المسار المختلف في الخليج

Page 1

‫‪cartier.com‬‬

‫روتوند دو كارتييه‬

‫مكرر الدقائق‪ ،‬التوربيون المحلقة ‪ 9402‬إم سي‬ ‫موثقة بدمغة جنيف‪ ،‬الكاليبر ‪ 9402‬إم سي دو كارتييه تجمع مابين اثنتين من أكثر تعقيدات الساعات الكبرى اعتباراً و‬ ‫ً‬ ‫هيبة‪ :‬مكرر الدقائق و التوربيون المحلقة‪ .‬بضغطة واحدة على الزر الجانبي يقوم مكرر الدقائق بتفعيل مطرقتين يمكن‬ ‫رؤيتهما من خالل ميناء الساعة فتعطيان الرنات التي تشير بالترتيب إلى الساعات و أرباع الساعات و الدقائق بالتطابق مع ما‬ ‫تؤشر إليه عقارب الساعة‪ .‬يتم تنظيم الرنات بواسطة دوالب موازنة يعمل بالقصور الذاتي و يمكن رؤيته في موقع الساعة‬ ‫السادسة و يكمل ألف دورة في الدقيقة‪ .‬مطور من خالل عدم وجود الجسر الذي يربطه إلى ميناء الساعة‪ ،‬يظهر التوربيون‬ ‫المحلق و كأنه يطفو في قلب الساعة مبدع ًا تأثيراً بصري ًا فريداً‪.‬‬ ‫علبة الساعة من التيتانيوم‪ ،‬تاج مصقول مرصع بحجر السافير بقطع كابوشون‪ ،‬حركة ميكانيكية بتعبئة يدوية شغل الدار‪،‬‬ ‫مكرر الدقائق و توربيون محلق كاليبر ‪ 9402‬إم سي‪ ،‬تصديق دمغة جنيف (‪ 45‬جوهرة‪ 447 ،‬جزءاً‪ ،‬تردد ‪ 21600‬ذبذبة في‬ ‫الساعة‪ ،‬خزان طاقة مزدوج‪ ،‬احتياطي الطاقة قرابة ‪ 50‬ساعة)‪ ،‬مكرر الدقائق مع دوالب موازنة‪ ،‬مطارق و أجراس قرصية‬ ‫مرئية على جانب الميناء‪ ،‬توربيون محلق بدوار على شكل الحرف ‪. C‬‬

‫بوتيك كارتييه في المملكة العربية السعودية‪ ،‬الرياض‪ ،‬ساكس فيفث أفنيو‪ ،‬مركز المملكة‪،)01( 211 2450 :‬‬ ‫مجمع سنتريا‪ ،‬شارع العليا العام‪)01( 462 6959 :‬‬ ‫ّ‬ ‫جدة‪ ،‬شارع التحلية‪)02( 660 0720 :‬‬ ‫ّ‬ ‫مجمع الراشد مول‪)03( 881 4484 :‬‬ ‫‪،13‬‬ ‫الخبر‪ ،‬بوابة‬ ‫ّ‬



‫الكلمة الأخرية‬

‫بقلم‪ :‬م�شاري الذايدي‬

‫املشهد كله‪ ،‬بعد مرور سنتني بل أكثر على بداية ما سمي “الربيع العربي”‪ ،‬أربك كثيرا من األشخاص والتيارات‪،‬‬ ‫وأعاد بناء املشهد السياسي‪ ،‬وأرجع مع هذا البناء طبيعة االصطفافات السياسية‪ ،‬ومعها اإلعالمية‪ ،‬التي كانت‬ ‫سائدة إلى ما قبل الثورة السورية ضد بشار األسد‪ ،‬وخلفه إيران وروسيا وحزب الله وامليليشيات الشيعية‬ ‫العراقية‪.‬‬ ‫ملاذا نقول إلى ما قبل الثورة على بشار األسد؟‬ ‫ألن الثورة‪ ،‬أو ما سمي ثورة على حسني مبارك في مصر‪ ،‬وزين العابدين في تونس‪ ،‬وحتى على “املجنون‬ ‫األخضر” في ليبيا معمر القذافي‪ ،‬كانت موضع ترحيب وتهليل عند أبناء الفرز السياسي واإلعالمي القائم في‬ ‫العالم العربي‪ ،‬وكلنا يذكر أن أبناء التيار القومي العربي ّ‬ ‫عدوا هذه “ الثورات” دليال على عودة الروح للوعي القومي‬ ‫ّ‬ ‫والعزة والكرامة‪ ،‬ومما استدلوا به على هذا‪ ،‬رفع صور عبد الناصر في امليادين املصرية‪ ،‬بينما عد أبناء محور‬ ‫املمانعة واملقاومة‪ ،‬محور إيران بلغة أخرى‪ ،‬أن هذه الثورات هي امتداد لصحوة وثورة الخميني‪ ،‬كما قال صراحة‪،‬‬ ‫وباللغة العربية‪ ،‬مرشد إيران خامنئي‪.‬‬ ‫كل هذه األمور “تلخبطت” بعد ثورة الشعب السوري على رمز من رموز محور املمانعة اإليراني‪ ،‬وفي نفس الوقت‬ ‫هو رمز من رموز الحكم البعثي القومي العربي‪ ،‬هنا حار القوم‪ ،‬وأسقط في يدهم‪ ،‬ووقعوا في حيص بيص‪ ،‬من‬ ‫حسن نصر الله في لبنان‪ ،‬إلى ناصريي مصر مثل هيكل وغيره‪.‬‬ ‫على ذكر سوريا‪ ،‬كان مما ّ‬ ‫عمق األزمة فيها تردد الرئيس األميركي باراك أوباما وذعره تجاه الحسم‪ ،‬وهو الذعر‬ ‫أو السطحية الذي جعل إدارة أوباما تصدق أن اإلخوان املسلمني سيكونون نسخة من اإلسالم التركي في الحكم‪،‬‬ ‫وتقوم بدعمهم على هذا األساس‪ ،‬كما يقول عمرو موسى‪ ،‬ولذلك كانت القوى اإلسالمية فرحة بإعادة انتخاب‬ ‫باراك أوباما‪ ،‬ومن يراجع تعليقاتهم وتغريداتهم على توتير‪ ،‬وأحاديثهم في الفضائيات‪ ،‬أثناء هذه االنتخابات‬ ‫يذكر ذلك‪.‬‬ ‫ليس اإلسالميون وحدهم من يشعر بالرضا عن أوباما‪ ،‬بل حتى انصار محور املمانعة ممن يعارضون الحسم‬ ‫العسكري في سوريا‪ ،‬على الرغم من أن عدد الضحابا الذين حصدتهم آلة النظام تجاوز املائتي ألف‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫املشردين والفقودين والالجئني‪ ،‬على يد قوات بشار‪ ،‬وشبيحته‪ ،‬وميليشيا حزب الله الطائفية‪.‬‬ ‫في ‪ 24‬مايو (أيار) املاضي‪ ،‬كتب الصحافي اللبناني‪ ،‬جهاد الخازن في صحيفة الحياة‪ ،‬عن تاريخ بعض الرؤساء‬ ‫األميركان‪ ،‬مثل كينيدي وجونسون ونيكسون وكارتر وريغان وبوش‪ ،‬وكلينتون‪ ،‬ثم بوش االبن‪ .‬مستعرضا‬ ‫“فضائحهم” السياسية واألخالقية واالقتصادية‪ ،‬ومواقفهم السياسية‪ ،‬وحروبهم الخارجية‪ ،‬ليخلص من ذلك إلى‬ ‫أن هؤالء القادة األميركان‪ ،‬كلهم أصحاب سجل حافل بالفضائح والخزي‪.‬‬ ‫ملاذا استعرض هذا التاريخ املختزل بالسواد؟!‬ ‫ألنه معترض على نقد الجمهوريني وكثير من اإلعالم األميركي ألداء إدارة‬ ‫أوباما‪ ،‬فهو يرى أنه‪“ :‬اآلن هناك في البيت األبيض باراك أوباما من دون‬ ‫فضيحة جنس أو حرب أو سطو على مقر حزب آخر‪ ،‬غير أنني أقرأ اآلن عن‬ ‫«فضائح» أوباما في ميديا املحافظني الجدد من صحف ومواقع إلكترونية‬ ‫وغيرها”‪.‬‬ ‫ثم دافع بحرارة عن كل التهم املوجهة إلدارة أوباما من ملف التجسس على الصحافيني‪ ،‬إلى ملف التغطية على‬ ‫الهجوم على قنصلية بنغازي ومقتل السفير‪ ،‬إلى التحيز السياسي في االستحصال الضريبي ضد خصوم‬ ‫أوباما السياسسني‪.‬‬ ‫ثم يبدي انزعاجه‪ ،‬رغم أنه صبر على هذه الحمالت ويقول‪“ :‬كنت كتبت عن املوضوع في هذه الزاوية في ‪ 14‬من‬ ‫هذا الشهر‪ ،‬وسافرت إلى دبي للمشاركة في مؤتمر اإلعالم العربي‪ ،‬وعدت في ‪ 19‬الجاري‪ ،‬ألجد في مكتبي مادة‬ ‫أميركية عن «فضائح» إدارة أوباما تعادل مع كتبت الصحف األميركية عن مجازر سورية أو تزيد‪ .‬وانتظرت أيامًا‬ ‫فلم تتوقف الحملة وإنما استمرت وزادت”‪.‬‬ ‫هو ضد خصوم أوباما‪ ،‬ومنزعج من هجومهم عليه‪ ،‬ويراهم األجدر باملحاسبة والنقد‪ ،‬بل واملحاكمة ملن اقترف‬ ‫القتل والحروب‪ ،‬ومسؤول عن تزايد االنتحار في الجيش األميركي‪.‬‬ ‫الخازن‪ ،‬أيضا في مقال سابق لهذا املقال في ‪ 21‬مايو‪ ،‬كتب منتقدا الدور القطري في األزمة السورية‪“ :‬أخشى اليوم‬ ‫أن يؤدي التدخل القطري في سورية‪ ،‬إلى خلق أوضاع أسوأ مما شهد السوريون في ظل نظام األسد األب واالبن”‪.‬‬ ‫ثم يقول معلال نقده هذا لقطر‪“ :‬آليت على نفسي منذ سنوات‪ ،‬أن أبتعد عن التعليق سلبًا أو إيجابًا على سياسة‬ ‫قطر العربية أو الدولية‪ ،‬حتى ال أكون جزءًا من املتحاملني أو ّ‬ ‫املطبلني ّ‬ ‫املزمرين”‪.‬‬ ‫ثم يقول‪“ :‬وإذا كانت قطر تسعى إلى لعب دور أكبر من حجمها في املنطقة‪ ،‬فهناك سبل كثيرة لتحقيق ذلك‪ ،‬من‬ ‫دون التسبب في سفك مزيد من الدماء في سورية”‪.‬‬ ‫ثم يختم طبعا‪“ :‬النظام السوري يستحق ما يصيبه‪ ،‬ومثله الجزء اإلرهابي املوالي للقاعدة من املعارضة السورية‪.‬‬ ‫غير أن السوريني أهلنا‪ ،‬وكل َم ْن يشارك في إطالة املأساة يجب أن يتحمل مسؤوليته التاريخية”‪.‬‬ ‫أظن أن سبب هذه النقالت‪ ،‬هو تحول قطر نفسها من موقع إلى موقع جديد‪ ،‬حيث كانت قطر‪ ،‬ومازالت‪ ،‬طرفا مؤثرا‬ ‫في دعم الثورة ضد نظام بشار‪ ،‬والحماسة العارمة للخيار العسكري إلسقاط بشار األسد‪ ،‬وبالتالي الخروج من‬ ‫العالقة التي كانت تربط قطر بما سمي “محور املمانعة “‪ ،‬وتجلى هذا التحول القطري‪ ،‬إعالميا‪ ،‬من خالل خروج‬ ‫نجوم “الجزيرة” منها‪ ،‬ممن هم على الجانب اإليراني ومحوره السوري ومعه حزب الله اللبناني‪ ،‬أمثال غسان بن‬ ‫جدو‪ ،‬ولونا الشبل‪ ..‬وغيرهما‪.‬‬ ‫الدنيا تدور كدوران األفالك‪ ،‬ويتعاقب فيها الحال كتعاقب الليل والنهار‪.‬‬

‫جهاد املقاومة أم جهاد التبرير؟‬

‫‪66‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬


‫‪www.majalla.com‬‬

‫العدد ‪ 1584‬يونيو ‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫مجلة العرب الدولية‬ ‫شهرية سياسية‬

‫‪‬‬

‫تأسست في لندن عام ‪1980‬‬

‫علي العميم‪ :‬اأزاهرة �شيوعيون ‪..‬هل كان حممد البهي �شيوعياً ؟!‬ ‫حت�شني قادر علي‪ :‬املياه‪ ..‬قنبلة موقوتة بني العراق واإيران‬ ‫�شتيفن غلني‪« :‬اإخوان» �شابقون ين�شمون اإىل املعار�شة يف م�شر‬

‫‪‬‬

‫للحصول على العدد‬ ‫اسـتخـدم هاتفــك‬ ‫ال ــذكي لـمــسح‬ ‫هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم‬ ‫‪06‬‬

‫‪ISSN 1319-0873‬‬

‫‪9 771319 087013‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫‪issue 1584 - June 2013‬‬

‫‪www.majalla.com‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1578‬ديسمبر‪ -‬كانون االول ‪2012‬‬


‫كتب‬

‫التوظيف األداتي للدولة يعبر عن فشلها في بلورة مبادئ عملها‬ ‫ومهامها من داخلها‪.‬‬

‫أزمة الدولة التحديثية‬

‫‪,,‬‬

‫أي مسعى‬ ‫لتحقيق‬ ‫الديمقراطية‬ ‫ال يأخذ في‬ ‫اعتباره‬ ‫عالقتها‬ ‫العضوية‬ ‫بطبيعة الدولة‬ ‫ومستوى‬ ‫نموها ودرجة‬ ‫استعدادها‬ ‫مسعى‬ ‫طوباويا غير‬ ‫تاريخي‬

‫‪,,‬‬

‫األزمة العميقة التي تخترق الدولة العربية ال تكمن في ارتفاع‬ ‫وتيرة االستبداد والقمع فحسب‪ ،‬وإنما في القطيعة بني املجتمع‬ ‫والدولة‪ ،‬والنتيجة أن انهيار «مشروع البناء الوطني» قد أدى‬ ‫إلى تفريغ الدولة الحديثة من أي مشروع‪ ،‬وبالتالي إلى إبراز‬ ‫ممارستها من جديد كتعسف مطلق غير قابل للتبرير‪ ..‬األمر‬ ‫الذي جعلها تعيش مأزقا تاريخيا حقيقيا‪ ،‬وانعداما ألي أفق‪،‬‬ ‫وال يتردد غليون في الجزم بأنه يكمن وراء إعادة إنتاج هذه‬ ‫الشروخ «إفالس ثقافة سياسية مضى زمنها»‪.‬‬

‫أزمة النظام املدني‪ ..‬دولنة املجتمع‬ ‫العالقة املضطربة بني الدولة واملجتمع املدني هي التي تفسر‬ ‫األزمة التي يعانيها الفكر السياسي العربي‪ ،‬ويرى املؤلف أن‬ ‫تدمير املجتمع املدني لن يقود إال إلى تدمير السلطات الوسيطة‬ ‫املدنية‪ ،‬وحرمانها من التشكل‪ ،‬وإلغاء مبدأ وجودها‪ ،‬ويضيف‬ ‫أن أصل الفساد في كل املجتمعات ال يكمن إال في وضع‬ ‫مؤسسات املجتمع املدني ومصالحه في خدمة مصالح النخب‬ ‫املتنافسة على السلطة‪.‬‬ ‫ويشير الباحث نقال عن غليون إلى أن «األمر الجديد والخطير‬ ‫في آن‪ ،‬هو أن املجتمع الدولي الذي يغذي تفكك املجتمع املدني‬ ‫العربي ويمنعه من التبلور واالنصهار وتحقيق التوازن الداخلي‪،‬‬ ‫هو في طريقه اليوم إلى أن يطور وسائل جديدة ومستحدثة لم‬ ‫نعرفها من قبل للتدخل العسكري والسياسي والثقافي‪ ،‬حتى‬ ‫يمد قدرته على التحكم في املجتمع املدني العربي والسيطرة‬ ‫عليه من الداخل‪ ،‬من خالل التوظيف اآليديولوجي ملفهوم‬ ‫املجتمع املدني‪.‬‬ ‫ذلك ألن الحديث املتزايد في الغرب األوروبي واألميركي عن‬ ‫الديمقراطية واملجتمع املدني وحقوق اإلنسان لن يؤدي إال إلى‬ ‫تعميق ارتباط املجتمع املدني املحلي بالخارج‪ ،‬ومن ثم التحكم‬ ‫فيه ماديا ومعنويا»‪ .‬ويمكن لنا هنا أن نتذكر أزمة املجتمع‬ ‫املدني في مصر وبعض دول الخليج‪ ،‬إذا بدأ استخدامه كيد‬ ‫ملنظمات خارجية‪ ،‬وهو يفقد املجتمع املدني شرعية تحركه‪،‬‬ ‫ويصيبه في مقتل‪.‬‬

‫من «املجتمع األهلي» إلى «املجتمع املدني»‪:‬‬

‫محمد جابر‬ ‫األنصاري‬

‫‪64‬‬

‫في الخبرة الحضارية العربية اإلسالمية شهد التاريخ العربي‬ ‫اإلسالمي أشكاال مختلفة من الدول‪ ،‬وإن لم تختلف في نوع‬ ‫وظائفها‪ ،‬فقد اختلفت في أشكال إدارتها وأعرافها وقوانينها‪،‬‬ ‫غير أن التاريخ العربي ‪ -‬اإلسالمي عرف نموذجا موحدا‬ ‫ومتناهيا للمجتمع املديني‪ ،‬كان املجتمع املديني تعدديا من‬ ‫الناحية الدينية (مسلمون‪ ،‬مسيحيون‪ ،‬يهود)‪ ،‬إلى جانب‬ ‫الجماعات واألعراق والجنسيات املتنوعة‪ ،‬باإلضافة إلى طرائقه‬ ‫الحرفية وطرقه الصوفية‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬على أن هذا املجتمع كان‬ ‫مشموال برعاية الشريعة التي توحد ثقافته‪ ،‬وكان العلماء هم‬ ‫قادة هذا املجتمع املديني وليس األمراء أو الحكام‪ ،‬ولذلك فقد‬ ‫كان اإلسالم يتحقق في الجماعة وليس في الدولة‪.‬‬ ‫االستعصاء الديمقراطي والبنية التسلطية للدولة العربية‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫االنتقال نحو الديمقراطية ال يتم إال عبر سيرورة تاريخية طويلة‬ ‫ومعقدة‪ ،‬وال يتحقق إال بالنجاح في اعتماد تنشئة اجتماعية‬ ‫وسياسية ديمقراطية‪ ،‬تثمر ثقافة سياسية ديمقراطية على‬ ‫نطاق مجتمعي واسع‪ ..‬غير أن التفسير الذي يهمنا أكثر من‬ ‫غيره في هذا املقام هو الذي يعلل صعوبة االنتقال الديمقراطي‬ ‫نحو الديمقراطية في املجتمعات العربية بإشكالية بناء الدولة‬ ‫الوطنية الحديثة في الوطن العربي‪ .‬هكذا يرى األنصاري‪ ،‬وهذا‬ ‫ما تكشفت سنوات الربيع العربي عنه‪ ،‬أن الديمقراطية تحتاج‬ ‫إلى أرضية حقيقية لتنمو فيها‪ ،‬وإال استحالت إال دوامات‬ ‫عامرة بالخراب‪ ،‬واحتفاالت بالخيبة‪ ،‬وانقطاع الرجاء‪.‬‬

‫دور الدولة في عملية التحول الديمقراطي‬ ‫أي مسعى لتحقيق الديمقراطية ال يأخذ في اعتباره عالقتها‬ ‫العضوية بطبيعة الدولة ومستوى نموها ودرجة استعدادها‬ ‫مسعى طوباويا غير تاريخي‪.‬‬ ‫وليست الدولة هي شريك التحول فحسب‪ ،‬بل حتى املعارضة‪،‬‬ ‫فوجود املعارضة وفاعليتها بوصفها مقوما أساسيا وشرطا‬ ‫الزما لبنيان أي دولة ديمقراطية حقيقية‪ ،‬أس األمر‪ ،‬وهو يرى‬ ‫أن مشكلة الديمقراطية نابعة من أزمة املعارضة أكثر مما‬ ‫هي نابعة من قوة النظم‪ ،‬خاصة أن أغلب املعارضات العربية‬ ‫لم يعرف الحياة السياسية أو التنظيمية إال من خالل ارتباطه‬ ‫بالدولة‪ ،‬ويطرح الدولة الديمقراطية كتجاوز للدولة العلمانية‬ ‫والدولة الدينية‪.‬‬ ‫ووعيا من األنصاري بالبعد الوظيفي للديمقراطية‪ ،‬فقد شدد‪،‬‬ ‫مثل غليون‪ ،‬على أهمية وحيوية العمل على استنباتها مثلما‬ ‫يجري الحرص على استنبات التكنولوجيا وأكثر‪ ،‬معتبرا أنه‬ ‫إذا كان ثمة مشروع جاد الستنبات التكنولوجية‪« ،‬فال بد من‬ ‫التفكير‪ ،‬وبجهد أكبر‪ ،‬في كيفية استنبات الديمقراطية في‬ ‫األرض العربية‪ ،‬بكل ما تقتضيه عملية االستنبات من شروط‬ ‫ومستلزمات»‪.‬‬ ‫اتفاق األنصاري وغليون على الغائية الكلية للديمقراطية ال‬ ‫ينفي وجود تباينات كثيرة بينهما بصددها‪ ،‬فبينما نجد‬ ‫غليون‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬ال يربط الديمقراطية معياريا بأي‬ ‫آيديولوجيا محددة‪ ،‬مسلما بإمكانية صدورها عن أي منظومة‬ ‫مرجعية ال تتناقض جوهريا مع منظومة قيمها في الحرية‪،‬‬ ‫واملساواة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واالختالف‪ ،‬والتعددية‪ ،‬والغيرية‪ ،‬والتسامح‪،‬‬ ‫والنسبية املعرفية‪ ..‬نجد األنصاري يربطها بالليبرالية ونظام‬ ‫السوق‪.‬‬ ‫وبصيغة أكثر وضوحا‪ ،‬فإن غليون يشدد على ضرورة‬ ‫االعتراف بأن نمو التيارات العقدية يعبر عن مشاكل واقعية‬ ‫وحقيقية وليست مفتعلة‪ ،‬تستوجب أخذها بعني االعتبار‪،‬‬ ‫والعمل على إيجاد الحلول املناسبة لها بدل االكتفاء بإدانتها‪.‬‬ ‫الكتاب محاولة جادة من مثقف جاد‪ ،‬أراد وضع النقاش‬ ‫املفاهيمي أمام الساسة‪ ،‬ليعيدوا صياغة التعاقد األول‪،‬‬ ‫وليحسموا الهالميات‪ ،‬لينقلوا الفكر العربي من حالة الالدولة‬ ‫إلى بدايات الدول‪ .‬أهمية الكتاب تنبع من لفته النظر ألهمية‬ ‫اإليمان باملواطنة كشرط واجب للتحول من مقاعد «املتخلفني»‪،‬‬ ‫فالوطن ما لم يكن الحقيقة األسمى‪ ،‬فإنه يظل مرحلة انتقالية‪،‬‬ ‫غريقة بأهلها‪ ،‬ومتى صارت هي اإليمان والتمكني‪ ،‬تحولت إلى‬ ‫جسر لتفاهمات إنسانية أكبر‪ ،‬فهل يعي العرب؟ <‬


‫ورهان تجاوز واقع التأخر التاريخي ترتبط عملية التنظير للدولة أنماط الدولة‪ ..‬اإلصالحية‪ ..‬الوطنية‪ ..‬الليبرالية‬

‫لدى كل من محمد جابر األنصاري وبرهان غليون بإشكالية‬ ‫محورية تتمثل في السعي للوقوف على العوامل املعيقة للتقدم‬ ‫التاريخي للمجتمعات العربية من جهة‪ ،‬والسعي باملقابل‬ ‫لتحديد الشروط واملقومات الالزمة لكسب رهان هذا التقدم‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬من خالل افتراض أن «الدولة القطرية مرحلة‬ ‫إقطاعية مؤجلة» تبعا لذلك يتبلور مفهوم «الدولة العضوية»‬ ‫لألنصاري‪ ،‬وتطوير مفهوم «الدولة التحديثية» لغليون‪.‬‬ ‫وجه من وجوه االختالف الجوهرية بني غليون واألنصاري الذي‬ ‫يعتبر أن املجتمعات العربية «ما زالت في مرحل ما قبل الحداثة‪،‬‬ ‫وما قبل الدولة‪ »...‬فغليون يذهب‪ ،‬على النقيض من أطروحة‬ ‫األنصاري تماما‪ ،‬إلى أنه «بموازين النظام العاملي الراهن يماثل‬ ‫التفتت الراهن للفضاء العربي وتوزيعه على دول متعددة‬ ‫ترفض تنظيم التعاون فيما بينها‪ ..‬التفتت الذي عرفته أوروبا‬ ‫في القرون الوسطى‪ ،‬وتقسيمها بني إقطاعات مستقلة ومنعزلة‬ ‫واحدتها عن األخرى‪.‬‬ ‫وفي الحالتني النتيجة األساسية هي وضع عقبة كبرى أمام‬ ‫تطور القوى اإلنتاجية‪ ،‬املادية والتقنية والفكرية معا»‪ .‬يخلص‬ ‫األنصاري إلى أن التاريخ السياسي العربي منذ التجزؤ املبكر‬ ‫إلمبراطورية الخالفة‪ ..‬وهو يشهد باستمرار «عملية استئناف‬ ‫تشييد للدولة من الصفر»‪ ،‬حيث ظلت الدولة في املنطقة العربية‬ ‫تعاني حالة تكون وانحالل دائمني‪ ،‬إلى أن قامت الدولة القطرية‬ ‫في العصر الحديث‪ ،‬وقدمت بحدودها وإقليمها الجغرافي‬ ‫وقاعدتها السكانية ومؤسساتها املتنامية التجارب والنماذج‬ ‫األولى في التاريخ السياسي العربي لنواة الدولة بمعناها‬ ‫«العضوي املتكامل»‪.‬‬

‫الدولة التحديثية ومستويات تشكلها‬ ‫هذه الدولة تعتبر دولة وظيفية بامتياز‪ ،‬وتبرز «كمثال للقدرة‬ ‫على التدخل التاريخي الفاعل‪ ،‬وكأداة إجرائية وتنفيذية خطيرة‪،‬‬ ‫من جهة‪ ،‬وكذاتية جماعية مقلوبة من جهة ثانية‪ ،‬وتمثل‬ ‫التجسيد البسيط واملطلق ألمل التقدم الحضاري الذي يثيره‬ ‫مفهومها‪ ،‬وتأخذ على عاتقها مهام تحقيقه»‪.‬‬

‫يصنف غليون الدول إلى ثالث‪ ،‬اإلصالحية التي تعتقد أن‬ ‫تحقيق التقدم كشرط لحيازتها على الشرعية يتوقف على مدى‬ ‫قدرتها على استلهام املنابع الدينية الصحيحة واالقتداء بها‬ ‫من جديد‪ ،‬أما الدولة الوطنية فهي تعتقد أن وظيفتها الرئيسية‬ ‫تتمثل في بناء املجتمع الوطني من خالل توسيع القاعدة‬ ‫االجتماعية للنظام‪ ،‬في حني جاءت الدولة الليبرالية (أو دولة‬ ‫االنفتاح) للتعويض عن فشل الدولة الوطنية‪ ،‬من خالل السعي‬ ‫إلى إعادة دمج االقتصادات املحلية العربية باالقتصاد العاملي‪،‬‬ ‫ويقول‪« :‬رغم التباين الظاهر بني كل من الدولة اإلصالحية‬ ‫والدولة القومية ودولة االنفتاح‪ ،‬إال أن هذا التباين ليس إال تباينا‬ ‫ظاهريا يستبطن وحدة بنيوية عميقة»‪ .‬بنية السلطة األساسية‪،‬‬ ‫رغم كل التباينات الشكلية‪ ،‬ال تتغير‪.‬‬ ‫التأزم السياسي العربي‪ ..‬بئر معطلة وقصر مشيد بحث‬ ‫األنصاري وغليون جذور االستبداد العربي‪ ،‬وأصال القطيعة‬ ‫بني املجتمع والدولة‪ ،‬في أصل الطبيعة السلطوية للدولة العربية‬ ‫الراهنة‪ ،‬ويرى األنصاري أن ثمة تأزما سياسيا عاما يعانيه‬ ‫العرب على مختلف املستويات وامليادين‪ ،‬وفي مختلف املواقع‪،‬‬ ‫ويرى أنه «تأزم يطال السلطة كما املعارضة‪ ،‬واملجتمع كما‬ ‫الدولة»‪ ،‬أما غليون فيرفض املنطق التاريخي في تبرير االستبداد‪،‬‬ ‫ويخلص إلى أن املركزية في األشكال التاريخية للسلطة تختلف‬ ‫اختالفا جذريا في وظيفتها وأسبابها ومفهومها عن نماذج‬ ‫الحكم الديكتاتوري الحديثة‪ ،‬ومع أن األنصاري‪ ،‬مثله مثل‬ ‫غليون‪ ،‬ال ينفي الطبيعة السلطوية أو التسلطية الحادة لألنظمة‬ ‫العربية‪ ،‬راديكالية كانت أو تقليدية‪ ،‬إال أنه يختلف عنه في‬ ‫تفسير العوامل الكامنة وراء هذا النـزوع السلطوي‪ ،‬معتبرا‬ ‫أن الدولة في كل مكان وفي كل التجارب‪ ،‬بما في ذلك تجارب‬ ‫الدول الليبرالية‪ ،‬لم تجنح نحو ما عبر عنه بـ «املركزية السلطوية‬ ‫املفرطة» إال استجابة لضرورات تأسيسها وتثبيت كيانها‪.‬‬

‫املوقف من الدولة القطرية‬ ‫األنصاري يعتبر الدولة القطرية دولة أصيلة وليست صنيعة‬ ‫لالستعمار‪ ،‬يعتبرها دولة عريقة تجد أصولها في صيرورة‬ ‫التطور التاريخي للمجتمعات العربية اإلسالمية‪ ،‬بينما يراها‬ ‫غليون امتدادا طبيعيا للدولة الحديثة التي خلقها االستعمار‪،‬‬ ‫وتبعا لذلك فإن الدولة العربية الراهنة «لم تعد تعكس جماعة‬ ‫سياسية تستند إلى أساس فكري أو فلسفي من رابطة دين‬ ‫أو رابطة قومية أو رابطة عرف‪ ،‬ولكن وجود الدولة بفعل األمر‬ ‫الواقع‪ ،‬وعليه فإن املصدر األول لتأزم الدولة العربية األخالقي‬ ‫والسياسي يكمن‪ ،‬إذن‪ ،‬في طبيعتها الالوطنية‪ ،‬وعجزها عن‬ ‫االستجابة الفعالة للحاجات واملطالب االجتماعية»‪.‬‬

‫كما أنها دولة متعينة من خالل نماذج وتجارب تاريخية محددة‬ ‫في الزمان واملكان خالفا لـ «الدولة العضوية» كما يتصورها‬ ‫األنصاري‪ ،‬والحداثة عندهما جاءت تعبيرا عن توسع نمط‬ ‫إنتاج الطبقة البورجوازية‪ ،‬لذلك فإن املقاربات التي يقترحها‬ ‫األنصاري للبلدان التي لم تعرف هذه الطبقة‪ ،‬أو جاء ميالدها‬ ‫فيها متأخرا‪ ،‬تشي بأن قوة خارجية من خارج املجتمع املدني‬ ‫تتدخل إلضفاء عناصر الحداثة‪ ،‬أو على األقل لتعديل وتيرة‬ ‫نموها وتسريعها‪.‬فتنتج عن تفاعالتها أن تغدو الدولة أداة‬ ‫فوقية للتحديث‪.‬‬

‫الدولة العربية وأزمة املشروعية‬

‫غليون يتجه التجاه أكثر تحديدا إلبراز أهم خصائص هذه‬ ‫الدولة التحديثية‪ ،‬كاشفا عن أنها‪ ،‬من جهة أولى‪ ،‬تمثل «دولة‬ ‫املركزية الشديدة والسلطة املطلقة»‪ ،‬وهي أداة الستدراك التأخر‬ ‫التاريخي‪ ،‬لذلك فهي «دولة غير تمثيلية وغير ديمقراطية»‪،‬‬ ‫ويرى أن أصل االستبداد فيها يتمثل في «وجود دولة حديثة‬ ‫مراكمة للسلطة ومجتمع مفتقر إلى التنظيم»‪ ،‬إال أنه يعود‬ ‫لينبه‪ ،‬في مفارقة واضحة‪ ،‬إلى أن استبداديتها ال يعني أنها‬ ‫بالضرورة دولة ال قانونية!‬

‫أزمة الدولة العربية الراهنة تكمن في تمحور هذه السلطة على‬ ‫خدمة مصالح شديدة الخصوصية والضيق‪ ،‬كما أن الطابع‬ ‫القطري للدولة العربية جعل الجمهور ينظر إليها باستمرار‬ ‫على أنها خطوة على طريق تحقيق دولة الوحدة القومية‪ ،‬أي‬ ‫أنها مؤقتة وغير مطابقة للتصور املعياري السائد عن الهوية‬ ‫والشخصية الحضارية‪ ،‬كما أن ضعف والء األفراد الروحي‪،‬‬ ‫وغياب ثقتهم بالدولة القطرية‪ ،‬جعال حصولها على الشرعية‬ ‫مشروطا بإنجازاتها املادية ونجاحها االقتصادي فقط‪ ،‬هذا‬

‫‪,,‬‬

‫األنصاري يعتبر‬ ‫الدولة القطرية‬ ‫دولة أصيلة‬ ‫وليست صنيعة‬ ‫لالستعمار‬ ‫يعتبرها دولة‬ ‫عريقة تجد‬ ‫أصولها في‬ ‫صيرورة التطور‬ ‫التاريخي‬ ‫للمجتمعات‬ ‫العربية‬ ‫اإلسالمية بينما‬ ‫يراها غليون‬ ‫امتدادا طبيعيا‬ ‫للدولة الحديثة‬ ‫التي خلقها‬ ‫االستعمار‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫برهان‬ ‫غليون‬

‫‪63‬‬


‫كتب‬

‫هذا كتاب يقدم على أعتاب عصر التأسيس لدول عربية نفضت «دولة» املاضي‪ ،‬وأعاد طرح‬ ‫املعضلة األولى التي سببت تأخر العرب كل هذه السنوات‪ ،‬وهي تتمثل في فهم «الدولة»‬ ‫وعناصرها واإليمان بها‪ ،‬فيبذل الباحث الدكتور عبد السالم الطويل جهده لدراسة الجهود‬ ‫النظرية ملفكرين انتقاهما بعناية‪ ،‬هما محمد جابر األنصاري وبرهان غليون‪ ،‬وقد استطاعا‬ ‫تقديم رؤية جادة ومحاولة إلعادة الوعي العربي لسياق علمي‪ ،‬ويناقشان مفهوم الدولة‪،‬‬ ‫ويتبنيان النقد املصوب ناحية اختراق جدار الفشل‪ ،‬فكانت هذه األوراق التي تصدر عن «دار‬ ‫مدارك للنشر»‪ ،‬في العام الثاني للربيع العربي‪ ،‬وكأنها تحاول اإلشارة إلى أن الخلل لم يكن‬ ‫في الدولة التسلطية وحدها‪ ،‬بل يمتد إلى بدايات التأسيس‪ ،‬حيث علقت دول كثيرة في حالة‬ ‫«الالدولة»‪ ،‬فأين املفر‪ ،‬غير النقاش وهذا الحوار؟!‬

‫إشكالية الدولة في الفكر العربي املعاصر‪ :‬محمد جابر األنصاري وبرهان غليون نموذجا‬

‫الدولة املتأخرة‪ ..‬حصاد بدايات مشوهة!‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫عمر البشير الترابي‬ ‫تأليف‪:‬‬ ‫د‪ .‬عبد السالم طويل‬ ‫دار النشر‪:‬‬ ‫مدارك للنشر‬ ‫أكتوبر (تشرين األول) ‪2012‬‬

‫في مقدمة الكتاب يقول الدكتور محمد مالكي‪ ،‬مدير مختبر‬ ‫الدراسات الدستورية والسياسية بمراكش‪ ،‬الذي قدم للكتاب‪،‬‬ ‫واعتبره محاولة جادة لالنخراط في االهتمام العربي املتأخر‬ ‫بقضية الدولة‪ ،‬وأشاد باختيار «محمد جابر األنصاري»‬ ‫و«برهان غليون»‪ ،‬فهما حاوال فهم سبب استعصاء الحداثة‪،‬‬ ‫كل خط الجواب من حرف مختلف‪ ،‬وبمنهجه‪ ،‬ودراستهما‬ ‫منحت الكاتب مسربا متاحا لوضع توليفة مميزة تهدي كثيرا‬ ‫من الجديد للقراء واملهتمني‪.‬‬

‫إشكالية الدولة‪ ..‬البناء املنهجي والنظري‬ ‫وتضمن النقد املنهجي الذي قدمه غليون واألنصاري للنظريات‬ ‫السائدة حول الدولة‪ ،‬مرورا بمعالجتيهما للتشكل التاريخي‬ ‫للدولة العربية‪ ،‬باستحضار املحدد الجغرافي وأثره على بنية‬ ‫الدولة‪ ،‬مطوفا بني األنثروبولوجيا السياسية وعلم السياسة‪،‬‬ ‫وقدم نقدا ملنهجيات التحليل السياسي السائدة‪ ،‬واشتمل على‬ ‫تماس لحدود املقتربني التاريخي والجغرافي في تفسير الدولة‬ ‫العربية الراهنة‪.‬‬ ‫ففي املمارسة النقدية للدولة‪ ،‬فإن غليون اعتبر املمارسة‬ ‫للنظريتني الليبرالية واملاركسية في الفضاء العربي تمثل‬ ‫«انعكاسا لشرخ واحد في الوعي والتفكير السياسيني»‪،‬‬ ‫فالنظرية املاركسية تتجاهل االستقالل الذاتي (النسبي) للدولة‪،‬‬ ‫بينما تتجاهل النظرية الليبرالية العوامل والقوى االجتماعية‬ ‫الحية الكامنة وراء كل سلطة واملحرك لها‪.‬‬ ‫واألنصاري ال يختلف كثيرا عن غليون في نقده ملا ينعته‬ ‫بـ «املناهج األجنبية»‪ ،‬ولكنه يقدم نقده منصبا في التأصيل‬ ‫لـ «علم الخصوصية العربية في تكوينها التاريخي‪ ،‬املجتمعي‬ ‫والسياسي»‪ ،‬ويعبر عن توجه فكري في الفكر السياسي‬

‫‪62‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫العربي املعاصر ينطلق من دعوة «لفهم عمق تأثير العصر‬ ‫الوسيط في تطور تاريخنا الحديث وقضايانا املعاصرة»‪.‬‬

‫التشكل التاريخي للدولة العربية‬ ‫يرى األنصاري أن الدولة القطرية هي «امتداد للسلطنات»‪،‬‬ ‫واملفارقة تأتي في أنه يرى أن «التناقض التاريخي بني السلطة‬ ‫واملجتمع في فترات متطاولة من التاريخ العربي اإلسالمي»‪،‬‬ ‫ويبني حله على استجالء هذا التاريخ‪ ،‬فهو يربط بني املاضي‬ ‫والحاضر‪ ،‬ويذهب إلى أن الثقافة السياسية العربية الحديثة‬ ‫تستمد جذورها من تراث سياسي ‪ -‬فكري وتاريخي يعتبره‬ ‫من أكثر مناحي التراث العربي اإلسالمي إشكاال وتأزما‪،‬‬ ‫وأكثرها التباسا وضعفا واضطرابا‪ ،‬وأقلها ثراء وانسجاما‬ ‫مع منظومة اإلسالم القيمية‪ ،‬أي ينتمي لثقافات رعوية قبل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وغاشية عليه‪.‬‬ ‫أما برهان غليون فإنه يرى ذلك «يكاد يتحول إلى ما يشبه‬ ‫البحث عن مبدأ خطيئة أولى»‪ ،‬ويتبنى بديال له «البحث عن‬ ‫الديناميات التاريخية الفاعلة واملستمرة واملتجددة معا»‪ .‬نظرية‬ ‫الدولة العربية بني األنثروبولوجيا السياسية وعلم السياسة‬ ‫مع إقرار غليون ووعيه بأهمية البعد التاريخي في فهم مختلف‬ ‫الظواهر االجتماعية والسياسية‪ ،‬إال أنه يعتبر هذا البعد غير‬ ‫كاف لفهمها‪ ،‬كما أنه ال يمثل البعد الرئيس أو الحاسم في‬ ‫تشكلها‪ ،‬معتبرا أن «فهم الحاضر ينبغي أن يبدأ من تحليل‬ ‫شروط الحاضر‪ »..‬نفسه ما دام «الحاضر يتضمن املاضي»‬ ‫ويستبطنه‪ ،‬والدراسة التاريخية‪ ،‬تبعا لذلك‪ ،‬ال تتجاوز أهميتها‬ ‫اإلسهام في إضاءة هذا الحاضر‪.‬‬ ‫حاول املؤلف التوليف بني األنصاري وغليون‪ ،‬وغلب رؤية األول‬ ‫بأن ذكر أن «الحداثة تتخذ صورة انبعاث للتراث»‪ .‬الدولة العربية‬


‫تتجاوز جمال بسهولة شديدة مثل هذه العوامل وتنسب إلى الواليات‬ ‫املتحدة الكثير من النتائج‪ .‬ربما لم يؤثر دعم الواليات املتحدة سلبا‪ ،‬ولكن‬ ‫بذلت هذه األنظمة جهدا كبيرا من تلقاء نفسها لتحافظ على بقائها‪.‬‬ ‫تسيء جمال أيضا تفسير طبيعة واشنطن التقليدية التي تقضي بعدم‬ ‫دعم حركات املعارضة املؤيدة للديمقراطية في العالم العربي‪.‬‬ ‫صحيح أن الواليات املتحدة لم تكن أبدا متحمسة لتغيير ديمقراطي‬ ‫مفاجئ في املنطقة‪ ،‬وأنها حققت استفادة هائلة من تحالفاتها مع‬ ‫الحكام املستبدين املتحالفني الراغبني في حماية مصالحها‪ .‬ولكن غاب‬ ‫عن الكاتبة حقيقة أنه على مدى العقدين املاضيني‪ ،‬أشار معظم واضعي‬ ‫السياسات واملحللني األميركيني إلى أن هذه األنظمة االستبدادية على‬ ‫املدى البعيد سيكون مصيرها الفشل‪ ،‬وأن تعزيز الديمقراطية في العالم‬ ‫العربي سوف يكون في صالح الواليات املتحدة في النهاية‪ .‬لهذا السبب‪،‬‬ ‫ومنذ إدارة الرئيس بل كلينتون‪ ،‬دعمت الواليات املتحدة عموما إجراء‬ ‫إصالحات ديمقراطية تدريجية‪.‬‬ ‫يمكن مالحظة مثل هذا الدعم لإلصالح التدريجي في املبادرات التي‬ ‫تمول من الواليات املتحدة منذ فترة طويلة لتطوير املجتمع املدني في‬ ‫الدول العربية والتشجيع على اإلصالح السياسي‪ ،‬مثل مبادرة الشراكة‬ ‫األميركية الشرق أوسطية‪ .‬وكان املهم أن الهدف من هذا النهج ليس تغيير‬ ‫األنظمة ولكن تحقيق االستقرار لها من خالل تعزيز شرعية حكمها‪.‬‬ ‫دفعت الواليات املتحدة الرئيس املصري حسني مبارك نحو اإلصالح ألن‬ ‫واشنطن كانت تخشى من أنه دون تحرير النظم السياسية في الدول‪،‬‬ ‫سوف تصبح األنظمة الحاكمة هشة وعرضة لالنهيار‪ ،‬وأن كل من يأتي‬ ‫بعدها سوف يكون أكثر عداء للمصالح األميركية‪ .‬أغفلت جمال هذا‬ ‫الفارق الدقيق وأضافت بدال منه حكما أخالقيا إلى فرضيتها‪ .‬تشكو‬ ‫الكاتبة من أن السياسة األميركية‪ ،‬وضعت «مصالح الواليات املتحدة فوق‬ ‫املصالح اليومية للمواطنني العرب»‪ .‬حسنا‪ ،‬نعم‪ .‬أثناء إدانة جمال لدعم‬ ‫الواليات املتحدة لالستبداد‪ ،‬يبدو أنها نسيت أن القضية الرئيسة التي‬ ‫توليها الواليات املتحدة اهتمامها هي مصالحها القومية‪.‬‬ ‫بالنظر إلى إصرار الكاتبة على أن السياسات األميركية هي املسؤول‬ ‫األول عن استمرار مشاعر الكراهية تجاه الواليات املتحدة‪ ،‬تركز إلى‬ ‫حد يثير الدهشة على دور األحزاب اإلسالمية في تحديد صورة أميركا‬ ‫السياسية‪ .‬وتدفع جمال بأن أهمية معاداة أميركا في أي بلد عربي معني‬ ‫يعتمد إلى حد كبير على طبيعة الحزب اإلسالمي املحلي‪ .‬لذلك‪ ،‬على‬ ‫حد قولها‪ ،‬تعتبر معاداة أميركا عامال رئيسيا في السياسة األردنية‬ ‫ألن جبهة العمل اإلسالمي في األردن تعادي الواليات املتحدة (نظرا ألن‬ ‫قواعدها ال تستفيد من التحالف بني الواليات املتحدة واألردن ونظرا‬ ‫لألهمية املحلية للصراع اإلسرائيلي الفلسطيني)‪ .‬وعلى النقيض من‬ ‫ذلك‪ ،‬منذ أن أصبح اإلسالميون في الكويت أصدقاء لواشنطن (ألنهم‬ ‫يستفيدون بأكبر قدر من التحالف األميركي الكويتي)‪ ،‬أصبح الكويتيون‬ ‫بشكل عام كذلك‪.‬‬ ‫لكن تؤكد جمال ببساطة أن اإلسالميني هم العامل الرئيس دون أن تثبت‬ ‫ذلك‪ .‬وربما ينسب ذلك إلى هذه الحركات نفوذا أكبر مما تستحق‪ .‬في‬ ‫الواقع‪ ،‬في بلدان مثل مصر واألردن‪ ،‬كما هو الحال في العالم العربي‪،‬‬ ‫تحمل األحزاب واألشخاص من مختلف األطياف اآليديولوجية وجهات‬ ‫نظر سلبية تجاه الواليات املتحدة‪ .‬هذا يتناسب مع وجهة نظر جمال‬ ‫األساسية بأن معاداة أميركا في األساس ترجع إلى الصراع السياسي‬ ‫الداخلي‪ ،‬ولكنه يتعارض مع فرضيتها بأن مواقف األحزاب اإلسالمية‬ ‫هي األكثر أهمية‪.‬‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬يناقض الربيع العربي حجج جمال التي تدعم فرضية‬ ‫الدور الحيوي الذي تؤديه األحزاب اإلسالمية‪ .‬أوال‪ ،‬هناك حركات‬

‫معارضة أخرى مهمة وفعالة بشكل واضح‪ .‬ثانيا‪ ،‬أصبح اإلسالميون‬ ‫في الوقت الحالي‪ ،‬مع كراهيتهم الثقافية والسياسية للواليات املتحدة‪،‬‬ ‫يحتلون األنظمة القائمة التي تستفيد من الدعم األميركي‪ .‬ولم يعودوا‬ ‫يقفون في طليعة التيار املعادي ألميركا‬ ‫وفي مفارقة وقع هذا الدور من نصيب حركات املعارضة اليسارية‬ ‫والليبرالية التي قد تتشابه قيمها املجردة مع القيم األميركية ولكنها ما‬ ‫زالت مهمشة في ظل الوضع الراهن الذي تدعمه الواليات املتحدة‪ ،‬كما‬ ‫كانت تحت وطأة األنظمة االستبدادية القديمة‪ .‬إذا أدى هذا إلى تحول دائم‬ ‫إلى وجهات نظر مؤيدة للواليات املتحدة بني اإلسالميني رغم اختالفاتهم‬ ‫اآليديولوجية والسياسية العميقة مع الواليات املتحدة‪ ،‬فسوف يقدم‬ ‫أدلة قوية تدعم أطروحة جمال‪ .‬ولكن‪ ،‬بعبارة لطيفة‪ ،‬ما زال األمر قيد‬ ‫املالحظة‪.‬‬ ‫تركز دراسة جمال على األردن والكويت وتقدم صورة مذهلة للمواقف‬ ‫السائدة في هذين املجتمعني‪ .‬ولكن تمثل هاتان الدولتان قاعدة ضئيلة‬ ‫وغير ممثلة يمكن أن نقيم عليها نظرية شاملة ملشاعر العداء التي‬ ‫يكنها العرب تجاه أميركا‪ .‬إنهما حليفتان صغيرتان تعتمدان كثيرا‬ ‫على الواليات املتحدة‪ ،‬وعلى أي حال قد ال تنطبق تجربتاهما على قوى‬ ‫إقليمية أقوى‪ ،‬أو أقل اعتمادا على أميركا‪ .‬كان من املفيد أن تضيف‬ ‫الباحثة مصر‪ ،‬أهم ميدان في‬ ‫معركة التحول الديمقراطي‪.‬‬ ‫وكان العراق‪ ،‬الذي خضع‬ ‫للتحرير العسكري األميركي‬ ‫املؤلم‪ ،‬سيقدم دراسة مقارنة‬ ‫مالئمة‪ .‬وكذلك الحال مع نموذج‬ ‫تركيا‪ ،‬حيث تأقلمت واشنطن‬ ‫طوال العقد املاضي على التعامل‬ ‫مع حكومة منتخبة يقودها‬ ‫إسالميون معتدلون‪.‬‬ ‫ربما كان من املفيد أن تخصص‬ ‫جمال مزيدا من االهتمام لكيفية‬ ‫التعبير عن أفكار ومشاعر العداء‬ ‫تجاه أميركا‪.‬‬

‫ال ي�ستطيع امل�ستبدون‬ ‫واملنتفعون من �أنظمتهم‬ ‫اال�ستمرار يف دورهم �إىل الأبد‬ ‫ولن ي�ستمروا يف احل�صول‬ ‫على دعم غري م�شروط من‬ ‫الواليات املتحدة‬

‫على مدار العقد املاضي‪ ،‬ألقت دراسات ال حصر لها باللوم على شبكات‬ ‫التلفزيون الفضائية مثل «الجزيرة» بسبب إثارة مشاعر الكراهية‬ ‫تجاه أميركا‪ .‬وعلى مدار العامني املاضيني‪ ،‬تحول التركيز إلى دور‬ ‫اإلنترنت وشبكات التواصل االجتماعي في حشد املعارضة وتغيير‬ ‫أشكال الخطاب السياسي‪ .‬ولكن لم تلق جمال ما يكفي من الضوء‬ ‫على هذا التيار الجديد املتدفق من األفكار واملعلومات‪ ،‬ولم تبحث فيما‬ ‫إذا كان يعارض أو يؤيد التحيزات املعرفية‪ .‬ولكن يتناول كتاب «عن‬ ‫اإلمبراطوريات واملواطنني» أمرا مهما يتعلق بعصر كراهية الواليات‬ ‫املتحدة املنصرم والراسخ في أنماط بدا أنها ال تتغير من اإلمبريالية‬ ‫األميركية والحكام املستبدين املذعنني الذين يشجعونها‪ .‬ليس من املهم‬ ‫كيف ستنتهي املراحل االنتقالية املتعثرة في مصر وغيرها من املناطق‪،‬‬ ‫ولكنها لن تعود إلى هذه األنماط القديمة‪.‬‬ ‫ال يستطيع املستبدون واملنتفعون من أنظمتهم االستمرار في دورهم إلى‬ ‫األبد ولن يستمروا في الحصول على دعم غير مشروط من الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫سوف يكون االختبار النهائي لفرضية جمال هو ما إذا كانت آراء العرب‬ ‫تجاه الواليات املتحدة سوف تتأقلم مع هذه الحقائق الجديدة وكيف سيكون‬ ‫ذلك؟ كما سيكون ذلك اختبارا لقدرة الواليات املتحدة على التعامل مع‬ ‫األوضاع السياسية الجديدة املضطربة في الشرق األوسط‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪61 - 2013 /‬‬


