حرية ،كرامة ،مواطنة
العدد
عن قسوة املصري اجملهول
101 2021 / 12 / 17
مجلة شهرية ،سياسية ،ثقافية ،مستقلة
ّ التعذيب بالشك! 2
نصار افتتاحية العدد بقلم أسامة ّ
العدد
101 2021 / 12 / 17
ملّا ذكرت لها إن أكرث العبارات تكراراً إذا تحدثت عن ذكريايت مع أصدقايئ هي من مثل“ :الله يرحمه/ـها ،الله يفك أرسه/ـها ،الله يرده/ ـا بالسالمة !”..وإن هذا حت ًام من عالمات الشيخوخة ،ظننت أن الشابة الصغرية تحاول مواسايت عندما قاطعتني“ :وأنا كذلك”! هربت إىل املزاح..“ :وعندك الخرف وفقدان الذاكرة ،وآالم املفاصل ”..ألن ال أستغرق بالتفكري بصبية /طفلة بنصف عمري ،لها أصدقاء ميتون ومعتقلون ومنفيون! وتذكرت أنها أيضاً تعاين مام هو أقىس من ذلك ك ّله؛ املصري املجهول! هي ال تعرف إن كان أبوها ح ّياً أم ميتاً منذ اعتقاله قبل عرش سنوات ..وهي مثيل تتلبك وتلغمط الكالم عندما تذكر والدها أو أصدقاء مغيبني؛ فال تعرف هل ترتحم عليهم أو تدعو لهم باإلفراج ..وقد تتحاىش ذكرهم من أصله! يف هذا السياق ،تصدّع رؤوسنا تأكيدات “منطقية” ملحللني متذاكني مثل“ :كل من اعتقل قبل 2013هو ميت” أو“ :معتقلو داعش غالباً تم ذبحهم ألن داعش انتهت” وأيضاً“ :ال بد أنه متت تصفية مخطويف الغوطة ألن كل الفصائل خرجت منها يف ..”2018وتحليالت أخرى مثلها، سأدعها جانباً اآلن ..ليس لكونها عدمية اإلحساس فحسب ،ولكن ألنها محض ظنون ،و”إن الظنّ ال
يغني من الحق شيئاً” ،وإن بلغ رتبة شهادة وفاة يصدرها النظام الك ّذاب بأسامء معتقلني ومختفني يف سجونه. نستطيع التعميم -دون مجازفة -أن االعتقال هو واحد من موضوعات مالزمة لكوابيس ،ال ّ تنفك تراود السوريني والسوريات ،أينام كانوا ..الزنزانة أو االعتقال مع التعذيب ،باإلضافة للتجنيد العسكري ،والعودة للمدرسة أو لالمتحانات (البكالوريا أو غريه) والسقوط من شاهق.. وقد تكون كوابيس جرناالت التعذيب أو اللصوص األغنياء واملستكربين والشبيحة وصغار املوالني هي أن تنقلب األدوار .وال أعرف بالضبط بم (يكوبس) اآلخرون ممن ينتظرون يف الربد عىل طابور الغاز أو الوقود أو الخبز ..فهم يعيشون الكابوس واقعاً ال صحواً مرجو منه! … يف قضية املغيبني واملختفني قرساً ،يقفز البعض من مطلب معرفة الحقيقة إىل العمل من أجل محاسبة املجرمني.. وهكذا ..نتجاوز كل الجرائم األخرى ،ولنحاسب جيش اإلسالم عن جرمية اختطاف سمرية الخليل ورزان زيتونة ووائل حامدة وناظم الحامدي، وغريهم كرث .ولنحاسب تنظيم داعش عن اختطاف األب باولو وعبد الوهاب ّ املل وسمر www.freedomraise.net
افتتاحية
املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد
شهرية ثقافية ،اجتامعية ،سياسية، تعنى بالشأن السوري املدير اإلداري معتصم أبو الشامات
الغالف سمري خلييل
الصالح ومحمد العمر وفراس الحاج صالح ومحمد نور مطر ،وغريهم أيضاً .ولنحاسب النظام املجرم وأزالمه عن تغييب قامئة طويلة بأكرث من 140 ألف مواطن سوري يف سجون التعذيب.. ولو اختلفنا أو اتفقنا حول جدليات “املحاسبة طريق الحقيقة” أو “الحقيقة أوالً” أو “العدل ولو انهار العامل”.. لن نختلف أن كل تلك املقاربات ال تعيد ما فات، وال تجرب الكرس وإن ر ّممته ،وقد نسمي بقاء األم ،عىل قيد األمل ،وهي تنتظر ابنها املعتقل/ املختطف أو زوجها أو حبيبها ،إنكاراً أو مكابرة، وقد ننصحها -رفقاً بها -أن تتصالح مع واقع الغياب الدائم األبدي .وهذا ّ ّ محض؛ فمن غش أبسط حقوقها ،بعد مصيبتها ،أن تعرف مصرياً أكيداً -ملحبوبها يف حال تع ّذرت عودته ..أنيضم رفاته ..أن تستلم تعرف املصري ،ولو كان قرباً ّ متعلقاته ..أن تعرف وصيته وكلامته األخرية ..أن تحصل عىل جواب ألسئلة غري منتهية تخربط بالها وحياتها ..أن تكون متأكدة.. ً لهذه األم ولنا ،نطلب الحق اليقني أوال ،لنطفئ ّ بالشك، نار االنتظار ،ونغلق غرفة التعذيب ونحاول متابعة العيش مع جروحنا وندوبنا، بعيداً عن تخرصات موضوعية ،فيزيائية ورياضية و”عداالتية” وسواها.. تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت facebook.com/rising4freedom
نصار رئيس التحرير أسامة ّ
twitter.com/freedomraise
نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي
freedomraise@gmail.com
كاريكاتري سمري خلييل /هاين ع ّباس
أمن رقمي ومحاسبة وائل موىس
زمالء مختطفون يف سوريا رزان زيتونة -ناظم حامدي
من أجل سوريا دولة معقولة يعود إليها ّ املغيبون
3
مرزوق الحلبي
العدد
101 2021 / 12 / 17 مقاالت
املغ ّيبون يف سوريا الذين ال نعرف أسامءهم وال عنهم أكرث ألف م ّرة من الذين نعرف عنهم. وأولئك الذين شقّ الطاغية الوقت ورماهم يف ه ّوته أكرث من هؤالء وأولئك .إ ّنه الشقّ ا ُملعتم ملا نعتربه توافق عىل حقّ الدولة يف احتكار العنف .وهو احتكار ُمنح للدولة يك تستطيع تح ّمل مسؤولياتها يف إطار “العقد االجتامعي”، وتحديدًا لفرض سلطة القانون عىل الجميع، وحامية حيواتهم وحقوقهم وممتلكاتهم. هكذا افرتض هوبس ولوك وروسو وغريهم من مف ّكرين أفنوا أعامرهم يف إنتاج صيغة نظر ّية وعمل ّية معقولة لالجتامع البرشيّ ضمن كيان الدولة الحديثة .لكنّهم يقينًا مل يتص ّوروا يف أبشع سيناريوهاتهم دولة كسور ّية آل األسد ونظام التوحش الذي أقاموه عىل أرض الشام. كنظام ّ جسد ما يف الشام ،األرض والتاريخ ،نشأ ٌ نظام ُي ّ أس ّميه “الدولة بوصفها عصابة” .وهي دولة تتجاوز يف منظومتها وبنيتها الدولة املستبدّة أو التي ُتارس اإلرهاب .يف حال نظام آل األسد انتقلت “الدولة” مبجتمعها إىل “الحالة الطبيعية” االجتامعي (هناك التي تأيت بعد انهيار العقد ّ حالة طبيع ّية قبله) .العقد االجتامعي يأيت حسب مف ّكريه بعد أن تكون “الحالة الطبيع ّية” خلقت الفوىض التي يروح ضح ّيتها البرش بسبب ودون سبب .يف الحالة الطبيع ّية التي نشأت يف سوريا مع “الدولة بوصفها عصابة” ،هو إلغاء ك ّ يل و ُمطلق إلنسان ّية اإلنسان؛ باعتباره التهديد االحتام ّيل والفعيل للعصابة .فأن تكون إنسا ًنا ولو سال ًبا ،تكتفي بثالث احتياجات فقط عىل س ّلم ماسلو ،تأمن ّ الرش يف كل ما تفعل ،حتى لو كنت بهذه املحدودية من وجودك فستكون تهديدًا لنظام عصابة ،ال يقوم ّإل عىل عكس ما يف لفظة اإلنسان من دالالت .من هنا هذا العداء البنيوي، ليس للمعارض فقط وال للمختلف وال للذي
ُيغني أو يرسم أو ُيف ّكر ،بل لإلنسان السوريّ بوصفه إنسا ًنا ،هو النقيض ا ُملطلق للعصابة. ّ كل ادّعاءات نظام العصابة األسديّ لتربير تغييب البرش ومحوهم كأ ّنهم كلمة يف سطر، أو سطر يف صفحة ،ال ُيكنها أن ّ تغطي عىل حقيقة أن النظام ُيارس وجوده وق ّوته بوصفه ً نقيضا للوجود اإلنساين يف شكله الخام .أ ّما ا ُملشكلة فكامنة يف كونه يستم ّد “رشعيته” من تنظريات الدولة الحديثة القامئة عىل أساس نوع واألهم عىل من العقد أو نوع من املعقول ّية، ّ أساس رشعية من الدول واملجتمعات األخرى. التوحش أن وهنا السؤال :كيف ُيكن لنظام ّ يحظى برشع ّية ،وأن ُيعاد تأهيله ويف ذ ّمته عرشات األلوف من املغ ّيبني قرساً ،من اللبنانيني والفلسطينيني أيضاً ،وهم ليسوا مواطنيه؟ مبعنى كيف حصل أن يواصل هذا النظام استعامل ّ كل هذه البطش وكل هذا التنكيل باإلنسان والفلسطيني واللبنا ّين يف ّ بث مبارش السوريّ ّ دون أن يأخذ العامل منه موق ًفا أو أن يردعه؟ السؤال سهل بينام اإلجابة عليه صعبة ،مبعنى أنها ال تحمل ُبرشى أو متن ّف ًسا ألحد .ال ُيكن لنظام آل األسد أن يعمل وأن يستم ّر بدون حامية من أنظمة مشابهة .لكن الحقيقة األكرث إيال ًما هي أن نظام العوملة يسعى إىل إقامة أنظمة كهذه و”صيانتها” يف إطار إدارة العامل وفرض السيطرة عىل موارده، وضامن أقىص ح ّد من مصالح املراكز .مبعنى ما إن التوحش آلل األسد باق و ُيعاد تأهيله ألنه نظام ّ يخدم مصالح املراكز التي ُتدير نظام العوملة أو اإلقليم .وعليه ،ال أتو ّقع الكثري ،ال يف ّ ملف املغ ّيبني وال يف ّ ملف تدمري البلد واملجتمع وتحويله إىل تغيت محميات لكيانات ومراكز أجنب ّيةّ ،إل إذا ّ خارطة املصالح واختلطت من جديد .فالشام كاإلقليم ك ّله غري مستق ّر ّإل يف كونه ح ّيزًا ملصالح عديدة تتنافس عليها مراكز قو ّية ،وتستعمل
السوريني وقودًا يف الحروب والنزاعات بينها. يف ندوة ناقشت كتا ًبا عن الربيع العريب بعد عقد عىل بدايته ،عُ قدت يف “الجامعة العرب ّية” يف القدسُ . الفلسطيني الوحيد. كنت املشارك ّ وقد أرشت يف بداية مداخلتي إىل كون معظم التحليالت استرشاقية؛ تأيت من موقع معا ٍد للربيع العريب بوصفه مصدر تهديد الستقرار الدول واألنظمة التي رست يف معظمها عىل توافق مع الرؤية االسرتاتيجية للمنظومة االستعامرية اإلرسائيلية .و ُقلت“ :يؤسفني أنكم ترون الدول واألنظمة وال ترون الناس ،اإلنسان ،الحق يف الحياة والحر ّية” .ردّت ع ّ يل إحدى الجالسات إىل جانبي دون أن ّ يرف لها جفن“ :طب ًعا ،يا حرضة األستاذ .هذا ما يه ّمني كيهودية هنا .وال يعنيني أي يشء آخر .ع ّ يل االهتامم بوجودي وبأمني هنا” .للقول إن ّ كل املراكز املحيطة بسوريا تنظر إليها من منظار مصالحها ،وهكذا املراكز العاملية .أما الشعب يف سوريا ،أو ما تب ّقى منه، هو ورقة لعب يف إطار السعي لتحقيق املصالح. ما سقته آن ًفا ال يعني التنازل عن ح ّقنا كبرش يف إبقاء ّ ً حارضا حيثام نستطيع من ملف املغ ّيبني منابر ومحافل .فهذا واجبهم علينا نحن الذين نتمتّع بالحر ّية إىل أجل غري مس ّمى قد ينتهي غدًا أو بعد غد ،يف إطار لعبة املصالح ذاتها .لكن ما ال ّ يقل أهم ّية هو اإلسهام يف جهد ال ُيح ّد وال ُيس ّمى إلنتاج سوريا أخرى معقولة ألجل َمن سيعود من املغ ّيبني والالجئني والنازحني والناجني من املجزرة. من أجل سوريا دولة معقولة وليس بوصفها عصابة! مثل هذا الجهد ال ُيكنه أن يكون مقطوعًا عن أمر ْين: األ ّول :عن سعي مامثل يف اإلقليم ويف العامل الستعادة الدولة املعقولة ،وتحريرها من هيمنة مراكز العوملة. والثاين :ربط هذا السعي مبنظومة أخالق ّية متكاملة ال ترى الدول بقدر ما ترى اإلنسان ووجوده وكرامته وحقوقه ك ّلها.
