طلعنا عالحرية / العدد 101

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫عن قسوة‬ ‫املصري اجملهول‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬


‫ّ‬ ‫التعذيب بالشك!‬ ‫‪2‬‬

‫نصار‬ ‫افتتاحية العدد بقلم أسامة ّ‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫ملّا ذكرت لها إن أكرث العبارات تكراراً إذا تحدثت‬ ‫عن ذكريايت مع أصدقايئ هي من مثل‪“ :‬الله‬ ‫يرحمه‪/‬ـها‪ ،‬الله يفك أرسه‪/‬ـها‪ ،‬الله يرده‪/‬‬ ‫ـا بالسالمة‪ !”..‬وإن هذا حت ًام من عالمات‬ ‫الشيخوخة‪ ،‬ظننت أن الشابة الصغرية تحاول‬ ‫مواسايت عندما قاطعتني‪“ :‬وأنا كذلك”!‬ ‫هربت إىل املزاح‪..“ :‬وعندك الخرف وفقدان‬ ‫الذاكرة‪ ،‬وآالم املفاصل‪ ”..‬ألن ال أستغرق بالتفكري‬ ‫بصبية‪ /‬طفلة بنصف عمري‪ ،‬لها أصدقاء ميتون‬ ‫ومعتقلون ومنفيون!‬ ‫وتذكرت أنها أيضاً تعاين مام هو أقىس من ذلك‬ ‫ك ّله؛ املصري املجهول! هي ال تعرف إن كان أبوها‬ ‫ح ّياً أم ميتاً منذ اعتقاله قبل عرش سنوات‪ ..‬وهي‬ ‫مثيل تتلبك وتلغمط الكالم عندما تذكر والدها‬ ‫أو أصدقاء مغيبني؛ فال تعرف هل ترتحم عليهم‬ ‫أو تدعو لهم باإلفراج‪ ..‬وقد تتحاىش ذكرهم من‬ ‫أصله!‬ ‫يف هذا السياق‪ ،‬تصدّع رؤوسنا تأكيدات‬ ‫“منطقية” ملحللني متذاكني مثل‪“ :‬كل من اعتقل‬ ‫قبل ‪ 2013‬هو ميت” أو‪“ :‬معتقلو داعش غالباً‬ ‫تم ذبحهم ألن داعش انتهت” وأيضاً‪“ :‬ال بد أنه‬ ‫متت تصفية مخطويف الغوطة ألن كل الفصائل‬ ‫خرجت منها يف ‪ ..”2018‬وتحليالت أخرى مثلها‪،‬‬ ‫سأدعها جانباً اآلن‪ ..‬ليس لكونها عدمية اإلحساس‬ ‫فحسب‪ ،‬ولكن ألنها محض ظنون‪ ،‬و”إن الظنّ ال‬

‫يغني من الحق شيئاً”‪ ،‬وإن بلغ رتبة شهادة وفاة‬ ‫يصدرها النظام الك ّذاب بأسامء معتقلني ومختفني‬ ‫يف سجونه‪.‬‬ ‫نستطيع التعميم ‪-‬دون مجازفة‪ -‬أن االعتقال هو‬ ‫واحد من موضوعات مالزمة لكوابيس‪ ،‬ال ّ‬ ‫تنفك‬ ‫تراود السوريني والسوريات‪ ،‬أينام كانوا‪ ..‬الزنزانة‬ ‫أو االعتقال مع التعذيب‪ ،‬باإلضافة للتجنيد‬ ‫العسكري‪ ،‬والعودة للمدرسة أو لالمتحانات‬ ‫(البكالوريا أو غريه) والسقوط من شاهق‪..‬‬ ‫وقد تكون كوابيس جرناالت التعذيب أو اللصوص‬ ‫األغنياء واملستكربين والشبيحة وصغار املوالني‬ ‫هي أن تنقلب األدوار‪ .‬وال أعرف بالضبط بم‬ ‫(يكوبس) اآلخرون ممن ينتظرون يف الربد عىل‬ ‫طابور الغاز أو الوقود أو الخبز‪ ..‬فهم يعيشون‬ ‫الكابوس واقعاً ال صحواً مرجو منه!‬ ‫…‬ ‫يف قضية املغيبني واملختفني قرساً‪ ،‬يقفز البعض‬ ‫من مطلب معرفة الحقيقة إىل العمل من أجل‬ ‫محاسبة املجرمني‪..‬‬ ‫وهكذا‪ ..‬نتجاوز كل الجرائم األخرى‪ ،‬ولنحاسب‬ ‫جيش اإلسالم عن جرمية اختطاف سمرية الخليل‬ ‫ورزان زيتونة ووائل حامدة وناظم الحامدي‪،‬‬ ‫وغريهم كرث‪ .‬ولنحاسب تنظيم داعش عن‬ ‫اختطاف األب باولو وعبد الوهاب ّ‬ ‫املل وسمر‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫الصالح ومحمد العمر وفراس الحاج صالح ومحمد‬ ‫نور مطر‪ ،‬وغريهم أيضاً‪ .‬ولنحاسب النظام املجرم‬ ‫وأزالمه عن تغييب قامئة طويلة بأكرث من ‪140‬‬ ‫ألف مواطن سوري يف سجون التعذيب‪..‬‬ ‫ولو اختلفنا أو اتفقنا حول جدليات “املحاسبة‬ ‫طريق الحقيقة” أو “الحقيقة أوالً” أو “العدل‬ ‫ولو انهار العامل”‪..‬‬ ‫لن نختلف أن كل تلك املقاربات ال تعيد ما فات‪،‬‬ ‫وال تجرب الكرس وإن ر ّممته‪ ،‬وقد نسمي بقاء‬ ‫األم‪ ،‬عىل قيد األمل‪ ،‬وهي تنتظر ابنها املعتقل‪/‬‬ ‫املختطف أو زوجها أو حبيبها‪ ،‬إنكاراً أو مكابرة‪،‬‬ ‫وقد ننصحها ‪-‬رفقاً بها‪ -‬أن تتصالح مع واقع‬ ‫الغياب الدائم األبدي‪ .‬وهذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫محض؛ فمن‬ ‫غش‬ ‫أبسط حقوقها‪ ،‬بعد مصيبتها‪ ،‬أن تعرف مصرياً‬ ‫أكيداً‪ -‬ملحبوبها يف حال تع ّذرت عودته‪ ..‬أن‬‫يضم رفاته‪ ..‬أن تستلم‬ ‫تعرف املصري‪ ،‬ولو كان قرباً ّ‬ ‫متعلقاته‪ ..‬أن تعرف وصيته وكلامته األخرية‪ ..‬أن‬ ‫تحصل عىل جواب ألسئلة غري منتهية تخربط‬ ‫بالها وحياتها‪ ..‬أن تكون متأكدة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫لهذه األم ولنا‪ ،‬نطلب الحق اليقني أوال‪ ،‬لنطفئ‬ ‫ّ‬ ‫بالشك‪،‬‬ ‫نار االنتظار‪ ،‬ونغلق غرفة التعذيب‬ ‫ونحاول متابعة العيش مع جروحنا وندوبنا‪،‬‬ ‫بعيداً عن تخرصات موضوعية‪ ،‬فيزيائية ورياضية‬ ‫و”عداالتية” وسواها‪..‬‬ ‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫من أجل سوريا دولة معقولة‬ ‫يعود إليها ّ‬ ‫املغيبون‬

‫‪3‬‬

‫مرزوق الحلبي‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫املغ ّيبون يف سوريا الذين ال نعرف أسامءهم‬ ‫وال عنهم أكرث ألف م ّرة من الذين نعرف عنهم‪.‬‬ ‫وأولئك الذين شقّ الطاغية الوقت ورماهم يف‬ ‫ه ّوته أكرث من هؤالء وأولئك‪ .‬إ ّنه الشقّ ا ُملعتم‬ ‫ملا نعتربه توافق عىل حقّ الدولة يف احتكار‬ ‫العنف‪ .‬وهو احتكار ُمنح للدولة يك تستطيع‬ ‫تح ّمل مسؤولياتها يف إطار “العقد االجتامعي”‪،‬‬ ‫وتحديدًا لفرض سلطة القانون عىل الجميع‪،‬‬ ‫وحامية حيواتهم وحقوقهم وممتلكاتهم‪.‬‬ ‫هكذا افرتض هوبس ولوك وروسو وغريهم من‬ ‫مف ّكرين أفنوا أعامرهم يف إنتاج صيغة نظر ّية‬ ‫وعمل ّية معقولة لالجتامع البرشيّ ضمن كيان‬ ‫الدولة الحديثة‪ .‬لكنّهم يقينًا مل يتص ّوروا يف أبشع‬ ‫سيناريوهاتهم دولة كسور ّية آل األسد ونظام‬ ‫التوحش الذي أقاموه عىل أرض الشام‪.‬‬ ‫كنظام‬ ‫ّ‬ ‫جسد ما‬ ‫يف الشام‪ ،‬األرض والتاريخ‪ ،‬نشأ ٌ‬ ‫نظام ُي ّ‬ ‫أس ّميه “الدولة بوصفها عصابة”‪ .‬وهي دولة‬ ‫تتجاوز يف منظومتها وبنيتها الدولة املستبدّة‬ ‫أو التي ُتارس اإلرهاب‪ .‬يف حال نظام آل األسد‬ ‫انتقلت “الدولة” مبجتمعها إىل “الحالة الطبيعية”‬ ‫االجتامعي (هناك‬ ‫التي تأيت بعد انهيار العقد‬ ‫ّ‬ ‫حالة طبيع ّية قبله)‪ .‬العقد االجتامعي يأيت‬ ‫حسب مف ّكريه بعد أن تكون “الحالة الطبيع ّية”‬ ‫خلقت الفوىض التي يروح ضح ّيتها البرش بسبب‬ ‫ودون سبب‪ .‬يف الحالة الطبيع ّية التي نشأت يف‬ ‫سوريا مع “الدولة بوصفها عصابة”‪ ،‬هو إلغاء‬ ‫ك ّ‬ ‫يل و ُمطلق إلنسان ّية اإلنسان؛ باعتباره التهديد‬ ‫االحتام ّيل والفعيل للعصابة‪ .‬فأن تكون إنسا ًنا ولو‬ ‫سال ًبا‪ ،‬تكتفي بثالث احتياجات فقط عىل س ّلم‬ ‫ماسلو‪ ،‬تأمن ّ‬ ‫الرش يف كل ما تفعل‪ ،‬حتى لو كنت‬ ‫بهذه املحدودية من وجودك فستكون تهديدًا‬ ‫لنظام عصابة‪ ،‬ال يقوم ّإل عىل عكس ما يف لفظة‬ ‫اإلنسان من دالالت‪ .‬من هنا هذا العداء البنيوي‪،‬‬ ‫ليس للمعارض فقط وال للمختلف وال للذي‬

‫ُيغني أو يرسم أو ُيف ّكر‪ ،‬بل لإلنسان السوريّ‬ ‫بوصفه إنسا ًنا‪ ،‬هو النقيض ا ُملطلق للعصابة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل ادّعاءات نظام العصابة األسديّ لتربير‬ ‫تغييب البرش ومحوهم كأ ّنهم كلمة يف سطر‪،‬‬ ‫أو سطر يف صفحة‪ ،‬ال ُيكنها أن ّ‬ ‫تغطي عىل‬ ‫حقيقة أن النظام ُيارس وجوده وق ّوته بوصفه‬ ‫ً‬ ‫نقيضا للوجود اإلنساين يف شكله الخام‪ .‬أ ّما‬ ‫ا ُملشكلة فكامنة يف كونه يستم ّد “رشعيته” من‬ ‫تنظريات الدولة الحديثة القامئة عىل أساس نوع‬ ‫واألهم عىل‬ ‫من العقد أو نوع من املعقول ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أساس رشعية من الدول واملجتمعات األخرى‪.‬‬ ‫التوحش أن‬ ‫وهنا السؤال‪ :‬كيف ُيكن لنظام‬ ‫ّ‬ ‫يحظى برشع ّية‪ ،‬وأن ُيعاد تأهيله ويف ذ ّمته‬ ‫عرشات األلوف من املغ ّيبني قرساً‪ ،‬من اللبنانيني‬ ‫والفلسطينيني أيضاً‪ ،‬وهم ليسوا مواطنيه؟ مبعنى‬ ‫كيف حصل أن يواصل هذا النظام استعامل‬ ‫ّ‬ ‫كل هذه البطش وكل هذا التنكيل باإلنسان‬ ‫والفلسطيني واللبنا ّين يف ّ‬ ‫بث مبارش‬ ‫السوريّ‬ ‫ّ‬ ‫دون أن يأخذ العامل منه موق ًفا أو أن يردعه؟‬ ‫السؤال سهل بينام اإلجابة عليه صعبة‪ ،‬مبعنى أنها‬ ‫ال تحمل ُبرشى أو متن ّف ًسا ألحد‪ .‬ال ُيكن لنظام آل‬ ‫األسد أن يعمل وأن يستم ّر بدون حامية من أنظمة‬ ‫مشابهة‪ .‬لكن الحقيقة األكرث إيال ًما هي أن نظام‬ ‫العوملة يسعى إىل إقامة أنظمة كهذه و”صيانتها”‬ ‫يف إطار إدارة العامل وفرض السيطرة عىل موارده‪،‬‬ ‫وضامن أقىص ح ّد من مصالح املراكز‪ .‬مبعنى ما إن‬ ‫التوحش آلل األسد باق و ُيعاد تأهيله ألنه‬ ‫نظام ّ‬ ‫يخدم مصالح املراكز التي ُتدير نظام العوملة أو‬ ‫اإلقليم‪ .‬وعليه‪ ،‬ال أتو ّقع الكثري‪ ،‬ال يف ّ‬ ‫ملف املغ ّيبني‬ ‫وال يف ّ‬ ‫ملف تدمري البلد واملجتمع وتحويله إىل‬ ‫تغيت‬ ‫محميات لكيانات ومراكز أجنب ّية‪ّ ،‬إل إذا ّ‬ ‫خارطة املصالح واختلطت من جديد‪ .‬فالشام‬ ‫كاإلقليم ك ّله غري مستق ّر ّإل يف كونه ح ّيزًا ملصالح‬ ‫عديدة تتنافس عليها مراكز قو ّية‪ ،‬وتستعمل‬

‫السوريني وقودًا يف الحروب والنزاعات بينها‪.‬‬ ‫يف ندوة ناقشت كتا ًبا عن الربيع العريب بعد‬ ‫عقد عىل بدايته‪ ،‬عُ قدت يف “الجامعة العرب ّية”‬ ‫يف القدس‪ُ .‬‬ ‫الفلسطيني الوحيد‪.‬‬ ‫كنت املشارك‬ ‫ّ‬ ‫وقد أرشت يف بداية مداخلتي إىل كون معظم‬ ‫التحليالت استرشاقية؛ تأيت من موقع معا ٍد للربيع‬ ‫العريب بوصفه مصدر تهديد الستقرار الدول‬ ‫واألنظمة التي رست يف معظمها عىل توافق‬ ‫مع الرؤية االسرتاتيجية للمنظومة االستعامرية‬ ‫اإلرسائيلية‪ .‬و ُقلت‪“ :‬يؤسفني أنكم ترون الدول‬ ‫واألنظمة وال ترون الناس‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬الحق يف‬ ‫الحياة والحر ّية”‪ .‬ردّت ع ّ‬ ‫يل إحدى الجالسات إىل‬ ‫جانبي دون أن ّ‬ ‫يرف لها جفن‪“ :‬طب ًعا‪ ،‬يا حرضة‬ ‫األستاذ‪ .‬هذا ما يه ّمني كيهودية هنا‪ .‬وال يعنيني‬ ‫أي يشء آخر‪ .‬ع ّ‬ ‫يل االهتامم بوجودي وبأمني‬ ‫هنا”‪ .‬للقول إن ّ‬ ‫كل املراكز املحيطة بسوريا‬ ‫تنظر إليها من منظار مصالحها‪ ،‬وهكذا املراكز‬ ‫العاملية‪ .‬أما الشعب يف سوريا‪ ،‬أو ما تب ّقى منه‪،‬‬ ‫هو ورقة لعب يف إطار السعي لتحقيق املصالح‪.‬‬ ‫ما سقته آن ًفا ال يعني التنازل عن ح ّقنا كبرش يف‬ ‫إبقاء ّ‬ ‫ً‬ ‫حارضا حيثام نستطيع من‬ ‫ملف املغ ّيبني‬ ‫منابر ومحافل‪ .‬فهذا واجبهم علينا نحن الذين‬ ‫نتمتّع بالحر ّية إىل أجل غري مس ّمى قد ينتهي غدًا‬ ‫أو بعد غد‪ ،‬يف إطار لعبة املصالح ذاتها‪ .‬لكن ما ال‬ ‫ّ‬ ‫يقل أهم ّية هو اإلسهام يف جهد ال ُيح ّد وال ُيس ّمى‬ ‫إلنتاج سوريا أخرى معقولة ألجل َمن سيعود من‬ ‫املغ ّيبني والالجئني والنازحني والناجني من املجزرة‪.‬‬ ‫من أجل سوريا دولة معقولة وليس بوصفها عصابة!‬ ‫مثل هذا الجهد ال ُيكنه أن يكون مقطوعًا عن أمر ْين‪:‬‬ ‫األ ّول‪ :‬عن سعي مامثل يف اإلقليم ويف العامل الستعادة‬ ‫الدولة املعقولة‪ ،‬وتحريرها من هيمنة مراكز العوملة‪.‬‬ ‫والثاين‪ :‬ربط هذا السعي مبنظومة أخالق ّية‬ ‫متكاملة ال ترى الدول بقدر ما ترى‬ ‫اإلنسان ووجوده وكرامته وحقوقه ك ّلها‪.‬‬


‫مصادرة احلرية واإلفالت من العقاب‬ ‫التاريخ يكرر نفسه‬

‫‪4‬‬ ‫جيوفانا دي لوكا‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫منذ كنت يف السادسة عرشة من عمري كنت أشارك يف‬ ‫املظاهرات املنظمة يف مدينتي الواقعة جنويب إيطاليا‪ ،‬والتي‬ ‫تطالب بتحسني ظروف املدارس العامة أو املدافعة عن‬ ‫حقوق العامل‪.‬‬ ‫يف ذلك الحني‪ ،‬ومهام كانت قضية املظاهرة‪ ،‬كان ال ب ّد أن‬ ‫يحرض العلم الفلسطيني يف وسط املظاهرة‪ ،‬يرفعه شخص‬ ‫ما‪ .‬وعىل الرغم من بعد املسافة بيننا وبني فلسطني‪،‬‬ ‫كانت انتهاكات “إرسائيل” ضد الشعب الفلسطيني خالل‬ ‫التسعينات أمراً جلياً بالنسبة لنا كإيطاليني‪.‬‬ ‫ومرت السنوات‪ ،‬وال يزال الجميع هنا يف أوربا عىل علم بأن‬ ‫هناك أراض فلسطينية محتلة‪ .‬ورغم ظهور يشء يف حياتنا‬ ‫اسمه “العوملة”‪ ،‬بحيث مل تعد سوريا والدول العربية بعيدة‬ ‫عنا‪ ،‬إال أن أحداً مل يكن يعرف بالفظائع التي ترتكب يف‬ ‫سوريا منذ عام ‪.1970‬‬ ‫كانت مرص وجهة سياحية مفضلة بالنسبة للسائح‬ ‫اإليطايل‪ ،‬وكذلك كانت تونس لجامل شواطئها‪ ،‬كام كانت‬ ‫ليبيا دولة صديقة ألنصار برلسكوين‪ ،‬رئيس الوزراء آنذاك‪،‬‬ ‫ولداعمي القذايف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعندما بدأ الطغاة العرب يتساقطون واحدا تلو اآلخر‪ ،‬كنا‬ ‫نتساءل‪“ :‬لكن‪ ..‬ماذا عن سوريا؟‪ ..‬ماذا عن هذا البلد الذي‬ ‫يبعد عنا مسافة ثالث ساعات بالطائرة!”‪.‬‬ ‫لطاملا كان الكالم إشكالياً عن “مملكة الصمت” التي‬ ‫تحكمها أرسة األسد‪ .‬خاصة بوجود جهات إعالمية داعمة‬ ‫لألسد‪ ،‬وتتبنى رواية نظامه بنرش معلومات كاذبة عن‬ ‫املعارضة‪ ،‬وتعترب الثائرين إرهابيني‪ ،‬بينام يتم الكالم عن‬ ‫األسد “االشرتايك” والذي يعادي الواليات املتحدة وإرسائيل‪..‬‬ ‫مع تتمة األسطوانة القدمية‪.‬‬ ‫لكن من كان يتابع أخبار الثورة من الناس عىل األرض‪،‬‬ ‫عرب فيسبوك ويوتيوب‪ ،‬عرف بأن املظاهرات كانت سلمية‬ ‫رصفة‪ ،‬وأن النظام السوري استخدم كل أدواته الوحشية‬ ‫لقمعها‪ ،‬وعرف أيضاً كمية االعتقاالت وعمليات الخطف‪،‬‬ ‫وكذلك التفجريات وقصف املدن‪.‬‬ ‫يكتف النظام السوري بذلك‪ ،‬بل قرر أن يستخدم سالحاً‬ ‫ومل ِ‬ ‫جديداً ضد الشعب الثائر‪ :‬الحصار‪ .‬يريد أن مينع عنهم‬ ‫الطعام والدواء والوقود حتى يقترص تفكريهم عىل الخالص‬ ‫وتدبري معيشتهم‪ ،‬بدالً من أن يفكروا بالثورة عليه‪.‬‬ ‫كانت صور من يتضورون جوعاً يف املناطق املحارصة يف‬

