أعراس آمنة

Page 1

)Ù”(


‫كانت واحدة مف الميالي الثقيمة‪،‬‬

‫ال أستطيع وصفيا بأق ّؿ مف ذلؾ‪..‬‬ ‫خطر لي أف أقوـ بكتابة تحقيؽ صحفي عنوانو (مف يستطيع النوـ؟) ولكنني لـ أفعؿ‪ ،‬فقد كاف يكفي أف أقوـ‬ ‫"غزة"‪.‬‬ ‫بكتابة ىواجسي الميمية‪ ،‬يوماً بعد يوـ‪ ،‬ألدر َؾ ما الذي يحدث في ّ‬ ‫كانت واحدة مف الميالي الثقيمة‪.‬‬ ‫بت ُّ‬ ‫عيني‪ ،‬رغـ أنني ُّ‬ ‫كنت أغمقيما أصبلً حينما‬ ‫استطعت إغبلؽ‬ ‫أي وقت‬ ‫لست أدري في ِّ‬ ‫أشؾ تماماً‪ ،‬فيما إذا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أناـ‪.‬‬ ‫مف يستطيعُ النوـ ؟‬ ‫َّقات عمى الباب كافية ألف توقظني‪.‬‬ ‫كانت الد ُ‬ ‫ٍ‬ ‫شيء يختمط في ىذا الرأس الصغير‪ ،‬الذي طالما وصفتو أمي تحبباً‪:‬‬ ‫كؿ‬ ‫ّ‬ ‫أف اهلل لـ‬ ‫"انظروا‪ ،‬صاحبة الرأس الصغير‪ ،‬وأختيا‪ ،‬في الواحدة منيما ٌ‬ ‫عقؿ أكثر مما فيرؤوسكـ مجتمعيف‪ .‬لو ّ‬

‫غزة"‪.‬‬ ‫يرزقني سوى البنات‪ ،‬لكنت أسعد أىؿ ّ‬ ‫يسرني‪ ،‬ويزعجني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كاف ذلؾ ّ‬

‫السيء أف تممؾ رأساً صغي ارً في وطف ليس فيو سوى اليراوات الكبيروة وفوىات البنادؽ المتطمعة إليؾ‪.‬‬ ‫مف‬ ‫ّ‬ ‫الصغر‪ ،‬واتّخذت ما يكفي مف‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬ ‫حسمت األمر في النياية لصالح رأسي‪ .‬نعـ حسمتو لصالح ىذا ّ‬ ‫االحتياطات المبلئمة لحجمو‪ ،‬عكس توأمي وشبييتي‪..‬‬

‫وقمت‪ :‬لف‬ ‫ابتعدت عـ مدى الي اروات ما أمكف‪ ،‬ألنني صرت عمى يقيف مف أف ضربة واحدة تكفي لتيشيمو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫األياـ ستثبت أنني كنت مخطئة في ىذا!‬ ‫يكوف بإمكاف الق ّناصيف إصابتو وىو بيذا الحجـ‪ ،‬مع ّ‬ ‫أف ّ‬

‫كانت تمؾ األحاسيس تنتابني في االنتفاضة األولى‪ ،‬أما اآلف‪ ،‬فبل أعرؼ تماماً ‪ ،‬إف كنت ما زلت أف ّكر‬ ‫بالطريقة نفسيا أـ أنني أتذكر تمؾ الطريقة التي كنت أفكر بيا!‪.‬‬ ‫مروحية‪ ،‬وحتى مقاتمة‪ ،‬كاف يكفي لزعزعة عيارات‬ ‫زمف طوي ُؿ مف القصؼ‪ :‬قنابؿ وصواريخ‪ ،‬دبابات وطائرات‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتباىوف ‪-‬كما في ك ّؿ حرب‪ -‬بدقّتيـ في تحديد أنواع األسمحة‪ ،‬لكنني لـ‬ ‫أف كثيريف صاروا‬ ‫َ‬ ‫لدي‪ ،‬مع ّ‬ ‫السمع ّ‬


‫يفرؽ بيف طرقات قوية عمى‬ ‫أكف منيـ‪ ،‬وظ ّؿ ىذا األمر ىو األكثر قدرة عمى إثارة دىشتي‪ ،‬فمف يستطيع أف ّ‬ ‫باب‪ ،‬وبيف أصوات القنابؿ في إفاءة عثر عمييا بأعجوبة في نيايات الميؿ‪.‬‬

‫تقؿ عف خبرتي!!‬ ‫ رجعوا يقصفوا‪ ،‬أـ ىناؾ مف يطرؽ الباب؟ سألت أمي‪ ،‬وقد‬‫أف خبرتيا ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫أثبتت ّ‬

‫ألف‬ ‫أف أحداً لف يفعؿ ذلؾ سواي‪ ،‬وليس ىناؾ اآلف سوى ّ‬ ‫جدتي في الغرفة التي (ترتاح فييا) ّ‬ ‫نيضت‪ ،‬أعرؼ ّ‬ ‫ُ‬

‫تردد دائماَ‪.‬‬ ‫الرصاص ال يبمغيا تماماً‪ ،‬كما ّ‬ ‫صوت ّ‬

‫ صباح الخير‪.‬‬‫ صباح ال ّنور‪.‬‬‫أم ِؾ موجودة؟‬ ‫ ّ‬‫ موجودة‪.‬‬‫و ِ‬‫أبوؾ ؟‬ ‫ِ‬ ‫السجف !‬ ‫ أبي! أنت تعرفيف‪ ،‬في ّ‬‫نسيت‪ ،‬يمعف الشيطاف!‬ ‫‬‫ُ‬ ‫ االحتبلؿ ؟!‬‫أظف‪ ،‬في غيره ؟!‬ ‫ ُّ‬‫تفضمي !‬ ‫ ّ‬‫أريد أف أطمب ِ‬ ‫كنت أحمـ دائماً أف يكوف لي‬ ‫منؾ طمباً واحداً‪ ،‬فأنت مثؿ ابنتي‪.‬‬ ‫ ال‪ .‬قبؿ أف‬‫ْ‬ ‫أتفضؿ‪ُ ،‬‬ ‫وصمتت‪ُ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ابنة مثمُؾ‪ ،‬أو مثؿ ِ‬ ‫أختؾ‪ ،‬ولكف إف ساعدتني سيكوف لي بنت!!‬ ‫ ماذا تقصديف ؟‬‫ ستكوف ِ‬‫أختؾ ابنتي !!‬


‫ ومف قاؿ أ ّنيا ليست ِ‬‫ابنتؾ ؟!‬ ‫صبية ما شاء اهلل‪ ،‬تممي العيف‪ِ ،‬‬ ‫ ابني ِكبر‪ ،‬كبر بما فيو الكفاية‪ ،‬و ِ‬‫مثمؾ! وكما تريف‪ ،‬الدنيا بيف الحياة‬ ‫أختؾ ّ‬ ‫أريدؾ أف تقنعي أم ِؾ‪ .‬صحيح أف وجود ِ‬ ‫بأف ىذا الوقت ىو األنسب ألزوجو‪ ،‬و ِ‬ ‫أبيؾ في‬ ‫والموت‪ ،‬وقد ف ّكرت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتحسف أحوالنا‬ ‫بد منو‪ ،‬فمو انتظرنا حتى‬ ‫لكف ذلؾ ال ّ‬ ‫السجف يجعؿ األمر غير مناسب في نظر بعض الناس‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫أحد‬ ‫األمر مصيبة‪ ،‬وال َ‬ ‫ويرحؿ االحتبلؿ‪ ،‬وتتحرر فمسطيف‪ ،‬ويعود جزءىا الذي الذي احتّموه قبؿ ىذا الجزء‪ ،‬لكاف ُ‬

‫تزوج وال أحد خمّؼ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أظف‬ ‫تستند‬ ‫بخشبة‬ ‫كاف طمبيا كافياً لعقد لساني تماماً‪ ،‬فوجدت نفسي أشبو‬ ‫بوىف إلى حمؽ الباب‪ ،‬بعد زمف‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ىزة رأسي كما‬ ‫أىز رأسي دوف أف أدرؾ معنة ما أفعمو‪ ،‬لك ّنيا فيمت ّ‬ ‫أنيا قاؿ فيو الكثير‪ ،‬وجدت نفسي ّ‬ ‫تشتيي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الخطوتيف المتيف تفصبلننا‪ ،‬وطبعت قبمة عمى جبيني‪.‬‬ ‫خطت‬ ‫ِ‬ ‫غيرؾ‪ ،‬وصدؽ قمبي‪.‬‬ ‫قمت‪ ،‬ليس لي‬ ‫ لقد ُ‬‫تيـ بالذىاب‪.‬‬ ‫وفجأة استدارت ّ‬ ‫إلي وكانت يدي تقبض عمى طرؼ ثوبيا األسود الطويؿ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫امتدت يدي‪ ،‬أدركتيا قبؿ أف تبتعد‪ ،‬التفتت ّ‬ ‫قمت ليا‪.‬‬ ‫ أدخمي‪ ،‬نشرب الشاي معاً عمى األق ّؿ‪ ،‬ونفطر‪ُ .‬‬‫ِ‬ ‫ثـ‬ ‫ ال ‪ ،‬ال‪ .‬الشاي نشربو بعديف‪ .‬ولست جائعة‪ ،‬اآلف‬‫ّ‬ ‫سأمر عمى البيت آخذ بعض األشياء التي أحتاجيا‪ّ ،‬‬ ‫أذىب ألطمئنو‪ .‬تعرفيف‪ ،‬الولد يحبيا منذ زمف طويؿ‪ ،‬وكنت أنتظر اليوـ الذي يكبر فيو‪ .‬أعرؼ انيا أكبر منو‬

‫الحد؟ اليوـ عيد ميبلده‪ ،‬لماذا ال تأتيف؟‬ ‫يحب إلى ىذا ّ‬ ‫قميبلً‪ ،‬لكنو استطاع أف يكبر ليمحؽ بيا‪ ،‬ىؿ رأيت أحداً ّ‬ ‫ر ِ‬ ‫ائحتؾ مف رائحتيا‪ .‬سأقيـ حفبلً صغي ارً‪.‬‬ ‫وأخذىا صمتيا بعيداً‪.‬‬ ‫اصمت النظر إلييا‪ .‬متعبة كانت كما لو كانت عمى مشارؼ الستّيف‪ ،‬لكنيا كانت طويمة كما عرفتيا دائماً‪ ،‬رغـ‬ ‫و ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كافية لسحؽ قامة سنديانة‪.‬‬ ‫أف األعباء الممقاة عمى قمبيا‬ ‫ّ‬ ‫شريف البنت‪ ،‬ما ر ِ‬ ‫أيؾ ؟!‬ ‫شر الولد‪ ،‬وأنت تب ّ‬ ‫‪ -‬أنا أب ّ‬


‫ىزة رأسي كما تشتيي‪ ،‬اندفعت‬ ‫ييتز‪ ،‬دوف أف أدري ما الذي يعنيو ذلؾ‪ ،‬لكنيا فيمت ّ‬ ‫وثاني ًة وجدت رأسي ّ‬ ‫ثـ قالت‪ :‬مالي في ىالدنيا غيرؾ‪ ،‬اهلل يرضى عميؾ‪،‬‬ ‫نحوي‪ّ ،‬‬ ‫قبمتني مف جبيني ثانيةً‪ ،‬تراجعت قميبلً‪ ،‬تأممتني‪ّ ،‬‬

‫لزوجتؾ ّإياه‪.‬‬ ‫جبرتي خاطري‪ ،‬واهلل لو كاف لي ولد ثاني ّ‬

‫تحبينني؟‬ ‫ ولو خالتي آمنة‪ ،‬وىؿ أنا بحاجة إلى دليؿ ألعرؼ كـ ّ‬‫تقميد جنا ٍح ببل جدوى‪.‬‬ ‫يرؼ محاوالً‬ ‫امتؤلت عيناىا بالدموع‪ .‬استدارت‪ ،‬ورحت أراقبيا تبتعد‪ ،‬وغطاء رأسيا ّ‬ ‫َ‬

‫***‬

‫ مف يطرؽ بابنا مف صبيحة اهلل ىذه؟‬‫أمي دوف أف تستطيع أف تفتح عينييا‪.‬‬ ‫سألتني ّ‬ ‫أعدت‪ :‬صوت القنابؿ‪.‬‬ ‫ صوت القنابؿ‪ .‬قمت ليا‪ ،‬و ُ‬‫ظننت أنني أحمـ‪ .‬اهلل ال يخمّي واحد فييـ‪ ،‬خمطوا ليمنا بنيارنا‪ .‬أال يتعبوف‪ ،‬أال‬ ‫ كنت متأكدة مف ىذا‪ ،‬ولكنني‬‫ُ‬ ‫يناموف‪ ،‬ىؿ ىـ طرش ال يسمعوف صوت القنابؿ التي يطمقونيا؟!!‬

‫حيف أصبح رأسي تحت المحاؼ‪ ،‬سألتني‪ :‬كـ الساعة اآلف؟‬ ‫ السادسة‪.‬‬‫‪ -‬السادسة‪ ،‬قومي ‪ ،‬ألـ تشبعي نوماً ؟!!‬


)Ù•(


‫إف الشمس قد أصبحت في ِ‬ ‫السماء‪،‬‬ ‫وسط‬ ‫قمت ليـ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫قمت ليـ‪ ،‬ما ىذا الكسؿ الذي نزؿ فجأة عميكـ‪ ،‬لـ‬ ‫قمت ليـ ىذا‬ ‫مرة‪ّ ،‬‬ ‫يتحرؾ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫لكف أحداً منيـ لـ ّ‬ ‫الكبلـ مائة ّ‬ ‫َ‬ ‫اآلف‪ ،‬أف‬ ‫االبف وال األخ‪ ،‬لقد نمتُـ كثيراً‪ ،‬أكثر مما يجب‪ ،‬وعمي ُكـ أف‬ ‫الزوج وال‬ ‫تكونوا ىكذا مف قبؿ‪ ،‬ال‬ ‫تصحوا ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أذىب‪.‬‬ ‫تتحدثوا معي قميبلً قبؿ أف‬ ‫تروا الشمس‪ ،‬عمى ّ‬ ‫األقؿ‪ ،‬وأف ّ‬ ‫ْ‬

‫سنتحدث فييا جاىزة‪ ،‬ألنني أف ّكر فييا منذ ٍ‬ ‫زمف‬ ‫إف الشاء جاىز‪ ،‬والفطور جاىز‪ ،‬والمواضيع التي‬ ‫ّ‬ ‫قمت ليـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫طويؿ‪ ،‬لك ّنيـ ظمّوا نائميف‪.‬‬

‫ِ‬ ‫عت ىذه‬ ‫مما ىو‬ ‫عميو قميبلً‪ ،‬قميبلً فقط‪ ،‬النتز ُ‬ ‫مف َ‬ ‫أيف نزؿ ىذا الكس ُؿ يا ّ‬ ‫ربي‪ ،‬عمييـ فجأة‪ ،‬لو كاف قمبي أقسى ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لكف قمبي ال ُيطاوعني‪.‬‬ ‫وحولتيا إلى‬ ‫عاصفة‪ّ ،‬‬ ‫الجو‪ّ ،‬‬ ‫األغطية عنكـ ونثرتُيا في ّ‬ ‫حنوف مف يومو!‬ ‫األحف م ّني‪ ،‬يا أخي الذي لـ يفارقني‪ ،‬حيف فارقني‬ ‫الكبلـ غيرؾ يا مصطفى‪ ،‬يا أخي‬ ‫مف كاف يقوؿ ىذا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لورية‪ ،‬وبعضيـ وصؿ السويد‪.‬‬ ‫ذىبوا‪ ،‬بعذىـ‬ ‫ّ‬ ‫لؤلردف وبعضيـ ّ‬ ‫اأىخروف‪ ،‬حيف ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جية تُنادي واحداً منكـ‪،‬‬ ‫أف ك ّؿ‬ ‫ىؿ تذكر‪ ،‬راحوا يتطمّعوف لمجيات‪،‬‬ ‫ويتسمعوف صوتيا‪ ،‬قمت ليـ‪ :‬أعرؼ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقية أصو ِ‬ ‫الصوت حتى يختفي فيو‪ .‬ىكذا قمت‬ ‫ات الجيات األخرى‪ ،‬ويتبع‬ ‫وسيسمعُ صوتيا ّ‬ ‫َ‬ ‫وحده‪ ،‬مف دوف ّ‬

‫ليـ‪ ،‬كأنؾ فيمسوؼ واهلل‪ ،‬وحيف قالوا لؾ ساخريف‪ ،‬وأنت يا أستاذ مصطفى‪ :‬ما ىي الجي ُة التي تناديؾ وال‬ ‫لؤلرض‪.‬‬ ‫أشرت‬ ‫تسمع سوى صوتيا؟‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أما الجيات ففوقيا‪.‬‬ ‫قالوا لؾ‪ :‬األرض ليست جية‪ ،‬األرض مكاف‪ّ ،‬‬ ‫قمت ليـ‪ :‬ك ّؿ الجيات تمتقي ُىنا‪ ،‬فييا‪ ،‬ومف يممكيا يممؾ الجيات جميعيا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫غزة‪ ،‬بعد زواجي‪ ،‬حيف أرادوا لي أف‬ ‫اهلل‪ ،‬لقد أطربني كبلمؾ يوميا‪ ،‬ال ‪ ،‬ليس ألنؾ ستبقى عندي ىنا‪ ،‬في ّ‬ ‫وقت لـ ي ُكف جاءني ِ‬ ‫أبقى شجرة وحيدة‪ ،‬ببل سند‪ ،‬في ٍ‬ ‫فيو الولد; ال‪ ،‬أطربني أل ّنو أطربني‪ ،‬وقد أطربيا‪ ،‬رندة‪،‬‬

‫حيف أعدتُو عمى مسامعيا‪ ،‬فقالت لي‪ :‬مسموح لي أف أكتُ َب ىذا الكبلـ؟‬ ‫َ‬ ‫وكتبتو في دفترىا!‬ ‫فقمت ليا مسموح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أتخرج مف الجامعة‪ ،‬أال‬ ‫أصر عمى أف أتعمّـ‪ ،‬و ّ‬ ‫كـ مصطفى لي؟ آه؟ قؿ لي كـ مصطفى لي؟ مصطفى الذي ّ‬

‫الحد وأف يطربني؟‬ ‫يستحؽ أف أفيـ كبلمو إلى ىذا ّ‬ ‫ّ‬


‫جره حممو في أف يكوف لو حمـ‬ ‫يجره خوفو عمى أوالده‪ّ ،‬‬ ‫سامحني‪ ،‬يا مصطفى‪ ،‬ولكنني سأقو ُؿ لؾ‪ ،‬إف الذي لـ ّ‬

‫لبقيت ىنا‪ ،‬معي‪،‬‬ ‫متزوجاً‪ ،‬ولؾ أوالد‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫خارج شقائنا ىذا عمى شطّ ّ‬ ‫َ‬ ‫غزة‪ .‬ال ‪ ،‬ال تفيمني غمط‪ ،‬فحتى لو َ‬ ‫ّ‬

‫عشروف ولداً تخاؼ عمييـ لبقيت معي‪ ،‬وقد قمتيا بنفسؾ‪ ،‬رغـ أ ّنؾ لـ تقميا‪ :‬وآمنة‪ ،‬نتركيا‬ ‫حتى لو كاف لؾ‬ ‫َ‬ ‫لمف ىنا؟!‬

‫ِ‬ ‫يسرىـ أف تبحث عف سبب آخر لمبقاء معي‪ ،‬وأف تشير‬ ‫أعر ُ‬ ‫ؼ أ ّنني لـ أسمعيا‪ ،‬لك ّنؾ بالتأكيد قمتَيا ليـ‪ ،‬وكاف ّ‬

‫يبرئوا ضمائرىـ‪ ،‬وىـ يتيامسوف في آذاف‬ ‫إلى جيتؾ الوحيدة‪ ،‬جيتؾ التي تتجمع فييا الجيات كميا‪ ،‬كي ّ‬

‫بعضيـ البعض‪ :‬عمى األق ّؿ ىناؾ مف سيبقى ويرعى أختنا‪.‬‬

‫إف اهلل يخمؽ اإلنساف مف ترابيف‪ ،‬تراب المكاف‬ ‫بقيت‪ ،‬بقيت تماماً‪ ،‬قمت ليـ‪ :‬ىناؾ أسطورة‬ ‫فمسطينية تقوؿ ّ‬ ‫وقد َ‬ ‫ّ‬ ‫عرفت مف زماف‪ ،‬أننا خمقنا مف ىذا التراب وحده‪ ،‬أل ّننا‬ ‫الذي ولد فيو‪ ،‬وتراب المكاف الذي سيموت فيو‪ .‬لقد‬ ‫َ‬

‫اب‬ ‫عميو ولدنا وعميو نموت‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫أما نحف‪ ،‬فالذي ينادينا تر ُ‬ ‫يكوف تراب أخوتي ىو الذي ينادييـ‪ ،‬تراب موتيـ‪ّ ،‬‬

‫نداء بيذا الوضوح؟‪.‬‬ ‫حياتنا‪ ،‬ىكذا مف األوؿ‪ ،‬ومف منا ال يستطيع أف يسمعَ ً‬

‫أنت تذكر حكاي َة الشييد محمد موسى أبو جزر‪ ،‬تذكرىا طبعاً‪ ،‬إنيا تصديؽ لكبلمؾ الذي قمتو‪ ،‬كيؼ يمكف أف‬ ‫نفسرىا؟ رجؿ يغيب أربعيف عاماً عف وطنو‪ ،‬ويشارؾ في معارؾ ال حصر ليا خارج فمسطيف‪ ،‬وبعد أف يعود‬ ‫ّ‬ ‫يستشيد وىو يجافع عف (رفح)‪ ،‬ىنا ‪ ،‬قربنا‪.‬‬ ‫اهلل‪ ،‬اهلل يا مصطفى!‪.‬‬ ‫في‪ ،‬فجأة‪ ،‬كال ّنور‪،‬‬ ‫فيمت اآلف‪،‬‬ ‫لقد‬ ‫فيمت اآلف كبلمؾ الذي قمتو ليـ‪ ،‬فيمتو يا مصطفى‪ ،‬اهلل كيؼ أشرؽ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫فيمت يا مصطفى‪ ،‬ليس ىناؾ مبرر أف أكوف‬ ‫كنت تسمعو‪ ،‬ولـ تكف تخبرني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فيمت لماذا أشرت إلى التراب‪َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫نحسيا‪ ،‬ألنيا فينا‪ ،‬فيؾ‪ ،‬في دمؾ ‪ ،‬أمسعيا تجري‪.‬‬ ‫سمعت ىذه األسطورة أو ال‪،‬‬ ‫قد‬ ‫ُ‬ ‫الميـ أننا ّ‬ ‫ّ‬ ‫كيؼ لـ يفيموا؟‬ ‫أحب المبالغة‪ ،‬فالزماف بالغ‬ ‫أتذ ّكرؾ ‪ ،‬دائماً كنت تسبقيـ عشر خطوات‪ ،‬عمى األق ّؿ‪ .‬ال ُ‬ ‫أريد أف أبالغ‪ ،‬لـ أعد ّ‬ ‫معي بما يكفي ويزيد‪ .‬دائماً كنت تسبقيـ عشر خطوات عمى األق ّؿ‪ .‬أتذ ّكر‪ ،‬حيف جاء جماؿ لخطبتي‪ ،‬حيف‬

‫أي عروس‪ :‬مف‬ ‫ّ‬ ‫حدث أبي‪ ،‬وحيف ارتبؾ أماـ سؤالو الذي لـ يكف مفاجئاً‪ ،‬السؤاؿ المتوقع الذي يسألو أىؿ ّ‬ ‫ويف بتعرؼ البنت؟!‬

‫السماء سقطت عمى رأسو‪ ،‬وبعد قميؿ عرؼ أنيا كانت ممتمئة بالغيوف‪ .‬ىكذا كاف‬ ‫إف‬ ‫ارتبؾ الحزيف!! قاؿ لي ّ‬ ‫َ‬

‫غرقت في ماء لـ أر مثمو يا آمنة‪ ،‬ال‪ ،‬ليس عرقاً‪ ،‬لو كاف عرقاً ألحسستو يتسمؿ‬ ‫يستعيد الحكاية ويضحؾ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫مف تحت ثيابي‪ ،‬بكنيا كاف يأتي مف تحتيا ومف فوقيا‪.‬‬


‫وتحبيا أيضاً !‪.‬‬ ‫قاؿ لو‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫وتجر الحزيف وقاؿ لو‪ :‬وىؿ عمى الرجؿ أف يتزوج المرأة التي يكرىيا؟!‬ ‫ّأ‬ ‫عمي ؟!‬ ‫ بتتمسخر ّ‬‫لمزواج!‪.‬‬ ‫عمي؟ ما في عندي بنات ّ‬ ‫ىكذت صرخ أبي في وجيو‪ .‬بتتمسخر ّ‬ ‫ييمؾ!‬ ‫وحدؾ الذي وقفت معي‪ ،‬وحدؾ الذي قمت لي تمؾ الكممات البسيطة‪ :‬وال ّ‬ ‫ييمني؟ إف لـ يخطبني اليوـ‪ ،‬فمتى يكوف ذلؾ‪ ،‬بعد أـ يعود مف مصر؟ لـ تزؿ أمامو‬ ‫‪ -‬وال ييمني‪ ،‬كيؼ وال ّ‬

‫أربع سنوات حتى يتخرج‪ ،‬واهلل يعمـ ما الذي يمكف أف يحدث في أربع سنوات‪.‬‬ ‫ييمؾ !‪.‬‬ ‫وأعدتَيا‪ :‬وال ّ‬

‫دمت أعدتيا‪ ،‬فإنؾ تعرؼ ما الذي تقولو‪ ،‬ما الذي تعنيو‪ ،‬فمـ أفتح الموضوع ثانية‪.‬‬ ‫فقمت‪ :‬ما َ‬ ‫ُ‬ ‫وقمت لي‪ :‬ال تقطعي أىمو‪ ،‬زورييـ‪ ،‬إنيـ يحبونؾ‪ ،‬عيشي معيـ كما لو أ ّن ِؾ واحدة منيـ‪ ،‬خطيبة ابنيـ‪،‬‬ ‫وزوجة المستقبؿ‪.‬‬ ‫ ِف ْك َرؾ !؟‬‫ طبعاً‪.‬‬‫جف‪.‬‬ ‫سي ّ‬ ‫ ولكف أبي ُ‬‫ربما‪ ،‬في البداية فقط‪.‬‬ ‫غزة‪ ،‬وليس في مصر‪،‬‬ ‫أف جماؿ ىنا في ّ‬ ‫ّ‬ ‫جف لو ّ‬ ‫سي ّ‬ ‫جف؟ ال‪ ،‬ال ّ‬ ‫سي ّ‬ ‫سيجف‪ّ ،‬‬ ‫أظف ذلؾ‪ُ ،‬‬ ‫ ُ‬‫قمت لو‪ /‬تزور ثاحباتيا‪ ،‬أخواتو‪ ،‬فجماؿ في‬ ‫ك ّؿ ما قمتو حدث‪ ،‬نعـ‪ ،‬كؿ ما قمتَو‪ .‬أرغى وأزبد‪ ،‬وشتـ‪ ،‬وحيف َ‬ ‫مصر‪ ،‬وليس ىناؾ سوى الختيار والختيارة والبنات‪ .‬قاؿ‪ :‬وليكف! ال تزورىـ‪ ،‬يعني ال تزورىـ!‪.‬‬

‫عشت في بيتنا‪ ،‬ويوماً بعد يوـ‪ ،‬لـ يعد يسألني‪ :‬أيف‬ ‫عشت معيـ في البيت طواؿ تمؾ السنوات أكثر مما‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫لست أدري لماذا كاف عميو أف يبدو قاسياً‪ .‬ىؿ ىنالؾ‬ ‫كنت؟ كاف يراني سعيدةً بوجودي معيـ‪ ،‬اهلل يرحمو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سبب سوى أنو أب‪ ،‬وأف ىمومنا أكبر مف جيؿ؟!‬

‫تزوجيو يابا‪ .‬أفض ُؿ بيت لمبنت ىو البيت الذي يحبيا فيو أىؿ زوجيا أكثر منو‪ .‬اآلف أعرؼ‬ ‫ناداني‪ ،‬وقاؿ لي‪ّ :‬‬ ‫انيـ يحبونؾ!‬


‫وصمت طويبلً‪ .‬ثـ قاؿ لي‪ :‬أما أف يأتي ىو ويقوؿ لي بأنو يحبػ‪ . .‬ىكذا مف الباب لمطاقة‪ ،‬فيذا ال يجوز‪،‬‬

‫ِ‬ ‫فيمت‪.‬‬

‫قمت لو‪ :‬حاضر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جد؟!!‬ ‫وعندىا راح يضحؾ ويضحؾ ‪ :‬ىؿ اعتقدت أنني أقو ُؿ ىذا الكبلـ عف ّ‬ ‫وراح يضحؾ ويضحؾ حتى مات‪.‬‬ ‫اهلل يرحمو‪.‬‬

‫** ** **‬

‫بأف ضحكي فاؽ ك ّؿ الحدود‪.‬‬ ‫أحس ّ‬ ‫وىا أنا أضحؾ وأضحؾ‪ ،‬و ّ‬ ‫بد لي مف أف أبكي قميبلً إذف‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫الحزف‪ ،‬واهلل إنكـ حيرتوني!!‬ ‫كنت‬ ‫ىا قد‬ ‫اآلف إف ُ‬ ‫ُ‬ ‫بكيت !‪ .‬ولكنني ال أعرؼ َ‬ ‫أمسح دموع الفرح أـ دموع ُ‬ ‫ُ‬ ‫وبعديف يا والد‪.‬‬ ‫الشمس أصبحت في وسط السماء‪ ،‬ما ىذا الكسؿ الذي نزؿ فجأة عميكـ؟ لـ تكونوا ىكذا مف قبؿ‪ ،‬وعميكـ أف‬ ‫ُ‬

‫معي قميبلً‪ ،‬قبؿ أف أذىب‪.‬‬ ‫تصحوا اآلف‪ ،‬أف تروا الشمس عمى ّ‬ ‫األقؿ‪ ،‬وأف ّ‬ ‫تتحدثوا َ‬

‫تنس عميؾ الكثير‪ ،‬فأنت خاؿ الولد‪ .‬وأنت يا صالح‪ ،‬قوـ‪ ،‬قوـ شوؼ الشمس‪ ،‬شمس‬ ‫مصطفى‪ /‬مصطفى‪ ،‬ال َ‬

‫أحد‬ ‫يفوت ٌ‬ ‫تفوتيا‪ ،‬شوفيا‪ ،‬ىذه شمس عامؾ الجديد‪ ،‬شمس سعدؾ‪ .‬يا كسوؿ‪ ،‬يا أىبؿ! ىؿ ّ‬ ‫عيد ميبلدؾ‪ ،‬ال ّ‬ ‫شمسو‪ ،‬شمسو التي تشرؽ لو وحده‪ ،‬أنظر‪ ،‬حتى الغباش ال وجود لو اليوـ‪ ،‬حتى الدخاف غير موجود‪ .‬ىؿ‬

‫تعرؼ مف متى أنتظر ىذا اليوـ؟!!‬ ‫ُ‬ ‫أعد‪،‬‬ ‫أعد عمى أصابعي‪ ،‬لكف ما يدىشني أف أصابعي لـ تعد تنتيي‪ ،‬ولمذلؾ‬ ‫أعد و ّ‬ ‫بقيت ّ‬ ‫من ُذ ‪ ..‬ال أدري‪ ،‬وأنا ّ‬ ‫ُ‬

‫كبرت‪.‬‬ ‫ليبلً نيا ارً‪ ،‬حتى توقفت فجأة‪ ،‬وعندىا انتبيت‪ ،‬وعرفت أنؾ قد ُ‬


‫تبح بو حتى لمتراب‪ ،‬ألف الريح ستعرفو! لقد ف ّكرت طويبلً‪ ،‬طويبلً‬ ‫تبح بو ألحد‪ ،‬ال ُ‬ ‫اآلف‪ ،‬سأقوؿ لؾ س ارً‪ ،‬ولؾ ال ُ‬

‫سأزوجكما‪.‬‬ ‫جداً‪ ،‬ولـ أجد أفضؿ مف ىذت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تريد أف تنيض‪ ،‬ببلش !‬ ‫ال ُ‬

‫ِ‬ ‫ب نفسي بيذا ك ّؿ يوـ‪.‬‬ ‫ىا ىو الشاي يبرد قبؿ أف تشربوه‪ ،‬واهلل ُ‬ ‫لست أدري لماذا أتع ُ‬ ‫أما أنت يا مصطفى فيا أنا أقوليا لؾ‪ ،‬سأذىب وأخطبيا وحدي إف لـ تنيض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لف تنيض!!‬ ‫طيب !!‬ ‫ّ‬ ‫لو مفاجأة‪.‬‬ ‫أي شيء‪ّ .‬إياؾ! ألنني سأجعميا ُ‬ ‫إذا أفاؽ قبؿ عودتي ال ت ُقؿ لو ّ‬


)Ù–(


‫اـ كثيرة‪،‬‬ ‫أحياناً ّ‬ ‫تمر ّأي ٌ‬

‫أخوي جواد وسميـ‪،‬‬ ‫دوف أف أرى‬ ‫ّ‬ ‫دوف أف أرى أحداً‪،‬‬ ‫يقب ِ‬ ‫نطمئف‬ ‫أمي ويطمئ ّناف عمينا‪ ،‬وىما ال بعرفاف أننا نحف الذيف‬ ‫ّ‬ ‫يمراف‪ ،‬في الظبلـ غالباً ّ‬ ‫بلف ّ‬ ‫خطفاً ّ‬ ‫يدي ّ‬ ‫عمييف‪.‬‬

‫تمر أياـ كثبرة دوف أف أراىما‪.‬‬ ‫أحياناً ّ‬ ‫ربما التي ال يستطيع مكاف ما أف يبقييا‬ ‫ال‪ ،‬ذلؾ ال يعني أنني أمضي اليوـ وراء باب مقفؿ‪ .‬فأنا الوحيدة ّ‬

‫داخمو أكثر مما تُريد‪.‬‬

‫أحس أنني جالسة‬ ‫يتعمؽ األمر بالبصؿ أو بسواه‪ ،‬لك ّنني‬ ‫بصمتؾ محروقة! تقو ُؿ لي أمي‪ ،‬وأقوؿ ليا‪ :‬ال‬‫ُ‬ ‫ّ‬

‫باستمرار في مقبلة تحتيا نار‪.‬‬

‫أخرج لمشوارع كي أرى‪ ،‬فبل أرى شيئاً‪.‬‬ ‫حد أنني ال أستطيعُ أف أرى أحداً تماماً‪.‬‬ ‫نحف كثيروف في ىذا الشريط‬ ‫الضيؽ إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أحس أننا لو نظرنا مرة واحدة لمبحر فستبتمعو‬ ‫في البيت كثيروف‪ ،‬في الشارع‪ ،‬في المدرسة ‪ ،‬في السوؽ‪ ،‬و ّ‬ ‫أعيننا!‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وكثيروف في أحزاننا ‪..‬‬ ‫قموب أكبر كي تتسع لكؿ ىذا األسى‪ .‬قالتيا ذات مرة جدتي‪ ،‬ولـ أفيـ كبلميا إال بعد زمف طويؿ‪.‬‬ ‫ كاف يمزمنا‬‫ٌ‬

‫أي يوـ مف األياـ ؟‬ ‫وذات يوـ سألتيا‪ :‬كيؼ تفسريف ّ‬ ‫أف أحبلمنا لـ تصغر في ّ‬ ‫إلي وقالت‪ :‬ما الذي تعنينو ؟‬ ‫التفتت ّ‬ ‫ات ِ‬ ‫قمت ليا‪ :‬قبؿ سنو ٍ‬ ‫قمت‪:‬كاف يمزمنا قموب أكبر كي تتسع لكؿ ىذا األسى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قمت ىذا الكبلـ ؟!‬ ‫إلي َد ِى َ‬ ‫فالتفَ ْ‬ ‫ش ًة قالت‪ :‬أنا ُ‬ ‫تت ّ‬ ‫ نعـ ِ‬‫مسجؿ في دفتري أيضاً‪.‬‬ ‫أنت‪ ،‬وىو‬ ‫ّ‬


‫أنت ِ‬ ‫قمت كبلماً كيذا‪ ،‬و ِ‬ ‫فإف ىذا الكاـ صحيح!‬ ‫كتبتو‪ّ ،‬‬ ‫كنت ُ‬ ‫ إذا ُ‬‫قالت‪.‬‬ ‫ وماذا عف أحبلمنا؟ سألتيا‪.‬‬‫ أحبلمنا لـ تكبر‪ .‬قالت‪.‬‬‫ ما الذي تعنينو ؟‬‫األحبلـ‪ ،‬ك ّؿ األحبلـ تولد صغيرة وتظ ّؿ صغيرة‪ ،‬ولذلؾ‪ ،‬ليس‬ ‫ أحبلمنا لـ تكبر ألنيا أحبلـ صغيرة منذ البداية‪.‬‬‫ُ‬ ‫األحبلـ كبيرة لقامت بنفسيا لترعانا‪.‬‬ ‫غريباً أننا نحف مف نرعاىا طواؿ العمر‪ .‬لو كانت‬ ‫ُ‬ ‫ مسموح لي أكتب ىذا الكبلـ ؟‬‫ مسموح ‪ ،‬بس ما تزيدي مف عندؾ!‬‫المبلئـ الذي‬ ‫الجو‬ ‫يجب أف‬ ‫ّ‬ ‫طبعاً‪ ،‬كبلـ كيذا لـ أكف أسمعو عمى الطّالعة والنازلة كما ُيقاؿ‪ .‬كاف ُ‬ ‫أحضر لو ّ‬ ‫َ‬ ‫أوقية بزر‬ ‫يمكف لو أف‬ ‫يتفتح فيو‪ ،‬ولـ تكف ّ‬ ‫جدتي ذات مطالب كثيرة كي تصؿ إلى تجمييا ىذا‪ .‬كؿ ما يمزميا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫وصمة مديح ألسنانيا القوية التي ال تشبو أسناف بنات ىذه‬ ‫وفنجاف قيوٍة كبير تختتـ بو القزقزة بعد‬ ‫بطيخ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تبوح بما أتمنى سماعو في ىذا الوقت ‪،‬‬ ‫بد أف يكوف ذلؾ ما بيف التاسعة والعاشرة ليبلً‪ ،‬ألنيا‬ ‫األياـ‪ ،‬وال ّ‬ ‫ُ‬

‫وتناـ‪.‬‬

‫ ال شيء يجعمني أناـ كالقيوة! تقو ُؿ لي‪.‬‬‫وتذىب في ٍ‬ ‫نوـ عميؽ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أفيؽ فتسألني‪ :‬مف‬ ‫أحياناً ‪ ،‬في بعض الميالي‪ ،‬تصحو عمى صوت القنابؿ‪ ،‬فتأتي إلى فراشي‪ّ ،‬‬ ‫تيزنيي إلى أف َ‬ ‫ِ‬ ‫مرة؟‬ ‫أيف اشتريت القيوةَ آخر ّ‬ ‫فأقو ُؿ ليا نصؼ نائمة‪ :‬مف عند "أبو مسعود"‪.‬‬ ‫الجو تجعمني‬ ‫ ال‪ ،‬ال تشتري القيوة منو مرة أخرى‪ ،‬قيوتو خفيفة‪ ،‬خفيفة إلى ّ‬‫تمر في ّ‬ ‫حد أف رصاصة واحدة ّ‬

‫أصحو‪ .‬اشتري لي مف قيوة "المغربي" فيي الوحيدة التي تبقيني نائمة حتى السابعة صباحاً‪.‬‬

‫** ** **‬


‫ظمّت جدتي صديقتي الوحيدة‪ ،‬عكس توأمي التي كاف لدييا مف الصديقات ما يكفي عشر ٍ‬ ‫بنات وحيدات‪.‬‬ ‫جدتي‪ :‬الحمدهلل أف ىذه المستورة قد أصبحت‬ ‫جدتي صديقتي الوحيدة إلى أف وصمت آمنة‪ ،‬فقالت ّ‬ ‫ظمّت ّ‬ ‫جارتنا‪ ،‬ألنيا خففت مف أوجاع رأسي الكثيرة التي تسببينيا لي بأسئمتؾ الكثيرة التي ال تنتيي‪.‬‬ ‫خمس دقائؽ‪ ،‬ودائماً في الحرة‪ ،‬لكنيا غير‬ ‫العجيب أنيا ال تستطيع الجموس في مكانيا‬ ‫وقالت أمي معمقة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫أي بنت أكثر مف يوميف‪ .‬واذا لـ تجد أحداً تقاتمو‪ ،‬تقاتؿ خياليا!‪.‬‬ ‫قادرة عمى إقامة عبلقة صداقة واحدة مع ّ‬

‫بأف الذي يمزميا (حفاظة)‬ ‫تعرفت إلى واحدة‬ ‫فأرد‪ :‬وما الذي يمكف أف أفعمو؟ أف أجامؿ وأجامؿ؟‪ .‬كمما‬ ‫ّ‬ ‫أحسست ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال صديقة‪ .‬بنات جاىبلت !!‬

‫ِ‬ ‫أمي ساخرة‪.‬‬ ‫ اسـ اهلل عميؾ يا عبقرية زمانؾ! تقو ُؿ ّ‬‫وتضيؼ أختي‪ :‬بتف ّكر نفسيا طو حسيف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جدتي‪ :‬بقربمنا ؟!‬ ‫ طو حسيف ميف؟‪ .‬تسأؿ ّ‬‫تجيب أختي‪.‬‬ ‫ ىذا كاتب يا ستّي‪.‬‬‫ُ‬ ‫ كاتب عدؿ ؟‬‫ أل ‪ ،‬كاتب ُكتب‪.‬‬‫ ُكتب زواج يعني ؟‪.‬‬‫ أل ‪ ،‬كاتب كتب مف التي نق أر مثميا في المدارس‪.‬‬‫ ولماذا لـ تقولي ىذا مف الصبح‪ .‬ىيؾ أحرجيتيني !‪.‬‬‫سقطت في االمتحاف‬ ‫ترد أختي وترمقني بنظرة مف طرؼ عينيا‪ .‬كما لو أنيا نجحت‪ ،‬وأنا‬ ‫ متأسفة يا ستّي‪ّ .‬‬‫ُ‬

‫لممرة العاشرة‪.‬‬

‫*** *** ***‬


‫آمنة‪ ،‬كانت أشبو بنسمة‪ ،‬مرت ذات ٍ‬ ‫يوـ مف شارعنا‪ ،‬توقفت قميبلً‪ ،‬أعجبيا المكاف فقررت أف تقيـ فيو‪.‬‬ ‫كنت أنا أوؿ مف يراىا مف أىؿ بيتنا‪ ،‬جميمة كممثبلت السينما‪ ،‬تشبو "آثار الحكيـ"‪ .‬تشبييا‬ ‫حيف دقت بابنا‪ُ ،‬‬ ‫كثي ارً‪.‬‬

‫سألتني‪ :‬ىؿ ىنالؾ بيوت لئليجار ىنا؟‬ ‫ لئليجار ال‪ ،‬ولكف ىنالؾ بيت لمبيع‪.‬‬‫ لمبيع؟‪ .‬لـ نفكر بشراء بيت‪ .‬وأظننا ال نستطيع‪.‬‬‫كانت تحدثني بميجة مف يعرفني مف سنوات طويمة‪ ،‬تحدثني كبنت كبيرة‪ ،‬وليس كبنت صغيرة أطمت مف نصؼ‬ ‫عت الباب كمّو‪.‬‬ ‫باب‪ .‬شجعني ىذا كثي ارً‪ ،‬أشر ُ‬ ‫وقفت محتارة‪ ،‬ثـ سألتني‪ :‬وأيف البيت؟‬ ‫ُ‬ ‫أشرت بيدي نحو البيت المجاور لبيتنا‪ :‬ىذا ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نظرت صوب البيت‪ ،‬أحسست أنيا لف تر شيئاً‪ ،‬فمضت إلى الطرؼ الثاني مف الشارع‪،‬‬ ‫رجعت خطوتيف لموراء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وكنت أتأمميا‪.‬‬ ‫كانت تتأمؿ البيت‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫البيت نخمة!‪.‬‬ ‫بعد قميؿ سارت باتجاىي‪ :‬في‬ ‫قمت ليا‪ :‬نعـ‪ ،‬في البيت نخمة‪ ،‬وىنالؾ نخمة أخرى يحجبيا السور‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثـ مضت‪.‬‬ ‫ شك ارً‪ .‬قالت لي ّ‬‫أنس وجييا‪ ،‬حدثت جدتي عف تمؾ المرأة التي جاءت وسألت عف بيت ىنا في حينا‪،‬‬ ‫أياـ طويمة مرة‪ ،‬لكنني لـ َ‬