مصادرة احلرية واإلفالت من العقاب التاريخ يكرر نفسه
4 جيوفانا دي لوكا
العدد
101 2021 / 12 / 17 مقاالت
منذ كنت يف السادسة عرشة من عمري كنت أشارك يف املظاهرات املنظمة يف مدينتي الواقعة جنويب إيطاليا ،والتي تطالب بتحسني ظروف املدارس العامة أو املدافعة عن حقوق العامل. يف ذلك الحني ،ومهام كانت قضية املظاهرة ،كان ال ب ّد أن يحرض العلم الفلسطيني يف وسط املظاهرة ،يرفعه شخص ما .وعىل الرغم من بعد املسافة بيننا وبني فلسطني، كانت انتهاكات “إرسائيل” ضد الشعب الفلسطيني خالل التسعينات أمراً جلياً بالنسبة لنا كإيطاليني. ومرت السنوات ،وال يزال الجميع هنا يف أوربا عىل علم بأن هناك أراض فلسطينية محتلة .ورغم ظهور يشء يف حياتنا اسمه “العوملة” ،بحيث مل تعد سوريا والدول العربية بعيدة عنا ،إال أن أحداً مل يكن يعرف بالفظائع التي ترتكب يف سوريا منذ عام .1970 كانت مرص وجهة سياحية مفضلة بالنسبة للسائح اإليطايل ،وكذلك كانت تونس لجامل شواطئها ،كام كانت ليبيا دولة صديقة ألنصار برلسكوين ،رئيس الوزراء آنذاك، ولداعمي القذايف. ً وعندما بدأ الطغاة العرب يتساقطون واحدا تلو اآلخر ،كنا نتساءل“ :لكن ..ماذا عن سوريا؟ ..ماذا عن هذا البلد الذي يبعد عنا مسافة ثالث ساعات بالطائرة!”. لطاملا كان الكالم إشكالياً عن “مملكة الصمت” التي تحكمها أرسة األسد .خاصة بوجود جهات إعالمية داعمة لألسد ،وتتبنى رواية نظامه بنرش معلومات كاذبة عن املعارضة ،وتعترب الثائرين إرهابيني ،بينام يتم الكالم عن األسد “االشرتايك” والذي يعادي الواليات املتحدة وإرسائيل.. مع تتمة األسطوانة القدمية. لكن من كان يتابع أخبار الثورة من الناس عىل األرض، عرب فيسبوك ويوتيوب ،عرف بأن املظاهرات كانت سلمية رصفة ،وأن النظام السوري استخدم كل أدواته الوحشية لقمعها ،وعرف أيضاً كمية االعتقاالت وعمليات الخطف، وكذلك التفجريات وقصف املدن. يكتف النظام السوري بذلك ،بل قرر أن يستخدم سالحاً ومل ِ جديداً ضد الشعب الثائر :الحصار .يريد أن مينع عنهم الطعام والدواء والوقود حتى يقترص تفكريهم عىل الخالص وتدبري معيشتهم ،بدالً من أن يفكروا بالثورة عليه. كانت صور من يتضورون جوعاً يف املناطق املحارصة يف
سوريا ،تذكرين باملحتجزين يف معسكرات االعتقال النازية. كيف أمكن لهذه املأساة أن تقع أمام أعني العامل كله؟ اكتفى العامل باإلدانة والتنديد ،لكنهم مل يفعلوا شيئاً ملساعدة السوريني عىل أرض الواقع ،يف حمص وداريا والغوطة ،ويف مخيم الريموك ،ويف حلب.. كيف أمكن للعامل املنافق أن يصمت عن كل هذه املآيس؟! كيف أمكن أن يبقى األسد وعائلته يف السلطة بعد أن ن ّكل بشعبه ج ّوعاً وقت ًال وتعذيباً؟!.. وهكذا ،وبينام أتابع أخبار الحصار يف غوطة دمشق، قرأت شيئاً ملحامية وناشطة يف دوما ،تستنكر ّ كل الجرائم املرتكبة من كل األطراف ،وعرفت أنها كانت مطلوبة من قبل مخابرات النظام ..كان اسمها “رزان زيتونة”! ولكون النظام يبحث عنها غادرت رزان دمشق ،وتبعتها سمرية الخليل ،وهي أيضاً -مثل رزان -مل تدخر جهداً لتقديم العون للناس وسط كل تلك األحداث املأساوية. ثم انضم وائل حامدة وناظم الحامدي للمجموعة يف الغوطة ،ليشاركا يف األعامل الكبرية التي كانت سمرية ورزان تقومان بها مع ناشطني وناشطات هناك. وألنهام حرتان وصاحبتي صوت ح ّر ،مل تخشيا من رفع الصوت عالياً ،حتى يف وجه املجموعة السلفية التي كانت تسيطر عىل دوما وقتها. إنها املرة األوىل بالنسبة يل -كامرأة أوربية -التي أرى فيها نساءا يتحلني بهذا القدر من الشجاعة! كانت صدمتنا كبرية عندما علمنا باختطاف النشطاء األربعة .وبدأنا بعدها نرى املسؤولني وأصحاب القرار من دول مختلفة يستنكرون هذه الجرمية ،ولكن ،ومرة أخرى ،مل يقدم أحد املساعدة لعائالت املختطفني باستعادة أحبابهم .مل ن َر إال كلامت جوفاء من املسؤولني الغربيني ،كام حدث مراراً وتكراراً. من أجل ذلك أخذت القرار بأن عيل أن أع ّرف الناس بهؤالء الناشطني والناشطات ،وأن أتكلم عنهم وعن عملهم. فرتجمت العديد من املقاالت التي كتبتها رزان خالل الثورة، وجمعتها يف مدونة عىل االنرتنت. ونرشت مقاالت تتحدث عن سوريا وعن الثورة السورية وإجرام النظام بحق الشعب السوري. ويف 9كانون األول /ديسمرب الحايل نظمت مع مجموعة من الناشطني السوريني والغربيني ندوة للكالم عن قضية
املختطفني األربعة .كان من بني املتحدثني “أرتينو” وهو مصور كان موجوداً يف الغوطة مع الناشطني األربعة ،وكان الحديث مؤثراً للغاية ،خاصة برسد قصص مل نكن نعرفها عن سمرية وعن رزان ،وعن تفاصيل الحياة اليومية يف دوما برفقة النشطاء األربعة. اكتشفت أنهم أكرث شجاعة وإنسانية حتى مام كنت أعتقد! يف عام 2018بدأت بقراءة مذكرات سمرية باللغة اإلسبانية .يف ذلك الربيع ،جاء زوج سمرية ،ياسني الحاج صالح ،إىل برشلونة لتقديم الرتجمة اإلسبانية لكتابه “الثورة املستحيلة” .كنت قد ترجمت بعض مقاالته ،وأردت أن أغتنم الفرصة للقائه ،واالستامع له .وكانت تلك حقاً لحظة مهمة بالنسبة يل .فهو رجل عظيم فع ًال. بعد أيام قليلة كتبت له“ :مرحباً ياسني ..أريد أن أترجم مذكرات سمرية إىل اإليطالية .يجب أن يعرف اإليطاليون ما حدث يف دوما ويف سوريا .من الرضوري أن يكتشفوا هذه النامذج اإلنسانية الرائعة التي كانت تناضل هناك”. وهكذا ،وملدة سنة ونصف ،كنت صوت سمرية اإليطايل. وكان هذا العمل تجربة رائعة ،ورشف كبري يل. مرت 10سنوات منذ آذار /مارس ، 2011بل ما يقارب 11سنة ،والثورة مستمرة. ال يزال املجتمع الدويل عاجزاً عن التحرك إلنقاذ الشعب السوري ،وإسقاط األسد. بينام يقيض الالجئون ليالٍ يف قلب أوروبا ،يتجمدون ويتضورون جوعًا ،متاماً مثلام حدث يف سنوات غابرة من حروب البلقان. “التاريخ أكرب معلم” ،ولكن ليس له تالميذ يتعلمون منه. واملجتمع الغريب كأنه يعيش يف العصور الوسطى .فال يزال الناس يف أوروبا يعتقدون أن األسد ليس األسوأ لحكم سوريا ،وأن معارضيه هم مجموعات إرهابية دموية. وال زال من الصعب إقناع الشعوب يف الغرب بالتعذيب والجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق الناس األبرياء. لذلك كله علينا أن نطالب بالعدالة والحرية لشعب يكافح منذ 10سنوات .فالحرية حق لكل البرش ،ولو فقدها إنسان واحد ،فكأمنا فقدها كل البرش. أضم صويت لصوت األحرار من الشعب السوري :نريد الحرية والعدالة لرزان وسمرية ووائل وناظم ،ولجميع الـ 140.000مختف أو معتقل قرسياً يف سوريا.
آراء من ناشطني وناشطات عن قضية املخطوفني األربعة وتبعاتها علي الداالتي
هل أثر خطف النشطاء األربعة عىل سري األحداثامليدانية؟ وهل كان سيتغري مجرى الثورة يف حال مل تتم هذه الجرمية؟
كيف ترى كون املختطفني األربعة مشهورونبينام هناك مغيبون كرث مغمورون؟
جميع من سألناهم أكدوا أنه ال فرق بني مغيب ومغيب آخر ،ولكن “كون األربعة معروفون فهم أشبه برموز للمغيبني جميعاً” ،فال فرق بني رزان ووائل وسمرية وناظم أو أي معتقل أو مغيب .ولكن بسبب يتم تسليط الضوء عليهم ،وبهذا يتم شهرة األربعة ّ تسليط الضوء عىل قضية جميع املعتقلني واملغيبني.
برأيك ما هو مصري النشطاء األربعة؟ وخاصةبعد سيطرة قوات النظام السوري عىل منطقة الغوطة الرشقية حيث فقدوا ،و خروج كافة الفصائل العسكرية منها؟
الجميع هنا رجح نظرية املجهول بالنسبة ملصري األربعة، بعد أن أكدوا بأنه ال ميكن التكهن مبصري األربعة ،بعد هذه الفرتة الزمنية الطويلة من عملية االختطاف، وخاصة بعد سيطرة قوات النظام عىل منطقة الغوطة الرشقية وخروج قوات املعارضة منها .رغم أن بعض
من قام بعملية خطف الناشطني األربعةبرأيك ،ومن هم املستفيدون من تغييبهم؟
الجميع أكدوا أن املستفيد األكرب من عملية الخطف هو نظام األسد؛ فكل من ساهم بتغييب هؤالء األربعة هو رشيك مع النظام بالحرب عىل الثورة السورية .كام أكدوا أن أصابع االتهام بالخطف تتجه نحو جيش اإلسالم أو عىل األقل أن العملية كانت بتسهيل منه. ون ّوه محمد إىل أن “املناطق املحررة مل تكن مضبوطة بشكل كامل ،ومازالت تتعرض لعدة اخرتاقات مستمرة، سواء من قبل خاليا تتبع لقوات النظام أو تنظيم داعش أو الحرس الثوري اإليراين واملليشيات الطائفية املرتبطة بالنظام”ومعذلكيتابع“:أنفصيلجيشاإلسالماملسيطر عىل مدينة دوما بتلك الفرتة يتحمل جزءاً من املسؤولية ،كونه مل يوفر الحامية للناشطني األربعة”. أما ثائر فقال إن “املتهم األول بعملية الخطف هو جيش اإلسالم كونه الجهة املسيطرة عىل مدينة دوما مكان خطف األربعة ،وهو نفسه من قام بتهديدهم ،وأرسل عدة رسائل تهديد لرزان إن مل تخرج من الغوطة ،وأطلق الرصاص عىل باب املكتب الذي خطف منه األربعة قبل عملية الخطف بأيام معدودة .”..فيام أضافت هدى لقامئة املتهمني “نظام األسد ،والفصائل الراديكالية؛ كون تلك الفضائل كانت ترى يف رزان ورفاقها عقبة يف طريقها لخطف الثورة”.
تقارير
انقسم املجيبون عن هذا السؤال؛ فكل من الناشطني اإلعالميني نرص ومحمد من مدينة كفرنبل وبلدة حيش عىل الرتتيب قاال إن الثورة السورية ال تتوقف عىل شخص مهام بلغت أهميته، وإمنا هي فكرة يتم تداولها بني الناس ،و”الثورة فقدت الكثري من الناشطني فيها” وكون “حتى الناشطني املختطفني األربعة أنفسهم كانوا يرون أنهم جزء من الثورة ،وأن الثورة يجب أن تستمر” حتى لو فقدت نشطائها“ ،فالفكرة هي أساس دميومة الثورة”. أما وسيم الناشط الحقوقي من بلدة حاس ،والطالبة الجامعية هدى املهجرة من وادي بردى إىل شامل سوريا ،فكان رأيهام
العدد
جميع من سألناهم هذا السؤال أكدوا أن رسالة األربعة نابعة من أفكار الثورة السورية يف تأسيس دولة لها دستور وقوانني، نابعة بدورها من الشعب ،وقامئة عىل الحرية والعدالة واملواطنة والتعددية وحقوق اإلنسان .وكذلك يف محاسبة منتهيك الحقوق عرب توثيق االنتهاكات بحق السوريني .وكان رأيهم أن هذه الرسالة مازالت مستمرة ،رغم اعرتاف بعضهم أن وتريتها انخفضت بسبب الظروف الحالية .وعن ذلك يقول ثائر حجازي الناشط الذي أدار مكتب دوما ملركز توثيق االنتهاكات بعد اختطاف مديرته رزان“ :إن رسالة املخطوفني هي ضمري كل ثائر يف الثورة السورية ،وكل من يعمل لقيم الثورة السورية مازال حام ًال لرسالة النشطاء األربعة”.
101
ما هي رسالة رزان ووائل وناظم وسمرية ،وهلمازالت رسالتهم قامئة بعد خطفهم؟
مختلفاً؛ حيث اتفقا عىل أن تغييب أي ناشط يف الثورة السورية ،سواء بالتغييب أو االغتيال انعكس سلباً عىل مسار الثورة بسبب فقدان هؤالء األشخاص الذين ميلكون الخربة والوعي الكافيني مبدى إجرام النظام وكيفية التعامل معه ،واتفق معهام ثائر يف أن خطف النشطاء األربعة كان له تأثري عىل األقل ضمن مجال توثيق قضايا حقوق اإلنسان يف سوريا وعىل مسار العمل املدين يف الثورة .كام اتفقوا عىل أن خطف وتغييب أي ثائر يف الثورة السورية له أثر كبري يف قلوب السوريني وخاصة إذا كان املختفي ميلك تأثرياً عىل الرأي الشعبي. وهذا ينطبق عىل املغيبني األربعة ،وهم معروفون بكونهم من أبرز معاريض النظام ،حتى من قبل الثورة.
يخف ظنّه عن من سألناهم ومنهم الناشط نرص ،مل ِ مصري املغيبني األربعة؛ بأنه “من املمكن أن تكون قد متت تصفيتهم وإخفاء رفاتهم ،دون أن نستطيع الجزم بذلك” ،وال يعتقد نرص أن النظام قد وصل ليشء عن مصري املختطفني ،ألنه لو فعل ذلك “كان صنع منه حدثاً إعالمياً ،واستغله ضد املعارضة يف املحافل الدولية”.
2021 / 12 / 17
ميكن القول يف العموم إن كل عملية خطف أو اعتقال أو قتل أو تغييب لناشط قد أثرت عىل مسار الثورة وأضعفتها؛ فسريورة الثورة وتصاعدها ثم انكفاؤها هي ذاتها مسرية هذا االعتقال وهذا الخطف وهذا التوسع يف رقعة القتل .إال أنه يف املحصلة من الصعب القول إن تغييب ناشط بعينه قد أثر عىل سري األحداث؛ فالنتيجة العامة تأثرت بعوامل أخرى مضادة ضمن واقع دويل ال يريد تحرر الشعوب وال امتالكها ملصريها وإرادتها. ما كان سيتغري يف الغالب هو مصري الناشط نفسه؛ فقد يكون شهيداً أو بط ًال ،وقد يكون الجئاً أو ناجياً كام كان البقية. ومبرور مثان سنوات عىل اختطاف الزمالء رزان زيتونة ،سمرية خليل ،ناظم حامدي ،ووائل حامدة بعد هجوم استهدف املكتب املشرتك لكل من مركز توثيق االنتهاكات يف سوريا ومكتب التنمية املحلية ودعم املشاريع الصغرية و مجلة طلعنا عالحرية ،يف دوما يف الغوطة الرشقية .استطلعت مجلة طلعنا عالحرية آراء عدد من الناشطني والناشطات عن قضية املختطفني األربعة وآثارها.
