة غضب فيرى أبو المجد أنها «ش���كل من أش���كال االفتعال الثقاف���ي ،الف���ن يوجد الثورة بنفس���ه وليس باالفتعال ،كل الحركات التقدمية ف���ي الف���ن أنتجها المبدع نفس���ه وليس التنظير ،من الممكن أن يكون قد س���بق هذا الفن ال���روح الفلس���فية التي توجد الشعور المناسب». لي���س هذا الفعل المقص���ود هو الذي يعمل ثورة ثقافية ،الذي يقوم بالثورة الفني���ة والنقلة الحقيقي���ة داخل كتابة القصيدة ه���ي القصيدة نفس���ها وليس الش���عراء ،ولي���س الح���دث الثقافي أو الفعل الثقافي أو احتفالية أو تدشين أو حركة هي التي تحدث ثورة ثقافية.
لصوص الجوائز نوارة لحـرش الجزائرّ - هل هناك حق ًا جوائز أدبية محترمة ف���ي الجزائر ،أم األم���ر مجرد بهرجة؟ مث�ل�ا ،التي فجائ���زة علي معاش���ي ً يرعاها منذ 2007رئيس الجمهورية، أفرغت من كل قيم���ة أو أهمية ،حيث حددت س���قف س���ن المش���اركة تحت 35س���نة وهذا ما أثار وما يزال يثير اس���تياء الكّت���اب ،فهم ي���رون أن هذا التسقيف ال يليق بجائزة دولة ،وأنها يجب أن تك���ون مفتوحة لكل األعمار. طبع��� ًا هناك جوائز أخ���رى كثيرة لم تس���لم من النقد والتش���كيك ،ويبقى اإلش���كال األكب���ر يتمثل ف���ي اختالل معايير ومصداقية هذه الجوائز. يتحدث الش���اعر عزالدين جوهري ع���ن الموض���وع ذاته« :هن���اك زيف يعت���ري تل���ك الجوائز التي تس���مى جوائز أدبية ،ألنها في تقديري مجازًا ْ لم تخ���رج يوم��� ًا ع���ن أط���ر النفعية عن والبراغماتية ،ولم ْ تنس���لخ يوم ًا ْ جلِد القائمين عليها في اقتسام الغنائم واألنفال». ْ ويذه���ب جوهري في نق���ده الالذع للجوائ���ز إلى حد اتهام القائمين عليها باللصوصي���ة والفس���اد الثقافي ،إذ ال يق���ول بلهج���ة ح���ادة« :لنأخ���ذ مث ً جائ���زة علي معاش���ي ،ورغ���م أنها تحمل اس���م هذا الش���هيد الكبير واسم رئيس الجمهورية إال أنها ليس���ت لها أدن���ى قيم���ة أو مصداقي���ة ،ألنها لم المب���دع واإلبداع. توج���ه يوم ًا لخدمة ْ كانت على الدوام واجهة لمآرب أخرى خارجة عن الثقافة وسياقاتها». أما الشاعرة خيرة حمر العين فترى أن الجوائ���ز ع���ادة هي إم���ا أن تكون تقدي���راً ،وهذا ن���ادراً ،وإم���ا محاباة وتملق���اً ،وه���ذا الش���ائع .وتعتقد أن
عمار مرياش
الجوائز ليست قياس��� ًا لحالة إبداعية أو ابتكاري���ة وإنما هي ع���ادة وتقليد ورغبة في إس���كات من نريد إسكاته، وه���ي أحيان��� ًا تك���ون تقدي���رًا ليس للش���خص المعني ب���ل للجهة الصادر عنها التهنئة .وتضيف صاحبة «أكوام الجمر» بنوع من الحس���رة« :الجوائز مثل التطعي���م الذي تفرض���ه المراكز الصحي���ة .فهي ال تصدر ع���ن هيئات علمية أو أدبية ب���ل تصدر أحيان ًا عن جهات أمنية وسياسية». من جهتها ،ترى الش���اعرة س���مية محن���ش ،الت���ي س���بق لها ني���ل عدة جوائز أن « :الجوائز في الجزائر تبقى محتشمة مقارنة بجوائز تمنحها دول أخرى .حيث ال تثم���ن أعمال مبدعيها بالكيفية الالئقة». ويعتقد الشاعر عمار مرياش الذي حصد الكثير من الجوائز في س���نوات مض���ت (منه���ا جائ���زة مف���دي زكريا المغاربي���ة للش���عر ع���ام )1993أن الجوائز األدبية الجزائرية تقوم على عدم الجدية وعلى مبدأ :على قدر أهل الع���زم .ويضيف بكثير م���ن الخيبة: «يجب أال نندهش إذا سمعنا يوم ًا أنه تم تأس���يس جائزة الجزائ���ر الدولية األبدية للش���عر ثم ت���وزع مرة واحدة وتقبر إلى األبد».
9
ميديا
أوباما في مرمى الثورات العربية
خالل الشهر الفائت قامت أكثر من صفحة فيسبوك عربية بتناول الرئيس األميركي باراك أوباما بالسخرية الالذعة وأسقطت جم�ل�ا وتعليقات تخ���ص الثورات علي���ه ً العربية. وقالت صفحة ابتس���م أنت ف���ي تونس: «تحدث���ت عدي���د الصح���ف والمواق���ع اإللكترونية األميركية عن حادثة اجتياح صفحة الرئيس األميرك���ي باراك أوباما عل���ى الموق���ع االجتماعي فيس���بوك من قبل أكثر من 30ألف تونس���ي ،وقد قامت الصح���ف بترجم���ة التعليق���ات الطريفة للتونسيين إلى اللغة اإلنكليزية وتفسيرها
للق���راء بأنها تمث���ل أبرز األح���داث التي رافقت الثورة التونس���ية من يوم إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده ،مرورًا بخطابات الرئي���س المخلوع وصو ًال إلى أح���داث القناصة وهروب ب���ن علي إلى المملكة العربية السعودية. ومن أط���رف تعليقات التونس���يين على الداخلية ه���ذا الحدث«:عل���ى رأس وزارة ّ يعين أوبام���ا األميركي���ة Habib Lion ّ ّ أكثر من 43ألف تعليق للتوانسة النبارة في صفحة ب���اراك أوبام���ا برجولية مال ش���عب كم أنت كبير»« ،أوباما يعلن عن تخفيض في أس���عار الس���كر والمقرونة
شباب متفائل على تويتر هاش���تاج باس���م «متفائ���ل» أطلقت���ه الناشطة الشابة س���لمى حجاب لحث أصدقائها من مس���تخدمي تويتر على كتابة أس���باب تدعوهم للتفاؤل حول األح���وال السياس���ية واالجتماعي���ة فكتب���وا« :متفائلة عش���ان التش���اؤم واإلحباط دول دلوقت���ي رفاهية مش لينا». «ألن كل الناس مهتمة باللي حيحصل للبلد بغض النظر عن شكل االهتمام».
10
«علشان لما واحد منا بيتشائم بأالقي ألف واحد بيقول له تفاءل هننتصر». «ألن في 4س���اعات ي���وم 25الهتاف مبق���اش توس���ل ..مبق���اش عي���ش حرية ..وبقى عزيمة وقوة ..الشـعــب يـــريــــد». «علش���ان لو الثورة فكس���ت في مصر ه���روح تون���س ،ع���رب وحبايبن���ا وشكلهم شغالين حالوة». «ألن سواقين الميكروباص بقوا يقرأوا
والش���عب األميركي قالو خلي نش���اورو الشعب التونسي ههههه». يأتي ذلك على خلفية األحداث التي جدت في مقاطعة وول ستريت حيث خرج عدد كبي���ر من الش���بان األميركيي���ن احتجاج ًا عل���ى سياس���ة الدول���ة االجتماعية ،وقد قوبلت المس���يرة بعنف ش���ديد من قوات األم���ن ،مما جعل عددًا كبيرًا من الش���باب التونس���ي يس���تهزئ م���ن لج���وء قوات الشرطة األميركية للقمع المفرط. كما تناقلت وسائل اإلعالم في كافة أنحاء العال���م وش���بكات التواص���ل االجتماعي ومواقع الواب فيديوهات لمسيرات وول ستريت التي قرر المحتجون فيها الهتاف بالعربي���ة على طريقة الث���ورات العربية «الش���عب يريد إس���قاط النظام» ورددوا كذلك «الشعب يريد إسقاط وول ستريت»، وقد ش���ارك في هذه االحتجاجات نشطاء مصري���ون كان���وا في الوالي���ات المتحدة لحضور أحد المؤتمرات. وس���اخرًا من أوباما كتب أحد النش���طاء: باراك أوباما من أمام باب البيت األبيض بالعزيزي���ة (واش���نطن) :س���نزحف أنا والماليين ..لتطهير أميركا ..روم روم.. هاوس هاوس ..س���تريت ستريت ..وان وان ..حتى تتطهر أمي���ركا من البادبويز وم���ن الرات���س ..هو آر ي���و؟ إيتس تايم تو ورك ..إيت���س تايم تو كرول ..إيتس تايم تو وين ..نوت باك ..تو فاروورد.. ريفولوشن ..ريفولوشن. الجرائد وقت ما العربية بتحمل بدل ما يسبوا لبعض الدين». «عش���ان تونس دلوقتي بدأت تعيش الحرية». «لم���ا حس���ني بيتحاك���م وكبراته في ط���ره أو هاربانين بالخارج وأعوانهم أصبحوا فلول .أبق���ى قليلة األدب لو لم أتفاءل». «عش���ان لسه في ش���باب بيناضل من أجل حق الشهداء والحرية .وده دليل إني الثورة مستمرة حتى القضاء على الفساد».
البرنس في األدب العربي من مدونة «آخر الحارة» نتعرف على مفه���وم البرنس ف���ي األدب العربي كما صوره المدون عبدالرحمن مصطفى. ال يحت���اج البرنس أن يتح���دث كثيرًا عن نفس���ه أو عن األشياء المحيطة به، تكفي إشارات ،وفي حاالت أخرى يقرر ال قاطعة ال تقبل البرنس أن يعط���ي جم ً الج���دل ..البرنس -في العادة – يتحدث بالحقائق ،حتى إن قال أوهام ًا ليس لها أصل ،يش���هد األدب العرب���ي العديد من الحاالت التي ال يوصف صاحبها سوى بأنه برنس ،يحلق في فضاء النرجسية، بدون مبرر واضح سوى اإلحساس بعلو تقدير الذات قال المتنبي هذه األبيات: أنا الذي نظر األعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ال كيف يم���دح قائل ه���ذه األبيات رج ً آخر غي���ره؟ من المؤكد أن���ه قال كلمات زائفة قبلها في مناسبات عديدة من أجل المال والتقرب من السلطة ،لكن ذلك لم يقه���ره ،فالبرنس الحقيقي ال يقهر ،فهو نفس���ه حين شعر باألسى في مصر كتب هجاء في حاكمها ،لمجرد أنه لم يش���عر بأنه برن���س حقيقي ..وألن البرنس في الع���ادة محس���ود ،ومك���روه ،وعرضة
لإلقصاء ،فقد تس���بب هذا البيت حس���بما يشاع في مصرعه. قب���ل المتنب���ي كان هن���اك أكث���ر من برنس على الس���احة ،تكف���ي قراءة هذا البيت المنفرد الذي قاله الشاعر جرير إذ قال: الموت الذي أتى عليكم أنا ُ جاء ن مني لهارب فليس ٍ َ ُ هي مبالغ���ة في نظر من يعتقدون أن الحياة مجموع���ة من الحقائ���ق نرددها سوي ًا في كل مجلس ،الخيال والضبابية هي الحقيق���ة الوحيدة في ه���ذا العالم، لماذا ال أكون أنا الموت؟ ليس معنى هذا أنك أنت الحياة ،لكن إن اخترت أنت هذا لن أغض���ب منك ..ألني برن���س ،وأنت برنس. حي���ن يق���ول أمل دنق���ل ف���ي القرن الماض���ي ه���ذه األبيات فه���و يبحث عن إحساس البرنس المفقود ،إذ يقول: من أنت يا حارس؟ الحجاج إنّي أنا ّ عصبني بالتاج ّ ليست الحكاية حكاية شاعر استخدم تشبيه ًا بطاغية ،إنما في إعالنه إمكانية هذا ،ب���ل في كتابة هذا ف���ي قصيدة ،قد يأتي متحذلق ويضع العبارة في سياق، ورموز ودالالت ،أوووفففف ،من يفعل هذا ..مش برنس خالص.
حت���ى بعيدًا عن األش���عار التقليدية، كان���ت تكفي عب���ارات مقتضبة يعلن بها شخص مثل الحالج أنه برنس ،ماذا كان يقول؟ أو ماذا قال فقتل؟ أو ماذا قال فتم تكفيره ولعنه على مدى مئات الس���نين؟ اهلل أعل���م ،لكنهم يقولون إن���ه قال :أنا الح���ق!! وانفع���ل كثي���رون مرددين أنه يدعي األلوهية ،إمممم ،ال أعتقد ،بعض المتصوف���ة أخرجوا تخريجات لمثل هذه العب���ارات الغامضة ..ف���ي الحقيقة أنه حين قال :أنا الح���ق ،فقد كان يقصد أن يق���ول :أنا البرنس ،أن���ا مختلف عنكم، أنا أثير الج���دل ،أنا من س���تلعنونه أو تدافعون عنه حتى نهاي���ة التاريخ ،أنا البرنس. ل���دى بع���ض المتصوف���ة عب���ارات وأشعار ال تخرج إال من برنس حقيقي، كأن يقول ابن الف���ارض« :أنا القتيل بال إثم وال حرج». أغلبهم اختار أن يكون برنس ًا لنفسه، أحيان��� ًا يخفي البعض غرض���ه من األنا المتص���درة جملت���ه ،إذ يجعلها غامضة أو وس���ط مديح في أحي���ان أخرى ،أو داخل مناقشات جادة ..في النهاية ..أي ًا كان���ت نهاية البرنس ،لكن���ه اختار تلك المتعة ،فكل برنس يعرف أنه مميز عن اآلخرين.
11
ميديا
دليل المذيع الذكي
َ كبِّ ْ ل ضيوفك
ش���هد أس���توديو برنامج «بموضوعية» ال���ذي يقدمه وليد عبود على «إم تي في» اللبناني���ة في حلقة االثنين 14نوفمبر/ تش���رين الثاني ،2011مش���اداة كالمية بي���ن النائب الس���ابق مصطفى علوش، القي���ادي في تيار المس���تقبل ،أحد أبرز ق���وى 14آذار المعارض���ة ،ورئي���س ح���زب البعث العرب���ي االش���تراكي في لبنان فايز شكر ،حيث استأنفت الحلقة به���دوء وتبادل ال���رأي وحف���ظ األلقاب ليش���تد الحوار بعد ذلك في عاصفة بين الضيفين على خلفية الثورة الجارية في سورية ،عندما قال علوش إنه ال يصدق الرئيس السوري بشار األسد ،فرد شكر: «من أنت حت���ى ال تصدقه؟ عيب عليك»، فأجابه عل���وش« :ال أصدقه ألنه كذاب» ثم رد شكر« :أنت كذاب ومعلمك كذاب»، مما أفاض الكأس مباش���رة بعد تالس���ن 12
متبادل ،فبادر فايز شكر مهاجم ًا بإلقاء كوب الم���اء في وج���ه مصطفى علوش ال���ذي قام بدوره بحمل كرس���يه محاو ًال الدفاع والرد ،وبعد تدخل مقدم البرنامج وفريق���ه التقن���ي انقطع ب���ث البرنامج وأعيد بعد تهدئة الجو. عش���رات الفيديوهات لهذا النزال المثير، بث���ت عل���ى اليوت���وب دون أن تس���جل تعليقات عل���ى غير الع���ادة ،كما نقلت الخبر قنوات عالمية ،وتدوالته صفحات المواق���ع االجتماعي���ة مكتفية بتعليقات س���اخرة وضاحكة ،فيما وصفت أخرى النزال بكونه غير أخالقي ،متحفظة في معظمها عن إبداء مواقف سياس���ية من الصراع الجدي الذي فجره الفيديو. عل���ى صفحته بالفيس���بوك نقل الممثل ومق���دم البرامج هش���ام ح���داد صورة كوميدية مركبة تصور مشهد النزال على
حلب���ة المصارعة التمثيلي���ة (الصورة)، وكت���ب صاح���ب الصفحة عل���ى جداره الساخر: وصلن���ا م���ن وزارة الداخلي���ة البي���ان التالي: «إزاء اإلش���كال ال���ذي وقع عل���ى الهواء خ�ل�ال برنامج «توك ش���و» السياس���ي بين نائب س���ابق ورئيس حزب حالي، وحفاظ ًا على الح���س اإلعالمي المرهف للطبقة السياس���ية وحقن ًا للدماء ،تعمم وزارة الداخلية -شعبة العالقات العامة على جميع المؤسسات اإلعالمية المرئية والمسموعة القوانين التالية: أوالً :يمنع منع ًا بات ًا وجود المنافض أو أكواب المياه الزجاجية أو أي آلة حادة طيلة فت���رة الحلقة أمام المدعوين خالل المقاب�ل�ات منع ًا من اس���تعمالها كقنابل يدوية إلثبات وجهات النظر. ثاني���اً :تثب���ت الكراس���ي عل���ى أرض األس���توديو بثمانية براغ���ي 10مليمتر (س���ن عريض) مع خوابي���ر طولها 20 س���نتم في األس���منت المس���لح منع ًا من رفعها واس���تعمالها كوسيلة للتعبير عن الرأي. ثالث���اًُ :ي َك َّبل الضي���وف بأصفاد حديدية «ستانلس س���تيل» على أذرع الكراسي طيلة فت���رة البرنامج لتجنب الش���وبرة والهوبرة لبرهنة أفكارهم النيرة. رابعاً :على اإلعالم���ي /مضيف الحلقة أن يكون عض���وًا في جمعية «المصارعة العالمية الترفيهي���ة» (دبليو دبليو إف) وأن يكون حكم ًا محلف ًا فيها ،للس���يطرة ٍ بش���كل س���ريع وفعال عل���ى أي وضع هجومي قد يتخذه أي من الضيوف أثناء محاوالته���م إلقن���اع اآلخري���ن بصوابية خطهم الوطني». مع هذا البيان الس���اخر توالت التعليقات ف���ي معظمه���ا ضاحك���ة أو مس���تهزئة، وأخرى متأس���فة على المش���هد« :هاذي بلدنا تجنن ،جمهورية الحمص ،مذهل، ش���ي بيضح���ك لك���ن عيب ،مس���خرة، ش���و صار بها الدنيا يا ضيعات لبنان، مسلس���ل كوميدي طويل ح���رام ها البلد بهيك ش���عب» و«م���ن كتب هذا الس���وبر اإلبداعية! ممتاز» يكتب أحد المعلقين.
من أجل تغريد عربي في أكتوبر/تشرين األول الماضي التقى «س���فراء التغري���د العرب���ي» عب���ر موقع «تويت���ر» للم���رة األول���ى ف���ي الدوحة، واجتم���ع أكثر م���ن 80س���فيرًا ينتمون لتسع دول عربية إلعالن مبادرة لتعريب موقع التواصل االجتماعي الشهير ،التي تهدف إلى دع���م وإثراء المحتوى العربي الرقم���ي من خالل تبني مش���اريع وطرح موضوع���ات متخصصة ومتنوعة باللغة العربية ،يش���مل موضوع���ات اجتماعية وثقافية وفني���ة متنوعة تدعمها محركات البحث العالمية. وبالتنس���يق مع ش���ركة تويت���ر لترجمة الموقع إلى اللغة العربية ،وفي ورش���ة عمل تخللت الملتقى انطلقت مبادرة «آت تغريدات» كأولى فعاليات العمل المشترك حيث ش���هد الملتقى الذي جم���ع عددًا من رواد «تويت���ر» الع���رب حض���ور أكثر من
300مستخدم من عدة دول عربية. وأعلن خالل الورشة عن تدشين الموقع اإللكتروني الرس���مي لمبادرة «س���فراء التغريد العربي» ليكون منصة لمش���روع تعريب تويتر ،ويمكن لجميع الراغبين في التطوع الدخول إليه ،حيث س���يتم طرح المحت���وى المعرب لتصويت مس���تخدمي تويتر ،ومنهم أكثر من 6ماليين مستخدم عربي ،وذلك عند ق���رار تويتر فتح باب الترجمة إلى اللغة العربية الحقاً. والمب���ادرة تهدف إلى تكوي���ن مجموعة كبيرة من المتطوعين العرب للمش���اركة في المشروع ،إلعداد معجم كامل لجميع مصطلحات تويتر المعربة ،وإعداد قواعد تفصيلي���ة للترجمة العربي���ة التي يجب اتباعها من تأنيث وتذكير وجمع وهمزات وغيرها من قواعد اللغة ،ليتم تسليم هذا المعجم إل���ى إدارة تويتر من خالل مدير
«الفوتوشوب» يجرح مشاعر المؤمنين والزعماء قد يكون هذا أكبر اس���تفزاز مارس���ه «الفوتوش���وب» في تاريخه .ففي حملة دعائية جديدة وفكرة في منتهى الجرأة، أطلق���ت المارك���ة اإليطالي���ة الش���هيرة «بينيت���ون» ،مجموع���ة م���ن الص���ور المفتعل���ة تمثل بعض أب���رز قادة الدول وه���م يتبادل���ون القبل م���ن الفم ،تحت حجة الدعوة إلى سالم عالمي. الملصقات عمم���ت في محال بينيتون للمالب���س في أنحاء مختلف���ة من العالم ال عن جرائد ومجالت وعلى اإلنترنت. فض ً ومن بين هذه الصور المعروضة ،صورة لبابا الفاتيكان وشيخ األزهر ،التي تركت
ردود فع���ل غاضبة ومس���تاءة من جانب قيادات األزهر والفاتيكان ،وقرروا اتخاذ إج���راءات قانوني���ة ضد المس���ماة «حملة بينيتون للتص���دي للكراهية» ،التي قامت بها مجموعة بينيتون للمالبس .نش���رت الص���ور الدعائية عب���ر فيديو متسلس���ل عل���ى «اليوتي���وب» ،وطال���ت مجموع���ة م���ن الزعماء السياس���يين ف���ي الوضعية ذاتها .كما اس���تنكر هذه الصور مجموعة م���ن المتتبعين من خ�ل�ال التعليقات على مواق���ع نش���رها أو م���ن خ�ل�ال تصاريح لعلم���اء األزهر اس���تنكرت ه���ذه الصور، معتبرة إياها حملة «عنيفة وقذرة ودعاية رخيص���ة باس���م المحب���ة» ،فيم���ا اعتبر الفاتي���كان الصورة المفبرك���ة «جارحة، ليس فقط لكرامة البابا ،بل أيض ًا لمشاعر المؤمنين» ،مما اس���توجب الفاتيكان رفع دعوى قضائي���ة ،وانتق���د البيت األبيض الحمل���ة التي أظهرت أيض ًا الرئيس باراك أوبام���ا يقبل الرئيس الصيني هو جينتاو
مجتمع���ا ت الترجمة الذي تتواص���ل مع���ه المبادرة بشكل مباشر. وقال جاس���م النعمة أحد (سفراء التغريد العربي) إن أعضاء المبادرة قدموا أكث���ر من 85سلس���لة تغريدية بالعربية في 85موضوع ًا متخصص ًا نالت أكثر من 12700مش���اهدة إلكترونية ،كما حققت هذه السالسل مراتب متقدمة ومتميزة في مح���ركات البحث العالمي���ة ،ووصل عدد تغريداتها إل���ى أكثر م���ن 3000تغريدة وحصدت م���ا يزيد على 10آالف ريتويت اي (إعادة تغري���د) وتابعها ما يزيد على 80000شخص على مستوى العالم». وكانت مبادرة «س���فراء التغريد العربي» قد أطلقتها الطالب���ة القطرية المقيمة في الواليات المتحدة األميركية فاطمة يوسف الخاطر إل���ى كل التويتريي���ن في مايو/ أيار من هذا الع���ام بتخصيص يوم كامل للتغريد باللغة العربية على تويتر. والرئي���س الفنزويل���ي هوغو تش���افيز ف���ي ص���ور مفتعلة ،ومن بي���ن الصور كذلك بنيامين نتانياه���و يقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس ،والمستشارة األلمانية أنجيال مي���ركل برفقة الرئيس الفرنس���ي نيك���والس س���اركوزي. ورغم تأكيد مجموعة المالبس اإليطالية «بينيت���ون» المعروف���ة بإثارتها للجدل الس���اخن عبر إعالناتها ،أنها ستسحب الصور في أعقاب االنتقادات الش���ديدة، إال أن مالحق���ات قضائية كثيرة خلفتها هذه الحملة التي وصفت بالتجارية. من خ�ل�ال ت���داول الص���ور المركبة ال عل���ى «اليوتي���وب» الذي خل���ف تفاع ً م���ع إثارته���ا وجرأتها ،ج���اءت بعض التعليقات مدينة ومستاءة من الفبركة، فيما سخرت أخرى وتعجب من تعجب: «مهم���ا كان رأي���ك حول السياس���ة أو الدي���ن ..وأعتق���د أن هذا اس���تخدام ترويجي غير مصرح ب���ه بإذن صريح من األفراد»« ،هذا أمر فظيع! ماذا لو رأى ه���ذا أطفالنا»« ،إن ه���ذا مضحك ومثير لالشمئزاز في نفس الوقت ،وأعتقد أنه مجرد خطأ في تحليل ما يحدث».
13
ميديا
مدونة تتعرى دعوة للفجور أم للتأمل؟ مدون���ة مصري���ة تدع���ى علي���اء المهدي أصبح���ت حدي���ث الصح���ف العربي���ة واألجنبية والشبكات االجتماعية ،بعد أن قامت بوضع صورة عارية تمام ًا لها على مدونتها «مذكرات ثائرة» ،وكتبت: «حاكم���وا الموديل���ز الع���راة الذين عملوا في كلي���ة الفن���ون الجميلة حت���ى أوائل الس���بعينيات وأخفوا كتب الفن وكسروا التماثي���ل العاري���ة األثرية ..ث���م اخلعوا مالبسكم وانظروا إلى أنفسكم في المرآة وأحرق���وا أجس���ادكم الت���ي تحتقرونه���ا لتتخلصوا من عقدكم الجنس���ية إلى األبد قبل أن توجهوا لي إهاناتكم العنصرية أو تنكروا حريتي في التعبير». وم���ا لبثت أن انطلقت ش���رارة التعليقات «ثورية على خطوة علياء بين من اعتبرها ّ ض���د القمع الديني في مص���ر» ،وبين من اعتبرها «ماجنة ..مأجورة لتبث الفس���ق
في المجتمع». وبينم���ا قام البعض بتمجيد خطوة علياء إلكترونية حملت اسم: بإنش���اء صفحات ّ «علياء المهدي وثورة التحرر الجنسي في عبر العديد من ال���زوار لمدونتها مص���ر»َّ ، والمعلق���ون عل���ى الهاش���تاج الخ���اص بالموضوع على تويتر عن صدمتهم فيما قامت به ،وهذه بعض التعليقات: «إن أردت إحداث صدمة للمجتمع اعرضي أف���كارًا تقدمي���ة متف���ردة وحقيقية ..وال تقدمي أفعا ًال ق���د توصف بالمراهقة على أحسن تقدير». «يا شماتة الس���لفيين المتش���ددين فينا.
رخصة الحرية في السعودية! قضي���ة قيادة الم���رأة الس���عودية للسيارة ،اكتس���بت الشهر الماضي زخم��� ًا جديدًا بعد أن وضع د .كمال بن محمد الصبحي استشاري إدارة المشاريع التطويرية دراسة حول قيادة المرأة للسيارة. نتائج الدراس���ة كان���ت في صالح عدم الس���ماح للس���عوديات بقيادة الس���يارة ،وه���و ما أثار نش���طاء تويتر من السعوديات والسعوديين فكتب���وا هذه التعليق���ات بين مؤيد ومعارض في إطار هاشتاج دراسة د .كمال: «قي���ادة المرأة أضراره���ا أكثر من فوائده���ا ،بالوق���ت الحال���ي ورانا
14
حيقولوا :ش���ايفين الليبرالية والحرية، ده مجتمع كافر .ويطالبوا بالتطهير». «أعتقد أن تلك المسماة (علياء) بما فعلته شوهت صورة الثوة المصرية بتسمية قد ّ ما تفعله بحرية». فيم���ا اعتبره���ا آخ���رون عل���ى موق���ع الفيس���بوك دعوة للتأمل ف���ي تناقضات المجتمع تج���اه الم���رأة وحريتها ،فكتب نائل الطوخي س���اخراً« :إييييييييييييه يا بني آدمين؟ ضد النقاب لييييييه؟ انتو مش بتقولوا حري���ة وال إييييييييييييه؟ خ�ل�اص ،الحرية بقت كخ���ة لما جات ع النقاب»؟ ش���غل كثي���ر قب���ل المطالب���ة فيه مواضي���ع أه���م :الس���كن ،الدخل، التطوير ،االقتصاد». «الدراس���ة أش���به ما تك���ون بنكتة المحش���ش الل���ي ق���ص جناحي���ن الحمامة فقال :نستنتج أن الحمامة ال تطي���ر إذا قلن���ا لها طي���ري ألنها م���ا ص���ارت تس���مع»! «الغريب���ة يقول���ون إن قيادة الس���يارة تظهر مفاتن الجسم»« .ربط قيادة المرأة بالفحش والعهر والطالق والخيانة وتفكك األسرة يعتقده ومقتنع فيه كثير من الشعب ،طبع ًا بس بعضهم م���ا يق���ول»« .يق���ول الدكت���ور إن الس���عودية (آخر معقل لإلسالم).. على كذا مفروض نبدأ نأخذ الجزية م���ن دول الخلي���ج ،وبعدها نخش على باقي العالم».
التحليل النفسي على الفيسبوك ماذا تقول صفحة الرجل على فيس���بوك عن شخصيته؟ حول هذا الموضوع نش���ر موقع «ياهو» عدة نصائح للسيدات والفتيات للتعرف عل���ى الجوان���ب الغامضة من ش���خصية الرج���ل ،والتي يح���اول أن يخفيها دوم ًا من خالل حسابه على الفيسبوك. الصورة الشخصية:الص���ورة أبلغ م���ن ألف كلم���ة ،فإذا قام الرجل بوض���ع صورته بصحبة جيتاره أو صورة س���يارته المفضل���ة أو فريقه المفضل ،فهو شخص يحاول لفت انتباه الفتيات وجذبهن إليه بدعوى أنه ش���اب «ذو موهبة» ،أما إذا نشر الرجل صورته بصحب���ة قط���ه األلي���ف فهذا معن���اه أنه شخص حنون وعطوف. البيانات الشخصية:إذا كان الرجل يحب س���رد كافة تفاصيل حياته الش���خصية في ما يشبه «السيرة الذاتية التفصيلية المطولة» ..فاس���ألي نفس���ك« :لماذا يض���ع كل ه���ذا الكم من المعلومات الشخصية ليراها الجميع؟»، فهو ش���خص غير كتوم وال يخفي س���رًا أبداً. تحديث الستاتيوس:إذا الحظت أنه يقوم بتغيير الستاتيوس الخاص���ة ب���ه كل عش���ر دقائ���ق ،فه���و إم���ا يعاني م���ن الف���راغ أو مريض بحب ال���ذات ،أما الرجل ال���ذي ال يقوم بتغيير ال الس���تاتيوس الخاصة به إال نادرًا -مث ً مرة كل عدة أشهر -فهو يعاني من نقص الشجاعة ويخشى من تعليقات أصدقائه ظن ًا منه أنها ستؤذيه أو تتهكم عليه. ألعاب الفيسبوك:إذا كان كل ما يقوم الرجل بمشاركته عبر صفحته على فيس���بوك هو أخبار تقدمه في األلعاب ،مثل« :حروب المافيا -فارم فيل» ،فهو شخص يجد األمان في العالم االفتراضي وال يحب مواجهة مش���اكله،
كم���ا أن حيات���ه فارغ���ة من أي���ة أحداث مهمة. األصدقاء:إذا كان ع���دد أصدقائه ال يتجاوز أصابع اليد الواحدة ،فهو شخص انطوائي لديه مش���اكل اجتماعية ،أم���ا إذا كان يحتفظ بألف صديق ،فهو يح���ب فقط التواصل مع اآلخرين ألن حياته فارغة ومملة. إذا لم يكن هذا الشخص مشهورًا أو يعمل في مج���ال الفن أو الرياضة ،ووجدته قد أنشأ لنفس���ه صفحة للمعجبين به ،فهو شخص تافه وغير واثق من نفسه أو من حب أصدقائه له. أصدقاؤه:إذا كان ع���دد أصدقائه ال يتجاوز أصابع اليد الواحدة ،فهو شخص انطوائي لديه مش���اكل اجتماعية ،أم���ا إذا كان يحتفظ بألف صديق ،فهو يح���ب فقط التواصل مع اآلخرين ألن حياته فارغة ومملة. الصفحات التي ينضم إليها:إذا كان���ت الجروب���ات أو الصفحات التي انضم إليها الرجل تتمحور حول الفتيات فق���ط ،فهو ش���خص يح���اول أن يتقبله اآلخرون ويخشى الرفض في الواقع. طلب االنضمام إل���ى صفحته الخاصةلمحبيه: إذا لم يكن هذا الشخص مشهورًا أو يعمل في مج���ال الفن أو الرياضة ،ووجدته قد أنشأ لنفس���ه صفحة للمعجبين به Fan pageفهو ش���خص تافه وغير واثق من نفسه أو من حب أصدقائه له.
ناقوس الخطر التواص����ل اإللكترون����ي بق����در ما يتضم����ن جانب���� ًا إيجابي ًا بما يتيحه للجميع من تبادل األفكار والمعلوم����ات ،ف����إن ل����ه جانب ًا سلبي ًا أيضا قد يصل إلى سرقة البيانات الش����خصية ..أو حتى القضاء على حياة أسرية كانت تبدو سعيدة وطبيعية. فق����د أك����دت دراس����ة أجراه����ا باحثون في جامعتي «نبراسكا» و«واش����بورن» األميركيتين أن النس����بة األكبر مم����ن يرتكبون الخيان����ة اإللكتروني����ة -أي يتعرف����ون عل����ى صديق����ة افتراضي����ة بش����كل حص����ري - يخونون زوجاته����م الحق ًا على أرض الواق����ع من خالل عالقات جنسية مباشرة. وذك����رت ش����بكة «س����ي إن إن» األميركي����ة أن الباحثين وجدوا في دراس����تهم أن ثالث����ة أرباع من أقاموا عالقات «صداقة» عن طريق اإلنترنت انتهى بهم األمر بإقامة عالقات جنس����ية واقعية الحقاً. وتدح����ض ه����ذه الدراس����ة االعتق����اد الذي كان س����ائدًا بأن العالقات التي تبدأ على الشبكة العنكبوتي����ة ال تتجاوزه����ا في معظم األحيان.
15
لقاء
خوان جويتيسولو
العثمانية الجديدة ..اليوم عادت تركيا إلى دورها كـ «جسر بين الحضارات» ،وهو الدور الذي لعبته خالل قرون حتى انحطاط وسقوط الدولة العثمانية بفضل السياس���ة الجدي���دة لحكومة أردوغان، الناتجة عن رفض االتحاد األوروبي الخافت دخول تركيا وتحولت إلى ما اعتبره الكثيرون وبحق «نادي ًا مسيحياً». ْ اليوم إل���ى قوة بازغة ،ذات تأثير سياس���ي واقتصادي يمت���د من الجمهوريات اإلس�ل�امية باالتحاد الس���وفياتي القديم حتى الشرق األوسط وكل الضفة الجنوبية للبحر متخلصة م���ن ِ الحْمل الذي كان���ت تحمله منذ المتوس���ط، ً إنش���اء الدولة الحديثة على يد أتاتورك :تبعية الس���لطة المدنية للجيش ،تك���رار االنقالبات العس���كرية ،الحرب الكامنة بين متطرفي اليس���ار ومتطرفي اليمين القوميين الذين اعتادوا على العنف وعلى االس���تعداد له .لقد أظهر حزب العدالة والتطور ،دون أن يتخطى الطابع العلماني للدس���تور الذي أعده أتاتورك ،إمكانية تأس���يس حزب مس���لم وديموقراطي ف���ي نفس الوقت ،ووضع أس���س اقتصاد ديناميك���ي تواجه قوته العواصف واالنتفاضات التي تؤثر على منطقة اليورو ،وقطع الروابط العسكرية والسياس���ية بإس���رائيل نتانياهو ،وبعد قليل من التردد عانق ثورات الربيع العربي .هذه اللفة االس���تراتيجية، التي نس���ميها بحق العثمانية الجديدة ،سمحت لها بجمع القي���م المدني���ة للديموقراطي���ات الغربية مع السياس���ة النش���يطة والمنفتحة على محيطها اإلسالمي .وأصبحت تركيا اليوم مؤشرًا للشعوب العربية واإلسالمية وسيزداد تأثيرها كلما ازداد انح���دار الواليات المتحدة ،التي تحيا في مس���تنقع ح���روب مكلفة وبال مخرج في أفغانس���تان والعراق .بينما المش���روع العثمان���ي الجديد يتوجه لملء الف���راغ الذي خلفت���ه الديكتاتوري���ات العربية الفاس���دة وتوحد الحكومة اإلس���رائيلية الحالي���ة ،أكثر الحكومات عمى وصمم ًا أمام الواقع االجتماعي والسياسي للمحيط الجغرافي الذي تقع في نطاقه. إلى حد ما ،كان من الممكن التنبؤ بالعثمانية الجديدة. 16
فقطيع���ة أتاتورك الراديكالي���ة للماضي العثماني أنقذت ُ خطط له الم الكولونيال���ي التقس���يم من التركية الدول���ة ُ َ َ في معاهدة س���يفر ،غير أنه اضط���ر للتضحية بعناصر ثابتة في المجتمع والثقافة :تغيير الحروف العربية إلى التينية ،هجر اإلرث األدب���ي والفني المتميز خالل قرون لخصوصيته وغرابته. كانت العثمانية مدفونة ،لكنها لم تختف .كما الصهارة البركانية التي تطفو من آن آلخر على الس���طح .وما من أحد وصف مسح إسطنبول الحضري ،وركائزها الثقافية المتراكب���ة ،أفضل من الروائي الحائز على نوبل أورهان توغل باموق في عمله الكبير «الكتاب األس���ود» .الرواية ُ في عم���ق األرض والزمن الذي محاه فرمان :تذكرة بأنهم ال يزال���ون هناك رغ���م التغيرات الثقافية والسياس���ية، يتمتع���ون بقوة حركة زلزالية من الممكن أن تعيدهم إلى وتجس���د العثمانية الجديدة عودة ما هو مقموع السطح. ّ يفس���ر الس���حر الذي في مجاالت الحياة المختلفة وهو ما ّ تمارسه ليس فقط فيما يخص السلطة العثمانية القديمة ب���ل أيض ًا في الم���دار األوروب���ي منذ فتح محم���د الفاتح القسطنطينية عام .1453 في مقال لي ضمن كتاب «يوميات قتالية» (ترجمه إلى العربية كاظم جهاد بعنوان :في االستش���راق اإلسباني) تحدث���ت بتوس���ع ع���ن ه���ذا الس���حر ،وخير م���ن يمثله ثربانتس .ففي القرن السادس عشر ُكتبت مئات من كتب الرحالت الحقيقية والمزيفة تحولت فيها القس���طنطينية إلى إط���ار للقص���ص والرواي���ات واألعمال المس���رحية الممتلئ���ة بمواضيع وبألوان محلي���ة ،مركزة في معظم األحيان في توبكابي س���راي وحريم الس���لطان .وداخل هذه الكتلة من «الش���هادات» التي س���ادت فيها الفانتازيا على الواقع ،لم نعثر إال على مكتوب واحد باإلس���بانية، ربما يكون كاتبه البروتستانتي خوان دي أويوا ،المدان أم���ام محاك���م التفتي���ش ع���ام .1554وكان المخطوط،
الذي خبأه المؤلف بنفس���ه « -يتج���ول في أزمنة صعبة ج���داً» كما قال بعد ذلك واحد من أفضل ش���عرائنا -لم ير النور إال بعد اكتش���افه في بدايات القرن الماضي .النص مثير للش���غف ،ورغم االحتياطات الت���ي اتخذها الرحالة المجهول -يهديه إلى ملك إس���بانيا «ليطلعه على عادات وتقاليد عدونا األبدي :التركي» -إال أنه يؤس���س للتضاد الواضح بين الوحدة الكاثوليكية إلس���بانيا وانشغالها بـ «نقاء العرق» وبين التس���امح العثمان���ي تجاه الديانات األخرى والتنوع العرقي واللغوي الذي هو في نهاية األمر يصب في مصلحة الجميع .وبالتأكيد ،يلجأ المؤلف أيض ًا إلى كليشيهات االستشراق التي حافظت على حياتها مع م���رور الزمن ،غي���ر أن اإلطراء على احت���رام العثمانيين لعادات ومعتقدات اآلخرين والذي يبزغ من بين السطور ال يخفى على انتباه القارئ. لقد انطفأت العالقات المباش���رة م���ع العالم العثماني وتضاءلت إل���ى حفنة من الموضوع���ات (الروايات التي تتناول القراصنة األتراك ال تزال من أكثر الروايات مبيع ًا ف���ي القرن الواحد والعش���رين) نتيج���ة للتصحر الثقافي الناجم عن تعصب محاك���م التفتيش الكاثوليكية .وبينما والكّتاب األنجلوفرنسيون في نهضة ثقافية أفاد الرحالة ُ أضيف���ت للمش���روع الكولونيال���ي الكبي���ر لبلدانهم ،كما أوضح إدوارد س���عيد ببراعة في كتابه «االستش���راق»، غ���اب المؤل���ف اإلس���باني ونقص���ت األعم���ال المرتبطة باالمبراطورية العثمانية .نس���تثني من ذلك العمل القيم حللت عمله للمغامر البرش���لوني دومينجو بادي���ا ،الذي ُ «رحالت علي ب���ك» – المكتوب والمنش���ور عام - 1814 في كتاب المقاالت المشار إليه سلفاً .لقد ترك لنا المؤلف واحدة من أولى الش���هادات الموثوق فيها حول الحج إلى مكة وحكاية أخرى عن فلس���طين العثمانية التي تدحض الصورة النمطية المتج���ذرة اليوم في الخيال األوروبي، كتب:
«يسود في فلسطين جو من االنسجام الكامل بين أبناء الديان���ات المختلفة ،وتقدم عادات الع���رب نموذج ًا فريدًا لجيرانهم :تس���ير النس���اء المس���لمات بوجوه مكشوفة، ويش���ترك ف���ي االحتف���االت واألعي���اد اإلس�ل�امية كال الجنسين ،بل ويشارك فيها أيض ًا بكل حرية مؤمنون من عقائد مختلفة ،في الناصرة ،يحج المس���لمون بأبنائهم إلى مريم الع���ذراء ويقصون لهم ش���عرهم ألول مرة في وأوروبيو ع���كا يتمتعون بحرية كبيرة وتوقير معبدها، ّ ورئيس وزراء الباش���ا يهودي يحظ���ى باحترام عظيم. وفي القدس ،يعيش سدنة يسوع مندمجين بال تفرقة مع تالمذة محمد ،وعن هذا االندماج تنجم حرية واسعة أكبر بكثير من أي بلد آخر بالمنطقة». وكما يعلم القارئ ،فالوضع في فلس���طين لم يتحسن من���ذ الحك���م البريطاني وتأس���يس دولة إس���رائيل عام ،1948بل ازداد سوءاً. وختام���اً ،أعود إلى العثمانية الجدي���دة التي طوعتها اللفة االستراتيجية لسياسة أردوغان .لقد عثر فيه الحوار المفت���وح العابر للبحر المتوس���ط فيما س���مي بـ «عملية برشلونة» على حليف راسخ جدًا في طرحه لتحالف يضم القيم المش���تركة لضفتي البحر القديم .وتستطيع الفترة االنتقالية في تونس ومصر أن تستلهم النموذج العثماني الجديد التركي لمنع انجرافات التطرف الديني الذي ترمز له القاعدة .كم���ا أن الحرب األهلية الليبية ،التي لم تنته إال بالقب���ض عل���ى الطاغية وقتله ،والقم���ع الدموي من جانب األسد ضد ثورة ش���عبه ،كل ذلك يفرض تحديات كبي���رة :تجنب العودة إلى القبلي���ة المفتتة والحرب بين الطوائف التي تخدم الديكتاتور السوري كعذر له ليتلحف أكثر بالسلطة بشكل مخز. العثماني���ة الجديدة ،التي هي جس���ر بين الحضارات، خير حل وترياق. ترجمة :أحمد عبد اللطيف 17
ق�ضية العدد
18
فلسطين ماذا عن المستقبل؟ أكثر من ستين عام ًا على قرار التقسيم وأكثر من أربعين عام ًا على النكسة التي ابتلعت فيها إسرائيل الضفة وغزة ،وما من حل يلوح في األفق. اعتراف ًا الفلسطينيون وقع بإسرائيل واكتفوا بحلم دولة على اثنين وعشرين بالمئة من أرض فلسطين التاريخية ،ومع ذلك لم يحصلوا على دولتهم بعد ،واستمرت إسرائيل في استباحة الضفة وغزة قت ً ال للبشر وهدم ًا للمنازل وبناء المستوطنات للمتطرفين اليهود. وكلما بدأ الفلسطينيون تحرك ًا من أجل تحرير أرضهم دعاهم اإلسرائيليون إلى مفاوضات تستمر سنوات دون أن تتوصل إلى شيء، ألنهم يديرون صراع ًا يريدونه أبدي ًا وال يسعون إلى الحل. وأمام الخطوة الجديدة للرئيس
الفلسطيني بالذهاب إلى األمم المتحدة أطلق اإلسرائيليون مجددًا دعوتهم للتفاوض غير المشروط بإيقاف بناء المستوطنات .وتحدث الحليف األميركي حول المفاوضات بوصفها طريق ًا وحيدًا للحل وليس األمم المتحدة ،متجاه ً ال أن إسرائيل الطرف األقوى قامت بقرار من األمم المتحدة، وعدم االعتراف باألمم المتحدة حكم ًا بالملف يطعن في شرعية الدولة األولى بالرعاية األميركية!. ثم كانت مفاجأة قبول فلسطين عضوًا باليونيسكو التي فجرت غضب اإلسرائليين وأمل الفلسطينيين. ولكن الخطوة الجديدة مجرد خطوة ،وتبقى الحقيقة الوحيدة المؤكدة وهي أن الفلسطينيين باتوا الشعب الوحيد الخاضع لالحتالل المباشر. هذا هو الواقع ،فماذا بعد؟
19
السلطة الفلسطينية في تحقيق إجماع ونيل العضوية الكاملة فشلت ّ في األمم المتحدة ،لكنها ،استطاعت ،بالمقابل ،كسب رهان دخول منظمة اليونسكو ،متحدية لوبيات إسرائيل في أوروبا وأميركا.
بيت العنكبوت �سعيد خطيبي مكس���ب دبلوماس���ي مه���م حققت���ه كام�ل�ا في فلس���طين بقبوله���ا عض���وًا ً اليونس���كو( 31أكتوبر/تشرين األول)، تش���تت حوله آراء وانطباعات وسائل اإلع�ل�ام الدولية .حي���ث تفاءلت جريدة «لوموند» الفرنسية بهذا النجاح وعنونت مط���والً« :فلس���طين تتخطى موضوع ًا ّ مرحل���ة جديدة نح���و االعت���راف بها»، وذكرت صحيفة «لوس���وار» البلجيكية أنه «اعتراف رمزي بدولة فلسطين» .على العكس تمام ًا من الصحف الكندية ،التي تبنت موقف حكومته���ا الرافض لدخول فلسطين ،وكتبت صحيفة «لودوفوار»: «خيار السماح لفلسطين باالنضمام يهدد مس���تقبل منظمة اليونس���كو» .عالمات التهديد الذي أطلقته���ا الصحيفة الكندية جاءت س���ريعة ،حي���ث أعلنت الواليات المتح���دة األميركية (الت���ي تعتلي قائمة ال���دول المانحة بس���تين ملي���ون دوالر س���نوياً) تعليق دعمها المادي للمنظمة نفسها .هذه األخيرة أصدرت بيان ًا تشير في���ه إلى تعلي���ق جزء من نش���اطاتها،
20
انتصرنا
إلى نهاية الس���نة الجارية ،بسبب عجز ف���ي الميزانية يق���در بحوالي 65مليون دوالر .وص���رح الرئيس ب���اراك أوباما في ختام القمة االقتصادية لدول آس���يا عبرت عن والمحي���ط األطلس���ي« :لق���د ّ امتعاض���ي للرئي���س الفرنس���ي نيكوال س���اركوزي ،وش���جبت تصويت فرنسا لصالح فلسطين» .مشيرًا إلى أن انضمام فلسطين للتنظيمات الدولية يجب أال يتم دونما تس���وية أو دون التوصل التفاق سالم مع إسرائيل .موقف يكشف تحو ًال جوهري ًا في سياسة أوباما الذي كشف، في األس���ابيع األولى من توليه رئاسة البي���ت األبي���ض ،عن نوايا حس���نة في التعام���ل مع الملف الفلس���طيني .ومن المنتظر أن تنتهج كن���دا (تحتل المرتبة الس���ابعة في قائمة أهم الدول المانحة) الخيار نفسه ،بتقليص مساعداتها ،التي تقدر سنوي ًا بأكثر من 10مليون دوالر. على العك���س م���ن آراء الصحف في كن���دا ،وتعنُّ���ت مواق���ف س���ادة البيت األبيض في الواليات المتحدة األميركية
الذي���ن أبان���وا ع���ن نص���رة للسياس���ة الكولونيالية اإلس���رائيلية ،فقد انتقدت صح���ف المعارضة ف���ي ألمانيا بش���دة موقف حكومة أنجيلين���ا ماركيل ،التي صوتت ضد انضمام فلس���طين ،ودعتها ّ إلى تدارك خطئها ،والّدفاع عن حضور فلسطين في اليونس���كو .وعلّق الخبير السياس���ي ولفانغ جيرك قائالً« :موقف ألمانيا س���يعزلها من لع���ب دور مهم في منطقة الشرق األوسط». الصحاف���ة العربي���ة هلّل���ت لنج���اح ال المساعي الدبلوماسية .وتحدثت طوي ً عن هذا االنتصار .لكنها تفادت الخوض في األسئلة األهم:ما دور وفعالية العرب في المنظمات الدولية ،مثل اليونس���كو؟ حض���ور العرب فيها ي���كاد يكون باهتاً. ش���كلي ًا وغير مؤثر .رغم أن اليونسكو تأسس���ت ع���ام ،1945بمب���ادرة قادها عش���رون بلداً ،م���ن بينهم ثالث���ة بلدان عربية :لبنان ،مصر ،والمملكة العربية الس���عودية ،إال أنه لم يمر على منصبها القيادي اس���م عربي واحد .كما أن ورقة الضغط العربي���ة داخل المنظمة بحاجة تكرس نفس���ها ،أكث���ر فأكثر، إل���ى أن ّ وتس���تفيد من الدعم المال���ي المهم الذي تقدمه الدول العربية للمنظمة سنوياً. دخ���ول فلس���طين إلى اليونس���كو، بع���د انتظ���ار طوي���ل ،يؤك���د عل���ى أن بيت السياس���ة األميركي���ة الخارجية لم يعد س���وى بيت عنكب���وت «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» .وأن اللوبيات الت���ي تحكم ميول المجتم���ع الدولي من الممكن تجاوزها .فكم���ا نجحت التدابير الدبلوماس���ية الفلس���طينية في دخول منظمة األمم المتحدة للتربية والعلوم، من ش���أنها مواصلة الطري���ق ،لإلقرار بالدولة وإس���كات أف���واه المنتقدين من داخل إسرائيل ،على غرار صحيفة «ها آرت���ز» التي وصفت عضوية فلس���طين بالمخجل���ة .كم���ا ل���م تتمال���ك حكومة نتنياه���و أعصابها وأعلن���ت نيتها بناء 2000وحدة س���كنية في مس���توطنات القدس الشرقية والضفة الغربية .وذهب موقع « »identite juive.comبعيدًا في تطرفه عندما كت���ب« :التصويت لصالح فلس���طين س���يخلق أزمة داخل منظمة وسيعجل بنهايتها». اليونسكو ِّ
حق..ال يضيع
رهانات اإلقرار بدولة فلسطين با�سكال بونيفا�س حرك طلب اإلقرار بدولة فلسطين في ّ هيئة األمم المتحدة معركة دبلوماسية، دام���ت أس���ابيع طويلة .مع ذل���ك فإننا ل���ن نلتمس نتائج ملموس���ة .ألن القرار النهائي يحتكره مجل���س األمن الدولي، لوحت الواليات المتحدة األميركية حيث ّ ح���ق الفيتو. بنيته���ا ف���ي اللّج���وء إلى ّ مهما كانت نتائ���ج التصويت فإن الواقع يتغي���ر :األراضي عل���ى األرض لم ولن ّ الفلسطينية تبقى تحت سيطرة الجيش اإلسرائيلي. رغ���م أن المس���عى الدبلوماس���ي لن يحمل تأثيرًا على الوقائع الميدانية فإنه يتضمن إش���ارات سياس���ية ورمزية جد مهمة ،حيث اس���تطاع أن يجنّد لصالحه أوراق ًا وقوى دبلوماسية عديدة.
بالنسبة للطرف الفلس���طيني تعتبر خطوة طلب االعتراف بالدولة إقرارًا بفشل االنتفاضة ،ولكن أيض ًا داللة على بلوغ طريق مس���دود في المفاوضات الثنائية مع إسرائيل .أما الطرف اإلسرائيلي ،فقد عبر عن رفضه االعتراف بدولة فلسطين في األم���م المتحدة ،دونم���ا نفي مطلق لحق ولطموح تأسيس دولة فلسطينية يوم ًا ما .وب���رر الرفض بأهمية مواصلة المحادثات الثنائية .فهو يخشى أن يدخل حال���ة من العزلة الدولية في حال اإلقرار بفلسطين .الواليات المتحدة تتبنى ،من جهتها ،الموقف اإلس���رائيلي بحذافيره. فق���د حظي نتانياهو باس���تقبال جد حار الصيف الماضي أمام الكونغرس .كما أن أوباما ،الذي يمر بأزمة سياسية ،ليس
مس���تعدًا للمقامرة بعهدة انتخابية ثانية بسبب ملف الشرق األوسط. أن نقول إن تصويت ًا في األمم المتحدة يهّدد المفاوضات الثنائية فتلك نكتة .أو ربما فزاعة .ألنها في الحقيقة ليست أكثر من مخطط لكسب الوقت ولخدمة مصالح إسرائيل. ال���دول األوروبي���ة ال تب���دو متفق���ة حول موق���ف مح���ّدد .تفض���ل غالبيتها ترجيح مصطلح الدولتي���ن .بينما تظل مصرة عل���ى التقرب من الموقف ألمانيا ّ اإلسرائيلي .كما أن دول هولندا ،بولونيا وجمهورية التشيك تعلن صراحة تبنيها لمواقف واشنطن .أمام هذا الوضع بات موحد. من الصعب التنبؤ بموقف أوروبي ّ فدول القارة العجوز تبقى مواقفها مشتتة بين الرفض وقبول االعتراف بقيام دولة فلس���طين .موقف ال يخدمها بالنظر إلى سعيها الدؤوب إلى لعب دور محوري في القضية ،باعتبارها المتعامل االقتصادي الرئيس���ي مع إس���رائيل وأهم الداعمين مادي ًا للسلطة الفلسطينية .كما أن حالة التشتت التي نشهدها اليوم تمثل تراجع ًا أوروبي��� ًا تاريخي ًا الفت���اً ،خصوص ًا إذا أدركن���ا أن بي���ان البندقية ع���ام 1980 تضمن موقف��� ًا أوروبي ًا قوي ًا ومش���ترك ًا إزاء هذه القضية االستراتيجية. مب���ادرة اقت���راح االعت���راف بدول���ة فلسطين تكشف العزلة التي تعيش فيها إس���رائيل – ومعه���ا الوالي���ات المتحدة األميركية ،بش���كل غير مباشر – بالنظر إلى أن دعم الملف الفلسطيني ال ينحصر فق���ط عل���ى دول عربي���ة وإس�ل�امية. ب���ل يتعداه���ا إلى غالبي���ة دول الجنوب وكبريات الديموقراطيات الناش���ئة التي أعلنت صراحة دعمها لفلسطين. موازين القوى في العالم تتغير بنهاية القطبية والسيادة الغربية وبنشأة قوى ودول جدي���دة .هذا التغير ف���ي موازين القوى وفي توجه���ات األقطاب لن يلعب ال لصالح إس���رائيل .فاالعتماد مس���تقب ً عل���ى أمي���ركا وعل���ى حقها ف���ي فرض الحماي���ة لن يخدم الدول���ة العبرية على المدى المتوسط. *عن موقع مجلة (نوفال اوبسرفاتور)
21
يد واحدة
الربيع
الفلسطيني القادم مهند عبد احلميد -رام اهلل
أحدثت الث���ورات العربي���ة تحوالت هامة ،يتوقع أن يكون لها نتائج مهمة على القضي���ة الفلس���طينية .فقد انتهى عه���د كان النظام المص���ري يمارس فيه الضغط على القيادة الفلسطينية لتتالءم مع الش���روط األميركية واإلسرائيلية، وأصبحت وجه���ة الضغط نح���و دولة االحتالل .ثمة خش���ية إس���رائيلية من اشتراط بقاء معاهدات السالم المصرية واألردنية-اإلسرائيلية ،بإنهاء االحتالل اإلس���رائيلي لألراض���ي الفلس���طينية
22
وإقام���ة الدول���ة الفلس���طينية .وهناك مؤش���رات على ذلك ،كاقتحام السفارة اإلس���رائيلية في القاهرة وهرب السفير وطاقم���ه إلى ت���ل أبيب ،وإع���ادة فتح اتفاقية بيع الغاز المصري إلى إسرائيل، وتصريح عصام شرف رئيس الحكومة المصري���ة بأن بنود اتفاقية كامب ديفيد غير مقدسة. يمك���ن الق���ول إن الش���عوب العربية أصبح���ت بعد الثورات ش���ريك ًا في حل القضية الوطني���ة العربية وفي مركزها القضي���ة الفلس���طينية ،وس���يكون لها
بصماته���ا القوية على القرار الرس���مي. وإن رسوخ هذا التحول يسمح باالنتقال من «استراتيجية التوسل» العربية لدى اإلدارة األميركي���ة ،إل���ى اس���تراتيجية الضغ���ط عل���ى المصالح اإلس���رائيلية واألميركية واس���تخدام سالح المقاطعة والمطالبة بدفع ثمن سياسي للمصالح األميركية والغربية المنتشرة في طول البالد العربية وعرضها .وال ش���ك في أن ه���ذا التطور س���ينعكس إيجاب ًا على النضال الفلسطيني. فع�ل�ا على مواقف وقد ب���دأ ينعكس ً القي���ادة الفلس���طينية ،الت���ي رفض���ت اس���تئناف المفاوض���ات دون االعتراف بحدود الرابع من حزيران 1967ودون وقف ش���امل لالستيطان .وكان الذهاب لألم���م المتح���دة ورف���ض كل الضغوط أولى الثمار الطيب���ة للثورات العربية. كما أن التح���ول بدأ ينعكس على حراك الشباب الفلسطيني.
البدايات
عش���رات المجموع���ات تض���م مئات بل آالف الش���باب والشابات من مختلف المناطق داخل الوط���ن وخارجه تعمل عبر الفيس���بوك والتويت���ر والمدونات. يصغون إل���ى تجربة ش���باب الثورات العربية ويتح���اورون معه���م وتتراكم خبراته���م .ه���ؤالء يدرس���ون إمكاني���ة إط�ل�اق انتفاض���ة فلس���طينية جديدة. ثمة مجموعات ش���بابية تنظم أش���كا ًال م���ن التضامن م���ع الث���ورات العربية، عبر المس���يرات واالعتصامات وتوزيع األعالم وتصميم الملصقات واللوحات. مجموع���ات تنش���ط ض���د المحتلين في مواق���ع التم���اس -البل���دة القديمة في الق���دس والبل���دة القديم���ة ف���ي الخليل وبلعي���ن والمعصرة وبيت جاال وقلنديا ورامي���ن والنب���ي صالح وكف���ر قدوم وغيرها .ومجموعات تعمل لفرض إنهاء االنقس���ام بين حماس وفتح واستعادة الوحدة الوطنية من أجل خلق مقومات االنتفاض���ة الجدي���دة ض���د االحت�ل�ال. مجموعات تعطي أولوية لترتيب البيت الداخل���ي الفلس���طيني ب���دءًا بإص�ل�اح
المجلس الوطني والمؤسسات المنبثقة عن���ه وبخاص���ة اللجن���ة التنفيذي���ة، وترى ض���رورة انض���واء جميع القوى والكفاءات والعقول ف���ي إطار المنظمة على أسس وطنية ديموقراطية حقيقية جدي���دة ،وتطالب بفتح ملفات الفس���اد ومحاس���بة جميع الضالعين بالفس���اد السياس���ي والمال���ي واإلداري في إطار المنظمة والس���لطة وبأثر رجعي .وكل المجموع���ات تنظم اآلن أنش���طة داعمة إلضراب األس���رى في سجون االحتالل ويتعاظم التفاعل واالنخراط الش���بابي في معركة حرية األسرى ودعم مطالبهم المشروعة. الحراك الش���بابي النشط في الضفة والقط���اع تحت ش���عار إنهاء االنقس���ام ترك بصماته على المس���توى السياسي الفلس���طيني ال���ذي واف���ق عل���ى إنهاء االنقسام ووقع في القاهرة على االتفاق المبدئي الستعادة الوحدة الوطنية .كما أن طرح القضية الفس���طينية على األمم المتحدة َفَّع َل الحراك الشعبي والشبابي بش���كل غير مس���بوق ،وأعاد للوطنية الفلسطينية روحها.
مقومات ال غنى عنها
يالح���ظ أن جه���ود المجموع���ات الش���بابية تفتقد إلى مرك���ز موحد ،إلى رؤي���ة وأه���داف وآليات عم���ل ،وإلى أجس���ام ورواف���ع اجتماعي���ة .خالف��� ًا لالنتفاض���ة األولى الت���ي اعتمدت على روافع قوية وراسخة كالنقابات العمالية والمهنية ومنظمات الش���بيبة ومنظمات العمل النس���وي واالتحادات الش���عبية والتنظيمات السياسية والنخب الثقافية واإلعالمي���ة .في تلك الفترة وبس���رعة قياس���ية تحول���ت تل���ك األجس���ام إلى جهاز لالنتفاضة ،س���اعد في ترشيدها وتنظيمه���ا وصموده���ا واس���تمرارها لم���دى زمن���ي طوي���ل ،رغم سياس���ة تكس���ير العظام والعقوب���ات الجماعية التي اس���تخدمتها سلطات االحتالل ضد النشطاء وجهاز االنتفاضة والشعب. لم يك���ن من أولويات الس���لطة التي تش���كلت باتف���اق أوس���لو اس���تنهاض
الحراك الشبابي تحت شعار «إنهاء االنقسام» ترك بصماته على المستوى السياسي الفلسطيني الذي وافق على إنهاء الحالة األجس���ام الت���ي تعرض���ت لضرب���ات شديدة من قبل س���لطات االحتالل إبان االنتفاضة .كانت األولوية لبناء األجهزة األمنية والجهاز الحكومي .وبقيت تلك المؤسس���ات مهمل���ة ول���م تح���ظ أيض ًا باهتم���ام المعارض���ة وتنظيماتها.وفي هذا السياق نشأت طبقة وسطى حديثة من كبار الموظفين في السلطة والقطاع الخ���اص والمنظمات غي���ر الحكومية، طبقة ل���م ت���ول اهتمام ًا يذكر بالش���أن العام .وعندما اندلعت االنتفاضة الثانية في غي���اب تل���ك األجس���ام والروافع، سرعان ما استدرجت إلى مواجهة عنيفة غير متكافئة مع قوة االحتالل الغاشمة التي نجحت في توجيه ضربات قاسمة للنواة الصلبة من المقاومين. يالحظ اآلن أن الحراك بدأ من خارج األجس���ام التقليدي���ة الت���ي تعان���ي من تشوه في البنية التنظيمية السياسية، وم���ن بيروقراطية عاج���زة عن خوض انتفاضة كبيرة .وقد جاءت استجابتها عل���ى النمط التقلي���دي القديم وكأنها لم تستفد من الثورات العربية. بني���ة المنظمة والس���لطة والفصائل والمؤسس���ات التابع���ة له���ا أصبح���ت ش���ائخة ،وهي أش���به ببني���ة النظام العرب���ي القدي���م ،وتحتاج إل���ى تجديد وتغيير ديموقراطيين .وعندما ال تبادر المنظمة والس���لطة لإلصالح والتجديد ط���وال الوقت ،فم���ن المنطقي أن يكون الره���ان على تدخ���ل الق���وة الحية في المجتمع ،عل���ى قوة الش���باب ،وعلى
تدخ���ل النخ���ب الثقافي���ة الديمقراطي���ة الملتزمة بقضايا الش���عب عب���ر تفعيل س�ل�اح النقد .إن المعركة ضد االحتالل المطروح���ة اآلن بات���ت ترتبط أكثر من أي وق���ت مض���ى باإلص�ل�اح والتجديد والبناء ،وبمبادرة القوة الحية دون أن يعني ذلك إعفاء الحركة السياسية من المشاركة. طاب���ع االنتفاضة القادمة هو طابع س���لمي يتيح المجال لمشاركة األغلبية الس���احقة من الش���عب في احتجاجات منظم���ة وطويل���ة األمد .هذا م���ا تقوله ح���وارات المجموع���ات الش���بابية. وسيس���تخدم ف���ي االنتفاض���ة الجديدة س�ل�اح مقاطع���ة الس���لع اإلس���رائيلية والمقاطع���ة االكاديمية الت���ي تمتد إلى خارج فلس���طين ويشارك في المقاطعة قوى عالمية وعربية .وكذلك س���يفتح ملف االحتالل وجرائ���م الحرب والنهب المرتكبة .ويتم التداول بسياسة االعتماد على ال���ذات ورف���ض الدع���م الخارجي المش���روط .تناقش اآلن إمكانية تنظيم االعتصام الس���لمي ب���اآلالف في مراكز الم���دن وقرب الج���دار والمس���توطنات وبواب���ات العب���ور والط���رق االلتفافية والحواجز العسكرية. ق���د تأت���ي الش���رارة الت���ي تش���عل االنتفاضة بفعل تط���ور دراماتيكي في إضراب األسرى ،كاستشهاد مناضلين مضربي���ن .أو قد تأتي الش���رارة بفعل اعت���داء إجرام���ي من قبل مس���توطنين أصوليين عنصريين .أو بفعل إجراءات إس���رائيلية حمقاء .المهم أن ال تستدرج االنتفاض���ة الجديدة إلى رد فعل مرتجل وغي���ر مدروس يبدد عناصر القوة التي يملكها الشعب الفلسطيني .ولهذا السبب ف���إن امت�ل�اك رؤي���ة وأه���داف وجهاز تنظيمي والقدرة عل���ى الضبط والربط يعد العنصر األهم الذي يبقي على زمام المبادرة بيد الش���عب المنتفض ،ويأخذ بمبدأ الخصائص المتناقضة الذي يضع عناص���ر القوة الت���ي يمتلكها الش���عب على عناص���ر ضعف االحتالل ،ويحرم س���لطات االحتالل من فعل ذلك ،تمام ًا كما فعلت االنتفاضة األولى. 23
رؤية إدوارد سعيد لحل القضية
دولة واحدة فخري �صالح -عمّان
على النقيض من الرؤية الس���ائدة في الثقاف���ة السياس���ية دافع المفك���ر والناقد الفلس���طيني إدوارد س���عيد ع���ن نموذج الدولة مختلطة الهوي���ة ثنائية القومية، حتى ل���و كان هذا النم���وذج مرفوض ًا من قبل الطرفين الفلس���طيني واإلسرائيلي، حي���ث بدا ل���ه ح���ل الدولتي���ن القوميتين المس���تقلتين صعب التطبي���ق على أرض الواقع ،بل مخالف ًا لرؤيته للقوميات التي تتعاي���ش وتتفاعل عل���ى قطعة صغيرة من األرض .ورأى س���عيد ،الذي أكن مقت ًا ش���ديدًا لما س���ماه «سياس���ات الهوية»، أي األيديولوجي���ة السياس���ية والثقافية الت���ي تفصل بي���ن الهويات وتش���دد على استحالة اختالط الهويات وتمازجها ،أن على البش���ر أن يتعلم���وا العيش مع ًا ألن المزيج والهجنة وس���يولة الهوية هي ما يميز ثقافة القرن العشرين وعالم الحداثة عامة .وقد بدأ إدوارد سعيد تشكيل رؤيته لح���ل الدولة ثنائي���ة القومية من���ذ نهاية سبعينيات القرن الماضي ،شارح ًا وجهة نظره ف���ي كتابه «القضية الفلس���طينية» ( ،)1979الذي لم يترجم حتى هذه اللحظة إل���ى العربية ألس���باب تتعل���ق بتفصيله الحديث عن أوضاع الفلسطينيين المزرية في ع���دد من ال���دول العربي���ة .وهو وإن كان ال يش���كك في حق الشعوب في تقرير 24
مصيرها ،إال أن الحل األمثل بالنس���بة له يتمثل في العيش المش���ترك ،وأن يتعلم الفلس���طينيون واليهود كيف يبنون وطن ًا واحدًا بد ًال من سياس���ة الفصل واإلقصاء ورفض اآلخر. يس���تمد س���عيد وجهة نظره المعادية لسياسات الهوية من الفيلسوف األلماني اليه���ودي ثي���ودور أدورنو ،ال���ذي كان واحدًا من المفكري���ن والمثقفين الغربيين الذين أثروا عميق ًا في فكر إدوارد س���عيد، لك���ن صاحب «االستش���راق» يس���عى في كتاباته إلى االنطالق من واقع االشتباك اليهودي الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخي���ة ،حيث يصعب تقس���يم قطعة أرض ش���ديدة الصغ���ر عل���ى ش���عبين، مؤكدًا أن البش���ر إذا اس���تمروا في متابعة ه���ذا النمط من التفكير فإنهم سيعيش���ون في المس���تقبل ف���ي جزر معزول���ة .يقول ف���ي حوار أجري معه عام « :1986لس���ت متأكداً ،في ّأية مناس���بة ،أنني س���أؤمن المقسمة. بما يمكن أن تصير إليه فلسطين َّ لقد توقفت عن االعتقاد بأن حل المش���اكل السياسية هو قس���مة األراضي إلى أجزاء أصغر فأصغر .ال أؤمن بالتقس���يم ،ليس على الصعيد السياس���ي أو الديموغرافي فقط ،بل أيض��� ًا على األصع���دة الثقافية والروحي���ة األخ���رى .إن فك���رة تقس���يم
األوطان إلى أجزاء تس���تقل بكل جزء منها جماعة ما هي فكرة خاطئة تماماً .إن فكرة النقاء ـ بأن األرض الفالنية هي بالضرورة وطن الفلسطينيين أو اإلسرائلييين ـ هي ٍ أصيلة البّتة بالنس���بة بالضبط فكرة غير لي .أنا أؤمن بالتأكيد بحق تقرير المصير، ول���ذا ف���إذا كان الناس يرغب���ون في فعل ذل���ك فإن عليهم أن يكون���وا قادرين على فعله :لكنني أنا نفس���ي ال أرى أي حاجة للمشاركة في ذلك». انطالق ًا من الرؤية السابقة يجد إدوارد س���عيد مصائ���ر الفلس���طينيين واليه���ود مرتبطة ومتعالقة وال يمكن فصل بعضها ع���ن البعض اآلخ���ر ،لكن���ه ال يتوقع في ه���ذه المرحلة الكثي���ر مما يمك���ن توقعه س���وى تفاقم الن���زاع« :أنا أع���رف الكثير عن الوضع العربي والفلسطيني ،وأظن أن اإلحس���اس باالنجراف واليأس وعدم اليقين قوي جدًا هناك .ال أظن أن اإلنسان الع���ادي قد استس���لم ـ هن���اك الكثير من المرون���ة والقدرة على اس���تعادة العافية لدى الناس ـ لكن ما نحن مقبلون عليه هو أزمة ف���ي القيادة ،إضافة إلى وضع غير عادل وغير محظ���وظ ،حيث إن الظروف كله���ا ضدنا .إن دور الوالي���ات المتحدة، ودور االتحاد السوفياتي ،وأدوار العرب اآلخري���ن ،ودور اإلس���رائيليين :ه���ذه جميع ًا تعمل ضد تحقق ٍ حل ذي معنى في المستقبل القريب. لكن في منتصف الطريق إلى المستقبل القريب سيكون مثيرًا لالنتباه أن عددًا من اإلسرائيليين والفلس���طينيين سيفكرون ٍ خط���وط متوازي���ة وبالطريق���ة التي في ذكرته���ا م���ن قب���ل :ض���د فكرة التقس���يم وكبديل عن ذلك عبر إقامة دولة يهودية/ فلس���طينية ديموقراطية .وس���يكون هذا رد التفكير ،وعلى عك���س ما هو متوقعّ ، ٍ أن���اس مثل كاهانا ال���ذي أثار فع���ل على ٍ المس���ألة ،وقال بأنه من المستحيل إقامة دولة يهودية /فلس���طينية ديموقراطية. يثير القش���عريرة ف���ي البدن، إنه لش���يء ُ والناس يجدون األمر صعب المعالجة .لقد ورقة كتبها ميرون أثارت انتباهي حديث ًا ٌ بنفنيستي ،المساعد السابق لرئيس بلدية توصل إلى االستنتاج نفسه القدس ،حيث َّ ال���ذي توصل���ت إليه :فنحن ال نس���تطيع حقيق���ة الحديث عن ش���عبين منفصلين، ً
ٍ بس���بل ألن حيواتنا مترابطة ومنش���بكة مختلفة ،وف���ي هذه اللحظ���ة عبر هيمنة ٍ مجموع���ة على أخرى ،لك���ن فكرة الدولة ص���ورة زائفة المنفصل���ة المتمايزة هي ٌ تحقيق لمفه���وم العدالة ،وما أعتق���د أنه ٌ لليبرالية والتجربة االجتماعية العظيمة. التحول هن���اك يقيم المس���تقبل :ف���ي ّ والتط���ور ،م���ع الزمن ،لفك���رة المجتمع القائ���م على التجارب الفعلية المش���تركة والمتبادلة ال المجتمع القائم على األحالم
الت���ي تط���رد اآلخر ال���ذي يش���كل نصف الواق���ع .س���وف يس���تكمل مب���دأ التفكير المسلح مسيرته الزمنية ،وهو مبدأ قوي جدًا في أس���اس إحياء الفكرتين :القومية اليهودية والقومية العربية ،وإذا لم يدمر هذا المبدأ كل شيء فسوف يستنزف تمام ًا وي ْس���ِفر عن عدم فاعليته .وحتى يصبح ُ واضح��� ًا أن الحل المس���لح غير مجٍد ـ كما برهنت التجربة اللبنانية لإلس���رائيليين واللبنانيي���ن والفلس���طينيين ـ س���وف
ماذا عن المستقبل
نغامر بحياة الكثير من الناس ونعرضهم للمآسي .لكنني متفائل جداً ،على األقل، بالنسبة لجيل أبنائي». يرج���ع كالم س���عيد الس���ابق ص���دى ّ تصوره النق���دي ورؤيت���ه للتاريخ ،فهو يؤم���ن بما يس���ميه «النق���د الدنيوي» في مقابل «النقد الديني» ،حيث يسعى النوع األول م���ن النقد إلى التش���ديد على ما هو دنيوي ،معيش ،ومصنوع بأيدي البش���ر الذي���ن يصنعون تاريخهم بأنفس���هم ،في مقابل «النقد الديني» المتصلب الذي يسعى إلى اقتناص اللحظ���ات الميتافيزيقية في النص والعالم .ما يؤمن به إدوارد سعيد عل���ى صعيد الن���ص يطبقه عل���ى رؤيته لح���ل القضية الفلس���طينية ،فهو يؤكد أن في مقدور الفلس���طينيين واإلس���رائيليين أن يتعلم���وا العيش مع ًا في المس���تقبل، ويصنع���وا تاريخهم المش���ترك بأيديهم، ويغادروا بيت األس���طورة ،بل األساطير جميع���اً :التاري���خ العتيق ال���ذي ينبغي وصل ما انقطع منه ،األرض التي تخص ش���عب ًا دون آخ���ر ،الخ���وف المقي���م من اآلخ���ر ،وهم الدول���ة القومية المس���تقلة ذات الهوية الدينية أو القومية الخالصة، وأخي���راً :وهم نف���ي اآلخر لك���ي تتحقق الهوي���ة الخاصة بالش���عب اآلخ���ر ،فكما يقول س���عيد في واحدة من مقاالته التي نش���رت في كتابه «من أوسلو إلى العراق وخريط���ة الطري���ق» ( )2003فإن «علينا أن نتعاي���ش مع فكرة أن يهود إس���رائيل باقون في فلس���طين ،كما ه���و الحال مع ثم فإن «سياس���ة الفلس���طينيين» .وم���ن ّ الفصل لن تك���ون قادرة عل���ى العمل في أرض صغي���رة (كأرض فلس���طين) ،وما تحجب���ه الق���وة العس���كرية واالقتصادية اإلسرائيلية عن اإلس���رائيليين هو رؤية الواقع على حقيقته» .فالفلس���طينيون لن يختفوا وس���وف يش���كلون على الدوام، ال مج���رد مش���كلة ديموغرافية بالنس���بة إلس���رائيل ،ب���ل حقيقة دنيوي���ة من لحم ودم ينبغ���ي التعايش معها .لقد أصبحت سياس���ة الفصل العنص���ري التي اتبعتها إس���رائيل لحل المش���كلة عقبة أخرى في وجه الحل ،ويمكن أن يقدم المثال الجنوب إفريقي درس ًا ملهم ًا بالنسبة لإلسرائيليين والفلسطينيين معاً.
25
بين رومانسية سعيد ووحشية ليبرمان
شكل الدولة هالة العي�سوي -القاهرة
منذ أن تبلورت فكرة إقامة دولة فلسطينية معترف بها دولي ًا في عام 1988حينما أعلنت منظمة التحرير وثيقة االستقالل الفلسطيني وقدمت للعالم إعالن الدولة الفلسطينية على حدود ،1967تماهت الفكرة ومرت بالكثير من التعاريج السياسية .وبين هبوط وصعود كانت ذروته عام 1993في إعالن اتفاقات الحكم الذاتي وتأسيس السلطة الفلسطينية المعروفة باتفاقات أوسلو شهدت الفكرة العديد من مظاهر صراع اإلرادات وتجليات المقاومة الصهيونية لتنفيذها ووضع العراقيل أمام قيام دولة فلسطينية مستقلة. كان من أهم أسباب تماهي الفكرة ذلك االلتبـــاس الواقــــــــع في الذهنية العالمية عموم ًا والعربية بشكل خاص حول هوية الكيان اإلسرائيلي الذي قام في أرض فلسطين التاريخية في عام ،1948هل هو دائم وراسخ األركان، أم مؤقت ومن الممكن إبادته إن آج ً ال أو عاجالً .وإذا كان دائم ًا وراسخ ًا فهل هو دولة علمانية ليبرالية وديموقراطية تستوعب التعددية وتقبل اآلخر وتسمح باندماجه فيه ،أم أنها دولة دينية 26
مغلقة على أبناء عقيدتها ،متعصبة ال تقبل «األغيار»؟ مما ال شك فيه أن تأثيرات ذلك االلتباس حول طبيعة الكيان الصهيوني الموجود ،انعكست على األشكال المتباينة التي اتخذتها محاوالت إنتاج فكرة إقامة دولة للفلسطينيين .ومع أن المينافستو الذي قام ذلك الكيان على أساسه – وأعني به وعد بلفور 1917- حدد مبكرًا جدًا شكل الكيان بإقامة وطن قومي لـ «اليهود» في فلسطين ،إال أن العديد من األدبيات العربية وقعت في فخ تصديق ما جاء في القانون األساسي لـ «دولة إسرائيل» الذي حدد أنها دولة علمانية ديموقراطية. وما بين اعتقاد لدى بعض الدوائر العربية بوقتية بقاء ذلك الكيان مما أدى إلى الركون إلمكانية إبادته وإلقائه في البحر ،وإطالة أمد إصرار بعض الدوائر الفلسطينية على عدم االعتراف بذلك الكيان والتصميم على إقامة الدولة على كامل أرض فلسطين التاريخية، وما بين تعامل عربي براغماتي وقبول باألمر الواقع حث على ضرورة البحث في سبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة
أي ًا كانت مساحتها وحدودها ،وبصرف النظر عن التواصل الجغرافي ألركانها، تباينت األشكال المقترحة للدولة الفلسطينية. وما بين تصديق رومانسي لما جاء في وصف الدولة اليهودية بالديموقراطية والعلمانية ،وبيــــن اســتقراء آخــــــر لحقيقة المحددات الدولية التي رسمت شكل الكيان في صورة وطن قومي لليهود ،مع إدراك الستحالة التعايش مع سكان ذلك الكيان الجديد ،تماهت الرؤى العربية لشكل الدولة ،فشاعت فكرة قيام «دولة واحدة لشعبين» التي أذاعها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد ،وهي ما أسماها الدولة ثنائية القومية ،وثنّى عليه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حين ابتكر مقولة دولة «إسراطين» من خالل قناعة بإمكانية تعايش الشعبين الفلسطيني واإلسرائيلي تحت مبادئ المساواة والمواطنة وشراكتهما في كامل التراب الفلسطيني .على أن هذا الطرح لم يكن نموذجي ًا تماماً ،ألنه لم يحل معضالت أخرى من قبيل وضعية فلسطينيي الـ 48حاملي الجنسية اإلسرائيلية الذين كانت معاناتهم ستتواصل كمواطنين إسرائيليين من الدرجة الثانية ،كما أن هذا الطرح لم يجد الحل لمعضلة الرفض اإلسرائيلي الدائم لحق العودة الفلسطيني .األهم من ذلك كله أن تلك المثالية التي اكتسبها طرح إدوارد سعيد لم يقابلها من الجانب اإلسرائيلي مثالية أخالقية مكافئة. بالمقابل نشأت فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود .1967 بيد أن العامل الحاسم في مسألة قبول قيام هذه الدولة الفلسطينية وتحديد شكلها وترسيم حدودها ،كان هو الموقف اإلسرائيلي الذي يرسم مالمح التعامل الدولي مع الفكرة ،ويضع له الحدود والشروط ،ومن ثم فإنه يشحذ أو يثبط عزائم القوى الدولية على تبني فكرة الدولة الفلسطينية أو لفظها.
إدوارد سعيد..رومانسية الحلم
الظرف الداخلي اإلسرائيلي مع أن إسرائيل أبدت مرونة نسبية في مسألة القبول بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ،1967وتجلت هذه المرونة في إنجاز اتفاقات أوسلو ،إال أن مجريات األحداث أثبتت أن المشروع برمته سوف يبقى مراوح ًا في مكانه باستثناء الخطوات التأسيسية األولى التي تمت مثل إنشاء السلطة الفلسطينية كنواة للدولة ،وعودة عشرات اآلالف من المناضلين الفلسطينيين إلى األراضي الفلسطينية يتقدمهم الزعيم الراحل ياسر عرفات ،أما ماعدا ذلك فقد أصابه جمود -إن لم يكن نكوص ًا -تواكب مع بعض المتغيرات الدولية واإلقليمية. فقد رسخت ظاهرة العالم منفرد القطبية في تلك الحقبة ،بعد أن كانت الثنائية القطبية هي الملمح المميز للسياسة الدولية .وعلى الصعيد اإلقليمي اشتد ساعد التيارات الدينية األصولية المتشددة في منطقة الشرق األوسط .وهنا من المهم اإلشارة إلى أن ظاهرة المد األصولي نمت في الجانبين العربي واإلسرائيلي على حد سواء بل وفي فترة متزامنة .فبينما برزت حركة
ليبرمان..توحش الدولة
المقاومة اإلسالمية (حماس) في الجانب الفلسطيني كفصيل وطني أصولي راديكالي في مواجهة حركة فتح التي تتسم بالعلمانية ،ظهرت في إسرائيل العديد من القوى اليمينية والدينية األرثوذكسية الموغلة في التطرف، اتخذت العنف واإلرهاب سبي ً ال للتعبير عن الرأي من أمثال حركة «كاخ» بزعامة الحاخام مئير كاهانا التي نفذت مجزرة الحرم اإلبراهيمي في الخليل عام 1984 وانكشف مؤخرًا أن أفيغدور ليبرمان كان عضوًا فيها في بواكير أيامه بإسرائيل عقب هجرته من موطنه األصلي «مولدوفا» إليها في عام .1979 ثم ،وبالتزامن ،وقع حادث اغتيال رئيس الوزراء اإلسرائيلي السابق
ظاهرة المد األصولي نمت في الجانبين العربي واإلسرائيلي على حد سواء بل وفي فترة متزامنة
إسحق رابين على يد أحد المتطرفين اليهود عام ُ ،1995بعيد توقيع «أوسلو» وكان اغتياله تتويج ًا للمعارضة اليمينية اإلسرائيلية (بزعامة الليكود الذي كان يترأسه وقتها بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الحالي) على عملية السالم في أوسلو وعقاب ًا له على التخلي عن الضفة الغربية ،وعلى اعتزامه إعطاء منظمة التحرير الفلسطينية السيطرة على 90 ٪من سكان الضفة الغربية العرب، مع الحفاظ على ٪ 70من األراضي في المناطق المحتلة .وفي خطاب ألقاه أمام الكنيست وعد رابين بأن إسرائيل سوف تستمر في «الحرية الكاملة للعمل من أجل تحقيق أهداف أمنية وتطرق إلى الحديث عن حل دائم». كان هذا الحادث كاشف ًا لطبيعة التغييرات التي تعتمل في المرجل اإلسرائيلي وأصبح بمثابة الضوء األحمر أمام أي تقدم في عملية السالم أو في خطوات إقامة الدولة الفلسطينية. وكان في رأس رابين الطائر عبرة ألي تسول له رئيس حكومة ٍ تال له حتى ال ِّ نفسه االقتداء بمنهج رابين .فما بالنا إذا كان نتانياهو الذي اتهم هو وحزبه بالتحريض على قتل رابين وألقيت عليه 27
المسؤولية األخالقية بسبب التحريض والتصعيد المضاد الذي شنته المعارضة على رابين هو نفسه رئيس الحكومة الحالي الذي يفترض أن يقوم بدور المفاوض الستكمال خطط بناء الدولة، وهو نفسه صاحب الالءات الثالث الشهيرة « - 1 :ال لعودة» الفلسطينيين. ال «لحدود 67ألنها ال تأخذ في االعتبار التغيرات الديموغرافية التي حدثت على مدى السنوات الـ 44الماضية»( .وهي العبارة التي يستعملها لشرعنة التوسع االستيطاني اإلسرائيلي غير القانوني)! « - 2ال» للمصالحة الفلسطينية« - 3.ال» لحق العودة للفلسطينيين.
صعود اليمين والسلفيين الجدد من الظواهر األخرى ذات الداللة الكاشفة تزايد عدد وسطوة األحزاب الدينية المتطرفة واليمينية المتشددة. وبعد أن كان اليمين اإلسرائيلي ممث ً ال في حركة حيروت التي تكتلت بعد ذلك في حزب الليكود ،أصبح هناك الليكود ومعه إسرائيل بيتنا بزعامة المهاجر المتطرف أفيغدور ليبرمان وبات هذا الحزب شريك ًا في الحكومة الحالية ويشغل 15مقعدًا في الكنيست (البرلمان) وله ستة وزراء في االئتالف الحاكم. ويؤمن هذا الحزب «بإعطاء األمن للمواطن اإلسرائيلي» ،ومن أجل ذلك فإنه يدعم استعمال القوة ضد حركات المقاومة الفلسطينية ويطالب بإخالص كل المواطنين للدولة ولطبيعتها اليهودية الصهيونية ،وبالذات قسم الوالء للدولة اليهودية من العرب ،وأن يحصل هؤالء بالمقابل على ضمانات وتعويضات من الدولة إلخالصهم. وبالتشديد على تطبيق القانون ومحاربة العنف .كان لهذا الحزب دور كبير في اتهام األحزاب العربية وممثليها بعدم إخالصهم للدولة ،بما ينطوي عليه هذا االتهام من تكريس
28
العقيدة الصهيونية الكامنة بداخل كل إسرائيلي ترفض بشكل مطلق فكرة الدولة الفلسطينية لمبدأ الترانسفير العنصري البغيض، ويؤدي في نهاية المطاف إلى طرد عرب الـ 48وإفراغ إسرائيل من المواطنين العرب المسلمين والمسيحيين. كذلك يؤمن الحزب باستخدام كافة وسائل العنف ،بما في ذلك االغتيال عمليات إلى السياسي.واللجوء التخريب بقصد تنفيذ خطط لالستيالء على السلطة أما فيما يتعلق باألحزاب الدينية فقد نشأ بجوار األحزاب الدينية التقليدية كـ «المفدال» و«شاس» حزب «يهودية التوراة الموحد» وهو نتاج تحالف حزبين دينيين متشددين هما «ديجل هاتوراه» و«أجوداة يسرائيل». واآلن يحتل هذا الحزب خمسة مقاعد في الكنيست ،ويعارض قيام الدولة الفلسطينية ويرغب في اإلبقاء على الوضع الراهن .وهو يؤمن بضرورة رد كافة األمور السياسية إلى أحكام الشريعة اليهودية والتوراة بما في ذلك التعامل مع «الجوييم» أو األغيار .وفي هذا يعد هذا الحزب «السلفي» الجديد من أشد المؤيدين لقانون يهودية الدولة.
الدين في الجيش لطالما حظي المتدينون المتشددون في إسرائيل بمزايا عديدة منها اإلعفاء من الخدمة العسكرية من أجل التفرغ للعبادة والدراسة الدينية أو على أقل
تقدير الفوز بتأجيل الخدمة العسكرية لحين االنتهاء من الدراسة .لكن في عام 1999بدأت أولى ثمار التعاون المشترك بين الجيش والحاخامية الكبرى بإنشاء وحدة خاصة بالمجندين «الحريديم» ،وفي هذه الوحدة ال يسمح بتجنيد النساء إال من زوجات المجندين لضرورات الخدمة الحياتية .ومنذ إنشائها وحتى سنوات قليلة مضت كانت هذه الوحدة العسكرية الدينية مغمورة ومحدودة األثر .وبعد أن تم إدماج المتدينين من خريجي المدارس الدينية (اليشيفاه) في مختلف وحدات الجيش ومع تزايد عدد المجندين الدينيين تصاعدت الشكوى من تزمت هؤالء المجندين وإصرارهم على عدم تنفيذ كافة األوامر العسكرية لو تعارضت مع تقاليدهم الدينية ،األمر الذي سبب أرق ًا لدى قيادات الجيش لعدم قدرتهم على فرض القواعد العسكرية على أفراد وحداتهم ،وبسبب تعاظم نفوذ المتدينين في المجتمع ودوائر السياسة اإلسرائيلية ،لم يعد بمقدور المؤسسة العسكرية فرض كلمتها وإال واجهت شتى أنواع اللوم والضغط .وبعد أن كان جيش االحتالل اإلسرائيلي ملتزم ًا بعلمانيته وبعد تدخل الدين إطالقاً ،أصبحت الشكوى مرة من تعاظم المد الديني بداخله. خالصة القول بإيجاز شديد :إن العقيدة الصهيونية الكامنة بداخل كل إسرائيلي مهما اختلفت قناعته السياسية ،ترفض بشكل مطلق فكرة الدولة الفلسطينية ،وإذا أخذنا في االعتبارات المستجدات السياسية واالجتماعية التي طرأت على الساحة السياسية الداخلية سنوقن على الفور بأن حلم الدولة الفلسطينية أصبح بعيد المنال على األقل في المستقبل المنظور .وفي ظل التشدد والمد الديني اآلخذ في التوغل بداخل طرفي الصراع (حماس في مواجهة ليبرمان) فإن الحلول السياسية ورومانسية إدوارد سعيد تبدو ضرب ًا من التهويمات.