‫وقمت ليا إنيا تشبو آثار الحكيـ‪.‬‬ ‫ُ‬

‫فقالت لي‪ :‬تشبو الدكتور عبداهلل!‪.‬‬ ‫ يا جدتي‪ ،‬الحكيـ اسـ أبوىا‪.‬‬‫ اسـ أبو ميف ؟‬‫ آثار‪.‬‬‫‪ -‬آثار‪ .‬وىؿ لآلثار آباء مثمنا؟‬


‫ يا ستي‪ ،‬آثار الحكيـ اسـ ممثمة مصرية في السينما والتمفزيوف‪.‬‬‫ ولو!‪ .‬وىؿ تشترى األسماء في مصر ليسمييا أبوىا آثار؟ ثـ لنفترض أ ّنيا تشترى‪ ،‬فقد كاف يمكنو أف‬‫يشتري اسماً أجمؿ ليا‪ ،‬بخاصة وأنو دكتور!‪.‬‬ ‫األسماء ال تشترى‪.‬‬ ‫ يا ستي‪،‬‬‫ُ‬ ‫ تريديف أف تعمميني أف األسماء ال تشترى؟‪ .‬بتفكريني ىبمة؟‪ .‬طبعاً األسماء ال تشترى‪ ،‬ولكف ىيؾ المثؿ‪.‬‬‫ بس بذمتؾ يا ستي‪ ،‬اسميا‪ ،‬كمو عمى بعضو‪ ،‬أليس جميبلً ؟‪.‬‬‫وصفية) بذمتؾ مش أحمى مف كؿ أسماء‬ ‫ بصراحة‪ ،‬متزعميش مني!‪ .‬أل مش حمو‪ ،‬شوفي إسمي شو حمو‪( ،‬‬‫ّ‬

‫ىذه األياـ؟‬ ‫‪ -‬طبعاً‪.‬‬

‫ِ‬ ‫اعترفت!‪.‬‬ ‫‪ -‬أىا‪،‬‬

‫** ** **‬

‫ذات ٍ‬ ‫فرحت كثي ارً‪ ،‬وحيف رأيت رجاالً يفرغوف الشاحنة‬ ‫فرحت‪،‬‬ ‫خرجت فوجدتو أمامي‪،‬‬ ‫سمعت الباب ُيطرؽ‪،‬‬ ‫يوـ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أماـ البيت المجاور‪ ،‬تركتيا واقفة‪ ،‬قبؿ أف أعرؼ ما الذي تريده‪ ،‬ورحت أعدو لمداخؿ صارخ ًة بفرح‪ :‬آثار‬

‫الحكيـ ستصبح جارتنا‪ ،‬ستصبح جارتنا!‪.‬‬ ‫سألتني أختي‪ :‬آثار ميف ؟‬ ‫ آثار الحكيـ ‪.‬‬‫ مجنونة ِ‬‫غزة ؟‬ ‫بده يجيبيا عمى ّ‬ ‫أنت‪ .‬آثار الحكيـ شو ّ‬ ‫ لكنيا نيضت وراحت تجري لمباب الخارجي‪.‬‬‫بعد قميؿ عادت صارخ ًة‪ :‬آه واهلل!!‪.‬‬ ‫منكف بنصؼ ىذا‬ ‫كنت أتمنى أف تكوف الواحدة‬ ‫ّ‬ ‫ىب في أطرافنا‪ُ :‬‬ ‫خرجت أمي عمى صراخ الفرح المباغت الذي ّ‬ ‫النشاط حيف أطمب منيا شيئاً‪ .‬بدؿ ىذه النطنطة الفارغة‪ .‬واتجيت لمباب‪.‬‬


‫ أىبلً يا أختي‪ .‬سمعناىا تقو ُؿ ذلؾ‪.‬‬‫بل‬ ‫أي جارٍة مف جاراتنا‪ ،‬أى ً‬ ‫كنا ُ‬ ‫نقؼ خمؼ أمي ونحف نتقطع غيظاً ألنيا لـ تعرفيا‪ ،‬ألنيا تخاطبيا كما تخاطب ّ‬

‫يا اختي‪.‬‬

‫كنت‬ ‫ونسيت أنا نفسي أنيا امرأة تشبو آثار الحكيـ‪ ،‬وليست آثار نفسيا‪ ،‬حيف صدقت أختي بأنيا ىي‪.‬‬ ‫وقمت‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ىبمة فعبلً !‬

‫ عمي أف أتعرؼ عمى جيراني قبؿ أف أتعرؼ عمى بيتي‪ .‬الجار قبؿ الدار‪ .‬ثـ اضافت‪ِ :‬‬‫أختؾ آمنة‪ ،‬أـ صالح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اكتشفت أنني أراهُ لممرة األولى‪.‬‬ ‫المتكور‪ .‬بطنيا الذي‬ ‫قالت ألمي‪ ،‬وراحت تشير بفرح إلى بطنيا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ أىبلً وسيبلً‪ .‬قالت ليا أمي‪ .‬تفضمي‪.‬‬‫ اسمحي لي‪ ،‬في يوـ آخر‪.‬‬‫ أـ صالح!‪ .‬قالت أختي‪.‬‬‫قمت‪.‬‬ ‫ أـ صالح!‪ُ .‬‬‫ وحامؿ!‪ .‬قالت أختي‪.‬‬‫قمت‪.‬‬ ‫ وحامؿ!‪ُ .‬‬‫ ال يمكف أف تكوف آثار الحكيـ‪ .‬قالت أختي‪.‬‬‫قمت‪.‬‬ ‫ بؿ ىي آثار الحكيـ‪ ،‬وال ّ‬‫بد أنيا اعتزلت ّ‬ ‫الفف‪ ،‬وقررت أف تتفرغ ألسرتيا‪ُ .‬‬ ‫ولكف اسميا آمنة‪ ،‬وليس آثار‪.‬‬ ‫ ّ‬‫ِ‬ ‫ستثبت أنني عمى‬ ‫األياـ‬ ‫اضفت ‪:‬‬ ‫لمفنانات و‬ ‫أف‬ ‫الحقيقي‪ ،‬أال‬ ‫ أكيد ىذا اسميا‬‫تعرفيف ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفنانيف أسماء فنية؟‪ .‬و ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫حؽ‬ ‫ّ‬

‫** ** **‬

‫صد ِ‬ ‫قت كبلمي؟‪ .‬ال‬ ‫قمت ألختي‪ :‬شفتي‪ .‬ىؿ ّ‬ ‫َ‬ ‫بعد أسابيع‪ ،‬حيف عرفنا أف زوجيا كاف يدرس في مصر‪ ،‬ورأيناه‪ُ ،‬‬ ‫وتزوجيا‪ ،‬وقررت االنتقاؿ معو إلى ىنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بد انو تعرؼ إلييا ىناؾ ّ‬


‫الفف وترحؿ إلى ىنا‪ ،‬ومف أجؿ مااذا؟ أف تتزوج! وىؿ ىناؾ قمّة‬ ‫‪ -‬وىؿ تعتقديف أف آثار مجنونة لتيجر ّ‬

‫عرساف في مصر ؟‪.‬‬

‫كنت ممثمة‪ ،‬و ِ‬ ‫ بذمتؾ لو ِ‬‫الفف؟‪.‬‬ ‫التقيت بشاب كزوجيا‪ ،‬أال تيجريف ّ‬ ‫أعرؼ مف أيف أتاني ىذا الكبلـ!‪.‬‬ ‫سألتيا‪ ،‬وأا ال‬ ‫ُ‬ ‫الفف!‪.‬‬ ‫الفف‪ ،‬وأبو ّ‬ ‫صمتت طويبلً‪ ،‬ثـ قالت لي‪ :‬الصحيح أىجر ّ‬ ‫ِ‬ ‫اعترفت‪ ،‬إنيا آثار الحكيـ‪.‬‬ ‫ أىا‪ ،‬إذف‬‫‪ -‬ال‪ ،‬ليست آثار الحكيـ‪.‬‬

‫** ** **‬

‫الذىاب لزيارتيا‪ ،‬حاممة ىدية ليا‪ :‬دزينة مف فناجيف القيوة‪ ،‬رجوناىا أف تأخذنا معيا‪.‬‬ ‫قررت أمي‬ ‫حيف‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫نرتجؼ فرحاً وارتباكاً‪ .‬حتى أختي التي كانت تؤّكد لي يوماً بعد ٍ‬ ‫يوـ أنيا ليست آثار‬ ‫فتحت الباب‪ ،‬كنا‬ ‫حيف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحكيـ‪.‬‬

‫حيف رأتنا معاً سألت‪ :‬ميف رندة‪ ،‬وميف لميس؟‪.‬‬ ‫قالت أختي‪ :‬أنا لميس‪.‬‬ ‫وقمت‪ :‬ال‪ .‬أنا لميس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫صدقنا إننا إنسيناه!!‬ ‫أمي‪ :‬آه‪ ،‬عدنا لتعب القمب المي ما ّ‬ ‫فصرخت ّ‬ ‫ِ‬ ‫صامتتيف‪ ،‬في الوقت الذي كانت أني تتحدث معيا في مواضيع كثيرة لـ‬ ‫جمسنا في غرفة الضيوؼ الصغيرة‬ ‫أف امي وقفت معمنة انتياء الزياة‪ ،‬سألناىا معاً‪ ،‬وبببل‬ ‫نسمع منيا شيئاً‪ ،‬فقط كنا نتأمميا‪ .‬وحيف انتبينا إلى ّ‬ ‫مقدمات‪ :‬ىؿ ِ‬ ‫أنت آثار الحكيـ؟‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بطرؼ مف ثوب أمنا‪ ،‬وسألتنا باستغراب شديد‪ :‬آثار الحكيـ؟ مف آثار‬ ‫التفتت إلينا وقد أمسكت ك ّؿ واحدةً منا‬ ‫الحكيـ؟؟‬


‫ أال تعرفينيا حتى؟ سألناىا معاً‪ .‬وصمتنا‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حجرييف‪ ،‬فاجأتنا بضحكة أعادتنا إلى أصمنا بش ارً مرة ثانية‪.‬‬ ‫تمثاليف‬ ‫وحيف رأتنا وقد تحولنا إلى‬ ‫الحد؟‪ .‬ىذه ىي المرة األولى التي يقوؿ لي فييا أحد مثؿ ىذا الكبلـ‪.‬‬ ‫ طبعاً بعرفيا‪ .‬ولكف ىؿ أشبييا ليذا ّ‬‫وقبمتني‪.‬‬ ‫وقبمتيا‪ ،‬ودارت نصؼ دورٍة حوؿ أمي حتى أدركتني في اختبائي ىناؾ ّ‬ ‫ثـ انحنت نحو أختي أوالً ّ‬ ‫ِ‬ ‫صدقت اآلف أنيا ليست آثار الحكيـ؟‪.‬‬ ‫حيف وصمنا الباب قالت لي أختي‪ :‬ىؿ‬ ‫قت‪ .‬ألنيا أحمى منيا‪.‬‬ ‫قمت‪ّ :‬‬ ‫صد ُ‬ ‫‪ُ -‬‬


)Ù—(


‫جماؿ‪ ،‬يا جماؿ!‬

‫الساعة صارت تسعة‪ .‬جماؿ‪ ،‬ال أريد أف يسمعوا صوتي‪ ،‬لقد ذىبت إلييـ ‪ ،‬رأيت رندة‪ ،‬رندة أختيا‪ .‬أخت‬ ‫وحدثتيا في الموضوع‪ ،‬لف تستطيع أف تتصور كـ ىي رائعة ىذه البنت‪ ،‬واهلل لو كاف‬ ‫ميف؟؟ أخت لميس!! ّ‬ ‫أميا وىي تدعوىا دائماً "صاحبة‬ ‫يحبيا قميبلً‪ ،‬لخطبتيا ىي وليس لميس‪ ،‬لكف القمب وما ىوى! لقد صدقت ّ‬ ‫تحيرني يا جماؿ‪،‬‬ ‫الرأس الصغير" ظمت جميمة‪ ،‬كمميس‪ ،‬وصغيرة مثمما عرفتيا ّأوؿ مرة‪ .‬تعرؼ؟‪ .‬ىذه المسألة ّ‬

‫دائماً نظ ّؿ نحتفظ بالصورة التي رأينا الشخص عمييا أوؿ مرة‪ ،‬أنت بالنسبة لي دائماً ذلؾ الشاب الذاىب إلى‬ ‫ٍ‬ ‫أنت‪ ،‬ليس ألنني أحتفظ‬ ‫أي‬ ‫مدينة غير ّ‬ ‫غزة‪ .‬ال‪ ،‬ال تفيمني غمط‪ ،‬أنت ما زلت كما َ‬ ‫مصر‪ ،‬الشاب الخائؼ مف ّ‬

‫بيذه الصورة لؾ‪ ،‬بؿ ألنؾ فعبلً بقيت ىكذا‪ ،‬جميبلً وطويبلً‪ ،‬ولكي أثبت لؾ ذلؾ‪ ،‬أنظر إلى رأسؾ‪ ،‬ليس فيو‬ ‫حتى اآلف شعرةُ شيب واحدة‪.‬‬ ‫أميات‪ ،‬وعرفت أبناءىـ وبناتيـ‪ ،‬لـ يكف اآلباء واألميات‬ ‫لكف األمر لـ يزؿ يحيرني يا جماؿ‪ ،‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫عرفت آباء و ّ‬ ‫بعمر أبنائيـ اليوـ‪ ،‬كانوا أصغر‪ ،‬لكنني ال أستطيع أف أرى االبف أكبر مف أبيو‪ ،‬أو البنت أكبر مف أميا‪ ،‬ميما‬

‫االبف وميما عاشت البنت‪.‬‬ ‫عاش ُ‬ ‫ابيضت عيونيـ‪ ،‬وثقؿ سمعيـ‪،‬‬ ‫دائماً يظموف أصغر‪ .‬حتى لو غطّاىـ‬ ‫وىر شعرىـ و ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشيب وانحنت ظيورىـ ّ‬ ‫يظمّوف أصغر‪ ،‬ىؿ الحظت ذلؾ؟‬

‫أي‬ ‫أنا نفسي‬ ‫ُ‬ ‫قابمت أناساً يا جماؿ‪ ..‬زماف‪ ،‬كانوا أكبر مني قميبلً‪ ،‬أو كثي ارً‪ ،‬لكنيـ ماتوا‪ ،‬استشيدوا‪ ،‬رحموا‪ ،‬أو ّ‬ ‫ٍ‬ ‫شيء تريده‪ ،‬واليوـ أصبحت أكبر منيـ بكثير‪ ،‬لكنني لـ أزؿ أراىـ أكبر مني‪ ،‬كما رأيتيـ أوؿ مرة‪.‬‬ ‫ستضيعني بيذا الكبلـ!‪.‬‬ ‫جماؿ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ستجعمني أنسى‪.‬‬ ‫لقد رأيتيا‪.‬‬ ‫أف ِ‬ ‫أباؾ في السجف منذ عشريف سنة‪،‬‬ ‫قمت ليا‪ ،‬يا رندة يا حبيبتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أعرؼ ّ‬ ‫لسو بتسألني ميف ؟ رندة! ُ‬ ‫ميف ؟ ّ‬

‫يجب أف تسير ىنا‪ ،‬رغـ ك ّؿ شيء‪ .‬قد ال أكوف قمت ليا ذلؾ‪ ،‬ولكني ال أكذب عميؾ‪ ،‬فمو رأيتيا‬ ‫لكف الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يذىب أىؿ العريس‬ ‫عمي أف أقوليا‪ ،‬لكني‬ ‫سأقوؿ ليا ىذه الكممات كممة كممة‪ .‬كاف‬ ‫رحت مرتكبة‪ .‬دائماً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫شموؾ‪ ،‬أف يقولوا كبلماً ال يميؽ‪ ،‬وأنا أخاؼ مف‬ ‫فأنت تعرؼ‪ ،‬أسوأ شيء أف يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقدموف خطوةً ويؤخروف خطوة‪َ ،‬‬ ‫أف المسألة كانت مختمفة‪ ،‬فحيف يطمب‬ ‫شيء كيذا‪.‬‬ ‫أنسيت ما الذي فعمو أبي بنا‪ ،‬حيف رفض طمبؾ؟ صحيح ّ‬ ‫َ‬

‫فإف االثنيف معاً يشعراف باليواف ذاتو‪ ،‬ولكف المسألة أعقد‬ ‫شاب يد بنت يحبيا وتكوف تحبو ويرفض طمبيما ّ‬


‫أف لميس ظمّت دائماً‬ ‫سر‪ ،‬رغـ ّ‬ ‫ىنا‪ ،‬نعـ أعقد‪ ،‬صحيح أف لميس وصالح يحباف بعضيما‪ ،‬والمسألة مش ّ‬ ‫الحؽ‪،‬‬ ‫لكف الصعب أف رندة أكبر مف لميس‪ ،‬صحيح أكبر بخمس دقائؽ ال غير‪ ،‬ولكنيا أكبر‪ ،‬وليا‬ ‫ّ‬ ‫متكتّمة‪ّ ،‬‬

‫أحد بالقوؿ‪،‬‬ ‫في نظر أميا وأبييا وأخوييا أف تتزوج أوالً‪ ،‬لذلؾ‬ ‫جرحيا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أحببت أف أتحدث مع رندة أوالً‪ ،‬حتى ال ُي ّ‬ ‫زوجت أختيا وىي التي أعطت الوعد‬ ‫تزوجت أختؾ الصغيرة قبمؾ‪ .‬فيمتني؟ حتى‬ ‫تحس أنيا ىي التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد ّ‬ ‫ثـ عميؾ أف تتذكر أنيا صاحبتي‪ ،‬صحيح أنني لـ أزؿ أراىا كما رأيتيا أوؿ مرة وىي تختبئ خمؼ‬ ‫بالزواج‪ّ .‬‬ ‫إلي كأنني آثار الحكيـ‪ ،‬أعرؼ أنني لـ أقؿ لؾ ىذا الكبلف‪ ،‬لكنو أسعدني كثي ارً‪ ،‬لـ أقمو لؾ حتى‬ ‫أميا‪ ،‬وتتطمع ّ‬ ‫ال تعتقد أنني شايفة حالي!!‬

‫أقسـ باهلل العظيـ عشر مرات‪ ،‬ال بؿ‬ ‫أريد أف أقوليا‪ ،‬ولكف‬ ‫ما الذي فعمتو يا جماؿ؟ ىا قد قمتيا لؾ وأنا ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ثماني عشرة مرة‪ ،‬بعمر ابننا في صباحو ىذا‪ ،‬أنني لـ أقصد أف أقوليا لؾ‪.‬‬ ‫صدقتني؟‪ .‬حبيبي!‪.‬‬ ‫خبلص‪ّ ،‬‬ ‫كنت أقولو؟‪.‬‬ ‫ما الذي ُ‬ ‫تصور أف رندة‬ ‫عمي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتصور ‪-‬واإلنساف يبقى إنساناً في النياية‪ّ -‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت أقوؿ يا جماؿ‪ ،‬إف المسألة صعبة ّ‬ ‫أخذت عمى خاطرخا‪ ،‬وقالت لي‪ :‬كنت أعتقد أنني أنا صديقتؾ المفضمة‪ ،‬وانؾ تحبينني أكثر‪ ،‬و ِ‬ ‫أنؾ حيف تفكريف‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫مصيبة ىذه التي سأقع فييا‪ ،‬حيف ال أجد كبلماً أفسر ليا‬ ‫أي‬ ‫تصور ّ‬ ‫بعروس البنؾ‪ ،‬لف تجدي أفضؿ مني‪ّ .‬‬ ‫األمر بو‪.‬‬

‫حب‬ ‫الصحيح‪ ،‬ما في أفضؿ منيا‪ ،‬أقوؿ لؾ ىذا بصوت منخفض حتى ال يسمعني صالح‪ ،‬لكف الوالد وقع في ّ‬

‫لميس مف ‪ ،....‬ال لف أقوؿ ذلؾ‪ ،‬ال لف أقوؿ‪.‬‬ ‫زعمت؟‪ .‬خبلص‪ ،‬سأقوليا لؾ‪!.‬‬

‫عرفت؟ ال أتذكر أنني قمتُيا لؾ‪ ،‬ومف‬ ‫تقولي لي‪ :‬مف أوؿ ىبة ىواء أطارت الفستاف؟‪ .‬مف قاؿ لؾ ذلؾ؟‪ .‬كيؼ‬ ‫ْ‬ ‫تجر وقاليا لؾ‪ ،‬ولكنو لـ يقميا لي وأنا أمو!! ال ‪ ،‬ال‬ ‫المستحيؿ أف يقوليا الولد! ىؿ مف المعقوؿ أف يكوف قد ّأ‬

‫جد‪.‬‬ ‫يمكف‪ ،‬فحيف يصؿ األمر إلى ىبة اليواء التي أطارت الفستاف‪ ،‬أي فستاف‪ ،‬فإف األمر يتحوؿ إلى أكثر مف ّ‬ ‫يكوف الولد قد كبر دوف أف أنتبو‪ ،‬كبر الولد وأصبح‪ ،‬ماذا أقوؿ‪ ،‬أصبح عريساً‪ ،‬دوف أف أنتبو‪.‬‬ ‫تطور!‬ ‫لكف الحب لـ يبدأ‪ ،‬عمى أي حاؿ مف ىاف‪ ،‬بدأ قبؿ زمف طويؿ‪ ،‬ىنا يمكف أف أقوؿ أنو ّ‬ ‫ألـ أقؿ لؾ يا جماؿ‪ ،‬إننا نحتفظ بالصورة األولى عف الناس الذيف نعرفيـ‪ ،‬والصحيح‪ ،‬ىا قد المثؿ الصحيح‪،‬‬ ‫المثؿ الذي ال مثؿ بعده‪ ،‬أوالدنا ‪ ..‬أوالدنا يا جماؿ‪ ،‬أوالدنا الذيف يظموف في أعيننا أوالداً‪ ،‬أوالنا الصغار الذيف‬ ‫ال نتصورىـ كبا ارً ميما كبروا‪.‬‬


‫فيمتني اآلف‪.‬‬ ‫جدة‪ ،‬وتصبح جداً‪ ،‬ولكننا لف نصدؽ أنو‬ ‫طبعاً‪ .‬غداً‬ ‫سنزوجو‪ ،‬ويكوف لو أوالد‪ ،‬قوؿ‪ :‬إف شاء اهلل‪ ،‬وأص ِب ُح ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصبح أباً‪ ،‬كما لف يصدؽ أحد يعرفنا مف زماف أننا أصبحنا جداً وجدة‪.‬‬

‫يحبوف اآلخريف عمى الصورة التي رأوىـ عمييا أوؿ مرة‪ .‬نعـ‪ .‬ما ىو السبب في رأيؾ؟ أنا‬ ‫كؿ الناس يا جماؿ ّ‬

‫أقرقع رأسؾ بيذا الكبلـ‪ ،‬ولكنني أظف‬ ‫يحيرني ىذا األمر كثي ارً‪ .‬طبعاً ‪ ،‬أنا ال أف ّكر في ىذا ليؿ نيار‪ ،‬وال أريد أف‬ ‫َ‬ ‫أف الناس يحبوف مف أحبوا عمى تمؾ الصورة التي رأوىـ بيا أوؿ مرة‪ ،‬ألنيـ يعرفوف في قرارة أنفسيـ‪ ،‬كما‬

‫يقاؿ‪ ،‬أف ىؤالء الناس سيتغيروف‪ ،‬وأنيـ لف يكونوا أولئؾ الناس الذي عرفوىـ‪ ،‬ولذلؾ يكونوف مضطريف‬ ‫لبلحتفاظ بالصورة األولى‪.‬‬ ‫أف اإلنساف آلة تصوير! نعـ‪ ،‬آلة تصوير‪ .‬ىا‬ ‫عمي! لقد فكرت في المسألة كثي ارً جداً‪ ،‬وأدركت أخي ارً ّ‬ ‫ال تضحؾ ّ‬ ‫أنت تضحؾ‪ .‬تضحؾ! ال تريدني أف أنيي كبلمي‪ .‬ببلش‪ .‬خمص‪ .‬لف أتكمـ‪.‬‬ ‫قد عقمي؟‬ ‫عمي؟ ىؿ تجاممني إذف؟ تأخذني عمى ّ‬ ‫أتعني أنؾ فعبلً ال تضحؾ ّ‬ ‫إف عقمي كبير‪ .‬وال يمكف أف يكوف أقؿ مف ذلؾ؟ لكف الفكرة عجيبة‪ .‬طبعاً عجيبة‪ ،‬ولماذا أقوليا لؾ؟‬ ‫تقوؿ لي‪ّ :‬‬ ‫عمي اف أثرثر فقط! أف أقوؿ كبلماً يسوى‪ ،‬وكبلماً ما يسواش‪ ،‬وأنا أتحدث معؾ؟!‬ ‫ىؿ ّ‬ ‫تجاممني‪ ،‬أـ تقوؿ الصدؽ‪ .‬ك ّؿ كبلمي يسوى‪.‬‬ ‫شك ارً‪.‬‬ ‫وحتى المي ما يسواش؟‬ ‫أحدثؾ‪ ،‬وأنت تعرؼ أنني فعمتيا‪،‬‬ ‫وبقيت أياماً‬ ‫أحدثؾ‪ .‬لف ّ‬ ‫ماذا تقصد؟ ىا قد عدنا لمبداية‪ ،‬سأزعؿ واهلل‪ ،‬ولف ّ‬ ‫ُ‬

‫تعد تسمعني! تمؾ غمطة لف أعيدىا‪ ،‬لـ أعيدىا أبداً‪ ،‬ال أقطع ىذا‬ ‫طويمة ال أحدثؾ‪ ،‬حيف‬ ‫ُ‬ ‫فيمت خطأ أنؾ لـ ُ‬ ‫الوعد حتى أرضيؾ‪ ،‬ال‪ ،‬بؿ ألنني فقط لف أعيدىا‪.‬‬

‫أتريدني أف أكمؿ؟‬ ‫نتحدث‪ .‬ذ ّكرتني‪ ،‬عف اإلنساف باعتباره آلة تصوير‪.‬‬ ‫أي شيء كنا ّ‬ ‫ولكف‪ ،‬عف ّ‬ ‫اإلنساف آلة تصوير بالتأكيد‪ ،‬وال يمتقط لكؿ شيص يعرفو سوى صورة واحدة‪ .‬طبعاً‪ ،‬ال أحد يعرؼ طوؿ‬ ‫نعـ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أظف‪ ،‬واهلل أعمـ‪ ،‬أنو فيمـ يطوؿ ويقصر حسب إقباؿ اإلنساف عمى‬ ‫الفيمـ الموجود داخؿ الواحد منا‪ ،‬لكنني ّ‬

‫الحياة أو إدباره‪ .‬حسب االستعماؿ يعني‪ ،‬فما دمت تستعمؿ عينيؾ جيداً‪ ،‬وىكا تقوماف‪ ،‬ىنا‪ ،‬بدور العدسة‪،‬‬ ‫يمتد ليكوف قاببلً الحتضاف صور أخرى‪.‬‬ ‫فإف الفيمـ الذي في داخمؾ ّ‬ ‫ّ‬


‫بعضا لناس تعجبيـ بعض الصور فيكبرونيا‪ ،‬ويضعونيا عمى حوائط بيوتيـ‪ ،‬أعني الصور التي يمتقطونيا‬ ‫بكاميراتيـ العادية‪ ،‬ولكف صدقني سيأتي ذلؾ اليوـ الذي باستطاعتؾ فيو أف ترى صورتؾ داخؿ الشخص الذي‬ ‫تصدؽ كبلمي ىذا‪ ،‬فإنؾ ستصدقيا‪ ،‬أل ّنؾ‬ ‫أظف أف فيروز سبقت زمانيا‪ ،‬سبقتو بكثير‪ ،‬واذا لـ ّ‬ ‫يحبؾ‪ .‬وفي ىذه ّ‬ ‫تحب أغانييا كميا‪ ،‬أليس كذلؾ؟ فيي الوحيدة التي غ ّنت‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫دقّت عمى قمبي وقاؿ لي افتحو‬ ‫تا شوؼ قمبي إف كاف بعده مطرحو‬ ‫اهلل ‪ ،‬اهلل !!‬ ‫حب لكي أقمؿ مف‬ ‫ألؼ مرة قمت لي‪ ،‬عجيب يا آمنة‪ ،‬ك ّؿ أغانييا حموة‪ ،‬أتمنى العثور عمى أغنية واحدة ال تُ ّ‬

‫حبي بيا‪ ،‬ولكنيا كاممة‪ ،‬ىؿ تعتقديف أنيا كاممة ألنني أحبيا‪ ،‬أـ أنيا كاممة ألف أغانييا كذلؾ؟‬ ‫ابتعدنا مرة ثانية!‬

‫أريد أف أقوؿ لؾ‪ ،‬لسنا آالت تصوير فقط‪ ،‬بؿ معامؿ تصوير غريبة عجيبة‪ ،‬ألنني ال أخفيؾ‪ ،‬حيف ذىبت‬ ‫كنت ُ‬ ‫ُ‬ ‫اليوـ لطمب يد لميس‪ ،‬رأيت رندة عمى الصورة التي التقطتيا ليا عدستاي‪ ،‬أعني الصورة التي رأيتيا عمييا‬

‫إلي باعتباري ‪ ...‬ياعتباري تمؾ الممثمة‬ ‫أوؿ مرة‪ :‬البنت الصغيرة التي تختبئ وراء أميا‪ ،‬وخي تختمس النظر ّ‬ ‫فكرت أف أعود‪ .‬وأنت تعرؼ أف الفرؽ في العمر بينيما خمس دقائؽ‪،‬‬ ‫قمت لؾ اسميا!! وىكذا‪ ،‬لمحظة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التي ُ‬ ‫كما أنيما الخالؽ الناطؽ زي بعض‪ ،‬يعني حبة فوؿ وانقسمت‪.‬‬

‫أظف أف عمينا مف اآلف أف نكوف جاىزيف لمفرح‪ ،‬أسوأ شيء أف يباغتؾ الفرح رغـ أنؾ تنتظره مف زمف‬ ‫ولكف‪ّ ،‬‬ ‫طويؿ‪.‬‬ ‫أليس ذلؾ عجيباً يا جماؿ‪ ،‬أليس عجيباً أف الفرح يباغتنا دائماً؟‬ ‫أتعرؼ لماذا؟‬ ‫ألف اإلنساف يش ّؾ في الدنيا‪ ،‬اإلنساف ش ّكاؾ يا جماؿ‪ ،‬واسمح أف أقوؿ بأنو مراوغ‪ ،‬نعـ مراوغ‪ .‬كممة‬ ‫ببساطة ّ‬

‫كبيرة ىذه؟ أعرتؼ‪ ،‬نعـ كممة كبيرة!‪.‬‬

‫اإلنساف يراوغ‪ ،‬أتعرؼ لماذا؟ حتى ال يفقد الدىشة‪ .‬فقط حتى ال يفقدىا‪.‬‬ ‫لست فيمسوؼ وال بطيخ!! منذ مدة تقوؿ لي ىذا الكبلـ وتعيده‪ ،‬لكنني أحب أف أقوؿ لؾ‪ ،‬إنني لـ أكف أرى‬ ‫ُ‬ ‫تماماً يعني ببساطة‪ ،‬عدساتي كاف عمييما الكثير مف الغبار‪.‬‬


‫اآلف‪،‬‬ ‫لست أدري إف كنت أفضؿ مف آمنة القديمة أـ ال‪ .‬لكف الذي يؤكد لي أنني أفضؿ‪ ،‬إحساسي‬ ‫أنا آمنة أخرى‪،‬‬ ‫ُ‬

‫تحبني اآلف أكثر!‪.‬‬ ‫بأ ّنؾ‪ ،‬رغـ قمة كبلمؾ في الفترة االخيرة‪ّ ،‬‬


)Ù˜(


‫وجود آمنة في البيت المجاور‪،‬‬

‫الكثير‬ ‫غير‬ ‫َ‬ ‫وغيرنا‪ ،‬أنا وأختي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ضيؽ الفارؽ‬ ‫أختي التي‪ ،‬ودوف ّ‬ ‫مقدمات تخّمت عف نصفيا صديقاتيا مف أجؿ أف تكوف إلى جانب آمنة‪ ،‬وىذا ّ‬ ‫أف شيئاً لـ يتغير في‬ ‫الكبير بيننا مف حيث عدد الصديقات‪ ،‬وجعمني أبدو في‬ ‫عيني أمي أق ّؿ عزلة‪ ،‬مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقة‪.‬‬ ‫أقؿ‬ ‫يظف أنيا قابمة لمتحقؽ‪ ،‬إذ غدت المقبلة تحتي ّ‬ ‫أما أنا‪ ،‬فقد حدث وأف تحققت المعجزة التي لـ يكف أحد ّ‬ ‫سخونة‪ ،‬بحيث أصبح بإمكاف أمي أف تبحث عني وتجدني في ِ‬ ‫بيت آمنة‪.‬‬ ‫غالباً ما كنا ننتظرىا عند بوابة البيت‪ ،‬في وقت عودتيا مف عمميا مف مركز تأىيؿ المصابيف الذي قادتيا‬ ‫شيادتيا الجامعية في عمـ النفس إليو كمشرفة‪ ،‬مف طرؼ الشارع تطؿ حزينة دائماً‪ ،‬لكنيا ما إف ترانا‪ ،‬حتى‬ ‫تنشر ابتساماتيا التي عرفناىا بيا‪.‬‬ ‫كاف عمي أف أنتظر زمناً طويبلً كي أدرؾ حجـ األسى الذي تدفنو في عتمة داخميا‪.‬‬ ‫ ليس ىناؾ أكثر إيبلماً مف أف ترى طفبلً يتألـ‪ ،‬طفبلً تعرؼ أنو لف يمشي‪ ،‬طفبلً لف يعرؼ إلى األبد ما‬‫سيحدث غداً‪ ،‬في ىذه الدنيا‪ ،‬طواؿ حياتو‪.‬‬ ‫ألف آمنة لـ تعترض عمى‬ ‫حيف تنتبو أمي لوجودنا تطمب منا الخروج لمعب‪ ،‬فنخرج‪ ،‬ال ألنيا طمبت ذلؾ‪ ،‬بؿ ّ‬ ‫ذلؾ الطمب‪ ،‬ويكوف ىذا كافياً إلفيامنا أف ىذا الوقت ليما‪ .‬لكننا لـ نكف نبتعد‪ ،‬نجمس عند العتبة‪ ،‬أو نسند‬ ‫ظيرينا إلى النخمتيف الوحيدتيف في حوش بيتيا‪ ،‬أختي تسند ظيرىا لمنخمة الصغيرة وأنا لمنخمة الكبيرة‪ ،‬وننتظر‬ ‫األوامر‪.‬‬ ‫ىكذا أصبحنا نسمي طمبات أمي‪.‬‬

‫‪ -‬مف الصعب أف تجد القدرة في نفسؾ عمى الوقوؼ منتصباً وأنت ترى ما تراه‪.‬‬


‫كاف عمييا الذىاب كثي ارً إلى المستشفيات لبللتقاء باألطفاؿ المصابيف‪ ،‬واقناع بعض األىؿ الذيف لـ يكونوا‪،‬‬ ‫غالباً‪ ،‬يقبموف وضع أبنائيـ تحت رعاية خاصة‪.‬‬

‫‪ -‬يقتمؾ أف ىذا العدد اليائؿ مف األطفاؿ لف يروا الشمس‪.‬‬

‫الرصاصات التي كانت تطاؿ عيوف األطفاؿ بالذات‪ ،‬كانت تعذبيا أكثر‪ ،‬وكانت اإلصابات تزداد‪ ،‬وفي لحظات‬ ‫تتحدد كما لو أنيا في مكاف آخر‪ ،‬تقوؿ‪:‬‬ ‫ حيف أسير في الشارع أظؿ أتمفّت أمامي‪ ،‬حولي‪ ،‬باحثة عنيا‪ ،‬عيونيـ!‪.‬‬‫أقو ُؿ لع ّؿ واحدة سقطت ىنا‪ ،‬ويفزعني تناثر األلواف عمى بعض الجدراف‪ ،‬فأقوؿ لعميا عيونيـ‪ .‬باألمس جاؤوا‬ ‫بعيوف زجاجية‪ ،‬عيوف خضراء‪ ،‬وزرقاء‪ ،‬وبنية ‪ ،‬وعسمية‪ ،‬وسوداء‪ ،‬عيوف صغيرة‪ ،‬وكبيرة‪ ،‬عيوف ميتة‪.‬‬ ‫عت ‪.‬‬ ‫فز ُ‬ ‫وقمت لعميا بعض عيوف ىؤالء األطفاؿ‪ ،‬يقتمعونيا وبعد أف يسرقوا الحاة منيا يعيدونيا إلييـ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أحد األطفاؿ اقترح أف يغمض كؿ طفؿ عينو الباقية ويتناوؿ عيناً عف الطاولة‪ .‬رفضنا ذلؾ‪ ،‬رفضنا‪ ،‬ولكنيـ‬ ‫ُ‬ ‫لكف األمر تحوؿ إلى مأساة‪ ،‬حيف فتح األطفاؿ‬ ‫أخذوا يبكوف‪ ،‬وصرخ أكثر مف واحد منيـ‪ :‬ىذا عدؿ! فقبمنا‪ّ ،‬‬

‫عيونيـ ورأينا عيناً خضراء إلى جوار عيف سوداء‪ ،‬وعينا عسمية إؿ جوار عيف زرقاء ‪ ..‬ضحكوا في البداية ‪،‬‬ ‫تماسكت قدر‬ ‫لكنيـ راحوا يبكوف بفزغ كما لو أنيـ التقوا فجأة بوحوش صغيرة تسكنيـ دوف أف يدروا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وصحوت مف نومي أكثر فزعاً !‬ ‫استطاعتي‪ ،‬جمعنا العيوف‪ ،‬أخرجنا األوالد مف الصالة‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪ ..‬ولكف‪،‬‬ ‫ما الذي ُيمكف أف تفعميو حيف تقوؿ لؾ بنت لـ تبمغ الثامنة مف عمرىا فجأة وىي تصرخ‪ :‬ىذه عيوف ميتة‪،‬‬

‫وأنا أريد عيني الحقيقية‪ ،‬أريدىا اآلف‪ ،‬اآلف!‪.‬‬

‫ِ‬ ‫أمامؾ غير قادرة عمى السيطرة عمى أعضائيا المرتجفة‪ ،‬تفرفط كجناحي عصفور مذبوح؟‪.‬‬ ‫وتسقط‬

‫** *** **‬


‫ايد أوامر حظر التجوؿ‪ ،‬كانا سببيف كافييف لكي يجعبل‬ ‫اعتقا ُؿ جماؿ الذي لـ يفرح برية ابنو سوى شيريف‪ ،‬وتز ُ‬ ‫شباؾ الغرفة المط ّؿ عمى حوش آمنة‪ ،‬إلة درجة أنيا جعمتنا‬ ‫أمي تنسى وجودنا ذات يوـ‪،‬‬ ‫تأمؿ ّ‬ ‫ُ‬ ‫وتذىب في ّ‬ ‫ّ‬

‫أحد سواىا‪ .‬وحيف سألتيا‪ :‬شو في؟‬ ‫أف ثمة شخصاً يقؼ خمفيا‪ ،‬ال يراه ٌ‬ ‫نحس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ترد‪.‬‬ ‫لـ ّ‬ ‫وسألتيا ثانية‪ ،‬وعدىا انتبيت‪ .‬قالت‪:‬‬

‫سأحوؿ ىذا الشباؾ إلى باب‪ .‬ليس مف الضروري أف أدور مف باب حوشنا إلى باب حوش آمنة كي أصؿ‬ ‫‬‫ّ‬

‫بيتيا أو تصؿ بيتنا‪.‬‬

‫أصر أنو لي ‪ ،‬وىي تصر أنو ليا‪ ،‬بمجرد أف‬ ‫كنا كبرنا قميبلً‪ ،‬ولـ نعد نتشاجر كثي ارً بسبب اسميا الذي ُ‬ ‫كنت ّ‬ ‫اكتشفنا أنو أحمى مف االسـ اآلخر‪ ،‬أو بسبب صالح‪ .‬ىذا الشجار الذي لـ يكف يتوقؼ حوؿ مف سترعاه منا‪.‬‬

‫والحقيقة أف أختي لـ تعد ميتمة بوجود لعبة حية ليا‪ ،‬ألنني اكتشفت أف عدد صديقاتيا يتضاءؿ‪ ،‬وأف ولداً‬ ‫واحداً يسكف بجانب دكاف (المغربي) قد احت ّؿ مكاف أربع بنات ُك ّف ال يفارقنيا‪.‬‬ ‫لكف‪ ،‬سأعترؼ أف صالح كاف يحبيا أكثر مني‪ ،‬رغـ أنني ال أعرؼ كيؼ كاف يفرؽ بيننا‪ ،‬وحيف أصبح لو‬ ‫لساف مثؿ ألسنة البشر‪ ،‬كاف السؤاؿ الوحيد الذي ال يك ّؿ ترديده‪ :‬متى تعود لميس ؟‬ ‫فأقوؿ لو‪ :‬أنا لميس‪.‬‬ ‫ ال‪ِ ،‬‬‫أنت لميس األخرى‪.‬‬ ‫سؤالو ىذا كاف كافياً إلحداث ارتباكات كثيرة في حياة لميس‪ ،‬فبمجرد أف تسمعو أمي‪ ،‬تصرخ في وجيي‪،‬اذىبي‬ ‫وفتّشي لي عف أختؾ المفعوصة‪ ،‬وىاتييا فو ارً‪.‬‬ ‫ رندة ؟‪.‬‬‫بدؾ تج ّننيني؟!‬ ‫ أل لميس‪ّ ،‬‬‫عندىا أراه يبتسـ‪ ،‬أرى صالح يبتسـ ‪ ،‬صالح الذي أصبح يدرؾ أفضؿ الطرؽ وأقصرىا الستعادتيا مف الشوارع‬ ‫وىو في مكانو‪.‬‬ ‫ذلؾ لـ يحدث بيف ليمة وضحاىا‪ ،‬فقد ضاع الولد مرتيف‪ ،‬وفي المرة الثالثة فقدنا األمؿ في العثور عميو‪ ،‬وفي‬ ‫كؿ مرة كنا نسألو‪ :‬ما الذي جاء بؾ إلى ىنا؟‪.‬‬


‫أدور عمى لميس!‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬

‫ذات ٍ‬ ‫بدؾ؟؟‬ ‫يوـ وقؼ عمى الباب ونادى‪ ،‬لميس‪ ،‬لميس‪ .‬وكانت تحدث سامر‪ ،‬فتى أحبلميا‪ .‬وحيف أجابت‪ :‬شو ّ‬ ‫بحبؾ!‪.‬‬ ‫بحبؾ يا لميس! ّ‬ ‫قاؿ ليا‪ّ :‬‬ ‫تحدثني بعد اعتراؼ صالح المجمجؿ ذاؾ‪ ،‬كانت عمى يقيف مف أنني مف دفعتو لقوؿ ما قالو‪:‬‬ ‫أسبوعاً كامبلً لـ ّ‬ ‫ومف أيف لولد بيذا العمر أف يقوؿ شيئاً كيذت لو لـ توضع الكممات كممة كممة في فمو؟‪.‬‬ ‫الحقيقي كاف‬ ‫وتمر أياـ أخرى قبؿ أف أدرؾ أف االحراؾ‬ ‫وأقسـ ليا‪ ،‬أف ليس لي عبلقة باألمر‪ ،‬فبل‬ ‫ّ‬ ‫تصدقني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫لسامر‪ ،‬وليس ليا‪ .‬إذ ارتفع صوت أوالد الحارة الذيف أصبحوا يقولوف لو‪ :‬الناس في إيش‪ ،‬وانت في إيش‪،‬‬ ‫بتحب !‪.‬‬ ‫الناس بتموت وانت‬ ‫ّ‬ ‫أف سؤالو عنيا لـ يعد يأتي بيا إليو‪ ،‬التجأ إلى‬ ‫لكف صالح‪ ،‬بمغة ّ‬ ‫صعد األمر أكثر‪ ،‬فحيف أدرؾ ّ‬ ‫غزة ىذه األياـ‪ّ ،‬‬ ‫صب‬ ‫وسائؿ أخرى أقوؿ‪ :‬ذات مرة أحضرت أمي الشاي مف بيتنا لنشربو في بيت آمنة‪ ،‬وعندما ناتيت مف ّ‬ ‫الشاي في الكاسات‪ /‬تناوؿ صالح واحدة‪ ،‬وتناولت أمي واحدة‪ ،‬وتناولت أمي واحدة‪ ،‬وتناولت آمنة واحدة‪ ،‬وما‬ ‫أصرت آمنة أف آخذىا‪ ،‬فاندفع وأمسؾ "الكاسة"‪ ،‬في الوقت‬ ‫إف مددت يدي حتى صرخ بي‪ :‬ال! ىذه لمميس‪ّ .‬‬ ‫الذي كانت فيو يده األخرى تثبض عمى الثانية‪ .‬ساخناً كاف الشاي‪ .‬رجتو أمي أف يضع ما في يديو عمى‬ ‫األرض‪ ،‬لكنو رفض وتراجع خطوات‪ ،‬كاف أشبو بقطة أنشبت مخالبيا في اليواء‪ ،‬بعد قميؿ رأينا دموعو تتدفؽ‬ ‫مف عينيو بسبب األألـ الذي تسببو لو سخونة الشاي‪ ،‬وخشينا أف نقترب منو فيندلؽ الشاي عمى جسمو‪،‬‬ ‫فبقينا بعيديف‪.‬‬ ‫لـ تشرب آمنة الشاي‪ ،‬أو أمي‪ ،‬وبقيت في مكاني خائفة أرتجؼ ‪ ،‬وكأنني السبب‪ ،‬وظؿ ممسكاً ما بيديو حتى‬ ‫عادت أختي‪.‬‬ ‫تمؾ الميمة اندفعت أمي تضربيا بكؿ ما تطاليا أصابعيا‪ ،‬وىي تصرخ‪ :‬أنا رندة‪ ،‬لكف أمي لـ تتوقؼ إلى أف‬ ‫تعبت فجمست مصمقة ظيرىا بالجدار‪ ،‬كأنيا تدفعو لموراء‪ ،‬كما لو أنيا لو تحركت سيسقط‪ .‬ويسقط معو البيت‬ ‫كمو‪ ،‬العالـ كمو‪ ،‬وفي لحظة مف لحظات يأسيا القميمة التي كنا نراىا قالت‪ :‬يا ربي‪ ،‬ماؿ الذي فعمتو حتى تمقى‬ ‫أفرؽ‬ ‫فوؽ صدري جباؿ اليموـ ىذه‪ ،‬واحد في السجف‪ ،‬واثناف مبلحقاف‪ ،‬وبنتاف ال أستطيعُ أف أح ّكميما أو ّ‬ ‫بينيما!؟‬