5
6
يف (الكتابة على جلود البشر!).. يوسف صادق
العدد
101 2021 / 12 / 17 مقاالت
كل ما ُكتب وما ُيكتب حول تجربة املعتقل ال يعادل لحظات وجع ورص ٍاخ األمل ملعتقل/ـة أو ُمغ ّيب/ـة أو مفقود/ـة ،أو ّ غصة ٍ مكتوم أل ٍّم أو زوجة أو طفل /ـة ينتظرون حريته/ها .هذا أوالً وأخرياً. ّ ولعل غزارة ما ُكتب عن املعتقلني واملغيبني من دراسات ووثائق وروايات أدبية ،تؤ ّكد حجم الدمار النفيس واملجتمعي الحاصل عىل مدار عقود .ومن املجحف تناولها كوثائق إدانة لسلطة استبدادية وفقط ،رغم أهم ّيها القانونية الستعادة الحقوق ،أو اختزال املعتقلني واملغيبني قرسياً بصفة البطل الناجي ،عىل غرار شخوص األبطال يف املخيال الشعبي ،متناسني كينونتهم وإنسانيتهم ،كام هي الحال باختزالهم ألرقام ،لدى السلطة الحاكمة واملنظامت الدولية. تجربة األمل التي خربها املعتقل /ـة أو املغيب /ـة ،تفصح ّ عم وصلت إليه العالقات االضطهادية يف الثقافة والسياسة والنفس الفردية ،تفصح عن دالالت املعتقل /السجن وقد بات وطناً أو أيديولوجية أو حزباً شمولياً أو مؤسسات هدفها ضبط السلوك والوالء والطاعة. والعنف بكل أشكاله هو وسيلة اإلخضاع لدى كل تلك املعاين الرمزية للسجن /املعتقل ،يف كل ما ُكتب من روايات ووثائق وشهادات من ِقبل لجان حقوق اإلنسان وعدد كبري من الكتّاب، كمصطفى خليفة وأمين العتّوم وفرج بريقدار وهبة الدباغ وسمر يزبك وروزا ياسني حسن وإبراهيم صموئيل ..وغريهم الكثري، نجد متاث ًال يف توثيق أشكال العنف؛ فالعنف ليس حاالت مرضية فردية بقدر ما هو منط ممنهج لدى السلطة الالرشعية لفرض منطها االستبدادي يف بنى املجتمع ويف سلوك وثقافة املقهورين. حينها يساوي الخوف بني املقهورين؛ فيتساوون بعدم الجدوى، وباالنسحاق وتغييب أناياتهم ،يجمعهم ويفرقهم بني متام ٍه مع منكفئ عىل ذاته .عندها تسود ثقافة منط وأساليب املست ِبد وبني ٍ االستبداد ويستقر حكم الطغيان. هذا ما يطرح علينا بل يحفزنا لدراسة ما كتب وأفصح عنه املعتقلون من تجربة األمل ،لنعي كيف تش ّكلت تلك العالقات االضطهادية ،وكيف أصبح السجن /املعتقل أكرب دالل ًة ،وكيف تش ّكلت ثقافة االستبداد كنمط يسحق اإلنسان ويهدره. السجان تك ّثف تلك العالقات االضطهادية إ ّنها إذاً ثنائية السجنيّ / إرث طويل من االستبداد إيديولوج ّياً يف مجتمع قائم عىل ٍ
عب عنه وسياسياً ،ومتحاجزاً إثن ّياً وطائف ّياًُ ،ي ّ بذهنية شفاهية غيبي ٍة ،يصبح االستالب هو القاسم املشرتك ،والخوف والقلق عىل الوجود السجان ،حينام يصبح مساوياً بني السجني و ّ سجاناً إلنسانيته ولذاته عرب املرور السجني ّ الت ليست خياراً له ،بل هي ٌ رشوط تفرضها بتح ّو ٍ ثقافة االستبداد .وقد بات سلطة ملن يريد أن يكون من الفرقة الناجية .منسلخاً عن انتامئه األرقى إنسانياً وسياسياً ،متامهياً بنمط حياة
املستبدوسلوكه. تتأصل لديهم املقهورون املتساوون يف العدمّ ، عىل املستوى النفيس والسلويك تلك الثقافة التي تحايك رشوط النجاة والخالص ،يتقاسمون وسائل العنف واإلكراه واإلخضاع ،ألنه ال فرق بني أيديولوجية دينية غيبية هدفها اإلخضاع، وبني سلطة ديكتاتورية ،وبني منط عالقات أبوية بطريركية غرضها الوالء والسطوة .أولئك يتساوون باملبدأ ويختلفون يف الوسائل ،رغم اتفاقهم
.....
العدد
101
كلها سجناً كبرياً. بينام ّ كل ذلك يحصل منذ عقود أو أكرث ،ما زال اليشء الوحيد الذي ال ُيسمع هو رصخة األمل لدى املعتقل/ـة ،يف تلك األقبية املظلمة املوحشة. حسبنا أننا ننقل ذاك الصدى لنكرس حواجز الفضاء وقضبانه ،حسبنا أننا ننقل عنهم ّأن وأن ّ املعتقل هو الوطن ّ كل ما فيه أصبح أقبي ًة مظلمة ،هذا هو نداء املعتقلني :أنقذوا الوطن من سجن وعنف الطاغية.
2021 / 12 / 17 كاريكاتري
كإخضاع وإكرا ٍه وتربية. بالعنف ٍ كل ما ُكتب عن املعتقل يو ّثق هذا االتفاق غري املعلن عىل العنف اتجاه كل َمن يخرج عن القطيع املتامثل ،أو التأديب وتكسري الرؤوس حتّى يتساوى الطرف اآلخر بالعدم. أال نجد تكسري الرؤوس لدى املقهور منذ أيام الطالئع ثم الشبيبة ثم الخدمة اإللزامية؟ أال نجد متجد سياسة االحتواء والتدجني وفرض الرتبية التي ّ القائد منذ أيام الروضة؟ وهذا هو أبشع أنواع العنف؛ ملا فيه من تع ٍّد عىل الوجدان وخيارات اإلنسان وكينونته .أليس هذا “حيون ًة لإلنسان” كام أسامها ممدوح عدوان؟! بينام يدرك املستبد الطاغية ّأن ّ كل التغ ّول بالعنف “لن ميتلك من خالله تفكري السجني وأحالمه” كام قال أمين العتوم .لرمبا هو هروب نحو األمام، ٍّ وتشف من إرادة املعتقل/ـة؛ (فالسجون وانتقام ال تحمي األنظمة القمعية ،واملذابح ال تثبت سلطتها ،واإلكراه ال يجلب االعتقاد). ّ جل ما يفعله املستبد بعد تحويل اإلنسان إىل عد ٍّو لنفسه ،وتحويل السجن /املعتقل لوطن أكرب عرب مؤسساته وأذرعه األخطبوطيةّ . جل ما يفعله هو إشاعة منط حياته وأساليبه ،حتى يتامهى معها اإلنسان الحامل بالحرية املقهور. وتسود ثقافة املستبد بإشاعة مفاهيم الشطارة وتدبري الحال والخالص الفردي ،واالستهالك .حيث تنقلب املفاهيم يف ثقافة االستبداد فتصبح كلمة “سيدي” لرفع مكانة ّ الجلد ،ومكانة املتح ّكم بشؤون الناس ،وكلمة “أستاذ” مكاناً النحطاط الشخص والعلم أمام جربوت السلطة والعنف. وتصبح القضايا الكربى محط نفور وكره ،حينام تصبح قضية شعب فلسطني مكاناً لالعتقال. عقاب أ ّما اإلنسان املقهور ٌ فمغلوب عىل أمره بني ٍ مؤجلٍ من عقاب ّ ُم ّ عجلٍ من ِقبل املستبد ،وبني ٍ وكأن الكواكبي ما زال حارضاً العزيز القديرّ . إىل وقتنا الراهن يف تفسري مظاهر االستبداد، و”األرسى” الذين تك ّلم عنهم ،هم اآلن منكفئون
عىل ذواتهم الفردية األنانية (أنا ومن بعدي الطوفان) أو عىل ذواتهم الجامعية اإلثنية أو الطائفية أو العائلية كقوقع ٍة تحمي هذا املقهور من أيادي املستبد. وال ننىس أن الرصاع حتى عىل س ّلم الوصول ألحضان املستبد ذاته ،عرب التامهي أكرث بعنفه، أو الرصاع عىل املكاسب واملغانم والوالءات يف املؤسسات القامئة .والنتيجة هي سحق اإلنسان وهدره ،يغذيها املستبد ويغذي رصاعاتها .لتصبح
7
96
عن السجن مبا هو لغة صارت مكاناً
8 مضر حمكو
العدد 101
2021 / 12 / 17 مقاالت
كم هي سخ ّية بال منتهى هذه الحياة ،إذ متنح املرء فرصة أن يوجد خارج السجن مبا هو مكان وزمن ،كأنها تعطيك فرصة التنزه يف األبدية وتكتب عام كان تجربتك يف السجن. هل أنا خارج السجن فع ًال؟ سأحاول رفع الكلامت إىل ما تستحق من الجنون، سأهمس عىل مسمع اللغة واألفكار متردي قلي ًال يك أكون مارقاً من النوع الطيب .سأحيك عن اللغة من جهة أنها العبودية والحرية ،من جهة أنها السجن والخالص. رمبا جال يف روعي أن من حق التجربة يف السجن -وأنا تجربتي يف السجن قصرية باملعنى الكمي ،وال تستحق الحديث عنها بهذه املثابة ،لكن النوع يبقى ماث ًال عىل اختالف الكم -أن أحاول تصعيد التجربة؛ أن أسمو بها -إن جاز يل ذلك -إىل اللغة ،هذا الكائن العظيم الذي يجعلك تحار هل هو سجن أم حرية؟ أهو موت أم حياة؟ أهو حب أم كراهية؟ أهو سعادة أم شقاء؟ ّ أظنه كل ذلك وأكرث ،مل يقل أحد إنها سجن ،فيام أظنها تاريخ كل السجون كام كل الحر ّيات وأقول الحريات بالجمع ألنها ليست الحرية املفردة بعد ،بل أشكال نظنها كذلك .إىل ذلك سأكتب عن اللغة شيئاً يجعلني مرتبكاً كأنني الطفل يكتب ملعلم غشوم. هل تجربة السجن ال تستحق الحديث عنها رصاحة؟ جوايب هو ال نافية قاطعة جازمة ..وباكية! ملاذا باكية؟ ألن التجربة عظيمة لكن بأي معنى هي كذلك؟ هل ألنها تجربتـ(ـي) أو (ـه) أو (ـها)؟ ال ،بل ألنها كل ذلك .هي تجربتنا جميعاً كبرش نظنّ أنفسنا أحراراً ،لهذا أقول يجب الكالم عنها مبا يليق (يف اعتقادي) بعظمة أملها ،يجب أن نتج ّذر ونتسامق ونسمو يك نفهمها ونقاربها ،مبا يعيد إليها الحق من العظمة. السجان؟ هل أقصد أن اللغة هي السبب يف سجننا وليس ً بالطبع ال ،إمنا قصدت أنها النمط األشمل للسجن من جهة ما هي النمط األسمى للحرية ،إىل ذلك فهي النمط الخالق للوجود مبا هو سجن وحرية ،ومبا هو موت وحياة كذلك. هل للكالم أجنحة تبعث فينا اشتهاء الطريان؟ لكن إىل
أين؟ هل اللغة فيام نبوح وال نبوح؟ فيام نفكر وال نفكر؟ فيام نريد الخروج وليس مثة درب؟ فيام يريد الطفل الذي خلفناه باكياً يف أعامقنا يركل خبط عشواء عىل جدران الكون ،وكل األشياء حيطان؟ هل اللغة هنا سامء أم هاوية؟ هل اللغة غيوم تريد أن متطر ،وأي ماء يكفي عراءنا الفسيح؟ أهي لعنة التكوين أن نتعرث بأحجار اللغة عىل أرصفة الزمن ،حينام أردنا الخروج من الغابة ،وفيام كنا نغطي العورة كشفنا عورات بل ه ّوات ،كلام أردنا ردمها حفرتنا دومنا قاع. دعوين أتساءل :أكان مثة اخرتاع اسمه التفكري؟ هل كنا سنعرف العطر عىل أنه فرح الزهر بالوجود ،وأن العسل غبطة النحل بالطريان؟ أكان سيجري الفزع واملفزع والرائع واملروع والريعان يف دماء تاريخنا؟ أكان بوسعنا معرفة القتل والقاتل والقتيل ،والسجن والسجان؟ واملسجون ّ الحواس هل كنا سنعرف الحرب وضدّها؟ هل كانت ّ ستعرف كيف تقرأ العامل؟ أمثة سجن أعظم من اللغة ،أمثة أعظم من اللغة بوصف أنها امللهاة جهة ما هي الرتاجيديا؟ ومام علمتنا أن نقرأ ّ كف الحياة ومنأل الفضاء باألشياء ثم نلهث خلف الفراغ ،علمتنا كيف نختنق. وفيام كنا نخرتعها علمتنا كيف نجرح الكون ونداوي الكواكب ،كيف نخيط الغيم ثياباً للشمس والقمر. هل هناك أعظم من مخلوق يعلمنا كيف نسقط يف الهاوية وال نخرج؟ لست أعرف اآلن إن كانت اللغة املخلوق أم الخالق. لكنني لن أنىس كذلك أنها علمتنا ما الله وما الحب. ليس يدري عصفور اليقني إن كان هو الله وإن كان هو الحب ،ألننا بعدُ مل نحب. ملاذا أكتب عن اللغة اآلن فيام ينبغي أن أكتب عن السجن؟
ألنها التكوين من جهة ما أنه أدخلنا رحب اللعنة والرحمة. أو ألنها الوعي الذي دخل فينا ونام ومازال بعد يحلم ،أو أنها النفس بقصد أنها تعيدنا إىل الجب دوماً مذعورين وفار ّين ومهزومني ،أو طغاة وسفاحني وس ّفايك الدم من جهة أنه املعنى ،واملعنى بقصد أنه السعادة والحرية. ملاذا أكتب اللغة فيام ينبغي أن أكتب السجن؟ ألن السجن يف داخل اللغة كام املوت يف داخل الحياة، والنفس رسدية ما اخرتعنا. ألن اللغة وطن من جهة ما هي املنفى! ألنها آلهة الكالم أراودها عن حظي من الهرب ،من كل السجون ،من كل الحروب ،من كل الطغاة ،من كل الجهات. إنها اللغة معلمتي الكتابة عن الجنون بدالً من السجون، وها هي تهبني املدد ض ّد كل نسق ،ضد كل معتقد ،ض ّد كل مذهب ،ض ّد كل النظريات ،ض ّد كل امللكيات. لن أكتب عن السجن ألنه ليس سوى شكل من اللغة .لغة املوت زرعت تراب الروح بالفزع ،وأنا أريد طائر الفينيق ألخرج من كل السجون. ملاذا أكتب عن السجن وأنا سجني ذاكريت ملاذا وأنا مسكون باملوىت ودماء املقتولني؟ ملاذا والعويل مازال معلقاً عىل الجدران ،ملاذا أكتب عن حصار املوت يف كل مكان؟ والسجان؟ ملاذا أكتب عن املكان امليت فيه السجني ّ ملاذا أكتب عن نشيج اليتامى وانتظار الحبيبات العائدين من خيال العدم؟ ملاذا والسجن حصتي من األشياء ،ملاذا وهو ذاكرة البالد؟ أي بالد أنت أيتها اللغة ،هل يل بقليل منك؟ يف السجن كنت أسائل املوت عام تبقى من حصتي يف الوقت .يف السجن انفضحت لهفتي إىل الحب ،تش ّوفت إىل عدن الوجود ،إىل أنفاس الطفل الذي أحمله يف قلبي ويحملني يف لهفته ومعه كل صغار العامل من الورد ،يف السجن ذهبت إىل أسفل العامل وعدت، هل عدت؟ لهذا أكتب عن اللغة ،عن األبواب ُترشع عىل الضوء، عن عطر ينسكب من روح ،عن روح تنسكب من جسد. خذيني يا لغتي فأنا بعدُ سجني!