أنسنة القضية ..نقلة صنعها األدب
التفكي���ر في فلس���طين اليوم ،على ضوء ما عش���ناه ف���ي العـقـد ٍ وبـخـاصـة في األش���هـر القـريب���ة ،يـفـ���رض النـظـر إليها األخي���ر، على مـس���ـتـويــيـْـن مـُـتـرابطيـْن :المس���ــار السياسي -التـحـريـري، ُ صـوغ والمــس���ار اإلبـداع���ي -الفكـري ف���ي وصـفـه مس���ـاهمة في ْ إش���ــكالية الثقافة العـربية انطالق ًا من مـرحل���ة اإلحـيـاء والنهضة، ظـل مـا بـعد الكولونيـالية والـعــولـمـة. إلى أسـئلة الوجود في ّ
العربي األفق ّ مل محتـ َ ال ُ حمـمد بـــرادة-بروك�سيل
الـمـســتــوى األول مــع بداي���ة االنــتـفـاضـات العربية أخـ���ذت القـضيـ���ة (ديس���مبـر ،)2010 ْ الفلس���طينيـة تـس���تـعيـد مـوقـعه���ا ورمـزيـتـه���ا داخ���ل الفض���اء العـرب���ي بـالـولـوج إلى س���ـاحة التـاريخ اآلخـذ ُ المتحـركة ،م���ن أجـل تـكس���ـيـر طـوق االس���ـتـبـداد وتـحـريـ���ر الفـ���رد وإرادة المجتمع .وحـضـور فلـس���طين في هذا الس���ـياق ،يـأتي من حقـيـقـة تـاريخية عـقـب نكب���ة ،1948ومـحاولة ـ���رة، مـ ّ َ ُ ردع إسـرائيل بعض الجيوش العـربية ْ َ ومساعدة الفلسطـينـيــين على استــرداد وطنـهم .في تـل���ك التـجـربة الخــائـبة، اكتشف جمال عبد الــناصـر وهو مـحاصـر في الفالوج���ة ،أن تحـريــر فلس���طيـن يـبـدأ من تـغـيــيـر األوضاع المـهـتـرئة، المـغـشـوش���ة ،داخل البلدان العـربيـة. بعبارة ثانية ،إذا كان مس���ـتقـبل مـصـر يـتــقـاط���ع بـالـحـتـم مـع حـل مش���كلة
29
فلس���طيـن ،فـإن الـوس���يلة الضـرورية لتحقيق ذلك ،تبــدأ من تحـرير المجتمع من االس���تبداد ،والتخطيــط لـتـرقـيـتـه وجعل���ه قـ���ادرًا على حماي���ة مصـالحه والتصـّدي لألخــطــبـوط اإلسـرائيلي. آلـ���ت إليه وبــغـ���ض النـظـ���ر عمـا ّ ْ التجربة الناصـرية ،فـإن قـس���ـط ًا مهـم ًا من إش���كالية الـوج���ود العـرب���ي بعــد االس���تقالالت وف���ي جــوار إس���ـرائـيل ــرح بــقـوة واحتالل فلس���ـطيـن ،قـد طـُ ِ ـ���د ْت المـأس���اة الفلس���طينية ف���ي فـ غـ َ َ َ ُسـويـداء س���ــؤال المس���تـقـبل العـربي داخــلـي ًا وخـارجـي ًا (جـيــو -بـولتـيك) وتــتـمـثـل محـورية فلسطين في أنـها، ُ منذ انطالقة «فـتـح» وفـصائـل التحـريـر في مطلع سـتـيــنيات القـرن الماضي، ـع حـّد لمـتـاجـرة األنظـمـة بالقضية ُوضــِ َ الفلس���طيـنـيـة واس���تعمالها ورقــ���ة للــمس���ــاومة وتــبـريـ���ر الس���ــلطـوية واالنـهـ���زام .لكن قـيام حـركة التحـريــر الفلـسـطـينـية وسـط مــبـاءة األنظمـة، وعلى رغــم مـا شــابــها من نقـائــص، َ طـرح���ت أس���ـئلة جوهـري���ة وحـركت ْ المــيـاه اآلس���ـنة الت���ي أرادت األنـظمة أن تـطـمـ���ر فيـه���ا مـطال���ب وتـطـلـعات الش���عـوب العـربي���ة .واألهـ���م في هذه الـتجربـ���ة الفلس���طينية خ�ل�ال فـتـرة اتــس���ـعت لجميع المقاومة ،ه���و أنـها ْ االتجاهات السياسية واأليديولـوجـية، ـدت نوعـ��� ًا م���ن الحـ���وار وجــس���ـّ ْ الديموقراط���ي بين مخـتـل���ف الفصائل. حـرصت وعـلى الرغــم من أن المقاومة ْ على حمـايــة اس���ـتـقالل قــرارها ،فـإن ش���ــرط الـش���ـتات وس���ـطوة األنـظمة نــقـــال إلى الجس���م الفلس���طيني أدواء َ التسخيـر والتبعية لألنــظمة. ٍ وبـخـاصة ونـتـيجـ���ة ل���كل ذل���ك، غيــاب تـنـظـيم الصـ���راع الديموقراطي ظل مـشـروع داخل المجتمعات العربيةّ ، السالم والدولة الفلـس���طـيـنية يـُـراوح ف���ي مكانه ،وظلت إس���ـرائـيل تـمارس االحت�ل�ال وهدم المنازل واالس���ـتـهـزاء
30
األهـم في الـتجربـة الفلسطينية هو اتــسـعت أنـها ْ لجميع االتجاهات السياسية ـدت الحـوار وجــسـ ّ ْ بين الفصائل بالقـ���رارات الدولي���ة ،مس���ـنــودة من الواليات المتحدة األميركية. مـع انــط�ل�اق ش���ــرارة الثـورة في تون���س ومــصـ���ر ،وعـ���ودة الـوعـ���ي بـضـ���رورة تـحـريـ���ر الش���عوب م���ن تــس���ـلـط األنـظــمـ���ة وتـبــعـيـتـه���ا ـوة للــوصـاي���ة األجـنـبـية ،بــ���رز بــقـُّ سـؤال االنـخـراط في العـصـر والـتاريخ ُ ـق تـصـورات تــراعي جدليـة الداخل فـ َ َو ْ ُ والخارج ،وتـربط تـحـريـر المواطنـين والنـظ���ام السيـاس���ي باس���تـرجاع وصـون مجال الس���يادة حـرية القـرار، ْ ورفـ���ض اس���ـتـعـمار األرض العـربية. يـس���ـتـوجب الـسياق بـعـبارة أخــرى، ُ الـراهـن طـرح المعضالت واألسـئلة في ش���ـمولـيـتـها وترابطــها ،حـتى يـُـمكن للعال���م العـرب���ي أن يـغـ���ادر الجـمـود والـتـبعية واالحتالل. من هـنـا تـس���ـتـعيد قضية فلسـطين أهمـيـته���ا ف���ي س���ـيـرورة الثـ���ورة الـبــادئـ���ة:إذ ال يـمكن تحـدي���د مـعالــم لألفـ���ق العـرب���ي الجديـ���د ،م���ن دون حـ���ل المأس���اة الفلس���طينية .ومـــــ���ا ّ يـس���ــتـرعي االنـتـبـاه ،هـو أن السـلطة الـتـقـطـت إش���ــارة الوطنية في رام اهلل ْ وأدرك���ت أن العـربيـ���ة، االنتفـاض���ات ْ الس���ـياق بـات يس���ــمح بـالـتـمـرد على الـوصاي���ة األميركية واألوروبية ،كـمـا أنـ���ه يـقـتض���ي وضـ���ع حــ���ّد لمـهـزلة المفاوضات التي امتدت مــا يــقـرب من
ثـم كان قـرار 20سـنـة ،دون جـدوى .من ّ تـقديم طلب إلى مجلس األمن لالعتـراف بـدولة فلسطين ،والسعي إلى العضوية الكاملة في منظمة اليونيسكو ،وهو مـا تحقق ي���وم 31أكتوبر.إنها ممـارس���ة فلسطينية تس���تــجيب لـحـالة النـهوض والتح���ّدي الت���ي تس���ــري ريـاحها في أرجــاء الـوطـ���ن العـربي .وهي أمــارة تـؤكـد عــمـ���ق تلك الجدلـي���ة الـقائمة، عـبـ���ر التـاريخ ،بين البل���دان العـربيـة وفلس���طـين بـوصفها جــ���زءًا مـلـتـحم ًا باألفـ���ق الـعـربي المـُـحتـمـ���ل ،وأيـض ًا بـوصفها حـالة إنـس���ــانية مـلـمـوس���ة تـفضـ���ح ادعــ���اءات أمي���ركا والغـرب ـنـاصـريـ���ن آلخــر اس���ـتـعمار عـلى المـ ْ ُ وجــه البــسـيطة!!
الـمســتـوى الـثاني يسـتـرعي االنـتـباه ،ما قـدمـه اإلبداع والفكـر الفلس���ـطيـنيـان إل���ى ذخـيـرة الثقافة العربية المـعاصـرة ،على رغـم محدودي���ة حج���م فلس���طين الجغرافي والبـش���ري .وه���و عـطاء يـعـ���ود إلى انـغـراسها في عمق مـسار النـهضة منذ بداياته���ا األولى ،وامتالكه���ا مجموعة من المبدعي���ن اس���تـطاعوا أن يعمـلوا على تلقيــ���ح الثـقافة العـربية بثقافات حديثة ،على نحو ما فعل خليل بيــدس والسكاكـيـني ،وقبلهما الناقد والمؤرخ روحي الخـالدي الذي نشـر سنة 1904 كتابــ���ه «عــل���م األدب عن���د اإلفـرن���ج والعــرب وفيكت���ور هيــجـو» ،محاو ًال الدف���اع ع���ن ض���رورة تجديد الش���ـعـر والـنــثـر عل���ى غـرار م���ا فعلـه هيـجو والرومانس���يـون ف���ي فرنس���ـا .وإلى حدود سنة ،1948ظل أبـناء فلسطين يـتـغ���ذون بالثقافة العـربي���ة التـراثـية والحديثة ،مـتـفاعليـن مع تـحوالتــها، مس���هـمـين فــي إنـتــاجها وتـرويـجها. وهـ���ذا هـو م���ا يفـس���ـر فش���ـل الدولة الصهيونية في أسـرلة عـرب فلـسطين الذين رفضوا الـنـزوح عن أرضهم .ذلك
ـلـت أن ذاكرتهم الثقافية العـربية أفـش���ـَ ْ مـش���اريع نـش���ر العبـري���ة والثقاف���ة ـ���ر جمعي���ات «روابط الصهيوني���ة ْ عـب َ الق���رى» الت���ي اس���ـتـهدفت اجــتـثـاث العربيـتـيـ���ن ...بل إن الثقاف���ة واللغة ْ هذيــن العنـصـري���ن األخيريـْـن تـحو ًال ْ إلى فضاء جوهـري للمقاومة وتـثـبيـت ظـل االحتالل .وعلى امـتداد الهــوية في ّ تـنـاغـمت عقـدين من الزمن ،بعد النكبة، ْ ْ أصوات الشعراء والقاصين والروائيين من داخل فلسطين وخارجها عبر الشتات والمنافي ،ليـذكروا بالمأساة ويؤكدوا االنتماء ،ويطالبوا بالحـرية واستعادة الوطن ..وطـوال أكثر من خمسين سنة ظـل اإلبداع الفلسطيني تحت االحتاللّ ، ال مع حركات التجديد األساسية متـفاع ً في حقول الثقافة العربية ،مس���ـتفيـدًا من مـناخ الثورة التحـريرية واالحتكاك بدينامي���ة الثقاف���ة العالمي���ة في نهاية الق���رن العش���رين ،ليجعل م���ن الكلمة والرس���م والصـ���ورة أيـقـونـة تجـس���د األلم الخاص وتـخاطب في اآلن نفس���ه قلب وعقل العالم الواسع. وه���ذه النــقـل���ة النـوعي���ة ،جمالي ًا وداللـيـ���اً ،باتجاه تحـريـ���ر اإلبداع من التـبـعية الظرفية لألح���داث والمواقف السياس���ية ،جعلت النص الفلسطيني يجمع بين الشهادة واللمسـة اإلنسانية المـتـدثـرة بغالئل فـني���ة تـربطه بمدار ُ األدب العـالم���ي ال���ذي يـتعال���ى عل���ى الس���ياق فــيـما هـو يـستـوحيه ويـُعيـد صياغتـه .وال ش���ك أن مسيـرة محمود درويش الشعرية والفكرية هي أفـضل نم���وذج للتدلي���ل عل���ى حج���م أهـمية المــنـجــز الفلسطيني في حقل اإلبداع. ُ َ وكما كان يقول محمود ،ال شيء يـمنع مبدع ًا يـنتـمي إلى ثقافة محـلية ،من أن يطمح إلى معانـقة اإلبداع العالمي. اه���ا المبدع���ون وهـ���ي مقول���ة َوعـَ َ والمفكرون الفلسطينيون فاستـطاعوا أن يلفتـ���وا أنـظار العالـم إلى مأس���ـاة بالدهم م���ن خالل لغـة الف���ن والجمال
والتـألـق الفكـري .يكفي أن نش���ـير إلى أسماء فـرضت قيمتها الكونية بإنتاجها، مث���ل إدوارد س���عيد الناق���د والمفك���ر ظـل االمبـريالية ـنـظــر للثقاف���ة في ّ المـ ّ ُ وفي س���ياق ما بع���د االس���تعمـار ،أو جبـرا إبراهيم جبـ���را الـروائي والناقد، أو الروائية س���ـحـر خليفة ،أو الـرسام كـم���ال بـالط���ة ،أو الفنان���ة مـن���ى حـطـوم ،أو المخرج السينـمائي إيـلـيــا سليــمان ،فجميعهم حقـقوا في تـنـاغـم ُ وتفاعل إنتاجـ ًا حـداثـيـاً ،يضيء الذات الفلس���طينية-العـربية ،ويـرتق���ي إلى راود ذل���ك الكوني اإلنس���اني ال���ذي يـُ ُ ّ والدة عسيرة وس���ط ميادين الحرب، وفـظـائ���ع التـفاوت ،ومظـال���م النهـب واالحتالل ..أقـصد ذل���ك الكونـي الذي ال يـص���در عن حضارة تـعتـبـر نفس���ها متفوقة ،مجسـدة لـما ينـبغي أن تكون عليه القيم الكونية ،وإنـما هـو حصيلـة حوار وتفاعـل بي���ن مختلف الثقافات، وتـعـبيـر عن ضـرورة إنسانية تــنـهي ُ التعصب واالنغالق واالستغالل. عل���ى ض���وء ه���ذه المالحظ���ات، واس���تـحضـارًا لألف���ق العـرب���ي المــحتـمـل ،ال مــنـاص من اإلقـرار بـأن َ ُ الهـبــات واالنتفاضات والثـورات، كـل ّ ّ رغـم ضـرورة أس���ـبقـيـتها لـتـكس���ــيـر الحـواجـ���ز والـبـنـيـ���ات العـتــيـق���ة مــاسـة المـتـخلفة ،فـإنها تظـل بحـاجة ّ إل���ى إع���ادة صـ���وغ وتـدقيق أس���ـئلة
المعرفة هي طـريق التـغـيـيـر الذي يـعيد القيمة لذواتنا وعالئقنا باآلخرين. وهذا ال يعني مطلق ًا البـدء من الصـفـر
المس���تـقبل ،وتحـليل العالق���ة بـالذات واللغـ���ة والدي���ن والتـاري���خ واآلخـر، أي مجموع األس���ـئلة التي واجـهـْـنـاهـا في مـطـل���ع نهـضـتـنا منذ أزيـد من مئة س���نة ،ولم نقـ���دم لها س���ـوى أجـوبة مغـلوط���ة ،تـلفيـقي���ة ،مش���دودة إلى الماضوية ،تتجن���ب رؤية الحقيقة كما هي لتـقـتنـع ب���أن المعرفة هي طـريق التـغـيـيـ���ر ال���ذي يـعيد القيم���ة لذواتنا وعالئقن���ا باآلخري���ن .وه���ذا ال يعني مطلق��� ًا البـدء من الصـفـ���ر ،ألن الثقافة العـربـيـيـن خالل المئة س���نـة واإلبداع ْ المـنـصـرمة ،أنـجـزا الكثــيـر وش���ـيـّــدا اضطـلع���ت بـدور صـــروح��� ًا للحداثة ْ ُ التحليل وإعـادة القـراءة والمـمارس���ة النقدية .وعلى رغم ش���ـروط االستبداد والقـمع واإلرهاب األصـولي ،استطاعت الحداثة العـربية أن تـبـذر فـكرًا تـنـويـري ًا مجـ���دداً ،وأن تـُـداف���ع ع���ن قيـم الحب والجمال ومساواة الجنسين ،واحـتـرام الحق���وق ،وتمـجي���د ثقاف���ة الحي���اة ومصادري ردًا عل���ى دعـاة التـكفـيـ���ر ُ الحريـات ..إال أن أفـق الحداثة العربـية ظـل اس���تفحال التس���ـلط أصـب���ح في ّ هـشـاً، والطـغـيان غــائـم القس���ـماتّ ، مــهـددًا من قـوى الظــالم ومـؤسـســات ُ القمـ���ع والتـدجـي���ن .لذل���ك ج���اءت مـب���ادرات الش���باب الثوري���ة لـتـُـوفـر الش���روط األولـية والضرورية إلقـامة الحــوار الديموقراطي ،وحماية حـرية الفـك���ر واالعــتـق���اد ،وهي الش���روط التي س���ـتـتـيح التـصدي لتـحديد األفـق ظـ���ل التحـرير العـرب���ي المـُحتـمل في ّ الداخلي ،واس���ـتـرجاع س���يادة القـرار الخارجي .س���تـكون مس���ـيرة إرس���اء األسس الديموقراطية طـويلة ومـكلـفة، لكنهـا تـمتـلك ،ه���ذه المـرة ،عـنـاصـر االكتمال .وهي في اآلن نفس���ه مسـيرة تـحرير فلسطين من االستعمار ،لـتـبـنـي دولته���ا الديموقراطي���ة ،وتـضـطـل���ع بدوره���ا الطالئع���ي ف���ي صياغة أفق المستـقبل العربي ذي األبـعاد الكونـية اإلنسانية.
31
هدم المنزل..عنف التزييف
حرب الوجود بين أبناء األرض والطارئين عليها تستخدم كل السبل ومنها اختراع الهوية اإلسرائيلية وطمس الفلسطينية.
حرب بين هويتين:
أصلية ومخترعة في�صل دراج -عمّان
32
اعتمد الفكر الصهيوني ،في شكله الكالسيكي ،على اختراع مزدوج: اخترع شعب ًا يهودي ًا متجانس األحوال والطموح ،واخترع وطن ًا يهودياً، ينتظر عودة أهله إليه ويعيد إلى اليهود حق ًا انتظروه طويالً .قفز االختراع فوق التاريخ مرتين :مرة أولى وهو يجعل اليهود مستقلين عن المجتمعات التي عاشوا فيها ،ومرة ثانية حين ساوى بين الواقع واألفكار المخترعة .ولعل هذا االختراع المزدوج ،الذي توقف أمامه شلومو ساندا ،أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب ،هو سبب السجال األكاديمي الصاخب الذي أثاره كتابه: «اختراع الشعب اليهودي». .1الهوية اليهودية الثابتة اطمأن «االختراع الصهيوني» إلى عصي على «أصل قديم» ثابت الصفات ّ التغّير ،حايث اليهود منذ نزول التوراة في سيناء ،وصاحبهم بعد أن طردهم الرومان لهم من فلسطين ،عام 70 ميالدية ،ودخولهم إلى «تيه طويل»
هو أقرب إلى األساطير .وإذا كان في أسطورة األصل القديم ما يعطي الوجود اليهوي ضمان ًا إلهياً ،ذلك أن األصل الذي تحول فيه يستدعي الحضور اإللهي، ال ّ فإن في أسطورة التيه الطويل ،التي يسوغ العودة رفضها شلومو ساند ،ما ّ إلى فلسطين ،التي تضع حّدًا لـ «الشقاء اليهودي». أراد الفكر الصهيوني ،الذي عايش النهوض العلمي في القرن التاسع عشر، أن يكون أسطوري ًا وعلمي ًا في آن ،وعثر على ضالته في حقل البيولوجيا ،كي يبرهن أن الشعب اليهودي واحد ،وأن له من المالمح والخصائص و«الجينات» ما يفصله عن الشعوب األخرى .أما تجسير المسافة بين األسطوري القديم والبيولوجي الحديث فأمر ميسور ،يتكفّل به كتاب واسعو الخيال ومؤرخون مفترضون ،يسائلون التاريخ الذي تم اختراعه .تجمع الهوية اليهودية المنشودة ،في هذا التحديد ،بين العلم متحولة إلى «هوية واألسطورة، ّ جوهرانية» ،خاصة باليهود ال بغيرهم. هكذا يتصالح القديم والجديد في ذاكرة قديمةـ جديدة ،عليها أن «تتذكر» بأن اليهود كانوا في فلسطين ،قبل أكثر من ألفي عام ،وأن عليهم أن يرجعوا إلى فلسطين ،بعد أكثر من ألفي عام ،وأن بين الخروج والعودة شتات ًا موجعاً، ينبغي أال يعود. انطوت الهوية اليهودية المنشودة، كما عّينها الفكر الصهيوني ،على الديني القديم والبيولوجي الحديث وعلى الفكري الحداثي ،الوافد من حداثة فكرية ربطت بين الديموقراطية والدولة القومية .والناقص ،في الحاالت جميعاً، هو «الشعب اليهودي» ،والدولة القومية التي تسوس شعبها بشكل جديد .والحل آنذاك ،وانطالق ًا من خصوصية شعب ال يشبه غيره ،قائم في التمازج الطبيعي الفريد بين الدين والقومية اليهوديين ،إذ القومية دين والدين قومية .والمتبقي هو «الوطن القومي» الذي يصبح مشروع ًا عسكري ًا مشتق ًا من زمن االستعمار، قوامه الغزو واالحتالل والتحرر من
«السكان األصليين» ،المنقطعين عن الحداثة والقومية معاً. أوكل الفكر الصهيوني إلى الدولة نقل الهوية من مجال النظر التلفيقي إلى المجال العملي المشخص ،مساوي ًا بين فاعلية االحتالل العسكري وفاعلية المدرسة القومية ،التي تعلم الجميع اللغة العبرية .في مقابل هوية يهودية مخترعة ،كان للسكان األصليين ،أي الفلسطينيين ،هوية موروثة مجالها العمل في األرض والعادات والتقاليد التصرف اليومية .وسواء كانت وأشكال ّ تحوالتها، هذه الهوية مستقرة أو لها ّ يوحد بين وهو األرجح ،فقد كان فيها ما ّ الشعب الفلسطيني وأرضه وتاريخه، وكل ما ال يحتاج إلى اختراع ،إلى أن طرد الفلسطينيون من وطنهم ودخلوا في مسار هوية غير مسبوقة. تورث وال إذا كانت الهوية الوطنية ّ تورث معاً ،بسبب سلطة الحياة التي ّ تحاصر العادات والتقاليد ،فإن تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم أدخل هويتهم في طور جديد ،يتعايش فيه القديم الموروث وما جاءت به تجربة حياتية استثنائية في ظلمها .تراءى الموروث في سلطة العادات واللهجة وأشكال من األنا شيدوا األسماء واأللقاب ،وفي أطياف أماكن راحلة حملها الفلسطينيون في لغتهم بعد فتوزع على رحليها .أما جديد التجربة ّ اتجاهات متعددة :فقدان الملكية واإلقامة الثابتة ،والرزق المضمون ،واالنفتاح يحول البقاء على على الالمتوقع ،الذي ّ قيد الحياة إلى معركة مفتوحة. جاءت تجربة الالجئ الفلسطيني من وضعه كإنسان غريب ،ال يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها غيره من البشر ،ذلك أنه بدا إنسان ًا طارئاً ،يعيش فوق أرض ال ينتمي إليها ،وينتمي إلى أرض يعيش فوقها غيره .بل إن وضعه الغريب فرض منحه «جنسية» معلقة في الفراغ ،فليس له جنسية المجتمع الذي وصل إليه، وال جنسية المجتمع الذي كان فيه ،كما لو كان الالجئ إنسان ًا منقسم ًا ال يمكن توحيده ،نصفه حيث كان ،ونصفه
اآلخر حيث سيكون ،ألن اللجوء إقامة مؤقتة ،تشبه اإلقامة وتختلف عنها في آن. انطوت التجربة ،في شكلها الفلسطيني ،على الحنين والمعاناة، وعلى مقاومة لها شكل البداهة ،تضع الوطن داخل اإلنسان وتدعو الفلسطيني إلى المطالبة بحقوقه ،وتطالبه بأن يكون على مستوى ما يطالب به .كان على الالجئ أن يحافظ على معنى الوطن هجر منه ،وأن يأتلف مع معركة الذي ّ البقاء على قيد الحياة ،موحدًا بين معركة وطنية سياسية ومعركة الحاجات اليومية ،التي يتقاسمها مع غيره من يرحب، البشر .ومع أن «سوق العمل» لم ّ دائماً ،بالفلسطينيين كان لمعظمهم حقوق أقل فقد كانت معركتهم الوطنية أشد إرهاقاً ،بسبب «البعد السياسي»، الذي ال يأتلف دائم ًا إلى مبادئ األخالق و«عالقات القربى» .أعادت تجربة المنفى القسري توليد الفلسطيني أكثر من مرة، وردته من منفى إلى منفى ،في انتظار ّ إقامة أخيرة .أخذ الفلسطينيون ،ربما، بالمبدأ القائل «الحية التي ال تغّير جلدها تهلك» ،من دون أن ينجوا من «الهالك» دائماً ،بسبب مجازر «ال متوقعة» سعت إليهم ولم يسعوا إليها. استولد الفلسطيني هويته «الجديدة» من شروط المنفى ،التي أرادت تحويله إلى «إنسان أقل» ،ومن مقاومة فرضت عليه ،منعت عنه السقوط واالستسالم. أسند هويته الجديدة ،التي قادته إلى أكثر من اقتراح سياسي ،بهوية ثقافية قديمة جديدة ،احتشد فيها الغناء والشعر والفن ومعرفة متنامية بالوطن السليب، ترد على اختراع ومعرفة موازية ّ صهيوني متجدد ومتعدد الوجوه .نسجت هذه العناصر جميع ًا هوية فلسطينية، تتكئ على موروث سبق «النكبة» وتساجل ،بال انقطاع ،سبل الرد على النكبة واستعادة الحقوق المشروعة. ولعل هذا السجال ،الذي مادته إرادة البقاء والكثير من الدماء ،كما التمسك بفكرة فلسطين ،هو ما يجعل الهوية الفلسطينية مفتوحة ،فال هي بالهوية 33
الوليدة التي ال تعرف أصولها ،وال هي بالهوية المتحقّقة المكتفية بذاتها. تعامل الفكر الصهيوني مع هوية منجزة ،كاملة وال تعرف النقصان، وأضاف إليها ثقافة مشتقة منها تدور، قدر ما تشاء ،حول «شعب اهلل المختار» الذي قذف ،بشعب غير مختار ،خارج أرضه .ولهذا كان على األدب اإلسرائيلي، وكما أظهر غسان كنفاني في دراسة رائدة ،أن يرسم بط ً ال يهودي ًا ال يقهر، يساوي «أرض الميعاد» التي رجع إليها، وأن يرسم إلى جانبه «مخلوقات عربية» تشبه «أبناء آوى» .ومع أن هذا األدب أخذ ،في عالقاته بالشعب الفلسطيني، الحقه مختلفة ،تضع أسطورة مضامين َ «شعب اهلل المختار» جانباً ،فقد حافظ على مبدأ الهوية اليهودية المتسقة، طالما أن هوية اليهود من دينهم و«جيناتهم» في آن. 2ـ هوية للثقافة أم ثقافة للهوية؟
اعتقد الصهاينة ،وهم يبنون «وطنهم القومي» ،بالعبقرية اليهودية التي وزعها «الشتات» على جغرافيات عديدة ّ غير يهودية ،وبضرورة عودتها إلى القدس ،كي يلتقي اإلبداع اليهودي بجذوره ،ويستعيد وجوده السوي . ومع أن إسرائيل لم تستطع أن تعيد إنجاب «فرانتس كافكا» ،الروائي الشهير ،فقد أجهد األدب اإلسرائيلي ذاته في بناء «صورة وطن فريد» ونظر إلى األدب الفلسطيني ،الذي تنقصه «العبقرية» ،باستخفاف شديد أحرجه، الحقاً ،محمود درويش ومتشائل إميل حبيبي. كتب الفلسطينيون عن الهوية ،التي فرضت عليهم ،ذاهبين من «الثابت» إلى المتحرك ومن «القديم» إلى الجديد. والثابت القديم هو الوطن ،والجديد األدبي تجربتهم المأساوية االستثنائية، التي ال يتسع لها الشكل األدبي العادي. ولهذا جاء األدب الفلسطيني ،بعد
النكبة ،مغايرًا لما كانه قبلها ،ومغايرًا حول فلسطين لألدب التقليدي ،الذي ّ إلى نهر من الدموع ويتيم في منتصف الطريق .وواقع األمر أن الفلسطينيين، أدباء كانوا أو ال يعرفون الكتابة ،قاتلوا من أجل هويتهم الجديدة ،التي فقدت الوطن ورفضت المنفى. جاء محمود درويش الشاب بقصيدته الرومانسية ،وأوكل إلى أناه الشعرية أن تتسع لوطنه وأن تنطق باسم شعبه ،حيث الكل وراء مرشد صادق، ّ ويبشر بالوصول .بل يرى ما ال يرى إن في الواحد الكل مكان ًا للبالد والعباد، المدن واألشجار واألحفاد واألجداد ،كما لو كان الشاعر في الوطن والوطن في الشاعر .ولعل وحدة الشاعرة والوطن هي التي أملت على درويش أن يستعيد قصيدة الغزل القديمة وأن يعيد بناءها مستعيض ًا عن الحبيبة جميلة العينين بأرض فاتنة أورق فيها الحجر .بيد أن الشاعر الرهيف ،الذي أزاح العشق القديم
الباطل المدجج والحق األسير
34
متصوف، عن مكانه وأغناه بمنظور ّ صاغ وطنه بلغة على صورته مساوي ًا بين الوطن المفقود المستعاد وجماليات لغوية تنفتح على مجازات ال تنتهي. نقل الشاعر ذاته من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع ،ونقل لغته من مجال الوصف إلى مقام الصورة الشعرية، مبرهن ًا أنه الشاعر النبي ،الذي ال يخذل أهله. أما غسان كنفاني فانشغل بثنائية ّ العار والكرامة ،التي فرضها على الفلسطينيين طريق ال رحمة فيه، وانشغل أكثر بترويض الفلسطيني الالجئ الذي عليه مواجهة الطريق .وألنه كان يدرك أن على صاحب القضية أن يسيطر على ذاته ،قبل أن يسيطر على طريقه ،ابتعد عن اليقين النهائي وانحاز إلى المساءلة ،التي تصنع اإلنسان من األسئلة المتجددة واإلجابات المجزوءة. ولهذا تقبل أعماله الروائية بأكثر من قراءة ،ففي «رجال في الشمس» أكثر من سبب منع األحياء الموتى من «قرع جدران الخزان» ،وفي «ما تبقى لكم» متسع لقراءة تحريضية سعيدة ومجال لقراءة متأسية تدرك حصاد اليوم وال تعرف ما يتلوه .ويزداد األمر التباس ًا في «عائد إلى حيفا» ،حيث في الجندي اليهودي ما يعّينه عدوًا ،بقدر ما فيه ما يجعله معلم ًا نجيباً ،يعلّم سائله أصول القتال وكسب المعرفة .ومع أن غسان رأى في اإلنسان الواعي ألهدافه ضامن ًا لسالمة الطريق ،فقد وضع فكرة االنتصار جانباً ،مقترح ًا حوارًا طوي ً ال بين فلسطين التي كانت و«الفلسطيني الجديد» الذي لم يفقد الذاكرة. اشتق درويش من الشعر هوية جمالية لفلسطين ،تساوق الشاعر وال تعرف االستقرار ،موحدًا بين األرض واألنا الشعرية ،وتوقف غسان أمام فلسطيني نجيب هو مدخل فلسطين وليست فلسطين مدخ ً ال إليه .وكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا روح فلسطينية مقدسة ،تمتد إلى زمن كان المسيح فيه يمشي فوق سطح الماء .وإذا كان غسان قد قال بفلسطيني ضمانه فيه مبتعدًا عن
ضمان االنتصار فقد كان في رواية جبرا ما يقول بضمان مزدوج :الفلسطيني مختلف ألنه ينتمي إلى أرض مختلفة، والفسطيني منتصر بسبب اختالفه ،كي يكون جديرًا بوطن ولد فيه المسيح .ولم يكن في رومانسية جبرا ما يبتعد كثيرًا عن رومانسية درويش الشاب ،فاألول كما الثاني رفع فلسطين فوق غيرها .ال يبدأ الفلسطيني ،في الحاالت جميعاً، من هوية معطاة بل يقاتل من أجل هوية ال ّ التحول. تكف عن ّ األدب الفلسطيني أم أدب المسألة الفلسطينية؟ وهوية ثقافية أم ثقافة من أجل الهوية؟ والسؤال ال شكالنية فيه، ذلك أن مصطلح «األدب الفلسطيني» عمومية ال تحديد فيها ،ترتاح إلى معيار جغرافي ،حال مصطلح «هوية الثقافة الفلسطينية» ،الذي يميل إلى السكون، مفترض ًا هوية منجزة وثقافة جاهزة. وعما عما ّ يتكونّ ، ولهذا ينبغي الحديث ّ تكونه ،بسبب تعقد هو مستمر في ّ المسألة الفلسطينية ،واختالف مواقع الفلسطينيين وتباين منافيهم .والمثال واضح في ما أنجزه أدباء فلسطينيون في السنوات األخيرة .فقد كتبت سحر خليفة ،المنحدرة من نابلس والمقيمة عمان ،روايتها «حبي األول»، في ّ راجعة إلى تاريخ فلسطين الذي سبق االحتالل .وقّدم أكرم مسلم ،المقيم في رام اهلل ،روايته «العقرب الذي يتصّبب عرقاً» ،ناظرًا إلى مكان يشبه فلسطين دون أن يكونها ،وجاءت عبير عيسى، الفلسطينية التي نشأت في لبنان وتعمل في الخليج ،برواية «حليب التين» ،منّددة بفلسطينيين يرتزقون من اغتصاب القضية الفلسطينية، وجمع يحيى يخلف ،المتنقل من األردن إلى لبنان إلى رام اهلل في روايته «جنة ونار» ،بين المخيم وفلسطين التي كانت وتلك التي ستكون ،مرس ً ال بتحية إلى الجمال الفلسطيني في جميع األزمنة. هذه روايات عن موضوع واحد دون موحدة ،فلكل منها أن تكون رواية ّ منظورها وتجربة تنطلق منها ،ولكل منها سؤال مؤجل اإلجابة ،أي أنها ليست
رواية فلسطينية ،بقدر ما هي رواية عن «الشأن الفلسطيني» ،الذي يتراءى في بشر توازعتهم مناطق وتصورات مختلفة. إنه الحضور الغياب ،إذ في الغياب تذكر فلسطين كما كانت، ما يستدعي ّ وإذ في الحضور ،الذي هو مرآة ألكثر من منفى ،ما يحرض الفلسطينيين على األسئلة ،وما يمنع عنهم تماثل تشكل «الوطن» اإلجابات ،في انتظار ّ واضح ًا للجميع .إن تنوع مستويات تنوع الكتابة الفلسطينية يعّبر عن ّ األمكنة التي يعيش فيها الفلسطينيون، ويكشف عن تعددية وجهات النظر ،التي تربط بين الماضي والمستقبل ،وتقيم حوارًا ضروري ًا بين السياسة والثقافة، ذلك أن الهوية الفلسطينية ثقافية وسياسية معاً. كان حسين البرغوثي ،صاحب «الضوء األزرق» ،الذي رحل قبل األوان، يسأل عن فلسطين التي كانت ويستنطق أطاللها ،مؤمن ًا بأن في أرض فلسطين ما يحفظ أسرار فلسطين ،وأن ما ذهب في شكله القديم يعود في كل جديد، متوس ً ال التقمص ولعبة الموت والميالد الحرة األشكال .كان في حزنه الذي أودعه في «سأكون بين اللوز» يناجي فلسطين غائبة ،ويبحث عن حضورها في أطفال لهم مذاق الحكايات ،وأصداء «الغريري» ،الحيوان البري الضئيل الحجم واألنيس الصوت ،الذي أهلكته مستوطنات إسرائيلية ،يسيل منها لون أصفر أشبه بالقيح. من أين تأتي الهوية الفلسطينية؟ تأتي من الفلسطينيين الذين يقاتلون الستعادة فلسطين ،ومن أين تأتي ثقافة الهوية الفلسطينية؟ تصدر عن مبدعين ينتمون إلى القضية الفلسطينية ال إلى جغرافيا فلسطين ،فالثانية مكان قابل للتجريد بينما القضية سؤال وطني سياسي ثقافي مفرداته الصراع والمقاومة .إن مستقبل فلسطين من مستقبل فلسطينيين يميزون بين اإلقامة المؤقتة والوطن والمنفى ،وبين استبداد العادات وأخالق التحرر. 35
حرب المصطلحات والمفاهيم:
القتل باللغة �سمري احلجاوي -الدوحة
يخوض العرب والفلسطينيون حرب ًا ثقافية كبيرة مع اإلسرائيليين ال تقل ضراوة عن الحرب العسكرية، حرب مصطلحات ومفاهيم على اللغة والتاريخ والجغرافيا تشمل الماضي والحاضر والمستقبل ،ويمتد ميدانها في المكان والزمان ،من الماضي السحيق والقريب إلى الحاضر والمستقبل. منظومة متكاملة من األدوات الثقافية واإلعالمية تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني واألمة العربية لتحقيق أهدافها .وقد بدأت الحرب اللغوية منذ البداية المبكرة لتوافد المستوطنين اليهود على فلسطين ،وأطلقت على حرب العصابات التي خاضها المستوطنون ضد الشعب الفلسطيني تسمية «حرب التحرير» وتحتفل سنوي ًا بما تسميه «عيد االستقالل» في 15آيار/مايو وهو تاريخ إعالن الدولة وكأنها كانت قائمة ومحتلة ،وهي تسمية صك الفلسطينون مقابلها «النكبة» التي صارت تأريخ ًا للحقبة العربية المستمرة حتى اآلن. وفي مقابل مصادرة اسم فلسطين وتحويلها إلى «إسرائيل» ،االمر الذي يعني تهويد األرض ،شرع هذا الكيان اإلسرائيلي الوليد بعملية تهويد
36
ديموغرافي لنزع الهوية عن السكان الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948لتجعلهم «عرب إسرائيل»، وهو مصطلح تحول إلى طعم ابتلعه صحافيون ومثقفون وسياسيون ووسائل إعالم عربية لطمس كلمة فلسطين وفلسطيني لصالح «عرب وعربان وكأنهم مجموعة من البدو قد يكونون أتوا من أي مكان آخر»! وفي حروبه الدموية التي لم تتوقف يعمد االحتالل اإلسرائيلي إلى استخدام أسماء جذابة وبراقة لها ظالل أدبية أو دينية ،إلثارة الغبار أو تشكيل «ساتر ضبابي» إلخفاء جرائمه ومجازره الدموية ،تتضمن األلق الثقافي الملغم ديني ًا وأيديولوجي ًا والذي يمكن استخدامه إعالمي ًا وتسويقه للرأي العام الغربي. عملت إسرائيل على تسويق روع الفلسطيني بوصفه «إرهابياً» ُي ِّ «المدنيين اليهود» وقدمت نفسها بوصفها الضحية دائماً ،فحرب عام 1948هي حرب عربية ضد «األبرياء اليهود المسالمين» وال ضد عصابات مسلحة ،وكذلك األمر بالنسبة لحربها العدوانية عام 1967والتي احتلت فيها
باقي فلسطين والجوالن وسيناء ،والتي أطلقت عليها «حرب األيام الستة» ،وهي تسمية مشبعة بالبعد الديني مستوحاة من أسطورة توراتية عن إبادة اليهود بقيادة يشوع للكنعانيين الفلسطينيين في معركة استمرت ستة أيام. هذا النسق اإلسرائيلي من االستخدام الديني والثقافي المعادي في تسميات الحروب استمر حتى يومنا هذا ،فإسرائيل تحاول بمنح حروبها تسميات مشبعة باالعتبارات الدينية واإليديولوجية والثقافية سلخ الفلسطينيين من واقعهم وتاريخهم ،وهي «تستخدم اللغة كأداة للقتل والتعبير عن التفوق الديني واإليديولوجي على البرابرة» كما يقول لويس جان كالفي في كتابه «حرب اللغات والسياسات اللغوية» ،وهو يقرر أن اللغة يمكن أن تكون أداة استعمارية حادة ،بل ساحة من ساحات الحرب وأداة من أدواتها بالمعنى المجازي والحقيقي للكلمة ،وأداة للتوسع العسكري وطمس الجرائم ،وأداة فعالة الحتالل التاريخ والجغرافيا وإقصاء اإلنسان وقتله بعد ذلك ،وهذا ما يذهب إليه توماس مكوالي مهندس سياسة التعليم اإلنكليزية للشعوب المستعمرة بقوله« :ال أظن أننا سنقهر الهند ما لم نكسر عمودها الفقري وهي لغتها وثقافتها وتراثها الروحي» كما ينقل منير العكش في كتابه «أميركا واإلبادات الثقافية ..لعنة كنعان اإلنكليزية»، وهو ما يوافقه عليه الكابتن األميركي برأت عندما يشير إلى أن «اللغة والدين هما خط الدفاع األخير للهنود والبد من القضاء عليهما». ومن هنا فإن «إسرائيل» حاولت وتحاول كسر العمود الفقري الفلسطيني والعربي ،بالقوة العسكرية ،وكسر الفلســـــطينيين لـــــغويـــ ًا واصطالحيـــ ًا وثقافياً ،لطمس جرائمها وتغيير الوقائع وتزييف األحداث ظاهرياً ،فالفلسطيني حسب الوصف اإلسرائيلي هو «مخرب وإرهابي» يستحق القتل ،وليس فدائي ًا أو صاحب حق ،وعمليات االغتيال ضد الفلسطينيين هي عبارة عن «قتل
محدد» ،والمجازر عبارة عن «عمليات تطهير». ولكسر العمود الفقري الثقافي والمعنوي للفلسطينيين والعرب أطلقت إسرائيل أسماء كثيرة على حروبها خالل العقود الثالثة الماضية مثل عملية «سالمة الجليل» ويوحي المصطلح بأنها حرب دفاعية ،بينما هي حرب عدوانية عندما اجتاحت لبنان في حزيران/ يونيو 1982ووصلت قواتها إلى العاصمة بيروت وحاصرتها 88يوم ًا ونفذت بمشاركة حلفائها من ميليشيا القوات اللبنانية مجزرة صبرا وشاتيال ودمرت وقتلت مئات اآلالف ،وعملية تصفية الحساب عام 1993عندما قصفت المدفعية والصواريخ اإلسرائيلية معظم القرى الحدودية اللبنانية وشنت عليها وهجرت نصف مليون غارات جوية َّ لبناني ودمرت آالف المنازل وقتلت اآلالف. وربما يبقى اسم «عناقيد الغضب» هو أشهر التسميات اإلسرائيلية في حربها على لبنان عام ،1996وهو اسم
ال تتورع إسرائيل عن صبغ عدوانها بمصطلحات رومانسية مثل «غيوم الخريف» وصف ًا لحربها على بلدة بيت حانون رواية شهيرة للكاتب األميركي جون شتاينبيك ،كتبها عام 1939وفاز عنها بجائزة بوليتزر في ،1940يقول هو نفسه عنها «:لقد فعلت كل ما في وسعي ألحطم أعصاب القارئ إلى أقصى حد، ذلك أنني ال أريده أن يكون راضياً» ،وقد ارتكبت إسرائيل خالل عدوان «عناقيد الغضب» مجزرة في قانا التي قتلت فيها 118مدني ًا لبناني ًا بعد قصفها لموقع تابع لألمم المتحدة ،كما ارتكبت مجزرة ثانية
أمن الجليل..أي اجتياح لبنان
في 2006في نفس البلدة عندما قصفت منز ًال مكون ًا من ثالثة طوابق وقتلت 55 شخصاً ،بينهم 27طفالً .وكأنها أرادت أن تحطم أعصاب اللبنانيين وتدفعهم إلى اليأس. كما استــخدمت أســـــماء لتــــرهيب الفلسطينيين مثل «فاتورة الحساب» في حربها ضد مخيم جنين عام ،2002 و«السور الواقي» على حملتها العسكرية على الضفة الغربية في إبريل/نيسان من عام ، 2002و«فارس الليل» على عملية اجتياح مدينة نابلس باستخدام عشرات الدبابات والمدرعات في نوفمبر/تشرين ثاني عام ،2002 و«الحسم اإلدراكي» على إعادة احتالل الضفة الغربية ،واسم «جهنم» على عملية حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات عام ،2003و«المتدحرجة» على الهجوم على نابلس عام .2003 وال تتورع إسرائيل عن صبغ عدوانها بمصطلحات رومانسية مثل «غيوم الخريف» وصف ًا لحربها على بلدة بيت حانون في قطاع غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2006و«أمطار الصيف» في حربها على بلدة بيت حانون في حزيران/يونيو .2006 أما في حربها على قطاع غزة عام 2007فقد استخدمت عدة أسماء هي «القتال من بيت إلى بيت ،ودفع الثمن، والشتاء الساخن ،وخلع الضرس»، وأطلقت تسمية «البدلة الشخصية» على حملتها على محالت الصرافة في الضفة الغربية عام ،2008وأطلقت على حربها الشرسة والضارية ضد قطاع غزة عام -2009 - 2008اسم «الرصاص المصبوب» أو «الرصاص المسكوب». ..حرب األيام الستة ..سالمة الجليل.. تصفية الحساب ..عناقيد الغضب.. فاتورة الحساب ..السور الواقي ..فارس الليل ..الحسم اإلدراكي ..عملية جهنم.. غيوم الخريف ..أمطار الصيف ..دفع الثمن..الشتاء الساخن..خلع الضرس.. حقل األشواك ..الرصاص المصبوب»، كلها مصطلحات أدبية ،تحمل معاني الوداعة والدفاع عن النفس ،والصرامة 37
في نفس الوقت ،وليس فيها ما يشير إلى االعتداء والهجوم واإلقصاء ضد اآلخر ،وهي ذخيرة مناسبة جدًا لوسائل اإلعالم اإلسرائيلية والغربية ،التي تقدم إسرائيل على أنها الضحية الدائمة، والدولة الديموقراطية الوحيدة المسالمة في المنطقة العربية التي يطلقون عليها اسم «الشرق األوسط» ،ليس هذا فحسب بل إن الجيش اإلسرائيلي الذي يقتل ويسفك الدماء والمجازر وينفذ عمليات االغتيال يطلقون عليه اسم «جيش الدفاع اإلسرائيلي» ،وهو مصطلح مزيف آللة القتل اإلسرائيلية، ففي العقيدة التوراتية يعتبر الجيش اليهودي في حالة دفاع دائم حتى عند مهاجمته لألغيار «الغوييم» وقتله. في المقابل لم تكن هناك عناية فلسطينية أو عربية كبيرة بتسمية العمليات أو األحداث التي تكون إسرائيل طرف ًا فيها ،وغالب ًا ما تكون التسميات هي صناعة صحافية خالصة ،ففي حين سمت إسرائيل غزوها للبنان عام 1982بعملية «سالم الجليل» مع كل ما تحمله هذه التسمية من دالالت ،تدل على الطهر والنقاء والنظافة واألمان ،أطلقت الصحافة العربية على الغزو «الحرب على لبنان» وهي تسمية ال تحمل أي داللة ثقافية بمقدار ما هي وصف لوقائع وكأنها تحدث في بلد آخر ،إال أن هذا األمر بدأ يتغير مع بزوغ نجم الحركات اإلسالمية المقاتلة المدججة بالمصطلحـــات والمفــــاهيم المحـــملة بالمعاني التاريخية والدينية مثل الشعار األكثر استخدام ًا في المظاهرات «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود» ،وهو مصلح يشير إلى إخراج اليهود من الجزيرة العربية بعد معركة خيبر، وهو استحضار ثقافي وتاريخي وديني يواجه مصطلح «حرب األيام الستة»، في إشارة لمعركة القائد اليهودي يوشع ضد الفلسطينيين في أريحا. وشـــرع حـــــزب اهلل والمــــــقاومة الفلسطينية في استخدام أسماء مضادة لعملياتها العسكرية ضد االحتالل 38
عناقيد النار ..والغضب حق من؟
اإلسرائيلي ،فقد أطلق حزب اهلل اسم «عملية الرضوان» على تبادل األسرى مع إسرائيل عام ،2008وسمى عملية أســـــر الجــــنود اإلســرائيليين «الوعد الصادق» ،أما حركة المقاومة اإلسالمية «حماس» فقد أطلقت اسم «بقعة الزيت» على موجة الصواريخ التي أطلقتها على المدن اإلسرائيلية عام ،2008وأطلقت ألوية الناصر صالح الدين اسم «خيوط الموت» على موجة صواريخها .وأطلقت حماس اسم «الوهم المتبدد» على عملية أسر الجندي اإلسرائيلي ،كما أطلقت اسم «وفاء األحرار» على عملية تبادل األسرى مع الجانب اإلسرائيلي ،حيث تمت مبادلة الجندي بحوالي 1045 أسيرًا فلسطينياً. إســـــرائيل..التـــي وصـــفها الكاتب اليهودي شلومو ساند في كتابه «اختالق الشعب اليهودي» بأنها «مشروع سياسي حديث لشعب اخترع بأثر رجعي» ،لم تتوقف عن التلفيق وهي حالة انتقلت من إقصاء الفلسطينيين ذهني ًا ومعنوي ًا إلى إقصائهم جسدي ًا وفيزيائي ًا بالقوة العسكرية من خالل المجازر ،وذهبت أبعد من ذلك في محاوالتها اإلقصائية للشعب الفلسطيني عبر استخدام
اللغة إلثبات روايتها وطمس الرواية الفلسطينية من خالل القتل المصطلحي والمفاهيمي ،يساعدها في ذلك آلة إعالمية ضخمة تقلب الحق باطالً ،وآلة سياسية تحتل المنظمات الدولية وتؤثر في صياغة العبارات والقرارات ،وهي صياغات تجعل من إسرائيل دائم ًا «حم ً ال وديعاً» في مواجهة وحوش «عربية فلسطينية» ضارية. إنها حرب تستخدم فيها اللغة أداة لتبرير احتالل فلسطين وتشريد الفلسطيني وطمس معاناته وتاريخه وسلب أرضه وتحويله من «ضحية إلى جالد» ومن «مقتول إلى قاتل» ومن «صاحب حق إلى معتد» ،ومن مقاتل من «أجل الحرية إلى إرهابي» ..حرب أدواتها المفردات والمصطلحات والمفاهيم التي تخضع لعملية مستمرة من التحريف والتلبيس والتشويش والتشويه وطمس الدالالت ،التي تقلب الحق وتخدع العقول عبر سحر الكلمة لتحول الزيف إلى حقيقة مخادعة تقتل الفلسطيني مرتين :مرة عندما يقتل جسدياً ،ومرة أخرى عندما يتهم باالعتداء على قاتله اليهودي اإلسرائيلي.
في الرواية:
وثائق الحنين نبيل �سليمان -الالزقية
كان غالي شكري من أوائل من التفت إلى التخييل الروائي العربي لفلسطين، وذل���ك في كتاب���ه (كلمات م���ن الجزيرة المهج���ورة ،)1964 /حيث درس رواية حليم بركات (س���تة أيام) ورواية غسان كنفاني (رجال في الشمس). بع���د قلي���ل جاء كت���اب صال���ح أبو إصب���ع (صورة فلس���طين ف���ي الرواية العربي���ة .)1975/وقد توالت دراس���ة هذه الص���ورة أو ذلك التخييل ،س���واء
في دورية أو في جزء من كتاب ،غالباً، أم في كت���اب .وعبر ذل���ك تعلق بعض الدراسة بالرواية العربية بعامة ،بينما تعل���ق بعضها بالرواية ف���ي بلد بعينه، كالذي كتبه حسام الخطيب عن فلسطين ف���ي الرواي���ة ف���ي س���ورية ،أو كالذي كتبه س���ليمان األزرعي عن فلسطين في الرواية في األردن. أم���ا هن���ا ،فق���د اخت���رت أن أميز في التخييل الروائي العربي لفلسطين ،بين
ما عاد منه إل���ى ما قبل ،1948وما عاد إلى ما بعد .1948ولئ���ن كانت النماذج عنيت بها هنا من خارج فلس���طين، التي ُ وهو ما يجعل مقاربتي ناقصة ،فلعل لي بعض العذر في القول الوفير في الرواية الفلس���طينية ،في الداخل وفي الش���تات ومنه ما جاء في عدد م���ن كتبي النقدية عدا عن أن المقام ضي���ق ،والحمل كبير على مثلي. في رأس ما واجه���ت الرواية العربية ف���ي عودته���ا إلى فلس���طين قب���ل قيام إسرائيل ،كانت التأرخة ،بما تناديه من الوثيقة ،ومن االعتم���اد على المراجع، وطريق���ة التعامل الروائي���ة معها ،ومع ما تجود به ذاكرة المس���نّين والمسنّات، وما يلتبس بكل ذلك من النوس���تالجيا. وم���ن األمثل���ة الب���ارزة للّجلج���ة ف���ي ه���ذه المواجه���ة ،رواية ناديا خوس���ت (أعاصير في بالد الش���ام )1998 /التي تتمحور حول بطلها الفلس���طيني قيس، فتعود إلى ماضيه قبل قيام إس���رائيل، حيث تبه���ظ التأرخ���ة الرواي���ة ،وهي تحاول النهوض بأعباء الصراع العربي اإلس���رائيلي منذ مطلع القرن العشرين، انتفاضت ْي 1929و1936 وتمضي إل���ى َ في فلسطين .لكن الوقفة الكبرى للرواية س���تكون على حرب ،1948حيث قدمت إب���ادة قرية قيس :صفورية ،وس���قوط صف���د ،م���رورًا بالصفص���اف وطبري���ة والقدس والمالكية... وعبر ذلك ترسم الرواية كيف شكلت الحرب مصائر الجمي���ع ،فكان لليهودي تناق���ض قي���ام حض���وره المتناق���ض َ المس���توطنة اليهودية ق���رب صفورية. ومن ذلك شخصية مردخاي رئيس بلدية روشبينا الذي يقدم الطعام ألهالي صفد بعد س���قوطها ،وكذلك هي صداقة قيس م���ع القيادي الش���يوعي ج���ورج ماكاي ال���ذي يصف���ه الصهاينة بخائن الش���عب اليه���ودي ،ألنه يخرج عنهم .ولئن كانت الرواية قد توسلت للتأرخة االسترجاع، فقد اس���تعانت أيض ًا باالستباق ،كما في تفحص قيس لكلمات ش���كري العس���لي ّ الذي يكش���ف يهود الدونمة ،أو كما فيما روى اس���حاق رابين قائد القوات البرية 39
التي احتلت اللد والرملة... lll
عل���ى نح���و يناق���ض ه���ذا الس���بيل الروائي يأتي س���بيل آخر ،ال تحدد فيه الرواية زمانها و/أو مكانها ،متوس���لة استراتيجية الالتعيين ،كما هو األمر في رواية هاني الراهب (التالل )1988حيث المثال الناصع لتعقيد وس���ذاجة س���بيل الرواي���ة ف���ي التأرخة ،وفي األس���طرة ومجاني���ة الصياغة المعممة ،وحس���بي اإلش���ارة هنا إل���ى ما جاء ف���ي الرواية عن الدعوة إلى الوح���دة النيلوتية (أي: العربي���ة) واالش���تراكية الت���ي أخاف���ت ذوي االس���تعمار االس���تيطاني ،لذل���ك أعلنوا قيام دولة خاصة بهم ،وسموها (أوروبا الجديدة)م وبعبارة تتخفف من ه���ذه الفجاجة في الالتعيين ،هكذا قامت إسرائيل أوروبا الجديدة في فلسطين. روايتي (الت�ل�ال) و(أعاصير بخالف َ في ب�ل�اد الش���ام) تأتي رواي���ة ممدوح عدوان (أعدائي )2000لتقدم ،وبامتياز، نموذج ًا للحف���ر الروائي ف���ي التاريخ، إذ تع���ود إل���ى زم���ن الح���رب العالمية األولى ،وفي إهاب من البوليس���ية ،كما يليق بالرواية الجاسوس���ية .ولئن كان رسم الش���خصيات الروائية الفلسطينية واليهودية والس���ورية في رأس ما يدلل على جمالية ه���ذه الرواية ،فقد اعتورت ه���ذه الجمالية علة التناظ���رات بين عدد من شخصياتها. شكت الرواية من وطأة المعلومات، وم���ن اإلقب���ال عل���ى غرائ���ب وطرائف المرحلة التاريخية المعنية ،ومن تكديس الوقائ���ع ،وبالتالي ،من جماع كل ذلك، والمتمث���ل في وه���م الع���رض التنكري للتاري���خ .وقد تبدى ذل���ك أحيان ًا كثيرة في وقفات سردية تلخيصية ،حاصرت أذيتها المشهدية والبراعة في الحوار. ُ لقد ج���اء تخييل (أعدائي) لفلس���طين حف���رًا ف���ي ذل���ك الزم���ن المصي���ري والمؤسس ،من منتصف الحرب العالمية األولى إلى نهايته���ا ،وال تخفي الرواية أن غرضها هو الحاضر والمستقبل ،مما يعب���ر عنه قول ألتر ليفي لصياده «نحن نس���عى لتأس���يس وطن وأنتم تسعون 40
ملحمة وتاريخ
الس���ترداد وطن» بينما ينقل���ب الصياد إل���ى داعية س�ل�ام معاص���ر إذ يخاطب ليفي« :عندكم المال والعلم ونحن عندنا األرض ،لماذا ال نتعاون؟». ما بعد حرب :1948 تعجل اإلشارة هنا إلى رواية (عرس ّ فلس���طين )1970ألديب نحوي ،والتي تبدو محاولة فري���دة في كتابة (الملحمة الفلس���طينية) ،حيث يقص قصة العرس الذي اس���تدعى جمهورًا كبيرًا ومتنوعاً، ف���ي إه���اب الطبيعة ،عبر ما تس���ترجع الرواي���ة من الس���يل الذي غم���ر الخيام، وعبر مأس���اوية الصراع واستشهاد والد العروس على باب الضيعة في فلسطين. ومم���ا يكم���ل اندم���اج حبك���ة الرواي���ة باألس���طورة أن العريس الفدائي يذهب مع رفاقه إلى قب���ر والد العروس ،خلف الحدود ،ليس���تأذنه الزواج م���ن ابنته، لكن العريس يستشهد وهو عائد ،فيكون زفافه على أكتاف رفاقه. ألدي���ب نحوي رواية أخرى هي (آخر ���به له���م ـ) ،وه���ي تخاطب زمن م���ن ُش ِّ االنتفاض���ة األولى ب���دءًا م���ن منتصف نيسان إبريل ،1988في مدينة الخليل، حي���ث يظه���ر (المجه���ول) ويخطب في الخليليين ،مطلق ًا الشرارة التي تجعلهم
يح���ررون مدينتهم .وم���ن الخليل تنتقل الش���رارة إلى جامع الش���جاعية في غزة حيث يظهر (المجهول) ،ثم إلى الكنيسة األرثوذكس���ية في رام اهلل ،فإلى نابلس وجبالي���ا وأربعي���ن القائد الش���هيد أبو جهاد .ومن المفارق أن تصوير شخصية الفدائ���ي الفرد وثائقي ًا ف���ي هذه الرواية قد اعتوره االصطناع والس���ذاجة ،على العكس م���ن تصوير الجماع���ة من جهة وكما ف���ي رواية عرس فلس���طيني ومن تصوير الف���رد البطل المجهول ،من جهة أخرى. لق���د أس���رعت الرواي���ة العربية إلى فلس���طين بع���د هزيم���ة .1967وم���ع ش���خصية الفدائي ،حضرت من المخيم شخصية أخرى ،هي ذلك الفالح الفقير ال���ذي اقتلع ع���ام 1948من فلس���طين، فس���قط ف���ي درك البروليتاري���ا الرثة، كم���ا هو بطل رواية بدي���ع حقي (أحالم الرصي���ف المج���روح )1973الذي يعمل في مسح األحذية ،فصارت رائحة البويا تفصل���ه ع���ن رائح���ة األرض الضائعة، وترميه في اليأس بعد هزيمة .1967 وقد كان لفلس���طين تجسيدان آخران في الرواية العربية ،وذلك عبر شخصية العام���ل والمثقف ،وهما م���ا نراهما في
روايتي هاني الراهب (ش���رخ في تاريخ طوي���ل )1970و(أل���ف ليل���ة وليلت���ان .)1977فالعام���ل الفلس���طيني محمود، ف���ي الرواية الثانية متلهف للثورة «نريد شعب ًا يحمل الديناميت ،اآلن وليس غداً» ويرى الكادحين الع���رب مخصيين .وقد ال مثقفاً ،سيسرع بعد رسمه الكاتب عام ً الهزيمة إل���ى دورة للتدريب على العمل الفدائي .أما شخصية الفلسطيني المثقف فتصخب ف���ي رواية الراهب (ش���رخ)... موس���ومة بالوجودي���ة ،مث���ل بط���ل الرواية السوري المثقف أسيان ،عاشق الفلسطينية الش���ابة لبنى المتزوجة من ضابط ،وعالقتها بزوجها معطوبة.. يربط الكاتب بسذاجة بين أنوثة لبنى وفلس���طينيتها ،ألنها تحلم بالعودة إلى يافا ،حيث عاش���ت طفولتها ،مما تشي الرواية بأنه اس���تعادة ما اغتصب منها، ُ وهي التي تعرف في الجامعة بش���جرة الزنا ،الش���تهارها بكث���رة رجالها .وكما أن لب���وس العط���ب في ش���خصية لبنى ه���و الجنس ،كذلك هو عطب ش���خصية ش���قيقها مجد المعلم والطالب الجامعي والش���اعر الذي عش���ق امرأة تركية منذ تس���ع سنوات ،دون أن تأبه له .ويربط مج���د تعلقه بتركية بتعلقه بفلس���طين، فتركية مثل ب�ل�اده التي يحتلها اليهود، وهو صاحبها ،وبالده ،بفضل عش���اقها الكثيري���ن ،ال تس���تطيع أن تك���ون له، وكلما زاد عش���اقها زاد تعلقه بها ،حتى يق���ع ف���ي الي���أس ،ويح���اول االنتحار مرارًا قبل أن يهاجر إلى غينيا ،نش���دان ًا للبدائي���ة ،وهرب ًا رومنس���ي ًا من الواقع، وهناك يفلح في االنتحار. وقد قدم حيدر حيدر في روايته (الزمن الموحش )1973تجسيدًا لفلسطين أكثر عطباً ،عبر ش���خصية مس���رور الحزبي تذه���ب اإلش���ارة إلى ح���زب البعث -البرجوازي الصغي���ر الذي ينتقل من بلد إلى بل���د ،والمتزوج م���ن ديانا المصابة بالتشتت الجنس���ي ،لكن مسرور متعلق بها على نحو مرضي يتتوج بقتلها قبيل التحاقه بالنضال الس���ري كما طلب إليه حزبه. lll
لق���د تراج���ع حض���ور مث���ل ه���ذه الش���خصيات الروائي���ة ،ليفس���ح لش���خصيات أخرى على إيقاع الحروب التالية ،وبخاصة منه���ا الحرب األهلية اللبنانية التي اندلع���ت عام ،1975وإذ بإسماعيل فهد إسماعيل ،يعاجلنا في عام 1976بروايته (الش���ياح) ،وبشخصيتي الفلسطينيين أس���عد الجامعي والسائق َّ ابراهيم ،اللذين تحشرهما الحرب مع من تحش���ر في س���رداب ،فتنجلي في األول ش���خصية الطموح إلى القيادة والشعر، وهو المطرود من منظم���ة فدائية ،وفي الثاني ش���خصية سائق الش���احنة بين لبنان والكويت ،والذي يكويه الس���ؤال: إلى أين الذهاب إذا ما رحل الفلسطينيون من لبن���ان ،م���ا دامت دروب فلس���طين مسدودة؟ في هذا الس���ياق تأتي رواية إلياس خوري (باب الش���مس )1998 /كعالمة فارقة ،وفيها تقول إحدى الش���خصيات: «إننا ال نعرف تاريخنا ،وإنه يجب جمع حكايات كل قرية ك���ي تبقى القرى حية ف���ي ذاكرتنا» .والرواية ليس���ت إال ذلك: حكايات ال تنتهي ،ومتواليات من الحكي ل���رواة بال حص���ر ،أي لش���خصيات بال حص���ر ،وإن تكن الرواية قد تبّأرت على شخصيات بعينها ،أولها الراوي الدكتور خلي���ل أيوب ال���ذي يقص عل���ى يونس الغ���ارق في الكوما .وعب���ر هذا الطوفان م���ن التاري���خ الفلس���طيني الجديد ،أي من الحكايات ،تش���تبك األصوات حتى
أسرعت الرواية العربية إلى فلسطين بعد هزيمة .1967ومع الفدائي، حضرت شخصية أخرى ،هي ذلك الفالح الفقير الذي اقتلع عام 1948
لترمي القراءة بالتتويه ،بينما يرتس���م الفضاء الفلس���طيني قب���ل مفصل 1948 وبعده ،ف���ي المخيمات والمغائر والمدن (عم���ان بي���روت )..والقرى (الغابس���ية وعين الزيتون والكويكات وطيطبا ودير األسد وشعب و .)...وكما تقول الرواية بحق :تختلط األس���ماء ،واالسم للناس أو للقرى صار يطير ،وإن كان الحضور الخاص هو لمستش���فى الجليل ولمخيم شاتيال ولمغارة باب الشمس ،مثلما هو الحضور الخاص لشخصية أم حسن ،أم الكل التي لبست الحداد صباح الخامس من حزيران ،1967حين كان غيرها يرقص ابتهاج ًا بالنصر ،وشخصية نهيلة زوجة يونس ذي األسماء الكثيرة ،أو مجنونة الكاب���ري التي تجمع عظ���ام الموتى في الجلي���ل وتدفنهم ،أو كم���ال الذي ال يرى في التليفزيون م���ا يراه اآلخرون« :هذه ليست فلسطين يا ابن عمي .هذه الصور ال تش���به قرانا ،لكن الناس ،ال أعلم ماذا جرى للناس؟». لم تعد فلس���طين في الرواية العربية تأرخ���ة أو نوس���تالجيا أو وثيق���ة أو ً ً ماضي��� ًا وتش���ردًا وقه���راً ،إذ س���رعان العربي���ة الفدائ���ي الرواي���ة م���ا ش���غل َ َ ُ الفلس���طيني بخاصة ،والعربي بعامة. ُ أما الوثيقة أو التأرخة فقد أخذتا تغدوان أكثر فأكثر ،حفرًا روائي��� ًا في التاريخ، وفي الس���ياق الحداثي الروائي العربي، بينم���ا كان الم���كان الفلس���طيني ينأى، وص���ار يش���اغله ،حتى ليش���غل عنه، المخي���م ومواطن الش���تات .ومع العمل ال الفدائي صارت الحروب األهلية ش���اغ ً أيضاً ،وبخاصة الح���رب اللبنانية التي اندلع���ت عام .1975ولئ���ن كان كل ذلك يتقاطع بق���وة فيما بين الرواية العربية غير الفلسطينية ،والرواية الفلسطينية في الش���تات ،فإن الرواية الفلس���طينية ف���ي الداخل ف���ي فلس���طين التي صارت إس���رائيل أو التي صارت سلطة وطنية بع���د اتف���اق أوس���لو تظل تتف���رد ،في تخييله���ا للش���خصية الفلس���طينية أو للفدائ���ي أو للمس���توطنات أو لغير ذلك من كل ما يتصل بفلسطين في حاضرها وماضيها. 41
فلسطين ،إسرائيل:
حقائق حول الصراع �آالن جري�ش ترجمة � :أحمد عثمان *
أكت���ب هذا الكتاب ألجل���ك ،وأنا أفكر فيك وفي كل الش���باب في العش���رينيات من عم���رك .منذ أكثر م���ن عقدين أكتب، أحاضر ،أجري تحقيقات صحافية حول الصراع اإلسرائيلي-الفلسطيني .ناقشت بحمية حقوق الفلس���طينيين ،خصائص ّ دولة «إس���رائيل» ،الس�ل�ام المستقبلي. مؤمن ًا بقوة العق���ل والمنطق ،بضرورة التغلب على األحكام المس���بقة ،حاولت أن أفه���م وأدرك ه���ذا الش���رق المعق���د زعماً .دوماً ،حققتهما بشغف ،والشرق األوس���ط في قلبي ،في���ه ولدت وكبرت. وأتمنى أن أنق���ل اليك وإخوتك ذرة من هذا التوجه ،على الرغم من كون سيرتي ليست سيرتك وال سيرتهم. مع انهيار اتفاقات أوس���لو ،مع نفق العن���ف ف���ي الش���رق األوس���ط ،أصبت بالي���أس بع���ض الوق���ت .م���رة البتعاد الس�ل�ام ،ومرة أخرى لوقوع اإلقليم في حالة من الجن���ون والمواجهات .يتظاهر آالف الفرنس���يين اليهود ،من الش���باب غالباً ،صارخين« :الموت للعرب!» .من ناحية أخرى ،يصيح ش���باب فرنسي، من أص���ول مغاربية غالباً ،س���اخطين عل���ى القمع ف���ي الضف���ة الغربية وغزة « :الم���وت لليه���ود!» .معاب���د هوجم���ت
42
وأحرقت .على مدى أسابيع ،طاف طيف الحرب الطائفية على «فرنسا الوديعة». ما وراء الشجب المبدئي لكافة المظاهرات المناهضة للصهيونية ،شل المسؤولون السياس���يون .في الكليات ،الثانويات، يش���رح المعلم���ون أن���ه م���ن األفض���ل االحتف���اظ بالصمت عن فت���ح النقاش : تبدى التضامن «الطائفي» – «اليهود» مع إس���رائيل« ،العرب» مع الفلسطينيين، «الفرنس���يون األصليون» ينظرون إلى مكان آخر -قوياً« ،طبيعياً» بالتأكيد ،ال يقهر ،ولذا من األفضل تجنب تهييجه. كيف نقبل بهذه الهوة ؟ بالنس���بة لي، يتأت���ى بالتخلي عن المبادئ التي كونت عمل���ي ،التزاماتي ومعتقدات���ي .أنتمي إل���ى جي���ل أدرك السياس���ة – كما يقال وصل إلى العالم – في الس���تينيات عبر حركة إزال���ة الكولونيالي���ة وعلى يدي نضال ،ق���وي كما تم اعتباره ،الش���عب الفيتنامي ضد الع���دوان األميركي .هكذا كانت التفاوتات سياسية ،أيديولوجية، وأتجاس���ر عل���ى ذكر ه���ذه اللفظة التي تحصلت على س���معة سياس���ية سيئة. ليس ألصول أح���د وال دين آخر أي ثقل على تحليالتن���ا ،صراعاتنا ،معتقداتنا. نريد أن نكون جزءًا مندمج ًا في اإلنسانية،
فوق األحكام المسبقة ،دعوات «العرق» أو حتى األمة .وهذا ما أغرانا بالرس���الة العالمية للماركس���ية « :ي���ا عمال العالم اتحدوا!». بالتأكيد ،كان الصراع اإلس���رائيلي- العرب���ي معق���دًا مثل ح���رب فيتنام .في فرنس���ا ،أثار االنتصار اإلسرائيلي على مصر ،سورية واألردن خالل حرب يونيو 1967حماس���ة جنونية .مثل ثقل إبادة اليهود ،أس���طورة الكيبوتز (االستغالل الزراع���ي الجماعي) االش���تراكي ،وإنما أيض��� ًا ش���عور «الثأر» من الع���رب ،بعد خمس سنوات من نهاية حرب الجزائر، عوام���ل تفس���ر ه���ذا الموق���ف األحادي المناصر إلس���رائيل .وجوهري���اً ،ظلت المواجهات سياس���ية .وف���ي المنظمات الش���يوعية واليس���ارية المتطرفة ،التي يناضل ف���ي صفوفها كثير م���ن اليهود، دافعنا ،وأقولها مرة أخرى ،عن مواقف أممية. ومع ذلك ،كنا ورثة التقليد القومي. كنا مفتوني���ن بهؤالء الفرنس���يين الذين انضموا إلى جبه���ة التحرير الجزائرية : وسّموا «بحاملي اعتبروا خونة لوطنهم ُ الحقيبة» .على عكس آلبير كامو ،فضلوا العدالة على أمهم .ولدت في القاهرة ألم روسية يهودية وأب قبطي ،ملحد ولكن يحترم المعتقدات ،وعرفت نفسي في بالد األنوار .قلت لك يا ابنتي ،كنت محظوظ ًا ألنني اخترت جنسيتي :جعلتني ليسيه القاهرة فرنس���ي الثقاف���ة والقلب ،حتى وإن ل���م أكن���ه بالدم .أعجب���ت بفولتير. كان ملتزم ًا بقضية «كاالس» ،مدافع ًا عن هذا الكالفيني المتهم بقتل ابنه المتحول إلى الكاثوليكي���ة ،والذي أعدم في العام الالحق بتولوز .قس���مت القضية فرنسا. من الضروري االنتظار حتى رد االعتبار إلى كاالس في عام .1765 «أن���ا وأخي ضد ابن عمي ،وأنا وابن عمي ضد الغريب» :يلخص القول المأثور، في نظ���ري ،نفق المذابح الت���ي عرفتها لبنان حينما غرق���ت في الحرب األهلية، خالل الس���بعينيات .دوماً ،تجاهلت هذا المنط���ق .هل من الضروري قبوله اليوم ونحن نحتفل «بالقرية الكونية» ،الحقوق
سليل المحرقة..عندما يحرق
العالمي���ة للفرد والمس���اواة بين الناس؟ هل من الضروري النظر إلى ش���رعية أن يكون اليه���ود متضامنين مع إس���رائيل والمسلمون مع الفلسطينيين ؟ من الممكن فهم الجوار العائلي ،العاطفي ،الديني. «تقريب ًا لكل يهود ستراسبورغ ،كما ذكر مس���ؤول المجلس التمثيل���ي للمنظمات اليهودية في فرنسا بعد عدد من الحرائق المناهضة للس���امية في خريف ،2000 عائلة هناك .الش���عور األساسي رد فعل قل���ق لدى األق���ارب .وقتما يه���دد الخطر إس���رائيل ،يق���وم التضام���ن ب���دوره». بالنس���بة للش���باب من أصول مغاربية، يتماهون م���ع رماة األحجار ،ألس���باب اجتماعية – «أيه���ا المغضوب عليكم من جميع البل���دان ،اتحدوا» – أو للش���عور باالنتم���اء الثقافي والدين���ي إلى حد ما. س���طرت مذكرة لالس���تخبارات العامة، في ش���هر ديسمبر ،2000أن االعتداءات المناهض���ة للس���امية ،ش���به المنعزلة، تفسر باألخص تنفيس شباب الضواحي وأنه ال يجب إضفاء الصبغة السياس���ية عليها .ولكن هل هذا سيستمر ؟ ظل اليسار بعيدًا عن أحداث فلسطين. مس���مرًا بفعل الخوف م���ن التجاوزات، يطال���ب الس���لطات الديني���ة بتهدئ���ة
التوترات ،وقد تخلى عن هؤالء الشباب الذي���ن كبروا خ���ارج تأثي���ره ،ثقافته، رؤيت���ه للعال���م .ال يع���رف أن يتوج���ه إليهم ،يجيب عن العذابات التي يلقونها في ضواحيهم ،يقول الكلمات المؤثرة، يقود الممارسات التي تمنح ما يجرى في فلسطين وإسرائيل محتوى عالمياً .إلى من يتجه هؤالء الشباب ،وهم محبطون؟ ال نحو من يمنح ه���ذا الصراع معنى وح ً دينيين أو طائفيين ؟ ومع ذلك ،هناك أصوات ش���جاعة، وإن كان���ت أقلي���ة ،تنتق���د ه���ذا العجز اليس���اري وانح���راف التضام���ن «بي���ن الطوائ���ف» .ف���ي 18أكتوب���ر ،2000 نش���رت «لو موند» نداء« :مواطنو البلد الذي نحيا عليه ومواطنو الكوكب ،ليس لدين���ا أي حج���ة أو ع���ادة للتعبير عن أنفس���نا بأننا يهود» ،كما كتب عش���رات المثقفي���ن ،م���ن بينهم المق���اوم ريمون أوب���راك ،الرئي���س األس���بق ألطباء بال حدود روني براومن ،الفيلسوف دانيال بنس���عيد ،الطبيب مارسيل-فرانس���يس كان ،المحامي���ة جيزي���ل حليمي ،عالم الرياضي���ات لوران ش���فارتس ،المؤرخ بيار فيدال-ناكيه. «نناضل ،تابعوا ،ض���د العنصرية،
ومن بينها مناهضة السامية تحت جميع صورها .نشجب االعتداءات ضد المعابد والمدارس اليهودية التي تهدف الطائفة وأماك���ن عبادتها .نرفض تدويل المنطق الطائف���ي ال���ذي يترج���م ،حت���ى هنا، بمواجهات بين شباب نفس المدرسة أو نفس الحي». «ولك���ن ،بزع���م الكالم باس���م جميع يهود العالم ،بتملك الذاكرة المش���تركة، بعرض كافة الضحايا اليهود السابقين، يس���تأثر حكام إس���رائيل بح���ق الكالم، رغم ًا عنا ،باسمنا .ال يحتكر أحد اإلبادة النازي���ة لليه���ود .لعائالتن���ا نصيبه���م من النف���ي ،االختف���اء ،المقاومة .أيض ًا االبتزاز بالتضامن الطائفي ،وقد ساهم في ش���رعنة سياس���ة االتح���اد المقدس للحكام اإلسرائيليين ،غير متسامح في نظرنا» .بعد أس���ابيع ،أسسوا ومثقفين عرب أو من أص���ول عربية لجنة للدفاع عن السالم في الش���رق األوسط .حاول الفريق���ان – لم يكونا الوحيدين لحس���ن الحظ – تج���اوز الهوية باس���م المبادئ العالمية ورغ���م االتهامات :رأى روجيه آسكوت ،في «الرش» ،شهرية اليهودية الفرنس���ية (يوليو-أغس���طس)2001 ، هؤالء اليهود «كجماعة من نصف خونة»
43
غير متضامنة مع إسرائيل .ومع ذلك لم يطالب بإعدامهم. كما يجري مع كل أزم���ة في اإلقليم، حرصت على االش���تراك في المناقشات. دوم ًا كان���ت حامية .قابل���ت كثيرين من عم���رك ،طلب���ة ثانوي���ات أو جامعات. عرف���ت أنن���ا غي���ر ملزمي���ن بنق���ل هذه التجرب���ة «األممية» الت���ي ذكرتها أعاله. أتمنى ،لمكافحة الرياح المعاكسة ودون نمذجة الماضي ،حمل هذا الدور «للعابر» وأنقل التجربة .هي ذي رغبة هذا الكتاب األصلي���ة .وددت أن أس���تعيد ع���ددًا من األح���داث ال تنق���ص أي مناقش���ة جادة وأعرض المبادئ التي تؤسس طريقتي في رؤية الصراع. المواجه���ة في فلس���طين إحدى أقدم المواجه���ات في العال���م .ترجع إلى قرن من الزم���ان تقريباً ،مع ظه���ور الحركة الصهيوني���ة ف���ي أوروب���ا وموج���ات االس���تيطان األول���ى في فلس���طين .من الح���رب العالمي���ة األول���ى إل���ى اليوم، ورط���ت ،في كل وقت ،الق���وى الكبرى، من االمبراطورية العثمانية إلى روس���يا القيصرية ،من االتحاد الس���وفياتي إلى ألماني���ا النازية ،من الوالي���ات المتحدة إل���ى بريطاني���ا العظم���ى .ترجمت عبر خمس حروب ،بلغ بعضها حد االشتعال العالمي .ف���ي مقرر التاري���خ الثانوي، الذي يتعرض لعالم اليوم ،تفجر الشرق األوس���ط في أكثر من فصل وموضوع. أيض���اً ،ألس���باب معروف���ة ،ينف���ر عدد من األس���اتذة من أدرك ه���ذا الموضوع «الحس���اس» ،ال���ذي يج���يء ن���ادرًا في امتحانات البكالوريا .ومع ذلك ،المعرفة ظرف ضروري لكل نق���اش .من الممكن أن تتواج���ه الرؤى المتع���ددة إذا امتلك الش���باب العناصر التاريخية األساسية. بالتالي ،أذك���ر الوقائع والقيود الالزمة في كل نقاش جدي. بي���د أن هذه اإليضاحات غير كافية. بعد كل شيء ،هناك المئات من األعمال التي تدقق في الصراع ،تاريخه وأبطاله. ولهذا ل���م يتفق «المتخصص���ون» .لماذا ؟ ألن كل واح���د ق���رأ ،بوع���ي أو دونه، الص���راع عبر «ش���بكات التحليل» ،التي 44
تمن���ح «معنى» لألحداث .م���ن يرد على من يدعي أن الرب أعطى أرض إسرائيل لليهود ؟ ه���ل من الممكن معارضة الرب؟ رؤي���ة ديني���ة ،مؤسس���ة على رس���الة دينية ،غير قابلة للتفاوض .كيف نقنع تالميذ مس���لمين يرون أن فلسطين وقف إس�ل�امي وأنها ال يمكن أن تكون عنصر مساومة أو تسوية ؟ افهميني .الخط الفاصل ،فيما يتعلق بفلس���طين أو أي مواجهة أخرى ،ال يتم دوم��� ًا بي���ن الدينيين واآلخري���ن .يدافع بع���ض العلمانيي���ن عن مواق���ف قومية متطرف���ة ،تمنح تفوق��� ًا «للبعض» على حس���اب «البعض اآلخر» – ما رأيناه في صربيا أو كرواتيا. ال عن ذلك ،ينصح بعض الدينيين فض ً بقراءة إنس���انية .في (منبر) «لو موند»، 9يناير ،2011كتب الحاخام دافيد ماير أن فك���رة «األرض المقدس���ة» أو «الوعد غير المش���روط» على أرض إس���رائيل، في التقاليد اليهودية ،غير موجود .ذكر اإلصحاح الرابع من سفر التثنية« :فاآلن يا إسرائيل اس���معوا الفرائض واألحكام التي أنا أعلمك���م لتعملوها ،لكي تحيوا وتدخل���وا وتمتلك���وا األرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم ( )..انظر .قد علمتكم فرائض وأحكام ًا كما أمرني الرب إلهي، لك���ي تعملوا هكذا ف���ي األرض التي أنتم داخلون إليها لك���ي تمتلكوها .فاحفظوا واعملوا .ألن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الش���عوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض ،فيقولون :هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن ( )..إذا ولدتم أوالدًا وأوالد أوالد ،وأطلت���م الزمان في األرض ،وفسدتم وصنعتم تمثا ًال منحوت ًا صورة شيء ما ،وفعلتم الشر في عيني الرب إلهك���م إلغاظته ( )..أش���هد عليكم الي���وم الس���ماء واألرض أنك���م تبيدون س���ريع ًا عن األرض الت���ي أنتم عابرون األردن إليها لتمتلكوها .ال تطيلون األيام عليها ،بل تهلكون ال محالة» .ويتس���اءل الحاخ���ام ع���ن ه���ذا التقدي���س األحمق المهووس بأرض إس���رائيل« ،بإسرائيل الكبرى» ،ال���ذي يمرر «مفهوم القداس���ة والمق���دس قبل مفه���وم احت���رام الحياة
اإلنس���انية» .م���ن الض���روري أن يتخذه بعض مثقفينا العلمانيين أمثولة. بالنس���بة لي ،ال أنتمي إلى أي حزب من «أحزاب الرب» ،أكتفي ،مثل «جوتز»، بطل مس���رحية «الشيطان واالله الطيب» لسارتر ،باالنتماء لإلنسان ،أو باألحرى للن���اس .ال أرى أي تراتبي���ة بينهم ،وال أصنف ،صع���ودًا أو هبوطاً ،أي طائفة ديني���ة أو قومي���ة .حت���ى وإن فهم���ت، ألس���باب عائلية ودينية أحيانا ،ثقافية غالباً ،أننا نستطيع أن نكون قريبين من شعب عن آخر ..بش���رط عدم النمذجة، بشرط عدم غفران الجرائم المرتكبة تحت أي اسم. كلود النزمان ،مدير مجلة «العصور الحديثة» التي أسسها سارتر قامت بدور – بالتأكي���د قب���ل مولدك -ف���ي النقاش الثقافي الفرنس���ي .حق���ق النزمان فيلم ًا رديئ ًا وتبريري ًا عن الجيش اإلسرائيلي. إنه دوره ،نحن ف���ي بلد حر .حقق آخر عن إب���ادة اليه���ود ،وثالث ع���ن «لماذا إس���رائيل ؟» .ل���م يذك���ر الع���رب في أي لحظة .س���ئل عن هذا الغياب ،فأجاب، في منبر «لو مون���د» ( 7فبراير : )2001 «عليه���م أن يفعلوها» .انتبه���ي إلى هذا الزيغ .يجب أن يكتب السود عن السود، العرب عن الع���رب ،اليهود عن اليهود.. منطق عرقي ،قبلي ،منطق حربي بعيد عن أي نموذج إنساني.. في فلس���طين ،ال يوجد لدي أي حق «طبيع���ي» أو «دين���ي» .بالرج���وع إلى ثالث���ة آالف عام أو حت���ى إلى ألف عام للق���ول إن أي قطع���ة أرض تنتمي ألحد ما ش���يء عبثي ،غير ش���رعي ودموي. اس���تعملت إدارة بلغ���راد تعبي���ر «مه���د صربي���ا» ،لتعيين «الحق» بكوس���وفو. نعرف أن األمم الحديثة ترجع إلى القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية .وسوف أتناول هذه المسألة تفصيلي ًا في الفصل الثالث .بيد أن احتالل أي إقليم فرنس���ي بواس���طة القبائ���ل الجرماني���ة أو إقليم آكيتين بواسطة «اآلنغلوا» ال يعني توفر أي حق لهم.. كي���ف نفه���م ف���ي ظ���ل المطالب���ات المتعارضة ؟ بالتأكيد على أولية القانون
الدولي .اختص���اراً ،ماذا تقول تحليالت األمم المتحدة حول فلسطين وإسرائيل؟ نع���رف أن ش���عبين ،أحدهم���ا يه���ودي إسرائيلي واآلخر فلس���طيني ،يعيشان على أرض فلسطين التاريخية ،وأن لهما الحق في دولتهما المستقلة. ومع ذلك ،نبين هذا التماثل .بداية، يمتلك الشعب اإلسرائيلي دولة منذ أكثر من خمس���ين عاماً ،بينما الفلس���طينيون محروم���ون منها ويعيش���ون قس���رًا في المنف���ى أو تح���ت االحتالل .م���ن ناحية أخ���رى ،نش���أ الوضع الحال���ي من ظلم أصيل :ط���ردت الميليش���يات اليهودية ثم الجيش اإلس���رائيلي الفلسطينيين من ديارهم ،تحديدًا ف���ي ،1948-1950كما س���أبين في الفصل الرابع .هذا اإلبعاد، الذي أنكرته إسرائيل وأوروبا وتجاهاله طوي�ل�ا ،ح���دث مؤك���د بفض���ل أعم���ال ً «المؤرخين الجدد» اإلسرائيليين تحديداً. تضغط إب���ادة اليهود بقوة على هذا الص���راع .المواق���ف ،في فرنس���ا كما في الشرق األوسط ،مرس���ومة بما يؤسس أكب���ر الجرائ���م الكريهة في ه���ذا العصر. خلق���ت إبادة اليه���ود بواس���طة النازي وحلفائه وعدم قدرة القوة الكبرى وقتذاك على وقفها ش���عورًا بالذنب ل���دى الرأي ومي�ل�ا لصالح من يدعون العام الغربي ً أنه���م ورثة تاري���خ اليه���ود وذاكرتهم. س���اعد هذا األل���م الجمعي���ة العامة لألمم المتحدة ،في 29نوفمبر ،1947لصالح تقس���يم فلس���طين ،وبالتالي مولد دولة «إسرائيل» .ولكن يتبدى أن الفلسطينيين دفعوا ثمن جريمة لم يرتكبوها .س���أقف طويالً ،ف���ي الفصل الخام���س ،عند هذا التناقض. حينما نذكر الشرق األوسط ،ال يمكن أن نكون «فوق العراك» .تبين الحيادية الوهم .ومع ذلك ،أرفض التضامن المجرد مع أحد المعس���كرين .ال أعتقد أن شعباً، أي ًا كان« ،طيب���اً»« ،ع���ادالً»« ،متفوقاً» بالطبيع���ة أو بفضل إلهي أو متأصل .ال ش���عب مخصص «لرسالة سامية» .تبع ًا لذلك ،هناك «أسباب عادلة» .هذا التمييز يفلت أحيان ًا من المعلقين .رشار ليسيا، في مقال حول – أو غالب ًا ضد – اإلعالم،
منش���ور في «الرش» في نوفمبر ،2000 يفضح إحدى «آليات» وس���ائط اإلعالم والجمه���ور ،التضامن م���ع «الثائرين» : «إعجاب الجمه���ور بالمضربين من نقابة الس���كك الحديدي���ة واإلدارة المس���تقلة للنق���ل الباريس���ي ،أو ربم���ا الطرقيين – ال���ذي يزعجهم م���ع ذل���ك – ال عالقة له ربم���ا بالدفاع الجنوني ع���ن القضية الفلس���طينية .اآلن ،نصط���ف ،منهجي��� ًا نوع ًا ما ،إلى جانب الثائرين» .هل يجب أن يكون االنبهار إلى جانب الضحايا ؟ في «الفيجارو» ،ش���رح النفس���اني دانيال سيبوني أن «الرأي العام الغربي (ال يحب) الناس إال ضحايا .يحب اليهود الضحايا في معسكرات االحتجاز (أحبهم خاص���ة بعد ه���ذه المعس���كرات) ويحب الفلس���طينيين ضحايا اليه���ود» .تقرير ملتبس عن معس���كرات االحتجاز ولكن، مرة أخرى ،هل من غير الطبيعي الشعور بالتضام���ن م���ع الضحايا ؟ ال ،بش���رط االهتمام بهذا الدرس التاريخي :لألسف، يستطيع ضحايا األمس أن يتحولوا إلى جالدين اليوم بسهولة. األمثلة كثيرة ،مثل مثال رواندا .كان التوتسي ضحايا الهوتو ،ولكن تنظيمهم تمكن من السلطة وارتكب مذابح رهيبة. ه���ل يجب الصف���ح عن مس���ؤولي إبادة التوتس���ي ؟ بي���ار فيدال ناكي���ه ،مؤرخ وفاض���ح تاري���خ التعذيب خ�ل�ال حرب الجزائ���ر ومناض���ل ال يكل ع���ن القضايا العادل���ة ،ذك���ر ه���ذا الش���رح التلمودي للكتاب المقدس ،ال���ذي أهديه للمؤمنين والملحدين « :الرب دائم ًا يقف إلى جانب المظل���وم .م���ن الممكن أن يظل���م عادل ع���ادالً ،والرب م���ع المظل���وم ،وحينما يظلم الشرير عادالً ،الرب مع المظلوم، وحينما يظلم الش���رير شريراً ،الرب مع المظلوم ،وحتى إن ظلم عادل ش���ريراً، الرب مع المظلوم». ل���م يتخ���ذ المثقف���ون ه���ذا الموقف دائم���اً .كان صم���ت عدد كبي���ر منهم منذ انطالق االنتفاضة الثانية قوياً .أحياناً، نفضل���ه .في مقال مذهل (ليبراس���يون، 10يوليو ،)2001استنكر مارك لوفيفر وفيلي���ب غومبلوفيت���ش وبيار-آندريه
تاغييف ،وقد س���اندهم بعض زمالئهم، زي���ارة تضامني���ة لوف���د يض���م جوزيه بوفي���ه لألراض���ي المحتل���ة .العن���وان الفرعي يلخص التقرير « :تتأتى مآسي الفلس���طينيين م���ن إدارتهم الفاس���دة، ولي���س من المس���توطنات اإلس���رائيلية حس���بما يزع���م القائد النقاب���ي (جوزيه بوفيه)» 400.000 .مس���توطنة ؟ أقلية بسيطة منهم – – 30.000من المتطرفين الدينيي���ن :لماذا تقلقون ،س���يخرجون منها في الوقت المناسب. القم���ع اإلس���رائيلي؟ ل���م يذك���ر، الموقعون ينقدون االعتداءات «الهمجية» فقط« .هل أس���س االتف���اق حاضرة في كل حس���اب ؟» في طاب���ا ،يناير ،2001 كان���ت محددة ،وهذا صحيح ،وكما كتب المؤلفون :عرفات لم يرد اإلمساك بهذه الفرصة ،وهذا كذب .على األقل هذا جهل بالبره���ان النظري .هل الح���ل بدولتين يعتبر الحل الممكن؟ نسعد حينما يعجب آرييل ش���ارون «به تحديدًا حينما تغلق الميكروفون���ات» .بدون ش���ك ،يش���به األمر قبول جن���وب إفريقي���ا العنصرية باس���تقالل الباندوس���تان ..يوم صدور ه���ذا النص ،ه���دم الجيش اإلس���رائيلي عشرين بيت ًا فلسطيني ًا في القدس وغزة. وجدت عائالت نفسها في الشارع .ولكن لم���اذا القلق ؟ ،هذه البيوت س���تبنى من جديد..؟ بالتأكي���د ،ينطبق على هذه األرض فلسطين-إسرائيل مبادئ أخرى ،قواعد تحليل���ة أخرى عن تلك المس���تعملة في أماك���ن أخرى .دوم ًا أنده���ش لما أالحظ بعض المثقفين الفرنس���يين ،الجاهزين للتحرك من أجل قضايا عديدة ،ينفرون وقتم���ا تعل���ق األم���ر بفلس���طين .حتى فيلسوف مثل سارتر ،المعروف بمواقفه الش���جاعة من ح���رب الجزائر إلى نضال الس���ود األميركيي���ن ،ارتع���ب م���ن هذه المسألة .بدون وعي ،نطبق على الشرق األوسط قاعدة «الكيل بمكيالين». (*) م���ن الفصل األول :رس���الة إلى ابنتي، من كتاب : Alain Gresh, Israël, Palestine : Vérités.sur un conflit, Fayard, 2010
45
كتب جان بول سارتر عام 1972مقا ًال يساند فيه ّ حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم،عقب االعتداء على إسرائيليين خالل دورة األلعاب االولمبية في ميونيخ .مقال يكشف واحدة من المواقف غير المعروفة عن سارتر الذي غّير الحق ًا رأيه وأقر بدولة إسرائيل.