‫لـ تعرؼ أختي بما حدث‪ ،‬لـ تقؿ ليا أمي شيئاً عف ذلؾ الذي فعمو صالح‪ ،‬ولـ أقؿ ليا‪ ،‬ألنني أحسست أنيا‬ ‫قد تشمت بي بعد أف ىزمتني بالضربة القاضية عمى جبية ىذا القمب الصغير ‪ ..‬لكنيا ذات يوـ ستعرؼ‪.‬‬

‫** ** **‬

‫نحف فمـ يكف يمزمنا الكثير مف الذكاء حتى نعرؼ أف حاؿ زوحيا جماؿ مف حاؿ أبينا‪ ،‬وحاؿ أخوينا المذيف‬ ‫أما ُ‬ ‫ّ‬

‫ظبل يتشاجراف كوؿ الوقت‪ ،‬واحد منيما يدافع عف تنظيمو‪ ،‬يتشاجراف دوف أف يتذك ار أف رأسييما مطموباف‬ ‫لرصاصة واحدة‪.‬‬ ‫فتتدخؿ أمي لحسـ الخبلؽ وىي تقوؿ ليما‪:‬‬ ‫مش عارؼ عمى إيش بتتقاتموا‪ ،‬ما ىو‪ ،‬إذا كنت مع حماس إسرائيؿ بتقتمؾ‪ ،‬واذا كنت مع الجياد إسرائيؿ‬ ‫بتقتمؾ‪ ،‬واذت كنت مع فتح أو الشعبية أو الديمقراطية إسرائيؿ بتقتمؾ‪ ،‬واذا كنت مع المقاومة إسرائيؿ بتقتمؾ‪،‬‬ ‫ضده إسرائيؿ بتقتمؾ‪،‬‬ ‫واذا كنت مع االستسبلـ إسرائيؿ بتقتمؾ‪ ،‬واذا كنت مع أبو عمار إسرائؿ بتقتمؾ‪ ،‬واذا كنت ّ‬ ‫واذا كنت بتفتح الشباؾ عمى شاف تشوؼ شو صاير‪ ،‬بيجي ق ّناص وبيقتمؾ‪ .‬واذا كنت ماشي في الشارع أو‬ ‫نايـ في بيتؾ وفي في حالؾ‪ ،‬بيجي صارخ مف السما وبقتمؾ!! وعمى إيش إنتو بتتقاتموا واهلل ماني فاىمة!‬

‫** ** **‬

‫لقد مضى ذلؾ الزماف الذي كانت أمي تقؿ فيو آلمنة وىي تراقبنا بطرؼ عينيا‪ :‬وجيؾ مفتح ىذا الصباح‪ ،‬ىؿ‬ ‫جاء الميندس ؟‬ ‫وتضحؾ آمنة التي بقيت عروساً في أعيننا حتى بعد أف أنجبت صالح‪ ،‬تضحؾ دوف أف تجيب‪.‬‬ ‫أـ الميندس تسمؿ إلى بيتو‪ ،‬وتعرؼ أختي سبب الضحؾ‪ ،‬فتضحؾ‪ ،‬فأقوؿ ليا زاجرة في الخارج ما‬ ‫فتعرؼ أمي ّ‬ ‫إف نصبح وحدنا‪ :‬وما الذي يجعمؾ تضحكيـ؟ الضحؾ مف دوف سبب قمة أدب‪.‬‬

‫فترد‪ :‬ذات يوـ ستفيميف‪ ،‬وعندىا ستضحكيف عمى نفسؾ ألنؾ لـ تكوني تضحكيف!‬ ‫ّ‬


‫ شو ؟‬‫‪ -‬ال شيء ‪.‬‬

‫** ** **‬

‫تظمئف عميو‪ ،‬تراقبو مف بعيد بعيني ابنة‬ ‫فجأة أصبح عمى لميس أف تبلحؽ سامر مف حاجز إلى حاجز كي‬ ‫ّ‬ ‫تحس أف الوضع أصبح أكثر خطورة‪ ،‬وأف تحذيراتيا لو تتبلشى مع‬ ‫الثالثة عشرة الممتمئتيف ىمعاً‪ ،‬وحيف‬ ‫ّ‬

‫حد أف البعض‬ ‫تصاعد صوت الرصاص‪ ،‬أو حيف يختفظو دخاف قنبمة مسيمة لمدموع‪ ،‬تخرج مف مكمنيا‪ ،‬إلى ّ‬ ‫أصبح يدعوىا "بقوات التدخؿ السريع الفمسطينية"‪.‬‬ ‫حقيقي مف أنفسنا‪ ،‬حيف استطاعت في إحدى المرات أف تحممو عمى‬ ‫لكف سخريتنا ىذه تحولت إلى خجؿ‬ ‫ّ‬ ‫ظيرىا وتجري بو بعيداً عف جنود حاجز "المنطار" الذيف اندفعوا لمقبض عميو‪ ،‬أو اإلجياز عميو‪ ،‬بعد أف أدركوا‬ ‫أنيـ أصابوه‪.‬‬ ‫تحولت لميس فجأة إلى بطمة‪ ،‬وأصبحت أكثر فخ ارً بأنني أختيا‪ .‬وؿ أجرؤ عمى سرقى نصرىا منيا‪ ،‬بحيث‬ ‫تحاشيت الدخوؿ معيا في أي معرك ًة حوؿ االسـ لزمف طويؿ‪ ،‬وقاؿ ليا صالح‪ :‬بحبؾ ألنؾ شجاعة‪.‬‬ ‫أنني‬ ‫ُ‬

‫** ** **‬ ‫ذات يوـ عادت لميس مف المدرسة‪ ،‬فوجدت صورة سامر عمى باب بيتنا‪ ،‬وفوقيا عبارة بخطّ أسود عريض‬ ‫(نعي شييد)‬

‫** ** **‬

‫ِ‬ ‫؟أردت أف أكوف أنا لميس‪ ،‬يوميف أو‬ ‫الحد الذي ال ُيحتمؿ‪ ،‬فقمت ليا‪ :‬لميس‪ ،‬إذا‬ ‫أصبحت حزينة‪ ،‬حزينة إلى ّ‬

‫ثبلثة‪ ،‬حتى تستريحي قميبلً مف أحزانؾ ىذه ‪ ،‬فسأكوف‪.‬‬

‫أريد أف أقوؿ لؾ الكبلـ نفسو‪ ،‬فأنت تبديف أكثر حزناً منب‪ِ ،‬‬ ‫ألنؾ ال تبكيف‬ ‫كنت ُ‬ ‫وقالت لي‪ُ :‬‬ ‫ُ‬


)Ù™(


‫الشيداء ال يكبروف بيذه السرعة‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫ُ‬

‫الحد‪.‬‬ ‫ال‪ .‬ال يمكف أف تكوف قد كبرت إلى ىذا ّ‬ ‫الشيداء يعودوف أطفاالً ؟‬ ‫إف‬ ‫تقو ُؿ لي ّ‬ ‫َ‬ ‫إف األطفاؿ الصغار يتحولوف إلى طيور في‬ ‫أظف ذلؾ‪ ،‬قمت لؾ ّ‬ ‫قمت ل ّؾ ىذا الكبلـ؟‪ .‬ال ّ‬ ‫ىذه ال أعرفيا‪ ،‬ىؿ ُ‬ ‫تظؿ تنادييـ‬ ‫الج ّنة‪ ،‬أما‬ ‫أكثر الناس حباً لمحرية‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الشيداء فيـ طيور الدنيا الجميمة‪ .‬أعرؼ لماذا؟ ألنيـ ُ‬

‫يجروف وراءىا‪ ،‬وألنيا تحبيـ تواصؿ المعب معيـ‪ ،‬تعمو وتيبط فيصعدوف خمفيا وينزلوف‪ ،‬يفتشوف‬ ‫وتنادييـ‪،‬‬ ‫َ‬

‫عنيا في كؿ مكاف‪ ،‬وىـ ال يعرفوف أنيا مختبئة في أجسادىـ‪.‬‬ ‫السر ‪،‬‬ ‫الجنود يعرفوف ىذا ّ‬

‫نعـ الجنود ىناؾ خمؼ الحواجز‪ ،‬في الطائرة المروحية‪ ،‬في الدبابة‪ ،‬الق ّناصوف فوؽ األبراج يعرفوف السر‪،‬‬ ‫يصوبوف نيرانيـ نحونا‪ ،‬نعـ‪ ،‬ىذا كؿ ما في األمر‪ ،‬ال يصوبوف نحونا كي يقتموننا‪ ،‬يصوبوف‬ ‫وليذا السبب ّ‬

‫نحونا كي يقتموا الحرية التي تختبئ فينا‪ ،‬الحرية التي نطاردىا طوؿ عمرنا كي نمسؾ بيا‪ .‬ىؿ فيمت ؟‪.‬‬

‫عمي يا ربي أف أواصؿ الصراخ في آذانيـ كي‬ ‫صالح‪ ،‬يا صالح! ىا قد عاد لمنوـ مف جديد! ىؿ‬ ‫ٌ‬ ‫مكتوب ّ‬ ‫يستيقظوا؟‬ ‫يا صالح‪.‬‬ ‫ما الذي تقولو يا جماؿ؟! كيؼ أتركو يوصاؿ النو‪ ،‬أشياء كثيرة تنتظر أف نقوـ بيا‪ ،‬ىؿ تعرؼ ما الذي يعنيو‬ ‫نسود وجيؾ مع الناس‪ .‬عميو أف ينيض لنذىب لشراء بدلة لو‪ ،‬بدلة‬ ‫العرس؟ يعني أف‬ ‫ّ‬ ‫نحضر لو جيداً حتى ال ّ‬

‫أخذت مقاسو لكي أشتري‬ ‫أتذكر ما الذي حصؿ قبؿ شير حيف‬ ‫تميؽ بو‪ .‬ال يمكف أف آخذ مقاسو وىو نائـ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أف آخر واحدة كنت قد اشتريتيا لو كانت أصغر مف‬ ‫بيجامة لو‪ ،‬وحيف‬ ‫عدت وجدتو قد أصبح أطوؿ؟؟! مع ّ‬ ‫ُ‬ ‫نصؼ ىذه! قمت لي يوميا‪ :‬إنؾ لـ تأخذي قياساتو بشكؿ صحيح‪ .‬ىذا ك ّؿ ما في األمر‪.‬‬

‫حممت البيجامة واستبدلتيا ببيجامة أ؟كبر‪ ،‬ما الذي حدث؟ لقد كانت البيجامة الثانية صغيرة أيضاً!‬ ‫وحيف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال‪ .‬ىذا األمر ليس في قدرتي‪ ،‬بيف ذىابي وعودتي يكوف الولد قد أصبح أطوؿ وأعرض‪ .‬أل‪ ،‬أنا ال أشكو مف‬ ‫ىذا‪ ،‬الحمدهلل عمى ذلؾ‪ ،‬ولكنني ال أستطيع أف أمضي العمر عمى الطريؽ بيف محبلت بيع المبلبس وىنا‪.‬‬ ‫صاحب المحؿ قاؿ لي‪ :‬يا أختي‪ ،‬ىذه أكبر بيجامة موجودة في السوؽ‪.‬‬


‫قمت لو‪ .‬فأ ّكد لي أنو ال يوجد لديو إال بيجامات رجالية أصبلً!‪.‬‬ ‫ أال يوجد لديؾ بيجامات رجالية؟‪ُ .‬‬‫أتيت ببيجامة كانت أصغر بكثير‪.‬‬ ‫درت ّ‬ ‫غزة كميا ذلؾ اليوـ‪ ،‬وكمما ُ‬ ‫لقد ُ‬ ‫األمر تحممتو‪ ،‬لكنني ال أستطيعُ أف أتحمؿ األمر إذا كاف متعمقاً ببدلة األعرس‪.‬‬ ‫ذلؾ ُ‬ ‫يا صالح‪،‬‬ ‫يا جماؿ‪،‬‬ ‫يا مصطفى‪ ،‬أنت خاؿ العريس‪ ،‬وعميؾ أف تذىب مع الجاىة لتطمب البنت‪ ،‬ما الذي حدث لؾ؟ ىؿ تريد أف‬ ‫ِ‬ ‫أىمس أياـ زماف‪ ،‬فأجدؾ فوؽ‬ ‫وحدؾ‪ ،‬أنت الذي لـ تتركني وحدي في أي يوـ مف األياـ؟ كنت‬ ‫تقوؿ لي اذىبي‬ ‫ُ‬

‫أعرؼ أنؾ متعب‪ ،‬مف يومؾ كنت متعباً‪ ،‬ولكف ىذا ال يبرر لؾ أف تواصؿ نوؾ‬ ‫رأسي‪ .‬وحتى قبؿ أف أىمس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كأنؾ ال تسمعني‪.‬‬ ‫بد أف آخذه‬ ‫ما أحد لي غيرؾ يا مصطفى‪ ،‬أنت خاؿ العريس‪ ،‬وصالح يحبؾ‪ ،‬انيض وقؿ لو أف ينيض‪ ،‬ال ّ‬ ‫نسيت ىذا؟ ما الذي يحدث لعقمؾ يا آمنة؟!‬ ‫معي لشراء البدلة‪ ،‬الزواج ليس مزحة‪ ،‬وىناؾ بدلة العروس‪ ،‬كيؼ‬ ‫ُ‬

‫تفكريف في بدلة ابنؾ وال تفكريف بثوب العروس التي ستغدو ابنتؾ أيضاً‪.‬‬

‫** ** **‬

‫عمي أف أستشير رندة في المسألة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سأغيب قميبلً‪ .‬سمعتـ‪ ،‬قميبلً‪ ،‬ربع ساعة‪ ،‬أو نصؼ ساعة عمى األكثر‪ّ ،‬‬ ‫يخصيف أكثر‪ ،‬ربما كاف في نفسيا فستاف عرس‬ ‫يفيمف ما‬ ‫ربما يكوف ليا رأي‪ ،‬ولتسأؿ ىي لمييس‪ ،‬البنات‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تنتظر ىذا اليوـ مف زمف طويؿ‪ .‬وبدؿ أف أدور وأدور بيف المحبلت بحثاً عف فستاف‪ ،‬قد يعجبيا‬ ‫معيف‪ .‬فيي‬ ‫ُ‬

‫نذىب معاً ونشتريو‪.‬‬ ‫وقد ال يعجبيا‪،‬‬ ‫ُ‬

‫كنت في مكاف آخر‪ ،‬وبيننا حواجز كثيرة‪ ،‬دوريات‬ ‫أنا نفسي‬ ‫فعمت ذلؾ‪ ،‬ولكنني كنت مضطرة‪ ،‬ألنؾ يا جماؿ َ‬ ‫ُ‬

‫وعزؿ مناطؽ عف مناطؽ‪.‬‬

‫لـ يتغير شيء مف يوميا‪..‬‬ ‫ولد وبنت!‪.‬‬ ‫وحبمت‬ ‫وولدت‪،‬‬ ‫حبمت‬ ‫لـ يتغير شيء‪ ،‬سوى أنني‬ ‫لدي ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وولدت ‪ ،‬و َ‬ ‫أصبح ّ‬


‫إف عرساً كعرسكما ال يمكف أف يتـ‪ .‬ما داـ العريس في منطقة والعروس في منطقة‪ ،‬وما‬ ‫يوميا قالوا لي ّ‬ ‫بينيما كؿ ىذه القوات‪.‬‬

‫أيت أكثر مف عروس تعبر الحواجز‪ ،‬والجنود ينظروف إلييا مف خمؼ أكياس الرمؿ ‪،‬‬ ‫قمت ليـ‪،‬‬ ‫بعيني ىاتيف ر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫لبست ثوبي األبيض‪ ،‬أعادوني‪ .‬قاؿ لي‬ ‫فعمت‪ ،‬حيف‬ ‫مثميف‪ .‬وحيف‬ ‫ومف طاقات أبراج الدبابات‪ .‬وسأفع ُؿ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الجندي‪ :‬أعراس ما في!‪ .‬أعراس ممنوع!‬

‫ات تمنعونيا أيضاً حيف يكوف بإمكانكـ فع ُؿ ذلؾ‪ ،‬ال تريدوف أف‬ ‫فقمت ليـ‪ :‬وما ىو المسموح ىنا؟! حتى الجناز ُ‬ ‫ُ‬ ‫نزؼ ال في أعراسنا وال في جنازاتنا‪.‬‬

‫لوحت لؾ عمى الجية األخرى لمحاجز‪ ،‬لوحت لي‪ ،‬وتفرقنا‪.‬‬ ‫ثبلثة أياـ كاممة لـ يتوقؼ فييا بكائي‪ ،‬إلى أف جاءني الخبر منؾ يا جماؿ‪ ،‬فقمت لي إبقى في مكانؾ‪ ،‬أنا الذي‬ ‫سيأتي‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬دخيمؾ!! أب شيء ماعدا ىذا‪ ،‬أتريدىـ أف يقتموؾ؟ أتتذكر أـ محمد تمؾ التي حدثتؾ عنيا‪ ،‬تمؾ المرأة التي‬ ‫ذىبت ألبارؾ ليا بزفاؼ إبنيا‪ ،‬واستقبمتني أماـ الباب كما استقبمت غيري‪ ،‬وىي تزغرد وتغني‪ ،‬وحيف راحت‬ ‫قمت في نفسي ىذا البكاء ليس بكاء فرح يا آمنة‪ .‬وكأف المرأة التي بجانبي سمعتني‪ ،‬فقالت لي‪ :‬لقد‬ ‫تبكي ُ‬ ‫االنتظار قميبلُ‪ ،‬يوماً واحداً‪ ،‬يوميف؟‬ ‫تصور!! ألـ يكف بإمكانيـ‬ ‫استشيد قبؿ ساعتيف‪ .‬قبؿ ساعتيف مف عرسو ّ‬ ‫ُ‬ ‫أقؿ‪ ،‬أقؿ بواحد فقط ال غير‪ ،‬ىؿ بذلؾ سيختفي ىذا‬ ‫ما الذي كاف سيحدث إذا كاف عدد الناس الذيف قتموىـ ّ‬

‫الجحيـ الذي زرعوه فوؽ رؤوسنا ويسقونو بالرصاص والقنابؿ ويحرسونو باالطائرات منذ خمسيف عاماً وأكثر؟‬ ‫ُ‬ ‫ىؿ سييجر النوـ أعينيـ وتؤنبيـ ضمائرىـ ألنيـ لـ يقتموا كما عمييـ أف يقتموا؟‬ ‫ال‪ ،‬ال أريد أف تأتي‪.‬‬ ‫وطمأنوني‪،‬‬ ‫قالوا سنحضره في سيارة إسعاؼ‪ ،‬اطمئ ّني‪.‬‬ ‫أطمئف‪ ،‬أال يفتشوف سيارات اإلسعاؼ؟ أال يطمقوف النار عمييا؟‪.‬‬ ‫كيؼ‬ ‫ّ‬ ‫سنجد طريقة‪.‬‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مت قبؿ‬ ‫لترم ُ‬ ‫لقد َ‬ ‫كمف يا جماؿ عمى مسافة قريبة مف االحجاز‪ ،‬ولوال رحمة ربنا ألصابؾ ما أصاب ذلؾ العريس‪ّ ،‬‬ ‫أف أتزوج‪.‬‬

‫صمت طويبلً يوميا عمى الطرؼ الثاني‪.‬‬ ‫ّ‬


‫قمت لي‪ :‬كيؼ لـ أفكر بذلؾ؟ ىؿ ِ‬ ‫أنت عمى استعداد‬ ‫إلي أنو العمر كمو‪َ ،‬‬ ‫ألو‪ ،‬ألو‪ُ ،‬‬ ‫رحت أصرخ‪ .‬وبعد زمف ّ‬ ‫خيؿ ّ‬ ‫أف تتزوجي مف شييد؟‬ ‫الكبلـ الذي تقولو‪ ،‬ىؿ جننت؟ أريدؾ حياً‪ ،‬وحياً‪.‬‬ ‫ما ىذا‬ ‫ُ‬ ‫فقمت ‪ :‬الشيداؤ أحياء أيضاً‪ ،‬أليس كذلؾ؟ فقمت لؾ‪ :‬نعـ أحياء‪ ،‬ولكنني أريدؾ كماف أنت اآلف‪ ،‬حياً كما أنت‬ ‫اآلف‪ ،‬وليس حياً كشييد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مساء سنكوف عندكـ‪ ،‬العيمة‬ ‫ اطمئني‪ ،‬اطمئ ّني‪ .‬لف أسمح ليـ أف‬‫يجعموؾ تنتظريف أكثر مف ىذا‪ .‬غداً‬ ‫ً‬ ‫بالميمة‪ ،‬البسي ِ‬ ‫ثوبؾ‪ ،‬ثوبؾ األبيض‪ ،‬وانتظريني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫خطيبؾ؟ سيقتمونو!‪.‬‬ ‫جف‬ ‫قمت لمضطفى ىذا الكبلـ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ىؿ ّ‬ ‫ُ‬ ‫انتظرتُ َؾ‪ ،‬وانتظرتؾ‪ ،‬لـ ِ‬ ‫دخمت ألخمع‬ ‫تأت‪ ،‬وجاء واحد يقوؿ لي إنؾ في المستشفى‪ ،‬في مستشفى غزة المركزي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ثوب العرس‪ ،‬فقاؿ لي‪ :‬إنو يريدؾ أف تأتي كما ِ‬ ‫أنت‪.‬‬ ‫فرحت أبكي‪ ،‬أبكي كما لو أنني فقدتُ ْؾ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫آخر ما كنت أتوقعو أف أراؾ‬ ‫في المستشفى احتضنتُ َؾ بأبيضي الذي‬ ‫تبتسـ كما لو أف شيئاً‬ ‫بالدـ‪ ،‬وكاف ُ‬ ‫استحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لـ يحدث‪.‬‬ ‫وقت تبتسـ فيو؟‬ ‫تبتسـ!! سأقتمؾ‪ ،‬أىذا ٌ‬ ‫قمت لي لقد أليمتُ َؾ الفكرة‪ ،‬ولذا‪ ،‬تسممت إلى داخؿ نعش!! وكاف الجميعُ يبكوف عند الحاجز‪ ،‬وىـ يحيطوف‬ ‫بؾ‪ ،‬ولكف ليس حزناً‪ ،‬بؿ خوفاً عميؾ أيضاً‪.‬‬

‫الجنود لـ يقتنعوا بذلؾ‪ ،‬أرادوا أف يروا ما في النعش‪ ،‬وحيف قيؿ ليـ أف ذلؾ مستحيؿ‪ ،‬قالوا لمجميع حسناً‪،‬‬ ‫مدداً في العتمة‪ ،‬است ّؿ حربتو وغرسيا بيف شقوؽ الخشب‪ ،‬إلى‬ ‫ابتعدوا‪ ،‬وصعد أحد الجنود حيث أنت‪ ،‬وحدؾ‪ّ ،‬‬ ‫أف غاصت في المحـ‪ ،‬وعندما لـ يسمع صراخاً‪ ،‬نزؿ مف العربة‪ ،‬لكف شيئاً ما أعاده‪ .‬غرس الحربة ثاني ًة في‬ ‫مكاف آخر‪ ،‬تأكد مف أنيا استقرت داخؿ المحـ في أعمؽ نقطة يمكف أف تبمغيا‪ ،‬وسحبيا ثانية مف جديد‪.‬‬ ‫وحيف ىبط غرس الحرة في كيس رمؿ‪.‬‬ ‫بفز ٍع أدرؾ الجميعُ ما حدث‪ ،‬وتصاعد فزعيـ عندما أروا في الضوء الشاحب آثار دـ عمى الكيس‪.‬‬ ‫حي‪ ،‬أـ لـ يخطر ذلؾ ببالو‪ ،‬ىؿ كاف‬ ‫ىؿ رأى‬ ‫ّ‬ ‫الجندي ذلؾ‪ ،‬ىؿ كاف يعرؼ أف حربتو غاصت في لحـ كائف ّ‬ ‫تمد أماـ الحاجز؟‬ ‫فرحاً بتعذيب ميت في نعش كما يكوف فرحاً بتعذيب امرأة حامؿ ُ‬


‫إلي وحمموني إلي َؾ في المستشفى‪.‬‬ ‫إلي ىنا‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫أنتظر‪ ،‬أتوا ّ‬ ‫لكنؾ لـ تصرخ‪ .‬وبدؿ أف يأتوا بؾ ّ‬ ‫ِ‬ ‫طعنتيف مثميما مف أجؿ عروسو؟‬ ‫كـ عريساً يمكف أف يحتمؿ‬ ‫االبتعاد عنؾ؟‬ ‫وتسألني لماذا أحب ُؾ إلى ىذا ّ‬ ‫َ‬ ‫الحد؟ لماذا ال أستطيعُ‬

‫** ** **‬

‫يا صالح‪،‬‬ ‫يا جماؿ‪،‬‬ ‫يا مصطفى‪،‬‬ ‫وبعديف ؟‬ ‫كـ‪ ،‬والبنطموف شورت!‪.‬‬ ‫أنا رايحة‪ ،‬سأشتري البدلة‪ ،‬حتى لو كاف الجاكيت‬ ‫ُ‬ ‫نصؼ ّ‬


)Ùš(


‫الزفاؼ‪،‬‬ ‫لكي نشتري ثوب ّ‬

‫كنت قادمة إل ِيؾ لكي نذىب معاً‪ ،‬أنا وأنت والعروس‪ ،‬مف حقيا أف تختاره بنفسيا‪ ،‬أليس كذلؾ؟ قالت لي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا‪ :‬نعـ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أف (أبو عنتر) استشيد فقمت أذىب ألعزي أىمو‪.‬‬ ‫ كنت قادمة ولكنني في الطريؽ‬‫سمعت ّ‬ ‫ُ‬ ‫ مصطفى الرمبلوي؟ سألتيا دىشة‪.‬‬‫ ال أعرؼ‪ .‬قالت لي آمنة‪ .‬أعرؼ أف اسمو أبو عنتر‪ .‬أضافت‪.‬‬‫ ومف يقتؿ أبو عنتر؟ سألتيا وأحسست بسذاجة سؤالي التي ال حدود ليا‪.‬‬‫ ولو يا رندة‪ ،‬ومف يقتؿ الناس ىنا غيرىـ؟ كاف يمر قرب مفرؽ الشيداء‪ .‬القذيفة جاءتو مباشرة‪ ،‬قذيفة‬‫دبابة وأطارت وجيو‪ .‬لـ يعرفو أحد‪ ،‬ثـ عرفوه مف ثيابو‪ ،‬ىؿ الصياب أوضح مف الوجوه؟!‬ ‫ اهلل يرحمو‪.‬‬‫استعدت صورتو‪ ،‬صورة الرجؿ األربعيني بثيابو الرثة‪ ،‬الرجؿ الحافي الذي يتنقؿ بيف بسطات الخضار في‬ ‫ُ‬ ‫يزج بو ما تبقى مف فضبلت الفواكو التالفة‪.‬‬ ‫المخيـ حامبل كيس خيش عمى ظيره ّ‬

‫سألت عف ببيتيـ‪ ،‬فقالوا لي‬ ‫يعزي بوفاة (أبو عنتر)‪.‬‬ ‫بد أف تذىبي يا آمنة‪ ،‬فمف يمكف أف ّ‬ ‫قمت لنفسي‪ ،‬ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ُ -‬‬

‫أنو كاف يعيش وحيداً في ىذه الغرفة‪ ،‬وانو كاف يغيب عنيا أياناً‪ ،‬وسألتني امرأة‪ :‬بتقربي لو؟ أجبتيا ‪ :‬نعـ‪.‬‬ ‫عزتني!‪ .‬صحيح أف اهلل حرمو نعمة العقؿ‪ ،‬لكنو كاف عاقبلً إلبى درجة أنو‬ ‫فقالت لي المرأة‪ :‬البقية في حياتؾ‪ّ .‬‬ ‫لـ يؤذ احداً‪ .‬سألتيا‪ :‬مف أيف تخرج الجنازة؟ قالت لي‪ :‬مف المستشفى‪ ،‬مف مستشفى الشفاء‪ .‬ذىبت إلى‬ ‫ىناؾ‪ ،‬والحمدهلل وصمت في الوقت المناسب‪ .‬رأيت الناس ىناؾ كثيريف (أمة اهلل!) ىمست لنفسي ال بد أف‬ ‫ىناؾ شخصاً ميماً استشيد أو مات‪ .‬وحيف سألت أحد الشباب‪ ،‬ومف أيف سيخرجوف بجنازة أبو عنتر؟ قاؿ‬ ‫اظف أف ال أحد سيتذكره‪ ،‬كانت‬ ‫لي‪ :‬ىذه جنازة أبو عنتر!‬ ‫كنت ّ‬ ‫قمت الدنيا بخير‪ .‬أبو عنتر الذي ُ‬ ‫بكيت يا رندة‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫وقمت نحف أوالد حياة‪ ،‬أقصد شعبنا‪ ،‬واال لكانو ىزمونا منذ مئة عاـ‪.‬‬ ‫جنازتو كبيرة إلى ىذا الحد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫** ** **‬ ‫عرفت أف الجنود احتجزوا جثمانو ساعات‪ .‬قالوا إنو كاف يحاوؿ زرع عبوة ناسفة عند الحاجز!‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬


‫ألصدؽ ىذا الحكي‪.‬‬ ‫عمي اف أكوف مجنونة‬ ‫ّ‬ ‫أبو عنتر؟! ّ‬ ‫ِ‬ ‫ومشت اآلالؼ‪ ،‬آ واهلل‪ ،‬آالؼ‪ ،‬مف الشفاء إلى النصيرات إلى بيتو‪،‬‬ ‫حيف سارت الجنازة مشيتث وراءىا‪.‬‬ ‫ووجدت أيضاً أف ىناؾ أناساً زي التراب يبكوف عميو‪ ،‬فتأكد لي أف الدنيا بخير فعبلً‪ .‬صموا عميو في الجامع‬ ‫الكبير في المخيـ‪ ،‬خرجوا‪ ،‬فتبعتيـ إلى أف وجدت نفسي في مقبرة الشيداء‪.‬‬ ‫قمت‪ :‬ما ِ‬ ‫كنت قادمة ِ‬ ‫ذىبت ‪،‬‬ ‫دمت وصمت يا آمنة إلى ىنا‪ ،‬فمتطمئني عمييـ!‬ ‫ُ‬ ‫إليؾ‪ ،‬لكنني ُ‬ ‫ىناؾ تذكرت أنني ُ‬

‫فابتعدت وأنا أسير عمى رؤوس‬ ‫وأنا أقوؿ لعميـ استيقظوا‪ ،‬لكنيـ كانوا نائميف‪ .‬كما تركتيـ‪ ،‬تصوري!‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصابعي‪ .‬ال أحد يعرؼ اآلف ما يحدث حيف يستيقظ الناس يارندة‪ ،‬توقظ األـ ابنيا وتقوؿ لو‪ :‬روخ اشتري لي‬

‫كيمو بطاطا‪ ،‬وبعد خمس دقائؽ يعود لمبيت شييداً‪ .‬أنت تعرفيف الشييد سمير عميوة‪ ،‬لـ يخرج لشراء بطاطا‬ ‫أب ولو سبع بنات وولد‪ ،‬خرج لكي يوزع بطاقات الدعوة لعرس أخيو محمد‪ ،‬ولـ يعد ألسرتو إال‬ ‫ألمو‪ ،‬فيو ٌ‬

‫شيبداً‪.‬‬

‫تعرفيف ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ألست صحافية‪.‬‬ ‫ثـ صمتت‪ :‬شو بدي أقوؿ ألقوؿ‪ .‬أنت تعرفيف أكثر مني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أريد أف أقوؿ ليا أنني صحافية مع وقؼ التنفيذ‪ ،‬ألف أحبلمي لـ تتحقؽ‪ ،‬ألنيا ربما كانت أكبر بكثير مف‬ ‫كنت ُ‬ ‫ُ‬

‫رأسي الصغير‪ .‬إال أنيا فاجأتني‪ :‬أعرؼ أنؾ تكتبيف‪ .‬وأنؾ ستنشريف ما تكتبينو ذات يوـ!‪.‬‬ ‫ مف قاؿ لؾ ذلؾ؟‬‫‪ -‬وؿ يا رندة!! لـ أكف أعرؼ أنؾ تستيينيف بخالتؾ آمنة‪.‬‬

‫وحيف رجوتيا اف تخبرني حمفتني‪ .‬وبعد أف تأكدة مف أنني أقسمت اليميف صادقة‪ ،‬وأنني لف أبوح باسـ مف‬ ‫عيني‪ ،‬صمتت قميبلُ‪ ،‬ثـ ىمست‪ :‬لميس‪.‬‬ ‫تكؼ عف قراءة‬ ‫السر‪ ،‬دوف أف ّ‬ ‫أفشى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ لميس!‬‫ لميس؟ ما أنا لميس!‬‫ وىؿ تظنيف أنني ال أعرفيا‪ ،‬وىي التي ستصبح زوجة ابني‪ ،‬أو أنيا تخبئ شيئاً عني؟‬‫وتمفتت حوليا‪ :‬ىؿ ىي في البيت ؟‬ ‫ ال‪ ،‬خرجت!‬‫مف الغرفة البعيدة جاء صوت جدتي‪ :‬مع ميف بتحكي؟‬


‫ مع حالي يا ستي‪.‬‬‫ اهلل يردلؾ عقمؾ يا بنتي!!‬‫رأتنا أمي‪ ،‬قطعت الساحة الترابية إلى أف وصمتنا‪ :‬آمنة؟ تفضمي‪ .‬لماذا تتحدثاف عمى العتبى‪ .‬أدخمي‪.‬‬ ‫تسير إلى أف دخمنا تمؾ الغرفة التي تحوؿ شباكيا إلى باب ُيفتح‬ ‫دخمت آمنة‪ ،‬أغمقت الباب وراءنا‪ .‬وظمت أمي‬ ‫ُ‬

‫عمى حوش بيت آمنة‪.‬‬

‫ قومي اعممي شاي‪ .‬قالت لي أمي‪ ،‬وقبؿ أف أنيض عف الكرسي‪ ،‬استدركت‪ :‬ظمّي ِ‬‫أحضره‬ ‫أنت‪ ،‬سأذىب و ّ‬ ‫ّ‬ ‫بنفسي‪ .‬وذىبت‪.‬‬ ‫** **‬ ‫منذ زمف بدأت أمي تدرؾ أف آمنة ال تستطيع التحدث عمى راحتيا إال معي‪ ،‬وكاف يسرىا ذلؾ‪ ،‬وحيف نخرج أنا‬ ‫وآمنة‪ ،‬كنت ألمح ذلؾ االطمئناف الذي يغمر وجو أمي‪.‬‬ ‫ مع آمنة أعرؼ أنؾ ستكونيف بخير‪.‬‬‫كانت أمي تعرؼ أيف نذىب عادةً‪ ،‬ألنيا كانت ترافقنا في أحياف كثيرة‪ ،‬ولـ يكف ىناؾ مكاف نذىب إليو أكثر مف‬ ‫بيوت عزاء الشيداء‪.‬‬ ‫ الواجب واجب‪ .‬تقوؿ لي آمنة‪ .‬يحب أف يحس ع=ىؤالء الناس أنيـ ليسوا وحيديف بعد أف فقدوا أبناءىـ‬‫ِ‬ ‫عميؾ‪.‬‬ ‫وآباءىـ‪ .‬ليس ىناؾ أصعب مف فقدات االبف أو البنت أو األخ أو الزوج الذي تحبيف‪ ،‬أو أي عزيز‬ ‫واألدىى مف ىذا الفقداف ىو موعده‪ ،‬إنو يأتي في الوقت الذي تتوقعينو أف يأتي فيو تماماً‪ ،‬ألف ىذا الوقت ىو‬ ‫ِ‬ ‫فيمت ؟‬ ‫كؿ لحظة‪ ،‬لكنو يكوف مفاجئاً دائماً‪.‬‬ ‫ ىؿ تسمحيف لي بكتابة ىذا الكبلـ؟‬‫ أي كبلـ؟‬‫ الذي قمتو اآلف؟‬‫ آ‪ ،‬باني عمى حقيقتؾ!‬‫ثـ تصمت‪ :‬وىؿ مثؿ ىذا الكبلـ ُيكتب؟!‬ ‫ثـ تسترؽ نظرة ال أستطيع فيـ معناىا إلى حوش بيتيا‪ ،‬تعود بعدىا بتحدثني كما لو أف البيت الذي نظرت‬ ‫إليو ليس ليا‪.‬‬


‫ ىؿ لميس ىنا؟‬‫ ال ‪ ،‬خرجت!‪.‬‬‫ خرجت!! ألـ تعرؼ بأنني قادمة ؟‬‫نسيت أف أقوؿ ليا‪.‬‬ ‫‬‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫نسيت ؟ يا رندة‪ ،‬أىذا مف األشياء التي يمكف أف تنسى ؟‬ ‫‬‫ سامحيني‪.‬‬‫ طيب أمؾ‪ ،‬ىؿ فتحت الموضوع معيا؟‬‫ تعرفيف ‪ ،‬أمي موافقة‪ ،‬دائماً تقوؿ لي‪ :‬ومف أيف لنا بعريس أفضؿ مف صالح‪ ،‬وبأىؿ أفضؿ وأشرؼ مف‬‫عرس في بيت حيف يكوف األب‬ ‫أىمو؟ لكنيا أحياناً‪ ،‬تتذكر أبي ‪ ،‬تتذكر أخوي‪ ،‬تتذكرني‪ ،‬فتقوؿ لي‪ :‬وىؿ ُيقاـ‬ ‫ٌ‬

‫محبوساً واألوالد مطارديف‪ .‬سنبكي ونحف نتذكرىـ أكثر مما سنفرح بالعرساف‪.‬‬

‫إلي‪ ،‬ىؿ ىناؾ أكبر مف مصيبتي؟ ولكنني دائماً أقوؿ‪ ،‬الدنيا حياة مف موت‪،‬‬ ‫ معيا حؽ‪ ،‬ولكف‪ ،‬لتنظر ّ‬‫وتعرفيف الباقي‪.‬‬ ‫ أعرؼ‪ ،‬إال أف الناس ال يتحمموف مآسييـ يالشجاعة نفسيا‪.‬‬‫حؽ‪.‬‬ ‫ في ىذه معؾ ّ‬‫** **‬ ‫حيف عادت أمي بالشاي‪ ،‬وضعتو امامنا‪ .‬ثـ استدارت لتخرج‪ .‬فسألتيا آمنة‪ :‬لماذا ال تشربيف الشاي معنا؟‬ ‫ مشغولة‪ .‬أنتيي مف الغسيؿ وأعود‪.‬‬‫ِ‬ ‫تساعدؾ رندة‪ ،‬أو لميس‪ ،‬لميس التي أصبحت اآلف عروساً؟‬ ‫ ولماذا ال‬‫عمييف‪ .‬قالتيا أمي وىي تغادر البيت دوف أف تستدير بوجييا إلينا!‪.‬‬ ‫ اهلل يرضى‬‫ّ‬ ‫** **‬ ‫بعد خروج أمي‪ ،‬تمس آمنة لي‪.‬‬ ‫‪ -‬عمى األقؿ ‪ ،‬ذ ّكرتيا بأف لميس أصبحت عروساً‪ .‬ىذا نصؼ الطريؽ كي نطمب يدييا رسمي‪.‬‬


‫ىززت رأسي موافقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ شوفي‪ ،‬اليوـ تأخرنا‪ ،‬ولميس غير موجودة‪ ،‬والصحيح‪ ،‬استشياد أبو عنتر أحزنني‪ .‬صحيح يا ربي أ ّنو‬‫ارتاح‪ ،‬ولكف ألـ تكف ىناؾ وسيمة أفضؿ تريحو بيا‪ ،‬غير أف يقتمو الجنود بقذيفة دباباة؟!‬ ‫صمتت قميبلً‪.‬‬ ‫ىمست ليا محاولة مواساتيا‪ :‬يمكف ألف اهلل أراد أف يكرمو بالشيادة!‬ ‫ثـ راحت تردد‪ :‬أستغفر اهلل‪ .‬حيف‬ ‫ُ‬ ‫ فكرؾ؟‬‫ىززت رأسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقبؿ أف تًنيي شاييا فوجئت بيا تنيض‪ :‬إلى أيف‪ ،‬بدري؟‬ ‫عمي‪ .‬الدنيا ّليمت‪ .‬ونادية تعبت كما تريف‪ .‬وتشير لصغيرتيا نادية التي أدركت حزف أميا قبؿ‬ ‫ ال ‪ ،‬سيقمقوف ّ‬‫أف تدرؾ أي شيء آخر‪.‬‬ ‫تعود‬ ‫الخارحي‪ ،‬فأسأليا أف تخرج مف الباب الذي يصؿ الغرفة بحوش بيتيا‪ .‬فمعميا‬ ‫أراقبيا تتجو نحو الباب‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لعادتيا القديمة‪ ،‬رغـ أنني أعرؼ جوابيا‪.‬‬ ‫بقيت في البيت‪ ،‬ولـ أخرج‪ .‬وتعرفيف ‪ ،‬ىذه‬ ‫قمت بزيارة‪ .‬أحس أنني‬ ‫ إذا‬‫ُ‬ ‫أحس أنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫عدت مف ىنا‪ ،‬فإنني ال ّ‬

‫زرت أحداً‪.‬‬ ‫ىي الخطوات الوحيدة التي أخطوىا وأقوؿ أنني ُ‬ ‫أمضي معيا نحو الباب‪،‬‬ ‫أفتحو‪،‬‬ ‫تخرج‪،‬‬ ‫وأظ ّؿ أراقبيا حتى تختفي‪..‬‬

‫فتموح لي‪ ،‬تتجو يدىا‬ ‫ُ‬ ‫أعود‪ ،‬أدخؿ الغرفة حيث كنا‪ ،‬ومف الباب الذي يوصؿ بيتننا ببيتيا‪ ،‬الباب الشباؾ‪ ،‬أراىا‪ّ ،‬‬

‫إلي‪ ،‬وتبتسـ قبؿ أف تختفي‪.‬‬ ‫بالمفتاح إلى باب الغرفة‪ ،‬وأسمع طقطقة القفؿ‪ .‬تمتفت ّ‬ ‫عيني!‪.‬‬ ‫أرد بابتسامتي الدموع التي أفمتت مف‬ ‫أبتسـ‪ ،‬لكنني ال أستطيع أف ّ‬ ‫ّ‬


)Ù›(


‫ما الذي يقصفونو اليوـ؟‬

‫سألت الناس‪ ،‬ما الذي يقصفونو اليوـ؟ وقبؿ أف يجيب أحد األوالد‪ ،‬قمت‬ ‫أـ جواد‪ ،‬حيف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت عائدةً مف عند ّ‬