‫صحافة عالمية‬

‫نتيجة لإلصالحات االقتصادية الليبرالية الجديدة بتشجيع من الواليات‬ ‫املتحدة‪ ،‬في حني ال يحصل عمال الزراعة والصناعة األقل مهارة على‬ ‫مكاسب مماثلة‪ .‬لذلك على الرغم من أن رعاية واشنطن تعتبر نعمة‬ ‫بالنسبة للعديد من األنظمة العربية‪ ،‬فإنها ال تفيد جميع سكانها بقدر‬ ‫متساو‪.‬‬ ‫ساعدت هذه املالحظة البسيطة جمال على الوصول إلي حجتها األكثر‬ ‫تعقيدا وهي أن الديمقراطية تشوش على أنماط الرعاية والفائدة املرتبطة‬ ‫بالتحالفات األميركية العربية‪ .‬ويفضل مواطنو الدول العربية الذين‬ ‫استفادوا (أو الذين يأملون ويتوقعون أن يستفيدوا) من زيادة التكامل‬ ‫االقتصادي العاملي الوضع الراهن املؤيد للواليات املتحدة ويخافون من‬ ‫أن تفسد الديمقراطية عالقات بلدانهم مع واشنطن ‪ -‬فإن لم تنه هذه‬ ‫العالقات‪ ،‬يمكنها على األقل أن تغيرها بما قد يسمح آلخرين بالحصول‬ ‫على قطعة أكبر من الكعكة‪.‬‬ ‫هذا يساعد على تفسير وجهات نظر تتبناها مجموعات مؤيدة للواليات‬ ‫املتحدة ربما من املفترض أن تكون معادية لها‪.‬‬ ‫على سبيل املثال‪ ،‬ذكرت جمال في تقريرها أن األردنيني من أصل‬ ‫فلسطيني الذين حققوا نجاحا اقتصاديا يدافعون عن الواليات املتحدة‬ ‫أكثر من غيرهم األقل ثراء‪ ،‬مما‬ ‫يوحي بأن الحصول على منافع‬ ‫اقتصادية من النظام القائم يتفوق‬ ‫حتى على االستياء القوي الناتج‬ ‫عن عقود من الحرمان‪.‬‬

‫بعد م�ضي عقود من انتقاد الواليات‬ ‫املتحدة لف�شلها يف االلتزام مببادئها‬ ‫الدميقراطية من خالل دعم احلكام‬ ‫امل�ستبدين يبدو �أن الليرباليني يف‬ ‫م�صر يعجزون الآن عن القبول ب�أن‬ ‫وا�شنطن قد غريت م�سارها‬

‫إذا كانت جمال على صواب‪،‬‬ ‫واملصلحة الفردية الذاتية تلعب‬ ‫دورا مهما في تشكيل املواقف‬ ‫العربية تجاه أميركا‪ ،‬فيجب‬ ‫أن يكون لذلك تأثير على آفاق‬ ‫الديمقراطية في املنطقة‪.‬‬

‫إذا كانت الطبقات االجتماعية‬ ‫التي تستفيد من االمتيازات التي‬ ‫تعطيها أميركا لحكومات الدول‬ ‫العربية الصديقة تخشي من نضوب هذه االمتيازات في أعقاب التحول‬ ‫الديمقراطي‪ ،‬فسوف تعارض هذه الطبقات الديمقراطية‪ .‬لكن إذا اعتقدت‬ ‫هذه الطبقات أن الديمقراطية لن تهدد التحالفات مع الواليات املتحدة‪ ،‬فلن‬ ‫تقف بالضرورة في طريق التغيير‪.‬‬

‫قدمت الثورات العربية التي قامت عام ‪ 2011‬اختبارا لهذه الفكرة‪ .‬ربما‬ ‫ينطبق وصف جمال لسياسة الواليات املتحدة بـ«الديمقراطية املؤيدة‬ ‫للواليات املتحدة أو الديمقراطية على اإلطالق» على معظم العقود القليلة‬ ‫املاضية‪ .‬لكن تجعل استجابة الواليات املتحدة للثورات فرضيتها محال‬ ‫للشك‪ .‬حتى اآلن‪ ،‬تحملت إدارة أوباما وأيدت (إن لم يكن احتضنت)‬ ‫األحزاب اإلسالمية الجديدة املنتخبة في مصر وتونس‪ .‬وال يثير الدهشة‬ ‫أن يشعر مؤيدو النظام السابق ‪ -‬أو الفلول كما يطلق عليهم في مصر‬ ‫– الذين اعتادوا على احتكار العالقات مع الغرب‪ ،‬بالخيانة‪ .‬لكن موقف‬ ‫أوباما أغضب أيضا الليبراليني املؤيدين للديمقراطية واملناهضني‬ ‫لإلسالميني‪ ،‬الذين اعتبروا أن دعم الواليات املتحدة للعملية الديمقراطية‬ ‫يتساوى مع دعمها لجماعة اإلخوان املسلمني‪.‬‬ ‫توقع كثير من الليبراليني أن أميركا ستقف ببساطة إلى جانبهم‪ ،‬حتى‬ ‫بعد النتائج الهزيلة التي خرجوا بها في االنتخابات‪ .‬وأدى هذا إلى نوع‬

‫جديد من كراهية أميركا‪ :‬وأصبح في مصر في الوقت الحالي الليبراليون‬ ‫يتهمون الواليات املتحدة بالتآمر مع اإلخوان املسلمني من أجل تقديم نوع‬ ‫جديد من الحكم االستبدادي‪ ،‬كل هذا تحت اسم تحقيق االستقرار‪ .‬يبدو‬ ‫ذلك تأكيدا للفكرة التي طرحها علماء سياسة أبرزهم بيتر كاتزينتشن‬ ‫وروبرت كيوهان‪ ،‬والتي تشير إلى أن مشاعر العداء تجاه الواليات‬ ‫املتحدة غالبا ما تنتج عن «التحيز املعرفي»‪ ،‬أي أن الناس يرون باستمرار‬ ‫ما يريدون رؤيته‪ ،‬بغض النظر عن املعلومات الجديدة التي تتعارض مع‬ ‫اعتقادهم‪.‬‬ ‫بعد مضي عقود من انتقاد الواليات املتحدة لفشلها في االلتزام بمبادئها‬ ‫الديمقراطية من خالل دعم الحكام املستبدين‪ ،‬يبدو أن الليبراليني في‬ ‫مصر يعجزون اآلن عن القبول بأن واشنطن قد غيرت مسارها‪ .‬ويرون‬ ‫أن قبول أوباما باالنتصارات االنتخابية لإلخوان املسلمني ليس دليال‬ ‫جديدا يؤيد سياسة الواليات املتحدة الديمقراطية‪ :‬بل هو ببساطة دليل‬ ‫جديد يحمل نفس االزدواجية والنفاق القديم اللذين يتوقعهما الليبراليون‬ ‫املصريون من األميركيني‪.‬‬ ‫منذ بداية الثورات العربية‪ ،‬قدمت الواليات املتحدة ما يثير هجوم هؤالء‬ ‫الليبراليني‪ ،‬في الغالب بسبب تناقضاتها‪ .‬لم تكن إدارة أوباما قادرة على‬ ‫تقديم شرح كاف‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬ملاذا تدعم املطالب الشعبية من أجل‬ ‫الديمقراطية في مصر‪ ،‬وليس في األراضي الفلسطينية‪.‬‬ ‫ومن املهم معرفة أسباب هذا التناقض‪ ،‬ألن فهمه سوف يجعل من السهل‬ ‫التنبؤ بكيفية استجابة الواليات املتحدة للتحوالت السياسية املستقبلية‬ ‫في العالم العربي‪ .‬من وجهة نظر جمال‪ ،‬كشفت الثورات العربية قدرا‬ ‫ضئيال للغاية من موقف واشنطن تجاه الشرق األوسط‪ .‬في اعتقادها‪،‬‬ ‫ال تزال مصالح الواليات املتحدة الراسخة العقبة الرئيسية أمام التحول‬ ‫الديمقراطي‪ ،‬ويحق لليبراليني العرب املعادين لها أال يصدقوا إخالص‬ ‫موقف واشنطن الجديد بدعم التغيير الديمقراطي‪.‬‬ ‫تقول الباحثة إن الواليات املتحدة عملت بشكل ممنهج لخنق أي دفع‬ ‫نحو الديمقراطية الحقيقية‪ ،‬ولم يكن العامان املاضيان مختلفني‪.‬لذلك‬ ‫ال ينبغي أن يكون الهجوم العنيف على دورها في املنطقة مفاجئا‪ ،‬وقد‬ ‫شوه بدوره سياسات املعارضة من خالل اختزالها كل شيء في معاداة‬ ‫الواليات املتحدة‪ .‬ولكن تبالغ املؤلفة في وصف هذا االدعاء‪ ،‬ولهذا السبب‬ ‫ال يمكن اعتبار كتابها دليال دقيقا على العالقة املعقدة بني كراهية‬ ‫الواليات املتحدة والتحول الديمقراطي في العالم العربي املتغير‪ .‬لم تنجح‬ ‫جمال في تناول تعقيدات التفكير األميركي في الديمقراطية العربية‪ ،‬وما‬ ‫فعلته واشنطن تحديدا ردا على االنتفاضات العربية‪ ،‬ومحدودية قدرتها‬ ‫على صياغة النتائج‪.‬‬ ‫ربما تبالغ جمال في إسناد معاداة أميركا إلى الهوية العربية والتوجهات‬ ‫السياسية‪ ،‬السيما في حني لم تعد الواليات املتحدة تتدخل بشكل كبير‬ ‫في الشؤون الداخلية للدول العربية وتقلل من وجودها في املنطقة‪ .‬قد‬ ‫تساهم قضية التحيز املعرفي في تأييد فرضية جمال‪ .‬ولكن يثير‬ ‫اعتقاد العرب غير الصحيح بأن واشنطن قادرة على تشكيل حياتهم‬ ‫اهتماما أكبر بكثير من الحقيقة غير املثيرة‪ .‬يشير جزء من هذه الحقيقة‬ ‫إلى أن الواليات املتحدة تفضل عادة شركاء مستقرين غير ديمقراطيني‬ ‫في العالم العربي وأنها كانت في كثير من األحيان غير متحمسة لوجود‬ ‫ديمقراطية حقيقية هناك‪ .‬ولكن اعتمد بقاء االستبداد العربي أيضا على‬ ‫حقيقة أن العديد من القادة العرب استطاعوا الحصول على العائدات‬ ‫الضخمة أو التحالفات اإلقليمية التي سمحت لهم ببناء أنظمة محاباة‬ ‫قوية ومؤسسات أمنية قومية هائلة‪.‬‬ ‫كما أنهم كثيرا ما نجحوا في سياسة املحاباة واستراتيجية فرق تسد‪.‬‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪60 - 2013 /‬‬


‫وفي استطالع رأي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العاملية عام ‪،2008‬‬ ‫سئل املواطنون األميركيون عن ترتيب أولويات واشنطن من حيث األهمية‪،‬‬ ‫فكانت استعادة مكانة أميركا على قمة أولويات كثير من املشاركني في‬ ‫االستطالع متقدمة على حماية الوظائف ومكافحة اإلرهاب ومنع انتشار‬ ‫األسلحة النووية‪.‬‬ ‫عندما جاء باراك أوباما رئيسا للبالد في عام ‪ 2008‬خلفا لجورج دبليو‬ ‫بوش‪ ،‬قلت أزمة الشعور بالعداء تجاه أميركا‪ .‬وتعهد أوباما بالعمل مع‬ ‫الشعوب وإصالح صورة الواليات املتحدة في الخارج‪ ،‬وقد توج ذلك‬ ‫في خطابه للعالم اإلسالمي الذي ألقاه في يونيو (حزيران) عام ‪2009‬‬ ‫في جامعة القاهرة‪ .‬في بداية فترة أوباما الرئاسية األولى‪ ،‬سجلت‬ ‫استطالعات الرأي في العالم العربي موجة أكثر إيجابية تجاه الواليات‬ ‫املتحدة‪ ،‬معظمها كانت استجابة لرئيس جديد ذي شعبية‪ .‬لكن ذلك لم‬ ‫يدم طويال‪ .‬وأدى نهج أوباما التقليدي نسبيا في السياسة الخارجية‪،‬‬ ‫خصوصا في ما يتعلق بالنزاع اإلسرائيلي الفلسطيني‪ ،‬إلى خيبة أمل‬ ‫الرأي العام العربي‪ ،‬وسريعا ما عادت االنتقادات‪.‬‬ ‫في عام ‪ ،2011‬أثار الربيع العربي توقعات بأن تغيير السياسة الداخلية‬ ‫من شأنه أن يساعد املنطقة على التغلب على كراهية الواليات املتحدة‬ ‫والتوقف عن لوم اآلخرين بسبب معاناتها‪ .‬وأثار غياب حرق األعالم‬ ‫األميركية والهتافات املعادية للواليات املتحدة بني الجماهير الذين كانوا‬ ‫يتظاهرون في ميدان التحرير في القاهرة تعجب املحللني‪ :‬فألول مرة‬ ‫على ما يبدو‪ ،‬لم يكن الغضب يتعلق بالواليات املتحدة‪ .‬ولكن كما حدث‬ ‫مع شعبية أوباما في الشرق األوسط‪ ،‬تبخر هذا األمل أيضا سريعا‬ ‫عندما اكتسحت األحزاب اإلسالمية االنتخابات في تونس ومصر‪،‬‬ ‫واستهدفت احتجاجات عنيفة سفارات الواليات املتحدة في منطقة‬ ‫الشرق األوسط بعد بث فيديو معاد لإلسالم على موقع «يوتيوب»‪،‬‬ ‫وقتل أربعة دبلوماسيني أميركيني على يد الجهاديني في ليبيا‪.‬‬ ‫ومن الواضح اآلن أنه حتى التغيرات الكبرى‪ ،‬كرحيل بوش‪ ،‬ودعم أوباما‬ ‫لبعض الثورات العربية التي اندلعت عام ‪ ،2011‬ووفاة أسامة بن الدن‪،‬‬ ‫وانسحاب أميركا من العراق‪ ،‬لم يكن لها أثر كبير على مواقف العرب‬ ‫تجاه أميركا‪ .‬ربما يكون العداء تجاه الواليات املتحدة انحسر لبعض‬ ‫الوقت‪ ،‬لكنه بدأ يتزايد مرة أخرى بحرية‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬يصعد‬ ‫اإلسالم السياسي وتزدهر الجماعات الجهادية‪ .‬وبدأت الفصائل‬ ‫الليبرالية والعلمانية التي قد تبدو حليفة طبيعية ألميركا في اإلعالن‬ ‫عن بعض الشكاوى‪ ،‬إنها غاضبة من الواليات املتحدة عندما تتدخل‬ ‫عسكريا في املنطقة (في ليبيا)‪ ،‬وعندما ال تتدخل (في سوريا)‪ ،‬وإنها‬ ‫تشعر بالغضب عندما تدعم واشنطن انتخابات ديمقراطية (في مصر‪،‬‬ ‫حيث فاز اإلسالميون)‪ ،‬وعندما ال تفعل ذلك (في البحرين‪ ،‬على سبيل‬ ‫املثال)‪.‬‬ ‫استمرار العداء ألميركا في العالم العربي هو املوضوع الرئيس الذي‬ ‫يتناوله كتاب «عن اإلمبراطوريات واملواطنني» ألماني جمال (أستاذ العلم‬ ‫السياسية بجامعة برينستون)‪ ،‬وهو عمل مثير لالهتمام يتحدى شروط‬ ‫الخالف القديم بني ثالثة معسكرات رئيسية‪ :‬أولئك الذين يرون معاداة‬ ‫العرب للواليات املتحدة كنتاج لكراهية حضارية فريدة وعميقة‪ ،‬وأولئك‬ ‫الذين يرون معاداة الواليات املتحدة على أنها مجرد شعور باالستياء‬ ‫يمكن توقعه تجاه القوة العظمي الوحيدة في العالم‪ ،‬وهو شعور مشترك‬ ‫في أنحاء أخرى من العالم وليس قاصرا على الدول العربية‪ ،‬وأولئك الذين‬ ‫يرون أنها رد فعل منطقي لسياسات الواليات املتحدة التي يعتقد العرب‬ ‫أنها أضرت بمصالحهم بطريقة ممنهجة‪.‬‬ ‫تتتبع جمال عن كثب املعسكر الثالث‪ ،‬ولكن مع بعض االختالفات‪ ،‬فهي‬ ‫تقول إن كراهية الواليات املتحدة ليس لها عالقة بالشعور باالستياء‬ ‫الثقافي أو الكراهية بني الحضارات‪ ،‬كما أنها تتجاوز رد الفعل الطبيعي‬

‫تجاه قوة عاملية كبرى‪ .‬وعلى الرغم من أن املؤلفة تعتقد أن سياسات‬ ‫واشنطن مثل الحرب على اإلرهاب ودعمها الراسخ إلسرائيل تساهم‬ ‫في تشكيل املواقف العربية‪ ،‬فإنها تقول إن مثل هذه السياسات ليست‬ ‫العوامل األساسية‪ .‬تعكس كراهية العرب للواليات املتحدة رفضا أعمق‬ ‫ألنظمة سياسية غير ديمقراطية في الدول العربية‪ ،‬والتي تدعمها الواليات‬ ‫املتحدة على مدى عقود‪ .‬تدفع أماني جمال بأن الواليات املتحدة كانت‬ ‫العقبة الرئيسية أمام ظهور الديمقراطية في الشرق األوسط‪ ،‬ألنها أصرت‬ ‫على «الديمقراطية املؤيدة للواليات املتحدة أو ال ديمقراطية على اإلطالق»‪.‬‬ ‫وترى أن دعم أميركا للحكم االستبدادي‪ ،‬وهي أكثر السياسات األميركية‬ ‫التي تتعرض للهجوم في الغالب‪ ،‬تكمن في صميم شعور العرب بالعداء‬ ‫تجاه الواليات املتحدة‪ .‬إذا كانت جمال على صواب‪ ،‬سنكون في حاجة‬ ‫إلى إعادة النظر في معظم اآلراء التي أطلقت في العقد املاضي‪ .‬لن يحقق‬ ‫تغيير سياسات الواليات املتحدة‪ ،‬حتى في القضايا ذات األولوية القصوى‬ ‫مثل إسرائيل‪ ،‬تأثيرا كبيرا على كراهية أميركا‪ ،‬وستكون الجهود الرامية‬ ‫إلى تعزيز القيم األميركية في املنطقة من خالل شن «حرب األفكار»‬ ‫ضد اإلسالم الراديكالي في أحسن األحوال غير مهمة وفي أسوأ األحوال‬ ‫سوف تؤدي إلى نتائج عكسية‪ .‬في رأي جمال‪ ،‬ما تحتاجه الواليات‬ ‫املتحدة هو بالضبط ما تعتقد املؤلفة أنها ال تستطيع القيام به‪ :‬تعزيز‬ ‫الديمقراطية العربية جديا‪.‬‬

‫ا�ستمرار العداء لأمريكا يف‬ ‫العامل العربي هو املو�ضوع‬ ‫الرئي�س الذي يتناوله كتاب «عن‬ ‫الإمرباطوريات واملواطنني»‬ ‫لأماين جمال (�أ�ستاذ العلم‬ ‫ال�سيا�سية بجامعة برين�ستون)‬

‫تخضع اآلن الفرضية التي‬ ‫تطرحها جمال لالختبار‪.‬‬ ‫أبدت إدارة أوباما استعداد‬ ‫واشنطن الستيعاب التغيير‪،‬‬ ‫وفي السنوات املقبلة‪ ،‬ستستمر‬ ‫السياسة الديمقراطية الجديدة‬ ‫في العالم العربي في تقويض‬ ‫النظام االستبدادي القديم الذي‬ ‫ربط كثيرون بينه وبني الواليات‬ ‫املتحدة‪ .‬ربما تتحول هذه العملية‬ ‫في النهاية إلى الخطوة األولى‬ ‫في سبيل إنهاء تاريخ طويل من‬ ‫كراهية العالم العربي ألميركا‪،‬‬ ‫أكثر من الحرب التي قادتها‬ ‫الواليات املتحدة ضد األفكار املتطرفة أو التغييرات التي أجرتها من أجل‬ ‫مصالح األمن القومي األميركية الرئيسية‪.‬‬ ‫يركز كتاب جمال على دراسة عن قرب للمواقف الشعبية تجاه الواليات‬ ‫املتحدة في العديد من البلدان العربية‪ .‬تقول الباحثة إن بعض األنظمة‬ ‫العربية‪ ،‬تابعة بالضرورة للواليات املتحدة‪ ،‬وبالتالي تملك سيادة مستقلة‬ ‫شكليا‪ .‬وتلعب واشنطن دورا كبيرا في تشكيل النظام السياسي في‬ ‫مثل هذه البلدان‪ ،‬وال سيما من خالل دعمها لبعض األنظمة الحاكمة‪،‬‬ ‫الذي يتمثل في‪ :‬تبادل املعلومات االستخباراتية والتكنولوجيا العسكرية‬ ‫املتقدمة‪.‬‬ ‫بالنسبة لبعض الدول العربية‪ ،‬يفتح التحالف مع الواليات املتحدة الباب‬ ‫أمام دعم املؤسسات املالية الدولية وغيرها من املنظمات الدولية ويسهل‬ ‫الوصول إلي اتفاقيات تجارية وإبرام صفقات أسلحة‪ .‬في إيجاز‪ ،‬ما زالت‬ ‫جميع الطرق السياسية واألمنية تمر عبر واشنطن‪.‬‬ ‫ولكن تستفيد بعض شرائح املجتمعات العربية بشكل أكثر من غيرها‬ ‫من عالقاتها مع واشنطن‪ .‬تجني النخب املتعلمة التي تتحدث اإلنجليزية‬ ‫وتعيش في املدن نفعا أكبر من الشرائح األقل ثراء في املناطق النائية أو‬ ‫الضواحي‪ .‬ويحقق الذين يملكون رأسمال مادي أو ثقافي أرباحا هائلة‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪59 - 2013 /‬‬


‫صحافة عالمية‬

‫تصاعد الكراهية في الشرق األوسط‬

‫استمرار العداء ألمريكا‬

‫العداء ألميركا استمر بعد الربيع العربي‬

‫بقلم‪ :‬مارك لينش *‬

‫منذ عقد من الزمان‪ ،‬بدا العداء ألميركا مشكلة ملحة‪ .‬وأظهرت استطالعات الرأي في الخارج مشاعر كراهية‬ ‫عارمة تجاه الواليات املتحدة‪ ،‬خاصة في العالم العربي‪ ،‬وظهر هذا الشعور جليا حينما قامت جموع حاشدة‬ ‫بحرق األعالم األميركية وتزايد صعود متطرفني إسالميني وجماعات إرهابية‪ .‬ولذلك ال يثير الدهشة أن‬ ‫العديد من األميركيني اعتبروا هذا التطور تهديدا خطيرا‪.‬‬ ‫* أستاذ مساعد في العلوم السياسية والشؤون الدولية ومدير معهد دراسات الشرق األوسط في جامعة جورج واشنطن‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪58 - 2013 /‬‬


‫ويجدر بمن يعتقد بخالف ذلك أن يتذكر التقديرات الخاطئة الصادرة عن‬ ‫االستخبارات والتي أشارت إلى أن صدام حسني لديه مخازن هائلة من‬ ‫أسلحة الدمار الشامل بالعراق‪ .‬وأدى ذلك التضليل إلى شن حرب مكلفة‬ ‫ومثيرة للجدل على نطاق واسع ومسببة لخالفات دولية – إنها عبرة لهؤالء‬ ‫املسؤولني عن جمع املعلومات االستخبارية في سوريا في الوقت الحالي‪.‬‬ ‫إذا كانت إدارة أوباما جادة في سعيها للحصول على حقائق تدل على‬ ‫استخدام الرئيس السوري بشار األسد لألسلحة الكيماوية‪ ،‬يجب عليها البدء‬ ‫ً‬ ‫أوال بفهم ما لن يحدث‪ .‬لن تكون هناك تحقيقات تتسم بالشفافية أو الوضوح‬ ‫أو الدقة الكاملة بالتعاون مع الحكومة السورية‪.‬‬ ‫ويبدو ذلك كما لو أنه أمر بديهي‪ ،‬ولكن في خطاب إلى الكونغرس األميركي‪،‬‬ ‫أعرب البيت األبيض عن تفضيله إلجراء «تحقيقات شاملة تابعة لألمم‬ ‫املتحدة» حول تلك القضية‪ .‬ولم يقتصر األمر على رفض األسد للسماح‬ ‫ملفتشي األمم املتحدة بالدخول إلى البالد فحسب‪ ،‬بل دائما ما تبعث حكومته‬ ‫ً‬ ‫برسائل غامضة‪ ،‬ومتناقضة أيضا‪ :‬ففي ‪ 25‬أبريل (نيسان)‪ ،‬صرح وزير‬ ‫ً‬ ‫اإلعالم السوري بأن بالده ال تمتلك مثل تلك األسلحة‪ ،‬مضيفا أن الجيش‬ ‫لن يقوم باستخدام تلك األسلحة‪« ،‬إذا افترضنا وجود مثل تلك األسلحة في‬ ‫املقام األول»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وفي النهاية‪ ،‬سوف تجرى عملية جمع املعلومات االستخباراتية بسوريا على‬ ‫مراحل‪ .‬وسوف تضطر واشنطن إلى دمج أنواع مختلفة من األدلة املجمعة عن‬ ‫العديد من األجهزة االستخباراتية (متضمنة وكالة املخابرات املركزية‪ ،‬ووكالة‬ ‫االستخبارات العسكرية األميركية ووكالة األمن القومي‪ ،‬وغيرها) باإلضافة‬ ‫إلى الوكاالت االستخباراتية النشطة لحلفائها باملنطقة – وأبرزها بريطانيا‬ ‫وفرنسا وإسرائيل‪.‬‬ ‫أما عن استخبارات اإلشارة – التي تتمثل في اعتراض االتصاالت وصور‬ ‫األقمار الصناعية – فسوف تلعب ً‬ ‫دورا ً‬ ‫حتما ً‬ ‫كبيرا‪ .‬لذلك ينبغي على وكاالت‬ ‫االستخبارات أن تصب تركيزها على اعتراض اتصاالت إذاعية ورقمية بني‬ ‫الوحدات العسكرية التي يشتبه في استخدامها ألسلحة كيماوية؛ فإذا كانت‬ ‫تلك الوحدات على علم بتحرك أسلحة كيماوية أو نشرها‪ ،‬فمن املحتمل أنها‬ ‫سوف تتطرق إلى ذلك األمر‪ .‬كما ينبغي على تلك الوكاالت أن تدقق في صور‬ ‫األقمار الصناعية ملعرفة ما إذا كان هناك أي دليل مرئي حول تحرك أسلحة‬ ‫كيماوية‪ .‬ولكن حتى ذلك لن ُيعد بمثابة الدليل القانوني املحكم الذي تشير‬ ‫إدارة أوباما إلى أنها تبحث عنه‪.‬‬ ‫ولهذا السبب‪ ،‬سوف تؤدي االستخبارات البشرية – التي تتمثل في جمع‬ ‫املعلومات االستخباراتية من خالل التواصل املباشر مع األشخاص – ً‬ ‫دورا‬ ‫ً ً‬ ‫محوريا أيضا‪ .‬بالتأكيد سوف يكون من الصعب جمع املعلومات األكيدة‬ ‫من االستخبارات البشرية‪ ،‬حيث إن اختراق منظمة أجنبية (مثل الحكومة‬ ‫ً‬ ‫السورية أو الجيش السوري) خالل فترة قصيرة يكاد يكون مستحيال‪.‬‬ ‫ولكن االختراق ليس الطريقة الوحيدة للحصول على املعلومات‪.‬‬ ‫في إمكان العمالء النشطاء بالفعل‪ ،‬التابعني للواليات املتحدة األميركية‪،‬‬ ‫الحصول على عينات من األنسجة البشرية من ضحايا األسلحة الكيماوية‪،‬‬ ‫أو عينات من التربة تؤكد استخدام األسلحة الكيماوية‪( .‬وبالفعل‪ ،‬تشير‬ ‫التقارير إلى أن أجهزة االستخبارات البريطانية وجدت بالفعل مثل هذه‬ ‫ً‬ ‫األدلة)‪ .‬يستطيع هؤالء العمالء ذاتهم أيضا جمع شهادات من األطباء والفرق‬ ‫الطبية التي ربما تكون قد عالجت ضحايا سقطوا نتيجة الهجمات الكيماوية‪.‬‬ ‫إذا بدأ نظام بشار األسد في الترنح‪ ،‬يجب أن يكون عمالء االستخبارات‬ ‫األميركية على استعداد إلقناع مصادر داخل الحكومة السورية بتقديم‬ ‫معلومات كوسيلة لضمان نجاتهم شخصيا‪.‬‬ ‫وفي الوقت الحالي‪ ،‬سوف يكون من األيسر إقناع الثوار السوريني بتقديم‬ ‫التفاصيل‪ .‬ولكن هذا أيضا يثير املشاكل‪ ،‬حيث يمكن أن تعمل املعارضة على‬

‫تزييف األدلة‪ ،‬وذلك بهدف تشجيع التدخل الخارجي‪ ،‬كما كان الحال فيما‬ ‫يتعلق بالحرب على العراق‪ ،‬عندما قدم معارضون للنظام العراقي تقارير مثيرة‬ ‫للقلق لوكاالت االستخبارات الغربية حول القدرات التي يملكها صدام حسني‪.‬‬ ‫توجد أمثلة تاريخية لنجاح االستخبارات في جمع معلومات في ظل وجود‬ ‫قيود شديدة للغاية مثل الوضع في سوريا‪.‬‬ ‫على سبيل املثال‪ ،‬هناك صراع الحلفاء من أجل فرض نزع السالح على أملانيا‬ ‫املنهزمة عقب الحرب العاملية األولى‪ .‬تم تقليص عدد أفراد الجيش األملاني‬ ‫ليصل إلى ‪ 100‬ألف جندي‪ ،‬فيما تم منع البالد من أن يكون لديها قوات جوية‬ ‫وأسلحة ثقيلة وغواصات‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬كان من مصلحة أملانيا عدم اتباع أي‬ ‫من تلك القواعد‪ .‬وواجه مفتشو الحلفاء حالة من التعتيم‪ ،‬وحتى وصل األمر‬ ‫إلى االعتداء الجسدي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كما لم يكونوا على دراية أيضا بالتعاون السري القائم بني أملانيا واالتحاد‬ ‫السوفياتي بشأن تدريبات الطائرات والدبابات واختبارات الغازات السامة‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬حقق املفتشون العديد من االنتصارات‪ :‬تمكن املفتشون‬ ‫بمساعدة مخبرين من التعرف على العديد من املخابئ السرية لألسلحة‬ ‫بأملانيا بصرف النظر عن مواجهتهم ملقاومة من الجيش والحكومة األملانية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نجاحا‬ ‫وشهدت املهمة في مجملها‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا‪ ،‬على الرغم من محاوالت‬ ‫إحباطها‪ ،‬حيث تمكن املفتشون من‬ ‫تجريد أملانيا من معظم أسلحتها‬ ‫الثقيلة‪ ،‬وتقويض قدرة جيشها‬ ‫على النهوض مرة أخرى باعتباره‬ ‫قوة هجومية لبعض الوقت‪.‬‬

‫يف �إمكان العمالء الن�شطاء‬ ‫احل�صول على عينات من الأن�سجة‬ ‫الب�شرية من �ضحايا الأ�سلحة‬ ‫الكيماوية �أو عينات من الرتبة‬ ‫ت�ؤكد ا�ستخدام الأ�سلحة الكيماوية‬

‫وبالفعل‪ ،‬يظل الدرس األكبر‬ ‫املستفاد من نموذج أملانيا بعد‬ ‫الحرب ببساطة‪ :‬حتى في أكثر‬ ‫الظروف االستثنائية‪ ،‬من املمكن‬ ‫أن تثمر املثابرة عن نتائج‬ ‫استخباراتية مهمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهناك درس آخر أيضا‪ :‬عقب جمع املعلومات االستخباراتية‪ ،‬يظل أمامنا‬ ‫تساؤل مهم للغاية يتمثل في كيفية استخدام تلك املعلومات‪ .‬وكما خلص‬ ‫جون كيغان‪ ،‬املؤرخ العسكري البارز‪ ،‬في كتابه «االستخبارات في الحرب»‪،‬‬ ‫فإنه «ال يوجد ما ُيسمى بالسر الذهبي‪ ،‬أو (املعلومات االستخباراتية‬ ‫األكيدة)‪ ،‬التي سوف تؤكد جميع الشكوك وترشد» القائد إلى مسار العمل‬ ‫الوحيد الصحيح‪.‬‬

‫يقتصر دور االستخبارات على تقديم املعلومات من أجل وضع السياسات‬ ‫ُ‬ ‫التي تعد في ذاتها وظيفة تنطوي على اإلدارة والحسابات‪ .‬عقب الحرب العاملية‬ ‫األولى‪ ،‬تم استخدام إحباطات مفتشي األسلحة واألسلحة غير القانونية التي‬ ‫تم اكتشافها في وضع قيود أكثر تشددا ضد أملانيا‪.‬‬ ‫وكذلك في حالة العراق‪ ،‬قرر واضعو السياسات التأكيد بشدة على املعلومات‬ ‫االستخباراتية التي تشير إلى وجود أسلحة الدمار الشامل في تبريرهم لشن‬ ‫الحرب – وهو القرار الذي كان له في النهاية تأثير مدمر على الرأي العام بشأن‬ ‫الصراع عندما اتضح عدم وجود أي من تلك األسلحة‪.‬‬ ‫أما في حالة سوريا‪ ،‬فيبدو أن األمور تشهد مسارا مختلفا‪ ،‬حيث تفضل‬ ‫إدارة أوباما استخدام جمع املعلومات االستخباراتية كحجة لتأخير اتخاذ‬ ‫أي قرار سياسي واضح‪ .‬ويبدو أن املسؤولني األميركيني يعلمون أنهم عندما‬ ‫يدعون إلى إجماع دولي بشأن الحقائق في سوريا‪ ،‬فإنهم يطلبون ً‬ ‫أمرا‬ ‫يستحيل تحقيقه‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪57 - 2013 /‬‬


‫صحافة عالمية‬

‫كيفية جمع معلومات استخباراتية في منطقة حرب‬

‫تقصي احلقائق يف سوريا‬

‫سوريا‪ ..‬أرض مفتوحة الجهزة االستخبارات‬

‫بقلم‪ :‬فيغاس ليولفيشوس *‬

‫ما زالت إدارة أوباما تبحث عن دليل مادي بأن نظام بشار األسد استخدم أسلحة كيماوية في سوريا‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من أن الحديث عن الدليل أسهل من العثور عليه‪ ،‬فإنه من املمكن التوصل إليه‪ .‬ولكن السؤال املهم بالفعل‬ ‫هو كيف ستستخدم الحكومة هذا الدليل املادي عقب التوصل إليه؟‬ ‫* أستاذ التاريخ ومدير مركز دراسات الحرب بجامعة تينيسي نوكسفيل‬

‫في شهر أبريل (نيسان) املاضي‪ ،‬توصلت أجهزة االستخبارات األميركية‬ ‫إلى أن غاز السارين – الذي ُيعد من األسلحة الكيماوية التي تشير التقديرات‬ ‫إلى أنها أقوى بواقع ‪ 500‬مرة من السيانيد – قد تم استخدامه خالل الحرب‬ ‫األهلية الدائرة في سوريا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وسارع البيت األبيض‪ ،‬الذي أشار مسبقا إلى أن استخدام نظام بشار األسد‬ ‫لألسلحة الكيماوية سيكون ً‬ ‫دافعا للتدخل‪ ،‬إلى التأكيد على عدم تيقنه من أن‬

‫هذا الدافع تحقق بالفعل‪ .‬وفي خطاب ألقاه الرئيس األميركي باراك أوباما في‬ ‫ً‬ ‫نهاية الشهر‪ ،‬ذكر قائال‪« :‬ينبغي علي أن أتأكد من الحصول على الحقائق»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن الواليات املتحدة األميركية بحاجة إلى العثور على دليل أوضح‬ ‫حول كيفية استخدام األسلحة الكيماوية‪ ،‬ومن قام باستخدامها تحديدا‪.‬‬ ‫هذا أمر بالغ الصعوبة‪.‬‬ ‫إن جمع األدلة املادية في دولة منغلقة مثل سوريا بمثابة مهمة صعبة للغاية؛‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪56 - 2013 /‬‬


‫كيفية جمع معلومات استخباراتية في منطقة حرب‬

‫تقصي احلقائق يف سوريا‬ ‫بقلم‪ :‬فيغاس ليولفيشوس‬

‫تصاعد الكراهية في الشرق األوسط‬

‫استمرار العداء ألمريكا‬ ‫بقلم‪ :‬مارك لينش‬

‫فورن أفيرز‪ /‬يونيو حزيران ‪55 - 2013 /‬‬


‫البـحـوث العلـميـة عاليـة التأثيـر‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫متـاحـة ا ن للمـجتـمع بأكمله‪.‬‬

‫ﺷـﻬـﺮﻳﺎ‬ ‫ﺑﺎﻃﻼﻋﻚ ﻋﻠﻰ ‪ Nature‬ﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ‪ ،‬ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼـﺪﺭ‬ ‫ًّ‬ ‫ﺍﻧﻀـﻢ ﺇﻟﻰ ُﺭ ّﻭﺍﺩ ﺍﻟﻌﻠــﻮﻡ ﱢ‬ ‫ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴـــﺔ‪ ،‬ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﺍﻹﻟﻜﺘــﺮﻭﻧﻲ ﺍﻟﺨـﺎﺹ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺷﺒـﻜﺔ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ‪ ،‬ﺍﻟﺬﻱ‬ ‫ﻳﺘﻢ ﺗﺤﺪﻳﺜﻪ ﺑﺼﻔﺔ ﺩﺍﺋﻤﺔ‪.‬‬ ‫ﺇﻥ ‪ Nature‬ﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﺗﺘﻴﺢ ﻟﻠﻨﺎﻃﻘﻴﻦ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ ﺍﻷﺧﺒــﺎﺭ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴــﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﺍﻟﺠﻮﺩﺓ‪ ،‬ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎﺕ‬ ‫ﻣﺘﺎﺣﺎ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ ﻛﻞ ﺃﺳﺒــﻮﻉ‪ ،‬ﻣﻊ ﻭﺟـﻮﺩ ﻧُ َﺴﺦ‬ ‫ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ”‪.“Nature‬ﺇﻥ ﻣﺤﺘـﻮﻯ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ ﺳﻴـﻜﻮﻥ‬ ‫ً‬ ‫ﺷﻬﺮﻳﺎ‬ ‫ﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ‬ ‫ًّ‬

‫ﺍﻃﻠِ ْﻊ ﻋﻠﻰ ‪ Nature‬ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻹﻧﺘﺮﻧﺖ‪ ،‬ﻭﺍﻣﻸ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺑﺎﻻﺷﺘﺮﺍﻙ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺮﺍﺑﻂ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ‪:‬‬ ‫ﱠ‬

‫‪arabicedition.nature.com‬‬

‫ﺑﺎﳌﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ‪:‬‬


‫كاختالف آرائهم في أصل قبائل قضاعة وعاملة وجذام ولخم وخزاعة‬ ‫وكندة وخثعم وبجيلة وغيرها‪ ،‬واختلفت آراء النسابني في العرب العاربة‬ ‫واملستعربة‪ ،‬ولم يتفقوا في أصول أسماء القبائل‪« :‬ومن املعروف أن‬ ‫الكثير من األسماء التي تنسب لها القبائل ليست أسماء أشخاص وإنما‬ ‫أسماء ألحالف أو مواقع سكنى أو أمهات أو حاضنات وهذا ينفي فكرة‬ ‫أن أبناء القبيلة بالضرورة ينتمون إلى جد واحد تناسلوا من صلبه»‪.‬‬ ‫ويعرض أيضا فرضية ويليام روبرنسون سميث حول اتخاذ القبائل‬ ‫العربية ألسماء كثير إلى صنمها أو طوطمها مثل قيس ومناة ويغوث‬ ‫وبكر وأسد وكلب وجحش وثور وغيرها‪ ،‬كما يعرج الصويان على‬ ‫االختالف أيضا في العصور املتأخرة حول تسميات القبائل املعاصرة‪.‬‬

‫صورة ارشيفية للدكتور سعد الصويان في‬ ‫حفل مهرجان «الغاط للموروث الثقافي الواحد‬ ‫والعشرون» على استاد نادي الحماده(عام ‪)2006‬‬

‫القرابة‪ ،‬يقول مورغان بأن مفهوم النسب هو حقيقة ثقافية فرضتها‬ ‫املجتمعات البشرية بناء على حقيقة بيولوجية‪ ،‬وقد نبه إلى ضرورة‬ ‫التفريق بني عالقات النسب العائلي وعالقات النسب العشائري‪ ،‬فالنسب‬ ‫العشائري هو آلية لتحديد انتماء الفرد وهويته‪ُ ،‬يعنى األنثروبولوجيون‬ ‫بالنسب كآلية لتحديد شرعية االنتماء العشائري بصفته كمحدد أساسي‬ ‫لوحدة الجماعة السياسية‪ ،‬تتخذ املجتمعات العشائرية خطا أحاديا‬ ‫للنسب (أبوي أو أمومي) بعد قدر من التطور التكنولوجي وتبلور مفهوم‬ ‫امللكية الخاصة‪ ،‬يرتكز ذلك الخط على جد حقيقي أو مفترض‪« :‬حينما‬ ‫تكبر العشيرة املنحدرة من جد واحد ويزداد عدد املنتمني لها ويتباعدون‬ ‫في النسب زمانيا ومكانيا وقد ال يستطيع كل واحد من هؤالء أن يتذكر‬ ‫صلته بسلف العشيرة أو أن يتتبع بالتحديد الدقيق عالقات القرابة التي‬ ‫تجمعه مع اآلخرين من أبناء عمومته وأقاربه الذين ينتمون للعشيرة‪،‬‬ ‫رغم افتراض الجميع أن هناك صلة قرابة تجمعهم وأنهم ينتمون لجد‬ ‫بعيد يجتمع فيه نسبهم»‪ .‬ومع مرور الزمن تنقسم العشيرة إلى فصائل‬ ‫قرابية‪ ،‬ويتراوح انتماء الفرد ما بني فصيله األصغر إلى فصائل أكبر‪،‬‬ ‫وتتخذ العشيرة الكبرى في هذه املرحلة قرابة مفترضة‪ ،‬فتصبح أقرب إلى‬ ‫التنظيم السياسي والديني منها إلى التنظيم االجتماعي أو االقتصادي‪،‬‬ ‫حيث تؤدي أغراضا تنسيقية بني مختلف الفصائل‪ ،‬وتؤسس للعمل‬ ‫املشترك فيما بينها‪ ،‬ال سيما في العالقات والنزاعات مع العشائر األخرى‪،‬‬ ‫وتقوم نظرية النسب عند النسابني العرب على افتراض رابطة الدم وبأن‬ ‫أبناء القبيلة ينحدرون من صلب رجل واحد‪ ،‬وأن كل العرب تناسلوا من‬ ‫جد واحد‪ .‬وتأتي أهمية االحتفاظ بسلسلة النسب ملا تحدده من مسافة‬ ‫قرابية فاصلة بني تشكيل وآخر حتى تلتئم تلك التشكيالت في تشكيل‬ ‫أكبر‪ ،‬بدأ من املتجايلني صعودا نحو األسالف‪.‬‬ ‫يتطلب تشييد هذا البناء التمفصلي حدا أدنى تتشعب منه سالسل‬ ‫األنساب‪ ،‬هذا الحد األدنى يمثله جدان‪ ،‬عدنان وقحطان‪ ،‬ويتطلب أيضا‬ ‫بناء هذا النموذج تماثال في سالسل النسب‪ ،‬مما يستدعي التوافق‬ ‫الزمني في تلك السالسل فيعمد النسابون إلى الحيل في تحقيق ذلك‬ ‫التوافق عبر اختراع األجداد الوهميني‪ ..« :‬مثل قيس الذي كثيرا ما يتردد‬ ‫في جداول النسب‪ .»..‬أو تكرار األسماء‪« :‬كأن يسمى الجد باسم الحفيد»‪،‬‬ ‫ويحاول النسابون أن يتجنبوا استخدام هذه الحيل في املواقع املفصلية‬ ‫التي تنشأ فيها التفرعات‪ .‬وقد أتي هذا االهتمام بتدوين األنساب في‬ ‫الفترة الزمنية التي بدأ فيها العرب بتدوين آدابهم وتاريخهم االجتماعي‬ ‫مع نهاية القرن األول أو بداية القرن الثاني للهجرة‪ ،‬تماشيا مع تقعيد‬ ‫النحويني للغة وتشابها به كما يعبر الصويان‪.‬‬ ‫يستعرض الصويان في كتابه بعض األمثلة الختالفات النسابني القدماء‪،‬‬

‫تأثر هذا النموذج النظري للنسابني العرب باملوروث التوراتي‬ ‫وباآليديولوجيا القبلية‪ ،‬حيث افترضوا مثلهم مثل أبناء القبائل أن‬ ‫االنتماء القبلي يحتم التناسل البيولوجي‪ ،‬النسب في التنظيم القبلي‬ ‫هو غطاء آيديولوجي لتبرير عالقات الحاضر القائمة على التنظيمات‬ ‫السياسية واملصالح‪ ،‬تستند اآليديولوجيا القبلية على بيولوجية‬ ‫النسب‪ ،‬وعلى رؤية اإلنسان األمي املعكوسة للتاريخ فهو حسب تعبير‬ ‫الصويان‪« :‬يقرأ املاضي في الحاضر وليس العكس»‪ .‬وتتضح تناقضات‬ ‫اآليديولوجيا القبلية عند تفحص التنظيم القبلي كواقع معاش عبر‬ ‫مراحل التاريخ‪ .‬التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على األحالف‪،‬‬ ‫تنشأ التحالفات على املصالح املشتركة أو التجاور‪ ،‬وتحل الحقا أسطورة‬ ‫النسب محل الوحدة املكانية كما يقول غولدتسيهر ويذهب مذهبه جواد‬ ‫علي‪ .‬وكما تطرأ الظروف التي تدفع لتكون األحالف‪ ،‬فإن ظروفا مغايرة‬ ‫قد تطرأ أيضا لتنحل األحالف القديمة وتنشأ الجديدة وتتوفر شواهد‬ ‫هذه االستنتاجات في تاريخ القبائل العربية القديمة واملعاصرة‪ .‬تبرز‬ ‫امليثولوجيا واألسطورة أيضا في تكريس اآليديولوجيا القبلية عبر سد‬ ‫فجواتها وثغراتها‪ ..« :‬وهناك دائما داخل املجتمع القبلي نفسه نخبة‬ ‫واعية لحقيقة النسق ومدركة ملواطن الضعف في اآليديولوجيا القبلية‪..‬‬ ‫يدرك هؤالء أن العالقة القبلية‪ ،‬وإن اتخذت مظهر العالقة القرابية‪ ،‬في‬ ‫حقيقتها عالقة سياسية يمكن توظيفها لتحقيق مآرب سياسية‪ ،‬وما‬ ‫عليهم في بعض األحيان إال أن يستبدلوا أسطورة بأخرى تفسر الطريقة‬ ‫التي تغير بها الوضع عما كان عليه في السابق وتعطي تبريرا لهذا‬ ‫التغيير»‪.‬‬ ‫يتعذر على ذاكرة أبناء القبيلة أن تتخطى سلسلة من األجداد‪ ،‬كما أن‬ ‫الذهنية الشفهية تفتقر إلى املقومات التي تجعلها تميز ما بني التاريخي‬ ‫واألسطوري‪ ،‬يهتم ابن القبيلة بما يحدد عالقته باآلخرين سياسيا‬ ‫وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا‪ ،‬ويناط ذلك بمعرفة أفخاذ القبيلة‬ ‫وبطونها وعشائرها ومنها تتحدد نوعية العالقة‪ .‬وتضفي اآليديولوجيا‬ ‫القبلية بعدا أخالقيا لتلك العالقات البراغماتية‪ .‬يتطلب النظام القبلي‬ ‫بتحالفاته قدرا من الحركية والعملية تفرضهما ظروف تلك الحياة‬ ‫وآليات ذلك النظام‪ .‬ومع ظهور الدولة بسلطتها املركزية تجمدت آليات‬ ‫النظام القبلي وتعطلت وظائفها ولم يبق سوى اآليديولوجيا القبلية‪« :‬هنا‬ ‫تتحول القبيلة من نظام مرن قابل للتمفصل والتكيف حسب الظروف‬ ‫إلى ناد مغلق ال يحق الدخول فيه إال لألعضاء املسجلني‪ ..‬قيام الدولة‬ ‫يلغي الظروف التي كانت تمنح النظام القبلي حركيته وديناميكيته» حني‬ ‫تتعطل األبعاد السياسية والبراغماتية للنظام القبلي يصبح ذلك النظام‬ ‫كيانا مصمتا ال يمكن الخروج منه أو الدخول إليه‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫بذور العلمانية‬ ‫واملمارسات‬ ‫الديمقراطية في‬ ‫النظام القبلي‬ ‫موجودة وإن‬ ‫بصورة بدائية‬ ‫تجعل البدوي‬ ‫أكثر إجادة‬ ‫ملمارسة السياسة‬ ‫من الحضري‬ ‫الذي يميل‬ ‫إلى السكونية‬ ‫والتشبث‬ ‫باملسلمات‬ ‫والثوابت‬

‫‪,,‬‬

‫ما بنيت عليه اآليديولوجيا القبلية قد غاب تماما‪ ،‬فبعد أن كانت تجسيدا‬ ‫لنظام متحرك تتبنى فيه توجهاته املصلحية وتضفي عليها الشرعية‬ ‫والبعد األخالقي‪ ،‬أصبحت صورة ثابتة تبنى عليها التحركات املصلحية‪،‬‬ ‫إن خروجها من سياقاتها الطبيعية التي أفرزتها جعلها محض أصولية‬ ‫قبلية شبيهة باألصولية الدينية‪ ،‬يحاول املنتسبون لها أن يضخموا‬ ‫رموزها وقيمها <‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪53‬‬


‫ثقافة‬

‫وتدوينه شكل حلقة من حلقات االزدهار العلمي واألدبي الذي أفرز الدعوة‬ ‫الوهابية الحقا‪ .‬هنالك ثالثة نماذج من الشعراء النبطيني تعبر عن مدى‬ ‫الوعي في تلك الفترة‪ ،‬رميزان ابن غشام وقد مثل له الشعر بوابة عبور‬ ‫للتعبير عن أفكاره االجتماعية والسياسية وإن لم يكن شاعرا محترفا‬ ‫فإن شخصيته القيادية الفذة تتضح من شعره‪ ،‬وخاله جبر ابن سيار‬ ‫الشاعري الواعي سياسيا‪ ،‬وحميدان الشويعر الساخر بلذاعة وأحيانا‬ ‫بسوداوية‪ ،‬حيث عبر عن نقد سياسي واجتماعي وقد كلفته آراؤه الناقدة‬ ‫تلك الكثير‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫أصبح الفصيح‬ ‫في الحواضر‬ ‫العربية لغة‬ ‫رسمية يتم‬ ‫تعلمها عبر‬ ‫املدارس بينما‬ ‫بقي بدو‬ ‫الصحراء بمعزل‬ ‫عن تلك القواعد‬ ‫والقيود التي‬ ‫تقيد أي تغير‬ ‫عفوي فما يحدث‬ ‫في البادية هو‬ ‫نتيجة حتمية‬ ‫للتطور‬

