Doha 50web

Page 1

‫رئيس الهيئة االستشارية‬

‫د‪ .‬حمد بن عبد العزيز الكواري‬ ‫وزير الثقافة والفنون والرتاث‬

‫ثقافة العمل واإلنتاج‬

‫رئيس التحرير‬

‫د‪.‬علي �أحمد الكبي�سي‬ ‫مدير التحرير‬

‫عزت القمحاوي‬ ‫اإلشراف الفني‬

‫�سلمان املالك‬

‫سكرتير التحرير‬

‫نبيل خالد الأغا‬ ‫الهيئة االستشارية‬

‫�أ‪ .‬مبارك بن نا�صر �آل خليفة‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد عبد الرحيم كافود‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد غامن الرميحي‬ ‫د‪ .‬علي فخرو‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬ر�ضوان ال�سيد‬ ‫�أ‪ .‬خالد اخلمي�سي‬ ‫جميع امل�شاركات تر�سل با�سم رئي�س التحرير‬ ‫ويف�ضل �أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين‬ ‫للمجلة �أو على قر�ص مدمج يف حدود ‪1000‬‬ ‫كلمة على العنوان الآتي‪:‬‬ ‫تليفون ‪)+974( 44022281 :‬‬ ‫تليفون ‪ -‬فاك�س ‪)+974( 44022690 :‬‬ ‫�ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬ ‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪editor@dohamagazine.com‬‬ ‫‪aldoha_magazine@yahoo.com‬‬

‫مكتب القاهرة‪:‬‬

‫‪�  34‬ش طلعت حرب‪ ،‬الدور اخلام�س‪،‬‬ ‫�شقة ‪  25‬ميدان التحرير‬ ‫تليفاك�س‪5783770 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪:‬‬

‫‪samykamaleldeen@yahoo.com‬‬

‫املواد املن�شورة يف املجلة تعرب عن �آراء كتابها‬ ‫وال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة �أو املجلة‬ ‫وال تلتزم املجلة برد �أ�صول ما ال تن�شره‪.‬‬

‫في خطابه السامي أمام مجلس الشورى في دور انعقاده األربعين‪ ،‬أشار حضرة‬ ‫صاحب الس���مو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البالد المفدى ‪ -‬حفظه اهلل ورعاه‬ ‫ إل���ى جملة من القضايا المهم���ة ذات العالقة الوطيدة ببناء الدولة الحديثة ورس���م‬‫سياس���اتها المستقبلية من أجل تحقيق التطور والتنمية والرخاء لجميع المواطنين‪،‬‬ ‫ومن ضمن هذه القضايا تأكيد سموه على ثقافة العمل واإلنتاج وتحذيره من انتشار‬ ‫ثقافة الكس���ل واالستهالك‪ ،‬وهذه بحق مش���كلة تعاني منها جميع البالد العربية بال‬ ‫اس���تثناء‪ ،‬حيث تش���ير الدراس���ات والبحوث في هذا المجال إل���ى انخفاض إنتاجية‬ ‫الموظ���ف العرب���ي في ه���ذه البلدان مقارن���ة بإنتاجي���ة الموظفين في بل���دان أخرى‬ ‫متقدمة‪.‬‬ ‫وم���ع تعدد مفه���وم «اإلنتاجية» يظل للعنصر البش���ري دوره المه���م في العملية‬ ‫اإلنتاجي���ة‪ ،‬ونكون أمام مس���تويات م���ن اإلنتاجية‪ ،‬وأمام صنفين م���ن الموظفين‪:‬‬ ‫منتجين‪ ،‬وغير منتجين‪ ،‬وتبدو المش���كلة أكثر وضوح ًا وأش���د خطرًا في الموظفين‬ ‫ال عل���ى َم ِ‬ ‫واطن عملهم‪ ،‬وعقبة‬ ‫غير المنتجين أي الكس���الى الذين يش���كلون عبئ ًا ثقي ً‬ ‫ف���ي طريق غيرهم من الموظفين المنتجين‪ ،‬ولهذا ظهر مفهوم «تحس���ين اإلنتاجية»‪،‬‬ ‫وو ِ‬ ‫ضعت السياس���ات التي تس���اعد على رف���ع اإلنتاجية وزيادته���ا‪ ،‬وال يقتصر هذا‬ ‫ُ‬ ‫المفهوم على الموظفين في مواقع عملهم بل يمتد ليش���مل تطوير التعليم األساس���ي‬ ‫وبن���اءه على مهارات تراعي احتياجات س���وق العمل الراهنة والمس���تقبلية من أجل‬ ‫إعداد موظف منتج مستقبالً‪.‬‬ ‫وإذا كانت إنتاجية الموظف تعكس مدى مساهمته بجهده وعلمه ومهاراته في عمله‬ ‫وم���دى رغبته فيه وعنايته به فإن كف���اءة األداء وفاعليته لهما األثر األكبر في زيادة‬ ‫تلك اإلنتاجية‪ ،‬مما يوجب على المؤسس���ات األخذ باألساليب والوسائل التي تضمن‬ ‫الكفاءة والفاعلية في األداء‪ ،‬وتؤدي إلى رفع مس���توى اإلنتاجية عند كل الموظفين‪،‬‬ ‫ومنها مدخل تكنولوجيا األداء البشري الذي يهدف إلى تحليل األداء وتحديد الحاجات‬ ‫ووضع الحلول من أجل زيادة إنتاجية الموظف ورفع كفاءته وفاعليته‪.‬‬ ‫وحين نس���تطلع األوضاع في مؤسس���اتنا العربية وخاص���ة الحكومية منها نجد‬ ‫انخفاض ًا ملحوظ ًا في إنتاجية الموظفين‪ ،‬ولهذا أسبابه التي يتحمل الموظف شخصي ًا‬ ‫ال واضح ًا في‬ ‫جزءًا منها‪ ،‬وتتحمل إدارة المؤسس���ة الجزء الباق���ي منها‪ ،‬كما نجد خل ً‬ ‫عملي���ة تقييم األداء يجعلها مضللة وخاصة إذا لم تتس���م بالموضوعية والدقة‪ ،‬ولم‬ ‫تعبر بصدق عن األداء الحقيقي للموظف‪.‬‬ ‫ويتطل���ب األمر لنش���ر ثقاف���ة العمل واإلنتاج أن تبادر كل مؤسس���ة إلى دراس���ة‬ ‫أوضاعه���ا وتحليل تلك األس���باب وإيجاد الحلول العاجلة له���ا‪ ،‬ولعل أولها التوجه‬ ‫الفوري إلى «التغيير» الذي يتطلب رفع درجة الوعي بالمسؤولية وتحملها من خالل‬ ‫توعية الموظفين بأهمية العمل وتفعيل مبدأ المحاس���بية مع ضرورة رفع مس���توى‬ ‫المهارات المطلوبة وتطويرها‪ ،‬واختيار أفضل أساليب تنمية األداء وقياسه‪ ،‬والتأكيد‬ ‫على أنه ال مكان في المؤسسة لموظف متكاسل‪.‬‬ ‫ولن تس���ود ثقافة العمل واإلنتاج في محيط عمل يرى جميع موظفيه أن رواتبهم‬ ‫ع���ن وظائفه���م حق لهم تلتزم به الدول���ة ولو لم يعملوا ولم ينتج���وا‪ ،‬وعلى هؤالء‬ ‫«تغير» وأنه على قدر «العمل‬ ‫وأمثالهم أن يفيقوا من س���باتهم‪ ،‬ويعلموا أن الزمن قد َّ‬ ‫واإلنت���اج» تأتي «الرواتب والحوافز»‪ .‬لق���د آن األوان ألن ُي َط َّبق بح���زم مبدأ الثواب‬ ‫والعق���اب‪ ،‬وأال يكون بالمؤسس���ة غي���ر الموظفين المنتجين الذي���ن يضربون المثل‬ ‫وتح ُّمل المسؤولية‪.‬‬ ‫األعلى في أداء الواجب َ‬

‫رئي�س التحرير‬


‫مجان ًا مع العدد‪:‬‬

‫العدد‬

‫‪50‬‬

‫ثـــــقــــــافـــيــة �شــــــــــهـــــريــــــة‬ ‫ال�سنة اخلام�سة ‪ -‬العدد خم�سون‬ ‫حمرم ‪ - 1432‬دي�سمرب‪2011‬‬

‫ت�صدر عن‬

‫وزارة الثقافة والفنون والتراث‬ ‫ال ــدوحـ ــة ‪ -‬قـ ـ ـطـ ــر‬ ‫�صالح جاهني‬ ‫�أمري �شعراء العامية‬

‫���ص��در ال� �ع ��دد الأول يف ن��وف �م�بر ‪ ،1969‬ويف ي �ن��اي��ر ‪� 1976‬أخ�� ��ذت ت��وج �ه �ه��ا ال �ع��رب��ي وا�ستمرت‬ ‫يف ال� ��� �ص���دور ح� �ت ��ي ي� �ن ��اي ��ر ع � ��ام ‪ 1986‬ل �ت �� �س �ت ��أن��ف ال� ��� �ص���دور جم�� � ��دد ًا يف ن ��وف� �م�ب�ر ‪. 2007‬‬ ‫ت��واىل على رئ��ا��س��ة حت��ري��رال��دوح��ة �إب��راه�ي��م �أب��و ن��اب ‪ ،‬د‪ .‬حممد �إب��راه�ي��م ال�شو�ش و رج��اء النقا�ش‪.‬‬

‫االشتراكات السنوية‬

‫رئيس قسم التوزيع واالشتراكات‬

‫داخل دولة قطر‬

‫عبد اهلل حممد عبداهلل املرزوقي‬

‫الأفراد ‬ ‫الدوائر الر�سمية‬

‫‪ 120‬ريا ًال‬ ‫‪ 240‬ريا ًال‬

‫خارج دولة قطر‬ ‫‪ 300‬ريال‬ ‫دول اخلليج العربي‬ ‫باقي الدول العربية‬ ‫‪ 300‬ريال‬ ‫دول االحتاد األوروبي ‪ 75‬يورو‬ ‫‪ 100‬دوالر‬ ‫�أمـــــــــيــــركـــــــا‬ ‫كــــــنـــدا وا�ســـتــــرالــــيــــا ‪150‬دوالراً‬

‫الغالف األول‪:‬‬

‫الربيد الإلكرتوين‪:‬‬

‫‪al-marzouqi501@hotmail.com‬‬ ‫‪doha.distribution@yahoo.com‬‬

‫تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة‬ ‫م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري‬ ‫با�سم وزارة الثقافة والفنون والرتاث‬ ‫على عنوان املجلة‪.‬‬

‫الموزعون‬

‫لوحة الغالف‬

‫�صقر القتيل ‪-‬فل�سطني‬

‫رسائل إلى الجد‬

‫وكالء التوزيع يف اخلارج‪:‬‬

‫اململكة العربية ال�سعودية ‪ -‬ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع ‪ -‬الريا�ض‪ -‬ت‪4871414 :‬‬ ‫ فاك�س‪ /4871460 :‬مملكة البحرين ‪ -‬م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف ‪ -‬املنامة ‪ -‬ت‪:‬‬‫‪ - 17480800‬فاك�س‪/17480818 :‬دولة الإم��ارات العربية املتحدة ‪ -‬امل�ؤ�س�سة العربية‬ ‫لل�صحافة والإع�لام ‪� -‬أبو ظبي ‪ -‬ت‪ - 4477999 :‬فاك�س‪� /4475668 :‬سلطنة عُ مان ‪-‬‬ ‫م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر والإعالن ‪ -‬م�سقط ‪ -‬ت‪ - 24600196 :‬فاك�س‪:‬‬ ‫‪ /24699672‬دولة الكويت ‪� -‬شركةاملجموعة الت�سويقية للدعاية والإع�لان ‪ -‬الكويت ‪-‬‬ ‫ت‪ - 1838281 :‬فاك�س‪ /24839487 :‬اجلمهورية اللبنانية ‪ -‬م�ؤ�س�سة نعنوع ال�صحفية‬ ‫للتوزيع ‪ -‬بريوت ‪ -‬ت‪ - 653259 :‬فاك�س‪ /653260 :‬اجلمهورية اليمنية ‪ -‬حمالت القائد‬ ‫التجارية ‪� -‬صنعاء ‪ -‬ت‪ - 240883 :‬فاك�س‪ / 240883 :‬جمهورية م�صر العربية ‪ -‬م�ؤ�س�سة‬ ‫الأه��رام ‪ -‬القاهرة ‪ -‬ت‪ - 25796997 :‬فاك�س ‪/27703196‬اجلماهريية الليبية ‪ -‬دار‬ ‫الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر وتوزيع املطبوعات ‪ -‬طرابل�س ‪ -‬ت‪ - 925639257 :‬فاك�س‪:‬‬ ‫‪ / 213332610‬جمهورية ال�سودان ‪ -‬دار الريان للثقافة والن�شر والتوزيع ‪ -‬اخلرطوم ‪ -‬ت‪:‬‬ ‫‪ - 466357‬فاك�س‪ / 466951 :‬اململكة املغربية ‪ -‬ال�شركة العربية الإفريقية للتوزيع والن�شر‬ ‫وال�صحافة‪� ،‬سربي�س ‪ -‬الدار البي�ضاء ‪ -‬ت‪ - 2249200 :‬فاك�س‪ /2249214:‬اجلمهورية‬

‫العربية ال�سورية ‪ -‬م�ؤ�س�سة الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�شر والتوزيع ‪ -‬دم�شق ‪ -‬ت‪:‬‬ ‫‪- 2127797‬فاك�س‪2128664:‬‬ ‫اجلمهورية اللبنانية‬ ‫اجلمهورية العراقية‬ ‫اململكة الأردنية الها�شمية‬ ‫اجلمهورية اليمنية‬ ‫جمهورية ال�سودان‬ ‫موريتانيا‬ ‫فل�سطني‬ ‫ال�صومال‬ ‫بريطانيا‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫كندا وا�سرتاليا‬

‫‪ 3000‬لرية‬ ‫‪ 3000‬دينار‬ ‫‪ 1.5‬دينار‬ ‫‪ 150‬ريا ًال‬ ‫‪ 1.5‬جنيه‬ ‫‪� 100‬أوقية‬ ‫‪ 1‬دينار �أردين‬ ‫‪� 1500‬شلن‬ ‫‪ 4‬جنيهات‬ ‫‪ 4‬يورو‬ ‫‪ 4‬دوالرات‬ ‫‪ 5‬دوالرات‬

‫نجيب محفوظ‬ ‫في عيد ميالده المئة‬

‫دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ 44557810 :‬فاك�س‪44557819 :‬‬

‫‪ 10‬رياالت‬ ‫دينار واحد‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫‪ 800‬بي�سة‬ ‫دينار واحد‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫جنيهان‬ ‫‪ 3‬دنانري‬ ‫‪ 2‬دينار‬ ‫‪ 80‬دينار ًا‬ ‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫‪ 80‬لرية‬

‫‪80‬‬

‫تليفون ‪)+974( 44022338 :‬‬ ‫فاك�س ‪)+974( 44022343 :‬‬

‫وكيل التوزيع يف دولة قطر‪:‬‬

‫األسعار‬ ‫دولة قطر‬ ‫مملكة البحرين‬ ‫الإمارات العربية املتحدة‬ ‫�سلطنة عمان‬ ‫دولة الكويت‬ ‫اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫جمهورية م�صر العربية‬ ‫اجلماهريية العربية الليبية‬ ‫اجلمهورية التون�سية‬ ‫اجلمهورية اجلزائرية‬ ‫اململكة املغربية‬ ‫اجلمهورية العربية ال�سورية‬

‫فتنة احلكاية‬

‫متابعات‬

‫الدوحة‪ :‬جائزة قطر لأدب الطفل‬ ‫املغرب‪ :‬مهرجان خريبكة‪�:‬إيطاليا �ضيف �شرف‬ ‫القاهرة‪ .. :‬والق�صيدة �أي�ض ًا تغ�ضب‬ ‫اجلزائر‪ :‬ل�صو�ص اجلوائز‬ ‫ميديا‬

‫�أوباما يف مرمى الثورات العربية‬ ‫�شباب متفائل على تويرت‬ ‫دليل املذيع الذكي‪َ ..‬كبِّلْ �ضيوفك‬ ‫مدونة تتعرى‪ ..‬دعوة للفجور �أم للت�أمل؟‬ ‫أماكنهم‬

‫حممد بنّيـ�س ‪�َ -‬صداقـة املكْت َبة‬

‫دراسة‬

‫يف معنى الثورة‪...‬‬ ‫خال�صة جتربة �إن�سانية (د‪ .‬عمار علي ح�سن)‬

‫‪6‬‬

‫‪10‬‬

‫‪76‬‬ ‫‪52‬‬


‫صيد اللؤلؤ‬

‫‪95‬‬

‫اغرتاب اللغة يف وطنها (د‪ .‬حممد عبد املطلب)‬

‫‪58‬‬

‫تشكيل‬

‫‪128‬‬

‫نور الدين فاحتي (�شفيق الزكاري)‬ ‫�صورة الزمن يف الفن والواقع (يو�سف ليمود)‬ ‫تفا�صيل لعزلة بالأبي�ض والأ�سود (حممد غندور)‬

‫فوتوغرافيا‬

‫‪134‬‬

‫حترير اجل�سد (جمال جربان)‬

‫سينما‬

‫ترايبكا ‪2011‬‬ ‫روبي عندما ال ترق�ص �أو تغني‬ ‫عرب حتت برج �إيفل‬ ‫موريتانيا‪ ..‬اجلمهور يتحدث لغة ال�صورة‬ ‫�سينما الهام�ش‬ ‫درد�شة مع �ضمري الغائب‬

‫من رأس القذافي‬ ‫إلى أصابع سيف اإلسالم‬

‫ثقافة الثأر‬ ‫أدب‬

‫البحث عن مقربة العائلة (حممود الورداين)‬ ‫مازارين باجنو‪� :‬أكتب وفاء للذكرى (موناليزا فريحة)‬ ‫الرواية الفرن�سية جوائزها و�أزمتها‬ ‫نصوص‬

‫امر�أة من ال�ضفة الأخرى (حممد الب�ساطي)‬ ‫يف ريف النم�سا (يا�سني عدنان)‬ ‫ا َلّذِ يْنَ قَ رَ �أُو ْا َكفِّيْ (�أَحْ ـمَد عَ ايِد)‬ ‫ال�سينات (بوزيد حرز اهلل)‬ ‫ترجمات‬

‫‪136‬‬

‫موسيقى‬

‫‪96‬‬

‫‪144‬‬

‫الأخوة جربان‪� ..‬أ�سفار للإرادة والفرح‬ ‫رحيل عادل الها�شمي‪..‬الناقد ال�صريح‬ ‫حار�س النغم اال�صيل يرتك املقام وحيداً‪..‬‬ ‫�أغنية امل�ؤلف الرو�سية يف انتظار ثورة القيثارة‬ ‫دوحة العشاق‬

‫‪151‬‬

‫رب محُ ٌّب و َّد َعك (نزار عابدين)‬ ‫و َّد َع ال�ص َ‬ ‫‪102‬‬

‫علوم‬

‫‪152‬‬

‫�أ�سرار ال�سواك ‬ ‫ب�صمة احل�شرات‪..‬دليل جنائي!‬ ‫الإجهاد‪ ..‬خلل يف طاقة اجل�سم‬ ‫عالج الأطفال بـ«الفياجرا»‬

‫‪109‬‬

‫وقت الرحيل (بهاء الدين �أُوزكِ �شي)‬ ‫�أدباء �أمريكا ال�سمراء (جني فرانكو)‬

‫‪18‬‬

‫مقاالت‬

‫العثمانية اجلديدة‪ ..‬اليوم (خوان جويتي�سلو)‬ ‫من ليبيا �إىل �سورية (الطاهر بنجلون)‬ ‫�إرث «الدولة الوطنية» (�أجمد نا�صر)‬ ‫بعده (�ستفانو بيني )‬ ‫الإبداع والرقابة (د‪ .‬مرزوق ب�شري)‬ ‫ال�صخب والعنف (عبد ال�سالم بنعبد العايل)‬ ‫الكتابة والت�أرجح(�أمري تاج ال�سر)‬ ‫در�س �أومربتو �إيكو( �إيزابيلال كامريا)‬ ‫مفهوم الأ�سرة(فدوى اجلندي)‬ ‫حكايتي مع القارئ الأ�صعب( �إملي ن�صراهلل)‬

‫‪16‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪75‬‬ ‫‪79‬‬ ‫‪101‬‬ ‫‪108‬‬ ‫‪118‬‬ ‫‪127‬‬ ‫‪135‬‬ ‫‪160‬‬

‫قضية العدد‬

‫فلسطين‬ ‫ماذا عن‬ ‫المستقبل؟‬


‫م�صافحة‬

‫الدوحة تبلغ الخمسين‬ ‫هذا هو العدد الخمسون من مجلة الدوحة‪ ،‬المصافحة‬ ‫الخمسين لعيون قرائها في حقبة اإلصدار الجديدة التي بدأت‬ ‫أول نوفمبر‪/‬تشرين الثاني ‪ ،2007‬بينما تكون المجلة‬ ‫العريقة قد تجاوزت األربعين من عمرها المديد‪ ،‬حيث صدر‬ ‫العدد األول من مجلة «الدوحة» الثقافية الفنية عام ‪،1969‬‬ ‫محلية سرعان ما تحولت إلى مجلة عربية ومركز إشعاع‬ ‫من قطر إلى كل العرب من المحيط إلى الخليج‪ ،‬حتى توقفت‬ ‫في ‪.1986‬‬ ‫في عرف خبراء الصحافة فإن إنشاء الجديد أسهل ألف‬ ‫مرة من إحياء القديم‪ ،‬لكن «الدوحة» لم تكن ميتة‪ .‬توقفت‬ ‫في قمة مجدها ثم عادت بعد غفوة استمرت عشرين عام ًا‬ ‫فحسب‪.‬‬ ‫وهذا هو العدد السابع منذ بدأت الدوحة خطتها التحريرية‬ ‫الجديدة في العدد (‪( )44‬يونيو‪/‬حزيران ‪ .)2011‬وبهذه‬ ‫المناسبة ّ‬ ‫نزف إلى أصدقاء المجلة المخلصين خبر االستعداد‬ ‫لزيادة عدد النسخ خمس عشرة مرة من خالل طبعة‬ ‫جديدة تصدر من القاهرة لمصر والسودان وشمال إفريقيا‬ ‫والعواصم العالمية المهمة‪ ،‬باإلضافة إلى العمل على موقع‬ ‫إلكتروني تفاعلي يستخدم أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا‬ ‫اإلعالم اإللكتروني‪ ،‬من أجل أن تكون «الدوحة» في متناول‬ ‫محبيها في كل مكان‪.‬‬ ‫ورغم السهر المتواصل من فريق العمل الذي لم يكتمل‬ ‫بعد‪ ،‬واألقل عددًا مما يمكن ألحد أن يتصور‪ ،‬فإن أسرة‬ ‫التحرير الصغيرة لم تصنع هذا النجاح وحدها‪ ،‬بل صنعه‬ ‫‪4‬‬

‫معها الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الثقافة الذي‬ ‫يذلل العقبات الموجودة بالضرورة كإحدى حقائق اإلدارة‪،‬‬ ‫مثلما المرض حقيقة من حقائق الوجود‪.‬‬ ‫ويشاركنا هذا النجاح ثلة من خيرة كتاب العالم العربي‪.‬‬ ‫لهم كل الشكر على استجاباتهم ومساهماتهم القيمة‪ .‬وإن‬ ‫كان لنا أن ننسب ألنفسنا شيئ ًا من الفضل‪ ،‬فهو في أننا‬ ‫عرفنا إلى أي من الكتاب يجب أن نتوجه‪.‬‬ ‫والبد أن قارئ الثقافة األكثر انتباه ًا من أي قارئ آخر‬ ‫يستطيع أن يراجع األعداد السبعة ليرى حجم التنوع في‬ ‫أسماء الكتاب العرب المشاركين في الدوحة‪ ،‬والبد أنه لن‬ ‫يفتقد إال المثقفين الفلول الذين أفسدوا الثقافة العربية‪،‬‬ ‫تصدر جنازتها الفخمة‪.‬‬ ‫ونعقوا بموتها ويصرون على‬ ‫ُّ‬ ‫بدأنا خطة التطوير وسط زخم الربيع العربي ونحن‬ ‫على ثقة بأن انسداد اآلفاق السياسية الذي خلق هذا االنفجار‬ ‫السياسي موجود في الحياة الثقافية‪ ،‬وبشكل أعمق ـ لشديد‬ ‫األسف ـ ألن الثقافة لم تتمكن من االرتفاع على بؤس الواقع‬ ‫السياسي‪ ،‬وعاشت تابعة له بد ًال من أن تقوده أو تحاول‬ ‫تهذيبه‪.‬‬ ‫هذه الرؤية لواقع الثقافة العربية هي التي بلورت طموح‬ ‫«الدوحة» في أن تكون صوت التغيير في الثقافة‪.‬‬ ‫وقد تطلب هذا رؤية تحريرية وإخراجية تعتمد السهولة‬ ‫والوضوح والسرعة‪ .‬وهذه القيم أو المبادئ التحريرية هي‬


‫ ‬

‫ ‪ 9‬‬

‫ ‪ 9‬‬

‫ﻋﲇ ﻋﺒﺪاﻟﺮازق‬

‫ ‪ 9 ¢F* P ½9 9‬‬

‫ ‪V. ¶ía º ·p s‬‬

‫ ‪´¥ H F Z/‬‬

‫ ‪ źŝƺŤƧŏ ŵŶƘƫř‬‬

‫ ÷‪ H+ ¤‬‬

‫ ‪E ¤9 ; 92‬‬

‫‪ŠǀƳŚƀƳDžř ŠƟŚƤŨƫřƹ ƾŝźƘƫř ƕřŶŝDžř ƼƤŤƬƯ‬‬

‫ ‪ W H]9 91‬‬

‫ ‪ H‬‬

‫ﺗﻘﺪﻳﻢ‪ :‬رﺿﻮان اﻟﺴﻴﺪ‬

‫ ‪ V F-‬‬ ‫ ‪V3 H ¤F3‬‬ ‫ *‪ :3-‬‬ ‫ !‪ ¤í 9 W H 9( F0 F3‬‬

‫في عملنا لم نبتدع من فراغ‪ ،‬وإنما احترمنا التاريخ الذي‬ ‫تحمله المجلة على ظهرها‪ ،‬وتحمله لها في القلوب األجيال‬ ‫التي عايشت حياة المجلة األولى‪ ،‬من دون أن ننسى أن‬ ‫اهتمامنا يجب أن ينصب على األجيال الجديدة صاحبة الفضل‬ ‫في الربيع العربي‪.‬‬ ‫وال تعني السهولة خفة في التناول‪ ،‬بل تعني شجاعة عدم‬ ‫االختفاء وراء طبل البالغة الفارغة‪ ،‬وال يعني الوضوح أن‬ ‫يكون النص مسطح ًا ومبسط ًا بال ظالل تحتاج مشاركة قارئ‬ ‫متمرس يضيف إلى المادة التي يتلقاها من عقله وخياله‪.‬‬ ‫وال تعني السرعة المعالجة المبتسرة لقضية من القضايا‪ ،‬إذ‬ ‫عوضنا صغر حجم المقاالت بالملفات التي يشارك بها العديد‬ ‫من الكتاب‪ ،‬ويتناول كل منهم زاوية محددة من القضية‬ ‫المطروحة‪.‬‬ ‫وكان االنحياز إلى جيل جديد من القراء يعني كذلك االنحياز‬ ‫للرؤى الجديدة وزوايا النظر المبتكرة‪ ،‬حيث يجب أن تهتم‬

‫ﺑﺮﻗﻮﻕ ﻧﻴﺴﺎﻥ‬

‫‪ 30‬ﻛﺎﺗﺒ ﹰﺎ ﻓﻲ ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻌﺪﺩ‬

‫ﻭﻣﻦ ﺣﻤﻞ‬

‫ ‪ H-/ F F 5 9, P‬‬

‫كما أضافت «الدوحة» إلى جانب الجديد الذي يتضمنه‬ ‫كل عدد من أعدادها «كتاب الدوحة» الشهري الذي يقدم كتب ًا‬ ‫من لحظة الصعود الثقافي العربي أوائل القرن الماضي بعد‬ ‫أن اختبرها الزمن وأثبت أنها لم تزل صالحة إلثارة العقل‪.‬‬ ‫وإلى جانب الكتاب الشهري يصدر هذا الشهر الكتاب األول من‬ ‫سلسلة الترجمة‪ ،‬التي ستصدر أربع مرات في العام‪.‬‬

‫ﻣﺠﺎﻧ ﹰﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬

‫ﺭﻭﺍﻳﺔ ﻏﺴﺎﻥ ﻛﻨﻔﺎﻧﻲ‬

‫ﺍﻟﻜﺮﺳﻲ‬

‫ ‪H 0 ÷ ¢F 9‬‬

‫نفسها التي حكمت «الدوحة» في عصرها الذهبي‪ ،‬وجعلتها‬ ‫مجلة العرب الثقافية األولى‪.‬‬

‫ﺍﻟﻌﺪﺩ ‪ - 45‬ﻳﻮﻟﻴﻮ ‪2011‬‬

‫ﻣﻠﺘﻘﻰ ﺍﻹﺑﺪﺍﻉ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ‬

‫‪2011 ƒ«dƒj - 1432‬‬

‫ﴍوط اﻟﻨﻬﻀﺔ‬

‫‪Year 4 - No. 45 - SHABAN 1432 - JULY‬‬

‫ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﻧﺒﻲ‬

‫‪¿ÉÑ©°T - ¿ƒ©HQC’Gh ¢ùeÉÿG Oó©dG - á©HGôdG áæ°ùdG‬‬

‫اﻹﺳﻼم وأﺻﻮل اﻟﺤﻜﻢ‬

‫*‪ 5&°* w E µb D* Ä J ÃvB x F EyD‬‬

‫‪ bKFb£0&* b~z F b F(* ¢g0 hEb~8 x F DH‬‬ ‫‪ ,¡~{F H&* f D* ib<b~6 ¯ i*4b~}²* ¢~z -H‬‬ ‫*‪ ib<b~6 ¤ A D3 EH 9¡ - ° ¤gD* g £B ²‬‬ ‫*‪ ,yJx + EyD* f £B oyg­ tJ4bgD* ¯ x ³‬‬ ‫*´‪ wG ¤ A h £g~6* *3(* $b cD* ¢ < f Abp‬‬ ‫*‪ ° e¡ ~{D* ib~9b gF* b £A lv« ¤gD* ib<b~zD‬‬ ‫‪ v D* ¢ E < ¤ g J b C b´b+ hB¡D* Q¡ OJ‬‬ ‫*(‪ 4v OJ ° ¥wD* ,b£²* xG¡/ qc~|OJ F‬‬

‫‪AL-DOHA MAGAZINE‬‬

‫‪ P‬‬

‫ *‬

‫‪¢F‬‬

‫ ‪ ¤í º :‬‬

‫‪R- 0 ;*,a‬‬ ‫‪AL-DOHA MAGAZINE‬‬

‫‪ ½9‬‬

‫ ‪H 0 í H2 9‬‬

‫‪48‬‬

‫ &÷ ‪¶9‬‬

‫ ‪¬í N] H‬‬

‫ ‪ 9.3 H ; ºF‬‬

‫ &‪ Z / º Z 3/‬‬

‫ *‪vE ¤9 F 9‬‬

‫ ‪ ¥H Z/ ÷ 9‬‬

‫‪45‬‬

‫ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ﺑﻨﺠﻠﻮﻥ‬ ‫ﺧﻮﺍﻥ ﻏﻮﻳﺘﺴﻴﻠﻮ‬ ‫ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺍﻟﻤﻘﻤﻮﻉ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻲ‬

‫ﺇﻣﻴﻞ ﺳﻴﻮﺭﺍﻥ ﺃﺣﻤﺪ ﻓﺆﺍﺩ ﻧﺠﻢ‬ ‫ﻣﺎﺕ ﻧﺎﺳﻴ ﹰﺎ‬ ‫ﺣﻴﺎﺓ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺎﻷﻓﻼﻡ‬

‫مجلة ثقافية تصدر في القرن الحادي والعشرين بما أنجزته‬ ‫الكتابة األدبية والعلوم اإلنسانية في الثقافات األخرى‪ ،‬حيث‬ ‫تنفتح الفلسفة على التحليل النفسي والنقد األدبي ودراسات‬ ‫الصورة‪ .‬وحيث تصلح كل تفصيالت الحياة حتى المبتذل‬ ‫منها لتكون موضوع ًا لنقاش ثقافي عميق‪.‬‬ ‫ولهذا لم تخل األعداد السابقة من ملفات تتناول‬ ‫الديكتاتورية من خالل مفردة كـ «الكرسي» التي قد تبدو‬ ‫مفردة يومية عادية‪ ،‬وأخرى تتناول الثورة من خالل صدام‬ ‫إرادات أجساد القامعين والمقموعين وتأمل الجديد في قامات‬ ‫الشباب المنتفضين ونفسياتهم‪ ،‬أو تأمل مساهمة المرأة في‬ ‫الربيع العربي «نصف الثورة الحلو» وكيف حولت األنظمة‬ ‫جسد المرأة إلى ساحة لحربها اغتيا ًال مادي ًا ومعنوياً‪.‬‬ ‫وقبل الدقة والسرعة والوضوح وحداثة التناول‪ ،‬كان‬ ‫البد من احترام الزمن‪ ،‬الذي هو أساس حياة أية مطبوعة‪،‬‬ ‫فالتزمنا بمالحقة األحداث السياسية والثقافية ومحاولة‬ ‫تقديم تفسيرها الثقافي الذي ال تتسع له الصحافة اليومية‬ ‫واألسبوعية‪ .‬وكان البد أن نقدم وجبة شهرية ساخنة ونبتعد‬ ‫بالضرورة عن اإلنشاء والتنظير في قضايا مطلقة تصلح لهذا‬ ‫القرن أو القرن الماضي أو القادم‪.‬‬ ‫وسيبقى االبتعاد عن الكالم الساكت عهد «الدوحة»‬ ‫والتزامها تجاه إرادة التغيير العربية‪ ،‬على أمل مصافحتكم‬ ‫أول كل شهر‪ ،‬مصافحة يدوم أثرها شهرًا‪.‬‬ ‫ومن أجل هذا سنعمل‪.‬‬

‫مدير التحرير‬ ‫‪5‬‬


‫متابعات‬

‫مصري وسوري يفوزان‬ ‫بجائزة قطر ألدب الطفل‬ ‫الدوحة ‪ -‬علي النويشي‬ ‫أقام���ت وزارة الثقاف���ة القطري���ة في‬ ‫العش���رين من الش���هر الماض���ي مؤتمرًا‬ ‫صحفي ًا جائ���زة الدول���ة ألدب الطفل في‬ ‫دورته���ا الثالثة‪ .‬ف���از بالجائزة ش���هاب‬ ‫سلطان شهاب من مصر في مجال القصة‬ ‫عن المجموعة القصصية (حلم العصفور‬ ‫الصغير)‪ ،‬ومن س���ورية ف���از الكاتب د‪.‬‬ ‫س���مر بن محمد روحي الفيصل في مجال‬ ‫قضايا أدب األطفال‪ .‬وقد اختارتهما لجنة‬ ‫التحكيم من بين مئ���ات األعمال المتقدمة‬ ‫للفوز بالجائزة وليتم حجب الجائزة في‬ ‫مجاالت رسوم كتب األطفال‪ ،‬وموسيقى‬ ‫أغاني األطفال‪ ،‬واألفالم الكرتونية‪.‬‬ ‫وأك���د الدكت���ور حم���د ب���ن عبدالعزيز‬ ‫الك���واري وزي���ر الثقاف���ة ف���ي كلمته أن‬ ‫الحديث ع���ن أدب الطفل ه���و بالضرورة‬ ‫حديث عن مستقبل أمتنا العربية وعالقة‬ ‫الطفل بثقافت���ه وتراث���ه وانتمائه‪ ،‬وأن‬ ‫جائ���زة الدول���ة ألدب الطف���ل تقوم على‬ ‫رؤية مفادها أن األطف���ال هم ثروة األمة‬ ‫وعماده���ا لتحقي���ق رؤيته���ا الوطني���ة‬ ‫وبصورة تعزز االنتماء للوطن‪.‬‬ ‫وق���ال الدكت���ور الك���واري‪« :‬ف���ي ظل‬ ‫ن���درة اإلنتاج الفكري المعن���ي بالطفولة‬ ‫ارتأت دول���ة قطر إطالق جائ���زة الدولة‬ ‫ألدب الطف���ل إس���هام ًا منها ف���ي االرتقاء‬ ‫بثقاف���ة الطفل من خالل مج���االت األدب‬ ‫المختلفة»‪.‬‬ ‫وأضاف س���عادة الوزي���ر‪« :‬إن إعالن‬ ‫نتائ���ج ال���دورة الثالثة للجائ���زة يعني‬ ‫االس���تمرارية حيث إنها ليس���ت هدف ًا بحد‬ ‫ذاتها‪ .‬لكنها تهدف لتثقيف الطفل ولتجعل‬ ‫من���ه مواطنً���ا راش���دًا لخدم���ة أمت���ه في‬ ‫المستقبل‪.‬‬ ‫ونح���ن س���عداء ألن نص���ل بالجائزة‬ ‫لتل���ك الدورة لنبدأ مع ًا ال���دورة الرابعة‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫حيث إن لكل دورة مجا ًال أوس���ع لإلبداع‬ ‫وتعدد الوس���ائل الثقافية لخدمة العروبة‬ ‫واإلسالم»‪.‬‬ ‫وفي رده على األسئلة المطروحة في‬ ‫المؤتمر قال‪« :‬عندما طرحنا جائزة الدولة‬ ‫ألدب الطفل من أج���ل كل طفل في العالم‬ ‫العربي من المحيط إلى الخليج كنا نضع‬ ‫الطفل القطري في قلب اهتماماتنا فالطفل‬ ‫القط���ري ال يقتصر االهتم���ام به فقط من‬ ‫قب���ل وزارة الثقافة‪ ،‬بل من جهات عديدة‬ ‫إن لم تكن كل جهات الدولة مجندة لتقديم‬ ‫جهودها للطفل القطري‪.‬‬ ‫وقصدن���ا بالجائ���زة ه���و الوص���ول‬ ‫لش���ريحة الكت���اب والفناني���ن المهتمين‬ ‫بأدب الطفل‪ ،‬وتش���جيعهم لك���ي يقدموا‬ ‫أفضل ما لديهم من إبداعات وفنون للطفل‬ ‫العربي»‪.‬‬ ‫وط���رح وزير الثقاف���ة قضية االهتمام‬ ‫قائ�ل�ا‪:‬‬ ‫ً‬ ‫بالوس���ائط اإلعالمي���ة الجدي���دة‬ ‫«ونحن نتطلع للوس���يلة التي من خاللها‬ ‫نس���تطيع تقديم خدمة مهم���ة للطفل من‬ ‫خالل الوسائط اإلعالمية ترضي اهتمامه‬ ‫وتعبر عن طموحاته‪.‬‬ ‫وأعلن س���عادة الوزير أن الدراس���ات‬

‫تج���ري حالي ًا إلصدار خ���اص بالطفل قد‬ ‫يك���ون مجلة مس���تقلة أو ملحق ًا لألطفال‬ ‫مع مجلة الدوحة جنب ًا إلى جنب مع كتاب‬ ‫الدوحة اإلحيائ���ي والكتاب المترجم ربع‬ ‫السنوي والملحق الشهري‪ ،‬وسيصاحب‬ ‫ذلك إنشاء موقع إلكتروني متكامل لقراء‬ ‫المجلة‪.‬‬ ‫كما أعلن عن تدش���ين موق���ع لوزارة‬ ‫الثقافة بعنوان «بوابة قطر اإللكترونية»‬ ‫يخ���دم كل وجوه الحياة الثقافية القطرية‬ ‫ال عن أصدار كتاب مترجم‬ ‫والعربية‪ ،‬فض ً‬ ‫وزع مجان ًا مع مجلة الدوحة‬ ‫إضافي ُي َّ‬ ‫وتحدثت د‪ .‬كلثم الغانم رئيسة مجلس‬ ‫أمناء الجائ���زة بعد إعالن الفائزين لتؤكد‬ ‫عل���ى أن حصيل���ة األعمال ل���م تكن على‬ ‫مستوى االرتقاء للفوز بالجائزة مما أدى‬ ‫إلى حج���ب عدد من الجوائ���ز وذلك‪ :‬ألن‬ ‫قلي�ل�ا‪ ،‬ما دفعنا ألن‬ ‫ً‬ ‫الناتج الثقافي كان‬ ‫نعط���ي الفرصة للمبدعي���ن للتركيز على‬ ‫مجاالت جديدة‪ ،‬حيث لم يعد اهتمام الطفل‬ ‫بالقراءة مقتصرًا على القصص فقط‪ ،‬ولذا‬ ‫ركزنا على أفالم الكارتون والموس���يقى‬ ‫ورس���وم كتب األطفال وه���ي في مجملها‬ ‫مجاالت تنمي الجوانب الثقافية للطفل‪.‬‬


‫الدورة الثالثة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة‪:‬‬

‫إيطاليا ضيف شرف‬ ‫واحتفاء بقطر‬ ‫المغرب ‪ -‬عبدالحق ميفراني‬ ‫في ظل زحمة المهرجانات الفنية التي‬ ‫يش���هدها المغرب‪ ،‬عرف���ت مدينة خريبكة‬ ‫الواقــــعة بوس���ــــــط الـبــلد‪ ،‬احتــضانها‬ ‫لمهرج���ان س���ينمائي رائد ه���و مهرجان‬ ‫الس���ينما اإلفريقية‪ .‬وقبل ثالث س���نوات‬ ‫أضافت المدينة ألجندتها الفنية المهرجان‬ ‫الدول���ي للفيل���م الوثائقي‪ ،‬ال���ذي يحاول‬ ‫تج���اوز حاج���ز ميزانيت���ه الضعيف���ة مع‬ ‫رغب���ة القائمين عليه في جع���ل فعاليات‬ ‫هذه التظاهرة الفنية بملمح دولي يحتفي‬ ‫بالفيلم الوثائق���ي وبتجاربه العالمية‪ .‬إذ‬ ‫ال ننسى أن بداية السينما انطلقت وثائقي ًا‬ ‫قبل أن تتحول إلى أفالم روائية‪ ،‬وتجربة‬ ‫االخوان لوميير ش���اهد على هذا المنحى‪.‬‬ ‫رغ���م أن الفيل���م الوثائق���ي تط���ور عبر‬ ‫التاريخ السينمائي وأمسى يطرح العديد‬ ‫من األسئلة حول «وثائقيته» و«واقعيته»‬ ‫اإليهامية‪ .‬على اعتبار أن سؤال «الواقع»‬

‫يظل مغيب ًا بحكم قدرة فريق العمل وعلى‬ ‫رأس���ه المخ���رج يقوم بتمثل م���ا يراه من‬ ‫خالل كاميراته ومن خ�ل�ال رؤيته الفنية‬ ‫الخاصة‪ .‬وتظل الحاجة دائمة‪ ،‬على األقل‬ ‫عربياً‪ ،‬لمهرجان يختص بالفيلم الوثائقي‬ ‫خصوص ًا أن العديد من األقالم اليوم‪ ،‬ترى‬ ‫الحاج���ة المزدوجة له���ذا الجنس الفيلمي‬ ‫في قدرته على ق���راءة واقعنا العربي في‬ ‫حراكه الجديد‪.‬‬ ‫مهرجان خريبكة الدولي للفيلم‬ ‫الوثائقي‪ ،‬عرف هذه السنة (‪29 - 26‬‬ ‫أكتوبر‪/‬تشرين األول) استضافة ‪11‬‬ ‫بلدًا‪( :‬بلجيكا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا‬ ‫والواليات المتحدة األميركية وفلسطين‬ ‫وتونس ومصر والجزائر ثم البلد المنظم‬ ‫المغرب)‪ ،‬إضافة إلى إيطاليا كضيف‬ ‫شرف‪ .‬كما عرفت فقرة التكريم احتفاء‬ ‫خاص ًا بالفنانين عبد الرزاق لحرش من‬ ‫المغرب‪ ،‬ونبيل العتيبي من قطر‪ .‬وتبارت‬ ‫الدول المشاركة للفوز بأهم جوائز‬

‫المهرجان وأرفعها الجائزة الكبرى‪ ،‬حيث‬ ‫تكونت لجنة التحكيم لهذه الدورة‪ ،‬من‬ ‫المخرج نبيل العتيبي رئيس قسم اإلنتاج‬ ‫بالجزيرة الوثائقية بقطر‪ ،‬الناقد المغربي‬ ‫سعيد يقطين والصحافية بالشركة‬ ‫الوطنية لإلذاعة والتلفزة فاطمة يهدي‬ ‫والمخرجة اإليطالية جيوفانا تافياني‬ ‫والمخرج الجزائري عبد المالك لعقون‪،‬‬ ‫فض ً‬ ‫ال عن الناقد والجامعي يوسف آيت‬ ‫همو والناقد اإلعالمي أحمد سجلماسي‬ ‫ورئيس جمعية النقاد السينمائيين‬ ‫بالمغرب خليل الدامون‪.‬‬ ‫وفاز بالجائزة الكبرى للمهرجان فيلم‬ ‫«بين الجبال السود» لمخرجته الفرنسية‬ ‫فرجيني هوفمان‪ ،‬فيما توجت جائزة‬ ‫اإلخراج لفيلم «أحالم نساء» لمخرجه‬ ‫محمد نبيل من ألمانيا‪ ،‬أما جائزة التحكيم‬ ‫فعادت لفيلم «كل ما أريد» لمخرجته‬ ‫األميركية مشال ميدنا‪ .‬وذهبت جائزة النقد‬ ‫للفيلم الجزائري «السينما الجزائرية نفس‬ ‫جديد» لمخرجته مونا ميدور‪ ،‬فيما عادت‬ ‫جائزة الجمهور للفيلم األميركي «كل ما‬ ‫أريد»‪ ،‬أما جائزة أحسن مخرج هاو فكانت‬ ‫من نصيب المخرج المغربي محمد العنق‬ ‫عن فيلمه «عندما تنطق الورود»‪ ،‬ونوهت‬ ‫لجنة النقد بفيلمي «دورة من سياج»‬ ‫للمخرج البلجيكي سبستيان ويمانس‪،‬‬ ‫وفيلم «أحالم نساء» من ألمانيا‪.‬‬ ‫وحظي بدرع المهرجان كل من مديرة‬ ‫المركز الثقافي اإليطالي بالمغرب أنا‬ ‫باستوري‪ ،‬كما كرم المهرجان‪ ،‬رئيس‬ ‫قسم اإلنتاج بقناة الجزيرة الوثائقية‬ ‫نبيل العتيبي‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن اإلعالمي‬ ‫المغربي عبد الرزاق لحرش‪ .‬وتكريم ًا‬ ‫للسينما اإليطالية‪ ،‬تم تنظيم لقاء مفتوح‬ ‫مع المخرجة اإليطالية جيوفانا تافياني‬ ‫ومديرة المركز الثقافي اإليطالي بالمغرب‬ ‫أنا باستوري‪ .‬كما تم بالمناسبة تنظيم‬ ‫لقاء مفتوح مع المغربي محمد بلحاج‬ ‫مخرج بالجزيرة الوثائقية‪.‬‬ ‫مهرجان خريبكة الدولي للسينما‬ ‫الوثائقية يسعى إلى التحسيس بقيمة هذا‬ ‫النوع السينمائي‪ ،‬واإلجابة عن الحاجة‬ ‫عربي ًا إلى تنظيم مهرجان يختص بهذه‬ ‫األفالم التي تعيدنا إلى أصل السينما‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫‪ ..‬والقصيدة أيض ًا تغضب‬ ‫القاهرة ‪ -‬سامي كمال الدين‬ ‫«ش���عرية م���ا بع���د التحري���ر»‪ ..‬عنوان‬ ‫الملتقى الثالث لقصي���دة النثر الذي عقد‬ ‫في مبن���ى نقابة الصحافيي���ن بالقاهرة‬ ‫الذي ش���ارك في لجنته التأسيس���ية كل‬ ‫من عاطف عب���د العزيز‪ ،‬لين���ا الطيبي‪،‬‬ ‫غ���ادة نبيل‪،‬فارس خضر‪ ،‬يس���ري عبد‬ ‫اهلل‪ ،‬غادة خليفة‪ ،‬محمود قرني‪.‬‬ ‫الملتق���ى الذي ش���ارك في���ه عدد من‬ ‫الش���عراء منهم الس���ماح عبد اهلل األنور‪،‬‬ ‫جرجس شكري‪ ،‬جيهان عمر‪ ،‬فتحي عبد‬ ‫اهلل‪ ،‬إبراهي���م داود‪ ،،‬عزة حس���ين‪،‬أتى‬ ‫بعد بيان ثائر بعد إصدار بيانحمل توقيع‬ ‫«حركة شعراء غضب»‪ ،‬يحاول واضعوه‬ ‫الفصل بين الش���عر الذي يتبع السلطة‪،‬‬ ‫والش���عر الذي يحمل بين أبياته سلطته‬ ‫الخاصة‪ .‬لكن في ظل األجواء السياسية‬ ‫المحتدمة بعد ثورة ‪ 25‬يناير وحتى اآلن‬ ‫فع�ل�ا إلى ثورة فنية‪،‬‬ ‫هل مصر بحاجة‬ ‫ً‬ ‫خاصة أنها تأتي بعد مؤتمرين متضادين‬ ‫في قصيدة النثر عقدًا منذ عامين؟‬ ‫الشاعر محمود قرني يرى أن التوقيت‬ ‫مناس���ب‪ ،‬فالحركة الجديدة ه���ي امتداد‬ ‫لملتقيي���ن س���ابقين صعدا إلى س���طح‬

‫السماح عبداهلل األنور‬

‫‪8‬‬

‫محمود قرني‬

‫الحياة الثقافية ف���ي لحظة كانت تحتاج‬ ‫فيه إلى بيارق أكثر ش���جاعة من بيارق‬ ‫الرواد الذين تحالفوا مع فساد السلطة‪.‬‬ ‫ج���اء الملتق���ى األول بمثاب���ة إعادة‬ ‫اعتبار لكل فصائل الش���عر الموس���ومة‬ ‫بالم���روق والتمرد‪ .‬والفع���ل في مجمله‬ ‫ال يمك���ن انت���زاع بعده السياس���ي‪ ،‬ألنه‬ ‫كان بقدر رفضه لمثقف الس���لطة وأدائه‬ ‫وعمل���ه كأداة تبريري���ة ألفعال ش���ائنة‬ ‫ال يمك���ن الدفاع عنه���ا‪ ،‬كان الملتقى في‬ ‫المقابل ش���علة من الني���ران الرمضاوية‬ ‫التي احتفل الشعراء باحتراق أصابعهم‬ ‫بينها‪ .‬وكان الفعل في مجمله أيض ًا يمثل‬ ‫ردًا عل���ى هؤالء الذين عاش���وا س���نين‬ ‫يحذفون الش���اعر لصالح ظالل ش���عراء‬ ‫أنصاف وأرباع الموهوبين من المدلسين‬ ‫ورجال المؤسسة الذين يناضلون نهارًا‬ ‫ويأكلون فتات موائد السلطة ليالً‪.‬‬ ‫يضيف قرني‪ :‬الفن ال يمكن فصله عما‬ ‫يحدث في المجتمع‪ ،‬المأفونون وحدهم‬ ‫هم الذي���ن اصطنع���وا جدارًا بي���ن الفن‬ ‫والمجتمع‪ ،‬فنحن نتحدث عن المسؤولية‬ ‫دون أن نتحس���ب لما يكم���ن وراءها من‬ ‫التزام���ات أخالقي���ة‪ ،‬ألننا لس���نا أبناء‬ ‫التطهرية الكاذبة‪ ،‬ولسنا أبناء الخطاب‬ ‫المغالي في انغالقه‪ ،‬المتعالي والتلفيقي‬ ‫في الوقت نفس���ه‪ .‬فقد خرجنا لألبد على‬

‫فارس خضر‬

‫الكَذبة ممن اعتقدوا أنهم‬ ‫قناعات األنبياء َ‬ ‫يملكون وحدهم معابد اللغة وصكوكها‪،‬‬ ‫وتعاملوا مع أنفس���هم على أنهم سدنة‪،‬‬ ‫وعلى الرعاع من األمة أن يقبلوا أياديهم‬ ‫كل صب���اح‪ ،‬الش���عر بالنس���بة لنا ليس‬ ‫هكذا‪ ،‬الش���عر كما قال بورخيس‪« :‬على‬ ‫أف���واه الفالحين والصيادي���ن والعمال‪،‬‬ ‫وليس في جعبة السدنة ومجامع اللغة»‬ ‫ويواص‪ :‬لقد سمعنا عشرات األسماء‬ ‫يتم تدشينها أثناء الثورة بألقاب عجيبة‬ ‫من قبي���ل فالن ش���اعر الث���ورة وفالنة‬ ‫ش���اعرة الثورة‪ ..‬هذا النوع من الش���عر‬ ‫حمل م���ن الفجاج���ة ومن المباش���رة ما‬ ‫يجعله عبئ��� ًا على الثورة وليس س���ندًا‬ ‫له���ا‪ ،‬فالث���ورة تس���تحق أن نتأم���ل ما‬ ‫طرحته في الواقع م���ن تغيرات جمالية‬ ‫وتغي���رات في الوع���ي بقدر م���ا نرصد‬ ‫ما زرعته م���ن تغيرات على المس���توى‬ ‫االجتماع���ي والسياس���ي‪ ،‬وه���و بعد ال‬ ‫يقل أهمية عن إصالح البنية األساس���ية‬ ‫للمجتمع على سبيل المثال‪ ،‬لكن من هنا‬ ‫نحن نس���عى باعتبارنا أبناء الثورة ألن‬ ‫نكون رديف��� ًا لها وإضافة إليه���ا ال عبئ ًا‬ ‫ينتقص من قيمته���ا‪ ،‬بحيث نتحدث عن‬ ‫الث���ورة المجيدة التي تح���دث في القرن‬ ‫الواحد والعشرين‪ ،‬بينما نخاطبها بلغة‬ ‫القرن الرابع الهجري»‪.‬‬ ‫من جهته الشاعر فارس خضر يكشف‬ ‫أنه تم حل اللجنة التحضيرية في نهاية‬ ‫الملتق���ى الثان���ي للتخل���ص م���ن اإلرث‬ ‫الثقيل الذي ورث���وه عن الملتقيين األول‬ ‫والثان���ي‪ ،‬إذ يقول‪« :‬م���ا حدث معنا هو‬ ‫ذات���ه الذي كان يفعل���ه جهازمباحث أمن‬ ‫الدول���ة مع األح���زاب المصري���ة‪ ،‬وذلك‬ ‫بزرع عميل ينتمي إلى الحزب‪ ،‬فإذا أراد‬ ‫جهاز أمن الدولة تفجير الحزب َف َّجره من‬ ‫خالل هذا الشخص‪ ،‬فما حدث في الملتقى‬ ‫الثاني لقصي���دة النثر لي���س مؤتمرًا أو‬ ‫ملتقى متض���ادًا مع ملتقانا‪ ،‬ولكن مثلما‬ ‫ً‬ ‫يحدث في األحزاب فنحن نجد الكثير من‬ ‫المعوق���ات‪ ،‬لكن المضاد لنا تفتح له كل‬ ‫األبواب من اتحاد الكتاب إلى تمويل من‬ ‫رجال األعمال إضافة على استيالئه على‬ ‫موعد ملتقانا نفس���ه‪ ،‬هي إذن تحركات‬ ‫أمنية وليست شعرية إلجهاض الملتقى‪.‬‬ ‫ويواص���ل‪« :‬الس���لفيون تص���وروا أن‬


‫الدول���ة جاءت إليهم على طبق من ذهب‬ ‫لك���ي يحصل���وا عليها‪ ،‬ولك���ي يعودوا‬ ‫بنا ‪ 1400‬س���نة إلى الوراء‪ ،‬كما أن كل‬ ‫القوى الثوري���ة العميلة أصبحت تدعي‬ ‫النض���ال‪ ،‬لذا لم تعد تس���تطيع التفرقة‬ ‫بين التجار القدامى والتجار المحدثين‪،‬‬ ‫ومن هنا نحن أحوج ما نكون إلى ثورة‬ ‫ثقافية»‪.‬‬ ‫ف���ي النهاي���ة ه���ذه الحرك���ة وليدة‬ ‫الملتقيي���ن الس���ابقين‪ ،‬وأح���زن حين‬ ‫يحدثني أحد عن ملتق���ى آخر ما هو إال‬ ‫ملتقى أمني»‪.‬‬ ‫الش���اعر والروائي صبحي موس���ي‬ ‫ال���ذي أق���ام الملتق���ى الثان���ي الموازي‬ ‫لمؤتم���ر قصي���دة النثر رف���ض التعليق‬ ‫عل���ى الملتقيين أو الملتق���ى الثالث‪ ،‬أو‬ ‫تدشين حركة غضب‪ ،‬وقال‪« :‬من يحرث‬ ‫فليحرث‪ ،‬التاريخ يبقي ما يشاء»‪.‬‬ ‫أما الش���اعر محمد أب���و المجد فيرى‬ ‫أن هذا الفع���ل يخدم الصالح العام‪« :‬لذا‬ ‫فإن طرح مسألة التضاد ما هي إال نوع‬ ‫م���ن اإلث���ارة»‪ ،‬وهو ال ي���رى أي تضاد‬ ‫بين بع���ض التص���ورات أو االتجاهات‬ ‫م���واز حتى لو لم‬ ‫حول تنظي���م مؤتمر‬ ‫ٍ‬ ‫يكن هناك تكامل‪ .‬هذا ش���كل من أشكال‬ ‫التجاور‪.‬‬ ‫وأضاف أبو المجد‪« :‬ال أرى أن هناك‬ ‫مؤتمرًا ضد مؤتمر‪ ،‬في الثقافة ال يوجد‬ ‫تنافس‪ ،‬الجدوى يحك���م عليها التاريخ‬ ‫والتق���ادم‪ ،‬فال أرى منافس���ة في الفعل‬ ‫الثقافي»‪.‬‬ ‫أما بالنسبة لحركة غضب فيرى أبو‬ ‫المجد أنها «ش���كل من أش���كال االفتعال‬ ‫الثقاف���ي‪ ،‬الف���ن يوجد الثورة بنفس���ه‬ ‫وليس باالفتعال‪ ،‬كل الحركات التقدمية‬ ‫ف���ي الف���ن أنتجها المبدع نفس���ه وليس‬ ‫التنظير‪ ،‬من الممكن أن يكون قد س���بق‬ ‫هذا الفن ال���روح الفلس���فية التي توجد‬ ‫الشعور المناسب»‪.‬‬ ‫لي���س هذا الفعل المقص���ود هو الذي‬ ‫يعمل ثورة ثقافية‪ ،‬الذي يقوم بالثورة‬ ‫الفني���ة والنقلة الحقيقي���ة داخل كتابة‬ ‫القصيدة ه���ي القصيدة نفس���ها وليس‬ ‫الش���عراء‪ ،‬ولي���س الح���دث الثقافي أو‬ ‫الفعل الثقافي أو احتفالية أو تدشين أو‬ ‫حركة هي التي تحدث ثورة ثقافية‪.‬‬

‫لصوص الجوائز‬ ‫نوارة لحـرش‬ ‫الجزائر‪ّ -‬‬ ‫هل هناك حق ًا جوائز أدبية محترمة‬ ‫ف���ي الجزائر‪ ،‬أم األم���ر مجرد بهرجة؟‬ ‫مث�ل�ا‪ ،‬التي‬ ‫فجائ���زة علي معاش���ي‬ ‫ً‬ ‫يرعاها منذ ‪ 2007‬رئيس الجمهورية‪،‬‬ ‫أفرغت من كل قيم���ة أو أهمية‪ ،‬حيث‬ ‫حددت س���قف س���ن المش���اركة تحت‬ ‫‪ 35‬س���نة وهذا ما أثار وما يزال يثير‬ ‫اس���تياء الكّت���اب‪ ،‬فهم ي���رون أن هذا‬ ‫التسقيف ال يليق بجائزة دولة‪ ،‬وأنها‬ ‫يجب أن تك���ون مفتوحة لكل األعمار‪.‬‬ ‫طبع��� ًا هناك جوائز أخ���رى كثيرة لم‬ ‫تس���لم من النقد والتش���كيك‪ ،‬ويبقى‬ ‫اإلش���كال األكب���ر يتمثل ف���ي اختالل‬ ‫معايير ومصداقية هذه الجوائز‪.‬‬ ‫يتحدث الش���اعر عزالدين جوهري‬ ‫ع���ن الموض���وع ذاته‪« :‬هن���اك زيف‬ ‫يعت���ري تل���ك الجوائز التي تس���مى‬ ‫جوائز أدبية‪ ،‬ألنها في تقديري‬ ‫مجازًا‬ ‫ْ‬ ‫لم تخ���رج يوم��� ًا ع���ن أط���ر النفعية‬ ‫عن‬ ‫والبراغماتية‪ ،‬ولم‬ ‫ْ‬ ‫تنس���لخ يوم ًا ْ‬ ‫جلِد القائمين عليها في اقتسام الغنائم‬ ‫واألنفال»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ويذه���ب جوهري في نق���ده الالذع‬ ‫للجوائ���ز إلى حد اتهام القائمين عليها‬ ‫باللصوصي���ة والفس���اد الثقافي‪ ،‬إذ‬ ‫ال‬ ‫يق���ول بلهج���ة ح���ادة‪« :‬لنأخ���ذ مث ً‬ ‫جائ���زة علي معاش���ي‪ ،‬ورغ���م أنها‬ ‫تحمل اس���م هذا الش���هيد الكبير واسم‬ ‫رئيس الجمهورية إال أنها ليس���ت لها‬ ‫أدن���ى قيم���ة أو مصداقي���ة‪ ،‬ألنها لم‬ ‫المب���دع واإلبداع‪.‬‬ ‫توج���ه يوم ًا لخدمة‬ ‫ْ‬ ‫كانت على الدوام واجهة لمآرب أخرى‬ ‫خارجة عن الثقافة وسياقاتها»‪.‬‬ ‫أما الشاعرة خيرة حمر العين فترى‬ ‫أن الجوائ���ز ع���ادة هي إم���ا أن تكون‬ ‫تقدي���راً‪ ،‬وهذا ن���ادراً‪ ،‬وإم���ا محاباة‬ ‫وتملق���اً‪ ،‬وه���ذا الش���ائع‪ .‬وتعتقد أن‬

‫عمار مرياش‬

‫الجوائز ليست قياس��� ًا لحالة إبداعية‬ ‫أو ابتكاري���ة وإنما هي ع���ادة وتقليد‬ ‫ورغبة في إس���كات من نريد إسكاته‪،‬‬ ‫وه���ي أحيان��� ًا تك���ون تقدي���رًا ليس‬ ‫للش���خص المعني ب���ل للجهة الصادر‬ ‫عنها التهنئة‪ .‬وتضيف صاحبة «أكوام‬ ‫الجمر» بنوع من الحس���رة‪« :‬الجوائز‬ ‫مثل التطعي���م الذي تفرض���ه المراكز‬ ‫الصحي���ة‪ .‬فهي ال تصدر ع���ن هيئات‬ ‫علمية أو أدبية ب���ل تصدر أحيان ًا عن‬ ‫جهات أمنية وسياسية»‪.‬‬ ‫من جهتها‪ ،‬ترى الش���اعرة س���مية‬ ‫محن���ش‪ ،‬الت���ي س���بق لها ني���ل عدة‬ ‫جوائز أن‪ « :‬الجوائز في الجزائر تبقى‬ ‫محتشمة مقارنة بجوائز تمنحها دول‬ ‫أخرى‪ .‬حيث ال تثم���ن أعمال مبدعيها‬ ‫بالكيفية الالئقة»‪.‬‬ ‫ويعتقد الشاعر عمار مرياش الذي‬ ‫حصد الكثير من الجوائز في س���نوات‬ ‫مض���ت (منه���ا جائ���زة مف���دي زكريا‬ ‫المغاربي���ة للش���عر ع���ام ‪ )1993‬أن‬ ‫الجوائز األدبية الجزائرية تقوم على‬ ‫عدم الجدية وعلى مبدأ‪ :‬على قدر أهل‬ ‫الع���زم‪ .‬ويضيف بكثير م���ن الخيبة‪:‬‬ ‫«يجب أال نندهش إذا سمعنا يوم ًا أنه‬ ‫تم تأس���يس جائزة الجزائ���ر الدولية‬ ‫األبدية للش���عر ثم ت���وزع مرة واحدة‬ ‫وتقبر إلى األبد»‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫ميديا‬

‫أوباما في مرمى الثورات العربية‬

‫خالل الشهر الفائت قامت أكثر من صفحة‬ ‫فيسبوك عربية بتناول الرئيس األميركي‬ ‫باراك أوباما بالسخرية الالذعة وأسقطت‬ ‫جم�ل�ا وتعليقات تخ���ص الثورات‬ ‫علي���ه‬ ‫ً‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫وقالت صفحة ابتس���م أنت ف���ي تونس‪:‬‬ ‫«تحدث���ت عدي���د الصح���ف والمواق���ع‬ ‫اإللكترونية األميركية عن حادثة اجتياح‬ ‫صفحة الرئيس األميرك���ي باراك أوباما‬ ‫عل���ى الموق���ع االجتماعي فيس���بوك من‬ ‫قبل أكثر من ‪ 30‬ألف تونس���ي‪ ،‬وقد قامت‬ ‫الصح���ف بترجم���ة التعليق���ات الطريفة‬ ‫للتونسيين إلى اللغة اإلنكليزية وتفسيرها‬

‫للق���راء بأنها تمث���ل أبرز األح���داث التي‬ ‫رافقت الثورة التونس���ية من يوم إضرام‬ ‫محمد البوعزيزي النار في جسده‪ ،‬مرورًا‬ ‫بخطابات الرئي���س المخلوع وصو ًال إلى‬ ‫أح���داث القناصة وهروب ب���ن علي إلى‬ ‫المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫ومن أط���رف تعليقات التونس���يين على‬ ‫الداخلية‬ ‫ه���ذا الحدث‪«:‬عل���ى رأس وزارة‬ ‫ّ‬ ‫يعين‬ ‫أوبام���ا‬ ‫األميركي���ة ‪Habib Lion‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أكثر من ‪ 43‬ألف تعليق للتوانسة النبارة‬ ‫في صفحة ب���اراك أوبام���ا برجولية مال‬ ‫ش���عب كم أنت كبير»‪« ،‬أوباما يعلن عن‬ ‫تخفيض في أس���عار الس���كر والمقرونة‬

‫شباب متفائل على تويتر‬ ‫هاش���تاج باس���م «متفائ���ل» أطلقت���ه‬ ‫الناشطة الشابة س���لمى حجاب لحث‬ ‫أصدقائها من مس���تخدمي تويتر على‬ ‫كتابة أس���باب تدعوهم للتفاؤل حول‬ ‫األح���وال السياس���ية واالجتماعي���ة‬ ‫فكتب���وا‪« :‬متفائلة عش���ان التش���اؤم‬ ‫واإلحباط دول دلوقت���ي رفاهية مش‬ ‫لينا»‪.‬‬ ‫«ألن كل الناس مهتمة باللي حيحصل‬ ‫للبلد بغض النظر عن شكل االهتمام»‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫«علشان لما واحد منا بيتشائم بأالقي‬ ‫ألف واحد بيقول له تفاءل هننتصر»‪.‬‬ ‫«ألن في ‪ 4‬س���اعات ي���وم ‪ 25‬الهتاف‬ ‫مبق���اش توس���ل‪ ..‬مبق���اش عي���ش‬ ‫حرية‪ ..‬وبقى عزيمة وقوة‪ ..‬الشـعــب‬ ‫يـــريــــد»‪.‬‬ ‫«علش���ان لو الثورة فكس���ت في مصر‬ ‫ه���روح تون���س‪ ،‬ع���رب وحبايبن���ا‬ ‫وشكلهم شغالين حالوة»‪.‬‬ ‫«ألن سواقين الميكروباص بقوا يقرأوا‬

‫والش���عب األميركي قالو خلي نش���اورو‬ ‫الشعب التونسي ههههه»‪.‬‬ ‫يأتي ذلك على خلفية األحداث التي جدت‬ ‫في مقاطعة وول ستريت حيث خرج عدد‬ ‫كبي���ر من الش���بان األميركيي���ن احتجاج ًا‬ ‫عل���ى سياس���ة الدول���ة االجتماعية‪ ،‬وقد‬ ‫قوبلت المس���يرة بعنف ش���ديد من قوات‬ ‫األم���ن‪ ،‬مما جعل عددًا كبيرًا من الش���باب‬ ‫التونس���ي يس���تهزئ م���ن لج���وء قوات‬ ‫الشرطة األميركية للقمع المفرط‪.‬‬ ‫كما تناقلت وسائل اإلعالم في كافة أنحاء‬ ‫العال���م وش���بكات التواص���ل االجتماعي‬ ‫ومواقع الواب فيديوهات لمسيرات وول‬ ‫ستريت التي قرر المحتجون فيها الهتاف‬ ‫بالعربي���ة على طريقة الث���ورات العربية‬ ‫«الش���عب يريد إس���قاط النظام» ورددوا‬ ‫كذلك «الشعب يريد إسقاط وول ستريت»‪،‬‬ ‫وقد ش���ارك في هذه االحتجاجات نشطاء‬ ‫مصري���ون كان���وا في الوالي���ات المتحدة‬ ‫لحضور أحد المؤتمرات‪.‬‬ ‫وس���اخرًا من أوباما كتب أحد النش���طاء‪:‬‬ ‫باراك أوباما من أمام باب البيت األبيض‬ ‫بالعزيزي���ة (واش���نطن)‪ :‬س���نزحف أنا‬ ‫والماليين‪ ..‬لتطهير أميركا‪ ..‬روم روم‪..‬‬ ‫هاوس هاوس‪ ..‬س���تريت ستريت‪ ..‬وان‬ ‫وان‪ ..‬حتى تتطهر أمي���ركا من البادبويز‬ ‫وم���ن الرات���س‪ ..‬هو آر ي���و؟ إيتس تايم‬ ‫تو ورك‪ ..‬إيت���س تايم تو كرول‪ ..‬إيتس‬ ‫تايم تو وين‪ ..‬نوت باك‪ ..‬تو فاروورد‪..‬‬ ‫ريفولوشن‪ ..‬ريفولوشن‪.‬‬ ‫الجرائد وقت ما العربية بتحمل بدل ما‬ ‫يسبوا لبعض الدين»‪.‬‬ ‫«عش���ان تونس دلوقتي بدأت تعيش‬ ‫الحرية»‪.‬‬ ‫«لم���ا حس���ني بيتحاك���م وكبراته في‬ ‫ط���ره أو هاربانين بالخارج وأعوانهم‬ ‫أصبحوا فلول‪ .‬أبق���ى قليلة األدب لو‬ ‫لم أتفاءل»‪.‬‬ ‫«عش���ان لسه في ش���باب بيناضل من‬ ‫أجل حق الشهداء والحرية‪ .‬وده دليل‬ ‫إني الثورة مستمرة حتى القضاء على‬ ‫الفساد»‪.‬‬


‫البرنس في األدب العربي‬ ‫من مدونة «آخر الحارة» نتعرف على‬ ‫مفه���وم البرنس ف���ي األدب العربي كما‬ ‫صوره المدون عبدالرحمن مصطفى‪.‬‬ ‫ال يحت���اج البرنس أن يتح���دث كثيرًا‬ ‫عن نفس���ه أو عن األشياء المحيطة به‪،‬‬ ‫تكفي إشارات‪ ،‬وفي حاالت أخرى يقرر‬ ‫ال قاطعة ال تقبل‬ ‫البرنس أن يعط���ي جم ً‬ ‫الج���دل‪ ..‬البرنس ‪ -‬في العادة – يتحدث‬ ‫بالحقائق‪ ،‬حتى إن قال أوهام ًا ليس لها‬ ‫أصل‪ ،‬يش���هد األدب العرب���ي العديد من‬ ‫الحاالت التي ال يوصف صاحبها سوى‬ ‫بأنه برنس‪ ،‬يحلق في فضاء النرجسية‪،‬‬ ‫بدون مبرر واضح سوى اإلحساس بعلو‬ ‫تقدير الذات قال المتنبي هذه األبيات‪:‬‬ ‫أنا الذي نظر األعمى إلى أدبي‬ ‫وأسمعت كلماتي من به صمم‬ ‫ال‬ ‫كيف يم���دح قائل ه���ذه األبيات رج ً‬ ‫آخر غي���ره؟ من المؤكد أن���ه قال كلمات‬ ‫زائفة قبلها في مناسبات عديدة من أجل‬ ‫المال والتقرب من السلطة‪ ،‬لكن ذلك لم‬ ‫يقه���ره‪ ،‬فالبرنس الحقيقي ال يقهر‪ ،‬فهو‬ ‫نفس���ه حين شعر باألسى في مصر كتب‬ ‫هجاء في حاكمها‪ ،‬لمجرد أنه لم يش���عر‬ ‫بأنه برن���س حقيقي‪ ..‬وألن البرنس في‬ ‫الع���ادة محس���ود‪ ،‬ومك���روه‪ ،‬وعرضة‬

‫لإلقصاء‪ ،‬فقد تس���بب هذا البيت حس���بما‬ ‫يشاع في مصرعه‪.‬‬ ‫قب���ل المتنب���ي كان هن���اك أكث���ر من‬ ‫برنس على الس���احة‪ ،‬تكف���ي قراءة هذا‬ ‫البيت المنفرد الذي قاله الشاعر جرير إذ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫الموت الذي أتى عليكم‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫جاء‬ ‫ن‬ ‫مني‬ ‫لهارب‬ ‫فليس‬ ‫ ‬ ‫ٍ‬ ‫َ ُ‬ ‫هي مبالغ���ة في نظر من يعتقدون أن‬ ‫الحياة مجموع���ة من الحقائ���ق نرددها‬ ‫سوي ًا في كل مجلس‪ ،‬الخيال والضبابية‬ ‫هي الحقيق���ة الوحيدة في ه���ذا العالم‪،‬‬ ‫لماذا ال أكون أنا الموت؟ ليس معنى هذا‬ ‫أنك أنت الحياة‪ ،‬لكن إن اخترت أنت هذا‬ ‫لن أغض���ب منك‪ ..‬ألني برن���س‪ ،‬وأنت‬ ‫برنس‪.‬‬ ‫حي���ن يق���ول أمل دنق���ل ف���ي القرن‬ ‫الماض���ي ه���ذه األبيات فه���و يبحث عن‬ ‫إحساس البرنس المفقود‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬ ‫من أنت يا حارس؟‬ ‫الحجاج‬ ‫إنّي أنا ّ‬ ‫عصبني بالتاج‬ ‫ّ‬ ‫ليست الحكاية حكاية شاعر استخدم‬ ‫تشبيه ًا بطاغية‪ ،‬إنما في إعالنه إمكانية‬ ‫هذا‪ ،‬ب���ل في كتابة هذا ف���ي قصيدة‪ ،‬قد‬ ‫يأتي متحذلق ويضع العبارة في سياق‪،‬‬ ‫ورموز ودالالت‪ ،‬أوووفففف‪ ،‬من يفعل‬ ‫هذا‪ ..‬مش برنس خالص‪.‬‬

‫حت���ى بعيدًا عن األش���عار التقليدية‪،‬‬ ‫كان���ت تكفي عب���ارات مقتضبة يعلن بها‬ ‫شخص مثل الحالج أنه برنس‪ ،‬ماذا كان‬ ‫يقول؟ أو ماذا قال فقتل؟ أو ماذا قال فتم‬ ‫تكفيره ولعنه على مدى مئات الس���نين؟‬ ‫اهلل أعل���م‪ ،‬لكنهم يقولون إن���ه قال‪ :‬أنا‬ ‫الح���ق!! وانفع���ل كثي���رون مرددين أنه‬ ‫يدعي األلوهية‪ ،‬إمممم‪ ،‬ال أعتقد‪ ،‬بعض‬ ‫المتصوف���ة أخرجوا تخريجات لمثل هذه‬ ‫العب���ارات الغامضة‪ ..‬ف���ي الحقيقة أنه‬ ‫حين قال‪ :‬أنا الح���ق‪ ،‬فقد كان يقصد أن‬ ‫يق���ول‪ :‬أنا البرنس‪ ،‬أن���ا مختلف عنكم‪،‬‬ ‫أنا أثير الج���دل‪ ،‬أنا من س���تلعنونه أو‬ ‫تدافعون عنه حتى نهاي���ة التاريخ‪ ،‬أنا‬ ‫البرنس‪.‬‬ ‫ل���دى بع���ض المتصوف���ة عب���ارات‬ ‫وأشعار ال تخرج إال من برنس حقيقي‪،‬‬ ‫كأن يقول ابن الف���ارض‪« :‬أنا القتيل بال‬ ‫إثم وال حرج»‪.‬‬ ‫أغلبهم اختار أن يكون برنس ًا لنفسه‪،‬‬ ‫أحيان��� ًا يخفي البعض غرض���ه من األنا‬ ‫المتص���درة جملت���ه‪ ،‬إذ يجعلها غامضة‬ ‫أو وس���ط مديح في أحي���ان أخرى‪ ،‬أو‬ ‫داخل مناقشات جادة‪ ..‬في النهاية‪ ..‬أي ًا‬ ‫كان���ت نهاية البرنس‪ ،‬لكن���ه اختار تلك‬ ‫المتعة‪ ،‬فكل برنس يعرف أنه مميز عن‬ ‫اآلخرين‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫ميديا‬

‫دليل المذيع الذكي‬

‫َ‬ ‫كبِّ ْ‬ ‫ل ضيوفك‬

‫ش���هد أس���توديو برنامج «بموضوعية»‬ ‫ال���ذي يقدمه وليد عبود على «إم تي في»‬ ‫اللبناني���ة في حلقة االثنين ‪ 14‬نوفمبر‪/‬‬ ‫تش���رين الثاني ‪ ،2011‬مش���اداة كالمية‬ ‫بي���ن النائب الس���ابق مصطفى علوش‪،‬‬ ‫القي���ادي في تيار المس���تقبل‪ ،‬أحد أبرز‬ ‫ق���وى ‪ 14‬آذار المعارض���ة‪ ،‬ورئي���س‬ ‫ح���زب البعث العرب���ي االش���تراكي في‬ ‫لبنان فايز شكر‪ ،‬حيث استأنفت الحلقة‬ ‫به���دوء وتبادل ال���رأي وحف���ظ األلقاب‬ ‫ليش���تد الحوار بعد ذلك في عاصفة بين‬ ‫الضيفين على خلفية الثورة الجارية في‬ ‫سورية‪ ،‬عندما قال علوش إنه ال يصدق‬ ‫الرئيس السوري بشار األسد‪ ،‬فرد شكر‪:‬‬ ‫«من أنت حت���ى ال تصدقه؟ عيب عليك»‪،‬‬ ‫فأجابه عل���وش‪« :‬ال أصدقه ألنه كذاب»‬ ‫ثم رد شكر‪« :‬أنت كذاب ومعلمك كذاب»‪،‬‬ ‫مما أفاض الكأس مباش���رة بعد تالس���ن‬ ‫‪12‬‬

‫متبادل‪ ،‬فبادر فايز شكر مهاجم ًا بإلقاء‬ ‫كوب الم���اء في وج���ه مصطفى علوش‬ ‫ال���ذي قام بدوره بحمل كرس���يه محاو ًال‬ ‫الدفاع والرد‪ ،‬وبعد تدخل مقدم البرنامج‬ ‫وفريق���ه التقن���ي انقطع ب���ث البرنامج‬ ‫وأعيد بعد تهدئة الجو‪.‬‬ ‫عش���رات الفيديوهات لهذا النزال المثير‪،‬‬ ‫بث���ت عل���ى اليوت���وب دون أن تس���جل‬ ‫تعليقات عل���ى غير الع���ادة‪ ،‬كما نقلت‬ ‫الخبر قنوات عالمية‪ ،‬وتدوالته صفحات‬ ‫المواق���ع االجتماعي���ة مكتفية بتعليقات‬ ‫س���اخرة وضاحكة‪ ،‬فيما وصفت أخرى‬ ‫النزال بكونه غير أخالقي‪ ،‬متحفظة في‬ ‫معظمها عن إبداء مواقف سياس���ية من‬ ‫الصراع الجدي الذي فجره الفيديو‪.‬‬ ‫عل���ى صفحته بالفيس���بوك نقل الممثل‬ ‫ومق���دم البرامج هش���ام ح���داد صورة‬ ‫كوميدية مركبة تصور مشهد النزال على‬

‫حلب���ة المصارعة التمثيلي���ة (الصورة)‪،‬‬ ‫وكت���ب صاح���ب الصفحة عل���ى جداره‬ ‫الساخر‪:‬‬ ‫وصلن���ا م���ن وزارة الداخلي���ة البي���ان‬ ‫التالي‪:‬‬ ‫«إزاء اإلش���كال ال���ذي وقع عل���ى الهواء‬ ‫خ�ل�ال برنامج «توك ش���و» السياس���ي‬ ‫بين نائب س���ابق ورئيس حزب حالي‪،‬‬ ‫وحفاظ ًا على الح���س اإلعالمي المرهف‬ ‫للطبقة السياس���ية وحقن ًا للدماء‪ ،‬تعمم‬ ‫وزارة الداخلية ‪ -‬شعبة العالقات العامة‬ ‫على جميع المؤسسات اإلعالمية المرئية‬ ‫والمسموعة القوانين التالية‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬يمنع منع ًا بات ًا وجود المنافض أو‬ ‫أكواب المياه الزجاجية أو أي آلة حادة‬ ‫طيلة فت���رة الحلقة أمام المدعوين خالل‬ ‫المقاب�ل�ات منع ًا من اس���تعمالها كقنابل‬ ‫يدوية إلثبات وجهات النظر‪.‬‬ ‫ثاني���اً‪ :‬تثب���ت الكراس���ي عل���ى أرض‬ ‫األس���توديو بثمانية براغ���ي ‪ 10‬مليمتر‬ ‫(س���ن عريض) مع خوابي���ر طولها ‪20‬‬ ‫س���نتم في األس���منت المس���لح منع ًا من‬ ‫رفعها واس���تعمالها كوسيلة للتعبير عن‬ ‫الرأي‪.‬‬ ‫ثالث���اً‪ُ :‬ي َك َّبل الضي���وف بأصفاد حديدية‬ ‫«ستانلس س���تيل» على أذرع الكراسي‬ ‫طيلة فت���رة البرنامج لتجنب الش���وبرة‬ ‫والهوبرة لبرهنة أفكارهم النيرة‪.‬‬ ‫رابعاً‪ :‬على اإلعالم���ي ‪ /‬مضيف الحلقة‬ ‫أن يكون عض���وًا في جمعية «المصارعة‬ ‫العالمية الترفيهي���ة» (دبليو دبليو إف)‬ ‫وأن يكون حكم ًا محلف ًا فيها‪ ،‬للس���يطرة‬ ‫ٍ‬ ‫بش���كل س���ريع وفعال عل���ى أي وضع‬ ‫هجومي قد يتخذه أي من الضيوف أثناء‬ ‫محاوالته���م إلقن���اع اآلخري���ن بصوابية‬ ‫خطهم الوطني»‪.‬‬ ‫مع هذا البيان الس���اخر توالت التعليقات‬ ‫ف���ي معظمه���ا ضاحك���ة أو مس���تهزئة‪،‬‬ ‫وأخرى متأس���فة على المش���هد‪« :‬هاذي‬ ‫بلدنا تجنن‪ ،‬جمهورية الحمص‪ ،‬مذهل‪،‬‬ ‫ش���ي بيضح���ك لك���ن عيب‪ ،‬مس���خرة‪،‬‬ ‫ش���و صار بها الدنيا يا ضيعات لبنان‪،‬‬ ‫مسلس���ل كوميدي طويل ح���رام ها البلد‬ ‫بهيك ش���عب» و«م���ن كتب هذا الس���وبر‬ ‫اإلبداعية! ممتاز» يكتب أحد المعلقين‪.‬‬


‫من أجل تغريد عربي‬ ‫في أكتوبر‪/‬تشرين األول الماضي التقى‬ ‫«س���فراء التغري���د العرب���ي» عب���ر موقع‬ ‫«تويت���ر» للم���رة األول���ى ف���ي الدوحة‪،‬‬ ‫واجتم���ع أكثر م���ن ‪ 80‬س���فيرًا ينتمون‬ ‫لتسع دول عربية إلعالن مبادرة لتعريب‬ ‫موقع التواصل االجتماعي الشهير‪ ،‬التي‬ ‫تهدف إلى دع���م وإثراء المحتوى العربي‬ ‫الرقم���ي من خالل تبني مش���اريع وطرح‬ ‫موضوع���ات متخصصة ومتنوعة باللغة‬ ‫العربية‪ ،‬يش���مل موضوع���ات اجتماعية‬ ‫وثقافية وفني���ة متنوعة تدعمها محركات‬ ‫البحث العالمية‪.‬‬ ‫وبالتنس���يق مع ش���ركة تويت���ر لترجمة‬ ‫الموقع إلى اللغة العربية‪ ،‬وفي ورش���ة‬ ‫عمل تخللت الملتقى انطلقت مبادرة «آت‬ ‫تغريدات» كأولى فعاليات العمل المشترك‬ ‫حيث ش���هد الملتقى الذي جم���ع عددًا من‬ ‫رواد «تويت���ر» الع���رب حض���ور أكثر من‬

‫‪ 300‬مستخدم من عدة دول عربية‪.‬‬ ‫وأعلن خالل الورشة عن تدشين الموقع‬ ‫اإللكتروني الرس���مي لمبادرة «س���فراء‬ ‫التغريد العربي» ليكون منصة لمش���روع‬ ‫تعريب تويتر‪ ،‬ويمكن لجميع الراغبين في‬ ‫التطوع الدخول إليه‪ ،‬حيث س���يتم طرح‬ ‫المحت���وى المعرب لتصويت مس���تخدمي‬ ‫تويتر‪ ،‬ومنهم أكثر من ‪ 6‬ماليين مستخدم‬ ‫عربي‪ ،‬وذلك عند ق���رار تويتر فتح باب‬ ‫الترجمة إلى اللغة العربية الحقاً‪.‬‬ ‫والمب���ادرة تهدف إلى تكوي���ن مجموعة‬ ‫كبيرة من المتطوعين العرب للمش���اركة‬ ‫في المشروع‪ ،‬إلعداد معجم كامل لجميع‬ ‫مصطلحات تويتر المعربة‪ ،‬وإعداد قواعد‬ ‫تفصيلي���ة للترجمة العربي���ة التي يجب‬ ‫اتباعها من تأنيث وتذكير وجمع وهمزات‬ ‫وغيرها من قواعد اللغة‪ ،‬ليتم تسليم هذا‬ ‫المعجم إل���ى إدارة تويتر من خالل مدير‬

‫«الفوتوشوب»‬ ‫يجرح مشاعر المؤمنين والزعماء‬ ‫قد يكون هذا أكبر اس���تفزاز مارس���ه‬ ‫«الفوتوش���وب» في تاريخه‪ .‬ففي حملة‬ ‫دعائية جديدة وفكرة في منتهى الجرأة‪،‬‬ ‫أطلق���ت المارك���ة اإليطالي���ة الش���هيرة‬ ‫«بينيت���ون»‪ ،‬مجموع���ة م���ن الص���ور‬ ‫المفتعل���ة تمثل بعض أب���رز قادة الدول‬ ‫وه���م يتبادل���ون القبل م���ن الفم‪ ،‬تحت‬ ‫حجة الدعوة إلى سالم عالمي‪.‬‬ ‫الملصقات عمم���ت في محال بينيتون‬ ‫للمالب���س في أنحاء مختلف���ة من العالم‬ ‫ال عن جرائد ومجالت وعلى اإلنترنت‪.‬‬ ‫فض ً‬ ‫ومن بين هذه الصور المعروضة‪ ،‬صورة‬ ‫لبابا الفاتيكان وشيخ األزهر‪ ،‬التي تركت‬

‫ردود فع���ل غاضبة ومس���تاءة من جانب‬ ‫قيادات‪ ‬األزهر والفاتيكان‪ ،‬وقرروا اتخاذ‬ ‫إج���راءات قانوني���ة ضد المس���ماة «حملة‬ ‫بينيتون للتص���دي للكراهية»‪ ،‬التي قامت‬ ‫بها مجموعة بينيتون للمالبس‪ .‬نش���رت‬ ‫الص���ور الدعائية عب���ر فيديو متسلس���ل‬ ‫عل���ى «اليوتي���وب»‪ ،‬وطال���ت مجموع���ة‬ ‫م���ن الزعماء السياس���يين ف���ي الوضعية‬ ‫ذاتها‪ .‬كما اس���تنكر هذه الصور مجموعة‬ ‫م���ن المتتبعين من خ�ل�ال التعليقات على‬ ‫مواق���ع نش���رها أو م���ن خ�ل�ال تصاريح‬ ‫لعلم���اء األزهر اس���تنكرت ه���ذه الصور‪،‬‬ ‫معتبرة إياها حملة «عنيفة وقذرة ودعاية‬ ‫رخيص���ة باس���م المحب���ة»‪ ،‬فيم���ا اعتبر‬ ‫الفاتي���كان الصورة المفبرك���ة «جارحة‪،‬‬ ‫ليس فقط لكرامة البابا‪ ،‬بل أيض ًا لمشاعر‬ ‫المؤمنين»‪ ،‬مما اس���توجب الفاتيكان رفع‬ ‫دعوى قضائي���ة‪ ،‬وانتق���د البيت األبيض‬ ‫الحمل���ة التي أظهرت أيض ًا الرئيس باراك‬ ‫أوبام���ا يقبل الرئيس الصيني هو جينتاو‬

‫مجتمع���ا ت‬ ‫الترجمة الذي‬ ‫تتواص���ل مع���ه‬ ‫المبادرة بشكل مباشر‪.‬‬ ‫وقال جاس���م النعمة أحد (سفراء‬ ‫التغريد العربي) إن أعضاء المبادرة قدموا‬ ‫أكث���ر من ‪ 85‬سلس���لة تغريدية بالعربية‬ ‫في ‪ 85‬موضوع ًا متخصص ًا نالت أكثر من‬ ‫‪ 12700‬مش���اهدة إلكترونية‪ ،‬كما حققت‬ ‫هذه السالسل مراتب متقدمة ومتميزة في‬ ‫مح���ركات البحث العالمي���ة‪ ،‬ووصل عدد‬ ‫تغريداتها إل���ى أكثر م���ن ‪ 3000‬تغريدة‬ ‫وحصدت م���ا يزيد على ‪ 10‬آالف ريتويت‬ ‫اي (إعادة تغري���د) وتابعها ما يزيد على‬ ‫‪ 80000‬شخص على مستوى العالم»‪.‬‬ ‫وكانت مبادرة «س���فراء التغريد العربي»‬ ‫قد أطلقتها الطالب���ة القطرية المقيمة في‬ ‫الواليات المتحدة األميركية فاطمة يوسف‬ ‫الخاطر إل���ى كل التويتريي���ن في مايو‪/‬‬ ‫أيار من هذا الع���ام بتخصيص يوم كامل‬ ‫للتغريد باللغة العربية على تويتر‪.‬‬ ‫والرئي���س الفنزويل���ي هوغو تش���افيز‬ ‫ف���ي ص���ور مفتعلة‪ ،‬ومن بي���ن الصور‬ ‫كذلك بنيامين نتانياه���و يقبل الرئيس‬ ‫الفلسطيني محمود عباس‪ ،‬والمستشارة‬ ‫األلمانية أنجيال مي���ركل برفقة الرئيس‬ ‫الفرنس���ي نيك���والس س���اركوزي‪.‬‬ ‫ورغم‪ ‬تأكيد مجموعة المالبس اإليطالية‬ ‫«بينيت���ون» المعروف���ة بإثارتها للجدل‬ ‫الس���اخن عبر إعالناتها‪ ،‬أنها ستسحب‬ ‫الصور في أعقاب االنتقادات الش���ديدة‪،‬‬ ‫إال أن مالحق���ات قضائية كثيرة خلفتها‬ ‫هذه الحملة التي وصفت بالتجارية‪.‬‬ ‫من خ�ل�ال ت���داول الص���ور المركبة‬ ‫ال‬ ‫عل���ى «اليوتي���وب» الذي خل���ف تفاع ً‬ ‫م���ع إثارته���ا وجرأتها‪ ،‬ج���اءت بعض‬ ‫التعليقات مدينة ومستاءة من الفبركة‪،‬‬ ‫فيما سخرت أخرى وتعجب من تعجب‪:‬‬ ‫«مهم���ا كان رأي���ك حول السياس���ة‬ ‫أو الدي���ن‪ ..‬وأعتق���د أن هذا اس���تخدام‬ ‫ترويجي غير مصرح ب���ه بإذن صريح‬ ‫من األفراد»‪« ،‬هذا أمر فظيع! ماذا لو رأى‬ ‫ه���ذا أطفالنا»‪« ،‬إن ه���ذا مضحك ومثير‬ ‫لالشمئزاز في نفس الوقت‪ ،‬وأعتقد أنه‬ ‫مجرد خطأ في تحليل ما يحدث»‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫ميديا‬

‫مدونة تتعرى‬ ‫دعوة للفجور أم للتأمل؟‬ ‫مدون���ة مصري���ة تدع���ى علي���اء المهدي‬ ‫أصبح���ت حدي���ث الصح���ف العربي���ة‬ ‫واألجنبية والشبكات االجتماعية‪ ،‬بعد أن‬ ‫قامت بوضع صورة عارية تمام ًا لها على‬ ‫مدونتها «مذكرات ثائرة»‪ ،‬وكتبت‪:‬‬ ‫«حاكم���وا الموديل���ز الع���راة الذين عملوا‬ ‫في كلي���ة الفن���ون الجميلة حت���ى أوائل‬ ‫الس���بعينيات وأخفوا كتب الفن وكسروا‬ ‫التماثي���ل العاري���ة األثرية‪ ..‬ث���م اخلعوا‬ ‫مالبسكم وانظروا إلى أنفسكم في المرآة‬ ‫وأحرق���وا أجس���ادكم الت���ي تحتقرونه���ا‬ ‫لتتخلصوا من عقدكم الجنس���ية إلى األبد‬ ‫قبل أن توجهوا لي إهاناتكم العنصرية أو‬ ‫تنكروا حريتي في التعبير»‪.‬‬ ‫وم���ا لبثت أن انطلقت ش���رارة التعليقات‬ ‫«ثورية‬ ‫على خطوة علياء بين من اعتبرها‬ ‫ّ‬ ‫ض���د القمع الديني في مص���ر»‪ ،‬وبين من‬ ‫اعتبرها «ماجنة‪ ..‬مأجورة لتبث الفس���ق‬

‫في المجتمع»‪.‬‬ ‫وبينم���ا قام البعض بتمجيد خطوة علياء‬ ‫إلكترونية حملت اسم‪:‬‬ ‫بإنش���اء صفحات‬ ‫ّ‬ ‫«علياء المهدي وثورة التحرر الجنسي في‬ ‫عبر العديد من ال���زوار لمدونتها‬ ‫مص���ر»‪َّ ،‬‬ ‫والمعلق���ون عل���ى الهاش���تاج الخ���اص‬ ‫بالموضوع على تويتر عن صدمتهم فيما‬ ‫قامت به‪ ،‬وهذه بعض التعليقات‪:‬‬ ‫«إن أردت إحداث صدمة للمجتمع اعرضي‬ ‫أف���كارًا تقدمي���ة متف���ردة وحقيقية‪ ..‬وال‬ ‫تقدمي أفعا ًال ق���د توصف بالمراهقة على‬ ‫أحسن تقدير»‪.‬‬ ‫«يا شماتة الس���لفيين المتش���ددين فينا‪.‬‬

‫رخصة الحرية في السعودية!‬ ‫قضي���ة قيادة الم���رأة الس���عودية‬ ‫للسيارة‪ ،‬اكتس���بت الشهر الماضي‬ ‫زخم��� ًا جديدًا بعد أن وضع د‪ .‬كمال‬ ‫بن محمد الصبحي استشاري إدارة‬ ‫المشاريع التطويرية دراسة حول‬ ‫قيادة المرأة للسيارة‪.‬‬ ‫نتائج الدراس���ة كان���ت في صالح‬ ‫عدم الس���ماح للس���عوديات بقيادة‬ ‫الس���يارة‪ ،‬وه���و ما أثار نش���طاء‬ ‫تويتر من السعوديات والسعوديين‬ ‫فكتب���وا هذه التعليق���ات بين مؤيد‬ ‫ومعارض في إطار هاشتاج دراسة‬ ‫د‪ .‬كمال‪:‬‬ ‫«قي���ادة المرأة أضراره���ا أكثر من‬ ‫فوائده���ا‪ ،‬بالوق���ت الحال���ي ورانا‬

‫‪14‬‬

‫حيقولوا‪ :‬ش���ايفين الليبرالية والحرية‪،‬‬ ‫ده مجتمع كافر‪ .‬ويطالبوا بالتطهير»‪.‬‬ ‫«أعتقد أن تلك المسماة (علياء) بما فعلته‬ ‫شوهت صورة الثوة المصرية بتسمية‬ ‫قد ّ‬ ‫ما تفعله بحرية»‪.‬‬ ‫فيم���ا اعتبره���ا آخ���رون عل���ى موق���ع‬ ‫الفيس���بوك دعوة للتأمل ف���ي تناقضات‬ ‫المجتمع تج���اه الم���رأة وحريتها‪ ،‬فكتب‬ ‫نائل الطوخي س���اخراً‪« :‬إييييييييييييه‬ ‫يا بني آدمين؟ ضد النقاب لييييييه؟ انتو‬ ‫مش بتقولوا حري���ة وال إييييييييييييه؟‬ ‫خ�ل�اص‪ ،‬الحرية بقت كخ���ة لما جات ع‬ ‫النقاب»؟‬ ‫ش���غل كثي���ر قب���ل المطالب���ة فيه‬ ‫مواضي���ع أه���م‪ :‬الس���كن‪ ،‬الدخل‪،‬‬ ‫التطوير‪ ،‬االقتصاد»‪.‬‬ ‫«الدراس���ة أش���به ما تك���ون بنكتة‬ ‫المحش���ش الل���ي ق���ص جناحي���ن‬ ‫الحمامة فقال‪ :‬نستنتج أن الحمامة‬ ‫ال تطي���ر إذا قلن���ا لها طي���ري ألنها‬ ‫م���ا ص���ارت تس���مع»! «الغريب���ة‬ ‫يقول���ون إن قيادة الس���يارة تظهر‬ ‫مفاتن الجسم»‪« .‬ربط قيادة المرأة‬ ‫بالفحش والعهر والطالق والخيانة‬ ‫وتفكك األسرة يعتقده ومقتنع فيه‬ ‫كثير من الشعب‪ ،‬طبع ًا بس بعضهم‬ ‫م���ا يق���ول»‪« .‬يق���ول الدكت���ور إن‬ ‫الس���عودية (آخر معقل لإلسالم)‪..‬‬ ‫على كذا مفروض نبدأ نأخذ الجزية‬ ‫م���ن دول الخلي���ج‪ ،‬وبعدها نخش‬ ‫على باقي العالم»‪.‬‬


‫التحليل النفسي‬ ‫على الفيسبوك‬ ‫ماذا تقول صفحة الرجل على فيس���بوك‬ ‫عن شخصيته؟‬ ‫حول هذا الموضوع نش���ر موقع «ياهو»‬ ‫عدة نصائح للسيدات والفتيات للتعرف‬ ‫عل���ى الجوان���ب الغامضة من ش���خصية‬ ‫الرج���ل‪ ،‬والتي يح���اول أن يخفيها دوم ًا‬ ‫من خالل حسابه على الفيسبوك‪.‬‬ ‫ الصورة الشخصية‪:‬‬‫الص���ورة أبلغ م���ن ألف كلم���ة‪ ،‬فإذا قام‬ ‫الرجل بوض���ع صورته بصحبة جيتاره‬ ‫أو صورة س���يارته المفضل���ة أو فريقه‬ ‫المفضل‪ ،‬فهو شخص يحاول لفت انتباه‬ ‫الفتيات وجذبهن إليه بدعوى أنه ش���اب‬ ‫«ذو موهبة»‪ ،‬أما إذا نشر الرجل صورته‬ ‫بصحب���ة قط���ه األلي���ف فهذا معن���اه أنه‬ ‫شخص حنون وعطوف‪.‬‬ ‫ البيانات الشخصية‪:‬‬‫إذا كان الرجل يحب س���رد كافة تفاصيل‬ ‫حياته الش���خصية في ما يشبه «السيرة‬ ‫الذاتية التفصيلية المطولة»‪ ..‬فاس���ألي‬ ‫نفس���ك‪« :‬لماذا يض���ع كل ه���ذا الكم من‬ ‫المعلومات الشخصية ليراها الجميع؟»‪،‬‬ ‫فهو ش���خص غير كتوم وال يخفي س���رًا‬ ‫أبداً‪.‬‬ ‫ تحديث الستاتيوس‪:‬‬‫إذا الحظت أنه يقوم بتغيير الستاتيوس‬ ‫الخاص���ة ب���ه كل عش���ر دقائ���ق‪ ،‬فه���و‬ ‫إم���ا يعاني م���ن الف���راغ أو مريض بحب‬ ‫ال���ذات‪ ،‬أما الرجل ال���ذي ال يقوم بتغيير‬ ‫ال‬ ‫الس���تاتيوس الخاصة به إال نادرًا ‪ -‬مث ً‬ ‫مرة كل عدة أشهر ‪ -‬فهو يعاني من نقص‬ ‫الشجاعة ويخشى من تعليقات أصدقائه‬ ‫ظن ًا منه أنها ستؤذيه أو تتهكم عليه‪.‬‬ ‫ ألعاب الفيسبوك‪:‬‬‫إذا كان كل ما يقوم الرجل بمشاركته عبر‬ ‫صفحته على فيس���بوك هو أخبار تقدمه‬ ‫في األلعاب‪ ،‬مثل‪« :‬حروب المافيا ‪ -‬فارم‬ ‫فيل»‪ ،‬فهو شخص يجد األمان في العالم‬ ‫االفتراضي وال يحب مواجهة مش���اكله‪،‬‬

‫كم���ا أن حيات���ه فارغ���ة من أي���ة أحداث‬ ‫مهمة‪.‬‬ ‫ األصدقاء‪:‬‬‫إذا كان ع���دد أصدقائه ال يتجاوز أصابع‬ ‫اليد الواحدة‪ ،‬فهو شخص انطوائي لديه‬ ‫مش���اكل اجتماعية‪ ،‬أم���ا إذا كان يحتفظ‬ ‫بألف صديق‪ ،‬فهو يح���ب فقط التواصل‬ ‫مع اآلخرين ألن حياته فارغة ومملة‪.‬‬ ‫إذا لم يكن هذا الشخص مشهورًا أو يعمل‬ ‫في مج���ال الفن أو الرياضة‪ ،‬ووجدته قد‬ ‫أنشأ لنفس���ه صفحة للمعجبين به‪ ،‬فهو‬ ‫شخص تافه وغير واثق من نفسه أو من‬ ‫حب أصدقائه له‪.‬‬ ‫ أصدقاؤه‪:‬‬‫إذا كان ع���دد أصدقائه ال يتجاوز أصابع‬ ‫اليد الواحدة‪ ،‬فهو شخص انطوائي لديه‬ ‫مش���اكل اجتماعية‪ ،‬أم���ا إذا كان يحتفظ‬ ‫بألف صديق‪ ،‬فهو يح���ب فقط التواصل‬ ‫مع اآلخرين ألن حياته فارغة ومملة‪.‬‬ ‫ الصفحات التي ينضم إليها‪:‬‬‫إذا كان���ت الجروب���ات أو الصفحات التي‬ ‫انضم إليها الرجل تتمحور حول الفتيات‬ ‫فق���ط‪ ،‬فهو ش���خص يح���اول أن يتقبله‬ ‫اآلخرون ويخشى الرفض في الواقع‪.‬‬ ‫ طلب االنضمام إل���ى صفحته الخاصة‬‫لمحبيه‪:‬‬ ‫إذا لم يكن هذا الشخص مشهورًا أو يعمل‬ ‫في مج���ال الفن أو الرياضة‪ ،‬ووجدته قد‬ ‫أنشأ لنفس���ه صفحة للمعجبين به ‪Fan‬‬ ‫‪ page‬فهو ش���خص تافه وغير واثق من‬ ‫نفسه أو من حب أصدقائه له‪.‬‬

‫ناقوس‬ ‫الخطر‬ ‫التواص����ل اإللكترون����ي بق����در‬ ‫ما يتضم����ن جانب���� ًا إيجابي ًا بما‬ ‫يتيحه للجميع من تبادل األفكار‬ ‫والمعلوم����ات‪ ،‬ف����إن ل����ه جانب ًا‬ ‫سلبي ًا أيضا قد يصل إلى سرقة‬ ‫البيانات الش����خصية‪ ..‬أو حتى‬ ‫القضاء على حياة أسرية كانت‬ ‫تبدو سعيدة وطبيعية‪.‬‬ ‫فق����د أك����دت دراس����ة أجراه����ا‬ ‫باحثون في جامعتي «نبراسكا»‬ ‫و«واش����بورن» األميركيتين أن‬ ‫النس����بة األكبر مم����ن يرتكبون‬ ‫الخيان����ة اإللكتروني����ة ‪ -‬أي‬ ‫يتعرف����ون عل����ى صديق����ة‬ ‫افتراضي����ة بش����كل حص����ري ‪-‬‬ ‫يخونون زوجاته����م الحق ًا على‬ ‫أرض الواق����ع من خالل عالقات‬ ‫جنسية مباشرة‪.‬‬ ‫وذك����رت ش����بكة «س����ي إن إن»‬ ‫األميركي����ة أن الباحثين وجدوا‬ ‫في دراس����تهم أن ثالث����ة أرباع‬ ‫من أقاموا عالقات «صداقة» عن‬ ‫طريق اإلنترنت انتهى بهم األمر‬ ‫بإقامة عالقات جنس����ية واقعية‬ ‫الحقاً‪.‬‬ ‫وتدح����ض ه����ذه الدراس����ة‬ ‫االعتق����اد الذي كان س����ائدًا بأن‬ ‫العالقات التي تبدأ على الشبكة‬ ‫العنكبوتي����ة ال تتجاوزه����ا في‬ ‫معظم األحيان‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫لقاء‬

‫خوان جويتيسولو‬

‫العثمانية الجديدة‪ ..‬اليوم‬ ‫عادت تركيا إلى دورها كـ «جسر بين الحضارات»‪ ،‬وهو‬ ‫الدور الذي لعبته خالل قرون حتى انحطاط وسقوط الدولة‬ ‫العثمانية بفضل السياس���ة الجدي���دة لحكومة أردوغان‪،‬‬ ‫الناتجة عن رفض االتحاد األوروبي الخافت دخول تركيا‬ ‫وتحولت‬ ‫إلى ما اعتبره الكثيرون وبحق «نادي ًا مسيحياً»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫اليوم إل���ى قوة بازغة‪ ،‬ذات تأثير سياس���ي واقتصادي‬ ‫يمت���د من الجمهوريات اإلس�ل�امية باالتحاد الس���وفياتي‬ ‫القديم حتى الشرق األوسط وكل الضفة الجنوبية للبحر‬ ‫متخلصة م���ن ِ‬ ‫الحْمل الذي كان���ت تحمله منذ‬ ‫المتوس���ط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إنش���اء الدولة الحديثة على يد أتاتورك‪ :‬تبعية الس���لطة‬ ‫المدنية للجيش‪ ،‬تك���رار االنقالبات العس���كرية‪ ،‬الحرب‬ ‫الكامنة بين متطرفي اليس���ار ومتطرفي اليمين القوميين‬ ‫الذين اعتادوا على العنف وعلى االس���تعداد له‪ .‬لقد أظهر‬ ‫حزب العدالة والتطور‪ ،‬دون أن يتخطى الطابع العلماني‬ ‫للدس���تور الذي أعده أتاتورك‪ ،‬إمكانية تأس���يس حزب‬ ‫مس���لم وديموقراطي ف���ي نفس الوقت‪ ،‬ووضع أس���س‬ ‫اقتصاد ديناميك���ي تواجه قوته العواصف واالنتفاضات‬ ‫التي تؤثر على منطقة اليورو‪ ،‬وقطع الروابط العسكرية‬ ‫والسياس���ية بإس���رائيل نتانياهو‪ ،‬وبعد قليل من التردد‬ ‫عانق ثورات الربيع العربي‪ .‬هذه اللفة االس���تراتيجية‪،‬‬ ‫التي نس���ميها بحق العثمانية الجديدة‪ ،‬سمحت لها بجمع‬ ‫القي���م المدني���ة للديموقراطي���ات الغربية مع السياس���ة‬ ‫النش���يطة والمنفتحة على محيطها اإلسالمي‪ .‬وأصبحت‬ ‫تركيا اليوم مؤشرًا للشعوب العربية واإلسالمية وسيزداد‬ ‫تأثيرها كلما ازداد انح���دار الواليات المتحدة‪ ،‬التي تحيا‬ ‫في مس���تنقع ح���روب مكلفة وبال مخرج في أفغانس���تان‬ ‫والعراق‪ .‬بينما المش���روع العثمان���ي الجديد يتوجه لملء‬ ‫الف���راغ الذي خلفت���ه الديكتاتوري���ات العربية الفاس���دة‬ ‫وتوحد الحكومة اإلس���رائيلية الحالي���ة‪ ،‬أكثر الحكومات‬ ‫عمى وصمم ًا أمام الواقع االجتماعي والسياسي للمحيط‬ ‫الجغرافي الذي تقع في نطاقه‪.‬‬ ‫إلى حد ما‪ ،‬كان من الممكن التنبؤ بالعثمانية الجديدة‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫فقطيع���ة أتاتورك الراديكالي���ة للماضي العثماني أنقذت‬ ‫ُ‬ ‫خطط له‬ ‫الم‬ ‫الكولونيال���ي‬ ‫التقس���يم‬ ‫من‬ ‫التركية‬ ‫الدول���ة‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫في معاهدة س���يفر‪ ،‬غير أنه اضط���ر للتضحية بعناصر‬ ‫ثابتة في المجتمع والثقافة‪ :‬تغيير الحروف العربية إلى‬ ‫التينية‪ ،‬هجر اإلرث األدب���ي والفني المتميز خالل قرون‬ ‫لخصوصيته وغرابته‪.‬‬ ‫كانت العثمانية مدفونة‪ ،‬لكنها لم تختف‪ .‬كما الصهارة‬ ‫البركانية التي تطفو من آن آلخر على الس���طح‪ .‬وما من‬ ‫أحد وصف مسح إسطنبول الحضري‪ ،‬وركائزها الثقافية‬ ‫المتراكب���ة‪ ،‬أفضل من الروائي الحائز على نوبل أورهان‬ ‫توغل‬ ‫باموق في عمله الكبير «الكتاب األس���ود»‪ .‬الرواية ُ‬ ‫في عم���ق األرض والزمن الذي محاه فرمان‪ :‬تذكرة بأنهم‬ ‫ال يزال���ون هناك رغ���م التغيرات الثقافية والسياس���ية‪،‬‬ ‫يتمتع���ون بقوة حركة زلزالية من الممكن أن تعيدهم إلى‬ ‫وتجس���د العثمانية الجديدة عودة ما هو مقموع‬ ‫السطح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يفس���ر الس���حر الذي‬ ‫في مجاالت الحياة المختلفة وهو ما ّ‬ ‫تمارسه ليس فقط فيما يخص السلطة العثمانية القديمة‬ ‫ب���ل أيض ًا في الم���دار األوروب���ي منذ فتح محم���د الفاتح‬ ‫القسطنطينية عام ‪.1453‬‬ ‫في مقال لي ضمن كتاب «يوميات قتالية» (ترجمه إلى‬ ‫العربية كاظم جهاد بعنوان‪ :‬في االستش���راق اإلسباني)‬ ‫تحدث���ت بتوس���ع ع���ن ه���ذا الس���حر‪ ،‬وخير م���ن يمثله‬ ‫ثربانتس‪ .‬ففي القرن السادس عشر ُكتبت مئات من كتب‬ ‫الرحالت الحقيقية والمزيفة تحولت فيها القس���طنطينية‬ ‫إلى إط���ار للقص���ص والرواي���ات واألعمال المس���رحية‬ ‫الممتلئ���ة بمواضيع وبألوان محلي���ة‪ ،‬مركزة في معظم‬ ‫األحيان في توبكابي س���راي وحريم الس���لطان‪ .‬وداخل‬ ‫هذه الكتلة من «الش���هادات» التي س���ادت فيها الفانتازيا‬ ‫على الواقع‪ ،‬لم نعثر إال على مكتوب واحد باإلس���بانية‪،‬‬ ‫ربما يكون كاتبه البروتستانتي خوان دي أويوا‪ ،‬المدان‬ ‫أم���ام محاك���م التفتي���ش ع���ام ‪ .1554‬وكان المخطوط‪،‬‬


‫الذي خبأه المؤلف بنفس���ه ‪« -‬يتج���ول في أزمنة صعبة‬ ‫ج���داً» كما قال بعد ذلك واحد من أفضل ش���عرائنا‪ -‬لم ير‬ ‫النور إال بعد اكتش���افه في بدايات القرن الماضي‪ .‬النص‬ ‫مثير للش���غف‪ ،‬ورغم االحتياطات الت���ي اتخذها الرحالة‬ ‫المجهول‪ -‬يهديه إلى ملك إس���بانيا «ليطلعه على عادات‬ ‫وتقاليد عدونا األبدي‪ :‬التركي»‪ -‬إال أنه يؤس���س للتضاد‬ ‫الواضح بين الوحدة الكاثوليكية إلس���بانيا وانشغالها بـ‬ ‫«نقاء العرق» وبين التس���امح العثمان���ي تجاه الديانات‬ ‫األخرى والتنوع العرقي واللغوي الذي هو في نهاية األمر‬ ‫يصب في مصلحة الجميع‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬يلجأ المؤلف أيض ًا‬ ‫إلى كليشيهات االستشراق التي حافظت على حياتها مع‬ ‫م���رور الزمن‪ ،‬غي���ر أن اإلطراء على احت���رام العثمانيين‬ ‫لعادات ومعتقدات اآلخرين والذي يبزغ من بين السطور‬ ‫ال يخفى على انتباه القارئ‪.‬‬ ‫لقد انطفأت العالقات المباش���رة م���ع العالم العثماني‬ ‫وتضاءلت إل���ى حفنة من الموضوع���ات (الروايات التي‬ ‫تتناول القراصنة األتراك ال تزال من أكثر الروايات مبيع ًا‬ ‫ف���ي القرن الواحد والعش���رين) نتيج���ة للتصحر الثقافي‬ ‫الناجم عن تعصب محاك���م التفتيش الكاثوليكية‪ .‬وبينما‬ ‫والكّتاب األنجلوفرنسيون في نهضة ثقافية‬ ‫أفاد الرحالة ُ‬ ‫أضيف���ت للمش���روع الكولونيال���ي الكبي���ر لبلدانهم‪ ،‬كما‬ ‫أوضح إدوارد س���عيد ببراعة في كتابه «االستش���راق»‪،‬‬ ‫غ���اب المؤل���ف اإلس���باني ونقص���ت األعم���ال المرتبطة‬ ‫باالمبراطورية العثمانية‪ .‬نس���تثني من ذلك العمل القيم‬ ‫حللت عمله‬ ‫للمغامر البرش���لوني دومينجو بادي���ا‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬ ‫«رحالت علي ب���ك» – المكتوب والمنش���ور عام ‪- 1814‬‬ ‫في كتاب المقاالت المشار إليه سلفاً‪ .‬لقد ترك لنا المؤلف‬ ‫واحدة من أولى الش���هادات الموثوق فيها حول الحج إلى‬ ‫مكة وحكاية أخرى عن فلس���طين العثمانية التي تدحض‬ ‫الصورة النمطية المتج���ذرة اليوم في الخيال األوروبي‪،‬‬ ‫كتب‪:‬‬

‫«يسود في فلسطين جو من االنسجام الكامل بين أبناء‬ ‫الديان���ات المختلفة‪ ،‬وتقدم عادات الع���رب نموذج ًا فريدًا‬ ‫لجيرانهم‪ :‬تس���ير النس���اء المس���لمات بوجوه مكشوفة‪،‬‬ ‫ويش���ترك ف���ي االحتف���االت واألعي���اد اإلس�ل�امية كال‬ ‫الجنسين‪ ،‬بل ويشارك فيها أيض ًا بكل حرية مؤمنون من‬ ‫عقائد مختلفة‪ ،‬في الناصرة‪ ،‬يحج المس���لمون بأبنائهم‬ ‫إلى مريم الع���ذراء ويقصون لهم ش���عرهم ألول مرة في‬ ‫وأوروبيو ع���كا يتمتعون بحرية كبيرة وتوقير‬ ‫معبدها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ورئيس وزراء الباش���ا يهودي يحظ���ى باحترام عظيم‪.‬‬ ‫وفي القدس‪ ،‬يعيش سدنة يسوع مندمجين بال تفرقة مع‬ ‫تالمذة محمد‪ ،‬وعن هذا االندماج تنجم حرية واسعة أكبر‬ ‫بكثير من أي بلد آخر بالمنطقة»‪.‬‬ ‫وكما يعلم القارئ‪ ،‬فالوضع في فلس���طين لم يتحسن‬ ‫من���ذ الحك���م البريطاني وتأس���يس دولة إس���رائيل عام‬ ‫‪ ،1948‬بل ازداد سوءاً‪.‬‬ ‫وختام���اً‪ ،‬أعود إلى العثمانية الجدي���دة التي طوعتها‬ ‫اللفة االستراتيجية لسياسة أردوغان‪ .‬لقد عثر فيه الحوار‬ ‫المفت���وح العابر للبحر المتوس���ط فيما س���مي بـ «عملية‬ ‫برشلونة» على حليف راسخ جدًا في طرحه لتحالف يضم‬ ‫القيم المش���تركة لضفتي البحر القديم‪ .‬وتستطيع الفترة‬ ‫االنتقالية في تونس ومصر أن تستلهم النموذج العثماني‬ ‫الجديد التركي لمنع انجرافات التطرف الديني الذي ترمز‬ ‫له القاعدة‪ .‬كم���ا أن الحرب األهلية الليبية‪ ،‬التي لم تنته‬ ‫إال بالقب���ض عل���ى الطاغية وقتله‪ ،‬والقم���ع الدموي من‬ ‫جانب األسد ضد ثورة ش���عبه‪ ،‬كل ذلك يفرض تحديات‬ ‫كبي���رة‪ :‬تجنب العودة إلى القبلي���ة المفتتة والحرب بين‬ ‫الطوائف التي تخدم الديكتاتور السوري كعذر له ليتلحف‬ ‫أكثر بالسلطة بشكل مخز‪.‬‬ ‫العثماني���ة الجديدة‪ ،‬التي هي جس���ر بين الحضارات‪،‬‬ ‫خير حل وترياق‪.‬‬ ‫ترجمة‪ :‬أحمد عبد اللطيف‬ ‫‪17‬‬


‫ق�ضية العدد‬

‫‪18‬‬


‫فلسطين‬ ‫ماذا عن المستقبل؟‬ ‫أكثر من ستين عام ًا على قرار‬ ‫التقسيم وأكثر من أربعين عام ًا على‬ ‫النكسة التي ابتلعت فيها إسرائيل‬ ‫الضفة وغزة‪ ،‬وما من حل يلوح في‬ ‫األفق‪.‬‬ ‫اعتراف ًا‬ ‫الفلسطينيون‬ ‫وقع‬ ‫بإسرائيل واكتفوا بحلم دولة على‬ ‫اثنين وعشرين بالمئة من أرض‬ ‫فلسطين التاريخية‪ ،‬ومع ذلك لم‬ ‫يحصلوا على دولتهم بعد‪ ،‬واستمرت‬ ‫إسرائيل في استباحة الضفة وغزة‬ ‫قت ً‬ ‫ال للبشر وهدم ًا للمنازل وبناء‬ ‫المستوطنات للمتطرفين اليهود‪.‬‬ ‫وكلما بدأ الفلسطينيون تحرك ًا‬ ‫من أجل تحرير أرضهم دعاهم‬ ‫اإلسرائيليون إلى مفاوضات تستمر‬ ‫سنوات دون أن تتوصل إلى شيء‪،‬‬ ‫ألنهم يديرون صراع ًا يريدونه أبدي ًا‬ ‫وال يسعون إلى الحل‪.‬‬ ‫وأمام الخطوة الجديدة للرئيس‬

‫الفلسطيني بالذهاب إلى األمم المتحدة‬ ‫أطلق اإلسرائيليون مجددًا دعوتهم‬ ‫للتفاوض غير المشروط بإيقاف‬ ‫بناء المستوطنات‪ .‬وتحدث الحليف‬ ‫األميركي حول المفاوضات بوصفها‬ ‫طريق ًا وحيدًا للحل وليس األمم‬ ‫المتحدة‪ ،‬متجاه ً‬ ‫ال أن إسرائيل الطرف‬ ‫األقوى قامت بقرار من األمم المتحدة‪،‬‬ ‫وعدم االعتراف باألمم المتحدة حكم ًا‬ ‫بالملف يطعن في شرعية الدولة‬ ‫األولى بالرعاية األميركية!‪.‬‬ ‫ثم كانت مفاجأة قبول فلسطين‬ ‫عضوًا باليونيسكو التي فجرت غضب‬ ‫اإلسرائليين وأمل الفلسطينيين‪.‬‬ ‫ولكن الخطوة الجديدة مجرد‬ ‫خطوة‪ ،‬وتبقى الحقيقة الوحيدة‬ ‫المؤكدة وهي أن الفلسطينيين باتوا‬ ‫الشعب الوحيد الخاضع لالحتالل‬ ‫المباشر‪.‬‬ ‫هذا هو الواقع‪ ،‬فماذا بعد؟‬

‫‪19‬‬


‫السلطة الفلسطينية في تحقيق إجماع ونيل العضوية الكاملة‬ ‫فشلت ّ‬ ‫في األمم المتحدة‪ ،‬لكنها‪ ،‬استطاعت‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬كسب رهان دخول منظمة‬ ‫اليونسكو‪ ،‬متحدية لوبيات إسرائيل في أوروبا وأميركا‪.‬‬

‫بيت العنكبوت‬ ‫�سعيد خطيبي‬ ‫مكس���ب دبلوماس���ي مه���م حققت���ه‬ ‫كام�ل�ا في‬ ‫فلس���طين بقبوله���ا عض���وًا‬ ‫ً‬ ‫اليونس���كو(‪ 31‬أكتوبر‪/‬تشرين األول)‪،‬‬ ‫تش���تت حوله آراء وانطباعات وسائل‬ ‫اإلع�ل�ام الدولية‪ .‬حي���ث تفاءلت جريدة‬ ‫«لوموند» الفرنسية بهذا النجاح وعنونت‬ ‫مط���والً‪« :‬فلس���طين تتخطى‬ ‫موضوع ًا‬ ‫ّ‬ ‫مرحل���ة جديدة نح���و االعت���راف بها»‪،‬‬ ‫وذكرت صحيفة «لوس���وار» البلجيكية‬ ‫أنه «اعتراف رمزي بدولة فلسطين»‪ .‬على‬ ‫العكس تمام ًا من الصحف الكندية‪ ،‬التي‬ ‫تبنت موقف حكومته���ا الرافض لدخول‬ ‫فلسطين‪ ،‬وكتبت صحيفة «لودوفوار»‪:‬‬ ‫«خيار السماح لفلسطين باالنضمام يهدد‬ ‫مس���تقبل منظمة اليونس���كو»‪ .‬عالمات‬ ‫التهديد الذي أطلقته���ا الصحيفة الكندية‬ ‫جاءت س���ريعة‪ ،‬حي���ث أعلنت الواليات‬ ‫المتح���دة األميركية (الت���ي تعتلي قائمة‬ ‫ال���دول المانحة بس���تين ملي���ون دوالر‬ ‫س���نوياً) تعليق دعمها المادي للمنظمة‬ ‫نفسها‪ .‬هذه األخيرة أصدرت بيان ًا تشير‬ ‫في���ه إلى تعلي���ق جزء من نش���اطاتها‪،‬‬

‫‪20‬‬

‫انتصرنا‬

‫إلى نهاية الس���نة الجارية‪ ،‬بسبب عجز‬ ‫ف���ي الميزانية يق���در بحوالي ‪ 65‬مليون‬ ‫دوالر‪ .‬وص���رح الرئيس ب���اراك أوباما‬ ‫في ختام القمة االقتصادية لدول آس���يا‬ ‫عبرت عن‬ ‫والمحي���ط األطلس���ي‪« :‬لق���د ّ‬ ‫امتعاض���ي للرئي���س الفرنس���ي نيكوال‬ ‫س���اركوزي‪ ،‬وش���جبت تصويت فرنسا‬ ‫لصالح فلسطين»‪ .‬مشيرًا إلى أن انضمام‬ ‫فلسطين للتنظيمات الدولية يجب أال يتم‬ ‫دونما تس���وية أو دون التوصل التفاق‬ ‫سالم مع إسرائيل‪ .‬موقف يكشف تحو ًال‬ ‫جوهري ًا في سياسة أوباما الذي كشف‪،‬‬ ‫في األس���ابيع األولى من توليه رئاسة‬ ‫البي���ت األبي���ض‪ ،‬عن نوايا حس���نة في‬ ‫التعام���ل مع الملف الفلس���طيني‪ .‬ومن‬ ‫المنتظر أن تنتهج كن���دا (تحتل المرتبة‬ ‫الس���ابعة في قائمة أهم الدول المانحة)‬ ‫الخيار نفسه‪ ،‬بتقليص مساعداتها‪ ،‬التي‬ ‫تقدر سنوي ًا بأكثر من ‪ 10‬مليون دوالر‪.‬‬ ‫على العك���س م���ن آراء الصحف في‬ ‫كن���دا‪ ،‬وتعنُّ���ت مواق���ف س���ادة البيت‬ ‫األبيض في الواليات المتحدة األميركية‬

‫الذي���ن أبان���وا ع���ن نص���رة للسياس���ة‬ ‫الكولونيالية اإلس���رائيلية‪ ،‬فقد انتقدت‬ ‫صح���ف المعارضة ف���ي ألمانيا بش���دة‬ ‫موقف حكومة أنجيلين���ا ماركيل‪ ،‬التي‬ ‫صوتت ضد انضمام فلس���طين‪ ،‬ودعتها‬ ‫ّ‬ ‫إلى تدارك خطئها‪ ،‬والّدفاع عن حضور‬ ‫فلسطين في اليونس���كو‪ .‬وعلّق الخبير‬ ‫السياس���ي ولفانغ جيرك قائالً‪« :‬موقف‬ ‫ألمانيا س���يعزلها من لع���ب دور مهم في‬ ‫منطقة الشرق األوسط»‪.‬‬ ‫الصحاف���ة العربي���ة هلّل���ت لنج���اح‬ ‫ال‬ ‫المساعي الدبلوماسية‪ .‬وتحدثت طوي ً‬ ‫عن هذا االنتصار‪ .‬لكنها تفادت الخوض‬ ‫في األسئلة األهم‪:‬ما دور وفعالية العرب‬ ‫في المنظمات الدولية‪ ،‬مثل اليونس���كو؟‬ ‫حض���ور العرب فيها ي���كاد يكون باهتاً‪.‬‬ ‫ش���كلي ًا وغير مؤثر‪ .‬رغم أن اليونسكو‬ ‫تأسس���ت ع���ام ‪ ،1945‬بمب���ادرة قادها‬ ‫عش���رون بلداً‪ ،‬م���ن بينهم ثالث���ة بلدان‬ ‫عربية‪ :‬لبنان‪ ،‬مصر‪ ،‬والمملكة العربية‬ ‫الس���عودية‪ ،‬إال أنه لم يمر على منصبها‬ ‫القيادي اس���م عربي واحد‪ .‬كما أن ورقة‬ ‫الضغط العربي���ة داخل المنظمة بحاجة‬ ‫تكرس نفس���ها‪ ،‬أكث���ر فأكثر‪،‬‬ ‫إل���ى أن ّ‬ ‫وتس���تفيد من الدعم المال���ي المهم الذي‬ ‫تقدمه الدول العربية للمنظمة سنوياً‪.‬‬ ‫دخ���ول فلس���طين إلى اليونس���كو‪،‬‬ ‫بع���د انتظ���ار طوي���ل‪ ،‬يؤك���د عل���ى أن‬ ‫بيت السياس���ة األميركي���ة الخارجية لم‬ ‫يعد س���وى بيت عنكب���وت «وإن أوهن‬ ‫البيوت لبيت العنكبوت»‪ .‬وأن اللوبيات‬ ‫الت���ي تحكم ميول المجتم���ع الدولي من‬ ‫الممكن تجاوزها‪ .‬فكم���ا نجحت التدابير‬ ‫الدبلوماس���ية الفلس���طينية في دخول‬ ‫منظمة األمم المتحدة للتربية والعلوم‪،‬‬ ‫من ش���أنها مواصلة الطري���ق‪ ،‬لإلقرار‬ ‫بالدولة وإس���كات أف���واه المنتقدين من‬ ‫داخل إسرائيل‪ ،‬على غرار صحيفة «ها‬ ‫آرت���ز» التي وصفت عضوية فلس���طين‬ ‫بالمخجل���ة‪ .‬كم���ا ل���م تتمال���ك حكومة‬ ‫نتنياه���و أعصابها وأعلن���ت نيتها بناء‬ ‫‪ 2000‬وحدة س���كنية في مس���توطنات‬ ‫القدس الشرقية والضفة الغربية‪ .‬وذهب‬ ‫موقع «‪ »identite juive.com‬بعيدًا في‬ ‫تطرفه عندما كت���ب‪« :‬التصويت لصالح‬ ‫فلس���طين س���يخلق أزمة داخل منظمة‬ ‫وسيعجل بنهايتها»‪.‬‬ ‫اليونسكو‬ ‫ِّ‬


‫حق‪..‬ال يضيع‬

‫رهانات اإلقرار‬ ‫بدولة فلسطين‬ ‫با�سكال بونيفا�س‬ ‫حرك طلب اإلقرار بدولة فلسطين في‬ ‫ّ‬ ‫هيئة األمم المتحدة معركة دبلوماسية‪،‬‬ ‫دام���ت أس���ابيع طويلة‪ .‬مع ذل���ك فإننا‬ ‫ل���ن نلتمس نتائج ملموس���ة‪ .‬ألن القرار‬ ‫النهائي يحتكره مجل���س األمن الدولي‪،‬‬ ‫لوحت الواليات المتحدة األميركية‬ ‫حيث ّ‬ ‫ح���ق الفيتو‪.‬‬ ‫بنيته���ا ف���ي اللّج���وء إلى ّ‬ ‫مهما كانت نتائ���ج التصويت فإن الواقع‬ ‫يتغي���ر‪ :‬األراضي‬ ‫عل���ى األرض لم ولن ّ‬ ‫الفلسطينية تبقى تحت سيطرة الجيش‬ ‫اإلسرائيلي‪.‬‬ ‫رغ���م أن المس���عى الدبلوماس���ي لن‬ ‫يحمل تأثيرًا على الوقائع الميدانية فإنه‬ ‫يتضمن إش���ارات سياس���ية ورمزية جد‬ ‫مهمة‪ ،‬حيث اس���تطاع أن يجنّد لصالحه‬ ‫أوراق ًا وقوى دبلوماسية عديدة‪.‬‬

‫بالنسبة للطرف الفلس���طيني تعتبر‬ ‫خطوة طلب االعتراف بالدولة إقرارًا بفشل‬ ‫االنتفاضة‪ ،‬ولكن أيض ًا داللة على بلوغ‬ ‫طريق مس���دود في المفاوضات الثنائية‬ ‫مع إسرائيل‪ .‬أما الطرف اإلسرائيلي‪ ،‬فقد‬ ‫عبر عن رفضه االعتراف بدولة فلسطين‬ ‫في األم���م المتحدة‪ ،‬دونم���ا نفي مطلق‬ ‫لحق ولطموح تأسيس دولة فلسطينية‬ ‫يوم ًا ما‪ .‬وب���رر الرفض بأهمية مواصلة‬ ‫المحادثات الثنائية‪ .‬فهو يخشى أن يدخل‬ ‫حال���ة من العزلة الدولية في حال اإلقرار‬ ‫بفلسطين‪ .‬الواليات المتحدة تتبنى‪ ،‬من‬ ‫جهتها‪ ،‬الموقف اإلس���رائيلي بحذافيره‪.‬‬ ‫فق���د حظي نتانياهو باس���تقبال جد حار‬ ‫الصيف الماضي أمام الكونغرس‪ .‬كما أن‬ ‫أوباما‪ ،‬الذي يمر بأزمة سياسية‪ ،‬ليس‬

‫مس���تعدًا للمقامرة بعهدة انتخابية ثانية‬ ‫بسبب ملف الشرق األوسط‪.‬‬ ‫أن نقول إن تصويت ًا في األمم المتحدة‬ ‫يهّدد المفاوضات الثنائية فتلك نكتة‪ .‬أو‬ ‫ربما فزاعة‪ .‬ألنها في الحقيقة ليست أكثر‬ ‫من مخطط لكسب الوقت ولخدمة مصالح‬ ‫إسرائيل‪.‬‬ ‫ال���دول األوروبي���ة ال تب���دو متفق���ة‬ ‫حول موق���ف مح���ّدد‪ .‬تفض���ل غالبيتها‬ ‫ترجيح مصطلح الدولتي���ن‪ .‬بينما تظل‬ ‫مصرة عل���ى التقرب من الموقف‬ ‫ألمانيا ّ‬ ‫اإلسرائيلي‪ .‬كما أن دول هولندا‪ ،‬بولونيا‬ ‫وجمهورية التشيك تعلن صراحة تبنيها‬ ‫لمواقف واشنطن‪ .‬أمام هذا الوضع بات‬ ‫موحد‪.‬‬ ‫من الصعب التنبؤ بموقف أوروبي ّ‬ ‫فدول القارة العجوز تبقى مواقفها مشتتة‬ ‫بين الرفض وقبول االعتراف بقيام دولة‬ ‫فلس���طين‪ .‬موقف ال يخدمها بالنظر إلى‬ ‫سعيها الدؤوب إلى لعب دور محوري في‬ ‫القضية‪ ،‬باعتبارها المتعامل االقتصادي‬ ‫الرئيس���ي مع إس���رائيل وأهم الداعمين‬ ‫مادي ًا للسلطة الفلسطينية‪ .‬كما أن حالة‬ ‫التشتت التي نشهدها اليوم تمثل تراجع ًا‬ ‫أوروبي��� ًا تاريخي ًا الفت���اً‪ ،‬خصوص ًا إذا‬ ‫أدركن���ا أن بي���ان البندقية ع���ام ‪1980‬‬ ‫تضمن موقف��� ًا أوروبي ًا قوي ًا ومش���ترك ًا‬ ‫إزاء هذه القضية االستراتيجية‪.‬‬ ‫مب���ادرة اقت���راح االعت���راف بدول���ة‬ ‫فلسطين تكشف العزلة التي تعيش فيها‬ ‫إس���رائيل – ومعه���ا الوالي���ات المتحدة‬ ‫األميركية‪ ،‬بش���كل غير مباشر – بالنظر‬ ‫إلى أن دعم الملف الفلسطيني ال ينحصر‬ ‫فق���ط عل���ى دول عربي���ة وإس�ل�امية‪.‬‬ ‫ب���ل يتعداه���ا إلى غالبي���ة دول الجنوب‬ ‫وكبريات الديموقراطيات الناش���ئة التي‬ ‫أعلنت صراحة دعمها لفلسطين‪.‬‬ ‫موازين القوى في العالم تتغير بنهاية‬ ‫القطبية والسيادة الغربية وبنشأة قوى‬ ‫ودول جدي���دة‪ .‬هذا التغير ف���ي موازين‬ ‫القوى وفي توجه���ات األقطاب لن يلعب‬ ‫ال لصالح إس���رائيل‪ .‬فاالعتماد‬ ‫مس���تقب ً‬ ‫عل���ى أمي���ركا وعل���ى حقها ف���ي فرض‬ ‫الحماي���ة لن يخدم الدول���ة العبرية على‬ ‫المدى المتوسط‪.‬‬ ‫*عن موقع مجلة (نوفال اوبسرفاتور)‬

‫‪21‬‬


‫يد واحدة‬

‫الربيع‬

‫الفلسطيني القادم‬ ‫مهند عبد احلميد ‪ -‬رام اهلل‬

‫أحدثت الث���ورات العربي���ة تحوالت‬ ‫هامة‪ ،‬يتوقع أن يكون لها نتائج مهمة‬ ‫على القضي���ة الفلس���طينية‪ .‬فقد انتهى‬ ‫عه���د كان النظام المص���ري يمارس فيه‬ ‫الضغط على القيادة الفلسطينية لتتالءم‬ ‫مع الش���روط األميركية واإلسرائيلية‪،‬‬ ‫وأصبحت وجه���ة الضغط نح���و دولة‬ ‫االحتالل‪ .‬ثمة خش���ية إس���رائيلية من‬ ‫اشتراط بقاء معاهدات السالم المصرية‬ ‫واألردنية‪-‬اإلسرائيلية‪ ،‬بإنهاء االحتالل‬ ‫اإلس���رائيلي لألراض���ي الفلس���طينية‬

‫‪22‬‬

‫وإقام���ة الدول���ة الفلس���طينية‪ .‬وهناك‬ ‫مؤش���رات على ذلك‪ ،‬كاقتحام السفارة‬ ‫اإلس���رائيلية في القاهرة وهرب السفير‬ ‫وطاقم���ه إلى ت���ل أبيب‪ ،‬وإع���ادة فتح‬ ‫اتفاقية بيع الغاز المصري إلى إسرائيل‪،‬‬ ‫وتصريح عصام شرف رئيس الحكومة‬ ‫المصري���ة بأن بنود اتفاقية كامب ديفيد‬ ‫غير مقدسة‪.‬‬ ‫يمك���ن الق���ول إن الش���عوب العربية‬ ‫أصبح���ت بعد الثورات ش���ريك ًا في حل‬ ‫القضية الوطني���ة العربية وفي مركزها‬ ‫القضي���ة الفلس���طينية‪ ،‬وس���يكون لها‬