‫لو‪ :‬أعرؼ‪ .‬ال تقؿ لي‪ .‬ألـ يقصفوا المقبرة؟‬ ‫تي‪.‬‬ ‫فقاؿ لي‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫صحيح يا خالَ ْ‬

‫ولد جمي ٌؿ وطيب مثمؾ‪ ،‬مثمؾ حيف كنت صغي ارً يا صالح‪ .‬دعوت لو‪ :‬اهلل يخميؾ ألمؾ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫أنسيت ما حدث يا آمنة؟‬ ‫قمت لنفسي‬ ‫ثـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫تأممتو كثي ارً‪ّ ،‬‬ ‫وجئت راكضة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ألـ أقؿ لكـ‪ :‬لـ يعد ىناؾ أي مكاف آمف ؟ أتعرفوف‪ ،‬لـ يعد ىناؾ أي ٍ‬ ‫مكاف آمف! تتذكروف مصطفى الرمبلوي‪-‬‬ ‫أبو عنتر؟ مصطفى ما غيره‪ ،‬قتموه عمى مفترؽ الشيداء‪ .‬قمبي سوغوشنس‪ ،‬ويقوؿ لي‪ :‬ما داموا وصموا لقتؿ‬ ‫مصطفى‪ ،‬اهلل يرحمو‪ ،‬فمماذا تستبعدوف أف يقتموننا جميعاً؟‬

‫غزة‬ ‫ىز ّ‬ ‫حتى مقبرة الشيداء لـ تعد آمنة يا آمنة‪ ،‬ستة صورايخ‪ ،‬ولماذا؟ ىؿ سمعتـ ذلؾ اليدير؟ لقد ّ‬ ‫أي ٍ‬ ‫مكاف آمف‪.‬‬ ‫بأكمميا‪.‬لـ يعد ىناؾ ّ‬ ‫قمت لو‪ :‬اهلل‬ ‫صبح‪ ،‬وسألني‪ :‬ىؿ أنت محتاجة لشيء سا خالتي‪ُ .‬‬ ‫عمي "عزيز"‪" ،‬عزيز" ما غيره!‪ّ .‬‬ ‫قبؿ قميؿ ّ‬ ‫مر ّ‬ ‫يرضى عميؾ ويخمؾ ألمؾ‪ .‬ال يا حبيبي‪.‬‬ ‫فقاؿ‪ :‬عمى أي حاؿ‪ ،‬أنا لف أكوف بعيداً‪.‬‬ ‫قمت لو‪ :‬ستحفروف قبو ارً جديدة؟‬ ‫ىز برأسو‪ :‬بعد قميؿ يأتي الشباب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الولد معذّب بحفر القبور‪ .‬يقوؿ لي دائماً‪ ،‬تعرفيف يا خالتي آمنة‪ :‬إنيـ يفاجئوننا‪ ،‬ويقتموف شبابنا‬ ‫تعرفوف‪ ،‬ىذا ُ‬ ‫كؿ يوـ‪ ،‬ويجب أف ال نفاجأ‪ .‬يجب أف تكوف ىناؾ قبور جاىزة‪ .‬أعرؼ أننا في الفترة األخيرة حفرنا قبو ارً أكثر‪،‬‬ ‫تجمع الناس إلنقاذ مف في السيارة والشارع أغارت طائراتيـ‬ ‫ولكنيـ قبؿ أياـ فاجأونا بصاروخ قتؿ ثبلثة‪ ،‬وحيف ّ‬

‫وقتمت سبعة‪ ،‬وأصابت خمسيف‪.‬‬


‫قالوا لي إف أحد المصابيف فقد ساقو‪ ،‬وبعد بحث طويؿ عثروا عمى الساؽ‪ ،‬لكنو ما إف رآىا حتى راح يصرخ‪:‬‬ ‫لدي‪.‬‬ ‫ألـ تبلحظوا؟ كـ ساقاً ُيمنى يممكف أف يكوف ّ‬ ‫مجزرة يا خالتي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الحيطاف وسطوح البيوت‪ ،‬وحيف جمعناىـ في أكياس كنا نعرؼ أف‬ ‫ىناؾ شباب بقينا يوميف نمممـ لحميـ عف‬ ‫أحداً ال يستطيغُ معرفة لحـ ىذا مف لحـ ذاؾ؟ فقمت ليـ لماذا ال ندفنيـ في قبر واحد‪ .‬رفضوا‪ .‬ولكف قولي لي‬ ‫يا خالتي آمنة‪ :‬ألـ يكف ذلؾ أفضؿ‪ ،‬ولماذا نشغؿ ىؤالء الشيداء بالبحث عف أجزائيـ يوـ القيامة داخؿ قبور‬ ‫أخرى؟‬ ‫لـ أعرؼ بماذا أجيبو‪.‬‬ ‫قاؿ‪ :‬أتعرفيف ما الذي أتمناه يا خالتي؟‬ ‫ ماذا يا ابني؟‬‫ قاؿ‪ :‬أف يجيء يوـ ال نكوف فيو مضطريف لحفر قبور احتياطية‪.‬‬‫بد لنا مف أف نحفر القبور قبؿ موت الناس‪ ،‬فإف عمينا أف ‪..‬‬ ‫ ليس‬‫األمر بيدنا‪ .‬قمت لو‪ .‬ولكف إذا كاف ال ّ‬ ‫ُ‬

‫أريد أف أوصيؾ‪ ،‬وما بدؾ توصاي‪ ،‬يا ريت لما تحفروا القبر تجعموه واسع حتى‬ ‫وتمعثمت‪ ،‬قبؿ أف أنطقيا‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫الشييد يرتاح في‪ ،‬وعميؽ حتى ال تصمو الصواريخ إذا قصفوا المقبرة‪.‬‬

‫ثـ قاؿ لي اطمئ ّني يا خالي‪ ،‬واهلل أنني أحفر القبر كما لو أنني أحفره لنفسي!!‪.‬‬ ‫ وفجأة راح يضحؾ ويضحؾ‪ّ ،‬‬‫الشر بعيد‪.‬‬ ‫ ّ‬‫ يا ريت يكوف بعيد‪.‬‬‫ٍ‬ ‫الشمس‬ ‫ثـ استدار‪ ،‬كانت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ابتعد خطوات ّ‬

‫كنت‬ ‫يحدث‪ ،‬لكنني حيف فتحتيما ثاني ًة ُ‬

‫وقمت ىذا ال يمكف أف‬ ‫عيني‬ ‫فركت‬ ‫أيت وجيو!‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خمفو ساطعةً‪ ،‬لكنني ر ُ‬ ‫ّ‬ ‫مت‪ ،‬ال‬ ‫أرى وجيو أيضاً‪ .‬وسمعتو يقو ُؿ لي‪ :‬بس‪ ،‬ال سمح اهلل‪ ،‬إف ّ‬

‫عمي‪ ،‬وتحكي معي‪ ،‬فأنا أعرؼ‪ ،‬وال ألوـ الناس‪ ،‬إنيـ مشغولوف دائماً بمف سيموت‪ ،‬وليس‬ ‫َ‬ ‫تنس ْي أف ّ‬ ‫تمري ّ‬ ‫سيموتوف!‪.‬‬ ‫حؽ‪ .‬حتى أنا‪ ،‬أنظري‪ ،‬مشغو ٌؿ بالذي‬ ‫بمف مات‪ .‬ومعيـ ّ‬ ‫ْ‬ ‫** **‬ ‫قمت لو‪ :‬ما الذي تفعمو ىنا؟‬ ‫مرة‪ُ ،‬‬ ‫عندما ر ُ‬ ‫أيت عزيز يحفر ّأوؿ ّ‬ ‫أتذكروف؟‬


‫فقاؿ‪ :‬أحفر قبو ارً‪.‬‬ ‫تجد في جيوب الشيداء؟‪.‬‬ ‫قمت لو‪ :‬وما الذي يمكف أف ُ‬ ‫فقاؿ لي‪ :‬أال تعرفيف؟‬ ‫قمت لو‪ .‬وقد حسبتو سارؽ قبور مثؿ أولئؾ الذيف نسمع عنيـ أو نراىـ في األفبلـ‪.‬‬ ‫ ال‪ ،‬ال أعرؼ‪ُ .‬‬‫ِ‬ ‫لنبش قبورىـ‪ ،‬إنيـ يييموف التراب عمييـ أكثر‬ ‫قاؿ لي‪ :‬اطئمني‪ .‬الذيف يسرقوف الشيداء‪ ،‬ليسوا مضطريف‬ ‫أتعرفيف لماذا؟‬ ‫ لماذا؟‬‫ِ‬ ‫فيمت؟‬ ‫أف الشيداء لف يعودوا!‬ ‫ حتى يطمئنوا ّ‬‫فيمت‪ .‬وأحببتو‪.‬‬ ‫قمت لو‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ثـ راح يضح ُؾ بيف القبور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قمت لو‪ :‬وطّي صوتَؾ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حباً لمحياة‪.‬‬ ‫أكثر الناس ّ‬ ‫أكثر الناس حباً لمضحؾ‪ ،‬أل ّنيـ ُ‬ ‫قاؿ لي‪ :‬اطمئ ّني‪ ،‬ىؤالء ىـ ُ‬ ‫إلي‪.‬‬ ‫يسير بيف الشواىج‪ ،‬وكأنو‬ ‫راح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعرؼ طريقو مف ألؼ عاـ‪ ،‬رشيقاً‪ ،‬ودوف أف ينظر أمامو‪ ،‬حتى وصؿ ّ‬ ‫اإلنساف دروي الحياة إال حيف يعمؿ‪ ،‬سواء كاف ىذا العم ُؿ ىو حفر لقبور أو‬ ‫وقمت‪ :‬ال يدرؾ‬ ‫أحببتو عزيز ىذا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫بناء القصور‪.‬‬

‫في إحدى المرات‪ ،‬قمت لو‪ :‬يا عزيز يا خالتي‪ .‬الصياح رباح‪ ،‬يمكنكـ أف تكمموا العمؿ غداً ً​ً‪.‬‬ ‫سيحفروف طوؿ الميؿ‪ .‬فسألني‪ :‬وىؿ تضمنيف أنيـ‬ ‫إلي انيـ‬ ‫أريد أف أناـ‪ ،‬و ُ‬ ‫كنت متعبة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أريد أف تناموا ‪ّ ،‬‬ ‫وخيؿ ّ‬ ‫لف يقتموا أحداً الميمة؟‬ ‫فقمت لو ‪ :‬أل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فقاؿ‪ :‬احتمميني إذف‪.‬‬ ‫كأف الشمس لـ تغب‪ ،‬جاءت‬ ‫تذكروف‪ ،‬بعد نصؼ ساعة مف ىذا الكبلـ‪ ،‬في تمؾ الميمة مف تموز؟ والدنيا نار‪ّ ،‬‬

‫طاشرة إؼ ‪ ٔٙ‬وألقت صاروخاً زنتو ألؼ رطؿ وقتمت الشييد صبلح شيادة وستى مف عائمة "مطر" وحدىا‪.‬‬


‫غزة أعينيـ‪ ،‬حيف أمطرت السماء ثبلث مرات‪ ،‬ثبلث مرات في يوـ واحد‪،‬‬ ‫يصدؽ أىؿ ّ‬ ‫تذكروف‪ ،‬يوـ الجنازة لـ ّ‬ ‫في شير تموز! شير الحريؽ!‬ ‫وصرت حزيناً أكثر‪.‬‬ ‫أخاؼ مف نفسي‪،‬‬ ‫صرت‬ ‫وذات مرة قاؿ لي‪ :‬يا خالتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بني؟‬ ‫فسألتو‪ :‬ولماذا يا ّ‬ ‫عمي أف أترؾ فييا أصحابي أو فراشي لكي أحفر قبو ارً جديدة‪ /‬ألنني‬ ‫فقاؿ‪ :‬ألنني أصبحت بالمحظة التي يجب ّ‬ ‫اف ىنالؾ موتاً قادماً في الطريؽ‪ ،‬موتاً أكثر‪ ،‬وما يعذبني أنني ال أعرؼ أي طريؽ‬ ‫أصبحت أشعر في لحظة ما ّ‬ ‫يستجيب لمفأس بسيولة غير عادية‪.‬‬ ‫حفرت قب ارً‪ ،‬وكاف التراب‬ ‫سيسمؾ‪ ،‬ألسبقو وأحذر الناس‪ .‬وقاؿ لي‪ :‬اليوـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫وأخذني مف يدي وأراني القبر‪.‬‬

‫ أنظري‪ ،‬ىينا صخور في ىذا القبر‪ ،‬وصخور في ىذا القبر‪ ،‬ما الذي يعنيو أف يكوف ىذا القبر الذي يقع في‬‫الحد ‪ .‬كمو تراب ؟‬ ‫وسطييما ليناً إلى ىذا ّ‬ ‫ قمت لو‪ :‬اهلل يعمـ!‪.‬‬‫أحس‪.‬‬ ‫ فقاؿ لي‪ :‬وأنا ّ‬‫تعرفوف؟ بعد يوميف استُشيد‪.‬‬ ‫قاؿ ألصحابو عند المنطار‪ :‬اسبقوني‪.‬‬ ‫سألوه‪ :‬عمى ويف؟‬ ‫حد ِ‬ ‫عنو عزيز!‪.‬‬ ‫فقاؿ‪ :‬عمى خالتي آمنة‪ .‬قولوا ليا دلّينا عمى القبر الذي ّ‬ ‫ثؾ ُ‬


)ٜ(


‫دائماً أقؼ محتارة‬

‫أماـ تجميات الناس‪ ،‬بعضيـ مف كبار السف‪ ،‬مف األمييف الذيف لـ يذىبوا لمدرسة في أي يوـ مف حياتيـ‪،‬‬ ‫أي متعمّـ ال يستطيعُ قوؿ نصفو‪ .‬ما زلت أتساءؿ كيؼ يحدث‬ ‫لك ّنيـ فجأة يقولوف كبلماً عميقاً إلى ّ‬ ‫حد ّ‬ ‫اف ّ‬ ‫ذلؾ؟ إنيـ يقولوف تمؾ العبارة كما لو أنيـ فكروا فييا طوؿ حياتيـ‪ ،‬مع أنني سأكوف ِ‬ ‫دىشة أيضاً‪ ،‬لو قاؿ لي‬ ‫وخبأوىا ليذا الموقؼ أو ذاؾ‪ ،‬ألف عبارة كيذه مف الصعب أف‬ ‫أحد أنيـ سمعوىا وحفظوىا عف ظير قمب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ساعة أو‬ ‫ات ال تمقى عمى المساف ليمفظيا بعد‬ ‫آخر لـ يعشيا‪ ،‬عبار ٌ‬ ‫تُحفظ‪ ،‬مف الصعب أف يقوليا شخص ُ‬ ‫سنوات‪.‬‬

‫ائي‬ ‫ُ‬ ‫وقمت إنيـ يشبيوف الناس الموجوديف في الروايات‪ .‬حيف يكوف ىناؾ شخص في الرواية‪ ،‬ال يعمؿ الرو ّ‬ ‫عمى كتابة كؿ ما يفكر فيو ذلؾ الشخص طوؿ النيار‪ ،‬إنو يساعده عمى قوؿ أجمؿ ما فيو‪ ،‬ولذلؾ نفاجأ‬ ‫نحب الشاعر ربما‪ ،‬نحف نعرؼ ولكننا نتناسى أف الشاعر يأكؿ‬ ‫باألمر‪ .‬ونحب الشخص في الرواية‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫نستبعد ذلؾ كمو وال‬ ‫ب أو يسمع موسيقى أو يبوؿ‪ .‬ولكننا‬ ‫التمفزيوف ويحمـ‬ ‫ويشرب ويشاىد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ويبلعب أو ُيغاض ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬ ‫تصبح‬ ‫أعيننا شاع ارً‪ ،‬كما‬ ‫نرى مف الشاعر إال شعره‪ ،‬ونحبو ليذا أيضاً‪ ،‬وليذا َّ‬ ‫ُ‬ ‫بب بالذّات ُيص ِب ُح في ُ‬ ‫شخصي ًة في الروايات‪.‬‬ ‫الشخصي ُة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫كنت أق أر رواية (أـ سعد) وأقو ُؿ مف أيف المرأة بك ّؿ ىذه الحكمة؟ نعـ (أـ سعد) أفض ُؿ مثاؿ‪ .‬ولكف خطر لي أف‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫فعمتو في حياتيا خارج‬ ‫تمرض وكيؼ تفرح؟ ما الذي‬ ‫غساف؟ كيؼ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أسأؿ‪ :‬ما الذي تفعمو أـ سعد خارج رواية ّ‬ ‫ِ‬ ‫الصفحات التسعيف لمرواية؟‬ ‫ِ‬ ‫عشريف أو‬ ‫نفسو قبؿ‬ ‫ستكوف رائع ًة دائماً‪ ،‬لكنيا قد ال تكوف رائعة بالمقدار‬ ‫أف ام أرةً مثؿ (أـ سعد)‬ ‫أعرؼ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫عيف سنة‪ ،‬ربما كانت مثمي‪ ،‬مثمنا‪ ،‬ولكف ىذا ال ينفي سؤالي‪ :‬كيؼ وضع غساف أجمؿ ما فييا في‬ ‫ثبلثيف أو أر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أحبتو كأنو سعد ابنيا‪ ،‬وعند ذلؾ فاضت أحاسيسيا وأفكارىا‬ ‫روحيا و ّ‬ ‫س ْت إليو ُ‬ ‫الرواية؟ ىؿ ألنو حيف التقاىا أن َ‬ ‫يجب اف يقاؿ في‬ ‫كما لو أنيا ّ‬ ‫تحدث روحيا؟ أـ ألف الروايات ال تكوف روايات إال إذا كانت ىكذا؟ تقوؿ ما ُ‬ ‫يجب أف يقاؿ فيو ىذا الكبلـ يعينو وليس أي ٍ‬ ‫لتعود ثانية وتقوؿ ما يجب اف‬ ‫كبلـ سواه‪ ،‬وتختفي‬ ‫َ‬ ‫الوقت الذي ُ‬ ‫ّ‬

‫يقاؿ في موقؼ آخر‪.‬‬

‫كـ صفح ًة كاف عمى غساف كنفاني أف يكتب لو أراد أف يحكي حكاية أـ ٍ‬ ‫سعد بتفاصيميا الدقيقية؟ وىؿ كنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫صفحة أو ألفيف؟ ىؿ كنا سنحبيا مثمما أحييناىا في التسعيف صفحة؟ وىب‬ ‫سنحبيا لو قرأنا حياتيا في ألؼ‬


‫ىي كاممة ىنا ال ينقصيا شيء‪ ،‬ال لشيء إال ألنيا تمؤل المحظة‪ ،‬في حيف ُيمضي الناس أعمارىـ خارج‬

‫لحظاتيـ؟‬

‫ؽ و ٍ‬ ‫قمت لنفسي‪ِ .‬‬ ‫أنت التي لنـ تستطيعي نشر تحقي ٍ‬ ‫احد مف التحقيقات الصحفية التي تكتبييا‬ ‫نيف ُ‬ ‫ستُج ّن َ‬

‫إثر آخر‪.‬‬ ‫وترسمينيا لمصحؼ فترفضيا واحداً َ‬

‫أحدىـ قاؿ ِ‬ ‫الشيداء‪ ،‬أو غير الشيداء يفكروف عمى ىذا النحو!‬ ‫لؾ‪ :‬ال يمكف أف يكوف األطفاؿ‬ ‫ُ‬ ‫تكتشفوف‬ ‫كتبتو عنيـ‪ ،‬ما قالوف‪،‬‬ ‫أوف ما‬ ‫ُ‬ ‫ ال ‪ ،‬إنيـ يفكروف ىكذا‪ ،‬وأعمؽ أيضاً‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫حيف تقر َ‬ ‫لكف مشكمتكـ أنكـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫روف أفضؿ منكـ‪ ،‬ألنكـ أوالد القواميس ال‬ ‫األميات‬ ‫أف‬ ‫يفكروف أفضؿ منكـ‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحزينات يف ّك َ‬ ‫أف ىؤالء األطفاؿ ّ‬

‫نخبئو عادة‬ ‫وتنسوف أف المفتاح‬ ‫تتصوروف –بامتبلككـ لمفاتيح النشر‪ -‬نكـ األكثر حكمة‪.‬‬ ‫أوالد الحياة!‪ .‬أل ّنكـ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫السجادة التي نمسح بيا غبرة الطري ِ‬ ‫ؽ ووحميا عف أرجمنا أماـ العتبات!!‬ ‫تحت‬ ‫النشر في ىذه الصحيفة طوؿ حياتي ما داـ ذلؾ‬ ‫أدركت أنني لف أستطيع‬ ‫حدث ذلؾ منذ شيور‪ ،‬وعندىا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫أمتار مف مبنى مكتب الجريدة‪ ،‬أحسست بنفسي وية‪ ،‬ويمكف‬ ‫الصحفي فييا‪ .‬لكنني بعد أف أصبحت عمى بعد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫أبطاؿ وبطبلت‬ ‫أحس ُو في ىؤالء البشر أو‬ ‫القو ُؿ عظيمة! ما لو أنني‬ ‫ُ‬ ‫استطعت الوصو َؿ إلى ذلؾ التجمي الذي ّ‬ ‫حددت لو حجمو تماماً‪ ،‬ىذا الذي‬ ‫نمسح بيا أقدامنا؟ لقد‬ ‫الروايات‪ ،‬واال‪ ،‬مف أيف جاء لي مثؿ السجادة التي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫يجب أف نقولو‪ ،‬كيؼ يقا ُؿ وكيؼ‬ ‫يمسؾ بيديو مفاتيح أفواىنا‪ ،‬وقموبنا‪ ،‬ما يجب أف نقولو وما ال‬ ‫يرى بأنو‬ ‫ُ‬ ‫آلي في كمبيوتر‪.‬‬ ‫ٌي ُ‬ ‫كتب ‪ ،‬ما لو أنو مصحح ّ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بشطب مثاؿ‬ ‫ائي ًة لفكرت‬ ‫يعب ُر عف‬ ‫ىؿ مثا ُؿ‬ ‫ربما لو ُ‬ ‫كنت رو ّ‬ ‫الحالة كما عبرت عنيا السجادة؟ ّ‬ ‫الكمبيوتر ّ‬ ‫الكمبيوتر ألنو ليس بتألّؽ األوؿ‪.‬‬

‫أسمعو‪ ،‬وبعضيا‬ ‫ولكف‪ ،‬ما الذي أفعمو اآلف‪ ،‬إنني أجمع الحكايات‪ ،‬واحدةً بعد أخرى‪ ،‬حكايات صغيرةٌ‪ ،‬بعضيا‬ ‫ُ‬ ‫يفعمو كتّابنا اليوـ‪ .‬لماذا ال يكتبوف عف‬ ‫أقص ُو مف صفحات الجرائد‪ .‬وأظ ّؿ أتساء ُؿ ‪ :‬ما الذي‬ ‫ُ‬ ‫أعيشو‪ ،‬وبعضيا ّ‬

‫ذلؾ كمو؟‬ ‫** **‬

‫ألقي بو ذات يوـ بيف يدي كاتب‪ ،‬أو أفتّش عف قبر‬ ‫التاريخي‬ ‫من ُذ ذلؾ الشجار‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫قررت أف أكتب ما أراه! وقد َ‬ ‫غساف كنفاني وأقوؿ لو قـ واكتب ىذه الحكايات‪ ،‬الحكايات اليتيمة التي ال يكتبيا أحد‪ .‬فالحكاي ُة التي ال‬ ‫نكتبيا‪ ،‬حكايتنا التي ال نكتبيا‪ ،‬أتعرؼ ما يكوف مصيرىا؟ اسمح لي يا غساف‪ ،‬أف أسألؾ‪ ،‬أسألؾ مف قمبي‪،‬‬ ‫مصير الحكايات‬ ‫أحدثؾ أنت‪ ،‬ألنؾ منا؟ ىؿ تعرؼ ما‬ ‫فأمامؾ يمكف أف أصرخ أو َّ‬ ‫أحس بإحراج‪ ،‬ألنني ّ‬ ‫أجف و ّأال ّ‬ ‫ُ‬ ‫التي ال نكتبيا؟‬


‫إنيا تصبح ممكاً ألعدائنا‪.‬‬ ‫** **‬ ‫اب أمضي لبابع الذي لـ أجده يوماً مغمقاً‪.‬‬ ‫ىكذا دائماً‪ ،‬كمما كانت تغمؽ األبو ُ‬ ‫يسير في شارع أعرفو وال أعرفو‪ ،‬شارع واس ٍع ونظيؼ وحولو‬ ‫فرحت‪ ،‬كاف‬ ‫ليمة أمس رأيتو‪ ،‬غساف‪ ،‬في الحمـ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫إلي أنني أحمـ‪،‬‬ ‫البحر مف‬ ‫خيؿ َّ‬ ‫الجانبيف‪ ،‬تبعتو أوالً ‪ ،‬تبعتو مف بعيد‪ ..‬لـ أجرؤ عمى االقتراب ُ‬ ‫منو‪ ،‬وفي الحمـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫شجاعتؾ‪ ،‬تتحدثيف‬ ‫وسمعت صوتاً يقوؿ لي‪ ،‬لعمّو صوتي‪ :‬أيف‬ ‫إلي أنني سأصحو‪ ،‬ك ّؿ األشياء تشابكت‪،‬‬ ‫وخيؿ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫تفريف ىارب ًة كفأرٍة مذعورة؟‬ ‫عنو ليؿ نيار‪ ،‬وحيف يط ّؿ ّ‬

‫الصحفي‪.‬‬ ‫قمتو لذلؾ‬ ‫ أنا فأرةٌ مذعورة؟‬‫قمت ذلؾ الكبلـ الذي ُ‬ ‫كنت فأرةً مذعورةً لما ُ‬ ‫غضبت‪ .‬لو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫لقائو بيذا النقاش‪.‬‬ ‫سأضيع فرصة‬ ‫اكتشفت أنني‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ابتعد كثي ارً‪ ،‬ولكنني‬ ‫نظرت نحوه‪ ،‬كاف قد‬ ‫ألف أمي نفسيا تُخرِبطُ‬ ‫سمعت صوتو يناديني باسمي‪ .‬وحيرني ىذا‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫بيننا‪.‬‬

‫قدمي األرض‪.‬‬ ‫المست إحدى‬ ‫رحت أركض نحوه‪ ،‬لكف الماء راح يعمو كمما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ويطمب مني أف أسرع‪.‬‬ ‫وسمعتو مرة أخرى يناديني باسمي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫يبتسـ لي‪ ،‬وحيف‬ ‫وتمتد‪ ،‬وكاف‬ ‫تمتد‬ ‫فقدت األمؿ في أف أصمو في الوقت‬ ‫عت‪ ،‬وحيف‬ ‫ّ‬ ‫أيت يده ّ‬ ‫المناسب‪ ،‬ر ُ‬ ‫ُ‬ ‫أسر ُ‬ ‫ُ‬ ‫بأف تمؾ ِ‬ ‫يد أختي‪.‬‬ ‫اكتشفت َّ‬ ‫لمست أطراؼ أصابعو‪،‬‬ ‫اليد ىي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


) ٔٓ (


‫ال تخمّيني أضحؾ!‬

‫مف شاف اهلل‪.‬‬ ‫ما الذي سيقولو الناس لو سمعوني؟‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫إلي إشارةً صغيرة تقوؿ لي فييا أخرجي‬ ‫نسترؽ لقاءات زواجنا‪ ،‬كما لـ نسترؽ‬ ‫أعرؼ‪ ،‬ك ّنا‬ ‫ُ‬ ‫لقاءات ّ‬ ‫حبنا‪ ،‬ترس ُؿ ّ‬ ‫البيت فقط‪ ،‬وسيري في أي اتّ ٍ‬ ‫مف ِ‬ ‫سأختار المحظ َة التي نمتقي فييا‪.‬‬ ‫جاه تريديف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫غزة" بأكمميا‪ ،‬مف شماليا لجنوبيا‪ ،‬ومف شرقيا لغربيا‪.‬‬ ‫كنت أمشي و ُّ‬ ‫أحس َّأن َؾ " ّ‬ ‫ُ‬ ‫أسألؾ‪ ،‬ما الذي يحدث لنا؟ زوجة وتواعد زوجاه؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫متعة في ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أكثر‪.‬‬ ‫حياة التخفّي؟ تعرفيف‪،‬‬ ‫تصدقي‪ ،‬ىذه أفض ُؿ‬ ‫صدقي أو ال ّ‬ ‫فتقوؿ لي‪ّ :‬‬ ‫يشعر المرُء بقيمة المقاء ْ‬ ‫ُ‬ ‫أزع ُؿ‪.‬‬ ‫الحب؟‬ ‫وأقو ُؿ لؾ‪ :‬ماذا تعني؟ ىؿ كنت تخدعني ّأياـ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بأف لمعالـ معنى آخر‪،‬‬ ‫أحس ّ‬ ‫تنير ّ‬ ‫‪ -‬ال ‪ ،‬لـ اكف أخدعؾ‪ ،‬ولكف في عتمة التخفّي ىذه‪ ،‬ىناؾ نقطة ضوٍء حيف ُ‬

‫غير ىذا البؤس‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫طويمة ‪،‬أماكف لـ أكف أعرؼ بيا موجودة‪ ،‬وحيف أقو ُؿ ل َؾ‪ :‬تبالغُ في‬ ‫تذىب بعيداً بي‪ ،‬داخؿ أزقّة‬ ‫كنت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الناس‬ ‫مكف أف ُيقا ُؿ لو ضبطنا‬ ‫احتياطاتؾ األمنية؟ تقو ُؿ لي‪ :‬بؿ احتياطاتي الزوجي ّة!‬ ‫تصوري ما الذي ُي ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫غزة ‪ ،‬ك ّؿ و ٍ‬ ‫اليوـ رجبلً مع زوجتو!!‬ ‫احد سيقو ُؿ لآلخر ‪ :‬ىؿ سمعت؟ لقد شاىدنا‬ ‫متمبسيف؟ سنصبح حديث ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫ىا عدت تضحؾ!‪.‬‬ ‫المرة‪ ،‬لف أضح َؾ أبداً‪.‬‬ ‫ولك ّنني لف أضحؾ ىذه ّ‬ ‫اؾ‪ ،‬وحيف أسير مف ٍ‬ ‫ تعرفيف‪ ،‬كاف قمبي سيبدأ بالتقافز داخؿ صدري لمجرِد فكرِة أ ّنني سأر ِ‬‫بعيد متتبعاً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫خطو ِ‬ ‫لكف المفارق َة‬ ‫أي‬ ‫اتؾ‪ ،‬أقو ُؿ ىذه امرأة‪،‬‬ ‫شيء َ‬ ‫ّ‬ ‫بينؾ وبينيا‪ّ .‬‬ ‫تستحؽ أف تشعؿ حرباً مف أجميا‪ ،‬إف حا َؿ ّ‬ ‫أ ّنيـ يدركوف ما أف ّكر ِ‬ ‫أحمد اهلل في‬ ‫فيو‪ ،‬ولذلؾ‬ ‫كنت تبوح لي بذلؾ‪ ،‬و ُ‬ ‫يشعموف حرباً لكي يمنعوني مف لقائيا‪َ .‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أسمعؾ تقاطع أفكاري التي لـ أقميا‪ :‬أتعرفيف يا آمنة متى‬ ‫سري‪ :‬ك ّؿ ىذه الحياة القاسي ُة لـ تقمؿ مف ّ‬ ‫حبو لي‪ .‬و ُ‬ ‫ّ‬


‫يحس أف ىذه النفس‬ ‫يستسمـ اإلنساف؟‬ ‫يستسمـ اإلنساف حيف ينسى مف ّ‬ ‫يحب‪ ،‬وال يتذ ّكر سى نفسو‪ ،‬ورغـ أنو ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مدينة فار ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بالنسبة ِ‬ ‫ِ‬ ‫غة‬ ‫الحقيقة تكوف قد تحولت إلى‬ ‫إليو‪ ،‬إال أنيا في‬ ‫ىي أغمى ما في الوجود في تمؾ المحظة‬ ‫ال بشر فييا‪ ،‬وال أشجار‪ ،‬وال شوارع‪ ،‬وال ذكريات‪ ،‬وال حتى بيوت‪ ،‬ليس فييا سوى ظبلؿ أسوارىا‪ ،‬وال شيء‬ ‫غير ذلؾ‪.‬‬ ‫ال تجعمني أبكي‪،‬‬ ‫مف شاف اهلل ال تجعمني أبكي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شاعر في ىذه المحظة‪،‬‬ ‫تتحوؿ إلى‬ ‫ال ّ‬ ‫يخرج ّإال في‬ ‫شاعر في ك ّؿ إنسنا‪ ،‬ال‬ ‫اء تماماً‪ ،‬ولكف ىناؾ‬ ‫رندة‬ ‫تعتقد ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أف كؿ الناس شعراء‪ ،‬ال ليسوا شعر َ‬ ‫ٌ‬ ‫منو في أي ٍ‬ ‫وقت‬ ‫عند ذلؾ ّ‬ ‫يتوىج ويقو ُؿ شيئاً مف المستحيا أف تسمعو ُ‬ ‫المحظة التي يمتقي فييا بنفسو تماماً ‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الفضائيات‪ ،‬حيف‬ ‫الصبية الممرضة ىالة جبر في فيمـ "جنيف" الذي بثّتو‬ ‫سمعت ما قالتو‬ ‫آخر‪ .‬تقو ُؿ لي‪ :‬ىؿ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬

‫مخيـ جنيف؟‬ ‫أف الذي‬ ‫اكتشفت ّ‬ ‫تجمس إلى جانب جثّتو في سيارة ااإلسعاؼ ىو شقيقيا جابر الذي استشيد في ّ‬ ‫ُ‬ ‫زف ىو أف تستطيع أف تمنع نفس َؾ مف أف تبكي أماـ أحد مف ِ‬ ‫أجؿ‬ ‫الدموع‬ ‫ْ‬ ‫لقد قالت‪ّ :‬‬ ‫الح ُ‬ ‫الحزف‪ُ ،‬‬ ‫ليست ىي ُ‬ ‫ىذا األحد‪.‬‬

‫ِ‬ ‫بموت أخيو‪.‬‬ ‫تريد أف تفاجئو‬ ‫ولـ يكف ىذا‬ ‫األحد غير شقيقيا الصغير الذي ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫مرات قميمة‪ ،‬ولؤلسؼ‪ ،‬بعضيمبل‬ ‫بعض الناس‪ ،‬تقوؿ‪ ،‬بمكف أف تأتي ىذه‬ ‫ُ‬ ‫المحظات في حياتيـ كثي ارً‪ ،‬وبعضيـ ّ‬ ‫الموت‪.‬‬ ‫تتوىج ىذه المحظة عنده إال قبؿ لحظات مف‬ ‫ْ‬

‫تعرؼ ما الذي يدور في عقؿ ىذه المجنونة التي لـ تزؿ‬ ‫أصدؽ رندة؟ ىؿ‬ ‫ُ‬ ‫أصدقيا‪ ،‬كيؼ ال ّ‬ ‫وبصراحة‪ ،‬أنا ّ‬ ‫ثـ تحفر‬ ‫مصرة عمى أ ّنيا لميس؟ أف تتسمّؿ مف ّ‬ ‫غساف كنفاني‪ ،‬آ‪ّ ،‬‬ ‫غزة وتذىب إلى قبر ّ‬ ‫ّ‬ ‫غساف كنفاني حبيبؾ! ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتحفر حتّى ِ‬ ‫تحد َث فتح ًة في ِ‬ ‫الحياة –‬ ‫جمعتو مف حكايات‪ ،‬وتقو ُؿ لو‪ :‬في ىذه األوراؽ مف‬ ‫وتعطيو ك ّؿ ما‬ ‫القبر‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لمكتابة مف جديد!‪.‬‬ ‫الموت عن َؾ‪ ،‬وتعود‬ ‫تنفض‬ ‫الموت الموجوِد فييا‪ -‬ما يكفي ألف يجعم َؾ‬ ‫رغـ ك ّؿ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫"جماؿ"‪ ،‬ىؿ ترى جما َؿ ِ‬ ‫ىذه الميمة؟‪.‬‬ ‫تحررت مف ٍ‬ ‫زمف بعيد‪.‬‬ ‫ليم ٌة مثؿ تمؾ الميالي التي تشتيييا‪ ،‬ليمة ىادئة كما لو ّ‬ ‫أف غزة قد ّ‬ ‫شوؼ ‪..‬‬


‫الموت‪.‬‬ ‫بعد‬ ‫ْ‬ ‫يجب أف يسمحوا لو أف يكتُ َب رواي ًة واحدةً عمى األق ّؿ َ‬ ‫رندة تقو ُؿ لي‪ :‬و ٌ‬ ‫غساف يا آمنة‪ُ ،‬‬ ‫احد مث َؿ ّ‬ ‫يعرؼ أكثر م ّنا كمّنا‪ .‬لكف الشيء الذي يعذّبو أ ّنو ال‬ ‫يعرؼ ما يدور اآلف؟ إنو‬ ‫وتقو ُؿ لي‪ :‬ىؿ تعتقديف أ ّن ُو ال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ي زماف‪.‬‬ ‫يمكف أف يستطيع أف يكتُ َب ز ّ‬

‫الء‪ .‬أساليا‪ ،‬ولماذا؟ فتقو ُؿ لي أل ّنيـ جميموف‪،‬‬ ‫الموت‪،‬‬ ‫شيية‬ ‫جالميميف‬ ‫وتقو ُؿ لي ‪ :‬ك ّؿ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يثيروف ّ‬ ‫وغساف مف ىؤ ْ‬ ‫ّ‬ ‫يحس‬ ‫الموت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫بعض‬ ‫ينجح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫ينجح وأحياناً ال‬ ‫بوجودىـ ما إف يولدوا‪ ،‬ولذلؾ يحاو ُؿ‬ ‫االنقضاض عمييـ من ُذ البداية‪ ،‬أحياناً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يتنب ُو ‪ ،‬ويسمع خطو ِ‬ ‫ات الموت فور نزولو مف ِ‬ ‫صحيح أ ّن ِؾ ال‬ ‫أمو‪،‬‬ ‫ىؤالء‬ ‫َ‬ ‫الجميميف ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫بطف ّ‬

‫يكوف يفع ُؿ ذلؾ‪،‬‬ ‫يركض في الشوارع محاوالً الفرار مف ذلؾ الفناء الذي ُيبلحقو‪ ،‬لكنو‬ ‫تستطيعيف رؤي َة رضي ٍع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫كثيريف‪.‬‬ ‫وغساف مف ىؤالء‪ ،‬بؿ كاف أسرعَ مف‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫مجنوف‪ ،‬سباؽ ال رحمة‬ ‫لييرب‪ ،‬فالمسألة تكوف أشبو بسباؽ‬ ‫ليس‬ ‫ولكف‪ ،‬ىؿ تعرفيف لماذا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫يركض يا آمنة؟ ال‪َ ،‬‬

‫تصبح‬ ‫كؿ األشياء الجميمة التي كاف يمكف أف‬ ‫فيو‪ ،‬فإذت استطاع‬ ‫اكض يأخذ روحو ويأخذ ّ‬ ‫الموت أف ُيدر َؾ الر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الجميموف يا آمنة بصبحوف جميميف فقط‪ ،‬ألنيـ استطاعوا الوصوؿ‬ ‫مم َؾ ذلؾ الشخص لو أ ّنو سبؽ الموت‪.‬‬ ‫َ‬

‫يحبونيا‪ ،‬األشياء التي نحبيا‪ ،‬األشياء التي تحبيا الحياة‪.‬‬ ‫إلى األشياء التي ّ‬

‫حيف يصمونيا أوالً‪،‬‬ ‫الموت يا آمنة‪ ،‬ال يرحميـ‪ ،‬ىؤالء‪ ،‬لكنيـ ال يرحونو‪ ،‬يحرروف‬ ‫األشياء الجميم َة ُ‬ ‫و ُ‬ ‫منو َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الشمس والمطر‪ ،‬يحرروف الفراش َة‬ ‫الحصاف و‬ ‫البيت وصييؿ‬ ‫العصفور ونافذة‬ ‫يحرروف الوردةَ والشجرةَ وجناح‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫أف ىذا العالـ كاف مف‬ ‫سأسألؾ سؤاالً واحداً‪ :‬ىب‬ ‫تصدقينني يا آمنة‪ ،‬ولكف‬ ‫النمر والغزاؿ‪ .‬قد ال‬ ‫ّ‬ ‫تعتقديف ّ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ِ‬ ‫العالـ مف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الموت كاف‬ ‫أف‬ ‫الموت؟ ىؿ‬ ‫بيف ف ّك ّي‬ ‫الجميموف جما َؿ‬ ‫لـ ينتزع ىؤالء‬ ‫الممكف أف‬ ‫ْ‬ ‫تعتقديف ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يكوف لو ْ‬ ‫ٍ‬ ‫أكبر‪ ،‬أنظري ماذا‬ ‫غساف كاف يفع ُؿ ذلؾ‪ ،‬وألنو يدرؾ تماماً ّ‬ ‫ُ‬ ‫أي شيء ىنا لوالىـ؟ ّ‬ ‫يمكف أف يبقي لنا ّ‬ ‫أف الصراع َ‬

‫ِ‬ ‫الموت‬ ‫أف خطى‬ ‫ست‬ ‫وثبلثيف سنة‪ ،‬ترؾ لنا ك ّؿ ىذا الجماؿ‪ ،‬ال بؿ أق ّؿ مف ىذه ّ‬ ‫فعؿ‪ ،‬خبلؿ ّ‬ ‫المدة‪ ،‬فحيف أدر َؾ ّ‬ ‫َ‬ ‫يحب الكتاب َة‬ ‫كتب‪.‬‬ ‫كتب أل ّن ُو ُّ‬ ‫َ‬ ‫كتب في أق ّؿ مف ستة عشر عاماً ما ْ‬ ‫كتب ما َ‬ ‫أتعتقديف أ ّنو َ‬ ‫تزداد اندفاعاً وراءهَ‪َ ،‬‬

‫كتب‬ ‫يمكف أف‬ ‫فقط؟ ال‪ .‬ال‬ ‫كاف‪َ ،‬‬ ‫األمر كذلؾ‪ ،‬ولو َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫غساف كتب ما َ‬ ‫لكاف ثبلث ُة أربا ِع البشر كتّاباً يا آمنة‪ّ ،‬‬ ‫يكوف ُ‬ ‫ويحبني شخصياً!‬ ‫يحبنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يحب الحياة‪ّ ،‬‬ ‫ألنو ّ‬

‫فأعود‬ ‫انظري اآلف‪ ،‬أحياناً أخرج لحوش اليبت‪ ،‬وأرى الموت يحمّؽ في طائرة األباتشي أو طائرة إؼ ‪،ٔٙ‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تستطيع‬ ‫شيء ولك ّن َؾ لف‬ ‫أصرخ‪ :‬تستطيعُ أف تفع َؿ ك ّؿ‬ ‫غساف‪ ،‬أرفعيا‬ ‫لمسماء و ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫لمداخؿ بسرعة أحم ُؿ مجمّدات ّ‬

‫نسيت؟‬ ‫قت َؿ ىذاْ‪ ،‬لقد سبق َؾ وفزنا بيذا كمّو‪ ،‬ىؿ‬ ‫ْ‬ ‫‪..‬‬

‫تحس أنني‬ ‫ُ‬ ‫أحس ّ‬ ‫أحس ا ّنيا أجم ُؿ م ّني‪ ،‬رغـ أ ّنيا ّ‬ ‫بأف ىذه البنت تشبيني‪ .‬ال‪ ،‬أحياناً ّ‬ ‫أتعرؼ يا جماؿ‪ ،‬أحياناً ّ‬ ‫أجم ُؿ ميا‪.‬‬