‫سوريا‪ ،‬تذكرين باملحتجزين يف معسكرات االعتقال النازية‪.‬‬ ‫كيف أمكن لهذه املأساة أن تقع أمام أعني العامل كله؟‬ ‫اكتفى العامل باإلدانة والتنديد‪ ،‬لكنهم مل يفعلوا شيئاً ملساعدة‬ ‫السوريني عىل أرض الواقع‪ ،‬يف حمص وداريا والغوطة‪ ،‬ويف‬ ‫مخيم الريموك‪ ،‬ويف حلب‪..‬‬ ‫كيف أمكن للعامل املنافق أن يصمت عن كل هذه املآيس؟!‬ ‫كيف أمكن أن يبقى األسد وعائلته يف السلطة بعد أن ن ّكل‬ ‫بشعبه ج ّوعاً وقت ًال وتعذيباً؟!‪..‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وبينام أتابع أخبار الحصار يف غوطة دمشق‪،‬‬ ‫قرأت شيئاً ملحامية وناشطة يف دوما‪ ،‬تستنكر ّ‬ ‫كل الجرائم‬ ‫املرتكبة من كل األطراف‪ ،‬وعرفت أنها كانت مطلوبة من‬ ‫قبل مخابرات النظام‪ ..‬كان اسمها “رزان زيتونة”!‬ ‫ولكون النظام يبحث عنها غادرت رزان دمشق‪ ،‬وتبعتها‬ ‫سمرية الخليل‪ ،‬وهي أيضاً ‪-‬مثل رزان‪ -‬مل تدخر جهداً‬ ‫لتقديم العون للناس وسط كل تلك األحداث املأساوية‪.‬‬ ‫ثم انضم وائل حامدة وناظم الحامدي للمجموعة يف‬ ‫الغوطة‪ ،‬ليشاركا يف األعامل الكبرية التي كانت سمرية ورزان‬ ‫تقومان بها مع ناشطني وناشطات هناك‪.‬‬ ‫وألنهام حرتان وصاحبتي صوت ح ّر‪ ،‬مل تخشيا من رفع‬ ‫الصوت عالياً‪ ،‬حتى يف وجه املجموعة السلفية التي كانت‬ ‫تسيطر عىل دوما وقتها‪.‬‬ ‫إنها املرة األوىل بالنسبة يل ‪-‬كامرأة أوربية‪ -‬التي أرى فيها‬ ‫نساءا يتحلني بهذا القدر من الشجاعة!‬ ‫كانت صدمتنا كبرية عندما علمنا باختطاف النشطاء‬ ‫األربعة‪ .‬وبدأنا بعدها نرى املسؤولني وأصحاب القرار‬ ‫من دول مختلفة يستنكرون هذه الجرمية‪ ،‬ولكن‪ ،‬ومرة‬ ‫أخرى‪ ،‬مل يقدم أحد املساعدة لعائالت املختطفني باستعادة‬ ‫أحبابهم‪ .‬مل ن َر إال كلامت جوفاء من املسؤولني الغربيني‪ ،‬كام‬ ‫حدث مراراً وتكراراً‪.‬‬ ‫من أجل ذلك أخذت القرار بأن عيل أن أع ّرف الناس بهؤالء‬ ‫الناشطني والناشطات‪ ،‬وأن أتكلم عنهم وعن عملهم‪.‬‬ ‫فرتجمت العديد من املقاالت التي كتبتها رزان خالل الثورة‪،‬‬ ‫وجمعتها يف مدونة عىل االنرتنت‪.‬‬ ‫ونرشت مقاالت تتحدث عن سوريا وعن الثورة السورية‬ ‫وإجرام النظام بحق الشعب السوري‪.‬‬ ‫ويف ‪ 9‬كانون األول‪ /‬ديسمرب الحايل نظمت مع مجموعة‬ ‫من الناشطني السوريني والغربيني ندوة للكالم عن قضية‬

‫املختطفني األربعة‪ .‬كان من بني املتحدثني “أرتينو” وهو‬ ‫مصور كان موجوداً يف الغوطة مع الناشطني األربعة‪ ،‬وكان‬ ‫الحديث مؤثراً للغاية‪ ،‬خاصة برسد قصص مل نكن نعرفها‬ ‫عن سمرية وعن رزان‪ ،‬وعن تفاصيل الحياة اليومية يف دوما‬ ‫برفقة النشطاء األربعة‪.‬‬ ‫اكتشفت أنهم أكرث شجاعة وإنسانية حتى مام كنت أعتقد!‬ ‫يف عام ‪ 2018‬بدأت بقراءة مذكرات سمرية باللغة‬ ‫اإلسبانية‪ .‬يف ذلك الربيع‪ ،‬جاء زوج سمرية‪ ،‬ياسني الحاج‬ ‫صالح‪ ،‬إىل برشلونة لتقديم الرتجمة اإلسبانية لكتابه “الثورة‬ ‫املستحيلة”‪ .‬كنت قد ترجمت بعض مقاالته‪ ،‬وأردت أن‬ ‫أغتنم الفرصة للقائه‪ ،‬واالستامع له‪ .‬وكانت تلك حقاً لحظة‬ ‫مهمة بالنسبة يل‪ .‬فهو رجل عظيم فع ًال‪.‬‬ ‫بعد أيام قليلة كتبت له‪“ :‬مرحباً ياسني‪ ..‬أريد أن أترجم‬ ‫مذكرات سمرية إىل اإليطالية‪ .‬يجب أن يعرف اإليطاليون ما‬ ‫حدث يف دوما ويف سوريا‪ .‬من الرضوري أن يكتشفوا هذه‬ ‫النامذج اإلنسانية الرائعة التي كانت تناضل هناك”‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وملدة سنة ونصف‪ ،‬كنت صوت سمرية اإليطايل‪.‬‬ ‫وكان هذا العمل تجربة رائعة‪ ،‬ورشف كبري يل‪.‬‬ ‫مرت ‪ 10‬سنوات منذ آذار‪ /‬مارس ‪ ، 2011‬بل ما يقارب‬ ‫‪ 11‬سنة‪ ،‬والثورة مستمرة‪.‬‬ ‫ال يزال املجتمع الدويل عاجزاً عن التحرك إلنقاذ الشعب‬ ‫السوري‪ ،‬وإسقاط األسد‪.‬‬ ‫بينام يقيض الالجئون ليالٍ يف قلب أوروبا‪ ،‬يتجمدون‬ ‫ويتضورون جوعًا‪ ،‬متاماً مثلام حدث يف سنوات غابرة من‬ ‫حروب البلقان‪.‬‬ ‫“التاريخ أكرب معلم”‪ ،‬ولكن ليس له تالميذ يتعلمون منه‪.‬‬ ‫واملجتمع الغريب كأنه يعيش يف العصور الوسطى‪ .‬فال يزال‬ ‫الناس يف أوروبا يعتقدون أن األسد ليس األسوأ لحكم‬ ‫سوريا‪ ،‬وأن معارضيه هم مجموعات إرهابية دموية‪.‬‬ ‫وال زال من الصعب إقناع الشعوب يف الغرب بالتعذيب‬ ‫والجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق الناس األبرياء‪.‬‬ ‫لذلك كله علينا أن نطالب بالعدالة والحرية لشعب يكافح‬ ‫منذ ‪ 10‬سنوات‪ .‬فالحرية حق لكل البرش‪ ،‬ولو فقدها إنسان‬ ‫واحد‪ ،‬فكأمنا فقدها كل البرش‪.‬‬ ‫أضم صويت لصوت األحرار من الشعب السوري‪ :‬نريد‬ ‫الحرية والعدالة لرزان وسمرية ووائل وناظم‪ ،‬ولجميع‬ ‫الـ‪ 140.000‬مختف أو معتقل قرسياً يف سوريا‪.‬‬


‫آراء من ناشطني وناشطات‬ ‫عن قضية املخطوفني األربعة وتبعاتها‬ ‫علي الداالتي‬

‫ هل أثر خطف النشطاء األربعة عىل سري األحداث‬‫امليدانية؟ وهل كان سيتغري مجرى الثورة يف حال مل‬ ‫تتم هذه الجرمية؟‬

‫ كيف ترى كون املختطفني األربعة مشهورون‬‫بينام هناك مغيبون كرث مغمورون؟‬

‫جميع من سألناهم أكدوا أنه ال فرق بني مغيب‬ ‫ومغيب آخر‪ ،‬ولكن “كون األربعة معروفون فهم‬ ‫أشبه برموز للمغيبني جميعاً”‪ ،‬فال فرق بني رزان ووائل‬ ‫وسمرية وناظم أو أي معتقل أو مغيب‪ .‬ولكن بسبب‬ ‫يتم تسليط الضوء عليهم‪ ،‬وبهذا يتم‬ ‫شهرة األربعة ّ‬ ‫تسليط الضوء عىل قضية جميع املعتقلني واملغيبني‪.‬‬

‫ برأيك ما هو مصري النشطاء األربعة؟ وخاصة‬‫بعد سيطرة قوات النظام السوري عىل منطقة‬ ‫الغوطة الرشقية حيث فقدوا‪ ،‬و خروج كافة‬ ‫الفصائل العسكرية منها؟‬

‫الجميع هنا رجح نظرية املجهول بالنسبة ملصري األربعة‪،‬‬ ‫بعد أن أكدوا بأنه ال ميكن التكهن مبصري األربعة‪ ،‬بعد‬ ‫هذه الفرتة الزمنية الطويلة من عملية االختطاف‪،‬‬ ‫وخاصة بعد سيطرة قوات النظام عىل منطقة الغوطة‬ ‫الرشقية وخروج قوات املعارضة منها‪ .‬رغم أن بعض‬

‫ من قام بعملية خطف الناشطني األربعة‬‫برأيك‪ ،‬ومن هم املستفيدون من تغييبهم؟‬

‫الجميع أكدوا أن املستفيد األكرب من عملية الخطف‬ ‫هو نظام األسد؛ فكل من ساهم بتغييب هؤالء األربعة‬ ‫هو رشيك مع النظام بالحرب عىل الثورة السورية‪ .‬كام‬ ‫أكدوا أن أصابع االتهام بالخطف تتجه نحو جيش‬ ‫اإلسالم أو عىل األقل أن العملية كانت بتسهيل منه‪.‬‬ ‫ون ّوه محمد إىل أن “املناطق املحررة مل تكن مضبوطة‬ ‫بشكل كامل‪ ،‬ومازالت تتعرض لعدة اخرتاقات مستمرة‪،‬‬ ‫سواء من قبل خاليا تتبع لقوات النظام أو تنظيم داعش‬ ‫أو الحرس الثوري اإليراين واملليشيات الطائفية املرتبطة‬ ‫بالنظام”ومعذلكيتابع‪“:‬أنفصيلجيشاإلسالماملسيطر‬ ‫عىل مدينة دوما بتلك الفرتة يتحمل جزءاً من‬ ‫املسؤولية‪ ،‬كونه مل يوفر الحامية للناشطني األربعة”‪.‬‬ ‫أما ثائر فقال إن “املتهم األول بعملية الخطف هو‬ ‫جيش اإلسالم كونه الجهة املسيطرة عىل مدينة‬ ‫دوما مكان خطف األربعة‪ ،‬وهو نفسه من قام‬ ‫بتهديدهم‪ ،‬وأرسل عدة رسائل تهديد لرزان إن مل‬ ‫تخرج من الغوطة‪ ،‬وأطلق الرصاص عىل باب املكتب‬ ‫الذي خطف منه األربعة قبل عملية الخطف بأيام‬ ‫معدودة‪ .”..‬فيام أضافت هدى لقامئة املتهمني “نظام‬ ‫األسد‪ ،‬والفصائل الراديكالية؛ كون تلك الفضائل كانت‬ ‫ترى يف رزان ورفاقها عقبة يف طريقها لخطف الثورة”‪.‬‬

‫تقارير‬

‫انقسم املجيبون عن هذا السؤال؛ فكل من الناشطني اإلعالميني‬ ‫نرص ومحمد من مدينة كفرنبل وبلدة حيش عىل الرتتيب قاال‬ ‫إن الثورة السورية ال تتوقف عىل شخص مهام بلغت أهميته‪،‬‬ ‫وإمنا هي فكرة يتم تداولها بني الناس‪ ،‬و”الثورة فقدت الكثري من‬ ‫الناشطني فيها” وكون “حتى الناشطني املختطفني األربعة أنفسهم‬ ‫كانوا يرون أنهم جزء من الثورة‪ ،‬وأن الثورة يجب أن تستمر”‬ ‫حتى لو فقدت نشطائها‪“ ،‬فالفكرة هي أساس دميومة الثورة”‪.‬‬ ‫أما وسيم الناشط الحقوقي من بلدة حاس‪ ،‬والطالبة الجامعية‬ ‫هدى املهجرة من وادي بردى إىل شامل سوريا‪ ،‬فكان رأيهام‬

‫العدد‬

‫جميع من سألناهم هذا السؤال أكدوا أن رسالة األربعة نابعة‬ ‫من أفكار الثورة السورية يف تأسيس دولة لها دستور وقوانني‪،‬‬ ‫نابعة بدورها من الشعب‪ ،‬وقامئة عىل الحرية والعدالة واملواطنة‬ ‫والتعددية وحقوق اإلنسان‪ .‬وكذلك يف محاسبة منتهيك الحقوق‬ ‫عرب توثيق االنتهاكات بحق السوريني‪ .‬وكان رأيهم أن هذه الرسالة‬ ‫مازالت مستمرة‪ ،‬رغم اعرتاف بعضهم أن وتريتها انخفضت بسبب‬ ‫الظروف الحالية‪ .‬وعن ذلك يقول ثائر حجازي الناشط الذي أدار‬ ‫مكتب دوما ملركز توثيق االنتهاكات بعد اختطاف مديرته رزان‪“ :‬إن‬ ‫رسالة املخطوفني هي ضمري كل ثائر يف الثورة السورية‪ ،‬وكل من‬ ‫يعمل لقيم الثورة السورية مازال حام ًال لرسالة النشطاء األربعة”‪.‬‬

‫‪101‬‬

‫ ما هي رسالة رزان ووائل وناظم وسمرية‪ ،‬وهل‬‫مازالت رسالتهم قامئة بعد خطفهم؟‬

‫مختلفاً؛ حيث اتفقا عىل أن تغييب أي ناشط يف الثورة‬ ‫السورية‪ ،‬سواء بالتغييب أو االغتيال انعكس سلباً عىل‬ ‫مسار الثورة بسبب فقدان هؤالء األشخاص الذين‬ ‫ميلكون الخربة والوعي الكافيني مبدى إجرام النظام‬ ‫وكيفية التعامل معه‪ ،‬واتفق معهام ثائر يف أن خطف‬ ‫النشطاء األربعة كان له تأثري عىل األقل ضمن مجال‬ ‫توثيق قضايا حقوق اإلنسان يف سوريا وعىل مسار العمل‬ ‫املدين يف الثورة‪ .‬كام اتفقوا عىل أن خطف وتغييب أي‬ ‫ثائر يف الثورة السورية له أثر كبري يف قلوب السوريني‬ ‫وخاصة إذا كان املختفي ميلك تأثرياً عىل الرأي الشعبي‪.‬‬ ‫وهذا ينطبق عىل املغيبني األربعة‪ ،‬وهم معروفون‬ ‫بكونهم من أبرز معاريض النظام‪ ،‬حتى من قبل الثورة‪.‬‬

‫يخف ظنّه عن‬ ‫من سألناهم ومنهم الناشط نرص‪ ،‬مل ِ‬ ‫مصري املغيبني األربعة؛ بأنه “من املمكن أن تكون قد‬ ‫متت تصفيتهم وإخفاء رفاتهم‪ ،‬دون أن نستطيع الجزم‬ ‫بذلك”‪ ،‬وال يعتقد نرص أن النظام قد وصل ليشء عن‬ ‫مصري املختطفني‪ ،‬ألنه لو فعل ذلك “كان صنع منه حدثاً‬ ‫إعالمياً‪ ،‬واستغله ضد املعارضة يف املحافل الدولية”‪.‬‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫ميكن القول يف العموم إن كل عملية خطف أو اعتقال أو قتل‬ ‫أو تغييب لناشط قد أثرت عىل مسار الثورة وأضعفتها؛ فسريورة‬ ‫الثورة وتصاعدها ثم انكفاؤها هي ذاتها مسرية هذا االعتقال‬ ‫وهذا الخطف وهذا التوسع يف رقعة القتل‪ .‬إال أنه يف املحصلة‬ ‫من الصعب القول إن تغييب ناشط بعينه قد أثر عىل سري‬ ‫األحداث؛ فالنتيجة العامة تأثرت بعوامل أخرى مضادة ضمن‬ ‫واقع دويل ال يريد تحرر الشعوب وال امتالكها ملصريها وإرادتها‪.‬‬ ‫ما كان سيتغري يف الغالب هو مصري الناشط نفسه؛ فقد يكون‬ ‫شهيداً أو بط ًال‪ ،‬وقد يكون الجئاً أو ناجياً كام كان البقية‪.‬‬ ‫ومبرور مثان سنوات عىل اختطاف الزمالء رزان زيتونة‪ ،‬سمرية‬ ‫خليل‪ ،‬ناظم حامدي‪ ،‬ووائل حامدة بعد هجوم استهدف املكتب‬ ‫املشرتك لكل من مركز توثيق االنتهاكات يف سوريا ومكتب التنمية‬ ‫املحلية ودعم املشاريع الصغرية و مجلة طلعنا عالحرية‪ ،‬يف دوما‬ ‫يف الغوطة الرشقية‪ .‬استطلعت مجلة طلعنا عالحرية آراء عدد‬ ‫من الناشطني والناشطات عن قضية املختطفني األربعة وآثارها‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫يف (الكتابة على جلود البشر‪!)..‬‬ ‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫كل ما ُكتب وما ُيكتب حول تجربة املعتقل ال يعادل لحظات‬ ‫وجع ورص ٍاخ‬ ‫األمل ملعتقل‪/‬ـة أو ُمغ ّيب‪/‬ـة أو مفقود‪/‬ـة‪ ،‬أو ّ‬ ‫غصة ٍ‬ ‫مكتوم أل ٍّم أو زوجة أو طفل ‪/‬ـة ينتظرون حريته‪/‬ها‪ .‬هذا أوالً‬ ‫وأخرياً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل غزارة ما ُكتب عن املعتقلني واملغيبني من دراسات ووثائق‬ ‫وروايات أدبية‪ ،‬تؤ ّكد حجم الدمار النفيس واملجتمعي الحاصل‬ ‫عىل مدار عقود‪ .‬ومن املجحف تناولها كوثائق إدانة لسلطة‬ ‫استبدادية وفقط‪ ،‬رغم أهم ّيها القانونية الستعادة الحقوق‪ ،‬أو‬ ‫اختزال املعتقلني واملغيبني قرسياً بصفة البطل الناجي‪ ،‬عىل‬ ‫غرار شخوص األبطال يف املخيال الشعبي‪ ،‬متناسني كينونتهم‬ ‫وإنسانيتهم‪ ،‬كام هي الحال باختزالهم ألرقام‪ ،‬لدى السلطة‬ ‫الحاكمة واملنظامت الدولية‪.‬‬ ‫تجربة األمل التي خربها املعتقل ‪/‬ـة أو املغيب ‪/‬ـة‪ ،‬تفصح ّ‬ ‫عم‬ ‫وصلت إليه العالقات االضطهادية يف الثقافة والسياسة والنفس‬ ‫الفردية‪ ،‬تفصح عن دالالت املعتقل‪ /‬السجن وقد بات وطناً أو‬ ‫أيديولوجية أو حزباً شمولياً أو مؤسسات هدفها ضبط السلوك‬ ‫والوالء والطاعة‪.‬‬ ‫والعنف بكل أشكاله هو وسيلة اإلخضاع لدى كل تلك املعاين‬ ‫الرمزية للسجن‪ /‬املعتقل‪ ،‬يف كل ما ُكتب من روايات ووثائق‬ ‫وشهادات من ِقبل لجان حقوق اإلنسان وعدد كبري من الكتّاب‪،‬‬ ‫كمصطفى خليفة وأمين العتّوم وفرج بريقدار وهبة الدباغ وسمر‬ ‫يزبك وروزا ياسني حسن وإبراهيم صموئيل‪ ..‬وغريهم الكثري‪،‬‬ ‫نجد متاث ًال يف توثيق أشكال العنف؛ فالعنف ليس حاالت مرضية‬ ‫فردية بقدر ما هو منط ممنهج لدى السلطة الالرشعية لفرض‬ ‫منطها االستبدادي يف بنى املجتمع ويف سلوك وثقافة املقهورين‪.‬‬ ‫حينها يساوي الخوف بني املقهورين؛ فيتساوون بعدم الجدوى‪،‬‬ ‫وباالنسحاق وتغييب أناياتهم‪ ،‬يجمعهم ويفرقهم بني متام ٍه مع‬ ‫منكفئ عىل ذاته‪ .‬عندها تسود ثقافة‬ ‫منط وأساليب املست ِبد وبني‬ ‫ٍ‬ ‫االستبداد ويستقر حكم الطغيان‪.‬‬ ‫هذا ما يطرح علينا بل يحفزنا لدراسة ما كتب وأفصح عنه‬ ‫املعتقلون من تجربة األمل‪ ،‬لنعي كيف تش ّكلت تلك العالقات‬ ‫االضطهادية‪ ،‬وكيف أصبح السجن‪ /‬املعتقل أكرب دالل ًة‪ ،‬وكيف‬ ‫تش ّكلت ثقافة االستبداد كنمط يسحق اإلنسان ويهدره‪.‬‬ ‫السجان تك ّثف تلك العالقات االضطهادية‬ ‫إ ّنها إذاً ثنائية السجني‪ّ /‬‬ ‫إرث طويل من االستبداد إيديولوج ّياً‬ ‫يف مجتمع قائم عىل ٍ‬