سارتر وعنف المستضعفين ايف.ك
*
«غاية اإلرهاب هي القتل» هي جملة مقتبسة من مقال صادم ،كتبه سارتر سن السابعة ببرودة عام ،1972في ّ تعرض للتعتيم وكثير من ّ والستينّ ، القراء يجهلونه اليوم .ويضيف الكاتب، الذي كان يعتبر حينها الفيلسوف األشد تأثيرًا على الرأي العام«:إنه سالح قاتل ،لكن المستضعفين ال يمتلكون وسيلة أخرى» .القتلة -الذين يضعون قنبلة في حافلة أو في وسط سوق - إنما يلجؤون إلى ذلك الفعل للتخلص من عنف يمارسه ضدهم آخرون. فسارتر سبق أن أخبرنا أن «الجحيم هو اآلخر». مع ذلك ،فإن الفيلسوف غّير كلية رأيه في السنوات الثمانية الالحقة واألخيرة من حياته ،وانتقل من تبرير اإلرهاب إلى نفيه المطلق .انتقال لم يتحدث عنه الدارسون. جاءت مباركة سارتر لإلرهاب ضمن سياق دفاعه عن الحركات التحريرية، ويقصد هنا تحديدًا الصراع الفلسطيني اإلســـــــرائيلي .الفلســـطينيون رفضـوا عام 1947قرار األمم المتحدة القاضي بتقسيم البلد إلى دولة عربية وأخرى يهودية ،ثم تعرضوا لالحتالل عقب
46
حرب الستة أيام( ،)1967وبانت فرصة استعادة أرضهم جد ضئيلة بسبب افتقادهم للسالح ولدعم القوى السياسية« .السالح الوحيد الذي يتوافر عليه الفلسطينيون هو اإلرهاب ( )...إن فرنسا التي قبلت التفاوض مع إرهاب جبهة التحرير الجزائرية التي قادت حرب ًا ضد الفرنسيين ليس أمامها سوى قبول التفاوض مع الفلسطينيين .هذا الشعب المهجور ،المخدوع والمنفي». جاء مقال الفيلسوف عقب عملية نفذها كوماندوز فلسطيني خالل دورة األلعاب االولمبية بميونيخ .حيث تسلّل ،في 5سبتمبر 1972صباحاً، ثمانية فلسطينيين إلى جناح الرياضيين اإلسرائيليين .لم تكن نيتهم القتل ،بل فقط احتجازهم ومقايضتهم بمائتين وثالثة وأربعين أسيرًا فلسطيني ًا في السجون اإلسرائيلية .لكن ،وقع إسرائيليان ضحية االقتحام ،وُألقي وتم إخراجهم القبض على تسعة آخرين ّ من القرية األولمبية .ثم اقتيدوا إلى مطار ميونيخ حيث طلب الكومندوز طائرة تنقلهم إلى بلد عربي ال يمانع في استقبالهم .ووقع ما لم يكن في الحسبان بعد تدخل الشرطة األلمانية وسقوط
سبعة عشر ضحية :أحد عشر رياضي ًا إسرائيلياً ،خمسة من أفراد الكومندوز وشرطي ألماني .الكومندوز كان يحمل اسم «سبتمبر األسود» تعاطف ًا مع الثالثة آالف وخمسمئة فلسطيني ضحايا الملك الحسين الذي أراد طردهم من الضفة الغربية -التي ُألحقت بالمملكة األردنية عام.1949 كتب سارتر« :ال بد من اإلقرار بأن عملية ميونيخ كانت ناجحة» .وتأتي خالصة سارتر من ربطه بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة الجزائرية ضد فرنسا .اختالل الموازين العسكرية هو نقطة مشتركة بينهما .الربط بينه وبين المقاومة الجزائرية هو إقرار واضح للعلن .سارتر أكد دعمه لعمليات جبهة التحرير في الجزائر ضد الفرنسيين، مدنيين ،نساء أو أطفا ًال .مع العلم أن المقاومين الفلسطينيين يقومون بالعمل نفسه في الشرق األوسط .فقد كانوا حينذاك ملتفين حول حركة فتح. جـــــاءت تصريحات ســـــــــــارتر في أكتوبر ،1972أي بعد شهر من العملية، منشورة في جريدة ذات صدى واسع، بسبب المالحقات القضائية التي تعرضت إليها ،هي جريدة «قضية الشعب» ،التي أسسها مجموعة من المثقفين -أغلبهم سن الثالثين ،-تخرجوا مثل في حدود ّ سارتر في مدرسة األساتذة .يطلق عليهم تسمية «الماويين» .وصل دعم «الماويين» للقضية الفلسطينية حّد رشق سفارة األردن بباريس بزجاجات المولوتوف الحارقة .سارتر وضع اسمه وشهرته في الدفاع وفي حماية َّ س هيئة تحريرها الجريدة التي ترأ َ في وقت سابق .حيث نشرت الجريدة نفسها مقا ًال سبق مقال سارتر بحوالي الشهر جاء فيه« :كل الذين يعيشون في إسرائيل ليسوا دعاة لفرض الشقاء على الشعب الفلسطيني .لذلك وجب التفريق بين اإلسرائيلي العادي والجندي ». كان سارتر حينها الوحيد الذي دافع عن مرتكبي االعتداء في وقت كانت تنشر فيه الجرائد األخرى برقيات التنديد .ولم يجد إلى جانبه سوى الكاتب جان جينيه،
سارتر
المقرب من األوساط الفلسطينية، والذي عّبر عن العملية بطريقة ساخرة قائالً« :إنما هي مجرد لدغة حشرة على رقبة ألمانيا الثخينة» .ويضيف سارتر: «التنديدات العنيفة التي نشرها أصحاب القلوب الكبيرة في الصحف ليست تعني ال اإلسرائيليين وال الفلسطينيين .كما لو أنهم يقولون من الممكن أن نقتل إسرائيليين في بلدهم ،ولكن من المهم احترام شرف األلعاب األولمبية. بالتالي فإن سارتر يمنح مشروعية للعمل اإلرهابي .كما لو أنه يقول :إذا كنتم تخوضون حرب ًا تحريرية ،وكان عدوكم يتفوق عليكم في العتاد ،وأدار المجتمع الدولي ظهره لقضيتكم ،فال بأس من الركوب في الترامواي أو الذهاب إلى السوق وتفجير قنبلة .فهو يقارن بينها وبين الثورة الجزائرية التي ساندها. من غير الممكن فهم تبريرات سارتر دونما اإلحـــاطة باإلطـــــــار التــاريخي واأليديولوجي حيث كانت الماركسية، كما عّبر عنها سارتر عام« :1957األفق األسمى لزماننا» .صــــراع الطبــــــقات واضطهاد البروليتاريا كانت القضايا األهم التي تشغل بال المثقفين المنضوين
تحت مظلة الماركسية .هي قضايا تحمل كما أكد عليه سارتر«قوة الكره» .وهو ما يبرر ربما :اإلرهاب .وهي قناعة ال يتفق معها مفكرون معاصرون لسارتر مثل ألبير كامو الذي كتب في (الرجل الثائر) عام « :1951باسم الثورة ،ماركس يبرر الصراع الذي سيكون دموي ًا بين جميع أشكال االنتفاض» .ويضيف ردًا على منتقديه في شبكة سارتر/جونسون: «باكونين هو أحد القالئل الذين تعارض ثورتهم ثورة ماركس في القرن التاسع ()...باكونين ما يزال حي ًا بداخلي». وتهجم فرانسيس جونسون على كتاب ّ «كامو» في مجلة (أزمنة معاصرة) وذكر: «إنما هو مجرد وصفة طبخ مسحوبة تهجم عليه سارتر من الفوضوية» .كما َّ أيض ًا وكتب« :ليس مهما معرفة اتجاه التاريخ ،بل األهم هي منحه االتجاه الذي نراه األفضل» .بالنسبة لماركس أو سارتر اتجاه التاريخ ال يأتي صدفة ،بل يتعلق بمعنى الحرية وبفعل اإلنسان الذي يرفض الخضوع للحدود. هي نفسها حالة المستضعفين الذين يوجهون التاريخ أكثر من أي طرف ّ آخر بالنظر إلى أن وضعيتهم تستوجب عليهم حركة تاريخية .اإلرهاب يمكن أن يوجد ويتراءى على أنه المنفذ الوحيد للتّخلص من الظلم .وفي ظل الصدام بين سارتر(المناضل السياسي) وكامو(الفنان) ،كتب هذا األخير«:فكر التاريخي وفكر الفنان يريدان مع ًا إعادة رسم وجه العالم .فكر الفنان يعرف حدودًا ال يعرفها فكر التاريخي .لذلك فإن نهاية األخير هي استبداد ولذة األول هي التحرر .كل المناضلين من أجل الحرية إنما هم مناضلون من أجل الجمال». بعد عام 1952والمعركة مع (الرجل الثائر) ،ثم دعم شبكة جونسون في 1957وتبـــريـــر الفعل اإلرهـــــــابي في ميونيخ ،نصل إلى عام .1976 ففي 7نوفمبر من العام نفسه ،دخل رجل متردد نوع ًا ما سفارة إسرائيل في باريس .يحمل نظارات سوداء .سارتر فقد البصر في 1973بعد إفراط في تناول األدوية منشطة .وبرر ذلك بأنه
يفضل نيل عمل فكري بدل نيل صحة جيدة .كانت ترافقه سيمون دوبوفوار، متأنقة بقميص أزرق -كانت تسلمت قبل عام جائزة القدس .- الرجل الذي رفض جائزة نوبل لآلداب 1967قبل تسلم دكتوراه فخرية صرح في صالون من جامعة القدسَّ ، السفارة ،بحضور وزير الثقافة فرنسوا جيرو« :إذا كنت اليوم منشغ ً ال بإسرائيل فأنا منشغل أيض ًا بالشعب الفلسطيني الذي عانى كثيرًا .فمن خالل الجمع بين الطرفين يمكن إيجاد حل لمشكلهم .أؤمن بهذا الحل ولذلك قبلت تسلُّم الدكتوراه الفخرية التي أرى فيها عنصر سالم». ستة أشهر قبل هذا التاريخ وبعد اإلعالن عن اسمه لتسلم الدكتوراه صرح سارتر لصحيفة «تريبين جويف»« :قبلت هذا التكريم تعاطف ًا مع إسرائيل» ودافع عن فرضية دعم إسرائيل وفلسطين مع ًا مما يتناقض مع ما جاء في كتاب (انطباعات عن القضية اليهودية)، حيث ذكر أن «معاداة السامية هي من تصنع اليهودي» .بداية من 1973شرع في تغيير بعض آرائه بعد التعرف إلى شخص «بيني ليفي» الذي عمل سكرتيرًا له .حيث سج ً ال مع ًا محادثة حول الحرية والسلطة .كان بيني ليفي يعيش فترة البحث عن هويته اليهودية ووجد سارتر إلى جانبه ليساعده .وأعادا مع ًا اكتشاف الفيلسوف الفرنسي اليهودي ،ذي األصول الليتوانية إيمانويل ليفيناس، والذي درسا أعماله في وقت سابق .كما توطدت جدًا ،في الفترة نفسها ،عالقة سارتر مع المفكرة والمختصة في علم التلمود ،آرلت ألكايم ،التي تبناها عام.1964 هذان الشخصان ساهما ،بشكل كبير، في مساعدة سارتر الذي كان عاجزًا عن القراءة والكتابة« .كنت أرى األضواء واأللوان ،لكنني ال أفرق بين األوجه وال بين األغراض » هكذا عبر سارتر عن حالته في .1976 *سارتر وعنف المستضعفين ،إيف.ك، منشورات أنديجان ،مونبولييه ،فرنسا2011 47
جان جينه الذي سحره الفلسطينيون عبده وازن -بريوت لم تجذب القضية الفلس���طينية كاتب ًا عالمي��� ًا مثلما جذبت (ج���ان جينه) .وجد هذا الكاتب الفرنس���ي المتمرد والمشاغب في النضال الفلس���طيني فرصة سانحة لالنتق���ام من الغ���رب ال���ذي طالما أعلن كراهيت���ه له ،ثم من إس���رائيل بوصفها «الجزار» الجديد ،ومن ماضيه الشخصي الحافل بـ« العار» كم���ا يقول ،وهو عار الطفل الذي وجد لقيط ًا ثم عار الفتى الذي اختار االنحراف تأكيدًا لهويته الضائعة. ب���ل لع���ل (جينه) وج���د في ش���خصية الفدائي الفلسطيني صورة الذكر -المثال الذي حلم به ،بما يمثل من قوة وس���حر وش���جاعة ف���ي مواجهة الم���وت تحقيق ًا للعدالة واستعادة للحق المغتصب. ���ر حرك���ة ولئ���ن كان (جين���ه) َ ناص َ المزارعين اليابانيين الثائرين التي عرفت بحركة الـ «زنغاكورن» ()zengakuren عام 1968ثم دعم جماعة «الفهود السود» Black Panthersأو «الثوريي���ن الس���ود» في الواليات المتحدة األميركية ع���ام 1970فه���و كان أش���د ارتباط��� ًا بالفدائيين الفلسطينيين وقضيتهم التي اعتبره���ا قضيت���ه بعدما أعل���ن انتماءه الفلس���طيني وعداءه الس���افر إلسرائيل. هذه الحماس���ة دفعت بج���ان جينه عام 1970بع���د «أيلول» األس���ود الش���هير، إلى التوج���ه نحو جبال جرش وعجلون ف���ي األردن حي���ث كان الفلس���طينيون يقيمون داخ���ل مخيماتهم والعيش معهم ال بين مخيم وآخر، س���تة أش���هر ،متنق ً مش���اهدًا عن كثب الفدائيين المس���لحين ال حياته���م اليومي���ة وتدريباتهم ومتأم ً 48
العس���كرية .وق���د منحه حين���ذاك زعيم حرك���ة «فتح» ياس���ر عرف���ات تصريح ًا يس���مح ل���ه بالتح���رك بي���ن المخيمات والمعس���كرات .وبعد األشهر الستة التي اختبر خاللها معنى النضال الفلسطيني يعبر-ظل جينه و«جمال الفدائيين» -كما ِّ يتردد على جرش وعجلون حتى منعته السلطات األردنية عام 1972من دخول أراضيها .لكن تلك األش���هر التي قضاها مع الفلسطينيين كانت كافية لتعيد إليه بعض ًا من األمل المفقود وترد إلى كيانه قْدرًا م���ن ُبعد إنس���اني كان يتوق إليه. س���أل جينه نفس���ه« :لماذا أنا سعيد مع الفلسطينيين؟» وراح يسعى إلى اإلجابة عب���ر النصوص الت���ي دأب على كتابتها بع���د بضع س���نوات والت���ي التأمت في الختام في كتابه الضخم «أسير عاشق» ال captif amoureuxال���ذي صدر كام ً
جينه ..عن الفدائي والبندقية
بعد أس���ابيع من رحيل���ه عام 1986عن دار غاليمار الباريسية .يعترف جينه أن الثورة الفلس���طينية كانت أسعد مرحلة في حيات���ه ،ويتحدث جه���ارًا عن «قوة الس���عادة» التي ش���عر بها عندما عاش بين الفلسطينيين .وجذبته كثيرًا «عالقة الحب واالفتتان» الت���ي كانت قائمة بين الفدائي وس�ل�احه .لقد افتتن جينه لدى الفلسطيني بتلك «األواصر» التي تجمع بين���ه وبين أرضه الت���ي يصفها بـ« غير المرئية» ،وغدت الث���ورة في نظره هي الس���عي للوصول إلى ه���ذا الوطن غير المرئ���ي .وهنا يكمن أحد األس���رار التي دفع���ت جينه لالرتباط بالفلس���طينيين. فه���ذا االرتباط لم يكن مج���رد «تضامن» يعبر، أو «تأيي���د» بق���در م���ا كان ،كم���ا ّ «فرص���ة للتفاع���ل الحي���وي» ،فرص���ة لألخ���ذ والعطاء المتبادلي���ن ،وللتحاور الوج���ودي العميق .وقد اكتش���ف جينه الناحي���ة «الميتافيزيقية» التي س���حرته في النضال الفلس���طيني الذي قلب بنية القيم ،وكان بالنسبة له منطلق ًا راسخ ًا ليحاك���م العالم ،الذي ه���و الغرب مثلما هو الحياة نفس���ها التي حرمته شخصي ًا م���ن حقه في الوجود .لق���د تماهى جينه في مرآة القضية الفلس���طينية ووجد في صورة الفدائ���ي أجزاء من صورته التي مزقها القدر. ّ إال أن هذه العالقة بين جينه والفدائيين كانت – والتزال – ملتبس���ة ،وقد أثارت حفيظ���ة بع���ض الكّت���اب والمثقفي���ن، الع���رب والفرنس���يين .فه���ذا «االنجذاب إلى جمال الفدائي الفلسطيني» ،بحسب تعبي���ر جينه ،أتاح المج���ال التهامه هو المع���روف بنزعت���ه المثلية ،بإس���قاط ه���ذه المثلية على ذك���ورة الفدائي .وقد اس���تبق جينه نفس���ه ه���ذه الته���م التي كان يتوقعها ،فأش���ار في كتابه «أس���ير عاش���ق» إلى وصوله ش���يخ ًا أو عجوزًا إلى الفلس���طينيين وأن حياته الجنسية تالشت ،وأضحت رغباته مقتصرة على «النظرة» الت���ي ال يمكنها أن تموت .وقد كت���ب يقول «إن أق���ل إعراب ع���ن رغبة أروتيكي���ة كان ليثير غضب أقل فدائي». وال ينثني ع���ن االعتراف في كتابه كيف
الفرنسي المختلف رأى المخيمات من الداخل
أدهش���ه منظر أول فدائيين أبصرهما من ش���دة جمالهما ،وقد ش���عر بأنه ال يملك إزاءهم���ا أي رغبة جنيس���ة .كان جينه «يراقب» نفس���ه ومش���اعره وانفعاالته، سواء عندما كان يرى الفدائيين أو عندما كان يكت���ب عنه���م .لكنه يعل���ن أنه كان يتصرف كـ» أسير عاشق» ،أي كعاشق مأسور بالثورة. أم���ا أقص���ى م���ا بلغته عالق���ة جينه بالفلسطينيين فتمثل في نصه الذي كتبه عام 1982بعيد عودته من زيارة مخيم صبرا وش���اتيال الذي شهد أبشع مجزرة فلس���طينية ارتكبه���ا اليمي���ن اللبنان���ي بموافقة – او إش���راف جنود ش���ارون. أمضى جينه أربع س���اعات في ش���اتيال للت���و وراح يتنقل بع���د وقوع المج���زرة ّ متأم�ل�ا فداحة بي���ن الجث���ث والخرائب، ً سمى جينه المجزرة وشاهدًا حي ًا عليهاّ . نصه هذا «أربع ساعات في شاتيال» وقد نش���رته مجلة «الدراس���ات الفلسطينية» في طبعتها الفرنس���ية شتاء ،1983ثم ُنشر ضمن كتاب عنوانه «العدو المعلن» ( )L’ennemi déclaréص���در ع���ن دار غاليمار .وقد اس���تطاعت هذه الس���اعات الرهيبة األربع أن تعيد جينه إلى الكتابة بعد سنوات من االنقطاع عنها.لقد أعادت مجزرة صبرا وشاتيال إلى جينه حماسة الكتابة ولكن بطريقة مختلفة عما كانت عليه في السابق. يستهل جينه هذا النص الرهيب الذي يتراوح بين السرد والريبورتاج الصحافي بلقطة استعادية يتذكر فيها األشهر التي كان أمضاها في جبال جرش وعجلون عام ،1970مسترجع ًا قوة الفدائيين
وسحر منظرهم ،وسط الغابات وتحت الخيم وفي معسكرات التدريب .ثم ينتقل فجأة ،إلى مخيم صبرا وشاتيال في لحظة قطع سردي غير متوقع .إنه اآلن في قلب المجزرة ،بين الجثث ووسط أسراب الذباب يتنشق الروائح الثاقبة. كان يقفز فوق الجثث يقول جينه، فالموتى كثر :شبان ورجال وعجائز. «الجثة األولى التي رأيتها كانت لرجل في الخمسين أو الستين من عمره» يقول ،ثم يصف ضربة الفأس التي فتحت جمجمته واسود .هنا فاندلق نخاعه على األرض ّ يلحظ جينه أن الصورة الفوتوغرافية عاجزة عن التقاط الذباب وروائح الموت «البيضاء» ...في هذه المقبرة المفتوحة يستعيد جينه جدلية الحب والموت ،كما علي أن أذهب إلى شاتيال، يفهمها «كان ّ يقول ،أللمس بذاءة الحب وبذاءة الموت» .فاألجساد التي استحالت جثث ًا تمثل في نظره حالتي الحب والموت. يعمد جينه إلى لعبة الوصف أو التصوير ،مستخدم ًا عينيه ومخّيلته في آن واحد .والعينان والمخيلة تعنيان التحام الواقع بالتخييل .فالمشاهد هذه تصّدق ألنها واقعية جدًا وال تصدق ألنها غير واقعية بتاتاً« :رحت أتجاوز الموتى وكأنني أجتاز هاويات». ظل جينه يجتاز الجثث واحدة تلو أخرى ،لكنه لم يتمكن ،كما يقول ،من عّدها كلها ،فلما بلغ الجثة الثانية عشرة توقف عن العد« :لقد غمرتني الرائحة والشمس ورحت أتعثر عند كل حفرة». عيد دخل جينه مخيم صبرا وشاتيال ُب ْ المجزرة ،واستطاع فع ً ال أن يحتمل هذه
«النزهة» السوداء بين الجثث ،مقاوم ًا الخوف والعبث والجنون .وهناك ،في وسط هذه المقبرة المفتوحة شعر أنه هو المقتول وأن روائح الجثث تنبعث من جسده وكيانه هو .هنا يتماهى جينه مع الفلسطينيين أيضاً ،ولكن كجثث مقتولة ّ ومقطعة .صحيح إنها جثث ،لكنها جثث الفلسطينيين الذين أحبهم .وها هو يعترف« :في شاتيال قضى كثيرون من الفدائيين ،لكن صداقتي ومحبتي لجثثهم التي تتعفّن كانتا كبيرتين ،ألنني عرفت واسودوا هؤالء قبالً .ومع أنهم انتفخوا ّ وتعفنوا تحت الشمس والموت ،فهم يظلون فدائيين»ُ .ترى هل كان جينه ذا نزعة «نيكروفيلية»(حب الموتى) خفية لم يعلنها سابقاً؟ في كتاب «أسير عاشق» يختلف السرد أو تختلف الكتابة باألحرى وكذلك المقاربة والرؤية .وهو كان قد بدأ جمع مادة هذه الكتاب في 1983لينهيه في 1986عام رحيله بعد إصابته بسرطان الحنجرة .وعند صدوره أثار الكتاب حفيظة الكثيرين من القراء الفرنسيين تبع ًا لتبني جنيه المعلن للقضية الفلسطينية وإلعالنه انتماءه إلى الفلسطينيين وكراهيته إلسرائيل. وفي منأى عن موقف جينه الجريء والصادم ،فالكتاب حافل بالجماليات األسلوبية والسردية وقائم على بنية متشعبة وكأن النص يتوالد من النص إلى ما ال نهاية .لكنه ليس كتاب ًا متعدد األصوات أو بوليفونياً ،كما كتب عنه المفكر الفرنسي فيليكس غاتاري، فالكاتب – المسافر ال يفرض صوته وأفكاره فقط بل يقدم مصائر اآلخرين الذين تتشابك أفعالهم ،حتى عبراإلشارة الخفية أو المتالشية ،فيسمع كالمهم، المنفجر أو الهامس أو الصامت والذي يظل يهدر بقوة .في هذا الكتاب تندمج الذكريات والحكايات والتأمالت واألقوال والقصص لتؤلف سياق ًا أدبي ًا أو كتابي ًا بديع ًا يضع الفلسطينيين والقضية الفلسطينية في مصاف األسطورة، أسطورة الحياة والواقع ،المتجذّرة في التاريخ والماوراء. 49
الموقف الثقافي األبرز في مناصرة القضية
عندما فضح الضيوف الكبار عنصرية إسرائيل
كان العام 2002عام فلسطين ليس في األمم المتحدة وال في العواصم العربية وال في المحافل السياسية الدولية ،بل في ميدان األدب العالمي ،وتحديدًا في «البرلمان العالمي للكتّاب» .كان هذا العام عام فلسطين أدبي ًا و«نوبيلياً» بامتياز ،جراء مشاركة كتّاب عالميين بعضهم فاز بجائزة نوبل ،في اللقاء التضامني العالمي الذي أحياه «البرلمان» هذا في مدينة رام اهلل في األيام األخيرة في شهر مارس .اكتسبت قضية فلسطين خالل هذا العام بعدًا عالمي ًا لم تعرفه المرة األولى التي ُيجمع من قبل ،فهي ّ فيها كتّاب عالميون كبار على «محاكمة» إسرائيل ومناصرة الشعب الفلسطيني كاسرين رهبة التهم التي توجه دائم ًا إلى مناصري القضية الفلسطينية وفي مقّدمها تهمة الالسامية. كانت المواقف التي أعلنها تباع ًا بعض الكتاب العالميين الكبار ضد المجازر التي يرتكبها الجيش اإلسرائيلي في فلسطين قد لقيت صداها المفترض في بعض العواصم العالمية .وعقب بيان االستنكار الذي وقعه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس ،واإلسباني خوان غويتسولو ،والحمالت التي قام بها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ،واأللماني غونتر غراس، 50
والبريطاني توم بولين ،عمد «البرلمان العالمي للكتاب» إلى التحرك انطالق ًا من باريس مساندة للشعب الفلسطيني في مواجهته اليومية لآللة اإلسرائيلية العسكرية .والبرلمان هذا ،الذي كان يترأسه حينذاك الكاتب األميركي راسل بانكس ،لم يكتف بإصدار بيان استنكار ضد سياسة آرييل شارون الدموية ،بل عمد إلى إحياء لقاء عالمي في مدينة رام اهلل ساعي ًا إلى كسر «حال الحصار» التي كان عبر عنها الشاعر محمود درويش في قصيدة «حالة حصار» وقد صدرت أو ًال في «الكرمل» ثم مستقلة في كتاب. واللقاء الذي شارك في تنظيمه محمود ضم أدباء ومفكرين من درويش أيض ًا ّ العالم أجمع عالوة على األدباء العرب الذين سمحت لهم أنظمتهم بالتوجه إلى األراضي الفلسطينية. شارك في اللقاء الذي شهدته رام اهلل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، والنيجيري وول شوينكا ،إضافة إلى جاك دريدا فيلسوف «التفكيك» الفرنسي الجزائري األصل واألميركيين نعوم تشومسكي ونورمان فنكلشتاين كونسولو، فينشينزو واإليطالي والجنوب -إفريقي برايتن براتينباخ والصيني باي داو والفرنسي كريسيتيان سالمون وسواهم ..وبدا اللقاء بمثابة تظاهرة عالمية تندد ،انطالق ًا من
األراضي الفلسطينية نفسها ،بما يرتكب الجيش اإلسرائيلي من جرائم يومية تفوق الوصف والتصور. غير أن الالفت في مثل هذا التحرك هو كسر الهيمنة اإلسرائيلية على «الجبهة» الثقافية العالمية ،وهي كثيرًا ما حاصرت بعض اآلراء المعارضة للسياسة اإلسرائيلية والمؤيدة للقضية الفلسطينية .فالكتّاب العالميون الذين ناصروا الفلسطينيين عالنية في السابق كانوا قلة قليلة وهم سرعان ما اتهموا لكن هؤالء الكتّاب بنزعتهم الالساميةّ . ما عادوا يخشون تلك التهمة خصوص ًا بعدما تمادى شارون حينذاك في جرائمه ليصبح أشبه بـ«هتلر» صغير ،وباتوا يعارضون السياسة اإلسرائيلية عالنية متهمين اإلدارة اإلسرائيلية باإلرهاب والعنصرية والبغضاء .ويذكر المثقفون العالميون والعرب كم كان ماركيز جريئ ًا حين سعى إلى التبرؤ من جائزة نوبل بعدما منحت إلى مناحيم بيغن «تكريم ًا لسياسته اإلجرامية» ،كما عبر في أحد مقاالته ،ولم ينثن عن وصف شارون بـ«التلميذ النجيب» الذي فاق أستاذه (بيغن) إجرام ًا ودموية .وحيا ماركيز «الشعب الفلسطيني البطل» الذي «يقاوم اإلبادة» آخذًا على القوى العالمية ال مباالتها بما يحصل وعلى المثقفين العالميين ،وبعض العرب ،جبنهم حيال المأساة المتواصلة .أما غونتر غراس فكان جريئ ًا في اتهام إسرائيل بـ«ارتكاب أفعال إجرامية» في فلسطين ،ودعا الدولة اإلسرائيلية في حوار نشرته مجلة «فكر وفن» إلى ضرورة العودة إلى اتفاق أوسلو وإلى االنسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلة وإلى إخالء المستوطنات اإلسرائيلية التي بنيت في «طريقة إجرامية» .واتهم غراس شارون بـ«سلوكه اإلجرامي» سواء في اجتياحه لبنان أم في «زياراته االستفزازية للحرم الشريف» التي كانت تشعل شرارة الفتنة .أما مواقف الكتّاب اآلخرين من أمثال فوينتس وغويتسولو وتوم بولين ونعوم تشومسكي وسواهم فهي لم تخل من إدانة الجرائم اإلسرائيلية والمطالبة
سونيكا
درويش
بحقوق الشعب الفلسطيني. إال أن مبادرة «البرلمان العالمي للكتّاب» كانت خطوة ثقافية سباقة في مجال التضامن مع الشعب الفلسطيني. فاللقاء تم في األراضي الفلسطينية المحاصرة ،والبيان الذي صدر في ختام ليوزع في اللقاء لم يكن مجرد بيان كتب ّ نم عن موقف العواصم العالمية ،بل ّ جريء في مواجهة األكاذيب والذرائع والتهم اإلسرائيلية الجاهزة ومنها الالسامية. وهذه التهمة وصفها راسل بانكس
بأنها «نوع من اإلرهاب الثقافي الذي ال يخيفنا والذي نرفضه تماماً ،فتوجيه االنتقادات إلى الجرائم اإلسرائيلية ضّد الفلسطينيين ال يمكن أن يكون نوع ًا من معاداة السامية». وكان الروائي راسل بانكس رئيس «البرلمان العالمي للكتاب» جريئ ًا بدوره عندما قال إن الساعات التي قضاها في فلسطين حفرت في ذاكرته مشاهد لن ينساها أبدًا« .عندما اجتزنا الحاجز للدخول إلى رام اهلل بعد التفتيش وإبراز جوازات السفر وغيرها ،شعرت تمام ًا بأنني سجين مثلما يحصل لي عندما أزور سجناء في الزنزانات األميركية. في اللحظة التي اجتزنا فيها الحاجز، أحسست بأن الباب أغلق خلفي وأني سجين». وقال خوان غويتسولو إنه زار ساراييفو ثالث مرات وهي تحت الحصار وكذلك الشيشان في الحرب األولى «ولكن رأيت في فلسطين كيف يتم تحييد الواقع من خالل الكلمات، كيف ُيفسر حق الدفاع عن النفس بأنه إرهاب واإلرهاب بأنه دفاع عن النفس. أستطيع أن أعدد دو ًال تمارس اإلرهاب وإسرائيل هي إحدى هذه الدول .يجب أن نخرج أنفسنا من الكليشيهات وأن ال نساوي بين القاتل والضحية ،بين القوة المحتلة والشعب الذي يرزح تحت االحتالل ويقاومه ،ونحن ممثلو شعوبنا غير المنتخبين ،وعلينا أن ننقل بأمانة ما تشاهده أعيننا وتحسه قلوبنا». ودعا وول سونيكا إلى «عدم زرع الكراهية في قلوب األجيال القادمة». حينذاك وصف الشاعر الفلسطيني محمود درويش زيارة بعثة األدباء بأنها «تضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح،في الضمير وفي الخطاب الثقافي العالمي .فهذه الزيارة التاريخية تعطي الشعب الفلسطيني إحساس ًا ضروري ًا بأنه ليس وحيدًا وأنه ليس معزو ًال عن أسئلة الحرية في العالم». وكان الفت ًا جدًا تراجع الكاتب اإلسرائيلي، المرشح الدائم إلى جائزة نوبل ،عاموس عوز عن اعتداله السياسي والثقافي أمام
مقارنة ساراماغو بين النازية والجرائم تذكر عاموس فجأة اإلسرائيلية .لقد ّ انتماءه اإلسرائيلي وتناسى ما كان قد كتب عن الظلم الذي تلحقه الدولة اإلسرائيلية بالفلسطينيين. أما الروائي جوزيه ساراماغو فكان جريئ ًا جدًا في فضح التعنت اإلسرائيلي إذ قال جهارًا« :كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن األوضاع في فلسطين تحطم ،فالمعلومات والصور شيء والواقع شيء آخر .يجب أن تضع قدمك على األرض لتعرف حق ًا ما الذي يجري هنا .ولنأخذ رام اهلل مثالً، فنحن نعلم أن الرئيس الفلسطيني يقيم فيها وقد شاهدنا صور الدبابات فيها ،ولكن ما لم أعلمه أن حول رام اهلل توجد مستوطنات كثيرة ،ومعسكرات الجيش تجثم فوقها وتضعها في مرمى الرصاص اإلسرائيلي .رام اهلل والقرى والمخيمات جميعها محاصرة داخل التحرك غيتوات» .ودعا ساراماغو إلى ّ قائالً« :يجب قرع األجراس في العالم بأسره للقول إن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف ..جريمة يجب أن نضعها بجانب أوشفيتس ،إذ إن رام اهلل بأسرها حوصرت والشعب الفلسطيني بأسره وضع في غيتوات .ليس من أفران غاز لكن القتل ال يتم فقط من خالل أفران هنا ّ الغاز .هناك أشياء ارتكبها االحتالل اإلسرائيلي تحمل روحية النازية في أوشفيتس .إنها أمور ال تغتفر تحدث للشعب الفلسطيني». وقد أشار البرلمان في بيانه عقب انتهاء اللقاء إلى أن «حرب ًا قائمة في فلسطين ،وهي ليست بين جيشين لدولتين عدوتين ،وإنما هي حرب يشنها جيش من أقوى جيوش العالم على شعب محتل ،ليل نهار .ويحاصر الجيش المناطق الفلسطينية ويقيم الغيتوات والمعازل حيث ال تتحرك سوى الدبابات ...إنهم يوطدون حرب الجميع ضد الجميع .مرة أخرى ينتصب سراب الدول النقية العرق ومنطق التمييز العنصري األعوج على أرض منسوجة من االختالفات». 51
درا�سة
سامي محمد -الكويت
ال تش���به أية ث���ورة أختها ،فكل منها حالة فري���دة في ذاتها، كبصمة اإلصبع ،أو أقرب إلى وضع المرضى النفسيين ،الذين قد يتش���ابهون في بعض األعراض العامة التي تمكن األطباء من تشخيص وإحالة كل مريض إلى مرض بعينه في تصنيف ال مفر من���ه توطئة ألقرب عالج ،لكن س���مات كل فرد على حدة ،حتى داخل المرض أو االضطراب الواحد ،ال تشبه ما لدى غيره أبداً.
في معنى الثورة
خالصة تجربة إنسانية
د.عمار علي ح�سن -القاهرة
وم���ن هنا ف���إن من العب���ث أن يعتقد بمكنته أن يقيس أي ًا من الثورات أحد أن ُ العربي���ة الحالي���ة على ث���ورات أخرى، أو يض���ع نموذج ًا لث���ورة قد وقعت أمام عيني���ه وهو يقيم ثورة تندلع أو ال تزال وقائعه���ا تجري ،ولم تتم بعد .كما ليس بوس���ع أحد أن يعتقد أن للثورات طريق ًا واحدًا في التطور واالرتقاء ،وأن غاياتها ومقاصده���ا مأمون���ة ومضمونة في كل األحوال .فبعض الث���ورات أكلها الزمن. وبعضه���ا توقف ف���ي منتص���ف الرحلة فس���جله المؤرخون مجرد «انتفاضة» أو «هبة» أو «فورة» .وبعضه تم تش���ويهه وش���يطنته ونزع التعاط���ف االجتماعي 52
حيال���ه ،مثل ما حدث للث���ورة العرابية العظيمة ،التي س���اد عنها نعت أعدائها له���ا بأنه���ا «هوجة» ليصموه���ا بالتهور واالنفعال والعدوانية ،ووصل األمر إلى حد تحميلها مسؤولية احتالل مصر على يد اإلنكليز عام .1882 وهناك ث���ورات انتهت إلى مجموعة م���ن اإلصالحات البس���يطة على النظام القائم .واألفدح من هذا هو الثورات التي ال ذريعاً ،حين تمكنت «الثورة فشلت فش ً المضادة» من االنتصار ،وأعادت النظام القدي���م ،وكأن ش���يئ ًا لم يج���ر .أو حين دخلت قوة ش���ريرة على مس���ار الثورة وجعلتها تنزلق إلى عنف مفرط وفوضى
شاملة أو حرب أهلية. وهناك عدة أمور مرتبطة بالثورات، رس���خت ،م���ن تكرارها إل���ى درجة أنها أصبح���ت قواع���د عام���ة نلفاها بيس���ر وسهولة في أي ثورة ،وهي:
ال تقوم ثورة في أي مكان وأي زمان إال وقامت ضدها حركات وتدابير تهدف إلى إفشالها عبر احتوائها تدريجي ًا وتفريغها من مضمونها
1
إن التعريف البسيط والمباشر والدال للثورة هو أنه���ا «عملية تغيير جذري»، وه���ذا التغيير يت���م حين نه���دم النظام القدي���م هدم��� ًا مبرماً ،ونش���رع في بناء نظام جديد عل���ى أنقاضه .وهناك فارق جوهري بالطبع بين هدم النظام الحاكم وبين ه���دم الدولة .فالث���ورات يفترض أنها تقوم لبناء الدول ،وتس���عى إلى أن تنتش���لها من التهديد الم���ادي والمعنوي الذي تتعرض ل���ه ،أما الحركات العنيفة التي ترم���ي إلى هدم الدول���ة فيمكن أن ينصرف تصنيفها إلى ش���كل احتجاجي آخر من قبيل «التمرد» و«الحرب األهلية» و«العنف االجتماعي المفرط» و«إش���اعة الفوضى» ،والعبرة ف���ي الحكم على ما ال إيجابي ًا إذا كان الفع���ل االحتجاجي عم ً لصالح الوطن من عدمه مرتبط أساس��� ًا باألهداف الرئيسية التي حددتها الطليعة الثوري���ة النط�ل�اق حركته���م ،والت���ي يجس���دها «البي���ان األول» أو «الش���عار األثير» أو ما يع���رف عن هذه المجموعة من أفكار وتوجهات قب���ل انطالق الفعل الثوري.
2
الث���ورة عمل حتمي ،ألنه���ا ال تقوم إال إذا كان المجتم���ع مهيئ��� ًا له���ا تماماً. ومن هن���ا ال يفلح مع الثورات لفظ «لو« أو تش���دق البعض بأن���ه كان من الممكن تفادي الثورة ،السيما إن كانت السلطة متمس���كة بمواقفها المتصلبة التي تخلق األسباب والدوافع والبواعث التي تؤدي إل���ى انطالق الث���ورة ،وتجع���ل منطق الثوار ،قو ًال وفعالً ،مبررًا ومقبوالً ،لدى قاعدة عريضة من الناس.
3
«تخمر» إن أي ث���ورة تس���بقها فت���رة ُّ يص���ل فيها االس���تياء من أداء الس���لطة إلى منته���اه ،ويكون المجتمع مس���تعدًا لالنفجار في وجه أهل الحكم ،أو يتحول إلى كوم قش قدحه الهجير وينتظر مجرد إشعال عود ثقاب .ودون تعمق «التخمر» أو وصوله إلى الذروة ،ال يمكن للثورة أن تنطل���ق .وم���ن هنا فإن اس���تعجال الث���ورة في بلد لم تنض���ج فيه الظروف بع���د لقيامها ه���و من قبي���ل الخبل .لكن يمكن تسريع التخمر عبر أفكار وإجراءات تعبوية تزيد من االحتقان إزاء السلطة، والغب���ن منها ،والش���عور الجارف بأنها العقبة أمام الحرية والكفاية والعدالة.
4
الفع���ل الث���وري عم���ل معق���د ،ألنه يفتح الواقع االجتماعي السياس���ي على احتم���االت عدة ،بعضها م���ن دون ريب أفضل م���ن بق���اء الوضع الس���ائد على ركوده وجموده ،بم���ا ينطوي عليه من قهر وإذالل وظلم واجتماعي.
5
ال يوجد بلد على س���طح األرض ،منذ نشأة الدولة بمعناها البسيط والتقليدي، وحتى اللحظة الراهنة ،إال وعرف أشكا ًال متعددة ومتدرجة من االحتجاج ،بعضها تصاعد فبلغ الحد األقصى صانع ًا ثورة،
وبعضها بقي عند مس���توى االنتفاضات والفورات والتمردات مح���ددة النطاقين المكاني والزماني .وقد يظن البعض أن هن���اك أمم ًا محافظة ال تمي���ل إلى الفعل الثوري ،لك���ن ها هو المفكر الفرنس���ي الش���هير جوس���تاف لوبون يخبرنا في كتاب���ه المه���م «روح الث���ورات والثورة الفرنس���ية» أن األمم المحافظة هي التي تأتي بأش���د الث���ورات خالف��� ًا لما يظن بع���ض الناس ،ألنه���ا إذا كانت محافظة غي���ر متحولة ببطء لتالئم تقلب البيئات تكره على مالءمتها بغتة بالثورة حينما تصب���ح الش���قة بي���ن الطرفي���ن عظيمة جداً»(.)1
6
ال تق���وم ث���ورة ف���ي أي م���كان وأي زمان إال وقام���ت ضدها حركات وتدابير تهدف إلى إفشالها عبر احتوائها تدريجي ًا وتفريغها من مضمونها على مهل أو حتى من خالل ممارس���ة العن���ف المفرط ضد الثوار .وتعرف هذه التدابير جوازًا باسم «الثورة المضادة» ،وهي تعني «محاولة إرج���اع أوض���اع المجتم���ع إلى س���ابق عهدها ،واإلبقاء على مصالح القلة التي كان���ت تتمتع بها ،والعمل المس���تمر من أجل القض���اء على الثورة وعلى مبادئها بكل الس���بل ،ومختلف الوسائل ،خفية ومس���تترة أم علنية وظاهرة ..وهؤالء ليس���وا رجعيين عاديي���ن ،وال يحدوهم إعجاب بالقديم لمجرد أنه قديم ،بل على العكس ،إنهم على اس���تعداد الستعمال آخر األس���اليب الفني���ة للعل���م الحديث وكل اإلمكاني���ات التجريبية في أنظمتنا لتحقيق غرضهم»(.)2
7
هناك ث���ورات معرضة للس���رقة أو االختط���اف .وقد يتم هذا عل���ى يد قوة أص�ل�ا ،تأتي ل���م تش���ارك في الث���ورة ً متأخرة ،وتس���تغل الطريق الذي شقته الطليع���ة الثورية ،ثم تم���ر منه بأنانية 53
مفرط���ة وانتهازية واضح���ة ،لتقتنص الثمرة بمفردها .وقد حدث هذا مع الثورة اإليرانية التي أطلقتها القوة اليس���ارية والليبرالي���ة ثم اختطفه���ا الماللي .وقد تتم الس���رقة على يد قوة كانت ش���ريكة في الث���ورة لكنها تتنك���ر لرفاقها ،وتبدأ ف���ي تنفيذ خطة إلقصائه���م تدريجي ًا عن المش���هد السياس���ي ،حتى يت���واروا في الظل ،يروضون الحس���رة على جهدهم الضائع وأحالمهم التي ذهبت سدى.
8
الث���ورات موجات ،ف�ل�ا يحكم على فش�ل�ا ،بمجرد تقييم الثورة ،نجاح ًا أو ً موج���ة واحدة له���ا .وف���ي الغالب األعم تك���ون الموج���ة األول���ى للث���ورة ه���ي األسهل ،الس���يما في الثورات الشعبية، التي تش���هد حضورًا جماهيري��� ًا طاغياً، وزخم ًا ظاهراً ،بم���ا يجعلها تمتلك قوة دفع هائلة ،تجرف أمامها أي عقبات أو عث���رات ترمي إلى إعاقة التقدم الثوري، وتعطيل الثوار عن بلوغ هدفهم األساسي األولي وهو إسقاط النظام الحاكم.
9
حين تفش���ل الثورة ،تدف���ع قيادتها وطليعتها ثمن ًا باهظاً .فالقوى المنتصرة على الثورة ،أو الت���ي طوقتها وفرغتها م���ن مضمونه���ا وأجه���زت عل���ى فعلها اإليجابي ،س���تعمل عل���ى تقييم الثورة عم�ل�ا تخريبي���اً ،أو تصرف ًا باعتباره���ا ً معوق ًا للب�ل�اد ،وتمهد الرأي العام لتقبل كراهية الث���وار تدريجياً ،وتغذي الحنق عليهم ،عبر وسائل عديدة ،منها إطالق اإلشاعات حول ارتباطاتهم وانتماءاتهم بم���ا يصوره���م عل���ى أنه���م حفن���ة من «الخونة» الذين أرادوا هدم الوطن .ومنها تصيد أي أخطاء فكرية أو عملية للثوار وتس���ليط الض���وء عليه���ا وتضخيمها. ومنه���ا أيض ًا اس���تمالة بع���ض الثائرين بمناف���ع ومكاس���ب صغي���رة لمحاول���ة إظهاره���م بأنهم مجموع���ة من الباحثين 54
عن مغانم ش���خصية ،وليس بناء وطن والعم���ل والتضحية من أج���ل اآلخرين، كما يقولون في خطابهم الثوري المفعم بالبالغة.
10
ل���م ول���ن يكون الث���وار عل���ى درجة واحدة من ال���والء للث���ورة ،وال يقفون منها عاطفي��� ًا وعقلي ًا على قدم س���واء، فمن بينهم المخلص المستعد لالستشهاد في س���بيل نجاحها ،ومنهم من يريد أن يعطيه���ا بقدر ال يفق���ده حياته ،وهناك من يراه���ا فرصة تاريخي���ة لبناء وطن حر مكتف عادل مه���اب طالما كان يحلم بالعي���ش في���ه ،ويوجد م���ن يعتقد في أنها ستخلق مس���ارًا اجتماعي ًا يحقق له المكانة الالئق���ة ،وهناك من يعول على الثورة في أن تعوضه عن منصب أو مال أو ج���اه افتقده أي���ام النظام الذي هدمته الثورة .وهناك م���ن يتحلل من كل هذا، فال هو استش���هادي رومانسي حالم في ثوريته ،وال هو باحث عن منفعة ذاتية، إنم���ا تربط���ه بالث���ورة عالق���ة عاطفية بس���يطة ،إذ يجد نفس���ه فيه���ا ،وكأنها مشروعه الحياتي الذي كان يبحث عنه، أو أنه���ا هي الح���دث الكبير الذي تحققت فيه ذاته المنس���حقة منذ س���نوات ،ولذا يعتقد أنه س���يضيع ويعود إلى س���ابق ذله واستضعافه إن خمد الفعل الثوري، ال���ذي ش���ارك فيه ،وع���ول علي���ه في تحصيل الكرامة.
الثورة هدم وبناء. هدم للنظام الذي ثار الناس ضده، وبناء آخر يحل محله، مستجيب ًا ألشواق الثائرين إلى الحرية
11
ق���د تختل���ف األس���باب التفصيلي���ة والصغي���رة الت���ي ت���ؤدي إل���ى اندالع الثورات ،لكن األسباب العامة واألساسية تتش���ابه إلى حد كبير( ،)3وهي ال تخرج عن اش���تداد القه���ر واالس���تبداد والظلم االجتماعي.
12
هناك اختالف بين العلماء في تقييم الثورات السياسية واالجتماعية الكبرى الت���ي وقعت ف���ي تاريخ اإلنس���انية(.)4 فهن���اك م���ن يراه���ا وس���يلة ضرورية لتحقيق تقدم البشر نحو مجتمع تسوده الحري���ة والعدالة والكفاية والمس���اواة واالنس���جام .ويوجد فالسفة محافظون على رأسهم فريدريك نيتشه وجوستاف لوب���ون يعتقدون أن الث���ورات تعبر عن عواطف جامحة تدفع إلى فعل غير رشيد يؤدي إلى تحطيم النظم القائمة ،وينعت هذه الث���ورات بأنها «س���لوك الغوغاء» و«فعل العقلية البدائية» و«حصيلة الحقد النفس���ي الش���ديد» و«االنهي���ار العصبي للمجتمع» و«التصرف البربري» .ويشبه نورم���ن هامبس���ن الث���ورة بالعي���وب الجيولوجية أو الكوارث الطبيعية التي تحل فج���أة وتنهي االنس���ياب الطوعي للحياة ،ويفضل عليها التطور اإليجابي للمجتمع���ات( .)5وهناك فري���ق ثالث من أصحاب االتجاهات العلمية والوضعية مم���ن ينظ���رون إل���ى مصطل���ح الثورة باعتب���اره مصطلح��� ًا وصفي ًا ليس���ت له أي داللة قيمي���ة ،وفي نظرهم فإن كافة التغيرات التي تحدث للنظام السياس���ي أو الحكومة هي ثورات طالما تستند إلى قاعدة شعبية عريضة. ورغم ما قد يصاحب الثورات من عنف وتدمير ،ومن خلق مش���كالت وتحديات جدي���دة للمجتمع ،فإنه���ا تبقى في نظر كثيرين «ضمن إطار من العنف التحرري العادي ،الذي يس���تهدف تحرير اإلنسان
من القهر القوم���ي واالجتماعي ،بعد أن تك���ون الوس���ائل األخرى قد فش���لت في إنجاز ذلك ،وهي الوس���يلة إلى تحقيق الطف���رات التاريخية الق���ادرة على بناء مجتمعات متقدمة ،تغني مسيرة التاريخ اإلنساني بالقيم واإلنجازات المتطورة، عم�ل�ا حضاري��� ًا عظيماً، فتك���ون بذلك ً تستفيد منه المجتمعات اإلنسانية في كل مكان»(.)6 ويتناس���ى من يقدحون في الثورات ويخش���ون عواقبها أنها فع���ل اجتماعي يأتي حين ال يكون هناك مفر من إتيانه، السيما في ظل نظم الحكم القمعية التي ال تعط���ي فرصة للتط���ور الطبيعي كي يأخذ طريقه في سالسة ويسر ،وال تدع المس���تقبل يولد على أك���ف الحاضر من دون عنت وال عناء.
13
تنقس���م الث���ورات م���ن حي���ث ق���وة التأثير إلى نوعين ،األول هو «الثورات المح���دودة» الت���ي ال يزي���د م���ا تفعل���ه عل���ى اإلطاح���ة بح���كام م���ن مناصبهم واستبدالهم بآخرين وربما تحسن نسبي في األوضاع االجتماعي���ة واالقتصادية والسياس���ية .والثان���ي ه���و «الثورات الجائحة» التي تهز مناطق أوسع بكثير من البلد الذي وقع���ت فيه ،وهذا ينطبق بش���كل واضح على الث���ورات األميركية 1776والفرنس���ية 1789والمكس���يكية 1910والروس���ية 1917والصيني���ة 1949واإليراني���ة .)7(1979وهناك من يخ���رج األول م���ن تصنيف الث���ورة ألن غاي���ة الثورات ليس���ت اإلطاحة بالحاكم إنما بناء نظام سياس���ي جديد على نحو مغاير تمام ًا لما كان سائداً.
14
الثورة هدم وبناء .هدم للنظام الذي ثار الناس ضده ،وبناء آخر يحل محله، مستجيب ًا ألش���واق الثائرين إلى الحرية والعدال���ة والكفاي���ة .وقد يك���ون الهدم
يوجد فالسفة محافظون يعتقدون أن الثورات تعبر عن عواطف جامحة تدفع إلى فعل غير رشيد ال وعميقاً ،وقد يتم على سريع ًا وش���ام ً مراحل ،الس���يما في البلدان التي يبتلع فيه���ا نظام الحك���م مؤسس���ات الدولة، ويتخذها مطية الس���تمراره بحد التغلب. ففي مثل هذه الحالة يعي الثوار أن هدم النظ���ام جملة واحدة وفي زمن قياس���ي قد ي���ؤدي إل���ى ترنح الدول���ة ،ومن ثم يتعاملون مع عملية الهدم بمبضع جراح وليس بمع���ول فالح .لكن الهدم يجب أن يتم في كل األحوال بغض النظر عن المدة التي يس���تغرقها أو الطرق التي يسلكها القائم���ون به .فإن توق���ف الهدم وبقيت بعض آثار النظام القديم تقوضت معالم الثورة ،وضع���ف تأثيره���ا ،وانفتحت ناف���ذة أم���ام ق���وى «الث���ورة المضادة» لتس���تجمع قدراتها وتن���ازل الثوار ،وقد تنتصر عليهم.
15
يعتق���د كثي���رون أن «صن���دوق ال عن الثورة االنتخاب الشفاف» بات بدي ً ف���ي المجتمع���ات الديموقراطية ،أو هو «الثورة الجديدة» في التاريخ البش���ري الت���ي أنهت األنم���اط التقليدية المعروفة م���ن الث���ورات .فالمواطن���ون هن���اك ال يحتاج���ون إلى الث���ورة على م���ن بيده مقاليد األمور حتى يخلعوه من منصبه، ويكفيه���م الصب���ر علي���ه حت���ى تنتهي فترة حكمه التي تحددها الدس���اتير ،ثم يصوتوا لرحيله ،أو إلزاحة الحزب الذي يمثله عن السلطة. وقد ظه���ر كتاب بهذا المعنى ش���ارك في تأليفه عدد من أبرز علماء السياس���ة
واالجتماع والمؤرخي���ن( ،)8ممن صرفوا معظ���م حياته���م يدرس���ون العملي���ات الثوري���ة ،وق���د ح���اول ه���ؤالء اإلجابة ع���ن س���ؤالين مهمي���ن ،يتعل���ق األول بالعوام���ل الت���ي تتحك���م ف���ي صياغة ومدى تأثير األش���كال الجدي���دة الممكنة للتغيي���ر السياس���ي الراديكالي في عهد العولم���ة ،وي���دور الثاني ح���ول ما إذا كانت ديموقراطية المشاركة قد أصبحت وس���يلة للنضال الثوري في المستقبل، وإلى أي ح���د أصبحت الث���ورات تعتمد عل���ى التكنولوجي���ا الحديثة ووس���ائل االتصاالت. لكن هذه األطروحة لم تلق موافقة من بع���ض مؤلفي الكتاب الذين قدموا ردودًا قوية على كل م���ن كان يعتقد بأن عصر الث���ورات ق���د انتهى ،وقال���وا إن األجدر بالمفكرين مناقشة التغيرات التي طرأت على أساليب الثورات والثقافة السياسية المرافق���ة لها .فما دام هناك نظم حاكمة تمارس االس���تبداد واالس���تعباد والظلم االجتماع���ي المنظم والقهر وإهدار كرامة اإلنس���ان فإن الثورة عليها أمر قائم وإن تأخر بعض الوقت. هوامش -1جوستاف لوبون« ،روح الثورات والثورة الفرنسية» ترجمة :عادل زعيتر( ،القاهرة :مطبعة دار الكتب والوثاق القومية) ،2011ص.23 : -2د .س���يد حامد النس���اج« ،مص���ر وظاهرة الثورة :دراس���ة في تاريخ الث���ورات المصرية»، (القاه���رة :دار النهضة الحديث���ة) الطبعة األولى ،1969ص31 :ـ .32 -3انظر في هذا الشأن ،فرانك بيلي« ،معجم بالكويل للعلوم السياسية»( ،دبي :مركز الخليج لألبح���اث) الطبع���ة األول���ى ،2004ص582- : .584 -4انظ���ر ،د .محمد عاطف غي���ث« ،قاموس علم االجتماع»( ،القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب) ،1979ص.388 : -5نورمن هامبس���ن« ،التاري���خ االجتماعي للث���ورة الفرنس���ية» ،ترجمة :ف���ؤاد أندراوس، مراجع���ة :د .محمد أني���س (القاه���رة :دار الكتب والوثاق القومية) ،2011ص.7 : -6عب���د الوه���اب الكيال���ي« ،الموس���وعة السياس���ية»( ،بي���روت :المؤسس���ة العربي���ة للدراسات والنشر) الجزء األول ،ص.875 : -7فرانك بيلي ،مرجع سابق ،ص.583 : -8جون فوران« ،مستقبل الثورات» (بيروت: دار الفارابي) الطبعة العربية األولى.2007 ، 55
التزام
الطاهر بنجلون
من ليبيا إلى سورية تش ّوهات صورة العرب
ص���ورة اغتي���ال القذاف���ي ( 20أكتوبر/تش���رين األول الماض���ي) على يد الثوار ،التي جابت أنحاء المعمورة ،هي واحدة من الصور التي تسيء إلى العرب. صحيح أن القذاف���ي كان ديكتاتورًا ومجرماًَ .عذَّب وقتل اآلالف م���ن مواطني���ه .رم���ى بالكثيرين منهم ف���ي غياهب النس���يان .كان معتوهاً ،متعطش ًا للسلطة ومتلهف ًا للحفاظ عليها .كان مس���تعدًا لفعل كل ش���يء للبقاء على الكرسي. كان متعجرفاً .فقد ش���وه طوي ً ال صورة العرب والمسلمين بتمويله لإلرهاب في كثير من مناطق العالم .مع ذلك ،فإن طريقة القضاء عليه لم تكن مقبولة .لم يتعرض لالعتقال، بل لقتل ،بعنف يذكرنا بطريقة تفكيره وأساليب حكمه. الص���ور الت���ي اكتس���حت تليفزيونات العالم ،وش���بكة اإلنترنت ،ال تشرف أولئك الذين وقفوا في وجه ديكتاتور، كان من األفض���ل تقديمه للعدالة ،بدل قتل���ه والصراخ «اهلل أكبر» ،كما لو أن اهلل يرضى بعمل كذلك الذي رأيناه. عندم���ا نفكر في التخل���ص من ديكتاتور ،الب���د أو ًال من تجنب إعادة استنس���اخ أعماله .فلبناء ليبيا جديدة البد من حي ع���ن التغيير وتقديم الديكتاتور األس���بق إظه���ار مثال ّ وأبنائه للعدالة. العن���ف يول���د عنف���اً .ال مثالية ف���ي الحتمي���ة .المجلس االنتقالي في ليبيا بدا سعيدًا ،عبر الحصص التليفزيونية، بالقضاء على القذاف���ي .وال أحد اعتذر عن الطريقة التي تم بها القضاء عليه. 56
بل���د آخر يع���رض صورًا مش���ابهة .إنها صور الش���عب السوري المحاصر يومي ًا بنيران الجيش .في وقت يظل فيه الديكتاتور قابع��� ًا في مكانه ،غير مبال بتنديدات العالم من حوله. بش���ار األس���د رئيس ال يخوض ع���راك ًا من أج���ل إعادة انتخاب���ه .بل يخوض ع���راك ًا من أجل الخل���ود .ال يعترف بأخطائ���ه وال يتنازل عن مكانه م���ن أجل الديمقراطية .فقد ورث السلطة عن والده الديكتاتور حافظ ،الذي حكم طيلة ثالثة عقود وجعل من البلد دولة بوليس���ية ،حيث قتل في أيامه 20.000شخص ًا في حماه ( 2فبراير/شباط .)1982 بش���ار و أحد أش���قائه يقتلون يومي ًا مواطنين ُع َّز ًال ،ذنبهم الوحيد ه���و الخروج إلى الش���ارع والمطالبة بما طالبت به الجموع في تونس ومصر :الكرامة ،الحرية ،العدل والعيش تحت ظل الديمقراطية. لكن عائلة األس���د ليس���ت متعودة على االنتقاد .كما أنها لم تتخيل يوم ًا أن ُيطَلب منها الرحيل والتخلي عن الس���لطة. كل الذي���ن حاولوا معارضة هذه العائلة ،والوقوف في وجه ً قت�ل�ا ،أو ُز َّج بهم في الس���جن ،أو اختفوا عمالئه���ا ،مات���وا أو أجب���روا على المنفى .الي���وم ،الوضع تغّير .الخوف غّير موضعه .لس���ت أعتق���د أن الدكتور بش���ار (بحكم أنه طبيب) ين���ام قرير العين .الب���د أنه يتعاطى أدوي���ة ويفكر في رفع مستوى األمن ،أمنه .فقد ش���اهد نهاية القذافي .تلك الصور البشعة أثرت عليه كثيرًا .يعرف أنه ليس أفضل حا ًال مقارنة بالقذاف���ي .يعرف أن ش���عبيته ف���ي تقهقر مس���تمر .يعرف
بأنه س���يضطر إلى التخلي عن كرس���ي الحكم والتوجه إلى مزاولة الطب في بلد ما حيثما س���تكون فيه حاجة إليه .لكنه لن يرحل بس���هولة ،س���يقتل يومي ًا ما اس���تطاع من حشود المواطني���ن .أذناه أصيبتا بصمم .وعقله توقف عن التفكير. الموقع الجيو -اس���تراتيجي الذي تحتله س���ورية دفعه إلى تهدي���د العالم بتحويل س���ورية إل���ى «أفغانس���تان جديدة» ف���ي حال تطور الوض���ع وحصول تدخل أجنب���ي .فهو جار إس���رائيل التي تحتل الجوالن .وج���ار العراق حيث اإلرهاب ما يزال يعش���ش .جار تركيا التي استقبلت مئات اآلالف من الالجئين السوريين .جار األردن التي ال تريد تاريخاً ،وأخيرًا جار لبنان التي تعيش الوضع الس���وري القلق .فكل ش���يء محتمل ،بما في ذلك عودة الجيش السوري إلى لبنان ،التي طرد منها عام .2005 س���ورية بلد مقس���م إل���ى طوائ���ف :العلوي���ة( % 10من الس���كان) يحكمون سورية منذ 40س���نة .الشيعة ،الدروز، السنة والمسيحيون الذين يبلغ عددهم مليون فرد. ّ خوف ًا من المجهولَ ،ع َّبر المس���يحيون عن دعمهم لبش���ار األس���د .يعتقدون أنه في حال وقوع انفجار فسيكونون أول من يدف���ع الثمن .مع العل���م أن إيران تواص���ل دعم الحركة اإلسالموية وحزب اهلل الموجود في لبنان سورية. ما يمكن أن يقع في األيام واألس���ابيع المقبلة هو انقالب عس���كري يطيح ببش���ار األس���د ويف���رض نظام��� ًا انتقالياً، خصوص ًا أن المعارضة السورية في الخارج تنظم صفوفها أكثر فأكثر ،رغم أنها منقسمة حول بعض النقاط .فقد التقت
في 15نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في القاهرة وتباحثت في مس���تقبل س���ورية .فهي طالبت وما ت���زال تطالب العالم باالعتراف بالتحالف الوطني السوري ،الذي يضم جزءًا مهم ًا من المعارضة ،كممثل شرعي للشعب السوري وللثورة. ق���د يتم التدبير لرحيل إجباري لعائلة األس���د ووضع حد لوضعية تتصل عميق ًا بأوضاع حقوق اإلنس���ان ،وتش���وه ص���ورة بلد تم تعليق عضويته في جامع���ة الدول العربية، بعدما تع���رض لإلدانة من طرف الواليات المتحدة األميركية وأوربا وغالبية دول أعضاء هيئة األمم المتحدة ،عدا الصين وروسيا اللتين تسعيان للحفاظ عن مصالحهما في المنطقة. 18دول���ة من مجموع 22دولة عض���و جامعة الدول العربية قررت ،ليس فقط تعليق عضوية سورية ،ولكن أيض ًا فرض عقوبات اقتصادية عليها .بحس���ب أرقام األمم المتحدة ،فقد وقع���ت 3500ضحية خالل األش���هر الثمانية الماضية ،مما قاد مرصد حقوق اإلنسان إلى اتهام دمشق بالقيام بـ «جرائم ضد اإلنسانية». نظام عائلة األس���د انتهى .الجمي���ع يالحظ هذه الحقيقة. يبق���ى أن ننتظ���ر كيف ومت���ى س���تتأكد ه���ذه النهاية ،هل ستتم بالدم أم بالدبلوماس���ية؟ على كل حال ،اإلخوة األسد يعرفون أن نهايته���م تقترب وأنهم س���يتابعون قضائي ًا من طرف المحاكم الس���ورية أو المحكم���ة الجنائية الدولية .من غير المعق���ول أن نقتل آالف المواطنين األبرياء والعزل ،ثم نطوي الصفحة كما فعل األب بعد مجزرة حماه ،مع التذكير أن كاس���نجر كان يحمل إعجاب ًا به���ذا الديكتاتور الذي قضى آخر أيامه ممددًا على الفراش. 57
من رأس القذافي إلى أصابع سيف اإلسالم
ثقافة الثأر
- Sandro Botticelliإيطاليا
58
أربعون عام ًا عاشها ملك ملوك إفريقيا وملك الموضة معمر القذافي في السلطة ولم يرحل عنها إال بالعنف. خالل حكمه المديد لم يستطع أحد تمييز الجد عن الهزل في نوع من الالنظام يقوده ضابط يدعي أنه ليس رئيساً ،بينما ألغى الدولة ومؤسساتها ،بل تمكن من إخفاء الشعب ،حتى بدا ظهور األطفال أمام الكاميرا أمرًا مستغرباً :أأطفال في ليبيا؟! الدولة التي بدت عديمة الحاضر والمستقبل هزتها رياح الربيع العربي ،وأمام شراسة وجنون القذافي وعائلته لم يكن أمام الثورة إال أن تتسلح ،وتكبدت البالد نحو مئة ألف جريح وشهيد ،ومارس القذافي وأوالده أقسى أنواع القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث واغتصاب النساء مستعين ًا بمرتزقة من بالد أخرى. لم يفهم العقيد أن الزمن لم يعد زمنه حتى كانت لحظة قتله برصاصة بالرأس أوقعت وقسمت الرأي العام العربي بين مستهجن فتنة ّ لما فعله الثوار من إهانة للعقيد وتمثيل بجثته، وبعد ذلك الجدل ألقى الثوار القبض على ابنه سيف اإلسالم وقيل إنهم قاموا بتقطيع أصابعه ،األمر الذي أشعل الجدل مجددًا. برز وسط هذا النقاش حديث حول «ثقافة الثأر» ،وكانت غالبية اآلراء تعتبرها إرث ًا من الماضي ،وممارسة أقل تحضرًا. وبعد أن انتهت اللحظة المفعمة بالمشاعر، تطرح «الدوحة» السؤال :هل ثقافة الثأر بهذه البشاعة أم أنها ممارسة اجتماعية وحقوقية ضرورية عندما يتقاعس القانون أو يداس؟ 59
من أنتم؟ شنو صاير؟! عزت القمحاوي
بين إنكار وجود الشعب في صيحته الش���هيرة :من أنت���م؟! وبي���ن صيحته األخيرة :شنو صاير؟ شنو فيه؟ أي ماذا يجري ،ماذا هنالك؟! َّل بالجثث، تل القذافي َ وأحرق ومث َ َق َ وأردى عش���رات اآلالف الجدد يضافون إلى ضحايا س���نوات حكم���ه األربعين. لكن لحظات من الص���ور المهتزة نقلتها الفضائي���ات عن كامي���را هاتف محمول حول���ت موت���ه إل���ى فتن���ة ،وارتفع���ت أصوات عديدة في العالم كله تس���تهجن انتقام الثوار. وألن اإلع�ل�ام ش���ره للجديد ،فليس بوسعنا إحصاء عدد المرات التي الحقت فيها الفضائيات مشاهديها بصور القذافي المقتول ،من دون أن تفسح إلى جوارها مس���احة ولو ضئيلة لتس���عة أشهر من اإلجرام الذي قاده القذافي وأوالده. الكليش���يه الجاه���ز ال���ذي واجه به المعترض���ون الثوار ه���و «ثقافة الثأر» التي صارت موصومة بدعاوى إنسانية تعمم رؤية مجتمع على آخر مختلف في ظروفه السياسية واالجتماعية. من ح���ق المواطن الغربي أن يتأفف م���ن ثقاف���ة الث���أر ،ألنه يعي���ش دولة القانون الت���ي تحفظ النظ���ام ،وتنتقم
60
للمظلوم من الظالم .وهذا هو القصاص ال���ذي حددته األدي���ان الس���ماوية عين ًا بحر ،وهكذا، بعين وس���ن ًا بس���ن وحرًا ّ ف���إذا غاب القانون صار القصاص ثأراً، وبات على المظلوم ع���بء مّد يده لينفذ بنفسه شرعة القصاص. ليس���ت عادة الثأر بذلك الس���وء في الحقيق���ة ،فه���ي غري���زة يش���ترك فيه اإلنسان الطبيعي مع الحيوانات النبيلة العاقل���ة كالجمال ،ب���ل إن الثأر لصيق بفك���رة «األوط���ان» والقومي���ات ،وإال ما الداف���ع لتحرير قطعة م���ن الصحراء احتلتها دولة أخرى؟ وما الذي يجعل من العدو عدوًا إذا لم تكن غريزة الثأر؟! ليست العادة بتلك الخسة المدعاة،
موت القذافي مرة واحدة ليس تجاوز ًا في القصاص ،ألن المحاكمة العادلة يجب أن تمنحه حكم ًا بخمسين ألف إعدام على األقل
الخس���ة يوصم بها المستبد الموغل في القت���ل والدول���ة الموغلة ف���ي التراخي فسادًا وتقاعس��� ًا عن إقرار الحق ،وهذا ه���و أصل ال���داء الذي يجع���ل من عادة الث���أر ض���رورة اجتماعي���ة وحقوقية، بما يرافقها أحيان ًا من ممارسات ظالمة ال وإنس���انية ،فف���ي صعي���د مص���ر مث ً ال يك���ون القات���ل هو بالض���رورة هدف القصاص ،بل توضع معايير اجتماعية واقتصادي���ة للعملي���ة ،فيحرص طالب الثأر على االنتقام م���ن األهم بين أفراد العائلة الخص���م :األعلى تعليماً ،األكثر وجاهة بين الناس ،واألكثر شباباً. وقد قتل القذافي نح���و أربعين ألف شاب في هذه الثورة ،أقلهم تعليم ًا أفهم منه وجميعهم أصغر منه س���ن ًا وأوجه منه من دون حرس نس���ائي أو مالبس مزركش���ة .ورغ���م ذلك فإن م���ا صنعه الثوار الليبيون قد ال تنطبق عليه صفة «الث���أر» بأكثر مما ه���ي لحظة مواجهة ف���ي حرب ل���م تتوقف حتى بع���د مقتل القذافي. وخس���تها المدعاة فوق نبلها الخفي َّ تضمر كلمة «الثأر» بعدًا زمني ًا بين الفعل ورد الفعل .وكل القوانين الجنائية تفرق بين عقوبة القتل في مش���اجرة وعقوبة القتل مع سبق اإلصرار والترصد ،حيث تأتي األخي���رة ردًا متأخرًا تم التخطيط له بهدوء ثأرًا من عدوان سابق. القذاف���ي وأبن���اؤه حملوا الس�ل�اح للحظ���ة األخيرة ،وقتل���وا الثوار حتى اللحظة األخي���رة ،اتخذوا قرارات القتل عندما كان���وا آمنين وأقوي���اء ،بعكس الذي���ن جرج���روه من ش���عره فقد كانت س���تراتهم مبللة بدم���اء زمالئهم الذين اس���تقبلوا رصاصات مرتزق���ة القذافي ال وأهل���ه ،وكان كل منه���م هدف��� ًا محتم ً لتلك الرصاصات. ال قياس س���لوك الثوار وال يمكن مث ً على س���لوك اإلدارة األميركية في قتلها البن الدن ،فه���ذا هو الثأر المذموم الذي ارتكبته دولة ذهبت بعتادها لقتل رجل أنهكه الم���رض وتجاوزته األحداث في ب�ل�اد العرب التي زع���م أن هجرته إلى أفغانستان كانت من أجل تحريرها.
كان���ت بالد العرب تتح���رر من دون ابن الدن ،وكان بوس���ع األميركيين أن يأخذوه حي��� ًا لمحاكمت���ه ،لكنهم آثروا الوحش���ية واستراحوا لخس���ة االنتقام بد ًال من تعريض بالدهم لألخطار أثناء المحاكمة التي قد تطول. وقد كانت تصفي���ة عائلة الوحوش أكثر الق���رارات حكمة للث���وار الليبيين إن كان ثمة ق���رار للتصفية حقاً ،فموت القذافي م���رة واحدة لي���س تجاوزًا في القص���اص ،ألن المحاكمة العادلة يجب أن تمنح���ه حكم ًا بخمس���ين أل���ف إعدام على األقل .وكانت من ش���أن المحاكمة
شنو فيه؟
أن تتح���ول إلى مماحك���ة تعيق الثورة كما في حالة محاكمة مبارك. هل كان على ث���وار ليبيا أن يكرروا مأس���اة الثورة المصرية التي تس���لمها نصف نظام مبارك المس���تمر من نصفه المخلوع وب���دأ يتعامل بمنطق الدولة ال الثورة؟! بمنطق الثورة يضمن مبارك اإلعدام عقوبة على كل األرواح التي أزهقت في سجونه ووس���ائل نقله المتداعية وفي ع���رض البحر بحث ًا ع���ن لقمة عيش في إيطالي���ا ،وبمنطق الث���ورة فإنه يجب أن يعدم لمس���ؤليته السياسية عن قتل
الثوار ،ال أن يماحك المحامون والشهود اللبط ويدفعون عنه التهمة بدعوى أنه لم يصدر أمرًا مكتوب ًا بإطالق النار. ه���ل كان على المحاربي���ن الليبيين أن يتركوا قاتلهم في س���احة الحرب من أجل محاكمة نتوه فيها بملفات ما ال يقل عن مليون ليب���ي أرداهم القذافي طوال أربعين عاماً؟! ال تثريب على الضحايا المنتصرين. وإذا كان���ت ثورته���م محظوظ���ة ب���أن المس���عور الذي ثاروا ض���ده لم يخلف نظام��� ًا متج���ذرًا ين���اوئ بن���اء الدولة الجدي���دة ،فق���د دبرت األق���دار أو دبروا التخل���ص من جث���ث العصاب���ة لتكون نظرته���م مخلصة إل���ى المس���تقبل بال تعويق وال محاكمات ممسرحة. وإذا كانت ثورتهم ليست في سلمية ث���ورة مص���ر أو تونس ،ف���إن التحدي الحقيق���ي ال���ذي ينتظره���م ه���و بن���اء وطن حقيقي ولي���س زريبة جديدة من الزرائب التي كانت بلؤم أو غفلة تسمى أوطاناً. ومثلم���ا أرى اليوم أن م���ن واجبنا إنصاف كلم���ة «الث���أر» المظلومة التي تضمر من النبل أكثر من خستها البادية، أرى أن كلمة «وطن» تستحق أن نتأملها جيداً ،فهي لم تزل تضمر من الخسة أكثر مما تظهر من النب���ل ،ألنها تمثل الكلمة المفتاح للخراب العربي الذي نعيش. كانت الكلمة رديف ًا لسالح الجالدين التفه���ة والمس���وغ الفك���ري لمص���ادرة الحريات ،فكل ش���يء مب���رر طالما كان الرئيس يحمي الوطن. بهذا المنط���ق تم تحويل بش���ر أقل من عاديين مثل صدام حسين والقذافي واألس���د األب إلى آلهة مطلقة اليد كلية القدرة ال يتص���ورون أن ما يجري على البشر من حياة وموت وهزيمة يمكن أن يجري عليهم. حمق ًا أو لؤم ًا تم تقديم طغاة فاشلين بوصفهم أبطا ًال يحق لهم أن يدوس���وا علينا ألنهم يحمون األوطان ،بينما كانوا يحمون زرائبهم وإقطاعياتهم الخاصة، ولم يرحلوا عنها إال مثلما رحل نيرون، تاركين الخراب واالحتراب. 61
النهاية الحمراء للملك األخضر ! خليل �صويلح -دم�شق
ل���م تكن ميت���ة الئقة عل���ى اإلطالق تلك التي ش���اهدناها لنهاية ملك ملوك إفريقيا .إنه���ا من أكثر الس���يناريوهات معم���ر القذافي س���وءاً .على األرجح أن ّ كان يعد لنفس���ه جن���ازة مختلفة جذري ًا عما انتهت إليه حياته الصاخبة .مش���هد ّ هزيل ال يليق بالتاري���خ الحافل للعقيد. ربم���ا كان يعد كفن ًا أخض���ر لجثمانه في لم ال؟ لحظت���ه النهائي���ة .كفن أخض���ر؟ َ أليس مثل هذا الخيار مناس���ب ًا لمسيرته الخض���راء ،وكتاب���ه األخض���ر ،ورايته الخض���راء الخفّاقة ف���وق رمال صحرائه الشاس���عة؟ جنازة يحضره���ا كل زعماء العال���م ،ومنظ���ري الكت���اب األخضر، وحاملي أوس���مته وجوائزه وعطاياه، ونق���اده األدبيي���ن ،وأركان حراس���ته الشخصية ،ورافعي أوتاد خيمته ،وقبل كل هؤالء مصممو أزيائه! الرجل المضرج بدمائه وسط غوغاء يرقص���ون ابتهاجاً ،لم يكن هوالمش���هد الذي يخطر في باله ،ولو للحظة خاطفة، يفكر بذلك اليوم التاريخي الذي لعله كان ّ س���تنكس األعالم فيه ،فوق كل سواري القارات الخم���س ،في حداد إغريقي يليق بآلهة األولمب .الشك أنه قد استعاد مشهد جنازة جمال عبد الناصر مراراً ،واعتبرها بروف���ة أولى لما س���يحدث لحظ���ة موته الش���خصي، نظرًا لإلنج���ازات التي حققها للشعوب المضطهدة بما يتفوق بمرات عن أبيه الروحي. كنت أعّد سيناريو آخر لنهاية ُ القذافي بعد اختفائه المؤقت .أن يظهر فجأة في الساحة الخضراء في وسط طرابلس ،ويلقي خطاب��� ًا يدع���و في���ه إلى مقاومة المس���تعمر ،فيما يواجه زخات من رصاص الثوار ،لكن���ه خذلني بأن اخت���ار نهاية مش���ابهة لما انتهى إلي���ه «الملك لير» بعد
62
أن خذلت���ه الرعي���ة والحاش���ية .اختار الس���ري على غرار س���لفه صدام المخبأ ّ حس���ين ،وليس عمر المخت���ار ،كما كان يأمل من مؤرخي حقبت���ه الطويلة التي كان���ت ضرب ًا م���ن األرقام القياس���ية في الطغيان. علينا أن نستعيد هنا مقولة جوزيف برودس���كي ف���ي درجات الطغي���ان «إن جيد ،هو عقد الطول المتوسط لطغيان ّ ّ ونص���ف ،أو عقدان كأقص���ى حّد ،حين س���يكون أكثر من ه���ذا ،ينزلق بش���كل الوحش���ية» .طاغية ال يش���به ثابت في ّ المخيل���ة الجماعية لروائيي ما صنعته ّ أميركا الالتينية كنموذج معمم للطغاة. ومهرج ،وبهلوان، مزيج من زعيم قبيلةّ ، ومشخصاتي ،ومجنون .جنون العظمة يتفوق على كل ألقابه األخرى ،من دون ّ اس���تثناء .فيلس���وف بنظرية مستعارة عل���ى يد كتب���ة ومفكرين تح���ت الطلب. المس���افة بين العسكري النحيل بالكاكي لحظ���ة انقالبه عل���ى الملكي���ة الليبية، والمش���هد المخزي لنهايت���ه التراجيدية، يلخص س���يرة ملتبس���ة ومكررة لطغاة مش���ابهين ،ينتمون إلى إفريقيا وأميركا الالتينية ستينيات القرن المنصرم. سنفتقد تلك الفرجة االستثنائية إذاً، ليس من أزياء جديدة سيرتديها العقيد، ترص���ع بزت���ه البيضاء أوس���مة ول���ن ّ إضافية منحها لنفسه عن طريق التقادم، وليس بس���بب الحروب الت���ي خاضها، واالنتصارات التي حققها .هل ستنكمش الجماهيرية الليبية االشتراكية العظمى إلى جمهورية غامضة تشبه جمهوريات الم���وز ،م���ن دون الت���اج االمبراطوري المزي���ف ،وتتقاس���م القبائ���ل الغنائ���م ّ وتعود إلى صحرائها ،أم سنشهد لحظة لخزان النفط الهائل؟ مفارقة ّ يصع���ب اخت���زال خش���بة المس���رح الليبي بغياب الزعيم األوحد ،ولكن ماذا نفعل بمستودع المالبس واالكسسوارات مقصبة التي يحتشد بها المكان؟ عباءات ّ
خضرة..ليست في القلب!