‫‪,,‬‬

‫القبيلة والدولة‬ ‫تعددت اآلراء التي فسرت ظاهرة نشوء العقد االجتماعي‪ ،‬ولكن الصويان‬ ‫اختار عرض رأيي هنري مني وفوستيل دي كوالنغ ملعالجتهما تحديدا‬ ‫لخطوات استبدال مفهوم النسب العشائري ليحل محله مفهوم املواطنة‬ ‫املكانية‪ ،‬ويرى أن آراءهما قد تلقي الضوء على التحوالت السياسية‬ ‫والتشريعية التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية‪ .‬يذهب مني إلى أن‬ ‫وجود القانون وأساسه ال يرجع لوجود مشرع قادر على فرضه واإللزام‬ ‫به خالفا لهوبز‪ ،‬بل إن أساسه يرجع إلى عادات وتقاليد وسنن وأعراض‬ ‫وسوابق يخضع لها الناس دون وعي بذلك أو قيم تدلهم لها أو قوة رادعة‬ ‫وهذه تتحول بالتدريج إلى قوانني ملزمة مع نمو املؤسسات السياسية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬وفي تشخيصه للمجتمع القديم قال مني إن الوحدة‬ ‫األساسية فيه ليست هي الفرد بل هي الحمولة التي تتألف من مجموعة‬ ‫عوائل وكل حمولة يرأسها أب تخضع لسلطته املطلقة‪ .‬وهكذا يرى مني‬ ‫أن ظهور الدولة لم يأت لتعاقد بني أفراد أحرار ومستقلني‪ ،‬خالفا لجون‬ ‫لوك وجان جاك روسو‪ ،‬إنما نتيجة التحول التدريجي من العالقة القرابية‬ ‫إلى العالقة املكانية‪ ،‬وال يتم ذلك وال يحل مفهوم الفرد إال حينما يقطع‬ ‫شوطا في مسيرة التطور في مجال التنظيم االجتماعي وتحل امللكية‬ ‫الفردية محل امللكية املشاعة ويتفق دي كوالنغ مع مني في عموم ما ذهب‬ ‫إليه‪ .‬مع مطلع القرن العشرين أدى التقدم التكنولوجي إلى انحسار البداوة‬ ‫تدريجيا‪ ،‬استبدلت اإلبل بالسيارات واألسلحة التقليدية والبندقية‪ .‬أصبح‬ ‫الغزو ممارسة خطيرة‪ ،‬األدوات اختلفت‪ ،‬وهذا االختالف أدى إلى انهيار‬ ‫األصول واألعراف التقليدية التي كانت تحكم هذه املمارسة‪ .‬انصرف‬ ‫الناس عن اإلبل وتدنت أسعارها‪ ،‬وجاءت ماكينات ضخ املياه وتغير‬ ‫عادات الناس الغذائية مكن هذا التقدم التكنولوجي السلطة املركزية من‬ ‫بسط نفوذها حقق لها األفضلية في قلب الصحراء‪.‬‬ ‫لم تعد البداوة نشاطا اقتصاديا مجزيا وال النظام القبلي نظاما فاعال‬ ‫وأجبر البدو على التكيف مع الحياة املدنية‪ ،‬وإن لم يجيدوا عمل ذلك‪،‬‬ ‫مما يشعرهم بالتهميش والنكوص إلى قيم القبيلة ورموز البداوة تشبثا‬ ‫بهوية مفقودة‪ .‬إن هذا التشبث بتلك املمارسات الفاقدة للفاعلية‪ ،‬التي ال‬ ‫يفهمونها اآلن وال باستطاعتهم تطبيقها بشكل عملي له آثار سيئة كما‬ ‫يوضح الصويان‪« :‬التطرف في التشبث برموز القبيلة خارج سياقاتها‬ ‫يشوه مفهوم القبيلة تماما كما يشوه التزمت الديني مفهوم الدين‬ ‫حينما كان النظام القبلي حيا وفاعال كان على درجة عالية من املرونة‬ ‫واالنفتاح والقابلية للتكيف مع الظروف الطارئة وكان بعيدا عن التشنجات‬ ‫والعصبيات التي يمارسها أبناء القبائل اليوم»‪ .‬حسم صراع الدولة‬ ‫والقبيلة لصالح الدولة‪ ،‬لكن القبيلة لم تغب تماما عن املشهد السياسي‬ ‫بل تحولت بتعبير الصويان إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات املجتمع‬ ‫املدني األكثر فاعلية‪ ،‬ويستشهد بذلك إلى التمثيل القبلي في مجالس‬ ‫الشورى وهيئات التشريع في السعودية ودول الخليج‪ ،‬خصوصا الكويت‬ ‫وكذلك العراق واألردن وسوريا‪.‬‬

‫تجعل البدوي أكثر إجادة ملمارسة السياسة من الحضري الذي يميل إلى‬ ‫السكونية والتشبث باملسلمات والثوابت‪« :‬مجتمع الحضر الريفي يتسم‬ ‫باملحافظة ورفض كل جديد أو مغاير‪ .‬الشخصية الريفية نمطية مقولبة‬ ‫تتميز بذهنية تحريمية تتشبث باملقدس والطقوس التقليدية والشكليات‬ ‫املتوارثة وعقليتها عقلية سكونية راكدة تفتقر إلى الحركة واملرونة‬ ‫الكافية للتعامل بشكل عقالني وخالق مع املستجدات والتحديات‪ .‬وحيث‬ ‫إن مرجعيتها ماضوية فإنها تشكك في الحاضر وترفض التغيير‬ ‫وتخاف من املستقبل بينما تقدس املاضي»‪ ،‬ويجب التوضيح بأن النسب‬ ‫القبلي وارتباطه باألجداد ليس هو املاضي املعني هنا‪ ،‬فقد قدم النظام‬ ‫القبلي أمثلة كثيرة على تكيفه للتغيير‪ ،‬ويكفي تعامله مع الدولة اإلسالمية‬ ‫األولى والدولة السعودية كاثنني منهما‪.‬‬ ‫إن التحرر من األعباء العقدية واآليديولوجية تجعل النظام القبلي ماديا‬ ‫ودنيويا وغير مقيد‪ ،‬هذه الصبغة العملية البراغماتية هي مظهر جديد‬ ‫يتجلى أمامنا‪ ،‬له أسس سابقة أسهمت حتى في تشكيل النوازع األخالقية‬ ‫في املجتمع القبلي‪ ،‬من قيم الشرف التي تعود عليه بالفخر‪ ،‬وحروبه‬ ‫من أجل الكسب ال طلب الشهادة‪ ،‬وبذله لنيل سمعة الكرم ال للصدقة‪.‬‬ ‫املجتمع البدوي يشجع املبادرات ويحاول أن يستثمر في الرجال‪ ،‬ما جعله‬ ‫أميل للتسامح واالنفتاح من مجتمع الحضر الريفي‪ .‬ومن املمارسات‬ ‫الديمقراطية في املجتمع القبلي‪ ،‬األسس الشرعية للمشيخة التي تعتمد‬ ‫على التوافق وما يحمله ذلك من انعكاسات على أداء شيخ القبيلة وعالقته‬ ‫بأبناء قبيلته‪ ،‬بخالف األمير في القرى الذي ترتبط شرعيته بأسباب‬ ‫مختلفة تدعمها فقط القوة املجندة‪ .‬كما أن النظام القبلي تضمن مظهرا‬ ‫من مظاهر فصل السلطات‪ ،‬فالعرف مثل سلطة قضائية‪ ،‬وشيخ القبيلة‬ ‫مثل سلطة سياسية‪ ،‬وعقيد الغزو سلطة عسكرية‪ .‬ويبرز هنا السؤال‬ ‫بكيفية تجيير الوالء القبلي إلى والء وطني؟ كيف يستبدل مفهوم القبيلة‬ ‫مفهوم الدولة؟ ال يفترض الصويان ضرورة تعارض هذه الوالءات‪ ،‬بتبني‬ ‫الدولة ملفهوم القبيلة كهوية فرعية عبر السماح لها بتمثيل نفسها كحزب‬ ‫أو مؤسسة من مؤسسات املجتمع املدني وتجيير تلك الوالءات املدنية‪،‬‬ ‫سواء كانت قبلية أم ال‪ ،‬تجاه الدولة يقع على عاتقها وما تقدمه للفرد من‬ ‫خدمات ملصالحه وأهدافه مما يعزز تفرده‪ .‬إن هذه الحلول التي يقدمها‬ ‫الصويان ليست شكال نهائيا لتصوره املفترض للدولة‪ ،‬إنما هي حلول‬ ‫منبثقة من واقع املنطقة تفضي على مر الزمن إلى مزج الهوايات الفرعية‬ ‫لتذوب في هوية وطنية واحدة‪.‬‬

‫النظام القبلي كنظام قضائي وسياسي وتعبوي ال كجماعة قرابية أصبح القبيلة كغطاء آيديولوجي‬ ‫هو األكثر تأهيال وقابلية للتفعيل ولعب دور األحزاب السياسية‪ .‬إن بذور‬ ‫العلمانية واملمارسات الديمقراطية في النظام القبلي‪ ،‬وإن بصورة بدائية‪،‬‬

‫‪52‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫ينقل الصويان عن األنثروبولوجي لويس هنري مورغان في تناوله ملفهوم‬


‫الجانب املادي للثقافة‪ ،‬لكن اعتماد البدو على أدوات الحضر املتقدمة تقنيا‬ ‫يعتمد فقط على مدى حاجتهم لها‪ ،‬فالحاجة هي التي تدفع إلى اإلنتاج‬ ‫والتقدم في أحد مجاالت الثقافة‪ ،‬ومن هنا نشدد على التقدم الثقافي للبدو‬ ‫في الجوانب التي استدعتها حاجتهم أكثر من الحضر‪ :‬مثل التنظيمات‬ ‫االجتماعية والسياسية والقضائية والقدرات الحربية والفصاحة والبيان‬ ‫وغيرها‪« :‬ال أحد ينكر دور البدو في الفتوحات اإلسالمية قديما وفي‬ ‫توحيد اململكة العربية السعودية حديثا»‪.‬‬

‫التمايز بني سكان الجزيرة العربية وجود الشوايا‪ ،‬وهم البدو املختصون‬ ‫بتربية املاعز والضأن‪ ،‬وهذه األنواع من املاشية ال تمكنهم من التوغل‬ ‫في الصحراء وممارسة الغزو‪ ،‬مما يجعلهم يدفعون اإلتاوة للقبائل التي‬ ‫تحميهم‪ ،‬وأيضا من يسمون القعدية (من القعود وعدم الحركة) وهم بدو‬ ‫انعدمت بفعل الظروف رواحلهم‪ ،‬فسكنوا حافة املدن والقرى الزراعية‪.‬‬

‫املشهد السياسي‬

‫يورد بعد هذا الصويان اآلراء بأن الرعي جاء متقدما على ممارسة‬ ‫اإلنسان الزراعة بفترة طويلة‪ ،‬حيث إن استئناس الحيوانات أتى بعد‬ ‫تدجني النبات‪ ،‬فالحقول املزروعة تمثل عامل جذب للحيوانات البرية‪ ،‬ثم‬ ‫الحقا بعد أن تمكن اإلنسان من الزراعة بعيدا عن مجاري األنهار وما‬ ‫حدث من تفجر سكاني نتيجة إنتاج الغذاء‪ ،‬أصبح الغذاء كافيا لإلنسان‬ ‫فقط دون الحيوان‪ .‬ما أحدثته الزراعة من نشأة للقرى وازدياد في‬ ‫حجمها‪ ،‬أثر على الرعاة الذين اضطروا للرعي في املناطق الصحراوية‪:‬‬ ‫«وكلما توغل الرعاة بعيدا في الصحراء‪ ،‬كلما أصبحوا هم وماشيتهم‬ ‫عرضة للسباع والوحوش والسلب والنهب‪ ..‬في هذه املرحلة كانت الزراعة‬ ‫والرعي قد أصبحتا مهمتني شاقتني كل منهما تحتاج إلى مهارات خاصة‬ ‫مما جعل من الصعب الجمع بينهما ولذلك انفصل الرعاة عن الفالحني‬ ‫واصطحبوا معهم عائالتهم وصاروا يعيشون في جماعات منظمة»‪.‬‬ ‫البداوة بمفهومها العربي ترتبط بشكل أساسي باستئناس البعير‪ ،‬الذي‬ ‫لم يتيسر إال منذ أربعة آالف سنة‪ .‬غير الزراعة التي نشأت منذ عشرة‬ ‫آالف سنة‪.‬‬

‫ما سبق من تصنيف ألهل الجزيرة العربية من بدو وحضر بني على‬ ‫أسس معيشية ال سياسية‪ ،‬لم تكن هذه الثنائية سمة لحروب ذلك الزمن‪،‬‬ ‫نشأت املعارك والتحالفات بني البدو والحضر دون أي اعتبار الختالفهما‪.‬‬ ‫اإلمارات واملشيخات نشأت بعضها في جزيرة العرب على شرعية مدنية‬ ‫حضرية ونشأت أخرى على شرعية قبلية‪ ،‬حيث تحولت القبيلة مباشرة‬ ‫إلى دولة دون تدرج للحضارة‪ ،‬ولكنها طبعا قامت على قاعدة حضرية‬ ‫لحظة هذا التحول‪ .‬طرق الحج والتجارة واإلنتاجية الزراعية والقدرة على‬ ‫استغالل املوارد مثلت العوامل األهم في نشوء تلك الدول‪ ،‬استطاعت تلك‬ ‫الدول أن تفرض السالم واالستقرار في بعض الفترات ولكنها كانت فترات‬ ‫متباعدة وقصيرة‪ .‬إن وجود سلطة مركزية قوية في الجزيرة العربية قبل‬ ‫بداية القرن العشرين في تلك الظروف كان أمرا متعذرا لضعف القاعدة‬ ‫التكنولوجية وقسوة البيئة الصحراوية وما خلفته على إنسانها من‬ ‫نزعة تنافسية تمردية‪ .‬هذا الغياب أو الضعف في السلطة املركزية كان‬ ‫له أثر إيجابي على حياة البدو وازدهارهم‪ ،‬بطبيعتهم الترحالية وقدرتهم‬ ‫الحربية مارسوا الغزو وتحكموا بالطرق واملسالك البرية‪ ،‬أجبرت هذه‬ ‫الصفات القرى الضعيفة إلى دفع اإلتاوة مقابل توقف الغارات واألمن‬ ‫في التنقل‪.‬‬

‫يحمل أهل الجزيرة العربية تصورا نظريا تجاه مجتمعهم يسميه‬ ‫الصويان النموذج املحلي‪ ،‬يختلف النموذج املحلي عن النموذج الخلدوني‬ ‫في قصر املسافة الثقافية بني البدو والحضر‪ ،‬فهي ليست ثنائية تعاقبية‬ ‫بل ثنائية ينظر لها من منظور بنائي تقابلي‪ ،‬تقوم على تبادل الخدمات‬ ‫واملصالح والسلع‪ ،‬هذا النموذج املحلي يقدم البداوة والحضارة باعتبارهما‬ ‫وسيلتني متكاملتني مترابطتني للتكيف مع البيئة الصحراوية‪ ،‬أي أنهما‬ ‫يرتكزان على قاعدتني إنتاجيتني وتكنولوجيتني في معادلة اقتصادية‬ ‫واجتماعية واحدة‪ ،‬تخف التضادية في هذا النموذج عن النموذج الخلدوني‬ ‫بني البدو والحضر ولكنها ال تزول تماما‪« :‬صراع البداوة والحضارة‬ ‫صراع قديم يعود‪ ،‬كما تحدثنا األسطورة‪ ،‬إلى أيام قابيل وهابيل‪ ..‬لكنه‬ ‫في النموذج املحلي ليس صراعا بني جماعات همجية بربرية بدائية وأمم‬ ‫راقية متحضرة‪.‬‬

‫كانت التغيرات الدولية في القرن السابع عشر عامال مسؤوال للتغير‬ ‫االقتصادي في الجزيرة العربية‪ ،‬حيث اتخذت حركة التجارة بعدا إقليميا‬ ‫بعد أن كانت محدودة بالتبادل املحلي بني البدو والحضر‪ ،‬دفع هذا إلى‬ ‫تنشيط حركة االستقرار والتحضر‪ .‬تطور صناعة السفن وتقنيات‬ ‫املالحة‪ ،‬ونشوء خط تجارة التوابل الجديد أدى إلى انهيار النظام التجاري‬ ‫القديم وتحويل استثمارات أهل الجزيرة نحو الداخل‪ ،‬يقول الصويان‪..« :‬‬ ‫فأسسوا املستوطنات واتجهوا نحو الزراعة واالتجار بالخيول واإلبل‪.‬‬ ‫ومما شجعهم على ذلك زيادة طلب الدولة العثمانية على هذه السلع‪ ،‬ومن‬ ‫بعدها الحكومة البريطانية في الهند‪.‬‬

‫ثنائية البدو والحضر‬

‫إنه في حقيقته صراع أيكولوجي بني مجموعتني تكادان تكونان متعادلتني‬ ‫ومتساويتني تقنيا وحضاريا» يستعرض الصويان الشواهد الشعرية‬ ‫لهذا الصراع‪ ،‬وتنقل تلك الشواهد ما تحتله ثنائية البداوة والحضارة في‬ ‫ذهن أهالي الجزيرة العربية‪ ،‬واستحضارها لبيان االختالف‪ ،‬أو ألغراض‬ ‫التشبيه‪ ،‬أو بيان الصور النمطية واملشاعر تجاه األخرى‪ ،‬وهي عادة ما‬ ‫تكون غامضة تتراوح بني االزدراء واإلعجاب‪ .‬إن هذا التداخل في التركيب‬ ‫والتشعب والكثافة في العالقات يؤكد ماهية العالقة التكاملية بني البدو‬ ‫والحضر‪« :‬خالف ما يفترضه النموذج الخلدوني بأن البدو فقط هم الذين‬ ‫ال غنى لهم عن الحضر في حاجاتهم الضرورية بينما ال يحتاج الحضر‬ ‫إلى البدو إال في الحاجي والكمالي» وكذلك نجد في النموذج املحلي ما‬ ‫يتناقض مع ما يفترضه ابن خلدون بأن غاية البدوي هي التحضر‪،‬‬ ‫وبأن ثنائية البداوة والحضارة تسير في حركة تطورية أحادية االتجاه‬ ‫حيث نجد تحوالت جمة من البداوة إلى الحضارة والعكس‪ ،‬بدافع الفقر أو‬ ‫القحط أو التعرض للغزو الكاسح‪ ،‬أو فحش الغنى وبدافع تردي الزراعة أو‬ ‫اضطراب األحوال السياسية عند الحضري‪« :‬وهذا ما حدث مثال في العالم‬ ‫اإلسالمي مع انهيار سلطة الدولة العباسية‪ ..»..‬ومن األدلة على ضبابية‬

‫كما أن اكتشاف القهوة وزراعتها في اليمن عزز من التجارة الداخلية في‬ ‫الجزيرة العربية وزيادة حجم صادراتها» تزايد في هذه الفترة نشاط‬ ‫العقيالت‪ ،‬وهم مجموعة من التجار البدو والحضر مثلت قوافلهم مجاال‬ ‫من أهم مجاالت النشاط االقتصادي ولعبوا دورا في دمج إنتاج الحضر‬ ‫الزراعي والبدو الرعوي في نظام اقتصادي شامل متكامل‪ .‬كان تزايد‬ ‫نشاطهم في تلك الفترة يعزى إلى نقلهم للبضائع من موانئ الخليج إلى‬ ‫الشام والعكس عبر قوافلهم‪.‬‬ ‫كان لهذه اإلرهاصات دور الحق في قيام سلطة مركزية توحد هذه‬ ‫الحركة التجارية‪ ،‬وال ُيغفل دور العقيالت اللوجستي أيضا في ذلك‪،‬‬ ‫لرغبتهم في التعامل مع سلطة واحدة يدفعون لها الرسوم والضرائب‬ ‫بدال من السلطات املتعددة املتمثلة في القبائل‪ .‬يشير الصويان إلى التقدم‬ ‫الثقافي واالستقرار الحضاري ملنطقة العارض (الرياض حاليا) عن‬ ‫غيرها من املناطق‪ ،‬كان العلم حاضرا فيها قبل الدعوة الوهابية‪ ،‬حيث‬ ‫عجت بالعلماء واإلمارات القوية‪« :‬في الفترة التي سبقت ظهور الدعوة‬ ‫الوهابية وقيام الدولة السعودية نالحظ أن أهل منطقة الوشم والعارض‬ ‫كانوا قد وصلوا إلى درجة ال بأس بها من النضج السياسي في تفكيرهم‬ ‫وفهمهم لشرعية السلطة ومقومات الحكم وواجبات الحاكم‪ ،‬مما يعني‬ ‫أن األجواء صارت مهيأة لتقبل فكرة الدولة» فاالحتفاء بالشعر النبطي‬

‫‪,,‬‬

‫التنظيم‬ ‫القبلي هو‬ ‫في حقيقته‬ ‫مؤسس على‬ ‫األحالف تنشأ‬ ‫التحالفات‬ ‫على املصالح‬ ‫املشتركة‬ ‫أو التجاور‬ ‫وتحل الحقا‬ ‫أسطورة‬ ‫النسب محل‬ ‫الوحدة‬ ‫املكانية‬

‫‪,,‬‬

‫صورة تخيلية لـ « امرؤ القيس بن حجر»‬ ‫أحد أشهر شعراء العصر الجاهلي‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪51‬‬


‫ثقافة‬

‫الشفاهة والكتابة‬

‫‪,,‬‬

‫ال يمكن لنا أن‬ ‫نتعرض لدراسة‬ ‫سعد الصويان‬ ‫للشعر النبطي‬ ‫دون أن نعرج‬ ‫على نظرة‬ ‫االزدراء من قبل‬ ‫أغلب الكتاب‬ ‫واملفكرين في‬ ‫العالم العربي‬ ‫تجاه عموم األدب‬ ‫الشعبي باعتباره‬ ‫مظهرا من‬ ‫مظاهر التخلف‬ ‫واالنفالت‬

‫‪,,‬‬

‫قبل البدء في التعاطي مع ثقافة وشعر الصحراء العربية‪ ،‬يعرج الصويان‬ ‫على الشفاهة والكتابة في اللغة واألدب وما يترتب على كل منهما‪« :‬إن‬ ‫املجتمعات الشفاهية تصوغ آدابها ومعارفها بأسلوب يسهل حفظه‬ ‫وتذكره واسترجاعه‪ .‬التكرار واإلرداف واالتباع والتقابل والسجع وتوازن‬ ‫الفقرات والقوالب اللفظية في النثر والوزن والقافية في الشعر وغيرها‬ ‫من خصائص األسلوب الشفاهي ليست مجرد عناصر جمالية أو آليات‬ ‫لتسهيل النظم وارتجاله‪ ،‬بل هي أيضا وسائل تساعد على الحفظ والتذكر‬ ‫والرواية ولذا نجد أن املجتمعات الشفاهية تعتمد كثيرا على القوالب‬ ‫الجاهزة والصيغ التقليدية في التفكير والتعبير وتميل نحو النمطية في‬ ‫الوصف والتشخيص‪ .‬وهي إلى املحسوسات أقرب منها إلى التجريد‪.»..‬‬ ‫ومن سمات األدب الشفاهي املحافظة والتقليد‪ .‬فلكونه شفاهيا فإن‬ ‫املتلقي له دور بارز فيه كما لألديب نفسه مادة هذا األدب هي واقع‬ ‫متلقيه وقيمه األخالقية والثقافية واالجتماعية ال يحاول األديب فيه أن‬ ‫يخلق وعيا جديدا أو أن يعبر عن ذاته بقدر ما يحاول أن يستجيب لواقع‬ ‫عصره وذائقة جمهوره‪ ،‬ولهذا نجد أن التكرار والترداد من أبرز سماته‪،‬‬ ‫هذا األسلوب يناسب املتلقي ويحقق الشروط التي تضمن له البقاء في‬ ‫ذهن املجتمع‪ .‬إن ذهنية اإلنسان األمي تختلف عن ذهنية اإلنسان املتعلم‪،‬‬ ‫آليات التفكير التقمصي والتموضعي تغلب على ذهنيته‪ ،‬فهو ال يتعامل‬ ‫مع الكلمات بموضوعية ويعزلها عن صورها الحسية‪ ،‬فتجد لديه أن‬ ‫«التلفظ بالدال يشير إلى املدلول» فيتفادى ذكر األمراض الخطيرة أو‬ ‫الكائنات املخيفة بأسمائها (طاعون‪ ،‬سرطان‪ ،‬شيطان‪ ..‬إلخ) ويصعب‬ ‫عليه‪« :‬تصور األعداد الحسابية مجردة من أشياء حسية محددة ترتبط‬ ‫بها» وكذلك في وسوم إبله التي ال يسميها بمصطلحاتها املجردة بل‬ ‫بما تسجله من أشياء (الدائرة يسميها حلقة وهكذا)‪ ،‬وكما كان الناس‬ ‫يتحاشون الشعراء في الجاهلية خوفا من هجائهم‪ ،‬فإن الدعاء على‬ ‫الغريم حل محل الهجاء في الشعر النبطي‪.‬‬ ‫النزاعات والصراعات التي يعيشها اإلنسان األمي تنعكس على تفكيره‬ ‫وأدبه‪ ،‬ولهذا تتسم الثقافة الشفاهية بالصبغة الصدامية وذلك ملا يعيشه‬ ‫إنسانها من خوف وقسوة في الحياة وضعف لألمن وما تحدثه قوى‬ ‫الطبيعة من ظواهر ال يمكنه تعليلها وفهمها‪« :‬هذا الجهل بقوانني الطبيعة‬ ‫إلى االعتقاد بحيوية املادة فيفضي على األشياء دوافع أشبه بالدوافع‬ ‫اإلنسانية ويصبح عامله مسكونا باألرواح التي يعزو إليها ما يحدث له‬ ‫من خير أو شر‪ .»..‬كما أن الرجل البدائي ال يغيب عنه الحس بوجود‬ ‫األعداء املتربصني‪ ،‬وال يتوارى عن شخصنة الخالف في الرأي‪« :‬على‬ ‫مبدأ أنت إما معي أو ضدي حيث ال حيادية وال موضوعية وال تفكير‬ ‫أو موقف متجرد»‪ .‬كل هذا ال يعني كما يوضح الصويان أن اإلنسان‬ ‫األمي يفتقر إلى الحكمة والعقل واملنطق لكن هناك عمليات ذهنية ال‬ ‫تتحقق إال بالكتابة‪ ،‬التراكم املعرفي الناتج عن الكتابة هو الذي يمكن‬ ‫اإلنسان من إتقان التحليل والتصنيف التجريدي‪« :‬املعارف الشفاهية هي‬ ‫معارف تكديسية تراكمية تقوم على حشد املعلومات وتجميعها لكنها‬ ‫تفتقر إلى وسائل املزج والدمج وآليات الربط والتركيب وإلى أدوات التأمل‬ ‫والنقد والتحليل التي توفرها الكتابة والتي تمنح القدرة على االستنباط‬ ‫واالستقراء واالستنتاج والتعميم وتقود إلى صقل ملكة النقد والتحليل‬ ‫وإلى نشأة العلوم»‪ .‬إن عدم إدراكنا لهذه األمور يقود إلى اإلشكال في‬ ‫التعامل مع النتاج األدبي الشفاهي‪ .‬يرى الصويان أن الثقافة العربية لم‬ ‫تتحول بعد بشكل كامل من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة‪ ،‬حيث ال يزال‬ ‫الشعر الجاهلي هو نموذجها األعلى‪.‬‬

‫نظرية االنتحال ونظرية الصياغة الشفاهية‬ ‫يعبر الصويان عن موقف رصني ومثير تجاه هذه النظريات‪ ،‬فهو من‬ ‫ناحية ال يستبعد احتمال أي تغير أو تحريف قد يطال الشعر الجاهلي‪،‬‬ ‫‪50‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫لكنه يؤكد أن مضامني هذا الشعر وبنيته تتفق تماما مع ظروف العيش‬ ‫في ذلك الزمن‪ ،‬ومن هذا املنطلق تنتفي احتمالية نحله بأكمله‪ ،‬فلو كان‬ ‫ُ‬ ‫منحوال لعبر عن عصره الذي نحل فيه‪« :‬هذا التماسك الطبيعي والتالحم‬ ‫العضوي واالنصهار بني مكونات املوروث الشعري الجاهلي الضخم‬ ‫من جهة‪ ،‬وبينه وبني مجمل املعارف الغزيرة املتعلقة بحياة الجاهلية‬ ‫وتاريخها من جهة أخرى يجعل من الصعب علينا أن نتصور أن الشعر‬ ‫الجاهلي في غالبيته مزيف»‪ .‬وفي حني يستدل أصحاب نظرية االنتحال‬ ‫بنقص اإلشارات الدينية في الشعر الجاهلي عدا ما شابه منها روح‬ ‫اإلسالم وصبغته فإن الصويان يستخدم هذه الشواهد لالستدالل على‬ ‫نقيض نظريتهم‪ ،‬فاإلسالم والقرآن تبنيا لغة العرب ولسانهم‪ ،‬والجانب‬ ‫الروحي واألخروي فيه هو امتداد لتصورات سابقة مماثلة‪ ،‬يجب أن ننظر‬ ‫إلى العالقة بني اإلسالم والعرب الجاهليني بمنظور صحيح‪ ،‬فهذه العالقة‬ ‫هي عالقة امتدادية‪ .‬ومن ناحية أخرى فإن نقص اإلشارات الدينية في‬ ‫الشعر الجاهلي يعود إلى الطبيعة البدوية التي تصبغ هذا الشعر‪ ،‬ومن‬ ‫عادة البدو‪« :‬أال يكترثوا كثيرا بأمور الدين التي يجهلونها وال يلقون لها‬ ‫باال‪ .‬خصوصا من هم موغلون في البداوة‪ ،‬ألن الدين حضري‪ ،‬كما في‬ ‫القول املأثور» ويستشهد الصويان في هذه النقطة بنماذج من الشعر‬ ‫النبطي‪.‬‬

‫البداوة والحضارة‬ ‫يذهب الصويان إلى أن النظرة املنحازة ضد البداوة هي نتاج لصراع‬ ‫الحضارات النهرية مع أهالي الصحارى العربية‪ ،‬نشأت الكتابة في تلك‬ ‫الحضارات‪ ،‬في ممالك الهالل الخصيب‪ ،‬وحسمت الصراع لصالحها‪ ،‬لكن‬ ‫تبقى هذه الرؤية أمرا غير حيادي ومخالفا للمنهجية العلمية‪ ،‬إن عجلة‬ ‫التطور تسير وفق آليات معنية يحكمها تالحم ظروف مختلفة‪ ،‬ونشأة‬ ‫الكتابة في ممالك الهالل الخصيب تدفعها مجموعة من اآلليات التي غابت‬ ‫عن حياة أهالي الصحارى العربية‪ ،‬وغياب تلك اآلليات يبرز االختالف‬ ‫فقط وال يوحي بتخلف أهالي الصحراء‪« :‬الحياة البدوية حياة ترحالية‬ ‫ال تبني وال تشيد وثقافتها ثقافة شفهية ال تقيد وال توثق» ومع تأسس‬ ‫الدولة اإلسالمية وانتقال مراكزها إلى الشام والعراق ومصر‪ ،‬ترسخت‬ ‫تلك النظرة املنحازة ضد البدو مع إسهام أهل الهالل الخصيب والفرس‬ ‫في صياغة املدنية العربية‪« :‬هذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها‬ ‫إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة االنحياز ضد ذاتها‪،‬‬ ‫خصوصا بعد نشوء مفهوم الدولة الذي هو على النقيض من مفهوم‬ ‫القبيلة لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضدا‬ ‫لها» هذا املفهوم للبدو يعتبر أهل وسط الجزيرة وشمالها كلهم بدوا‪ ،‬بما‬ ‫فيهم من تحضر من الفالحني‪ .‬ابن خلدون يؤكد أن وجود البدو يعتمد‬ ‫أساسيا على وجود الحضر لسد حاجاتهم الضرورية وهذا يتنافى مع‬ ‫أولية البدو على الحضر وهو ما يتناقض مع اعتباره للبداوة مرحلة بدائية‬ ‫سابقة للحضارة‪.‬‬ ‫يجب أن نفرق ما بني البداوة والبدائية‪ ،‬اإلنسان البدائي هو الذي يعيش في‬ ‫مجموعات قرابية صغيرة تمارس الجمع والصيد والبحث عن مصادر‬ ‫الغذاء الطبيعية‪ ،‬وترتحل للبحث عن القوت فقط‪ ،‬وهي مرحلة من العيش‬ ‫سابقة للزراعة والرعي واستئناس الحيوان‪« :‬ال يمكننا مقارنة البداوة‬ ‫بالبدائية ألنها تختلف عنها نوعيا وتتفوق عليها بمراحل من الناحية‬ ‫الثقافية وألن متطلبات الحياة الرعوية ال تقل عن متطلبات الحياة الزراعية‬ ‫من حيث املستوى التكنولوجي ومستوى التنظيم السياسي واالجتماعي»‪،‬‬ ‫اإلنسان البدوي يرتحل بحثا عن املرعى‪ ،‬استأنس الحيوانات واستفاد‬ ‫من ركوبها وحلبها كما استفاد من صوفها وجلودها وعظامها وله‬ ‫سلطة عليها بعكس اإلنسان البدائي‪ ،‬كما أن املجتمعات البدوية ليست‬ ‫معزولة كما هي البدائية‪ ،‬هذا الحديث بالتأكيد ال ينطبق على النظام‬ ‫القبلي الذي يؤكد الصويان أنه مرحلة سابقة لقيام الدولة‪ .‬من الصحيح‬ ‫أن نقول إن الثقافة الحضرية كانت أكثر تقدما من الثقافة البدوية في‬


‫ليس عربيا‪ .‬ويؤكد الصويان أن هذه الذهنية أقرب للذهنية الشعبية منها‬ ‫إلى العلمية في تعاطيها مع األدب الشعبي ورفضها له‪.‬‬

‫إلى حد كبير بغض النظر عن اللهجات كما هو الحال اآلن في الشعر‬ ‫النبطي‪.‬‬

‫الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلي‬

‫«اختالف اللهجات بني مختلف القبائل واملناطق في الفترة نفسها الزمنية‪،‬‬ ‫وتغير اللهجة نفسها بني سياق خطابي وآخر‪ ،‬هذه ثالثة أسباب‪ ،‬ويمكن‬ ‫إضافة أسباب أخرى إليها‪ ،‬جديرة بأن تجعلنا ننتبه إلى أن اللغة العربية‬ ‫التي كان يمتلكها العرب األوائل لم تكن بذلك االنتظام الذي أضفته عليها‬ ‫فيما بعد جهود اللغويني العرب»‪ .‬ومقصد الكاتب في هذا أن الفصحى‬ ‫كما نعرفها ليست هي بالتحديد ما كان يتكلمه أولئك العرب بهذا االنتظام‬ ‫واالتساق‪ ،‬أي أن الفصحى بقواعدها ونظمها اآلن ليست إال صياغة‬ ‫لتفسير الظاهرة اللغوية‪ ،‬وال يلغي ذلك أي احتمال لصياغة أخرى‪ .‬هذه‬ ‫الصياغة «في نهاية األمر شيء مؤسس على ما كان يتكلمه أولئك العرب‬ ‫األوائل» تساق هذه النقطة للتشديد على أن هذا االنتظام واالتساق اللغوي‬ ‫هو نتاج للقواعد التي فسرت تلك الظاهرة‪ ،‬وأيضا لنفي النظريات املشككة‬ ‫في مصداقية شعر تلك املرحلة من الزمن ملا سندته من القواعد النحوية‬ ‫والصرفية والصوتية التي صاغها اللغويون‪.‬‬

‫يبرز الصويان العالقة بني الشعر النبطي والشعر الجاهلي بأن كليهما‬ ‫أدب شعبي ال تختلف لغته عن لغة الناس اليومية‪ ،‬بل ويذهب الصويان إلى‬ ‫أن الشعر العربي الفصيح لم يتخل عن أساليب األدب الشفهي كالتكرار‬ ‫واإلرداف والسجع واالستطراد‪« :‬إذا سمحنا ألنفسنا بأن ال نقتصر في‬ ‫تعريفنا لشعبية املادة على شكلها اللغوي بل تجاوزنا ذلك إلى املضمون‬ ‫فإن الكثير من املادة التي تزخر بها كتب األدب العربي ليست إال مادة‬ ‫ُ‬ ‫شعبية فصحت لغتها» كالبخالء وكليلة ودمنة وغيرهما‪ .‬الظروف‬ ‫الطبيعية واالجتماعية لبيئة الشاعر النبطي وما تخلق من موارد ملهمة‬ ‫لشعره تتشابه تماما معها لدى الشاعر الجاهلي‪ .‬يصل الصويان في‬ ‫كتابه «الشعر النبطي‪ :‬ذائقة الشعب وسلطة النص» إلى نتيجة مفادها‬ ‫أن‪ ،‬النبطي‪ /‬العامي هو السليل املباشر واالمتداد للجاهلي‪ /‬الفصيح‪.‬‬ ‫شعبية األدب ال تتحدد من خالل لغته بقدر ما تتحدد من خالل وظيفته‬ ‫االجتماعية والتداول الشفهي والتقليدية في الشكل واملضمون‪ .‬هذه‬ ‫املحددات يتساوى فيها الشعر الجاهلي والشعر النبطي رغم ما بينهما‬ ‫من اختالف في اللغة»‪.‬‬ ‫هذان النمطان من الشعر يشتركان في الرقعة الجغرافية وفي أمية الشعوب‬ ‫التي أنتجتهما‪ ،‬وأسلوب تداولهما الشفاهي‪ ،‬وفي املناخ االجتماعي‬ ‫والثقافي‪ .‬قبل أن نتطرق إلى ما طرأ على اللغة من التغير تجب اإلشارة‬ ‫إلى أن االزدواجية اللغوية هي ظاهرة مدنية ال تنشأ إال في املجتمعات‬ ‫الكتابية املعقدة التركيب‪ ،‬الحديث هنا هو عن االزدواجية اللغوية بغض‬ ‫النظر عن مستويات الخطاب في اللغة الواحدة‪ .‬هذه الحواضر التي طرأ‬ ‫فيها االزدواج هي الحواضر العربية ما بعد الفتوحات اإلسالمية نتج عن‬ ‫انتقال مراكز الدولة من الجزيرة العربية نحو الشمال‪ ،‬نحو تلك املدن‬ ‫املثقلة باإلرث الحضاري تحوالت جذرية على املستوى اللغوي نشأت‬ ‫لغتان‪ ،‬عامية وفصيحة هذه التغيرات منطقية في سياقها حيث يفرض‬ ‫هذا االحتكاك مع شعوب تلك األمصار وهذا التحول إلى الحياة املدنية‬ ‫تغيرا في اللغة والثقافة عموما‪ .‬أما التفاوت في مستويات الخطاب فهو‬ ‫موجود في داخل النسق اللغوي الواحد ويتعني هذا التفاوت باختالف‬ ‫الغرض الفني والوظيفة‪.‬‬ ‫بال شك فإن هذا التفاوت كان موجودا أيضا في العصر الجاهلي‪ ،‬لغة‬ ‫التخاطب اليومي اختلفت عن لغة الشعر واألدب‪ ،‬كما اختلفت أيضا‬ ‫لهجات القبائل واملناطق املختلفة‪ ،‬لكن لغة الشعر واألدب بقيت متجانسة‬

‫إن عزلة القبائل البدوية في الصحراء العربية جعلتهم أقرب إلى النموذج‬ ‫الذي يصوره الشعر الجاهلي والحياة التي يعبر عنها‪ ،‬أقرب إلى هذا‬ ‫النموذج عن عرب الحواضر واألمصار الذي بدأ شعرهم مع العصر‬ ‫العباسي يبتعد عن الشعر الجاهلي «في الرؤية واملضمون والوظيفة‬ ‫واألداء والتداول»‪ .‬أصبح الفصيح في الحواضر العربية لغة رسمية‪ ،‬يتم‬ ‫تعلمها عبر املدارس‪ ،‬بينما بقي بدو الصحراء بمعزل عن تلك القواعد‬ ‫والقيود التي قد تقيد أي تغير عفوي فما حدث في البادية من تفشي‬ ‫اللحن ثم العامية هو نتيجة حتمية للتطور بشكل أساسي‪ ،‬وأيضا‬ ‫بتأثر للتغيرات اللغوية لتلك الحواضر العربية مما أحدثه اختالط العرب‬ ‫باألجناس األخرى‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫قدم الصويان‬ ‫مجموعة‬ ‫من األعمال‬ ‫البحثية‬ ‫املتفردة‬ ‫واملميزة التي‬ ‫ال تضاهى في‬ ‫تعاطيها مع‬ ‫ثقافة الصحراء‬ ‫العربية‬ ‫وفهمها لها‬

‫‪,,‬‬

‫من املعلوم أن العامية شاعت أوال لدى سكان األمصار بينما ظل بدو‬ ‫الصحراء يتحدثون بلغتهم الفصحى وهذا هو أحد الشواهد ملا تم ذكره‬ ‫مسبقا عن سياق التغير اللغوي في الصحراء‪ ،‬توقف علماء اللغة عن‬ ‫أخذها من غير سكان البادية في حدود منتصف القرن الثاني الهجري‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من الغموض ونقص أو شبه انعدام النماذج الشعرية لسكان‬ ‫البادية التي قد تشير إلى بدايات الشعر النبطي إال أن الباحث يسوق‬ ‫الشواهد التي تشير إلى القرن الرابع الهجري بصفته حاسما في تحول‬ ‫لغة الشعر الفصيح إلى العامي‪ ،‬ويستمر في شواهده إلى أن يصل للفترة‬ ‫الزمنية التي عاش فيها أبو حمزة العامري‪ ،‬الذي يرجح أنه عاش في‬ ‫النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف األول من القرن الثامن‬ ‫الهجري وتنسب له أقدم النصوص التي تمثل الشعر النبطي‪.‬‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪49‬‬


‫ثقافة‬

‫في يناير (كانون الثاني) املاضي صدر كتاب الباحث السعودي أستاذ علم االجتماع بجامعة امللك‬ ‫سعود بالرياض‪ ،‬الدكتور سعد العبد الله الصويان «ملحمة التطور البشري» وترافق مع صدوره‬ ‫زخم واحتفاء كبيران‪ ،‬كان الداعي لذلك هو موضوع الكتاب وحجمه‪ ،‬ومن ناحية أخرى فإن‬ ‫املفاجأة كانت لدى البعض في اسم الكاتب!‬

‫ذائقة الشعب وسلطة النص من منظور سعد الصويان‬

‫أيام العرب األواخر‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫عبد العزيز السماري‬

‫‪,,‬‬

‫الظروف‬ ‫الطبيعية‬ ‫واالجتماعية‬ ‫لبيئة الشاعر‬ ‫النبطي وما‬ ‫تخلق من موارد‬ ‫ملهمة لشعره‬ ‫تتشابه تماما‬ ‫معها لدى الشاعر‬ ‫الجاهلي‬

‫‪,,‬‬

‫ارتبط اسم الصويان عند البعض باألدب الشعبي‪ ،‬وربما ناله شيء من دراسة الشعر النبطي‬

‫تلك النظرة السلبية التي يحملها البعض تجاه اآلداب الشعبية ودارسيها‪.‬‬ ‫تكمن املفارقة هنا في أن الحفاوة بهذا الكتاب وغيابها عن كتبه السابقة‬ ‫هو تجسيد صريح ملا ذكره الكاتب سابقا من خلل في األطر الذهنية لدى‬ ‫أصحاب تلك النظرة‪.‬‬ ‫على مدى سنني طوال‪ ،‬كرس سعد الصويان وقته وجهده لدراسة ثقافة‬ ‫الجزيرة العربية وتوثيقها وحفظها‪ ،‬فمن الناحية التوثيقية هو من أشد‬ ‫الناشطني في هذا املجال‪ ،‬بدأ منذ عام ‪ 1982‬بتسجيل مئات الساعات من‬ ‫أفواه الرواة ليحفظ كما هائال من املأثورات الشفهية ويحول دون فقدانها‬ ‫بعد غياب من اختزنوها في ذاكرتهم‪ ،‬فتلك املرويات ال تمثل قيمة أدبية‬ ‫فقط‪ ،‬بل تحمل قيمة ثقافية زاخرة لزمن مضى وملجتمعات غابت ظروف‬ ‫نشأتها واستمراريتها وزالت ممارساتها الشفهية ملا طرأ على املنطقة‬ ‫من تغيرات ثقافية واجتماعية يدفعها الزمن‪.‬‬ ‫وقد نتج عن ذلك املجهود الضخم (كتابه أيام العرب األواخر‪ :‬أساطير‬ ‫ومرويات شفهية في التاريخ واألدب من شمال الجزيرة العربية مع‬ ‫شذرات مختارة من قبيلة املره وسبيع)‪ ،‬وكتاب آخر هو «فهرست الشعر‬ ‫النبطي»‪ ،‬كما أمضى الصويان عشر سنني ابتداء من عام ‪ 1991‬مع دار‬ ‫«الدائرة» للنشر والتوثيق رئيسا لهيئة التحرير ومشرفا علميا ومديرا‬ ‫عاما ملشروعني هما الثقافة التقليدية في اململكة العربية السعودية في‬ ‫‪ 12‬مجلدا‪ ،‬وآخر هو امللك عبد ُالعزيز آل سعود‪ :‬سيرته وفترة حكمه في‬ ‫الوثائق األجنبية في ‪ 20‬مجلدا لخصت فيها أكثر من خمسني ألف وثيقة‬ ‫من األرشيفات البريطانية والفرنسية واألميركية‪.‬‬

‫قدم الصويان مجموعة من األعمال البحثية املتفردة واملميزة‪ ،‬ال تضاهى‪،‬‬ ‫في تعاطيها مع ثقافة الصحراء العربية وفهمها لها‪ ،‬هذه األعمال‬ ‫قد تسهم بشكل كبير في سد فراغات كبرى في نظرتنا للماضي‬ ‫وانعكاساته على الحاضر وحل كثير من إشكاالتها‪ .‬مستندا على عمله‬ ‫امليداني الفذ وأدوات العلوم اإلنسانية واالجتماعية وإملام رفيع باملوروث‬ ‫الثقافي‪ ،‬يستعرض الصويان شواهده واستنتاجاته لدوافع ابن الجزيرة‬ ‫العربية في اختياراته وتصرفاته‪ ،‬ويبحث في كثير من الظواهر املتداخلة‬ ‫املعقدة التركيب التي قلما بحثت بهذا العمق والجرأة‪.‬‬ ‫سأسلط الضوء هنا على ثقافة الصحراء العربية بمنظور الصويان عبر‬ ‫التركيز على كتابيه (الشعر النبطي‪ :‬ذائقة الشعب وسلطة النص) واآلخر‬ ‫(الصحراء العربية‪ :‬ثقافتها وشعرها عبر العصور‪ ،‬قراءة أنثروبولوجية)‪،‬‬ ‫وسأحاول أن أستخلص بعضا من آرائه فيها دون أي حرج من اإلحالة‬ ‫إلى نصوصه مباشرة كما ستظهر للقارئ بني عالمات التنصيص‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫ال يمكن لنا أن نتعرض لدراسة سعد الصويان للشعر النبطي دون أن‬ ‫نعرج على نظرة االزدراء من قبل أغلب الكتاب واملفكرين في العالم العربي‬ ‫تجاه عموم األدب الشعبي؛ باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف واالنفالت‪.‬‬ ‫وعلى الرغم مما تقدمه الدراسة من مادة علمية رصينة فإن الصويان‬ ‫يتوقف عند مقوالت الرفض هذه التي شيدت «على أسس منطقية خاطئة‬ ‫وعلى طرق في التفكير تنافي الروح العلمية» ليفندها ويبرز سوء الفهم‬ ‫فيها‪ .‬إن أي تغير قد يطرأ على اللغة ال يعدو كونه ضرورة حتمية تدفعها‬ ‫حركة التطور‪ ،‬واعتبار هذا التغير فسادا هو تجل إلشكال حقيقي تجاه‬ ‫أي تغير كان‪ ،‬إن التعامل مع األمور بتصور مسبق عنها هو النقيض‬ ‫التام للمنهج العلمي‪ ،‬هذه النظرة هي «نظرة بدائية ما قبل علمية تقوم‬ ‫على التفسيرات األسطورية لنشأة الكون‪ ..‬التغير وفق هذه النظرة ليس‬ ‫قانونا طبيعيا يسير هذا الوجود ويحكمه‪ ..‬إنه يقود بالضرورة إلى نظرة‬ ‫ارتجاعية في تفسير التاريخ‪ ،‬فالتاريخ البشري وفق هذه النظرة يسير‬ ‫بانحدار نحو هاوية محتومة»‪.‬‬ ‫إن اإلشكال الذي يعاني منه البعض مع املنهجية العلمية يتجلى في أوجه‬ ‫كثيرة‪ ،‬منها أن يظن البعض أن دراسة موضوع ما هي دعوة لتبنيه‬ ‫واتباعه‪ ،‬أو ممارسة اإلسقاطات اآليديولوجية تجاه الدراسات العلمية‪ ،‬ال‬ ‫يمكن لنا أن نرفض دراسة األدب الشعبي الفتراض املؤامرات في هذا‬ ‫التوجه! إن أصالة اآلداب الشعبية أو الفنون القولية في الجزيرة العربية‬ ‫وما تقدمه من الفائدة في تعاملنا مع املاضي وحركة التاريخ وفهمنا لهما‬ ‫كاف لرفض هذه التوجسات من املؤامرات‪ ،‬عدا عما تحمله هذه النظرة من‬ ‫خلل ال مجال لذكره‪ ،‬كما أن رفض اآلداب الشعبية لكونها إقليمية هو في‬ ‫الحقيقة رفض للواقع أو مبالغة في تقدير معطياته‪ ،‬ال يمكننا اإلفالت من‬ ‫أثر املكان كعامل للتغير كما ال يمكننا اإلفالت من أثر الزمان‪.‬‬ ‫أخيرا يجب أن ال يتم التعامل مع األدب الشعبي بصفته األدبية فقط‪ ،‬األدب‬ ‫الشعبي الشفاهي يمثل «مرآة تعكس الحياة االجتماعية والقيم الثقافية‬ ‫في سالف العصور‪ ..‬يهتم اإلثنولوجيون باألدب الشفهي ألنهم يريدون‬ ‫عن طريق البحث املقارن أن يتوصلوا إلى الفروق الذهنية والشعورية‬ ‫والسلوكية التي تميز املراحل الشفهية على سلم التطور البشري عن‬ ‫العصور الالحقة التي تنتشر فيها الكتابة والتدوين»‪.‬‬ ‫إن في ازدراء األدب الشعبي ازدراء لشعب بأكمله باعتبار أن ما يحرك‬ ‫مشاعرهم وما أنتجوه في هذا املضمار هو محقر فقط ألن لغته مختلفة‬ ‫وليست فصيحة‪ ،‬علما بأن اللغة ليست عامال لالستدالل على جمالية أي‬ ‫نص ما‪ ،‬ال يمكننا الحكم مثال على األدب الفرنسي باالنحطاط فقط لكونه‬


‫الشركة؟ عالقات املوظفني؟ صعوبة التوظيف في املستقبل؟‬

‫ملاذا تراجعت النقابات العمالية؟‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫املنضمني إلى النقابات في‬ ‫إنه سؤال محير فعال‪ ..‬ملاذا ّ تراجع عدد ً‬ ‫أمريكا‪ ،‬بل وتراجع دورهم عما كان عليه سابقا؟ كتب في هذه النقطة‬ ‫األستاذان ‪ Jack Fiorito & Cheryl Maranto‬وعزوا هذا التراجع لعدة‬ ‫أسباب منها‪:‬‬ ‫‪ -1‬كان أغلب املنضمني إلى النقابات هم من الرجال الذين يعملون في‬ ‫ً‬ ‫تقريبا‪ ،‬وهذا األمر ّ‬ ‫يحرضهم‬ ‫املصانع واملعامل‪ ،‬وأعمارهم متوسطة‬ ‫للتماسك ومشاركة الهموم‪ ،‬خصوصا وأن العمر ما زال به فسحة‪،‬‬ ‫بينما اآلن فإن هناك تزايد واضح في عمل املرأة‪ ،‬وأن األعمال أصبحت‬ ‫تتجه لتكون طبيعتها مكتبية‪ ،‬هذه األسباب ساهمت في انحسار أعداد‬ ‫ً‬ ‫خصوصا وأن األعمال الخدمية كثرت‪ ،‬وأصبح‬ ‫املنضمني إلى النقابات‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نقل التجارة إلى حيث أن يشعر املو ِظف بأن هناك استقرارا لدى العمال‪،‬‬ ‫وعدم وجود أي منغصات تدعوهم لتكوين نقابة‪.‬‬ ‫‪ -2‬منع الشركات لكل عمل يدعو ّ‬ ‫العمال لتكوين نقابة عن طريق تعزيز‬ ‫التواصل بني اإلدارة والعمال‪ ،‬والتنسيق مع خبراء ملعرفة أسباب رغبة‬ ‫ّ‬ ‫العمال في تكوين النقابة‪ ،‬وبشكل عام اتباع جميع الوسائل املسموحة‬ ‫لصد هذا التوجه‪.‬‬ ‫‪ -3‬املبادرات اإلدارية لتعزيز حب مؤسسة العمل بجميع السبل التي‬ ‫تضمن راحة العامل واستفادته واحترامه‪.‬‬ ‫‪ -4‬التدخل الحكومي في ّ‬ ‫سن القوانني واألنظمة التي تلزم مؤسسات‬ ‫ّ‬ ‫العمل بالحد األدنى الحترام العمال وحفظ حقوقهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬الفساد املالي املستشري لدى النقابات ّ‬ ‫العمالية‪ ،‬واملبالغ التي تدفع‬ ‫وربما تكون على هيئة رشوة لتمرير أجندة النقابات‪.‬‬