‫عب عنه‬ ‫وسياسياً‪ ،‬ومتحاجزاً إثن ّياً وطائف ّياً‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫بذهنية شفاهية غيبي ٍة‪ ،‬يصبح االستالب هو‬ ‫القاسم املشرتك‪ ،‬والخوف والقلق عىل الوجود‬ ‫السجان‪ ،‬حينام يصبح‬ ‫مساوياً بني السجني و ّ‬ ‫سجاناً إلنسانيته ولذاته عرب املرور‬ ‫السجني ّ‬ ‫الت ليست خياراً له‪ ،‬بل هي ٌ‬ ‫رشوط تفرضها‬ ‫بتح ّو ٍ‬ ‫ثقافة االستبداد‪ .‬وقد بات سلطة ملن يريد أن‬ ‫يكون من الفرقة الناجية‪ .‬منسلخاً عن انتامئه‬ ‫األرقى إنسانياً وسياسياً‪ ،‬متامهياً بنمط حياة‬

‫املستبدوسلوكه‪.‬‬ ‫تتأصل لديهم‬ ‫املقهورون املتساوون يف العدم‪ّ ،‬‬ ‫عىل املستوى النفيس والسلويك تلك الثقافة‬ ‫التي تحايك رشوط النجاة والخالص‪ ،‬يتقاسمون‬ ‫وسائل العنف واإلكراه واإلخضاع‪ ،‬ألنه ال فرق‬ ‫بني أيديولوجية دينية غيبية هدفها اإلخضاع‪،‬‬ ‫وبني سلطة ديكتاتورية‪ ،‬وبني منط عالقات أبوية‬ ‫بطريركية غرضها الوالء والسطوة‪ .‬أولئك يتساوون‬ ‫باملبدأ ويختلفون يف الوسائل‪ ،‬رغم اتفاقهم‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬

‫كلها سجناً كبرياً‪.‬‬ ‫بينام ّ‬ ‫كل ذلك يحصل منذ عقود أو أكرث‪ ،‬ما زال‬ ‫اليشء الوحيد الذي ال ُيسمع هو رصخة األمل لدى‬ ‫املعتقل‪/‬ـة‪ ،‬يف تلك األقبية املظلمة املوحشة‪.‬‬ ‫حسبنا أننا ننقل ذاك الصدى لنكرس حواجز‬ ‫الفضاء وقضبانه‪ ،‬حسبنا أننا ننقل عنهم ّأن‬ ‫وأن ّ‬ ‫املعتقل هو الوطن ّ‬ ‫كل ما فيه أصبح أقبي ًة‬ ‫مظلمة‪ ،‬هذا هو نداء املعتقلني‪ :‬أنقذوا الوطن من‬ ‫سجن وعنف الطاغية‪.‬‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫كاريكاتري‬

‫كإخضاع وإكرا ٍه وتربية‪.‬‬ ‫بالعنف‬ ‫ٍ‬ ‫كل ما ُكتب عن املعتقل يو ّثق هذا االتفاق غري‬ ‫املعلن عىل العنف اتجاه كل َمن يخرج عن‬ ‫القطيع املتامثل‪ ،‬أو التأديب وتكسري الرؤوس حتّى‬ ‫يتساوى الطرف اآلخر بالعدم‪.‬‬ ‫أال نجد تكسري الرؤوس لدى املقهور منذ أيام‬ ‫الطالئع ثم الشبيبة ثم الخدمة اإللزامية؟ أال نجد‬ ‫متجد‬ ‫سياسة االحتواء والتدجني وفرض الرتبية التي ّ‬ ‫القائد منذ أيام الروضة؟ وهذا هو أبشع أنواع‬ ‫العنف؛ ملا فيه من تع ٍّد عىل الوجدان وخيارات‬ ‫اإلنسان وكينونته‪ .‬أليس هذا “حيون ًة لإلنسان”‬ ‫كام أسامها ممدوح عدوان؟!‬ ‫بينام يدرك املستبد الطاغية ّأن ّ‬ ‫كل التغ ّول بالعنف‬ ‫“لن ميتلك من خالله تفكري السجني وأحالمه”‬ ‫كام قال أمين العتوم‪ .‬لرمبا هو هروب نحو األمام‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫وتشف من إرادة املعتقل‪/‬ـة؛ (فالسجون‬ ‫وانتقام‬ ‫ال تحمي األنظمة القمعية‪ ،‬واملذابح ال تثبت‬ ‫سلطتها‪ ،‬واإلكراه ال يجلب االعتقاد)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫جل ما يفعله املستبد بعد تحويل اإلنسان إىل عد ٍّو‬ ‫لنفسه‪ ،‬وتحويل السجن‪ /‬املعتقل لوطن أكرب عرب‬ ‫مؤسساته وأذرعه األخطبوطية‪ّ .‬‬ ‫جل ما يفعله هو‬ ‫إشاعة منط حياته وأساليبه‪ ،‬حتى يتامهى معها‬ ‫اإلنسان الحامل بالحرية املقهور‪.‬‬ ‫وتسود ثقافة املستبد بإشاعة مفاهيم الشطارة‬ ‫وتدبري الحال والخالص الفردي‪ ،‬واالستهالك‪ .‬حيث‬ ‫تنقلب املفاهيم يف ثقافة االستبداد فتصبح كلمة‬ ‫“سيدي” لرفع مكانة ّ‬ ‫الجلد‪ ،‬ومكانة املتح ّكم‬ ‫بشؤون الناس‪ ،‬وكلمة “أستاذ” مكاناً النحطاط‬ ‫الشخص والعلم أمام جربوت السلطة والعنف‪.‬‬ ‫وتصبح القضايا الكربى محط نفور وكره‪ ،‬حينام‬ ‫تصبح قضية شعب فلسطني مكاناً لالعتقال‪.‬‬ ‫عقاب‬ ‫أ ّما اإلنسان املقهور‬ ‫ٌ‬ ‫فمغلوب عىل أمره بني ٍ‬ ‫مؤجلٍ من‬ ‫عقاب ّ‬ ‫ُم ّ‬ ‫عجلٍ من ِقبل املستبد‪ ،‬وبني ٍ‬ ‫وكأن الكواكبي ما زال حارضاً‬ ‫العزيز القدير‪ّ .‬‬ ‫إىل وقتنا الراهن يف تفسري مظاهر االستبداد‪،‬‬ ‫و”األرسى” الذين تك ّلم عنهم‪ ،‬هم اآلن منكفئون‬

‫عىل ذواتهم الفردية األنانية (أنا ومن بعدي‬ ‫الطوفان) أو عىل ذواتهم الجامعية اإلثنية أو‬ ‫الطائفية أو العائلية كقوقع ٍة تحمي هذا املقهور‬ ‫من أيادي املستبد‪.‬‬ ‫وال ننىس أن الرصاع حتى عىل س ّلم الوصول‬ ‫ألحضان املستبد ذاته‪ ،‬عرب التامهي أكرث بعنفه‪،‬‬ ‫أو الرصاع عىل املكاسب واملغانم والوالءات يف‬ ‫املؤسسات القامئة‪ .‬والنتيجة هي سحق اإلنسان‬ ‫وهدره‪ ،‬يغذيها املستبد ويغذي رصاعاتها‪ .‬لتصبح‬

‫‪7‬‬


‫‪96‬‬

‫عن السجن مبا هو لغة صارت مكاناً‬

‫‪8‬‬ ‫مضر حمكو‬

‫العدد‬ ‫‪101‬‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫كم هي سخ ّية بال منتهى هذه الحياة‪ ،‬إذ متنح املرء‬ ‫فرصة أن يوجد خارج السجن مبا هو مكان وزمن‪ ،‬كأنها‬ ‫تعطيك فرصة التنزه يف األبدية وتكتب عام كان تجربتك‬ ‫يف السجن‪.‬‬ ‫هل أنا خارج السجن فع ًال؟‬ ‫سأحاول رفع الكلامت إىل ما تستحق من الجنون‪،‬‬ ‫سأهمس عىل مسمع اللغة واألفكار متردي قلي ًال يك أكون‬ ‫مارقاً من النوع الطيب‪ .‬سأحيك عن اللغة من جهة أنها‬ ‫العبودية والحرية‪ ،‬من جهة أنها السجن والخالص‪.‬‬ ‫رمبا جال يف روعي أن من حق التجربة يف السجن ‪-‬وأنا‬ ‫تجربتي يف السجن قصرية باملعنى الكمي‪ ،‬وال تستحق‬ ‫الحديث عنها بهذه املثابة‪ ،‬لكن النوع يبقى ماث ًال عىل‬ ‫اختالف الكم‪ -‬أن أحاول تصعيد التجربة؛ أن أسمو بها ‪-‬إن‬ ‫جاز يل ذلك‪ -‬إىل اللغة‪ ،‬هذا الكائن العظيم الذي يجعلك‬ ‫تحار هل هو سجن أم حرية؟ أهو موت أم حياة؟ أهو‬ ‫حب أم كراهية؟ أهو سعادة أم شقاء؟‬ ‫ّ‬ ‫أظنه كل ذلك وأكرث‪ ،‬مل يقل أحد إنها سجن‪ ،‬فيام أظنها‬ ‫تاريخ كل السجون كام كل الحر ّيات وأقول الحريات‬ ‫بالجمع ألنها ليست الحرية املفردة بعد‪ ،‬بل أشكال نظنها‬ ‫كذلك‪ .‬إىل ذلك سأكتب عن اللغة شيئاً يجعلني مرتبكاً‬ ‫كأنني الطفل يكتب ملعلم غشوم‪.‬‬ ‫هل تجربة السجن ال تستحق الحديث عنها رصاحة؟‬ ‫جوايب هو ال نافية قاطعة جازمة‪ ..‬وباكية! ملاذا باكية؟‬ ‫ألن التجربة عظيمة لكن بأي معنى هي كذلك؟ هل ألنها‬ ‫تجربتـ(ـي) أو (ـه) أو (ـها)؟ ال‪ ،‬بل ألنها كل ذلك‪ .‬هي‬ ‫تجربتنا جميعاً كبرش نظنّ أنفسنا أحراراً‪ ،‬لهذا أقول يجب‬ ‫الكالم عنها مبا يليق (يف اعتقادي) بعظمة أملها‪ ،‬يجب‬ ‫أن نتج ّذر ونتسامق ونسمو يك نفهمها ونقاربها‪ ،‬مبا يعيد‬ ‫إليها الحق من العظمة‪.‬‬ ‫السجان؟‬ ‫هل أقصد أن اللغة هي السبب يف سجننا وليس ً‬ ‫بالطبع ال‪ ،‬إمنا قصدت أنها النمط األشمل للسجن من‬ ‫جهة ما هي النمط األسمى للحرية‪ ،‬إىل ذلك فهي النمط‬ ‫الخالق للوجود مبا هو سجن وحرية‪ ،‬ومبا هو موت‬ ‫وحياة كذلك‪.‬‬ ‫هل للكالم أجنحة تبعث فينا اشتهاء الطريان؟ لكن إىل‬

‫أين؟‬ ‫هل اللغة فيام نبوح وال نبوح؟ فيام نفكر وال نفكر؟‬ ‫فيام نريد الخروج وليس مثة درب؟ فيام يريد الطفل‬ ‫الذي خلفناه باكياً يف أعامقنا يركل خبط عشواء عىل‬ ‫جدران الكون‪ ،‬وكل األشياء حيطان؟ هل اللغة هنا سامء‬ ‫أم هاوية؟‬ ‫هل اللغة غيوم تريد أن متطر‪ ،‬وأي ماء يكفي عراءنا‬ ‫الفسيح؟‬ ‫أهي لعنة التكوين أن نتعرث بأحجار اللغة عىل أرصفة‬ ‫الزمن‪ ،‬حينام أردنا الخروج من الغابة‪ ،‬وفيام كنا نغطي‬ ‫العورة كشفنا عورات بل ه ّوات‪ ،‬كلام أردنا ردمها حفرتنا‬ ‫دومنا قاع‪.‬‬ ‫دعوين أتساءل‪ :‬أكان مثة اخرتاع اسمه التفكري؟‬ ‫هل كنا سنعرف العطر عىل أنه فرح الزهر بالوجود‪ ،‬وأن‬ ‫العسل غبطة النحل بالطريان؟‬ ‫أكان سيجري الفزع واملفزع والرائع واملروع والريعان‬ ‫يف دماء تاريخنا؟‬ ‫أكان بوسعنا معرفة القتل والقاتل والقتيل‪ ،‬والسجن‬ ‫والسجان؟‬ ‫واملسجون‬ ‫ّ‬ ‫الحواس‬ ‫هل كنا سنعرف الحرب وضدّها؟ هل كانت‬ ‫ّ‬ ‫ستعرف كيف تقرأ العامل؟‬ ‫أمثة سجن أعظم من اللغة‪ ،‬أمثة أعظم من اللغة بوصف‬ ‫أنها امللهاة جهة ما هي الرتاجيديا؟‬ ‫ومام علمتنا أن نقرأ ّ‬ ‫كف الحياة ومنأل الفضاء باألشياء ثم‬ ‫نلهث خلف الفراغ‪ ،‬علمتنا كيف نختنق‪.‬‬ ‫وفيام كنا نخرتعها علمتنا كيف نجرح الكون ونداوي‬ ‫الكواكب‪ ،‬كيف نخيط الغيم ثياباً للشمس والقمر‪.‬‬ ‫هل هناك أعظم من مخلوق يعلمنا كيف نسقط يف‬ ‫الهاوية وال نخرج؟‬ ‫لست أعرف اآلن إن كانت اللغة املخلوق أم الخالق‪.‬‬ ‫لكنني لن أنىس كذلك أنها علمتنا ما الله وما الحب‪.‬‬ ‫ليس يدري عصفور اليقني إن كان هو الله وإن كان هو‬ ‫الحب‪ ،‬ألننا بعدُ مل نحب‪.‬‬ ‫ملاذا أكتب عن اللغة اآلن فيام ينبغي أن أكتب عن‬ ‫السجن؟‬

‫ألنها التكوين من جهة ما أنه أدخلنا رحب اللعنة‬ ‫والرحمة‪.‬‬ ‫أو ألنها الوعي الذي دخل فينا ونام ومازال بعد يحلم‪ ،‬أو‬ ‫أنها النفس بقصد أنها تعيدنا إىل الجب دوماً مذعورين‬ ‫وفار ّين ومهزومني‪ ،‬أو طغاة وسفاحني وس ّفايك الدم من‬ ‫جهة أنه املعنى‪ ،‬واملعنى بقصد أنه السعادة والحرية‪.‬‬ ‫ملاذا أكتب اللغة فيام ينبغي أن أكتب السجن؟‬ ‫ألن السجن يف داخل اللغة كام املوت يف داخل الحياة‪،‬‬ ‫والنفس رسدية ما اخرتعنا‪.‬‬ ‫ألن اللغة وطن من جهة ما هي املنفى! ألنها آلهة الكالم‬ ‫أراودها عن حظي من الهرب‪ ،‬من كل السجون‪ ،‬من كل‬ ‫الحروب‪ ،‬من كل الطغاة‪ ،‬من كل الجهات‪.‬‬ ‫إنها اللغة معلمتي الكتابة عن الجنون بدالً من السجون‪،‬‬ ‫وها هي تهبني املدد ض ّد كل نسق‪ ،‬ضد كل معتقد‪ ،‬ض ّد‬ ‫كل مذهب‪ ،‬ض ّد كل النظريات‪ ،‬ض ّد كل امللكيات‪.‬‬ ‫لن أكتب عن السجن ألنه ليس سوى شكل من اللغة‪ .‬لغة‬ ‫املوت زرعت تراب الروح بالفزع‪ ،‬وأنا أريد طائر الفينيق‬ ‫ألخرج من كل السجون‪.‬‬ ‫ملاذا أكتب عن السجن وأنا سجني ذاكريت ملاذا وأنا مسكون‬ ‫باملوىت ودماء املقتولني؟ ملاذا والعويل مازال معلقاً عىل‬ ‫الجدران‪ ،‬ملاذا أكتب عن حصار املوت يف كل مكان؟‬ ‫والسجان؟‬ ‫ملاذا أكتب عن املكان امليت فيه السجني‬ ‫ّ‬ ‫ملاذا أكتب عن نشيج اليتامى وانتظار الحبيبات العائدين‬ ‫من خيال العدم؟‬ ‫ملاذا والسجن حصتي من األشياء‪ ،‬ملاذا وهو ذاكرة البالد؟‬ ‫أي بالد أنت أيتها اللغة‪ ،‬هل يل بقليل منك؟‬ ‫يف السجن كنت أسائل املوت عام تبقى من حصتي يف‬ ‫الوقت‪ .‬يف السجن انفضحت لهفتي إىل الحب‪ ،‬تش ّوفت‬ ‫إىل عدن الوجود‪ ،‬إىل أنفاس الطفل الذي أحمله يف قلبي‬ ‫ويحملني يف لهفته ومعه كل صغار العامل من الورد‪ ،‬يف‬ ‫السجن ذهبت إىل أسفل العامل وعدت‪،‬‬ ‫هل عدت؟‬ ‫لهذا أكتب عن اللغة‪ ،‬عن األبواب ُترشع عىل الضوء‪،‬‬ ‫عن عطر ينسكب من روح‪ ،‬عن روح تنسكب من جسد‪.‬‬ ‫خذيني يا لغتي فأنا بعدُ سجني!‬