يصعب اختزال خشبة المسرح الليبي بغياب الزعيم األوحد، ولكن ماذا نفعل بمستودع المالبس واالكسسوارات التي يحتشد بها المكان؟ وأزياء تصلح ألدوار الجنراالت وملوك مرصعة بالدم ،وأحذية العجم ،وخواتم ّ من جلود الضحايا .ألبوم صور القذافي فس���حة بصري���ة أخ���رى للمتناقضات. النعل���م كي���ف كان يخت���ار أزي���اءه، وألوانه���ا ،وهل وضع ص���ورة خريطة إفريقيا ف���وق القماش المزخ���رف فكرة ش���خصية أم ابتكرها أحد مستش���اريه، وهل ص���ور الزعماء الذين س���بقوه إلى الس���لطة الذي���ن يفترش���ون مقدمة بزته الغرائبي���ة ،س���وف تضعه ف���ي مقامهم في دروس التاريخ الالحقة؟ الش���ك أن
هذه األفكار المبتكرة ،كانت قد واتته في إح���دى خلواته الصحراوي���ة ،تحت قبة خيمته التي تشبه في ألوانها خيام أفكار ال تحصى ،س���نجد خطوطه���ا العريضة في كتاب���ه األخضر (في الواق���ع لم أقرأ الكتاب) ،ولكن���ي أظن أن كل الدرر التي كان يبعثره���ا ف���ي س���احات خطاباته الجماهيرية ،موج���ودة في هذا الكتاب. ه���ل راود القذافي ف���ي خلواته هذه بأنه نبي عص���ره ،أال توجد تقاطعات رمزية ح���راء؟ فالنبوة في بي���ن الخيمة وغ���ار ّ آخ���ر تجلياتها ،أتت م���ن الصحراء ،فما بالك بصحراء تعوم فوق بئر ضخم من النفط! ال نعل���م ك���م كلّ���ف العقي���د صناعة مش���هد ،ظهر فيه ،وهو يلعب الشطرنج مع رئيس االتح���اد العالمي للعبة ،فيما كانت االحتجاجات الش���عبية الليبية في أوجها ،ض���د حكمه المس���تبد ،ترى هل كان الخصم في المش���هد ،أول من قال له «كش ملك»؟ أم أن ش���روط المشهد كانت تتطلب هزيمته النكراء؟
رقعة ال�ش��طرجن مبع�ثرة الآن ،ولي�س لدى العقيد من يكاتبه. 63
حين نحتفي بالموت نائل بلعاوي -فيينا ال أكتب اآلن مبتهجاً ،بذلك النقيض األبدي للحياة ..ال أحتفي بحضوره، أو أدعو إليه :كيف يمكن للكتابة أن ترى سبب ًا لالحتفاء بعكسها ،في وقت، لم تكف الكتابة -منذ عرفنا الحروف وتشكيل الكلمات -عن التغني بأسباب البقاء ،والسعي العبقري في دروبه؟ ال أحتفي/نحتفي ،بالموت حب ًا بأشباحه البائسة ،وال بما يخلفه بيننا من تعاسات وأسى ،ولكن المتناقضات، تصب على رؤوسنا :مثل أبابيل السماء، فال نعرف ،نحن العرب ،كيف ..متى، ولماذا ،نحتفي بالموت ،ولماذا ،أو كيف ندينه ،لنغرق ،عند كل موت صارخ اإليقاع واألضواء ،في بحر من الفوضى الشاملة( :فوضى الحواس) وردود الفعل األولى المضطربة عادة ،تلك التي تنتج أسئلة مريرة وبال أجوبة :أنحن مع هذا الموت أو ضده؟ ..أعلينا االحتفاء به أم إدانته؟.. هل نضيف إلى اسم الطاغية :صفة المرحوم أو الراحل ،أم نودعه بأمنيات الدخول السريع إلى الجحيم؟ استحضر القذافي اآلن ..في تلك
64
اللحظات التاريخية الصارمة ،وال أستطيع :ألسباب جمالية بحتة، أن أضع نفسي في مكانه وأحاول استنطاقه ...كيف يمكن للمرء أن يتمثل الطغاة لحظة يذهبون إلى النهايات الوحيدة ،وبصرف النظر عن طبيعة تلك النهايات :حبل المشنقة ..اإلعدام الميداني ..السجن المؤبد :هل توجد وسائل أخرى ال أعرفها؟ ..ولكني أحاول ،ما استطعت ،تمثل أولئك الشباب الذين تحلقوا حول الطاغية لحظة النهاية ،وأجهد من أجل التقاط المعنى اإلنساني في السلوك غير اإلنساني ذاك ..ماذا دار في أذهانهم أمام هذا الوحش الملقى على األرض،
بضعف الذاكرة الجمعية للعرب، يصبح الطاغية ،حين يرحل أو يكاد :بشري المالمح والحضور.. عادي القدرة على إثارة الشفقة
بين أقدامهم تمامًَا ،هم الذين لم يعرفوا عبر حيواتهم القاسية ،غير هذا اإلله المسكون باللعنات .هذا الرمز ..القائد األممي ..ملك الملوك ،والشبيح الجاهل الذي اختصر الحيوات والرغبات ووسائل العيش اآلدمي ،في فكرة قبيحة واحدة :هي ذاته المتفردة ..أكان يمكن للشباب أن يتجردوا من جنون العقود األربعة الماضية ،حين كان الوحش.. هذا الملقى بين أقدامهم يفتك بكل ما عداه ..يفتك بهم وبأحالمهم ...هل يستطيع الكائن البشري إسقاط المعنى الكلي عن الحالة التي يحس ويرى ..ألم يكن العقيد هو العقيد :على األرض ،أو هناك ،ما بعد الفنتازيا وغرائب الحكم؟ وهل رأى الذين تحلقوا من حوله غير ما حملت أجسادهم من جراح وألم ،هي كل ما أنتجه العقيد وخلفه. لم تكن لحظة القبض على الطاغية، لحظة عادية بكل المقاييس ،بل هي اللحظة في ليبيا وعموم ديار الشرق العربية .هي اللحظة المحملة، بما يصعب حصره اآلن ،من رموز وإشارات وجودية ،وأخرى ثقافية واقتصادية واجتماعية ..ناهيك عن تلك العسكرية الحية والمعاشة على األرض .إنها لحظة الخالص المنشود، والخلق من جديد ،لهذا :هي اللحظة الصادمة أيضاً ..عظيمة الفوضى، والخارجة أبدًا عما نفترضه أو ننتظره منها ..كيف لنا أن ننتظر عم ً ال مسرحي ًا معدًا بأناقة في ساحة حرب قاتلة.. كيف نقرأ المشهد البشع بأدوات الرسم والسينما ،ونطالب بتعديل ما على هذه اللقطة أو تلك؟ ..لم يكن الشباب حول الطاغية ،على خشبة للمسرح، وال وراء الكاميرا ..كانوا أمام الموت الذي مثله بجدارة وعنف هذا الملقي على األرض ،ولو أن المعادلة انقلبت، لحظة واحدة فقط ،ألمر العقيد ،على الفور ،بالفتك بهؤالء -الجرذان ،-هو الذي اعتاد على إصدار أوامر القتل على امتداد العقود المظلمة الماضية .وألن الشيء بالشيء يذكر ،استدعي اآلن
للطغاة وتدعو ربها أن يستجيب، وحين يستجيب الرب ،إذا استجاب، ترتد المشاعر ،من جديد ،إلى منابعها الهالمية ،وتصعد الفوضى إلى سقفها: فوضى الحواس المرتبطة ،بشكل أو بآخر ،بضعف الذاكرة الجمعية للعرب، وانعدام قدرتها على استحضار القديم والجديد مما تختزن ،ليصبح الطاغية، حين يرحل أو يكاد :بشري المالمح والحضور ..عادي القدرة على إثارة الشفقة ،وسجيناً ..له ما للسجناء من حقوق وما عليهم من واجبات .وليس هذا فحسب ،فقد تذهب الذاكرة الجمعية: ذهبت مرات فعالً -إلى الحدود القصوىلفوضاها ومتناقضاتها ،لتقوم بتحويل القاتل إلى شهيد مثالً ،أو مغدور ،أو ضحية لحفنة من األشرار على األغلب. وتنسى ،تلك الذاكرة ،ما كان لهذا المغدور ،قبل قليل ،من براثن دموية مغروزة حتى النخاع في األجساد.. تنسى ما خلفه مروره الكارثي على األرض من مصائب وأوجاع ،وال تقف لتراجع الماضي القريب ،وال البعيد بأي حال. ال تحتفي هذي السطور بفكرة الموت أو تطبيقاتها المختلفة ،وال تدعو إليه، بل تريد االحتفاء بفكرة أن األرض تتنفس الصعداء حين ترد إلى جوفها، ما أفرزته ،من قباحات غريبة ،ال تثير سوى السخط ،وال تأجج غير الشعور المدمر بالعار. حكاية اإلعدام الفوضوي -كما صورته كتب التاريخ-للطاغية الفاشي - موسوليني -فهناك أيض ًا تصرف الثوار بسرعة ،بعيدة كل البعد عن الحسابات السياسية واألخالقية المرافقة ،عادة، لهذا النوع من القصاص ،فقد كانوا، وفقط ،أسرى لفكرة الخالص العظيمة من الطاغية ..سوف تمر السنوات ويجيء الدور على طاغية آخر هو شاوشيسكو الذي القى المصير نفسه: بسرعة اللحظة وبال حسابات سياسية وأخرى أخالقية .وربما لن يمر الكثير
من الوقت ،بعد أن عبر الطاغية الليبي ذات الطريق ،ونرى المزيد من الطغاة بين أقدام ضحاياهم .كي نعود ونحكي الكثير -ليس مهم ًا إلى أين سنصل -عن أصول القتل وحقوق القتلة ،فالمهم اآلن وغدًا ،هو التجاوز الحتمي لعصور الطغاة وأشباحهم المرعبة. أمام الموت :يستحضر العربي كل ما لديه من إرث ديني وأخالقي ،ويمزجه على الفور بما يحمله من رغبات كامنة ،وأخرى معلنة تنادي بالموت
ال أحتفي ،مرة أخرى ،بالموت، وال بجثة العقيد ،ولكني أفكر حين ُأشاهدها :بما ال نعرفه من أرقام حقيقية عن ضحايا الطاغية من األطفال والنساء واألشجار والرغبات واألحالم ..فأقول انتهينا من ضلع قبيح في الجسد.. وأدعو النهايات ،بصمت ،أن تقترب.. أن تدق أبواب الجحيم هناك :هناك حيث ُيقتل األطفال على دروب الشام، ألقول انتهينا من ضلع جديد ،هو ،وبال أدنى شك :األشد وقاحة وعنفاً ،واألكثر إنهاك ًا لهذا الجسد العربي المريض. 65
طبيعة بشرية أم نظام اجتماعي؟ د .قا�سم عبده قا�سم -القاهرة
يبدو أحيان ًا أن الثأر قريب للغاية من الطبيعة البشرية بحيث تحسبه جزءًا منها مكم ً ال ومتمم ًا لها وبحيث نظنه أحيان ًا نوع ًا من الغريزة في البشر، فالرغبة في الثأر واالنتقام نزوع بشري متعدد المستويات مختلف التعبيرات بحيث ال يكاد بشر أن يخلو من مشاعر الرغبة في الثأر ،أو االنتقام ،في وقت ما من حياته .وهو ما يصدق أيض ًا على الجماعة البشرية ،فما من مجتمع لم يعرف ظاهرة الثأر ،في األزمنة القديمة وفي حياتنا المعاصرة على حد سواء. الثأر ،على المستوى الفردي وعلى المستوى االجتماعي ،ظاهرة لم تغب عن اهتمام الجماعة البشرية التي حاولت تنظيمها والحد من تأثيراتها السلبية منذ أقدم العصور وحتى اآلن ،بل إن الديانات اهتمت بهذه الظاهرة بشكل أو بآخر .فقد اهتمت الكتب المقدسة بمسألة الثأر من جوانب مختلفة بحسب موقف كل ديانة من هذه الظاهرة اإلنسانية المهمة، ولكنها جميع ًا اهتمت بظاهرة الثأر أو االنتقام (وهي إحدى التسميات األخرى للثأر على أية حال) .ويلفت النظر حق ًا أن خطاب الثأر واالنتقام -بغض النظر عن موقف الديانات -هو الخطاب الذي كان
66
يلقى قبو ًال ويروق لجماهير الناس في كافة المجتمعات اإلنسانية أكثر من غيره في تاريخ البشرية في كل العصور .كما أن الزعماء الذين كانوا يتبنون خطاب الثأر واالنتقام كانوا هم األكثر شعبية بين الناس على الدوام .فلماذا؟ إن اإلجابة عن هذا السؤال ليست هينة ميسورة بطبيعة الحال ،فض ً ال عن أن الطبيعة البشرية نفسها غامضة مركبة معقدة وال تكشف عن أسرارها طواعية، ودون الكثير من البحث والدراسة ومن ثم ،فإن جهود علماء النفس وعلم النفس االجتماعي ،وعلماء األنثروبولوجيا التي تجرى في هذا المجال مهمة للغاية. ومن ناحية أخرى ،فإن اإلجابة عن سؤال الثأر في تاريخ البشرية ال يمكن أن نجدها من خالل جهود الباحثين في مجال واحد من مجاالت العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،وإنما يتطلب األمر جهودًا متضافرة من جميع المتخصصين ،لكي نفهم .على الرغم من أنني ال أظن أننا لن نفهم بقدر أكبر من فهمنا للطبيعة البشرية أو أن الفهم سيكون مفيدًا .فمن الواضح أن الثأر مفيد لحفظ المجتمعات البشرية ،سواء في شكله الفردي والعائلي والقبلي (حين يكون القانون
العام في أياد خاصة) أو في شكله االجتماعي (حين يكون النظام القانوني العام هو الوكيل في الثأر) .وهو مفيد أيض ًا بوصفه عامل ردع يساعد على توازن المجتمعات واألمم. نحن هنا ال نهتم بالثأر من حيث كونه ظاهرة اجتماعية ،أو قضية أنثروبولوجية :فهذا مجال اختصاص علماء االجتماع واألنثروبولوجيا ،وإنما ينصب اهتمامنا على محاولة تتبع الظاهرة على المستوى التاريخي وفي مختلف الحضارات البشرية ،انطالق ًا من العنوان /السؤال -أهي طبيعة بشرية أم هو نظام اجتماعي؟ يلفت النظر في هذا المقام أن الثأر لم يقتصر على مستوى دون آخر من مستويات الحياة اإلنسانية أو على طبقة دون أخرى من طبقات المجتمع ،أو على حضارة دون أخرى من حضارات اإلنسان في كل زمان ومكان .ومن المثير أن حاالت الثأر لم تختف أبدًا من حياة البشر حتى هذه اللحظة .وإذا كان النظام القانوني العام لم يعد يترك لألفراد مهمة أخذ ثأرهم بأيديهم ،فإن هذا ال يعني اختفاء الثأر، وإنما يعني توكيل المجتمع -ممث ً ال في نظامه القانوني والعقابي -ألخذ
الثأر ال سيما في جرائم القتل .ومن ناحية أخرى ،فإن سيادة القانون في المجتمعات التي تتباهى بذلك لم تقض على ظاهرة الثأر تماماً ،فما تزال حاالت الثأر تحدث هنا وهناك في شتى أرجاء الدنيا .وهو ما يدعونا إلى طرح السؤال مرة أخرى :هل الثأر طبيعة بشرية أم نظام اجتماعي؟ من المؤكد أن اإلنسان األول قد أدرك أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة في حياته كلها ،وحاول اإلنسان -من خالل األسطورة والديانات البدائية والطقوس والشعائر الوثنية وغيرها - أن يتعايش مع هذه الحقيقة .بيد أنه من ناحية أخرى كان يخشى الموت غيلة وغدرًا من أخيه اإلنسان وكان البد له أن يضع القواعد التي تحميه من مثل هذه االحتماالت .وأخذ اإلنسان يبحث عن سلطة تحميه من الموت غدرًا واغتيا ًال: فكان الثأر الفردي وسيلته األولى لحماية نفسه ولحماية الدائرة القريبة من األسرة أو العائلة .ولكن هذا لم يكن كافي ًا بأي حال من األحوال .ورأى اإلنسان األول أن وجود سلطة عامة قد يحميه من القتل غيلة وغدرًا ،فتنازل عن جزء من حريته للعشيرة أو للقبيلة
(وهم من ذوي قرباه وأولياء الدم) حتى ال يكون وحده في مواجهة الخطر .ومن المهم أن نالحظ هنا أن الثأر ظل موجودًا على المستوى الفردي وعلى المستوى العشائري والقبلي أيضاً .ومع المزيد من تطور المجتمعات زاد قدر تنازل الفرد عن حريته لسلطة الدولة أي ًا كان شكلها، وأوكل إليها عملية الثأر واالنتقام ممن يرتكبون الجرائم ،ولكن هذا التطور أيض ًا لم يؤد إلى اختفاء الثأرات الفردية والقبلية. ولدينا الكثير من األمثلة التي يمدنا بها التاريخ للداللة على صدق ما ذهبنا إليه في السطور السابقة :فقد كان النظام القبلي السائد في شبه الجزيرة العربية قبل اإلسالم سندًا للفرد وتنظيم ًا يحد من سلبيات الثأر الفردي من جهة ،كما تسبب في حروب ثأرية قبلية ذات آثار وبيلة من جهة ثانية .ويحفل التراث األدبي المنسوب للعرب قبل اإلسالم بالكثير من البراهين األدبية على أن الثأر كان من مقومات الشرف القبلي في تلك الفترة من تاريخ العرب .ومن المهم هنا أن نشير إلى أن القبيلة كانت بمثابة الوطن في المفهوم الحديث بالنسبة ألبناء القبائل العربية ،فلم يكن للفرد شأن
خارج الكيان القبلي ومن ثم كانت عقوبة الخلع من القبيلة بمثابة إهدار لدم من توقع عليه هذه العقوبة -فال حماية وال سعي لثأر من تخلعه القبيلة من أفرادها الخارجين على أعرافها .وفي المقابل منحت القبائل حق الجوار لألغراب الذين تجيرهم القبيلة لسبب أو آلخر باعتباره واحدًا يتمتع بما يتمتع به أبناء القبيلة. وعلى الرغم من أن اإلسالم جاء بمفهوم األمة بعيدًا عن مفهوم القبيلة ،فإن التطور التاريخي الموضوعي أبقى للقبيلة مكانتها ،ومن ثم ظل مفهوم الثأر موجودًا بشكل أو بآخر على الرغم من التطورات الهائلة التي أحدثتها المفاهيم اإلسالمية في جوانب عديدة. وهناك أمثلة أخرى عن تأثير مفهوم الثأر من تاريخ أوروبا العصور الوسطى. فمن المعروف أن الشعوب التي كانت تعيش في شبه الجزيرة اإلسكندنافية (السويد ،والنرويج ،والدانمارك) قد بدأت تزحف جنوب ًا داخل مناطق أوروبا القديمة -األكثر دفئ ًا واألغنى موارد - فيما بين القرن الخامس والقرن السابع بعد الميالد لمشاركة سكان أوروبا القدامى بالدهم ومناخ البحر المتوسط البديع .هذه الهجرات االستيطانية 67
المسلحة (التي عرفها التاريخ األوروبي في العصور الوسطى باسم الغزوات الجرمانية) أنتجت مجتمعات قبلية على أرض أوروبا ،لم تلبث أن ذابت في محيطها األوروبي لتخلق المجتمعات األوروبية الحالية التي تشكلت بهويتها القومية فيما بين القرن الرابع عشر والقرن الثامن عشر (وقد تأخر بعضها في الظهور إلى وقت الحق) .وفي الفترة األولى من وجود المجتمعات الجرمانية مثل األوستروقوط في إيطاليا،والفرنجة في بالد الغال (التي صارت تعرف باسم فرنسا نسبة لهم بعد سكنهم فيها) ،والفيزيقوط في إسبانيا، والوندال ،واللومبارد - ...وغيرهم - كان النظام القانوني لديهم قائم ًا في جانب منه على مبدأ الثأر .فقد عرفت هذه المجتمعات التي اتخذت شكل دول أولية ما يشبه نظام التسعيرة في عمليات الدية بدي ً ال عن الثأر إذا قبل أولياء الدم الدية وتنازلوا عن الثأر .فقد كانت هناك دية للعين المفقوءة ،وأخرى للذراع المكسورة ،أو أية عاهة أخرى تلحق بالفرد :شريطة أن يكون األذى قد حدث غدرًا وليس في قتال عادل وعلني .فلم تكن هناك دية ،وال موجب لثأر لمن قتل في شجار أو قتال عادي .وكان من حق أقارب من ناله األذى أو راح ضحية القتل أن يقبل الدية أو يرفضها ،فإذا رفضوها كان من حق عشيرة الضحية أن يأخذوا القانون في أيديهم طلب ًا للثأر. التاريخية المصادر وتخبرنا األوروبية في تلك الفترة أن العائالت األوروبية قد توارثت حاالت الثأر على مدى عدة أجيال .ولدينا أدلة على حاالت ثأر استمرت على مدى قرنين من الزمان في انكلترا وفنيت في أثنائها عائالت إنكليزية بأسرها .والجدير بالذكر في هذا المقام أن الدولة بمفهومها السيادي والوطني لم تبدأ في الظهور في أوروبا سوى بعد القرن الرابع عشر ،وكانت الهوية السياسية هي األسرة الحاكمة وليست الدولة بحدودها الجغرافية وشعبها ولغتها ..كانت السالالت الحاكمة مثل آل كابيه ،والهوهنشتاوفن، 68
وآنجو ،وغيرهم يحكمون أجزاء مختلفة من بالد مختلفة في ظل النظام اإلقطاعي في أغلب األحيان .وبطبيعة الحال ،لم تستطع هذه الكيانات السياسية األولية أن تحد من ظاهرة الثأر في المجتمعات األوروبية وإنما احتكرتها لنفسها في حروب األسرات الحاكمة ضد بعضها البعض. وقد استمرت مظاهر الثأر الجماعية قائمة في أوروبا حتى مطلع العصر الحديث .وعندما بدأ السباق االستعماري بين الدول األوروبية جلب في ركابه سلسلة من الحروب األوروبية / األوروبية التي اتخذ بعضها شكل الثأر واالنتقام :إذ كان تاريخ العداء القديم بين انكلترا وفرنسا يترك بصماته على أشكال التنافس االستعماري الذي تبلور في النهاية إلى حرب شاملة بين القوى األوروبية القتسام ثروات العالم وهي الحرب التي عرفت باسم الحرب العالمية األولى .وفي هذه الحرب خسرت ألمانيا وحلفاؤها ،وفرضت على قيصر ألمانيا شروط استسالم مهينة أدت إلى أكبر عملية ثأر في التاريخ ،أدت بدورها إلى وقوع أكبر مذبحة دموية في تاريخ البشرية هي الحرب العالمية الثانية التي استمرت ست سنوات (- 1939 1945م) .لقد كانت الحرب العالمية الثانية في جوهرها عملية ثأر وانتقام قام بشنها أدولف هتلر للتخلص من آثار معاهدة الخزي والعار حسبما رآها الحاكم األلماني ورجال دولته. ولم تخل أعمال األميركيين ،بعد دخولهم الحرب ،من نزعة الثأر بسبب ما جرى على أسطولهم وقاعدتهم في بيرل هاربور .ولست أقصد هنا بأي حال من األحوال أن أدين جانباً ،أو أدافع عن جانب غيره ،ولكنني أود أن أشير إلى أن نزعة الثأر كانت عام ً ال من العوامل المهمة في هذه األحداث التاريخية الجسيمة، شأنها شأن العوامل واألسباب األخرى الكامنة وراء نشوب هذه الحروب. والمحاكمات التي تمت بعد نهاية الحرب ضد من أسماهم الحلفاء مجرمي الحرب، كانت نوع ًا من «الثأر القانوني» ضد
األعداء المهزومين .وهنا يفرض السؤال نفسه :هل الثأر أحد العوامل المحكمة للتاريخ؟ وهل يستطيع المؤرخون أن يتجاهلوا هذا العامل المهم في تفسيراتهم السببية لألحداث التاريخية؟ فهل يكمن الثأر دائم ًا في هذه األحداث الكبيرة ألنه جزء من الطبيعة البشرية؟ يجب أن نالحظ أن الذين يتخذون القرارات في الحرب والسالم ،وغيرها من القرارات المصيرية في حياة البشر ،هم بشر في التحليل األخير مهما كانت القواعد والنظم الموضوعة لكبح جماحهم .وهو ما يعني أن الرغبة في االنتقام والثأر قد ال تكون بعيدة عن أولئك الناس في لحظة ما .فهل يمكن اعتبار الثأر أحد العوامل المحركة للتاريخ؟ أظن أن اإلجابة بنعم لن تجافي الحقيقة كثيرًا. إن الرغبة في الثأر ،وتعويض الهزائم، واسترداد الشرف العسكري والسياسي، كانت وراء الكثير من التحوالت التاريخية الكبرى في مسار التاريخ البشري .وال يمكن أن يخلو تاريخ أية أمة من األمم من األمثلة الدالة على حروب الثأر واسترداد الكرامة .ولكن حدث كثيرًا أن تم عبور ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين الثأر المشروع واالنتقام الجائر .في الثأر يكون النيل من العدو الذي تسبب في اإلهانة مشروعاً ،مثلما حدث في حرب السادس من أكتوبر ضد العدو الصهيوني سنة 1973م .وفي االنتقام يكون الضحايا ممن ال ذنب لهم من غير المحاربين ،مثلما فعل العدو اإلسرائيلي في حرب لبنان سنة 2006م ،والحرب الوحشية على غزة .وما فعله األميركيون بالمواطنين ذوي األصول اليابانية بعد الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربور ،وهو الهجوم الذي تسبب في دخول الواليات المتحدة الحرب. لقد حدث في طيات أحداث الحرب العالمية الثانية أن حرك دافع االنتقام الرئيس األميركي ورجال إدارته نحو تجميع األميركيين الذين هم من أصل ياباني على الشاطئ الغربي للواليات المتحدة األميركية في معسكرات فيما يشبه االعتقال باعتبارهم من أقارب
الذين قاموا بالهجوم في بيرل هاربور. ولم يكن هذا ثأرًا بقدر ما كان انتقام ًا ظالم ًا وقع ظلم ًا على من ال ذنب لهم. وهو مثال تكرر في الغرب األوروبي واألميركي ضد المسلمين األميركيين واألوروبيين بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م .إن الرغبة في القصاص العادل رغبة إنسانية ال يمكن للحياة البشرية أن تستقيم بدونها ،وهنا نجد الفارق الرفيع بين الثأر واالنتقام. فالثأر نوع من القصاص العادل - في أصله -تخلص ًا من الذل واإلهانة التي تلحق الفرد أو الجماعة ،أو األمة، يجعلها تستعيد الثقة بنفسها ،على حين أن االنتقام قد يتجاوز استرداد الحق أو القصاص ليصبح نوع ًا من القتل واإلبادة الجماعية مثلما نجد في كثير من األحداث التاريخية .وربما يكون هذا النوع من الثأر هو الذي حبذه القرآن الكريم في قوله تعالى «ولكم في القصاص حياة». ومن هنا يكون الثأر بمفهوم العدالة مطلوب ًا بشرط أن تتواله السلطة العامة في المجتمع تحت مظلة العدالة .ولكن، ماذا لو كان الذين يمسكون بزمام العدالة العالمية من الخصوم؟ وماذا لو كان أولئك الذين يفترض منهم أن يثأروا لإلنسانية كلها منحازين إلى أنفسهم فقط؟ (وهو أمر طبيعي على أية حال). ال أظن أن الثأر سيكون هو الموضوع في هذه الحال ،بل االنتقام الذي سوف يستدعي الثأر يوم ًا ما ،أو يستوجب االنتقام. إذا ما انتقلنا إلى مجال آخر من مجاالت الثأر المشروع ،وجدنا مثا ًال حي ًا فيما حققته الثورات العربية الثالث حتى اآلن -التي نجحت في تونس،ومصر ،وليبيا .والرأي عندي أن ك ً ال من هذه الثورات كانت ثأرًا جمي ً ال ومشروع ًا من طغاة فاسدين ميزتهم األنانية الشخصية ،والبالهة السياسية، واالستبداد الدموي ،فساموا شعوب هذه البالد الثالثة سوء العذاب .وإذا كان بن علي قد هرب ،فمن حق التونسيين أن يطلبوا الثأر من هذا المجرم الهارب، وأن يحاكموه بالطريقة التي تناسبهم:
على الرغم من أن علم النفس التاريخي يناقش الكثير من الجوانب النفسية والشخصية المؤثرة على مسار التاريخ ،فإن الثأر لم يحظ بأية دراسة فليس من العدل أن يهرب بجريمته التي راح ضحيتها أجيال من التونسيين عانوا الفقر والقهر والمذلة على مدى عدة سنين طويلة .لقد نفذ التونسيون األحرار الجزء األول من ثأرهم بإجبار الرئيس المجرم على الهرب ،ولكن الثأر التونسي لم ينم وما يزال سؤال الثأر التونسي مطروح ًا بقوة .ولعل الجانب اإليجابي في الثأر التونسي يتمثل في أنهم بدأوا خطوات بناء تونس الجديدة التي يمكنها أن تواصل طلب الثأر .وفي مصر كان الثأر مختلفاً ،ألن الطاغية قد أجبر على التخلي عن مملكة الشر التي بناها على حساب أجيال من المصريين ،وبمساعدة أشد األجهزة إجرام ًا في التاريخ الحديث (جهاز أمن الدولة الذي هو السبب الرئيسي في سقوط الدولة) وبينما تحقق بعض الثأر بحبس المخلوع وبعض أفراد عصابته وتقديمهم للمحاكمة ،فإن الثأر ما يزال يطلب أصحابه على مستويات عدة. وما يزال بقية المجرمين طلقاء حتى اآلن .أما ليبيا ،التي اتخذت الثورة فيها منحى مختلف ًا بسبب اختالف الظروف فيها عنها في تونس ومصر ،فقد أخذ الثأر فيه مداه .وقد يصدم الكثيرون ألنني أفضل نمط الثأر الذي حدث في ليبيا ،ولكن عليهم أن يأخذوا في االعتبار حجم الدمار والضرر الذي أحدثه القذافي المقتول بشعب يتسم بالطيبة والبساطة ،ولكنه يتميز أيض ًا بتراثه الوطني في المقاومة.
هل يجوز إغفال الثأر من بين العوامل التاريخية التي قادت الطغاة الثالثة :الهارب ،والمخلوع ،والمقتول، إلى مصيرهم التعس؟ لست أزعم أن الثأر وحده سبب ما حدث وما جرى، ولكنني ال أستطيع أن أتجاهل مثل هذا العامل المهم في دراسة العالقة السببية في كل من الثورات الثالث .ومن ناحية أخرى ،هل يمكن إغفال عامل الثأر في أحداث الثورة اليمنية والثورة السورية الجارية حتى اآلن؟ أو ليست الثأرات القبلية وراء كثير مما يجري اآلن في اليمن الذي كان سعيدًا قبل زمن الطغاة الفاسدين؟ وهل سيكون الثأر من بين العوامل المحركة للمجتمع اليمني بعد نجاح الثورة في تحقيق أهدافها؟ أميل شخصي ًا إلى اإلجابة بنعم على هذه األسئلة وما يتفرع عنها بالضرورة. وفي سورية التي يفترسها ذلك الضبع الذي يحمل اسم األسد ..هل من الحكمة أن نغض النظر عن الثأرات والرغبة في االنتقام التي تحرك المجرمين في عصابة األسد التي تسفك الدم السوري الزكي ليل نهار في وحشية ال مثيل لها؟ وهل يمكن أن ننسى أن هذه العصابة الطائفية تتمادى في غيها خوف ًا من الثأر عندما تحين ساعة السقوط ،وهي آتية ال ريب فيها؟. للثأر جوانب عديدة ،وقد حاولت في هذه السطور أن استعرض بعض ًا منها على الجانب التاريخي .ولكن الثأر بوصفه واحدة من القوى المحركة للتاريخ يستحق دراسة تفصيلية .وعلى الرغم من أن علم النفس التاريخي يناقش الكثير من الجوانب النفسية والشخصية المؤثرة على مسار التاريخ ،فإن الثأر (وما يرتبط به من االنتقام) لم يحظ بأية دراسة ،مهما كان حجمها حتى اآلن. لقد كان الثأر ،وما يزال ،أحد عوامل صناعة التاريخ :في المستوى السياسي والمستوى العسكري على أقل تقدير. مرة أخرى ،يطرح السؤال نفسه بإلحاح :هل الثأر طبيعة بشرية أم نظام اجتماعي؟ أميل إلى القول بأنه االثنان معاً. 69
العين بالعين والسن بالسن خو�سيه ماريا بينوي�سا -مدريد ترجمة -مروة رزق
ينص دستورنا (الفقرة )25.2على أن «العقوبات الحارمة للحياة وإجراءات األمن موجهة إلى إعادة التأهيل والتكيف المجتمعي »..ومن الواضح أن االنتقام من خالل (العقاب ،في وجهة نظر الضحية أو أقاربها )..لم يذكر قط. كما لم يتم الحديث عن العقاب كتأديب لآلخرين .ومن ناحيتها فإن اإلجراءات األمنية (وحماية المجتمع) يتم تفسيرها على أنها عملية عميقة ،على المدى القريب/البعيد ،عن طريق إعادة تأهيل المذنب .باإلضافة إلى إعادة تكيفه في المجتمع. ولكني أعتقد أن أوجه العقاب األربعة، كما هي في الوعي الشعبي المسيطر، ستختلف عن نسخة الدستور: -1أول بعد للعقاب على الرغم من عدم االعتراف به هو تطبيق قانون «العين بالعين» والذي مع بعض التحضر، بتخفيف أشكاله -عن طريق الموضوعية ً وخاصة ،في الوسيطة ألجهزة الدولة- علم المصطلحات :يتم الحديث اآلن عن إعطاء المذنب «ما يستحقه» ،وهو ما سوف يستلزم عملية طويلة. -2أما الوجة الثاني للعقاب ،في الوعي الشعبي ،فهو الردع في رأس
70
اآلخرين ،وهو عبارة عن استخدام المذنب على أنه «عبرة» ،أي أن العقاب نتيجة شدته ،يستخدم كمثال رادع لبعض المقلدين الوشيكين. -3الوجه الثالث ،وهو ربما ،األكثر شيوع ًا في نظامنا العقابي ،هو إعادة االندماج مع المجتمع وإعادة التأهيل، والذي يكفل الحماية الحقيقية والشرعية للمجتمع على المدى الطويل .ولكن بما أن هذه المهمة عسيرة ومكلفة يتم إحاللها بمجرد العزل المؤسسي (السجن) ،حيث يصبح المذنب في مكان آمن كي يتمكن المجتمع من النوم هانئ ًا ويصبح األمن العام في مأمن ،وبالفعل يتم المحافظة على األمن بهذا البديل (السجن) طوال مدة العقاب. -4ثمة ُبعد رابع يتم نسيانه في الغالب ،وهو إعادة بناء الشخصية المجتمعية واألخالقية للمذنب .وبالفعل هناك عنصر هام في العقاب وهو االهتمام بالمذنب .حيث ينص القانون على إعادة إدماج المذنب في المجتمع، بمواجهته بجريمته ،لفصله عنها. وهو بمثابة إعادة إدماج حقيقية في المجتمع ،لذلك يجب أن تكون فعالة، وصارمة ،ودائمة ،حيث يفهم المجرم
حينئذ أنه الجدوى (ال إمكانية) للهرب أو مداراة ما فعله .حيث يعترف المجرم بأفعاله ،فينتهي ذنبه ويتالشى. هذه القاعدة ،التفسير الشعبي الحر للقوانين الدستورية -تشهد حالي ًا تطورًا ،نتيجة تصدع عنصر هام في اإلطار النظري الذي تقوم عليه عملية انتقام المجتمع .حيث ال تتم عملية شفاء المذنب (إعادة التأهيل واإلدماج) بعد أن يختلف كيانه عما كان في السابق ،أي بعد اختفاء الذنب نفسه .وفي المرحلة التي يختفي فيها في الذنب باإلطار النظري ،يصبح العقاب حينئذ ال أساس له -على األقل في واحدة من أساسياته الضرورية :وهو المكافأة -ثم يفتقر العقاب الطابع األخالقي ليرتدي طابع ًا حقوقي ًا هشاً ،بدون ادعاء الشرعية. ويذكر العقاب على أنه وسيلة لحماية المجتمع ذاتياً-وهو الشعور العام -مما يجعله غير الئق جيدًا مع اختفاء الذنب. وهذه هي الحالة العامة السائدة. وتبع ًا لمدرسة التحليل النفسي ،يندفن الذنب -وكظاهرة نفسية -ينتهي إلى االستيالء على كل حيادية الشخصية (وتصحبه نتيجة أخرى وهي «الرد» أمام أي أحد) .ويحدث أننا البشر ننسى اإلحساس بالذنب – والذي يقول عنه بيرجسون -هو أقدم شعور لإلنسان. مع األخذ في االعتبار أن الذنب ينشأ من الشعور بين التناقض بين وضوح السلوك الحر ذاته (والمسؤول نتيجة لذلك) وبعض القيم والقواعد التي ال تتحقق ،وإنما يتم إنكارها أو انتهاكها. ولكن حين ال تكون هناك أي قيم أو قواعد ،ما الذي يتبقى من الذنب؟ ومن ناحية أخرى ،ال يمكن إخفاء الجريمة. إن إنكار الشخص للذنب ينتج عنه شعور بمسؤولية المجتمع والظروف المحيطة عنه .ويشكل جزءًا مما هو من المفترض اعتقاده سياسياً ،إزاء أي جريمة يكون مرتكبها في الوقت نفسه الضحية وعشماوي،أي لعبة الحتميات النفسية واالقتصادية والمجتمعية والثقافية .ولكن يصطدم هذا الحديث الخاص باختصاصيي القانون الجنائي
(الحقوقيين والنفسيين) األكثر رواج ًا هذه األيام ،بالقناعة الشعبية ،التي تقتضي تحديد هوية المذنب وعقابه، على أن يكون العقاب فوري ًا وواعظ ًا لآلخرين. اكتشف جان بياجيه أن األطفال متحزبون صارمون للعقاب ،ومما يثير القلق هو أن االنتقام الذي يتم تنفيذه في شكل عقوبة اإلعدام يحقق، بصورة غير متوقعة ،قيمة رائجة هذه األيام :قيمة المساواة .أعتقد أنه يؤصل مبدأ «العين بالعين» في شعور عفوي وعميق وجذري على أن االنتقام تأسيس ًا للمساواة ( وبالتالي، للعدالة) نتيجة أذى اآلخر باعتبار ذلك تعويضاً« .التكافؤ» هو أحد خصائص العقاب بالموت من وجهة نظر غير متوقعة :التكافؤ بين المنتقم وضحيته في طبيعتهما البشرية المشتركة .هذا ليس تفسيرًا أعطيه لمبدأ «العين بالعين والسن بالسن» .حين يتم المطالبة
بمبدأ «العين بالعين والسن بالسن» فهذا يفترض ضمني ًا أن أي عين في هذه المقايضة القصرية تكون بذات قيمة األخرى .ومن الناحية العملية ( ولكن في حالة واحدة ،في النظام القضائي األميركي الحالي) يتم تصحيح هذا المبدأ بناء على تفسير -لم يتم االعتراف به ً مطلق ًا ولكن تثبته اإلحصاءات) أن عين (أو حياة) رجل أسود ال تضاهي عين أو حياة رجل أبيض ،وال جدوى من التوقف عند صرامة العقوبات المفروضة على السود والمرونة النسبية التي يتم الحكم بها على البيض .وعلى ما يبدو فإن المحكمة الموقرة أو المحلفين على خلفية وحشية عقوبة اإلعدام ،تنص على أنه من األكثر وحشية استخدامها مع رجل أبيض ،على الرغم من كونه قد قتل رج ً ال أسود (أو رجا ًال عدة) .ومع ذلك فإنه هناك كما نص قانون حامورابي ،الذي أسس مبدأ االنتقام منذ 4500عاماً -ال يمكن معاقبة الجميع بمساواة ،بيض أو
سود ،أحرار أم عبيد. في سياق مكمل ،يجب ذكر أنه عندما أراد هوبز أن يبرهن على أن جميع البشر سواسية في األصل ألمح ،بصورة مفاجئة ،إلى قدرتنا المشتركة على قتل بعضنا البعض« .متساوون من يقدرون على الشيء نفسه بعضهم ضد بعض. ومن يستطيعون المزيد ،أي القتل، لديهم القدرة المتساوية .وبالتالي فإن البشر متساوون فيما بينهم» .إن صح تفسيري فإن اإلعدام أو قتل من قتل يصبح -في الالوعي الجمعي -تحقيق ًا للعدالة ،من خالل المساواة بين القاتل وضحيته .ولذا فربما يعتبر أقارب مقتول ،غير طبيعي أو «كاف» حكم ًا مؤبدًا ،ألن المجرم ما يزال يحتفظ بحياته ،لم يحاك الحكم بين القاتل وبين ضحيته .ولذا ربما أيض ًا حين يتم تنفيذ الحكم باإلعدام في مرتكب مذبحة أو إبادة ترتفع أصوات تنتحب «بأنه قد قتل مرة واحدة فقط». ربما كان كانط نفسه ضحية لهذا الالوعي الثقافي نفسه ،عندما أكد أنه من دالئل العدالة الحاجة إلى قانون اإلعدام لكل القتلى. عندما أكد كانط أن «اإلنسان، وفي العموم ،أي كائن عاقل موجود كغاية في حد ذاته وليس كمجرد وسيلة لالستخدام االنتهازي لهذه أو تلك اإلرادة» ،أنه يصف أننا نمارس سلطاتنا في شكل عنف غير شرعي، محولين المتهم إلى «وسيلة» .الطابع «الشخصي» لألمر القطعي لكانط يتضح بصورة أفضل عندما يقول إن «الكائنات العاقلة تدعى أشخاصاً ،ألن شخصياتهم تشير إليهم ،كغايات في حد ذاتهم ،أي، كشيء ال يجب استغالله ليصبح مجرد وسيلة ،وبهذا يحد من أي قهر»* .قتل إنسان ليتعلم اآلخرون ويكون عبرة لهم هو استغالل هذا اإلنسان كوسيلة لهذا «التعليم» ،وبهذا المعنى ،يعد قهرًا وعدم احترام هائل. * كانط .ميتافيزيقية األخالق ،آجيالر، بوينوس آيرس .1968 .ص 123و .124
71
أشهر عمل أدبي يتناول قضية الثأر على اإلطالق هو مسرحية «هاملت» لشكسبير. هاملت ،ذلك األمير الجميل الذي أمره شبح أبيه أن يثأر له من أخيه الذي قتله وتزوج زوجته ..هي األسطورة نفسها التي كانت بطلتها إيزيس ،التي ظلت تربي حورس حرص ًا على الثأر من مقتل أبيه على يد إله الشر ست .ولكن ما هو الثأر؟ هل هو االنتقام؟ هناك تداخل بين اللفظين في اللغات األجنبية ..بل إن هناك مث ً ال شهيرًا يقول« :الثأر ..طبق يفضل أن يقدم باردًا» ،وهو منتشر في لغات كثيرة حية ،ولكن ال أحد يعرف من أين جاء ،فبينما يربطه األكثرية بتراث المافيا في الجنوب اإليطالي، هناك من يرى أنه جاء من شرق آسيا، من اليابان أو كوريا ،وهناك من يؤكد أنه مثل فرنسي أصيل.
- Sandro Botticelliإيطاليا
الموضوع األثير لألدب والفن
الثأر ..طبق فضل أن ي ُ َّ ي ُ َّ قدم بارد ًا د .ح�سني حممود -روما 72
أما الثأر تعريف ًا فهو «رغبة في إقامة العدل يثيرها دافع قوي يتبع ضغينة أو استياء» ،وفي ذهن من يريد أن يثأر أنه تحمل ضررًا سواء كان ضررًا واقعي ًا أو افتراضي ًا ويريد أو يحتاج إلى «تصفية الحساب» مع من كان سبب ًا في هذه المعاناة واالستياء. فالثأر إذًا هو سلوك ينشأ من اإلحساس بالظلم ،وهو يظهر أحيان ًا بشكل فوري (متفجر) ،أو مؤجل (استراتيجي) أو على نوبات ،ولكنه يهدف في النهاية إلى إقرار توازن في القوى ،وإقامة العدل ،دون المرور بالقواعد العادية التي تحكم التعامل والتعايش بين البشر ،بل يستخدم وسائل شخصية للغاية .والمثل الشعبي العالمي الذي أشرنا إليه يعني تحديدًا أن الثأر هو شعور يرتبط بالعقالنية والحسابات ،ومن ثم بالتفكير والتحليل. وربما هذا ما يجعل الثأر موضوع ًا جاذب ًا وجذاب ًا في األدب. ولهذا السبب نفسه نجده في التراث
األدبي العالمي :الفرعوني ،واليوناني، والالتيني ،والعربي ،إلى جانب األدب الحديث كله ،ولكن تتغير دينامياته بتغير الزمن ،ويتحول مع المكان، وينطلق من الفلسفة. في عمله الشهير «هكذا تحدث زرادشت» يؤكد الفيلسوف األلماني نيتشه« :روح الثأر يا أصدقائي هو أفضل الموضوعات التي َتفكَّر فيها اإلنسان ،فحيث توجد معاناة البد أن يوجد عقاب» ،وربما كان نيتشه هو أفضل الفالسفة الذين تفكروا في هذا الموضوع ،وما كتبه في هذا هو المرجع األساسي في هذا الموضوع. فمن رأي نيتشه أن روح الثأر ،الذي ال يتعلق فقط بنوع معين من البشر ،وإنما بالبشرية كلها ،ينطوي على أن «من يريد أن يثأر يريد أن يضع خصمه في حالة تبعية ،وأن يستخدم العنف ضده». وهو كذلك يفتح صراع ًا بين الزمن واإلرادة :فالثأر يعني إحياء الماضي، ومنع األشياء من المضي في مسارها لتصحيحها وتعديلها .ويرى نيتشه في هذه الدينامية إمكانية لإلنسان أن يتخلص من ثأره ،فاإلرادة تنجح خالل دورة الزمن في إعادة صياغة الواقع وفرض عمل مضاد لمسار األشياء. في التراجيديا اإلغريقية يمضي الحدث التراجيدي نحو حل العقدة عندما تبدأ فكرة العدالة في التحقق، وفي غالب األحيان تبدأ هذه الفكرة في التحقق من خالل الثأر .إلسيخليوس ثالثية بعنوان األوريستيا :تتكون من ثالث مسرحيات( :أجاممنون ،حامالت وتتناول الصافحات), القرابين، األوريستيا موضوع اللعنة المتوارثة في بيت أتريوس وأحداثها الرئيسية كاآلتي( : )1أنجب بلوبس ولدين هما أتريوس وثيستس ،ولقد حاول ثيستس غواية زوجة أتريوس ،قام أتريوس بالتظاهر بأنه قد غفر خطأ أخيه ،لكنه انتقام ًا من أخيه قام بدعوته إلى مأدبة،
تتردد ثيمة الثأر في معظم المسرحيات التراجيدية على مدار التاريخ، وأشهرها مأساة هاملت كان أتريوس قد ذبح فيها أبناء أخيه إال واحدًا وقدمهم أتريوس ألخيه في المأدبة ،وأكل األب لحم أبنائه دون أن يعرف الحقيقة ،ولكنه سرعان ما علمها فلعن أتريوس وذريته وفر بابنه الباقي هارباً .ثم تزوج ابنا أتريوس :أجاممنون ومينيالوس من كليتمنسترا وهيلين التي قامت من أجلها الحرب الطروادية الشهيرة وأثناء غياب أجاممنون في الحرب يعود إيجستوس ابن ثيستس، ويتخذ كليتمنسترا عشيقة له ،وعندما يعود أجاممنون إلى وطنه منتصرًا، تتآمر كليتمنسترا وعشيقها لقتل أجاممنون ،وبالفعل ينجحان في ذلك (وهذا ما تناولته مسرحية أجاممنون). وعندما يكبر أوريستس ابن أجاممنون، يعود إلى وطنه وباالتفاق مع شقيقته إلكترا لقتل كليتمنسترا وعشيقها انتقام ًا ألبيه (و هذا ما تناولته مسرحية حامالت القرابين) ،فتطارده األيرينيات عقاب ًا له على جريمته إلى أن تتم محاكمته وتعلن براءته فترفع اللعنة من منزل أتريوس. هذه األحداث التراجيدية المركبة يتوقف حلها على فكرة الثأر ،وهي التيمة التي تتردد بعد ذلك في معظم المسرحيات التراجيدية على مدار التاريخ ،وأشهرها كما أسلفنا مأساة هاملت ،والتي تجد صدى لها في الجزء األول من ثالثية أسخيليوس. وال ننسى رواية الكاتب الفرنسي الشهير الكسندر دوما «الكونت دي مونت كريستو» التي قامت حبكتها الروائية
على فكرة التخطيط للثأر ،وقد عرفها العرب أيض ًا باسم «أمير االنتقام» وكانت موضوع ًا ألفالم كثيرة من أشهرها الفيلم العربي «أمير الدهاء» إخراج بركات وبطولة أنور وجدي .تحكي الرواية قصة ادموند دانتيس ،صياد السمك الشاب المتهم زورًا بالخيانة ومناصرة االمبراطور نابليون المنفي .اعتقل دانتيس وأودع سجن شاتو بالقرب من مرسيليا .بعد مرور خمسة عشر عام ًا على سجنه ،تمكن دانتيس من الهرب بأن حل محل جثة صديقه المتوفَّى (األب فاريا) .بعد رميه في البحر ،سبح إلى بر األمان واستقل سفينة صيد إلى إيطاليا .غادر جنوب ًا إلى جزيرة مونت كريتو واستخرج الكنز الذي اخبره عنه صديقة األب فاريا ومن ثم استخدم هذا الكنز لمكافأة أصدقائه ومعاقبة أعدائه. وفي األدب ،وخاصة في المرحلة الرومانيكية ،كانت هناك تنويعات مختلفة على تيمة الثأر ،فلم يعد حل عقد المأساة في األخذ بالثأر ،وإنما أصبح هناك صراع بين الثأر والحب، وأيهما ينتصر ،مثلما في رواية «رحلة االنتقام» لروجرز روزماري من القرن التاسع عشر ،وتحكي عن سنكلير التي جاءت من أميركا إلى لندن لتأخذ بثأرها، ولكنها تقع في غرام من يجب أن تثأر منها ،ويبدأ صراعها بين الحب والثأر. شيء من هذا نجده أيض ًا في فيلم يوسف شاهين «صراع في الوادي» ،والذي ينتهي إلى االحتكام إلى القانون لكي يتولى أخذ الثأر بد ًال من البطل ،وهو ما قد يختلف مع حقيقة سيكولوجية تقول إن األخذ بالثأر يعطي شعورًا بالراحة ،وأحيان ًا بالمتعة .ومن أشهر األفالم العالمية ثالثية للمخرج الكوري بارك شان ووك وحملت عنوان «ثالثية االنتقام» بدأت عام 2002بفيلم «السيد انتقام» ،ثم «الولد العجوز» عام 2003 وأخيرًا «السيدة انتقام» عام ،2005 وهو فيلم يحكي على مدار زماني واسع كل مظاهر هذا الشعور باالنتقام ورغبة األخذ بالثأر.
73
ولجيمس ماكيتجيو فيلم أميركي بعنوان «أول حروف الثأر» ثم سلسلة أفالم الرعب ومنها «زومبي ،انتقام األبرياء» لكاردوني عام .2006 ألنطونيو فيكيرا كتاب بعنوان «موجز تاريخ الثأر :األدب والفن والسينما - العدالة األصلية» يستعرض فيه فكرة الثأر عبر الفنون واآلداب .وأهم ما يتوصل إليه من نتائج هو أن الرغبة في الثأر هي الشكل البدائي للعدالة ،والعمل الالزم إلعادة توازن مفقود ،وأن مفهوم «القانونية الشرعية» هو الذي حل محل هذه الرغبة في العصر الحديث ،فالتمرد تم تجاوزه الشخصي ضد عمل ظالم َّ في العصر الحديث بالقانون ،وهو تجريدي وغير شخصي ،وبفكرة الدولة باعتبارها «جماعية» غير ذات مصلحة. وألن الثأر تم طرده من المؤسسات فقد وجد مالذًا له في الفن :في الرسم أو ًال ثم بعد ذلك في األدب ،وعبرت عنه السينما أفضل تعبير ،حيث أصبحت الرغبة في الثأر مشبعة للجمهور الذي حرم من تنفيذ ثأره بنفسه. هذه الرغبة قديمة قدم الدهر ،وعبرت عنها المالحم الوطنية واألساطير القديمة 74
الرغبة في الثأر هي الشكل البدائي للعدالة،ومفهوم «القانونية الشرعية» هو الذي حل محل هذه الرغبة في العصر الحديث والتراجيديا الكالسيكية ،والمسرح. واالنتقام أو الرغبة في الثأر لها أشكال وأنواع متعددة :فهناك الثأر بعد معاناة ،والثأر بعد تحمل تعرض للعنف ،والثأر للشرف ،والثأر الجماعي ضد حاكم طاغية أو مستبد. الثأر في النوع األول يتحقق بعد أن تجعل خصمك يعاني مثلما عانيت منه أنت ،وغالب ًا يكون عنيف ًا بحيث تنقطع الصلة مع خصمك بعده ،وأحيان ًا ما يكون تعليمي ًا حتى ال يكرر الخطأ مرة أخرى .أما الثأر للشرف فيحدث عندما
يريد الشخص أن يظهر للعالم أن الضرر الذي أصابه لم يكن يستحق أن يصيبه، وغالب ًا ما ال يكون الخطأ قد سبب ألم ًا أو عنف ًا ولكنه مرتبط بالمبادئ .وأخيرًا الثأر الجماعي ،وهو يحدث على وجهين: فإما أن ينتقم فرد من مجموعة ظلمته بأن يدبر لها السوء ويعتبر المجموعة كلها مذنبة بالقدر نفسه ،والوجه اآلخر عندما تتعرض جماعة لظلم من شخص، فتثور عليه وتأخذ بثأرها منه. أما عن تأثير تحقق الثأر فيختلف من شخص آلخر :فهناك الشعور بالرضا ألخذ الثأر ،واإلحساس بالتعويض لتحقق العدالة .الشعور بالرضا إيجابي ألنه يجعل الشخص الذي حقق ثأره أقرب إلى التصالح مع من ظلمه. والتأثير اآلخر هو الندم والتوبة عندما يعترف الظالم بظلمه وبالضرر الذي سببه ويطلب الصفح .وهناك شعور عدم جدوى ،عندما يحس الشخص بأنه أفرغ كل شحناته ،وأدرك أن عمله لم يغير الموقف ،فال يعود يشعر بالحاجة لالنتقام ،واآلن لم يعد يحس بأي رغبة في الثأر ،وغالب ًا ما يدخل مرحلة اكتئاب.
ا�ستدراك
أمجد ناصر
إرث «الدولة الوطنية» حد ذاتها ،للقراءة بما تحمل من معان كلمة «فتنة» مثيرة ،في ِّ ودالالت عدي���دة تبدأ بمعنى «الحرق» لتميي���ز معدن عن معدن حب ًا حتى زوغان وتنتهي بالفضيحة والبالء ،م���رورًا بالتولّه َّ العقل .فالفتنة ،لغوياً ،تعني« :االبتالء واالمتحان واالختبار. والذهب» ،أي أذبتهما الفض َة وأصلها مأخوذ من الق���ولَ :فَتْن ُت َّ ٌ َ ���مي الصائغ ،قديماً، بالن���ار لتمييز الرديء من الجيد ،لذلك ُس َّ الف َّتان. َ كم���ا تعني «الفتنة» الضالل واإلث���م وما يقع بين الناس من خ�ل�اف يؤدي إلى فرقة واقتتال ،وعندم���ا تقرن بالمرأة تعني التولّه والتعلق .فـ «المفت���ون» (أو المفتونة بالطبع) ينصرف أي أمر آخر س���وى م���ا أوقعه في االفتت���ان .وقد ال تعرف عن ِّ النساء والفتيات العربيات اللواتي يحملن اسم «فاتن» أنَّه أحد حيد عن أسماء الشيطان! فالفتنة تزيغ العقلُ .ت ُّ خل بالتوازنُ .ت ُ حيد الصواب وكل ما يزيغ العقل والرش���د ُّ وي ُ ويخ���ل بالتوازن ُ عن الصواب ينس���به الموروث الديني والشعبي إلى الشيطان! إن اهلل «يْفتن» ،أيضاً ،رغم أن هن���اك حديث ًا يقولَّ : الجم���ال قد َ يحب الجمال .بعض المفس���رين رأى ف���ي الجمال الذي جمي���ل ُّ وحس���ن الهيئة .تفس���ير كهذا ال قصده الحديث الثياب والطيب ُ بد أن يكون ال الذي اهلل جمال مع يستقيم ،في رأيي المتواضع، َّ أكثر جوهري���ة من ذلك ..وهذه ،في كل حال ،مجرد حاش���ية متن مضطرب. سريعة على ٍ استقر ،على لساننا، من بين المعاني العديدة لكلمة «فتنة» َّ والتحزب األعمى لرأي دون آخر ،وتحريك جمار الفرقة ّ معنى ُ العصبيات الديني���ة والقبلية والجهوية التي يفترض أن نصف قرن من عمر «الدولة الوطنية» قد جعلها أثرًا من بعد عين .لكن «الدول���ة الوطنية» العربية التي جاءت بعد خروج المس���تعمر األجنبي لم تفعل ذلك .فقد وس���م العس���كر ما يسمى بـ «الدولة الوطني���ة العربية» بميس���مهم ،طبعوها بطابعه���م ،وطابعهم يحمل ،من بين ما يحمل ،أث���ر القبيلة والجهة وربما الطائفة، فضالً ،عن مسلك الثكنة وثقافتها. هكذا وجدت االنتفاضات العربية نفس���ها أمام مخايل الفتنة فزاع���ة جوفاء يرفعها النظام وأش���باحها .لم تكن الفتنة مجرد َّ العرب���ي ،في هزيع «الدولة الوطنية» ،بل فيها ،لألس���ف ،من
رباه النظام في الوهمي. يقل ع���ن الحقيقي ما ال ُّ الحقيقي فيها َّ ُّ ِّ ِّ أقفاصه ليخيف بعض الش���عب من بعضه اآلخر ،ليجعل شطرًا والوهمي يكمن في ينظر ،في ريبة وحذر ،إلى ش���طر آخ���ر. ُّ التضخي���م والفبركة واإلبقاء على م���واد الفرقة وآالتها .ورغم صدور معظم النظم العربية م���ن مراجع «مدنية» للدولة إال أن هش لما هو عكس���ها .فقد ه���ذه «المدنية» لم تكن س���وى غطاء ٍّ والجهوي والقبلي والطائفي الديني اس���تخدمت النظم العربية ّ ّ ّ ّ عندم���ا وج���دت أن بعض��� ًا من ه���ذه العناصر يكفل له���ا البقاء واالس���تمرار في الحكم وحاربته عندما لم يع���د يخدم أهدافها. الم���ادة موجودة ،في أجنتها أو ف���ي خلقتها األولى ،وما على «الدولة» سوى أن تنفخ فيها روحها الشريرة. أكثر من س���تة ،أو سبعة عقود على ما نسميه إرث «الدولة الوطنية» يكاد يتبدد على يد األنظمة العربية الراهنة ،صانعة، أو وريثة« ،الدولة الوطنية» .كأن كل ش���يء كان مزحة ثقيلة. كأن االس���تقالل ل���م ينجز ،والس���يادة لم تت���م ،والمجتمع لم َّ ينصهر ،والطبقات لم تنش���أ ،فنعود ،بلمحة بصر ،إلى عصر م���ا قبل الدولة .هكذا رأينا صراعات س���رعان ما احتدمت ما أن أطيح بحسني مبارك في مصر .صراعات اجتماعية وسياسية ودينية تصعد على الس���طح الخادع ال���ذي وارى النظام خلفه قضاي���ا لم يعم���ل على حله���ا ،بل اس���تخدمها حين��� ًا وأججها حين��� ًا آخر .لكن م���ا تعرفه مصر ،دولة ومجتمع���اً ،أقل بكثير مما تش���هده بلدان كليبيا أو س���ورية أو اليم���ن .هناك تتراءى المجتمعات وكأنها مكونة من قطع جرى لحمها بالقس���ر .األمر بطبيع���ة الحال ليس كذل���ك تماماً ،ولكن هذا ما اش���تغل عليه القذافي نحو خمس���ة عقود ،وترك -بعد مصرعه الفظيع -إرث ًا ثقي�ل�ا مما ه���و قبلي وجهوي ومدني ودين���ي ،وهذا ما صنعه ً نظام علي عبد اهلل صالح وما يواصله ،بعنف وقهر ش���ديدين، النظام السوري. لم تكن الفتن���ة كلمة رائجة قبل االنتفاض���ات العربية على النحو الذي نراه اليوم .إنها ،اآلن ،تكاد تكون كلمة الس���ر بين أنظمة عربية تقول لش���عوبها وللعالم :أنا أو الطوفان .أنا أو الحرب األهلي���ة .إما أن نحكمكم بالحدي���د والنار أو أن تكونوا أمام أشكال من الفتن لن تبقي ولن تذر. 75
�أماكنهم
محمد ب ّنيـس ْ المكتبَة صداقـة َ .1 صداقة تعود إلى بداية الشباب. تلك ٌ أستقل بها في أعلى طابق غرفة صداقة ّ حي الع���ْدوة بفاس. ببي���ت العائلة .في ّ هناك أخذت أتعلم أبجدية المكان ،الذي ظ���ل مكاني الش���خصي .المكتب���ة .تلك مع القراءة والكتابة. بذرة َتعلُّم ما يأتي َ التأم���ل. الصم���ت. الس���هر. العزل���ة. ُ ُ ُ ُ اإلنصات .مكان ل���ي .هو وأنا صديقان. تدوم العالقة نتبادل ما يلزم من أجل أن ُ َ يب���وح كل واحد أن أجل م���ن أو بينن���ا، ْ َ بس���ره إلى اآلخر .غرف���ة صغيرة. منا ّ ٌ سقف من خشب بالجبس. حيطان أربعة ْ األرز ،حس���ب ما كان البنّاؤون في فاس وأنت، عمره. َ َ يختارون لسقف سيطول ُ نفس���ك وسط المربع ،تنظر إلى َ في هذا ّ وتطل عل���ى يدك تكت���ب .هناك كت���ب، ّ ال���درس األول .ف���ي الق���راءة والكتابة. مم ْن أصبحوا بعي���دًا عن اآلخرين ،قريب ًا ّ أفراد عائلتي الجديدة ،من شعراء وكتاب َ وفنانين. .2 كبرت غير ذل���ك ،الحقاًُ . ل���م يكن لي ُ وانتقلت من السن. في المكتبة مع تقدمي ُ بيت العائلة إلى بيتي الش���خصي ،ومن فاس إلى المحمدية .مدينة على ش���اطئ 76
المحيط األطلس���ي ،بين ال���دار البيضاء مكان يحافظ والرباط .مدينة هي نفسها ٌ لي على حي���اة العزلة الت���ي كنت دائم ًا حريص��� ًا عليه���ا .مدين���ة صغي���رة .في «القصَبة» ،التي هي من عالمات مركزها ْ احتماء هذه الثغور التي أقامها المغاربة، ً من غزو برتغالي وإسباني ،بعد سقوط األندلس ،وضعف الدولة .مدينة الزهور بلغة الفرنسيين .أما فضالة ،فهو اسمها الذي عرفتها به وأنا صغير .في كل مرة كنت أسمع بين لما ُ أحلم بزيارتهاَ ، كنت ُ أه���ل فاس عن جمال ش���اطئها .اخترتها زلت أعيش ،رغم مق���رًا للمعمل .وهنا ما ُ انتقالي للعمل في الرباط. حظ أن أسكن، في المحمدية كان لي ُّ ف���ي البداي���ة ،ش���قة بش���ارع الجي���ش مكنتني من أن أس���تقل بغرفة، الملكيّ . هي المكتبة .نافذة على يس���ار المكتب. ب���اب تقابلها نوافذ وم���ن الجهة األخرى ٌ غرفة الضيوف ،تمتلئ ضوءًا وأشجارًا ونباتات .باب مستعد أن يكون مفتوح ًا مكتب خشبي أو مغلقاً ،حس���ب ما أريد. ٌ أفضل. ُم س���تعمل ،بحجم كبير .ه���و ما ّ َ أصبحت أكب���ر .خانات ثم خزان���ة كتب ْ مخصص���ة لصن���ف مح���دد م���ن الكتب. ف���ي الوس���ط الدواوي���ن ،وحولها كتب اللغة والمعارف والفن���ون .كتب باللغة
الفرنسية إلى جانب العربية .وللمجالت ٌ رفوف مس���تقلة بها .مكتبة خاناتها ،أو أن أالزمها ساعات، يمكنني للمس���تقبل. ْ من يوم ليوم. .3 اخترت أن يكون لي لكنن���ي بعد فترة ُ بيت مس���تقل .في مانيصمان ،عند شرق المحمدية ،حيث كان���ت حقول الطماطم والبطاطس .ثم في نهاية الس���بعينيات تحولت إلى تجزئة لبن���اء البيوت .ولها ْ تيس���ر لي أن هناك الياس���مينة. اس���م ّ أك���ون أقرب إلى الش���اطئ ،وأن تصبح َ طموحي ،في تلك ق���در على مكتبة ل���ي ُ الفت���رة .منحتها م���ا أملك م���ن جهد في تترس���خ .هنا التجهي���ز .صداقت���ي لها ّ ان���ات بد ًال من خزان���ة واحدة .مكتب خز ٌ َ أفس���ح ،رفوف أكثر للكت���ب والمجالت. َ ش���رفة ونواف���ذ .مقعد للق���راءة .تجهيز وظيفي ،كما نق���ول .أي ما أحتاج إليه كي أجلس للق���راءة والكتابة ،في غرفة ْ مس���تقلة عن باقي البيت وع���ن العالم. جدرانه���ا بالكتب .مع ذلك مكتبة تمتلئ ُ أش���كو من محدودي���ة محتوياتها .وفي ٍ أو ما أضيف كل فرصة ّ ُ إصدارات جديدة ْ أعثر عليه من إصدارات قديمة. الشعر دائم ًا في وس���ط المكتبة .هو وأول كت���اب .حوله ما يلزم أول الكالم ُ ُ لدروس���ي ف���ي الجامع���ة ،م���ن مراجع الرف���وف نح���و تخ���ص الش���عر .تمت���د ُ ّ أجنحة .هي الفلس���فة ،اللغة ،الشعرية والس���يميائيات ،التص���وف ،الرواي���ة، التاريخ ،الحض���ارات ،األديان ،الفنون التش���كيلية والمعماري���ة ،الموس���يقى، الع���روض والبالغ���ة .المعاج���م ،خلف المكت���ب مباش���رة ،ف���ي متن���اول يدي. وش���يئ ًا فش���يئ ًا ظهر ،في هذه المكتبة، جناح خ���اص بالثقاف���ة المغربية .هو، ٌ فر مم���ا كان عليه في البداية. أو الي���وم، ْ ُ وتلك قص���ة الثقافة المغربي���ة ،أيضاً، حديث���ة وقديمة ،على الس���واء .إذ كانت الس���بعينيات انطالقة الكتاب المغربي، الكتاب إلى تحول هذا ثم مع الثمانينيات َ ُ حاضر يفرض نفسه.
لذة أن أقرأ وأن أكتب
.4 الق���راءة عزي���زة عل���ى نفس���ي ،منذ الصغر .لم يعلمني أح���ٌد كيف أقرأ أو ما حفظت فيه الذي أقرأ .بعد الجامع ،الذي ُ الق���رآن ،جئت إلى المدرس���ة العمومية. تعرفت قصص األطف���ال التي كانت فيها ُ متداولة بين رفاق في القس���م الدراسي. ثم ف���ي باب «القرويين» كن���ت ،وأنا في تبيين أم���ر ُ بك ّ الطري���ق إلى متج���ر أبيُّ ، الكتب مبس���وطة على األرض. يعرضون َ ش���يء ما األغلف���ة المصورة .العناوين. ٌ كان يثيرن���ي .وفي كل مرة أش���تري ما أس���تطيع .حتى جاء اليوم الذي أمكنني للشبان :المنفلوطي ،جبران، أن أقرأ كتب ًا ّ «أغاني الحياة» ألبي القاس���م الش���ابي، عمتي ابن ّ «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشهُ . أصبح يتوف���ر على مكتبة ،فيها عناوين فلس���فية وتاريخية ولغوي���ة .وفي لمح كبر رفاقي في الدرب .أصبحنا َ من البصر ُ الكتب والموسيقى نحب مراهقين، فجأة ّ َ الكالس���يكية والش���طرنج .مكتباتن���ا لكل واحد منا. الصغيرة أبوابها مفتوحة ّ ُ نتبادل الكتب ،نقرأ ،والليل كنا نس���هـره حتى وقت متأخر.
بأن هناك ما من يستطيع أن يقنعني ّ هو أجمل وألذ من القراءة؟ ال أحد .الكتب. المدهش الذي ل���م يزدد مع ه���ذا العال���م ُ تش���عب ًا وانفتاح ًا وألفة وعشق ًا الزمن إال ُّ ومتاهة .كذلك كانت لي القراءة ،منذ أن أس���فل الحروف وأعالها تنطق سمعت َ في دواخلي ،كأنما ه���ي هناك تولد من جديد .موسيقى الحروف .ومن الحروف أعرف أحيان ًا ما الذي يبدأ إلى الكلمات .ال ُ كنت الكلمات. أم الح���روف بجذبي ،هل ُ ترن في أتل���ذذ حق ًا بهذه الكائن���ات التي ّ النفس ،بطريقة لم تك���ن لي مع كلمات القرآن .في هذه الكائن���ات كانت الحياة حيات���ي .وف���ي الق���رآن كان���ت الفواتح غري���ب لحروف ال تركيب َما يأس���رني. ٌ ٌ أفهم معناه���ا .ربما من هناك أصبح لي ٌ ش���غف بما ال أفهم فأقّدم���ه على ما أفهم. لكن كائنات الكتاب الحديث تسلمني إلى حيات���ي ،اليومية والداخلية .أس���تقبلها وأن���ا في حالة رقص .وحتى اليوم ،مع إغراءات األنترني���ت ،ال يزال الكتاب في حياتي هو الكتاب. .5 أن أق���رأ ،وهي الت���ي تقاطعت، لذة ْ
أن ذات ي���وم من أي���ام ،1956بنش���وة ْ أكت���ب .أتذكر أنني أخ���ذت دفترًا وبدأت أكت���ب ،من غير حس���بان ،م���ا يرد على ذهني .وفي لحظة م���ن الصدفة كان لي ْ لقاء بمن أصبح صديقي الكبير ،الشاعر ٌ الخمار الكنّـوني .معلمي األول في محمد ّ كتابة قصيدة أولى ه���ي األصعب .معه كانت كبة هبت عل���ي القصيدة ،كما ل���و ْ ّ ّ أقترب منها .أتعرف بدهش���ة وأنا ن���ار. ُ عل���ى طبقاته���ا المحجوبة ،أس���تغرب، م���ن قصيدة إلى قصيدة ،والصديق معي هول ما أحس. يصوبْ ، ين َصح ،يقلل من ْ ّ اختر طريقك. لي: قال يوم وذات ْ من مس���اء لمس���اء كانت الكتابة هي عادت���ي الت���ي الزمتني زمن���اً ،منذ تلك األي���ام األول���ى م���ن اإلقدام عل���ى كتابة القصيدة كنت أجدني في المس���اء تلقائي ًا مع القصي���دة ..عند الغ���روب أو بعده. وكلمات م���ن القلم إلى دفت���ر في ي���دي. ٌ ٌ نفس���ها .وأنا أخط تكت���ب الورق���ة .هي َ يكون الكلم���ات بت���ؤدة .أحب دائم���ا أن َ أعن���ي أن أبطئ الخ���ط جميالً .دقيق���اًْ . في كتابة الكلم���ة األولى .ثم أبطئ أكثر ف���ي التي تليها .كلم���ة بعد أخرى ،تتبع
77
الوزن الشعري .حتى التوتر (أو العنف) بيت يمر عب���ر طقس البطءٌ . في الكتابة ّ ينتهي حين ًا وحين��� ًا يظل معلقاً ،في كل تش���طيب على كلمة أو ح���رف أو عبارة ْ أن القل���ق صنو الفرح في الكتابة. ُ أدرك ّ مع التش���طيب أتبع ما هو أشّد صرامة، شيء أحاسب نفسي على ما كتبت ،وال َ بعده���ا يصبح باعث ًا على االطمئنان ،ثم بي���ت يلج بيتاً ،أبيات ه���ي مقطع ،كما كانت القصيدة في أيام بدايتها .تمر األيام أحس���ب الزمن بمقدار ما أكتب وال أدري. ُ من األبي���ات أو المقاطع .وفي الش���هور المترابط���ة يكون للقصي���دة عنوان ،هو العالمة على الزمن. .6 خلوة كانت تتطلبها القصيدة .وعندما (والجلوة) فت معن���ى كل من الخلوة تعر ُ ّ َ تبي َن لي أن طريق الشاعر عند ابن عربي ّ والمتصوف واحدة ،لكنهما يفترقان في الخلوة القص���د وفي معن���ى الوص���ول. ُ هي العزلة الت���ي تتطلبها الكتابة .بيتها َ المكتبة .وفي أوقات ومناس���بات تأتي الكتابة على ق���در المكان والعزلة ،حتى
أسميه مكتبة ال مكتب ًا
78
بي���ن الناس .ف���ي مقهى أو الجلوة ْ ف���ي َ اآلمن البيت لك���ن ً. ال مث فن���دق أو قط���ار َ ه���و المكان ال���ذي بنيته ،عبر س���نوات م���ن التأمل والبحث ع���ن الكتب وترتيب تكون الفض���اء .كل ذل���ك م���ن أج���ل أن َ الكتاب���ة ف���ي مكانها .هو ال���ذي تترجاه قدم ْت من حي���ث ال أعلم ،وقد تبدل كلم���ا َ موعدها من المس���اء إلى الصباح .تنادي ُ اختي���ار الصمت هن���اك الم���كان. عل���ى ُ متوفر .وحري���ة أن تظل لوقت تنتظر ما تكتب .الصمت والحري���ة مع ًا يتكامالن. من صباح لصباح في المكتبة ،ولي فيها األمن أن أكون كما أشاء ،ال األمن .يعني ُ ش���ي َء يزعجني وأنا أنصت إلى ما أكتب ْ في مجاهدة تتواصل عبر حياة .ال أقول يوم ًا أو مدة محدودة. أسمي المكان مكتبة ال مكتباً .المكتب ّ مليء بالواجبات س���لطوي مغلق مكان ٌ ٌّ ٌ وحدها .أما المكتبة ألن مهيأ ْ َ تق���ول نعم ْ المنفتح على الحياة .بناها شعراء فهي ُ وكت���اب ومفك���رون وفنان���ون .عوال���م ٌ نف ُسك الذي يصاحبك. تأتلف معها .هي َ وأنت في ينقل���ك م���ن حال إل���ى ح���الَ . أعز ما تحب :القراءة المكتبة تلتق���ي مع ّ
والكتابة. توزيع مكان���ي. اس���م المكتبة اس���م ُ ُ فضائها م���ن أمري .وهي ،م���ع األيام، كل ما تغتن���ي .أكاد أق���ول إن ّ تتس���عْ ، فيه���ا يعنيني ،ال أتخلى عن���ه .عناوين تأخذ مكان أخرى ،حسب الزمن الشعري حي تتبدل والثقاف���ي .ألن المكتبة ٌ مكان ٌّ بعض مالمح���ه ،من فت���رة ألخرى .مع ُ ذل���ك أحتفظ ف���ي مكان منفص���ل بما لم أو ال يعلمني يع���ْد يجيب على أس���ئلتي ْ ُ َما ال أعلم .عندما أدخل إلى هذه المكتبة وحدي. أحس���ني أطأ عتبة ْ ���و لي ْ بيت ُه َ ِ بابه يف���رض العزل���ة ،التي ه���ي رح ُم حريت���ي .عزلة أجهل أس���رارها ،أتركها تقودني إلى حيث هي تريد. .7 بي���ن الق���راءة والكتاب���ة م���ا ال يحّد م���ن التواص���ل والتجاوب .ثم���ة أعمال أستسلم لقراءتها بنشوة تنسيني الزمان ُ أو تعيدني إليهما بقوة كادت والم���كانْ ، أنتقل بين ما ترسم األعمال أن تتالشى. ُ خارطته .ذهاب ًا وإياب ًا في قراءة تستمر. نعم���ة أن أحي���ا في هذا تهبن���ي ْ أعم���ال ُ أحس بمعنى أن أكون العالم .وتتركني ّ موج���وداً .هي التي تدلني على ما يجعل الحي���اة مش���تركة بيني وبي���ن غيري. س���طوة وتمّدن���ي باألعم���ق الذي تدمره ُ استهالك ،تستبد بحياة البشرية اليوم. كل م���رة أس���أل عن معنى الش���عر ،عن معنى الثقافة واألعمال األدبية والفكرية أس���تكين إلى كسل في والفنية ،حتى ال َ التعامل مع ما أقرأ وما أكتب. مكاني في القراءة والكتابة المكتبة، ليس مغلق ًا على نفس���ه. من يوم ليومَ ، هو ف���ي ح���وار ال يتوق���ف م���ع الحياة وكل كل منهم���ا يكلم اآلخ���رٌّ . والم���وتٌّ . الطرق األلف لآلخر .أصّدق منهما يفتح َ يعتمد ما ينطق به هذا الحوار .ألنه حر. ُ التعل���م المتب���ادل .بين الم���كان اليومي ومكان الق���راءة والكتابة .وفي الش���عر أليس يظه���ر الح���وار بأعمق ما يمك���نَ . ُ كتب رامبـو؟ كما الحياة هو الشعر َ ُ
�ضحك وجد
ستفانو بيني
بعده كانوا يس���ألوني في الخارج دائماً ،متى يس���قط بيرلسكوني؟ وماذا س���وف يحدث بعده؟ .وعلى الس���ؤال األول كنت أجيب: لقد سقط برلس���كوني بالفعل .فشل في كل ما وعد به .أصبح اآلن عجوزًا ش���ريرًا مفعم��� ًا بالكراهية ،يكره ب�ل�اده ،ويكره الديموقراطية ،ويكره مواطنيه أنفس���هم .ل���م يعد يحكم ،وال يتهم س���وى بصباغة ش���عره ،والمفاخرة بغزوات نس���ائية ليس���ت حقيقية ،ألننا نعرف أنه عندما يتحدث شخص بشكل هاجس���ي ع���ن الجنس فه���و ال يفع���ل ه���ذا إال ألن الجنس هو المشكلة التي يعاني منها .رجل قصير جعلنا أضحوكة العالم كله ويتّهم الصحافة الخبيثة ،رجل قصير عليه عشرون قضية أفقر البالد ويتّهم وكاالت التقييم المالي ويتهم رجال النيابةَ ، واالقتصادي ،يغذي في حزبه الش���كوك ح���ول تغلغل المافيا ويغمض عينه عن المتهربين من الضرائب .بل إنه ليس���ت لديه الش���جاعة لكي يمث���ل أمام قاض ،فما بالكم أم���ام الرأي العام العالمي؟ .حتى رفاقه حاروا ف���ي أمره .ظلوا في أماكنهم إلى ج���واره لمجرد حب الس���لطة ،ولكنهم يضحكون من قفش���اته يصوتون لصالح قوانينه التعيسة ،ويكرهونه سرًا رغم أنهم ِّ – الفاضح���ة ،وعندم���ا سيس���قط ،لن يعترف أح���د بأنه كان يعرف���ه .مثلما حدث بعد الفاش���ية ولم يعت���رف أحد بأنه كان فاشياً .ولكن هذا العجوز الشرير قبل أن يسقط سوف يحاول أن يسحب معه إلى الدمار أكبر عدد ممكن من الناس .وأن ينفث آخر سمومه في الديموقراطية اإليطالية. وس���وف نحتاج سنوات وس���نوات حتى نس���تطيع التخلص من هذه الس���موم ،وإعادة بناء القواعد الديموقراطية ،واقناع اإليطاليين بأن يعودوا مواطنين مس���ؤولين ،وأال يتهربوا من الضرائ���ب ،وأال ينضموا إلى المافي���ا لكي يحصلوا على عمل، وأال يضاربوا في االقتصاد ،وأال يدفعوا الرش���وة للفاسدين، وأال يدفعوا للعمال المهاجرين بأس���عار سوق العمل السوداء، وأال يهربوا األموال إلى الخارج. إذًا ،ليس هناك برلس���كوني واحد ،ولكنه استنس���خ كثيرين على ش���اكلته ،هم مقلدو برلسكوني ،والذين اتخذوه وسوف يتخذون���ه قدوة في تقديم مصالحهم الش���خصية على مصلحة البالد .فإذا كان���ت إيطاليا تحتل المرتبة الس���تين على العالم في نوعية المعلومات ،فسوف نحتاج لسنوات وسنوات حتى يصب���ح تليفزيوننا حرًا من جدي���د ،وال خادم ًا للنظام .وحتى نبني مدرس���ة عامة اش���تد فقره���ا ألن الفلوس الت���ي كان من
المفروض أن تذهب إليها ذهبت إلى المدارس الخاصة .س���وف نحتاج إلى سنوات حتى نصلح الشرخ بين الشمال والجنوب الذي تس���بب به برلس���كوني وحليفه الخادم المطيع بوس���ي. سوف نحتاج سنوات وس���نوات لكي نبني الطبقة السياسية لليس���ار ،المترددة والمنقس���مة ،وقد تعودت بالفعل على كل أنواع التنازالت ،ولم ترد إرادة حقيقية أن تسقطه أبدًا. هل من أم���ل؟ بالتأكيد ،واألمل يأتي من أولئ���ك الذين اتخذوا قدوة لهم نماذج أخرى ،ونهجوا س���بيل المواطنين الش���رفاء لعَمد بعض البلديات ،للمدرسين وسط كل المصاعب .يوجد أمل ُ الذين حاربوا للحفاظ على جودة التدريس والطلبة والنس���اء الس���اخطات إلهانته���ن ،العمال الذي���ن وجدوا س���ب ً ال جديدة للتضامن فيما بينهم ،والمستهلكين الذين اخترعوا عبر اإلنترنت طرق��� ًا جديدة للش���راء وللدفاع من مرتباته���م ،ولألطباء الذين يستنكفون العمل في مستشفيات تتداعى .باختصار لكل هؤالء الذين قالوا :ما دام برلس���كوني موجودًا فال أمل .والمفكرون؟ حدث لهم ما حدث لبالد أخرى .كثيرون منهم أصبحوا أعضاء في ب�ل�اط القصر ،جلس���وا تحت العرش ،واس���تغلوا صحف برلس���كوني وقنواته لكي يبنوا مجدهم المهني .لن يس���تمروا كثي���رًا ،فلن يذكر من كتاباته���م وكلماتهم إال القليل .ولكن كان هناك أيض ًا المثقفون والكتاب ،الفالسفة والمدرسون ورجال المسرح (القليل جدًا في السينما) الذين يقولون كلمتهم واضحة قوية ،وقد كتبوا عن األهوال والتدهور الثقافي لهذه السنوات، لقد اختاروا أال يكونوا خدماً .هؤالء ما تزال لهم كلمة مسموعة، حتى وإن لم تكن من الجميع ،وسوف تستمر كلماتهم. ال أح���د في إيطاليا يش���ك في أن الجميع عليهم أن يس���تعيدوا نصب أعينهم هذه الكلمة التي اختزلها برلس���كوني إلى خرقة بالي���ة :المس���ؤولية .الدع���م المدن���ي تجاه اآلخري���ن ،قواعد الديموقراطية ،مصالح المواطن ،وليس مصالح مواطن واحد، حري���ة المعلوم���ات .إذا حدث هذا ربما نس���تطيع أن نأمل في أن نرتق���ي ببطء وصعوبة بإيطالي���ا نحو ديموقراطية أفضل ونح���و جدارة الحصول على احترام الدول األخرى .إال إذا جاء بعد برلس���كوني برلسكوني آخر ،ثم موسوليني آخر ،وهكذا دواليك ،ألن الديموقراطية في إيطاليا ،ليست طبيعية ،ليست أصيلة في المواطنين ،ولكنها ش���اقة ،ومغامرة يومية تتجدد كل لحظة .لقد نجحنا في هذا أحياناً. تمنّوها لنا كما تمنَّيناها لكم. 79
�أدب
نجيب محفوظ في عيد ميالده المئة
رسائل إلى الجد في الحادي عشر من ديسمبر عام 1911ولد في القاهرة بحي الجمالية الطفل نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا، الذي سيعرف اختصارًا فيما بعد بـ «نجيب محفوظ» ،ومحفوظ ليس اسم األب الذي أطلق على ابنه اسم ًا مركب ًا بل هو اسم طبيب التوليد الذي خرج الفتى إلى الدنيا على يديه. مئة عام تمر على ميالد الروائي العربي األمهر الذي ُت ِّوجت مسيرته األدبية بجائزة نوبل .وهو تقدير مستحق لرجل صنع بمفرده تاريخ ًا موازي ًا لتاريخ الرواية األوروبية الحديثة ،فكتب الرواية التاريخية واالجتماعية والرمزية ،ولم يكف عن التجريب حتى اليوم األخير من حياته ،إذ اختتم مسيرته بعملين يقتربان من الشعر هما «أصداء السيرة الذاتية» و«أحالم فترة النقاهة». يمثل نجيب محفوظ صيغة «الكاتب» بألف الم التعريف ،حيث اإلخالص المطلق للكتابة الذي ال يزحزحه عنه منتهى التجاهل قبل نوبل وال منتهى الشهرة بعدها .الرجل الذي نزلت شخصياته من الرواية لتصبح نماذج اجتماعية كان هو نفسه شخصية روائية شديدة التركيب كبيرة الرحابة ،حيث كان ظاهرة في تعدد توجهات أصدقائه من ليبراليين إلى يساريين ،ومن رافضين إلسرائيل إلى تطبيعيين ،وكان يخصص لكل فريق جلسة ال يقترب منها أحد من رواد المجلس اآلخر. كتب الكثير عن نجيب محفوظ ،ولذا فقد رأت «الدوحة» أن تحتفل بميالده احتفا ًال بسيط ًا من خالل مقال وحيد كتبه من جنوب إفريقيا ج.م .كويتزي (نوبل ،)2003ورسائل من عدد من أحفاده الروائيين العرب الشباب.
80
إسماعيل عزام -العراق
81
روائي القاهرة ج .م .كويتزي
*
ترجمة -طالل في�صل
1
ظهرت أوائل الروايات العربية -على النمط الغربي -منذ قرن تقريباً .ازدهر هذا النوع األدبي في مصر ،مع تنامي ظهور مجتمع مدني متين واإلحساس بالهوية الوطنية .هناك يقف الرجل العظيم الذي يدعى نجيب محفوظ، والمولود في 1911وتم تتويجه بجائزة نوبل عام .1988ربما كان محفوظ يثير من االهتمام اآلن أقل مما كان يثيره في الخمسينات والستينات ،إال أن نموذجه هو الذي دفع الرواية العربية لألمام ،من المغرب وحتى البحرين. روائي محفوظ وقبل كل شيء هو ّ القاهرة ،والقاهرة القديمة تحديدًا، منطقة ذات مساحة ال تتجاوز الكيلومتر المربع في قلب المدينة المتخمة بالسكان (تعدادها حالي ًا حوالي 16مليون نسمة) يستعيد محفوظ ذكريات طفولته ،حين كان يتأمل من شباك بيت أسرته في الجمالية العساكر اإلنكليز يحاولون السيطرة على مظاهرات ثورة 1919 (وهو المشهد الذي سيعيد عرضه في بين القصرين) ورغم أن أسرته تركت الجمالية وهو في الثانية عشرة ،إال أن
82
حواريها وتوليفة الطبقات االجتماعية التي تسكنها ،ظلت هي مركز عالمه الروائي. روايات محفوظ في المرحلة الواقعية، وأهمها زقاق المدق ( )1947والثالثية ( )1957 - 1956تستخدم الجمالية كمكان بدقة متناهية .مع أوالد حارتنا ()1959 يبدأ اهتمام محفوظ بالمعقولية يتضاءل وتبدأ الحارة تكتسب صفات أسطورية وتتحول لشيء أشبه بشوارع بغداد في ألف ليلة وليلة. ُتركِّز روايات محفوظ الواقعية على أهل المدينة .ليس هناك أثر للفالحين أو أهل الريف :إن سكان مدينته يبدون وكأنهم بال أقارب في القرى ،وإذا ما كان يضع المدينة أمام شيء ،فإنه يضعها أمام نفسها في مرحلة مبكرة من نموها، وليس أمام القرية .إنه يتعامل بشكل واضح مع بشر ذوي قدرات محدودة يحاولون الحفاظ على حياتهم فحسب، ويفعلون أقصى ما يمكنهم للبقاء في الطبقة المتوسطة التي ينتمون لها من حيث المظاهر والطموحات. المساحة الضيقة التي ُيركز عليها كانت مثار انتقاد الروائي الهندي أميتاف جوش ،الذي يرى أن هذه المعايير ليست
مرتبطة بالتقاليد المصرية قدر ارتباطها بااللتزام الفيكتوري .هذه القراءة، والتي تطرح ارتباط محفوظ الوثيق بتقليد النماذج الغربية (والتي سرعان ما يتجاوزها الزمن) يتناسى ما يريد محفوظ قوله -بمزاجه السوداوي - حول أخالقية االلتزام .بداية ونهاية على سبيل المثال ،والتي تعرض لتضحيات أسرة برجوازية صغيرة لدعم قفزة أحد أبنائها نحو طبقة الضباط المصريين، وما سيتبع ذلك من محاوالت هذا االبن إلخفاء أصوله المتواضعة ،إنها رواية كئيبة وقاسية أكثر من أي عمل لروائي مثل درايسر ،على سبيل المثال. تستند شهرة محفوظ -وهذا مفهوم - إلى إنجازه الضخم في الثالثية والتي تم مستوى متجاوزًا اعتبارها حين ظهرت ً للرواية العربية .تقتفي الثالثية أثر التغيرات في جيلين من أسرة قاهرية في الطبقة المتوسطة بدءًا من ثورة 1919 وحتى الحرب العالمية الثانية .تسجل الصفحات المتمهلة للثالثية االنعتاق التدريجي للمرأة ،وتفكك العالقات الدينية بين أفراد الطبقة المتوسطة، وتنامي دور العلم واألشكال الثقافية الغربية في العموم. من بين الشخصيات الثرية للرواية هناك السيد أحمد عبدالجواد :طاغية في البيت بين زوجته وأبنائه ،لكنه في سهراته مرح وتلقائي ،ذكي وخفيف الظل ،عاشق للطرب وللنساء وللذة. زوجته المخلصة مطيعة إلرادته حتى أنها لم تغادر البيت تقريب ًا لربع قرن (وحين أقنعها األوالد بالخروج ذات مرة من ورائه تعرضت لحادث مهين ،كأن القدر يثبت أن زوجها على صواب) من بين أبنائه ياسين ،عاطفي ومتهور، يحاول تقليد والده الضخم لكنه ال يفلح إال أن يصير نسخة محاكاة ساخرة، بينما ابنته خديجة تغيظ أختها األجمل منها ،عائشة ،طوال الوقت وتتجسس عليها ،إال أن هذه الغيرة تدعم رابطة الحب التي تقوم بينهما ،بد ًال من أن تضعفها ،أما كمال (المماثل لمحفوظ من نفسه) صبي ذكي ومحبوب ،وسيتحول
الحق ًا لشاب مثقف تؤرقه المشاكل الوطنية والفلسفية. في أسلوبها ومنهجها ،تعتبر الثالثية (والتي انتهى محفوظ منها عام 1952 ولم تنشر إال بعد ذلك بأربعة أعوام) والروايات السابقة لها امتدادًا للدراسة المنهجية التي قام بها محفوظ للرواية الغربية في شبابه ،فهي تقتفي أثر الرواد الكبار للواقعية الغربية :جالزورثي، وتوماس مان ،وبدرجة أقل بلزاك الزئبقي ،وديكنز -وهو يتجاوز فكرة التدوين الدقيق لمصائر األسرة وتشريح طرائقها إلى كشف مستمر ومتعاطف ألكاذيب البشر -ال سيما أفراد الطبقة المتوسطة -بقدرته على معايشتها في يقين يذكرك بتولستوي. مثلما حدث مع سلمان رشدي ،قامت مناوشات بين محفوظ والسلطات الدينية وحقيقة أنه خرج سليم ًا ال اإلسالمية، ُ تشهد إال على مراوغته السياسية الكبيرة فيما يتعلق بهذا الجانب ،واستعداده أن
يقدم تنازالت رمزية عند الحاجة لذلك. كان مبرر الصدام هو رواية «أوالد حارتنا» والتي نشرت مسلسلة في األهرام ولم تنشر في كتاب في مصر (بخالف الطبعة غير الشرعية الصادرة في بيروت عام .)1967 أوالد حارتنا ،مثل الكثير من روايات محفوظ ،تدور في حارة مصرية واحدة، وهي رواية رمزية من أجزاء متعددة تقوم على عدة مستويات دينية وسياسية. من حيث كونها رواية دينية أليجورية، تبدأ بإيجاد الجبالوي ،الشبيه باإلله، ً مقاطعة كبيرة ،ثم يسرد خيانة ابنه األصغر المقرب إليه ،أدهم (أو آدم) وما يتبع ذلك من بناء الحارة ،ومسيرة األبطال األربعة الذين يماثلون موسى وعيسى والنبي محمد ،ثم الرابع ،رجل الحداثة ،العالِم الذي يصارع ليستعيد مصير الحارة وأهلها من الفتوات الذي يتحكمون فيها .كان محفوظ نفسه قد فسر اإلشارات السياسية للرواية في
حوار عام ،1975حيث فتوات الحارة هم ضباط الجيش في عهد عبدالناصر قائالً« :السؤال الذي كان يؤرقني :هل كنا نتحرك نحو االشتراكية أم نحو نوع جديد من اإلقطاع»؟ لم يكن مفاجئ ًا أن يتم اتهام الرواية بالكفر ،واحترام ًا للمشاعر الدينية، رفض محفوظ الخوض في حكم األزهر، المؤسسة اإلسالمية األعلى في البالد، والذي قام يتحريم الرواية مبررًا أنه ليس من الحكمة أن يستبعد األزهر في قضية فرعية حين يكون في حاجة لدعمه ضد ما أطلق عليه «فهم القرون الوسطى لإلسالم» وهو ما يقصد به تنامي الحركات األصولية في العالم اإلسالمي. هذه الحلول التوافقية بدت وكأنها تتجاوز المواجهة مع السلطات الدينية. بالرغم من ذلك ،وفي عام ،1988جلبت جائزة نوبل من جديد الضغوط لطبع الكتاب في مصر ،ثم ثارت بعدها بقليل العاصفة ضد سلمان رشدي ،وتم ربط أوالد حارتنا برواية آيات شيطانية وكان مطلوب ًا من محفوظ أن يلقي بيان ًا صحافي ًا يوضح فيه رؤيته لموقف الكاتب في العالم اإلسالمي .تحدث محفوظ بشكل واضح داعم ًا لحرية التعبير وانتقد فتوى الخميني ضد رشدي .في المقابل جاء رد فعل األصوليين ،متهمين إياه بـ «الكفر والردة والماسونية» وتم إصدار فتوى أخرى بحقه من جانب مفتي الجماعات األصولية« :محفوظ ..مرتد. كل من يسيء لإلسالم هو مرتد ..وإذا لم يستتابوا فال بد أن يقتلوا» وثمة ظالل من الشك أن هذه الهجمة ضد محفوظ وراءها دعمه للسالم مع إسرائيل والذي عبر عنه عام 1975عقب حرب يوم كيبور في .1973 كانت الستينيات فترة مظلمة في حياة مصر .كان نظام ناصر يزداد قمعاً، ويتزايد الشعور العام بالخيبة ال سيما عبر محفوظ عن حسرته بين المثقفينَّ . الشخصية -بشكل موارب نوع ًا ما - في روايات مثل اللص والكالب ()1961 وثرثرة فوق النيل ( )1969مهاجم ًا تفاهة وهروبية الطبقة العليا في مصر ،وهو 83
84
2
مجرد اسم العمل السادس عشر في سلسلة دبلداي ألعمال محفوظ باإلنكليزية ،يبدو ساحرًا :الحرافيش. كلمة الحرافيش كلمة عربية فصيحة إال أنها لم تعد تستخدم بشكل معاصر. في القرون الوسطى كانت تعني الفئات الشعبية المتنقلة ،الفقراء من المجتمع في الحالة األقرب للتهديد والتقلب .وهكذا، يمكن للعنوان العربي ملحمة الحرافيش، أن يتم ترجمته إلى «ملحمة الرعاع» أو «مطولة الدهماء» مثالً ،لكن ال «الرعاع» وال «الدهماء» مناسبة للحرافيش الذين رأيناهم في الكتاب :فقراء وظروفهم متقلبة بالطبع إال أنهم على قدر من الوعي واالستجابة للقيادة الصالحة. لم تجد المترجمة كاثرين كوبام مفرًا من
محمد عبلة -مصر
ما أثار غضب ناصر بسبب ما تضمنته من عناصر ساخرة ،ولم يسمح بالنشر إال بعد تدخالت بمعرفة المؤلف نفسه. بعد هزيمة 1967بدا وضح ًا أن البيئة صارت مزعجة للمتشككين ،وأنه لم يعد بوسع محفوظ االعتماد مجددًا على رجال مثل ثروت عكاشة ،وزير الثقافة آنذاك ،لحمايته ،وجاء موت ناصر بمثابة عامل ارتياح ،في رواية الكرنك ( )1974المنشورة بعد أن بدأ السادات انتقاد تجاوزات ناصر -قام محفوظ بتوثيق الممارسات الوحشية للمخابرات في عهد عبدالناصر. لم يكن محفوظ أبدًا متفرغ ًا للكتابة. بين عامي 1934و 1971كان موظف ًا حكومياً ،وضمن هذه الفترة عمل رئيس ًا للرقابة على المسرح والسينما. بعد تقاعده عام ،1971انضم لفريق كتاب صحيفة األهرام اليومية العريقة. وهناك كتب عام 1975مطالب ًا الدول العربية بالبحث عن طريقة للتعايش مع إسرائيل ،وبعد ذلك قام بتأييد اتفاقية كامب ديفيد .كان هو أول الكتاب العرب المهمين ممن تبنوا مثل هذا الموقف، وترتب على ذلك أن ُمنعت كتبه من دخول كل الدول العربية .في مقاالته عبر عن انزعاجه من الصحافية أيض ًا َّ سياسة السادات االقتصادية ،والتي أدت ،في رأيه ،إلى أن صار األغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرًا. على الرغم من هذا الحرص المشرف على االستقالل ،واجه محفوظ نقدًا بتخلفه عن الزمن .من وجهة نظر الكاتب اللبناني إلياس خوري ،مثالً ،لم يستطع محفوظ حل التوتر بين تسجيل صعود الطبقة التي يعرفها ،البرجوازية الصغيرة ،للسلطة وبين إحساسه لح بالمسؤولية -ال سيما بعد هزيمة الم ّ ُ - 1967بالتعبير عن اهتمامات أخالقية وسياسية أكثر اتساعاً .يطرح خوري تحول عن الواقعية إلى فكرة أن محفوظ َّ كعرض ،على المستوى األدبي، الرمزية َ لفقدان االتصال بالطبقات التي تقع فعلي ًا في مركز الصراع االجتماعي في مصر المعاصرة.
على المستوى ذاته كان التراجع عن بعض التراكيب مثل الشخصيات البارزة النسائية في حقبته الواقعية -نفيسة القبيحة مث ً ال في بداية ونهاية والتي كانت مستعدة لالستسالم للفقر والعنوسة في سبيل الحفاظ على مصلحة أخيها لكنها لم تستطع مقاومة احتياجها للجنس، وبالتالي واصلت عالقاتها المهينة مع الرجال الذين كانوا يستخدمونها ،ثم يتهكمون عليها أو حتى يرفضون دفع النقود لها -إلى النماذج النمطية األخرى في رواياته األحدث والتي اعتبرتها بعض التعليقات النسوية رد فعل دفاعي على الحركات النسوية الحديثة. بالنسبة لخوري وغيره من الكتاب الذين انتقدوا تحوله عن الكتابة الواقعية إلى الكتابة الرمزية ،أجاب محفوظ أنه كان يشعر في الخمسينات بالرغبة في الكتابة بالطريقة الواقعية األوروبية، وما لبث «أن فقد هذا االهتمام باألفراد كأفراد» على وجه التخصيص ،أو بالكتلة التاريخية الصماء .جاءت أعماله التالية أكثر تكثيفاً ،وشاعرية ولكنها أقل «حداثة» ،فيما يخص اللغة الروائية مقارنة بما قدمه أساتذته األوروبيون.