‫يظل جيفارا رمزا‬ ‫شعبيا في احتفاالت‬ ‫عيد العمال‬

‫عامل عن العمل ملدة ‪ً 15‬‬ ‫يوما‪ ،‬وكلف ذلك الشركة خسائر قدرت بـ ‪610‬‬ ‫مليون دوالر‪ ،‬باإلضافة إلى تعهد الشركة بتوظيف ‪ 10‬آالف عامل بعقود‬ ‫دائمة خالل خمس سنوات‪ ،‬والعديد من التعديالت اإلدارية‪ ،‬كان هناك‬ ‫تعاطف شعبي مع هؤالء العمال؛ ألن ‪ UPS‬كانت تمتلك قرابة ‪ %80‬من‬ ‫َ‬ ‫حصة السوق في مجال البريد‪ ،‬وللقارئ أن يتخيل تكلفة فقد السمعة آنذاك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هناك العديد من األعمال التي تمنع اإلضراب‪ ،‬مثال رجال اإلطفاء أو الشرطة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الخفي‪ ،‬مثال‬ ‫هؤالء ال يجدون سبيال َلعرض شكواهم سوى باإلضراب‬ ‫ً‬ ‫يتفقون أن يتغيبوا عن العمل أليام‪ ،‬وتكون حجتهم جميعا أنهم مرضى‪،‬‬ ‫اإلضراب فإن إجابة السؤال‬ ‫املسمى املتداول عليه هو ‪ .Blue Flu‬عندما يبدأ‬ ‫ّ‬ ‫األول الذي كان مديرو العمل يفكرون به تبدأ بالتجلي واالتضاح‪ ،‬بكل‬ ‫بساطة‪ :‬ما هي األمور التي بدأنا نخسرها؟ اإلنتاج؟ السمعة؟ استقرار‬

‫أخيرًا‪ ..‬بتقادم الزمن وازدياد الوعي في املؤسسات الحكومية والقطاع‬ ‫ّ‬ ‫الخاص أصبح ً‬ ‫يتقدم صانعو القرار بخطوات واضحة‬ ‫لزاما أن‬ ‫وإستراتيجية لتعزيز قيمة اإلنسان وحفظ كرامته‪ ،‬وأن يسود العدل‬ ‫في أماكن العمل‪ ،‬تشير الدراسات إلى تراجع أعداد املنضوين إلى‬ ‫النقابات العمالية؛ وذلك نتيجة لتحقق أغلب املطالب التي قامت من‬ ‫أجلها‪ ،‬بالتأكيد أن املطالب ال تنتهي لكن الشيء املؤكد هو وجود‬ ‫أساسيات تحفظ استقرار املجتمع وتماسكه وتراحمه‪ ،‬إن العديد‬ ‫من املؤسسات الحكومية والشركات أصبحت تعطي أمثلة جميلة في‬ ‫حسن التعامل مع موظفيها‪ ،‬أصبح هناك معنى أن األرباح أتت عن‬ ‫طريق تكاتف جهود اإلدارة مع املوظفني‪ ،‬ولذلك فإن العائد البد أن‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬إن إدارة املوارد البشرية ال تنحصر في التوظيف‬ ‫يشملهم‬ ‫وآلياته‪ ،‬أو التدريب والتطوير‪ ،‬إنما لها دور مهم في تحديد القيادات‬ ‫القادمة وتأهيلهم وحفظ حقوق جميع ّ‬ ‫العمال من الظلم الذي يأتي‬ ‫على هيئة عنصرية دينية أو طائفية أو مناطقية‪ ،‬ويجدر باملؤسسات‬ ‫أن تحسن التعامل مع كل املتقدمني إلى العمل‪ ،‬مكان العمل هو بيت‬ ‫للعامل فالبد أن يشعر باألمان فيه‪ ،‬وبنفس الوقت البد أن يحميه‬ ‫باإلتقان والجد واالنضباط‪ ،‬إن أعظم ظلم للعامل هو أن تخسر‬ ‫املؤسسة‪ ،‬وتصبح ً‬ ‫أثرا من بعد عني‪ ،‬فتبيد الثروة وال يبقى للعامل‬ ‫ً‬ ‫مكان‪ ،‬إن القرارات التي تأتي بالرخاء تكون أكثر رشدا من التي تأتي‬ ‫ّ‬ ‫في زمن الشدة‪ .‬على املؤسسات أن تختار الطريقة املفضلة لدى‬ ‫ً‬ ‫املوظفني إليصال رسالتهم‪ ،‬فأحيانا تبرز الفردية في الرأي (كأساتذة‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا تكون الجموع مفضلة كما هو حال ّ‬ ‫عمال املصانع‬ ‫الجامعات)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مثال‪ ،‬وذلك ليس بالضرورة صحيح في كال الحالتني وإنما إليصال‬ ‫الفكرة فحسب‪ .‬في الختام نقول‪ ،‬إنه مع تنامي ثقافة خدمة ّ‬ ‫العمال‬ ‫ّ‬ ‫وتهيئة مناخ عمل محفز‪ ،‬أصبحت املؤسسات في مأمن من‬ ‫االضطرابات العمالية واإلضرابات <‬

‫‪,,‬‬

‫املرأة فاعلة ً‬ ‫دوما‬ ‫في أي حراك‬ ‫اجتماعي كانت‬ ‫ماري جونز‬ ‫ً‬ ‫حماسا‬ ‫تعصف‬ ‫في إيقاظ ّ‬ ‫همة‬ ‫ّ‬ ‫العمال لالتحاد‬ ‫ومناكفة الظلم‬ ‫الحاصل‬ ‫عليهم تطوف‬ ‫بني املصانع‬ ‫وتحث ّ‬ ‫العمال‬ ‫ّ‬ ‫يتمسكوا‬ ‫أن‬ ‫بمطالبهم‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫ماري جونز‬

‫‪47‬‬


‫اقتصاد‬

‫ً‬ ‫خصوصا مديري الشركات عادة ما يثيرون هذه‬ ‫فإن املناهضني للنقابات‬ ‫األسئلة !!‬

‫‪,,‬‬

‫في عام ‪1920‬‬ ‫بدأت فكرة‬ ‫أن العامل‬ ‫املطمئن والذي‬ ‫ال يواجه ً‬ ‫ظلما‬ ‫سيكون أكثر‬ ‫ً‬ ‫إنتاجية وعمال‬ ‫فبدأ أصحاب‬ ‫االستثمار‬ ‫ومديرو‬ ‫املؤسسات‬ ‫ً‬ ‫اهتماما‬ ‫يبدون‬ ‫أكبر بمعنويات‬ ‫ّ‬ ‫العمال وسبل‬ ‫سعادتهم‬

‫‪,,‬‬

‫‪46‬‬

‫دورا ً‬ ‫إن للمؤسسات الربحية ً‬ ‫مهما في إحداث التسارع في التنمية‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫يأخذ القارئ شعور بأن االنتصار للعمال في مجمله هو الصائب‪ ،‬وهذا ال‬ ‫ً‬ ‫صحيحا‪ ،‬فإن أحد مهام الحكومة أن تتوافق مع مستثمري األموال‬ ‫أجده‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لجني مصلحة تعم الجميع‪ ،‬برز ذلك جليا في قول اإلمام علي رضي الله‬ ‫عنه ألحد والته‪" :‬واعلم أن الرعية طبقات‪ ،‬ال يصلح بعضها إال ببعض‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وال غنى ببعضها عن بعض‪ ،‬فمنها جنود الله‪ ،‬ومنها كتاب العامة‬ ‫والخاصة‪ ،‬ومنها قضاة العدل‪ ،‬ومنها عمال اإلنصاف والرفق‪ ،‬ومنها‬ ‫أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس‪ ،‬ومنها التجار وأهل‬ ‫الصناعات‪ ،‬ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة واملسكنة‪ ،‬فالجنود‬ ‫حصون الرعية‪ ،‬وسبل األمن‪ ،‬ثم ال قوام للجنود إال بما يخرج الله لهم‬ ‫من الخراج‪ ،‬ثم ال قوام لهذين الصنفني إال بالصنف الثالث من القضاة‬ ‫ً‬ ‫جميعا إال بالتجار وذوي الصناعات"‪.‬‬ ‫والعمال والكتاب‪ ،‬وال قوام لهم‬ ‫وبشكل عام‪ ،‬كما قال ‪ John Commons‬إن النقابات ّ‬ ‫العمالية تزداد‬ ‫كلما ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحسن الوضع االقتصادي‪ ،‬وتتراجع بتدهوره؛ وذلك ألن العمال‬ ‫لديهم فرص وظيفية أكثر فبذلك تزداد قوتهم في التفاوض‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫أن الشركات الربحية تجد أنها ستفقد الكثير حني يضرب ّ‬ ‫العم ًال بينما‬ ‫في األوضاع االقتصادية املتردية فإن بضاعتها ربما ال تجد سوقا نهماً‬ ‫ينتظرها لذا تجدها أقوى من ناحية التعامل مع النقابة‪ .‬لكن في املقابل‬ ‫وتفسير‬ ‫نجد أن النقابات ازدهرت كذلك في أوقات اقتصادية عصيبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذلك كما يراه بعض املختصني أنها ناشئة من اضطرابات اجتماعية ألبت‬ ‫الشارع العام لنصرة قضية معينة‪ ،‬وكان من بينها التعبير الجماعي عبر‬ ‫النقابات ّ‬ ‫العمالية‪.‬‬

‫قصة اإلضرابات‪:‬‬ ‫أهم شيء يجب القول به هنا أن قوة ّ‬ ‫العمال تكمن في اإلضراب!! وبالطبع‬ ‫أن هناك اعتبارات أخرى تدور في ذهن العامل قبل اإلضراب‪ ،‬منها على‬ ‫سبيل املثال نسبة البطالة‪ ،‬عندما تكون نسبة البطالة عالية فإن التشبث‬ ‫بالوظيفة يكون هو الطابع العام‪ ،‬لذا فإن نسبة اإلضرابات تقل في األزمات‬ ‫االقتصادية لقلة الفرص الوظيفية األخرى‪ ،‬وبذلك نعلم أن القوة النسبية‬ ‫للنقابات ّ‬ ‫العمالية تتضاءل في األزمات االقتصادية‪ ،‬وبعبارة أوضح حني‬ ‫ترتفع نسبة البطالة في املجتمع‪.‬‬ ‫استعراض القوة العمالية برز ّ‬ ‫جليا في إضراب ّ‬ ‫عمال شركة بوينج‬ ‫األمريكية‪ ،‬هذه الشركة العمالقة التي لديها ما يقارب من ‪ 170‬ألف موظف‬ ‫حول العالم‪ ،‬منهم حوالي ‪ 20‬ألف مهندس ّ‬ ‫وفني‪ ،‬في وقت ما كان هناك‬ ‫نقابتان في الشركة إحداهما للمهندسني وأخرى للموظفني األقل درجة‬ ‫من املهندسني بحسب ترتيب الشركة‪ ،‬كان السائد آنذاك في أغلب النقابات‬ ‫العمالية أن اإلضرابات والنزاعات تأتي من ّ‬ ‫ّ‬ ‫العمال ذوي املراتب املتدنية‬ ‫في الشركات‪ ،‬أما املوظفون في املراتب العليا فلم يسبق أن كان هناك‬ ‫احتجاج‪ ،‬وذلك شيء طبيعي؛ ألن الرواتب والفوائد مكفولة لهم بالطبع‪،‬‬ ‫شركة بوينج من عادتها أن توقع عقود ّ‬ ‫عمالها كل ثالث سنوات‪ ،‬وبحسب‬ ‫ً‬ ‫الطلب على منتجاتها تقرر القوة ّ‬ ‫وغالبا ما يكون‬ ‫العمالية التي تحتاجها‪،‬‬ ‫هناك عدم تجديد عقود آلالف من العمال‪ ،‬أي أن االستقرار الوظيفي في‬ ‫الشركة متذبذب‪ ،‬كانت هناك مطالب من النقابة التي تمثل غير املهندسني‬ ‫بأن تلتزم الشركة بالتقارير السنوية التي تقيس ارتفاع تكلفة املعيشة‬ ‫وغيرها‪ ،‬وتربط الرواتب بها لتبقى القوة الشرائية كما هي ّ‬ ‫للعمال‪ ،‬وكانت‬ ‫هناك مطالب بشأن املكافآت كذلك‪ ،‬نقابة املهندسني استحسنوا الفكرة‬ ‫وطالبوا بها أسوة بالنقابة األخرى‪ ،‬تفاصيل كثيرة ومفاوضات نتج عنها‬ ‫أن أعلنت الشركة عدم توصلها لحل‪ ،‬هنا دعت نقابة املهندسني لإلضراب‬ ‫ً‬ ‫عن العمل ليوم واحد استعراضا لقوة النقابة‪ ،‬وكانت هذه الدعوة خطرة‪،‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫فإما أن يتكاتف الجميع وتبدو النقابة في أوج قوتها‪ ،‬وإما أن تدرك الشركة‬ ‫أن أمرها هو النافذ ً‬ ‫دائما‪ ،‬وال تهتم بمطالبات املهندسني‪ .‬في يوم ‪ 19‬يناير‬ ‫‪ 1993‬أضرب آالف املهندسني عن العمل (ما يقارب ‪ %70‬من املهندسني)‪،‬‬ ‫وكانت سابقة في التاريخ العمالي بأن أصحاب املناصب العالية يضربون‬ ‫العمل‪ ،‬وعقب ذلك علمت بوينج أن التعامل مع النقابات يجب أن يكون‬ ‫عن ً‬ ‫مخططا له وال ينتهي باإلضراب وإنما باالتفاق‪.‬‬ ‫في مثال آخر وهو في عام ‪ ،1997‬عندما تمادت شركة ‪ UPS‬بعدم‬ ‫االستجابة ملطالب ّ‬ ‫العمال بموضوع صندوق التقاعد‪ ،‬وعدم تحويل عقود‬ ‫آالف العمال من العمل الجزئي إلى عقود دائمة‪ ،‬وعدم زيادة رواتب هؤالء‬ ‫العمال منذ عام ‪ ،1982‬حدث إضراب مدهش حيث امتنع قرابة ‪ 185‬ألف‬


‫ً‬ ‫بكثير من املؤسسة الربحية مما ينعكس على أداء ّ‬ ‫خصوصا‬ ‫عمالها‬ ‫أن أغلبهم يعملون بها لسنني عديدة مما يصعب إقناعهم بأي تغيير‪.‬‬ ‫الطرف الثاني هم ّ‬ ‫العمال الذين لديهم عدة أمور تشغل بالهم وهي‪:‬‬ ‫‪ -1‬قيمة ما يستحقون من مال نظير عملهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬توفير بيئة عمل مناسبة من ناحية السالمة والصحة وممن حولهم‬ ‫من موظفني‪.‬‬ ‫‪ -3‬بدالت العمل ومن ذلك بدل السكن والنقل والتأمني الصحي‪.‬‬ ‫‪ -4‬االستمتاع بالعمل ذاته ومدى رضائه عن عمله‪.‬‬ ‫وأخيرا الطرف الثالث وهو الحكومة التي ّ‬ ‫ً‬ ‫يهمها أن يكون املواطنون (وليس‬ ‫هنا فرق بني املواطن واملقيم) يحظون بالعدل والسالمة في أماكن عملهم‪،‬‬ ‫وتبديد أي ّ‬ ‫مسبب للبطالة بسن القوانني والرقابة املستمرة لضمان التقيد‬ ‫باألنظمة‪.‬‬ ‫الذي البد أن يفهم أن ّ‬ ‫التجار يقتنصون الفرص‪ ،‬وللفرصة بنظرهم‬ ‫ُ‬ ‫شر قيمتها لرجل‬ ‫معنى مختلف!! فهناك من يعتقد شراء أرض بع ِ‬ ‫أعلن إفالسه ويحاول سداد ديونه فرصة‪ ،‬ومنهم من يعتقد أنها ُجنحة‪،‬‬ ‫ومنهم من يظن أنها مأساة أخالقية يجب النفور منها‪ّ ،‬‬ ‫التجار متفاوتون‬ ‫في أفكارهم وأعمالهم‪ّ ،‬‬ ‫والعمال يتواجدون لدى كل فئات التجار أصحاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوجهات والقناعات املختلفة‪ ،‬والعمال هم العمال حيث الهموم متقاربة‪.‬‬

‫مصادر القوة‬ ‫عندما تكون تكلفة السلعة معظمها مبني على تكلفة اليد العاملة فإن‬ ‫اإلدارة تكون صارمة في قراراتها بشأن زيادة الرواتب أو املكافآت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والعكس صحيح أيضا‪ ،‬فمثال لو كانت تكلفة اليد العاملة مجرد ‪%10‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تجاوبا مع مطالب العمال‬ ‫من تكلفة السيارة إجماال‪ ،‬فإن الشركة قد تبدي‬ ‫بشأن زيادة الرواتب‪ ،‬أما لو كانت تكلفة اليد العاملة تصل إلى ‪ %70‬فإن‬ ‫ً‬ ‫موقفا أكثر ّ‬ ‫حدية في التجاوب ً‬ ‫نظرا لتأثير ذلك على تكلفة‬ ‫اإلدارة تتخذ‬ ‫السلعة‪.‬‬ ‫هنا يبرز سؤال‪ ،‬وسيكون بهيئة مثال توضيحي‪ :‬هل يعتبر األمر‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫نظاميا حني يضغط موظفو بنك على الشركات التي تأخذ قروضا‬ ‫ً‬ ‫بشكل مستمر من البنك‪ ،‬أن يوقفوا تعاملهم مع البنك تضامنا مع‬ ‫عمال البنك؟ هذا األمر ّ‬ ‫مطالبات ّ‬ ‫يسمى ‪ Secondary Boycott‬أو‬ ‫ما يمكن ترجمته بـ‪" :‬التجييش اآلثم"؛ ألنه غير بارز الحدود‪ ،‬وينهك‬ ‫ً‬ ‫االقتصاد بشكل عشوائي وقابل لالستغالل بشكل ملحوظ‪ ،‬فمثال‬ ‫ربما يتضامن موظفو الدولة في إعاقة املعامالت الحكومية الصحيحة‬ ‫ّ‬ ‫وهلم ّ‬ ‫جرا‪ ،‬ولذلك فإن القوانني األمريكية والبريطانية‬ ‫لذلك البنك‬ ‫واألسترالية تمنع هذه األعمال التي تساعد في تفاقم املشاكل بشكل‬ ‫تكتيكي أو استراتيجي‪.‬‬ ‫ليس هناك تفاوض ما دامت هناك قوة طاغية ومهيمنة على تفاصيل‬ ‫األمور‪ ،‬لكن ما دام هناك ثمة معطف تزيد قوة طرف على حساب آخر‬ ‫ً‬ ‫فإن موازين القوى تتباين لدرجة أن تصل حد التوازن أحيانا‪ ،‬في هذا‬ ‫الجزء سأتطرق إلى مصادر القوة لدى النقابة العمالية ومديري العمل‪.‬‬ ‫القوة في هذا السياق نوعان‪ :‬األولى هي القوة الطاغية‪ ،‬وهي التي تكتسبها‬ ‫ً‬ ‫جدا ّ‬ ‫قليال ً‬ ‫حد االنعدام‪ ،‬وبالنسبة‬ ‫املؤسسة حني يكون عدد املنافسني‬ ‫ّ‬ ‫للعمال حني تكون أهميتهم عالية لقلة املهارات املوجودة في سوق العمل‬ ‫أو انعدامها‪ ،‬والثانية هي القوة النسبية‪ ،‬وهي التي يمتلك كل طرف منها‬ ‫ً‬ ‫جزءا‪ ،‬ويكون لها تأثير حني التفاوض‪.‬‬ ‫تجد ممثلي النقابة العمالية يعملون ليل نهار لتكون للشركة سيطرة على‬

‫ً‬ ‫إيجابا عليهم في مرتباتهم‬ ‫السوق؛ ألنها إن ربحت فإن ذلك سينعكس‬ ‫ّ‬ ‫والفوائد التي يحصلون عليها‪ ،‬بل ويتعدى األمر أن تكون للنقابة العمالية‬ ‫دور في الصعيد السياسي رفيع املستوى‪ ،‬ظهر ّ‬ ‫جليا لنقابة ّ‬ ‫عمالية في‬ ‫أمريكا في التأثير على القرارات السياسية‪ ،‬لتكون للشركة حظوة في‬ ‫أسواق عاملية‪ ،‬لتكون هناك مصالح كبيرة ّ‬ ‫لعمال الشركة‪.‬‬

‫مجموعة «فرسان ّ‬ ‫العمال»‬ ‫تأسست عام ‪1869‬‬

‫وماذا عن مصادر قوة العمال النسبية‪ ،‬أولها هو تنوع مصادر دخل‬ ‫ًّ‬ ‫العامل‪ ،‬فلو كان هناك عامل يستلم ً‬ ‫شهريا من جهة‪ ،‬ولديه مصدر‬ ‫مرتبا‬ ‫ّ‬ ‫دخل آخر كمحل صغير يؤجره على أحد‪ ،‬فستكون لديه قابلية ولو‬ ‫بسيطة ألن يصبر على طعام واحد‪ ،‬ومثال آخر هو عندما ال يكون هناك‬ ‫أجهزة إلكترونية تقوم بدور ّ‬ ‫العمال‪ ،‬أي أن التصنيع معتمد عليهم (كعدد‬ ‫ّ‬ ‫وليس كخبرة أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫فن) فهنا نستطيع القول أن للعمال قوة نسبية يتحدون‬ ‫بها مديري العمل‪ ،‬لذا يعمد مديرو العمل الذين يخشون من اإلضراب أن‬ ‫التصنيع الحديثة‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫يستبدلوا القوة العمالية باآلالت وأجهزة ّ‬ ‫تخزين البضاعة الجاهزة للبيع لئال ّ تتعطل املبيعات‪ ،‬بالتأكيد ستكون‬ ‫هناك تكلفة للتخزين‪ ،‬لكن القصد كله هو حني يتنبأ املديرون بحصول‬ ‫إضراب ّ‬ ‫عمالي فإن أحد السياسات هي كثرة التخزين‪.‬‬

‫تشير الدراسات‬ ‫إلى تراجع‬ ‫أعداد املنضوين‬ ‫إلى النقابات‬ ‫العمالية في‬ ‫أمريكاوذلك‬ ‫نتيجة لتحقق‬ ‫أغلب املطالب‬ ‫التي قامت من‬ ‫أجلها والنتشار‬ ‫الفساد في‬ ‫بعض النقابات‬ ‫العمالية‬

‫لكن ماذا عن الشركات التي لديها تنوع كبير في مصادر الدخل؟ بالطبع‬ ‫سيكون لدى املديرين التنفيذيني لدى هذه الشركة القابضة قوة نسبية؛ ألنه‬ ‫عندما يضرب ّ‬ ‫عمال شركة واحدة من أصل عشرات الشركات فإن الشركة‬ ‫القابضة تستطيع الصبر لوقت أطول مما لو كان هناك مصدر دخل واحد‪.‬‬ ‫الدخول إلى النقابة كما هو معلوم يكون عادة برسم شهري بمبالغ مختلفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شهريا‪ ،‬ويزيد املبلغ إلى أكثر من‬ ‫فبعض النقابات تتطلب قرابة ‪ 50‬دوالر‬ ‫ذلك بكثير‪ ،‬أحد املواقع قدرت مجموع ما جمعته النقابات في عام ‪ 2011‬هو‬ ‫‪ 14‬مليار دوالر‪ ،‬أين تذهب هذه األموال؟ جزء يذهب للنقابة العليا إن كانت‬ ‫نقابة العمال تتبع ألحد منها‪ ،‬وجزء يذهب لقروض بعض العمال‪ ،‬وجزء‬ ‫كرواتب للممثلني‪ ،‬وجزء كمكافآت للمضربني عن العمل حال اإلضراب‪،‬‬ ‫وجزء يستخدم كوسيلة ضغط على صانعي القرار‪ ،‬وجزء لنشاطات النقابة‬ ‫وتغطية تكاليفها‪ ،‬وهناك العديد من األسئلة حول مصير هذه األموال‪ ،‬لذا‬

‫‪,,‬‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪45‬‬


‫اقتصاد‬

‫مستشاره ّ‬ ‫حاد الذكاء وهو ‪ Harry Hopkins‬الذي استحدث مؤسسات‬ ‫هدفها األول توظيف من يفتقدون املهارات التي تؤهلهم لسوق العمل‬ ‫(وهم الغالبية) في أعمال إنشائية للبنية التحتية مثل الجسور والطرق‬ ‫ونحوها مما تتطلب ً‬ ‫كبيرا من ّ‬ ‫عددا ً‬ ‫العمال‪ ،‬كانت األزمة التي هو بصدد‬ ‫ّ‬ ‫حلها هو إحالل هذه الطاقات البشرية في مجاالت عمل لها قيمة حقيقية‬ ‫في املدى الطويل‪ ،‬وتحفظ كرامة اإلنسان‪ ،‬كان هذا املستشار يقول‬ ‫ً‬ ‫دائما "التصدق باملال على العاطلني يحفظ وجودهم الشكلي لكنه يدمر‬ ‫معنوياتهم‪ ،‬أما إعطاؤهم فرصة العمل فذلك الذي يحفظ لهم كرامتهم"‪،‬‬ ‫ساهم هذا املشروع ‪ Works Progress Administration‬وغيره كذلك‬ ‫‪ Civil Works Administration‬في توظيف قرابة ‪ 8‬ماليني شخص‬ ‫ً‬ ‫مهوال ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في ظل‬ ‫جدا‬ ‫بني عامي ‪ 1943-1935‬ويعتبر هذا العدد‬ ‫ّ‬ ‫األوضاع االقتصادية الصعبة‪ ،‬هل انتهت اإلصالحات العمالية ؟ ال ليس‬ ‫بعد‪..‬‬

‫تظاهر عدد كبير من العاملني بقطاع‬ ‫الصحة العامة في القاهرة للمطالبة‬ ‫بتحسني األجور وظروف العمل بعد‬ ‫ثالثة أيام من تنحي مبارك‬

‫‪,,‬‬

‫أصحاب املهارات‬ ‫والحرف أسرع‬ ‫قابلية لتشكيل‬ ‫النقابات ألنهم‬ ‫يعتبرون‬ ‫ذوي شأن في‬ ‫مجتمعهم ولهم‬ ‫تواصل شبه‬ ‫يومي بكافة‬ ‫طبقات املجتمع‬ ‫حيث يبث لهم‬ ‫الناس همومهم‬

‫‪,,‬‬

‫‪44‬‬

‫لتلك املرحلة هي "السنوات العجاف"‪ ،‬يقول االقتصاديون‪ :‬إن السنوات‬ ‫وصلت‬ ‫العجاف بدأت قبيل ‪ 1930‬حتى ‪ ،1936‬لك أن تتخيل األثر حيث‬ ‫َّ‬ ‫نسبة البطالة في أمريكا ‪ %25‬أي ما يقدر ‪ 13‬مليون عاطل‪ ،‬وقلت‬ ‫إنتاجية املصانع إلى النصف‪ ،‬وبدأت مظاهر الفقر في التفشي بني‬ ‫أوساط الناس‪ ،‬وكانت أعداد الالجئني إلى أمريكا تزداد بشكل متسارع‪،‬‬ ‫وانخفضت أسعار البضائع بمقدار الثلث مما دعا مستثمري األموال إلى‬ ‫تقليل التكاليف قدر املستطاع منطلقني من قناعة "كيف لهؤالء الرعاع‬ ‫القادمني إلى أمريكا أن يكونوا منتجني‪ ،‬وينتظموا في حياة العمل‪ّ ،‬لن‬ ‫يتأتى ذلك إال بقسوة األوامر وإظهار الجبروت تجاههم" األمر الذي ولد‬ ‫للعمال من الناحية ّ‬ ‫أملا ّ‬ ‫املادية واملعنوية‪.‬‬

‫استحداث العديد من القوانني لتسهيل امتالك السكن كان له أثر كبير‬ ‫لجلب الطمأنينة في نفوس ّ‬ ‫العمال‪ ،‬كانت وزيرة العمل ‪Frances Perkins‬‬ ‫لها أثر بارز في استحداث ما يسمى ‪ Social Security‬وهو صندوق‬ ‫مالي مصدر وفرته من ضريبة الرواتب (أي من كل راتب عامل تؤخذ‬ ‫نسبة معينة من الشركة) لتسديد رواتب للمتقاعدين والعجزة والعاطلني‬ ‫ملدة معينة‪ ،‬واملرضى ذوي الدخل املحدود وغيرها من األمور االجتماعية‬ ‫وهي محددة بالطبع‪ ،‬يجدر ذكر أن الحزب الديمقراطي يحاول الظهور‬ ‫بتأييده للحراك ّ‬ ‫العمالي‪ ،‬وذلك يبرز في صحيفة ‪New York Times‬‬ ‫ّ‬ ‫بينما الحزب الجمهوري يتخذ مقام أن النقابات العمالية تهدد استقرار‬ ‫العمل‪ ،‬وتحول التدافع املحمود إلى تنازع‪ ،‬ويظهر رأيهم ً‬ ‫غالبا في‬ ‫‪ ،Washington Post‬ولتوضيح الفرق يجد القارئ روح املعنى في سياق‬ ‫عبارتني من كل حزب‪ ،‬حيث يقول الرئيس األمريكي أوباما الذي أتى من‬ ‫العمالي نعمنا بحقوق ّ‬ ‫الحزب الديمقراطي "بفضل الحراك ّ‬ ‫العمال إلى‬ ‫يومنا‪ ،‬مثل تحديد ّ‬ ‫حد أعلى لعدد ساعات العمل‪ ،‬والحد األدنى لألجور‬ ‫واإلجازات التي تمنح للظروف العائلية والتأمني الصحي وغيرها"‪ ،‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫"للعمال الحق في‬ ‫كان يقول منافسه من الحزب الجمهوري رومني‬ ‫االنضمام للنقابات ّ‬ ‫العمالية لكن من الظلم أن يجبر العامل لالنضمام‬ ‫لتلك النقابة‪ ،‬وأن تصرف أموال النقابة لتعزيز موقفها بدفع األموال‬ ‫للسياسيني"‪.‬‬

‫كان الرئيس األمريكي حني ذاك هو هربرت هوفر (من الحزب الجمهوري) كيف نفهم النقابات العمالية؟‬

‫الذي كان يعتقد أن القطاع الخاص يجنب أن يكون بمعزل عن القطاع‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ونظرا لزيادة عدد العاطلني‬ ‫بالتشوهات اإلدارية‪،‬‬ ‫الحكومي املليء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫األمريكيني فإن الرئيس عمل جاهدا لطرد العمال الذين دخلوا بصورة‬ ‫غير نظامية ألمريكا (يقدر عدد املكسيكيني املطرودين قرابة ‪ 500‬ألف‬ ‫عامل)؛ لتكون هناك فرصة عمل "لألمريكيني"‪ ،‬ووقع العديد من املشاريع‬ ‫الحكومية إلنعاش االقتصاد لكن جدوى جهده لم يكن له تأثير بارز‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رشح نفسه لوالية ثانية لكن أصوات األوراق أبت إال أن تختار روزفلت‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫(من الحزب الديمقراطي) ً‬ ‫رئيسا جديدا للبالد في عام ‪ ،1933‬وماذا قدم‬ ‫الرئيس روزفلت الذي يفتخر به الحزب الديمقراطي إلى اآلن؟‬

‫حقوق العمال‬ ‫الذي يهمنا هنا هو الحديث عن املشاريع التي تصب في مصلحة الوطن‬ ‫عن طريق حقوق العمال والتشريعات املتعلقة بها‪ ،‬اشتهر روزفلت‬ ‫بحماسته املطلقة في أول ‪ 100‬يوم من توليه مقاليد الحكم‪ ،‬حيث أطلق‬ ‫مقولته الشهيرة "الخوف هو العائق األهم الذي يجب هزمه"‪ّ ،‬قدم الرئيس‬ ‫روزفلت العديد من املقترحات للمجالس التشريعية بخصوص أنظمة‬ ‫ًّ‬ ‫تدريجيا في احتواء‬ ‫التأمني والبنوك والتي تمت املوافقة عليها مما ساهم‬ ‫األزمة‪ ،‬لكن املشاريع التي أورثت الرئيس روزفلت سمعته أتت من عقل‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫ّ‬ ‫واملحددات للنقابات العمالية فيجب إدراك‬ ‫من أجل فهم طبيعة البيئة‬ ‫أن هناك ثالثة أطراف رئيسة في مجال النقابات العمالية وهي‪ :‬إدارة‬ ‫املؤسسة والعمال والحكومة‪ ،‬عندما تأتي دراسة الحراك ّ‬ ‫العمالي فإن‬ ‫األنظار تتجه ً‬ ‫غالبا نحو هذه األطراف الثالثة؛ ألنها تلعب الدور الرئيس‬ ‫في املشهد‪ ،‬وعندما يتم االنتقال ملعرفة الجهة األخرى وهي النقابات‬ ‫فهناك صنفان‪ ،‬األولى هي النقابة التي تمثل وظيفة معينة (األساتذة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قطاعا معينا (موظفو شركات‬ ‫والصباغني)‪ ،‬والثانية هي التي تمثل‬ ‫إنتاج السيارات أو الحديد)‪ ،‬في بداية الحراك النقابي كانت النقابات التي‬ ‫تمثل وظيفة معينة هي املسيطرة على املشهد ّ‬ ‫العمالي‪ ،‬لكن مع ازدياد‬ ‫تصنيفات األعمال والتخصصات وزيادة عدد غير املتخصصني بشيء‬ ‫معني‪ ،‬برزت النقابات التي تجمع العاملني في القطاعات املختلفة لتكون‬ ‫لها قوة أكثر‪.‬‬ ‫الطرف األول هو إدارة املؤسسة‪ ،‬وهناك فرق بني املؤسسة الربحية وغير‬ ‫الربحية في عدة مجاالت‪ ،‬واألهم أن املؤسسة الربحية تسعى ً‬ ‫دائما‬ ‫لتعاظم الربح بأي طريقة‪ ،‬ومنها تقليل رواتب ّ‬ ‫العمال حيث املستطاع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا تحرص اإلدارة لزيادة إنتاجية ّ‬ ‫العمال ضمن إطار الجودة وتقليل‬ ‫انتقال العمال لشركات أخرى أو ّ‬ ‫التغيب‪ ،‬أما املؤسسات غير الربحية‬ ‫فإنها تحاول أن تؤدي واجباتها بأسلم الطرق‪ ،‬وسبل تطورها أبطأ‬


‫ً‬ ‫عملهم ذا ّ‬ ‫فن بديع ويتبوءون منزلة عالية آنئذ‪ ،‬وبالجهة املقابلة أيضا‬ ‫ّ‬ ‫تجد أن ّ‬ ‫العمال الذين يتشاركون العمل في مكان واحد ‪-‬كعمال املناجم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مثال‪ -‬أقرب للتشكل؛ ألن في تشكيالتهم تنعكس صرخات األسى‬ ‫والتذمر وأحالم اليأس‪.‬‬ ‫وماذا كانت هي مطالب ّ‬ ‫العمال؟ كانت –ببساطة‪ -‬تتمحور حول تحسني‬ ‫ظروف العمل واالستحقاق املادي‪ ،‬ظروف العمل تشمل نبذ التحرش‬ ‫ً‬ ‫الجنسي‪ ،‬ووضع آليات لحفظ سالمة العمال وأمنهم‪ ،‬وأيضا العديد من‬ ‫الجوانب األخرى املرتبطة بالحس اإلنساني‪ ،‬كفرض راتب تقاعدي ومنع‬ ‫ّ‬ ‫جشع التجار بتوظيف األطفال‪ ،‬تبدو هذه ّ املطالب خالبة للناظرين اآلن‪،‬‬ ‫ّ ّ‬ ‫لكنها أتت بتضحيات فذة حق لها أن تسطر في كتب ومؤلفات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫هناك من يظن أن انتشار ّ‬ ‫املعدات الصناعية ًولد حنقا لدى العمال لسهولة‬ ‫االستغناء عنهم‪ ،‬وال يعتبر هذا القول دقيقا!! حيث إن نشاط العديد‬ ‫من النقابات املؤثرة بدأت بعد ذلك بسنني الحقة‪ ،‬لكن القول األدق هو أن‬ ‫النقابات العمالية بدأت معاملها تتضح ببداية حقبة الصناعة‪ ،‬وتوفر نقل‬ ‫البضائع بني املدن‪ ،‬حيث تأثر صانعو األحذية في فالديفيا من أسعار‬ ‫ونحوها‪ ،‬وبشكل تلقائي ازداد الطلب‬ ‫تستورد من نيويورك‬ ‫األحذية التي‬ ‫ّ‬ ‫على األحذية مما ّولد ً‬ ‫لقلة َ‬ ‫املهرة في تصنيع األحذية‪،‬‬ ‫عجزا في اإلنتاج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهنا برز األمر األهم وهو أن تشكلت طبقة جديدة ليست مصنفة بأنها‬ ‫أساسيات في صناعة األحذية‪ ،‬وأصبحوا‬ ‫الحرفة لكنها تجمع‬ ‫ماهرة في ِ‬ ‫هدد َامل َهرة ّ‬ ‫الوقت هم األغلبية مما ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ومعنويا‪.‬‬ ‫ماد ًّيا‬ ‫مع مرور‬

‫فرسان ّ‬ ‫العمال‬ ‫في عام ‪ 1869‬ظهرت مجموعة تدعى "فرسان ّ‬ ‫العمال" ‪Knights of‬‬ ‫‪ Labor‬وأصبحت مؤثرة ً‬ ‫جدا لدرجة أنه في عام ‪ 1886‬بلغ عدد أعضائها‬ ‫‪ 700‬ألف عامل وعاملة؛ ألنها ال تتبع سياسة واحدة في االستقطاب‪ ،‬بل‬ ‫كانت لديها أسس عامة‪ ،‬مثال تحديد ثمان ساعات للعمل اليومي‪ ،‬ووضع‬

‫قوانني لحفظ سالمة العمال وحماية األطفال من االستغالل‪ ،‬واألمر الذي‬ ‫ّ‬ ‫تشكل ّ‬ ‫عمالي البد أن يراعي ظروف املهنة‪.‬‬ ‫ّميزها هو فرضية أن كل‬ ‫ً‬ ‫أحدثت صرخات التذمر حراكا نتج عنه زيادة معدل رواتب العاملني‬ ‫في املصانع لضعفني إلى ثالثة أضعاف في الفترة بني عامي ‪ 1870‬و‬ ‫ً‬ ‫‪ ،1920‬فكما هو معلوم أن األلم املجتمعي يخفت أحيانا نتيجة ظروف‬ ‫معينة لكنه ال يموت؛ ألنه في األساس مصدر إحياء لعزيمة املظلوم‪،‬‬ ‫اتسعت رقعة انتشار املطالب‪ ،‬وأصبحت أهمية توحيد تلك الجهود بارزة‪،‬‬ ‫فبرزت العديد من النقابات ّ‬ ‫العمالية التي كان لها أثر بارز في زيادة الوعي‬ ‫والوقوف مع مطالب ّ‬ ‫العمال منها على سبيل املثال ال الحصر ‪Industrial‬‬ ‫‪Workers of the World‬‬ ‫ً‬ ‫تقريبا في عام ‪ 1920‬بدأت فكرة أن العامل املطمئن والذي ال يواجه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ظلما سيكون أكثر إنتاجية وعمال‪ ،‬فبدأ أصحاب االستثمار ومديرو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫املؤسسات يبدون اهتماما أكبر بمعنويات العمال وسبل سعادتهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في السابق كان املسئول عن كل قسم (مثال كبير املصنعني) هو من‬ ‫يحدد كل شيء بالنسبة للعامل ابتداء من توظيفه وتحديد راتبه وترقيته‬ ‫وطرده‪ ،‬لكن هذه الحالة تغيرت مع تقادم الزمن‪ ،‬وأصبح هناك قسم في‬ ‫الشركة يهتم بعالقات املوظفني ورواتبهم واألمور اإلدارية التي تختص‬ ‫بهم‪ ،‬وأصبح املسئولون عن األقسام ُي َّ‬ ‫دربون لتكون قراراتهم متوافقة مع‬ ‫السياسات العامة للشركة‪.‬‬ ‫وبالجهة املقابلة فلقد كان للحركات املناهضة للنقابات ّ‬ ‫العمالية ‪-‬وسن‬ ‫بناء على مطالبات ّ‬ ‫األنظمة ً‬ ‫العمال‪ -‬أثر كبير في انخفاض عدد املنضمني‬ ‫ّ‬ ‫إلى النقابات العمالية‪ ،‬فاألرقام تشير أنه في فترة بني ‪1931 – 1921‬‬ ‫انخفض عدد املنضمني إلى النقابات من قرابة ستة ماليني إلى أقل من‬ ‫مليونني‪ ،‬ويؤكد العديد من املختصني أن الزمن الذهبي للنقابات العمالية‬ ‫كانت بني ‪ 1948‬وحتى ‪ .1958‬الكثير من الناس يطلقون مسمى الكساد‬ ‫الكبير ملرحلة "‪ "Great Depression‬لكني أظن أن التسمية الصحيحة‬

‫اضرابات عمالية خرجت الى الشوارع بوسط‬ ‫القاهرة في عيد العمال املاضي‬

‫‪,,‬‬

‫نسبة‬ ‫اإلضرابات تقل‬ ‫في األزمات‬ ‫االقتصادية‬ ‫لقلة الفرص‬ ‫الوظيفية‬ ‫األخرى‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪43‬‬


‫اقتصاد‬

‫هل كانت إضرابات العمل وتصاعد وتيرة الغضب لدى العمال نتيجة للبؤس والضغوط التي‬ ‫كانت تحيط بهم؟ كيف يصرخ عامل في وسط شارع مليء بحفاة البشر بطلب إدراج اسمه في‬ ‫ً‬ ‫مزايا التقاعد ومتوسط عمر اإلنسان حينئذ هو ‪ً 60‬‬ ‫تقريبا؟ هل ألنه رأى جاره الستيني‬ ‫عاما‬ ‫يكدح وعود ظهره قد تقهقر في مصنع غني أهوج؟ صورة غامضة تكتنف مشهد الفقراء وهم‬ ‫يوافقون لوضع قوانني تحرم عمل األطفال وهم في الحقيقة مصدر رزقهم ! هل األمهات من‬ ‫ً‬ ‫تأثيرا على‬ ‫يطالنب بذلك؟ ومتى كان للنساء صوت في تقرير مصير آالف العائالت أم أن للنساء‬ ‫قرارات الرجال بطريقة غير مباشرة؟‬

‫اإلضرابات العمالية والنقابات‪ ..‬معركة الحقوق واألجور‬

‫ثورة العمال‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫عبدالعزيز اليحيى‬

‫أحد املعايير التي تستخدم في تقييم الشركة من ناحية حسن اإلدارة‬ ‫العمال الذين يخرجون ً‬ ‫هي ‪ Turnover Rate‬وهي نسبة عدد ّ‬ ‫طوعا‬ ‫من الشركة (لم يفصلوا)‪ ،‬تختلف النسبة بني املصانع واملتاجر وطبيعة‬ ‫الوظيفة لكنها في عام ‪ 1913‬بلغت في مصانع السيارات ‪%370‬‬ ‫ً‬ ‫جميعا يتغيرون‬ ‫عامل فإنهم‬ ‫وبصورة أوضح لو ًكان لدى الشركة ألف ّ‬ ‫تقريبا‪ ،‬وهذا شيء مريب حقا‪ ..‬ويبقى السؤال ملاذا؟!‬ ‫كل ثالثة أشهر‬ ‫املرأة فاعلة ً‬ ‫دوما في أي حراك اجتماعي‪ ،‬كانت ‪ Mary Jones‬تعصف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حماسا في إيقاظ همة العمال لالتحاد‪ ،‬ومناكفة الظلم الحاصل عليهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانت تطوف بني املصانع وتحث العمال أن يتمسكوا بمطالبهم‪ ،‬هذه‬ ‫مرت بظروف عصيبة صنعت منها امرأة ّ‬ ‫املرأة ّ‬ ‫قوية البأس وذات روح‬ ‫ً‬ ‫تحب التحدي‪ ،‬حتى إنها كانت تقول بقصد ساخر "سألت رجال‬ ‫ً‬ ‫مسجونا عن جريمته فقال‪ :‬سرقت ً‬ ‫حذاء‪ ،‬فقلت له‪ :‬كانت فرصتك أن‬ ‫ً‬ ‫تكون رجال ً‬ ‫مهما في الدولة لو سرقت ً‬ ‫قطارا"‪ ،‬إنه أمر مفزع حني تكون‬ ‫هناك لقمة واحدة ملائة فاه‪ ،‬كان الطفل يسأل أمه‪ :‬هل عاد أبي؟! وكانت‬ ‫اإلجابة تأتي من صوت مفاصل والده ‪-‬الذي يعمل ‪ 14‬ساعة ً‬ ‫يوميا ملدة‬ ‫ستة أيام في األسبوع‪ ،‬وليس هناك إجازة سنوية‪ -‬ليقول‪ :‬نعم موجود‬ ‫أنا بال روح !‬

‫غالف كتاب « مقدمة في املفاوضات‬ ‫الجماعية والعالقات الصناعية» ملؤلفيه‬ ‫هاري كاتز‪ ،‬توماس ‪،‬و الكسندر كولفني‬

‫‪42‬‬

‫فتبعث فيهم الحماس‪ ،‬وتمنحهم ذالقة البيان ّ‬ ‫وقوة النقد"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الناس بطبعهم مختلفون وهذه بذاتها تزيد هذه الدنيا ألقا وفسحة‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫صنفا من ّ‬ ‫العمال يفضلون االنتقال الى شركة أو مؤسسة‬ ‫إن هناك‬ ‫ً‬ ‫أخرى فضال عن إصالح املكان الذي يعملون به‪ ،‬وهناك ّصنف يرفض‬ ‫االنتقال‪ ،‬ويصر إال أن تتغير األمور لتكون متوازية مع تطلعاتهم‪ ،‬وهناك‬ ‫فئة مدفوعة بحب إصالح شؤون ّ‬ ‫العمال وهم من خارج مؤسسة العمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هناك فيض من األمثلة سنستعرضها في هذا املقال عن النقابات العمالية‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‪ ،‬وأسباب تداعياتها‪ ،‬والسبل الواعية للتعامل معها‪،‬‬ ‫في أمريكا‬ ‫ّ‬ ‫اعتمد الكاتب على مصادر عدة‪ ،‬وأبرزها وأهمها كتاب‪:‬‬ ‫‪An Introduction To Collective Bargaining And Industrial Relations‬‬ ‫ملؤلفيه ‪Harry Katz, Thomas Kochan, Alexander Colvin‬‬

‫أحد التحديات التي واجهت الكاتب هي ترجمة بعض املصطلحات‬ ‫اإلنجليزية إلى اللغة العربية‪ ،‬حيث َ‬ ‫عمد الكاتب لترجمة بعض الكلمات‬ ‫ً‬ ‫بطريقة تحمل معنى وشعور ووقع الكلمة‪ ،‬أيضا اعتمد الكاتب كلمة‬ ‫َ ً‬ ‫ّ‬ ‫عوضا عن املوظف أو األجير من جهة‪ ،‬وإدارة املؤسسة من جهة‬ ‫العمال‬ ‫أخرى‪ ،‬وهذين القطبني هما محور الحديث في هذا املقال‪.‬‬

‫زمن الشعور بالظلم‬

‫كيف نشأت النقابات العمالية؟‬

‫عندما نشرع باب السؤال عن حيثيات النقابات ّ‬ ‫العمالية وأهمية دورها‬ ‫إننا في الحقيقة نعود لحقبة "أسمع صدى"‪ ،‬هو زمن الشعور بالظلم‬ ‫ً‬ ‫فضال عن الظلم ذاته‪ ،‬ال أعلم آلية تقييد األمور واعتبار أنها ظلم‪ ،‬ففي‬ ‫السابق كان الرجل يكدح حتى يشارف رحيله عن هذه األرض‪ ،‬ولم‬ ‫يقل أحد أن إلزام الثمانيني بالعمل هو ظلم؟ لكن األهم هنا هو الشعور‬ ‫بالظلم‪ ،‬وقد أجاد أستاذ علم االجتماع علي الوردي ‪-‬رحمه الله‪ -‬حني‬ ‫ّ‬ ‫قال‪" :‬فالناس ال يثورون من ّ‬ ‫جراء ظلم واقع عليهم‪ ،‬إنما يثورون من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جراء شعورهم بالظلم‪ ،‬فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من‬ ‫الظلم ذاته‪ ،‬إن ّالناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجوعوهم‪ ،‬وسلطوا الجالوزة عليهم يضربون ظهورهم بالسياط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ألن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى‪ ،‬وألفوه جيال بعد‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫جيل‪ ،‬فهم يحسبونه ً‬ ‫طبيعيا ال فائدة من االعتراض عليه‪ ،‬لكنهم‬ ‫أمرا‬ ‫يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة‬

‫إن كان هناك ثمة حدود في الطرح‪ ،‬ووجب اختزال موضوع نشأة النقابات‬ ‫ّ‬ ‫العمالية في كلمة واحدة‪ ،‬فليس هناك أكثر دقة من كلمة "البؤس"‪ ،‬وإن‬ ‫تداعى األمر لوصف الناس فلن تكون كلمة البؤساء هي الراشدة بل كلمة‬ ‫"املحرومون" هي األدق‪ ،‬ذلك أن ّ‬ ‫العمال كانوا ال ينادون باسترداد شيء‪،‬‬ ‫وإنما الستحداث آليات للتفكير تواكب مجريات التغير في زمن مضى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تعود بداية النقابات العمالية في أمريكا إلى عام ‪ 1794‬حني شكل صانعو‬ ‫األحذية في فالديفيا (التي كانت عاصمة مؤقتة ألمريكا بني عامي‬ ‫‪ )1800-1790‬نقابة كانت لها أهمية سابقة‪ ،‬ويكمن السؤال هنا‪ :‬ملاذا‬ ‫ً‬ ‫تحديدا؟ الجواب أن أصحاب املهارات والحرف أسرع‬ ‫صانعو األحذية‬ ‫ّ‬ ‫تشكال للنقابات؛ ألنهم يعتبرون ذوي شأن في مجتمعهم‪ ،‬ولهم تواصل‬ ‫شبه يومي بكافة طبقات املجتمع‪ ،‬حيث يبث لهم الناس همومهم‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫أيضا في عدة دول كبريطانيا والسويد‪ ،‬حيث ّ‬ ‫الصباغون يعتبر‬ ‫صحيح‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬


‫ومع تراكم أحداث العنف الديني‪ ،‬خاصة ما حدث في «الخصوص»‬ ‫ثم في محيط «الكاتدرائية» التي ظلت في مرمى اعتداء مجموعات‬ ‫وصفت بأنها «مجهولة» من جانب األجهزة األمنية‪ ،‬في مشهد‬ ‫غير مسبوق‪ ،‬تصاعدت نبرة النقد من جانب البابا تواضروس‪،‬‬ ‫خاصة عندما وجد أن حديث املسئولني‪ ،‬بما في ذلك رئيس‬ ‫الجمهورية‪ ،‬عن الوحدة الوطنية ال يجد صدى واقعيا‪ .‬إدارة الشأن‬ ‫العام ليست باألماني ولكن باألدوات السياسية املتاحة‪.‬‬ ‫إذا كان مطلوبا من املؤسسة الكنسية «الصمت» فمن يتحدث؟‪.‬‬ ‫طاملا نادى البعض باملثالية في إبعاد املؤسسة الدينية عن الحديث‬ ‫عن الشأن الحقوقي لألقباط‪ ،‬فالواقعية السياسية تقضي بأن‬ ‫يكون هناك نظام سياسي‪ ،‬بمؤسساته وهيئاته وقوانينه‬ ‫وقراراته‪ ،‬يعبر عن كل املواطنني‪ ،‬ويسعى دائما لحل مشاكلهم‪.‬‬ ‫وهو ما لم يحدث‪ ،‬بل ظهرت مؤسسات الدولة غير محايدة في‬ ‫مناسبات عديدة في تعاملها مع الشأن القبطي‪ ،‬والسيما في ظل‬ ‫سعي جماعات إسالمية لفرض سيطرتها على املجتمع‪ ،‬ولي‬ ‫ذراع أجهزة الدولة التي لم تعد تملك سوى التفاوض معها‪ ،‬وهو‬ ‫ما يعزز سلطتها ومكانتها في املجتمع‪.‬‬ ‫اإلشكالية الحقيقية في نظام الرئيس محمد مرسي هي تعامله‬ ‫مع األقباط من منظور «العالقات العامة»‪ ،‬التي تقتصر على‬ ‫اجتماعات في الرئاسة مع ممثلي الكنائس‪ ،‬وأحاديث فضفاضة‬ ‫عن الوحدة الوطنية‪ ،‬وخطابات عامة ال تمس جوهر املشكالت‬ ‫التي تواجه األقباط‪ ،‬املوروثة واملستحدثة‪ ،‬وال تحدث أية تغيرات‬ ‫على أرض الواقع‪ ،‬بل ما يحدث يشكل تحوالت سلبية‪.‬‬ ‫الشواهد تشير إلي أن غالبية األقباط ال يشعرون بأن الرئيس‬ ‫محمد مرسي رئيسا لهم‪ ،‬خاصة مع تكاثر املشكالت فوق‬ ‫رؤوسهم‪ .‬هموم مصرية عامة‪ ،‬وهموم قبطية خاصة‪ ،‬الكل‬ ‫يتقاطع‪ ،‬ويخلق حالة من الغضب املمزوج بالقلق‪ .‬من اإلنصاف‬ ‫ٌ‬ ‫أال نحمل رئيسا جديدا تركة ثقيلة من الطائفية تراكمت على مدار‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫عقود‪ ،‬لكن ينتظر منه أن يتخذ سياسات عامة تشعر املجتمع‬ ‫بأنه يحسن إدراكها‪ ،‬ويسعى إلزالتها‪.‬‬ ‫وكم هو الفت‪ ،‬أن رئيس الجمهورية في موقعه منذ نحو عشرة‬ ‫أشهر لم يظهر خاللها أي لفتة بأنه يقدر التراث الثقافي املتعدد‪،‬‬ ‫والتجربة الحضارية للمجتمع املصري بزيارة أي من املعالم‬ ‫املسيحية أو املشاركة في أي مناسبة تخص األقباط‪ ،‬أو الحديث‬ ‫عنهم بما يتجاوز الخطابات التقليدية املعتادة عن الوحدة الوطنية‪،‬‬ ‫والعالقات الطيبة بني املسلمني واألقباط‪.‬‬ ‫وبمرور الوقت يتعمق شكل االنقسام في املجتمع‪ .‬هناك قوى‬ ‫إسالمية لديها مشروعها السياسي الذي يهدف إلى التمكني‬ ‫من مفاصل املجتمع بتأكيد االنقسام على أسس دينية‪ ،‬وهناك‬ ‫قوى آخرى مدنية‪ ،‬يصطف فيها األقباط واملسلمون‪ ،‬ويبدو‬ ‫إلي جوارها مؤسسات رئيسة في الكيان املصري مثل األزهر‬ ‫والكنيسة والسلطة القضائية‪.‬‬ ‫وقد كان الفتا عشية االحتفال بعيد القيامة‪ ،‬الذي خرج عن‬ ‫مفتي اإلخوان املسلمني الدكتور عبد الرحمن البر للمرة األولى‬ ‫تصريح صادم بعد جواز تهنئة املسيحيني في هذه املناسبة‪ ،‬أن‬ ‫يصفق األقباط في صحن الكاتدرائية لشيخ األزهر‪ ،‬والجيش‪،‬‬ ‫والقضاء‪ ،‬وجميعها في حالة مواجهة بدرجة أو بأخرى مع‬ ‫اإلخوان املسلمني‪ ،‬دون أن يتجهوا بتصفيقهم ألي من رموز‬ ‫النظام الجديد<‬

‫أقباط املهجر‬ ‫> أقباط املهجر مصطلح يطلق على املصريني األقباط املهاجرين خارج مصر ويقصد به الوجود‬ ‫القبطي خارج مصر‪ّ .‬‬ ‫ويقدر عدد األقباط في الخارج حوالي ‪ 5‬ماليني‪ .‬وينتمي أغلب أقباط املهجر‬ ‫إلى الكنيسة القبطية األرثوذكسية‪ ،‬ويعيش أغلبهم في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا‪،‬‬ ‫وبعض الدول األفريقية األخرى‪.‬‬ ‫> بدأت أولى موجات هجرة األقباط للخارج بعد قيام ثورة ‪ 23‬يوليو (تموز) ‪ 1952‬مباشرة‪ ،‬ومع صدور‬ ‫قانون التأميم‪ ،‬ال سيما أن األقباط كانوا أكثر املصريني ثراء‪ ،‬وبعد انتزاع بعض أمالكهم سارعوا‬ ‫للهجرة إلى دول أميركا وأوروبا وكندا‪ ،‬ثم توالت املوجات مع اندالع أي حادث له صبغة طائفية‪.‬‬ ‫> ثالثة أسباب يمكن وضعها ركائز رئيسة ألسباب هجرة املسيحيني األول ممثلة بالعامل االقتصادي‬ ‫وتدهور الحالة املعيشية‪،‬العامل الثاني يتمثل «بالتفريق في املعاملة» بني املسيحيني وسواهم‪ ،‬والثالث‬ ‫هو تصاعد الحركات األصولية اإلسالمية‪.‬‬ ‫> مع زيادة أعداد األقباط في الخارج تكون ما يمكن وصفه بـ«اللوبي القبطي»‪ ،‬ضد السلطات املصرية‪،‬‬ ‫ومارس أقباط املهجر ضغوطا قوية على األنظمة الغربية‪ ،‬التخاذ مواقف متشددة ضد السلطة‪ ،‬أثناء‬ ‫الحوادث ذات الصبغة الطائفية‪.‬‬ ‫> برز عدد من أقباط املهجر في كل املجاالت‪ ،‬وسطع نجم عدد من أقباط املهجر‪ ،‬ووصل بعضهم إلى‬ ‫مراكز مرموقة أمثال بطرس بطرس غالي األمني العام السابق لألمم املتحدة‪ ،‬مجدي يعقوب‪ ،‬وهو من‬ ‫أبرز جراحي جراحة القلب وأطلق عليه لقب ملك القلوب‪ ،‬فايز ساروفيم رجل أعمال وملياردير ‪ ،‬ودينا‬ ‫باول مساعدة وزير الخارجية األميركي لشؤون التعليم والثقافة وغيرهم‪.‬‬ ‫> تؤكد االضطرابات التي تشهدها مصر بني حني وآخر بني األقباط واملسلمني إلى وجود أزمة في‬ ‫عالقة املواطن القبطي بالدولة املصرية‪ .‬وكثيرا ما سال الدم جراء املواجهات العنيفة بني الجانبني‪ .‬وينفي‬ ‫املفكر اإلسالمي محمد عمارة في كتابه "في املسألة القبطية‪ ..‬حقائق وأوهام"‪ ،‬الذي صدر عام ‪2001‬‬ ‫وجود مسألة قبطية‪ ،‬ويعتبر أن األمر من صنع أقباط املهجر‪ ،‬وأنه أتى جراء عملية تسييس الكنيسة‬ ‫التي بدأت في نظره مع تولي الراحل شنودة الثالث بابا اإلسكندرية وبطريرك الكرازة املرقسية منصبه‬ ‫عام ‪ .1971‬أما منظمة العفو الدولية فتجزم في تقرير صدر عام ‪ 2008‬بأن أقباط مصر يعانون التمييز‬ ‫واالضطهاد‪ ،‬وأن الدولة املصرية تتجاهل تلبية مطالبهم العادلة واملشروعة‪.‬‬ ‫> من أهم مطالب األقباط‪ ،‬تطبيق قانون موحد لدور العبادة وإتاحة حرية بناء الكنائس‪ ،‬وقانون خاص‬ ‫باألقباط لألحوال الشخصية‪ ،‬وتدريس التاريخ القبطي‪ ،‬وإنهاء ما يوصف بالتمييز في التعليم‪ ،‬وإلغاء‬ ‫املادة الثانية من الدستور التي تقول إن اإلسالم دين الدولة‪ ،‬وإلغاء خانة الديانة من البطاقة الشخصية‬ ‫واستمارات الوظائف‪ ،‬واستعادة األوقاف القبطية‪ ،‬ومنح األقباط نسبة أكبر في الوظائف القيادية‪،‬‬ ‫وتمثيل أكبر في الحياة السياسية‪ ،‬وإنهاء التمييز في اإلعالم الرسمي‪ ،‬ويطالب أقباط املهجر بحرية‬ ‫التحول من دين آلخر‪.‬‬ ‫> اتخذ مجمع الكهنة األقباط ومجلسهم امللي قرارات جاءت بصيغة مطالب "حول حرية العقيدة وحرية‬ ‫ممارسة الشعائر الدينية وعدم تطبيق الشرع اإلسالمي وحماية األسرة والزواج املسيحي‪ ،‬وحول‬ ‫املساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل املسيحيني في الهيئات النيابية والوزارة والوظائف العليا وغيرها‪،‬‬ ‫والدعوة إلى ضرب االتجاهات الدينية اإلسالمية املتطرفة‪ ،‬وهي كلها مطالب تتهم النظام املصري‬ ‫السابق والحالي بالتمييز ضد األقباط"‪.‬‬ ‫> نشر بعض املسيحيني األصوليني أو ما يطلق عليهم (األقباط السلفيون) في الخارج خريطة ملصر‬ ‫قالوا إنه سيتم خاللها تقسيم مصر إلى ‪ 5‬دويالت‪ ،‬من بينها الدولة القبطية وعاصمتها اإلسكندرية‪،‬‬ ‫وتمتد من جنوب بني سويف حتى جنوب أسيوط‪ ،‬وتتسع غربا لتضم الفيوم‪ ،‬وتمتد في خط صحراوي‬ ‫عبر وادي النطرون ليربط هذه املنطقة باإلسكندرية‪ ،‬كما تضم أيضا جزءا من املنطقة الساحلية املمتدة‬ ‫حتى مرسى مطروح‪.‬‬ ‫> رأى الباحث سليمان شفيق في تصريحات لصحيفة "اليوم السابع" املصرية أن البيان الصادر عما‬ ‫يسمى بالدولة القبطية ليس سوى «بالونة اختبار»‪ ،‬من قبل شخصيات وصفها بأنها "وهمية"‪ ،‬مؤكدا‬ ‫أن هذه الشخصيات وهذه البيانات محاولة ملعرفة ردود الفعال وقياس الرأي العام في مصر‪ ،‬خاصة‬ ‫األوساط السياسية منه‪ ،‬وأضاف أن ما يساعد على ظهور جهات قبطية أصولية تسعى في االتجاه‬ ‫نفسه من قبيل ما يسمى بالبرملان القبطي‪ ،‬محذرا من أن مثل تلك الكيانات تستهدف فصل األقباط‬ ‫عن الجماعة الوطنية املصرية‪.‬‬ ‫> نفى بابا اإلسكندرية‪ ،‬بطريرك الكرازة املرقسية نية األقباط تأسيس دولة لألقباط وأوضح "أن من‬ ‫يروج النفصال املسيحيني وتأسيسي دولة قبطية (مختل)‪ ،‬وكالمه غير صحيح‪ ،‬فالكنائس واألديرة‬ ‫منتشرة بطول مصر والكنيسة جزء ال يتجزأ من مصر التي لن تتقسم وستظل موحدة منذ عهد مينا‬ ‫وإلى األبد‪.‬‬ ‫املحرر الثقافي‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪41‬‬


‫تقرير‬

‫تنظيما وتشعبا فيه هو «املؤسسة الكنسية»‪ ،‬وهذه –بحكم‬ ‫تكوينها وفلسفتها وخبرتها التاريخية‪ -‬يصعب أن توفر أية‬ ‫مظلة فكرية ٌأو مؤسسية للجوء للعنف‪ .‬ثالثهما وجود قطاع‬ ‫عريض من األقباط في املهن املختلفة‪ ،‬وبخاصة في القطاع‬ ‫الخاص‪ ،‬واعتمادهم اقتصاديا علي التفاعل مع املجتمع العام‪،‬‬ ‫بمسلميه ومسيحييه‪ ،‬يؤثرون عادة العالقات الهادئة‪ ،‬وينأون‬ ‫بأنفسهم عن أي صدام قد يحدث ملا له من تأثير سلبي مباشر‬ ‫على مصالحهم‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫برز عدد من‬ ‫أقباط املهجر‬ ‫أمثال الجراح‬ ‫مجدي يعقوب‬ ‫وامللياردير‬ ‫فايز ساروفيم‬ ‫ودينا باول‬ ‫مساعدة وزير‬ ‫الخارجية‬ ‫األميركي‬

‫‪,,‬‬

‫ويجب أن نتذكر أنه علي مدار أكثر من أربعة عقود وقعت‬ ‫العشرات من أحداث التوتر الديني‪ ،‬وبضعها خلف قتلى‬ ‫وجرحي في صفوف األقباط‪ ،‬فضال عن االعتداء على الكنائس‬ ‫واملنازل واملحالت اململوكة لهم‪ ،‬ولم نر تحوال كيفيا في اللجوء‬ ‫العنف أو استخدام السالح على نحو ممنهج‪ ،‬وكل ما حدث في‬ ‫بعض املناسبات املحدودة هو استخدام بعض األفراد للسالح‬ ‫في الخالفات االجتماعية‪ ،‬وهو أمر يحدث علي نحو متسع في‬ ‫مصر بمسلميها ومسيحييها منذ ثورة يناير ‪2011‬م‪ ،‬لكنه ال‬ ‫يشكل تحركا جماعيا‪.‬‬ ‫وبالتالي يصعب تصور نشوء «سلفية قبطية» تؤسس للعنف‬ ‫منهجا‪ ،‬قد تنشأ تجمعات قبطية تتبني رؤى متشددة لكنها لن‬ ‫تتحول يوما إلى العنف‪ ،‬فضال عن أن تشددها عادة ما يرتبط‬ ‫بمستوى التعامل النظامي مع املطالب القبطية‪ ،‬فإذا حدثت‬ ‫انفراجة في مجال حل املشكالت القبطية سوف ينخفض‬ ‫منسوب التشدد‪ .‬خرج األقباط من رحم نظام مبارك بمشاعر‬ ‫مختلطة‪ .‬هناك فريق منهم اشتبك مع الحياة العامة‪ ،‬وبالتالي‬ ‫كانوا مشاركني أو علي األقل متعاطفني مع نداء امليادين برحيل‬ ‫هذا النظام‪ ،‬وفريق آخر يصنف ضمن غالبية املصريني الذين‬ ‫ينشدون الهدوء واالستقرار‪.‬‬ ‫في الشهور األولى التي أعقبت ثورة يناير ‪2011‬م‪ ،‬خاصة بعد‬ ‫ان استشعر اإلسالميون عامة القوة بعد إجراء االستفتاء علي‬ ‫تعديل بعض مواد في الدستور في مارس من نفس العام‪ ،‬الذي‬ ‫أعقبه صدور اإلعالن الدستوري األول‪ .‬في تلك األجواء حاول‬ ‫اإلخوان املسلمون التقرب لألقباط من منطلق برجماتي‪ ،‬ال‬ ‫يبحث في مخاوف األقباط من فتاوى وممارسات اإلسالميني‬ ‫عامة واألخوان خاصة‪ ،‬ولكن يركز على استيعاب األقباط‬ ‫في ظل ترتيبات النظام الجديد بما يضمن أن يحل اإلخوان‬ ‫املسلمون‪ ،‬أو حزب الحرية والعدالة ذراعهم السياسي محل‬ ‫الحزب الوطني‪.‬‬ ‫جس النبض بدأ أوال بلقاء جمع أثنني من صحفيي اإلخوان‬ ‫املسلمني مع أحد قيادات الكنيسة‪ ،‬ثم تعثر األمر‪ ،‬والسبب أن‬ ‫البابا شنودة رأى أن الحوار بني اإلخوان املسلمني واألقباط ليس‬ ‫له مبرر‪ .‬فاألقباط جزء من املجتمع‪ ،‬وإذا كان لإلخوان املسلمني‬ ‫حزب فهو يخاطب كل املجتمع‪ ،‬ومن بينه األقباط بالطبع‪ ،‬أما‬ ‫الكنيسة‪ -‬فهي مؤسسة‪ -‬تتحاور وتتعاون وتدخل في عالقات‬ ‫مع مؤسسات مماثلة لها في مقدمتها األزهر‪ .‬وبالتوازي لم‬ ‫تؤد اللقاءات التي عقدتها قيادات إخوانية مع مثقفني ونشطاء‬ ‫أقباط إلى نتائج ذات داللة‪ ،‬والسيما أن اإلخوان املسلمني لم‬ ‫يكن لديهم رغبة في بناء جسور ثقة مع األقباط أنطالقا كونهم‬ ‫فصيال سياسيا جامعا‪ ،‬ولكن من منطلق «الصفقة الشاملة»‬ ‫مع املؤسسة الكنسية أسوة بما كان يحدث في عهد مبارك‪.‬‬

‫دينا باول‬

‫‪40‬‬

‫امللفت أن اإلخوان املسلمني‪ ،‬والتيار اإلسالمي عامة‪ ،‬كثيرا ما‬ ‫كان يدعو األقباط طيلة التسعينيات تحديدا‪ ،‬وما تالها إلى‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫الخروج من الكنيسة‪ ،‬واملشاركة في املجتمع‪ .‬وعندما جاءت‬ ‫اللحظة التي أصبح اإلخوان املسلمون فيها في صدارة املشهد‬ ‫السياسي سعوا إلى تمكني الصيغة التقليدية في تعامل النظام‬ ‫الحاكم مع األقباط بدال من تقديم صيغة وطنية أرحب تقوم على‬ ‫االندماج القومي‪.‬‬ ‫جاء انتخاب الرئيس محمد مرسي في أجواء من االستقطاب‪،‬‬ ‫لم تكن غالبية األقباط مؤيدة له‪ .‬ورغم أن مرسي حاول الظهور‬ ‫بمظهر رئيس كل املصريني‪ ،‬إال التطورات على أرض الواقع‬ ‫كانت تسير في اتجاه مزيد من انتهاك حقوق االقباط‪ ،‬وتراكم‬ ‫املشكالت التي يعانون منها‪ ،‬ومحاصرة الخطابات املتشددة‬ ‫لهم‪ ،‬وإهانة العقيدة املسيحية على يد إسالميني‪.‬‬ ‫في حوار مع شخصية مهمة في دائرة السلطة ذكر لي‪ :‬هناك‬ ‫اعتقاد في قصر االتحادية بأن األقباط ال يريدون الرئيس محمد‬ ‫مرسي‪ ،‬وليسوا على استعداد للتعاون معه‪ ،‬بل هم يقفون إلى‬ ‫جوار املعارضة‪ .‬هذه املالحظة لها ما يؤكدها من شواهد‪ ،‬فقد‬ ‫وقف األقباط إلي جانب املعارضة في كل املناسبات االنتخابية‬ ‫في مواجهة اإلسالميني‪ ،‬والسبب يعود إلى اعتقاد األقباط بأن‬ ‫حكم اإلخوان املسلمني يحمل تراجعا لهم في الوضع القانوني‪،‬‬ ‫واملكانة السياسية‪ ،‬والحضور الثقافي‪.‬‬ ‫وبالتالي التيارات املدنية التي تقر بمواطنتهم‪ ،‬وتسعى إلدماجهم‬ ‫في املجتمع على أساس من املشاركة والندية واملساواة‪ ،‬وترى‬ ‫فيهم شركاء أصالء في املشروعات السياسية واالقتصادية‬ ‫املطروحة أفضل بالنسبة لهم من ارتباط باإلخوان املسلمني‬ ‫الذين عمدوا في خطابهم السياسي خاصة في املواسم‬ ‫االنتخابية إلى التقسيم الديني للمجتمع أمال في حشد أصوات‬ ‫املسلمني طائفيا‪.‬‬ ‫األقباط خرجوا إلي الفضاء املدني‪ ،‬وال يريدون العودة إلى‬ ‫االنكفاء أو العزلة مرة أخرى‪ .‬ال هم يرغبون في ذلك‪ ،‬وال القيادة‬ ‫الكنسية الجديدة متمثلة في البابا تواضروس الثاني راغبة‬ ‫في التدخل في الشأن السياسي‪ .‬املسألة بالنسبة لألقباط لم‬ ‫تعد مناصب أو مواقع أو كنائس تبني أو ترمم كما كان الحال‬ ‫في عهد مبارك‪ ،‬ولكن في األساس حضور ووجود واعتراف‬ ‫بالدولة الوطنية التي تحتفي بكل مواطنيها‪ ،‬وليست الدولة التي‬ ‫تجعل الجماعة في مواجهة الوطن‪ .‬باختصار هي معركة وجود‬ ‫في وطن يتغير‪ ،‬وتهتز أسسه‪ ،‬وتتبدل ثوابته‪.‬‬ ‫وصل البابا تواضروس الثاني إلى سدة الكرسي املرقسي في‬ ‫نوفمبر ‪2012‬م خلفا للبابا شنودة الثالث الذي شكل رحيله‬ ‫حالة من الفقد الوطني‪ ،‬ولم تعرف مصر منذ عقود وداعا‬ ‫شعبيا جارفا إلحدى الشخصيات التي أثرت في املجتمع‬ ‫املصري مثلما حدث في جنازة البابا شنودة‪.‬‬ ‫قبل أن يجري تنصيب البابا «تواضروس الثاني» رسميا أسدى‬ ‫له الكثير التهنئة‪ ،‬والنصائح‪ ،‬والتحذيرات‪ ،‬هناك من نصحه بأن‬ ‫يمضي على نهج سلفه‪ ،‬وآخرون‪ -‬من اإلسالميني على وجه‬ ‫الخصوص‪ -‬طالبوه بتغيير توجهات الكنيسة‪ ،‬وعدم االنخراط‬ ‫في ملفات سياسية‪.‬‬ ‫عقب تنصيبه بطريركا لإلسكندرية‪ ،‬ظهر البابا تواضروس‬ ‫الثاني متحدثا عن الوحدة الوطنية‪ ،‬متواصال مع املؤسسات‬ ‫الدينية اإلسالمية‪ ،‬مفضال عدم الحديث أو الظهور في املجال‬ ‫السياسي العام‪ ،‬تاركا األمر للمدنيني األقباط في الفضاء العام‪.‬‬


‫النضال من أجل الديمقراطية والسعي إلى مواجهة املظلومية‬ ‫القبطية يجد الشباب القبطي النشط نفسه في غالب األحيان‪.‬‬ ‫وال ينبغي أن نجهل أمرين في هذا الخصوص‪ :‬أولهما اإلرث‬ ‫الطائفي في اإلعالم والتعليم والوظائف الذي نشأ عليه الشباب‬ ‫القبطي على مدار عقود‪ ،‬وثانيهما التفاعل مع الحركات الشبابية‬ ‫االحتجاجية‪ .‬في األولى تقوقع حول املظلومية القبطية املمتدة‬ ‫دون حل‪ ،‬وفي الثانية انفتاح على رحابة النضال السياسي‬ ‫الديمقراطي‪.‬‬ ‫في حادث «الخصوص» الذي وقع في إبريل ‪ ،2013‬وما تاله من‬ ‫مواجهات أمام الكاتدرائية املرقسية بالعباسية ما يشير إلى أن‬ ‫الشباب القبطي بدأ يفقد حلمه‪ .‬يواجه عنفا بعنف‪ ،‬ويسعى إلى‬ ‫صد العدوان باللجوء إلي أساليب النضال الال سلمي‪ ،‬والسبب‬ ‫يعود إلى أن دولة العدالة غير متحققة‪ ،‬والقانون غائب أو مغيب‪،‬‬ ‫ومؤسسات الدولة ال تفعل الكثير أو القليل لحل مشاكل‬ ‫مواطنيها‪ .‬هنا يظهر التأثير الذي تعرض له الشباب القبطي من‬ ‫خبرة االحتكاك مع االحتجاجات الشبابية على مستوى الشارع‬

‫التي تلجأ إلى العنف في مواجهة النظام القائم بما يحويه من‬ ‫نزعات لالستئثار بالسلطة‪ ،‬واقصاء املختلفني‪ ،‬والسعي إلى‬ ‫إعادة تشكيل هوية الدولة وفق تصورات فصيل سياسي واحد‬ ‫دون مشاركة من جانب الفصائل السياسية األخرى‪.‬‬ ‫ورغم أن هناك أحداثا ظهر فيه «القبطي» بمظهر من يلجأ للعنف‬ ‫إال أنه يصعب تصور أن تنشأ حركات قبطية تؤسس منهجها‬ ‫علي العنف لتحقيق غاياتها أو أهدافها‪ .‬سيظل األمر عشوائيا‬ ‫وليد اللحظة‪ ،‬مقصور على شباب في مواجهة واقع متأزم‪،‬‬ ‫وليس منهجا فكريا متكامال يقوم على فكر وتنظيم وحركة‪.‬‬ ‫ولعلنا نتذكر أن خبرة «الكتيبة الطيبية»‪ ،‬التي بدأت مطبوعة‬ ‫تحمل األسم‪ ،‬ثم تجمع قبطي في أحد املناطق العشوائية‬ ‫(عزبة النخل)‪ ،‬رغم حدة خطاباتها‪ ،‬وإرتفاع منسوب الشعور‬ ‫باالحتقان الطائفي بني أعضائها‪ ،‬لم تنزلق لتأسيس مرجعية‬ ‫فكرية للعنف أو تجعلها منهجا لها‪ ،‬ولم تكن في مناسبات‬ ‫كثيرة سوى معبئة لطاقات الغضب‪ ،‬ودافعة للتظاهر‪.‬‬ ‫ثانيهما أن الحضور القبطي في مصر معقد‪ ،‬الطرف األكثر‬

‫‪,,‬‬

‫بابا اإلسكندرية وبطريرك الكرازة املرقسية يرفض‬ ‫دعوة بعض اقباط املهجر الى تأسيس دولة لألقباط‬

‫جاء تولي‬ ‫الدكتور محمد‬ ‫مرسي أول‬ ‫رئيس ملصر من‬ ‫التيار اإلسالمي‬ ‫ليزيد من‬ ‫املخاوف القبطية‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪39‬‬


‫تقرير‬

‫بعد عقود من ابتالع آالم املواطنة املنقوصة في صمت خرج األقباط عن حلمهم املعهود في‬ ‫احتجاجات بدأت أوال في صحن الكاتدرائية كما حدث في األلفية الجديدة مع حادثة «راهب دير‬ ‫املحرق» عام ‪ 2001‬ثم واقعتي «وفاء قسطنطني» عام ‪ 2003‬و»كاميليا شحاتة» عام ‪ 2008‬ثم‬ ‫ما لبثوا أن خرجوا إلى الفضاء العام بعد عقد من الزمن قبل أندالع ثورة ‪ 25‬يناير ‪ 2011‬في‬ ‫مناسبتني‪ :‬األولى هي أحداث العمرانية في أكتوبر(تشرين األول) ‪ ،2010‬ثم التفجيرات الدامية في‬ ‫كنيسة القديسني باإلسكندرية لحظة ميالد عام ‪.2011‬‬

‫مسيحيو مصر بني «نضال الديمقراطية» و«املظلومية القبطية»‬

‫القبطي السلفي‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫س ــامــح ف ـ ــوزي‬

‫‪,,‬‬

‫تشكلت‬ ‫حركة شباب‬ ‫ماسبيرو من‬ ‫قلب النضال‬ ‫أمام مبني‬ ‫ماسبيرو‬ ‫احتجاجا على‬ ‫ما حدث في‬ ‫كنيسة صول‬ ‫بعد أسابيع‬ ‫من سقوط‬ ‫نظام مبارك‬

‫‪,,‬‬

‫‪38‬‬

‫الحوادث التي تظاهر األقباط بسببها في محيط الكاتدرائية كانت‬ ‫تمس «صورتهم املجتمعية» أوال احتجاجا على صحيفة نشرت‬ ‫وقائع مغلوطة عن راهب له فضائح أخالقية‪ ،‬وثانيا احتجاجا‬ ‫على اختفاء زوجتي كاهنني‪ ،‬تردد أنهما كانتا مقدمتني على‬ ‫اعتناق اإلسالم‪ ،‬أو هكذا أشيع‪ ،‬وأستقر في خطاب الحركات‬ ‫اإلسالمية الراديكالية التي وجدت في املناسبتني فرصة مواتية‬ ‫البتزاز نظام مبارك من ناحية‪ ،‬والتضييق على األقباط من‬ ‫ناحية أخرى‪.‬‬ ‫ولم يكن مستبعدا أن يكون نظام مبارك‪ -‬بما أمتلكه من خبرات‬ ‫في اللعب على أوتار امللف الديني‪ -‬أن تكون تلبيته ملطالب األقباط‬ ‫بإعادة السيدتني لهم مقرونة بإطالق التيارات اإلسالمية للهجوم‬ ‫عليهم تحقيقا للتوازن الذي عشقه إلى حد الرتابة السياسية‬ ‫وتدشني الطائفية في املمارسة العملية‪ ،‬وابتعاد النظام الحاكم‬ ‫من مرمى النيران‪.‬‬ ‫أما املناسبتان اللتان خرج فيها األقباط محتجني وغاضبني‬ ‫في املجال العام فقد اقترنت بحقوق املواطنة وهي الحق في‬ ‫االعتقاد وأداء الشعائر الدينية (اغالق كنيسة العمرانية)‪ ،‬والحق‬ ‫في العبادة والسالمة الشخصية (تفجيرات كنيسة القديسني)‬ ‫مما سبق يتضح أن خروج األقباط باحتجاجاتهم من صحن‬ ‫«الكنيسة» إلى «املجتمع» استغرق ما يقرب من عقد من الزمن‪،‬‬ ‫وكان احتجاجهم على نظام مبارك سابقا لسقوطه ببضعة‬ ‫أشهر‪ ،‬مما جعل مشاركتهم في الثورة املصرية عام ‪2011‬‬ ‫تأكيدا على خروجهم إلى املجتمع مطالبني باملساواة والحرية‬ ‫والديمقراطية أسوة ببقية املصريني‪ .‬راود قطاع عريض من‬ ‫األقباط واملسلمني حلم بأن الطائفية انتهت إلى زوال في ميدان‬ ‫التحرير مع سقوط نظام مبارك‪ ،‬وتنسموا معا عبيرا جديدا‪،‬‬ ‫وتطلعوا إلى تحقق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة‬ ‫االجتماعية‪.‬‬ ‫ولكن لم يمض وقت طويل حتي تبني أن األحالم التي راودت‬ ‫املصريني لم تكن واقعية‪ ،‬فقد أطلت التوترات الدينية بوجهها‬ ‫القبيح‪ ،‬تارة في هدم كنيسة «صول»‪ ،‬ثم حرق كنيسة «إمبابة»‬ ‫ثم االعتداء على كنيسة «املريناب»‪ ،‬فضال عن التوسع في إحالة‬ ‫أقباط إلى املحاكمة بتهمة إهانة العقيدة اإلسالمية‪ ،‬فضال‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫عن اختفاء فتيات قبطيات قاصرات ٌيشاع تزوجهن ملسلمني‬ ‫في إطار ظاهرة أعم وأشمل عن خطف أطفال ونساء وأحيانا‬ ‫رجال‪ ،‬مسلمني ومسيحيني‪ ،‬طلبا للفدية في ضوء االنفالت‬ ‫األمني الذي ضرب املجتمع املصري منذ ثورة ‪ 25‬يناير إلى اآلن‪.‬‬ ‫وجاء تولي الدكتور محمد مرسي‪ ،‬أول رئيس ملصر من التيار‬ ‫اإلسالمي ليزيد من املخاوف القبطية‪ ،‬ويرفع من مستوى‬ ‫شعورهم بالتحديات التي تواجههم خاصة في ظل تمتع‬ ‫بعض الفصائل اإلسالمية‪ ،‬التي يربطها بالنظام القائم‪ ،‬تحالف‬ ‫وتنسيق بغطاء واضح في تعاملها الخشن مع األقباط في‬ ‫مناسبات عديدة‪.‬‬ ‫منذ ذلك الحني وجد األقباط أنفسهم بني طريقني يتوازيان‬ ‫حينا‪ ،‬ويتقطعان حينا آخر‪ .‬هل النضال يكون من أجل «حرية‬ ‫مصر» أم من أجل «مواطنة األقباط» أم األثنني معا؟ هنا تبدو‬ ‫اإلشكالية املمتدة‪.‬‬ ‫عرفت الثورة املصرية خروجا للشباب القبطي إلى ميادين‬ ‫النضال الديمقراطي‪ .‬تشكلت حركة «شباب ماسبيرو» من‬ ‫قلب النضال أمام مبني ماسبيرو احتجاجا على ما حدث في‬ ‫كنيسة «صول» بعد أسابيع من سقوط نظام مبارك‪.‬‬ ‫فقد هدم السكان املحليون مبنى الكنيسة‪ ،‬ولم تفلح الدولة‬ ‫وقتئذ بقيادة املجلس العسكري في حل األزمة إال باالستعانة‬ ‫باملشايخ السلفيني لتهدئة الخواطر الهائجة‪ ،‬مما أعطى انطباعا‬ ‫لدى قطاع من األقباط بأن قضاياهم تعالج بعد الثورة على‬ ‫أرضية دينية طائفية وليس من خالل املنظور الوطني املدني‬ ‫األرحب الذين توقعوه في أعقاب ثورة ‪ 25‬يناير‪.‬‬ ‫«شباب ماسبيرو»‪ ،‬وما تالهم من حركات شبابية قبطية‬ ‫متعددة األسماء هم نتاج واقع سياسي مرتبك يجعلهم دائما‬ ‫بني مفترق الطريق الذي طاملا واجه األقباط‪ :‬الديمقراطية ملصر أم‬ ‫املواطنة لألقباط‪ ،‬أم كال األمرين متالزم غير منفصل‪.‬‬ ‫في بعض األحيان يتالصقون مع الحركات الشبابية املصرية‬ ‫املطالبة بالديمقراطية والعدالة االجتماعية‪ ،‬وفي أحيان أخرى‬ ‫يرون أنفسهم في خندق املطالبة بحل املظالم القبطية‪ ،‬وما بني‬


‫ملحق يومي وصفحات متخصصة‬ ‫في‬ ‫عقارات‬

‫صحتك‬

‫السبت‬

‫الجمعة‬

‫سفر وسياحة‬

‫ثقافة‬ ‫األحد‬

‫الثالثاء‬

‫إعالم‬

‫االثنني‬

‫حصاد‬

‫ملسـات‬

‫الخميس‬

‫األربعاء‬

‫املتخصصة‬ ‫صفحات‬ ‫أجندة األعمال السبت واألربعاء > علوم السبت‬ ‫سيارات األحد > فنون االثنني > التعليم االثنني > تقنية املعلومات الثالثاء‬ ‫كتب األربعاء > أنغام الخميس > سينما الجمعة‬ ‫سجاالت األحد (داخل صفحات الرأي)‬

‫‪ ..‬تجدد دائم‬


‫تحقيق‬

‫أن يخوض املرء جميع معاركها‪.‬‬ ‫في حشد انتخابي في وهران‪ ،‬ثار غضب الرئيس الجزائري عبد‬ ‫العزيز بوتفليقة‪ ،‬عندما قام شاب من الحضور ليشكو من عدم‬ ‫عثوره على عمل رغم أنه خريج جامعة‪.‬‬ ‫سأله الرئيس‪ :‬ما هي دراستك؟‬ ‫أجاب الشاب‪ :‬الشؤون الدولية‪.‬‬ ‫رد الرئيس‪ :‬حسنا! أخبرني ما هي عاصمة مانغوليا؟‬

‫‪,,‬‬

‫يمكن أن‬ ‫تصبح قصة‬ ‫سقوط مهاتير‬ ‫محمد في‬ ‫هاوية الغرور‬ ‫موضوعا‬ ‫لقصة إغريقية‬ ‫مأساوية!‬

‫‪,,‬‬

‫عندما أجاب الشاب أنه ال يعرف‪ ،‬انفرجت أسارير الرئيس شعورا‬ ‫باالنتصار‪.‬‬ ‫وصاح في مكبر الصوت‪ :‬أرأيتم إنه ال يعرف أن عاصمة مانغوليا‬ ‫هي أوالن باتور‪.‬‬ ‫وضحك الجميع في حني امتقع لون الشاب‪.‬‬ ‫يمكن أن تصبح قصة سقوط مهاتير محمد في هاوية الغرور‬ ‫موضوعا لقصة إغريقية مأساوية‪ .‬كان على خليفته املختار أنور‬ ‫إبراهيم أن يدفع الثمن بعد أن أطلقت عليه وسائل اإلعالم الغربية‬ ‫«مهندس املعجزة االقتصادية في ماليزيا»‪ .‬وكان يجب سحق‬ ‫إبراهيم ليس فقط سياسيا ولكن إنسانيا أيضا‪ .‬بعد تقاعده‪،‬‬ ‫حاول مهاتير محمد أن يقدم ذاته كفيلسوف ومؤرخ بإطالق‬ ‫تصريحات قليال ما يكون صاحبها‪ .‬يذكر عزم مهاتير محمد‬ ‫على تدمير إبراهيم كراهية بورقيبة املرضية لوريثه املختار أحمد‬ ‫بن صالح‪.‬‬ ‫أحد األخطار األخرى التي يواجهها كثير من الزعماء تتعلق‬ ‫أيضا بالغرور‪ ،‬فهم يرغبون في اكتساب الشعبية بأي ثمن حتى‬ ‫عندما تكون هناك حاجة إلى اتخاذ قرارات ال تحظى بشعبية‪.‬‬ ‫كان مصدق يفضل املوت على أن تطلق الجماهير ضده صيحات‬ ‫عدائية‪ ،‬لذا كان أحيانا ما يرتكب أخطاء سياسية كبرى‪ .‬ولم‬ ‫يسلم سياسي متزن مثل هويدا من فتنة الشعوبية‪ .‬عندما كنت‬ ‫أنقل أخبار إحدى حمالته االنتخابية في السبعينات‪ ،‬فوجئت‬ ‫باستخدامه املتكرر ملوضوعات تتعلق بكراهية األجانب للحصول‬ ‫على تهليل الجماهير‪.‬‬

‫مخاطر الفساد‬ ‫وكما هو الحال دائما‪ ،‬يبقى الفساد تهديدا آخر يواجه كثير من‬ ‫الزعماء‪ .‬في األعوام األخيرة‪ ،‬دار كثير من الجدل حول «الفصل بني‬ ‫السياسة والدين» في الدول املسلمة‪ .‬ولكن ربما تكون الحاجة إلى‬ ‫الفصل بني السياسة والعمل التجاري أكثر إلحاحا‪ .‬حتى عندما‬ ‫ال يكون الزعيم شخصيا متورطا في ممارسات فساد‪ ،‬أحيانا‬ ‫ما ينتهي به الحال كمحور أساسي في لعبة استغالل النفوذ‬ ‫واملحسوبية والتحيز الحزبي وحتى سوء استغالل املال العام‪.‬‬ ‫من املؤكد أن هويدا شخصيا لم يكن مستفيدا من ممارسات‬ ‫الفساد‪ .‬وفي الوقت الذي قتل فيه على يد الخميني‪ ،‬كان يملك‬ ‫فقط شقة مكونة من غرفتني بعقد إيجار ملدة ‪ 20‬عاما‪ .‬ولكن كان‬ ‫هناك تصور بأن فترة رئاسته للوزراء سمحت بانتشار الفساد‬ ‫على نطاق واسع‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫وكان بورقيبة أيضا غير فاسد بشخصه‪ ،‬ولكن ماذا عن زوجته‬ ‫الطموح وسيلة وابنه املندفع حبيب االبن؟ كذلك لم يكن أوزال‬ ‫متورطا في أي صفقات فاسدة‪ ،‬ولكن ماذا عن حاشيته وبخاصة‬ ‫شقيقه وبعض الشخصيات البارزة في حزبه الوطن األم؟‬ ‫وفي مفارقة‪ ،‬يمكن أن يقبل املسلمون الصفح عن زعيمهم إذا‬ ‫ارتكب أي خطيئة أو فشل‪ ،‬وإن كان هزيمة نكراء في الحرب‪،‬‬ ‫ولكنهم نادرا ما يسامحونه على فساده‪.‬‬ ‫وأخيرا‪ ،‬ربما ينتهي الحال بالقائد إلى الفشل بسبب سوء التوقيت‪.‬‬ ‫يبلغ موعد مغادرة السلطة في الوقت املناسب أهمية بالغة تتساوى‬ ‫مع موعد وصوله إليها عندما تسنح الفرصة‪ .‬تخيل لو تنحى‬ ‫مصدق عن الحكم في عام ‪ 1952‬بعد تطبيق قانون تأميم النفط‪.‬‬ ‫ولو تنحى بورقيبة في عام ‪ 1983‬لكان ترك وراءه قصة مختلفة‪.‬‬ ‫بعد هذه الفترة بدا مثل املطرب الذي قدم أغنيته والقى استحسان‬ ‫الجمهور وتصفيقه‪ ،‬ولكنه رفض النزول من فوق خشبة املسرح‪.‬‬ ‫ينتهي الحال بالقائد الذي يتمسك بالسلطة ملدة طويلة بعد أن حقق‬ ‫دوره التاريخي بمعاناة امللل أو السخرية‪ .‬قبل نهاية فترة رئاسته‬ ‫للوزراء‪ ،‬استسلم هويدا إلى هذه السخرية التي كانت في بعض‬ ‫األحيان تفوق احتماله‪ .‬في اجتماعاتنا األسبوعية في صباح أيام‬ ‫الجمعة‪ ،‬كان يكرر‪« :‬ماذا بعد؟ ما التالي؟» وقبل وفاته املأساوية‪،‬‬ ‫أصيب مجيب الرحمن بامللل وهو ما اتضح في حديثي معه في‬ ‫أكثر من مناسبة‪.‬‬ ‫وكان عالل الفاسي يعلم أنه بمجرد انتهاء دوره كداعية لالستقالل‪،‬‬ ‫لن يكون حريصا على التمسك بالسلطة‪ .‬وقد أخبرني ذات مرة أنه‬ ‫طلب منه قبول رئاسة الوزراء كإشارة على الوحدة الوطنية في‬ ‫غرب الصحراء الكبرى‪ ،‬قائال‪« :‬فعلت ما أستطيع فعله»‪.‬‬ ‫قد يصاب الزعيم الذي يطيل البقاء في السلطة بميول استبدادية‪.‬‬ ‫على سبيل املثال‪ ،‬وصل زغلول إلى إصدار أوامر بشن حملة‬ ‫كبيرة لفرض الرقابة على الصحف وتشكيل جماعات إنفاذ‬ ‫القانون لترويع خصومه السياسيني‪ .‬وحل مصدق البرملان وأعلن‬ ‫األحكام العرفية وعرض مكافأة ملن يعتقل خصومه السياسيني‪.‬‬ ‫وقبل وفاته بفترة‪ ،‬استسلم بوتو إلى ميوله االستبدادية‪.‬‬ ‫في بعض األحيان قد يكلف عدم معرفة باملوعد املناسب لالعتزال‬ ‫حياة القائد ذاته‪ .‬قبل عام من اغتيال بي نظير بوتو‪ ،‬دعوتها‬ ‫إلى اإلفطار في فندق في واشنطن العاصمة‪ ،‬ألشجعها على‬ ‫الترشح ملنصب األمني العام لألمم املتحدة‪ .‬وكان ذلك دور آسيا‬ ‫لتولي املنصب‪ ،‬وكانت بي نظير‪ ،‬السيدة املسلمة التي تملك خبرة‬ ‫سياسية واسعة وتتحدث عدة لغات‪ ،‬مرشحة مثالية‪.‬‬ ‫انتهى لقاؤنا بتأكيدها أنها ال ترغب سوى في أن تصبح رئيسة‬ ‫لوزراء باكستان لفترة ثالثة لتسجل بذلك رقما قياسيا‪ .‬وبعد عام‬ ‫بدا أنها سوف تحقق هذا الهدف‪ ،‬ولكن القدر لم يحقق لها ما تريد‪.‬‬ ‫أما أوزال‪ ،‬فقد نجا من هذا املصير السياسي بوفاته املفاجئة‪ .‬هل‬ ‫كان هو اآلخر سيبقى في منصبه ملدة طويلة بعد إتمام مهمته‬ ‫التاريخية؟ ال أحد يدري‪ .‬ولكن من خالل معرفتي به على مدار‬ ‫أعوام‪ ،‬أعتقد أنه كان سيتصرف على نحو مختلف‪.‬‬ ‫قضى العديد من الرجال وبعض السيدات أعواما يشكلون نماذج مختلفة‬ ‫للقائد املسلم الحديث‪ .‬وعلى الرغم من أن جهودهم لم تذهب هباء‪ ،‬يجب‬ ‫اعتبار عملية تشكيل النموذج املثالي لم تنته بعد<‬


‫الدولة‪ ،‬باإلضافة إلى تحقيق نظام رخاء اجتماعي طموح‪ .‬كما‬ ‫عمل على تحديث النظام البيروقراطي الذي يرجع إلى ‪ 500‬عام‬ ‫في إيران وقدم برنامجا شامال لإلصالح في قضايا شائكة مثل‬ ‫مكانة املرأة‪.‬‬ ‫كما يجدر بنا تذكر بوتو في باكستان‪ ،‬حيث ورث دولة هشة‬ ‫مزقتها حرب عام ‪ 1971‬مع الهند وانفصال شرق باكستان‪ .‬ولكنه‬ ‫في غضون أعوام قليلة نجح في جمع شتات بالده ليسلم دولة ذات‬ ‫فعالية إلى من خلفوه‪.‬‬ ‫في مواجهة التحدي الثالث‪ ،‬نجح مهاتير محمد في فترة رئاسته‬ ‫لوزراء ماليزيا‪ .‬تمكنت ماليزيا تحت قيادته من تعزيز مكانتها‬ ‫كقوة صناعية ذات مؤسسات إدارية وقانونية تنعم بها الدول‬ ‫الحديثة‪.‬‬ ‫وفي العراق‪ ،‬على الرغم من قصر مدة توليه رئاسة الوزراء‪ ،‬كان‬ ‫عبد الرحمن البزاز أول رئيس وزراء عراقي غير عسكري منذ‬ ‫تحول العراق إلى جمهورية‪ .‬حاول البزاز ترسيخ سلطة القانون‬ ‫بينما يعمل على تحرير النظام االقتصادي تحت اسم «االشتراكية‬ ‫الحذرة»‪ .‬كما أنهى أيضا الصراع مع األقلية العرقية من خالل‬ ‫الوصول إلى اتفاق مكون من ‪ 12‬نقطة يعترف بتعدد العرقيات‬ ‫في العراق‪.‬‬ ‫وال يمكن نسيان سوهارتو‪ ،‬الجنرال الذي حكم إندونيسيا ملدة‬ ‫‪ 31‬عاما‪ ،‬حيث كان الزعيم الذي أخرج بالده من حرب أهلية دموية‬ ‫في حني كان يبني مؤسسات الدولة التي لم تكن موجودة تقريبا‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من أن سوهارتو في بدايته كان يبدو نموذجا‬ ‫لديكتاتور عسكري من العالم الثالث‪ ،‬فإنه عمل كزعيم سياسي‬ ‫بدال من أن يكون حاكما مستبدا‪.‬‬ ‫وهنا يجدر بنا أن نذكر رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا‬ ‫الذي أصبح صاحب أطول مدة في املنصب‪ ،‬على الرغم من الشكوك‬ ‫األولية من جميع األوساط‪ .‬في خالل عشر سنوات من القيادة‪،‬‬ ‫استطاع تقديم برنامج إصالح يتسم بأنه األكثر طموحا في تركيا‬ ‫منذ تأسيس الجمهورية في العشرينات من القرن املاضي‪ .‬وفي‬ ‫هذا الصدد يمكن اعتبار أردوغان الوريث السياسي الحقيقي‬ ‫ألوزال على الرغم من أن الرجلني تربيا في وسطني آيديولوجيني‬ ‫مختلفني‪.‬‬

‫أخطاء القيادة‬ ‫عندما يتعلق األمر بمنح وسام‪ ،‬يظهر لنا ألسباب مختلفة أن كثيرا‬ ‫من القادة املسلمني في العصر الحديث فاشلون‪.‬‬ ‫السبب األول هو العنف االستثنائي في الحياة السياسية في العالم‬ ‫اإلسالمي‪ .‬ففي هذه املنطقة‪ ،‬تتجاوز املخاطر التي تحدق بالزعيم‬ ‫السياسي مجرد خسارة انتخابات أو الطرد من معسكره‪ .‬أحيانا‬ ‫ما يواجه الزعيم السياسي النفي أو االعتقال أو حتى املوت‪ .‬وتطول‬ ‫قائمة القادة السياسيني املسلمني الذين تم اغتيالهم أو إعدامهم‬ ‫على يد أعدائهم بما ال يسع ذكره في هذا املقال‪.‬‬ ‫ولكن من بينهم‪ :‬لياقت علي في باكستان‪ ،‬والنقراشي باشا في مصر‪،‬‬ ‫وبوتو وابنته بي نظير بوتو في باكستان‪ ،‬وضياء الحق في باكستان‪،‬‬ ‫وموسى شفيق ومحمد داود في أفغانستان‪ ،‬ومجيب الرحمن وضياء‬ ‫الرحمن في بنغالديش‪ ،‬ومحمد بوضياف في الجزائر‪.‬‬

‫وفي إيران وحدها‪ ،‬في ثالثة عقود‪ ،‬اغتيل أربعة رؤساء وزراء هم‬ ‫عبد الحسني هزير‪ ،‬وحاجي علي رزم آرا‪ ،‬وحسن علي منصور‬ ‫وأمير عباس هويدا‪.‬‬ ‫وربما يواجه القادة السياسيون الذين ينجحون في الهرب من‬ ‫املوت مشاكل أخرى‪ .‬أولها اإلصابة بالغرور‪ .‬حاول عدد قليل من‬ ‫الزعماء املسلمني في العصر الحديث الهروب من طبيعة ثقافتهم‬ ‫التي يرسخ فيها االستبداد‪ .‬على سبيل املثال‪ ،‬في بداية مشواره‬ ‫كان سعد زغلول بطل الدفاع عن الحرية‪ ،‬وسريعا ما أطلق على‬ ‫عال يتطلع إلى األسفل لرؤية‬ ‫ذاته «زعيم األمة» ليصبح فوق برج ٍ‬ ‫تابعيه‪ .‬وكان مصدق يحب أن يطلق عليه اسم «بيشوا»‪ ،‬وهي‬ ‫الكلمة الفارسية املقابلة لكلمة فرير األملانية‪ .‬وفي آخر عام له في‬ ‫رئاسة الوزراء‪ ،‬تأثر مصدق كثيرا بجنون العظمة لدرجة أنه رفض‬ ‫عقد اجتماع واحد كامل ملجلس وزرائه‪ .‬وكان يعتقد أنه نظرا لكونه‬ ‫األكثر ذكاء ووطنية وإخالصا بني جميع اإليرانيني‪ ،‬فهو ال يحتاج‬ ‫إلى أي شخص ليتم «مهمته التاريخية»‪.‬‬ ‫وفي أثناء وجوده في الحكم‪ ،‬اتخذ تونكو عبد الرحمن لذاته لقب‬ ‫«بابا ماليزيا»‪ .‬ولكنه عندما تقاعد في السبعينات من القرن‬ ‫املاضي‪ ،‬كان يتقبل املزاح بشأن ذلك‪ .‬وصرح لي في إحدى املرات‬ ‫قائال‪« :‬أعترف بأنني أب لبعض املاليزيني»‪.‬‬ ‫ولم يكن بورقيبة ليقبل بأي شيء أقل من أن يطلق عليه «املجاهد‬ ‫األكبر»‪ .‬قمت ذات مرة بزيارته في قصره بقرطاج‪ ،‬واصطحبني‬ ‫في جولة استمرت أكثر من ساعة ملشاهدة الصور واللوحات التي‬ ‫تسرد قصة «حياته البطولية»‪ .‬وقال متباهيا فيما يشبه الدعابة‪:‬‬ ‫«لوالي ملا كانت هناك تونس»‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫تورغوت أوزال ورجب طيب أردوغان‬

‫سعد زغلول رمز‬ ‫النضال املصري‬ ‫ومن اهم إنجازاته‬ ‫نحو االستقالل‬ ‫استبدال اللغة‬ ‫اإلنجليزية باللغة‬ ‫العربية وإصالح‬ ‫األزهر وإثارة‬ ‫قضية حقوق املرأة‬