‫أكوف ِ‬ ‫نبدؿ‪ِ ،‬‬ ‫أنت؟‬ ‫أنت تكونيف أنا‪ ،‬وأنا‬ ‫مرة‪ :‬تيجي ّ‬ ‫عمي‪ ،‬ولكنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا ذات ّ‬ ‫ال تضح ّؾ ّ‬ ‫وقمت ليا‪ :‬يا ريت!‪.‬‬ ‫ريت‪ ،‬وىيؾ ببط ّؿ أتخانؽ مع أختي عمى اإلسـ!‬ ‫فقالت لي‪ :‬يا ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫** ** **‬ ‫صورتؾ‪.‬‬ ‫يريد‬ ‫ْ‬ ‫قمت ْ‬ ‫لؾ‪ .‬صالح ُ‬ ‫ ُ‬‫يريد صورت َؾ‪ُ .‬‬ ‫ ولماذا صورتي فأنا أراهُ كمّما كاف ذلؾ متاحاً؟ قمت لي‪.‬‬‫يريد‬ ‫قو‪ ،‬نعـ‪ ،‬أحياناً‬ ‫َ‬ ‫أصد ْ‬ ‫يوـ‪ .‬أحياناً ّ‬ ‫ إنو ُ‬‫صورتؾ‪ ،‬ألف ذلؾ المتاح ال يكفيو‪ .‬يعتقد أف شكمؾ ّ‬ ‫يتغير ك ّؿ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لؾ‬ ‫بحاجة إلي َؾ‪،‬‬ ‫أحس فييا بأنني‬ ‫بحاجة َ‬ ‫ّ‬ ‫أصدقو‪ ،‬بخاصة حيف ال أستطيعُ‬ ‫استدعاء وجي َؾ تماماً في لحظة ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أحس‬ ‫أحس بأننا لـ نفرح أبداً‪ ،‬ال‪ ،‬أرجوؾ ال تفيمني غمط‪ ،‬أحياناً ّ‬ ‫كا ّنؾ بحاجة المرأة والحبيبة‪ ،‬أتعرؼ‪ ،‬أحياناً ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المر ِ‬ ‫لننجب‬ ‫ومرة‬ ‫صالح‪ ،‬قبؿ‬ ‫مرة لننجب‬ ‫الوحيدتيف‬ ‫تيف‬ ‫ْ‬ ‫المتيف اختمى الو ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫السجف‪ّ ،‬‬ ‫احد م ّنا فيو باآلخر كانتا ّ‬ ‫أف ّ‬

‫ي‪.‬‬ ‫حولونا إلى‬ ‫نادية بعد‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫السجف‪ ،‬وىا َ‬ ‫مفارخ َ‬ ‫دوف أف ندر ْ‬ ‫أنت تر ْ‬ ‫ى‪ ،‬كأ ّنيـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫بعد أف اقتطعوا تسع سنو ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لؾ‪.‬‬ ‫سجنيـ‪.‬‬ ‫بظبلـ‬ ‫روحي‬ ‫ات مف‬ ‫بسجن ِي ْـ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫مجرد مفارخ؟‬ ‫تقو ُؿ لي‪ :‬إ ّنني أبال ْغ؟ أل ّننا لسنا ّ‬

‫ولكف ىذه المبالغى ال تد ّؿ ّإال عمى شيء واحد‪ ،‬أ ّننا ُحرمنا مف العيش معاً‪ ،‬تعني أ ّننا ك ّنا‬ ‫أعرؼ أنني أبالغُ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫أكثر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نحتاج لبعضنا البعض ْ‬

‫عميؾ أف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تريو ّإياىا لحظ ًة وتقومي بتمزيقيا بعد‬ ‫سأفعؿ‪ ،‬ولكف‬ ‫اللتقاط صورٍة‬ ‫قمت لي‪ :‬كمّما سنحت الفرص ُة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ذلؾ‪ .‬اتّفقنا؟‪.‬‬

‫وماذا أقو ُؿ لو؟‪.‬‬ ‫مزقييا‪.‬‬ ‫بعد أف‬ ‫إف أبا َؾ كاف‬ ‫الصورِة ّ‬ ‫ قولي ْ‬‫ثـ َ‬ ‫لو ّ‬ ‫َ‬ ‫يشبع مف ّ‬ ‫اليوـ ىكذا‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أقنعو؟‬ ‫وكيؼ‬ ‫‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫لؾ‬ ‫تحتاج ليذه الصورة‪ ،‬أل ّنني‬ ‫القادمة مختمفاً قميبلً‪ ،‬وا ّنؾ لف‬ ‫المرة‬ ‫سأحضر َ‬ ‫ قولي لو ‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫إف أبا َؾ سيوف في ّ‬ ‫ُ‬

‫صورةً أجدد!‪.‬‬

‫مرة‪،‬‬ ‫ىؿ أقوؿ لؾ إ ّنو كاف‬ ‫أف ّ‬ ‫يرفض ّ‬ ‫ُ‬ ‫أمزؽ الصورة‪ ،‬يرفض ويبدأ بالبكاء‪ ْ.‬عندىا أقوؿ لو‪ :‬كما في ك ّؿ ّ‬ ‫أنت‬ ‫نريد أف يعرفوا‬ ‫تعرؼ‪،‬‬ ‫إذف‪ .‬أنت‬ ‫ْ‬ ‫سأخبئيا ل َؾ ْ‬ ‫َ‬ ‫ألف االحتبلؿ ُيطاردهُ‪ ،‬وال ُ‬ ‫سأخبئيا ّ‬ ‫يـ‪َ . .‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شكمو تماماً‪ .‬أل ّن ْ‬

‫تعرؼ‪.‬‬ ‫ْ‬


‫تعتقديف أنني ولد؟‪.‬‬ ‫فيقو ُؿ لي‪ :‬وىؿ‬ ‫َ‬ ‫ابني‪ .‬أنت أكبر!‪.‬‬ ‫ ال ‪ ،‬أنت َ‬‫لست ولداً‪ .‬أنت ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يدي لكي‬ ‫وحيف‬ ‫ُ‬ ‫يغمض عينيو‪ ،‬أرتكو و ُ‬ ‫أذىب إلى الغرفة الثانية‪ ،‬أشعؿ ال ّنور‪ ،‬أمسؾ الصورة بيف أصايعَ ّ‬ ‫عيني فبل‬ ‫أنظر إليو‪ ،‬أغمض‬ ‫ينفجر‬ ‫أمزقيا‪ ،‬وما إف أحاوؿ حتى‬ ‫ّ‬ ‫بكائي‪ ،‬وأقوؿ‪ :‬ياهلل‪ ،‬ال أستطيعُ أف أمزقيا وأنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫صورتؾ‪ ،‬صورة حبيبي‪ ،‬لكف صوت البكاء في‬ ‫النور كي أممؾ شجاع َة تمزيؽ‬ ‫أنيض وأطفئ‬ ‫ثـ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أستطيع‪ّ ،‬‬

‫ِ‬ ‫تعرؼ ذلؾ؟‪.‬‬ ‫أعمى‪ ،‬ىؿ‬ ‫الظبلـ ُيص ِب ُح‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫أسود ِ‬ ‫تيتز حولي ِ‬ ‫لفرط‬ ‫يدي‪ ،‬وثوني قد أصبح‬ ‫نشيجي‪ ،‬وحيف تظ ّؿ‬ ‫لفرط‬ ‫أرى العتم َة ّ‬ ‫َ‬ ‫الشمس أجد صورت َؾ بيف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫عميو مف رماد الميؿ‪.‬‬ ‫ما تساقطَ‬ ‫أخبئيا‪.‬‬ ‫أخبئ صورت َؾ ‪ ..‬وتأتي صورةٌ أخرى‪ ،‬و ّ‬ ‫عند ذلؾ ‪ّ ..‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلي صارخاً‪:‬‬ ‫فعمت ذلؾ‪ .‬أل ّنني لـ أكف‬ ‫الحمدهلل أنني‬ ‫ُ‬ ‫سأعرؼ الكممات التي سأقوليا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لو ‪ ،‬حيف يأتي ذات يوـ ّ‬ ‫يف عمى تمزيؽ صورِه‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫اآلف ‪ ،‬أنظري‪ ،‬ليس لدينا صورة واحدة لو‪.‬‬ ‫كنت‬ ‫تصريف‪ ،‬و َ‬ ‫َ‬ ‫تصر َ‬ ‫كنت ّ‬ ‫بيديؾ‬ ‫يقفز في اليواء كما أ ّنؾ تمس ُؾ‬ ‫سأفاجئو‪ ،‬حيف‬ ‫لك ّنني‬ ‫أذىب لممخبأ وأخرجيا كمّيا‪ ،‬وأناولو ّإياىا‪ ،‬وأراهُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ثـ ترفعو وتتمقّفو‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وترفعو‪ ،‬تمقي بو لؤلعمى وتتمقّفو مف جديد‪ّ ،‬‬ ‫ترفعو ‪..‬‬ ‫وتتم ّقفو ‪..‬‬ ‫نمت ‪!.‬‬ ‫ني ُ‬ ‫جماؿ‪ ،‬كأ ّن ْ‬


) ٔ​ٔ (


‫تأتيف متأخرة دائماً ؟‬ ‫لماذا‬ ‫َ‬

‫تأتيف متأخرة دائماً؟ قاؿ لي آمنة‪.‬‬ ‫وسألتني‪ :‬لماذا تأتيف متأخرة دائماً !‬ ‫ْ‬ ‫ ىؿ تعنيف أ ّنو غير موجود ؟‬‫‪ -‬نعـ يا رندة‪ ،‬غير موجود‪.‬‬

‫** **‬

‫حدثتني كثي ارً‬ ‫ّ‬ ‫يمزم ِؾ‬ ‫الح ّؿ‪ُ .‬‬ ‫اسميا رندة!‬ ‫ُ‬

‫عف عزيز‪ .‬قالت لي‪ :‬بما أ ّنؾ مث ُؿ ابنتي‪ ،‬فأنني سمحت لنفسي بأف أف ّكر ِ‬ ‫وجدت‬ ‫فيؾ طويبلً‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫يمزم َؾ يا عزيز بنت رقيقة مثمُ َؾ‬ ‫ٌ‬ ‫عريس مثؿ عزيز! وأصارحؾ‪ ،‬لقد فاتحتو بالموضوِع أيضاً‪ُ :‬‬

‫جت دوف أف أعرؼ!‪.‬‬ ‫خالتي‪ .‬بعد قميؿ‬ ‫شوي يا‬ ‫شوي‬ ‫‬‫ُ‬ ‫تزو ُ‬ ‫سأكتشؼ أنني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫يجب أف يعرفو أحد‪ ،‬اقتربت مني‪ ،‬وحيف تأكدت مف أف ال أحد ىنا غيرنا‬ ‫وكما لو أنيا تيمي لي س ارً ال‬ ‫ُ‬ ‫ىمست‪ :‬اطمئ ّني‪ ،‬خالتؾ آمنة كبرت قميبلً‪.‬‬ ‫‪ -‬ماذا تعنيف؟‬

‫بعد ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لت أتسمؿ‬ ‫الصحيح‬ ‫طويؿ أضافت‪:‬‬ ‫وقت‬ ‫كبرت كثي ارً‪ ،‬ولكنني رغـ ذلؾ لـ أصبح رجعية! فحتى ىذا اليوـ ال ز ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عميؾ ال تقولي ىذا الكبلـ ألحج‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫موعد غرامي مع جماؿ‪ .‬لكف ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أنت تعرفيف‪ ،‬ما زالوا‬ ‫باهلل‬ ‫خفية مف أجؿ‬ ‫ّ‬ ‫أريد أف أكوف السبب في حدوث مكروه لو‪.‬‬ ‫ُيطاردونو‪ ،‬وال ُ‬

‫المستمر عف عزيز قد أثار فضولي فعبلً ‪ ،‬ليس كفتاة‪ ،‬بؿ كحالمة بالكتابة‪ ،‬أو جامعة حكايات‬ ‫كاف حديثيا‬ ‫ّ‬

‫فمسطينية‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سريعة مف‬ ‫شيء يحصي القبور الفارغة بنظرٍة‬ ‫أي‬ ‫قالت لي آمنة‪ :‬أحياناً يأتي إلى المقبرة وقبؿ أف يفعؿ ّ‬ ‫صغير‪ ،‬وأنا‬ ‫أي قبر منيا‪ ،‬فبدأ يبكي‪ ،‬يبكي كطفؿ‬ ‫عينيو‪ .‬أدرؾ ذلؾ دوف أف يقوؿ لي‪ .‬ذات مرة لـ يجد ّ‬ ‫ْ‬ ‫أىدىده‪ .‬ويظؿ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يبكي حتّى بعد أف يغمؽ عينيو براحتيو‪ .‬فأحس بأف الدمع قادـ منمكاف بعيد‪ ،‬مكاف بعيد جداً‪،‬‬ ‫ربما مف أوؿ جنازة لشييد سقط عمى ىذا األرض‪ ،‬ربما مف جنازة عيسى عميو السبلـ‪ .‬أنظر إلى الدمع فأراه‬ ‫متعباً‪ ،‬مثمنا‪ ،‬ولست أدري‪ ،‬حيف كنت أضع رأسو عمى كتفي ىؿ كنت أضع رأسو أـ أضع تمؾ الدموع التي قد‬ ‫تكوف‪ ،‬مثمنا‪ ،‬تبحث عف كتؼ‪.‬‬

‫بأف عمره ألؼ عاـ‪.‬‬ ‫ يا إليي تعبت‪ .‬كاف يقوؿ لي‪.‬‬‫فأحس ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمتد يدي إلى الفأس حتى لزراعة‬ ‫مرة قاؿ‪ :‬أتعرفيف يا خالتي آمنة‪ ،‬بعد رحيؿ ىذا االحتبل عف أرضنا لف ّ‬ ‫ذات ّ‬ ‫الزىور!‬

‫تفرحيـ بذلؾ‪.‬‬ ‫فأقوؿ لو‪ :‬إال ىذا‪ ،‬ىـ يريدوننا أف نكوف غير جميميف‪ ،‬ال ّ‬ ‫وتصمت‪ ،‬ثـ تقوؿ لي‪ :‬أظنو لف يحتمؿ األمر مف ىنا حتى ننتصر!‬ ‫جممتيا تمؾ‪ ،‬جعمتني أوافؽ عمى القدوـ لمتعرؼ إليو‪ .‬قمت‪ :‬إف فيو شيئاً مف ذلؾ النور الذي ينبعث مف البشر‪.‬‬ ‫فتّشنا عنو كثي ارً ذلؾ النيار‪ ،‬عبرنا أماـ الحواجز‪ ،‬لـ نجده‪ ،‬في شوارع رئيسة لـ نجده‪ ،‬في أزقة قادنا القمب‬ ‫إليياف لـ نجده‪ ،‬ثـ قالت لي آمنة‪ :‬لماذا ال نبحث عنو في بيتو؟‬ ‫ وىؿ تعرفينو؟‬‫ ال‪.‬‬‫قمت ليا‪ :‬وكيؼ سنبحث؟‬ ‫قالت‪ :‬نذىب إلى المقبرة ونتبع النور الذي تحدثت عنو إلى أف نصؿ لبيتيـ!‬ ‫ مف حدثؾ عف خيط النور؟‬‫ ال أحد‪ .‬واهلل ال أحد‪ .‬كانت تنفي كطفمة صغيرة ضبطت متمبسة بارتكاب ذنب‪.‬‬‫ي‬ ‫حاولت تيجئتيا بسؤاؿ سريع قد يميييا بالبحث عف إجابة لو‪ :‬وما الذي ستقولو أمو حيف تجد امرأتيف ‪-‬ز ّ‬ ‫القمر!!‪ -‬تسأالف‪ ،‬ىكذا مف الباب لمطاقة؟‬ ‫‪ -‬أقوؿ لؾ‪ ،‬وما تستغربيش‪ .‬ستفرح؟‬


‫ ستفرح‪.‬‬‫ نعـ صدقيني ستفرح‪ ،‬األميات غريبات في ىذه المسألة‪ ،‬يبدييف أنيف غاضبات أماـ الناس‪ ،‬أو غير‬‫مرتاحات! ولكف فيما بعد‪ ،‬تبدأ الواحدة منيف تضحؾ في عبيا‪ .‬اسأليني‪ .‬فأنا أعرؼ ىذا الكبلـ!‬ ‫تذكريف‪ ،‬حيف أصبحت لميس تخترع الكبلـ لتقوؿ لي بخجؿ‪ ،‬كأنني ال أعرؼ‪ ،‬أشياء جميمة عف صالح‪ .‬وأقوؿ‬ ‫لنفسي الحمدهلل‪ ،‬ىا قد كبر الولد بحيث أصبح بإمكانيا أف تراه‪ ،‬يعني أف يمؤل عينيا! ال أخفيؾ‪ ،‬كنت أفرح‪.‬‬ ‫فمف أيف ألـ مثمي بفتاة البنيا مثؿ لميس‪ .‬ومف أيف لو أيضا؟‬ ‫ثـ التفتت إلي وقالت‪ :‬ىا أنا مشغولة بؾ‪ ،‬مشغولة بعزيز‪ ،‬وال أرى أحداً مشغوالً بي؟‬ ‫إلي‪ .‬ما الذي تعنيف بيذا الكبلـ؟‬ ‫ أنت أقرب شخص في ىذه الدنيا ّ‬‫نزوجيما‪ ،‬وأنت وعدت‪ ،‬لقد وعدت أنؾ ستكمميف‬ ‫‪ -‬وبعديف يا رندة! المسألة طالت أكثر مما يجب‪ ،‬وعمينا أف ّ‬

‫أمؾ‪ ،‬لننتيي منف ىذا األمر‪.‬‬

‫أنس‪ .‬قمت ليا‪ ،‬ولكنني لـ أجد الوقت المبلئـ لذلؾ!‬ ‫ لـ َ‬‫ بصراحة‪ ،‬كاف يمكف أف أتحدث مع لميس مباشرة‪ ،‬وأطمب يدىا مف نفسيا‪ .‬فيي كبيرة وباستطاعتيا أف‬‫لمحت ليا‪ ،‬وأظف أنيا فيمتني‪ ،‬بؿ أظف‬ ‫تقرر المناسب مف غير المناسب ليا‪ّ ،‬‬ ‫لكف األصوؿ أصوؿ‪ .‬مف أياـ ّ‬ ‫أنيا أحبت تمميحي‪ ،‬ألنيا ظمت صامتة‪ ،‬وأنت تعرفيف‪ ،‬السكوت مف عبلمات الرضا‪ .‬أليس كذلؾ؟ ثـ إف األمور‬ ‫إذا ما سارت كما أفكر‪ ،‬فمربما صار العرس عرسيف‪ ،‬عرس لميس وعرسؾ‪.‬‬ ‫تزوجيني لعزيز ليذا السبب؟ ألنؾ تظنيف أنني الكبيرةة؟‬ ‫وفجأة وجدت نفسي أسأليا بغضب‪ :‬وىؿ تريديف أف ّ‬ ‫إلي آمنة بعينيف دامعتيف‪ :‬ولو! لقد كبرت نعـ‪ ،‬ولكف ألـ أؤكد لؾ بأنني لست رجعية!‬ ‫نظرت ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحد؟!‬ ‫وقمت لنفسي‪ :‬لقد‬ ‫جننت‪ ،‬ما الذي يحدث لؾ لتدخمي ىذه المعبة‪ ،‬وتتوغمي فييا إلى ىذا ّ‬

‫** **‬

‫ما دمنا وصمنا لمسو ِ‬ ‫ؽ ‪ ،‬سأشتري بعض الخضار‪ ،‬منذ مدة لـ أطبخ ليـ طبخة تسند أمعاءىـ كما يجب‪ْ.‬‬ ‫بتشيي اليوـ شايفة؟!‬ ‫المموخية‬ ‫ّ‬


‫ىززت رأسي‪ ،‬سأشتري الدجاج مف شارعنا‪ ،‬بدؿ أف نحممو إلى ىناؾ‪ .‬ثـ التفتت إلي‪ :‬ما ر ِ‬ ‫أيؾ أف تتغدي معنا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اليوـ؟ ولعمو يفاجئنا فيأتي‪.‬‬ ‫ مف ؟‬‫ِ‬ ‫صرت ناسية؟!!‬ ‫‪ -‬عزيز‪ ،‬ولو‬

‫** **‬

‫بعد أياـ زرتيا‪ .‬كانت حزينة‪ ،‬قالت لي‪ :‬لماذا تأتيف دائماً متأخرة؟‬ ‫ ولكنني اليوـ لـ ِ‬‫جئت ىكذا بالصدفة‪.‬‬ ‫آت لموعد محدد بيننا‪ُ .‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تأخرت!‬ ‫ رغـ ذلؾ‬‫جاء عزيز وذىب‪ ،‬أـ ماذا؟‬ ‫ ىؿ َ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تأخرت‪ .‬وراحت تبكي‪.‬‬ ‫ولكنؾ‬ ‫ قالت لي‪ ،‬أتى‪ ،‬ولـ يذىب‪،‬‬‫ورحت أسير بيف الشواىد‪ ،‬عندىا أحسست بذلؾ الياجس‪ ،‬الذي خطر لي ذات يوـ حوؿ الشيداء‪،‬‬ ‫تركتيا‬ ‫ُ‬ ‫يسير في عروقي‪ :‬ىؿ ثمة يوـ مر مف ىنا دوف أف يستشيد فيو أحد؟‬

‫ِ‬ ‫أياـ قميمة مرة دوف أف نخسر أحداً ‪ ،‬أياـ قميمة بدت لي‬ ‫رحت أتصفح التواريخ المنقوشة عمى الشواىد‪ ،‬ثمة ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الموت ال أكثر‪ ،‬األياـ اإلجازة‪ ،‬األياـ التي يكوف مضط ارً فييا لمذىاب في ميمات‬ ‫عطمة‬ ‫لمحظة كأنيا أياـ‬ ‫يبدو‪،‬‬ ‫عاجمة‪ .‬ووقد صدمني ذلؾ الجشع‪ ،‬جشعو‪ ،‬إنو يمتيـ األخضر واليابس دوف أف يعني لو ذلؾ‪ ،‬عمى ما ُ‬ ‫شيء‪.‬‬ ‫أي‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫سنوات طويمة سرتيا بيف تمؾ الشواىد‪ ،‬سنوات تتراكض فييا األياـ متقافزة مف قبر إلى قبر‪ ،‬إلى أف وجدت‬ ‫نفسي أماـ تاريخ أعادني لمزمف الذي أنا فيو‪ .‬أمس‪ .‬وفوؽ ذلؾ التاريخ‪ ،‬كاف يط ّؿ مف ممص ٍ‬ ‫ؽ كبير‪ ،‬ومف بيف‬ ‫إلي أنني أعرفو‪ ،‬وحيف قرأت االسـ رحت أبكي‪.‬‬ ‫أزىار لـ ّ‬ ‫تجؼ‪ ،‬بعد‪ ،‬وجو شاب‪ّ ،‬‬ ‫خيؿ ّ‬ ‫ لعمؾ أخذت الأمر بجدية أكثر مني‪ ،‬قمت لو! لعمؾ أحببتني إلى حد أنؾ لـ ترغب أبداً في أف تراني‪ ،‬ولذلؾ‬‫عمي‪.‬‬ ‫اختصرت الطريؽ مف أولع‪ ،‬ورحمت‪ .‬ولكف ّإياؾ أف تكوف فعمت ذلؾ ىرباً مني‪ ،‬ال خوفاً ّ‬ ‫ماذا تقوؿ؟‬


‫جننت ؟ ألحادث مف في القبور!‬ ‫نيضت بسرعة‪ ،‬رحت أركض بيف القبور‪ .‬ما الذي يحدث لي؟ ىؿ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقالت لي‪ :‬لماذا تركضيف ىكذا؟ ىؿ ج ِ‬ ‫ننت؟‬ ‫ُ‬ ‫عمي‪.‬‬ ‫بعد يوميف رأيتيا‪ .‬قالت لي‪ :‬إنيا غاضبة جداً ّ‬ ‫مت رأسيا ورجوتيا أف تسامحني‪.‬‬ ‫قب ُ‬ ‫ّ‬ ‫فسامحتني‪.‬‬

‫** **‬ ‫ٍ‬ ‫صمت لـ ندر مف أيف ىبط‪ ،‬وكيؼ انتشر حولنا دوف أف نبلحظو ييبط‪ ،‬دوف أف نبلحظو‬ ‫جمست طويبلً في‬ ‫ُ‬

‫ينتشر‪ ،‬ثـ سمعتيا تقوؿ لي‪ ،‬وكاف صوتيا قادماً مف مكاف بعيد‪ ،‬بعيد جداً ‪ ،‬بعيد‪ ،‬قرب ذلؾ اليوـ الذي رأيتيا‬ ‫فييا أوؿ مرة‪ ،‬عمى بابنا تسألني‪:‬‬ ‫ شايفة يا رندة‪ ،‬أذىب لمشوؽ ثـ أطبخ وأنفخ‪ ،‬وبعد كؿ ىذا التعب‪ ،‬ال أحد يأكؿ‪ .‬شوفي الطبخة عمى حاليا‪.‬‬‫واهلل ما أنا عارفة ليش بتعب حالي‪.‬‬ ‫توكمي؟‪.‬‬ ‫إلي وقالت‪ :‬أحطمؾ صحف‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ثـ التفتت ّ‬


) ٕٔ (


‫سمعتُيا تُنادي‬

‫كما لـ تُ ِ‬ ‫ناد مف قبؿ ‪..‬‬ ‫كانت ىائج ًة‪ :‬يا بنت‪ .‬يا بنت‪.‬‬ ‫ذىبت إلييا مسرعةً‪ ،‬متجاوزة لمصطبة اإلسمنتية‪ ،‬والدرجات الصاعدة نحو سطح المنزؿ‪ ،‬لـ ت ُكف الساع ُة قد‬ ‫ُ‬ ‫تجاوزت السادسة والنصؼ صباحاً‪.‬‬ ‫ آ‪ ،‬شو في يا ستّي ؟‬‫أيف اشتريت القيوة أمس‪ ،‬ألـ أقؿ ِ‬ ‫الزفت! ىؿ‬ ‫ شو في؟‬‫لؾ ال تشتري مف قيوة ىذا ّ‬ ‫وتسأليف أيضاً‪ .‬مف َ‬ ‫َ‬

‫أف نومي فخذ خروؼ‬ ‫يحمثيا عمى ال ّ‬ ‫يحمصيا عمى الشمس!! لقد قطّع نومي‪ ،‬كما لو ّ‬ ‫شمس ىذا المعيف؟!! ىؿ ّ‬ ‫ّ‬

‫تحت ساطور أبو العبد!‬

‫أشتر القيوةَ منو‪ ،‬اشتريتيا ِ‬ ‫ لك ّنني لـ ِ‬‫لؾ مف أحسف مح ّؿ في شارع عمر المختار‪.‬‬ ‫ شو إسمو؟‬‫فقمت‪ :‬أشتري ِ‬ ‫ؽ فتذ ّك ِ‬ ‫شممت رائحة القيوة في الطري ِ‬ ‫اشتريت‪.‬‬ ‫لؾ منيا‪ .‬وقد‬ ‫رتؾ‪،‬‬ ‫ واهلل ما أنا عارفة‪ ،‬لكنني‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫قاؿ لي إنيا قيوةٌ برازيمية مئة في المائة‪.‬‬

‫ قيوة برازيمية؟! ومف قاؿ ِ‬‫لؾ أف تشتري لي قيوة برازيمي؟‬ ‫ لقد أخبرتني أمي ِ‬‫تحبينيا‪.‬‬ ‫أنؾ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصبحت أكرىيا!‬ ‫خمسيف أو ستّيف سنة‪ ،‬ولكنني حيف فقدت األم َؿ‬ ‫ أحبيا ؟؟ أحببتيا في الماضي قبؿ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ازيمية يا ستّي‪.‬‬ ‫ ال أحد يكرهُ القيوة البر ّ‬‫حت أراقب يدىا ألوؿ مرة‪ ،‬خائفة مف أف تقفز نحو ع ّكازىا‬ ‫قوية لدرجة أنني ُر ُ‬ ‫‪ -‬أنا أكرىيا‪ .‬قالت ذلؾ بنبرة ّ‬

‫عمي‪.‬‬ ‫وتنياؿ بو ّ‬

‫ِ‬ ‫فيمت ؟!‬ ‫الدار‪.‬‬ ‫أريد أف تد ُخ َؿ ّ‬ ‫ قيوة مثؿ ىذه‪ ،‬ال ُ‬‫تقوليف لي السبب؟‬ ‫فيمت يا ستّي! ولكف لماذا ال‬ ‫‬‫ُ‬ ‫َ‬


‫ ألنيا خربطت عياراتي!‬‫قد عقمي‪.‬‬ ‫ لـ أفيـ يا ستّي‪ .‬مف شاف اهلل خذيني عمى ْ‬‫ سيدؾ‪ ،‬سيدؾ‪ ،‬رأيتو الميمة خمس مرات في الحمـ!‬‫ِ‬ ‫حممت الميمة بو‪ .‬قولي مف أوؿ!‬ ‫ يعني‬‫ِ‬ ‫قيوتؾ خربطت عياراتي‪ .‬لقد كففت عف الحمـ بو منذ‬ ‫حممت بو أقوؿ لؾ إف‬ ‫ عمرؾ ما راح تفيمي‪ .‬ألنني‬‫ُ‬

‫كنت أحب القيوة البرازيمية حيف كاف يراسمني مف البرازيؿ‪،‬‬ ‫زمف طويؿ‪ .‬تستطيعيف أف تقولي إنني قاطعتو‪ .‬لقد ُ‬ ‫عرفت أف ىناؾ قيوة برازيمية‪ ،‬لـ أعد أشرب إال منيا‪ ،‬مع أنني‬ ‫ويقوؿ‪ :‬إنو سيعود‪ .‬في تمؾ األياـ‪ ،‬حيف‬ ‫ُ‬

‫كنت أعرؼ‪ ،‬أعرؼ‪ ،‬ألف‬ ‫متأكدة مف أنيـ كانوا‬ ‫ييضحكوف َّ‬ ‫عمي أحياناً ويشتروف لي قيوة مف "اليمف" ! لكنني ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫فقدت األمؿ بعودتو‪ ،‬أنا بعد أف مات دوف أف يأتي كما وعد‪ ،‬فإف‬ ‫فيمت؟‪ .‬أما بعد أف‬ ‫جدؾ لـ ت ُكف فييا‪.‬‬ ‫رائحة ّ‬ ‫ُ‬ ‫سيرة القيوة البرازيمية أصبحت تقشعر بدني‪.‬‬

‫ِ‬ ‫أعد أشربيا أبداً‪.‬‬ ‫لـ أعد أشربيا فيمت‪ ،‬لـ ُ‬ ‫حاولت أف أنططؽ كممة واحدة‪ ،‬كممتيف‪ ،‬أف أعتذر‪ ،‬لكف يدىا كانت تبدأ بالتطمع إلى الع ّكاز‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تسببت بو الميمة‪ .‬لقد رأيتو في الحمـ‪ ،‬أتسمعيف؟ رأيتو في الحمـ‪ ،‬ولذلؾ‬ ‫ أسكتي يعني أسكتي‪ .‬يكفي ما‬‫كنت متيقظة لو‪.‬‬ ‫صحوت بسرعة‪ ،‬حتى أنيي المقاء مف أولو‪ .‬وحاوؿ مرة وثانية وثالثة بعد ذلؾ‪ ،‬ولكنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫قمت لؾ يا بنت لماذا يحمـ الناس؟‬ ‫ثـ تصمت‪ :‬ىؿ ُ‬ ‫ ال‪.‬‬‫ ألنيـ ال يشبعوف مف الحياة‪ ،‬يحمموف حتى يتخيموا أنيـ ليسوا نائميف‪ ،‬بؿ مستيقظيف‪ ،‬وأف شيئاً لـ ِ‬‫يضع‬ ‫ُ‬

‫عمييـ‪ ،‬وأنا أيضاً‪ ،‬أما أف أحمـ بو فأبداً !‬

‫فنمت‪ ،‬وأصبحت الساحة خالية لو‪،‬‬ ‫ حتى لو نقص عمري‪ .‬لكف ما باليد حيمة أحياناً! يبدو أنني تعبت أخي ارً‪،‬‬‫ُ‬ ‫تجر وقاؿ لي‪ِ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫عميؾ أف‬ ‫مقاومة تذكر‪ ،‬كما تقوؿ اإلذاعات‪ .‬ويا ريتو اكتفى بيذا‪ ،‬لقد ّأ‬ ‫أي‬ ‫فدخؿ إلى حممي دوف ّ‬ ‫وجدت لؾ‬ ‫تتزوجي‪ .‬وأنا لـ أزرؾ ىنا‪ ،‬إال بعد أف‬ ‫وصفية‪.‬‬ ‫تتزوجي يا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أتزوج! قاؿ‪ :‬نعـ‪ ،‬عميؾ أف ّ‬ ‫فقمت لو‪ :‬أنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫صرخت في وجيو‪ ،‬وكماف جايب العريس معاؾ‪ .‬وينو!! بعديف‪ ،‬ىؿ جننت يا رجؿ‪ ،‬ىؿ تعتقد‬ ‫عريساً لقطة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الديف‪ :‬يا‬ ‫قمت لو‪ ،‬وال‬ ‫لت صبية بحيث ُيمكنني أف أتزوج؟ حتى أنني‬ ‫حياء في ّ‬ ‫انفعمت إلى ّ‬ ‫حد أنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنني ما ز ُ‬ ‫َ‬

‫عيني لتُدرؾ ذلؾ‪ .‬فقاؿ لي‪ :‬ال تخدعيني‪.‬‬ ‫بأف ك ّؿ خزوقي س ّكرت‪ .‬كاف يكفي أف تنظر في‬ ‫شايب‪ ،‬أال‬ ‫ُ‬ ‫تعرؼ ّ‬ ‫ّ‬


‫مت ُك ِ‬ ‫فصرخت بو‪ :‬وىؿ رأيتني قبؿ أف تموت؟ أظ ّنؾ لـ تتذكر وجيي حيف كانت‬ ‫صبية ‪ ،‬وال أحمى!!‬ ‫حيف ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نت ّ‬ ‫تتييأ لمصعود إلى ربيا‪ .‬فقاؿ لي‪ :‬ال يمكف أف تكوني ِ‬ ‫أمت إال مف ّأياـ!‪.‬‬ ‫روحؾ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كبرت‪ ،‬فأنا لـ ُ‬ ‫ربؾ‪ ،‬صارلؾ أكثر مف خمسيف ستيف سنة ميت‪ .‬فقاؿ لي‪ :‬يا‬ ‫ مف أياـ؟ ُ‬‫قمت لو‪ .‬مف أياـ ؟! يالمي ما بتخاؼ ّ‬ ‫استطعت أف آتي ِ‬ ‫إلميؾ مف البرازيؿ حتى غزو خمس‬ ‫عمي!! لو أنني ميت منذ ذلؾ الزماف‪ ،‬لما‬ ‫ُ‬ ‫امرأة ال تفاولي ّ‬ ‫مرات وأعود في ليمة واحدة!‬ ‫إذف كنت تعرؼ أنني ال أريدؾ أف تدخؿ إلى حممي‪ ،‬تعرؼ أنني أغمقت الحمـ في وجيؾ مرة‪ ،‬مرتيف ‪ ،‬ثبلثاً ‪،‬‬ ‫الحد‪ ،‬أنت الذي‬ ‫أربعاً‪ ،‬خمساً‪ ،‬إلى أف أتعبتني واستغممت تعبي ودخمت منو‪ .‬وقمت لو‪ :‬ما دمت نشيطاً إلى ىذا ّ‬ ‫تستطيع الذىاب إلى البرازيؿ والعودة في ليمة واحدة خمس مرات‪ ،‬فمماذا ال تتزوجني أنت؟‬ ‫ أتزوجؾ أنا ؟‬‫ آ‪ ،‬أنت‪ ،‬وىؿ ينقصني طوؿ أـ عرض ‪ ،‬أـ عيناف أـ ماذا؟‬‫ كيؼ يمكف أف أتزوجؾ وأنت زوجتي؟ ىؿ ج ِ‬‫ننت؟‬ ‫ُ‬ ‫ستتزوجني وأنت زوجي؟!‬ ‫ آ واهلل صحيح‪ ،‬كيؼ‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫عقمؾ‪ ،‬قاؿ لي‪.‬‬ ‫ ىا قد عاد إليؾ‬‫بجد !‬ ‫أتزوج يعني؟ ّ‬ ‫ أتُريدني أف ّ‬‫ فقاؿ‪ :‬نعـ‪.‬‬‫ِ‬ ‫إلي الميمة خمس مرات إال لشيء واحد‪ ،‬ىؿ تعرفيف‬ ‫عرفت قصده‪ ،‬آ‬ ‫لكنني يا ستّي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عرفت قصده‪ ،‬فيو لـ يأت ّ‬ ‫ما ىو؟‬ ‫حف‪.‬‬ ‫وقبؿ أف أجيب قالت لي‪ :‬يا ستّي سيدؾ ّ‬ ‫ ّح َّف ؟‪.‬‬‫الحوريات!‪.‬‬ ‫أترحـ عميو‪ ،‬اهلل عاقبو وحرمو مف‬ ‫ آه ّ‬‫ّ‬ ‫حف‪ ،‬وأكيد إل ّنو ما عمؿ في حياتو شيء واحد يجعمني ّ‬ ‫ لـ أفيـ يا ستّي‪.‬‬‫جدؾ ىذا كاف يعمؿ ألؼ حيمة وحيمة‪ ،‬بعد زواجنا‪ ،‬حتى (وال حياء في الديف) ‪..‬‬ ‫ لـ تفيمي‪ّ .‬‬‫عمرؾ ِ‬ ‫قديش ِ‬ ‫إنت؟‬ ‫ثـ صمتت وسألتني‪ّ :‬‬ ‫ّ‬


‫ يمكف خمسة وعشريف‪.‬‬‫ خمس وعشريف يعني بتفيمي ما الذي يحدث بيف الزوج وزوجتو؟‬‫ىززت رأسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جدؾ كاف يعمؿ ألؼ حيمة وماذا؟‬ ‫ ّ‬‫ وحيمة‪.‬‬‫ِ‬ ‫فيمت؟‬ ‫بدوا ّإياني‪.‬‬ ‫ إذا كاف ّ‬‫فيمت‪.‬‬ ‫‬‫ْ‬ ‫ فكيؼ ال يجيء خمس مرات في ليمة واحدة مف البرازيؿ؟‪ .‬كيؼ ؟‬‫وتصمت كثي ارً‪ ،‬ثـ حيف تراني أىـ بالنيوض‪ ،‬تقولي لي‪ :‬اقعدي‪ ،‬لـ ِ‬ ‫أنو كبلمي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ كيؼ أخوتؾ؟‬‫صعب‪ .‬تعرفيف حيف ُيطاردوف شخصاً‪ ،‬فإننا ال نستطيع إال اف نخاؼ عميو‪.‬‬ ‫ أخبارىـ مميحة‪ ،‬بس الوضع‬‫ْ‬

‫عيونيـ عمى األرض‪ ،‬وعيونيـ في السماء طائرات‪ ،‬بعضيا نراه‪ ،‬وبعضيا ال نراه‪.‬‬ ‫ اهلل معاىـ‪.‬‬‫فتعود لمكبلـ‪.‬‬ ‫أتحرؾ‬ ‫ُ‬ ‫وتصمت‪ّ .‬‬ ‫ريده سيدؾ فعبلً ؟‬ ‫‬‫أتعرفيف ما الذي ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬ماذا ُيريد ؟‬

‫أظف أف لؤلمر عبلقة بحرمانو مف الحوريات!‪.‬‬ ‫إلي‪ .‬وال ّ‬ ‫ يريد أف يأذخني عنده‪ .‬كأنو اشتاؽ ّ‬‫ ِ‬‫بدأت تح ّنيف يا ستّي؟‬ ‫ لكنني لف أموت مف أجؿ مبلقاتو!‬‫الشر بعيد‪.‬‬ ‫ ّ‬‫نفسي‪.‬‬ ‫ولكف ىناؾ شيئاً آخر ال أريد أف أموت وىو في‬ ‫ الشر دائماً قريب‪ .‬أال تعرفيف ذلؾ‪ّ .‬‬‫ْ‬


‫ ما ىو؟‬‫عيني ىذه‬ ‫ ىؿ تعتقديف أنني عشت كؿ ما عشتو‪ ،‬وتحممت كؿ ما تحماتو حتى أموت قبؿ أف أرى بخزوؽ‬‫ّ‬ ‫رحيؿ ىؤالء؟ ىؿ تعتقديف أنني سأموت قبؿ أف أطمئف عميؾ‪ ،‬وعمى أمؾ‪ ،‬وعمى أخوتؾ؟ أال يكفييـ أنيـ‬ ‫حرموني مف أف أطمئف عمى أختؾ‪ ،‬وجماؿ‪ ،‬وصالح وآمنة‪ ،‬ومصطفى‪ ،‬وعزيز؟‬ ‫ عزير؟ مف عزيز؟ سألتيا‪.‬‬‫بتتخبا‪.‬‬ ‫ ىناؾ أشياء ما‬‫ّ‬ ‫قمت ليا‪ :‬ولكنني لـ أره!‬ ‫ أتعتقديف بأنني ال أعرؼ؟ ولكنني أحس أنو كاف يمكف أف يكوف الوضع أفضؿ لو أتيح لكما ذلؾ‪.‬‬‫حزنتيني يا ستّي‪.‬‬ ‫ ّ‬‫ يا ريت كاف بإيدي أفرحؾ‪.‬‬‫ وجودؾ وحده يفرحني‪.‬‬‫ِ‬ ‫أحس إ ّنؾ بدؾ تيربي مني‪.‬‬ ‫ آىا اعترفي‪ .‬مش ك ّؿ‬‫شوي أطمّع عميؾ ّ‬ ‫ّ‬ ‫طيب‪ ،‬مسموح لي أروح؟‬ ‫ ْ‬‫ مسموح‪.‬‬‫ أكيد ؟‬‫ ولِؾ أكيد‪ .‬واذا ما راح تقومي‪ ،‬راح أضربؾ بيالع ّكاز‪.‬‬‫ إال ىذا!‪.‬‬‫ناؾ‪ .‬مع آمنة ‪.‬‬ ‫أجد نفسي ُى ْ‬ ‫وبعد‪ ،‬ال أدري‪ُ .‬‬


) ٖٔ (


‫كنت متأكدة مف أ ّنؾ أنت أنت ‪..‬‬ ‫ُ‬

‫كنت متأكدة مف أنؾ أنت الذي رحمت ‪،‬‬ ‫بد مف ٍ‬ ‫إلي‪.‬‬ ‫موت كبير‪ ،‬موت غير‬ ‫وكاف ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫عادي كي يمنع َؾ مف الوصوؿ ّ‬ ‫ممقى أماـ‬ ‫نت أشاىد التمفزيوف والى جانبي رندة وصالح‪ ،‬كنا نشاىد التمفزيوف وال نشاىده‪ ،‬ىكذا كاف‬ ‫ُك ُ‬ ‫ً‬ ‫أبصارنا دوف أف نعيره اىتماماً‪.‬‬ ‫مر ٍ‬ ‫رت‪ ،‬ولماذا يبقى مفتوحاً ما دمنا ال نشاىده؟‬ ‫ات كثيرةً ف ّك ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ولكننا كنا ننظر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ننتظر أف نراه‬ ‫لسبب ال نعرفو‪ .‬رندة كانت تسألني‪ :‬وما الذي‬ ‫لحظة وأخرى دائماً‪،‬‬ ‫إليو‪ ،‬بيف‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ونحف شاىدناهُ ونشاىدهُ بأعيننا ىذه؟‬ ‫الشاشة‬ ‫عمى ىذه‬ ‫ُ‬ ‫ألف ىناؾ أشياء ال نراىا بأعيننا‪ .‬لكف رندة‬ ‫ربما كانت العادة‪ ،‬العادة ال غير‪ .‬إذ ال ّ‬ ‫اضع أحياناً‪ ،‬ونرى‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بد أف نتو َ‬

‫قالت لي‪ :‬ليس ميماً أف نرى ما ال نراه بأعيننا‪ ،‬ألننا نرى ما يشبيو ىنا‪.‬‬

‫حب لميس‪ ،‬لكف‬ ‫ذكية ىذه البنت‪ ،‬أتعرؼ‪ ،‬لو كاف صالح يحبيا قميبلً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لفكرت بيا‪ ،‬وساعدتو عمى أف ينسى ّ‬ ‫القمب وما ىوى!‬

‫قمت لؾ ىذا الكبلـ!‪.‬‬ ‫ال تؤاخذني كـ مرةً ُ‬ ‫تصدقو‪ ،‬ولكف ىذه البنت‪ ،‬حيف‬ ‫بأف يدىا في يدي‪ ،‬وعمى جبيني‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬ ‫أحس ّ‬ ‫الصحيح أنيا لـ تتركني‪ .‬دائماً ّ‬

‫أناـ مرتاحة‪ ،‬أناـ كجنيف في رحـ أمو‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تجمس قرب رأسي في الميؿ‪ ،‬وتضعُ كفيا عمى جبيني‪ُ ،‬‬