روائي القاهرة ،والقاهرة القديمة تحديداً. محفوظ ّ
اإلبقاء على الكلمة العربية والتي عنى بها محفوظ «الفئات الشعبية ذات الحس السليم» (وهو المعنى الذي ال نجد له كلمة مناسبة في اإلنكليزية .لماذا؟). تدور الحرافيش في حارات مصر القديمة .إنها تعرض حياة البسطاء لكنها تركز على الفتوات الذين -جي ً ال بعد جيل -يديرون شؤون الحارة .أول هؤالء الفتوات هو عاشور .يرى عاشور في الحلم أن الطاعون على وشك مداهمة القاهرة .ينسحب هرب ًا إلى الصحراء مع زوجته وابنه ،حين ينتهي الوباء يعود عاشور إلى مدينة الهالكة ،يستقر في بيت امهجور ويعيد توزيع الثروة الموجودة فيه إلحياء اقتصاد الحارة، وال يفلح العام في الحبس سوى أن يعزز موقفه بين الفقراء ،يعود عاشور الناجي بط ً الفتونة ال لموطنه ويتقلد َ ويؤسس لعصرها الذهبي «ولم يفرض إتاوة إال على األعيان والقادرين لينفقها على الفقراء والعاجزين». ثم ذات ليلة ،يختفي عاشور بشكل غامض .يبتهج التجار غير أن بهجتهم ال تدوم ،حيث ينجح ابنه شمس الدين في التأسيس الستمرارية آل الناجي، وتحت قيادته يواصل الحرافيش الحياة العادلة المزدهرة. مع الثالث من آل الناجي ،سليمان، تبدأ الساللة في االنحدار .ينحرف سليمان إلى حماية أموال أغنياء والتي كان يتم توزيعها من قبل على الفقراء ،يزداد الفقراء معاناة ويزداد
ثراء الفتوات .ال يدرك أبناء سليمان أن الرخاء -الخاص بهم والخاص بالحارة يعتمد على سلطة ومكانة الفتونة.يتفرغون لكسب الثروة ،وتضيع الفتونة لمستغلين من آل الناجي الذين يتحولون ُ للفقراء بد ًال من القيام بحمايتهم( .وهذا التنقل بين الدورين ،دور االستغالل ودور الحماية،هو ما يميز جوهر فتوات محفوظ عن عصابات الجيتوهات في المدن الكبرى). لثالثة أجيال متتالية يتواصل انحدار آل الناجي وانحدار الحارة .يعيش الحرافيش في جهل وفقر ،يتحسرون على أيام عاشور التي لن تعود .تصل الفتونة إلى جالل ،الطاغية الظالم الذي يستخدم الرشوة والفساد لبناء ثروته ِّ محضر وبيته الضخم ،ويقوم باستئجار لألرواح ُمكرس ًا نفسه لتحقيق الخلود. لقد تمت خيانة عهد عاشور ،لقد صار آل الناجي ،كما يهمس الحرافيش - والذين يتحولون إلى ما يشبه الكورس اإلغريقي معلقين على األحداث -مجرد «نكبة متكررة على مدى الزمن». تضرب المجاعة القاهرة .يدخر التجار الطعام ،وحين يثور الحرافيش يرد عليهم الفتوات بطش ًا بالفقراء وحماية لألغنياء .وسط هذه الظروف المضطربة يظهر فتح الباب ،أحد الفقراء من أبناء آل الناجي ،ويضيء الشرارة التي تدفع النفجار العنف الشعبي .يحاول أن ينهي أساليب الفتونة ويعيدها لخدمة الناس لكن أتباعه يقتلونه ،ويعود الحرافيش من جديد «لسباتهم العميق». في الوقت ذاته ،وفي مكان غامض يكبر ،يدعى يكون هناك شاب صغير ُ عاشور ،هو االبن الثالث البن أخت فتح الباب .يتأمل عاشور في سلفه األسطوري ،وفي الطريقة التي نجح فيها أن يوازن بها بين السلطة والفضيلة، لقد حصل على الرؤيا .يتحدى عاشور الفتوات ،وفي واقعة ال تصدق ،يتحلق الحرافيش تلقائي ًا تحت لوائه. «كانت معركة لم تسبق بمثيل من حيث عدد من اشترك فيها ،فالحرافيش أكثرية ساحقة ،وفجأة تجمعت األكثرية
واستولت على النبابيت ،فاندفعت في البيوت والدور والوكاالت رجفة مزلزلة. تمزق الخيط الذي ينتظم األشياء وأصبح كل شيء ممكناً» .حيث ينجح قائدهم الجديد في تحويل الحرافيش «من صعاليك ونشالين ومتسولين إلى أكبر عصابة عرفتها الحارة» .يفرض ضرائب ثقيلة على األغنياء ويؤسس المدارس ويوفر العمل« .وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأنقى درجات النقاء». هذا الملخص الذي أقدم به رواية محفوظ ال ينقل إال شيئ ًا بسيط ًا من نكهتها ،فالحرافيش ليست رواية ولكنها سلسلة من حكايات متتابعة .ليس للحكايات بطل واحد ،غير أنه يمكننا أن نزعم أن لها ضحية واحدة :البشر الذين يعانون .يعود محفوظ في نماذجه السردية إلى فكرة القص الشفوي األصيل ،بهذا المعنى يكون محفوظ جزءًا من مشروع (وربما يتسلم فيه القيادة من روائيين مصريين أصغر سن ًا مثل جمال الغيطاني) :ليعيد تعريف النثر الروائي العربي ،مشيدًا فوق التراث الكالسيكي والشعبي ،ومبتعدًا عن تقاليد الواقعية الغربية التي تبناها في البدايات .هذا يظهر حتى من مجرد عناوين كتب محفوظ األخيرة :الحرافيش ،وليالي ألف ليلة ،ورحلة ابن فطومة. ربما يجد قراء الحرافيش الغربيين مشكلة مع العدد الضخم للشخصيات العابرة ذات األسماء الغريبة ،وانشغاالت القصة المتكررة بالنسب والميراث .في منتصف الطريق وفي فصول «األشرار» من أجيال آل الناجي يمكنك أن تفقد خيط األحداث (وربما تفقد االهتمام) َمن وم ْن أنجب َمن؟ ،في بم ْن؟ َ الذي تزوج َ تلك اللحظات يبدو من المفيد أن نسترجع
الحرافيش بالمعنى الذي يقصده محفوظ ليس لها مرادف باإلنكليزية
الثقافات الشفوية -أو الثقافات ذات األساس الشفوي القوي -تمتلك ذاكرة أقوى بكثير من تلك التي لم تستعمل سوى الكتابة (وقد تم اختراع الكتابة قبل كل شيء للتغلب على استحالة تذكُّر كل شيء) في الثقافات الشفوية تدريب الذاكرة هو أمر أساسي داخل التعليم، بينما في عالم البطاقة اإللكترونية على النقيض ،يبدو أننا سنصل قريب ًا لمرحلة أن كل ما سيحتاجه الشخص المتعلم من ذاكرته هو أن يتذكر مكان جهاز الكمبيوتر. يبدو نثر الحرافيش عتيقاً ،لكن ال شك أن محفوظ يستمد قوته من هذه العتاقة .عند المناطق الوجدانية من رواياته الباكرة ،وخصوص ًا في مشاهد وصف الوقوع في الحب -وهو الشيء الذي يحدث كثيرًا في عالمه الروائي، حيث يضج الصبيان والبنات بالنشاط الجنسي ،وتكاد تنعدم فرص اللقاء وليس هناك سوى التماعة النظرة الخاطفة تتبعها أسابيع من األحالم الجنسية والتدابير المحمومة -ثم ينتقل محفوظ بسهولة إلى ما يطلق عليه الفيلسوف جالن ستراوسن «زخرفة األدب العربي الكالسيكي» -العواطف المحلقة والمشتعلة ،بينما نرى في هذه الرواية ،مع ذلك ،لغة قديمة تعود من جديد بنضارة مدهشة. »وكان وهو يعمل في فناء البيت يتجنب النظر إلى الناحية التي يحتمل أن يلمح فيها زوجة المعلم .لكنه رأى ابنته زينب وهي ذاهبة إلى الطريق فخانه طرفه لحظات خاطفة ولكنها جديرة بالندم .وتفشى الندم أكثر عندما اجتاحته شعلة ألهبت الصدر والجهاز الهضمي واستقرت في الجوهرة الحمراء المشعة للرغبة الجامحة» بأي حساب منطقي ،ال بد أن تغطي الحرافيش كرونولوجيا عدة قرون ،إال أن الرواية ال تقدم أي دليل على تغير العالم الخارجي المؤثر على الوجود المنغلق على ذاته لتلك الحارة ،ويبدو واضح ًا تمام ًا أن الحارة مقفلة خارج التاريخ كأن محفوظ يتجاهل -أو يحاول تجاهل 85
الزمن التاريخي .حتى في األيام األولىلعاشور ،على سبيل المثال ،يبني الناس البيوت بأسقف من الصفيح ويطلبون الترخيص من السلطات لبيع الخمور، وبعد مرور ثالثة عشر جي ً ال ال يطرأ على هذه التفاصيل اليومية اي تغيير ،في حين تبدو قوى الدولة الحديثة ،ال سيما الشرطة ،بعيدة وغريبة وذات سطوة مفترسة. تدور الحرافيش حول تتابع سير الفتوات ،بعضهم يستسلم للرذائل الخاصة أو إغواءات الترف ،وبعضهم يضع نصب عينيه األهداف النبيلة كالنجوم المرشدة .تتقاطع مصاشر الحرافيش والفتوات فيما بينها .ما يسعى له آل الناجي هو القائد ،وما يبحث عنه البسطاء هو العدل والحماية .هذا المزج بين القوة والحكمة السياسية من ناحية، والعدالة والنبل من ناحية أخرى هو ما يؤسس «للعظمة» التي هي بمثابة التيمة األساسية في رواية محفوظ ،والتي تجعل منها أسطورة لسعي المصريين بحث ًا عن الحاكم العادل. اهتمام محفوظ بالربط بين الفضائل الخاصة والعدالة االجتماعية ،اهتمامه بالشخصيات وال مباالته باألنظمة ،كل هذا يمنح أفكاره السياسية شك ً ال بسيط ًا وحيوي ًا حتى وإن كان قديم الطراز بعض الشيء .لن يكون من الصواب كذلك أن تعتبر محفوظ ،بعد قراءة رواياته من هذا النوع ،غير واع بما يحدث في العالم المعاصر ،كل ما في األمر أن نجيب محفوظ كمفكر اجتماعي أصبح أكثر اهتمام ًا بفكرة الخالص عن فكرة التاريخ .هناك نبرتان واضحتان في الحرافيش :إحداهما رثائية باكية، تنطلق من عاشور الثاني متأم ً ال العالم الذي ينتشر فيه الزيف والثراء السريع. وفي الليل دأب على التسلل إلى ساحة التكية ،يتلفع بالظالم ويستضيء بضوء النجوم .يردد البصر بين أشباح التوت والسور العتيق ،يقتعد مكان الناجي ويصغي إلى رقصات األناشيد .أال يبالي رجال اهلل بما يقع لخلق اهلل؟ .متى إذن يفتحون الباب ويهدمون األسوار؟. 86
حتى متى تشقى حارتنا وتمتهن؟ لم ِم ُي ْجَهض ينعم األنانيون والمجرمون؟ ل َ ِم ّ يغط الحرافيش الطيبون والمحبون؟ ل َ في النوم؟ يقول ذلك بينما أخوه فايز يهزأ من تقليدية الحارة ،ويتحدث عن أعماله في «الوساطة» و«المضاربة» والتي تمثل طرق الرأسمالية الحديثة :سرعان ما ُيقتل ونعرف أن ثروته جاءت عن طريق القتل والسرقة. النبرة الثانية -ولعلها األبعد عن الصواب -تبدو في النهايات الشبيهة بالحواديت األسطورية :صعود عاشور، اندحار األعيان ،وانتباه الحرافيش من غفلتهم ،واإلشارة المتكررة أن يوم الخالص قد اقترب. «وسبح في الظالم صريرَ ،فَرنا (عاشور) إلى الباب الضخم بذهول. رأى هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات. ومنه قدم شبح درويش كقطعة متجسدة من أنفاس الليل .مال نحوه وهمس :استعدوا بالمزامير والطبول، غدًا سيخرج الشيخ من خلوته ،ويشق الحارة بنوره ،وسيهب كل فتى نبوت ًا من الخيزران وثمرة من التوت ،استعدوا بالمزامير والطبول. عاد إلى دنيا النجوم واألناشيد والليل والسور العتيق .قبض على أهداب الرؤية فغاصت في قبضته أمواج الظالم الجليل. وانتفض ناهض ًا ثم ً ال باإللهام والقدرة فقال له قلبه ال تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة األطفال وطموح المالئكة.»... ال تبدو رواية «الحرافيش» معنّية بذكورها ومصائرهم لكنها تضع نصب
عينها الذكر المثالي .بالرغم من ذلك، هناك مشاهد غواية بالغة اإلمتاع (ونادرًا ما يكون الذكور المحفوظيون على قدر مراوغة وحيلة إناثه) وتبقى الشخصية األكثر حيوية وإثارة للدهشة هي شخصية زهيرة ،أم جالل .ال تشعر باالرتياح في دور الزوجة المطيعة أواألم أو زوجة االبن ،وسرعان ما تستغل قوانين الطالق الليبرالية في اإلسالم لتخلص نفسها من تعاقب أزواجها المزعجين ثم يجري قتلها بشكل مباغت وفق الحيلة السردية المعروفة Deus ex machineوالتي ستتركك متسائ ً ال ما إذا كان المؤلف نفسه قد بدأ يرتبك أمام ما يمكن أن تنتهي عليه هذه الشخصية التراجيدية الطموحة الفائرة. بالنسبة للترجمة ،وبما أنني ال أقرأ بالعربية يمكنني أن أقول فقط أن كاثرين كوبام قدمت ترجمة رصينة وطليقة إال ان انتقادي الوحيد هو العامية ذات الدالالت األميركية التي ال تبدو مريحة (وال مناسبة) لإلنكليزية العتيقة التي قدمت بها باقي النص. َّ «غطى ظهري» (المقصود مفردات مثل بها في العامية اإلنكليزية :يزوده بالسالح) أو (ابن السالح :االبن غير الشرعي بعد االغتصاب بتهديد السالح) أو (فتاة المكالمات :العاهرة) -والتي تعتمد بالضرورة على وجود هاتف -وما إلى ذلك من مفردات اصطالحية لم تكن مناسبة للنص .وكذلك استخدام مفردة :Crusadeالحروب الصليبية ،لم يكن موفق ًا في اإلشارة لهجمة أحد الفتوات الطيبين لتحقيق العدل. ذيل بمقاطع من الشعر النص ُم َّ الفارسي -وهي األناشيد التي تتردد في التكية -والتي تركها محفوظ دون ترجمة وهو ما يبدو لي قرارًا صائب ًا حتى وإن كان مشاكساً ،فالحرافيش ما كانوا ليفهموا تلك األناشيد أكثر من قراء محفوظ اآلن. (نشرت بمجلة نيويورك بوك ريفيو بتاريخ 22سبتمبر )1994 * كاتب من جنوب إفريقيا حاصل على نوبل .2003
رسـائل األحفاد من حممد �صالح العزب -القاهرة
هل تصلكم الجزيرة مباشر؟
صباح اإلبداع يا عم نجيب.. كيف حالك هناك؟ وكيف وجدت الوضع؟ هل وجدت إجابات شافية عن أسئلتك الكثيرة التي حملت بها أعمالك الغزيرة وحملتنا بها حتى علمتنا فضيلة الشك؟ هل وجدت اإلجابات مرضية لطموحك في المعرفة ،ومثيرة لخيالك الجامح؟ هل من رسائل تحب أن ترسلها إلينا من عندك بخصوص الكتابة واإلبداع؟ هل يوجد لديكم روائيون وشعراء وممثلون ومخرجون؟ هل توجد لديكم مقاه ثقافية؟ وهل مازلت تعقد ندوتك األسبوعية بانتظام؟ وهل ما زلت محتفظ ًا بنظامك الزمني الصارم؟ كيف حالك يا عم نجيب؟ وكيف حال من حولك؟ هل يعاملونك بالشكل الالئق؟ كيف ينظرون إليك ككاتب كبير؟ وهل يقدرون جائزة نوبل قدرها كما يجب؟ عم نجيب ،هل ما زلت تكتب بانتظام؟ هل تمارس هوايتك األثيرة في تسجيل كل ما يدور حولك؟ كم رواية كتبت حتى اآلن؟ وكيف يمكننا الحصول على كتبك التي كتبتها هناك؟ أال تفكر في نشرها لدينا هنا ،حتى لو في طبعة شعبية أو
للكتّاب لديك أم أن الحال كما كان محدودة؟ وهل يدفعون جيدًا ُ هنا ،ويظل الكاتب يعيش في الحالتين على الكفاف؟ هل تغيرت عاداتك القرائية والكتابية أم ما زلت محتفظ ًا بها؟ هل أنهيت خالفاتك مع يوسف إدريس؟ وهل تجلسان مع ًا في بعض األوقات لتعلقا على كتاب هذه األيام؟ وهل تعجبك كتاباتهم؟ لمن قرأت منهم؟ ومن الذي أعجبك أكثر من اآلخر؟ هل يوصلون إليكم بانتظام الكتب التي تصدر لدينا هنا؟ أم أن أسعار الشحن تقف حائ ً ال كالعادة؟ هل تتنزه أحيان ًا وتنزل لتمر بأماكنك األثيرة وأصدقائك القدامى؟ هل يمكن أن تكون موجودًا معنا في الندوات والتجمعات األدبية وعلى المقاهي تسمع وتضحك وتعلق وتشرب القهوة دون أن تدفع الحساب لكنك تترك في جيب القهوجي بقشيش ًا سخي ًا يتفاجأ به أول ما يعود ألطفاله ليالً؟ عم نجيب ،هل تتابع أخبارنا من عندك؟ هل تصل إليكم الجزيرة مباشر مصر؟ أم أنهم يفرضون عليكم قنوات التليفزيون المصري؟ هل تتابع أخبار الثورة جيدا؟ هل تجلس في أوقات الفراغ مع الشهداء تسألهم عن التفاصيل الروائية في األحداث؟ عم نجيب ،هل تفكر في كتابة رواية عن الشهداء؟ هل تعدون استقبا ًال حاف ً ال يليق بمبارك الذي أعلنت غضبك عليه منذ زمن؟ هل لديك تعليقات معينة أو رسائل تحب توجيهها للثوار من عندك؟ أال يمكن أن تسأل لنا عندك عما ستنتهي إليه األمور في النهاية؟ عم نجيب ،بذمتك ،ألم تكن تحب أن تتأخر قلي ً ال في المغادرة حتى تنزل من شقة العجوزة يوم جمعة الغضب 28 87
يناير ،حين كانت تدور األحداث على بعد خطوات من بيتك، لتشارك في التصدي للشرطة واألمن المركزي عند كوبري الجالء ظهرًا ،ثم تشارك معنا في االقتحام وتحرير كوبري الجالء ثم شارع األوبرا ،ثم كوبري قصر النيل ،ثم دخول الميدان مساء ،ومشاهدة نزول الجيش ،صحيح ،ما رأيك في الجيش وما يفعله في مصر حاليا؟ عم نجيب ،حدثت ثورة في مصر بعد مغادرتك بقليل، كثيرون ممن خرجوا فيها أكدوا أنهم رأوك تقود مجموعات من الثوار وتهتف في وسطهم :الشعب يريد إسقاط النظام، وهم يرددون خلفك ،وبعضهم قال إنك استشهدت مع من استشهدوا ،وآخرون قالوا إن طائرات كانت تطير على ارتفاع منخفض فوق ميدان التحرير وقت االعتصام وتلقي على المعتصمين صفحات من رواياتك ،ماليين الصفحات فوق رؤوس المليونيات المتعاقبة ،حتى إنها من غزارتها كانت تظلل المعتصمين وتمنع عنهم حر الشمس وخراطيم المياه الكيماوية والقنابل المسيلة للدموع ،والرصاص الحي والمطاطي. عم نجيب ،باألمانة ،لو أجلت مغادرتك هذه السنوات القليلة لفرقت معك كثيرًا ،على األقل كنت ستجد منجم ًا آخر من الحكايات تحكيها لمن حولك هناك ،لكن ال تقلق ،كثيرون جدًا ممن خرجوا منذ يوم الثورة األول قرأوا رواياتك وأحدثت فرق ًا كبيرًا في حياتهم وخيالهم وطريقة تعايشهم مع الحياة ،وربما لوال أنهم قرأوا رواياتك األفالم وشاهدوا المأخوذة عنها لما خرجوا من بيوتهم.
من روزا يا�سني ح�سن -دم�شق
حينما ستكتب روايتك الجديدة أستاذي العزيز نجيب محفوظ، ال أعتقد أن تزامن الذكرى المئة لمولدك مع رياح الربيع العربي أمر اعتيادي! كما ال أعتقد أن ما يجري في بلدي سيمر على وجدانك سورية ،من ثورة على الطغاة والطغيان، ّ دون أثر ،فلو ّ اطلعت جيدًا على ما يدور فيها من أحداث بلون األلم وتفاصيل برائحة الدم ستكون أول من يخلّدها في
88
واحدة من رواياتك ،فأنت ككاتب حقيقي ،كما أراك ،وستظل ملتزم ًا بقيم الحق والعدل والحرية ،وليس مصفق ًا لألنظمة والديكتاتوريات كما العديد من المثقفين العرب اليوم! أستاذي العزيز، لطالما اقتنعت بأن كلماتك هي التي صنعت ذاكرة المجتمع المصري أكثر مما فعلت الوثائق الرسمية ،فأنت لم تكن (ملتزماً) فحسب ،بل مثق ً ال بضمير إنساني يجعلك تنتقد األوضاع الفاسدة منذ عهد الملكية وحتى عهد الثورة، وضميرك اإلنساني ذاك سيجعلك اليوم تكتب عن شباب ثائر في سورية ُيقتل كل يوم برصاص قوات رسمية ألنه ينشد الحرية! وألن شخصياتك كانت دوم ًا أقرب إلى نماذج إنسانية أم سورية ثكلى تبكي حية منها بكاريكاتيرات لغوية فستكون ٌ ابنها الشهيد ،ألنه حلم بمستقبل مغاير ،وتغني نائحة« :أم الشهيد تنادي ..بشار يقتل بوالدي ،»..تيمة روائية بالغة السطوع في روايتك المزمعة عن الثورة السورية. «محفوظ كان يحب أن يكون موجودًا وسط كتلة من البشر، لذلك كان ّ يفضل الترام في تنقالته على التاكسي».. هذا ما كنت أسمعه مرارًا ومنذ صغري ،لذلك أعتقد أن مكانك اليوم سيكون بين الدبابات والمدرعات التي تحاصر المدن السورية ،مراقب ًا جيوش الشبيحة واألمن التي تتهيأ لالنقضاض على المتظاهرين تحت جسر ما ،أو وراء قنّاص على سطح بناية ينتظر شاب ًا محمو ًال على األكتاف يهتف للحرية وإسقاط النظام ،وذلك كي تستطيع البدء بكتابة روايتك الجديدة عن ثورة وطني! ثمة من قال لو كان نجيب محفوظ حي ًا لكان فتح صالونه في ميدان التحرير ،وأنا أشاركه قناعته بكل جوارحي، فالوقائع التاريخية عن الحرب والثورة كانت دعائم أساسية لكل ما كتبت ،هذا يعني أن مقتل أكثر من 260طف ً ال سوري ًا خالل ثمانية أشهر من عمر االنتفاض الشعبي سيكون، على ما أفترض ،دعامة مبتكرة لروايتك! .وألنك بعد ثورة 52انقطعت عن الكتابة خمس سنوات ،وقد شعرت بأن ما كتبت من أجله قد تحقق ولم يعد لديك شيء تقوله ،وهذا ما استغربته حقاً ،فقد عدت حينما راحت األمراض تغزو الثورة من خالل (الثوريين) أنفسهم ،فكانت ثالثيتك وأوالد حارتنا خالل سنوات قليلة ،ولذلك أعتقد أن مرحلة جديدة تمام ًا ستخلق في أدبك بعد ثورة سوريةّ ، يسطرها عفن النظام وممارساته ،ثورة لن يكون أبطالها برجوازيي مصر ،بل شعب سورية بكل فئاته وشرائحه .في تلك المرحلة الجديدة ال يجبر الفقر والحاجة شخصياتك لتتشكل حسب إرادة األقوى اقتصادياً ،بل كبرياء اإلنسان المغّيب وغريزة الحرية هما اللذان يجبران شخصياتك على التغيير ،كما هرولة مجتمعاتنا العربية المتخلفة نحو الضوء والديموقراطية ..أنت أيها التلميذ النابغ للمدرسة الواقعية الغربية ،بلزاك وستاندال وزوال ،التي رصدت تطور المجتمعات الغربية البرجوازية نحو البرجوازية الكبيرة والرأسمالية ،ستعمل على فضح ما
يجري عندنا بأدوات الروي ،أنت يا «بلزاك العرب» ستكتب عن بلدي كي ال يذهب ما يحدث أدراج النسيان ،كما قلت في روايتك أوالد حارتنا« :آفة حارتنا النسيان». وكما كتبت في روايتك الكرنك عام « :1971عجبت لحال وطني ،إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق ،ويملك القوة والنفوذ ،ويصنع األشياء من اإلبرة إلى الصاروخ، ويبشر باتجاه إنساني عظيم ،لكن ما بال اإلنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة ،ما باله يمضي بال حقوق وال كرامة وال حماية ،وما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء» ..فستكتشف مذهو ًال ،حينما ستأتي إلى سورية تحول إلى مجرد لتكتب روايتك الجديدة ،أن ما قلته آنف ًا ّ ترهات ال معنى لها ،وأن ذلك اإلنسان/البعوضة تبّدل في مهمش ُمهمل إلى بطل ،وأن الجبن أضحى وطني ّ ليتحول من ّ ذاكرة مقيتة ومفككة. أستاذي العزيز نجيب محفوظ، أخيرًا ،سبق وقلت في إحدى مقابالتك مع رجاء النقاش: «من خالل قراءاتي في التاريخ ،خاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً ،وقد أشرت إلى ذلك في رواية «ثرثرة فوق النيل» ،وهي أن الثورة يدّبرها الدهاة ،وينفّذها الشجعان ،ويفوز بها الجبناء» ..هنا أعتقد أنك ستغّير رأيك أيضاً ،وتدخل في قناعات مغايرة، فالثورة في سورية لم يدّبرها إال تراكم الظلم والخوف والفقر ،ونفّذها أولئك الشجعان حقاً ،أما من يفوز بها فهذا ما لم يظهر بعد ،ولكني ،كما الكثيرين غيري، موقنة بأن الحرية والعدالة ستكون من نصيب السوريين مهما طالت الرحلة المضنية التي نقطعها. ً ودام أدبك خالدا مقيماً.
من الطاهر �شرقاوي -القاهرة
كدت أصير قاتال مأجورا صباح الخير يا أستاذ نجيب.. سأحكي لك شيئاً ،منذ عدة شهور كنت أقلب في أوراق قديمة ،عندما وجدت شهادة تقدير ممنوحة لي من نادي القصة بالقاهرة ،بمناسبة فوزي بالمركز السادس مكرر
في مسابقة النادي السنوية ،كان ذلك في بداية األلفية، الشهادة كانت مهترئة قلي ً ال في أطرافها ،وكنت قد نسيت أنها بحوزتي ،بأسفلها كان توقيعك المميز تحت سطر :رئيس نادي القصة ،التوقيع بالقلم األسود وبخط سميك واضح ومكتمل النقاط ،لحظتها قررت أنني سوف أرمم الشهادة وأبروزها للحفاظ عليها ..منذ سنوات أبعد وأثناء دراستي بالمرحلة اإلعدادية عرفتك ،وقتها عثرت في البيت على نسخة من رواية «السراب» ،كانت مختبئة وسط مجموعة من الكتب والجرائد القديمة ،الموضوعة في إحدى طيقان البيت ،التهمت الرواية في أيام معدودة« ،السراب» كانت أول عمل أقرأه لك ،ال أعرف ما الذي شدني إليها ،ربما ألجوائها النفسية أنسه أبدًا« :كامل رؤبة الظ»، ولغرابة اسم البطل الذي لم َ بعدها وفي المرحلة الثانوية كان اللقاء الثاني معك ،في بيت الثقافة ببلدتي الصغيرة بجنوب مصر ،بحثت عن رواياتك على األرفف المتربة ،واستعرت الثالثية ،قرأتها ثالث مرات في ثالث إجازات صيفية متتابعة ،تخللتها قراءة روايات: «بداية ونهاية» و«زقاق المدق» و«يوم قتل الزعيم» و«خان الخليلي». أستاذ نجيب ..من الممكن أن أخبرك اآلن ِ بسّر يخصني، ربما لم أفك طالسمه إال بعد فترة متأخرة ،سري الخفي: أن رواياتك تحديدًا مع بقية الكتب المتوفرة ببيت الثقافة، أنقذتني من مستقبل غامض ومبهم ،وحمتني من قالقل فترة المراهقة وعنفوانها الصاخب ،لوالها لكانت حياتي قد اتخذت مسارًا آخر ،مثلما حدث مع بعض زمالئي في الفصل والذين ال ألن أصبح قات ً رافقوني لعدة سنوات .وقتها كنت مؤه ً ال مأجورًا ،يتخذ من الليل وغيطان القصب وكروم النخيل عالم ًا ومسكن ًا له ،أو أصبح بلطجي ًا أفرض سطوتي على اآلخرين، بعالقاتي مع شخصيات نافذة ،ولكن ليس مثل فتوات رواياتك ،الذين كانت تحكمهم عادات وأعراف وكلمة شرف، أو على أقل تقدير أتبع نداهة مراهقتي المغوية ،وأصبح مجرد اسم ورقم يمشي على األرض .إذن كانت الطرق متعددة أمامي ،لكنك ظهرت في الوقت المناسب مثل مالك حارس، وأخذتني إلى طريق مختلف وساحر.. هل أحكي لك عن المفاجأة الكبرى ،إنها «الحرافيش»، لوقت طويل كنت اسأل نفسي :كيف أتتك الفكرة؟ .وما هذه الروح المحملة بكل هذه األسئلة الوجودية عن الحياة والموت والقدر والمصير؟ .أيض ًا كنت أكرر لنفسي :إن الحرافيش هي درة أعمالك ،وأكثرها قرب ًا إلى روحي ..أمتلك منها ثالث نسخ من ثالث طبعات مختلفة ،وأهديها إلى أصدقائي في أعياد ميالدهم ،واقرأها كل حين ..ما الذي تفعله الحرافيش في روحي؟ إنها المتعة والنشوة ،تلك التي تجعلني دائخ ًا وتائهاً ،بعد قراءة أو مشاهدة عمل جميل ،متعة تغرقني في الصمت ،وال أنطق إال بكلمة وا حدة ،أهمس بها في أعماقي قائالً« :اهلل»« ..اهلل يا أستاذ نجيب على الحرافيش» ،اكتملت العناصر الجمالية فيها ،من متعة السرد إلى سالسة الحوار 89
المغلف بروح السخرية ،والمحمل بجماليات العامية المصرية، وعوالم صوفية تهدهد النفوس القلقة والمحتارة ..بالضبط هذا هو ما أحتاجه اآلن ،سور إحدى التكايا أقعد في ظله، وإنشاد خافت ينبعث من الداخل ،يربت على جسدي بحنو، حتى تأخذني سنة من النعاس ،حام ً ال معه روحي بعيدًا إلى عوالم أخرى ،وال يهمني إن عادت روحي بعدها أو ظلت هائمة في الملكوت إلى األبد.
من عبد اهلل الطايع -باري�س
بطون جائعة
عزيزي نجيب محفوظ، أعرف أنك ما تزال حي ًا بيننا .تعيش مع عائلتي المغربية الفقيرة.أخبرني طفل صغير بأنك صعدت إلى السماء .لكن قلبك ما يزال ينبض في عالمنا .في مخيالنا وفي صورنا. أشعر بجوع .جوع مستديم .أمي تبحث عن أكل يمأل بطونناُ .يشبع عوزنا أنا وإخوتي السبعة ووالداي ،في بيتنا المتواضع في سال ،بالقرب من الرباط .جوع وخجل وخوف يقطع أمعاءنا. كانت حينها المغرب تمر بسنوات الثمانينيات .البالد كلها كانت خائفة .كانت جائعة أيضاً .أمي كانت تخاطبنا« :اهدؤوا، لسنا المغاربة الوحيدين الذين يشتكون الجوع ،لسنا العرب الوحيدين الذين يعانون في هذا العالم ،اهدؤوا! سأخرج ألبحث لكم عما تسدون به رمقكم .شاهدوا التليفزيون حتى أعود». جلسنا فوق بعضنا البعض نشاهد التليفزيون .التليفزيون ينسينا فقرنا. صدقني عزيزي محفوظ ،أن تكتب يعني أن تبدع .يعني أن ّ تنظم وأن تكذب .أما بالنسبة لي ،فالكتابة تعني قول الحقيقة. أنت الحقيقة التي وصلتني عبر كتب .أنت صورة وأفالم تحكي عن البطون العربية الجائعة .هكذا دخلت حياتي ،قلبي ووعيي. انطوى أبي على نفسه وخرجت أمي من البيت .كيف كانت تفكر في طريقة إيجاد األكل؟ لغاية اليوم لست أمتلك إجابة. كانت هي المرأة «المخلوق األدنى» وكانت هي من يخرج إلى المواجهة .هي التي واجهت اإلهانة. كنت أجلس مع إخوتي على حافتي الجوع واإلغماء .نشاهد تليفزيون ًا باألسود واألبيض .تليفزيون ًا يعرض أفالم ًا عربية، يعني أفالم ًا مصرية.
90
أعرف أن ذاكرتي ستخونني من حين آلخر .لكنني كلما فكرت في الجوع ،شعرت بالجوع ،أفكر فيك .أفكر في الفيلم الرائع «بداية ونهاية» لصالح أبوسيف ،المقتبس من رواية لك تحمل العنوان نفسه. كانت أمي في الخارج ،تصرخ ،تمارس البغاء؟ تسرق؟ ونحن أبناءها -نشعر بخجل ونغرق في مشاهدة الفيلم ،الميلودراماالتي كتبتها والتي تحكي واقعنا .وواقعي .ولكن كيف نستطيع التخلص من الجوع؟ أين؟ من سيضحي بنفسه؟ في الفيلم نشاهد األم واألخت تضحيان بنفسيهما .األخوة يدرسون ،عدا واحد، جسد دوره فريد شوقي .كانتا تحمالن العالم ،تتحديان الذي َّ العالم ،تسقطان من أجل الرجال ،من أجل اإلنسانية .تذهبان إلى الحرب ،وأنا أتابعهما ،وكل المغرب يقف إلى جانبهما. كنت جائع ًا وخائب ًا ومشفق ًا على بطون إخوتي الخاوية وبطون شخصياتك التي تصور واقعنا في «بداية ونهاية». كنا نشاهدك في التليفزيون .كنت في قلبنا ،في روحنا .كنت تتحدث عنا .أمينة رزق ،سناء جميل ،عمر الشريف وفريد شوقي كانوا يجسدون شخصيات تعكس حالنا ،اجتماعياً، جمالي ًا وسياسياً. عزيزي نجيب محفوظ أنت لم تمت .لقد أطعمتني ،في وقت تاهت فيه أمي .أفهمتني أن الفن ليس حكرًا على األغنياء ،لكنه ألولئك الذين رفضوا العيش في الجهل. كنت جاهالً ،جائعاً ،ومشتت ًا في البحث عن هويتي .وبالقرب منك كان يوجد الفن .كنت هناك ولم أكن أعرف شيئ ًا آخر عنك ،عدا تلك الرواية ،وفيلم «بداية ونهاية» .األدب سينما. وأنا عشقت األدب مرورًا بالسينما .عشقته معك ببطن جائع، بعيدًا عن القاهرة الساحرة ،المجنونة والملتهبة. أنا موجود وتعلمت أن أكون موجودًا .مصر مدت لي يد المساعدة .استطعت أن أتقدم رغم الجوع ورغم الخضوع الذي علي. ُفرض ّ عزيزي نجيب محفوظ، أبلغ اليوم ثماني وثالثين سنة .أكتب ،ولكن ليس مثلك. ال أتشّبه بك .أنا أكتب بصوتي ،بجسدي وببطني المغربي خاو .ومازلت أتذكرك .أتذكر درسك .الكتابة الخاوي .دائم ًا ٍ تعني المقاومة .تعني قول الحقيقة .وإذا لم يعجب اآلخرين ما نقول فلينصرفوا عن قراءتنا ،وعن قراءتي .الكتابة تعني رسم صور قوية ومستفزة وثائرة. عزيزي نجيب محفوظ، أنت لم تمت .مازلنا نقرأ أعمالك .نتحدث عنك .نتابعك .نحبك .دائم ًا وأبدًا. قبالتي الحارة من قلبي المسافر.
من جهاد بزي -بريوت
في أي حزن يسقط الكاتب حين يُذبح؟ لم أكترث تمام ًا لخبر نيلك جائزة نوبل. المراهق الفخور الذي كنته ،سأل أستاذ األدب العربي عما ستضيفه مثل هذه الجائزة إلى الكاتب وإلى اللغة العربية، هذه اللغة التي كنت أنحاز إليها بصفتها «أجمل» اللغات ،وإلى ما كتب فيها بأنه «أعظم» ما ُكتب ،في مبالغات المراهقين وبراءتهم التي تحيل أي فكرة إلى ما يشبه سباق ًا في تالوة كلمات على وزن أفعل التفضيل. المراهق نفسه راقت له ،لسبب ما عدت أعرفه اآلن ،فكرة أن منحك نوبل كانت لموقفك اإليجابي من التطبيع مع إسرائيل. هكذا ،بنى الشاب انطباعه عن األديب على ضدين ال يلتقيان إال في عقل بريء :فنجيب محفوظ ولغته العربية أهم من
الجائزة ،من جهة ،وهو ،من الجهة الثانية ،لم ينلها ألنه يستحقها ،بل ألنه «يحب» إسرائيل. ً بقيت على موقفي ،لكنني قرأت لك ،وعنك ،متحررا من سطوة االنبهار بك .وتزامناً ،رحت أكتشف األدب ،بما هو ذاك العالم الهائل ،بلغته التي تتخطى كل اللغات ،هذه اللغة التي نظل نبحث عمرًا بطوله في احتماالتها وألوانها ،وما تصنعه من تغيير جذري فينا. ازداد احترامي للجائزة ،وازداد احترامي لك ،حين لم أعد أنظر إليك ككاتب «عربي» كان فوزه بنوبل سياسي ًا أو فوزًا للغة العربية ،بل واحدًا ممن حفروا أسماءهم على الالئحة التي ال يمكن إال االعتراف بأهميتها ،وإن كان من فيها ليسوا أكثر أهمية ممن بقوا خارجها ،وهذا نقاش آخر. تعرضت لم أذهل لنوبل إذًا .ذهولي الهائل كان حين َ لمحاولة ذبحك .حينها رأيت براءتي تتساقط عني ،ونقمت «علينا» ،أبناء جلدتك ولغتك ،كما لم أنقم على أحد قط. وعدت بالنسبة إلي ،كاتب ًا عربياً .أصابني ما عدت عربياً، َ ُ يشبه الخجل منك ،وأنت ترى خنجر التخلف يذبح كل ما أفنيت عمرك من أجله ،كل المنظومة التي تشكل صورتك المشتهاة عن ابن الشرق المثقف ،ابن الكلمة ،ال يجيد غيرها أداة خيال أو أداة حوار وتمدن وخطو إلى األمام .خجلت منك ،وأنت المر حيث يختلط على عنقك ثأر القاتل مما ُتواجه بالعبث ّ ُكتب ،وظنه أن القتل هو الدرس األفضل لكل من ستسول له نفسه أن يكتب يوم ًا ما يسميه حامل الخنجر «حراماً». في أي حزن يسقط الكاتب وهو ُيذبح ألنه كتب؟ أظنه حزن ًا عميق ًا عميق ًا ذاك الذي تأصل في قلبك ،ولم يغادره بعدها. حزن ثقيل من ذاك الذي تتغير بعد وقوعه وإلى األبد ،نظرات العيون وألوانها. في أي حزن يسقط الكاتب وهو يعلم أن ذابحه لم يقرأ له حرفاً؟ ليس عزاء أنه لم يقرأ ،وليس عزاء أنه لو قرأ لم يكن ليقتل .غيره قرأ وقرر أن الكاتب يستحق القتل .ليس عدم القراءة شرط القتل ،كما ليست القراءة شرطه .للقاتل وحشه يسوغ له القتل ح ً ال يقصي به كل معضلة .وهو الخاص الذي ّ أبسط الحلول ،وأكثرها غباء ،لكنه أثقل على ضحيته من أن يحتمل .ومع أنك غمرت بورد الناس وودها ومع أنك أعطيت عمرًا بعد الذبح لترمم جرحك ،فقد ُم َّت وال أظنه التأم. َ كان الزمن غير الزمن ،وكانت القلة ممن ال يقرؤون ،أو ممن يقتلون من يقرؤون لهم ،كانت هذه القلة تظن أنها األقوى. اآلن ،في السنة المئة على ميالدك ،للمرة األولى ال تقف اليد ذات الخنجر فوق عنقك .جرفها عنك نهر من مر بك وهو يحمل مصرك إلى األيدي الطرية ّ ومسد غدها .نهر من األحالم نضر مر بك ّ ٌ على جرحك.
91
من كمال قرور -اجلزائر
لك الهرم الرابع مر قرن على ميالدك ،يا سيد الرواية .وها نحن اليوم بك ّ نحتفل والعالم معنا .نفخر بالصرح الذي صنعت من قّيم الجمال للعرب والبشرية. استعجلت الرحيل ،ولم يكن بيدك ذلك ،لتكون معنا في هذه اللحظة الجميلة.لكنك حاضر بما أنجزت. نعم كنت مرتاح ًا وقد أديت الواجب وأتقنت العمل. كان الوقت كافي ًا لتصنع منه شيئ ًا فريدًا متميزًا وخالدًا يستحق الذكر واإلشادة.
كنت همزة وصل بين جيل الرواد الذين زرعوا بذور النهضة وجيل حلقتك الذين حصدوا الغالل بكل كفاءة ووعي ووزعوها على أجيال ستأتي حتم ًا واعدة. نحتفل بك وأنت سيد الرواية العربية. الرواية التي اكتملت فتنتها في حضرتك .وأدهشت العالم، باإلبداع األصيل المنفتح على اآلخر .بخصوصية الحارة والنظرة الثاقبة واألصالة المعانقة لإلنسانية ،دون انسالخ. استحققت تتويج نوبل لآلداب ،بكل اعتزاز. كم كنا حزانى ونحن نواجه النكران وال نحظى باالعتراف. لكنك كنت ببصمتك وتواضعك واثق ًا أن موهبتك الخالقة ستصنع االستثناء ،وتأتي بما لم يأت به األوائل ،وتخلص النثر العربي من جموده وتقعره وزخرفته اللفظية وشوائب عصور االنحطاط. الحارة بصمتك اإلبداعية ،وفضاؤك الذي تنظر من خالله إلى العالقات البشرية المتشابكة والصراعات المحتدمة والعواطف الجياشة .عندما وجدت نقطة االرتكاز ،مدت لك العالمية ذراعيها واحتضنتك. كيف ال نحتفل بك اليوم والعالم معنا .وقد شيدت هرم ًا رابع ًا من المعنى والجمال.تفخر به األمة العربية وبقية األمم. هرم للرواية العربية ال يبلى وال يتصدع وال تؤثر فيه عوامل الزمن.. هنيئ ًا لنا بك سيد الرواية.
من �سهى زكي -القاهرة
جدي في وسط البلد
جدي نجيب محفوظ، كيف حالك هناك؟ أعرف أنك بخير ،ترسل لنا طاقات كتابة مذهلة ،تريدنا أن نستكمل مسيرتك ،لكن هل نصلح ألن نصبح يوم ًا مع الكاتب الكبير الراحل في جملة واحدة؟ يزداد غضبي منك كلما قرأتك ،كلما رأيت فيلم ًا منقو ًال عن مر الزمن .هنا في زماننا، إحدى رواياتك .يزداد غضبي كلما ّ رأيت كتب ًا بلهاء لكتّاب أعموا عيوننا بحروف مشوهة على الورق ،مفاخرين بالتجريب والحداثة وما بعد الحداثة .ليس اعتراض ًا على التجريب والحداثة ولكن ،ألنها أصبحت حجة كل بليد في الكتابة. 92
جدي الحبيب.. علمتني أحالمك أن الحياة تكتبنا حتى في الحلم ،ورغم إيماني اليقيني بأن الحلم مرادف كلمة الحياة ،إال أنك جعلتني أثق في يقيني أكثر عندما كتبت أحالم فترة النقاهة التي لم تنته بإفاقة ،بل انتهت بأن تتحول أنت شخصي ًا لحلم كل كاتب عربي .الحكاؤون دائم ًا طيبون وأذكياء أيضاً ،فأنت بقدر طيبتك ،بقدر ذكائك في تقمص كل شخصياتك الدرامية المؤلمة ،تعذبني بثرثرتك فوق النيل ،وتجعلني أحلم بسعيد مهران كمخلص حقيقي. فسعيد كان ليفرح ويشارك في الميدان ،وكنت ربما ستكتب عن خالد سعيد بحكايته السرية قبل الهجوم عليه من قبل معدومي الرحمة ،أو ربما جعلته هو ومينا دانيال صديقين في رمز درامي عتيق للوحدة الوطنية الساذجة. «تعرف شيء»؟! جدتي أيض ًا كانت حكاءة بارعة .كانت ساحرة عندما تحكي عن نجيب ،ذلك الفتى الجميل الذي يعبر يومي ًا من أمامها وهو يتجه لمقهاه ،كم هو وسيم نجيب! أحبته جدتي في سرها وخيالها ،لم يكن مشهورًا على اإلطالق وقتها ،كان شاب ًا خجو ًال وهادئاً .كانت كلما رأتك أو سمعت عنك في التليفزيون ،تقول هذا جاري الذي كنت أحبه دون أن يدري..ترى كم امرأة عشقتك دون أن تدري يا دونجوان؟ السرقات منك على أشدها ،ومّدعو اإلبداع ال يستحون، لكنني أعرف أنك ال تهتم ،فاألصل ال يمكن لصورة أن تقلد روحه .سيكون مجرد مسخ. أريد أن أطلعك على سر ،ال تغضب هكذا ،تمهل! أنا لم أحب يوم ًا طقوسك في الكتابة ،فمعاملة األديب مع عقله وقلمه بمنطق المواعيد ال يروق لي .آه! صراحة ،هل تمانع علي الفكرة في اعتراضي؟ أنا يحلو لي أن أكتب وقتما تلح ّ وتصرخ الشخصيات في رأسي رافضة السجن أكثر من ذلك. هل يمكن أن أؤثر في القراء يوم ًا مثلما أثرت أنت في العالم كله؟ هل يمكن أن تعلق حكاياتي بأذهان الناس مثلما علقت حواديث العمالق في أذهان ماليين البشر من كل أنحاء العالم؟ ال يمكن أن آكل السمان وال أتذكر «السمان والخريف» ..ال يمكن أن اذهب إلى اإلسكندرية وال أرى «ميرامار» أو أمر على القلعة فال أرى عشرات من سعيد مهران ،يحاولون قهر البيه وظروف الحياة الوعرة ،بفهلوة مصنوعة من الزمن المر. كرهت سي السيد من وصفك المحايد لسلوكه ،وكرهت أمينة السلبية لوصفك الطيب المبالغ فيه لشخصيتها ،وأحببت ياسين الولد الشقي الذي يشبه أباه .الجبالوي!..ال يهم من هو الجبالوي ،لكن رواية أوالد حارتنا صنعت أسطورة الرواية المثيرة بكل صورة ،بل نسجت حولها الحواديث واألفالم، وحتى اآلن لم يعرف أحد من هو الجبالوي وأوالده في رواية «أوالد حارتنا». أحب أن أخبرك أن أكثر عمل تمنيت أن أكتبه هنا ،هو حديث الصباح والمساء .فأنا مولعة بالزمن وتعاقب األجيال
واستنساخهم وتطور العالقات بين الناس وبلورتها مع الزمن ودخول العالقات الشائكة .ألن اإلبداع ببساطة يشبه الخلق طبيعة ال يمكن أن نعرف كيف صنعت ،فقط صنعت.. بحبك يا جدي العزيز. سالمي لكل مبدع حقيقي قابلته عندك ،وقل لهم إنني أتمنى أن أكون معهم ،وأنت بالذات يا جدي ،أتمنى أن تفخر بحفيدتك. على فكرة ،أنا ممن يحيون األب وال يميتونه ،فأنت عايش جدًا يا جدي ،لذلك استمتع وال تخف في جنتك ،ستحرر مصر ممن حاول قتلك .ستتحرر قريب ًا كما حررت مصر ممن اعتقدوا أنفسهم آلهة. نام قلمك ،لم تنم أنت ،ومازلت يا جدي تتحرك في وسط البلد بين المثقفين ،تحرك أشواقهم ناحية إبداعك.
من كمال العيادي -تون�س
نرى كما تريدنا أن نرى أيها المعلّم.. لقد انتهى األمر كما توقعت أنت تماماً .وهذا ليس بالغريب وفي مبدع ومسكون حكيم مثلك ،خبر البالد والعباد عن محب ّ وتصالح مع نفسه ومع األرض والمكان بشكل مذهل .وأخلص لقلمه ولحدود عوالمه إخالص ًا نادرًا .فأزهر بين يديه ّ كل ما كان مهيأ له أن يتوكأ عليه .صفاء قلبه وعمق بصيرته وقلمه الذي يستدل ّ ويدل به وعليه. جلي وواضح كما تنبأت ونبهتنا في بشكل الحق لم ينتصر ّ ّ كل رسائلك لنا. لم ينحصر الباطل كلّي ًا أّيها المعلّم الجليل ،تمام ًا كما أكدت لنا في كل تحذيراتك ووصاياك المشفرة والواضحة ،المعلن ّ والمبطن. منها ثمة ما يدعو للتفاؤل بالتأكيد .وهذا أمر ال يمكن إنكاره أو تجاهله .وله مبررات قوية وحقيقية .ولكن في نفس الوقت ثمة توجس ًا وغموض ًا متلبدًا يجثم على األنفاس والصدور. جبروت ظلم يتهاوى فع ً ال تحت ضربات قوية وتصميم عنيد وواعد من ناحية ،ولكن األطراف المنحرفة والمندسة فض ً ال عن المأجورة منها مازالت تضخ الضغينة والشر والحقد الحي القديم الذي يعمينا ويعطلنا الّدخان والكراهية في نسيج ّ العابر فيه والبخور المستورد المغشوش عن استحضار بهجة ألوانه الفاتنة وتوهجه اآلسر ،لنراه كما كنت تريدنا أن نراه. حسن ًا أّيها المعلّم.. حق في ّ إننا نزداد اآلن اقتناعاً ،أنّك كنت على ّ كل ما نّبهتنا 93
إليه ،تمام ًا ّ ككل األنبياء الذين وهبتهم هذه األرض الطيبة سرها وألهمتهم محبتها وصفاءها وعمقها وقِدمها فاكتسبوا ّ منها مناعة البقاء ضد الفناء والموت ومنحوا الخلود ..ورّبما بسبب هذا بالذات ،وبسبب إيماننا ّ بكل أنبياء هذا البلد الموعود باألمان ،يملؤنا التفاؤل بأن القاهرة العروس ستعود أجمل وأن مصر المحروسة ستنفض عن قشرتها هذا مما كانتّ ، ّ الغبار المربك وتستعيد قريب ًا ألوان نسيجها البديع ..وحينها ستعود فتنة اختالط أصوات الباعة بصوت اآلذان ونواقيس الكنائس وأهازيج األفراح وهي تبارك النور المعتّق حين يفيض من فرجات النيل المسكون. فهنيئ ًا لك مقامك أيها المعلّم. هنيئ ًا لك ما عشت. هنيئ ًا لك ما أحببت. وهنيئ ًا لك ّ كل ما تركت .وما َمنحت وما ُمنحت.
من حممد الأ�صفر -بنغازي
سأنعتك بالكذاب لم أعرف أين أجدك ..قلبي يقول إنك هنا ..لكن هنا ال أجدها ..بحثت عنها في شوارع وأزقة القاهرة ..في مقاهيها وحاناتها ومسارحها ودور السينما ..في مكتباتها الشهيرة في وسط البلد والزمالك والجيزة ومصر الجديدة ..على شاشات التلفاز في كل البرامج المباشرة ..أبحث في كل مكان حتى في المعابد الفرعونية وعند األهرامات وأبي الهول الصامت األبدي الذي في النهاية أخبرني أين أجدك وأشار إلى قلبه. كم هائل من الصفحات انسكبت في داخلي ..ضيعتك داخلي ومزجتك بصفحات أخرى قرأتها لكتاب كبار مثلك ..ال أعرف كيف أستخلصك منهم ..الجميع محتفي بهذا االمتزاج ..ال يريدك أن تغادره كما غادرت الدنيا إلى داخلها العميق ..أزور القاهرة مرارًا وال أجدك ..أحضر روحك بواسطة كتاب لك وأخاطبك ..كتبك ما شاء اهلل كثيرة ..لم تعد شعبية تباع على األرصفة ككتب اليوم الرائجة ..كتاب لك أقرأ منه صفحات.. ومع كل سطر أتحدث معك وأعيش معك وأعود معك إلى ماض لم يذهب إلى الماضي وانطلق إلى هنا ..ال أقرأك عبر فيلم مأخوذ عن عمل لك ..أقرأك عبر عملك األدبي مباشرة.. أعود بالكلمات إلى زمن كتابتك لهذا العمل ..زمنك الشخصي وزمن موضوعك المتناول فيه هذا العمل ..أراك وأنت عائد
94
إلى البيت ..وأنت جالس للكتابة ثالث ساعات متواصلة كما قلت ..مع أنني أشك كثيرًا في ذلك ،بل سأنعتك بالكذاب.. فما أبدعته ال يمكن أن يكون قد تم من خالل جلسات متعددة منتظمة ،كل جلسة ثالث ساعات فقط ..أنت يا صديقي تكتب طيلة األربع والعشرين ساعة ..طيلة مسيرة ذاكرة النسيان في أغوار نفسك ..خروجك من البيت كتابة ..شراؤك الجرائد كتابة ..حديثك مع الناس كتابة ..احتساؤك للقهوة وتدخينك للسجائر والنرجيلة كتابة ..تأملك كتابة ..قراءتك لكل شيء عبر الحروف أو البصر والبصيرة كتابة ..أنت يا صديقي حرف يكتب الحياة ..أقدامك تمسك بالقلم ..يداك تمسك به.. رأسك يمسك به ..عيناك تمسك به ..كل حواسك ماسكة به ومستنفرة لهذا الفعل اللذيذ بما فيها روحك الذارفة لمداد الخلود دون توقف حتى عندما غبت. واآلن علي أن أستخلصك من فوضى قراءاتي ..أراك قبل أن أمضي ..تقدمت بطلب كتابي تعهدت فيه أن أعيدك إلى مكتبة قلبي من جديد فور قراءتك ومشاركتك شرب الشاي.. تسمعني بعض الحكايات الجديدة التي كتبتها في برزخك.. ستكون حكايات ممتعة بال شك ..وأعاهدك أن ال اقتبس منها شيئ ًا أو أسرقها معاذ اهلل ..فالسرقة من الموتى عقابها أشد وهي في األساس أمر مخجل ال أجيد القيام به ..اآلن أنت معي ..وعلى الرغم من أنك لست الكاتب المفضل لدي لكني أحبك كثيرًا ..كتاباتك ال ثقل دم فيها ..وممتعة ..وتريني الواقع ..وتجعلني أعيش في هذا الواقع بل في أحيان كثيرة أتحول إلى شخصية من شخصيات واقعك هذا ..أمارس حياتي عبرها في الواقع كما أمارسها أثناء القراءة. عندما بدأت في ممارسة الكتابة كنت قد قرأت كثيرًا ..من ضمن قراءاتي عدد ال بأس به من رواياتك ..وبعد حصولك على نوبل توقفت عن قراءتك ..قلت سأقرأ اآلن ما سيكتب عنك ..وسأكتب عنك أنا أيضاً ..لكن بعد سنوات توقفت الكتابات عنك ..وتوقف القراء أيض ًا عن قراءتك ..وفضل الجميع أن يقرأك بواسطة الفعل ..فكل شخصياتك المتنوعة المعبرة عن روح مصر والعالم خرجت من صفحاتها لتترك كتبك أوراق ًا بيضاء من دون سطور ..ولتندلف جميعها إلى ميدان التحرير لتقول الكلمة التي أردت أن تقولها عبر هذا الكم الهائل من المنتج الروائي اإلبداعي وهي كلمة (ال) ..شكرًا صديقي نجيب ..دائم ًا كلما أريد أن ألتقيك في حياتك تقول لي ال ..واآلن ال تريد أن تخرج من قلبي كي تجلس معي قلي ً ال ولو مجاملة ..إنك قاس معي كثيرًا ..فإلى متى ستظل تأمرني بأن أواصل القراءة؟.. سأقول لك أنا أيض ًا ال ..لن أقرأ وسأخرج إلى الشارع وعلى الشرع أيضاً.
�صيد الل�ؤل�ؤ
د .محمد عبد المطلب
اغتراب اللغة في وطنها
يقول أبو حيان التوحيدي «أغرب الغرباء من صار غريب ًا ف���ي وطنه» وهذا الق���ول ينطبق على اللغ���ة العربية في هذا الزم���ن ،لق���د أعطى اهلل لألم���ة العربية لغة م���ن أدق اللغات وأغناه���ا ،وبه���ذه الدقة وهذا الغنى عاش���ت مئات الس���نين مصاحبة التط���ورات الحضارية والثقافية لهذه األمة ،ونقلت حضارتها إلى العالم ،ونقلت حضارة العالم إليها ،والتاريخ شاهد على كل ذلك. لك���ن المؤس���ف أن العرب ل���م يحفظوا للغته���م حقها في االحترام والحماية ،بل إنهم س���عوا الس���تبعادها من عالمهم الحاضر حياتي ًا وثقافي ًا وعلمياً ،ولم يتنبهوا إلى أن تخليهم عن لغتهم سوف يفقدهم هويتهم ،ثم يفقدهم عنصر التواصل الحيات���ي والحض���اري والثقاف���ي فيما بينه���م ،وفيما بينهم والعال���م ،ذل���ك أن التواصل ف���ي حاجة إلى لغ���ة منضبطة األصول والفروع ،دقيقة التعبير واإلفصاح. ال ش���ك أن هناك عوامل كثيرة ساعدت على اغتراب اللغة العربية ف���ي موطنها ،وربم���ا كان أخطر ه���ذه العوامل :أن المجتمع العربي سمح للغات األجنبية أن تنافس العربية في مجاالت الحياة المختلفة ،وفي مقدمة هذه المجاالت (التعليم) حيث س���مح للغ���ة األجنبية أن تزي���ح العربية ع���ن مكانها ومكانته���ا بوصفها (اللغة األم) ،وتنقله���ا إلى أن تكون لغة ثانية ،أو ثالثة في بعض األحيان ،وهذه الخطوة اإلجرائية تبدأ مع أولى المراحل التعليمية( :الروضة -الحضانة). إن الطفل ينشأ في بيئة لغوية ،ويدرك عن طريق السماع أن هناك مجموعة من األصوات التي تتردد على أذنه بوصفها (كلم���ات) وكل كلمة تعبر عن معنى محدد ،ومن هذا الس���ماع يبدأ في اس���تعمال ه���ذه الكلمات لتحقي���ق أغراضه ورغباته والتواصل مع من حوله ،وغالب ًا ما يكون هذا االستعمال في بدايته تقليدًا للكبار ف���ي النطق ،وفي هذه المرحلة الخطيرة
بالنس���بة للغة ،يأتي التداخل اللغوي الذي يفسد على الطفل أمر لغته. لقد أجمع خبراء التربية وعلماء اللغة على أن الطفل يجب أن يتهيأ لتعلم لغته األم دون أن تنافسها لغة أخرى ،فتنفرد لغته األم به حتى س���ن الثامنة تقريباً ،وعندها يمكن أن يبدأ في التعرف على لغة أخرى ،لكن المدرسة العربية تخالف كل األصول التربوية ،ظن ًا أنها بهذا تعد الطفل الستقبال مرحلة (العولم���ة) ،وكأن العولمة تلغي الهوي���ة والمواطنة ،وتبلغ الخط���ورة أقصاها عندما يدرس الطف���ل مادتي (الرياضيات والعل���وم) باللغة األجنبية ،ذلك أن هاتي���ن المادتين ،مادتا تفكي���ر ذهني ،ومن ثم يتعود الطفل أن يفكر بغير لغته األم، وهو األمر الذي يمكن أن يهز انتماءه للغة التي تعلمها وتعلم بها. إن هذا الجيل تربى على غير لغته األم ،وش���ب منتمي ًا إلى ثقافة اللغ���ة األجنبية ،وهو ما جع���ل العربية غريبة عليه، فه���و ال يس���تعملها إال مضط���راً ،وغير ضابط له���ا ،واللحن أصبح س���ليقته فيها ،س���واء كان خطؤه فيها بعمد أم بغير عم���د ،ألن ذل���ك ال يعنيه ،ومن ثم ش���اعت الكلمات الخاطئة على األلس���ن ،ويدهشني أن أسمع جميع المتكلمين بالعربية يرددون كلم���ة (التواجد) بمعنى (الوج���ود) ،يقولون( :فالن متواجد في الملع���ب) أو (في البيت) ،بمعنى أنه (موجود في الملع���ب أو البي���ت) ،وغاب عن المتكلمي���ن أن (التواجد) غير (الوجود)( ،التواجد) :إظهار حالة الوجد :أي المحبة أو الفرح أو الحزن ،وهي مجموعة االنفعاالت القلبية التي ال صلة لها بمعنى (وجدت الش���يء) :أي :أدركته وأصبته ،وال صلة لها بمعنى( :فالن موجود في البيت) :أي حاضر وكائن فيه ،كل ذلك راجع – بالضرورة – إلى العملية األولى في تعلم اللغة العربية ومنافسة اللغات األجنبية لها تنافسا غير عادل.
95
عن خيري شلبي والحياة وربما الموت
البحث عن مقبرة العائلة حممود الورداين
كان صديق���ي الكبير الراحل خيري ش���لبي هو الذي أعاد اكتش���اف هذا المكان ،وأخفاه عن العيون ،بل إنه كان يتعمد الظهور في األماكن المعتادة في وس���ط البلد خطفاً ،حتى ال يشعر أحد باختفائه. لكنن���ي ضبطت���ه بالمصادف���ة ،حي���ن لمح���ت س���يارته «الفولك���س» القديمة تنح���رف في أحد المداخ���ل المطلة على شارع صالح سالم .المهم أنني تتبعته ،وسرعان ما وصلت بفضل س���يارته التي ال تشبهها سيارة أخرى في الدنيا ،إلى قهوة المعل���م إبراهيم الغول المطلة على جامع قايتباي ،في واحد من أجمل األماكن التي شاهدتها على اإلطالق ،وبسبب ارتف���اع هذه المنطقة تحديدًا والخالء المحيط بها ،كان الهواء متجدداً ،وثمة راحة واس���ترخاء تش���عر بهما يغزوانك على مهل. اختار خيري تلك المنطقة التي كانت -ومازالت بالطبع - مدافن كبرى ،وتضم مقابر الخفير وصحراء المماليك ومقابر ونقلت إليها رفات شهداء حرب فلسطين بعد الحرب الشهداءُ ، بس���ت سنوات ،ثم استقبلت شهداء الحروب التالية .استخدم خيري مقه���ى إبراهيم الغول كمكتب وم���كان للقراءة ومنفى اختياري ومعزل صحي عن المدينة ،فالموتى ال يسببون كل ه���ذا الضجيج ،والحقيقة أن األحياء هم الذين اقتحموا مدينة الموتى ،وشاركوهم السكنى ،وبنوا دكاكين وسوبر ماركات ومح�ل�ات بيتزا ومقاه���ي ،باختصار أزاح���وا الموتى خارج وغيروا مالمح المنطقة تماماً. الكادر َّ ف���ي هذه المنطقة كانت مقاب���ر العائلة قد اختفت في مكان م���ا غامض .ومنذ أكثر من عش���رين عام���اً ،كان ابن عم أبي الحكمدار قد اش���ترى مدفن ًا جديدًا ش���رق المدينة ،عندما علم
96
باتصاالته كضابط ش���رطة متنفذ ،أن هناك قرارًا بهدم أغلب مقاب���ر الخفير وش���ق طريق جديد .فصل الحكم���دار الموتى، ونق���ل رفات أق���رب األقرباء ،بعد أن رفض أبن���اء جيله تلك الفظاظة ونقل أقربائهم مثلما فعل. ولحسن الحظ ،لم تكن مقبرة العائلة من بين المقابر التي أزيلت ،وألسباب مازالت غامضة حتى اآلن ،غابت المقبرة عن بالي ،وتوقفت عن زيارتها ،خصوص ًا بعد قرار الحكمدار ،إال أنني عدت إليها عندما تم تجنيدي ،فبعد الحرب ،كان متعين ًا علي أن أش���ارك في نقل جثث الشهداء الذين يستشهدون في َ المستش���فيات إلى مقابر الش���هداء في ه���ذه المنطقة ..وهكذا صحبت الش���هداء إل���ى هنا ،على ُبعد ش���ارع واحد من مقهى إبراهيم الغول ،حيث مكتب صديقي خيري ش���لبي ،بالطبع قبل سنوات من اهتداء خيري إلى هنا. وخالل عدة شهور من شتاء عامي 1973و ،1974عندما فش���لت ف���ي التعرف على كن���ت أقوم بهذه المهمة القاس���ية، ُ مقبرة العائلة ،وإن كنت متأكدًا أنها ماتزال موجودة في مكان ما ،كان لدي يقين بذلك ألنني زرتها بعد ش���ق طريق صالح س���الم ،وكان كل م���ا أصابها هو هدم الحجرتي���ن المبنيتين بالخش���ب البغدادلي ،أما الش���اهدان فقد كانا م���ا زاال قائمين وعلى أحدهما اآلية المكتوبة بالخط النسخ« :يا أيتها النفس المطمئنة.».. حكيت لخيري الذي تفهم األمر تماماً ،فقد س���بق له أن قرأ بع���ض القصص التي كتبتها مس���تلهم ًا هذه التجربة ،وطالما م���ررت بها ف���ي طفولتي الباك���رة ،عندم���ا كان متعين ًا علي ُ َ منذ س���ن الرابعة أن «أطلع القرافة» عل���ى روح أبي مع أمي وإخوتي في األعياد والمناس���بات .وقل���ت له إنني متأكد من
وجود المقبرة في مكان ما بعيدًا عن جامع السلطان قايتباي ألنني ال أتذكره مطلق���اً ،وال أتذكر أي جامع ،فقط هناك قبة ضريح قديم أستطيع لو رأيتها أن أصل للمقبرة. تجولت هنا وهناك ،وأنا في طريقي للقاء خيري كثيرًا ما ُ في مكتبه! ،أو أثناء عودت���ي في طريقي إلى البيت ،أحاول تقطعت الوص���ول ألي خيط يقودن���ي لمقبرة العائل���ة التي َ األواصر بين أبنائها ،وتعذرت س���بل االتص���ال بعد أن مات جي���ل اآلباء ،واألهم بعد أن ض���رب الحكمدار ضربته الكبرى وفصل الموتى فش���لت جوالتي كلها ،ومن كنت أس���ألهم عن «تربية». مقبرتنا ،كانوا يجيبونني بأنهم سكان هنا وليسوا ُ سريحه وتالميذ وربات بيوت .كانوا عمال وموظفون وباعة َ قد شاركوا الموتى مس���اكنهم ،وإذا كان الموتى تحت األرض فهم فوقها ،بسبب االرتفاع الفلكي ألسعار الشقق .لذلك باءت كل محاوالتي للوصول للمقبرة من قبل بالفشل. لك���ن خيري اهت���م باألمر ،وبع���د أيام قليل���ة جاءنا على المقهى من يعرف الطريق .كان رس���ول خيري قد س���أل عن اس���م عائلتنا لالس���تدالل على المدف���ن ،واصطحبنا :خيري وشقيقي األكبر عبد العظيم الذي كان في إجازة من عمله في الس���عودية ..وهكذا مضينا في قيظ أحد أيام أغسطس/آب، في عز الظه���ر نحو كيلومتر ،بين ش���واهد المقابر ،وقد فرد ال على رأسه من شدة القيظ. خيري مندي ً وعندم���ا وصلنا إل���ى العطفة الضيقة الت���ي تغلق ببوابة حديدية أمام القبة التي أعرفها جيداً ،تلك المهدمة وعلى وشك الس���قوط ،مثلما كنت أراها في طفولت���ي وأوائل مراهقتي، استرجعت رائحة مقبرتنا. عندما وصلنا إليها، ُ
سَلمنا دليلنا إلى عم «وطني» الذي لم أتعرف فرحت عليه ف���ي البداية ،إال أنه تف���رس فينا، ُ أس���تعيد مالمحه القديمة ،كن���ت كأنني أرفع الس���نين عن وجهه محاو ًال اس���تعادته كما كان في طفولت���ي .كان هو عم «وطني» الترب���ي المس���ؤول ع���ن مقبرتن���ا، ُ أدهش���ني أنه توجه إلينا مباشرة عب���د العظيم وأن���ا وعلى وجهه طيف ابتسامة قائالً: «ترب���ة الحكم���دار أحمد ُ ب���ك؟ ..عن���دي ..انتم أوالد س���ي مصطف���ى أكي���د مش كده.».. وهكذا تعرف علينا الخفير. قطعن���ا وراءه العطفة الضيقة، المكون من حيث كان بيت���ه القديم َ ال طابقين مازال قائماً .التفت إلينا قائ ً إننا غبنا سنين طويلة ،بل وعتب علينا ألننا هتفت مثلما حتى لم نحضر «دفنة» عمي ممدوح. ُ كن���ت أفعل ف���ي طفولتي عندما لمحت ش���اهد مقبرتنا: الس�ل�ام عليكم ..وهرعت أنا وشقيقي .وقفنا أمام كل شاهد على حدة ،شاهد مقبرة الرجال ،وشاهد مقبرة النساء ،لنقرأ الفاتحة مثلما كنا نفعل قبل ما يقرب من عقدين من السنين. كان خي���ري قد انتحى جانب ًا يتأمل ما يجري ،وكان القيظ قاسي ًا وال مكان نس���تظل به .أما مفاجأة عثوري على مقبرة العائلة بكل هذه السهولة فقد كانت أقسى مما يمكن احتماله. كن���ا قد فقدنا الحجرتي���ن المعمولتين من الخش���ب البغدادلي منذ زمن ،كما أن هناك كتابة حديثة على جدار ش���اهد مقبرة النس���اء تش���ير إلى أن من جدد ه���ذا المدف���ن الحاجة فتحية الورداني ،ورحت أجهد ذهني ألتذكرها دون جدوى. ش���رح لنا عم وطني في كلمات قليلة ،أن الحاجة فتحية، وهي إح���دى قريباتن���ا البعي���دات ،كانت الوحي���دة المهتمة بالمقبرة وقامت بترميمه���ا وتجديدها،وتدفن فيها ذويها بعد أن انقطع الجميع :األحياء واألموات .وأضاف أن المقبرة ما تزال تحتاج إلى الترميم ،فالحاجة فتحية انقطعت عن طلوع القرافة خالل السنوات القليلة الماضية ،وعلينا أنا وشقيقي أن نستكمل ما بدأته. اتخذن���ا طريقن���ا عائدين ،بينما انتح���ى أخي بعم وطني يتكلمان معاً ،ثم وضع في يده أوراق ًا مالية ،وس���َلمنا عليه ومضينا وراء خيري إلى مقهى المعلم إبراهيم الغول. ه���ذا ما جرى بي���ن صديقي الكاتب الكبي���ر الراحل خيري شلبي وبيني في أوائل تس���عينيات القرن الماضي ،تذكرته مثلم���ا تذكرت رحلة طويلة قضيناها مع���اً ،وامتدت لما يزيد على ثالثة عقود ،وأتمن���ى أن أقترب منها ،وأحاول الكتابة عنها ،فهل أستطيع؟. 97
االبنة السرية للرئيس فرانسوا ميتران زارت بيروت مؤخرًا والتقت قراء كتابه���ا الجديد «من أجل ذكرى» ..الزميلة موناليزا فريحة التقتها وكتبت هذا التقرير.
اسمها ،االستثنائي جداً ،يدل عليها ف��ورًا ابنة الرئيس ..على الرغم من أن مازارين ص��ارت أم�� ًا لثالثة أوالد ولم تحمل اسم والدها إال عام .2005 وال��ت��ش��اب��ه ال��ج��س��دي الف���ت للنظر، وخصوص ًا على مستوى الوجه .وأيض ًا في الرصانة العامة والمظهر الرشيق، والمالبس.
أكتب وفاء للذكرى
ال خرجت مازارين التي بقيت طوي ً االبنة السرية للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ،من الظل قبل سنوات ،فابنة السابعة والثالثين سنة لم تصر شرعي ًا ابنة الرئيس إال في 12كانون الثاني/ يناير ،1984وهي في العاشرة ،عندما اعترف بها والدها أمام كاتب للعدل. ومع ذل��ك ،بقيت الصلة بين االثنين ممنوعة من التداول ،وأخفقت محاوالت كتاب وصحافيين للحديث عن البنوة غير الشرعية للرئيس والتي عرف بها البعض منذ بداية الوالية األولى
مازارين بانجو:
موناليزا فريحة-بريوت 98
لميتران ع��ام ،1982إل��ى أن فجرت مجلة «باري ماتش» ما يشبه قنبلة في عددها الصادر في 3تشرين الثاني/ نوفمبر ،1994بنشرها على غالفها ص��ورة الرئيس وابنته خارجين من مطعم ديفليك الباريسي. خرجت مازارين من الظل من دون أن تتملص تمام ًا من سطوة والد كان إضافة إلى وظائفه العامة والرئاسية، رج��ل فكر وث��ق��اف��ة ،وال��د مثقف نقل إليها حب الكتب والكتابة والتساؤل الفلسفي. ف��ي ال��واق��ع ،يغذي ه��ذا التساؤل الفلسفي كتابات المرأة الشابة التي يبدو أنها تغرف من كل مرحلة من مراحل حياتها ،فكرة رواية تميل إلى أن تكون فلسفية .ففي «الفم المخيط» ت����روي م���ازاري���ن س��ره��ا العائلي، وطفولتها التي كانت من خفايا الدولة. وهي تذهب في روايتها الثانية «مقبرة ال الدمى» ،التي كتبتها عندما كانت حام ً إلى استكشاف األسباب التي تدفع أما إلى قتل أوالده��ا .وفي رواية «مارا»، تتطرق إلى قصة عن سفاح القربى غير الطوعي على خلفية حرب الجزائر، مركزة على ثقل التاريخ الذي ينوء به مصير األفراد. تعود مازارين في كتابها األخير «من أجل ذكرى» الصادر حديث ًا عن دار «جوليار» إلى التاريخ مجدداً ،وتتأمل هذه المرة في المحرقة النازية في حق اليهود التي شكلت إحدى فظائع القرن العشرين. تعتمد م��ازاري��ن ف��ي ه��ذه الرواية لغة رزينة ومحكمة ،وتعالج واجب الذاكـــــرة ،ومســــــــألة االنتقال بين األجيال ،وفي «طريقة أكثر هامشية» تأثير العنف على األدمغة الشابة. «من أجل ذكرى» قصة ولد يكتشف على التليفزيون صور المحرقة النازية بينما كانت مربيته تتحدث على الهاتف. مصدوم ًا بما شاهد ،يبدأ الولد باالنطواء
على نفسه شيئ ًا فشيئاً. «كيف نخبر األوالد عن العنف من دون أن نصدمهم ،كيف نواكبهم في ه��ذه األم���ور؟» ،تتساءل رب��ة العائلة وهي تتخيل ح��وارًا يجريه مع نفسه فتى بنى حياته (ودم��ره��ا) على هذا الشعور بالقلق من المحرقة التي اكتشف صورها صدفة على التليفزيون بينما كانت مربيته تتحدث على الهاتف. وتقر مازارين بانجو بأمانة بأنها كتبت هذه الرواية وف��اء للذاكرة كما قالت في لقاء معها سريع لدى زيارتها ب��ي��روت ب��دع��وة م��ن م��ع��رض الكتاب الفرنكوفوني« :ألننا نصل إلى مرحلة مفصلية في رواي��ة الهولوكوست مع اختفاء آخر الشهود األحياء ،ويجب استثمار األدب من اآلن فصاعدًا من أجل الحديث عن هذا الحدث المؤسس للذاكرة». في صفحاتها ،تصف الكاتبة هذا الحدث بأنه «فترة كانت فيها اإلنسانية غائبة عن نفسها» ،تقول إنها -المتحدرة من جيل لم يعرف تلك الحقبة مباشرة- تخشى إعادة ظهورها. ولكن إبادات الشعوب حصلت على مر التاريخ وال تزال مستمرة :من إبادة األرمن إلى المذابح في حق الفلسطينيين م��رورًا باألكراد والتيبتيين ،فلماذا ال تتطرق إليها ،أجابت« :إذا كتبت عن المذبحة فألنها حصلت في أوروب��ا،
في اللحظة التي نكون فيها حساسين حيال تصنيع الموت في مجزرة نصير حساسين حيال كل المجازر
ال���ي قرب ًا ّ وألن��ه��ا تكتسب بالنسبة تاريخي ًا وجغرافياً ،ألن والدي وأجدادي عاشوا تلك الحقبة» .وتضيف أن «هذا األم��ر ال يخفف من وحشية اإلب��ادات األخرى ..ولكن في اللحظة التي نكون فيها حساسين حيال هذه المجزرة على نطاق واسع ،أو حيال تصنيع الموت.. نصير حساسين حيال كل المجازر.. العمل على ذاك��رة الهولوكوست هو إلي التنديد بعمليات التجرد بالنسبة ّ من اإلنسانية وجنون القتل التي هي في النهاية نفسها أينما كان». ويبقى أن كتاب ًا كهذا قد ال يحظى باستحسان في بلد عربي مثل لبنان الذي يستضيف الجئين فلسطينيين، ف��أس��أل��ه��ا :ه��ل ف��ك��رت ف��ي م��ث��ل هذا االحتمال بتلبيتك الدعوة إلى معرض ال��ك��ت��اب الفرنكوفوني ف��ي بيروت؟ تقول« :فكرت في كل ه��ذا ،ولكنني آمل أن الجميع هنا ال يخلط بين النزاع الفلسطيني -االسرائيلي والمحرقة .أنا شخصي ًا حساسة ج��دًا حيال القضية الفلسطينية .وكنت كذلك على نحو أكثر جذرية عندما كنت أصغر سناً. أعيش مع مغربي مسلم ،وأعرف تمام ًا الثقافة والعالم العربيين ،ولكنني أّقدّر أن ليس هناك صلة مباشرة بين األمرين ،وإن قد يكون هناك تكيف بين سياسة اليمين اإلسرائيلي والمحرقة». ليست ال��م��رة األول���ى ال��ت��ي ت��زور فيها م��ازاري��ن بانجو لبنان« ،سبق لي أن جئت إلى هنا قبل 13سنة في إطار جولة في المنطقة مع مجموعة من األص��دق��اء» .وتتذكر أنها «تأثرت كثيرًا في حينه بعدد الورش وصخب المدينة وف��ي الوقت نفسه ببصمات التاريخ الحاضرة جداً ..وانقطاع التيار الكهربائي». بعد 13سنة ،ل��م تتغير بيروت كثيراً ..الصخب نفسه وبصمات التاريخ نفسها ،وأيض ًا انقطاع الكهرباء ال يزال هو هو.
99
الرواية الفرنسية جوائزها وأزمتها كما ك��ان متوقع ًا نالت رواي��ة «فن ال��ح��رب ال��ف��رن��س��ي» ألليكسي جيني جائزة غونكور ،2011وأثارت زوبعة تساؤالت عن أسباب تراجع أرقام النشر األدبي في فرنسا ،وعن كيفية الخروج بالرواية الفرنسية من حالة الركود التي تعرفها منذ بضع سنوات. على خالف الطبعات الماضية ،بدا الشهر الفائت ح��دث اإلع�لان عن اسم الفائز بجائزة غونكور العريقة باهتاً. لم يلق اهتمام ًا إعالمي ًا واسعاً .فبعد السجال الذي دار ،السنة الماضية ،بين أعضاء لجنة تحكيم الجائرة ،وعدم رضا البعض منهم على قرار منحها لميشال فسر ويلباك(صاحب األرض واإلقليم)ّ ، آخرون منحها هذا العام لكاتب مغمور بغياب المنافسة ،ومحدودية مستوى الروايات المرشحة.
100
تحكي ال���رواي���ة ذك��ري��ات ال���راوي ساالنو الذي شارك في حروب فرنسية، من الحرب العالمية الثانية إلى حرب الجزائر ،مرورًا بحرب الهند الصينية، قبل أن يتقاعد من الخدمة في الجيش ويصير فنان ًا تشكيلياً .ينطلق في كتابة ال��رواي��ة من سنة 1991وبداية حرب الخليج قبل أن يعود ،تدريجياً ،إلى الماضي ويسرد وجه ًا معروف ًا وليس جديدًا من تاريخ فرنسا العسكري. المؤلف أليكسي جيني ( 48سنة) لم يكن يتوقع أن تنال روايته األولى إعجاب لجنة غونكور .حيث صرح: «أرس��ل��ت مخطوط ال��رواي��ة ل��دور نشر رفضت قبوله .ث��م فجأة وصلني رد إيجابي من منشورات غاليمار .حدث ذل��ك شهر م��ارس الماضي» .أليكسي ال جيني ال��ذي يعتقد نفسه كاتب ًا فاش ً
بسبب ت��ك��رر فشل مساعيه ف��ي نشر مخطوطات سابقة بلغ ال��ي��وم رتبة أهم الروائيين الفرنسيين ،حيث بلغت مبيعات «فن الحرب الفرنسي» حوالي 110.000نسخة ،على أن تتجاوز هذا الرقم في األسابيع المقبلة ،إضافة إلى نيلها حظوة الترجمة إلى خمس لغات منها اإلنكليزية واإلسبانية. توج الكاتب والسينمائي من جانبهّ ، إيمانويل كارير بجائزة ري��ن��ودو عن رواية «ليمينوف» .حيث سبق للكاتب نفسه نيل عديد الجوائز األدبية المعروفة في فرنسا ،منها جائزة هنري غال التي تمنحها األكاديمية الفرنسية ()2010 وجائزة فيمينا ( .)1995تسرد رواية كارير الجديدة جوانب من سيرة الكاتب والسياسي الروسي المعارض إدوار ليمينوف ،م��ؤس��س ال��ح��زب الوطني البولشيفي ،ال��ذي كشف عن نيته في ترشيح نفسه لالنتخابات الرئاسية في روسيا ،2012والمعروف بمعارضته لسياسة الرئيس فالديمير بوتين. ربما تسببت التطورات السياسية األخ���ي���رة ف���ي ال��ت��ع��ت��ي��م ع��ل��ى حدثي اإلعالن عن الفائزين بجائزتي غونكور وري��ن��ودو ،خصوص ًا تعقيدات األزمة المالية التي تعصف باليونان ،والتي تهدد دو ًال أوروبية مجاورة ،ثم بداية العّد التنازلي لالنتخابات الرئاسية في فرنسا ،مع ذلك ،ال بد من اإلشارة إلى أن موسم 2011سيظل واحدًا من المواسم األقل منافسة .فأرقام مبيعات الرواية تشهد أيض ًا تقلص ًا مقارنة بالسنوات تعول على الخمس الماضية .والمكتبات ّ ع��ودة سريعة للقارئ األدب��ي ،تجنب ًا النعكاسات سلبية محتومة. استقر قرار لجنة تحكيم ّ في األخير، آخ��ر الجوائز األدبية المهمة للموسم الجديد ،وهي جائزة فيمينا على رواية «ج��ي��ن مونسفيلد »1967لسيمون ليبراتي ،والتي تعود فصولها إلى حياة ونهاية نجمة هوليوود السابقة التي تشكل ،بمعية مارلين مونرو، ّ كانت ثنائية الجسد والغواية على شاشات الفن السابع.
ت�أمالت
د .مرزوق بشير
اإلبداع والرقابة شهدت مسيرة اإلنتاج الثقافي بكل أنواعه في معظم بلداننا العربية لس���نوات طويلة ،رقاب���ة صارم���ة ،وتولّتها أجهزة متنوع���ة .وقد كان قرار اإلنتاج الثقافي المكتوب أو المس���موع وحراس األخالق أو المرئي ،يخضع للم���زاج األمني ّ الصارمّ ، والقي���م ،وهوى نف���س الرقيب وخلفيته الثقافي���ة .وكان عدد المراقبين وحراس الرأي والفكر أكثر من عدد المبدعين أنفسهم كم المنتج الثقافي ذاته ،ويمكن تشبيه العمل الثقافي وأكثر من ّ تنق���ض عليها الطيور المع���روض عل���ى اللجنة بالجث���ة التي ّ الجارح���ة والغرب���ان ،كل يقتطع منها ما يس���تطيع من لحم وعظم .حيث ينتزع المراقبون من س���ياقات النص وأحداثه ما يحلو لهم ليحاكموه خارج مس���ار العمل وصيرورته الدرامية، ويس���قطوا علي���ه أحكامه���م المعتم���دة على طبيع���ة فهمهم، يش���وه عما يعكر األمن ،والتربوي يبحث عما ّ فاألمن���ي يبحث ّ نقاء القواعد التربوية ،والش���رعي يبح���ث عما يخالف القواعد الشرعية .ويتحول النص المسرحي والروائي والشعري ،إلى عدة نصوص فلكل رقيب نصه ،يخضعه ألحكامه ويعيد تأليفه بطريقته. فالمراقب���ون ف���ي معظم دولن���ا مجموعة م���ن الموظفين، يتقاض���ون أجورًا على ما يقومون به من أعمال الرقابة ،ويتم تكليفهم م���ن ِقبل أجهزة تنفيذية حكومي���ة ،أوصتهم بالقيام بوظيفة رقابة اإلنتاج الفكري واألدبي نيابة عن مجتمع بأكمله. أن هذا المجتمع ل���م ينتخبهم ألداء هذا ال���دور المصيري، بي���د ّ الذي يتدخل في تطور المجتمع الثقافي والفني وفي مس���يرته وذاكرته وعقله وتاريخه. يخضغ مصي���ر العم���ل اإلبداعي في معظ���م دولنا لتحكم عاَلمي���ن :عاَل���م المبدع نفس���ه ،وهو األب الش���رعي للمنتج اإلبداعي الذي يس���تند في���ه إلى األدوات اإلبداعية في نس���ج أعماله وتجهيزها ،وهو عاَلم له قوانينه وأحكامه وتشريعاته التي قد تتفق بالضرورة مع أحكام وتشاريع وثقافة الرقيب، وم���ن جهة أخ���رى يخضع العم���ل اإلبداعي ألح���كام وقواعد مستوردة من خارجه ،يس���تحضرها الرقيب ليلوي بها عنق العم���ل اإلبداعي من أجل أن تتوافق م���ع تلك األحكام .وهي أح���كام قد تكون مقبول���ة في دائرة الواق���ع ،لكنها ال تصلح وال تتطاب���ق مع العالم اإلبداع���ي أو المتخيل ،وعندما يحكم
القان���ون بمخالفة منه لقطع ش���جرة دون مب���رر في الواقع يكون مقبو ًال للمجتمع .ولكن أن يقطع الشاعر جميع األشجار في داخل المش���هد الش���عري ،ق���د ال يكون مخالف��� ًا من وجهة األحكام وتش���اريع وقواعد الفن .وكذلك مش���هد جريمة القتل في المشهد الروائي له مبرراته وقبوله في إطار ذلك المشهد، ألن العم���ل الروائي يتضمن ما يس���مى (العدالة الفنية) ،لكن ّ ال يجوز اس���تالل ذلك المش���هد والحكم عليه بقوانين الواقع وتشريعاته. يقول الكاتب الكويتي عامر ذياب التميمي في العدد ()1918 من صحيفة الطليعة األسبوعية «لقد حاولت األنظمة السياسية الش���مولية خ�ل�ال القرن العش���رين أن تطرح عل���ى مواطنيها منتج���ات ثقافية متوافقة مع مفاهيمها السياس���ية والعقائدية وخل���ق الثقاف���ة النموذجي���ة المناس���بة لمتطلب���ات النظ���ام أن اإلنتاج الثقافي السياس���ي» ،وهذه المقولة أوصلتنا إل���ى ّ والفن���ي أصبح موظف ًا آلل���ة الحكم والقواني���ن وإيديولوجية الح���زب الواحد ،وتحول الكاتب والش���اعر والموس���يقي إلى موظ���ف عالقات عام���ة ،يحمل وجهة نظر القيادة السياس���ية وأفعالها اإليجابية والسلبية ،وتحول إلى آلة وعائية يوظف فيها موهبته وإبداعاته لفرد واحد أو حزب واحد. من جانب آخر ال يعني القبول بحرية المبدع وحرية اإلنتاج اإلبداعي ،أن تتحول الثقافة إل���ى فوضى ،وتجاوز ما توافق عليه المجتمع بمحض إرادته واختياره ،فال بد من التزام المبدع بقيم مجتمعه اإليجابية ،وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تراقب اإلبداع والوس���ائل المنتجة ل���ه ،ألنها منظمات اختارها لتدافع عن كافة حقوق���ه المدنية ،بما فيها الدفاع عن المجتمع ُ حرية اإلبداع الجاد والمفيد ،ومقاومة الثقافات المضرة بتراثه وقيمه االجتماعية. األهم وه���و تعلي���م المجتمع وتدري���ب كافّة فئاته ويبق���ى ّ العمري���ة ،على ق���درة التمييز بين الغث والس���مين في اإلنتاج اإلبداعي س���واء من خ�ل�ال التعلي���م النظام���ي ،أو من خالل الندوات والمحاضرات والورش ،ومن خالل وس���ائل اإلعالم، عندها س���وف يتحول المجتمع كل���ه إلى رقيب واحد قادر على انتق���اء ما يصلح له وما ال يصل���ح دون وصاية أو رقابة من أي جهة كانت. 101
ن�صو�ص
امرأة من الضفة األخرى حممد الب�ساطي -م�صر
أس���كن حجرة صغيرة فوق السطح ببيت في حارة ضيقة. الم���رات القليل���ة التي يزورن���ي فيها صديق���ي « » يقف بباب الحجرة وال يدخل .يقول بقرف: موش فاهم عايش في جحر الفئران ده إزاي.ويقول: قوم نقعد في قهوة.ونخرج. كن���ا من بلدة واح���دة ،وأمضينا مرحلة الدراس���ة الثانوية مع���اً .الصدفة جمعتنا ،هذه المدين���ة بالصعيد ،كان يعمل في فرع لمصلح���ة الضرائب .وكنت أعمل كاتب حس���ابات بإحدى المصالح الحكومية .دخله أكبر بكثير من دخلي ،وربما كانت تأتيه مس���اعدات من أهله .لم أسأله .وهو لم يخبرني .سمح له ذلك باس���تئجار ش���قة جميلة في بيت على ش���اطئ النيل مؤثثة بفرش مريح ،ستائر ،مقاعد فوتيه ،تكييف ،ومناضد صغيرة تتحرك على عجل. ويوم ًا قال لي إنه سيسافر لسنوات في إعارة لبلدة بالخليج، ودعاني لإلقامة في شقته فترة غيابه .قلت: وحجرتي؟ اقفلها أو سيبها .ولما أرجع شوف مكان تاني.وقد كان. جمعت مالبسي في حقيبة وذهبت إلى شقته. ق���ال لي إنه دفع إيجار الش���قة مقدم ًا لمدة ع���ام للمالك ،وفي نهايته سيرسل له إيجار عام آخر. وسافر. بعدها بأس���بوع ،وكان يوم جمعة ،دق جرس الباب ،فوجئت بامرأة ش���ابة تدخل وعلى رأسها مقطف صغير .قالت دون أن تلتفت:
رسوم -Baudoin:فرنسا 102
اقفل الباب.وأقفل���ت الباب .تبعته���ا إلى المطبخ .فك���ت الطرحة من حول إلي: رأسها ونظرت ّ أمال سي عبد السالم فين؟ سافر. حايغيب؟ سنتين .تالتة. كل ده؟ وأنت مين؟ صاحبه.تأملتني قليالً .قالت: طيب.خلعت جلباب الخروج األس���ود ،وبدا جلباب مشجر تحته، شمرت كميه ،وأخرجت كيس ًا به قطع لحم من المقطف وسحبت حلة من فوق الرف وضعتها تحت الحنفية .قالت: ما تش���غلش بالك .أنا عارفة مكان كل حاجة هنا .اس���تريحانت. وقالت بعد قليل: وانت صاحبه من زمان؟ آه .من زمان. اللي عمره ما كلمني مرة عن صحابه .وال عمري شفت واحدمنهم هنا .كان طيب وابن حالل. وسألتني: أطبخ لك إيه؟ أي حاجة. هنا لوبيا. كويسة. رز ولوبيا ولحمة مسلوقة .كان يحبها مسلوقة. حلوة المسلوقة.ضحكت: صاحبه وبتحب الحاجات اللي بيحبها .نسيت أجيب طماطموخيار للسلطة. موش مهم. أل .إزاي .المرة الجاي���ة أجيبها معاي .وأجيب كمان رز الليهنا قرب يخلص. كان���ت واقفة أمام الموق���د تتذوق الطبي���خ بملعقة ،جففت وجهها بفوطة صغيرة على كتفها .قالت: عن���دي أربع زبائن .نس���وان .حاجة صعب���ة قوي .الواحدةيتقطع تقل���ب اللحمة وتفعصه���ا ،وفي اآلخر وبعدما نفس���ي ّ تاخدها .ودايم��� ًا يتبقى لي فلوس عندها .أحس���ن زبون كان س���ي عبدالس�ل�ام .اللي أجيبه يوافق عليه من غير ما يشوفه. ويس���يبني في المطبخ أعمل كل حاجة وهو قاعد في الكرسي يق���را الجرن���ال .وكل م���رة أش���وفه بيبص لي يضح���ك وأنا أضحك. ش���عرها فيه ضفيرة ممتلئة ترفعها بدبابيس إلى رأسها .بدت رقبتها من الخلف بيضاء نحيلة. أطفأت الموقد .قالت: خالص.تلتفت حولها كأنما تلقي بنظرة أخيرة .قالت:
أشطف وشي.عادت من الحمام .مرت بي في طريقها لحجرة النوم .قالت: اريح شوية.جاءني صوتها من الداخل: موش هتريح انت كمان؟تبعته���ا .انت واقفة بجوار الس���رير .خلعت الجلباب الثاني المش���جر .بدا جلباب آخر تحته من قماش خفيف بدون كمين. تمددت فوق السرير من الناحية األخرى .قالت: الهوا في األوضة يرد الروح .موش تريح لك شوية؟تمددت على ظهري في الطرف اآلخر .كنت حذرًا في رقادي. أخش���ى مالمس���تها .وحيرني ذلك .فالمرأة جميلة .رغم ذلك أجدى مبتعداً ،اس���تدارت على جنبه���ا ووجهها نحوي .أحس بعينيها تتأمالنني: وأنت وسي عبد السالم من بلد واحد؟ أه. وأنت متجوز؟ أل. أحسن .الجواز مفيش وراه غير القرف ووجع الدماغ.ومر وقت .وقالت: أقوم كدا أتأخرت .بدل ما أسمع كلمتين من غير الزمة.لبس���ت جلبابها ولفت الطرحة حول رأس���ها .أردت أن أعطيها نقودًا زيادة عن تمن اللحم .رفضت بش���دة واتجهت إلى الباب. التفتت: ونسيت أسالك عن اسمك. سعد. عاشت األسامي .ويا سي سعد ما تمشيش ورايا حد يشوفكوتجيب لي الكالم. وقالت قبل أن تغلق الباب وراءها: حاجي يوم الجمعة.وجاء يوم الجمعة. كنت نويت أن أتبعها ألعرف من تكون ،ربما أش���تاق إليها بعد معرفتي بها. ومثل يوم الجمعة السابق قامت بتجهيز الطعام ،واستراحت ال بالس���رير ،وقرصتني خفيف ًا في خدي ولم أستجب لها، قلي ً وارتدت جلبابها وخرجت. لبس���ت مالبس���ي مس���رع ًا وانطلقت وراءها .لمحته���ا في آخر الش���ارع .ت���ورات بمدخ���ل البيت .ل���م تلتفت لتنظ���ر خلفها، واس���تدارت منه نهاية الش���ارع ،واختفت عن نظري .أسرعت في خطوتي ،ورأيتها تعبر الكوبري. وتبعتها. حين وصلت إلى الضفة األخرى لم أعثر لها على أثر. عشش كثيرة من الصفيح متناثرة هنا وهناك ،بينها حواري وأكوام زبالة وأطفال نصف عرايا يجرون حولها ،ومنهم من قرفص على بطن الشاطئ ليقضي حاجة. مش���يت بين العش���ش أرم���ق القاعدي���ن أمامه���ا ،يبادلونني بالنظرات. وعبرت الكوبري متجه ًا إلى البيت. ولم أرها بعدها. 103
في ريف النمسا يا�سني عدنان -املغرب يف ريف النم�سا النم�ساوي تع َّل ْم ُت الأ�شجا َر يف الر ِ ِّ يف هذا ِّ ومعناها الأغ�صانَ ونُ ْبلَ الورق الأخ�رض اللم َعة يف ف َْروِ ا َحلفيف �سرِ َّ ْ الريف هنا يف ِ غرب النم�سا( .)1يف هذا ّ ال�ساح ِر َّ طر ْت يل البُو َم ُة َخ َ قلت احل ِْكم ُة ال ُع ْم َر لها ُ �صم َت ال�ضاحية هنا بعينني احلكم ُة تر ُق ُب ْ جان قهوة ك ِف ْن يَ ْ غرب النم�سا يا بُوم َة ِ ْت كتاباً للط ِري ،عن الط ِري ،مل َد ْح ُت لو �أين �ألَّف ُ جاللَ ِك يف �صفح ِت ِه الأوىل و�سي ولَق ُ ُلت ب�أن طريق َِك فر َد ٌّ يحر�س ب� َأ�س العامل يا طرياً ُ حتى و ْه َو يح ِّل ُق يف َح َومانٍ �صامت يحر�س �أ��س�را َر الغابة ،ليالً ،من �ش َغ ِب ُ الأطيار �أيتها البوم ُة 104
يف عينيك يُ�ص ِّلي الع�شب اللينِّ ُ ُ �شجر البُن ُدق ُ وال�صفْ�صاف َّ يف عينيك تهجع �أرواح القدي�سني ن�سمات� ،أغ�صا ٌن وظالل تتم َّو ُج ٌ املتعرج يف ِ عينيك ينا ُم النهر ِّ ت�ضطجِ ُع البقرات فلماذا �ضيَّ ْع ِت �سبي َل ِك يا ها َمةُ(- )2نحو ا ُحللك ِة غابات الغار؟ يف ِ وجئت هنا يف ع ِّز الظهر ِ رح الوادي لتختربي َم َ والطري َ الأدميَ الدافِئ للأر�ض املحرو�س ِة عاع نَ�ضرِ ٍ م ِْدرار ُ ب�ش ٍ بنت الليل يا َ ملاذا ُظهراً �أ�رسَ ْج ِت هنا يف َدغ َِل الغابة خيلَ النار؟ ْ ِ���ي ال��ن��م�����س��ا ،يف ف��ي��ل��دك�يرغ يف ْ غ���رب ِّ
،Feldkirchكنا بالباب نُطلُّ على ق�رص املو�سيقى يف هذا املعهد د َر َ�س هيدغر Heidegger �ستة �أ�شهر كان املبنى ال�شام ُِخ َديْراً تلك الأيام علم الال ُهوت .راهِ َب ديْ ٍر مارتن يَد ُر ُ�س َ �سي�صري ال�شاب ُ تط ُ �شحارير القلق ُ وف ب�أ�شجار التَّنُّوب لكن َّ َ جوار املبنى وتُ َ�ص ِّو ُت ُملتاع ْه أبواب ف ُز ِلز ِ لت ال ْ قلب الراهب واملحكم ُة ُزلْ ِزلَ ِت الكني�س ُة يف ِ الكربى وقالع املدينة ُ ُز ِلز َل يف خل َوتِه ال َّديْ ُر قلق الر ْهبانِ ويَفْنى يف ٍ ْ ليخ َلع مارتن َ ثوب ُّ رقراقٍ وعرا ٍء ُمط َلق
ُ َ ْ ِّ ي ف ك ا و ن َقرَأ الَّ ِذ ْي َ ْ �أ َْحـمَد عَ ايِد -م�صر
كنا ن�رشَ ُب ك�أ�ساً يف املقهى �أمام املعهد و�صبايا من فيلدكريغ معها ،يعزف َْن وماغيَ ، هنيئاً للتَّنُّوب و�أ�شجا ِر ال َّزان �ص يف امل��رةَ ،تر ُق ُ �شحارير رائقةٌ ،هذي َّ ُ ال َه ْد�أ ِة الهارب من الر ْهبان()3 ِ فمن ِ تعز ُف َ حلن ُّ وت در�س الال ُه ِ �إىل ال َع َدم الفتَّان؟ الفر َد ْو�س �ستعزف من َّ منكن �صبايا غرب ِِّي ْ هذي الليلة الرهبان؟ َ حلن ُّ الهوام�ش -1جارة ألمانيا :ذات النمش والدالل. -2كانت العرب تقول :إن عظام الميت تصير هام���ة فتطي���ر .وتقول أيضاً :إذا ُقت���ل قتيل ولم ً ���درك به الثأر خرج من رأس���ه طائ���ر كالبومة ُي َ وهي الهامة. الرهبان واحدًا وجمعاً ،والكلمة -3قد يكون ُّ هنا مفرد.