‫بصماته���ا القوية على القرار الرس���مي‪.‬‬ ‫وإن رسوخ هذا التحول يسمح باالنتقال‬ ‫من «استراتيجية التوسل» العربية لدى‬ ‫اإلدارة األميركي���ة‪ ،‬إل���ى اس���تراتيجية‬ ‫الضغ���ط عل���ى المصالح اإلس���رائيلية‬ ‫واألميركية واس���تخدام سالح المقاطعة‬ ‫والمطالبة بدفع ثمن سياسي للمصالح‬ ‫األميركية والغربية المنتشرة في طول‬ ‫البالد العربية وعرضها‪ .‬وال ش���ك في‬ ‫أن ه���ذا التطور س���ينعكس إيجاب ًا على‬ ‫النضال الفلسطيني‪.‬‬ ‫فع�ل�ا على مواقف‬ ‫وقد ب���دأ ينعكس‬ ‫ً‬ ‫القي���ادة الفلس���طينية‪ ،‬الت���ي رفض���ت‬ ‫اس���تئناف المفاوض���ات دون االعتراف‬ ‫بحدود الرابع من حزيران ‪ 1967‬ودون‬ ‫وقف ش���امل لالستيطان‪ .‬وكان الذهاب‬ ‫لألم���م المتح���دة ورف���ض كل الضغوط‬ ‫أولى الثمار الطيب���ة للثورات العربية‪.‬‬ ‫كما أن التح���ول بدأ ينعكس على حراك‬ ‫الشباب الفلسطيني‪.‬‬

‫البدايات‬

‫عش���رات المجموع���ات تض���م مئات‬ ‫بل آالف الش���باب والشابات من مختلف‬ ‫المناطق داخل الوط���ن وخارجه تعمل‬ ‫عبر الفيس���بوك والتويت���ر والمدونات‪.‬‬ ‫يصغون إل���ى تجربة ش���باب الثورات‬ ‫العربية ويتح���اورون معه���م وتتراكم‬ ‫خبراته���م‪ .‬ه���ؤالء يدرس���ون إمكاني���ة‬ ‫إط�ل�اق انتفاض���ة فلس���طينية جديدة‪.‬‬ ‫ثمة مجموعات ش���بابية تنظم أش���كا ًال‬ ‫م���ن التضامن م���ع الث���ورات العربية‪،‬‬ ‫عبر المس���يرات واالعتصامات وتوزيع‬ ‫األعالم وتصميم الملصقات واللوحات‪.‬‬ ‫مجموع���ات تنش���ط ض���د المحتلين في‬ ‫مواق���ع التم���اس ‪ -‬البل���دة القديمة في‬ ‫الق���دس والبل���دة القديم���ة ف���ي الخليل‬ ‫وبلعي���ن والمعصرة وبيت جاال وقلنديا‬ ‫ورامي���ن والنب���ي صالح وكف���ر قدوم‬ ‫وغيرها‪ .‬ومجموعات تعمل لفرض إنهاء‬ ‫االنقس���ام بين حماس وفتح واستعادة‬ ‫الوحدة الوطنية من أجل خلق مقومات‬ ‫االنتفاض���ة الجدي���دة ض���د االحت�ل�ال‪.‬‬ ‫مجموعات تعطي أولوية لترتيب البيت‬ ‫الداخل���ي الفلس���طيني ب���دءًا بإص�ل�اح‬


‫المجلس الوطني والمؤسسات المنبثقة‬ ‫عن���ه وبخاص���ة اللجن���ة التنفيذي���ة‪،‬‬ ‫وترى ض���رورة انض���واء جميع القوى‬ ‫والكفاءات والعقول ف���ي إطار المنظمة‬ ‫على أسس وطنية ديموقراطية حقيقية‬ ‫جدي���دة‪ ،‬وتطالب بفتح ملفات الفس���اد‬ ‫ومحاس���بة جميع الضالعين بالفس���اد‬ ‫السياس���ي والمال���ي واإلداري في إطار‬ ‫المنظمة والس���لطة وبأثر رجعي‪ .‬وكل‬ ‫المجموع���ات تنظم اآلن أنش���طة داعمة‬ ‫إلضراب األس���رى في سجون االحتالل‬ ‫ويتعاظم التفاعل واالنخراط الش���بابي‬ ‫في معركة حرية األسرى ودعم مطالبهم‬ ‫المشروعة‪.‬‬ ‫الحراك الش���بابي النشط في الضفة‬ ‫والقط���اع تحت ش���عار إنهاء االنقس���ام‬ ‫ترك بصماته على المس���توى السياسي‬ ‫الفلس���طيني ال���ذي واف���ق عل���ى إنهاء‬ ‫االنقسام ووقع في القاهرة على االتفاق‬ ‫المبدئي الستعادة الوحدة الوطنية‪ .‬كما‬ ‫أن طرح القضية الفس���طينية على األمم‬ ‫المتحدة َفَّع َل الحراك الشعبي والشبابي‬ ‫بش���كل غير مس���بوق‪ ،‬وأعاد للوطنية‬ ‫الفلسطينية روحها‪.‬‬

‫مقومات ال غنى عنها‬

‫يالح���ظ أن جه���ود المجموع���ات‬ ‫الش���بابية تفتقد إلى مرك���ز موحد‪ ،‬إلى‬ ‫رؤي���ة وأه���داف وآليات عم���ل‪ ،‬وإلى‬ ‫أجس���ام ورواف���ع اجتماعي���ة‪ .‬خالف��� ًا‬ ‫لالنتفاض���ة األولى الت���ي اعتمدت على‬ ‫روافع قوية وراسخة كالنقابات العمالية‬ ‫والمهنية ومنظمات الش���بيبة ومنظمات‬ ‫العمل النس���وي واالتحادات الش���عبية‬ ‫والتنظيمات السياسية والنخب الثقافية‬ ‫واإلعالمي���ة‪ .‬في تلك الفترة وبس���رعة‬ ‫قياس���ية تحول���ت تل���ك األجس���ام إلى‬ ‫جهاز لالنتفاضة‪ ،‬س���اعد في ترشيدها‬ ‫وتنظيمه���ا وصموده���ا واس���تمرارها‬ ‫لم���دى زمن���ي طوي���ل‪ ،‬رغم سياس���ة‬ ‫تكس���ير العظام والعقوب���ات الجماعية‬ ‫التي اس���تخدمتها سلطات االحتالل ضد‬ ‫النشطاء وجهاز االنتفاضة والشعب‪.‬‬ ‫لم يك���ن من أولويات الس���لطة التي‬ ‫تش���كلت باتف���اق أوس���لو اس���تنهاض‬

‫الحراك الشبابي‬ ‫تحت شعار «إنهاء‬ ‫االنقسام» ترك‬ ‫بصماته على‬ ‫المستوى السياسي‬ ‫الفلسطيني الذي‬ ‫وافق على إنهاء‬ ‫الحالة‬ ‫األجس���ام الت���ي تعرض���ت لضرب���ات‬ ‫شديدة من قبل س���لطات االحتالل إبان‬ ‫االنتفاضة‪ .‬كانت األولوية لبناء األجهزة‬ ‫األمنية والجهاز الحكومي‪ .‬وبقيت تلك‬ ‫المؤسس���ات مهمل���ة ول���م تح���ظ أيض ًا‬ ‫باهتم���ام المعارض���ة وتنظيماتها‪.‬وفي‬ ‫هذا السياق نشأت طبقة وسطى حديثة‬ ‫من كبار الموظفين في السلطة والقطاع‬ ‫الخ���اص والمنظمات غي���ر الحكومية‪،‬‬ ‫طبقة ل���م ت���ول اهتمام ًا يذكر بالش���أن‬ ‫العام‪ .‬وعندما اندلعت االنتفاضة الثانية‬ ‫في غي���اب تل���ك األجس���ام والروافع‪،‬‬ ‫سرعان ما استدرجت إلى مواجهة عنيفة‬ ‫غير متكافئة مع قوة االحتالل الغاشمة‬ ‫التي نجحت في توجيه ضربات قاسمة‬ ‫للنواة الصلبة من المقاومين‪.‬‬ ‫يالحظ اآلن أن الحراك بدأ من خارج‬ ‫األجس���ام التقليدي���ة الت���ي تعان���ي من‬ ‫تشوه في البنية التنظيمية السياسية‪،‬‬ ‫وم���ن بيروقراطية عاج���زة عن خوض‬ ‫انتفاضة كبيرة‪ .‬وقد جاءت استجابتها‬ ‫عل���ى النمط التقلي���دي القديم وكأنها لم‬ ‫تستفد من الثورات العربية‪.‬‬ ‫بني���ة المنظمة والس���لطة والفصائل‬ ‫والمؤسس���ات التابع���ة له���ا أصبح���ت‬ ‫ش���ائخة‪ ،‬وهي أش���به ببني���ة النظام‬ ‫العرب���ي القدي���م‪ ،‬وتحتاج إل���ى تجديد‬ ‫وتغيير ديموقراطيين‪ .‬وعندما ال تبادر‬ ‫المنظمة والس���لطة لإلصالح والتجديد‬ ‫ط���وال الوقت‪ ،‬فم���ن المنطقي أن يكون‬ ‫الره���ان على تدخ���ل الق���وة الحية في‬ ‫المجتمع‪ ،‬عل���ى قوة الش���باب‪ ،‬وعلى‬

‫تدخ���ل النخ���ب الثقافي���ة الديمقراطي���ة‬ ‫الملتزمة بقضايا الش���عب عب���ر تفعيل‬ ‫س�ل�اح النقد‪ .‬إن المعركة ضد االحتالل‬ ‫المطروح���ة اآلن بات���ت ترتبط أكثر من‬ ‫أي وق���ت مض���ى باإلص�ل�اح والتجديد‬ ‫والبناء‪ ،‬وبمبادرة القوة الحية دون أن‬ ‫يعني ذلك إعفاء الحركة السياسية من‬ ‫المشاركة‪.‬‬ ‫طاب���ع االنتفاضة القادمة هو طابع‬ ‫س���لمي يتيح المجال لمشاركة األغلبية‬ ‫الس���احقة من الش���عب في احتجاجات‬ ‫منظم���ة وطويل���ة األمد‪ .‬هذا م���ا تقوله‬ ‫ح���وارات المجموع���ات الش���بابية‪.‬‬ ‫وسيس���تخدم ف���ي االنتفاض���ة الجديدة‬ ‫س�ل�اح مقاطع���ة الس���لع اإلس���رائيلية‬ ‫والمقاطع���ة االكاديمية الت���ي تمتد إلى‬ ‫خارج فلس���طين ويشارك في المقاطعة‬ ‫قوى عالمية وعربية‪ .‬وكذلك س���يفتح‬ ‫ملف االحتالل وجرائ���م الحرب والنهب‬ ‫المرتكبة‪ .‬ويتم التداول بسياسة االعتماد‬ ‫على ال���ذات ورف���ض الدع���م الخارجي‬ ‫المش���روط‪ .‬تناقش اآلن إمكانية تنظيم‬ ‫االعتصام الس���لمي ب���اآلالف في مراكز‬ ‫الم���دن وقرب الج���دار والمس���توطنات‬ ‫وبواب���ات العب���ور والط���رق االلتفافية‬ ‫والحواجز العسكرية‪.‬‬ ‫ق���د تأت���ي الش���رارة الت���ي تش���عل‬ ‫االنتفاضة بفعل تط���ور دراماتيكي في‬ ‫إضراب األسرى‪ ،‬كاستشهاد مناضلين‬ ‫مضربي���ن‪ .‬أو قد تأتي الش���رارة بفعل‬ ‫اعت���داء إجرام���ي من قبل مس���توطنين‬ ‫أصوليين عنصريين‪ .‬أو بفعل إجراءات‬ ‫إس���رائيلية حمقاء‪ .‬المهم أن ال تستدرج‬ ‫االنتفاض���ة الجديدة إلى رد فعل مرتجل‬ ‫وغي���ر مدروس يبدد عناصر القوة التي‬ ‫يملكها الشعب الفلسطيني‪ .‬ولهذا السبب‬ ‫ف���إن امت�ل�اك رؤي���ة وأه���داف وجهاز‬ ‫تنظيمي والقدرة عل���ى الضبط والربط‬ ‫يعد العنصر األهم الذي يبقي على زمام‬ ‫المبادرة بيد الش���عب المنتفض‪ ،‬ويأخذ‬ ‫بمبدأ الخصائص المتناقضة الذي يضع‬ ‫عناص���ر القوة الت���ي يمتلكها الش���عب‬ ‫على عناص���ر ضعف االحتالل‪ ،‬ويحرم‬ ‫س���لطات االحتالل من فعل ذلك‪ ،‬تمام ًا‬ ‫كما فعلت االنتفاضة األولى‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫رؤية إدوارد سعيد لحل القضية‬

‫دولة واحدة‬ ‫فخري �صالح‪ -‬عمّان‬

‫على النقيض من الرؤية الس���ائدة في‬ ‫الثقاف���ة السياس���ية دافع المفك���ر والناقد‬ ‫الفلس���طيني إدوارد س���عيد ع���ن نموذج‬ ‫الدولة مختلطة الهوي���ة ثنائية القومية‪،‬‬ ‫حتى ل���و كان هذا النم���وذج مرفوض ًا من‬ ‫قبل الطرفين الفلس���طيني واإلسرائيلي‪،‬‬ ‫حي���ث بدا ل���ه ح���ل الدولتي���ن القوميتين‬ ‫المس���تقلتين صعب التطبي���ق على أرض‬ ‫الواقع‪ ،‬بل مخالف ًا لرؤيته للقوميات التي‬ ‫تتعاي���ش وتتفاعل عل���ى قطعة صغيرة‬ ‫من األرض‪ .‬ورأى س���عيد‪ ،‬الذي أكن مقت ًا‬ ‫ش���ديدًا لما س���ماه «سياس���ات الهوية»‪،‬‬ ‫أي األيديولوجي���ة السياس���ية والثقافية‬ ‫الت���ي تفصل بي���ن الهويات وتش���دد على‬ ‫استحالة اختالط الهويات وتمازجها‪ ،‬أن‬ ‫على البش���ر أن يتعلم���وا العيش مع ًا ألن‬ ‫المزيج والهجنة وس���يولة الهوية هي ما‬ ‫يميز ثقافة القرن العشرين وعالم الحداثة‬ ‫عامة‪ .‬وقد بدأ إدوارد سعيد تشكيل رؤيته‬ ‫لح���ل الدولة ثنائي���ة القومية من���ذ نهاية‬ ‫سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬شارح ًا وجهة‬ ‫نظره ف���ي كتابه «القضية الفلس���طينية»‬ ‫(‪ ،)1979‬الذي لم يترجم حتى هذه اللحظة‬ ‫إل���ى العربية ألس���باب تتعل���ق بتفصيله‬ ‫الحديث عن أوضاع الفلسطينيين المزرية‬ ‫في ع���دد من ال���دول العربي���ة‪ .‬وهو وإن‬ ‫كان ال يش���كك في حق الشعوب في تقرير‬ ‫‪24‬‬

‫مصيرها‪ ،‬إال أن الحل األمثل بالنس���بة له‬ ‫يتمثل في العيش المش���ترك‪ ،‬وأن يتعلم‬ ‫الفلس���طينيون واليهود كيف يبنون وطن ًا‬ ‫واحدًا بد ًال من سياس���ة الفصل واإلقصاء‬ ‫ورفض اآلخر‪.‬‬ ‫يس���تمد س���عيد وجهة نظره المعادية‬ ‫لسياسات الهوية من الفيلسوف األلماني‬ ‫اليه���ودي ثي���ودور أدورنو‪ ،‬ال���ذي كان‬ ‫واحدًا من المفكري���ن والمثقفين الغربيين‬ ‫الذين أثروا عميق ًا في فكر إدوارد س���عيد‪،‬‬ ‫لك���ن صاحب «االستش���راق» يس���عى في‬ ‫كتاباته إلى االنطالق من واقع االشتباك‬ ‫اليهودي الفلسطيني على أرض فلسطين‬ ‫التاريخي���ة‪ ،‬حيث يصعب تقس���يم قطعة‬ ‫أرض ش���ديدة الصغ���ر عل���ى ش���عبين‪،‬‬ ‫مؤكدًا أن البش���ر إذا اس���تمروا في متابعة‬ ‫ه���ذا النمط من التفكير فإنهم سيعيش���ون‬ ‫في المس���تقبل ف���ي جزر معزول���ة‪ .‬يقول‬ ‫ف���ي حوار أجري معه عام ‪« :1986‬لس���ت‬ ‫متأكداً‪ ،‬في ّأية مناس���بة‪ ،‬أنني س���أؤمن‬ ‫المقسمة‪.‬‬ ‫بما يمكن أن تصير إليه فلسطين‬ ‫َّ‬ ‫لقد توقفت عن االعتقاد بأن حل المش���اكل‬ ‫السياسية هو قس���مة األراضي إلى أجزاء‬ ‫أصغر فأصغر‪ .‬ال أؤمن بالتقس���يم‪ ،‬ليس‬ ‫على الصعيد السياس���ي أو الديموغرافي‬ ‫فقط‪ ،‬بل أيض��� ًا على األصع���دة الثقافية‬ ‫والروحي���ة األخ���رى‪ .‬إن فك���رة تقس���يم‬

‫األوطان إلى أجزاء تس���تقل بكل جزء منها‬ ‫جماعة ما هي فكرة خاطئة تماماً‪ .‬إن فكرة‬ ‫النقاء ـ بأن األرض الفالنية هي بالضرورة‬ ‫وطن الفلسطينيين أو اإلسرائلييين ـ هي‬ ‫ٍ‬ ‫أصيلة البّتة بالنس���بة‬ ‫بالضبط فكرة غير‬ ‫لي‪ .‬أنا أؤمن بالتأكيد بحق تقرير المصير‪،‬‬ ‫ول���ذا ف���إذا كان الناس يرغب���ون في فعل‬ ‫ذل���ك فإن عليهم أن يكون���وا قادرين على‬ ‫فعله‪ :‬لكنني أنا نفس���ي ال أرى أي حاجة‬ ‫للمشاركة في ذلك»‪.‬‬ ‫انطالق ًا من الرؤية السابقة يجد إدوارد‬ ‫س���عيد مصائ���ر الفلس���طينيين واليه���ود‬ ‫مرتبطة ومتعالقة وال يمكن فصل بعضها‬ ‫ع���ن البعض اآلخ���ر‪ ،‬لكن���ه ال يتوقع في‬ ‫ه���ذه المرحلة الكثي���ر مما يمك���ن توقعه‬ ‫س���وى تفاقم الن���زاع‪« :‬أنا أع���رف الكثير‬ ‫عن الوضع العربي والفلسطيني‪ ،‬وأظن‬ ‫أن اإلحس���اس باالنجراف واليأس وعدم‬ ‫اليقين قوي جدًا هناك‪ .‬ال أظن أن اإلنسان‬ ‫الع���ادي قد استس���لم ـ هن���اك الكثير من‬ ‫المرون���ة والقدرة على اس���تعادة العافية‬ ‫لدى الناس ـ لكن ما نحن مقبلون عليه هو‬ ‫أزمة ف���ي القيادة‪ ،‬إضافة إلى وضع غير‬ ‫عادل وغير محظ���وظ‪ ،‬حيث إن الظروف‬ ‫كله���ا ضدنا‪ .‬إن دور الوالي���ات المتحدة‪،‬‬ ‫ودور االتحاد السوفياتي‪ ،‬وأدوار العرب‬ ‫اآلخري���ن‪ ،‬ودور اإلس���رائيليين‪ :‬ه���ذه‬ ‫جميع ًا تعمل ضد تحقق ٍ‬ ‫حل ذي معنى في‬ ‫المستقبل القريب‪.‬‬ ‫لكن في منتصف الطريق إلى المستقبل‬ ‫القريب سيكون مثيرًا لالنتباه أن عددًا من‬ ‫اإلسرائيليين والفلس���طينيين سيفكرون‬ ‫ٍ‬ ‫خط���وط متوازي���ة وبالطريق���ة التي‬ ‫في‬ ‫ذكرته���ا م���ن قب���ل‪ :‬ض���د فكرة التقس���يم‬ ‫وكبديل عن ذلك عبر إقامة دولة يهودية‪/‬‬ ‫فلس���طينية ديموقراطية‪ .‬وس���يكون هذا‬ ‫رد‬ ‫التفكير‪ ،‬وعلى عك���س ما هو متوقع‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أن���اس مثل كاهانا ال���ذي أثار‬ ‫فع���ل على‬ ‫ٍ‬ ‫المس���ألة‪ ،‬وقال بأنه من المستحيل إقامة‬ ‫دولة يهودية‪ /‬فلس���طينية ديموقراطية‪.‬‬ ‫يثير القش���عريرة ف���ي البدن‪،‬‬ ‫إنه لش���يء ُ‬ ‫والناس يجدون األمر صعب المعالجة‪ .‬لقد‬ ‫ورقة كتبها ميرون‬ ‫أثارت انتباهي حديث ًا‬ ‫ٌ‬ ‫بنفنيستي‪ ،‬المساعد السابق لرئيس بلدية‬ ‫توصل إلى االستنتاج نفسه‬ ‫القدس‪ ،‬حيث َّ‬ ‫ال���ذي توصل���ت إليه‪ :‬فنحن ال نس���تطيع‬ ‫حقيق���ة الحديث عن ش���عبين منفصلين‪،‬‬ ‫ً‬


‫ٍ‬ ‫بس���بل‬ ‫ألن حيواتنا مترابطة ومنش���بكة‬ ‫مختلفة‪ ،‬وف���ي هذه اللحظ���ة عبر هيمنة‬ ‫ٍ‬ ‫مجموع���ة على أخرى‪ ،‬لك���ن فكرة الدولة‬ ‫ص���ورة زائفة‬ ‫المنفصل���ة المتمايزة هي‬ ‫ٌ‬ ‫تحقيق‬ ‫لمفه���وم العدالة‪ ،‬وما أعتق���د أنه‬ ‫ٌ‬ ‫لليبرالية والتجربة االجتماعية العظيمة‪.‬‬ ‫التحول‬ ‫هن���اك يقيم المس���تقبل‪ :‬ف���ي‬ ‫ّ‬ ‫والتط���ور‪ ،‬م���ع الزمن‪ ،‬لفك���رة المجتمع‬ ‫القائ���م على التجارب الفعلية المش���تركة‬ ‫والمتبادلة ال المجتمع القائم على األحالم‬

‫الت���ي تط���رد اآلخر ال���ذي يش���كل نصف‬ ‫الواق���ع‪ .‬س���وف يس���تكمل مب���دأ التفكير‬ ‫المسلح مسيرته الزمنية‪ ،‬وهو مبدأ قوي‬ ‫جدًا في أس���اس إحياء الفكرتين‪ :‬القومية‬ ‫اليهودية والقومية العربية‪ ،‬وإذا لم يدمر‬ ‫هذا المبدأ كل شيء فسوف يستنزف تمام ًا‬ ‫وي ْس���ِفر عن عدم فاعليته‪ .‬وحتى يصبح‬ ‫ُ‬ ‫واضح��� ًا أن الحل المس���لح غير مجٍد ـ كما‬ ‫برهنت التجربة اللبنانية لإلس���رائيليين‬ ‫واللبنانيي���ن والفلس���طينيين ـ س���وف‬

‫ماذا عن المستقبل‬

‫نغامر بحياة الكثير من الناس ونعرضهم‬ ‫للمآسي‪ .‬لكنني متفائل جداً‪ ،‬على األقل‪،‬‬ ‫بالنسبة لجيل أبنائي»‪.‬‬ ‫يرج���ع كالم س���عيد الس���ابق ص���دى‬ ‫ّ‬ ‫تصوره النق���دي ورؤيت���ه للتاريخ‪ ،‬فهو‬ ‫يؤم���ن بما يس���ميه «النق���د الدنيوي» في‬ ‫مقابل «النقد الديني»‪ ،‬حيث يسعى النوع‬ ‫األول م���ن النقد إلى التش���ديد على ما هو‬ ‫دنيوي‪ ،‬معيش‪ ،‬ومصنوع بأيدي البش���ر‬ ‫الذي���ن يصنعون تاريخهم بأنفس���هم‪ ،‬في‬ ‫مقابل «النقد الديني» المتصلب الذي يسعى‬ ‫إلى اقتناص اللحظ���ات الميتافيزيقية في‬ ‫النص والعالم‪ .‬ما يؤمن به إدوارد سعيد‬ ‫عل���ى صعيد الن���ص يطبقه عل���ى رؤيته‬ ‫لح���ل القضية الفلس���طينية‪ ،‬فهو يؤكد أن‬ ‫في مقدور الفلس���طينيين واإلس���رائيليين‬ ‫أن يتعلم���وا العيش مع ًا في المس���تقبل‪،‬‬ ‫ويصنع���وا تاريخهم المش���ترك بأيديهم‪،‬‬ ‫ويغادروا بيت األس���طورة‪ ،‬بل األساطير‬ ‫جميع���اً‪ :‬التاري���خ العتيق ال���ذي ينبغي‬ ‫وصل ما انقطع منه‪ ،‬األرض التي تخص‬ ‫ش���عب ًا دون آخ���ر‪ ،‬الخ���وف المقي���م من‬ ‫اآلخ���ر‪ ،‬وهم الدول���ة القومية المس���تقلة‬ ‫ذات الهوية الدينية أو القومية الخالصة‪،‬‬ ‫وأخي���راً‪ :‬وهم نف���ي اآلخر لك���ي تتحقق‬ ‫الهوي���ة الخاصة بالش���عب اآلخ���ر‪ ،‬فكما‬ ‫يقول س���عيد في واحدة من مقاالته التي‬ ‫نش���رت في كتابه «من أوسلو إلى العراق‬ ‫وخريط���ة الطري���ق» (‪ )2003‬فإن «علينا‬ ‫أن نتعاي���ش مع فكرة أن يهود إس���رائيل‬ ‫باقون في فلس���طين‪ ،‬كما ه���و الحال مع‬ ‫ثم فإن «سياس���ة‬ ‫الفلس���طينيين»‪ .‬وم���ن ّ‬ ‫الفصل لن تك���ون قادرة عل���ى العمل في‬ ‫أرض صغي���رة (كأرض فلس���طين)‪ ،‬وما‬ ‫تحجب���ه الق���وة العس���كرية واالقتصادية‬ ‫اإلسرائيلية عن اإلس���رائيليين هو رؤية‬ ‫الواقع على حقيقته»‪ .‬فالفلس���طينيون لن‬ ‫يختفوا وس���وف يش���كلون على الدوام‪،‬‬ ‫ال مج���رد مش���كلة ديموغرافية بالنس���بة‬ ‫إلس���رائيل‪ ،‬ب���ل حقيقة دنيوي���ة من لحم‬ ‫ودم ينبغ���ي التعايش معها‪ .‬لقد أصبحت‬ ‫سياس���ة الفصل العنص���ري التي اتبعتها‬ ‫إس���رائيل لحل المش���كلة عقبة أخرى في‬ ‫وجه الحل‪ ،‬ويمكن أن يقدم المثال الجنوب‬ ‫إفريقي درس ًا ملهم ًا بالنسبة لإلسرائيليين‬ ‫والفلسطينيين معاً‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫بين رومانسية سعيد ووحشية ليبرمان‬

‫شكل الدولة‬ ‫هالة العي�سوي ‪ -‬القاهرة‬

‫منذ أن تبلورت فكرة إقامة دولة‬ ‫فلسطينية معترف بها دولي ًا في عام‬ ‫‪ 1988‬حينما أعلنت منظمة التحرير‬ ‫وثيقة االستقالل الفلسطيني وقدمت‬ ‫للعالم إعالن الدولة الفلسطينية على‬ ‫حدود ‪ ،1967‬تماهت الفكرة ومرت‬ ‫بالكثير من التعاريج السياسية‪ .‬وبين‬ ‫هبوط وصعود كانت ذروته عام‬ ‫‪ 1993‬في إعالن اتفاقات الحكم الذاتي‬ ‫وتأسيس السلطة الفلسطينية المعروفة‬ ‫باتفاقات أوسلو شهدت الفكرة العديد‬ ‫من مظاهر صراع اإلرادات وتجليات‬ ‫المقاومة الصهيونية لتنفيذها ووضع‬ ‫العراقيل أمام قيام دولة فلسطينية‬ ‫مستقلة‪.‬‬ ‫كان من أهم أسباب تماهي الفكرة‬ ‫ذلك االلتبـــاس الواقــــــــع في الذهنية‬ ‫العالمية عموم ًا والعربية بشكل خاص‬ ‫حول هوية الكيان اإلسرائيلي الذي قام‬ ‫في أرض فلسطين التاريخية في عام‬ ‫‪ ،1948‬هل هو دائم وراسخ األركان‪،‬‬ ‫أم مؤقت ومن الممكن إبادته إن آج ً‬ ‫ال أو‬ ‫عاجالً‪ .‬وإذا كان دائم ًا وراسخ ًا فهل هو‬ ‫دولة علمانية ليبرالية وديموقراطية‬ ‫تستوعب التعددية وتقبل اآلخر وتسمح‬ ‫باندماجه فيه‪ ،‬أم أنها دولة دينية‬ ‫‪26‬‬

‫مغلقة على أبناء عقيدتها‪ ،‬متعصبة ال‬ ‫تقبل «األغيار»؟‬ ‫مما ال شك فيه أن تأثيرات ذلك‬ ‫االلتباس حول طبيعة الكيان الصهيوني‬ ‫الموجود‪ ،‬انعكست على األشكال‬ ‫المتباينة التي اتخذتها محاوالت إنتاج‬ ‫فكرة إقامة دولة للفلسطينيين‪ .‬ومع أن‬ ‫المينافستو الذي قام ذلك الكيان على‬ ‫أساسه – وأعني به وعد بلفور ‪1917-‬‬ ‫حدد مبكرًا جدًا شكل الكيان بإقامة وطن‬ ‫قومي لـ «اليهود» في فلسطين‪ ،‬إال أن‬ ‫العديد من األدبيات العربية وقعت في‬ ‫فخ تصديق ما جاء في القانون األساسي‬ ‫لـ «دولة إسرائيل» الذي حدد أنها دولة‬ ‫علمانية ديموقراطية‪.‬‬ ‫وما بين اعتقاد لدى بعض الدوائر‬ ‫العربية بوقتية بقاء ذلك الكيان مما‬ ‫أدى إلى الركون إلمكانية إبادته وإلقائه‬ ‫في البحر‪ ،‬وإطالة أمد إصرار بعض‬ ‫الدوائر الفلسطينية على عدم االعتراف‬ ‫بذلك الكيان والتصميم على إقامة الدولة‬ ‫على كامل أرض فلسطين التاريخية‪،‬‬ ‫وما بين تعامل عربي براغماتي وقبول‬ ‫باألمر الواقع حث على ضرورة البحث‬ ‫في سبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة‬

‫أي ًا كانت مساحتها وحدودها‪ ،‬وبصرف‬ ‫النظر عن التواصل الجغرافي ألركانها‪،‬‬ ‫تباينت األشكال المقترحة للدولة‬ ‫الفلسطينية‪.‬‬ ‫وما بين تصديق رومانسي لما جاء في‬ ‫وصف الدولة اليهودية بالديموقراطية‬ ‫والعلمانية‪ ،‬وبيــــن اســتقراء آخــــــر‬ ‫لحقيقة المحددات الدولية التي رسمت‬ ‫شكل الكيان في صورة وطن قومي‬ ‫لليهود‪ ،‬مع إدراك الستحالة التعايش‬ ‫مع سكان ذلك الكيان الجديد‪ ،‬تماهت‬ ‫الرؤى العربية لشكل الدولة ‪ ،‬فشاعت‬ ‫فكرة قيام «دولة واحدة لشعبين» التي‬ ‫أذاعها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد‬ ‫سعيد‪ ،‬وهي ما أسماها الدولة ثنائية‬ ‫القومية‪ ،‬وثنّى عليه الزعيم الليبي‬ ‫الراحل معمر القذافي حين ابتكر مقولة‬ ‫دولة «إسراطين» من خالل قناعة‬ ‫بإمكانية تعايش الشعبين الفلسطيني‬ ‫واإلسرائيلي تحت مبادئ المساواة‬ ‫والمواطنة وشراكتهما في كامل التراب‬ ‫الفلسطيني‪ .‬على أن هذا الطرح لم يكن‬ ‫نموذجي ًا تماماً‪ ،‬ألنه لم يحل معضالت‬ ‫أخرى من قبيل وضعية فلسطينيي الـ‬ ‫‪ 48‬حاملي الجنسية اإلسرائيلية الذين‬ ‫كانت معاناتهم ستتواصل كمواطنين‬ ‫إسرائيليين من الدرجة الثانية‪ ،‬كما‬ ‫أن هذا الطرح لم يجد الحل لمعضلة‬ ‫الرفض اإلسرائيلي الدائم لحق العودة‬ ‫الفلسطيني‪ .‬األهم من ذلك كله أن تلك‬ ‫المثالية التي اكتسبها طرح إدوارد سعيد‬ ‫لم يقابلها من الجانب اإلسرائيلي مثالية‬ ‫أخالقية مكافئة‪.‬‬ ‫بالمقابل نشأت فكرة قيام الدولة‬ ‫الفلسطينية المستقلة على حدود ‪.1967‬‬ ‫بيد أن العامل الحاسم في مسألة قبول‬ ‫قيام هذه الدولة الفلسطينية وتحديد‬ ‫شكلها وترسيم حدودها‪ ،‬كان هو‬ ‫الموقف اإلسرائيلي الذي يرسم مالمح‬ ‫التعامل الدولي مع الفكرة‪ ،‬ويضع له‬ ‫الحدود والشروط‪ ،‬ومن ثم فإنه يشحذ‬ ‫أو يثبط عزائم القوى الدولية على تبني‬ ‫فكرة الدولة الفلسطينية أو لفظها‪.‬‬


‫إدوارد سعيد‪..‬رومانسية الحلم‬

‫الظرف الداخلي اإلسرائيلي‬ ‫مع أن إسرائيل أبدت مرونة نسبية‬ ‫في مسألة القبول بالدولة الفلسطينية‬ ‫المستقلة على حدود ‪ ،1967‬وتجلت هذه‬ ‫المرونة في إنجاز اتفاقات أوسلو‪ ،‬إال‬ ‫أن مجريات األحداث أثبتت أن المشروع‬ ‫برمته سوف يبقى مراوح ًا في مكانه‬ ‫باستثناء الخطوات التأسيسية األولى‬ ‫التي تمت مثل إنشاء السلطة الفلسطينية‬ ‫كنواة للدولة‪ ،‬وعودة عشرات اآلالف من‬ ‫المناضلين الفلسطينيين إلى األراضي‬ ‫الفلسطينية يتقدمهم الزعيم الراحل‬ ‫ياسر عرفات‪ ،‬أما ماعدا ذلك فقد أصابه‬ ‫جمود‪ -‬إن لم يكن نكوص ًا ‪ -‬تواكب مع‬ ‫بعض المتغيرات الدولية واإلقليمية‪.‬‬ ‫فقد رسخت ظاهرة العالم منفرد‬ ‫القطبية في تلك الحقبة‪ ،‬بعد أن كانت‬ ‫الثنائية القطبية هي الملمح المميز‬ ‫للسياسة الدولية‪ .‬وعلى الصعيد‬ ‫اإلقليمي اشتد ساعد التيارات الدينية‬ ‫األصولية المتشددة في منطقة الشرق‬ ‫األوسط‪ .‬وهنا من المهم اإلشارة إلى أن‬ ‫ظاهرة المد األصولي نمت في الجانبين‬ ‫العربي واإلسرائيلي على حد سواء بل‬ ‫وفي فترة متزامنة‪ .‬فبينما برزت حركة‬

‫ليبرمان‪..‬توحش الدولة‬

‫المقاومة اإلسالمية (حماس) في الجانب‬ ‫الفلسطيني كفصيل وطني أصولي‬ ‫راديكالي في مواجهة حركة فتح التي‬ ‫تتسم بالعلمانية‪ ،‬ظهرت في إسرائيل‬ ‫العديد من القوى اليمينية والدينية‬ ‫األرثوذكسية الموغلة في التطرف‪،‬‬ ‫اتخذت العنف واإلرهاب سبي ً‬ ‫ال للتعبير‬ ‫عن الرأي من أمثال حركة «كاخ» بزعامة‬ ‫الحاخام مئير كاهانا التي نفذت مجزرة‬ ‫الحرم اإلبراهيمي في الخليل عام ‪1984‬‬ ‫وانكشف مؤخرًا أن أفيغدور ليبرمان كان‬ ‫عضوًا فيها في بواكير أيامه بإسرائيل‬ ‫عقب هجرته من موطنه األصلي‬ ‫«مولدوفا» إليها في عام ‪.1979‬‬ ‫ثم‪ ،‬وبالتزامن‪ ،‬وقع حادث اغتيال‬ ‫رئيس الوزراء اإلسرائيلي السابق‬

‫ظاهرة المد‬ ‫األصولي نمت في‬ ‫الجانبين العربي‬ ‫واإلسرائيلي على‬ ‫حد سواء بل وفي‬ ‫فترة متزامنة‬

‫إسحق رابين على يد أحد المتطرفين‬ ‫اليهود عام ‪ُ ،1995‬بعيد توقيع «أوسلو»‬ ‫وكان اغتياله تتويج ًا للمعارضة اليمينية‬ ‫اإلسرائيلية (بزعامة الليكود الذي كان‬ ‫يترأسه وقتها بنيامين نتانياهو رئيس‬ ‫الوزراء الحالي) على عملية السالم في‬ ‫أوسلو وعقاب ًا له على التخلي عن الضفة‬ ‫الغربية‪ ،‬وعلى اعتزامه إعطاء منظمة‬ ‫التحرير الفلسطينية السيطرة على ‪90‬‬ ‫‪ ٪‬من سكان الضفة الغربية العرب‪،‬‬ ‫مع الحفاظ على ‪ ٪ 70‬من األراضي في‬ ‫المناطق المحتلة‪ .‬وفي خطاب ألقاه‬ ‫أمام الكنيست وعد رابين بأن إسرائيل‬ ‫سوف تستمر في «الحرية الكاملة للعمل‬ ‫من أجل تحقيق أهداف أمنية وتطرق‬ ‫إلى الحديث عن حل دائم»‪.‬‬ ‫كان هذا الحادث كاشف ًا لطبيعة‬ ‫التغييرات التي تعتمل في المرجل‬ ‫اإلسرائيلي وأصبح بمثابة الضوء‬ ‫األحمر أمام أي تقدم في عملية السالم‬ ‫أو في خطوات إقامة الدولة الفلسطينية‪.‬‬ ‫وكان في رأس رابين الطائر عبرة ألي‬ ‫تسول له‬ ‫رئيس حكومة ٍ‬ ‫تال له حتى ال ِّ‬ ‫نفسه االقتداء بمنهج رابين‪ .‬فما بالنا‬ ‫إذا كان نتانياهو الذي اتهم هو وحزبه‬ ‫بالتحريض على قتل رابين وألقيت عليه‬ ‫‪27‬‬


‫المسؤولية األخالقية بسبب التحريض‬ ‫والتصعيد المضاد الذي شنته المعارضة‬ ‫على رابين هو نفسه رئيس الحكومة‬ ‫الحالي الذي يفترض أن يقوم بدور‬ ‫المفاوض الستكمال خطط بناء الدولة‪،‬‬ ‫وهو نفسه صاحب الالءات الثالث‬ ‫الشهيرة‪ « - 1 :‬ال لعودة» الفلسطينيين‪.‬‬ ‫ال «لحدود‪ 67‬ألنها ال تأخذ في االعتبار‬ ‫التغيرات الديموغرافية التي حدثت على‬ ‫مدى السنوات الـ ‪ 44‬الماضية»‪( .‬وهي‬ ‫العبارة التي يستعملها لشرعنة التوسع‬ ‫االستيطاني اإلسرائيلي غير القانوني)!‬ ‫‪« - 2‬ال» للمصالحة الفلسطينية‪« - 3.‬ال»‬ ‫لحق العودة للفلسطينيين‪.‬‬

‫صعود اليمين والسلفيين الجدد‬ ‫من الظواهر األخرى ذات الداللة‬ ‫الكاشفة تزايد عدد وسطوة األحزاب‬ ‫الدينية المتطرفة واليمينية المتشددة‪.‬‬ ‫وبعد أن كان اليمين اإلسرائيلي ممث ً‬ ‫ال‬ ‫في حركة حيروت التي تكتلت بعد‬ ‫ذلك في حزب الليكود‪ ،‬أصبح هناك‬ ‫الليكود ومعه إسرائيل بيتنا بزعامة‬ ‫المهاجر المتطرف أفيغدور ليبرمان‬ ‫وبات هذا الحزب شريك ًا في الحكومة‬ ‫الحالية ويشغل ‪ 15‬مقعدًا في الكنيست‬ ‫(البرلمان) وله ستة وزراء في االئتالف‬ ‫الحاكم‪.‬‬ ‫‪ ‬ويؤمن هذا الحزب «بإعطاء األمن‬ ‫للمواطن اإلسرائيلي»‪ ،‬ومن أجل ذلك‬ ‫فإنه يدعم استعمال القوة ضد حركات‬ ‫المقاومة الفلسطينية ويطالب بإخالص‬ ‫كل المواطنين للدولة ولطبيعتها‬ ‫اليهودية‪ ‬الصهيونية‪ ،‬وبالذات قسم‬ ‫الوالء للدولة اليهودية من العرب‪ ،‬وأن‬ ‫يحصل هؤالء بالمقابل على ضمانات‬ ‫وتعويضات من الدولة إلخالصهم‪.‬‬ ‫وبالتشديد على تطبيق القانون‬ ‫ومحاربة العنف‪ .‬كان لهذا الحزب‬ ‫دور كبير في اتهام األحزاب العربية‬ ‫وممثليها بعدم إخالصهم للدولة‪ ،‬بما‬ ‫ينطوي عليه هذا االتهام من تكريس‬

‫‪28‬‬

‫العقيدة الصهيونية‬ ‫الكامنة بداخل كل‬ ‫إسرائيلي‬ ‫ترفض بشكل‬ ‫مطلق‬ ‫فكرة الدولة‬ ‫الفلسطينية‬ ‫لمبدأ الترانسفير العنصري البغيض‪،‬‬ ‫ويؤدي في نهاية المطاف إلى طرد عرب‬ ‫الـ ‪ 48‬وإفراغ إسرائيل من المواطنين‬ ‫العرب المسلمين والمسيحيين‪.‬‬ ‫كذلك يؤمن الحزب باستخدام كافة‬ ‫وسائل العنف‪ ،‬بما في ذلك االغتيال‬ ‫عمليات‬ ‫إلى‬ ‫السياسي‪.‬واللجوء‬ ‫التخريب بقصد تنفيذ خطط لالستيالء‬ ‫على السلطة‬ ‫أما فيما يتعلق باألحزاب الدينية‬ ‫فقد نشأ بجوار األحزاب الدينية‬ ‫التقليدية كـ «المفدال» و«شاس» حزب‬ ‫«يهودية التوراة الموحد» وهو نتاج‬ ‫تحالف حزبين دينيين متشددين هما‬ ‫«ديجل هاتوراه» و«أجوداة يسرائيل»‪.‬‬ ‫واآلن يحتل هذا الحزب خمسة مقاعد‬ ‫في الكنيست‪ ،‬ويعارض قيام الدولة‬ ‫الفلسطينية ويرغب في اإلبقاء على‬ ‫الوضع الراهن‪ .‬وهو يؤمن بضرورة‬ ‫رد كافة األمور السياسية إلى أحكام‬ ‫الشريعة اليهودية والتوراة بما في ذلك‬ ‫التعامل مع «الجوييم» أو األغيار‪ .‬وفي‬ ‫هذا يعد هذا الحزب «السلفي» الجديد من‬ ‫أشد المؤيدين لقانون يهودية الدولة‪.‬‬

‫الدين في الجيش‬ ‫لطالما حظي المتدينون المتشددون‬ ‫في إسرائيل بمزايا عديدة منها اإلعفاء‬ ‫من الخدمة العسكرية من أجل التفرغ‬ ‫للعبادة والدراسة الدينية أو على أقل‬

‫تقدير الفوز بتأجيل الخدمة العسكرية‬ ‫لحين االنتهاء من الدراسة‪ .‬لكن في‬ ‫عام ‪ 1999‬بدأت أولى ثمار التعاون‬ ‫المشترك بين الجيش والحاخامية‬ ‫الكبرى بإنشاء وحدة خاصة بالمجندين‬ ‫«الحريديم»‪ ،‬وفي هذه الوحدة ال يسمح‬ ‫بتجنيد النساء إال من زوجات المجندين‬ ‫لضرورات الخدمة الحياتية‪ .‬ومنذ‬ ‫إنشائها وحتى سنوات قليلة مضت‬ ‫كانت هذه الوحدة العسكرية الدينية‬ ‫مغمورة ومحدودة األثر‪ .‬وبعد أن تم‬ ‫إدماج المتدينين من خريجي المدارس‬ ‫الدينية (اليشيفاه) في مختلف وحدات‬ ‫الجيش ومع تزايد عدد المجندين‬ ‫الدينيين تصاعدت الشكوى من تزمت‬ ‫هؤالء المجندين وإصرارهم على‬ ‫عدم تنفيذ كافة األوامر العسكرية لو‬ ‫تعارضت مع تقاليدهم الدينية‪ ،‬األمر‬ ‫الذي سبب أرق ًا لدى قيادات الجيش‬ ‫لعدم قدرتهم على فرض القواعد‬ ‫العسكرية على أفراد وحداتهم‪ ،‬وبسبب‬ ‫تعاظم نفوذ المتدينين في المجتمع‬ ‫ودوائر السياسة اإلسرائيلية‪ ،‬لم يعد‬ ‫بمقدور المؤسسة العسكرية فرض‬ ‫كلمتها وإال واجهت شتى أنواع اللوم‬ ‫والضغط‪ .‬وبعد أن كان جيش االحتالل‬ ‫اإلسرائيلي ملتزم ًا بعلمانيته وبعد‬ ‫تدخل الدين إطالقاً‪ ،‬أصبحت الشكوى‬ ‫مرة من تعاظم المد الديني بداخله‪.‬‬ ‫خالصة القول بإيجاز شديد‪ :‬إن‬ ‫العقيدة الصهيونية الكامنة بداخل‬ ‫كل إسرائيلي مهما اختلفت قناعته‬ ‫السياسية‪ ،‬ترفض بشكل مطلق فكرة‬ ‫الدولة الفلسطينية‪ ،‬وإذا أخذنا في‬ ‫االعتبارات المستجدات السياسية‬ ‫واالجتماعية التي طرأت على الساحة‬ ‫السياسية الداخلية سنوقن على الفور‬ ‫بأن حلم الدولة الفلسطينية أصبح‬ ‫بعيد المنال على األقل في المستقبل‬ ‫المنظور‪ .‬وفي ظل التشدد والمد الديني‬ ‫اآلخذ في التوغل بداخل طرفي الصراع‬ ‫(حماس في مواجهة ليبرمان) فإن‬ ‫الحلول السياسية ورومانسية إدوارد‬ ‫سعيد تبدو ضرب ًا من التهويمات‪.‬‬


‫أنسنة القضية‪ ..‬نقلة‬ ‫صنعها األدب‬

‫التفكي���ر في فلس���طين اليوم‪ ،‬على ضوء ما عش���ناه ف���ي العـقـد‬ ‫ٍ‬ ‫وبـخـاصـة في األش���هـر القـريب���ة‪ ،‬يـفـ���رض النـظـر إليها‬ ‫األخي���ر‪،‬‬ ‫على مـس���ـتـويــيـْـن مـُـتـرابطيـْن‪ :‬المس���ــار السياسي ‪ -‬التـحـريـري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صـوغ‬ ‫والمــس���ار اإلبـداع���ي ‪ -‬الفكـري ف���ي وصـفـه مس���ـاهمة في ْ‬ ‫إش���ــكالية الثقافة العـربية انطالق ًا من مـرحل���ة اإلحـيـاء والنهضة‪،‬‬ ‫ظـل مـا بـعد الكولونيـالية والـعــولـمـة‪.‬‬ ‫إلى أسـئلة الوجود في ّ‬

‫العربي‬ ‫األفق‬ ‫ّ‬ ‫مل‬ ‫محتـ َ‬ ‫ال ُ‬ ‫حمـمد بـــرادة‪-‬بروك�سيل‬

‫الـمـســتــوى األول‬ ‫مــع بداي���ة االنــتـفـاضـات العربية‬ ‫أخـ���ذت القـضيـ���ة‬ ‫(ديس���مبـر ‪،)2010‬‬ ‫ْ‬ ‫الفلس���طينيـة تـس���تـعيـد مـوقـعه���ا‬ ‫ورمـزيـتـه���ا داخ���ل الفض���اء العـرب���ي‬ ‫بـالـولـوج إلى س���ـاحة التـاريخ‬ ‫اآلخـذ‬ ‫ُ‬ ‫المتحـركة‪ ،‬م���ن أجـل تـكس���ـيـر طـوق‬ ‫االس���ـتـبـداد وتـحـريـ���ر الفـ���رد وإرادة‬ ‫المجتمع‪ .‬وحـضـور فلـس���طين في هذا‬ ‫الس���ـياق‪ ،‬يـأتي من حقـيـقـة تـاريخية‬ ‫عـقـب نكب���ة ‪ ،1948‬ومـحاولة‬ ‫ـ���رة‪،‬‬ ‫مـ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ردع إسـرائيل‬ ‫بعض الجيوش العـربية‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ومساعدة الفلسطـينـيــين على استــرداد‬ ‫وطنـهم‪ .‬في تـل���ك التـجـربة الخــائـبة‪،‬‬ ‫اكتشف جمال عبد الــناصـر وهو مـحاصـر‬ ‫في الفالوج���ة‪ ،‬أن تحـريــر فلس���طيـن‬ ‫يـبـدأ من تـغـيــيـر األوضاع المـهـتـرئة‪،‬‬ ‫المـغـشـوش���ة‪ ،‬داخل البلدان العـربيـة‪.‬‬ ‫بعبارة ثانية‪ ،‬إذا كان مس���ـتقـبل مـصـر‬ ‫يـتــقـاط���ع بـالـحـتـم مـع حـل مش���كلة‬

‫‪29‬‬


‫فلس���طيـن‪ ،‬فـإن الـوس���يلة الضـرورية‬ ‫لتحقيق ذلك‪ ،‬تبــدأ من تحـرير المجتمع‬ ‫من االس���تبداد‪ ،‬والتخطيــط لـتـرقـيـتـه‬ ‫وجعل���ه قـ���ادرًا على حماي���ة مصـالحه‬ ‫والتصـّدي لألخــطــبـوط اإلسـرائيلي‪.‬‬ ‫آلـ���ت إليه‬ ‫وبــغـ���ض النـظـ���ر عمـا‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫التجربة الناصـرية‪ ،‬فـإن قـس���ـط ًا مهـم ًا‬ ‫من إش���كالية الـوج���ود العـرب���ي بعــد‬ ‫االس���تقالالت وف���ي جــوار إس���ـرائـيل‬ ‫ــرح بــقـوة‬ ‫واحتالل فلس���ـطيـن‪ ،‬قـد طـُ ِ‬ ‫ـ���د ْت المـأس���اة الفلس���طينية ف���ي‬ ‫فـ‬ ‫غـ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُسـويـداء س���ــؤال المس���تـقـبل العـربي‬ ‫داخــلـي ًا وخـارجـي ًا (جـيــو ‪ -‬بـولتـيك)‬ ‫وتــتـمـثـل محـورية فلسطين في أنـها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منذ انطالقة «فـتـح» وفـصائـل التحـريـر‬ ‫في مطلع سـتـيــنيات القـرن الماضي‪،‬‬ ‫ـع حـّد لمـتـاجـرة األنظـمـة بالقضية‬ ‫ُوضــِ َ‬ ‫الفلس���طيـنـيـة واس���تعمالها ورقــ���ة‬ ‫للــمس���ــاومة وتــبـريـ���ر الس���ــلطـوية‬ ‫واالنـهـ���زام‪ .‬لكن قـيام حـركة التحـريــر‬ ‫الفلـسـطـينـية وسـط مــبـاءة األنظمـة‪،‬‬ ‫وعلى رغــم مـا شــابــها من نقـائــص‪،‬‬ ‫َ‬ ‫طـرح���ت أس���ـئلة جوهـري���ة وحـركت‬ ‫ْ‬ ‫المــيـاه اآلس���ـنة الت���ي أرادت األنـظمة‬ ‫أن تـطـمـ���ر فيـه���ا مـطال���ب وتـطـلـعات‬ ‫الش���عـوب العـربي���ة‪ .‬واألهـ���م في هذه‬ ‫الـتجربـ���ة الفلس���طينية خ�ل�ال فـتـرة‬ ‫اتــس���ـعت لجميع‬ ‫المقاومة‪ ،‬ه���و أنـها‬ ‫ْ‬ ‫االتجاهات السياسية واأليديولـوجـية‪،‬‬ ‫ـدت نوعـ��� ًا م���ن الحـ���وار‬ ‫وجــس���ـّ ْ‬ ‫الديموقراط���ي بين مخـتـل���ف الفصائل‪.‬‬ ‫حـرصت‬ ‫وعـلى الرغــم من أن المقاومة‬ ‫ْ‬ ‫على حمـايــة اس���ـتـقالل قــرارها‪ ،‬فـإن‬ ‫ش���ــرط الـش���ـتات وس���ـطوة األنـظمة‬ ‫نــقـــال إلى الجس���م الفلس���طيني أدواء‬ ‫َ‬ ‫التسخيـر والتبعية لألنــظمة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبـخـاصة‬ ‫ونـتـيجـ���ة ل���كل ذل���ك‪،‬‬ ‫غيــاب تـنـظـيم الصـ���راع الديموقراطي‬ ‫ظل مـشـروع‬ ‫داخل المجتمعات العربية‪ّ ،‬‬ ‫السالم والدولة الفلـس���طـيـنية يـُـراوح‬ ‫ف���ي مكانه‪ ،‬وظلت إس���ـرائـيل تـمارس‬ ‫االحت�ل�ال وهدم المنازل واالس���ـتـهـزاء‬

‫‪30‬‬

‫األهـم في الـتجربـة‬ ‫الفلسطينية هو‬ ‫اتــسـعت‬ ‫أنـها‬ ‫ْ‬ ‫لجميع االتجاهات‬ ‫السياسية‬ ‫ـدت الحـوار‬ ‫وجــسـ ّ ْ‬ ‫بين الفصائل‬ ‫بالقـ���رارات الدولي���ة‪ ،‬مس���ـنــودة من‬ ‫الواليات المتحدة األميركية‪.‬‬ ‫مـع انــط�ل�اق ش���ــرارة الثـورة في‬ ‫تون���س ومــصـ���ر‪ ،‬وعـ���ودة الـوعـ���ي‬ ‫بـضـ���رورة تـحـريـ���ر الش���عوب م���ن‬ ‫تــس���ـلـط األنـظــمـ���ة وتـبــعـيـتـه���ا‬ ‫ـوة‬ ‫للــوصـاي���ة األجـنـبـية‪ ،‬بــ���رز بــقـُّ‬ ‫سـؤال االنـخـراط في العـصـر والـتاريخ‬ ‫ُ‬ ‫ـق تـصـورات تــراعي جدليـة الداخل‬ ‫فـ َ‬ ‫َو ْ‬ ‫ُ‬ ‫والخارج‪ ،‬وتـربط تـحـريـر المواطنـين‬ ‫والنـظ���ام السيـاس���ي باس���تـرجاع‬ ‫وصـون مجال الس���يادة‬ ‫حـرية القـرار‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ورفـ���ض اس���ـتـعـمار األرض العـربية‪.‬‬ ‫يـس���ـتـوجب الـسياق‬ ‫بـعـبارة أخــرى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الـراهـن طـرح المعضالت واألسـئلة في‬ ‫ش���ـمولـيـتـها وترابطــها‪ ،‬حـتى يـُـمكن‬ ‫للعال���م العـرب���ي أن يـغـ���ادر الجـمـود‬ ‫والـتـبعية واالحتالل‪.‬‬ ‫من هـنـا تـس���ـتـعيد قضية فلسـطين‬ ‫أهمـيـته���ا ف���ي س���ـيـرورة الثـ���ورة‬ ‫الـبــادئـ���ة‪:‬إذ ال يـمكن تحـدي���د مـعالــم‬ ‫لألفـ���ق العـرب���ي الجديـ���د‪ ،‬م���ن دون‬ ‫حـ���ل المأس���اة الفلس���طينية‪ .‬ومـــــ���ا‬ ‫ّ‬ ‫يـس���ــتـرعي االنـتـبـاه‪ ،‬هـو أن السـلطة‬ ‫الـتـقـطـت إش���ــارة‬ ‫الوطنية في رام اهلل‬ ‫ْ‬ ‫وأدرك���ت أن‬ ‫العـربيـ���ة‪،‬‬ ‫االنتفـاض���ات‬ ‫ْ‬ ‫الس���ـياق بـات يس���ــمح بـالـتـمـرد على‬ ‫الـوصاي���ة األميركية واألوروبية‪ ،‬كـمـا‬ ‫أنـ���ه يـقـتض���ي وضـ���ع حــ���ّد لمـهـزلة‬ ‫المفاوضات التي امتدت مــا يــقـرب من‬

‫ثـم كان قـرار‬ ‫‪ 20‬سـنـة‪ ،‬دون جـدوى‪ .‬من ّ‬ ‫تـقديم طلب إلى مجلس األمن لالعتـراف‬ ‫بـدولة فلسطين‪ ،‬والسعي إلى العضوية‬ ‫الكاملة في منظمة اليونيسكو‪ ،‬وهو مـا‬ ‫تحقق ي���وم ‪ 31‬أكتوبر‪.‬إنها ممـارس���ة‬ ‫فلسطينية تس���تــجيب لـحـالة النـهوض‬ ‫والتح���ّدي الت���ي تس���ــري ريـاحها في‬ ‫أرجــاء الـوطـ���ن العـربي‪ .‬وهي أمــارة‬ ‫تـؤكـد عــمـ���ق تلك الجدلـي���ة الـقائمة‪،‬‬ ‫عـبـ���ر التـاريخ‪ ،‬بين البل���دان العـربيـة‬ ‫وفلس���طـين بـوصفها جــ���زءًا مـلـتـحم ًا‬ ‫باألفـ���ق الـعـربي المـُـحتـمـ���ل‪ ،‬وأيـض ًا‬ ‫بـوصفها حـالة إنـس���ــانية مـلـمـوس���ة‬ ‫تـفضـ���ح ادعــ���اءات أمي���ركا والغـرب‬ ‫ـنـاصـريـ���ن آلخــر اس���ـتـعمار عـلى‬ ‫المـ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وجــه البــسـيطة!!‬

‫الـمســتـوى الـثاني‬ ‫يسـتـرعي االنـتـباه‪ ،‬ما قـدمـه اإلبداع‬ ‫والفكـر الفلس���ـطيـنيـان إل���ى ذخـيـرة‬ ‫الثقافة العربية المـعاصـرة‪ ،‬على رغـم‬ ‫محدودي���ة حج���م فلس���طين الجغرافي‬ ‫والبـش���ري‪ .‬وه���و عـطاء يـعـ���ود إلى‬ ‫انـغـراسها في عمق مـسار النـهضة منذ‬ ‫بداياته���ا األولى‪ ،‬وامتالكه���ا مجموعة‬ ‫من المبدعي���ن اس���تـطاعوا أن يعمـلوا‬ ‫على تلقيــ���ح الثـقافة العـربية بثقافات‬ ‫حديثة‪ ،‬على نحو ما فعل خليل بيــدس‬ ‫والسكاكـيـني‪ ،‬وقبلهما الناقد والمؤرخ‬ ‫روحي الخـالدي الذي نشـر سنة ‪1904‬‬ ‫كتابــ���ه «عــل���م األدب عن���د اإلفـرن���ج‬ ‫والعــرب وفيكت���ور هيــجـو»‪ ،‬محاو ًال‬ ‫الدف���اع ع���ن ض���رورة تجديد الش���ـعـر‬ ‫والـنــثـر عل���ى غـرار م���ا فعلـه هيـجو‬ ‫والرومانس���يـون ف���ي فرنس���ـا‪ .‬وإلى‬ ‫حدود سنة ‪ ،1948‬ظل أبـناء فلسطين‬ ‫يـتـغ���ذون بالثقافة العـربي���ة التـراثـية‬ ‫والحديثة‪ ،‬مـتـفاعليـن مع تـحوالتــها‪،‬‬ ‫مس���هـمـين فــي إنـتــاجها وتـرويـجها‪.‬‬ ‫وهـ���ذا هـو م���ا يفـس���ـر فش���ـل الدولة‬ ‫الصهيونية في أسـرلة عـرب فلـسطين‬ ‫الذين رفضوا الـنـزوح عن أرضهم‪ .‬ذلك‬


‫ـلـت‬ ‫أن ذاكرتهم الثقافية العـربية أفـش���ـَ ْ‬ ‫مـش���اريع نـش���ر العبـري���ة والثقاف���ة‬ ‫ـ���ر جمعي���ات «روابط‬ ‫الصهيوني���ة ْ‬ ‫عـب َ‬ ‫الق���رى» الت���ي اس���ـتـهدفت اجــتـثـاث‬ ‫العربيـتـيـ���ن‪ ...‬بل إن‬ ‫الثقاف���ة واللغة‬ ‫ْ‬ ‫هذيــن العنـصـري���ن األخيريـْـن تـحو ًال‬ ‫ْ‬ ‫إلى فضاء جوهـري للمقاومة وتـثـبيـت‬ ‫ظـل االحتالل‪ .‬وعلى امـتداد‬ ‫الهــوية في ّ‬ ‫تـنـاغـمت‬ ‫عقـدين من الزمن‪ ،‬بعد النكبة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أصوات الشعراء والقاصين والروائيين‬ ‫من داخل فلسطين وخارجها عبر الشتات‬ ‫والمنافي‪ ،‬ليـذكروا بالمأساة ويؤكدوا‬ ‫االنتماء‪ ،‬ويطالبوا بالحـرية واستعادة‬ ‫الوطن‪ ..‬وطـوال أكثر من خمسين سنة‬ ‫ظـل اإلبداع الفلسطيني‬ ‫تحت االحتالل‪ّ ،‬‬ ‫ال مع حركات التجديد األساسية‬ ‫متـفاع ً‬ ‫في حقول الثقافة العربية‪ ،‬مس���ـتفيـدًا‬ ‫من مـناخ الثورة التحـريرية واالحتكاك‬ ‫بدينامي���ة الثقاف���ة العالمي���ة في نهاية‬ ‫الق���رن العش���رين‪ ،‬ليجعل م���ن الكلمة‬ ‫والرس���م والصـ���ورة أيـقـونـة تجـس���د‬ ‫األلم الخاص وتـخاطب في اآلن نفس���ه‬ ‫قلب وعقل العالم الواسع‪.‬‬ ‫وه���ذه النــقـل���ة النـوعي���ة‪ ،‬جمالي ًا‬ ‫وداللـيـ���اً‪ ،‬باتجاه تحـريـ���ر اإلبداع من‬ ‫التـبـعية الظرفية لألح���داث والمواقف‬ ‫السياس���ية‪ ،‬جعلت النص الفلسطيني‬ ‫يجمع بين الشهادة واللمسـة اإلنسانية‬ ‫المـتـدثـرة بغالئل فـني���ة تـربطه بمدار‬ ‫ُ‬ ‫األدب العـالم���ي ال���ذي يـتعال���ى عل���ى‬ ‫الس���ياق فــيـما هـو يـستـوحيه ويـُعيـد‬ ‫صياغتـه‪ .‬وال ش���ك أن مسيـرة محمود‬ ‫درويش الشعرية والفكرية هي أفـضل‬ ‫نم���وذج للتدلي���ل عل���ى حج���م أهـمية‬ ‫المــنـجــز الفلسطيني في حقل اإلبداع‪.‬‬ ‫ُ َ‬ ‫وكما كان يقول محمود‪ ،‬ال شيء يـمنع‬ ‫مبدع ًا يـنتـمي إلى ثقافة محـلية‪ ،‬من أن‬ ‫يطمح إلى معانـقة اإلبداع العالمي‪.‬‬ ‫اه���ا المبدع���ون‬ ‫وهـ���ي مقول���ة َوعـَ َ‬ ‫والمفكرون الفلسطينيون فاستـطاعوا‬ ‫أن يلفتـ���وا أنـظار العالـم إلى مأس���ـاة‬ ‫بالدهم م���ن خالل لغـة الف���ن والجمال‬

‫والتـألـق الفكـري‪ .‬يكفي أن نش���ـير إلى‬ ‫أسماء فـرضت قيمتها الكونية بإنتاجها‪،‬‬ ‫مث���ل إدوارد س���عيد الناق���د والمفك���ر‬ ‫ظـل االمبـريالية‬ ‫ـنـظــر للثقاف���ة في ّ‬ ‫المـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫وفي س���ياق ما بع���د االس���تعمـار‪ ،‬أو‬ ‫جبـرا إبراهيم جبـ���را الـروائي والناقد‪،‬‬ ‫أو الروائية س���ـحـر خليفة‪ ،‬أو الـرسام‬ ‫كـم���ال بـالط���ة‪ ،‬أو الفنان���ة مـن���ى‬ ‫حـطـوم‪ ،‬أو المخرج السينـمائي إيـلـيــا‬ ‫سليــمان‪ ،‬فجميعهم حقـقوا في تـنـاغـم‬ ‫ُ‬ ‫وتفاعل إنتاجـ ًا حـداثـيـاً‪ ،‬يضيء الذات‬ ‫الفلس���طينية‪-‬العـربية‪ ،‬ويـرتق���ي إلى‬ ‫راود‬ ‫ذل���ك‬ ‫الكوني اإلنس���اني ال���ذي يـُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫والدة عسيرة وس���ط ميادين الحرب‪،‬‬ ‫وفـظـائ���ع التـفاوت‪ ،‬ومظـال���م النهـب‬ ‫واالحتالل‪ ..‬أقـصد ذل���ك الكونـي الذي‬ ‫ال يـص���در عن حضارة تـعتـبـر نفس���ها‬ ‫متفوقة‪ ،‬مجسـدة لـما ينـبغي أن تكون‬ ‫عليه القيم الكونية‪ ،‬وإنـما هـو حصيلـة‬ ‫حوار وتفاعـل بي���ن مختلف الثقافات‪،‬‬ ‫وتـعـبيـر عن ضـرورة إنسانية تــنـهي‬ ‫ُ‬ ‫التعصب واالنغالق واالستغالل‪.‬‬ ‫عل���ى ض���وء ه���ذه المالحظ���ات‪،‬‬ ‫واس���تـحضـارًا لألف���ق العـرب���ي‬ ‫المــحتـمـل‪ ،‬ال مــنـاص من اإلقـرار بـأن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الهـبــات واالنتفاضات والثـورات‪،‬‬ ‫كـل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رغـم ضـرورة أس���ـبقـيـتها لـتـكس���ــيـر‬ ‫الحـواجـ���ز والـبـنـيـ���ات العـتــيـق���ة‬ ‫مــاسـة‬ ‫المـتـخلفة‪ ،‬فـإنها تظـل بحـاجة‬ ‫ّ‬ ‫إل���ى إع���ادة صـ���وغ وتـدقيق أس���ـئلة‬

‫المعرفة‬ ‫هي طـريق‬ ‫التـغـيـيـر الذي‬ ‫يـعيد القيمة لذواتنا‬ ‫وعالئقنا باآلخرين‪.‬‬ ‫وهذا ال يعني‬ ‫مطلق ًا البـدء‬ ‫من الصـفـر‬

‫المس���تـقبل‪ ،‬وتحـليل العالق���ة بـالذات‬ ‫واللغـ���ة والدي���ن والتـاري���خ واآلخـر‪،‬‬ ‫أي مجموع األس���ـئلة التي واجـهـْـنـاهـا‬ ‫في مـطـل���ع نهـضـتـنا منذ أزيـد من مئة‬ ‫س���نة‪ ،‬ولم نقـ���دم لها س���ـوى أجـوبة‬ ‫مغـلوط���ة‪ ،‬تـلفيـقي���ة‪ ،‬مش���دودة إلى‬ ‫الماضوية‪ ،‬تتجن���ب رؤية الحقيقة كما‬ ‫هي لتـقـتنـع ب���أن المعرفة هي طـريق‬ ‫التـغـيـيـ���ر ال���ذي يـعيد القيم���ة لذواتنا‬ ‫وعالئقن���ا باآلخري���ن‪ .‬وه���ذا ال يعني‬ ‫مطلق��� ًا البـدء من الصـفـ���ر‪ ،‬ألن الثقافة‬ ‫العـربـيـيـن خالل المئة س���نـة‬ ‫واإلبداع‬ ‫ْ‬ ‫المـنـصـرمة‪ ،‬أنـجـزا الكثــيـر وش���ـيـّــدا‬ ‫اضطـلع���ت بـدور‬ ‫صـــروح��� ًا للحداثة‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫التحليل وإعـادة القـراءة والمـمارس���ة‬ ‫النقدية‪ .‬وعلى رغم ش���ـروط االستبداد‬ ‫والقـمع واإلرهاب األصـولي‪ ،‬استطاعت‬ ‫الحداثة العـربية أن تـبـذر فـكرًا تـنـويـري ًا‬ ‫مجـ���دداً‪ ،‬وأن تـُـداف���ع ع���ن قيـم الحب‬ ‫والجمال ومساواة الجنسين‪ ،‬واحـتـرام‬ ‫الحق���وق‪ ،‬وتمـجي���د ثقاف���ة الحي���اة‬ ‫ومصادري‬ ‫ردًا عل���ى دعـاة التـكفـيـ���ر ُ‬ ‫الحريـات‪ ..‬إال أن أفـق الحداثة العربـية‬ ‫ظـل اس���تفحال التس���ـلط‬ ‫أصـب���ح في ّ‬ ‫هـشـاً‪،‬‬ ‫والطـغـيان غــائـم القس���ـمات‪ّ ،‬‬ ‫مــهـددًا من قـوى الظــالم ومـؤسـســات‬ ‫ُ‬ ‫القمـ���ع والتـدجـي���ن‪ .‬لذل���ك ج���اءت‬ ‫مـب���ادرات الش���باب الثوري���ة لـتـُـوفـر‬ ‫الش���روط األولـية والضرورية إلقـامة‬ ‫الحــوار الديموقراطي‪ ،‬وحماية حـرية‬ ‫الفـك���ر واالعــتـق���اد‪ ،‬وهي الش���روط‬ ‫التي س���ـتـتـيح التـصدي لتـحديد األفـق‬ ‫ظـ���ل التحـرير‬ ‫العـرب���ي المـُحتـمل في‬ ‫ّ‬ ‫الداخلي‪ ،‬واس���ـتـرجاع س���يادة القـرار‬ ‫الخارجي‪ .‬س���تـكون مس���ـيرة إرس���اء‬ ‫األسس الديموقراطية طـويلة ومـكلـفة‪،‬‬ ‫لكنهـا تـمتـلك‪ ،‬ه���ذه المـرة‪ ،‬عـنـاصـر‬ ‫االكتمال‪ .‬وهي في اآلن نفس���ه مسـيرة‬ ‫تـحرير فلسطين من االستعمار‪ ،‬لـتـبـنـي‬ ‫دولته���ا الديموقراطي���ة‪ ،‬وتـضـطـل���ع‬ ‫بدوره���ا الطالئع���ي ف���ي صياغة أفق‬ ‫المستـقبل العربي ذي األبـعاد الكونـية‬ ‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫هدم المنزل‪..‬عنف التزييف‬

‫حرب الوجود بين أبناء األرض والطارئين عليها‬ ‫تستخدم كل السبل ومنها اختراع الهوية اإلسرائيلية‬ ‫وطمس الفلسطينية‪.‬‬

‫حرب بين هويتين‪:‬‬

‫أصلية ومخترعة‬ ‫في�صل دراج ‪-‬عمّان‬

‫‪32‬‬

‫اعتمد الفكر الصهيوني‪ ،‬في شكله‬ ‫الكالسيكي‪ ،‬على اختراع مزدوج‪:‬‬ ‫اخترع شعب ًا يهودي ًا متجانس األحوال‬ ‫والطموح‪ ،‬واخترع وطن ًا يهودياً‪،‬‬ ‫ينتظر عودة أهله إليه ويعيد إلى اليهود‬ ‫حق ًا انتظروه طويالً‪ .‬قفز االختراع فوق‬ ‫التاريخ مرتين‪ :‬مرة أولى وهو يجعل‬ ‫اليهود مستقلين عن المجتمعات التي‬ ‫عاشوا فيها‪ ،‬ومرة ثانية حين ساوى‬ ‫بين الواقع واألفكار المخترعة‪ .‬ولعل‬ ‫هذا االختراع المزدوج‪ ،‬الذي توقف‬ ‫أمامه شلومو ساندا‪ ،‬أستاذ التاريخ‬ ‫في جامعة تل أبيب‪ ،‬هو سبب السجال‬ ‫األكاديمي الصاخب الذي أثاره كتابه‪:‬‬ ‫«اختراع الشعب اليهودي»‪.‬‬ ‫‪ .1‬الهوية اليهودية الثابتة‬ ‫اطمأن «االختراع الصهيوني» إلى‬ ‫عصي على‬ ‫«أصل قديم» ثابت الصفات‬ ‫ّ‬ ‫التغّير‪ ،‬حايث اليهود منذ نزول التوراة‬ ‫في سيناء‪ ،‬وصاحبهم بعد أن طردهم‬ ‫الرومان لهم من فلسطين‪ ،‬عام ‪70‬‬ ‫ميالدية‪ ،‬ودخولهم إلى «تيه طويل»‬


‫هو أقرب إلى األساطير‪ .‬وإذا كان في‬ ‫أسطورة األصل القديم ما يعطي الوجود‬ ‫اليهوي ضمان ًا إلهياً‪ ،‬ذلك أن األصل الذي‬ ‫تحول فيه يستدعي الحضور اإللهي‪،‬‬ ‫ال ّ‬ ‫فإن في أسطورة التيه الطويل‪ ،‬التي‬ ‫يسوغ العودة‬ ‫رفضها شلومو ساند‪ ،‬ما ّ‬ ‫إلى فلسطين‪ ،‬التي تضع حّدًا لـ «الشقاء‬ ‫اليهودي»‪.‬‬ ‫أراد الفكر الصهيوني‪ ،‬الذي عايش‬ ‫النهوض العلمي في القرن التاسع عشر‪،‬‬ ‫أن يكون أسطوري ًا وعلمي ًا في آن‪ ،‬وعثر‬ ‫على ضالته في حقل البيولوجيا‪ ،‬كي‬ ‫يبرهن أن الشعب اليهودي واحد‪ ،‬وأن‬ ‫له من المالمح والخصائص و«الجينات»‬ ‫ما يفصله عن الشعوب األخرى‪ .‬أما‬ ‫تجسير المسافة بين األسطوري القديم‬ ‫والبيولوجي الحديث فأمر ميسور‪ ،‬يتكفّل‬ ‫به كتاب واسعو الخيال ومؤرخون‬ ‫مفترضون‪ ،‬يسائلون التاريخ الذي‬ ‫تم اختراعه ‪ .‬تجمع الهوية اليهودية‬ ‫المنشودة‪ ،‬في هذا التحديد‪ ،‬بين العلم‬ ‫متحولة إلى «هوية‬ ‫واألسطورة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جوهرانية»‪ ،‬خاصة باليهود ال بغيرهم‪.‬‬ ‫هكذا يتصالح القديم والجديد في ذاكرة‬ ‫قديمةـ جديدة‪ ،‬عليها أن «تتذكر» بأن‬ ‫اليهود كانوا في فلسطين‪ ،‬قبل أكثر من‬ ‫ألفي عام‪ ،‬وأن عليهم أن يرجعوا إلى‬ ‫فلسطين‪ ،‬بعد أكثر من ألفي عام‪ ،‬وأن‬ ‫بين الخروج والعودة شتات ًا موجعاً‪،‬‬ ‫ينبغي أال يعود‪.‬‬ ‫انطوت الهوية اليهودية المنشودة‪،‬‬ ‫كما عّينها الفكر الصهيوني‪ ،‬على الديني‬ ‫القديم والبيولوجي الحديث وعلى‬ ‫الفكري الحداثي‪ ،‬الوافد من حداثة‬ ‫فكرية ربطت بين الديموقراطية والدولة‬ ‫القومية‪ .‬والناقص‪ ،‬في الحاالت جميعاً‪،‬‬ ‫هو «الشعب اليهودي»‪ ،‬والدولة القومية‬ ‫التي تسوس شعبها بشكل جديد‪ .‬والحل‬ ‫آنذاك‪ ،‬وانطالق ًا من خصوصية شعب ال‬ ‫يشبه غيره‪ ،‬قائم في التمازج الطبيعي‬ ‫الفريد بين الدين والقومية اليهوديين‪ ،‬إذ‬ ‫القومية دين والدين قومية‪ .‬والمتبقي هو‬ ‫«الوطن القومي» الذي يصبح مشروع ًا‬ ‫عسكري ًا مشتق ًا من زمن االستعمار‪،‬‬ ‫قوامه الغزو واالحتالل والتحرر من‬

‫«السكان األصليين»‪ ،‬المنقطعين عن‬ ‫الحداثة والقومية معاً‪.‬‬ ‫أوكل الفكر الصهيوني إلى الدولة‬ ‫نقل الهوية من مجال النظر التلفيقي‬ ‫إلى المجال العملي المشخص‪ ،‬مساوي ًا‬ ‫بين فاعلية االحتالل العسكري وفاعلية‬ ‫المدرسة القومية‪ ،‬التي تعلم الجميع‬ ‫اللغة العبرية‪ .‬في مقابل هوية يهودية‬ ‫مخترعة‪ ،‬كان للسكان األصليين‪ ،‬أي‬ ‫الفلسطينيين‪ ،‬هوية موروثة مجالها‬ ‫العمل في األرض والعادات والتقاليد‬ ‫التصرف اليومية‪ .‬وسواء كانت‬ ‫وأشكال‬ ‫ّ‬ ‫تحوالتها‪،‬‬ ‫هذه الهوية مستقرة أو لها ّ‬ ‫يوحد بين‬ ‫وهو األرجح‪ ،‬فقد كان فيها ما ّ‬ ‫الشعب الفلسطيني وأرضه وتاريخه‪،‬‬ ‫وكل ما ال يحتاج إلى اختراع‪ ،‬إلى أن‬ ‫طرد الفلسطينيون من وطنهم ودخلوا‬ ‫في مسار هوية غير مسبوقة‪.‬‬ ‫تورث وال‬ ‫إذا كانت الهوية الوطنية ّ‬ ‫تورث معاً‪ ،‬بسبب سلطة الحياة التي‬ ‫ّ‬ ‫تحاصر العادات والتقاليد‪ ،‬فإن تهجير‬ ‫الفلسطينيين خارج أرضهم أدخل‬ ‫هويتهم في طور جديد‪ ،‬يتعايش فيه‬ ‫القديم الموروث وما جاءت به تجربة‬ ‫حياتية استثنائية في ظلمها‪ .‬تراءى‬ ‫الموروث في سلطة العادات واللهجة‬ ‫وأشكال من األنا شيدوا األسماء‬ ‫واأللقاب‪ ،‬وفي أطياف أماكن راحلة‬ ‫حملها الفلسطينيون في لغتهم بعد‬ ‫فتوزع على‬ ‫رحليها‪ .‬أما جديد التجربة‬ ‫ّ‬ ‫اتجاهات متعددة‪ :‬فقدان الملكية واإلقامة‬ ‫الثابتة‪ ،‬والرزق المضمون‪ ،‬واالنفتاح‬ ‫يحول البقاء على‬ ‫على الالمتوقع‪ ،‬الذي ّ‬ ‫قيد الحياة إلى معركة مفتوحة‪.‬‬ ‫جاءت تجربة الالجئ الفلسطيني من‬ ‫وضعه كإنسان غريب‪ ،‬ال يتمتع بالحقوق‬ ‫التي يتمتع بها غيره من البشر‪ ،‬ذلك أنه‬ ‫بدا إنسان ًا طارئاً‪ ،‬يعيش فوق أرض ال‬ ‫ينتمي إليها‪ ،‬وينتمي إلى أرض يعيش‬ ‫فوقها غيره‪ .‬بل إن وضعه الغريب فرض‬ ‫منحه «جنسية» معلقة في الفراغ‪ ،‬فليس‬ ‫له جنسية المجتمع الذي وصل إليه‪،‬‬ ‫وال جنسية المجتمع الذي كان فيه‪ ،‬كما‬ ‫لو كان الالجئ إنسان ًا منقسم ًا ال يمكن‬ ‫توحيده‪ ،‬نصفه حيث كان‪ ،‬ونصفه‬

‫اآلخر حيث سيكون‪ ،‬ألن اللجوء إقامة‬ ‫مؤقتة‪ ،‬تشبه اإلقامة وتختلف عنها في‬ ‫آن‪.‬‬ ‫انطوت التجربة‪ ،‬في شكلها‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬على الحنين والمعاناة‪،‬‬ ‫وعلى مقاومة لها شكل البداهة‪ ،‬تضع‬ ‫الوطن داخل اإلنسان وتدعو الفلسطيني‬ ‫إلى المطالبة بحقوقه‪ ،‬وتطالبه بأن‬ ‫يكون على مستوى ما يطالب به‪ .‬كان‬ ‫على الالجئ أن يحافظ على معنى الوطن‬ ‫هجر منه‪ ،‬وأن يأتلف مع معركة‬ ‫الذي ّ‬ ‫البقاء على قيد الحياة‪ ،‬موحدًا بين معركة‬ ‫وطنية سياسية ومعركة الحاجات‬ ‫اليومية‪ ،‬التي يتقاسمها مع غيره من‬ ‫يرحب‪،‬‬ ‫البشر‪ .‬ومع أن «سوق العمل» لم ّ‬ ‫دائماً‪ ،‬بالفلسطينيين كان لمعظمهم‬ ‫حقوق أقل فقد كانت معركتهم الوطنية‬ ‫أشد إرهاقاً‪ ،‬بسبب «البعد السياسي»‪،‬‬ ‫الذي ال يأتلف دائم ًا إلى مبادئ األخالق‬ ‫و«عالقات القربى»‪ .‬أعادت تجربة المنفى‬ ‫القسري توليد الفلسطيني أكثر من مرة‪،‬‬ ‫وردته من منفى إلى منفى‪ ،‬في انتظار‬ ‫ّ‬ ‫إقامة أخيرة‪ .‬أخذ الفلسطينيون‪ ،‬ربما‪،‬‬ ‫بالمبدأ القائل «الحية التي ال تغّير جلدها‬ ‫تهلك»‪ ،‬من دون أن ينجوا من «الهالك»‬ ‫دائماً‪ ،‬بسبب مجازر «ال متوقعة» سعت‬ ‫إليهم ولم يسعوا إليها‪.‬‬ ‫استولد الفلسطيني هويته «الجديدة»‬ ‫من شروط المنفى‪ ،‬التي أرادت تحويله‬ ‫إلى «إنسان أقل»‪ ،‬ومن مقاومة فرضت‬ ‫عليه‪ ،‬منعت عنه السقوط واالستسالم‪.‬‬ ‫أسند هويته الجديدة‪ ،‬التي قادته إلى‬ ‫أكثر من اقتراح سياسي‪ ،‬بهوية ثقافية‬ ‫قديمة جديدة‪ ،‬احتشد فيها الغناء والشعر‬ ‫والفن ومعرفة متنامية بالوطن السليب‪،‬‬ ‫ترد على اختراع‬ ‫ومعرفة موازية‬ ‫ّ‬ ‫صهيوني متجدد ومتعدد الوجوه‪ .‬نسجت‬ ‫هذه العناصر جميع ًا هوية فلسطينية‪،‬‬ ‫تتكئ على موروث سبق «النكبة»‬ ‫وتساجل‪ ،‬بال انقطاع‪ ،‬سبل الرد على‬ ‫النكبة واستعادة الحقوق المشروعة‪.‬‬ ‫ولعل هذا السجال‪ ،‬الذي مادته إرادة‬ ‫البقاء والكثير من الدماء‪ ،‬كما التمسك‬ ‫بفكرة فلسطين‪ ،‬هو ما يجعل الهوية‬ ‫الفلسطينية مفتوحة‪ ،‬فال هي بالهوية‬ ‫‪33‬‬


‫الوليدة التي ال تعرف أصولها‪ ،‬وال هي‬ ‫بالهوية المتحقّقة المكتفية بذاتها‪.‬‬ ‫تعامل الفكر الصهيوني مع هوية‬ ‫منجزة‪ ،‬كاملة وال تعرف النقصان‪،‬‬ ‫وأضاف إليها ثقافة مشتقة منها تدور‪،‬‬ ‫قدر ما تشاء‪ ،‬حول «شعب اهلل المختار»‬ ‫الذي قذف‪ ،‬بشعب غير مختار‪ ،‬خارج‬ ‫أرضه‪ .‬ولهذا كان على األدب اإلسرائيلي‪،‬‬ ‫وكما أظهر غسان كنفاني في دراسة‬ ‫رائدة‪ ،‬أن يرسم بط ً‬ ‫ال يهودي ًا ال يقهر‪،‬‬ ‫يساوي «أرض الميعاد» التي رجع إليها‪،‬‬ ‫وأن يرسم إلى جانبه «مخلوقات عربية»‬ ‫تشبه «أبناء آوى»‪ .‬ومع أن هذا األدب‬ ‫أخذ‪ ،‬في عالقاته بالشعب الفلسطيني‪،‬‬ ‫الحقه مختلفة‪ ،‬تضع أسطورة‬ ‫مضامين‬ ‫َ‬ ‫«شعب اهلل المختار» جانباً‪ ،‬فقد حافظ‬ ‫على مبدأ الهوية اليهودية المتسقة‪،‬‬ ‫طالما أن هوية اليهود من دينهم‬ ‫و«جيناتهم» في آن‪.‬‬ ‫‪2‬ـ هوية للثقافة أم ثقافة للهوية؟‬

‫اعتقد الصهاينة‪ ،‬وهم يبنون «وطنهم‬ ‫القومي»‪ ،‬بالعبقرية اليهودية التي‬ ‫وزعها «الشتات» على جغرافيات عديدة‬ ‫ّ‬ ‫غير يهودية‪ ،‬وبضرورة عودتها إلى‬ ‫القدس‪ ،‬كي يلتقي اإلبداع اليهودي‬ ‫بجذوره‪ ،‬ويستعيد وجوده السوي ‪.‬‬ ‫ومع أن إسرائيل لم تستطع أن تعيد‬ ‫إنجاب «فرانتس كافكا»‪ ،‬الروائي‬ ‫الشهير‪ ،‬فقد أجهد األدب اإلسرائيلي‬ ‫ذاته في بناء «صورة وطن فريد» ونظر‬ ‫إلى األدب الفلسطيني‪ ،‬الذي تنقصه‬ ‫«العبقرية»‪ ،‬باستخفاف شديد أحرجه‪،‬‬ ‫الحقاً‪ ،‬محمود درويش ومتشائل إميل‬ ‫حبيبي‪.‬‬ ‫كتب الفلسطينيون عن الهوية‪ ،‬التي‬ ‫فرضت عليهم‪ ،‬ذاهبين من «الثابت»‬ ‫إلى المتحرك ومن «القديم» إلى الجديد‪.‬‬ ‫والثابت القديم هو الوطن‪ ،‬والجديد‬ ‫األدبي تجربتهم المأساوية االستثنائية‪،‬‬ ‫التي ال يتسع لها الشكل األدبي العادي‪.‬‬ ‫ولهذا جاء األدب الفلسطيني‪ ،‬بعد‬

‫النكبة‪ ،‬مغايرًا لما كانه قبلها‪ ،‬ومغايرًا‬ ‫حول فلسطين‬ ‫لألدب التقليدي‪ ،‬الذي ّ‬ ‫إلى نهر من الدموع ويتيم في منتصف‬ ‫الطريق‪ .‬وواقع األمر أن الفلسطينيين‪،‬‬ ‫أدباء كانوا أو ال يعرفون الكتابة‪ ،‬قاتلوا‬ ‫من أجل هويتهم الجديدة‪ ،‬التي فقدت‬ ‫الوطن ورفضت المنفى‪.‬‬ ‫جاء محمود درويش الشاب بقصيدته‬ ‫الرومانسية‪ ،‬وأوكل إلى أناه الشعرية‬ ‫أن تتسع لوطنه وأن تنطق باسم‬ ‫شعبه‪ ،‬حيث الكل وراء مرشد صادق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويبشر بالوصول‪ .‬بل‬ ‫يرى ما ال يرى‬ ‫إن في الواحد الكل مكان ًا للبالد والعباد‪،‬‬ ‫المدن واألشجار واألحفاد واألجداد‪ ،‬كما‬ ‫لو كان الشاعر في الوطن والوطن في‬ ‫الشاعر‪ .‬ولعل وحدة الشاعرة والوطن‬ ‫هي التي أملت على درويش أن يستعيد‬ ‫قصيدة الغزل القديمة وأن يعيد بناءها‬ ‫مستعيض ًا عن الحبيبة جميلة العينين‬ ‫بأرض فاتنة أورق فيها الحجر‪ .‬بيد أن‬ ‫الشاعر الرهيف‪ ،‬الذي أزاح العشق القديم‬

‫الباطل المدجج والحق األسير‬

‫‪34‬‬


‫متصوف‪،‬‬ ‫عن مكانه وأغناه بمنظور‬ ‫ّ‬ ‫صاغ وطنه بلغة على صورته مساوي ًا‬ ‫بين الوطن المفقود المستعاد وجماليات‬ ‫لغوية تنفتح على مجازات ال تنتهي‪.‬‬ ‫نقل الشاعر ذاته من صيغة المفرد إلى‬ ‫صيغة الجمع‪ ،‬ونقل لغته من مجال‬ ‫الوصف إلى مقام الصورة الشعرية‪،‬‬ ‫مبرهن ًا أنه الشاعر النبي‪ ،‬الذي ال يخذل‬ ‫أهله‪.‬‬ ‫أما غسان كنفاني فانشغل بثنائية‬ ‫ّ‬ ‫العار والكرامة‪ ،‬التي فرضها على‬ ‫الفلسطينيين طريق ال رحمة فيه‪،‬‬ ‫وانشغل أكثر بترويض الفلسطيني‬ ‫الالجئ الذي عليه مواجهة الطريق‪ .‬وألنه‬ ‫كان يدرك أن على صاحب القضية أن‬ ‫يسيطر على ذاته‪ ،‬قبل أن يسيطر على‬ ‫طريقه‪ ،‬ابتعد عن اليقين النهائي وانحاز‬ ‫إلى المساءلة‪ ،‬التي تصنع اإلنسان من‬ ‫األسئلة المتجددة واإلجابات المجزوءة‪.‬‬ ‫ولهذا تقبل أعماله الروائية بأكثر من‬ ‫قراءة‪ ،‬ففي «رجال في الشمس» أكثر‬ ‫من سبب منع األحياء الموتى من «قرع‬ ‫جدران الخزان»‪ ،‬وفي «ما تبقى لكم»‬ ‫متسع لقراءة تحريضية سعيدة ومجال‬ ‫لقراءة متأسية تدرك حصاد اليوم وال‬ ‫تعرف ما يتلوه‪ .‬ويزداد األمر التباس ًا‬ ‫في «عائد إلى حيفا»‪ ،‬حيث في الجندي‬ ‫اليهودي ما يعّينه عدوًا‪ ،‬بقدر ما فيه‬ ‫ما يجعله معلم ًا نجيباً‪ ،‬يعلّم سائله‬ ‫أصول القتال وكسب المعرفة‪ .‬ومع أن‬ ‫غسان رأى في اإلنسان الواعي ألهدافه‬ ‫ضامن ًا لسالمة الطريق‪ ،‬فقد وضع فكرة‬ ‫االنتصار جانباً‪ ،‬مقترح ًا حوارًا طوي ً‬ ‫ال‬ ‫بين فلسطين التي كانت و«الفلسطيني‬ ‫الجديد» الذي لم يفقد الذاكرة‪.‬‬ ‫اشتق درويش من الشعر هوية جمالية‬ ‫لفلسطين‪ ،‬تساوق الشاعر وال تعرف‬ ‫االستقرار‪ ،‬موحدًا بين األرض واألنا‬ ‫الشعرية‪ ،‬وتوقف غسان أمام فلسطيني‬ ‫نجيب هو مدخل فلسطين وليست‬ ‫فلسطين مدخ ً‬ ‫ال إليه‪ .‬وكان في روايات‬ ‫جبرا إبراهيم جبرا روح فلسطينية‬ ‫مقدسة‪ ،‬تمتد إلى زمن كان المسيح فيه‬ ‫يمشي فوق سطح الماء‪ .‬وإذا كان غسان‬ ‫قد قال بفلسطيني ضمانه فيه مبتعدًا عن‬

‫ضمان االنتصار فقد كان في رواية جبرا‬ ‫ما يقول بضمان مزدوج‪ :‬الفلسطيني‬ ‫مختلف ألنه ينتمي إلى أرض مختلفة‪،‬‬ ‫والفسطيني منتصر بسبب اختالفه‪ ،‬كي‬ ‫يكون جديرًا بوطن ولد فيه المسيح‪ .‬ولم‬ ‫يكن في رومانسية جبرا ما يبتعد كثيرًا‬ ‫عن رومانسية درويش الشاب‪ ،‬فاألول‬ ‫كما الثاني رفع فلسطين فوق غيرها‪ .‬ال‬ ‫يبدأ الفلسطيني‪ ،‬في الحاالت جميعاً‪،‬‬ ‫من هوية معطاة بل يقاتل من أجل هوية‬ ‫ال ّ‬ ‫التحول‪.‬‬ ‫تكف عن‬ ‫ّ‬ ‫األدب الفلسطيني أم أدب المسألة‬ ‫الفلسطينية؟ وهوية ثقافية أم ثقافة من‬ ‫أجل الهوية؟ والسؤال ال شكالنية فيه‪،‬‬ ‫ذلك أن مصطلح «األدب الفلسطيني»‬ ‫عمومية ال تحديد فيها‪ ،‬ترتاح إلى معيار‬ ‫جغرافي‪ ،‬حال مصطلح «هوية الثقافة‬ ‫الفلسطينية»‪ ،‬الذي يميل إلى السكون‪،‬‬ ‫مفترض ًا هوية منجزة وثقافة جاهزة‪.‬‬ ‫وعما‬ ‫عما ّ‬ ‫يتكون‪ّ ،‬‬ ‫ولهذا ينبغي الحديث ّ‬ ‫تكونه‪ ،‬بسبب تعقد‬ ‫هو مستمر في ّ‬ ‫المسألة الفلسطينية‪ ،‬واختالف مواقع‬ ‫الفلسطينيين وتباين منافيهم‪ .‬والمثال‬ ‫واضح في ما أنجزه أدباء فلسطينيون‬ ‫في السنوات األخيرة‪ .‬فقد كتبت سحر‬ ‫خليفة‪ ،‬المنحدرة من نابلس والمقيمة‬ ‫عمان‪ ،‬روايتها «حبي األول»‪،‬‬ ‫في ّ‬ ‫راجعة إلى تاريخ فلسطين الذي سبق‬ ‫االحتالل‪ .‬وقّدم أكرم مسلم‪ ،‬المقيم في‬ ‫رام اهلل‪ ،‬روايته «العقرب الذي يتصّبب‬ ‫عرقاً»‪ ،‬ناظرًا إلى مكان يشبه فلسطين‬ ‫دون أن يكونها‪ ،‬وجاءت عبير عيسى‪،‬‬ ‫الفلسطينية التي نشأت في لبنان‬ ‫وتعمل في الخليج‪ ،‬برواية «حليب‬ ‫التين»‪ ،‬منّددة بفلسطينيين يرتزقون‬ ‫من اغتصاب القضية الفلسطينية‪،‬‬ ‫وجمع يحيى يخلف‪ ،‬المتنقل من األردن‬ ‫إلى لبنان إلى رام اهلل في روايته «جنة‬ ‫ونار»‪ ،‬بين المخيم وفلسطين التي كانت‬ ‫وتلك التي ستكون‪ ،‬مرس ً‬ ‫ال بتحية إلى‬ ‫الجمال الفلسطيني في جميع األزمنة‪.‬‬ ‫هذه روايات عن موضوع واحد دون‬ ‫موحدة‪ ،‬فلكل منها‬ ‫أن تكون رواية ّ‬ ‫منظورها وتجربة تنطلق منها‪ ،‬ولكل‬ ‫منها سؤال مؤجل اإلجابة‪ ،‬أي أنها ليست‬

‫رواية فلسطينية‪ ،‬بقدر ما هي رواية‬ ‫عن «الشأن الفلسطيني»‪ ،‬الذي يتراءى‬ ‫في بشر توازعتهم مناطق وتصورات‬ ‫مختلفة‪.‬‬ ‫إنه الحضور الغياب‪ ،‬إذ في الغياب‬ ‫تذكر فلسطين كما كانت‪،‬‬ ‫ما يستدعي ّ‬ ‫وإذ في الحضور‪ ،‬الذي هو مرآة ألكثر‬ ‫من منفى‪ ،‬ما يحرض الفلسطينيين‬ ‫على األسئلة‪ ،‬وما يمنع عنهم تماثل‬ ‫تشكل «الوطن»‬ ‫اإلجابات‪ ،‬في انتظار ّ‬ ‫واضح ًا للجميع‪ .‬إن تنوع مستويات‬ ‫تنوع‬ ‫الكتابة الفلسطينية يعّبر عن ّ‬ ‫األمكنة التي يعيش فيها الفلسطينيون‪،‬‬ ‫ويكشف عن تعددية وجهات النظر‪ ،‬التي‬ ‫تربط بين الماضي والمستقبل‪ ،‬وتقيم‬ ‫حوارًا ضروري ًا بين السياسة والثقافة‪،‬‬ ‫ذلك أن الهوية الفلسطينية ثقافية‬ ‫وسياسية معاً‪.‬‬ ‫كان حسين البرغوثي‪ ،‬صاحب‬ ‫«الضوء األزرق»‪ ،‬الذي رحل قبل األوان‪،‬‬ ‫يسأل عن فلسطين التي كانت ويستنطق‬ ‫أطاللها‪ ،‬مؤمن ًا بأن في أرض فلسطين‬ ‫ما يحفظ أسرار فلسطين‪ ،‬وأن ما ذهب‬ ‫في شكله القديم يعود في كل جديد‪،‬‬ ‫متوس ً‬ ‫ال التقمص ولعبة الموت والميالد‬ ‫الحرة األشكال‪ .‬كان في حزنه الذي‬ ‫أودعه في «سأكون بين اللوز» يناجي‬ ‫فلسطين غائبة‪ ،‬ويبحث عن حضورها‬ ‫في أطفال لهم مذاق الحكايات‪ ،‬وأصداء‬ ‫«الغريري»‪ ،‬الحيوان البري الضئيل‬ ‫الحجم واألنيس الصوت‪ ،‬الذي أهلكته‬ ‫مستوطنات إسرائيلية‪ ،‬يسيل منها لون‬ ‫أصفر أشبه بالقيح‪.‬‬ ‫من أين تأتي الهوية الفلسطينية؟‬ ‫تأتي من الفلسطينيين الذين يقاتلون‬ ‫الستعادة فلسطين‪ ،‬ومن أين تأتي‬ ‫ثقافة الهوية الفلسطينية؟ تصدر عن‬ ‫مبدعين ينتمون إلى القضية الفلسطينية‬ ‫ال إلى جغرافيا فلسطين‪ ،‬فالثانية مكان‬ ‫قابل للتجريد بينما القضية سؤال‬ ‫وطني سياسي ثقافي مفرداته الصراع‬ ‫والمقاومة‪ .‬إن مستقبل فلسطين من‬ ‫مستقبل فلسطينيين يميزون بين اإلقامة‬ ‫المؤقتة والوطن والمنفى‪ ،‬وبين استبداد‬ ‫العادات وأخالق التحرر‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫حرب المصطلحات والمفاهيم‪:‬‬

‫القتل باللغة‬ ‫�سمري احلجاوي ‪ -‬الدوحة‬

‫يخوض العرب والفلسطينيون‬ ‫حرب ًا ثقافية كبيرة مع اإلسرائيليين‬ ‫ال تقل ضراوة عن الحرب العسكرية‪،‬‬ ‫حرب مصطلحات ومفاهيم على اللغة‬ ‫والتاريخ والجغرافيا تشمل الماضي‬ ‫والحاضر والمستقبل‪ ،‬ويمتد ميدانها في‬ ‫المكان والزمان‪ ،‬من الماضي السحيق‬ ‫والقريب إلى الحاضر والمستقبل‪.‬‬ ‫منظومة متكاملة من األدوات الثقافية‬ ‫واإلعالمية تستخدمها إسرائيل ضد‬ ‫الشعب الفلسطيني واألمة العربية‬ ‫لتحقيق أهدافها‪ .‬وقد بدأت الحرب اللغوية‬ ‫منذ البداية المبكرة لتوافد المستوطنين‬ ‫اليهود على فلسطين‪ ،‬وأطلقت على حرب‬ ‫العصابات التي خاضها المستوطنون‬ ‫ضد الشعب الفلسطيني تسمية «حرب‬ ‫التحرير» وتحتفل سنوي ًا بما تسميه‬ ‫«عيد االستقالل» في ‪ 15‬آيار‪/‬مايو وهو‬ ‫تاريخ إعالن الدولة وكأنها كانت قائمة‬ ‫ومحتلة‪ ،‬وهي تسمية صك الفلسطينون‬ ‫مقابلها «النكبة» التي صارت تأريخ ًا‬ ‫للحقبة العربية المستمرة حتى اآلن‪.‬‬ ‫وفي مقابل مصادرة اسم فلسطين‬ ‫وتحويلها إلى «إسرائيل»‪ ،‬االمر الذي‬ ‫يعني تهويد األرض‪ ،‬شرع هذا الكيان‬ ‫اإلسرائيلي الوليد بعملية تهويد‬

‫‪36‬‬

‫ديموغرافي لنزع الهوية عن السكان‬ ‫الفلسطينيين في فلسطين المحتلة‬ ‫عام ‪ 1948‬لتجعلهم «عرب إسرائيل»‪،‬‬ ‫وهو مصطلح تحول إلى طعم ابتلعه‬ ‫صحافيون ومثقفون وسياسيون‬ ‫ووسائل إعالم عربية لطمس كلمة‬ ‫فلسطين وفلسطيني لصالح «عرب‬ ‫وعربان وكأنهم مجموعة من البدو قد‬ ‫يكونون أتوا من أي مكان آخر»!‬ ‫وفي حروبه الدموية التي لم تتوقف‬ ‫يعمد االحتالل اإلسرائيلي إلى استخدام‬ ‫أسماء جذابة وبراقة لها ظالل أدبية أو‬ ‫دينية‪ ،‬إلثارة الغبار أو تشكيل «ساتر‬ ‫ضبابي» إلخفاء جرائمه ومجازره‬ ‫الدموية‪ ،‬تتضمن األلق الثقافي الملغم‬ ‫ديني ًا وأيديولوجي ًا والذي يمكن‬ ‫استخدامه إعالمي ًا وتسويقه للرأي العام‬ ‫الغربي‪.‬‬ ‫عملت إسرائيل على تسويق‬ ‫روع‬ ‫الفلسطيني بوصفه «إرهابياً» ُي ِّ‬ ‫«المدنيين اليهود» وقدمت نفسها‬ ‫بوصفها الضحية دائماً‪ ،‬فحرب عام‬ ‫‪ 1948‬هي حرب عربية ضد «األبرياء‬ ‫اليهود المسالمين» وال ضد عصابات‬ ‫مسلحة‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة لحربها‬ ‫العدوانية عام ‪ 1967‬والتي احتلت فيها‬

‫باقي فلسطين والجوالن وسيناء‪ ،‬والتي‬ ‫أطلقت عليها «حرب األيام الستة»‪ ،‬وهي‬ ‫تسمية مشبعة بالبعد الديني مستوحاة‬ ‫من أسطورة توراتية عن إبادة اليهود‬ ‫بقيادة يشوع للكنعانيين الفلسطينيين‬ ‫في معركة استمرت ستة أيام‪.‬‬ ‫هذا النسق اإلسرائيلي من االستخدام‬ ‫الديني والثقافي المعادي في تسميات‬ ‫الحروب استمر حتى يومنا هذا‪ ،‬فإسرائيل‬ ‫تحاول بمنح حروبها تسميات مشبعة‬ ‫باالعتبارات الدينية واإليديولوجية‬ ‫والثقافية سلخ الفلسطينيين من واقعهم‬ ‫وتاريخهم‪ ،‬وهي «تستخدم اللغة كأداة‬ ‫للقتل والتعبير عن التفوق الديني‬ ‫واإليديولوجي على البرابرة» كما يقول‬ ‫لويس جان كالفي في كتابه «حرب‬ ‫اللغات والسياسات اللغوية»‪ ،‬وهو يقرر‬ ‫أن اللغة يمكن أن تكون أداة استعمارية‬ ‫حادة‪ ،‬بل ساحة من ساحات الحرب‬ ‫وأداة من أدواتها بالمعنى المجازي‬ ‫والحقيقي للكلمة‪ ،‬وأداة للتوسع‬ ‫العسكري وطمس الجرائم‪ ،‬وأداة فعالة‬ ‫الحتالل التاريخ والجغرافيا وإقصاء‬ ‫اإلنسان وقتله بعد ذلك‪ ،‬وهذا ما يذهب‬ ‫إليه توماس مكوالي مهندس سياسة‬ ‫التعليم اإلنكليزية للشعوب المستعمرة‬ ‫بقوله‪« :‬ال أظن أننا سنقهر الهند ما‬ ‫لم نكسر عمودها الفقري وهي لغتها‬ ‫وثقافتها وتراثها الروحي» كما ينقل‬ ‫منير العكش في كتابه «أميركا واإلبادات‬ ‫الثقافية‪ ..‬لعنة كنعان اإلنكليزية»‪،‬‬ ‫وهو ما يوافقه عليه الكابتن األميركي‬ ‫برأت عندما يشير إلى أن «اللغة والدين‬ ‫هما خط الدفاع األخير للهنود والبد من‬ ‫القضاء عليهما»‪.‬‬ ‫ومن هنا فإن «إسرائيل» حاولت‬ ‫وتحاول كسر العمود الفقري الفلسطيني‬ ‫والعربي‪ ،‬بالقوة العسكرية‪ ،‬وكسر‬ ‫الفلســـــطينيين لـــــغويـــ ًا واصطالحيـــ ًا‬ ‫وثقافياً‪ ،‬لطمس جرائمها وتغيير الوقائع‬ ‫وتزييف األحداث ظاهرياً‪ ،‬فالفلسطيني‬ ‫حسب الوصف اإلسرائيلي هو «مخرب‬ ‫وإرهابي» يستحق القتل‪ ،‬وليس فدائي ًا‬ ‫أو صاحب حق‪ ،‬وعمليات االغتيال‬ ‫ضد الفلسطينيين هي عبارة عن «قتل‬


‫محدد»‪ ،‬والمجازر عبارة عن «عمليات‬ ‫تطهير»‪.‬‬ ‫ولكسر العمود الفقري الثقافي‬ ‫والمعنوي للفلسطينيين والعرب أطلقت‬ ‫إسرائيل أسماء كثيرة على حروبها‬ ‫خالل العقود الثالثة الماضية مثل عملية‬ ‫«سالمة الجليل» ويوحي المصطلح بأنها‬ ‫حرب دفاعية‪ ،‬بينما هي حرب عدوانية‬ ‫عندما اجتاحت لبنان في حزيران‪/‬‬ ‫يونيو ‪ 1982‬ووصلت قواتها إلى‬ ‫العاصمة بيروت وحاصرتها ‪ 88‬يوم ًا‬ ‫ونفذت بمشاركة حلفائها من ميليشيا‬ ‫القوات اللبنانية مجزرة صبرا وشاتيال‬ ‫ودمرت وقتلت مئات اآلالف‪ ،‬وعملية‬ ‫تصفية الحساب عام ‪ 1993‬عندما قصفت‬ ‫المدفعية والصواريخ اإلسرائيلية معظم‬ ‫القرى الحدودية اللبنانية وشنت عليها‬ ‫وهجرت نصف مليون‬ ‫غارات جوية‬ ‫َّ‬ ‫لبناني ودمرت آالف المنازل وقتلت‬ ‫اآلالف‪.‬‬ ‫وربما يبقى اسم «عناقيد الغضب»‬ ‫هو أشهر التسميات اإلسرائيلية في‬ ‫حربها على لبنان عام ‪ ،1996‬وهو اسم‬

‫ال تتورع إسرائيل‬ ‫عن صبغ عدوانها‬ ‫بمصطلحات‬ ‫رومانسية مثل‬ ‫«غيوم الخريف»‬ ‫وصف ًا لحربها على‬ ‫بلدة بيت حانون‬ ‫رواية شهيرة للكاتب األميركي جون‬ ‫شتاينبيك‪ ،‬كتبها عام ‪ 1939‬وفاز عنها‬ ‫بجائزة بوليتزر في ‪ ،1940‬يقول هو‬ ‫نفسه عنها ‪«:‬لقد فعلت كل ما في وسعي‬ ‫ألحطم أعصاب القارئ إلى أقصى حد‪،‬‬ ‫ذلك أنني ال أريده أن يكون راضياً»‪ ،‬وقد‬ ‫ارتكبت إسرائيل خالل عدوان «عناقيد‬ ‫الغضب» مجزرة في قانا التي قتلت فيها‬ ‫‪ 118‬مدني ًا لبناني ًا بعد قصفها لموقع تابع‬ ‫لألمم المتحدة‪ ،‬كما ارتكبت مجزرة ثانية‬

‫أمن الجليل‪..‬أي اجتياح لبنان‬

‫في ‪ 2006‬في نفس البلدة عندما قصفت‬ ‫منز ًال مكون ًا من ثالثة طوابق وقتلت ‪55‬‬ ‫شخصاً‪ ،‬بينهم ‪ 27‬طفالً‪ .‬وكأنها أرادت‬ ‫أن تحطم أعصاب اللبنانيين وتدفعهم‬ ‫إلى اليأس‪.‬‬ ‫كما استــخدمت أســـــماء لتــــرهيب‬ ‫الفلسطينيين مثل «فاتورة الحساب»‬ ‫في حربها ضد مخيم جنين عام ‪،2002‬‬ ‫و«السور الواقي» على حملتها العسكرية‬ ‫على الضفة الغربية في إبريل‪/‬نيسان‬ ‫من عام ‪ ، 2002‬و«فارس الليل» على‬ ‫عملية اجتياح مدينة نابلس باستخدام‬ ‫عشرات الدبابات والمدرعات في‬ ‫نوفمبر‪/‬تشرين ثاني عام ‪،2002‬‬ ‫و«الحسم اإلدراكي» على إعادة احتالل‬ ‫الضفة الغربية‪ ،‬واسم «جهنم» على‬ ‫عملية حصار الرئيس الراحل ياسر‬ ‫عرفات عام ‪ ،2003‬و«المتدحرجة» على‬ ‫الهجوم على نابلس عام ‪.2003‬‬ ‫وال تتورع إسرائيل عن صبغ‬ ‫عدوانها بمصطلحات رومانسية مثل‬ ‫«غيوم الخريف» وصف ًا لحربها على بلدة‬ ‫بيت حانون في قطاع غزة في نوفمبر‪/‬‬ ‫تشرين الثاني ‪ ،2006‬و«أمطار الصيف»‬ ‫في حربها على بلدة بيت حانون في‬ ‫حزيران‪/‬يونيو ‪.2006‬‬ ‫أما في حربها على قطاع غزة عام‬ ‫‪ 2007‬فقد استخدمت عدة أسماء هي‬ ‫«القتال من بيت إلى بيت‪ ،‬ودفع الثمن‪،‬‬ ‫والشتاء الساخن‪ ،‬وخلع الضرس»‪،‬‬ ‫وأطلقت تسمية «البدلة الشخصية» على‬ ‫حملتها على محالت الصرافة في الضفة‬ ‫الغربية عام ‪ ،2008‬وأطلقت على‬ ‫حربها الشرسة والضارية ضد قطاع غزة‬ ‫عام ‪ -2009 - 2008‬اسم «الرصاص‬ ‫المصبوب» أو «الرصاص المسكوب»‪.‬‬ ‫‪ ..‬حرب األيام الستة ‪..‬سالمة الجليل‪..‬‬ ‫تصفية الحساب‪ ..‬عناقيد الغضب‪..‬‬ ‫فاتورة الحساب‪ ..‬السور الواقي‪ ..‬فارس‬ ‫الليل‪ ..‬الحسم اإلدراكي‪ ..‬عملية جهنم‪..‬‬ ‫غيوم الخريف‪ ..‬أمطار الصيف‪ ..‬دفع‬ ‫الثمن‪..‬الشتاء الساخن‪..‬خلع الضرس‪..‬‬ ‫حقل األشواك‪ ..‬الرصاص المصبوب»‪،‬‬ ‫كلها مصطلحات أدبية‪ ،‬تحمل معاني‬ ‫الوداعة والدفاع عن النفس‪ ،‬والصرامة‬ ‫‪37‬‬


‫في نفس الوقت‪ ،‬وليس فيها ما يشير‬ ‫إلى االعتداء والهجوم واإلقصاء ضد‬ ‫اآلخر‪ ،‬وهي ذخيرة مناسبة جدًا لوسائل‬ ‫اإلعالم اإلسرائيلية والغربية‪ ،‬التي‬ ‫تقدم إسرائيل على أنها الضحية الدائمة‪،‬‬ ‫والدولة الديموقراطية الوحيدة المسالمة‬ ‫في المنطقة العربية التي يطلقون‬ ‫عليها اسم «الشرق األوسط»‪ ،‬ليس‬ ‫هذا فحسب بل إن الجيش اإلسرائيلي‬ ‫الذي يقتل ويسفك الدماء والمجازر‬ ‫وينفذ عمليات االغتيال يطلقون عليه‬ ‫اسم «جيش الدفاع اإلسرائيلي»‪ ،‬وهو‬ ‫مصطلح مزيف آللة القتل اإلسرائيلية‪،‬‬ ‫ففي العقيدة التوراتية يعتبر الجيش‬ ‫اليهودي في حالة دفاع دائم حتى عند‬ ‫مهاجمته لألغيار «الغوييم» وقتله‪.‬‬ ‫في المقابل لم تكن هناك عناية‬ ‫فلسطينية أو عربية كبيرة بتسمية‬ ‫العمليات أو األحداث التي تكون إسرائيل‬ ‫طرف ًا فيها‪ ،‬وغالب ًا ما تكون التسميات‬ ‫هي صناعة صحافية خالصة‪ ،‬ففي‬ ‫حين سمت إسرائيل غزوها للبنان عام‬ ‫‪ 1982‬بعملية «سالم الجليل» مع كل ما‬ ‫تحمله هذه التسمية من دالالت‪ ،‬تدل على‬ ‫الطهر والنقاء والنظافة واألمان‪ ،‬أطلقت‬ ‫الصحافة العربية على الغزو «الحرب‬ ‫على لبنان» وهي تسمية ال تحمل أي‬ ‫داللة ثقافية بمقدار ما هي وصف‬ ‫لوقائع وكأنها تحدث في بلد آخر‪ ،‬إال‬ ‫أن هذا األمر بدأ يتغير مع بزوغ نجم‬ ‫الحركات اإلسالمية المقاتلة المدججة‬ ‫بالمصطلحـــات والمفــــاهيم المحـــملة‬ ‫بالمعاني التاريخية والدينية مثل‬ ‫الشعار األكثر استخدام ًا في المظاهرات‬ ‫«خيبر خيبر يا يهود‬ ‫جيش محمد سوف يعود»‪ ،‬وهو‬ ‫مصلح يشير إلى إخراج اليهود من‬ ‫الجزيرة العربية بعد معركة خيبر‪،‬‬ ‫وهو استحضار ثقافي وتاريخي وديني‬ ‫يواجه مصطلح «حرب األيام الستة»‪،‬‬ ‫في إشارة لمعركة القائد اليهودي يوشع‬ ‫ضد الفلسطينيين في أريحا‪.‬‬ ‫وشـــرع حـــــزب اهلل والمــــــقاومة‬ ‫الفلسطينية في استخدام أسماء مضادة‬ ‫لعملياتها العسكرية ضد االحتالل‬ ‫‪38‬‬

‫عناقيد النار‪ ..‬والغضب حق من؟‬

‫اإلسرائيلي‪ ،‬فقد أطلق حزب اهلل اسم‬ ‫«عملية الرضوان» على تبادل األسرى‬ ‫مع إسرائيل عام ‪ ،2008‬وسمى عملية‬ ‫أســـــر الجــــنود اإلســرائيليين «الوعد‬ ‫الصادق»‪ ،‬أما حركة المقاومة اإلسالمية‬ ‫«حماس» فقد أطلقت اسم «بقعة الزيت»‬ ‫على موجة الصواريخ التي أطلقتها على‬ ‫المدن اإلسرائيلية عام ‪ ،2008‬وأطلقت‬ ‫ألوية الناصر صالح الدين اسم «خيوط‬ ‫الموت» على موجة صواريخها‪ .‬وأطلقت‬ ‫حماس اسم «الوهم المتبدد» على عملية‬ ‫أسر الجندي اإلسرائيلي‪ ،‬كما أطلقت‬ ‫اسم «وفاء األحرار» على عملية تبادل‬ ‫األسرى مع الجانب اإلسرائيلي‪ ،‬حيث‬ ‫تمت مبادلة الجندي بحوالي ‪1045‬‬ ‫أسيرًا فلسطينياً‪.‬‬ ‫إســـــرائيل‪..‬التـــي وصـــفها الكاتب‬ ‫اليهودي شلومو ساند في كتابه «اختالق‬ ‫الشعب اليهودي» بأنها «مشروع سياسي‬ ‫حديث لشعب اخترع بأثر رجعي»‪ ،‬لم‬ ‫تتوقف عن التلفيق وهي حالة انتقلت‬ ‫من إقصاء الفلسطينيين ذهني ًا ومعنوي ًا‬ ‫إلى إقصائهم جسدي ًا وفيزيائي ًا بالقوة‬ ‫العسكرية من خالل المجازر‪ ،‬وذهبت‬ ‫أبعد من ذلك في محاوالتها اإلقصائية‬ ‫للشعب الفلسطيني عبر استخدام‬

‫اللغة إلثبات روايتها وطمس الرواية‬ ‫الفلسطينية من خالل القتل المصطلحي‬ ‫والمفاهيمي‪ ،‬يساعدها في ذلك آلة‬ ‫إعالمية ضخمة تقلب الحق باطالً‪ ،‬وآلة‬ ‫سياسية تحتل المنظمات الدولية وتؤثر‬ ‫في صياغة العبارات والقرارات‪ ،‬وهي‬ ‫صياغات تجعل من إسرائيل دائم ًا «حم ً‬ ‫ال‬ ‫وديعاً» في مواجهة وحوش «عربية‬ ‫فلسطينية» ضارية‪.‬‬ ‫إنها حرب تستخدم فيها اللغة‬ ‫أداة لتبرير احتالل فلسطين وتشريد‬ ‫الفلسطيني وطمس معاناته وتاريخه‬ ‫وسلب أرضه وتحويله من «ضحية‬ ‫إلى جالد» ومن «مقتول إلى قاتل» ومن‬ ‫«صاحب حق إلى معتد»‪ ،‬ومن مقاتل من‬ ‫«أجل الحرية إلى إرهابي»‪ ..‬حرب أدواتها‬ ‫المفردات والمصطلحات والمفاهيم التي‬ ‫تخضع لعملية مستمرة من التحريف‬ ‫والتلبيس والتشويش والتشويه وطمس‬ ‫الدالالت‪ ،‬التي تقلب الحق وتخدع‬ ‫العقول عبر سحر الكلمة لتحول الزيف‬ ‫إلى حقيقة مخادعة تقتل الفلسطيني‬ ‫مرتين‪ :‬مرة عندما يقتل جسدياً‪ ،‬ومرة‬ ‫أخرى عندما يتهم باالعتداء على قاتله‬ ‫اليهودي اإلسرائيلي‪.‬‬


‫في الرواية‪:‬‬

‫وثائق الحنين‬ ‫نبيل �سليمان ‪ -‬الالزقية‬

‫كان غالي شكري من أوائل من التفت‬ ‫إلى التخييل الروائي العربي لفلسطين‪،‬‬ ‫وذل���ك في كتاب���ه (كلمات م���ن الجزيرة‬ ‫المهج���ورة‪ ،)1964 /‬حيث درس رواية‬ ‫حليم بركات (س���تة أيام) ورواية غسان‬ ‫كنفاني (رجال في الشمس)‪.‬‬ ‫بع���د قلي���ل جاء كت���اب صال���ح أبو‬ ‫إصب���ع (صورة فلس���طين ف���ي الرواية‬ ‫العربي���ة ‪ .)1975/‬وقد توالت دراس���ة‬ ‫هذه الص���ورة أو ذلك التخييل‪ ،‬س���واء‬

‫في دورية أو في جزء من كتاب‪ ،‬غالباً‪،‬‬ ‫أم في كت���اب‪ .‬وعبر ذل���ك تعلق بعض‬ ‫الدراسة بالرواية العربية بعامة‪ ،‬بينما‬ ‫تعل���ق بعضها بالرواية ف���ي بلد بعينه‪،‬‬ ‫كالذي كتبه حسام الخطيب عن فلسطين‬ ‫ف���ي الرواي���ة ف���ي س���ورية‪ ،‬أو كالذي‬ ‫كتبه س���ليمان األزرعي عن فلسطين في‬ ‫الرواية في األردن‪.‬‬ ‫أم���ا هن���ا‪ ،‬فق���د اخت���رت أن أميز في‬ ‫التخييل الروائي العربي لفلسطين‪ ،‬بين‬

‫ما عاد منه إل���ى ما قبل ‪ ،1948‬وما عاد‬ ‫إلى ما بعد ‪ .1948‬ولئ���ن كانت النماذج‬ ‫عنيت بها هنا من خارج فلس���طين‪،‬‬ ‫التي‬ ‫ُ‬ ‫وهو ما يجعل مقاربتي ناقصة‪ ،‬فلعل لي‬ ‫بعض العذر في القول الوفير في الرواية‬ ‫الفلس���طينية‪ ،‬في الداخل وفي الش���تات‬ ‫ومنه ما جاء في عدد م���ن كتبي النقدية‬ ‫عدا عن أن المقام ضي���ق‪ ،‬والحمل كبير‬ ‫على مثلي‪.‬‬ ‫في رأس ما واجه���ت الرواية العربية‬ ‫ف���ي عودته���ا إلى فلس���طين قب���ل قيام‬ ‫إسرائيل‪ ،‬كانت التأرخة‪ ،‬بما تناديه من‬ ‫الوثيقة‪ ،‬ومن االعتم���اد على المراجع‪،‬‬ ‫وطريق���ة التعامل الروائي���ة معها‪ ،‬ومع‬ ‫ما تجود به ذاكرة المس���نّين والمسنّات‪،‬‬ ‫وما يلتبس بكل ذلك من النوس���تالجيا‪.‬‬ ‫وم���ن األمثل���ة الب���ارزة للّجلج���ة ف���ي‬ ‫ه���ذه المواجه���ة‪ ،‬رواية ناديا خوس���ت‬ ‫(أعاصير في بالد الش���ام‪ )1998 /‬التي‬ ‫تتمحور حول بطلها الفلس���طيني قيس‪،‬‬ ‫فتعود إلى ماضيه قبل قيام إس���رائيل‪،‬‬ ‫حيث تبه���ظ التأرخ���ة الرواي���ة‪ ،‬وهي‬ ‫تحاول النهوض بأعباء الصراع العربي‬ ‫اإلس���رائيلي منذ مطلع القرن العشرين‪،‬‬ ‫انتفاضت ْي ‪ 1929‬و‪1936‬‬ ‫وتمضي إل���ى‬ ‫َ‬ ‫في فلسطين‪ .‬لكن الوقفة الكبرى للرواية‬ ‫س���تكون على حرب ‪ ،1948‬حيث قدمت‬ ‫إب���ادة قرية قيس‪ :‬صفورية‪ ،‬وس���قوط‬ ‫صف���د‪ ،‬م���رورًا بالصفص���اف وطبري���ة‬ ‫والقدس والمالكية‪...‬‬ ‫وعبر ذلك ترسم الرواية كيف شكلت‬ ‫الحرب مصائر الجمي���ع‪ ،‬فكان لليهودي‬ ‫تناق���ض قي���ام‬ ‫حض���وره المتناق���ض‬ ‫َ‬ ‫المس���توطنة اليهودية ق���رب صفورية‪.‬‬ ‫ومن ذلك شخصية مردخاي رئيس بلدية‬ ‫روشبينا الذي يقدم الطعام ألهالي صفد‬ ‫بعد س���قوطها‪ ،‬وكذلك هي صداقة قيس‬ ‫م���ع القيادي الش���يوعي ج���ورج ماكاي‬ ‫ال���ذي يصف���ه الصهاينة بخائن الش���عب‬ ‫اليه���ودي‪ ،‬ألنه يخرج عنهم‪ .‬ولئن كانت‬ ‫الرواية قد توسلت للتأرخة االسترجاع‪،‬‬ ‫فقد اس���تعانت أيض ًا باالستباق‪ ،‬كما في‬ ‫تفحص قيس لكلمات ش���كري العس���لي‬ ‫ّ‬ ‫الذي يكش���ف يهود الدونمة‪ ،‬أو كما فيما‬ ‫روى اس���حاق رابين قائد القوات البرية‬ ‫‪39‬‬


‫التي احتلت اللد والرملة‪...‬‬ ‫‪lll‬‬

‫عل���ى نح���و يناق���ض ه���ذا الس���بيل‬ ‫الروائي يأتي س���بيل آخر‪ ،‬ال تحدد فيه‬ ‫الرواية زمانها و‪/‬أو مكانها‪ ،‬متوس���لة‬ ‫استراتيجية الالتعيين‪ ،‬كما هو األمر في‬ ‫رواية هاني الراهب (التالل ‪ )1988‬حيث‬ ‫المثال الناصع لتعقيد وس���ذاجة س���بيل‬ ‫الرواي���ة ف���ي التأرخة‪ ،‬وفي األس���طرة‬ ‫ومجاني���ة الصياغة المعممة‪ ،‬وحس���بي‬ ‫اإلش���ارة هنا إل���ى ما جاء ف���ي الرواية‬ ‫عن الدعوة إلى الوح���دة النيلوتية (أي‪:‬‬ ‫العربي���ة) واالش���تراكية الت���ي أخاف���ت‬ ‫ذوي االس���تعمار االس���تيطاني‪ ،‬لذل���ك‬ ‫أعلنوا قيام دولة خاصة بهم‪ ،‬وسموها‬ ‫(أوروبا الجديدة)م وبعبارة تتخفف من‬ ‫ه���ذه الفجاجة في الالتعيين‪ ،‬هكذا قامت‬ ‫إسرائيل أوروبا الجديدة في فلسطين‪.‬‬ ‫روايتي (الت�ل�ال) و(أعاصير‬ ‫بخالف‬ ‫َ‬ ‫في ب�ل�اد الش���ام) تأتي رواي���ة ممدوح‬ ‫عدوان (أعدائي ‪ )2000‬لتقدم‪ ،‬وبامتياز‪،‬‬ ‫نموذج ًا للحف���ر الروائي ف���ي التاريخ‪،‬‬ ‫إذ تع���ود إل���ى زم���ن الح���رب العالمية‬ ‫األولى‪ ،‬وفي إهاب من البوليس���ية‪ ،‬كما‬ ‫يليق بالرواية الجاسوس���ية‪ .‬ولئن كان‬ ‫رسم الش���خصيات الروائية الفلسطينية‬ ‫واليهودية والس���ورية في رأس ما يدلل‬ ‫على جمالية ه���ذه الرواية‪ ،‬فقد اعتورت‬ ‫ه���ذه الجمالية علة التناظ���رات بين عدد‬ ‫من شخصياتها‪.‬‬ ‫شكت الرواية من وطأة المعلومات‪،‬‬ ‫وم���ن اإلقب���ال عل���ى غرائ���ب وطرائف‬ ‫المرحلة التاريخية المعنية‪ ،‬ومن تكديس‬ ‫الوقائ���ع‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬من جماع كل ذلك‪،‬‬ ‫والمتمث���ل في وه���م الع���رض التنكري‬ ‫للتاري���خ‪ .‬وقد تبدى ذل���ك أحيان ًا كثيرة‬ ‫في وقفات سردية تلخيصية‪ ،‬حاصرت‬ ‫أذيتها المشهدية والبراعة في الحوار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لقد ج���اء تخييل (أعدائي) لفلس���طين‬ ‫حف���رًا ف���ي ذل���ك الزم���ن المصي���ري‬ ‫والمؤسس‪ ،‬من منتصف الحرب العالمية‬ ‫األولى إلى نهايته���ا‪ ،‬وال تخفي الرواية‬ ‫أن غرضها هو الحاضر والمستقبل‪ ،‬مما‬ ‫يعب���ر عنه قول ألتر ليفي لصياده «نحن‬ ‫نس���عى لتأس���يس وطن وأنتم تسعون‬ ‫‪40‬‬

‫ملحمة وتاريخ‬

‫الس���ترداد وطن» بينما ينقل���ب الصياد‬ ‫إل���ى داعية س�ل�ام معاص���ر إذ يخاطب‬ ‫ليفي‪« :‬عندكم المال والعلم ونحن عندنا‬ ‫األرض‪ ،‬لماذا ال نتعاون؟»‪.‬‬ ‫ما بعد حرب ‪:1948‬‬ ‫تعجل اإلشارة هنا إلى رواية (عرس‬ ‫ّ‬ ‫فلس���طين ‪ )1970‬ألديب نحوي‪ ،‬والتي‬ ‫تبدو محاولة فري���دة في كتابة (الملحمة‬ ‫الفلس���طينية)‪ ،‬حيث يقص قصة العرس‬ ‫الذي اس���تدعى جمهورًا كبيرًا ومتنوعاً‪،‬‬ ‫ف���ي إه���اب الطبيعة‪ ،‬عبر ما تس���ترجع‬ ‫الرواي���ة من الس���يل الذي غم���ر الخيام‪،‬‬ ‫وعبر مأس���اوية الصراع واستشهاد والد‬ ‫العروس على باب الضيعة في فلسطين‪.‬‬ ‫ومم���ا يكم���ل اندم���اج حبك���ة الرواي���ة‬ ‫باألس���طورة أن العريس الفدائي يذهب‬ ‫مع رفاقه إلى قب���ر والد العروس‪ ،‬خلف‬ ‫الحدود‪ ،‬ليس���تأذنه الزواج م���ن ابنته‪،‬‬ ‫لكن العريس يستشهد وهو عائد‪ ،‬فيكون‬ ‫زفافه على أكتاف رفاقه‪.‬‬ ‫ألدي���ب نحوي رواية أخرى هي (آخر‬ ‫���به له���م ـ)‪ ،‬وه���ي تخاطب زمن‬ ‫م���ن ُش ِّ‬ ‫االنتفاض���ة األولى ب���دءًا م���ن منتصف‬ ‫نيسان إبريل ‪ ،1988‬في مدينة الخليل‪،‬‬ ‫حي���ث يظه���ر (المجه���ول) ويخطب في‬ ‫الخليليين‪ ،‬مطلق ًا الشرارة التي تجعلهم‬

‫يح���ررون مدينتهم‪ .‬وم���ن الخليل تنتقل‬ ‫الش���رارة إلى جامع الش���جاعية في غزة‬ ‫حيث يظهر (المجهول)‪ ،‬ثم إلى الكنيسة‬ ‫األرثوذكس���ية في رام اهلل‪ ،‬فإلى نابلس‬ ‫وجبالي���ا وأربعي���ن القائد الش���هيد أبو‬ ‫جهاد‪ .‬ومن المفارق أن تصوير شخصية‬ ‫الفدائ���ي الفرد وثائقي ًا ف���ي هذه الرواية‬ ‫قد اعتوره االصطناع والس���ذاجة‪ ،‬على‬ ‫العكس م���ن تصوير الجماع���ة من جهة‬ ‫وكما ف���ي رواية عرس فلس���طيني ومن‬ ‫تصوير الف���رد البطل المجهول‪ ،‬من جهة‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫لق���د أس���رعت الرواي���ة العربية إلى‬ ‫فلس���طين بع���د هزيم���ة ‪ .1967‬وم���ع‬ ‫ش���خصية الفدائي‪ ،‬حضرت من المخيم‬ ‫شخصية أخرى‪ ،‬هي ذلك الفالح الفقير‬ ‫ال���ذي اقتلع ع���ام ‪ 1948‬من فلس���طين‪،‬‬ ‫فس���قط ف���ي درك البروليتاري���ا الرثة‪،‬‬ ‫كم���ا هو بطل رواية بدي���ع حقي (أحالم‬ ‫الرصي���ف المج���روح ‪ )1973‬الذي يعمل‬ ‫في مسح األحذية‪ ،‬فصارت رائحة البويا‬ ‫تفصل���ه ع���ن رائح���ة األرض الضائعة‪،‬‬ ‫وترميه في اليأس بعد هزيمة ‪.1967‬‬ ‫وقد كان لفلس���طين تجسيدان آخران‬ ‫في الرواية العربية‪ ،‬وذلك عبر شخصية‬ ‫العام���ل والمثقف‪ ،‬وهما م���ا نراهما في‬


‫روايتي هاني الراهب (ش���رخ في تاريخ‬ ‫طوي���ل ‪ )1970‬و(أل���ف ليل���ة وليلت���ان‬ ‫‪ .)1977‬فالعام���ل الفلس���طيني محمود‪،‬‬ ‫ف���ي الرواية الثانية متلهف للثورة «نريد‬ ‫شعب ًا يحمل الديناميت‪ ،‬اآلن وليس غداً»‬ ‫ويرى الكادحين الع���رب مخصيين‪ .‬وقد‬ ‫ال مثقفاً‪ ،‬سيسرع بعد‬ ‫رسمه الكاتب عام ً‬ ‫الهزيمة إل���ى دورة للتدريب على العمل‬ ‫الفدائي‪ .‬أما شخصية الفلسطيني المثقف‬ ‫فتصخب ف���ي رواية الراهب (ش���رخ‪)...‬‬ ‫موس���ومة بالوجودي���ة‪ ،‬مث���ل بط���ل‬ ‫الرواية السوري المثقف أسيان‪ ،‬عاشق‬ ‫الفلسطينية الش���ابة لبنى المتزوجة من‬ ‫ضابط‪ ،‬وعالقتها بزوجها معطوبة‪..‬‬ ‫يربط الكاتب بسذاجة بين أنوثة لبنى‬ ‫وفلس���طينيتها‪ ،‬ألنها تحلم بالعودة إلى‬ ‫يافا‪ ،‬حيث عاش���ت طفولتها‪ ،‬مما تشي‬ ‫الرواية بأنه اس���تعادة ما اغتصب منها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهي التي تعرف في الجامعة بش���جرة‬ ‫الزنا‪ ،‬الش���تهارها بكث���رة رجالها‪ .‬وكما‬ ‫أن لب���وس العط���ب في ش���خصية لبنى‬ ‫ه���و الجنس‪ ،‬كذلك هو عطب ش���خصية‬ ‫ش���قيقها مجد المعلم والطالب الجامعي‬ ‫والش���اعر الذي عش���ق امرأة تركية منذ‬ ‫تس���ع سنوات‪ ،‬دون أن تأبه له‪ .‬ويربط‬ ‫مج���د تعلقه بتركية بتعلقه بفلس���طين‪،‬‬ ‫فتركية مثل ب�ل�اده التي يحتلها اليهود‪،‬‬ ‫وهو صاحبها‪ ،‬وبالده‪ ،‬بفضل عش���اقها‬ ‫الكثيري���ن‪ ،‬ال تس���تطيع أن تك���ون له‪،‬‬ ‫وكلما زاد عش���اقها زاد تعلقه بها‪ ،‬حتى‬ ‫يق���ع ف���ي الي���أس‪ ،‬ويح���اول االنتحار‬ ‫مرارًا قبل أن يهاجر إلى غينيا‪ ،‬نش���دان ًا‬ ‫للبدائي���ة‪ ،‬وهرب ًا رومنس���ي ًا من الواقع‪،‬‬ ‫وهناك يفلح في االنتحار‪.‬‬ ‫وقد قدم حيدر حيدر في روايته (الزمن‬ ‫الموحش ‪ )1973‬تجسيدًا لفلسطين أكثر‬ ‫عطباً‪ ،‬عبر ش���خصية مس���رور الحزبي‬ ‫ تذه���ب اإلش���ارة إلى ح���زب البعث ‪-‬‬‫البرجوازي الصغي���ر الذي ينتقل من بلد‬ ‫إلى بل���د‪ ،‬والمتزوج م���ن ديانا المصابة‬ ‫بالتشتت الجنس���ي‪ ،‬لكن مسرور متعلق‬ ‫بها على نحو مرضي يتتوج بقتلها قبيل‬ ‫التحاقه بالنضال الس���ري كما طلب إليه‬ ‫حزبه‪.‬‬ ‫‪lll‬‬

‫لق���د تراج���ع حض���ور مث���ل ه���ذه‬ ‫الش���خصيات الروائي���ة‪ ،‬ليفس���ح‬ ‫لش���خصيات أخرى على إيقاع الحروب‬ ‫التالية‪ ،‬وبخاصة منه���ا الحرب األهلية‬ ‫اللبنانية التي اندلع���ت عام ‪ ،1975‬وإذ‬ ‫بإسماعيل فهد إسماعيل‪ ،‬يعاجلنا في عام‬ ‫‪ 1976‬بروايته (الش���ياح)‪ ،‬وبشخصيتي‬ ‫الفلسطينيين أس���عد الجامعي والسائق‬ ‫َّ‬ ‫ابراهيم‪ ،‬اللذين تحشرهما الحرب مع من‬ ‫تحش���ر في س���رداب‪ ،‬فتنجلي في األول‬ ‫ش���خصية الطموح إلى القيادة والشعر‪،‬‬ ‫وهو المطرود من منظم���ة فدائية‪ ،‬وفي‬ ‫الثاني ش���خصية سائق الش���احنة بين‬ ‫لبنان والكويت‪ ،‬والذي يكويه الس���ؤال‪:‬‬ ‫إلى أين الذهاب إذا ما رحل الفلسطينيون‬ ‫من لبن���ان‪ ،‬م���ا دامت دروب فلس���طين‬ ‫مسدودة؟‬ ‫في هذا الس���ياق تأتي رواية إلياس‬ ‫خوري (باب الش���مس‪ )1998 /‬كعالمة‬ ‫فارقة‪ ،‬وفيها تقول إحدى الش���خصيات‪:‬‬ ‫«إننا ال نعرف تاريخنا‪ ،‬وإنه يجب جمع‬ ‫حكايات كل قرية ك���ي تبقى القرى حية‬ ‫ف���ي ذاكرتنا»‪ .‬والرواية ليس���ت إال ذلك‪:‬‬ ‫حكايات ال تنتهي‪ ،‬ومتواليات من الحكي‬ ‫ل���رواة بال حص���ر‪ ،‬أي لش���خصيات بال‬ ‫حص���ر‪ ،‬وإن تكن الرواية قد تبّأرت على‬ ‫شخصيات بعينها‪ ،‬أولها الراوي الدكتور‬ ‫خلي���ل أيوب ال���ذي يقص عل���ى يونس‬ ‫الغ���ارق في الكوما‪ .‬وعب���ر هذا الطوفان‬ ‫م���ن التاري���خ الفلس���طيني الجديد‪ ،‬أي‬ ‫من الحكايات‪ ،‬تش���تبك األصوات حتى‬