‫ىناؾ مكاف‬ ‫ثـ ىؿ‬ ‫اسم ِؾ رحمة‪ ،‬وليس رندة‪ .‬فقالت لي‪ :‬أوالً أنا اسمي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا‪ :‬كاف ُ‬ ‫ْ‬ ‫لميس‪ّ ،‬‬ ‫يجب أف يكوف ُ‬ ‫يمكف أف تعيش ِ‬ ‫االسـ بباؿ‬ ‫سأموت بمجرِد أف يخطر ىذا‬ ‫كنت‬ ‫كنت‬ ‫سأموت قبؿ أف ْ‬ ‫ُ‬ ‫أولد‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫فيو الرحم ُة ىنا؟ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أتعرفيف لماذا؟ ألنيـ قتموا الرحم َة أوالً‪.‬‬ ‫شيء‪،‬‬ ‫أمي‪ .‬أنظري إلييـ‪ ،‬إنيـ يقتموف ك ّؿ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫أحبلمي‪.‬‬ ‫اقب أصابعيا‪ ،‬وأقو ُؿ‪ :‬لو لـ تكف أصابعيا دقيق ًة عمى ىذا النحو‪ ،‬لما استطاعت أف تنقّ َي‬ ‫ُ‬ ‫وكنت أر ُ‬ ‫ْ‬ ‫نعـ‪ ،‬تنقي أحبلمي‪ ،‬حيف أكوف نائمة‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تجمس قربي‪،‬‬ ‫ابيس‪.‬‬ ‫لماذا‬ ‫تستغرب ْ‬ ‫ُ‬ ‫أي أحبلـ مزعجة أو كو ْ‬ ‫ذلؾ؟ ألـ أقؿ لؾ‪ ،‬حيف تكوف قرب رأسي ‪ ،‬ال أرى ّ‬ ‫ُ‬ ‫تنصب شبكة تمنعُ مرور ما يفزعني‪ ،‬ما ال يجعمني أناـ‪.‬‬ ‫وكما لو أنيا‬ ‫ُ‬

‫وقد سألتيا ذات مرة‪ ،‬كيؼ تستطيعيف أف تفعمي ذلؾ يا رندة؟‬ ‫سألتني‪ :‬وما ىو الذي أستطيعُ أف أفعمو؟‬ ‫قمت ليا‪.‬‬ ‫ أنا عارفة وأنت عارفة! ُ‬‫لي‪ :‬واهلل ما أنا عارفة إشي!‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫فقالت ْ‬ ‫ِ‬ ‫بإمكانؾ أف تذىبي‬ ‫أفضؿ‪،‬‬ ‫أصبحت‬ ‫وقمت ليا‪ :‬لقد‬ ‫جننت‪ .‬فمـ أصارحياْ‪،‬‬ ‫وخشيت أف أصارحيا‪ ،‬فتقو ُؿ أنني‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتنامي في فر ِ‬ ‫إليو ؟‬ ‫اشؾ ‪ ،‬ألـ تشتاقي ْ‬ ‫يشتاؽ لفر ِ‬ ‫يعرؼ ىؿ سيصحو حياً أو ميتاً فيو‪.‬‬ ‫اشو ىنا وىو ال‬ ‫فقالت لي‪ :‬ومف‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫جواىا‪.‬‬ ‫يخرج‬ ‫أيت؟‬ ‫الكبلـ مف َّ‬ ‫أر ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذات ٍ‬ ‫الطرؽ ويغمقوف السماء أتجوؿ في داخمي‪ ،‬أكوف مضطرة لمتجوؿ في داخمي‬ ‫يوـ قالت لي‪ :‬حيف يغمقوف‬ ‫َ‬ ‫أكتشؼ أف ىناؾ‬ ‫أعتقد أنيا موجودة‪ .‬أتعرفيف ما ىي‪ :‬الكممات‪ .‬نعـ‪،‬‬ ‫خالتي‪ .‬وىناؾ أفاجأ بأشياء لـ أكف‬ ‫يا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شمس‬ ‫تشرؽ‬ ‫تتبلصؽ‪،‬‬ ‫كممات مضيئة‪ ،‬حيف تتجمعُ حيف‬ ‫بي‪،‬‬ ‫كممات كثيرة‪ ،‬تمسكني مف يدي‬ ‫كممات‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وتسير ْ‬ ‫كبيرةٌ ‪ ،‬وأرى أكثر‪ ،‬أحس أكثر‪ ،‬أر ِ‬ ‫اؾ حتى‪ ،‬أرى لميس‪ ،‬صالح‪ ،‬جماؿ‪ ،‬أخوي‪ ،‬أرى جدتي‪ ،‬أراكـ كمّكـ وأفيمكـ‬ ‫ْ‬ ‫أكثر‪.‬‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫الشاشة دوف أف نشاىدىا‪ .‬لـ تقؿ‪،‬‬ ‫لكنيا لـ تقؿ لي ما رأت عمى شاشة التمفاز ذلؾ اليوـ‪ ،‬ونحف ننظر إلى‬ ‫وقت طوي ٌؿ ‪ ،‬قبؿ أف تقوؿ لي‪ :‬إنيا كانت تعرؼ‪ ،‬ألنيا كانت تريدني أف أعرؼ بنفسي‪ ،‬قالت لي‪:‬‬ ‫وسيمر ٌ‬ ‫معنى‪.‬‬ ‫تغدو ببل‬ ‫آخر‪ ،‬فإنيا ُ‬ ‫ىناؾ أشياء يجب اف يعرفيا اإلنساف بنفسو‪ ،‬واذا قاليا لو شخص ُ‬ ‫ً‬

‫أريد أف أتأكد‪.‬‬ ‫أحسست‪،‬‬ ‫لكنني‬ ‫أريد أف أعرؼ‪ .‬ال ‪ ،‬لـ أكف ُ‬ ‫أحسست يوميا بما حدث‪ ،‬ولـ أكف ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ونحف‬ ‫البيت‪ ،‬مع أختؾ‪،‬‬ ‫ابؽ ىنا في‬ ‫أي‬ ‫سنذىب مشوا ارً‬ ‫ْ‬ ‫كممة‪ ،‬نيضنا‪ ،‬االثنتاف‪ ،‬قمنا لصالح‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫دوف أف نقوؿ ّ‬ ‫صغي ارً ونعود‪.‬‬

‫كنت‬ ‫فعمت ذلؾ فإنني سأكوف قد‬ ‫أتعرؼ لـ أرد أف أنفعؿ‪ ،‬أو أف أبكي‪ ،‬ألنني كنت أدرؾ أنني لو‬ ‫ُ‬ ‫أعمنت موتؾ‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫إلي إشاراتؾ القصيرة‪ ،‬التي أتبعيا‪ ،‬فأجد‪ ،‬بعدىا‪ ،‬نفسي معؾ‪.‬‬ ‫أريدؾ أف تجيء‪ ،‬كنت أريدؾ أف ترسؿ ّ‬


‫لكف صالح رفض‪ ،‬فنادينا لميس‪ ،‬قمت ليا يا لميس‪ ،‬ىؿ يمكف أف تجمسي مع نادية‪ ،‬سنذىب مشوا ارً صغي ارً‬ ‫ونعود‪.‬‬ ‫قمت سيغير صالح رأيو‪ ،‬لكنو‬ ‫انطبؽ فميا‪ ،‬كما لو أنيا ولدت ببل فـ‪ .‬وحيف دخمت‬ ‫ولـ تكف رندة تتكمـ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لميس‪ُ ،‬‬ ‫ْ‬

‫تصور!‪.‬‬ ‫لـ يغير رأيو ليبقى في البيت‪َّ ،‬‬

‫تعرؼ‪.‬‬ ‫تريد أف‬ ‫الولد‬ ‫عندىا ازداد‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫يعرؼ‪ ،‬ورندة تعرؼ‪ ،‬وأنا وحدي التي ال ُ‬ ‫قمت‪ُ ،‬‬ ‫خوفي‪ُ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫سألت نفسي‪ ،‬ىؿ ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫السيؿ معرف ُة الوجو عمى الشاشة‪ .‬كانت الدماء تغطيو‪ .‬وفي الطريؽ‬ ‫لـ يكف مف‬ ‫أيت وجياً‬ ‫ُ‬ ‫إليؾ ِ‬ ‫أـ خيؿ ِ‬ ‫أنؾ ِ‬ ‫األشبلء اختمطت ببعضيا البعض‪ ،‬ولعميا شكمت وجياً بالصدفة‪،‬‬ ‫تريف وجياُ؟ ال أعرؼ‪ .‬كؿ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫كنت أفزعُ في‬ ‫وجياً ليس بالضرورة أف يكوف وجيؾ‪ ،‬ألنني كنت أراؾ ك ّؿ مرة عمى‬ ‫ىيئة أخرى كمما التقيتُؾ‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫البداية‪ ،‬وأقوؿ لنفسي ما الذي يفعمو ىذا االحتبلؿ ِ‬ ‫بجسدؾ كؿ مرٍة إلى ذراعي ٍ‬ ‫رجؿ‬ ‫بؾ يا آمنة‪ ،‬إنو يقذؼ‬ ‫ْ‬ ‫يخيفني‪.‬‬ ‫األمر كاف‬ ‫ترينو لممرة األولى! ال تأخذ كبلمي أكبر مف حجمو‪ ،‬ألنؾ تعرؼ أنني أحبؾ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ولكف َ‬ ‫ْ‬ ‫قمت لؾ‪ :‬يا عيبؾ‪ ،‬عجوز بعمؾ‪ ،‬يبلحؽ بنتاً بعمر ابنتو‪ .‬وعندىا رحت‬ ‫أتذكر عندما نيرتُ َؾ ذات يوـ‪ ،‬حيف ُ‬ ‫ُ‬

‫تضحؾ‪ ،‬وتضحؾ‪ ،‬ولو لـ تضحؾ لما عرفتُ َؾ أبداً‪!.‬‬

‫غادرت البيت‪ .‬لـ أكف‬ ‫جاسوس‪ ،‬يتبعني‪ ،‬إنو يراقبني من ُذ‬ ‫قمت‪ :‬ىذا‬ ‫ثـ تمؾ المرة‪ ،‬حيف تبعتني‬ ‫وشككت ْ‬ ‫ُ‬ ‫فيؾ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫فقدت األم َؿ في‬ ‫عدت لمحارِة بعد أف‬ ‫حيف‬ ‫كنت حريص ًة دائماً‪.‬‬ ‫أتوقع أف تقترب إلى ىذا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحد‪ ،‬وأنا ُ‬ ‫أتذكر َ‬ ‫ُ‬ ‫تضميمؾ‪ ،‬وأنت تجري ورائي غير ٍ‬ ‫الد‬ ‫وكيؼ‬ ‫قادر عمى أف تدركني؟‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫صرخت جاسوس‪ ،‬جاسوس‪ .‬فاندفع األو ُ‬ ‫ُ‬

‫ولكف‪ ،‬اهلل رحمؾ‪ ،‬حيف استطعت اليرب قبؿ أف يمحقوا بؾ تماماً‪.‬‬ ‫وراءؾ بالحجارة‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫مت لي‪.‬‬ ‫لكف ىذا‬ ‫الخوؼ ْ‬ ‫َ‬ ‫ميـ‪ّ ،‬‬ ‫قاتؿ‪ُ .‬ق َ‬ ‫‪ُ -‬كنت ستقتمينني يا آمنة‪ .‬بعض الحذر ّ‬

‫أصبحت‬ ‫اليـ عمى القمب‪ ،‬كثيروف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ولـ أعد أصرخ صرخة كتمؾ‪ ،‬مع أنني ُ‬ ‫كنت أعرؼ أف الجواسيس ز ّ‬ ‫ي ّ‬ ‫الصبر بحيث أقبؿ بالعودة إلى‬ ‫أصبحت أممؾ‬ ‫فعمي‪ ،‬و‬ ‫أي جاسوس‬ ‫ُ‬ ‫مستعدة أف أدور طواؿ اليوـ‪ ،‬حتى أنيؾ ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫البيت حتى دوف أف أراؾ أحياناً‪.‬‬

‫ثـ عرض‬ ‫التمفزيوف قاؿ إف الطائرة التي ألقت الصاروخ قتمت واحداً‪ ،‬وأصابت آخر‪ ،‬إصابتو خطيرة لمغاية‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫شييد وطمب ممف يعرفو أف يتوجو لمستشفى الشفاء فوراً‪.‬‬ ‫صورة‬ ‫صمت رندة ىو الذي كاف يخيفني أكثر‪ ،‬إال أنيا فتحت فميا أخي ارً حيف أدركت أف صالح سيأتي معنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫خير!‪.‬‬ ‫ إف شا اهلل ْ‬‫يريد اليوح بع‪.‬‬ ‫السر وال ُ‬ ‫قالت ذلؾ‪ ،‬كما لو أنيا جدتيا‪ ،‬وليست رندة‪ .‬ألنيا قالتيا كمف يعرؼ ّ‬


‫وكنت‬ ‫منو ألعرفو‪ ،‬ال‪ ،‬ليس ىو‪.‬‬ ‫وقمت ليا‪ :‬ال بيس ىو‪ .‬لو كاف ىو لعرفتو عمى الفور‪ .‬يكفي أف أرى جزًء ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أعرؼ أنؾ لست أنت‪ ،‬ألنؾ ال يمكف أف تكوف ىذا الفتات المبعثر‪ .‬أيف طولؾ؟ أيف عيناؾ؟ يداؾ؟ ابتسامتؾ؟‬ ‫ُ‬

‫أيف خطوتؾ؟!‬ ‫لست أنت‪.‬‬ ‫ال ‪َ ،‬‬ ‫شي ٍء تغير‪ ،‬حيف وصمنا المستشفى‪ ،‬كانت الدنيا قائم ًة قاعدة‪ .‬مئات الناس جاءوا لممستشفى‪ .‬جاؤوا‬ ‫ّ‬ ‫لكف كؿ ْ‬ ‫عميؾ‪.‬‬ ‫ليتعرفوا‬ ‫ْ‬ ‫نشؽ طريقنا عبر الناس الذيف كانوا يبكوف‪ ،‬ووصمنا لذلؾ الشخص الذي يرتدي األبيض‬ ‫عندما استطعنا أف‬ ‫ّ‬ ‫أريد أف أراه‪ .‬فسألني‪ :‬بتقربي لو؟‬ ‫قمت لو‪ُ :‬‬ ‫الممطّخ بالدـ عمى باب المشرحة‪ُ ،‬‬ ‫فقمت لو‪ :‬إنو زوجي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫زوجيف !‬ ‫مف إ ّن ُو‬ ‫تعرفف‬ ‫ّ‬ ‫عميو وقُ َ‬ ‫ عشروف امرأة ّ‬‫ عشروف امرأة؟ ال‪ .‬جماؿ ليس لو سوى زوجة واحدة‪ ،‬ىي أنا‪.‬‬‫ترينو‪.‬‬ ‫منيف قالت ىذا الكبلـ‪ .‬ولذلؾ سأدعؾ‬ ‫ ك ّؿ واحدة‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫صالح بالدخوؿ‪ ،‬منعو‪ ،‬وقاؿ‪ِ :‬‬ ‫أنت فقط‪ .‬فبقي مع رندة‪.‬‬ ‫ىـ‬ ‫ْ‬ ‫وحيف ّ‬ ‫االنفجار إلى فحـ‪.‬‬ ‫الغطاء عنؾ‪ ،‬لـ َأر شيئاً‪ ،‬وكاف الدخاف يغطي تمؾ األشبلء التي لـ يحوليا‬ ‫رفع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫رجوتو أف يكشؼ الغطاء أكثر‪ .‬فقاؿ لي‪ :‬ما الذي تريديف‬ ‫بعيني عف شيء يشير إليؾ‪ ،‬لـ أجد‪.‬‬ ‫حاولت البحث‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫رحت‬ ‫أف تريو؟ ال شيء ُيرى يا أختي! ال شيء! ولكنو رفع الغطاء أكصر‪ ،‬ولـ أر شيئاً‪ ،‬فبدأت أبكي‪ ،‬ثـ‬ ‫ُ‬ ‫أصرخ‪ ،‬جماؿ ‪ ،‬جماؿ‪.‬‬

‫سألني‪ :‬ىؿ تعر ِ‬ ‫فت عميو؟‬ ‫ّ‬ ‫وكاف صراخي يزداد‪.‬‬ ‫لمحت وجو صالح حتى جففت‬ ‫جاءت ممرضة‪ ،‬أحاطتني بذراعيا‪ ،‬وسارت بي نحو البوابة الخارجية‪ .‬وما إف‬ ‫ُ‬ ‫وجؼ صراخي‪ ،‬كما لو أنني لـ أصرخ ولـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫فقمت‪ :‬ال‪ ،‬ليس ىو‪ .‬حيف‬ ‫دموعي‪،‬‬ ‫أبؾ‪ .‬لقد رأيتُؾ‪ .‬رأيتُ َؾ في وجيو‪ُ .‬‬ ‫نفسي‪.‬‬ ‫سألت‬ ‫حيف‬ ‫أنت حيف سألني صالح‪.‬‬ ‫سألتني رندة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لست َ‬ ‫وثمت‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫وقمت‪ :‬لست َ‬ ‫ُ‬ ‫أنت َ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫ثت بعتمة الميؿ‪.‬‬ ‫قمت ليا‪ :‬ال‪.‬‬ ‫نعود‬ ‫وحيف قالت لي رندة‪ُ :‬‬ ‫وتشب ُ‬ ‫لمبيت إذف‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬


‫سأذىب وأعود‪ ،‬أمسكت صالح مف يده وسارت بو‪ ،‬ابتعد معيا كما لو أنني لست أمو‪،‬‬ ‫رندة فيمتني‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أكثر‪.‬‬ ‫ابتعد بيدوء وىذا أخافني ْ‬

‫جمست‪ ،‬وبعد زمف اكتشفت أنني أسند ظيري إلى ظير امرأة أخرى‪ .‬سألتيا‪ :‬مف ِ‬ ‫أنت يا‬ ‫عمى عتبات المستشفى‬ ‫ُ‬ ‫وقمت ليا‪ :‬وأنا زوجتو! فسمعنا امرأة أخرى وقالت‪ :‬ال‪ ،‬أنا أعرفو‪ ،‬فأنا زوجتو! وقالت‬ ‫أختي؟ فقالت‪ :‬زوجتو!‬ ‫ُ‬ ‫األـ! فسكتنا طويبلً‪ ،‬قبؿ أف تقوؿ واحدة أخرى‪ :‬إنني‬ ‫امرأة ‪ :‬إنيا أمو‪ ،‬وال شيء يدرؾ أم ارً كيذا مث ُؿ قمب ّ‬ ‫صبية‪ :‬ليس لي غيره‪ ،‬إنو أخي الوحيد‪ ،‬فمماذا تريدوف أف تأخذوه مني؟‬ ‫متأكدة مف أنو ىو‪ ،‬إنو زوجي! وقالت ّ‬

‫سمعت طفبلً صغي ارً يصرخ‪ :‬يابا‪ ،‬يابا‪ ،‬بدي أبوي!‬ ‫فسكتنا طويبلً‪ .‬إلى أف‬ ‫ُ‬ ‫نيضت‪.‬‬ ‫فجأة‬ ‫ُ‬

‫ إلى أيف؟ سألتني امرأة كانت قد أخبرتني أنؾ زوجيا‪ ،‬وأنيا متأكدة مف ذلؾ‪ ،‬ألنيا أنجبت من َؾ سبعة أوالد‪:‬‬‫بد تعرفو أكثر‬ ‫ثبلث بنات وأربعة أوالد‪،‬‬ ‫نجب كؿ ىذا العدد مف شخص ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقمت في نفسي حيف سمعتيا‪ :‬امرأة تُ ُ‬ ‫مف امرأة أنجبت اثنيف منو! وأعادت سؤاليا‪ :‬إلى أيف؟ وكأنيا ال تريدني أف أبتعد‪ ،‬وكأنيا تريدني أف أكوف‬

‫زوجتؾ‪ ،‬وليست ىي!‬ ‫ ألـ يقولوا إف ىناؾ جريحاً؟ سألتيا‪.‬‬‫نصؼ رأسو طار!‬ ‫ قالوا‪ ،‬وقالوا إف إصابتو خطيرة‪ .‬وانو في غيبوبة قد ال يصحو منيا‪،‬‬‫ُ‬ ‫فعدت لمكاني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫***‬ ‫ليس أق ّؿ مف عشر بيوت عزاء أقيمت مف "جباليا" إلى "الشاطئ" إلى "النصيرات" إلى "البريج" إلى ""المغازي"‬ ‫وقدموا العزاء في رفح أيضاً‪.‬‬ ‫"دير البمح" حتى "خاف يونس"‪ .‬وقاؿ لي بعض الناس الذيف ّ‬ ‫عزوني‪ ،‬أ ّنيـ ذىبوا ّ‬ ‫تحولت إلى‬ ‫حتى رندة ولميس‪ ،‬لـ تعرفا شيئاً مف أخوييما‪ ،‬جواد وسميـ‪ ،‬المذيف ظي ار في الجنازة‪ ،‬الجنازة ّ‬ ‫األياـ‪.‬‬ ‫أنت‪ ،‬أـ أنؾ شخص آخر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أنت َ‬ ‫كنت َ‬ ‫مظاىرة‪ ،‬لـ تعرفا إف َ‬ ‫شييد آخر‪ .‬قاال ليا‪ :‬ىذه مسائؿ تكشفيا ّ‬

‫نحف‪.‬‬ ‫وليس ْ‬

‫األمر لـ ي ُكف بيذه السيولة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكف َ‬


) ٔٗ (


‫أبتعد فتأخذه ام أرةٌ غيري!‬ ‫أخاؼ أف‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫قمت آلمنة‪ .‬دعيو يناـ‪.‬‬ ‫ دعيو يناـ‪ُ .‬‬‫وسمعت عف الكثير ىناؾ في الضفة‪ ،‬لكف ما حدث ىنا‪ ،‬في مقبرة الشيداء‪ ،‬كاف‬ ‫شاىدت الكثير في غزة‪،‬‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫شيئاً أراه لممرة األولى‪.‬‬

‫نساء كثيرات تحمقف حوؿ القبر يبكيف مف فيو‪ .‬كؿ واحدة منيف كانت عمى يقيف بأف مف القبر ىو زوجيا‪،‬‬ ‫ابنيا‪ ،‬أو أخوىا‪ ،‬أو حبيبيا‪ .‬وكؿ واحدة منيف‪ ،‬كانت تبكيو وتتطمع لباب المقبرة‪ ،‬فمعمو يأتي فجأة ليقوؿ ليا‪:‬‬ ‫وما الذس تفعمينو ىنا؟!‬ ‫لـ يكف ىناؾ ما يشير إلى أنو ىو‪ ،‬سوى ذلؾ اإلحساس الغامض الذي ينتشر في القمب ويطبؽ عميو مف‬ ‫جميع الجيات‪ ،‬محوالً إياهُ إلى قطعة مف أسى‪.‬‬ ‫قمت ليا‪ :‬دعيو يناـ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أخاؼ أف أبتعد فتأخذه امرأة غيري!‬ ‫فقالت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫*** *** ***‬ ‫لـ تكف نظرات النسوة أقؿ حزناُ وخوفاُ عمى مف في القبر مف آمنة‪.‬‬ ‫لكنيف قبمف بتقاسـ ذلؾ الحس‪ ،‬بحيث كاف يمكف بعد أياـ أف يتبلشى ذلؾ الشعور االمض الذي يسكف كؿ‬ ‫واحدة منيف إلقصاء األخرى بعيداً‪.‬‬ ‫ثمة أوالد حضروا‪ ،‬بكوا قميبلً‪ ،‬بكوا كثي ارً‪ .‬وبعد أياـ كاف يمكف أف تشاىدىـ يمعبوف بيف القبور معاً‪ ،‬كأخوة‪،‬‬ ‫أف مف في القبر أبوىـ‪.‬‬ ‫يدركوف ّ‬ ‫كف ستحدثف عف كؿ‬ ‫ولعميـ وصموا إلى تمؾ النتيجة التي لـ يكف باستطاعة النساء الوصوؿ إلييا‪ ،‬حينما ّ‬ ‫الشباب ‪ ،‬بعيداً عف المقبرة‪ ،‬ويقمف‪ :‬إنيـ أوالدنا‪.‬‬

‫إنو أبونا!‪.‬‬ ‫كأنيـ قالوا ‪ُ :‬‬ ‫انيف‪.‬‬ ‫وبوماً بعد يوـ‪،‬‬ ‫أصبحت أسمعُ حكايات مختمفة عف ذلؾ الشخث الذي تتشبث بو أحز ّ‬ ‫ُ‬


‫أحياناً‪ ،‬كاف شخصاً مطارداً‪ ،‬وأحياناً‪ ،‬كاف في طريقو لمبيت‪ ،‬أو في طريقو لممظاىرة‪ ،‬أو في طريقو لمجنازة‪ ،‬أو‬ ‫يعمـ ما ىو ‪..‬‬ ‫في طريقو لشيء لـ يكف ُ‬ ‫تتاح لو الفرص ُة لمشاىدة ابنو؟!‬ ‫تقو ُؿ واحدة‪ :‬لقد تزوجنا منذ ستة أشير! كيؼ يقتمونو ىكذا‪ ،‬كيؼ ال‬ ‫ُ‬ ‫وتحتضف جنينيا كما لو أنو فوؽ صدرىا‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وتذىب بعيداً في رثائو ورثاء أبيضيا الذي حممت بو‪.‬‬ ‫وتقوؿ أخرى‪ :‬إنو خطيبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتقوؿ ثالثة‪ :‬كاف يقوؿ لي‪ :‬كؿ ىذا الموت‪ ،‬ورـ ذلؾ عشنا وسنعيش لنشاىد أحفادنا بأعيننا‪ .‬كاف فرحاً ألنو‬ ‫سيصبح جداً‪ .‬حيف تزوجنا كاف في أوائؿ العشرينيات مف عمره وكنت في التاسعة عشرة‪ .‬فأقوؿ لو‪ :‬واف شاء‬ ‫ُ‬ ‫اهلل نتحرر وتشاىد أبناء أحفاددؾ‪ ،‬فيقوؿ لي‪ :‬الموت أصبح أكثر!‬

‫القمب أف تكوف عمى مسافة خطوات مف إنساف ستراه‪ ،‬إنساف‬ ‫كاف يعرؼ أنو لف يشاىد حفيده‪ .‬شيء يقطّع‬ ‫َ‬

‫تتمناه‪ ،‬وفجأة يفقأوف عينيؾ عمى ىذا النحو‪.‬‬

‫وتقوؿ رابعة‪ :‬ليس لي غيره ىنا‪ ،‬ال أحد لي غيره ىنا‪ .‬أىمي مشتتوف في الخارج‪ ،‬كؿ واحد في بمد‪.‬‬ ‫وحيف يأتي المساء‪ ،‬تمممـ أـ األبناء أبناءىا مف بيف القبور‪ ،‬أو يأتي أبناء بأنفسيـ إلعادة أميـ لمبيت‪،‬‬ ‫وتمممـ الصبية أسزدىا‪ ،‬وتنس ّؿ وتنس ّؿ بيدوء فتاتاف تأتياف معاً‪ ،‬وتذىباف معاً‪ .‬كؿ ما سمعتو‪ :‬أنو كاف األخ‬ ‫واألب واالبف والخطيب ليما‪ .‬وتضيؼ واحدة منيما‪ :‬أو أكثر‪.‬‬

‫أسئمتيـ أبعد‪.‬‬ ‫فتحترـ النسوة األخريات أحزانيما وال يذىبف في‬ ‫ّ‬ ‫وتبقى آمنة ‪ ..‬آمنة التي تحولت إلى حارسة لمقبر‪.‬‬ ‫*** *** ***‬ ‫في الصباح تأتي كؿ واحدة منيف ليا بطعاـ‪ ،‬لكف يدىا لـ تكف تمتد إليو‪.‬‬ ‫وغالباً‪ ،‬عند الضحى‪ ،‬يأكؿ األوالد كؿ شيء‪.‬‬ ‫فجأة لـ تعد الخطيبة تأتي‪ .‬غابت ثبلثة أياـ‪ .‬قالت امرأة‪ :‬ال بد أف نذىب لنسأؿ عنيا‪ .‬ليكوف صار إليا إشي!‬ ‫لكنيا جاءت في اليوـ الرابع‪ ،‬جمست‪ .‬سألتيا‪ :‬ماذا حصؿ؟ فظمت صامتة‪ .‬ثـ بكت كثي ارً‪ .‬إلى ذلؾ الحد الذي‬ ‫البنت لـ ِ‬ ‫خطيبيا‪.‬‬ ‫تبؾ كؿ ىذا البكاء‪ ،‬إال ألنيا تأكدت أف مف في القبر‬ ‫تحس‪ ،‬بأف ىذه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جعؿ كؿ امرأة موجودة ّ‬ ‫الجريح مف غيبوبتو وتحدث؟ سألتيا واحدة‪.‬‬ ‫ ىؿ أفاؽ‬‫ُ‬


‫ ال‪.‬‬‫ ولماذا تبكيف ؟‬‫بكيت أمس فرحاً‪ .‬ألنو عاد!!‬ ‫ ألنني‪ ،‬ال أعرؼ ماذا أقوؿ لكف‪ .‬ألنني خجمة مف نفسي‪ .‬ألنني‬‫ُ‬ ‫صمت عميؽ‪.‬‬ ‫عـ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫منيف قادرة عمى إيجاد الفرؽ بيف أف تينئ ىذه الصبية بعودة خطيبيا‪ ،‬أـ تبكي نفسيا ألف‬ ‫ولـ تكف الواحدة‬ ‫ّ‬ ‫إمكانية أف يكوف مف في القبر قد أصبح شييدىا أكثر!‬

‫ لقد تزوجنا وأنجبنا‪ ،‬وفرحنا بأوالدنا‪ ،‬ولؾ الحؽ أف تفرحي مثمما فرحنا‪ .‬مبروؾ‪ .‬قالت ليا المرأة التي أوشكت‬‫أف تكوف جدة‪.‬‬ ‫فبكت الصبية أكثر‪.‬‬ ‫أترككف ىنا‪ ،‬وحدكف؟‬ ‫ كيؼ سأذىب و‬‫ّ‬ ‫ ألنو ال بد أف تذىبي‪ .‬اذىبي‪.‬‬‫أسميت ابني عمى اسمو‪ .‬ولكف في ىذا القبر أسماء كثيرة!‬ ‫لكنت‬ ‫ُ‬ ‫ لو كنت أعرؼ اسـ الشييد‪ُ ،‬‬‫ تزوجي وأنجبي‪ ،‬آخر شي ميـ ىنا ىو األسماء‪ .‬انظري إلينا‪ ،‬كؿ واحدة منا تحمؿ اسماً ليذا الذي تحت‬‫التراب‪ ،‬ولكف الشيء الوحيد المؤكذ‪ ،‬ليس األسماء‪ ،‬إنو ذلؾ اإلنساف الذي في داخمو‪.‬‬ ‫عند الغروب‪ ،‬كانت تمؾ الصبية ىي األكثر حرصاً عمى ّأال تكوف أوؿ مف يترؾ ذلؾ القبر‪ .‬ظمت جالسة إلى أف‬ ‫بدأ أوالد كثيروف يتصايحوف ويبكوف‪ ،‬فاضطرت أمياتيـ لمعودة بيـ‪ .‬وحينما نيضت أخي ارً‪ ،‬قالت‪ :‬سأعود‪.‬‬ ‫فخرج النداء مف أكثر مف فـ‪ :‬ال‪ .‬ال تعودي!‪.‬‬ ‫** ** **‬ ‫تعو ‪ ،‬في يدىا سخاف شاي‪ ،‬وبعض الطعاـ‪ ،‬تجمس صامتة‪ ،‬فأحس أف أكثر مف واحدة‬ ‫بيف حيف وآخر كانت ُ‬ ‫الحد‪.‬‬ ‫تشجعيا عمى أال تكوف حزينة بفرحتيا إلى ىذا ّ‬ ‫تبكي كثي ارً أو قميبلً‪ ،‬وتختفي‪.‬‬ ‫بعد أسبوعيف‪ ،‬لـ يكف قد تبقى سوى خمس نساء يأتيف كؿ يوـ‪.‬‬ ‫يبؽ سوانا‪ ،‬خمس نساء‪ .‬قالت امرأة وصمتت‪.‬‬ ‫‪ -‬لـ َ‬


‫ لكف الذي في القبر واحد‪ .‬قالت أخرى‪.‬‬‫ أظف أننا أربع نساء‪ ،‬ولسنا خمساً‪ .‬ىناؾ واحدة قصفوا بيتيا اليوـ في المغازي‪ .‬استشيدت‪.‬‬‫ مف؟‬‫ أـ فؤاد ‪.‬‬‫حزنيف‪.‬‬ ‫فجأة نسيف مف في القبر‪ ،‬وبدأف يبكيف رفيقة‬ ‫ّ‬ ‫ لقد استشيدت قبؿ أف تعرؼ إف كاف مف في القبر زوجيا أـ ال‪.‬‬‫ ستعرؼ قبمنا!‬‫ تعرؼ قبمنا ؟؟‬‫ نعـ ستعرؼ قبمنا‪.‬‬‫*** *** ***‬ ‫كنت أحسو ‪ ،‬أف دموع آمنة‪ ،‬كانت تينمر متبعثرة في كؿ االتجاىات‪ ،‬كأنيا تبكي مميوف شخص‬ ‫الشيء الذي ُ‬

‫في لحظة واحدة‪.‬‬

‫ عميؾ أف تعودي لنادية‪ ،‬لصالح‪ .‬أقو ُؿ ليا‪.‬‬‫ ىؿ تعبتُـ منيما؟‬‫يتفجر دوف‬ ‫ لقد أصبحا جزءاً مف أسرتنا منذ ذلؾ المساء‪ ،‬لكف الشيء الذي كاف يؤرقنا‪ ،‬ىو بكاء أمي الذي‬‫ُ‬

‫البكاء اآلف؟ أتريديف أف نعذب صالح أكثر؟‬ ‫تطعـ أو تنظؼ نادية ابنة العاميف‪ :‬ولماذا‬ ‫موعد كمما راحت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فتمسح دموعيا بطرؼ كميا‪.‬‬ ‫ُ‬

‫بكاء مستم ارً‪ .‬وحيف أسأليا‪ :‬لماذا البكاء‬ ‫ثـ أصبح بإمكانيا أف تحبسيا طوؿ النيار‪ ،‬ما إف يناما حتى تبدأ ً‬ ‫اآلف‪ .‬تسألني‪ِ :‬‬ ‫إنت ميف؟ لميس واال رندة؟‬ ‫ياما !‬ ‫ واهلل مانا عارفة ّ‬‫ تسألينني لماذا البكاء؟ ومتى سأبكي إذف؟ كمنا يا ابنتي‪ ،‬مرة واحدة‪ ،‬مف أوؿ غزة حتى آخرىا‪ ،‬لماذا ال‬‫يجب عمينا أف نزغرد طوؿ الوقت؟ لماذا؟ ألف أوالدنا شيداء‪ .‬ولكنيـ أوالدنا‪ .‬كؿ يوـ‪ ،‬كؿ ساعة‪،‬‬ ‫نبكي؟ ىي ُ‬

‫أريد سماعو‪ .‬كؿ ىذا الخوؼ عمييـ‪ ،‬كؿ ىذا‬ ‫كؿ لحظة أنتظر أف ّ‬ ‫يدؽ أحدىـ الباب ويأتيني بالخبر الذي ال ُ‬


‫ِ‬ ‫ألف عمييـ‬ ‫يجب أف أزغرد‪ .‬أتعرفيف لماذا تبكي األميات خوفاً عمى أبنائيف طوؿ الوقت؟ ّ‬ ‫الخوؼ‪ ،‬وفي النياية ُ‬ ‫يطالبيف بيا العالـ‪ .‬تبكي الواحدة منا‬ ‫يخجمف مف ىذه الزغرودة التي‬ ‫أف يزغردف مرة واحدة‪ .‬واحدة فقط‪ .‬كي ال‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫كوؿ الوقت ألنيا تعر أف ىناؾ لحظة آتية‪ ،‬ستكوف فييا مضطرة ألف تخوف أحزانيا‪ ،‬حيف يكوف عمييا أف‬ ‫تزغرد‪ .‬ثـ ىؿ تعرفيف مف ىو الذي يجبرنا عمى أف نزغرد فعبلً؟ ال ‪ ،‬ليس أىمنا وأقاربنا وجيراننا‪ ،‬ال ‪ ،‬ليسوا‬ ‫يحس لحظ ًة‬ ‫ىـ‪ ،‬الذي ُيجبرنا عمى أف نزغرد في جنازات شيدائنا ىو ذلؾ الذي قتميـ‪ ،‬نزغرد حتى ال نجعمو‬ ‫ّ‬ ‫أنو ىزمنا‪ ،‬واف عشنا‪ ،‬سأذكرؾ أننا نبكي كثي ارً بعد أف نتحرر!‬

‫سنبكي كؿ أولئؾ الذيف كنا مضطريف أف نزغرد في جنازاتيـ ‪ ،‬سنبكي كما نشاء‪ ،‬ونفرح كما نشاء‪ ،‬وليس‬ ‫حسب المواعيد التي يحددىا لنا الذي ُيطمؽ النار عمييـ وعمينا اآلف‪ .‬فنحف لسنا أبطاالً‪ ،‬ال‪ ،‬لقد‬ ‫فكرت طويبلً‬ ‫ُ‬

‫مشطروف أف نكوف كذلؾ‪.‬‬ ‫في ىذا‪ ،‬وقمت لنفسي نحف لسنا أبطاالً‪ ،‬ولكننا‬ ‫َ‬ ‫** *** ***‬ ‫أخوي‪.‬‬ ‫قمقت عمى‬ ‫قمقت كثي ارً عمى أمي‪ُ ،‬‬ ‫ذلؾ اليوـ‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫في الصباح حممت أمي نادية وأمسكت بيد صالح وذىبنا لممقبرة‪.‬‬ ‫أبصرتيـ ‪..‬‬ ‫مف بعيد‬ ‫ّ‬

‫حزف غيابو موزعاً عمى عدد أكبر ‪ ..‬وكمما اختفت واحدة‬ ‫أخاؼ أكث‪ .‬فقد كاف‬ ‫كنت‬ ‫كمما كاف‬ ‫عددىف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يقؿ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫الحزف فوؽ قموب اآلخريف‪.‬‬ ‫حصتيا مف‬ ‫ُ‬ ‫خمّفت ّ‬

‫احتضنت آمنة ابنتيا‪ ،‬لكنيا لـ ت ُكف تبكي‪ .‬شيء ما في داخميا‪ ،‬كاف يجعميا أكثر تماسكاً كمما لمحت صالح‪.‬‬ ‫قمت ِ‬ ‫لؾ ‪ .‬إنو لي‪.‬‬ ‫ ُ‬‫ ال تقطعي األمؿ‪ .‬قالت ليا أمي‪.‬‬‫سأذىب اليوـ لممستشفى‪ ،‬وأسأؿ‪.‬‬ ‫وقمت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫االستشياد فوؽ الشاىدة المؤقتة‪ .‬وأتساءؿ‪ :‬أي ٍ‬ ‫يبحث‬ ‫كتب فوؽ ىذا التاريخ؟ ىؿ‬ ‫كنت أق أر تاريخ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫اسـ ُ‬ ‫التاري ُخ عف األسماء ليمؤل ىذا الفراغ المخيؼ؟ أـ تبحث األسماء عف التاريخ ليكوف لمرورىا معنى وأثر؟ وما‬

‫ىو الذي يتعذب أكثر في بحثو عف اآلخر؟‬ ‫سأذىب اليوـ لممستشفى‪.‬‬ ‫قمت ليا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يمت بسبب ىذا الصاروخ لمات بسبب غيابو عني ك ّؿ ىذا الوقت‪ .‬إ ّن ُو ىو!‪.‬‬ ‫فقالت لي‪ :‬ال تذىبي‪ .‬لو لـ ُ‬


‫وذىبت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫العودة حامم ًة ذلؾ االسـ‪ ،‬االسـ كمو‪.‬‬ ‫لكنني لـ أجرؤ عمى‬ ‫صد ِ‬ ‫ِ‬ ‫قت اآلف؟‬ ‫قالت لي قبؿ أف أتكمـ‪ :‬كاف‬ ‫عميؾ أف تصدقيني‪ .‬ىؿ ّ‬ ‫ىززت رأسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫آخر مف تبقى مع آمنة‪.‬‬ ‫كانت‬ ‫الفتاتاف ىما ُ‬ ‫نيضتا ‪ ،‬عانقتا آمنة جوف أف تقوال شيئاً ‪ ..‬وابتعدتا ‪..‬‬ ‫شيء ُيقاؿ ًْ ؟‬ ‫وقمت في نفسي‪ :‬ىؿ ظ ّؿ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫لكف شيئاً ما دمعني أف أنيض وأجري إلى أف أدركتيما ىناؾ عند سور المقبرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حيف أحسنا بخطواتي توقفتا‪.‬‬ ‫وصمت‪.‬‬ ‫إلى أف‬ ‫ُ‬ ‫أليث تماماً‪.‬‬ ‫لـ أ ُكف‬ ‫ُ‬ ‫ كنا نعرؼ‪ .‬قالت واحدة منيما‪.‬‬‫ كنا نعرؼ‪ ،‬ألننا منذ زمف طويؿ نعيش وحدنا‪ .‬ليس لنا أحد‪ ،‬كنا نعرؼ‪ ،‬إذ ليس لنا أحد!‪.‬‬‫نريد أف نذىب‬ ‫نريد أف نتركو وحيداً‪ ،‬لـ نكف ُ‬ ‫حاولت أف أسأؿ‪ .‬لكنيا قالت‪ :‬ال تسألي‪ .‬وقالت الثانية‪ :‬لـ ن ُكف ُ‬ ‫ُ‬

‫نطمئف بأنو ألحد‪ .‬اآلف تغير األمر! لف يكوف وحيداً بعد اليوـ ‪..‬‬ ‫قبؿ أف‬ ‫ّ‬ ‫وابتعدتا ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫أستطع ‪..‬‬ ‫أي شيء‪ ،‬كممة حتى‪ ،‬لـ‬ ‫ُ‬ ‫حاولت أف أقوؿ شيئاً ‪ّ ،‬‬ ‫أبكي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فجمست ْ‬


) ٔ٘ (


‫تعرؼ ذلؾ ؟‬ ‫ىؿ‬ ‫ُ‬

‫أنا اآلف وحدي معؾ‪.‬‬ ‫ذىبف ‪ ،‬وبقينا وحدنا‪.‬‬ ‫كمّيف‬ ‫َ‬ ‫بعضيف‪:‬‬ ‫لكف‪ ،‬بيف يوـ وآخر يعود‬ ‫ّ‬ ‫الدنيا بخير‪.‬‬ ‫لسو بخير ‪..‬‬ ‫وحياتؾ الدنيا ّ‬ ‫ِ‬ ‫فيؾ‪.‬‬ ‫عمي ْ‬ ‫َ‬ ‫في‪ ،‬أو لبلطمئناف ّ‬ ‫يأتيف لبلطمئناف عمي َؾ ّ‬ ‫صالح قاؿ لي‪ :‬أكاف ال ب ّد أف تحرقي الصور؟ كاف يمكف أف يكوف لدينا اآلف ما يذ ّكرنا ِ‬ ‫بو‪ .‬وبكى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أريد أف يحزف بوجود كؿ تمؾ الصور بيف يديو‪.‬‬ ‫ولـ أكف ُ‬ ‫قمت لو‪ :‬أولـ تعرؼ بأنيـ قصفوا المقبرة‪ .‬لماذا يقصفوف مقبرة؟ إنيـ يتعبوف مف البحث عف صور لمذيف‬ ‫ُ‬ ‫قتموىـ‪ .‬رندة قالت لي إنيـ يريدوف أف يتأكدوا مف أف الذي قتموه قد قتموه تماماً!‬ ‫أريدىا كميا‪.‬‬ ‫وقمت لصالح‪ :‬سأعطي َؾ صورة واحدة‪ .‬فقاؿ‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫مخبأة‪.‬‬ ‫الولد ّ‬ ‫أحس ُ‬ ‫بأف الصور كميا موجودة ىناؾ‪ّ ،‬‬ ‫ىؿ تعرؼ؟ أنا ال أعرؼ كيؼ ّ‬ ‫لدي فييا منؾ أي شيء سوى الذكريات‪ .‬الذكريات التي أحييا‬ ‫لعمي ُ‬ ‫كنت أخشى أكثر منو لحظ ًة كيذه‪ ،‬ليس ّ‬ ‫تعود قادرة عمى‬ ‫وتذىب ‪ ،‬دوف أف تخمؼ لنا سوى الجنوف‪ .‬الذكريات التي تيرـ فبل‬ ‫وأكرىيا‪ ،‬التي تأتي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫استحضار ٍ‬ ‫وجو واحد نحبو ونحتاجو في لحظة ما‪.‬‬ ‫ذىبف‪.‬‬ ‫كمّيف‬ ‫َ‬ ‫كاف يمكف أف تكوف قدر أي و ٍ‬ ‫يسكف خارج ىذا التراب‪.‬‬ ‫منيف‪ ،‬بأف تكوف قدري الذي‬ ‫احدة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ليف في الوقت نفسو‪.‬‬ ‫ليس أسوأ مف أف أتمناؾ لي‪ ،‬وأتمناؾ ّ‬ ‫لسنا مبلئكة‪.‬‬ ‫اي‪.‬‬ ‫لكف األسوأ أف تكوف لي‪ ،‬وتصبح لسو ْ‬