رزان زيتونة واألخضر اإلبراهيمي وحديث عن حصار غوطة دمشق واملمرات اإلنسانية
9
القامشلي :كمال شيخو العدد
101 2021 / 12 / 17
االنتهاكات إىل جانب مشاركتها يف تأسيس مجلة (طلعنا عالحرية) وكانت إحدى كتابها ومحرريها. توجهت رزان نحو مدينة دوما مسقط رأس رشيك حياتها وائل ،بعد املالحقة األمنية من قبل أجهزة املخابرات وفقدان القدرة عىل التحرك والتنقل. وبقيت يف دوما قرابة مثانية أشهر قبل أن يتم اختطافها مع زوجها ورفيقيها سمرية وناظم. وليست مصادف ًة عبور قافلة إنسانية يف 9من كانون األول /ديسمرب الحايل من املناطق الخاضعة لسيطرة النظام ضمن برنامج األمن الغذايئ العاملي التابع لألمم املتحدة ،باتجاه محافظة إدلب التي تسيطر عليها خليط من تشكيالت فصائل املعارضة
وجامعات إسالمية ،بعد ميض 8سنوات عىل اتصال رزان والماين ورضورة فتح املمرات اإلنسانية.
لكن مييض الزمن برسعة دون معرفة أي معلومات عن رزان ووائل وسمرية وناظم وعن مصريهم، وبقيت القضية صندوقاً أسود مغلقاً يكتم أرسار هذه امللف بانتظار أن يرى النور لكشف الحقيقة.
مقاالت
يف منتصف العام 2013وبعد فرض النظام السوري الحصار عىل الغوطة الرشقية ،اتصل الدبلومايس الكندي مختار الماين وكان وقتذاك رئيساً ملكتب املبعوث الخاص املشرتك لألمم املتحدة وجامعة الدول العربية إىل سوريا ،األخرض اإلبراهيمي ،مع املحامية رزان زيتونة يدعوها للقاء األخري يف مقر إقامته يف دمشق ،وقال إنه سريسل سيارة دبلوماسية تق ّلها حتى ال تعرتضها الحواجز والنقاط األمنية املنترشة بكثافة ،عىل مداخل ومخارج الغوطة. آنذاك؛ مل يستغرق االتصال وقتاً كبرياً ،ألن رزان اعتذرت من دعوة املبعوث األممي عىل الرغم من تأكيدها أهمية هذه اللقاءات ،لكنها طلبت من الماين أنه من األفضل للسيارة الدبلوماسية الخاصة أن تحرض بعضاً من حليب األطفال واألدوية املفقودة باملنطقة ،وإن استطاع إحضار بعض الخبز ،لتخفيف معاناة سكان الغوطة املحارصين. وأنها ستكون ممتنة كثرياً لألخرض اإلبراهيمي لو فتح هذا امللف مع النظام الحاكم ،من أجل فتح ممرات إنسانية .وبهذا ستكون هذه الخطوة عملية أكرث من لقائها وأخذها وإعادتها. وبعد مرور ثالثة أشهر من االتصال ،تعرضت الغوطة لقصف مكثف بالرباميل املتفجرة وراجامت الصواريخ واملدفعية الثقيلة ،ووقعت مجزرة بشعة بالسالح الكياموي يف 21من شهر آب /أغسطس 2013أدين النظام بارتكابها ،وراح ضحيتها أكرث من 1300ضحية مدنية معظمهم من األطفال. وبعد وقوع املجزرة بنحو أسبوع التقيت مع رزان وطاقم مكتب التوثيق يف مقرها مبدينة دوما، وبقيت يف الغوطة 4أيام أجريت خاللها لقاءات وسمعت شهادات ناجني من املجزرة ،وكانت رزان
وزمالؤها قد وثقوا املجزرة بالصوت والصورة. وقبل عوديت لدمشق التقيت مع رزان ألودعها وحينها أخربتني مضمون االتصال مع مختار الماين، وأكدت إنها مل تذهب بسبب تبني النظام الحاكم الخيار األمني ورهانه عىل الحسم العسكري، وتعمدت قواته منع دخول قوافل مساعدات إنسانية أممية ،ما دفع رزان بطلب فتح ممرات إنسانية إىل الغوطة الرشقية لحامية املدنيني وتجنيبهم ويالت الحصار. وبعد مرور 8سنوات من اختطاف رزان وزوجها وائل حامدة وصديقة دربها سمرية الخليل ورفيقها ناظم الحامدي ،وبعد التغريات امليدانية الكربى التي شهدتها سوريا بعد سيطرة القوات النظامية عىل ثلثي مساحة البلد ،ومتسكه بسالح الحصار والحل األمني العسكري إلعادة السيطرة عىل كامل الجغرافية السورية ،وبعد توايل أربعة مبعوثني خاصني من األمم املتحدة إىل سوريا منذ ،2011خلصوا جميعاً إىل االعتذار من الشعب السوري ،وإلقاء الالمئة عىل “تصلب األطراف املتحاربة” يف سوريا والجمود داخل مجلس األمن الدويل. ً ورزان البالغة من العمر 44عاما قضت سنوات طويلة يف الدفاع عن املعتقلني واملعارضني السياسيني ،وترتافع عنهم أمام املحكمة العسكرية بدمشق وتتابع قضاياهم يف دوائر القضاء املدين ومحكمة أمن الدولة العليا .وكانت تزور املعتقلني السياسيني يف سجن عدرا أسبوعياً ،وتتابع شؤون عائالتهم .وكل يوم إثنني من األسبوع تذهب إىل مقر محكمة أمن الدولة القريب من ساحة السبع بحرات وسط دمشق ،لتستمع لشكاوى
أهايل املعتقلني املحالني إىل املحكمة سيئة الصيت ،وتوثق حاالتهم وطريقة االعتقال وتجمع املعلومات الخاصة بهم. وبعد انطالقة الثورة يف ربيع عام ،2011أسست رزان لجان التنسيق املحلية ومركز توثيق
10
َ الر ُجل واملرأة َ َّ باآلخر) بني (االعرتاف أمام َ و(االعرتاف َ اآلخر) د .مازن أكثم سليمان *
العدد
101 2021 / 12 / 17 مقاالت
ما من ٍّ شك عندي َّأن العالقة ب َ ني ال َّر ُجل واملرأة يف عاص (ح ّباً أو جنساً أو صداق ًة)، مجتمعنا العر ّيب ا ُمل ِ ليس تعميم ّياً، هي عالقة مأزومة؛ وكالمي هُ نا َ َ منحى ما من ُمال َمسة الق َيم بقدر ما هو قا ِئم عىل ً ا ُملهي ِمنة عىل األفراد واملجتمع ،وهذا ال ينفي وجود تجارب جميلة وناجحة ،نسب ّياً ،يف هذا املضامر. بجملة لكنَّ هذ ِه العالقة ،عىل نح ٍو عا ّم ،محكومة ُ ُ تنهض عىل اهتزاز ال ِّثقة ا ُملتبادَل بنيَ ُمحدِّدات َّ ُ ْ ِّ ُ ْ َّ الطرفني ،إن مل أقل :إنها تنهض عىل فقدان الثقة بالكامل! َّ ِّ لعل أيّ تفكيك إلشكال ّية (فقدان الثقة) ب َ ني ال َّر ُجل َّواصل البنّاء والجميل بينهُام، واملرأة ،وإلخفاق الت ُ السؤال اآليت :كيفَ ينبغي ْأن ينطلقَ أ َّوالً من ُّ ني َّ يتم تأسيس العالقات ب َ الطرفني؟ فالخلل املاثل ّ ُ ّ َّ للعيان ،أو عىل األقل ،إن هذا الخلل املفرتَض ،يكمنُ يف عدم بناء العالقة بينهُام عىل ُأسس أصيلة ،كام أعتقد. ُ (أسس/ وال يعني القول برضورة بناء العالقة عىل ُ نضع منظومة ق َيم معيار ّية أساسات) أصيلة أ َّننا ُ ُمح َّددة ،أو ُن ِّ ؤط ُر العالقة بقواعد أخالق ّية ثابتة ُ نقول مبرجع ّيات ُم َسبقة وساكنة و ُمتعالية ،أو و ُمع َّينة .فالعالقة ب َ ني ال َّر ُجل واملرأة محكومة، جانب حت ًام ،باختالف الخيارات الفرد ّية ،من ٍ أ َّول ،وباختالف الخلف ّيات االجتامع ّية وال َّثقاف ّية جانب ثانٍ .لكنْ -وبوجود هذ ِه واالقتصاد ّية ،من ٍ الخلف ّيات واختال ِفها ونسبي ِتها -يجب ْأن تكونَ األقل َ العالق ُة الغن ّية ،عىل ّ نظر ّياً -ومهام كانت سطوة َ تلك الخلف ّيات واملرجع ّيات -شبيه ًة بتد ُّفق الح ِّر ّية والتَّجربة واملجهول. الحياة ،ومفتوح ًة عىل ُ غ َري أ َّن ُه ال ُب َّد هُ نا من تأصيل املسألة والتَّساؤل :هل ُيكنُ تأسيس عالقة ماتعة وث َّرة وجميلة يف ّ ظل تنميطي واجتامعي واقتصاديّ وثقا ّيف سيايس ُمناخ ّ ّ ّ ِّ وتأطرييّ مأزوم و ُمتعفن وقا ِئم عىل ُمصادَرة ُ والجامل؟ الخصوص ّية والفرد ّية َ أزعم َّأن إشكال ّية العالقة ب َ هي، ُ ني ال َّر ُجل واملرأة َ
يف ُمستوىً عميق منها، إشكال ّية مجتمع وثقافة ليس وترب ّية ،وهذا َ للح ّب اكتشافاً؛ فال تح ُّرر ُ والصداقة ب َ ني والجنس َّ الجنسني من دون تح ُّرر واجتامعي شامل، سيايس ّ ّ ّإل َّأن الهدف املرج ّو ،عىل ّ األقل يف هذا الن َّّص ،يكمنُ يف ُمحا َولة تقديم وصف أ َّو ّيل للمسكوت عنه يف هذ ِه املسألة ،واستنطاق األبعاد الفرد ّية للعالقات ،وطرائق انبساطها وتع ُّينها الوجوديّ ،من حيث املبدأ. َّإن أ َّول ُخطوة لتحرير العالقة ب َ ني ال َّرجل واملرأة من القيود القا ِتلة ،يف اعتقادي ،تكمنُ فيام أدعوه َ لذات فكيف (االشتغال عىل ال ّذات الفرد ّية)؛ ٍ َّواصل (رجل أو امرأة) ْأن تستطيع الت ُ إنسان ّية ُ َ والتَّفاعُ ل واألخذ والعطاء مع (رشيك /رشيكة) بنفسها وبوعيها وهي ذات فقرية غري ُممتلئة ِ لهاَ ، وبوجودها؟ ُ فالكارثة ا ُملتك ِّررة يف ُمجتمعنا تكمنُ يف لجوء ال َّر ُجل واملرأة إىل بعض ِهام لتعويض النَّقص؛ أي بدافع وهم تحقيق التَّوازن َّ خيص والحيا ّيت بوجود الش ّ اآلخر ا ُملك ِّمل ُ َ (خرافة النِّصف ال ّثاين يف دالل ِتها التَّداول ّية ّ يحكم الشا ِئعة) ،وهذا لعمري أسوأ ما ُ عىل العالقات باإلخفاق؛ إذ ال نصف ثانٍ للفرد الح ّر ا ُمل ّ ستقل بهذا املعنى ا ُملسته َلك أ َّوالً ،وثانياً، ُ تتأسس أيَّ عالقة عىل فعال ّية التَّشا ُرك ّية ينبغي ْأن َّ والتَّفاعُ ل ،ال عىل وهم االندماج والتَّامهي ،وثالثاً، َ نفسها ْأن ُتغ ِني وتغتني كيف ٍ لذات ُمغ ِرتبة عن ِ َ نفس ِه أيضاً؟ بآخر ُمغ ِرتب عن ِ ّ نفسها وثقاف ِتها َّإن عدم اشتغال الذات الفرد ّية عىل ِ السقوط مبعنى ماَ ، ليس فقط ُّ وتوازنها الكيا ّين يعنيً ، يف االغرتاب َّ الجمعي خيص؛ َّإنا اإلذعان لالغرتاب الش ّ ّ واالجتامعي واالقتصاديّ ) ،وخط ُر هذا يايس (الس ّ ِّ ّ
االغرتاب ينطوي ،عىل نح ٍو رئيس ،يف ارتداء ال ّذات (ال َّر ُجل أو املرأة /سواء أكانت العالقة عالقة ُح ّب أو جنس أو صداقة) قناعَ التَّكا ُذب والتَّنا ُقض واالزدواج ّية ،و ُر َّبا َ كان هذا القناع هو ُأ ّس أزمة ُفقدان ال ِّثقة ،واإلخفاق يف عالقات َّ الطرفني يف مجتمعنا. ُ َّ ُ أالعيب التَّكاذب إىل أساسات وهكذا ،تتسلل ُ ُ بناء العالقة ،وما ُيبنَى عىل باطل سيكون مص ُري ُه آج ًال ،وال سيام يف ضوء غياب السقوط عاج ًال أم ِ ُّ ُ ّ والجرأة والوضوح يف طرح كل طرف ملا الصاحة ُ َّ ً ً ً َ (ح ّبا أو جنسا أو صداقة) ،وهذا ما ُيريدُ ُه من اآلخر ُ اآلخر) ،والذي يكتملُ أدعوه مبفهوم (االعرتاف أما َم َ ُنضجاً وبنياناً ع َرب مفهوم (االعرتاف َ باآلخر). باآلخر) ُم َ َ يقودُنا مفهوم (االعرتاف َ باش ًة ،إىل نقد ال ِبنية املركز ّية البطريرك ّية ال ّذكور ّية يف ُمجتمعنا، فال َّر ُجل ما ز َال محكوماً ،إىل ح ٍّد كبري ،بازدواج ّية َّواصل جانب أ َّول ،ه َو ُيريدُ الت ُ العالقة مع املرأة :من ٍ ً جانب ثانٍ ، (ح ّباً أو جنساً أو صداقة) ،ومن معها ُ ٍ ّ ُّ ه َو يعج ُز عن ُمفا َرقة نظر ِت ِه الشعور ّية واللشعور ّية (الدّون ّية) إليها ،وأ َّنها مج َّرد (آلة ّ صمء) مخلوقة الح ّب أو ملنح الجنس أو لكلي ِهام معاً ،ال سواء ملنح ُ بوص ِفها إنساناً كام ًال ،ون ّداً ُمكافئاً ،ورشيكاً حقيق ّياً يف التَّفاعُ ل واألخذ والعطاء ،يف الوقت نفسه. َّ لعل أزمة عدم االعرتاف بـِ َ (اآلخر /األنثى اإلنسان) هي أزم ُة ازدواج َّي ٍة أخالق ّية، من جهة ال َّر ُجلَ ،
.....