‫أسرعت الرواية‬ ‫العربية إلى‬ ‫فلسطين بعد هزيمة‬ ‫‪ .1967‬ومع الفدائي‪،‬‬ ‫حضرت شخصية‬ ‫أخرى‪ ،‬هي ذلك‬ ‫الفالح الفقير الذي‬ ‫اقتلع عام ‪1948‬‬

‫لترمي القراءة بالتتويه‪ ،‬بينما يرتس���م‬ ‫الفضاء الفلس���طيني قب���ل مفصل ‪1948‬‬ ‫وبعده‪ ،‬ف���ي المخيمات والمغائر والمدن‬ ‫(عم���ان بي���روت‪ )..‬والقرى (الغابس���ية‬ ‫وعين الزيتون والكويكات وطيطبا ودير‬ ‫األسد وشعب و‪ .)...‬وكما تقول الرواية‬ ‫بحق‪ :‬تختلط األس���ماء‪ ،‬واالسم للناس‬ ‫أو للقرى صار يطير‪ ،‬وإن كان الحضور‬ ‫الخاص هو لمستش���فى الجليل ولمخيم‬ ‫شاتيال ولمغارة باب الشمس‪ ،‬مثلما هو‬ ‫الحضور الخاص لشخصية أم حسن‪ ،‬أم‬ ‫الكل التي لبست الحداد صباح الخامس من‬ ‫حزيران ‪ ،1967‬حين كان غيرها يرقص‬ ‫ابتهاج ًا بالنصر‪ ،‬وشخصية نهيلة زوجة‬ ‫يونس ذي األسماء الكثيرة‪ ،‬أو مجنونة‬ ‫الكاب���ري التي تجمع عظ���ام الموتى في‬ ‫الجلي���ل وتدفنهم‪ ،‬أو كم���ال الذي ال يرى‬ ‫في التليفزيون م���ا يراه اآلخرون‪« :‬هذه‬ ‫ليست فلسطين يا ابن عمي‪ .‬هذه الصور‬ ‫ال تش���به قرانا‪ ،‬لكن الناس‪ ،‬ال أعلم ماذا‬ ‫جرى للناس؟»‪.‬‬ ‫لم تعد فلس���طين في الرواية العربية‬ ‫تأرخ���ة أو نوس���تالجيا أو‬ ‫وثيق���ة أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ماضي��� ًا وتش���ردًا وقه���راً‪ ،‬إذ س���رعان‬ ‫العربي���ة الفدائ���ي‬ ‫الرواي���ة‬ ‫م���ا ش���غل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الفلس���طيني بخاصة‪ ،‬والعربي بعامة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أما الوثيقة أو التأرخة فقد أخذتا تغدوان‬ ‫أكثر فأكثر‪ ،‬حفرًا روائي��� ًا في التاريخ‪،‬‬ ‫وفي الس���ياق الحداثي الروائي العربي‪،‬‬ ‫بينم���ا كان الم���كان الفلس���طيني ينأى‪،‬‬ ‫وص���ار يش���اغله‪ ،‬حتى ليش���غل عنه‪،‬‬ ‫المخي���م ومواطن الش���تات‪ .‬ومع العمل‬ ‫ال‬ ‫الفدائي صارت الحروب األهلية ش���اغ ً‬ ‫أيضاً‪ ،‬وبخاصة الح���رب اللبنانية التي‬ ‫اندلع���ت عام ‪ .1975‬ولئ���ن كان كل ذلك‬ ‫يتقاطع بق���وة فيما بين الرواية العربية‬ ‫غير الفلسطينية‪ ،‬والرواية الفلسطينية‬ ‫في الش���تات‪ ،‬فإن الرواية الفلس���طينية‬ ‫ف���ي الداخل ف���ي فلس���طين التي صارت‬ ‫إس���رائيل أو التي صارت سلطة وطنية‬ ‫بع���د اتف���اق أوس���لو تظل تتف���رد‪ ،‬في‬ ‫تخييله���ا للش���خصية الفلس���طينية أو‬ ‫للفدائ���ي أو للمس���توطنات أو لغير ذلك‬ ‫من كل ما يتصل بفلسطين في حاضرها‬ ‫وماضيها‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫فلسطين‪ ،‬إسرائيل‪:‬‬

‫حقائق حول الصراع‬ ‫�آالن جري�ش‬ ‫ترجمة ‪� :‬أحمد عثمان‬ ‫*‬

‫أكت���ب هذا الكتاب ألجل���ك‪ ،‬وأنا أفكر‬ ‫فيك وفي كل الش���باب في العش���رينيات‬ ‫من عم���رك‪ .‬منذ أكثر م���ن عقدين أكتب‪،‬‬ ‫أحاضر‪ ،‬أجري تحقيقات صحافية حول‬ ‫الصراع اإلسرائيلي‪-‬الفلسطيني‪ .‬ناقشت‬ ‫بحمية حقوق الفلس���طينيين‪ ،‬خصائص‬ ‫ّ‬ ‫دولة «إس���رائيل»‪ ،‬الس�ل�ام المستقبلي‪.‬‬ ‫مؤمن ًا بقوة العق���ل والمنطق‪ ،‬بضرورة‬ ‫التغلب على األحكام المس���بقة‪ ،‬حاولت‬ ‫أن أفه���م وأدرك ه���ذا الش���رق المعق���د‬ ‫زعماً‪ .‬دوماً‪ ،‬حققتهما بشغف‪ ،‬والشرق‬ ‫األوس���ط في قلبي‪ ،‬في���ه ولدت وكبرت‪.‬‬ ‫وأتمنى أن أنق���ل اليك وإخوتك ذرة من‬ ‫هذا التوجه‪ ،‬على الرغم من كون سيرتي‬ ‫ليست سيرتك وال سيرتهم‪.‬‬ ‫مع انهيار اتفاقات أوس���لو‪ ،‬مع نفق‬ ‫العن���ف ف���ي الش���رق األوس���ط‪ ،‬أصبت‬ ‫بالي���أس بع���ض الوق���ت‪ .‬م���رة البتعاد‬ ‫الس�ل�ام‪ ،‬ومرة أخرى لوقوع اإلقليم في‬ ‫حالة من الجن���ون والمواجهات‪ .‬يتظاهر‬ ‫آالف الفرنس���يين اليهود‪ ،‬من الش���باب‬ ‫غالباً‪ ،‬صارخين‪« :‬الموت للعرب!»‪ .‬من‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬يصيح ش���باب فرنسي‪،‬‬ ‫من أص���ول مغاربية غالباً‪ ،‬س���اخطين‬ ‫عل���ى القمع ف���ي الضف���ة الغربية وغزة‬ ‫‪« :‬الم���وت لليه���ود!»‪ .‬معاب���د هوجم���ت‬

‫‪42‬‬

‫وأحرقت‪ .‬على مدى أسابيع‪ ،‬طاف طيف‬ ‫الحرب الطائفية على «فرنسا الوديعة»‪.‬‬ ‫ما وراء الشجب المبدئي لكافة المظاهرات‬ ‫المناهضة للصهيونية‪ ،‬شل المسؤولون‬ ‫السياس���يون‪ .‬في الكليات‪ ،‬الثانويات‪،‬‬ ‫يش���رح المعلم���ون أن���ه م���ن األفض���ل‬ ‫االحتف���اظ بالصمت عن فت���ح النقاش ‪:‬‬ ‫تبدى التضامن «الطائفي» – «اليهود» مع‬ ‫إس���رائيل‪« ،‬العرب» مع الفلسطينيين‪،‬‬ ‫«الفرنس���يون األصليون» ينظرون إلى‬ ‫مكان آخر ‪ -‬قوياً‪« ،‬طبيعياً» بالتأكيد‪ ،‬ال‬ ‫يقهر‪ ،‬ولذا من األفضل تجنب تهييجه‪.‬‬ ‫كيف نقبل بهذه الهوة ؟ بالنس���بة لي‪،‬‬ ‫يتأت���ى بالتخلي عن المبادئ التي كونت‬ ‫عمل���ي‪ ،‬التزاماتي ومعتقدات���ي‪ .‬أنتمي‬ ‫إل���ى جي���ل أدرك السياس���ة – كما يقال‬ ‫وصل إلى العالم – في الس���تينيات عبر‬ ‫حركة إزال���ة الكولونيالي���ة وعلى يدي‬ ‫نضال‪ ،‬ق���وي كما تم اعتباره‪ ،‬الش���عب‬ ‫الفيتنامي ضد الع���دوان األميركي‪ .‬هكذا‬ ‫كانت التفاوتات سياسية‪ ،‬أيديولوجية‪،‬‬ ‫وأتجاس���ر عل���ى ذكر ه���ذه اللفظة التي‬ ‫تحصلت على س���معة سياس���ية سيئة‪.‬‬ ‫ليس ألصول أح���د وال دين آخر أي ثقل‬ ‫على تحليالتن���ا‪ ،‬صراعاتنا‪ ،‬معتقداتنا‪.‬‬ ‫نريد أن نكون جزءًا مندمج ًا في اإلنسانية‪،‬‬

‫فوق األحكام المسبقة‪ ،‬دعوات «العرق»‬ ‫أو حتى األمة‪ .‬وهذا ما أغرانا بالرس���الة‬ ‫العالمية للماركس���ية ‪« :‬ي���ا عمال العالم‬ ‫اتحدوا!»‪.‬‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬كان الصراع اإلس���رائيلي‪-‬‬ ‫العرب���ي معق���دًا مثل ح���رب فيتنام‪ .‬في‬ ‫فرنس���ا‪ ،‬أثار االنتصار اإلسرائيلي على‬ ‫مصر‪ ،‬سورية واألردن خالل حرب يونيو‬ ‫‪ 1967‬حماس���ة جنونية‪ .‬مثل ثقل إبادة‬ ‫اليهود‪ ،‬أس���طورة الكيبوتز (االستغالل‬ ‫الزراع���ي الجماعي) االش���تراكي‪ ،‬وإنما‬ ‫أيض��� ًا ش���عور «الثأر» من الع���رب‪ ،‬بعد‬ ‫خمس سنوات من نهاية حرب الجزائر‪،‬‬ ‫عوام���ل تفس���ر ه���ذا الموق���ف األحادي‬ ‫المناصر إلس���رائيل‪ .‬وجوهري���اً‪ ،‬ظلت‬ ‫المواجهات سياس���ية‪ .‬وف���ي المنظمات‬ ‫الش���يوعية واليس���ارية المتطرفة‪ ،‬التي‬ ‫يناضل ف���ي صفوفها كثير م���ن اليهود‪،‬‬ ‫دافعنا‪ ،‬وأقولها مرة أخرى‪ ،‬عن مواقف‬ ‫أممية‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬كنا ورثة التقليد القومي‪.‬‬ ‫كنا مفتوني���ن بهؤالء الفرنس���يين الذين‬ ‫انضموا إلى جبه���ة التحرير الجزائرية ‪:‬‬ ‫وسّموا «بحاملي‬ ‫اعتبروا خونة لوطنهم ُ‬ ‫الحقيبة»‪ .‬على عكس آلبير كامو‪ ،‬فضلوا‬ ‫العدالة على أمهم‪ .‬ولدت في القاهرة ألم‬ ‫روسية يهودية وأب قبطي‪ ،‬ملحد ولكن‬ ‫يحترم المعتقدات‪ ،‬وعرفت نفسي في بالد‬ ‫األنوار‪ .‬قلت لك يا ابنتي‪ ،‬كنت محظوظ ًا‬ ‫ألنني اخترت جنسيتي ‪ :‬جعلتني ليسيه‬ ‫القاهرة فرنس���ي الثقاف���ة والقلب‪ ،‬حتى‬ ‫وإن ل���م أكن���ه بالدم‪ .‬أعجب���ت بفولتير‪.‬‬ ‫كان ملتزم ًا بقضية «كاالس»‪ ،‬مدافع ًا عن‬ ‫هذا الكالفيني المتهم بقتل ابنه المتحول‬ ‫إلى الكاثوليكي���ة‪ ،‬والذي أعدم في العام‬ ‫الالحق بتولوز‪ .‬قس���مت القضية فرنسا‪.‬‬ ‫من الضروري االنتظار حتى رد االعتبار‬ ‫إلى كاالس في عام ‪.1765‬‬ ‫«أن���ا وأخي ضد ابن عمي‪ ،‬وأنا وابن‬ ‫عمي ضد الغريب»‪ :‬يلخص القول المأثور‪،‬‬ ‫في نظ���ري‪ ،‬نفق المذابح الت���ي عرفتها‬ ‫لبنان حينما غرق���ت في الحرب األهلية‪،‬‬ ‫خالل الس���بعينيات‪ .‬دوماً‪ ،‬تجاهلت هذا‬ ‫المنط���ق‪ .‬هل من الضروري قبوله اليوم‬ ‫ونحن نحتفل «بالقرية الكونية»‪ ،‬الحقوق‬


‫سليل المحرقة‪..‬عندما يحرق‬

‫العالمي���ة للفرد والمس���اواة بين الناس؟‬ ‫هل من الضروري النظر إلى ش���رعية أن‬ ‫يكون اليه���ود متضامنين مع إس���رائيل‬ ‫والمسلمون مع الفلسطينيين ؟ من الممكن‬ ‫فهم الجوار العائلي‪ ،‬العاطفي‪ ،‬الديني‪.‬‬ ‫«تقريب ًا لكل يهود ستراسبورغ‪ ،‬كما ذكر‬ ‫مس���ؤول المجلس التمثيل���ي للمنظمات‬ ‫اليهودية في فرنسا بعد عدد من الحرائق‬ ‫المناهضة للس���امية في خريف ‪،2000‬‬ ‫عائلة هناك‪ .‬الش���عور األساسي رد فعل‬ ‫قل���ق لدى األق���ارب‪ .‬وقتما يه���دد الخطر‬ ‫إس���رائيل‪ ،‬يق���وم التضام���ن ب���دوره»‪.‬‬ ‫بالنس���بة للش���باب من أصول مغاربية‪،‬‬ ‫يتماهون م���ع رماة األحجار‪ ،‬ألس���باب‬ ‫اجتماعية – «أيه���ا المغضوب عليكم من‬ ‫جميع البل���دان‪ ،‬اتحدوا» – أو للش���عور‬ ‫باالنتم���اء الثقافي والدين���ي إلى حد ما‪.‬‬ ‫س���طرت مذكرة لالس���تخبارات العامة‪،‬‬ ‫في ش���هر ديسمبر ‪ ،2000‬أن االعتداءات‬ ‫المناهض���ة للس���امية‪ ،‬ش���به المنعزلة‪،‬‬ ‫تفسر باألخص تنفيس شباب الضواحي‬ ‫وأنه ال يجب إضفاء الصبغة السياس���ية‬ ‫عليها‪ .‬ولكن هل هذا سيستمر ؟‬ ‫ظل اليسار بعيدًا عن أحداث فلسطين‪.‬‬ ‫مس���مرًا بفعل الخوف م���ن التجاوزات‪،‬‬ ‫يطال���ب الس���لطات الديني���ة بتهدئ���ة‬

‫التوترات‪ ،‬وقد تخلى عن هؤالء الشباب‬ ‫الذي���ن كبروا خ���ارج تأثي���ره‪ ،‬ثقافته‪،‬‬ ‫رؤيت���ه للعال���م‪ .‬ال يع���رف أن يتوج���ه‬ ‫إليهم‪ ،‬يجيب عن العذابات التي يلقونها‬ ‫في ضواحيهم‪ ،‬يقول الكلمات المؤثرة‪،‬‬ ‫يقود الممارسات التي تمنح ما يجرى في‬ ‫فلسطين وإسرائيل محتوى عالمياً‪ .‬إلى‬ ‫من يتجه هؤالء الشباب‪ ،‬وهم محبطون؟‬ ‫ال‬ ‫نحو من يمنح ه���ذا الصراع معنى وح ً‬ ‫دينيين أو طائفيين ؟‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬هناك أصوات ش���جاعة‪،‬‬ ‫وإن كان���ت أقلي���ة‪ ،‬تنتق���د ه���ذا العجز‬ ‫اليس���اري وانح���راف التضام���ن «بي���ن‬ ‫الطوائ���ف»‪ .‬ف���ي ‪ 18‬أكتوب���ر ‪،2000‬‬ ‫نش���رت «لو موند» نداء‪« :‬مواطنو البلد‬ ‫الذي نحيا عليه ومواطنو الكوكب‪ ،‬ليس‬ ‫لدين���ا أي حج���ة أو ع���ادة للتعبير عن‬ ‫أنفس���نا بأننا يهود»‪ ،‬كما كتب عش���رات‬ ‫المثقفي���ن‪ ،‬م���ن بينهم المق���اوم ريمون‬ ‫أوب���راك‪ ،‬الرئي���س األس���بق ألطباء بال‬ ‫حدود روني براومن‪ ،‬الفيلسوف دانيال‬ ‫بنس���عيد‪ ،‬الطبيب مارسيل‪-‬فرانس���يس‬ ‫كان‪ ،‬المحامي���ة جيزي���ل حليمي‪ ،‬عالم‬ ‫الرياضي���ات لوران ش���فارتس‪ ،‬المؤرخ‬ ‫بيار فيدال‪-‬ناكيه‪.‬‬ ‫«نناضل‪ ،‬تابعوا‪ ،‬ض���د العنصرية‪،‬‬

‫ومن بينها مناهضة السامية تحت جميع‬ ‫صورها‪ .‬نشجب االعتداءات ضد المعابد‬ ‫والمدارس اليهودية التي تهدف الطائفة‬ ‫وأماك���ن عبادتها‪ .‬نرفض تدويل المنطق‬ ‫الطائف���ي ال���ذي يترج���م‪ ،‬حت���ى هنا‪،‬‬ ‫بمواجهات بين شباب نفس المدرسة أو‬ ‫نفس الحي»‪.‬‬ ‫«ولك���ن‪ ،‬بزع���م الكالم باس���م جميع‬ ‫يهود العالم‪ ،‬بتملك الذاكرة المش���تركة‪،‬‬ ‫بعرض كافة الضحايا اليهود السابقين‪،‬‬ ‫يس���تأثر حكام إس���رائيل بح���ق الكالم‪،‬‬ ‫رغم ًا عنا‪ ،‬باسمنا‪ .‬ال يحتكر أحد اإلبادة‬ ‫النازي���ة لليه���ود‪ .‬لعائالتن���ا نصيبه���م‬ ‫من النف���ي‪ ،‬االختف���اء‪ ،‬المقاومة‪ .‬أيض ًا‬ ‫االبتزاز بالتضامن الطائفي‪ ،‬وقد ساهم‬ ‫في ش���رعنة سياس���ة االتح���اد المقدس‬ ‫للحكام اإلسرائيليين‪ ،‬غير متسامح في‬ ‫نظرنا»‪ .‬بعد أس���ابيع‪ ،‬أسسوا ومثقفين‬ ‫عرب أو من أص���ول عربية لجنة للدفاع‬ ‫عن السالم في الش���رق األوسط‪ .‬حاول‬ ‫الفريق���ان – لم يكونا الوحيدين لحس���ن‬ ‫الحظ – تج���اوز الهوية باس���م المبادئ‬ ‫العالمية ورغ���م االتهامات ‪ :‬رأى روجيه‬ ‫آسكوت‪ ،‬في «الرش»‪ ،‬شهرية اليهودية‬ ‫الفرنس���ية (يوليو‪-‬أغس���طس‪)2001 ،‬‬ ‫هؤالء اليهود «كجماعة من نصف خونة»‬

‫‪43‬‬


‫غير متضامنة مع إسرائيل‪ .‬ومع ذلك لم‬ ‫يطالب بإعدامهم‪.‬‬ ‫كما يجري مع كل أزم���ة في اإلقليم‪،‬‬ ‫حرصت على االش���تراك في المناقشات‪.‬‬ ‫دوم ًا كان���ت حامية‪ .‬قابل���ت كثيرين من‬ ‫عم���رك‪ ،‬طلب���ة ثانوي���ات أو جامعات‪.‬‬ ‫عرف���ت أنن���ا غي���ر ملزمي���ن بنق���ل هذه‬ ‫التجرب���ة «األممية» الت���ي ذكرتها أعاله‪.‬‬ ‫أتمنى‪ ،‬لمكافحة الرياح المعاكسة ودون‬ ‫نمذجة الماضي‪ ،‬حمل هذا الدور «للعابر»‬ ‫وأنقل التجربة‪ .‬هي ذي رغبة هذا الكتاب‬ ‫األصلي���ة‪ .‬وددت أن أس���تعيد ع���ددًا من‬ ‫األح���داث ال تنق���ص أي مناقش���ة جادة‬ ‫وأعرض المبادئ التي تؤسس طريقتي‬ ‫في رؤية الصراع‪.‬‬ ‫المواجه���ة في فلس���طين إحدى أقدم‬ ‫المواجه���ات في العال���م‪ .‬ترجع إلى قرن‬ ‫من الزم���ان تقريباً‪ ،‬مع ظه���ور الحركة‬ ‫الصهيوني���ة ف���ي أوروب���ا وموج���ات‬ ‫االس���تيطان األول���ى في فلس���طين‪ .‬من‬ ‫الح���رب العالمي���ة األول���ى إل���ى اليوم‪،‬‬ ‫ورط���ت‪ ،‬في كل وقت‪ ،‬الق���وى الكبرى‪،‬‬ ‫من االمبراطورية العثمانية إلى روس���يا‬ ‫القيصرية‪ ،‬من االتحاد الس���وفياتي إلى‬ ‫ألماني���ا النازية‪ ،‬من الوالي���ات المتحدة‬ ‫إل���ى بريطاني���ا العظم���ى‪ .‬ترجمت عبر‬ ‫خمس حروب‪ ،‬بلغ بعضها حد االشتعال‬ ‫العالمي‪ .‬ف���ي مقرر التاري���خ الثانوي‪،‬‬ ‫الذي يتعرض لعالم اليوم‪ ،‬تفجر الشرق‬ ‫األوس���ط في أكثر من فصل وموضوع‪.‬‬ ‫أيض���اً‪ ،‬ألس���باب معروف���ة‪ ،‬ينف���ر عدد‬ ‫من األس���اتذة من أدرك ه���ذا الموضوع‬ ‫«الحس���اس»‪ ،‬ال���ذي يج���يء ن���ادرًا في‬ ‫امتحانات البكالوريا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬المعرفة‬ ‫ظرف ضروري لكل نق���اش‪ .‬من الممكن‬ ‫أن تتواج���ه الرؤى المتع���ددة إذا امتلك‬ ‫الش���باب العناصر التاريخية األساسية‪.‬‬ ‫بالتالي‪ ،‬أذك���ر الوقائع والقيود الالزمة‬ ‫في كل نقاش جدي‪.‬‬ ‫بي���د أن هذه اإليضاحات غير كافية‪.‬‬ ‫بعد كل شيء‪ ،‬هناك المئات من األعمال‬ ‫التي تدقق في الصراع‪ ،‬تاريخه وأبطاله‪.‬‬ ‫ولهذا ل���م يتفق «المتخصص���ون»‪ .‬لماذا‬ ‫؟ ألن كل واح���د ق���رأ‪ ،‬بوع���ي أو دونه‪،‬‬ ‫الص���راع عبر «ش���بكات التحليل»‪ ،‬التي‬ ‫‪44‬‬

‫تمن���ح «معنى» لألحداث‪ .‬م���ن يرد على‬ ‫من يدعي أن الرب أعطى أرض إسرائيل‬ ‫لليهود ؟ ه���ل من الممكن معارضة الرب؟‬ ‫رؤي���ة ديني���ة‪ ،‬مؤسس���ة على رس���الة‬ ‫دينية‪ ،‬غير قابلة للتفاوض‪ .‬كيف نقنع‬ ‫تالميذ مس���لمين يرون أن فلسطين وقف‬ ‫إس�ل�امي وأنها ال يمكن أن تكون عنصر‬ ‫مساومة أو تسوية ؟‬ ‫افهميني‪ .‬الخط الفاصل‪ ،‬فيما يتعلق‬ ‫بفلس���طين أو أي مواجهة أخرى‪ ،‬ال يتم‬ ‫دوم��� ًا بي���ن الدينيين واآلخري���ن‪ .‬يدافع‬ ‫بع���ض العلمانيي���ن عن مواق���ف قومية‬ ‫متطرف���ة‪ ،‬تمنح تفوق��� ًا «للبعض» على‬ ‫حس���اب «البعض اآلخر» – ما رأيناه في‬ ‫صربيا أو كرواتيا‪.‬‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬ينصح بعض الدينيين‬ ‫فض ً‬ ‫بقراءة إنس���انية‪ .‬في (منبر) «لو موند»‪،‬‬ ‫‪ 9‬يناير ‪ ،2011‬كتب الحاخام دافيد ماير‬ ‫أن فك���رة «األرض المقدس���ة» أو «الوعد‬ ‫غير المش���روط» على أرض إس���رائيل‪،‬‬ ‫في التقاليد اليهودية‪ ،‬غير موجود‪ .‬ذكر‬ ‫اإلصحاح الرابع من سفر التثنية‪« :‬فاآلن‬ ‫يا إسرائيل اس���معوا الفرائض واألحكام‬ ‫التي أنا أعلمك���م لتعملوها‪ ،‬لكي تحيوا‬ ‫وتدخل���وا وتمتلك���وا األرض التي الرب‬ ‫إله آبائكم يعطيكم (‪ )..‬انظر‪ .‬قد علمتكم‬ ‫فرائض وأحكام ًا كما أمرني الرب إلهي‪،‬‬ ‫لك���ي تعملوا هكذا ف���ي األرض التي أنتم‬ ‫داخلون إليها لك���ي تمتلكوها‪ .‬فاحفظوا‬ ‫واعملوا‪ .‬ألن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام‬ ‫أعين الش���عوب الذين يسمعون كل هذه‬ ‫الفرائض‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذا الشعب العظيم‬ ‫إنما هو شعب حكيم وفطن (‪ )..‬إذا ولدتم‬ ‫أوالدًا وأوالد أوالد‪ ،‬وأطلت���م الزمان في‬ ‫األرض‪ ،‬وفسدتم وصنعتم تمثا ًال منحوت ًا‬ ‫صورة شيء ما‪ ،‬وفعلتم الشر في عيني‬ ‫الرب إلهك���م إلغاظته (‪ )..‬أش���هد عليكم‬ ‫الي���وم الس���ماء واألرض أنك���م تبيدون‬ ‫س���ريع ًا عن األرض الت���ي أنتم عابرون‬ ‫األردن إليها لتمتلكوها‪ .‬ال تطيلون األيام‬ ‫عليها‪ ،‬بل تهلكون ال محالة»‪ .‬ويتس���اءل‬ ‫الحاخ���ام ع���ن ه���ذا التقدي���س األحمق‬ ‫المهووس بأرض إس���رائيل‪« ،‬بإسرائيل‬ ‫الكبرى»‪ ،‬ال���ذي يمرر «مفهوم القداس���ة‬ ‫والمق���دس قبل مفه���وم احت���رام الحياة‬

‫اإلنس���انية»‪ .‬م���ن الض���روري أن يتخذه‬ ‫بعض مثقفينا العلمانيين أمثولة‪.‬‬ ‫بالنس���بة لي‪ ،‬ال أنتمي إلى أي حزب‬ ‫من «أحزاب الرب»‪ ،‬أكتفي‪ ،‬مثل «جوتز»‪،‬‬ ‫بطل مس���رحية «الشيطان واالله الطيب»‬ ‫لسارتر‪ ،‬باالنتماء لإلنسان‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫للن���اس‪ .‬ال أرى أي تراتبي���ة بينهم‪ ،‬وال‬ ‫أصنف‪ ،‬صع���ودًا أو هبوطاً‪ ،‬أي طائفة‬ ‫ديني���ة أو قومي���ة‪ .‬حت���ى وإن فهم���ت‪،‬‬ ‫ألس���باب عائلية ودينية أحيانا‪ ،‬ثقافية‬ ‫غالباً‪ ،‬أننا نستطيع أن نكون قريبين من‬ ‫شعب عن آخر‪ ..‬بش���رط عدم النمذجة‪،‬‬ ‫بشرط عدم غفران الجرائم المرتكبة تحت‬ ‫أي اسم‪.‬‬ ‫كلود النزمان‪ ،‬مدير مجلة «العصور‬ ‫الحديثة» التي أسسها سارتر قامت بدور‬ ‫– بالتأكي���د قب���ل مولدك ‪ -‬ف���ي النقاش‬ ‫الثقافي الفرنس���ي‪ .‬حق���ق النزمان فيلم ًا‬ ‫رديئ ًا وتبريري ًا عن الجيش اإلسرائيلي‪.‬‬ ‫إنه دوره‪ ،‬نحن ف���ي بلد حر‪ .‬حقق آخر‬ ‫عن إب���ادة اليه���ود‪ ،‬وثالث ع���ن «لماذا‬ ‫إس���رائيل ؟»‪ .‬ل���م يذك���ر الع���رب في أي‬ ‫لحظة‪ .‬س���ئل عن هذا الغياب‪ ،‬فأجاب‪،‬‬ ‫في منبر «لو مون���د» (‪ 7‬فبراير ‪: )2001‬‬ ‫«عليه���م أن يفعلوها»‪ .‬انتبه���ي إلى هذا‬ ‫الزيغ‪ .‬يجب أن يكتب السود عن السود‪،‬‬ ‫العرب عن الع���رب‪ ،‬اليهود عن اليهود‪..‬‬ ‫منطق عرقي‪ ،‬قبلي‪ ،‬منطق حربي بعيد‬ ‫عن أي نموذج إنساني‪..‬‬ ‫في فلس���طين‪ ،‬ال يوجد لدي أي حق‬ ‫«طبيع���ي» أو «دين���ي»‪ .‬بالرج���وع إلى‬ ‫ثالث���ة آالف عام أو حت���ى إلى ألف عام‬ ‫للق���ول إن أي قطع���ة أرض تنتمي ألحد‬ ‫ما ش���يء عبثي‪ ،‬غير ش���رعي ودموي‪.‬‬ ‫اس���تعملت إدارة بلغ���راد تعبي���ر «مه���د‬ ‫صربي���ا»‪ ،‬لتعيين «الحق» بكوس���وفو‪.‬‬ ‫نعرف أن األمم الحديثة ترجع إلى القرن‬ ‫الثامن عشر والثورة الفرنسية‪ .‬وسوف‬ ‫أتناول هذه المسألة تفصيلي ًا في الفصل‬ ‫الثالث‪ .‬بيد أن احتالل أي إقليم فرنس���ي‬ ‫بواس���طة القبائ���ل الجرماني���ة أو إقليم‬ ‫آكيتين بواسطة «اآلنغلوا» ال يعني توفر‬ ‫أي حق لهم‪..‬‬ ‫كي���ف نفه���م ف���ي ظ���ل المطالب���ات‬ ‫المتعارضة ؟ بالتأكيد على أولية القانون‬


‫الدولي‪ .‬اختص���اراً‪ ،‬ماذا تقول تحليالت‬ ‫األمم المتحدة حول فلسطين وإسرائيل؟‬ ‫نع���رف أن ش���عبين‪ ،‬أحدهم���ا يه���ودي‬ ‫إسرائيلي واآلخر فلس���طيني‪ ،‬يعيشان‬ ‫على أرض فلسطين التاريخية‪ ،‬وأن لهما‬ ‫الحق في دولتهما المستقلة‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬نبين هذا التماثل‪ .‬بداية‪،‬‬ ‫يمتلك الشعب اإلسرائيلي دولة منذ أكثر‬ ‫من خمس���ين عاماً‪ ،‬بينما الفلس���طينيون‬ ‫محروم���ون منها ويعيش���ون قس���رًا في‬ ‫المنف���ى أو تح���ت االحتالل‪ .‬م���ن ناحية‬ ‫أخ���رى‪ ،‬نش���أ الوضع الحال���ي من ظلم‬ ‫أصيل ‪ :‬ط���ردت الميليش���يات اليهودية‬ ‫ثم الجيش اإلس���رائيلي الفلسطينيين من‬ ‫ديارهم‪ ،‬تحديدًا ف���ي ‪ ،1948-1950‬كما‬ ‫س���أبين في الفصل الرابع‪ .‬هذا اإلبعاد‪،‬‬ ‫الذي أنكرته إسرائيل وأوروبا وتجاهاله‬ ‫طوي�ل�ا‪ ،‬ح���دث مؤك���د بفض���ل أعم���ال‬ ‫ً‬ ‫«المؤرخين الجدد» اإلسرائيليين تحديداً‪.‬‬ ‫تضغط إب���ادة اليهود بقوة على هذا‬ ‫الص���راع‪ .‬المواق���ف‪ ،‬في فرنس���ا كما في‬ ‫الشرق األوسط‪ ،‬مرس���ومة بما يؤسس‬ ‫أكب���ر الجرائ���م الكريهة في ه���ذا العصر‪.‬‬ ‫خلق���ت إبادة اليه���ود بواس���طة النازي‬ ‫وحلفائه وعدم قدرة القوة الكبرى وقتذاك‬ ‫على وقفها ش���عورًا بالذنب ل���دى الرأي‬ ‫ومي�ل�ا لصالح من يدعون‬ ‫العام الغربي‬ ‫ً‬ ‫أنه���م ورثة تاري���خ اليه���ود وذاكرتهم‪.‬‬ ‫س���اعد هذا األل���م الجمعي���ة العامة لألمم‬ ‫المتحدة‪ ،‬في ‪ 29‬نوفمبر ‪ ،1947‬لصالح‬ ‫تقس���يم فلس���طين‪ ،‬وبالتالي مولد دولة‬ ‫«إسرائيل»‪ .‬ولكن يتبدى أن الفلسطينيين‬ ‫دفعوا ثمن جريمة لم يرتكبوها‪ .‬س���أقف‬ ‫طويالً‪ ،‬ف���ي الفصل الخام���س‪ ،‬عند هذا‬ ‫التناقض‪.‬‬ ‫حينما نذكر الشرق األوسط‪ ،‬ال يمكن‬ ‫أن نكون «فوق العراك»‪ .‬تبين الحيادية‬ ‫الوهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أرفض التضامن المجرد‬ ‫مع أحد المعس���كرين‪ .‬ال أعتقد أن شعباً‪،‬‬ ‫أي ًا كان‪« ،‬طيب���اً»‪« ،‬ع���ادالً»‪« ،‬متفوقاً»‬ ‫بالطبيع���ة أو بفضل إلهي أو متأصل‪ .‬ال‬ ‫ش���عب مخصص «لرسالة سامية»‪ .‬تبع ًا‬ ‫لذلك‪ ،‬هناك «أسباب عادلة»‪ .‬هذا التمييز‬ ‫يفلت أحيان ًا من المعلقين‪ .‬رشار ليسيا‪،‬‬ ‫في مقال حول – أو غالب ًا ضد – اإلعالم‪،‬‬

‫منش���ور في «الرش» في نوفمبر ‪،2000‬‬ ‫يفضح إحدى «آليات» وس���ائط اإلعالم‬ ‫والجمه���ور‪ ،‬التضامن م���ع «الثائرين» ‪:‬‬ ‫«إعجاب الجمه���ور بالمضربين من نقابة‬ ‫الس���كك الحديدي���ة واإلدارة المس���تقلة‬ ‫للنق���ل الباريس���ي‪ ،‬أو ربم���ا الطرقيين‬ ‫– ال���ذي يزعجهم م���ع ذل���ك – ال عالقة‬ ‫له ربم���ا بالدفاع الجنوني ع���ن القضية‬ ‫الفلس���طينية‪ .‬اآلن‪ ،‬نصط���ف‪ ،‬منهجي��� ًا‬ ‫نوع ًا ما‪ ،‬إلى جانب الثائرين»‪ .‬هل يجب‬ ‫أن يكون االنبهار إلى جانب الضحايا ؟‬ ‫في «الفيجارو»‪ ،‬ش���رح النفس���اني‬ ‫دانيال سيبوني أن «الرأي العام الغربي‬ ‫(ال يحب) الناس إال ضحايا‪ .‬يحب اليهود‬ ‫الضحايا في معسكرات االحتجاز (أحبهم‬ ‫خاص���ة بعد ه���ذه المعس���كرات) ويحب‬ ‫الفلس���طينيين ضحايا اليه���ود»‪ .‬تقرير‬ ‫ملتبس عن معس���كرات االحتجاز ولكن‪،‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬هل من غير الطبيعي الشعور‬ ‫بالتضام���ن م���ع الضحايا ؟ ال‪ ،‬بش���رط‬ ‫االهتمام بهذا الدرس التاريخي‪ :‬لألسف‪،‬‬ ‫يستطيع ضحايا األمس أن يتحولوا إلى‬ ‫جالدين اليوم بسهولة‪.‬‬ ‫األمثلة كثيرة‪ ،‬مثل مثال رواندا‪ .‬كان‬ ‫التوتسي ضحايا الهوتو‪ ،‬ولكن تنظيمهم‬ ‫تمكن من السلطة وارتكب مذابح رهيبة‪.‬‬ ‫ه���ل يجب الصف���ح عن مس���ؤولي إبادة‬ ‫التوتس���ي ؟ بي���ار فيدال ناكي���ه‪ ،‬مؤرخ‬ ‫وفاض���ح تاري���خ التعذيب خ�ل�ال حرب‬ ‫الجزائ���ر ومناض���ل ال يكل ع���ن القضايا‬ ‫العادل���ة‪ ،‬ذك���ر ه���ذا الش���رح التلمودي‬ ‫للكتاب المقدس‪ ،‬ال���ذي أهديه للمؤمنين‬ ‫والملحدين ‪« :‬الرب دائم ًا يقف إلى جانب‬ ‫المظل���وم‪ .‬م���ن الممكن أن يظل���م عادل‬ ‫ع���ادالً‪ ،‬والرب م���ع المظل���وم‪ ،‬وحينما‬ ‫يظلم الشرير عادالً‪ ،‬الرب مع المظلوم‪،‬‬ ‫وحينما يظلم الش���رير شريراً‪ ،‬الرب مع‬ ‫المظلوم‪ ،‬وحتى إن ظلم عادل ش���ريراً‪،‬‬ ‫الرب مع المظلوم»‪.‬‬ ‫ل���م يتخ���ذ المثقف���ون ه���ذا الموقف‬ ‫دائم���اً‪ .‬كان صم���ت عدد كبي���ر منهم منذ‬ ‫انطالق االنتفاضة الثانية قوياً‪ .‬أحياناً‪،‬‬ ‫نفضل���ه‪ .‬في مقال مذهل (ليبراس���يون‪،‬‬ ‫‪ 10‬يوليو ‪ ،)2001‬استنكر مارك لوفيفر‬ ‫وفيلي���ب غومبلوفيت���ش وبيار‪-‬آندريه‬

‫تاغييف‪ ،‬وقد س���اندهم بعض زمالئهم‪،‬‬ ‫زي���ارة تضامني���ة لوف���د يض���م جوزيه‬ ‫بوفي���ه لألراض���ي المحتل���ة‪ .‬العن���وان‬ ‫الفرعي يلخص التقرير ‪« :‬تتأتى مآسي‬ ‫الفلس���طينيين م���ن إدارتهم الفاس���دة‪،‬‬ ‫ولي���س من المس���توطنات اإلس���رائيلية‬ ‫حس���بما يزع���م القائد النقاب���ي (جوزيه‬ ‫بوفيه)»‪ 400.000 .‬مس���توطنة ؟ أقلية‬ ‫بسيطة منهم – ‪ – 30.000‬من المتطرفين‬ ‫الدينيي���ن ‪ :‬لماذا تقلقون‪ ،‬س���يخرجون‬ ‫منها في الوقت المناسب‪.‬‬ ‫القم���ع اإلس���رائيلي؟ ل���م يذك���ر‪،‬‬ ‫الموقعون ينقدون االعتداءات «الهمجية»‬ ‫فقط‪« .‬هل أس���س االتف���اق حاضرة في‬ ‫كل حس���اب ؟» في طاب���ا‪ ،‬يناير ‪،2001‬‬ ‫كان���ت محددة‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬وكما كتب‬ ‫المؤلفون ‪ :‬عرفات لم يرد اإلمساك بهذه‬ ‫الفرصة‪ ،‬وهذا كذب‪ .‬على األقل هذا جهل‬ ‫بالبره���ان النظري‪ .‬هل الح���ل بدولتين‬ ‫يعتبر الحل الممكن؟ نسعد حينما يعجب‬ ‫آرييل ش���ارون «به تحديدًا حينما تغلق‬ ‫الميكروفون���ات»‪ .‬بدون ش���ك‪ ،‬يش���به‬ ‫األمر قبول جن���وب إفريقي���ا العنصرية‬ ‫باس���تقالل الباندوس���تان‪ ..‬يوم صدور‬ ‫ه���ذا النص‪ ،‬ه���دم الجيش اإلس���رائيلي‬ ‫عشرين بيت ًا فلسطيني ًا في القدس وغزة‪.‬‬ ‫وجدت عائالت نفسها في الشارع‪ .‬ولكن‬ ‫لم���اذا القلق ؟‪ ،‬هذه البيوت س���تبنى من‬ ‫جديد‪..‬؟‬ ‫بالتأكي���د‪ ،‬ينطبق على هذه األرض‬ ‫فلسطين‪-‬إسرائيل مبادئ أخرى‪ ،‬قواعد‬ ‫تحليل���ة أخرى عن تلك المس���تعملة في‬ ‫أماك���ن أخرى‪ .‬دوم ًا أنده���ش لما أالحظ‬ ‫بعض المثقفين الفرنس���يين‪ ،‬الجاهزين‬ ‫للتحرك من أجل قضايا عديدة‪ ،‬ينفرون‬ ‫وقتم���ا تعل���ق األم���ر بفلس���طين‪ .‬حتى‬ ‫فيلسوف مثل سارتر‪ ،‬المعروف بمواقفه‬ ‫الش���جاعة من ح���رب الجزائر إلى نضال‬ ‫الس���ود األميركيي���ن‪ ،‬ارتع���ب م���ن هذه‬ ‫المسألة‪ .‬بدون وعي‪ ،‬نطبق على الشرق‬ ‫األوسط قاعدة «الكيل بمكيالين»‪.‬‬ ‫(*) م���ن الفصل األول ‪ :‬رس���الة إلى ابنتي‪،‬‬ ‫من كتاب ‪:‬‬ ‫‪Alain Gresh, Israël, Palestine : Vérités‬‬‫‪.sur un conflit, Fayard, 2010‬‬

‫‪45‬‬


‫كتب جان بول سارتر عام ‪ 1972‬مقا ًال يساند فيه ّ‬ ‫حق الفلسطينيين‬ ‫في الدفاع عن أنفسهم‪،‬عقب االعتداء على إسرائيليين خالل دورة األلعاب‬ ‫االولمبية في ميونيخ‪ .‬مقال يكشف واحدة من المواقف غير المعروفة عن‬ ‫سارتر الذي غّير الحق ًا رأيه‪ ‬وأقر بدولة إسرائيل‪.‬‬

‫سارتر‬ ‫وعنف المستضعفين‬ ‫ايف‪.‬ك‬

‫*‬

‫«غاية اإلرهاب هي القتل» هي جملة‬ ‫مقتبسة من مقال صادم‪ ،‬كتبه سارتر‬ ‫سن السابعة‬ ‫ببرودة عام‪ ،1972‬في ّ‬ ‫تعرض للتعتيم وكثير من‬ ‫ّ‬ ‫والستين‪ّ ،‬‬ ‫القراء يجهلونه اليوم‪ .‬ويضيف الكاتب‪،‬‬ ‫الذي كان يعتبر حينها الفيلسوف األشد‬ ‫تأثيرًا على الرأي العام‪«:‬إنه سالح‬ ‫قاتل‪ ،‬لكن المستضعفين ال يمتلكون‬ ‫وسيلة أخرى»‪ .‬القتلة ‪ -‬الذين يضعون‬ ‫قنبلة في حافلة أو في وسط سوق ‪-‬‬ ‫إنما يلجؤون إلى ذلك الفعل للتخلص‬ ‫من عنف يمارسه ضدهم آخرون‪.‬‬ ‫فسارتر سبق أن أخبرنا أن «الجحيم هو‬ ‫اآلخر»‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬فإن الفيلسوف غّير كلية‬ ‫رأيه في السنوات الثمانية الالحقة‬ ‫واألخيرة من حياته‪ ،‬وانتقل من تبرير‬ ‫اإلرهاب إلى نفيه المطلق‪ .‬انتقال لم‬ ‫يتحدث عنه الدارسون‪.‬‬ ‫جاءت مباركة سارتر لإلرهاب ضمن‬ ‫سياق دفاعه عن الحركات التحريرية‪،‬‬ ‫ويقصد هنا تحديدًا الصراع الفلسطيني‬ ‫اإلســـــــرائيلي‪ .‬الفلســـطينيون رفضـوا‬ ‫عام ‪ 1947‬قرار األمم المتحدة القاضي‬ ‫بتقسيم البلد إلى دولة عربية وأخرى‬ ‫يهودية‪ ،‬ثم تعرضوا لالحتالل عقب‬

‫‪46‬‬

‫حرب الستة أيام(‪ ،)1967‬وبانت‬ ‫فرصة استعادة أرضهم جد ضئيلة‬ ‫بسبب افتقادهم للسالح ولدعم القوى‬ ‫السياسية‪« .‬السالح الوحيد الذي يتوافر‬ ‫عليه الفلسطينيون هو اإلرهاب (‪ )...‬إن‬ ‫فرنسا التي قبلت التفاوض مع إرهاب‬ ‫جبهة التحرير الجزائرية التي قادت‬ ‫حرب ًا ضد الفرنسيين ليس أمامها سوى‬ ‫قبول التفاوض مع الفلسطينيين‪ .‬هذا‬ ‫الشعب المهجور‪ ،‬المخدوع والمنفي»‪.‬‬ ‫جاء مقال الفيلسوف عقب عملية‬ ‫نفذها كوماندوز فلسطيني خالل دورة‬ ‫األلعاب االولمبية بميونيخ‪ .‬حيث‬ ‫تسلّل‪ ،‬في ‪ 5‬سبتمبر ‪ 1972‬صباحاً‪،‬‬ ‫ثمانية فلسطينيين إلى جناح الرياضيين‬ ‫اإلسرائيليين‪ .‬لم تكن نيتهم القتل‪ ،‬بل‬ ‫فقط احتجازهم ومقايضتهم بمائتين‬ ‫وثالثة وأربعين أسيرًا فلسطيني ًا‬ ‫في السجون اإلسرائيلية‪ .‬لكن‪ ،‬وقع‬ ‫إسرائيليان ضحية االقتحام‪ ،‬وُألقي‬ ‫وتم إخراجهم‬ ‫القبض على تسعة آخرين ّ‬ ‫من القرية األولمبية‪ .‬ثم اقتيدوا إلى‬ ‫مطار ميونيخ حيث طلب الكومندوز‬ ‫طائرة تنقلهم إلى بلد عربي ال يمانع في‬ ‫استقبالهم‪ .‬ووقع ما لم يكن في الحسبان‬ ‫بعد تدخل الشرطة األلمانية وسقوط‬

‫سبعة عشر ضحية‪ :‬أحد عشر رياضي ًا‬ ‫إسرائيلياً‪ ،‬خمسة من أفراد الكومندوز‬ ‫وشرطي ألماني‪ .‬الكومندوز كان يحمل‬ ‫اسم «سبتمبر األسود» تعاطف ًا مع الثالثة‬ ‫آالف وخمسمئة فلسطيني ضحايا الملك‬ ‫الحسين الذي أراد طردهم من الضفة‬ ‫الغربية ‪ -‬التي ُألحقت بالمملكة األردنية‬ ‫عام‪.1949‬‬ ‫كتب سارتر‪« :‬ال بد من اإلقرار بأن‬ ‫عملية ميونيخ كانت ناجحة»‪ .‬وتأتي‬ ‫خالصة سارتر من ربطه بين المقاومة‬ ‫الفلسطينية والمقاومة الجزائرية ضد‬ ‫فرنسا‪ .‬اختالل الموازين العسكرية هو‬ ‫نقطة مشتركة بينهما‪ .‬الربط بينه وبين‬ ‫المقاومة الجزائرية هو إقرار واضح‬ ‫للعلن‪ .‬سارتر أكد دعمه لعمليات جبهة‬ ‫التحرير في الجزائر ضد الفرنسيين‪،‬‬ ‫مدنيين‪ ،‬نساء أو أطفا ًال‪ .‬مع العلم أن‬ ‫المقاومين الفلسطينيين يقومون بالعمل‬ ‫نفسه في الشرق األوسط‪ .‬فقد كانوا‬ ‫حينذاك ملتفين حول حركة فتح‪.‬‬ ‫جـــــاءت تصريحات ســـــــــــارتر في‬ ‫أكتوبر‪ ،1972‬أي بعد شهر من العملية‪،‬‬ ‫منشورة في جريدة ذات صدى واسع‪،‬‬ ‫بسبب المالحقات القضائية التي تعرضت‬ ‫إليها‪ ،‬هي جريدة «قضية الشعب»‪ ،‬التي‬ ‫أسسها مجموعة من المثقفين ‪ -‬أغلبهم‬ ‫سن الثالثين ‪ ،-‬تخرجوا مثل‬ ‫في حدود ّ‬ ‫سارتر في مدرسة األساتذة‪ .‬يطلق‬ ‫عليهم تسمية «الماويين»‪ .‬وصل دعم‬ ‫«الماويين» للقضية الفلسطينية حّد‬ ‫رشق سفارة األردن بباريس بزجاجات‬ ‫المولوتوف الحارقة‪ .‬سارتر وضع‬ ‫اسمه وشهرته في الدفاع وفي حماية‬ ‫َّ‬ ‫س هيئة تحريرها‬ ‫الجريدة التي ترأ َ‬ ‫في وقت سابق‪ .‬حيث نشرت الجريدة‬ ‫نفسها مقا ًال سبق مقال سارتر بحوالي‬ ‫الشهر جاء فيه‪« :‬كل الذين يعيشون في‬ ‫إسرائيل ليسوا دعاة لفرض الشقاء على‬ ‫الشعب الفلسطيني‪ .‬لذلك وجب التفريق‬ ‫بين اإلسرائيلي العادي والجندي »‪.‬‬ ‫كان سارتر حينها الوحيد الذي دافع عن‬ ‫مرتكبي االعتداء في وقت كانت تنشر فيه‬ ‫الجرائد األخرى برقيات التنديد‪ .‬ولم يجد‬ ‫إلى جانبه سوى الكاتب جان جينيه‪،‬‬


‫سارتر‬

‫المقرب من األوساط الفلسطينية‪،‬‬ ‫والذي عّبر عن العملية بطريقة ساخرة‬ ‫قائالً‪« :‬إنما هي مجرد لدغة حشرة على‬ ‫رقبة ألمانيا الثخينة»‪ .‬ويضيف سارتر‪:‬‬ ‫«التنديدات العنيفة التي نشرها أصحاب‬ ‫القلوب الكبيرة في الصحف ليست تعني‬ ‫ال اإلسرائيليين وال الفلسطينيين‪ .‬كما‬ ‫لو أنهم يقولون من الممكن أن نقتل‬ ‫إسرائيليين في بلدهم‪ ،‬ولكن من المهم‬ ‫احترام شرف األلعاب األولمبية‪.‬‬ ‫بالتالي فإن سارتر يمنح مشروعية‬ ‫للعمل اإلرهابي‪ .‬كما لو أنه يقول‪ :‬إذا‬ ‫كنتم تخوضون حرب ًا تحريرية‪ ،‬وكان‬ ‫عدوكم يتفوق عليكم في العتاد‪ ،‬وأدار‬ ‫المجتمع الدولي ظهره لقضيتكم‪ ،‬فال‬ ‫بأس من الركوب في الترامواي أو‬ ‫الذهاب إلى السوق وتفجير قنبلة‪ .‬فهو‬ ‫يقارن بينها وبين الثورة الجزائرية التي‬ ‫ساندها‪.‬‬ ‫من غير الممكن فهم تبريرات سارتر‬ ‫دونما اإلحـــاطة باإلطـــــــار التــاريخي‬ ‫واأليديولوجي حيث كانت الماركسية‪،‬‬ ‫كما عّبر عنها سارتر عام‪« :1957‬األفق‬ ‫األسمى لزماننا»‪ .‬صــــراع الطبــــــقات‬ ‫واضطهاد البروليتاريا كانت القضايا‬ ‫األهم التي تشغل بال المثقفين المنضوين‬

‫تحت مظلة الماركسية‪ .‬هي قضايا تحمل‬ ‫كما أكد عليه سارتر«قوة الكره»‪ .‬وهو ما‬ ‫يبرر ربما‪ :‬اإلرهاب‪ .‬وهي قناعة ال يتفق‬ ‫معها مفكرون معاصرون لسارتر مثل‬ ‫ألبير كامو الذي كتب في (الرجل الثائر)‬ ‫عام ‪« :1951‬باسم الثورة‪ ،‬ماركس يبرر‬ ‫الصراع الذي سيكون دموي ًا بين جميع‬ ‫أشكال االنتفاض»‪ .‬ويضيف ردًا على‬ ‫منتقديه في شبكة سارتر‪/‬جونسون‪:‬‬ ‫«باكونين هو أحد القالئل الذين تعارض‬ ‫ثورتهم ثورة ماركس في القرن التاسع‬ ‫(‪)...‬باكونين ما يزال حي ًا بداخلي»‪.‬‬ ‫وتهجم فرانسيس جونسون على كتاب‬ ‫ّ‬ ‫«كامو» في مجلة (أزمنة معاصرة) وذكر‪:‬‬ ‫«إنما هو مجرد وصفة طبخ مسحوبة‬ ‫تهجم عليه سارتر‬ ‫من الفوضوية»‪ .‬كما َّ‬ ‫أيض ًا وكتب‪« :‬ليس مهما معرفة اتجاه‬ ‫التاريخ‪ ،‬بل األهم هي منحه االتجاه‬ ‫الذي نراه األفضل»‪ .‬بالنسبة لماركس‬ ‫أو سارتر اتجاه التاريخ ال يأتي‬ ‫صدفة‪ ،‬بل يتعلق بمعنى الحرية وبفعل‬ ‫اإلنسان الذي يرفض الخضوع للحدود‪.‬‬ ‫هي نفسها حالة المستضعفين الذين‬ ‫يوجهون التاريخ أكثر من أي طرف‬ ‫ّ‬ ‫آخر بالنظر إلى أن وضعيتهم تستوجب‬ ‫عليهم حركة تاريخية‪ .‬اإلرهاب يمكن‬ ‫أن يوجد ويتراءى على أنه المنفذ‬ ‫الوحيد للتّخلص من الظلم‪ .‬وفي ظل‬ ‫الصدام بين سارتر(المناضل السياسي)‬ ‫وكامو(الفنان)‪ ،‬كتب هذا األخير‪«:‬فكر‬ ‫التاريخي وفكر الفنان يريدان مع ًا إعادة‬ ‫رسم وجه العالم‪ .‬فكر الفنان يعرف‬ ‫حدودًا ال يعرفها فكر التاريخي‪ .‬لذلك فإن‬ ‫نهاية األخير هي استبداد ولذة األول هي‬ ‫التحرر‪ .‬كل المناضلين من أجل الحرية‬ ‫إنما هم مناضلون من أجل الجمال»‪.‬‬ ‫بعد عام ‪ 1952‬والمعركة مع (الرجل‬ ‫الثائر)‪ ،‬ثم دعم شبكة جونسون في‬ ‫‪ 1957‬وتبـــريـــر الفعل اإلرهـــــــابي‬ ‫في ميونيخ‪ ،‬نصل إلى عام ‪.1976‬‬ ‫ففي ‪ 7‬نوفمبر من العام نفسه‪ ،‬دخل‬ ‫رجل متردد نوع ًا ما سفارة إسرائيل في‬ ‫باريس‪ .‬يحمل نظارات سوداء‪ .‬سارتر‬ ‫فقد البصر في ‪ 1973‬بعد إفراط في‬ ‫تناول األدوية منشطة‪ .‬وبرر ذلك بأنه‬

‫يفضل نيل عمل فكري بدل نيل صحة‬ ‫جيدة‪ .‬كانت ترافقه سيمون دوبوفوار‪،‬‬ ‫متأنقة بقميص أزرق ‪ -‬كانت تسلمت قبل‬ ‫عام جائزة القدس ‪.-‬‬ ‫الرجل الذي رفض جائزة نوبل‬ ‫لآلداب‪ 1967‬قبل تسلم دكتوراه فخرية‬ ‫صرح في صالون‬ ‫من جامعة القدس‪َّ ،‬‬ ‫السفارة‪ ،‬بحضور وزير الثقافة فرنسوا‬ ‫جيرو‪« :‬إذا كنت اليوم منشغ ً‬ ‫ال بإسرائيل‬ ‫فأنا منشغل أيض ًا بالشعب الفلسطيني‬ ‫الذي عانى كثيرًا‪ .‬فمن خالل الجمع بين‬ ‫الطرفين يمكن إيجاد حل لمشكلهم‪ .‬أؤمن‬ ‫بهذا الحل ولذلك قبلت تسلُّم الدكتوراه‬ ‫الفخرية التي أرى فيها عنصر سالم»‪.‬‬ ‫ستة أشهر قبل هذا التاريخ وبعد اإلعالن‬ ‫عن اسمه لتسلم الدكتوراه صرح سارتر‬ ‫لصحيفة «تريبين جويف»‪« :‬قبلت هذا‬ ‫التكريم تعاطف ًا مع إسرائيل» ودافع‬ ‫عن فرضية دعم إسرائيل وفلسطين‬ ‫مع ًا مما يتناقض مع ما جاء في كتاب‬ ‫(انطباعات عن القضية اليهودية)‪،‬‬ ‫حيث ذكر أن «معاداة السامية هي من‬ ‫تصنع اليهودي»‪ .‬بداية من ‪1973‬شرع‬ ‫في تغيير بعض آرائه بعد التعرف إلى‬ ‫شخص «بيني ليفي» الذي عمل سكرتيرًا‬ ‫له‪ .‬حيث سج ً‬ ‫ال مع ًا محادثة حول الحرية‬ ‫والسلطة‪ .‬كان بيني ليفي يعيش فترة‬ ‫البحث عن هويته اليهودية ووجد سارتر‬ ‫إلى جانبه ليساعده‪ .‬وأعادا مع ًا اكتشاف‬ ‫الفيلسوف الفرنسي اليهودي‪ ،‬ذي‬ ‫األصول الليتوانية إيمانويل ليفيناس‪،‬‬ ‫والذي درسا أعماله في وقت سابق‪ .‬كما‬ ‫توطدت جدًا‪ ،‬في الفترة نفسها‪ ،‬عالقة‬ ‫سارتر مع المفكرة والمختصة في علم‬ ‫التلمود‪ ،‬آرلت ألكايم‪ ،‬التي تبناها‬ ‫عام‪.1964‬‬ ‫هذان الشخصان ساهما‪ ،‬بشكل كبير‪،‬‬ ‫في مساعدة سارتر الذي كان عاجزًا عن‬ ‫القراءة والكتابة‪« .‬كنت أرى األضواء‬ ‫واأللوان‪ ،‬لكنني ال أفرق بين األوجه‬ ‫وال بين األغراض » هكذا عبر سارتر عن‬ ‫حالته في ‪.1976‬‬ ‫*سارتر وعنف المستضعفين‪ ،‬إيف‪.‬ك‪،‬‬ ‫منشورات أنديجان‪ ،‬مونبولييه‪ ،‬فرنسا‪2011‬‬ ‫‪47‬‬


‫جان جينه‬ ‫الذي سحره الفلسطينيون‬ ‫عبده وازن ‪-‬بريوت‬ ‫لم تجذب القضية الفلس���طينية كاتب ًا‬ ‫عالمي��� ًا مثلما جذبت (ج���ان جينه)‪ .‬وجد‬ ‫هذا الكاتب الفرنس���ي المتمرد والمشاغب‬ ‫في النضال الفلس���طيني فرصة سانحة‬ ‫لالنتق���ام من الغ���رب ال���ذي طالما أعلن‬ ‫كراهيت���ه له‪ ،‬ثم من إس���رائيل بوصفها‬ ‫«الجزار» الجديد‪ ،‬ومن ماضيه الشخصي‬ ‫الحافل بـ‪« ‬العار» كم���ا يقول‪ ،‬وهو عار‬ ‫الطفل الذي وجد لقيط ًا ثم عار الفتى الذي‬ ‫اختار االنحراف تأكيدًا لهويته الضائعة‪.‬‬ ‫ب���ل لع���ل (جينه) وج���د في ش���خصية‬ ‫الفدائي الفلسطيني صورة الذكر‪ -‬المثال‬ ‫الذي حلم به‪ ،‬بما يمثل من قوة وس���حر‬ ‫وش���جاعة ف���ي مواجهة الم���وت تحقيق ًا‬ ‫للعدالة واستعادة للحق المغتصب‪.‬‬ ‫���ر حرك���ة‬ ‫ولئ���ن كان (جين���ه) َ‬ ‫ناص َ‬ ‫المزارعين اليابانيين الثائرين التي عرفت‬ ‫بحركة الـ «زنغاكورن» (‪)zengakuren‬‬ ‫عام ‪ 1968‬ثم دعم جماعة «الفهود السود»‬ ‫‪ Black Panthers‬أو «الثوريي���ن‬ ‫الس���ود» في الواليات المتحدة األميركية‬ ‫ع���ام ‪ 1970‬فه���و كان أش���د ارتباط��� ًا‬ ‫بالفدائيين الفلسطينيين وقضيتهم التي‬ ‫اعتبره���ا قضيت���ه بعدما أعل���ن انتماءه‬ ‫الفلس���طيني وعداءه الس���افر إلسرائيل‪.‬‬ ‫هذه الحماس���ة دفعت بج���ان جينه عام‬ ‫‪ 1970‬بع���د «أيلول» األس���ود الش���هير‪،‬‬ ‫إلى التوج���ه نحو جبال جرش وعجلون‬ ‫ف���ي األردن حي���ث كان الفلس���طينيون‬ ‫يقيمون داخ���ل مخيماتهم والعيش معهم‬ ‫ال بين مخيم وآخر‪،‬‬ ‫س���تة أش���هر‪ ،‬متنق ً‬ ‫مش���اهدًا عن كثب الفدائيين المس���لحين‬ ‫ال حياته���م اليومي���ة وتدريباتهم‬ ‫ومتأم ً‬ ‫‪48‬‬

‫العس���كرية‪ .‬وق���د منحه حين���ذاك زعيم‬ ‫حرك���ة «فتح» ياس���ر عرف���ات تصريح ًا‬ ‫يس���مح ل���ه بالتح���رك بي���ن المخيمات‬ ‫والمعس���كرات‪ .‬وبعد األشهر الستة التي‬ ‫اختبر خاللها معنى النضال الفلسطيني‬ ‫يعبر‪-‬ظل جينه‬ ‫و«جمال الفدائيين»‪ -‬كما ِّ‬ ‫يتردد على جرش وعجلون حتى منعته‬ ‫السلطات األردنية عام ‪ 1972‬من دخول‬ ‫أراضيها‪ .‬لكن تلك األش���هر التي قضاها‬ ‫مع الفلسطينيين كانت كافية لتعيد إليه‬ ‫بعض ًا من األمل المفقود وترد إلى كيانه‬ ‫قْدرًا م���ن ُبعد إنس���اني كان يتوق إليه‪.‬‬ ‫س���أل جينه نفس���ه‪« :‬لماذا أنا سعيد مع‬ ‫الفلسطينيين؟» وراح يسعى إلى اإلجابة‬ ‫عب���ر النصوص الت���ي دأب على كتابتها‬ ‫بع���د بضع س���نوات والت���ي التأمت في‬ ‫الختام في كتابه الضخم «أسير عاشق»‬ ‫ال‬ ‫‪ captif amoureux‬ال���ذي صدر كام ً‬

‫جينه‪ ..‬عن الفدائي والبندقية‬

‫بعد أس���ابيع من رحيل���ه عام ‪ 1986‬عن‬ ‫دار غاليمار الباريسية‪ .‬يعترف جينه أن‬ ‫الثورة الفلس���طينية كانت أسعد مرحلة‬ ‫في حيات���ه‪ ،‬ويتحدث جه���ارًا عن «قوة‬ ‫الس���عادة» التي ش���عر بها عندما عاش‬ ‫بين الفلسطينيين‪ .‬وجذبته كثيرًا «عالقة‬ ‫الحب واالفتتان» الت���ي كانت قائمة بين‬ ‫الفدائي وس�ل�احه‪ .‬لقد افتتن جينه لدى‬ ‫الفلسطيني بتلك «األواصر» التي تجمع‬ ‫بين���ه وبين أرضه الت���ي يصفها بـ‪« ‬غير‬ ‫المرئية»‪ ،‬وغدت الث���ورة في نظره هي‬ ‫الس���عي للوصول إلى ه���ذا الوطن غير‬ ‫المرئ���ي‪ .‬وهنا يكمن أحد األس���رار التي‬ ‫دفع���ت جينه لالرتباط بالفلس���طينيين‪.‬‬ ‫فه���ذا االرتباط لم يكن مج���رد «تضامن»‬ ‫يعبر‪،‬‬ ‫أو «تأيي���د» بق���در م���ا كان‪ ،‬كم���ا ّ‬ ‫«فرص���ة للتفاع���ل الحي���وي»‪ ،‬فرص���ة‬ ‫لألخ���ذ والعطاء المتبادلي���ن‪ ،‬وللتحاور‬ ‫الوج���ودي العميق‪ .‬وقد اكتش���ف جينه‬ ‫الناحي���ة «الميتافيزيقية» التي س���حرته‬ ‫في النضال الفلس���طيني الذي قلب بنية‬ ‫القيم‪ ،‬وكان بالنسبة له منطلق ًا راسخ ًا‬ ‫ليحاك���م العالم‪ ،‬الذي ه���و الغرب مثلما‬ ‫هو الحياة نفس���ها التي حرمته شخصي ًا‬ ‫م���ن حقه في الوجود‪ .‬لق���د تماهى جينه‬ ‫في مرآة القضية الفلس���طينية ووجد في‬ ‫صورة الفدائ���ي أجزاء من صورته التي‬ ‫مزقها القدر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إال أن هذه العالقة بين جينه والفدائيين‬ ‫كانت – والتزال – ملتبس���ة‪ ،‬وقد أثارت‬ ‫حفيظ���ة بع���ض الكّت���اب والمثقفي���ن‪،‬‬ ‫الع���رب والفرنس���يين‪ .‬فه���ذا «االنجذاب‬ ‫إلى جمال الفدائي الفلسطيني»‪ ،‬بحسب‬ ‫تعبي���ر جينه‪ ،‬أتاح المج���ال التهامه هو‬ ‫المع���روف بنزعت���ه المثلية‪ ،‬بإس���قاط‬ ‫ه���ذه المثلية على ذك���ورة الفدائي‪ .‬وقد‬ ‫اس���تبق جينه نفس���ه ه���ذه الته���م التي‬ ‫كان يتوقعها‪ ،‬فأش���ار في كتابه «أس���ير‬ ‫عاش���ق» إلى وصوله ش���يخ ًا أو عجوزًا‬ ‫إلى الفلس���طينيين وأن حياته الجنسية‬ ‫تالشت‪ ،‬وأضحت رغباته مقتصرة على‬ ‫«النظرة» الت���ي ال يمكنها أن تموت‪ .‬وقد‬ ‫كت���ب يقول «إن أق���ل إعراب ع���ن رغبة‬ ‫أروتيكي���ة كان ليثير غضب أقل فدائي»‪.‬‬ ‫وال ينثني ع���ن االعتراف في كتابه كيف‬


‫الفرنسي المختلف رأى المخيمات من الداخل‬

‫أدهش���ه منظر أول فدائيين أبصرهما من‬ ‫ش���دة جمالهما‪ ،‬وقد ش���عر بأنه ال يملك‬ ‫إزاءهم���ا أي رغبة جنيس���ة‪ .‬كان جينه‬ ‫«يراقب» نفس���ه ومش���اعره وانفعاالته‪،‬‬ ‫سواء عندما كان يرى الفدائيين أو عندما‬ ‫كان يكت���ب عنه���م‪ .‬لكنه يعل���ن أنه كان‬ ‫يتصرف كـ‪» ‬أسير عاشق»‪ ،‬أي كعاشق‬ ‫مأسور بالثورة‪.‬‬ ‫أم���ا أقص���ى م���ا بلغته عالق���ة جينه‬ ‫بالفلسطينيين فتمثل في نصه الذي كتبه‬ ‫عام ‪ 1982‬بعيد عودته من زيارة مخيم‬ ‫صبرا وش���اتيال الذي شهد أبشع مجزرة‬ ‫فلس���طينية ارتكبه���ا اليمي���ن اللبنان���ي‬ ‫بموافقة – او إش���راف جنود ش���ارون‪.‬‬ ‫أمضى جينه أربع س���اعات في ش���اتيال‬ ‫للت���و وراح يتنقل‬ ‫بع���د وقوع المج���زرة‬ ‫ّ‬ ‫متأم�ل�ا فداحة‬ ‫بي���ن الجث���ث والخرائب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سمى جينه‬ ‫المجزرة وشاهدًا حي ًا عليها‪ّ .‬‬ ‫نصه هذا «أربع ساعات في شاتيال» وقد‬ ‫نش���رته مجلة «الدراس���ات الفلسطينية»‬ ‫في طبعتها الفرنس���ية شتاء ‪ ،1983‬ثم‬ ‫ُنشر ضمن كتاب عنوانه «العدو المعلن»‬ ‫(‪ )L’ennemi déclaré‬ص���در ع���ن دار‬ ‫غاليمار‪ .‬وقد اس���تطاعت هذه الس���اعات‬ ‫الرهيبة األربع أن تعيد جينه إلى الكتابة‬ ‫بعد سنوات من االنقطاع عنها‪.‬لقد أعادت‬ ‫مجزرة صبرا وشاتيال إلى جينه حماسة‬ ‫الكتابة ولكن بطريقة مختلفة عما كانت‬ ‫عليه في السابق‪.‬‬ ‫يستهل جينه هذا النص الرهيب الذي‬ ‫يتراوح بين السرد والريبورتاج الصحافي‬ ‫بلقطة استعادية يتذكر فيها األشهر التي‬ ‫كان أمضاها في جبال جرش وعجلون‬ ‫عام ‪ ،1970‬مسترجع ًا قوة الفدائيين‬

‫وسحر منظرهم‪ ،‬وسط الغابات وتحت‬ ‫الخيم وفي معسكرات التدريب‪ .‬ثم ينتقل‬ ‫فجأة‪ ،‬إلى مخيم صبرا وشاتيال في‬ ‫لحظة قطع سردي غير متوقع‪ .‬إنه اآلن‬ ‫في قلب المجزرة‪ ،‬بين الجثث ووسط‬ ‫أسراب الذباب يتنشق الروائح الثاقبة‪.‬‬ ‫كان يقفز فوق الجثث يقول جينه‪،‬‬ ‫فالموتى كثر‪ :‬شبان ورجال وعجائز‪.‬‬ ‫«الجثة األولى التي رأيتها كانت لرجل في‬ ‫الخمسين أو الستين من عمره» يقول‪ ،‬ثم‬ ‫يصف ضربة الفأس التي فتحت جمجمته‬ ‫واسود‪ .‬هنا‬ ‫فاندلق نخاعه على األرض‬ ‫ّ‬ ‫يلحظ جينه أن الصورة الفوتوغرافية‬ ‫عاجزة عن التقاط الذباب وروائح الموت‬ ‫«البيضاء»‪ ...‬في هذه المقبرة المفتوحة‬ ‫يستعيد جينه جدلية الحب والموت‪ ،‬كما‬ ‫علي أن أذهب إلى شاتيال‪،‬‬ ‫يفهمها «كان ّ‬ ‫يقول‪ ،‬أللمس بذاءة الحب وبذاءة‬ ‫الموت»‪ .‬فاألجساد التي استحالت جثث ًا‬ ‫تمثل في نظره حالتي الحب والموت‪.‬‬ ‫يعمد جينه إلى لعبة الوصف أو‬ ‫التصوير‪ ،‬مستخدم ًا عينيه ومخّيلته في‬ ‫آن واحد‪ .‬والعينان والمخيلة تعنيان‬ ‫التحام الواقع بالتخييل‪ .‬فالمشاهد هذه‬ ‫تصّدق ألنها واقعية جدًا وال تصدق ألنها‬ ‫غير واقعية بتاتاً‪« :‬رحت أتجاوز الموتى‬ ‫وكأنني أجتاز هاويات»‪.‬‬ ‫ظل جينه يجتاز الجثث واحدة تلو‬ ‫أخرى‪ ،‬لكنه لم يتمكن‪ ،‬كما يقول‪ ،‬من‬ ‫عّدها كلها‪ ،‬فلما بلغ الجثة الثانية عشرة‬ ‫توقف عن العد‪« :‬لقد غمرتني الرائحة‬ ‫والشمس ورحت أتعثر عند كل حفرة»‪.‬‬ ‫عيد‬ ‫دخل جينه مخيم صبرا وشاتيال ُب ْ‬ ‫المجزرة‪ ،‬واستطاع فع ً‬ ‫ال أن يحتمل هذه‬

‫«النزهة» السوداء بين الجثث‪ ،‬مقاوم ًا‬ ‫الخوف والعبث والجنون‪ .‬وهناك‪ ،‬في‬ ‫وسط هذه المقبرة المفتوحة شعر أنه‬ ‫هو المقتول وأن روائح الجثث تنبعث من‬ ‫جسده وكيانه هو‪ .‬هنا يتماهى جينه مع‬ ‫الفلسطينيين أيضاً‪ ،‬ولكن كجثث مقتولة‬ ‫ّ‬ ‫ومقطعة‪ .‬صحيح إنها جثث‪ ،‬لكنها جثث‬ ‫الفلسطينيين الذين أحبهم‪ .‬وها هو‬ ‫يعترف‪« :‬في شاتيال قضى كثيرون من‬ ‫الفدائيين‪ ،‬لكن صداقتي ومحبتي لجثثهم‬ ‫التي تتعفّن كانتا كبيرتين‪ ،‬ألنني عرفت‬ ‫واسودوا‬ ‫هؤالء قبالً‪ .‬ومع أنهم انتفخوا‬ ‫ّ‬ ‫وتعفنوا تحت الشمس والموت‪ ،‬فهم‬ ‫يظلون فدائيين»‪ُ .‬ترى هل كان جينه ذا‬ ‫نزعة «نيكروفيلية»(حب الموتى) خفية‬ ‫لم يعلنها سابقاً؟‬ ‫في كتاب «أسير عاشق» يختلف السرد‬ ‫أو تختلف الكتابة باألحرى وكذلك‬ ‫المقاربة والرؤية‪ .‬وهو كان قد بدأ‬ ‫جمع مادة هذه الكتاب في ‪ 1983‬لينهيه‬ ‫في ‪ 1986‬عام رحيله بعد إصابته‬ ‫بسرطان الحنجرة‪ .‬وعند صدوره أثار‬ ‫الكتاب حفيظة الكثيرين من القراء‬ ‫الفرنسيين تبع ًا لتبني جنيه المعلن‬ ‫للقضية الفلسطينية وإلعالنه انتماءه‬ ‫إلى الفلسطينيين وكراهيته إلسرائيل‪.‬‬ ‫وفي منأى عن موقف جينه الجريء‬ ‫والصادم‪ ،‬فالكتاب حافل بالجماليات‬ ‫األسلوبية والسردية وقائم على بنية‬ ‫متشعبة وكأن النص يتوالد من النص‬ ‫إلى ما ال نهاية‪ .‬لكنه ليس كتاب ًا متعدد‬ ‫األصوات أو بوليفونياً‪ ،‬كما كتب عنه‬ ‫المفكر الفرنسي فيليكس غاتاري‪،‬‬ ‫فالكاتب – المسافر ال يفرض صوته‬ ‫وأفكاره فقط بل يقدم مصائر اآلخرين‬ ‫الذين تتشابك أفعالهم‪ ،‬حتى عبراإلشارة‬ ‫الخفية أو المتالشية‪ ،‬فيسمع كالمهم‪،‬‬ ‫المنفجر أو الهامس أو الصامت والذي‬ ‫يظل يهدر بقوة‪ .‬في هذا الكتاب تندمج‬ ‫الذكريات والحكايات والتأمالت واألقوال‬ ‫والقصص لتؤلف سياق ًا أدبي ًا أو كتابي ًا‬ ‫بديع ًا يضع الفلسطينيين والقضية‬ ‫الفلسطينية في مصاف األسطورة‪،‬‬ ‫أسطورة الحياة والواقع‪ ،‬المتجذّرة في‬ ‫التاريخ والماوراء‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫الموقف الثقافي األبرز في مناصرة القضية‬

‫عندما فضح الضيوف الكبار‬ ‫عنصرية إسرائيل‬

‫كان العام ‪ 2002‬عام فلسطين ليس في‬ ‫األمم المتحدة وال في العواصم العربية‬ ‫وال في المحافل السياسية الدولية‪ ،‬بل‬ ‫في ميدان األدب العالمي‪ ،‬وتحديدًا في‬ ‫«البرلمان العالمي للكتّاب»‪ .‬كان هذا‬ ‫العام عام فلسطين أدبي ًا و«نوبيلياً»‬ ‫بامتياز‪ ،‬جراء مشاركة كتّاب عالميين‬ ‫بعضهم فاز بجائزة نوبل‪ ،‬في اللقاء‬ ‫التضامني العالمي الذي أحياه «البرلمان»‬ ‫هذا في مدينة رام اهلل في األيام األخيرة‬ ‫في شهر مارس‪ .‬اكتسبت قضية فلسطين‬ ‫خالل هذا العام بعدًا عالمي ًا لم تعرفه‬ ‫المرة األولى التي ُيجمع‬ ‫من قبل‪ ،‬فهي ّ‬ ‫فيها كتّاب عالميون كبار على «محاكمة»‬ ‫إسرائيل ومناصرة الشعب الفلسطيني‬ ‫كاسرين رهبة التهم التي توجه دائم ًا‬ ‫إلى مناصري القضية الفلسطينية وفي‬ ‫مقّدمها تهمة الالسامية‪.‬‬ ‫كانت المواقف التي أعلنها تباع ًا بعض‬ ‫الكتاب العالميين الكبار ضد المجازر‬ ‫التي يرتكبها الجيش اإلسرائيلي في‬ ‫فلسطين قد لقيت صداها المفترض في‬ ‫بعض العواصم العالمية‪ .‬وعقب بيان‬ ‫االستنكار الذي وقعه المفكر الفلسطيني‬ ‫إدوارد سعيد والروائي المكسيكي‬ ‫كارلوس فوينتس‪ ،‬واإلسباني خوان‬ ‫غويتسولو‪ ،‬والحمالت التي قام بها‬ ‫الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا‬ ‫ماركيز‪ ،‬واأللماني غونتر غراس‪،‬‬ ‫‪50‬‬

‫والبريطاني توم بولين‪ ،‬عمد «البرلمان‬ ‫العالمي للكتاب» إلى التحرك انطالق ًا‬ ‫من باريس مساندة للشعب الفلسطيني‬ ‫في مواجهته اليومية لآللة اإلسرائيلية‬ ‫العسكرية‪ .‬والبرلمان هذا‪ ،‬الذي كان‬ ‫يترأسه حينذاك الكاتب األميركي راسل‬ ‫بانكس‪ ،‬لم يكتف بإصدار بيان استنكار‬ ‫ضد سياسة آرييل شارون الدموية‪ ،‬بل‬ ‫عمد إلى إحياء لقاء عالمي في مدينة رام‬ ‫اهلل ساعي ًا إلى كسر «حال الحصار» التي‬ ‫كان عبر عنها الشاعر محمود درويش‬ ‫في قصيدة «حالة حصار» وقد صدرت‬ ‫أو ًال في «الكرمل» ثم مستقلة في كتاب‪.‬‬ ‫واللقاء الذي شارك في تنظيمه محمود‬ ‫ضم أدباء ومفكرين من‬ ‫درويش أيض ًا ّ‬ ‫العالم أجمع عالوة على األدباء العرب‬ ‫الذين سمحت لهم أنظمتهم بالتوجه إلى‬ ‫األراضي الفلسطينية‪.‬‬ ‫شارك في اللقاء الذي شهدته رام اهلل‬ ‫الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو‪،‬‬ ‫والنيجيري وول شوينكا‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى جاك دريدا فيلسوف «التفكيك»‬ ‫الفرنسي الجزائري األصل واألميركيين‬ ‫نعوم تشومسكي ونورمان فنكلشتاين‬ ‫كونسولو‪،‬‬ ‫فينشينزو‬ ‫واإليطالي‬ ‫والجنوب ‪ -‬إفريقي برايتن براتينباخ‬ ‫والصيني باي داو والفرنسي كريسيتيان‬ ‫سالمون وسواهم‪ ..‬وبدا اللقاء بمثابة‬ ‫تظاهرة عالمية تندد‪ ،‬انطالق ًا من‬

‫األراضي الفلسطينية نفسها‪ ،‬بما يرتكب‬ ‫الجيش اإلسرائيلي من جرائم يومية‬ ‫تفوق الوصف والتصور‪.‬‬ ‫غير أن الالفت في مثل هذا التحرك‬ ‫هو كسر الهيمنة اإلسرائيلية على‬ ‫«الجبهة» الثقافية العالمية‪ ،‬وهي كثيرًا‬ ‫ما حاصرت بعض اآلراء المعارضة‬ ‫للسياسة اإلسرائيلية والمؤيدة للقضية‬ ‫الفلسطينية‪ .‬فالكتّاب العالميون الذين‬ ‫ناصروا الفلسطينيين عالنية في السابق‬ ‫كانوا قلة قليلة وهم سرعان ما اتهموا‬ ‫لكن هؤالء الكتّاب‬ ‫بنزعتهم الالسامية‪ّ .‬‬ ‫ما عادوا يخشون تلك التهمة خصوص ًا‬ ‫بعدما تمادى شارون حينذاك في جرائمه‬ ‫ليصبح أشبه بـ«هتلر» صغير‪ ،‬وباتوا‬ ‫يعارضون السياسة اإلسرائيلية عالنية‬ ‫متهمين اإلدارة اإلسرائيلية باإلرهاب‬ ‫والعنصرية والبغضاء‪ .‬ويذكر المثقفون‬ ‫العالميون والعرب كم كان ماركيز جريئ ًا‬ ‫حين سعى إلى التبرؤ من جائزة نوبل‬ ‫بعدما منحت إلى مناحيم بيغن «تكريم ًا‬ ‫لسياسته اإلجرامية»‪ ،‬كما عبر في أحد‬ ‫مقاالته‪ ،‬ولم ينثن عن وصف شارون‬ ‫بـ«التلميذ النجيب» الذي فاق أستاذه‬ ‫(بيغن) إجرام ًا ودموية‪ .‬وحيا ماركيز‬ ‫«الشعب الفلسطيني البطل» الذي «يقاوم‬ ‫اإلبادة» آخذًا على القوى العالمية ال‬ ‫مباالتها بما يحصل وعلى المثقفين‬ ‫العالميين‪ ،‬وبعض العرب‪ ،‬جبنهم حيال‬ ‫المأساة المتواصلة‪ .‬أما غونتر غراس‬ ‫فكان جريئ ًا في اتهام إسرائيل بـ«ارتكاب‬ ‫أفعال إجرامية» في فلسطين‪ ،‬ودعا‬ ‫الدولة اإلسرائيلية في حوار نشرته‬ ‫مجلة «فكر وفن» إلى ضرورة العودة‬ ‫إلى اتفاق أوسلو وإلى االنسحاب من‬ ‫المناطق الفلسطينية المحتلة وإلى إخالء‬ ‫المستوطنات اإلسرائيلية التي بنيت في‬ ‫«طريقة إجرامية»‪ .‬واتهم غراس شارون‬ ‫بـ«سلوكه اإلجرامي» سواء في اجتياحه‬ ‫لبنان أم في «زياراته االستفزازية‬ ‫للحرم الشريف» التي كانت تشعل شرارة‬ ‫الفتنة‪ .‬أما مواقف الكتّاب اآلخرين من‬ ‫أمثال فوينتس وغويتسولو وتوم بولين‬ ‫ونعوم تشومسكي وسواهم فهي لم تخل‬ ‫من إدانة الجرائم اإلسرائيلية والمطالبة‬


‫سونيكا‬

‫درويش‬

‫بحقوق الشعب الفلسطيني‪.‬‬ ‫إال أن مبادرة «البرلمان العالمي‬ ‫للكتّاب» كانت خطوة ثقافية سباقة في‬ ‫مجال التضامن مع الشعب الفلسطيني‪.‬‬ ‫فاللقاء تم في األراضي الفلسطينية‬ ‫المحاصرة‪ ،‬والبيان الذي صدر في ختام‬ ‫ليوزع في‬ ‫اللقاء لم يكن مجرد بيان كتب ّ‬ ‫نم عن موقف‬ ‫العواصم العالمية‪ ،‬بل ّ‬ ‫جريء في مواجهة األكاذيب والذرائع‬ ‫والتهم اإلسرائيلية الجاهزة ومنها‬ ‫الالسامية‪.‬‬ ‫وهذه التهمة وصفها راسل بانكس‬

‫بأنها «نوع من اإلرهاب الثقافي الذي ال‬ ‫يخيفنا والذي نرفضه تماماً‪ ،‬فتوجيه‬ ‫االنتقادات إلى الجرائم اإلسرائيلية ضّد‬ ‫الفلسطينيين ال يمكن أن يكون نوع ًا من‬ ‫معاداة السامية»‪.‬‬ ‫وكان الروائي راسل بانكس رئيس‬ ‫«البرلمان العالمي للكتاب» جريئ ًا بدوره‬ ‫عندما قال إن الساعات التي قضاها‬ ‫في فلسطين حفرت في ذاكرته مشاهد‬ ‫لن ينساها أبدًا‪« .‬عندما اجتزنا الحاجز‬ ‫للدخول إلى رام اهلل بعد التفتيش وإبراز‬ ‫جوازات السفر وغيرها‪ ،‬شعرت تمام ًا‬ ‫بأنني سجين مثلما يحصل لي عندما‬ ‫أزور سجناء في الزنزانات األميركية‪.‬‬ ‫في اللحظة التي اجتزنا فيها الحاجز‪،‬‬ ‫أحسست بأن الباب أغلق خلفي وأني‬ ‫سجين»‪.‬‬ ‫وقال خوان غويتسولو إنه زار‬ ‫ساراييفو ثالث مرات وهي تحت‬ ‫الحصار وكذلك الشيشان في الحرب‬ ‫األولى «ولكن رأيت في فلسطين كيف‬ ‫يتم تحييد الواقع من خالل الكلمات‪،‬‬ ‫كيف ُيفسر حق الدفاع عن النفس بأنه‬ ‫إرهاب واإلرهاب بأنه دفاع عن النفس‪.‬‬ ‫أستطيع أن أعدد دو ًال تمارس اإلرهاب‬ ‫وإسرائيل هي إحدى هذه الدول‪ .‬يجب‬ ‫أن نخرج أنفسنا من الكليشيهات وأن‬ ‫ال نساوي بين القاتل والضحية‪ ،‬بين‬ ‫القوة المحتلة والشعب الذي يرزح تحت‬ ‫االحتالل ويقاومه‪ ،‬ونحن ممثلو شعوبنا‬ ‫غير المنتخبين‪ ،‬وعلينا أن ننقل بأمانة‬ ‫ما تشاهده أعيننا وتحسه قلوبنا»‪.‬‬ ‫ودعا وول سونيكا إلى «عدم زرع‬ ‫الكراهية في قلوب األجيال القادمة»‪.‬‬ ‫حينذاك وصف الشاعر الفلسطيني‬ ‫محمود درويش زيارة بعثة األدباء بأنها‬ ‫«تضع القضية الفلسطينية في مكانها‬ ‫الصحيح‪،‬في الضمير وفي الخطاب‬ ‫الثقافي العالمي‪ .‬فهذه الزيارة التاريخية‬ ‫تعطي الشعب الفلسطيني إحساس ًا‬ ‫ضروري ًا بأنه ليس وحيدًا وأنه ليس‬ ‫معزو ًال عن أسئلة الحرية في العالم»‪.‬‬ ‫وكان الفت ًا جدًا تراجع الكاتب اإلسرائيلي‪،‬‬ ‫المرشح الدائم إلى جائزة نوبل‪ ،‬عاموس‬ ‫عوز عن اعتداله السياسي والثقافي أمام‬

‫مقارنة ساراماغو بين النازية والجرائم‬ ‫تذكر عاموس فجأة‬ ‫اإلسرائيلية‪ .‬لقد ّ‬ ‫انتماءه اإلسرائيلي وتناسى ما كان‬ ‫قد كتب عن الظلم الذي تلحقه الدولة‬ ‫اإلسرائيلية بالفلسطينيين‪.‬‬ ‫أما الروائي جوزيه ساراماغو فكان‬ ‫جريئ ًا جدًا في فضح التعنت اإلسرائيلي‬ ‫إذ قال جهارًا‪« :‬كل ما اعتقدت أنني‬ ‫أملكه من معلومات عن األوضاع في‬ ‫فلسطين تحطم‪ ،‬فالمعلومات والصور‬ ‫شيء والواقع شيء آخر‪ .‬يجب أن‬ ‫تضع قدمك على األرض لتعرف حق ًا ما‬ ‫الذي يجري هنا‪ .‬ولنأخذ رام اهلل مثالً‪،‬‬ ‫فنحن نعلم أن الرئيس الفلسطيني‬ ‫يقيم فيها وقد شاهدنا صور الدبابات‬ ‫فيها‪ ،‬ولكن ما لم أعلمه أن حول رام اهلل‬ ‫توجد مستوطنات كثيرة‪ ،‬ومعسكرات‬ ‫الجيش تجثم فوقها وتضعها في مرمى‬ ‫الرصاص اإلسرائيلي‪ .‬رام اهلل والقرى‬ ‫والمخيمات جميعها محاصرة داخل‬ ‫التحرك‬ ‫غيتوات»‪ .‬ودعا ساراماغو إلى‬ ‫ّ‬ ‫قائالً‪« :‬يجب قرع األجراس في العالم‬ ‫بأسره للقول إن ما يحدث هنا جريمة‬ ‫يجب أن تتوقف‪ ..‬جريمة يجب أن نضعها‬ ‫بجانب أوشفيتس‪ ،‬إذ إن رام اهلل بأسرها‬ ‫حوصرت والشعب الفلسطيني بأسره‬ ‫وضع في غيتوات‪ .‬ليس من أفران غاز‬ ‫لكن القتل ال يتم فقط من خالل أفران‬ ‫هنا ّ‬ ‫الغاز‪ .‬هناك أشياء ارتكبها االحتالل‬ ‫اإلسرائيلي تحمل روحية النازية في‬ ‫أوشفيتس‪ .‬إنها أمور ال تغتفر تحدث‬ ‫للشعب الفلسطيني»‪.‬‬ ‫وقد أشار البرلمان في بيانه عقب‬ ‫انتهاء اللقاء إلى أن «حرب ًا قائمة في‬ ‫فلسطين‪ ،‬وهي ليست بين جيشين‬ ‫لدولتين عدوتين‪ ،‬وإنما هي حرب‬ ‫يشنها جيش من أقوى جيوش العالم‬ ‫على شعب محتل‪ ،‬ليل نهار‪ .‬ويحاصر‬ ‫الجيش المناطق الفلسطينية ويقيم‬ ‫الغيتوات والمعازل حيث ال تتحرك‬ ‫سوى الدبابات‪ ...‬إنهم يوطدون حرب‬ ‫الجميع ضد الجميع‪ .‬مرة أخرى ينتصب‬ ‫سراب الدول النقية العرق ومنطق‬ ‫التمييز العنصري األعوج على أرض‬ ‫منسوجة من االختالفات»‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫درا�سة‬

‫سامي محمد ‪ -‬الكويت‬

‫ال تش���به أية ث���ورة أختها‪ ،‬فكل منها حالة فري���دة في ذاتها‪،‬‬ ‫كبصمة اإلصبع‪ ،‬أو أقرب إلى وضع المرضى النفسيين‪ ،‬الذين‬ ‫قد يتش���ابهون في بعض األعراض العامة التي تمكن األطباء من‬ ‫تشخيص وإحالة كل مريض إلى مرض بعينه في تصنيف ال مفر‬ ‫من���ه توطئة ألقرب عالج‪ ،‬لكن س���مات كل فرد على حدة‪ ،‬حتى‬ ‫داخل المرض أو االضطراب الواحد‪ ،‬ال تشبه ما لدى غيره أبداً‪.‬‬

‫في معنى الثورة‬

‫خالصة تجربة إنسانية‬

‫د‪.‬عمار علي ح�سن ‪ -‬القاهرة‬

‫وم���ن هنا ف���إن من العب���ث أن يعتقد‬ ‫بمكنته أن يقيس أي ًا من الثورات‬ ‫أحد أن ُ‬ ‫العربي���ة الحالي���ة على ث���ورات أخرى‪،‬‬ ‫أو يض���ع نموذج ًا لث���ورة قد وقعت أمام‬ ‫عيني���ه وهو يقيم ثورة تندلع أو ال تزال‬ ‫وقائعه���ا تجري‪ ،‬ولم تتم بعد‪ .‬كما ليس‬ ‫بوس���ع أحد أن يعتقد أن للثورات طريق ًا‬ ‫واحدًا في التطور واالرتقاء‪ ،‬وأن غاياتها‬ ‫ومقاصده���ا مأمون���ة ومضمونة في كل‬ ‫األحوال‪ .‬فبعض الث���ورات أكلها الزمن‪.‬‬ ‫وبعضه���ا توقف ف���ي منتص���ف الرحلة‬ ‫فس���جله المؤرخون مجرد «انتفاضة» أو‬ ‫«هبة» أو «فورة»‪ .‬وبعضه تم تش���ويهه‬ ‫وش���يطنته ونزع التعاط���ف االجتماعي‬ ‫‪52‬‬

‫حيال���ه‪ ،‬مثل ما حدث للث���ورة العرابية‬ ‫العظيمة‪ ،‬التي س���اد عنها نعت أعدائها‬ ‫له���ا بأنه���ا «هوجة» ليصموه���ا بالتهور‬ ‫واالنفعال والعدوانية‪ ،‬ووصل األمر إلى‬ ‫حد تحميلها مسؤولية احتالل مصر على‬ ‫يد اإلنكليز عام ‪.1882‬‬ ‫وهناك ث���ورات انتهت إلى مجموعة‬ ‫م���ن اإلصالحات البس���يطة على النظام‬ ‫القائم‪ .‬واألفدح من هذا هو الثورات التي‬ ‫ال ذريعاً‪ ،‬حين تمكنت «الثورة‬ ‫فشلت فش ً‬ ‫المضادة» من االنتصار‪ ،‬وأعادت النظام‬ ‫القدي���م‪ ،‬وكأن ش���يئ ًا لم يج���ر‪ .‬أو حين‬ ‫دخلت قوة ش���ريرة على مس���ار الثورة‬ ‫وجعلتها تنزلق إلى عنف مفرط وفوضى‬


‫شاملة أو حرب أهلية‪.‬‬ ‫وهناك عدة أمور مرتبطة بالثورات‪،‬‬ ‫رس���خت‪ ،‬م���ن تكرارها إل���ى درجة أنها‬ ‫أصبح���ت قواع���د عام���ة نلفاها بيس���ر‬ ‫وسهولة في أي ثورة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫ال تقوم ثورة في‬ ‫أي مكان وأي زمان‬ ‫إال وقامت ضدها‬ ‫حركات وتدابير‬ ‫تهدف إلى إفشالها‬ ‫عبر احتوائها تدريجي ًا‬ ‫وتفريغها من‬ ‫مضمونها‬

‫‪1‬‬

‫إن التعريف البسيط والمباشر والدال‬ ‫للثورة هو أنه���ا «عملية تغيير جذري»‪،‬‬ ‫وه���ذا التغيير يت���م حين نه���دم النظام‬ ‫القدي���م هدم��� ًا مبرماً‪ ،‬ونش���رع في بناء‬ ‫نظام جديد عل���ى أنقاضه‪ .‬وهناك فارق‬ ‫جوهري بالطبع بين هدم النظام الحاكم‬ ‫وبين ه���دم الدولة‪ .‬فالث���ورات يفترض‬ ‫أنها تقوم لبناء الدول‪ ،‬وتس���عى إلى أن‬ ‫تنتش���لها من التهديد الم���ادي والمعنوي‬ ‫الذي تتعرض ل���ه‪ ،‬أما الحركات العنيفة‬ ‫التي ترم���ي إلى هدم الدول���ة فيمكن أن‬ ‫ينصرف تصنيفها إلى ش���كل احتجاجي‬ ‫آخر من قبيل «التمرد» و«الحرب األهلية»‬ ‫و«العنف االجتماعي المفرط» و«إش���اعة‬ ‫الفوضى»‪ ،‬والعبرة ف���ي الحكم على ما‬ ‫ال إيجابي ًا‬ ‫إذا كان الفع���ل االحتجاجي عم ً‬ ‫لصالح الوطن من عدمه مرتبط أساس��� ًا‬ ‫باألهداف الرئيسية التي حددتها الطليعة‬ ‫الثوري���ة النط�ل�اق حركته���م‪ ،‬والت���ي‬ ‫يجس���دها «البي���ان األول» أو «الش���عار‬ ‫األثير» أو ما يع���رف عن هذه المجموعة‬ ‫من أفكار وتوجهات قب���ل انطالق الفعل‬ ‫الثوري‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫الث���ورة عمل حتمي‪ ،‬ألنه���ا ال تقوم‬ ‫إال إذا كان المجتم���ع مهيئ��� ًا له���ا تماماً‪.‬‬ ‫ومن هن���ا ال يفلح مع الثورات لفظ «لو«‬ ‫أو تش���دق البعض بأن���ه كان من الممكن‬ ‫تفادي الثورة‪ ،‬السيما إن كانت السلطة‬ ‫متمس���كة بمواقفها المتصلبة التي تخلق‬ ‫األسباب والدوافع والبواعث التي تؤدي‬ ‫إل���ى انطالق الث���ورة‪ ،‬وتجع���ل منطق‬ ‫الثوار‪ ،‬قو ًال وفعالً‪ ،‬مبررًا ومقبوالً‪ ،‬لدى‬ ‫قاعدة عريضة من الناس‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫«تخمر»‬ ‫إن أي ث���ورة تس���بقها فت���رة‬ ‫ُّ‬ ‫يص���ل فيها االس���تياء من أداء الس���لطة‬ ‫إلى منته���اه‪ ،‬ويكون المجتمع مس���تعدًا‬ ‫لالنفجار في وجه أهل الحكم‪ ،‬أو يتحول‬ ‫إلى كوم قش قدحه الهجير وينتظر مجرد‬ ‫إشعال عود ثقاب‪ .‬ودون تعمق «التخمر»‬ ‫أو وصوله إلى الذروة‪ ،‬ال يمكن للثورة‬ ‫أن تنطل���ق‪ .‬وم���ن هنا فإن اس���تعجال‬ ‫الث���ورة في بلد لم تنض���ج فيه الظروف‬ ‫بع���د لقيامها ه���و من قبي���ل الخبل‪ .‬لكن‬ ‫يمكن تسريع التخمر عبر أفكار وإجراءات‬ ‫تعبوية تزيد من االحتقان إزاء السلطة‪،‬‬ ‫والغب���ن منها‪ ،‬والش���عور الجارف بأنها‬ ‫العقبة أمام الحرية والكفاية والعدالة‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫الفع���ل الث���وري عم���ل معق���د‪ ،‬ألنه‬ ‫يفتح الواقع االجتماعي السياس���ي على‬ ‫احتم���االت عدة‪ ،‬بعضها م���ن دون ريب‬ ‫أفضل م���ن بق���اء الوضع الس���ائد على‬ ‫ركوده وجموده‪ ،‬بم���ا ينطوي عليه من‬ ‫قهر وإذالل وظلم واجتماعي‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫ال يوجد بلد على س���طح األرض‪ ،‬منذ‬ ‫نشأة الدولة بمعناها البسيط والتقليدي‪،‬‬ ‫وحتى اللحظة الراهنة‪ ،‬إال وعرف أشكا ًال‬ ‫متعددة ومتدرجة من االحتجاج‪ ،‬بعضها‬ ‫تصاعد فبلغ الحد األقصى صانع ًا ثورة‪،‬‬

‫وبعضها بقي عند مس���توى االنتفاضات‬ ‫والفورات والتمردات مح���ددة النطاقين‬ ‫المكاني والزماني‪ .‬وقد يظن البعض أن‬ ‫هن���اك أمم ًا محافظة ال تمي���ل إلى الفعل‬ ‫الثوري‪ ،‬لك���ن ها هو المفكر الفرنس���ي‬ ‫الش���هير جوس���تاف لوبون يخبرنا في‬ ‫كتاب���ه المه���م «روح الث���ورات والثورة‬ ‫الفرنس���ية» أن األمم المحافظة هي التي‬ ‫تأتي بأش���د الث���ورات خالف��� ًا لما يظن‬ ‫بع���ض الناس‪ ،‬ألنه���ا إذا كانت محافظة‬ ‫غي���ر متحولة ببطء لتالئم تقلب البيئات‬ ‫تكره على مالءمتها بغتة بالثورة حينما‬ ‫تصب���ح الش���قة بي���ن الطرفي���ن عظيمة‬ ‫جداً»(‪.)1‬‬

‫‪6‬‬

‫ال تق���وم ث���ورة ف���ي أي م���كان وأي‬ ‫زمان إال وقام���ت ضدها حركات وتدابير‬ ‫تهدف إلى إفشالها عبر احتوائها تدريجي ًا‬ ‫وتفريغها من مضمونها على مهل أو حتى‬ ‫من خالل ممارس���ة العن���ف المفرط ضد‬ ‫الثوار‪ .‬وتعرف هذه التدابير جوازًا باسم‬ ‫«الثورة المضادة»‪ ،‬وهي تعني «محاولة‬ ‫إرج���اع أوض���اع المجتم���ع إلى س���ابق‬ ‫عهدها‪ ،‬واإلبقاء على مصالح القلة التي‬ ‫كان���ت تتمتع بها‪ ،‬والعمل المس���تمر من‬ ‫أجل القض���اء على الثورة وعلى مبادئها‬ ‫بكل الس���بل‪ ،‬ومختلف الوسائل‪ ،‬خفية‬ ‫ومس���تترة أم علنية وظاهرة‪ ..‬وهؤالء‬ ‫ليس���وا رجعيين عاديي���ن‪ ،‬وال يحدوهم‬ ‫إعجاب بالقديم لمجرد أنه قديم‪ ،‬بل على‬ ‫العكس‪ ،‬إنهم على اس���تعداد الستعمال‬ ‫آخر األس���اليب الفني���ة للعل���م الحديث‬ ‫وكل اإلمكاني���ات التجريبية في أنظمتنا‬ ‫لتحقيق غرضهم»(‪.)2‬‬

‫‪7‬‬

‫هناك ث���ورات معرضة للس���رقة أو‬ ‫االختط���اف‪ .‬وقد يتم هذا عل���ى يد قوة‬ ‫أص�ل�ا‪ ،‬تأتي‬ ‫ل���م تش���ارك في الث���ورة‬ ‫ً‬ ‫متأخرة‪ ،‬وتس���تغل الطريق الذي شقته‬ ‫الطليع���ة الثورية‪ ،‬ثم تم���ر منه بأنانية‬ ‫‪53‬‬


‫مفرط���ة وانتهازية واضح���ة‪ ،‬لتقتنص‬ ‫الثمرة بمفردها‪ .‬وقد حدث هذا مع الثورة‬ ‫اإليرانية التي أطلقتها القوة اليس���ارية‬ ‫والليبرالي���ة ثم اختطفه���ا الماللي‪ .‬وقد‬ ‫تتم الس���رقة على يد قوة كانت ش���ريكة‬ ‫في الث���ورة لكنها تتنك���ر لرفاقها‪ ،‬وتبدأ‬ ‫ف���ي تنفيذ خطة إلقصائه���م تدريجي ًا عن‬ ‫المش���هد السياس���ي‪ ،‬حتى يت���واروا في‬ ‫الظل‪ ،‬يروضون الحس���رة على جهدهم‬ ‫الضائع وأحالمهم التي ذهبت سدى‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫الث���ورات موجات‪ ،‬ف�ل�ا يحكم على‬ ‫فش�ل�ا‪ ،‬بمجرد تقييم‬ ‫الثورة‪ ،‬نجاح ًا أو‬ ‫ً‬ ‫موج���ة واحدة له���ا‪ .‬وف���ي الغالب األعم‬ ‫تك���ون الموج���ة األول���ى للث���ورة ه���ي‬ ‫األسهل‪ ،‬الس���يما في الثورات الشعبية‪،‬‬ ‫التي تش���هد حضورًا جماهيري��� ًا طاغياً‪،‬‬ ‫وزخم ًا ظاهراً‪ ،‬بم���ا يجعلها تمتلك قوة‬ ‫دفع هائلة‪ ،‬تجرف أمامها أي عقبات أو‬ ‫عث���رات ترمي إلى إعاقة التقدم الثوري‪،‬‬ ‫وتعطيل الثوار عن بلوغ هدفهم األساسي‬ ‫األولي وهو إسقاط النظام الحاكم‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫حين تفش���ل الثورة‪ ،‬تدف���ع قيادتها‬ ‫وطليعتها ثمن ًا باهظاً‪ .‬فالقوى المنتصرة‬ ‫على الثورة‪ ،‬أو الت���ي طوقتها وفرغتها‬ ‫م���ن مضمونه���ا وأجه���زت عل���ى فعلها‬ ‫اإليجابي‪ ،‬س���تعمل عل���ى تقييم الثورة‬ ‫عم�ل�ا تخريبي���اً‪ ،‬أو تصرف ًا‬ ‫باعتباره���ا‬ ‫ً‬ ‫معوق ًا للب�ل�اد‪ ،‬وتمهد الرأي العام لتقبل‬ ‫كراهية الث���وار تدريجياً‪ ،‬وتغذي الحنق‬ ‫عليهم‪ ،‬عبر وسائل عديدة‪ ،‬منها إطالق‬ ‫اإلشاعات حول ارتباطاتهم وانتماءاتهم‬ ‫بم���ا يصوره���م عل���ى أنه���م حفن���ة من‬ ‫«الخونة» الذين أرادوا هدم الوطن‪ .‬ومنها‬ ‫تصيد أي أخطاء فكرية أو عملية للثوار‬ ‫وتس���ليط الض���وء عليه���ا وتضخيمها‪.‬‬ ‫ومنه���ا أيض ًا اس���تمالة بع���ض الثائرين‬ ‫بمناف���ع ومكاس���ب صغي���رة لمحاول���ة‬ ‫إظهاره���م بأنهم مجموع���ة من الباحثين‬ ‫‪54‬‬

‫عن مغانم ش���خصية‪ ،‬وليس بناء وطن‬ ‫والعم���ل والتضحية من أج���ل اآلخرين‪،‬‬ ‫كما يقولون في خطابهم الثوري المفعم‬ ‫بالبالغة‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫ل���م ول���ن يكون الث���وار عل���ى درجة‬ ‫واحدة من ال���والء للث���ورة‪ ،‬وال يقفون‬ ‫منها عاطفي��� ًا وعقلي ًا على قدم س���واء‪،‬‬ ‫فمن بينهم المخلص المستعد لالستشهاد‬ ‫في س���بيل نجاحها‪ ،‬ومنهم من يريد أن‬ ‫يعطيه���ا بقدر ال يفق���ده حياته‪ ،‬وهناك‬ ‫من يراه���ا فرصة تاريخي���ة لبناء وطن‬ ‫حر مكتف عادل مه���اب طالما كان يحلم‬ ‫بالعي���ش في���ه‪ ،‬ويوجد م���ن يعتقد في‬ ‫أنها ستخلق مس���ارًا اجتماعي ًا يحقق له‬ ‫المكانة الالئق���ة‪ ،‬وهناك من يعول على‬ ‫الثورة في أن تعوضه عن منصب أو مال‬ ‫أو ج���اه افتقده أي���ام النظام الذي هدمته‬ ‫الثورة‪ .‬وهناك م���ن يتحلل من كل هذا‪،‬‬ ‫فال هو استش���هادي رومانسي حالم في‬ ‫ثوريته‪ ،‬وال هو باحث عن منفعة ذاتية‪،‬‬ ‫إنم���ا تربط���ه بالث���ورة عالق���ة عاطفية‬ ‫بس���يطة‪ ،‬إذ يجد نفس���ه فيه���ا‪ ،‬وكأنها‬ ‫مشروعه الحياتي الذي كان يبحث عنه‪،‬‬ ‫أو أنه���ا هي الح���دث الكبير الذي تحققت‬ ‫فيه ذاته المنس���حقة منذ س���نوات‪ ،‬ولذا‬ ‫يعتقد أنه س���يضيع ويعود إلى س���ابق‬ ‫ذله واستضعافه إن خمد الفعل الثوري‪،‬‬ ‫ال���ذي ش���ارك فيه‪ ،‬وع���ول علي���ه في‬ ‫تحصيل الكرامة‪.‬‬

‫الثورة هدم وبناء‪.‬‬ ‫هدم للنظام الذي‬ ‫ثار الناس ضده‪،‬‬ ‫وبناء آخر يحل محله‪،‬‬ ‫مستجيب ًا ألشواق‬ ‫الثائرين إلى الحرية‬

‫‪11‬‬

‫ق���د تختل���ف األس���باب التفصيلي���ة‬ ‫والصغي���رة الت���ي ت���ؤدي إل���ى اندالع‬ ‫الثورات‪ ،‬لكن األسباب العامة واألساسية‬ ‫تتش���ابه إلى حد كبير(‪ ،)3‬وهي ال تخرج‬ ‫عن اش���تداد القه���ر واالس���تبداد والظلم‬ ‫االجتماعي‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫هناك اختالف بين العلماء في تقييم‬ ‫الثورات السياسية واالجتماعية الكبرى‬ ‫الت���ي وقعت ف���ي تاريخ اإلنس���انية(‪.)4‬‬ ‫فهن���اك م���ن يراه���ا وس���يلة ضرورية‬ ‫لتحقيق تقدم البشر نحو مجتمع تسوده‬ ‫الحري���ة والعدالة والكفاية والمس���اواة‬ ‫واالنس���جام‪ .‬ويوجد فالسفة محافظون‬ ‫على رأسهم فريدريك نيتشه وجوستاف‬ ‫لوب���ون يعتقدون أن الث���ورات تعبر عن‬ ‫عواطف جامحة تدفع إلى فعل غير رشيد‬ ‫يؤدي إلى تحطيم النظم القائمة‪ ،‬وينعت‬ ‫هذه الث���ورات بأنها «س���لوك الغوغاء»‬ ‫و«فعل العقلية البدائية» و«حصيلة الحقد‬ ‫النفس���ي الش���ديد» و«االنهي���ار العصبي‬ ‫للمجتمع» و«التصرف البربري»‪ .‬ويشبه‬ ‫نورم���ن هامبس���ن الث���ورة بالعي���وب‬ ‫الجيولوجية أو الكوارث الطبيعية التي‬ ‫تحل فج���أة وتنهي االنس���ياب الطوعي‬ ‫للحياة‪ ،‬ويفضل عليها التطور اإليجابي‬ ‫للمجتمع���ات(‪ .)5‬وهناك فري���ق ثالث من‬ ‫أصحاب االتجاهات العلمية والوضعية‬ ‫مم���ن ينظ���رون إل���ى مصطل���ح الثورة‬ ‫باعتب���اره مصطلح��� ًا وصفي ًا ليس���ت له‬ ‫أي داللة قيمي���ة‪ ،‬وفي نظرهم فإن كافة‬ ‫التغيرات التي تحدث للنظام السياس���ي‬ ‫أو الحكومة هي ثورات طالما تستند إلى‬ ‫قاعدة شعبية عريضة‪.‬‬ ‫ورغم ما قد يصاحب الثورات من عنف‬ ‫وتدمير‪ ،‬ومن خلق مش���كالت وتحديات‬ ‫جدي���دة للمجتمع‪ ،‬فإنه���ا تبقى في نظر‬ ‫كثيرين «ضمن إطار من العنف التحرري‬ ‫العادي‪ ،‬الذي يس���تهدف تحرير اإلنسان‬


‫من القهر القوم���ي واالجتماعي‪ ،‬بعد أن‬ ‫تك���ون الوس���ائل األخرى قد فش���لت في‬ ‫إنجاز ذلك‪ ،‬وهي الوس���يلة إلى تحقيق‬ ‫الطف���رات التاريخية الق���ادرة على بناء‬ ‫مجتمعات متقدمة‪ ،‬تغني مسيرة التاريخ‬ ‫اإلنساني بالقيم واإلنجازات المتطورة‪،‬‬ ‫عم�ل�ا حضاري��� ًا عظيماً‪،‬‬ ‫فتك���ون بذلك‬ ‫ً‬ ‫تستفيد منه المجتمعات اإلنسانية في كل‬ ‫مكان»(‪.)6‬‬ ‫ويتناس���ى من يقدحون في الثورات‬ ‫ويخش���ون عواقبها أنها فع���ل اجتماعي‬ ‫يأتي حين ال يكون هناك مفر من إتيانه‪،‬‬ ‫السيما في ظل نظم الحكم القمعية التي‬ ‫ال تعط���ي فرصة للتط���ور الطبيعي كي‬ ‫يأخذ طريقه في سالسة ويسر‪ ،‬وال تدع‬ ‫المس���تقبل يولد على أك���ف الحاضر من‬ ‫دون عنت وال عناء‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫تنقس���م الث���ورات م���ن حي���ث ق���وة‬ ‫التأثير إلى نوعين‪ ،‬األول هو «الثورات‬ ‫المح���دودة» الت���ي ال يزي���د م���ا تفعل���ه‬ ‫عل���ى اإلطاح���ة بح���كام م���ن مناصبهم‬ ‫واستبدالهم بآخرين وربما تحسن نسبي‬ ‫في األوضاع االجتماعي���ة واالقتصادية‬ ‫والسياس���ية‪ .‬والثان���ي ه���و «الثورات‬ ‫الجائحة» التي تهز مناطق أوسع بكثير‬ ‫من البلد الذي وقع���ت فيه‪ ،‬وهذا ينطبق‬ ‫بش���كل واضح على الث���ورات األميركية‬ ‫‪ 1776‬والفرنس���ية ‪ 1789‬والمكس���يكية‬ ‫‪ 1910‬والروس���ية ‪ 1917‬والصيني���ة‬ ‫‪ 1949‬واإليراني���ة ‪ .)7(1979‬وهناك من‬ ‫يخ���رج األول م���ن تصنيف الث���ورة ألن‬ ‫غاي���ة الثورات ليس���ت اإلطاحة بالحاكم‬ ‫إنما بناء نظام سياس���ي جديد على نحو‬ ‫مغاير تمام ًا لما كان سائداً‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫الثورة هدم وبناء‪ .‬هدم للنظام الذي‬ ‫ثار الناس ضده‪ ،‬وبناء آخر يحل محله‪،‬‬ ‫مستجيب ًا ألش���واق الثائرين إلى الحرية‬ ‫والعدال���ة والكفاي���ة‪ .‬وقد يك���ون الهدم‬

‫يوجد فالسفة‬ ‫محافظون يعتقدون‬ ‫أن الثورات تعبر عن‬ ‫عواطف جامحة تدفع‬ ‫إلى فعل غير رشيد‬ ‫ال وعميقاً‪ ،‬وقد يتم على‬ ‫سريع ًا وش���ام ً‬ ‫مراحل‪ ،‬الس���يما في البلدان التي يبتلع‬ ‫فيه���ا نظام الحك���م مؤسس���ات الدولة‪،‬‬ ‫ويتخذها مطية الس���تمراره بحد التغلب‪.‬‬ ‫ففي مثل هذه الحالة يعي الثوار أن هدم‬ ‫النظ���ام جملة واحدة وفي زمن قياس���ي‬ ‫قد ي���ؤدي إل���ى ترنح الدول���ة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫يتعاملون مع عملية الهدم بمبضع جراح‬ ‫وليس بمع���ول فالح‪ .‬لكن الهدم يجب أن‬ ‫يتم في كل األحوال بغض النظر عن المدة‬ ‫التي يس���تغرقها أو الطرق التي يسلكها‬ ‫القائم���ون به‪ .‬فإن توق���ف الهدم وبقيت‬ ‫بعض آثار النظام القديم تقوضت معالم‬ ‫الثورة‪ ،‬وضع���ف تأثيره���ا‪ ،‬وانفتحت‬ ‫ناف���ذة أم���ام ق���وى «الث���ورة المضادة»‬ ‫لتس���تجمع قدراتها وتن���ازل الثوار‪ ،‬وقد‬ ‫تنتصر عليهم‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫يعتق���د كثي���رون أن «صن���دوق‬ ‫ال عن الثورة‬ ‫االنتخاب الشفاف» بات بدي ً‬ ‫ف���ي المجتمع���ات الديموقراطية‪ ،‬أو هو‬ ‫«الثورة الجديدة» في التاريخ البش���ري‬ ‫الت���ي أنهت األنم���اط التقليدية المعروفة‬ ‫م���ن الث���ورات‪ .‬فالمواطن���ون هن���اك ال‬ ‫يحتاج���ون إلى الث���ورة على م���ن بيده‬ ‫مقاليد األمور حتى يخلعوه من منصبه‪،‬‬ ‫ويكفيه���م الصب���ر علي���ه حت���ى تنتهي‬ ‫فترة حكمه التي تحددها الدس���اتير‪ ،‬ثم‬ ‫يصوتوا لرحيله‪ ،‬أو إلزاحة الحزب الذي‬ ‫يمثله عن السلطة‪.‬‬ ‫وقد ظه���ر كتاب بهذا المعنى ش���ارك‬ ‫في تأليفه عدد من أبرز علماء السياس���ة‬

‫واالجتماع والمؤرخي���ن(‪ ،)8‬ممن صرفوا‬ ‫معظ���م حياته���م يدرس���ون العملي���ات‬ ‫الثوري���ة‪ ،‬وق���د ح���اول ه���ؤالء اإلجابة‬ ‫ع���ن س���ؤالين مهمي���ن‪ ،‬يتعل���ق األول‬ ‫بالعوام���ل الت���ي تتحك���م ف���ي صياغة‬ ‫ومدى تأثير األش���كال الجدي���دة الممكنة‬ ‫للتغيي���ر السياس���ي الراديكالي في عهد‬ ‫العولم���ة‪ ،‬وي���دور الثاني ح���ول ما إذا‬ ‫كانت ديموقراطية المشاركة قد أصبحت‬ ‫وس���يلة للنضال الثوري في المستقبل‪،‬‬ ‫وإلى أي ح���د أصبحت الث���ورات تعتمد‬ ‫عل���ى التكنولوجي���ا الحديثة ووس���ائل‬ ‫االتصاالت‪.‬‬ ‫لكن هذه األطروحة لم تلق موافقة من‬ ‫بع���ض مؤلفي الكتاب الذين قدموا ردودًا‬ ‫قوية على كل م���ن كان يعتقد بأن عصر‬ ‫الث���ورات ق���د انتهى‪ ،‬وقال���وا إن األجدر‬ ‫بالمفكرين مناقشة التغيرات التي طرأت‬ ‫على أساليب الثورات والثقافة السياسية‬ ‫المرافق���ة لها‪ .‬فما دام هناك نظم حاكمة‬ ‫تمارس االس���تبداد واالس���تعباد والظلم‬ ‫االجتماع���ي المنظم والقهر وإهدار كرامة‬ ‫اإلنس���ان فإن الثورة عليها أمر قائم وإن‬ ‫تأخر بعض الوقت‪.‬‬ ‫هوامش‬ ‫‪ -1‬جوستاف لوبون‪« ،‬روح الثورات والثورة‬ ‫الفرنسية» ترجمة‪ :‬عادل زعيتر‪( ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة‬ ‫دار الكتب والوثاق القومية) ‪ ،2011‬ص‪.23 :‬‬ ‫‪ -2‬د‪ .‬س���يد حامد النس���اج‪« ،‬مص���ر وظاهرة‬ ‫الثورة‪ :‬دراس���ة في تاريخ الث���ورات المصرية»‪،‬‬ ‫(القاه���رة‪ :‬دار النهضة الحديث���ة) الطبعة األولى‬ ‫‪ ،1969‬ص‪31 :‬ـ ‪.32‬‬ ‫‪ -3‬انظر في هذا الشأن‪ ،‬فرانك بيلي‪« ،‬معجم‬ ‫بالكويل للعلوم السياسية»‪( ،‬دبي‪ :‬مركز الخليج‬ ‫لألبح���اث) الطبع���ة األول���ى ‪ ،2004‬ص‪582- :‬‬ ‫‪.584‬‬ ‫‪ -4‬انظ���ر‪ ،‬د‪ .‬محمد عاطف غي���ث‪« ،‬قاموس‬ ‫علم االجتماع»‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية العامة‬ ‫للكتاب) ‪ ،1979‬ص‪.388 :‬‬ ‫‪ -5‬نورمن هامبس���ن‪« ،‬التاري���خ االجتماعي‬ ‫للث���ورة الفرنس���ية»‪ ،‬ترجمة‪ :‬ف���ؤاد أندراوس‪،‬‬ ‫مراجع���ة‪ :‬د‪ .‬محمد أني���س (القاه���رة‪ :‬دار الكتب‬ ‫والوثاق القومية) ‪ ،2011‬ص‪.7 :‬‬ ‫‪ -6‬عب���د الوه���اب الكيال���ي‪« ،‬الموس���وعة‬ ‫السياس���ية»‪( ،‬بي���روت‪ :‬المؤسس���ة العربي���ة‬ ‫للدراسات والنشر) الجزء األول‪ ،‬ص‪.875 :‬‬ ‫‪ -7‬فرانك بيلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.583 :‬‬ ‫‪ -8‬جون فوران‪« ،‬مستقبل الثورات» (بيروت‪:‬‬ ‫دار الفارابي) الطبعة العربية األولى‪.2007 ،‬‬ ‫‪55‬‬


‫التزام‬

‫الطاهر بنجلون‬

‫من ليبيا إلى سورية‬ ‫تش ّوهات صورة العرب‬

‫ص���ورة اغتي���ال القذاف���ي (‪ 20‬أكتوبر‪/‬تش���رين األول‬ ‫الماض���ي) على يد الثوار‪ ،‬التي جابت أنحاء المعمورة‪ ،‬هي‬ ‫واحدة من الصور التي تسيء إلى العرب‪.‬‬ ‫صحيح أن القذاف���ي كان ديكتاتورًا ومجرماً‪َ .‬عذَّب وقتل‬ ‫اآلالف م���ن مواطني���ه‪ .‬رم���ى بالكثيرين منهم ف���ي غياهب‬ ‫النس���يان‪ .‬كان معتوهاً‪ ،‬متعطش ًا للسلطة ومتلهف ًا للحفاظ‬ ‫عليها‪ .‬كان مس���تعدًا لفعل كل ش���يء للبقاء على الكرسي‪.‬‬ ‫كان متعجرفاً‪ .‬فقد ش���وه طوي ً‬ ‫ال صورة العرب والمسلمين‬ ‫بتمويله لإلرهاب في كثير من مناطق العالم‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫طريقة القضاء عليه لم تكن مقبولة‪ .‬لم يتعرض لالعتقال‪،‬‬ ‫بل لقتل‪ ،‬بعنف يذكرنا بطريقة تفكيره وأساليب حكمه‪.‬‬ ‫الص���ور الت���ي اكتس���حت تليفزيونات العالم‪ ،‬وش���بكة‬ ‫اإلنترنت‪ ،‬ال تشرف أولئك الذين وقفوا في وجه ديكتاتور‪،‬‬ ‫كان من األفض���ل تقديمه للعدالة‪ ،‬بدل قتل���ه والصراخ «اهلل‬ ‫أكبر»‪ ،‬كما لو أن اهلل يرضى بعمل كذلك الذي رأيناه‪.‬‬ ‫عندم���ا نفكر في التخل���ص من ديكتاتور‪ ،‬الب���د أو ًال من‬ ‫تجنب إعادة استنس���اخ أعماله‪ .‬فلبناء ليبيا جديدة البد من‬ ‫حي ع���ن التغيير وتقديم الديكتاتور األس���بق‬ ‫إظه���ار مثال ّ‬ ‫وأبنائه للعدالة‪.‬‬ ‫العن���ف يول���د عنف���اً‪ .‬ال مثالية ف���ي الحتمي���ة‪ .‬المجلس‬ ‫االنتقالي في ليبيا بدا سعيدًا‪ ،‬عبر الحصص التليفزيونية‪،‬‬ ‫بالقضاء على القذاف���ي‪ .‬وال أحد اعتذر عن الطريقة التي تم‬ ‫بها القضاء عليه‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫بل���د آخر يع���رض صورًا مش���ابهة‪ .‬إنها صور الش���عب‬ ‫السوري المحاصر يومي ًا بنيران الجيش‪ .‬في وقت يظل فيه‬ ‫الديكتاتور قابع��� ًا في مكانه‪ ،‬غير مبال بتنديدات العالم من‬ ‫حوله‪.‬‬ ‫بش���ار األس���د رئيس ال يخوض ع���راك ًا من أج���ل إعادة‬ ‫انتخاب���ه‪ .‬بل يخوض ع���راك ًا من أجل الخل���ود‪ .‬ال يعترف‬ ‫بأخطائ���ه وال يتنازل عن مكانه م���ن أجل الديمقراطية‪ .‬فقد‬ ‫ورث السلطة عن والده الديكتاتور حافظ‪ ،‬الذي حكم طيلة‬ ‫ثالثة عقود وجعل من البلد دولة بوليس���ية‪ ،‬حيث قتل في‬ ‫أيامه ‪ 20.000‬شخص ًا في حماه (‪ 2‬فبراير‪/‬شباط ‪.)1982‬‬ ‫بش���ار و أحد أش���قائه يقتلون يومي ًا مواطنين ُع َّز ًال‪ ،‬ذنبهم‬ ‫الوحيد ه���و الخروج إلى الش���ارع والمطالبة بما طالبت به‬ ‫الجموع في تونس ومصر‪ :‬الكرامة‪ ،‬الحرية‪ ،‬العدل والعيش‬ ‫تحت ظل الديمقراطية‪.‬‬ ‫لكن عائلة األس���د ليس���ت متعودة على االنتقاد‪ .‬كما أنها‬ ‫لم تتخيل يوم ًا أن ُيطَلب منها الرحيل والتخلي عن الس���لطة‪.‬‬ ‫كل الذي���ن حاولوا معارضة هذه العائلة‪ ،‬والوقوف في وجه‬ ‫ً‬ ‫قت�ل�ا‪ ،‬أو ُز َّج بهم في الس���جن‪ ،‬أو اختفوا‬ ‫عمالئه���ا‪ ،‬مات���وا‬ ‫أو أجب���روا على المنفى‪ .‬الي���وم‪ ،‬الوضع تغّير‪ .‬الخوف غّير‬ ‫موضعه‪ .‬لس���ت أعتق���د أن الدكتور بش���ار (بحكم أنه طبيب)‬ ‫ين���ام قرير العين‪ .‬الب���د أنه يتعاطى أدوي���ة ويفكر في رفع‬ ‫مستوى األمن‪ ،‬أمنه‪ .‬فقد ش���اهد نهاية القذافي‪ .‬تلك الصور‬ ‫البشعة أثرت عليه كثيرًا‪ .‬يعرف أنه ليس أفضل حا ًال مقارنة‬ ‫بالقذاف���ي‪ .‬يعرف أن ش���عبيته ف���ي تقهقر مس���تمر‪ .‬يعرف‬


‫بأنه س���يضطر إلى التخلي عن كرس���ي الحكم والتوجه إلى‬ ‫مزاولة الطب في بلد ما حيثما س���تكون فيه حاجة إليه‪ .‬لكنه‬ ‫لن يرحل بس���هولة‪ ،‬س���يقتل يومي ًا ما اس���تطاع من حشود‬ ‫المواطني���ن‪ .‬أذناه أصيبتا بصمم‪ .‬وعقله توقف عن التفكير‪.‬‬ ‫الموقع الجيو‪ -‬اس���تراتيجي الذي تحتله س���ورية دفعه إلى‬ ‫تهدي���د العالم بتحويل س���ورية إل���ى «أفغانس���تان جديدة»‬ ‫ف���ي حال تطور الوض���ع وحصول تدخل أجنب���ي‪ .‬فهو جار‬ ‫إس���رائيل التي تحتل الجوالن‪ .‬وج���ار العراق حيث اإلرهاب‬ ‫ما يزال يعش���ش‪ .‬جار تركيا التي استقبلت مئات اآلالف من‬ ‫الالجئين السوريين‪ .‬جار األردن التي ال تريد تاريخاً‪ ،‬وأخيرًا‬ ‫جار لبنان التي تعيش الوضع الس���وري القلق‪ .‬فكل ش���يء‬ ‫محتمل‪ ،‬بما في ذلك عودة الجيش السوري إلى لبنان‪ ،‬التي‬ ‫طرد منها عام ‪.2005‬‬ ‫س���ورية بلد مقس���م إل���ى طوائ���ف‪ :‬العلوي���ة(‪ % 10‬من‬ ‫الس���كان) يحكمون سورية منذ ‪ 40‬س���نة‪ .‬الشيعة‪ ،‬الدروز‪،‬‬ ‫السنة والمسيحيون الذين يبلغ عددهم مليون فرد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خوف ًا من المجهول‪َ ،‬ع َّبر المس���يحيون عن دعمهم لبش���ار‬ ‫األس���د‪ .‬يعتقدون أنه في حال وقوع انفجار فسيكونون أول‬ ‫من يدف���ع الثمن‪ .‬مع العل���م أن إيران تواص���ل دعم الحركة‬ ‫اإلسالموية وحزب اهلل الموجود في لبنان سورية‪.‬‬ ‫ما يمكن أن يقع في األيام واألس���ابيع المقبلة هو انقالب‬ ‫عس���كري يطيح ببش���ار األس���د ويف���رض نظام��� ًا انتقالياً‪،‬‬ ‫خصوص ًا أن المعارضة السورية في الخارج تنظم صفوفها‬ ‫أكثر فأكثر‪ ،‬رغم أنها منقسمة حول بعض النقاط‪ .‬فقد التقت‬

‫في ‪ 15‬نوفمبر‪/‬تشرين الثاني الماضي في القاهرة وتباحثت‬ ‫في مس���تقبل س���ورية‪ .‬فهي طالبت وما ت���زال تطالب العالم‬ ‫باالعتراف بالتحالف الوطني السوري‪ ،‬الذي يضم جزءًا مهم ًا‬ ‫من المعارضة‪ ،‬كممثل شرعي للشعب السوري وللثورة‪.‬‬ ‫ق���د يتم التدبير لرحيل إجباري لعائلة األس���د ووضع حد‬ ‫لوضعية تتصل عميق ًا بأوضاع حقوق اإلنس���ان‪ ،‬وتش���وه‬ ‫ص���ورة بلد تم تعليق عضويته في جامع���ة الدول العربية‪،‬‬ ‫بعدما تع���رض لإلدانة من طرف الواليات المتحدة األميركية‬ ‫وأوربا وغالبية دول أعضاء هيئة األمم المتحدة‪ ،‬عدا الصين‬ ‫وروسيا اللتين تسعيان للحفاظ عن مصالحهما في المنطقة‪.‬‬ ‫‪ 18‬دول���ة من مجموع ‪ 22‬دولة عض���و جامعة الدول العربية‬ ‫قررت‪ ،‬ليس فقط تعليق عضوية سورية‪ ،‬ولكن أيض ًا فرض‬ ‫عقوبات اقتصادية عليها‪ .‬بحس���ب أرقام األمم المتحدة‪ ،‬فقد‬ ‫وقع���ت ‪ 3500‬ضحية خالل األش���هر الثمانية الماضية‪ ،‬مما‬ ‫قاد مرصد حقوق اإلنسان إلى اتهام دمشق بالقيام بـ «جرائم‬ ‫ضد اإلنسانية»‪.‬‬ ‫نظام عائلة األس���د انتهى‪ .‬الجمي���ع يالحظ هذه الحقيقة‪.‬‬ ‫يبق���ى أن ننتظ���ر كيف ومت���ى س���تتأكد ه���ذه النهاية‪ ،‬هل‬ ‫ستتم بالدم أم بالدبلوماس���ية؟ على كل حال‪ ،‬اإلخوة األسد‬ ‫يعرفون أن نهايته���م تقترب وأنهم س���يتابعون قضائي ًا من‬ ‫طرف المحاكم الس���ورية أو المحكم���ة الجنائية الدولية‪ .‬من‬ ‫غير المعق���ول أن نقتل آالف المواطنين األبرياء والعزل‪ ،‬ثم‬ ‫نطوي الصفحة كما فعل األب بعد مجزرة حماه‪ ،‬مع التذكير‬ ‫أن كاس���نجر كان يحمل إعجاب ًا به���ذا الديكتاتور الذي قضى‬ ‫آخر أيامه ممددًا على الفراش‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫من رأس القذافي إلى أصابع سيف اإلسالم‬

‫ثقافة الثأر‬

‫‪ - Sandro Botticelli‬إيطاليا‬

‫‪58‬‬


‫أربعون عام ًا عاشها ملك ملوك إفريقيا‬ ‫وملك الموضة معمر القذافي في السلطة ولم‬ ‫يرحل عنها إال بالعنف‪.‬‬ ‫خالل حكمه المديد لم يستطع أحد تمييز‬ ‫الجد عن الهزل في نوع من الالنظام يقوده‬ ‫ضابط يدعي أنه ليس رئيساً‪ ،‬بينما ألغى‬ ‫الدولة ومؤسساتها‪ ،‬بل تمكن من إخفاء‬ ‫الشعب‪ ،‬حتى بدا ظهور األطفال أمام الكاميرا‬ ‫أمرًا مستغرباً‪ :‬أأطفال في ليبيا؟!‬ ‫الدولة التي بدت عديمة الحاضر والمستقبل‬ ‫هزتها رياح الربيع العربي‪ ،‬وأمام شراسة‬ ‫وجنون القذافي وعائلته لم يكن أمام الثورة‬ ‫إال أن تتسلح‪ ،‬وتكبدت البالد نحو مئة ألف‬ ‫جريح وشهيد‪ ،‬ومارس القذافي وأوالده‬ ‫أقسى أنواع القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث‬ ‫واغتصاب النساء مستعين ًا بمرتزقة من بالد‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫لم يفهم العقيد أن الزمن لم يعد زمنه حتى‬ ‫كانت لحظة قتله برصاصة بالرأس أوقعت‬ ‫وقسمت الرأي العام العربي بين مستهجن‬ ‫فتنة ّ‬ ‫لما فعله الثوار من إهانة للعقيد وتمثيل بجثته‪،‬‬ ‫وبعد ذلك الجدل ألقى الثوار القبض على‬ ‫ابنه سيف اإلسالم وقيل إنهم قاموا بتقطيع‬ ‫أصابعه‪ ،‬األمر الذي أشعل الجدل مجددًا‪.‬‬ ‫برز وسط هذا النقاش حديث حول «ثقافة‬ ‫الثأر»‪ ،‬وكانت غالبية اآلراء تعتبرها إرث ًا من‬ ‫الماضي‪ ،‬وممارسة أقل تحضرًا‪.‬‬ ‫وبعد أن انتهت اللحظة المفعمة بالمشاعر‪،‬‬ ‫تطرح «الدوحة» السؤال‪ :‬هل ثقافة الثأر بهذه‬ ‫البشاعة أم أنها ممارسة اجتماعية وحقوقية‬ ‫ضرورية عندما يتقاعس القانون أو يداس؟‬ ‫‪59‬‬


‫من أنتم؟‬ ‫شنو صاير؟!‬ ‫عزت القمحاوي‬

‫بين إنكار وجود الشعب في صيحته‬ ‫الش���هيرة‪ :‬من أنت���م؟! وبي���ن صيحته‬ ‫األخيرة‪ :‬شنو صاير؟ شنو فيه؟ أي ماذا‬ ‫يجري‪ ،‬ماذا هنالك؟!‬ ‫َّل بالجثث‪،‬‬ ‫تل القذافي‬ ‫َ‬ ‫وأحرق ومث َ‬ ‫َق َ‬ ‫وأردى عش���رات اآلالف الجدد يضافون‬ ‫إلى ضحايا س���نوات حكم���ه األربعين‪.‬‬ ‫لكن لحظات من الص���ور المهتزة نقلتها‬ ‫الفضائي���ات عن كامي���را هاتف محمول‬ ‫حول���ت موت���ه إل���ى فتن���ة‪ ،‬وارتفع���ت‬ ‫أصوات عديدة في العالم كله تس���تهجن‬ ‫انتقام الثوار‪.‬‬ ‫وألن اإلع�ل�ام ش���ره للجديد‪ ،‬فليس‬ ‫بوسعنا إحصاء عدد المرات التي الحقت‬ ‫فيها الفضائيات مشاهديها بصور القذافي‬ ‫المقتول‪ ،‬من دون أن تفسح إلى جوارها‬ ‫مس���احة ولو ضئيلة لتس���عة أشهر من‬ ‫اإلجرام الذي قاده القذافي وأوالده‪.‬‬ ‫الكليش���يه الجاه���ز ال���ذي واجه به‬ ‫المعترض���ون الثوار ه���و «ثقافة الثأر»‬ ‫التي صارت موصومة بدعاوى إنسانية‬ ‫تعمم رؤية مجتمع على آخر مختلف في‬ ‫ظروفه السياسية واالجتماعية‪.‬‬ ‫من ح���ق المواطن الغربي أن يتأفف‬ ‫م���ن ثقاف���ة الث���أر‪ ،‬ألنه يعي���ش دولة‬ ‫القانون الت���ي تحفظ النظ���ام‪ ،‬وتنتقم‬

‫‪60‬‬

‫للمظلوم من الظالم‪ .‬وهذا هو القصاص‬ ‫ال���ذي حددته األدي���ان الس���ماوية عين ًا‬ ‫بحر‪ ،‬وهكذا‪،‬‬ ‫بعين وس���ن ًا بس���ن وحرًا ّ‬ ‫ف���إذا غاب القانون صار القصاص ثأراً‪،‬‬ ‫وبات على المظلوم ع���بء مّد يده لينفذ‬ ‫بنفسه شرعة القصاص‪.‬‬ ‫ليس���ت عادة الثأر بذلك الس���وء في‬ ‫الحقيق���ة‪ ،‬فه���ي غري���زة يش���ترك فيه‬ ‫اإلنسان الطبيعي مع الحيوانات النبيلة‬ ‫العاقل���ة كالجمال‪ ،‬ب���ل إن الثأر لصيق‬ ‫بفك���رة «األوط���ان» والقومي���ات‪ ،‬وإال‬ ‫ما الداف���ع لتحرير قطعة م���ن الصحراء‬ ‫احتلتها دولة أخرى؟ وما الذي يجعل من‬ ‫العدو عدوًا إذا لم تكن غريزة الثأر؟!‬ ‫ليست العادة بتلك الخسة المدعاة‪،‬‬