‫رزان زيتونة واألخضر اإلبراهيمي‬ ‫وحديث عن حصار غوطة دمشق واملمرات اإلنسانية‬

‫‪9‬‬

‫القامشلي‪ :‬كمال شيخو‬ ‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫االنتهاكات إىل جانب مشاركتها يف تأسيس مجلة‬ ‫(طلعنا عالحرية) وكانت إحدى كتابها ومحرريها‪.‬‬ ‫توجهت رزان نحو مدينة دوما مسقط رأس رشيك‬ ‫حياتها وائل‪ ،‬بعد املالحقة األمنية من قبل أجهزة‬ ‫املخابرات وفقدان القدرة عىل التحرك والتنقل‪.‬‬ ‫وبقيت يف دوما قرابة مثانية أشهر قبل أن يتم‬ ‫اختطافها مع زوجها ورفيقيها سمرية وناظم‪.‬‬ ‫وليست مصادف ًة عبور قافلة إنسانية يف ‪ 9‬من‬ ‫كانون األول‪ /‬ديسمرب الحايل من املناطق الخاضعة‬ ‫لسيطرة النظام ضمن برنامج األمن الغذايئ العاملي‬ ‫التابع لألمم املتحدة‪ ،‬باتجاه محافظة إدلب التي‬ ‫تسيطر عليها خليط من تشكيالت فصائل املعارضة‬

‫وجامعات إسالمية‪ ،‬بعد ميض ‪ 8‬سنوات عىل اتصال‬ ‫رزان والماين ورضورة فتح املمرات اإلنسانية‪.‬‬

‫لكن مييض الزمن برسعة دون معرفة أي معلومات‬ ‫عن رزان ووائل وسمرية وناظم وعن مصريهم‪،‬‬ ‫وبقيت القضية صندوقاً أسود مغلقاً يكتم أرسار‬ ‫هذه امللف بانتظار أن يرى النور لكشف الحقيقة‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫يف منتصف العام ‪ 2013‬وبعد فرض النظام‬ ‫السوري الحصار عىل الغوطة الرشقية‪ ،‬اتصل‬ ‫الدبلومايس الكندي مختار الماين وكان وقتذاك‬ ‫رئيساً ملكتب املبعوث الخاص املشرتك لألمم‬ ‫املتحدة وجامعة الدول العربية إىل سوريا‪ ،‬األخرض‬ ‫اإلبراهيمي‪ ،‬مع املحامية رزان زيتونة يدعوها‬ ‫للقاء األخري يف مقر إقامته يف دمشق‪ ،‬وقال إنه‬ ‫سريسل سيارة دبلوماسية تق ّلها حتى ال تعرتضها‬ ‫الحواجز والنقاط األمنية املنترشة بكثافة‪ ،‬عىل‬ ‫مداخل ومخارج الغوطة‪.‬‬ ‫آنذاك؛ مل يستغرق االتصال وقتاً كبرياً‪ ،‬ألن رزان‬ ‫اعتذرت من دعوة املبعوث األممي عىل الرغم من‬ ‫تأكيدها أهمية هذه اللقاءات‪ ،‬لكنها طلبت من‬ ‫الماين أنه من األفضل للسيارة الدبلوماسية الخاصة‬ ‫أن تحرض بعضاً من حليب األطفال واألدوية‬ ‫املفقودة باملنطقة‪ ،‬وإن استطاع إحضار بعض‬ ‫الخبز‪ ،‬لتخفيف معاناة سكان الغوطة املحارصين‪.‬‬ ‫وأنها ستكون ممتنة كثرياً لألخرض اإلبراهيمي‬ ‫لو فتح هذا امللف مع النظام الحاكم‪ ،‬من أجل‬ ‫فتح ممرات إنسانية‪ .‬وبهذا ستكون هذه الخطوة‬ ‫عملية أكرث من لقائها وأخذها وإعادتها‪.‬‬ ‫وبعد مرور ثالثة أشهر من االتصال‪ ،‬تعرضت‬ ‫الغوطة لقصف مكثف بالرباميل املتفجرة‬ ‫وراجامت الصواريخ واملدفعية الثقيلة‪ ،‬ووقعت‬ ‫مجزرة بشعة بالسالح الكياموي يف ‪ 21‬من شهر‬ ‫آب‪ /‬أغسطس ‪ 2013‬أدين النظام بارتكابها‪ ،‬وراح‬ ‫ضحيتها أكرث من ‪ 1300‬ضحية مدنية معظمهم‬ ‫من األطفال‪.‬‬ ‫وبعد وقوع املجزرة بنحو أسبوع التقيت مع رزان‬ ‫وطاقم مكتب التوثيق يف مقرها مبدينة دوما‪،‬‬ ‫وبقيت يف الغوطة ‪ 4‬أيام أجريت خاللها لقاءات‬ ‫وسمعت شهادات ناجني من املجزرة‪ ،‬وكانت رزان‬

‫وزمالؤها قد وثقوا املجزرة بالصوت والصورة‪.‬‬ ‫وقبل عوديت لدمشق التقيت مع رزان ألودعها‬ ‫وحينها أخربتني مضمون االتصال مع مختار الماين‪،‬‬ ‫وأكدت إنها مل تذهب بسبب تبني النظام الحاكم‬ ‫الخيار األمني ورهانه عىل الحسم العسكري‪،‬‬ ‫وتعمدت قواته منع دخول قوافل‬ ‫مساعدات إنسانية أممية‪ ،‬ما دفع‬ ‫رزان بطلب فتح ممرات إنسانية‬ ‫إىل الغوطة الرشقية لحامية‬ ‫املدنيني وتجنيبهم ويالت الحصار‪.‬‬ ‫وبعد مرور ‪ 8‬سنوات من اختطاف‬ ‫رزان وزوجها وائل حامدة وصديقة‬ ‫دربها سمرية الخليل ورفيقها ناظم‬ ‫الحامدي‪ ،‬وبعد التغريات امليدانية‬ ‫الكربى التي شهدتها سوريا بعد سيطرة القوات‬ ‫النظامية عىل ثلثي مساحة البلد‪ ،‬ومتسكه بسالح‬ ‫الحصار والحل األمني العسكري إلعادة السيطرة‬ ‫عىل كامل الجغرافية السورية‪ ،‬وبعد توايل أربعة‬ ‫مبعوثني خاصني من األمم املتحدة إىل سوريا منذ‬ ‫‪ ،2011‬خلصوا جميعاً إىل االعتذار من الشعب‬ ‫السوري‪ ،‬وإلقاء الالمئة عىل “تصلب األطراف‬ ‫املتحاربة” يف سوريا والجمود داخل مجلس األمن‬ ‫الدويل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ورزان البالغة من العمر ‪ 44‬عاما قضت سنوات‬ ‫طويلة يف الدفاع عن املعتقلني واملعارضني‬ ‫السياسيني‪ ،‬وترتافع عنهم أمام املحكمة العسكرية‬ ‫بدمشق وتتابع قضاياهم يف دوائر القضاء املدين‬ ‫ومحكمة أمن الدولة العليا‪ .‬وكانت تزور املعتقلني‬ ‫السياسيني يف سجن عدرا أسبوعياً‪ ،‬وتتابع شؤون‬ ‫عائالتهم‪ .‬وكل يوم إثنني من األسبوع تذهب‬ ‫إىل مقر محكمة أمن الدولة القريب من ساحة‬ ‫السبع بحرات وسط دمشق‪ ،‬لتستمع لشكاوى‬

‫أهايل املعتقلني املحالني إىل املحكمة سيئة‬ ‫الصيت‪ ،‬وتوثق حاالتهم وطريقة االعتقال وتجمع‬ ‫املعلومات الخاصة بهم‪.‬‬ ‫وبعد انطالقة الثورة يف ربيع عام ‪ ،2011‬أسست‬ ‫رزان لجان التنسيق املحلية ومركز توثيق‬


‫‪10‬‬

‫َ‬ ‫الر ُجل واملرأة َ‬ ‫َّ‬ ‫باآلخر)‬ ‫بني (االعرتاف‬ ‫أمام َ‬ ‫و(االعرتاف َ‬ ‫اآلخر)‬ ‫د‪ .‬مازن أكثم سليمان *‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫ما من ٍّ‬ ‫شك عندي َّأن العالقة ب َ‬ ‫ني ال َّر ُجل واملرأة يف‬ ‫عاص (ح ّباً أو جنساً أو صداق ًة)‪،‬‬ ‫مجتمعنا العر ّيب ا ُمل ِ‬ ‫ليس تعميم ّياً‪،‬‬ ‫هي عالقة مأزومة؛ وكالمي هُ نا َ‬ ‫َ‬ ‫منحى ما من ُمال َمسة الق َيم‬ ‫بقدر ما هو قا ِئم عىل‬ ‫ً‬ ‫ا ُملهي ِمنة عىل األفراد واملجتمع‪ ،‬وهذا ال ينفي وجود‬ ‫تجارب جميلة وناجحة‪ ،‬نسب ّياً‪ ،‬يف هذا املضامر‪.‬‬ ‫بجملة‬ ‫لكنَّ هذ ِه العالقة‪ ،‬عىل نح ٍو عا ّم‪ ،‬محكومة ُ‬ ‫ُ‬ ‫تنهض عىل اهتزاز ال ِّثقة ا ُملتبادَل بنيَ‬ ‫ُمحدِّدات‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الطرفني‪ ،‬إن مل أقل‪ :‬إنها تنهض عىل فقدان الثقة‬ ‫بالكامل!‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫لعل أيّ تفكيك إلشكال ّية (فقدان الثقة) ب َ‬ ‫ني ال َّر ُجل‬ ‫َّواصل البنّاء والجميل بينهُام‪،‬‬ ‫واملرأة‪ ،‬وإلخفاق الت ُ‬ ‫السؤال اآليت‪ :‬كيفَ‬ ‫ينبغي ْأن ينطلقَ أ َّوالً من ُّ‬ ‫ني َّ‬ ‫يتم تأسيس العالقات ب َ‬ ‫الطرفني؟ فالخلل املاثل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫للعيان‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬إن هذا الخلل املفرتَض‪ ،‬يكمنُ‬ ‫يف عدم بناء العالقة بينهُام عىل ُأسس أصيلة‪ ،‬كام‬ ‫أعتقد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫(أسس‪/‬‬ ‫وال يعني القول برضورة بناء العالقة عىل ُ‬ ‫نضع منظومة ق َيم معيار ّية‬ ‫أساسات) أصيلة أ َّننا ُ‬ ‫ُمح َّددة‪ ،‬أو ُن ِّ‬ ‫ؤط ُر العالقة بقواعد أخالق ّية ثابتة‬ ‫ُ‬ ‫نقول مبرجع ّيات ُم َسبقة‬ ‫وساكنة و ُمتعالية‪ ،‬أو‬ ‫و ُمع َّينة‪ .‬فالعالقة ب َ‬ ‫ني ال َّر ُجل واملرأة محكومة‪،‬‬ ‫جانب‬ ‫حت ًام‪ ،‬باختالف الخيارات الفرد ّية‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫أ َّول‪ ،‬وباختالف الخلف ّيات االجتامع ّية وال َّثقاف ّية‬ ‫جانب ثانٍ ‪ .‬لكنْ ‪-‬وبوجود هذ ِه‬ ‫واالقتصاد ّية‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫الخلف ّيات واختال ِفها ونسبي ِتها‪ -‬يجب ْأن تكونَ‬ ‫األقل َ‬ ‫العالق ُة الغن ّية‪ ،‬عىل ّ‬ ‫نظر ّياً ‪-‬ومهام كانت‬ ‫سطوة َ‬ ‫تلك الخلف ّيات واملرجع ّيات‪ -‬شبيه ًة بتد ُّفق‬ ‫الح ِّر ّية والتَّجربة واملجهول‪.‬‬ ‫الحياة‪ ،‬ومفتوح ًة عىل ُ‬ ‫غ َري أ َّن ُه ال ُب َّد هُ نا من تأصيل املسألة والتَّساؤل‪ :‬هل‬ ‫ُيكنُ تأسيس عالقة ماتعة وث َّرة وجميلة يف ّ‬ ‫ظل‬ ‫تنميطي‬ ‫واجتامعي واقتصاديّ وثقا ّيف‬ ‫سيايس‬ ‫ُمناخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وتأطرييّ مأزوم و ُمتعفن وقا ِئم عىل ُمصادَرة‬ ‫ُ‬ ‫والجامل؟‬ ‫الخصوص ّية والفرد ّية َ‬ ‫أزعم َّأن إشكال ّية العالقة ب َ‬ ‫هي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ني ال َّر ُجل واملرأة َ‬

‫يف ُمستوىً عميق منها‪،‬‬ ‫إشكال ّية مجتمع وثقافة‬ ‫ليس‬ ‫وترب ّية‪ ،‬وهذا‬ ‫َ‬ ‫للح ّب‬ ‫اكتشافاً؛ فال تح ُّرر ُ‬ ‫والصداقة ب َ‬ ‫ني‬ ‫والجنس‬ ‫َّ‬ ‫الجنسني من دون تح ُّرر‬ ‫واجتامعي شامل‪،‬‬ ‫سيايس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّإل َّأن الهدف املرج ّو‪ ،‬عىل‬ ‫ّ‬ ‫األقل يف هذا الن َّّص‪ ،‬يكمنُ‬ ‫يف ُمحا َولة تقديم وصف‬ ‫أ َّو ّيل للمسكوت عنه يف هذ ِه املسألة‪ ،‬واستنطاق‬ ‫األبعاد الفرد ّية للعالقات‪ ،‬وطرائق انبساطها وتع ُّينها‬ ‫الوجوديّ ‪ ،‬من حيث املبدأ‪.‬‬ ‫َّإن أ َّول ُخطوة لتحرير العالقة ب َ‬ ‫ني ال َّرجل واملرأة‬ ‫من القيود القا ِتلة‪ ،‬يف اعتقادي‪ ،‬تكمنُ فيام أدعوه‬ ‫َ‬ ‫لذات‬ ‫فكيف‬ ‫(االشتغال عىل ال ّذات الفرد ّية)؛‬ ‫ٍ‬ ‫َّواصل‬ ‫(رجل أو امرأة) ْأن‬ ‫تستطيع الت ُ‬ ‫إنسان ّية ُ‬ ‫َ‬ ‫والتَّفاعُ ل واألخذ والعطاء مع (رشيك‪ /‬رشيكة)‬ ‫بنفسها وبوعيها‬ ‫وهي ذات فقرية غري ُممتلئة ِ‬ ‫لها‪َ ،‬‬ ‫وبوجودها؟‬ ‫ُ‬ ‫فالكارثة ا ُملتك ِّررة يف ُمجتمعنا تكمنُ يف لجوء ال َّر ُجل‬ ‫واملرأة إىل بعض ِهام لتعويض النَّقص؛ أي بدافع‬ ‫وهم تحقيق التَّوازن َّ‬ ‫خيص والحيا ّيت بوجود‬ ‫الش ّ‬ ‫اآلخر ا ُملك ِّمل ُ‬ ‫َ‬ ‫(خرافة النِّصف ال ّثاين يف دالل ِتها‬ ‫التَّداول ّية ّ‬ ‫يحكم‬ ‫الشا ِئعة)‪ ،‬وهذا لعمري أسوأ ما‬ ‫ُ‬ ‫عىل العالقات باإلخفاق؛ إذ ال نصف ثانٍ للفرد‬ ‫الح ّر ا ُمل ّ‬ ‫ستقل بهذا املعنى ا ُملسته َلك أ َّوالً‪ ،‬وثانياً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تتأسس أيَّ عالقة عىل فعال ّية التَّشا ُرك ّية‬ ‫ينبغي ْأن َّ‬ ‫والتَّفاعُ ل‪ ،‬ال عىل وهم االندماج والتَّامهي‪ ،‬وثالثا‪ً،‬‬ ‫َ‬ ‫نفسها ْأن ُتغ ِني وتغتني‬ ‫كيف ٍ‬ ‫لذات ُمغ ِرتبة عن ِ‬ ‫َ‬ ‫نفس ِه أيضاً؟‬ ‫بآخر ُمغ ِرتب عن ِ‬ ‫ّ‬ ‫نفسها وثقاف ِتها‬ ‫َّإن عدم اشتغال الذات الفرد ّية عىل ِ‬ ‫السقوط‬ ‫مبعنى ما‪َ ،‬‬ ‫ليس فقط ُّ‬ ‫وتوازنها الكيا ّين يعني‪ً ،‬‬ ‫يف االغرتاب َّ‬ ‫الجمعي‬ ‫خيص؛ َّإنا اإلذعان لالغرتاب‬ ‫الش ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالجتامعي واالقتصاديّ )‪ ،‬وخط ُر هذا‬ ‫يايس‬ ‫(الس ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬

‫االغرتاب ينطوي‪ ،‬عىل نح ٍو رئيس‪ ،‬يف ارتداء ال ّذات‬ ‫(ال َّر ُجل أو املرأة‪ /‬سواء أكانت العالقة عالقة ُح ّب‬ ‫أو جنس أو صداقة) قناعَ التَّكا ُذب والتَّنا ُقض‬ ‫واالزدواج ّية‪ ،‬و ُر َّبا َ‬ ‫كان هذا القناع هو ُأ ّس أزمة‬ ‫ُفقدان ال ِّثقة‪ ،‬واإلخفاق يف عالقات َّ‬ ‫الطرفني يف‬ ‫مجتمعنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أالعيب التَّكاذب إىل أساسات‬ ‫وهكذا‪ ،‬تتسلل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بناء العالقة‪ ،‬وما ُيبنَى عىل باطل سيكون مص ُري ُه‬ ‫آج ًال‪ ،‬وال سيام يف ضوء غياب‬ ‫السقوط عاج ًال أم ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والجرأة والوضوح يف طرح كل طرف ملا‬ ‫الصاحة ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫(ح ّبا أو جنسا أو صداقة)‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ُيريدُ ُه من اآلخر ُ‬ ‫اآلخر)‪ ،‬والذي يكتملُ‬ ‫أدعوه مبفهوم (االعرتاف أما َم َ‬ ‫ُنضجاً وبنياناً ع َرب مفهوم (االعرتاف َ‬ ‫باآلخر)‪.‬‬ ‫باآلخر) ُم َ َ‬ ‫يقودُنا مفهوم (االعرتاف َ‬ ‫باش ًة‪ ،‬إىل نقد‬ ‫ال ِبنية املركز ّية البطريرك ّية ال ّذكور ّية يف ُمجتمعنا‪،‬‬ ‫فال َّر ُجل ما ز َال محكوماً‪ ،‬إىل ح ٍّد كبري‪ ،‬بازدواج ّية‬ ‫َّواصل‬ ‫جانب أ َّول‪ ،‬ه َو ُيريدُ الت ُ‬ ‫العالقة مع املرأة‪ :‬من ٍ‬ ‫ً‬ ‫جانب ثانٍ ‪،‬‬ ‫(ح ّباً أو جنساً أو صداقة)‪ ،‬ومن‬ ‫معها ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ه َو يعج ُز عن ُمفا َرقة نظر ِت ِه الشعور ّية واللشعور ّية‬ ‫(الدّون ّية) إليها‪ ،‬وأ َّنها مج َّرد (آلة ّ‬ ‫صمء) مخلوقة‬ ‫الح ّب أو ملنح الجنس أو لكلي ِهام معاً‪ ،‬ال‬ ‫سواء ملنح ُ‬ ‫بوص ِفها إنساناً كام ًال‪ ،‬ون ّداً ُمكافئاً‪ ،‬ورشيكاً حقيق ّياً‬ ‫يف التَّفاعُ ل واألخذ والعطاء‪ ،‬يف الوقت نفسه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫لعل أزمة عدم االعرتاف بـِ َ‬ ‫(اآلخر‪ /‬األنثى اإلنسان)‬ ‫هي أزم ُة ازدواج َّي ٍة أخالق ّية‪،‬‬ ‫من جهة ال َّر ُجل‪َ ،‬‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬

‫*‬

‫شاعر وناقد سوريّ‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫ويبدو يل َّأن أزمة عدم (االعرتاف أما َم َ‬ ‫اآلخر)‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هي أزمة فقدان ثقة بال ّذات‬ ‫وباآلخر‪ ،‬يف آنٍ‬ ‫مبا َ‬ ‫ُ‬ ‫هي‪ ،‬أيضاً‪ ،‬ذات أ ُسس وخلف ّيات سياس ّية‬ ‫معاً‪ ،‬ومبا َ‬ ‫واجتامع ّية واقتصاد ّية وثقاف ّية‪ ،‬قد دف َع ْت نسو ًة‬ ‫ممن ساروا يف ركاب ال َّت ّيارات النَّسو ّية‬ ‫كثريات َّ‬ ‫ُ‬ ‫السياق ال أع ِّمم بالتَّأكيد‪،‬‬ ‫عاصة (وأنا يف هذا ِّ‬ ‫ا ُمل ِ‬ ‫ُ‬ ‫لكنَّني أحا ِو ُل ْأن أرص َد بعض النَّامذج ا ُملتع ِّينة يف‬ ‫الواقع‪ ،‬وضمنَ رؤية َّ‬ ‫واجهة‬ ‫تتوخى النِّسب ّية) إىل ُم َ‬ ‫تط ُّرف ال ّذكور بتط ُّرف ُمقا ِبل يقو ُم‪ ،‬أيضاً‪ ،‬عىل‬ ‫أمناطٍ ُسلوك ّية وخطاب ّية تنطوي عىل عدم (االعرتاف‬ ‫َ‬ ‫باآلخر)‪ ،‬وهُ نا تظه ُر ُمبالَ ٌ‬ ‫تعجلة‪ ،‬يف أحيانٍ‬ ‫غات ُم ِّ‬ ‫كثرية‪ ،‬ترمي ال َّر ُج َل‪ ،‬تلقائ ّياً‪ ،‬يف قفص اال ِّتهام‪،‬‬ ‫ني ُّ‬ ‫و ُتلغي الفرد ّية واالختالف ُ‬ ‫والخصوص ّية ب َ‬ ‫الذكور‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫تتم ُمحاكم ُتهُم‪ ،‬آل ّياً‪َ ،‬‬ ‫تحت دعاوى (التَّح ُّرش)‬ ‫كأن َّ‬ ‫ْ‬ ‫ليست‪،‬‬ ‫أو (تبخيس إنسان ّية املرأة)‪ ،‬واإلشكال ّية هُ نا‬ ‫يف بداهة التَّجريم الجذريّ للتَّح ُّرش‪ ،‬أو يف رضورة‬ ‫الحاسمة لالنتقاص من إنسان ّية املرأة؛ َّإنا‬ ‫اإلدانة‬ ‫ِ‬ ‫يف تعقيدات التَّساؤل ا ُملر َّكب وا ُملرتاكب عن كيف ّية‬ ‫والصحيحة للتَّمييز ب َ‬ ‫ني‬ ‫الص ِّح ّية َّ‬ ‫إيجاد املعايري ِّ‬ ‫َّواصل َّ‬ ‫الطبيع ّية‪ ،‬أو إبداء‬ ‫التَّح ُّرش‪ ،‬و ُمحا َوالت الت ُ‬ ‫االهتامم‪ ،‬أو اإلعجاب‪ ،‬أو التَّعبري عن ال َّرغبة‪/‬‬ ‫َّ‬ ‫الشهوة‪ ،‬من ق َبل ال َّر ُجل تجاه املرأة‪.‬‬ ‫إذاً؛ َّمث َة اختالل يف ُمعادَلة َّ‬ ‫(الشاكة وال ِّن ِّد ّية) ب َ‬ ‫ني‬ ‫ال َّر ُجل واملرأة‪ ،‬وه َو اختالل كامنٌ يف ُم َس َّبقات‬ ‫الوعي الحا ِكمة‪ ،‬إىل ح ٍّد بعيد‪ ،‬ويف الكيف ّيات‬ ‫ا ُملرت ِبكة النفتاح التَّجارب‪ ،‬ويف الفقر إىل ِخربة‬ ‫الح ّر يف ُمنعرجات الوجود‪.‬‬ ‫االرمتاء ُ‬ ‫َّ‬ ‫أهم ا ُملض َمرات غري ا ُملف َّكر فيها‪ ،‬يف‬ ‫ولعل إحدى ّ‬ ‫هذ ِه اإلشكال ّية‪ ،‬فض ًال عن كو ِنها أزمة فكر وهُ ِو ّية‪،‬‬ ‫هي‪ ،‬أ َّنها يف عُ م ِقها‪ ،‬إشكال ّية تنطوي عىل سيادة‬ ‫َ‬ ‫ثقافة ال ُّثنائ ّيات املركز ّية التَّقا ُبل ّية‪ ،‬وما ُ‬ ‫تنهض عليه‬ ‫ملفاهيم ينبغي‬ ‫تفاصل ّية جا ِمدة‬ ‫من إحاالت دالل ّية ُ‬ ‫َ‬ ‫إعادة الن َ​َّظر فيها جذر ّياً‪ ،‬كإحاالت املفهومني‬ ‫ّ‬ ‫الشائعني اآلتيني‪:‬‬ ‫‪ - 1‬نحنُ نحتفي بال ُّرجولة ال ُّ‬ ‫بالذكورة‪“ :‬ال َّر ُجل غري‬ ‫ال َّذكر”‪ /‬وه َو ما ُّ‬ ‫حسب‬ ‫يدل عىل االحتفاء باألخالق‬ ‫َ‬

‫السائد جمع ّياً ال َّ‬ ‫بالشهوة = االنحالل‪.‬‬ ‫مفهو ِمها ّ‬ ‫الجسد‪:‬‬ ‫بجامل األنوثة ال َ‬ ‫‪ - 2‬نحنُ نحتفي َ‬ ‫بجامل َ‬ ‫“األنثى غري املرأة”‪ /‬وه َو ما ُّ‬ ‫يدل عىل االحتفاء‬ ‫السائد جمع ّياً‪ ،‬أيضاً‪ ،‬ال‬ ‫باألخالق‬ ‫َ‬ ‫حسب مفهو ِمها ّ‬ ‫َّ‬ ‫بالشهوة = االنحالل‪.‬‬ ‫ليس ْت‪ ،‬يف‬ ‫وهذ ِه ال ُّرؤية ال ُّثنائ ّية الت ُ‬ ‫هي َ‬ ‫َّفاصل ّية َ‬ ‫للح ّب‬ ‫نهائي ِتها وتعاليها‪ ،‬سوى رؤية (تأثيم ّية) ُ‬ ‫وهي أيضاً ذات ُبعد‬ ‫أو للجنس أو لكليهام معاً‪َ ،‬‬ ‫نقطع عن الواقع وكيف ّيات‬ ‫ُطهرا ّين‬ ‫وهمي و ُم ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّواصل وطبيعة البرش‪ ،‬ولهذا األمر بالتَّأكيد‬ ‫الت ُ‬ ‫مرجع ّيات اجتامع ّية وثقاف ّية راسخة قد يأيت يف‬ ‫ُمقدِّم ِتها ال َّنسقُ املعر ّيف القا ِئم عىل ال ُّثنائ ّية الح ِّد ّية‬ ‫التي تفصل الجسد عن ال ُّروح‪.‬‬ ‫السعي إىل (التَّثوير)‬ ‫وأخرياً‪ ،‬يبدو أ َّن ُه ال ُب َّد يف إطار َّ‬ ‫يايس‪ ،‬من إعادة‬ ‫ال َّثقا ّيف والتَّغيري‬ ‫الس ّ‬ ‫االجتامعي‪ِّ /‬‬ ‫ّ‬ ‫حبسها يف إطار تفس ٍري‬ ‫تعريف مفاهيم كثرية َّ‬ ‫تم ُ‬ ‫ويقيني وض ِّيق كمفهوم الوفاء‪،‬‬ ‫ُأحاديٍّ ُم َس َّبق‬ ‫ّ‬ ‫ومفهوم الخيانة‪ ،‬ومفهوم أبد ّية العالقة‪ ،‬ومفهوم‬ ‫قدسي ِتها ا ُملط َلقة‪ ،‬وغري َ‬ ‫ذلك من ال ُّرؤى وا ُملام َرسات‬ ‫حاسمة‪ ،‬ينبغي تحري ُرها‬ ‫عممة بوص ِفها ُمس َّلامت ِ‬ ‫ا ُمل َّ‬ ‫ع َرب دينام ّية الفعل والتَّفاعُ ل وإعادة تشييد فجوات‬ ‫والجمعي‪.‬‬ ‫الوجود ووعيه الفرديّ‬ ‫ّ‬ ‫وهي األمور التي ينبغي ْأن َّ َ‬ ‫نبسط‬ ‫تتعي يف ُم َ‬ ‫َ‬ ‫تواصل ب َ‬ ‫ني ال َّر ُجل واملرأة‬ ‫الكينونة يف ضوء فهم أيّ ُ‬ ‫َّغيات‬ ‫لسيولة الحياة‪ ،‬وللت ُّ‬ ‫بوصف ِه ابناً رشع ّياً ُ‬ ‫َّ‬ ‫الطبيع ّية فيها‪ ،‬ولالنفتاح عىل ا ُملحت َمل واملجهول‬ ‫و ُمرا َكمة الخربات اإلنسان ّية‪ ،‬بدالً من االنغالق‬ ‫فالحب‬ ‫عىل مفاهيم مثال ّية ُمتعالية وغري واقع ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصداقة (أو جميعهم معاً) تجارب‬ ‫أو الجنس أو َّ‬ ‫إنسان ّية ُمنغ ِرسة يف قلب نسب ّية الزَّمن والعيش‪،‬‬ ‫جانب أ َّول‪،‬‬ ‫و ُمتَّصلة عميقاً بأخالق االعرتاف‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫جانب ثانٍ ‪ ،‬وبال َبحث‬ ‫والح ِّر ّية‪ ،‬من‬ ‫وبثقافة الفرح ُ‬ ‫ٍ‬ ‫السعادة يف ضوء ارتباطها‬ ‫املحموم للبرش عن َّ‬ ‫ُ‬ ‫الكيا ّين بال ُبعد الجام ّيل (العيا ّين والك ِّ ّ‬ ‫ل) للوجود‪ ،‬من‬ ‫ثالث وأخري‪.‬‬ ‫جانب ٍ‬ ‫ٍ‬

‫مقاالت‬

‫ونتيج ُة رص ٍاع مري ٍر و ُمستم ّر داخل وعي ِه وفكر ِه‬ ‫ب َ‬ ‫ني املوروث ا ُملتخ ِّلف الذي يشدُّ هُ‪ ،‬دامئاً‪ ،‬إىل الوراء‪،‬‬ ‫والحياة الجميلة وا ُملغرية والعرص ّية التي ُتنادي‬ ‫قل َب ُه وجس َد ُه وكينون َتهُ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نالحظ َ‬ ‫تتعم ُم مفاهيم ُمعيقة‬ ‫وبهذا املنحى‬ ‫كيف َّ‬ ‫أو ُم ِّ‬ ‫وهي مفاهيم‬ ‫حطمة للعالقات يف ُمجتمعنا‪َ ،‬‬ ‫ُمتَّصلة‪ ،‬عىل نح ٍو ُم َ‬ ‫باش‪ ،‬مبنظومة الق َيم األخالق ّية‬ ‫السائدة (ويف ُمقدِّمتها مفهوم َّ‬ ‫الشف وتابع ّية املرأة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لل َّر ُجل)‪ ،‬والقائِ ة عىل الفصام واالزدواج ّية واملوقف‬ ‫الدُّ و ّين تجاه املرأة مثل ُشيوع فكرة َّأن‪( :‬ال َّر ُجل هو‬ ‫ُ‬ ‫يربح” من املرأة)‪ ،‬وفكرة َّأن‪:‬‬ ‫ا ُملف ِرتس الذي‬ ‫“يأخذ‪ُ /‬‬ ‫هي الفريسة التي “ ُي َ‬ ‫تخرس إزا َء‬ ‫ؤخ ُذ منها”‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫(املرأة َ‬ ‫ال َّر ُجل)‪( ،‬ووو‪...‬إلخ)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتتشابك هذ ِه الق َيم املأزومة مع حالة التَّكاذب‬ ‫وادّعاء التَّح ُّرر التي ُيا ِر ُسها ال َّر ُجل َ‬ ‫تحت باب عدم‬ ‫(االعرتاف أما َم َ‬ ‫نفسها‬ ‫اآلخر)‪ ،‬مثل تقديم ال ّذات َ‬ ‫لـِ َ‬ ‫(اآلخر‪ /‬املرأة) ع َرب (أقنعة لفظ ّية) ُمف َّرغة من‬ ‫مضامينها‪ ،‬وال ُ‬ ‫الصيحة‪ ،‬كالعبارتني‬ ‫تقول غايتَها َّ‬ ‫رجل ُمتح ِّرر)‬ ‫ا ُملسته َلكتني وا ُملتهافتَتني اآلتيتني‪( :‬أنا ُ‬ ‫وهي‪ ،‬بالتَّأكيد‪،‬‬ ‫(أنا ُ‬ ‫رجل غري سعيد مع زوجتي)‪َ ،‬‬ ‫ً‬ ‫مقوالت‪ُ /‬مام َرسات‪ ،‬فضال عن سطحي ِتها وسذاج ِتها‪،‬‬ ‫ُتز ِّي ُف الوعي‪ ،‬و ُتس ِّمم الوجود‪ ،‬و ُتصا ِدر جامل ّيات‬ ‫ني َّ‬ ‫والصداقة ب َ‬ ‫الطرفني‪ ،‬إىل‬ ‫الح ّب والجنس َّ‬ ‫عالقات ُ‬ ‫الحدود‪.‬‬ ‫أقىص ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يف ُمقا ِبل ذلك‪ ،‬وكردّة فعل أنثو ّية‪ ،‬ظه َرت منظومة‬ ‫أفكار وق َيم اغرتاب ّية عند نسا ٍء كثريات‪ ،‬وهذا ما‬ ‫َّ‬ ‫يتجل بدخولهنَّ ‪ ،‬أيضاً‪ ،‬يف دائرة فقدان ا ُملصا َرحة‬ ‫أ َّوالً؛ أي االبتعاد عن مفهوم (االعرتاف أما َم َ‬ ‫اآلخر)‪،‬‬ ‫ويف بنائهنَّ العالقة مع ال َّر ُجل‪ ،‬ثانياً‪ ،‬عىل غايات‬ ‫نفع ّية ومصلح ّية وتبادُل ّية‪ ،‬وعىل ُمقا َيضات متحو‬ ‫والصداقة‪ ،‬وتبدو يف‬ ‫الح ّب والجنس َّ‬ ‫جامل ّيات ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حصل ِتها‪ ،‬استسالما وتعميقا و ُمجاراة للنَّظرة‬ ‫ُم ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫الذكور ّية الفحول ّية الدّون ّية تجاه املرأة‪ ،‬ومنطا من‬ ‫الصداقة‪ ،‬وتسويغ َ‬ ‫ذلك‬ ‫الح ّب أو الجنس أو َّ‬ ‫تسليع ُ‬ ‫َ‬ ‫(يحقُّ‬ ‫ُ‬ ‫يقتنصني‬ ‫اقتناصه مثلام‬ ‫يل‬ ‫تحت عنوان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ه َو)‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫“اإلنكار ‪ -‬التنديد”‬ ‫‪12‬‬

‫معرض تشكيلي يف أملانيا‬ ‫حسن عارفة‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫شهدت مدينة فامير األملانية يوم السبت ‪11‬‬ ‫كانون األول‪ /‬ديسمرب الحايل‪ ،‬افتتاح معرض‬ ‫“اإلنكار‪ -‬التنديد” مبشاركة الفنان السوري‪/‬‬ ‫األملاين خالد عارفة‪ ،‬مبوضوعه القديم‪ -‬الجديد عن‬ ‫املأساة السورية‪ ،‬محاوالً عرب مشاركته إحياء ذكرى‬ ‫املعتقلني‪/‬ات واملختفني‪/‬ات قرسياً يف سوريا‪.‬‬ ‫و ُيقام املعرض يف غالريي “‪ ”Acc‬باملدينة التي‬ ‫كانت عاصمة للثقافة يف أوربا عام ‪ ،1999‬ضمن‬ ‫فعالية فنية مشرتكة مع ‪ 11‬فناناً من أملانيا ودول‬ ‫أخرى‪ ،‬تحتضن أعاملهم جميعاً صاالت متعددة‬ ‫االستعامالت‪ ،‬لتتفرد أعامل الفنان السوري بقضية‬ ‫من أهم قضايا السوريني الباحثني عن الحرية‬ ‫حالياً وهي قضية املعتقلني واملختفني قرسياً‪.‬‬ ‫عارفة من مواليد دمشق ‪ ،1974‬خريج كلية‬ ‫الفنون الجميلة بدمشق باختصاص النحت‪،‬‬ ‫ومقيم يف أملانيا منذ عام ‪ ،2006‬يقول يف ترصيح‬ ‫لطلعنا عالحرية‪“ :‬الفن غالباً ما يحمل رسائل‬ ‫مشغولة بأدوات الفنان‪ ،‬هذا ينطبق عىل كل‬ ‫أنواع الفنون البرصية والسمعية”‪ ،‬مضيفاً‪“ :‬قبل‬ ‫فرتة وصلتني الدعوة للمشاركة يف معرض تحت‬ ‫عنوان (التنديد‪ ..‬واإلنكار)‪ ،‬لفرتة كان تفكريي‬ ‫محصوراً مبعنى الكلمة‪ ،‬موضوع املعرض‪ ،‬والتي‬ ‫ميكن أن تأخذ معنى آخر كالوشاية‪ ،‬بهذه اللحظة‬ ‫مل أفكر إال بصور قيرص‪ ،‬ومبا حصل بسوريا بعد‬ ‫خروج الناس إىل الشارع واملطالبة بالحرية”‪.‬‬ ‫شارك الفنان بعدة أعامل ما بني اللوحة والرتكيب‬ ‫الفني‪ ،‬ليجسد مأساة املعتقلني واملختفني قرسياً‬ ‫يف سوريا‪ ،‬ومحاوالً دمج املتلقي يف العمل الفني؛‬ ‫وذلك حني عرض مجس ًام لباب املعتقل تتوسطه‬ ‫صورة رئيس النظام السوري بشار األسد‪ ،‬وعىل‬ ‫الباب ‪-‬الذي هو بطبيعة الحال كاملعتقالت‬ ‫السورية‪ -‬وضع مرآة خلف القضبان‪ ،‬لريى كل‬ ‫شخص نفسه خلف هذه القضبان ولو لثانية‪،‬‬ ‫وليشعر مبأساة املعتقلني وراء قضبان النظام‬ ‫السوري!‬ ‫كان لهذا املعرض خصوصية‪ ،‬بتقدميه وجبة‬

‫دسمة من اللوحات املعربة عن أحوال املعتقلني‬ ‫واملختفني قرسياً يف سوريا‪.‬‬ ‫وكانت مشاركات الفنانني اآلخرين يف املعرض‬ ‫تندد وتستنكر املواضيع الحياتية يف هذا العامل؛‬ ‫كامدة البالستيك وتأثريها السلبي عىل الطبيعة‬ ‫والبرش‪ ،‬وكذلك األمر لجائحة فايروس كورونا‬ ‫الذي غزى العامل‪.‬‬ ‫كام شارك الفنان‬ ‫عارفة بجدارية‬ ‫قدمية منذ العام‬ ‫‪ ،2015‬وتحيك قصة‬ ‫النزوح السوري‬ ‫إىل أوروبا‪ ،‬برموز‬ ‫وإشارات للموت‬ ‫الذي‬ ‫والرعب‬ ‫عاشه السوريون‬ ‫يف رحلتهم نحو‬ ‫النجاة‪.‬‬ ‫مثة جدارية أخرى‬ ‫عمل عليها الفنان‬ ‫عارفة لهذا املعرض‪،‬‬ ‫واستوحى فكرتها‬ ‫من صورة نزوح‬ ‫أهايل الريموك من‬ ‫ذاكرتهم وبيوتهم‬ ‫إىل‬ ‫وحياتهم‪..‬‬ ‫أماكن أخرى يف‬ ‫دمشق‪.‬‬ ‫من هنا ربط‬ ‫الفنان يف أعامله‬ ‫بني مأساة املعتقلني‬ ‫واملختفني قرسياً‪ ،‬ومأساة التهجري التي رضبت‬ ‫مناطق سورية كثرية‪ ،‬حيث عرض هذه الجدارية‬ ‫للقطة األيقونية التي وثقت تجمع املهجرين من‬ ‫مخيم الريموك لالجئني الفلسطينيني عام ‪.2018‬‬ ‫“األفكار تتوالد وتنضج مع مرور الوقت وخروج‬

‫الناس يف صورة مخيم الريموك ما زالت أمامي‬ ‫‪ ..‬ومن هنا بدأت بالعمل للمشاركة باملعرض”‬ ‫يقول عارفة‪ .‬ويتابع‪“ :‬كيف ميكن يف لوحة أن‬ ‫أظهر وجع وأمل شعب كامل تهجر يف ساعات من‬ ‫ذاكرته وحياته وبيته؟ هذه لوحة الريموك التي‬ ‫تظهر حال السوريني املهجرين من الداخل إىل‬