‫‪,,‬‬

‫وقبل عام من إسقاط بوتو وإعدامه‪ ،‬كان الزعيم الباكستاني يفكر‬ ‫في «أعوامه العشرين املقبلة» كقائد ملصير باكستان‪ .‬وكان «أسفه‬ ‫الوحيد» هو عدم وجود أشخاص يملكون قدرة كبيرة ملساعدته‬ ‫على بناء مستقبل عظيم لباكستان‪.‬‬ ‫بمساعدة التابعني والعقي األحذية املحترفني‪ ،‬يتأثر الزعيم‬ ‫بجنون العظمة‪ ،‬حتى يقتنع بأنه وحده األكثر حكمة وبطولة‬ ‫وذكاء وإخالصا من الجميع‪ .‬ويجب أن يفوز في جميع املناقشات‬ ‫وينتصر في كل معركة‪ ،‬حتى أكثرها تفاهة‪ .‬عندما يفقد القائد‬ ‫الشعور بنسبية األمور‪ ،‬ينسى أن السياسة مثل الحياة ال تستحق‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪35‬‬


‫تحقيق‬

‫وعلى الرغم من أن تونكو عبد الرحمن تلقى تعليمه في بريطانيا‪،‬‬ ‫فإنه يصعب وصفه بالديمقراطي أيضا‪ .‬ولكنه أدرك هو اآلخر أن‬ ‫دولة متعددة العرقيات واألديان مثل ماليزيا ال تستطيع العمل دون‬ ‫درجة من املشاركة الشعبية في صناعة القرار‪ .‬ماذا عن بورقيبة؟‬ ‫من املؤكد أنه لم يكن ديمقراطيا‪ ،‬ولكنه أيضا لم يسع إلى العودة‬ ‫إلى الوراء بأن يحكم مثل الباي العثماني‪.‬‬ ‫وفي إيران‪ ،‬أدمن قوام ومصدق‪ ،‬على الرغم من كونهما مستبدين‬ ‫بالطبيعة والخلفية العائلية‪ ،‬اللعبة السياسية‪ ،‬بصورها املختلفة‪،‬‬ ‫التي تتطلب بعض املشاركة على األقل من النخبة‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫ولكن فيما يتعلق بتعريف وترسيخ مساحة سياسية جديدة‪،‬‬ ‫حقق زعيمان نجاحا بارزا‪ .‬أحدهما هو عدنان مندريس‪ ،‬الذي‬ ‫نجح عندما كان رئيسا للوزراء في إدخال جماهير الفالحني‬ ‫األتراك في النظام السياسي‪ .‬ومع احترامه لإلطار العلماني الذي‬ ‫وضعه أتاتورك للدولة‪ ،‬حاول أن يقلل من الجوانب املعارضة للدين‬ ‫لدى الجيش‪.‬‬

‫بورقيبة وعبد الناصر‪ -‬القاهرة عام ‪1965‬‬

‫وفي املغرب‪ ،‬كان القائد السياسي الذي ارتبط اسمه بالنضال من‬ ‫أجل االستقالل هو محمد عالل الفاسي الذي استعد في مرحلة ما‬ ‫لحمل السالح من أجل محاربة الفرنسيني‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يعد أحمد‬ ‫سوكارنو الذي‬ ‫جمع ما يزيد‬ ‫على ‪17000‬‬ ‫جزيرة من أجل‬ ‫إقامة أكبر دولة‬ ‫مسلمة تعدادا‬ ‫في العالم «بطل»‬ ‫حركة االستقالل‬

‫وفي مااليا‪ ،‬التي أصبحت ماليزيا فيما بعد‪ ،‬قاد تونكو عبد الرحمن‬ ‫فوترا الحاج بالده إلى االستقالل عن االستعمار البريطاني‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫‪34‬‬

‫وفي بنغالديش‪ ،‬يظل الشيخ مجيب الرحمن قائدا بال منازع‬ ‫للحركة التي حولت شرق باكستان إلى دولة مستقلة للمسلمني‬ ‫في شرق البنغال‪.‬‬

‫وعلى نطاق أكثر اعتداال في أفغانستان‪ ،‬حاول محمد موسى‬ ‫شفيق أيضا أن يوسع من قاعدة الدولة‪ ،‬وعندما كان رئيسا‬ ‫للوزراء شجع على حرية الصحافة وحاول أن يمنح الشعب‬ ‫فرصة أكبر للمشاركة في صناعة القرار من خالل هيئات شعبية‬ ‫تقليدية وحديثة‪ .‬وفي ماليزيا‪ ،‬عمل تونكو عبد الرازق على تعزيز‬ ‫النظام التعددي ليكون جزءا ال يتجزأ من برنامج طموح يستهدف‬ ‫التحديث السياسي واالقتصادي‪.‬‬ ‫يستحق بورقيبة التقدير على إنجازه الوحيد في منع تونس من‬ ‫السقوط تحت وطأة الحكم األمني العسكري ملدة ثالثة عقود‪ .‬وظلت‬ ‫تونس ملدة طويلة من بني كثير من الدول العربية غير التقليدية التي‬ ‫ال تخضع لحاكم عسكري‪ .‬وحتى بعد ذلك عندما استولى زين‬ ‫العابدين بن علي ضابط الشرطة على الحكم‪ ،‬إثر انقالب عسكري‬ ‫على بورقيبة‪ ،‬لم يكن يحظى بقاعدة له بني صفوف الجيش‪ ،‬وهي‬ ‫الحقيقة التي اتضحت بعد أن رفضت القوات املسلحة مساندته‬ ‫ضد االنتفاضة الشعبية التي اندلعت ضده‪.‬‬

‫وفي إيران‪ ،‬لم يكن الصراع على االستقالل نظرا ألن البالد لم‬ ‫تكن محتلة من قوى استعمارية‪ .‬ولكن على مدار معظم القرنني‬ ‫التاسع عشر والعشرين‪ ،‬كان االستقالل ال يزيد عن كونه مجرد‬ ‫ظل‪ .‬لذلك كانت هناك حاجة إلى الصمود وإعادة تأكيد سيادة‬ ‫الدولة واستعادة ثقتها‪ .‬وقد بذل أبناء العمومة أحمد قوام ومحمد‬ ‫مصدق أكثر من غيرهما من أجل تحقيق هذه األهداف‪ .‬عندما‬ ‫كان قوام رئيسا للوزراء في األربعينات من القرن املاضي‪ ،‬استطاع‬ ‫التفاوض من أجل إجالء االحتالل السوفياتي الذي يؤثر على‬ ‫األقاليم الواقعة في شمال غربي إيران‪ .‬وفي الخمسينات‪ ،‬كان‬ ‫الدور على مصدق ليعزز القومية اإليرانية بتأميم موارد النفط‬ ‫اإليرانية ومواجهة املضايقات البريطانية‪.‬‬

‫ولكن يظل تورغوت أوزال‪ ،‬الذي كان رئيس وزراء ثم رئيسا لتركيا‪،‬‬ ‫أبرز نموذج بني القادة املسلمني املعاصرين بفضل جهوده في‬ ‫توسعة نطاق املساحة السياسية الجديدة وتدعيمها‪ .‬أصبح أوزال‬ ‫أول رئيس غير عسكري في تركيا‪ ،‬واستطاع أن يخرج بالده من‬ ‫دائرة األزمات املفرغة التي تخللتها انقالبات عسكرية‪.‬‬

‫مشاركة شعبية‬

‫مؤسسات الدولة الجديدة‬

‫حاول معظم الزعماء املذكورين فيما سبق أيضا مواجهة التحدي‬ ‫الثاني الذي يكمن في تحديد املساحة السياسية الناشئة حديثا‪.‬‬ ‫أثار ذلك التعريف درجة املشاركة الشعبية في صناعة القرار‪.‬‬ ‫وفي هذا اإلطار‪ ،‬ال يمكن وصف أي زعيم بالديمقراطي الحقيقي‪.‬‬ ‫بيد أن جميعهم تقريبا حاولوا أن يقللوا من الجوانب االستبدادية‬ ‫التقليدية في الثقافة السياسية لدولهم‪ .‬لم يكن جناح ولياقت علي‬ ‫ديمقراطيني باملعنى املعتاد‪ ،‬كما لم يتصرفا مثل النواب والشاه‬ ‫واملهراجا الذين كانوا يحكمون شبه القارة في عصر ما قبل‬ ‫االستعمار‪.‬‬

‫ماذا عن التحدي الثالث‪ ،‬بناء مؤسسات الدولة؟‬ ‫من جديد‪ ،‬قليل من القادة املذكورين استطاعوا اجتياز هذا‬ ‫التحدي‪ .‬من بينهم مندريس وبورقيبة وعبد الرازق وأوزال‪ .‬وفي‬ ‫مصر‪ ،‬ال يمكن تجاهل إنجازات محمود فهمي (النقراشي باشا)‪،‬‬ ‫الذي استطاع في فترة قصيرة للغاية أن يقيم مؤسسات الدولة‬ ‫الحديثة‪ .‬فرض النقراشي باشا نظام الضرائب على الطريقة‬ ‫الغربية‪ ،‬وأنشأ املستشفيات في بعض املناطق الريفية وأسس بنكا‬ ‫لتمويل الصناعة وطبق أول قانون مدني حديث في البالد‪.‬‬

‫في البداية نصب ذو الفقار علي بوتو من نفسه بطل التحول‬ ‫الديمقراطي في باكستان‪ ،‬ونجح إلى حد ما في توسعة القاعدة‬ ‫الشعبية في بالده بالتودد إلى الجماهير الفقيرة واملضطهدة‪.‬‬

‫وفي إيران‪ ،‬يستحق رئيس الوزراء أمير عباس هويدا الذي مكث‬ ‫في منصبه لفترة طويلة أكثر من إشادة‪ .‬طوال ما يقرب من ‪13‬‬ ‫عاما‪ ،‬حقق هويدا نموا اقتصاديا غير مسبوق ودعم مؤسسات‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬


‫من دون إثارة خالفات دينية‪ .‬ومن املؤكد أنه ال يوجد قائد مسلم‬ ‫يستطيع أن يحقق أي شيء من دون االعتراف بأن اإلسالم هو‬ ‫نظام االعتقاد األوسع نطاقا في املجتمع‪ .‬وال يوجد مجتمع مسلم‬ ‫مستعد حتى اآلن لالختيار‪ ،‬واألهم من ذلك اتباع قائد ال يملك‬ ‫خلفية إسالمية واضحة‪.‬‬ ‫وهكذا يملك القائد املسلم الحديث مساحة ضيقة للغاية يمكنه‬ ‫فيها أن يحدد ذاته وأن يسعى إلى السلطة السياسية‪.‬‬ ‫في إطار هذه املساحة الضيقة‪ ،‬وبعيدا عن األنظمة امللكية التقليدية‬ ‫التي تملك قواعدها السياسية الخاصة‪ ،‬هل يستطيع املرء أن يرسم‬ ‫صورة للقائد املسلم «املثالي» في العصر الحديث؟‬

‫قادة وتحديات‬ ‫واجه القائد السياسي املسلم في العصر الحديث ثالثة تحديات‬ ‫رئيسة‪.‬‬ ‫أولها التأكيد أو إعادة التأكيد على استقالل بالده في عالم جديد‬ ‫من الدول القومية‪ .‬منذ مائة عام‪ ،‬كان من بني ‪ 57‬دولة تشكل العالم‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬هناك أربع دول تقريبا مستقلة‪ .‬وحتى الدول التي كانت‬ ‫مستقلة شكليا مثل اإلمبراطورية العثمانية وإيران‪ ،‬كانت تعاني‬ ‫من وطأة الديون األجنبية‪ ،‬واملضايقات العسكرية الغربية وفقدان‬ ‫الثقة في الذات‪.‬‬ ‫وكان التحدي الثاني هو تحديد املساحة السياسية الناشئة وحدود‬ ‫الخطاب والعمل السياسي‪ .‬هل يتم التعامل مع بعض القضايا‪،‬‬ ‫مثل دور رجال الدين أو مكانة املرأة‪ ،‬بصفتها محظورات ال يمكن‬ ‫مطلقا أن تثار علنا؟ وقد فشل مؤتمر إسالمي ذو أهمية كبيرة‬ ‫عن اإلصالح‪ ،‬كان منعقدا في أوفا في روسيا القيصرية‪ ،‬عندما‬ ‫أثارت بعض الوفود قضية املساواة بني الرجل واملرأة في فرص‬ ‫التعليم‪ ،‬مستلهمني تعاليم إسماعيل أغا غاسبرينسكي‪ .‬ما هي‬ ‫اآليديولوجيا األجنبية‪ ،‬أو أي صورة منها‪ ،‬يجب أن يسمح لها‬ ‫بالدخول في املساحة السياسية الجديدة في الدول اإلسالمية؟‬ ‫كان هذا السؤال مهما أيضا بسبب الصعود والتوسع الحاد‬ ‫لآليديولوجيات األوروبية مثل القومية واالشتراكية وبعد ذلك‬ ‫الشيوعية‪ .‬تبنى بعض الزعماء‪ ،‬مثل عرابي باشا في مصر‪،‬‬ ‫ومصطفى كمال أتاتورك في اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬ورضا‬ ‫خان بهلوي في إيران‪ ،‬القومية في مجملها لتكون آيديولوجيتهم‪.‬‬ ‫وفي مطلع القرن العشرين‪ ،‬كانت هناك أيضا أحزاب ديمقراطية‬ ‫اجتماعية في إيران واإلمبراطورية العثمانية‪ .‬وفي اإلمبراطورية‬ ‫الروسية‪ ،‬أصبح بعض املثقفني املسلمني شيوعيني متحمسني‪،‬‬ ‫مثل سلطان عليف‪.‬‬ ‫وكان التحدي الثالث هو بناء مؤسسات الدولة‪ .‬أنشأت جميع‬ ‫املجتمعات اإلسالمية عبر القرون نوعا من البيروقراطية تلبية‬ ‫لالحتياجات اإلدارية األساسية‪ .‬ولكن هل تستطيع هذه األنظمة‬ ‫البيروقراطية مواكبة طموحات الدول الحديثة الناشئة مع ميلها إلى‬ ‫التدخل في جميع مظاهر الحياة‪.‬‬

‫زعماء وسجالت‬ ‫إذا حكمنا على كيفية تعامل القادة السياسيني في العصر الحديث‬ ‫مع التحديات الثالثة التي تناولناها فيما سبق‪ ،‬سوف نجد أن‬ ‫سجالتهم تقدم لنا عددا من املفاجآت‪.‬‬

‫من الذي برز في تحدي السعي إلى االستقالل أو إعادة تأكيده؟‬ ‫في مصر لدينا شخصية سعد زغلول‪ ،‬أحد تالميذ األفغاني‪ ،‬الذي‬ ‫أصبح رمزا للنضال املصري نحو االستقالل‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫قصر مدته في املنصب‪ ،‬وزير تعليم ووزير عدل ثم في النهاية‬ ‫رئيس وزراء‪ ،‬فإن السياسات التي ساعد على نشرها سادت‬ ‫الحياة العامة املصرية على مدار ثالثة عقود تقريبا‪ .‬ويمكن اعتبار‬ ‫استبدال اللغة اإلنجليزية باللغة العربية كلغة التعليم في املدارس‬ ‫الحكومية‪ ،‬وإصالح األزهر‪ ،‬وإثارة قضية حقوق املرأة من إنجازاته‬ ‫الرئيسة‪.‬‬ ‫وفي الهند تحت الحكم البريطاني‪ ،‬اعتبر محمد علي جناح الزعيم‬ ‫السياسي البارز في املجتمع اإلسالمي في شبه القارة‪ .‬ولكن ال‬ ‫يجب تجاهل نواب زاده لياقت علي خان الذي عمل وزيرا للدفاع ثم‬ ‫رئيسا للوزراء في باكستان عندما تأسست‪.‬‬ ‫وفي إندونيسيا‪ّ ،‬‬ ‫يعد أحمد سوكارنو «بطل» حركة االستقالل‬ ‫والرجل الذي جمع ما يزيد على ‪ 17000‬جزيرة من أجل إقامة أكبر‬ ‫دولة مسلمة تعدادا في العالم‪.‬‬ ‫وفي تونس‪ ،‬أصبح الحبيب بورقيبة‪ ،‬املحامي الذي تلقى تعليمه في‬ ‫فرنسا‪ ،‬أبو االستقالل بال منازع‪ .‬وكان إنجازه املميز هو الخروج‬ ‫ببالده من تحت وطأة االستعمار من دون صراع مسلح مكلف‬ ‫كما حدث في الجزائر‪ ،‬التي ظهر بها أحمد بن بال كرمز إلقامة‬ ‫دولة قومية‪.‬‬

‫جمال عبد الناصر‬

‫‪,,‬‬

‫تبنى بعض‬ ‫الزعماء مثل‬ ‫عرابي باشا‬ ‫وأتاتورك‬ ‫وبهلوي‬ ‫القومية في‬ ‫مجملها لتكون‬ ‫آيديولوجيتهم‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪33‬‬


‫تحقيق‬

‫مجتمع مثالي أم قائد مثالي؟ ظل هذا السؤال يشغل الفالسفة واملؤرخني والشعراء من الثقافات‬ ‫املختلفة عبر قرون‪ .‬كان التأكيد في املجتمعات الغربية منذ عصر أفالطون على السعي إلى‬ ‫«املجتمع املثالي»‪ ،‬بداية من الجمهورية األسطورية التي تحدث عنها الحكيم األثيني إلى الصور‬ ‫األوروبية الحديثة لـ«اليوتوبيا»‪ .‬أما في الشرق في كل من الدول اإلسالمية والصني‪ ،‬فقد كان‬ ‫التركيز على البحث عن «قائد مثالي»‪.‬‬

‫القائد املثالي‪ :‬هل هو موجود؟‬

‫الدكتاتور العادل‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫أمير طاهري‬

‫‪,,‬‬

‫يستحق‬ ‫بورقيبة‬ ‫التقدير على‬ ‫إنجازه الوحيد‬ ‫في منع تونس‬ ‫من السقوط‬ ‫تحت وطأة‬ ‫الحكم األمني‬ ‫العسكري ملدة‬ ‫ثالثة عقود‬

‫‪,,‬‬

‫‪32‬‬

‫منذ عصر ازدهار الدويالت اإلغريقية في الغرب وحتى العصر‬ ‫الحديث‪ ،‬سرى اإلجماع على أن القضية تكمن في بناء نظام رشيد‪.‬‬ ‫في ظل هذا النظام‪ ،‬لن يستطيع أعتى الطغاة أن يسبب ضررا كبيرا‪.‬‬ ‫في املقابل‪ ،‬في الشرق‪ ،‬كان‪ ،‬وما زال بدرجة ما‪ ،‬االفتراض بأن‬ ‫«املجتمع املثالي» محدد بالفعل إما وفقا للتقاليد القديمة‪ ،‬على‬ ‫سبيل املثال مذهب كونفوشيوس في الصني‪ ،‬أو بفضل العقيدة‬ ‫الدينية كما في حالة العالم اإلسالمي‪ .‬وفي كلتا الحالتني‪ ،‬اكتشف‬ ‫أجدادنا بالفعل املجتمع املثالي وكل ما نحتاج إليه هو العودة إلى‬ ‫عصرهم الذهبي‪ .‬ونحن في حاجة إلى «قائد مثالي» يرشدنا في‬ ‫هذا االتجاه‪.‬‬

‫واملصطلحات الضرورية لتعريفها والتعبير عنها‪ ،‬أصبحت‬ ‫املجتمعات اإلسالمية تسيس الدين‪ .‬على مدار التاريخ‪ ،‬اتخذت‬ ‫الصراعات على السلطة السياسية غطاء «االنقسامات الدينية»‪،‬‬ ‫وهو اتجاه مستمر حتى يومنا‪.‬‬ ‫منذ القرن التاسع عشر‪ ،‬بدأ بعض املفكرين املسلمني في لفت‬ ‫االنتباه إلى الحاجة لوجود مساحة سياسية‪ ،‬يمكن في إطارها‬ ‫مناقشة الخالفات حول كيفية تنظيم املجتمع وإدارته من دون‬ ‫إثارة املشاعر الدينية‪.‬‬

‫أحالم اإلصالح‬

‫يتضمن السعي إلى تحقيق مجتمع مثالي خالفات وانقسامات؛‬ ‫حيث تتنافس آراء مختلفة في الدفاع عن نماذجها املختلفة‪ .‬وهذا‬ ‫بدوره يستدعي وجود مساحة سياسية محددة ال يتم التعبير‬ ‫فيها عن اآلراء املختلفة بشأن «املجتمع املثالي» من جانب ديني‪،‬‬ ‫مما ال يثير نزاعات وحروب دينية أو طائفية‪.‬‬

‫أحد هؤالء املسلمني األوائل الذين أثاروا هذه القضية هو جمال‬ ‫الدين األسد أبادي‪ ،‬املعروف أيضا باألفغاني‪ ،‬وهو مفكر إيراني‬ ‫درس املنهج الغربي في السياسة بعناية‪ .‬ومن أجل الوصول إلى‬ ‫جمهور عريض في العالم اإلسالمي‪ ،‬كان عليه أن يخفي أصوله‬ ‫اإليرانية‪ ،‬وبالتالي انتماءه الشيعي‪ ،‬حتى يبتعد عن الوقوع في‬ ‫شرك الريبة والكراهية الطائفية‪ .‬وأصبح األفغاني أحد مؤسسي‬ ‫املحافل املاسونية األولى في إيران واإلمبراطورية العثمانية‪.‬‬

‫في الشرق‪ ،‬لم تكن توجد مساحة سياسية محددة حتى وقت‬ ‫قريب‪ .‬وعلى الرغم من عدم وجود دين في الصني باملعنى املتعارف‬ ‫عليه‪ ،‬فإنها حولت مذهب القدماء واتباع تقاليدهم ومبادئهم‬ ‫القديمة إلى ما يشبه العقيدة الدينية‪ّ .‬‬ ‫ويعد أي انحراف عن األنماط‬ ‫القائمة في املجتمع محل ارتياب وعداء‪ .‬كانت هناك طريقة واحدة‬ ‫«صحيحة» لفعل أي شيء‪ .‬وكانت النتيجة الضعف التاريخي‬ ‫الذي أدى إلى انهيار الصني املؤلم‪ .‬كذلك يفتقد العالم اإلسالمي‬ ‫إلى مساحة سياسية محددة‪ .‬ونتيجة لذلك أصبح التعبير عن‬ ‫الخالفات السياسية‪ ،‬التي ال بد منها في أي مجتمع بشري‪ ،‬يتم‬ ‫فقط في ساحة دينية‪ .‬يمكن أن يتهم أي شخص ال يوافق على‬ ‫السياسات القائمة بالهرطقة والكفر‪.‬‬

‫ودون أن يدري‪ ،‬خاض جمال الدين موجة تغيير تاريخي‪ .‬بعد‬ ‫ظهور الدول اإلسالمية املقامة حديثا من تحت أنقاض اإلمبراطورية‬ ‫العثمانية‪ ،‬وبعد ذلك وطأة الحكم االستعماري األوروبي‪ ،‬اتفقت‬ ‫هذه الدول مع اعتقاد األفغاني بأن اإلسالم يجب أن يوفر مساحة‬ ‫سياسية محددة كجزء من برنامج إصالحي أوسع نطاقا‪.‬‬

‫الصني والعالم اإلسالمي‬

‫ال يستطيع املسلمون‪ ،‬مثل كل البشر‪ ،‬أن يعيشوا من دون سياسة؛‬ ‫إذ ان اإلنسان‪ ،‬كما أشار أرسطو‪ ،‬حيوان سياسي بطبيعته‪ ،‬بدال‬ ‫من أن يكون اجتماعيا‪ .‬اإلنسان هو املخلوق الوحيد الذي يستطيع‬ ‫االختالف مع رفاقه حول األشياء التي تتم في املساحة التي‬ ‫يتشاركون فيها‪ .‬لذلك‪ ،‬في ظل عدم وجود املساحة السياسية‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫كما أعرب كثير من املفكرين اآلخرين عن أفكار مشابهة‪ ،‬من بينهم‬ ‫ميرزا ملكم خان‪ ،‬وفتح علي أخوند زاده (فتالي أخوندوف) واألمير‬ ‫منوشهر ميرزا قاجار في إيران‪ ،‬وحركات مثل «تركيا الفتاة» في‬ ‫اإلمبراطورية العثمانية وجمعيات اإلصالح اإلسالمي في الهند‬ ‫الخاضعة للحكم البريطاني‪ .‬وكانت هناك أيضا حركة إصالح‬ ‫كبرى تعرف باملجددين في املناطق اإلسالمية من اإلمبراطورية‬ ‫القيصرية في روسيا قادها رموز مثل عبد الرؤوف فطرت وأحمد‬ ‫دانش وصدر الدين عيني‪.‬‬ ‫سمح الظهور التدريجي للمساحة السياسية بنشأة جيل جديد من‬ ‫القادة السياسيني املسلمني الذين يسعون إلى إعادة تنظيم املجتمع‬


‫املعارضة األخرى‪ ،‬كالتيارات القومية واليسارية‪ ،‬والتيار السياسي‬ ‫الشيعي‪ ،‬وهي ممارسات اتسمت في أحيان كثيرة باملواجهات‬ ‫والصدامات مع السلطة‪ ،‬وانتهت بعدد من أعضاء تلك التنظيمات‬ ‫إلى املنافي والسجون والقتل أحيانا‪.‬‬ ‫فلقد رتب اإلخوان أوضاعهم بالقيام بالعمل الدعوي التربوي‪،‬‬ ‫والعمل الخيري‪ .‬والهدف‪ :‬إعداد الشباب املسلم امللتزم بدينه‪،‬‬ ‫وإنشاء األسرة املسلمة الصالحة‪ ،‬مع عدم إدارة الظهر للقضايا‬ ‫اإلسالمية العامة‪ ،‬وخصوصا تلك التي تجري خارج حدود البالد‪،‬‬ ‫وأيضا خارج حدود دول مجلس التعاون‪.‬‬ ‫كانت هناك تجربة فريدة على مستوى اإلخوان في البحرين‪ .‬وذلك‬ ‫حينما خاض املؤسس الشيخ عبد الرحمن الجودر االنتخابات‬ ‫عام ‪ ،1973‬ففشل ولم يحصل إال على ‪ 73‬صوتا‪ ،‬وفي هذا داللة‬ ‫واضحة على ما كان لدى اإلخوان في تلك الفترة من شعبية متدنية‪.‬‬ ‫في عام ‪ 2000‬شكل ملك البحرين (األمير آنذاك) لجنة لصياغة‬ ‫ميثاق للبالد‪ ،‬تنطلق من خالله العملية السياسية وما اصطلح‬ ‫عليه محليا «املشروع اإلصالحي»‪ ،‬وكان من بني املشاركني‬ ‫األربعني في صياغة امليثاق الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة‪،‬‬ ‫الذي استثمر خبرته السياسية والقانونية في املناقشات‪ ،‬مضفيا‬ ‫عليها البعد اإلسالمي في الكثير من املفاصل والتعليقات‪ ،‬ما‬ ‫أمكن‪ .‬وطرحت جمعية اإلصالح في تلك الفترة‪ ،‬وألول مرة‪،‬‬

‫ميثاقا موازيا‪ ،‬نّ‬ ‫يبي رؤيتها من القضايا السياسية والوطنية‬ ‫بشكل عام‪.‬‬ ‫ومن هنا‪ ،‬انطلق القطار السياسي لإلخوان املسلمني‪ ،‬كما فعل‬ ‫غيرهم‪ .‬فتم تأسيس ذراع سياسية تحت اسم (املنبر الوطني‬ ‫اإلسالمي)‪ ،‬الجمعية التي ّ‬ ‫تعرف نفسها بأنها «جمعية سياسية‬ ‫بحرينية تأسست ليأخذ الصوت اإلسالمي دوره بني املؤسسات‬ ‫السياسية في مملكة البحرين‪ ،‬مستندين على وضوح رؤيتنا‬ ‫وأهدافنا‪ ،‬والقيم املستمدة من التعاليم اإلسالمية السمحاء‪،‬‬ ‫وقواعدنا الشعبية املناصرة‪ ،‬وكوادرنا السياسية والعلمية املؤهلة‪،‬‬ ‫وتاريخ أعضائنا الطويل في خدمة الوطن واملواطن‪ ،‬قاصدين رفعة‬ ‫الوطن وتقدمه وأمنه واستقراره»‪.‬‬ ‫تمكنت الجمعية السياسية من أن تفوز بسبعة مقاعد نيابية‬ ‫عام ‪ ،2002‬ومثلها في ‪ 2006‬من ضمن ‪ 40‬مقعدا‪ .‬يرى غسان‬ ‫الشهابي أن جماعة اإلخوان املسلمني في البحرين تميزت بمرونة‬ ‫عالية وعرفت كيف تتجنب االنتحار الجماعي في امللمات «فهي‬ ‫لم تدخل في صدام وخالف مع الحكم‪ ،‬حيث اعتبرها الكثير من‬ ‫املراقبني حالة شاذة عن كل اإلخوان اآلخرين بمن فيهم إخوان‬ ‫بقية دول الخليج‪ ،‬فهي تسير مع الحكم وتتبادل املنافع وباتت‬ ‫قريبة من مفاصل مهمة في األجهزة الرسمية‪ ،‬ومتأخر اآلن العودة‬ ‫إلى الوراء ومالحظة التسلل الذكي والهادئ للعناصر اإلخوانية في‬ ‫هذه األجهزة»<‬

‫املنامة عام ‪1960‬‬

‫‪,,‬‬

‫لم تكن جمعية‬ ‫اإلصالح‬ ‫تمارس عمال‬ ‫سياسيا منظما‬ ‫قبل ميثاق‬ ‫العمل الوطني‬ ‫عام ‪2002‬‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪31‬‬


‫قصة الغالف‬

‫على الرغم من الحضور الطاغي واملؤثر لجماعة اإلخوان املسلمني في الكويت على جيرانهم‬ ‫من أعضاء الجماعة في دول الخليج العربي‪ ،‬فإن البحرين كانت تشكل أول انطالقة فعلية‬ ‫لتنظيم هيكلي حركي لجماعة اإلخوان املسلمني في الخليج‪ ،‬بحسب ما تؤكد ذلك الروايات‬ ‫واملصادر من أبناء الجماعة أنفسهم‪ ،‬أو املراقبني واملحللني‪.‬‬

‫جماعة اإلخوان املسلمني في البحرين‬

‫مكاسب الوالء‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫املحرر الثقافي‬

‫‪,,‬‬

‫ابتعث الشيخ‬ ‫عبد الرحمن‬ ‫الجودر إلكمال‬ ‫دراسته العليا‬ ‫في القاهرة‬ ‫وهناك التقى‬ ‫باإلمام حسن‬ ‫البنا‪ ،‬وتعرف‬ ‫على بعض‬ ‫القادة والدعاة‬

‫‪,,‬‬

‫بحسب موسوعة اإلخوان املسلمني (ويكيبيديا اإلخوان) فإن‬ ‫النشاط اإلخواني كان موجودا في البحرين منذ الثالثينيات أي‬ ‫في عهد مؤسسها حسن البنا‪« ،‬فلقد نصت جريدة (اإلخوان‬ ‫املسلمني) األسبوعية في عددها الرابع ‪ 11‬يونيو (حزيران)‬ ‫‪1937‬م‪ ،‬أن شعب اإلخوان املسلمني في العالم كله يتوزع إلى مناطق‬ ‫وكل منطقة إلى دوائر‪ ،‬وكل دائرة إلى عدة شعب‪ ،‬فخصصت‬ ‫املنطقة الثامنة عشرة لشعب السودان‪ ،‬وخصصت املنطقة التاسعة‬ ‫عشرة لدول العالم اإلسالمي‪ ،‬ووضعت البحرين في هذا التقسيم‬ ‫في املنطقة التاسعة عشرة‪ ،‬وكان النائب املندوب لها السيد محمد‬ ‫بن إبراهيم الخليفة‪ ،‬كما خصصت املنطقة العشرون لدول العالم‬ ‫الخارجي التي تقطنها أغلبية غير مسلمة»‪.‬‬ ‫وفي شهر مايو (أيار) ‪1941‬م تأسست جمعية اإلصالح أول‬ ‫جمعية تحمل فكر اإلخوان املسلمني‪ ،‬في حني كان أول تأسيس‬ ‫لجماعة اإلخوان املسلمني في الكويت بعد هذا التاريخ بست‬ ‫سنوات‪ .‬في البحرين قام عدد من طلبة مدرسة الهداية الخليفية‬ ‫باملحرق بتأسيس هذه الجمعية‪ ،‬وكانت تتخذ اآلية القرآنية (إن‬ ‫أريد إال اإلصالح ما استطعت) شعارا لها‪ ،‬وفي البداية نشأت تحت‬ ‫اسم مستعار وهو‪« :‬نادي الطلبة» عندما تطورت األهداف واتسعت‬ ‫مجاالت العمل أمامهم تم تغيير االسم إلى (نادي اإلصالح) عام‬ ‫‪1948‬م‪ ،‬وظل محتفظا بهذا االسم يمارس مختلف األنشطة‬ ‫الثقافية واالجتماعية حتى عام ‪1980‬م‪ ،‬حيث تحول النادي إلى‬ ‫(جمعية اإلصالح)‪ ،‬تصف نفسها بأنها «جمعية إسالمية أهلية‬ ‫تلتزم باملنهج اإلسالمي املستمد من الكتاب والسنة والقائم على‬ ‫الشمول والوسطية»‪.‬‬ ‫يتحدث محمود جناحي – مدير املنتدى الفكري لجمعية اإلصالح‬ ‫ عن سيرة مؤسس الجمعية الشيخ عبد الرحمن الجودر‪ ،‬قائال‪:‬‬‫«ابتعث الشيخ إلكمال دراسته العليا في القاهرة‪ ،‬وهناك التقى‬ ‫باإلمام حسن البنا‪ ،‬وتعرف على بعض القادة والدعاة‪ ،‬واطلع على‬ ‫األنشطة والبرامج الثقافية والتربوية واالجتماعية‪ ،‬التي كان يقوم‬ ‫بها اإلخوان املسلمون في مصر آنذاك‪ ،‬وتأثر بما شاهده وملسه‪،‬‬ ‫وتأصل ذلك في قلبه ونفسيته‪ ،‬وكان ذلك بمثابة معالم الطريق‬ ‫الذي سار عليه عندما عاد إلى البحرين»‪.‬‬ ‫يضيف جناحي‪« :‬في أوائل الخمسينيات أنشأ الشيخ عبد الرحمن‬ ‫مع مجموعة من إخوانه الدعاة (مكتبة املحرق)‪ ،‬وأخذوا في جلب‬ ‫واستيراد الكتب والرسائل من مصر وسوريا ولبنان‪ ،‬وعملوا على‬ ‫نشر وترويج الكتاب اإلسالمي‪ .‬وبدأ الشباب في تلقي هذه الكتب‬

‫‪30‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫اإلسالمية وبأهدافها‬ ‫والرسائل مما جعلهم يرتبطون بفكر الحركة َّ‬ ‫ومنطلقاتها‪ ،‬وبعد مضي سنتني أو ثالث استقل الشيخ باملكتبة‬ ‫وسماها (مكتبة اآلداب)‪ ،‬التي ظلت لفترة طويلة من أكبر املكتبات‬ ‫اإلسالمية التي ِّ‬ ‫تروج للفكر اإلسالمي في البحرين‪ .‬والشيخ عضو‬ ‫مؤسس في منظمة املساجد التابعة لرابطة العالم اإلسالمي وعضو‬ ‫مؤسس في الهيئة الخيرية اإلسالمية التي مقرها دولة الكويت»‪.‬‬ ‫وهنا يرى الكاتب البحريني غسان الشهابي أن املساجد كانت‬ ‫الواجهة األمثل الستقطاب الصغار والشباب‪ ،‬عبر الدروس‬ ‫الدينية والنشاطات والرحالت ودروس التقوية‪ ،‬لتعضيد التيارات‬ ‫باألعضاء واملناصرين‪.‬‬ ‫وفي هذا املسعى يرى الشهابي أن جمعية اإلصالح حققت نجاحا‬ ‫جيدا عبر جملة من النشاطات بالنسبة للجنسني‪ ،‬حتى ضاق‬ ‫مقرها القديم بالعدد الكبير من الشباب الذين يلتحقون بالجمعية‬ ‫في السنوات األخيرة من السبعينيات والثمانينيات‪ ،‬إما كأعضاء‬ ‫أو رواد للجمعية‪ .‬ولكن كان هناك حراك آخر ليس يخفى‪ ،‬يقوم به‬ ‫اإلخوان طمعا في سيادة القيم التي آمنوا بها في املجتمع‪.‬‬ ‫يضيف الشهابي في دراسة له بعنوان (اإلخوان املسلمون في‬ ‫البحرين‪ ..‬تحوالت العقود السبعة)‪« :‬هناك الكثير من الشواهد على‬ ‫تغلغل عناصر جماعة اإلخوان املسلمني في مواقع وزارة التربية‬ ‫والتعليم في الجانبني اإلداري والتعليمي وقد استطاعت جماعة‬ ‫اإلخوان في حاالت كثيرة في الخليج‪ ،‬في السابق كما هو اآلن‪،‬‬ ‫أن تتغلغل داخل األنظمة التعليمية‪ .‬بل إنها في بعض حاالتها قد‬ ‫أحكمت السيطرة عليه من خالل سيطرتها على مراكز التحكم في‬ ‫هذا النظام»‪.‬‬ ‫لم تكن جمعية اإلصالح تمارس عمال سياسيا منظما قبل ميثاق‬ ‫العمل الوطني ‪ ،2002‬بل كانت تعلن مواقفها السياسية عن طريق‬ ‫البيانات والندوات والزيارات التي تتواصل بها مع املسؤولني في‬ ‫البحرين‪ .‬وقد كان البيان الذي حمل عنوان «هذا بياننا» والذي‬ ‫نشرته جمعية اإلصالح أثناء األحداث السياسية في التسعينيات‪،‬‬ ‫بمثابة توضيح للنهج السياسي الذي تتبناه الجمعية وقد تضمن‬ ‫البيان موقف الجمعية من األحداث التي حصلت والتي عرفت‬ ‫الحقا باسم «انتفاضة التسعينيات»‪.‬‬ ‫قبل عام ‪ ،2001‬لم يكن يدور في خلد جماعة اإلخوان في البحرين‬ ‫االندماج في العمل السياسي‪ ،‬بالشكل الذي كانت تمارسه التيارات‬


‫البنا وتنزيل هذا الفكر على تجربة (اإلخوان) في مصر وتجارب‬ ‫(اإلخوان) خارج مصر»‪ ،‬وصف النفيسي لهذه الجدية بأنها‬ ‫«الفتة للنظر» يعود لكون تجارب إخوانية كثيرة ماتت فيها‬ ‫دعوات إصالحية نتيجة ضعف القدرة على التساؤل وتبيئة‬ ‫التجربة في السياق املحلي بما يناسب املجتمعات التي نشأت‬ ‫فيها هذه التجارب‪.‬‬ ‫عملية املراجعة الداخلية استمرت طيلة عقدي الثمانينات‬ ‫والتسعينات‪ ،‬ولم تستند تلك املراجعات ألي تراكم حقيقي لنقد‬ ‫داخلي في جماعة اإلخوان‪ ،‬إذ يشير جاسم سلطان إلى أن‬ ‫الجماعة لم تصدر أي مراجعة أو نقد منذ عام ‪1949‬؛ سنة وفاة‬ ‫حسن البنا‪ ،‬كانت أولى ثمرات هذه املراجعات هي إصدار دراسة‬ ‫من جزأين عام ‪ ،1991‬الجزء األول نشر بعنوان «حول أساسيات‬ ‫املشروع اإلسالمي لنهضة األمة‪ ..‬قراءة في فكر اإلمام الشهيد‬ ‫حسن البنا» والالفت للنظر أنه صدر باسم الراحل عبد الحميد‬ ‫الغزالي (‪ )2011 - 1937‬الذي كان عضو مجلس شورى اإلخوان‬ ‫في مصر‪ ،‬ومسؤوال عن القسم السياسي قرابة ثماني سنوات‪،‬‬ ‫واملستشار السياسي للمرشد العام‪ ،‬وربما كان هذا التغييب‬ ‫للمؤلف الحقيقي للكتاب وتقديمه باسم قيادي مصري كبير هو‬ ‫جزءا من الجدل الذي دار بني التنظيم القطري والجماعة األم في‬ ‫مصر في مسيرة هذه املراجعات وما آلت إليه‪ ،‬والذي سنعرض له‬ ‫الحقا‪ .‬الجزء الثاني من الدراسة لم ينشر بعد‪ ،‬وخلصت الدراسة‬ ‫بالعموم إلى ذات اإلشكال الذي دفع هذه املراجعات للبدء‪ ،‬وهو‬ ‫أن جماعة اإلخوان بشكل عام تفتقر للوضوح في مشروعها‪،‬‬ ‫ماذا تريد بالضبط؟ وكيف تصل إليه؟ يقول أحد القياديني من‬ ‫أصحاب الدراسة‪« :‬اإلشكال األساسي عند (اإلخوان) في مصر‬ ‫هو فقدان البوصلة (‪ .)direction‬إنهم مشغولون بالفعل اليومي‬ ‫والصراع على النقابات واألندية واالتحادات الطالبية والسيطرة‬ ‫على املساجد وينسون في غمرة كل ذلك التوجه االستراتيجي‬ ‫والفكر املنهجي بعيد املدى»‪.‬‬ ‫استمر الجدل الداخلي في الجماعة القطرية‪ ،‬وانتهى في عام‬ ‫‪1999‬م إلى قرار حاسم اتخذه مجلس شورى الجماعة بحل‬ ‫الجماعة لنفسها‪ ،‬واندماج أفرادها في مؤسسات املجتمع املدني‬ ‫القائمة وتكوين تيار إسالمي نهضوي بدل البقاء في هرمية‬ ‫تنظيمية‪ .‬هذا القرار الذي أحدث جدال كبيرا‪ ،‬اتخذ (بحسب‬ ‫الرواية السائدة) عبر قرار حر داخلي للجماعة‪ ،‬وتتويجا‬ ‫ملراجعات طويلة ونقد ذاتي عميق‪ ،‬إال أن هناك من يسرد رواية‬ ‫أخرى‪ ،‬فيشير عبد العزيز آل محمود إلى أن بعض القيادات‬ ‫تخوفت مما يحصل في املنطقة من مالحقة لجماعات اإلخوان‪،‬‬ ‫ورأى أن األفضل هو تجنب املواجهة‪.‬‬

‫في الحالة التي كانوا فيها وجدوا أنه ال داعي لوجود التنظيم‪،‬‬ ‫أو أن املجتمع ال يحتاج لهذا النمط‪ ،‬وهذا أمر غير ُم ّ‬ ‫عمم في كل‬ ‫املجتمعات؛ فكل مجتمع له ظروفه الخاصة‪ ..‬وأن التيار تشكل‬ ‫طبيعي وفيه أفراد ومنظمات ومبادرات وأعمال تقوم بها جموع‬ ‫املجتمع ولبعضها خط ناظم فكري وليس تنظيميا محددا‪..‬‬ ‫بينما فكرة التنظيم الشمولي هي وهم ألنها تشبه بالدولة وليس‬ ‫بأي دولة إنما بالدولة الشمولية التي سقطت بسبب شموليتها‪،‬‬ ‫كما يقول جاسم سلطان عراب املراجعات‪.‬‬

‫وتشير رواية آل محمود وروايات إخوانية أخرى إلى أن قرار‬ ‫الحل تم اتخاذه في ظل رفض بعض القيادات في الجماعة‪،‬‬ ‫وذهب البعض ملقابلة أحد أهم املرجعيات الفكرية والروحية‬ ‫للجماعة وهو الشيخ يوسف القرضاوي‪ ،‬الذي استاء من قرار‬ ‫جاسم سلطان ومن معه‪ .‬وأعاد الرافضون بناء هيكلية الجماعة‬ ‫من جديد‪ ،‬بينما واصل من تبنى قرار الحل العمل كتيار عام ال‬ ‫تجمعه هيكلية تنظيمية هرمية‪ .‬كانت رؤية الرافضني نابعة عن‬ ‫تمسك باملنهج اإلخواني التقليدي املتشبث بفكرة التنظيم‪ ،‬الذي‬ ‫عبر عنه محمد حبيب (نائب مرشد اإلخوان سابقا)‪ ،‬حني علق‬ ‫على قرار حل جماعة إخوان قطر لنفسها قائال‪« :‬التنظيم يحدد‬ ‫البوصلة واألصول حتى ال يتم فقدان الحركة واملنهج‪ ..‬وهذه‬ ‫الدعوة ‪ -‬التحول من تنظيم إلى تيار ‪ -‬أثبت الواقع فشلها»‪ ،‬بينما‬ ‫رأت املجموعة التي دافعت عن قرار الحل والتحول إلي تيار أنه‬

‫ما هو أبعد من الحل واملعارضة له وذلك الجدل‪ ،‬وبغض النظر‬ ‫عن نتيجة مراجعاتهم‪ ،‬أن القطريني عملوا ما كان ينبغي لكل‬ ‫إخوان الخليجيني عمله‪ ،‬وهو مراجعة ما ورد إليهم من أفكار‬ ‫تنظيمية وآيديولوجيا فكرية‪ ،‬ألن كل فكر وليد عصره ومكانه‪،‬‬ ‫ومن الخلل الفادح تلقيه دون أي محاولة ملراجعته‪ ،‬وتأسيس‬ ‫الذات بناء على أصالة فكرية خاصة وليس مجرد االستهالك‬ ‫والتقليد‪ .‬يقول جاسم سلطان‪« :‬من الحوار تتولد أجوبة أكثر‬ ‫صالبة تقود األمة طورا بعد طور لألمام‪ ..‬إن ما يبدو تناقضا‬ ‫وطرحا بديال لشكل معني أو أشكال معينه للوهلة األولى‪..‬‬ ‫هو استئناف للتفكير والفعل في مسار النهضة الذي قصده‬ ‫الجميع‪ ،‬فاألساس الحرص على حيوية األفكار وديمومة‬ ‫تجددها‪ ،‬وليس الحرص على األشكال التي ربما تجاوزها‬ ‫الزمن دون أن نشعر» <‬

‫‪,,‬‬

‫الشيخ يوسف القرضاوي‬

‫في عام ‪1961‬‬ ‫هاجر الشاب‬ ‫املصري حينها‬ ‫يوسف القرضاوي‬ ‫إلى قطر ليقوم‬ ‫على املعهد الديني‬ ‫الثانوي ويؤسس‬ ‫كلية الشريعة‬ ‫بجامعة قطر‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪29‬‬


‫قصة الغالف‬

‫اسواق الدوحة عام ‪1965‬‬

‫‪,,‬‬

‫كان البنا‬ ‫حريصا على‬ ‫ربط قطاع‬ ‫التنظيم العاملي‬ ‫(متابعة الشؤون‬ ‫الخارجية)‬ ‫بقطاع من‬ ‫املعلمني‬ ‫واالستشاريني‬

‫‪,,‬‬

‫‪28‬‬

‫للنموذج اإلخواني‪ ،‬كانت بعض القيادات الشابة تدرس في‬ ‫الخارج‪ ،‬التي سيكون لها أثر كبير على مستقبل هذا التنظيم‪.‬‬ ‫إحدى أبرز هذه الشخصيات هو طالب كان يدرس الطب في‬ ‫القاهرة منتصف السبعينات‪ ،‬وهو جاسم سلطان‪ ،‬الذي‬ ‫سيكون له عظيم األثر القيادي والفكري على جماعة اإلخوان‬ ‫في قطر‪.‬‬ ‫تكون جاسم سلطان ‪ -‬وعلى خالف التكوين التقليدي للكوادر‬ ‫اإلخوانية ‪ -‬بمزيج من الثقافة اإلسالمية واالطالع على العلوم‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬فباإلضافة لقراءته الكتب اإلخوانية التقليدية لسيد‬ ‫قطب وسعيد حوى وفتحي يكن وغيرهم من كتاب «اإلخوان»‪،‬‬ ‫فإنه «حني كان يدرس الطب كان اهتمامه كبيرا بالعلوم‬ ‫اإلنسانية واألدب‪ ،‬وربما هذه االهتمامات اإلنسانية كانت أكبر‬ ‫من اهتمامه بالطب»‪ ،‬كما يقول عن نفسه‪ .‬وأيضا ساهم اطالعه‬ ‫على األفكار السياسية املختلفة في الساحة العربية في وعيه‬ ‫بأهمية دراسة التراث اإلنساني من الشرق والغرب‪« ،‬بدأنا‬ ‫أكثر وعيا باالتجاه إلى قراءة توينبي‪ ،‬وهيغل ومفكري عصر‬ ‫النهضة والتنوير وتراثهم املتعلق بالنهضة والحراك االجتماعي‪،‬‬ ‫ومع امتداد التحوالت الكبرى باتجاه الصني‪ ،‬وآسيا بدأت أيضا‬ ‫بدراسة هذه التجارب»‪ ،‬كما يتذكر‪.‬‬ ‫ساهم وجود جاسم سلطان في مصر في منتصف السبعينات‬ ‫وقت نشوء التيار اإلسالمي ومن ثم التحامه بجماعة اإلخوان‬ ‫ومزاملته للقيادات الشابة الجديدة كعبد املنعم أبو الفتوح‬ ‫وعصام العريان‪ ،‬ساهم ذلك كله بتكوين وعيه حول اإلشكاالت‬ ‫التي ما زالت تحملها حركة اإلخوان بشكلها التقليدي‪ ،‬وبحث‬ ‫األفكار اإلصالحية في عقله وخطابه‪ .‬ربما جاسم سلطان حمل‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫ذات التوجهات اإلصالحية للقيادات الشابة في التنظيم املصري‬ ‫ جيل السبعينات ‪ -‬إال أن عدم نجاح الكوادر املصرية في بلورة‬‫هذه التوجهات في مشروع تغييري داخل الجماعة األم له عدة‬ ‫عوامل‪ ،‬منها تلك الحمولة التقليدية للقيادات اإلخوانية القديمة‬ ‫يعان‬ ‫والتي خرجت من السجون بداية السبعينات والتي لم‬ ‫ِ‬ ‫منها التنظيم القطري‪ ،‬وأيضا الفارق املهم في حجم التنظيم‬ ‫ومساحة البلدين‪ ،‬حيث تتمكن أي قيادة إصالحية في بلد‬ ‫مساحته محدودة كقطر من الوصول لجميع الكوادر بسهولة‬ ‫والتأثير فيها‪ ،‬وهذه أيضا ميزة للتنظيم القطري على كثير من‬ ‫التنظيمات اإلخوانية في املنطقة‪ ،‬إذ جعلت التواصل بني الكوادر‬ ‫أكثر مرونة وأقل بيروقراطية لصناعة القرار والتأثير فيه‪.‬‬ ‫حني عاد جاسم سلطان وكوادر أخرى بداية الثمانينات من‬ ‫الدراسة في الخارج لقطر‪ ،‬واندمجوا في جماعة اإلخوان‬ ‫املحلية اصطدموا بضيق أفق للقيادة (حقيقة كان ضيق أفق‬ ‫دافعا لطرح التساؤالت بأكثر مما كان يمنع التغيير)‪ .‬لم تكن‬ ‫الجماعة حاملة ألي مشروع أو رؤية إصالحية واضحة سوى‬ ‫األدبيات اإلخوانية العامة‪ ،‬لذلك بدأت تنطرح األسئلة الجدية‬ ‫داخل املجموعة من هذه الكوادر العائدة‪ :‬من نحن؟ وإلى نسير؟‬ ‫وهل هناك مشروع نحمله ونتحمل حمله؟ هل هذا ما نريد؟ ما‬ ‫مصلحة املجتمع القطري في كل ذلك؟ هل هذا الثوب مناسب‬ ‫ارتداؤه في قطر؟‬ ‫وكما يقول عبد الله النفيسي في مقال له عن هذه التطورات‪:‬‬ ‫«الالفت للنظر أن املجموعة تعاملت مع هذه التساؤالت بكل‬ ‫رصانة وجدية وحزم وقررت تفويض أفراد منها للقيام بدراسة‬ ‫هذه األسئلة دراسة تفصيلية واستحضار فكر املؤسس حسن‬