‫موت القذافي مرة‬ ‫واحدة ليس تجاوز ًا‬ ‫في القصاص‪ ،‬ألن‬ ‫المحاكمة العادلة‬ ‫يجب أن تمنحه‬ ‫حكم ًا بخمسين ألف‬ ‫إعدام على األقل‬

‫الخس���ة يوصم بها المستبد الموغل في‬ ‫القت���ل والدول���ة الموغلة ف���ي التراخي‬ ‫فسادًا وتقاعس��� ًا عن إقرار الحق‪ ،‬وهذا‬ ‫ه���و أصل ال���داء الذي يجع���ل من عادة‬ ‫الث���أر ض���رورة اجتماعي���ة وحقوقية‪،‬‬ ‫بما يرافقها أحيان ًا من ممارسات ظالمة‬ ‫ال‬ ‫وإنس���انية‪ ،‬فف���ي صعي���د مص���ر مث ً‬ ‫ال يك���ون القات���ل هو بالض���رورة هدف‬ ‫القصاص‪ ،‬بل توضع معايير اجتماعية‬ ‫واقتصادي���ة للعملي���ة‪ ،‬فيحرص طالب‬ ‫الثأر على االنتقام م���ن األهم بين أفراد‬ ‫العائلة الخص���م‪ :‬األعلى تعليماً‪ ،‬األكثر‬ ‫وجاهة بين الناس‪ ،‬واألكثر شباباً‪.‬‬ ‫وقد قتل القذافي نح���و أربعين ألف‬ ‫شاب في هذه الثورة‪ ،‬أقلهم تعليم ًا أفهم‬ ‫منه وجميعهم أصغر منه س���ن ًا وأوجه‬ ‫منه من دون حرس نس���ائي أو مالبس‬ ‫مزركش���ة‪ .‬ورغ���م ذلك فإن م���ا صنعه‬ ‫الثوار الليبيون قد ال تنطبق عليه صفة‬ ‫«الث���أر» بأكثر مما ه���ي لحظة مواجهة‬ ‫ف���ي حرب ل���م تتوقف حتى بع���د مقتل‬ ‫القذافي‪.‬‬ ‫وخس���تها المدعاة‬ ‫فوق نبلها الخفي‬ ‫َّ‬ ‫تضمر كلمة «الثأر» بعدًا زمني ًا بين الفعل‬ ‫ورد الفعل‪ .‬وكل القوانين الجنائية تفرق‬ ‫بين عقوبة القتل في مش���اجرة وعقوبة‬ ‫القتل مع سبق اإلصرار والترصد‪ ،‬حيث‬ ‫تأتي األخي���رة ردًا متأخرًا تم التخطيط‬ ‫له بهدوء ثأرًا من عدوان سابق‪.‬‬ ‫القذاف���ي وأبن���اؤه حملوا الس�ل�اح‬ ‫للحظ���ة األخيرة‪ ،‬وقتل���وا الثوار حتى‬ ‫اللحظة األخي���رة‪ ،‬اتخذوا قرارات القتل‬ ‫عندما كان���وا آمنين وأقوي���اء‪ ،‬بعكس‬ ‫الذي���ن جرج���روه من ش���عره فقد كانت‬ ‫س���تراتهم مبللة بدم���اء زمالئهم الذين‬ ‫اس���تقبلوا رصاصات مرتزق���ة القذافي‬ ‫ال‬ ‫وأهل���ه‪ ،‬وكان كل منه���م هدف��� ًا محتم ً‬ ‫لتلك الرصاصات‪.‬‬ ‫ال قياس س���لوك الثوار‬ ‫وال يمكن مث ً‬ ‫على س���لوك اإلدارة األميركية في قتلها‬ ‫البن الدن‪ ،‬فه���ذا هو الثأر المذموم الذي‬ ‫ارتكبته دولة ذهبت بعتادها لقتل رجل‬ ‫أنهكه الم���رض وتجاوزته األحداث في‬ ‫ب�ل�اد العرب التي زع���م أن هجرته إلى‬ ‫أفغانستان كانت من أجل تحريرها‪.‬‬


‫كان���ت بالد العرب تتح���رر من دون‬ ‫ابن الدن‪ ،‬وكان بوس���ع األميركيين أن‬ ‫يأخذوه حي��� ًا لمحاكمت���ه‪ ،‬لكنهم آثروا‬ ‫الوحش���ية واستراحوا لخس���ة االنتقام‬ ‫بد ًال من تعريض بالدهم لألخطار أثناء‬ ‫المحاكمة التي قد تطول‪.‬‬ ‫وقد كانت تصفي���ة عائلة الوحوش‬ ‫أكثر الق���رارات حكمة للث���وار الليبيين‬ ‫إن كان ثمة ق���رار للتصفية حقاً‪ ،‬فموت‬ ‫القذافي م���رة واحدة لي���س تجاوزًا في‬ ‫القص���اص‪ ،‬ألن المحاكمة العادلة يجب‬ ‫أن تمنح���ه حكم ًا بخمس���ين أل���ف إعدام‬ ‫على األقل‪ .‬وكانت من ش���أن المحاكمة‬

‫شنو فيه؟‬

‫أن تتح���ول إلى مماحك���ة تعيق الثورة‬ ‫كما في حالة محاكمة مبارك‪.‬‬ ‫هل كان على ث���وار ليبيا أن يكرروا‬ ‫مأس���اة الثورة المصرية التي تس���لمها‬ ‫نصف نظام مبارك المس���تمر من نصفه‬ ‫المخلوع وب���دأ يتعامل بمنطق الدولة ال‬ ‫الثورة؟!‬ ‫بمنطق الثورة يضمن مبارك اإلعدام‬ ‫عقوبة على كل األرواح التي أزهقت في‬ ‫سجونه ووس���ائل نقله المتداعية وفي‬ ‫ع���رض البحر بحث ًا ع���ن لقمة عيش في‬ ‫إيطالي���ا‪ ،‬وبمنطق الث���ورة فإنه يجب‬ ‫أن يعدم لمس���ؤليته السياسية عن قتل‬

‫الثوار‪ ،‬ال أن يماحك المحامون والشهود‬ ‫اللبط ويدفعون عنه التهمة بدعوى أنه‬ ‫لم يصدر أمرًا مكتوب ًا بإطالق النار‪.‬‬ ‫ه���ل كان على المحاربي���ن الليبيين‬ ‫أن يتركوا قاتلهم في س���احة الحرب من‬ ‫أجل محاكمة نتوه فيها بملفات ما ال يقل‬ ‫عن مليون ليب���ي أرداهم القذافي طوال‬ ‫أربعين عاماً؟!‬ ‫ال تثريب على الضحايا المنتصرين‪.‬‬ ‫وإذا كان���ت ثورته���م محظوظ���ة ب���أن‬ ‫المس���عور الذي ثاروا ض���ده لم يخلف‬ ‫نظام��� ًا متج���ذرًا ين���اوئ بن���اء الدولة‬ ‫الجدي���دة‪ ،‬فق���د دبرت األق���دار أو دبروا‬ ‫التخل���ص من جث���ث العصاب���ة لتكون‬ ‫نظرته���م مخلصة إل���ى المس���تقبل بال‬ ‫تعويق وال محاكمات ممسرحة‪.‬‬ ‫وإذا كانت ثورتهم ليست في سلمية‬ ‫ث���ورة مص���ر أو تونس‪ ،‬ف���إن التحدي‬ ‫الحقيق���ي ال���ذي ينتظره���م ه���و بن���اء‬ ‫وطن حقيقي ولي���س زريبة جديدة من‬ ‫الزرائب التي كانت بلؤم أو غفلة تسمى‬ ‫أوطاناً‪.‬‬ ‫ومثلم���ا أرى اليوم أن م���ن واجبنا‬ ‫إنصاف كلم���ة «الث���أر» المظلومة التي‬ ‫تضمر من النبل أكثر من خستها البادية‪،‬‬ ‫أرى أن كلمة «وطن» تستحق أن نتأملها‬ ‫جيداً‪ ،‬فهي لم تزل تضمر من الخسة أكثر‬ ‫مما تظهر من النب���ل‪ ،‬ألنها تمثل الكلمة‬ ‫المفتاح للخراب العربي الذي نعيش‪.‬‬ ‫كانت الكلمة رديف ًا لسالح الجالدين‬ ‫التفه���ة والمس���وغ الفك���ري لمص���ادرة‬ ‫الحريات‪ ،‬فكل ش���يء مب���رر طالما كان‬ ‫الرئيس يحمي الوطن‪.‬‬ ‫بهذا المنط���ق تم تحويل بش���ر أقل‬ ‫من عاديين مثل صدام حسين والقذافي‬ ‫واألس���د األب إلى آلهة مطلقة اليد كلية‬ ‫القدرة ال يتص���ورون أن ما يجري على‬ ‫البشر من حياة وموت وهزيمة يمكن أن‬ ‫يجري عليهم‪.‬‬ ‫حمق ًا أو لؤم ًا تم تقديم طغاة فاشلين‬ ‫بوصفهم أبطا ًال يحق لهم أن يدوس���وا‬ ‫علينا ألنهم يحمون األوطان‪ ،‬بينما كانوا‬ ‫يحمون زرائبهم وإقطاعياتهم الخاصة‪،‬‬ ‫ولم يرحلوا عنها إال مثلما رحل نيرون‪،‬‬ ‫تاركين الخراب واالحتراب‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫النهاية الحمراء‬ ‫للملك األخضر !‬ ‫خليل �صويلح ‪ -‬دم�شق‬

‫ل���م تكن ميت���ة الئقة عل���ى اإلطالق‬ ‫تلك التي ش���اهدناها لنهاية ملك ملوك‬ ‫إفريقيا‪ .‬إنه���ا من أكثر الس���يناريوهات‬ ‫معم���ر القذافي‬ ‫س���وءاً‪ .‬على األرجح أن ّ‬ ‫كان يعد لنفس���ه جن���ازة مختلفة جذري ًا‬ ‫عما انتهت إليه حياته الصاخبة‪ .‬مش���هد‬ ‫ّ‬ ‫هزيل ال يليق بالتاري���خ الحافل للعقيد‪.‬‬ ‫ربم���ا كان يعد كفن ًا أخض���ر لجثمانه في‬ ‫لم ال؟‬ ‫لحظت���ه النهائي���ة‪ .‬كفن أخض���ر؟ َ‬ ‫أليس مثل هذا الخيار مناس���ب ًا لمسيرته‬ ‫الخض���راء‪ ،‬وكتاب���ه األخض���ر‪ ،‬ورايته‬ ‫الخض���راء الخفّاقة ف���وق رمال صحرائه‬ ‫الشاس���عة؟ جنازة يحضره���ا كل زعماء‬ ‫العال���م‪ ،‬ومنظ���ري الكت���اب األخضر‪،‬‬ ‫وحاملي أوس���مته وجوائزه وعطاياه‪،‬‬ ‫ونق���اده األدبيي���ن‪ ،‬وأركان حراس���ته‬ ‫الشخصية‪ ،‬ورافعي أوتاد خيمته‪ ،‬وقبل‬ ‫كل هؤالء مصممو أزيائه!‬ ‫الرجل المضرج بدمائه وسط غوغاء‬ ‫يرقص���ون ابتهاجاً‪ ،‬لم يكن هوالمش���هد‬ ‫الذي يخطر في باله‪ ،‬ولو للحظة خاطفة‪،‬‬ ‫يفكر بذلك اليوم التاريخي الذي‬ ‫لعله كان ّ‬ ‫س���تنكس األعالم فيه‪ ،‬فوق كل سواري‬ ‫القارات الخم���س‪ ،‬في حداد إغريقي‬ ‫يليق بآلهة األولمب‪ .‬الشك أنه‬ ‫قد استعاد مشهد جنازة جمال‬ ‫عبد الناصر مراراً‪ ،‬واعتبرها‬ ‫بروف���ة أولى لما س���يحدث‬ ‫لحظ���ة موته الش���خصي‪،‬‬ ‫نظرًا لإلنج���ازات التي حققها‬ ‫للشعوب المضطهدة بما يتفوق‬ ‫بمرات عن أبيه الروحي‪.‬‬ ‫كنت أعّد سيناريو آخر لنهاية‬ ‫ُ‬ ‫القذافي بعد اختفائه المؤقت‪ .‬أن‬ ‫يظهر فجأة في الساحة الخضراء‬ ‫في وسط طرابلس‪ ،‬ويلقي‬ ‫خطاب��� ًا يدع���و في���ه إلى‬ ‫مقاومة المس���تعمر‪ ،‬فيما‬ ‫يواجه زخات من رصاص‬ ‫الثوار‪ ،‬لكن���ه خذلني بأن‬ ‫اخت���ار نهاية مش���ابهة لما‬ ‫انتهى إلي���ه «الملك لير» بعد‬

‫‪62‬‬


‫أن خذلت���ه الرعي���ة والحاش���ية‪ .‬اختار‬ ‫الس���ري على غرار س���لفه صدام‬ ‫المخبأ‬ ‫ّ‬ ‫حس���ين‪ ،‬وليس عمر المخت���ار‪ ،‬كما كان‬ ‫يأمل من مؤرخي حقبت���ه الطويلة التي‬ ‫كان���ت ضرب ًا م���ن األرقام القياس���ية في‬ ‫الطغيان‪.‬‬ ‫علينا أن نستعيد هنا مقولة جوزيف‬ ‫برودس���كي ف���ي درجات الطغي���ان «إن‬ ‫جيد‪ ،‬هو عقد‬ ‫الطول‬ ‫المتوسط لطغيان ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونص���ف‪ ،‬أو عقدان كأقص���ى حّد‪ ،‬حين‬ ‫س���يكون أكثر من ه���ذا‪ ،‬ينزلق بش���كل‬ ‫الوحش���ية»‪ .‬طاغية ال يش���به‬ ‫ثابت في‬ ‫ّ‬ ‫المخيل���ة الجماعية لروائيي‬ ‫ما صنعته‬ ‫ّ‬ ‫أميركا الالتينية كنموذج معمم للطغاة‪.‬‬ ‫ومهرج‪ ،‬وبهلوان‪،‬‬ ‫مزيج من زعيم قبيلة‪ّ ،‬‬ ‫ومشخصاتي‪ ،‬ومجنون‪ .‬جنون العظمة‬ ‫يتفوق على كل ألقابه األخرى‪ ،‬من دون‬ ‫ّ‬ ‫اس���تثناء‪ .‬فيلس���وف بنظرية مستعارة‬ ‫عل���ى يد كتب���ة ومفكرين تح���ت الطلب‪.‬‬ ‫المس���افة بين العسكري النحيل بالكاكي‬ ‫لحظ���ة انقالبه عل���ى الملكي���ة الليبية‪،‬‬ ‫والمش���هد المخزي لنهايت���ه التراجيدية‪،‬‬ ‫يلخص س���يرة ملتبس���ة ومكررة لطغاة‬ ‫مش���ابهين‪ ،‬ينتمون إلى إفريقيا وأميركا‬ ‫الالتينية ستينيات القرن المنصرم‪.‬‬ ‫سنفتقد تلك الفرجة االستثنائية إذاً‪،‬‬ ‫ليس من أزياء جديدة سيرتديها العقيد‪،‬‬ ‫ترص���ع بزت���ه البيضاء أوس���مة‬ ‫ول���ن ّ‬ ‫إضافية منحها لنفسه عن طريق التقادم‪،‬‬ ‫وليس بس���بب الحروب الت���ي خاضها‪،‬‬ ‫واالنتصارات التي حققها‪ .‬هل ستنكمش‬ ‫الجماهيرية الليبية االشتراكية العظمى‬ ‫إلى جمهورية غامضة تشبه جمهوريات‬ ‫الم���وز‪ ،‬م���ن دون الت���اج االمبراطوري‬ ‫المزي���ف‪ ،‬وتتقاس���م القبائ���ل الغنائ���م‬ ‫ّ‬ ‫وتعود إلى صحرائها‪ ،‬أم سنشهد لحظة‬ ‫لخزان النفط الهائل؟‬ ‫مفارقة ّ‬ ‫يصع���ب اخت���زال خش���بة المس���رح‬ ‫الليبي بغياب الزعيم األوحد‪ ،‬ولكن ماذا‬ ‫نفعل بمستودع المالبس واالكسسوارات‬ ‫مقصبة‬ ‫التي يحتشد بها المكان؟ عباءات ّ‬

‫خضرة‪..‬ليست في القلب!‬

‫يصعب اختزال‬ ‫خشبة المسرح‬ ‫الليبي بغياب‬ ‫الزعيم األوحد‪،‬‬ ‫ولكن ماذا نفعل‬ ‫بمستودع المالبس‬ ‫واالكسسوارات التي‬ ‫يحتشد بها المكان؟‬ ‫وأزياء تصلح ألدوار الجنراالت وملوك‬ ‫مرصعة بالدم‪ ،‬وأحذية‬ ‫العجم‪ ،‬وخواتم ّ‬ ‫من جلود الضحايا‪ .‬ألبوم صور القذافي‬ ‫فس���حة بصري���ة أخ���رى للمتناقضات‪.‬‬ ‫النعل���م كي���ف كان يخت���ار أزي���اءه‪،‬‬ ‫وألوانه���ا‪ ،‬وهل وضع ص���ورة خريطة‬ ‫إفريقيا ف���وق القماش المزخ���رف فكرة‬ ‫ش���خصية أم ابتكرها أحد مستش���اريه‪،‬‬ ‫وهل ص���ور الزعماء الذين س���بقوه إلى‬ ‫الس���لطة الذي���ن يفترش���ون مقدمة بزته‬ ‫الغرائبي���ة‪ ،‬س���وف تضعه ف���ي مقامهم‬ ‫في دروس التاريخ الالحقة؟ الش���ك أن‬

‫هذه األفكار المبتكرة‪ ،‬كانت قد واتته في‬ ‫إح���دى خلواته الصحراوي���ة‪ ،‬تحت قبة‬ ‫خيمته التي تشبه في ألوانها خيام أفكار‬ ‫ال تحصى‪ ،‬س���نجد خطوطه���ا العريضة‬ ‫في كتاب���ه األخضر (في الواق���ع لم أقرأ‬ ‫الكتاب)‪ ،‬ولكن���ي أظن أن كل الدرر التي‬ ‫كان يبعثره���ا ف���ي س���احات خطاباته‬ ‫الجماهيرية‪ ،‬موج���ودة في هذا الكتاب‪.‬‬ ‫ه���ل راود القذافي ف���ي خلواته هذه بأنه‬ ‫نبي عص���ره‪ ،‬أال توجد تقاطعات رمزية‬ ‫ح���راء؟ فالنبوة في‬ ‫بي���ن الخيمة وغ���ار ّ‬ ‫آخ���ر تجلياتها‪ ،‬أتت م���ن الصحراء‪ ،‬فما‬ ‫بالك بصحراء تعوم فوق بئر ضخم من‬ ‫النفط!‬ ‫ال نعل���م ك���م كلّ���ف العقي���د صناعة‬ ‫مش���هد‪ ،‬ظهر فيه‪ ،‬وهو يلعب الشطرنج‬ ‫مع رئيس االتح���اد العالمي للعبة‪ ،‬فيما‬ ‫كانت االحتجاجات الش���عبية الليبية في‬ ‫أوجها‪ ،‬ض���د حكمه المس���تبد‪ ،‬ترى هل‬ ‫كان الخصم في المش���هد‪ ،‬أول من قال له‬ ‫«كش ملك»؟ أم أن ش���روط المشهد كانت‬ ‫تتطلب هزيمته النكراء؟‬

‫رقعة ال�ش��طرجن مبع�ثرة الآن‪ ،‬ولي�س لدى‬ ‫العقيد من يكاتبه‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫حين نحتفي‬ ‫بالموت‬ ‫نائل بلعاوي ‪ -‬فيينا‬ ‫ال أكتب اآلن مبتهجاً‪ ،‬بذلك النقيض‬ ‫األبدي للحياة‪ ..‬ال أحتفي بحضوره‪،‬‬ ‫أو أدعو إليه‪ :‬كيف يمكن للكتابة أن‬ ‫ترى سبب ًا لالحتفاء بعكسها‪ ،‬في وقت‪،‬‬ ‫لم تكف الكتابة ‪ -‬منذ عرفنا الحروف‬ ‫وتشكيل الكلمات ‪ -‬عن التغني بأسباب‬ ‫البقاء‪ ،‬والسعي العبقري في دروبه؟‬ ‫ال أحتفي‪/‬نحتفي‪ ،‬بالموت حب ًا‬ ‫بأشباحه البائسة‪ ،‬وال بما يخلفه بيننا‬ ‫من تعاسات وأسى‪ ،‬ولكن المتناقضات‪،‬‬ ‫تصب على رؤوسنا‪ :‬مثل أبابيل السماء‪،‬‬ ‫فال نعرف‪ ،‬نحن العرب‪ ،‬كيف‪ ..‬متى‪،‬‬ ‫ولماذا‪ ،‬نحتفي بالموت‪ ،‬ولماذا‪ ،‬أو‬ ‫كيف ندينه‪ ،‬لنغرق‪ ،‬عند كل موت‬ ‫صارخ اإليقاع واألضواء‪ ،‬في بحر من‬ ‫الفوضى الشاملة‪( :‬فوضى الحواس)‬ ‫وردود الفعل األولى المضطربة‬ ‫عادة‪ ،‬تلك التي تنتج أسئلة مريرة‬ ‫وبال أجوبة‪ :‬أنحن مع هذا الموت أو‬ ‫ضده؟‪ ..‬أعلينا االحتفاء به أم إدانته؟‪..‬‬ ‫هل نضيف إلى اسم الطاغية‪ :‬صفة‬ ‫المرحوم أو الراحل‪ ،‬أم نودعه بأمنيات‬ ‫الدخول السريع إلى الجحيم؟‬ ‫استحضر القذافي اآلن‪ ..‬في تلك‬

‫‪64‬‬

‫اللحظات التاريخية الصارمة‪ ،‬وال‬ ‫أستطيع‪ :‬ألسباب جمالية بحتة‪،‬‬ ‫أن أضع نفسي في مكانه وأحاول‬ ‫استنطاقه‪ ...‬كيف يمكن للمرء أن يتمثل‬ ‫الطغاة لحظة يذهبون إلى النهايات‬ ‫الوحيدة‪ ،‬وبصرف النظر عن طبيعة‬ ‫تلك النهايات‪ :‬حبل المشنقة‪ ..‬اإلعدام‬ ‫الميداني‪ ..‬السجن المؤبد‪ :‬هل توجد‬ ‫وسائل أخرى ال أعرفها؟‪ ..‬ولكني‬ ‫أحاول‪ ،‬ما استطعت‪ ،‬تمثل أولئك‬ ‫الشباب الذين تحلقوا حول الطاغية‬ ‫لحظة النهاية‪ ،‬وأجهد من أجل التقاط‬ ‫المعنى اإلنساني في السلوك غير‬ ‫اإلنساني ذاك‪ ..‬ماذا دار في أذهانهم‬ ‫أمام هذا الوحش الملقى على األرض‪،‬‬

‫بضعف الذاكرة‬ ‫الجمعية للعرب‪،‬‬ ‫يصبح الطاغية‪ ،‬حين‬ ‫يرحل أو يكاد‪ :‬بشري‬ ‫المالمح والحضور‪..‬‬ ‫عادي القدرة على‬ ‫إثارة الشفقة‬

‫بين أقدامهم تمامًَا‪ ،‬هم الذين لم يعرفوا‬ ‫عبر حيواتهم القاسية‪ ،‬غير هذا اإلله‬ ‫المسكون باللعنات‪ .‬هذا الرمز‪ ..‬القائد‬ ‫األممي‪ ..‬ملك الملوك‪ ،‬والشبيح‬ ‫الجاهل الذي اختصر الحيوات والرغبات‬ ‫ووسائل العيش اآلدمي‪ ،‬في فكرة قبيحة‬ ‫واحدة‪ :‬هي ذاته المتفردة‪ ..‬أكان يمكن‬ ‫للشباب أن يتجردوا من جنون العقود‬ ‫األربعة الماضية‪ ،‬حين كان الوحش‪..‬‬ ‫هذا الملقى بين أقدامهم يفتك بكل ما‬ ‫عداه‪ ..‬يفتك بهم وبأحالمهم‪ ...‬هل‬ ‫يستطيع الكائن البشري إسقاط المعنى‬ ‫الكلي عن الحالة التي يحس ويرى‪ ..‬ألم‬ ‫يكن العقيد هو العقيد‪ :‬على األرض‪ ،‬أو‬ ‫هناك‪ ،‬ما بعد الفنتازيا وغرائب الحكم؟‬ ‫وهل رأى الذين تحلقوا من حوله غير ما‬ ‫حملت أجسادهم من جراح وألم‪ ،‬هي كل‬ ‫ما أنتجه العقيد وخلفه‪.‬‬ ‫لم تكن لحظة القبض على الطاغية‪،‬‬ ‫لحظة عادية بكل المقاييس‪ ،‬بل‬ ‫هي اللحظة في ليبيا وعموم ديار‬ ‫الشرق العربية‪ .‬هي اللحظة المحملة‪،‬‬ ‫بما يصعب حصره اآلن‪ ،‬من رموز‬ ‫وإشارات وجودية‪ ،‬وأخرى ثقافية‬ ‫واقتصادية واجتماعية‪ ..‬ناهيك عن‬ ‫تلك العسكرية الحية والمعاشة على‬ ‫األرض‪ .‬إنها لحظة الخالص المنشود‪،‬‬ ‫والخلق من جديد‪ ،‬لهذا‪ :‬هي اللحظة‬ ‫الصادمة أيضاً‪ ..‬عظيمة الفوضى‪،‬‬ ‫والخارجة أبدًا عما نفترضه أو ننتظره‬ ‫منها‪ ..‬كيف لنا أن ننتظر عم ً‬ ‫ال مسرحي ًا‬ ‫معدًا بأناقة في ساحة حرب قاتلة‪..‬‬ ‫كيف نقرأ المشهد البشع بأدوات الرسم‬ ‫والسينما‪ ،‬ونطالب بتعديل ما على‬ ‫هذه اللقطة أو تلك؟‪ ..‬لم يكن الشباب‬ ‫حول الطاغية‪ ،‬على خشبة للمسرح‪،‬‬ ‫وال وراء الكاميرا‪ ..‬كانوا أمام الموت‬ ‫الذي مثله بجدارة وعنف هذا الملقي‬ ‫على األرض‪ ،‬ولو أن المعادلة انقلبت‪،‬‬ ‫لحظة واحدة فقط‪ ،‬ألمر العقيد‪ ،‬على‬ ‫الفور‪ ،‬بالفتك بهؤالء ‪ -‬الجرذان ‪ ،-‬هو‬ ‫الذي اعتاد على إصدار أوامر القتل على‬ ‫امتداد العقود المظلمة الماضية‪ .‬وألن‬ ‫الشيء بالشيء يذكر‪ ،‬استدعي اآلن‬


‫للطغاة وتدعو ربها أن يستجيب‪،‬‬ ‫وحين يستجيب الرب‪ ،‬إذا استجاب‪،‬‬ ‫ترتد المشاعر‪ ،‬من جديد‪ ،‬إلى منابعها‬ ‫الهالمية‪ ،‬وتصعد الفوضى إلى سقفها‪:‬‬ ‫فوضى الحواس المرتبطة‪ ،‬بشكل أو‬ ‫بآخر‪ ،‬بضعف الذاكرة الجمعية للعرب‪،‬‬ ‫وانعدام قدرتها على استحضار القديم‬ ‫والجديد مما تختزن‪ ،‬ليصبح الطاغية‪،‬‬ ‫حين يرحل أو يكاد‪ :‬بشري المالمح‬ ‫والحضور‪ ..‬عادي القدرة على إثارة‬ ‫الشفقة‪ ،‬وسجيناً‪ ..‬له ما للسجناء من‬ ‫حقوق وما عليهم من واجبات‪ .‬وليس‬ ‫هذا فحسب‪ ،‬فقد تذهب الذاكرة الجمعية‪:‬‬ ‫ ذهبت مرات فعالً‪ -‬إلى الحدود القصوى‬‫لفوضاها ومتناقضاتها‪ ،‬لتقوم بتحويل‬ ‫القاتل إلى شهيد مثالً‪ ،‬أو مغدور‪ ،‬أو‬ ‫ضحية لحفنة من األشرار على األغلب‪.‬‬ ‫وتنسى‪ ،‬تلك الذاكرة‪ ،‬ما كان لهذا‬ ‫المغدور‪ ،‬قبل قليل‪ ،‬من براثن دموية‬ ‫مغروزة حتى النخاع في األجساد‪..‬‬ ‫تنسى ما خلفه مروره الكارثي على‬ ‫األرض من مصائب وأوجاع‪ ،‬وال تقف‬ ‫لتراجع الماضي القريب‪ ،‬وال البعيد‬ ‫بأي حال‪.‬‬ ‫ال تحتفي هذي السطور بفكرة الموت‬ ‫أو تطبيقاتها المختلفة‪ ،‬وال تدعو إليه‪،‬‬ ‫بل تريد االحتفاء بفكرة أن األرض‬ ‫تتنفس الصعداء حين ترد إلى جوفها‪،‬‬ ‫ما أفرزته‪ ،‬من قباحات غريبة‪ ،‬ال تثير‬ ‫سوى السخط‪ ،‬وال تأجج غير الشعور‬ ‫المدمر بالعار‪.‬‬ ‫حكاية اإلعدام الفوضوي ‪ -‬كما صورته‬ ‫كتب التاريخ‪-‬للطاغية الفاشي ‪-‬‬ ‫موسوليني‪ -‬فهناك أيض ًا تصرف الثوار‬ ‫بسرعة‪ ،‬بعيدة كل البعد عن الحسابات‬ ‫السياسية واألخالقية المرافقة‪ ،‬عادة‪،‬‬ ‫لهذا النوع من القصاص‪ ،‬فقد كانوا‪،‬‬ ‫وفقط‪ ،‬أسرى لفكرة الخالص العظيمة‬ ‫من الطاغية‪ ..‬سوف تمر السنوات‬ ‫ويجيء الدور على طاغية آخر هو‬ ‫شاوشيسكو الذي القى المصير نفسه‪:‬‬ ‫بسرعة اللحظة وبال حسابات سياسية‬ ‫وأخرى أخالقية‪ .‬وربما لن يمر الكثير‬

‫من الوقت‪ ،‬بعد أن عبر الطاغية الليبي‬ ‫ذات الطريق‪ ،‬ونرى المزيد من الطغاة‬ ‫بين أقدام ضحاياهم‪ .‬كي نعود ونحكي‬ ‫الكثير‪ -‬ليس مهم ًا إلى أين سنصل‪ -‬عن‬ ‫أصول القتل وحقوق القتلة‪ ،‬فالمهم‬ ‫اآلن وغدًا‪ ،‬هو التجاوز الحتمي لعصور‬ ‫الطغاة وأشباحهم المرعبة‪.‬‬ ‫أمام الموت‪ :‬يستحضر العربي كل ما‬ ‫لديه من إرث ديني وأخالقي‪ ،‬ويمزجه‬ ‫على الفور بما يحمله من رغبات‬ ‫كامنة‪ ،‬وأخرى معلنة تنادي بالموت‬

‫ال أحتفي‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬بالموت‪،‬‬ ‫وال بجثة العقيد‪ ،‬ولكني أفكر حين‬ ‫ُأشاهدها‪ :‬بما ال نعرفه من أرقام حقيقية‬ ‫عن ضحايا الطاغية من األطفال والنساء‬ ‫واألشجار والرغبات واألحالم‪ ..‬فأقول‬ ‫انتهينا من ضلع قبيح في الجسد‪..‬‬ ‫وأدعو النهايات‪ ،‬بصمت‪ ،‬أن تقترب‪..‬‬ ‫أن تدق أبواب الجحيم هناك‪ :‬هناك‬ ‫حيث ُيقتل األطفال على دروب الشام‪،‬‬ ‫ألقول انتهينا من ضلع جديد‪ ،‬هو‪ ،‬وبال‬ ‫أدنى شك‪ :‬األشد وقاحة وعنفاً‪ ،‬واألكثر‬ ‫إنهاك ًا لهذا الجسد العربي المريض‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫طبيعة بشرية‬ ‫أم نظام اجتماعي؟‬ ‫د‪ .‬قا�سم عبده قا�سم ‪ -‬القاهرة‬

‫يبدو أحيان ًا أن الثأر قريب للغاية من‬ ‫الطبيعة البشرية بحيث تحسبه جزءًا‬ ‫منها مكم ً‬ ‫ال ومتمم ًا لها وبحيث نظنه‬ ‫أحيان ًا نوع ًا من الغريزة في البشر‪،‬‬ ‫فالرغبة في الثأر واالنتقام نزوع بشري‬ ‫متعدد المستويات مختلف التعبيرات‬ ‫بحيث ال يكاد بشر أن يخلو من مشاعر‬ ‫الرغبة في الثأر‪ ،‬أو االنتقام‪ ،‬في وقت‬ ‫ما من حياته‪ .‬وهو ما يصدق أيض ًا على‬ ‫الجماعة البشرية‪ ،‬فما من مجتمع لم‬ ‫يعرف ظاهرة الثأر‪ ،‬في األزمنة القديمة‬ ‫وفي حياتنا المعاصرة على حد سواء‪.‬‬ ‫الثأر‪ ،‬على المستوى الفردي وعلى‬ ‫المستوى االجتماعي‪ ،‬ظاهرة لم تغب‬ ‫عن اهتمام الجماعة البشرية التي حاولت‬ ‫تنظيمها والحد من تأثيراتها السلبية منذ‬ ‫أقدم العصور وحتى اآلن‪ ،‬بل إن الديانات‬ ‫اهتمت بهذه الظاهرة بشكل أو بآخر‪ .‬فقد‬ ‫اهتمت الكتب المقدسة بمسألة الثأر من‬ ‫جوانب مختلفة بحسب موقف كل ديانة‬ ‫من هذه الظاهرة اإلنسانية المهمة‪،‬‬ ‫ولكنها جميع ًا اهتمت بظاهرة الثأر أو‬ ‫االنتقام (وهي إحدى التسميات األخرى‬ ‫للثأر على أية حال)‪ .‬ويلفت النظر حق ًا أن‬ ‫خطاب الثأر واالنتقام ‪ -‬بغض النظر عن‬ ‫موقف الديانات ‪ -‬هو الخطاب الذي كان‬

‫‪66‬‬

‫يلقى قبو ًال ويروق لجماهير الناس في‬ ‫كافة المجتمعات اإلنسانية أكثر من غيره‬ ‫في تاريخ البشرية في كل العصور‪ .‬كما‬ ‫أن الزعماء الذين كانوا يتبنون خطاب‬ ‫الثأر واالنتقام كانوا هم األكثر شعبية‬ ‫بين الناس على الدوام‪ .‬فلماذا؟‬ ‫إن اإلجابة عن هذا السؤال ليست هينة‬ ‫ميسورة بطبيعة الحال‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن أن‬ ‫الطبيعة البشرية نفسها غامضة مركبة‬ ‫معقدة وال تكشف عن أسرارها طواعية‪،‬‬ ‫ودون الكثير من البحث والدراسة ومن‬ ‫ثم‪ ،‬فإن جهود علماء النفس وعلم النفس‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وعلماء األنثروبولوجيا‬ ‫التي تجرى في هذا المجال مهمة للغاية‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن اإلجابة عن‬ ‫سؤال الثأر في تاريخ البشرية ال يمكن‬ ‫أن نجدها من خالل جهود الباحثين في‬ ‫مجال واحد من مجاالت العلوم اإلنسانية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬وإنما يتطلب األمر جهودًا‬ ‫متضافرة من جميع المتخصصين‪ ،‬لكي‬ ‫نفهم‪ .‬على الرغم من أنني ال أظن أننا‬ ‫لن نفهم بقدر أكبر من فهمنا للطبيعة‬ ‫البشرية أو أن الفهم سيكون مفيدًا‪ .‬فمن‬ ‫الواضح أن الثأر مفيد لحفظ المجتمعات‬ ‫البشرية‪ ،‬سواء في شكله الفردي‬ ‫والعائلي والقبلي (حين يكون القانون‬

‫العام في أياد خاصة) أو في شكله‬ ‫االجتماعي (حين يكون النظام القانوني‬ ‫العام هو الوكيل في الثأر)‪ .‬وهو مفيد‬ ‫أيض ًا بوصفه عامل ردع يساعد على‬ ‫توازن المجتمعات واألمم‪.‬‬ ‫نحن هنا ال نهتم بالثأر من حيث‬ ‫كونه ظاهرة اجتماعية‪ ،‬أو قضية‬ ‫أنثروبولوجية‪ :‬فهذا مجال اختصاص‬ ‫علماء االجتماع واألنثروبولوجيا‪ ،‬وإنما‬ ‫ينصب اهتمامنا على محاولة تتبع‬ ‫الظاهرة على المستوى التاريخي وفي‬ ‫مختلف الحضارات البشرية‪ ،‬انطالق ًا من‬ ‫العنوان ‪ /‬السؤال ‪ -‬أهي طبيعة بشرية‬ ‫أم هو نظام اجتماعي؟ يلفت النظر‬ ‫في هذا المقام أن الثأر لم يقتصر على‬ ‫مستوى دون آخر من مستويات الحياة‬ ‫اإلنسانية أو على طبقة دون أخرى من‬ ‫طبقات المجتمع‪ ،‬أو على حضارة دون‬ ‫أخرى من حضارات اإلنسان في كل‬ ‫زمان ومكان‪ .‬ومن المثير أن حاالت الثأر‬ ‫لم تختف أبدًا من حياة البشر حتى هذه‬ ‫اللحظة‪ .‬وإذا كان النظام القانوني العام‬ ‫لم يعد يترك لألفراد مهمة أخذ ثأرهم‬ ‫بأيديهم‪ ،‬فإن هذا ال يعني اختفاء الثأر‪،‬‬ ‫وإنما يعني توكيل المجتمع ‪ -‬ممث ً‬ ‫ال‬ ‫في نظامه القانوني والعقابي ‪ -‬ألخذ‬


‫الثأر ال سيما في جرائم القتل‪ .‬ومن‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬فإن سيادة القانون في‬ ‫المجتمعات التي تتباهى بذلك لم تقض‬ ‫على ظاهرة الثأر تماماً‪ ،‬فما تزال حاالت‬ ‫الثأر تحدث هنا وهناك في شتى أرجاء‬ ‫الدنيا‪ .‬وهو ما يدعونا إلى طرح السؤال‬ ‫مرة أخرى‪ :‬هل الثأر طبيعة بشرية أم‬ ‫نظام اجتماعي؟‬ ‫من المؤكد أن اإلنسان األول قد أدرك‬ ‫أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة‬ ‫في حياته كلها‪ ،‬وحاول اإلنسان ‪ -‬من‬ ‫خالل األسطورة والديانات البدائية‬ ‫والطقوس والشعائر الوثنية وغيرها ‪-‬‬ ‫أن يتعايش مع هذه الحقيقة‪ .‬بيد أنه من‬ ‫ناحية أخرى كان يخشى الموت غيلة‬ ‫وغدرًا من أخيه اإلنسان وكان البد له أن‬ ‫يضع القواعد التي تحميه من مثل هذه‬ ‫االحتماالت‪ .‬وأخذ اإلنسان يبحث عن‬ ‫سلطة تحميه من الموت غدرًا واغتيا ًال‪:‬‬ ‫فكان الثأر الفردي وسيلته األولى‬ ‫لحماية نفسه ولحماية الدائرة القريبة‬ ‫من األسرة أو العائلة‪ .‬ولكن هذا لم‬ ‫يكن كافي ًا بأي حال من األحوال‪ .‬ورأى‬ ‫اإلنسان األول أن وجود سلطة عامة قد‬ ‫يحميه من القتل غيلة وغدرًا‪ ،‬فتنازل‬ ‫عن جزء من حريته للعشيرة أو للقبيلة‬

‫(وهم من ذوي قرباه وأولياء الدم) حتى‬ ‫ال يكون وحده في مواجهة الخطر‪ .‬ومن‬ ‫المهم أن نالحظ هنا أن الثأر ظل موجودًا‬ ‫على المستوى الفردي وعلى المستوى‬ ‫العشائري والقبلي أيضاً‪ .‬ومع المزيد من‬ ‫تطور المجتمعات زاد قدر تنازل الفرد‬ ‫عن حريته لسلطة الدولة أي ًا كان شكلها‪،‬‬ ‫وأوكل إليها عملية الثأر واالنتقام ممن‬ ‫يرتكبون الجرائم‪ ،‬ولكن هذا التطور‬ ‫أيض ًا لم يؤد إلى اختفاء الثأرات الفردية‬ ‫والقبلية‪.‬‬ ‫ولدينا الكثير من األمثلة التي يمدنا‬ ‫بها التاريخ للداللة على صدق ما ذهبنا‬ ‫إليه في السطور السابقة‪ :‬فقد كان النظام‬ ‫القبلي السائد في شبه الجزيرة العربية‬ ‫قبل اإلسالم سندًا للفرد وتنظيم ًا يحد من‬ ‫سلبيات الثأر الفردي من جهة‪ ،‬كما تسبب‬ ‫في حروب ثأرية قبلية ذات آثار وبيلة‬ ‫من جهة ثانية‪ .‬ويحفل التراث األدبي‬ ‫المنسوب للعرب قبل اإلسالم بالكثير من‬ ‫البراهين األدبية على أن الثأر كان من‬ ‫مقومات الشرف القبلي في تلك الفترة‬ ‫من تاريخ العرب‪ .‬ومن المهم هنا أن‬ ‫نشير إلى أن القبيلة كانت بمثابة الوطن‬ ‫في المفهوم الحديث بالنسبة ألبناء‬ ‫القبائل العربية‪ ،‬فلم يكن للفرد شأن‬

‫خارج الكيان القبلي ومن ثم كانت عقوبة‬ ‫الخلع من القبيلة بمثابة إهدار لدم من‬ ‫توقع عليه هذه العقوبة ‪ -‬فال حماية وال‬ ‫سعي لثأر من تخلعه القبيلة من أفرادها‬ ‫الخارجين على أعرافها‪ .‬وفي المقابل‬ ‫منحت القبائل حق الجوار لألغراب الذين‬ ‫تجيرهم القبيلة لسبب أو آلخر باعتباره‬ ‫واحدًا يتمتع بما يتمتع به أبناء القبيلة‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من أن اإلسالم جاء بمفهوم‬ ‫األمة بعيدًا عن مفهوم القبيلة‪ ،‬فإن‬ ‫التطور التاريخي الموضوعي أبقى‬ ‫للقبيلة مكانتها‪ ،‬ومن ثم ظل مفهوم الثأر‬ ‫موجودًا بشكل أو بآخر على الرغم من‬ ‫التطورات الهائلة التي أحدثتها المفاهيم‬ ‫اإلسالمية في جوانب عديدة‪.‬‬ ‫وهناك أمثلة أخرى عن تأثير مفهوم‬ ‫الثأر من تاريخ أوروبا العصور الوسطى‪.‬‬ ‫فمن المعروف أن الشعوب التي كانت‬ ‫تعيش في شبه الجزيرة اإلسكندنافية‬ ‫(السويد‪ ،‬والنرويج‪ ،‬والدانمارك) قد‬ ‫بدأت تزحف جنوب ًا داخل مناطق أوروبا‬ ‫القديمة ‪ -‬األكثر دفئ ًا واألغنى موارد ‪-‬‬ ‫فيما بين القرن الخامس والقرن السابع‬ ‫بعد الميالد لمشاركة سكان أوروبا‬ ‫القدامى بالدهم ومناخ البحر المتوسط‬ ‫البديع‪ .‬هذه الهجرات االستيطانية‬ ‫‪67‬‬


‫المسلحة (التي عرفها التاريخ األوروبي‬ ‫في العصور الوسطى باسم الغزوات‬ ‫الجرمانية) أنتجت مجتمعات قبلية على‬ ‫أرض أوروبا‪ ،‬لم تلبث أن ذابت في‬ ‫محيطها األوروبي لتخلق المجتمعات‬ ‫األوروبية الحالية التي تشكلت بهويتها‬ ‫القومية فيما بين القرن الرابع عشر‬ ‫والقرن الثامن عشر (وقد تأخر بعضها‬ ‫في الظهور إلى وقت الحق)‪ .‬وفي الفترة‬ ‫األولى من وجود المجتمعات الجرمانية‬ ‫ مثل األوستروقوط في إيطاليا‪،‬‬‫والفرنجة في بالد الغال (التي صارت‬ ‫تعرف باسم فرنسا نسبة لهم بعد‬ ‫سكنهم فيها)‪ ،‬والفيزيقوط في إسبانيا‪،‬‬ ‫والوندال‪ ،‬واللومبارد‪ - ...‬وغيرهم ‪-‬‬ ‫كان النظام القانوني لديهم قائم ًا في‬ ‫جانب منه على مبدأ الثأر‪ .‬فقد عرفت هذه‬ ‫المجتمعات التي اتخذت شكل دول أولية‬ ‫ما يشبه نظام التسعيرة في عمليات‬ ‫الدية بدي ً‬ ‫ال عن الثأر إذا قبل أولياء الدم‬ ‫الدية وتنازلوا عن الثأر‪ .‬فقد كانت هناك‬ ‫دية للعين المفقوءة‪ ،‬وأخرى للذراع‬ ‫المكسورة‪ ،‬أو أية عاهة أخرى تلحق‬ ‫بالفرد‪ :‬شريطة أن يكون األذى قد حدث‬ ‫غدرًا وليس في قتال عادل وعلني‪ .‬فلم‬ ‫تكن هناك دية‪ ،‬وال موجب لثأر لمن قتل‬ ‫في شجار أو قتال عادي‪ .‬وكان من حق‬ ‫أقارب من ناله األذى أو راح ضحية القتل‬ ‫أن يقبل الدية أو يرفضها‪ ،‬فإذا رفضوها‬ ‫كان من حق عشيرة الضحية أن يأخذوا‬ ‫القانون في أيديهم طلب ًا للثأر‪.‬‬ ‫التاريخية‬ ‫المصادر‬ ‫وتخبرنا‬ ‫األوروبية في تلك الفترة أن العائالت‬ ‫األوروبية قد توارثت حاالت الثأر على‬ ‫مدى عدة أجيال‪ .‬ولدينا أدلة على حاالت‬ ‫ثأر استمرت على مدى قرنين من الزمان‬ ‫في انكلترا وفنيت في أثنائها عائالت‬ ‫إنكليزية بأسرها‪ .‬والجدير بالذكر في‬ ‫هذا المقام أن الدولة بمفهومها السيادي‬ ‫والوطني لم تبدأ في الظهور في أوروبا‬ ‫سوى بعد القرن الرابع عشر‪ ،‬وكانت‬ ‫الهوية السياسية هي األسرة الحاكمة‬ ‫وليست الدولة بحدودها الجغرافية‬ ‫وشعبها ولغتها‪ ..‬كانت السالالت‬ ‫الحاكمة مثل آل كابيه‪ ،‬والهوهنشتاوفن‪،‬‬ ‫‪68‬‬

‫وآنجو‪ ،‬وغيرهم يحكمون أجزاء مختلفة‬ ‫من بالد مختلفة في ظل النظام اإلقطاعي‬ ‫في أغلب األحيان‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬لم‬ ‫تستطع هذه الكيانات السياسية األولية‬ ‫أن تحد من ظاهرة الثأر في المجتمعات‬ ‫األوروبية وإنما احتكرتها لنفسها في‬ ‫حروب األسرات الحاكمة ضد بعضها‬ ‫البعض‪.‬‬ ‫وقد استمرت مظاهر الثأر الجماعية‬ ‫قائمة في أوروبا حتى مطلع العصر‬ ‫الحديث‪ .‬وعندما بدأ السباق االستعماري‬ ‫بين الدول األوروبية جلب في ركابه‬ ‫سلسلة من الحروب األوروبية ‪/‬‬ ‫األوروبية التي اتخذ بعضها شكل الثأر‬ ‫واالنتقام‪ :‬إذ كان تاريخ العداء القديم‬ ‫بين انكلترا وفرنسا يترك بصماته على‬ ‫أشكال التنافس االستعماري الذي تبلور‬ ‫في النهاية إلى حرب شاملة بين القوى‬ ‫األوروبية القتسام ثروات العالم وهي‬ ‫الحرب التي عرفت باسم الحرب العالمية‬ ‫األولى‪ .‬وفي هذه الحرب خسرت ألمانيا‬ ‫وحلفاؤها‪ ،‬وفرضت على قيصر ألمانيا‬ ‫شروط استسالم مهينة أدت إلى أكبر‬ ‫عملية ثأر في التاريخ‪ ،‬أدت بدورها‬ ‫إلى وقوع أكبر مذبحة دموية في تاريخ‬ ‫البشرية هي الحرب العالمية الثانية‬ ‫التي استمرت ست سنوات (‪- 1939‬‬ ‫‪1945‬م)‪ .‬لقد كانت الحرب العالمية‬ ‫الثانية في جوهرها عملية ثأر وانتقام‬ ‫قام بشنها أدولف هتلر للتخلص من‬ ‫آثار معاهدة الخزي والعار حسبما رآها‬ ‫الحاكم األلماني ورجال دولته‪.‬‬ ‫ولم تخل أعمال األميركيين‪ ،‬بعد‬ ‫دخولهم الحرب‪ ،‬من نزعة الثأر بسبب‬ ‫ما جرى على أسطولهم وقاعدتهم في‬ ‫بيرل هاربور‪ .‬ولست أقصد هنا بأي حال‬ ‫من األحوال أن أدين جانباً‪ ،‬أو أدافع عن‬ ‫جانب غيره‪ ،‬ولكنني أود أن أشير إلى أن‬ ‫نزعة الثأر كانت عام ً‬ ‫ال من العوامل المهمة‬ ‫في هذه األحداث التاريخية الجسيمة‪،‬‬ ‫شأنها شأن العوامل واألسباب األخرى‬ ‫الكامنة وراء نشوب هذه الحروب‪.‬‬ ‫والمحاكمات التي تمت بعد نهاية الحرب‬ ‫ضد من أسماهم الحلفاء مجرمي الحرب‪،‬‬ ‫كانت نوع ًا من «الثأر القانوني» ضد‬

‫األعداء المهزومين‪ .‬وهنا يفرض السؤال‬ ‫نفسه‪ :‬هل الثأر أحد العوامل المحكمة‬ ‫للتاريخ؟ وهل يستطيع المؤرخون أن‬ ‫يتجاهلوا هذا العامل المهم في تفسيراتهم‬ ‫السببية لألحداث التاريخية؟‬ ‫فهل يكمن الثأر دائم ًا في هذه األحداث‬ ‫الكبيرة ألنه جزء من الطبيعة البشرية؟‬ ‫يجب أن نالحظ أن الذين يتخذون‬ ‫القرارات في الحرب والسالم‪ ،‬وغيرها من‬ ‫القرارات المصيرية في حياة البشر‪ ،‬هم‬ ‫بشر في التحليل األخير مهما كانت القواعد‬ ‫والنظم الموضوعة لكبح جماحهم‪ .‬وهو‬ ‫ما يعني أن الرغبة في االنتقام والثأر‬ ‫قد ال تكون بعيدة عن أولئك الناس‬ ‫في لحظة ما‪ .‬فهل يمكن اعتبار الثأر‬ ‫أحد العوامل المحركة للتاريخ؟ أظن أن‬ ‫اإلجابة بنعم لن تجافي الحقيقة كثيرًا‪.‬‬ ‫إن الرغبة في الثأر‪ ،‬وتعويض الهزائم‪،‬‬ ‫واسترداد الشرف العسكري والسياسي‪،‬‬ ‫كانت وراء الكثير من التحوالت التاريخية‬ ‫الكبرى في مسار التاريخ البشري‪ .‬وال‬ ‫يمكن أن يخلو تاريخ أية أمة من األمم‬ ‫من األمثلة الدالة على حروب الثأر‬ ‫واسترداد الكرامة‪ .‬ولكن حدث كثيرًا‬ ‫أن تم عبور ذلك الخيط الرفيع الفاصل‬ ‫بين الثأر المشروع واالنتقام الجائر‪ .‬في‬ ‫الثأر يكون النيل من العدو الذي تسبب‬ ‫في اإلهانة مشروعاً‪ ،‬مثلما حدث في‬ ‫حرب السادس من أكتوبر ضد العدو‬ ‫الصهيوني سنة ‪ 1973‬م‪ .‬وفي االنتقام‬ ‫يكون الضحايا ممن ال ذنب لهم من غير‬ ‫المحاربين‪ ،‬مثلما فعل العدو اإلسرائيلي‬ ‫في حرب لبنان سنة ‪ 2006‬م‪ ،‬والحرب‬ ‫الوحشية على غزة‪ .‬وما فعله األميركيون‬ ‫بالمواطنين ذوي األصول اليابانية‬ ‫بعد الهجوم الياباني على قاعدة بيرل‬ ‫هاربور‪ ،‬وهو الهجوم الذي تسبب في‬ ‫دخول الواليات المتحدة الحرب‪.‬‬ ‫لقد حدث في طيات أحداث الحرب‬ ‫العالمية الثانية أن حرك دافع االنتقام‬ ‫الرئيس األميركي ورجال إدارته نحو‬ ‫تجميع األميركيين الذين هم من أصل‬ ‫ياباني على الشاطئ الغربي للواليات‬ ‫المتحدة األميركية في معسكرات فيما‬ ‫يشبه االعتقال باعتبارهم من أقارب‬


‫الذين قاموا بالهجوم في بيرل هاربور‪.‬‬ ‫ولم يكن هذا ثأرًا بقدر ما كان انتقام ًا‬ ‫ظالم ًا وقع ظلم ًا على من ال ذنب لهم‪.‬‬ ‫وهو مثال تكرر في الغرب األوروبي‬ ‫واألميركي ضد المسلمين األميركيين‬ ‫واألوروبيين بعد هجوم الحادي عشر‬ ‫من سبتمبر سنة ‪ 2001‬م‪ .‬إن الرغبة في‬ ‫القصاص العادل رغبة إنسانية ال يمكن‬ ‫للحياة البشرية أن تستقيم بدونها‪ ،‬وهنا‬ ‫نجد الفارق الرفيع بين الثأر واالنتقام‪.‬‬ ‫فالثأر نوع من القصاص العادل ‪-‬‬ ‫في أصله ‪ -‬تخلص ًا من الذل واإلهانة‬ ‫التي تلحق الفرد أو الجماعة‪ ،‬أو األمة‪،‬‬ ‫يجعلها تستعيد الثقة بنفسها‪ ،‬على حين‬ ‫أن االنتقام قد يتجاوز استرداد الحق أو‬ ‫القصاص ليصبح نوع ًا من القتل واإلبادة‬ ‫الجماعية مثلما نجد في كثير من األحداث‬ ‫التاريخية‪ .‬وربما يكون هذا النوع من‬ ‫الثأر هو الذي حبذه القرآن الكريم في‬ ‫قوله تعالى «ولكم في القصاص حياة»‪.‬‬ ‫ومن هنا يكون الثأر بمفهوم العدالة‬ ‫مطلوب ًا بشرط أن تتواله السلطة العامة‬ ‫في المجتمع تحت مظلة العدالة‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫ماذا لو كان الذين يمسكون بزمام العدالة‬ ‫العالمية من الخصوم؟ وماذا لو كان‬ ‫أولئك الذين يفترض منهم أن يثأروا‬ ‫لإلنسانية كلها منحازين إلى أنفسهم‬ ‫فقط؟ (وهو أمر طبيعي على أية حال)‪.‬‬ ‫ال أظن أن الثأر سيكون هو الموضوع‬ ‫في هذه الحال‪ ،‬بل االنتقام الذي سوف‬ ‫يستدعي الثأر يوم ًا ما‪ ،‬أو يستوجب‬ ‫االنتقام‪.‬‬ ‫إذا ما انتقلنا إلى مجال آخر من‬ ‫مجاالت الثأر المشروع‪ ،‬وجدنا مثا ًال‬ ‫حي ًا فيما حققته الثورات العربية الثالث‬ ‫ حتى اآلن ‪ -‬التي نجحت في تونس‪،‬‬‫ومصر‪ ،‬وليبيا‪ .‬والرأي عندي أن ك ً‬ ‫ال من‬ ‫هذه الثورات كانت ثأرًا جمي ً‬ ‫ال ومشروع ًا‬ ‫من طغاة فاسدين ميزتهم األنانية‬ ‫الشخصية‪ ،‬والبالهة السياسية‪،‬‬ ‫واالستبداد الدموي‪ ،‬فساموا شعوب هذه‬ ‫البالد الثالثة سوء العذاب‪ .‬وإذا كان بن‬ ‫علي قد هرب‪ ،‬فمن حق التونسيين أن‬ ‫يطلبوا الثأر من هذا المجرم الهارب‪،‬‬ ‫وأن يحاكموه بالطريقة التي تناسبهم‪:‬‬

‫على الرغم من‬ ‫أن علم النفس‬ ‫التاريخي يناقش‬ ‫الكثير من الجوانب‬ ‫النفسية والشخصية‬ ‫المؤثرة على مسار‬ ‫التاريخ‪ ،‬فإن الثأر لم‬ ‫يحظ بأية دراسة‬ ‫فليس من العدل أن يهرب بجريمته التي‬ ‫راح ضحيتها أجيال من التونسيين‬ ‫عانوا الفقر والقهر والمذلة على مدى‬ ‫عدة سنين طويلة‪ .‬لقد نفذ التونسيون‬ ‫األحرار الجزء األول من ثأرهم بإجبار‬ ‫الرئيس المجرم على الهرب‪ ،‬ولكن الثأر‬ ‫التونسي لم ينم وما يزال سؤال الثأر‬ ‫التونسي مطروح ًا بقوة‪ .‬ولعل الجانب‬ ‫اإليجابي في الثأر التونسي يتمثل‬ ‫في أنهم بدأوا خطوات بناء تونس‬ ‫الجديدة التي يمكنها أن تواصل طلب‬ ‫الثأر‪ .‬وفي مصر كان الثأر مختلفاً‪ ،‬ألن‬ ‫الطاغية قد أجبر على التخلي عن مملكة‬ ‫الشر التي بناها على حساب أجيال من‬ ‫المصريين‪ ،‬وبمساعدة أشد األجهزة‬ ‫إجرام ًا في التاريخ الحديث (جهاز أمن‬ ‫الدولة الذي هو السبب الرئيسي في‬ ‫سقوط الدولة) وبينما تحقق بعض الثأر‬ ‫بحبس المخلوع وبعض أفراد عصابته‬ ‫وتقديمهم للمحاكمة‪ ،‬فإن الثأر ما يزال‬ ‫يطلب أصحابه على مستويات عدة‪.‬‬ ‫وما يزال بقية المجرمين طلقاء حتى‬ ‫اآلن‪ .‬أما ليبيا‪ ،‬التي اتخذت الثورة فيها‬ ‫منحى مختلف ًا بسبب اختالف الظروف‬ ‫فيها عنها في تونس ومصر‪ ،‬فقد أخذ‬ ‫الثأر فيه مداه‪ .‬وقد يصدم الكثيرون‬ ‫ألنني أفضل نمط الثأر الذي حدث‬ ‫في ليبيا‪ ،‬ولكن عليهم أن يأخذوا في‬ ‫االعتبار حجم الدمار والضرر الذي أحدثه‬ ‫القذافي المقتول بشعب يتسم بالطيبة‬ ‫والبساطة‪ ،‬ولكنه يتميز أيض ًا بتراثه‬ ‫الوطني في المقاومة‪.‬‬

‫هل يجوز إغفال الثأر من بين‬ ‫العوامل التاريخية التي قادت الطغاة‬ ‫الثالثة‪ :‬الهارب‪ ،‬والمخلوع‪ ،‬والمقتول‪،‬‬ ‫إلى مصيرهم التعس؟ لست أزعم أن‬ ‫الثأر وحده سبب ما حدث وما جرى‪،‬‬ ‫ولكنني ال أستطيع أن أتجاهل مثل هذا‬ ‫العامل المهم في دراسة العالقة السببية‬ ‫في كل من الثورات الثالث‪ .‬ومن ناحية‬ ‫أخرى‪ ،‬هل يمكن إغفال عامل الثأر في‬ ‫أحداث الثورة اليمنية والثورة السورية‬ ‫الجارية حتى اآلن؟ أو ليست الثأرات‬ ‫القبلية وراء كثير مما يجري اآلن في‬ ‫اليمن الذي كان سعيدًا قبل زمن الطغاة‬ ‫الفاسدين؟ وهل سيكون الثأر من بين‬ ‫العوامل المحركة للمجتمع اليمني بعد‬ ‫نجاح الثورة في تحقيق أهدافها؟ أميل‬ ‫شخصي ًا إلى اإلجابة بنعم على هذه‬ ‫األسئلة وما يتفرع عنها بالضرورة‪.‬‬ ‫وفي سورية التي يفترسها ذلك الضبع‬ ‫الذي يحمل اسم األسد‪ ..‬هل من الحكمة‬ ‫أن نغض النظر عن الثأرات والرغبة‬ ‫في االنتقام التي تحرك المجرمين في‬ ‫عصابة األسد التي تسفك الدم السوري‬ ‫الزكي ليل نهار في وحشية ال مثيل لها؟‬ ‫وهل يمكن أن ننسى أن هذه العصابة‬ ‫الطائفية تتمادى في غيها خوف ًا من الثأر‬ ‫عندما تحين ساعة السقوط‪ ،‬وهي آتية‬ ‫ال ريب فيها؟‪.‬‬ ‫للثأر جوانب عديدة‪ ،‬وقد حاولت‬ ‫في هذه السطور أن استعرض بعض ًا‬ ‫منها على الجانب التاريخي‪ .‬ولكن الثأر‬ ‫بوصفه واحدة من القوى المحركة‬ ‫للتاريخ يستحق دراسة تفصيلية‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من أن علم النفس التاريخي يناقش‬ ‫الكثير من الجوانب النفسية والشخصية‬ ‫المؤثرة على مسار التاريخ‪ ،‬فإن الثأر‬ ‫(وما يرتبط به من االنتقام) لم يحظ بأية‬ ‫دراسة‪ ،‬مهما كان حجمها حتى اآلن‪.‬‬ ‫لقد كان الثأر‪ ،‬وما يزال‪ ،‬أحد عوامل‬ ‫صناعة التاريخ‪ :‬في المستوى السياسي‬ ‫والمستوى العسكري على أقل تقدير‪.‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬يطرح السؤال نفسه‬ ‫بإلحاح‪ :‬هل الثأر طبيعة بشرية أم نظام‬ ‫اجتماعي؟ أميل إلى القول بأنه االثنان‬ ‫معاً‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫العين بالعين‬ ‫والسن بالسن‬ ‫خو�سيه ماريا بينوي�سا ‪ -‬مدريد‬ ‫ترجمة‪ -‬مروة رزق‬

‫ينص دستورنا (الفقرة ‪ )25.2‬على‬ ‫أن «العقوبات الحارمة للحياة وإجراءات‬ ‫األمن موجهة إلى إعادة التأهيل والتكيف‬ ‫المجتمعي‪ »..‬ومن الواضح أن االنتقام‬ ‫من خالل (العقاب‪ ،‬في وجهة نظر‬ ‫الضحية أو أقاربها‪ )..‬لم يذكر قط‪.‬‬ ‫كما لم يتم الحديث عن العقاب كتأديب‬ ‫لآلخرين‪ .‬ومن ناحيتها فإن اإلجراءات‬ ‫األمنية (وحماية المجتمع) يتم تفسيرها‬ ‫على أنها عملية عميقة‪ ،‬على المدى‬ ‫القريب‪/‬البعيد‪ ،‬عن طريق إعادة تأهيل‬ ‫المذنب‪ .‬باإلضافة إلى إعادة تكيفه في‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫ولكني أعتقد أن أوجه العقاب األربعة‪،‬‬ ‫كما هي في الوعي الشعبي المسيطر‪،‬‬ ‫ستختلف عن نسخة الدستور‪:‬‬ ‫‪ -1‬أول بعد للعقاب على الرغم من عدم‬ ‫االعتراف به هو تطبيق قانون «العين‬ ‫بالعين» والذي مع بعض التحضر‪،‬‬ ‫بتخفيف أشكاله‪ -‬عن طريق الموضوعية‬ ‫ً‬ ‫وخاصة‪ ،‬في‬ ‫الوسيطة ألجهزة الدولة‪-‬‬ ‫علم المصطلحات‪ :‬يتم الحديث اآلن عن‬ ‫إعطاء المذنب «ما يستحقه»‪ ،‬وهو ما‬ ‫سوف يستلزم عملية طويلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬أما الوجة الثاني للعقاب‪ ،‬في‬ ‫الوعي الشعبي‪ ،‬فهو الردع في رأس‬

‫‪70‬‬

‫اآلخرين‪ ،‬وهو عبارة عن استخدام‬ ‫المذنب على أنه «عبرة»‪ ،‬أي أن العقاب‬ ‫نتيجة شدته‪ ،‬يستخدم كمثال رادع‬ ‫لبعض المقلدين الوشيكين‪.‬‬ ‫‪ -3‬الوجه الثالث‪ ،‬وهو ربما‪ ،‬األكثر‬ ‫شيوع ًا في نظامنا العقابي‪ ،‬هو إعادة‬ ‫االندماج مع المجتمع وإعادة التأهيل‪،‬‬ ‫والذي يكفل الحماية الحقيقية والشرعية‬ ‫للمجتمع على المدى الطويل‪ .‬ولكن بما‬ ‫أن هذه المهمة عسيرة ومكلفة يتم إحاللها‬ ‫بمجرد العزل المؤسسي (السجن)‪ ،‬حيث‬ ‫يصبح المذنب في مكان آمن كي يتمكن‬ ‫المجتمع من النوم هانئ ًا ويصبح األمن‬ ‫العام في مأمن‪ ،‬وبالفعل يتم المحافظة‬ ‫على األمن بهذا البديل (السجن) طوال‬ ‫مدة العقاب‪.‬‬ ‫‪ -4‬ثمة ُبعد رابع يتم نسيانه في‬ ‫الغالب‪ ،‬وهو إعادة بناء الشخصية‬ ‫المجتمعية واألخالقية للمذنب‪ .‬وبالفعل‬ ‫هناك عنصر هام في العقاب وهو‬ ‫االهتمام بالمذنب‪ .‬حيث ينص القانون‬ ‫على إعادة إدماج المذنب في المجتمع‪،‬‬ ‫بمواجهته بجريمته‪ ،‬لفصله عنها‪.‬‬ ‫وهو بمثابة إعادة إدماج حقيقية في‬ ‫المجتمع‪ ،‬لذلك يجب أن تكون فعالة‪،‬‬ ‫وصارمة‪ ،‬ودائمة‪ ،‬حيث يفهم المجرم‬

‫حينئذ أنه الجدوى (ال إمكانية) للهرب‬ ‫أو مداراة ما فعله‪ .‬حيث يعترف المجرم‬ ‫بأفعاله‪ ،‬فينتهي ذنبه ويتالشى‪.‬‬ ‫هذه القاعدة ‪ ،‬التفسير الشعبي‬ ‫الحر للقوانين الدستورية‪ -‬تشهد حالي ًا‬ ‫تطورًا‪ ،‬نتيجة تصدع عنصر هام في‬ ‫اإلطار النظري الذي تقوم عليه عملية‬ ‫انتقام المجتمع‪ .‬حيث ال تتم عملية شفاء‬ ‫المذنب (إعادة التأهيل واإلدماج) بعد أن‬ ‫يختلف كيانه عما كان في السابق‪ ،‬أي‬ ‫بعد اختفاء الذنب نفسه‪ .‬وفي المرحلة‬ ‫التي يختفي فيها في الذنب باإلطار‬ ‫النظري‪ ،‬يصبح العقاب حينئذ ال أساس‬ ‫له‪ -‬على األقل في واحدة من أساسياته‬ ‫الضرورية‪ :‬وهو المكافأة‪ -‬ثم يفتقر‬ ‫العقاب الطابع األخالقي ليرتدي طابع ًا‬ ‫حقوقي ًا هشاً‪ ،‬بدون ادعاء الشرعية‪.‬‬ ‫ويذكر العقاب على أنه وسيلة لحماية‬ ‫المجتمع ذاتياً‪-‬وهو الشعور العام‪ -‬مما‬ ‫يجعله غير الئق جيدًا مع اختفاء الذنب‪.‬‬ ‫وهذه هي الحالة العامة السائدة‪.‬‬ ‫وتبع ًا لمدرسة التحليل النفسي‪ ،‬يندفن‬ ‫الذنب‪ -‬وكظاهرة نفسية‪ -‬ينتهي إلى‬ ‫االستيالء على كل حيادية الشخصية‬ ‫(وتصحبه نتيجة أخرى وهي «الرد»‬ ‫أمام أي أحد)‪ .‬ويحدث أننا البشر ننسى‬ ‫اإلحساس بالذنب – والذي يقول عنه‬ ‫بيرجسون‪ -‬هو أقدم شعور لإلنسان‪.‬‬ ‫مع األخذ في االعتبار أن الذنب ينشأ‬ ‫من الشعور بين التناقض بين وضوح‬ ‫السلوك الحر ذاته (والمسؤول نتيجة‬ ‫لذلك) وبعض القيم والقواعد التي ال‬ ‫تتحقق‪ ،‬وإنما يتم إنكارها أو انتهاكها‪.‬‬ ‫ولكن حين ال تكون هناك أي قيم أو‬ ‫قواعد‪ ،‬ما الذي يتبقى من الذنب؟ ومن‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬ال يمكن إخفاء الجريمة‪.‬‬ ‫إن إنكار الشخص للذنب ينتج عنه‬ ‫شعور بمسؤولية المجتمع والظروف‬ ‫المحيطة عنه‪ .‬ويشكل جزءًا مما هو من‬ ‫المفترض اعتقاده سياسياً‪ ،‬إزاء أي‬ ‫جريمة يكون مرتكبها في الوقت نفسه‬ ‫الضحية وعشماوي‪،‬أي لعبة الحتميات‬ ‫النفسية واالقتصادية والمجتمعية‬ ‫والثقافية‪ .‬ولكن يصطدم هذا الحديث‬ ‫الخاص باختصاصيي القانون الجنائي‬


‫(الحقوقيين والنفسيين) األكثر رواج ًا‬ ‫هذه األيام‪ ،‬بالقناعة الشعبية‪ ،‬التي‬ ‫تقتضي تحديد هوية المذنب وعقابه‪،‬‬ ‫على أن يكون العقاب فوري ًا وواعظ ًا‬ ‫لآلخرين‪.‬‬ ‫اكتشف جان بياجيه أن األطفال‬ ‫متحزبون صارمون للعقاب‪ ،‬ومما‬ ‫يثير القلق هو أن االنتقام الذي يتم‬ ‫تنفيذه في شكل عقوبة اإلعدام يحقق‪،‬‬ ‫بصورة غير متوقعة‪ ،‬قيمة رائجة‬ ‫هذه األيام‪ :‬قيمة المساواة‪ .‬أعتقد‬ ‫أنه يؤصل مبدأ «العين بالعين» في‬ ‫شعور عفوي وعميق وجذري على أن‬ ‫االنتقام تأسيس ًا للمساواة ( وبالتالي‪،‬‬ ‫للعدالة) نتيجة أذى اآلخر باعتبار ذلك‬ ‫تعويضاً‪« .‬التكافؤ» هو أحد خصائص‬ ‫العقاب بالموت من وجهة نظر غير‬ ‫متوقعة‪ :‬التكافؤ بين المنتقم وضحيته‬ ‫في طبيعتهما البشرية المشتركة‪ .‬هذا‬ ‫ليس تفسيرًا أعطيه لمبدأ «العين بالعين‬ ‫والسن بالسن»‪ .‬حين يتم المطالبة‬

‫بمبدأ «العين بالعين والسن بالسن»‬ ‫فهذا يفترض ضمني ًا أن أي عين في هذه‬ ‫المقايضة القصرية تكون بذات قيمة‬ ‫األخرى‪ .‬ومن الناحية العملية ( ولكن‬ ‫في حالة واحدة‪ ،‬في النظام القضائي‬ ‫األميركي الحالي) يتم تصحيح هذا المبدأ‬ ‫بناء على تفسير‪ -‬لم يتم االعتراف به‬ ‫ً‬ ‫مطلق ًا ولكن تثبته اإلحصاءات) أن عين‬ ‫(أو حياة) رجل أسود ال تضاهي عين أو‬ ‫حياة رجل أبيض‪ ،‬وال جدوى من التوقف‬ ‫عند صرامة العقوبات المفروضة على‬ ‫السود والمرونة النسبية التي يتم الحكم‬ ‫بها على البيض‪ .‬وعلى ما يبدو فإن‬ ‫المحكمة الموقرة أو المحلفين على خلفية‬ ‫وحشية عقوبة اإلعدام‪ ،‬تنص على أنه‬ ‫من األكثر وحشية استخدامها مع رجل‬ ‫أبيض‪ ،‬على الرغم من كونه قد قتل رج ً‬ ‫ال‬ ‫أسود (أو رجا ًال عدة)‪ .‬ومع ذلك فإنه‬ ‫هناك كما نص قانون حامورابي‪ ،‬الذي‬ ‫أسس مبدأ االنتقام منذ ‪ 4500‬عاماً‪ -‬ال‬ ‫يمكن معاقبة الجميع بمساواة‪ ،‬بيض أو‬

‫سود‪ ،‬أحرار أم عبيد‪.‬‬ ‫في سياق مكمل‪ ،‬يجب ذكر أنه عندما‬ ‫أراد هوبز أن يبرهن على أن جميع البشر‬ ‫سواسية في األصل ألمح‪ ،‬بصورة‬ ‫مفاجئة‪ ،‬إلى قدرتنا المشتركة على قتل‬ ‫بعضنا البعض‪« .‬متساوون من يقدرون‬ ‫على الشيء نفسه بعضهم ضد بعض‪.‬‬ ‫ومن يستطيعون المزيد‪ ،‬أي القتل‪،‬‬ ‫لديهم القدرة المتساوية‪ .‬وبالتالي فإن‬ ‫البشر متساوون فيما بينهم»‪ .‬إن صح‬ ‫تفسيري فإن اإلعدام أو قتل من قتل‬ ‫يصبح‪ -‬في الالوعي الجمعي‪ -‬تحقيق ًا‬ ‫للعدالة‪ ،‬من خالل المساواة بين القاتل‬ ‫وضحيته‪ .‬ولذا فربما يعتبر أقارب‬ ‫مقتول‪ ،‬غير طبيعي أو «كاف» حكم ًا‬ ‫مؤبدًا‪ ،‬ألن المجرم ما يزال يحتفظ‬ ‫بحياته‪ ،‬لم يحاك الحكم بين القاتل‬ ‫وبين ضحيته‪ .‬ولذا ربما أيض ًا حين يتم‬ ‫تنفيذ الحكم باإلعدام في مرتكب مذبحة‬ ‫أو إبادة ترتفع أصوات تنتحب «بأنه قد‬ ‫قتل مرة واحدة فقط»‪.‬‬ ‫ربما كان كانط نفسه ضحية لهذا‬ ‫الالوعي الثقافي نفسه‪ ،‬عندما أكد أنه‬ ‫من دالئل العدالة الحاجة إلى قانون‬ ‫اإلعدام لكل القتلى‪.‬‬ ‫عندما أكد كانط أن «اإلنسان‪،‬‬ ‫وفي العموم‪ ،‬أي كائن عاقل موجود‬ ‫كغاية في حد ذاته وليس كمجرد‬ ‫وسيلة لالستخدام االنتهازي لهذه أو‬ ‫تلك اإلرادة»‪ ،‬أنه يصف أننا نمارس‬ ‫سلطاتنا في شكل عنف غير شرعي‪،‬‬ ‫محولين المتهم إلى «وسيلة»‪ .‬الطابع‬ ‫«الشخصي» لألمر القطعي لكانط يتضح‬ ‫بصورة أفضل عندما يقول إن «الكائنات‬ ‫العاقلة تدعى أشخاصاً‪ ،‬ألن شخصياتهم‬ ‫تشير إليهم‪ ،‬كغايات في حد ذاتهم‪ ،‬أي‪،‬‬ ‫كشيء ال يجب استغالله ليصبح مجرد‬ ‫وسيلة‪ ،‬وبهذا يحد من أي قهر»*‪ .‬قتل‬ ‫إنسان ليتعلم اآلخرون ويكون عبرة لهم‬ ‫هو استغالل هذا اإلنسان كوسيلة لهذا‬ ‫«التعليم»‪ ،‬وبهذا المعنى‪ ،‬يعد قهرًا وعدم‬ ‫احترام هائل‪.‬‬ ‫* كانط‪ .‬ميتافيزيقية األخالق‪ ،‬آجيالر‪،‬‬ ‫بوينوس آيرس‪ .1968 .‬ص ‪123‬و ‪.124‬‬

‫‪71‬‬


‫أشهر عمل أدبي يتناول قضية الثأر‬ ‫على اإلطالق هو مسرحية «هاملت»‬ ‫لشكسبير‪.‬‬ ‫هاملت‪ ،‬ذلك األمير الجميل الذي أمره‬ ‫شبح أبيه أن يثأر له من أخيه الذي قتله‬ ‫وتزوج زوجته‪ ..‬هي األسطورة نفسها‬ ‫التي كانت بطلتها إيزيس‪ ،‬التي ظلت‬ ‫تربي حورس حرص ًا على الثأر من مقتل‬ ‫أبيه على يد إله الشر ست‪ .‬ولكن ما هو‬ ‫الثأر؟ هل هو االنتقام؟ هناك تداخل بين‬ ‫اللفظين في اللغات األجنبية‪ ..‬بل إن‬ ‫هناك مث ً‬ ‫ال شهيرًا يقول‪« :‬الثأر‪ ..‬طبق‬ ‫يفضل أن يقدم باردًا»‪ ،‬وهو منتشر في‬ ‫لغات كثيرة حية‪ ،‬ولكن ال أحد يعرف‬ ‫من أين جاء‪ ،‬فبينما يربطه األكثرية‬ ‫بتراث المافيا في الجنوب اإليطالي‪،‬‬ ‫هناك من يرى أنه جاء من شرق آسيا‪،‬‬ ‫من اليابان أو كوريا‪ ،‬وهناك من يؤكد‬ ‫أنه مثل فرنسي أصيل‪.‬‬

‫‪ - Sandro Botticelli‬إيطاليا‬

‫الموضوع األثير لألدب والفن‬

‫الثأر‪ ..‬طبق‬ ‫فضل أن ي ُ َّ‬ ‫ي ُ َّ‬ ‫قدم بارد ًا‬ ‫د‪ .‬ح�سني حممود‪ -‬روما‬ ‫‪72‬‬

‫أما الثأر تعريف ًا فهو «رغبة في إقامة‬ ‫العدل يثيرها دافع قوي يتبع ضغينة أو‬ ‫استياء»‪ ،‬وفي ذهن من يريد أن يثأر أنه‬ ‫تحمل ضررًا سواء كان ضررًا واقعي ًا أو‬ ‫افتراضي ًا ويريد أو يحتاج إلى «تصفية‬ ‫الحساب» مع من كان سبب ًا في هذه‬ ‫المعاناة واالستياء‪.‬‬ ‫فالثأر إذًا هو سلوك ينشأ من‬ ‫اإلحساس بالظلم‪ ،‬وهو يظهر أحيان ًا‬ ‫بشكل فوري (متفجر)‪ ،‬أو مؤجل‬ ‫(استراتيجي) أو على نوبات‪ ،‬ولكنه‬ ‫يهدف في النهاية إلى إقرار توازن في‬ ‫القوى‪ ،‬وإقامة العدل‪ ،‬دون المرور‬ ‫بالقواعد العادية التي تحكم التعامل‬ ‫والتعايش بين البشر‪ ،‬بل يستخدم‬ ‫وسائل شخصية للغاية‪ .‬والمثل الشعبي‬ ‫العالمي الذي أشرنا إليه يعني تحديدًا‬ ‫أن الثأر هو شعور يرتبط بالعقالنية‬ ‫والحسابات‪ ،‬ومن ثم بالتفكير والتحليل‪.‬‬ ‫وربما هذا ما يجعل الثأر موضوع ًا جاذب ًا‬ ‫وجذاب ًا في األدب‪.‬‬ ‫ولهذا السبب نفسه نجده في التراث‬


‫األدبي العالمي‪ :‬الفرعوني‪ ،‬واليوناني‪،‬‬ ‫والالتيني‪ ،‬والعربي‪ ،‬إلى جانب األدب‬ ‫الحديث كله‪ ،‬ولكن تتغير دينامياته‬ ‫بتغير الزمن‪ ،‬ويتحول مع المكان‪،‬‬ ‫وينطلق من الفلسفة‪.‬‬ ‫في عمله الشهير «هكذا تحدث‬ ‫زرادشت» يؤكد الفيلسوف األلماني‬ ‫نيتشه‪« :‬روح الثأر يا أصدقائي هو‬ ‫أفضل الموضوعات التي َتفكَّر فيها‬ ‫اإلنسان‪ ،‬فحيث توجد معاناة البد أن‬ ‫يوجد عقاب»‪ ،‬وربما كان نيتشه هو‬ ‫أفضل الفالسفة الذين تفكروا في هذا‬ ‫الموضوع‪ ،‬وما كتبه في هذا هو المرجع‬ ‫األساسي في هذا الموضوع‪.‬‬ ‫فمن رأي نيتشه أن روح الثأر‪ ،‬الذي ال‬ ‫يتعلق فقط بنوع معين من البشر‪ ،‬وإنما‬ ‫بالبشرية كلها‪ ،‬ينطوي على أن «من‬ ‫يريد أن يثأر يريد أن يضع خصمه في‬ ‫حالة تبعية‪ ،‬وأن يستخدم العنف ضده»‪.‬‬ ‫وهو كذلك يفتح صراع ًا بين الزمن‬ ‫واإلرادة‪ :‬فالثأر يعني إحياء الماضي‪،‬‬ ‫ومنع األشياء من المضي في مسارها‬ ‫لتصحيحها وتعديلها‪ .‬ويرى نيتشه‬ ‫في هذه الدينامية إمكانية لإلنسان أن‬ ‫يتخلص من ثأره‪ ،‬فاإلرادة تنجح خالل‬ ‫دورة الزمن في إعادة صياغة الواقع‬ ‫وفرض عمل مضاد لمسار األشياء‪.‬‬ ‫في التراجيديا اإلغريقية يمضي‬ ‫الحدث التراجيدي نحو حل العقدة‬ ‫عندما تبدأ فكرة العدالة في التحقق‪،‬‬ ‫وفي غالب األحيان تبدأ هذه الفكرة في‬ ‫التحقق من خالل الثأر‪ .‬إلسيخليوس‬ ‫ثالثية بعنوان األوريستيا ‪:‬تتكون من‬ ‫ثالث مسرحيات‪( :‬أجاممنون‪ ،‬حامالت‬ ‫وتتناول‬ ‫الصافحات)‪,‬‬ ‫القرابين‪،‬‬ ‫األوريستيا موضوع اللعنة المتوارثة‬ ‫في بيت أتريوس وأحداثها الرئيسية‬ ‫كاآلتي(‪ : )1‬أنجب بلوبس ولدين هما‬ ‫أتريوس وثيستس‪ ،‬ولقد حاول ثيستس‬ ‫غواية زوجة أتريوس‪ ،‬قام أتريوس‬ ‫بالتظاهر بأنه قد غفر خطأ أخيه‪ ،‬لكنه‬ ‫انتقام ًا من أخيه قام بدعوته إلى مأدبة‪،‬‬

‫تتردد ثيمة الثأر‬ ‫في معظم‬ ‫المسرحيات‬ ‫التراجيدية‬ ‫على مدار التاريخ‪،‬‬ ‫وأشهرها مأساة‬ ‫هاملت‬ ‫كان أتريوس قد ذبح فيها أبناء أخيه‬ ‫إال واحدًا وقدمهم أتريوس ألخيه في‬ ‫المأدبة‪ ،‬وأكل األب لحم أبنائه دون أن‬ ‫يعرف الحقيقة‪ ،‬ولكنه سرعان ما علمها‬ ‫فلعن أتريوس وذريته وفر بابنه الباقي‬ ‫هارباً‪ .‬ثم تزوج ابنا أتريوس‪ :‬أجاممنون‬ ‫ومينيالوس من كليتمنسترا وهيلين‬ ‫التي قامت من أجلها الحرب الطروادية‬ ‫الشهيرة وأثناء غياب أجاممنون في‬ ‫الحرب يعود إيجستوس ابن ثيستس‪،‬‬ ‫ويتخذ كليتمنسترا عشيقة له‪ ،‬وعندما‬ ‫يعود أجاممنون إلى وطنه منتصرًا‪،‬‬ ‫تتآمر كليتمنسترا وعشيقها لقتل‬ ‫أجاممنون‪ ،‬وبالفعل ينجحان في ذلك‬ ‫(وهذا ما تناولته مسرحية أجاممنون)‪.‬‬ ‫وعندما يكبر أوريستس ابن أجاممنون‪،‬‬ ‫يعود إلى وطنه وباالتفاق مع شقيقته‬ ‫إلكترا لقتل كليتمنسترا وعشيقها انتقام ًا‬ ‫ألبيه (و هذا ما تناولته مسرحية حامالت‬ ‫القرابين)‪ ،‬فتطارده األيرينيات عقاب ًا له‬ ‫على جريمته إلى أن تتم محاكمته وتعلن‬ ‫براءته فترفع اللعنة من منزل أتريوس‪.‬‬ ‫هذه األحداث التراجيدية المركبة‬ ‫يتوقف حلها على فكرة الثأر‪ ،‬وهي‬ ‫التيمة التي تتردد بعد ذلك في معظم‬ ‫المسرحيات التراجيدية على مدار‬ ‫التاريخ‪ ،‬وأشهرها كما أسلفنا مأساة‬ ‫هاملت‪ ،‬والتي تجد صدى لها في الجزء‬ ‫األول من ثالثية أسخيليوس‪.‬‬ ‫وال ننسى رواية الكاتب الفرنسي‬ ‫الشهير الكسندر دوما «الكونت دي مونت‬ ‫كريستو» التي قامت حبكتها الروائية‬

‫على فكرة التخطيط للثأر‪ ،‬وقد عرفها‬ ‫العرب أيض ًا باسم «أمير االنتقام» وكانت‬ ‫موضوع ًا ألفالم كثيرة من أشهرها الفيلم‬ ‫العربي «أمير الدهاء» إخراج بركات‬ ‫وبطولة أنور وجدي‪ .‬تحكي الرواية‬ ‫قصة ادموند دانتيس‪ ،‬صياد السمك‬ ‫الشاب المتهم زورًا بالخيانة ومناصرة‬ ‫االمبراطور نابليون المنفي‪ .‬اعتقل‬ ‫دانتيس وأودع سجن شاتو بالقرب من‬ ‫مرسيليا‪ .‬بعد مرور خمسة عشر عام ًا‬ ‫على سجنه‪ ،‬تمكن دانتيس من الهرب‬ ‫بأن حل محل جثة صديقه المتوفَّى‬ ‫(األب فاريا)‪ .‬بعد رميه في البحر‪ ،‬سبح‬ ‫إلى بر األمان واستقل سفينة صيد إلى‬ ‫إيطاليا‪ .‬غادر جنوب ًا إلى جزيرة مونت‬ ‫كريتو واستخرج الكنز الذي اخبره عنه‬ ‫صديقة األب فاريا ومن ثم استخدم هذا‬ ‫الكنز لمكافأة أصدقائه ومعاقبة أعدائه‪.‬‬ ‫وفي األدب‪ ،‬وخاصة في المرحلة‬ ‫الرومانيكية‪ ،‬كانت هناك تنويعات‬ ‫مختلفة على تيمة الثأر‪ ،‬فلم يعد حل‬ ‫عقد المأساة في األخذ بالثأر‪ ،‬وإنما‬ ‫أصبح هناك صراع بين الثأر والحب‪،‬‬ ‫وأيهما ينتصر‪ ،‬مثلما في رواية «رحلة‬ ‫االنتقام» لروجرز روزماري من القرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬وتحكي عن سنكلير التي‬ ‫جاءت من أميركا إلى لندن لتأخذ بثأرها‪،‬‬ ‫ولكنها تقع في غرام من يجب أن تثأر‬ ‫منها‪ ،‬ويبدأ صراعها بين الحب والثأر‪.‬‬ ‫شيء من هذا نجده أيض ًا في فيلم يوسف‬ ‫شاهين «صراع في الوادي»‪ ،‬والذي‬ ‫ينتهي إلى االحتكام إلى القانون لكي‬ ‫يتولى أخذ الثأر بد ًال من البطل‪ ،‬وهو‬ ‫ما قد يختلف مع حقيقة سيكولوجية‬ ‫تقول إن األخذ بالثأر يعطي شعورًا‬ ‫بالراحة‪ ،‬وأحيان ًا بالمتعة‪ .‬ومن أشهر‬ ‫األفالم العالمية ثالثية للمخرج الكوري‬ ‫بارك شان ووك وحملت عنوان «ثالثية‬ ‫االنتقام» بدأت عام ‪ 2002‬بفيلم «السيد‬ ‫انتقام»‪ ،‬ثم «الولد العجوز» عام ‪2003‬‬ ‫وأخيرًا «السيدة انتقام» عام ‪،2005‬‬ ‫وهو فيلم يحكي على مدار زماني واسع‬ ‫كل مظاهر هذا الشعور باالنتقام ورغبة‬ ‫األخذ بالثأر‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫ولجيمس ماكيتجيو فيلم أميركي‬ ‫بعنوان «أول حروف الثأر» ثم سلسلة‬ ‫أفالم الرعب ومنها «زومبي‪ ،‬انتقام‬ ‫األبرياء» لكاردوني عام ‪.2006‬‬ ‫ألنطونيو فيكيرا كتاب بعنوان «موجز‬ ‫تاريخ الثأر‪ :‬األدب والفن والسينما ‪-‬‬ ‫العدالة األصلية» يستعرض فيه فكرة‬ ‫الثأر عبر الفنون واآلداب‪ .‬وأهم ما‬ ‫يتوصل إليه من نتائج هو أن الرغبة في‬ ‫الثأر هي الشكل البدائي للعدالة‪ ،‬والعمل‬ ‫الالزم إلعادة توازن مفقود‪ ،‬وأن مفهوم‬ ‫«القانونية الشرعية» هو الذي حل محل‬ ‫هذه الرغبة في العصر الحديث‪ ،‬فالتمرد‬ ‫تم تجاوزه‬ ‫الشخصي ضد عمل ظالم َّ‬ ‫في العصر الحديث بالقانون‪ ،‬وهو‬ ‫تجريدي وغير شخصي‪ ،‬وبفكرة الدولة‬ ‫باعتبارها «جماعية» غير ذات مصلحة‪.‬‬ ‫وألن الثأر تم طرده من المؤسسات فقد‬ ‫وجد مالذًا له في الفن‪ :‬في الرسم أو ًال ثم‬ ‫بعد ذلك في األدب‪ ،‬وعبرت عنه السينما‬ ‫أفضل تعبير‪ ،‬حيث أصبحت الرغبة في‬ ‫الثأر مشبعة للجمهور الذي حرم من‬ ‫تنفيذ ثأره بنفسه‪.‬‬ ‫هذه الرغبة قديمة قدم الدهر‪ ،‬وعبرت‬ ‫عنها المالحم الوطنية واألساطير القديمة‬ ‫‪74‬‬

‫الرغبة في الثأر هي‬ ‫الشكل البدائي‬ ‫للعدالة‪،‬ومفهوم‬ ‫«القانونية الشرعية»‬ ‫هو الذي حل محل‬ ‫هذه الرغبة في‬ ‫العصر الحديث‬ ‫والتراجيديا الكالسيكية‪ ،‬والمسرح‪.‬‬ ‫واالنتقام أو الرغبة في الثأر لها‬ ‫أشكال وأنواع متعددة‪ :‬فهناك الثأر‬ ‫بعد معاناة‪ ،‬والثأر بعد تحمل تعرض‬ ‫للعنف‪ ،‬والثأر للشرف‪ ،‬والثأر الجماعي‬ ‫ضد حاكم طاغية أو مستبد‪.‬‬ ‫الثأر في النوع األول يتحقق بعد أن‬ ‫تجعل خصمك يعاني مثلما عانيت منه‬ ‫أنت‪ ،‬وغالب ًا يكون عنيف ًا بحيث تنقطع‬ ‫الصلة مع خصمك بعده‪ ،‬وأحيان ًا ما‬ ‫يكون تعليمي ًا حتى ال يكرر الخطأ مرة‬ ‫أخرى‪ .‬أما الثأر للشرف فيحدث عندما‬

‫يريد الشخص أن يظهر للعالم أن الضرر‬ ‫الذي أصابه لم يكن يستحق أن يصيبه‪،‬‬ ‫وغالب ًا ما ال يكون الخطأ قد سبب ألم ًا‬ ‫أو عنف ًا ولكنه مرتبط بالمبادئ‪ .‬وأخيرًا‬ ‫الثأر الجماعي‪ ،‬وهو يحدث على وجهين‪:‬‬ ‫فإما أن ينتقم فرد من مجموعة ظلمته‬ ‫بأن يدبر لها السوء ويعتبر المجموعة‬ ‫كلها مذنبة بالقدر نفسه‪ ،‬والوجه اآلخر‬ ‫عندما تتعرض جماعة لظلم من شخص‪،‬‬ ‫فتثور عليه وتأخذ بثأرها منه‪.‬‬ ‫أما عن تأثير تحقق الثأر فيختلف من‬ ‫شخص آلخر‪ :‬فهناك الشعور بالرضا‬ ‫ألخذ الثأر‪ ،‬واإلحساس بالتعويض‬ ‫لتحقق العدالة‪ .‬الشعور بالرضا إيجابي‬ ‫ألنه يجعل الشخص الذي حقق ثأره‬ ‫أقرب إلى التصالح مع من ظلمه‪.‬‬ ‫والتأثير اآلخر هو الندم والتوبة عندما‬ ‫يعترف الظالم بظلمه وبالضرر الذي‬ ‫سببه ويطلب الصفح‪ .‬وهناك شعور‬ ‫عدم جدوى‪ ،‬عندما يحس الشخص بأنه‬ ‫أفرغ كل شحناته‪ ،‬وأدرك أن عمله لم‬ ‫يغير الموقف‪ ،‬فال يعود يشعر بالحاجة‬ ‫لالنتقام‪ ،‬واآلن لم يعد يحس بأي‬ ‫رغبة في الثأر‪ ،‬وغالب ًا ما يدخل مرحلة‬ ‫اكتئاب‪.‬‬


‫ا�ستدراك‬

‫أمجد ناصر‬

‫إرث «الدولة الوطنية»‬ ‫حد ذاتها‪ ،‬للقراءة بما تحمل من معان‬ ‫كلمة «فتنة» مثيرة‪ ،‬في ِّ‬ ‫ودالالت عدي���دة تبدأ بمعنى «الحرق» لتميي���ز معدن عن معدن‬ ‫حب ًا حتى زوغان‬ ‫وتنتهي بالفضيحة والبالء‪ ،‬م���رورًا بالتولّه َّ‬ ‫العقل‪ .‬فالفتنة‪ ،‬لغوياً‪ ،‬تعني‪« :‬االبتالء واالمتحان واالختبار‪.‬‬ ‫والذهب»‪ ،‬أي أذبتهما‬ ‫الفض َة‬ ‫وأصلها‬ ‫مأخوذ من الق���ول‪َ :‬فَتْن ُت َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫���مي الصائغ‪ ،‬قديماً‪،‬‬ ‫بالن���ار لتمييز الرديء من الجيد‪ ،‬لذلك ُس َّ‬ ‫الف َّتان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كم���ا تعني «الفتنة» الضالل واإلث���م وما يقع بين الناس من‬ ‫خ�ل�اف يؤدي إلى فرقة واقتتال‪ ،‬وعندم���ا تقرن بالمرأة تعني‬ ‫التولّه والتعلق‪ .‬فـ «المفت���ون» (أو المفتونة بالطبع) ينصرف‬ ‫أي أمر آخر س���وى م���ا أوقعه في االفتت���ان‪ .‬وقد ال تعرف‬ ‫عن ِّ‬ ‫النساء والفتيات العربيات اللواتي يحملن اسم «فاتن» أنَّه أحد‬ ‫حيد عن‬ ‫أسماء الشيطان! فالفتنة تزيغ العقل‪ُ .‬ت ُّ‬ ‫خل بالتوازن‪ُ .‬ت ُ‬ ‫حيد‬ ‫الصواب وكل ما يزيغ العقل والرش���د‬ ‫ُّ‬ ‫وي ُ‬ ‫ويخ���ل بالتوازن ُ‬ ‫عن الصواب ينس���به الموروث الديني والشعبي إلى الشيطان!‬ ‫إن اهلل‬ ‫«يْفتن»‪ ،‬أيضاً‪ ،‬رغم أن هن���اك حديث ًا يقول‪َّ :‬‬ ‫الجم���ال قد َ‬ ‫يحب الجمال‪ .‬بعض المفس���رين رأى ف���ي الجمال الذي‬ ‫جمي���ل ُّ‬ ‫وحس���ن الهيئة‪ .‬تفس���ير كهذا ال‬ ‫قصده الحديث الثياب والطيب ُ‬ ‫بد أن يكون‬ ‫ال‬ ‫الذي‬ ‫اهلل‬ ‫جمال‬ ‫مع‬ ‫يستقيم‪ ،‬في رأيي المتواضع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أكثر جوهري���ة من ذلك‪ ..‬وهذه‪ ،‬في كل حال‪ ،‬مجرد حاش���ية‬ ‫متن مضطرب‪.‬‬ ‫سريعة على ٍ‬ ‫استقر‪ ،‬على لساننا‪،‬‬ ‫من بين المعاني العديدة لكلمة «فتنة»‬ ‫َّ‬ ‫والتحزب األعمى لرأي دون آخر‪ ،‬وتحريك جمار‬ ‫الفرقة‬ ‫ّ‬ ‫معنى ُ‬ ‫العصبيات الديني���ة والقبلية والجهوية التي يفترض أن نصف‬ ‫قرن من عمر «الدولة الوطنية» قد جعلها أثرًا من بعد عين‪ .‬لكن‬ ‫«الدول���ة الوطنية» العربية التي جاءت بعد خروج المس���تعمر‬ ‫األجنبي لم تفعل ذلك‪ .‬فقد وس���م العس���كر ما يسمى بـ «الدولة‬ ‫الوطني���ة العربية» بميس���مهم‪ ،‬طبعوها بطابعه���م‪ ،‬وطابعهم‬ ‫يحمل‪ ،‬من بين ما يحمل‪ ،‬أث���ر القبيلة والجهة وربما الطائفة‪،‬‬ ‫فضالً‪ ،‬عن مسلك الثكنة وثقافتها‪.‬‬ ‫هكذا وجدت االنتفاضات العربية نفس���ها أمام مخايل الفتنة‬ ‫فزاع���ة جوفاء يرفعها النظام‬ ‫وأش���باحها‪ .‬لم تكن الفتنة مجرد َّ‬ ‫العرب���ي‪ ،‬في هزيع «الدولة الوطنية»‪ ،‬بل فيها‪ ،‬لألس���ف‪ ،‬من‬

‫رباه النظام في‬ ‫الوهمي‪.‬‬ ‫يقل ع���ن‬ ‫الحقيقي ما ال ُّ‬ ‫الحقيقي فيها َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫أقفاصه ليخيف بعض الش���عب من بعضه اآلخر‪ ،‬ليجعل شطرًا‬ ‫والوهمي يكمن في‬ ‫ينظر‪ ،‬في ريبة وحذر‪ ،‬إلى ش���طر آخ���ر‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫التضخي���م والفبركة واإلبقاء على م���واد الفرقة وآالتها‪ .‬ورغم‬ ‫صدور معظم النظم العربية م���ن مراجع «مدنية» للدولة إال أن‬ ‫هش لما هو عكس���ها‪ .‬فقد‬ ‫ه���ذه «المدنية» لم تكن س���وى غطاء ٍّ‬ ‫والجهوي‬ ‫والقبلي‬ ‫والطائفي‬ ‫الديني‬ ‫اس���تخدمت النظم العربية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عندم���ا وج���دت أن بعض��� ًا من ه���ذه العناصر يكفل له���ا البقاء‬ ‫واالس���تمرار في الحكم وحاربته عندما لم يع���د يخدم أهدافها‪.‬‬ ‫الم���ادة موجودة‪ ،‬في أجنتها أو ف���ي خلقتها األولى‪ ،‬وما على‬ ‫«الدولة» سوى أن تنفخ فيها روحها الشريرة‪.‬‬ ‫أكثر من س���تة‪ ،‬أو سبعة عقود على ما نسميه إرث «الدولة‬ ‫الوطنية» يكاد يتبدد على يد األنظمة العربية الراهنة‪ ،‬صانعة‪،‬‬ ‫أو وريثة‪« ،‬الدولة الوطنية»‪ .‬كأن كل ش���يء كان مزحة ثقيلة‪.‬‬ ‫كأن االس���تقالل ل���م ينجز‪ ،‬والس���يادة لم تت���م‪ ،‬والمجتمع لم‬ ‫َّ‬ ‫ينصهر‪ ،‬والطبقات لم تنش���أ‪ ،‬فنعود‪ ،‬بلمحة بصر‪ ،‬إلى عصر‬ ‫م���ا قبل الدولة‪ .‬هكذا رأينا صراعات س���رعان ما احتدمت ما أن‬ ‫أطيح بحسني مبارك في مصر‪ .‬صراعات اجتماعية وسياسية‬ ‫ودينية تصعد على الس���طح الخادع ال���ذي وارى النظام خلفه‬ ‫قضاي���ا لم يعم���ل على حله���ا‪ ،‬بل اس���تخدمها حين��� ًا وأججها‬ ‫حين��� ًا آخر‪ .‬لكن م���ا تعرفه مصر‪ ،‬دولة ومجتمع���اً‪ ،‬أقل بكثير‬ ‫مما تش���هده بلدان كليبيا أو س���ورية أو اليم���ن‪ .‬هناك تتراءى‬ ‫المجتمعات وكأنها مكونة من قطع جرى لحمها بالقس���ر‪ .‬األمر‬ ‫بطبيع���ة الحال ليس كذل���ك تماماً‪ ،‬ولكن هذا ما اش���تغل عليه‬ ‫القذافي نحو خمس���ة عقود‪ ،‬وترك ‪ -‬بعد مصرعه الفظيع‪ -‬إرث ًا‬ ‫ثقي�ل�ا مما ه���و قبلي وجهوي ومدني ودين���ي‪ ،‬وهذا ما صنعه‬ ‫ً‬ ‫نظام علي عبد اهلل صالح وما يواصله‪ ،‬بعنف وقهر ش���ديدين‪،‬‬ ‫النظام السوري‪.‬‬ ‫لم تكن الفتن���ة كلمة رائجة قبل االنتفاض���ات العربية على‬ ‫النحو الذي نراه اليوم‪ .‬إنها‪ ،‬اآلن‪ ،‬تكاد تكون كلمة الس���ر بين‬ ‫أنظمة عربية تقول لش���عوبها وللعالم‪ :‬أنا أو الطوفان‪ .‬أنا أو‬ ‫الحرب األهلي���ة‪ .‬إما أن نحكمكم بالحدي���د والنار أو أن تكونوا‬ ‫أمام أشكال من الفتن لن تبقي ولن تذر‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫�أماكنهم‬

‫محمد ب ّنيـس‬ ‫ْ‬ ‫المكتبَة‬ ‫صداقـة‬ ‫َ‬ ‫‪.1‬‬ ‫صداقة تعود إلى بداية الشباب‪.‬‬ ‫تلك‬ ‫ٌ‬ ‫أستقل بها في أعلى طابق‬ ‫غرفة‬ ‫صداقة‬ ‫ّ‬ ‫حي الع���ْدوة بفاس‪.‬‬ ‫ببي���ت العائلة‪ .‬في ّ‬ ‫هناك أخذت أتعلم أبجدية المكان‪ ،‬الذي‬ ‫ظ���ل مكاني الش���خصي‪ .‬المكتب���ة‪ .‬تلك‬ ‫مع القراءة والكتابة‪.‬‬ ‫بذرة َتعلُّم ما يأتي َ‬ ‫التأم���ل‪.‬‬ ‫الصم���ت‪.‬‬ ‫الس���هر‪.‬‬ ‫العزل���ة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنصات‪ .‬مكان ل���ي‪ .‬هو وأنا صديقان‪.‬‬ ‫تدوم العالقة‬ ‫نتبادل ما يلزم من أجل أن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يب���وح كل واحد‬ ‫أن‬ ‫أجل‬ ‫م���ن‬ ‫أو‬ ‫بينن���ا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بس���ره إلى اآلخر‪ .‬غرف���ة صغيرة‪.‬‬ ‫منا‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫سقف من خشب‬ ‫بالجبس‪.‬‬ ‫حيطان‬ ‫أربعة‬ ‫ْ‬ ‫األرز‪ ،‬حس���ب ما كان البنّاؤون في فاس‬ ‫وأنت‪،‬‬ ‫عمره‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يختارون لسقف سيطول ُ‬ ‫نفس���ك وسط‬ ‫المربع‪ ،‬تنظر إلى‬ ‫َ‬ ‫في هذا ّ‬ ‫وتطل عل���ى يدك تكت���ب‪ .‬هناك‬ ‫كت���ب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال���درس األول‪ .‬ف���ي الق���راءة والكتابة‪.‬‬ ‫مم ْن أصبحوا‬ ‫بعي���دًا عن اآلخرين‪ ،‬قريب ًا ّ‬ ‫أفراد عائلتي الجديدة‪ ،‬من شعراء وكتاب‬ ‫َ‬ ‫وفنانين‪.‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫كبرت‬ ‫غير ذل���ك‪ ،‬الحقاً‪ُ .‬‬ ‫ل���م يكن لي ُ‬ ‫وانتقلت من‬ ‫السن‪.‬‬ ‫في‬ ‫المكتبة مع تقدمي‬ ‫ُ‬ ‫بيت العائلة إلى بيتي الش���خصي‪ ،‬ومن‬ ‫فاس إلى المحمدية‪ .‬مدينة على ش���اطئ‬ ‫‪76‬‬

‫المحيط األطلس���ي‪ ،‬بين ال���دار البيضاء‬ ‫مكان يحافظ‬ ‫والرباط‪ .‬مدينة هي نفسها ٌ‬ ‫لي على حي���اة العزلة الت���ي كنت دائم ًا‬ ‫حريص��� ًا عليه���ا‪ .‬مدين���ة صغي���رة‪ .‬في‬ ‫«القصَبة»‪ ،‬التي هي من عالمات‬ ‫مركزها‬ ‫ْ‬ ‫احتماء‬ ‫هذه الثغور التي أقامها المغاربة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من غزو برتغالي وإسباني‪ ،‬بعد سقوط‬ ‫األندلس‪ ،‬وضعف الدولة‪ .‬مدينة الزهور‬ ‫بلغة الفرنسيين‪ .‬أما فضالة‪ ،‬فهو اسمها‬ ‫الذي عرفتها به وأنا صغير‪ .‬في كل مرة‬ ‫كنت أسمع بين‬ ‫لما ُ‬ ‫أحلم بزيارتها‪َ ،‬‬ ‫كنت ُ‬ ‫أه���ل فاس عن جمال ش���اطئها‪ .‬اخترتها‬ ‫زلت أعيش‪ ،‬رغم‬ ‫مق���رًا للمعمل‪ .‬وهنا ما ُ‬ ‫انتقالي للعمل في الرباط‪.‬‬ ‫حظ أن أسكن‪،‬‬ ‫في المحمدية كان لي ُّ‬ ‫ف���ي البداي���ة‪ ،‬ش���قة بش���ارع الجي���ش‬ ‫مكنتني من أن أس���تقل بغرفة‪،‬‬ ‫الملكي‪ّ .‬‬ ‫هي المكتبة‪ .‬نافذة على يس���ار المكتب‪.‬‬ ‫ب���اب تقابلها نوافذ‬ ‫وم���ن الجهة األخرى‬ ‫ٌ‬ ‫غرفة الضيوف‪ ،‬تمتلئ ضوءًا وأشجارًا‬ ‫ونباتات‪ .‬باب مستعد أن يكون مفتوح ًا‬ ‫مكتب خشبي‬ ‫أو مغلقاً‪ ،‬حس���ب ما أريد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أفضل‪.‬‬ ‫ُم‬ ‫س���تعمل‪ ،‬بحجم كبير‪ .‬ه���و ما ّ‬ ‫َ‬ ‫أصبحت أكب���ر‪ .‬خانات‬ ‫ثم خزان���ة كتب‬ ‫ْ‬ ‫مخصص���ة لصن���ف مح���دد م���ن الكتب‪.‬‬ ‫ف���ي الوس���ط الدواوي���ن‪ ،‬وحولها كتب‬ ‫اللغة والمعارف والفن���ون‪ .‬كتب باللغة‬

‫الفرنسية إلى جانب العربية‪ .‬وللمجالت‬ ‫ٌ‬ ‫رفوف مس���تقلة بها‪ .‬مكتبة‬ ‫خاناتها‪ ،‬أو‬ ‫أن أالزمها ساعات‪،‬‬ ‫يمكنني‬ ‫للمس���تقبل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫من يوم ليوم‪.‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫اخترت أن يكون لي‬ ‫لكنن���ي بعد فترة‬ ‫ُ‬ ‫بيت مس���تقل‪ .‬في مانيصمان‪ ،‬عند شرق‬ ‫المحمدية‪ ،‬حيث كان���ت حقول الطماطم‬ ‫والبطاطس‪ .‬ثم في نهاية الس���بعينيات‬ ‫تحولت إلى تجزئة لبن���اء البيوت‪ .‬ولها‬ ‫ْ‬ ‫تيس���ر لي أن‬ ‫هناك‬ ‫الياس���مينة‪.‬‬ ‫اس���م‬ ‫ّ‬ ‫أك���ون أقرب إلى الش���اطئ‪ ،‬وأن تصبح‬ ‫َ‬ ‫طموحي‪ ،‬في تلك‬ ‫ق���در‬ ‫على‬ ‫مكتبة‬ ‫ل���ي‬ ‫ُ‬ ‫الفت���رة‪ .‬منحتها م���ا أملك م���ن جهد في‬ ‫تترس���خ‪ .‬هنا‬ ‫التجهي���ز‪ .‬صداقت���ي لها‬ ‫ّ‬ ‫ان���ات بد ًال من خزان���ة واحدة‪ .‬مكتب‬ ‫خز‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أفس���ح‪ ،‬رفوف أكثر للكت���ب والمجالت‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ش���رفة ونواف���ذ‪ .‬مقعد للق���راءة‪ .‬تجهيز‬ ‫وظيفي‪ ،‬كما نق���ول‪ .‬أي ما أحتاج إليه‬ ‫كي أجلس للق���راءة والكتابة‪ ،‬في غرفة‬ ‫ْ‬ ‫مس���تقلة عن باقي البيت وع���ن العالم‪.‬‬ ‫جدرانه���ا بالكتب‪ .‬مع ذلك‬ ‫مكتبة تمتلئ‬ ‫ُ‬ ‫أش���كو من محدودي���ة محتوياتها‪ .‬وفي‬ ‫ٍ‬ ‫أو ما‬ ‫أضيف‬ ‫كل فرصة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫إصدارات جديدة ْ‬ ‫أعثر عليه من إصدارات قديمة‪.‬‬ ‫الشعر دائم ًا في وس���ط المكتبة‪ .‬هو‬ ‫وأول كت���اب‪ .‬حوله ما يلزم‬ ‫أول الكالم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لدروس���ي ف���ي الجامع���ة‪ ،‬م���ن مراجع‬ ‫الرف���وف نح���و‬ ‫تخ���ص الش���عر‪ .‬تمت���د‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أجنحة‪ .‬هي الفلس���فة‪ ،‬اللغة‪ ،‬الشعرية‬ ‫والس���يميائيات‪ ،‬التص���وف‪ ،‬الرواي���ة‪،‬‬ ‫التاريخ‪ ،‬الحض���ارات‪ ،‬األديان‪ ،‬الفنون‬ ‫التش���كيلية والمعماري���ة‪ ،‬الموس���يقى‪،‬‬ ‫الع���روض والبالغ���ة‪ .‬المعاج���م‪ ،‬خلف‬ ‫المكت���ب مباش���رة‪ ،‬ف���ي متن���اول يدي‪.‬‬ ‫وش���يئ ًا فش���يئ ًا ظهر‪ ،‬في هذه المكتبة‪،‬‬ ‫جناح خ���اص بالثقاف���ة المغربية‪ .‬هو‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فر مم���ا كان عليه في البداية‪.‬‬ ‫أو‬ ‫الي���وم‪،‬‬ ‫ْ ُ‬ ‫وتلك قص���ة الثقافة المغربي���ة‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫حديث���ة وقديمة‪ ،‬على الس���واء‪ .‬إذ كانت‬ ‫الس���بعينيات انطالقة الكتاب المغربي‪،‬‬ ‫الكتاب إلى‬ ‫تحول هذا‬ ‫ثم مع الثمانينيات‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حاضر يفرض نفسه‪.‬‬


‫لذة أن أقرأ وأن أكتب‬

‫‪.4‬‬ ‫الق���راءة عزي���زة عل���ى نفس���ي‪ ،‬منذ‬ ‫الصغر‪ .‬لم يعلمني أح���ٌد كيف أقرأ أو ما‬ ‫حفظت فيه‬ ‫الذي أقرأ‪ .‬بعد الجامع‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬ ‫الق���رآن‪ ،‬جئت إلى المدرس���ة العمومية‪.‬‬ ‫تعرفت قصص األطف���ال التي كانت‬ ‫فيها‬ ‫ُ‬ ‫متداولة بين رفاق في القس���م الدراسي‪.‬‬ ‫ثم ف���ي باب «القرويين» كن���ت‪ ،‬وأنا في‬ ‫تبيين‬ ‫أم���ر ُ‬ ‫بك ّ‬ ‫الطري���ق إلى متج���ر أبي‪ُّ ،‬‬ ‫الكتب مبس���وطة على األرض‪.‬‬ ‫يعرضون‬ ‫َ‬ ‫ش���يء ما‬ ‫األغلف���ة المصورة‪ .‬العناوين‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫كان يثيرن���ي‪ .‬وفي كل مرة أش���تري ما‬ ‫أس���تطيع‪ .‬حتى جاء اليوم الذي أمكنني‬ ‫للشبان‪ :‬المنفلوطي‪ ،‬جبران‪،‬‬ ‫أن أقرأ كتب ًا ّ‬ ‫«أغاني الحياة» ألبي القاس���م الش���ابي‪،‬‬ ‫عمتي‬ ‫ابن ّ‬ ‫«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه‪ُ .‬‬ ‫أصبح يتوف���ر على مكتبة‪ ،‬فيها عناوين‬ ‫فلس���فية وتاريخية ولغوي���ة‪ .‬وفي لمح‬ ‫كبر رفاقي في الدرب‪ .‬أصبحنا‬ ‫َ‬ ‫من البصر ُ‬ ‫الكتب والموسيقى‬ ‫نحب‬ ‫مراهقين‪،‬‬ ‫فجأة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الكالس���يكية والش���طرنج‪ .‬مكتباتن���ا‬ ‫لكل واحد منا‪.‬‬ ‫الصغيرة‬ ‫أبوابها مفتوحة ّ‬ ‫ُ‬ ‫نتبادل الكتب‪ ،‬نقرأ‪ ،‬والليل كنا نس���هـره‬ ‫حتى وقت متأخر‪.‬‬

‫بأن هناك ما‬ ‫من يستطيع أن يقنعني ّ‬ ‫هو أجمل وألذ من القراءة؟ ال أحد‪ .‬الكتب‪.‬‬ ‫المدهش الذي ل���م يزدد مع‬ ‫ه���ذا العال���م‬ ‫ُ‬ ‫تش���عب ًا وانفتاح ًا وألفة وعشق ًا‬ ‫الزمن إال‬ ‫ُّ‬ ‫ومتاهة‪ .‬كذلك كانت لي القراءة‪ ،‬منذ أن‬ ‫أس���فل الحروف وأعالها تنطق‬ ‫سمعت‬ ‫َ‬ ‫في دواخلي‪ ،‬كأنما ه���ي هناك تولد من‬ ‫جديد‪ .‬موسيقى الحروف‪ .‬ومن الحروف‬ ‫أعرف أحيان ًا ما الذي يبدأ‬ ‫إلى الكلمات‪ .‬ال‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫الكلمات‪.‬‬ ‫أم‬ ‫الح���روف‬ ‫بجذبي‪ ،‬هل‬ ‫ُ‬ ‫ترن في‬ ‫أتل���ذذ حق ًا بهذه الكائن���ات التي ّ‬ ‫النفس‪ ،‬بطريقة لم تك���ن لي مع كلمات‬ ‫القرآن‪ .‬في هذه الكائن���ات كانت الحياة‬ ‫حيات���ي‪ .‬وف���ي الق���رآن كان���ت الفواتح‬ ‫غري���ب لحروف ال‬ ‫تركيب‬ ‫َما يأس���رني‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أفهم معناه���ا‪ .‬ربما من هناك أصبح لي‬ ‫ٌ‬ ‫ش���غف بما ال أفهم فأقّدم���ه على ما أفهم‪.‬‬ ‫لكن كائنات الكتاب الحديث تسلمني إلى‬ ‫حيات���ي‪ ،‬اليومية والداخلية‪ .‬أس���تقبلها‬ ‫وأن���ا في حالة رقص‪ .‬وحتى اليوم‪ ،‬مع‬ ‫إغراءات األنترني���ت‪ ،‬ال يزال الكتاب في‬ ‫حياتي هو الكتاب‪.‬‬ ‫‪.5‬‬ ‫أن أق���رأ‪ ،‬وهي الت���ي تقاطعت‪،‬‬ ‫لذة ْ‬

‫أن‬ ‫ذات ي���وم من أي���ام ‪ ،1956‬بنش���وة ْ‬ ‫أكت���ب‪ .‬أتذكر أنني أخ���ذت دفترًا وبدأت‬ ‫أكت���ب‪ ،‬من غير حس���بان‪ ،‬م���ا يرد على‬ ‫ذهني‪ .‬وفي لحظة م���ن الصدفة كان لي‬ ‫ْ‬ ‫لقاء بمن أصبح صديقي الكبير‪ ،‬الشاعر‬ ‫ٌ‬ ‫الخمار الكنّـوني‪ .‬معلمي األول في‬ ‫محمد ّ‬ ‫كتابة قصيدة أولى ه���ي األصعب‪ .‬معه‬ ‫كانت كبة‬ ‫هبت‬ ‫عل���ي القصيدة‪ ،‬كما ل���و ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أقترب منها‪ .‬أتعرف بدهش���ة‬ ‫وأنا‬ ‫ن���ار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عل���ى طبقاته���ا المحجوبة‪ ،‬أس���تغرب‪،‬‬ ‫م���ن قصيدة إلى قصيدة‪ ،‬والصديق معي‬ ‫هول ما أحس‪.‬‬ ‫يصوب‪ْ ،‬‬ ‫ين َصح‪ ،‬يقلل من ْ‬ ‫ّ‬ ‫اختر طريقك‪.‬‬ ‫لي‪:‬‬ ‫قال‬ ‫يوم‬ ‫وذات‬ ‫ْ‬ ‫من مس���اء لمس���اء كانت الكتابة هي‬ ‫عادت���ي الت���ي الزمتني زمن���اً‪ ،‬منذ تلك‬ ‫األي���ام األول���ى م���ن اإلقدام عل���ى كتابة‬ ‫القصيدة كنت أجدني في المس���اء تلقائي ًا‬ ‫مع القصي���دة‪ ..‬عند الغ���روب أو بعده‪.‬‬ ‫وكلمات م���ن القلم إلى‬ ‫دفت���ر في ي���دي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫نفس���ها‪ .‬وأنا أخط‬ ‫تكت���ب‬ ‫الورق���ة‪ .‬هي‬ ‫َ‬ ‫يكون‬ ‫الكلم���ات بت���ؤدة‪ .‬أحب دائم���ا أن‬ ‫َ‬ ‫أعن���ي أن أبطئ‬ ‫الخ���ط جميالً‪ .‬دقيق���اً‪ْ .‬‬ ‫في كتابة الكلم���ة األولى‪ .‬ثم أبطئ أكثر‬ ‫ف���ي التي تليها‪ .‬كلم���ة بعد أخرى‪ ،‬تتبع‬

‫‪77‬‬


‫الوزن الشعري‪ .‬حتى التوتر (أو العنف)‬ ‫بيت‬ ‫يمر عب���ر طقس البطء‪ٌ .‬‬ ‫في الكتابة ّ‬ ‫ينتهي حين ًا وحين��� ًا يظل معلقاً‪ ،‬في كل‬ ‫تش���طيب على كلمة أو ح���رف أو عبارة‬ ‫ْ‬ ‫أن القل���ق صنو الفرح في الكتابة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أدرك ّ‬ ‫مع التش���طيب أتبع ما هو أشّد صرامة‪،‬‬ ‫شيء‬ ‫أحاسب نفسي على ما كتبت‪ ،‬وال‬ ‫َ‬ ‫بعده���ا يصبح باعث ًا على االطمئنان‪ ،‬ثم‬ ‫بي���ت يلج بيتاً‪ ،‬أبيات ه���ي مقطع‪ ،‬كما‬ ‫كانت القصيدة في أيام بدايتها‪ .‬تمر األيام‬ ‫أحس���ب الزمن بمقدار ما أكتب‬ ‫وال أدري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من األبي���ات أو المقاطع‪ .‬وفي الش���هور‬ ‫المترابط���ة يكون للقصي���دة عنوان‪ ،‬هو‬ ‫العالمة على الزمن‪.‬‬ ‫‪.6‬‬ ‫خلوة كانت تتطلبها القصيدة‪ .‬وعندما‬ ‫(والجلوة)‬ ‫فت معن���ى كل من الخلوة‬ ‫تعر ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫تبي َن لي أن طريق الشاعر‬ ‫عند ابن عربي ّ‬ ‫والمتصوف واحدة‪ ،‬لكنهما يفترقان في‬ ‫الخلوة‬ ‫القص���د وفي معن���ى الوص���ول‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫هي العزلة الت���ي تتطلبها الكتابة‪ .‬بيتها‬ ‫َ‬ ‫المكتبة‪ .‬وفي أوقات ومناس���بات تأتي‬ ‫الكتابة على ق���در المكان والعزلة‪ ،‬حتى‬

‫أسميه مكتبة ال مكتب ًا‬

‫‪78‬‬

‫بي���ن الناس‪ .‬ف���ي مقهى أو‬ ‫الجلوة ْ‬ ‫ف���ي َ‬ ‫اآلمن‬ ‫البيت‬ ‫لك���ن‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ال‬ ‫مث‬ ‫فن���دق‬ ‫أو‬ ‫قط���ار‬ ‫َ‬ ‫ه���و المكان ال���ذي بنيته‪ ،‬عبر س���نوات‬ ‫م���ن التأمل والبحث ع���ن الكتب وترتيب‬ ‫تكون‬ ‫الفض���اء‪ .‬كل ذل���ك م���ن أج���ل أن‬ ‫َ‬ ‫الكتاب���ة ف���ي مكانها‪ .‬هو ال���ذي تترجاه‬ ‫قدم ْت من حي���ث ال أعلم‪ ،‬وقد تبدل‬ ‫كلم���ا َ‬ ‫موعدها من المس���اء إلى الصباح‪ .‬تنادي‬ ‫ُ‬ ‫اختي���ار الصمت‬ ‫هن���اك‬ ‫الم���كان‪.‬‬ ‫عل���ى‬ ‫ُ‬ ‫متوفر‪ .‬وحري���ة أن تظل لوقت تنتظر ما‬ ‫تكتب‪ .‬الصمت والحري���ة مع ًا يتكامالن‪.‬‬ ‫من صباح لصباح في المكتبة‪ ،‬ولي فيها‬ ‫األمن أن أكون كما أشاء‪ ،‬ال‬ ‫األمن‪ .‬يعني ُ‬ ‫ش���ي َء يزعجني وأنا أنصت إلى ما أكتب‬ ‫ْ‬ ‫في مجاهدة تتواصل عبر حياة‪ .‬ال أقول‬ ‫يوم ًا أو مدة محدودة‪.‬‬ ‫أسمي المكان مكتبة ال مكتباً‪ .‬المكتب‬ ‫ّ‬ ‫مليء بالواجبات‬ ‫س���لطوي‬ ‫مغلق‬ ‫مكان‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫وحدها‪ .‬أما المكتبة‬ ‫ألن‬ ‫مهيأ ْ‬ ‫َ‬ ‫تق���ول نعم ْ‬ ‫المنفتح على الحياة‪ .‬بناها شعراء‬ ‫فهي ُ‬ ‫وكت���اب ومفك���رون وفنان���ون‪ .‬عوال���م‬ ‫ٌ‬ ‫نف ُسك الذي يصاحبك‪.‬‬ ‫تأتلف معها‪ .‬هي َ‬ ‫وأنت في‬ ‫ينقل���ك م���ن حال إل���ى ح���ال‪َ .‬‬ ‫أعز ما تحب‪ :‬القراءة‬ ‫المكتبة تلتق���ي مع ّ‬

‫والكتابة‪.‬‬ ‫توزيع‬ ‫مكان���ي‪.‬‬ ‫اس���م‬ ‫المكتبة‬ ‫اس���م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فضائها م���ن أمري‪ .‬وهي‪ ،‬م���ع األيام‪،‬‬ ‫كل ما‬ ‫تغتن���ي‪ .‬أكاد أق���ول إن ّ‬ ‫تتس���ع‪ْ ،‬‬ ‫فيه���ا يعنيني‪ ،‬ال أتخلى عن���ه‪ .‬عناوين‬ ‫تأخذ مكان أخرى‪ ،‬حسب الزمن الشعري‬ ‫حي تتبدل‬ ‫والثقاف���ي‪ .‬ألن المكتبة ٌ‬ ‫مكان ٌّ‬ ‫بعض مالمح���ه‪ ،‬من فت���رة ألخرى‪ .‬مع‬ ‫ُ‬ ‫ذل���ك أحتفظ ف���ي مكان منفص���ل بما لم‬ ‫أو ال يعلمني‬ ‫يع���ْد يجيب على أس���ئلتي ْ‬ ‫ُ‬ ‫َما ال أعلم‪ .‬عندما أدخل إلى هذه المكتبة‬ ‫وحدي‪.‬‬ ‫أحس���ني أطأ عتبة ْ‬ ‫���و لي ْ‬ ‫بيت ُه َ‬ ‫ِ‬ ‫بابه يف���رض العزل���ة‪ ،‬التي ه���ي رح ُم‬ ‫حريت���ي‪ .‬عزلة أجهل أس���رارها‪ ،‬أتركها‬ ‫تقودني إلى حيث هي تريد‪.‬‬ ‫‪.7‬‬ ‫بي���ن الق���راءة والكتاب���ة م���ا ال يحّد‬ ‫م���ن التواص���ل والتجاوب‪ .‬ثم���ة أعمال‬ ‫أستسلم لقراءتها بنشوة تنسيني الزمان‬ ‫ُ‬ ‫أو تعيدني إليهما بقوة كادت‬ ‫والم���كان‪ْ ،‬‬ ‫أنتقل بين ما ترسم األعمال‬ ‫أن تتالشى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫خارطته‪ .‬ذهاب ًا وإياب ًا في قراءة تستمر‪.‬‬ ‫نعم���ة أن أحي���ا في هذا‬ ‫تهبن���ي ْ‬ ‫أعم���ال ُ‬ ‫أحس بمعنى أن أكون‬ ‫العالم‪ .‬وتتركني ّ‬ ‫موج���وداً‪ .‬هي التي تدلني على ما يجعل‬ ‫الحي���اة مش���تركة بيني وبي���ن غيري‪.‬‬ ‫س���طوة‬ ‫وتمّدن���ي باألعم���ق الذي تدمره‬ ‫ُ‬ ‫استهالك‪ ،‬تستبد بحياة البشرية اليوم‪.‬‬ ‫كل م���رة أس���أل عن معنى الش���عر‪ ،‬عن‬ ‫معنى الثقافة واألعمال األدبية والفكرية‬ ‫أس���تكين إلى كسل في‬ ‫والفنية‪ ،‬حتى ال‬ ‫َ‬ ‫التعامل مع ما أقرأ وما أكتب‪.‬‬ ‫مكاني في القراءة والكتابة المكتبة‪،‬‬ ‫ليس مغلق ًا على نفس���ه‪.‬‬ ‫من يوم ليوم‪َ ،‬‬ ‫هو ف���ي ح���وار ال يتوق���ف م���ع الحياة‬ ‫وكل‬ ‫كل منهم���ا يكلم اآلخ���ر‪ٌّ .‬‬ ‫والم���وت‪ٌّ .‬‬ ‫الطرق األلف لآلخر‪ .‬أصّدق‬ ‫منهما يفتح‬ ‫َ‬ ‫يعتمد‬ ‫ما ينطق به هذا الحوار‪ .‬ألنه حر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التعل���م المتب���ادل‪ .‬بين الم���كان اليومي‬ ‫ومكان الق���راءة والكتابة‪ .‬وفي الش���عر‬ ‫أليس‬ ‫يظه���ر الح���وار بأعمق ما يمك���ن‪َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫كتب رامبـو؟‬ ‫كما‬ ‫الحياة‬ ‫هو‬ ‫الشعر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫�ضحك وجد‬

‫ستفانو بيني‬

‫بعده‬ ‫كانوا يس���ألوني في الخارج دائماً‪ ،‬متى يس���قط بيرلسكوني؟‬ ‫وماذا س���وف يحدث بعده؟‪ .‬وعلى الس���ؤال األول كنت أجيب‪:‬‬ ‫لقد سقط برلس���كوني بالفعل‪ .‬فشل في كل ما وعد به‪ .‬أصبح‬ ‫اآلن عجوزًا ش���ريرًا مفعم��� ًا بالكراهية‪ ،‬يكره ب�ل�اده‪ ،‬ويكره‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬ويكره مواطنيه أنفس���هم‪ .‬ل���م يعد يحكم‪ ،‬وال‬ ‫يتهم س���وى بصباغة ش���عره‪ ،‬والمفاخرة بغزوات نس���ائية‬ ‫ليس���ت حقيقية‪ ،‬ألننا نعرف أنه عندما يتحدث شخص بشكل‬ ‫هاجس���ي ع���ن الجنس فه���و ال يفع���ل ه���ذا إال ألن الجنس هو‬ ‫المشكلة التي يعاني منها‪ .‬رجل قصير جعلنا أضحوكة العالم‬ ‫كله ويتّهم الصحافة الخبيثة‪ ،‬رجل قصير عليه عشرون قضية‬ ‫أفقر البالد ويتّهم وكاالت التقييم المالي‬ ‫ويتهم رجال النيابة‪َ ،‬‬ ‫واالقتصادي‪ ،‬يغذي في حزبه الش���كوك ح���ول تغلغل المافيا‬ ‫ويغمض عينه عن المتهربين من الضرائب‪ .‬بل إنه ليس���ت لديه‬ ‫الش���جاعة لكي يمث���ل أمام قاض‪ ،‬فما بالكم أم���ام الرأي العام‬ ‫العالمي؟‪ .‬حتى رفاقه حاروا ف���ي أمره‪ .‬ظلوا في أماكنهم إلى‬ ‫ج���واره لمجرد حب الس���لطة‪ ،‬ولكنهم يضحكون من قفش���اته‬ ‫يصوتون لصالح قوانينه‬ ‫التعيسة‪ ،‬ويكرهونه سرًا رغم أنهم‬ ‫ِّ‬ ‫– الفاضح���ة‪ ،‬وعندم���ا سيس���قط‪ ،‬لن يعترف أح���د بأنه كان‬ ‫يعرف���ه‪ .‬مثلما حدث بعد الفاش���ية ولم يعت���رف أحد بأنه كان‬ ‫فاشياً‪ .‬ولكن هذا العجوز الشرير قبل أن يسقط سوف يحاول‬ ‫أن يسحب معه إلى الدمار أكبر عدد ممكن من الناس‪ .‬وأن ينفث‬ ‫آخر سمومه في الديموقراطية اإليطالية‪.‬‬ ‫وس���وف نحتاج سنوات وس���نوات حتى نس���تطيع التخلص‬ ‫من هذه الس���موم‪ ،‬وإعادة بناء القواعد الديموقراطية‪ ،‬واقناع‬ ‫اإليطاليين بأن يعودوا مواطنين مس���ؤولين‪ ،‬وأال يتهربوا من‬ ‫الضرائ���ب‪ ،‬وأال ينضموا إلى المافي���ا لكي يحصلوا على عمل‪،‬‬ ‫وأال يضاربوا في االقتصاد‪ ،‬وأال يدفعوا الرش���وة للفاسدين‪،‬‬ ‫وأال يدفعوا للعمال المهاجرين بأس���عار سوق العمل السوداء‪،‬‬ ‫وأال يهربوا األموال إلى الخارج‪.‬‬ ‫إذًا‪ ،‬ليس هناك برلس���كوني واحد‪ ،‬ولكنه استنس���خ كثيرين‬ ‫على ش���اكلته‪ ،‬هم مقلدو برلسكوني‪ ،‬والذين اتخذوه وسوف‬ ‫يتخذون���ه قدوة في تقديم مصالحهم الش���خصية على مصلحة‬ ‫البالد‪ .‬فإذا كان���ت إيطاليا تحتل المرتبة الس���تين على العالم‬ ‫في نوعية المعلومات‪ ،‬فسوف نحتاج لسنوات وسنوات حتى‬ ‫يصب���ح تليفزيوننا حرًا من جدي���د‪ ،‬وال خادم ًا للنظام‪ .‬وحتى‬ ‫نبني مدرس���ة عامة اش���تد فقره���ا ألن الفلوس الت���ي كان من‬

‫المفروض أن تذهب إليها ذهبت إلى المدارس الخاصة‪ .‬س���وف‬ ‫نحتاج إلى سنوات حتى نصلح الشرخ بين الشمال والجنوب‬ ‫الذي تس���بب به برلس���كوني وحليفه الخادم المطيع بوس���ي‪.‬‬ ‫سوف نحتاج سنوات وس���نوات لكي نبني الطبقة السياسية‬ ‫لليس���ار‪ ،‬المترددة والمنقس���مة‪ ،‬وقد تعودت بالفعل على كل‬ ‫أنواع التنازالت‪ ،‬ولم ترد إرادة حقيقية أن تسقطه أبدًا‪.‬‬ ‫هل من أم���ل؟ بالتأكيد‪ ،‬واألمل يأتي من أولئ���ك الذين اتخذوا‬ ‫قدوة لهم نماذج أخرى‪ ،‬ونهجوا س���بيل المواطنين الش���رفاء‬ ‫لعَمد بعض البلديات‪ ،‬للمدرسين‬ ‫وسط كل المصاعب‪ .‬يوجد أمل ُ‬ ‫الذين حاربوا للحفاظ على جودة التدريس والطلبة والنس���اء‬ ‫الس���اخطات إلهانته���ن‪ ،‬العمال الذي���ن وجدوا س���ب ً‬ ‫ال جديدة‬ ‫للتضامن فيما بينهم‪ ،‬والمستهلكين الذين اخترعوا عبر اإلنترنت‬ ‫طرق��� ًا جديدة للش���راء وللدفاع من مرتباته���م‪ ،‬ولألطباء الذين‬ ‫يستنكفون العمل في مستشفيات تتداعى‪ .‬باختصار لكل هؤالء‬ ‫الذين قالوا‪ :‬ما دام برلس���كوني موجودًا فال أمل‪ .‬والمفكرون؟‬ ‫حدث لهم ما حدث لبالد أخرى‪ .‬كثيرون منهم أصبحوا أعضاء‬ ‫في ب�ل�اط القصر‪ ،‬جلس���وا تحت العرش‪ ،‬واس���تغلوا صحف‬ ‫برلس���كوني وقنواته لكي يبنوا مجدهم المهني‪ .‬لن يس���تمروا‬ ‫كثي���رًا‪ ،‬فلن يذكر من كتاباته���م وكلماتهم إال القليل‪ .‬ولكن كان‬ ‫هناك أيض ًا المثقفون والكتاب‪ ،‬الفالسفة والمدرسون ورجال‬ ‫المسرح (القليل جدًا في السينما) الذين يقولون كلمتهم واضحة‬ ‫قوية‪ ،‬وقد كتبوا عن األهوال والتدهور الثقافي لهذه السنوات‪،‬‬ ‫لقد اختاروا أال يكونوا خدماً‪ .‬هؤالء ما تزال لهم كلمة مسموعة‪،‬‬ ‫حتى وإن لم تكن من الجميع‪ ،‬وسوف تستمر كلماتهم‪.‬‬ ‫ال أح���د في إيطاليا يش���ك في أن الجميع عليهم أن يس���تعيدوا‬ ‫نصب أعينهم هذه الكلمة التي اختزلها برلس���كوني إلى خرقة‬ ‫بالي���ة‪ :‬المس���ؤولية‪ .‬الدع���م المدن���ي تجاه اآلخري���ن‪ ،‬قواعد‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬مصالح المواطن‪ ،‬وليس مصالح مواطن واحد‪،‬‬ ‫حري���ة المعلوم���ات‪ .‬إذا حدث هذا ربما نس���تطيع أن نأمل في‬ ‫أن نرتق���ي ببطء وصعوبة بإيطالي���ا نحو ديموقراطية أفضل‬ ‫ونح���و جدارة الحصول على احترام الدول األخرى‪ .‬إال إذا جاء‬ ‫بعد برلس���كوني برلسكوني آخر‪ ،‬ثم موسوليني آخر‪ ،‬وهكذا‬ ‫دواليك‪ ،‬ألن الديموقراطية في إيطاليا‪ ،‬ليست طبيعية‪ ،‬ليست‬ ‫أصيلة في المواطنين‪ ،‬ولكنها ش���اقة‪ ،‬ومغامرة يومية تتجدد‬ ‫كل لحظة‪ .‬لقد نجحنا في هذا أحياناً‪.‬‬ ‫تمنّوها لنا كما تمنَّيناها لكم‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫�أدب‬

‫نجيب محفوظ‬ ‫في عيد ميالده المئة‬

‫رسائل إلى الجد‬ ‫في الحادي عشر من ديسمبر عام ‪ 1911‬ولد في القاهرة بحي‬ ‫الجمالية الطفل نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا‪،‬‬ ‫الذي سيعرف اختصارًا فيما بعد بـ «نجيب محفوظ»‪ ،‬ومحفوظ‬ ‫ليس اسم األب الذي أطلق على ابنه اسم ًا مركب ًا بل هو اسم طبيب‬ ‫التوليد الذي خرج الفتى إلى الدنيا على يديه‪.‬‬ ‫مئة عام تمر على ميالد الروائي العربي األمهر الذي ُت ِّوجت‬ ‫مسيرته األدبية بجائزة نوبل‪ .‬وهو تقدير مستحق لرجل صنع‬ ‫بمفرده تاريخ ًا موازي ًا لتاريخ الرواية األوروبية الحديثة‪ ،‬فكتب‬ ‫الرواية التاريخية واالجتماعية والرمزية‪ ،‬ولم يكف عن التجريب‬ ‫حتى اليوم األخير من حياته‪ ،‬إذ اختتم مسيرته بعملين يقتربان‬ ‫من الشعر هما «أصداء السيرة الذاتية» و«أحالم فترة النقاهة»‪.‬‬ ‫يمثل نجيب محفوظ صيغة «الكاتب» بألف الم التعريف‪ ،‬حيث‬ ‫اإلخالص المطلق للكتابة الذي ال يزحزحه عنه منتهى التجاهل قبل‬ ‫نوبل وال منتهى الشهرة بعدها‪ .‬الرجل الذي نزلت شخصياته من‬ ‫الرواية لتصبح نماذج اجتماعية كان هو نفسه شخصية روائية‬ ‫شديدة التركيب كبيرة الرحابة‪ ،‬حيث كان ظاهرة في تعدد توجهات‬ ‫أصدقائه من ليبراليين إلى يساريين‪ ،‬ومن رافضين إلسرائيل إلى‬ ‫تطبيعيين‪ ،‬وكان يخصص لكل فريق جلسة ال يقترب منها أحد من‬ ‫رواد المجلس اآلخر‪.‬‬ ‫كتب الكثير عن نجيب محفوظ‪ ،‬ولذا فقد رأت «الدوحة» أن‬ ‫تحتفل بميالده احتفا ًال بسيط ًا من خالل مقال وحيد كتبه من جنوب‬ ‫إفريقيا ج‪.‬م‪ .‬كويتزي (نوبل ‪ ،)2003‬ورسائل من عدد من أحفاده‬ ‫الروائيين العرب الشباب‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫إسماعيل عزام ‪ -‬العراق‬

‫‪81‬‬


‫روائي القاهرة‬ ‫ج‪ .‬م‪ .‬كويتزي‬

‫*‬

‫ترجمة‪ -‬طالل في�صل‬

‫‪1‬‬

‫ظهرت أوائل الروايات العربية ‪ -‬على‬ ‫النمط الغربي ‪ -‬منذ قرن تقريباً‪ .‬ازدهر‬ ‫هذا النوع األدبي في مصر‪ ،‬مع تنامي‬ ‫ظهور مجتمع مدني متين واإلحساس‬ ‫بالهوية الوطنية‪ .‬هناك يقف الرجل‬ ‫العظيم الذي يدعى نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫والمولود في ‪ 1911‬وتم تتويجه بجائزة‬ ‫نوبل عام ‪ .1988‬ربما كان محفوظ يثير‬ ‫من االهتمام اآلن أقل مما كان يثيره في‬ ‫الخمسينات والستينات‪ ،‬إال أن نموذجه‬ ‫هو الذي دفع الرواية العربية لألمام‪ ،‬من‬ ‫المغرب وحتى البحرين‪.‬‬ ‫روائي‬ ‫محفوظ وقبل كل شيء هو‬ ‫ّ‬ ‫القاهرة‪ ،‬والقاهرة القديمة تحديدًا‪،‬‬ ‫منطقة ذات مساحة ال تتجاوز الكيلومتر‬ ‫المربع في قلب المدينة المتخمة بالسكان‬ ‫(تعدادها حالي ًا حوالي ‪ 16‬مليون نسمة)‬ ‫يستعيد محفوظ ذكريات طفولته‪ ،‬حين‬ ‫كان يتأمل من شباك بيت أسرته في‬ ‫الجمالية العساكر اإلنكليز يحاولون‬ ‫السيطرة على مظاهرات ثورة ‪1919‬‬ ‫(وهو المشهد الذي سيعيد عرضه في‬ ‫بين القصرين) ورغم أن أسرته تركت‬ ‫الجمالية وهو في الثانية عشرة‪ ،‬إال أن‬

‫‪82‬‬

‫حواريها وتوليفة الطبقات االجتماعية‬ ‫التي تسكنها‪ ،‬ظلت هي مركز عالمه‬ ‫الروائي‪.‬‬ ‫روايات محفوظ في المرحلة الواقعية‪،‬‬ ‫وأهمها زقاق المدق (‪ )1947‬والثالثية‬ ‫(‪ )1957 - 1956‬تستخدم الجمالية كمكان‬ ‫بدقة متناهية‪ .‬مع أوالد حارتنا (‪)1959‬‬ ‫يبدأ اهتمام محفوظ بالمعقولية يتضاءل‬ ‫وتبدأ الحارة تكتسب صفات أسطورية‬ ‫وتتحول لشيء أشبه بشوارع بغداد في‬ ‫ألف ليلة وليلة‪.‬‬ ‫ُتركِّز روايات محفوظ الواقعية على‬ ‫أهل المدينة‪ .‬ليس هناك أثر للفالحين‬ ‫أو أهل الريف‪ :‬إن سكان مدينته يبدون‬ ‫وكأنهم بال أقارب في القرى‪ ،‬وإذا ما كان‬ ‫يضع المدينة أمام شيء‪ ،‬فإنه يضعها‬ ‫أمام نفسها في مرحلة مبكرة من نموها‪،‬‬ ‫وليس أمام القرية‪ .‬إنه يتعامل بشكل‬ ‫واضح مع بشر ذوي قدرات محدودة‬ ‫يحاولون الحفاظ على حياتهم فحسب‪،‬‬ ‫ويفعلون أقصى ما يمكنهم للبقاء في‬ ‫الطبقة المتوسطة التي ينتمون لها من‬ ‫حيث المظاهر والطموحات‪.‬‬ ‫المساحة الضيقة التي ُيركز عليها‬ ‫كانت مثار انتقاد الروائي الهندي أميتاف‬ ‫جوش‪ ،‬الذي يرى أن هذه المعايير ليست‬

‫مرتبطة بالتقاليد المصرية قدر ارتباطها‬ ‫بااللتزام الفيكتوري‪ .‬هذه القراءة‪،‬‬ ‫والتي تطرح ارتباط محفوظ الوثيق‬ ‫بتقليد النماذج الغربية (والتي سرعان‬ ‫ما يتجاوزها الزمن) يتناسى ما يريد‬ ‫محفوظ قوله ‪ -‬بمزاجه السوداوي ‪-‬‬ ‫حول أخالقية االلتزام‪ .‬بداية ونهاية على‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬والتي تعرض لتضحيات‬ ‫أسرة برجوازية صغيرة لدعم قفزة أحد‬ ‫أبنائها نحو طبقة الضباط المصريين‪،‬‬ ‫وما سيتبع ذلك من محاوالت هذا االبن‬ ‫إلخفاء أصوله المتواضعة‪ ،‬إنها رواية‬ ‫كئيبة وقاسية أكثر من أي عمل لروائي‬ ‫مثل درايسر‪ ،‬على سبيل المثال‪.‬‬ ‫تستند شهرة محفوظ ‪ -‬وهذا مفهوم ‪-‬‬ ‫إلى إنجازه الضخم في الثالثية والتي تم‬ ‫مستوى متجاوزًا‬ ‫اعتبارها حين ظهرت‬ ‫ً‬ ‫للرواية العربية‪ .‬تقتفي الثالثية أثر‬ ‫التغيرات في جيلين من أسرة قاهرية في‬ ‫الطبقة المتوسطة بدءًا من ثورة ‪1919‬‬ ‫وحتى الحرب العالمية الثانية‪ .‬تسجل‬ ‫الصفحات المتمهلة للثالثية االنعتاق‬ ‫التدريجي للمرأة‪ ،‬وتفكك العالقات‬ ‫الدينية بين أفراد الطبقة المتوسطة‪،‬‬ ‫وتنامي دور العلم واألشكال الثقافية‬ ‫الغربية في العموم‪.‬‬ ‫من بين الشخصيات الثرية للرواية‬ ‫هناك السيد أحمد عبدالجواد‪ :‬طاغية‬ ‫في البيت بين زوجته وأبنائه‪ ،‬لكنه في‬ ‫سهراته مرح وتلقائي‪ ،‬ذكي وخفيف‬ ‫الظل‪ ،‬عاشق للطرب وللنساء وللذة‪.‬‬ ‫زوجته المخلصة مطيعة إلرادته حتى‬ ‫أنها لم تغادر البيت تقريب ًا لربع قرن‬ ‫(وحين أقنعها األوالد بالخروج ذات مرة‬ ‫من ورائه تعرضت لحادث مهين‪ ،‬كأن‬ ‫القدر يثبت أن زوجها على صواب) من‬ ‫بين أبنائه ياسين‪ ،‬عاطفي ومتهور‪،‬‬ ‫يحاول تقليد والده الضخم لكنه ال يفلح‬ ‫إال أن يصير نسخة محاكاة ساخرة‪،‬‬ ‫بينما ابنته خديجة تغيظ أختها األجمل‬ ‫منها‪ ،‬عائشة‪ ،‬طوال الوقت وتتجسس‬ ‫عليها‪ ،‬إال أن هذه الغيرة تدعم رابطة‬ ‫الحب التي تقوم بينهما‪ ،‬بد ًال من أن‬ ‫تضعفها‪ ،‬أما كمال (المماثل لمحفوظ من‬ ‫نفسه) صبي ذكي ومحبوب‪ ،‬وسيتحول‬


‫الحق ًا لشاب مثقف تؤرقه المشاكل‬ ‫الوطنية والفلسفية‪.‬‬ ‫في أسلوبها ومنهجها‪ ،‬تعتبر الثالثية‬ ‫(والتي انتهى محفوظ منها عام ‪1952‬‬ ‫ولم تنشر إال بعد ذلك بأربعة أعوام)‬ ‫والروايات السابقة لها امتدادًا للدراسة‬ ‫المنهجية التي قام بها محفوظ للرواية‬ ‫الغربية في شبابه‪ ،‬فهي تقتفي أثر الرواد‬ ‫الكبار للواقعية الغربية‪ :‬جالزورثي‪،‬‬ ‫وتوماس مان‪ ،‬وبدرجة أقل بلزاك‬ ‫الزئبقي‪ ،‬وديكنز ‪ -‬وهو يتجاوز فكرة‬ ‫التدوين الدقيق لمصائر األسرة وتشريح‬ ‫طرائقها إلى كشف مستمر ومتعاطف‬ ‫ألكاذيب البشر ‪ -‬ال سيما أفراد الطبقة‬ ‫المتوسطة ‪ -‬بقدرته على معايشتها في‬ ‫يقين يذكرك بتولستوي‪.‬‬ ‫مثلما حدث مع سلمان رشدي‪ ،‬قامت‬ ‫مناوشات بين محفوظ والسلطات الدينية‬ ‫وحقيقة أنه خرج سليم ًا ال‬ ‫اإلسالمية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تشهد إال على مراوغته السياسية الكبيرة‬ ‫فيما يتعلق بهذا الجانب‪ ،‬واستعداده أن‬

‫يقدم تنازالت رمزية عند الحاجة لذلك‪.‬‬ ‫كان مبرر الصدام هو رواية «أوالد‬ ‫حارتنا» والتي نشرت مسلسلة في‬ ‫األهرام ولم تنشر في كتاب في مصر‬ ‫(بخالف الطبعة غير الشرعية الصادرة‬ ‫في بيروت عام ‪.)1967‬‬ ‫أوالد حارتنا‪ ،‬مثل الكثير من روايات‬ ‫محفوظ‪ ،‬تدور في حارة مصرية واحدة‪،‬‬ ‫وهي رواية رمزية من أجزاء متعددة تقوم‬ ‫على عدة مستويات دينية وسياسية‪.‬‬ ‫من حيث كونها رواية دينية أليجورية‪،‬‬ ‫تبدأ بإيجاد الجبالوي‪ ،‬الشبيه باإلله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مقاطعة كبيرة‪ ،‬ثم يسرد خيانة ابنه‬ ‫األصغر المقرب إليه‪ ،‬أدهم (أو آدم)‬ ‫وما يتبع ذلك من بناء الحارة‪ ،‬ومسيرة‬ ‫األبطال األربعة الذين يماثلون موسى‬ ‫وعيسى والنبي محمد‪ ،‬ثم الرابع‪ ،‬رجل‬ ‫الحداثة‪ ،‬العالِم الذي يصارع ليستعيد‬ ‫مصير الحارة وأهلها من الفتوات الذي‬ ‫يتحكمون فيها‪ .‬كان محفوظ نفسه قد‬ ‫فسر اإلشارات السياسية للرواية في‬

‫حوار عام ‪ ،1975‬حيث فتوات الحارة‬ ‫هم ضباط الجيش في عهد عبدالناصر‬ ‫قائالً‪« :‬السؤال الذي كان يؤرقني‪ :‬هل‬ ‫كنا نتحرك نحو االشتراكية أم نحو نوع‬ ‫جديد من اإلقطاع»؟‬ ‫لم يكن مفاجئ ًا أن يتم اتهام الرواية‬ ‫بالكفر‪ ،‬واحترام ًا للمشاعر الدينية‪،‬‬ ‫رفض محفوظ الخوض في حكم األزهر‪،‬‬ ‫المؤسسة اإلسالمية األعلى في البالد‪،‬‬ ‫والذي قام يتحريم الرواية مبررًا أنه‬ ‫ليس من الحكمة أن يستبعد األزهر في‬ ‫قضية فرعية حين يكون في حاجة لدعمه‬ ‫ضد ما أطلق عليه «فهم القرون الوسطى‬ ‫لإلسالم» وهو ما يقصد به تنامي‬ ‫الحركات األصولية في العالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫هذه الحلول التوافقية بدت وكأنها‬ ‫تتجاوز المواجهة مع السلطات الدينية‪.‬‬ ‫بالرغم من ذلك‪ ،‬وفي عام ‪ ،1988‬جلبت‬ ‫جائزة نوبل من جديد الضغوط لطبع‬ ‫الكتاب في مصر‪ ،‬ثم ثارت بعدها بقليل‬ ‫العاصفة ضد سلمان رشدي‪ ،‬وتم ربط‬ ‫أوالد حارتنا برواية آيات شيطانية‬ ‫وكان مطلوب ًا من محفوظ أن يلقي بيان ًا‬ ‫صحافي ًا يوضح فيه رؤيته لموقف الكاتب‬ ‫في العالم اإلسالمي‪ .‬تحدث محفوظ‬ ‫بشكل واضح داعم ًا لحرية التعبير‬ ‫وانتقد فتوى الخميني ضد رشدي‪ .‬في‬ ‫المقابل جاء رد فعل األصوليين‪ ،‬متهمين‬ ‫إياه بـ «الكفر والردة والماسونية» وتم‬ ‫إصدار فتوى أخرى بحقه من جانب مفتي‬ ‫الجماعات األصولية‪« :‬محفوظ‪ ..‬مرتد‪.‬‬ ‫كل من يسيء لإلسالم هو مرتد‪ ..‬وإذا‬ ‫لم يستتابوا فال بد أن يقتلوا» وثمة ظالل‬ ‫من الشك أن هذه الهجمة ضد محفوظ‬ ‫وراءها دعمه للسالم مع إسرائيل والذي‬ ‫عبر عنه عام ‪ 1975‬عقب حرب يوم‬ ‫كيبور في ‪.1973‬‬ ‫كانت الستينيات فترة مظلمة في‬ ‫حياة مصر‪ .‬كان نظام ناصر يزداد قمعاً‪،‬‬ ‫ويتزايد الشعور العام بالخيبة ال سيما‬ ‫عبر محفوظ عن حسرته‬ ‫بين المثقفين‪َّ .‬‬ ‫الشخصية ‪ -‬بشكل موارب نوع ًا ما ‪-‬‬ ‫في روايات مثل اللص والكالب (‪)1961‬‬ ‫وثرثرة فوق النيل (‪ )1969‬مهاجم ًا تفاهة‬ ‫وهروبية الطبقة العليا في مصر‪ ،‬وهو‬ ‫‪83‬‬


‫‪84‬‬

‫‪2‬‬

‫مجرد اسم العمل السادس عشر‬ ‫في سلسلة دبلداي ألعمال محفوظ‬ ‫باإلنكليزية‪ ،‬يبدو ساحرًا‪ :‬الحرافيش‪.‬‬ ‫كلمة الحرافيش كلمة عربية فصيحة‬ ‫إال أنها لم تعد تستخدم بشكل معاصر‪.‬‬ ‫في القرون الوسطى كانت تعني الفئات‬ ‫الشعبية المتنقلة‪ ،‬الفقراء من المجتمع في‬ ‫الحالة األقرب للتهديد والتقلب‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫يمكن للعنوان العربي ملحمة الحرافيش‪،‬‬ ‫أن يتم ترجمته إلى «ملحمة الرعاع» أو‬ ‫«مطولة الدهماء» مثالً‪ ،‬لكن ال «الرعاع»‬ ‫وال «الدهماء» مناسبة للحرافيش الذين‬ ‫رأيناهم في الكتاب‪ :‬فقراء وظروفهم‬ ‫متقلبة بالطبع إال أنهم على قدر من‬ ‫الوعي واالستجابة للقيادة الصالحة‪.‬‬ ‫لم تجد المترجمة كاثرين كوبام مفرًا من‬

‫محمد عبلة ‪ -‬مصر‬

‫ما أثار غضب ناصر بسبب ما تضمنته‬ ‫من عناصر ساخرة‪ ،‬ولم يسمح بالنشر‬ ‫إال بعد تدخالت بمعرفة المؤلف نفسه‪.‬‬ ‫بعد هزيمة ‪ 1967‬بدا وضح ًا أن البيئة‬ ‫صارت مزعجة للمتشككين‪ ،‬وأنه لم‬ ‫يعد بوسع محفوظ االعتماد مجددًا على‬ ‫رجال مثل ثروت عكاشة‪ ،‬وزير الثقافة‬ ‫آنذاك‪ ،‬لحمايته‪ ،‬وجاء موت ناصر‬ ‫بمثابة عامل ارتياح‪ ،‬في رواية الكرنك‬ ‫(‪ )1974‬المنشورة بعد أن بدأ السادات‬ ‫انتقاد تجاوزات ناصر ‪ -‬قام محفوظ‬ ‫بتوثيق الممارسات الوحشية للمخابرات‬ ‫في عهد عبدالناصر‪.‬‬ ‫لم يكن محفوظ أبدًا متفرغ ًا للكتابة‪.‬‬ ‫بين عامي ‪ 1934‬و‪ 1971‬كان موظف ًا‬ ‫حكومياً‪ ،‬وضمن هذه الفترة عمل‬ ‫رئيس ًا للرقابة على المسرح والسينما‪.‬‬ ‫بعد تقاعده عام ‪ ،1971‬انضم لفريق‬ ‫كتاب صحيفة األهرام اليومية العريقة‪.‬‬ ‫وهناك كتب عام ‪ 1975‬مطالب ًا الدول‬ ‫العربية بالبحث عن طريقة للتعايش مع‬ ‫إسرائيل‪ ،‬وبعد ذلك قام بتأييد اتفاقية‬ ‫كامب ديفيد‪ .‬كان هو أول الكتاب العرب‬ ‫المهمين ممن تبنوا مثل هذا الموقف‪،‬‬ ‫وترتب على ذلك أن ُمنعت كتبه من‬ ‫دخول كل الدول العربية‪ .‬في مقاالته‬ ‫عبر عن انزعاجه من‬ ‫الصحافية أيض ًا َّ‬ ‫سياسة السادات االقتصادية‪ ،‬والتي‬ ‫أدت‪ ،‬في رأيه‪ ،‬إلى أن صار األغنياء‬ ‫أكثر غنى والفقراء أكثر فقرًا‪.‬‬ ‫على الرغم من هذا الحرص المشرف‬ ‫على االستقالل‪ ،‬واجه محفوظ نقدًا‬ ‫بتخلفه عن الزمن‪ .‬من وجهة نظر‬ ‫الكاتب اللبناني إلياس خوري‪ ،‬مثالً‪ ،‬لم‬ ‫يستطع محفوظ حل التوتر بين تسجيل‬ ‫صعود الطبقة التي يعرفها‪ ،‬البرجوازية‬ ‫الصغيرة‪ ،‬للسلطة وبين إحساسه‬ ‫لح بالمسؤولية ‪ -‬ال سيما بعد هزيمة‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ - 1967‬بالتعبير عن اهتمامات أخالقية‬ ‫وسياسية أكثر اتساعاً‪ .‬يطرح خوري‬ ‫تحول عن الواقعية إلى‬ ‫فكرة أن محفوظ َّ‬ ‫كعرض‪ ،‬على المستوى األدبي‪،‬‬ ‫الرمزية َ‬ ‫لفقدان االتصال بالطبقات التي تقع فعلي ًا‬ ‫في مركز الصراع االجتماعي في مصر‬ ‫المعاصرة‪.‬‬

‫على المستوى ذاته كان التراجع عن‬ ‫بعض التراكيب مثل الشخصيات البارزة‬ ‫النسائية في حقبته الواقعية ‪ -‬نفيسة‬ ‫القبيحة مث ً‬ ‫ال في بداية ونهاية والتي كانت‬ ‫مستعدة لالستسالم للفقر والعنوسة في‬ ‫سبيل الحفاظ على مصلحة أخيها لكنها‬ ‫لم تستطع مقاومة احتياجها للجنس‪،‬‬ ‫وبالتالي واصلت عالقاتها المهينة مع‬ ‫الرجال الذين كانوا يستخدمونها‪ ،‬ثم‬ ‫يتهكمون عليها أو حتى يرفضون دفع‬ ‫النقود لها ‪ -‬إلى النماذج النمطية األخرى‬ ‫في رواياته األحدث والتي اعتبرتها‬ ‫بعض التعليقات النسوية رد فعل دفاعي‬ ‫على الحركات النسوية الحديثة‪.‬‬ ‫بالنسبة لخوري وغيره من الكتاب‬ ‫الذين انتقدوا تحوله عن الكتابة الواقعية‬ ‫إلى الكتابة الرمزية‪ ،‬أجاب محفوظ أنه‬ ‫كان يشعر في الخمسينات بالرغبة في‬ ‫الكتابة بالطريقة الواقعية األوروبية‪،‬‬ ‫وما لبث «أن فقد هذا االهتمام باألفراد‬ ‫كأفراد» على وجه التخصيص‪ ،‬أو‬ ‫بالكتلة التاريخية الصماء‪ .‬جاءت أعماله‬ ‫التالية أكثر تكثيفاً‪ ،‬وشاعرية ولكنها‬ ‫أقل «حداثة»‪ ،‬فيما يخص اللغة الروائية‬ ‫مقارنة بما قدمه أساتذته األوروبيون‪.‬‬

‫روائي القاهرة‪ ،‬والقاهرة القديمة تحديداً‪.‬‬ ‫محفوظ‬ ‫ّ‬

‫اإلبقاء على الكلمة العربية والتي عنى‬ ‫بها محفوظ «الفئات الشعبية ذات الحس‬ ‫السليم» (وهو المعنى الذي ال نجد له‬ ‫كلمة مناسبة في اإلنكليزية‪ .‬لماذا؟)‪.‬‬ ‫تدور الحرافيش في حارات مصر‬ ‫القديمة‪ .‬إنها تعرض حياة البسطاء‬ ‫لكنها تركز على الفتوات الذين ‪ -‬جي ً‬ ‫ال‬ ‫بعد جيل ‪ -‬يديرون شؤون الحارة‪ .‬أول‬ ‫هؤالء الفتوات هو عاشور‪ .‬يرى عاشور‬ ‫في الحلم أن الطاعون على وشك مداهمة‬ ‫القاهرة‪ .‬ينسحب هرب ًا إلى الصحراء‬ ‫مع زوجته وابنه‪ ،‬حين ينتهي الوباء‬ ‫يعود عاشور إلى مدينة الهالكة‪ ،‬يستقر‬ ‫في بيت امهجور ويعيد توزيع الثروة‬ ‫الموجودة فيه إلحياء اقتصاد الحارة‪،‬‬ ‫وال يفلح العام في الحبس سوى أن‬ ‫يعزز موقفه بين الفقراء‪ ،‬يعود عاشور‬ ‫الناجي بط ً‬ ‫الفتونة‬ ‫ال لموطنه ويتقلد‬ ‫َ‬ ‫ويؤسس لعصرها الذهبي «ولم يفرض‬ ‫إتاوة إال على األعيان والقادرين لينفقها‬ ‫على الفقراء والعاجزين»‪.‬‬ ‫ثم ذات ليلة‪ ،‬يختفي عاشور بشكل‬ ‫غامض‪ .‬يبتهج التجار غير أن بهجتهم‬ ‫ال تدوم‪ ،‬حيث ينجح ابنه شمس الدين‬ ‫في التأسيس الستمرارية آل الناجي‪،‬‬ ‫وتحت قيادته يواصل الحرافيش الحياة‬ ‫العادلة المزدهرة‪.‬‬ ‫مع الثالث من آل الناجي‪ ،‬سليمان‪،‬‬ ‫تبدأ الساللة في االنحدار‪ .‬ينحرف‬ ‫سليمان إلى حماية أموال أغنياء‬ ‫والتي كان يتم توزيعها من قبل على‬ ‫الفقراء‪ ،‬يزداد الفقراء معاناة ويزداد‬


‫ثراء الفتوات‪ .‬ال يدرك أبناء سليمان أن‬ ‫الرخاء‪ -‬الخاص بهم والخاص بالحارة‬ ‫ يعتمد على سلطة ومكانة الفتونة‪.‬‬‫يتفرغون لكسب الثروة‪ ،‬وتضيع الفتونة‬ ‫لمستغلين‬ ‫من آل الناجي الذين يتحولون ُ‬ ‫للفقراء بد ًال من القيام بحمايتهم‪( .‬وهذا‬ ‫التنقل بين الدورين‪ ،‬دور االستغالل‬ ‫ودور الحماية‪،‬هو ما يميز جوهر فتوات‬ ‫محفوظ عن عصابات الجيتوهات في‬ ‫المدن الكبرى)‪.‬‬ ‫لثالثة أجيال متتالية يتواصل انحدار‬ ‫آل الناجي وانحدار الحارة‪ .‬يعيش‬ ‫الحرافيش في جهل وفقر‪ ،‬يتحسرون‬ ‫على أيام عاشور التي لن تعود‪ .‬تصل‬ ‫الفتونة إلى جالل‪ ،‬الطاغية الظالم الذي‬ ‫يستخدم الرشوة والفساد لبناء ثروته‬ ‫ِّ‬ ‫محضر‬ ‫وبيته الضخم‪ ،‬ويقوم باستئجار‬ ‫لألرواح ُمكرس ًا نفسه لتحقيق الخلود‪.‬‬ ‫لقد تمت خيانة عهد عاشور‪ ،‬لقد صار‬ ‫آل الناجي‪ ،‬كما يهمس الحرافيش ‪-‬‬ ‫والذين يتحولون إلى ما يشبه الكورس‬ ‫اإلغريقي معلقين على األحداث ‪ -‬مجرد‬ ‫«نكبة متكررة على مدى الزمن»‪.‬‬ ‫تضرب المجاعة القاهرة‪ .‬يدخر التجار‬ ‫الطعام‪ ،‬وحين يثور الحرافيش يرد‬ ‫عليهم الفتوات بطش ًا بالفقراء وحماية‬ ‫لألغنياء‪ .‬وسط هذه الظروف المضطربة‬ ‫يظهر فتح الباب‪ ،‬أحد الفقراء من أبناء‬ ‫آل الناجي‪ ،‬ويضيء الشرارة التي تدفع‬ ‫النفجار العنف الشعبي‪ .‬يحاول أن ينهي‬ ‫أساليب الفتونة ويعيدها لخدمة الناس‬ ‫لكن أتباعه يقتلونه‪ ،‬ويعود الحرافيش‬ ‫من جديد «لسباتهم العميق»‪.‬‬ ‫في الوقت ذاته‪ ،‬وفي مكان غامض‬ ‫يكبر‪ ،‬يدعى‬ ‫يكون هناك شاب صغير ُ‬ ‫عاشور‪ ،‬هو االبن الثالث البن أخت‬ ‫فتح الباب‪ .‬يتأمل عاشور في سلفه‬ ‫األسطوري‪ ،‬وفي الطريقة التي نجح فيها‬ ‫أن يوازن بها بين السلطة والفضيلة‪،‬‬ ‫لقد حصل على الرؤيا‪ .‬يتحدى عاشور‬ ‫الفتوات‪ ،‬وفي واقعة ال تصدق‪ ،‬يتحلق‬ ‫الحرافيش تلقائي ًا تحت لوائه‪.‬‬ ‫«كانت معركة لم تسبق بمثيل من‬ ‫حيث عدد من اشترك فيها‪ ،‬فالحرافيش‬ ‫أكثرية ساحقة‪ ،‬وفجأة تجمعت األكثرية‬

‫واستولت على النبابيت‪ ،‬فاندفعت في‬ ‫البيوت والدور والوكاالت رجفة مزلزلة‪.‬‬ ‫تمزق الخيط الذي ينتظم األشياء‬ ‫وأصبح كل شيء ممكناً»‪ .‬حيث ينجح‬ ‫قائدهم الجديد في تحويل الحرافيش‬ ‫«من صعاليك ونشالين ومتسولين إلى‬ ‫أكبر عصابة عرفتها الحارة»‪ .‬يفرض‬ ‫ضرائب ثقيلة على األغنياء ويؤسس‬ ‫المدارس ويوفر العمل‪« .‬وهكذا بعث عهد‬ ‫الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأنقى‬ ‫درجات النقاء»‪.‬‬ ‫هذا الملخص الذي أقدم به رواية‬ ‫محفوظ ال ينقل إال شيئ ًا بسيط ًا من‬ ‫نكهتها‪ ،‬فالحرافيش ليست رواية ولكنها‬ ‫سلسلة من حكايات متتابعة‪ .‬ليس‬ ‫للحكايات بطل واحد‪ ،‬غير أنه يمكننا‬ ‫أن نزعم أن لها ضحية واحدة‪ :‬البشر‬ ‫الذين يعانون‪ .‬يعود محفوظ في نماذجه‬ ‫السردية إلى فكرة القص الشفوي‬ ‫األصيل‪ ،‬بهذا المعنى يكون محفوظ جزءًا‬ ‫من مشروع (وربما يتسلم فيه القيادة من‬ ‫روائيين مصريين أصغر سن ًا مثل جمال‬ ‫الغيطاني)‪ :‬ليعيد تعريف النثر الروائي‬ ‫العربي‪ ،‬مشيدًا فوق التراث الكالسيكي‬ ‫والشعبي‪ ،‬ومبتعدًا عن تقاليد الواقعية‬ ‫الغربية التي تبناها في البدايات‪ .‬هذا‬ ‫يظهر حتى من مجرد عناوين كتب‬ ‫محفوظ األخيرة‪ :‬الحرافيش‪ ،‬وليالي‬ ‫ألف ليلة‪ ،‬ورحلة ابن فطومة‪.‬‬ ‫ربما يجد قراء الحرافيش الغربيين‬ ‫مشكلة مع العدد الضخم للشخصيات‬ ‫العابرة ذات األسماء الغريبة‪ ،‬وانشغاالت‬ ‫القصة المتكررة بالنسب والميراث‪ .‬في‬ ‫منتصف الطريق وفي فصول «األشرار»‬ ‫من أجيال آل الناجي يمكنك أن تفقد‬ ‫خيط األحداث (وربما تفقد االهتمام) َمن‬ ‫وم ْن أنجب َمن؟‪ ،‬في‬ ‫بم ْن؟ َ‬ ‫الذي تزوج َ‬ ‫تلك اللحظات يبدو من المفيد أن نسترجع‬

‫الحرافيش بالمعنى‬ ‫الذي يقصده‬ ‫محفوظ ليس لها‬ ‫مرادف باإلنكليزية‬

‫الثقافات الشفوية ‪ -‬أو الثقافات ذات‬ ‫األساس الشفوي القوي ‪ -‬تمتلك ذاكرة‬ ‫أقوى بكثير من تلك التي لم تستعمل‬ ‫سوى الكتابة (وقد تم اختراع الكتابة‬ ‫قبل كل شيء للتغلب على استحالة تذكُّر‬ ‫كل شيء) في الثقافات الشفوية تدريب‬ ‫الذاكرة هو أمر أساسي داخل التعليم‪،‬‬ ‫بينما في عالم البطاقة اإللكترونية على‬ ‫النقيض‪ ،‬يبدو أننا سنصل قريب ًا لمرحلة‬ ‫أن كل ما سيحتاجه الشخص المتعلم‬ ‫من ذاكرته هو أن يتذكر مكان جهاز‬ ‫الكمبيوتر‪.‬‬ ‫يبدو نثر الحرافيش عتيقاً‪ ،‬لكن ال‬ ‫شك أن محفوظ يستمد قوته من هذه‬ ‫العتاقة‪ .‬عند المناطق الوجدانية من‬ ‫رواياته الباكرة‪ ،‬وخصوص ًا في مشاهد‬ ‫وصف الوقوع في الحب ‪ -‬وهو الشيء‬ ‫الذي يحدث كثيرًا في عالمه الروائي‪،‬‬ ‫حيث يضج الصبيان والبنات بالنشاط‬ ‫الجنسي‪ ،‬وتكاد تنعدم فرص اللقاء‬ ‫وليس هناك سوى التماعة النظرة‬ ‫الخاطفة تتبعها أسابيع من األحالم‬ ‫الجنسية والتدابير المحمومة ‪ -‬ثم ينتقل‬ ‫محفوظ بسهولة إلى ما يطلق عليه‬ ‫الفيلسوف جالن ستراوسن «زخرفة‬ ‫األدب العربي الكالسيكي» ‪ -‬العواطف‬ ‫المحلقة والمشتعلة‪ ،‬بينما نرى في هذه‬ ‫الرواية‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬لغة قديمة تعود من‬ ‫جديد بنضارة مدهشة‪.‬‬ ‫»وكان وهو يعمل في فناء البيت‬ ‫يتجنب النظر إلى الناحية التي يحتمل‬ ‫أن يلمح فيها زوجة المعلم‪ .‬لكنه رأى‬ ‫ابنته زينب وهي ذاهبة إلى الطريق‬ ‫فخانه طرفه لحظات خاطفة ولكنها‬ ‫جديرة بالندم‪ .‬وتفشى الندم أكثر عندما‬ ‫اجتاحته شعلة ألهبت الصدر والجهاز‬ ‫الهضمي واستقرت في الجوهرة الحمراء‬ ‫المشعة للرغبة الجامحة»‬ ‫بأي حساب منطقي‪ ،‬ال بد أن تغطي‬ ‫الحرافيش كرونولوجيا عدة قرون‪ ،‬إال أن‬ ‫الرواية ال تقدم أي دليل على تغير العالم‬ ‫الخارجي المؤثر على الوجود المنغلق‬ ‫على ذاته لتلك الحارة‪ ،‬ويبدو واضح ًا‬ ‫تمام ًا أن الحارة مقفلة خارج التاريخ‬ ‫كأن محفوظ يتجاهل ‪ -‬أو يحاول تجاهل‬ ‫‪85‬‬


‫ الزمن التاريخي‪ .‬حتى في األيام األولى‬‫لعاشور‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يبني الناس‬ ‫البيوت بأسقف من الصفيح ويطلبون‬ ‫الترخيص من السلطات لبيع الخمور‪،‬‬ ‫وبعد مرور ثالثة عشر جي ً‬ ‫ال ال يطرأ على‬ ‫هذه التفاصيل اليومية اي تغيير‪ ،‬في‬ ‫حين تبدو قوى الدولة الحديثة‪ ،‬ال سيما‬ ‫الشرطة‪ ،‬بعيدة وغريبة وذات سطوة‬ ‫مفترسة‪.‬‬ ‫تدور الحرافيش حول تتابع سير‬ ‫الفتوات‪ ،‬بعضهم يستسلم للرذائل‬ ‫الخاصة أو إغواءات الترف‪ ،‬وبعضهم‬ ‫يضع نصب عينيه األهداف النبيلة‬ ‫كالنجوم المرشدة‪ .‬تتقاطع مصاشر‬ ‫الحرافيش والفتوات فيما بينها‪ .‬ما يسعى‬ ‫له آل الناجي هو القائد‪ ،‬وما يبحث عنه‬ ‫البسطاء هو العدل والحماية‪ .‬هذا المزج‬ ‫بين القوة والحكمة السياسية من ناحية‪،‬‬ ‫والعدالة والنبل من ناحية أخرى هو ما‬ ‫يؤسس «للعظمة» التي هي بمثابة التيمة‬ ‫األساسية في رواية محفوظ‪ ،‬والتي‬ ‫تجعل منها أسطورة لسعي المصريين‬ ‫بحث ًا عن الحاكم العادل‪.‬‬ ‫اهتمام محفوظ بالربط بين الفضائل‬ ‫الخاصة والعدالة االجتماعية‪ ،‬اهتمامه‬ ‫بالشخصيات وال مباالته باألنظمة‪ ،‬كل‬ ‫هذا يمنح أفكاره السياسية شك ً‬ ‫ال بسيط ًا‬ ‫وحيوي ًا حتى وإن كان قديم الطراز‬ ‫بعض الشيء‪ .‬لن يكون من الصواب‬ ‫كذلك أن تعتبر محفوظ‪ ،‬بعد قراءة‬ ‫رواياته من هذا النوع‪ ،‬غير واع بما‬ ‫يحدث في العالم المعاصر‪ ،‬كل ما في‬ ‫األمر أن نجيب محفوظ كمفكر اجتماعي‬ ‫أصبح أكثر اهتمام ًا بفكرة الخالص عن‬ ‫فكرة التاريخ‪ .‬هناك نبرتان واضحتان‬ ‫في الحرافيش‪ :‬إحداهما رثائية باكية‪،‬‬ ‫تنطلق من عاشور الثاني متأم ً‬ ‫ال العالم‬ ‫الذي ينتشر فيه الزيف والثراء السريع‪.‬‬ ‫وفي الليل دأب على التسلل إلى ساحة‬ ‫التكية‪ ،‬يتلفع بالظالم ويستضيء بضوء‬ ‫النجوم‪ .‬يردد البصر بين أشباح التوت‬ ‫والسور العتيق‪ ،‬يقتعد مكان الناجي‬ ‫ويصغي إلى رقصات األناشيد‪ .‬أال يبالي‬ ‫رجال اهلل بما يقع لخلق اهلل؟‪ .‬متى إذن‬ ‫يفتحون الباب ويهدمون األسوار؟‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫حتى متى تشقى حارتنا وتمتهن؟ لم‬ ‫ِم ُي ْجَهض‬ ‫ينعم األنانيون والمجرمون؟ ل َ‬ ‫ِم ّ‬ ‫يغط الحرافيش‬ ‫الطيبون والمحبون؟ ل َ‬ ‫في النوم؟‬ ‫يقول ذلك بينما أخوه فايز يهزأ من‬ ‫تقليدية الحارة‪ ،‬ويتحدث عن أعماله في‬ ‫«الوساطة» و«المضاربة» والتي تمثل‬ ‫طرق الرأسمالية الحديثة‪ :‬سرعان ما‬ ‫ُيقتل ونعرف أن ثروته جاءت عن طريق‬ ‫القتل والسرقة‪.‬‬ ‫النبرة الثانية ‪ -‬ولعلها األبعد عن‬ ‫الصواب ‪ -‬تبدو في النهايات الشبيهة‬ ‫بالحواديت األسطورية‪ :‬صعود عاشور‪،‬‬ ‫اندحار األعيان‪ ،‬وانتباه الحرافيش من‬ ‫غفلتهم‪ ،‬واإلشارة المتكررة أن يوم‬ ‫الخالص قد اقترب‪.‬‬ ‫«وسبح في الظالم صرير‪َ ،‬فَرنا‬ ‫(عاشور) إلى الباب الضخم بذهول‪.‬‬ ‫رأى هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات‪.‬‬ ‫ومنه قدم شبح درويش كقطعة‬ ‫متجسدة من أنفاس الليل‪ .‬مال نحوه‬ ‫وهمس‪ :‬استعدوا بالمزامير والطبول‪،‬‬ ‫غدًا سيخرج الشيخ من خلوته‪ ،‬ويشق‬ ‫الحارة بنوره‪ ،‬وسيهب كل فتى نبوت ًا‬ ‫من الخيزران وثمرة من التوت‪ ،‬استعدوا‬ ‫بالمزامير والطبول‪.‬‬ ‫عاد إلى دنيا النجوم واألناشيد والليل‬ ‫والسور العتيق‪ .‬قبض على أهداب الرؤية‬ ‫فغاصت في قبضته أمواج الظالم الجليل‪.‬‬ ‫وانتفض ناهض ًا ثم ً‬ ‫ال باإللهام والقدرة‬ ‫فقال له قلبه ال تجزع فقد ينفتح الباب‬ ‫ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة‬ ‫ببراءة األطفال وطموح المالئكة‪.»...‬‬ ‫ال تبدو رواية «الحرافيش» معنّية‬ ‫بذكورها ومصائرهم لكنها تضع نصب‬

‫عينها الذكر المثالي‪ .‬بالرغم من ذلك‪،‬‬ ‫هناك مشاهد غواية بالغة اإلمتاع‬ ‫(ونادرًا ما يكون الذكور المحفوظيون‬ ‫على قدر مراوغة وحيلة إناثه) وتبقى‬ ‫الشخصية األكثر حيوية وإثارة للدهشة‬ ‫هي شخصية زهيرة‪ ،‬أم جالل‪ .‬ال تشعر‬ ‫باالرتياح في دور الزوجة المطيعة‬ ‫أواألم أو زوجة االبن‪ ،‬وسرعان ما‬ ‫تستغل قوانين الطالق الليبرالية في‬ ‫اإلسالم لتخلص نفسها من تعاقب‬ ‫أزواجها المزعجين ثم يجري قتلها بشكل‬ ‫مباغت وفق الحيلة السردية المعروفة‬ ‫‪ Deus ex machine‬والتي ستتركك‬ ‫متسائ ً‬ ‫ال ما إذا كان المؤلف نفسه قد بدأ‬ ‫يرتبك أمام ما يمكن أن تنتهي عليه هذه‬ ‫الشخصية التراجيدية الطموحة الفائرة‪.‬‬ ‫بالنسبة للترجمة‪ ،‬وبما أنني ال‬ ‫أقرأ بالعربية يمكنني أن أقول فقط أن‬ ‫كاثرين كوبام قدمت ترجمة رصينة‬ ‫وطليقة إال ان انتقادي الوحيد هو‬ ‫العامية ذات الدالالت األميركية التي ال‬ ‫تبدو مريحة (وال مناسبة) لإلنكليزية‬ ‫العتيقة التي قدمت بها باقي النص‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫«غطى ظهري» (المقصود‬ ‫مفردات مثل‬ ‫بها في العامية اإلنكليزية‪ :‬يزوده‬ ‫بالسالح) أو (ابن السالح‪ :‬االبن غير‬ ‫الشرعي بعد االغتصاب بتهديد السالح)‬ ‫أو (فتاة المكالمات‪ :‬العاهرة) ‪ -‬والتي‬ ‫تعتمد بالضرورة على وجود هاتف ‪ -‬وما‬ ‫إلى ذلك من مفردات اصطالحية لم تكن‬ ‫مناسبة للنص‪ .‬وكذلك استخدام مفردة‬ ‫‪ :Crusade‬الحروب الصليبية‪ ،‬لم يكن‬ ‫موفق ًا في اإلشارة لهجمة أحد الفتوات‬ ‫الطيبين لتحقيق العدل‪.‬‬ ‫ذيل بمقاطع من الشعر‬ ‫النص ُم َّ‬ ‫الفارسي ‪ -‬وهي األناشيد التي تتردد‬ ‫في التكية ‪ -‬والتي تركها محفوظ دون‬ ‫ترجمة وهو ما يبدو لي قرارًا صائب ًا‬ ‫حتى وإن كان مشاكساً‪ ،‬فالحرافيش ما‬ ‫كانوا ليفهموا تلك األناشيد أكثر من قراء‬ ‫محفوظ اآلن‪.‬‬ ‫(نشرت بمجلة نيويورك بوك ريفيو بتاريخ‬ ‫‪ 22‬سبتمبر ‪)1994‬‬ ‫* كاتب من جنوب إفريقيا حاصل على نوبل‬ ‫‪.2003‬‬


‫رسـائل‬ ‫األحفاد‬ ‫من حممد �صالح العزب ‪ -‬القاهرة‬

‫هل تصلكم‬ ‫الجزيرة مباشر؟‬

‫صباح اإلبداع يا عم نجيب‪..‬‬ ‫كيف حالك هناك؟ وكيف وجدت الوضع؟ هل وجدت إجابات‬ ‫شافية عن أسئلتك الكثيرة التي حملت بها أعمالك الغزيرة‬ ‫وحملتنا بها حتى علمتنا فضيلة الشك؟ هل وجدت اإلجابات‬ ‫مرضية لطموحك في المعرفة‪ ،‬ومثيرة لخيالك الجامح؟‬ ‫هل من رسائل تحب أن ترسلها إلينا من عندك بخصوص‬ ‫الكتابة واإلبداع؟ هل يوجد لديكم روائيون وشعراء وممثلون‬ ‫ومخرجون؟ هل توجد لديكم مقاه ثقافية؟ وهل مازلت تعقد‬ ‫ندوتك األسبوعية بانتظام؟ وهل ما زلت محتفظ ًا بنظامك‬ ‫الزمني الصارم؟‬ ‫كيف حالك يا عم نجيب؟ وكيف حال من حولك؟ هل‬ ‫يعاملونك بالشكل الالئق؟ كيف ينظرون إليك ككاتب كبير؟‬ ‫وهل يقدرون جائزة نوبل قدرها كما يجب؟‬ ‫عم نجيب‪ ،‬هل ما زلت تكتب بانتظام؟ هل تمارس هوايتك‬ ‫األثيرة في تسجيل كل ما يدور حولك؟ كم رواية كتبت حتى‬ ‫اآلن؟ وكيف يمكننا الحصول على كتبك التي كتبتها هناك؟‬ ‫أال تفكر في نشرها لدينا هنا‪ ،‬حتى لو في طبعة شعبية أو‬

‫للكتّاب لديك أم أن الحال كما كان‬ ‫محدودة؟ وهل يدفعون جيدًا ُ‬ ‫هنا‪ ،‬ويظل الكاتب يعيش في الحالتين على الكفاف؟‬ ‫هل تغيرت عاداتك القرائية والكتابية أم ما زلت محتفظ ًا‬ ‫بها؟ هل أنهيت خالفاتك مع يوسف إدريس؟ وهل تجلسان مع ًا‬ ‫في بعض األوقات لتعلقا على كتاب هذه األيام؟ وهل تعجبك‬ ‫كتاباتهم؟ لمن قرأت منهم؟ ومن الذي أعجبك أكثر من اآلخر؟‬ ‫هل يوصلون إليكم بانتظام الكتب التي تصدر لدينا هنا؟ أم أن‬ ‫أسعار الشحن تقف حائ ً‬ ‫ال كالعادة؟‬ ‫هل تتنزه أحيان ًا وتنزل لتمر بأماكنك األثيرة وأصدقائك‬ ‫القدامى؟ هل يمكن أن تكون موجودًا معنا في الندوات‬ ‫والتجمعات األدبية وعلى المقاهي تسمع وتضحك وتعلق‬ ‫وتشرب القهوة دون أن تدفع الحساب لكنك تترك في جيب‬ ‫القهوجي بقشيش ًا سخي ًا يتفاجأ به أول ما يعود ألطفاله ليالً؟‬ ‫عم نجيب‪ ،‬هل تتابع أخبارنا من عندك؟ هل تصل إليكم‬ ‫الجزيرة مباشر مصر؟ أم أنهم يفرضون عليكم قنوات‬ ‫التليفزيون المصري؟ هل تتابع أخبار الثورة جيدا؟ هل تجلس‬ ‫في أوقات الفراغ مع الشهداء تسألهم عن التفاصيل الروائية في‬ ‫األحداث؟ عم نجيب‪ ،‬هل تفكر في كتابة رواية عن الشهداء؟‬ ‫هل تعدون استقبا ًال حاف ً‬ ‫ال يليق بمبارك الذي أعلنت غضبك‬ ‫عليه منذ زمن؟ هل لديك تعليقات معينة أو رسائل تحب‬ ‫توجيهها للثوار من عندك؟ أال يمكن أن تسأل لنا عندك عما‬ ‫ستنتهي إليه األمور في النهاية؟‬ ‫عم نجيب‪ ،‬بذمتك‪ ،‬ألم تكن تحب أن تتأخر قلي ً‬ ‫ال في‬ ‫المغادرة حتى تنزل من شقة العجوزة يوم جمعة الغضب ‪28‬‬ ‫‪87‬‬


‫يناير‪ ،‬حين كانت تدور األحداث على بعد خطوات من بيتك‪،‬‬ ‫لتشارك في التصدي للشرطة واألمن المركزي عند كوبري‬ ‫الجالء ظهرًا‪ ،‬ثم تشارك معنا في االقتحام وتحرير كوبري‬ ‫الجالء ثم شارع األوبرا‪ ،‬ثم كوبري قصر النيل‪ ،‬ثم دخول‬ ‫الميدان مساء‪ ،‬ومشاهدة نزول الجيش‪ ،‬صحيح‪ ،‬ما رأيك في‬ ‫الجيش وما يفعله في مصر حاليا؟‬ ‫عم نجيب‪ ،‬حدثت ثورة في مصر بعد مغادرتك بقليل‪،‬‬ ‫كثيرون ممن خرجوا فيها أكدوا أنهم رأوك تقود مجموعات‬ ‫من الثوار وتهتف في وسطهم‪ :‬الشعب يريد إسقاط النظام‪،‬‬ ‫وهم يرددون خلفك‪ ،‬وبعضهم قال إنك استشهدت مع من‬ ‫استشهدوا‪ ،‬وآخرون قالوا إن طائرات كانت تطير على‬ ‫ارتفاع منخفض فوق ميدان التحرير وقت االعتصام وتلقي‬ ‫على المعتصمين صفحات من رواياتك‪ ،‬ماليين الصفحات‬ ‫فوق رؤوس المليونيات المتعاقبة‪ ،‬حتى إنها من غزارتها‬ ‫كانت تظلل المعتصمين وتمنع عنهم حر الشمس وخراطيم‬ ‫المياه الكيماوية والقنابل المسيلة للدموع‪ ،‬والرصاص الحي‬ ‫والمطاطي‪.‬‬ ‫عم نجيب‪ ،‬باألمانة‪ ،‬لو أجلت مغادرتك هذه السنوات‬ ‫القليلة لفرقت معك كثيرًا‪ ،‬على األقل كنت ستجد منجم ًا آخر‬ ‫من الحكايات تحكيها لمن حولك هناك‪ ،‬لكن ال تقلق‪ ،‬كثيرون‬ ‫جدًا ممن خرجوا منذ يوم الثورة األول قرأوا رواياتك وأحدثت‬ ‫فرق ًا كبيرًا في حياتهم وخيالهم وطريقة‬ ‫تعايشهم مع الحياة‪ ،‬وربما لوال‬ ‫أنهم قرأوا رواياتك‬ ‫األفالم‬ ‫وشاهدوا‬ ‫المأخوذة عنها لما‬ ‫خرجوا من بيوتهم‪.‬‬

‫من روزا يا�سني ح�سن ‪-‬دم�شق‬

‫حينما ستكتب‬ ‫روايتك الجديدة‬ ‫أستاذي العزيز نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫ال أعتقد أن تزامن الذكرى المئة لمولدك مع رياح الربيع‬ ‫العربي أمر اعتيادي! كما ال أعتقد أن ما يجري في بلدي‬ ‫سيمر على وجدانك‬ ‫سورية‪ ،‬من ثورة على الطغاة والطغيان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دون أثر‪ ،‬فلو ّ‬ ‫اطلعت جيدًا على ما يدور فيها من أحداث بلون‬ ‫األلم وتفاصيل برائحة الدم ستكون أول من يخلّدها في‬

‫‪88‬‬

‫واحدة من رواياتك‪ ،‬فأنت ككاتب حقيقي‪ ،‬كما أراك‪ ،‬وستظل‬ ‫ملتزم ًا بقيم الحق والعدل والحرية‪ ،‬وليس مصفق ًا لألنظمة‬ ‫والديكتاتوريات كما العديد من المثقفين العرب اليوم!‬ ‫أستاذي العزيز‪،‬‬ ‫لطالما اقتنعت بأن كلماتك هي التي صنعت ذاكرة‬ ‫المجتمع المصري أكثر مما فعلت الوثائق الرسمية‪ ،‬فأنت‬ ‫لم تكن (ملتزماً) فحسب‪ ،‬بل مثق ً‬ ‫ال بضمير إنساني يجعلك‬ ‫تنتقد األوضاع الفاسدة منذ عهد الملكية وحتى عهد الثورة‪،‬‬ ‫وضميرك اإلنساني ذاك سيجعلك اليوم تكتب عن شباب ثائر‬ ‫في سورية ُيقتل كل يوم برصاص قوات رسمية ألنه ينشد‬ ‫الحرية! وألن شخصياتك كانت دوم ًا أقرب إلى نماذج إنسانية‬ ‫أم سورية ثكلى تبكي‬ ‫حية منها بكاريكاتيرات لغوية فستكون ٌ‬ ‫ابنها الشهيد‪ ،‬ألنه حلم بمستقبل مغاير‪ ،‬وتغني نائحة‪« :‬أم‬ ‫الشهيد تنادي‪ ..‬بشار يقتل بوالدي‪ ،»..‬تيمة روائية بالغة‬ ‫السطوع في روايتك المزمعة عن الثورة السورية‪.‬‬ ‫«محفوظ كان يحب أن يكون موجودًا وسط كتلة من البشر‪،‬‬ ‫لذلك كان ّ‬ ‫يفضل الترام في تنقالته على التاكسي»‪..‬‬ ‫هذا ما كنت أسمعه مرارًا ومنذ صغري‪ ،‬لذلك أعتقد أن‬ ‫مكانك اليوم سيكون بين الدبابات والمدرعات التي تحاصر‬ ‫المدن السورية‪ ،‬مراقب ًا جيوش الشبيحة واألمن التي تتهيأ‬ ‫لالنقضاض على المتظاهرين تحت جسر ما‪ ،‬أو وراء قنّاص‬ ‫على سطح بناية ينتظر شاب ًا محمو ًال على األكتاف يهتف‬ ‫للحرية وإسقاط النظام‪ ،‬وذلك كي تستطيع البدء بكتابة‬ ‫روايتك الجديدة عن ثورة وطني!‬ ‫ثمة من قال لو كان نجيب محفوظ حي ًا لكان فتح صالونه‬ ‫في ميدان التحرير‪ ،‬وأنا أشاركه قناعته بكل جوارحي‪،‬‬ ‫فالوقائع التاريخية عن الحرب والثورة كانت دعائم أساسية‬ ‫لكل ما كتبت‪ ،‬هذا يعني أن مقتل أكثر من ‪ 260‬طف ً‬ ‫ال سوري ًا‬ ‫خالل ثمانية أشهر من عمر االنتفاض الشعبي سيكون‪،‬‬ ‫على ما أفترض‪ ،‬دعامة مبتكرة لروايتك!‪ .‬وألنك بعد ثورة‬ ‫‪ 52‬انقطعت عن الكتابة خمس سنوات‪ ،‬وقد شعرت بأن ما‬ ‫كتبت من أجله قد تحقق ولم يعد لديك شيء تقوله‪ ،‬وهذا ما‬ ‫استغربته حقاً‪ ،‬فقد عدت حينما راحت األمراض تغزو الثورة‬ ‫من خالل (الثوريين) أنفسهم‪ ،‬فكانت ثالثيتك وأوالد حارتنا‬ ‫خالل سنوات قليلة‪ ،‬ولذلك أعتقد أن مرحلة جديدة تمام ًا‬ ‫ستخلق في أدبك بعد ثورة سورية‪ّ ،‬‬ ‫يسطرها عفن النظام‬ ‫وممارساته‪ ،‬ثورة لن يكون أبطالها برجوازيي مصر‪ ،‬بل‬ ‫شعب سورية بكل فئاته وشرائحه‪ .‬في تلك المرحلة الجديدة‬ ‫ال يجبر الفقر والحاجة شخصياتك لتتشكل حسب إرادة األقوى‬ ‫اقتصادياً‪ ،‬بل كبرياء اإلنسان المغّيب وغريزة الحرية هما‬ ‫اللذان يجبران شخصياتك على التغيير‪ ،‬كما هرولة مجتمعاتنا‬ ‫العربية المتخلفة نحو الضوء والديموقراطية‪ ..‬أنت أيها‬ ‫التلميذ النابغ للمدرسة الواقعية الغربية‪ ،‬بلزاك وستاندال‬ ‫وزوال‪ ،‬التي رصدت تطور المجتمعات الغربية البرجوازية‬ ‫نحو البرجوازية الكبيرة والرأسمالية‪ ،‬ستعمل على فضح ما‬


‫يجري عندنا بأدوات الروي‪ ،‬أنت يا «بلزاك العرب» ستكتب‬ ‫عن بلدي كي ال يذهب ما يحدث أدراج النسيان‪ ،‬كما قلت في‬ ‫روايتك أوالد حارتنا‪« :‬آفة حارتنا النسيان»‪.‬‬ ‫وكما كتبت في روايتك الكرنك عام ‪« :1971‬عجبت لحال‬ ‫وطني‪ ،‬إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق‪ ،‬ويملك‬ ‫القوة والنفوذ‪ ،‬ويصنع األشياء من اإلبرة إلى الصاروخ‪،‬‬ ‫ويبشر باتجاه إنساني عظيم‪ ،‬لكن ما بال اإلنسان فيه قد‬ ‫تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة‪ ،‬ما باله يمضي‬ ‫بال حقوق وال كرامة وال حماية‪ ،‬وما باله ينهكه الجبن والنفاق‬ ‫والخواء»‪ ..‬فستكتشف مذهو ًال‪ ،‬حينما ستأتي إلى سورية‬ ‫تحول إلى مجرد‬ ‫لتكتب روايتك الجديدة‪ ،‬أن ما قلته آنف ًا ّ‬ ‫ترهات ال معنى لها‪ ،‬وأن ذلك اإلنسان‪/‬البعوضة تبّدل في‬ ‫مهمش ُمهمل إلى بطل‪ ،‬وأن الجبن أضحى‬ ‫وطني‬ ‫ّ‬ ‫ليتحول من ّ‬ ‫ذاكرة مقيتة ومفككة‪.‬‬ ‫أستاذي العزيز نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫أخيرًا‪ ،‬سبق وقلت في إحدى مقابالتك مع رجاء النقاش‪:‬‬ ‫«من خالل قراءاتي في التاريخ‪ ،‬خاصة تاريخ الثورات الكبرى‪،‬‬ ‫وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً‪ ،‬وقد‬ ‫أشرت إلى ذلك في رواية «ثرثرة فوق النيل»‪ ،‬وهي أن الثورة‬ ‫يدّبرها الدهاة‪ ،‬وينفّذها الشجعان‪ ،‬ويفوز بها الجبناء»‪ ..‬هنا‬ ‫أعتقد أنك ستغّير رأيك أيضاً‪ ،‬وتدخل في قناعات مغايرة‪،‬‬ ‫فالثورة في سورية لم يدّبرها إال تراكم الظلم والخوف‬ ‫والفقر‪ ،‬ونفّذها أولئك الشجعان حقاً‪ ،‬أما من يفوز بها فهذا ما‬ ‫لم يظهر بعد‪ ،‬ولكني‪ ،‬كما الكثيرين غيري‪،‬‬ ‫موقنة بأن الحرية والعدالة ستكون من‬ ‫نصيب السوريين مهما‬ ‫طالت الرحلة المضنية‬ ‫التي نقطعها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ودام أدبك خالدا مقيماً‪.‬‬

‫من الطاهر �شرقاوي ‪ -‬القاهرة‬

‫كدت أصير‬ ‫قاتال مأجورا‬ ‫صباح الخير يا أستاذ نجيب‪..‬‬ ‫سأحكي لك شيئاً‪ ،‬منذ عدة شهور كنت أقلب في أوراق‬ ‫قديمة‪ ،‬عندما وجدت شهادة تقدير ممنوحة لي من نادي‬ ‫القصة بالقاهرة‪ ،‬بمناسبة فوزي بالمركز السادس مكرر‬

‫في مسابقة النادي السنوية‪ ،‬كان ذلك في بداية األلفية‪،‬‬ ‫الشهادة كانت مهترئة قلي ً‬ ‫ال في أطرافها‪ ،‬وكنت قد نسيت أنها‬ ‫بحوزتي‪ ،‬بأسفلها كان توقيعك المميز تحت سطر‪ :‬رئيس‬ ‫نادي القصة‪ ،‬التوقيع بالقلم األسود وبخط سميك واضح‬ ‫ومكتمل النقاط‪ ،‬لحظتها قررت أنني سوف أرمم الشهادة‬ ‫وأبروزها للحفاظ عليها‪ ..‬منذ سنوات أبعد وأثناء دراستي‬ ‫بالمرحلة اإلعدادية عرفتك‪ ،‬وقتها عثرت في البيت على نسخة‬ ‫من رواية «السراب»‪ ،‬كانت مختبئة وسط مجموعة من الكتب‬ ‫والجرائد القديمة‪ ،‬الموضوعة في إحدى طيقان البيت‪ ،‬التهمت‬ ‫الرواية في أيام معدودة‪« ،‬السراب» كانت أول عمل أقرأه‬ ‫لك‪ ،‬ال أعرف ما الذي شدني إليها‪ ،‬ربما ألجوائها النفسية‬ ‫أنسه أبدًا‪« :‬كامل رؤبة الظ»‪،‬‬ ‫ولغرابة اسم البطل الذي لم َ‬ ‫بعدها وفي المرحلة الثانوية كان اللقاء الثاني معك‪ ،‬في بيت‬ ‫الثقافة ببلدتي الصغيرة بجنوب مصر‪ ،‬بحثت عن رواياتك‬ ‫على األرفف المتربة‪ ،‬واستعرت الثالثية‪ ،‬قرأتها ثالث مرات‬ ‫في ثالث إجازات صيفية متتابعة‪ ،‬تخللتها قراءة روايات‪:‬‬ ‫«بداية ونهاية» و«زقاق المدق» و«يوم قتل الزعيم» و«خان‬ ‫الخليلي»‪.‬‬ ‫أستاذ نجيب‪ ..‬من الممكن أن أخبرك اآلن ِ‬ ‫بسّر يخصني‪،‬‬ ‫ربما لم أفك طالسمه إال بعد فترة متأخرة‪ ،‬سري الخفي‪:‬‬ ‫أن رواياتك تحديدًا مع بقية الكتب المتوفرة ببيت الثقافة‪،‬‬ ‫أنقذتني من مستقبل غامض ومبهم‪ ،‬وحمتني من قالقل فترة‬ ‫المراهقة وعنفوانها الصاخب‪ ،‬لوالها لكانت حياتي قد اتخذت‬ ‫مسارًا آخر‪ ،‬مثلما حدث مع بعض زمالئي في الفصل والذين‬ ‫ال ألن أصبح قات ً‬ ‫رافقوني لعدة سنوات‪ .‬وقتها كنت مؤه ً‬ ‫ال‬ ‫مأجورًا‪ ،‬يتخذ من الليل وغيطان القصب وكروم النخيل عالم ًا‬ ‫ومسكن ًا له‪ ،‬أو أصبح بلطجي ًا أفرض سطوتي على اآلخرين‪،‬‬ ‫بعالقاتي مع شخصيات نافذة‪ ،‬ولكن ليس مثل فتوات‬ ‫رواياتك‪ ،‬الذين كانت تحكمهم عادات وأعراف وكلمة شرف‪،‬‬ ‫أو على أقل تقدير أتبع نداهة مراهقتي المغوية‪ ،‬وأصبح‬ ‫مجرد اسم ورقم يمشي على األرض‪ .‬إذن كانت الطرق متعددة‬ ‫أمامي‪ ،‬لكنك ظهرت في الوقت المناسب مثل مالك حارس‪،‬‬ ‫وأخذتني إلى طريق مختلف وساحر‪..‬‬ ‫هل أحكي لك عن المفاجأة الكبرى‪ ،‬إنها «الحرافيش»‪،‬‬ ‫لوقت طويل كنت اسأل نفسي‪ :‬كيف أتتك الفكرة؟‪ .‬وما هذه‬ ‫الروح المحملة بكل هذه األسئلة الوجودية عن الحياة والموت‬ ‫والقدر والمصير؟‪ .‬أيض ًا كنت أكرر لنفسي‪ :‬إن الحرافيش هي‬ ‫درة أعمالك‪ ،‬وأكثرها قرب ًا إلى روحي‪ ..‬أمتلك منها ثالث‬ ‫نسخ من ثالث طبعات مختلفة‪ ،‬وأهديها إلى أصدقائي في‬ ‫أعياد ميالدهم‪ ،‬واقرأها كل حين‪ ..‬ما الذي تفعله الحرافيش‬ ‫في روحي؟ إنها المتعة والنشوة‪ ،‬تلك التي تجعلني دائخ ًا‬ ‫وتائهاً‪ ،‬بعد قراءة أو مشاهدة عمل جميل‪ ،‬متعة تغرقني في‬ ‫الصمت‪ ،‬وال أنطق إال بكلمة وا حدة‪ ،‬أهمس بها في أعماقي‬ ‫قائالً‪« :‬اهلل»‪« ..‬اهلل يا أستاذ نجيب على الحرافيش»‪ ،‬اكتملت‬ ‫العناصر الجمالية فيها‪ ،‬من متعة السرد إلى سالسة الحوار‬ ‫‪89‬‬


‫المغلف بروح السخرية‪ ،‬والمحمل بجماليات العامية المصرية‪،‬‬ ‫وعوالم صوفية تهدهد النفوس القلقة والمحتارة‪ ..‬بالضبط‬ ‫هذا هو ما أحتاجه اآلن‪ ،‬سور إحدى التكايا أقعد في ظله‪،‬‬ ‫وإنشاد خافت ينبعث من الداخل‪ ،‬يربت على جسدي بحنو‪،‬‬ ‫حتى تأخذني سنة من النعاس‪ ،‬حام ً‬ ‫ال معه‬ ‫روحي بعيدًا إلى عوالم أخرى‪ ،‬وال‬ ‫يهمني إن عادت روحي‬ ‫بعدها أو ظلت هائمة في‬ ‫الملكوت إلى األبد‪.‬‬

‫من عبد اهلل الطايع ‪ -‬باري�س‬

‫بطون جائعة‬

‫عزيزي نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫أعرف أنك ما تزال حي ًا بيننا‪ .‬تعيش مع عائلتي المغربية‬ ‫الفقيرة‪.‬أخبرني طفل صغير بأنك صعدت إلى السماء‪ .‬لكن‬ ‫قلبك ما يزال ينبض في عالمنا‪ .‬في مخيالنا وفي صورنا‪.‬‬ ‫أشعر بجوع‪ .‬جوع مستديم‪ .‬أمي تبحث عن أكل يمأل‬ ‫بطوننا‪ُ .‬يشبع عوزنا أنا وإخوتي السبعة ووالداي‪ ،‬في بيتنا‬ ‫المتواضع في سال‪ ،‬بالقرب من الرباط‪ .‬جوع وخجل وخوف‬ ‫يقطع أمعاءنا‪.‬‬ ‫كانت حينها المغرب تمر بسنوات الثمانينيات‪ .‬البالد كلها‬ ‫كانت خائفة‪ .‬كانت جائعة أيضاً‪ .‬أمي كانت تخاطبنا‪« :‬اهدؤوا‪،‬‬ ‫لسنا المغاربة الوحيدين الذين يشتكون الجوع‪ ،‬لسنا العرب‬ ‫الوحيدين الذين يعانون في هذا العالم‪ ،‬اهدؤوا! سأخرج ألبحث‬ ‫لكم عما تسدون به رمقكم‪ .‬شاهدوا التليفزيون حتى أعود»‪.‬‬ ‫جلسنا فوق بعضنا البعض نشاهد التليفزيون‪ .‬التليفزيون‬ ‫ينسينا فقرنا‪.‬‬ ‫صدقني عزيزي محفوظ‪ ،‬أن تكتب يعني أن تبدع‪ .‬يعني أن‬ ‫ّ‬ ‫تنظم وأن تكذب‪ .‬أما بالنسبة لي‪ ،‬فالكتابة تعني قول الحقيقة‪.‬‬ ‫أنت الحقيقة التي وصلتني عبر كتب‪ .‬أنت صورة وأفالم‬ ‫تحكي عن البطون العربية الجائعة‪ .‬هكذا دخلت حياتي‪ ،‬قلبي‬ ‫ووعيي‪.‬‬ ‫انطوى أبي على نفسه وخرجت أمي من البيت‪ .‬كيف كانت‬ ‫تفكر في طريقة إيجاد األكل؟ لغاية اليوم لست أمتلك إجابة‪.‬‬ ‫كانت هي المرأة «المخلوق األدنى» وكانت هي من يخرج إلى‬ ‫المواجهة‪ .‬هي التي واجهت اإلهانة‪.‬‬ ‫كنت أجلس مع إخوتي على حافتي الجوع واإلغماء‪ .‬نشاهد‬ ‫تليفزيون ًا باألسود واألبيض‪ .‬تليفزيون ًا يعرض أفالم ًا عربية‪،‬‬ ‫يعني أفالم ًا مصرية‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫أعرف أن ذاكرتي ستخونني من حين آلخر‪ .‬لكنني كلما‬ ‫فكرت في الجوع‪ ،‬شعرت بالجوع‪ ،‬أفكر فيك‪ .‬أفكر في الفيلم‬ ‫الرائع «بداية ونهاية» لصالح أبوسيف‪ ،‬المقتبس من رواية لك‬ ‫تحمل العنوان نفسه‪.‬‬ ‫كانت أمي في الخارج‪ ،‬تصرخ‪ ،‬تمارس البغاء؟ تسرق؟ ونحن‬ ‫ أبناءها ‪ -‬نشعر بخجل ونغرق في مشاهدة الفيلم‪ ،‬الميلودراما‬‫التي كتبتها والتي تحكي واقعنا‪ .‬وواقعي‪ .‬ولكن كيف نستطيع‬ ‫التخلص من الجوع؟ أين؟ من سيضحي بنفسه؟ في الفيلم نشاهد‬ ‫األم واألخت تضحيان بنفسيهما‪ .‬األخوة يدرسون‪ ،‬عدا واحد‪،‬‬ ‫جسد دوره فريد شوقي‪ .‬كانتا تحمالن العالم‪ ،‬تتحديان‬ ‫الذي َّ‬ ‫العالم‪ ،‬تسقطان من أجل الرجال‪ ،‬من أجل اإلنسانية‪ .‬تذهبان‬ ‫إلى الحرب‪ ،‬وأنا أتابعهما‪ ،‬وكل المغرب يقف إلى جانبهما‪.‬‬ ‫كنت جائع ًا وخائب ًا ومشفق ًا على بطون إخوتي الخاوية‬ ‫وبطون شخصياتك التي تصور واقعنا في «بداية ونهاية»‪.‬‬ ‫كنا نشاهدك في التليفزيون‪ .‬كنت في قلبنا‪ ،‬في روحنا‪ .‬كنت‬ ‫تتحدث عنا‪ .‬أمينة رزق‪ ،‬سناء جميل‪ ،‬عمر الشريف وفريد‬ ‫شوقي كانوا يجسدون شخصيات تعكس حالنا‪ ،‬اجتماعياً‪،‬‬ ‫جمالي ًا وسياسياً‪.‬‬ ‫عزيزي نجيب محفوظ‬ ‫أنت لم تمت‪ .‬لقد أطعمتني‪ ،‬في وقت تاهت فيه أمي‪ .‬أفهمتني‬ ‫أن الفن ليس حكرًا على األغنياء‪ ،‬لكنه ألولئك الذين رفضوا‬ ‫العيش في الجهل‪.‬‬ ‫كنت جاهالً‪ ،‬جائعاً‪ ،‬ومشتت ًا في البحث عن هويتي‪ .‬وبالقرب‬ ‫منك كان يوجد الفن‪ .‬كنت هناك ولم أكن أعرف شيئ ًا آخر‬ ‫عنك‪ ،‬عدا تلك الرواية‪ ،‬وفيلم «بداية ونهاية»‪ .‬األدب سينما‪.‬‬ ‫وأنا عشقت األدب مرورًا بالسينما‪ .‬عشقته معك ببطن جائع‪،‬‬ ‫بعيدًا عن القاهرة الساحرة‪ ،‬المجنونة والملتهبة‪.‬‬ ‫أنا موجود وتعلمت أن أكون موجودًا‪ .‬مصر مدت لي يد‬ ‫المساعدة‪ .‬استطعت أن أتقدم رغم الجوع ورغم الخضوع الذي‬ ‫علي‪.‬‬ ‫ُفرض ّ‬ ‫عزيزي نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫أبلغ اليوم ثماني وثالثين سنة‪ .‬أكتب‪ ،‬ولكن ليس مثلك‪.‬‬ ‫ال أتشّبه بك‪ .‬أنا أكتب بصوتي‪ ،‬بجسدي وببطني المغربي‬ ‫خاو‪ .‬ومازلت أتذكرك‪ .‬أتذكر درسك‪ .‬الكتابة‬ ‫الخاوي‪ .‬دائم ًا ٍ‬ ‫تعني المقاومة‪ .‬تعني قول الحقيقة‪ .‬وإذا لم يعجب اآلخرين ما‬ ‫نقول فلينصرفوا عن قراءتنا‪ ،‬وعن قراءتي‪ .‬الكتابة تعني رسم‬ ‫صور قوية ومستفزة وثائرة‪.‬‬ ‫عزيزي نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫أنت لم تمت‪ .‬مازلنا نقرأ أعمالك‪ .‬نتحدث‬ ‫عنك‪ .‬نتابعك‪ .‬نحبك‪ .‬دائم ًا وأبدًا‪.‬‬ ‫قبالتي الحارة من قلبي‬ ‫المسافر‪.‬‬


‫من جهاد بزي ‪-‬بريوت‬

‫في أي حزن يسقط‬ ‫الكاتب حين يُذبح؟‬ ‫لم أكترث تمام ًا لخبر نيلك جائزة نوبل‪.‬‬ ‫المراهق الفخور الذي كنته‪ ،‬سأل أستاذ األدب العربي عما‬ ‫ستضيفه مثل هذه الجائزة إلى الكاتب وإلى اللغة العربية‪،‬‬ ‫هذه اللغة التي كنت أنحاز إليها بصفتها «أجمل» اللغات‪ ،‬وإلى‬ ‫ما كتب فيها بأنه «أعظم» ما ُكتب‪ ،‬في مبالغات المراهقين‬ ‫وبراءتهم التي تحيل أي فكرة إلى ما يشبه سباق ًا في تالوة‬ ‫كلمات على وزن أفعل التفضيل‪.‬‬ ‫المراهق نفسه راقت له‪ ،‬لسبب ما عدت أعرفه اآلن‪ ،‬فكرة أن‬ ‫منحك نوبل كانت لموقفك اإليجابي من التطبيع مع إسرائيل‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬بنى الشاب انطباعه عن األديب على ضدين ال يلتقيان‬ ‫إال في عقل بريء‪ :‬فنجيب محفوظ ولغته العربية أهم من‬

‫الجائزة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وهو‪ ،‬من الجهة الثانية‪ ،‬لم ينلها ألنه‬ ‫يستحقها‪ ،‬بل ألنه «يحب» إسرائيل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بقيت على موقفي‪ ،‬لكنني قرأت لك‪ ،‬وعنك‪ ،‬متحررا من‬ ‫سطوة االنبهار بك‪ .‬وتزامناً‪ ،‬رحت أكتشف األدب‪ ،‬بما هو ذاك‬ ‫العالم الهائل‪ ،‬بلغته التي تتخطى كل اللغات‪ ،‬هذه اللغة التي‬ ‫نظل نبحث عمرًا بطوله في احتماالتها وألوانها‪ ،‬وما تصنعه‬ ‫من تغيير جذري فينا‪.‬‬ ‫ازداد احترامي للجائزة‪ ،‬وازداد احترامي لك‪ ،‬حين لم أعد‬ ‫أنظر إليك ككاتب «عربي» كان فوزه بنوبل سياسي ًا أو فوزًا‬ ‫للغة العربية‪ ،‬بل واحدًا ممن حفروا أسماءهم على الالئحة‬ ‫التي ال يمكن إال االعتراف بأهميتها‪ ،‬وإن كان من فيها ليسوا‬ ‫أكثر أهمية ممن بقوا خارجها‪ ،‬وهذا نقاش آخر‪.‬‬ ‫تعرضت‬ ‫لم أذهل لنوبل إذًا‪ .‬ذهولي الهائل كان حين‬ ‫َ‬ ‫لمحاولة ذبحك‪ .‬حينها رأيت براءتي تتساقط عني‪ ،‬ونقمت‬ ‫«علينا»‪ ،‬أبناء جلدتك ولغتك‪ ،‬كما لم أنقم على أحد قط‪.‬‬ ‫وعدت بالنسبة إلي‪ ،‬كاتب ًا عربياً‪ .‬أصابني ما‬ ‫عدت عربياً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يشبه الخجل منك‪ ،‬وأنت ترى خنجر التخلف يذبح كل ما أفنيت‬ ‫عمرك من أجله‪ ،‬كل المنظومة التي تشكل صورتك المشتهاة‬ ‫عن ابن الشرق المثقف‪ ،‬ابن الكلمة‪ ،‬ال يجيد غيرها أداة خيال‬ ‫أو أداة حوار وتمدن وخطو إلى األمام‪ .‬خجلت منك‪ ،‬وأنت‬ ‫المر حيث يختلط على عنقك ثأر القاتل مما‬ ‫ُتواجه بالعبث ّ‬ ‫ُكتب‪ ،‬وظنه أن القتل هو الدرس األفضل لكل من ستسول له‬ ‫نفسه أن يكتب يوم ًا ما يسميه حامل الخنجر «حراماً»‪.‬‬ ‫في أي حزن يسقط الكاتب وهو ُيذبح ألنه كتب؟ أظنه حزن ًا‬ ‫عميق ًا عميق ًا ذاك الذي تأصل في قلبك‪ ،‬ولم يغادره بعدها‪.‬‬ ‫حزن ثقيل من ذاك الذي تتغير بعد وقوعه وإلى األبد‪ ،‬نظرات‬ ‫العيون وألوانها‪.‬‬ ‫في أي حزن يسقط الكاتب وهو يعلم أن ذابحه لم يقرأ‬ ‫له حرفاً؟ ليس عزاء أنه لم يقرأ‪ ،‬وليس عزاء أنه لو قرأ لم‬ ‫يكن ليقتل‪ .‬غيره قرأ وقرر أن الكاتب يستحق القتل‪ .‬ليس عدم‬ ‫القراءة شرط القتل‪ ،‬كما ليست القراءة شرطه‪ .‬للقاتل وحشه‬ ‫يسوغ له القتل ح ً‬ ‫ال يقصي به كل معضلة‪ .‬وهو‬ ‫الخاص الذي ّ‬ ‫أبسط الحلول‪ ،‬وأكثرها غباء‪ ،‬لكنه أثقل على ضحيته من‬ ‫أن يحتمل‪ .‬ومع أنك غمرت بورد الناس وودها ومع أنك‬ ‫أعطيت عمرًا بعد الذبح لترمم جرحك‪ ،‬فقد ُم َّت وال أظنه التأم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كان الزمن غير الزمن‪ ،‬وكانت القلة ممن ال يقرؤون‪ ،‬أو ممن‬ ‫يقتلون من يقرؤون لهم‪ ،‬كانت هذه القلة تظن أنها األقوى‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬في السنة المئة على ميالدك‪ ،‬للمرة األولى ال تقف‬ ‫اليد ذات الخنجر فوق عنقك‪ .‬جرفها عنك نهر من‬ ‫مر بك وهو يحمل مصرك إلى‬ ‫األيدي الطرية ّ‬ ‫ومسد‬ ‫غدها‪ .‬نهر من األحالم‬ ‫نضر مر بك ّ‬ ‫ٌ‬ ‫على جرحك‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫من كمال قرور ‪-‬اجلزائر‬

‫لك الهرم الرابع‬ ‫مر قرن على ميالدك‪ ،‬يا سيد الرواية‪ .‬وها نحن اليوم بك‬ ‫ّ‬ ‫نحتفل والعالم معنا‪ .‬نفخر بالصرح الذي صنعت من قّيم‬ ‫الجمال للعرب والبشرية‪.‬‬ ‫استعجلت الرحيل‪ ،‬ولم يكن بيدك ذلك‪ ،‬لتكون معنا في‬ ‫هذه اللحظة الجميلة‪.‬لكنك حاضر بما أنجزت‪.‬‬ ‫نعم كنت مرتاح ًا وقد أديت الواجب وأتقنت العمل‪.‬‬ ‫كان الوقت كافي ًا لتصنع منه شيئ ًا فريدًا متميزًا وخالدًا‬ ‫يستحق الذكر واإلشادة‪.‬‬

‫كنت همزة وصل بين جيل الرواد الذين زرعوا بذور النهضة‬ ‫وجيل حلقتك الذين حصدوا الغالل بكل كفاءة ووعي ووزعوها‬ ‫على أجيال ستأتي حتم ًا واعدة‪.‬‬ ‫نحتفل بك وأنت سيد الرواية العربية‪.‬‬ ‫الرواية التي اكتملت فتنتها في حضرتك‪ .‬وأدهشت العالم‪،‬‬ ‫باإلبداع األصيل المنفتح على اآلخر‪ .‬بخصوصية الحارة‬ ‫والنظرة الثاقبة واألصالة المعانقة لإلنسانية‪ ،‬دون انسالخ‪.‬‬ ‫استحققت تتويج نوبل لآلداب‪ ،‬بكل اعتزاز‪.‬‬ ‫كم كنا حزانى ونحن نواجه النكران وال نحظى‬ ‫باالعتراف‪.‬‬ ‫لكنك كنت ببصمتك وتواضعك واثق ًا أن موهبتك الخالقة‬ ‫ستصنع االستثناء‪ ،‬وتأتي بما لم يأت به األوائل‪ ،‬وتخلص‬ ‫النثر العربي من جموده وتقعره وزخرفته اللفظية وشوائب‬ ‫عصور االنحطاط‪.‬‬ ‫الحارة بصمتك اإلبداعية‪ ،‬وفضاؤك الذي تنظر من خالله‬ ‫إلى العالقات البشرية المتشابكة والصراعات المحتدمة‬ ‫والعواطف الجياشة‪ .‬عندما وجدت نقطة االرتكاز‪ ،‬مدت لك‬ ‫العالمية ذراعيها واحتضنتك‪.‬‬ ‫كيف ال نحتفل بك اليوم والعالم معنا‪ .‬وقد شيدت هرم ًا‬ ‫رابع ًا من المعنى والجمال‪.‬تفخر به األمة العربية وبقية‬ ‫األمم‪.‬‬ ‫هرم للرواية العربية ال يبلى وال‬ ‫يتصدع وال تؤثر فيه‬ ‫عوامل الزمن‪..‬‬ ‫هنيئ ًا لنا بك سيد‬ ‫الرواية‪.‬‬

‫من �سهى زكي ‪ -‬القاهرة‬

‫جدي‬ ‫في وسط البلد‬

‫جدي نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫كيف حالك هناك؟ أعرف أنك بخير‪ ،‬ترسل لنا طاقات‬ ‫كتابة مذهلة‪ ،‬تريدنا أن نستكمل مسيرتك‪ ،‬لكن هل نصلح ألن‬ ‫نصبح يوم ًا مع الكاتب الكبير الراحل في جملة واحدة؟‬ ‫يزداد غضبي منك كلما قرأتك‪ ،‬كلما رأيت فيلم ًا منقو ًال عن‬ ‫مر الزمن‪ .‬هنا في زماننا‪،‬‬ ‫إحدى رواياتك‪ .‬يزداد غضبي كلما ّ‬ ‫رأيت كتب ًا بلهاء لكتّاب أعموا عيوننا بحروف مشوهة على‬ ‫الورق‪ ،‬مفاخرين بالتجريب والحداثة وما بعد الحداثة‪ .‬ليس‬ ‫اعتراض ًا على التجريب والحداثة ولكن‪ ،‬ألنها أصبحت حجة‬ ‫كل بليد في الكتابة‪.‬‬ ‫‪92‬‬


‫جدي الحبيب‪..‬‬ ‫علمتني أحالمك أن الحياة تكتبنا حتى في الحلم‪ ،‬ورغم‬ ‫إيماني اليقيني بأن الحلم مرادف كلمة الحياة‪ ،‬إال أنك‬ ‫جعلتني أثق في يقيني أكثر عندما كتبت أحالم فترة النقاهة‬ ‫التي لم تنته بإفاقة‪ ،‬بل انتهت بأن تتحول أنت شخصي ًا لحلم‬ ‫كل كاتب عربي‪ .‬الحكاؤون دائم ًا طيبون وأذكياء أيضاً‪ ،‬فأنت‬ ‫بقدر طيبتك‪ ،‬بقدر ذكائك في تقمص كل شخصياتك الدرامية‬ ‫المؤلمة‪ ،‬تعذبني بثرثرتك فوق النيل‪ ،‬وتجعلني أحلم بسعيد‬ ‫مهران كمخلص حقيقي‪.‬‬ ‫فسعيد كان ليفرح ويشارك في الميدان‪ ،‬وكنت ربما ستكتب‬ ‫عن خالد سعيد بحكايته السرية قبل الهجوم عليه من قبل‬ ‫معدومي الرحمة‪ ،‬أو ربما جعلته هو ومينا دانيال صديقين‬ ‫في رمز درامي عتيق للوحدة الوطنية الساذجة‪.‬‬ ‫«تعرف شيء»؟! جدتي أيض ًا كانت حكاءة بارعة‪ .‬كانت‬ ‫ساحرة عندما تحكي عن نجيب‪ ،‬ذلك الفتى الجميل الذي يعبر‬ ‫يومي ًا من أمامها وهو يتجه لمقهاه‪ ،‬كم هو وسيم نجيب!‬ ‫أحبته جدتي في سرها وخيالها‪ ،‬لم يكن مشهورًا على اإلطالق‬ ‫وقتها‪ ،‬كان شاب ًا خجو ًال وهادئاً‪ .‬كانت كلما رأتك أو سمعت‬ ‫عنك في التليفزيون‪ ،‬تقول هذا جاري الذي كنت أحبه دون أن‬ ‫يدري‪..‬ترى كم امرأة عشقتك دون أن تدري يا دونجوان؟‬ ‫السرقات منك على أشدها‪ ،‬ومّدعو اإلبداع ال يستحون‪،‬‬ ‫لكنني أعرف أنك ال تهتم‪ ،‬فاألصل ال يمكن لصورة أن تقلد‬ ‫روحه‪ .‬سيكون مجرد مسخ‪.‬‬ ‫أريد أن أطلعك على سر‪ ،‬ال تغضب هكذا‪ ،‬تمهل! أنا لم‬ ‫أحب يوم ًا طقوسك في الكتابة‪ ،‬فمعاملة األديب مع عقله‬ ‫وقلمه بمنطق المواعيد ال يروق لي‪ .‬آه! صراحة‪ ،‬هل تمانع‬ ‫علي الفكرة‬ ‫في اعتراضي؟ أنا يحلو لي أن أكتب وقتما تلح ّ‬ ‫وتصرخ الشخصيات في رأسي رافضة السجن أكثر من ذلك‪.‬‬ ‫هل يمكن أن أؤثر في القراء يوم ًا مثلما أثرت أنت في العالم‬ ‫كله؟ هل يمكن أن تعلق حكاياتي بأذهان الناس مثلما علقت‬ ‫حواديث العمالق في أذهان ماليين البشر من كل أنحاء العالم؟‬ ‫ال يمكن أن آكل السمان وال أتذكر «السمان والخريف»‪ ..‬ال يمكن‬ ‫أن اذهب إلى اإلسكندرية وال أرى «ميرامار» أو أمر على القلعة‬ ‫فال أرى عشرات من سعيد مهران‪ ،‬يحاولون قهر البيه وظروف‬ ‫الحياة الوعرة‪ ،‬بفهلوة مصنوعة من الزمن المر‪.‬‬ ‫كرهت سي السيد من وصفك المحايد لسلوكه‪ ،‬وكرهت‬ ‫أمينة السلبية لوصفك الطيب المبالغ فيه لشخصيتها‪ ،‬وأحببت‬ ‫ياسين الولد الشقي الذي يشبه أباه‪ .‬الجبالوي!‪..‬ال يهم من هو‬ ‫الجبالوي‪ ،‬لكن رواية أوالد حارتنا صنعت أسطورة الرواية‬ ‫المثيرة بكل صورة‪ ،‬بل نسجت حولها الحواديث واألفالم‪،‬‬ ‫وحتى اآلن لم يعرف أحد من هو الجبالوي وأوالده في رواية‬ ‫«أوالد حارتنا»‪.‬‬ ‫أحب أن أخبرك أن أكثر عمل تمنيت أن أكتبه هنا‪ ،‬هو‬ ‫حديث الصباح والمساء‪ .‬فأنا مولعة بالزمن وتعاقب األجيال‬

‫واستنساخهم وتطور العالقات بين الناس وبلورتها مع الزمن‬ ‫ودخول العالقات الشائكة‪ .‬ألن اإلبداع ببساطة يشبه الخلق‬ ‫طبيعة ال يمكن أن نعرف كيف صنعت‪ ،‬فقط صنعت‪..‬‬ ‫بحبك يا جدي العزيز‪.‬‬ ‫سالمي لكل مبدع حقيقي قابلته عندك‪ ،‬وقل لهم إنني‬ ‫أتمنى أن أكون معهم‪ ،‬وأنت بالذات يا جدي‪ ،‬أتمنى أن تفخر‬ ‫بحفيدتك‪.‬‬ ‫على فكرة‪ ،‬أنا ممن يحيون األب وال يميتونه‪ ،‬فأنت عايش‬ ‫جدًا يا جدي‪ ،‬لذلك استمتع وال تخف في جنتك‪ ،‬ستحرر مصر‬ ‫ممن حاول قتلك‪ .‬ستتحرر قريب ًا كما حررت مصر ممن اعتقدوا‬ ‫أنفسهم آلهة‪.‬‬ ‫نام قلمك‪ ،‬لم تنم أنت‪ ،‬ومازلت يا جدي‬ ‫تتحرك في وسط البلد بين‬ ‫المثقفين‪ ،‬تحرك أشواقهم‬ ‫ناحية إبداعك‪.‬‬

‫من كمال العيادي ‪-‬تون�س‬

‫نرى كما تريدنا أن نرى‬ ‫أيها المعلّم‪..‬‬ ‫لقد انتهى األمر كما توقعت أنت تماماً‪ .‬وهذا ليس بالغريب‬ ‫وفي مبدع ومسكون حكيم مثلك‪ ،‬خبر البالد والعباد‬ ‫عن محب ّ‬ ‫وتصالح مع نفسه ومع األرض والمكان بشكل مذهل‪ .‬وأخلص‬ ‫لقلمه ولحدود عوالمه إخالص ًا نادرًا‪ .‬فأزهر بين يديه ّ‬ ‫كل ما‬ ‫كان مهيأ له أن يتوكأ عليه‪ .‬صفاء قلبه وعمق بصيرته وقلمه‬ ‫الذي يستدل ّ‬ ‫ويدل به وعليه‪.‬‬ ‫جلي وواضح كما تنبأت ونبهتنا في‬ ‫بشكل‬ ‫الحق‬ ‫لم ينتصر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل رسائلك لنا‪.‬‬ ‫لم ينحصر الباطل كلّي ًا أّيها المعلّم الجليل‪ ،‬تمام ًا كما أكدت‬ ‫لنا في كل تحذيراتك ووصاياك المشفرة والواضحة‪ ،‬المعلن‬ ‫ّ‬ ‫والمبطن‪.‬‬ ‫منها‬ ‫ثمة ما يدعو للتفاؤل بالتأكيد‪ .‬وهذا أمر ال يمكن إنكاره أو‬ ‫تجاهله‪ .‬وله مبررات قوية وحقيقية‪ .‬ولكن في نفس الوقت‬ ‫ثمة توجس ًا وغموض ًا متلبدًا يجثم على األنفاس والصدور‪.‬‬ ‫جبروت ظلم يتهاوى فع ً‬ ‫ال تحت ضربات قوية وتصميم‬ ‫عنيد وواعد من ناحية‪ ،‬ولكن األطراف المنحرفة والمندسة‬ ‫فض ً‬ ‫ال عن المأجورة منها مازالت تضخ الضغينة والشر والحقد‬ ‫الحي القديم الذي يعمينا ويعطلنا الّدخان‬ ‫والكراهية في نسيج ّ‬ ‫العابر فيه والبخور المستورد المغشوش عن استحضار بهجة‬ ‫ألوانه الفاتنة وتوهجه اآلسر‪ ،‬لنراه كما كنت تريدنا أن نراه‪.‬‬ ‫حسن ًا أّيها المعلّم‪..‬‬ ‫حق في ّ‬ ‫إننا نزداد اآلن اقتناعاً‪ ،‬أنّك كنت على ّ‬ ‫كل ما نّبهتنا‬ ‫‪93‬‬


‫إليه‪ ،‬تمام ًا ّ‬ ‫ككل األنبياء الذين وهبتهم هذه األرض الطيبة‬ ‫سرها وألهمتهم محبتها وصفاءها وعمقها وقِدمها فاكتسبوا‬ ‫ّ‬ ‫منها مناعة البقاء ضد الفناء والموت ومنحوا الخلود‪ ..‬ورّبما‬ ‫بسبب هذا بالذات‪ ،‬وبسبب إيماننا ّ‬ ‫بكل أنبياء هذا البلد الموعود‬ ‫باألمان‪ ،‬يملؤنا التفاؤل بأن القاهرة العروس ستعود أجمل‬ ‫وأن مصر المحروسة ستنفض عن قشرتها هذا‬ ‫مما كانت‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الغبار المربك وتستعيد قريب ًا ألوان نسيجها البديع‪ ..‬وحينها‬ ‫ستعود فتنة اختالط أصوات الباعة بصوت اآلذان ونواقيس‬ ‫الكنائس وأهازيج األفراح وهي تبارك النور المعتّق حين‬ ‫يفيض من فرجات النيل المسكون‪.‬‬ ‫فهنيئ ًا لك مقامك أيها المعلّم‪.‬‬ ‫هنيئ ًا لك ما عشت‪.‬‬ ‫هنيئ ًا لك ما أحببت‪.‬‬ ‫وهنيئ ًا لك ّ‬ ‫كل ما‬ ‫تركت‪ .‬وما َمنحت وما‬ ‫ُمنحت‪.‬‬

‫من حممد الأ�صفر ‪ -‬بنغازي‬

‫سأنعتك بالكذاب‬ ‫لم أعرف أين أجدك‪ ..‬قلبي يقول إنك هنا‪ ..‬لكن هنا ال‬ ‫أجدها‪ ..‬بحثت عنها في شوارع وأزقة القاهرة‪ ..‬في مقاهيها‬ ‫وحاناتها ومسارحها ودور السينما‪ ..‬في مكتباتها الشهيرة‬ ‫في وسط البلد والزمالك والجيزة ومصر الجديدة‪ ..‬على‬ ‫شاشات التلفاز في كل البرامج المباشرة‪ ..‬أبحث في كل‬ ‫مكان حتى في المعابد الفرعونية وعند األهرامات وأبي الهول‬ ‫الصامت األبدي الذي في النهاية أخبرني أين أجدك وأشار‬ ‫إلى قلبه‪.‬‬ ‫كم هائل من الصفحات انسكبت في داخلي‪ ..‬ضيعتك داخلي‬ ‫ومزجتك بصفحات أخرى قرأتها لكتاب كبار مثلك‪ ..‬ال أعرف‬ ‫كيف أستخلصك منهم‪ ..‬الجميع محتفي بهذا االمتزاج‪ ..‬ال‬ ‫يريدك أن تغادره كما غادرت الدنيا إلى داخلها العميق‪ ..‬أزور‬ ‫القاهرة مرارًا وال أجدك‪ ..‬أحضر روحك بواسطة كتاب لك‬ ‫وأخاطبك‪ ..‬كتبك ما شاء اهلل كثيرة‪ ..‬لم تعد شعبية تباع على‬ ‫األرصفة ككتب اليوم الرائجة‪ ..‬كتاب لك أقرأ منه صفحات‪..‬‬ ‫ومع كل سطر أتحدث معك وأعيش معك وأعود معك إلى‬ ‫ماض لم يذهب إلى الماضي وانطلق إلى هنا‪ ..‬ال أقرأك عبر‬ ‫فيلم مأخوذ عن عمل لك‪ ..‬أقرأك عبر عملك األدبي مباشرة‪..‬‬ ‫أعود بالكلمات إلى زمن كتابتك لهذا العمل‪ ..‬زمنك الشخصي‬ ‫وزمن موضوعك المتناول فيه هذا العمل‪ ..‬أراك وأنت عائد‬

‫‪94‬‬

‫إلى البيت‪ ..‬وأنت جالس للكتابة ثالث ساعات متواصلة كما‬ ‫قلت‪ ..‬مع أنني أشك كثيرًا في ذلك‪ ،‬بل سأنعتك بالكذاب‪..‬‬ ‫فما أبدعته ال يمكن أن يكون قد تم من خالل جلسات متعددة‬ ‫منتظمة‪ ،‬كل جلسة ثالث ساعات فقط‪ ..‬أنت يا صديقي تكتب‬ ‫طيلة األربع والعشرين ساعة‪ ..‬طيلة مسيرة ذاكرة النسيان‬ ‫في أغوار نفسك‪ ..‬خروجك من البيت كتابة‪ ..‬شراؤك الجرائد‬ ‫كتابة‪ ..‬حديثك مع الناس كتابة‪ ..‬احتساؤك للقهوة وتدخينك‬ ‫للسجائر والنرجيلة كتابة‪ ..‬تأملك كتابة‪ ..‬قراءتك لكل شيء‬ ‫عبر الحروف أو البصر والبصيرة كتابة‪ ..‬أنت يا صديقي‬ ‫حرف يكتب الحياة‪ ..‬أقدامك تمسك بالقلم‪ ..‬يداك تمسك به‪..‬‬ ‫رأسك يمسك به‪ ..‬عيناك تمسك به‪ ..‬كل حواسك ماسكة‬ ‫به ومستنفرة لهذا الفعل اللذيذ بما فيها روحك الذارفة لمداد‬ ‫الخلود دون توقف حتى عندما غبت‪.‬‬ ‫واآلن علي أن أستخلصك من فوضى قراءاتي‪ ..‬أراك قبل‬ ‫أن أمضي‪ ..‬تقدمت بطلب كتابي تعهدت فيه أن أعيدك إلى‬ ‫مكتبة قلبي من جديد فور قراءتك ومشاركتك شرب الشاي‪..‬‬ ‫تسمعني بعض الحكايات الجديدة التي كتبتها في برزخك‪..‬‬ ‫ستكون حكايات ممتعة بال شك‪ ..‬وأعاهدك أن ال اقتبس منها‬ ‫شيئ ًا أو أسرقها معاذ اهلل‪ ..‬فالسرقة من الموتى عقابها أشد‬ ‫وهي في األساس أمر مخجل ال أجيد القيام به‪ ..‬اآلن أنت‬ ‫معي‪ ..‬وعلى الرغم من أنك لست الكاتب المفضل لدي لكني‬ ‫أحبك كثيرًا‪ ..‬كتاباتك ال ثقل دم فيها‪ ..‬وممتعة‪ ..‬وتريني‬ ‫الواقع‪ ..‬وتجعلني أعيش في هذا الواقع بل في أحيان كثيرة‬ ‫أتحول إلى شخصية من شخصيات واقعك هذا‪ ..‬أمارس‬ ‫حياتي عبرها في الواقع كما أمارسها أثناء القراءة‪.‬‬ ‫عندما بدأت في ممارسة الكتابة كنت قد قرأت كثيرًا‪ ..‬من‬ ‫ضمن قراءاتي عدد ال بأس به من رواياتك‪ ..‬وبعد حصولك‬ ‫على نوبل توقفت عن قراءتك‪ ..‬قلت سأقرأ اآلن ما سيكتب‬ ‫عنك‪ ..‬وسأكتب عنك أنا أيضاً‪ ..‬لكن بعد سنوات توقفت‬ ‫الكتابات عنك‪ ..‬وتوقف القراء أيض ًا عن قراءتك‪ ..‬وفضل‬ ‫الجميع أن يقرأك بواسطة الفعل‪ ..‬فكل شخصياتك المتنوعة‬ ‫المعبرة عن روح مصر والعالم خرجت من صفحاتها لتترك‬ ‫كتبك أوراق ًا بيضاء من دون سطور‪ ..‬ولتندلف جميعها إلى‬ ‫ميدان التحرير لتقول الكلمة التي أردت أن تقولها عبر هذا الكم‬ ‫الهائل من المنتج الروائي اإلبداعي وهي كلمة (ال)‪ ..‬شكرًا‬ ‫صديقي نجيب‪ ..‬دائم ًا كلما أريد أن ألتقيك في حياتك تقول‬ ‫لي ال‪ ..‬واآلن ال تريد أن تخرج من قلبي كي تجلس معي قلي ً‬ ‫ال‬ ‫ولو مجاملة‪ ..‬إنك قاس معي كثيرًا‪ ..‬فإلى متى‬ ‫ستظل تأمرني بأن أواصل القراءة؟‪..‬‬ ‫سأقول لك أنا أيض ًا ال‪ ..‬لن‬ ‫أقرأ وسأخرج إلى الشارع‬ ‫وعلى الشرع أيضاً‪.‬‬


‫�صيد الل�ؤل�ؤ‬

‫د‪ .‬محمد عبد المطلب‬

‫اغتراب اللغة في وطنها‬

‫يقول أبو حيان التوحيدي «أغرب الغرباء من صار غريب ًا‬ ‫ف���ي وطنه» وهذا الق���ول ينطبق على اللغ���ة العربية في هذا‬ ‫الزم���ن‪ ،‬لق���د أعطى اهلل لألم���ة العربية لغة م���ن أدق اللغات‬ ‫وأغناه���ا‪ ،‬وبه���ذه الدقة وهذا الغنى عاش���ت مئات الس���نين‬ ‫مصاحبة التط���ورات الحضارية والثقافية لهذه األمة‪ ،‬ونقلت‬ ‫حضارتها إلى العالم‪ ،‬ونقلت حضارة العالم إليها‪ ،‬والتاريخ‬ ‫شاهد على كل ذلك‪.‬‬ ‫لك���ن المؤس���ف أن العرب ل���م يحفظوا للغته���م حقها في‬ ‫االحترام والحماية‪ ،‬بل إنهم س���عوا الس���تبعادها من عالمهم‬ ‫الحاضر حياتي ًا وثقافي ًا وعلمياً‪ ،‬ولم يتنبهوا إلى أن تخليهم‬ ‫عن لغتهم سوف يفقدهم هويتهم‪ ،‬ثم يفقدهم عنصر التواصل‬ ‫الحيات���ي والحض���اري والثقاف���ي فيما بينه���م‪ ،‬وفيما بينهم‬ ‫والعال���م‪ ،‬ذل���ك أن التواصل ف���ي حاجة إلى لغ���ة منضبطة‬ ‫األصول والفروع‪ ،‬دقيقة التعبير واإلفصاح‪.‬‬ ‫ال ش���ك أن هناك عوامل كثيرة ساعدت على اغتراب اللغة‬ ‫العربية ف���ي موطنها‪ ،‬وربم���ا كان أخطر ه���ذه العوامل‪ :‬أن‬ ‫المجتمع العربي سمح للغات األجنبية أن تنافس العربية في‬ ‫مجاالت الحياة المختلفة‪ ،‬وفي مقدمة هذه المجاالت (التعليم)‬ ‫حيث س���مح للغ���ة األجنبية أن تزي���ح العربية ع���ن مكانها‬ ‫ومكانته���ا بوصفها (اللغة األم)‪ ،‬وتنقله���ا إلى أن تكون لغة‬ ‫ثانية‪ ،‬أو ثالثة في بعض األحيان‪ ،‬وهذه الخطوة اإلجرائية‬ ‫تبدأ مع أولى المراحل التعليمية‪( :‬الروضة ‪ -‬الحضانة)‪.‬‬ ‫إن الطفل ينشأ في بيئة لغوية‪ ،‬ويدرك عن طريق السماع‬ ‫أن هناك مجموعة من األصوات التي تتردد على أذنه بوصفها‬ ‫(كلم���ات) وكل كلمة تعبر عن معنى محدد‪ ،‬ومن هذا الس���ماع‬ ‫يبدأ في اس���تعمال ه���ذه الكلمات لتحقي���ق أغراضه ورغباته‬ ‫والتواصل مع من حوله‪ ،‬وغالب ًا ما يكون هذا االستعمال في‬ ‫بدايته تقليدًا للكبار ف���ي النطق‪ ،‬وفي هذه المرحلة الخطيرة‬

‫بالنس���بة للغة‪ ،‬يأتي التداخل اللغوي الذي يفسد على الطفل‬ ‫أمر لغته‪.‬‬ ‫لقد أجمع خبراء التربية وعلماء اللغة على أن الطفل يجب‬ ‫أن يتهيأ لتعلم لغته األم دون أن تنافسها لغة أخرى‪ ،‬فتنفرد‬ ‫لغته األم به حتى س���ن الثامنة تقريباً‪ ،‬وعندها يمكن أن يبدأ‬ ‫في التعرف على لغة أخرى‪ ،‬لكن المدرسة العربية تخالف كل‬ ‫األصول التربوية‪ ،‬ظن ًا أنها بهذا تعد الطفل الستقبال مرحلة‬ ‫(العولم���ة)‪ ،‬وكأن العولمة تلغي الهوي���ة والمواطنة‪ ،‬وتبلغ‬ ‫الخط���ورة أقصاها عندما يدرس الطف���ل مادتي (الرياضيات‬ ‫والعل���وم) باللغة األجنبية‪ ،‬ذلك أن هاتي���ن المادتين‪ ،‬مادتا‬ ‫تفكي���ر ذهني‪ ،‬ومن ثم يتعود الطفل أن يفكر بغير لغته األم‪،‬‬ ‫وهو األمر الذي يمكن أن يهز انتماءه للغة التي تعلمها وتعلم‬ ‫بها‪.‬‬ ‫إن هذا الجيل تربى على غير لغته األم‪ ،‬وش���ب منتمي ًا إلى‬ ‫ثقافة اللغ���ة األجنبية‪ ،‬وهو ما جع���ل العربية غريبة عليه‪،‬‬ ‫فه���و ال يس���تعملها إال مضط���راً‪ ،‬وغير ضابط له���ا‪ ،‬واللحن‬ ‫أصبح س���ليقته فيها‪ ،‬س���واء كان خطؤه فيها بعمد أم بغير‬ ‫عم���د‪ ،‬ألن ذل���ك ال يعنيه‪ ،‬ومن ثم ش���اعت الكلمات الخاطئة‬ ‫على األلس���ن‪ ،‬ويدهشني أن أسمع جميع المتكلمين بالعربية‬ ‫يرددون كلم���ة (التواجد) بمعنى (الوج���ود)‪ ،‬يقولون‪( :‬فالن‬ ‫متواجد في الملع���ب) أو (في البيت)‪ ،‬بمعنى أنه (موجود في‬ ‫الملع���ب أو البي���ت)‪ ،‬وغاب عن المتكلمي���ن أن (التواجد) غير‬ ‫(الوجود)‪( ،‬التواجد)‪ :‬إظهار حالة الوجد‪ :‬أي المحبة أو الفرح‬ ‫أو الحزن‪ ،‬وهي مجموعة االنفعاالت القلبية التي ال صلة لها‬ ‫بمعنى (وجدت الش���يء)‪ :‬أي‪ :‬أدركته وأصبته‪ ،‬وال صلة لها‬ ‫بمعنى‪( :‬فالن موجود في البيت)‪ :‬أي حاضر وكائن فيه‪ ،‬كل‬ ‫ذلك راجع – بالضرورة – إلى العملية األولى في تعلم اللغة‬ ‫العربية ومنافسة اللغات األجنبية لها تنافسا غير عادل‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫عن خيري شلبي والحياة وربما الموت‬

‫البحث عن‬ ‫مقبرة العائلة‬ ‫حممود الورداين‬

‫كان صديق���ي الكبير الراحل خيري ش���لبي هو الذي أعاد‬ ‫اكتش���اف هذا المكان‪ ،‬وأخفاه عن العيون‪ ،‬بل إنه كان يتعمد‬ ‫الظهور في األماكن المعتادة في وس���ط البلد خطفاً‪ ،‬حتى ال‬ ‫يشعر أحد باختفائه‪.‬‬ ‫لكنن���ي ضبطت���ه بالمصادف���ة‪ ،‬حي���ن لمح���ت س���يارته‬ ‫«الفولك���س» القديمة تنح���رف في أحد المداخ���ل المطلة على‬ ‫شارع صالح سالم‪ .‬المهم أنني تتبعته‪ ،‬وسرعان ما وصلت‬ ‫بفضل س���يارته التي ال تشبهها سيارة أخرى في الدنيا‪ ،‬إلى‬ ‫قهوة المعل���م إبراهيم الغول المطلة على جامع قايتباي‪ ،‬في‬ ‫واحد من أجمل األماكن التي شاهدتها على اإلطالق‪ ،‬وبسبب‬ ‫ارتف���اع هذه المنطقة تحديدًا والخالء المحيط بها‪ ،‬كان الهواء‬ ‫متجدداً‪ ،‬وثمة راحة واس���ترخاء تش���عر بهما يغزوانك على‬ ‫مهل‪.‬‬ ‫اختار خيري تلك المنطقة التي كانت ‪ -‬ومازالت بالطبع ‪-‬‬ ‫مدافن كبرى‪ ،‬وتضم مقابر الخفير وصحراء المماليك ومقابر‬ ‫ونقلت إليها رفات شهداء حرب فلسطين بعد الحرب‬ ‫الشهداء‪ُ ،‬‬ ‫بس���ت سنوات‪ ،‬ثم استقبلت شهداء الحروب التالية‪ .‬استخدم‬ ‫خيري مقه���ى إبراهيم الغول كمكتب وم���كان للقراءة ومنفى‬ ‫اختياري ومعزل صحي عن المدينة‪ ،‬فالموتى ال يسببون كل‬ ‫ه���ذا الضجيج‪ ،‬والحقيقة أن األحياء هم الذين اقتحموا مدينة‬ ‫الموتى‪ ،‬وشاركوهم السكنى‪ ،‬وبنوا دكاكين وسوبر ماركات‬ ‫ومح�ل�ات بيتزا ومقاه���ي‪ ،‬باختصار أزاح���وا الموتى خارج‬ ‫وغيروا مالمح المنطقة تماماً‪.‬‬ ‫الكادر َّ‬ ‫ف���ي هذه المنطقة كانت مقاب���ر العائلة قد اختفت في مكان‬ ‫م���ا غامض‪ .‬ومنذ أكثر من عش���رين عام���اً‪ ،‬كان ابن عم أبي‬ ‫الحكمدار قد اش���ترى مدفن ًا جديدًا ش���رق المدينة‪ ،‬عندما علم‬

‫‪96‬‬

‫باتصاالته كضابط ش���رطة متنفذ‪ ،‬أن هناك قرارًا بهدم أغلب‬ ‫مقاب���ر الخفير وش���ق طريق جديد‪ .‬فصل الحكم���دار الموتى‪،‬‬ ‫ونق���ل رفات أق���رب األقرباء‪ ،‬بعد أن رفض أبن���اء جيله تلك‬ ‫الفظاظة ونقل أقربائهم مثلما فعل‪.‬‬ ‫ولحسن الحظ‪ ،‬لم تكن مقبرة العائلة من بين المقابر التي‬ ‫أزيلت‪ ،‬وألسباب مازالت غامضة حتى اآلن‪ ،‬غابت المقبرة عن‬ ‫بالي‪ ،‬وتوقفت عن زيارتها‪ ،‬خصوص ًا بعد قرار الحكمدار‪ ،‬إال‬ ‫أنني عدت إليها عندما تم تجنيدي‪ ،‬فبعد الحرب‪ ،‬كان متعين ًا‬ ‫علي أن أش���ارك في نقل جثث الشهداء الذين يستشهدون في‬ ‫َ‬ ‫المستش���فيات إلى مقابر الش���هداء في ه���ذه المنطقة‪ ..‬وهكذا‬ ‫صحبت الش���هداء إل���ى هنا‪ ،‬على ُبعد ش���ارع واحد من مقهى‬ ‫إبراهيم الغول‪ ،‬حيث مكتب صديقي خيري ش���لبي‪ ،‬بالطبع‬ ‫قبل سنوات من اهتداء خيري إلى هنا‪.‬‬ ‫وخالل عدة شهور من شتاء عامي ‪ 1973‬و ‪ ،1974‬عندما‬ ‫فش���لت ف���ي التعرف على‬ ‫كن���ت أقوم بهذه المهمة القاس���ية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مقبرة العائلة‪ ،‬وإن كنت متأكدًا أنها ماتزال موجودة في مكان‬ ‫ما‪ ،‬كان لدي يقين بذلك ألنني زرتها بعد ش���ق طريق صالح‬ ‫س���الم‪ ،‬وكان كل م���ا أصابها هو هدم الحجرتي���ن المبنيتين‬ ‫بالخش���ب البغدادلي‪ ،‬أما الش���اهدان فقد كانا م���ا زاال قائمين‬ ‫وعلى أحدهما اآلية المكتوبة بالخط النسخ‪« :‬يا أيتها النفس‬ ‫المطمئنة‪.»..‬‬ ‫حكيت لخيري الذي تفهم األمر تماماً‪ ،‬فقد س���بق له أن قرأ‬ ‫بع���ض القصص التي كتبتها مس���تلهم ًا هذه التجربة‪ ،‬وطالما‬ ‫م���ررت بها ف���ي طفولتي الباك���رة‪ ،‬عندم���ا كان متعين ًا علي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫منذ س���ن الرابعة أن «أطلع القرافة» عل���ى روح أبي مع أمي‬ ‫وإخوتي في األعياد والمناس���بات‪ .‬وقل���ت له إنني متأكد من‬


‫وجود المقبرة في مكان ما بعيدًا عن جامع السلطان قايتباي‬ ‫ألنني ال أتذكره مطلق���اً‪ ،‬وال أتذكر أي جامع‪ ،‬فقط هناك قبة‬ ‫ضريح قديم أستطيع لو رأيتها أن أصل للمقبرة‪.‬‬ ‫تجولت هنا وهناك‪ ،‬وأنا في طريقي للقاء خيري‬ ‫كثيرًا ما‬ ‫ُ‬ ‫في مكتبه!‪ ،‬أو أثناء عودت���ي في طريقي إلى البيت‪ ،‬أحاول‬ ‫تقطعت‬ ‫الوص���ول ألي خيط يقودن���ي لمقبرة العائل���ة التي‬ ‫َ‬ ‫األواصر بين أبنائها‪ ،‬وتعذرت س���بل االتص���ال بعد أن مات‬ ‫جي���ل اآلباء‪ ،‬واألهم بعد أن ض���رب الحكمدار ضربته الكبرى‬ ‫وفصل الموتى فش���لت جوالتي كلها‪ ،‬ومن كنت أس���ألهم عن‬ ‫«تربية»‪.‬‬ ‫مقبرتنا‪ ،‬كانوا يجيبونني بأنهم سكان هنا وليسوا ُ‬ ‫سريحه وتالميذ وربات بيوت‪ .‬كانوا‬ ‫عمال وموظفون وباعة َ‬ ‫قد شاركوا الموتى مس���اكنهم‪ ،‬وإذا كان الموتى تحت األرض‬ ‫فهم فوقها‪ ،‬بسبب االرتفاع الفلكي ألسعار الشقق‪ .‬لذلك باءت‬ ‫كل محاوالتي للوصول للمقبرة من قبل بالفشل‪.‬‬ ‫لك���ن خيري اهت���م باألمر‪ ،‬وبع���د أيام قليل���ة جاءنا على‬ ‫المقهى من يعرف الطريق‪ .‬كان رس���ول خيري قد س���أل عن‬ ‫اس���م عائلتنا لالس���تدالل على المدف���ن‪ ،‬واصطحبنا‪ :‬خيري‬ ‫وشقيقي األكبر عبد العظيم الذي كان في إجازة من عمله في‬ ‫الس���عودية‪ ..‬وهكذا مضينا في قيظ أحد أيام أغسطس‪/‬آب‪،‬‬ ‫في عز الظه���ر نحو كيلومتر‪ ،‬بين ش���واهد المقابر‪ ،‬وقد فرد‬ ‫ال على رأسه من شدة القيظ‪.‬‬ ‫خيري مندي ً‬ ‫وعندم���ا وصلنا إل���ى العطفة الضيقة الت���ي تغلق ببوابة‬ ‫حديدية أمام القبة التي أعرفها جيداً‪ ،‬تلك المهدمة وعلى وشك‬ ‫الس���قوط‪ ،‬مثلما كنت أراها في طفولت���ي وأوائل مراهقتي‪،‬‬ ‫استرجعت رائحة مقبرتنا‪.‬‬ ‫عندما وصلنا إليها‪،‬‬ ‫ُ‬

‫سَلمنا دليلنا إلى عم «وطني» الذي لم أتعرف‬ ‫فرحت‬ ‫عليه ف���ي البداية‪ ،‬إال أنه تف���رس فينا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أس���تعيد مالمحه القديمة‪ ،‬كن���ت كأنني أرفع‬ ‫الس���نين عن وجهه محاو ًال اس���تعادته كما‬ ‫كان في طفولت���ي‪ .‬كان هو عم «وطني»‬ ‫الترب���ي المس���ؤول ع���ن مقبرتن���ا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أدهش���ني أنه توجه إلينا مباشرة‬ ‫عب���د العظيم وأن���ا وعلى وجهه‬ ‫طيف ابتسامة قائالً‪:‬‬ ‫«ترب���ة الحكم���دار أحمد‬ ‫ُ‬ ‫ب���ك؟‪ ..‬عن���دي‪ ..‬انتم أوالد‬ ‫س���ي مصطف���ى أكي���د مش‬ ‫كده‪.»..‬‬ ‫وهكذا تعرف علينا الخفير‪.‬‬ ‫قطعن���ا وراءه العطفة الضيقة‪،‬‬ ‫المكون من‬ ‫حيث كان بيت���ه القديم َ‬ ‫ال‬ ‫طابقين مازال قائماً‪ .‬التفت إلينا قائ ً‬ ‫إننا غبنا سنين طويلة‪ ،‬بل وعتب علينا ألننا‬ ‫هتفت مثلما‬ ‫حتى لم نحضر «دفنة» عمي ممدوح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كن���ت أفعل ف���ي طفولتي عندما لمحت ش���اهد مقبرتنا‪:‬‬ ‫الس�ل�ام عليكم‪ ..‬وهرعت أنا وشقيقي‪ .‬وقفنا أمام كل شاهد‬ ‫على حدة‪ ،‬شاهد مقبرة الرجال‪ ،‬وشاهد مقبرة النساء‪ ،‬لنقرأ‬ ‫الفاتحة مثلما كنا نفعل قبل ما يقرب من عقدين من السنين‪.‬‬ ‫كان خي���ري قد انتحى جانب ًا يتأمل ما يجري‪ ،‬وكان القيظ‬ ‫قاسي ًا وال مكان نس���تظل به‪ .‬أما مفاجأة عثوري على مقبرة‬ ‫العائلة بكل هذه السهولة فقد كانت أقسى مما يمكن احتماله‪.‬‬ ‫كن���ا قد فقدنا الحجرتي���ن المعمولتين من الخش���ب البغدادلي‬ ‫منذ زمن‪ ،‬كما أن هناك كتابة حديثة على جدار ش���اهد مقبرة‬ ‫النس���اء تش���ير إلى أن من جدد ه���ذا المدف���ن الحاجة فتحية‬ ‫الورداني‪ ،‬ورحت أجهد ذهني ألتذكرها دون جدوى‪.‬‬ ‫ش���رح لنا عم وطني في كلمات قليلة‪ ،‬أن الحاجة فتحية‪،‬‬ ‫وهي إح���دى قريباتن���ا البعي���دات‪ ،‬كانت الوحي���دة المهتمة‬ ‫بالمقبرة وقامت بترميمه���ا وتجديدها‪،‬وتدفن فيها ذويها بعد‬ ‫أن انقطع الجميع‪ :‬األحياء واألموات‪ .‬وأضاف أن المقبرة ما‬ ‫تزال تحتاج إلى الترميم‪ ،‬فالحاجة فتحية انقطعت عن طلوع‬ ‫القرافة خالل السنوات القليلة الماضية‪ ،‬وعلينا أنا وشقيقي‬ ‫أن نستكمل ما بدأته‪.‬‬ ‫اتخذن���ا طريقن���ا عائدين‪ ،‬بينما انتح���ى أخي بعم وطني‬ ‫يتكلمان معاً‪ ،‬ثم وضع في يده أوراق ًا مالية‪ ،‬وس���َلمنا عليه‬ ‫ومضينا وراء خيري إلى مقهى المعلم إبراهيم الغول‪.‬‬ ‫ه���ذا ما جرى بي���ن صديقي الكاتب الكبي���ر الراحل خيري‬ ‫شلبي وبيني في أوائل تس���عينيات القرن الماضي‪ ،‬تذكرته‬ ‫مثلم���ا تذكرت رحلة طويلة قضيناها مع���اً‪ ،‬وامتدت لما يزيد‬ ‫على ثالثة عقود‪ ،‬وأتمن���ى أن أقترب منها‪ ،‬وأحاول الكتابة‬ ‫عنها‪ ،‬فهل أستطيع؟‪.‬‬ ‫‪97‬‬


‫االبنة السرية للرئيس فرانسوا ميتران زارت بيروت مؤخرًا والتقت قراء‬ ‫كتابه���ا الجديد «من أجل ذكرى»‪ ..‬الزميلة موناليزا فريحة التقتها وكتبت‬ ‫هذا التقرير‪.‬‬

‫اسمها‪ ،‬االستثنائي جداً‪ ،‬يدل عليها‬ ‫ف��ورًا ابنة الرئيس‪ ..‬على الرغم من‬ ‫أن مازارين ص��ارت أم�� ًا لثالثة أوالد‬ ‫ولم تحمل اسم والدها إال عام ‪.2005‬‬ ‫وال��ت��ش��اب��ه ال��ج��س��دي الف���ت للنظر‪،‬‬ ‫وخصوص ًا على مستوى الوجه‪ .‬وأيض ًا‬ ‫في الرصانة العامة والمظهر الرشيق‪،‬‬ ‫والمالبس‪.‬‬

‫أكتب‬ ‫وفاء للذكرى‬

‫ال‬ ‫خرجت مازارين التي بقيت طوي ً‬ ‫االبنة السرية للرئيس الفرنسي فرانسوا‬ ‫ميتران‪ ،‬من الظل قبل سنوات‪ ،‬فابنة‬ ‫السابعة والثالثين سنة لم تصر شرعي ًا‬ ‫ابنة الرئيس إال في ‪ 12‬كانون الثاني‪/‬‬ ‫يناير ‪ ،1984‬وهي في العاشرة‪ ،‬عندما‬ ‫اعترف بها والدها أمام كاتب للعدل‪.‬‬ ‫ومع ذل��ك‪ ،‬بقيت الصلة بين االثنين‬ ‫ممنوعة من التداول‪ ،‬وأخفقت محاوالت‬ ‫كتاب وصحافيين للحديث عن البنوة‬ ‫غير الشرعية للرئيس والتي عرف‬ ‫بها البعض منذ بداية الوالية األولى‬

‫مازارين بانجو‪:‬‬

‫موناليزا فريحة‪-‬بريوت‬ ‫‪98‬‬


‫لميتران ع��ام ‪ ،1982‬إل��ى أن فجرت‬ ‫مجلة «باري ماتش» ما يشبه قنبلة في‬ ‫عددها الصادر في ‪ 3‬تشرين الثاني‪/‬‬ ‫نوفمبر ‪ ،1994‬بنشرها على غالفها‬ ‫ص��ورة الرئيس وابنته خارجين من‬ ‫مطعم ديفليك الباريسي‪.‬‬ ‫خرجت مازارين من الظل من دون‬ ‫أن تتملص تمام ًا من سطوة والد كان‬ ‫إضافة إلى وظائفه العامة والرئاسية‪،‬‬ ‫رج��ل فكر وث��ق��اف��ة‪ ،‬وال��د مثقف نقل‬ ‫إليها حب الكتب والكتابة والتساؤل‬ ‫الفلسفي‪.‬‬ ‫ف��ي ال��واق��ع‪ ،‬يغذي ه��ذا التساؤل‬ ‫الفلسفي كتابات المرأة الشابة التي‬ ‫يبدو أنها تغرف من كل مرحلة من‬ ‫مراحل حياتها‪ ،‬فكرة رواية تميل إلى‬ ‫أن تكون فلسفية‪ .‬ففي «الفم المخيط»‬ ‫ت����روي م���ازاري���ن س��ره��ا العائلي‪،‬‬ ‫وطفولتها التي كانت من خفايا الدولة‪.‬‬ ‫وهي تذهب في روايتها الثانية «مقبرة‬ ‫ال‬ ‫الدمى»‪ ،‬التي كتبتها عندما كانت حام ً‬ ‫إلى استكشاف األسباب التي تدفع أما‬ ‫إلى قتل أوالده��ا‪ .‬وفي رواية «مارا»‪،‬‬ ‫تتطرق إلى قصة عن سفاح القربى غير‬ ‫الطوعي على خلفية حرب الجزائر‪،‬‬ ‫مركزة على ثقل التاريخ الذي ينوء به‬ ‫مصير األفراد‪.‬‬ ‫تعود مازارين في كتابها األخير‬ ‫«من أجل ذكرى» الصادر حديث ًا عن دار‬ ‫«جوليار» إلى التاريخ مجدداً‪ ،‬وتتأمل‬ ‫هذه المرة في المحرقة النازية في حق‬ ‫اليهود التي شكلت إحدى فظائع القرن‬ ‫العشرين‪.‬‬ ‫تعتمد م��ازاري��ن ف��ي ه��ذه الرواية‬ ‫لغة رزينة ومحكمة‪ ،‬وتعالج واجب‬ ‫الذاكـــــرة‪ ،‬ومســــــــألة االنتقال بين‬ ‫األجيال‪ ،‬وفي «طريقة أكثر هامشية»‬ ‫تأثير العنف على األدمغة الشابة‪.‬‬ ‫«من أجل ذكرى» قصة ولد يكتشف‬ ‫على التليفزيون صور المحرقة النازية‬ ‫بينما كانت مربيته تتحدث على الهاتف‪.‬‬ ‫مصدوم ًا بما شاهد‪ ،‬يبدأ الولد باالنطواء‬

‫على نفسه شيئ ًا فشيئاً‪.‬‬ ‫«كيف نخبر األوالد عن العنف من‬ ‫دون أن نصدمهم‪ ،‬كيف نواكبهم في‬ ‫ه��ذه األم���ور؟»‪ ،‬تتساءل رب��ة العائلة‬ ‫وهي تتخيل ح��وارًا يجريه مع نفسه‬ ‫فتى بنى حياته (ودم��ره��ا) على هذا‬ ‫الشعور بالقلق من المحرقة التي اكتشف‬ ‫صورها صدفة على التليفزيون بينما‬ ‫كانت مربيته تتحدث على الهاتف‪.‬‬ ‫وتقر مازارين بانجو بأمانة بأنها‬ ‫كتبت هذه الرواية وف��اء للذاكرة كما‬ ‫قالت في لقاء معها سريع لدى زيارتها‬ ‫ب��ي��روت ب��دع��وة م��ن م��ع��رض الكتاب‬ ‫الفرنكوفوني‪« :‬ألننا نصل إلى مرحلة‬ ‫مفصلية في رواي��ة الهولوكوست مع‬ ‫اختفاء آخر الشهود األحياء‪ ،‬ويجب‬ ‫استثمار األدب من اآلن فصاعدًا من‬ ‫أجل الحديث عن هذا الحدث المؤسس‬ ‫للذاكرة»‪.‬‬ ‫في صفحاتها‪ ،‬تصف الكاتبة هذا‬ ‫الحدث بأنه «فترة كانت فيها اإلنسانية‬ ‫غائبة عن نفسها»‪ ،‬تقول إنها ‪ -‬المتحدرة‬ ‫من جيل لم يعرف تلك الحقبة مباشرة‪-‬‬ ‫تخشى إعادة ظهورها‪.‬‬ ‫ولكن إبادات الشعوب حصلت على‬ ‫مر التاريخ وال تزال مستمرة‪ :‬من إبادة‬ ‫األرمن إلى المذابح في حق الفلسطينيين‬ ‫م��رورًا باألكراد والتيبتيين‪ ،‬فلماذا ال‬ ‫تتطرق إليها‪ ،‬أجابت‪« :‬إذا كتبت عن‬ ‫المذبحة فألنها حصلت في أوروب��ا‪،‬‬

‫في اللحظة‬ ‫التي نكون فيها‬ ‫حساسين حيال‬ ‫تصنيع الموت‬ ‫في مجزرة نصير‬ ‫حساسين حيال كل‬ ‫المجازر‬

‫ال���ي قرب ًا‬ ‫ّ‬ ‫وألن��ه��ا تكتسب بالنسبة‬ ‫تاريخي ًا وجغرافياً‪ ،‬ألن والدي وأجدادي‬ ‫عاشوا تلك الحقبة»‪ .‬وتضيف أن «هذا‬ ‫األم��ر ال يخفف من وحشية اإلب��ادات‬ ‫األخرى‪ ..‬ولكن في اللحظة التي نكون‬ ‫فيها حساسين حيال هذه المجزرة على‬ ‫نطاق واسع‪ ،‬أو حيال تصنيع الموت‪..‬‬ ‫نصير حساسين حيال كل المجازر‪..‬‬ ‫العمل على ذاك��رة الهولوكوست هو‬ ‫إلي التنديد بعمليات التجرد‬ ‫بالنسبة ّ‬ ‫من اإلنسانية وجنون القتل التي هي‬ ‫في النهاية نفسها أينما كان»‪.‬‬ ‫ويبقى أن كتاب ًا كهذا قد ال يحظى‬ ‫باستحسان في بلد عربي مثل لبنان‬ ‫الذي يستضيف الجئين فلسطينيين‪،‬‬ ‫ف��أس��أل��ه��ا‪ :‬ه��ل ف��ك��رت ف��ي م��ث��ل هذا‬ ‫االحتمال بتلبيتك الدعوة إلى معرض‬ ‫ال��ك��ت��اب الفرنكوفوني ف��ي بيروت؟‬ ‫تقول‪« :‬فكرت في كل ه��ذا‪ ،‬ولكنني‬ ‫آمل أن الجميع هنا ال يخلط بين النزاع‬ ‫الفلسطيني‪ -‬االسرائيلي والمحرقة‪ .‬أنا‬ ‫شخصي ًا حساسة ج��دًا حيال القضية‬ ‫الفلسطينية‪ .‬وكنت كذلك على نحو‬ ‫أكثر جذرية عندما كنت أصغر سناً‪.‬‬ ‫أعيش مع مغربي مسلم‪ ،‬وأعرف تمام ًا‬ ‫الثقافة والعالم العربيين‪ ،‬ولكنني‬ ‫أّقدّر أن ليس هناك صلة مباشرة بين‬ ‫األمرين‪ ،‬وإن قد يكون هناك تكيف بين‬ ‫سياسة اليمين اإلسرائيلي والمحرقة»‪.‬‬ ‫ليست ال��م��رة األول���ى ال��ت��ي ت��زور‬ ‫فيها م��ازاري��ن بانجو لبنان‪« ،‬سبق‬ ‫لي أن جئت إلى هنا قبل ‪ 13‬سنة في‬ ‫إطار جولة في المنطقة مع مجموعة‬ ‫من األص��دق��اء»‪ .‬وتتذكر أنها «تأثرت‬ ‫كثيرًا في حينه بعدد الورش وصخب‬ ‫المدينة وف��ي الوقت نفسه ببصمات‬ ‫التاريخ الحاضرة جداً‪ ..‬وانقطاع التيار‬ ‫الكهربائي»‪.‬‬ ‫بعد ‪ 13‬سنة‪ ،‬ل��م تتغير بيروت‬ ‫كثيراً‪ ..‬الصخب نفسه وبصمات التاريخ‬ ‫نفسها‪ ،‬وأيض ًا انقطاع الكهرباء ال يزال‬ ‫هو هو‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫الرواية الفرنسية‬ ‫جوائزها وأزمتها‬ ‫كما ك��ان متوقع ًا نالت رواي��ة «فن‬ ‫ال��ح��رب ال��ف��رن��س��ي» ألليكسي جيني‬ ‫جائزة غونكور ‪ ،2011‬وأثارت زوبعة‬ ‫تساؤالت عن أسباب تراجع أرقام النشر‬ ‫األدبي في فرنسا‪ ،‬وعن كيفية الخروج‬ ‫بالرواية الفرنسية من حالة الركود التي‬ ‫تعرفها منذ بضع سنوات‪.‬‬ ‫على خالف الطبعات الماضية‪ ،‬بدا‬ ‫الشهر الفائت ح��دث اإلع�لان عن اسم‬ ‫الفائز بجائزة غونكور العريقة باهتاً‪.‬‬ ‫لم يلق اهتمام ًا إعالمي ًا واسعاً‪ .‬فبعد‬ ‫السجال الذي دار‪ ،‬السنة الماضية‪ ،‬بين‬ ‫أعضاء لجنة تحكيم الجائرة‪ ،‬وعدم رضا‬ ‫البعض منهم على قرار منحها لميشال‬ ‫فسر‬ ‫ويلباك(صاحب األرض واإلقليم)‪ّ ،‬‬ ‫آخرون منحها هذا العام لكاتب مغمور‬ ‫بغياب المنافسة‪ ،‬ومحدودية مستوى‬ ‫الروايات المرشحة‪.‬‬

‫‪100‬‬

‫تحكي ال���رواي���ة ذك��ري��ات ال���راوي‬ ‫ساالنو الذي شارك في حروب فرنسية‪،‬‬ ‫من الحرب العالمية الثانية إلى حرب‬ ‫الجزائر‪ ،‬مرورًا بحرب الهند الصينية‪،‬‬ ‫قبل أن يتقاعد من الخدمة في الجيش‬ ‫ويصير فنان ًا تشكيلياً‪ .‬ينطلق في كتابة‬ ‫ال��رواي��ة من سنة ‪ 1991‬وبداية حرب‬ ‫الخليج قبل أن يعود‪ ،‬تدريجياً‪ ،‬إلى‬ ‫الماضي ويسرد وجه ًا معروف ًا وليس‬ ‫جديدًا من تاريخ فرنسا العسكري‪.‬‬ ‫المؤلف أليكسي جيني (‪ 48‬سنة)‬ ‫لم يكن يتوقع أن تنال روايته األولى‬ ‫إعجاب لجنة غونكور‪ .‬حيث صرح‪:‬‬ ‫«أرس��ل��ت مخطوط ال��رواي��ة ل��دور نشر‬ ‫رفضت قبوله‪ .‬ث��م فجأة وصلني رد‬ ‫إيجابي من منشورات غاليمار‪ .‬حدث‬ ‫ذل��ك شهر م��ارس الماضي»‪ .‬أليكسي‬ ‫ال‬ ‫جيني ال��ذي يعتقد نفسه كاتب ًا فاش ً‬

‫بسبب ت��ك��رر فشل مساعيه ف��ي نشر‬ ‫مخطوطات سابقة بلغ ال��ي��وم رتبة‬ ‫أهم الروائيين الفرنسيين‪ ،‬حيث بلغت‬ ‫مبيعات «فن الحرب الفرنسي» حوالي‬ ‫‪ 110.000‬نسخة‪ ،‬على أن تتجاوز هذا‬ ‫الرقم في األسابيع المقبلة‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫نيلها حظوة الترجمة إلى خمس لغات‬ ‫منها اإلنكليزية واإلسبانية‪.‬‬ ‫توج الكاتب والسينمائي‬ ‫من جانبه‪ّ ،‬‬ ‫إيمانويل كارير بجائزة ري��ن��ودو عن‬ ‫رواية «ليمينوف»‪ .‬حيث سبق للكاتب‬ ‫نفسه نيل عديد الجوائز األدبية المعروفة‬ ‫في فرنسا‪ ،‬منها جائزة هنري غال التي‬ ‫تمنحها األكاديمية الفرنسية (‪)2010‬‬ ‫وجائزة فيمينا (‪ .)1995‬تسرد رواية‬ ‫كارير الجديدة جوانب من سيرة الكاتب‬ ‫والسياسي الروسي المعارض إدوار‬ ‫ليمينوف‪ ،‬م��ؤس��س ال��ح��زب الوطني‬ ‫البولشيفي‪ ،‬ال��ذي كشف عن نيته في‬ ‫ترشيح نفسه لالنتخابات الرئاسية في‬ ‫روسيا ‪ ،2012‬والمعروف بمعارضته‬ ‫لسياسة الرئيس فالديمير بوتين‪.‬‬ ‫ربما تسببت التطورات السياسية‬ ‫األخ���ي���رة ف���ي ال��ت��ع��ت��ي��م ع��ل��ى حدثي‬ ‫اإلعالن عن الفائزين بجائزتي غونكور‬ ‫وري��ن��ودو‪ ،‬خصوص ًا تعقيدات األزمة‬ ‫المالية التي تعصف باليونان‪ ،‬والتي‬ ‫تهدد دو ًال أوروبية مجاورة‪ ،‬ثم بداية‬ ‫العّد التنازلي لالنتخابات الرئاسية في‬ ‫فرنسا‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ال بد من اإلشارة إلى‬ ‫أن موسم‪ 2011‬سيظل واحدًا من المواسم‬ ‫األقل منافسة‪ .‬فأرقام مبيعات الرواية‬ ‫تشهد أيض ًا تقلص ًا مقارنة بالسنوات‬ ‫تعول على‬ ‫الخمس الماضية‪ .‬والمكتبات ّ‬ ‫ع��ودة سريعة للقارئ األدب��ي‪ ،‬تجنب ًا‬ ‫النعكاسات سلبية محتومة‪.‬‬ ‫استقر قرار لجنة تحكيم‬ ‫ّ‬ ‫في األخير‪،‬‬ ‫آخ��ر الجوائز األدبية المهمة للموسم‬ ‫الجديد‪ ،‬وهي جائزة فيمينا على رواية‬ ‫«ج��ي��ن مونسفيلد ‪ »1967‬لسيمون‬ ‫ليبراتي‪ ،‬والتي تعود فصولها إلى حياة‬ ‫ونهاية نجمة هوليوود السابقة التي‬ ‫تشكل‪ ،‬بمعية مارلين مونرو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت‬ ‫ثنائية الجسد والغواية على شاشات‬ ‫الفن السابع‪.‬‬