‫أنت ألي و ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫احدة منا‪ ،‬أو ألي ٍ‬ ‫طفؿ‪،‬‬ ‫كنت في‬ ‫لحظات كثيرة أظ ّن َؾ ليا‪ ،‬أكثر مما َ‬ ‫أـ فؤاد التي استشيدت‪ ،‬تعرفيا! ُ‬ ‫يستحؽ أف بدي لو شيئاً كبي ارً‪ ،‬لـ ِ‬ ‫نبده‪ ،‬كي‬ ‫قمت أنؾ ليا فعبلً‪ ،‬واف ذلؾ الذي في القبر ماف‬ ‫ّ‬ ‫وحيف استش ِي َد ْت‪ُ ،‬‬

‫وقمت ‪ :‬إف اهلل يحبيا‬ ‫ذىبت‪ ،‬ذىبت شييدةً‪ ،‬وال شيء آخر‪،‬‬ ‫يكوف لواحدة منا‪ ،‬كاف يستحؽ الذىاب إليو‪ ،‬وىي‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫نستحؽ كؿ ىذا العذاب؟ كمنا أحسسنا أنيا‬ ‫وتساءلت‪ :‬ما الذي فعمناهُ ىنا عمى ىذه األرض كي‬ ‫أكثر منا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫غادرتو‪ ،‬أما األطفاؿ فكانوا أصغر‬ ‫أخذت َؾ ‪ ،‬ولمحظات كثيرٍة كنت أعتقد أف التراب الذي نجمس حولو فارغ‪ ،‬ألنؾ‬ ‫ُ‬ ‫صمت تماماً‪ .‬ولـ يعد ييمو شيء‪،‬‬ ‫مف أف يكوف عبلم ًة عمى شيء لـ يعودوا يرونو‪ ،‬سوى صالح‪ ،‬صالح الذي‬ ‫َ‬

‫حتى لميس‪.‬‬

‫لؾ شيئاً مما ِ‬ ‫يفيض فيقو ُؿ ِ‬ ‫بو‪.‬‬ ‫غرؽ أحزانو ُىناؾ‪ ،‬فمعمّو‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا‪ :‬خذيو لمبحر يا لميس‪ .‬خذيو لمبحر‪ .‬فمعمو ُي ُ‬ ‫ُ‬ ‫لكنو رفض‪.‬‬

‫ِ‬ ‫بالنسبة ليا‪.‬‬ ‫يدور كانت أفضؿ شيء‬ ‫أما نادية‪ ،‬فنعمة الجيؿ بما ُ‬ ‫حتى أنيا تضحؾ!‬ ‫قبؿ أياـ أفمتت مف بيف يدي أـ جواد‪ ،‬وراحت تركض بيف القبور‪.‬‬ ‫األطفاؿ ال يعرفوف شيئاً عف أولئؾ الذيف فييا‪.‬‬ ‫فأحسست بخجؿ شديد‪ ،‬كأنني أنا التي أضحؾ‪ ،‬أليست قطع ًة مني‪ ،‬خرجت مف لحمي‪ ،‬وسارت ىكذا‬ ‫وضحكت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وتكبر وتكبر‪ ،‬وأنت تنظر إلييا‪ ،‬ثـ فجأة تنفصؿ عف‬ ‫تكبر‬ ‫كمعجزة‪ .‬نعـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫تصور ىذا‪ :‬قطعة مف جسمؾ‪ُ ،‬‬ ‫أمامي ُ‬

‫جسدؾ وتبدأ في البكاء‪ ،‬ثـ بالضحؾ‪ ،‬ثـ باليرب منؾ‪ ،‬في البداية تدركيا‪ ،‬ولكنيا ما إف تجد أجنحتيا الكاممة‬ ‫الموت أف يكوف جزء منا قد‬ ‫نتناثر عبر والدنا‪ ،‬أتعرؼ لماذا؟ ألننا نحرص حيف يجيء‬ ‫حتى تطير وتبتعد‪ .‬نحف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أفمت منو‪ .‬ولكنو ُيدركيـ‪ ،‬تقوؿ لي؟!‬ ‫َ‬

‫نعـ يدركيـ‪ ،‬لكنيـ يكونوف بدورىـ قد تناثروا في أبنائيـ أيضاً‪.‬‬ ‫طارد‪ ،‬كمنا مطاردوف ىنا ‪ ..‬كمنا‪.‬‬ ‫الم ْ‬ ‫َ‬ ‫لست وحدؾ ُ‬ ‫تسير لموراء‪ ،‬إليؾ انت‪ ،‬إلى‬ ‫لكنني أعرؼ أف نادية تركض نحو فقدانؾ‪ ،‬أعرؼ أنيا كمما ابتعدت‪ ،‬اكتشفت أنيا‬ ‫ُ‬ ‫قمب طفؿ‪ ،‬أيف أنت؟ وسأبحث عف‬ ‫إلي‪ ،‬سؤاليا الكبير الثقيؿ الذي ال يحتممو ُ‬ ‫سؤاليا الذي ستحممو ذات ليمة ّ‬ ‫إجابة قد يحتمميا قمبي وقمبيا‪.‬‬

‫قمت لؾ ‪ :‬نحف وحدنا اآلف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ىؿ أصبح الوضع أفضؿ‪ ،‬أعني جسدؾ‪ ،‬ىؿ أعادوا لؾ بقية أجزائو؟‬


‫نموت عمى ىذه الصورة؟‬ ‫كامميف‪ ،‬فمماذا‬ ‫نولد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ولديؾ ‪ .‬ورندة قالت لي الكبلـ نفسو‪ .‬وجاءت لتكتب‬ ‫عميؾ أف تعودي اآلف لمبيت‪ .‬إلى‬ ‫أـ جواد قالت لي‪:‬‬ ‫اسم َؾ فوؽ ذلؾ التاريخ المعمؽ في اليواء ببل ٍ‬ ‫اسـ يسنده‪ ،‬التاريخ المتأرجح‪ ،‬التاريخ الذي قالت لي عنو رندة‬ ‫ظالـ ألف مائة عاـ مف التضحيات‪ ،‬لـ تقنعو بأننا أوالد ىذه الحياة أكثر مف أي كائف يتفنف في‬ ‫إنو تاريخ ٌ‬ ‫اقتبلعيا‪ .‬التاريخ الذي قالت عنو إنو ال يشبع وأنو كالنار‪ .‬وىا نحف‪ ،‬نصرخ في وجيو‪ :‬تريد أكثر؟ خذ‪،‬‬ ‫تريد مجزرةً‪ ،‬خذ‪ ،‬ونبكي‪ .‬وما زلنا نجري نحو تمؾ‬ ‫تريد أكثر‪ ،‬خذ‪ .‬أال يكفيؾ اليوـ مف قتموا فرادى؟ ُ‬ ‫ونبكي‪ُ .‬‬ ‫اكتفيت‪.‬‬ ‫المحظة التي سيقو ُؿ لنا فييا فجأة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫سأعود لؾ‪ ،‬نعـ‪ ،‬عمي أف أذىب‪ ،‬ألنؾ تقوؿ لي اذىبي‪ ،‬ال لسبب آخر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اثنيف مني في مقبرة واحدة‪.‬‬ ‫سأعيش إلى أف أرلى‬ ‫سأعود إليؾ ‪ .‬ولكنني لـ أكف أعرؼ أنني‬ ‫ُ‬ ‫حيف استشيد مصطفى‪ ،‬قمت لي‪ :‬ال تخشي شيئاً‪ ،‬فأنا ِ‬ ‫معؾ‪ .‬كاف ىذا يقويني قميبلً‪ ،‬رغـ أنني أعرؼ اف‬ ‫ِ‬ ‫عميو ألف السيارة التي كاف فييا كانت‬ ‫معي‪ ،‬ولف يعود‪ ،‬بعد أف أطمؽ المستوطنوف الرصاص‬ ‫مصطفى لـ ُ‬ ‫يعد ْ‬ ‫تحاو ُؿ تجاوز سيارتيـ‪ .‬ىؿ تتصور! أىذا سبب ٍ‬ ‫اإلنساف ىنا؟‬ ‫كاؼ كي يموت‬ ‫ُ‬

‫قمت لؾ‪ :‬ما داـ ىذا قدره‪ ،‬فالحمدهلل أنو استشيد قبؿ أف يعرفو صالح ونادية‪ .‬كانت ستكوف كارثة‪،‬‬ ‫ذات مرة ُ‬

‫تصور كيؼ يمكف أف يحتمموا فراؽ شخص مثمو‪ .‬ولكف ما يعذبني أنو راح بمحة عيف‪ ،‬ببل سبب‪.‬‬ ‫سأعود‪ ،‬ال تقمؽ عمينا‪.‬‬ ‫ال ‪ ،‬ال تقمؽ عمينا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مسافة تمنعؾ مف أف ترانا‪.‬‬ ‫لف نبتعد إلى‬ ‫سنظ ّؿ في مرمى بصرؾ‪ .‬أمامؾ‪ ،‬حولؾ‪.‬‬

‫أحس دائماً أف الحياة ستكوف قصيرة معؾ‪ ،‬حتى لو عشنا معاً مئة سنة‪ .‬يعذبني أنني‬ ‫كنت‬ ‫يعذبني أنني ُ‬ ‫ّ‬ ‫أحسستيا قصيرة‪ ،‬وىا ىـ يأتوف مف كؿ الجيات بدباباتيـ وطائراتيـ وجنراالتيـ كي يجعموىا أقصر‪ .‬كما لو أف‬

‫كؿ سنة سقتمعونيا مف روحنا ستضاؼ إلى أعمارىـ ويعمروف لؤلبد‪.‬‬ ‫سأعود إليؾ‪.‬‬ ‫لف أبتعد‪.‬‬


‫سألت رندة التي لـ تعد تقو ُؿ لي‬ ‫إلي القدرة عمى أف أسأؿ مف جديد‪ .‬أمس‬ ‫أمي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سألت رندة‪ ،‬أترى لقد عادت ّ‬ ‫قمت ليا ‪ :‬يا رندة‪ ،‬كانتا‬ ‫فجأة أنيا لميس‪ .‬سألتيا عف الفتاتيف المتيف لـ تبتعدا عف ترابؾ منذ ذلؾ اليوـ‪ُ .‬‬ ‫ِ‬ ‫حزينتيف دائماً‪ ،‬ولكنيما لـ تتكمما كثي ارً‪ .‬أليس كذلؾ؟ ىناؾ سر تخبئانو عميقاً‪ ،‬وال تريداف البوـ بو‪ .‬سر‬ ‫وكنت سأسأليما‪،‬‬ ‫يناـ في اختفائو الطويؿ؟‬ ‫ُ‬ ‫صعب‪ .‬أخشى أف يكوف متزوجاً مف إحداىما! واال‪ ،‬أيف كاف ُ‬ ‫ٍ‬ ‫لحظة ما اكتشفنا أننا نحبؾ‬ ‫وأحسست بأف أكثر مف امرأة كانت ستسأؿ‪ .‬ولـ نسأؿ‪ .‬أتعرؼ لماذا؟ ألننا في‬ ‫سألت رندة‪ .‬فقالت لي‪ ،‬لف تصدقي‬ ‫كمنا‪ .‬ألنؾ لـ ت ُكف ربما ألي واحدة منا تماماً‪ .‬أما بعد أف أصبحت لي‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫ما سأقولو ِ‬ ‫لؾ‪.‬‬ ‫سأصدؽ‪.‬‬ ‫فأقسمت ليا أنني‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫فقالت لي‪ُ :‬رغـ ذلؾ لف تصدقي‪.‬‬ ‫فقمت ليا‪ :‬سأصدؽ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تريد أف تعرؼ!‬ ‫ىا أنت مثمي ُ‬ ‫أحس بذلؾ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تريد أف تعرؼ‪!.‬‬ ‫ال تقؿ لي أنؾ ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتتممساف ترابو‬ ‫الجماؿ‬ ‫فتاتاتف بيذا‬ ‫نفسو مف أف يعرؼ حيف تكوف ىناؾ‬ ‫ال أظف أف أحداً يممؾ القوة كي يمنع‬ ‫ُ‬

‫بذلؾ الحناف‪.‬‬

‫ تعديف ِ‬‫ستصدقيف إذف؟ قالت لي‪.‬‬ ‫بأنؾ‬ ‫ّ‬ ‫في‪.‬‬ ‫ ْ‬‫أعد‪ .‬مف شاف اهلل يا رندة‪ ،‬يكفيني ما َّ‬ ‫حيرني‪ :‬إنيما مبلكاف!!‪.‬‬ ‫فقالت لي ىكذا‪ ،‬قاؿ لي‪ ،‬بيدوٍء ّ‬ ‫ أل‪ ،‬مستحيؿ‪.‬‬‫كنت أعرؼ ِ‬ ‫تصدقيني‪ ،‬قالت لي‪.‬‬ ‫أنؾ لف ّ‬ ‫ ُ‬‫ عند المساء‪،‬‬‫بعيني ىاتيف ضوءىما‬ ‫أيت أجنحتيما ألوؿ مرة‪ ،‬وكانتا أجمؿ مف قبؿ‪ .‬أجمؿ بكثير‪ ..‬رأيت‬ ‫ رأيتيما تعوداف‪ ،‬ر ُ‬‫ّ‬ ‫سمعت صوتيما‪ ،‬الصوت الذي ال يشبيو أي صوت آخر‪،‬‬ ‫إلي‪ .‬وفجأة‬ ‫ُ‬ ‫الشفاؼ‪ ،‬وظمتا تقترباف حتى وصمتا ّ‬


‫ش ْي عميو‪ .‬لف يكوف وحيداً معنا‪ ،‬سنظ ّؿ‬ ‫عمي أجنحتيما وقالتا لي‪ :‬اذىبي اآلف‪ .‬ال تخ َ‬ ‫صوت مف نور‪ ،‬أألقتا َّ‬ ‫ىنا إلى أف تعودي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تنسبلف بخفة‬ ‫تنيضاف‪ ،‬ثـ‬ ‫وىكذا في كؿ مرة‪ ،‬ما إف أص ُؿ إلى بوابة المقبرِة وأرى تراب َؾ ‪ ،‬حتى أبصرىما‪،‬‬ ‫تموحاف وتغادراف المقبرة مف الجانب اآلخر‪.‬‬ ‫المبلئكة التي ال‬ ‫ُ‬ ‫تجرح حتى اليواء‪ّ ،‬‬ ‫أمس‪.‬‬ ‫كؿ شيء أصبح بالنسبة لي أمس‪ ،‬حتى اليوـ‪ ،‬أتعرؼ ذلؾ؟‬ ‫عمي‪ .‬لـ يستطع أحد أف‬ ‫أمس‪ُ ،‬‬ ‫عمي يا رندة‪ ،‬صحيح إني أنج ّنيت‪ ،‬لكف ال تضحكي ّ‬ ‫قمت لرندة‪ :‬ال تضحكي ّ‬ ‫استطعت ِ‬ ‫ِ‬ ‫أنت؟ كيؼ ؟؟‬ ‫فكيؼ‬ ‫ذكور واناث‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يثبت أف المبلئك َة ٌ‬ ‫بقصتيما مف أوليا إلى آخرىا‪.‬‬ ‫فأخبرتني ّ‬ ‫أحس فييا بأف البشر يمكف أف يكونوا مبلئكة فعبلً‪.‬‬ ‫تمؾ كانت المرة األولى التي ّ‬ ‫قت ‪.‬‬ ‫اآلف ّ‬ ‫صد ُ‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا‪َ :‬‬


) ٔٙ (


‫لـ نكف نظف‬

‫خبأتيا آمنة‪ ،‬ووضعتيا ذات صبا ٍح بيف يدي ِ‬ ‫ستبعث الحياةَ فجأة داخؿ ذلؾ الطفؿ‪،‬‬ ‫ابنو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أف صور جماؿ التي ّ‬

‫وتحيمو إلى كائف آخر تماماً‪ ،‬كائف غير ذلؾ الذي عرفناىث منذ بكائو األوؿ وضحكتو األولى‪..‬‬ ‫ُ‬

‫شط شعره‪ .‬ويسأؿ أمو مرتيف‪ :‬ىؿ أشبيو‬ ‫يحمؿ الصور‪ ،‬كما لو أنو‬ ‫ميمة ‪ ،‬بعد أف يشد حزماه‪ ،‬وبم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ذاىب في ّ‬

‫فعبلً‪.‬‬

‫ تشبيو كثي ارً ‪.‬‬‫ ماؿ الذي ينقصني ألشبيو تماماً؟!‬‫ ينقص َؾ أف توف بعمره فقط‪ ،‬أف تكبر!‬‫يجب أف أشبيو منذ اآلف‪.‬‬ ‫ فقط؟ ّ‬‫أظف أف شعره كاف أطوؿ‪ ،‬سأطي ُؿ شعري‪ُ .‬‬ ‫تيز آمنة رأسيا‪ ،‬وتقوؿ لو‪ :‬دير بالؾ عمى حالؾ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫** ** **‬ ‫الباب الواصؿ بيف بيتينا‪.‬‬ ‫يطرؽ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫تفتح لميس‪ .‬يرتبؾ‪ .‬يتراجعُ خطوتيف‪ .‬أبصره‪ .‬أدعوهُ لمدخوؿ‪ .‬يدخؿ مرتبكاً‪ .‬وجد لميس كاف كافياً‪ ،‬دائماً‪،‬‬ ‫ُ‬

‫لتحويؿ الصبي إلى بركة عرؽ‪ ،‬فكيؼ وىو عمى ىذه الحاؿ‪ ،‬بشعره المرتب‪ ،‬وحزامو المشدود‪ ،‬ووجيو‬ ‫المضيء؟‬ ‫ سأترككما وحدكما‪ .‬تقو ُؿ لميس‪ ،‬وتخرج‪.‬‬‫اقبو وىو يتابعيا بعينيو‪ ،‬موشكاً عمى البكاء‪.‬‬ ‫أر ُ‬ ‫عـ صالح؟ أقو ُؿ لو ‪.‬‬ ‫ ما ىذه الشياكة يا ّ‬‫فييمس لي‪ :‬وطّي صوتؾ‪.‬‬ ‫فأىمسيا ىمساً‪ :‬ما ىذىالشياكة يا عـ صالح؟‬ ‫‪ -‬ىؿ أشبيو ؟‬


‫ مف؟‬‫أبي‪.‬‬‫أرجع رأسي إلى الوراء قميبلً ‪ ،‬أنظر إليو‪ ،‬تتغير مبلمحو‪ ،‬كما لو أنو ينتظر نتيجة امتحاف ستقرر مصيره إلى‬ ‫األبد‪.‬‬ ‫ الحؽ يقاؿ‪ :‬تشبيو‪.‬‬‫ إلى أي حد؟‬‫ كثي ارً‪.‬‬‫ أمي قالت لي ىذا الكبلـ‪ ،‬ولكف كيؼ يمكف أف أشبيو تماماً؟‬‫ بسيطة‪.‬‬‫ كيؼ بسيطة؟ قولي لي‪.‬‬‫ أف تكبر‪.‬‬‫ ما الذي يحدث في ىذا البيت‪ .‬أمي تقوؿ كبلماً‪ ،‬وتعيدينو ِ‬‫أنت‪.‬‬ ‫ ىؿ قاؿ أمؾ ىذا الكبلـ؟‬‫ بالحرؼ!!‬‫ إذف عميؾ أف تصدقنا‪.‬‬‫ ولكنني أريد أف أشبيو اآلف‪.‬‬‫وبيف لحظة وأخرى‪ ،‬ال ينسى أف يمقي نظرةً نحو باب الحوش خائفاً‪ ،‬أو متمنياً أف تظير لميس‪.‬‬ ‫ أيف ذىبت؟‬‫ مف ؟‬‫ ‪..‬‬‫‪ -‬تقصد لميس؟‬


‫بد أنيا عند جدتي‪ ،‬أو ربما تساعد أمي‪ .‬أنادييا؟‬ ‫ّ‬ ‫ييز رأسو‪ .‬ال ّ‬ ‫ ال‪.‬‬‫ ولماذا تسأؿ عنيا؟‬‫ ال أعرؼ‪.‬‬‫ لكنني أعرؼ‪.‬‬‫ تعرفيف ماذا؟‬‫ أنؾ تعزىا كثي ارً‪ .‬صحيح؟‬‫ صحيح‪.‬‬‫ أقصد كثي ارً جداً‪ .‬صحيح؟‬‫ صحيح‪.‬‬‫ أقصد كثي ارً جداً جداً جداً‪ .‬صحيح ؟‬‫ ىؿ ر ِ‬‫أيت كؿ صوره ؟‬ ‫ مف؟‬‫ أبي ‪.‬‬‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إلجابتو كي أعرؼ‪ .‬فيو يعرؼ أنني أعرؼ‪ .‬كاف ىذا يربكو‬ ‫بحاجة‬ ‫اإلفبلت‪ .‬ولـ أ ُكف‬ ‫َ‬ ‫بسؤاؿ واحد كاف يستطيعُ‬ ‫أحياناً‪ .‬وبخاصة‪ ،‬حيف تظير لميس فجأة‪ ،‬فتتحوؿ األنظار كميا إليو‪ .‬كما لو أنو ىو الذي دخؿ‪ ،‬في الوقت‬ ‫تشيح ىي‪ ،‬بوجييا بعيداً‪.‬‬ ‫الذي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫لدرجة أنني أتمنى النزوؿ إلى الشارع‪ ،‬شارعنا‪ ،‬وأف أعطي صالح ما‬ ‫منذ أياـ قالت لي‪ :‬كؿ حياتنا ُد ّمرت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ثـ ما ىذا الي‬ ‫يريد‪ ،‬فقط‪ ،‬مف أجؿ أف يقوؿ لي بصوت عاؿ أحبؾ يا لميس‪ .‬ولكنني أعرؼ أنو لف يقوليا‪ّ .‬‬ ‫أظف‬ ‫صي يقؼ في الشارع وينادي كما لو أنو يبيعُ الخيار‪ :‬بحبؾ يا لميس! تعرفيف يا رندة؟ ّ‬ ‫أفكر فيو؟ ولد قد ُن ّ‬

‫انيا كانت جميم ًة جداً حيف كاف يقوليا في الماضي‪.‬‬

‫جميمة ومقبولة‪ ،‬صحيح أنيا كانت تغيظني في بعض المواقؼ‪ ،‬لكنني اآلف أكتشؼ أنيا كانت جميمة‪ .‬لعيبل‬ ‫مر مف سنوات‬ ‫يعد‬ ‫كاف يا رندة‪ ،‬مع ّ‬ ‫صالح ذلؾ الطفؿ الذي َ‬ ‫ُ‬ ‫أجمؿ شيء حدث في شارعنا منذ ولدت‪ .‬لـ ُ‬ ‫أف ما ّ‬


‫نشبو أنفسنا كثي ارً‪ ،‬لكننا ال نشبييا تماماً‪ ،‬فيناؾ في‬ ‫نحف تماماً‪ ،‬كمما‬ ‫ُ‬ ‫نعد حتى ُ‬ ‫نعد ُ‬ ‫نحف‪ ،‬لـ ُ‬ ‫ليس كثي ارً‪ ،‬ولـ ُ‬ ‫الداخؿ أشياء كثيرة تتمنى أف تخرج وتحتؿ مبلمحنا التي ال تشبينا وخوفنا الذي ال يشبينا‪ ،‬وأحزاننا التي ال‬

‫تشبينا‪ ،‬وأفراحنا التي ال تُشبينا‪.‬‬ ‫قمت ليا‪ :‬مسموح لي أكتب ىذا الكبلـ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الكبلـ‪.‬‬ ‫النياية ىو ىذا‬ ‫أظف أف ك ّؿ ما سيبقى في‬ ‫فقالت لي‪ :‬مسموح‪ .‬اكتبي‪ّ .‬‬ ‫ْ‬ ‫تشبو نفسؾ‪ ،‬ويجع ُؿ الشارع يشبيف نفسو‪،‬‬ ‫الحرية ىي الشيء الوحيد الذي يجعمؾ‬ ‫وكتبت في دفتري أيضاً‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والبحر نفسو‪ ،‬والسماء نفسيا‪ ،‬والصباح نفسو‪ ،‬وقيوة جدتي نفسيا‪ ،‬والزىور نفسيا‪ ،‬والحب نفسو‪ ،‬والعمر‬ ‫تشبو نفسيا ىنا‪ ،‬ألنيا ليست‬ ‫نفيو‪ ،‬والطفولة نفسيا‪ ،‬والشيخوخة نفسيا‪ ،‬والمقبرة نفسيا‪ ،‬حتى المقبرة ال‬ ‫ُ‬

‫حرة‪ ،‬ليست حرة في أف تكبر يوماً بعد ٍ‬ ‫وتيرـ كما يريدوف ليا ال كما‬ ‫تولد‬ ‫بر ُ‬ ‫يوـ بصورٍة طبيعية‪ .‬حتى المقا ُ‬ ‫ُ‬ ‫تُريد‪.‬‬ ‫ ىؿ سيدفنونو ىنا؟‬‫ ال ىناؾ!‬‫ ىناؾ ؟‬‫ ولماذا؟‬‫ألف المقبرةَ امتؤلت‪.‬‬ ‫ ّ‬‫ امتؤلت‪ ،‬ولكف كيؼ؟‬‫ألف الموت كثير‪ .‬فقط ألف الموت كثير‪.‬‬ ‫ ّ‬‫** ** **‬ ‫شوي‪.‬‬ ‫حبيو‬ ‫ُ‬ ‫قمت لمميس‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫فحبيو ِ‬ ‫ِ‬ ‫صغير إلى ىذا الحد؟‬ ‫أحب فيخ وىو‬ ‫األمر ىكذا‬ ‫أنت‪ ،‬ثـ ماذا ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ إذا كاف ُ‬‫ِ‬ ‫ بعد سنو ٍ‬‫يجعمؾ اآلف‬ ‫الفرؽ الذي‬ ‫الفرؽ الذي أراه يتبلشى‪،‬‬ ‫ستكتشفيف أنو أصبح شاباً‪ ،‬وسينتيي ىذا‬ ‫ات‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫صبية كبيرة‪ ،‬ويجعمو صبياً صغي ارً‪.‬‬ ‫‪ -‬إنو ولد‪.‬‬


‫أكبر قميبلً‪.‬‬ ‫ ال ‪ُ ،‬‬‫إنو ُ‬ ‫** ** **‬ ‫ت حولي فأكتشؼ أف صالح اختفى‪.‬‬ ‫أتمفّ ُ‬ ‫يطرؽ باب جيراننا‪.‬‬ ‫أخرج لمحوش‪ ،‬أشرع الباب الحديدي عمى الشارع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أتمفت قي االتجاىيف‪ ،‬أراهُ‬ ‫ُ‬ ‫تخرج الجارة‪ .‬يبادرىا بالسؤاؿ‪.‬‬ ‫ ىؿ ر ِ‬‫صور أبي؟‬ ‫أيت‬ ‫َ‬ ‫الصوت‪ :‬ال‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وأسمعُ‬ ‫ِ‬ ‫سأريؾ إياىا إذف‪.‬‬ ‫‬‫ طيب أد ُخؿ‪.‬‬‫ش ُغ ْؿ!‬ ‫ شك ارً‪ ،‬وراي ُ‬‫تظير الجارةُ عمى العتية‪ ،‬ويبدأ ىو باستعر ِ‬ ‫بعد أخرى‪ .‬وحيف ينتيي يسأليا‪ :‬ىؿ يشبيني؟‪.‬‬ ‫اض الصور‪ ،‬واحدة َ‬ ‫ُ‬ ‫ كثي ارً‪.‬‬‫أحد أنو يشبيني تماماً؟!!‬ ‫ لماذا ال يقو ُؿ لي ٌ‬‫ترتبؾ الجارة‪ ،‬وأراه متجياً لمبيت التالي‪ ،‬يطرقو‪.‬‬ ‫أحد غيره‪.‬‬ ‫ك ّؿ مف في الحارِة أروا‬ ‫صور جماؿ التي يحمميا بيف يديو خائفاً عمييا‪ ،‬ومحاذ ارً أف يممسيا ٌ‬ ‫َ‬ ‫بعد الصور فجأة‪.‬‬ ‫حيف يرى يداً ّ‬ ‫تمتد‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫ ممنوع الممس! يقوؿ‪.‬‬‫عمي أف‬ ‫يعود حزيناً‪ ،‬يقوؿ لي‪ :‬ال أحد يقوؿ أنني أشبيو تماماً‪ ،‬كميـ‬ ‫ولكنو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يقولوف لي‪ :‬تشبيو كثي ارً‪ .‬ىؿ ّ‬ ‫أسأ َؿ لميس أيضاً؟‪.‬‬ ‫لميس؟‬‫أفاجأ بسؤالو‪.‬‬


‫ يا ريت ‪.‬‬‫ لماذا يا ريت ؟‬‫أرتب ُؾ‪ :‬ال لشيء‪ ،‬ولكف أظنيا كانت تستحؽ أف تُسأؿ منذ البداية‪.‬‬ ‫ ىؿ تعنيف بأنني تأخرت ؟‬‫تحدث‪ .‬أف تسأليا‪.‬‬ ‫ أبداً‪ .‬في مسائؿ كيذه ‪ ،‬ال يكوف ىناؾ أي تأخير‪.‬‬‫النيف أف ُ‬ ‫ّ‬ ‫ لميس‪ .‬لميس‪.‬‬‫ ال‪ .‬ال تُنادييا اآلف‪.‬‬‫ ومتى سأنادييا؟ لميس‪.‬‬‫ِ‬ ‫ليس أكثر مف سبع‬ ‫تظ ّؿ لميس بسرعة كما لو أنيا كانت طوؿ الوقت خمؼ الباب قريب ًة ‪ ،‬وأنسى أف حوشنا َ‬

‫خطوات‪.‬‬

‫ شو في؟‬‫ صالح حابب يسألؾ سؤاؿ‪.‬‬‫ إسأؿ !‬‫تحسف ليجتيا معو‪.‬‬ ‫أنيض‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لكي ّ‬ ‫ألخرج‪ ،‬وفي طريقي ألكزىا‪ّ ،‬‬ ‫ ابقي ىنا‪ .‬يقوؿ لي‪.‬‬‫أعود بسرعة‪.‬‬ ‫الحماـ و ُ‬ ‫ سأصؿ ّ‬‫أقؼ عمى ِ‬ ‫طوتيف مف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الباب‪.‬‬ ‫بعد ُخ‬ ‫لكنني ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لحظات وأنا أعرؼ أف ىناؾ اثنيف في الداخؿ‬ ‫الغرفة ييبط صمت‪ ،‬إلى حد أنني لو لـ أغادرىا منذ‬ ‫في داخؿ‬ ‫لظننت أنيا فارغة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ كيفؾ صالح ؟‬‫ مميح‪ .‬بس مش كثير‪.‬‬‫الصمت مف جديد‪.‬‬ ‫ويعود‬ ‫ُ‬


‫تريد أف تقوؿ شيئاً ‪ ،‬صحيح ؟‬ ‫ أظف أنؾ ُ‬‫ صحيح‪.‬‬‫ىو؟‬ ‫ وما َ‬‫أريد أف أسألؾ سؤاالً‪.‬‬ ‫ ُ‬‫ اسأؿ‪.‬‬‫عمي أف أريؾ أوالً صور أبي‪ ،‬وقبؿ ذلؾ‪ ،‬ىؿ تعاىدينني أف تقولي الصدؽ‪.‬‬ ‫ ولكف ّ‬‫ ِ‬‫أقسـ‪.‬‬ ‫ تقسميف عمى ماذا ؟‬‫ أف أقوؿ الصدؽ‪.‬‬‫ اآلف المسائؿ واضحة‪ .‬فاألوالد يخفوف نصؼ الكبلـ دائماً لكي يقسموا بشيء وىـ يفكروف بشيء آخر‪.‬‬‫اطمئف‪.‬‬ ‫‬‫ّ‬ ‫معمش‪ ،‬بإمكانؾ أف تُمسكييا‬ ‫ويعود الصمت مف جديد‪ .‬وأكاد أسمعُ صوت احتكاؾ الصور‪ ،‬ثـ أسمعو يقوؿ‪:‬‬ ‫ّ‬

‫بيدؾ‪.‬‬

‫ييوي قمبي في الخارج‪.‬‬ ‫ىؿ سمح ٍ‬ ‫ألحد أف يممس الصور أخي ارً !‬ ‫ آ ‪ ،‬ىؿ يشبيني ؟!!‬‫ الصحيح ؟‬‫ آ‪ ،‬الصحيح‪ ،‬ألـ تُقسمي؟‬‫ الصحيح ‪ ..‬يشبيؾ تماماً ‪.‬‬‫فجأة أسمع صرخة الصبي كما لو أنو يتابع مباراة كرة ٍ‬ ‫فريقو أجمؿ ىدؼ ليصؿ إلى أجمؿ فوز‪.‬‬ ‫قدـ يحقؽ فييا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫عرفت لماذا ِ‬ ‫الحد!‬ ‫ اآلف‬‫أحبؾ إلى ىذا ّ‬ ‫ُ‬


‫أستدير عائدة‪ ،‬فأجد لميس وحدىا ساىمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أسأليا‪ :‬أيف اختفى؟‬ ‫فتشير إلى الباب الذي ُيفضي لحوشيـ‪.‬‬


) ٔٚ (


‫عمياء‬ ‫نت‬ ‫لو ُك ُ‬ ‫َ‬

‫لقمت ًُ أف الموت أكثر مف الحياة ىنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫استندت إلى حمقو‪ ،‬وتأممت ىؤالء األوالد في‬ ‫لكنني كمما أوشكت أف أصؿ ليذه الحقيقة‪ ،‬فتحت الباب‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫الشارع‪.‬‬

‫يحيرني دائماً أف ىناؾ أفواجاً جديدة منيـ‪ ،‬في عمر واحد‪ ،‬فجأة يبزغوف‪ ،‬ىـ الذيف لـ يكف ليـ أي وجود ىنا‪.‬‬ ‫نوار الموز أو الميموف‪ .‬أفواج كاممة‪ ،‬لـ أكف رأيت أياً منيـ مف قبؿ‪ .‬يتعثروف وينيضوف‪،‬‬ ‫يبزغوف تماماً‪ ،‬مثؿ ّ‬ ‫فوج جديد‪ ،‬يمؤل الشارع‪ ،‬ويدفيـ نحو الحارة‬ ‫وقبؿ أف يستطيعوا الوصوؿ بمفردىـ إلى نياية الشارع يأتي ٌ‬ ‫األوسع ليكوف االرع لمفوج الجديد ولقموب األميات التي تتطمع مف شقوؽ النوافذ واألبواب نصؼ المشرعة‬

‫لبلطئمناف عمييـ‪.‬‬ ‫لو كنت عمياء‪،‬‬ ‫لقؿ إف الموت أكثر مف الحياة ىنا‪.‬‬ ‫الشيء الوحيد الذي لـ أستطع تخيو حتى اآلف‪ ،‬ىو كيؼ يولدوف فجأة‪ ،‬ويكبروف فجأة‪ ،‬ويغادروف الحارة‬ ‫فجأة‪ ،‬ويأتييـ الموت فجأة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الحياة قبؿ أف تنتيي‪.‬‬ ‫ينقض ممزقاً دورة‬ ‫الموت الذي‬ ‫يحيرني ىذا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ليتجاوز الحار ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ات القريبة والبعيدة وقمؽ‬ ‫يعيش‬ ‫أتيح لو أف‬ ‫ما الذي كاف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يمكف أف يكونو أي واحد منيـ ‪ ،‬لو َ‬ ‫أىمو عميو كمما سمعوا رصاصاً أو ىبط ليؿ؟‬

‫منذ ٍ‬ ‫تطمب منو عدـ إطبلؽ النار عمى أي ٍ‬ ‫طفؿ‬ ‫قيادتو‬ ‫يعترؼ فيو بأف‬ ‫ائيمي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أياـ قر ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أت حوا ارً مع قناص إلسر ّ‬ ‫يجب أف يكوف عمره أكبر مف ذلؾ حسب التعميمات‪ .‬فسألتو الصحفية‪ :‬ولكف‬ ‫عمرهُ أقؿ مف اثنتي عشر عاماً‪ُ ،‬‬ ‫كيؼ تعرفوف أف الطفؿ أكبر مف ذلؾ أو أصغر‪ ،‬وأنتـ ىنا خمؼ الحواجز أو فوؽ األبراج؟!‬

‫نطمب مف ك ّؿ طفؿ إبرَاز شيادة ميبلده قبؿ قتمو‪.‬‬ ‫نحف ال نستطيعُ أف‬ ‫فأجاب‬ ‫القناص ‪ُ :‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صالح حمؿ الصور‪ ،‬ومضى إلى ىناؾ‪ ،‬أبعد‪ ،‬إلى ذلؾ المكاف الذي استشيد فيو والده‪ ،‬ظؿ يسأؿ إلى أف عرؼ‬ ‫المكاف‪ ،‬وفوؽ ما تبقى مف ٍ‬ ‫رماد كاف يقؼ ساعات‪ ،‬وكمما مر شخص أوقفو ‪ :‬ىؿ تعرؼ ىذا؟ إنو أبي‪ ،‬وىنا‬ ‫استشيد‪.‬‬


‫ذات ٍ‬ ‫عنو‪ ،‬لـ نجده‪ ،‬سألنا في المستشفيات‪ ،‬في مراكز األمف الوطني‪ ،‬في‬ ‫يوـ اختفى مف أماـ أعيننا‪ ،‬بحثنا ُ‬ ‫الحارات‪ ،‬ولـ نعثر عميو‪.‬‬

‫كمنا كنا نبكي خائفيف أف تصؿ آمنة قبؿ رجوعو‪.‬‬ ‫مكاف و ٍ‬ ‫قالت أختي‪ :‬لـ يبؽ سوى ٍ‬ ‫احد‪.‬‬ ‫سألناىا ‪ :‬وما ىو؟‬ ‫قاؿ‪ :‬المكاف الذي استشيد فيو أبوه‪ ،‬ألنو سألني عنو‪.‬‬ ‫إلي‪ ،‬ثـ سألني‪ :‬ىؿ تعرفيف ىذا؟ إنو أبي‪ ،‬وىنا استشيد‪.‬‬ ‫ذىبنا‪ ،‬وجدناه ىناؾ‪ .‬حيف وصمتو نظر ّ‬ ‫لو ‪ :‬أعرؼ‪.‬‬ ‫قمت ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكاف متعباً ال يقوى عمى الوقوؼ‪.‬‬ ‫عدنا ِ‬ ‫بو‪ .‬وحينما وصمت آمنة‪ ،‬كاف قد ناـ‪.‬‬ ‫أرادت أف توقظو‪ ،‬ليناـ في فراشو‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫دعيو ىنا في بيتنا لمصباح‪ .‬الولد تعباف!‬ ‫‬‫ ولكف كيؼ أناـ ىناؾ وحدي مع نادية؟‬‫ نامي ىنا‪ .‬قالت ليا أمي‪.‬‬‫ترقب المشيد بعينيف دامعتيف‪.‬‬ ‫وكانت جدتي ُ‬ ‫ لكف ‪..‬‬‫ ال لكف وال غيره‪ .‬ياما نمنا عندؾ‪.‬‬‫** ** ** **‬ ‫االىتداء إلى مكاف وجوده صعباً‪ ،‬كمما اختفى‪ ،‬ولكننا أصبحنا أكثر حرصاً عمى أال يختفي أصبلً‪.‬‬ ‫لـ يعد‬ ‫ُ‬ ‫ذات ٍ‬ ‫يوـ قاؿ لي‪ :‬لـ أعد أستطيع النوـ‪.‬‬ ‫ليمى استيقظنا عمى صراخ آمنة;‬ ‫وذات ٍ‬


‫تشير إلى فراش‬ ‫المجروح‪ .‬وحيف وصمنا‪ ،‬كانت‬ ‫رحنا نجري نحو بيتيا‪ ،‬حتى أف جدتي أفاقت عمى ذلؾ الصراخ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫أي شيء‪ ،‬سوى صراخيا‪.‬‬ ‫صالح غير قادرة عمىقوؿ ّ‬ ‫اندفعنا نركض في الشوارع‪ ،‬أنا وىي وأمي‪.‬‬ ‫نخاؼ عمييا أكثر‪ ،‬رغـ أف سنوات مرت عمى ذلؾ اليوـ‪،‬‬ ‫قمنا لمميس ابقي ىنا‪ ،‬فمنذ استشياد سامر صرنا‬ ‫ُ‬ ‫شيء ما كاف يجعميا البنت ااألصغر لمعائمة‪ ،‬بعيداً عف الدقائؽ الخمس التي تفصؿ بيننا‪ .‬وقد كاف أكثر ما‬

‫يؤرقنا أنيا لـ تتحدث حوؿ سامر أبداً‪ .‬كأنيا لـ تكف تعرفو‪ .‬كأنو بـ يكف ذات يوـ عمى بعد خطو ٍ‬ ‫ات مف ىنا‬ ‫يموح ليا عند زاوية الشارع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بحثنا في شوارع المخيـ كميا‪ ،‬لـ نجده‪ ،‬قمنا لعمو عاد ‪ ،‬وحيف وصمنا‪ ،‬وجدناهُ نائماً‪.‬‬ ‫توقظو‪ .‬أمسكتيا أمي مف يدىا‪ ،،‬وكانت ترتجؼ‪.‬‬ ‫أرادت آمنة أف‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬دعيو‪ .‬الولد لـ يعد يناـ‪ .‬احمدي اهلل أنو استطاع أخي ارً‪.‬‬

‫** ** **‬

‫أستعيد صورتيما اآلف‪ :‬لميس وصالح‪ ،‬وأقو ُؿ ىنالؾ شي ما كاف يربطيما أكثر مما يبدو عمى السطح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫شيء عميؽ‪ ،‬ال أستطيع أف أفيمو‪ .‬ولـ ي ُكف خوفي مف اختفائيما فجأة ىو الشيء الوحيد‪.‬‬

‫** ** **‬

‫ال أناـ‪ .‬فمماذا أتركيـ يناموف‪ .‬قاؿ صالح لي‪ .‬وقاؿ‪ :‬إف لميس عاىدتو‪ :‬وأنا لف أترميـ يستريحوف في‬ ‫النيار!‪.‬‬ ‫عاىدت نفسي أال أتركيـ يناموف في الميؿ!‪.‬‬ ‫وقاؿ‪ :‬وأنا‬ ‫ُ‬ ‫قمت لو‪ :‬اتّفقتـ أخي ارً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نحف لـ نختمؼ‪!.‬‬ ‫فقاؿ لي‪ُ :‬‬


‫طمبت منو أف يوضح‪ .‬قاؿ لي‪ :‬أنا ال أعرؼ شيئاً‪ .‬أعرؼ أنيا قالت لي ىذا الكبلـ‪.‬‬ ‫وعندما‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫دخمت وجدتيا تحدؽ في ظير المرآة كما لو أنيا‬ ‫استشياد سامر‪ ،‬دخمت الغرفة‪ ،‬وقمبت المرآة‪ .‬وحينما‬ ‫بعد‬ ‫ُ‬ ‫ترى صورتيا‪.‬‬

‫وجود األغاني في ىذا العالـ صدفة‪ .‬فمـ تعد‬ ‫استعدت صورة لميس التي تغيرت فجأة‪ ،‬كما لو أنيا اكتشفت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ط‬ ‫الدار والمرآة أشبو بخط سير‬ ‫تتوقؼ عف سماعيا‪ .‬وأصبحت مشاويرىا بيف بوابة‬ ‫قطار ال يستطيعُ التقا َ‬ ‫ِ‬ ‫أنفاسو بيف محطتيف ال ثالث ليما‪.‬‬ ‫البنت قريباً‪ .‬تقو ُؿ لي جدتي‪.‬‬ ‫جف ىذه‬ ‫ ستُ ّ‬‫ُ‬ ‫ لماذا؟‪.‬‬‫ مش شايفاىا طوؿ النيار قداـ المراية ؟‬‫ لـ أفيـ ‪.‬‬‫ِ‬ ‫اإلنساف أماـ المرآة طويبلً‪.‬‬ ‫الجنوف أف يقؼ‬ ‫ يا ستّي ‪ ..‬أقرب ًُ الطرؽ إلى‬‫ُ‬ ‫ لماذا ؟‬‫خيالو في ىذه الحالة أكثر مما يرى نفسو‪.‬‬ ‫لسو بتسألي!! ألنو يرى‬ ‫ُ‬ ‫ لماذا؟‪ّ .‬‬‫ وما الذي يعنيو ىذا ؟‬‫سيتذكر نفسو ظبلً أكثر مما يتذكرىا‬ ‫ يعني أنو سيتذكر نفسو في المرآة أكثر مما يتذكر نفسو خارجيا‪ .‬يعني‬‫ُ‬