الْقَا ِرئُ ْونَ ل َِك ِّف َ�ص ْمت َِي لمَ ْ يَ ُك ْونُواْ َ�صا ِد ِقينْ َ َولمَ ْ �أَ ُك ْن َدهِ ً�شا ِبه ِْم يَ ْكف ِْي ل َِك ْي �أَ ْم�شِ ْى َع َلى َما ِء الْ ِب َدا ِي ِة �أَنْ �أَ ُك ْونَ ُم َ�ش ْع ِوذًا يَ ْكف ِْي ِل� َ�ك� ْ�ي �أَ ْم��� ِ��ش� ْ�ي َع َلى َك ِّف ال�س َما ِء َط َها َرت ِْي َونَقَا َوت ِْي َّ يَ ْكف ِْي ... َو َال َ�ش ْي ٌء ِ ألَ ْ�ستَ ْكفِي ف ََما فيِ الْ َك ْونِ م ِْن َ�ش ْي ٍء يُ َكا ِفئُنِي بمِ َا يَ ْكفِي �أَنَا lll
َه َذا ف ََ�ضا ُء الْقَا ِر ِئينْ َ ُم َ�ضيَّ ٌق ، َو�أَنَا ف ََ�ضائ ِْي َوا�سِ ٌع! َوالْ َغ ْي ُب غ َْي ٌب ، اح نَ َواهِ لٌ الر َم ُ َو ِّ ال�سا ِم ِر ْونَ َحدِ يْثُ ُه ْم لَ ْغ ٌو َو َّ اث النُّ ْو ِر َو َما فيِ ال ِّل ْي ِل يَ ْكفِي ِالنْ ِب َع ِ فيِ ْ َرحِ ِم ال ُّد َجى ال�ساهِ ُر ْونَ ف َِ�ض ْي َل ٌة َ�أبَدِ يَّ ٌة َو َّ َوالنَّائ ُِم ْونَ َخطِ ْيئَ ٌة �أَ َزلِيَّ ٌة َو�أَنَا �سرَ ِ يْ ِر َي َ�ساهِ ٌر lll
َما بَينْ َ َق ْو َ�سينْ ِ (الْ ِب َدايَ ُة َوالنِّ َهايَةُ) الر َدى �شرِ ْ ٌب ل ُِكلِّ الْ َّ�سا ِئ ِريْ َن �إِلىَ َو َّ
ُهنَ َ اك ف ََك ْي َف �أَ ْز ُع ُم �أَنَّن ِْي َ�س�أَ ُك ْو ُن ُخ ْل ًدا؟! َوالْ َفنَا ُء َق ِ�ص ْي َدتِي الْب ِْك ُر الَّت ِْي لَ ْن تَ ْنتَه ِْي يِ ْل �أَنْ �أَ ُق ْو َل َولَ ْي َ�س يِ ْل �أَنْ �أ ْف َع َل ْه َد ْعن ِْي �إِذًا م ِْن َطال ِِع الأَ ْو َها ِم َد ْعن ِْي ِل ْل َحيَا ِة ِلتُ ْن ِف َذ الأَ ْق َدا َر َع ْم ًدا فيِ ْ ُف�ؤَاد َِي َجاهِ َد ْه lll
�أَنَا َذاهِ ٌب ِل ْليَا ِء َات ُم ْن ُذ تَ�شرَ ْنُق ِْي �أَ ْحمِ لُ لَ ْوثَ َة الأَ ِلف ِ lll
احن ِْي لَ ْو ًما ِل ْل َما ِء �أَنْ يَ ْجتَ َ ال�س ُك ْو ِت َو يِ ْل َ�س ْيلُ ُّ ْ�ض َ�أنْ ِل�س َما ِء َق� َ�را ُر َه��ا فيِ ْ َرف ِ َول َّ �أَ ْجتَا َز َها اب �أَ َما َم َد ْرب ِْي لِلنُّ ْو ِر �إِ ْر َخا ُء احل َِج ِ ل َّ ِلط ِريْ ِق تَ َو ُّجع ِْي ِلتَ َو ُّجع ِْي ُج ْرحِ ْي جِ ُل ْرحِ ْي بَ ْوحِ َي النَّاي ِْي ِلنَاي َِي َع ْز ُف َها ِل ْل َع ْز ِف َو ْح ُي َق ِ�صائِدِ ْي ِلق َِ�ص ْي َدت َِّي �سرَ ِ يْ َرت ِْي َو َخطِ ْيئَت ِْي َوف َِ�ض ْي َلت ِْي
105
السينات بوزيد حرز اهلل -اجلزائر كانت تأخُذني لجميع ِ المحموم.. ّزق فئات ّ الطيش الن ِ ْ ْ المحروم.. أنا ْ
تمزقني لباس الّتقوى ،واألقوى مني حين ُ ُ وي ُ ّاس َ لزمني الن ُ عمياء ،فيبدو اهلل قريب ًا مني ،سيعاقبني.. ال قب ً َ ّار سالم ًا وأصر على محوي بين أصابعها ال ُ ُّ ْـ...تشتعل الن ُ منها. لزم ويظ���ل لباس التق���وى ُيلزمن���ي ُ الناس به ،وأن���ا ال ُأ ُ ُ حي ًا طول لما أعينهم لي ً تتصيدني ُ ال ومعي ما يبقيني ّ ّ جيراني ّ األفراح ،وال ُألزم ���معها ما أخفيه م���ن ِ ِ العمر ،فقط معهاُ ،أ ْس ُ ألب���س إال ما يرضي المعنى في بتحمل صمتي ،لن جيران���ي ّ َ السين سالم منها. أصوات حروف ْ العطف بأسئلتيّ . كل ماضية في إذن أفعالي المحظورّ ، اهر في ّ ً الظ ِ ِ ستكون ْ ُ ِ الجبهة ال يغري حتى وسط وشم في افح الط اإليمان أساليب ّ ِ ِ ِ ٍ ْ بالبصق عليه، ْ المطبوع الماضي في جبهتها ه���ذا يلس���ع أتصو ُر أنثى ال َ ّ ُ ُ البهتان. سيان ،..سالم منها. أفعالي ال يعنيها ُ المستقبل منكمّ ، أدركت بأن الس���ين فقيه الغامض في المسجد ..اسمعني س���أدلك عن حس���ن التدبير المتك���رر ف���ي كل الجمعات «فما زال إمام الح���ي المعتوه بكل مقاييس الجه���ل يؤكد أن الماء ضروري للغس���ل و يدعو اآلنام إلى اإلس�ل�ام .!!! أنا أسلمت
106
لها .سلمت األمر إليها» ،وركبت سفينتها ورسوت على سحر يغمرني بسالم منها. وهس���يس /..نسمات، وسحاب وس���رور سماء الس���ين ٌ ٌ ٌ ّ ٌ لمسات ،وسرير ولميس. السين سالم منها. ّ ِ حفرت هو البؤس .أنا ولذا أفعالي ال يعنيها الس ِ بمجرد هذا ّ ُ ُ التفاح على مرآى من إبليس فداهمني وس���لبت مغارة قلبي، َ ُ َ الشعر. ُ الوزر.. سعيدًا كنت ..يطهرني ُ التوقي���ع على الصدق باإليق���اع أو س���يني ال تس���مح لي ِ ِ بالممنوع. به ِ ِ المدفوع و ال تْأ ُ
م���ا بال الحكمة راس���خة ال تقبل رأيا إن ع���ارض وجهتها المشدودة للثابت.. األعراف وأوش���كت على خالف���ت تتح���ول يعن���ي أنك أن َ َ َ الهْدِر.. السِر.. سيني ال تعمل في ّ الس���لوى ،وصنعت لها أفالك ًا ولذا س���لمت لها كل مفاتيح ّ ُ ّمه تصعده���ا لتران���ي ُ وس�ل�الم ْ َ أعب���ث بالفاعل منكم وأس���لُ َ يتفقد أحوال الرغبة في أن الجر وأوكل للمفعول به ْ ُ َ لح���روف ّ المكبوت.
الشهوة من سين الحسنات إلى الملكوت. أطلقت َ ُ الس ِ البت سهل أن بتَ / ّع أن ّ ألف األحِد ../وتوق ْ تخلع َ سين ّ َ يصعب الس���اكن، بأمر الحّد الفاصل بين الصمت وبين الحرف ّ ُ ارس���م التفس���ير، تتعجل في معنتان ،فال الم ْ ِ ِ ْ أن تدركه أذناك ُ التحديق عينيك وع���ن عادات أقلع عن بحذائك ّ الس ِ َ ِ ���يرْ ، خط ّ ّجدين ،ومنحناك إلى الخلف ،إنّا أهديناك لسانا ،وهديناك الن ِ سالم منها. فقبلها ،يأتيك ّ الش ِ فتينِّ ، ٌ الحب .يكفي س���هل أن تتخلَّص من حرِب َك ضّد الغامض في ٌ ِّ َّ لبس سينا للـ.. تأبه قلبك في ِ أن تلقي َ بالغيبْ ، ِّ الجب ،أال َ أن ُت َ ِ واحضنها، مزق أثواب العفَّة ُّ فرْ /. والط ِ هرْ ، كر وأخ���رى للـِّ .. ِّ َ ِ وتوسْد ّشوة من زهرتها، ْ ص الن َ مرغ أش���جانك في نهديهاُ ،م َّ ّ أشعلها ،يأتيك سالم منها. ساقيهاْ ..،
يتفجر نهداها أقمارًا من ش���بق، ِس ْ الرغبة يقرأن���ي لما ّ ���فُر َّ فتحملني حمل الكأس، أسكر.. أسكر.. ُ أسكر حتى ال أقوى عن ْ ُ ُ ُ الرم���ان ..هنالك في طف�ل�ا بين ذراعيه���اُ ،تلقي بي في حقل ّ ٍ لسرور ّمني الصحراء الظمأى ،وتؤثِّث ٍ غيمات تطفئني ُ وت َس���لُ ال يأتي إال بسالم منها. أتلبس يحدثْ .. ُ ّسيان فال ألقى حرج ًا في أن ّ اورني الن ُ أن َس َ ص���وب حدائقها وأعبر الس���اكن في فج���وات الروح، بالطفل ّ َ َ ي���دل عليها ،وترافقني مأخوذًا باألل���وان ،ويوقفني العطر، ُّ ٍ كانت أس���راب الجد ُةْ , فراشات ،تسبقني ،فأرى أفالك ًا تعرفها َّ ُ ِ الليلة ..تلك الكانون الضارب في برد ترويها بمزيد من مل���ح ِ تشاء وجهها حيث الليلة ال يعرفها إال الش���يح ،وهذي الريح ُأ ّ ُ ُ
وأشد على أعشاب تتدلى من السين المسعورة ،أبلغ ُس َّرَتها، ُّ ّ أتلظى بين أصابعها ،أتوضُأ بالنازف من شهقتها ِس���درتهاّ ، كل نوافِله���ا ،وأن���ام على إيقاع ال يأتي إال بس�ل�ام وأصلّ���ي ّ منها. ِ أحوال الخلْق مساء ّد س���ين قادتني َ ُ الفس���حة قديس��� ًا يتفقُ باركت الكأس أرقص معهم، ���كَر ولم لم الس ْ ِ ْ السهرةْ ، أسترق ُّ ّ ُ يتأس���ى وأيم���ان الخم���رة حين تس���اوي بين الن���اس .هنا ّ الطاعن والمفت���ون، الفاتن والمجن���ون، العاقل المح���زون، ُ ُ ُ ُ ُ توت.. تتعرى األسرار سال ًال من ْ ُ والطاعون .هنا ّ الصوت.. أتعاب ظالل تتمّد ُد فيها السين ٌ ْ ّ ُ السين سؤال عنها.. ّ السين رسول ال يأتي إال بسالم منها. ّ
107
فا�صلة
عبد السالم بنعبد العالي
الصخب والعنف «ي��دل الحفيف على الضوضاء في حدها األدن��ى ،على ضوضاء مستحيلة :ضوضاء ما يتم بإتقان فال ُيسمع تبخر الضوضاء ..إال له صوت .الحفيف هو أن ُتسمع ّ أن المستحيل ليس هو ما ال يمكن تصوره :يشكل حفيف اللغة يوتوبيا ،أية يوتوبيا؟ إنها يوتوبيا موسيقى الداللة ..حيث يقيم المعنى بعيدًا مثل سراب ..ويشكل نقطة هروب اإلستلذاذ .إنها ارتعاشة المعنى التي أسأل عندما أصغي لحفيف اللغة ،اللغة التي هي طبيعتي أنا إنسان الحداثة». ر .بارت هذه العبارة عنوان رواية للكات���ب األميركي وليام فولكنر نشرت سنة ،1929وهي عبارة مقتبسة عن مسرحية (ماكبث) لـ «وليام شكس���بير» حيث نقرأ في المشهد الخامس من الفصل الخام���س« :الحياة ..حكاية يرويها أبل���ه ،وهي مألى صخب ًا وغضباً.».. العب���ارة تصلح في نظرنا عنوان ًا لما يطبع فكرنا المعاصر تميز من ضوضاء وضجيج .ذلك أن الس���مة األساس���ية التي ّ هذا الفكر في رأينا ه���و اقترانه باللغط والضجة واالحتفاءات والمهرجان���ات و«رفع األصوات» .أمارات ذل���ك واألدلة عليه ليست قليلة ،ربما كان أكثرها وضوح ًا ميلنا الشديد والمتواتر إلى ربط الفكر بالخلخلة والحفر والتقويض والهدم والتفكيك. الفك���ر غدا عندن���ا «خلخل���ة للمعاني» و«حفري���ات للمعرفة»، و«تقويض ًا للتراث» ،و«هدم ًا لألوث���ان» ،و«تفكيك ًا للبنيات». لع���ل ذلك هو م���ا يجعل ذهنن���ا ينصرف غالباً ،عن���د حديثنا عن الفكر ،إلى مطرقة نيتش���ه ،فن���ردد أن التفكير هو «إعمال المطرقة» وأن الفكر «ضرب» لألوثان. بطبيعة الح���ال مطرقتنا نحن مطرقة أكثر «تقدماً» ،مطرقة صناعية ،وهي ليس���ت فحس���ب تلك التي يحمله���ا البنّاء في يده ،وإنما تلك التي يس���تخدمها مرصفو الطرقات في حفرهم وهدمهم وتقويضهم ،وهي بالطبع أش���د ضجيج ًا وأكثر إثارة لالنتباه. إال أنن���ا قلما نعم���ل فكرنا في طبيعة ه���ذا الربط بين الفكر وبين المطرقة .ونحن نعلم أنها حتى عند نيتش���ه نفسه تتخذ 108
دالالت متنوع���ة ،وتدل على المطرقة الت���ي تنصب على واقع «لتهدمه على طريقة البنّاء ،أو لتفحصه على طريقة الطبيب، النحات». أو لتعيد صياغته على طريقة ّ نادرًا ما ينصرف ذهننا ،عند اإلشارة إلى «فلسفة المطرقة» الموس���يقي هات���ه ،إلى مطرقة أخ���رى ربما يكون نيتش���ه، ّ وع���ازف البيانو ،هي التي يقص���د بالضبط .إلدراك ذلك ربما ينبغي أن نستبعد لغة الضرب والهدم والبناء لنستعيض عنها بلغ���ة علم األصوات .آنئذ تغدو المطرقة ،ليس���ت أداة البنّاء، أوكام ،Guillaume d’Ockhamوإنم���ا آلة وال حت���ى نص���ل ّ لقي���اس الذبذبات ،ويغدو الفكر إصغ���اء لصوت الوجود الذي يشير اليه هايدغر.. يس���تعمل الفرنس���يون الكلمة ذاتها للدالل���ة على اإلصغاء وعلى الفهم .entendreبمقتض���ى ذلك يغدو إدراك المعاني إصغاء لـ «حفيف اللغة» الذي يتحدث عنه بارط ،وتغدو األذن أداة للتفكير. ل���ن يعود «إعمال المطرقة» ضرب ًا ألصنام ،ولن يظل الفكر ضج���ة وصخباً ،وإنما جس نبض األش���ياء وإحداث اهتزازة بها لقياس ذبذباتها .إنه اس���تخدام مغاير للمطرقة يحاكي ذاك الذي ينهجه طبيب األعصاب كي «يجس نبض» الركبة ويقيس رد فعلها .إنه اس���تخدام « يطرح أس���ئلة عن طريق المطرقة، ويصيخ الس���مع إلى ما إذا كان هناك صوت يرد صدى خواء أج���وف» .المطرقة إذن أقرب إلى الش���وكة الرنانة Diapason التي ُتستخدم في علم األصوات لدراسة الرنين وضبط اآلالت الموسيقية. حينما نربط الفك���ر بالمطرقة ،والحالة هذه ،فإنما لنجعله جس ًا لنبض األش���ياء وإنصات ًا لموس���يقى العالم .ومن يتكلم كمكون أساس���ي عن الموس���يقى ال بد أن يس���تحضر الصمت ّ ل���كل معزوف���ة ،ال ب���ّد أن يس���تبعد من أجل ذل���ك كل ضجيج وصخب ،فال يقرن الفكر بالضرورة بالمواسم والمهرجانات، وال بعق���د الن���دوات وتنظيم المؤتمرات ،وال برفع الش���عارات وإصدار البيانات ،وال بتس���ليم الجوائ���ز وإقامة االحتفاءات، مكبرات اإلذاعات ومناب���ر التليفزيونات، وال بالتس���ابق نحو َّ وال بالتناح���ر من أجل أخذ الكلمة واالس���تحواذ على المعاني واالس���تئثار بحق التأويل وادعاء «امتالك» الحقيقة ،وال بكل يح���ول دون اإلصغاء إلى نبض���ات الحياة، ما من ش���أنه أن ُ وذبذبة األشياء ،و«حفيف اللغة».
ترجمات
وقت الرحيل بهاء الدين أُوزكِ شي
*
هل حصل وس���معتم صوت��� ًا منادي ًا عند الس���حر؟ صوت ت���ردد قبل انطالق أصوات الخطى األول���ى على الطرقات؟ ن���داء يحاكي عذوبة ن���اي ،يتغلغل في أعماقكم ،ويأخذكم بعيداً ،مثير ،غامض مجهول؟ ه���ل تعلمون من ه���ذا المنادي ومتى سيكون الرحيل؟ حالم���ا انتهي���ت م���ن طع���ام عش���اء حزي���ن ،تس���للت من فوري به���دوء إلى الغرف���ة الخلفي���ة .أرح���ت جبيني على ي���دي االثنتين المس���نودتين على زجاج الناف���ذة ..لق���د تغي���رت الحديق���ة ليالً، حتى بدت وكأنني لم أشاهدها من قبل. ت���راءى أم���ام ناظري ،ما بي���ن فرجات أغصان األش���جار ،ألف ش���بح وشبح، وألف مشهد ومشهد ،درب ضيق طويل، بض���وء خاف���ت يمتد حتى ك���وخ نصف مض���يء .كان الك���وخ يغفو بي���ن قتامة الظالل. قب���ل الذهاب إل���ى الس���رير ،نظرت للم���رة األخيرة نح���و الحديقة ،ومن ثم رق���دت وحيدًا تحت اللحاف ،أفكر بجّدي وبأحداث يوم ال يمكن نسيانها. ربما قال للمنادي «صه! ال توقظه!»، ك���ي ال يصحبني معه إل���ى األرض التي تس���تقبل كل األحبة باألحضان ،ولعله قال أيض ًا «ال بأس ،قد يأتي فيما بعد». ف���ي البداي���ة ،الب���د وأن أوضح لكم من يكون ه���ذا المنادي .هو رجل ضخم
سلمان المالك -قطر
ترجمة � -صفوان ال�شلبي
مفت���ول العضالت ،وصوت���ه جهوري، وش���ارباه مبرومان .تعرف���ت عليه من خالل أحاديث جدي وتشبيهاته المبسطة التي يق���وم بها بتحريك يديه وذراعيه، حتى أني كنت أرس���مه ف���ي ذهني بقلم غير مرئي. كنت أستمع لحديث جدي وهو يشرح لي ع���ن الرحيل ،وأنا غ���ارق في خيال ابتدعته يد مرتك���زة على الصدغ ،وكأن قائ�ل�ا «جاء وقت بي أس���مع ن���داء يهدر ً الرحي���ل!» ،وكأن عيني ت���رى المنادي بمحي���اه الحي المخ���ادع وكأنه حقيقة، وأذني ال تقاوم عذوبة النداء. كان الرحيل يتجس���د ف���ي مخيلتي، عرب���ة محمل���ة بأناس س���عداء وأمتعة وأوان منزلية مختلف���ة .وبينما تتصلب عضالت عراقي���ب الحصان الضعيفة من الكدح ،يغمر روحي حزن رقيق يصعب وصفه. كان ج���دي يتح���دث بعم���ق وب���طء ويقول :ليلة ما ،سيصيح المنادي عند السحر «حان وقت الرحيل». كم غالبن���ي النعاس على امتداد ٍ ليال عدة ،وأنا في انتظار سماع ذلك الصوت. ُأصبت باالرتب���اك والهيجان مرات عدة لخلطي بين أذان الصالة ونداء المنادي. لكن في أذان الفجر ش���يء ما ،يجعلني أفكر أكثر عمق ًا بما رواه جدي. م���ن بع���د صباح ن���وم طف���ل مريح
وعميق ،ما عدت أرى جدي مرة أخرى. لق���د رحل .لكن���ه أثن���اء الرحيل ،لم يستطع أخذ أش���يائه ،وال حتى سترته القديم���ة! من يعلم لعله ذن���ب المنادي. ال «أس���رع»! هيا أسرع!، ربما ،أصر قائ ً بعدما قال له «حان وقت الرحيل» ،لذا لم يتمكن جّدي من وداعي. أم���ر آخ���ر فك���رت ب���ه ،وأصابني بالغيرة .ربما ،جدي اآلن يرتدي سترة جديدة أخرى ،ويروي حكايات لألطفال هناك في ذل���ك المكان حيث اس���تدعي إليه! وأنت���م أيضاً ،ه���ل س���معتم صوت ًا منادي ًا عند الس���حر؟ عن���د مطلع الفجر؟ صوت يتستر بعذوبة ناي؟ هل شاهدتم رج�ل�ا ،منادي ًا يضع كف���ه على صدغه، ً ال «حان وقت الرحيل»؟ وه���و يصيح قائ ً ل���و كان جدي اآلن هن���ا ،لقال لكم وهو يبتس���م «أنتم أيض ًا ستسمعونه يوماً»، ويستغرق متأمالً ،ثم يذهب مبتعداً. * كاتب ترك���ي ولد في اس���تانبول (- 1928 )1975من عائلة متدينة فجّده كان شيخ الطريقة النقشبندية ووالده كان شيخ كّتاب. بدأ تجربته األدبية من���ذ كان طالباً .صدر له العديد من الكتب أهمها في مجال القصة القصيرة: كان يوج���د ش���جرة ُدلب ،ووق���ت الرحيل ،وفي مجال الرواية :القاضي األمرد ،ورجل في القمة، وفي الش���ارع .نال جائزة بيام���ي صفا للرواية لعام 1975عن روايته في الش���ارع .نال جائزة الوق���ف الثقافي القومي لتركي���ا للقصة القصيرة لعام 1975عن قصته القصيرة وقت الرحيل.
109
بين الواقعية السحرية والسياسية:
أدباء أميركا السمراء شهداء ومتفرجون
جين فرانكو ترجمة -طلعت ال�شايب
يكاد يكون مصطلح «الحرب الباردة» غي���ر كاف لتعري���ف فترة كان���ت تدور فيها حروب س���اخنة بواس���طة االتحاد السوفياتي ضد الدول التابعة المنشقة، وبواس���طة الواليات المتحدة األميركية ض���د «الش���يوعية» .ل���م تك���ن الهدن���ة المسلحة بين القوى العظمى ممتدة إلى العالم بأس���ره ،الذي كان ،بالرغم من ذلك كله ،أسير منطق المواجهة ثنائي القطبي���ة .في أمي���ركا الالتينية ،كانت الفترة من الح���رب العالمية الثانية إلى التسعينيات شاهدًا على تدخل الواليات المتح���دة ف���ي غواتيم���اال وجمهوري���ة الدومينيكان وجرين���ادا ،وأزمة خليج الخنازير ،والعمليات السرية ،كما كانت في النهاية شاهدًا على الهزيمة الثقافية والسياس���ية لليسار ،تلك الهزيمة التي عجل بها وص���ول حكومات عس���كرية إلى الس���لطة برعاية الواليات المتحدة. مع هذا الس���يناريو ،من السهل أن نغفل حقيقة مهمة ،وهي أن تلك الفترة كانت 110
في الوقت نفسه ،فترة إبداع وتجريب، وثقة في التحرر من التبعية السياسية واالقتصادية ،فترة لقاء بين السياسي والثقافي. ل���م تكن م���ادة الحرب الب���اردة هي القوى العظمى ونفوذها فحسب ،كانت مادتها أيض ًا تل���ك القصة األخرى التي ت���م خنقها في آخر األم���ر ،القصة التي لعبت فيه���ا االنتلجنس���يا األدبية دورًا رئيس���ياً .هذا الدور يمكن فهمه في إطار ما يصفه «باس���كـال كازانوفا Pascale »Casanovaب���ـ «الجمهوري���ة العالمية ل�ل�آداب» ،والتطلع إلى عالمية منطلقة من المركز ،وباألحرى من باريس ،التي كانت المغناطيس الذي جذب أجيا ًال من ُك َّتاب أميركا الالتينية ،والمقياس الذي يمكن بحس���به تقييمهم .الحرب الباردة غيرت هذه العالقة .صحيح أن باريس بقيت هي المغناطيس ،ولكن الفترة من 1945إلى 1989كانت فترة تنافس بين الواليات المتحدة واالتحاد الس���وفياتي
على الهيمن���ة الثقافية ،ووضع الحرية في مواجهة السالم. وبينما كان عدد قليل من ُك َّتاب أميركا الالتيني���ة منجذبين نحو أحد الطرفين، كان���ت األغلبي���ة تح���اول أن تجد فضاء ثالثاً ،فضاء يتوافق مع كل من الطموح السياس���ي إلى شكل فريد من التقدم في أمي���ركا الالتينية ،والطم���وح الثقافي إلى تحري���ر أدبها ليكون أكثر من مجرد محاكاة ونقل .كان على األصالة أن تجد حلولها السياسية واألدبية على السواء: أو الفضاء الثالث بين الحدين المتطرفين للح���رب الباردة .وبالرغ���م من أن هذه الطموحات أخفقت سياس���ياً ،فقد كانت إيذان ًا بازدهار أدب أميركا الالتينية في الستينيات وأوائل السبعينيات. حت���ى قبل أن تبدأ الح���رب الباردة، كان���ت أمي���ركا الالتينية عرض���ة لذلك المزيج م���ن الدعاية واإلقناع الراس���خ ال���ذي كان يس���ري تحت مس���مى «القيم األميركي���ة» ،ففي أثناء الحرب العالمية الثانية كان���ت هناك آلة دعائية هائلة، وضعه���ا مكت���ب «نيلس���ون روكفل���ر »Nelson Rockefellerلش���ؤون نص���ف الكرة ،تقوم بض���خ األموال في كل أش���كال األنش���طة – م���ن محط���ات اإلذاعة والس���ينما إلى معارض الفنون والمطبوعات – بهدف التأثير في عقول وقلوب أبن���اء أمي���ركا الالتينية ،دعم ًا للهدف «المش���ترك» .وبعد الحرب ،ركز كل م���ن االتحاد الس���وفياتي والواليات المتحدة اهتمام���ه على أوروبا ،بالرغم م���ن أن منظم���ة الحري���ة الثقافية التي أنش���ئت لموازن���ة النفوذ الس���وفياتي وتجني���د المثقفين إلى جان���ب القضية األميركية ،كان���ت لها مراكزها أيض ًا في مدن كثي���رة في أمي���ركا الالتينية ،كما كانت تص���در مجل���ة.»Caudernos« : هذه المجلة الت���ي كان يرأس تحريرها التروتسكي اإلسباني «جوليان جوركين ،»Julian Gorkinل���م تكن منذ البداية بالك َّتاب الشبان ،الذين كان على اتصال ُ الكثيرون منهم معنيين بقضايا التخلف والفساد ،أكثر منهم بالكوزموبوليتانية المج���ردة التي ت���روج له���ا الصحيفة،
ماركيز
والت���ي كانت ،اتس���اق ًا مع سياسات الواليات المتح���دة ،تب���دي عدم ثق���ة في المش���روعات الوطني���ة المس���تقلة. ولكن الواليات المتحدة كان لديه���ا أس���لحة أق���وى تأثي���رًا لخدمة سياساتها ،متمثلة في أفالم هوليوود وبرامج اإلذاع���ة والتليفزي���ون والمج�ل�ات األميركي���ة الش���عبية الت���ي تصدر باإلس���بانية ،وكان���ت «ريـــــــ���درز دايجس���ت »Reader،s Digest أبرز نم���وذج للصحف التي تعبر عن أسلوب الحي���اة األميركي دون اللجوء إلى األس���لوب المباش���ر ف���ي الدعاية أمادو المكشوفة. كان حتمي��� ًا أن يق���وم كال الجانبين بمحاوالت لكي يغازل المثقفين .االتحاد الس���وفياتي منح الشاعر «بابلو نيرودا »Pablo Nerudaوالروائ���ي «ج���ورج أم���ادو »Jorge Amadoحض���ورًا أوروبي ًا بارزًا من خالل مؤتمر السالم، بينما حاول���ت الواليات المتحدة التودد للمثقفي���ن بدفاعه���ا عن حري���ة الكاتب. تقليدي���اً ،كان ُك َّت���اب أمي���ركا الالتينية يقوم���ون بدور ترب���وي ،ولكن ما يميز
ُك َّتاب الس���تينيات هو أنه���م لم يكونوا ُي َعلِّم���ون جمهورهم من خ�ل�ال كتابات تعط���ي دروس��� ًا أخالقي���ة ،وإنما من خالل الق���راءة النقدية .في معظم الدول األوروبي���ة وف���ي الوالي���ات المتح���دة كان���ت التربية م���ن نصي���ب األكاديمية أو الصحاف���ة الثقافي���ة ،وف���ي أميركا الالتيني���ة كان الكات���ب مثقِّف��� ًا عام ًا له قاعدته الراسخة في الصحف والمجالت ويستخدمها بشكل مؤثر« .بورخيس J.
»L. Borgesو«فوينتس »C. Fuentes و«ب���اث »O. Pazو«ليما »J. L. Lima و«ماركي���ث »G. M. Marquez و«يوس���ا »M. V. Liosaو«كورتاث���ار »J. Cortazarو«باس���توس A. »R. Bastosو«أرجي���داس J. M. – »Arguedasوالقائم���ة تط���ول – كل هؤالء أدخلوا نظري���ات جديدة للقراءة والفه���م ولتفس���ير أعماله���م وأعم���ال معاصريهم ومن سبقوهم كذلك .هؤالء الك َّتاب وغيرهم ،وضعوا قوائم ذخيرة ُ مرجعية وكتابات نقدية جددت ونقحت جينالوجيات األدب ،وفي الوقت نفسه كان���ت تحاف���ظ عل���ى اس���تقالليته عن الواقع .قراءة «يوس���ا» الملهمة لرواية القرن الخامس عشر ،رواية الفروسية: « ،»Tirant Io Blancكان���ت نق���دًا – ضمني��� ًا – للواقعية المبتذلة .كل أعمال «بورخي���س» ه���ي – مج���ازًا – قراءة. «كورتاث���ار» ق���دم نظري���ات للق���راءة واإلبداع في روايته «الحجلة». ف���ي كتاب���ه «دون كيخوت���ه :أو نقد القراءة» يعقد «فوينت���س» مقارنة بين زمن ثربانتس وزمنه .يقول «فوينتس» «كأنه كان يتنبأ ،كأنه كان يرى مسبق ًا كل تلك الحيل الق���ذرة للطبيعة األدبية الذليلة ،ثربانتس يكس���ر ذل���ك الوهم بأن األدب مجرد نق���ل للواقع ،ويخلق واقع��� ًا أدبي ًا أقوى بكثي���ر ومن الصعب اإلمس���اك به ،واقع روائي ،رواية هي في وجودها ،على جميع المس���تويات، نق���د للق���راءة» .خالل عقد الس���تينيات الك َّتاب محكمي���ن للذوق كله ،أصب���ح ُ األدبي ،وبخاصة بالنسبة لذلك الجيل األصغر من الدارس���ين والنقاد .وجود الشباب في ملتقيات القراءة والمؤتمرات الك َّتاب والتجمعات الجماهيرية التي كان ُ يتحدث���ون فيه���ا في السياس���ة واألدب والث���ورة ،ه���ذا الوج���ود كان ش���هادة مدهش���ة على القوة المستمرة لـ «مدينة األدب» ،كذلك ف���إن وجود أيديولوجية الك َّتاب في للجمالي أو الفني دعم موقف ُ دعاواهم ب���أن األدب كان منطقة حرة. مث���ل «فلوبي���ر ،»Flaubertالذي كان – بحس���ب «ناتالي ساروت Nathalie 111
– »Sarrauteيتص���ور كتاب��� ًا منب���ت الصلة بالعالم الخارجي ،مكتف بنفسه بفضل قوة التماسك الداخلي ألسلوبه، مثلما تمسك األرض بنفسها في الفراغ، مث���ل «فلوبي���ر» ،كان ما يع���رف بجيل االزده���ار في الس���تينيات ي���رى األدب ال يمك���ن أن يكون مثا ًال نموذج ًا مس���تق ً للسياسة .كان «فوينتس» ،على سبيل المثال ،يعتق���د أن التجديد الخالق الذي يم���ارس ف���ي األدب بالفع���ل ،يمكن أن يتحقق سياسي ًا كذلك في المكسيك« ،إن بلدًا مثل بلدنا ،باس���تمراريته ووجوده التاريخ���ي يمكن���ه أن يقي���م يوطوبيا ثورية غنية ،بدءًا م���ن تلك اإلنجازات الثقافية ،م���ن جهد االختي���ار هذا الذي يفص���ل بالفع���ل ذلك الواق���ع التحرري المعيش عن األثقال الميتة الظالمة». ولكن الموقف المستقل ،الذي يدعيه الك َّت���اب ع���ادة ،ووضعه���م كأنبي���اء ُ علمانيي���ن ،هذا الموق���ف وهذا الوضع كانا عرض���ة اآلن لهج���وم عاصف من كال الجانبين .من ناحية ،كان وضعهم باعتبارهم مرسين لتقاليد جديدة يواجه تحديات من قبل العصابات ،ومن ناحية أخ���رى كانت همومه���م الوطنية تواجه ضغوط السوق العالمية ،وبالرغم من ذل���ك كان بعضهم ،لفت���رة قصيرة في الستينيات ،يعتقد أن الثقافة والسياسة قد تالقتا – في سعادة – في كوبا. كانت الث���ورة الكوبية ف���ي ،1959 الت���ي وصفت كوبا بأنه���ا أول «منطقة مح���ررة» م���ن األميركيتي���ن ،تحدي��� ًا خط���رًا للهيمنة األميركي���ة .كانت ،قبل كل ش���يء ،تحررا وطني ًا طرح نفس���ه نموذج ًا ل���دول أميركا الالتينية والعالم الثالث األخرى ،فعل���ى الجبهة الثقافية اجتذبت ع���ددًا كبيرًا من المتعاطفين من الك َّتاب والمثقفين ،ساعد على ذلك بين ُ جوائزها األدبية ومجلتها Casa de las Americasوتحديها لجارتها الش���مالية وحملته���ا الناجحة لمحو األمية وتبنيها لقضاي���ا العال���م الثال���ث .لمعادلة هذا التأثير الكبي���ر ،كان أن بدأت الواليات المتح���دة عملي���ة تمويل س���رية لمجلة «العالم الجدي���د »Mundo Nuevoالتي 112
جيفارا
الك َّتاب، كان���ت موجهة إل���ى جيل م���ن ُ جي���ل االزدهار األدبي ال���ذي كان قد بدأ يلفت االهتمام العالم���ي .كانت «موندو نيف���و» الص���ادرة في باريس برئاس���ة تحرير «إمير روديج���ز مونيغال Emir ( »Rodríguez Monegalأكاديم���ي م���ن أوروغ���واي) ترك���ز اهتمامها على األدب المعاص���ر وتحاول بحذر ش���ديد أن تك���ون بعيدة عن الدعم المكش���وف لسياس���ات الواليات المتحدة .الحقيقة أنه لوال الكش���ف عن تمويل المخابرات المركزية لها وفضح عدم مصداقيتها مما أدى إلى إغالقها ،لوال ذلك لكان دفاعها ع���ن حرية الفن���ان واس���تقاللية األدب والفن بطاقة رابح���ة ،وبخاصة عندما بدأت كوبا تطلب انحيازًا غير مش���روط لقضيتها. كان���ت الث���ورة الكوبية ه���ي العامل المس���اعد في حروب الستينيات وأوائل الس���بعينيات الثقافي���ة ،التي حرضت النقاد عل���ى المدافعين والملتزمين على غير الملتزمين ،وعل���ى خالف االتحاد السوفياتي الذي كان ينمي خلطة كئيبة م���ن الواقعية بين مؤيديه ،ظهرت كوبا في البداية أقل جم���ودًا وأكثر إبداع ًا في ممارس���اتها الثقافي���ة ،وأكث���ر حرص ًا على الخروج من نخبوية المثقفين .في
السنوات األولى ،كانت كوبا تبدو قادرة عل���ى الجمع بي���ن الطليعة السياس���ية والطليع���ة األدبية ،رغم أنه س���رعان ما ظهر نقيض المثق���ف الملتزم ،وذلك عندما أصبح االلتزام يعني المش���اركة في الحروب الثورية. إن تمثي���ل مرحل���ة الح���رب الباردة باعتباره���ا مج���رد فت���رة تباع���د بي���ن الواليات المتحدة واالتحاد السوفياتي، يعني إغفال ح���روب التحرر الوطني، تلك التي لعبت فيها كوبا دورًا نش���طاً، بإرس���ال قوات إل���ى الكونغ���و ولواندا وأنغوال .مثل هذه األنشطة يؤكد حقيقة مهمة وهي أن تل���ك كانت مرحلة تحرر وث���ورة من وجهة نظ���ر العالم الثالث، وكما يشير «جورج كاستانيدا George »Castanedaفإن «تشي جيفـارا Che »Guevaraكان يجس���د روح العص���ر « »Zeitgeistهذه ،بثقته في أن تغيرات سريعة كانت على وشك أن تحدث ،وأن الفعل الثوري س���وف يس���رع بتغيرات جوهري���ة» .حكم «كاس���تانيدا» ش���ديد القسوة ،حيث يزعم أن كتاب «جيفارا»، عن مثل هذا الفع���ل ،الصادر في 1961 بعنوان «حرب العصابات Guerrilla « ،»Warfareس���اعد في تعبئة شباب أميركا الالتينية باسم القضايا العادلة»،
إال أنه «البد من أن يعتبر مسؤو ًال كذلك عن الدم الذي سفك هدرًا واألنفس التي زهقت واألجيال التي أبيدت» .وس���واء كان باإلمكان اعتبار «جيفارا» مس���ؤو ًال أو ال ،ف�ل�ا ش���ك أن م���ن الصحيح أنه لم يكن متس���امح ًا مع أولئ���ك المثقفين الذي���ن كانوا يقفون موقف المتفرج ،في وقت كانت تبدو فيه الثورة وشيكة في إفريقيا وأمي���ركا الالتينية .الحقيقة أن العديد من الش���عراء والكتاب ماتوا في النض���ال ،كان م���ن بينهم ش���اعر بيرو «خابيي���ر هي���رود »Javier Heraud والش���اعر األرجنتين���ي «فرانشيس���كو أورون���دو ،»Francisco Urondo والكات���ب والصحافي «رودولفو وولش ،»Rodolfo Walshأما الحدث األكثر مأس���اوية فه���و مقت���ل «روك دالت���ون »Roque Daltonعل���ى يد أعضاء من مجموعة ح���رب العصابات التي ينتمي إليها. هذا اإلصرار من جانب «تشي جيفارا» وغي���ره من الق���ادة الثوريي���ن على أن الوقت كان ق���د حان لاللتحاق بالثورة، كورتاثار
قسم الكتاب بين الشهداء وأولئك الذين كان���وا يقفون موقف المتفرجين ،ولكنه كذل���ك قلل م���ن أهمية «مدين���ة األدب» نفس���ها :أي المكان���ة القديم���ة للمثقف اإلنس���اني .في الوقت نفسه لحق ضرر كبير بمكانة كوب���ا كقائد ثقافي بهروب مثقفين منش���قين مثل «جيرمو كابريرا إنفانت���ي Guillermo Cabrera ،»Infanteوبس���بب التقاري���ر الت���ي كانت تترى عن اضطهاد الشواذ جنسي ًا ومعارضي النظام .ولكن االس���تهجان العام للش���اعر «إيبرتو باديا Heberto »Padillaلكتابته ش���عرًا «ضد الثورة» ف���ي ،1969وس���جنه لفت���رة قصيرة واعترافه بالذنب ف���ي ،1971كان ذلك هو الذي كسر ما كان يبدو جبهة متحدة للكتاب .على الفور ،استقال «بارجاس يوسا» من مجلس تحرير مجلة «Casa »de las Americasوأصبح معارض ًا ش���ديداً ،وم���ع مجموعة م���ن المثقفين األوروبيين ومثقف���ي أميركا الالتينية، وقع رس���الة احتجاج ش���ديدة اللهجة، شبهت ما حدث باألساليب الستالينية،
معبرة عن الرغب���ة في أن تعود الثورة الكوبي���ة إلى تلك اللحظ���ة عندما كانت تعتب���ر «نموذج��� ًا لالش���تراكية» .كان «ماركي���ث» و«كورتاثار» من بين من لم يوقعوا الرسالة. ما يتم إغفاله عادة ،هو أن الواليات المتح���دة – كذلك ،كانت تعاقب منتقدي سياس���اتها ومعارضيها بقسوة بالغة. مصير «آنخ���ل راما» ،مثقف أوروغواي ال���ذي س���ك مصطل���ح «مدين���ة األدب» ليص���ف العالق���ة التاريخي���ة للمثق���ف بالس���لطة ،مث���ال عل���ى السياس���ات الثقافي���ة المس���تقطبة في الس���تينيات والسبعينيات ،التي لم تكن تسمح بأي فض���اء ألي موقف مختل���ف ولو بدرجة مح���دودة .مث���ل كثير م���ن معاصريه، كان «رام���ا» يرى ثقافة أميركا الالتينية (باإلضافة إلى اقتصادها وسياس���تها) عملية متصلة ،ل�ل�أدب فيها دور كبير، كم���ا كان يج���ادل ب���أن المثقفي���ن ،منذ الغ���زو ،كانوا يتمتع���ون بوضع مميز نقله���م م���ن السياس���ة الواقعي���ة إل���ى مش���روعات مثالي���ة كان���وا يحاول���ون تنفيذها .وكما أش���ار ف���إن التصميمات الشبكية لمدن العالم الجديد كانت تصور هذه المحاولة إلضفاء شكل مادي على تصميم مجرد .انقسام ثقافي عميق ،كما كان «راما» يعتقد ،جاء ليفصل المثقفين عن س���واهم ،اللغة المثقف���ة عن اللغة الشعبية ،المرتفع عن المنخفض ،وهو انقسام وفصل س���يبقى حتى في القرن العشرين ،إال إنه ،بالرغم من ذلك كله، كان يجادل ب���أن التحديث فتح الطريق أمام ثقاف���ة ديموقراطي���ة متحررة من االعتماد على المدنية الكبيرة .المس���رح والصحاف���ة واألدب الش���عبي وف���رت أس���اليب لتحصي���ل المعرف���ة ل���م تكن بالض���رورة تمر عبر مؤسس���ات النخب في الجامعة. كمح���رر أدب���ي لمجل���ة «مارش���ا »Marchaذات النزع���ة اليس���ارية، كان «رام���ا» يكتب مراجع���ات نقدية عن الك َّتاب المعاصرين ،كما كان يكتب عن ُ السياس���ة الثقافية الكوبي���ة ،وأحيان ًا موضوعات سياسية صرفة ،كما علق 113
على تمويل المخابرات المركزية لمجلة «موندو نيفو ،»Mundo Nuevoودخل في جدل عنيف مع محررها – ومواطنه – «إمي���ر رودريج���ز مونيج���ال Emir .»Rodriguez Monegalانتقد بش���دة سياس���ة كوبا في تعامله���ا مع كتابها، وبالرغ���م م���ن ذل���ك هاجم���ه بضراوة الكاتب الكوبي المنفي «رينالدو أريناس ،»Reinaldo Arenasباعتباره مؤيدًا لكاس���ترو .عندم���ا أوقف���ت الحكوم���ة العس���كرية مجلة «مارش���ا» في 1973 ع���اش منفياً ،في البداي���ة في كاراكاس ثم في الوالي���ات المتحدة حيث ش���غل وظيف���ة في جامعة ماريالند ،وهنا كان علي���ه أن يتعلم كي���ف يعيش «في بطن الوح���ش» ،على حد تعبيـره ،وبموجب ما سوف تصفـه مجلة «»The Nation بالمادة الس���قيمة في قان���ون ماكارون « ،»McCarron Actس���وف تص���در إدارة الهج���رة والتطبيع أمرًا بترحيله. س���بب ذلك ليس معروفاً ،وإن كان من المحتمل أن تك���ون حكومة أوروغواي العس���كرية كانت تح���اول أن تظهر من خالل سفارتها دورها القوي في الحرب على الش���يوعية بالمساعدة في الكشف ع���ن المتعاطفين معه���ا ،وذلك بالرغم من أن «رام���ا» كان دائم ًا صاحب موقف مس���تقل .عبثية تلك االتهامات فضحها
«راما» نفسه في مقدمة «مدينة الخوف». من بي���ن االتهامات التي وجهت إليه أنه كان المح���رر األدبي لمجلة «مارش���ا»، التي وصفت خط���أ بأنها كانت من بين مطبوعات الحزب الشيوعي ،وأنه كان م���ن بين المش���اركين في تأس���يس دار نش���ر Biblioteca Ayacuchoالت���ي الك َّتاب قيل إنها كانت تنشر دائم ًا أعمال ُ الش���يوعيين ،والحقيق���ة أن تلك الدار التي أطلقها «راما» عندما كان يعيش في كاراكاس نش���رت طبعات من إسهامات مهم���ة في ثقافة أميركا الالتينية بما في ذلك ش���عر مرحلة ما قب���ل كولومبوس وكتابات من مرحلة االس���تعمار والقرن التاسع عشر ،ومن بين كثير من الكتاب المحدثي���ن ف���ي المجموع���ة كان هناك شاعران بارزان هما «نيرودا »Neruda و«س���يزار بايخيو ،»Cesar Vallego وكالهم���ا كان عض���وا ف���ي الح���زب الش���يوعي ،إال أنه كان من المس���تحيل أن يتم تجاهلهم���ا .قضية «راما» تبناها ف���رع ن���ادي القل���م الدول���ي األميركي، ورابط���ة الكتاب في أمي���ركا ،وجمعية دراس���ات أميركا الالتيني���ة ،ومحررو جمعية األدب المق���ارن الدولية والكثير من منظمات حقوق اإلنسان ولكن دون جدوى .م���ا يدعو للس���خرية في األمر، ه���و أن «راما» كان يعمل ،قبل ترحيله، فوينتس
114
في مكتب���ة الكونغرس عل���ى مقال عن تقص���ي العالقة بين المثقف والس���لطة ويجادل من أجل جع���ل المهام الثقافية ديموقراطية .كتابه «مدينة األدب» نشر بعد مصرعه في حادث س���قوط طائرة في .1983 ... ... عندم���ا أثبت���ت الش���يوعية الكوبية فشلها ،علق كثيرون آمالهم في التحرر على «طريق تش���يلي لالشتراكية» الذي رسمه «س���لفادور الليندي Salvador ،»Allendeوبعد إسقاطه في ،1973 علق���وا آمالهم على ثورة الساندينس���تا Sandinistaف���ي نيكاراغ���وا .ما الذي كان تش���ي جيف���ارا يتمن���ى أن يحققه ف���ي بوليفي���ا أو كولومبيا ع���ن طريق حرب العصابات ف���ي ماركيتاريا ،أكثر من منطقة مح���ررة؟ بلديات وقراقوالت Caracolesالزاباتس���تا المستقلة هي تجليات أحدث لتصور مماثل لم يختف تمام��� ًا بالرغم من هزيمة معظم حركات ح���رب العصاب���ات .إال أن���ه كان هناك جانب فاسد في المنطقة المحررة .أثناء محاولة «سنديرو لومينوسو Sendero »Luminosoللس���يطرة عل���ى جن���وب بيرو ،قتل س���بعون ألف شخص ،وفي كولومبي���ا تحول���ت أرض العصاب���ات المحررة إلنتاج الكوكا. وراء معظم هذه المش���روعات كانت هن���اك فك���رة مفاده���ا أن دول أمي���ركا الالتيني���ة يجب أن تش���ق طريقها نحو الحداث���ة ،إال أن���ه حت���ى عندما صادق الروائي���ون عل���ى ه���ذا الطم���وح على نحو واض���ح ،كانت المح���اكاة األدبية ف���ي رواياتهم مس���تخدمة الستكش���اف عملي���ات التحرر وفش���لها السياس���ي، وأنا أتحدث هنا عن روايات الستينيات التي دش���نت أدب أمي���ركا الالتينية في الثقافة الكونية ،وطابقت بين الواقعية الس���حرية والغراب���ة وأصالة المنطقة. وهم يفي���دون من الماض���ي ،يذكروننا بالتاريخ الطويل للمناطق المحررة من أميركا الالتينية منذ الغزو وبعده .األدب والسياسة يلتقيان في فانتازيا مجتمع عادل مؤس���س ف���ي فضاء ت���م تنظيفه
بورخس
م���ن كل اإلخفاقات الس���ابقة .الفاتحون اإلس���بان كان���ت تداعب خياله���م أحالم كتلك ،ففي القرن الس���ادس عش���ر قام «لوب أجيري »Lope Aguirreبمحاولة فاش���لة إلقامة مجتمع حر مس���تقل عن اإلمبراطورية اإلسبانية ،و«بارتولومي دي الس كاساس Bartolome de las »Casasأنش���أ المجتمع المس���يحي في فيرا باز ،والمبش���رون الجيزويت الذين اجتنبوا خطيئة الترف األوروبي ،أقاموا أبرش���يات محلية ف���ي المنطقة التابعة اآلن لباراغواي والبرازيل واألرجنتين، حيث كان الس���كان األصليون يعيشون حي���اة جماعية ف���ي العم���ل والصالة. في القرن التاس���ع عش���ر وأوائل القرن العش���رين اجتذب���ت الق���ارة جماع���ات تولس���تووية وفوضوية .كان المجتمع البديل تصورًا نقيض ًا ونقي ًا لبؤس الدولة الواقعية – الرأس���مالية التي تس���يرها السوق والش���يوعية البيروقراطية على الس���واء – وكان ع���ادة ما يت���م تخيله عودة إلى العالقات ما قبل الرأسمالية. كان لذل���ك أيض��� ًا س���وابق تاريخي���ة
في مع���اداة الرأس���مالية الكاثوليكية. «الحوافز الالمادي���ة» ،التي كان جيفارا يدافع عنه���ا عندما كان وزيرًا لالقتصاد ف���ي كوب���ا ،باإلضاف���ة إل���ى الموق���ف المعادي للمادية عند الطليعة العسكرية وبخاص���ة توبام���اروس Tupamarus أوروغواي ،كل ذلك كان بمثابة تذكرة باإلدان���ات القديمة للرب���ا .على أن عدم الثقة في النقود ل���م يكن مقصورًا على الطليعة في أمي���ركا الالتينية :فنانون م���ن أصح���اب المفاهيم ألق���وا بالنقود في الس���ين وبالدوالرات في البورصة. كان مارك���س قد كتب يق���ول إن «النقود هي الق���درة االغترابية للبش���رية» ،كما ربط ع���دم الثقة في اقتص���اد المال بين السياس���ة والفن ،وظهر في النصوص واألحداث األدبية بين الهيبيز والحركات السياس���ية ،وهو يعاود الظهور حتى اليوم من وقت آلخ���ر ،بالرغم من أن ال التقشف المثالي للعصابات وال البساطة المثالية للمزارعي���ن يمكن اإلبقاء عليها بس���هولة في منطقة العولمة السريعة، وهو درس كان البد من مواصلة تعلمه
في الس���تينيات وأوائل الس���بعينيات. كم���ا يش���ير «فيلكس جوات���اري Felix الك َّتاب استكشفوا هذه »Guattariفإن ُ المجتمع���ات البديلة وهم على وعي تام بفش���لهم التاريخي .ف���ي كتابه «حرب نهاية العالم» ،يكتب «بارجاس يوسا» عن محاولة القرن التاسع عشر بواسطة أتباع «أنطونيو كونس���يليرو Antonio »Conselheiroإلقامة مجتمع ديني في ال عن الدولة شمال شرق البرازيل مستق ً الجمهورية .ردًا على ذلك ،قامت الدولة العلمانية بإرس���ال جي���ش ليبيد أولئك المتمردي���ن عن آخرهم ،وفي عمله «أنا األسمى» يصف «أوجستو روا باستوس »Augusto Roa Bastosباراغواي بعد اإلستقالل عندما عزلت نفسها تحت حكم الدكتور «فرانسيا »Franciaعن التجارة والعالق���ة بالدول األخ���رى في محاولة ألن تكون بمنأى ع���ن النفوذ األجنبي. الرواية تتناول بالتفصيل كفاح الدكتور «فرانسيا» المستحيل لكي «يملي» مكانه الخاص على التاريخ بينما يحمي شعب باراغواي م���ن التلوث بأوروبا ،ولكنه يهزم في النهاية ،ليس بواسطة جيش غ���از ،وإنما بفنائه الخاص .في رواية «ماركي���ث»« :خريف البطري���رك» نجد الحاكم المس���تبد ،الذي يس���تحضر إلى الذه���ن «تريخي���و »Trujilloرئي���س جمهوري���ة الدوميني���كان ،و«بيثنت���ي جومي���ز »Vicente Gomezالرئي���س الفنزويل���ي ،نج���ده في النهاي���ة مجبرًا على بيع محيط بالده للقوى األجنبية. مشروع االستقالل الوطني أو اإلقليمي ال���ذي تقدمه هذه الرواي���ات يجمع بين الخصوصية والغراب���ة .غرابة الدكتور «فرانس���يا» أو بطري���رك «ماركي���ث» تمث���ل نوع ًا م���ن األصال���ة ،ولكنهما ال يستطيعان إيقاف زحف القوى الكونية للتحديث الرأس���مالي .يب���دو أن ما كان يش���غل المؤلفين ،هو مش���كلة أخالقية طرحتها «خيليان روز »Gillian Rose في كتابها «الحداد يليق بالقانون» ،الذي تكش���ف فيه عيوب تطرف���ات الجماعية والليبرالية .فبينما الجماعية ،كما ترى روز ،ال تكترث بالحريات الفردية (ومن 115
هنا خطر الشمولية التي يفضحها روائيو فترة االزدهار) ،فإن الليبرالية تستدعي «إعمال وظيفة الشرطة الحتواء نتائج الالمساواة» ،وهي النتيجة التي كان أن ظه���رت على نحو واضح عندما وصلت األنظم���ة العس���كرية إلى الس���لطة في الس���بعينيات .في صيغة مختلفة نوع ًا ما م���ن المنطقة المح���ررة ،نجد رواية «ماركي���ث»« :مائة عام من العزلة» التي ال كامالً ،تصور سحرت ،ومازالت ،جي ً لنا «ماكوندو» كمنطقة تصبو ألن تكون خ���ارج التاريخ ولكنه���ا تصبح ضحية للتاريخ .عزلتها تدمرها وكذلك السفاح القرب���ى الذي تأسس���ت عليه ،ويصبح محكوم ًا عليها بالع���ودة إلى الطبيعة. مث���ل رواي���ات أخ���رى مؤسس���ة على سوابق تاريخية فإن «أصالة» ماكوندو ال يمك���ن فصلها عن عزلة كانت العولمة تتهددها بالفعل. التمثي�ل�ات الروائي���ة ع���ن المناطق المحررة ال تترجم اإلخفاقات التاريخية فحس���ب وإنم���ا تنعك���س كذل���ك عل���ى األدب نفس���ه .كان المش���روع العلماني لإلنتلجنتس���يا هو خلق جمه���ور مفكر قادر على القراءة والفهم على مس���توى رفي���ع ،وهو مش���روع أحبط���ه مجتمع المعلومات الذي كان من نبت التحديث، كما أحبطته أيض ًا إزاحة اإلنتلجنتس���يا األدبية بواسطة خبراء لم يكن أسلوبهم العقالني ليس���مح بالخي���ال أو يعترف ب���ه ،وهذا هو س���بب لج���وء أو اعتماد كثي���ر م���ن الروائيي���ن عل���ى الموروث وعلى الس���حر وعل���ى بقاي���ا الماضي الذي كان من المفترض أن تتخلص منه اإلنتلجنتسيا .حتى «بارجاس يوسا»، وهو عقالني ،ينهي روايته «حرب نهاية العالم» بكلمات عجوز تعلن بعد سحق المتمردين أنها رأت زعيم متمردين ميت ًا يلحق بالمالئكة في الجنة ،وبينما كان األدب يس���عى إلى إزاحة الدين وتحدي اهلل ،تبدو رواية «يوسا» وكأنها توحي بع���دم إزاح���ة األس���طورة أو تهمي���ش المقدس تماماً. بينم���ا أدب أمي���ركا الالتينية مرتبط بالمش���روع العلمان���ي للحداث���ة ،فإنه 116
كثيرًا ما يس���تعيد أو يستحضر أطياف الماضي المربكة للعقالنية والمش���وهة لها .إلى جانب األس���طورة ،كان الدين عنصرًا مهم ًا آخر ،س���يدخل كذلك عالم السياسة والثقافة في أواخر الستينيات. الهوت التحرير ،وااللتزام نحو الفقراء الذي أبداه األس���اقفة في مؤتمر ميدلين في ،1968خرب التقليد العلماني الذي كانت اإلنتلجنتس���يا تتبن���اه ،واجتذب نوع ًا مختلف ًا من المفكرين أو المثقفين: القساوس���ة الذي���ن نظم���وا مجتمعات قاعدية لمناقش���ة السياسة وليس الدين فحسب ،وشجعوا محو األمية ،وكانوا يؤمنون بأن الفقراء س���يرثون األرض. في من���اخ الس���تينيات والس���بعينيات الث���وري لم يك���ن مس���تغرب ًا أن ينجذب أولئك القساوسة إلى القضية الثورية. «كاميللو توري���س »Camillo Torres الكولومب���ي (وكان الش���اعر إرنس���تو كاردينال من أش���د المعجبين به) ،أخذ وقِت َل وهو يحارب الخطوة القص���وىُ ، في صفوف جيش العصابات .كثير من قساوس���ة الجيزويت كانوا نشطاء في قضية الساندينيستا في نيكاراغوا ،وبعد إطاح���ة الرئيس «س���وموزا »Somoza أصبحوا أعضاء في الحكومة« .إرنستو كاردينال »Ernesto Cardenalخدم لفترة وزيرًا للتربية ،وهو الذي أسس ورش الش���عر الت���ي كان يش���ارك فيها فالحون وجنود وربات بيوت. أثناء فترة إعداده ليكون قسيس ًا في كولومبي���ا ،زار «كاردين���ال» ع���ددًا من المجتمعات المحلي���ة التي كانت نظمها العقائدي���ة تتعارض مع الرأس���مالية. مجموعت���ه الش���عرية الص���ادرة ف���ي 1969بعن���وان «في الثن���اء على هنود أميركا» وه���ي كوالج (مزي���ج إبداعي) من استش���هادات من نص���وص محلية، تمكننا ،كما يقول «جوردون برذرستون »Gordon Brotherstonم���ن «تذوق اإليقاعات والص���ور وأصول الكلمات.. حتى مادة النصوص السابقة والتقاليد األدبي���ة والثقافية الت���ي تنتمي إليها». إحدى ه���ذه الرباعيات الت���ي يبدو فيها تأثره الشديد بالشاعر «إزرا باوند Ezra
يوسا
،»Poundتص���ف الربا بأن���ه «خطيئة ف���ي حق الطبيعة» (بس���بب الربا ،الذي ه���و خطيئة في ح���ق الطبيعة ،يصبح خبزك أسوأ من الخرقة البالية ،خبزك ج���اف مث���ل ال���ورق) .كان «كاردينال» منجذب��� ًا إل���ى الجماعات األهلي���ة التي كانت تحافظ على القيم المجتمعية .في كولومبيا ،زار مجتمع ًا كان يتحاش���ى التجار ألنهم «يصنعون الالمس���اواة»: «النقود ال تنتش���ر ،ال تدور بين الناس، ولكنه���م لديهم عم�ل�ات كثي���رة :عقود وأسنان قردة وتماسيح» .في قصائده، كان يح���ي ذكرى تلك المدن ،وهي اآلن خ���راب« ،الت���ي ل���م تكن بها ق���ادة وال إداريون وال أسر أو عائالت حاكمة وال أحزاب سياسية» .كان يحتفي بحضارة اإلن���كا القديمة ف���ي «تاهوآنتنس���ويو »Tahuantinsuyuألن ش���عبها لم يكن لدي���ه «نق���ود»« ،وألن ناس���ها لم يكن لديهم نق���ود ،لم تكن هن���اك دعارة أو س���رقة ،كانوا يتركون أبواب منازلهم مفتوحة». قرب انتهاء فترة تدريبه كقس���يس، وعم�ل�ا باقت���راح «توم���اس ميرت���ون ً »Thomas Mertonأعل���ن «كاردينال» ق���راره بإنش���اء مجتم���ع تأملي مكرس للصـ�ل�اة والتأم���ل الروح���ي ،ف���ي «سولنتنامي» على نهر «سان جوان» في نيكاراغـوا .أعلن ذلك في رسالة كتبهـا إلى صحيفـة كان���ت تصدر باإلنكليزيـة واإلس���بانية (إل كورن���و إمبليم���ا دو
– الب���وق المزي���ن بالري���ش) وكان���ت تحررها «مارجريت راندال Margaret »Randallو«س���يرجيو موندراج���ون ،»Sergio Mondragonوتجم���ع بين ش���عراء الواليات المتحدة وأميركا الالتيني���ة .بعد أن خطط ل���ه كمجتمع تأملي في نيكاراغوا ،التي كانت ماتزال تحت حك���م «إنستاس���يو س���وموزا»، تحول���ت س���ولنتنامي تدريجي��� ًا إل���ى متحف وم���زار للفرجة ،أصبحت مكاناً، الفن مس���توعب ف���ي الحي���اة اليومية، والموعظ���ة تعكس مزيج��� ًا خاص ًا من الماركسية (التي نمت بزيارات كاردينال لكوب���ا) والهوت التحري���ر الذي صالح بين الماركسية واإليمان باهلل. كانت اإلنتلجنتسيا العلمانية لمدينة األدب ،ق���د انتقلت في معظمها من الفقر وبؤس الحياة عند أدنى مستوى ،بينما كان الكثي���ر م���ن القساوس���ة يتصدون لمش���كالت الفقراء .عندم���ا أعلن مؤتمر األس���اقفة في ميدلي���ن ( )1968التزامه بالفق���راء ،أصب���ح أعض���اء الكهن���وت المتعاطفون مع الهوت التحرير نشطاء في إنش���اء مجتمع���ات قاعدية ولقاءات ومؤتمرات س���اعدت في رفع الوعي من خالل مناقشة األناجيل ،وشجعت على مح���و األمية ،وق���د س���جل «كاردينال» هذه األنش���طة وفصلها ف���ي كتاب له، وكله���ا كانت تؤك���د التف���وق األخالقي للفق���راء والحاجة إلى الث���ورة من أجل إح���داث تغيي���ر ،وف���ي الوقت نفس���ه كانت تحتفي بجم���ال الحياة في البيئة الطبيعي���ة الرعوي���ة المحيط���ة وتعيد تصور المدينة مجتمع ًا يجمعه الحب .لم تجتذب س���ولنتنامي الجناح الراديكالي فقط م���ن الكنيس���ة الكاثوليكية ،وإنما الك َّت���اب والمفكرين كذلك ،نحو مجتمع ُ كان فيه الفالحون يصبحون مصوريين وحرفيي���ن ،وكان يب���دو وكأنه يحقق المش���روع القديم لقطاعات من الطليعة كانت تؤمن بأن الجمال���ي هو النموذج للعم���ل ال���ذي ال يعاني م���ن االغتراب. وفي عام ،1977بعد أن بدأ «كاردينال» وغي���ره من أعضاء المجتمع دعم قضية الساندينس���تا والمش���اركة فيه���ا ،قام
«سوموزا» بقصف المجتمع وإزالته من الوجود ،وذلك قبل أن يسقط هو نفسه بفترة قصيرة. كان الروائ���ي األرجنتين���ي «خوليو كورتاثار» أحد الذين زاروا سولنتنامي، وكان في تل���ك الفترة مقيم ًا في باريس ويح���اول أن يخف���ف من ابتع���اده عن أمي���ركا الالتيني���ة بالمش���اركة ف���ي سياس���تها ولو من عل���ى البعد .قصته «رؤيا سولنتنامي» بمثابة قداس للمثال المجتمعي ولمدينة الحروف التي حمت األدب���ي من تدخ���ل الواقع السياس���ي. مروية على لسان الشخص األول ،تبدأ القصة بوصف لزيارة إلى سولنتنامي بأس���لوب ينطوي على تع���ال مزعج. الك َّت���اب وغيرهم مذكورون بأس���مائهم ُ األولى دون تكلف ،إرنستو (كاردينال) وسيرجيو (راميريز)« .كورتاثار» ،الذي لم تك���ن تنقصه الحنك���ة ،والذي جاب العال���م مترجماً ،يستكش���ف ش���خصية تعود إلى فطرية س���اذجة عندما تواجه فالحي���ن مصوري���ن في س���ولنتنامي. هنا كان���ت «مرة أخ���رى الرؤية األولى للعال���م»« ،النظ���رة النظيفة لش���خص يصف محيط���ه كترتيلة مديح» .بالرغم من ذل���ك ،تؤكد فطرية ال���راوي رؤيته المستقطبة للعالم منقسمة بين البراءة والشر .بعد عودته إلى باريس ،وبينما يتأمل ش���رائح الص���ور الت���ي التقطها لرسوم سولنتنامي ،يكتشف أنها ،فوق كونها مجم���دة في الماض���ي الرعوي، تسجل عنف الحاضر ،وبد ًال من الرسوم البدائي���ة ،يظه���ر أمام���ه اآلن كل رعب عمليات الموت واالختفاء القسري التي ه���ي حقائ���ق يومية في الق���ارة :قنبلة تنفجر في بيونس أيرس ،إعدام الشاعر «روك دالت���ون» بأي���دي أعض���اء م���ن جماعته .مستخدم ًا تقس���يم ًا يقوم على الجن���س لكي يصل إل���ى فكرته ،يجعل «كورتاثار» الفتاة الفرنس���ية «كلودين» تمثل وجهة النظر الغثة لشخص ال يمكنه أن يرى سوى ما هو واضح ،أو بعبارة أخرى ال ي���رى أبعد من الصور الرعوية الس���اكنة ..المجمدة في الماضي ،بينما يرى الراوي ،األميركي الالتيني الرعب
الق���ادم على نحو معج���ز .االقتناع بأن الف���ن واألدب يعجزان عن تناول الرعب بدرج���ة كافي���ة ،ه���ذا االقتن���اع عمقته سياس���ة الواليات المتح���دة في أميركا الوس���طى .وكما كت���ب «كورتاثار» إلى أحد مراسليه «كل يوم يصبح من األكثر صعوبة بالنس���بة لي أن أقرأ األدب كما اعتدت ،تارك ًا نفسي ،تجرفني الحماسة مع كل كتاب ،كما لو كان هناك شخص م���ا يتحدث إلى من وراء ظهري .في كل لحظة يعود إلى الشعور بالخطر ،وكل مرة أمض���ي وقت ًا أطول ،اس���تمع إلى راديو الموجة القصيرة بحث ًا عن أخبار، أطول من الوقت الذي أمضيه في القراءة أو االستماع إلى تس���جيالت» .في ذلك الوقت كان نشط ًا في منظمات في المنفى وأدلى بش���هادة أمام محكمة «راس���ل» ( )Russell Tribunalع���ن التعذي���ب. وعندما عاود النظ���ر إلى «الحجلة» في ،1975وه���ي رواي���ة تجريبية أحدثت ضج���ة كبيرة عند صدوره���ا ألول مرة في ،1963كتب يقول« :كل شيء يبدو مختلفاً ،كل شيء يبدو بعيدًا وعبثياً». صفحات من كت���اب «أدب الح���رب الباردة: كتاب���ة الصـ���راع الكـون���ي»Cold war« . »literature: writng the global conblict الصادر ضمن سلس���لة أدب القرن العشرين عن دار نش���ر « »Routledgeف���ي ،2009وتص���در ترجمته ع���ن المركز القوم���ي للترجمة بالقاهرة قريباً. يتن���اول الكتاب ال���ذي حرره الناق���د «أندرو هاموند» وانتهى من ترجمته إلى العربية طلعت الشايب ،أعمال مؤتمر عقد في جامعة «وورويك» ف���ي بريطانيا في يونيو/حزي���ران 2002تحت عنوان «ما بعد الشيوعية :النظرية والتطبيق»، وش���ارك فيه نقاد وباحثون من الشرق والغرب بأوراق بحثية ركزت على األصوات التي انطلقت من المناطق المهمشة في الحرب الباردة. حمل���ت األوراق عناوين مث���ل «تمثيل الغرب في األدب الروسي أثناء الحرب الباردة» و«القلق النووي ف���ي أدب ما بع���د الحداثة ف���ي أميركا» و«الرواي���ة التاريخي���ة في االتحاد الس���وفياتي وإفريقيا م���ا بعد االس���تعمار» و«تذك���ر الحرب والث���ورة عل���ى المس���رح الم���اوي» و«المقاومة األدبية الماركسية للحرب الباردة». والفصل المنشور هنا يحمل عنوان« :الوسط المس���تبعد :المثقفون والحرب الباردة في أميركا الالتيني���ة» .وقد تم ح���ذف الهوامش لضرورات النشر الصحافي.
117
�ضغط الكتابة
أمير تاج السر
الكتابة والتأرجح
في جلس���ة نقاشية ضمت عددًا من المثقفين ،فيهم كتاب ونقاد وش���عراء ،تطرقنا إلى مس���ألة اإلنتاج الروائي لعدد م���ن الكت���اب المعروفين ،س���واء على الصعي���د العربي أو العالمي ،إلى مسألة أن تكون للكاتب أعمال فذة ،ابتكر فيها تقنيات جديدة ،وعالجها بحنكة ،وفي نفس الوقت ،تخرج من قلمه ،أعمال غاية في الضعف ،وال يمكن أن تقارن بتلك األعمال المجيدة التي بقيت في ذاكرة الناس. أو ًال أريد أن أؤكد على تلك المسألة باعتباري كاتب ًا يمكن أن يتأرجح قلمه بين الجيد وغير الجيد ،أقول إن المس���ألة ال ترتب���ط بأي خلل في أدوات الكاتب ،وال تقلل من ش���أن كتابت���ه ،أيض��� ًا ال عالقة لها بالبدايات الت���ي توصف دائم ًا بأنه���ا األضعف في التاريخ اإلنتاج���ي ألي كاتب ،فقد كتب عديدون ف���ي بداياتهم أعما ًال أصبحت خال���دة ،ولم يكتبوا ولدي مثال رواية «األش���ياء تتداعى» مثلها بع���د ذلك أبداً، ّ للنيجري الكبير تشنوا تشيبي ،فقد كانت شرارة البداية في تاريخ���ه ،وما تزال هي األقوى بالرغم من أن الكاتب أصدر أعم���ا ًال عديدة بعدها ،لم ترتق ألن تبلغ مس���تواها ،وأزعم أن األعم���ال التي أنجزها جارثي���ا ماركيز في بداياته أو في منتص���ف تاريخ���ه اإلبداعي ،كانت أعظم ش���أنا من أعماله األخي���رة ،فقد يس���تغرب الق���ارئ الذي التهم مئ���ة عام من العزلة برغم ضخامتها ،وتعدد شخوصها وإمكان التوهان فيها ،حين يحس بعدم الرغبة في إكمال رواية صغيرة جدًا ومحدودة األبطال ،مثل :ذكرى غانياتي الحزينات .الكاتب واحد ،واألسلوب شبه واحد ،لكن روح النص القوية التي تأسر ،كانت متوافرة في مئة عام من العزلة ،ولم يقدر لها
118
أن تتوفر في الرواية األخرى. أعتق���د أن ظروف ًا كثيرة تحي���ط بعمل الكاتب ،تجعل من عم�ل�ا عادي ًا ال يلفت النظر، ذل���ك النص تحفة ،ومن اآلخر ً هناك أعمال كتبت تحت ظروف سياسية واقتصادية معينة عاصرها الكاتب ،وظهرت في كتبه ،مثل أعمال كتبها نجيب محفوظ في فترة ما من عمر مصر السياس���ي ،ولم تنجح، ونوه صديقن���ا الدكتور صبري حافظ إلى رواية مثل :أمام العرش التي لم تنجح على المستوى اإلبداعي ،ولن تقترب من ثالثية محفوظ الخالدة. وفي مطالعتي ألعمال كتاب آخرين ،أحب كتاباتهم مثل فارجاس يوس���ا ،و أس���تورياس ،عثرت بالضبط على ما س���ميته تأرجح الكتابة ،لي���س كل األعمال مبهرة ،وهناك أعمال حتى أقل من العادية. ال أنسى هنا أن أشير إلى مسألة التذوق الشخصي التي تظلم الكت���اب أحياناً .بمعنى أن يحب ق���ارئ كتاب ًا معيناً، لكاتب ما ،ويتخذه قياس ًا تذوقي ًا ألعماله األخرى ،وبالتالي يخضعه���ا للظلم .القراءة هنا ليس���ت متكامل���ة ،ولم تحلل الكت���اب بكل تقنياته وفنياته ،وإنما كانت بعدس���ات ثبتت على الكتاب الذي في ذهن القارئ وأحبه. ش���خصي ًا وفي بداياتي ،كانت لي نظ���رة التذوق تلك، ولكن بش���يء من التدريب ،اس���تطعت أن أميز بين الكتاب الجيد وغي���ر الجيد ،لنفس الكات���ب ،وأتعرف على تأرجح الكتابة الذي ال يقلل أبدًا من مكانة أي كاتب.
الحنين إلى الجزيرة السورية في روايته «سيأتيك الغزال» الصادرة مؤخ���رًا ع���ن دار رفوف/دمش���ق يخلط الروائ���ي الس���وري خلي���ل صويلح بين الحني���ن والس���خرية ،اس���تنادًا إل���ى ما ترتكبه الذاكرة وفق انحيازات الراهن. الراوي ولد في «سنة جمال» كما تؤرخ
أمه ،وهي السنة التي زار فيها جمال عبد الناصر منطقة الجزيرة السورية في أثناء الوح���دة بين البلدين .يع���ود الراوي إلى طفولته هناك ليسترجع المكان بعفويته الزائلة ،يس���ترجعه بعي���ن المراقب الذي لم ينغمس جيدًا ف���ي «وحل» التفاصيل، فيتمنى بعد عقود لو أنه فعل!. ش���خصيات كثيرة تعب���ر النص الذي يتقاسمه بشكل أساسي الراوي والمكان، في محاولة لرصد بيئة ال تتغير وحس���ب بل تتصحر بالمعنى المباش���ر وبالمعنى المج���ازي للكلم���ة .الجزي���رة الس���ورية يابس���ة تق���ع بين نهري���ن كبيري���ن هما الفرات ودجل���ة إضافة إلى الخابور الذي ال يعبرها ،م���ع ذلك يس���تيقظ الطفل لي ً من العطش ،يطل���ب الماء من جدته التي
كتب
ال نم .سيأتي الغزال حام ً تقول له« :نمْ .. قرب���ة م���اء ويرويك» .الغ���زال الذي كان ال ربما ما يزال البعض الطفل ينتظ���ره لي ً ينتظره ،أما الكثيرون فقد غادروا المكان بحث ًا عن لقمة العيش في مدن أخرى .من منطقة تمّد البلد بالحب���وب وبالنفط إلى منطقة يهاجر أبناؤه���ا بحث ًا عن الكفاف ويقطنون أحياء مدقعة ،هذا ليس بالقدر الطبيع���ي ،فالمتغيرات السياس���ية التي عصفت بالبل���د ككل ،واإلهمال الحكومي الخ���اص والمتعمد أديا إلى إفقار المنطقة بالمعنى الم���ادي والروحي ،كأن المكان يكرر س���يرته إذ لطالما ش���هد حضارات بادت. «س���يأتيك الغ���زال» رواية مش���غولة بالحس التصويري ،وال تخفي انحيازها إلى التجربة على حساب التجريب ،نص يدنو أحيان ًا من النشيج ،لكنه ينجو غالب ًا من فخاخ الحنين التي ينصبها لنفسه!.
ص���درت أخيرًا النس���خة العربية من رواية «طبيبة اإلس���كندرية» للروائية األلمانية كاري كوستر – لوش���ه ،والتي تدور أحداثها في اإلسكندرية مع بداية القرن الثاني الميالدي بترجمة أش���رف نادي أحمد ،عن المركز القوم���ي للترجمة .تحكي الرواية أن «تاليا» – ابنة أحد الفالس���فة من آس���يا الصغرى بعد أن نه���ب القراصنة قريتها س���افرت م���ع طبيب يوناني اس���مه «لبتينوس» لتس���اعده في عيادت���ه .هذا األخير ال مزدوج��� ًا بين قاضي القض���اة الرومان���ي «تريمالخيو»، اس���تطاع أن يك���ون عمي ً وعدوت���ه «أفرايتا»،الرواي���ة تتعرض لما ذاقه أقباط مصر م���ن القتل والتعذيب على ال لروما القديمة ،وتس���رد حكاية فتاة أس���رت أي���دي الرومان ،كما تقدم وصف ًا حاف ً وأصبحت عبدة ،لكنها على الرغم من ذلك حافظت على كرامتها وقوة ش���خصيتها، وساعدت الجميع لتصير سيدتهم – حسب المثل الشهير. كما تتطرق لحلول اللغة القبطية بديلة لليونانية إلى جانب اللغة العربية.
119
كتب كت���اب قد يوح���ي عنوانه بتلك النوعية م���ن الكتب التي تدعي القدرة على تعليم الغرام ،لكن���ه في الحقيقة كتاب في الحرية والمحبة قبل كل شيء
نبوءة الحب والحكمة عمر قدور -دم�شق كت���اب «إتقان الح���ب» الص���ادر عن دار النهري���ن /2011دمش���ق ،ترجمة متيم الضاي���ع ألّف���ه «المعلم رويز» اس���تنادًا إل���ى تقالي���د «التولتيك» ،وهي أش���به بالديانة القديمة لدى ساللة «إيغل نايت» المكسيكية. ُع���رف التولتي���ك في جنوب المكس���يك كـ «رجال ونس���اء المعرف���ة» ،وقد كانوا مجموعة م���ن العلم���اء والفنانين الذين شكلوا مجتمع ًا يكتشف ويصون المعرفة الروحي���ة .بعد الغ���زو األوروبي للقارة األميركي���ة اتخذ التولتيك ش���كل الديانة الباطني���ة التي ت���م توارثه���ا من خالل سالالت من المعلمين ،مع وجود نبوءة بقدوم عصر يصبح في���ه من الضروري إع���ادة «الحكمة» إلى الن���اس .من حيث المبدأ ،التولتيك يعتبر أن كل ما نعتقده عن أنفس���نا ،وكل ما نعرفه عن عالمنا، هو حلم .فإذا ما نظرت إلى أي شرح عن الجحيم ستجده مشابه ًا لتوصيف الجحيم في المجتمعات اإلنسانية ،إنها الطريقة التي نحلم بها .األمر شبيه بالعيش على «كوكب جميع س���كانه مصابون بمرض جل���دي ،منذ ألفي���ن أو ثالثة آالف عام، والناس يعانون من نفس اإلصابة ،كل أجس���ادهم مغطاة بقروح ،وهي قروح مؤلمة عند اللمس .طبع ًا هم يعتقدون أن هذه هي الحال���ة الطبيعية للجلد ،حتى أن كتبه���م الطبية تش���رح األمر على أنه طبيعي»!. 120
عطف ًا على التش���بيه السابق ،يعتقد كل فرد نفس���ه طبيعي ًا ضمن وه���م التماثل ال���ذي يعيش���ه الجمي���ع ،أي أن معي���ار «الطبيعي» هو الصورة االجتماعية التي يرسمها الفرد لذاته والمطابقة لما يريده المجتمع للف���رد ،دون اعتبار لما يكونه الفرد ولما يريد أن يك���ون عليه .فالعلة األول���ى التي تصن���ع الجحيم البش���ري هي غياب الفردانية ،والتولتيك طريقة إلعادة اإلنسان إلى التفكر في ذاته على نحو نزيه ،بحيث يكتشف الفرد رغباته الحقيقية وأمراضه ،أو باألحرى يكتشف ما تحت طبقة التدجين الذي مورس عليه منذ الطفول���ة ،فيرى حلمه الخاص الذي تالشى في الحلم العام الكبير ،والذي هو بالضبط حلم مؤطر بالقوانين واألديان والتقاليد. ما نس���ميه تثقيف ًا بالمعن���ى االجتماعي هو ترويض يق���وم منذ البداية على مبدأ
الث���واب والعقاب ،ال على مب���دأ الرضا فيحك���م الف���رد والس���عادة الفرديي���نُ ، بمحاولة الحصول عل���ى رضا اآلخرين دون أن يش���عر ه���و ذات���ه بالرضا عن نفسه ،أو أنه يحصل على الرضا الذاتي بسبب رضا اآلخرين وهذا نوع كاذب من السكينة. يق���ول التولتي���ك« :أن���ت ه���ي الق���وة الت���ي تلعب بعقلك وتس���تخدم جس���دك وكأنه دمية محبوبة م���ن أجل أن تلعب وتس���تمتع .تلك هي مب���ررات وجودك هن���ا :لتلعب وتحصل عل���ى المتعة .لقد ولدن���ا ولدينا الحق بأن نكون س���عداء، لدين���ا الحق بأن نس���تمتع بحياتنا ،إننا لم نول���د لنعاني ،ومن يري���د أن يعاني ال به مع المعان���اة ،لكن ليس علينا فأه ً أن نعاني» .بينما تقول الثقافة السائدة: «تع���ذب الي���وم وكن صبوراً ،وس���وف تحصل على المكافأة حي���ن تموت» .لذا يب���دو التولتي���ك على النقي���ض من قيم التضحية التي تمجد األلم ،في الواقع إن المنظومة المعرفية التي يقترحها الكتاب ال تذم التضحية كقيمة إن اختارها الفرد بملء إرادته في مجتمع س���ليم معافى، لكنها تهجو قيم الواجب االجتماعي ،مع أن الرؤي���ة العامة للكت���اب ال تخلو من المثالية إذ تفترض أن الجوهر اإلنساني للفرد يق���وم على الحب ،وأو ًال على حب اإلنس���ان لذاته .ال يمكن من وجهة النظر ه���ذه أن يح���ب اإلنس���ان اآلخرين دون المرور بحبه لذات���ه ،ألن حبه لآلخرين حينها يكون نوع ًا من التعلق الذي يبتغي منفعة عارضة أو كسب ًا اجتماعياً. «إتقان الحب» عل���ى الرغم من العمومية التي يطرحها الكتاب إال أنه يبقى ش���أن ًا فردياً ،ال يتحقق إال من خالل الفردانية، وه���و أيض��� ًا رحلة ف���ي ال���ذات من أجل اكتش���اف اآلخ���ر والعال���م ،م���ع تركيز واضح على العقل ،فالمش���اعر بحس���ب المؤلف هي طبقة ش���عورية من العقل، وفي العقل نجد كل ش���يء ،نجد نعيمنا وجحيمن���ا الخاصين ،لكنن���ا تحت ذلك الركام س���نجد على األرج���ح الحب الذي فطرنا علي���ه ،والذي للمفارق���ة جردتنا منه المثل التي تدعي الحب أيضاً!.
أدلبرتو آلفش
شاعر من أرشيف األندلس
ص���در ع���ن منش���ورات دار التوحيدي، قصائد مختارة للشاعر البرتغالي أدلبرتو آلف���ش ترجمها ع���ن اللغ���ة البرتغالية المترجم المغربي سعيد بنعبد الواحد. تمثل القصائد المختارة عصارة مس���يرة آلفش الشعرية على امتداد ثالثة عقود، أص���در خاللها س���تة دواوي���ن هي على التوالي« :رؤية غامضة»« ،1979 -الدقة والزمن»« ،1982 -شرق ذاتي»،1992 - «ليل���ة القدر»« ،1993 -إيران :رحلة الى بالد الورود»« ،2007 -في قمة الليل»- .2008 الش���اعر أدلبرتو آلفش (مواليد لشبونة )1939من عائل���ة برتغالية ذات أصول
عربي���ة ويعتبر م���ن أكبر المس���تعربين البرتغاليي���ن الذين غذّوا المكتبة العلمية بأبحاث ودراس���ات قيمة ع���ن الماضي العربي واإلسالمي بالبرتغال .وللكاتب
سيرة الغياب بعد مجموعته األولى «أغنية البئر» صدر للش���اعر الفلس���طيني الش���اب أنس أبو رحمة مجموعة ش���عرية جديدة بعنوان «حج���اب» عن مركز أوغريت الثقافي في فلس���طين ،بغالف يحمل لوح���ة للفنان الفلس���طيني يوس���ف ع���وض .وكانت المجموع���ة قد حظي���ت بتنوي���ه جائزة القط���ان ،وهي جائزة أدبية محليّة ،في دورتها لعام 2010الخاصة بالشعر. ال يتخلى الش���اعر في مجموعته الجديدة عن معجمه اللغوي الذي ظهر بوضوح في مجموعته الشعرية األولى «البئر» .وهو معجم ال يكف عن تس���جيل سيرة الفتى
في أش���عاره ،فثمة فتى ف���ي المجموعة يق���وم تاريخه على :الوط���ن ،المدينة، القصي���دةَ ،وه���و .في «س���يرة الفتى»، وهي أح���د نص���وص الدي���وان ،للفتى
اهتمام قوي بالدراسات األدبية والترجمة خاصة الش���عر األندلس���ي وقد صدر له «المعتمد» « ،1985قلبي عربي» ،1987 «المعتمد ش���اعر القدر» ،1996واعتراف ًا بما قدم���ه للثقاف���ة العربية اإلس�ل�امية حصل ف���ي ش���هر نوفمب���ر 2008على جائزة الش���ارقة للثقاف���ة العربية التي تمنحها اليونسكو (مناصفة مع المصري جابر عصفور). ويش���كل الش���رق بكل تجلياته الروحية والصوفية جزءًا أساسي ًا من رؤية الشاعر آلفش ،وبحثه الدؤوب عن أسئلة الشعر ف���ي التج���ارب الصوفية جعل���ه يعترف بأنه يعيش روحي ًا تجربة الشرق «إنني أعي���ش منفي��� ًا هنا ،في ذات���ي ،أتعرف ال على نفسي وال يعرفني اآلخرون». قلي ً وال ننس���ى أن الش���اعر آلف���ش تع���رف على متن ش���عري خصب رموز ش���عراء األندلس وأف���كار متصوفيها الكبار ،مما جعل من قصائده جس���رًا حواري ًا إبداعي ًا بين نس���قين معرفيين .وهو ما جعل من ش���عره ينفتح إبداعي ًا عن مجاهل قصية وهي ما نعته���ا المترجم بـ «حلقة وصل بين الشرق والغرب».
«وط���ن كالمجنون /يط���ارده الصبيان أما في الح���ارات /بالحجارة والقمامة»ّ . مدينت���ه فغائب���ة عن الوع���ى ،ونازفة، وهو /الفتى ،ال يستطيع ان يأخذ موقف ًا «ابقي ْ ليوق���ف نزيفها ،ب���ل يقول له���ا: نازفة /أدمنت الرائحة». «حج���اب» أن���س أب���و رحمة تس���جيل لس���يرة الجدران ،الكائن���ات الصغيرة، األهل واألصدقاء ،وه���و إذ يفعل ذلك، تجد أصابعه بأظافر ح���ادة قادرة على أن تخ���دش المدين���ة والن���اس والوطن والحياة ،لكنها تترك أصابع الش���اعر/ يمحى ،يحاول التخفي وراء الفتى بدم ال ّ موت صارخ يهرب منه ويالحقه ،وحين يس���تمر في هروبه يستمر في مالحقته، في رحلة هروب المرئية ،حاول الشاعر تحميلها المزيد من الذنب.
121
كتاب منوعات
بحث ًا عن الهوية العراقية ح�سام ال�سراي-بغداد
صدر حديث ًا عن «دار نون» في حلب كتاب «خيوط ملونة» للكاتب السوري نجيب كيّالي ،وهو كتاب ارتأى في���ه المؤل���ف الخروج عن العادة بعدم التقيد بجنس تعبيري واحد ،إذ يضم الكتاب 23عنوان ًا تتراوح ما بي���ن القصة والخاطرة والقصي���دة والمقالة والبحث ،كما يس���تهدف الكات���ب بموضوعات���ه القارئ الصغير والكبير. م���ن مواضي���ع الكت���اب: التعبي���ر باليدين ،حم���ى الدورات التعبيرية ،الس���خرية في ش���عر نزار قباني ،مجنون يحكي وعاقل يس���مع ،صعوبات منس���وبة إلى اللغة العربية ،مس���تقبل األمومة، تنمية الق���راءة عند أطفالنا ،مزيدًا من السوبر ستار يا عرب ،قصائد الهية عن نفسها ،جمعية لمقاطعة األخبار. الكاتب نجيب كيالي من مواليد إدل���ب بس���ورية ،1953عض���و جمعية أدب األطفال واتحاد كتاب العرب ،م���ن مؤلفاته -وهي كلها قص���ص قصي���رة ج���دًا ( -ميت ال يموت ،لس���اني أكل���ه القط ،قبلة بالشماس���ي) .وف���ي أدب األطفال ص���در ل���ه« :الطب���ل المثق���وب، س���عدون وقصص أخ���رى ،أمير السكر». ّ
122
ف���ي كتابه ال���ذي صدر مؤخ���راًُ ،يدخلنا العراقي رش���يد الخيّون ّ الكاتب والباحث في جدل ما بعد نيسان/إبريل 2003في العراق ،عبر سلس���لة مقاالت في كتاب تحت عنوان (ض���ّد الطائفيّة) ،والصادر مؤخرًا عن دار «مدارك» في بيروت. جاءت مواضيع الكت���اب ،التي كتبت ما ونش���رت بين عامي (ُ ،)2008 - 2003 في صحف مثل جريدة «الشرق األوسط» و«االتح���اد اإلماراتيّ���ة» ،بع���د التوثيق والتثبّ���ت م���ن منطلق ش���دة الخصومة والجدل ح���ول الطائفي���ة بوصفها أكثر المفردات تداو ًال في هذا العصر. أن «الحل األمث���ل لهذا يط���رح الخي���ون ّ ال���داء الخطي���ر ،التركي���ز عل���ى الهويّة الوطنيّ���ة العراقيّة ..والخروج من حزب االنتخابي إلى الحزب ّ الطائفة وكيانه���ا العراقي.».. ّ وض���م الكت���اب مجموعة مق���االت ،من ّ أهمه���ا« :يا ن���ار كوني بردًا وس�ل�اماً، ّ تغييب الهويّة العراقيّة ،يا أئمة المذاهب الفتن���ة يقظ���ة! ،مخاط���ر الدس���تور .. والمدن���ي ،األحزان ال ّ الدين���ي ّ تج���اذب تعمر األوطان ،لو أعلن بوش إسالمه!، اسمعوا وصايا شمس الدين ،المندائيون استغاثة طيور الماء». نق���رأ ف���ي الكت���اب م���ن مق���ال «العراق
أهل���ه األُص�ل�اء»« :بقلق م���ن التهميش والتغيي���ب ،ف���ي زحمة االس���تقطابات الطائفيّة والفئويّةُ ،عقد ببغداد المؤتمر الثاني لمجل���س األقليّ���ات العراقيّة 27 آيار/مايو 2006منادي ًا بإقرار «حقوق األقليّ���ات العراقيّة حجر الزاوية في بناء ث���م يختتم الكاتب ديموقراطي»ّ .. ّ عراق مقاله بـ «أنّه بالش���ك ،يولد تغييب هذه الجماعات نقص ًا في المواطنة ،وشعورًا باإلحب���اط ،من وط���ن ولد عل���ى أيدي وزراع وصنّاع أس�ل�افهم م���ن دهاقن���ة ّ وعلم���اء .وعل���ى حد قول الش���اعر( :إذا امرئ ..نصيب لم يكن للمرء في دول���ة ٍ والحظ تمنّى زوالها).».. كم���ا نطال���ع ف���ي مق���ال «المصلحة في المصالح���ة»« :لي���س من السياس���ة أن تؤخذ مبادرة المصالحة مؤش���رًا لضعف الحكومة ،وبالتالي الغرور بوهم إثبات ش���عبي بمدينة ّ الق���وة بتفجي���ر س���وق ّ الث���ورة ،وقت���ل عم���ال البن���اء ،وذبح كل ما يتعلّـق بأسباب الرهائن ،وإتالف ّ تدل على فقدان الحياة والمعاش ،وكلـّها ّ القوة». الرشد ومصادر ّ «هبهِب مكان يختتم الكتاب بمقال عنوانه ِ وأزمة ضمير» ،وجاء فيه« :هبهب القرية أو الناحية الت���ي ُقتل فيها زعيم القاعدة بب�ل�اد الرافدين أبو مصع���ب الزرقاوي، بعد أن مأل غرب العراق ووسطه بفتاوى القتل وبالمقاتل الرهيبة ..لم تعد شهرة ه���ذه القرية ،في ذاك���رة العراقيّين ،بما تصنعه من ش���راب من تمره���ا الهندي، حيث غ���زارة هذا النوع بأرض باعقوبا، وعواء واويها الش���هير ،بعد ش���ربه من خابيات ذلك الشراب ،إنّما حدثها الكبير أدخلها الى عصبة األمم المتحدة ،وذاكرة التأريخ».