‫ت�أمالت‬

‫د‪ .‬مرزوق بشير‬

‫اإلبداع والرقابة‬ ‫شهدت مسيرة اإلنتاج الثقافي بكل أنواعه في معظم بلداننا‬ ‫العربية لس���نوات طويلة‪ ،‬رقاب���ة صارم���ة‪ ،‬وتولّتها أجهزة‬ ‫متنوع���ة‪ .‬وقد كان قرار اإلنتاج الثقافي المكتوب أو المس���موع‬ ‫وحراس األخالق‬ ‫أو المرئي‪ ،‬يخضع للم���زاج األمني ّ‬ ‫الصارم‪ّ ،‬‬ ‫والقي���م‪ ،‬وهوى نف���س الرقيب وخلفيته الثقافي���ة‪ .‬وكان عدد‬ ‫المراقبين وحراس الرأي والفكر أكثر من عدد المبدعين أنفسهم‬ ‫كم المنتج الثقافي ذاته‪ ،‬ويمكن تشبيه العمل الثقافي‬ ‫وأكثر من ّ‬ ‫تنق���ض عليها الطيور‬ ‫المع���روض عل���ى اللجنة بالجث���ة التي‬ ‫ّ‬ ‫الجارح���ة والغرب���ان‪ ،‬كل يقتطع منها ما يس���تطيع من لحم‬ ‫وعظم‪ .‬حيث ينتزع المراقبون من س���ياقات النص وأحداثه ما‬ ‫يحلو لهم ليحاكموه خارج مس���ار العمل وصيرورته الدرامية‪،‬‬ ‫ويس���قطوا علي���ه أحكامه���م المعتم���دة على طبيع���ة فهمهم‪،‬‬ ‫يش���وه‬ ‫عما يعكر األمن‪ ،‬والتربوي يبحث عما‬ ‫ّ‬ ‫فاألمن���ي يبحث ّ‬ ‫نقاء القواعد التربوية‪ ،‬والش���رعي يبح���ث عما يخالف القواعد‬ ‫الشرعية‪ .‬ويتحول النص المسرحي والروائي والشعري‪ ،‬إلى‬ ‫عدة نصوص فلكل رقيب نصه‪ ،‬يخضعه ألحكامه ويعيد تأليفه‬ ‫بطريقته‪.‬‬ ‫فالمراقب���ون ف���ي معظم دولن���ا مجموعة م���ن الموظفين‪،‬‬ ‫يتقاض���ون أجورًا على ما يقومون به من أعمال الرقابة‪ ،‬ويتم‬ ‫تكليفهم م���ن ِقبل أجهزة تنفيذية حكومي���ة‪ ،‬أوصتهم بالقيام‬ ‫بوظيفة رقابة اإلنتاج الفكري واألدبي نيابة عن مجتمع بأكمله‪.‬‬ ‫أن هذا المجتمع ل���م ينتخبهم ألداء هذا ال���دور المصيري‪،‬‬ ‫بي���د ّ‬ ‫الذي يتدخل في تطور المجتمع الثقافي والفني وفي مس���يرته‬ ‫وذاكرته وعقله وتاريخه‪.‬‬ ‫يخضغ مصي���ر العم���ل اإلبداعي في معظ���م دولنا لتحكم‬ ‫عاَلمي���ن‪ :‬عاَل���م المبدع نفس���ه‪ ،‬وهو األب الش���رعي للمنتج‬ ‫اإلبداعي الذي يس���تند في���ه إلى األدوات اإلبداعية في نس���ج‬ ‫أعماله وتجهيزها‪ ،‬وهو عاَلم له قوانينه وأحكامه وتشريعاته‬ ‫التي قد تتفق بالضرورة مع أحكام وتشاريع وثقافة الرقيب‪،‬‬ ‫وم���ن جهة أخ���رى يخضع العم���ل اإلبداعي ألح���كام وقواعد‬ ‫مستوردة من خارجه‪ ،‬يس���تحضرها الرقيب ليلوي بها عنق‬ ‫العم���ل اإلبداعي من أجل أن تتوافق م���ع تلك األحكام‪ .‬وهي‬ ‫أح���كام قد تكون مقبول���ة في دائرة الواق���ع‪ ،‬لكنها ال تصلح‬ ‫وال تتطاب���ق مع العالم اإلبداع���ي أو المتخيل‪ ،‬وعندما يحكم‬

‫القان���ون بمخالفة منه لقطع ش���جرة دون مب���رر في الواقع‬ ‫يكون مقبو ًال للمجتمع‪ .‬ولكن أن يقطع الشاعر جميع األشجار‬ ‫في داخل المش���هد الش���عري‪ ،‬ق���د ال يكون مخالف��� ًا من وجهة‬ ‫األحكام وتش���اريع وقواعد الفن‪ .‬وكذلك مش���هد جريمة القتل‬ ‫في المشهد الروائي له مبرراته وقبوله في إطار ذلك المشهد‪،‬‬ ‫ألن العم���ل الروائي يتضمن ما يس���مى (العدالة الفنية)‪ ،‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫ال يجوز اس���تالل ذلك المش���هد والحكم عليه بقوانين الواقع‬ ‫وتشريعاته‪.‬‬ ‫يقول الكاتب الكويتي عامر ذياب التميمي في العدد (‪)1918‬‬ ‫من صحيفة الطليعة األسبوعية «لقد حاولت األنظمة السياسية‬ ‫الش���مولية خ�ل�ال القرن العش���رين أن تطرح عل���ى مواطنيها‬ ‫منتج���ات ثقافية متوافقة مع مفاهيمها السياس���ية والعقائدية‬ ‫وخل���ق الثقاف���ة النموذجي���ة المناس���بة لمتطلب���ات النظ���ام‬ ‫أن اإلنتاج الثقافي‬ ‫السياس���ي»‪ ،‬وهذه المقولة أوصلتنا إل���ى ّ‬ ‫والفن���ي أصبح موظف ًا آلل���ة الحكم والقواني���ن وإيديولوجية‬ ‫الح���زب الواحد‪ ،‬وتحول الكاتب والش���اعر والموس���يقي إلى‬ ‫موظ���ف عالقات عام���ة‪ ،‬يحمل وجهة نظر القيادة السياس���ية‬ ‫وأفعالها اإليجابية والسلبية‪ ،‬وتحول إلى آلة وعائية يوظف‬ ‫فيها موهبته وإبداعاته لفرد واحد أو حزب واحد‪.‬‬ ‫من جانب آخر ال يعني القبول بحرية المبدع وحرية اإلنتاج‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬أن تتحول الثقافة إل���ى فوضى‪ ،‬وتجاوز ما توافق‬ ‫عليه المجتمع بمحض إرادته واختياره‪ ،‬فال بد من التزام المبدع‬ ‫بقيم مجتمعه اإليجابية‪ ،‬وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن‬ ‫تراقب اإلبداع والوس���ائل المنتجة ل���ه‪ ،‬ألنها منظمات اختارها‬ ‫لتدافع عن كافة حقوق���ه المدنية‪ ،‬بما فيها الدفاع عن‬ ‫المجتمع ُ‬ ‫حرية اإلبداع الجاد والمفيد‪ ،‬ومقاومة الثقافات المضرة بتراثه‬ ‫وقيمه االجتماعية‪.‬‬ ‫األهم وه���و تعلي���م المجتمع وتدري���ب كافّة فئاته‬ ‫ويبق���ى ّ‬ ‫العمري���ة‪ ،‬على ق���درة التمييز بين الغث والس���مين في اإلنتاج‬ ‫اإلبداعي س���واء من خ�ل�ال التعلي���م النظام���ي‪ ،‬أو من خالل‬ ‫الندوات والمحاضرات والورش‪ ،‬ومن خالل وس���ائل اإلعالم‪،‬‬ ‫عندها س���وف يتحول المجتمع كل���ه إلى رقيب واحد قادر على‬ ‫انتق���اء ما يصلح له وما ال يصل���ح دون وصاية أو رقابة من‬ ‫أي جهة كانت‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫ن�صو�ص‬

‫امرأة من‬ ‫الضفة‬ ‫األخرى‬ ‫حممد الب�ساطي ‪ -‬م�صر‬

‫أس���كن حجرة صغيرة فوق السطح ببيت في حارة ضيقة‪.‬‬ ‫الم���رات القليل���ة التي يزورن���ي فيها صديق���ي « » يقف بباب‬ ‫الحجرة وال يدخل‪ .‬يقول بقرف‪:‬‬ ‫ موش فاهم عايش في جحر الفئران ده إزاي‪.‬‬‫ويقول‪:‬‬ ‫ قوم نقعد في قهوة‪.‬‬‫ونخرج‪.‬‬ ‫كن���ا من بلدة واح���دة‪ ،‬وأمضينا مرحلة الدراس���ة الثانوية‬ ‫مع���اً‪ .‬الصدفة جمعتنا‪ ،‬هذه المدين���ة بالصعيد‪ ،‬كان يعمل في‬ ‫فرع لمصلح���ة الضرائب‪ .‬وكنت أعمل كاتب حس���ابات بإحدى‬ ‫المصالح الحكومية‪ .‬دخله أكبر بكثير من دخلي‪ ،‬وربما كانت‬ ‫تأتيه مس���اعدات من أهله‪ .‬لم أسأله‪ .‬وهو لم يخبرني‪ .‬سمح‬ ‫له ذلك باس���تئجار ش���قة جميلة في بيت على ش���اطئ النيل‬ ‫مؤثثة بفرش مريح‪ ،‬ستائر‪ ،‬مقاعد فوتيه‪ ،‬تكييف‪ ،‬ومناضد‬ ‫صغيرة تتحرك على عجل‪.‬‬ ‫ويوم ًا قال لي إنه سيسافر لسنوات في إعارة لبلدة بالخليج‪،‬‬ ‫ودعاني لإلقامة في شقته فترة غيابه‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫ وحجرتي؟‬‫ اقفلها أو سيبها‪ .‬ولما أرجع شوف مكان تاني‪.‬‬‫وقد كان‪.‬‬ ‫جمعت مالبسي في حقيبة وذهبت إلى شقته‪.‬‬ ‫ق���ال لي إنه دفع إيجار الش���قة مقدم ًا لمدة ع���ام للمالك‪ ،‬وفي‬ ‫نهايته سيرسل له إيجار عام آخر‪.‬‬ ‫وسافر‪.‬‬ ‫بعدها بأس���بوع‪ ،‬وكان يوم جمعة‪ ،‬دق جرس الباب‪ ،‬فوجئت‬ ‫بامرأة ش���ابة تدخل وعلى رأسها مقطف صغير‪ .‬قالت دون أن‬ ‫تلتفت‪:‬‬

‫رسوم‪ -Baudoin:‬فرنسا‬ ‫‪102‬‬


‫ اقفل الباب‪.‬‬‫وأقفل���ت الباب‪ .‬تبعته���ا إلى المطبخ‪ .‬فك���ت الطرحة من حول‬ ‫إلي‪:‬‬ ‫رأسها ونظرت ّ‬ ‫ أمال سي عبد السالم فين؟‬‫ سافر‪.‬‬‫ حايغيب؟‬‫ سنتين‪ .‬تالتة‪.‬‬‫ كل ده؟ وأنت مين؟‬‫ صاحبه‪.‬‬‫تأملتني قليالً‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ طيب‪.‬‬‫خلعت جلباب الخروج األس���ود‪ ،‬وبدا جلباب مشجر تحته‪،‬‬ ‫شمرت كميه‪ ،‬وأخرجت كيس ًا به قطع لحم من المقطف وسحبت‬ ‫حلة من فوق الرف وضعتها تحت الحنفية‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ ما تش���غلش بالك‪ .‬أنا عارفة مكان كل حاجة هنا‪ .‬اس���تريح‬‫انت‪.‬‬ ‫وقالت بعد قليل‪:‬‬ ‫ وانت صاحبه من زمان؟‬‫ آه‪ .‬من زمان‪.‬‬‫ اللي عمره ما كلمني مرة عن صحابه‪ .‬وال عمري شفت واحد‬‫منهم هنا‪ .‬كان طيب وابن حالل‪.‬‬ ‫وسألتني‪:‬‬ ‫ أطبخ لك إيه؟‬‫ أي حاجة‪.‬‬‫ هنا لوبيا‪.‬‬‫ كويسة‪.‬‬‫ رز ولوبيا ولحمة مسلوقة‪ .‬كان يحبها مسلوقة‪.‬‬‫ حلوة المسلوقة‪.‬‬‫ضحكت‪:‬‬ ‫ صاحبه وبتحب الحاجات اللي بيحبها‪ .‬نسيت أجيب طماطم‬‫وخيار للسلطة‪.‬‬ ‫ موش مهم‪.‬‬‫ أل‪ .‬إزاي‪ .‬المرة الجاي���ة أجيبها معاي‪ .‬وأجيب كمان رز اللي‬‫هنا قرب يخلص‪.‬‬ ‫كان���ت واقفة أمام الموق���د تتذوق الطبي���خ بملعقة‪ ،‬جففت‬ ‫وجهها بفوطة صغيرة على كتفها‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ عن���دي أربع زبائن‪ .‬نس���وان‪ .‬حاجة صعب���ة قوي‪ .‬الواحدة‬‫يتقطع‬ ‫تقل���ب اللحمة وتفعصه���ا‪ ،‬وفي اآلخر وبعدما نفس���ي ّ‬ ‫تاخدها‪ .‬ودايم��� ًا يتبقى لي فلوس عندها‪ .‬أحس���ن زبون كان‬ ‫س���ي عبدالس�ل�ام‪ .‬اللي أجيبه يوافق عليه من غير ما يشوفه‪.‬‬ ‫ويس���يبني في المطبخ أعمل كل حاجة وهو قاعد في الكرسي‬ ‫يق���را الجرن���ال‪ .‬وكل م���رة أش���وفه بيبص لي يضح���ك وأنا‬ ‫أضحك‪.‬‬ ‫ش���عرها فيه ضفيرة ممتلئة ترفعها بدبابيس إلى رأسها‪ .‬بدت‬ ‫رقبتها من الخلف بيضاء نحيلة‪.‬‬ ‫أطفأت الموقد‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ خالص‪.‬‬‫تلتفت حولها كأنما تلقي بنظرة أخيرة‪ .‬قالت‪:‬‬

‫ أشطف وشي‪.‬‬‫عادت من الحمام‪ .‬مرت بي في طريقها لحجرة النوم‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ اريح شوية‪.‬‬‫جاءني صوتها من الداخل‪:‬‬ ‫ موش هتريح انت كمان؟‬‫تبعته���ا‪ .‬انت واقفة بجوار الس���رير‪ .‬خلعت الجلباب الثاني‬ ‫المش���جر‪ .‬بدا جلباب آخر تحته من قماش خفيف بدون كمين‪.‬‬ ‫تمددت فوق السرير من الناحية األخرى‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ الهوا في األوضة يرد الروح‪ .‬موش تريح لك شوية؟‬‫تمددت على ظهري في الطرف اآلخر‪ .‬كنت حذرًا في رقادي‪.‬‬ ‫أخش���ى مالمس���تها‪ .‬وحيرني ذلك‪ .‬فالمرأة جميلة‪ .‬رغم ذلك‬ ‫أجدى مبتعداً‪ ،‬اس���تدارت على جنبه���ا ووجهها نحوي‪ .‬أحس‬ ‫بعينيها تتأمالنني‪:‬‬ ‫ وأنت وسي عبد السالم من بلد واحد؟‬‫ أه‪.‬‬‫ وأنت متجوز؟‬‫ أل‪.‬‬‫ أحسن‪ .‬الجواز مفيش وراه غير القرف ووجع الدماغ‪.‬‬‫ومر وقت‪ .‬وقالت‪:‬‬ ‫ أقوم كدا أتأخرت‪ .‬بدل ما أسمع كلمتين من غير الزمة‪.‬‬‫لبس���ت جلبابها ولفت الطرحة حول رأس���ها‪ .‬أردت أن أعطيها‬ ‫نقودًا زيادة عن تمن اللحم‪ .‬رفضت بش���دة واتجهت إلى الباب‪.‬‬ ‫التفتت‪:‬‬ ‫ ونسيت أسالك عن اسمك‪.‬‬‫ سعد‪.‬‬‫ عاشت األسامي‪ .‬ويا سي سعد ما تمشيش ورايا حد يشوفك‬‫وتجيب لي الكالم‪.‬‬ ‫وقالت قبل أن تغلق الباب وراءها‪:‬‬ ‫ حاجي يوم الجمعة‪.‬‬‫وجاء يوم الجمعة‪.‬‬ ‫كنت نويت أن أتبعها ألعرف من تكون‪ ،‬ربما أش���تاق إليها بعد‬ ‫معرفتي بها‪.‬‬ ‫ومثل يوم الجمعة السابق قامت بتجهيز الطعام‪ ،‬واستراحت‬ ‫ال بالس���رير‪ ،‬وقرصتني خفيف ًا في خدي ولم أستجب لها‪،‬‬ ‫قلي ً‬ ‫وارتدت جلبابها وخرجت‪.‬‬ ‫لبس���ت مالبس���ي مس���رع ًا وانطلقت وراءها‪ .‬لمحته���ا في آخر‬ ‫الش���ارع‪ .‬ت���ورات بمدخ���ل البيت‪ .‬ل���م تلتفت لتنظ���ر خلفها‪،‬‬ ‫واس���تدارت منه نهاية الش���ارع‪ ،‬واختفت عن نظري‪ .‬أسرعت‬ ‫في خطوتي‪ ،‬ورأيتها تعبر الكوبري‪.‬‬ ‫وتبعتها‪.‬‬ ‫حين وصلت إلى الضفة األخرى لم أعثر لها على أثر‪.‬‬ ‫عشش كثيرة من الصفيح متناثرة هنا وهناك‪ ،‬بينها حواري‬ ‫وأكوام زبالة وأطفال نصف عرايا يجرون حولها‪ ،‬ومنهم من‬ ‫قرفص على بطن الشاطئ ليقضي حاجة‪.‬‬ ‫مش���يت بين العش���ش أرم���ق القاعدي���ن أمامه���ا‪ ،‬يبادلونني‬ ‫بالنظرات‪.‬‬ ‫وعبرت الكوبري متجه ًا إلى البيت‪.‬‬ ‫ولم أرها بعدها‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫في ريف النمسا‬ ‫يا�سني عدنان ‪ -‬املغرب‬ ‫يف ريف النم�سا‬ ‫النم�ساوي تع َّل ْم ُت الأ�شجا َر‬ ‫يف‬ ‫الر ِ‬ ‫ِّ‬ ‫يف هذا ِّ‬ ‫ومعناها‬ ‫الأغ�صانَ‬ ‫ونُ ْبلَ الورق الأخ�رض‬ ‫اللم َعة يف ف َْروِ ا َحلفيف‬ ‫�سرِ َّ ْ‬ ‫الريف‬ ‫هنا يف ِ‬ ‫غرب النم�سا(‪ .)1‬يف هذا ّ‬ ‫ال�ساح ِر‬ ‫َّ‬ ‫طر ْت يل البُو َم ُة‬ ‫َخ َ‬ ‫قلت احل ِْكم ُة ال ُع ْم َر لها‬ ‫ُ‬ ‫�صم َت ال�ضاحية هنا بعينني‬ ‫احلكم ُة تر ُق ُب ْ‬ ‫جان قهوة‬ ‫ك ِف ْن يَ ْ‬ ‫غرب النم�سا‬ ‫يا بُوم َة ِ‬ ‫ْت كتاباً للط ِري‪ ،‬عن الط ِري‪ ،‬مل َد ْح ُت‬ ‫لو �أين �ألَّف ُ‬ ‫جاللَ ِك‬ ‫يف �صفح ِت ِه الأوىل‬ ‫و�سي‬ ‫ولَق ُ‬ ‫ُلت ب�أن طريق َِك فر َد ٌّ‬ ‫يحر�س ب� َأ�س العامل‬ ‫يا طرياً ُ‬ ‫حتى و ْه َو يح ِّل ُق يف َح َومانٍ �صامت‬ ‫يحر�س �أ��س�را َر الغابة‪ ،‬ليالً‪ ،‬من �ش َغ ِب‬ ‫ُ‬ ‫الأطيار‬ ‫�أيتها البوم ُة‬ ‫‪104‬‬

‫يف عينيك يُ�ص ِّلي‬ ‫الع�شب اللينِّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫�شجر البُن ُدق‬ ‫ُ‬ ‫وال�صفْ�صاف‬ ‫َّ‬ ‫يف عينيك تهجع �أرواح القدي�سني‬ ‫ن�سمات‪� ،‬أغ�صا ٌن وظالل‬ ‫تتم َّو ُج‬ ‫ٌ‬ ‫املتعرج‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫عينيك ينا ُم النهر ِّ‬ ‫ت�ضطجِ ُع البقرات‬ ‫فلماذا �ضيَّ ْع ِت �سبي َل ِك‬ ‫ يا ها َمةُ(‪- )2‬‬‫نحو ا ُحللك ِة‬ ‫غابات الغار؟‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫وجئت هنا يف ع ِّز الظهر‬ ‫ِ‬ ‫رح الوادي‬ ‫لتختربي َم َ‬ ‫والطري‬ ‫َ‬ ‫الأدميَ الدافِئ للأر�ض املحرو�س ِة‬ ‫عاع نَ�ضرِ ٍ م ِْدرار‬ ‫ُ‬ ‫ب�ش ٍ‬ ‫بنت الليل‬ ‫يا َ‬ ‫ملاذا ُظهراً‬ ‫�أ�رسَ ْج ِت هنا يف َدغ َِل الغابة‬ ‫خيلَ النار؟‬ ‫ْ‬ ‫ِ���ي ال��ن��م�����س��ا‪ ،‬يف ف��ي��ل��دك�يرغ‬ ‫يف ْ‬ ‫غ���رب ِّ‬

‫‪ ،Feldkirch‬كنا بالباب نُطلُّ‬ ‫على ق�رص املو�سيقى‬ ‫يف هذا املعهد د َر َ�س هيدغر ‪Heidegger‬‬ ‫�ستة �أ�شهر‬ ‫كان املبنى ال�شام ُِخ َديْراً تلك الأيام‬ ‫علم الال ُهوت‪ .‬راهِ َب ديْ ٍر‬ ‫مارتن يَد ُر ُ�س َ‬ ‫�سي�صري ال�شاب‬ ‫ُ‬ ‫تط ُ‬ ‫�شحارير القلق ُ‬ ‫وف ب�أ�شجار التَّنُّوب‬ ‫لكن‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫جوار املبنى‬ ‫وتُ َ�ص ِّو ُت ُملتاع ْه‬ ‫أبواب‬ ‫ف ُز ِلز ِ‬ ‫لت ال ْ‬ ‫قلب الراهب واملحكم ُة‬ ‫ُزلْ ِزلَ ِت الكني�س ُة يف ِ‬ ‫الكربى‬ ‫وقالع املدينة‬ ‫ُ‬ ‫ُز ِلز َل يف خل َوتِه ال َّديْ ُر‬ ‫قلق‬ ‫الر ْهبانِ ويَفْنى يف ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ليخ َلع مارتن َ‬ ‫ثوب ُّ‬ ‫رقراقٍ‬ ‫وعرا ٍء ُمط َلق‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ن َقرَأ‬ ‫الَّ ِذ ْي َ‬ ‫ْ‬ ‫�أ َْحـمَد عَ ايِد ‪ -‬م�صر‬

‫كنا ن�رشَ ُب ك�أ�ساً يف املقهى �أمام املعهد‬ ‫و�صبايا من فيلدكريغ معها‪ ،‬يعزف َْن‬ ‫وماغي‪َ ،‬‬ ‫هنيئاً للتَّنُّوب‬ ‫و�أ�شجا ِر ال َّزان‬ ‫�ص يف‬ ‫امل��رةَ‪ ،‬تر ُق ُ‬ ‫�شحارير رائقةٌ‪ ،‬هذي َّ‬ ‫ُ‬ ‫ال َه ْد�أ ِة‬ ‫الهارب من‬ ‫الر ْهبان(‪)3‬‬ ‫ِ‬ ‫فمن ِ‬ ‫تعز ُف َ‬ ‫حلن ُّ‬ ‫وت‬ ‫در�س الال ُه ِ‬ ‫�إىل ال َع َدم الفتَّان؟‬ ‫الفر َد ْو�س �ستعزف‬ ‫من‬ ‫َّ‬ ‫منكن �صبايا غرب ِِّي ْ‬ ‫هذي الليلة‬ ‫الرهبان؟‬ ‫َ‬ ‫حلن ُّ‬ ‫الهوام�ش‬ ‫‪ -1‬جارة ألمانيا‪ :‬ذات النمش والدالل‪.‬‬ ‫‪ -2‬كانت العرب تقول‪ :‬إن عظام الميت تصير‬ ‫هام���ة فتطي���ر‪ .‬وتقول أيضاً‪ :‬إذا ُقت���ل قتيل ولم‬ ‫ً‬ ‫���درك به الثأر خرج من رأس���ه طائ���ر كالبومة‬ ‫ُي َ‬ ‫وهي الهامة‪.‬‬ ‫الرهبان واحدًا وجمعاً‪ ،‬والكلمة‬ ‫‪ -3‬قد يكون ُّ‬ ‫هنا مفرد‪.‬‬

‫الْقَا ِرئُ ْونَ ل َِك ِّف َ�ص ْمت َِي لمَ ْ يَ ُك ْونُواْ‬ ‫َ�صا ِد ِقينْ َ‬ ‫َولمَ ْ �أَ ُك ْن َدهِ ً�شا ِبه ِْم‬ ‫يَ ْكف ِْي ل َِك ْي �أَ ْم�شِ ْى َع َلى َما ِء الْ ِب َدا ِي ِة‬ ‫�أَنْ �أَ ُك ْونَ ُم َ�ش ْع ِوذًا‬ ‫يَ ْكف ِْي ِل� َ�ك� ْ�ي �أَ ْم��� ِ��ش� ْ�ي َع َلى َك ِّف‬ ‫ال�س َما ِء َط َها َرت ِْي َونَقَا َوت ِْي‬ ‫َّ‬ ‫يَ ْكف ِْي ‪...‬‬ ‫َو َال َ�ش ْي ٌء ِ ألَ ْ�ستَ ْكفِي‬ ‫ف َ​َما فيِ الْ َك ْونِ م ِْن َ�ش ْي ٍء يُ َكا ِفئُنِي بمِ َا‬ ‫يَ ْكفِي �أَنَا‬ ‫‪lll‬‬

‫َه َذا ف َ​َ�ضا ُء الْقَا ِر ِئينْ َ ُم َ�ضيَّ ٌق ‪،‬‬ ‫َو�أَنَا ف َ​َ�ضائ ِْي َوا�سِ ٌع!‬ ‫َوالْ َغ ْي ُب غ َْي ٌب ‪،‬‬ ‫اح نَ َواهِ لٌ‬ ‫الر َم ُ‬ ‫َو ِّ‬ ‫ال�سا ِم ِر ْونَ َحدِ يْثُ ُه ْم لَ ْغ ٌو‬ ‫َو َّ‬ ‫اث النُّ ْو ِر‬ ‫َو َما فيِ ال ِّل ْي ِل يَ ْكفِي ِالنْ ِب َع ِ‬ ‫فيِ ْ َرحِ ِم ال ُّد َجى‬ ‫ال�ساهِ ُر ْونَ ف َِ�ض ْي َل ٌة َ�أبَدِ يَّ ٌة‬ ‫َو َّ‬ ‫َوالنَّائ ُِم ْونَ َخطِ ْيئَ ٌة �أَ َزلِيَّ ٌة‬ ‫َو�أَنَا �سرَ ِ يْ ِر َي َ�ساهِ ٌر‬ ‫‪lll‬‬

‫َما بَينْ َ َق ْو َ�سينْ ِ (الْ ِب َدايَ ُة َوالنِّ َهايَةُ)‬ ‫الر َدى �شرِ ْ ٌب ل ُِكلِّ الْ َّ�سا ِئ ِريْ َن �إِلىَ‬ ‫َو َّ‬

‫ُهنَ َ‬ ‫اك‬ ‫ف َ​َك ْي َف �أَ ْز ُع ُم �أَنَّن ِْي َ�س�أَ ُك ْو ُن ُخ ْل ًدا؟!‬ ‫َوالْ َفنَا ُء َق ِ�ص ْي َدتِي الْب ِْك ُر الَّت ِْي لَ ْن‬ ‫تَ ْنتَه ِْي‬ ‫يِ ْل �أَنْ �أَ ُق ْو َل‬ ‫َولَ ْي َ�س يِ ْل �أَنْ �أ ْف َع َل ْه‬ ‫َد ْعن ِْي �إِذًا م ِْن َطال ِ​ِع الأَ ْو َها ِم‬ ‫َد ْعن ِْي ِل ْل َحيَا ِة ِلتُ ْن ِف َذ الأَ ْق َدا َر َع ْم ًدا‬ ‫فيِ ْ ُف�ؤَاد َِي َجاهِ َد ْه‬ ‫‪lll‬‬

‫�أَنَا َذاهِ ٌب ِل ْليَا ِء‬ ‫َات ُم ْن ُذ تَ�شرَ ْنُق ِْي‬ ‫�أَ ْحمِ لُ لَ ْوثَ َة الأَ ِلف ِ‬ ‫‪lll‬‬

‫احن ِْي لَ ْو ًما‬ ‫ِل ْل َما ِء �أَنْ يَ ْجتَ َ‬ ‫ال�س ُك ْو ِت‬ ‫َو يِ ْل َ�س ْيلُ ُّ‬ ‫ْ�ض َ�أنْ‬ ‫ِل�س َما ِء َق� َ�را ُر َه��ا فيِ ْ َرف ِ‬ ‫َول َّ‬ ‫�أَ ْجتَا َز َها‬ ‫اب �أَ َما َم َد ْرب ِْي‬ ‫لِلنُّ ْو ِر �إِ ْر َخا ُء احل َِج ِ‬ ‫ل َّ‬ ‫ِلط ِريْ ِق تَ َو ُّجع ِْي‬ ‫ِلتَ َو ُّجع ِْي ُج ْرحِ ْي‬ ‫جِ ُل ْرحِ ْي بَ ْوحِ َي النَّاي ِْي‬ ‫ِلنَاي َِي َع ْز ُف َها‬ ‫ِل ْل َع ْز ِف َو ْح ُي َق ِ�صائِدِ ْي‬ ‫ِلق َِ�ص ْي َدت َِّي �سرَ ِ يْ َرت ِْي َو َخطِ ْيئَت ِْي‬ ‫َوف َِ�ض ْي َلت ِْي‬

‫‪105‬‬


‫السينات‬ ‫بوزيد حرز اهلل ‪ -‬اجلزائر‬ ‫كانت تأخُذني لجميع ِ‬ ‫المحموم‪..‬‬ ‫ّزق‬ ‫فئات ّ‬ ‫الطيش الن ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫المحروم‪..‬‬ ‫أنا‬ ‫ْ‬

‫تمزقني‬ ‫لباس الّتقوى‪ ،‬واألقوى مني حين ُ‬ ‫ُ‬ ‫وي ُ‬ ‫ّاس َ‬ ‫لزمني الن ُ‬ ‫عمياء‪ ،‬فيبدو اهلل قريب ًا مني‪ ،‬سيعاقبني‪..‬‬ ‫ال‬ ‫قب ً‬ ‫َ‬ ‫ّار سالم ًا‬ ‫وأصر على محوي بين أصابعها ال‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ْـ‪...‬تشتعل الن ُ‬ ‫منها‪.‬‬ ‫لزم‬ ‫ويظ���ل لباس التق���وى ُيلزمن���ي‬ ‫ُ‬ ‫الناس به‪ ،‬وأن���ا ال ُأ ُ‬ ‫ُ‬ ‫حي ًا طول‬ ‫لما‬ ‫أعينهم لي ً‬ ‫تتصيدني ُ‬ ‫ال ومعي ما يبقيني ّ‬ ‫ّ‬ ‫جيراني ّ‬ ‫األفراح‪ ،‬وال ُألزم‬ ‫���معها ما أخفيه م���ن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العمر‪ ،‬فقط معها‪ُ ،‬أ ْس ُ‬ ‫ألب���س إال ما يرضي المعنى في‬ ‫بتحمل صمتي‪ ،‬لن‬ ‫جيران���ي ّ‬ ‫َ‬ ‫السين سالم منها‪.‬‬ ‫أصوات حروف ْ‬ ‫العطف بأسئلتي‪ّ .‬‬ ‫كل‬ ‫ماضية في‬ ‫إذن أفعالي‬ ‫المحظور‪ّ ،‬‬ ‫اهر في ّ‬ ‫ً‬ ‫الظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ستكون ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الجبهة ال يغري حتى‬ ‫وسط‬ ‫وشم‬ ‫في‬ ‫افح‬ ‫الط‬ ‫اإليمان‬ ‫أساليب‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ْ‬ ‫بالبصق عليه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫المطبوع الماضي في‬ ‫جبهتها ه���ذا‬ ‫يلس���ع‬ ‫أتصو ُر أنثى‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫البهتان‪.‬‬ ‫سيان‪ ،..‬سالم منها‪.‬‬ ‫أفعالي ال يعنيها‬ ‫ُ‬ ‫المستقبل منكم‪ّ ،‬‬ ‫أدركت بأن الس���ين فقيه الغامض في المسجد‪ ..‬اسمعني‬ ‫س���أدلك عن حس���ن التدبير المتك���رر ف���ي كل الجمعات «فما‬ ‫زال إمام الح���ي المعتوه بكل مقاييس الجه���ل يؤكد أن الماء‬ ‫ضروري للغس���ل و يدعو اآلنام إلى اإلس�ل�ام‪ .!!! ‬أنا أسلمت‬

‫‪106‬‬

‫لها‪ .‬سلمت األمر إليها»‪ ،‬وركبت سفينتها ورسوت على سحر‬ ‫يغمرني بسالم منها‪.‬‬ ‫وهس���يس‪ /..‬نسمات‪،‬‬ ‫وسحاب‬ ‫وس���رور‬ ‫سماء‬ ‫الس���ين‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫لمسات‪ ،‬وسرير ولميس‪.‬‬ ‫السين سالم منها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫حفرت‬ ‫هو‬ ‫البؤس‪ .‬أنا‬ ‫ولذا أفعالي ال يعنيها‬ ‫الس ِ‬ ‫بمجرد هذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫التفاح على مرآى من إبليس فداهمني‬ ‫وس���لبت‬ ‫مغارة قلبي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الشعر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الوزر‪..‬‬ ‫سعيدًا كنت‪ ..‬يطهرني‬ ‫ُ‬ ‫التوقي���ع على الصدق‬ ‫باإليق���اع أو‬ ‫س���يني ال تس���مح لي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالممنوع‪.‬‬ ‫به‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المدفوع و ال تْأ ُ‬

‫م���ا بال الحكمة راس���خة ال تقبل رأيا إن ع���ارض وجهتها‬ ‫المشدودة للثابت‪..‬‬ ‫األعراف وأوش���كت على‬ ‫خالف���ت‬ ‫تتح���ول يعن���ي أنك‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الهْدِر‪..‬‬ ‫السِر‪..‬‬ ‫سيني ال تعمل في ّ‬ ‫الس���لوى‪ ،‬وصنعت لها أفالك ًا‬ ‫ولذا س���لمت لها كل مفاتيح ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّمه‬ ‫تصعده���ا لتران���ي‬ ‫ُ‬ ‫وس�ل�الم ْ‬ ‫َ‬ ‫أعب���ث بالفاعل منكم وأس���لُ‬ ‫َ‬ ‫يتفقد أحوال الرغبة في‬ ‫أن‬ ‫الجر‬ ‫وأوكل للمفعول به ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لح���روف ّ‬ ‫المكبوت‪.‬‬


‫الشهوة من سين الحسنات إلى الملكوت‪.‬‬ ‫أطلقت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الس ِ‬ ‫البت‬ ‫سهل أن‬ ‫بت‪َ /‬‬ ‫ّع أن ّ‬ ‫ألف األحِد‪ ../‬وتوق ْ‬ ‫تخلع َ‬ ‫سين ّ‬ ‫َ‬ ‫يصعب‬ ‫الس���اكن‪،‬‬ ‫بأمر الحّد الفاصل بين الصمت وبين الحرف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ارس���م‬ ‫التفس���ير‪،‬‬ ‫تتعجل في‬ ‫معنتان‪ ،‬فال‬ ‫الم‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫أن تدركه أذناك ُ‬ ‫التحديق‬ ‫عينيك وع���ن عادات‬ ‫أقلع عن‬ ‫بحذائك ّ‬ ‫الس ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫���ير‪ْ ،‬‬ ‫خط ّ‬ ‫ّجدين‪ ،‬ومنحناك‬ ‫إلى الخلف‪ ،‬إنّا أهديناك لسانا‪ ،‬وهديناك الن ِ‬ ‫سالم منها‪.‬‬ ‫فقبلها‪ ،‬يأتيك‬ ‫ّ‬ ‫الش ِ‬ ‫فتين‪ِّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الحب‪ .‬يكفي‬ ‫س���هل أن تتخلَّص من حرِب َك ضّد الغامض في‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫لبس سينا للـ‪..‬‬ ‫تأبه‬ ‫قلبك في‬ ‫ِ‬ ‫أن تلقي َ‬ ‫بالغيب‪ْ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الجب‪ ،‬أال َ‬ ‫أن ُت َ‬ ‫ِ‬ ‫واحضنها‪،‬‬ ‫مزق‬ ‫أثواب العفَّة ُّ‬ ‫فر‪ْ /.‬‬ ‫والط ِ‬ ‫هر‪ْ ،‬‬ ‫كر وأخ���رى للـ‪ِّ ..‬‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وتوسْد‬ ‫ّشوة من زهرتها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ص الن َ‬ ‫مرغ أش���جانك في نهديها‪ُ ،‬م َّ‬ ‫ّ‬ ‫أشعلها‪ ،‬يأتيك سالم منها‪.‬‬ ‫ساقيها‪ْ ..،‬‬

‫يتفجر نهداها أقمارًا من ش���بق‪،‬‬ ‫ِس ْ‬ ‫الرغبة يقرأن���ي لما ّ‬ ‫���فُر َّ‬ ‫فتحملني‬ ‫حمل الكأس‪،‬‬ ‫أسكر‪..‬‬ ‫أسكر‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫أسكر حتى ال أقوى عن ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الرم���ان‪ ..‬هنالك في‬ ‫طف�ل�ا بين ذراعيه���ا‪ُ ،‬تلقي بي في حقل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لسرور‬ ‫ّمني‬ ‫الصحراء الظمأى‪ ،‬وتؤثِّث‬ ‫ٍ‬ ‫غيمات تطفئني ُ‬ ‫وت َس���لُ‬ ‫ال يأتي إال بسالم منها‪.‬‬ ‫أتلبس‬ ‫يحدث‪ْ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫ّسيان فال ألقى حرج ًا في أن ّ‬ ‫اورني الن ُ‬ ‫أن َس َ‬ ‫ص���وب حدائقها‬ ‫وأعبر‬ ‫الس���اكن في فج���وات الروح‪،‬‬ ‫بالطفل ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي���دل عليها‪ ،‬وترافقني‬ ‫مأخوذًا باألل���وان‪ ،‬ويوقفني العطر‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫كانت‬ ‫أس���راب‬ ‫الجد ُة‪ْ ,‬‬ ‫فراشات‪ ،‬تسبقني‪ ،‬فأرى أفالك ًا تعرفها َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الليلة‪ ..‬تلك‬ ‫الكانون الضارب في برد‬ ‫ترويها بمزيد من مل���ح‬ ‫ِ‬ ‫تشاء‬ ‫وجهها حيث‬ ‫الليلة ال يعرفها إال‬ ‫الش���يح‪ ،‬وهذي الريح ُأ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫وأشد على أعشاب تتدلى من‬ ‫السين المسعورة‪ ،‬أبلغ ُس َّرَتها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أتلظى بين أصابعها‪ ،‬أتوضُأ بالنازف من شهقتها‬ ‫ِس���درتها‪ّ ،‬‬ ‫كل نوافِله���ا‪ ،‬وأن���ام على إيقاع ال يأتي إال بس�ل�ام‬ ‫وأصلّ���ي ّ‬ ‫منها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أحوال الخلْق مساء‬ ‫ّد‬ ‫س���ين‬ ‫قادتني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الفس���حة قديس��� ًا يتفقُ‬ ‫باركت الكأس‬ ‫أرقص معهم‪،‬‬ ‫���كَر ولم‬ ‫لم‬ ‫الس ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫السهرة‪ْ ،‬‬ ‫أسترق ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يتأس���ى‬ ‫وأيم���ان الخم���رة حين تس���اوي بين الن���اس‪ .‬هنا ّ‬ ‫الطاعن‬ ‫والمفت���ون‪،‬‬ ‫الفاتن‬ ‫والمجن���ون‪،‬‬ ‫العاقل‬ ‫المح���زون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫توت‪..‬‬ ‫تتعرى األسرار سال ًال من ْ‬ ‫ُ‬ ‫والطاعون‪ .‬هنا ّ‬ ‫الصوت‪..‬‬ ‫أتعاب‬ ‫ظالل تتمّد ُد فيها‬ ‫السين‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫السين سؤال عنها‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫السين رسول ال يأتي إال بسالم منها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪107‬‬


‫فا�صلة‬

‫عبد السالم بنعبد العالي‬

‫الصخب والعنف‬ ‫«ي��دل الحفيف على الضوضاء في حدها األدن��ى‪ ،‬على‬ ‫ضوضاء مستحيلة‪ :‬ضوضاء ما يتم بإتقان فال ُيسمع‬ ‫تبخر الضوضاء‪ ..‬إال‬ ‫له صوت‪ .‬الحفيف هو أن ُتسمع ّ‬ ‫أن المستحيل ليس هو ما ال يمكن تصوره‪ :‬يشكل حفيف‬ ‫اللغة يوتوبيا‪ ،‬أية يوتوبيا؟ إنها يوتوبيا موسيقى‬ ‫الداللة‪ ..‬حيث يقيم المعنى بعيدًا مثل سراب‪ ..‬ويشكل‬ ‫نقطة هروب اإلستلذاذ‪ .‬إنها ارتعاشة المعنى التي أسأل‬ ‫عندما أصغي لحفيف اللغة‪ ،‬اللغة التي هي طبيعتي أنا‬ ‫إنسان الحداثة»‪.‬‬ ‫ر‪ .‬بارت‬ ‫هذه العبارة عنوان رواية للكات���ب األميركي وليام فولكنر‬ ‫نشرت سنة ‪ ،1929‬وهي عبارة مقتبسة عن مسرحية (ماكبث)‬ ‫لـ «وليام شكس���بير» حيث نقرأ في المشهد الخامس من الفصل‬ ‫الخام���س‪« :‬الحياة‪ ..‬حكاية يرويها أبل���ه‪ ،‬وهي مألى صخب ًا‬ ‫وغضباً‪.»..‬‬ ‫العب���ارة تصلح في نظرنا عنوان ًا لما يطبع فكرنا المعاصر‬ ‫تميز‬ ‫من ضوضاء وضجيج‪ .‬ذلك أن الس���مة األساس���ية التي ّ‬ ‫هذا الفكر في رأينا ه���و اقترانه باللغط والضجة واالحتفاءات‬ ‫والمهرجان���ات و«رفع األصوات»‪ .‬أمارات ذل���ك واألدلة عليه‬ ‫ليست قليلة‪ ،‬ربما كان أكثرها وضوح ًا ميلنا الشديد والمتواتر‬ ‫إلى ربط الفكر بالخلخلة والحفر والتقويض والهدم والتفكيك‪.‬‬ ‫الفك���ر غدا عندن���ا «خلخل���ة للمعاني» و«حفري���ات للمعرفة»‪،‬‬ ‫و«تقويض ًا للتراث»‪ ،‬و«هدم ًا لألوث���ان»‪ ،‬و«تفكيك ًا للبنيات»‪.‬‬ ‫لع���ل ذلك هو م���ا يجعل ذهنن���ا ينصرف غالباً‪ ،‬عن���د حديثنا‬ ‫عن الفكر‪ ،‬إلى مطرقة نيتش���ه‪ ،‬فن���ردد أن التفكير هو «إعمال‬ ‫المطرقة» وأن الفكر «ضرب» لألوثان‪.‬‬ ‫بطبيعة الح���ال مطرقتنا نحن مطرقة أكثر «تقدماً»‪ ،‬مطرقة‬ ‫صناعية‪ ،‬وهي ليس���ت فحس���ب تلك التي يحمله���ا البنّاء في‬ ‫يده‪ ،‬وإنما تلك التي يس���تخدمها مرصفو الطرقات في حفرهم‬ ‫وهدمهم وتقويضهم‪ ،‬وهي بالطبع أش���د ضجيج ًا وأكثر إثارة‬ ‫لالنتباه‪.‬‬ ‫إال أنن���ا قلما نعم���ل فكرنا في طبيعة ه���ذا الربط بين الفكر‬ ‫وبين المطرقة‪ .‬ونحن نعلم أنها حتى عند نيتش���ه نفسه تتخذ‬ ‫‪108‬‬

‫دالالت متنوع���ة‪ ،‬وتدل على المطرقة الت���ي تنصب على واقع‬ ‫«لتهدمه على طريقة البنّاء‪ ،‬أو لتفحصه على طريقة الطبيب‪،‬‬ ‫النحات»‪.‬‬ ‫أو لتعيد صياغته على طريقة ّ‬ ‫نادرًا ما ينصرف ذهننا‪ ،‬عند اإلشارة إلى «فلسفة المطرقة»‬ ‫الموس���يقي‬ ‫هات���ه‪ ،‬إلى مطرقة أخ���رى ربما يكون نيتش���ه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وع���ازف البيانو‪ ،‬هي التي يقص���د بالضبط‪ .‬إلدراك ذلك ربما‬ ‫ينبغي أن نستبعد لغة الضرب والهدم والبناء لنستعيض عنها‬ ‫بلغ���ة علم األصوات‪ .‬آنئذ تغدو المطرقة‪ ،‬ليس���ت أداة البنّاء‪،‬‬ ‫أوكام ‪ ،Guillaume d’Ockham‬وإنم���ا آلة‬ ‫وال حت���ى نص���ل ّ‬ ‫لقي���اس الذبذبات‪ ،‬ويغدو الفكر إصغ���اء لصوت الوجود الذي‬ ‫يشير اليه هايدغر‪..‬‬ ‫يس���تعمل الفرنس���يون الكلمة ذاتها للدالل���ة على اإلصغاء‬ ‫وعلى الفهم ‪ .entendre‬بمقتض���ى ذلك يغدو إدراك المعاني‬ ‫إصغاء لـ «حفيف اللغة» الذي يتحدث عنه بارط‪ ،‬وتغدو األذن‬ ‫أداة للتفكير‪.‬‬ ‫ل���ن يعود «إعمال المطرقة» ضرب ًا ألصنام‪ ،‬ولن يظل الفكر‬ ‫ضج���ة وصخباً‪ ،‬وإنما جس نبض األش���ياء وإحداث اهتزازة‬ ‫بها لقياس ذبذباتها‪ .‬إنه اس���تخدام مغاير للمطرقة يحاكي ذاك‬ ‫الذي ينهجه طبيب األعصاب كي «يجس نبض» الركبة ويقيس‬ ‫رد فعلها‪ .‬إنه اس���تخدام « يطرح أس���ئلة عن طريق المطرقة‪،‬‬ ‫ويصيخ الس���مع إلى ما إذا كان هناك صوت يرد صدى خواء‬ ‫أج���وف»‪ .‬المطرقة إذن أقرب إلى الش���وكة الرنانة ‪Diapason‬‬ ‫التي ُتستخدم في علم األصوات لدراسة الرنين وضبط اآلالت‬ ‫الموسيقية‪.‬‬ ‫حينما نربط الفك���ر بالمطرقة‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬فإنما لنجعله‬ ‫جس ًا لنبض األش���ياء وإنصات ًا لموس���يقى العالم‪ .‬ومن يتكلم‬ ‫كمكون أساس���ي‬ ‫عن الموس���يقى ال بد أن يس���تحضر الصمت ّ‬ ‫ل���كل معزوف���ة‪ ،‬ال ب���ّد أن يس���تبعد من أجل ذل���ك كل ضجيج‬ ‫وصخب‪ ،‬فال يقرن الفكر بالضرورة بالمواسم والمهرجانات‪،‬‬ ‫وال بعق���د الن���دوات وتنظيم المؤتمرات‪ ،‬وال برفع الش���عارات‬ ‫وإصدار البيانات‪ ،‬وال بتس���ليم الجوائ���ز وإقامة االحتفاءات‪،‬‬ ‫مكبرات اإلذاعات ومناب���ر التليفزيونات‪،‬‬ ‫وال بالتس���ابق نحو َّ‬ ‫وال بالتناح���ر من أجل أخذ الكلمة واالس���تحواذ على المعاني‬ ‫واالس���تئثار بحق التأويل وادعاء «امتالك» الحقيقة‪ ،‬وال بكل‬ ‫يح���ول دون اإلصغاء إلى نبض���ات الحياة‪،‬‬ ‫ما من ش���أنه أن ُ‬ ‫وذبذبة األشياء‪ ،‬و«حفيف اللغة»‪.‬‬


‫ترجمات‬

‫وقت الرحيل‬ ‫بهاء الدين أُوزكِ شي‬

‫*‬

‫هل حصل وس���معتم صوت��� ًا منادي ًا‬ ‫عند الس���حر؟ صوت ت���ردد قبل انطالق‬ ‫أصوات الخطى األول���ى على الطرقات؟‬ ‫ن���داء يحاكي عذوبة ن���اي‪ ،‬يتغلغل في‬ ‫أعماقكم‪ ،‬ويأخذكم بعيداً‪ ،‬مثير‪ ،‬غامض‬ ‫مجهول؟ ه���ل تعلمون من ه���ذا المنادي‬ ‫ومتى سيكون الرحيل؟‬ ‫حالم���ا انتهي���ت م���ن طع���ام عش���اء‬ ‫حزي���ن‪ ،‬تس���للت من فوري به���دوء إلى‬ ‫الغرف���ة الخلفي���ة‪ .‬أرح���ت جبيني على‬ ‫ي���دي االثنتين المس���نودتين على زجاج‬ ‫الناف���ذة‪ ..‬لق���د تغي���رت الحديق���ة ليالً‪،‬‬ ‫حتى بدت وكأنني لم أشاهدها من قبل‪.‬‬ ‫ت���راءى أم���ام ناظري‪ ،‬ما بي���ن فرجات‬ ‫أغصان األش���جار‪ ،‬ألف ش���بح وشبح‪،‬‬ ‫وألف مشهد ومشهد‪ ،‬درب ضيق طويل‪،‬‬ ‫بض���وء خاف���ت يمتد حتى ك���وخ نصف‬ ‫مض���يء‪ .‬كان الك���وخ يغفو بي���ن قتامة‬ ‫الظالل‪.‬‬ ‫قب���ل الذهاب إل���ى الس���رير‪ ،‬نظرت‬ ‫للم���رة األخيرة نح���و الحديقة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫رق���دت وحيدًا تحت اللحاف‪ ،‬أفكر بجّدي‬ ‫وبأحداث يوم ال يمكن نسيانها‪.‬‬ ‫ربما قال للمنادي «صه! ال توقظه!»‪،‬‬ ‫ك���ي ال يصحبني معه إل���ى األرض التي‬ ‫تس���تقبل كل األحبة باألحضان‪ ،‬ولعله‬ ‫قال أيض ًا «ال بأس‪ ،‬قد يأتي فيما بعد»‪.‬‬ ‫ف���ي البداي���ة‪ ،‬الب���د وأن أوضح لكم‬ ‫من يكون ه���ذا المنادي‪ .‬هو رجل ضخم‬

‫سلمان المالك ‪ -‬قطر‬

‫ترجمة ‪� -‬صفوان ال�شلبي‬

‫مفت���ول العضالت‪ ،‬وصوت���ه جهوري‪،‬‬ ‫وش���ارباه مبرومان‪ .‬تعرف���ت عليه من‬ ‫خالل أحاديث جدي وتشبيهاته المبسطة‬ ‫التي يق���وم بها بتحريك يديه وذراعيه‪،‬‬ ‫حتى أني كنت أرس���مه ف���ي ذهني بقلم‬ ‫غير مرئي‪.‬‬ ‫كنت أستمع لحديث جدي وهو يشرح‬ ‫لي ع���ن الرحيل‪ ،‬وأنا غ���ارق في خيال‬ ‫ابتدعته يد مرتك���زة على الصدغ‪ ،‬وكأن‬ ‫قائ�ل�ا «جاء وقت‬ ‫بي أس���مع ن���داء يهدر‬ ‫ً‬ ‫الرحي���ل!»‪ ،‬وكأن عيني ت���رى المنادي‬ ‫بمحي���اه الحي المخ���ادع وكأنه حقيقة‪،‬‬ ‫وأذني ال تقاوم عذوبة النداء‪.‬‬ ‫كان الرحيل يتجس���د ف���ي مخيلتي‪،‬‬ ‫عرب���ة محمل���ة بأناس س���عداء وأمتعة‬ ‫وأوان منزلية مختلف���ة‪ .‬وبينما تتصلب‬ ‫عضالت عراقي���ب الحصان الضعيفة من‬ ‫الكدح‪ ،‬يغمر روحي حزن رقيق يصعب‬ ‫وصفه‪.‬‬ ‫كان ج���دي يتح���دث بعم���ق وب���طء‬ ‫ويقول‪ :‬ليلة ما‪ ،‬سيصيح المنادي عند‬ ‫السحر «حان وقت الرحيل»‪.‬‬ ‫كم غالبن���ي النعاس على امتداد ٍ‬ ‫ليال‬ ‫عدة‪ ،‬وأنا في انتظار سماع ذلك الصوت‪.‬‬ ‫ُأصبت باالرتب���اك والهيجان مرات عدة‬ ‫لخلطي بين أذان الصالة ونداء المنادي‪.‬‬ ‫لكن في أذان الفجر ش���يء ما‪ ،‬يجعلني‬ ‫أفكر أكثر عمق ًا بما رواه جدي‪.‬‬ ‫م���ن بع���د صباح ن���وم طف���ل مريح‬

‫وعميق‪ ،‬ما عدت أرى جدي مرة أخرى‪.‬‬ ‫لق���د رحل‪ .‬لكن���ه أثن���اء الرحيل‪ ،‬لم‬ ‫يستطع أخذ أش���يائه‪ ،‬وال حتى سترته‬ ‫القديم���ة! من يعلم لعله ذن���ب المنادي‪.‬‬ ‫ال «أس���رع»! هيا أسرع!‪،‬‬ ‫ربما‪ ،‬أصر قائ ً‬ ‫بعدما قال له «حان وقت الرحيل»‪ ،‬لذا لم‬ ‫يتمكن جّدي من وداعي‪.‬‬ ‫أم���ر آخ���ر فك���رت ب���ه‪ ،‬وأصابني‬ ‫بالغيرة‪ .‬ربما‪ ،‬جدي اآلن يرتدي سترة‬ ‫جديدة أخرى‪ ،‬ويروي حكايات لألطفال‬ ‫هناك في ذل���ك المكان حيث اس���تدعي‬ ‫إليه!‬ ‫وأنت���م أيضاً‪ ،‬ه���ل س���معتم صوت ًا‬ ‫منادي ًا عند الس���حر؟ عن���د مطلع الفجر؟‬ ‫صوت يتستر بعذوبة ناي؟ هل شاهدتم‬ ‫رج�ل�ا‪ ،‬منادي ًا يضع كف���ه على صدغه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال «حان وقت الرحيل»؟‬ ‫وه���و يصيح قائ ً‬ ‫ل���و كان جدي اآلن هن���ا‪ ،‬لقال لكم وهو‬ ‫يبتس���م «أنتم أيض ًا ستسمعونه يوماً»‪،‬‬ ‫ويستغرق متأمالً‪ ،‬ثم يذهب مبتعداً‪.‬‬ ‫* كاتب ترك���ي ولد في اس���تانبول (‪- 1928‬‬ ‫‪ )1975‬من عائلة متدينة فجّده كان شيخ الطريقة‬ ‫النقشبندية ووالده كان شيخ كّتاب‪.‬‬ ‫بدأ تجربته األدبية من���ذ كان طالباً‪ .‬صدر له‬ ‫العديد من الكتب أهمها في مجال القصة القصيرة‪:‬‬ ‫كان يوج���د ش���جرة ُدلب‪ ،‬ووق���ت الرحيل‪ ،‬وفي‬ ‫مجال الرواية‪ :‬القاضي األمرد‪ ،‬ورجل في القمة‪،‬‬ ‫وفي الش���ارع‪ .‬نال جائزة بيام���ي صفا للرواية‬ ‫لعام ‪ 1975‬عن روايته في الش���ارع‪ .‬نال جائزة‬ ‫الوق���ف الثقافي القومي لتركي���ا للقصة القصيرة‬ ‫لعام ‪ 1975‬عن قصته القصيرة وقت الرحيل‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫بين الواقعية السحرية والسياسية‪:‬‬

‫أدباء أميركا السمراء‬ ‫شهداء ومتفرجون‬

‫جين فرانكو‬ ‫ترجمة ‪ -‬طلعت ال�شايب‬

‫يكاد يكون مصطلح «الحرب الباردة»‬ ‫غي���ر كاف لتعري���ف فترة كان���ت تدور‬ ‫فيها حروب س���اخنة بواس���طة االتحاد‬ ‫السوفياتي ضد الدول التابعة المنشقة‪،‬‬ ‫وبواس���طة الواليات المتحدة األميركية‬ ‫ض���د «الش���يوعية»‪ .‬ل���م تك���ن الهدن���ة‬ ‫المسلحة بين القوى العظمى ممتدة إلى‬ ‫العالم بأس���ره‪ ،‬الذي كان‪ ،‬بالرغم من‬ ‫ذلك كله‪ ،‬أسير منطق المواجهة ثنائي‬ ‫القطبي���ة‪ .‬في أمي���ركا الالتينية‪ ،‬كانت‬ ‫الفترة من الح���رب العالمية الثانية إلى‬ ‫التسعينيات شاهدًا على تدخل الواليات‬ ‫المتح���دة ف���ي غواتيم���اال وجمهوري���ة‬ ‫الدومينيكان وجرين���ادا‪ ،‬وأزمة خليج‬ ‫الخنازير‪ ،‬والعمليات السرية‪ ،‬كما كانت‬ ‫في النهاية شاهدًا على الهزيمة الثقافية‬ ‫والسياس���ية لليسار‪ ،‬تلك الهزيمة التي‬ ‫عجل بها وص���ول حكومات عس���كرية‬ ‫إلى الس���لطة برعاية الواليات المتحدة‪.‬‬ ‫مع هذا الس���يناريو‪ ،‬من السهل أن نغفل‬ ‫حقيقة مهمة‪ ،‬وهي أن تلك الفترة كانت‬ ‫‪110‬‬

‫في الوقت نفسه‪ ،‬فترة إبداع وتجريب‪،‬‬ ‫وثقة في التحرر من التبعية السياسية‬ ‫واالقتصادية‪ ،‬فترة لقاء بين السياسي‬ ‫والثقافي‪.‬‬ ‫ل���م تكن م���ادة الحرب الب���اردة هي‬ ‫القوى العظمى ونفوذها فحسب‪ ،‬كانت‬ ‫مادتها أيض ًا تل���ك القصة األخرى التي‬ ‫ت���م خنقها في آخر األم���ر‪ ،‬القصة التي‬ ‫لعبت فيه���ا االنتلجنس���يا األدبية دورًا‬ ‫رئيس���ياً‪ .‬هذا الدور يمكن فهمه في إطار‬ ‫ما يصفه «باس���كـال كازانوفا ‪Pascale‬‬ ‫‪ »Casanova‬ب���ـ «الجمهوري���ة العالمية‬ ‫ل�ل�آداب»‪ ،‬والتطلع إلى عالمية منطلقة‬ ‫من المركز‪ ،‬وباألحرى من باريس‪ ،‬التي‬ ‫كانت المغناطيس الذي جذب أجيا ًال من‬ ‫ُك َّتاب أميركا الالتينية‪ ،‬والمقياس الذي‬ ‫يمكن بحس���به تقييمهم‪ .‬الحرب الباردة‬ ‫غيرت هذه العالقة‪ .‬صحيح أن باريس‬ ‫بقيت هي المغناطيس‪ ،‬ولكن الفترة من‬ ‫‪ 1945‬إلى ‪ 1989‬كانت فترة تنافس بين‬ ‫الواليات المتحدة واالتحاد الس���وفياتي‬

‫على الهيمن���ة الثقافية‪ ،‬ووضع الحرية‬ ‫في مواجهة السالم‪.‬‬ ‫وبينما كان عدد قليل من ُك َّتاب أميركا‬ ‫الالتيني���ة منجذبين نحو أحد الطرفين‪،‬‬ ‫كان���ت األغلبي���ة تح���اول أن تجد فضاء‬ ‫ثالثاً‪ ،‬فضاء يتوافق مع كل من الطموح‬ ‫السياس���ي إلى شكل فريد من التقدم في‬ ‫أمي���ركا الالتينية‪ ،‬والطم���وح الثقافي‬ ‫إلى تحري���ر أدبها ليكون أكثر من مجرد‬ ‫محاكاة ونقل‪ .‬كان على األصالة أن تجد‬ ‫حلولها السياسية واألدبية على السواء‪:‬‬ ‫أو الفضاء الثالث بين الحدين المتطرفين‬ ‫للح���رب الباردة‪ .‬وبالرغ���م من أن هذه‬ ‫الطموحات أخفقت سياس���ياً‪ ،‬فقد كانت‬ ‫إيذان ًا بازدهار أدب أميركا الالتينية في‬ ‫الستينيات وأوائل السبعينيات‪.‬‬ ‫حت���ى قبل أن تبدأ الح���رب الباردة‪،‬‬ ‫كان���ت أمي���ركا الالتينية عرض���ة لذلك‬ ‫المزيج م���ن الدعاية واإلقناع الراس���خ‬ ‫ال���ذي كان يس���ري تحت مس���مى «القيم‬ ‫األميركي���ة»‪ ،‬ففي أثناء الحرب العالمية‬ ‫الثانية كان���ت هناك آلة دعائية هائلة‪،‬‬ ‫وضعه���ا مكت���ب «نيلس���ون روكفل���ر‬ ‫‪ »Nelson Rockefeller‬لش���ؤون‬ ‫نص���ف الكرة‪ ،‬تقوم بض���خ األموال في‬ ‫كل أش���كال األنش���طة – م���ن محط���ات‬ ‫اإلذاعة والس���ينما إلى معارض الفنون‬ ‫والمطبوعات – بهدف التأثير في عقول‬ ‫وقلوب أبن���اء أمي���ركا الالتينية‪ ،‬دعم ًا‬ ‫للهدف «المش���ترك»‪ .‬وبعد الحرب‪ ،‬ركز‬ ‫كل م���ن االتحاد الس���وفياتي والواليات‬ ‫المتحدة اهتمام���ه على أوروبا‪ ،‬بالرغم‬ ‫م���ن أن منظم���ة الحري���ة الثقافية التي‬ ‫أنش���ئت لموازن���ة النفوذ الس���وفياتي‬ ‫وتجني���د المثقفين إلى جان���ب القضية‬ ‫األميركية‪ ،‬كان���ت لها مراكزها أيض ًا في‬ ‫مدن كثي���رة في أمي���ركا الالتينية‪ ،‬كما‬ ‫كانت تص���در مجل���ة‪.»Caudernos« :‬‬ ‫هذه المجلة الت���ي كان يرأس تحريرها‬ ‫التروتسكي اإلسباني «جوليان جوركين‬ ‫‪ ،»Julian Gorkin‬ل���م تكن منذ البداية‬ ‫بالك َّتاب الشبان‪ ،‬الذين كان‬ ‫على اتصال ُ‬ ‫الكثيرون منهم معنيين بقضايا التخلف‬ ‫والفساد‪ ،‬أكثر منهم بالكوزموبوليتانية‬ ‫المج���ردة التي ت���روج له���ا الصحيفة‪،‬‬


‫ماركيز‬

‫والت���ي كانت‪ ،‬اتس���اق ًا‬ ‫مع سياسات الواليات‬ ‫المتح���دة‪ ،‬تب���دي عدم‬ ‫ثق���ة في المش���روعات‬ ‫الوطني���ة المس���تقلة‪.‬‬ ‫ولكن الواليات المتحدة‬ ‫كان لديه���ا أس���لحة‬ ‫أق���وى تأثي���رًا لخدمة‬ ‫سياساتها‪ ،‬متمثلة في‬ ‫أفالم هوليوود وبرامج‬ ‫اإلذاع���ة والتليفزي���ون‬ ‫والمج�ل�ات األميركي���ة‬ ‫الش���عبية الت���ي تصدر‬ ‫باإلس���بانية‪ ،‬وكان���ت‬ ‫«ريـــــــ���درز دايجس���ت‬ ‫‪»Reader،s Digest‬‬ ‫أبرز نم���وذج للصحف‬ ‫التي تعبر عن أسلوب‬ ‫الحي���اة األميركي دون‬ ‫اللجوء إلى األس���لوب‬ ‫المباش���ر ف���ي الدعاية‬ ‫أمادو‬ ‫المكشوفة‪.‬‬ ‫كان حتمي��� ًا أن يق���وم كال الجانبين‬ ‫بمحاوالت لكي يغازل المثقفين‪ .‬االتحاد‬ ‫الس���وفياتي منح الشاعر «بابلو نيرودا‬ ‫‪ »Pablo Neruda‬والروائ���ي «ج���ورج‬ ‫أم���ادو ‪ »Jorge Amado‬حض���ورًا‬ ‫أوروبي ًا بارزًا من خالل مؤتمر السالم‪،‬‬ ‫بينما حاول���ت الواليات المتحدة التودد‬ ‫للمثقفي���ن بدفاعه���ا عن حري���ة الكاتب‪.‬‬ ‫تقليدي���اً‪ ،‬كان ُك َّت���اب أمي���ركا الالتينية‬ ‫يقوم���ون بدور ترب���وي‪ ،‬ولكن ما يميز‬

‫ُك َّتاب الس���تينيات هو أنه���م لم يكونوا‬ ‫ُي َعلِّم���ون جمهورهم من خ�ل�ال كتابات‬ ‫تعط���ي دروس��� ًا أخالقي���ة‪ ،‬وإنما من‬ ‫خالل الق���راءة النقدية‪ .‬في معظم الدول‬ ‫األوروبي���ة وف���ي الوالي���ات المتح���دة‬ ‫كان���ت التربية م���ن نصي���ب األكاديمية‬ ‫أو الصحاف���ة الثقافي���ة‪ ،‬وف���ي أميركا‬ ‫الالتيني���ة كان الكات���ب مثقِّف��� ًا عام ًا له‬ ‫قاعدته الراسخة في الصحف والمجالت‬ ‫ويستخدمها بشكل مؤثر‪« .‬بورخيس ‪J.‬‬

‫‪ »L. Borges‬و«فوينتس ‪»C. Fuentes‬‬ ‫و«ب���اث ‪ »O. Paz‬و«ليما ‪»J. L. Lima‬‬ ‫و«ماركي���ث ‪»G. M. Marquez‬‬ ‫و«يوس���ا ‪ »M. V. Liosa‬و«كورتاث���ار‬ ‫‪ »J. Cortazar‬و«باس���توس ‪A.‬‬ ‫‪ »R. Bastos‬و«أرجي���داس ‪J. M.‬‬ ‫‪ – »Arguedas‬والقائم���ة تط���ول – كل‬ ‫هؤالء أدخلوا نظري���ات جديدة للقراءة‬ ‫والفه���م ولتفس���ير أعماله���م وأعم���ال‬ ‫معاصريهم ومن سبقوهم كذلك‪ .‬هؤالء‬ ‫الك َّتاب وغيرهم‪ ،‬وضعوا قوائم ذخيرة‬ ‫ُ‬ ‫مرجعية وكتابات نقدية جددت ونقحت‬ ‫جينالوجيات األدب‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬ ‫كان���ت تحاف���ظ عل���ى اس���تقالليته عن‬ ‫الواقع‪ .‬قراءة «يوس���ا» الملهمة لرواية‬ ‫القرن الخامس عشر‪ ،‬رواية الفروسية‪:‬‬ ‫«‪ ،»Tirant Io Blanc‬كان���ت نق���دًا –‬ ‫ضمني��� ًا – للواقعية المبتذلة‪ .‬كل أعمال‬ ‫«بورخي���س» ه���ي – مج���ازًا – قراءة‪.‬‬ ‫«كورتاث���ار» ق���دم نظري���ات للق���راءة‬ ‫واإلبداع في روايته «الحجلة»‪.‬‬ ‫ف���ي كتاب���ه «دون كيخوت���ه‪ :‬أو نقد‬ ‫القراءة» يعقد «فوينت���س» مقارنة بين‬ ‫زمن ثربانتس وزمنه‪ .‬يقول «فوينتس»‬ ‫«كأنه كان يتنبأ‪ ،‬كأنه كان يرى مسبق ًا‬ ‫كل تلك الحيل الق���ذرة للطبيعة األدبية‬ ‫الذليلة‪ ،‬ثربانتس يكس���ر ذل���ك الوهم‬ ‫بأن األدب مجرد نق���ل للواقع‪ ،‬ويخلق‬ ‫واقع��� ًا أدبي ًا أقوى بكثي���ر ومن الصعب‬ ‫اإلمس���اك به‪ ،‬واقع روائي‪ ،‬رواية هي‬ ‫في وجودها‪ ،‬على جميع المس���تويات‪،‬‬ ‫نق���د للق���راءة»‪ .‬خالل عقد الس���تينيات‬ ‫الك َّتاب محكمي���ن للذوق‬ ‫كله‪ ،‬أصب���ح ُ‬ ‫األدبي‪ ،‬وبخاصة بالنسبة لذلك الجيل‬ ‫األصغر من الدارس���ين والنقاد‪ .‬وجود‬ ‫الشباب في ملتقيات القراءة والمؤتمرات‬ ‫الك َّتاب‬ ‫والتجمعات الجماهيرية التي كان ُ‬ ‫يتحدث���ون فيه���ا في السياس���ة واألدب‬ ‫والث���ورة‪ ،‬ه���ذا الوج���ود كان ش���هادة‬ ‫مدهش���ة على القوة المستمرة لـ «مدينة‬ ‫األدب»‪ ،‬كذلك ف���إن وجود أيديولوجية‬ ‫الك َّتاب في‬ ‫للجمالي أو الفني دعم موقف ُ‬ ‫دعاواهم ب���أن األدب كان منطقة حرة‪.‬‬ ‫مث���ل «فلوبي���ر ‪ ،»Flaubert‬الذي كان‬ ‫– بحس���ب «ناتالي ساروت ‪Nathalie‬‬ ‫‪111‬‬


‫‪ – »Sarraute‬يتص���ور كتاب��� ًا منب���ت‬ ‫الصلة بالعالم الخارجي‪ ،‬مكتف بنفسه‬ ‫بفضل قوة التماسك الداخلي ألسلوبه‪،‬‬ ‫مثلما تمسك األرض بنفسها في الفراغ‪،‬‬ ‫مث���ل «فلوبي���ر»‪ ،‬كان ما يع���رف بجيل‬ ‫االزده���ار في الس���تينيات ي���رى األدب‬ ‫ال يمك���ن أن يكون مثا ًال‬ ‫نموذج ًا مس���تق ً‬ ‫للسياسة‪ .‬كان «فوينتس»‪ ،‬على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬يعتق���د أن التجديد الخالق الذي‬ ‫يم���ارس ف���ي األدب بالفع���ل‪ ،‬يمكن أن‬ ‫يتحقق سياسي ًا كذلك في المكسيك‪« ،‬إن‬ ‫بلدًا مثل بلدنا‪ ،‬باس���تمراريته ووجوده‬ ‫التاريخ���ي يمكن���ه أن يقي���م يوطوبيا‬ ‫ثورية غنية‪ ،‬بدءًا م���ن تلك اإلنجازات‬ ‫الثقافية‪ ،‬م���ن جهد االختي���ار هذا الذي‬ ‫يفص���ل بالفع���ل ذلك الواق���ع التحرري‬ ‫المعيش عن األثقال الميتة الظالمة»‪.‬‬ ‫ولكن الموقف المستقل‪ ،‬الذي يدعيه‬ ‫الك َّت���اب ع���ادة‪ ،‬ووضعه���م كأنبي���اء‬ ‫ُ‬ ‫علمانيي���ن‪ ،‬هذا الموق���ف وهذا الوضع‬ ‫كانا عرض���ة اآلن لهج���وم عاصف من‬ ‫كال الجانبين‪ .‬من ناحية‪ ،‬كان وضعهم‬ ‫باعتبارهم مرسين لتقاليد جديدة يواجه‬ ‫تحديات من قبل العصابات‪ ،‬ومن ناحية‬ ‫أخ���رى كانت همومه���م الوطنية تواجه‬ ‫ضغوط السوق العالمية‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫ذل���ك كان بعضهم‪ ،‬لفت���رة قصيرة في‬ ‫الستينيات‪ ،‬يعتقد أن الثقافة والسياسة‬ ‫قد تالقتا – في سعادة – في كوبا‪.‬‬ ‫كانت الث���ورة الكوبية ف���ي ‪،1959‬‬ ‫الت���ي وصفت كوبا بأنه���ا أول «منطقة‬ ‫مح���ررة» م���ن األميركيتي���ن‪ ،‬تحدي��� ًا‬ ‫خط���رًا للهيمنة األميركي���ة‪ .‬كانت‪ ،‬قبل‬ ‫كل ش���يء‪ ،‬تحررا وطني ًا طرح نفس���ه‬ ‫نموذج ًا ل���دول أميركا الالتينية والعالم‬ ‫الثالث األخرى‪ ،‬فعل���ى الجبهة الثقافية‬ ‫اجتذبت ع���ددًا كبيرًا من المتعاطفين من‬ ‫الك َّتاب والمثقفين‪ ،‬ساعد على ذلك‬ ‫بين ُ‬ ‫جوائزها األدبية ومجلتها ‪Casa de las‬‬ ‫‪ Americas‬وتحديها لجارتها الش���مالية‬ ‫وحملته���ا الناجحة لمحو األمية وتبنيها‬ ‫لقضاي���ا العال���م الثال���ث‪ .‬لمعادلة هذا‬ ‫التأثير الكبي���ر‪ ،‬كان أن بدأت الواليات‬ ‫المتح���دة عملي���ة تمويل س���رية لمجلة‬ ‫«العالم الجدي���د ‪ »Mundo Nuevo‬التي‬ ‫‪112‬‬

‫جيفارا‬

‫الك َّتاب‪،‬‬ ‫كان���ت موجهة إل���ى جيل م���ن ُ‬ ‫جي���ل االزدهار األدبي ال���ذي كان قد بدأ‬ ‫يلفت االهتمام العالم���ي‪ .‬كانت «موندو‬ ‫نيف���و» الص���ادرة في باريس برئاس���ة‬ ‫تحرير «إمير روديج���ز مونيغال ‪Emir‬‬ ‫‪( »Rodríguez Monegal‬أكاديم���ي‬ ‫م���ن أوروغ���واي) ترك���ز اهتمامها على‬ ‫األدب المعاص���ر وتحاول بحذر ش���ديد‬ ‫أن تك���ون بعيدة عن الدعم المكش���وف‬ ‫لسياس���ات الواليات المتحدة‪ .‬الحقيقة‬ ‫أنه لوال الكش���ف عن تمويل المخابرات‬ ‫المركزية لها وفضح عدم مصداقيتها مما‬ ‫أدى إلى إغالقها‪ ،‬لوال ذلك لكان دفاعها‬ ‫ع���ن حرية الفن���ان واس���تقاللية األدب‬ ‫والفن بطاقة رابح���ة‪ ،‬وبخاصة عندما‬ ‫بدأت كوبا تطلب انحيازًا غير مش���روط‬ ‫لقضيتها‪.‬‬ ‫كان���ت الث���ورة الكوبية ه���ي العامل‬ ‫المس���اعد في حروب الستينيات وأوائل‬ ‫الس���بعينيات الثقافي���ة‪ ،‬التي حرضت‬ ‫النقاد عل���ى المدافعين والملتزمين على‬ ‫غير الملتزمين‪ ،‬وعل���ى خالف االتحاد‬ ‫السوفياتي الذي كان ينمي خلطة كئيبة‬ ‫م���ن الواقعية بين مؤيديه‪ ،‬ظهرت كوبا‬ ‫في البداية أقل جم���ودًا وأكثر إبداع ًا في‬ ‫ممارس���اتها الثقافي���ة‪ ،‬وأكث���ر حرص ًا‬ ‫على الخروج من نخبوية المثقفين‪ .‬في‬

‫السنوات األولى‪ ،‬كانت كوبا تبدو قادرة‬ ‫عل���ى الجمع بي���ن الطليعة السياس���ية‬ ‫والطليع���ة األدبية‪ ،‬رغم أنه س���رعان‬ ‫ما ظهر نقيض المثق���ف الملتزم‪ ،‬وذلك‬ ‫عندما أصبح االلتزام يعني المش���اركة‬ ‫في الحروب الثورية‪.‬‬ ‫إن تمثي���ل مرحل���ة الح���رب الباردة‬ ‫باعتباره���ا مج���رد فت���رة تباع���د بي���ن‬ ‫الواليات المتحدة واالتحاد السوفياتي‪،‬‬ ‫يعني إغفال ح���روب التحرر الوطني‪،‬‬ ‫تلك التي لعبت فيها كوبا دورًا نش���طاً‪،‬‬ ‫بإرس���ال قوات إل���ى الكونغ���و ولواندا‬ ‫وأنغوال‪ .‬مثل هذه األنشطة يؤكد حقيقة‬ ‫مهمة وهي أن تل���ك كانت مرحلة تحرر‬ ‫وث���ورة من وجهة نظ���ر العالم الثالث‪،‬‬ ‫وكما يشير «جورج كاستانيدا ‪George‬‬ ‫‪ »Castaneda‬فإن «تشي جيفـارا ‪Che‬‬ ‫‪ »Guevara‬كان يجس���د روح العص���ر‬ ‫«‪ »Zeitgeist‬هذه‪ ،‬بثقته في أن تغيرات‬ ‫سريعة كانت على وشك أن تحدث‪ ،‬وأن‬ ‫الفعل الثوري س���وف يس���رع بتغيرات‬ ‫جوهري���ة»‪ .‬حكم «كاس���تانيدا» ش���ديد‬ ‫القسوة‪ ،‬حيث يزعم أن كتاب «جيفارا»‪،‬‬ ‫عن مثل هذا الفع���ل‪ ،‬الصادر في ‪1961‬‬ ‫بعنوان «حرب العصابات ‪Guerrilla‬‬ ‫‪« ،»Warfare‬س���اعد في تعبئة شباب‬ ‫أميركا الالتينية باسم القضايا العادلة»‪،‬‬


‫إال أنه «البد من أن يعتبر مسؤو ًال كذلك‬ ‫عن الدم الذي سفك هدرًا واألنفس التي‬ ‫زهقت واألجيال التي أبيدت»‪ .‬وس���واء‬ ‫كان باإلمكان اعتبار «جيفارا» مس���ؤو ًال‬ ‫أو ال‪ ،‬ف�ل�ا ش���ك أن م���ن الصحيح أنه‬ ‫لم يكن متس���امح ًا مع أولئ���ك المثقفين‬ ‫الذي���ن كانوا يقفون موقف المتفرج‪ ،‬في‬ ‫وقت كانت تبدو فيه الثورة وشيكة في‬ ‫إفريقيا وأمي���ركا الالتينية‪ .‬الحقيقة أن‬ ‫العديد من الش���عراء والكتاب ماتوا في‬ ‫النض���ال‪ ،‬كان م���ن بينهم ش���اعر بيرو‬ ‫«خابيي���ر هي���رود ‪»Javier Heraud‬‬ ‫والش���اعر األرجنتين���ي «فرانشيس���كو‬ ‫أورون���دو ‪،»Francisco Urondo‬‬ ‫والكات���ب والصحافي «رودولفو وولش‬ ‫‪ ،»Rodolfo Walsh‬أما الحدث األكثر‬ ‫مأس���اوية فه���و مقت���ل «روك دالت���ون‬ ‫‪ »Roque Dalton‬عل���ى يد أعضاء من‬ ‫مجموعة ح���رب العصابات التي ينتمي‬ ‫إليها‪.‬‬ ‫هذا اإلصرار من جانب «تشي جيفارا»‬ ‫وغي���ره من الق���ادة الثوريي���ن على أن‬ ‫الوقت كان ق���د حان لاللتحاق بالثورة‪،‬‬ ‫كورتاثار‬

‫قسم الكتاب بين الشهداء وأولئك الذين‬ ‫كان���وا يقفون موقف المتفرجين‪ ،‬ولكنه‬ ‫كذل���ك قلل م���ن أهمية «مدين���ة األدب»‬ ‫نفس���ها‪ :‬أي المكان���ة القديم���ة للمثقف‬ ‫اإلنس���اني‪ .‬في الوقت نفسه لحق ضرر‬ ‫كبير بمكانة كوب���ا كقائد ثقافي بهروب‬ ‫مثقفين منش���قين مثل «جيرمو كابريرا‬ ‫إنفانت���ي ‪Guillermo Cabrera‬‬ ‫‪ ،»Infante‬وبس���بب التقاري���ر الت���ي‬ ‫كانت تترى عن اضطهاد الشواذ جنسي ًا‬ ‫ومعارضي النظام‪ .‬ولكن االس���تهجان‬ ‫العام للش���اعر «إيبرتو باديا ‪Heberto‬‬ ‫‪ »Padilla‬لكتابته ش���عرًا «ضد الثورة»‬ ‫ف���ي ‪ ،1969‬وس���جنه لفت���رة قصيرة‬ ‫واعترافه بالذنب ف���ي ‪ ،1971‬كان ذلك‬ ‫هو الذي كسر ما كان يبدو جبهة متحدة‬ ‫للكتاب‪ .‬على الفور‪ ،‬استقال «بارجاس‬ ‫يوسا» من مجلس تحرير مجلة «‪Casa‬‬ ‫‪ »de las Americas‬وأصبح معارض ًا‬ ‫ش���ديداً‪ ،‬وم���ع مجموعة م���ن المثقفين‬ ‫األوروبيين ومثقف���ي أميركا الالتينية‪،‬‬ ‫وقع رس���الة احتجاج ش���ديدة اللهجة‪،‬‬ ‫شبهت ما حدث باألساليب الستالينية‪،‬‬

‫معبرة عن الرغب���ة في أن تعود الثورة‬ ‫الكوبي���ة إلى تلك اللحظ���ة عندما كانت‬ ‫تعتب���ر «نموذج��� ًا لالش���تراكية»‪ .‬كان‬ ‫«ماركي���ث» و«كورتاثار» من بين من لم‬ ‫يوقعوا الرسالة‪.‬‬ ‫ما يتم إغفاله عادة‪ ،‬هو أن الواليات‬ ‫المتح���دة – كذلك‪ ،‬كانت تعاقب منتقدي‬ ‫سياس���اتها ومعارضيها بقسوة بالغة‪.‬‬ ‫مصير «آنخ���ل راما»‪ ،‬مثقف أوروغواي‬ ‫ال���ذي س���ك مصطل���ح «مدين���ة األدب»‬ ‫ليص���ف العالق���ة التاريخي���ة للمثق���ف‬ ‫بالس���لطة‪ ،‬مث���ال عل���ى السياس���ات‬ ‫الثقافي���ة المس���تقطبة في الس���تينيات‬ ‫والسبعينيات‪ ،‬التي لم تكن تسمح بأي‬ ‫فض���اء ألي موقف مختل���ف ولو بدرجة‬ ‫مح���دودة‪ .‬مث���ل كثير م���ن معاصريه‪،‬‬ ‫كان «رام���ا» يرى ثقافة أميركا الالتينية‬ ‫(باإلضافة إلى اقتصادها وسياس���تها)‬ ‫عملية متصلة‪ ،‬ل�ل�أدب فيها دور كبير‪،‬‬ ‫كم���ا كان يج���ادل ب���أن المثقفي���ن‪ ،‬منذ‬ ‫الغ���زو‪ ،‬كانوا يتمتع���ون بوضع مميز‬ ‫نقله���م م���ن السياس���ة الواقعي���ة إل���ى‬ ‫مش���روعات مثالي���ة كان���وا يحاول���ون‬ ‫تنفيذها‪ .‬وكما أش���ار ف���إن التصميمات‬ ‫الشبكية لمدن العالم الجديد كانت تصور‬ ‫هذه المحاولة إلضفاء شكل مادي على‬ ‫تصميم مجرد‪ .‬انقسام ثقافي عميق‪ ،‬كما‬ ‫كان «راما» يعتقد‪ ،‬جاء ليفصل المثقفين‬ ‫عن س���واهم‪ ،‬اللغة المثقف���ة عن اللغة‬ ‫الشعبية‪ ،‬المرتفع عن المنخفض‪ ،‬وهو‬ ‫انقسام وفصل س���يبقى حتى في القرن‬ ‫العشرين‪ ،‬إال إنه‪ ،‬بالرغم من ذلك كله‪،‬‬ ‫كان يجادل ب���أن التحديث فتح الطريق‬ ‫أمام ثقاف���ة ديموقراطي���ة متحررة من‬ ‫االعتماد على المدنية الكبيرة‪ .‬المس���رح‬ ‫والصحاف���ة واألدب الش���عبي وف���رت‬ ‫أس���اليب لتحصي���ل المعرف���ة ل���م تكن‬ ‫بالض���رورة تمر عبر مؤسس���ات النخب‬ ‫في الجامعة‪.‬‬ ‫كمح���رر أدب���ي لمجل���ة «مارش���ا‬ ‫‪ »Marcha‬ذات النزع���ة اليس���ارية‪،‬‬ ‫كان «رام���ا» يكتب مراجع���ات نقدية عن‬ ‫الك َّتاب المعاصرين‪ ،‬كما كان يكتب عن‬ ‫ُ‬ ‫السياس���ة الثقافية الكوبي���ة‪ ،‬وأحيان ًا‬ ‫موضوعات سياسية صرفة‪ ،‬كما علق‬ ‫‪113‬‬


‫على تمويل المخابرات المركزية لمجلة‬ ‫«موندو نيفو ‪ ،»Mundo Nuevo‬ودخل‬ ‫في جدل عنيف مع محررها – ومواطنه‬ ‫– «إمي���ر رودريج���ز مونيج���ال ‪Emir‬‬ ‫‪ .»Rodriguez Monegal‬انتقد بش���دة‬ ‫سياس���ة كوبا في تعامله���ا مع كتابها‪،‬‬ ‫وبالرغ���م م���ن ذل���ك هاجم���ه بضراوة‬ ‫الكاتب الكوبي المنفي «رينالدو أريناس‬ ‫‪ ،»Reinaldo Arenas‬باعتباره مؤيدًا‬ ‫لكاس���ترو‪ .‬عندم���ا أوقف���ت الحكوم���ة‬ ‫العس���كرية مجلة «مارش���ا» في ‪1973‬‬ ‫ع���اش منفياً‪ ،‬في البداي���ة في كاراكاس‬ ‫ثم في الوالي���ات المتحدة حيث ش���غل‬ ‫وظيف���ة في جامعة ماريالند‪ ،‬وهنا كان‬ ‫علي���ه أن يتعلم كي���ف يعيش «في بطن‬ ‫الوح���ش»‪ ،‬على حد تعبيـره‪ ،‬وبموجب‬ ‫ما سوف تصفـه مجلة «‪»The Nation‬‬ ‫بالمادة الس���قيمة في قان���ون ماكارون‬ ‫«‪ ،»McCarron Act‬س���وف تص���در‬ ‫إدارة الهج���رة والتطبيع أمرًا بترحيله‪.‬‬ ‫س���بب ذلك ليس معروفاً‪ ،‬وإن كان من‬ ‫المحتمل أن تك���ون حكومة أوروغواي‬ ‫العس���كرية كانت تح���اول أن تظهر من‬ ‫خالل سفارتها دورها القوي في الحرب‬ ‫على الش���يوعية بالمساعدة في الكشف‬ ‫ع���ن المتعاطفين معه���ا‪ ،‬وذلك بالرغم‬ ‫من أن «رام���ا» كان دائم ًا صاحب موقف‬ ‫مس���تقل‪ .‬عبثية تلك االتهامات فضحها‬

‫«راما» نفسه في مقدمة «مدينة الخوف»‪.‬‬ ‫من بي���ن االتهامات التي وجهت إليه أنه‬ ‫كان المح���رر األدبي لمجلة «مارش���ا»‪،‬‬ ‫التي وصفت خط���أ بأنها كانت من بين‬ ‫مطبوعات الحزب الشيوعي‪ ،‬وأنه كان‬ ‫م���ن بين المش���اركين في تأس���يس دار‬ ‫نش���ر ‪ Biblioteca Ayacucho‬الت���ي‬ ‫الك َّتاب‬ ‫قيل إنها كانت تنشر دائم ًا أعمال ُ‬ ‫الش���يوعيين‪ ،‬والحقيق���ة أن تلك الدار‬ ‫التي أطلقها «راما» عندما كان يعيش في‬ ‫كاراكاس نش���رت طبعات من إسهامات‬ ‫مهم���ة في ثقافة أميركا الالتينية بما في‬ ‫ذلك ش���عر مرحلة ما قب���ل كولومبوس‬ ‫وكتابات من مرحلة االس���تعمار والقرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬ومن بين كثير من الكتاب‬ ‫المحدثي���ن ف���ي المجموع���ة كان هناك‬ ‫شاعران بارزان هما «نيرودا ‪»Neruda‬‬ ‫و«س���يزار بايخيو ‪،»Cesar Vallego‬‬ ‫وكالهم���ا كان عض���وا ف���ي الح���زب‬ ‫الش���يوعي‪ ،‬إال أنه كان من المس���تحيل‬ ‫أن يتم تجاهلهم���ا‪ .‬قضية «راما» تبناها‬ ‫ف���رع ن���ادي القل���م الدول���ي األميركي‪،‬‬ ‫ورابط���ة الكتاب في أمي���ركا‪ ،‬وجمعية‬ ‫دراس���ات أميركا الالتيني���ة‪ ،‬ومحررو‬ ‫جمعية األدب المق���ارن الدولية والكثير‬ ‫من منظمات حقوق اإلنسان ولكن دون‬ ‫جدوى‪ .‬م���ا يدعو للس���خرية في األمر‪،‬‬ ‫ه���و أن «راما» كان يعمل‪ ،‬قبل ترحيله‪،‬‬ ‫فوينتس‬

‫‪114‬‬

‫في مكتب���ة الكونغرس عل���ى مقال عن‬ ‫تقص���ي العالقة بين المثقف والس���لطة‬ ‫ويجادل من أجل جع���ل المهام الثقافية‬ ‫ديموقراطية‪ .‬كتابه «مدينة األدب» نشر‬ ‫بعد مصرعه في حادث س���قوط طائرة‬ ‫في ‪.1983‬‬ ‫‪...‬‬ ‫‪...‬‬ ‫عندم���ا أثبت���ت الش���يوعية الكوبية‬ ‫فشلها‪ ،‬علق كثيرون آمالهم في التحرر‬ ‫على «طريق تش���يلي لالشتراكية» الذي‬ ‫رسمه «س���لفادور الليندي ‪Salvador‬‬ ‫‪ ،»Allende‬وبعد إسقاطه في ‪،1973‬‬ ‫علق���وا آمالهم على ثورة الساندينس���تا‬ ‫‪ Sandinista‬ف���ي نيكاراغ���وا‪ .‬ما الذي‬ ‫كان تش���ي جيف���ارا يتمن���ى أن يحققه‬ ‫ف���ي بوليفي���ا أو كولومبيا ع���ن طريق‬ ‫حرب العصابات ف���ي ماركيتاريا‪ ،‬أكثر‬ ‫من منطقة مح���ررة؟ بلديات وقراقوالت‬ ‫‪ Caracoles‬الزاباتس���تا المستقلة هي‬ ‫تجليات أحدث لتصور مماثل لم يختف‬ ‫تمام��� ًا بالرغم من هزيمة معظم حركات‬ ‫ح���رب العصاب���ات‪ .‬إال أن���ه كان هناك‬ ‫جانب فاسد في المنطقة المحررة‪ .‬أثناء‬ ‫محاولة «سنديرو لومينوسو ‪Sendero‬‬ ‫‪ »Luminoso‬للس���يطرة عل���ى جن���وب‬ ‫بيرو‪ ،‬قتل س���بعون ألف شخص‪ ،‬وفي‬ ‫كولومبي���ا تحول���ت أرض العصاب���ات‬ ‫المحررة إلنتاج الكوكا‪.‬‬ ‫وراء معظم هذه المش���روعات كانت‬ ‫هن���اك فك���رة مفاده���ا أن دول أمي���ركا‬ ‫الالتيني���ة يجب أن تش���ق طريقها نحو‬ ‫الحداث���ة‪ ،‬إال أن���ه حت���ى عندما صادق‬ ‫الروائي���ون عل���ى ه���ذا الطم���وح على‬ ‫نحو واض���ح‪ ،‬كانت المح���اكاة األدبية‬ ‫ف���ي رواياتهم مس���تخدمة الستكش���اف‬ ‫عملي���ات التحرر وفش���لها السياس���ي‪،‬‬ ‫وأنا أتحدث هنا عن روايات الستينيات‬ ‫التي دش���نت أدب أمي���ركا الالتينية في‬ ‫الثقافة الكونية‪ ،‬وطابقت بين الواقعية‬ ‫الس���حرية والغراب���ة وأصالة المنطقة‪.‬‬ ‫وهم يفي���دون من الماض���ي‪ ،‬يذكروننا‬ ‫بالتاريخ الطويل للمناطق المحررة من‬ ‫أميركا الالتينية منذ الغزو وبعده‪ .‬األدب‬ ‫والسياسة يلتقيان في فانتازيا مجتمع‬ ‫عادل مؤس���س ف���ي فضاء ت���م تنظيفه‬


‫بورخس‬

‫م���ن كل اإلخفاقات الس���ابقة‪ .‬الفاتحون‬ ‫اإلس���بان كان���ت تداعب خياله���م أحالم‬ ‫كتلك‪ ،‬ففي القرن الس���ادس عش���ر قام‬ ‫«لوب أجيري ‪ »Lope Aguirre‬بمحاولة‬ ‫فاش���لة إلقامة مجتمع حر مس���تقل عن‬ ‫اإلمبراطورية اإلسبانية‪ ،‬و«بارتولومي‬ ‫دي الس كاساس ‪Bartolome de las‬‬ ‫‪ »Casas‬أنش���أ المجتمع المس���يحي في‬ ‫فيرا باز‪ ،‬والمبش���رون الجيزويت الذين‬ ‫اجتنبوا خطيئة الترف األوروبي‪ ،‬أقاموا‬ ‫أبرش���يات محلية ف���ي المنطقة التابعة‬ ‫اآلن لباراغواي والبرازيل واألرجنتين‪،‬‬ ‫حيث كان الس���كان األصليون يعيشون‬ ‫حي���اة جماعية ف���ي العم���ل والصالة‪.‬‬ ‫في القرن التاس���ع عش���ر وأوائل القرن‬ ‫العش���رين اجتذب���ت الق���ارة جماع���ات‬ ‫تولس���تووية وفوضوية‪ .‬كان المجتمع‬ ‫البديل تصورًا نقيض ًا ونقي ًا لبؤس الدولة‬ ‫الواقعية – الرأس���مالية التي تس���يرها‬ ‫السوق والش���يوعية البيروقراطية على‬ ‫الس���واء – وكان ع���ادة ما يت���م تخيله‬ ‫عودة إلى العالقات ما قبل الرأسمالية‪.‬‬ ‫كان لذل���ك أيض��� ًا س���وابق تاريخي���ة‬

‫في مع���اداة الرأس���مالية الكاثوليكية‪.‬‬ ‫«الحوافز الالمادي���ة»‪ ،‬التي كان جيفارا‬ ‫يدافع عنه���ا عندما كان وزيرًا لالقتصاد‬ ‫ف���ي كوب���ا‪ ،‬باإلضاف���ة إل���ى الموق���ف‬ ‫المعادي للمادية عند الطليعة العسكرية‬ ‫وبخاص���ة توبام���اروس ‪Tupamarus‬‬ ‫أوروغواي‪ ،‬كل ذلك كان بمثابة تذكرة‬ ‫باإلدان���ات القديمة للرب���ا‪ .‬على أن عدم‬ ‫الثقة في النقود ل���م يكن مقصورًا على‬ ‫الطليعة في أمي���ركا الالتينية‪ :‬فنانون‬ ‫م���ن أصح���اب المفاهيم ألق���وا بالنقود‬ ‫في الس���ين وبالدوالرات في البورصة‪.‬‬ ‫كان مارك���س قد كتب يق���ول إن «النقود‬ ‫هي الق���درة االغترابية للبش���رية»‪ ،‬كما‬ ‫ربط ع���دم الثقة في اقتص���اد المال بين‬ ‫السياس���ة والفن‪ ،‬وظهر في النصوص‬ ‫واألحداث األدبية بين الهيبيز والحركات‬ ‫السياس���ية‪ ،‬وهو يعاود الظهور حتى‬ ‫اليوم من وقت آلخ���ر‪ ،‬بالرغم من أن ال‬ ‫التقشف المثالي للعصابات وال البساطة‬ ‫المثالية للمزارعي���ن يمكن اإلبقاء عليها‬ ‫بس���هولة في منطقة العولمة السريعة‪،‬‬ ‫وهو درس كان البد من مواصلة تعلمه‬

‫في الس���تينيات وأوائل الس���بعينيات‪.‬‬ ‫كم���ا يش���ير «فيلكس جوات���اري ‪Felix‬‬ ‫الك َّتاب استكشفوا هذه‬ ‫‪ »Guattari‬فإن ُ‬ ‫المجتمع���ات البديلة وهم على وعي تام‬ ‫بفش���لهم التاريخي‪ .‬ف���ي كتابه «حرب‬ ‫نهاية العالم»‪ ،‬يكتب «بارجاس يوسا»‬ ‫عن محاولة القرن التاسع عشر بواسطة‬ ‫أتباع «أنطونيو كونس���يليرو ‪Antonio‬‬ ‫‪ »Conselheiro‬إلقامة مجتمع ديني في‬ ‫ال عن الدولة‬ ‫شمال شرق البرازيل مستق ً‬ ‫الجمهورية‪ .‬ردًا على ذلك‪ ،‬قامت الدولة‬ ‫العلمانية بإرس���ال جي���ش ليبيد أولئك‬ ‫المتمردي���ن عن آخرهم‪ ،‬وفي عمله «أنا‬ ‫األسمى» يصف «أوجستو روا باستوس‬ ‫‪ »Augusto Roa Bastos‬باراغواي بعد‬ ‫اإلستقالل عندما عزلت نفسها تحت حكم‬ ‫الدكتور «فرانسيا ‪ »Francia‬عن التجارة‬ ‫والعالق���ة بالدول األخ���رى في محاولة‬ ‫ألن تكون بمنأى ع���ن النفوذ األجنبي‪.‬‬ ‫الرواية تتناول بالتفصيل كفاح الدكتور‬ ‫«فرانسيا» المستحيل لكي «يملي» مكانه‬ ‫الخاص على التاريخ بينما يحمي شعب‬ ‫باراغواي م���ن التلوث بأوروبا‪ ،‬ولكنه‬ ‫يهزم في النهاية‪ ،‬ليس بواسطة جيش‬ ‫غ���از‪ ،‬وإنما بفنائه الخاص‪ .‬في رواية‬ ‫«ماركي���ث»‪« :‬خريف البطري���رك» نجد‬ ‫الحاكم المس���تبد‪ ،‬الذي يس���تحضر إلى‬ ‫الذه���ن «تريخي���و ‪ »Trujillo‬رئي���س‬ ‫جمهوري���ة الدوميني���كان‪ ،‬و«بيثنت���ي‬ ‫جومي���ز ‪ »Vicente Gomez‬الرئي���س‬ ‫الفنزويل���ي‪ ،‬نج���ده في النهاي���ة مجبرًا‬ ‫على بيع محيط بالده للقوى األجنبية‪.‬‬ ‫مشروع االستقالل الوطني أو اإلقليمي‬ ‫ال���ذي تقدمه هذه الرواي���ات يجمع بين‬ ‫الخصوصية والغراب���ة‪ .‬غرابة الدكتور‬ ‫«فرانس���يا» أو بطري���رك «ماركي���ث»‬ ‫تمث���ل نوع ًا م���ن األصال���ة‪ ،‬ولكنهما ال‬ ‫يستطيعان إيقاف زحف القوى الكونية‬ ‫للتحديث الرأس���مالي‪ .‬يب���دو أن ما كان‬ ‫يش���غل المؤلفين‪ ،‬هو مش���كلة أخالقية‬ ‫طرحتها «خيليان روز ‪»Gillian Rose‬‬ ‫في كتابها «الحداد يليق بالقانون»‪ ،‬الذي‬ ‫تكش���ف فيه عيوب تطرف���ات الجماعية‬ ‫والليبرالية‪ .‬فبينما الجماعية‪ ،‬كما ترى‬ ‫روز‪ ،‬ال تكترث بالحريات الفردية (ومن‬ ‫‪115‬‬


‫هنا خطر الشمولية التي يفضحها روائيو‬ ‫فترة االزدهار)‪ ،‬فإن الليبرالية تستدعي‬ ‫«إعمال وظيفة الشرطة الحتواء نتائج‬ ‫الالمساواة»‪ ،‬وهي النتيجة التي كان أن‬ ‫ظه���رت على نحو واضح عندما وصلت‬ ‫األنظم���ة العس���كرية إلى الس���لطة في‬ ‫الس���بعينيات‪ .‬في صيغة مختلفة نوع ًا‬ ‫ما م���ن المنطقة المح���ررة‪ ،‬نجد رواية‬ ‫«ماركي���ث»‪« :‬مائة عام من العزلة» التي‬ ‫ال كامالً‪ ،‬تصور‬ ‫سحرت‪ ،‬ومازالت‪ ،‬جي ً‬ ‫لنا «ماكوندو» كمنطقة تصبو ألن تكون‬ ‫خ���ارج التاريخ ولكنه���ا تصبح ضحية‬ ‫للتاريخ‪ .‬عزلتها تدمرها وكذلك السفاح‬ ‫القرب���ى الذي تأسس���ت عليه‪ ،‬ويصبح‬ ‫محكوم ًا عليها بالع���ودة إلى الطبيعة‪.‬‬ ‫مث���ل رواي���ات أخ���رى مؤسس���ة على‬ ‫سوابق تاريخية فإن «أصالة» ماكوندو‬ ‫ال يمك���ن فصلها عن عزلة كانت العولمة‬ ‫تتهددها بالفعل‪.‬‬ ‫التمثي�ل�ات الروائي���ة ع���ن المناطق‬ ‫المحررة ال تترجم اإلخفاقات التاريخية‬ ‫فحس���ب وإنم���ا تنعك���س كذل���ك عل���ى‬ ‫األدب نفس���ه‪ .‬كان المش���روع العلماني‬ ‫لإلنتلجنتس���يا هو خلق جمه���ور مفكر‬ ‫قادر على القراءة والفهم على مس���توى‬ ‫رفي���ع‪ ،‬وهو مش���روع أحبط���ه مجتمع‬ ‫المعلومات الذي كان من نبت التحديث‪،‬‬ ‫كما أحبطته أيض ًا إزاحة اإلنتلجنتس���يا‬ ‫األدبية بواسطة خبراء لم يكن أسلوبهم‬ ‫العقالني ليس���مح بالخي���ال أو يعترف‬ ‫ب���ه‪ ،‬وهذا هو س���بب لج���وء أو اعتماد‬ ‫كثي���ر م���ن الروائيي���ن عل���ى الموروث‬ ‫وعلى الس���حر وعل���ى بقاي���ا الماضي‬ ‫الذي كان من المفترض أن تتخلص منه‬ ‫اإلنتلجنتسيا‪ .‬حتى «بارجاس يوسا»‪،‬‬ ‫وهو عقالني‪ ،‬ينهي روايته «حرب نهاية‬ ‫العالم» بكلمات عجوز تعلن بعد سحق‬ ‫المتمردين أنها رأت زعيم متمردين ميت ًا‬ ‫يلحق بالمالئكة في الجنة‪ ،‬وبينما كان‬ ‫األدب يس���عى إلى إزاحة الدين وتحدي‬ ‫اهلل‪ ،‬تبدو رواية «يوسا» وكأنها توحي‬ ‫بع���دم إزاح���ة األس���طورة أو تهمي���ش‬ ‫المقدس تماماً‪.‬‬ ‫بينم���ا أدب أمي���ركا الالتينية مرتبط‬ ‫بالمش���روع العلمان���ي للحداث���ة‪ ،‬فإنه‬ ‫‪116‬‬

‫كثيرًا ما يس���تعيد أو يستحضر أطياف‬ ‫الماضي المربكة للعقالنية والمش���وهة‬ ‫لها‪ .‬إلى جانب األس���طورة‪ ،‬كان الدين‬ ‫عنصرًا مهم ًا آخر‪ ،‬س���يدخل كذلك عالم‬ ‫السياسة والثقافة في أواخر الستينيات‪.‬‬ ‫الهوت التحرير‪ ،‬وااللتزام نحو الفقراء‬ ‫الذي أبداه األس���اقفة في مؤتمر ميدلين‬ ‫في ‪ ،1968‬خرب التقليد العلماني الذي‬ ‫كانت اإلنتلجنتس���يا تتبن���اه‪ ،‬واجتذب‬ ‫نوع ًا مختلف ًا من المفكرين أو المثقفين‪:‬‬ ‫القساوس���ة الذي���ن نظم���وا مجتمعات‬ ‫قاعدية لمناقش���ة السياسة وليس الدين‬ ‫فحسب‪ ،‬وشجعوا محو األمية‪ ،‬وكانوا‬ ‫يؤمنون بأن الفقراء س���يرثون األرض‪.‬‬ ‫في من���اخ الس���تينيات والس���بعينيات‬ ‫الث���وري لم يك���ن مس���تغرب ًا أن ينجذب‬ ‫أولئك القساوسة إلى القضية الثورية‪.‬‬ ‫«كاميللو توري���س ‪»Camillo Torres‬‬ ‫الكولومب���ي (وكان الش���اعر إرنس���تو‬ ‫كاردينال من أش���د المعجبين به)‪ ،‬أخذ‬ ‫وقِت َل وهو يحارب‬ ‫الخطوة القص���وى‪ُ ،‬‬ ‫في صفوف جيش العصابات‪ .‬كثير من‬ ‫قساوس���ة الجيزويت كانوا نشطاء في‬ ‫قضية الساندينيستا في نيكاراغوا‪ ،‬وبعد‬ ‫إطاح���ة الرئيس «س���وموزا ‪»Somoza‬‬ ‫أصبحوا أعضاء في الحكومة‪« .‬إرنستو‬ ‫كاردينال ‪ »Ernesto Cardenal‬خدم‬ ‫لفترة وزيرًا للتربية‪ ،‬وهو الذي أسس‬ ‫ورش الش���عر الت���ي كان يش���ارك فيها‬ ‫فالحون وجنود وربات بيوت‪.‬‬ ‫أثناء فترة إعداده ليكون قسيس ًا في‬ ‫كولومبي���ا‪ ،‬زار «كاردين���ال» ع���ددًا من‬ ‫المجتمعات المحلي���ة التي كانت نظمها‬ ‫العقائدي���ة تتعارض مع الرأس���مالية‪.‬‬ ‫مجموعت���ه الش���عرية الص���ادرة ف���ي‬ ‫‪ 1969‬بعن���وان «في الثن���اء على هنود‬ ‫أميركا» وه���ي كوالج (مزي���ج إبداعي)‬ ‫من استش���هادات من نص���وص محلية‪،‬‬ ‫تمكننا‪ ،‬كما يقول «جوردون برذرستون‬ ‫‪ »Gordon Brotherston‬م���ن «تذوق‬ ‫اإليقاعات والص���ور وأصول الكلمات‪..‬‬ ‫حتى مادة النصوص السابقة والتقاليد‬ ‫األدبي���ة والثقافية الت���ي تنتمي إليها»‪.‬‬ ‫إحدى ه���ذه الرباعيات الت���ي يبدو فيها‬ ‫تأثره الشديد بالشاعر «إزرا باوند ‪Ezra‬‬

‫يوسا‬

‫‪ ،»Pound‬تص���ف الربا بأن���ه «خطيئة‬ ‫ف���ي حق الطبيعة» (بس���بب الربا‪ ،‬الذي‬ ‫ه���و خطيئة في ح���ق الطبيعة‪ ،‬يصبح‬ ‫خبزك أسوأ من الخرقة البالية‪ ،‬خبزك‬ ‫ج���اف مث���ل ال���ورق)‪ .‬كان «كاردينال»‬ ‫منجذب��� ًا إل���ى الجماعات األهلي���ة التي‬ ‫كانت تحافظ على القيم المجتمعية‪ .‬في‬ ‫كولومبيا‪ ،‬زار مجتمع ًا كان يتحاش���ى‬ ‫التجار ألنهم «يصنعون الالمس���اواة»‪:‬‬ ‫«النقود ال تنتش���ر‪ ،‬ال تدور بين الناس‪،‬‬ ‫ولكنه���م لديهم عم�ل�ات كثي���رة‪ :‬عقود‬ ‫وأسنان قردة وتماسيح»‪ .‬في قصائده‪،‬‬ ‫كان يح���ي ذكرى تلك المدن‪ ،‬وهي اآلن‬ ‫خ���راب‪« ،‬الت���ي ل���م تكن بها ق���ادة وال‬ ‫إداريون وال أسر أو عائالت حاكمة وال‬ ‫أحزاب سياسية»‪ .‬كان يحتفي بحضارة‬ ‫اإلن���كا القديمة ف���ي «تاهوآنتنس���ويو‬ ‫‪ »Tahuantinsuyu‬ألن ش���عبها لم يكن‬ ‫لدي���ه «نق���ود»‪« ،‬وألن ناس���ها لم يكن‬ ‫لديهم نق���ود‪ ،‬لم تكن هن���اك دعارة أو‬ ‫س���رقة‪ ،‬كانوا يتركون أبواب منازلهم‬ ‫مفتوحة»‪.‬‬ ‫قرب انتهاء فترة تدريبه كقس���يس‪،‬‬ ‫وعم�ل�ا باقت���راح «توم���اس ميرت���ون‬ ‫ً‬ ‫‪ »Thomas Merton‬أعل���ن «كاردينال»‬ ‫ق���راره بإنش���اء مجتم���ع تأملي مكرس‬ ‫للصـ�ل�اة والتأم���ل الروح���ي‪ ،‬ف���ي‬ ‫«سولنتنامي» على نهر «سان جوان» في‬ ‫نيكاراغـوا‪ .‬أعلن ذلك في رسالة كتبهـا‬ ‫إلى صحيفـة كان���ت تصدر باإلنكليزيـة‬ ‫واإلس���بانية (إل كورن���و إمبليم���ا دو‬


‫– الب���وق المزي���ن بالري���ش) وكان���ت‬ ‫تحررها «مارجريت راندال ‪Margaret‬‬ ‫‪ »Randall‬و«س���يرجيو موندراج���ون‬ ‫‪ ،»Sergio Mondragon‬وتجم���ع‬ ‫بين ش���عراء الواليات المتحدة وأميركا‬ ‫الالتيني���ة‪ .‬بعد أن خطط ل���ه كمجتمع‬ ‫تأملي في نيكاراغوا‪ ،‬التي كانت ماتزال‬ ‫تحت حك���م «إنستاس���يو س���وموزا»‪،‬‬ ‫تحول���ت س���ولنتنامي تدريجي��� ًا إل���ى‬ ‫متحف وم���زار للفرجة‪ ،‬أصبحت مكاناً‪،‬‬ ‫الفن مس���توعب ف���ي الحي���اة اليومية‪،‬‬ ‫والموعظ���ة تعكس مزيج��� ًا خاص ًا من‬ ‫الماركسية (التي نمت بزيارات كاردينال‬ ‫لكوب���ا) والهوت التحري���ر الذي صالح‬ ‫بين الماركسية واإليمان باهلل‪.‬‬ ‫كانت اإلنتلجنتسيا العلمانية لمدينة‬ ‫األدب‪ ،‬ق���د انتقلت في معظمها من الفقر‬ ‫وبؤس الحياة عند أدنى مستوى‪ ،‬بينما‬ ‫كان الكثي���ر م���ن القساوس���ة يتصدون‬ ‫لمش���كالت الفقراء‪ .‬عندم���ا أعلن مؤتمر‬ ‫األس���اقفة في ميدلي���ن (‪ )1968‬التزامه‬ ‫بالفق���راء‪ ،‬أصب���ح أعض���اء الكهن���وت‬ ‫المتعاطفون مع الهوت التحرير نشطاء‬ ‫في إنش���اء مجتمع���ات قاعدية ولقاءات‬ ‫ومؤتمرات س���اعدت في رفع الوعي من‬ ‫خالل مناقشة األناجيل‪ ،‬وشجعت على‬ ‫مح���و األمية‪ ،‬وق���د س���جل «كاردينال»‬ ‫هذه األنش���طة وفصلها ف���ي كتاب له‪،‬‬ ‫وكله���ا كانت تؤك���د التف���وق األخالقي‬ ‫للفق���راء والحاجة إلى الث���ورة من أجل‬ ‫إح���داث تغيي���ر‪ ،‬وف���ي الوقت نفس���ه‬ ‫كانت تحتفي بجم���ال الحياة في البيئة‬ ‫الطبيعي���ة الرعوي���ة المحيط���ة وتعيد‬ ‫تصور المدينة مجتمع ًا يجمعه الحب‪ .‬لم‬ ‫تجتذب س���ولنتنامي الجناح الراديكالي‬ ‫فقط م���ن الكنيس���ة الكاثوليكية‪ ،‬وإنما‬ ‫الك َّت���اب والمفكرين كذلك‪ ،‬نحو مجتمع‬ ‫ُ‬ ‫كان فيه الفالحون يصبحون مصوريين‬ ‫وحرفيي���ن‪ ،‬وكان يب���دو وكأنه يحقق‬ ‫المش���روع القديم لقطاعات من الطليعة‬ ‫كانت تؤمن بأن الجمال���ي هو النموذج‬ ‫للعم���ل ال���ذي ال يعاني م���ن االغتراب‪.‬‬ ‫وفي عام ‪ ،1977‬بعد أن بدأ «كاردينال»‬ ‫وغي���ره من أعضاء المجتمع دعم قضية‬ ‫الساندينس���تا والمش���اركة فيه���ا‪ ،‬قام‬

‫«سوموزا» بقصف المجتمع وإزالته من‬ ‫الوجود‪ ،‬وذلك قبل أن يسقط هو نفسه‬ ‫بفترة قصيرة‪.‬‬ ‫كان الروائ���ي األرجنتين���ي «خوليو‬ ‫كورتاثار» أحد الذين زاروا سولنتنامي‪،‬‬ ‫وكان في تل���ك الفترة مقيم ًا في باريس‬ ‫ويح���اول أن يخف���ف من ابتع���اده عن‬ ‫أمي���ركا الالتيني���ة بالمش���اركة ف���ي‬ ‫سياس���تها ولو من عل���ى البعد‪ .‬قصته‬ ‫«رؤيا سولنتنامي» بمثابة قداس للمثال‬ ‫المجتمعي ولمدينة الحروف التي حمت‬ ‫األدب���ي من تدخ���ل الواقع السياس���ي‪.‬‬ ‫مروية على لسان الشخص األول‪ ،‬تبدأ‬ ‫القصة بوصف لزيارة إلى سولنتنامي‬ ‫بأس���لوب ينطوي على تع���ال مزعج‪.‬‬ ‫الك َّت���اب وغيرهم مذكورون بأس���مائهم‬ ‫ُ‬ ‫األولى دون تكلف‪ ،‬إرنستو (كاردينال)‬ ‫وسيرجيو (راميريز)‪« .‬كورتاثار»‪ ،‬الذي‬ ‫لم تك���ن تنقصه الحنك���ة‪ ،‬والذي جاب‬ ‫العال���م مترجماً‪ ،‬يستكش���ف ش���خصية‬ ‫تعود إلى فطرية س���اذجة عندما تواجه‬ ‫فالحي���ن مصوري���ن في س���ولنتنامي‪.‬‬ ‫هنا كان���ت «مرة أخ���رى الرؤية األولى‬ ‫للعال���م»‪« ،‬النظ���رة النظيفة لش���خص‬ ‫يصف محيط���ه كترتيلة مديح»‪ .‬بالرغم‬ ‫من ذل���ك‪ ،‬تؤكد فطرية ال���راوي رؤيته‬ ‫المستقطبة للعالم منقسمة بين البراءة‬ ‫والشر‪ .‬بعد عودته إلى باريس‪ ،‬وبينما‬ ‫يتأمل ش���رائح الص���ور الت���ي التقطها‬ ‫لرسوم سولنتنامي‪ ،‬يكتشف أنها‪ ،‬فوق‬ ‫كونها مجم���دة في الماض���ي الرعوي‪،‬‬ ‫تسجل عنف الحاضر‪ ،‬وبد ًال من الرسوم‬ ‫البدائي���ة‪ ،‬يظه���ر أمام���ه اآلن كل رعب‬ ‫عمليات الموت واالختفاء القسري التي‬ ‫ه���ي حقائ���ق يومية في الق���ارة‪ :‬قنبلة‬ ‫تنفجر في بيونس أيرس‪ ،‬إعدام الشاعر‬ ‫«روك دالت���ون» بأي���دي أعض���اء م���ن‬ ‫جماعته‪ .‬مستخدم ًا تقس���يم ًا يقوم على‬ ‫الجن���س لكي يصل إل���ى فكرته‪ ،‬يجعل‬ ‫«كورتاثار» الفتاة الفرنس���ية «كلودين»‬ ‫تمثل وجهة النظر الغثة لشخص ال يمكنه‬ ‫أن يرى سوى ما هو واضح‪ ،‬أو بعبارة‬ ‫أخرى ال ي���رى أبعد من الصور الرعوية‬ ‫الس���اكنة‪ ..‬المجمدة في الماضي‪ ،‬بينما‬ ‫يرى الراوي‪ ،‬األميركي الالتيني الرعب‬

‫الق���ادم على نحو معج���ز‪ .‬االقتناع بأن‬ ‫الف���ن واألدب يعجزان عن تناول الرعب‬ ‫بدرج���ة كافي���ة‪ ،‬ه���ذا االقتن���اع عمقته‬ ‫سياس���ة الواليات المتح���دة في أميركا‬ ‫الوس���طى‪ .‬وكما كت���ب «كورتاثار» إلى‬ ‫أحد مراسليه «كل يوم يصبح من األكثر‬ ‫صعوبة بالنس���بة لي أن أقرأ األدب كما‬ ‫اعتدت‪ ،‬تارك ًا نفسي‪ ،‬تجرفني الحماسة‬ ‫مع كل كتاب‪ ،‬كما لو كان هناك شخص‬ ‫م���ا يتحدث إلى من وراء ظهري‪ .‬في كل‬ ‫لحظة يعود إلى الشعور بالخطر‪ ،‬وكل‬ ‫مرة أمض���ي وقت ًا أطول‪ ،‬اس���تمع إلى‬ ‫راديو الموجة القصيرة بحث ًا عن أخبار‪،‬‬ ‫أطول من الوقت الذي أمضيه في القراءة‬ ‫أو االستماع إلى تس���جيالت»‪ .‬في ذلك‬ ‫الوقت كان نشط ًا في منظمات في المنفى‬ ‫وأدلى بش���هادة أمام محكمة «راس���ل»‬ ‫(‪ )Russell Tribunal‬ع���ن التعذي���ب‪.‬‬ ‫وعندما عاود النظ���ر إلى «الحجلة» في‬ ‫‪ ،1975‬وه���ي رواي���ة تجريبية أحدثت‬ ‫ضج���ة كبيرة عند صدوره���ا ألول مرة‬ ‫في ‪ ،1963‬كتب يقول‪« :‬كل شيء يبدو‬ ‫مختلفاً‪ ،‬كل شيء يبدو بعيدًا وعبثياً»‪.‬‬ ‫صفحات من كت���اب «أدب الح���رب الباردة‪:‬‬ ‫كتاب���ة الصـ���راع الكـون���ي»‪Cold war« .‬‬ ‫‪»literature: writng the global conblict‬‬ ‫الصادر ضمن سلس���لة أدب القرن العشرين عن‬ ‫دار نش���ر «‪ »Routledge‬ف���ي ‪ ،2009‬وتص���در‬ ‫ترجمته ع���ن المركز القوم���ي للترجمة بالقاهرة‬ ‫قريباً‪.‬‬ ‫يتن���اول الكتاب ال���ذي حرره الناق���د «أندرو‬ ‫هاموند» وانتهى من ترجمته إلى العربية طلعت‬ ‫الشايب‪ ،‬أعمال مؤتمر عقد في جامعة «وورويك»‬ ‫ف���ي بريطانيا في يونيو‪/‬حزي���ران ‪ 2002‬تحت‬ ‫عنوان «ما بعد الشيوعية‪ :‬النظرية والتطبيق»‪،‬‬ ‫وش���ارك فيه نقاد وباحثون من الشرق والغرب‬ ‫بأوراق بحثية ركزت على األصوات التي انطلقت‬ ‫من المناطق المهمشة في الحرب الباردة‪.‬‬ ‫حمل���ت األوراق عناوين مث���ل «تمثيل الغرب‬ ‫في األدب الروسي أثناء الحرب الباردة» و«القلق‬ ‫النووي ف���ي أدب ما بع���د الحداثة ف���ي أميركا»‬ ‫و«الرواي���ة التاريخي���ة في االتحاد الس���وفياتي‬ ‫وإفريقيا م���ا بعد االس���تعمار» و«تذك���ر الحرب‬ ‫والث���ورة عل���ى المس���رح الم���اوي» و«المقاومة‬ ‫األدبية الماركسية للحرب الباردة»‪.‬‬ ‫والفصل المنشور هنا يحمل عنوان‪« :‬الوسط‬ ‫المس���تبعد‪ :‬المثقفون والحرب الباردة في أميركا‬ ‫الالتيني���ة»‪ .‬وقد تم ح���ذف الهوامش لضرورات‬ ‫النشر الصحافي‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫�ضغط الكتابة‬

‫أمير تاج السر‬

‫الكتابة والتأرجح‬

‫في جلس���ة نقاشية ضمت عددًا من المثقفين‪ ،‬فيهم كتاب‬ ‫ونقاد وش���عراء‪ ،‬تطرقنا إلى مس���ألة اإلنتاج الروائي لعدد‬ ‫م���ن الكت���اب المعروفين‪ ،‬س���واء على الصعي���د العربي أو‬ ‫العالمي‪ ،‬إلى مسألة أن تكون للكاتب أعمال فذة‪ ،‬ابتكر فيها‬ ‫تقنيات جديدة‪ ،‬وعالجها بحنكة‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬تخرج‬ ‫من قلمه‪ ،‬أعمال غاية في الضعف‪ ،‬وال يمكن أن تقارن بتلك‬ ‫األعمال المجيدة التي بقيت في ذاكرة الناس‪.‬‬ ‫أو ًال أريد أن أؤكد على تلك المسألة باعتباري كاتب ًا يمكن‬ ‫أن يتأرجح قلمه بين الجيد وغير الجيد‪ ،‬أقول إن المس���ألة‬ ‫ال ترتب���ط بأي خلل في أدوات الكاتب‪ ،‬وال تقلل من ش���أن‬ ‫كتابت���ه‪ ،‬أيض��� ًا ال عالقة لها بالبدايات الت���ي توصف دائم ًا‬ ‫بأنه���ا األضعف في التاريخ اإلنتاج���ي ألي كاتب‪ ،‬فقد كتب‬ ‫عديدون ف���ي بداياتهم أعما ًال أصبحت خال���دة‪ ،‬ولم يكتبوا‬ ‫ولدي مثال رواية «األش���ياء تتداعى»‬ ‫مثلها بع���د ذلك أبداً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للنيجري الكبير تشنوا تشيبي‪ ،‬فقد كانت شرارة البداية في‬ ‫تاريخ���ه‪ ،‬وما تزال هي األقوى بالرغم من أن الكاتب أصدر‬ ‫أعم���ا ًال عديدة بعدها‪ ،‬لم ترتق ألن تبلغ مس���تواها‪ ،‬وأزعم‬ ‫أن األعم���ال التي أنجزها جارثي���ا ماركيز في بداياته أو في‬ ‫منتص���ف تاريخ���ه اإلبداعي‪ ،‬كانت أعظم ش���أنا من أعماله‬ ‫األخي���رة‪ ،‬فقد يس���تغرب الق���ارئ الذي التهم مئ���ة عام من‬ ‫العزلة برغم ضخامتها‪ ،‬وتعدد شخوصها وإمكان التوهان‬ ‫فيها‪ ،‬حين يحس بعدم الرغبة في إكمال رواية صغيرة جدًا‬ ‫ومحدودة األبطال‪ ،‬مثل‪ :‬ذكرى غانياتي الحزينات‪ .‬الكاتب‬ ‫واحد‪ ،‬واألسلوب شبه واحد‪ ،‬لكن روح النص القوية التي‬ ‫تأسر‪ ،‬كانت متوافرة في مئة عام من العزلة‪ ،‬ولم يقدر لها‬

‫‪118‬‬

‫أن تتوفر في الرواية األخرى‪.‬‬ ‫أعتق���د أن ظروف ًا كثيرة تحي���ط بعمل الكاتب‪ ،‬تجعل من‬ ‫عم�ل�ا عادي ًا ال يلفت النظر‪،‬‬ ‫ذل���ك النص تحفة‪ ،‬ومن اآلخر‬ ‫ً‬ ‫هناك أعمال كتبت تحت ظروف سياسية واقتصادية معينة‬ ‫عاصرها الكاتب‪ ،‬وظهرت في كتبه‪ ،‬مثل أعمال كتبها نجيب‬ ‫محفوظ في فترة ما من عمر مصر السياس���ي‪ ،‬ولم تنجح‪،‬‬ ‫ونوه صديقن���ا الدكتور صبري حافظ إلى رواية مثل‪ :‬أمام‬ ‫العرش التي لم تنجح على المستوى اإلبداعي‪ ،‬ولن تقترب‬ ‫من ثالثية محفوظ الخالدة‪.‬‬ ‫وفي مطالعتي ألعمال كتاب آخرين‪ ،‬أحب كتاباتهم مثل‬ ‫فارجاس يوس���ا‪ ،‬و أس���تورياس‪ ،‬عثرت بالضبط على ما‬ ‫س���ميته تأرجح الكتابة‪ ،‬لي���س كل األعمال مبهرة‪ ،‬وهناك‬ ‫أعمال حتى أقل من العادية‪.‬‬ ‫ال أنسى هنا أن أشير إلى مسألة التذوق الشخصي التي‬ ‫تظلم الكت���اب أحياناً‪ .‬بمعنى أن يحب ق���ارئ كتاب ًا معيناً‪،‬‬ ‫لكاتب ما‪ ،‬ويتخذه قياس ًا تذوقي ًا ألعماله األخرى‪ ،‬وبالتالي‬ ‫يخضعه���ا للظلم‪ .‬القراءة هنا ليس���ت متكامل���ة‪ ،‬ولم تحلل‬ ‫الكت���اب بكل تقنياته وفنياته‪ ،‬وإنما كانت بعدس���ات ثبتت‬ ‫على الكتاب الذي في ذهن القارئ وأحبه‪.‬‬ ‫ش���خصي ًا وفي بداياتي‪ ،‬كانت لي نظ���رة التذوق تلك‪،‬‬ ‫ولكن بش���يء من التدريب‪ ،‬اس���تطعت أن أميز بين الكتاب‬ ‫الجيد وغي���ر الجيد‪ ،‬لنفس الكات���ب‪ ،‬وأتعرف على تأرجح‬ ‫الكتابة الذي ال يقلل أبدًا من مكانة أي كاتب‪.‬‬


‫الحنين إلى الجزيرة السورية‬ ‫في روايته «سيأتيك الغزال» الصادرة‬ ‫مؤخ���رًا ع���ن دار رفوف‪/‬دمش���ق يخلط‬ ‫الروائ���ي الس���وري خلي���ل صويلح بين‬ ‫الحني���ن والس���خرية‪ ،‬اس���تنادًا إل���ى ما‬ ‫ترتكبه الذاكرة وفق انحيازات الراهن‪.‬‬ ‫الراوي ولد في «سنة جمال» كما تؤرخ‬

‫أمه‪ ،‬وهي السنة التي زار فيها جمال عبد‬ ‫الناصر منطقة الجزيرة السورية في أثناء‬ ‫الوح���دة بين البلدين‪ .‬يع���ود الراوي إلى‬ ‫طفولته هناك ليسترجع المكان بعفويته‬ ‫الزائلة‪ ،‬يس���ترجعه بعي���ن المراقب الذي‬ ‫لم ينغمس جيدًا ف���ي «وحل» التفاصيل‪،‬‬ ‫فيتمنى بعد عقود لو أنه فعل!‪.‬‬ ‫ش���خصيات كثيرة تعب���ر النص الذي‬ ‫يتقاسمه بشكل أساسي الراوي والمكان‪،‬‬ ‫في محاولة لرصد بيئة ال تتغير وحس���ب‬ ‫بل تتصحر بالمعنى المباش���ر وبالمعنى‬ ‫المج���ازي للكلم���ة‪ .‬الجزي���رة الس���ورية‬ ‫يابس���ة تق���ع بين نهري���ن كبيري���ن هما‬ ‫الفرات ودجل���ة إضافة إلى الخابور الذي‬ ‫ال‬ ‫يعبرها‪ ،‬م���ع ذلك يس���تيقظ الطفل لي ً‬ ‫من العطش‪ ،‬يطل���ب الماء من جدته التي‬

‫كتب‬

‫ال‬ ‫نم‪ .‬سيأتي الغزال حام ً‬ ‫تقول له‪« :‬نم‪ْ ..‬‬ ‫قرب���ة م���اء ويرويك»‪ .‬الغ���زال الذي كان‬ ‫ال ربما ما يزال البعض‬ ‫الطفل ينتظ���ره لي ً‬ ‫ينتظره‪ ،‬أما الكثيرون فقد غادروا المكان‬ ‫بحث ًا عن لقمة العيش في مدن أخرى‪ .‬من‬ ‫منطقة تمّد البلد بالحب���وب وبالنفط إلى‬ ‫منطقة يهاجر أبناؤه���ا بحث ًا عن الكفاف‬ ‫ويقطنون أحياء مدقعة‪ ،‬هذا ليس بالقدر‬ ‫الطبيع���ي‪ ،‬فالمتغيرات السياس���ية التي‬ ‫عصفت بالبل���د ككل‪ ،‬واإلهمال الحكومي‬ ‫الخ���اص والمتعمد أديا إلى إفقار المنطقة‬ ‫بالمعنى الم���ادي والروحي‪ ،‬كأن المكان‬ ‫يكرر س���يرته إذ لطالما ش���هد حضارات‬ ‫بادت‪.‬‬ ‫«س���يأتيك الغ���زال» رواية مش���غولة‬ ‫بالحس التصويري‪ ،‬وال تخفي انحيازها‬ ‫إلى التجربة على حساب التجريب‪ ،‬نص‬ ‫يدنو أحيان ًا من النشيج‪ ،‬لكنه ينجو غالب ًا‬ ‫من فخاخ الحنين التي ينصبها لنفسه!‪.‬‬

‫ص���درت أخيرًا النس���خة العربية من رواية «طبيبة اإلس���كندرية» للروائية األلمانية‬ ‫كاري كوستر – لوش���ه‪ ،‬والتي تدور أحداثها في اإلسكندرية مع بداية القرن الثاني‬ ‫الميالدي بترجمة أش���رف نادي أحمد‪ ،‬عن المركز القوم���ي للترجمة‪ .‬تحكي الرواية‬ ‫أن «تاليا» – ابنة أحد الفالس���فة من آس���يا الصغرى بعد أن نه���ب القراصنة قريتها‬ ‫س���افرت م���ع طبيب يوناني اس���مه «لبتينوس» لتس���اعده في عيادت���ه‪ .‬هذا األخير‬ ‫ال مزدوج��� ًا بين قاضي القض���اة الرومان���ي «تريمالخيو»‪،‬‬ ‫اس���تطاع أن يك���ون عمي ً‬ ‫وعدوت���ه «أفرايتا»‪،‬الرواي���ة تتعرض لما ذاقه أقباط مصر م���ن القتل والتعذيب على‬ ‫ال لروما القديمة‪ ،‬وتس���رد حكاية فتاة أس���رت‬ ‫أي���دي الرومان‪ ،‬كما تقدم وصف ًا حاف ً‬ ‫وأصبحت عبدة‪ ،‬لكنها على الرغم من ذلك حافظت على كرامتها وقوة ش���خصيتها‪،‬‬ ‫وساعدت الجميع لتصير سيدتهم – حسب المثل الشهير‪.‬‬ ‫كما تتطرق لحلول اللغة القبطية بديلة لليونانية إلى جانب اللغة العربية‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫كتب‬ ‫كت���اب قد يوح���ي عنوانه بتلك النوعية م���ن الكتب التي تدعي‬ ‫القدرة على تعليم الغرام‪ ،‬لكن���ه في الحقيقة كتاب في الحرية‬ ‫والمحبة قبل كل شيء‬

‫نبوءة الحب والحكمة‬ ‫عمر قدور ‪-‬دم�شق‬ ‫كت���اب «إتقان الح���ب» الص���ادر عن دار‬ ‫النهري���ن ‪/2011‬دمش���ق‪ ،‬ترجمة متيم‬ ‫الضاي���ع ألّف���ه «المعلم رويز» اس���تنادًا‬ ‫إل���ى تقالي���د «التولتيك»‪ ،‬وهي أش���به‬ ‫بالديانة القديمة لدى ساللة «إيغل نايت»‬ ‫المكسيكية‪.‬‬ ‫ُع���رف التولتي���ك في جنوب المكس���يك‬ ‫كـ «رجال ونس���اء المعرف���ة»‪ ،‬وقد كانوا‬ ‫مجموعة م���ن العلم���اء والفنانين الذين‬ ‫شكلوا مجتمع ًا يكتشف ويصون المعرفة‬ ‫الروحي���ة‪ .‬بعد الغ���زو األوروبي للقارة‬ ‫األميركي���ة اتخذ التولتيك ش���كل الديانة‬ ‫الباطني���ة التي ت���م توارثه���ا من خالل‬ ‫سالالت من المعلمين‪ ،‬مع وجود نبوءة‬ ‫بقدوم عصر يصبح في���ه من الضروري‬ ‫إع���ادة «الحكمة» إلى الن���اس‪ .‬من حيث‬ ‫المبدأ‪ ،‬التولتيك يعتبر أن كل ما نعتقده‬ ‫عن أنفس���نا‪ ،‬وكل ما نعرفه عن عالمنا‪،‬‬ ‫هو حلم‪ .‬فإذا ما نظرت إلى أي شرح عن‬ ‫الجحيم ستجده مشابه ًا لتوصيف الجحيم‬ ‫في المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬إنها الطريقة‬ ‫التي نحلم بها‪ .‬األمر شبيه بالعيش على‬ ‫«كوكب جميع س���كانه مصابون بمرض‬ ‫جل���دي‪ ،‬منذ ألفي���ن أو ثالثة آالف عام‪،‬‬ ‫والناس يعانون من نفس اإلصابة‪ ،‬كل‬ ‫أجس���ادهم مغطاة بقروح‪ ،‬وهي قروح‬ ‫مؤلمة عند اللمس‪ .‬طبع ًا هم يعتقدون أن‬ ‫هذه هي الحال���ة الطبيعية للجلد‪ ،‬حتى‬ ‫أن كتبه���م الطبية تش���رح األمر على أنه‬ ‫طبيعي»!‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫عطف ًا على التش���بيه السابق‪ ،‬يعتقد كل‬ ‫فرد نفس���ه طبيعي ًا ضمن وه���م التماثل‬ ‫ال���ذي يعيش���ه الجمي���ع‪ ،‬أي أن معي���ار‬ ‫«الطبيعي» هو الصورة االجتماعية التي‬ ‫يرسمها الفرد لذاته والمطابقة لما يريده‬ ‫المجتمع للف���رد‪ ،‬دون اعتبار لما يكونه‬ ‫الفرد ولما يريد أن يك���ون عليه‪ .‬فالعلة‬ ‫األول���ى التي تصن���ع الجحيم البش���ري‬ ‫هي غياب الفردانية‪ ،‬والتولتيك طريقة‬ ‫إلعادة اإلنسان إلى التفكر في ذاته على‬ ‫نحو نزيه‪ ،‬بحيث يكتشف الفرد رغباته‬ ‫الحقيقية وأمراضه‪ ،‬أو باألحرى يكتشف‬ ‫ما تحت طبقة التدجين الذي مورس عليه‬ ‫منذ الطفول���ة‪ ،‬فيرى حلمه الخاص الذي‬ ‫تالشى في الحلم العام الكبير‪ ،‬والذي هو‬ ‫بالضبط حلم مؤطر بالقوانين واألديان‬ ‫والتقاليد‪.‬‬ ‫ما نس���ميه تثقيف ًا بالمعن���ى االجتماعي‬ ‫هو ترويض يق���وم منذ البداية على مبدأ‬