العدد
101
*
شاعر وناقد سوريّ
2021 / 12 / 17
ويبدو يل َّأن أزمة عدم (االعرتاف أما َم َ اآلخر)، َ هي أزمة فقدان ثقة بال ّذات وباآلخر ،يف آنٍ مبا َ ُ هي ،أيضاً ،ذات أ ُسس وخلف ّيات سياس ّية معاً ،ومبا َ واجتامع ّية واقتصاد ّية وثقاف ّية ،قد دف َع ْت نسو ًة ممن ساروا يف ركاب ال َّت ّيارات النَّسو ّية كثريات َّ ُ السياق ال أع ِّمم بالتَّأكيد، عاصة (وأنا يف هذا ِّ ا ُمل ِ ُ لكنَّني أحا ِو ُل ْأن أرص َد بعض النَّامذج ا ُملتع ِّينة يف الواقع ،وضمنَ رؤية َّ واجهة تتوخى النِّسب ّية) إىل ُم َ تط ُّرف ال ّذكور بتط ُّرف ُمقا ِبل يقو ُم ،أيضاً ،عىل أمناطٍ ُسلوك ّية وخطاب ّية تنطوي عىل عدم (االعرتاف َ باآلخر) ،وهُ نا تظه ُر ُمبالَ ٌ تعجلة ،يف أحيانٍ غات ُم ِّ كثرية ،ترمي ال َّر ُج َل ،تلقائ ّياً ،يف قفص اال ِّتهام، ني ُّ و ُتلغي الفرد ّية واالختالف ُ والخصوص ّية ب َ الذكور، ْ تتم ُمحاكم ُتهُم ،آل ّياًَ ، تحت دعاوى (التَّح ُّرش) كأن َّ ْ ليست، أو (تبخيس إنسان ّية املرأة) ،واإلشكال ّية هُ نا يف بداهة التَّجريم الجذريّ للتَّح ُّرش ،أو يف رضورة الحاسمة لالنتقاص من إنسان ّية املرأة؛ َّإنا اإلدانة ِ يف تعقيدات التَّساؤل ا ُملر َّكب وا ُملرتاكب عن كيف ّية والصحيحة للتَّمييز ب َ ني الص ِّح ّية َّ إيجاد املعايري ِّ َّواصل َّ الطبيع ّية ،أو إبداء التَّح ُّرش ،و ُمحا َوالت الت ُ االهتامم ،أو اإلعجاب ،أو التَّعبري عن ال َّرغبة/ َّ الشهوة ،من ق َبل ال َّر ُجل تجاه املرأة. إذاً؛ َّمث َة اختالل يف ُمعادَلة َّ (الشاكة وال ِّن ِّد ّية) ب َ ني ال َّر ُجل واملرأة ،وه َو اختالل كامنٌ يف ُم َس َّبقات الوعي الحا ِكمة ،إىل ح ٍّد بعيد ،ويف الكيف ّيات ا ُملرت ِبكة النفتاح التَّجارب ،ويف الفقر إىل ِخربة الح ّر يف ُمنعرجات الوجود. االرمتاء ُ َّ أهم ا ُملض َمرات غري ا ُملف َّكر فيها ،يف ولعل إحدى ّ هذ ِه اإلشكال ّية ،فض ًال عن كو ِنها أزمة فكر وهُ ِو ّية، هي ،أ َّنها يف عُ م ِقها ،إشكال ّية تنطوي عىل سيادة َ ثقافة ال ُّثنائ ّيات املركز ّية التَّقا ُبل ّية ،وما ُ تنهض عليه ملفاهيم ينبغي تفاصل ّية جا ِمدة من إحاالت دالل ّية ُ َ إعادة الن ََّظر فيها جذر ّياً ،كإحاالت املفهومني ّ الشائعني اآلتيني: - 1نحنُ نحتفي بال ُّرجولة ال ُّ بالذكورة“ :ال َّر ُجل غري ال َّذكر” /وه َو ما ُّ حسب يدل عىل االحتفاء باألخالق َ
السائد جمع ّياً ال َّ بالشهوة = االنحالل. مفهو ِمها ّ الجسد: بجامل األنوثة ال َ - 2نحنُ نحتفي َ بجامل َ “األنثى غري املرأة” /وه َو ما ُّ يدل عىل االحتفاء السائد جمع ّياً ،أيضاً ،ال باألخالق َ حسب مفهو ِمها ّ َّ بالشهوة = االنحالل. ليس ْت ،يف وهذ ِه ال ُّرؤية ال ُّثنائ ّية الت ُ هي َ َّفاصل ّية َ للح ّب نهائي ِتها وتعاليها ،سوى رؤية (تأثيم ّية) ُ وهي أيضاً ذات ُبعد أو للجنس أو لكليهام معاًَ ، نقطع عن الواقع وكيف ّيات ُطهرا ّين وهمي و ُم ِ ّ َّواصل وطبيعة البرش ،ولهذا األمر بالتَّأكيد الت ُ مرجع ّيات اجتامع ّية وثقاف ّية راسخة قد يأيت يف ُمقدِّم ِتها ال َّنسقُ املعر ّيف القا ِئم عىل ال ُّثنائ ّية الح ِّد ّية التي تفصل الجسد عن ال ُّروح. السعي إىل (التَّثوير) وأخرياً ،يبدو أ َّن ُه ال ُب َّد يف إطار َّ يايس ،من إعادة ال َّثقا ّيف والتَّغيري الس ّ االجتامعيِّ / ّ حبسها يف إطار تفس ٍري تعريف مفاهيم كثرية َّ تم ُ ويقيني وض ِّيق كمفهوم الوفاء، ُأحاديٍّ ُم َس َّبق ّ ومفهوم الخيانة ،ومفهوم أبد ّية العالقة ،ومفهوم قدسي ِتها ا ُملط َلقة ،وغري َ ذلك من ال ُّرؤى وا ُملام َرسات حاسمة ،ينبغي تحري ُرها عممة بوص ِفها ُمس َّلامت ِ ا ُمل َّ ع َرب دينام ّية الفعل والتَّفاعُ ل وإعادة تشييد فجوات والجمعي. الوجود ووعيه الفرديّ ّ وهي األمور التي ينبغي ْأن َّ َ نبسط تتعي يف ُم َ َ تواصل ب َ ني ال َّر ُجل واملرأة الكينونة يف ضوء فهم أيّ ُ َّغيات لسيولة الحياة ،وللت ُّ بوصف ِه ابناً رشع ّياً ُ َّ الطبيع ّية فيها ،ولالنفتاح عىل ا ُملحت َمل واملجهول و ُمرا َكمة الخربات اإلنسان ّية ،بدالً من االنغالق فالحب عىل مفاهيم مثال ّية ُمتعالية وغري واقع ّية، ّ الصداقة (أو جميعهم معاً) تجارب أو الجنس أو َّ إنسان ّية ُمنغ ِرسة يف قلب نسب ّية الزَّمن والعيش، جانب أ َّول، و ُمتَّصلة عميقاً بأخالق االعرتاف ،من ٍ جانب ثانٍ ،وبال َبحث والح ِّر ّية ،من وبثقافة الفرح ُ ٍ السعادة يف ضوء ارتباطها املحموم للبرش عن َّ ُ الكيا ّين بال ُبعد الجام ّيل (العيا ّين والك ِّ ّ ل) للوجود ،من ثالث وأخري. جانب ٍ ٍ
مقاالت
ونتيج ُة رص ٍاع مري ٍر و ُمستم ّر داخل وعي ِه وفكر ِه ب َ ني املوروث ا ُملتخ ِّلف الذي يشدُّ هُ ،دامئاً ،إىل الوراء، والحياة الجميلة وا ُملغرية والعرص ّية التي ُتنادي قل َب ُه وجس َد ُه وكينون َتهُ. ُ نالحظ َ تتعم ُم مفاهيم ُمعيقة وبهذا املنحى كيف َّ أو ُم ِّ وهي مفاهيم حطمة للعالقات يف ُمجتمعناَ ، ُمتَّصلة ،عىل نح ٍو ُم َ باش ،مبنظومة الق َيم األخالق ّية السائدة (ويف ُمقدِّمتها مفهوم َّ الشف وتابع ّية املرأة ّ ُ لل َّر ُجل) ،والقائِ ة عىل الفصام واالزدواج ّية واملوقف الدُّ و ّين تجاه املرأة مثل ُشيوع فكرة َّأن( :ال َّر ُجل هو ُ يربح” من املرأة) ،وفكرة َّأن: ا ُملف ِرتس الذي “يأخذُ / هي الفريسة التي “ ُي َ تخرس إزا َء ؤخ ُذ منها”/ ُ (املرأة َ ال َّر ُجل)( ،ووو...إلخ). ُ ُ وتتشابك هذ ِه الق َيم املأزومة مع حالة التَّكاذب وادّعاء التَّح ُّرر التي ُيا ِر ُسها ال َّر ُجل َ تحت باب عدم (االعرتاف أما َم َ نفسها اآلخر) ،مثل تقديم ال ّذات َ لـِ َ (اآلخر /املرأة) ع َرب (أقنعة لفظ ّية) ُمف َّرغة من مضامينها ،وال ُ الصيحة ،كالعبارتني تقول غايتَها َّ رجل ُمتح ِّرر) ا ُملسته َلكتني وا ُملتهافتَتني اآلتيتني( :أنا ُ وهي ،بالتَّأكيد، (أنا ُ رجل غري سعيد مع زوجتي)َ ، ً مقوالتُ /مام َرسات ،فضال عن سطحي ِتها وسذاج ِتها، ُتز ِّي ُف الوعي ،و ُتس ِّمم الوجود ،و ُتصا ِدر جامل ّيات ني َّ والصداقة ب َ الطرفني ،إىل الح ّب والجنس َّ عالقات ُ الحدود. أقىص ُ َ ْ يف ُمقا ِبل ذلك ،وكردّة فعل أنثو ّية ،ظه َرت منظومة أفكار وق َيم اغرتاب ّية عند نسا ٍء كثريات ،وهذا ما َّ يتجل بدخولهنَّ ،أيضاً ،يف دائرة فقدان ا ُملصا َرحة أ َّوالً؛ أي االبتعاد عن مفهوم (االعرتاف أما َم َ اآلخر)، ويف بنائهنَّ العالقة مع ال َّر ُجل ،ثانياً ،عىل غايات نفع ّية ومصلح ّية وتبادُل ّية ،وعىل ُمقا َيضات متحو والصداقة ،وتبدو يف الح ّب والجنس َّ جامل ّيات ُ ً ً ً حصل ِتها ،استسالما وتعميقا و ُمجاراة للنَّظرة ُم ِّ ُّ ً الذكور ّية الفحول ّية الدّون ّية تجاه املرأة ،ومنطا من الصداقة ،وتسويغ َ ذلك الح ّب أو الجنس أو َّ تسليع ُ َ (يحقُّ ُ يقتنصني اقتناصه مثلام يل تحت عنوان: ُ َ ه َو).
11
“اإلنكار -التنديد” 12
معرض تشكيلي يف أملانيا حسن عارفة
العدد
101 2021 / 12 / 17 تقارير
شهدت مدينة فامير األملانية يوم السبت 11 كانون األول /ديسمرب الحايل ،افتتاح معرض “اإلنكار -التنديد” مبشاركة الفنان السوري/ األملاين خالد عارفة ،مبوضوعه القديم -الجديد عن املأساة السورية ،محاوالً عرب مشاركته إحياء ذكرى املعتقلني/ات واملختفني/ات قرسياً يف سوريا. و ُيقام املعرض يف غالريي “ ”Accباملدينة التي كانت عاصمة للثقافة يف أوربا عام ،1999ضمن فعالية فنية مشرتكة مع 11فناناً من أملانيا ودول أخرى ،تحتضن أعاملهم جميعاً صاالت متعددة االستعامالت ،لتتفرد أعامل الفنان السوري بقضية من أهم قضايا السوريني الباحثني عن الحرية حالياً وهي قضية املعتقلني واملختفني قرسياً. عارفة من مواليد دمشق ،1974خريج كلية الفنون الجميلة بدمشق باختصاص النحت، ومقيم يف أملانيا منذ عام ،2006يقول يف ترصيح لطلعنا عالحرية“ :الفن غالباً ما يحمل رسائل مشغولة بأدوات الفنان ،هذا ينطبق عىل كل أنواع الفنون البرصية والسمعية” ،مضيفاً“ :قبل فرتة وصلتني الدعوة للمشاركة يف معرض تحت عنوان (التنديد ..واإلنكار) ،لفرتة كان تفكريي محصوراً مبعنى الكلمة ،موضوع املعرض ،والتي ميكن أن تأخذ معنى آخر كالوشاية ،بهذه اللحظة مل أفكر إال بصور قيرص ،ومبا حصل بسوريا بعد خروج الناس إىل الشارع واملطالبة بالحرية”. شارك الفنان بعدة أعامل ما بني اللوحة والرتكيب الفني ،ليجسد مأساة املعتقلني واملختفني قرسياً يف سوريا ،ومحاوالً دمج املتلقي يف العمل الفني؛ وذلك حني عرض مجس ًام لباب املعتقل تتوسطه صورة رئيس النظام السوري بشار األسد ،وعىل الباب -الذي هو بطبيعة الحال كاملعتقالت السورية -وضع مرآة خلف القضبان ،لريى كل شخص نفسه خلف هذه القضبان ولو لثانية، وليشعر مبأساة املعتقلني وراء قضبان النظام السوري! كان لهذا املعرض خصوصية ،بتقدميه وجبة
دسمة من اللوحات املعربة عن أحوال املعتقلني واملختفني قرسياً يف سوريا. وكانت مشاركات الفنانني اآلخرين يف املعرض تندد وتستنكر املواضيع الحياتية يف هذا العامل؛ كامدة البالستيك وتأثريها السلبي عىل الطبيعة والبرش ،وكذلك األمر لجائحة فايروس كورونا الذي غزى العامل. كام شارك الفنان عارفة بجدارية قدمية منذ العام ،2015وتحيك قصة النزوح السوري إىل أوروبا ،برموز وإشارات للموت الذي والرعب عاشه السوريون يف رحلتهم نحو النجاة. مثة جدارية أخرى عمل عليها الفنان عارفة لهذا املعرض، واستوحى فكرتها من صورة نزوح أهايل الريموك من ذاكرتهم وبيوتهم إىل وحياتهم.. أماكن أخرى يف دمشق. من هنا ربط الفنان يف أعامله بني مأساة املعتقلني واملختفني قرسياً ،ومأساة التهجري التي رضبت مناطق سورية كثرية ،حيث عرض هذه الجدارية للقطة األيقونية التي وثقت تجمع املهجرين من مخيم الريموك لالجئني الفلسطينيني عام .2018 “األفكار تتوالد وتنضج مع مرور الوقت وخروج
الناس يف صورة مخيم الريموك ما زالت أمامي ..ومن هنا بدأت بالعمل للمشاركة باملعرض” يقول عارفة .ويتابع“ :كيف ميكن يف لوحة أن أظهر وجع وأمل شعب كامل تهجر يف ساعات من ذاكرته وحياته وبيته؟ هذه لوحة الريموك التي تظهر حال السوريني املهجرين من الداخل إىل
الداخل ،أو من الداخل إىل الشتات .”... بني اللوحتني نشاهد عملني صغريي الحجم يحمالن سنوات من عمر املعتقل ،هنا يعلق الفنان عارفة“ :كيف ممكن أن يكون شعور املعتقل بالوقت واأليام؟ وخصوصاً حني يبدأ بع ّد
عن قسوة املصري اجملهول ومعناه
العدد
101
ال يسع املرء إال أن يساند املطالب املحقة لذوي املفقودين يف الكشف عن مصري أحبائهم ،وأن يدعم سعيهم إليجاد السكينة ..سكينة أرواح املفقودين وأرواح محبيهم يف مصري معلوم ،ح ّقهم يف دمل جراحهم ،ويف بدايات جديدة من الصعب أن تكون إال بنا ًء عىل يقني ما ..مهام كان مؤملاً وقاسياً. ويف هذا السياق ال ب ّد أن نتحدث عن الصوت األعىل يف هذه املطالبات ،وهي األصوات التي تطالب بالكشف عن مصري فرسان الثورة األربعة رزان زيتونة وسمرية الخليل ووائل حامدة وناظم الحامدي ،قيادات الحراك السلمي وتنسيقيات الثورة الذين اختفوا يف ظروف غامضة يف مدينة دوما التي كانت تخضع لسيطرة جيش اإلسالم املحسوب عىل الثورة. هل يجوز لنا أن نضع جانباً -ولو لربهة قصرية -عدالة هذه املطالب وأهميتها عىل الصعيد الشخيص لذوي املختفني؟ ما هي املصائر املحتملة لألبطال األربعة؟ وأي من تلك املصائر يليق بأحالمهم الثورية؟ كان هناك ثالثة مصائر محتملة عموماً لثوار سوريا السلميني :أولها مصري القتل عىل أشكاله املختلفة ..قصفاً ،قنصاً ،غدراً ..أو تعذيباً ،ثانيها مصري االعتقال يف أقبية النظام أو املعارضة املتطرفة ،وثالثها مصري الهرب باحتامل النجاة يف قوارب الهجرة واللجوء، وهناك يف حياة اللجوء ليس مثة احتامالت كثرية ،فإما العيش عىل املعونات التي تقدمها الحكومات الغربية ،وإما السعي للنجاح الفردي وتحقيق الذات بعيداً عن الهموم الوطنية ،وإما االنخراط يف سوق التجارة الثورية عىل اختالف أشكالها. هل يجوز لنا كثائرين حاملني أال نتمنى هذه املصائر ألبطالنا؛ فال نريد اكتشاف رفاتهم املدفونة يف مقربة جامعية ،وال نريد اكتشاف صورهم كمقتولني تحت التعذيب، وال كمعتقلني يف أقبية النظام يذوقون شتى أنواع االنتقام والتعذيب من سجانيهم الساديني ،كام ال نريد أن نراهم إىل جانب تجار الثورة يف املدن الغربية ،هؤالء الذين يحلو لهم أن يختزلوا دور األربعة القيادي يف الحراك السلمي والتنسيقيات عىل مستوى سوريا كلها إىل “موثقي انتهاكات”!.. كان ميكن للمطالبة بالكشف عن مصري األربعة وآالف املفقودين غريهم أن يكون لها معنى آخر يف سياق انتصار ،ال يف سياق الهزمية ،يف سياق إحقاق العدالة واملحاسبة، ال يف سياق التوثيق والتقارير التي ال تساوي حربها. لست أماري يف أهمية املطالبة بالكشف عن مصائر جميع املفقودين ،وأعلم متاماً مدى فانتازية طرحي هذا ورمبا ترفه املبتذل ،لكن يبدو من زاوية ما أن أرواح الفرسان األربعة وأشباههم عىل امتداد الوطن املد ّمر ترفض االمتثال لهذا األمر الواقع ،ورمبا كان مصريهم املفتوح عىل املجهول هو الالنهاية األجمل لحلمهم ..لحلمنا املوؤود يف وطن يشبه األوطان.