يقول علي بدر على لسان عيسى :هناك شخص واحد ،ديكتاتور، قائد أمةُ ،مخرج يقف أعلى مس����رح يحترق ،والش����عب ممثلون يتابعون إلقاء أدوارهم ،وهذا القائد هو صدام حسين.
بين البندقية والقصيدة هيفاء بيطار -الالذقية ف���ي روايته «أس���اتذة الوه���م» الصادرة حديث ًا عن المؤسس���ة العربية للدراسات والنشر ،يستعيد الكاتب العراقي ،المقيم في بروكس���ل ،علي بدر ذاك���رة بغداد في الثمانيني���ات أثن���اء الح���رب العراقي���ة - اإليرانية .وعلى غالف الرواية نقرأ كلمة مختصرة تقول إن «أس���اتذة الوهم رواية عن الشعر والحب والموت في العراق». ب���رع علي ب���در ف���ي تحليل ش���خصيات الش���عراء المجندين ،لكن البطل الرئيسي في الرواي���ة هو عيس���ى ،المولع بقراءة سير الشعراء الغربيين ،والذي كان يذوب ويتخدّر وهو يق���رأ أعمالهم ،والذي تعلم الروسية واأللمانية ليقرأ أعمال الشعراء الذين يعبدهم ويتأثر بهم ،عيسى الذي كان كل وجوده وإحساس���ه بالحياة يتلخص بكلمة واحدة :الشعر ،لكن ثمة إرادة عليا فصلت له قدره وشخصيته بجعله جندياً، ّ وزجت بحياته إلى الجبهة ،ليجد نفس���ه مش���روع ًا للموت في الح���رب العراقية - اإليرانية. عيس���ى ال يمثل الشاعر فقط بل اإلنسان، إنس���ان الي���وم ،وخاص���ة ف���ي األنظمة الديكتاتوري���ة ،وحت���ى ف���ي كل األنظمة االس���تبدادية ،ال يمكنه أن يك���ون ذاته، وال أن يحق���ق ما تت���وق إليه روحه ،ألن هناك قوة تصادر إرادة اإلنسان ،وتشوه وتفصل له دورًا في ّ موهبته وس���عادته، الحياة ،لخدمة مصلح���ة عليا ،هي غالب ًا ديكتاتور. عيس���ى المرهف اإلحس���اس ،الممسوس
بهوى الش���عرُ ،ينكر حياته كجندي ،إنه ال يري���د أن ُيزج به ف���ي حرب ليقتل أخاه اإلنسان ،ويش���عر أن روحه أقوى وأكبر بكثي���ر من المعطي���ات الممنوح���ة له في الحي���اة الواقعية .تتحول حياة عيس���ى وخاصة عالقته بنفسه إلى إنكار لواقعه وإنكار لش���خصه فهو يتماهى مع بودلير وإليوت وغيرهم من الشعراء العالميين، ويتس���اءل ه���ل يمكننا أن نكون ش���عراء عالميين ونحن في بغداد ؟ يقرر عيس���ى الفرار م���ن الجيش والعيش متخفي ًا متس���لح ًا بكتب الش���عر ،والكتب التي تتحدث عن س���يرة حياة الش���عراء، المخلِّـص الش���عر بالنس���بة لعيس���ى هو ُ م���ن عدمية حي���اة ،من الجبه���ة والحرب العراقي���ة -اإليراني���ة التي زج���وه بها، والت���ي ال يؤمن به���ا ،وال يراها قضيته، صناع الحروب إنه ليس دمية في أي���دي ُ
والدمار ..عيس���ى الذي يسرق كتب الشعر م���ن المكتبات ويعيش ف���ي أزقة الفقراء، يق���رأ ويحلم ويكت���ب ويترج���م لعظماء الش���عراء العالميين ،عيس���ى الذي سكن في علب الصفيح البائسة ،هارب ًا من حكم اإلعدام ال���ذي صدر بحق���ه كخائن ،وفي عل���ب الصفيح ق���رأ مذك���رات غاندي ،ثم قرأ رس���ائل نهرو إلى ابنته ،ثم طلب من ش���قيقته أن تشتري له كتب طاغور ،كان يري���د قراءة كتب طاغور قب���ل تنفيذ حكم اإلعدام به. يطرح علي بدر في روايته أساتذة الوهم أس���ئلة وجودي���ة ومصيري���ة غاي���ة في األهمية :هل إنس���ان اليوم يملك نفس���ه؟! أليس إنسان اليوم ُمصادر اإلرادة ويخضع لكل أنواع الضغوط والخ���دع ليُضلل عن أن يك���ون ذاته ،ليتحول إل���ى أداة في يد ق���وة عظم���ى ال يهمه���ا س���وى مصالحها ونفوذه���ا ..هل ه���ؤالء الجنود الش���بان المس���اكين مقتنعون حق ًا بما يقومون به؟ هل يؤمنون حق ًا بالقضايا التي أجبروهم أن يؤمن���وا بها ،ولعل بعضه���م آمن بها لبراءته وس���ذاجته ،وللح���رب اإلعالمية الجذابة والمدروسة التي يقوم بها هؤالء المتحكمون بمصائر الشعوب. عيس���ى ليس مجرد ش���اعر بل هو إنسان صودرت حريت���ه وحقه أن اليوم ،وق���د ُ يقرر مصيره .إنسان اليوم الذي ُيقتل بكل بساطة إذا خالف القوة العظمى ،إذا تجرأ فصله له الديكتاتور، ورفض القدر ال���ذي ّ والتـُهم جاهزة ،إضعاف الشعور القومي، الخيانة ،المس بهيبة الدولة. الكثير م���ن الروايات تحدث ع���ن العراق أثن���اء حكم صدام حس���ين وأثناء الحرب العراقي���ة -اإليراني���ة ،لكن أي��� ًا من هذه الرواي���ات لم تتن���اول العمق اإلنس���اني والوجداني للمواط���ن العراقي – الذي هو إنس���ان هذا الزم���ن -كما فع���ل علي بدر خاصة في روايته األخيرة هذه «أس���اتذة تخضنا في العمق، الوهم» .وه���ي رواية ّ وتق���ذف بنا إل���ى قلب الحقيق���ة ،وتفجر فين���ا حس الكرامة التي ال معنى لوجودنا دونها :إلى أي مدى سنقبل أن نكون أداة في ي���د قوى عظم���ى؟ ..ومتى س���يتمكن اإلنسان من أن يقرر مصيره؟. 123
س����أقص عليك الحكاية /الحكاية التي ال تنتهي بذيل /..إلى الس����ماء العارية سأصعد /سأحكي عن المرأة /التي حملت شمس ًا في يديها/ عن األنهار التي مرت بالقلب الخالد.
روحها حديقة يزرعها الموتى روال ح�سن -دم�شق ما أرادته الشاعرة السورية فرات اسبر في مجموعتها الص���ادرة عن دار بدايات –جبل���ة 2011أن تقص علين���ا ،حكاية نزهتها بين الس���ماء واألرض ،وإن كانت هذه النزهة معكوسة فهي تريد أن تحكي حكاية العمر األخرى ،الحكاية التي وراء الحكاي���ة ..حكاية الموت والروح التي ال تفنى ..حكاية الغربة والحياة. وإن كان مش���هد الموت حاضرًا بقوة ف���ي القصائ���د وكأنه تأكيد عل���ى ثنائية (حياة – موت) روحي حديقة يزرعها الموتى يقطفون أزهارها... من وراء الس���تارة يش���ف ذل���ك األثر الصوفي ف���ي المجموع���ة ،حيث تحاول الشاعرة من خالل قصائدها القبض على تفتح ال���ذات من الوج���ود الصرف الذي تكتنزه منذ األبد محاولة توضيح انكشاف مخبوءات الذات والوجود وعوالمها. م���ن هنا يأت���ي تأكيد الش���اعرة على الروح بعيدًا عن الجس���د الفاني ،اقتراب ًا من الصوفي الذي ال يتعلق وال يتعش���ق إال بالثابت الراس���خ الدائ���م ،حيث يقول النف���ري «ال طمأنينة إال مع الدوام» وهل هن���اك أكث���ر ديمومة م���ن ال���روح التي تتح���دث عنها الش���اعرة وال تتحدث عن الجسد إال لتؤكد فناءه؟. عابرة أنا بين الكواكب 124
ألم جراحها الشاعرة ليست في األرض وليست في الس���ماء ،إنها منثورة بين الكواكب وفي الفضاءات البعي���دة ،وحين تهبط ترغب في ارتفاع يس���مو بها وما يكون ذلك إال للروح. في مكان آخ���ر تقترب الش���اعرة من قول «النفري» كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة «فهي إش���ارة تبدو واضحة إلى البعد الصوفي في قصائدها: كالفقير أمد يدي إلى اهلل ،وأسأله اتساع ًا في الرؤية وارتفاع ًا في الهبوط. تبحث الشاعرة في سر الحياة وتبحث عن الس���ر الذي به نحي���ا ..ثمة نداء حار يلقي بنا إلى الجانب المهمل من أرواحنا إل���ى الفس���حة األرحب ف���ي عقولنا التي ال يمكن للحياة اليومية أن تس���تغلها أو
تستهلكها ،هكذا اكتشفت الشاعرة وجود درة نفيس���ة داخلها أرادت أن تس���تمتع بألقها. يب���دو واضح ًا ات���كاء الش���اعرة على الحدس الصوفي ،فهي تس���تهدف صورًا جزئية لخلق حالة تكون شبيهة بالحالة الصوفية ،حي���ث تصبح للكلمات دالالت أقرب لمفهوم اإلش���ارات عند المتصوفة، فحين تتحول الكلمات إلى نس���ق لغوي بعد أن تنتظم داخل سياق أسلوبي ،فإنها تمارس نوع��� ًا من التخفي ،حيث تتحول الكلمات المتفرقة إلى عبارة وهنا ينطبق قول الزورباري «كالمنا إشارة فإذا صار عبارة خف���ي» ،وبالتالي تصبح الصور وكأنها مغلف���ة بالغموض نتيجة لتفريغ األلف���اظ من دالالتها ثم ش���حنها بدالالت جديدة ،حيث تنتقل اللفظة من س���ياقها المعجمي الذي يؤس���س العرف اللغوي لتصبح إشارة بالمعنى الصوفي: من ينفخ البوق؟ طبول الحياة ،ذاكرتي أنبش ترابها غبارها يكسوني. ومازلت أصعد وأهبط على درجاتها ! حافية إال من لحم األرض. وفي ذلك تس���تعير الش���اعرة آليات الس���رد من مجال القص إلى الش���عرية، فيظهر الحوار والتكرار والتوقيع ،وعبر فع���ل الق���ص ذاته ال���ذي ب���دوره يطرح تنوعات متعددة لعالقة الراوي والمروي له ،وهذه االس���تعارة ه���ي عملية مهمة لنقل النص الش���عري إلى ما أطلق عليه بالكتابة عبر النوعية ونس���تطيع القول الن���ص النوع���ي ،فنح���ن دون أن ندري وإزاء ه���ذا االنتق���ال أمام ن���ص يقع في المنطق���ة العازل���ة بين نوعي���ن أدبيين الشعر والقصة. اليوم صباح ًا ركبت على ظهر غيمة سألتني: إلى أين تودين الرحيل قلت لها: إلى بيت جدي إلى بيت أهلي
بكت غيمة على حالي: وذابت مطراً. تؤس���س فرات اس���بر قصائدها على المش���هدية ،فهي تهتم بص���ورة المقطع الكلية وذلك بس���بب سيادة آليات السرد التي تستخدمها الش���اعرة في قصائدها، حي���ث إن الس���رد يقتضي رس���م صورة كلي���ة دون أن يع���ول كثي���رًا على نحت ص���ور جزئية وإن حدث هذا في القصائد ذات البع���د الصوفي ،فالص���ورة الكلية تتطلب بطبيعتها انحراف��� ًا لغوي ًا لم يعد قائم ًا بالشكل الكلي داخل القصيدة وهنا تتأس���س القصيدة على مفهوم المشهدية ال���ذي يعتمد على خلق مش���هد ش���عري يتسم باالطراد واالكتمال ،وهذا االكتمال ال يتحق���ق إال عند الوصول إل���ى الكلمة األخيرة أو الجملة األخيرة في المقطع أو القصيدة وهو ما يس���مى بالتوقيع الذي تعتم���ده الش���اعرة في أغل���ب قصائدها، وهو من أهم آليات الس���رد المس���تخدمة لدى الشاعرة: أهش الزمان تهرب ذكرياتي كالخراف تترك روثها على جلدي أملس جسدي صقله الحب على مقاسه. المش���هد يكون عادي ًا في أحيان كثيرة وأقرب إلى مناجاة دينية إال أن استثمار الش���اعرة للموروث الديني نقل القصيدة بخفة إلى الشعرية: في صحن المزار توقد شموع التوبة خبئن���ي أيها الباس���ط ف���ي عباءتك وامنحني من أسمائك أحسنها فأنا زهرة في بستان األيام منحت نسغي لشجر كبر فوق قامتي خذ بيدي يا خالقي وامنحني عبورًا يلغي المسافة. حكت فرات اس���بر الحكاي���ة ما خفي منها وما ظهر ،وألنها بال ذيل فلم تنته، تجعلنا الحكايات التي ال تنتهي نتأمل... وننتظ���ر ،وفي الحالتين :س���مو جعلتنا الشاعرة نحلم به.
العجائبي القصاص وخطاب ّ عبداحلق ميفراين -املغرب «س���لطة اآلي���ة وفتن���ة الحكاية: المتخيل وح���دود الكتاب���ة» الصادر ضم���ن منش���ورات وزارة الثقاف���ة المغربي���ة ( ،)2011مؤل���ف يعك���س إيم���ان الباح���ث الراس���خ بنس���بية المناهج والنظريات ،حيث اس���تفاد من اإلطار العام لتصور جلبير دوران لمفه���وم «المتخي���ل» بوصف���ه إطارًا ﺃنثروبولوجي ًا يتجادل فيه القدس���ي والدنيوي ،كي يق���ارب كتاب «تحفة األلباب ونخب���ة اﻷعجاب» ألبي حامد الغرناطي. وقد ج���زﺃ مصطفى النح���ال كتابه إلى ثالث���ة أقس���ام وس���تة فصول، س���عت إل���ى إب���راز تص���وره النقدي ال معرفي ًا للمتخي���ل باعتب���اره «ش���ك ً محايث��� ًا لعال���م األف���كار والمعتقدات واألس���اطير واأليديولوجي���ات التي يس���بح فيها كل ف���رد وكل حضارة»، كما توقف عن���د نوعية جنس الكتابة في «تحف���ة األلباب» ووض���ح تباعد وتج���اور الجغراف���ي والتاريخ���ي والوعظي والش���عري داخل مكوناته بالعودة إل���ى حكايتين فرعيتين هما «ﺇرم ذات العماد» و«مدينة النحاس»، خصص شطرًا من تحليالته لتجليات وتمظه���رات العجائبي والغرائبي في النص موضوع الدراسة. وخالص���ة الدراس���ة -كم���ا جاء في مختت���م الكت���اب -ه���و «الطابع المنفتح لخط���اب المتخيل ونصوص العجائب والغرائب» ،لوجود نوع من «التنافذية» واش���تغال المسارات غير
المتوقعة للحكائية المنفلتة من حدود ال عن «نس���بية التجنيس األدبي .فض ً التعارض بين القدس���ي والدنيوي»، ألن «العجائبي» ف���ي الثقافة العربية الكالسيكية قضية «جدية» بامتياز ال عالقة لها بتحليقات الخيال وحدوس الكتابة الفنطازي���ة ،بل «عالمة على القوة اإللهي���ة ،وعلى عظمة الخالق، وعلى فك���رة وج���ود وح���دة الكائن المخلوق ووحدة الخالق». يمك���ن الق���ول إن كتاب «س���لطة اآلي���ة وفتن���ة الحكاي���ة :المتخي���ل وح���دود الكتابة» عمل معرفي ينش���د الع���ودة إلى الت���راث ،ليس بالحديث العابر عن نصوص���ه ،وإنما بوضع ه���ذه النصوص تحت مجه���ر التحليل العلم���ي ،واالجته���اد ف���ي تحدي���ث اآللي���ات واألدوات واإلج���راءات المنهجي���ة الكفيل���ة بمس���اعدتنا على فهمها وتأويله���ا في عالقتها بعناصر االنس���جام والتراب���ط في م���ا بينها، أو عل���ى حد تعبير مصطف���ى النحال «العودة للتراث للتحدث فيه بد ًال من االكتفاء بالتحدث عنه».
125
رواية «خالي بانجمان» ،هي أشهر كتب كلود تيلييه ،نشرت ألول مرة متسلسلة في حلقات وذلك في سنة .1842ثم في طبعات متعاقبة آخرها في إبريل/نيسان .2011
كلود تيلييه:
حصاد االستبداد عبد اهلل كرمون -لوزان إن أزمنة الكتابة ،ال��رواي��ة ،النشر، باإلضافة إلى زمن قراءة هذا النص في حالنا اليوم هي كلها أزمنة التغيرات والثورات ،فقبل سنوات من نشرها ،ال يفوتنا التذكير بثورة سنة 1830التي أطاحت بالملكية المطلقة بإسقاط نظام شارل العاشر الذي كان يمثلها ،باستبدالها بملكية دستورية في شخص لويس فيليب األول .لم يقدّر لكلود تيلييه أن يحيا أربع سنوات أخرى فقط حتى يتسنى له أن يشهد سنة 1848اندالع ثورة شعبية عارمة في باريس ،يسقط على إثرها لويس فيليب نفسه ،ويسجل له في التاريخ شجاعة رفضه إعطاء األوام��ر بإطالق الرصاص على المتظاهرين الباريسيين (أي مثال هذا لطغاة اليوم الذين يقتلون بال هوادة من المحيط إلى الخليج!) واختار التنحي ثم النفي ،وجرجر الثوار كرسي عرشه إذن في الشوارع الباريسية كي يتم إحراقه في األخير أسفل السارية التي دشنت سنة 1840بساحة الباستيل تخليدًا لذكرى شهداء أي��ام ث��ورة 1830المجيدة .كان هذا إذن أول��ى ب��وادر إرس��اء الجمهورية الثانية في فرنسا .في تلك األثناء كانت فرنسا تتوغل ظالمة في أرض ليست لها هي الجزائر تحارب األمير عبد القادر، وتضرب مدينة طنجة في المغرب إذ كان السلطان عبد الرحمن حينئذ يساند الجزائر في مقاومتها. لقد سبق إلدوار مولينارو أن اعتمد على هذه الرواية كي ينجز فيلم ًا سنة
126
1969عن بانجمان ،غير أنه لم يوفق فيه نهائياً ،ذلك أن اضطالع جاك بريل ب��دور بانجمان ك��ان في نظر المتتبعين أمرًا سلبي ًا أكثر منه إيجابياً ،إضافة إلى التحوير المقصود في كثير من مناحيه، ما لم يزد طين تلك العملية كلها إال بلالً، ولسنا هنا بصدد انتقاد الفيلم ،ما قد ال يكون ،حقيقة ،أم��رًا خالي ًا من الفائدة والتسلية معاً. س���وف ل��ن آت���ي ك��ث��ي��رًا ع��ل��ى سيرة الكاتب ،ألن أغلب ما نسبه ه��ذا األخير إلى خاله بانجمان هو في حقيقة األمر من طبائعه وخصاله هو بالذات ،تمويها ودرءًا لفضح التنكر. ليست رواية تيلييه نص ًا عماده سبل الخيال كلها وأس��ب��اب اإلث���ارة قاطبة، بل هو نص فلسفي ،إن لم أقل ،متيقن ًا
من ذل��ك ،بأنه منشور جسور في باب التحريض السياسي ،ذلك أنه ليس بتات ًا شهادة سيئة أو مجرد رواية مترفة. يرى تيلييه ،منذ البدء أن ،مسألة نبل النبالء هي من أشد األمور عبثاً ،يتابع قائالً« :هل أوجد الخالق فيما يخص عشب المروج نبتة أطول من مثيالتها؟ وهل علق النياشين على أجنحة الطيور أو فوق وبر الحيوانات المفترسة؟»« ،فما شأن أولئك الناس كلهم الذين تسمو مراتبهم ،والتي ملك ،على مراتب اآلخرين؟». يختلقها ٌ كتب أن هنري الرابع (ملك فرنسي ال ساد خالل القرن السابع عشر) جعل رج ً حضر إوزة شهية حقيرًا كونتا بمجرد أن ّ لجاللته ،وصار اليوم ألحفاد هؤالء امتياز أن يعتدوا علينا ويحتقرونا ،ألن أجدادنا نحن لم تتوافر لهم فرصة أن يقدموا لملك جناح دجاجة هبة! يواصل تيلييه استنكاره ،متوجه ًا هذه المرة إلى الشعب ،في لهجة تأنيب لها كل مبرراتها السديدة ،كتب« :لكن ،قل لي أيها الشعب الغبي ،ما تكون القيمة للحْرَفين اللذين يضعهما التي تسبغها َ أولئك الناس (أي األرستقراطيين) قدام أسمائهم؟ فهل تزيد شبرا لقاماتهم؟ هل يتمتعون بأكبر قدر من الحديد أكثر منك في الدم؟ أكثر منك من النخاع الدماغي في الحق العظمي لرؤوسهم؟ هل بوسعهم ُ أن يصولوا ويجولوا بسيف أثقل من سيفك؟». ويضيف« :يستحيل أن يقبل عشرون مليون ًا من الرجال أال يكونوا دائم ًا شيئ ًا ال يذكر في ال��دول��ة ،بينما يكون بعض آالف الموالين شيئ ًا ذا قيمة .فمن يبذر االمتيازات فالبد أن يحصد الثورات .ربما لن ينأى الوقت الذي سوف يزيل فيه الماء تلك النياشين البراقة ،وس��وف يحتاج الذين يتزينون بها اآلن إلى حمايتهم من طرف خدمهم». ال ال ك��ان الرجل على كل ح��ال مناض ً يقهر في سبيل نضاله ال��دائ��م لتحقيق سيادة الشعب ثم االلتفاف الدائم لجميع اآلخ���ري���ن .غ��ي��ر أن رواي����ة تيلييه في ال وخصب ًا عن مجموعها تحمل ملف ًا كام ً آراء الرجل واعتراضاته التي ال مفر منها.
بني ال�ضفتني
إيزابيلال كاميرا
درس أومبرتو إيكو يدور الحديث في إيطاليا حول حالة نش���ر أثارث كثيرًا من الضجي���ج .قال البع���ض إن أومبرتو إيكو يعيد كتابة نس���خة جديدة من «اس���م الوردة» .فتس���اءل الكثيرون عن التغييرات التي يمك���ن إليكو أن يدخله���ا على النس���خة األولى ،وكثرت التوقعات واختلفت حتى أعطى الكاتب اإليطالي الكبير درس��� ًا كبيرًا في التواضع ،وهو ما يعد في زمننا هذا شيئ ًا عظيماً!. ق���ال إيكو ببس���اطة إنه يق���وم بتصحيح بع���ض األخطاء والهنات الناشئة عن الغفلة أو إن شئت القول «أخطاء تتعلق بالدق���ة» كما أعلن هو نفس���ه ف���ي حوار نش���رته صحيفة «ال ريبوبلي���كا» اليومي���ة ،بتاري���خ ،2011/9/5أي أنه اقتصر على« :حذف لفظ بعينه تكرر على مس���افة صفحات متقاربة، مع توخ���ي حرص أكبر تجاه اإليقاع« ،ألن���ه يكفي أن تحذف صفة أو تشطب جملة اعتراضية حتى تصبح الفقرة خفيفة». والحقيقة أن التكرار بالنس���بة لن���ا نحن -اإليطاليين -يعد هاجس��� ًا حقيقياً ،يصعب فهمه في لغات أخرى تسمح به ،بل وتستحسنه (كما في حالة اللغة العربية التي تستسيغ اإلطناب أحيان���اً) .وهكذا فإن إيك���و يقوم بمهمة «صياغ���ة» لعمله هو نفسه ،والشيء األكثر إدهاش��� ًا هو اعترافه بأنه أدرك بعض الهنات نتيجة للعمل الدؤوب من جانب العديد من المترجمين، حيث أن كتبه ترجمت حتى اآلن إلى العديد من اللغات. فكما هو معروف يعتبر المترجم هوالوحيد الذي يزن النص كلمة بكلمة ،وهو الوحيد الذي يس���تطيع أن يحكم على نص، ويدرك التكرار والتناقض والتفسيرات المتنوعة للمفردة ذاتها، وكذلك الهنات الجغرافية والتاريخية .ومعنى هذا أن المترجم الممتاز ال يفلت منه شيء أبداً .فإذا سمحت له الظروف يتصل بالكات���ب ويبلغه بطريقة ودي���ه عما وجده في نصه من هنات قام بتصحيحها في الترجمة .وإذا كان الكاتب ذكي ًا فهو يش���كر المترج���م ويعمد إلى التصحيح متى اس���تطاع ذلك .ولكن إذا كان الكاتب متواضع ًا وله طموح ،فإنه س���وف يسعى بكل ما أوت���ي من قوة للدفاع عما كتب���ه ،وإللصاق التهمة باآلخرين، الطّباع ،أو دار النشر ،وما إلى ذلك. مثل َّ إن المش���كلة التي تعذبن���ا نحن -المترجمي���ن -تقع عندما نترجم لكاتب راحل أو ال يمكن االتصال به ،عندئذ س���وف تقع
المسئولية كلها على المترجم .حدث لي وأنا أترجم من العربية ال أن مدينة ميالنو بعض النصوص كان فيها المؤلفون يرون مث ً بها بحر ،أو أن أغنية إنجليزية شهيرة اعتبروها إيطالية ،أو أن النور كان يتس���لل من أسفل باب زجاجي (شفاف) ،أو أنه في غرفة بها أربعة جدران يصف منها خمس���ة جدران ،وكثير من األشياء األخرى الكبيرة والصغيرة ،مثل الشخصيات التي تتبادل التحية وهم يخرجون من المش���هد ،وفي الوقت نفس���ه ال كما لو أنهم ال يزالون داخل المشهد. يتحدثون طوي ً المش���كلة ال تكمن في ارتكاب أخط���اء ،كبرت أو صغرت، ولك���ن في إمكان تصحيحها .بالنس���بة ألومبرت���و إيكو ،على سبيل المثال ،يتم عمل التصحيحات من أجل «إرضاء النفس، ولكي نحس بأننا أكثر راحة من الناحية األسلوبية ،ومن أجل انسيابية النص» وليس التس���هيل على القراء فيما ال يفهمونه كما تصور البعض .فعلى س���بيل المثال نجد الكثير من الجمل المكتوب���ة باللغة الالتينية في رواية إيك���و ال يفهمها الجميع. ولكن بالنسبة إليكو من لم يكن يفهم قبل هذه الطبعة الجديدة ل���ن يفهم بعده���ا .إن الدرس الذي قدمه إيكو ه���و أننا ال نصل أبدًا إلى «الكمال» ،وأن جميع النصوص يمكن كتابتها وإعادة كتابتها ،حتى للتوافق مع تأثيرات الزمن على اللغة. ونحن ف���ي األدب اإليطالي لدينا مثال آخ���ر جيد نحتذيه. الكاتب الس���اندرو مانزوني من القرن التاس���ع عشر كان يقول إنك حتى تحس���ن لغتك اإليطالية في ميالن���و يجب أن تذهب وتغسل مالبسك في نهر أرنو بفلورنسا (معقل اللغة اإليطالية الفصحى) ،وهكذا استطاع أن يدخل الكثير من التعديالت على أهم أعماله «العريسان الموعودان». فإذا عدنا إل���ى الطبعة الجديدة من «اس���م الوردة» نجد أن الكاتب اعت���رف بعد ذلك أنه أجرى بعض التغيير األساس���ي وهو قليل ،ولكنه لم يقاومه ،فاضطر إلى التغيير ،مثل وصف وجه أمين المكتبة ألنه أراد أن يحذف منه «إشارة قوطية غير مريح���ة» وهو ما يجعلنا نعتقد أن الكاتب اس���تمتع أيض ًا بهذه المهمة األخيرة .من يدري كم مرة فكر في هذه الش���خصية كما وم ْن غير المؤلف يستطيع صورها هو ،والتي لم تعد تعجبه؟ َ يعدل من شخصياته على هواه؟ أن ِّ 127
ت�شكيل
نور الدين فاتحي
بين مطرقة الواقعية وسندان الوجودية
�شفيق الزكاري � -إ�سبانيا
128
اخت���ارت لجن���ة انتق���اء الفناني���ن المشاركين في فعاليات الترينالي الثالث الدول���ي للطباعة والفنون التش���كيلية في بانكوك تايالند (ديس���مبر/كانون األول )2011الفنان التشكيلي المغربي نور الدي���ن فاتحي ال���ذي يحظى بهذه المش���اركة بتمثي���ل مغرب���ي وعربي. المعرض يعرف اهتمام ًا واس���ع ًا نظرًا لش���هرته وتاريخ���ه ،والع���دد الهائل م���ن الفنانين الذين يش���اركون فيه من مختل���ف أنحاء العال���م ،حيث وصلت قائمة المش���اركين في دورة هذا العام إلى 1389من 64بلداً. الفنان فاتح���ي يعتبر م���ن األوائل الذين ساهموا في الحركة التشخيصية بالمغ���رب ،وذل���ك من���ذ أواخ���ر السبعينيات وأواسط الثمانينيات ،بل ومن رواد الحركة التشخيصية الجديدة المنفلت���ة م���ن التقريري���ة والواقعية المفرط���ة ،فأعماله وبكل موضوعية، كانت نتيجة بحث واشتغال ،متجاوزًا
ببع���د نظ���ره ،وفراس���ته التش���كيلية ح���دود المنت���وج اإلبداع���ي المحلي، فالفاتح���ي اختار من���ذ البداية معانقة اإلبداعات الفني���ة العالمية في أهميتها وصرامة اهتماماتها ومس���ايرتها لكل التح���والت السياس���ية واالقتصادي���ة واالجتماعي���ة والتكنولوجية ،فجاءت تجربته المرتبطة بـ «التراب وبعوامل التعري���ة» بداي���ة لمش���روع حقيقي، الرتباطه بأسئلة جوهرية في التشكيل حيث تقاطع الفع���ل الصباغي المخير والمس���ير ،بمعنى آخر :الفعل اإلرادي ب���إرادة الفن���ان ،والفع���ل ال�ل�اإرادي المرتب���ط بالصدفة ،حي���ث يتم تهييء األسندة بمواد صلبة على شكل نتوءات مع الحفاظ على طراوتها ليسكب الماء فيق���وم برس���م مس���الكه وانعراجاته ت���ارك ًا بصمات واضح���ة وجارفة لكل الم���وارد م���ن أتربة وإس���منت وألوان وغيره���ا ،فيحدث بذلك تكوين ًا جمالي ًا يغرف من الماضي برواس���به ويجعل
فع�ل�ا حداثي ًا يحمل ً م���ن هذه المعالجة دالالت موضوعي���ة وتاريخي���ة تجمع بي���ن الماضي والحاضر ف���ي بعديهما التسلس���لي والتطويري ،ليتدخل فيما بع���د ذلك إلع���ادة ترميم المس���احات المحفورة واستعادتها بملون طبيعي مخضب ،م���ن هنا كانت بداية مغامرته الفنية التي أصبحت فيما بعد مس���رح ًا تص���ب فيه كل التج���ارب الخيالية لهذا الفن���ان والتي تبرز م���ن خالل اختيار مواضيعه التيماتية (الخيال واألرض، الخي���ال التاريخ���ي )..إل���ى أن حطت ب���ه هذه الرحلة الخيالي���ة الممتعة في أسلوب جديد تتقاطع فيه كل التقنيات واألف���كار والت���ي طوره���ا ف���ي نفس االتجاه حي���ث بقيت حاض���رة كفكرة لكنه���ا تغيرت في ش���كلها لتتخذ نمط ًا آخ���ر مع حل���ول مواد أخ���رى عوض المواد السابقة. في تجاربه الجديدة يحاول الفاتحي أن يتفاعل مع الوضع الحالي برمزية
منفتح���ة وملفت���ة للنظر ،فه���و يقوم في عمل���ه بإعادة ترمي���م الخراب كما س���ماه في أحد معارضه ،ليجعل منه كتلة س���ردية موح���دة في تناس���قها انطالق��� ًا من وع���ي مس���بق فعلت فيه مرجعيته المشهدية والثقافية ،لكي ال يضفي على العم���ل صبغة تقنية فقط ب���ل معرفية كذلك كوس���يلة تواصلية ممتع���ة يتداخل فيها العقل والش���عور مع إب���راز خصوصي���ات دياليكتيكية مول���دة طروح���ات مزدوج���ة عل���ى مس���توى االختالف من حي���ث التفكير والتحلي���ل ومن حي���ث معالجة الرؤية ف���ي تقابالته���ا المعرفي���ة والثقافي���ة (الش���رق والغرب) لذل���ك كانت أعماله جس���رًا منهجي��� ًا للمناقش���ة والحوار، فاشتغاله على نماذج غربية وخاصة لفنانين كبار أمثال :كويا ،دافنشي... ليس إال ذريعة إلع���ادة صياغة طرح أس���ئلة عالق���ة ف���ي تاريخ التش���كيل العالمي .فالوجوه واألجساد المتكررة ضمن نس���ق جمالي وحسابي ،ليست عقم��� ًا إبداعي ًا بقدر م���ا هي انتباه ذكي ألهمية تطابق الموض���وع مع التقنية المس���تخدمة (الس���يريغرافيا) كج���زء من تقني���ات أخرى ف���ي العمل ،حيث االستنساخ الفني الذي يعكس معضلة وجودية من خالل االستنساخ البشري، بتركيبات مربعة وش���فافة تبرز منها فسيفساء زخرفية تارة عمودية وتارة أخرى أفقي���ة كأنها لعبة ش���طرنجية تسافر بعين المتلقي من قطعة ألخرى إلى ما ال نهاية ،من العيون إلى الوجوه إلى األجساد ،بتمحيص شمولي وجاد للكائن البش���ري ف���ي كل تموضعاته، ال برم���وز وعالم���ات تفصح عن محم ً مداخل ألس���رار ش���كلية احتفظ الفنان بالبعض منه���ا لتك���ون أرضية لجدل ونق���اش يس���عى من خالل���ه أن يفتح حوارًا مع الحضارات األخرى بعيدًا عن أي تأثير عقائ���دي أو قبلي أو عرقي، وكل ه���ذه األف���كار ينجزه���ا الفاتحي بحرفية تفضي بالمتلقي إلى الوصول لمغزى مضامين هذا المش���روع الفني بأبعاده الجمالية وقيمه اإلنسانية. 129
صورة الزمن في الفن والواقع يو�سف ليمود -رو�سيا
ف���ي ع���ام ،1991طلب���ت مؤسس���ة للس���اعات من الفنان السويس���ري نوت لس���اعة ،في سلس���لة ٍ فيت���ال تصميم ًا الساعات الشعبية التي تنتجها سنوياً، والت���ي يقوم أحد الفنانين المش���هورين برس���م تصميمه���ا ،وغالب��� ًا م���ا يكون التصميم ذا عالقة مباشرة بشكل اإلنتاج مذكرًا بأس���لوبه الفن���ي لهذا الفن���ان أو ّ ورؤيته الفنية عموم���اً .قام نوت فيتال لس���اعة ه���ي عمل فني ٍ بوضع تصميم ال عالق���ة له بوظيفة الس���اعة ،بل كان تصميم���ه ضد فكرة الس���اعة .ب���د ًال من العقارب التي تش���ير إلى الوقت ،صنع عجلة بدائية الش���كل ،تدور في ً الفن���ان ميناء بال أرقام .الس���اعة تتك والعجلة تدور ف���ي المطلق ،في معص���م يد! هل أراد الفنان أن يسخر من ماكينة المجتمع الحديث في بلد كسويسرا ،كل شيء فيه بالدقيقة والثانية ،وحيث اإلنسان أشبه بترس شفاف ال يكاد ُيرى في آلة فائقة الدق���ة ،في حين أنه ف���ي الحقيقة يدور ويدور ف���ي ميناء فارغ وبال بوصلة؟ أم أراد الفن���ان بـ «العجل���ة الحيوان» التي تدور في الفراغ أن يشير إلى ما هو أبعد م���ن ثلج الواقع االجتماع���ي ،إلى فكرة الزمن بمعناها الكبير؟ أي ًا ما كان منطلق
130
الفنان ،فإن عجلته الحيوان ،الس���ابحة في بياض الميناء ،تثير الس���ؤال حول عالقتنا بمفهوم الوقت المصنوع من آلة ال من اجتماعي���ة رهيبة ،ال مه���رب كام ً تروس���ها ،مقابل زمن حيواني أبيض ال أرقام فيه وال تقس���يمات ،زمن نولد به وال نع���رف من ضبط توقيته وال في أي ساعة يتوقف ،ربما ما نحدسه فقط هو أنه صورة مصغ���رة إليقاع ذلك الميناء الالمحدود -الكون. عك���س معظ���م الفن���ون ،ال تحت���اج الصورة (لوحة كانت أو فوتوغرافيا) إلى زمن ف���ي إدراك مكوناتها وعناصرها، إدراكه���ا يت���م ف���ي لحظة وق���وع العين عليه���ا ،غي���ر أن هذه الحقيق���ة ال تنفي حقيقة أخرى وهي أن لكل صورة زمن ًا داخلي��� ًا تخلق���ه مكوناته���ا وعناصرها ومنط���ق تعام���ل الفن���ان مع أش���كاله ومفردات صورت���ه .كان هذا واقع فكرة الصورة منذ نشأة فنون التصوير ،حتى لو لم يكن الفنان على وعي بفكرة الزمن داخل مسطحه الالزمني بطبيعته .لكن، مع مطلع القرن العش���رين ،باكتشافاته العلمية الكبرى ،بدأ الفن في تغيير جلده مستفيدًا من نظريات وافتراضات العلم، كما حدث مع المدرس���ة االنطباعية التي
تأثرت بنظرية نيوتن في انشطار الضوء واكتش���افه ألوان الطيف السبعة ،حدث وألول مرة ،متأثرًا بنس���بية آينشتاين، ش���كل الحياة ّ وباللهاث الصناعي الذي الحديثة ،أن ح���اول الفن تحقيق عنصر الس���رعة (التي هي الزمن) في اللوحة، كما ف���ي األدب والعمارة والموس���يقى منظر وحت���ى ف���ي فن الطب���خ .أطل���ق ّ وزعيم هذا االتجاه الفني الثائر ،الكاتب اإليطالي فيليبو مارينيتي ،على حركته اسم :المستقبلية ،داعي ًا إلى قطيعة تامة وحاسمة مع كل األش���كال والمواضيع وط���رق التناول الفنية الس���ابقة عليه، عب���ر إنت���اج ف���ن مس���تقبلي ،الحركية أساس���ه ومنطلقه ،وهي الس���وط الذي يلس���ع ظهر الحاضر ،كما يس���وط عين الناظر إل���ى العمل الفني ،حيث الحقيقة ال تتجلى إال في الحركة التي ينتفي فيها األمان الخادع للسكون. به���ذا المفه���وم ،فت���ت الفنان���ون المس���تقبليون (ومن أبرزه���م جياكومو باال ،أمبرتو بوتش���يوني ،كارلو كارا، وغيرهم) ،فتتوا الشكل في أعمالهم عبر ترددات خطوط مهتزة توحي بالسرعة، حرك���ت إصبعك يمين ًا ويس���ارًا كما لو ّ بس���رعة كبيرة ،ت���راه أصاب���ع عديدة متداخل���ة وبال تفاصي���ل واضحة .هذه المدرس���ة الفنية التي خبَت ُبعيد الحرب العالمي���ة األولى ،كان له���ا تأثير ،ولو بش���كل غير مباش���ر ،على حركات فنية عدي���دة تزامنت معه���ا ،كالتكعيبية ،في فرنسا ،وكذلك الدادائية ،ثم السريالية فيم���ا بع���د .وواضح أن «المس���تقبلية» تعاملت بش���كل مباشر مع مفهوم الزمن الفيزيائي المترجم ميكانيكي ًا إلى حركة، أي الزمن الخارجي الناتج عن تس���ابق وصراع أزمنة وقوى كثيرة مختلفة ،إال أنه مع مجيء فرويد بنظريته في العقل الباطن ،خرجت السريالية ،التي وجدت في ذلك «الباطن» بحيرتها التي تصطاد فيها س���مك األح�ل�ام .كان ه���ذا يعني، يتك ضمني���اً ،االنتباه إلى الزم���ن الذي ّ في الداخل ،ب�ل�ا صوت ،وفي غفلة منا الساعة البيولوجية. في زمن الحلم هذا ،انصهرت س���اعة
العال���م المصنوعة من أرق���ام وعقارب وس���الت كصم���غ على غص���ن ،مثلما ص َّو َره���ا س���لفادور دالي ف���ي لوحته َ الشهيرة المس���ماة «إلحاح الذاكرة» ،كما اس���تطالت ظالل األش���ياء ف���ي لوحات جورجي���و دي كيريك���و ،بأجوائه���ا الميتافيزيقية الطافحة بش���عور اغتراب اإلنس���ان ووحشته في فضاءات تعطلت مجمدة الزمن ،كمدينة ساعات أبراجهاّ ، تحولت أش���باحها إلى تماثي���ل تنخرها ش���مس من نحاس .غي���ر أن أفضل من تعامل ف���ي لوحاته مع عنص���ر الزمن، كان الفنان البلجيكي (المصنف كرس���ام س���ريالي ولكن���ه ف���ي الحقيق���ة ف���وق التصني���ف) ريني���ه ماجري���ت .انطل���ق عمل ماجريت ،بش���كل ع���ام ،من فكرة االلتب���اس ،أو الخل���ط الذهن���ي ،بي���ن شيئين أو معنيين ،في لحظة فالتة من أسر العقل الواعي ،فالطائر يصبح هو
السماء والسحابة ،وخطوة الحصان في جذع الش���جرة ،والمرأة الغاب���ة تصبح َ العارية على الش���اطئ يصب���ح نصفها السفلي أرضاً ،والعلوي بحرًا وسماء... هذا المنط���ق الذهني الملتب���س ،والذي حول���ه ماجريت إل���ى جمالي���ة بصرية ّ ملتبس���ة ،يكش���ف عن اختالف األزمنة التي تعمل بها األجه���زة الحيوية داخل الفرد الواحد ،فالمنطق «الس���ليم» الذي نظام العالم ،والذي يش���به ُ برمجن���ا به َ الخ���ط الزمني المس���تقيم ،يتقاطع معه منحنى حدسي ،شاعري ،رؤيوي ،يرى ً حقائق األش���ياء ،مخترق ًا حاجز الزمن، فالرس���ام ال���ذي داخل اللوحة ،يرس���م طائ���رًا بينما هو ينظ���ر إلى بيضة على طاولة بجانبه! ليس هذا مجرد استباق بارد للحاضر ،قدر ما هو لحظة كش���ف انبثقت لقريحة يحركها زمن الش���عر ،ال زمن اآللة.
في الس���تينيات ،راهن بعض فناني الطليعة األميركيين (جاكسون بولوك، ولي���م دي كونين���ج ،بيي���ر س���والج وآخري���ن ،أُطل���ق عليهم اس���م «فنانو األكش���ن») على عنصر الزمن في إنجاز لوحته���م :دفقة ش���عورية واح���دة عبر أداء سريع يعتمد على الحضور الذهني والتركي���ز الش���ديد وس���رعة التص���رف والترحي���ب بما يس���مى الصدف���ة .هذه ال���روح األدائي���ة -االنفعالي���ة ،الت���ي حاولت أن تسابق الزمن من خالل توتر وذبذبة روحية عالية ،ل���م يكن افتعا ًال حاجة .كانت ً أدائي ًا أو تجريباً ،بل كانت انعكاس��� ًا ألرواح قلقة لنوع من الفنانين وغربهم الواقع ولدوا في أزمنة مرتبكةّ ، بآليته وس���رعته المجنون���ة ،فبصقوا بدورهم حموالته���م االنفعالية في حيز مس���طح ،بال تش���نجات ،لك���ن بنفس سرعة واقعهم. 131
وحول ما إذا كان���ت العزلة ضرورية للفنان لتكثيف إنتاجه ،يوضح بعلبكي: «هذه مس���ألة نفسية ،أما مسألة التفاعل بين الذات والعالم فهي عالقة فيها تداول بي���ن الداخل والخ���ارج ،بحس���ب قدرة الفن���ان عل���ى مراقبة الخ���ارج بكثافته، وم���ن ثم الع���ودة واالرتداد إل���ى داخله لطبخ المعاني واألفكار والصور».
الربيع العربي
عشرات التفاصيل لعزلة باألبيض واألسود حممد غندور -بريوت ال يح���دد بعلبك���ي موضوع��� ًا معين ًا ألعماله قبل البدء بها ،وال يتبع مس���ارًا معيناً ،بل يترك نفس���ه على س���جيتها، فتتناسل المواضيع من بعضها بمجهود روحي. باألبيض واألس���ود يرس���م بعلبكي الحرب والسلم وآالف األسئلة الوجودية، طارح ًا تساؤالت تدور في رأس كل منا. ُيجرِّب كثيرًا في الموضوع ذاته .العزلة ويتنشقها .يرسمها ّ هي مالذه ،يفكر بها ال بحاالت مختلف���ة ،وي���أوي إليها حام ً معه انتقاداته ووسادة نومه وثورة في مهب الريح .هو محور لوحاته ،الموديل الوحيد القادر عل���ى التعبير وإيصال ما لدي���ه من أفكار إلى المتلقي .هي ليس���ت نرجسية بل فوضى خالقة بديعة ،تخدم مصلحة اللوحة. 132
يقول بعلبك���ي« :العزلة موضوع من المواضيع التي أش���تغل عليه���ا ،عزلة الكائن���ات واألغراض ،العزل���ة كموقف حياتي ،من���ذ المع���رض األول ()2004 وه���ي موجودة كأس���لوب عيش ،عزلة أقدِّر أنها حيوية وليس���ت سلبية ،وبهذا المعن���ى ،مجموع���ة معرض���ي األخي���ر ال لهذه «مراس���م العزلة» هي األكثر تمثي ً الحالة». ويرى التش���كيلي اللبناني أن عزلته ليس���ت انقطاع ًا عن العالم ،إنما لتركيز الجه���د الروحي والعقل���ي داخل البيئات الداخلي���ة ،واإلطالل���ة منها عل���ى كافة مواضي���ع ال���ذات الفردي���ة وعالقته���ا المتفاعل���ة مع العالم ،فهي «بهذا المعنى عزلة إلع���ادة إنتاج األف���كار وتظهيرها أعما ًال فنية».
ق���دّم بعلبكي أح���دث أعماله في ظل الربي���ع العرب���ي ،وفي خض���م ثورات تطال���ب بالديموقراطي���ة والحري���ة يحرك ش���يئ ًا والعدال���ة ،بيد أن ذلك لم ّ في داخله لتقديم عم���ل يحاكي الثورات العربي���ة وانتصاراته���ا .يق���ول « :أميل دوم ًا لئال أربط نفس���ي مباشرة بالحدث وأصبح وكأنني أس���تغله ،هذا الش���يء ال في فنون الرس���م المباشرة يصلح مث ً والتي لها غايات تجارية فتكون اللوحة متحفي���ة نوع ًا م���ا ،أنا من األش���خاص الذين يتابعون مجريات الحياة والحدث التاريخي ،لكن حين أذهب إلى اللوحة، أبتع���د ع���ن الح���دث ك���ي ال أعب���ر عنه بطريق���ة مباش���رة ،خصوص��� ًا أنني ال أتفاعل بس���هولة مع األحداث ،وال أتأثر بالجو العام ،يعني قراءتي أو تحسسي لطبيعة العصر ال تك���ون مرتبطة بضخ الميديا ،فانا انتقائي في هذا المجال». ويضيف« :أميل إلى تخفيف األشياء، وأحاول من خالل اإلقليم الموجود فيه، أن أشعر بمشكالته ،ولكن في الوقت ذاته أنتبه جيدًا للصور وما يحدث ،كي أعبر بطريقة صحيحة ع���ن الحدث التاريخي حي���ن تتوض���ح األم���ور ،وم���ن دون اس���تعجال .أنا عموم ًا ميّال إلى التفكير كثي���رًا بالجان���ب العقل���ي لالنتفاضات والموج���ات التاريخي���ة ،أفك���ر كثي���رًا باألحداث السياسية واألخبار المستجدة واالنزياحات والتمردات ،وبالعنف الذي تمارس���ه آالت السلطة وآالت المضادين لها .وأفكر أيض ًا بحلمي ،وهو أن يلتقي الحراك السياس���ي (الجماهير والشعب) مع حس نهض���وي عفوي يفكر بالحداثة
وبالسلوك التربوي لإلنس���ان وبإنتاج منظومة قيم جديدة». وعم���ا إذا كانت اللوحة ق���ادرة على انتقاد الواقع ،يجيب التشكيلي اللبناني: «في الماضي وبطريقة مثالية كنت أشعر أن الفن قادر أن ينتق���د ،ولكنني بالغت ف���ي اس���تنتاجاتي ،الف���ن له مس���اراته وأج���واؤه ،وف���ي بع���ض المحط���ات التاريخي���ة يلع���ب دورًا مس���اندًا لألداء النهضوي واإلصالحي أو الجماهيري أو السياسي». ثم���ة ارتب���اط وثيق ما بي���ن بعلبكي واللونين األبيض واألسود ،يستعملهما ليش���عرنا بح���رب مضت علن���ا نتذكرها ونتعل���م منه���ا ،وليضيفا عل���ى اللوحة صفة واقعي���ة بحتة ،فتصبح أقرب إلى الفوتوغرافيا منها إلى التش���كيل .يعمل على تركيب اللحظة التي يرسمها ،وعلى إغراقها في األسئلة وعالمات االستفهام. وع���ن تركيزه عل���ى األبيض واألس���ود يقول « :اللونان باتا المادة األساس���ية التي اش���تغلت عليها م���ن البداية ،ميلي لألبيض واألس���ود هو مي���ل حرفي ،بدأ معي منذ الطفولة ،وهو نوع من االتصال بالحساسيات األولى التي تربيت عليها، ال كان ميلي األساس���ي وعندما كنت طف ً للرس���م بالفحم واألحبار وبالقلم .أميل
للرس���م بهما علم ًا أنه لدي تجربة تلوين دائم��� ًا موجودة إنما النس���بة األكبر هي لألبيض واألس���ود ،فف���ي االتجاه الذي أخذته ،كنت وفي ًا لحساسيتي األولى». ويضيف« :بالطبع ال يغنيني األسود واألبيض عن باقي المجموعة ،يمكن أن أل���ون ،وممكن أن أدخ���ل باللون الواحد ّ وأك���ون عل���ى نف���س األرض ،وأحاول دائم��� ًا أن أنتقل من نبرة إل���ى نبرة في اللون ،يعني إذا كن���ت أعمل على اللون ألكون حاالت وألون ّ فترة طويلة ،أعود ِّ مختلفة وأمثل حاالت مختلفة» .ويوضح بعلبكي أن األبيض واألسود يعبران عنه بواقعية أكبر ،وينقالن له الحرارة التي يحبها في العمل ،ويشعر أن لديهما قدرة أكب���ر على تقوية التدف���ق العصبي الذي ينتج حركات الرسم. والمالح���ظ في أعم���ال بعلبكي قربها من الفوتوغرافيا ،وكأنه يصور مش���هدًا ويجمدها .يقول« :العمل ّ معين ًا أو لحظة المركب فيه ش���يء من األداء المسرحي، كأن الحياة واليوميات أفعال مدبّرة على منصة ،والمنصة هي س���طح العمل أي اللوحة .ثمة ش���يء من جم���ود ظاهري يوح���ي لك بص���ور االس���توديو ،وهذا الشيء اتقصده دائماً ،ولكن عندما ترى العمل بكليته وبكب���ره تالحظ أن الكادر
مع الهيئ���ة العامة للعم���ل ،فيه طبيعة فوتوغرافي���ة وفي بعض الح���االت فيه حركية العم���ل الس���ينمائي ،لكن عندما ت���رى األعم���ال الفنية مباش���رة تالحظ األداء الريف���ي وتالحظ الطبقات اللونية وتالح���ظ الح���س المس���ؤول داخل هذه الطبقات». ومن األش���ياء التي يحبّه���ا بعلبكي، اللعب عل���ى حبلي���ن م���ن التعبير ،وال ينزعج م���ن أن العمل يعي���ش حالة من الضي���اع بين أنه حقيق���ي وآني ،أو أنه مدبّر وحس���ي ،بي���ن أنه يمي���ل إلى أن يكون صورة فوتوغرافي���ة جامدة ،مع حركية مدفونة في داخله. انتقد البعض بعلبكي أنه قدّم نفس���ه ف���ي أح���دث أعماله عل���ى أنه الرس���ام والموديل ف���ي آن مع���اً ،وفيما آخرون اعتبروا ذلك نوع ًا من النرجسية .بيد أن الفنان اللبناني ل���ه وجهة نظر خاصة، ويوض���ح أن ما فعل���ه يخ���دم أعماله، خصوص ًا أنه يبعد لوحاته عن التأثيرات النفس���ية .ويش���ير إل���ى أن تاريخ الفن عرف ه���ذه التجربة كثيرًا ولكنها لم تكن بالكثافة التي قدّمها وفي حاالت عدّة. ولكن أال يعتبر البورتريه أس���هل من ال بانفعاالت وحاالت رس���م الجس���د كام ً معين���ة ،خصوص��� ًا أن التحدي أصعب؟ يجي���ب بعلبكي« :عندم���ا أعمل ال أنتبه إلى ه���ذه األس���ئلة ،انتبه إليه���ا عندما انته���ي ،فأن���ا أعمل بطريق���ة ال واعية، تتناسل أعمالي من بعضها ،من دون أن ننسى أن لحظة الرسم هي لحظة مضت، واللحظات والدوافع ليست متشابهة». أسامة بعلبكي من مواليد عام ،1978 متخ���رج من الجامع���ة اللبناني���ة ،كلية الفن���ون الجميلة .نظ���م أربعة معارض فردية هي «لوحات باألس���ود» ()2004 و«مش���هديات العزل���ة» ( )2007و«أق���ل دخان��� ًا وأكث���ر )2009( »...و«مراس���م العزل���ة» ( .)2011ش���ارك ف���ي عدد من الفعاليات المحلي���ة والعربية والدولية، ونال ع���ام ،2009الميدالية الفضية عن مسابقة الرسم في األلعاب الفرنكوفونية الدولية التي أقيمت في بيروت.
133
تحرير الجسد جمال جربان� -صنعاء حراك الشباب الثوري القائم في اليمن ال ينفصل عن جملة متغيرات أحدثها جيل الش���باب نفس���ه على مختلف األصعدة، األدبية منه���ا والفنية والصحافية .وهي في مجموعها متغيرات ساهمت في صنع هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في حياة اليمنيين. الفن���ان أمي���ن الغاب���ري ( 26س���نة) ينتم���ي إل���ى جيل ش���اب م���ن محترفي الفوتوغرافي���ا .جي���ل نش���أ بعي���دًا عن س���لطة األب ،على أرض فنية مختلفة، متخففة من القواع���د أو المفاهيم الفنية الس���ائدة في اليمن .له���ذا ظهرت بصمة الغابري المغاي���رة واضحة في أعماله. تحم���ل هوية خاص���ة ورؤي���ة متفردة لعناصر المحيط االجتماعي اليمني بكل ومحرماته ،المعروف بمعاداته ّ تعقيداته الكاميرا ،باعتبارها فضح ًا وكشف ًا للجسد األنثوي. ليس بالضرورة أن يكون العمل الذي يقوم ب���ه الغابري ،القائ���م على إعادة تش���كيل تلك البيئة الخارجية ووضعها في متناول يده ،اشتغا ًال يتطلب قطيعة تامة مع القواعد التي يسير عليها المجتمع 134
في الخارج ،بقدر م���ا هو متعلق بدرجة أساسية برغبة في إعادة تشكيل وإنتاج في محيط آمن ،واختراع ما يشبه حياة بديلة له في هيئات تتقاطع وتتسق مع نظرته لما يج���ب أن تكون عليه اللحظة اليومية الدائرة في الخارج. لكن ال يبدو هذا األمر متاح ًا على نحو س���هل وعلى وجه الخص���وص في بيئة ملغومة بالعي���ب والممنوع وبالذات في ذلك الش���ق المتعل���ق باألنثى .ال اقتراب مس���موح ًا في اليم���ن من ه���ذه المنطقة الش���ائكة .وعليه يبدو على من يتعامل معه���ا أن يك���ون على درج���ة عالية من الح���ذر ،وأمي���ن الغاب���ري يجي���د هذا. ي���درك أن موضوع الجس���د ش���ائك في اليمن ،وفي صنع���اء القديمة على وجه الخص���وص ،حيث البيئة التي تش���تغل عليه���ا كاميرا هذا الفنان محاطة بس���ور طين���ي كبير يعمل عل���ى حجب حكايات نس���ائها .رغم أن أمين الغابري ابن هذه البيئ���ة وملتصق بها ،مع ذلك ،يظل من غير المس���موح له التعامل م���ع كائناتها األنثوية بعدس���ته .ويتوجب باستمرار عليه أن يس���حبها إلى أرضيته الخاصة
أو مش���غله الفن���ي حيث يتعام���ل معها بحس���ب رؤيته ومنطقه الخاص ،المعبأ بنظرة مختلفة للعناص���ر الحديثة التي صارت مكونة لتفاصيل الحياة. ولك���ن ،ف���ي كل أعم���ال الفن���ان البد عليه من توظيف «الستارة» .وهي رداء تركي م���ن بقايا فترة االحتالل العثماني لليمن ،بق���ي من ضم���ن عناصر أخرى بقي���ت لتصير تراث ًا يمني ًا أصلي ًا كما بقي محص���ورًا ف���ي البيئ���ة الصنعانية فقط ويرتبط بنسائها. وتلف هذه الستارة جسد األنثى بشكل دائري .وبإمكان المرأة أن تتركه مفتوح ًا من األمام بحسب قيمة اإلغراء التي ترغب هذه الم���رأة في إطالقها للعيون المحدقة بها والراص���دة ألي حركة منها قد تكون خارجة عن النص. ويأت���ي أمي���ن الغابري ف���ي محترفه بموديل يقوم معه باختراع ذلك االندماج ال���ذي ي���رى أن باإلمكان حدوثه بش���كل ال إمكانية واقعي ،وربما يتاح له مستقب ً الخروج إلى المحيط الخارجي والتصرف فيه كما يحب. ويالح���ظ في أعماله تركيز في الدمج بين العناصر التراثية وأدوات ومقتنيات حديث���ة ت���كاد العي���ن تصادفها بش���كل يوم���ي وتتحرك م���ع أصحابها بحرية، خصوص ًا في المنطقة الس���كنية الراقية ف���ي صنع���اء الت���ي يمكن فيه���ا تحقيق تقاطعات وصداقات بين الجنسين ،كون أغلب س���اكنيها أو معظمه���م من الفتات االجتماعي���ة التي لها أنم���اط حديثة من الحياة بحكم تنقالتها الخارجية الكثيرة أو تلقيها التعليم خارج اليمن.
مقال
مفهوم األسرة بين الواقع والفكر االجتماعي د .فدوى اجلندي -جامعة قطر اعتاد علماء السوس���يولوجيا العرب ف���ي بداية أية مجادلة عن المجتمع بتعريف األسرة وكأنها األساس البنيوي للمجتمع العربي وأي مجتمع في العالم البش���ري ،حي���ث إنها تمثل أهم ن���واة ف���ي المجتمع البش���ري وأصغر وحدة فعال���ة في الحياة البش���رية ،ولكن الحقيقة العلمية وتاريخ دراس���ة القرابة عند العرب والنظرية األنثروبولوجية أظهروا غير ذلك. من الجدي���ر بالذك���ر أن المجتمعات العربية حت���ى بعد أول قرنين من دخول اإلس�ل�ام لم تعترف بمفهوم األس���رة ال كنواة المجتم���ع وال كأصغر وحدة فعالة في الحي���اة المجتمعية .فلم يذك���ر القرآن الكريم كلمة األس���رة ،وال يذكره���ا اللغويون وال النس���ابون بتعريف موحد .وحتى الش���عر عند العرب نادرًا ما ّ اس���تخدم مصطلح األس���رة .وهذا ألن المجتم���ع العربي يبنى على أس���اس ارتباطات قرابية واسعة لها مفاهيم ومصطلحات معترف بها من قديم الزمن حتى يومنا الحاضر. ِ وبني فعلى سبيل المثال مجتمع الواليات المتحدة الذي ركب ُ ِّ ُ َ على أس���اس أيديولوجية الجمع بين البروتستانتية المحافظة والرأس���مالية االس���تهالكية يعتبر أن نواة المجتمع األساسية والوحدة الصغ���رى لبنائه هي الفرد ال الجماع���ة ،ولذا نجد أن الذي يطلق عليه مصطلح المبادئ العائلية في الواليات المتحدة على س���بيل المثال المعروفة بـ ،Family valuesوالتي تلعب دورًا أساس���ي ًا ومحوري��� ًا في جداالت ومنافاس���ات االنتخابات الرئاس���ية ينحصر عند المحافظين منه���م في موضوعين :منع إباح���ة اإلجهاض كاختي���ار للمرأة ،ومنع إباح���ة زواج المثل، وهما م���ن صميم الفك���ر األميركي األصولي ،أما السياس���يون الديموقراطي���ون فإن العك���س هو الصحيح ألن فكرهم يتس���م بالليبرالي���ة االجتماعية .في كلتا الحالتي���ن الجدل حول مفهوم األس���رة دقيق للغاية ألنه مقيد بعقي���دة ومنطقية أيديولوجية الفردية التي هي أس���اس البن���اء المجتمعي المرتب���ط ارتباط ًا وثيق ًا باقتصاد الرأسمالية االستهالكية. ف���ي حين أن المجتم���ع العربي بالمقارنة يهت���م بأهل البيت والعائلة الواسعة ،وما يشغل ذهن المفكرين والعامة في أغلب األحيان هو االرتباط والتضامن العائلي مهما كان حجم العائلة. وأظهرت الدراسات اإلحصائية األخيرة أنه بالرغم من التحديث والتنمي���ة المكثفة في قطر فما زالت العائل���ة تحتل مكانة مهمة سواء في البنية المجتمعية أو في العالقات اليومية ،وأن معدل
حج���م العائلة ال يزال يعد نوعي��� ًا من حجم العائلة الممتدة أكثر منها من نوعية األسرة النووية ،كما أظهرت أحدث إحصائيات ُأجريت في قطر. إذن ،مت���ى دخلت األس���رة كمفهوم عل���ى مجتمعنا العربي؟ ومتى استخدم كلفظ له مكانة شمولية عالمية في فكرنا ووعينا العربي المجتمعي؟ والرد على هذا السؤال هو أن األسرة لم تدخل ال ف���ي الفكر وال في الثقافة عن طري���ق عملية تطورية طبيعية وإنما فرضه على المجتمع القطري والعربي السوسيولوجيون واإلعالمي���ون الع���رب المتأثرون تأثي���رًا انبهاري��� ًا بالنظريات ال علينا والدراس���ات الغربية ،وأن المصطلح نفسه يعتبر دخي ً من سوسيولوجيا معولمة غربية مقتبسة بدون فكر نقدي .وهذا خطر االقتباس األعمى في المفاهيم السوس���يولوجية وعرضها على ش���بابنا الجامعي وفكرنا ومجتمعنا كوقائع مطلقة شاملة عالمية ال جدال فيها. وقد ابتكر العالم األنثروبولوجي الفرنس���ي المش���هور كلود ليفي س���تراوس منظور أمبرقي يقوم على مب���دأ أن أي تحليل س���ليم عن القرابة يجب أن يبدأ بنيوي ًا من أصغر ذرة مجتمعية تعد قاعدة البناء المجتمعي ،ومن جهة أخرى من مبدأ بشري عام يشمل البش���رية عامة ،وهو مبدأ التحريم الجنسي بين األقارب المقربين .فم���ن منطلق هذا المبدأ البش���ري يمكن تكوين وبناء نواة حقيقية تصبح أس���اس تحليل يحترم الثقافات المختلفة، ويبنى على المعرفة الثقافية ،وتحديد امتداد العالقات التقليدية وعلى أساسها أطلق العلم األنثروبولوجي عليها مصطلح نواة القرابة أو .atom of kinship إذن ،علين���ا تطبيق فكرة التمكن ف���ي المجتمعات األكاديمية العربية وجمعها مع إبداع تحليلي يجمع بين مبدأ نواة المجتمع البنيوية لدى العالقات المترتبة عليها كفكرة بنيوية مجردة من ال من الفكر والمجتمع جهة ،ونظرية ابن خلدون التي تنبع أص ً العربي س���واء ف���ي مفهوم العصاب���ة أوالتضام���ن القرابي من جه���ة أخرى وربط االثني���ن بفكرة التحريم القرابي في ش���كله العربي الخاص كمبدأ وممارسة فعلية في المجتمعات العربية. وبه���ذا نبدأ خ���رق معالم طريق إبداعي داخ���ل جغرافية العلوم االجتماعية لمس���ار مبتكر للفكر السوسيولوجي المنهجي يعود إل���ى أصول عربية يلهمه الفكر الحالي العلمي بد ًال من االقتباس األعمى الضيق من الغرب الممارس اليوم. 135
�سينما هم مقاربة الراهن حملت أفالم مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي ّ 2011 السياسي .منها من ّ ضل الطريق بحث ًا عن اللقطة الصادمة التي تعكس حقيقة انفجار الثورات ،ومنها من اقترب خطوة من الهدف ،لكنه تجنب المواجهة المباشرة مع الديكتاتوريات العربية المتبقية.
ترايبكا2011
..
أن تكون ناد ً ال على مأدبة العالم �سعيد خطيبي «الذهب األسود» الذي تقمص فيه دور البطولة أنطونيو بانديراس وطاهر رحيم، والذي منحته إدارة المهرجان أولوية افتتاح العروض ،غاص في سؤال نشأة مجتمعات شبه الجزيرة العربية الحديثة، وحاول اإلجابة عن بعض عالمات االستفهام المتعلقة بعالقات األفراد مع السلطة .حيث استطاع تقديم صورة
متعددة الجوانب عن قبائل الصحراء بعدوانيتها وبتطلعها على االنفتاح وعلى المعاصرة .منتج الفيلم طارق بن عمار صرح« :المحور األهم في العمل يتمثل في قدرته على المصالحة بين الفكر المتطرف والفكر المعتدل» .حيث يروي مصالحة بين مفتي بالط الملك عمار (مارك سترونغ) ورغبة األمير عودة
(طاهر رحيم) في التعايش مع الغرب. كما يصور «الذهب األسود» أيض ًا واحدًا من التطورات المهمة في مجتمعات شبه الجزيرة العربية ،المتمثلة في رغبة المرأة في التخلص من قيد البطريركية ،ذلك ما تجسده شخصية األميرة ليلى(فريدا بينتو) التي قالت« :أحداث الفيلم تدور سنوات الثالثينيات ،لو أن المخرج ينجز جزءًا ثانياً ،فسنالحظ تطورًا مهم ًا في شخصية األميرة ليلى التي تمسكت بحريتها في مجتمع محافظ». شخصية نسيب (بانديراس) التي تشكل رمز «السلطة المطلقة» ،الساعية لنيل الجاه والشرف ،يقول في واحد من الحوارات« :أن تكون عربي ًا يعني أن تكون ناد ًال على مأدبة العالم» .لكن العربي الذي كان ناد ًال بداية القرن العشرين سيصير ،بعد خمسين سنة، غنياً ،بفضل ارتفاع أسعار البترول في األسواق العالمية ،ثم يطالب بسقوط الديكتاتوريات مطلع ،2011ويقول أنطونيو بانديراس ﻟ «الدوحة»« :إن الشعوب العربية ليست تطالب سوى الحر .وأنها انتظرت بحقها في العيش ّ طوي ً ال قبل أن تنتفض دفعة واحدة». أما طاهر رحيم ،الذي يعتبر واحدًا من األسماء الشابة البارزة في السينما الفرنسية ،خصوص ًا بعد حصوله على سيزار أفضل ممثل( )2010فيضيف« :لما كنت أشاهد الشباب في شوارع وميادين تونس ومصر ،شعرت أنني أقف معهم». وبدا المخرج جان جاك انو جد متفائل بمستقبل المنطقة العربية بعد الثورات: «النتيجة سنتلمسها الحقاً .سيأتي جيل جديد شاب يأخذ دفة القيادة» .وكشف طارق بن عمار ،على هامش المهرجان، عن نيته في إنجاز فيلم بيوغرافي عن محمد بوعزيزي ،مع العلم أن عائلة مفجر ثورة تونس رفضت ،في السابق، السماح باستغالل صورة ابنها.
سكوت! إنهم يحلمون نجوم الذهب األسود.
136
األفالم العربية التي عرضت في المهرجان جاءت متقاربة فيما بينها من ناحية
أنطونيو بانديراس.
الموضوعة .حيث صور سالم الطرابلسي نساء تونس في قاعات المالكمة ،ونقل لمحة عن أنوثة قلقة ترفض االنصياع لمنطق المجتمع المنغلق .ويذهب فيلم الراحل صالح أبوسيف بعيدًا في كشف الفساد في مصر مع فيلمه الجديد «مواطن مصري» الذي يروي قصة شراء الذمم واستضعاف البسطاء لما يفرض أحد اإلقطاعيين على حارسه إرسال ابنه للخدمة العسكرية بدل ابن اإلقطاعي. الفيلم القديم يتقاطع في آرائه مع ما جاء في «الشوق» لخالد الحجر ،حيث يسرد جزءًا من يوميات مصرية ،يحكمها التعسف والبيروقراطية .يذكرنا في بعض مشاهده بفيلم «هي فوضى» ليوسف شاهين .ويسافر المخرج جان كلود قدسي من لبنان إلى األردن ليحكي فضائح جرائم الشرف في فيلم «إنسان شريف» .جرائم ما تزال ممارسة تحت حماية القانون ،حيث يقول بشأنها: «نأمل أن يغير الربيع العربي الواقع الحالي .خصوص ًا القوانين الرجعية والذهنية الراديكالية التي ال ترى حرج ًا في ارتكاب جرائم الشرف» .ويعود أحمد غصين إلى سنوات الحرب األهلية في لبنان مع فيلم «أبي ما يزال شيوعياً». الحلم يشكل حق ًا مشروع ًا في غالبية األفالم العربية التي عرضت في
المهرجـــــان .سيـــنمائيون وجمــــهور يتنبؤون بنهاية الدونية ودخول مرحلة جديدة في الحياة العربية ،لكنها تظل، لحد الساعة ،أحالم ًا مؤقتة ،فحقيقة العربي يعرضها فيلم «عمر قتلني» لرشدي زام وبطولة سامي بوعجيلة، الحاصل على جائزتي أفضل إخراج وأفضل تمثيل .حيث يعود إلى قضية «عمر رداد» التي أثارت لغط ًا واسع ًا في الصحف الفرنسية منتصف التسعينيات، بعد اتهام المغربي رداد باغتيال امرأة فرنسية ارستقراطية دونما دليل واضح .ففي فرنسا ،أمام توسع مد اليمين المتطرف ،يكفي أن تكون عربي ًا لتحاط حولك الشكوك.
في الجزائر «نورمال» «نورمال» للمخرج الجزائري مرزاق علواش نال جائزة أفضل فيلم روائي عربي .رغم الظروف الصعبة التي تم فيها إنجاز الفيلم ،وشح الميزانية العامة ،فقد تمكن فريق العمل ،المكون من ممثلين شباب ،من إخراج الفيلم إلى النور .يحكي سيناريو «نورمال» يوميات شباب جزائري ناقم على الوضع العام ،حيث الرقابة والتضييق على الحريات يشكالن لغة السلطة
الرسمية .مجموعة شباب ضاقت بهم السبل فيفكرون في إنجاز فيلم يعالج مشكل الرقابة ،ليجدوا أنفسهم الحق ًا محاطين بثورتي تونس ومصر ،مما يدفع بواحدة من الممثالت إلى القول: «إنه زمن التحرك والرد المباشر وليس زمن االنتظار وراء الكاميرا». الثورة والتغيير في الجزائر كانت هاجسهم األهم ،مع أن المخرج علواش صرح ﻟ «الدوحة»« :لست سياسي ًا وال ديماغوجياً .فكرة الفيلم جاءت تماشي ًا مع واقع الشباب وتشتت أفكاره بين الثورة اآلن واالنتظار» .بدا بوضوح نقائص الفيلم من الجانب التقني ،ولكن جرأة الحواريات وقدرة السيناريو على تجاوز المحظور شكلت ربما عوامل في منحه جائزة أفضل فيلم. مهرجان الدوحة ترايبكا 2011جمع مهنيي الفن السابع في الوطن العربي، وقرب بين الهواة والنجوم .كما عرف تقديم العرض العالمي األول للفيلم المتحرك «القط أبو جزمة» حيث يشارك الثنائي بانديراس وسلمى حايك بصوتهما .دورة هذه السنة انتهت بوعود من أجل االستجابة لمتطلبات الراهن ولتطلعات الشارع ،في انتظار دورة السنة المقبلة التي ستكون ربما شاهدًا على بدايات التغيير. 137
كانوا يعيش���ون وضع ًا اجتماعي ًا مزرياً. إنها حقيقة التي وجب علينا اإلشارة إليها. ت���أزم الوضع الداخلي وعدم قدرة الناس عل���ى العيش الكريم هما عامالن س���اهما في دفع اآلالف إلى الخروج إلى الش���ارع ودفع النظام السابق إلى الرحيل.
§ عل����ى عكس فناني����ن ومغنين مصريين آخرين نزلت ميدان التحرير وشاركت في المظاهرات؟
وورطها في دور «الش����وق» أعاد روبي إلى شاش����ات الف� ّ ���ن ّ الس����ابع ّ السابق ،من أدوار فنية مبتهجة وراقصة. يختلف عما ّ تعودت عليه ،في ّ ففيلمها األخير تظهر صاحب����ة «غاوي» فتاة يافعة ،تعيش في حي فقير باإلس����كندرية ،تبحث عن فرص����ة التحرر من س����طوة األم والعيش إلى جانب عشيقها (حسين).
روبي عندما ال ترقص أو تغني
«شوق» ثورة على الكذب
قب����ل أن تج����د نفس����ها منخرطة، رغم����ا عنها ،في جمل����ة من التحوالت وم����ن االنزالق����ات االجتماعي����ة عقب م����وت أخيها األصغ����ر ،وإصابة أمها بالش����يزوفرينيا .لتفق����د ف����ي النهاية شرفها وتنقطع عالقتها مع (حسين). «الدوح����ة» التقت روب����ي وأجرت معها حوارًا جاب بعض المحطات من حياة المغنية.. نتعود على رؤيتك في أدوار § لم ّ درامية ..هل مش����اركتك في «الشوق» لخالد الحجر هي محاولة منك للبحث عن التجديد؟
صحيح .حاولت من خالل تجس���يدبطول���ة الفيلم خ���وض تجرب���ة جديدة، حينما كن���ت أقرأ س���يناريو الفيلم أتذكر 138
أنن���ي صرخت أكث���ر من مرة .المش���اهد الدرامية ومسارات شخصيات العمل تثير في داخلنا بعض المشاعر .أحيان ًا مشاعر ش���فقة وأحيان ًا أخرى رغبة في االنتقام المزيف .قبلت التمثيل منها ومن واقعه���ا ّ في «الش���وق» بحث ًا ع���ن االختالف وعن التجديد.
§ تبدو معالم الغض����ب والرغبة ف����ي التغيير جد واضحة في معامالت وتصرفات شخصيات الفيلم ،حياتهم الصعبة في مصر كانت دافع ًا أساسي ًا للتفكير في التغيير الذي حصل الحقاً، مع مطلع السنة الجارية.
يعتق���د البعض أن س���يناريو الفيلميش���وه ص���ورة مص���ر .من جهت���ي أرى ّ العكس .ال بد من االعتراف بأن المصريين
كن���ت من���ذ البداية مع فك���رة الثورةعلى النظام الس���ابق .ونزل���ت إلى ميدان التحري���ر بداية من ي���وم 28يناير .كانت أيام ًا صعب���ة جداً .كن���ا نركض ونصرخ ونتس���اءل باس���تمرار عن مصي���ر البلد. ل���م تكن الرؤية واضح���ة ،ولكن الوضع انفرج الحق ًا وب���دأت مصر تجد طريق ًا لها نحو مستقبل أفضل (إن شاء اهلل).
§ أتمم����ت مؤخرًا تس����جيل أولى أغنيات ألبوم����ك الجديد في القاهرة.. ما هي خصوصيته مقارنة باأللبومات السابقة؟
ُأفض���ل ت���رك الحك���م عل���ى أعماليللجمهور ،فقد أتممت تسجيل ست أغنيات. كتب كلماتها تامر علي ورامي جمال ،فيما تكف���ل بتلحينها رحيم محمد ،من المنتظر االنتهاء كلية من األلبوم قبل نهاية السنة وأن يصدر منتصف السنة المقبلة.
§ هل س����يتضمن األلبوم الجديد أغنية أو إشارة لثورة 25يناير؟
كال! باعتق���ادي أن الث���ورة ليس���تبحاجة لمن يغن���ي عليها ،كما أن الرؤية ل���م تتضح بعد .أنتظ���ر أن تهدأ األوضاع بشكل تام ،ثم س���أفكر فيما يمكننا عمله م���ن أجل ترس���يخ ذاك���رة ما ح���دث في يناير/كانون الثاني .2011
§ نالحظ من لهج����ة كالمك عدم التفاؤل بمصير مصر؟
ربنا يستر! ما ضاع في ثالثين سنةمن الصعب اس���تعادته في غضون أيام، أرج���و أن تأتي األي���ام المقبل���ة بالجديد وببعض االستقرار.
عرب تحت برج إيفل مها ح�سن -باري�س احتف���ت باري���س ،مؤخ���راً ،بالس���ينما العربية ،في حدثين منفصلين استعرضا بع���ض جوانب ربي���ع الث���ورات .حيث نظمت مدرسة الدراس���ات العليا للعلوم ّ كام�ل�ا عن عالقة االجتماعي���ة يوم عمل ً الصورة والث���ورة في الب�ل�اد العربية، تح���ت عن���وان «ارح���ل ..تصوي���ر!». وعرض���ت جمعية الس���ينما األوروبية - العربية حوالي خمس���ين فيلم��� ًا ترتبط جميع ًا بالربيع العربي .نذكر منها الفيلم القصير «السدادة» (1د) للبحرينية عائشة المقل���ة .و«انتباه» ألك���رم آغا« ،طوفان ف���ي بالد البعث» للراح���ل عمر أميرالي، و«ست قصص عادية» لميار الرومي من س���ورية .ومن تونس ع���رض «الجدار» لرفيق وأيمن عمراني« ،العيش���ة» لوليد طاي���ا و«علمانية ،إن ش���اء اهلل» لنادية الفاني .ومن مصر «حكاية ثورة» لناجي إس���ماعيل ،و«المصع���د» لهديل نظمي، «الفص���ول األربع���ة» لنه���ى المعداوي، «حري���ة معلّقة» لميال حس���ين« ،كريم» لعم���ر الش���امي وغيرها .كما ت���م أيض ًا عرض «هال لوين؟» للبنانية نادين لبكي و«الدمية» للسعودية ريم البيات. وتحدثت ،خ�ل�ال التظاهرة ،المنتجة والمخرج���ة الس���ورية هال���ة العبد اهلل، ع���ن فيلمها «أنا الت���ي تحمل الزهور إلى قبره���ا» ،الحاص���ل على جائ���زة اتحاد الوثائقيين في مهرج���ان البندقية وعلى ذهبي���ة الوثائقي في تطوان في المغرب وف���ي روت���ردام ،وعل���ى البرونزي���ة للوثائق���ي في دب���ي ،قائلة« :بالنس���بة لي ،مجرد أن يشارك الفيلم في مهرجان البندقية ويتنافس مع أفالم مهمة وذات ميزاني���ات هائلة كان حلم��� ًا لم أفكر فيه يوماً» .وحول حص���ول الفيلم على عدة
جوائز رغم ظ���روف التصوير اإلنتاجية الشحيحة ،أضافت هالة « :قررت إنجاز الفيلم عندما اقتربت من س���ن الخمسين وبع���د أن عمل���ت أكثر من 25س���نة في مهنة الس���ينما ..لم أبح���ث له عن تمويل كما فعلت س���ابق ًا ولس���نوات طويلة مع أفالم أصدقائي من سوريين أو لبنانيين أو فرنسيين ..ألنني مع فيلمي الشخصي كن���ت أريد أن أكون ح���رة وال أتقيد بأي ش���رط ،مث���ل ط���ول الفيل���م أو تاريخ االنته���اء من العمل علي���ه .وهذه الحرية تطلّبت مني أن أنتظر الفرصة لكي أحمل الكاميرا المس���تعارة من أحد األصدقاء، والتي تعتب���ر كاميرا منزلي���ة ،وأصور مقاطع متفرق���ة ومتباعدة من الفيلم .لم يكلف الفيلم عملي ًا سوى بعض بطاقات الس���فر التي كنت أدفعه���ا من جيبي وما
المخرجة السورية هالة العبداهلل.
تكلفه وتتطلبه الحياة لنتمكن من الحركة أثناء بعض أيام التصوير حيث كنت مع شخص أو شخصين». أما في ندوة «ارحل ..تصوير!» ،فقد ش���ارك عدد من الس���ينمائيين من دول عربية معنية بالثورات ،فجاء من مصر كل من محمد صيام ،صاحب «بلد مين»، وأحم���د عب���د اهلل ،صاح���ب «ميكرفون» وال���ذي ش���ارك ف���ي فيل���م « 18يوم»، المؤَلّف من عش���رة أفالم قصيرة ،بفيلم «ش���باك» وال���ذي تم تصوي���ره في يوم واحد ..وتحدث أحمد عبد اهلل عن ظروف إنتاج الفيل���م وتصويره ،واالتفاق عليه مع يسري نصر اهلل ،صاحب الفكرة وعن ظروف التوثيق لثمانية عش���ر يوم ًا من أيام الثورة المصرية ،منذ بدء التظاهرات تنحي حسني مبارك. ولغاية ّ من اليمن ،ش���اركت المخرجة خديجة الس�ل�امي بفيلم «النس���اء ف���ي العملية الثورية» ،إذ تحدثت ع���ن حقوق المرأة ف���ي ظ���ل الثورات وم���ا بع���د الثورات، حيث الم���رأة اليمنية محرومة من معظم حقوقه���ا ،وليس���ت كغيره���ا من نس���اء المنطقة ،كالمرأة التونسية أو المصرية، اللوات���ي حصل���ن على بع���ض الحقوق ويس���عين للحفاظ عليها وع���دم فقدانها بعد الثورة .حيث تحدثت عن القمع الذي تتعرض له النساء اليمنيات ،والعربيات عموم���اً ،م���ن سياس���ي واجتماع���ي، مضاعف عما يتعرض له الرجل. كما كان لسورية أيض ًا حضور مميز، عب���ر كل م���ن هال���ة العبد اهلل وش���ريف كي���وان ،الذي تحدث ع���ن «أبو نضارة» وهي ش���ركة لإلنتاج التليفزيوني تقوم بإنجاز فيلم كل ي���وم جمعة ،بالتوازي مع التظاهرات الس���ورية التي تخرج في شوارع المدن السورية كل نهار جمعة. تم ع���رض فيلم ف���ي نهاية النه���ارّ ، «تحرير »2011لستيفانو سافونا ،الذي يتعرض للفت���رة الواقعة بين 25كانون الثاني/يناير و 11ش���باط/فبراير ،منذ تنحي انطالق الث���ورة المصرية ولحين ّ مبارك ،عبر ثالثة ش���خصيات ،شابين وفتاة ،كان���وا من مناصري قيام الثورة على الفيسبوك. 139
موريتانيا.. الجمهور يتحدث لغة الصورة عبداهلل ولد حممدو -موريتانيا الفن الس���ابع ف���ي موريتانيا يتخبط في مش���اكل عديدة .فمناب���ع الدعم بدأت تجف ،كما أن قاع���ات العرض تحولت، تدريجياً ،إلى مخازن ومحالت تجارية، بسبب سطوة األوساط الدينية ،الرافضة للفن وللسينما. م���ع ذلك ،تح���اول بع���ض التجارب الجادة كسر الجمود ،على غرار األسبوع الوطن���ي للفيلم ،الذي انطلق قبل خمس س���نوات ف���ي نواكش���وط ،المنظم من طرف دار الس���ينمائيين الموريتانيين، وبرعاي���ة وزارة الثقاف���ة ،وال���ذي بلغ هذه الس���نة دورته السادسة (29 - 23 أكتوب���ر /تش���رين األول) .حيث تضمن برنامج نشاطاته عرض سبعة وستين فيلماً ،منها خمس���ون فيلم ًا موريتانياً،
من فيلم الساحة.
140
والبقي���ة م���ن دول أخ���رى ،منها دول المغ���رب العربي ،إضافة إلى فرنس���ا، الكامي���رون ،إنكلترا ،الواليات المتحدة األميركية ،سويسرا والبرازيل . يص���ر الس���ينمائيون الموريتانيون على تنظيم أسابيع وطنية للفيلم ،مع مشاركة إقليمية ودولية متنامية ،رغم ندرة قاعات العرض السينمائية ،وقلة زاد الس���احة الثقافي���ة للبلد من األعمال الس���ينمائية .فمدير المهرجان محمد بن إدومو يس���جل بمرارة غي���اب القاعات الس���ينمائية ،وانع���دام المؤسس���ات المتخصص���ة في الف���ن الس���ابع ،مثل كليات الفن���ون الجميلة أو معاهد تعليم الس���ينما ،مع غياب االحت���راف ،حيث يكاد ينحصر في نخب ،أتيح لها السفر لدراسة أصول هذا الفن في دول عربية كمص���ر أو المغ���رب ،أو دول غربي���ة كفرنس���ا أو ألمانيا أو الواليات المتحدة األميركية . األسبوع الوطني للفيلم بنواكشوط، رغ���م الصعوب���ات الت���ي يواجهها ،فقد استطاع خلق فضاء ثقافي ،وشهد نقلة نوعية ،من حيث غزارة اإلنتاج ونضجه النسبي ،واتساقه مع الواقع. انح���از األس���بوع الوطن���ي للفيل���م هذه الس���نة إلى المدين���ة التي اختارها مكان ًا لعروضه وندواته ،متخذًا ش���عار «المدين���ة ..ثنائية العب���ور والمكوث». وسعى السينمائيون الموريتانيون من خ�ل�ال هذا الش���عار إلى إب�ل�اغ المتلقي رسالة مؤداها – كما يقول ولد إدومو - أن «المدينة في عصرنا الحاضر أصبحت
شخصية مستقلة لها تاريخ ميالد ولها أسلوب يميزها عن غيرها». ع���رف ه���ذا األس���بوع الس���ينمائي حضورًا الفت ًا للربيع العربي ،من خالل عرض «ثقاف���ات المقاوم���ة» للمخرجة البرازيلية ،ذات األصول الكورية «ايارا لي» .بالرغم من أن الفيلم العالمي يعالج قضايا االس���تعمار واالستبداد وأشكال مقاومتها في بالد عربية وعالمية كثيرة إال أن الندوات والنقاشات التي صاحبته ركزت على قضية الثورات العربية. تجلى حضور المرأة في صدارة هذا األس���بوع .حيث تمحور فيل���م االفتتاح حول مسيرة المغنية الموريتانية ديمي بن���ت آب ،الملقب���ة بش���حرورة وادي الرشيد .وشهدت الفعالية ،في ختامها، توزيع جوائز محلية ودولية كان قسط الم���رأة منها أيض ًا موف���وراً ،حيث ظفر الفيلم القصي���ر «المصاصة» للس���المة بنت الش���يخ الول���ي بالجائ���زة األولى للهواة ،ضمن مس���ابقة «هل تتكلم لغة الصورة؟» ،وهو يعالج ظاهرة ،تعرف ش���عبي ًا بمصطلحي «المص» و «السل» وكثي���رًا ما نع���ت بهما البع���ض فصار مع���زو ًال منب���وذا ،يتحاش���اه الناس، مخاف���ة أن يقذفهم بش���رور عيونه التي تمتص قلوب األطفال ودماءهم ،وتنزل بكبار المصائب .كما ظفر فيلم «الكأس» لمخرجت���ه عزيزة منت كاب���ر بالجائزة الثانية .وعالج فيل���م «ما في األرحام» قضاي���ا التهمي���ش واإلقص���اء والتمييز التي تتعرض لها المرأة . كما تم تس���ليم الجائزة األولى ضمن «المسابقة الوطنية» للمخرج «ديكو» عن فيلمه الوثائقي «خطى اإلعالم» ،ونال «الكاب���وس» للمخ���رج المس���رحي باب ول���د ميني المرتبة الثانية ،بينما اكتفى «القطار» بالمركز الثالث .وفي المسابقة الدولية ،فاز بالجائ���زة األولى المخرج الموريتان���ي عثمان جاكان���ا عن فيلمه الوثائقي «جرح العبودية» ،الذي يصور معاناة ش���ريحة األرقاء ف���ي المجتمع الموريتاني الزنجي ،وحصدت الكوميديا الموسيقية «الساحة» للجزائري دحمان أوزيد الجائزة الثانية.
سينما الهامش كاتي احلايك-دم�شق يرع���ى معهد جنيف لحقوق اإلنس���ان ( )GIHRمش���روع ًا سينمائي ًا في سورية يتن���اول قضايا حقوق اإلنس���ان ،البداية كانت في شهر شباط/فبراير الفائت ،مع فيلم «مع وقف التنفيذ» ،وهو عمل روائي قصير يتناول العنف الجنسي ضد المرأة، من خالل قصة ُتسلط الضوء على معاناة ش���ابة تدعى «رنا» تتعرض لالغتصاب، وب���د ًال من تلق���ي الجان���ي للعقوبة التي يس���تحقها ،يتزوج من ضحيته ،وهذا ما يدفع أخ���ت الجاني «ليلى» التي تتعرض أيض ًا لالغتصاب لالحتفاظ بس���رها حتى ال تلقى مصيرًا مشابهاً. ه���ذه المعان���اة ال تقتص���ر عل���ى رنا وليل���ى ،فهذا الواق���ع الذي يش���كل عنف ًا صارخ ًا ضد المرأة والمجتمع مع ًا تعيشه كثي���ر من الفتيات ف���ي المنطقة العربية، ويع���ود في جزء كبير من���ه لوجود مواد قانونية تمييزية ضد المرأة. أخ���رج الفيلم س���يف الش���يخ نجيب، وكتب���ت النص فاديا عف���اش ،أما األدوار الرئيسية فكانت من أداء :صفاء سلطان،
رنا شميس ،غس���ان عزب ،محمد قنوع، شادي زيدان. الفيل���م القصي���ر الثان���ي ضم���ن هذا المش���روع ب���دأ تصوي���ره ش���هر آب/ أغسطس تحت عنوان «خارج األبجدية»، يتناول قضايا حق���وق الطفل ،من خالل قصة «فارس» الطف���ل الفقير اليتيم الذي يم���ارس ضده كل أن���واع القهر من عمالة وظلم وعنف جسدي ونفسي. يضطر «فارس» لس���رقة عنزة مختار القرية حتى يش���تري كتاب النش���يد الذي أكلته العنزة الت���ي كان يرعاها ،ما يدفع أهالي القرية لنبذه ويدفع والدته إلرساله إلى الدير تأديب ًا له لس���رقته العنزة ،بعد 27س���نة يصاب «فارس» بمرض عضال بس���بب حياته الش���قية ،فيلج���أ لصديقه «مهند» حتى يس���اعده ،و«مهند» هو ذاك الطف���ل المدلل الذي س���رق دفتر الصغير ٍ غير حي���اة األخير «فارس» ف���ي ح���دث َّ ال مهم��� ًا في لألب���د ،يصب���ح »مهن���د» رج ً المدينة ويدخل دوام���ة صراع بعد لجوء الرج���ل «فارس» إلي���ه ،وتختلط األوراق
بين الموت والش���عور بالذن���ب والحقيقة المدفونة بين جدران ذاكرة الماضي. الكيـال الفيلم من تأليف وإخراج روال ّ التي تقول عن اختياره���ا للممثلين نوار بلبل ورامز األس���ود لألدوار األساس���ية في العم���ل« :بعد مش���اهدتي مس���رحية (المنف���ردة) لفرق���ة الخري���ف المؤلفة من الفنانين نوار بلبل ورامز األس���ود ،لفت انتباهي كمخرجة االنس���جام ف���ي األداء بين نوار ورام���ز ،وخصوص ًا من ناحية تجس���يد األلم اإلنس���اني وتبادله إلى حّد التماهي بين الش���خصيتين حتى يصبحا ش���خصية واحدة ،ودفعن���ي إلى التفكير بموضوع لفيلم سينمائي قصير أجسد به التناغم العالي في أدائهما الذي يس���تحق أن ينقل من خش���بة المس���رح إلى شاشة السينما ،مع مراعاة الفرق بين الفنين من حيث األداء والموضوع واإلخراج». تصور أحداث الفيلم في قرية منس���ية تدع���ى (صم���ا الهني���دات) ف���ي محافظة الكيال: الس���ويداء ،وحول المكان تق���ول ّ التطور «ه���ذه القرية بعيدة عن مظاه���ر ّ ما يقربها من بيئة س���نة 1985التي تبدأ بها القص���ة ،وهي تختص���ر كغيرها من قرى منس���ية مظاهر التخلف في التعامل مع الطفل وهض���م حقوقه ،تلك الحقوق الت���ي ربما تكون من نصي���ب ابن المدينة لظروف���ه األفض���ل مقارنة باب���ن القرية وفقرها وتخلفها». وتضي���ف« :وه���ي قرية تح���وي أكثر من طائف���ة متماهية في الحب واالنخراط االجتماع���ي ،ومبتعدة كل البعد عن ثيمة الهوية الدينية ،وهذا ما يناقشه الفيلم في جانب من جوانبه على اعتبار أن الطفلين الصديقين من طائفتين مختلفتين ،لكنهما متماهيان إلى حّد األخوة بالدم». وس���يتم ضمن مش���روع معهد جنيف لحق���وق اإلنس���ان «التروي���ج لحق���وق اإلنس���ان من خ�ل�ال الس���ينما» ،إنتاج 8 أعمال س���ينمائية أخرى خالل الس���نتين القادمتي���ن ،تط���رح األعمال أب���رز وأهم قضاي���ا حق���وق اإلنس���ان ف���ي المنطقة العربية ،وسيس���تكمل المعهد مش���روعه بورشات تدريبية تستهدف شباب ًا مهتمين بمجال السينما (كتابة وإخرجاً). 141
يحكي س����يناريو فيلم «كف القمر» للمخرج خالد يوس����ف قصة خمسة أش����قاء ،هجروا والدتهم بحث ًا ع����ن لقمة العيش .يغلب عليه الفالش باك واإلسقاطات السياسية .فيما يلي قراءة نقدية في الفيلم.