‫الث���واب والعقاب‪ ،‬ال على مب���دأ الرضا‬ ‫فيحك���م الف���رد‬ ‫والس���عادة الفرديي���ن‪ُ ،‬‬ ‫بمحاولة الحصول عل���ى رضا اآلخرين‬ ‫دون أن يش���عر ه���و ذات���ه بالرضا عن‬ ‫نفسه‪ ،‬أو أنه يحصل على الرضا الذاتي‬ ‫بسبب رضا اآلخرين وهذا نوع كاذب من‬ ‫السكينة‪.‬‬ ‫يق���ول التولتي���ك‪« :‬أن���ت ه���ي الق���وة‬ ‫الت���ي تلعب بعقلك وتس���تخدم جس���دك‬ ‫وكأنه دمية محبوبة م���ن أجل أن تلعب‬ ‫وتس���تمتع‪ .‬تلك هي مب���ررات وجودك‬ ‫هن���ا‪ :‬لتلعب وتحصل عل���ى المتعة‪ .‬لقد‬ ‫ولدن���ا ولدينا الحق بأن نكون س���عداء‪،‬‬ ‫لدين���ا الحق بأن نس���تمتع بحياتنا‪ ،‬إننا‬ ‫لم نول���د لنعاني‪ ،‬ومن يري���د أن يعاني‬ ‫ال به مع المعان���اة‪ ،‬لكن ليس علينا‬ ‫فأه ً‬ ‫أن نعاني»‪ .‬بينما تقول الثقافة السائدة‪:‬‬ ‫«تع���ذب الي���وم وكن صبوراً‪ ،‬وس���وف‬ ‫تحصل على المكافأة حي���ن تموت»‪ .‬لذا‬ ‫يب���دو التولتي���ك على النقي���ض من قيم‬ ‫التضحية التي تمجد األلم‪ ،‬في الواقع إن‬ ‫المنظومة المعرفية التي يقترحها الكتاب‬ ‫ال تذم التضحية كقيمة إن اختارها الفرد‬ ‫بملء إرادته في مجتمع س���ليم معافى‪،‬‬ ‫لكنها تهجو قيم الواجب االجتماعي‪ ،‬مع‬ ‫أن الرؤي���ة العامة للكت���اب ال تخلو من‬ ‫المثالية إذ تفترض أن الجوهر اإلنساني‬ ‫للفرد يق���وم على الحب‪ ،‬وأو ًال على حب‬ ‫اإلنس���ان لذاته‪ .‬ال يمكن من وجهة النظر‬ ‫ه���ذه أن يح���ب اإلنس���ان اآلخرين دون‬ ‫المرور بحبه لذات���ه‪ ،‬ألن حبه لآلخرين‬ ‫حينها يكون نوع ًا من التعلق الذي يبتغي‬ ‫منفعة عارضة أو كسب ًا اجتماعياً‪.‬‬ ‫«إتقان الحب» عل���ى الرغم من العمومية‬ ‫التي يطرحها الكتاب إال أنه يبقى ش���أن ًا‬ ‫فردياً‪ ،‬ال يتحقق إال من خالل الفردانية‪،‬‬ ‫وه���و أيض��� ًا رحلة ف���ي ال���ذات من أجل‬ ‫اكتش���اف اآلخ���ر والعال���م‪ ،‬م���ع تركيز‬ ‫واضح على العقل‪ ،‬فالمش���اعر بحس���ب‬ ‫المؤلف هي طبقة ش���عورية من العقل‪،‬‬ ‫وفي العقل نجد كل ش���يء‪ ،‬نجد نعيمنا‬ ‫وجحيمن���ا الخاصين‪ ،‬لكنن���ا تحت ذلك‬ ‫الركام س���نجد على األرج���ح الحب الذي‬ ‫فطرنا علي���ه‪ ،‬والذي للمفارق���ة جردتنا‬ ‫منه المثل التي تدعي الحب أيضاً!‪.‬‬


‫أدلبرتو آلفش‬

‫شاعر من أرشيف األندلس‬

‫ص���در ع���ن منش���ورات دار التوحيدي‪،‬‬ ‫قصائد مختارة للشاعر البرتغالي أدلبرتو‬ ‫آلف���ش ترجمها ع���ن اللغ���ة البرتغالية‬ ‫المترجم المغربي سعيد بنعبد الواحد‪.‬‬ ‫تمثل القصائد المختارة عصارة مس���يرة‬ ‫آلفش الشعرية على امتداد ثالثة عقود‪،‬‬ ‫أص���در خاللها س���تة دواوي���ن هي على‬ ‫التوالي‪« :‬رؤية غامضة»‪« ،1979 -‬الدقة‬ ‫والزمن»‪« ،1982 -‬شرق ذاتي»‪،1992 -‬‬ ‫«ليل���ة القدر»‪« ،1993 -‬إيران‪ :‬رحلة الى‬ ‫بالد الورود»‪« ،2007 -‬في قمة الليل»‪-‬‬ ‫‪.2008‬‬ ‫الش���اعر أدلبرتو آلفش (مواليد لشبونة‬ ‫‪ )1939‬من عائل���ة برتغالية ذات أصول‬

‫عربي���ة ويعتبر م���ن أكبر المس���تعربين‬ ‫البرتغاليي���ن الذين غذّوا المكتبة العلمية‬ ‫بأبحاث ودراس���ات قيمة ع���ن الماضي‬ ‫العربي واإلسالمي بالبرتغال‪ .‬وللكاتب‬

‫سيرة الغياب‬ ‫بعد مجموعته األولى «أغنية البئر» صدر‬ ‫للش���اعر الفلس���طيني الش���اب أنس أبو‬ ‫رحمة مجموعة ش���عرية جديدة بعنوان‬ ‫«حج���اب» عن مركز أوغريت الثقافي في‬ ‫فلس���طين‪ ،‬بغالف يحمل لوح���ة للفنان‬ ‫الفلس���طيني يوس���ف ع���وض‪ .‬وكانت‬ ‫المجموع���ة قد حظي���ت بتنوي���ه جائزة‬ ‫القط���ان‪ ،‬وهي جائزة أدبية محليّة‪ ،‬في‬ ‫دورتها لعام ‪ 2010‬الخاصة بالشعر‪.‬‬ ‫ال يتخلى الش���اعر في مجموعته الجديدة‬ ‫عن معجمه اللغوي الذي ظهر بوضوح في‬ ‫مجموعته الشعرية األولى «البئر»‪ .‬وهو‬ ‫معجم ال يكف عن تس���جيل سيرة الفتى‬

‫في أش���عاره‪ ،‬فثمة فتى ف���ي المجموعة‬ ‫يق���وم تاريخه على‪ :‬الوط���ن‪ ،‬المدينة‪،‬‬ ‫القصي���دة‪َ ،‬وه���و‪ .‬في «س���يرة الفتى»‪،‬‬ ‫وهي أح���د نص���وص الدي���وان‪ ،‬للفتى‬

‫اهتمام قوي بالدراسات األدبية والترجمة‬ ‫خاصة الش���عر األندلس���ي وقد صدر له‬ ‫«المعتمد» ‪« ،1985‬قلبي عربي» ‪،1987‬‬ ‫«المعتمد ش���اعر القدر» ‪ ،1996‬واعتراف ًا‬ ‫بما قدم���ه للثقاف���ة العربية اإلس�ل�امية‬ ‫حصل ف���ي ش���هر نوفمب���ر ‪ 2008‬على‬ ‫جائزة الش���ارقة للثقاف���ة العربية التي‬ ‫تمنحها اليونسكو (مناصفة مع المصري‬ ‫جابر عصفور)‪.‬‬ ‫ويش���كل الش���رق بكل تجلياته الروحية‬ ‫والصوفية جزءًا أساسي ًا من رؤية الشاعر‬ ‫آلفش‪ ،‬وبحثه الدؤوب عن أسئلة الشعر‬ ‫ف���ي التج���ارب الصوفية جعل���ه يعترف‬ ‫بأنه يعيش روحي ًا تجربة الشرق «إنني‬ ‫أعي���ش منفي��� ًا هنا‪ ،‬في ذات���ي‪ ،‬أتعرف‬ ‫ال على نفسي وال يعرفني اآلخرون»‪.‬‬ ‫قلي ً‬ ‫وال ننس���ى أن الش���اعر آلف���ش تع���رف‬ ‫على متن ش���عري خصب رموز ش���عراء‬ ‫األندلس وأف���كار متصوفيها الكبار‪ ،‬مما‬ ‫جعل من قصائده جس���رًا حواري ًا إبداعي ًا‬ ‫بين نس���قين معرفيين‪ .‬وهو ما جعل من‬ ‫ش���عره ينفتح إبداعي ًا عن مجاهل قصية‬ ‫وهي ما نعته���ا المترجم بـ «حلقة وصل‬ ‫بين الشرق والغرب»‪.‬‬

‫«وط���ن كالمجنون‪ /‬يط���ارده الصبيان‬ ‫أما‬ ‫في الح���ارات‪ /‬بالحجارة والقمامة»‪ّ .‬‬ ‫مدينت���ه فغائب���ة عن الوع���ى‪ ،‬ونازفة‪،‬‬ ‫وهو‪ /‬الفتى‪ ،‬ال يستطيع ان يأخذ موقف ًا‬ ‫«ابقي‬ ‫ْ‬ ‫ليوق���ف نزيفها‪ ،‬ب���ل يقول له���ا‪:‬‬ ‫نازفة‪ /‬أدمنت الرائحة»‪.‬‬ ‫«حج���اب» أن���س أب���و رحمة تس���جيل‬ ‫لس���يرة الجدران‪ ،‬الكائن���ات الصغيرة‪،‬‬ ‫األهل واألصدقاء‪ ،‬وه���و إذ يفعل ذلك‪،‬‬ ‫تجد أصابعه بأظافر ح���ادة قادرة على‬ ‫أن تخ���دش المدين���ة والن���اس والوطن‬ ‫والحياة‪ ،‬لكنها تترك أصابع الش���اعر‪/‬‬ ‫يمحى‪ ،‬يحاول التخفي وراء‬ ‫الفتى بدم ال ّ‬ ‫موت صارخ يهرب منه ويالحقه‪ ،‬وحين‬ ‫يس���تمر في هروبه يستمر في مالحقته‪،‬‬ ‫في رحلة هروب المرئية‪ ،‬حاول الشاعر‬ ‫تحميلها المزيد من الذنب‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫كتاب منوعات‬

‫بحث ًا عن الهوية العراقية‬ ‫ح�سام ال�سراي‪-‬بغداد‬

‫صدر حديث ًا عن «دار نون» في‬ ‫حلب كتاب «خيوط ملونة» للكاتب‬ ‫السوري نجيب كيّالي‪ ،‬وهو كتاب‬ ‫ارتأى في���ه المؤل���ف الخروج عن‬ ‫العادة بعدم التقيد بجنس تعبيري‬ ‫واحد‪ ،‬إذ يضم الكتاب ‪ 23‬عنوان ًا‬ ‫تتراوح ما بي���ن القصة والخاطرة‬ ‫والقصي���دة والمقالة والبحث‪ ،‬كما‬ ‫يس���تهدف الكات���ب بموضوعات���ه‬ ‫القارئ الصغير والكبير‪.‬‬ ‫م���ن مواضي���ع الكت���اب‪:‬‬ ‫التعبي���ر باليدين‪ ،‬حم���ى الدورات‬ ‫التعبيرية‪ ،‬الس���خرية في ش���عر‬ ‫نزار قباني‪ ،‬مجنون يحكي وعاقل‬ ‫يس���مع‪ ،‬صعوبات منس���وبة إلى‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬مس���تقبل األمومة‪،‬‬ ‫تنمية الق���راءة عند أطفالنا‪ ،‬مزيدًا‬ ‫من السوبر ستار يا عرب‪ ،‬قصائد‬ ‫الهية عن نفسها‪ ،‬جمعية لمقاطعة‬ ‫األخبار‪.‬‬ ‫الكاتب نجيب كيالي من مواليد‬ ‫إدل���ب بس���ورية ‪ ،1953‬عض���و‬ ‫جمعية أدب األطفال واتحاد كتاب‬ ‫العرب‪ ،‬م���ن مؤلفاته ‪ -‬وهي كلها‬ ‫قص���ص قصي���رة ج���دًا ‪( -‬ميت ال‬ ‫يموت‪ ،‬لس���اني أكل���ه القط‪ ،‬قبلة‬ ‫بالشماس���ي)‪ .‬وف���ي أدب األطفال‬ ‫ص���در ل���ه‪« :‬الطب���ل المثق���وب‪،‬‬ ‫س���عدون وقصص أخ���رى‪ ،‬أمير‬ ‫السكر»‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪122‬‬

‫ف���ي كتابه ال���ذي صدر مؤخ���راً‪ُ ،‬يدخلنا‬ ‫العراقي رش���يد الخيّون‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب والباحث‬ ‫في جدل ما بعد نيسان‪/‬إبريل ‪ 2003‬في‬ ‫العراق‪ ،‬عبر سلس���لة مقاالت في كتاب‬ ‫تحت عنوان (ض���ّد الطائفيّة)‪ ،‬والصادر‬ ‫مؤخرًا عن دار «مدارك» في بيروت‪.‬‬ ‫جاءت مواضيع الكت���اب‪ ،‬التي كتبت ما‬ ‫ونش���رت‬ ‫بين عامي (‪ُ ،)2008 - 2003‬‬ ‫في صحف مثل جريدة «الشرق األوسط»‬ ‫و«االتح���اد اإلماراتيّ���ة»‪ ،‬بع���د التوثيق‬ ‫والتثبّ���ت م���ن منطلق ش���دة الخصومة‬ ‫والجدل ح���ول الطائفي���ة بوصفها أكثر‬ ‫المفردات تداو ًال في هذا العصر‪.‬‬ ‫أن «الحل األمث���ل لهذا‬ ‫يط���رح الخي���ون ّ‬ ‫ال���داء الخطي���ر‪ ،‬التركي���ز عل���ى الهويّة‬ ‫الوطنيّ���ة العراقيّة‪ ..‬والخروج من حزب‬ ‫االنتخابي إلى الحزب‬ ‫ّ‬ ‫الطائفة وكيانه���ا‬ ‫العراقي‪.»..‬‬ ‫ّ‬ ‫وض���م الكت���اب مجموعة مق���االت‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫أهمه���ا‪« :‬يا ن���ار كوني بردًا وس�ل�اماً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تغييب الهويّة العراقيّة‪ ،‬يا أئمة المذاهب‬ ‫الفتن���ة يقظ���ة!‪ ،‬مخاط���ر الدس���تور ‪..‬‬ ‫والمدن���ي‪ ،‬األحزان ال‬ ‫ّ‬ ‫الدين���ي‬ ‫ّ‬ ‫تج���اذب‬ ‫تعمر األوطان‪ ،‬لو أعلن بوش إسالمه!‪،‬‬ ‫اسمعوا وصايا شمس الدين‪ ،‬المندائيون‬ ‫استغاثة طيور الماء»‪.‬‬ ‫نق���رأ ف���ي الكت���اب م���ن مق���ال «العراق‬

‫أهل���ه األُص�ل�اء»‪« :‬بقلق م���ن التهميش‬ ‫والتغيي���ب‪ ،‬ف���ي زحمة االس���تقطابات‬ ‫الطائفيّة والفئويّة‪ُ ،‬عقد ببغداد المؤتمر‬ ‫الثاني لمجل���س األقليّ���ات العراقيّة ‪27‬‬ ‫آيار‪/‬مايو ‪ 2006‬منادي ًا بإقرار «حقوق‬ ‫األقليّ���ات العراقيّة حجر الزاوية في بناء‬ ‫ث���م يختتم الكاتب‬ ‫ديموقراطي»‪ّ ..‬‬ ‫ّ‬ ‫عراق‬ ‫مقاله بـ «أنّه بالش���ك‪ ،‬يولد تغييب هذه‬ ‫الجماعات نقص ًا في المواطنة‪ ،‬وشعورًا‬ ‫باإلحب���اط‪ ،‬من وط���ن ولد عل���ى أيدي‬ ‫وزراع وصنّاع‬ ‫أس�ل�افهم م���ن دهاقن���ة ّ‬ ‫وعلم���اء‪ .‬وعل���ى حد قول الش���اعر‪( :‬إذا‬ ‫امرئ ‪ ..‬نصيب‬ ‫لم يكن للمرء في دول���ة ٍ‬ ‫والحظ تمنّى زوالها)‪.»..‬‬ ‫كم���ا نطال���ع ف���ي مق���ال «المصلحة في‬ ‫المصالح���ة»‪« :‬لي���س من السياس���ة أن‬ ‫تؤخذ مبادرة المصالحة مؤش���رًا لضعف‬ ‫الحكومة‪ ،‬وبالتالي الغرور بوهم إثبات‬ ‫ش���عبي بمدينة‬ ‫ّ‬ ‫الق���وة بتفجي���ر س���وق‬ ‫ّ‬ ‫الث���ورة‪ ،‬وقت���ل عم���ال البن���اء‪ ،‬وذبح‬ ‫كل ما يتعلّـق بأسباب‬ ‫الرهائن‪ ،‬وإتالف ّ‬ ‫تدل على فقدان‬ ‫الحياة والمعاش‪ ،‬وكلـّها ّ‬ ‫القوة»‪.‬‬ ‫الرشد ومصادر ّ‬ ‫«هبهِب مكان‬ ‫يختتم الكتاب بمقال عنوانه ِ‬ ‫وأزمة ضمير»‪ ،‬وجاء فيه‪« :‬هبهب القرية‬ ‫أو الناحية الت���ي ُقتل فيها زعيم القاعدة‬ ‫بب�ل�اد الرافدين أبو مصع���ب الزرقاوي‪،‬‬ ‫بعد أن مأل غرب العراق ووسطه بفتاوى‬ ‫القتل وبالمقاتل الرهيبة‪ ..‬لم تعد شهرة‬ ‫ه���ذه القرية‪ ،‬في ذاك���رة العراقيّين‪ ،‬بما‬ ‫تصنعه من ش���راب من تمره���ا الهندي‪،‬‬ ‫حيث غ���زارة هذا النوع بأرض باعقوبا‪،‬‬ ‫وعواء واويها الش���هير‪ ،‬بعد ش���ربه من‬ ‫خابيات ذلك الشراب‪ ،‬إنّما حدثها الكبير‬ ‫أدخلها الى عصبة األمم المتحدة‪ ،‬وذاكرة‬ ‫التأريخ»‪.‬‬


‫يقول علي بدر على لسان عيسى‪ :‬هناك شخص واحد‪ ،‬ديكتاتور‪،‬‬ ‫قائد أمة‪ُ ،‬مخرج يقف أعلى مس����رح يحترق‪ ،‬والش����عب ممثلون‬ ‫يتابعون إلقاء أدوارهم‪ ،‬وهذا القائد هو صدام حسين‪.‬‬

‫بين البندقية والقصيدة‬ ‫هيفاء بيطار‪ -‬الالذقية‬ ‫ف���ي روايته «أس���اتذة الوه���م» الصادرة‬ ‫حديث ًا عن المؤسس���ة العربية للدراسات‬ ‫والنشر‪ ،‬يستعيد الكاتب العراقي‪ ،‬المقيم‬ ‫في بروكس���ل‪ ،‬علي بدر ذاك���رة بغداد في‬ ‫الثمانيني���ات أثن���اء الح���رب العراقي���ة ‪-‬‬ ‫اإليرانية‪ .‬وعلى غالف الرواية نقرأ كلمة‬ ‫مختصرة تقول إن «أس���اتذة الوهم رواية‬ ‫عن الشعر والحب والموت في العراق»‪.‬‬ ‫ب���رع علي ب���در ف���ي تحليل ش���خصيات‬ ‫الش���عراء المجندين‪ ،‬لكن البطل الرئيسي‬ ‫في الرواي���ة هو عيس���ى‪ ،‬المولع بقراءة‬ ‫سير الشعراء الغربيين‪ ،‬والذي كان يذوب‬ ‫ويتخدّر وهو يق���رأ أعمالهم‪ ،‬والذي تعلم‬ ‫الروسية واأللمانية ليقرأ أعمال الشعراء‬ ‫الذين يعبدهم ويتأثر بهم‪ ،‬عيسى الذي كان‬ ‫كل وجوده وإحساس���ه بالحياة يتلخص‬ ‫بكلمة واحدة‪ :‬الشعر‪ ،‬لكن ثمة إرادة عليا‬ ‫فصلت له قدره وشخصيته بجعله جندياً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وزجت بحياته إلى الجبهة‪ ،‬ليجد نفس���ه‬ ‫مش���روع ًا للموت في الح���رب العراقية ‪-‬‬ ‫اإليرانية‪.‬‬ ‫عيس���ى ال يمثل الشاعر فقط بل اإلنسان‪،‬‬ ‫إنس���ان الي���وم‪ ،‬وخاص���ة ف���ي األنظمة‬ ‫الديكتاتوري���ة‪ ،‬وحت���ى ف���ي كل األنظمة‬ ‫االس���تبدادية‪ ،‬ال يمكنه أن يك���ون ذاته‪،‬‬ ‫وال أن يحق���ق ما تت���وق إليه روحه‪ ،‬ألن‬ ‫هناك قوة تصادر إرادة اإلنسان‪ ،‬وتشوه‬ ‫وتفصل له دورًا في‬ ‫ّ‬ ‫موهبته وس���عادته‪،‬‬ ‫الحياة‪ ،‬لخدمة مصلح���ة عليا‪ ،‬هي غالب ًا‬ ‫ديكتاتور‪.‬‬ ‫عيس���ى المرهف اإلحس���اس‪ ،‬الممسوس‬

‫بهوى الش���عر‪ُ ،‬ينكر حياته كجندي‪ ،‬إنه‬ ‫ال يري���د أن ُيزج به ف���ي حرب ليقتل أخاه‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ويش���عر أن روحه أقوى وأكبر‬ ‫بكثي���ر من المعطي���ات الممنوح���ة له في‬ ‫الحي���اة الواقعية‪ .‬تتحول حياة عيس���ى‬ ‫وخاصة عالقته بنفسه إلى إنكار لواقعه‬ ‫وإنكار لش���خصه فهو يتماهى مع بودلير‬ ‫وإليوت وغيرهم من الشعراء العالميين‪،‬‬ ‫ويتس���اءل ه���ل يمكننا أن نكون ش���عراء‬ ‫عالميين ونحن في بغداد ؟‬ ‫يقرر عيس���ى الفرار م���ن الجيش والعيش‬ ‫متخفي ًا متس���لح ًا بكتب الش���عر‪ ،‬والكتب‬ ‫التي تتحدث عن س���يرة حياة الش���عراء‪،‬‬ ‫المخلِّـص‬ ‫الش���عر بالنس���بة لعيس���ى هو ُ‬ ‫م���ن عدمية حي���اة‪ ،‬من الجبه���ة والحرب‬ ‫العراقي���ة ‪ -‬اإليراني���ة التي زج���وه بها‪،‬‬ ‫والت���ي ال يؤمن به���ا‪ ،‬وال يراها قضيته‪،‬‬ ‫صناع الحروب‬ ‫إنه ليس دمية في أي���دي ُ‬

‫والدمار‪ ..‬عيس���ى الذي يسرق كتب الشعر‬ ‫م���ن المكتبات ويعيش ف���ي أزقة الفقراء‪،‬‬ ‫يق���رأ ويحلم ويكت���ب ويترج���م لعظماء‬ ‫الش���عراء العالميين‪ ،‬عيس���ى الذي سكن‬ ‫في علب الصفيح البائسة‪ ،‬هارب ًا من حكم‬ ‫اإلعدام ال���ذي صدر بحق���ه كخائن‪ ،‬وفي‬ ‫عل���ب الصفيح ق���رأ مذك���رات غاندي‪ ،‬ثم‬ ‫قرأ رس���ائل نهرو إلى ابنته‪ ،‬ثم طلب من‬ ‫ش���قيقته أن تشتري له كتب طاغور‪ ،‬كان‬ ‫يري���د قراءة كتب طاغور قب���ل تنفيذ حكم‬ ‫اإلعدام به‪.‬‬ ‫يطرح علي بدر في روايته أساتذة الوهم‬ ‫أس���ئلة وجودي���ة ومصيري���ة غاي���ة في‬ ‫األهمية‪ :‬هل إنس���ان اليوم يملك نفس���ه؟!‬ ‫أليس إنسان اليوم ُمصادر اإلرادة ويخضع‬ ‫لكل أنواع الضغوط والخ���دع ليُضلل عن‬ ‫أن يك���ون ذاته‪ ،‬ليتحول إل���ى أداة في يد‬ ‫ق���وة عظم���ى ال يهمه���ا س���وى مصالحها‬ ‫ونفوذه���ا‪ ..‬هل ه���ؤالء الجنود الش���بان‬ ‫المس���اكين مقتنعون حق ًا بما يقومون به؟‬ ‫هل يؤمنون حق ًا بالقضايا التي أجبروهم‬ ‫أن يؤمن���وا بها‪ ،‬ولعل بعضه���م آمن بها‬ ‫لبراءته وس���ذاجته‪ ،‬وللح���رب اإلعالمية‬ ‫الجذابة والمدروسة التي يقوم بها هؤالء‬ ‫المتحكمون بمصائر الشعوب‪.‬‬ ‫عيس���ى ليس مجرد ش���اعر بل هو إنسان‬ ‫صودرت حريت���ه وحقه أن‬ ‫اليوم‪ ،‬وق���د ُ‬ ‫يقرر مصيره‪ .‬إنسان اليوم الذي ُيقتل بكل‬ ‫بساطة إذا خالف القوة العظمى‪ ،‬إذا تجرأ‬ ‫فصله له الديكتاتور‪،‬‬ ‫ورفض القدر ال���ذي ّ‬ ‫والتـُهم جاهزة‪ ،‬إضعاف الشعور القومي‪،‬‬ ‫الخيانة‪ ،‬المس بهيبة الدولة‪.‬‬ ‫الكثير م���ن الروايات تحدث ع���ن العراق‬ ‫أثن���اء حكم صدام حس���ين وأثناء الحرب‬ ‫العراقي���ة‪ -‬اإليراني���ة‪ ،‬لكن أي��� ًا من هذه‬ ‫الرواي���ات لم تتن���اول العمق اإلنس���اني‬ ‫والوجداني للمواط���ن العراقي – الذي هو‬ ‫إنس���ان هذا الزم���ن ‪ -‬كما فع���ل علي بدر‬ ‫خاصة في روايته األخيرة هذه «أس���اتذة‬ ‫تخضنا في العمق‪،‬‬ ‫الوهم»‪ .‬وه���ي رواية ّ‬ ‫وتق���ذف بنا إل���ى قلب الحقيق���ة‪ ،‬وتفجر‬ ‫فين���ا حس الكرامة التي ال معنى لوجودنا‬ ‫دونها‪ :‬إلى أي مدى سنقبل أن نكون أداة‬ ‫في ي���د قوى عظم���ى؟‪ ..‬ومتى س���يتمكن‬ ‫اإلنسان من أن يقرر مصيره؟‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫س����أقص عليك الحكاية‪ /‬الحكاية التي ال تنتهي بذيل‪ /..‬إلى الس����ماء‬ ‫العارية سأصعد‪ /‬سأحكي عن المرأة‪ /‬التي حملت شمس ًا في يديها‪/‬‬ ‫عن األنهار التي مرت بالقلب الخالد‪.‬‬

‫روحها حديقة‬ ‫يزرعها الموتى‬ ‫روال ح�سن ‪ -‬دم�شق‬ ‫ما أرادته الشاعرة السورية فرات اسبر‬ ‫في مجموعتها الص���ادرة عن دار بدايات‬ ‫–جبل���ة ‪ 2011‬أن تقص علين���ا‪ ،‬حكاية‬ ‫نزهتها بين الس���ماء واألرض‪ ،‬وإن كانت‬ ‫هذه النزهة معكوسة فهي تريد أن تحكي‬ ‫حكاية العمر األخرى‪ ،‬الحكاية التي وراء‬ ‫الحكاي���ة‪ ..‬حكاية الموت والروح التي ال‬ ‫تفنى‪ ..‬حكاية الغربة والحياة‪.‬‬ ‫وإن كان مش���هد الموت حاضرًا بقوة‬ ‫ف���ي القصائ���د وكأنه تأكيد عل���ى ثنائية‬ ‫(حياة – موت)‬ ‫روحي حديقة‬ ‫يزرعها الموتى‬ ‫يقطفون أزهارها‪...‬‬ ‫من وراء الس���تارة يش���ف ذل���ك األثر‬ ‫الصوفي ف���ي المجموع���ة‪ ،‬حيث تحاول‬ ‫الشاعرة من خالل قصائدها القبض على‬ ‫تفتح ال���ذات من الوج���ود الصرف الذي‬ ‫تكتنزه منذ األبد محاولة توضيح انكشاف‬ ‫مخبوءات الذات والوجود وعوالمها‪.‬‬ ‫م���ن هنا يأت���ي تأكيد الش���اعرة على‬ ‫الروح بعيدًا عن الجس���د الفاني‪ ،‬اقتراب ًا‬ ‫من الصوفي الذي ال يتعلق وال يتعش���ق‬ ‫إال بالثابت الراس���خ الدائ���م‪ ،‬حيث يقول‬ ‫النف���ري «ال طمأنينة إال مع الدوام» وهل‬ ‫هن���اك أكث���ر ديمومة م���ن ال���روح التي‬ ‫تتح���دث عنها الش���اعرة وال تتحدث عن‬ ‫الجسد إال لتؤكد فناءه؟‪.‬‬ ‫عابرة أنا بين الكواكب‬ ‫‪124‬‬

‫ألم جراحها‬ ‫الشاعرة ليست في األرض وليست في‬ ‫الس���ماء‪ ،‬إنها منثورة بين الكواكب وفي‬ ‫الفضاءات البعي���دة‪ ،‬وحين تهبط ترغب‬ ‫في ارتفاع يس���مو بها وما يكون ذلك إال‬ ‫للروح‪.‬‬ ‫في مكان آخ���ر تقترب الش���اعرة من‬ ‫قول «النفري» كلما اتسعت الرؤية ضاقت‬ ‫العبارة «فهي إش���ارة تبدو واضحة إلى‬ ‫البعد الصوفي في قصائدها‪:‬‬ ‫كالفقير أمد يدي إلى اهلل‪ ،‬وأسأله‬ ‫اتساع ًا في الرؤية‬ ‫وارتفاع ًا في الهبوط‪.‬‬ ‫تبحث الشاعرة في سر الحياة وتبحث‬ ‫عن الس���ر الذي به نحي���ا‪ ..‬ثمة نداء حار‬ ‫يلقي بنا إلى الجانب المهمل من أرواحنا‬ ‫إل���ى الفس���حة األرحب ف���ي عقولنا التي‬ ‫ال يمكن للحياة اليومية أن تس���تغلها أو‬

‫تستهلكها‪ ،‬هكذا اكتشفت الشاعرة وجود‬ ‫درة نفيس���ة داخلها أرادت أن تس���تمتع‬ ‫بألقها‪.‬‬ ‫يب���دو واضح ًا ات���كاء الش���اعرة على‬ ‫الحدس الصوفي‪ ،‬فهي تس���تهدف صورًا‬ ‫جزئية لخلق حالة تكون شبيهة بالحالة‬ ‫الصوفية‪ ،‬حي���ث تصبح للكلمات دالالت‬ ‫أقرب لمفهوم اإلش���ارات عند المتصوفة‪،‬‬ ‫فحين تتحول الكلمات إلى نس���ق لغوي‬ ‫بعد أن تنتظم داخل سياق أسلوبي‪ ،‬فإنها‬ ‫تمارس نوع��� ًا من التخفي‪ ،‬حيث تتحول‬ ‫الكلمات المتفرقة إلى عبارة وهنا ينطبق‬ ‫قول الزورباري «كالمنا إشارة فإذا صار‬ ‫عبارة خف���ي»‪ ،‬وبالتالي تصبح الصور‬ ‫وكأنها مغلف���ة بالغموض نتيجة لتفريغ‬ ‫األلف���اظ من دالالتها ثم ش���حنها بدالالت‬ ‫جديدة‪ ،‬حيث تنتقل اللفظة من س���ياقها‬ ‫المعجمي الذي يؤس���س العرف اللغوي‬ ‫لتصبح إشارة بالمعنى الصوفي‪:‬‬ ‫من ينفخ البوق؟‬ ‫طبول الحياة‪ ،‬ذاكرتي‬ ‫أنبش ترابها‬ ‫غبارها يكسوني‪.‬‬ ‫ومازلت أصعد‬ ‫وأهبط على درجاتها !‬ ‫حافية إال من لحم األرض‪.‬‬ ‫وفي ذلك تس���تعير الش���اعرة آليات‬ ‫الس���رد من مجال القص إلى الش���عرية‪،‬‬ ‫فيظهر الحوار والتكرار والتوقيع‪ ،‬وعبر‬ ‫فع���ل الق���ص ذاته ال���ذي ب���دوره يطرح‬ ‫تنوعات متعددة لعالقة الراوي والمروي‬ ‫له‪ ،‬وهذه االس���تعارة ه���ي عملية مهمة‬ ‫لنقل النص الش���عري إلى ما أطلق عليه‬ ‫بالكتابة عبر النوعية ونس���تطيع القول‬ ‫الن���ص النوع���ي‪ ،‬فنح���ن دون أن ندري‬ ‫وإزاء ه���ذا االنتق���ال أمام ن���ص يقع في‬ ‫المنطق���ة العازل���ة بين نوعي���ن أدبيين‬ ‫الشعر والقصة‪.‬‬ ‫اليوم صباح ًا‬ ‫ركبت على ظهر غيمة‬ ‫سألتني‪:‬‬ ‫إلى أين تودين الرحيل‬ ‫قلت لها‪:‬‬ ‫إلى بيت جدي‬ ‫إلى بيت أهلي‬


‫بكت غيمة على حالي‪:‬‬ ‫وذابت مطراً‪.‬‬ ‫تؤس���س فرات اس���بر قصائدها على‬ ‫المش���هدية‪ ،‬فهي تهتم بص���ورة المقطع‬ ‫الكلية وذلك بس���بب سيادة آليات السرد‬ ‫التي تستخدمها الش���اعرة في قصائدها‪،‬‬ ‫حي���ث إن الس���رد يقتضي رس���م صورة‬ ‫كلي���ة دون أن يع���ول كثي���رًا على نحت‬ ‫ص���ور جزئية وإن حدث هذا في القصائد‬ ‫ذات البع���د الصوفي‪ ،‬فالص���ورة الكلية‬ ‫تتطلب بطبيعتها انحراف��� ًا لغوي ًا لم يعد‬ ‫قائم ًا بالشكل الكلي داخل القصيدة وهنا‬ ‫تتأس���س القصيدة على مفهوم المشهدية‬ ‫ال���ذي يعتمد على خلق مش���هد ش���عري‬ ‫يتسم باالطراد واالكتمال‪ ،‬وهذا االكتمال‬ ‫ال يتحق���ق إال عند الوصول إل���ى الكلمة‬ ‫األخيرة أو الجملة األخيرة في المقطع أو‬ ‫القصيدة وهو ما يس���مى بالتوقيع الذي‬ ‫تعتم���ده الش���اعرة في أغل���ب قصائدها‪،‬‬ ‫وهو من أهم آليات الس���رد المس���تخدمة‬ ‫لدى الشاعرة‪:‬‬ ‫أهش الزمان‬ ‫تهرب ذكرياتي‬ ‫كالخراف‬ ‫تترك روثها على جلدي‬ ‫أملس جسدي‬ ‫صقله الحب على مقاسه‪.‬‬ ‫المش���هد يكون عادي ًا في أحيان كثيرة‬ ‫وأقرب إلى مناجاة دينية إال أن استثمار‬ ‫الش���اعرة للموروث الديني نقل القصيدة‬ ‫بخفة إلى الشعرية‪:‬‬ ‫في صحن المزار توقد شموع التوبة‬ ‫خبئن���ي أيها الباس���ط ف���ي عباءتك‬ ‫وامنحني‬ ‫من أسمائك أحسنها‬ ‫فأنا زهرة في بستان األيام‬ ‫منحت نسغي لشجر كبر فوق قامتي‬ ‫خذ بيدي يا خالقي‬ ‫وامنحني عبورًا يلغي المسافة‪.‬‬ ‫حكت فرات اس���بر الحكاي���ة ما خفي‬ ‫منها وما ظهر‪ ،‬وألنها بال ذيل فلم تنته‪،‬‬ ‫تجعلنا الحكايات التي ال تنتهي نتأمل‪...‬‬ ‫وننتظ���ر‪ ،‬وفي الحالتين‪ :‬س���مو جعلتنا‬ ‫الشاعرة نحلم به‪.‬‬

‫العجائبي‬ ‫القصاص‬ ‫وخطاب‬ ‫ّ‬ ‫عبداحلق ميفراين ‪ -‬املغرب‬ ‫«س���لطة اآلي���ة وفتن���ة الحكاية‪:‬‬ ‫المتخيل وح���دود الكتاب���ة» الصادر‬ ‫ضم���ن منش���ورات وزارة الثقاف���ة‬ ‫المغربي���ة (‪ ،)2011‬مؤل���ف يعك���س‬ ‫إيم���ان الباح���ث الراس���خ بنس���بية‬ ‫المناهج والنظريات‪ ،‬حيث اس���تفاد‬ ‫من اإلطار العام لتصور جلبير دوران‬ ‫لمفه���وم «المتخي���ل» بوصف���ه إطارًا‬ ‫ﺃنثروبولوجي ًا يتجادل فيه القدس���ي‬ ‫والدنيوي‪ ،‬كي يق���ارب كتاب «تحفة‬ ‫األلباب ونخب���ة اﻷعجاب» ألبي حامد‬ ‫الغرناطي‪.‬‬ ‫وقد ج���زﺃ مصطفى النح���ال كتابه‬ ‫إلى ثالث���ة أقس���ام وس���تة فصول‪،‬‬ ‫س���عت إل���ى إب���راز تص���وره النقدي‬ ‫ال معرفي ًا‬ ‫للمتخي���ل باعتب���اره «ش���ك ً‬ ‫محايث��� ًا لعال���م األف���كار والمعتقدات‬ ‫واألس���اطير واأليديولوجي���ات التي‬ ‫يس���بح فيها كل ف���رد وكل حضارة»‪،‬‬ ‫كما توقف عن���د نوعية جنس الكتابة‬ ‫في «تحف���ة األلباب» ووض���ح تباعد‬ ‫وتج���اور الجغراف���ي والتاريخ���ي‬ ‫والوعظي والش���عري داخل مكوناته‬ ‫بالعودة إل���ى حكايتين فرعيتين هما‬ ‫«ﺇرم ذات العماد» و«مدينة النحاس»‪،‬‬ ‫خصص شطرًا من تحليالته لتجليات‬ ‫وتمظه���رات العجائبي والغرائبي في‬ ‫النص موضوع الدراسة‪.‬‬ ‫وخالص���ة الدراس���ة ‪ -‬كم���ا جاء‬ ‫في مختت���م الكت���اب ‪ -‬ه���و «الطابع‬ ‫المنفتح لخط���اب المتخيل ونصوص‬ ‫العجائب والغرائب»‪ ،‬لوجود نوع من‬ ‫«التنافذية» واش���تغال المسارات غير‬

‫المتوقعة للحكائية المنفلتة من حدود‬ ‫ال عن «نس���بية‬ ‫التجنيس األدبي‪ .‬فض ً‬ ‫التعارض بين القدس���ي والدنيوي»‪،‬‬ ‫ألن «العجائبي» ف���ي الثقافة العربية‬ ‫الكالسيكية قضية «جدية» بامتياز ال‬ ‫عالقة لها بتحليقات الخيال وحدوس‬ ‫الكتابة الفنطازي���ة‪ ،‬بل «عالمة على‬ ‫القوة اإللهي���ة‪ ،‬وعلى عظمة الخالق‪،‬‬ ‫وعلى فك���رة وج���ود وح���دة الكائن‬ ‫المخلوق ووحدة الخالق»‪.‬‬ ‫يمك���ن الق���ول إن كتاب «س���لطة‬ ‫اآلي���ة وفتن���ة الحكاي���ة‪ :‬المتخي���ل‬ ‫وح���دود الكتابة» عمل معرفي ينش���د‬ ‫الع���ودة إلى الت���راث‪ ،‬ليس بالحديث‬ ‫العابر عن نصوص���ه‪ ،‬وإنما بوضع‬ ‫ه���ذه النصوص تحت مجه���ر التحليل‬ ‫العلم���ي‪ ،‬واالجته���اد ف���ي تحدي���ث‬ ‫اآللي���ات واألدوات واإلج���راءات‬ ‫المنهجي���ة الكفيل���ة بمس���اعدتنا على‬ ‫فهمها وتأويله���ا في عالقتها بعناصر‬ ‫االنس���جام والتراب���ط في م���ا بينها‪،‬‬ ‫أو عل���ى حد تعبير مصطف���ى النحال‬ ‫«العودة للتراث للتحدث فيه بد ًال من‬ ‫االكتفاء بالتحدث عنه»‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫رواية «خالي بانجمان»‪ ،‬هي أشهر كتب كلود تيلييه‪ ،‬نشرت ألول‬ ‫مرة متسلسلة في حلقات وذلك في سنة ‪ .1842‬ثم في طبعات متعاقبة‬ ‫آخرها في إبريل‪/‬نيسان ‪.2011‬‬

‫كلود تيلييه‪:‬‬

‫حصاد االستبداد‬ ‫عبد اهلل كرمون ‪ -‬لوزان‬ ‫إن أزمنة الكتابة‪ ،‬ال��رواي��ة‪ ،‬النشر‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى زمن قراءة هذا النص في‬ ‫حالنا اليوم هي كلها أزمنة التغيرات‬ ‫والثورات‪ ،‬فقبل سنوات من نشرها‪ ،‬ال‬ ‫يفوتنا التذكير بثورة سنة ‪ 1830‬التي‬ ‫أطاحت بالملكية المطلقة بإسقاط نظام‬ ‫شارل العاشر الذي كان يمثلها‪ ،‬باستبدالها‬ ‫بملكية دستورية في شخص لويس فيليب‬ ‫األول‪ .‬لم يقدّر لكلود تيلييه أن يحيا أربع‬ ‫سنوات أخرى فقط حتى يتسنى له أن يشهد‬ ‫سنة ‪ 1848‬اندالع ثورة شعبية عارمة في‬ ‫باريس‪ ،‬يسقط على إثرها لويس فيليب‬ ‫نفسه‪ ،‬ويسجل له في التاريخ شجاعة‬ ‫رفضه إعطاء األوام��ر بإطالق الرصاص‬ ‫على المتظاهرين الباريسيين (أي مثال هذا‬ ‫لطغاة اليوم الذين يقتلون بال هوادة من‬ ‫المحيط إلى الخليج!) واختار التنحي ثم‬ ‫النفي‪ ،‬وجرجر الثوار كرسي عرشه إذن‬ ‫في الشوارع الباريسية كي يتم إحراقه في‬ ‫األخير أسفل السارية التي دشنت سنة‬ ‫‪ 1840‬بساحة الباستيل تخليدًا لذكرى‬ ‫شهداء أي��ام ث��ورة ‪ 1830‬المجيدة‪ .‬كان‬ ‫هذا إذن أول��ى ب��وادر إرس��اء الجمهورية‬ ‫الثانية في فرنسا‪ .‬في تلك األثناء كانت‬ ‫فرنسا تتوغل ظالمة في أرض ليست لها‬ ‫هي الجزائر تحارب األمير عبد القادر‪،‬‬ ‫وتضرب مدينة طنجة في المغرب إذ كان‬ ‫السلطان عبد الرحمن حينئذ يساند الجزائر‬ ‫في مقاومتها‪.‬‬ ‫لقد سبق إلدوار مولينارو أن اعتمد‬ ‫على هذه الرواية كي ينجز فيلم ًا سنة‬

‫‪126‬‬

‫‪ 1969‬عن بانجمان‪ ،‬غير أنه لم يوفق‬ ‫فيه نهائياً‪ ،‬ذلك أن اضطالع جاك بريل‬ ‫ب��دور بانجمان ك��ان في نظر المتتبعين‬ ‫أمرًا سلبي ًا أكثر منه إيجابياً‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫التحوير المقصود في كثير من مناحيه‪،‬‬ ‫ما لم يزد طين تلك العملية كلها إال بلالً‪،‬‬ ‫ولسنا هنا بصدد انتقاد الفيلم‪ ،‬ما قد ال‬ ‫يكون‪ ،‬حقيقة‪ ،‬أم��رًا خالي ًا من الفائدة‬ ‫والتسلية معاً‪.‬‬ ‫س���وف ل��ن آت���ي ك��ث��ي��رًا ع��ل��ى سيرة‬ ‫الكاتب‪ ،‬ألن أغلب ما نسبه ه��ذا األخير‬ ‫إلى خاله بانجمان هو في حقيقة األمر‬ ‫من طبائعه وخصاله هو بالذات‪ ،‬تمويها‬ ‫ودرءًا لفضح التنكر‪.‬‬ ‫ليست رواية تيلييه نص ًا عماده سبل‬ ‫الخيال كلها وأس��ب��اب اإلث���ارة قاطبة‪،‬‬ ‫بل هو نص فلسفي‪ ،‬إن لم أقل‪ ،‬متيقن ًا‬

‫من ذل��ك‪ ،‬بأنه منشور جسور في باب‬ ‫التحريض السياسي‪ ،‬ذلك أنه ليس بتات ًا‬ ‫شهادة سيئة أو مجرد رواية مترفة‪.‬‬ ‫يرى تيلييه‪ ،‬منذ البدء أن‪ ،‬مسألة نبل‬ ‫النبالء هي من أشد األمور عبثاً‪ ،‬يتابع‬ ‫قائالً‪« :‬هل أوجد الخالق فيما يخص عشب‬ ‫المروج نبتة أطول من مثيالتها؟ وهل علق‬ ‫النياشين على أجنحة الطيور أو فوق وبر‬ ‫الحيوانات المفترسة؟»‪« ،‬فما شأن أولئك‬ ‫الناس كلهم الذين تسمو مراتبهم‪ ،‬والتي‬ ‫ملك‪ ،‬على مراتب اآلخرين؟»‪.‬‬ ‫يختلقها ٌ‬ ‫كتب أن هنري الرابع (ملك فرنسي‬ ‫ال‬ ‫ساد خالل القرن السابع عشر) جعل رج ً‬ ‫حضر إوزة شهية‬ ‫حقيرًا كونتا بمجرد أن ّ‬ ‫لجاللته‪ ،‬وصار اليوم ألحفاد هؤالء امتياز‬ ‫أن يعتدوا علينا ويحتقرونا‪ ،‬ألن أجدادنا‬ ‫نحن لم تتوافر لهم فرصة أن يقدموا لملك‬ ‫جناح دجاجة هبة!‬ ‫يواصل تيلييه استنكاره‪ ،‬متوجه ًا‬ ‫هذه المرة إلى الشعب‪ ،‬في لهجة تأنيب‬ ‫لها كل مبرراتها السديدة‪ ،‬كتب‪« :‬لكن‪ ،‬قل‬ ‫لي أيها الشعب الغبي‪ ،‬ما تكون القيمة‬ ‫للحْرَفين اللذين يضعهما‬ ‫التي تسبغها َ‬ ‫أولئك الناس (أي األرستقراطيين) قدام‬ ‫أسمائهم؟ فهل تزيد شبرا لقاماتهم؟ هل‬ ‫يتمتعون بأكبر قدر من الحديد أكثر منك‬ ‫في الدم؟ أكثر منك من النخاع الدماغي في‬ ‫الحق العظمي لرؤوسهم؟ هل بوسعهم‬ ‫ُ‬ ‫أن يصولوا ويجولوا بسيف أثقل من‬ ‫سيفك؟»‪.‬‬ ‫ويضيف‪« :‬يستحيل أن يقبل عشرون‬ ‫مليون ًا من الرجال أال يكونوا دائم ًا شيئ ًا‬ ‫ال يذكر في ال��دول��ة‪ ،‬بينما يكون بعض‬ ‫آالف الموالين شيئ ًا ذا قيمة‪ .‬فمن يبذر‬ ‫االمتيازات فالبد أن يحصد الثورات‪ .‬ربما‬ ‫لن ينأى الوقت الذي سوف يزيل فيه الماء‬ ‫تلك النياشين البراقة‪ ،‬وس��وف يحتاج‬ ‫الذين يتزينون بها اآلن إلى حمايتهم من‬ ‫طرف خدمهم»‪.‬‬ ‫ال ال‬ ‫ك��ان الرجل على كل ح��ال مناض ً‬ ‫يقهر في سبيل نضاله ال��دائ��م لتحقيق‬ ‫سيادة الشعب ثم االلتفاف الدائم لجميع‬ ‫اآلخ���ري���ن‪ .‬غ��ي��ر أن رواي����ة تيلييه في‬ ‫ال وخصب ًا عن‬ ‫مجموعها تحمل ملف ًا كام ً‬ ‫آراء الرجل واعتراضاته التي ال مفر منها‪.‬‬


‫بني ال�ضفتني‬

‫إيزابيلال كاميرا‬

‫درس أومبرتو إيكو‬ ‫يدور الحديث في إيطاليا حول حالة نش���ر أثارث كثيرًا من‬ ‫الضجي���ج‪ .‬قال البع���ض إن أومبرتو إيكو يعيد كتابة نس���خة‬ ‫جديدة من «اس���م الوردة»‪ .‬فتس���اءل الكثيرون عن التغييرات‬ ‫التي يمك���ن إليكو أن يدخله���ا على النس���خة األولى‪ ،‬وكثرت‬ ‫التوقعات واختلفت حتى أعطى الكاتب اإليطالي الكبير درس��� ًا‬ ‫كبيرًا في التواضع‪ ،‬وهو ما يعد في زمننا هذا شيئ ًا عظيماً!‪.‬‬ ‫ق���ال إيكو ببس���اطة إنه يق���وم بتصحيح بع���ض األخطاء‬ ‫والهنات الناشئة عن الغفلة أو إن شئت القول «أخطاء تتعلق‬ ‫بالدق���ة» كما أعلن هو نفس���ه ف���ي حوار نش���رته صحيفة «ال‬ ‫ريبوبلي���كا» اليومي���ة‪ ،‬بتاري���خ ‪ ،2011/9/5‬أي أنه اقتصر‬ ‫على‪« :‬حذف لفظ بعينه تكرر على مس���افة صفحات متقاربة‪،‬‬ ‫مع توخ���ي حرص أكبر تجاه اإليقاع‪« ،‬ألن���ه يكفي أن تحذف‬ ‫صفة أو تشطب جملة اعتراضية حتى تصبح الفقرة خفيفة»‪.‬‬ ‫والحقيقة أن التكرار بالنس���بة لن���ا نحن ‪ -‬اإليطاليين ‪ -‬يعد‬ ‫هاجس��� ًا حقيقياً‪ ،‬يصعب فهمه في لغات أخرى تسمح به‪ ،‬بل‬ ‫وتستحسنه (كما في حالة اللغة العربية التي تستسيغ اإلطناب‬ ‫أحيان���اً)‪ .‬وهكذا فإن إيك���و يقوم بمهمة «صياغ���ة» لعمله هو‬ ‫نفسه‪ ،‬والشيء األكثر إدهاش��� ًا هو اعترافه بأنه أدرك بعض‬ ‫الهنات نتيجة للعمل الدؤوب من جانب العديد من المترجمين‪،‬‬ ‫حيث أن كتبه ترجمت حتى اآلن إلى العديد من اللغات‪.‬‬ ‫فكما هو معروف يعتبر المترجم هوالوحيد الذي يزن النص‬ ‫كلمة بكلمة‪ ،‬وهو الوحيد الذي يس���تطيع أن يحكم على نص‪،‬‬ ‫ويدرك التكرار والتناقض والتفسيرات المتنوعة للمفردة ذاتها‪،‬‬ ‫وكذلك الهنات الجغرافية والتاريخية‪ .‬ومعنى هذا أن المترجم‬ ‫الممتاز ال يفلت منه شيء أبداً‪ .‬فإذا سمحت له الظروف يتصل‬ ‫بالكات���ب ويبلغه بطريقة ودي���ه عما وجده في نصه من هنات‬ ‫قام بتصحيحها في الترجمة‪ .‬وإذا كان الكاتب ذكي ًا فهو يش���كر‬ ‫المترج���م ويعمد إلى التصحيح متى اس���تطاع ذلك‪ .‬ولكن إذا‬ ‫كان الكاتب متواضع ًا وله طموح‪ ،‬فإنه س���وف يسعى بكل ما‬ ‫أوت���ي من قوة للدفاع عما كتب���ه‪ ،‬وإللصاق التهمة باآلخرين‪،‬‬ ‫الطّباع‪ ،‬أو دار النشر‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫مثل َّ‬ ‫إن المش���كلة التي تعذبن���ا نحن ‪ -‬المترجمي���ن‪ -‬تقع عندما‬ ‫نترجم لكاتب راحل أو ال يمكن االتصال به‪ ،‬عندئذ س���وف تقع‬

‫المسئولية كلها على المترجم‪ .‬حدث لي وأنا أترجم من العربية‬ ‫ال أن مدينة ميالنو‬ ‫بعض النصوص كان فيها المؤلفون يرون مث ً‬ ‫بها بحر‪ ،‬أو أن أغنية إنجليزية شهيرة اعتبروها إيطالية‪ ،‬أو‬ ‫أن النور كان يتس���لل من أسفل باب زجاجي (شفاف)‪ ،‬أو أنه‬ ‫في غرفة بها أربعة جدران يصف منها خمس���ة جدران‪ ،‬وكثير‬ ‫من األشياء األخرى الكبيرة والصغيرة‪ ،‬مثل الشخصيات التي‬ ‫تتبادل التحية وهم يخرجون من المش���هد‪ ،‬وفي الوقت نفس���ه‬ ‫ال كما لو أنهم ال يزالون داخل المشهد‪.‬‬ ‫يتحدثون طوي ً‬ ‫المش���كلة ال تكمن في ارتكاب أخط���اء‪ ،‬كبرت أو صغرت‪،‬‬ ‫ولك���ن في إمكان تصحيحها‪ .‬بالنس���بة ألومبرت���و إيكو‪ ،‬على‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬يتم عمل التصحيحات من أجل «إرضاء النفس‪،‬‬ ‫ولكي نحس بأننا أكثر راحة من الناحية األسلوبية‪ ،‬ومن أجل‬ ‫انسيابية النص» وليس التس���هيل على القراء فيما ال يفهمونه‬ ‫كما تصور البعض‪ .‬فعلى س���بيل المثال نجد الكثير من الجمل‬ ‫المكتوب���ة باللغة الالتينية في رواية إيك���و ال يفهمها الجميع‪.‬‬ ‫ولكن بالنسبة إليكو من لم يكن يفهم قبل هذه الطبعة الجديدة‬ ‫ل���ن يفهم بعده���ا‪ .‬إن الدرس الذي قدمه إيكو ه���و أننا ال نصل‬ ‫أبدًا إلى «الكمال»‪ ،‬وأن جميع النصوص يمكن كتابتها وإعادة‬ ‫كتابتها‪ ،‬حتى للتوافق مع تأثيرات الزمن على اللغة‪.‬‬ ‫ونحن ف���ي األدب اإليطالي لدينا مثال آخ���ر جيد نحتذيه‪.‬‬ ‫الكاتب الس���اندرو مانزوني من القرن التاس���ع عشر كان يقول‬ ‫إنك حتى تحس���ن لغتك اإليطالية في ميالن���و يجب أن تذهب‬ ‫وتغسل مالبسك في نهر أرنو بفلورنسا (معقل اللغة اإليطالية‬ ‫الفصحى)‪ ،‬وهكذا استطاع أن يدخل الكثير من التعديالت على‬ ‫أهم أعماله «العريسان الموعودان»‪.‬‬ ‫فإذا عدنا إل���ى الطبعة الجديدة من «اس���م الوردة» نجد أن‬ ‫الكاتب اعت���رف بعد ذلك أنه أجرى بعض التغيير األساس���ي‬ ‫وهو قليل‪ ،‬ولكنه لم يقاومه‪ ،‬فاضطر إلى التغيير‪ ،‬مثل وصف‬ ‫وجه أمين المكتبة ألنه أراد أن يحذف منه «إشارة قوطية غير‬ ‫مريح���ة» وهو ما يجعلنا نعتقد أن الكاتب اس���تمتع أيض ًا بهذه‬ ‫المهمة األخيرة‪ .‬من يدري كم مرة فكر في هذه الش���خصية كما‬ ‫وم ْن غير المؤلف يستطيع‬ ‫صورها هو‪ ،‬والتي لم تعد تعجبه؟ َ‬ ‫يعدل من شخصياته على هواه؟‬ ‫أن ِّ‬ ‫‪127‬‬


‫ت�شكيل‬

‫نور الدين فاتحي‬

‫بين مطرقة الواقعية‬ ‫وسندان الوجودية‬

‫�شفيق الزكاري ‪� -‬إ�سبانيا‬

‫‪128‬‬

‫اخت���ارت لجن���ة انتق���اء الفناني���ن‬ ‫المشاركين في فعاليات الترينالي الثالث‬ ‫الدول���ي للطباعة والفنون التش���كيلية‬ ‫في بانكوك تايالند (ديس���مبر‪/‬كانون‬ ‫األول ‪ )2011‬الفنان التشكيلي المغربي‬ ‫نور الدي���ن فاتحي ال���ذي يحظى بهذه‬ ‫المش���اركة بتمثي���ل مغرب���ي وعربي‪.‬‬ ‫المعرض يعرف اهتمام ًا واس���ع ًا نظرًا‬ ‫لش���هرته وتاريخ���ه‪ ،‬والع���دد الهائل‬ ‫م���ن الفنانين الذين يش���اركون فيه من‬ ‫مختل���ف أنحاء العال���م‪ ،‬حيث وصلت‬ ‫قائمة المش���اركين في دورة هذا العام‬ ‫إلى ‪ 1389‬من ‪ 64‬بلداً‪.‬‬ ‫الفنان فاتح���ي يعتبر م���ن األوائل‬ ‫الذين ساهموا في الحركة التشخيصية‬ ‫بالمغ���رب‪ ،‬وذل���ك من���ذ أواخ���ر‬ ‫السبعينيات وأواسط الثمانينيات‪ ،‬بل‬ ‫ومن رواد الحركة التشخيصية الجديدة‬ ‫المنفلت���ة م���ن التقريري���ة والواقعية‬ ‫المفرط���ة‪ ،‬فأعماله وبكل موضوعية‪،‬‬ ‫كانت نتيجة بحث واشتغال‪ ،‬متجاوزًا‬


‫ببع���د نظ���ره‪ ،‬وفراس���ته التش���كيلية‬ ‫ح���دود المنت���وج اإلبداع���ي المحلي‪،‬‬ ‫فالفاتح���ي اختار من���ذ البداية معانقة‬ ‫اإلبداعات الفني���ة العالمية في أهميتها‬ ‫وصرامة اهتماماتها ومس���ايرتها لكل‬ ‫التح���والت السياس���ية واالقتصادي���ة‬ ‫واالجتماعي���ة والتكنولوجية‪ ،‬فجاءت‬ ‫تجربته المرتبطة بـ «التراب وبعوامل‬ ‫التعري���ة» بداي���ة لمش���روع حقيقي‪،‬‬ ‫الرتباطه بأسئلة جوهرية في التشكيل‬ ‫حيث تقاطع الفع���ل الصباغي المخير‬ ‫والمس���ير‪ ،‬بمعنى آخر‪ :‬الفعل اإلرادي‬ ‫ب���إرادة الفن���ان‪ ،‬والفع���ل ال�ل�اإرادي‬ ‫المرتب���ط بالصدفة‪ ،‬حي���ث يتم تهييء‬ ‫األسندة بمواد صلبة على شكل نتوءات‬ ‫مع الحفاظ على طراوتها ليسكب الماء‬ ‫فيق���وم برس���م مس���الكه وانعراجاته‬ ‫ت���ارك ًا بصمات واضح���ة وجارفة لكل‬ ‫الم���وارد م���ن أتربة وإس���منت وألوان‬ ‫وغيره���ا‪ ،‬فيحدث بذلك تكوين ًا جمالي ًا‬ ‫يغرف من الماضي برواس���به ويجعل‬

‫فع�ل�ا حداثي ًا يحمل‬ ‫ً‬ ‫م���ن هذه المعالجة‬ ‫دالالت موضوعي���ة وتاريخي���ة تجمع‬ ‫بي���ن الماضي والحاضر ف���ي بعديهما‬ ‫التسلس���لي والتطويري‪ ،‬ليتدخل فيما‬ ‫بع���د ذلك إلع���ادة ترميم المس���احات‬ ‫المحفورة واستعادتها بملون طبيعي‬ ‫مخضب‪ ،‬م���ن هنا كانت بداية مغامرته‬ ‫الفنية التي أصبحت فيما بعد مس���رح ًا‬ ‫تص���ب فيه كل التج���ارب الخيالية لهذا‬ ‫الفن���ان والتي تبرز م���ن خالل اختيار‬ ‫مواضيعه التيماتية (الخيال واألرض‪،‬‬ ‫الخي���ال التاريخ���ي‪ )..‬إل���ى أن حطت‬ ‫ب���ه هذه الرحلة الخيالي���ة الممتعة في‬ ‫أسلوب جديد تتقاطع فيه كل التقنيات‬ ‫واألف���كار والت���ي طوره���ا ف���ي نفس‬ ‫االتجاه حي���ث بقيت حاض���رة كفكرة‬ ‫لكنه���ا تغيرت في ش���كلها لتتخذ نمط ًا‬ ‫آخ���ر مع حل���ول مواد أخ���رى عوض‬ ‫المواد السابقة‪.‬‬ ‫في تجاربه الجديدة يحاول الفاتحي‬ ‫أن يتفاعل مع الوضع الحالي برمزية‬

‫منفتح���ة وملفت���ة للنظر‪ ،‬فه���و يقوم‬ ‫في عمل���ه بإعادة ترمي���م الخراب كما‬ ‫س���ماه في أحد معارضه‪ ،‬ليجعل منه‬ ‫كتلة س���ردية موح���دة في تناس���قها‬ ‫انطالق��� ًا من وع���ي مس���بق فعلت فيه‬ ‫مرجعيته المشهدية والثقافية‪ ،‬لكي ال‬ ‫يضفي على العم���ل صبغة تقنية فقط‬ ‫ب���ل معرفية كذلك كوس���يلة تواصلية‬ ‫ممتع���ة يتداخل فيها العقل والش���عور‬ ‫مع إب���راز خصوصي���ات دياليكتيكية‬ ‫مول���دة طروح���ات مزدوج���ة عل���ى‬ ‫مس���توى االختالف من حي���ث التفكير‬ ‫والتحلي���ل ومن حي���ث معالجة الرؤية‬ ‫ف���ي تقابالته���ا المعرفي���ة والثقافي���ة‬ ‫(الش���رق والغرب) لذل���ك كانت أعماله‬ ‫جس���رًا منهجي��� ًا للمناقش���ة والحوار‪،‬‬ ‫فاشتغاله على نماذج غربية وخاصة‬ ‫لفنانين كبار أمثال‪ :‬كويا‪ ،‬دافنشي‪...‬‬ ‫ليس إال ذريعة إلع���ادة صياغة طرح‬ ‫أس���ئلة عالق���ة ف���ي تاريخ التش���كيل‬ ‫العالمي‪ .‬فالوجوه واألجساد المتكررة‬ ‫ضمن نس���ق جمالي وحسابي‪ ،‬ليست‬ ‫عقم��� ًا إبداعي ًا بقدر م���ا هي انتباه ذكي‬ ‫ألهمية تطابق الموض���وع مع التقنية‬ ‫المس���تخدمة (الس���يريغرافيا) كج���زء‬ ‫من تقني���ات أخرى ف���ي العمل‪ ،‬حيث‬ ‫االستنساخ الفني الذي يعكس معضلة‬ ‫وجودية من خالل االستنساخ البشري‪،‬‬ ‫بتركيبات مربعة وش���فافة تبرز منها‬ ‫فسيفساء زخرفية تارة عمودية وتارة‬ ‫أخرى أفقي���ة كأنها لعبة ش���طرنجية‬ ‫تسافر بعين المتلقي من قطعة ألخرى‬ ‫إلى ما ال نهاية‪ ،‬من العيون إلى الوجوه‬ ‫إلى األجساد‪ ،‬بتمحيص شمولي وجاد‬ ‫للكائن البش���ري ف���ي كل تموضعاته‪،‬‬ ‫ال برم���وز وعالم���ات تفصح عن‬ ‫محم ً‬ ‫مداخل ألس���رار ش���كلية احتفظ الفنان‬ ‫بالبعض منه���ا لتك���ون أرضية لجدل‬ ‫ونق���اش يس���عى من خالل���ه أن يفتح‬ ‫حوارًا مع الحضارات األخرى بعيدًا عن‬ ‫أي تأثير عقائ���دي أو قبلي أو عرقي‪،‬‬ ‫وكل ه���ذه األف���كار ينجزه���ا الفاتحي‬ ‫بحرفية تفضي بالمتلقي إلى الوصول‬ ‫لمغزى مضامين هذا المش���روع الفني‬ ‫بأبعاده الجمالية وقيمه اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪129‬‬


‫صورة الزمن‬ ‫في الفن والواقع‬ ‫يو�سف ليمود ‪-‬رو�سيا‬

‫ف���ي ع���ام ‪ ،1991‬طلب���ت مؤسس���ة‬ ‫للس���اعات من الفنان السويس���ري نوت‬ ‫لس���اعة‪ ،‬في سلس���لة‬ ‫ٍ‬ ‫فيت���ال تصميم ًا‬ ‫الساعات الشعبية التي تنتجها سنوياً‪،‬‬ ‫والت���ي يقوم أحد الفنانين المش���هورين‬ ‫برس���م تصميمه���ا‪ ،‬وغالب��� ًا م���ا يكون‬ ‫التصميم ذا عالقة مباشرة بشكل اإلنتاج‬ ‫مذكرًا بأس���لوبه‬ ‫الفن���ي لهذا الفن���ان أو ّ‬ ‫ورؤيته الفنية عموم���اً‪ .‬قام نوت فيتال‬ ‫لس���اعة ه���ي عمل فني‬ ‫ٍ‬ ‫بوضع تصميم‬ ‫ال عالق���ة له بوظيفة الس���اعة‪ ،‬بل كان‬ ‫تصميم���ه ضد فكرة الس���اعة‪ .‬ب���د ًال من‬ ‫العقارب التي تش���ير إلى الوقت‪ ،‬صنع‬ ‫عجلة بدائية الش���كل‪ ،‬تدور في‬ ‫ً‬ ‫الفن���ان‬ ‫ميناء بال أرقام‪ .‬الس���اعة تتك والعجلة‬ ‫تدور ف���ي المطلق‪ ،‬في معص���م يد! هل‬ ‫أراد الفنان أن يسخر من ماكينة المجتمع‬ ‫الحديث في بلد كسويسرا‪ ،‬كل شيء فيه‬ ‫بالدقيقة والثانية‪ ،‬وحيث اإلنسان أشبه‬ ‫بترس شفاف ال يكاد ُيرى في آلة فائقة‬ ‫الدق���ة‪ ،‬في حين أنه ف���ي الحقيقة يدور‬ ‫ويدور ف���ي ميناء فارغ وبال بوصلة؟ أم‬ ‫أراد الفن���ان بـ «العجل���ة الحيوان» التي‬ ‫تدور في الفراغ أن يشير إلى ما هو أبعد‬ ‫م���ن ثلج الواقع االجتماع���ي‪ ،‬إلى فكرة‬ ‫الزمن بمعناها الكبير؟ أي ًا ما كان منطلق‬

‫‪130‬‬

‫الفنان‪ ،‬فإن عجلته الحيوان‪ ،‬الس���ابحة‬ ‫في بياض الميناء‪ ،‬تثير الس���ؤال حول‬ ‫عالقتنا بمفهوم الوقت المصنوع من آلة‬ ‫ال من‬ ‫اجتماعي���ة رهيبة‪ ،‬ال مه���رب كام ً‬ ‫تروس���ها‪ ،‬مقابل زمن حيواني أبيض ال‬ ‫أرقام فيه وال تقس���يمات‪ ،‬زمن نولد به‬ ‫وال نع���رف من ضبط توقيته وال في أي‬ ‫ساعة يتوقف‪ ،‬ربما ما نحدسه فقط هو‬ ‫أنه صورة مصغ���رة إليقاع ذلك الميناء‬ ‫الالمحدود ‪ -‬الكون‪.‬‬ ‫عك���س معظ���م الفن���ون‪ ،‬ال تحت���اج‬ ‫الصورة (لوحة كانت أو فوتوغرافيا) إلى‬ ‫زمن ف���ي إدراك مكوناتها وعناصرها‪،‬‬ ‫إدراكه���ا يت���م ف���ي لحظة وق���وع العين‬ ‫عليه���ا‪ ،‬غي���ر أن هذه الحقيق���ة ال تنفي‬ ‫حقيقة أخرى وهي أن لكل صورة زمن ًا‬ ‫داخلي��� ًا تخلق���ه مكوناته���ا وعناصرها‬ ‫ومنط���ق تعام���ل الفن���ان مع أش���كاله‬ ‫ومفردات صورت���ه‪ .‬كان هذا واقع فكرة‬ ‫الصورة منذ نشأة فنون التصوير‪ ،‬حتى‬ ‫لو لم يكن الفنان على وعي بفكرة الزمن‬ ‫داخل مسطحه الالزمني بطبيعته‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫مع مطلع القرن العش���رين‪ ،‬باكتشافاته‬ ‫العلمية الكبرى‪ ،‬بدأ الفن في تغيير جلده‬ ‫مستفيدًا من نظريات وافتراضات العلم‪،‬‬ ‫كما حدث مع المدرس���ة االنطباعية التي‬

‫تأثرت بنظرية نيوتن في انشطار الضوء‬ ‫واكتش���افه ألوان الطيف السبعة‪ ،‬حدث‬ ‫وألول مرة‪ ،‬متأثرًا بنس���بية آينشتاين‪،‬‬ ‫ش���كل الحياة‬ ‫ّ‬ ‫وباللهاث الصناعي الذي‬ ‫الحديثة‪ ،‬أن ح���اول الفن تحقيق عنصر‬ ‫الس���رعة (التي هي الزمن) في اللوحة‪،‬‬ ‫كما ف���ي األدب والعمارة والموس���يقى‬ ‫منظر‬ ‫وحت���ى ف���ي فن الطب���خ‪ .‬أطل���ق ّ‬ ‫وزعيم هذا االتجاه الفني الثائر‪ ،‬الكاتب‬ ‫اإليطالي فيليبو مارينيتي‪ ،‬على حركته‬ ‫اسم‪ :‬المستقبلية‪ ،‬داعي ًا إلى قطيعة تامة‬ ‫وحاسمة مع كل األش���كال والمواضيع‬ ‫وط���رق التناول الفنية الس���ابقة عليه‪،‬‬ ‫عب���ر إنت���اج ف���ن مس���تقبلي‪ ،‬الحركية‬ ‫أساس���ه ومنطلقه‪ ،‬وهي الس���وط الذي‬ ‫يلس���ع ظهر الحاضر‪ ،‬كما يس���وط عين‬ ‫الناظر إل���ى العمل الفني‪ ،‬حيث الحقيقة‬ ‫ال تتجلى إال في الحركة التي ينتفي فيها‬ ‫األمان الخادع للسكون‪.‬‬ ‫به���ذا المفه���وم‪ ،‬فت���ت الفنان���ون‬ ‫المس���تقبليون (ومن أبرزه���م جياكومو‬ ‫باال‪ ،‬أمبرتو بوتش���يوني‪ ،‬كارلو كارا‪،‬‬ ‫وغيرهم)‪ ،‬فتتوا الشكل في أعمالهم عبر‬ ‫ترددات خطوط مهتزة توحي بالسرعة‪،‬‬ ‫حرك���ت إصبعك يمين ًا ويس���ارًا‬ ‫كما لو ّ‬ ‫بس���رعة كبيرة‪ ،‬ت���راه أصاب���ع عديدة‬ ‫متداخل���ة وبال تفاصي���ل واضحة‪ .‬هذه‬ ‫المدرس���ة الفنية التي خبَت ُبعيد الحرب‬ ‫العالمي���ة األولى‪ ،‬كان له���ا تأثير‪ ،‬ولو‬ ‫بش���كل غير مباش���ر‪ ،‬على حركات فنية‬ ‫عدي���دة تزامنت معه���ا‪ ،‬كالتكعيبية‪ ،‬في‬ ‫فرنسا‪ ،‬وكذلك الدادائية‪ ،‬ثم السريالية‬ ‫فيم���ا بع���د‪ .‬وواضح أن «المس���تقبلية»‬ ‫تعاملت بش���كل مباشر مع مفهوم الزمن‬ ‫الفيزيائي المترجم ميكانيكي ًا إلى حركة‪،‬‬ ‫أي الزمن الخارجي الناتج عن تس���ابق‬ ‫وصراع أزمنة وقوى كثيرة مختلفة‪ ،‬إال‬ ‫أنه مع مجيء فرويد بنظريته في العقل‬ ‫الباطن‪ ،‬خرجت السريالية‪ ،‬التي وجدت‬ ‫في ذلك «الباطن» بحيرتها التي تصطاد‬ ‫فيها س���مك األح�ل�ام‪ .‬كان ه���ذا يعني‪،‬‬ ‫يتك‬ ‫ضمني���اً‪ ،‬االنتباه إلى الزم���ن الذي ّ‬ ‫في الداخل‪ ،‬ب�ل�ا صوت‪ ،‬وفي غفلة منا‬ ‫الساعة البيولوجية‪.‬‬ ‫في زمن الحلم هذا‪ ،‬انصهرت س���اعة‬


‫العال���م المصنوعة من أرق���ام وعقارب‬ ‫وس���الت كصم���غ على غص���ن‪ ،‬مثلما‬ ‫ص َّو َره���ا س���لفادور دالي ف���ي لوحته‬ ‫َ‬ ‫الشهيرة المس���ماة «إلحاح الذاكرة»‪ ،‬كما‬ ‫اس���تطالت ظالل األش���ياء ف���ي لوحات‬ ‫جورجي���و دي كيريك���و‪ ،‬بأجوائه���ا‬ ‫الميتافيزيقية الطافحة بش���عور اغتراب‬ ‫اإلنس���ان ووحشته في فضاءات تعطلت‬ ‫مجمدة الزمن‪ ،‬كمدينة‬ ‫ساعات أبراجها‪ّ ،‬‬ ‫تحولت أش���باحها إلى تماثي���ل تنخرها‬ ‫ش���مس من نحاس‪ .‬غي���ر أن أفضل من‬ ‫تعامل ف���ي لوحاته مع عنص���ر الزمن‪،‬‬ ‫كان الفنان البلجيكي (المصنف كرس���ام‬ ‫س���ريالي ولكن���ه ف���ي الحقيق���ة ف���وق‬ ‫التصني���ف) ريني���ه ماجري���ت‪ .‬انطل���ق‬ ‫عمل ماجريت‪ ،‬بش���كل ع���ام‪ ،‬من فكرة‬ ‫االلتب���اس‪ ،‬أو الخل���ط الذهن���ي‪ ،‬بي���ن‬ ‫شيئين أو معنيين‪ ،‬في لحظة فالتة من‬ ‫أسر العقل الواعي‪ ،‬فالطائر يصبح هو‬

‫السماء والسحابة‪ ،‬وخطوة الحصان في‬ ‫جذع الش���جرة‪ ،‬والمرأة‬ ‫الغاب���ة تصبح َ‬ ‫العارية على الش���اطئ يصب���ح نصفها‬ ‫السفلي أرضاً‪ ،‬والعلوي بحرًا وسماء‪...‬‬ ‫هذا المنط���ق الذهني الملتب���س‪ ،‬والذي‬ ‫حول���ه ماجريت إل���ى جمالي���ة بصرية‬ ‫ّ‬ ‫ملتبس���ة‪ ،‬يكش���ف عن اختالف األزمنة‬ ‫التي تعمل بها األجه���زة الحيوية داخل‬ ‫الفرد الواحد‪ ،‬فالمنطق «الس���ليم» الذي‬ ‫نظام العالم‪ ،‬والذي يش���به‬ ‫ُ‬ ‫برمجن���ا به‬ ‫َ‬ ‫الخ���ط الزمني المس���تقيم‪ ،‬يتقاطع معه‬ ‫منحنى حدسي‪ ،‬شاعري‪ ،‬رؤيوي‪ ،‬يرى‬ ‫ً‬ ‫حقائق األش���ياء‪ ،‬مخترق ًا حاجز الزمن‪،‬‬ ‫فالرس���ام ال���ذي داخل اللوحة‪ ،‬يرس���م‬ ‫طائ���رًا بينما هو ينظ���ر إلى بيضة على‬ ‫طاولة بجانبه! ليس هذا مجرد استباق‬ ‫بارد للحاضر‪ ،‬قدر ما هو لحظة كش���ف‬ ‫انبثقت لقريحة يحركها زمن الش���عر‪ ،‬ال‬ ‫زمن اآللة‪.‬‬

‫في الس���تينيات‪ ،‬راهن بعض فناني‬ ‫الطليعة األميركيين (جاكسون بولوك‪،‬‬ ‫ولي���م دي كونين���ج‪ ،‬بيي���ر س���والج‬ ‫وآخري���ن‪ ،‬أُطل���ق عليهم اس���م «فنانو‬ ‫األكش���ن») على عنصر الزمن في إنجاز‬ ‫لوحته���م‪ :‬دفقة ش���عورية واح���دة عبر‬ ‫أداء سريع يعتمد على الحضور الذهني‬ ‫والتركي���ز الش���ديد وس���رعة التص���رف‬ ‫والترحي���ب بما يس���مى الصدف���ة‪ .‬هذه‬ ‫ال���روح األدائي���ة ‪ -‬االنفعالي���ة‪ ،‬الت���ي‬ ‫حاولت أن تسابق الزمن من خالل توتر‬ ‫وذبذبة روحية عالية‪ ،‬ل���م يكن افتعا ًال‬ ‫حاجة‪ .‬كانت‬ ‫ً‬ ‫أدائي ًا أو تجريباً‪ ،‬بل كانت‬ ‫انعكاس��� ًا ألرواح قلقة لنوع من الفنانين‬ ‫وغربهم الواقع‬ ‫ولدوا في أزمنة مرتبكة‪ّ ،‬‬ ‫بآليته وس���رعته المجنون���ة‪ ،‬فبصقوا‬ ‫بدورهم حموالته���م االنفعالية في حيز‬ ‫مس���طح‪ ،‬بال تش���نجات‪ ،‬لك���ن بنفس‬ ‫سرعة واقعهم‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫وحول ما إذا كان���ت العزلة ضرورية‬ ‫للفنان لتكثيف إنتاجه‪ ،‬يوضح بعلبكي‪:‬‬ ‫«هذه مس���ألة نفسية‪ ،‬أما مسألة التفاعل‬ ‫بين الذات والعالم فهي عالقة فيها تداول‬ ‫بي���ن الداخل والخ���ارج‪ ،‬بحس���ب قدرة‬ ‫الفن���ان عل���ى مراقبة الخ���ارج بكثافته‪،‬‬ ‫وم���ن ثم الع���ودة واالرتداد إل���ى داخله‬ ‫لطبخ المعاني واألفكار والصور»‪.‬‬

‫الربيع العربي‬

‫عشرات التفاصيل‬ ‫لعزلة باألبيض واألسود‬ ‫حممد غندور ‪ -‬بريوت‬ ‫ال يح���دد بعلبك���ي موضوع��� ًا معين ًا‬ ‫ألعماله قبل البدء بها‪ ،‬وال يتبع مس���ارًا‬ ‫معيناً‪ ،‬بل يترك نفس���ه على س���جيتها‪،‬‬ ‫فتتناسل المواضيع من بعضها بمجهود‬ ‫روحي‪.‬‬ ‫باألبيض واألس���ود يرس���م بعلبكي‬ ‫الحرب والسلم وآالف األسئلة الوجودية‪،‬‬ ‫طارح ًا تساؤالت تدور في رأس كل منا‪.‬‬ ‫ُيجرِّب كثيرًا في الموضوع ذاته‪ .‬العزلة‬ ‫ويتنشقها‪ .‬يرسمها‬ ‫ّ‬ ‫هي مالذه‪ ،‬يفكر بها‬ ‫ال‬ ‫بحاالت مختلف���ة‪ ،‬وي���أوي إليها حام ً‬ ‫معه انتقاداته ووسادة نومه وثورة في‬ ‫مهب الريح‪ .‬هو محور لوحاته‪ ،‬الموديل‬ ‫الوحيد القادر عل���ى التعبير وإيصال ما‬ ‫لدي���ه من أفكار إلى المتلقي‪ .‬هي ليس���ت‬ ‫نرجسية بل فوضى خالقة بديعة‪ ،‬تخدم‬ ‫مصلحة اللوحة‪.‬‬ ‫‪132‬‬

‫يقول بعلبك���ي‪« :‬العزلة موضوع من‬ ‫المواضيع التي أش���تغل عليه���ا‪ ،‬عزلة‬ ‫الكائن���ات واألغراض‪ ،‬العزل���ة كموقف‬ ‫حياتي‪ ،‬من���ذ المع���رض األول (‪)2004‬‬ ‫وه���ي موجودة كأس���لوب عيش‪ ،‬عزلة‬ ‫أقدِّر أنها حيوية وليس���ت سلبية‪ ،‬وبهذا‬ ‫المعن���ى‪ ،‬مجموع���ة معرض���ي األخي���ر‬ ‫ال لهذه‬ ‫«مراس���م العزلة» هي األكثر تمثي ً‬ ‫الحالة»‪.‬‬ ‫ويرى التش���كيلي اللبناني أن عزلته‬ ‫ليس���ت انقطاع ًا عن العالم‪ ،‬إنما لتركيز‬ ‫الجه���د الروحي والعقل���ي داخل البيئات‬ ‫الداخلي���ة‪ ،‬واإلطالل���ة منها عل���ى كافة‬ ‫مواضي���ع ال���ذات الفردي���ة وعالقته���ا‬ ‫المتفاعل���ة مع العالم‪ ،‬فهي «بهذا المعنى‬ ‫عزلة إلع���ادة إنتاج األف���كار وتظهيرها‬ ‫أعما ًال فنية»‪.‬‬

‫ق���دّم بعلبكي أح���دث أعماله في ظل‬ ‫الربي���ع العرب���ي‪ ،‬وفي خض���م ثورات‬ ‫تطال���ب بالديموقراطي���ة والحري���ة‬ ‫يحرك ش���يئ ًا‬ ‫والعدال���ة‪ ،‬بيد أن ذلك لم ّ‬ ‫في داخله لتقديم عم���ل يحاكي الثورات‬ ‫العربي���ة وانتصاراته���ا‪ .‬يق���ول‪ « :‬أميل‬ ‫دوم ًا لئال أربط نفس���ي مباشرة بالحدث‬ ‫وأصبح وكأنني أس���تغله‪ ،‬هذا الش���يء‬ ‫ال في فنون الرس���م المباشرة‬ ‫يصلح مث ً‬ ‫والتي لها غايات تجارية فتكون اللوحة‬ ‫متحفي���ة نوع ًا م���ا‪ ،‬أنا من األش���خاص‬ ‫الذين يتابعون مجريات الحياة والحدث‬ ‫التاريخي‪ ،‬لكن حين أذهب إلى اللوحة‪،‬‬ ‫أبتع���د ع���ن الح���دث ك���ي ال أعب���ر عنه‬ ‫بطريق���ة مباش���رة‪ ،‬خصوص��� ًا أنني ال‬ ‫أتفاعل بس���هولة مع األحداث‪ ،‬وال أتأثر‬ ‫بالجو العام‪ ،‬يعني قراءتي أو تحسسي‬ ‫لطبيعة العصر ال تك���ون مرتبطة بضخ‬ ‫الميديا‪ ،‬فانا انتقائي في هذا المجال»‪.‬‬ ‫ويضيف‪« :‬أميل إلى تخفيف األشياء‪،‬‬ ‫وأحاول من خالل اإلقليم الموجود فيه‪،‬‬ ‫أن أشعر بمشكالته‪ ،‬ولكن في الوقت ذاته‬ ‫أنتبه جيدًا للصور وما يحدث‪ ،‬كي أعبر‬ ‫بطريقة صحيحة ع���ن الحدث التاريخي‬ ‫حي���ن تتوض���ح األم���ور‪ ،‬وم���ن دون‬ ‫اس���تعجال‪ .‬أنا عموم ًا ميّال إلى التفكير‬ ‫كثي���رًا بالجان���ب العقل���ي لالنتفاضات‬ ‫والموج���ات التاريخي���ة‪ ،‬أفك���ر كثي���رًا‬ ‫باألحداث السياسية واألخبار المستجدة‬ ‫واالنزياحات والتمردات‪ ،‬وبالعنف الذي‬ ‫تمارس���ه آالت السلطة وآالت المضادين‬ ‫لها‪ .‬وأفكر أيض ًا بحلمي‪ ،‬وهو أن يلتقي‬ ‫الحراك السياس���ي (الجماهير والشعب)‬ ‫مع حس نهض���وي عفوي يفكر بالحداثة‬


‫وبالسلوك التربوي لإلنس���ان وبإنتاج‬ ‫منظومة قيم جديدة»‪.‬‬ ‫وعم���ا إذا كانت اللوحة ق���ادرة على‬ ‫انتقاد الواقع‪ ،‬يجيب التشكيلي اللبناني‪:‬‬ ‫«في الماضي وبطريقة مثالية كنت أشعر‬ ‫أن الفن قادر أن ينتق���د‪ ،‬ولكنني بالغت‬ ‫ف���ي اس���تنتاجاتي‪ ،‬الف���ن له مس���اراته‬ ‫وأج���واؤه‪ ،‬وف���ي بع���ض المحط���ات‬ ‫التاريخي���ة يلع���ب دورًا مس���اندًا لألداء‬ ‫النهضوي واإلصالحي أو الجماهيري أو‬ ‫السياسي»‪.‬‬ ‫ثم���ة ارتب���اط وثيق ما بي���ن بعلبكي‬ ‫واللونين األبيض واألسود‪ ،‬يستعملهما‬ ‫ليش���عرنا بح���رب مضت علن���ا نتذكرها‬ ‫ونتعل���م منه���ا‪ ،‬وليضيفا عل���ى اللوحة‬ ‫صفة واقعي���ة بحتة‪ ،‬فتصبح أقرب إلى‬ ‫الفوتوغرافيا منها إلى التش���كيل‪ .‬يعمل‬ ‫على تركيب اللحظة التي يرسمها‪ ،‬وعلى‬ ‫إغراقها في األسئلة وعالمات االستفهام‪.‬‬ ‫وع���ن تركيزه عل���ى األبيض واألس���ود‬ ‫يقول‪ « :‬اللونان باتا المادة األساس���ية‬ ‫التي اش���تغلت عليها م���ن البداية‪ ،‬ميلي‬ ‫لألبيض واألس���ود هو مي���ل حرفي‪ ،‬بدأ‬ ‫معي منذ الطفولة‪ ،‬وهو نوع من االتصال‬ ‫بالحساسيات األولى التي تربيت عليها‪،‬‬ ‫ال كان ميلي األساس���ي‬ ‫وعندما كنت طف ً‬ ‫للرس���م بالفحم واألحبار وبالقلم‪ .‬أميل‬

‫للرس���م بهما علم ًا أنه لدي تجربة تلوين‬ ‫دائم��� ًا موجودة إنما النس���بة األكبر هي‬ ‫لألبيض واألس���ود‪ ،‬فف���ي االتجاه الذي‬ ‫أخذته‪ ،‬كنت وفي ًا لحساسيتي األولى»‪.‬‬ ‫ويضيف‪« :‬بالطبع ال يغنيني األسود‬ ‫واألبيض عن باقي المجموعة‪ ،‬يمكن أن‬ ‫أل���ون‪ ،‬وممكن أن أدخ���ل باللون الواحد‬ ‫ّ‬ ‫وأك���ون عل���ى نف���س األرض‪ ،‬وأحاول‬ ‫دائم��� ًا أن أنتقل من نبرة إل���ى نبرة في‬ ‫اللون‪ ،‬يعني إذا كن���ت أعمل على اللون‬ ‫ألكون حاالت‬ ‫وألون ّ‬ ‫فترة طويلة‪ ،‬أعود ِّ‬ ‫مختلفة وأمثل حاالت مختلفة»‪ .‬ويوضح‬ ‫بعلبكي أن األبيض واألسود يعبران عنه‬ ‫بواقعية أكبر‪ ،‬وينقالن له الحرارة التي‬ ‫يحبها في العمل‪ ،‬ويشعر أن لديهما قدرة‬ ‫أكب���ر على تقوية التدف���ق العصبي الذي‬ ‫ينتج حركات الرسم‪.‬‬ ‫والمالح���ظ في أعم���ال بعلبكي قربها‬ ‫من الفوتوغرافيا‪ ،‬وكأنه يصور مش���هدًا‬ ‫ويجمدها‪ .‬يقول‪« :‬العمل‬ ‫ّ‬ ‫معين ًا أو لحظة‬ ‫المركب فيه ش���يء من األداء المسرحي‪،‬‬ ‫كأن الحياة واليوميات أفعال مدبّرة على‬ ‫منصة‪ ،‬والمنصة هي س���طح العمل أي‬ ‫اللوحة‪ .‬ثمة ش���يء من جم���ود ظاهري‬ ‫يوح���ي لك بص���ور االس���توديو‪ ،‬وهذا‬ ‫الشيء اتقصده دائماً‪ ،‬ولكن عندما ترى‬ ‫العمل بكليته وبكب���ره تالحظ أن الكادر‬

‫مع الهيئ���ة العامة للعم���ل‪ ،‬فيه طبيعة‬ ‫فوتوغرافي���ة وفي بعض الح���االت فيه‬ ‫حركية العم���ل الس���ينمائي‪ ،‬لكن عندما‬ ‫ت���رى األعم���ال الفنية مباش���رة تالحظ‬ ‫األداء الريف���ي وتالحظ الطبقات اللونية‬ ‫وتالح���ظ الح���س المس���ؤول داخل هذه‬ ‫الطبقات»‪.‬‬ ‫ومن األش���ياء التي يحبّه���ا بعلبكي‪،‬‬ ‫اللعب عل���ى حبلي���ن م���ن التعبير‪ ،‬وال‬ ‫ينزعج م���ن أن العمل يعي���ش حالة من‬ ‫الضي���اع بين أنه حقيق���ي وآني‪ ،‬أو أنه‬ ‫مدبّر وحس���ي‪ ،‬بي���ن أنه يمي���ل إلى أن‬ ‫يكون صورة فوتوغرافي���ة جامدة‪ ،‬مع‬ ‫حركية مدفونة في داخله‪.‬‬ ‫انتقد البعض بعلبكي أنه قدّم نفس���ه‬ ‫ف���ي أح���دث أعماله عل���ى أنه الرس���ام‬ ‫والموديل ف���ي آن مع���اً‪ ،‬وفيما آخرون‬ ‫اعتبروا ذلك نوع ًا من النرجسية‪ .‬بيد أن‬ ‫الفنان اللبناني ل���ه وجهة نظر خاصة‪،‬‬ ‫ويوض���ح أن ما فعل���ه يخ���دم أعماله‪،‬‬ ‫خصوص ًا أنه يبعد لوحاته عن التأثيرات‬ ‫النفس���ية‪ .‬ويش���ير إل���ى أن تاريخ الفن‬ ‫عرف ه���ذه التجربة كثيرًا ولكنها لم تكن‬ ‫بالكثافة التي قدّمها وفي حاالت عدّة‪.‬‬ ‫ولكن أال يعتبر البورتريه أس���هل من‬ ‫ال بانفعاالت وحاالت‬ ‫رس���م الجس���د كام ً‬ ‫معين���ة‪ ،‬خصوص��� ًا أن التحدي أصعب؟‬ ‫يجي���ب بعلبكي‪« :‬عندم���ا أعمل ال أنتبه‬ ‫إلى ه���ذه األس���ئلة‪ ،‬انتبه إليه���ا عندما‬ ‫انته���ي‪ ،‬فأن���ا أعمل بطريق���ة ال واعية‪،‬‬ ‫تتناسل أعمالي من بعضها‪ ،‬من دون أن‬ ‫ننسى أن لحظة الرسم هي لحظة مضت‪،‬‬ ‫واللحظات والدوافع ليست متشابهة»‪.‬‬ ‫أسامة بعلبكي من مواليد عام ‪،1978‬‬ ‫متخ���رج من الجامع���ة اللبناني���ة‪ ،‬كلية‬ ‫الفن���ون الجميلة‪ .‬نظ���م أربعة معارض‬ ‫فردية هي «لوحات باألس���ود» (‪)2004‬‬ ‫و«مش���هديات العزل���ة» (‪ )2007‬و«أق���ل‬ ‫دخان��� ًا وأكث���ر‪ )2009( »...‬و«مراس���م‬ ‫العزل���ة» (‪ .)2011‬ش���ارك ف���ي عدد من‬ ‫الفعاليات المحلي���ة والعربية والدولية‪،‬‬ ‫ونال ع���ام ‪ ،2009‬الميدالية الفضية عن‬ ‫مسابقة الرسم في األلعاب الفرنكوفونية‬ ‫الدولية التي أقيمت في بيروت‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫تحرير الجسد‬ ‫جمال جربان‪� -‬صنعاء‬ ‫حراك الشباب الثوري القائم في اليمن‬ ‫ال ينفصل عن جملة متغيرات أحدثها جيل‬ ‫الش���باب نفس���ه على مختلف األصعدة‪،‬‬ ‫األدبية منه���ا والفنية والصحافية‪ .‬وهي‬ ‫في مجموعها متغيرات ساهمت في صنع‬ ‫هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في حياة‬ ‫اليمنيين‪.‬‬ ‫الفن���ان أمي���ن الغاب���ري (‪ 26‬س���نة)‬ ‫ينتم���ي إل���ى جيل ش���اب م���ن محترفي‬ ‫الفوتوغرافي���ا‪ .‬جي���ل نش���أ بعي���دًا عن‬ ‫س���لطة األب‪ ،‬على أرض فنية مختلفة‪،‬‬ ‫متخففة من القواع���د أو المفاهيم الفنية‬ ‫الس���ائدة في اليمن‪ .‬له���ذا ظهرت بصمة‬ ‫الغابري المغاي���رة واضحة في أعماله‪.‬‬ ‫تحم���ل هوية خاص���ة ورؤي���ة متفردة‬ ‫لعناصر المحيط االجتماعي اليمني بكل‬ ‫ومحرماته‪ ،‬المعروف بمعاداته‬ ‫ّ‬ ‫تعقيداته‬ ‫الكاميرا‪ ،‬باعتبارها فضح ًا وكشف ًا للجسد‬ ‫األنثوي‪.‬‬ ‫ليس بالضرورة أن يكون العمل الذي‬ ‫يقوم ب���ه الغابري‪ ،‬القائ���م على إعادة‬ ‫تش���كيل تلك البيئة الخارجية ووضعها‬ ‫في متناول يده‪ ،‬اشتغا ًال يتطلب قطيعة‬ ‫تامة مع القواعد التي يسير عليها المجتمع‬ ‫‪134‬‬

‫في الخارج‪ ،‬بقدر م���ا هو متعلق بدرجة‬ ‫أساسية برغبة في إعادة تشكيل وإنتاج‬ ‫في محيط آمن‪ ،‬واختراع ما يشبه حياة‬ ‫بديلة له في هيئات تتقاطع وتتسق مع‬ ‫نظرته لما يج���ب أن تكون عليه اللحظة‬ ‫اليومية الدائرة في الخارج‪.‬‬ ‫لكن ال يبدو هذا األمر متاح ًا على نحو‬ ‫س���هل وعلى وجه الخص���وص في بيئة‬ ‫ملغومة بالعي���ب والممنوع وبالذات في‬ ‫ذلك الش���ق المتعل���ق باألنثى‪ .‬ال اقتراب‬ ‫مس���موح ًا في اليم���ن من ه���ذه المنطقة‬ ‫الش���ائكة‪ .‬وعليه يبدو على من يتعامل‬ ‫معه���ا أن يك���ون على درج���ة عالية من‬ ‫الح���ذر‪ ،‬وأمي���ن الغاب���ري يجي���د هذا‪.‬‬ ‫ي���درك أن موضوع الجس���د ش���ائك في‬ ‫اليمن‪ ،‬وفي صنع���اء القديمة على وجه‬ ‫الخص���وص‪ ،‬حيث البيئة التي تش���تغل‬ ‫عليه���ا كاميرا هذا الفنان محاطة بس���ور‬ ‫طين���ي كبير يعمل عل���ى حجب حكايات‬ ‫نس���ائها‪ .‬رغم أن أمين الغابري ابن هذه‬ ‫البيئ���ة وملتصق بها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬يظل من‬ ‫غير المس���موح له التعامل م���ع كائناتها‬ ‫األنثوية بعدس���ته‪ .‬ويتوجب باستمرار‬ ‫عليه أن يس���حبها إلى أرضيته الخاصة‬

‫أو مش���غله الفن���ي حيث يتعام���ل معها‬ ‫بحس���ب رؤيته ومنطقه الخاص‪ ،‬المعبأ‬ ‫بنظرة مختلفة للعناص���ر الحديثة التي‬ ‫صارت مكونة لتفاصيل الحياة‪.‬‬ ‫ولك���ن‪ ،‬ف���ي كل أعم���ال الفن���ان البد‬ ‫عليه من توظيف «الستارة»‪ .‬وهي رداء‬ ‫تركي م���ن بقايا فترة االحتالل العثماني‬ ‫لليمن‪ ،‬بق���ي من ضم���ن عناصر أخرى‬ ‫بقي���ت لتصير تراث ًا يمني ًا أصلي ًا كما بقي‬ ‫محص���ورًا ف���ي البيئ���ة الصنعانية فقط‬ ‫ويرتبط بنسائها‪.‬‬ ‫وتلف هذه الستارة جسد األنثى بشكل‬ ‫دائري‪ .‬وبإمكان المرأة أن تتركه مفتوح ًا‬ ‫من األمام بحسب قيمة اإلغراء التي ترغب‬ ‫هذه الم���رأة في إطالقها للعيون المحدقة‬ ‫بها والراص���دة ألي حركة منها قد تكون‬ ‫خارجة عن النص‪.‬‬ ‫ويأت���ي أمي���ن الغابري ف���ي محترفه‬ ‫بموديل يقوم معه باختراع ذلك االندماج‬ ‫ال���ذي ي���رى أن باإلمكان حدوثه بش���كل‬ ‫ال إمكانية‬ ‫واقعي‪ ،‬وربما يتاح له مستقب ً‬ ‫الخروج إلى المحيط الخارجي والتصرف‬ ‫فيه كما يحب‪.‬‬ ‫ويالح���ظ في أعماله تركيز في الدمج‬ ‫بين العناصر التراثية وأدوات ومقتنيات‬ ‫حديث���ة ت���كاد العي���ن تصادفها بش���كل‬ ‫يوم���ي وتتحرك م���ع أصحابها بحرية‪،‬‬ ‫خصوص ًا في المنطقة الس���كنية الراقية‬ ‫ف���ي صنع���اء الت���ي يمكن فيه���ا تحقيق‬ ‫تقاطعات وصداقات بين الجنسين‪ ،‬كون‬ ‫أغلب س���اكنيها أو معظمه���م من الفتات‬ ‫االجتماعي���ة التي لها أنم���اط حديثة من‬ ‫الحياة بحكم تنقالتها الخارجية الكثيرة‬ ‫أو تلقيها التعليم خارج اليمن‪.‬‬


‫مقال‬

‫مفهوم األسرة‬ ‫بين الواقع والفكر االجتماعي‬ ‫د‪ .‬فدوى اجلندي ‪ -‬جامعة قطر‬ ‫اعتاد علماء السوس���يولوجيا العرب ف���ي بداية أية مجادلة‬ ‫عن المجتمع بتعريف األسرة وكأنها األساس البنيوي للمجتمع‬ ‫العربي وأي مجتمع في العالم البش���ري‪ ،‬حي���ث إنها تمثل أهم‬ ‫ن���واة ف���ي المجتمع البش���ري وأصغر وحدة فعال���ة في الحياة‬ ‫البش���رية‪ ،‬ولكن الحقيقة العلمية وتاريخ دراس���ة القرابة عند‬ ‫العرب والنظرية األنثروبولوجية أظهروا غير ذلك‪.‬‬ ‫من الجدي���ر بالذك���ر أن المجتمعات العربية حت���ى بعد أول‬ ‫قرنين من دخول اإلس�ل�ام لم تعترف بمفهوم األس���رة ال كنواة‬ ‫المجتم���ع وال كأصغر وحدة فعالة في الحي���اة المجتمعية‪ .‬فلم‬ ‫يذك���ر القرآن الكريم كلمة األس���رة‪ ،‬وال يذكره���ا اللغويون وال‬ ‫النس���ابون بتعريف موحد‪ .‬وحتى الش���عر عند العرب نادرًا ما‬ ‫ّ‬ ‫اس���تخدم مصطلح األس���رة‪ .‬وهذا ألن المجتم���ع العربي يبنى‬ ‫على أس���اس ارتباطات قرابية واسعة لها مفاهيم ومصطلحات‬ ‫معترف بها من قديم الزمن حتى يومنا الحاضر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وبني‬ ‫فعلى سبيل المثال مجتمع الواليات المتحدة الذي ركب‬ ‫ُ ِّ ُ َ‬ ‫على أس���اس أيديولوجية الجمع بين البروتستانتية المحافظة‬ ‫والرأس���مالية االس���تهالكية يعتبر أن نواة المجتمع األساسية‬ ‫والوحدة الصغ���رى لبنائه هي الفرد ال الجماع���ة‪ ،‬ولذا نجد أن‬ ‫الذي يطلق عليه مصطلح المبادئ العائلية في الواليات المتحدة‬ ‫على س���بيل المثال المعروفة بـ‪ ،Family values‬والتي تلعب‬ ‫دورًا أساس���ي ًا ومحوري��� ًا في جداالت ومنافاس���ات االنتخابات‬ ‫الرئاس���ية ينحصر عند المحافظين منه���م في موضوعين‪ :‬منع‬ ‫إباح���ة اإلجهاض كاختي���ار للمرأة‪ ،‬ومنع إباح���ة زواج المثل‪،‬‬ ‫وهما م���ن صميم الفك���ر األميركي األصولي‪ ،‬أما السياس���يون‬ ‫الديموقراطي���ون فإن العك���س هو الصحيح ألن فكرهم يتس���م‬ ‫بالليبرالي���ة االجتماعية‪ .‬في كلتا الحالتي���ن الجدل حول مفهوم‬ ‫األس���رة دقيق للغاية ألنه مقيد بعقي���دة ومنطقية أيديولوجية‬ ‫الفردية التي هي أس���اس البن���اء المجتمعي المرتب���ط ارتباط ًا‬ ‫وثيق ًا باقتصاد الرأسمالية االستهالكية‪.‬‬ ‫ف���ي حين أن المجتم���ع العربي بالمقارنة يهت���م بأهل البيت‬ ‫والعائلة الواسعة‪ ،‬وما يشغل ذهن المفكرين والعامة في أغلب‬ ‫األحيان هو االرتباط والتضامن العائلي مهما كان حجم العائلة‪.‬‬ ‫وأظهرت الدراسات اإلحصائية األخيرة أنه بالرغم من التحديث‬ ‫والتنمي���ة المكثفة في قطر فما زالت العائل���ة تحتل مكانة مهمة‬ ‫سواء في البنية المجتمعية أو في العالقات اليومية‪ ،‬وأن معدل‬

‫حج���م العائلة ال يزال يعد نوعي��� ًا من حجم العائلة الممتدة أكثر‬ ‫منها من نوعية األسرة النووية‪ ،‬كما أظهرت أحدث إحصائيات‬ ‫ُأجريت في قطر‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬مت���ى دخلت األس���رة كمفهوم عل���ى مجتمعنا العربي؟‬ ‫ومتى استخدم كلفظ له مكانة شمولية عالمية في فكرنا ووعينا‬ ‫العربي المجتمعي؟ والرد على هذا السؤال هو أن األسرة لم تدخل‬ ‫ال ف���ي الفكر وال في الثقافة عن طري���ق عملية تطورية طبيعية‬ ‫وإنما فرضه على المجتمع القطري والعربي السوسيولوجيون‬ ‫واإلعالمي���ون الع���رب المتأثرون تأثي���رًا انبهاري��� ًا بالنظريات‬ ‫ال علينا‬ ‫والدراس���ات الغربية‪ ،‬وأن المصطلح نفسه يعتبر دخي ً‬ ‫من سوسيولوجيا معولمة غربية مقتبسة بدون فكر نقدي‪ .‬وهذا‬ ‫خطر االقتباس األعمى في المفاهيم السوس���يولوجية وعرضها‬ ‫على ش���بابنا الجامعي وفكرنا ومجتمعنا كوقائع مطلقة شاملة‬ ‫عالمية ال جدال فيها‪.‬‬ ‫وقد ابتكر العالم األنثروبولوجي الفرنس���ي المش���هور كلود‬ ‫ليفي س���تراوس منظور أمبرقي يقوم على مب���دأ أن أي تحليل‬ ‫س���ليم عن القرابة يجب أن يبدأ بنيوي ًا من أصغر ذرة مجتمعية‬ ‫تعد قاعدة البناء المجتمعي‪ ،‬ومن جهة أخرى من مبدأ بشري عام‬ ‫يشمل البش���رية عامة‪ ،‬وهو مبدأ التحريم الجنسي بين األقارب‬ ‫المقربين‪ .‬فم���ن منطلق هذا المبدأ البش���ري يمكن تكوين وبناء‬ ‫نواة حقيقية تصبح أس���اس تحليل يحترم الثقافات المختلفة‪،‬‬ ‫ويبنى على المعرفة الثقافية‪ ،‬وتحديد امتداد العالقات التقليدية‬ ‫وعلى أساسها أطلق العلم األنثروبولوجي عليها مصطلح نواة‬ ‫القرابة أو ‪.atom of kinship‬‬ ‫إذن‪ ،‬علين���ا تطبيق فكرة التمكن ف���ي المجتمعات األكاديمية‬ ‫العربية وجمعها مع إبداع تحليلي يجمع بين مبدأ نواة المجتمع‬ ‫البنيوية لدى العالقات المترتبة عليها كفكرة بنيوية مجردة من‬ ‫ال من الفكر والمجتمع‬ ‫جهة‪ ،‬ونظرية ابن خلدون التي تنبع أص ً‬ ‫العربي س���واء ف���ي مفهوم العصاب���ة أوالتضام���ن القرابي من‬ ‫جه���ة أخرى وربط االثني���ن بفكرة التحريم القرابي في ش���كله‬ ‫العربي الخاص كمبدأ وممارسة فعلية في المجتمعات العربية‪.‬‬ ‫وبه���ذا نبدأ خ���رق معالم طريق إبداعي داخ���ل جغرافية العلوم‬ ‫االجتماعية لمس���ار مبتكر للفكر السوسيولوجي المنهجي يعود‬ ‫إل���ى أصول عربية يلهمه الفكر الحالي العلمي بد ًال من االقتباس‬ ‫األعمى الضيق من الغرب الممارس اليوم‪.‬‬ ‫‪135‬‬


‫�سينما‬ ‫هم مقاربة الراهن‬ ‫حملت أفالم مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي ‪ّ 2011‬‬ ‫السياسي‪ .‬منها من ّ‬ ‫ضل الطريق بحث ًا عن اللقطة الصادمة التي تعكس‬ ‫حقيقة انفجار الثورات‪ ،‬ومنها من اقترب خطوة من الهدف‪ ،‬لكنه تجنب‬ ‫المواجهة المباشرة مع الديكتاتوريات العربية المتبقية‪.‬‬

‫ترايبكا‪2011‬‬

‫‪..‬‬

‫أن تكون ناد ً‬ ‫ال‬ ‫على مأدبة العالم‬ ‫�سعيد خطيبي‬ ‫«الذهب األسود» الذي تقمص فيه دور‬ ‫البطولة أنطونيو بانديراس وطاهر رحيم‪،‬‬ ‫والذي منحته إدارة المهرجان أولوية‬ ‫افتتاح العروض‪ ،‬غاص في سؤال نشأة‬ ‫مجتمعات شبه الجزيرة العربية الحديثة‪،‬‬ ‫وحاول اإلجابة عن بعض عالمات‬ ‫االستفهام المتعلقة بعالقات األفراد مع‬ ‫السلطة‪ .‬حيث استطاع تقديم صورة‬

‫متعددة الجوانب عن قبائل الصحراء‬ ‫بعدوانيتها وبتطلعها على االنفتاح وعلى‬ ‫المعاصرة‪ .‬منتج الفيلم طارق بن عمار‬ ‫صرح‪« :‬المحور األهم في العمل يتمثل‬ ‫في قدرته على المصالحة بين الفكر‬ ‫المتطرف والفكر المعتدل»‪ .‬حيث يروي‬ ‫مصالحة بين مفتي بالط الملك عمار‬ ‫(مارك سترونغ) ورغبة األمير عودة‬

‫(طاهر رحيم) في التعايش مع الغرب‪.‬‬ ‫كما يصور «الذهب األسود» أيض ًا واحدًا‬ ‫من التطورات المهمة في مجتمعات شبه‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬المتمثلة في رغبة المرأة‬ ‫في التخلص من قيد البطريركية‪ ،‬ذلك‬ ‫ما تجسده شخصية األميرة ليلى(فريدا‬ ‫بينتو) التي قالت‪« :‬أحداث الفيلم تدور‬ ‫سنوات الثالثينيات‪ ،‬لو أن المخرج‬ ‫ينجز جزءًا ثانياً‪ ،‬فسنالحظ تطورًا مهم ًا‬ ‫في شخصية األميرة ليلى التي تمسكت‬ ‫بحريتها في مجتمع محافظ»‪.‬‬ ‫شخصية نسيب (بانديراس) التي تشكل‬ ‫رمز «السلطة المطلقة»‪ ،‬الساعية لنيل‬ ‫الجاه والشرف‪ ،‬يقول في واحد من‬ ‫الحوارات‪« :‬أن تكون عربي ًا يعني أن‬ ‫تكون ناد ًال على مأدبة العالم»‪ .‬لكن‬ ‫العربي الذي كان ناد ًال بداية القرن‬ ‫العشرين سيصير‪ ،‬بعد خمسين سنة‪،‬‬ ‫غنياً‪ ،‬بفضل ارتفاع أسعار البترول في‬ ‫األسواق العالمية‪ ،‬ثم يطالب بسقوط‬ ‫الديكتاتوريات مطلع ‪ ،2011‬ويقول‬ ‫أنطونيو بانديراس ﻟ «الدوحة»‪« :‬إن‬ ‫الشعوب العربية ليست تطالب سوى‬ ‫الحر‪ .‬وأنها انتظرت‬ ‫بحقها في العيش ّ‬ ‫طوي ً‬ ‫ال قبل أن تنتفض دفعة واحدة»‪.‬‬ ‫أما طاهر رحيم‪ ،‬الذي يعتبر واحدًا من‬ ‫األسماء الشابة البارزة في السينما‬ ‫الفرنسية‪ ،‬خصوص ًا بعد حصوله على‬ ‫سيزار أفضل ممثل(‪ )2010‬فيضيف‪« :‬لما‬ ‫كنت أشاهد الشباب في شوارع وميادين‬ ‫تونس ومصر‪ ،‬شعرت أنني أقف معهم‪».‬‬ ‫وبدا المخرج جان جاك انو جد متفائل‬ ‫بمستقبل المنطقة العربية بعد الثورات‪:‬‬ ‫«النتيجة سنتلمسها الحقاً‪ .‬سيأتي جيل‬ ‫جديد شاب يأخذ دفة القيادة»‪ .‬وكشف‬ ‫طارق بن عمار‪ ،‬على هامش المهرجان‪،‬‬ ‫عن نيته في إنجاز فيلم بيوغرافي عن‬ ‫محمد بوعزيزي‪ ،‬مع العلم أن عائلة‬ ‫مفجر ثورة تونس رفضت‪ ،‬في السابق‪،‬‬ ‫السماح باستغالل صورة ابنها‪.‬‬

‫سكوت! إنهم يحلمون‬ ‫نجوم الذهب األسود‪.‬‬

‫‪136‬‬

‫األفالم العربية التي عرضت في المهرجان‬ ‫جاءت متقاربة فيما بينها من ناحية‬


‫أنطونيو بانديراس‪.‬‬

‫الموضوعة‪ .‬حيث صور سالم الطرابلسي‬ ‫نساء تونس في قاعات المالكمة‪ ،‬ونقل‬ ‫لمحة عن أنوثة قلقة ترفض االنصياع‬ ‫لمنطق المجتمع المنغلق‪ .‬ويذهب فيلم‬ ‫الراحل صالح أبوسيف بعيدًا في كشف‬ ‫الفساد في مصر مع فيلمه الجديد «مواطن‬ ‫مصري» الذي يروي قصة شراء الذمم‬ ‫واستضعاف البسطاء لما يفرض أحد‬ ‫اإلقطاعيين على حارسه إرسال ابنه‬ ‫للخدمة العسكرية بدل ابن اإلقطاعي‪.‬‬ ‫الفيلم القديم يتقاطع في آرائه مع ما‬ ‫جاء في «الشوق» لخالد الحجر‪ ،‬حيث‬ ‫يسرد جزءًا من يوميات مصرية‪ ،‬يحكمها‬ ‫التعسف والبيروقراطية‪ .‬يذكرنا في‬ ‫بعض مشاهده بفيلم «هي فوضى»‬ ‫ليوسف شاهين‪ .‬ويسافر المخرج جان‬ ‫كلود قدسي من لبنان إلى األردن ليحكي‬ ‫فضائح جرائم الشرف في فيلم «إنسان‬ ‫شريف»‪ .‬جرائم ما تزال ممارسة تحت‬ ‫حماية القانون‪ ،‬حيث يقول بشأنها‪:‬‬ ‫«نأمل أن يغير الربيع العربي الواقع‬ ‫الحالي‪ .‬خصوص ًا القوانين الرجعية‬ ‫والذهنية الراديكالية التي ال ترى حرج ًا‬ ‫في ارتكاب جرائم الشرف»‪ .‬ويعود أحمد‬ ‫غصين إلى سنوات الحرب األهلية في‬ ‫لبنان مع فيلم «أبي ما يزال شيوعياً»‪.‬‬ ‫الحلم يشكل حق ًا مشروع ًا في غالبية‬ ‫األفالم العربية التي عرضت في‬

‫المهرجـــــان‪ .‬سيـــنمائيون وجمــــهور‬ ‫يتنبؤون بنهاية الدونية ودخول مرحلة‬ ‫جديدة في الحياة العربية‪ ،‬لكنها تظل‪،‬‬ ‫لحد الساعة‪ ،‬أحالم ًا مؤقتة‪ ،‬فحقيقة‬ ‫العربي يعرضها فيلم «عمر قتلني»‬ ‫لرشدي زام وبطولة سامي بوعجيلة‪،‬‬ ‫الحاصل على جائزتي أفضل إخراج‬ ‫وأفضل تمثيل‪ .‬حيث يعود إلى قضية‬ ‫«عمر رداد» التي أثارت لغط ًا واسع ًا في‬ ‫الصحف الفرنسية منتصف التسعينيات‪،‬‬ ‫بعد اتهام المغربي رداد باغتيال امرأة‬ ‫فرنسية ارستقراطية دونما دليل‬ ‫واضح‪ .‬ففي فرنسا‪ ،‬أمام توسع مد‬ ‫اليمين المتطرف‪ ،‬يكفي أن تكون عربي ًا‬ ‫لتحاط حولك الشكوك‪.‬‬

‫في الجزائر «نورمال»‬ ‫«نورمال» للمخرج الجزائري مرزاق‬ ‫علواش نال جائزة أفضل فيلم روائي‬ ‫عربي‪ .‬رغم الظروف الصعبة التي‬ ‫تم فيها إنجاز الفيلم‪ ،‬وشح الميزانية‬ ‫العامة‪ ،‬فقد تمكن فريق العمل‪ ،‬المكون‬ ‫من ممثلين شباب‪ ،‬من إخراج الفيلم‬ ‫إلى النور‪ .‬يحكي سيناريو «نورمال»‬ ‫يوميات شباب جزائري ناقم على‬ ‫الوضع العام‪ ،‬حيث الرقابة والتضييق‬ ‫على الحريات يشكالن لغة السلطة‬

‫الرسمية‪ .‬مجموعة شباب ضاقت بهم‬ ‫السبل فيفكرون في إنجاز فيلم يعالج‬ ‫مشكل الرقابة‪ ،‬ليجدوا أنفسهم الحق ًا‬ ‫محاطين بثورتي تونس ومصر‪ ،‬مما‬ ‫يدفع بواحدة من الممثالت إلى القول‪:‬‬ ‫«إنه زمن التحرك والرد المباشر‬ ‫وليس زمن االنتظار وراء الكاميرا»‪.‬‬ ‫الثورة والتغيير في الجزائر كانت‬ ‫هاجسهم األهم‪ ،‬مع أن المخرج علواش‬ ‫صرح ﻟ «الدوحة»‪« :‬لست سياسي ًا وال‬ ‫ديماغوجياً‪ .‬فكرة الفيلم جاءت تماشي ًا‬ ‫مع واقع الشباب وتشتت أفكاره بين‬ ‫الثورة اآلن واالنتظار»‪ .‬بدا بوضوح‬ ‫نقائص الفيلم من الجانب التقني‪ ،‬ولكن‬ ‫جرأة الحواريات وقدرة السيناريو على‬ ‫تجاوز المحظور شكلت ربما عوامل في‬ ‫منحه جائزة أفضل فيلم‪.‬‬ ‫مهرجان الدوحة ترايبكا ‪ 2011‬جمع‬ ‫مهنيي الفن السابع في الوطن العربي‪،‬‬ ‫وقرب بين الهواة والنجوم‪ .‬كما عرف‬ ‫تقديم العرض العالمي األول للفيلم‬ ‫المتحرك «القط أبو جزمة» حيث يشارك‬ ‫الثنائي بانديراس وسلمى حايك‬ ‫بصوتهما‪ .‬دورة هذه السنة انتهت‬ ‫بوعود من أجل االستجابة لمتطلبات‬ ‫الراهن ولتطلعات الشارع‪ ،‬في انتظار‬ ‫دورة السنة المقبلة التي ستكون ربما‬ ‫شاهدًا على بدايات التغيير‪.‬‬ ‫‪137‬‬


‫كانوا يعيش���ون وضع ًا اجتماعي ًا مزرياً‪.‬‬ ‫إنها حقيقة التي وجب علينا اإلشارة إليها‪.‬‬ ‫ت���أزم الوضع الداخلي وعدم قدرة الناس‬ ‫عل���ى العيش الكريم هما عامالن س���اهما‬ ‫في دفع اآلالف إلى الخروج إلى الش���ارع‬ ‫ودفع النظام السابق إلى الرحيل‪.‬‬

‫§ عل����ى عكس فناني����ن ومغنين‬ ‫مصريين آخرين نزلت ميدان التحرير‬ ‫وشاركت في المظاهرات؟‬

‫وورطها في دور‬ ‫«الش����وق» أعاد روبي إلى شاش����ات الف� ّ‬ ‫���ن ّ‬ ‫الس����ابع ّ‬ ‫السابق‪ ،‬من أدوار فنية مبتهجة وراقصة‪.‬‬ ‫يختلف عما ّ‬ ‫تعودت عليه‪ ،‬في ّ‬ ‫ففيلمها األخير تظهر صاحب����ة «غاوي» فتاة يافعة‪ ،‬تعيش في حي فقير‬ ‫باإلس����كندرية‪ ،‬تبحث عن فرص����ة التحرر من س����طوة األم والعيش إلى‬ ‫جانب عشيقها (حسين)‪.‬‬

‫روبي عندما ال ترقص أو تغني‬

‫«شوق» ثورة على الكذب‬

‫قب����ل أن تج����د نفس����ها منخرطة‪،‬‬ ‫رغم����ا عنها‪ ،‬في جمل����ة من التحوالت‬ ‫وم����ن االنزالق����ات االجتماعي����ة عقب‬ ‫م����وت أخيها األصغ����ر‪ ،‬وإصابة أمها‬ ‫بالش����يزوفرينيا‪ .‬لتفق����د ف����ي النهاية‬ ‫شرفها وتنقطع عالقتها مع (حسين)‪.‬‬ ‫«الدوح����ة» التقت روب����ي وأجرت‬ ‫معها حوارًا جاب بعض المحطات من‬ ‫حياة المغنية‪..‬‬ ‫نتعود على رؤيتك في أدوار‬ ‫§ لم ّ‬ ‫درامية‪ ..‬هل مش����اركتك في «الشوق»‬ ‫لخالد الحجر هي محاولة منك للبحث‬ ‫عن التجديد؟‬

‫ صحيح‪ .‬حاولت من خالل تجس���يد‬‫بطول���ة الفيلم خ���وض تجرب���ة جديدة‪،‬‬ ‫حينما كن���ت أقرأ س���يناريو الفيلم أتذكر‬ ‫‪138‬‬

‫أنن���ي صرخت أكث���ر من مرة‪ .‬المش���اهد‬ ‫الدرامية ومسارات شخصيات العمل تثير‬ ‫في داخلنا بعض المشاعر‪ .‬أحيان ًا مشاعر‬ ‫ش���فقة وأحيان ًا أخرى رغبة في االنتقام‬ ‫المزيف‪ .‬قبلت التمثيل‬ ‫منها ومن واقعه���ا ّ‬ ‫في «الش���وق» بحث ًا ع���ن االختالف وعن‬ ‫التجديد‪.‬‬

‫§ تبدو معالم الغض����ب والرغبة‬ ‫ف����ي التغيير جد واضحة في معامالت‬ ‫وتصرفات شخصيات الفيلم‪ ،‬حياتهم‬ ‫الصعبة في مصر كانت دافع ًا أساسي ًا‬ ‫للتفكير في التغيير الذي حصل الحقاً‪،‬‬ ‫مع مطلع السنة الجارية‪.‬‬

‫ يعتق���د البعض أن س���يناريو الفيلم‬‫يش���وه ص���ورة مص���ر‪ .‬من جهت���ي أرى‬ ‫ّ‬ ‫العكس‪ .‬ال بد من االعتراف بأن المصريين‬

‫ كن���ت من���ذ البداية مع فك���رة الثورة‬‫على النظام الس���ابق‪ .‬ونزل���ت إلى ميدان‬ ‫التحري���ر بداية من ي���وم ‪ 28‬يناير‪ .‬كانت‬ ‫أيام ًا صعب���ة جداً‪ .‬كن���ا نركض ونصرخ‬ ‫ونتس���اءل باس���تمرار عن مصي���ر البلد‪.‬‬ ‫ل���م تكن الرؤية واضح���ة‪ ،‬ولكن الوضع‬ ‫انفرج الحق ًا وب���دأت مصر تجد طريق ًا لها‬ ‫نحو مستقبل أفضل (إن شاء اهلل)‪.‬‬

‫§ أتمم����ت مؤخرًا تس����جيل أولى‬ ‫أغنيات ألبوم����ك الجديد في القاهرة‪..‬‬ ‫ما هي خصوصيته مقارنة باأللبومات‬ ‫السابقة؟‬

‫ ُأفض���ل ت���رك الحك���م عل���ى أعمالي‬‫للجمهور‪ ،‬فقد أتممت تسجيل ست أغنيات‪.‬‬ ‫كتب كلماتها تامر علي ورامي جمال‪ ،‬فيما‬ ‫تكف���ل بتلحينها رحيم محمد‪ ،‬من المنتظر‬ ‫االنتهاء كلية من األلبوم قبل نهاية السنة‬ ‫وأن يصدر منتصف السنة المقبلة‪.‬‬

‫§ هل س����يتضمن األلبوم الجديد‬ ‫أغنية أو إشارة لثورة ‪ 25‬يناير؟‬

‫ كال! باعتق���ادي أن الث���ورة ليس���ت‬‫بحاجة لمن يغن���ي عليها‪ ،‬كما أن الرؤية‬ ‫ل���م تتضح بعد‪ .‬أنتظ���ر أن تهدأ األوضاع‬ ‫بشكل تام‪ ،‬ثم س���أفكر فيما يمكننا عمله‬ ‫م���ن أجل ترس���يخ ذاك���رة ما ح���دث في‬ ‫يناير‪/‬كانون الثاني ‪.2011‬‬

‫§ نالحظ من لهج����ة كالمك عدم‬ ‫التفاؤل بمصير مصر؟‬

‫ ربنا يستر! ما ضاع في ثالثين سنة‬‫من الصعب اس���تعادته في غضون أيام‪،‬‬ ‫أرج���و أن تأتي األي���ام المقبل���ة بالجديد‬ ‫وببعض االستقرار‪.‬‬


‫عرب تحت برج إيفل‬ ‫مها ح�سن ‪ -‬باري�س‬ ‫احتف���ت باري���س‪ ،‬مؤخ���راً‪ ،‬بالس���ينما‬ ‫العربية‪ ،‬في حدثين منفصلين استعرضا‬ ‫بع���ض جوانب ربي���ع الث���ورات‪ .‬حيث‬ ‫نظمت مدرسة الدراس���ات العليا للعلوم‬ ‫ّ‬ ‫كام�ل�ا عن عالقة‬ ‫االجتماعي���ة يوم عمل‬ ‫ً‬ ‫الصورة والث���ورة في الب�ل�اد العربية‪،‬‬ ‫تح���ت عن���وان «ارح���ل‪ ..‬تصوي���ر!»‪.‬‬ ‫وعرض���ت جمعية الس���ينما األوروبية ‪-‬‬ ‫العربية حوالي خمس���ين فيلم��� ًا ترتبط‬ ‫جميع ًا بالربيع العربي‪ .‬نذكر منها الفيلم‬ ‫القصير «السدادة» (‪1‬د) للبحرينية عائشة‬ ‫المقل���ة‪ .‬و«انتباه» ألك���رم آغا‪« ،‬طوفان‬ ‫ف���ي بالد البعث» للراح���ل عمر أميرالي‪،‬‬ ‫و«ست قصص عادية» لميار الرومي من‬ ‫س���ورية‪ .‬ومن تونس ع���رض «الجدار»‬ ‫لرفيق وأيمن عمراني‪« ،‬العيش���ة» لوليد‬ ‫طاي���ا و«علمانية‪ ،‬إن ش���اء اهلل» لنادية‬ ‫الفاني‪ .‬ومن مصر «حكاية ثورة» لناجي‬ ‫إس���ماعيل‪ ،‬و«المصع���د» لهديل نظمي‪،‬‬ ‫«الفص���ول األربع���ة» لنه���ى المعداوي‪،‬‬ ‫«حري���ة معلّقة» لميال حس���ين‪« ،‬كريم»‬ ‫لعم���ر الش���امي وغيرها‪ .‬كما ت���م أيض ًا‬ ‫عرض «هال لوين؟» للبنانية نادين لبكي‬ ‫و«الدمية» للسعودية ريم البيات‪.‬‬ ‫وتحدثت‪ ،‬خ�ل�ال التظاهرة‪ ،‬المنتجة‬ ‫والمخرج���ة الس���ورية هال���ة العبد اهلل‪،‬‬ ‫ع���ن فيلمها «أنا الت���ي تحمل الزهور إلى‬ ‫قبره���ا»‪ ،‬الحاص���ل على جائ���زة اتحاد‬ ‫الوثائقيين في مهرج���ان البندقية وعلى‬ ‫ذهبي���ة الوثائقي في تطوان في المغرب‬ ‫وف���ي روت���ردام‪ ،‬وعل���ى البرونزي���ة‬ ‫للوثائق���ي في دب���ي‪ ،‬قائلة‪« :‬بالنس���بة‬ ‫لي‪ ،‬مجرد أن يشارك الفيلم في مهرجان‬ ‫البندقية ويتنافس مع أفالم مهمة وذات‬ ‫ميزاني���ات هائلة كان حلم��� ًا لم أفكر فيه‬ ‫يوماً»‪ .‬وحول حص���ول الفيلم على عدة‬

‫جوائز رغم ظ���روف التصوير اإلنتاجية‬ ‫الشحيحة‪ ،‬أضافت هالة ‪« :‬قررت إنجاز‬ ‫الفيلم عندما اقتربت من س���ن الخمسين‬ ‫وبع���د أن عمل���ت أكثر من ‪ 25‬س���نة في‬ ‫مهنة الس���ينما‪ ..‬لم أبح���ث له عن تمويل‬ ‫كما فعلت س���ابق ًا ولس���نوات طويلة مع‬ ‫أفالم أصدقائي من سوريين أو لبنانيين‬ ‫أو فرنسيين‪ ..‬ألنني مع فيلمي الشخصي‬ ‫كن���ت أريد أن أكون ح���رة وال أتقيد بأي‬ ‫ش���رط‪ ،‬مث���ل ط���ول الفيل���م أو تاريخ‬ ‫االنته���اء من العمل علي���ه‪ .‬وهذه الحرية‬ ‫تطلّبت مني أن أنتظر الفرصة لكي أحمل‬ ‫الكاميرا المس���تعارة من أحد األصدقاء‪،‬‬ ‫والتي تعتب���ر كاميرا منزلي���ة‪ ،‬وأصور‬ ‫مقاطع متفرق���ة ومتباعدة من الفيلم‪ .‬لم‬ ‫يكلف الفيلم عملي ًا سوى بعض بطاقات‬ ‫الس���فر التي كنت أدفعه���ا من جيبي وما‬

‫المخرجة السورية هالة العبداهلل‪.‬‬

‫تكلفه وتتطلبه الحياة لنتمكن من الحركة‬ ‫أثناء بعض أيام التصوير حيث كنت مع‬ ‫شخص أو شخصين»‪.‬‬ ‫أما في ندوة «ارحل‪ ..‬تصوير!»‪ ،‬فقد‬ ‫ش���ارك عدد من الس���ينمائيين من دول‬ ‫عربية معنية بالثورات‪ ،‬فجاء من مصر‬ ‫كل من محمد صيام‪ ،‬صاحب «بلد مين»‪،‬‬ ‫وأحم���د عب���د اهلل‪ ،‬صاح���ب «ميكرفون»‬ ‫وال���ذي ش���ارك ف���ي فيل���م «‪ 18‬يوم»‪،‬‬ ‫المؤَلّف من عش���رة أفالم قصيرة‪ ،‬بفيلم‬ ‫«ش���باك» وال���ذي تم تصوي���ره في يوم‬ ‫واحد‪ ..‬وتحدث أحمد عبد اهلل عن ظروف‬ ‫إنتاج الفيل���م وتصويره‪ ،‬واالتفاق عليه‬ ‫مع يسري نصر اهلل‪ ،‬صاحب الفكرة وعن‬ ‫ظروف التوثيق لثمانية عش���ر يوم ًا من‬ ‫أيام الثورة المصرية‪ ،‬منذ بدء التظاهرات‬ ‫تنحي حسني مبارك‪.‬‬ ‫ولغاية ّ‬ ‫من اليمن‪ ،‬ش���اركت المخرجة خديجة‬ ‫الس�ل�امي بفيلم «النس���اء ف���ي العملية‬ ‫الثورية»‪ ،‬إذ تحدثت ع���ن حقوق المرأة‬ ‫ف���ي ظ���ل الثورات وم���ا بع���د الثورات‪،‬‬ ‫حيث الم���رأة اليمنية محرومة من معظم‬ ‫حقوقه���ا‪ ،‬وليس���ت كغيره���ا من نس���اء‬ ‫المنطقة‪ ،‬كالمرأة التونسية أو المصرية‪،‬‬ ‫اللوات���ي حصل���ن على بع���ض الحقوق‬ ‫ويس���عين للحفاظ عليها وع���دم فقدانها‬ ‫بعد الثورة‪ .‬حيث تحدثت عن القمع الذي‬ ‫تتعرض له النساء اليمنيات‪ ،‬والعربيات‬ ‫عموم���اً‪ ،‬م���ن سياس���ي واجتماع���ي‪،‬‬ ‫مضاعف عما يتعرض له الرجل‪.‬‬ ‫كما كان لسورية أيض ًا حضور مميز‪،‬‬ ‫عب���ر كل م���ن هال���ة العبد اهلل وش���ريف‬ ‫كي���وان‪ ،‬الذي تحدث ع���ن «أبو نضارة»‬ ‫وهي ش���ركة لإلنتاج التليفزيوني تقوم‬ ‫بإنجاز فيلم كل ي���وم جمعة‪ ،‬بالتوازي‬ ‫مع التظاهرات الس���ورية التي تخرج في‬ ‫شوارع المدن السورية كل نهار جمعة‪.‬‬ ‫تم ع���رض فيلم‬ ‫ف���ي نهاية النه���ار‪ّ ،‬‬ ‫«تحرير ‪ »2011‬لستيفانو سافونا‪ ،‬الذي‬ ‫يتعرض للفت���رة الواقعة بين ‪ 25‬كانون‬ ‫الثاني‪/‬يناير و‪ 11‬ش���باط‪/‬فبراير‪ ،‬منذ‬ ‫تنحي‬ ‫انطالق الث���ورة المصرية ولحين ّ‬ ‫مبارك‪ ،‬عبر ثالثة ش���خصيات‪ ،‬شابين‬ ‫وفتاة‪ ،‬كان���وا من مناصري قيام الثورة‬ ‫على الفيسبوك‪.‬‬ ‫‪139‬‬


‫موريتانيا‪..‬‬ ‫الجمهور يتحدث لغة الصورة‬ ‫عبداهلل ولد حممدو‪ -‬موريتانيا‬ ‫الفن الس���ابع ف���ي موريتانيا يتخبط‬ ‫في مش���اكل عديدة‪ .‬فمناب���ع الدعم بدأت‬ ‫تجف‪ ،‬كما أن قاع���ات العرض تحولت‪،‬‬ ‫تدريجياً‪ ،‬إلى مخازن ومحالت تجارية‪،‬‬ ‫بسبب سطوة األوساط الدينية‪ ،‬الرافضة‬ ‫للفن وللسينما‪.‬‬ ‫م���ع ذلك‪ ،‬تح���اول بع���ض التجارب‬ ‫الجادة كسر الجمود‪ ،‬على غرار األسبوع‬ ‫الوطن���ي للفيلم‪ ،‬الذي انطلق قبل خمس‬ ‫س���نوات ف���ي نواكش���وط‪ ،‬المنظم من‬ ‫طرف دار الس���ينمائيين الموريتانيين‪،‬‬ ‫وبرعاي���ة وزارة الثقاف���ة‪ ،‬وال���ذي بلغ‬ ‫هذه الس���نة دورته السادسة (‪29 - 23‬‬ ‫أكتوب���ر‪ /‬تش���رين األول)‪ .‬حيث تضمن‬ ‫برنامج نشاطاته عرض سبعة وستين‬ ‫فيلماً‪ ،‬منها خمس���ون فيلم ًا موريتانياً‪،‬‬

‫من فيلم الساحة‪.‬‬

‫‪140‬‬

‫والبقي���ة م���ن دول أخ���رى‪ ،‬منها دول‬ ‫المغ���رب العربي‪ ،‬إضافة إلى فرنس���ا‪،‬‬ ‫الكامي���رون‪ ،‬إنكلترا‪ ،‬الواليات المتحدة‬ ‫األميركية‪ ،‬سويسرا والبرازيل‪ .‬‬ ‫يص���ر الس���ينمائيون الموريتانيون‬ ‫على تنظيم أسابيع وطنية للفيلم‪ ،‬مع‬ ‫مشاركة إقليمية ودولية متنامية‪ ،‬رغم‬ ‫ندرة قاعات العرض السينمائية‪ ،‬وقلة‬ ‫زاد الس���احة الثقافي���ة للبلد من األعمال‬ ‫الس���ينمائية‪ .‬فمدير المهرجان محمد بن‬ ‫إدومو يس���جل بمرارة غي���اب القاعات‬ ‫الس���ينمائية‪ ،‬وانع���دام المؤسس���ات‬ ‫المتخصص���ة في الف���ن الس���ابع‪ ،‬مثل‬ ‫كليات الفن���ون الجميلة أو معاهد تعليم‬ ‫الس���ينما‪ ،‬مع غياب االحت���راف‪ ،‬حيث‬ ‫يكاد ينحصر في نخب‪ ،‬أتيح لها السفر‬ ‫لدراسة أصول هذا الفن في دول عربية‬ ‫كمص���ر أو المغ���رب‪ ،‬أو دول غربي���ة‬ ‫كفرنس���ا أو ألمانيا أو الواليات المتحدة‬ ‫األميركية ‪.‬‬ ‫األسبوع الوطني للفيلم بنواكشوط‪،‬‬ ‫رغ���م الصعوب���ات الت���ي يواجهها‪ ،‬فقد‬ ‫استطاع خلق فضاء ثقافي‪ ،‬وشهد نقلة‬ ‫نوعية‪ ،‬من حيث غزارة اإلنتاج ونضجه‬ ‫النسبي‪ ،‬واتساقه مع الواقع‪.‬‬ ‫انح���از األس���بوع الوطن���ي للفيل���م‬ ‫هذه الس���نة إلى المدين���ة التي اختارها‬ ‫مكان ًا لعروضه وندواته‪ ،‬متخذًا ش���عار‬ ‫«المدين���ة‪ ..‬ثنائية العب���ور والمكوث»‪.‬‬ ‫وسعى السينمائيون الموريتانيون من‬ ‫خ�ل�ال هذا الش���عار إلى إب�ل�اغ المتلقي‬ ‫رسالة مؤداها – كما يقول ولد إدومو ‪-‬‬ ‫أن «المدينة في عصرنا الحاضر أصبحت‬

‫شخصية مستقلة لها تاريخ ميالد ولها‬ ‫أسلوب يميزها عن غيرها»‪.‬‬ ‫ع���رف ه���ذا األس���بوع الس���ينمائي‬ ‫حضورًا الفت ًا للربيع العربي‪ ،‬من خالل‬ ‫عرض «ثقاف���ات المقاوم���ة» للمخرجة‬ ‫البرازيلية‪ ،‬ذات األصول الكورية «ايارا‬ ‫لي»‪ .‬بالرغم من أن الفيلم العالمي يعالج‬ ‫قضايا االس���تعمار واالستبداد وأشكال‬ ‫مقاومتها في بالد عربية وعالمية كثيرة‬ ‫إال أن الندوات والنقاشات التي صاحبته‬ ‫ركزت على قضية الثورات العربية‪.‬‬ ‫تجلى حضور المرأة في صدارة هذا‬ ‫األس���بوع‪ .‬حيث تمحور فيل���م االفتتاح‬ ‫حول مسيرة المغنية الموريتانية ديمي‬ ‫بن���ت آب‪ ،‬الملقب���ة بش���حرورة وادي‬ ‫الرشيد‪ .‬وشهدت الفعالية‪ ،‬في ختامها‪،‬‬ ‫توزيع جوائز محلية ودولية كان قسط‬ ‫الم���رأة منها أيض ًا موف���وراً‪ ،‬حيث ظفر‬ ‫الفيلم القصي���ر «المصاصة» للس���المة‬ ‫بنت الش���يخ الول���ي بالجائ���زة األولى‬ ‫للهواة‪ ،‬ضمن مس���ابقة «هل تتكلم لغة‬ ‫الصورة؟»‪ ،‬وهو يعالج ظاهرة‪ ،‬تعرف‬ ‫ش���عبي ًا بمصطلحي «المص» و «السل»‬ ‫وكثي���رًا ما نع���ت بهما البع���ض فصار‬ ‫مع���زو ًال منب���وذا‪ ،‬يتحاش���اه الناس‪،‬‬ ‫مخاف���ة أن يقذفهم بش���رور عيونه التي‬ ‫تمتص قلوب األطفال ودماءهم‪ ،‬وتنزل‬ ‫بكبار المصائب‪ .‬كما ظفر فيلم «الكأس»‬ ‫لمخرجت���ه عزيزة منت كاب���ر بالجائزة‬ ‫الثانية‪ .‬وعالج فيل���م «ما في األرحام»‬ ‫قضاي���ا التهمي���ش واإلقص���اء والتمييز‬ ‫التي تتعرض لها المرأة ‪.‬‬ ‫كما تم تس���ليم الجائزة األولى ضمن‬ ‫«المسابقة الوطنية» للمخرج «ديكو» عن‬ ‫فيلمه الوثائقي «خطى اإلعالم»‪ ،‬ونال‬ ‫«الكاب���وس» للمخ���رج المس���رحي باب‬ ‫ول���د ميني المرتبة الثانية‪ ،‬بينما اكتفى‬ ‫«القطار» بالمركز الثالث‪ .‬وفي المسابقة‬ ‫الدولية‪ ،‬فاز بالجائ���زة األولى المخرج‬ ‫الموريتان���ي عثمان جاكان���ا عن فيلمه‬ ‫الوثائقي «جرح العبودية»‪ ،‬الذي يصور‬ ‫معاناة ش���ريحة األرقاء ف���ي المجتمع‬ ‫الموريتاني الزنجي‪ ،‬وحصدت الكوميديا‬ ‫الموسيقية «الساحة» للجزائري دحمان‬ ‫أوزيد الجائزة الثانية‪.‬‬