‫الداخل‪ ،‬أو من الداخل إىل الشتات ‪.”...‬‬ ‫بني اللوحتني نشاهد عملني صغريي الحجم‬ ‫يحمالن سنوات من عمر املعتقل‪ ،‬هنا يعلق‬ ‫الفنان عارفة‪“ :‬كيف ممكن أن يكون شعور‬ ‫املعتقل بالوقت واأليام؟ وخصوصاً حني يبدأ بع ّد‬


‫عن قسوة املصري‬ ‫اجملهول ومعناه‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬

‫ال يسع املرء إال أن يساند املطالب املحقة لذوي املفقودين يف الكشف عن مصري‬ ‫أحبائهم‪ ،‬وأن يدعم سعيهم إليجاد السكينة‪ ..‬سكينة أرواح املفقودين وأرواح محبيهم‬ ‫يف مصري معلوم‪ ،‬ح ّقهم يف دمل جراحهم‪ ،‬ويف بدايات جديدة من الصعب أن تكون إال‬ ‫بنا ًء عىل يقني ما‪ ..‬مهام كان مؤملاً وقاسياً‪.‬‬ ‫ويف هذا السياق ال ب ّد أن نتحدث عن الصوت األعىل يف هذه املطالبات‪ ،‬وهي األصوات‬ ‫التي تطالب بالكشف عن مصري فرسان الثورة األربعة رزان زيتونة وسمرية الخليل‬ ‫ووائل حامدة وناظم الحامدي‪ ،‬قيادات الحراك السلمي وتنسيقيات الثورة الذين‬ ‫اختفوا يف ظروف غامضة يف مدينة دوما التي كانت تخضع لسيطرة جيش اإلسالم‬ ‫املحسوب عىل الثورة‪.‬‬ ‫هل يجوز لنا أن نضع جانباً ‪-‬ولو لربهة قصرية‪ -‬عدالة هذه املطالب وأهميتها عىل‬ ‫الصعيد الشخيص لذوي املختفني؟‬ ‫ما هي املصائر املحتملة لألبطال األربعة؟ وأي من تلك املصائر يليق بأحالمهم الثورية؟‬ ‫كان هناك ثالثة مصائر محتملة عموماً لثوار سوريا السلميني‪ :‬أولها مصري القتل عىل‬ ‫أشكاله املختلفة‪ ..‬قصفاً‪ ،‬قنصاً‪ ،‬غدراً‪ ..‬أو تعذيباً‪ ،‬ثانيها مصري االعتقال يف أقبية النظام‬ ‫أو املعارضة املتطرفة‪ ،‬وثالثها مصري الهرب باحتامل النجاة يف قوارب الهجرة واللجوء‪،‬‬ ‫وهناك يف حياة اللجوء ليس مثة احتامالت كثرية‪ ،‬فإما العيش عىل املعونات التي‬ ‫تقدمها الحكومات الغربية‪ ،‬وإما السعي للنجاح الفردي وتحقيق الذات بعيداً عن‬ ‫الهموم الوطنية‪ ،‬وإما االنخراط يف سوق التجارة الثورية عىل اختالف أشكالها‪.‬‬ ‫هل يجوز لنا كثائرين حاملني أال نتمنى هذه املصائر ألبطالنا؛ فال نريد اكتشاف رفاتهم‬ ‫املدفونة يف مقربة جامعية‪ ،‬وال نريد اكتشاف صورهم كمقتولني تحت التعذيب‪،‬‬ ‫وال كمعتقلني يف أقبية النظام يذوقون شتى أنواع االنتقام والتعذيب من سجانيهم‬ ‫الساديني‪ ،‬كام ال نريد أن نراهم إىل جانب تجار الثورة يف املدن الغربية‪ ،‬هؤالء الذين‬ ‫يحلو لهم أن يختزلوا دور األربعة القيادي يف الحراك السلمي والتنسيقيات عىل‬ ‫مستوى سوريا كلها إىل “موثقي انتهاكات”‪!..‬‬ ‫كان ميكن للمطالبة بالكشف عن مصري األربعة وآالف املفقودين غريهم أن يكون لها‬ ‫معنى آخر يف سياق انتصار‪ ،‬ال يف سياق الهزمية‪ ،‬يف سياق إحقاق العدالة واملحاسبة‪،‬‬ ‫ال يف سياق التوثيق والتقارير التي ال تساوي حربها‪.‬‬ ‫لست أماري يف أهمية املطالبة بالكشف عن مصائر جميع املفقودين‪ ،‬وأعلم متاماً‬ ‫مدى فانتازية طرحي هذا ورمبا ترفه املبتذل‪ ،‬لكن يبدو من زاوية ما أن أرواح الفرسان‬ ‫األربعة وأشباههم عىل امتداد الوطن املد ّمر ترفض االمتثال لهذا األمر الواقع‪ ،‬ورمبا‬ ‫كان مصريهم املفتوح عىل املجهول هو الالنهاية األجمل لحلمهم‪ ..‬لحلمنا املوؤود يف‬ ‫وطن يشبه األوطان‪.‬‬

‫مثاالت‬

‫هكذا كان املعرض فرصة للفنان املمنوع من دخول‬ ‫سوريا‪ ،‬لتأكيد قوة جذوره يف الثورة‪ ،‬عرب هذه األعامل‪،‬‬ ‫حيث يستمر املعرض حتى العرشين من شهر شباط‪/‬‬ ‫فرباير املقبل‪.‬‬ ‫وكان الفنان خالد عارفة قد شارك يف العديد من املعارض‬ ‫بعدة مناطق أملانية‪ ،‬ومل تغب عن مجمل أعامله القضية‬ ‫السورية‪ ،‬بثورتها وأفكارها‪ ،‬خيباتها ونجاحاتها‪ ،‬هزامئها‬ ‫وانتصاراتها‪ ،‬وبطبيعة الحال‪ ،‬أحد أهم شعاراتها “الحرية”‪.‬‬ ‫يف ختام ترصيحاته يؤكد عارفة أن “الفن بكل مفرداته‬ ‫وأدواته قادر عىل مساندة أي قضية يف الحياة‪ ،‬خصوصاً‬ ‫يف زمن التحول الرقمي” حسب وصفه‪“ ،‬الصورة اآلن‬ ‫تصل إىل العامل بدقائق معدودة‪ ،‬لكن فكريت ما زالت بأين‬ ‫أريد أن أجعل من الناس حويل‪ ،‬وخصوصاً املجتمع الذي‬ ‫أعيش فيه‪ ،‬يعرفون مدى االستبداد والظلم الذي عايشه‬ ‫السوريون عىل مدار عقود منذ استالم األسد األب للسلطة‬ ‫يف سوريا عام ‪ ”1970‬يختم حديثه‪.‬‬

‫سميح الصفدي‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫أيامه يف السجن كخطوط عىل الجدار أربعة وبالعرض‬ ‫واحد ليكملوا الخمسة أيام”!‬ ‫ومل ُ‬ ‫يخل املكان أيضاً من صور متفرقة ملعتقلني ومعتقالت‪،‬‬ ‫تع ّمد النظام مح َو أسامئهم‪ ،‬واستبدال أرقام بها‪ ،‬يف تعبري‬ ‫رمزي عن واحدة من أسوأ االنتهاكات يف هذه املعتقالت‪،‬‬ ‫حني يتحول املعتقل إىل مجرد رقم‪“ ،‬وكل ذنبه أنه قال‬ ‫“ال” لنظام مل يعتد عىل سامع كلامت عىل غري منوال‪:‬‬ ‫نعم‪ ،‬حارض‪ ،‬أمرك وغريها”‪.‬‬ ‫“منذ العام ‪ 2016‬بدأت الخروج من املأساة السورية‬ ‫كموضوع لكل األعامل التي أنجزتها بني عامي ‪2014‬‬ ‫وحتى عام ‪ ،2016‬ومن بعد هذا التاريخ‪ ،‬بدأت البحث‬ ‫عن موضوع ميثل الحال الذي وصلنا له كسوريني مشتتني‬ ‫يف كل بقاع املعمورة” يقول خالد عارفة‪.‬‬ ‫ومع كل االنكسارات التي رضبت الثورة السورية‪ ،‬حاول‬ ‫البحث عن معانٍ أخرى لشعارات الثورة الرئيسية‪،‬‬ ‫موضحاً‪“ :‬بدأت أميل وأبحث عن معنى الهوية‪ ،‬االنتامء‪،‬‬ ‫والجذور‪ ..‬وكانت الطبيعة تأخذين إليها‪ .‬وبدأت تتبلور‬ ‫فكرة األشجار كموضوع‪ .‬والشجرة كام األشخاص بحاجة‬ ‫إىل جذور يف األرض لتنمو”‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫مكدرة‪ ..‬األطفال يف ريف حلب‬ ‫طفولة‬ ‫بني احلاجة واالستغالل!‬

‫‪14‬‬ ‫حسين الخطيب‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫ارتفعت نسبة األطفال العاملني يف ريفي حلب‬ ‫الشاميل والرشقي‪ ،‬جراء الظروف املعيشية القاهرة‬ ‫التي دفعتهم إىل الخوض يف مضامر العمل إلعالة‬ ‫أرسهم ومساندتها يف تحمل قسوة الظروف االقتصادية‬ ‫املرهقة‪ ،‬عىل الرغم من التحديات التي ترافقهم‬ ‫خالل األعامل الشاقة التي ال تناسب أعامرهم‪.‬‬ ‫الطفل أكرم (‪ 12‬عاماً)‪ ،‬يعمل يف ورشة إصالح محركات‬ ‫السياراتيفبلدةتلبطالبريفحلبالرشقي‪،‬منذشهر‬ ‫عىل األقل بعدما غادر املدرسة يف سبيل مساعدة والده‬ ‫يف مرصوف أرسته املكونة من ‪ 9‬أشخاص‪ ،‬بينهام والديه‪.‬‬ ‫يحاول أكرم مساعدة والده يف تحمل نفقات البيت‪،‬‬ ‫حيث يعمل والده معامراً‪ ،‬يف القرى والبلدات‬ ‫املجاورة‪ ،‬وال تتجاوز يوميته ‪ 50‬لرية تركية‪ ،‬وهي‬ ‫‪ 3.30‬دوالر أمرييك‪ ،‬وهذه ال تكفي مرصوفاً يومياً‬ ‫ألرسته‪ ،‬مام اضطر الطفل لاللتحاق بالعمل‪ ،‬مقابل‬ ‫أجر يومي ال يتجاوز ‪ 30‬لرية تركية ‪ 2‬دوالر أمرييك‪.‬‬ ‫كان أكرم متفوقاً يف مدرسته‪ ،‬كام أوضح خالل حديثه‬ ‫ملجلة “طلعنا عىل الحرية”‪ ،‬لكن الظروف القاسية التي‬ ‫عصفت باألرسة جعلت منه عام ًال يبحث عن رزقه‬ ‫يف املنشآت الصناعية‪ .‬بينام ميتد وقت العمل لنحو ‪9‬‬ ‫ساعات يف اليوم؛ حيث يخرج يف الساعة ‪ 8‬صباحاً من‬ ‫منزله الواقع يف قرية تل بطال‪ ،‬إىل مركز تجمع املنشآت‬ ‫الصناعية يف القرية‪ ،‬ويبقى يف العمل يقوم بواجباته‬ ‫تجاه معلم الورشة التي يعمل بها حتى الساعة ‪ 5‬مسا ًء‪.‬‬ ‫وتتنوع املهن والحرف التي يعمل بها األطفال يف ريفي‬ ‫حلبالشاميلوالرشقي‪،‬إالأنمعظمهاتشكلخطراًعىل‬ ‫مستقبلهم‪ ،‬يف ظل ازدياد متواصل ألعداد األطفال الذين‬ ‫التحقوابسوقالعمل‪،‬لكسبالرزقوتغطيةاحتياجات‬ ‫معيشية‪ ،‬ال يستطيع معيل واحد من األرسة تغطيتها‪.‬‬ ‫أما الطفلة ُربا (‪ 10‬سنوات)‪ ،‬فتخرج من منزلها الواقع‬ ‫يف مدينة مارع بريف حلب الشاميل‪ ،‬بشكل يومي‬ ‫بعد عودتها من املدرسة ظهراً‪ ،‬بينام يكون خروجها‬ ‫إىل العمل أيام العطلة يف التاسعة صباحاً‪ ،‬تحمل عىل‬ ‫كتفها حقيبة إكسسوار‪ ،‬تجول بها عىل املنازل املوجودة‬ ‫يف األحياء التي باتت تحفظها مثل اسمها‪ ،‬بحسب‬ ‫ما أشارت خالل حديثها ملجلة “طلعنا عىل الحرية”‪.‬‬ ‫عند وصولها من املدرسة تضع عىل ظهرها الحقيبة‬ ‫ويف يديها ما تيرس من الطعام املتوفر يف املنزل‪ ،‬لتخرج‬ ‫مرسع ًة إىل العمل‪ ،‬وتبدأ جولتها املعتادة‪ ،‬حيث تطرق‬

‫الفتاة منازل الناس وتسألهم عن رغبتهم يف الرشاء وغالباً‬ ‫ما تحصل الفتاة عىل موافقة أصحاب املنزل‪ ،‬تعرض‬ ‫عليهم بضائعها املتوفرة لديها والتي اشرتتها والدتها‬ ‫التي تعمل يف بيع اإلكسسوار أيضاً من داخل منزلها‪.‬‬ ‫وقالت الفتاة‪“ :‬إن والدي‬ ‫عاطل عن العمل‪ ..‬يعمل‬ ‫يومني يف األسبوع يف‬ ‫حال كان العمل متوفراً‪،‬‬ ‫مقابل أجر يومي ال‬ ‫يكفي لوجبة طعام‬ ‫واحدة‪ ،”..‬وتتابع‪“ :‬بدأت‬ ‫والديت برشاء اإلكسسوار‬ ‫من محال الجملة‬ ‫املتوفرة يف األسواق‪،‬‬ ‫وتبيعها يف املنزل‪،‬‬ ‫البضائع”‪.‬‬ ‫ببعض‬ ‫أتجول‬ ‫وأنا‬ ‫وعن طموحها أضافت ُربا‪“ :‬أحلم بامتالك األلعاب‬ ‫التي أراها خالل تجوايل يف املنازل‪ ،‬أمتنى لو أجلس‬ ‫يف منزيل وألعب بها يف وقت فراغي من املدرسة‪،‬‬ ‫بدل العمل والتجوال بني األزقة والشوارع”‪.‬‬ ‫بينام يتعرض معظم األطفال سوا ًء الذكور واإلناث‬ ‫الذين يعملون يف ريفي حلب الشاميل والرشقي‪،‬‬ ‫للكثري من اإلهانة من قبل أصحاب املنازل‬ ‫بحجة اإلزعاج‪ ،‬وبعض األرس ترفض دخولهم‬ ‫إىل منازلهم‪ ،‬إىل جانب االعتداء اللفظي عليهم‪.‬‬ ‫أبو صايف نازح ليس لديه مكان يقيم فيه سوى الخيمة‬ ‫الواقعة بالقرب من مدينة اعزاز‪ ،‬ويبدأ عمله يف‬ ‫الساعة السابعة مسا ًء بعد انخفاض أعداد الناس يف‬ ‫الشوارع‪ ،‬حيث يتجول عىل مكبات النفايات‪ ،‬قرب‬ ‫املخيم العشوايئ‪ ،‬حيث تتجمع هناك مئات العائالت‬ ‫وتشكل مجتمعات “فقرية تعيش من قلة املوت” كام‬ ‫يصف الرجل خالل حديثه ملجلة “طلعنا عىل الحرية”‪.‬‬ ‫ويوضح‪“ :‬ال توجد ألبنايئ مدرسة يف النهار‪ ..‬أرسلهم‬ ‫عىل مكبات النفايات املتوزعة يف محيط املدينة‪،‬‬ ‫يجمعون منها كل ما يشاهدونه من قطع الحديد‬ ‫والبالستك وغريها‪ ،‬وعند املساء يتابعون العمل يف‬ ‫النفايات معي عىل “الطرطرية”‪ ،‬لنبيع ما جمعناه‬ ‫يف اليوم التايل”‪ .‬ويشكل هذا العمل مصدر الدخل‬ ‫الوحيد ألبو صايف‪ ،‬الذي يحصل يف نهاية كل يوم‬

‫عىل مبلغ يرتاوح ما بني الـ ‪ 30‬والـ ‪ 50‬لرية تركية‪.‬‬ ‫وتعترب عاملة األطفال من أكرث التحديات التي‬ ‫تواجه السوريني‪ ،‬ولعل “األسباب الرئيسية التي‬ ‫ساهمت يف عاملة األطفال هي الفقر وفقدان‬

‫املعيل” بحسب ما أشار الناشط اإلعالمي مصطفى‬ ‫بطحيش خالل حديثه لـ “طلعنا عىل الحرية”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬كام أن العائالت التي مل تفقد معيلها‬ ‫لديها أطفال يعملون ويزاولون مهناً صعبة للغاية‪،‬‬ ‫ال ميكن أن يتحملها الكبار‪ ،‬لكن الحاجة أجربتهم‬ ‫عىل العمل‪ ،‬ألن معظم األهايل يعانون من انعدام‬ ‫مصادر الدخل وانخفاض قيمة األجور‪ ،‬يف ظل‬ ‫تردي معييش متواصل تتعرض له املنطقة”‪.‬‬ ‫وأشار إىل أن أصحاب العمل يطلبون عامالً من‬ ‫األطفال بسبب انخفاض أجورهم عن باقي‬ ‫الفئات العمرية‪ ،‬مؤكداً أن “معظم هؤالء األطفال‬ ‫تحولوا إىل أشخاص مسؤولني عن أرسة‪ ،‬وال‬ ‫ميكنهم أن يقروا بأنهم مازالوا أطفاالً‪ ،‬ألن تغطية‬ ‫احتياجات أرسهم تفوق كل االعتبارات األخرى”‪.‬‬ ‫تضاف إىل كل تلك املهن مهنة التسول‪ ،‬التي أصبحت‬ ‫لغة العرص الحايل يف ظل الظروف املعيشية‪ ،‬وقلة‬ ‫فرص العمل‪ ،‬حيث يواجه األهايل يومياً العديد‬ ‫من األطفال يعملون عىل طلب املال من املارة‬ ‫بسبب حاجتهم املاسة لتأمني طعام أرسهم‪.‬‬ ‫ومع كل ذلك االنتشار لعاملة األطفال والتسول يف ريفي‬ ‫حلب الشاميل والرشقي‪ ،‬ال تكفي جهود املنظامت‬ ‫اإلنسانية والحقوقية ملواجهة الواقع املرتدي الذي وصل‬ ‫إليهاألطفال‪،‬يفظلتعرضهملالستغاللمنقبلأصحاب‬ ‫العمل‪ ،‬مع مستقبل مجهول بات أمراً واقعاً عليهم‪.‬‬


‫احلياة اجلامعية ملدينة الرقة‪..‬‬ ‫عودة نبض احلياة بعد ّ‬ ‫توقف دام سنوات‬

‫‪15‬‬

‫الرقة‪ :‬عبد اهلل الخلف‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫مضيفاً بأن هناك مكتب يف باريس تابع ملنسقية‬ ‫جامعات شامل ورشق سوريا يعمل عىل إنشاء عالقات‬ ‫بني جامعات شامل ورشق سوريا وعدة جامعات‬ ‫أوروبية للحصول عىل الخربات واالعرتاف من هذه‬ ‫الجامعات‪ ،‬الفتاً إىل أن جامعات روج آفا وكوباين‬ ‫وعفرين بصدد إرسال طالبهم للخارج للدراسات العليا‬ ‫يف الجامعات األوروبية املتعاونة‪.‬‬ ‫وتتكلم إسعاف بليلو‪ ،‬السيدة الخمسينية واملنحدرة من‬ ‫مدينة الالذقية والتي تعيش مع زوجها يف الرقة منذ‬ ‫‪ 24‬سنة‪ ،‬وتم قبولها يف جامعة الرشق لتصبح طالب ًة يف‬ ‫كلية العلوم الرتبوية قسم تربية معلم صف بأن ذلك‬ ‫كان حلمها منذ أن انقطعت عن دراستها يف تسعينيات‬ ‫القرن املايض نتيجة الزواج‪ ،‬وتقول‪“ :‬كنت أدرس يف‬ ‫كلية اآلداب قسم األدب اإلنكليزي يف جامعة ترشين‪،‬‬ ‫تزوجت ومل أكمل دراستي‪ ،‬شغلتني تربية ابنتي‪ ،‬واليوم‬ ‫ابنتي كربت ومل يعد هناك ما مينعني من إكامل دراستي‪،‬‬ ‫تقدمت لجامعة الرشق وتم قبويل‪ ،‬وأخذت إجازة من‬ ‫عميل‪ ،‬فأنا معلمة يف إحدى مدارس اإلدارة الذاتية”‪.‬‬ ‫وكانت الرقة قبل الحرب تضم جامعة الفرات الحكومية‬ ‫باإلضافة لجامعة االتحاد الخاصة‪ ،‬وتم إغالقهام بعد‬ ‫طرد قوات النظام عام ‪ ،2013‬وخالل فرتة حكم تنظيم‬ ‫(داعش) بني عامي ‪ 2014‬و‪ 2017‬افتتح التنظيم جامعة‬ ‫خاص ًة به‪ ،‬ضمت كلية طب برشي وأقساماً أخرى‪ ،‬ولكن‬ ‫اإلقبال عليها كان ضعيفاً بسبب خوف معظم األهايل‬ ‫من التنظيم وابتعادهم عنه‪.‬‬