‫معظم املبعوثني القطريني من املدرسني واإلداريني من اإلخوان‬ ‫املسلمني وجلهم من جنسيات فلسطينية وسورية مرتبطة‬ ‫بشكل أو بآخر بالجماعة ومناهجها السياسية‪ .‬وجاءت مديرية‬ ‫مكتب البعثة القطرية لتثبت أن (اإلخوان) عازمون على أن يكون‬ ‫لهم موضع قدم في اإلمارات‪ ،‬إذ تولى أمر اإلدارة إخواني شديد‬ ‫التعصب لـ (اإلخوان) هو املرحوم عدنان سعد الدين السوري‪،‬‬ ‫وكان خطيبا مفوها ومجادال شديد املراس‪ ،‬وكان حاد الخطاب‬ ‫جريئا في الدعوة إلى نهج (اإلخوان) والتحامل على مخالفيهم‪،‬‬ ‫بعكس صاحبه الشيخ عبد البديع صقر الذي كان أكثر‬ ‫دبلوماسية وتحفظا في مهاجمة مناوئ (اإلخوان)‪ ،‬وخاصة‬ ‫في العلن‪ ،‬وكان الشيخ عبد البديع يعمل في السر أكثر مما‬ ‫يعمل في العلن»‪.‬‬ ‫ويواصل‪« :‬والعجيب أن ممثلي اإلنجليز الذين كان لهم وجود‬ ‫سياسي قوي في الخليج وفي اإلمارات قبل عام ‪ ،1968‬كانوا‬ ‫يقفون موقف املتفرج بعني الرضا من نشاط (اإلخوان) في‬ ‫هذه املناطق‪ ،‬ولعل ذلك يرجع إلى مناوأة (اإلخوان) للراديكالية‬ ‫العربية وعلى رأسها الناصرية في مصر‪ ،‬حيث كانت مصالح‬ ‫الطرفني تلتقي عند هذه الحدود‪ .‬وأول من تولى مديرية املكتبة‬ ‫العامة في دبي هو شقيق الشيخ عبد البديع األستاذ أمني صقر‬ ‫منبعثا من قطر مع مساهمات قيمة من الكتب من مكتبة قطر‬ ‫الوطنية التي أسسها الشيخ علي بن عبد الله‪ ،‬كما تمت اإلشارة‬ ‫فيما سبق‪ .‬وتوالى على رئاسة البعثة القطرية وافدون عرب من‬

‫ذوي امليول اإلخوانية التشددية» (عبد الغفار حسني‪ ،‬الخليج‬ ‫اإلماراتية‪ ،‬أغسطس «آب» ‪.)2012‬‬

‫قطر‪..‬أهل الهجرة املتأخرة!‬ ‫بالحديث عن الرموز اإلسالمية املعدودة في الخليج‪ ،‬نجد أن‬ ‫«البدريني» (مصطلح يستخدمه اإلسالميون للتعبير عن األوائل‬ ‫في االنسالك في الدعوة) في البحرين يقودهم عبد الرحمن‬ ‫الجودر الذي بايع البنا في القاهرة‪ .‬وفي الكويت نجد أبناء املطوع‬ ‫بها في الثالثينات‪ ،‬ولكن ال يسجل املتابعون ملسيرة «اإلخوان»‬ ‫في قطر حراكا لـ «اإلخوان» ُيذكر‪ ،‬وهذا ال يعني االنعزال التام‬ ‫لإلسالميني فيها‪ ،‬ولكنه يشي بشح املصادر الذي تحدث عنه‬ ‫محمود عاشور في دراسته عن «اإلخوان» في قطر‪.‬‬ ‫ويشير الدكتور عبد الله النفيسي إلى أنه مع منتصف‬ ‫السبعينات شرعت مجموعة من الشباب القطري‪ ،‬ال تتعدى‬ ‫املائة‪ ،‬في بناء تنظيم خاص لـ «اإلخوان» في قطر‪ ،‬وتركز أغلب‬ ‫نشاط هذه املجموعة على النشاط الدعوي والتربوي‪.‬‬

‫زمن املراجعات‬

‫‪,,‬‬

‫الدوحة في الستينات‬

‫لم يكن الطريق‬ ‫سهل املسالك‬ ‫أمام التوسع‬ ‫اإلخواني‬ ‫وغيرهم من‬ ‫الجماعات في‬ ‫الخليج العربي‬

‫‪,,‬‬

‫وبينما كانت هذه املجموعة البسيطة في قطر تنظم نفسها‬ ‫وتنشئ نواة التنظيم بشكله التقليدي حسب الهيكل التنظيمي‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪27‬‬


‫قصة الغالف‬

‫التعريف الفضفاض لإلسالميني ال يجعل من تتبع دخول التيار اإلسالمي إلى قطر صعبا‪،‬‬ ‫فقطر الدولة البكر التي تشكلت على أنقاض انفصالها عن البحرين في عام ‪ ،1868‬ظلت تتفاعل‬ ‫مع الطبيعة السلفية بتدين تقليدي بحت‪ ،‬طرأ عليها الحقا إسالمات السكينة‪ ،‬وبعض دعوة‬ ‫التبليغ‪ ،‬وهذا وجه‪ ،‬أما الوجه املراد‪ ،‬فهو تتبع اإلسالم السياسي أو الحركات اإلسالمية الناشئة‪،‬‬ ‫في بيئة كهذه‪ ،‬خاصة أن التجربة القطرية كانت فريدة‪.‬‬

‫كيف استطاع إسالميو قطر كسر وثن التنظيم عند اإلخوان املسلمني؟‬

‫إخوان قطر واملسار اخملتلف‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫عمر الترابي‬ ‫طارق املبارك‬

‫‪,,‬‬

‫تكون جاسم‬ ‫سلطان وعلى‬ ‫خالف التكوين‬ ‫التقليدي للكوادر‬ ‫اإلخوانية بمزيج‬ ‫من الثقافة‬ ‫اإلسالمية‬ ‫والعلوم‬ ‫اإلنسانية‬

‫‪,,‬‬

‫‪26‬‬

‫تتبع الحركات اإلسالمية في الخليج‪ ،‬يحكمه سيناريو متشابه‪،‬‬ ‫يكاد يصبح مكررا‪ ،‬يدور في حلقة واحدة‪ ،‬تبدأ من الطالب‬ ‫املبعوثني إلى مصر لالستنارة‪ ،‬أو االستزادة من العلم الصحيح‪،‬‬ ‫فيختلطون بأطياف الفكر القومي واإلسالمي واليساري‪،‬‬ ‫فيعودون إما بصورة لعبد الناصر ومعها حفنة شعارات‪ ،‬أو‬ ‫بأعناق لفتها البيعة لحسن البنا ومعها أيضا حفنة شعارات‬ ‫بديكور مختلف‪ ،‬ويكونون هم الحاضنة األولى لنواة التيار‬ ‫اإلسالمي «الحركي»‪ ،‬فيوقظون إسالم السكينة‪ ،‬ويمتطونه أو‬ ‫يتحضرون لذلك‪ ،‬كما يسهم في هذه الفترة املعلمون والعاملون‬ ‫لنهضة الخليج األوائل من مصر تحديدا والشام‪ ،‬وقد كان‬ ‫البنا حريصا على ربط قطاع التنظيم العاملي (متابعة الشؤون‬ ‫الخارجية) بقطاع من املعلمني واالستشاريني‪ ،‬يقدمون للحكام‬ ‫من فترة ألخرى‪ ،‬يدعمهم هو برحالته وعالقاته‪ ،‬وتأتي في‬ ‫أعقابهم الهجرة الثانية وهي هجرة قسرية‪ ،‬عقب تضييق‬ ‫السلطات املصرية على «اإلخوان» في أعقاب أحداث املنشية‪،‬‬ ‫وانكشاف التنظيم السري واملحاكمات املصاحبة التي أودت‬ ‫بحياة مفكر «اإلخوان» سيد قطب‪ ،‬وتأتي الهجرة الثالثة إلخوان‬ ‫سوريا في فترة بعد أحداث حماه الدامية‪ ،‬أضف إلى ذلك التأثر‬ ‫بالعراق الذي كان حاضرة التأثير في أقطار الخليج األخرى‪،‬‬ ‫بما فيها الكويت‪ ،‬فتنتهي التشكيالت بإخوان «مصر والشام»‬ ‫في الخليج‪ ،‬يسدلون «غترهم» ويخالطون «بدو الخليج»‪ ،‬وتبقى‬ ‫التفاصيل الداخلية مبهمة‪ ،‬ملن الوالء‪ ،‬وكيف البيعة‪ ،‬وإلى غيره‪.‬‬

‫إطاللة من الحكايات القديمة‪..‬‬ ‫عبد البديع صقر والقرضاوي‬ ‫في عام ‪ ،1961‬وبعد مالبسات مختلفة‪ ،‬من اعتقال إلى إفراج‬ ‫مفاجئ‪ ،‬هاجر الشاب املصري حينها يوسف القرضاوي إلى‬ ‫قطر ليقوم على املعهد الديني الثانوي‪ ،‬الذي يطوره‪ ،‬ويسهم‬ ‫في الوسط الديني فيها‪ ،‬ويؤسس كلية الشريعة بجامعة قطر‪،‬‬ ‫وبالتزامن مع ذلك ينال الثقة‪ ،‬وتحولت قطر إلى محطة لرحالته‬ ‫في دول الخليج‪ ،‬ولم يكن القرضاوي وحده‪ ،‬بل معه عبد املعز‬ ‫عبد الستار‪ ،‬والدكتور أحمد العسال‪ ،‬وعبد البديع صقر‪ ،‬فتولوا‬ ‫مهام الدعوة والدين‪ ،‬وكان حاكم قطر آنذاك الشيخ علي بن عبد‬ ‫الله آل ثاني يوليهم الثقة‪ ،‬يقول عبد الغفار حسني في مقالة‬ ‫بجريدة «الخليج» اإلماراتية‪« :‬ولم يكن الطريق سهل املسالك‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫أمام التوسع اإلخواني وغيرهم من الجماعات في الخليج العربي‬ ‫غير املنسجمة مع التيار القومي‪ ،‬ولذلك لم تقم في هذه املناطق‬ ‫تجمعات إخوانية منظمة لها الحول والطول قبل السبعينات من‬ ‫القرن املنصرم‪ ..‬ولكن بارقة األمل ملع وميضها في قطر‪ ،‬حيث‬ ‫لجأ إليها أفراد من (اإلخوان) أخرجوا من مصر أو خرجوا منها‪،‬‬ ‫فتبناهم حاكم قطر األسبق الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني‬ ‫الذي اعتبر (اإلخوان) سلفيني مسلمني اضطهدوا في ديارهم‬ ‫فلجأوا إلى بلده وعليه نصرتهم‪ ،‬وكان الشيخ علي (رحمه‬ ‫الله) أميرا مسلما شديد التدين ويقرب إليه أهل العلم‪ ،‬ولم يكن‬ ‫منغمسا في أمور السياسة خارج إطار بيئته البسيطة‪ ،‬وجاء‬ ‫إليه أفراد من اإلخوان املسلمني بينهم رجالن لهما مكانتهما في‬ ‫جماعة اإلخوان‪ ،‬وهما الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد‬ ‫البديع صقر‪ ،‬ولعب هذا األخير دورا قياديا نفع به (اإلخوان)‪،‬‬ ‫وتولى الشيخ عبد البديع مركز املستشار لحاكم قطر ومديرا‬ ‫لدار الكتب القطرية التي تم تأسيسها في تلك السنني»‪.‬‬

‫إسالميون في قطر‪ ..‬قنطرة "اإلخوان"‬ ‫يواصل حسني‪« :‬قطر كانت املكان الذي انطلق منه (اإلخوان)‬ ‫صوب اإلمارات‪ ،‬وبالذات دبي‪ ،‬التي ربطتها عالقة وطيدة بقطر‬ ‫ولم يكن املجتمع اإلماراتي يومئذ (أواخر الخمسينات وبداية‬ ‫الستينات من القرن املاضي) على وعي ثقافي وسياسي كاف‬ ‫يستطيع أن يميز به بني ما ينفعه في أمور السياسة وما ال‬ ‫ينفعه‪ ،‬وكانت تفاعالته مبنية على املشاعر العاطفية املحضة‬ ‫تجاه القضايا واألحداث الجارية في املنطقة‪ ،‬وكانت وسائل‬ ‫اإلعالم املوجهة في الدول العربية ذات األنظمة الراديكالية هي‬ ‫التي توجه أحاسيس الناس وتسيطر عليها وتسيرها حسب‬ ‫أهدافها»‪ ،‬ويواصل‪« :‬وقد بدأ نشاط (اإلخوان) في اإلمارات من‬ ‫دبي التي أشرنا إلى ارتباطها بقطر‪ ،‬وانطلق هذا النشاط من‬ ‫مقر البعثة التعليمية القطرية التي جاءت من مساعدات قطر‬ ‫لإلمارات في عام ‪ ،1962‬وكان للشيخ عبد البديع صقر ضلع‬ ‫في تأسيس هذا املكتب واختيار املدرسني والقائمني على شؤون‬ ‫املكتب‪ ،‬وكان الشيخ عبد البديع يتردد بانتظام على اإلمارات‪،‬‬ ‫وأسس فيها مدرسة تابعة له اسمها مدرسة اإليمان في منطقة‬ ‫الراشدية في دبي وأعتقد أن هذه املدرسة ما زالت قائمة‪ ،‬وكان‬ ‫مديرو املدرسة من أقرباء الشيخ عبد البديع واملتصلني به‪ ،‬وكان‬


‫الحدود العراقية اإليرانية نزاعات تاريخية وأزمة تتجدد‬

‫احلرب املائية‬ ‫بقلم‪ :‬املحرر األقتصادي‬

‫شكلت حدود العراق مع إيران أحد القضايا التي تسببت في إثارة كثير من النزاعات في‬ ‫العالقة بني الدولتني‪ ،‬ومنذ أن كان العراق تحت الهيمنة البريطانية في عام ‪ 1937‬تم توقيع‬ ‫اتفاقية تعتبر أن نقطة معينة في شط العرب غير “خط القعر” هي الحدود البحرية بني‬ ‫العراق وإيران لكن الحكومات املتالحقة في إيران رفضت هذا الترسيم الحدودي واعتبرت‬ ‫نقطة “خط القعر” في شط العرب التي كان متفقا عليه عام ‪ 1913‬بني إيران والعثمانيني‬ ‫بمثابة الحدود الرسمية ونقطة “خط القعر” هي النقطة التي يكون الشط فيها في أشد حاالت‬ ‫انحداره‪ ،‬وفي عام ‪ 1969‬أبلغ العراق الحكومة اإليرانية أن شط العرب كاملة هي مياه عراقية‬ ‫ولم تعترف بفكرة خط القعر‪.‬‬ ‫في ‪ 6‬مارس (آذار) عام ‪ 1975‬وقع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسني وشاه إيران‬ ‫محمد رضا بهلوي وبإشراف رئيس الجزائر آنذاك هواري بومدين االتفاقية املعروفة بـ"اتفاقية‬ ‫الجزائر" وتم االتفاق على نقطة خط القعر باعتبارها حدودا بني الدولتني ولكن صدام حسني‬ ‫ألغى هذه االتفاقية في عام ‪ 1979‬عشية قيام الثورة اإليرانية‪ ،‬ووصول اإلسالميني إلى الحكم‪..‬‬ ‫األمر الذي أشعل حرب الخليج األولى‪.‬‬ ‫يقول الباحث في شؤون املياه صاحب الربيعي‪" :‬كان الصراع بني العراق وإيران على أوجه‬ ‫في انتهاكات وممارسات عدائية مارستها إيران كتحويل مجاري وروافد األنهار التي تنبع‬ ‫من أراضيها وتصب في األراضي العراقية بما يخالف مبادئ القانون الدولي‪ ،‬ويمكن إجمال‬ ‫املمارسات اإليرانية في تحويل مجاري األنهار منذ الستينات من القرن املاضي بتغيير‬ ‫مسارات عدد منها خاصة في املنطقتني الوسطى والجنوبية من العراق وباشرت بتحويل‬ ‫بعض الروافد األخرى في املنطقة الشمالية من القطر"‬ ‫ويذكر الربيعي أهم تلك الروافد ومواقعها من بينها‪:‬‬ ‫‪ - 1‬نهر الوند‪ :‬قامت الحكومة اإليرانية في عام ‪ ،1951‬بشق قناة من نهر الوند (دون موافقة‬ ‫العراق) وقد أدى شق القناة النخفاض كميات املياه خالل موسم الصيف نحو األراضي‬ ‫العراقية التي تعتمد على مياه النهر لري مسحات زراعية قدرها ‪ 50‬ألف دونم‪ ،‬من أراضي‬ ‫قضاء خانقني‪.‬‬ ‫‪ - 2‬نهر كنجان جم‪ :‬ينبع من مرتفعات (بشتكوه) اإليرانية ويجري باتجاه الجنوب الغربي‬ ‫نحو األراضي العراقية على امتداد ‪ 20‬كم‪ ،‬وتتفرع من الجانب الغربي من النهر عدة قنوات‬ ‫وترع لري بساتني ومزارع ناحية "زرباطية" شرعت الحكومة اإليرانية في عام ‪ 1932‬بشق‬ ‫قناة من نهر "كنجان جم" لري أراضي مهران‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬أنشأت سدا ترابيا في‬ ‫منتصف النهر وتم استغالل كامل مياه النهر‪ ،‬ومع الزمن أدى إلى جفاف النهر بالكامل‪.‬‬ ‫‪ - 3‬مياه نهر وادي كنكير‪ :‬بلغ تصريف النهر عند الحدود العراقية قرب قضاء مندلي نحو‬ ‫‪ 280‬م‪ / 3‬ث‪ ،‬قامت إيران وعلى مراحل باستغالل مياه النهر بشكل تعسفي‪ ،‬مما أدى‬ ‫النخفاض جريانه تجاه األراضي العراقية خاصة في موسم الصيف‪.‬‬ ‫‪ - 4‬نهر قره تو‪ :‬يدخل الحدود العراقية عند قرية "طنكي حمام" بعد اجتيازه مناطق سهلية‬ ‫إيرانية وتصب به عدة روافد صغيرة بعد دخوله األراضي العراقية‪ ،‬انقطع مجرى النهر تماما‬ ‫عن قرية "قره تو" جراء املشاريع اإليرانية‪ ،‬مما أدى إلى أضرار فادحة باألراضي الزراعية‬ ‫على الجانب العراقي‪.‬‬ ‫‪ - 5‬نهر دويريج‪ :‬قامت السلطات اإليرانية بتاريخ ‪ 1966 / 3 / 6‬بإنشاء سد ترابي على مقطع‬ ‫مجرى النهر في املوقع املسمى «كبة هشال» الذي يقع على مسافة خمسة كيلومترات تقريبا‬

‫الرئيس الجزائري هواري بومدين يتوسط كال من نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسني وشاه إيران محمد رضا بهلوي في الجزائر عام ‪1975‬‬

‫من مخفر الفكة العراقي‪ ،‬فتسبب بقطع املياه التي تجري إلى األراضي العراقية‪.‬‬ ‫وغير ذلك من أنهار تنبع من غرب إيران لتصب في األراضي العراقية ويبلغ عددها ‪ 18‬نهرا‬ ‫قامت إيران بقطع روافدها عن العراق‪ ،‬ويبلغ تصريفها املائي ‪ 7‬مليارات متر مكعب‪.‬‬ ‫ويضيف الباحث العراقي صاحب الربيعي بأن "تلك التجاوزات اإليرانية بشأن قطع الروافد‬ ‫املائية (الدولية) التي تغذي نهر دجلة في األراضي العراقية ما زالت تجري‪ ،‬مما أدى إلى‬ ‫انخفاض املياه الواردة إلى األراضي العراقية بنسبة ‪ .%70 - 60‬وتشهد املناطق الحدودية‬ ‫لشمالي العراق مع إيران جفافا ال سابق له‪ ،‬نتيجة إجراءات الحرب املائية اإليرانية غير املعلنة‬ ‫وغير القانونية والتي تعتبر انتهاكا للقانون الدولي الخاص باألنهار املشتركة"‪.‬‬ ‫ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكريت حاتم الدفاعي‪ ،‬إن املواثيق واألعراف الدولية‬ ‫حسمت الخالف حول املياه بني الدول املتشاطئة قانونيا‪ ،‬لكن التوظيف السياسي للمياه‬ ‫سيعقد املشكلة ويحيل بالدنا إلى صحراء ودعا الدفاعي إلى عدم بناء سدود تضر بالعراق‬ ‫ونبذ االبتزاز السياسي لهذه املسألة‪.‬‬ ‫وحذر أكاديميون عراقيون من تفاقم أزمة املياه والنقص الحاد في الكميات الواردة إلى أنهار‬ ‫العراق مؤكدين أن ذلك سيؤدي لتحول البالد إلى صحراء بحلول عام ‪ .2025‬ويؤكد املدير‬ ‫العام في وزارة املوارد املائية سلوان عامر أن "مشكلة نقص املياه تفاقمت بعد إقامة سوريا‬ ‫سد الحسكة العمالق فتقلصت نسب املياه في الفرات مثلما في دجلة"‪ .‬وأضاف عامر أن‬ ‫"اإليرانيني زادوا املشكلة تعقيدا عندما أقاموا بدورهم سدودا على الحدود‪ ،‬تسببت في‬ ‫تصريف املياه الفائضة عن حاجتهم إلى أراضينا‪ ،‬وهي مياه مالحة‪ ،‬ومنعت جريان املياه في‬ ‫األنهار التي كانت تغذي القرى والبلدات الحدودية العراقية"‪ .‬وأوضح أن العراق يخوض منذ‬ ‫ثالثة عقود مفاوضات ومناقشات مع جيرانه حول املياه‪ ،‬محذرا من أن "املستقبل ال ينبئ‬ ‫بخير إذا استمر الجيران يصمون آذانهم"‪.‬‬ ‫ويرى صاحب الربيعي أن إيران تسعى لدور إقليمي في منطقة الخليج العربي‪ ،‬وأن استخدام‬ ‫إيران املياه سالحا ضد العراق هو مسعى لتحجيم دور العراق في املنطقة ورهن إرادته‬ ‫السياسية‪،‬ويؤكد الربيعي أن "هناك عددا من القيادات السياسية العراقية ذوي أصول إيرانية‬ ‫منفذين ألجندة إيران في العراق‪ ،‬وهذا ما يفسر الصمت الرهيب للقيادات السياسية العراقية‬ ‫على التعديات املائية اإليرانية على الحقوق املائية املكتسبة للعراق"<‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪25‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫الدمار سيكون كارثيا‪ ،‬نظرًا لخزينه املائي العالي‪ ،‬ودرجة امليل‬ ‫الكبيرة ملجرى دجلة من املوصل باتجاه الجنوب (فرق منسوب‬ ‫االرتفاع بني نهر الفرات ودجلة نحو ‪ 7‬أمتار في الشمال)‪ .‬مما‬ ‫يؤدي لحدوث فيضانات كارثة تضر باملنشآت املائية والخدمية‬ ‫أسفل املجرى وتشريد نحو (‪ )5 - 4‬ماليني من السكان في‬ ‫حوض دجلة من الشمال إلى الجنوب‪.‬‬ ‫الحكومة العراقية إلبعاد خطر انهيار السد واملتمثلة‬ ‫ان إجراءات‬ ‫ُ‬ ‫بالحقن البيتوني املكلف‪ ،‬وتخفيض منسوب املاء في حوض‬ ‫السد‪ ،‬ليست بحلول جذرية إلنهاء مشكلة االنهيار املحتمل‬ ‫للسد‪ ،‬فالحل الجذري هو تنفيذ الحلول املقترحة من قبل‬ ‫الشركات االستشارية املقدمة الى وزارة املواد املائية العراقية‪،‬‬ ‫لضمان سالمة السد بشكل جذري‪ ،‬وبالتزامن مع تلك اإلجراءات‪،‬‬ ‫ال بد من اإلسراع بإنجاز سد بخمة والسدود املقترحة االخرى‬ ‫على الزاب الكبير‪.‬‬ ‫إن كارثة أزمة العراق املائية ال تتمثل فقط بفقدانه باليني األمتار‬ ‫نشر من تقارير‬ ‫املكعبة من مياهه في السنوات السابقة‪ ،‬بل بما‬ ‫ْ‬ ‫محلية وعن منظمات دولية بأن دجلة والفرات مهددان بالجفاف‬ ‫في عام ‪ ،2040‬ومن بني هذه املنظمات "املنظمة الدولية للبحوث‬ ‫واملنتدى العربي للبيئة والتنمية" و"منظمة املياه األوروبية "‪،‬‬ ‫والتي أكدت بمجملها أن نهر دجلة في طريقه للجفاف الكامل‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫انهيار‬ ‫مقومات الدولة‬ ‫في العراق ال‬ ‫يبرر األداء‬ ‫الحكومي الذي‬ ‫يمكن وصفه‬ ‫باملشلول تجاه‬ ‫كارثة تصحر‬ ‫بالد ما بني‬ ‫النهرين‬

‫‪,,‬‬

‫‪24‬‬

‫إن السياسات املائية اليران والتي عمقت الفجوة املائية في‬ ‫العراق‪ ،‬كانت محل تحذير من قبل املركز العاملي للدراسات‬ ‫التنموية‪ ،‬حيث حذر املركز من كارثة بيئية كبيرة قد تحل‬ ‫بمحافظات العراق الشرقية والجنوبية‪ ،‬إذا ما استمرت إيران‬ ‫في االمتناع عن إطالق مياه بعض األنهار‪ ،‬ومنها نهر الوند‬ ‫الذي تمتنع إيران عن إطالق مياهه منذ أربع سنوات‪ .‬وقد أدى‬ ‫هذا األمر إلى أضرار بيئية كبيرة في األراضي الزراعية‪ ،‬حيث‬ ‫تسببت في تدمير نحو ‪ %10‬من األراضي الخصبة‪ ،‬وساهم‬ ‫في تشريد أهالي العديد من القرى بسبب جفاف أراضيهم‪.‬‬ ‫وقد تراجع اإلنتاج الزراعي لبعض املحاصيل في العراق بنسب‬ ‫كبيرة وصلت في بعض السنوات إلى ‪ %80‬مع ترد كبير في‬ ‫جودتها‪.‬‬ ‫ان انهيار مقومات الدولة في العراق‪ ،‬ال يبرر األداء الحكومي‬ ‫الذي يمكن وصفه باملشلول تجاه كارثة تصحر بالد ما بني‬ ‫النهرين‪ ،‬فهناك عالوة على اللجوء الى املحافل الدولية‪ ،‬إجراءات‬ ‫عديدة منها على سبيل املثال ال الحصر‪ ،‬قيام الحكومة املركزية‬ ‫ببناء السدود في إقليم كردستان‪ ،‬ألن ذلك يصب في صالح‬ ‫أبناء الشعب العراقي في الوسيط والجنوب‪ ،‬وهذا يتطلب أيضا‬ ‫تفاهما وتعاونا بني بغداد واربيل‪ .‬إن تقنني استهالك املاء‬ ‫واستخدام الطرق العلمية للسقي واإلرواء‪ ،‬ناهيك عن االستثمار‬ ‫الوطني واألجنبي في مجال املاء بغرض ردم الفجوة املائية‪ ،‬أمور‬ ‫ضرورية وملحة لحل مشكلة املياه في العراق‪.‬‬

‫سد املوصل‬ ‫إن تآكل الدولة العراقية ألقى بضالله على تآكل واندثار بناه‬ ‫التحتية واإلنتاجية‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪ ،‬فإن سد املوصل بمعدل‬ ‫تصريفه املائي ‪ 17500‬م‪ /3‬ثا‪ .‬والذي بدأ العمل به في عام ‪1980‬‬ ‫وانجز في عام ‪ 1986‬ألغراض متعددة‪ :‬تخزيني‪ ،‬تحكمي‪،‬‬ ‫وإنتاج طاقة كهرومائية‪ ،‬إضافة إلرواء مساحة قدرها ‪3.5‬‬ ‫ماليني مشارة‪ ،‬مهدد باالنهيار‪ ،‬ففي حال حدوثه‪ ،‬فإن حجم‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫إن للمشكلة جوانب وأبعادا (جيو ‪ -‬سياسية – فنية)‪ ،‬حيث‬ ‫تتحكم دول الجوار متمثلة بتركيا وسوريا وإيران في نحو ‪85‬‬ ‫في املائة من املوارد املائية التي تدخل العراق‪ .‬أما البعد السياسي‬ ‫فهو غياب املعاهدات واالتفاقيات الدولية املبرمجة الستغالل‬ ‫املياه واستخدامها بشكل قانوني يراعي حقوق دول املصب‪.‬‬

‫الحل املقترح‬ ‫إن الحل الجذري ملشكلة املياه في العراق واملنطقة تتمثل في ما‬ ‫يلي‪:‬‬ ‫تطبيق اإلدارة املتكاملة للموارد املائية في العراق وكوردستان‬ ‫بما في ذلك "حصاد املياه"‪ ،‬وذلك للحفاظ على املوارد املائية‬ ‫السطحية والجوفية واالستفادة القصوى منها‪.‬‬ ‫إن حل مشكلة املياه في الشرق األوسط يجب أن يجري من‬ ‫خالل عملية حلول شاملة ملشاكل بنيوية تشمل السياسة‪،‬‬ ‫واالقتصاد‪ ،‬والبيئة في منطقتنا‪ ،‬ويمكن تحديد الخطوط‬ ‫العامة لتلك املشاكل‪ ،‬وأهم حلقة لحل سلسلة املشاكل هذه‪،‬‬ ‫تتمثل بحل املشاكل البنيوية للعراق‪ .‬كما ينبغي أن يؤخذ في‬ ‫االعتبار أيضا اإلدارة املتكاملة والشفافة للموارد املائية بني دول‬ ‫املنطقة‪ ،‬ورفع الحظر على كافة املعلومات واالجراءات املتعلقة‬ ‫باملياه‪ ،‬وهذا املقترح قدمته نائبا عن حكومة إقليم كردستان‬ ‫في "األسبوع العاملي للمياه"‪ ،‬والذي أقيم في العاصمة السويدية‬ ‫استوكهولم عام ‪ 2007‬بحضور ممثلي دول املنطقة والعالم‪ ،‬إال‬ ‫أنه لم يحدث أي تقدم إلى اآلن‪.‬‬ ‫كلنا في نفس املركب وهذا توصيف يحتم ضرورة التواصل‬ ‫اإلنساني لحل املشاكل السياسية في العالم‪ ،‬وهذا التوصيف أيضا‬ ‫ينبغي أن يكون شعارا لحل مشكلة املياه في املنطقة والعالم‪ ،‬ألن أية‬ ‫سياسة مائية ال تراعي دول املصب‪ ،‬ستؤدي بالضرورة الى جريان‬ ‫نهر من املشاكل‪ ،‬وإيقاف التنمية والتقدم <‬


‫في ذلك مشاكل املياه‪ ،‬كما حدث حينما تنازل النظام السابق‬ ‫في زمن حكم الرئيس العراقي صدام حسني عن األراضي‬ ‫واملياه الوطنية العراقية للجانب اإليراني‪ ،‬فترة حكم الشاه محمد‬ ‫رضا بهلوي‪ ،‬وكان الهدف منها القضاء على الحركة التحررية‬ ‫الكردية‪ ،‬وقد نقض هذا االتفاق من قبل الجانب العراقي بعد‬ ‫الثورة اإلسالمية في إيران‪ ،‬تلك الثورة التي اتخذت ولظروف‬ ‫ذاتية وموضوعية منحى جمهورية إسالمية‪ ،‬نراها أكثر إصرارا‬ ‫من نظام الشاه محمد رضا بهلوي على إعادة العمل باتفاقية‬ ‫( صدام – شاه – بومدين) عام ‪ 1975‬والتي تنازل بموجبها‬ ‫الجانب العراقي عن نصف شط العرب‪ ،‬ناهيك عن جزء من‬ ‫أراضيه الوطنية‪.‬‬

‫تاريخ وجغرفيا‬ ‫إن مشكلة املياه في منطقتنا إذ تتضاعف مستندة إلى إشكاالت‬ ‫تاريخية‪ ،‬وجغرافية‪ ،‬وسياسية قائمة ال يمكن تجاهلها‪،‬‬ ‫تتجه نحو التصعيد‪ ،‬ألن دول املنبع تتعامل مع املشكلة وفق‬ ‫مصالحها الوطنية من دون أي اعتبار للقوانني الدولية التي‬ ‫تضمن حقوق دول املصب‪ ،‬واألنكى من ذلك هو قيام دول املنبع‬ ‫باستغالل املتغيرات الجيو ‪-‬سياسية التي أضعفت بعض الدول‪،‬‬ ‫كما هو عليه الحال مع العراق الذي فقد هيبة الدولة القوية‪ ،‬ومن‬ ‫ثم خسارته ملوقف وموقع الند املحاور واملطالب بحقوقه املائية‬ ‫باستثناء مطالباته االعالمية الخجولة‪ ،‬التي تهدف في تقديري‪،‬‬ ‫الى إرضاء الشارع العراقي‪ ،‬ألن املوقف العراقي ال يتناسب‬ ‫مع حجم الكارثة التي تهدد النهرين وما بينهما من امتداد‬ ‫لحضارات كانت البدء بكافة مفرداتها وتفاصيلها‪.‬‬ ‫فالعراق‪ ،‬الذي حمل اسم "بالد ما بني النهرين" يعتمد على‬

‫نهري "دجلة" و"الفرات"‪ ،‬ويتشكل األول من التقاء نهري فرات‬ ‫صو وقره صو في حوض ملطية في هضبة أرمينيا التركية‪،‬‬ ‫ويبلغ طوله ‪ 2880‬كيلو مترا‪ ،‬موزعة على البلدان الثالثة كاآلتي‪:‬‬ ‫‪ 1000‬كيلو متر في تركيا‪ ،‬و‪ 680 – 675‬كيلو مترا في سوريا‬ ‫– بسبب التعاريج – و‪ 1200‬كيلو متر في العراق‪ ،‬أما نهر دجلة‪،‬‬ ‫فيبلغ طوله ‪ 1899‬كيلو مترا‪ ،‬منها ‪ 44‬كيلو مترا في سوريا‪،‬‬ ‫و‪ 1415‬كيلو مترا في العراق‪ ،‬وتساهم إيران أيضًا بمد النهر‬ ‫بروافد غزيرة نابعة من أراضيها‪.‬‬ ‫املشكلة التي تحتاج حلوال جذرية تتمثل بعدم وجود معاهدة‬ ‫ُ‬ ‫ُمتكاملة تنظم املشاركة في مياه الفرات أو االستغالل املشترك‬ ‫لها‪ ،‬على الرغم من وجود اتفاقيات ترسي مبادئ عامة تشدد‬ ‫على حقوق بلدان أسفل النهر في املياه الداخلة الى أراضيها‪،‬‬ ‫اما فيما يتعلق بمياه نهر دجلة‪ ،‬فإن تركيا ّ‬ ‫تعدها مياهًا وطنية‬ ‫عابرة للحدود‪ ،‬ولها حق السيادة املطلقة عليها‪ ،‬وأن ما تمرره‬ ‫من مياه الى كل من سوريا والعراق هو تضحية منها وليس‬ ‫واجبًا‪.‬‬

‫سياسة إيران املائية‬ ‫املوقف اإليراني على الرغم من العالقة االستراتيجية بني‬ ‫حكومتي طهران وبغداد‪ ،‬والتي تعمقت إثر تراجع ما طرح قبل‬ ‫"الربيع العربي" من مخاطر "الهالل الشيعي" وبروز مفهوم‬ ‫"الهالل السني" بعد النتائج األولية لـ"الربيع العربي" ال يختلف‬ ‫عن املوقف التركي‪ ،‬إذ تقوم إيران بتحويل معظم الروافد‬ ‫املائية التي تغذي نهر دجلة‪ ،‬مما ُيخفض املياه املتدفقة باتجاه‬ ‫األراضي العراقية‪ ،‬ويسيء إلى نوعية املياه ويزيد من نسب‬ ‫التلوث‪.‬‬

‫مع احتماالت تعرض العراق للجفاف‪،‬‬ ‫شباب إيراني يتبادل إطالق املياه‬ ‫على بعضهم البعض خالل مهرجان‬ ‫«مدافع املياه» في شمال طهران‪ ،‬يوليو‪،‬‬ ‫‪ 2011‬ضمن موجة جديدة من التهديد‬ ‫بالعصيان املدني واعتقل االمن‬ ‫االيراني عشرات من «مقاتلي املياه»‬ ‫وحذر مسؤول قضائي إيراني أن «أعداء‬ ‫الثورة» يقفون وراء هؤالء الشباب‬

‫‪,,‬‬

‫إن مشاكل‬ ‫املنطقة بما فيها‬ ‫مشكلة املياه‬ ‫ال يمكن حلها‬ ‫دون حل القضية‬ ‫الكردية‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪23‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫يواجه "الذهب األسود" ُمنافسًا "ماسيًا"‪ ،‬وإن كان عديم اللون‪ ،‬والطعم‪ ،‬والرائحة‪ ،‬اال أنه يمتلك‬ ‫ُ‬ ‫مجرى األلوان‪ ،‬وضفاف الحياة‪ ،‬وعبق األشياء‪ ،‬فهو شريان الحياة‪ ،‬وجذرها‪ .‬ويمثل املاء امل َّح ِدد‬ ‫الرئيس للعالقات الدولية‪ ،‬وباألخص في جنوب قريتنا الكونية‪ ،‬وأيضا في دول مثل تركيا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وإيران‪ ،‬والعراق‪ ،‬وكوردستان‪ ،‬وبالد الشام‪ ،‬ومصر وشمال افريقيا) فهل تحول مسار "طريق‬ ‫الحرير" الى "طريق املوت" في هذه البلدان‪ ،‬من خالل سياسات داخلية لدول املنبع ومحاوالتها‬ ‫تغيير مجرى األنهر الدولية صوب داخلها الوطني‪ ،‬ومن ثم مصادرة هذه املياه العابرة للدول في‬ ‫عملية هي أشبه ما تكون بعملية اختطاف الرهائن واحتجازهم؟‬

‫قصة اغتيال دجلة والفرات‪ ..‬ومحاوالت إيران لتغيير مجرى األنهار الدولية‬

‫املياه‪ ..‬قنبلة موقوتة‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫تحسني قادر علي‬

‫إن التحذير الذي أعلنت عنه "منظمة املياه األوروبية" في أواخر‬ ‫القرن العشرين من إمكانية جفاف نهر دجلة بالكامل‪ ،‬بسبب‬ ‫مشاريع تركيا‪ ،‬وكذلك إيران التي لها دوافع سياسية واقتصادية‪،‬‬ ‫وأكدته دراسة أجراها علماء من وكالة الفضاء األميركية (ناسا)‬ ‫بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا واملركز الوطني ألبحاث الغالف‬ ‫الجوي‪ ،‬يبرر املخاوف التي أعلنت عنها وكالة املخابرات املركزية‬ ‫األميركية (سي آي إيه) من أن ثمة مناطق مرشحة لحدوث‬ ‫صدام عسكري ّ‬ ‫مسلح بسبب شحة املياه وهي‪:‬‬ ‫ٍ‬

‫السياسات‬ ‫املائية اليران‬ ‫والتي عمقت‬ ‫الفجوة املائية‬ ‫في العراق‬ ‫كانت محل‬ ‫تحذير من‬ ‫قبل املركز‬ ‫العاملي‬ ‫للدراسات‬ ‫التنموية‬

‫ املجموعة األولى‪ :‬وتضم مصر والسودان وإثيوبيا وكينيا‬‫وزائير وبوروندي وتنزانيا وراوندا‪ ،‬وتشترك جميعها في‬ ‫حوض نهر النيل‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫‪,,‬‬

‫‪22‬‬

‫ّ‬ ‫نهري‬ ‫ املجموعة الثانية‪ :‬وتشمل تركيا وسوريا والعـراق حول‬‫دجلة والفرات‪.‬‬ ‫ املجموعة الثالثة‪ :‬وتضم فلسطني واألردن وسوريا ولبنان‬‫من جهة وإسرائيل من جهة أخرى‪ ،‬وهي الدول التي تشترك في‬ ‫أنــهار األردن واليرموك والليطاني والحاصباني والوزان‪.‬‬ ‫ان شعوب املنطقة ودولها إذ تعيش مخاوف حقيقية‪ ،‬وكوارث‬ ‫االتجاهات على خلفية حرب‬ ‫وسيناريوهات مفتوحة في كافة‬ ‫ُ‬ ‫املياه التي بدأت فصولها‪ ،‬فإن اإليقاع املتعثر للربيع العربي‬ ‫الذي جعل من الحدود الوطنية عاملا افتراضيا مقارنة بــ"الكتلة‬ ‫الهوياتية" والتي ظهرت بشكل واضح بني العراق وسوريا من‬ ‫جهة‪ ،‬والعراق مع (إيران وتركيا) من جهة ثانية‪ ،‬ككتل قومية‬ ‫مهدت الظروف إلعالن حروب املياه الداخلية‪ ،‬فالكتلة الهوياتية‬ ‫كتجمع سكاني يوحده خطاب سياسي قائم على أساس‬ ‫"القومية أو الدين أو املذهب" سيفجر الحقا "حروب املياه" داخل‬ ‫الدول القائمة‪ ،‬وهذا ما تجلى بوضوح بتهديد بعض املحافظات‬ ‫العراقية ألخرياتها بقطع املياه عنها‪ ،‬فحرب املياه الداخلية‬ ‫وإن انطلقت من منابعها املذهبية‪ ،‬فإن تلك املنابع تتراجع‬ ‫حني تعلقها بحرب املياه بني الدول‪ ،‬ففي مشهد ّ‬ ‫عده البعض‬ ‫الجزء املكرر والهزلي للتاريخ قطعت جمهورية إيران اإلسالمية‬ ‫املياه عن عدد من املحافظات العراقية ومدن كوردستان‪ ،‬وهي‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫محافظات غالبية سكانها من "أتباع أهل البيت"‪ ،‬بل إن مدينة‬ ‫خانقني الكردستانية غالبية سكانها من الشيعة‪ ،‬وكما نعلم‬ ‫فإنه قد جرى تجفيف نهر الوند من قبل حكومة طهران‪.‬‬ ‫في حرب مقبلة تهدد الزرع والضرع وتحيل حواضر الشرق الى‬ ‫امتداد صحراوي بال نهايات‪ ،‬يدرك األكراد بأن محزونهم املائي‬ ‫في أجزاء كردستان األربعة هو األكبر على صعيد املنطقة‪ ،‬هذه‬ ‫امليزة قد تكون أحد أسباب الرفض اإلقليمي والدولي لتوحيد‬ ‫األجزاء ضمن مشروع قومي‪ ،‬تضم جغرافيتها أكبر احتياطي‬ ‫للذهبني "األسود" و"الجاري" أي (النفط واملاء)‪.‬‬ ‫األكراد وبعيدا عن واقع عدم امتالكهم لدولتهم القومية وبنى‬ ‫تحتية إلعالن حرب املياه‪ ،‬فإنهم وعبر تاريخهم ونضالهم‬ ‫التحرري‪ ،‬ورغم كل حمالت اإلبادة الجماعية التي طبقت بحقهم‬ ‫لم يمارسوا أي شكل من أشكال اإلرهاب‪ ،‬فكيف الحال مع‬ ‫"اإلرهاب البيئي" الذي نشهد مقدماته واألكراد أحد ضحاياه‪.‬‬ ‫إن أحد أهم أسباب الحروب والتي تلد أخرياتها في املنطقة‪ ،‬وهي‬ ‫بطبيعتها التعبير األدق واألكثر كثافة لطبيعة األنظمة الحاكمة‬ ‫في املنطقة‪ ،‬هو عدم حل القضية الكردية‪ ،‬ألن أحداث التاريخ‬ ‫تؤكد وبما ال يقبل الشك بأن املياه‪ ،‬والجغرافية‪ ،‬واملصائر تكون‬ ‫متناحرة بدون حل هذه املشكلة في العراق واملنطقة من خالل‬ ‫ممارسة األكراد لحق تقرير مصيرهم عبر استفتاء شعبي في‬ ‫كردستان‪.‬‬ ‫إن مشاكل املنطقة بما فيها مشكلة املياه ال يمكن حلها دون‬ ‫حل القضية الكردية‪ ،‬وما املحاوالت الجريئة بدمقرطة تركيا من‬ ‫خالل تغيير دستورها على خلفية الحوار بني الكرد وأنقرة إثر ‪3‬‬ ‫عقود من النضال التحرري الديمقراطي‪ ،‬الذي مارسه األكراد في‬ ‫تركيا وكردستان تركيا‪ ،‬إال جزء من حلول شاملة ستشهدها‬ ‫املنطقة‪ ،‬إن تكلل الحوار السلمي والحضاري بني الطرف التركي‬ ‫والكردي بالنجاح‪.‬‬ ‫إن حل املشكلة الكردية عبر سياسات القمع والتآمر ال يعقد‬ ‫املشاكل القائمة فحسب‪ ،‬بل يضيف ملا هو موجود وقائم بما‬


‫السياسية واآليديولوجية في التاريخ اإلنساني لم تستطع أن تمحو هذا‬ ‫الغموض من مفهوم الهوية‪ ،‬وفي أقل من قرن من الزمان‪ ،‬عادت الهويات إلى‬ ‫بيتها الصغير‪ ،‬متناهي الصغر‪ ،‬وسقطت الدولة املتعالية‪ ،‬دولة الحزب‪ ،‬دولة‬ ‫النظرية‪ ،‬وولدت دولة الهويات الصغرى‪.‬‬ ‫غموض معنى األنا ووعي العالم‪ ،‬جزء من النسيج االجتماعي ذاته‪ .‬ال يمكن‬ ‫للهوية أن تكون واضحة كوضوح الشمس‪ ،‬ففيها ‪ -‬أي الهوية ‪ -‬جانب مظلم‬ ‫وعميق وعصي على اإلدراك‪ .‬هذا يسهل الدول الصغرى‪ ،‬الهويات الصغرى‪،‬‬ ‫ويصعب املفاهيم الشمولية كثيرا ويجعل نجاحها مؤقتا وسطحيا‪ .‬فال قيمة‬ ‫للهوية خارج صغرها ومحدوديتها‪ .‬كلما كبرت الهوية تقلصت الخصوصية‪.‬‬ ‫إال أن التجربة األميركية في مفهوم الدولة والهوية‪ ،‬لهي من أهم التجارب في‬ ‫التاريخ الحديث‪ ،‬وال يمكن إخضاع أسسها ونتائجها ملبدأ القياس‪ .‬فقد‬ ‫نجحت نجاحا باهرا بالجمع ما بني الهويات الصغرى والهوية الكبرى‪ ،‬بحيث‬ ‫تتولى األولى التعبير عن نفسها كما هي من دون أي تزيني آيديولوجي‪ ،‬وتعبر‬ ‫الثانية عن نفسها عبر التقديس غير املسبوق للقانون والدستور‪ .‬صحيح أن‬ ‫اليونانيني دمجوا ما بني التمثيل النخبوي والتمثيل الشعبي في السلطة‪ ،‬إال‬ ‫أن التجربة األميركية أكثر تعقيدا من هذا الجمع‪ ،‬ولعل مفهوم القانون في‬ ‫الثقافة األميركية‪ ،‬هو الذي سهل التقاء الهويات الصغرى بالكبرى من دون أي‬ ‫تعارض يذكر‪ .‬وال ننسى أن القانون في الدولة اليونانية القديمة لم يكن يمتلك‬ ‫قداسة كافية ليوفر التقاء الهويات املتضاربة من دون اشتباك‪ .‬على عكس‬ ‫القانون في الثقافة األميركية الذي بات جزءا من الهوية ذاتها‪ ،‬حتى بات من‬ ‫املتعذر رؤية الفارق ما بني الهويات بسبب االحترام الفطري واملكتسب الذي‬ ‫تكنه الثقافة األميركية للقانون‪ .‬ويالحظ أن عدم احترام القانون في االتحاد‬ ‫السوفياتي السابق كان من أهم أسباب ضعف الدولة اآليديولوجية والذي‬ ‫عجل بسقوطها‪.‬‬

‫النظام العربي الرسمي ضامن الهويات‬ ‫إال أن مفهوم الدولة العربية ‪ -‬أو لنقل مفهوم النظام العربي الرسمي‪ ،‬فهو‬ ‫األدق تعبيرا في الجمع ما بني شبه الدولة وكل السلطة ‪ -‬لم يقترب من‬ ‫الهويات الصغرى إال من منظار نقدي‪ ،‬كما لو أن رجاالت النظام العربي‬ ‫مالئكة شمولية ال هويات ضيقة لها‪ .‬لقد كانت الهويات الصغرى عرضة‬ ‫للنقد وللسخرية وللتهجم والتعنيف‪ ،‬وليعلم القارئ أن الهجوم على الهويات‬ ‫الصغرى (الطائفية واملذهبية والعرقية) جاء من تيارات شمولية في األصل‪،‬‬

‫إما ماركسية وإما إسالمية وإما قومية‪ .‬وحني لم تقدر دولتهم النظرية على‬ ‫الوقوف على قدميها إال بضع سنني‪ ،‬لم نسمع منهم كالما عما رفضوه في‬ ‫السابق‪ ،‬بدليل أن الكالم عن تقسيم سوريا مثال أو ما حصل في «قسمة‬ ‫العراق» أو طريقة التعاطي مع العقل السياسي في لبنان‪ ،‬أيضا على سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬لم نجد له وعيا مقابال يكافح ضده‪ ،‬ليس من منظار النضال‪ ،‬طبعا‪،‬‬ ‫بل من خالل نظرية املعرفة ذاتها‪ .‬باختصار‪ :‬هل استطاعت النخب الثقافية‬ ‫العربية أن تفهم الهويات الصغرى على أنها وعي حاد بـ«األنا» ال يمكن القفز‬ ‫على أسواره العالية إال بوعي حاد أكثر جاذبية منه‪ ،‬كجاذبية القانون في‬ ‫الثقافة األميركية السياسية واالجتماعية؟ ثم ملاذا هذه الحساسية املفرطة من‬ ‫طرح الهويات الصغرى؟ أليست هذه الحساسية املفرطة دليال على أن املوقف‬ ‫من األمر من دون مرجعية فكرية؟!‬ ‫الخالصة‪ ،‬سيظل «النظام العربي الرسمي» (شبه الدولة وكل السلطة) هو الجنة‬ ‫الحالية التي ال يجب تضييعها‪ .‬على األقل يعمل هذا النظام على اعتراف غير‬ ‫علني بالهويات الصغرى‪ ،‬وبقدر من االحترام للهويات الكبرى‪ .‬الحظ مثال‬ ‫في الخليج العربي قد تجد كثيرا من املاركسيني والبعثيني والقوميني العرب‬ ‫ومثلهم من الدروز والعلويني واملسيحيني واألكراد يعملون في مؤسسات‬ ‫اقتصادية أو إعالمية من دون أن يشكل هذا األمر خطرا على مفهوم الدولة‬ ‫في الخليج‪ ،‬بدليل جديد يضاف إلى رصيد النظام العربي الرسمي أنه ال‬ ‫يزال يسبق النخبة بواقعيته ويمتلك جاذبية مضاعفة عندما يتعامل حتى‬ ‫مع خصم آيديولوجي من دون أن يحرمه حق العمل أو املشاركة‪ .‬ولنكمل‬ ‫األمر‪ ،‬حتى في الدول ذات الصوت الجهوري بالقومية أو االشتراكية‪ ،‬كسوريا‬ ‫والعراق‪ ،‬كان أساس تعيني األشخاص في مناصبهم ينطلق‪ ،‬في األصل‪ ،‬من‬ ‫مكوناته الطائفية أو املذهبية أو املناطقية‪ ،‬من دون اعتراف علني بذلك‪ ،‬بل من‬ ‫خالل ممارسة سلطوية ينطبق عليها مفهوم التواطؤ الطبقي‪.‬‬ ‫النظام العربي الرسمي‪ ،‬شبه الدولة وكل السلطة‪ ،‬هو املكان األمثل للمثقفني‬ ‫اآلن‪ ،‬خصوصا بعدما أثبتت التجارب عقم الهويات الكبرى في الثقافة العربية‬ ‫من دون احترام القانون‪ .‬وإن كان هذا النظام هشا ومترددا وفقد الثقة بنفسه‬ ‫إلى أقصى حد‪ ،‬فدور املثقفني مده بأسس الحياة والدوام بشتى السبل‪ .‬فهو‬ ‫يمثل اآلن خالصة املمارسة العملية ملفهوم السلطة في توازنات غير معلنة‬ ‫تجمع املفكر فيه والالمفكر فيه‪ ،‬في آلية ضمنت حتى اآلن وجود الحد األدنى‬ ‫من مفهوم الدولة والحد األعلى من ممارسة السلطة‪ ،‬وريثما تتم معالجة هذه‬ ‫الفجوة الفادحة‪ ،‬يبقى النظام العربي الرسمي هو املمارسة الواقعية التراكمية‬ ‫التي يمكن أن يستخرج منها مفاهيم أكثر أصالة للدولة العربية القادمة <‬