‫سينما الهامش‬ ‫كاتي احلايك‪-‬دم�شق‬ ‫يرع���ى معهد جنيف لحقوق اإلنس���ان‬ ‫(‪ )GIHR‬مش���روع ًا سينمائي ًا في سورية‬ ‫يتن���اول قضايا حقوق اإلنس���ان‪ ،‬البداية‬ ‫كانت في شهر شباط‪/‬فبراير الفائت‪ ،‬مع‬ ‫فيلم «مع وقف التنفيذ»‪ ،‬وهو عمل روائي‬ ‫قصير يتناول العنف الجنسي ضد المرأة‪،‬‬ ‫من خالل قصة ُتسلط الضوء على معاناة‬ ‫ش���ابة تدعى «رنا» تتعرض لالغتصاب‪،‬‬ ‫وب���د ًال من تلق���ي الجان���ي للعقوبة التي‬ ‫يس���تحقها‪ ،‬يتزوج من ضحيته‪ ،‬وهذا ما‬ ‫يدفع أخ���ت الجاني «ليلى» التي تتعرض‬ ‫أيض ًا لالغتصاب لالحتفاظ بس���رها حتى‬ ‫ال تلقى مصيرًا مشابهاً‪.‬‬ ‫ه���ذه المعان���اة ال تقتص���ر عل���ى رنا‬ ‫وليل���ى‪ ،‬فهذا الواق���ع الذي يش���كل عنف ًا‬ ‫صارخ ًا ضد المرأة والمجتمع مع ًا تعيشه‬ ‫كثي���ر من الفتيات ف���ي المنطقة العربية‪،‬‬ ‫ويع���ود في جزء كبير من���ه لوجود مواد‬ ‫قانونية تمييزية ضد المرأة‪.‬‬ ‫أخ���رج الفيلم س���يف الش���يخ نجيب‪،‬‬ ‫وكتب���ت النص فاديا عف���اش‪ ،‬أما األدوار‬ ‫الرئيسية فكانت من أداء‪ :‬صفاء سلطان‪،‬‬

‫رنا شميس‪ ،‬غس���ان عزب‪ ،‬محمد قنوع‪،‬‬ ‫شادي زيدان‪.‬‬ ‫الفيل���م القصي���ر الثان���ي ضم���ن هذا‬ ‫المش���روع ب���دأ تصوي���ره ش���هر آب‪/‬‬ ‫أغسطس تحت عنوان «خارج األبجدية»‪،‬‬ ‫يتناول قضايا حق���وق الطفل‪ ،‬من خالل‬ ‫قصة «فارس» الطف���ل الفقير اليتيم الذي‬ ‫يم���ارس ضده كل أن���واع القهر من عمالة‬ ‫وظلم وعنف جسدي ونفسي‪.‬‬ ‫يضطر «فارس» لس���رقة عنزة مختار‬ ‫القرية حتى يش���تري كتاب النش���يد الذي‬ ‫أكلته العنزة الت���ي كان يرعاها‪ ،‬ما يدفع‬ ‫أهالي القرية لنبذه ويدفع والدته إلرساله‬ ‫إلى الدير تأديب ًا له لس���رقته العنزة‪ ،‬بعد‬ ‫‪ 27‬س���نة يصاب «فارس» بمرض عضال‬ ‫بس���بب حياته الش���قية‪ ،‬فيلج���أ لصديقه‬ ‫«مهند» حتى يس���اعده‪ ،‬و«مهند» هو ذاك‬ ‫الطف���ل المدلل الذي س���رق دفتر الصغير‬ ‫ٍ‬ ‫غير حي���اة األخير‬ ‫«فارس» ف���ي‬ ‫ح���دث َّ‬ ‫ال مهم��� ًا في‬ ‫لألب���د‪ ،‬يصب���ح »مهن���د» رج ً‬ ‫المدينة ويدخل دوام���ة صراع بعد لجوء‬ ‫الرج���ل «فارس» إلي���ه‪ ،‬وتختلط األوراق‬

‫بين الموت والش���عور بالذن���ب والحقيقة‬ ‫المدفونة بين جدران ذاكرة الماضي‪.‬‬ ‫الكيـال‬ ‫الفيلم من تأليف وإخراج روال ّ‬ ‫التي تقول عن اختياره���ا للممثلين نوار‬ ‫بلبل ورامز األس���ود لألدوار األساس���ية‬ ‫في العم���ل‪« :‬بعد مش���اهدتي مس���رحية‬ ‫(المنف���ردة) لفرق���ة الخري���ف المؤلفة من‬ ‫الفنانين نوار بلبل ورامز األس���ود‪ ،‬لفت‬ ‫انتباهي كمخرجة االنس���جام ف���ي األداء‬ ‫بين نوار ورام���ز‪ ،‬وخصوص ًا من ناحية‬ ‫تجس���يد األلم اإلنس���اني وتبادله إلى حّد‬ ‫التماهي بين الش���خصيتين حتى يصبحا‬ ‫ش���خصية واحدة‪ ،‬ودفعن���ي إلى التفكير‬ ‫بموضوع لفيلم سينمائي قصير أجسد به‬ ‫التناغم العالي في أدائهما الذي يس���تحق‬ ‫أن ينقل من خش���بة المس���رح إلى شاشة‬ ‫السينما‪ ،‬مع مراعاة الفرق بين الفنين من‬ ‫حيث األداء والموضوع واإلخراج»‪.‬‬ ‫تصور أحداث الفيلم في قرية منس���ية‬ ‫تدع���ى (صم���ا الهني���دات) ف���ي محافظة‬ ‫الكيال‪:‬‬ ‫الس���ويداء‪ ،‬وحول المكان تق���ول ّ‬ ‫التطور‬ ‫«ه���ذه القرية بعيدة عن مظاه���ر‬ ‫ّ‬ ‫ما يقربها من بيئة س���نة ‪ 1985‬التي تبدأ‬ ‫بها القص���ة‪ ،‬وهي تختص���ر كغيرها من‬ ‫قرى منس���ية مظاهر التخلف في التعامل‬ ‫مع الطفل وهض���م حقوقه‪ ،‬تلك الحقوق‬ ‫الت���ي ربما تكون من نصي���ب ابن المدينة‬ ‫لظروف���ه األفض���ل مقارنة باب���ن القرية‬ ‫وفقرها وتخلفها»‪.‬‬ ‫وتضي���ف‪« :‬وه���ي قرية تح���وي أكثر‬ ‫من طائف���ة متماهية في الحب واالنخراط‬ ‫االجتماع���ي‪ ،‬ومبتعدة كل البعد عن ثيمة‬ ‫الهوية الدينية‪ ،‬وهذا ما يناقشه الفيلم في‬ ‫جانب من جوانبه على اعتبار أن الطفلين‬ ‫الصديقين من طائفتين مختلفتين‪ ،‬لكنهما‬ ‫متماهيان إلى حّد األخوة بالدم»‪.‬‬ ‫وس���يتم ضمن مش���روع معهد جنيف‬ ‫لحق���وق اإلنس���ان «التروي���ج لحق���وق‬ ‫اإلنس���ان من خ�ل�ال الس���ينما»‪ ،‬إنتاج ‪8‬‬ ‫أعمال س���ينمائية أخرى خالل الس���نتين‬ ‫القادمتي���ن‪ ،‬تط���رح األعمال أب���رز وأهم‬ ‫قضاي���ا حق���وق اإلنس���ان ف���ي المنطقة‬ ‫العربية‪ ،‬وسيس���تكمل المعهد مش���روعه‬ ‫بورشات تدريبية تستهدف شباب ًا مهتمين‬ ‫بمجال السينما (كتابة وإخرجاً)‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫يحكي س����يناريو فيلم «كف القمر» للمخرج خالد يوس����ف قصة خمسة‬ ‫أش����قاء‪ ،‬هجروا والدتهم بحث ًا ع����ن لقمة العيش‪ .‬يغلب عليه الفالش باك‬ ‫واإلسقاطات السياسية‪ .‬فيما يلي قراءة نقدية في الفيلم‪.‬‬

‫دردشة مع ضمير الغائب‬ ‫فريوز كراوية‬ ‫حدوتة بس���يطة ع���ن «االتحاد قوة‬ ‫تحم���ل بحمولة ثقيلة‬ ‫والفرقة ضعف» ّ‬ ‫م���ن ال���دالالت الرمزية‪ ،‬الت���ي تحتاج‬ ‫لخب���رات في فك الش���فرة السياس���ية‬ ‫الملغزة التي يعبأ بها النص السينمائي‬ ‫لفيل���م «ك���ف القم���ر»‪ .‬ولعل���ه من غير‬ ‫الممكن أن تسمح لنفسك بالخوض في‬ ‫تحليل ثقافي (وليس نقدي سينمائي)‬ ‫ع���ن الفيل���م دون أن تع���رج على تلك‬ ‫الرموز وتنزل���ق إلى محاولة تفكيكها‪،‬‬ ‫وهو ما يقود بالطبع لجدل حول النوايا‬ ‫واآلراء السياس���ية التي يختلف عليها‬ ‫البع���ض كثي���رًا وال يص���ح أن تصبح‬ ‫هي محض القيمة لفيلم سينمائي وإال‬ ‫‪142‬‬

‫تالشت السينما وبقيت السياسة‪ .‬وعند‬ ‫ه���ذه النقطة يجب أن نس���أل‪ :‬هل يريد‬ ‫لنا المخرج خالد يوس���ف أن نس���تمتع‬ ‫بالقصة السينمائية ونفكر بذات الوقت‬ ‫في مضامين سياسية محتملة؟ أم يريدنا‬ ‫أن نستغرق في فك الشفرة والتساؤل‬ ‫عما يمثّل هذا الحدث أو الش���خصية من‬ ‫معنى في الحياة الواقعية والسياسية‬ ‫على حساب سينما تبدو لو خصمنا منها‬ ‫المواقف السياس���ية واآلراء الشخصية‬ ‫مهلهلة وركيكة؟‬ ‫والبداي���ة م���ع أم تحتف���ظ لنفس���ها‬ ‫بس���لطة رمزية على خمسة أبناء ذكور‬

‫تحتفي كثيرًا بقوتهم وشدتهم‪ ،‬ترسلهم‬ ‫ف���ي رحلة لكس���ب الرزق ف���ي القاهرة‬ ‫ليع���ودوا بمال يمكنهم م���ن بناء البيت‬ ‫الجامع الذي حلم���ت به مع أبيهم الذي‬ ‫قتل غدرًا لس���بب لم نعرفه أثناء بحثه‬ ‫عن الذهب في الجب���ل‪ .‬األم‪ /‬األرض‪/‬‬ ‫األمة ترس���ل كف يدها الذي تس���تعين‬ ‫بأصابعه الخمس���ة في حماية الشقيق‬ ‫تؤمن على بقي���ة إخوته‬ ‫األكبر ال���ذي ّ‬ ‫أال يخالف���وه وال يتفرق���وا عن���ه مهما‬ ‫حدث‪( :‬الصوت الواحد مسموع‪ ،‬إوعوا‬ ‫تس���يبوا ذك���ري)‪( ،‬ماح���دش يجيني‬ ‫وحده‪ ،‬مفيش يد واحدة بتبني)‪.‬‬ ‫«من كف واحد بنتفرق لخمسين كف»‬ ‫هكذا يراد لنا أن ن���رى الرحيل للمدينة‬ ‫ت���رك ًا وإهم���ا ًال ل�ل�أرض‪ /‬األم (قمر)‪،‬‬ ‫وأن يترك الرجال رجولتهم لدى نساء‬ ‫أطه���ار مث���ل األم أو ش���خصية جميلة‬ ‫التي يعش���قها األخ األكبر ويريد الزواج‬ ‫بها‪ .‬ث���م تتهت���ك الفحول���ة الصعيدية‬ ‫على ي���د غواية النس���اء ف���ي المدينة‪.‬‬ ‫نساء المدينة المتشحات بمالءات اللف‬ ‫والمالبس الكاشفة التي ال نراها عادة‬ ‫في مشاغل الخياطة الفقيرة‪ ،‬والالتي‬ ‫يستعدن تراث حسن اإلمام في الغواية‬ ‫بالحواج���ب واإليح���اءات الش���يطانية‬


‫واللمس���ات الت���ي تقش���عر له���ا أبدان‬ ‫الفحول‪ ،‬وتتهاوى على يديهن بسهولة‬ ‫مفرطة أخالقهم‪.‬‬ ‫يتس���ع التناقض بين رجال يفترض‬ ‫عودتهم لبن���اء البيت ورجال يتاجرون‬ ‫في الس�ل�اح والمخدرات على التوازي‬ ‫مع االنجرار للخطيئ���ة وتمزق روابط‬ ‫األخوة والدم‪ .‬ويظل األخ األكبر موزع ًا‬ ‫بين ش���هواته وتجارته وبي���ن وفائه‬ ‫لعهده م���ع األم‪ ،‬منف���ردًا بأمانته على‬ ‫الس���ر (ماح���دش يعرف ياخ���د بثأركم‬ ‫غيري‪ ،‬أنا اللي عندي السر شايله في‬ ‫قلبي‪ ،‬الس���ر حمله ثقي���ل خفت يقصم‬ ‫ظهرك���م)‪ .‬وبينم���ا يأخذ بالثأر يس���لم‬ ‫إخوته للسجن ويكتم الشهادة ويبعثر‬ ‫البني���ان المرصوص‪ ،‬متهم��� ًا وبريئاً‪،‬‬ ‫ملتبس ًا ومتناقضاً‪ ،‬حكيم ًا ونافراً‪ ،‬هل‬ ‫هكذا يراد لنا أن نقرأ س���يرة المس���تبد‬ ‫العادل؟!‬ ‫أم���ا اإلخ���وة فيتفرق���ون ويتركون‬ ‫بيتهم في رحلة البحث عن الذات بعيدًا‬ ‫عن سطوة ومحراب الش���قيق األكبر‪،‬‬ ‫ممسوس���ين بالفن أو تجار مخدرات أو‬ ‫مثاليين رومانس���يين‪ ،‬جميع ًا يبحثون‬ ‫عن االنعتاق من طي���ف اللون الواحد‪،‬‬ ‫جريم���ة ل���م تغفره���ا األم وال الوصي‬ ‫األكبر على الس���ر‪ .‬يث���ورون في وجه‬ ‫«ذك���ري» الذي يمن عليهم بثأر اقتنصه‬ ‫(أب���وك وصاك تبق���ى بنّا م���ش قّتال‬ ‫قتلة‪ ،‬ماخدتش رأي الناس اللي الحرب‬ ‫تخصهم زي م���ا تخصك لي���ه؟ مفيش‬ ‫تس���ليم رقاب م���ن غير ما نبق���ى كلنا‬ ‫رأي واح���د‪ ،‬كل ش���وية تعايرنا باللي‬ ‫عملته؟ ماحدش ع األسفلت صغير وما‬ ‫حدش ع األسفلت كبير)‪ .‬ولكن ثورتهم‬ ‫وانفرادهم بتقرير مصائرهم ال تش���فع‬ ‫لهم عن���د مس���اءلتهم ع���ن دورهم في‬ ‫التش���تت والضياع في غياهب المدينة‪،‬‬ ‫فرطوا في العه���د ولفظتهم‬ ‫فهم أيض��� ًا ّ‬ ‫«قمر» عندما عادوا إليها دون الش���قيق‬ ‫األكبر وبعي���دًا عن وصايت���ه‪ .‬وبينما‬ ‫يش���قون طريقه���م منفردي���ن يعاقبهم‬ ‫القدر بنهب بيتهم ف���ي الجنوب ووهن‬ ‫أمه���م ومرضها الذي يص���ل في ذروته‬

‫لقط���ع يدها وتس���مم كفها‪ .‬ب���م تذكرنا‬ ‫هذه الرموز البريئ���ة إذن؟ هل وصاية‬ ‫المس���تبد الع���ادل كانت أرح���م باألم‪/‬‬ ‫األمة؟‬ ‫االنس���ياق وراء هك���ذا أس���ئلة هي‬ ‫محاكمة ال تجوز لنص س���ينمائي كان‬ ‫يج���ب أن يتركن���ا نتلق���اه أو ًال ككل ال‬ ‫يتج���زأ وأن تصلنا دالالت���ه رويدًا عبر‬ ‫طريقة حرة غير مباش���رة‪ ،‬ولكن يبدو‬ ‫أن مؤلف ومخرج العمل كانا مش���بعين‬ ‫برس���ائل يراد له���ا أن تص���ل‪ .‬ويبدو‬ ‫االستخدام المتكرر لتقنية الفالش باك‬ ‫والقطع المتوازي كمحاوالت دائبة لسد‬ ‫فج���وات النص الدرام���ي وخلق المبرر‬ ‫إلعادة القصة لمرب���ع الرموز وضمان‬ ‫أال تخرج عنه‪ .‬فالش���خصيات الدرامية‬ ‫الت���ي ال نفهم تحوالته���ا تمام ًا لم تعط‬ ‫الفرصة لتمارس حياتها على الشاشة‬

‫ُ‬ ‫كتب على أفالم‬ ‫أعدت وانتهى‬ ‫تصويرها قبل ثورات‬ ‫العرب ومصر تلك‬ ‫الثورة‬

‫وتنسج تش���ابكات أكثر تعقيدًا تشركنا‬ ‫معه���ا في الحيرة أو التأم���ل لمواقفها‪،‬‬ ‫إذ سرعان ما تنتش���ل من سياق كانت‬ ‫قد ب���دأت بن���اءه لتع���ود ألداء دورها‬ ‫المرس���وم في س���يناريو «االتحاد قوة‬ ‫والتفرقة ضعف»‪ ،‬هكذا دون احتماالت‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫وجاءت النهاية لتداهم الجميع‪ ،‬األم‬ ‫تتداعى والش���قيق األكبر يلملم أش�ل�اء‬ ‫أخ���وة متصدع���ة نحو زي���ارة أخيرة‬ ‫ّ‬ ‫ألرض المي�ل�اد‪ ،‬يتج���اوز الجميع بعد‬ ‫عناء ع���ن أخطاء الماض���ي وخطاياه‬ ‫ليحملوا نعش األم في المشهد األخير‪،‬‬ ‫وتعود الزوجة واالبنة بعد فراق طويل‬ ‫ألحض���ان األب «ذك���ري» ف���ي لحظ���ة‬ ‫الغفران والصفح التي يصدر معها قرار‬ ‫جماعي بالع���ودة لبن���اء البيت طوبة‬ ‫طوبة‪.‬‬ ‫درس طويل ع���ن الخطاي���ا ينتهي‬ ‫بلحظ���ة واح���دة من التس���امح‪ ،‬يعود‬ ‫الديكتاتور الملوثة ي���داه بالدماء لبناء‬ ‫البيت‪ ،‬ويعود النافرون الباحثون عن‬ ‫الخالص الفردي للتكفير عن ذنبهم في‬ ‫االنهيار الجماعي‪ ،‬ويس���توي الجميع‬ ‫تحت س���قف البيت متجردين من متاع‬ ‫المدينة الدنس‪.‬‬ ‫ُكت���ب عل���ى أف�ل�ام أع���دت وانتهى‬ ‫تصويرها قبل ثورات العرب ومصر أن‬ ‫نراها اليوم من منظار تلك الثورة‪ ،‬أن‬ ‫نطل من زمان جديد على زمان رسائله‬ ‫قديم���ة‪ ،‬وأن نحكم عل���ى منطقنا قبل‬ ‫ديس���مبر‪/‬كانون األول ‪ ،2010‬وثورة‬ ‫تونس وكيف كانت الرسائل تبث إلينا‬ ‫عبر الوس���ائط الثقافية تطلب إلينا أن‬ ‫نس���تمر في التس���امح بينما المس���تبد‬ ‫مازال بيننا‪ ،‬ويقتل أرواحنا‪ .‬نشهد اآلن‬ ‫الرس���ائل كما كانت تصاغ تحت سقف‬ ‫يجثم فوقه ظل الديكتاتور ويمنع عنه‬ ‫الهواء والنور‪ ،‬ونكتفي منه بالمطالبة‬ ‫ببعض الت���روي ف���ي انتهاكنا وبعض‬ ‫العدالة في توزيع الظلم‪ ،‬يكفينا القليل‬ ‫وال تكفيه بح���ور الدماء التي يش���رب‬ ‫منها وال يرتوي‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫مو�سيقى‬

‫اإلخوة جبران‬ ‫أسفار لإلرادة والفرح‬ ‫حم�سن العتيقي‬

‫ذوب أوتاره وصبها برءًا‬ ‫« أنا الذي ّ‬ ‫عل���ى المواجع»‪ ،‬قالها عمر أبو ريش���ة‬ ‫وفي نيته هذا التآمر الجمالي على جرح‬ ‫ال قابلية لتذويب���ه إال بالتماهي‪ ،‬حيث‬ ‫ال‬ ‫الموس���يقى إرادة تكتب لأللم مستقب ً‬ ‫آخر‪ .‬ومع طموح أكبر يمكننا أن نتخيل‬ ‫س���فرًا ال نهائياً‪ ،‬ذلك الذي ال حدود له‬ ‫في جغرافي���ات ربما ل���م يغامر جنس‬ ‫تعبيري بتمديدها بقدر الموسيقى‪.‬‬ ‫أح���د تجلي���ات ه���ذا المنح���ى بدأت‬ ‫تمثله آلة العود في الموسيقى العربية‬ ‫عندم���ا تحررت م���ن س���لطة التطريب‬ ‫إلى مجازات التعبي���ر‪ ،‬لكن آلة العود‬ ‫وإن كانت مرتبط���ة بالوجدان العربي‬ ‫من���ذ م���ا يزيد عل���ى ‪ 3000‬س���نة‪ ،‬إال‬ ‫أنها لم تكش���ف عن جوهرها التعبيري‬ ‫وإمكاناتها الموس���يقية إال في النصف‬ ‫األول م���ن القرن العش���رين م���ع الرائد‬ ‫الشريف محيي الدين حيدر الذي‬ ‫األول ّ‬ ‫الموس���يقيين عندما‬ ‫معاصريه‬ ‫أذه���ل‬ ‫ّ‬ ‫ق���دم مؤلّفاته عل���ى العود ف���ي جولة‬ ‫بأميركا بعد الح���رب العالمية األولى‪،‬‬ ‫حيث كتب���ت صحيفة هيرال���د تربيون‬ ‫يش���به‬ ‫بنيوي���ورك عام ‪ 1924‬تنويها‬ ‫ّ‬ ‫أسلوبه المستحدث في العزف على آلة‬ ‫العود بالتجدي���د الّذي قام به باكانيني‬

‫‪144‬‬

‫(‪)Niccolò Paganini 1840–1782‬‬ ‫على آل���ة الكمان‪ .‬وعل���ى درب محيي‬ ‫الدين حيدر س���ار كل من تالمذته منير‬ ‫وجميل بشير وس���لمان شكر‪ ،‬وصو ًال‬ ‫إلى نصير شمة وغيرهم ممن يكرسون‬ ‫مفهوم الكونش���رتو بآل���ة العود بعدما‬ ‫قبع���ت هذه اآللة خل���ف المغني لقرون‬ ‫موسيقية عديدة‪.‬‬ ‫يشكل الثالثي الفلس���طيني اإلخوة‬ ‫جبران أو «ثريو جبران» سمير (‪،)1973‬‬ ‫وسام (‪ ،)1983‬وعدنان (‪ )1985‬امتدادًا‬ ‫له���ذا التوجه التعبي���ري‪ ،‬وإن كانوا قد‬ ‫خرجوا عنه من حيث التأليف وتقنيات‬ ‫الع���زف‪ .‬وهو خ���روج ال يتردد أنصار‬ ‫الكالس���يكية عن وصفه تغريب ًا يطال‬

‫اختار اإلخوة جبران‬ ‫سرد قصة واحدة‪،‬‬ ‫بتوليفات سهلة‬ ‫وجمل موسيقية‬ ‫بسيطة وقصيرة‬

‫الهوية الموسيقية ما لم يلتزم العازف‬ ‫بالن���واة التقليدية للمقام���ات العربية‬ ‫وط���رق عزفها وتوليفها‪ .‬لكن المس���ار‬ ‫الذي س���لكته هذه التجربة المعاصرة‬ ‫يلقى اهتمام ًا ملفت ًا في وسائل اإلعالم‬ ‫األوروبي���ة‪ ،‬مم���ا يجعلها س���ائرة في‬ ‫درب النجومية بخطى ترتسم معالمها‬ ‫بش���كل متواص���ل‪ .‬فبع���د إصداره���م‬ ‫لخمس���ة ألبومات من���ذ انطالقتهم عام‬ ‫‪ 2002‬يش���كل عملهم األخير «أس���فار»‬ ‫ناف���ذة عل���ى مق���اس العالمي���ة الت���ي‬ ‫عم�ل�ا بنصيحة محمود‬ ‫تحمس���وا إليها‬ ‫ً‬ ‫درويش «بأن يكونوا موس���يقيين من‬ ‫فلس���طين وليس موسيقيي فلسطين»‪.‬‬ ‫وهك���ذا اخت���ار «ثريو جب���ران» اإلقامة‬ ‫في باريس وس���رد قصص موس���يقية‬ ‫عن فلس���طين ومدينته���م الناصرة في‬ ‫مسارح أوروبا‪.‬‬ ‫في صدد هذا التقديم لتجربة «ثريو‬ ‫جب���ران» م���ن خ�ل�ال ألبومه���م األخير‬ ‫ميالين لعزف‬ ‫«أس���فار»‪ ،‬نجد اإلخ���وة ّ‬ ‫جم���ل موس���يقية مقتضب���ة بتوزي���ع‬ ‫دائري بس���يط ومألوف‪ ،‬ثالثة عيدان‬ ‫تستلهم ش���كل الفالمينكو الحديث‪ ،‬بل‬ ‫إنها تس���تدرجه إلى مضم���ون عربي‪،‬‬ ‫كما يتحقق ف���ي «أس���فار»‪ ،‬لتصريف‬ ‫حاالت من التثاق���ف والحوار‪ ،‬يترجمه‬ ‫بش���كل صريح مقام «الكرد» المشترك‬ ‫بين الثقافتين كما في القطعة السادسة‬ ‫«أسفار قرطبة» وهي فالمينكو للذاكرة‪،‬‬ ‫دون قيث���ارات تس���تعيره تقاس���يم‬ ‫وتوليفات العود‪ ،‬وفي الصورة األخرى‬ ‫لغياب القياثير تستعاد مرجعية ثقافية‬ ‫أندلس���ية عبر ثالثة عيدان‪ .‬اس���تعارة‬ ‫الفالمينكو نفس���ها تتكرر ف���ي القطعة‬ ‫السابعة «أس���فار زواج اليمام»‪ ،‬لكنها‬ ‫هذه الم���رة تتراوح بين انفعال إيقاعي‬ ‫س���ريع‪ ،‬وهدوء صولوهات مجروحة‬ ‫م���ن مق���ام «الك���رد» األول���ى صرخة‬ ‫في وج���ه العالم‪ ،‬وف���ي الثانية حالة‬ ‫فلسطينية‪.‬‬ ‫ف���ي المعزوف���ة األولى م���ن األلبوم‬ ‫«األغنية» مقدمة إلثبات وجود وإنصاف‬ ‫حق‪ ،‬إذ ينتقل «الميلودي» من األوكتاف‬ ‫إلى القرار على مقام «الكرد» دائماً‪ ،‬مع‬


‫تكرار الزم���ة موس���يقية دائرية حتى‬ ‫النهاي���ة بإيقاع صوفي‪ .‬نفس الصورة‬ ‫في المعزوفة الثانية «دوار الش���مس»‬ ‫حيث يمتط���ي مق���ام «النهون���د» على‬ ‫غير عادته درجة «الس���ي» في استثناء‬ ‫يحاك���ي االس���تثناء الفلس���طيني الذي‬ ‫يصبح ف���ي المعزوفة الثالثة «أس���فار‬ ‫الدج���ى» جرح��� ًا عالمي ًا مش���ترك ًا بين‬ ‫ثالثة مقامات «صبا زمزمة» وهو مقام‬ ‫للحزن‪ ،‬و«السيكا» للبوح والمكاشفة‪،‬‬ ‫ثم مقام «العجم» القتسام الجرح‪.‬‬ ‫ومن مق���ام «العجم» الذي تش���ترك‬ ‫في���ه جمي���ع الثقاف���ات الموس���يقية‬ ‫العالمية يس���تمر الترتي���ب المعتمد في‬ ‫معزوف���ات ألبوم «أس���فار» في س���رد‬ ‫فصول���ه الحوارية ونداءات االس���تماع‬ ‫والمساندة التي تصل ذروتها القاسية‬

‫في المعزوفة الرابعة «أس���فار مسائنا»‬ ‫حيث التقاسيم دامعة والجملة اللحنية‬ ‫متذبذب���ة ووجداني���ة ُقّدت عل���ى مقام‬ ‫«بياتي» كي يترجم «ربع النوتة» كامل‬ ‫اله���م العربي والمناجاة الفلس���طينية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وفي مكان آخر من المعزوفة الخامسة‬ ‫«أسفار النوار» ال يكفي الشجن لوصف‬ ‫حالة وطن بل يدفعنا اإلصغاء لنبرات‬ ‫مق���ام عالم���ي «النهوند» ف���ي كرنفال‬ ‫ح���واري مع مق���ام عربي «الن���وا اثر»‬ ‫إلى دع���وة ملحة للتس���امح والعيش‬ ‫المش���ترك تكتبه تقنية «التريمولوج»‬ ‫باسترسالها المتتابع في توليد خيوط‬ ‫صوتي���ة تتماه���ى م���ع روح األلب���وم‬ ‫وتجرب���ة «ثريو جبران»‪ ،‬وهي الدعوة‬ ‫إلى جسور واحدة لحياة هانئة ووطن‬ ‫مستحق‪.‬‬

‫ألب���وم «أس���فار» وإن كان يتجن���ب‬ ‫التنويع المفرط ف���ي المقامات العربية‬ ‫والتعقيدات األكاديمي���ة في العزف كما‬ ‫جرت العادة بالعودة إلى تجارب تأثرت‬ ‫بمقوم���ات المدرس���ة العراقية وخاصة‬ ‫تجرب���ة نصي���ر ش���مة في بي���ت العود‬ ‫بمصر‪ ،‬وكذلك انعطافة مارسيل خليفة‬ ‫إلى التألي���ف في «جدل» و«كونش���رتو‬ ‫األندلس» و«ش���رق»‪ ..‬عل���ى عكس هذا‬ ‫تمام ًا اختار الثالثي اإلخوة جبران سرد‬ ‫قص���ة واحدة‪ ،‬بتوليفات س���هلة وجمل‬ ‫موسيقية بسيطة وقصيرة تتشابه في‬ ‫أحيان كثيرة‪ ،‬وهو اعتماد يحاكي رغبة‬ ‫مقصودة في توسيع مساحات اإلنصات‬ ‫والتروي���ج لقضية إنس���انية في أمس‬ ‫الحاجة ألوتار تذوب برءًا على موجع ال‬ ‫تؤنسنه متاهات السياسة أبداً‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫رحيل عادل الهاشمي‬

‫الناقد الصريح‬

‫د‪ .‬با�سم عبود اليا�سري‪ -‬الدوحة‬ ‫الناقد العراقي الكبير عادل الهاشمي‬ ‫الذي رحل عنا مؤخرًا أحد النقاد الذين‬ ‫دافعوا عن الفن الموسيقي في محاولة‬ ‫لتصويب انحرافه على يد الطارئين‬ ‫عليه‪ ،‬فقد كان ناقدًا جادًا‪ ،‬موسوعي ًا‬ ‫في ثقافته الموسيقية‪ ،‬وملم ًا بتاريخ‬ ‫الموسيقى العربية‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن تمكنه من‬ ‫الحديث بأسلوب آسر تميز به‪ ،‬وبلغة‬ ‫عربية سليمة راقية‪ ،‬يحافظ من خاللها‬ ‫في حديثه على تنغيم جميل جاذب‪،‬‬ ‫فتجد لذة في االستماع إلى آرائه أكثر‬ ‫من قراءتها على رفعة مضمونها‪.‬‬ ‫لقد أشاع الناقد الهاشمي من خالل‬ ‫مئات المقاالت والبرامج اإلذاعية‬ ‫والتليفزيونية على مدى عقود‪ ،‬ثقافة‬ ‫موسيقية يتعلم منها المختص ويستمتع‬ ‫بها غير المختص‪ ،‬وحفظ للفن الملتزم‬ ‫مكانته‪ ،‬وظل عصي ًا على اإلغراءات‪،‬‬ ‫وبعيدًا عن المجامالت‪ ،‬والتجاذبات‬ ‫السياسية في أحكامه الموضوعية‪ ،‬وكان‬ ‫علمي ًا في تقييمه للغناء‪ ،‬يحترمه الفنان‬ ‫الحقيقي‪ ،‬ويخشاه الفنان اللصيق‪ .‬وهو‬ ‫يرى أن «مشهدنا الموسيقي تتنازعه‬ ‫انهيارات عدة‪ ،‬بسبب غياب التكوين‬ ‫التربوي عن المعاهد الموسيقية‪،‬‬ ‫وغياب األساتذة الذين يمتلكون وعي ًا‬ ‫ومعرفة بتفاصيل العلم الموسيقي‪ ،‬إلى‬ ‫جانب تفشي األمية الموسيقية في تحديد‬ ‫المعايير النقدية للعمل الفني»‪.‬‬ ‫بلغة صريحة يقّيم الهاشمي الغناء‬ ‫العراقي‪ ،‬ويقدم آراءه ببعض المطربين‬ ‫العراقيين‪ ،‬فيقول‪ :‬إن صوت ياس خضر‬ ‫مقتدر وله مسافة (أوكتافين)‪ ،‬ومنهجه‬ ‫‪146‬‬

‫الغنائي راق‪ ،‬وصوت ماجد المهندس‬ ‫يتمتع بحنجرة متدبرة في الغناء ويجيد‬ ‫طريقة تدوير الكلمة الغنائية‪ ،‬وحسام‬ ‫الرسام ينطلق قوي ًا ويستطيع أن يقوم‬ ‫باألداء المرسل دون إيقاع‪ ،‬ثم يقطعه‬ ‫بأغنية وذلك مؤثر في األسماع ونجح‬ ‫فيه رغم بعض العيوب في صوته‪،‬‬ ‫وشذى حسون لم أسمع بها‪ ،‬ورضا‬ ‫العبد اهلل فيه عيب وراثي إذ إن بعض‬ ‫األنغام تخرج من أنفه وفمه‪ ،‬وصالح‬ ‫البحر ال تكتمل في حنجرته صالحية‬ ‫الغناء‪.‬‬ ‫ولد الناقد الهاشمي في بغداد سنة‬ ‫‪ 1946‬في منطقة األعظمية‪ ،‬فتفتحت‬ ‫آذانه على المدائح النبوية في جامع أبي‬ ‫حنيفة‪ ،‬وتخرج من الثانوية في بغداد‪،‬‬ ‫ثم التحق بمعهد الموسيقى العربية‬ ‫ودرس لمدة ثالث سنوات‪ ،‬عاد إثرها‬ ‫إلى بغداد‪ ،‬ودخل الجامعة المستنصرية‬ ‫قسم اللغة العربية وتخرج في العام‬ ‫‪ .1973 /1972‬وانتدب عضوًا لمدة‬ ‫عقدين في لجنة فحص األصوات العائدة‬ ‫لدائرة اإلذاعة والتليفزيون‪ ،‬ومارس‬ ‫التدريس لمادة الموسيقى في معهد‬ ‫الدراسات النغمية العراقية والفنون‬ ‫الجميلة وكذلك تدريس مادة الموسيقى‬ ‫في كلية الفنون الجميلة‪.‬‬ ‫درس الناقد الهاشمي أصوات قراء‬ ‫القرآن الكريم في المدرستين العراقية‬ ‫والمصرية‪ ،‬دراسة مستفيضة‪ ،‬وكان‬ ‫عاشق ًا للمقام والغناء العراقي وشغوف ًا‬ ‫بالغناء المصري‪ .‬وقد أثبت الراحل آراءه‬ ‫فيما أصدره من كتب‪ ،‬منها (الموسيقى‬

‫والغناء من عصر اإلسالم وحتى احتالل‬ ‫بغداد سنة ‪ ،)656‬و(مسيرة اللحنية‬ ‫العراقية) و(العود العربي بين التقليد‬ ‫والتقنية) وكتاب (فن التالوة أصوات‬ ‫وأنماط) و(أصوات وألحان كردية)‬ ‫و(الموسيقى العربية في مئة عام)‪،‬‬ ‫الذي أصدرته وزارة الثقافة في دولة‬ ‫اإلمارات‪.‬‬ ‫كان الهاشمي عروبي ًا معتزًا بعروبته‪،‬‬ ‫غيورًا على كل ما هو عربي وإسالمي‪،‬‬ ‫أحب مصر وطالما حدثني عن شغفه‬ ‫بها‪ ،‬وكما هو حال من يريد أن يرحل‬ ‫عن هذا العالم‪ ،‬فهو يجوب األماكن التي‬ ‫أحبها والناس الذين تعلق بهم‪ ،‬يصف‬ ‫أحد مرافقي الهاشمي ساعاته األخيرة‪،‬‬ ‫فيقول «حال الراحل قبل سويعات (من‬ ‫وفاته) كانت جيدة فقد زار داري عبد‬ ‫الوهاب وفريد األطرش وجامع جمال‬ ‫عبد الناصر‪ ،‬وكان يستعيد ذكرياته مع‬ ‫مصر التي درس فيها‪ ،‬ولكن حين حاول‬ ‫أعضاء الوفد االتصال به قبيل الذهاب‬ ‫لحفل االفتتاح اكتشفوا أن الهاشمي فارق‬ ‫الحياة»‪ .‬وقد رحل إثر أزمة صحية في‬ ‫العاصمة المصرية التي كانت على موعد‬ ‫الدورة العشرين من مهرجان الموسيقى‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫ومن مفارقات القدر أنه توفي في‬ ‫فندق يحمل اسم أم كلثوم التي طالما‬ ‫تحدث عن غنائها وفنها األصيل‪ .‬رحل‬ ‫الهاشمي ورحلت أحالمه معه‪ ،‬ولم يبق‬ ‫عنه غير كتبه وسمعته الطيبة ودماثة‬ ‫أخالقه‪ ،‬وصوته المميز الذي ال يمكن‬ ‫نسيانه‪.‬‬


‫حارس النغم األصيل‬

‫يترك المقام وحيد ًا‪..‬‬ ‫حين يتعلق األمر بالدفاع عن التراث‬ ‫الموسيقي األصيل‪ ،‬هناك دعاة الحفاظ‬ ‫عليه متعصبين له كما هو‪ ،‬وهم كثر دون‬ ‫سند أكاديمي في الغالب‪ ،‬وهناك من‬ ‫يرى‪ ،‬وهم قلة‪ ،‬أن الحفاظ على التراث‬ ‫ال يقوم عملي ًا على إشهار السالح في‬ ‫وجه من يناوئه‪ ،‬بل باستعماله وتداوله‬ ‫في رؤى جديدة‪ ،‬مع ما لعملية التوثيق‬ ‫المستمر من أهمية تربوية‪ ‬وتاريخية‪.‬‬ ‫الناقد الموسيقي عادل الهاشمي‬ ‫(األعظمية ‪ )1946‬الذي ودعته الساحة‬ ‫الموسيقية العراقية مؤخرًا كان من الفئة‬ ‫الثانية‪ ،‬وقد مثلها باستحقاق مشهود‪،‬‬ ‫وظل طوال حياته يؤكد‪ ،‬بصرامة‬ ‫ال مجاملة فيها لفنان‪ ،‬على ضرورة‬ ‫استقامة الموسيقى العراقية‪.‬‬ ‫رسخ الهاشمي في نقده خطورة‬ ‫ضياع المقام العراقي باعتباره الركيزة‬ ‫األساسية التي تستند إليها األغنية‬ ‫العراقية إلى جانب األطوار الريفية‪،‬‬ ‫ومعروف عنه تمسكه بمشروعه في نقد‬ ‫الموسيقى العراقية وتوثيقها معاً‪ ،‬فكان‬ ‫من فضل هذا اإلسهام ترتيب التجارب‬ ‫وتنسيق تباينها وضبط مقومات الغناء‬ ‫وضوابط انبنائه‪ ،‬من خالل استعراض‬ ‫مستفيض ألرشيف األغاني العراقية‬ ‫وروادها‪ ،‬موازن ًا ذلك في استدالل‬ ‫نقدي وأحكام صريحة في استحقاق‬ ‫الغناء المتقون دون محاباة‪ .‬وقد كان‬ ‫من أثر ذلك كله إنتاج مقاالت ومؤلفات‬ ‫في النقد والتوثيق ال تخلو من تنبيه‬ ‫للفراغ الحاصل في تحصين الهوية‬ ‫العراقية والتراث الغنائي من النهب‬ ‫والتلف‪ ،‬فكان من نتائج هذا اإلهمال ما‬

‫توقف عنده الهاشمي بمرارة حين ادعت‬ ‫إسرائيل «أن اليهود العراقيين الذين‬ ‫كانوا في بغداد غادروا بغداد بأمر من‬ ‫نوري باشا السعيد‪ ،‬وكان من المفروض‬ ‫أن يغادروا البلد عام ‪ 1948‬باالتفاقية‬ ‫التي وقعت بعد معركة فلسطين‪ ،‬لكن‬ ‫أخر رحيل اليهود‬ ‫نوري باشا السعيد ّ‬ ‫العراقيين لكي ُيعلموا العراقيين الكثير‬ ‫من فنون األغنية وكثيرًا من فنون‬ ‫المقام وكثيرًا من فنون األطوار الريفية‪،‬‬ ‫فأبقاهم حتى سنة ‪ ..1951‬ولحذقهم‬ ‫أنهم غادروا العراق الذي لم يحلموا به‪،‬‬ ‫لذلك ماذا فعلوا؟‪ ،‬ادعوا أن كل هذا الفن‬ ‫هو فن يهودي إسرائيلي»‪ .‬وهكذا‪ ،‬ولما‬ ‫لهذا التزوير من تهديد مستقبلي لإلرث‬ ‫العراقي اختار الهاشمي خيار المقاومة‬ ‫الثقافية فاحتل مقام الريادة في تصويب‬ ‫الحقائق التاريخية في مشروعه النقدي‬ ‫الموسيقي عبر عدة مؤلفات كان آخرها‬ ‫«الموسيقى العربية في مئة عام» على‬ ‫غرار مواطنه الرائد األكاديمي في هذا‬ ‫العمل الفنان الباحث حسين األعظمي‬ ‫الذي أصدر أكثر من ستة كتب في المقام‬ ‫العراقي أهمها من الناحية التوثيقية‬ ‫«المقام العراقي ومبدعوه في القرن‬ ‫العشـرين» عن دار دجلة‪ ،‬األردن‬ ‫‪.2010‬‬ ‫وأسلوب الهاشمي في التوثيق‪ ،‬وإن‬ ‫كانت غايته العلمية تعويض االضطراب‬ ‫المرجعي نظرًا للنقص األكاديمي‬ ‫الحاصل عند أسالفه من رواد المقام‬ ‫العراقي‪ ،‬فإنه يفيد كذلك في تربية‬ ‫الحس الذوقي وصرامة النقد عند طالب‬ ‫وجمهور الموسيقى على السواء‪ ،‬فنجده‬

‫بهذا غير متردد في الحكم على العديد‬ ‫من المطربين مبررًا ما هم عليه من‬ ‫شهرة إلى الشفقة العربية أثناء الحصار‬ ‫االقتصادي الذي تعرض له العراق خالل‬ ‫تسعينيات القرن الماضي‪ .‬كما يرى أن‬ ‫األغنية أصبحت صورة للحياة العراقية‬ ‫«بما فيها من انكسارات وبما فيها من‬ ‫مآس وقسوة‪ ،‬فأصبح الفن فائض ًا‬ ‫وليس جزءًا من األساس الجوهري‬ ‫للحياة العراقية»‪ .‬ورغم ما قد ينطوي‬ ‫عليه هذا الحكم من تعميم إال أنه في‬ ‫الصميم ينم عن قناعة ال مساومة فيها‬ ‫عند الهاشمي‪ ،‬وقد ظل يعلم طالبه في‬ ‫معهد الدراسات النغمية العراقية والفنون‬ ‫الجميلة‪ ،‬وكذلك قراءه في عموده‬ ‫«مرفأ الموسيقى» وغيره من كتاباته‬ ‫الصحافية وما أنتجه من مؤلفات‪ ..‬بأن‬ ‫ال مجاملة في الفن األصيل «إذا كنا نريد‬ ‫نهضة جديدة في بناء فني جديد يتوخى‬ ‫الصدق واألمانة ويتوخى سعادة الفرد‬ ‫العراقي»‪.‬‬ ‫يقول الهاشمي فيما كتبه عن رواد‬ ‫المقام العراقي‪« :‬ناظم الغزالي هو أحد‬ ‫أبطال ملحمة غناء المقام العراقي‪ ،‬فإن‬ ‫فضل هذا المطرب الكبير والمتمكن جدًا‪،‬‬ ‫انه استطاع أن ينقل المقامات التي‬ ‫أداها إلى خارج الجغرافية العراقية‪..‬‬ ‫إن ما قام به الغزالي‪ ،‬هو تطوير بعض‬ ‫تقليديات األداء الغنائي‪ ،‬وهو في رأينا‪،‬‬ ‫تمارين بيداغوجية أرست فيه قواعد‬ ‫النطق السليم واللفظ الرشيق‪ ،‬وإعطاء‬ ‫الحرف الغنائي حقوق الجمال األدائي‪،‬‬ ‫وإتقان اختالس األنفاس وتعلم الشهيق‬ ‫والزفير أثناء الغناء‪ ..‬وصوت الغزالي‬ ‫من أصوات التينور الدرامي ال الغنائي‪،‬‬ ‫وهو يقطر حالوة وسحرًا‪ ،‬لكن الضعف‬ ‫الذي يعانيه صوت الغزالي كما هو‬ ‫معروف في الدرجات الواطئة ‪-‬القرارات‪-‬‬ ‫لذلك تجنب هذا المغني البارع غناء عدد‬ ‫كبير من المقامات التي تتطلب اتساع ًا‬ ‫في المساحة الصوتية‪ ..‬نجاح ناظم‬ ‫الغزالي المدوي في اآلفاق العربية‬ ‫قائم على المثابرة والدعك واالحتكام‬ ‫إلى المعارف الصلبة في فن الغناء‪ ،‬ال‬ ‫بضربة ّ‬ ‫حظ»‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫أغنية المؤلف الروسية‬ ‫في انتظار ثورة القيثارة‬ ‫منذر بدر حلّوم‪ -‬مو�سكو‬ ‫تعب���ر ع���ن موق���ف‬ ‫لألغني���ة الت���ي ّ‬ ‫اجتماعي‪ -‬سياسي‪ ،‬في روسيا تاريخ‬ ‫يبدأ مع (ذوبان الجليد) الخروش���وفي‪،‬‬ ‫الذي بات ممكن ًا بفضل من موت ستالين‬ ‫(‪ 5‬آذار‪/‬م���ارس ‪ .)1953‬فبع���د ثالث���ة‬ ‫أعوام من ذلك الموت (أو القتل؟) صعد‬ ‫بتغيير في البنية‬ ‫خروش���وف‪ ،‬الحالم‬ ‫ٍ‬ ‫أغنية المؤلف وفرق المشي‪.‬‬

‫‪148‬‬

‫مع بقائه على رأس���ها‪ ،‬منب���ر المؤتمر‬ ‫العش���رين للحزب الشيوعي السوفياتي‬ ‫(ش���باط‪/‬فبراير ‪ )1956‬منتق���دًا تأليه‬ ‫ستالين‪ ،‬وآلية عبادة الفرد الستالينية‪،‬‬ ‫مؤدي��� ًا رومان���س التغيي���ر األول ف���ي‬ ‫ّ‬ ‫االتحاد السوفياتي‪ ،‬مؤذن ًا بفتح الباب‬ ‫أغان راح���ت تنبئ بواقع بعيد عن‬ ‫أمام ٍ‬

‫الرومانس‪.‬‬ ‫تزامن انتش���ار األغنية االجتماعية‪-‬‬ ‫السياسية‪ ،‬في أواسط القرن العشرين‬ ‫ف���ي بل���دان مختلفة م���ن العال���م‪ ،‬مع‬ ‫ظهور الحركات الطالبية اليس���ارية في‬ ‫الغرب‪ .‬وع���ادة ما كانت ه���ذه األغنية‬ ‫تؤدى مصحوبة بآلة القيثارة وحدها‪،‬‬ ‫التقليد الذي ال زال س���ائدًا إلى اليوم في‬ ‫األغلب األعم م���ن الحاالت‪ .‬ولكون هذه‬ ‫األغنية يكتب كلماتها ويضع موسيقاها‬ ‫ويغنيها شخص واحد‪ ،‬فقد ُأطلق عليها‬ ‫اسم أغنية المؤلف‪.‬‬ ‫من الس���مات العامة ألغنية المؤلّف‪،‬‬ ‫طغي���ان أهمي���ة الكلم���ات عل���ى أهمية‬ ‫الموسيقى وعلى جودة صوت المغني‪،‬‬ ‫وهي غالب ًا تؤدى على قوالب موسيقية‬ ‫جاهزة‪ ،‬ويتم التش���ديد في أدائها على‬ ‫الكلم���ات والجمل ذات المعاني الخاصة‬ ‫تعبر أغني���ة المؤلف‬ ‫الم���راد إيصاله���ا‪ّ .‬‬ ‫عن رؤي���ة نقّادة للظواه���ر االجتماعية‬


‫والسياس���ية الس���ائدة في انعكاس���ها‪،‬‬ ‫غالباً‪ ،‬على مصائر فردية‪ .‬وهي أغنية‬ ‫إنتلجينسيا بالدرجة األولى‪ ،‬فمبدعوها‬ ‫أطب���اء ومهندس���ون ومش���تغلون ف���ي‬ ‫العل���م‪ ،‬يزاولونه���ا بوصفه���ا نش���اط ًا‬ ‫ثقافي���اً‪ -‬اجتماعي��� ًا سياس���ياً‪ ،‬وليس‬ ‫مهنياً‪ -‬فنّياً‪.‬‬ ‫مرت أغنية‬ ‫اليوم‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ظهورها‬ ‫من���ذ‬ ‫ّ‬ ‫المؤل���ف الروس���ية بمراحل ع���دة لكل‬ ‫منها س���ماتها‪ .‬بدأت الحقبة األولى مع‬ ‫نسيم الحرية الخروشوفي‪ ،‬واستمرت‬ ‫حتى نهاية الس���بعينيات‪ .‬وهنا‪ ،‬راحت‬ ‫اإلنتلجينس���يا الروس���ية تولّد عشرات‬ ‫األغان���ي المش���بعة بالوج���ع وبضيق‬ ‫الص���در وبالحاجة إل���ى القول‪ ،‬وراحت‬ ‫األخيرة تنتش���ر في الظل‪ ،‬مس���تجيبة‬ ‫لطلب اجتماعي على حرية التعبير‪ .‬ففي‬ ‫الوقت ال���ذي امتأل فيه الهواء الرس���مي‬ ‫بأغان سوفياتية شعاراتية راحت ُتبث‬ ‫ٍ‬ ‫عب���ر قنوات التلف���از والمذياع‪ ،‬لمغنين‬ ‫ومؤلفين اشترط فيهم أن يكونوا أعضاء‬ ‫في نقابات الفنانين الرس���مية‪ ،‬في هذا‬ ‫الوقت راحت األيدي التواقة إلى الحرية‬ ‫سرية ألغنية المؤلف‪.‬‬ ‫تتبادل تسجيالت ّ‬ ‫س���جل‬ ‫وهنا‪ ،‬وفي هذه الحقبة بالذات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هاماً‪ .‬فمن ال يعرف قصائد‬ ‫الشعر حضورًا ّ‬ ‫فالديمير فيسوتسكي (‪،)1980 - 1938‬‬ ‫وب���والت أكودجاف���ا (‪-)1997 - 1924‬‬ ‫يقف تمثال هذا الرجل الضئيل الجس���م‪،‬‬ ‫العمالق الكلمة‪ ،‬في شارع أربات القديم‬ ‫من���ذ ‪ ،2002‬ولي���س إال بوش���كين من‬ ‫الكب���ار هناك‪ -‬ومن ال يعرف الكس���ندر‬ ‫غاليت���ش (‪ )1977 - 1918‬المغناة على‬ ‫القيث���ارة‪ ،‬من ال يعرف ه���ؤالء الثالثة‬ ‫الكب���ار على اختالفهم‪ ،‬ال يعرف ش���يئ ًا‬ ‫عن الوجع الروس���ي‪ .‬في ه���ذه الفترة‬ ‫يؤسس مهرجان سنوي ألغنية المؤلف‬ ‫يحمل اسم فاليري غروشين الذي توفي‬ ‫شاباً‪ ،‬أثناء رحلة مشي‪ .‬وهذا المهرجان‬ ‫ّ‬ ‫لم ينقطع منذ ‪ 1968‬في ضواحي مدينة‬ ‫سمارا‪ .‬وقد اقتصر حضوره في دورته‬ ‫األولى على هواة المش���ي السياحي في‬ ‫منطقة سمارا‪ .‬وبالمناس���بة فالقيثارة‬ ‫وأغني���ة المؤل���ف رفيقا فرق المش���ي‪.‬‬ ‫ثم بدأ الش���باب بالتداعي لحضوره من‬

‫في نادي روسي ألغنية المؤلف‪.‬‬

‫مختلف أصقاع روسيا‪ .‬وهكذا بلغ عدد‬ ‫جمهوره عام ‪ ، 1979‬مئة ألف شخص‪،‬‬ ‫وتضاعف عام ‪ ،2000‬ليصل إلى ‪210‬‬ ‫أما في هذا العام (‪ )2011‬فتقلص‬ ‫آالف‪ّ ،‬‬ ‫ع���دد الحض���ور إل���ى اثنين وعش���رين‬ ‫ألفاً‪ .‬ولكن ليس لقل���ة االهتمام بأغنية‬ ‫المؤل���ف‪ ،‬إنما لظهور طل���ب جديد يمّهد‬ ‫لثورة خارج المنابر‪.‬‬ ‫وقد برز في فترة الثمانينيات مؤلفون‬ ‫كب���ار‪ ،‬م���ا زالوا إل���ى الي���وم يحملون‬ ‫قيثاراتهم ويعتلون خش���بات المسرح‪،‬‬

‫خالل العام الحالي‬ ‫ظهرت موجة‬ ‫جديدة من أغنية‬ ‫المؤلف‪ ،‬أخرجتها‬ ‫من حالة الوقوف‬ ‫على األطالل إلى‬ ‫المطالبة بالتغيير‬

‫ولك���ن مصحوبي���ن بآالت أكث���ر تعقيدًا‬ ‫تداخ�ل�ا وهرمونية‪ ،‬من‬ ‫وأصوات أكثر‬ ‫ً‬ ‫أمثال بوريس غريبيشنيكوف‪ ،‬وأندريه‬ ‫ماكاريفيت���ش‪ ،‬وي���وري شيفتش���وك‪.‬‬ ‫وهن���ا‪ ،‬تصب���ح الحف�ل�ات الجماهيرية‬ ‫تقليداً‪ ،‬بالتوازي مع نشاط فرق‪ ،‬تنشد‬ ‫الحفاظ عل���ى طقس األداء الش���خصي‬ ‫واالس���تماع الخاص‪ ،‬كج���زء أصيل من‬ ‫األغني���ة‪ ،‬فتقي���م معس���كرات للمؤلفين‬ ‫وألنصاره���م ف���ي خي���ام تضربه���ا في‬ ‫الغابات‪.‬‬ ‫يؤس���س غريبيش���نيكوف فرق���ة‬ ‫(أكواري���وم «ح���وض الم���اء»)‪،‬‬ ‫وماكاريفيتش فرقة (ماشينا فريمنيني‬ ‫«ماكين���ة الزمن»)‪ ،‬وشيفتش���وك فرقة‬ ‫(د‪.‬د‪.‬ت)‪ .‬ومن ال يعرف هذا المبيد الذي‬ ‫أنقذ البش���رية من الجوع يوم ًا ثم صار‬ ‫ملعون ًا رجيم ًا بفعل تراكمه في عناصر‬ ‫البيئة وانتقاله عبر السالسل الغذائية!‬ ‫وف���ي الوقت الذي كان���ت فيه أغاني‬ ‫المرحل���ة الس���ابقة‪ ،‬بم���ا فيه���ا أغاني‬ ‫النج���وم‪ ،‬تتناول األوج���اع االجتماعية‬ ‫والشخصية‪ ،‬مع مالمسة بالكاد تلتقط‬ ‫‪149‬‬


‫للسياس���ي‪ ،‬تب���دو األغان���ي هن���ا أكثر‬ ‫نقدية‪ .‬ففي هذا المنح���ى يتحقق نجاح‬ ‫وانتش���ار أغنية ماكاريفيتش (أباسني‬ ‫بوفاروت «المنعطف الخطير»)‪.‬‬ ‫م���ع بداي���ة التس���عينيات‪ ،‬دخل���ت‬ ‫أغني���ة المؤلف ما يمكن تس���ميته بطور‬ ‫االسترخاء‪ ،‬فقد أصبح كل قول مباحاً‪،‬‬ ‫ورَفدها‪،‬‬ ‫مم���ا أفقدها بعض ًا من ّ‬ ‫تميزها‪َ ،‬‬ ‫في الوقت نفسه بعدد كبير من الشعراء‬ ‫والمغني���ن الذين لم يكونوا ليظهروا في‬ ‫غياب حرية التعبير‪ .‬في هذه المرحلة‪،‬‬ ‫تط���ور أداء المؤلفي���ن‪ -‬المغني���ن فنّي ًا‬ ‫وتش���كلت هيئ���ات مهنية تنظ���م عملهم‬ ‫وأخ���ذت تتبل���ور كالس���يكيات أغني���ة‬ ‫المؤلف‪ ،‬بالتمايز مع الموجة الجديدة‪،‬‬ ‫وظهرت برامج في الراديو (راديو صدى‬ ‫موس���كو) مخصص���ة ألغني���ة المؤلف‪،‬‬ ‫ومؤسس���ات اس���تثمارية تنظم حفالت‬ ‫ولقاءات خاصة بهذه األغنية‪.‬‬ ‫تميزت أغاني التسعينيات‪ ،‬وخاصة‬ ‫ّ‬ ‫بدايتها‪ ،‬بنقد ش���ديد ومتك���رر لالتحاد‬ ‫الس���وفياتي المنه���ار‪ ،‬ث���م بكثي���ر من‬ ‫الس���خرية من البيريسترويكا‪ ،‬ولكن لم‬ ‫يتبل���ور فيه���ا مع ذلك خ���ط معارض‪،‬‬ ‫ب���ل األصح القول لم تتش���كل معارضة‬ ‫تتبن���ى ما تنط���وي علي���ه األغاني من‬ ‫نقد للمرحلة‪ .‬هنا تظهر أس���ماء جديدة‪،‬‬ ‫ش���اوف (ولد عام‬ ‫مثل الطبي���ب تيمور‬ ‫َ‬ ‫والمدرس ميخائيل شيرباكوف‬ ‫‪،)1964‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪ ،)1963‬وخريجة اآلداب أولغا تشيكينا‬ ‫(‪ )1969‬وغيرهم‪ ،‬وتتاح إمكانات فنية‬ ‫وتقني���ة وتس���ويقية كبي���رة‪ ،‬فيتحول‬ ‫كثي���ر م���ن المؤلفين الس���ابقين والجدد‬ ‫إل���ى االحت���راف‪ ،‬فيغ���ادرون العيادة‬ ‫والورش���ة ومنب���ر التعلي���م والمختبر‬ ‫العلمي إلى مس���رح األغني���ة‪ .‬وتصبح‬ ‫هذه األغنية‪ ،‬بمعنى ما س���لعة‪ ،‬فتفقد‬ ‫مزيدًا من خصوصيتها‪ .‬فال يبقى لها من‬ ‫خصوصية إال الكلمة النقّادة‪ .‬علم ًا بأن‬ ‫األخيرة‪ ،‬أيضاً‪ ،‬تفق���د‪ ،‬مقارنة بحقبة‬ ‫أكودجافا وفيسوتسكي وغاليتش كثيرًا‬ ‫من ثرائها وشعريتها‪.‬‬ ‫وعلى هذا النحو يستمر الحال طوال‬ ‫فترة حكم يلتسين وخالل الفترة األولى‬ ‫ه���م جديد تحمله‬ ‫من حك���م بوتين‪ ،‬مع ّ‬ ‫‪150‬‬

‫بوريس غريبنشيكوف‪.‬‬

‫أغني���ة المؤلف يتجلى ف���ي التعبير عن‬ ‫الحنين إلى االتحاد السوفياتي المفقود‪،‬‬ ‫وتأمل الخس���ارة الناجمة عن هذا الفقد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألس���ف على المس���اهمة ف���ي الهدم‪،‬‬ ‫ونقد الظواهر السياس���ية واالجتماعية‬ ‫الجديدة‪ ،‬والشعور المتصاعد والمتفاقم‬ ‫بغي���اب العدالة االجتماعي���ة‪ ،‬والحديث‬ ‫المتصاعد عن مآسي روسيا‪ ،‬من سكر‬ ‫وفساد وغباء وقلة شعور بالمسؤولية‬ ‫وعدم أهلية المسؤولين وقلة نزاهتهم‪،‬‬ ‫وتعبي���ر عن الرغب���ة في إحي���اء القيم‬ ‫األخالقي���ة المفق���ودة وف���ي الع���ودة‬ ‫إلى دول���ة قوية تعيد الع���زة والكرامة‬ ‫لمواطنيه���ا‪ ..‬وهذا كلّه بالتزامن مع نقد‬ ‫الس���لطة الحاكمة‪ .‬في ه���ذه المرحلة‪،‬‬ ‫يستمر شيفتش���وك وفرقة (بودبولني‬ ‫فرونت «الجبهة الس���رية»)‪ ،‬ويبرز مع‬ ‫أبط���ال الموجة الجدي���دة نويز إم إس‪،‬‬ ‫وفرقة (راب فاك «كلّية الشغل»‪ ،‬االسم‬ ‫ينطوي على س���خرية واضحة من تلك‬ ‫الكلي���ات التي أعّدت العم���ال في أعوام‬ ‫العشرينيات في االتحاد السوفياتي)‪.‬‬ ‫وم���ع بقاء بوتين ف���ي الحكم ولعبة‬ ‫تبادل الس���لطة المثيرة للس���خرية بينه‬

‫وبي���ن ميدفيديف‪ ،‬ب���دأت تتبلور خالل‬ ‫الع���ام الحال���ي (‪ )2011‬موج���ة جديدة‬ ‫من أغنية المؤل���ف‪ ،‬أخرجتها من حالة‬ ‫الوقوف عل���ى األطالل إلى االش���تغال‬ ‫عل���ى مطل���ب التغيير ال���ذي ال بد منه‪،‬‬ ‫أغنية تتفاعل مع تصاعد الشعور بعدم‬ ‫الرضا وبحاجة روس���يا إل���ى التغيير‪،‬‬ ‫حت���ى كثر الحديث ف���ي البالد عن ثورة‬ ‫قادمة‪ .‬وهنا تأتي أغنية (العصفورية)‬ ‫التي أدتها فرق���ة (راب فاك)‪ ،‬وحصدت‬ ‫خ�ل�ال أس���بوع مئتي ألف مس���تمع في‬ ‫ساخرة‪،‬‬ ‫الش���بكة العنكبوتية‪ ،‬لتكرر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ستصوت لبوتين»‪.‬‬ ‫الزمة «عصفوريتنا‬ ‫ّ‬ ‫ف���إذا ما أخذن���ا بتاريخ استش���راف‬ ‫أغني���ة المؤل���ف لح���ركات التغيي���ر‬ ‫االجتماعية‪ ،‬م���ن جهة‪ ،‬وبدالالت أرقام‬ ‫االستجابة الش���بابية لهذه األغنية‪ ،‬من‬ ‫جهة ثاني���ة‪ ،‬وبالمزاج العام الذي يمكن‬ ‫التقاط مؤش���رات عليه في كل مكان من‬ ‫إن روسيا‬ ‫روس���يا اآلن‪ ،‬يمكننا القول ّ‬ ‫قد تغنّ���ي فيها آل���ة القيث���ارة‪ ،‬بعد أن‬ ‫يستنهض القيثارة ش���بابها‪ ،‬في والدة‬ ‫ثورة جديدة يصع���ب التكهن بنتائجها‪،‬‬ ‫وبأغنية المؤلف التي قد تأتي بعدها‪.‬‬


‫دوحة الع�شاق‬

‫ص ْحـن ِخ ّدي‬ ‫ن‬ ‫أ َمكـ ِّ ُ‬ ‫عاشـقي من َ‬ ‫ِ‬ ‫نزار عابدين‬ ‫مؤ ِّرخو الشعر صحيحاً‪ ،‬بل كثيرًا ما‬ ‫ليس كل ما قاله َ‬ ‫كذبوا ونافقوا‪ .‬فاألصفهاني يقول عن ُعـلية بنت المهـدي‬ ‫(‪ 210 - 16‬هـ ‪ 825 - 777/‬م)‪« :‬كانت من أحسـن‬ ‫الناس وأظرفهم تقول الشـعـر الجيد‪ ،‬وتصوغ فيه األلحان‬ ‫الحســنة‪ ،‬وكانت حـسـنة الدين‪ ،‬ال تغني وال تشرب النبيذ‬ ‫إال إذا كانت معتزلة الصالة‪ ،‬فإذا طهرت أقبلت على الصالة‬ ‫ٍ‬ ‫بشيء غير قول الشـعـر»‪،‬‬ ‫والقرآن وقراءة الكتب‪ ،‬فال تلـذ‬ ‫وقد قال عنها غيره مثـل هذا الكالم‪ ،‬فما هذا التـبرير السخـيف‬ ‫لألميرة التي عشـقـت غالم ًا لها‪ ،‬حتى اشتهر أمرهما‪ ،‬فمنعها‬ ‫أخوها الرشـيد من ذكر اسمه في أشعارها؟‬ ‫لاّ‬ ‫ويظهـر نـفـاقـهـم أكثـر وضـوح ًا عـند حـديـثهـم عن و دة‬ ‫المـتـوفــاة ‪484‬هـ‪1091/‬م‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫المــسـتكـفي ُ‬ ‫بـنت ُ‬ ‫«وكانت والدة في بني أمية بالمغرب كعلية في بني العباس‬ ‫بالمشرق‪ .‬إال أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق!!»‪.‬‬ ‫قال عـنهـا ابن بشـكوال (‪578 - 494‬هـ‪- 1101/‬‬ ‫‪1183‬م) في «الصـلة في تاريخ أئمـة األندلس»‪« :‬كانت‬ ‫أديبة شـاعرة‪ ،‬جزلة القول‪ ،‬حسـنة الشـعر‪ ،‬وكانت‬ ‫تخالط الشـعراء‪ ،‬وتساجل األدباء‪ ،‬وتعرف البرعاء‪،‬‬ ‫وع ِّمرت طويالً»‪ .‬وتناقل المؤرخون وصف ًا واحدًا ال يتغير‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫«كانت واحدة زمانها‪ ،‬المشــار إليها في أوانها‪ ،‬حســنة‬ ‫المحاضرة‪ ،‬مشــكورة المـذاكرة‪ .‬وكانت مع ذلك مـشــهورة‬ ‫بالصيــانـة والعـفـاف‪ ،‬وفـيهـا خـلع ابن زيدون عـِذاره‪،‬‬ ‫وله فيهـا القصائد والمقطعات‪ ،‬لكنهم تناسوا قول ابن‬ ‫بشـكوال‪ ،‬وهو أقدم مؤرخي األندلس‪« :‬سـمعت شـيخنا‬ ‫يصف نباهتهـا وفصاحتها وجزالة منطقها‪ ،‬وقال‪ :‬لم يكن‬ ‫لها تصاون يطابق شرفها»‪.‬‬ ‫لاّ‬ ‫وال ندري من الذي خلع العذار (ترك الحياء) و دة أم‬ ‫ابن زيدون‪ ،‬فلقد قرأنا شعره فيها فما وجدنا كلمة واحدة‬ ‫فاحشة‪ ،‬بل هو من أرق شعر الغزل‪،‬أما هي فكتبت بخيوط‬ ‫الذهب على جانب ثوبها‪:‬‬

‫ــح ِلـلـ َمـعـــايل‬ ‫�أنـا والـلـّه � ْأ�ص ُل ُ‬ ‫و�أ ْم ِـ�شي مِـ�شْ ـيتي و�أ ِتـيـ ُه ِتـيهـــا‬ ‫ ‬ ‫وكتبت على الجانب اآلخر‪:‬‬

‫عا�شـقي من َ�ص ْحـن ِخ ّدي‬ ‫�أ َمكـ ِّ ُن ِ‬ ‫و�أ ْعـطي ُقـب َلـتي من يَـ�شْ ـته ِـيهـا‬ ‫ ‬

‫فهل بعد هذا من تهتك وخلع عذار؟‬ ‫حتى عندما افـترقا (وأغلب الظن أنها كانت مـتـقـلـبة‬

‫األهـواء‪ ،‬تبدل عـشــاقـهـا كما تبدل أثوابها) لم يقل فيها ابن‬ ‫زيدون كلمة هجاء‪ ،‬بل أثرى الشعر العربي بقصائد من درر‬ ‫الشعر‪ ،‬كما قال المتنبي‪:‬‬

‫بذا ق�ضت الأيا ُم ما بني �أه ِلها‬ ‫م�صائب قو ٍم عند قو ٍم فوائ ُد‬ ‫ ‬ ‫ُ‬

‫وهكذا كان افتراق ابن زيدون وو ّالدة نعـمة على الشــعـر‬ ‫الحمداني قبل ذلك‪ ،‬فقد‬ ‫العربي‪ ،‬كما كان أسـر أبي فراس ْ‬ ‫أثرى الشعر العربي بـ «رومياته» الخالدة‪ .‬أما ولاّ دة فظهر‬ ‫سـوء أخالقها في هجائها «البذيء» البن زيدون‪:‬‬

‫ـت‬ ‫ولُـقِّـبـْت امل�سـ َّد َ�س وهو ن ْع ٌ‬ ‫تُفا ِر ُقـك احليا ُة وال يُفا ِر ْق‬ ‫ ‬ ‫ــي و َمـ�أبُـــون وزانٍ‬ ‫فـَـلـ ُ ِ‬ ‫ــوط ٌ‬ ‫ـوث وقرنا ٌن و�سـا ِر ْق‬ ‫ ‬ ‫و ُديُّ ٌ‬

‫قواد على أهله‪ .‬قرنان‪:‬‬ ‫بشر‪ .‬ديوث‪ّ :‬‬ ‫(مأبون‪ :‬ال ُيذكر إال ّ‬ ‫رجل ال يغار على أهله)‪ .‬بل إن لها في هجاء ابن زيدون‬ ‫أبيات ًا أخرى‪ ،‬نسـتحي من ذكرها‪ .‬ليسـت هذه أخالق «ربة‬ ‫الصون والعـفـاف» السـيـما أن هذا الذي تتهمـه بهذه الصفات‬ ‫كلها كان عـشـيـقـهـا‪ ،‬وكانت تكتب إليه ولهى‪:‬‬

‫ــن الظـــــال ُم زيــارتي‬ ‫تـرقَّ ْ‬ ‫ـــب �إذا َج ّ‬ ‫َ‬ ‫لل�ســـر‬ ‫ـتـم‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ف� يّإن َر�أيْ ُ‬ ‫ـت الـلـيـلَ �أ ْك َ‬ ‫ِّ‬ ‫ـح‬ ‫َوبي مـنك ما لو كانَ‬ ‫ِ‬ ‫بال�شم�س مل تـ ُل ْ‬ ‫بالنجـم مل ي�سـْـ ِر‬ ‫ ‬ ‫ْ‬ ‫وبالبد ِر مل يط ُل ْـع َو ْ‬ ‫وتكتب إليه أيضاً‪:‬‬

‫ـب و َّد َع ْ‬ ‫ــك‬ ‫َو َّد َع َّ‬ ‫ال�صبـْ َر حُ ِم ٌّ‬ ‫ا�سـتـو َد َع ْ‬ ‫ــك‬ ‫ ‬ ‫ــــر ِه ما ْ‬ ‫ذا ِئـ ٌع ِمن ِ�س ِّ‬ ‫�إنْ يَطُــلْ بعـ َد َك ليلي فـلـكـ َ ْم‬ ‫الليـــل َم َع ْ‬ ‫ــك‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫ب ُّ‬ ‫ِـت �أ�شْ ــكو ِقـ�صرَ َ‬

‫ليســـت و ّالدة غريرة ليخـدعهـا من يتـصف بكل ما كالـته‬ ‫له من هجاء مقـذع‪ ،‬بل كانـت تتصف بالنباهـة والفصاحة‬ ‫والذكاء‪ ،‬فكيف انقلبت هذه العـاشـقة الولهى إلى امـرأة‬ ‫شـرسـة ال تتورع عن شتم من كان لها عشيق ًا بهذا األسلوب‬ ‫«السوقي»؟‬

‫‪151‬‬


‫علوم‬

‫أسرار السواك ‬ ‫اكتش���ف فريق بحث دول���ي المكونات‬ ‫الس���رية في عيدان السواك الذي يستخدم‬ ‫على نطاق واس���ع ف���ي إفريقيا وآس���يا‬ ‫والبالد العربية لتنظيف األسنان وحماية‬ ‫اللثة من األمراض‪.‬‬ ‫فق���د كش���فت الدراس���ة الت���ي أجراها‬ ‫الباحث���ون ف���ي جامع���ة «إيلينوي���س»‬ ‫بش���يكاغو‪ ،‬وجامعة «س���تيلينبوش» في‬ ‫«تايجربي���رغ» بجن���وب إفريقيا ‪ -‬عن أن‬ ‫السواك يحتوي على مواد طبيعية مضادة‬ ‫للميكروبات تمنع إصابة الفم باألمراض‪،‬‬ ‫وتقلل ظهور التجاويف الس���نية وأمراض‬ ‫اللثة‪.‬‬ ‫وأوضح الباحثون في الدراسة ‪ -‬التي‬

‫تعتب���ر األولى من نوعه���ا التي تركز على‬ ‫كشف أس���رار قدرة الس���واك في تنظيف‬ ‫األسنان ‪ -‬أن أعواد السواك التي عادة ما‬ ‫تس���تخلص من جذور أو سيقان األشجار‬ ‫والش���جيرات المحلي���ة في البل���دان التي‬ ‫تس���تخدمها‪ ،‬وتستعمل بعد مضغ أطرافها‬ ‫حت���ى تهت���ريء‪ ،‬ثم تس���تخدم كفرش���اة‬ ‫لتنظيف األسنان‪ ،‬فعالة كفرشاة األسنان‬ ‫تمام ًا في إزالة طبق���ة «البالك» المتراكمة‬ ‫على األسنان وتدليك اللثة‪ ،‬مشيرين إلى‬ ‫بدي�ل�ا أرخص ثمن ًا‬ ‫أن ه���ذه األعواد تمثل‬ ‫ً‬ ‫لس���كان العال���م الثالث‪ ،‬حي���ث ال تتوافر‬ ‫فرش األسنان‪.‬‬ ‫وأش���ارت الدكت���ورة كريس���تين‪-‬‬

‫«لبن العصفور»‪ ..‬موجود!‬ ‫أثبت تقرير علمي صدر مؤخرًا أن للعصفور لبن ًا كسائر الطيور‬ ‫وه���ذا اللبن ال يختلف في تركيبه الكيميائي عن ألبان الحيوانات‬ ‫األخرى‪ ،‬حيث يحتوي على مادة بروتينية (كازينزجين) ودهن‪،‬‬ ‫وسكر الكتوز‪.‬وتختلف ألبان الطيور عامة عن ألبان الحيوانات‬ ‫األخرى في بعض خواصها الطبيعية‪ ،‬فهي ليس���ت سائلة وإنما‬ ‫على هيئة فتات أبيض اللون هش‪ ،‬س���ريع التكس���ر‪ ،‬أش���به ما‬ ‫يكون بفت���ات الجبن األبي���ض‪ ،‬حيث يتحور النس���يج الداخلي‬ ‫لحويصلة الطائر في زمن حضانة البيض تحورًا دهنياً‪ ،‬ويزداد‬ ‫‪152‬‬

‫أس���تاذة طب األس���نان واللثة في جامعة‬ ‫إيلينوي���س األميركي���ة‪ -‬إل���ى أن عي���دان‬ ‫الس���واك المس���تخدمة في ناميبي���ا مثالً‪،‬‬ ‫بعد اس���تخالصها من نبات يعرف باسم‬ ‫«ديوسبايروس اليسيويديس»‪ ،‬تحتوي‬ ‫على س���تة مركبات تق���اوم الميكروبات‪،‬‬ ‫أربعة منها متحدة مع مادة «ديوسبايرون»‬ ‫واآلخران هم���ا «جوجلون» و«‪ - 7‬ميثيل‬ ‫جوجلون» وهما مادتان سامتان تتواجدان‬ ‫أيضا‪ ،‬يعتقد أنهما األكثر‬ ‫في الجوز األسود ً‬ ‫فعالية ض���د البكتيريا‪ ،‬حيث تصل درجة‬ ‫فعاليتهما إلى فعالية مس���تحضر غس���ول‬ ‫الفم الذي يعرف باسم «ليستيرين»‪.‬‬ ‫وق���ال الباحثون ف���ي الدراس���ة التي‬ ‫نش���رت في مجلة الزراعة وكيمياء الغذاء‬ ‫األميركي���ة إن آلي���ة عمل الس���واك الذي‬ ‫يعرف في الهند باسم «نيم»‪ ،‬وفي الشرق‬ ‫األوسط باسم «مسواك»‪ ،‬في قدرته على‬ ‫مهاجمة الميكروبات لم تتضح بعد‪.‬‬ ‫وكانت دراسات س���ابقة قد أظهرت أن‬ ‫تسوس األس���نان بين مستخدمي‬ ‫معدالت ُّ‬ ‫الس���واك كانت أق���ل بالرغم م���ن تناولهم‬ ‫أغذية غنية بالسكريات والنشويات‪ ،‬كما‬ ‫أثبتت دراس���ات أخرى أن آث���اره المزيلة‬ ‫لطبقة البالك تعادل آثار فرش األس���نان‬ ‫المستخدمة لنفس الهدف‪.‬‬ ‫م���ن جانبه‪ ،‬أكد الدكت���ور كين بيوريل‬ ‫مدير الشئون العلمية في مجلس الجمعية‬ ‫األميركي���ة لط���ب األس���نان أن المركبات‬ ‫الجديدة التي تم اكتش���افها في الس���واك‪،‬‬ ‫الذي يس���تخدمه س���كان المناطق الريفية‬ ‫في العالم الثالث بكثرة‪ ،‬قد تصبح أساس‬ ‫المنتجات الطبية في المستقبل‪.‬‬

‫س���مك الغش���اء المبطن لهذه الحويصلة فيبلغ في اإلناث واحد‬ ‫ملليمتر ونصفاً‪ ،‬وفي الذكور ثالثة ملليمترات‪.‬‬ ‫وال يزيد هذا الغش���اء في األوقات العادية عن جزء من عشرة‬ ‫أجزاء من الملليمتر‪ ،‬ويش���ترك كل م���ن الذكر واألنثى في إطعام‬ ‫الصغ���ار نظرًا إلفرازهما اللبن‪ ،‬حيث يضع العصفور منقاره في‬ ‫فم الفراخ الصغيرة ليس إلطعامهم حبوب الشعير والقمح فحسب‬ ‫ب���ل إطعامها لبن ًا حقيقي ًا يكون في الحويصلة وتقوم العصفورة‬ ‫باسترجاعه إلى فمها ومن ثم إلى منقارها ومنه إلى صغارها‪.‬‬ ‫وهكذا ل���م تعد تصلح عب���ارة «لبن العصف���ور» للتعبير عن‬ ‫المستحيل‪ ،‬فلبن العصفور موجود‪ ،‬وحقيقي!‬


‫بصمة الحشرات‪..‬دليل جنائي!‬ ‫ُيحكى أن مزارع ًا صيني ًا ُقتل بضربة‬ ‫منج���ل عميقة قب���ل ألفي ع���ام‪ ..‬وعلى‬ ‫الف���ور جمع رئي���س القري���ة المزارعين‬ ‫وأمرهم بوضع مناجله���م (أداة الحصد‬ ‫اليدوي) على األرض وعدم اإلتيان بأية‬ ‫تجمع‬ ‫حركة‪ ،‬وما ه���ي إال دقائق حتى َّ‬ ‫الذباب على أحد المناجل‪ ،‬فعرف الزعيم‬ ‫أن صاحبه هو القاتل‪ ...‬فالذباب تجذبه‬ ‫رائحة الدم حتى بعد غسل المنجل !‬ ‫ه���ذه القصة ه���ي أقدم م���ا ُو ِجد عن‬ ‫االس���تعانة بالحش���رات لح���ل الجرائم‬ ‫المعق���دة‪ ،‬أم���ا اليوم فأصبح���ت عالقة‬ ‫���د َّرس‬ ‫الحش���رات بالجريم���ة علم��� ًا ُي َ‬ ‫وتخصص ًا ال تس���تغني عنه الش���رطة‪،‬‬ ‫وأصبح علماء الحشرات ال يقلون أهمية‬ ‫عن خبراء األدلة الجنائية‪.‬‬ ‫والفك���رة هنا تعتمد‪ ،‬وفق ًا لما يقوله‬ ‫الدكتور علي رسمي أستاذ علم الحشرات‬ ‫بالمركز القومي للبحوث في مصر‪ ،‬على‬ ‫حقيق���ة أن جث���ة الضحي���ة تتحول فور‬ ‫وفاتها إلى مرت���ع خصب وبيئة ممتازة‬ ‫لجذب الحش���رات وتكاثرها‪ ،‬وبدراس���ة‬ ‫العالق���ة بين الطرفي���ن أصبح هناك ما‬ ‫يع���رف ببصمة الحش���رات الت���ي تؤخذ‬ ‫كدلي���ل دامغ ف���ي جرائم القت���ل وإدانة‬ ‫المجرمين !‬ ‫وقد تطور هذا التخصص «الذي لم يكن‬ ‫موج���ودًا قبل عام ‪ »1980‬على يد العالم‬ ‫بيل باس من جامعة تينيسي‪ ،‬فقد كانت‬

‫تس���تعين به الشرطة بين الحين واآلخر‬ ‫لتحدي���د زمن وظروف الوف���اة‪ ،‬وكونه‬ ‫أساس ًا عالم ًا أنثروبولوجي ًا «متخصص ًا‬ ‫بدراسة العظام القديمة» فقد وقف حائرًا‬ ‫أمام كثير من الحاالت لعدم وجود منهج‬ ‫واضح يسير عليه‪.‬‬ ‫وهكذا قرر البدء بدراس���ة َت َحلُّل جثث‬ ‫البش���ر «ف���ي مزرع���ة خاص���ة» ورصد‬ ‫التغي���رات التي تطرأ عليه���ا‪ ..‬وأول ما‬ ‫الحظه أن الذباب يحط فوق جثة الميت‬ ‫في الثالث دقائق األولى‪ ،‬ويعمد لوضع‬ ‫بيوضه في الفم واألنف وثقوب الجسم‬ ‫النازفة‪ ،‬وبعد وقت معلوم تتحول تلك‬ ‫البيوض إلى يرقات تتعمق داخل الجسم‬ ‫بحث��� ًا عن ال���دفء والغ���ذاء‪ ..‬وبمقارنة‬ ‫مراح���ل التوال���د والتكاثر م���ع الطقس‬ ‫والبيئ���ة المحيطة يمكن اس���تنتاج زمن‬ ‫الوف���اة وتحدي���د الم���كان والفصل الذي‬ ‫حصلت فيه!‬ ‫وف���ي الحقيقة األم���ر ال يقتصر على‬ ‫الذباب ‪ -‬كما يش���ير العن���وان ‪ -‬ألن كل‬ ‫حش���رة قد تس���اعد في توضي���ح جانب‬ ‫معين‪ ...‬فالنمل يأتي إلى الجثة ليتغذى‬ ‫فقط على بيوض الحشرات‪ ،‬والخنافس‬ ‫تنخر اللحم برس���م ممي���ز لتفقس فيه‪،‬‬ ‫والبعوض ال يق���دم على الجثة إال وهي‬ ‫طرية‪ ،‬والطيور تلته���م اللحم في وقت‬ ‫محدد‪ ،‬وحشرة الجراد تنتفخ من الشبع‬ ‫بمراحل يمكن قياسها‪!..‬‬

‫المشي يحافظ‬ ‫على سالمة المخ‬ ‫أك���د باحث���ون أميركي���ون أن‬ ‫ممارسة المش���ي لمسافة ‪ 9‬كيلو‬ ‫مترات على األقل أس���بوعي ًا ربما‬ ‫تكون أحد األمور التي يس���تطيع‬ ‫الن���اس القيام به���ا لحماية المخ‬ ‫م���ن االنكم���اش ومقاوم���ة عته‬ ‫الشيخوخة‪.‬‬ ‫وق���ال كي���رك إيركس���ون من‬ ‫جامعة بيتس���برج الذي نش���رت‬ ‫دراسته في دورية طب األعصاب‬ ‫إن «حج���م الم���خ ينكم���ش ف���ي‬ ‫الش���يخوخة وه���و م���ا يمكن أن‬ ‫يس���بب مش���كالت ف���ي الذاكرة‪،‬‬ ‫ونتائجن���ا يجب أن تش���جع على‬ ‫تج���ارب مصممة جي���دًا للتدريب‬ ‫البدن���ي لدى كبار الس���ن كتوجه‬ ‫لمنع العته ومرض الزهايمر»‪.‬‬ ‫يذك���ر أن م���رض الزهايم���ر ‪-‬‬ ‫وهو أكثر أنواع العته ش���يوع ًا ‪-‬‬ ‫يقتل خاليا المخ ببطء وأظهرت‬ ‫دراسات أن أنش���طة مثل المشي‬ ‫تعزز حجم المخ‪.‬‬ ‫وكانت دراسة أميركية حديثة‬ ‫أكدت أن مخ اإلنسان يتضاءل مع‬ ‫ازدياد تقدمه بالعمر‪ ،‬على خالف‬ ‫باقي الكائن���ات الحية‪ .‬وأضافت‬ ‫الدراس���ة أن عملي���ة انكم���اش‬ ‫تكوينات المخ نتيجة تقدم العمر‬ ‫مثل تل���ك التي تحدث في منطقة‬ ‫قرن آمون في الدماغ (الفصوص‬ ‫األمامي���ة) لم تر إال ف���ي الجنس‬ ‫البشري فقط‪ .‬فيما أكد العلماء أن‬ ‫هذه الظاه���رة ال تحدث حتى مع‬ ‫أقرب الكائنات ش���به ًا باإلنسان‪،‬‬ ‫الشمبانزي‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫علوم‬ ‫المشكلة في موجات المحمول والكمبيوتر‬

‫اإلجهاد‪ ..‬خلل في طاقة الجسم‬

‫ح�سن فتحي ‪ -‬القاهرة‬ ‫إذا تزاي���د لدي���ك الش���عور بالخ���وف‬ ‫واإلجه���اد وع���دم األم���ان‪ ،‬ابح���ث ع���ن‬ ‫الضغوط النفس���ية ومن خلفها الخلل في‬ ‫طاقة جسمك‪ ،‬حيث ثبت مسؤوليتها مع‬ ‫س���بق اإلصرار والترصد عن ‪ % 80‬من‬ ‫المشاكل الصحية التي يعانيها اإلنسان‪..‬‬ ‫لكن من أي���ن يأتي الخلل؟‪ ..‬من التعرض‬ ‫الزائ���د للموج���ات الكهرومغناطيس���ية‬ ‫الناتج���ة ع���ن الكمبيوت���ر والموباي���ل‬ ‫والتليفزي���ون‪ ..‬والخط���ورة م���ن وراء‬ ‫ذل���ك تزايد مع���دالت األم���راض المزمنة‬ ‫والحساسية والسرطان!‬ ‫وقد ب���دأ على مس���توى العالم عالج‬ ‫ه���ذه األم���راض بالطاقة‪ ،‬وال���ذي أثبتت‬ ‫فاعليته على مس���توى العالم لعالج خلل‬ ‫المناع���ة والته���اب المفاص���ل والصداع‬ ‫النصفي واإلجه���اد المزمن واضطرابات‬ ‫النوم وكذلك األمراض مجهولة الس���بب‪،‬‬ ‫ولك���ن يحت���اج إل���ى اس���تكمال مزيد من‬ ‫الدراسات حتى يمكن تطبيقه فعلياً‪ ،‬كما‬ ‫يجب أن يقتصر اس���تخدامه على األطباء‬ ‫‪154‬‬

‫المتخصصي���ن في الط���ب التكميلي منع ًا‬ ‫ألي تضليل أو خداع للمرضى‪.‬‬ ‫وطبق ًا للدكتورة نجوى حسن رئيس‬ ‫قسم الطب التكميلي‪ ،‬فإن صحة وسالمة‬ ‫اإلنس���ان ترجع إلى التوازن في مجاالت‬ ‫الطاق���ة والت���ي يس���تطيع اإلنس���ان أن‬ ‫يحس���ها في صورة ذبذبات في األيدي أو‬ ‫إحس���اس مفاجئ بالح���رارة‪ ،‬وقليل من‬ ‫الن���اس يمكنهم رؤية أل���وان هذه الطاقة‬ ‫المحيط���ة بهم‪ ،‬وقد ح���دد الطب الصيني‬ ‫مسارات لهذه الطاقة على جسم اإلنسان‪،‬‬ ‫ويرتب���ط كل مج���ال بعضو م���ن أعضاء‬ ‫الجس���م الحيوية مثل الرئ���ة أو الكبد أو‬ ‫القلب وهكذا‪ ،‬ومن أه���م وظائف الطاقة‬ ‫اإلحس���اس بالصحة والحيوية وتنظيم‬ ‫الجه���از العصب���ي وعملي���ات التمثي���ل‬ ‫الغذائي والقدرة على بناء خاليا الجسم‪.‬‬ ‫وتنقس���م الطاقة إلى طبقات‪ ،‬األقرب‬ ‫لجسد اإلنسان هي الطاقة الجسدية‪ ،‬تليها‬ ‫الطاقة النفسية ثم الذهنية‪ ،‬وهذه الطاقة‬ ‫أمك���ن تصويرها بتقني���ات حديثة وهي‬

‫عبارة عن هالة من الضوء بألوان مختلفة‬ ‫تحيط بجس���م اإلنس���ان‪ ،‬وينتج الخلل‬ ‫في مج���االت هذه الطاق���ة نتيجة عوامل‬ ‫متع���ددة م���ن أهمها الغ���ذاء غير الصحي‬ ‫والتوت���رات العصبي���ة والميكروب���ات‬ ‫المرضية‪ ،‬كما ثبت أن هناك أس���باب ًا في‬ ‫الطبيعة تعطي طاقة سلبية تضر بصحة‬ ‫اإلنس���ان مثل بعض الظواه���ر الطبيعية‬ ‫التي تم رصده���ا‪ ،‬وهي مناطق خلل في‬ ‫القش���رة األرضية بعد البراكين أو أماكن‬ ‫التقاء األنهار بالمياه الجوفية‪ ،‬ويستدل‬ ‫عل���ى هذه المناط���ق بقياس���ات متعددة‬ ‫وبسيطة‪ ،‬ومن أهمها األماكن التي تنمو‬ ‫فيها نبات���ات أو التي توجد بها أش���جار‬ ‫مائلة تج���اه االرض أو األماك���ن التي ال‬ ‫يمكن النوم فيها بعمق‪.‬‬ ‫وتضي���ف الدكت���ورة نج���وى حس���ن‬ ‫أن المش���اكل النفس���ية من أه���م العوامل‬ ‫المسببة لخلل الطاقة‪ ،‬وقد ثبت علمي ًا أن‬ ‫أي اضطراب نفسي حتى لو كان بسيط ًا‬ ‫ومع الم���دة الزمنية وتراكم االضطرابات‬ ‫يؤثر س���لب ًا عل���ى بقية مج���االت الطاقة‬ ‫سواء الجسدية أو الذهنية‪ ،‬ومن ثم نجد‬ ‫أن هن���اك ارتباط ًا وثيق��� ًا بين الضغوط‬ ‫النفسية والخوف وعدم الشعور باألمان‪،‬‬ ‫وبين حدوث كثير من األمراض العضوية‬ ‫أو الش���عور الدائم باإلجهاد أو النس���يان‬ ‫وضعف التركيز‪.‬‬ ‫وتج���رى حالي��� ًا بالمرك���ز القوم���ي‬ ‫للبح���وث ف���ي مص���ر‪ ،‬أبح���اث لقياس‬ ‫طاقة الجس���م من خالل إرس���ال موجات‬ ‫ذات ت���رددات معين���ة ش���بيهة بترددات‬ ‫جس���م اإلنس���ان يتفاعل معه���ا المريض‬ ‫بطرق حركية مبس���طة يمكن تس���جيلها‬ ‫وببعض الحس���ابات يمك���ن معرفة مكان‬ ‫الخل���ل ف���ي الطاقة ومق���دار تأثيره على‬ ‫باقي المجاالت‪ ،‬ثم دراس���ة مدى ارتباط‬ ‫قياس���ات الطاق���ة باألم���راض العضوية‬ ‫المختلفة‪ ،‬تمهيدًا ألبحاث أخرى يتم فيها‬ ‫العالج بالطاقة ويتمثل في الحصول على‬ ‫الطاقة من بعض المركبات المس���تخرجة‬ ‫من مواد في الطبيعة س���واء حيوانية أو‬ ‫نباتية وعناصر معدنية وغيرها‪ ،‬ثم يتم‬ ‫تعويضها بش���كل خارجي بمقدار يتوافق‬ ‫مع الطاقة المطلوبة للمريض‪.‬‬


‫بكتيريا مؤذية‬ ‫على هاتفك‬ ‫يجه���ل الكثي���رون أن الهوات���ف‬ ‫المحمول���ة ق���د تكون مص���درًا مهم ًا‬ ‫للميكروبات كغيرها من األدوات أو‬ ‫األشياء التي نستخدمها في حياتنا‬ ‫اليومية‪.‬‬ ‫فوفق��� ًا لدراس���ة بريطانية تبين‬ ‫من الفحوصات التي أجراها خبراء‬ ‫في النظاف���ة الصحية الش���خصية‬ ‫لثالثي���ن هاتف ًا محمو ًال أن س���بعة‬ ‫منها كان���ت تحتوي عل���ى بكتيريا‬ ‫شديدة الضرر‪.‬‬ ‫وتبي���ن م���ن االختب���ارات التي‬ ‫أجرته���ا مجموع���ة «ويت���ش» التي‬ ‫تدافع عن مصالح المس���تهلكين في‬ ‫بريطاني���ا أن أحد الهواتف الخلوية‬ ‫كان علي���ه آث���ار براز آدم���ي ٍ‬ ‫كاف‬ ‫ليس���بب أوجاع ًا شديدة في المعدة‪.‬‬ ‫وقالت مجموعة «ويتش» إن نتيجة‬ ‫الدراس���ة التي توصلت إليها تشير‬ ‫إلى أن ماليين الهواتف الخلوية في‬ ‫بريطانيا قد تكون ملوثة وأن الكثير‬ ‫م���ن الن���اس ال يتقي���دون بالقواعد‬ ‫الصحية الستخدامها‪.‬‬ ‫وح���ذر الخبي���ر ف���ي النظاف���ة‬ ‫الصحية الش���خصية في المجموعة‬ ‫جيم فرانسيز‪ ،‬من خطر الميكروبات‬ ‫العالقة بالهوات���ف الخلوية‪ ،‬داعي ًا‬ ‫مس���تخدميها لتعقيمه���ا‪ .‬وق���ال‬ ‫فرانس���يز «إن الهوات���ف الخلوي���ة‬ ‫بحاجة إلى تعقيم»‪ .‬ولفت فرانسيز‬ ‫إلى سهولة انتقال البكتيريا العالقة‬ ‫بالهوات���ف الخلوي���ة من ش���خص‬ ‫إلى آخ���ر خاصة عندم���ا تتبادلها‬ ‫األي���دي لرؤية الصور المخزنة فيها‬ ‫أو إلج���راء اتصاالت بواس���طتها‪.‬‬ ‫وتنصح مجموعة «ويتش» بتنظيف‬ ‫الهواتف الخلوية بقطع مبللة بمادة‬ ‫معقمة خشية تس���بب الميكروبات‬ ‫العالقة بها بأمراض كثيرة قد يكون‬ ‫بعضها خطيراً‪.‬‬

‫اكتشاف مفتاح الخصوبة‬ ‫اكتش���ف العلماء انزيما يعمل «كمفتاح للخصوبة» ويقولون إن اكتش���افهم هذا قد‬ ‫يس���هم في عالج العقم‪ ،‬وقد يقود أيض ًا إلى أس���اليب جديدة لمنع الحمل‪.‬وجاء في‬ ‫الدراس���ة التي نش���رت في دورية «نيتش���ر» الطبية أن الباحثين في الكلية الملكية‬ ‫في لندن اكتشفوا عالقة بين‬ ‫ارتفاع مس���تويات بروتين‬ ‫يدع���ي «‪ »S.G.K1‬ونقص‬ ‫الخصوب���ة‪ ،‬بينم���ا يؤدي‬ ‫النقص في مس���توياته إلى‬ ‫جع���ل المرأة أكث���ر عرضة‬ ‫لسقوط الحمل‪.‬‬ ‫وأضاف «أتصور أنه في‬ ‫المس���تقبل يمكن أن نعالج‬ ‫الغش���اء المبط���ن للرح���م‬ ‫بعقاقي���ر تمن���ع بروتي���ن‬ ‫«‪ »S.G.K1‬قبل أن تبدأ فترة‬ ‫التخصيب الش���هرية لدى المرأة‪«.‬واالس���تخدام المحتمل اآلخر هو زيادة مستويات‬ ‫البروتين «‪ »S.G.K1‬كوسيلة جديدة لمنع الحمل»‪.‬‬

‫عالج األطفال بـ«الفياجرا»‬ ‫أظهرت دراس���ة أميركية أن المكون الناشط في عقار الفياجرا قد يساعد األطفال‬ ‫الذين يعانون من حالة نادرة تسمى (ارتفاع ضغط الدم الشرياني الرئوي)‪.‬‬ ‫وق���ال الدكت���ور توماس كوليك البروفيس���ور المس���اعد في أم���راض القلب في‬ ‫مستش���فى األطفال في بوس���طن‪ ،‬إن ارتفاع ضغط الدم الشرياني الرئوي يحد من‬ ‫القدرة على ممارسة الرياضة‪ ،‬ما قد يقود إلى فشل القلب وحتى الموت‪.‬‬ ‫وأش���ار كوليك إلى أن الذين يعانون من هذه الحالة النادرة يمكنهم أن يمارسوا‬ ‫الرياضة بش���كل أس���هل إذا تناولوا الفياجرا‪ ،‬فهو يحسن قدرة الرئتين على توزيع‬ ‫األوكس���جين والجس���م على تحمل الرياضة‪ ،‬ولكن من غير األكيد ما إذا كان الدواء‬ ‫يطيل العمر‪.‬‬ ‫وكان فري���ق أميركي من جامعة كولومبيا في نيويورك وجد س���ابق ًا أن الدواء‬ ‫يس���اعد البالغين المصابين بارتفاع ضغط الدم الش���رياني الرئوي‪ ،‬ولكن الدراسة‬ ‫الجديدة أظهرت أن الدواء يحس���ن أداء الرئتين لدى األطفال المصابين بهذا المرض‪.‬‬ ‫وقال الباحثون إن جرعة معتدلة من الفياجرا أفضل لس�ل�امة الطفل وأكثر فعالية‪،‬‬ ‫ولكنهم أكدوا أن المزيد من البحث ضروري‪.‬‬

‫‪155‬‬


‫�أقالم‬ ‫احتشاد‬ ‫وحدتي وضوءك الزاهي‬ ‫ِ‬ ‫الخديعة‬ ‫خ��ل��ف‬ ‫ي��ت��راق��ص‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الباذخة‬ ‫يتماهى في انبتات الوصل‬ ‫والخاليا العارية‬ ‫هنا على حد األرق‬ ‫على حد الحد‬ ‫الذي ال يتوانى في السيل‬ ‫الذي هو منك لألفق‬ ‫المنتصب في ارتخاء الفجيعة‬ ‫عبدالرحمن حسن سعد‬ ‫الخرطوم ‪ -‬السودان‬

‫مقام الصابرين‬ ‫تريد‬ ‫َ‬ ‫لك ما ُ‬ ‫األخيرة‬ ‫اكتب وصيتك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫لي سؤال واحٌد‬ ‫ستكتب؟‬ ‫َم ْن ذا سيقرُأ ما‬ ‫ُ‬ ‫ال ْ‬ ‫تخف‬ ‫ريد‬ ‫ُقل ما ُت ُ‬ ‫ِبَيٍد أثار ُرعاشها‬ ‫القبور‬ ‫صمت‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫التهليل‬ ‫وجوقة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫حاول أن تكون محايدًا‬ ‫ستكتب‬ ‫في ما‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وابتسْم‬ ‫النهار‬ ‫سرق‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫وجه‬ ‫في‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أشرف محمد قاسم ‪ -‬مصر‬

‫وامضوا عرايا دون أي كناية‬ ‫لتمسكم عيني‬ ‫وأنتم تنصتون إلى الخطيب‬ ‫وتجلسون القرفصاء‬ ‫وتخشعون‬

‫من صفحتنا على الفيسبوك‬ ‫* النسخة اإللكترونية من العدد «‪ »48‬متى ستنزل وأيض ًا‬ ‫نسخة الكتاب‪.‬‬ ‫محمد السالموني‬

‫* المجلة تنفد بسرعة البرق ألني سألت عليها منذ ثالثة‬ ‫أيام في تمام الساعة الثامنة مساء عند بائعي الصحف‬ ‫بوسط العاصمة المصرية لم أجدها‪ ،‬في اليوم التالي‬ ‫سألت عليها عصراً‪ ،‬لم يكن يتبقى منها سوى نسختين‪،‬‬ ‫حيث وصلت المجلة الساعة ‪ 9‬ونصف مساء مع جرائد‬ ‫اليوم الجديد‪ ،‬ونفد أغلب أعدادها في تلك الليلة‪ ،‬ولم‬ ‫يبق منها سوى نسختين في صباح اليوم التالي‪ ،‬فتحية‬ ‫للدوحة التي أوجدتنا عاشقين لها‪ ،‬ونسأل وزارة الثقافة‬ ‫القطرية أن تضاعف األعداد لتلبية احتياجات المثقفين‬ ‫العرب في دوحتهم‪ ،‬وأنصح الدكتورة صهباء بالتوجه‬ ‫إلى مكتب الدوحة بوسط العاصمة بشارع طلعت حرب‬ ‫وستجدين العدد الذي تبحثين عنه‪.‬‬ ‫أحمد ممدوح‬

‫* بصراحة أنا لم أحصل إال على عددين في بغداد‪ ..‬أما في‬ ‫النجف فلم تصل حتى اآلن!‬ ‫أحمد النجيفي‬

‫* في الوقت ال��ذي تنتفض فيه أم��ة ال إل��ه إال اهلل يأتي‬ ‫علينا من ينشر كتاب ًا مشبوه ًا يطعن في مطلب الوحدة‬ ‫اإلسالمية تحت راية الخالفة التي بشر بها رسولنا األكرم‪.‬‬ ‫من هؤالء؟‬ ‫بليل شبشوب‬

‫معلق ًا على نشر كتاب «اإلسالم وأصول الحكم» مع العدد‬ ‫‪.48‬‬ ‫* الدوحة‪ :‬نترك الرد لمن قرأ الكتاب‪.‬‬

‫ورد عينيك‬ ‫كيف أوله إن لم أغادرك‬ ‫ذهاب ًا حتى يتعافى الغياب‬ ‫وك��ي��ف إذا م��ا ص��ار الكالم‬ ‫فراغ ًا بيننا‬ ‫صور‬ ‫أكنت في المكان‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وك��ل م��ا ينقصني ورد في‬ ‫‪156‬‬

‫عينيك غاب‬ ‫علميني كيف ما يبقيك مني‬ ‫رقة‬ ‫وبهجة شاغلها السالم‬ ‫أسامة السعد ‪-‬رسالة إلكترونية‬

‫تسلية للمطرود‬ ‫أنتم‪...‬‬ ‫نعم فأنا أحدثكم جميعاً‬ ‫كما لو كنت إيزيس‬ ‫اخلعوا أثوابكم‬

‫أحمد عادل‪ -‬اإلسماعيلية ‪ -‬مصر‬

‫ُ‬ ‫السر‬ ‫حروف ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ارحل‪:‬‬ ‫�����و ُت‬ ‫ص‬ ‫‪..‬‬ ‫األرض‬ ‫ن��ش��ي��د‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫السماء‪ ..‬بها‬ ‫داء‬ ‫أص‬ ‫ب‪..‬‬ ‫العْر‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتله ُج‬ ‫‪...‬‬ ‫ج‬ ‫َت ِض ُّ‬ ‫َ‬ ‫ِن‪..‬‬ ‫المدائ ِ‬ ‫ور َ‬ ‫ُح ُ‬ ‫داء البيدِ‪َ ..‬مْز ُم ُ‬ ‫الح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ياة‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ت‬ ‫���و‬ ‫ال���م‬ ‫��ة‬ ‫ق‬ ‫��‬ ‫َش ْ��ه ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫لج‬ ‫ْ‬ ‫تلج ُ‬ ‫ِ‬ ‫هيبها‪..‬‬ ‫ل‬ ‫‪..‬‬ ‫الشفاه‬ ‫في‬ ‫‪..‬‬ ‫ك‬ ‫بار‬ ‫َت َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ال��خ ِ‬ ‫وده���ا‪..‬‬ ‫وعلى ُ‬ ‫��دود‪ُ ..‬و ُر ُ‬ ‫هج‬ ‫َتَت َو ُ‬ ‫ين‪َ ..‬وَب ْص ٌ‬ ‫مة‬ ‫اليَد ِ‬ ‫ٌ‬ ‫خضاب في َ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪ُ ..‬تَرّو ُج‬ ‫ِر‬ ‫ئ‬ ‫الثا‬ ‫‪..‬‬ ‫ِرات‬ ‫للثائ‬ ‫ِ َ‬ ‫صاب ُة َجْب ٍ‬ ‫تاج‬ ‫هة‪َ ..‬ح ْسنا‪َ ..‬و ٌ‬ ‫ِع َ‬ ‫تتو ُج‬ ‫‪..‬‬ ‫وب‬ ‫الشع‬ ‫به‬ ‫‪..‬‬ ‫ار‬ ‫َ‬ ‫للفخ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ور‪..‬‬ ‫���ة‬ ‫������د ْت ْأي‬ ‫���ق���ون َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ال������د ِ‬ ‫َغ َ‬ ‫ً‬ ‫����وذة‪َ ..‬ت ْحمي‬ ‫ال��ش��وارع‪ُ ..‬ع‬ ‫ِ‬ ‫وتثلج‬ ‫دور‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الص َ‬ ‫بت‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫‪..‬‬ ‫ال��خ��ب��ز‬ ‫ي��س��وغ‬ ‫ُ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫العز‬ ‫��اع‪..‬‬ ‫ي‬ ‫��‬ ‫��ج‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫��د‬ ‫ل‬ ‫عليه‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُخْب ٌز ْأن َض ُج‬ ‫���ل��ام‪َ ..‬تصطِب ُغ‪..‬‬ ‫األع‬ ‫ب��ه��ا ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫بعث‬ ‫فتن‬ ‫��ا‪..‬‬ ‫��ي‬ ‫��ح‬ ‫ت‬ ‫ى‪..‬‬ ‫ال�����ر َؤ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫الضمائر‪ُ ..‬تْن َس ُج‬ ‫ُ‬ ‫ُب ٌ‬ ‫��و ِس���ْد َرِة ُمنَتَهى‬ ‫���راق‪َ .‬ن ْ‬ ‫��ح َ‬ ‫بالشعوب‪..‬‬ ‫اآلم��ال‪َ ..‬ي ْسري‬ ‫ِ‬ ‫وي ْعُر ُج‬ ‫َ‬ ‫ثو َر ًة‪..‬‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ر‪..‬‬ ‫الس‬ ‫روف‬ ‫ُح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِع ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ب�ل�اط‬ ‫ال‬ ‫���ر‪..‬‬ ‫���ح‬ ‫س‬ ‫���ت���اح‬ ‫���ف‬ ‫ِم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َسُيْرَت ُج‬ ‫لم‬ ‫ا‪..‬‬ ‫اب‬ ‫ب‬ ‫كنز‬ ‫‪..‬‬ ‫افتح‬ ‫سم‬ ‫سم ُ ْ‬ ‫يا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ​َ‬ ‫لن‬ ‫َي ُعْد َ‬ ‫ارح ْل‪ْ ..‬‬ ‫لك‪َ ..‬و َ‬ ‫حد َك‪َ ..‬‬ ‫الم ْخَر ُج‬ ‫وم َ‬ ‫َيُد َ‬ ‫شعر‪ :‬أدي ولد أدب ‪ -‬موريتانيا‬


‫نستقبل مساهماتكم في «أقالم» على البريد اإللكتروني ‪ aklam_d@yahoo.com‬أو صندوق البريد‪ 22404:‬الدوحة‪-‬قطر‬

‫لون الحلم‬ ‫بجنون تحافظ على جسدها‬ ‫م��ن ال��ت��م��زق‪ ..‬تصيح بين‬ ‫تشتت األلوان على الفراش‪،‬‬ ‫تبكي لعل ال��ب��ك��اء ينسيها‬ ‫مضايقة الورد على السرير‪.‬‬ ‫بين ساعة وأخ��رى نامت‪..‬‬ ‫وهي تقبل ضفائرها‪.‬‬ ‫ت��راه ف��ي الحلم يقترب من‬ ‫السرير‪.‬‬ ‫تأخذ ال��وردة كاملة وتهديها‬ ‫إياه‪.‬‬ ‫ح��ض��ن��ه��ا ب���ق���وة ش���دي���دة‪،‬‬ ‫وق��ب��ل��ه��ا‪ ..‬ف��ط��ارت نفسها‬ ‫وصاحت كم اشتقت إليك‪..‬‬ ‫حبيبي أين ذهبت عني‪..‬‬ ‫ت��س��م��ع ص��وت��ه��ا ي���ت���ردد‪..‬‬ ‫ص���دى‪ ..‬تستيقظ مفزوعة‬ ‫وب����س����رور أخ������ذت تقبل‬ ‫الوسائد‪..‬‬ ‫ولما ع��اد إليها وعيها‪ ..‬لم‬ ‫تجد ال وردًا وال حبيباً‪ ..‬كان‬ ‫ملون ًا فقط‪.‬‬ ‫حلم ًا ّ‬ ‫داود الشميري‪ -‬تعز‪ -‬اليمن‬

‫حفيدتي هناء‬ ‫الوهاب‬ ‫هبة الفتاح‬ ‫الهاء‪ُ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫منساب‬ ‫ِوي‬ ‫نغم عل ّ‬ ‫ْ‬ ‫النون‪ٌ :‬‬ ‫أل��ي��ف��ة روح�����ي‪..‬‬ ‫األل�����ف‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ْواها‬ ‫سل َ‬ ‫ْ‬ ‫زهرة‬ ‫برعم‬ ‫الهمزة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما أبهاها‪!..‬‬ ‫مسّرْة‬ ‫تتفتح في القلب َ‬ ‫ْ‬ ‫ومسمى االسم هو‪ ..‬األهنأ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫محمد السعيد مصطفى‪ -‬مصر‬

‫حلم‬ ‫لو لم يتكرر الحلم عدة مرات لما كنت سأسجله‪ ،‬يبدأ الحلم‬ ‫وأنا متوقف أمام المرآة في حمام بيتنا أحلق ذقني متأهب ًا‬ ‫للذهاب إلى ميدان التحرير‪ ،‬وفي منتصف جبهتي ثقب من‬ ‫أثر طلق ناري‪ ،‬أدندن بسعادة قصيدة األبنودي «قلبوا‬ ‫خريفها ربيع وحققوا المعجزة‪ ،‬صحوا القتيل من القتل‪،‬‬ ‫اقتلني‪ ..‬قتلي ما هيعيد دولتك تاني‪ ،‬باكتب بدمي حياة‬ ‫تانية ألوطاني»‪.‬‬ ‫ينتقل المكان والزمان فجأة للميدان‪ ،‬لي ً‬ ‫ال حيث اإلضاءة‬ ‫مشوبة باللون األصفر المبهج والوجوه المتعبة من أثر‬ ‫السهر‪ ،‬أعين الكل تتالقى‪ ،‬نتبادل التحيات في صمت‪،‬‬ ‫سألني صديق ممن اعتدت رؤيتهم هناك‪ ..‬مين ضربك‬ ‫بالرصاص؟!‬ ‫أجيبه بأنني ال أعرف‪ ،‬تفحصت وجهه ألجده هو اآلخر‬ ‫مصاب ًا بطلق ناري في نفس المكان‪ ،‬منتصف جبهته‪،‬‬ ‫أبادله الدهشة‪ ،‬أنت عارف مين اللي عمل فيك كده؟!‬ ‫يهز رأسه نافياً‪.‬‬ ‫يظهر في المشهد مجموعة من الناس‪ ،‬أحدهم يقول لي‬ ‫روح��وا بقى علشان البلد واقفة‪ ،‬روح��وا بقى وبطلوا‬ ‫ديكتاتورية‪ ،‬كفاية كالم بقى عن دم الشهدا‪ ،‬هو كل حاجة‬ ‫دم الشهدا؟!‬ ‫ثم سالي زهران وقعت من البلكونة يا أخي!!‬ ‫حاولت أن أنبهه أنني أصبت أنا اآلخر‪ ،‬وأن الطلق الناري‬ ‫لم يصب هذا الشاب الجالس بجواري في الكعكة الحجرية‪،‬‬ ‫والذي تبادلت القليل من الكلمات معه يوم ‪ 29‬يناير قبل‬ ‫أن يصاب في منتصف جبهته ويلفظ أنفاسه‪ ،‬ولكنه لم‬ ‫يكن يسمعني‪ ،‬كان يكرر كلمات من نوعية «االستقرار ‪-‬‬ ‫عجلة االقتصاد الزم تمشي ‪ -‬البلطجية‪ -‬العيال الصيع في‬ ‫التحرير مش حاسين بالبلد»‪.‬‬ ‫صامت ًا كنت أتأمل وجهه‪ ،‬تفحصته طوي ً‬ ‫ال لكي أرى إن‬ ‫كان مصاب ًا مثلنا‪ ،‬فلم أجد أثرًا ألية إصابة‪ ،‬أطلت الصمت‬ ‫واإلنصات ولم أجبه‪ ،‬تركني مديرًا وجهه‪ ،‬الحظت أنه‬ ‫مصاب في مؤخرة رأسه وينزف‪ ،‬حاولت تنبيهه صارخ ًا‬ ‫وك��ان صوتي ال ي��خ��رج‪ ،‬ك��ان يتكلم م��ع صديقي عن‬ ‫االستقرار وعن عجلة االقتصاد مرة أخرى‪.‬‬ ‫هاني جورج ‪ -‬القاهرة‬

‫النهضة‬ ‫ت��م��ت��ل��ك األم�����ة ال��ع��رب��ي��ة‬ ‫الكثير من عوامل الوحدة‪:‬‬ ‫اللغة‪ ..‬التاريخ‪ ..‬الموقع‪..‬‬ ‫العقيدة‪ ..‬والنمو السكاني‪..‬‬

‫وه���ن���اك ب���ل���دان أخ����رى ال‬ ‫تمتلك ذات العوامل‪ ..‬ولكنها‬ ‫حققت التقدم االقتصادي‬ ‫والتنموي‪ ..‬ولذلك فالتساؤل‬ ‫المطروح‪:‬‬ ‫إن ك���ان���ت األم�����ة تمتلك‬

‫ال��م��ق��وم��ات ال��ح��ض��اري��ة‪..‬‬ ‫ف��ل��م��اذا ل��م تحقق نهضتها‬ ‫ال��م��رج��وة؟! وأي���ن تكامل‬ ‫ال��س��ي��اس��ات ال��ت��ي تحقق‬ ‫التوازن المنشود لمسارات‬ ‫التنمية؟ ومن أجل الحد من‬ ‫نزيف ال��ف��رص الضائعة‪..‬‬ ‫ألن حاضر األمة أصبح في‬ ‫سباق مع اآلخر‪ ..‬وفي عصر‬ ‫تتسارع فيه الخطى السريعة‬ ‫والمتالحقة المتالك التطور‬ ‫الحضاري‪ ..‬وأصبح لزام ًا‬ ‫ع��ل��ى ال��ع��ق��ل ال��ع��رب��ي أن‬ ‫ي�لاح��ق متغيرات التطور‬ ‫التكنولوجي والتقني وهما‬ ‫م��ن أكثر الكلمات شيوع ًا‬ ‫في الحياة المعاصرة ثقافي ًا‬ ‫واق��ت��ص��ادي��اً‪ ..‬وق��وى عالم‬ ‫اليوم تتحرك بالتكتالت‪..‬‬ ‫وال�����ش�����رك�����ات م���ت���ع���ددة‬ ‫الجنسيات‪.‬‬ ‫يحيى السيد النجار‪ -‬مصر‬

‫طبيعة‬ ‫في البستان ألمح على غصن‬ ‫العشق يمامتين‪..‬‬ ‫تتبادالن أجمل الكلمات‪..‬‬ ‫ومحبين في حضن الربيع‪..‬‬ ‫سكروا من أحلى األمنيات‬ ‫واألزه�����ار ت��ش��دو للهوى‪..‬‬ ‫على نغم ال��ف��ل والبنفسج‬ ‫والسوسنات‬ ‫وم��ن روع���ة ال��م��ش��ه��د‪ ..‬راح‬ ‫الجميع يحلم بامتداد الربيع‬ ‫لكن الطبيعة بدلت وجهها‬ ‫وارتدت ثوب الشتاء‬ ‫ف��ه��اج��ر ال���ي���م���ام‪ ..‬وم��ات��ت‬ ‫األزهار‪ .‬وتفرق األحباء!‬ ‫عمر الوفدي ‪ -‬مصر ‪ -‬الفيوم‬

‫‪157‬‬


‫�صفحات مطوية‬

‫ذكاء طفيلي‬ ‫مر طفيلي بقوم يتغدون‪ ،‬فقال‪ :‬س�ل�ام عليكم يا معش���ر اللئ���ام! فقالوا‪ :‬ال‬ ‫ّ‬ ‫واهلل‪ ،‬ب���ل كرام! فثنى ركبته ونزل وقال‪ :‬اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني‬ ‫من الكاذبين‪.‬‬ ‫وقيل له‪ :‬أي س���ورة تعجبك في القرآن؟ ق���ال‪ :‬المائدة‪ .‬قيل‪ :‬فأي آية؟ قال‪:‬‬ ‫«ذره���م يأكلوا ويتمتعوا»‪ .‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪« :‬آتنا غداءنا»‪ .‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪:‬‬ ‫«ادخلوها بسالم آمنين»‪ .‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪« :‬وما هم بمخرجين»‪.‬‬ ‫ودخ���ل طفيلي على قوم يأكلون فقال‪ :‬ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه‪ُ :‬س���ماً‪.‬‬ ‫فأدخل يده وقال‪ :‬الحياة حرام بعدكم‪.‬‬ ‫* األبشيهي‪ ،‬المستطرف في كل فن مستظرف‪،‬‬ ‫بيروت‪ :‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بال تاريخ‪.‬‬

‫و�صية احلطيئة‬

‫ص‪ .‬قال‪ِ :‬ب َم ُأوصي؟‬ ‫أو ِ‬ ‫قال المدائن���ي‪ :‬لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له‪ْ :‬‬ ‫مالي للذكور دون اإلناث‪ .‬فقالوا‪ :‬إن اهلل لم يأمر بهذا‪ .‬قال‪ :‬ولكني آمر به‪ .‬فقيل‬ ‫ص يا أبا مليكة للمس���اكين بش���يء‪ .‬قال أوصيهم بالمس���ألة ما عاشوا‪،‬‬ ‫أو ِ‬ ‫له‪ْ :‬‬ ‫فإنها تجارة لن تبور‪ .‬قيل‪ :‬أعِتق عبدك يس���اراً‪ .‬قال‪ :‬اش���هدوا أنه عبٌد ما بقي‪.‬‬ ‫قي���ل‪ :‬فالن اليتيم م���ا توصي فيه؟ قال‪ :‬أوصي أن تأكل���وا ماله وتنكحوا أمه‪.‬‬ ‫يم���ت عليه كريم لعلي‬ ‫قال���وا‪ :‬ليس إال هذا؟ ق���ال‪ :‬احملوني على حمار فإنه لم‬ ‫ْ‬ ‫أنجو‪ ،‬ومات مكانه‪.‬‬ ‫* ابن قتيبة الدينوري‪« ،‬الشعر والشعراء»‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الثقافة‪.1969 ،‬‬

‫‪158‬‬

‫�رسقة‬ ‫الديك بال�صالة‬ ‫ُحك���ي أن أيرلندي ًا اتهم بس���رقة ديك‬ ‫ج���اره فلما مثل أمام القاضي س���أله عن‬ ‫ذلك فقال‪ :‬أنا يا موالي القاضي لم أسرق‬ ‫ج���اري ولكنني حصلت علي���ه بالصالة‪.‬‬ ‫فس���أله القاض���ي‪ :‬حصلت عل���ى الديك‬ ‫بالص�ل�اة! وكيف ذلك؟ ف���رد األيرلندي‪:‬‬ ‫كان لجاري ديك فاشتهيت الحصول عليه‬ ‫وأخذت أصلي وأبتهل إلى اهلل كي يرسله‬ ‫إلي مؤمن ًا بالقول‪ :‬مهما تطلبوه بالصالة‬ ‫ّ‬ ‫تنالونه‪ .‬ومضت مدة وأنا أتضرع إلى اهلل‬ ‫إلي فلم يستجب لصالتي‪.‬‬ ‫ليرس���ل الديك ّ‬ ‫فرأي���ت أن أغي���ر األس���لوب‪ ،‬فطلبت من‬ ‫ربي أن يرس���لني إلى الدي���ك إذا كان ال‬ ‫إلي‪ .‬فاستجاب دعائي حا ًال‬ ‫يرسل الديك ّ‬ ‫وأدخلن���ي إلى جنينة ج���اري‪ ،‬ومكنني‬ ‫من القبض على الدي���ك‪ ،‬فرجعت به إلى‬ ‫منزلي‪ ،‬وذبحته وطبخت���ه وأكلته‪ .‬فهل‬ ‫علي بعد هذا من حرج؟!‬ ‫ّ‬ ‫* جرجس الخوري‪ ،‬المقدسي‪،‬‬ ‫مجلة «المورد الصافي» بيروت‪.1939 ،‬‬


‫متدن املر�أة الع�رصية‬ ‫دارت خ�ل�ال الس���نة الماضي���ة على‬ ‫صفح���ات «الزهور» مناقش���ة في المرأة‬ ‫العصري���ة وتمدنها بين اآلنس���تين هدى‬ ‫كيورك وأدم���ا كيرلس‪ ،‬ن���ددت الكاتبة‬ ‫األول���ى بالم���رأة ألنه���ا أخذت بقش���ور‬ ‫التم���دن دون اللب���اب‪ ،‬وفن���دت الثانية‬ ‫أقوالها مبينة أن الذن���ب ‪ -‬إن كان هناك‬ ‫ذنب‪ -‬على الرجل ال على المرأة‪ .‬وانقسم‬ ‫الق���راء إل���ى فريقين‪ :‬فري���ق يؤيد هذه‪،‬‬ ‫وفريق ينتص���ر لتلك‪ .‬وكتب أحد األدباء‬ ‫بإمضاء «حسون» محاو ًال أن ينصف بين‬ ‫الكاتبتي���ن‪ .‬ولكن اآلنس���ة أدما رأت في‬ ‫ُّ‬ ‫يش���ف عن التحي���ز فبعثت إلينا‬ ‫مقاله ما‬ ‫بالرد اآلتي‪:‬‬ ‫والرد في هذا الموضوع‪،‬‬ ‫طال األخ���ذ‬ ‫ُّ‬ ‫تعرض‬ ‫لوال‬ ‫اليوم‬ ‫إلي���ه‬ ‫العود‬ ‫وما كنت‬ ‫ّ‬ ‫الحكم فكان‬ ‫«حس���ون» للوقوف موق���ف َ‬ ‫حكمه صارم ًا ش���ديداً‪ .‬وإني والكثيرات‬ ‫من رفيقاتي لمندهشات من فتح صاحب‬ ‫«الزه���ور» صدر مجلته لمث���ل هذا الحكم‬ ‫الجائر‪ ،‬وه���و الكاتب الذي طالما ترنمنا‬ ‫بكتاباته الش���ائقة في الدفاع عن حقوق‬ ‫الم���رأة المهضوم���ة‪ ..‬وقب���ل أن أج���ول‬ ‫الجولة األخيرة في هذا الموضوع أرجو‬ ‫من األدباء أن ال يحملوا كالمي على محمل‬ ‫االمتعاض من انتصار الغير لمناظرتي‪.‬‬ ‫ال واي���م الحق‪ ،‬بل إن ذل���ك ليطربني‬ ‫كّ‬ ‫ال أدمغ به خصمي إذ هو‬ ‫دلي‬ ‫في���ه‬ ‫وأرى‬ ‫ً‬ ‫يعترف أن في صفوفنا نحن ‪ -‬النس���اء‪-‬‬ ‫م���ن يجاه���ر بالح���ق ول���و كان علينا‪..‬‬ ‫وبعد هذه المقدمة أقول لحضرة الخصم‬ ‫الجديد الذي يحاول الظهور بمظهر الحكم‬ ‫المنصف‪:‬‬ ‫غير ُه‬ ‫المعلم‬ ‫الرجل‬ ‫يا أيها‬ ‫َ‬ ‫التعليم‬ ‫ال لنفسك كان ذا‬ ‫ ‬ ‫هّ‬ ‫ُ‬ ‫وقب���ل أن تنظر إلى الق���ذى في عين‬ ‫ثم أصلح‬ ‫اختك انزع الجس���ر من عينك‪َّ .‬‬ ‫تربية الرجل ألن الرجل بيده كل ش���يء‬ ‫في ش���رقنا‪ ،‬وليست المرأة ‪ -‬إن صالحة‬ ‫وإن طالح���ة ‪ -‬إ ّال صنع���ة يدي���ه أدبياً‪.‬‬ ‫فهي إذا كانت اآلن كم���ا تزعمون فألنكم‬

‫أنتم أردتموها كذلك يا معش���ر الرجال‪.‬‬ ‫وأنا قد كتبت ما كتب���ت واثقة باإلصابة‬ ‫ألن ما قلته م���ن البديهات التي ال تحتاج‬ ‫إلى برهان‪ ،‬وق���وة الحقيقة أوضح من‬ ‫نور الشمس‪ .‬ولكن أكثر األذهان في هذا‬ ‫العصر ال تكترث ألقوال النساء‪ .‬على أنه‬ ‫عص���ر ينظرون فيه ال‬ ‫الب���د من أن يأتي‬ ‫ٌ‬ ‫إلى من قال بل إلى ما قال‪ .‬فيظهر الخفي‬ ‫ويرى‬ ‫على أهل هذا الزمان بأحسن جالء‪ُ .‬‬ ‫مرضوضة‬ ‫يعدونه قصبة‬ ‫ً‬ ‫هذا القلم الذي ُّ‬ ‫س���يف ًا ذا حدي���ن فيثبت الح���ق ويزهق‬ ‫الباطل إن الباطل كان زهوقاً‪.‬‬ ‫أنا لم أقل بعصمة النساء وال بعصمة‬ ‫واحدة من نس���اء العصر‪ ،‬ولكني أعتقد‬ ‫اعتق���ادًا خالي ًا من كل ريب أن المخطئين‬ ‫أكث���ر م���ن المخطئ���ات‪ ،‬والواقع أصدق‬ ‫تعود الرجل أن ينظر إلى المرأة‬ ‫ش���اهد‪َّ .‬‬ ‫نظر الق���وي إلى الضعيف ول���كل امرئ‬ ‫تعود‪ .‬وعلي���ه فهو يحكم‬ ‫م���ن دهره م���ا ّ‬

‫بال خش���ية كما يش���اء هواه ألن أنصاره‬ ‫كثيرون‪ ،‬بخالف الم���رأة الضعيفة التي‬ ‫تنزل إلى ساحة المناظرة األدبية واحدة‬ ‫تج���اه جيش عظي���م من الرج���ال وأهل‬ ‫المنهج القديم من النس���اء‪ .‬ولكن البد من‬ ‫أن تنم���و البذرة التي تلقيه���ا وتثمر في‬ ‫أوانها‪ .‬واإلصالح في أول أمره ال يكون‬ ‫إال م���ن أف���راد قليلة ولكنه م���ن طبيعته‬ ‫ينمو ويقوى إلى أن يبلغ الكمال‪.‬‬ ‫هذا ويحق لي أن أرد حكم «حس���ون‬ ‫أفندي» واس���تأنف القضي���ة إلى محكمة‬ ‫ترأس���ها إحدى الس���يدات ألنه ليس من‬ ‫الع���دل أن يكون الرجل ف���ي موضوعنا‬ ‫ال عن‬ ‫خصم��� ًا وحكم ًا ف���ي آن واحد‪ .‬فض ً‬ ‫نحكم‬ ‫أني وحضرة مناظرتي الكريمة لم ِّ‬ ‫بيننا حسوناً‪ ..‬وال غراباً‪ .‬ألن نعيق هذا‬ ‫سيان‪ ،‬والسالم‪.‬‬ ‫وتغريد ذاك عندنا ّ‬

‫(بيروت) أدما كيرلس‬

‫مجلة الزهور ‪ -‬مارس‪/‬آذار ‪1911‬‬

‫‪159‬‬


‫إملي نصراهلل‬

‫حكايتي مع القارئ األصعب‬

‫وبعضهم يدعوه أدب األطفال أو أدب األوالد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عين���ة‪ ،‬ويختلف عن‬ ‫ويعن���ي الكتابة التي ُتخاطب س���ن ًا ُم ّ‬ ‫المطل���ق باختي���ار مواضيع تثير اهتمام الناش���ئة‪ ،‬ثم‬ ‫األدب ُ‬ ‫اعتماد أس���لوب ج���ذّاب‪ ،‬يش���ّدهم‪ ،‬ويدفعه���م‪ ،‬بالتالي‪ ،‬إلى‬ ‫القراءة‪.‬‬ ‫***‬ ‫ولن أنس���ى اللغة الخاصة بهذا النوع من الكتابة‪ ،‬وأهمية‬ ‫مك���ن الولد أو الطفل‪ ،‬من‬ ‫بس���طة‪ُ ،‬ت َّ‬ ‫وم ّ‬ ‫أن تكون لغة واضحة ُ‬ ‫تطرده من‬ ‫بتعقيدات‬ ‫يصطدم‬ ‫فال‬ ‫وسالسة‪،‬‬ ‫القراءة بس���هولة‬ ‫ُ‬ ‫القص‪ ،‬وترفع جدران المنع بينه وبين سيل الكلمات‪.‬‬ ‫مسار ّ‬ ‫***‬ ‫المقدمة المختصرة ك���ي أروي حكايتي مع هذا‬ ‫ب���دأت بهذه َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫روايات وقصص ًا‬ ‫كتابة‬ ‫أقدمت عل���ى‬ ‫ولماذا‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫من‬ ‫الن���وع‬ ‫ُ‬ ‫تخاطب األطفال والفتيان‪.‬‬ ‫وعندم���ا أتح���ّد ُث عن ه���ذا الموض���وع‪ ،‬أقول للق���راء أو‬ ‫ست بالكتابة العادية للكبار‪ ،‬قبل اإلقدام‬ ‫تمر ُ‬ ‫للمستمعين «إني ّ‬ ‫على الكتابة لألوالد»‪.‬‬ ‫***‬ ‫وكيف كان ذلك؟ ولماذا؟‬ ‫عندم���ا بدأت الحرب في بلدنا‪ ،‬لبنان في العام ‪ ،1975‬كان‬ ‫س���ن الطفولة‪ ،‬يذهبون إلى المدرسة ويتابعون‪،‬‬ ‫أوالدي في‬ ‫ّ‬ ‫مثل رفاقهم‪ ،‬أخبار الحرب‪ ،‬القصف والخطف والقتل‪ ،‬وسائر‬ ‫فرز َها الحروب‪ ،‬وتنهمر على سمعهم‬ ‫المفردات اللغوية التي ُت ُ‬ ‫تنغرس في الوعي‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫وعندما يرجعون إلى البيت‪ ،‬ترافقهم أسئلتهم الصعبة‪:‬‬ ‫الهوية؟‬ ‫ ماما‪ ،‬ما معنى القتل على‬‫ّ‬ ‫ بابا‪ ،‬شو يعني ميليشيا؟‬‫وكن���ت ُأصغ���ي م���ع والدهم إلى تل���ك األس���ئلة‪ ،‬ونجدنا‬ ‫ُ‬ ‫وتش���بع‬ ‫الصدق‬ ‫على‬ ‫تحافظ‬ ‫بأجوبة‬ ‫عليها‬ ‫د‬ ‫الر‬ ‫عن‬ ‫عاجزين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫توقهم إلى المعرفة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫***‬ ‫صرت أطلب‬ ‫ولكي أضع حّدًا لتلك األسئلة واإلجابة عنها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من األوالد أن نجلس مع���اً‪ ،‬وأكتب لهم قصص ًا مختلفة‪ ،‬وعن‬ ‫ٍ‬ ‫تسرح‬ ‫حيوانات‬ ‫َب َشٍر خياليين يعيشون بسالم وأمان‪ ،‬أو عن‬ ‫ُ‬ ‫‪160‬‬

‫وتمرح في مراِبضها‪ ،‬وأجواِئها الطبيعية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت أطلب منهم أن‬ ‫وللمزيد من إش���راكهم في المش���روع‪ُ ،‬‬ ‫يتخيلونها لكل‬ ‫عبُر عن مجرى األحداث كما ّ‬ ‫يضعوا رس���وم ًا ُت ّ‬ ‫مطره علينا النش���رات اإلخبارية‬ ‫ّ‬ ‫قصة‪ ،‬وبذلك أميل بهم ّ‬ ‫عما ُت ُ‬ ‫من ويالت‪.‬‬ ‫***‬ ‫كان���ت تلك االنعطافة مفيدة لي‪ ،‬ف���ي الوقت ذاته‪ ،‬إذ كنت‬ ‫القصة‪ ،‬أمام الحالة المفاجئة‬ ‫قد ْ‬ ‫توقف���ت عن كتابة الرواية أو ّ‬ ‫أتس���اءل عن جدوى الكتابة‪ ،‬حتى‬ ‫ني‬ ‫وجعلت‬ ‫صدمتني‪،‬‬ ‫التي‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫نشرته من روايات‪ ،‬لم يعد‬ ‫أش���عر بأن ما سبق وكتبته أو‬ ‫بت‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذا قيمة أو معنى‪.‬‬ ‫***‬ ‫الصمت واالنقطاع عن الكتابة مّد َة سنة وجْدُتني في‬ ‫وطال‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وأهديتها إلى ولدنا‬ ‫أنص���رف إلى كتابة رواية للفتيان‬ ‫ْإثِرها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سن بطِلها‪.‬‬ ‫البكر‪ ،‬رمزي‪ ،‬إذ كان في مثل ّ‬ ‫وعنوانها «الباهرة» حول فتى‬ ‫أحداث تلك الرواية‪،‬‬ ‫وتدور‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تقوده إلى البحث عن تلك‬ ‫وصية‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ع���ن‬ ‫يرث‬ ‫ابني‪،‬‬ ‫بعمر‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الزهرة الس���حرية‪ ،‬والتي متى وجدها‪ ،‬تنهال عليه الس���عادة‬ ‫وِن َع ُم الدنيا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والقراء‬ ‫درس���ي اللغ���ة العربية‬ ‫ّ‬ ‫الق���ت الرواية ترحيب ًا من ُم ّ‬ ‫تحمل ُبعدًا‬ ‫س���ن المراهق���ة‪ ،‬فإنها‬ ‫تخاطب‬ ‫عامة‪ ،‬إذ فيما هي‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫المرء على الس���عي والبحث في سبيل المعرفة‬ ‫يحث‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫فلسفي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وتجاوز الصعوبات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وانتهاء‬ ‫انقضاء تلك السنوات‪،‬‬ ‫أحب أن أفكر‪ ،‬اليوم‪ ،‬وبعد‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫الح���رب‪،‬‬ ‫مرحلة‬ ‫اجتي���از‬ ‫س���اعدتني على‬ ‫بأن تل���ك الكتابة‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫واجبات‬ ‫وزعة الفكر والكي���ان‪ ،‬بين‬ ‫صعبة‪ ،‬كنت خالله���ا‪ُ ،‬م ّ‬ ‫ِ‬ ‫ومسؤوليات العمل‪.‬‬ ‫األمومة‪،‬‬ ‫خط مس���اري األدبي في كتابة‬ ‫عدت إل���ى متابعة ّ‬ ‫وبعدم���ا ُ‬ ‫القص ِ‬ ‫س���نوات‬ ‫ه‬ ‫بت‬ ‫س���ك‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫أغوص‬ ‫ني‬ ‫وجدت‬ ‫والرواية‪،‬‬ ‫���ة‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫آثارها في الوعي‬ ‫امتزجت‬ ‫وقد‬ ‫نا‪.‬‬ ‫ت‬ ‫وحيا‬ ‫كؤوس���نا‬ ‫في‬ ‫الحرب‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫خط مس���اري األدبي في الروايات‬ ‫والالوعي‪ .‬ومثلما‬ ‫اخترقت َّ‬ ‫ْ‬ ‫تلت صمتي مثل «تلك الذكريات» و«اإلقالع عكس الزمن»‪،‬‬ ‫التي ْ‬ ‫تأثيرها على الخط اآلخر لمس���رى قلمي‪ ،‬وأعني‬ ‫س���كبت‬ ‫فقد‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الكتابة للفتيان‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.