‫تقارير‬

‫مل يكمل عبد الحميد النايف دراسته الجامعية نتيجة‬ ‫ظروف الحرب التي عصفت مبدينته الرقة‪ ،‬ومل يتمكن‬ ‫من الذهاب ملناطق سيطرة النظام الستئناف تعليمه‬ ‫خوفاً من مالحقة األجهزة األمنية‪ ،‬لـتظل الشهادة‬ ‫الجامعية حل ًام يراوده منذ انقطاعه عن الجامعة أواخر‬ ‫سنة ‪ ،2013‬وهذا الشاب البالغ من العمر ثالثني عاماً‬ ‫استطاع أخرياً هذه السنة العودة ملقاعد الدراسة‪ ،‬بعد‬ ‫أن تم افتتاح جامعة الرشق التابعة لإلدارة الذاتية‬ ‫مبدينة الرقة يف ترشين الثاين‪ /‬نوفمرب الفائت‪.‬‬ ‫ويف حديثه مع مجلة (طلعنا عالحرية) وصف عبد‬ ‫الحميد افتتاح الجامعة بـ”الفرصة الذهبية” التي‬ ‫أتيحت له ولكثريين مثل حالته الستكامل طموحه يف‬ ‫إمتام دراسته الجامعية‪ ،‬ويقول‪“ :‬كنت أدرس يف كلية‬ ‫الرتبية بجامعة الفرات قبل مثانية أعوام‪ ،‬ولكن بعد‬ ‫تحرير الرقة من قوات النظام تم تعليق الدوام يف‬ ‫الجامعة‪ ،‬وانرصفت عن التعليم منذ ذلك الحني‪ ،‬واليوم‬ ‫تتاح يل الفرصة من جديد للعودة للجامعة”‪.‬‬ ‫وهو اليوم طالب يف كلية العلوم الرتبوية‪ -‬قسم الرتبية‬ ‫(معلم صف)‪ ،‬ويبدو سعيداً وهو يتبادل األحاديث مع‬ ‫زمالئه يف الكلية‪ ،‬وأعرب عن ذلك بقوله‪“ :‬استعدت‬ ‫مشاعر غابت عني لسنوات طوال‪ ،‬قاعة املحارضات‪،‬‬ ‫مقهى الجامعة‪ ..‬عوديت لهذه األماكن الدافئة التي‬ ‫ُحرمت منها تنسيني لحظات القصف املرعبة وسنوات‬ ‫حكم تنظيم داعش التي عشتها محروماً من الدراسة”‪.‬‬ ‫وتضم جامعة الرشق كليتني ومعهدين‪ ،‬وهي كلية‬ ‫تضم قسم األدب‬ ‫اآلداب والعلوم االجتامعية‪ ،‬والتي ّ‬ ‫العريب فقط‪ ،‬وكلية العلوم الرتبوية‪ ،‬والتي تتألف من‬ ‫خمسة أقسام وهي‪“ :‬تربية معلم صف‪ -‬بيولوجيا‪-‬‬ ‫رياضيات ‪-‬فيزياء ‪-‬كيمياء”‪ ،‬باإلضافة ملعهد تقني قسم‬ ‫حاسوب ومعهد لغة إنكليزية‪.‬‬ ‫وتم تشييد الجامعة عىل أنقاض كلية العلوم التابعة‬ ‫لجامعة الفرات سابقاً رشقي املدينة‪ ،‬ومل تفصح إدارة‬ ‫الجامعة عن التكلفة املادية إلنشائها‪ ،‬وتضم حالياً ‪110‬‬ ‫طالب بحسب د‪ .‬خليل العيل نائب رئيس الجامعة‪.‬‬ ‫ويقول د‪ .‬خليل إن “الجامعة تعتمد عىل النظام‬ ‫الدميقراطي البعيد عن التوجهات السياسية‪ ،‬لتنمية‬

‫القدرات البرشية يف‬ ‫املنطقة باختصاصات‬ ‫مختلفة”‪ ،‬موضحاً بأنها‬ ‫الجامعة الرابعة يف مناطق‬ ‫نفوذ اإلدارة الذاتية بعد‬ ‫جامعات “عفرين مبدينة‬ ‫عفرين بحلب وروج آفا‬ ‫بالقامشيل وكوباين بريف‬ ‫حلب الرشقي”‪.‬‬ ‫وتابع قائ ًال‪“ :‬بدأنا‬ ‫باملرشوع قبل سنة‪ ،‬أوالً‬ ‫أعلنا عن طلب أكادمييني للتدريس يف الجامعة‪ ،‬ولدينا‬ ‫حالياً كادر تدرييس يضم حملة شهادات دكتوراه‬ ‫وماجستري‪ ،‬باإلضافة إلجازات جامعية لذوي خربات‬ ‫سابقة‪ ،‬والبعض منهم كانوا يد ّرسون يف الجامعات‬ ‫التابعة للنظام‪ ،‬ويبلغ عدد الكادر التدرييس ‪،27‬‬ ‫باإلضافة لـ ‪ 32‬إداريني وموظفني يف الجامعة”‪.‬‬ ‫ويلفت د‪ .‬خليل إىل أنهم مل يتقيدوا بعمر محدد أو سنة‬ ‫معينة للشهادة الثانوية بالنسبة للطالب‪ ،‬واستقبلوا‬ ‫جميع األعامر والشهادات‪ ،‬وذلك “نتيجة ظروف الحرب‬ ‫وانقطاع اآلالف عن دراستهم يف السنوات املاضية”‪.‬‬ ‫منوهاً إىل أنه “تم إنشاء سكن للطالب القادمني من‬ ‫مناطق بعيدة يف ريف الرقة وباقي مناطق شامل رشق‬ ‫سوريا‪ ،‬يضم أربع وحدات سكنية‪ ،‬اثنتني منها لإلناث‬ ‫واثنتني للذكور‪ ،‬وتستوعب ‪ 600‬طالب”‪ ،‬وبسبب عدد‬ ‫الطالب القليل حالياً يف الجامعة “تم قبول جميع الطالب‬ ‫الذين تقدموا بطلب السكن يف املدينة الجامعية التي‬ ‫تتوفر فيها جميع الخدمات األساسية‪ ،‬والسكن مجاين‬ ‫بالكامل والدراسة بالجامعة أيضاً مجانية” وفق ما قال‪.‬‬ ‫وحول عدم االعرتاف بالجامعة من أي جهة يقول د‪.‬‬ ‫خليل إنها ليست نقطة ضعف‪ ،‬مبيناً أن “االعرتاف ليس‬ ‫شهادة تعطى لنا من جهة أو دولة ما‪ ،‬االعرتاف نتاج‬ ‫عمل يحتاج لسنوات‪ ،‬ويعتمد عىل عدة جوانب‪ ،‬مثل‬ ‫كفاءة الهيئة التدريسية وجودة املنهاج ومدى فاعلية‬ ‫الجامعة وارتباطها باملجتمع‪ ،‬هذه النقاط إذا حققناها‬ ‫ستعرتف بنا الجامعات الخارجية”‪.‬‬


‫آمال التغيري يف واقع السوريني‬ ‫الصورة الكبرية (‪)3-1‬‬

‫‪16‬‬ ‫عبد اهلل شاهين‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫يجد كل ذي قناعة اليوم حوله من األحداث واألخبار ما‬ ‫يكفي لتزيد قناعته رسوخاً‪ .‬هذا يعني كذلك بأن هنالك‬ ‫من األحداث واألخبار ما هو كفيل بنقض تلك القناعة أو‬ ‫تغيريها‪ .‬أنا حقيقة ال أعلم ما سيكون مآلنا نحن السوريني‬ ‫يف العرشين سنة القادمة‪ .‬وقد كتبت يف طلعنا عالحرية ثالثة‬ ‫مقاالت متشامئة حول الواقع السوري (‪ ،)3( )2( )1‬والذي ال‬ ‫أعتقد أن هنالك الكثريين ممن يختلفون معي حول بؤسه‪.‬‬ ‫إال أن الثابت الوحيد الذي علينا أن ندركه هو أن دوام الحال‬ ‫من املحال‪ .‬هذا ال يعني بالرضورة أن انقالب الحال من يسء‬ ‫إىل جيد هو املسار الحتمي‪ ،‬فهنالك دامئاً ما قد يكون أسوأ‪.‬‬ ‫ومن هذا أنطلق ألرسد بعض البوادر التي قد تخلق فينا أم ًال‬ ‫مبستقبل أفضل‪ .‬كام سأركز يف هذه السلسلة عىل الفرص‬ ‫التي علينا استغاللها لجعل التغيري يسري يف صالحنا‪.‬‬ ‫علينا يف البدء أن نفصل ما بني التغيري املحتمل يف سوريا‬ ‫(مبختلف مناطق السيطرة وأنواعها) وما بني التغري املحتمل‬ ‫واملهجرين‪ .‬فقد تتغري منطقة ما يف‬ ‫يف السوريني النازحني‬ ‫ّ‬ ‫سوريا نحو األفضل دون أن يتحسن واقع السوريني نتيجة‬ ‫هذا التغري‪ .‬كام أن تحسن واقع السوريني املهجرين ال‬ ‫ينعكس بالرضورة عىل حال سوريا ككل أو منطقة ما بشكل‬ ‫وأخص الحديث يف هذه الثالثية عن حال السوريني‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الالجئني والنازحني داخل األرايض املحررة‪.‬‬ ‫علينا كذلك أن منيز ما بني قضية عودة املهجرين والنازحني‬ ‫تحسن األوضاع املعيشية‪ .‬هذا الربط يف أذهاننا‬ ‫وما بني ّ‬ ‫غري بنّاء وال واقعي يف األساس‪ .‬فتقديرات األمم املتحدة‬ ‫توضح أن أقل من ‪ 3%‬من الالجئني هم من يعود إىل دياره‪.‬‬ ‫ولو أمعنا النظر يف سوريا لوجدنا مخيامت الفلسطينيني‬ ‫وقد تجاوز عمر بعضها الستني عاماً‪ .‬حتى يف دول وسط‬ ‫أفريقيا‪ ،‬وبعد انتهاء الحروب األهلية الطاحنة وعودة األمن‬ ‫النسبي‪ ،‬نجد أن الكثريين من سكان املخيامت ال يعودون‬ ‫إىل بلداتهم وقراهم األصلية‪ .‬كام أن الرتكيز عىل رشط العودة‬ ‫هو سبب يف تأخر االستقرار وتأخري كل الجهود التي يجب‬ ‫أن تبذل لتحسني الواقع املعييش لهؤالء املهجرين النازحني‪.‬‬ ‫هذه الجهود عليها أن تبدأ حاالً‪ .‬وعىل الدول التي استقبلت‬ ‫الجئني أن تدرك أن أراضيها ستكون وطن هؤالء الالجئني‬ ‫وأوالدهم‪.‬‬

‫كام يجب أن نذكر بأن مأساة السوريني مل‬ ‫تبدأ يف ‪2011‬؛ فالفقر يف سوريا ليس حديثاً‪،‬‬ ‫بل إن اطالعنا عىل حالة الفقر هو الحديث؛‬ ‫فقبل ذلك كنا نسكن يف كانتونات جغرافية‬ ‫واجتامعية كانت متنعنا من رؤيته حتى‬ ‫عندما يكون أمام أعيننا‪ .‬كانت مدارسنا عىل‬ ‫الدوام تفقد أطفالها إىل سوق العمل‪ ،‬وكان‬ ‫الكثريون منا هم الزبائن الذين يشرتون‬ ‫خدمات هؤالء األطفال البائسني بأمثان‬ ‫بخسة‪ ،‬دون أن يعرتض أحدنا عىل هذا الفعل‬ ‫الشنيع‪.‬‬ ‫وال مشكلة النازحني هي األخرى حديثة‬ ‫العهد بنا؛ فباإلضافة إىل مئات آالف الالجئني‬ ‫الفلسطينيني حول مدننا؛ كان يف سوريا أكرث‬ ‫من نصف مليون نازح من املنطقة الرشقية‬ ‫منذ عام ‪ ،2006‬يسكن معظمهم يف الخيام‬ ‫وبيوت الصفيح‪ .‬ما حصل هو أننا بدأنا نرى‬ ‫أنفسنا بشكل أوضح‪ ،‬ونتعاطف مع أنفسنا‬ ‫بشكل حقيقي‪ .‬هذا ال يعني أن حجم املأساة‬ ‫ثابت مل يتغري‪ ،‬فالحرب الشعواء التي خاضها‬ ‫األسد عىل شعبه هي التي أنتجت حالة‬ ‫النزوح واللجوء والدمار التي أصابت نصف‬ ‫سكان سوريا‪ ،‬وجعلت من ‪ 90%‬من الباقني‬ ‫يف مناطقه تحت خط الفقر‪.‬‬ ‫لكن الحراك الثوري السوري ال شك فتح‬

‫بيننا قنوات تواصل وعمل وتعاطف مل‬ ‫تكن موجودة من قبل‪ ،‬وهذا مكسب مهم‬ ‫يحسب يف رصيد الحراك الشعبي‪.‬‬ ‫مكسب آخر مهم هو تفتيت الدولة الشمولية‬ ‫التي أقامها األسد األب‪ ،‬والتي اختطفت منا‬ ‫الحياة السياسية واالجتامعية واالقتصادية‬ ‫والثقافية‪ .‬تلك الدولة التي حكمت بالنار‬ ‫والحديد مل يعد لديها ما يسد رمق زبانيتها‪،‬‬ ‫ناهيك عن قدرتها عىل س ّد االحتياجات‬ ‫األساسية لسكان مناطقها‪ .‬وكذلك الحال يف‬ ‫املناطق املحررة حيث أن السلطات الحاكمة‪،‬‬ ‫والتي تحاول ما تستطيع لتثبيت سطوتها يف‬ ‫هذه املناطق‪ ،‬ما زالت أضعف من أن تحوز‬ ‫عىل الحياة االقتصادية‪ .‬وبالتايل فهنالك فرص‬ ‫أكرب للعمل الحر والجامعي‪ .‬ما زالت هنالك‬ ‫العديد من العوائق التي تقف يف طريق بناء‬ ‫اقتصادات جديدة وبديلة لالقتصاد الشمويل‬ ‫األسدي‪ ،‬وللمنظومة املافيوية التي خلقها‬ ‫خالل العقود املاضية‪.‬‬ ‫أصبحنا اليوم يف وضع ذي سقف أعىل للعمل‬ ‫اإلنتاجي‪ ،‬وعلينا استغالل هذا الواقع الجديد‬ ‫ما استطعنا‪ ،‬خصوصاً يف املناطق املحررة‪ .‬ال‬ ‫أقول إن املستقبل أمامنا مرشق‪ ،‬لكن أقول‬ ‫إن يف جعبتنا بعض األدوات التي سوف‬ ‫تجعله دون شك أفضل مام نحن عليه اليوم‪.‬‬


‫َ‬ ‫أنت تبتسم ليّ‬ ‫‪17‬‬

‫بشرى البشوات‬

‫العدد‬

‫تكتب البنات عن األب؛ القدوة‪ ،‬الحبيب األول‪.‬‬ ‫وأنا أكتب عن الندّ؛ عن الشبه املهول بيننا‪،‬‬ ‫الجينات‪ ،‬املالمح‪ ،‬الفقد‪ ،‬واالنكسار ذاته‪.‬‬ ‫يف إحدى السنوات‪ ،‬يف مكان ما من دمشق‪،‬‬ ‫كانت مديرة مدرستنا تطالعنا كل صباح بدفرتها‬ ‫األزرق وقلمها الرصاص‪ ،‬ومتيش خلفنا بني الباحة‬ ‫والصفوف وتسجل كل شاردة وواردة‪ ،‬وتردد عبارة‪:‬‬ ‫“هناك مالئكة عىل أكتافنا تسجل أعاملنا ويجب‬ ‫أن نحسنها”‪.‬‬ ‫مل أد ِر حتى اللحظة إن كانت قد تركت مهمة‬ ‫مراقبتنا للمالئكة! ماذا كانت تصنع بقلم الرصاص‬ ‫والدفرت األزرق إذا؟‬ ‫هنالك مالئكة حقاً عىل كتفيك يا أيب؛ مالئكة‬ ‫حقيقية‪ ،‬تسجل يومياتك‪ ،‬وتنقلها إ ّيل بني الفينة‬ ‫واألخرى‪.‬‬ ‫أنا أراك كثرياً‪ ،‬أراك دامئاً تبتسم ّيل!‬

‫‪101‬‬

‫م ّرت آالف األسئلة‪ ،‬ومل يعيدوك ولو يف كفن!‬ ‫كان يجب عليهم أن يفعلوا‪.‬‬ ‫من أنا حتى أقول كان يجب أن يفعلوا؟‬ ‫يف بالدنا ال تقول‪ ،‬بل ُيقال لك‪.‬‬

‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫تدري يا أيب؟‪..‬‬ ‫ً‬ ‫رمبا تعرضت أضالعك ‪-‬املشقوقة أصال‪ -‬إىل السحق‪.‬‬ ‫رمبا فقدت بعد يومك األول حزام ساعتك الجلدي‬ ‫األسود‪ .‬رمبا مل تستطع أن تخربهم أنك بحاجة إىل‬ ‫أدوية الضغط والكوليسرتول‪.‬‬ ‫لقد شقّ األطباء صدرك قبل سنوات‪ ..‬نرشوا أضالعك‬ ‫بعد أن ضاقت أوعيتك وكان ال ب ّد من إجراء جراحة‬ ‫لتوسيعها‪.‬‬ ‫مل يصدقوا جملك الكاملة املضبوطة الدقيقة‬ ‫املنتقاة التي تخرج منك بتداع وسالسة وسالمة‬ ‫ووضوح‪ .‬ولكن كيف مل يصدقوك؟‬ ‫لطاملا كنت رجال مفوهً ا يا أيب‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫متأكدة أنهم شتموك‪ ،‬وأوسعوك رضبا‪ ،‬وقالوا عن‬ ‫زوجتك وبناتك وشقيقاتك وجاراتك (‪!).....‬‬ ‫تعرف ماذا قالوا؟‬ ‫أنا كذلك أعرف‪.‬‬