دردشة مع ضمير الغائب فريوز كراوية حدوتة بس���يطة ع���ن «االتحاد قوة تحم���ل بحمولة ثقيلة والفرقة ضعف» ّ م���ن ال���دالالت الرمزية ،الت���ي تحتاج لخب���رات في فك الش���فرة السياس���ية الملغزة التي يعبأ بها النص السينمائي لفيل���م «ك���ف القم���ر» .ولعل���ه من غير الممكن أن تسمح لنفسك بالخوض في تحليل ثقافي (وليس نقدي سينمائي) ع���ن الفيل���م دون أن تع���رج على تلك الرموز وتنزل���ق إلى محاولة تفكيكها، وهو ما يقود بالطبع لجدل حول النوايا واآلراء السياس���ية التي يختلف عليها البع���ض كثي���رًا وال يص���ح أن تصبح هي محض القيمة لفيلم سينمائي وإال 142
تالشت السينما وبقيت السياسة .وعند ه���ذه النقطة يجب أن نس���أل :هل يريد لنا المخرج خالد يوس���ف أن نس���تمتع بالقصة السينمائية ونفكر بذات الوقت في مضامين سياسية محتملة؟ أم يريدنا أن نستغرق في فك الشفرة والتساؤل عما يمثّل هذا الحدث أو الش���خصية من معنى في الحياة الواقعية والسياسية على حساب سينما تبدو لو خصمنا منها المواقف السياس���ية واآلراء الشخصية مهلهلة وركيكة؟ والبداي���ة م���ع أم تحتف���ظ لنفس���ها بس���لطة رمزية على خمسة أبناء ذكور
تحتفي كثيرًا بقوتهم وشدتهم ،ترسلهم ف���ي رحلة لكس���ب الرزق ف���ي القاهرة ليع���ودوا بمال يمكنهم م���ن بناء البيت الجامع الذي حلم���ت به مع أبيهم الذي قتل غدرًا لس���بب لم نعرفه أثناء بحثه عن الذهب في الجب���ل .األم /األرض/ األمة ترس���ل كف يدها الذي تس���تعين بأصابعه الخمس���ة في حماية الشقيق تؤمن على بقي���ة إخوته األكبر ال���ذي ّ أال يخالف���وه وال يتفرق���وا عن���ه مهما حدث( :الصوت الواحد مسموع ،إوعوا تس���يبوا ذك���ري)( ،ماح���دش يجيني وحده ،مفيش يد واحدة بتبني). «من كف واحد بنتفرق لخمسين كف» هكذا يراد لنا أن ن���رى الرحيل للمدينة ت���رك ًا وإهم���ا ًال ل�ل�أرض /األم (قمر)، وأن يترك الرجال رجولتهم لدى نساء أطه���ار مث���ل األم أو ش���خصية جميلة التي يعش���قها األخ األكبر ويريد الزواج بها .ث���م تتهت���ك الفحول���ة الصعيدية على ي���د غواية النس���اء ف���ي المدينة. نساء المدينة المتشحات بمالءات اللف والمالبس الكاشفة التي ال نراها عادة في مشاغل الخياطة الفقيرة ،والالتي يستعدن تراث حسن اإلمام في الغواية بالحواج���ب واإليح���اءات الش���يطانية
واللمس���ات الت���ي تقش���عر له���ا أبدان الفحول ،وتتهاوى على يديهن بسهولة مفرطة أخالقهم. يتس���ع التناقض بين رجال يفترض عودتهم لبن���اء البيت ورجال يتاجرون في الس�ل�اح والمخدرات على التوازي مع االنجرار للخطيئ���ة وتمزق روابط األخوة والدم .ويظل األخ األكبر موزع ًا بين ش���هواته وتجارته وبي���ن وفائه لعهده م���ع األم ،منف���ردًا بأمانته على الس���ر (ماح���دش يعرف ياخ���د بثأركم غيري ،أنا اللي عندي السر شايله في قلبي ،الس���ر حمله ثقي���ل خفت يقصم ظهرك���م) .وبينم���ا يأخذ بالثأر يس���لم إخوته للسجن ويكتم الشهادة ويبعثر البني���ان المرصوص ،متهم��� ًا وبريئاً، ملتبس ًا ومتناقضاً ،حكيم ًا ونافراً ،هل هكذا يراد لنا أن نقرأ س���يرة المس���تبد العادل؟! أم���ا اإلخ���وة فيتفرق���ون ويتركون بيتهم في رحلة البحث عن الذات بعيدًا عن سطوة ومحراب الش���قيق األكبر، ممسوس���ين بالفن أو تجار مخدرات أو مثاليين رومانس���يين ،جميع ًا يبحثون عن االنعتاق من طي���ف اللون الواحد، جريم���ة ل���م تغفره���ا األم وال الوصي األكبر على الس���ر .يث���ورون في وجه «ذك���ري» الذي يمن عليهم بثأر اقتنصه (أب���وك وصاك تبق���ى بنّا م���ش قّتال قتلة ،ماخدتش رأي الناس اللي الحرب تخصهم زي م���ا تخصك لي���ه؟ مفيش تس���ليم رقاب م���ن غير ما نبق���ى كلنا رأي واح���د ،كل ش���وية تعايرنا باللي عملته؟ ماحدش ع األسفلت صغير وما حدش ع األسفلت كبير) .ولكن ثورتهم وانفرادهم بتقرير مصائرهم ال تش���فع لهم عن���د مس���اءلتهم ع���ن دورهم في التش���تت والضياع في غياهب المدينة، فرطوا في العه���د ولفظتهم فهم أيض��� ًا ّ «قمر» عندما عادوا إليها دون الش���قيق األكبر وبعي���دًا عن وصايت���ه .وبينما يش���قون طريقه���م منفردي���ن يعاقبهم القدر بنهب بيتهم ف���ي الجنوب ووهن أمه���م ومرضها الذي يص���ل في ذروته
لقط���ع يدها وتس���مم كفها .ب���م تذكرنا هذه الرموز البريئ���ة إذن؟ هل وصاية المس���تبد الع���ادل كانت أرح���م باألم/ األمة؟ االنس���ياق وراء هك���ذا أس���ئلة هي محاكمة ال تجوز لنص س���ينمائي كان يج���ب أن يتركن���ا نتلق���اه أو ًال ككل ال يتج���زأ وأن تصلنا دالالت���ه رويدًا عبر طريقة حرة غير مباش���رة ،ولكن يبدو أن مؤلف ومخرج العمل كانا مش���بعين برس���ائل يراد له���ا أن تص���ل .ويبدو االستخدام المتكرر لتقنية الفالش باك والقطع المتوازي كمحاوالت دائبة لسد فج���وات النص الدرام���ي وخلق المبرر إلعادة القصة لمرب���ع الرموز وضمان أال تخرج عنه .فالش���خصيات الدرامية الت���ي ال نفهم تحوالته���ا تمام ًا لم تعط الفرصة لتمارس حياتها على الشاشة
ُ كتب على أفالم أعدت وانتهى تصويرها قبل ثورات العرب ومصر تلك الثورة
وتنسج تش���ابكات أكثر تعقيدًا تشركنا معه���ا في الحيرة أو التأم���ل لمواقفها، إذ سرعان ما تنتش���ل من سياق كانت قد ب���دأت بن���اءه لتع���ود ألداء دورها المرس���وم في س���يناريو «االتحاد قوة والتفرقة ضعف» ،هكذا دون احتماالت أخرى. وجاءت النهاية لتداهم الجميع ،األم تتداعى والش���قيق األكبر يلملم أش�ل�اء أخ���وة متصدع���ة نحو زي���ارة أخيرة ّ ألرض المي�ل�اد ،يتج���اوز الجميع بعد عناء ع���ن أخطاء الماض���ي وخطاياه ليحملوا نعش األم في المشهد األخير، وتعود الزوجة واالبنة بعد فراق طويل ألحض���ان األب «ذك���ري» ف���ي لحظ���ة الغفران والصفح التي يصدر معها قرار جماعي بالع���ودة لبن���اء البيت طوبة طوبة. درس طويل ع���ن الخطاي���ا ينتهي بلحظ���ة واح���دة من التس���امح ،يعود الديكتاتور الملوثة ي���داه بالدماء لبناء البيت ،ويعود النافرون الباحثون عن الخالص الفردي للتكفير عن ذنبهم في االنهيار الجماعي ،ويس���توي الجميع تحت س���قف البيت متجردين من متاع المدينة الدنس. ُكت���ب عل���ى أف�ل�ام أع���دت وانتهى تصويرها قبل ثورات العرب ومصر أن نراها اليوم من منظار تلك الثورة ،أن نطل من زمان جديد على زمان رسائله قديم���ة ،وأن نحكم عل���ى منطقنا قبل ديس���مبر/كانون األول ،2010وثورة تونس وكيف كانت الرسائل تبث إلينا عبر الوس���ائط الثقافية تطلب إلينا أن نس���تمر في التس���امح بينما المس���تبد مازال بيننا ،ويقتل أرواحنا .نشهد اآلن الرس���ائل كما كانت تصاغ تحت سقف يجثم فوقه ظل الديكتاتور ويمنع عنه الهواء والنور ،ونكتفي منه بالمطالبة ببعض الت���روي ف���ي انتهاكنا وبعض العدالة في توزيع الظلم ،يكفينا القليل وال تكفيه بح���ور الدماء التي يش���رب منها وال يرتوي. 143
مو�سيقى
اإلخوة جبران أسفار لإلرادة والفرح حم�سن العتيقي
ذوب أوتاره وصبها برءًا « أنا الذي ّ عل���ى المواجع» ،قالها عمر أبو ريش���ة وفي نيته هذا التآمر الجمالي على جرح ال قابلية لتذويب���ه إال بالتماهي ،حيث ال الموس���يقى إرادة تكتب لأللم مستقب ً آخر .ومع طموح أكبر يمكننا أن نتخيل س���فرًا ال نهائياً ،ذلك الذي ال حدود له في جغرافي���ات ربما ل���م يغامر جنس تعبيري بتمديدها بقدر الموسيقى. أح���د تجلي���ات ه���ذا المنح���ى بدأت تمثله آلة العود في الموسيقى العربية عندم���ا تحررت م���ن س���لطة التطريب إلى مجازات التعبي���ر ،لكن آلة العود وإن كانت مرتبط���ة بالوجدان العربي من���ذ م���ا يزيد عل���ى 3000س���نة ،إال أنها لم تكش���ف عن جوهرها التعبيري وإمكاناتها الموس���يقية إال في النصف األول م���ن القرن العش���رين م���ع الرائد الشريف محيي الدين حيدر الذي األول ّ الموس���يقيين عندما معاصريه أذه���ل ّ ق���دم مؤلّفاته عل���ى العود ف���ي جولة بأميركا بعد الح���رب العالمية األولى، حيث كتب���ت صحيفة هيرال���د تربيون يش���به بنيوي���ورك عام 1924تنويها ّ أسلوبه المستحدث في العزف على آلة العود بالتجدي���د الّذي قام به باكانيني
144
()Niccolò Paganini 1840–1782 على آل���ة الكمان .وعل���ى درب محيي الدين حيدر س���ار كل من تالمذته منير وجميل بشير وس���لمان شكر ،وصو ًال إلى نصير شمة وغيرهم ممن يكرسون مفهوم الكونش���رتو بآل���ة العود بعدما قبع���ت هذه اآللة خل���ف المغني لقرون موسيقية عديدة. يشكل الثالثي الفلس���طيني اإلخوة جبران أو «ثريو جبران» سمير (،)1973 وسام ( ،)1983وعدنان ( )1985امتدادًا له���ذا التوجه التعبي���ري ،وإن كانوا قد خرجوا عنه من حيث التأليف وتقنيات الع���زف .وهو خ���روج ال يتردد أنصار الكالس���يكية عن وصفه تغريب ًا يطال
اختار اإلخوة جبران سرد قصة واحدة، بتوليفات سهلة وجمل موسيقية بسيطة وقصيرة
الهوية الموسيقية ما لم يلتزم العازف بالن���واة التقليدية للمقام���ات العربية وط���رق عزفها وتوليفها .لكن المس���ار الذي س���لكته هذه التجربة المعاصرة يلقى اهتمام ًا ملفت ًا في وسائل اإلعالم األوروبي���ة ،مم���ا يجعلها س���ائرة في درب النجومية بخطى ترتسم معالمها بش���كل متواص���ل .فبع���د إصداره���م لخمس���ة ألبومات من���ذ انطالقتهم عام 2002يش���كل عملهم األخير «أس���فار» ناف���ذة عل���ى مق���اس العالمي���ة الت���ي عم�ل�ا بنصيحة محمود تحمس���وا إليها ً درويش «بأن يكونوا موس���يقيين من فلس���طين وليس موسيقيي فلسطين». وهك���ذا اخت���ار «ثريو جب���ران» اإلقامة في باريس وس���رد قصص موس���يقية عن فلس���طين ومدينته���م الناصرة في مسارح أوروبا. في صدد هذا التقديم لتجربة «ثريو جب���ران» م���ن خ�ل�ال ألبومه���م األخير ميالين لعزف «أس���فار» ،نجد اإلخ���وة ّ جم���ل موس���يقية مقتضب���ة بتوزي���ع دائري بس���يط ومألوف ،ثالثة عيدان تستلهم ش���كل الفالمينكو الحديث ،بل إنها تس���تدرجه إلى مضم���ون عربي، كما يتحقق ف���ي «أس���فار» ،لتصريف حاالت من التثاق���ف والحوار ،يترجمه بش���كل صريح مقام «الكرد» المشترك بين الثقافتين كما في القطعة السادسة «أسفار قرطبة» وهي فالمينكو للذاكرة، دون قيث���ارات تس���تعيره تقاس���يم وتوليفات العود ،وفي الصورة األخرى لغياب القياثير تستعاد مرجعية ثقافية أندلس���ية عبر ثالثة عيدان .اس���تعارة الفالمينكو نفس���ها تتكرر ف���ي القطعة السابعة «أس���فار زواج اليمام» ،لكنها هذه الم���رة تتراوح بين انفعال إيقاعي س���ريع ،وهدوء صولوهات مجروحة م���ن مق���ام «الك���رد» األول���ى صرخة في وج���ه العالم ،وف���ي الثانية حالة فلسطينية. ف���ي المعزوف���ة األولى م���ن األلبوم «األغنية» مقدمة إلثبات وجود وإنصاف حق ،إذ ينتقل «الميلودي» من األوكتاف إلى القرار على مقام «الكرد» دائماً ،مع
تكرار الزم���ة موس���يقية دائرية حتى النهاي���ة بإيقاع صوفي .نفس الصورة في المعزوفة الثانية «دوار الش���مس» حيث يمتط���ي مق���ام «النهون���د» على غير عادته درجة «الس���ي» في استثناء يحاك���ي االس���تثناء الفلس���طيني الذي يصبح ف���ي المعزوفة الثالثة «أس���فار الدج���ى» جرح��� ًا عالمي ًا مش���ترك ًا بين ثالثة مقامات «صبا زمزمة» وهو مقام للحزن ،و«السيكا» للبوح والمكاشفة، ثم مقام «العجم» القتسام الجرح. ومن مق���ام «العجم» الذي تش���ترك في���ه جمي���ع الثقاف���ات الموس���يقية العالمية يس���تمر الترتي���ب المعتمد في معزوف���ات ألبوم «أس���فار» في س���رد فصول���ه الحوارية ونداءات االس���تماع والمساندة التي تصل ذروتها القاسية
في المعزوفة الرابعة «أس���فار مسائنا» حيث التقاسيم دامعة والجملة اللحنية متذبذب���ة ووجداني���ة ُقّدت عل���ى مقام «بياتي» كي يترجم «ربع النوتة» كامل اله���م العربي والمناجاة الفلس���طينية. ّ وفي مكان آخر من المعزوفة الخامسة «أسفار النوار» ال يكفي الشجن لوصف حالة وطن بل يدفعنا اإلصغاء لنبرات مق���ام عالم���ي «النهوند» ف���ي كرنفال ح���واري مع مق���ام عربي «الن���وا اثر» إلى دع���وة ملحة للتس���امح والعيش المش���ترك تكتبه تقنية «التريمولوج» باسترسالها المتتابع في توليد خيوط صوتي���ة تتماه���ى م���ع روح األلب���وم وتجرب���ة «ثريو جبران» ،وهي الدعوة إلى جسور واحدة لحياة هانئة ووطن مستحق.
ألب���وم «أس���فار» وإن كان يتجن���ب التنويع المفرط ف���ي المقامات العربية والتعقيدات األكاديمي���ة في العزف كما جرت العادة بالعودة إلى تجارب تأثرت بمقوم���ات المدرس���ة العراقية وخاصة تجرب���ة نصي���ر ش���مة في بي���ت العود بمصر ،وكذلك انعطافة مارسيل خليفة إلى التألي���ف في «جدل» و«كونش���رتو األندلس» و«ش���رق» ..عل���ى عكس هذا تمام ًا اختار الثالثي اإلخوة جبران سرد قص���ة واحدة ،بتوليفات س���هلة وجمل موسيقية بسيطة وقصيرة تتشابه في أحيان كثيرة ،وهو اعتماد يحاكي رغبة مقصودة في توسيع مساحات اإلنصات والتروي���ج لقضية إنس���انية في أمس الحاجة ألوتار تذوب برءًا على موجع ال تؤنسنه متاهات السياسة أبداً.
145
رحيل عادل الهاشمي
الناقد الصريح
د .با�سم عبود اليا�سري -الدوحة الناقد العراقي الكبير عادل الهاشمي الذي رحل عنا مؤخرًا أحد النقاد الذين دافعوا عن الفن الموسيقي في محاولة لتصويب انحرافه على يد الطارئين عليه ،فقد كان ناقدًا جادًا ،موسوعي ًا في ثقافته الموسيقية ،وملم ًا بتاريخ الموسيقى العربية ،فض ً ال عن تمكنه من الحديث بأسلوب آسر تميز به ،وبلغة عربية سليمة راقية ،يحافظ من خاللها في حديثه على تنغيم جميل جاذب، فتجد لذة في االستماع إلى آرائه أكثر من قراءتها على رفعة مضمونها. لقد أشاع الناقد الهاشمي من خالل مئات المقاالت والبرامج اإلذاعية والتليفزيونية على مدى عقود ،ثقافة موسيقية يتعلم منها المختص ويستمتع بها غير المختص ،وحفظ للفن الملتزم مكانته ،وظل عصي ًا على اإلغراءات، وبعيدًا عن المجامالت ،والتجاذبات السياسية في أحكامه الموضوعية ،وكان علمي ًا في تقييمه للغناء ،يحترمه الفنان الحقيقي ،ويخشاه الفنان اللصيق .وهو يرى أن «مشهدنا الموسيقي تتنازعه انهيارات عدة ،بسبب غياب التكوين التربوي عن المعاهد الموسيقية، وغياب األساتذة الذين يمتلكون وعي ًا ومعرفة بتفاصيل العلم الموسيقي ،إلى جانب تفشي األمية الموسيقية في تحديد المعايير النقدية للعمل الفني». بلغة صريحة يقّيم الهاشمي الغناء العراقي ،ويقدم آراءه ببعض المطربين العراقيين ،فيقول :إن صوت ياس خضر مقتدر وله مسافة (أوكتافين) ،ومنهجه 146
الغنائي راق ،وصوت ماجد المهندس يتمتع بحنجرة متدبرة في الغناء ويجيد طريقة تدوير الكلمة الغنائية ،وحسام الرسام ينطلق قوي ًا ويستطيع أن يقوم باألداء المرسل دون إيقاع ،ثم يقطعه بأغنية وذلك مؤثر في األسماع ونجح فيه رغم بعض العيوب في صوته، وشذى حسون لم أسمع بها ،ورضا العبد اهلل فيه عيب وراثي إذ إن بعض األنغام تخرج من أنفه وفمه ،وصالح البحر ال تكتمل في حنجرته صالحية الغناء. ولد الناقد الهاشمي في بغداد سنة 1946في منطقة األعظمية ،فتفتحت آذانه على المدائح النبوية في جامع أبي حنيفة ،وتخرج من الثانوية في بغداد، ثم التحق بمعهد الموسيقى العربية ودرس لمدة ثالث سنوات ،عاد إثرها إلى بغداد ،ودخل الجامعة المستنصرية قسم اللغة العربية وتخرج في العام .1973 /1972وانتدب عضوًا لمدة عقدين في لجنة فحص األصوات العائدة لدائرة اإلذاعة والتليفزيون ،ومارس التدريس لمادة الموسيقى في معهد الدراسات النغمية العراقية والفنون الجميلة وكذلك تدريس مادة الموسيقى في كلية الفنون الجميلة. درس الناقد الهاشمي أصوات قراء القرآن الكريم في المدرستين العراقية والمصرية ،دراسة مستفيضة ،وكان عاشق ًا للمقام والغناء العراقي وشغوف ًا بالغناء المصري .وقد أثبت الراحل آراءه فيما أصدره من كتب ،منها (الموسيقى
والغناء من عصر اإلسالم وحتى احتالل بغداد سنة ،)656و(مسيرة اللحنية العراقية) و(العود العربي بين التقليد والتقنية) وكتاب (فن التالوة أصوات وأنماط) و(أصوات وألحان كردية) و(الموسيقى العربية في مئة عام)، الذي أصدرته وزارة الثقافة في دولة اإلمارات. كان الهاشمي عروبي ًا معتزًا بعروبته، غيورًا على كل ما هو عربي وإسالمي، أحب مصر وطالما حدثني عن شغفه بها ،وكما هو حال من يريد أن يرحل عن هذا العالم ،فهو يجوب األماكن التي أحبها والناس الذين تعلق بهم ،يصف أحد مرافقي الهاشمي ساعاته األخيرة، فيقول «حال الراحل قبل سويعات (من وفاته) كانت جيدة فقد زار داري عبد الوهاب وفريد األطرش وجامع جمال عبد الناصر ،وكان يستعيد ذكرياته مع مصر التي درس فيها ،ولكن حين حاول أعضاء الوفد االتصال به قبيل الذهاب لحفل االفتتاح اكتشفوا أن الهاشمي فارق الحياة» .وقد رحل إثر أزمة صحية في العاصمة المصرية التي كانت على موعد الدورة العشرين من مهرجان الموسيقى العربية. ومن مفارقات القدر أنه توفي في فندق يحمل اسم أم كلثوم التي طالما تحدث عن غنائها وفنها األصيل .رحل الهاشمي ورحلت أحالمه معه ،ولم يبق عنه غير كتبه وسمعته الطيبة ودماثة أخالقه ،وصوته المميز الذي ال يمكن نسيانه.
حارس النغم األصيل
يترك المقام وحيد ًا.. حين يتعلق األمر بالدفاع عن التراث الموسيقي األصيل ،هناك دعاة الحفاظ عليه متعصبين له كما هو ،وهم كثر دون سند أكاديمي في الغالب ،وهناك من يرى ،وهم قلة ،أن الحفاظ على التراث ال يقوم عملي ًا على إشهار السالح في وجه من يناوئه ،بل باستعماله وتداوله في رؤى جديدة ،مع ما لعملية التوثيق المستمر من أهمية تربوية وتاريخية. الناقد الموسيقي عادل الهاشمي (األعظمية )1946الذي ودعته الساحة الموسيقية العراقية مؤخرًا كان من الفئة الثانية ،وقد مثلها باستحقاق مشهود، وظل طوال حياته يؤكد ،بصرامة ال مجاملة فيها لفنان ،على ضرورة استقامة الموسيقى العراقية. رسخ الهاشمي في نقده خطورة ضياع المقام العراقي باعتباره الركيزة األساسية التي تستند إليها األغنية العراقية إلى جانب األطوار الريفية، ومعروف عنه تمسكه بمشروعه في نقد الموسيقى العراقية وتوثيقها معاً ،فكان من فضل هذا اإلسهام ترتيب التجارب وتنسيق تباينها وضبط مقومات الغناء وضوابط انبنائه ،من خالل استعراض مستفيض ألرشيف األغاني العراقية وروادها ،موازن ًا ذلك في استدالل نقدي وأحكام صريحة في استحقاق الغناء المتقون دون محاباة .وقد كان من أثر ذلك كله إنتاج مقاالت ومؤلفات في النقد والتوثيق ال تخلو من تنبيه للفراغ الحاصل في تحصين الهوية العراقية والتراث الغنائي من النهب والتلف ،فكان من نتائج هذا اإلهمال ما
توقف عنده الهاشمي بمرارة حين ادعت إسرائيل «أن اليهود العراقيين الذين كانوا في بغداد غادروا بغداد بأمر من نوري باشا السعيد ،وكان من المفروض أن يغادروا البلد عام 1948باالتفاقية التي وقعت بعد معركة فلسطين ،لكن أخر رحيل اليهود نوري باشا السعيد ّ العراقيين لكي ُيعلموا العراقيين الكثير من فنون األغنية وكثيرًا من فنون المقام وكثيرًا من فنون األطوار الريفية، فأبقاهم حتى سنة ..1951ولحذقهم أنهم غادروا العراق الذي لم يحلموا به، لذلك ماذا فعلوا؟ ،ادعوا أن كل هذا الفن هو فن يهودي إسرائيلي» .وهكذا ،ولما لهذا التزوير من تهديد مستقبلي لإلرث العراقي اختار الهاشمي خيار المقاومة الثقافية فاحتل مقام الريادة في تصويب الحقائق التاريخية في مشروعه النقدي الموسيقي عبر عدة مؤلفات كان آخرها «الموسيقى العربية في مئة عام» على غرار مواطنه الرائد األكاديمي في هذا العمل الفنان الباحث حسين األعظمي الذي أصدر أكثر من ستة كتب في المقام العراقي أهمها من الناحية التوثيقية «المقام العراقي ومبدعوه في القرن العشـرين» عن دار دجلة ،األردن .2010 وأسلوب الهاشمي في التوثيق ،وإن كانت غايته العلمية تعويض االضطراب المرجعي نظرًا للنقص األكاديمي الحاصل عند أسالفه من رواد المقام العراقي ،فإنه يفيد كذلك في تربية الحس الذوقي وصرامة النقد عند طالب وجمهور الموسيقى على السواء ،فنجده
بهذا غير متردد في الحكم على العديد من المطربين مبررًا ما هم عليه من شهرة إلى الشفقة العربية أثناء الحصار االقتصادي الذي تعرض له العراق خالل تسعينيات القرن الماضي .كما يرى أن األغنية أصبحت صورة للحياة العراقية «بما فيها من انكسارات وبما فيها من مآس وقسوة ،فأصبح الفن فائض ًا وليس جزءًا من األساس الجوهري للحياة العراقية» .ورغم ما قد ينطوي عليه هذا الحكم من تعميم إال أنه في الصميم ينم عن قناعة ال مساومة فيها عند الهاشمي ،وقد ظل يعلم طالبه في معهد الدراسات النغمية العراقية والفنون الجميلة ،وكذلك قراءه في عموده «مرفأ الموسيقى» وغيره من كتاباته الصحافية وما أنتجه من مؤلفات ..بأن ال مجاملة في الفن األصيل «إذا كنا نريد نهضة جديدة في بناء فني جديد يتوخى الصدق واألمانة ويتوخى سعادة الفرد العراقي». يقول الهاشمي فيما كتبه عن رواد المقام العراقي« :ناظم الغزالي هو أحد أبطال ملحمة غناء المقام العراقي ،فإن فضل هذا المطرب الكبير والمتمكن جدًا، انه استطاع أن ينقل المقامات التي أداها إلى خارج الجغرافية العراقية.. إن ما قام به الغزالي ،هو تطوير بعض تقليديات األداء الغنائي ،وهو في رأينا، تمارين بيداغوجية أرست فيه قواعد النطق السليم واللفظ الرشيق ،وإعطاء الحرف الغنائي حقوق الجمال األدائي، وإتقان اختالس األنفاس وتعلم الشهيق والزفير أثناء الغناء ..وصوت الغزالي من أصوات التينور الدرامي ال الغنائي، وهو يقطر حالوة وسحرًا ،لكن الضعف الذي يعانيه صوت الغزالي كما هو معروف في الدرجات الواطئة -القرارات- لذلك تجنب هذا المغني البارع غناء عدد كبير من المقامات التي تتطلب اتساع ًا في المساحة الصوتية ..نجاح ناظم الغزالي المدوي في اآلفاق العربية قائم على المثابرة والدعك واالحتكام إلى المعارف الصلبة في فن الغناء ،ال بضربة ّ حظ». 147
أغنية المؤلف الروسية في انتظار ثورة القيثارة منذر بدر حلّوم -مو�سكو تعب���ر ع���ن موق���ف لألغني���ة الت���ي ّ اجتماعي -سياسي ،في روسيا تاريخ يبدأ مع (ذوبان الجليد) الخروش���وفي، الذي بات ممكن ًا بفضل من موت ستالين ( 5آذار/م���ارس .)1953فبع���د ثالث���ة أعوام من ذلك الموت (أو القتل؟) صعد بتغيير في البنية خروش���وف ،الحالم ٍ أغنية المؤلف وفرق المشي.
148
مع بقائه على رأس���ها ،منب���ر المؤتمر العش���رين للحزب الشيوعي السوفياتي (ش���باط/فبراير )1956منتق���دًا تأليه ستالين ،وآلية عبادة الفرد الستالينية، مؤدي��� ًا رومان���س التغيي���ر األول ف���ي ّ االتحاد السوفياتي ،مؤذن ًا بفتح الباب أغان راح���ت تنبئ بواقع بعيد عن أمام ٍ
الرومانس. تزامن انتش���ار األغنية االجتماعية- السياسية ،في أواسط القرن العشرين ف���ي بل���دان مختلفة م���ن العال���م ،مع ظهور الحركات الطالبية اليس���ارية في الغرب .وع���ادة ما كانت ه���ذه األغنية تؤدى مصحوبة بآلة القيثارة وحدها، التقليد الذي ال زال س���ائدًا إلى اليوم في األغلب األعم م���ن الحاالت .ولكون هذه األغنية يكتب كلماتها ويضع موسيقاها ويغنيها شخص واحد ،فقد ُأطلق عليها اسم أغنية المؤلف. من الس���مات العامة ألغنية المؤلّف، طغي���ان أهمي���ة الكلم���ات عل���ى أهمية الموسيقى وعلى جودة صوت المغني، وهي غالب ًا تؤدى على قوالب موسيقية جاهزة ،ويتم التش���ديد في أدائها على الكلم���ات والجمل ذات المعاني الخاصة تعبر أغني���ة المؤلف الم���راد إيصاله���اّ . عن رؤي���ة نقّادة للظواه���ر االجتماعية
والسياس���ية الس���ائدة في انعكاس���ها، غالباً ،على مصائر فردية .وهي أغنية إنتلجينسيا بالدرجة األولى ،فمبدعوها أطب���اء ومهندس���ون ومش���تغلون ف���ي العل���م ،يزاولونه���ا بوصفه���ا نش���اط ًا ثقافي���اً -اجتماعي��� ًا سياس���ياً ،وليس مهنياً -فنّياً. مرت أغنية اليوم، إلى ظهورها من���ذ ّ المؤل���ف الروس���ية بمراحل ع���دة لكل منها س���ماتها .بدأت الحقبة األولى مع نسيم الحرية الخروشوفي ،واستمرت حتى نهاية الس���بعينيات .وهنا ،راحت اإلنتلجينس���يا الروس���ية تولّد عشرات األغان���ي المش���بعة بالوج���ع وبضيق الص���در وبالحاجة إل���ى القول ،وراحت األخيرة تنتش���ر في الظل ،مس���تجيبة لطلب اجتماعي على حرية التعبير .ففي الوقت ال���ذي امتأل فيه الهواء الرس���مي بأغان سوفياتية شعاراتية راحت ُتبث ٍ عب���ر قنوات التلف���از والمذياع ،لمغنين ومؤلفين اشترط فيهم أن يكونوا أعضاء في نقابات الفنانين الرس���مية ،في هذا الوقت راحت األيدي التواقة إلى الحرية سرية ألغنية المؤلف. تتبادل تسجيالت ّ س���جل وهنا ،وفي هذه الحقبة بالذات، ّ هاماً .فمن ال يعرف قصائد الشعر حضورًا ّ فالديمير فيسوتسكي (،)1980 - 1938 وب���والت أكودجاف���ا (-)1997 - 1924 يقف تمثال هذا الرجل الضئيل الجس���م، العمالق الكلمة ،في شارع أربات القديم من���ذ ،2002ولي���س إال بوش���كين من الكب���ار هناك -ومن ال يعرف الكس���ندر غاليت���ش ( )1977 - 1918المغناة على القيث���ارة ،من ال يعرف ه���ؤالء الثالثة الكب���ار على اختالفهم ،ال يعرف ش���يئ ًا عن الوجع الروس���ي .في ه���ذه الفترة يؤسس مهرجان سنوي ألغنية المؤلف يحمل اسم فاليري غروشين الذي توفي شاباً ،أثناء رحلة مشي .وهذا المهرجان ّ لم ينقطع منذ 1968في ضواحي مدينة سمارا .وقد اقتصر حضوره في دورته األولى على هواة المش���ي السياحي في منطقة سمارا .وبالمناس���بة فالقيثارة وأغني���ة المؤل���ف رفيقا فرق المش���ي. ثم بدأ الش���باب بالتداعي لحضوره من
في نادي روسي ألغنية المؤلف.
مختلف أصقاع روسيا .وهكذا بلغ عدد جمهوره عام ، 1979مئة ألف شخص، وتضاعف عام ،2000ليصل إلى 210 أما في هذا العام ( )2011فتقلص آالفّ ، ع���دد الحض���ور إل���ى اثنين وعش���رين ألفاً .ولكن ليس لقل���ة االهتمام بأغنية المؤل���ف ،إنما لظهور طل���ب جديد يمّهد لثورة خارج المنابر. وقد برز في فترة الثمانينيات مؤلفون كب���ار ،م���ا زالوا إل���ى الي���وم يحملون قيثاراتهم ويعتلون خش���بات المسرح،
خالل العام الحالي ظهرت موجة جديدة من أغنية المؤلف ،أخرجتها من حالة الوقوف على األطالل إلى المطالبة بالتغيير
ولك���ن مصحوبي���ن بآالت أكث���ر تعقيدًا تداخ�ل�ا وهرمونية ،من وأصوات أكثر ً أمثال بوريس غريبيشنيكوف ،وأندريه ماكاريفيت���ش ،وي���وري شيفتش���وك. وهن���ا ،تصب���ح الحف�ل�ات الجماهيرية تقليداً ،بالتوازي مع نشاط فرق ،تنشد الحفاظ عل���ى طقس األداء الش���خصي واالس���تماع الخاص ،كج���زء أصيل من األغني���ة ،فتقي���م معس���كرات للمؤلفين وألنصاره���م ف���ي خي���ام تضربه���ا في الغابات. يؤس���س غريبيش���نيكوف فرق���ة (أكواري���وم «ح���وض الم���اء»)، وماكاريفيتش فرقة (ماشينا فريمنيني «ماكين���ة الزمن») ،وشيفتش���وك فرقة (د.د.ت) .ومن ال يعرف هذا المبيد الذي أنقذ البش���رية من الجوع يوم ًا ثم صار ملعون ًا رجيم ًا بفعل تراكمه في عناصر البيئة وانتقاله عبر السالسل الغذائية! وف���ي الوقت الذي كان���ت فيه أغاني المرحل���ة الس���ابقة ،بم���ا فيه���ا أغاني النج���وم ،تتناول األوج���اع االجتماعية والشخصية ،مع مالمسة بالكاد تلتقط 149
للسياس���ي ،تب���دو األغان���ي هن���ا أكثر نقدية .ففي هذا المنح���ى يتحقق نجاح وانتش���ار أغنية ماكاريفيتش (أباسني بوفاروت «المنعطف الخطير»). م���ع بداي���ة التس���عينيات ،دخل���ت أغني���ة المؤلف ما يمكن تس���ميته بطور االسترخاء ،فقد أصبح كل قول مباحاً، ورَفدها، مم���ا أفقدها بعض ًا من ّ تميزهاَ ، في الوقت نفسه بعدد كبير من الشعراء والمغني���ن الذين لم يكونوا ليظهروا في غياب حرية التعبير .في هذه المرحلة، تط���ور أداء المؤلفي���ن -المغني���ن فنّي ًا وتش���كلت هيئ���ات مهنية تنظ���م عملهم وأخ���ذت تتبل���ور كالس���يكيات أغني���ة المؤلف ،بالتمايز مع الموجة الجديدة، وظهرت برامج في الراديو (راديو صدى موس���كو) مخصص���ة ألغني���ة المؤلف، ومؤسس���ات اس���تثمارية تنظم حفالت ولقاءات خاصة بهذه األغنية. تميزت أغاني التسعينيات ،وخاصة ّ بدايتها ،بنقد ش���ديد ومتك���رر لالتحاد الس���وفياتي المنه���ار ،ث���م بكثي���ر من الس���خرية من البيريسترويكا ،ولكن لم يتبل���ور فيه���ا مع ذلك خ���ط معارض، ب���ل األصح القول لم تتش���كل معارضة تتبن���ى ما تنط���وي علي���ه األغاني من نقد للمرحلة .هنا تظهر أس���ماء جديدة، ش���اوف (ولد عام مثل الطبي���ب تيمور َ والمدرس ميخائيل شيرباكوف ،)1964 ّ ( ،)1963وخريجة اآلداب أولغا تشيكينا ( )1969وغيرهم ،وتتاح إمكانات فنية وتقني���ة وتس���ويقية كبي���رة ،فيتحول كثي���ر م���ن المؤلفين الس���ابقين والجدد إل���ى االحت���راف ،فيغ���ادرون العيادة والورش���ة ومنب���ر التعلي���م والمختبر العلمي إلى مس���رح األغني���ة .وتصبح هذه األغنية ،بمعنى ما س���لعة ،فتفقد مزيدًا من خصوصيتها .فال يبقى لها من خصوصية إال الكلمة النقّادة .علم ًا بأن األخيرة ،أيضاً ،تفق���د ،مقارنة بحقبة أكودجافا وفيسوتسكي وغاليتش كثيرًا من ثرائها وشعريتها. وعلى هذا النحو يستمر الحال طوال فترة حكم يلتسين وخالل الفترة األولى ه���م جديد تحمله من حك���م بوتين ،مع ّ 150
بوريس غريبنشيكوف.
أغني���ة المؤلف يتجلى ف���ي التعبير عن الحنين إلى االتحاد السوفياتي المفقود، وتأمل الخس���ارة الناجمة عن هذا الفقد، ّ واألس���ف على المس���اهمة ف���ي الهدم، ونقد الظواهر السياس���ية واالجتماعية الجديدة ،والشعور المتصاعد والمتفاقم بغي���اب العدالة االجتماعي���ة ،والحديث المتصاعد عن مآسي روسيا ،من سكر وفساد وغباء وقلة شعور بالمسؤولية وعدم أهلية المسؤولين وقلة نزاهتهم، وتعبي���ر عن الرغب���ة في إحي���اء القيم األخالقي���ة المفق���ودة وف���ي الع���ودة إلى دول���ة قوية تعيد الع���زة والكرامة لمواطنيه���ا ..وهذا كلّه بالتزامن مع نقد الس���لطة الحاكمة .في ه���ذه المرحلة، يستمر شيفتش���وك وفرقة (بودبولني فرونت «الجبهة الس���رية») ،ويبرز مع أبط���ال الموجة الجدي���دة نويز إم إس، وفرقة (راب فاك «كلّية الشغل» ،االسم ينطوي على س���خرية واضحة من تلك الكلي���ات التي أعّدت العم���ال في أعوام العشرينيات في االتحاد السوفياتي). وم���ع بقاء بوتين ف���ي الحكم ولعبة تبادل الس���لطة المثيرة للس���خرية بينه
وبي���ن ميدفيديف ،ب���دأت تتبلور خالل الع���ام الحال���ي ( )2011موج���ة جديدة من أغنية المؤل���ف ،أخرجتها من حالة الوقوف عل���ى األطالل إلى االش���تغال عل���ى مطل���ب التغيير ال���ذي ال بد منه، أغنية تتفاعل مع تصاعد الشعور بعدم الرضا وبحاجة روس���يا إل���ى التغيير، حت���ى كثر الحديث ف���ي البالد عن ثورة قادمة .وهنا تأتي أغنية (العصفورية) التي أدتها فرق���ة (راب فاك) ،وحصدت خ�ل�ال أس���بوع مئتي ألف مس���تمع في ساخرة، الش���بكة العنكبوتية ،لتكرر، ً ستصوت لبوتين». الزمة «عصفوريتنا ّ ف���إذا ما أخذن���ا بتاريخ استش���راف أغني���ة المؤل���ف لح���ركات التغيي���ر االجتماعية ،م���ن جهة ،وبدالالت أرقام االستجابة الش���بابية لهذه األغنية ،من جهة ثاني���ة ،وبالمزاج العام الذي يمكن التقاط مؤش���رات عليه في كل مكان من إن روسيا روس���يا اآلن ،يمكننا القول ّ قد تغنّ���ي فيها آل���ة القيث���ارة ،بعد أن يستنهض القيثارة ش���بابها ،في والدة ثورة جديدة يصع���ب التكهن بنتائجها، وبأغنية المؤلف التي قد تأتي بعدها.
دوحة الع�شاق
ص ْحـن ِخ ّدي ن أ َمكـ ِّ ُ عاشـقي من َ ِ نزار عابدين مؤ ِّرخو الشعر صحيحاً ،بل كثيرًا ما ليس كل ما قاله َ كذبوا ونافقوا .فاألصفهاني يقول عن ُعـلية بنت المهـدي ( 210 - 16هـ 825 - 777/م)« :كانت من أحسـن الناس وأظرفهم تقول الشـعـر الجيد ،وتصوغ فيه األلحان الحســنة ،وكانت حـسـنة الدين ،ال تغني وال تشرب النبيذ إال إذا كانت معتزلة الصالة ،فإذا طهرت أقبلت على الصالة ٍ بشيء غير قول الشـعـر»، والقرآن وقراءة الكتب ،فال تلـذ وقد قال عنها غيره مثـل هذا الكالم ،فما هذا التـبرير السخـيف لألميرة التي عشـقـت غالم ًا لها ،حتى اشتهر أمرهما ،فمنعها أخوها الرشـيد من ذكر اسمه في أشعارها؟ لاّ ويظهـر نـفـاقـهـم أكثـر وضـوح ًا عـند حـديـثهـم عن و دة المـتـوفــاة 484هـ1091/م ،فقالوا: المــسـتكـفي ُ بـنت ُ «وكانت والدة في بني أمية بالمغرب كعلية في بني العباس بالمشرق .إال أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق!!». قال عـنهـا ابن بشـكوال (578 - 494هـ- 1101/ 1183م) في «الصـلة في تاريخ أئمـة األندلس»« :كانت أديبة شـاعرة ،جزلة القول ،حسـنة الشـعر ،وكانت تخالط الشـعراء ،وتساجل األدباء ،وتعرف البرعاء، وع ِّمرت طويالً» .وتناقل المؤرخون وصف ًا واحدًا ال يتغير: ُ «كانت واحدة زمانها ،المشــار إليها في أوانها ،حســنة المحاضرة ،مشــكورة المـذاكرة .وكانت مع ذلك مـشــهورة بالصيــانـة والعـفـاف ،وفـيهـا خـلع ابن زيدون عـِذاره، وله فيهـا القصائد والمقطعات ،لكنهم تناسوا قول ابن بشـكوال ،وهو أقدم مؤرخي األندلس« :سـمعت شـيخنا يصف نباهتهـا وفصاحتها وجزالة منطقها ،وقال :لم يكن لها تصاون يطابق شرفها». لاّ وال ندري من الذي خلع العذار (ترك الحياء) و دة أم ابن زيدون ،فلقد قرأنا شعره فيها فما وجدنا كلمة واحدة فاحشة ،بل هو من أرق شعر الغزل،أما هي فكتبت بخيوط الذهب على جانب ثوبها:
ــح ِلـلـ َمـعـــايل �أنـا والـلـّه � ْأ�ص ُل ُ و�أ ْم ِـ�شي مِـ�شْ ـيتي و�أ ِتـيـ ُه ِتـيهـــا وكتبت على الجانب اآلخر:
عا�شـقي من َ�ص ْحـن ِخ ّدي �أ َمكـ ِّ ُن ِ و�أ ْعـطي ُقـب َلـتي من يَـ�شْ ـته ِـيهـا
فهل بعد هذا من تهتك وخلع عذار؟ حتى عندما افـترقا (وأغلب الظن أنها كانت مـتـقـلـبة
األهـواء ،تبدل عـشــاقـهـا كما تبدل أثوابها) لم يقل فيها ابن زيدون كلمة هجاء ،بل أثرى الشعر العربي بقصائد من درر الشعر ،كما قال المتنبي:
بذا ق�ضت الأيا ُم ما بني �أه ِلها م�صائب قو ٍم عند قو ٍم فوائ ُد ُ
وهكذا كان افتراق ابن زيدون وو ّالدة نعـمة على الشــعـر الحمداني قبل ذلك ،فقد العربي ،كما كان أسـر أبي فراس ْ أثرى الشعر العربي بـ «رومياته» الخالدة .أما ولاّ دة فظهر سـوء أخالقها في هجائها «البذيء» البن زيدون:
ـت ولُـقِّـبـْت امل�سـ َّد َ�س وهو ن ْع ٌ تُفا ِر ُقـك احليا ُة وال يُفا ِر ْق ــي و َمـ�أبُـــون وزانٍ فـَـلـ ُ ِ ــوط ٌ ـوث وقرنا ٌن و�سـا ِر ْق و ُديُّ ٌ
قواد على أهله .قرنان: بشر .ديوثّ : (مأبون :ال ُيذكر إال ّ رجل ال يغار على أهله) .بل إن لها في هجاء ابن زيدون أبيات ًا أخرى ،نسـتحي من ذكرها .ليسـت هذه أخالق «ربة الصون والعـفـاف» السـيـما أن هذا الذي تتهمـه بهذه الصفات كلها كان عـشـيـقـهـا ،وكانت تكتب إليه ولهى:
ــن الظـــــال ُم زيــارتي تـرقَّ ْ ـــب �إذا َج ّ َ لل�ســـر ـتـم ف� يّإن َر�أيْ ُ ـت الـلـيـلَ �أ ْك َ ِّ ـح َوبي مـنك ما لو كانَ ِ بال�شم�س مل تـ ُل ْ بالنجـم مل ي�سـْـ ِر ْ وبالبد ِر مل يط ُل ْـع َو ْ وتكتب إليه أيضاً:
ـب و َّد َع ْ ــك َو َّد َع َّ ال�صبـْ َر حُ ِم ٌّ ا�سـتـو َد َع ْ ــك ــــر ِه ما ْ ذا ِئـ ٌع ِمن ِ�س ِّ �إنْ يَطُــلْ بعـ َد َك ليلي فـلـكـ َ ْم الليـــل َم َع ْ ــك ِ ب ُّ ِـت �أ�شْ ــكو ِقـ�صرَ َ
ليســـت و ّالدة غريرة ليخـدعهـا من يتـصف بكل ما كالـته له من هجاء مقـذع ،بل كانـت تتصف بالنباهـة والفصاحة والذكاء ،فكيف انقلبت هذه العـاشـقة الولهى إلى امـرأة شـرسـة ال تتورع عن شتم من كان لها عشيق ًا بهذا األسلوب «السوقي»؟
151
علوم
أسرار السواك اكتش���ف فريق بحث دول���ي المكونات الس���رية في عيدان السواك الذي يستخدم على نطاق واس���ع ف���ي إفريقيا وآس���يا والبالد العربية لتنظيف األسنان وحماية اللثة من األمراض. فق���د كش���فت الدراس���ة الت���ي أجراها الباحث���ون ف���ي جامع���ة «إيلينوي���س» بش���يكاغو ،وجامعة «س���تيلينبوش» في «تايجربي���رغ» بجن���وب إفريقيا -عن أن السواك يحتوي على مواد طبيعية مضادة للميكروبات تمنع إصابة الفم باألمراض، وتقلل ظهور التجاويف الس���نية وأمراض اللثة. وأوضح الباحثون في الدراسة -التي
تعتب���ر األولى من نوعه���ا التي تركز على كشف أس���رار قدرة الس���واك في تنظيف األسنان -أن أعواد السواك التي عادة ما تس���تخلص من جذور أو سيقان األشجار والش���جيرات المحلي���ة في البل���دان التي تس���تخدمها ،وتستعمل بعد مضغ أطرافها حت���ى تهت���ريء ،ثم تس���تخدم كفرش���اة لتنظيف األسنان ،فعالة كفرشاة األسنان تمام ًا في إزالة طبق���ة «البالك» المتراكمة على األسنان وتدليك اللثة ،مشيرين إلى بدي�ل�ا أرخص ثمن ًا أن ه���ذه األعواد تمثل ً لس���كان العال���م الثالث ،حي���ث ال تتوافر فرش األسنان. وأش���ارت الدكت���ورة كريس���تين-
«لبن العصفور» ..موجود! أثبت تقرير علمي صدر مؤخرًا أن للعصفور لبن ًا كسائر الطيور وه���ذا اللبن ال يختلف في تركيبه الكيميائي عن ألبان الحيوانات األخرى ،حيث يحتوي على مادة بروتينية (كازينزجين) ودهن، وسكر الكتوز.وتختلف ألبان الطيور عامة عن ألبان الحيوانات األخرى في بعض خواصها الطبيعية ،فهي ليس���ت سائلة وإنما على هيئة فتات أبيض اللون هش ،س���ريع التكس���ر ،أش���به ما يكون بفت���ات الجبن األبي���ض ،حيث يتحور النس���يج الداخلي لحويصلة الطائر في زمن حضانة البيض تحورًا دهنياً ،ويزداد 152
أس���تاذة طب األس���نان واللثة في جامعة إيلينوي���س األميركي���ة -إل���ى أن عي���دان الس���واك المس���تخدمة في ناميبي���ا مثالً، بعد اس���تخالصها من نبات يعرف باسم «ديوسبايروس اليسيويديس» ،تحتوي على س���تة مركبات تق���اوم الميكروبات، أربعة منها متحدة مع مادة «ديوسبايرون» واآلخران هم���ا «جوجلون» و« - 7ميثيل جوجلون» وهما مادتان سامتان تتواجدان أيضا ،يعتقد أنهما األكثر في الجوز األسود ً فعالية ض���د البكتيريا ،حيث تصل درجة فعاليتهما إلى فعالية مس���تحضر غس���ول الفم الذي يعرف باسم «ليستيرين». وق���ال الباحثون ف���ي الدراس���ة التي نش���رت في مجلة الزراعة وكيمياء الغذاء األميركي���ة إن آلي���ة عمل الس���واك الذي يعرف في الهند باسم «نيم» ،وفي الشرق األوسط باسم «مسواك» ،في قدرته على مهاجمة الميكروبات لم تتضح بعد. وكانت دراسات س���ابقة قد أظهرت أن تسوس األس���نان بين مستخدمي معدالت ُّ الس���واك كانت أق���ل بالرغم م���ن تناولهم أغذية غنية بالسكريات والنشويات ،كما أثبتت دراس���ات أخرى أن آث���اره المزيلة لطبقة البالك تعادل آثار فرش األس���نان المستخدمة لنفس الهدف. م���ن جانبه ،أكد الدكت���ور كين بيوريل مدير الشئون العلمية في مجلس الجمعية األميركي���ة لط���ب األس���نان أن المركبات الجديدة التي تم اكتش���افها في الس���واك، الذي يس���تخدمه س���كان المناطق الريفية في العالم الثالث بكثرة ،قد تصبح أساس المنتجات الطبية في المستقبل.
س���مك الغش���اء المبطن لهذه الحويصلة فيبلغ في اإلناث واحد ملليمتر ونصفاً ،وفي الذكور ثالثة ملليمترات. وال يزيد هذا الغش���اء في األوقات العادية عن جزء من عشرة أجزاء من الملليمتر ،ويش���ترك كل م���ن الذكر واألنثى في إطعام الصغ���ار نظرًا إلفرازهما اللبن ،حيث يضع العصفور منقاره في فم الفراخ الصغيرة ليس إلطعامهم حبوب الشعير والقمح فحسب ب���ل إطعامها لبن ًا حقيقي ًا يكون في الحويصلة وتقوم العصفورة باسترجاعه إلى فمها ومن ثم إلى منقارها ومنه إلى صغارها. وهكذا ل���م تعد تصلح عب���ارة «لبن العصف���ور» للتعبير عن المستحيل ،فلبن العصفور موجود ،وحقيقي!
بصمة الحشرات..دليل جنائي! ُيحكى أن مزارع ًا صيني ًا ُقتل بضربة منج���ل عميقة قب���ل ألفي ع���ام ..وعلى الف���ور جمع رئي���س القري���ة المزارعين وأمرهم بوضع مناجله���م (أداة الحصد اليدوي) على األرض وعدم اإلتيان بأية تجمع حركة ،وما ه���ي إال دقائق حتى َّ الذباب على أحد المناجل ،فعرف الزعيم أن صاحبه هو القاتل ...فالذباب تجذبه رائحة الدم حتى بعد غسل المنجل ! ه���ذه القصة ه���ي أقدم م���ا ُو ِجد عن االس���تعانة بالحش���رات لح���ل الجرائم المعق���دة ،أم���ا اليوم فأصبح���ت عالقة ���د َّرس الحش���رات بالجريم���ة علم��� ًا ُي َ وتخصص ًا ال تس���تغني عنه الش���رطة، وأصبح علماء الحشرات ال يقلون أهمية عن خبراء األدلة الجنائية. والفك���رة هنا تعتمد ،وفق ًا لما يقوله الدكتور علي رسمي أستاذ علم الحشرات بالمركز القومي للبحوث في مصر ،على حقيق���ة أن جث���ة الضحي���ة تتحول فور وفاتها إلى مرت���ع خصب وبيئة ممتازة لجذب الحش���رات وتكاثرها ،وبدراس���ة العالق���ة بين الطرفي���ن أصبح هناك ما يع���رف ببصمة الحش���رات الت���ي تؤخذ كدلي���ل دامغ ف���ي جرائم القت���ل وإدانة المجرمين ! وقد تطور هذا التخصص «الذي لم يكن موج���ودًا قبل عام »1980على يد العالم بيل باس من جامعة تينيسي ،فقد كانت
تس���تعين به الشرطة بين الحين واآلخر لتحدي���د زمن وظروف الوف���اة ،وكونه أساس ًا عالم ًا أنثروبولوجي ًا «متخصص ًا بدراسة العظام القديمة» فقد وقف حائرًا أمام كثير من الحاالت لعدم وجود منهج واضح يسير عليه. وهكذا قرر البدء بدراس���ة َت َحلُّل جثث البش���ر «ف���ي مزرع���ة خاص���ة» ورصد التغي���رات التي تطرأ عليه���ا ..وأول ما الحظه أن الذباب يحط فوق جثة الميت في الثالث دقائق األولى ،ويعمد لوضع بيوضه في الفم واألنف وثقوب الجسم النازفة ،وبعد وقت معلوم تتحول تلك البيوض إلى يرقات تتعمق داخل الجسم بحث��� ًا عن ال���دفء والغ���ذاء ..وبمقارنة مراح���ل التوال���د والتكاثر م���ع الطقس والبيئ���ة المحيطة يمكن اس���تنتاج زمن الوف���اة وتحدي���د الم���كان والفصل الذي حصلت فيه! وف���ي الحقيقة األم���ر ال يقتصر على الذباب -كما يش���ير العن���وان -ألن كل حش���رة قد تس���اعد في توضي���ح جانب معين ...فالنمل يأتي إلى الجثة ليتغذى فقط على بيوض الحشرات ،والخنافس تنخر اللحم برس���م ممي���ز لتفقس فيه، والبعوض ال يق���دم على الجثة إال وهي طرية ،والطيور تلته���م اللحم في وقت محدد ،وحشرة الجراد تنتفخ من الشبع بمراحل يمكن قياسها!..
المشي يحافظ على سالمة المخ أك���د باحث���ون أميركي���ون أن ممارسة المش���ي لمسافة 9كيلو مترات على األقل أس���بوعي ًا ربما تكون أحد األمور التي يس���تطيع الن���اس القيام به���ا لحماية المخ م���ن االنكم���اش ومقاوم���ة عته الشيخوخة. وق���ال كي���رك إيركس���ون من جامعة بيتس���برج الذي نش���رت دراسته في دورية طب األعصاب إن «حج���م الم���خ ينكم���ش ف���ي الش���يخوخة وه���و م���ا يمكن أن يس���بب مش���كالت ف���ي الذاكرة، ونتائجن���ا يجب أن تش���جع على تج���ارب مصممة جي���دًا للتدريب البدن���ي لدى كبار الس���ن كتوجه لمنع العته ومرض الزهايمر». يذك���ر أن م���رض الزهايم���ر - وهو أكثر أنواع العته ش���يوع ًا - يقتل خاليا المخ ببطء وأظهرت دراسات أن أنش���طة مثل المشي تعزز حجم المخ. وكانت دراسة أميركية حديثة أكدت أن مخ اإلنسان يتضاءل مع ازدياد تقدمه بالعمر ،على خالف باقي الكائن���ات الحية .وأضافت الدراس���ة أن عملي���ة انكم���اش تكوينات المخ نتيجة تقدم العمر مثل تل���ك التي تحدث في منطقة قرن آمون في الدماغ (الفصوص األمامي���ة) لم تر إال ف���ي الجنس البشري فقط .فيما أكد العلماء أن هذه الظاه���رة ال تحدث حتى مع أقرب الكائنات ش���به ًا باإلنسان، الشمبانزي.
153
علوم المشكلة في موجات المحمول والكمبيوتر
اإلجهاد ..خلل في طاقة الجسم
ح�سن فتحي -القاهرة إذا تزاي���د لدي���ك الش���عور بالخ���وف واإلجه���اد وع���دم األم���ان ،ابح���ث ع���ن الضغوط النفس���ية ومن خلفها الخلل في طاقة جسمك ،حيث ثبت مسؤوليتها مع س���بق اإلصرار والترصد عن % 80من المشاكل الصحية التي يعانيها اإلنسان.. لكن من أي���ن يأتي الخلل؟ ..من التعرض الزائ���د للموج���ات الكهرومغناطيس���ية الناتج���ة ع���ن الكمبيوت���ر والموباي���ل والتليفزي���ون ..والخط���ورة م���ن وراء ذل���ك تزايد مع���دالت األم���راض المزمنة والحساسية والسرطان! وقد ب���دأ على مس���توى العالم عالج ه���ذه األم���راض بالطاقة ،وال���ذي أثبتت فاعليته على مس���توى العالم لعالج خلل المناع���ة والته���اب المفاص���ل والصداع النصفي واإلجه���اد المزمن واضطرابات النوم وكذلك األمراض مجهولة الس���بب، ولك���ن يحت���اج إل���ى اس���تكمال مزيد من الدراسات حتى يمكن تطبيقه فعلياً ،كما يجب أن يقتصر اس���تخدامه على األطباء 154
المتخصصي���ن في الط���ب التكميلي منع ًا ألي تضليل أو خداع للمرضى. وطبق ًا للدكتورة نجوى حسن رئيس قسم الطب التكميلي ،فإن صحة وسالمة اإلنس���ان ترجع إلى التوازن في مجاالت الطاق���ة والت���ي يس���تطيع اإلنس���ان أن يحس���ها في صورة ذبذبات في األيدي أو إحس���اس مفاجئ بالح���رارة ،وقليل من الن���اس يمكنهم رؤية أل���وان هذه الطاقة المحيط���ة بهم ،وقد ح���دد الطب الصيني مسارات لهذه الطاقة على جسم اإلنسان، ويرتب���ط كل مج���ال بعضو م���ن أعضاء الجس���م الحيوية مثل الرئ���ة أو الكبد أو القلب وهكذا ،ومن أه���م وظائف الطاقة اإلحس���اس بالصحة والحيوية وتنظيم الجه���از العصب���ي وعملي���ات التمثي���ل الغذائي والقدرة على بناء خاليا الجسم. وتنقس���م الطاقة إلى طبقات ،األقرب لجسد اإلنسان هي الطاقة الجسدية ،تليها الطاقة النفسية ثم الذهنية ،وهذه الطاقة أمك���ن تصويرها بتقني���ات حديثة وهي
عبارة عن هالة من الضوء بألوان مختلفة تحيط بجس���م اإلنس���ان ،وينتج الخلل في مج���االت هذه الطاق���ة نتيجة عوامل متع���ددة م���ن أهمها الغ���ذاء غير الصحي والتوت���رات العصبي���ة والميكروب���ات المرضية ،كما ثبت أن هناك أس���باب ًا في الطبيعة تعطي طاقة سلبية تضر بصحة اإلنس���ان مثل بعض الظواه���ر الطبيعية التي تم رصده���ا ،وهي مناطق خلل في القش���رة األرضية بعد البراكين أو أماكن التقاء األنهار بالمياه الجوفية ،ويستدل عل���ى هذه المناط���ق بقياس���ات متعددة وبسيطة ،ومن أهمها األماكن التي تنمو فيها نبات���ات أو التي توجد بها أش���جار مائلة تج���اه االرض أو األماك���ن التي ال يمكن النوم فيها بعمق. وتضي���ف الدكت���ورة نج���وى حس���ن أن المش���اكل النفس���ية من أه���م العوامل المسببة لخلل الطاقة ،وقد ثبت علمي ًا أن أي اضطراب نفسي حتى لو كان بسيط ًا ومع الم���دة الزمنية وتراكم االضطرابات يؤثر س���لب ًا عل���ى بقية مج���االت الطاقة سواء الجسدية أو الذهنية ،ومن ثم نجد أن هن���اك ارتباط ًا وثيق��� ًا بين الضغوط النفسية والخوف وعدم الشعور باألمان، وبين حدوث كثير من األمراض العضوية أو الش���عور الدائم باإلجهاد أو النس���يان وضعف التركيز. وتج���رى حالي��� ًا بالمرك���ز القوم���ي للبح���وث ف���ي مص���ر ،أبح���اث لقياس طاقة الجس���م من خالل إرس���ال موجات ذات ت���رددات معين���ة ش���بيهة بترددات جس���م اإلنس���ان يتفاعل معه���ا المريض بطرق حركية مبس���طة يمكن تس���جيلها وببعض الحس���ابات يمك���ن معرفة مكان الخل���ل ف���ي الطاقة ومق���دار تأثيره على باقي المجاالت ،ثم دراس���ة مدى ارتباط قياس���ات الطاق���ة باألم���راض العضوية المختلفة ،تمهيدًا ألبحاث أخرى يتم فيها العالج بالطاقة ويتمثل في الحصول على الطاقة من بعض المركبات المس���تخرجة من مواد في الطبيعة س���واء حيوانية أو نباتية وعناصر معدنية وغيرها ،ثم يتم تعويضها بش���كل خارجي بمقدار يتوافق مع الطاقة المطلوبة للمريض.
بكتيريا مؤذية على هاتفك يجه���ل الكثي���رون أن الهوات���ف المحمول���ة ق���د تكون مص���درًا مهم ًا للميكروبات كغيرها من األدوات أو األشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية. فوفق��� ًا لدراس���ة بريطانية تبين من الفحوصات التي أجراها خبراء في النظاف���ة الصحية الش���خصية لثالثي���ن هاتف ًا محمو ًال أن س���بعة منها كان���ت تحتوي عل���ى بكتيريا شديدة الضرر. وتبي���ن م���ن االختب���ارات التي أجرته���ا مجموع���ة «ويت���ش» التي تدافع عن مصالح المس���تهلكين في بريطاني���ا أن أحد الهواتف الخلوية كان علي���ه آث���ار براز آدم���ي ٍ كاف ليس���بب أوجاع ًا شديدة في المعدة. وقالت مجموعة «ويتش» إن نتيجة الدراس���ة التي توصلت إليها تشير إلى أن ماليين الهواتف الخلوية في بريطانيا قد تكون ملوثة وأن الكثير م���ن الن���اس ال يتقي���دون بالقواعد الصحية الستخدامها. وح���ذر الخبي���ر ف���ي النظاف���ة الصحية الش���خصية في المجموعة جيم فرانسيز ،من خطر الميكروبات العالقة بالهوات���ف الخلوية ،داعي ًا مس���تخدميها لتعقيمه���ا .وق���ال فرانس���يز «إن الهوات���ف الخلوي���ة بحاجة إلى تعقيم» .ولفت فرانسيز إلى سهولة انتقال البكتيريا العالقة بالهوات���ف الخلوي���ة من ش���خص إلى آخ���ر خاصة عندم���ا تتبادلها األي���دي لرؤية الصور المخزنة فيها أو إلج���راء اتصاالت بواس���طتها. وتنصح مجموعة «ويتش» بتنظيف الهواتف الخلوية بقطع مبللة بمادة معقمة خشية تس���بب الميكروبات العالقة بها بأمراض كثيرة قد يكون بعضها خطيراً.
اكتشاف مفتاح الخصوبة اكتش���ف العلماء انزيما يعمل «كمفتاح للخصوبة» ويقولون إن اكتش���افهم هذا قد يس���هم في عالج العقم ،وقد يقود أيض ًا إلى أس���اليب جديدة لمنع الحمل.وجاء في الدراس���ة التي نش���رت في دورية «نيتش���ر» الطبية أن الباحثين في الكلية الملكية في لندن اكتشفوا عالقة بين ارتفاع مس���تويات بروتين يدع���ي « »S.G.K1ونقص الخصوب���ة ،بينم���ا يؤدي النقص في مس���توياته إلى جع���ل المرأة أكث���ر عرضة لسقوط الحمل. وأضاف «أتصور أنه في المس���تقبل يمكن أن نعالج الغش���اء المبط���ن للرح���م بعقاقي���ر تمن���ع بروتي���ن « »S.G.K1قبل أن تبدأ فترة التخصيب الش���هرية لدى المرأة«.واالس���تخدام المحتمل اآلخر هو زيادة مستويات البروتين « »S.G.K1كوسيلة جديدة لمنع الحمل».
عالج األطفال بـ«الفياجرا» أظهرت دراس���ة أميركية أن المكون الناشط في عقار الفياجرا قد يساعد األطفال الذين يعانون من حالة نادرة تسمى (ارتفاع ضغط الدم الشرياني الرئوي). وق���ال الدكت���ور توماس كوليك البروفيس���ور المس���اعد في أم���راض القلب في مستش���فى األطفال في بوس���طن ،إن ارتفاع ضغط الدم الشرياني الرئوي يحد من القدرة على ممارسة الرياضة ،ما قد يقود إلى فشل القلب وحتى الموت. وأش���ار كوليك إلى أن الذين يعانون من هذه الحالة النادرة يمكنهم أن يمارسوا الرياضة بش���كل أس���هل إذا تناولوا الفياجرا ،فهو يحسن قدرة الرئتين على توزيع األوكس���جين والجس���م على تحمل الرياضة ،ولكن من غير األكيد ما إذا كان الدواء يطيل العمر. وكان فري���ق أميركي من جامعة كولومبيا في نيويورك وجد س���ابق ًا أن الدواء يس���اعد البالغين المصابين بارتفاع ضغط الدم الش���رياني الرئوي ،ولكن الدراسة الجديدة أظهرت أن الدواء يحس���ن أداء الرئتين لدى األطفال المصابين بهذا المرض. وقال الباحثون إن جرعة معتدلة من الفياجرا أفضل لس�ل�امة الطفل وأكثر فعالية، ولكنهم أكدوا أن المزيد من البحث ضروري.
155
�أقالم احتشاد وحدتي وضوءك الزاهي ِ الخديعة خ��ل��ف ي��ت��راق��ص َ ُ الباذخة يتماهى في انبتات الوصل والخاليا العارية هنا على حد األرق على حد الحد الذي ال يتوانى في السيل الذي هو منك لألفق المنتصب في ارتخاء الفجيعة عبدالرحمن حسن سعد الخرطوم -السودان
مقام الصابرين تريد َ لك ما ُ األخيرة اكتب وصيتك َ ْ لي سؤال واحٌد ستكتب؟ َم ْن ذا سيقرُأ ما ُ ال ْ تخف ريد ُقل ما ُت ُ ِبَيٍد أثار ُرعاشها القبور صمت ِ ُ التهليل وجوقة ِ ُ حاول أن تكون محايدًا ستكتب في ما ُ ِ وابتسْم النهار سرق ن م وجه في َْ َ َ أشرف محمد قاسم -مصر
وامضوا عرايا دون أي كناية لتمسكم عيني وأنتم تنصتون إلى الخطيب وتجلسون القرفصاء وتخشعون
من صفحتنا على الفيسبوك * النسخة اإللكترونية من العدد « »48متى ستنزل وأيض ًا نسخة الكتاب. محمد السالموني
* المجلة تنفد بسرعة البرق ألني سألت عليها منذ ثالثة أيام في تمام الساعة الثامنة مساء عند بائعي الصحف بوسط العاصمة المصرية لم أجدها ،في اليوم التالي سألت عليها عصراً ،لم يكن يتبقى منها سوى نسختين، حيث وصلت المجلة الساعة 9ونصف مساء مع جرائد اليوم الجديد ،ونفد أغلب أعدادها في تلك الليلة ،ولم يبق منها سوى نسختين في صباح اليوم التالي ،فتحية للدوحة التي أوجدتنا عاشقين لها ،ونسأل وزارة الثقافة القطرية أن تضاعف األعداد لتلبية احتياجات المثقفين العرب في دوحتهم ،وأنصح الدكتورة صهباء بالتوجه إلى مكتب الدوحة بوسط العاصمة بشارع طلعت حرب وستجدين العدد الذي تبحثين عنه. أحمد ممدوح
* بصراحة أنا لم أحصل إال على عددين في بغداد ..أما في النجف فلم تصل حتى اآلن! أحمد النجيفي
* في الوقت ال��ذي تنتفض فيه أم��ة ال إل��ه إال اهلل يأتي علينا من ينشر كتاب ًا مشبوه ًا يطعن في مطلب الوحدة اإلسالمية تحت راية الخالفة التي بشر بها رسولنا األكرم. من هؤالء؟ بليل شبشوب
معلق ًا على نشر كتاب «اإلسالم وأصول الحكم» مع العدد .48 * الدوحة :نترك الرد لمن قرأ الكتاب.
ورد عينيك كيف أوله إن لم أغادرك ذهاب ًا حتى يتعافى الغياب وك��ي��ف إذا م��ا ص��ار الكالم فراغ ًا بيننا صور أكنت في المكان ُ ٌ وك��ل م��ا ينقصني ورد في 156
عينيك غاب علميني كيف ما يبقيك مني رقة وبهجة شاغلها السالم أسامة السعد -رسالة إلكترونية
تسلية للمطرود أنتم... نعم فأنا أحدثكم جميعاً كما لو كنت إيزيس اخلعوا أثوابكم
أحمد عادل -اإلسماعيلية -مصر
ُ السر حروف ِّ ْ ارحل: �����و ُت ص .. األرض ن��ش��ي��د ِ َ ْ ُ ِ السماء ..بها داء أص ب.. العْر ْ ُ ُ وتله ُج ... ج َت ِض ُّ َ ِن.. المدائ ِ ور َ ُح ُ داء البيدَِ ..مْز ُم ُ الح ِ ِ ياة.. .. ت ���و ال���م ��ة ق �� َش ْ��ه ُ َ ْ َ لج ْ تلج ُ ِ هيبها.. ل .. الشفاه في .. ك بار َت َ َ َ ُ ال��خ ِ وده���ا.. وعلى ُ ��دودُ ..و ُر ُ هج َتَت َو ُ ينَ ..وَب ْص ٌ مة اليَد ِ ٌ خضاب في َ ِ ينُ ..تَرّو ُج ِر ئ الثا .. ِرات للثائ ِ َ صاب ُة َجْب ٍ تاج هةَ ..ح ْسناَ ..و ٌ ِع َ تتو ُج .. وب الشع به .. ار َ للفخ ِ َّ ُ ُ ور.. ���ة ������د ْت ْأي ���ق���ون َ َ ُّ ال������د ِ َغ َ ً ����وذةَ ..ت ْحمي ال��ش��وارعُ ..ع ِ وتثلج دور.. ُّ ُ الص َ بت ت ك إن .. ال��خ��ب��ز ي��س��وغ ُ َُ ْ ُ العز ��اع.. ي �� ��ج ل ا ى ��د ل عليه.. ُّ َ ِ ْ َ ِ ُخْب ٌز ْأن َض ُج ���ل��امَ ..تصطِب ُغ.. األع ب��ه��ا ْ ُ ْ بعث فتن ��ا.. ��ي ��ح ت ى.. ال�����ر َؤ ُ ُّ َ ْ َ الضمائرُ ..تْن َس ُج ُ ُب ٌ ��و ِس���ْد َرِة ُمنَتَهى ���راقَ .ن ْ ��ح َ بالشعوب.. اآلم��الَ ..ي ْسري ِ وي ْعُر ُج َ ثو َر ًة.. د ب ت ر.. الس روف ُح ُ ُ ِع ْ ْ ِّ ُ ْ ِ ب�ل�اط ال ���ر.. ���ح س ���ت���اح ���ف ِم َ ْ ُ َسُيْرَت ُج لم ا.. اب ب كنز .. افتح سم سم ُ ْ يا ْ ْ ََُ لن َي ُعْد َ ارح ْلْ .. لكَ ..و َ حد َكَ .. الم ْخَر ُج وم َ َيُد َ شعر :أدي ولد أدب -موريتانيا
نستقبل مساهماتكم في «أقالم» على البريد اإللكتروني aklam_d@yahoo.comأو صندوق البريد 22404:الدوحة-قطر
لون الحلم بجنون تحافظ على جسدها م��ن ال��ت��م��زق ..تصيح بين تشتت األلوان على الفراش، تبكي لعل ال��ب��ك��اء ينسيها مضايقة الورد على السرير. بين ساعة وأخ��رى نامت.. وهي تقبل ضفائرها. ت��راه ف��ي الحلم يقترب من السرير. تأخذ ال��وردة كاملة وتهديها إياه. ح��ض��ن��ه��ا ب���ق���وة ش���دي���دة، وق��ب��ل��ه��ا ..ف��ط��ارت نفسها وصاحت كم اشتقت إليك.. حبيبي أين ذهبت عني.. ت��س��م��ع ص��وت��ه��ا ي���ت���ردد.. ص���دى ..تستيقظ مفزوعة وب����س����رور أخ������ذت تقبل الوسائد.. ولما ع��اد إليها وعيها ..لم تجد ال وردًا وال حبيباً ..كان ملون ًا فقط. حلم ًا ّ داود الشميري -تعز -اليمن
حفيدتي هناء الوهاب هبة الفتاح الهاءُ : ْ ُ منساب ِوي نغم عل ّ ْ النونٌ : أل��ي��ف��ة روح�����ي.. األل�����ف: ُ ْواها سل َ ْ زهرة برعم الهمزة: ُ ُ ما أبهاها!.. مسّرْة تتفتح في القلب َ ْ ومسمى االسم هو ..األهنأ.. ُ محمد السعيد مصطفى -مصر
حلم لو لم يتكرر الحلم عدة مرات لما كنت سأسجله ،يبدأ الحلم وأنا متوقف أمام المرآة في حمام بيتنا أحلق ذقني متأهب ًا للذهاب إلى ميدان التحرير ،وفي منتصف جبهتي ثقب من أثر طلق ناري ،أدندن بسعادة قصيدة األبنودي «قلبوا خريفها ربيع وحققوا المعجزة ،صحوا القتيل من القتل، اقتلني ..قتلي ما هيعيد دولتك تاني ،باكتب بدمي حياة تانية ألوطاني». ينتقل المكان والزمان فجأة للميدان ،لي ً ال حيث اإلضاءة مشوبة باللون األصفر المبهج والوجوه المتعبة من أثر السهر ،أعين الكل تتالقى ،نتبادل التحيات في صمت، سألني صديق ممن اعتدت رؤيتهم هناك ..مين ضربك بالرصاص؟! أجيبه بأنني ال أعرف ،تفحصت وجهه ألجده هو اآلخر مصاب ًا بطلق ناري في نفس المكان ،منتصف جبهته، أبادله الدهشة ،أنت عارف مين اللي عمل فيك كده؟! يهز رأسه نافياً. يظهر في المشهد مجموعة من الناس ،أحدهم يقول لي روح��وا بقى علشان البلد واقفة ،روح��وا بقى وبطلوا ديكتاتورية ،كفاية كالم بقى عن دم الشهدا ،هو كل حاجة دم الشهدا؟! ثم سالي زهران وقعت من البلكونة يا أخي!! حاولت أن أنبهه أنني أصبت أنا اآلخر ،وأن الطلق الناري لم يصب هذا الشاب الجالس بجواري في الكعكة الحجرية، والذي تبادلت القليل من الكلمات معه يوم 29يناير قبل أن يصاب في منتصف جبهته ويلفظ أنفاسه ،ولكنه لم يكن يسمعني ،كان يكرر كلمات من نوعية «االستقرار - عجلة االقتصاد الزم تمشي -البلطجية -العيال الصيع في التحرير مش حاسين بالبلد». صامت ًا كنت أتأمل وجهه ،تفحصته طوي ً ال لكي أرى إن كان مصاب ًا مثلنا ،فلم أجد أثرًا ألية إصابة ،أطلت الصمت واإلنصات ولم أجبه ،تركني مديرًا وجهه ،الحظت أنه مصاب في مؤخرة رأسه وينزف ،حاولت تنبيهه صارخ ًا وك��ان صوتي ال ي��خ��رج ،ك��ان يتكلم م��ع صديقي عن االستقرار وعن عجلة االقتصاد مرة أخرى. هاني جورج -القاهرة
النهضة ت��م��ت��ل��ك األم�����ة ال��ع��رب��ي��ة الكثير من عوامل الوحدة: اللغة ..التاريخ ..الموقع.. العقيدة ..والنمو السكاني..
وه���ن���اك ب���ل���دان أخ����رى ال تمتلك ذات العوامل ..ولكنها حققت التقدم االقتصادي والتنموي ..ولذلك فالتساؤل المطروح: إن ك���ان���ت األم�����ة تمتلك
ال��م��ق��وم��ات ال��ح��ض��اري��ة.. ف��ل��م��اذا ل��م تحقق نهضتها ال��م��رج��وة؟! وأي���ن تكامل ال��س��ي��اس��ات ال��ت��ي تحقق التوازن المنشود لمسارات التنمية؟ ومن أجل الحد من نزيف ال��ف��رص الضائعة.. ألن حاضر األمة أصبح في سباق مع اآلخر ..وفي عصر تتسارع فيه الخطى السريعة والمتالحقة المتالك التطور الحضاري ..وأصبح لزام ًا ع��ل��ى ال��ع��ق��ل ال��ع��رب��ي أن ي�لاح��ق متغيرات التطور التكنولوجي والتقني وهما م��ن أكثر الكلمات شيوع ًا في الحياة المعاصرة ثقافي ًا واق��ت��ص��ادي��اً ..وق��وى عالم اليوم تتحرك بالتكتالت.. وال�����ش�����رك�����ات م���ت���ع���ددة الجنسيات. يحيى السيد النجار -مصر
طبيعة في البستان ألمح على غصن العشق يمامتين.. تتبادالن أجمل الكلمات.. ومحبين في حضن الربيع.. سكروا من أحلى األمنيات واألزه�����ار ت��ش��دو للهوى.. على نغم ال��ف��ل والبنفسج والسوسنات وم��ن روع���ة ال��م��ش��ه��د ..راح الجميع يحلم بامتداد الربيع لكن الطبيعة بدلت وجهها وارتدت ثوب الشتاء ف��ه��اج��ر ال���ي���م���ام ..وم��ات��ت األزهار .وتفرق األحباء! عمر الوفدي -مصر -الفيوم
157
�صفحات مطوية
ذكاء طفيلي مر طفيلي بقوم يتغدون ،فقال :س�ل�ام عليكم يا معش���ر اللئ���ام! فقالوا :ال ّ واهلل ،ب���ل كرام! فثنى ركبته ونزل وقال :اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين. وقيل له :أي س���ورة تعجبك في القرآن؟ ق���ال :المائدة .قيل :فأي آية؟ قال: «ذره���م يأكلوا ويتمتعوا» .قيل :ثم ماذا؟ قال« :آتنا غداءنا» .قيل :ثم ماذا؟ قال: «ادخلوها بسالم آمنين» .قيل :ثم ماذا؟ قال« :وما هم بمخرجين». ودخ���ل طفيلي على قوم يأكلون فقال :ما تأكلون؟ فقالوا من بغضهُ :س���ماً. فأدخل يده وقال :الحياة حرام بعدكم. * األبشيهي ،المستطرف في كل فن مستظرف، بيروت :دار إحياء التراث العربي ،بال تاريخ.
و�صية احلطيئة
ص .قالِ :ب َم ُأوصي؟ أو ِ قال المدائن���ي :لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل لهْ : مالي للذكور دون اإلناث .فقالوا :إن اهلل لم يأمر بهذا .قال :ولكني آمر به .فقيل ص يا أبا مليكة للمس���اكين بش���يء .قال أوصيهم بالمس���ألة ما عاشوا، أو ِ لهْ : فإنها تجارة لن تبور .قيل :أعِتق عبدك يس���اراً .قال :اش���هدوا أنه عبٌد ما بقي. قي���ل :فالن اليتيم م���ا توصي فيه؟ قال :أوصي أن تأكل���وا ماله وتنكحوا أمه. يم���ت عليه كريم لعلي قال���وا :ليس إال هذا؟ ق���ال :احملوني على حمار فإنه لم ْ أنجو ،ومات مكانه. * ابن قتيبة الدينوري« ،الشعر والشعراء» ،بيروت :دار الثقافة.1969 ،
158
�رسقة الديك بال�صالة ُحك���ي أن أيرلندي ًا اتهم بس���رقة ديك ج���اره فلما مثل أمام القاضي س���أله عن ذلك فقال :أنا يا موالي القاضي لم أسرق ج���اري ولكنني حصلت علي���ه بالصالة. فس���أله القاض���ي :حصلت عل���ى الديك بالص�ل�اة! وكيف ذلك؟ ف���رد األيرلندي: كان لجاري ديك فاشتهيت الحصول عليه وأخذت أصلي وأبتهل إلى اهلل كي يرسله إلي مؤمن ًا بالقول :مهما تطلبوه بالصالة ّ تنالونه .ومضت مدة وأنا أتضرع إلى اهلل إلي فلم يستجب لصالتي. ليرس���ل الديك ّ فرأي���ت أن أغي���ر األس���لوب ،فطلبت من ربي أن يرس���لني إلى الدي���ك إذا كان ال إلي .فاستجاب دعائي حا ًال يرسل الديك ّ وأدخلن���ي إلى جنينة ج���اري ،ومكنني من القبض على الدي���ك ،فرجعت به إلى منزلي ،وذبحته وطبخت���ه وأكلته .فهل علي بعد هذا من حرج؟! ّ * جرجس الخوري ،المقدسي، مجلة «المورد الصافي» بيروت.1939 ،
متدن املر�أة الع�رصية دارت خ�ل�ال الس���نة الماضي���ة على صفح���ات «الزهور» مناقش���ة في المرأة العصري���ة وتمدنها بين اآلنس���تين هدى كيورك وأدم���ا كيرلس ،ن���ددت الكاتبة األول���ى بالم���رأة ألنه���ا أخذت بقش���ور التم���دن دون اللب���اب ،وفن���دت الثانية أقوالها مبينة أن الذن���ب -إن كان هناك ذنب -على الرجل ال على المرأة .وانقسم الق���راء إل���ى فريقين :فري���ق يؤيد هذه، وفريق ينتص���ر لتلك .وكتب أحد األدباء بإمضاء «حسون» محاو ًال أن ينصف بين الكاتبتي���ن .ولكن اآلنس���ة أدما رأت في ُّ يش���ف عن التحي���ز فبعثت إلينا مقاله ما بالرد اآلتي: والرد في هذا الموضوع، طال األخ���ذ ُّ تعرض لوال اليوم إلي���ه العود وما كنت ّ الحكم فكان «حس���ون» للوقوف موق���ف َ حكمه صارم ًا ش���ديداً .وإني والكثيرات من رفيقاتي لمندهشات من فتح صاحب «الزه���ور» صدر مجلته لمث���ل هذا الحكم الجائر ،وه���و الكاتب الذي طالما ترنمنا بكتاباته الش���ائقة في الدفاع عن حقوق الم���رأة المهضوم���ة ..وقب���ل أن أج���ول الجولة األخيرة في هذا الموضوع أرجو من األدباء أن ال يحملوا كالمي على محمل االمتعاض من انتصار الغير لمناظرتي. ال واي���م الحق ،بل إن ذل���ك ليطربني كّ ال أدمغ به خصمي إذ هو دلي في���ه وأرى ً يعترف أن في صفوفنا نحن -النس���اء- م���ن يجاه���ر بالح���ق ول���و كان علينا.. وبعد هذه المقدمة أقول لحضرة الخصم الجديد الذي يحاول الظهور بمظهر الحكم المنصف: غير ُه المعلم الرجل يا أيها َ التعليم ال لنفسك كان ذا هّ ُ وقب���ل أن تنظر إلى الق���ذى في عين ثم أصلح اختك انزع الجس���ر من عينكَّ . تربية الرجل ألن الرجل بيده كل ش���يء في ش���رقنا ،وليست المرأة -إن صالحة وإن طالح���ة -إ ّال صنع���ة يدي���ه أدبياً. فهي إذا كانت اآلن كم���ا تزعمون فألنكم
أنتم أردتموها كذلك يا معش���ر الرجال. وأنا قد كتبت ما كتب���ت واثقة باإلصابة ألن ما قلته م���ن البديهات التي ال تحتاج إلى برهان ،وق���وة الحقيقة أوضح من نور الشمس .ولكن أكثر األذهان في هذا العصر ال تكترث ألقوال النساء .على أنه عص���ر ينظرون فيه ال الب���د من أن يأتي ٌ إلى من قال بل إلى ما قال .فيظهر الخفي ويرى على أهل هذا الزمان بأحسن جالءُ . مرضوضة يعدونه قصبة ً هذا القلم الذي ُّ س���يف ًا ذا حدي���ن فيثبت الح���ق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. أنا لم أقل بعصمة النساء وال بعصمة واحدة من نس���اء العصر ،ولكني أعتقد اعتق���ادًا خالي ًا من كل ريب أن المخطئين أكث���ر م���ن المخطئ���ات ،والواقع أصدق تعود الرجل أن ينظر إلى المرأة ش���اهدَّ . نظر الق���وي إلى الضعيف ول���كل امرئ تعود .وعلي���ه فهو يحكم م���ن دهره م���ا ّ
بال خش���ية كما يش���اء هواه ألن أنصاره كثيرون ،بخالف الم���رأة الضعيفة التي تنزل إلى ساحة المناظرة األدبية واحدة تج���اه جيش عظي���م من الرج���ال وأهل المنهج القديم من النس���اء .ولكن البد من أن تنم���و البذرة التي تلقيه���ا وتثمر في أوانها .واإلصالح في أول أمره ال يكون إال م���ن أف���راد قليلة ولكنه م���ن طبيعته ينمو ويقوى إلى أن يبلغ الكمال. هذا ويحق لي أن أرد حكم «حس���ون أفندي» واس���تأنف القضي���ة إلى محكمة ترأس���ها إحدى الس���يدات ألنه ليس من الع���دل أن يكون الرجل ف���ي موضوعنا ال عن خصم��� ًا وحكم ًا ف���ي آن واحد .فض ً نحكم أني وحضرة مناظرتي الكريمة لم ِّ بيننا حسوناً ..وال غراباً .ألن نعيق هذا سيان ،والسالم. وتغريد ذاك عندنا ّ
(بيروت) أدما كيرلس
مجلة الزهور -مارس/آذار 1911
159
إملي نصراهلل
حكايتي مع القارئ األصعب
وبعضهم يدعوه أدب األطفال أو أدب األوالد. ُ عين���ة ،ويختلف عن ويعن���ي الكتابة التي ُتخاطب س���ن ًا ُم ّ المطل���ق باختي���ار مواضيع تثير اهتمام الناش���ئة ،ثم األدب ُ اعتماد أس���لوب ج���ذّاب ،يش���ّدهم ،ويدفعه���م ،بالتالي ،إلى القراءة. *** ولن أنس���ى اللغة الخاصة بهذا النوع من الكتابة ،وأهمية مك���ن الولد أو الطفل ،من بس���طةُ ،ت َّ وم ّ أن تكون لغة واضحة ُ تطرده من بتعقيدات يصطدم فال وسالسة، القراءة بس���هولة ُ القص ،وترفع جدران المنع بينه وبين سيل الكلمات. مسار ّ *** المقدمة المختصرة ك���ي أروي حكايتي مع هذا ب���دأت بهذه َّ ُ ِ ٍ روايات وقصص ًا كتابة أقدمت عل���ى ولماذا األدب، من الن���وع ُ تخاطب األطفال والفتيان. وعندم���ا أتح���ّد ُث عن ه���ذا الموض���وع ،أقول للق���راء أو ست بالكتابة العادية للكبار ،قبل اإلقدام تمر ُ للمستمعين «إني ّ على الكتابة لألوالد». *** وكيف كان ذلك؟ ولماذا؟ عندم���ا بدأت الحرب في بلدنا ،لبنان في العام ،1975كان س���ن الطفولة ،يذهبون إلى المدرسة ويتابعون، أوالدي في ّ مثل رفاقهم ،أخبار الحرب ،القصف والخطف والقتل ،وسائر فرز َها الحروب ،وتنهمر على سمعهم المفردات اللغوية التي ُت ُ تنغرس في الوعي. ثم ُ وعندما يرجعون إلى البيت ،ترافقهم أسئلتهم الصعبة: الهوية؟ ماما ،ما معنى القتل علىّ بابا ،شو يعني ميليشيا؟وكن���ت ُأصغ���ي م���ع والدهم إلى تل���ك األس���ئلة ،ونجدنا ُ وتش���بع الصدق على تحافظ بأجوبة عليها د الر عن عاجزين ُ ُ ّ توقهم إلى المعرفة. َ *** صرت أطلب ولكي أضع حّدًا لتلك األسئلة واإلجابة عنها، ُ من األوالد أن نجلس مع���اً ،وأكتب لهم قصص ًا مختلفة ،وعن ٍ تسرح حيوانات َب َشٍر خياليين يعيشون بسالم وأمان ،أو عن ُ 160
وتمرح في مراِبضها ،وأجواِئها الطبيعية. ُ كنت أطلب منهم أن وللمزيد من إش���راكهم في المش���روعُ ، يتخيلونها لكل عبُر عن مجرى األحداث كما ّ يضعوا رس���وم ًا ُت ّ مطره علينا النش���رات اإلخبارية ّ قصة ،وبذلك أميل بهم ّ عما ُت ُ من ويالت. *** كان���ت تلك االنعطافة مفيدة لي ،ف���ي الوقت ذاته ،إذ كنت القصة ،أمام الحالة المفاجئة قد ْ توقف���ت عن كتابة الرواية أو ّ أتس���اءل عن جدوى الكتابة ،حتى ني وجعلت صدمتني، التي ْ ُ نشرته من روايات ،لم يعد أش���عر بأن ما سبق وكتبته أو بت ُّ ُ ُ ذا قيمة أو معنى. *** الصمت واالنقطاع عن الكتابة مّد َة سنة وجْدُتني في وطال ُ ٍ ِ وأهديتها إلى ولدنا أنص���رف إلى كتابة رواية للفتيان ْإثِرها، ُ ُ سن بطِلها. البكر ،رمزي ،إذ كان في مثل ّ وعنوانها «الباهرة» حول فتى أحداث تلك الرواية، وتدور ُ ُ ُ ِ تقوده إلى البحث عن تلك وصية ه د ج ع���ن يرث ابني، بعمر ٌ ّ ُ ُ الزهرة الس���حرية ،والتي متى وجدها ،تنهال عليه الس���عادة وِن َع ُم الدنيا. ِ والقراء درس���ي اللغ���ة العربية ّ الق���ت الرواية ترحيب ًا من ُم ّ تحمل ُبعدًا س���ن المراهق���ة ،فإنها تخاطب عامة ،إذ فيما هي ّ ُ ّ ُ ِ المرء على الس���عي والبحث في سبيل المعرفة يحث ً، ا فلسفي ُ َ وتجاوز الصعوبات. ِ ِ وانتهاء انقضاء تلك السنوات، أحب أن أفكر ،اليوم ،وبعد ُّ ٍ الح���رب، مرحلة اجتي���از س���اعدتني على بأن تل���ك الكتابة ْ ِ َّ ِ واجبات وزعة الفكر والكي���ان ،بين صعبة ،كنت خالله���اُ ،م ّ ِ ومسؤوليات العمل. األمومة، خط مس���اري األدبي في كتابة عدت إل���ى متابعة ّ وبعدم���ا ُ القص ِ س���نوات ه بت س���ك ما في أغوص ني وجدت والرواية، ���ة ْ ُ َ ّ ُ ُ ِ آثارها في الوعي امتزجت وقد نا. ت وحيا كؤوس���نا في الحرب ْ ُ خط مس���اري األدبي في الروايات والالوعي .ومثلما اخترقت َّ ْ تلت صمتي مثل «تلك الذكريات» و«اإلقالع عكس الزمن»، التي ْ تأثيرها على الخط اآلخر لمس���رى قلمي ،وأعني س���كبت فقد ْ َ الكتابة للفتيان.