‫حقيقةً‪ ،‬ومع األياـ ال يعود يرى سوى الصورة‪ ،‬وبعدىا يختفي األصؿ‪.‬‬ ‫‪ -‬تخيفينني يا جدتي‪.‬‬

‫بأف ذلؾ المفعوص سيراىا‪ ،‬وتتأكد مف أنو يحمـ بيا‪،‬‬ ‫بر األماف! ما إف تتأكد ّ‬ ‫ ال‪ ،‬ال تخافي‪ .‬أختؾ ّ‬‫لسو عمى ّ‬

‫فيعود ليا عقميا!‬ ‫حتى تخرج صورتيا مف المرآة ألنيا ستراهُ ىو فييا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ واهلل ما أنا فاىمة ‪.‬‬‫ِ‬ ‫عميؾ‪.‬‬ ‫‪ -‬أصمؾ صغيرة‪ ،‬بدري‬

‫عمي‪ ،‬صحيح أف رأسي صغير‪ ،‬ولكف واهلل إنني أفيـ كؿ شيء‪.‬‬ ‫ يا ستي شو بدري ّ‬‫ ِ‬‫بعد كبلمي‪.‬‬ ‫لكنؾ لـ تفيمي ُ‬


‫ سأكتبو‪ .‬ربما أفيمو ذات يوـ‪ .‬ىؿ يمكف أف تعيدي ما قمتيو‪.‬‬‫قمتو نرة ثانية؟ ىذا الكبلـ ال ُيعاد‪ .‬ألنو يخرج ىكذا مرة‬ ‫ يا مصيبتي‪ ،‬وكيؼ‬‫ميماً مثؿ الذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫سأعيد كبلماً ّ‬

‫واحدة‪.‬‬

‫ عمى شاني‪.‬‬‫ سأحاوؿ‪ .‬المعنى عمى األق ّؿ‪.‬‬‫أكتب‪ .‬وحيف أنتيي تقو ُؿ لي‪ :‬وما الذي ستفعمينو بكبلـ ستؾ‪ .‬خوفي أف‬ ‫أذىب ‪،‬‬ ‫أحضر دفتري‪ُ ،‬‬ ‫تعيد كبلميا و ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أراهُ في الجرايد حيف تكبريف!‬ ‫ ال‪ ،‬اطّمئني‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وصفية قالت ىيؾ وما‬ ‫الشر بعيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ىذا الكبلـ لؾ وحدؾ يا رندة!! ما بدي تصير الناس تقوؿ‪ ،‬بعد ما أموت‪ّ ،‬‬

‫قالت ىيؾ!!‬

‫تحدؽ في‪ :‬ىذا الكبلـ ِ‬ ‫لؾ ألنؾ ستفيمينني‪ .‬أنا عارفة إنو راسؾ صغير‪ ،‬بس أنا متأكدة إنو م ّخ صافي !‬ ‫ثـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫** ** **‬

‫األقرب إلييا‪ ،‬وما إف نفتحيما حتى‬ ‫أف صالح ىو‬ ‫ُ‬ ‫كما لو ّ‬ ‫الوحيد الذي يذ ّكر لميس بسامر‪ .‬نغمض أعيننا فنراهُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫خاطفة ذات ٍ‬ ‫حمـ‬ ‫لحظة‬ ‫تقصيو بعيداً‪ .‬كما لو أنو السبب في كؿ ما جرى‪ .‬ويغدو تقربو إلييا معجزةٌ تحققت في‬ ‫ال عبلقة لو بالواقع‪.‬‬

‫** ** **‬ ‫األمر كاف يربكو‪ .‬يربكو كثي ارً ‪ ،‬أكثر مف مرة بكى‪ .‬قاؿ لي‪ :‬لكف لميس مش ىيؾ‪.‬‬ ‫ىذا ُ‬ ‫أذني‪.‬‬ ‫فأطمب منو أف يشرح‪ .‬فأكاد ال أصدؽ ّ‬ ‫ِ‬ ‫تفعمو‬ ‫عميو‪ ،‬أف تجعمنا نتأد مف أنيا لف تسامحو‪ .‬وحيف نختفي يكوف الشيء الوحيد الذي‬ ‫أشد ما تحرض‬ ‫كاف ّ‬ ‫ُ‬

‫عكس ذلؾ‪.‬‬


‫وضعت خطاً كعبلمة‪ ،‬ألعرؼ إف كانت تقمبيا لترى نفسيا في‬ ‫حد أنني‬ ‫اقب المرآة‪ ،‬بؿ‬ ‫وصمت إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وصرت أر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫غفمة منا أـ ال‪ ،‬وكاف الشيء الذي أخافني أنيا لـ تكف تفع ُؿ ذلؾ أبداً‪.‬‬ ‫قمت لجدتي كؿ شيء‪.‬‬ ‫ونحف ننظر إلييا!‪.‬‬ ‫البنت مف بف أيدينا‬ ‫تسربت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فقالت ‪ :‬لقد ّ‬


) ٔٛ (


‫أستطيعُ أف أنادييا فتجيب‪.‬‬

‫قمت لي‪..‬‬ ‫أنا وحدي الذي أعرؼ أيف ىي‪ .‬أنا وحدي الذي أستطيعُ أف أنادييا فتجيب‪َ .‬‬ ‫الحد‬ ‫قمت لؾ‪ :‬مف شاف اهلل يا صالح‪ .‬ليس لي غيركما‪ ،‬أنت وأختؾ‪ .‬لميس ستعود وحدىا‪ ،‬ىي كبيرة إلى ذلؾ ّ‬ ‫تضيع طريؽ البيت‪.‬‬ ‫الذي لف يجعميا ّ‬ ‫ولكف أبي كاف أكبر منيا ولـ يستطع أف يعود !‬ ‫ َّ‬‫وسرقت‬ ‫غافمتيـ‬ ‫وحيف بكت رندة قمت ليا‪ :‬اعطيني صورتيا‪ .‬وحيف قالت‪ :‬بعديف‪ .‬سأعطيؾ إياىا بعديف‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫المرآة!‬

‫قمت لي‪ :‬الحمدهلل أف وجو المر ِ‬ ‫في ِ‬ ‫آة كاف طواؿ تمؾ الفترة إلى الحائط‪.‬‬ ‫البيت َ‬ ‫قمت لي‪ :‬ألف صورة لميس بقيت فييا!‪.‬‬ ‫وقبؿ أف أسألؾ لماذا؟ َ‬ ‫أعرؼ كيؼ تصبح الحياة صعبة لكنيا لف تكوف مستحيم ًة يا صالح‪ ،‬ما دمنا معاً‪ ،‬أعرؼ كيؼ يفتقد‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫تطبؽ الدنيا عمى صدره‪ ،‬كما تطبؽ مطرق ُة عمى عمبة معدنية فارغة‪ .‬أعرؼ ذلؾ‪.‬‬ ‫اإلنساف اليواء فجأة‪ ،‬وكيؼ‬ ‫ُ‬

‫تخبرني‪.‬‬ ‫البيت قبؿ أف‬ ‫ورجوتؾ أال تغادر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫قمت‪ :‬و ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وقمت‪:‬‬ ‫وصمت قميبلً‪،‬‬ ‫أنت‪،‬‬ ‫العالـ سوى لميس‪،‬‬ ‫قمت لي‪ :‬لو لـ ي ُكف في‬ ‫َ‬ ‫ثـ َ‬ ‫أتذكر حيف َ‬ ‫ُ‬ ‫وصمت قميبلً؟‪ّ ،‬‬

‫َّ‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫السماء‬ ‫ونحف وحدنا ىنا‪ ،‬ببل جنود‪ ،‬كانت‬ ‫وصمت قميبلً‪،‬‬ ‫ونادية وأبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ستكوف أجمؿ و ْ‬

‫عميؾ‪،‬‬ ‫تخاؼ‬ ‫ففرحت‪ ،‬فرحت كثيراً بما سمعت‪ ،‬ثـ قالت لي بأنيا‬ ‫أعدت عمى مسامع رندة ما قمتَو لي‪،‬‬ ‫لقد‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫لي أكتب ىذا الكبلـ؟‬ ‫حيف سألتني‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وتأكدت مف ذلؾ َ‬ ‫ٌ‬ ‫مسموح ْ‬

‫فقمت ليا‪ :‬ولـ ال !؟‬ ‫ُ‬ ‫تكتبيف أكثر مما قالو‪ ،‬ما قالو ليس بيذا الطوؿ‪.‬‬ ‫فذىبت وأحضرت دفترىا‪ ،‬وراحت تكتب وتكتب‪ .‬قمت ليا‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ولمف‪.‬‬ ‫قالو ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أكتب متى ُ‬ ‫فقالت لي‪ :‬ال تقمقي‪ .‬إنني ُ‬

‫الشيداء األطفاؿ‪ ،‬وذات ٍ‬ ‫وبكت‪ ،‬ألف الصور أصبحت كثيرة‪،‬‬ ‫يوـ أتت‬ ‫كانت تجمعُ صور‬ ‫تعرؼ رندة‪ ،‬منذ عرفتيا‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫بشر‪ .‬سألتيا‪ :‬شو في يا رندة‪ .‬فقالت‪ :‬رغـ ىذا العدد الكبير مف الصور‬ ‫ثـ ر ُ‬ ‫أيت حزناً لـ أره مف قب ُؿ عمى وجو ْ‬ ‫الموت‪ .‬وبكت‬ ‫تصوروا‪ .‬الصورة الوحيدة التي ليـ ىي التي التقطت بعد‬ ‫ْ‬ ‫إال أف ىناؾ شيداء لـ يسبؽ ليـ أف ّ‬ ‫الموت‪.‬‬ ‫كانت مشوىة بسبب الرصاص والشظايا‪ ،‬بسبب‬ ‫ْ‬ ‫ألف بعض الصور كانت ال تُشبييـ‪ ،‬ألف وجوىيـ ْ‬ ‫ّ‬


‫سألتني‪ :‬كيؼ أضعُ صورةً كيذه ليـ بيف الصور وقد كانوا أجمؿ؟‬ ‫ْ‬ ‫بو‪.‬‬ ‫قمت ليا‪ :‬اكتبي عنيـ‪ ،‬اكتبي بعض ما قالوه‪ ،‬ما حمموا ْ‬ ‫يوميا ُ‬ ‫اء‪ ،‬دوف أف تكوف معيا‪ .‬وفي ٍ‬ ‫بيت عز ٍ‬ ‫فمـ تعد تترؾ أميا تذىب إلى أي ِ‬ ‫ويتحدثف‪،‬‬ ‫النساء يبكيف‬ ‫وقت كانت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كبلميف عف آخر ما قالو الشيداء الصغار‪ ،‬عف آخر ما فعمُوه‪.‬‬ ‫تبحث بيف‬ ‫كانت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫تجمس وتكتب‪ ،‬وحيف أمر بيا أرى عينييا حمراويف بسبب الدموع الكثيرة التي ذرفتيا‪.‬‬ ‫لمبيت‪،‬‬ ‫وحيف تعود‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫أسأليا‪ :‬تبكيف! أما ِ‬ ‫بكيت ىناؾ‪.‬‬ ‫بكيت‪ ،‬ولكف حيف أكتب عنيـ أحس بأنني أعرفيـ ‪ ،‬بأنني أعيشيـ وعشتيـ‪ ،‬فأكتشؼ دائماً أ ّنني لـ ِ‬ ‫أبؾ‬ ‫‬‫ْ‬ ‫لي‪.‬‬ ‫يميؽ‬ ‫ىناؾ بما ُ‬ ‫ْ‬ ‫بفقدانيـ‪ .‬ىنا‪ ،‬حيف أصبح وحدي‪ ،‬أحس بأنني أنا التي فقدتيـ‪ ،‬وأدرؾ أنيـ كانوا ْ‬ ‫لي‪ :‬نفسي ينتيي االحتبلت قبؿ ما يخمص ىالدفتر‪.‬‬ ‫وتقو ُؿ ْ‬ ‫ِ‬ ‫دفاتر مثبتةالواحد منيا باآلخر‪ .‬وقالت لي‪:‬‬ ‫اشترتو‪ ،‬كاف أشبو بعشرة‬ ‫كنت أنظر إلى دفترىا‪ ،‬وأقو ُؿ مف أيف‬ ‫ُ‬

‫لسبب قد ال يخطر عمى ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أحد‪ ،‬حتى ببالؾ يا خالتي آمنة‪ .‬أبكي ألف خطي أصبح‬ ‫يصغر يوماً‬ ‫أبكي أحياناً‬ ‫باؿ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أبكي‪.‬‬ ‫الجنود في الشوارع‬ ‫أيت‬ ‫بيضاء‪،‬‬ ‫صفحات‬ ‫نظرت إلى ما تبقى مف‬ ‫يوـ‪ ،‬وكمما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وخرجت ور ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بعد ْ‬ ‫أعود و ْ‬ ‫انتييت مف ٍ‬ ‫تحدثني‪ ،‬وتحدثؾ‪ ،‬وتحدث‬ ‫زمف طويؿ‪ .‬ىؿ تبلحظُ كيؼ‬ ‫لكنت‬ ‫البنت‪،‬‬ ‫صالح‪ ،‬لوالىا ىذه‬ ‫تعرؼ يا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫عجبي‪ ،‬أما اآلف‪ ،‬فبل‪.‬‬ ‫يثير‬ ‫نادية‪ ،‬إنيا ال تنسى نادية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األمر ُ‬ ‫وتحدثيا كما لو انيا بنت كبيرة‪ ،‬في البداية كاف ُ‬ ‫ْ‬ ‫ويجب أف تظؿ كذلؾ‪.‬‬ ‫أشياء ال يمكف أف تفيـ‪،‬‬ ‫ىناؾ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫تعرؼ أف لميس بـ تعد مثؿ زماف‪ ،‬كبرت‪ ،‬ولكنؾ كبرت أيضاً‪ ،‬كبرت واستطعت المحاؽ بيا‪ ،‬ىذا الكبلـ قمتو‬ ‫ُ‬ ‫تنظر إلييا أخي ارً‪.‬‬ ‫قالتو‬ ‫لرندة‪ ،‬ولـ تستغرب‪ ،‬ىي نفسيا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫لمميس‪ ،‬أو قالت شيئاً يشبيو‪ ،‬أتذكر كيؼ أصبحت ُ‬ ‫ٍ‬ ‫األسود فوؽ‬ ‫الناعـ‬ ‫أيت ذلؾ الزغب‬ ‫شيء تغير‪ ،‬ولـ أكف‬ ‫ىناؾ‬ ‫َ‬ ‫بحاجة إلى أف أتوقع شيئاً وأنا أشاىده‪ .‬فجأةً ر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫تناثرت عمى طرفي أنفؾ وعمى أرنبتو بخجؿ‪ .‬تعرؼ‪ ،‬دائماً أحببت‬ ‫أيت بعض الحبوب التي‬ ‫ْ‬ ‫العمياْ‪ .‬فجأة ر ُ‬ ‫شفتؾ ُ‬ ‫ِ‬ ‫أصغر‪.‬‬ ‫تقؼ عمى وجيو أرنبة‬ ‫ىاتيف الكممتيف‪ :‬أرنبة األنؼ‪ .‬يوميا‬ ‫أحسست بأن َؾ صبي أرنب ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ىا ىي نادية بدأت تضحؾ‪..‬‬ ‫ي ِ‬ ‫عجبؾ ىذا يا شقية !‬ ‫ُ‬ ‫يقيف‪ ،‬بأف ىنالؾ شيئاً تغير‪ ،‬ولكف الذي لـ يتغير ىو إصرارؾ عمى الذىاب إلى ذلؾ الموقع الذي‬ ‫كنت عمى ْ‬ ‫ُ‬ ‫ويعطونؾ‬ ‫يقفوف‬ ‫أحد يبتعد مشيحاً بوجيو‪ ،‬كانوا كميـ‬ ‫َ‬ ‫ليـ‪ ،‬ولـ يكف ٌ‬ ‫َ‬ ‫استشيد فيو أبوؾ‪ ،‬تخرج صوره‪ ،‬وترييا ُ‬


‫إلقاء‬ ‫الوقت الكافي لقوؿ ما تريد‪ .‬بعضيـ يبكي‪ ،‬وبعضيـ يراؾ أصغر عم ارً ‪ ،‬يرونؾ طفبلً لـ يكف مف العدؿ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جبؿ مف العذاب فوؽ صدرْه‪.‬‬ ‫أريد أف أقوؿ لؾ شيئاً ‪ ،‬وال تضحؾ عمي‪ ،‬مثمما يضحؾ أبوؾ‪ ،‬ىذا الضح ُؾ سبب ٍ‬ ‫عؿ‬ ‫كاؼ ألف أز َ‬ ‫ولكف‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫عميكما‪:‬‬ ‫ لقد كنت متأكدة مف أف لميس ستكوف زوجتؾ‪.‬‬‫تبكي‪.‬‬ ‫ىا أنت تضحؾ‪ .‬تضحؾ أـ‬ ‫ْ‬ ‫تبكي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ال ‪ .‬أريد َؾ أف تضحؾ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ع‪.‬‬ ‫يكفيو‪،‬‬ ‫غزة فيو ما‬ ‫ُ‬ ‫بحر ّ‬ ‫أي ُدمو ْ‬ ‫يعد بحاجة إلى ّ‬ ‫بحيث لـ ُ‬

‫** **‬

‫الذي أفرحني أف لميس لـ ِ‬ ‫كنت أتوقع‪ .‬وقد كنت حريص ًة عمى أف أرى‬ ‫تأت مجنون ًة لمبحث عف مرآتيا كما ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أي انفعاؿ‪.‬‬ ‫نظرتيا لممكاف الذي كانت المرآة معمقة فيو‪ .‬فمـ تُبد ّ‬ ‫رندة أسرت لي‪ :‬أف لميس لـ تعد ترى نفسيا‪.‬‬ ‫سألتيا‪ :‬كيؼ ؟‬ ‫ٍ‬ ‫بحاجة إلى مرآة‪ ،‬ألنو أصفى مف أي مرآة‪ ،‬وصورتو تجرحو!‬ ‫تحس بأنيا طيؼ‪ ،‬وأف الطيؼ ليس‬ ‫فقالت‪ :‬إنيا ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القميمة التي كاف يختفي فييا القناصوف‪،‬‬ ‫القميمة التي لـ ي ُكف ُيسمعُ فييا رصاص‪ ،‬في األياـ‬ ‫أتذكر‪ ،‬في األياـ‬ ‫ِ‬ ‫أشياء ال تعرفيا‪ ،‬وىي تحدؽ في اليواء بفوىات مدافعيا‪ ،‬كانت لميس تصعد‬ ‫بالبحث عف‬ ‫الدبابات‬ ‫وتنشغؿ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫مكاف يمكف أف تراه‪ ،‬وفي كؿ مرٍة كانت تقوؿ‪ ،‬لقد استطاعت اليوـ أف ترى أكثر‬ ‫لمسطح‪ ،‬ترسؿ بصرىا إلى أبعد‬ ‫ْ‬ ‫مف يوـ أمس‪.‬‬

‫رندة سألتيا‪ :‬وماذا ر ِ‬ ‫اليوـ‪ .‬قالت‪ :‬ليس ميماً مقارن ًة بالذي سأراهُ غداً!‬ ‫أيت‬ ‫ْ‬ ‫فتيعد ما قالتو‪.‬‬ ‫وكاف ىذا يحيرنا‪ ،‬وفي اليوـ التالي‪ ،‬أسأليا أنا‪ ،‬أسأليا بنفسي‪،‬‬ ‫ُ‬


‫تصعد لمسط ِح كي ترى ما تراه لميس‪.‬‬ ‫وىكذا أصبحت رندة‬ ‫ُ‬ ‫فقمت لعميا تنظر لمبعيد كي تراؾ ىنا‪ .‬ويا ريتني لـ أقؿ ىذا الكبلـ ‪،‬‬ ‫لكف ما كاف يريحيني أنيا بدأت تراؾ أكثر‪ُ .‬‬ ‫أو يخطر ببالي‪.‬‬

‫** *‬

‫الحد ولـ أكف أعرؼ!‬ ‫ىيؾ‪ ،‬إذف! المسائؿ وصمت إلى ىذا ّ‬ ‫بد مف أف أعرؼ أم ارً كيذا‪ ،‬مصادفة‪ ،‬مف لميس‪،‬‬ ‫قمت لرندة‪ ،‬كيؼ ال تكونيف صريح ًة معي يا رندة‪ .‬أكاف ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫أسترؽ السمع؟‬ ‫وأنا‬ ‫ّ‬

‫لـ تُجب رندة ‪ ..‬وكنت أعرؼ‪ ،‬ما الذي يمكف أف تقولو!‬ ‫اشتريت ثوب الزفاؼ‪ .‬وحيف رأتو طار عقميا‪ ،‬فراحت ترجوني‪ :‬مف شاف اهلل‪ ،‬أعطيني إياه‬ ‫لكنني فاجأتيا‪ :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫يا خالتي آمنة ‪ ..‬مف شاف اهلل ‪.‬‬

‫قمت ليا‪ :‬ال‪ ،‬ىذا لمميس يعني لمميس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فقالت لي‪ :‬ولكف أنا لميس‪.‬‬ ‫فقالت لي‪ :‬ال ِ‬ ‫أنت رندة‪ .‬ال تجننيني‪.‬‬ ‫فقالت‪ :‬خبلص أنا ردنة‪ .‬ولكف أال تبلحظيف أف الفستاف صغير؟‬ ‫ نعـ أالحظ‪ ،‬وىؿ تعتقديف أنني عمياء؟ ألـ أقؿ ِ‬‫لؾ أف الذيف يحبوف بعضيـ البعض يتحولوف إلى طيور‬ ‫صغيرة ؟!‬ ‫ ال‪ ،‬لـ تقولي ىذا الكبلـ عمف يحبوف بعضيـ البعض‪ ،‬قمتيو عف أولئؾ الذيف يستشيدوف صغا ارً‪.‬‬‫ منذ متى لـ تعودي قادرة عمى أف تفيميني يا رندة؟ منذ متى؟ تسألينني سؤاالً كيذا‪ ،‬وىؿ ىناؾ فرؽ بيف‬‫ىؤالء‪ ،‬وىؤالء ؟‬ ‫تصور أف رندة التي تعرؼ كؿ شيء‪ ،‬قالت لي ال أعرؼ!‬ ‫ ال أعرؼ‪ .‬قالت لي‪ّ .‬‬‫ِ‬ ‫اآلف‪.‬‬ ‫فقمت ليا‪ :‬لقد‬ ‫عرفت ْ‬ ‫ُ‬


‫** ***‬

‫صالح ‪ ،‬يا صالح ‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ييب بعد اليوـ ‪..‬‬ ‫لف تعود‬ ‫بحاجة ليواء ّ‬


) ٜٔ (


‫تأخر‪ّ ،‬دقت عمى بابنا ‪..‬‬ ‫عندما َ‬

‫كثيروف‪ ،‬يجب أف‬ ‫الذىاب إلى مستشفى الشفاء‪ ،‬ىناؾ أطفا ٌؿ‬ ‫عمي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫خرجت‪ ،‬قالت لي آمنة‪ :‬قد أتأخر اليوـ‪ّ ،‬‬ ‫أتحدث مع أىميـ‪ ،‬وكانت شبو تائية ‪.‬‬ ‫ حيف يأتي صالح ‪ ،‬دعيو عندكـ حتى أعود ‪.‬‬‫وابتعدت وىي ممسكة ِ‬ ‫بيد ابنتيا ‪.‬‬ ‫سألتيا‪ :‬ونادية ؟‬ ‫وقت ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كاؼ ‪.‬‬ ‫لدي ٌ‬ ‫نادية سأمر عمى الحضانة وأحضرىا بنفسي‪ ،‬سيكوف ّ‬ ‫نعرؼ كمنا أف صالح تغير بعد أف حدث ما حدث ألبيو‪ ،‬كأنو أدر َؾ بغريزِة االبف ‪ ،‬ىؿ لبلبف غريزة كغريزة األـ؟‬

‫ٍ‬ ‫ضربة‬ ‫تستطيع احتماؿ‬ ‫أمو لف‬ ‫ِلـ ال‪ ،‬أوليس‬ ‫أف ُ‬ ‫كأف صالح أدر َؾ ّ‬ ‫األـ‪ ،‬مف لحميا وروحيا ؟ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫االبف مف رحـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قاتمة أخرى في القمب‪.‬‬ ‫لـ يعد يغادر البيت إال إذا طمب اإلذف منيا‪ ،‬وبعد ٍ‬ ‫زمف لـ يعد يغادرهُ أبداً ‪ ،‬لـ تعد عيناه تفارقانيا‪ ،‬وحيف يحس‬ ‫ِ‬ ‫الغرفتيف ‪ ،‬ينيض ليتفقدىا مختمقاً أسباباً ال تقنع أحداً‪.‬‬ ‫أنيا تأخرت أكثر مف البلزـ في إحدى‬

‫عميو‪ .‬أريده أف يطيعني‪ ،‬ولكف ليس إلى ىذا الحد! كما لو أف المكاف الوحيد الذي كاف‬ ‫أصبحت أشفؽ‬ ‫ لقد‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫مستعداً أف يذىب ِ‬ ‫إليو ىو المكاف الذي استشيد فيو أبوه‪ ،‬حيف قمنا لو‪ :‬كفى ‪ ،‬لـ يعد يغادر البيت‪ .‬أريده أف‬ ‫عسكرية بعيدةً بحجر فميقذفيا‪.‬‬ ‫دوري ًة‬ ‫يخرج‪ ،‬أف يمعب‪ ،‬أف ‪ ..‬واذا ما اشتيى أف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يقذؼ ّ‬

‫كانت آمنة تقو ُؿ ذلؾ ألمي وتعيدهُ لنا فرداً فرداً وىي حزينة‪ .‬دوف أف تدري أف صالح ال يسعى إلرضائيا‪ ،‬بقدر‬ ‫تغيب أمو عف عينيو‪.‬‬ ‫يريد أف‬ ‫ما بدأ يخاؼ عمييا‪ .‬كما لو أنو ىو الذي ال ُ‬ ‫َ‬

‫** **‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نفسؾ أف يكوف‬ ‫ي إف كنت تتمنيف في‬ ‫أمي قالت لي‪ :‬إذا كنت رندة‪ ،‬فإنؾ تعذّبيف نفسؾ بيذا الولد‪ ،‬وال أدر ْ‬ ‫أخاؾ أو يكوف شيئاً آخر؟ أـ أنؾ ما ز ِ‬ ‫ِ‬ ‫لت تعتقديف أنؾ البنت التي لـ تزؿ تتمنى الحصوؿ عمى تمؾ‬ ‫صالح‬ ‫المعبة التي اختارت أختيا‪.‬‬ ‫لـ أفيـ ما قالتو أمي ‪ ،‬في البداية‪ ،‬عف ٍ‬ ‫قالتو مف‬ ‫أدركت أنيا قالت كؿ ىذا الكبلـ‪ ،‬ألنيا‬ ‫لعبة تختار‪ ،‬لكنني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫لحظة صفاء‪.‬‬ ‫قمبيا في‬

‫** **‬

‫كانت في المستشفى‪،‬‬ ‫الولد يبكي‪ ،‬الولد الصغير الذي بعثرت رصاصة الدمدـ نصؼ عاموده الفقري‪،‬‬ ‫آمنة كانت في المستشفى‪ ،‬وكاف ُ‬

‫ِ‬ ‫ساقيف يجري بيما‪ ،‬أو يكذب بيما حيف يغير عمى سيارات الجنوِد ويقوؿ ألمو‪ :‬بيما‬ ‫وخّمفتو ببل قامة ‪ ،‬ببل‬ ‫ِ‬ ‫ومطاردة‬ ‫أف آمنة ستأخذه مف أمو كما أخذتو الرصاصة مف المعب‬ ‫كنت ألعب الكرة! كاف‬ ‫الولد يبكي خائفاً مف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الجنوِد والتجرؤ عمى الحواجز‪.‬‬

‫فجأةً مؤلت الضجة الممرات والغرؼ وغطّت عمى صوت الصغير‪ .‬سألت آمنة الممرضة التي تقؼ عند الباب‬ ‫تستطمعُ ما يدور‪ :‬ما الذي يحدث ؟‬ ‫ كأنو طف ٌؿ مصاب‪.‬‬‫ حتى متى يا ربي؟ قالت آمنة ‪.‬‬‫بعد ٍ‬ ‫ينيض مف نومو ويسير في نومو‪.‬‬ ‫نيضت‪ ،‬كما لو أنيا شخص‬ ‫قميؿ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫لكنيا َ‬ ‫أحست أنيا لـ تعد تسمع شيئاً ‪.‬‬ ‫بكاء الولد الصغير خمفيا فجأة‪ّ ،‬‬ ‫اختفى ُ‬ ‫في نياية الجموع التي تحمؿ الولد المصاب سألت ‪ :‬ما الذي حدث ؟‬ ‫رد أحد الفتياف ‪ :‬شييد ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ كـ عمره ؟!‬‫‪ -‬أربعتعشر سنة‪ ،‬خمستعش‪ ،‬أكثر ‪ ،‬أقؿ‪ ،‬ما عادت تفرؽ!‬


‫قالت ‪ :‬اهلل يصبر أمو ‪.‬‬ ‫وعادت لمداخؿ‪.‬‬ ‫جمست‪ ،‬لـ يكف الصغير يبكي‪ ،‬الصغير الذي لـ ِ‬ ‫أقؿ‪ ،‬اختفى‬ ‫عمى حافة السرير‬ ‫تغ ْب عنو سوى دقيقة أو ّ‬ ‫ْ‬ ‫كطفؿ لف تواصؿ الرصاصة سرقة أجمؿ ما ِ‬ ‫ٍ‬ ‫لديو‪ ،‬طوؿ حياتو‪ ،‬وىو ينظر إلييا أف تفعؿ ذلؾ وال‬ ‫صراخو‪ ،‬وبدا‬ ‫يستطيع شيئاً‪.‬‬ ‫ىؿ سكت الطفؿ فعبلً ‪ ،‬الطف ُؿ الذي كـ حبست أمو دموعيا وىي ترجوهُ أف يوافؽ أف تأخذه (خالتو) آمنة إلى‬ ‫كنت تذىب إلييا"‪.‬‬ ‫المركز والبقاء مع األطفاؿ‪ّ ،‬‬ ‫ألف "المركز ليس سوى مدرسة‪ ،‬مدرسة كالتي َ‬

‫المتناثريف فوؽ وحوؿ األسرة المنتشرة في الغرفة الكبيرة‬ ‫الزوار‪ ،‬األطباء‪ ،‬الممرضات‪،‬‬ ‫اختفى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صوت المرضى‪ّ ،‬‬ ‫عمقو أف‬ ‫‪ ..‬وثاني ًة وجدت آمنة نفسيا تنيض‪ ،‬تتبع ذلؾ الضجيج الذي تحوؿ إلى صمت‪ ،‬صمت لـ يستطع‬ ‫ُ‬

‫يمحو آثار خطواتو الدامية في الممر‪.‬‬

‫عمى باب غرفة الطوارئ‪ ،‬أدركتيـ‪ ،‬شقّت طريقيا بصعوبة‪ .‬وىي تحس بأف المسافة بيف البو ِ‬ ‫ابة والسرير ىي‬ ‫الصبي الذي عبرت‬ ‫أطوؿ مسافة تقطعيا عمى قدمييا طوؿ عمرىا‪ .‬وحيف وصمت‪ ..‬نظرت إلى وجو ذلؾ‬ ‫ّ‬ ‫بالدـ‪.‬‬ ‫الرصاصة رأسو‪ ،‬نظرت إلى مبلمحو المغطاة ّ‬ ‫ ىؿ تعرفينو ؟ سأليا أحدىـ‪.‬‬‫وخرجت‪.‬‬ ‫ىزت رأسيا‪ ،‬كما لو أنيا تقو ُؿ ال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫تسير إلى أف وصمت بيتيا‪ ،‬بيتنا ‪.‬‬ ‫ظمّت‬ ‫ُ‬ ‫خرجت ‪.‬‬ ‫قرعت الباب ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قمت ليا‪ :‬أيف نادية ؟‬ ‫قالت ‪ :‬نادية؟ مش عارفة‪.‬‬ ‫إف صالح لـ يعد‪.‬‬ ‫وقمت ليا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ولد يشبيو!‪.‬‬ ‫فقالت لي‪ :‬أعرؼ‪ .‬فيناؾ في المستشفى ٌ‬


) ٕٓ (


‫ألمي ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫قمت ّ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫منكف‪.‬‬ ‫البداية كنت أعرؼ‪ ،‬لكنني لـ أعد أعرؼ شيئاً ‪ .‬كمّو‬ ‫تفرقيف بيننا‪ ،‬فقالت لي‪ :‬ال أعرؼ‪ .‬في‬ ‫ّ‬ ‫كيؼ كنت ّ‬

‫في األوؿ‪ ،‬لـ يكف صعباً ‪ ،‬ولكنو اختمؼ فيما بعد‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تريد اسـ لميس‪ ،‬ألنو‬ ‫تصر عمى أنيا ُ‬ ‫ىؿ كنت أنت التي خربطت عياراتي ‪ ،‬أـ أختؾ ‪ ،‬ال أعرؼ‪ .‬رندة كانت ّ‬ ‫أجمؿ مف اسميا‪ .‬ىكذا قالت لي‪ ،‬وبكت‪ :‬لماذا لـ تسموني أنا لميس وىي رندة؟!‬

‫رفضت‪ ،‬وعدناىا‬ ‫ورفضت لميس أف تتخمى عف اسميا‪ .‬حاولنا أف نقنعيا‪ ،‬كانت صغيرة‪ ،‬أصغر بخمس دقائؽ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫رفضت‪ :‬كيؼ سأعرؼ نفسي فيما بعد !؟‬ ‫بمعبة‪ ،‬بأي شيء تشتييو‪ ،‬مقابؿ االسـ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أنت ِ‬ ‫ألنؾ ِ‬ ‫قمنا ليا‪ :‬ستعرفينيا ِ‬ ‫أنت‪.‬‬ ‫سأموت‬ ‫مت‪ ،‬ىؿ‬ ‫أجيب أف أـ‬ ‫أحد ‪ :‬لميس‪ .‬ىؿ‬ ‫تجيب رندة؟ واذا ما حدث لي شيء‪ ،‬إذا ّ‬ ‫فقالت‪ :‬وحيف ينادي ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنا أـ رندة؟!‬

‫يتشبث رأسيا بكتفييا‪ .‬ولكنني أعرؼ أنكما كنتما تتبادالف األسماء‪ .‬ال تنكري!‪.‬‬ ‫تشبثت باسميا‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولـ أكف أنكر‪ .‬لكف واحدةً منا خرجت إلى السطح ذلؾ اليوـ‪ ،‬ورآىا القناص‪ ،‬فأطمؽ رصاصة واحدة‪.‬‬ ‫رصاص ًة واحدة تكفي أحياناً وتزيد‪.‬‬ ‫تتطاير‪ ،‬فأدركنا أف ىناؾ رصاصاً ‪،‬‬ ‫وكمّما راح أحد يحاوؿ الوصوؿ إلييا فوؽ السطح‪ ،‬رأينا حواؼ اإلسمنت‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المسافة التي تفصمنا عنيا‪ ،‬بعد‬ ‫ساعتيف استطعنا قطع‬ ‫يأتي مف بعيد‪ ،‬نراهُ ولكننا ال نسمع صوتو‪ ،‬بعد‬ ‫ِ‬ ‫ممقى‬ ‫ممقى وسط بحيرة دـ صغيرة‪ ،‬وكاف اسميا إلى جانبيا‬ ‫ساعتيف قطعنا األمتار األربعة! وجدناىا جسدىا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الوقت الذي كانوا ُينزلوف الجسد المثقوب‪ ،‬الجسد الذي‬ ‫لت بو‪ ،‬في‬ ‫عصفور صغير‪،‬‬ ‫ىناؾ مثؿ‬ ‫حممت االسـ ونز ُ‬ ‫ُ‬

‫فتحت ِ‬ ‫أف آخر شيء يفكروف بو ىو االسـ‪ ،‬خبأتو‪ ،‬وكانوا يصرخوف‬ ‫ت‬ ‫فوجدت ّ‬ ‫ُ‬ ‫فيو الرصاص ُة نافذةً عمياء‪ .‬تمفّ ُ‬ ‫المسج ِ‬ ‫اة‪ ،‬وفي أقؿ‬ ‫حدؽ في الجثّ ِة‬ ‫عمي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويبكوف‪ ،‬وظموا كذلؾ إلى أف رآني أحد جيراننا أبكي‪ ،‬وكأنني أبكي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صمت‪.‬‬ ‫يابسة مف‬ ‫قطعة‬ ‫مف لحظة اندفع السؤاؿ المخيؼ الذي أحاؿ العالـ كمو إلى‬ ‫ْ‬ ‫ مف التي استشيدت؟ لميس أـ رندة؟‬‫أمي عبر دموعيا‪ ،‬وسألتني ‪ :‬ميف يا بنتي ؟!‬ ‫إلي ّ‬ ‫التفتت ّ‬ ‫فبقيت صامتة ‪.‬‬ ‫ُ‬


‫** **‬

‫اآلف أنيض في الميؿ‪ ،‬أتسمؿ لتمؾ الغرفة التي طالما جمعتنا كمنا ‪ ،‬الغرفة التي تفضي لحوش آمنة‪ ،‬أفتح‬ ‫الدفتر وأقرأ‪ ،‬وأق أر ‪ ،‬حتى الصباح‪ ،‬وأدىش مف أننا عشنا ىذا الزمف كمو‪.‬‬ ‫ع‪.‬‬ ‫أسير في الشار ْ‬ ‫تمر بي إحدى جاراتنا‪ .‬تقوؿ لي ‪ :‬صباح الخير يا رندة‪.‬‬ ‫فأقوؿ ليا‪ :‬أنا لميس يا خالتي‪.‬‬ ‫فتقوؿ‪ :‬ال تؤاخذيني ‪.‬‬ ‫وبعد نصؼ ساعة أو أكثر أراىا تعود‪ ،‬ىي نفسيا‪ ،‬وحيف تصؿ تقوؿ لي‪ :‬مرحباً يا لميس‪ .‬كيؼ حالؾ ؟‬ ‫فأقوؿ ليا‪ :‬أنا رندة يا خالتي‪.‬‬ ‫أمي أصبحت تخاؼ عمي‪ .‬قالت لي‪ :‬إذا ِ‬ ‫بقيت ىكذا ستصبحيف مجنونة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تمت ؟!‬ ‫ ولكف لماذا؟ ألنني ُ‬‫أريد أف يعرؼ الناس أنيا لـ ُ‬ ‫تمت ؟‬ ‫فتسألني‪ :‬مف ىي التي لـ ُ‬ ‫أستطيع أف أقوؿ‪ .‬اسأليو!‬ ‫الحب‪ ،‬وبمفردي لف‬ ‫فأقوؿ ليا‪ :‬وحده صالح الذي كاف يعرؼ‪ ،‬وحده‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫** **‬

‫ذات صباح ‪،‬‬ ‫وقفت طائرةٌ في السماء‪،‬‬ ‫حدقت في شارعنا‪،‬‬ ‫ّ‬


‫وبعد ٍ‬ ‫قميؿ ألقت قنبمة ‪..‬‬ ‫رأيناىا قادمةً‪ ،‬قادمة ببطء شديد‪ ،‬حتى أننا لـ نشعر بأف عمينا أف تحرؾ‪ ،‬أف نبتعد‪ ،‬أو أف نأخذ األرض‬ ‫وتمفت حولي‪ ،‬لـ َأر أمي‪ ،‬لـ أر نفسي‬ ‫طوح بك ّؿ شيء إلى الفضاء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثـ صحونا عمى انفجارىا الذي ّ‬ ‫منبطحيف‪ّ .‬‬

‫‪ ..‬لكنني رحت أركض صوب الباب الذي يفضي لحوش آمنة‪ .‬لـ أره‪ ،‬وىكذا عبرتُو دوف أف أالحظ ذلؾ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بجسد أمامي‪ ،‬لـ يكف سوى جسد أمي‪.‬‬ ‫أصطدـ‬ ‫فوجدت نفسي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يبتعد‪.‬‬ ‫فرحت أفعؿ مثميا‪ ،‬ساعات كثيرة وأنا أطرد الغبار بعيداً دوف أف‬ ‫بعد قميؿ أبصرت يدييا تطرداف الغبار‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أشبلء‬ ‫أيت‬ ‫سمعت أصوات‬ ‫أناس يصرخوف‪ ،‬قادميف مف ك ّؿ مكاف‪ .‬وحيف ىدأ كؿ شيء‪ ،‬واستعدت عيني‪ ،‬ر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫معمقة في اليواء‪ ،‬ولـ يكف قد تبقى مف البيت غير شحوب النخمتيف‪.‬‬

‫** **‬

‫الشاي‪ ،‬جاىز يا خالتي آمنة ‪،‬‬

‫‪.. ..‬‬

‫الميـ ديري بالؾ عمى نادية ‪.‬‬ ‫غمّبت حالي؟! ال ‪ ،‬ما فييا غمبة ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪.. ..‬‬

‫تقوليف أنيا شاطرة وتستطيعُ أف ترعى نفسيا بنفسيا؟‬ ‫َ‬

‫‪.. ...‬‬


‫طمنتيني ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪.. ..‬‬

‫وأنا ؟‬

‫‪.. ..‬‬

‫قمت ِ‬ ‫لؾ في المرة األخيرة‪.‬‬ ‫مثمما ُ‬

‫‪.. ..‬‬

‫ِ‬ ‫مصدقة‪ ،‬حتى اآلف ؟‪.‬‬ ‫لست‬ ‫ّ‬

‫‪.. . .‬‬

‫لكنني أقو ُؿ ِ‬ ‫خرجت إلى السطح‪ ،‬ولـ أكف خائفة‪ ،‬وحيف‬ ‫لؾ الصحيح‪ .‬أمس‪ ،‬أحسست بأف الميؿ كاف مضيئاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نظرت‪ ،‬لـ أصدؽ عيني‪ ،‬رأيت الناس في الشوارع مثؿ قناديؿ الميؿ‪ ،‬كانو حزينيف نعـ‪ ،‬ولكنيـ كانوا مثؿ قناديؿ‬ ‫الميؿ‪ ،‬وكنت أنا نفسي مضيئة وحزينة‪ .‬تعرفيف‪ ،‬خالتي‪ ،‬حيف لف نستطع الوصوؿ ألفراحنا المضيئة‪ ،‬يبدو أف‬ ‫حزننا ىو الذي أصبح مضيئاً‪ ،‬واال لكنا انطفأنا كما تقوؿ جدتي منذ مئة عاـ‪.‬‬ ‫‪! .. .. -‬‬


‫ تقوليف إنو حمـ كبير؟!! ال‪ ،‬لـ يكف حمماً كبي ارً‪ ،‬كاف حمماً ال غير‪.‬‬‫ ‪.. ..‬‬‫أمي مني أف أكتب ليا كممة (فمسطيف)‪.‬‬ ‫ ىذا الصباح طمبت ّ‬‫ ‪ .. ..‬؟‬‫ٍ‬ ‫طفمة صغيرة‪ ،‬وأغمقت الغرفة عمى نفسسيا‪.‬‬ ‫فرت ىارب ًة مثؿ‬ ‫‪ -‬نعـ كتبتيا‪ ،‬وحيف أصبحت الورق ُة بيف يدييا‪ّ ،‬‬

‫خر َج ْت‪ ،‬وبيدىا ورقة أخرى‪ ،‬مكتوب عمييا فمسطيف‪ ،‬كانت أكثر حيرة‪ .‬رجتني أف أقوؿ ليا أي ورقة‬ ‫وحينما َ‬

‫ِ‬ ‫ط‬ ‫أف‬ ‫ط لميس‪ .‬وراحت تبكي‪.‬‬ ‫الورقتيف مكتوبتيف بخ ّ‬ ‫ط رندة‪ ،‬وأي ورقة ُكتبت بخ ّ‬ ‫كتبت بخ ّ‬ ‫فقمت ليا‪ :‬الصحيح ّ‬ ‫ُ‬ ‫يدي‪.‬‬ ‫ْ‬

‫فقالت لي‪ِ :‬‬ ‫إنت ميف؟‪.‬‬ ‫ ‪ ...‬؟ ‪.. .. ...‬‬‫ِ‬ ‫اآلف‪ ،‬فمف أقوليا أبداً ؟‬ ‫أف عمي أف أخبرىا‬ ‫‬‫تعتقديف ّ‬ ‫بالحقيقة إذف‪ ،‬ألنني إف لـ أقميا َ‬ ‫َ‬ ‫ ‪.. ..‬‬‫ حاضر ‪.‬‬‫ ‪. ..‬؟‪.‬‬‫ِ‬ ‫أعدؾ‪ ،‬سأخبرىا ‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫تمت )‬ ‫(‬ ‫ّ‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.