‫البحر يضحك‪ ،‬وظلك يضحك‪ ،‬ورجال األمن الذين‬ ‫اقتادوك يف تلك الظهرية يضحكون‪ ،‬ونحن أوالدك‬ ‫نضحك‪ ،‬وجديت التي ابيضت عيناها يف انتظارك‬ ‫تضحك‪ .‬كلنا نضحك يا رجل‪ ..‬حتى أنت!‬ ‫سيجارتك التي مل تدخنها يوماً‪ ،‬وأطنان الشتائم التي‬ ‫كالوها لك يف قبو ما تحت أرض دمشق تضحك‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫“إين أريد أن يقول يل أحدهم آسف‪ ،‬نحن نعتذر‪..‬‬ ‫لكن مل يعتذر أحد منهم”!‬ ‫الجملة التي رددها املمثل أرنولد شوارزنيجر يف‬ ‫فيلم (‪ )Aftermath‬املأخوذ عن كارثة أوبرلينغن‪،‬‬ ‫بعد تحطم طائرتني وموت جميع الركاب‪.‬‬ ‫حصل الحادث بخطأ غري مقصود من مهندس‬ ‫املالحة يف تلك الليلة‪.‬‬ ‫املمثل أرنولد شوارزنيجر والذي يلعب دور البطولة‬ ‫هو زوج وأب‪ ،‬وقد فقد يف هذا الحادث زوجته‬ ‫وابنته الحامل‪ ،‬ثم رفض تعويض رشكة الطريان‪،‬‬ ‫ألن الرشكة وطاقمها مل تقدم أي اعتذار‪ ،‬أو تتأسف‬ ‫ملوت الركاب‪.‬‬ ‫يسعى أرنولد خلف املهندس صاحب الخطأ ويقوم‬ ‫بقتله‪ ،‬ألن املهندس أيضاً رفض أن يعتذر عن املوت‪،‬‬ ‫ومل يقل حتى كلمة آسف‪ ،‬واعترب أن حادث تحطم‬ ‫الطائرتني هو مجرد خطأ‪ ..‬خطأ وقد يحدث دامئاً‪.‬‬ ‫نحن يف سوريا أيضاً أبناء وأشقاء وأصدقاء‪ ،‬وأزواج‬ ‫وزوجات ضحايا فقدوا وانفقدوا‪ ،‬ومل يقل لنا أحد‬ ‫ما كلمة‪ :‬آسف!‬ ‫كنت أظنني أستطيع الوقوف عىل مرتفع وأل ّوح‬ ‫أليب‬ ‫كنت أعرف أنني سأكتب هذه القصة يوماً‪.‬‬ ‫سأحب دمشق فيام بعد؟‬ ‫كيف‬ ‫ّ‬ ‫كيف سآمنُها؟‪..‬‬ ‫وكيف سأبتسم ملدينة مل تنقطع فيها الحياة عرب‬ ‫آالف السنني من الحسنات والسيئات؟‬ ‫هذه املدينة الغضة واليابسة يف آن‪ ،‬اقتطعت مني‬ ‫ّأب!‬ ‫يف ربيع ما‪ ،‬يف كذبة ما؛ يف األول من نيسان سنة‬ ‫‪ 2013‬وصل والدي إىل قلب العاصمة دمشق‪ ،‬إىل‬ ‫الربامكة‪ ،‬ثم إىل منطقة الحلبوين‪ ،‬فاختطفته كذبة‬ ‫ما‪ ،‬وسملت عينيه يدٌ ما‪ ،‬ورمبا أيا ٍد كثرية‪..‬‬ ‫مل أعرف يف حيايت كلها بالداً قاسية مثل بالدنا‪ ..‬بالد‬ ‫م ّر بها العرب والعجم‪ ،‬م ّر بها األصحاب والغرباء‪،‬‬

‫وم ًّر بها األمل مزهواً‪.‬‬ ‫مل أعرف يف حيايت مدناً تسلب األبناء آبا َءهم مثلام‬ ‫فعلت تلك املدن‪.‬‬ ‫مل تتآكل أسناين ومل يكن ع ّ‬ ‫يل أن أغضب أكرث‪ .‬كل‬ ‫ّ‬ ‫بالتخشب يف حلقي‪ ،‬وعدد‬ ‫ما يف األمر أنني شعرت‬ ‫كبري من البالونات انفجر يف صدري‪ ،‬حني التقيت‬ ‫صدفة جارة أهيل وسألتني‪ :‬أمل تعرفوا شيئاً عنه؟‬ ‫عنه؟!‬ ‫من تقصد هذه املرأة!؟‬ ‫كانت تقصدك أيها الرجل؛ وأنت تقف عىل أبواب‬ ‫عامك الستني‪ ،‬من دون شعرة بيضاء واحدة يف‬ ‫رأسك‪ .‬بقدك القليل‪ ،‬وأناقتك املفرطة‪ ،‬وعطرك‬ ‫الذي كان يد ّوخ قلبي‪.‬‬ ‫لقد غبت يف الزحام كام تقول األغنية‪..‬‬ ‫غبت ومل تكن لديك نبوءة‪ ..‬وكان يجب أن أبقى‬ ‫عىل الدوام أ ّم أبيها!‬

‫كل من عاش ويعيش وبقي وغادر ومات و ُف َقد يف‬ ‫دمشق يعرف‪.‬‬ ‫ونعرف معنى أن يقتادك رجال األمن‪ ،‬ومعنى‬ ‫عباراتهم املضحكة‪“ :‬بدنا ياك خمس دقايق‪..‬‬ ‫فنجان قهوة‪ ..‬ما بتطول سؤال وجواب وبرتجع”‪.‬‬


‫حني حياول اجلالد قتل احللم‬

‫‪18‬‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬ ‫ثقافة‬

‫ّإن العالقة ّ‬ ‫والس ّجان قدمية‬ ‫السجني ّ‬ ‫الضد ّية بني ّ‬ ‫الصخات املكتومة‪ ،‬ممتدّة امتداد دم‬ ‫قدم أوىل ّ‬ ‫األبرياء املسفوح عىل األرض املقهورة‪.‬‬ ‫وقد حرضت هذه العالقة يف معظم األعامل‬ ‫الواقعي؛ إذ افتقرت إىل حبكة‬ ‫ال ّروائية عرب نسقها‬ ‫ّ‬ ‫روائ ّية متينة‪ ،‬وشبكة جديدة من العالقات‪.‬‬ ‫ويبدو يل ّأن عدداً غري قليل من كاتبي أدب‬ ‫السجون مل يستطيعوا التّخ ّلص من التّعامل‬ ‫ّ‬ ‫السجن‪ ،‬أو من هيمنة ثنائ ّية‪:‬‬ ‫السائد مع فضاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫الس ّجان عىل كتاباتهم‪ ،‬ورغم ما تحمله‬ ‫السجني‪ّ /‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫توثيقي عكس جانبا أو‬ ‫هذه الكتابات من ُبعد‬ ‫ّ‬ ‫والس ّجان؛‬ ‫السجني ّ‬ ‫عدّة جوانب من العالقة بني ّ‬ ‫املرجعي‬ ‫ّإل أ ّنها بقيت ضمن حدود هذا اإلطار‬ ‫ّ‬ ‫ورمز ّيته وعنفه‪ .‬ويف الحقّ ّأن “وحيد الطويلة”‬ ‫يف روايته “حذاء فيلليني” كان قريباً من ثنائ ّية‬ ‫والس ّجان وهارباً منها يف اآلن ذاته؛ أل ّنه‬ ‫السجني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ط ّوع لغته لتجاريَ امتداد الحياة‪ ،‬وتن ّوع إمكاناتها‬ ‫السجن‪.‬‬ ‫بعد خروج بطل ّ‬ ‫قصته “مطاع” من ّ‬ ‫نفيس ُز ّج به يف املعتقل بال سبب‪،‬‬ ‫ومطاع معالج ّ‬ ‫وبال تهمة واضحة‪ ،‬بينام يزاول مهنته ‪-‬بعد‬ ‫خروجه من املعتقل‪ -‬دخل إىل عيادته مريض‬ ‫برفقة زوجته‪ .‬هنا تبدأ الزّوجة برسد حكاية‬ ‫زوجها ّ‬ ‫الضابط الذي التوت رقبته نحو اليسار‬ ‫وأصبح عنّيناً إثر عزله عن مهامه‪ .‬تتط ّرق الزّوجة‬ ‫يف حديثها إىل أرسار عالقتها مع هذا الزّوج‬ ‫الساديّ وكيف كان يخونها‪ ،‬ويتفنّن يف امتهان‬ ‫ّ‬ ‫كرامتها وإنسان ّيتها‪.‬‬ ‫حني يسمع مطاع صوت املريض يكتشف أ ّنه‬ ‫السجن؛ حينها يبدأ‬ ‫الضابط الذي ع ّذبه يف ّ‬ ‫باسرتجاع مايض االعتقال املرير‪ ،‬ولحظات‬ ‫التّعذيب القاسية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هكذا تشاء األقدار أن متنح مطاعا فرصة االنتقام‪.‬‬

‫ّ‬ ‫سيستغل هذه الفرصة املواتية وير ّد‬ ‫والسؤال‪ :‬هل‬ ‫ّ‬ ‫سيترصف وفق ما متليه‬ ‫االعتبار لذاته الجريحة‪ ،‬أم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عليه أخالقيات املهنة ويسامح جلده؟‬ ‫والحقيقة ّأن مطاعاً خرج من املعتقل بأنف‬ ‫مكسور وحواجب منتوفة وتهتهة خفيفة يف‬ ‫ال ّلسان وس ّمي باسم يناسب هيئته الجديدة‬ ‫وهو “مطيع”‪“ ،‬التّعذيب ليس كرس األنف ونتف‬ ‫الحواجب بالكامشة‪ ،‬هو أن تكره نفسك وتس ّلمها‬ ‫له وسخة جاهزة قذرة ط ّيعة يا مطيع” ص ‪.58‬‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل ّأن وحيد الطويلة مل يكتشف‬ ‫السديّ دفعة واحدة؛ بل كان‬ ‫شخص ّيات متخ ّيله ّ‬ ‫يقوم بالكشف عنها بني موقع وآخر داخل الفضاء‬ ‫الذي تتح ّرك فيه ّ‬ ‫الشخص ّيات واألحداث‪ .‬وتع ّد‬ ‫شخص ّية‬ ‫ّ‬ ‫مطاع‪ /‬مطيع من ّ‬ ‫الشخص ّيات النّامية املركبة‬ ‫عاشت التّح ّوالت ال ّدرام ّية داخل البنية الحكائ ّية‪،‬‬ ‫وكان لتبدّل اسم هذه ّ‬ ‫الشخص ّية دور يف إضاءة‬ ‫عواملها الدّاخل ّية‪ ،‬وكشف الكثري من الجوانب‬ ‫والسلوك ّية لصاحبها‪.‬‬ ‫النّفس ّية ّ‬ ‫وشخص ّية ّ‬ ‫الضابط مت ّثل لحظة من لحظات‬ ‫انكشاف البؤرة النّص ّية يف ال ّرواية؛ فقد ع ّرى‬ ‫الكاتب من خاللها نظاماّ شمول ّياً ُيدخل النّاس‬ ‫يف د ّوامته ويش ّوههم ويدخلهم يف منظومة‬ ‫االستبداد‪.‬‬ ‫ذلك ّأن املستب ّد يف النّظام الشمويل هو صاحب‬ ‫السلطة ا ُملطلقة‪ ،‬وهو من يبدّل عقول ّ‬ ‫الجلدين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليصريوا عىل “مقاس مقام جاللته”‪ .‬والجلدون‬ ‫ينصبون أنفسهم أوصياء عىل ّ‬ ‫الشعب؛‬ ‫بدورهم ّ‬ ‫يقمعون ويع ّذبون ّ‬ ‫كل متم ّرد عىل النّظام‬ ‫ّ‬ ‫الشمويل االستبدادي‪ ،‬يساعدهم جهاز استخبارايت‬ ‫مه ّمته التّجسس عىل أفراد ّ‬ ‫الشعب‪ ،‬ومالحقة‬ ‫ّ‬ ‫السلطة واعتقاله‪ ،‬وما حضور‬ ‫كل فرد يعارض ّ‬

‫شخص ّية “مأمون” يف ال ّرواية ّإل دليل عىل حرص‬ ‫املستبدّين عىل تجنيد عدد كبري من “املآمني” كام‬ ‫ّ‬ ‫سمهم الكاتب‪.‬‬ ‫وقد يكون من الدّال بحقّ عىل متاهي ّ‬ ‫الجلدين‬ ‫مبستب ّد ر ّوض أفراد شعبه أل ّنه يخشاهم قول‬ ‫الضابط‪“ :‬مه ّمتنا األساس ّية أن نر ّوض ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشخص‬ ‫ال أن نقنعه‪ ،‬وعليه ال ميكننا أن نرتك األمور‬ ‫لتصاريف القدر‪ ،‬ال ينبغي أن تنتج األ ّمة برشاً عىل‬ ‫غري هوانا” ص ‪.126‬‬ ‫ّمثة شخص ّية فانتاز ّية عجائب ّية يف ال ّرواية خرجت‬ ‫عن قوانني الواقع املألوف هي شخص ّية ّ‬ ‫الشيطان‪،‬‬ ‫الذي دار حوار بينه وبني مطاع بينام كان األخري‬ ‫يف حالة هذيان واختالط بسبب ّ‬ ‫الشاب ا ُملس ِكر‪.‬‬ ‫الشيطان كان قناعاً‬ ‫إذ نتأ ّمل الحوار نجد ّأن ّ‬ ‫رمز ّياً للذات ال ّراغبة باالنتقام من ّ‬ ‫الجلد‪ .‬وحضور‬ ‫ّ‬ ‫السد‪ ،‬وأثار الحرية‬ ‫الشيطان‬ ‫الشبحي كرس رتابة ّ‬ ‫ّ‬ ‫لدى البطل والقارئ معاً‪ّ ،‬‬ ‫والش ّك فيام يحدث هل‬ ‫هو حقيقة أم خيال؟‬ ‫ومقابل شخص ّية ّ‬ ‫الشيطان برزت شخص ّية املخرج‬ ‫السيناريو اإليطايل فيديريكو فيلليني‬ ‫وكاتب ّ‬ ‫الذي تويف عام ‪.1993‬‬ ‫فيلليني هو قناع لـ مطاع‪ /‬مطيع حرض حضوراً‬ ‫رمز ّياً يف ال ّرواية‪ ،‬كان يدفع صاحبه بشكل دائم‬ ‫لتجاوز فكرة االنتقام من ّ‬ ‫جلده‪ ،‬ويح ّرضه عىل‬ ‫نسيان املايض أل ّنه يحجب عنه دروب الحياة‬ ‫الحقيق ّية‪.‬‬ ‫وكام كان فيلليني يحلم مبشاهد أفالمه قبل أن‬ ‫يصنعها‪ ،‬كان يطلب من مطاع ّأل ّ‬ ‫يكف عن الحلم‬ ‫بتغيري النّهاية التي أرادها ّ‬ ‫جلده؛ ليتم ّكن من‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫صنع قصته‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هكذا تقدّم ال ّرواية وعيا جديدا؛ يخرج من حدود‬ ‫الوقوف عند نقطة مظلمة يف املايض وما تحمله‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪101‬‬ ‫‪2021 / 12 / 17‬‬

‫يرصح بزمن منت ال ّرواية؛ بل ملّح إليه‬ ‫وقد يكون من املفيد اإلشارة إىل ّأن الكاتب مل ّ‬ ‫السابقة‬ ‫يف مواضع مختلفة؛ وهو زمن ال ّربيع العر ّيب وما واكبه من ثورات واملرحلة ّ‬ ‫له‪ .‬وهو بذلك يكون قد س ّلط ّ‬ ‫السياس ّية‬ ‫الضوء عىل هذه الفرتة الزّمن ّية وإحاالتها ّ‬ ‫واالجتامع ّية والنّفس ّية‪ ،‬وأعطى ال ّرواية ُبعداً واقع ّياً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫السد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحث القارئ عىل‬ ‫ّمني‬ ‫املتقطع يف ال ّرواية كرس رتابة ّ‬ ‫والشك ّأن النّسق الز ّ‬ ‫البحث عن الخيط ال ّرفيع الذي يربط ما بني األحداث‪ ،‬وإعادة ترتيب الزّمن‪.‬‬ ‫وميكنني أن أتوقف عند أسامء أماكن ذكرها الكاتب د ّلت عىل ّأن أرض األحداث هي‬ ‫سوريا مثل‪( :‬نهر بردى‪ ،‬منطقة املزة‪ ،‬مجزرة حامة‪ ،‬حمص‪ ،‬دمشق‪.)..‬‬ ‫ومن ّ‬ ‫اللفت للنظر ّأن تأ ّثر الكاتب بـ”فيللني” جعله يف ّكر سينامئ ّياً أثناء كتابة ال ّرواية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويوظف هذا التّفكري ال ّدرامي يف ال ّرواية‪ ،‬باإلضافة إىل اعتامده عىل بعض النواظم‬ ‫السينامئ ّية؛ والس ّيام يف تقنية املشاهد املتتالية التي أوهمت بواقع ّية األحداث يف‬ ‫ّ‬ ‫روايته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انصب اشتغاله عىل أدواته‬ ‫يهتم بالحكاية فقط‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫ميكننا إذا القول‪ّ :‬إن كاتبنا مل ّ‬ ‫السينام ّيئ‪ .‬ذلك ّأن الطويلة كان يرسم املشهد أكرث ّ‬ ‫مم‬ ‫وما استقاه من تقن ّيات الفنّ ّ‬ ‫يقوله وهذا خلق حالة من ّ‬ ‫الت ّقب وأعطى فرصة للمتلقي لري ّكب املشاهد بعيداً عن‬ ‫املعطيات الجاهزة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فض ًال عن ّأن الكاتب أدرك ما يجب عىل ّ‬ ‫الشخص ّيات أن تقوله أمام كل موقف‪ ،‬وبرع يف‬ ‫استنطاق عواملها الدّاخل ّية‪ ،‬والس ّيام حني استخدم تقنية االسرتجاع التي ساعدت بدورها‬ ‫عىل إضاءة ّ‬ ‫الشخص ّية من الدّاخل وكشف أعامقها‪.‬‬ ‫وإذا توقفنا عند عبارة فيلليني التي آمن بها مطاع وع ّلقها عىل جدار عيادته‪“ :‬ال يشء‬ ‫أصدق من حلم‪ ،‬األحالم آخر ما ميوت” كانت العبارة تعني يف بداية ال ّرواية الحلم‬ ‫بحب يرفو‬ ‫باالقتصاص من ج ّالده؛ لكنّها أصبحت تعني الحلم باستمرار الحياة‪ ،‬الحلم ّ‬ ‫ثغرات ال ّروح‪.‬‬ ‫قصته‪ ،‬بل جعله ينترص عليها‪،‬‬ ‫وكاتبنا مل يكتف بإبراز املتناقضات الحيات ّية لدى بطل ّ‬ ‫وينترص عىل ّ‬ ‫الجلد حني قتل “مطيعاً” ليحيا “مطاع”‪ .‬بهذه ال ّرؤية استطاع وحيد أن‬ ‫يتجاوز مخزون ال ّذاكرة الجامع ّية للمعتقلني‪ ،‬وأن مينح ال ّرواية ُبعداً جديداً‪.‬‬ ‫ومن املالحظ ّأن الكاتب بدأ روايته بعبارة‪“ :‬هذا ما حدث بالضبط” وك ّررها أكرث من‬ ‫م ّرة‪ ،‬وختمها بعبارة‪“ :‬عىل األرجح هذا ما حدث” وكأ ّنه أراد أن يقول لنا يف املشهد‬ ‫األخري من روايته‪ّ :‬‬ ‫ألن املوقف من الحياة ليس ثابتاً‪ّ ،‬‬ ‫كل يشء يف الحياة يف صريورة؛ ّ‬ ‫ألن‬ ‫الوعي ليس ثابتاً‪.‬‬ ‫باملعنى الذي سبق تكون نهاية ال ّرواية بداية رواية جديدة‪ ،‬دون أن يتحدّث الكاتب‬ ‫مبارشة عن هذه الدراما الجديدة‪.‬‬

‫ثقافة‬

‫من مشاعر ّ‬ ‫الحب كعامل‬ ‫الضغينة وال ّرغبة يف االنتقام‪ ،‬وتطرح ّ‬ ‫بديل ير ّمم جروح املايض‪.‬‬ ‫السجني من‬ ‫ذلك ّأن الطويلة مل‬ ‫ِ‬ ‫يكتف بتصوير ما يالقيه ّ‬ ‫اضطهاد وتعذيب‪ ،‬بل أظهر تصميمه عىل التّغيري ومتابعة‬ ‫الحياة‪ ،‬وهذا ما ملسناه يف املونولوجات الدّاخل ّية ملطاع التي‬ ‫تك ّررت يف ال ّرواية وكشفت نوايا ّ‬ ‫الشخص ّية وحدّدت هو ّيتها‪:‬‬ ‫“هل أصدّق فيلليني؟ هل أميش وراءه وأنا الذي طاردته طيلة‬ ‫حيايت ك ّلها حتى صار ّ‬ ‫كل من يعرفني وال يعرفني يسميني‪:‬‬ ‫فيلليني الشام أو مجنون فيلليني‪ ،‬أمسح املايض مبمحاة م ّرة‬ ‫واحدة أو عىل األقل أضعه حيث يجب أن يكون‪ ،‬أركله بق ّوة‬ ‫بدل أن أسحبه من ذيله فأراه خلفي في ًال يقفز م ّرة واحدة‬ ‫الضوء ّ‬ ‫لألمام فيحجب ّ‬ ‫والطريق” ص ‪.133‬‬

‫‪19‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.