مثاالت
هكذا كان املعرض فرصة للفنان املمنوع من دخول سوريا ،لتأكيد قوة جذوره يف الثورة ،عرب هذه األعامل، حيث يستمر املعرض حتى العرشين من شهر شباط/ فرباير املقبل. وكان الفنان خالد عارفة قد شارك يف العديد من املعارض بعدة مناطق أملانية ،ومل تغب عن مجمل أعامله القضية السورية ،بثورتها وأفكارها ،خيباتها ونجاحاتها ،هزامئها وانتصاراتها ،وبطبيعة الحال ،أحد أهم شعاراتها “الحرية”. يف ختام ترصيحاته يؤكد عارفة أن “الفن بكل مفرداته وأدواته قادر عىل مساندة أي قضية يف الحياة ،خصوصاً يف زمن التحول الرقمي” حسب وصفه“ ،الصورة اآلن تصل إىل العامل بدقائق معدودة ،لكن فكريت ما زالت بأين أريد أن أجعل من الناس حويل ،وخصوصاً املجتمع الذي أعيش فيه ،يعرفون مدى االستبداد والظلم الذي عايشه السوريون عىل مدار عقود منذ استالم األسد األب للسلطة يف سوريا عام ”1970يختم حديثه.
سميح الصفدي
2021 / 12 / 17
أيامه يف السجن كخطوط عىل الجدار أربعة وبالعرض واحد ليكملوا الخمسة أيام”! ومل ُ يخل املكان أيضاً من صور متفرقة ملعتقلني ومعتقالت، تع ّمد النظام مح َو أسامئهم ،واستبدال أرقام بها ،يف تعبري رمزي عن واحدة من أسوأ االنتهاكات يف هذه املعتقالت، حني يتحول املعتقل إىل مجرد رقم“ ،وكل ذنبه أنه قال “ال” لنظام مل يعتد عىل سامع كلامت عىل غري منوال: نعم ،حارض ،أمرك وغريها”. “منذ العام 2016بدأت الخروج من املأساة السورية كموضوع لكل األعامل التي أنجزتها بني عامي 2014 وحتى عام ،2016ومن بعد هذا التاريخ ،بدأت البحث عن موضوع ميثل الحال الذي وصلنا له كسوريني مشتتني يف كل بقاع املعمورة” يقول خالد عارفة. ومع كل االنكسارات التي رضبت الثورة السورية ،حاول البحث عن معانٍ أخرى لشعارات الثورة الرئيسية، موضحاً“ :بدأت أميل وأبحث عن معنى الهوية ،االنتامء، والجذور ..وكانت الطبيعة تأخذين إليها .وبدأت تتبلور فكرة األشجار كموضوع .والشجرة كام األشخاص بحاجة إىل جذور يف األرض لتنمو”.
13
ٌ ّ مكدرة ..األطفال يف ريف حلب طفولة بني احلاجة واالستغالل!
14 حسين الخطيب
العدد
101 2021 / 12 / 17 تقارير
ارتفعت نسبة األطفال العاملني يف ريفي حلب الشاميل والرشقي ،جراء الظروف املعيشية القاهرة التي دفعتهم إىل الخوض يف مضامر العمل إلعالة أرسهم ومساندتها يف تحمل قسوة الظروف االقتصادية املرهقة ،عىل الرغم من التحديات التي ترافقهم خالل األعامل الشاقة التي ال تناسب أعامرهم. الطفل أكرم ( 12عاماً) ،يعمل يف ورشة إصالح محركات السياراتيفبلدةتلبطالبريفحلبالرشقي،منذشهر عىل األقل بعدما غادر املدرسة يف سبيل مساعدة والده يف مرصوف أرسته املكونة من 9أشخاص ،بينهام والديه. يحاول أكرم مساعدة والده يف تحمل نفقات البيت، حيث يعمل والده معامراً ،يف القرى والبلدات املجاورة ،وال تتجاوز يوميته 50لرية تركية ،وهي 3.30دوالر أمرييك ،وهذه ال تكفي مرصوفاً يومياً ألرسته ،مام اضطر الطفل لاللتحاق بالعمل ،مقابل أجر يومي ال يتجاوز 30لرية تركية 2دوالر أمرييك. كان أكرم متفوقاً يف مدرسته ،كام أوضح خالل حديثه ملجلة “طلعنا عىل الحرية” ،لكن الظروف القاسية التي عصفت باألرسة جعلت منه عام ًال يبحث عن رزقه يف املنشآت الصناعية .بينام ميتد وقت العمل لنحو 9 ساعات يف اليوم؛ حيث يخرج يف الساعة 8صباحاً من منزله الواقع يف قرية تل بطال ،إىل مركز تجمع املنشآت الصناعية يف القرية ،ويبقى يف العمل يقوم بواجباته تجاه معلم الورشة التي يعمل بها حتى الساعة 5مسا ًء. وتتنوع املهن والحرف التي يعمل بها األطفال يف ريفي حلبالشاميلوالرشقي،إالأنمعظمهاتشكلخطراًعىل مستقبلهم ،يف ظل ازدياد متواصل ألعداد األطفال الذين التحقوابسوقالعمل،لكسبالرزقوتغطيةاحتياجات معيشية ،ال يستطيع معيل واحد من األرسة تغطيتها. أما الطفلة ُربا ( 10سنوات) ،فتخرج من منزلها الواقع يف مدينة مارع بريف حلب الشاميل ،بشكل يومي بعد عودتها من املدرسة ظهراً ،بينام يكون خروجها إىل العمل أيام العطلة يف التاسعة صباحاً ،تحمل عىل كتفها حقيبة إكسسوار ،تجول بها عىل املنازل املوجودة يف األحياء التي باتت تحفظها مثل اسمها ،بحسب ما أشارت خالل حديثها ملجلة “طلعنا عىل الحرية”. عند وصولها من املدرسة تضع عىل ظهرها الحقيبة ويف يديها ما تيرس من الطعام املتوفر يف املنزل ،لتخرج مرسع ًة إىل العمل ،وتبدأ جولتها املعتادة ،حيث تطرق
الفتاة منازل الناس وتسألهم عن رغبتهم يف الرشاء وغالباً ما تحصل الفتاة عىل موافقة أصحاب املنزل ،تعرض عليهم بضائعها املتوفرة لديها والتي اشرتتها والدتها التي تعمل يف بيع اإلكسسوار أيضاً من داخل منزلها. وقالت الفتاة“ :إن والدي عاطل عن العمل ..يعمل يومني يف األسبوع يف حال كان العمل متوفراً، مقابل أجر يومي ال يكفي لوجبة طعام واحدة ،”..وتتابع“ :بدأت والديت برشاء اإلكسسوار من محال الجملة املتوفرة يف األسواق، وتبيعها يف املنزل، البضائع”. ببعض أتجول وأنا وعن طموحها أضافت ُربا“ :أحلم بامتالك األلعاب التي أراها خالل تجوايل يف املنازل ،أمتنى لو أجلس يف منزيل وألعب بها يف وقت فراغي من املدرسة، بدل العمل والتجوال بني األزقة والشوارع”. بينام يتعرض معظم األطفال سوا ًء الذكور واإلناث الذين يعملون يف ريفي حلب الشاميل والرشقي، للكثري من اإلهانة من قبل أصحاب املنازل بحجة اإلزعاج ،وبعض األرس ترفض دخولهم إىل منازلهم ،إىل جانب االعتداء اللفظي عليهم. أبو صايف نازح ليس لديه مكان يقيم فيه سوى الخيمة الواقعة بالقرب من مدينة اعزاز ،ويبدأ عمله يف الساعة السابعة مسا ًء بعد انخفاض أعداد الناس يف الشوارع ،حيث يتجول عىل مكبات النفايات ،قرب املخيم العشوايئ ،حيث تتجمع هناك مئات العائالت وتشكل مجتمعات “فقرية تعيش من قلة املوت” كام يصف الرجل خالل حديثه ملجلة “طلعنا عىل الحرية”. ويوضح“ :ال توجد ألبنايئ مدرسة يف النهار ..أرسلهم عىل مكبات النفايات املتوزعة يف محيط املدينة، يجمعون منها كل ما يشاهدونه من قطع الحديد والبالستك وغريها ،وعند املساء يتابعون العمل يف النفايات معي عىل “الطرطرية” ،لنبيع ما جمعناه يف اليوم التايل” .ويشكل هذا العمل مصدر الدخل الوحيد ألبو صايف ،الذي يحصل يف نهاية كل يوم
عىل مبلغ يرتاوح ما بني الـ 30والـ 50لرية تركية. وتعترب عاملة األطفال من أكرث التحديات التي تواجه السوريني ،ولعل “األسباب الرئيسية التي ساهمت يف عاملة األطفال هي الفقر وفقدان
املعيل” بحسب ما أشار الناشط اإلعالمي مصطفى بطحيش خالل حديثه لـ “طلعنا عىل الحرية”. ويضيف“ :كام أن العائالت التي مل تفقد معيلها لديها أطفال يعملون ويزاولون مهناً صعبة للغاية، ال ميكن أن يتحملها الكبار ،لكن الحاجة أجربتهم عىل العمل ،ألن معظم األهايل يعانون من انعدام مصادر الدخل وانخفاض قيمة األجور ،يف ظل تردي معييش متواصل تتعرض له املنطقة”. وأشار إىل أن أصحاب العمل يطلبون عامالً من األطفال بسبب انخفاض أجورهم عن باقي الفئات العمرية ،مؤكداً أن “معظم هؤالء األطفال تحولوا إىل أشخاص مسؤولني عن أرسة ،وال ميكنهم أن يقروا بأنهم مازالوا أطفاالً ،ألن تغطية احتياجات أرسهم تفوق كل االعتبارات األخرى”. تضاف إىل كل تلك املهن مهنة التسول ،التي أصبحت لغة العرص الحايل يف ظل الظروف املعيشية ،وقلة فرص العمل ،حيث يواجه األهايل يومياً العديد من األطفال يعملون عىل طلب املال من املارة بسبب حاجتهم املاسة لتأمني طعام أرسهم. ومع كل ذلك االنتشار لعاملة األطفال والتسول يف ريفي حلب الشاميل والرشقي ،ال تكفي جهود املنظامت اإلنسانية والحقوقية ملواجهة الواقع املرتدي الذي وصل إليهاألطفال،يفظلتعرضهملالستغاللمنقبلأصحاب العمل ،مع مستقبل مجهول بات أمراً واقعاً عليهم.
احلياة اجلامعية ملدينة الرقة.. عودة نبض احلياة بعد ّ توقف دام سنوات
15
الرقة :عبد اهلل الخلف
العدد
101 2021 / 12 / 17
مضيفاً بأن هناك مكتب يف باريس تابع ملنسقية جامعات شامل ورشق سوريا يعمل عىل إنشاء عالقات بني جامعات شامل ورشق سوريا وعدة جامعات أوروبية للحصول عىل الخربات واالعرتاف من هذه الجامعات ،الفتاً إىل أن جامعات روج آفا وكوباين وعفرين بصدد إرسال طالبهم للخارج للدراسات العليا يف الجامعات األوروبية املتعاونة. وتتكلم إسعاف بليلو ،السيدة الخمسينية واملنحدرة من مدينة الالذقية والتي تعيش مع زوجها يف الرقة منذ 24سنة ،وتم قبولها يف جامعة الرشق لتصبح طالب ًة يف كلية العلوم الرتبوية قسم تربية معلم صف بأن ذلك كان حلمها منذ أن انقطعت عن دراستها يف تسعينيات القرن املايض نتيجة الزواج ،وتقول“ :كنت أدرس يف كلية اآلداب قسم األدب اإلنكليزي يف جامعة ترشين، تزوجت ومل أكمل دراستي ،شغلتني تربية ابنتي ،واليوم ابنتي كربت ومل يعد هناك ما مينعني من إكامل دراستي، تقدمت لجامعة الرشق وتم قبويل ،وأخذت إجازة من عميل ،فأنا معلمة يف إحدى مدارس اإلدارة الذاتية”. وكانت الرقة قبل الحرب تضم جامعة الفرات الحكومية باإلضافة لجامعة االتحاد الخاصة ،وتم إغالقهام بعد طرد قوات النظام عام ،2013وخالل فرتة حكم تنظيم (داعش) بني عامي 2014و 2017افتتح التنظيم جامعة خاص ًة به ،ضمت كلية طب برشي وأقساماً أخرى ،ولكن اإلقبال عليها كان ضعيفاً بسبب خوف معظم األهايل من التنظيم وابتعادهم عنه.
تقارير
مل يكمل عبد الحميد النايف دراسته الجامعية نتيجة ظروف الحرب التي عصفت مبدينته الرقة ،ومل يتمكن من الذهاب ملناطق سيطرة النظام الستئناف تعليمه خوفاً من مالحقة األجهزة األمنية ،لـتظل الشهادة الجامعية حل ًام يراوده منذ انقطاعه عن الجامعة أواخر سنة ،2013وهذا الشاب البالغ من العمر ثالثني عاماً استطاع أخرياً هذه السنة العودة ملقاعد الدراسة ،بعد أن تم افتتاح جامعة الرشق التابعة لإلدارة الذاتية مبدينة الرقة يف ترشين الثاين /نوفمرب الفائت. ويف حديثه مع مجلة (طلعنا عالحرية) وصف عبد الحميد افتتاح الجامعة بـ”الفرصة الذهبية” التي أتيحت له ولكثريين مثل حالته الستكامل طموحه يف إمتام دراسته الجامعية ،ويقول“ :كنت أدرس يف كلية الرتبية بجامعة الفرات قبل مثانية أعوام ،ولكن بعد تحرير الرقة من قوات النظام تم تعليق الدوام يف الجامعة ،وانرصفت عن التعليم منذ ذلك الحني ،واليوم تتاح يل الفرصة من جديد للعودة للجامعة”. وهو اليوم طالب يف كلية العلوم الرتبوية -قسم الرتبية (معلم صف) ،ويبدو سعيداً وهو يتبادل األحاديث مع زمالئه يف الكلية ،وأعرب عن ذلك بقوله“ :استعدت مشاعر غابت عني لسنوات طوال ،قاعة املحارضات، مقهى الجامعة ..عوديت لهذه األماكن الدافئة التي ُحرمت منها تنسيني لحظات القصف املرعبة وسنوات حكم تنظيم داعش التي عشتها محروماً من الدراسة”. وتضم جامعة الرشق كليتني ومعهدين ،وهي كلية تضم قسم األدب اآلداب والعلوم االجتامعية ،والتي ّ العريب فقط ،وكلية العلوم الرتبوية ،والتي تتألف من خمسة أقسام وهي“ :تربية معلم صف -بيولوجيا- رياضيات -فيزياء -كيمياء” ،باإلضافة ملعهد تقني قسم حاسوب ومعهد لغة إنكليزية. وتم تشييد الجامعة عىل أنقاض كلية العلوم التابعة لجامعة الفرات سابقاً رشقي املدينة ،ومل تفصح إدارة الجامعة عن التكلفة املادية إلنشائها ،وتضم حالياً 110 طالب بحسب د .خليل العيل نائب رئيس الجامعة. ويقول د .خليل إن “الجامعة تعتمد عىل النظام الدميقراطي البعيد عن التوجهات السياسية ،لتنمية
القدرات البرشية يف املنطقة باختصاصات مختلفة” ،موضحاً بأنها الجامعة الرابعة يف مناطق نفوذ اإلدارة الذاتية بعد جامعات “عفرين مبدينة عفرين بحلب وروج آفا بالقامشيل وكوباين بريف حلب الرشقي”. وتابع قائ ًال“ :بدأنا باملرشوع قبل سنة ،أوالً أعلنا عن طلب أكادمييني للتدريس يف الجامعة ،ولدينا حالياً كادر تدرييس يضم حملة شهادات دكتوراه وماجستري ،باإلضافة إلجازات جامعية لذوي خربات سابقة ،والبعض منهم كانوا يد ّرسون يف الجامعات التابعة للنظام ،ويبلغ عدد الكادر التدرييس ،27 باإلضافة لـ 32إداريني وموظفني يف الجامعة”. ويلفت د .خليل إىل أنهم مل يتقيدوا بعمر محدد أو سنة معينة للشهادة الثانوية بالنسبة للطالب ،واستقبلوا جميع األعامر والشهادات ،وذلك “نتيجة ظروف الحرب وانقطاع اآلالف عن دراستهم يف السنوات املاضية”. منوهاً إىل أنه “تم إنشاء سكن للطالب القادمني من مناطق بعيدة يف ريف الرقة وباقي مناطق شامل رشق سوريا ،يضم أربع وحدات سكنية ،اثنتني منها لإلناث واثنتني للذكور ،وتستوعب 600طالب” ،وبسبب عدد الطالب القليل حالياً يف الجامعة “تم قبول جميع الطالب الذين تقدموا بطلب السكن يف املدينة الجامعية التي تتوفر فيها جميع الخدمات األساسية ،والسكن مجاين بالكامل والدراسة بالجامعة أيضاً مجانية” وفق ما قال. وحول عدم االعرتاف بالجامعة من أي جهة يقول د. خليل إنها ليست نقطة ضعف ،مبيناً أن “االعرتاف ليس شهادة تعطى لنا من جهة أو دولة ما ،االعرتاف نتاج عمل يحتاج لسنوات ،ويعتمد عىل عدة جوانب ،مثل كفاءة الهيئة التدريسية وجودة املنهاج ومدى فاعلية الجامعة وارتباطها باملجتمع ،هذه النقاط إذا حققناها ستعرتف بنا الجامعات الخارجية”.
آمال التغيري يف واقع السوريني الصورة الكبرية ()3-1
16 عبد اهلل شاهين
العدد
101 2021 / 12 / 17 مقاالت
يجد كل ذي قناعة اليوم حوله من األحداث واألخبار ما يكفي لتزيد قناعته رسوخاً .هذا يعني كذلك بأن هنالك من األحداث واألخبار ما هو كفيل بنقض تلك القناعة أو تغيريها .أنا حقيقة ال أعلم ما سيكون مآلنا نحن السوريني يف العرشين سنة القادمة .وقد كتبت يف طلعنا عالحرية ثالثة مقاالت متشامئة حول الواقع السوري ( ،)3( )2( )1والذي ال أعتقد أن هنالك الكثريين ممن يختلفون معي حول بؤسه. إال أن الثابت الوحيد الذي علينا أن ندركه هو أن دوام الحال من املحال .هذا ال يعني بالرضورة أن انقالب الحال من يسء إىل جيد هو املسار الحتمي ،فهنالك دامئاً ما قد يكون أسوأ. ومن هذا أنطلق ألرسد بعض البوادر التي قد تخلق فينا أم ًال مبستقبل أفضل .كام سأركز يف هذه السلسلة عىل الفرص التي علينا استغاللها لجعل التغيري يسري يف صالحنا. علينا يف البدء أن نفصل ما بني التغيري املحتمل يف سوريا (مبختلف مناطق السيطرة وأنواعها) وما بني التغري املحتمل واملهجرين .فقد تتغري منطقة ما يف يف السوريني النازحني ّ سوريا نحو األفضل دون أن يتحسن واقع السوريني نتيجة هذا التغري .كام أن تحسن واقع السوريني املهجرين ال ينعكس بالرضورة عىل حال سوريا ككل أو منطقة ما بشكل وأخص الحديث يف هذه الثالثية عن حال السوريني خاص. ّ الالجئني والنازحني داخل األرايض املحررة. علينا كذلك أن منيز ما بني قضية عودة املهجرين والنازحني تحسن األوضاع املعيشية .هذا الربط يف أذهاننا وما بني ّ غري بنّاء وال واقعي يف األساس .فتقديرات األمم املتحدة توضح أن أقل من 3%من الالجئني هم من يعود إىل دياره. ولو أمعنا النظر يف سوريا لوجدنا مخيامت الفلسطينيني وقد تجاوز عمر بعضها الستني عاماً .حتى يف دول وسط أفريقيا ،وبعد انتهاء الحروب األهلية الطاحنة وعودة األمن النسبي ،نجد أن الكثريين من سكان املخيامت ال يعودون إىل بلداتهم وقراهم األصلية .كام أن الرتكيز عىل رشط العودة هو سبب يف تأخر االستقرار وتأخري كل الجهود التي يجب أن تبذل لتحسني الواقع املعييش لهؤالء املهجرين النازحني. هذه الجهود عليها أن تبدأ حاالً .وعىل الدول التي استقبلت الجئني أن تدرك أن أراضيها ستكون وطن هؤالء الالجئني وأوالدهم.
كام يجب أن نذكر بأن مأساة السوريني مل تبدأ يف 2011؛ فالفقر يف سوريا ليس حديثاً، بل إن اطالعنا عىل حالة الفقر هو الحديث؛ فقبل ذلك كنا نسكن يف كانتونات جغرافية واجتامعية كانت متنعنا من رؤيته حتى عندما يكون أمام أعيننا .كانت مدارسنا عىل الدوام تفقد أطفالها إىل سوق العمل ،وكان الكثريون منا هم الزبائن الذين يشرتون خدمات هؤالء األطفال البائسني بأمثان بخسة ،دون أن يعرتض أحدنا عىل هذا الفعل الشنيع. وال مشكلة النازحني هي األخرى حديثة العهد بنا؛ فباإلضافة إىل مئات آالف الالجئني الفلسطينيني حول مدننا؛ كان يف سوريا أكرث من نصف مليون نازح من املنطقة الرشقية منذ عام ،2006يسكن معظمهم يف الخيام وبيوت الصفيح .ما حصل هو أننا بدأنا نرى أنفسنا بشكل أوضح ،ونتعاطف مع أنفسنا بشكل حقيقي .هذا ال يعني أن حجم املأساة ثابت مل يتغري ،فالحرب الشعواء التي خاضها األسد عىل شعبه هي التي أنتجت حالة النزوح واللجوء والدمار التي أصابت نصف سكان سوريا ،وجعلت من 90%من الباقني يف مناطقه تحت خط الفقر. لكن الحراك الثوري السوري ال شك فتح
بيننا قنوات تواصل وعمل وتعاطف مل تكن موجودة من قبل ،وهذا مكسب مهم يحسب يف رصيد الحراك الشعبي. مكسب آخر مهم هو تفتيت الدولة الشمولية التي أقامها األسد األب ،والتي اختطفت منا الحياة السياسية واالجتامعية واالقتصادية والثقافية .تلك الدولة التي حكمت بالنار والحديد مل يعد لديها ما يسد رمق زبانيتها، ناهيك عن قدرتها عىل س ّد االحتياجات األساسية لسكان مناطقها .وكذلك الحال يف املناطق املحررة حيث أن السلطات الحاكمة، والتي تحاول ما تستطيع لتثبيت سطوتها يف هذه املناطق ،ما زالت أضعف من أن تحوز عىل الحياة االقتصادية .وبالتايل فهنالك فرص أكرب للعمل الحر والجامعي .ما زالت هنالك العديد من العوائق التي تقف يف طريق بناء اقتصادات جديدة وبديلة لالقتصاد الشمويل األسدي ،وللمنظومة املافيوية التي خلقها خالل العقود املاضية. أصبحنا اليوم يف وضع ذي سقف أعىل للعمل اإلنتاجي ،وعلينا استغالل هذا الواقع الجديد ما استطعنا ،خصوصاً يف املناطق املحررة .ال أقول إن املستقبل أمامنا مرشق ،لكن أقول إن يف جعبتنا بعض األدوات التي سوف تجعله دون شك أفضل مام نحن عليه اليوم.
َ أنت تبتسم ليّ 17
بشرى البشوات
العدد
تكتب البنات عن األب؛ القدوة ،الحبيب األول. وأنا أكتب عن الندّ؛ عن الشبه املهول بيننا، الجينات ،املالمح ،الفقد ،واالنكسار ذاته. يف إحدى السنوات ،يف مكان ما من دمشق، كانت مديرة مدرستنا تطالعنا كل صباح بدفرتها األزرق وقلمها الرصاص ،ومتيش خلفنا بني الباحة والصفوف وتسجل كل شاردة وواردة ،وتردد عبارة: “هناك مالئكة عىل أكتافنا تسجل أعاملنا ويجب أن نحسنها”. مل أد ِر حتى اللحظة إن كانت قد تركت مهمة مراقبتنا للمالئكة! ماذا كانت تصنع بقلم الرصاص والدفرت األزرق إذا؟ هنالك مالئكة حقاً عىل كتفيك يا أيب؛ مالئكة حقيقية ،تسجل يومياتك ،وتنقلها إ ّيل بني الفينة واألخرى. أنا أراك كثرياً ،أراك دامئاً تبتسم ّيل!
101
م ّرت آالف األسئلة ،ومل يعيدوك ولو يف كفن! كان يجب عليهم أن يفعلوا. من أنا حتى أقول كان يجب أن يفعلوا؟ يف بالدنا ال تقول ،بل ُيقال لك.
2021 / 12 / 17
تدري يا أيب؟.. ً رمبا تعرضت أضالعك -املشقوقة أصال -إىل السحق. رمبا فقدت بعد يومك األول حزام ساعتك الجلدي األسود .رمبا مل تستطع أن تخربهم أنك بحاجة إىل أدوية الضغط والكوليسرتول. لقد شقّ األطباء صدرك قبل سنوات ..نرشوا أضالعك بعد أن ضاقت أوعيتك وكان ال ب ّد من إجراء جراحة لتوسيعها. مل يصدقوا جملك الكاملة املضبوطة الدقيقة املنتقاة التي تخرج منك بتداع وسالسة وسالمة ووضوح .ولكن كيف مل يصدقوك؟ لطاملا كنت رجال مفوهً ا يا أيب. ً متأكدة أنهم شتموك ،وأوسعوك رضبا ،وقالوا عن زوجتك وبناتك وشقيقاتك وجاراتك (!)..... تعرف ماذا قالوا؟ أنا كذلك أعرف.
البحر يضحك ،وظلك يضحك ،ورجال األمن الذين اقتادوك يف تلك الظهرية يضحكون ،ونحن أوالدك نضحك ،وجديت التي ابيضت عيناها يف انتظارك تضحك .كلنا نضحك يا رجل ..حتى أنت! سيجارتك التي مل تدخنها يوماً ،وأطنان الشتائم التي كالوها لك يف قبو ما تحت أرض دمشق تضحك.
مقاالت
“إين أريد أن يقول يل أحدهم آسف ،نحن نعتذر.. لكن مل يعتذر أحد منهم”! الجملة التي رددها املمثل أرنولد شوارزنيجر يف فيلم ( )Aftermathاملأخوذ عن كارثة أوبرلينغن، بعد تحطم طائرتني وموت جميع الركاب. حصل الحادث بخطأ غري مقصود من مهندس املالحة يف تلك الليلة. املمثل أرنولد شوارزنيجر والذي يلعب دور البطولة هو زوج وأب ،وقد فقد يف هذا الحادث زوجته وابنته الحامل ،ثم رفض تعويض رشكة الطريان، ألن الرشكة وطاقمها مل تقدم أي اعتذار ،أو تتأسف ملوت الركاب. يسعى أرنولد خلف املهندس صاحب الخطأ ويقوم بقتله ،ألن املهندس أيضاً رفض أن يعتذر عن املوت، ومل يقل حتى كلمة آسف ،واعترب أن حادث تحطم الطائرتني هو مجرد خطأ ..خطأ وقد يحدث دامئاً. نحن يف سوريا أيضاً أبناء وأشقاء وأصدقاء ،وأزواج وزوجات ضحايا فقدوا وانفقدوا ،ومل يقل لنا أحد ما كلمة :آسف! كنت أظنني أستطيع الوقوف عىل مرتفع وأل ّوح أليب كنت أعرف أنني سأكتب هذه القصة يوماً. سأحب دمشق فيام بعد؟ كيف ّ كيف سآمنُها؟.. وكيف سأبتسم ملدينة مل تنقطع فيها الحياة عرب آالف السنني من الحسنات والسيئات؟ هذه املدينة الغضة واليابسة يف آن ،اقتطعت مني ّأب! يف ربيع ما ،يف كذبة ما؛ يف األول من نيسان سنة 2013وصل والدي إىل قلب العاصمة دمشق ،إىل الربامكة ،ثم إىل منطقة الحلبوين ،فاختطفته كذبة ما ،وسملت عينيه يدٌ ما ،ورمبا أيا ٍد كثرية.. مل أعرف يف حيايت كلها بالداً قاسية مثل بالدنا ..بالد م ّر بها العرب والعجم ،م ّر بها األصحاب والغرباء،
وم ًّر بها األمل مزهواً. مل أعرف يف حيايت مدناً تسلب األبناء آبا َءهم مثلام فعلت تلك املدن. مل تتآكل أسناين ومل يكن ع ّ يل أن أغضب أكرث .كل ّ بالتخشب يف حلقي ،وعدد ما يف األمر أنني شعرت كبري من البالونات انفجر يف صدري ،حني التقيت صدفة جارة أهيل وسألتني :أمل تعرفوا شيئاً عنه؟ عنه؟! من تقصد هذه املرأة!؟ كانت تقصدك أيها الرجل؛ وأنت تقف عىل أبواب عامك الستني ،من دون شعرة بيضاء واحدة يف رأسك .بقدك القليل ،وأناقتك املفرطة ،وعطرك الذي كان يد ّوخ قلبي. لقد غبت يف الزحام كام تقول األغنية.. غبت ومل تكن لديك نبوءة ..وكان يجب أن أبقى عىل الدوام أ ّم أبيها!
كل من عاش ويعيش وبقي وغادر ومات و ُف َقد يف دمشق يعرف. ونعرف معنى أن يقتادك رجال األمن ،ومعنى عباراتهم املضحكة“ :بدنا ياك خمس دقايق.. فنجان قهوة ..ما بتطول سؤال وجواب وبرتجع”.
حني حياول اجلالد قتل احللم
18 ياسمين نهار
العدد
101 2021 / 12 / 17 ثقافة
ّإن العالقة ّ والس ّجان قدمية السجني ّ الضد ّية بني ّ الصخات املكتومة ،ممتدّة امتداد دم قدم أوىل ّ األبرياء املسفوح عىل األرض املقهورة. وقد حرضت هذه العالقة يف معظم األعامل الواقعي؛ إذ افتقرت إىل حبكة ال ّروائية عرب نسقها ّ روائ ّية متينة ،وشبكة جديدة من العالقات. ويبدو يل ّأن عدداً غري قليل من كاتبي أدب السجون مل يستطيعوا التّخ ّلص من التّعامل ّ السجن ،أو من هيمنة ثنائ ّية: السائد مع فضاء ّ ّ الس ّجان عىل كتاباتهم ،ورغم ما تحمله السجنيّ / ّ ً توثيقي عكس جانبا أو هذه الكتابات من ُبعد ّ والس ّجان؛ السجني ّ عدّة جوانب من العالقة بني ّ املرجعي ّإل أ ّنها بقيت ضمن حدود هذا اإلطار ّ ورمز ّيته وعنفه .ويف الحقّ ّأن “وحيد الطويلة” يف روايته “حذاء فيلليني” كان قريباً من ثنائ ّية والس ّجان وهارباً منها يف اآلن ذاته؛ أل ّنه السجني ّ ّ ط ّوع لغته لتجاريَ امتداد الحياة ،وتن ّوع إمكاناتها السجن. بعد خروج بطل ّ قصته “مطاع” من ّ نفيس ُز ّج به يف املعتقل بال سبب، ومطاع معالج ّ وبال تهمة واضحة ،بينام يزاول مهنته -بعد خروجه من املعتقل -دخل إىل عيادته مريض برفقة زوجته .هنا تبدأ الزّوجة برسد حكاية زوجها ّ الضابط الذي التوت رقبته نحو اليسار وأصبح عنّيناً إثر عزله عن مهامه .تتط ّرق الزّوجة يف حديثها إىل أرسار عالقتها مع هذا الزّوج الساديّ وكيف كان يخونها ،ويتفنّن يف امتهان ّ كرامتها وإنسان ّيتها. حني يسمع مطاع صوت املريض يكتشف أ ّنه السجن؛ حينها يبدأ الضابط الذي ع ّذبه يف ّ باسرتجاع مايض االعتقال املرير ،ولحظات التّعذيب القاسية. ً هكذا تشاء األقدار أن متنح مطاعا فرصة االنتقام.
ّ سيستغل هذه الفرصة املواتية وير ّد والسؤال :هل ّ سيترصف وفق ما متليه االعتبار لذاته الجريحة ،أم ّ ّ عليه أخالقيات املهنة ويسامح جلده؟ والحقيقة ّأن مطاعاً خرج من املعتقل بأنف مكسور وحواجب منتوفة وتهتهة خفيفة يف ال ّلسان وس ّمي باسم يناسب هيئته الجديدة وهو “مطيع”“ ،التّعذيب ليس كرس األنف ونتف الحواجب بالكامشة ،هو أن تكره نفسك وتس ّلمها له وسخة جاهزة قذرة ط ّيعة يا مطيع” ص .58 وتجدر اإلشارة إىل ّأن وحيد الطويلة مل يكتشف السديّ دفعة واحدة؛ بل كان شخص ّيات متخ ّيله ّ يقوم بالكشف عنها بني موقع وآخر داخل الفضاء الذي تتح ّرك فيه ّ الشخص ّيات واألحداث .وتع ّد شخص ّية ّ مطاع /مطيع من ّ الشخص ّيات النّامية املركبة عاشت التّح ّوالت ال ّدرام ّية داخل البنية الحكائ ّية، وكان لتبدّل اسم هذه ّ الشخص ّية دور يف إضاءة عواملها الدّاخل ّية ،وكشف الكثري من الجوانب والسلوك ّية لصاحبها. النّفس ّية ّ وشخص ّية ّ الضابط مت ّثل لحظة من لحظات انكشاف البؤرة النّص ّية يف ال ّرواية؛ فقد ع ّرى الكاتب من خاللها نظاماّ شمول ّياً ُيدخل النّاس يف د ّوامته ويش ّوههم ويدخلهم يف منظومة االستبداد. ذلك ّأن املستب ّد يف النّظام الشمويل هو صاحب السلطة ا ُملطلقة ،وهو من يبدّل عقول ّ الجلدين ّ ّ ليصريوا عىل “مقاس مقام جاللته” .والجلدون ينصبون أنفسهم أوصياء عىل ّ الشعب؛ بدورهم ّ يقمعون ويع ّذبون ّ كل متم ّرد عىل النّظام ّ الشمويل االستبدادي ،يساعدهم جهاز استخبارايت مه ّمته التّجسس عىل أفراد ّ الشعب ،ومالحقة ّ السلطة واعتقاله ،وما حضور كل فرد يعارض ّ
شخص ّية “مأمون” يف ال ّرواية ّإل دليل عىل حرص املستبدّين عىل تجنيد عدد كبري من “املآمني” كام ّ سمهم الكاتب. وقد يكون من الدّال بحقّ عىل متاهي ّ الجلدين مبستب ّد ر ّوض أفراد شعبه أل ّنه يخشاهم قول الضابط“ :مه ّمتنا األساس ّية أن نر ّوض ّ ّ الشخص ال أن نقنعه ،وعليه ال ميكننا أن نرتك األمور لتصاريف القدر ،ال ينبغي أن تنتج األ ّمة برشاً عىل غري هوانا” ص .126 ّمثة شخص ّية فانتاز ّية عجائب ّية يف ال ّرواية خرجت عن قوانني الواقع املألوف هي شخص ّية ّ الشيطان، الذي دار حوار بينه وبني مطاع بينام كان األخري يف حالة هذيان واختالط بسبب ّ الشاب ا ُملس ِكر. الشيطان كان قناعاً إذ نتأ ّمل الحوار نجد ّأن ّ رمز ّياً للذات ال ّراغبة باالنتقام من ّ الجلد .وحضور ّ السد ،وأثار الحرية الشيطان الشبحي كرس رتابة ّ ّ لدى البطل والقارئ معاًّ ، والش ّك فيام يحدث هل هو حقيقة أم خيال؟ ومقابل شخص ّية ّ الشيطان برزت شخص ّية املخرج السيناريو اإليطايل فيديريكو فيلليني وكاتب ّ الذي تويف عام .1993 فيلليني هو قناع لـ مطاع /مطيع حرض حضوراً رمز ّياً يف ال ّرواية ،كان يدفع صاحبه بشكل دائم لتجاوز فكرة االنتقام من ّ جلده ،ويح ّرضه عىل نسيان املايض أل ّنه يحجب عنه دروب الحياة الحقيق ّية. وكام كان فيلليني يحلم مبشاهد أفالمه قبل أن يصنعها ،كان يطلب من مطاع ّأل ّ يكف عن الحلم بتغيري النّهاية التي أرادها ّ جلده؛ ليتم ّكن من الخاصة. صنع قصته ّ ً ً هكذا تقدّم ال ّرواية وعيا جديدا؛ يخرج من حدود الوقوف عند نقطة مظلمة يف املايض وما تحمله
.....
العدد
101 2021 / 12 / 17
يرصح بزمن منت ال ّرواية؛ بل ملّح إليه وقد يكون من املفيد اإلشارة إىل ّأن الكاتب مل ّ السابقة يف مواضع مختلفة؛ وهو زمن ال ّربيع العر ّيب وما واكبه من ثورات واملرحلة ّ له .وهو بذلك يكون قد س ّلط ّ السياس ّية الضوء عىل هذه الفرتة الزّمن ّية وإحاالتها ّ واالجتامع ّية والنّفس ّية ،وأعطى ال ّرواية ُبعداً واقع ّياً. ّ السدّ ، ّ وحث القارئ عىل ّمني املتقطع يف ال ّرواية كرس رتابة ّ والشك ّأن النّسق الز ّ البحث عن الخيط ال ّرفيع الذي يربط ما بني األحداث ،وإعادة ترتيب الزّمن. وميكنني أن أتوقف عند أسامء أماكن ذكرها الكاتب د ّلت عىل ّأن أرض األحداث هي سوريا مثل( :نهر بردى ،منطقة املزة ،مجزرة حامة ،حمص ،دمشق.).. ومن ّ اللفت للنظر ّأن تأ ّثر الكاتب بـ”فيللني” جعله يف ّكر سينامئ ّياً أثناء كتابة ال ّرواية، ّ ويوظف هذا التّفكري ال ّدرامي يف ال ّرواية ،باإلضافة إىل اعتامده عىل بعض النواظم السينامئ ّية؛ والس ّيام يف تقنية املشاهد املتتالية التي أوهمت بواقع ّية األحداث يف ّ روايته. ً انصب اشتغاله عىل أدواته يهتم بالحكاية فقط ،بل ّ ميكننا إذا القولّ :إن كاتبنا مل ّ السينام ّيئ .ذلك ّأن الطويلة كان يرسم املشهد أكرث ّ مم وما استقاه من تقن ّيات الفنّ ّ يقوله وهذا خلق حالة من ّ الت ّقب وأعطى فرصة للمتلقي لري ّكب املشاهد بعيداً عن املعطيات الجاهزة. ّ فض ًال عن ّأن الكاتب أدرك ما يجب عىل ّ الشخص ّيات أن تقوله أمام كل موقف ،وبرع يف استنطاق عواملها الدّاخل ّية ،والس ّيام حني استخدم تقنية االسرتجاع التي ساعدت بدورها عىل إضاءة ّ الشخص ّية من الدّاخل وكشف أعامقها. وإذا توقفنا عند عبارة فيلليني التي آمن بها مطاع وع ّلقها عىل جدار عيادته“ :ال يشء أصدق من حلم ،األحالم آخر ما ميوت” كانت العبارة تعني يف بداية ال ّرواية الحلم بحب يرفو باالقتصاص من ج ّالده؛ لكنّها أصبحت تعني الحلم باستمرار الحياة ،الحلم ّ ثغرات ال ّروح. قصته ،بل جعله ينترص عليها، وكاتبنا مل يكتف بإبراز املتناقضات الحيات ّية لدى بطل ّ وينترص عىل ّ الجلد حني قتل “مطيعاً” ليحيا “مطاع” .بهذه ال ّرؤية استطاع وحيد أن يتجاوز مخزون ال ّذاكرة الجامع ّية للمعتقلني ،وأن مينح ال ّرواية ُبعداً جديداً. ومن املالحظ ّأن الكاتب بدأ روايته بعبارة“ :هذا ما حدث بالضبط” وك ّررها أكرث من م ّرة ،وختمها بعبارة“ :عىل األرجح هذا ما حدث” وكأ ّنه أراد أن يقول لنا يف املشهد األخري من روايتهّ : ألن املوقف من الحياة ليس ثابتاًّ ، كل يشء يف الحياة يف صريورة؛ ّ ألن الوعي ليس ثابتاً. باملعنى الذي سبق تكون نهاية ال ّرواية بداية رواية جديدة ،دون أن يتحدّث الكاتب مبارشة عن هذه الدراما الجديدة.
ثقافة
من مشاعر ّ الحب كعامل الضغينة وال ّرغبة يف االنتقام ،وتطرح ّ بديل ير ّمم جروح املايض. السجني من ذلك ّأن الطويلة مل ِ يكتف بتصوير ما يالقيه ّ اضطهاد وتعذيب ،بل أظهر تصميمه عىل التّغيري ومتابعة الحياة ،وهذا ما ملسناه يف املونولوجات الدّاخل ّية ملطاع التي تك ّررت يف ال ّرواية وكشفت نوايا ّ الشخص ّية وحدّدت هو ّيتها: “هل أصدّق فيلليني؟ هل أميش وراءه وأنا الذي طاردته طيلة حيايت ك ّلها حتى صار ّ كل من يعرفني وال يعرفني يسميني: فيلليني الشام أو مجنون فيلليني ،أمسح املايض مبمحاة م ّرة واحدة أو عىل األقل أضعه حيث يجب أن يكون ،أركله بق ّوة بدل أن أسحبه من ذيله فأراه خلفي في ًال يقفز م ّرة واحدة الضوء ّ لألمام فيحجب ّ والطريق” ص .133
19