‫املرشد العام لالخوان املسلمني الدكتور محمد‬ ‫بديع يرد على أسئلة اإلعالميني بحضور‬ ‫الدكتور سعد الكتاتني رئيس حزب الحرية‬ ‫والعدالة (ديسمبر ‪)2012‬‬

‫‪,,‬‬

‫األفكار القومية‬ ‫جميعها اتفقت‬ ‫على تجاوز‬ ‫الحد السياسي‬ ‫الجغرافي كتمهيد‬ ‫لعدم االعتراف‬ ‫بالدولة الجارة أو‬ ‫غير الجارة‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪21‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫على الرغم من التعارضات العميقة التي تفصل ما بني اآليديولوجيات السياسية والدينية‪ ،‬يمينا‬ ‫ويسارا‪ ،‬فإن ثمة اتفاقا في ما بينها‪ ،‬وفي تطبيقاتها العربية‪ ،‬بشكل خاص‪ ،‬أال وهو العمل من‬ ‫خارج الدولة‪ ،‬أو العمل على إسقاط الدولة‪ ،‬في مفهومها املكون‪ .‬لقد تالقت األحزاب العربية على‬ ‫اعتبار مفهوم الدولة بحاجة إلى تفكيك جذري وإعادة بناء شاملة‪ .‬ولعل الفكر املاركسي هو من‬ ‫أوائل الذين تعاملوا مع الدولة العربية على أنها خطأ تاريخي بحاجة إلى تصحيح‪ .‬واملفارقة أن‬ ‫املاركسية واإلسالم السياسي اجتمعا على هذه الرؤية‪ ،‬فكانت الدولة‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬خصما للكل‪،‬‬ ‫من دون تمييز‪ .‬حتى األحزاب التي وصلت إلى السلطة‪ ،‬كحزب البعث‪ ،‬سوريا وعراقيا‪ ،‬كانت‬ ‫تتعامل مع فكرة الدولة الراهنة على أنها «محطة» عابرة للوصول إلى الدولة األكبر‪ ،‬بحيث تصبح‬ ‫الدولة األم درجة في سلم طويل ومتعرج تجعل من اإليمان بالدولة الحالية‪ ،‬الراهنة‪ ،‬الجارية أو‬ ‫القائمة‪ ،‬زائفا وقشوريا ال يلبث أن يزول عند أبسط امتحان أو تطور‪.‬‬

‫دولة اإلخوان املسلمني هي دولة الشيوعيني والقوميني‪ ..‬واالختالف زائف‬

‫الدولة األم والدولة الوهم!‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫عهد فاضل‬

‫‪,,‬‬ ‫سيظل «النظام‬ ‫العربي الرسمي»‬ ‫(شبه الدولة‬ ‫وكل السلطة) هو‬ ‫الجنة الحالية‬ ‫التي يجب‬ ‫أال تضيع‬

‫‪,,‬‬

‫في نظرة عامة كان اإلسالم السياسي من السباقني البارعني في تقويض‬ ‫مفهوم الدولة‪ .‬مبرره واضح من خالل اتساع رقعة الدولة الدينية واشتمالها‬ ‫على فوارق أقل وتذويب لكثير من التعارضات ما بني الشعوب‪ ،‬خصوصا إذا‬ ‫ما الحظنا السياق التاريخي الذي تأصلت فيه النظرة العدائية للدولة القائمة‪،‬‬ ‫بالنسبة إلى األحزاب الدينية‪ ،‬كاإلخوان املسلمني‪ ،‬حيث تشكل مفهوم الدولة‬ ‫املطاط ليحل محل مفهوم الدولة الخالفي (من الخالفة)‪ ،‬حيث كان سقوط‬ ‫الخالفة العثمانية دافعا لدى هذه الجماعة إلى البديل النظري‪ ،‬فكانت الدولة‬ ‫الراهنة بالنسبة إليه نسفا للدولة الحلم‪ ،‬الدولة املطاطة الواسعة‪ .‬فكان الطالق‪،‬‬ ‫عمليا‪ ،‬منذ اللحظة األولى لوالدة الدولة العربية باعتبارها قضما للدولة األكبر‬ ‫وتحجيما لسلطتها التي كانت في السابق الخالفي ال تحد‪ .‬وللمفارقة فإن‬ ‫الوقت الذي أعلن فيه رسميا عن سقوط الخالفة العثمانية‪ ،‬كان هو الوقت الذي‬ ‫تنتصر فيه الفكرة البلشفية املكونة لالتحاد السوفياتي‪ ،‬وأيضا‪ ،‬ومن منظور‬ ‫مختلف‪ ،‬فإن الوعي املساحي غلب على مفهوم الدولة لديها‪ ،‬فالتقت نظرة‬ ‫اإلخوان املسلمني والبلشفية على عدم منح الشرعية للدولة الناشئة‪ ،‬مهما‬ ‫بلغت شرعيتها‪ ،‬فتكاتف االثنان على إسقاطها بشتى السبل!‬

‫الخطأ التاريخي ينتصر على الثورة!‬

‫ويشار في هذا السياق إلى أن األفكار القومية جميعها اتفقت على تجاوز‬ ‫الحد السياسي الجغرافي كتمهيد لعدم االعتراف بالدولة الجارة‪ ،‬أو غير‬ ‫الجارة بطبيعة الحال‪ ،‬فكان الحزب القومي السوري االجتماعي مثال‪ ،‬والذي‬ ‫لم يفترق عن سواه في تقويض مفهوم الدولة‪ ،‬وأيضا العتبارات تتعلق‬ ‫بمفهومه هو لألصل القومي للدولة ولنقاء ما يسميه مؤسسه أنطوان سعادة‬ ‫بـ«النفس السورية»‪ ،‬من العاملني األوائل في الوعي املساحي‪ ،‬حيث أسس من‬ ‫نهاية ثالثينات القرن املاضي مفهوم الدولة املساحية الواسعة‪ ،‬مثله كاإلخوان‬ ‫املسلمني واملاركسيني والبعثيني‪.‬‬

‫وألن الدولة العربية الجارية تشكلت على أنقاض دولة خالفية أكبر‪ ،‬فإن‬

‫معارضتها اتخذت طابعا مساحيا أو جغرافيا‪ ،‬فبدأ النظر إلى الدول صغيرة هوية أكبر‪ ..‬خصوصية أقل‬ ‫املساحة على أنها «فتات سياسي» أو «خطأ تاريخي»‪ ،‬كما تعامل حزب البعث‬ ‫السوري مع الدول اللبنانية‪ ،‬باعتبار األخيرة ملحقة بالدولة األم‪ ،‬سوريا‪ .‬وكما‬ ‫تعامل حزب البعث العراقي مع الكويت أيضا على أنها خطأ تاريخي‪ .‬وكما‬ ‫تجلى التوسع البعثي من خالل إدخال القوات املسلحة السورية إلى لبنان‬ ‫أواسط سبعينات القرن املاضي‪ ،‬كذلك فعل النظام العراقي البعثي في العراق‪،‬‬ ‫حيث أقدم على احتالل الدولة املستقلة الكويت‪.‬‬ ‫لقد كان األساس املساحي فاعال في االعتراف أو سحب االعتراف بشرعية‬ ‫هذه الدولة أو تلك‪ .‬كما لو أن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة يمنحها مبررا‬ ‫نظريا‪ ،‬وتقلص هذه املساحة يسحب منها هذه الشرعية‪ .‬إن الوعي املساحي‬

‫‪20‬‬

‫كان مشتركا بني جميع األحزاب كسبب أصيل ملنح الحق بتأسيس الدولة‬ ‫أو هدمها‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كان مفهوم الدولة مخلخال لدى جميع هذه األحزاب‬ ‫لكونه على األقل لم يتعامل مع الخصوصيات املكونة لقيام الدول‪ ،‬أال وهي‬ ‫الجماعات االجتماعية املشكلة لهذه الدولة أو تلك‪ .‬كما في التجربة اللبنانية‪،‬‬ ‫حيث عملت الجماعات االجتماعية ذات املالمح الخاصة على رسم الحد‬ ‫الجغرافي املساحي القاطع مع الدولة السورية األكبر مساحة‪ ،‬سوريا‪ .‬ليظهر‬ ‫أن قيام الدول وشرعيتها مستمد من مالمح الجماعات االجتماعية وليس‬ ‫األصل املساحي الذي ال يتعدى دوره في الغالب إال رسم الحدود‪ ،‬كالجبال‬ ‫واألنهار والبحور‪ ،‬كما يعلم الجميع‪.‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫بقيت الدولة خصما لكل األحزاب العربية بال استثناء‪ .‬الدولة كانت تمثل الشر‪،‬‬ ‫بطريقة ما‪ ،‬لليميني ولليساري‪ ،‬وكراهيتها جمعت ما بني املختلفني‪ ،‬وفعلت‬ ‫فعل السحر في ذلك‪ .‬واآلن يحصل ما أسس له املتخاصمون املختلفون في‬ ‫تقويض مفهوم الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر‪.‬‬ ‫نعلم أن في الدولة العربية ما يفتح شهية تقويضها‪ ..‬فهي في الغالب عواصم‬ ‫تأسست بفعل غير ذاتي عبر مفهوم مائع للهوية وللقانون والحريات‬ ‫والدستور‪ ،‬إال أن هذا الغموض هو جزء من ثقافة عامة ال تستطيع نخبة أن‬ ‫تمحوها بنظرية أو تصور سياسي‪ .‬إن البلشفية التي هي من أقوى الثورات‬


‫واملعادين له من أساتذة الجامعة ومدرسيها وطالبها‪.‬‬ ‫ويؤكد هذا األمر رضوان السيد في مذكراته املصرية‪ ,‬فيقول‪ :‬إن إقالة عبد‬ ‫الناصر له‪ ,‬لقيت ترحيبًا من األزهريني على اختالف فئاتهم‪.‬‬ ‫ومرد هذا إلى أن األزهر وقتذاك‪ ,‬يمر بمرحلة انتقال جذرية‪ ,‬وكان الرجل‬ ‫جادًا وحازمًا ونظاميًا‪ ,‬ومطبوع على املواجهة واملجابهة‪ ,‬وهو إلى ذلك‬ ‫مستقيم ونزيه‪.‬‬ ‫والشاهد على استقامته األخالقية ونزاهته املالية أنه خرج من الوزارة دون‬ ‫أن يتملك بيتًا‪ .‬وأن خصومه في املجلس األعلى للشؤون اإلسالمية عندما‬ ‫بثوا أقاويل حوله في أوساط األزهريني لم يكن من بينها ما يمس ذمته‬ ‫املالية‪ ,‬مثلما حصل مع الباقوري حني غضب عليه عبد الناصر‪ .‬البهي هو‬ ‫من األزهريني الذين هم مع إصالح األزهر وتطويره منذ وقت مبكر‪ ,‬بحكم‬ ‫دراسته في جامعة أوروبية‪ ,‬فهو من خالل هذه الدراسة عرف أن الجامعات‬ ‫األوروبية هي في أصلها مدارس الهوتية‪ ,‬ورأى في الغرب كليات ومعاهد‬ ‫الهوتية تدرس العلوم التطبيقية الحديثة‪ ,‬وهو مع إصالح األزهر حني سعى‬ ‫إلى تحقيق شيء منه شيخ األزهر مصطفى املراغي‪ ،‬وخلفه الشيخ الدكتور‬ ‫مصطفى عبد الرازق‪ ،‬وخلف األخير الشيخ محمود شلتوت‪ .‬فهو يصنف‬ ‫نفسه ضمن مدرسة الشيخ محمد عبده الذي هو أول من نادى بإصالح‬ ‫األزهر‪ .‬ومن هنا كان حماسه لتنفيذ قانون تطوير األزهر‪.‬‬

‫هذه الكتب الثالثة التي كانت وقتذاك صادرة حديثًا تمثل نشرات للدعاية‬ ‫الشيوعية في مصر‪.‬‬

‫إننا إن قارنا بني ما قاله البهي في الباقوري وما قاله الباقوري في البهي‪,‬‬ ‫سنجد أن األخير كان األشد ضغينة وافتئاتًا‪ ,‬واألبعد عن املوضوعية في‬ ‫سرد ما جرى‪.‬‬

‫خالد محمد خالد في تلك املرحلة كان علمانيًا دينيًا بنكهة ليبرالية اشتراكية‪,‬‬ ‫وكان قريبًا من اليساريني والشيوعيني‪ ,‬وكان اليساريون والشيوعيون‬ ‫متحمسني لتوجهه العلماني الديني الثوري‪.‬‬

‫يقول عبد الله إمام – وهو يتذكر أيامه مع البهي –‪ :‬إنه قرأ كتابه (الفكر‬ ‫اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) الذي أهداه إياه مدير مكتبه‬ ‫الدكتور فتحي عثمان‪ .‬ويعرف بالكتاب أنه "كتاب هام‪ ,‬وكان في الغالب ردًا‬ ‫على الدكتور زكي نجيب محمود"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الكتاب هو – فعال – كتاب هام لكنه ليس في أغلبه رد على الدكتور زكي‬ ‫نجيب محمود‪ .‬فما كتبه عن كتاب زكي نجيب محمود (خرافة امليتافيزيقيا)‬ ‫هو سبع صفحات ونصف الصفحة‪.‬‬

‫ومصطفى محمود في تلك املرحلة كان شيوعيًا‪ .‬وقد احتفى الشيوعيون‬ ‫بكتابه (الله واإلنسان) – وكان هو أول كتبه – وكان على راس املحتفني بهذا‬ ‫الكتاب وبالكاتب محمود أمني العالم‪.‬‬

‫وربما أنه وقع في هذا الخطأ لبعد عهده بقراءة الكتاب‪ ,‬وألن زكي نجيب‬ ‫محمود هو الكاتب الوحيد الذي رد على ما جاء عنه في الكتاب ضمن مقال‬ ‫كان عنوانه (من معاركنا الفلسفية) جمعه ومقاالت أخرى له في سنوات‬ ‫متأخرة في كتابه (من زاوية فلسفية)‪ ,‬فعلق في ذهنه حينما قرأ الرد في هذا‬ ‫الكتاب أن كتاب البهي في أغلبه هو رد على زكي نجيب محمود‪.‬‬ ‫إن كتاب البهي لو كان في أغلبه نقد لزكي نجيب محمود ملا كان الشيوعيون‬ ‫حاربوه في منصبه وفي كتبه‪ .‬فأكثر من نقد زكي نجيب محمود هم‬ ‫املاركسيون واليساريون الختالفهم املنهجي واأليديولوجي معه‪.‬‬ ‫إن الشيوعيني غضبوا على كتاب (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته‬ ‫باالستعمار الغربي) الذي صدر في سنة ‪1957‬م‪ ,‬وعلى صاحبه‪ ,‬ليس ألنه‬ ‫قارن بني طه حسني في كتابه (الشعر الجاهلي) وبني هاملتون جب في كتابه‬ ‫(املحمدية) وانتهى إلى أن طه حسني مثل جب يقول ببشرية القرآن‪ ,‬وال‬ ‫ألنه نقد على عبد الرازق في كتابه (اإلسالم وأصول الحكم)‪ ,‬وال ألنه – كما‬ ‫أسلفنا – نقد زكي نجيب محمود في كتابه (خرافة امليتافيزيقيا)‪ ,‬وإنما‬ ‫غضبوا عليه بسبب نقده للماركسية في باب (الدين مخدر) وبسبب ما كتبه‬ ‫في هذا الباب عن (املاركسية والتجديد في الفكر اإلسالمي وعناصر الدعاية‬ ‫الشيوعية في الفكر اإلسالمي)‪ ,‬فتحت هذا العنوان نقد خالد محمد خالد‬ ‫في كتابه (من هنا نبدأ) ونقد مصطفى محمود في كتابه (الله واإلنسان)‪,‬‬ ‫ونقد أحمد رشدي صالح في كتابه (رجل في القاهرة‪ :‬ابن خلدون)‪ ,‬واعتبر‬

‫أما أحمد رشدي صالح‪ ,‬فهو شيوعي صميم وعريق منذ منتصف‬ ‫األربعينيات امليالدية‪ ,‬وعضو أساسي في مجموعة شيوعية اتخذت لها‬ ‫ً‬ ‫أسماء متعددة‪ ,‬كالتنظيم والطليعة الشعبية للتحرر وطليعة العمال والطليعة‬ ‫الديمقراطية وحزب العمال والفالحني الشيوعي املصري‪ .‬وكان يشار إليها‬ ‫عند إصدارها مجلة (الفجر الجديد) في سنتي ‪1945‬م و‪1946‬م‪ ,‬بمجموعة‬ ‫الفجر الجديد‪ .‬ومجلة الفجر الجديد تعد من األعمال ذات الشأن في تاريخ‬ ‫الحركة الشيوعية بمصر إبان األربعينيات‪.‬‬ ‫أنشأ هذه املجلة أحمد صادق سعد (اسمه الحقيقي إيزودور سلفادور‬ ‫وهو يهودي مصري وفدت عائلته من تركيا) وريمون دويك (يهودي‬ ‫مصري أصله من حلب) ويوسف درويش (يهودي مصري وهو جد املمثلة‬ ‫بسمة من جهة األم)‪ ,‬وشارك معهم في إنشائها أحمد عباس صالح بعد‬ ‫أن ضموه إلى مجموعتهم‪.‬‬ ‫وقد كان هو صاحب االمتياز فيها ورئيسًا للتحرير‪ ,‬لسبب عملي أفصح‬ ‫عنه أحمد صادق سعد لرفعت السعيد‪ ,‬فهو – كما قال – "كان أكثرنا‬ ‫قدرة على الحصول على ترخيص إلصدار مجلة‪ ,‬فقد كان والد زوجته‬ ‫على عالقة ما بوزارة الداخلية‪ّ ،‬‬ ‫وسهل له الحصول على ترخيص بإصدار‬ ‫مجلة (الفجر الجديد) باسمه" وفي هذه املجلة كانت بداية عمله الصحافي‪.‬‬ ‫ومع إعالن عبد الناصر لسياسة امليثاق واتجاهه الكامل لالتحاد السوفيتي‪،‬‬ ‫واإلفراج عن الشيوعيني بعد قبولهم لحل الحزب الشيوعي املصري‪ ،‬وانضمام‬ ‫كوادره لالتحاد االشتراكي أصبح للشيوعيني ولليساريني نفوذ كبير في‬ ‫االتحاد االشتراكي واإلعالم والثقافة واحتدم الصراع بني اليمني واليسار‬ ‫املوالي لثورة يوليو‪ .‬وتمكن الشيوعيون من التنفيس عن غضبهم على البهي‪.‬‬ ‫فالبهي في جزء مما جرى له كان ضحية استقواء الشيوعيني واليساريني‬ ‫على خصومهم في تلك اآلونة الذين ينحون إلى مجابهتهم <‬

‫الثالثي لينني وانجلز وماركس‬

‫‪,,‬‬

‫مدارس الليسية‬ ‫الفرنسية كانت‬ ‫مركزًا للعناصر‬ ‫املعادية‬ ‫للفاشية‪،‬‬ ‫وبني هؤالء‬ ‫وجد مدرسون‬ ‫شيوعيون‪ ,‬لهذا‬ ‫اعتنق بعض‬ ‫أبناء الجاليات‬ ‫األجنبية‬ ‫وبعض أبناء‬ ‫األرستقراطية‬ ‫املصرية‪,‬‬ ‫الشيوعية‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪19‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنه كان يصلي‪ ,‬وملا فرغ من صالته أنبه على ما قاله (روى الباقوري هذه‬ ‫الحكاية مرتني‪ ,‬األولى في حوار لنعم الباز معه‪ ,‬ضمته إلى حوارات أخرى‬ ‫أجرتها معه أصدرتها فيما بعد في كتابها‪ :‬ثائر تحت العمامة‪ .‬واألخرى في‬ ‫سيرته الذاتية‪ :‬بقايا ذكريات)‪.‬‬ ‫لم يكتف عبد الناصر بإقالته من الوزارة‪ ,‬بل حكم عليه بأن يلزم بيته وال‬ ‫يغادره إال لضرورة قصوى‪.‬‬ ‫وبعد خمس سنوات وبضع أشهر عينه مديرًا لجامعة األزهر بعد أن زال‬ ‫غضبه عليه‪ .‬وعزل البهي من منصبه‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫كان الشيخ‬ ‫سعاد جالل‬ ‫وهو من‬ ‫شيوعي‬ ‫األربعينات‬ ‫يلقب بالشيخ‬ ‫األحمر إلى‬ ‫أن زاحم هذا‬ ‫اللقب لقب آخر‬ ‫وهو الشيخ‬ ‫ّ‬ ‫«ستال»‬

‫‪,,‬‬

‫ولم يكن البهي راضيًا عن عزله من منصبه‪ ,‬فهو يريد أن يكمل مشروع‬ ‫إصالح األزهر الذي كان متحمسًا له منذ زمن طويل‪ .‬وقد عارض تعيني‬ ‫الباقوري في هذا املنصب بحجة أكاديمية وإدارية وحجة قانونية‪ ,‬وهو أن‬ ‫الباقوري لم يسبق له أن ّدرس في كلية من كليات األزهر‪ ,‬كما ينص على ذلك‬ ‫القانون رقم ‪ 103‬لسنة ‪1961‬م‪ .‬وقد نشأت خصومة وعداوة بسبب هذا األمر‬ ‫بني الرجلني استمرت معهما إلى وفاتهما‪.‬‬ ‫نلمس هذا في إشارة البهي غير الصحيحة ّ‬ ‫عمن كان وراء تولية الباقوري‬ ‫منصب مدير جامعة األزهر‪ .‬فاملشير عبد الحكيم عامر ذو سمعة رديئة‬ ‫َّ‬ ‫وقل أن تجد من يدافع عنه وليس كعبد الناصر الزعيم الجماهيري املوهوب‬ ‫الذي يختلف القول فيه‪.‬‬ ‫ونلمسه في سيرة الباقوري الذي قال عن نفسه أنه رد الحقوق إلى الذين‬ ‫ظلمهم سلفه البهي‪ .‬وشنع بالبهي أنه وصف الشيخ محمود شلتوت – اإلمام‬ ‫ً‬ ‫األكبر – "بأوصاف نابية ال يرضاها ذو مروءة‪ ,‬فضال عن أن يكون ابنًا‬ ‫للشيخ وصنيعة من صنائعه"‪ .‬راجع دفاع البهي عن نفسه بشأن خالفه مع‬ ‫شيخه شلتوت في كتابه‪( :‬حياتي في األزهر‪ ,‬طالبًا وأستاذًا ووزيرًا)‪.‬‬ ‫ولكره الباقوري للبهي كان في سيرته ال يسميه باسم الشهرة‪ :‬محمد البهي‪,‬‬ ‫وإنما يسميه باسمه العائلي الكامل املجهول عند كثيرين‪ ,‬وهو محمد البهي‬ ‫قرقر‪ ,‬للسخرية من هذا االسم الشعبي في مصر (في أوراق األزهر الرسمية‬ ‫اسمه الكامل محمد محمد عامر البهي)‪.‬‬ ‫يذكر الباقوري في سيرته هذه‪ ,‬أن البهي "لم يستطع أن يباشر مهام منصبه‬ ‫بسبب كثرة الحاقدين عليه‪ ,‬واملعادين له من أساتذة الجامعة ومدرسيها‬ ‫وجميع طالبها"‪.‬‬ ‫الشطر األول مما ذكره الباقوري وهو أن البهي "لم يستطع أن يباشر مهام‬ ‫منصبه" فيه نظر‪.‬‬ ‫يسوء الباقوري أمران‪ ,‬هما‪ :‬أن أول مدير جامعة األزهر كان البهي وليس هو‪.‬‬ ‫وأن قانون إصالح األزهر ارتبط باسم البهي وليس باسمه‪.‬‬ ‫ويكشف هذان األمران اللذان يسوءانه حوار أجراه الصحافي إبراهيم البعثي‬ ‫معه في كتاب له‪ ,‬عنوانه‪( :‬شخصيات إسالمية معاصرة) صدر في سنة‬ ‫‪1972‬م‪ ,‬فهو في هذا الحوار تجاهل تمامًا أن البهي كان مدير جامعة األزهر‬ ‫قبله‪ ,‬وكان على نحو غير مباشر يقدم نفسه بوصفه أول مدير لها‪ .‬وما‬ ‫قدمه على نحو غير مباشر قاله الصحافي الذي حاوره صراحة‪ ,‬إذ قال‪ :‬إن‬ ‫"تعيني أول مدير للجامعة األزهرية – وهو الشيخ الباقوري – لم يتم إال في‬ ‫عام ‪1964‬م"!!‬ ‫أما قانون إصالح األزهر‪ ,‬فهو في هذا الحوار أعلن أنه هو صاحبه أو هو اآلمر‬ ‫به‪ ,‬فقال‪" :‬تقتضي األمانة لله ثم للتاريخ أن أقرر أن التفكير في هذا التطوير‬ ‫بدأ حوالي عام ‪1954‬م بدراسة أعدها برجاء مني أخي الصديق األستاذ خالد‬ ‫محمد خالد‪ .‬وهذه الدراسة ظلت تتعثر حتى عام ‪1961‬م‪ ,‬فصدر القانون بعد‬ ‫مناقشته في مجلس األمة الذي كان برئاسة السديد أنور السادات"‪ .‬ثم يقفز‬

‫‪18‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫في حديثه إلى سنة ‪1964‬م‪ ,‬سنة تعيينه في األزهر‪ ,‬شاطبًا فترة البهي في‬ ‫تنفيذ قانون اإلصالح في األزهر‪ ,‬ومدعيًا أن تنفيذ قانون اإلصالح هو الذي‬ ‫بدأه وهو الذي رعاه وتعهده إلى أن "تخرجت في سنة ‪1969‬م الدفعات األولى‬ ‫من الكليات املعملية من جامعة األزهر ومن كلية البنات‪ ,‬وبهذا يصبح لدينا‬ ‫ألول ّ‬ ‫مرة مهندسون زراعيون وأطباء أزهريون‪ ,‬وكذلك وكالء نيابة من كلية‬ ‫الشريعة والقانون‪ ,‬وهو أمر ما كان يحلم به األزهريون"‪ .‬وسنة ‪1969‬م‪ ,‬هي‬ ‫آخر سنة له في إدارة جامعة األزهر‪.‬‬ ‫إن البهي حينما زاره رضوان السيد وزمالؤه في بيته سنة ‪1966‬م في خضم‬ ‫"النقد العلني لقانون إصالح األزهر والتأييد العلني له من جانب بعض‬ ‫األساتذة واتحاد الطالب"‪ ,‬وسألوه عن هذا القانون كان رده أنه "أنكر أن‬ ‫ً‬ ‫يكون مسؤوال عن وضعه‪ .‬وأما حماسته لتطبيقه‪ ,‬فألنه كان يرى في أكثر‬ ‫مواده خيرًا لألزهر‪ ,‬وإنقاذًا له من النسيان وعدم الفاعلية اللذين وقع فيهما‬ ‫منذ ما قبل قيام الثورة"‪.‬‬ ‫وقال لهم‪" :‬لقد رأيت في القانون الجديد على األخطاء التي فيه‪ ,‬والناجمة‬ ‫عن جهل لدى واضعية من القانونيني بطبيعة تركيبة البنى العليا باألزهر‪,‬‬ ‫ً‬ ‫فرصة ذهبية لبث الحياة في أوصال األزهر‪ ,‬إذ يصبح مؤهال الحتالل‬ ‫موقع محفوظ له في ترشيد التجربة الثورية بمصر بسبب غياب كل‬ ‫املواقع اإلسالمية األخرى تقريبًا (اإلخوان املسلمون‪ ,‬والشبان املسلمون‪,‬‬ ‫والجمعية الشرعية‪ ,‬وأنصار السنة املحمدية)‪ .‬لكن القانون لم يطبق كله‬ ‫بسبب معارضة الشيوعيني التائبني لبعض بنوده من جهة‪ ,‬وبسبب جمود‬ ‫األزهريني وتقليديتهم من جهة ثانية"‪.‬‬ ‫والبهي في سيرته الذاتية‪( :‬حياتي في األزهر‪ :‬طالبًا وأستاذًا ووزيرًا) لم يدع‬ ‫أنه واضع القانون وال أن له دور في خروجه‪ .‬فهو قد اطلع عليه – كما ذكر‬ ‫– بالصدفة في سنة ‪1961‬م‪ ,‬حيث كان في دمشق لحضور ندوة للمجلس‬ ‫األعلى للفنون واآلداب‪ ,‬وكان عضوًا فيها بحكم املنصب الذي يشغله‪ ,‬وهو‬ ‫مدير الثقافة باألزهر‪.‬‬ ‫وفي هذه الندوة التقاه محمد املبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق‪,‬‬ ‫وسأله إن كان اطلع على مشروع القانون الخاص بتطوير األزهر‪ .‬فلما‬ ‫أجابه بأنه لم يطلع عليه‪ .‬ذكر أنه عنده وأنه استلمه من كمال الدين حسني‬ ‫وسيحضره له لالطالع عليه سرًا‪ .‬وبعد أن اطلع عليه في ذات الليلة أعاده له‬ ‫في صباح اليوم التالي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويضيف قائال‪" :‬لم أسأل بحكم وظيفتي وال بصفتي الشخصية عن الرأي‬ ‫في تطوير األزهر‪ .‬وإنما سألني املرحوم األستاذ محمد سعيد العريان عن‬ ‫مفهوم الثقافة والبحوث في اإلدارة العامة للثقافة‪ .‬ولم يشر في سؤاله إلى أي‬ ‫شيء يتعلق بقانون تطوير األزهر"‪.‬‬ ‫األديب محمد سعيد العريان كان وقتها معارًا من وزارة املعارف إلى جامع‬ ‫األزهر بوظيفة وكيل له‪ ,‬وهو الذي صاغ قانون تطوير األزهر الذي طرح في‬ ‫مجلس األمة ملناقشته‪ .‬واختار شيخ األزهر محمود شلتوت محمد البهي‬ ‫والشيخ محمد نور الحسن وكيل األزهر ليمثالنه في شرح قانون تطوير‬ ‫األزهر‪ .‬والبهي – كما يذكر ذلك عبد الله إمام – هو الذي تحدث نيابة عن‬ ‫اإلمام األكبر في مجلس األمة مدافعًا عن قانون تطوير األزهر‪ .‬وبعد أيام‬ ‫صدر قرار جمهوري بتعيينه مديرًا لجامعة األزهر‪.‬‬ ‫فالبهي هو الذي قام على تنفيذ قانون تطوير األزهر من سنة ‪1961‬م إلى‬ ‫سنة ‪1964‬م‪ ,‬إذ إنه خالل هذه السنوات التي عني فيها في منصب وزارة‬ ‫األوقاف وشؤون األزهر‪ ,‬ظل محتفظًا بوظيفته مديرًا لجامعة األزهر التي‬ ‫عاد إليها مرة أخرى‪.‬‬ ‫أما الشطر األخير من جملة الباقوري‪ ,‬إذا ما أخذناه بوصفه تقييمًا وليس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تعليال‪ ,‬فهو صحيح‪ .‬إذ كان هناك – فعال – كثرة من الحاقدين على البهي‬


‫ويعزز من هذا االستنتاج الشهادة التي قدمها رضوان السيد عن تلك الفترة‬ ‫في ذكرياته املصرية‪ .‬ففي تلك الفترة كان رضوان طالبًا في كلية أصول‬ ‫الدين بجامعة األزهر‪.‬‬

‫الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب اإلسالم ووسائلهم" الذي يتلقاه‬ ‫أعضاء التنظيم الذي قاده‪ ,‬خص البهي بملحوظة دون سواه‪ ,‬هي الفصل بينه‬ ‫وبني كتابه‪ ,‬منبهًا إياهم إن العبرة بالكتاب ال بالكاتب‪.‬‬

‫يحدثنا رضوان أنه في سنة ‪1966‬م‪ ,‬زار هو وزمالء له محمد البهي في بيته‪,‬‬ ‫ويقول عن هذه الزيارة‪" :‬بدأنا معه بقراءة كتابه املشهور‪( :‬الفكر اإلسالمي‬ ‫الحديث وصلته باالستعمار الغربي)‪ .‬وقد قلت له إن ما لفت انتباهي في‬ ‫الكتاب مشابهته ألفكار اإلخوان املسلمني في مسألة األفكار املستوردة رغم‬ ‫غياب فكرتي الحاكمية وضرورة تغيير السلطة بالقوة‪ .‬فانفعل شأنه في‬ ‫ذلك شأن كل األزهريني القدامى الذي ال ينسون صراعاتهم مع اإلخوان في‬ ‫األربعينيات‪ ,‬وقال أن سيد قطب أخذ الفكرة عنه‪ ,‬ووصل بها إلى نتائج‬ ‫متطرفة‪ .‬ثم ّ‬ ‫كرر على مسامعنا أنثروبلوجيا العقاد لحسن البنا التي تستند‬ ‫إلى شكل جمجمته‪ ,‬ومهنة أسرته املتوارثة (ساعاتية) للوصول إلى أن الرجل‬ ‫يهودي األصل!!"‪ .‬راجع مقال رضوان السيد‪ :‬السلفية والهزيمة‪ :‬ذكريات‬ ‫مصرية‪ ,‬في كتابه (اإلسالم املعاصر‪ :‬نظرات في الحاضر واملستقبل)‪.‬‬

‫البهي بعد عزله من منصب مدير جامعة األزهر‪ ,‬وإحالته للتقاعد‪ ,‬ووضعه‬ ‫تحت الرقابة‪ ,‬وامتحان الشيوعيني ويساريي االتحاد االشتراكي له منذ مطلع‬ ‫الستينيات إلى وفاة عبد الناصر‪ ,‬وامتحان عبد الحكيم عامر له في مسكنه‬ ‫الخاص‪ ,‬وقبلها امتحان املجلس األعلى للشؤون اإلسالمية (تابع لوزارة‬ ‫األوقاف لكن سلطة سكرتيرة املساعد‪ ,‬املالزم ثان محمد توفيق عويضة‬ ‫توازي سلطة وزير األوقاف أو تتفوق عليها ألن هذا املجلس في األساس‬ ‫جهاز استخباراتي ودعائي‪ ,‬وباإلضافة إلى هذا كان عويضة مسنودًا من‬ ‫سامي شرف وعلي صبري) له حني كان وزيرًا لألوقاف وشؤون األزهر‪،‬‬ ‫وحني عاد مجددًا إلى منصبه السابق مدير جامعة األزهر‪ ,‬أقول بعد هذا كله‬ ‫حنق على جمال عبد الناصر وعلى الثورة وعلى العسكر‪.‬‬

‫الوقفة الثانية‪ :‬في الحديث الذي جرى بينه وبني املشير عبد الحكيم عامر‬ ‫عندما سأله األخير عن رأيه في محاكمة اإلخوان املسلمني (املقصود بها‬ ‫محاكمة تنظيم ‪1965‬م) أوحى أنه مناصر لإلخوان املسلمني‪ ،‬وادعى أنه‬ ‫معجب بكتاب سيد قطب (معالم في الطريق) إلى الحد الذي سجل فيه موقفًا‬ ‫شجاعًا‪ ,‬فتمنى لو أنه هو الذي كتبه! فهاج املشير وماج ووقف من جلوس‪,‬‬ ‫مستنكرًا ما قاله‪ :‬فلم يعبأ باستنكاره ورد عليه‪ :‬بأن هذا الكتاب يصدر‬ ‫عن القرآن!‬ ‫وما عرفناه من رضوان السيد أنه في تلك الفترة كان له موقف بالغ التطرف‬ ‫من اإلخوان املسلمني وزعيمهم الشيخ حسن البنا‪ ,‬وأنه يستنكف أن يوضع‬ ‫سيد قطب في مصافه‪ .‬فهو ال يشابه سيد قطب‪ ,‬وإنما سيد قطب أخذ بعض‬ ‫أفكاره ودفع بها خالصات متطرفة!‬ ‫ثم إن السياق العام (محاكمة سياسية لسيد قطب ورفاقه بتهمة التآمر على‬ ‫الحكم‪ ,‬بتنفيذ اغتياالت سياسية وتخريب منشآت كبرى‪ ,‬إشراف عبد‬ ‫الحكيم عامر على متابعة قضية التنظيم‪ ,‬وكون كتاب (معالم في الطريق)‬ ‫من أدلة اإلدانة بأنه مرشد وموجه لتنظيم انقالبي سري)‪ ,‬والسياق الخاص‬ ‫(غضب جمال عبد الناصر عليه لسبب غير معروف‪ ,‬ومنازعة عبد الحكيم‬ ‫عامر له على سكنه الخاص‪ ,‬والوشاية واالستعداء الشيوعي على كتابه‬ ‫ّ‬ ‫أنصدق دعوى التمنى واملجاهرة بأن رأي‬ ‫وعلى شخصه)‪ ,‬يمليان علينا أال‬ ‫سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) هو رأي القرآن!‬ ‫األقرب واألصح – استنادًا إلى كل املعطيات التي سردتها – أنه قال في‬ ‫حضرة املشير عبد الحكيم عامر كالمًا غير هذا الكالم املزعوم‪.‬‬ ‫ما الذي دعا البهي أن يوحي بموقف من اإلخوان املسلمني هو خالف موقفه‬ ‫الحقيقي منهم في تلك الفترة؟ وما الذي دعاه أن يدعي أنه تمنى لو كان هو‬ ‫الذي كتب (معالم في الطريق)‪ ,‬ويدعي أيضًا أن ما جاء في هذا الكتاب هو‬ ‫رأي القرآن؟‬

‫سأبني عن البواعث بالكالم اآلتي‪:‬‬ ‫يأخذ اإلخوان املسلمون على البهي في فترة الستينات توليه تنفيذ قانون‬ ‫اإلصالح في األزهر‪ ,‬وتوزره‪ ,‬والدعوة لالشتراكية العربية من منطلق‬ ‫إسالمي حينما اتجه عبد الناصر إلى تطبيق االشتراكية سنة ‪1961‬م‪.‬‬ ‫ويشارك سيد قطب املؤسس الثاني للعقيدة والفكر اإلخواني اإلخوان‬ ‫املسلمني في مآخذهم الثالثة عليه‪ ,‬رغم تقديره الكبير لكتابه "الفكر‬ ‫اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي"‪ .‬لذا نجده في الكتب التي‬ ‫اعتمدها في املنهج الدراسي الخاص بما أسماه بـ"الدراية واملعرفة باملخططات‬

‫وبما أن االشتراكية العربية التي دعا لها من منطلق إسالمي لم تكن عن‬ ‫قناعة‪ ,‬وإنما أملى عليه تبنيهما منصبيه الحكوميني‪ .‬سهل عليه التخلص‬ ‫من هذا اإلرث‪ ,‬فحذف – كما تخبرنا بذلك الصحافية املصرية أمل خيري –‬ ‫"الكثير مما كتبه عنها من كثير من كتبه"؟‪ .‬وفي غمرة إعادته طباعة كتبه‬ ‫في السبعينيات حرص أن يخفى عن أعني قرائه كتابه الدعوي لالشتراكية‬ ‫العربية‪( :‬الفرد واملجتمع في امليثاق) الذي هتف في خاتمة أسطره بـ"عاش‬ ‫الرئيس جمال عبد الناصر ‪ . .‬وعاش األزهر مصدر الدعوة والثورة"!‪.‬‬ ‫وألن خالف اإلخوان املسلمني معه هو خالف سياسي وليس خالفًا فقهيًا‬ ‫وال ثقافيًا وال أيديولوجيًا‪ ,‬فهم يرجعون إلى كتبه منذ الخمسينيات‬ ‫والستينيات‪ ,‬روجوا لكتبه التي أعاد طباعتها مع انتعاش فكر اإلخوان‬ ‫املسلمني في السبعينيات وصعوده في أول الثمانينيات‪ .‬ففي ظل هذا‬ ‫املناخ الذي راجت فيها كتبه وكتيباته بعد سنوات من التضيق عليها‪ ,‬قال‬ ‫ذلك الكالم املزعوم لرد الجميل لإلخوان املسلمني الذين أفادوا كتبه تجاريًا‬ ‫واستفادوا منها أكاديميًا ودعويًا واستفادوا من اسمه العلمي الرصني‪.‬‬

‫العداوة بني السلف والخلف‪ :‬البهي والباقوري‬ ‫أشار البهي بمناسبة سؤال املشير عبد الحكيم عامر له عن رأيه في الشيخ‬ ‫أحمد حسن الباقوري‪ ,‬أنه عرف من سؤاله وحديثه‪ ,‬مدى ارتباطه بشخص‬ ‫الباقوري‪ ,‬وكان يريد من هذه اإلشارة القول بأن الذي كان وراء تعيني‬ ‫الباقوري خلفًا له في جامعة األزهر هو عبدالحكيم عامر وليس جمال عبد‬ ‫الناصر‪ ،‬وقد قال ذلك – على نحو مباشر – في موضع آخر في سيرته‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫نتيجة لتركيز‬ ‫هنري كورييل‬ ‫على استقطاب‬ ‫األزهريني‬ ‫أنشأ في‬ ‫حركته‬ ‫الشيوعية‬ ‫قسمًا اسمه‬ ‫لجنة قسم‬ ‫األزهر‬ ‫وجمعية‬ ‫اسمها جمعية‬ ‫الدعاية للحج‬

‫‪,,‬‬

‫إنه من املعروف أن الباقوري – أول وزير أوقاف في عهد الثورة – كانت له‬ ‫صلة شخصية قوية بعبد الناصر‪ ،‬وأنه أقاله من الوزارة في ‪ 13‬فبراير سنة‬ ‫‪1959‬م‪ ,‬لسبب يتعلق بشرفه الشخصي‪.‬‬ ‫فالباقوري كان من ضمن الذين يحضرون ندوة العالمة محمود محمد‬ ‫شاكر‪ ,‬وذات يوم في أحد اجتماعات الندوة اتصل األديب يحيى حقي‬ ‫بمحمود شاكر – وهو صديقه ومن أعضاء الندوة – بالتلفون‪ ,‬وكان يشكو‬ ‫إليه نقله إلى عمل ال يناسبه‪ .‬فقال محمود محمد شاكر‪ :‬ما حيلتي يا أخ‬ ‫يحيى في هؤالء العساكر الذين يحكمون البلد‪ ,‬وعلى رأسهم جمال عبد‬ ‫الناصر ‪ ...‬وشتمه في أمه شتيمة بذيئة‪ .‬وحينما استنكر يحيى حقي هذا‬ ‫األسلوب منه‪ ,‬قال له‪" :‬جبان وخائف من عبد الناصر ‪ ...‬الشيخ الباقوري‬ ‫جنبي أهو سامع الكالم"‪ .‬تلفون محمود محمد شاكر كان مراقبًا‪ ,‬كذلك كان‬ ‫ً‬ ‫كل ما يدور من أحاديث في الندوة مسجال عن طريق أحد رجال املخابرات‬ ‫الذي يسكن في العمارة نفسها التي يسكن فيها محمود محمد شاكر‪.‬‬ ‫وكانت األحاديث ال تخلو من انتقاد للثورة ولرجاالتها‪ .‬اعتذر الباقوري‬ ‫لعبد الناصر عندما أسمعه تسجيل ما قاله محمود محمد شاكر بحق أمه‪,‬‬

‫هنري كورييل‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪17‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫هذه املناقشة وثيقة الصلة بكتابة تقرير عن كتابه (الفكر اإلسالمي الحديث‬ ‫وصلته باالستعمار الغربي) الذي كلف محمود أمني العالم أحد املشايخ‬ ‫املوظفني في وزارة الثقافة بإعداده‪ .‬وما قاله البهي عن مضمون التقرير‪ ،‬وما‬ ‫ذكر أنه قاله في املناقشة هو غير دقيق‪ .‬ولنبدأ في وقفتنا مع ما قاله عن‬ ‫مضمون التقرير‪.‬‬

‫محمود أمني العالم‬

‫‪,,‬‬

‫للموافقة على‬ ‫طباعة كتاب‬ ‫(الفكر اإلسالمي‬ ‫الحديث ‪)...‬‬ ‫طبعة ثالثة‬ ‫طلب محمود‬ ‫أمني العالم من‬ ‫البهي أن يحذف‬ ‫من الكتاب‬ ‫الفصول الخاصة‬ ‫بالشيوعية‪.‬‬ ‫وملا رفض كلف‬ ‫شيخًا بكتابة‬ ‫تقرير ضده‬ ‫فمنع طبعه‬

‫‪,,‬‬

‫‪16‬‬

‫الوقت الدكتور سليمان ّ‬ ‫حزين‪ ,‬ولم يستطع مع تغلغل الشيوعية في وزارته‬ ‫أن ينصف الكتاب‪ ,‬وال أن ينفذ العقد‪ .‬وبقي الكتاب تحت الرقابة إلى أن طبع‬ ‫في بيروت سنة ‪."1969‬‬ ‫املحنة األخرى‪ :‬يلخص هذه املحنة التي استمرت إلى سنة وفاته الكاتب‬ ‫الناصري عبد الله إمام بأسطر قليلة في كتابه (حياتي في الصحافة)‪ ,‬وهو‬ ‫الذي كان يعرفه عن قرب‪ ,‬حيث كانت تربطه صلة صحافية به‪ .‬يلخص‬ ‫املحنة بقوله‪" :‬كان الدكتور البهي قد انتقل قبل الوزارة من بيته في العباسية‬ ‫في يناير ‪1963‬م إلى فيال بجوار فندق البارون أمبان بمصر الجديدة‬ ‫(خانت عبد الله إمام الذاكرة في هذه املعلومة‪ ,‬فهو قد عني وزيرًا في التاسع‬ ‫والعشرين من سبتمبر سنة ‪1962‬م‪ ,‬وانتقل في سكناه إلى هذه الفيال بعد‬ ‫ثالثة أشهر من تعيينه وزيرًا) بإيجار سبعة وأربعني جنيهًا وعرض عليه‬ ‫صاحبها سعيد العطار أن يشتريها تسعة آالف جنيه‪ ,‬ولكنه لم يتمكن من‬ ‫تدبير املبلغ‪ ,‬وقد بيعت الفيال بعد ذلك باسم سيدة إسماعيل فراج وهي والدة‬ ‫السيدة نفيسة عبد الحميد حواس الشهيرة ببرلنتي عبد الحميد‪ ,‬وقد أنذرته‬ ‫بإخالء الفيال لكي تسكنها ‪ ...‬والحقيقة أن املشير عبد الحكيم عامر كان قد‬ ‫اشترى الفيال للسيدة برلنتي عبد الحميد لتكون إلى جوار القيادة املشتركة‬ ‫حيث كان مكتبه‪ .‬وحدثت تداعيات كثيرة بسبب هذه الفيال‪ ,‬رواها في كتاب‬ ‫منشور كان يوزعه مجانًا كما رواها بالتفصيل في مذكراته‪ .‬وقد تعرضت‬ ‫إلى جانب منها في كتابي (عامر وبرلنتي)"‪.‬‬ ‫تعرض البهي في بداية هذه املحنة لكذب واحتيال كي يجبر بطريقة قانونية‬ ‫على إخالء الفيال ثم إلى إغراء بمنصب وزاري من قبل عبد الحكيم عامر‬ ‫وإغراء مالي وتوفير فيال بالقاهرة‪ ,‬وأخرى باألسكندرية من شركة التأمني‬ ‫من قبل مدير مكتبه علي شفيق زوج الفنانة مها صبري‪ ,‬وملا رفض‬ ‫إغراءاتهما مقابل تخليه عن الفيال هدداه باإليذاء‪ .‬يهمنا من هذه املحنة‬ ‫مناقشة حصلت بينه وبني عبد الحكيم عامر‪ ,‬رواها وهو يفصل مجريات‬ ‫هذه املحنة‪ .‬يقول البهي‪" :‬سألني عن الرأي في الشيخ أحمد الباقوري وفي‬ ‫محاكمة اإلخوان املسلمني‪ ,‬وفي كتاب (معالم في الطريق) للمرحوم سيد‬ ‫قطب‪ .‬فعرفت من سؤاله وحديثه‪ :‬مدى ارتباطه بشخص الشيخ أحمد‬ ‫الباقوري ومدى كراهيته لإلخوان وللمرحوم سيد قطب بالخصوص‪ .‬ولذا‬ ‫عندما أجبته عن تقييمي لكتاب (معالم في الطريق)‪ :‬بأني كنت أتمنى أنا‬ ‫(كذا) الذي كتبته‪ ,‬هاج ووقف من جلوس‪ .‬وقال‪ :‬كيف تقول ذلك والصحافة‬ ‫كلها نددت به؟ قلت له‪ :‬إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى‪ .‬وما‬ ‫تقوله الصحافة عنه شيء سياسي ال دخل له إطالقًا في تقييمه‪ ,‬وانصرفت"‪.‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫الوقفة األولى‪ :‬قال عن مضمون التقرير في كتابه‪ :‬إن كاتبه "كتب أنه الكتاب‬ ‫تعرض لبعض أفكار "الجمعية املنحلة"‪ ,‬وهي جمعية اإلخوان املسلمني‪ .‬وفي‬ ‫مقدمة هذه األفكار أن اإلسالم دين ودولة"‪ .‬إن قوله هذا يخفي أكثر مما‬ ‫يظهر‪ .‬فماذا يقصد بهذه الجملة‪" :‬تعرض لبعض أفكار الجمعية املنحلة؟"‬ ‫هل تعرض هنا بمعنى الشرح واإلبانة أم بمعنى التصدي واملجابهة؟!‬ ‫وملاذا اقتصر هذا التعرض – بصرف النظر عن غموض هذه الجملة – على‬ ‫"بعض" أفكار الجمعية املنحلة ولم يشملها "كلها"‪ ,‬مادام أن التقرير أعد‬ ‫أساسًا لالنتقام من موقفه املعادي للشيوعية؟! كما أن القول بأن اإلسالم‬ ‫دين ودولة معتقد ال يقتصر على الجمعية املنحلة أو اإلخوان املسلمني‪ ,‬فهو‬ ‫معتقد عام يقول به كثيرون منذ فجر اإلسالم الحديث‪ ،‬ويقول به مشايخ‬ ‫ومفكرون إسالميون موالون لجمال عبد الناصر‪ ,‬ويقول به آخرون من‬ ‫الفعاليات الحركية الدينية في االتحاد االشتراكي الذين بعضهم كانوا من‬ ‫اإلخوان املسلمني التائبني‪ .‬ولو قال البهي بعكس هذا‪ ,‬أي أن اإلسالم دين ال‬ ‫دولة‪ ,‬ملا كان تولى منصب مدير الثقافة في األزهر‪ ،‬وال منصب مدير جامعة‬ ‫األزهر‪ ،‬وال منصب وزير األوقاف وشؤون األزهر‪ .‬والبهي بحكم اطالعه على‬ ‫أدبيات املستشرقني كان يعرف جيدًا أن كثرة منهم تقرر أن اإلسالم ليس‬ ‫مجرد دين‪ ,‬وإنما هو دين ودولة‪.‬‬ ‫إن ما أخفاه هو أن التقرير الذي أعده شيخ بتكليف من املاركسي محمود‬ ‫ُ‬ ‫أمني العالم بسنة ‪1966‬م على أساس أن "العصا من ُالع ّ‬ ‫صية وأن خشينًا‬ ‫من أخشن" أو بتعبير آخر أن كتاب سيد قطب هو الفرع وكتابه هو األصل‪.‬‬ ‫هذا التقرير العدواني كتب في وقت حرج وسيئ‪ .‬فهو قد كتب قبل فترة‬ ‫قصيرة من بدء محاكمة سيد قطب واملجموعة التي قادها في تنظيم ‪1965‬م‬ ‫لقلب نظام الحكم في مصر‪ .‬وكان كتاب محمد البهي (الفكر اإلسالمي‬ ‫الحديث وصلته باالستعمار الغربي) من ضمن كتب معدودة وضعها سيد‬ ‫قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا ألفراد التنظيم في خانة ما أسماه بـ"الدراية‬ ‫واملعرفة باملخططات الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب اإلسالم‬ ‫ووسائلهم"‪ .‬والبد أن بعض أعضاء التنظيم حني القبض عليهم اعترف بهذا‬ ‫األمر‪ ,‬وبخاصة على عشماوي‪.‬‬ ‫وهذا التقرير قد اطلع عليه املشير عبد الحكيم عامر لسبب شخصي‪ ,‬وآخر‬ ‫رسمي‪.‬‬ ‫السبب الشخصي هو الستخدامه في الضغط على البهي من أجل أن يوافق‬ ‫على إخالء الفيال‪ ,‬لتسكن فيها زوجته السرية الفنانة برلنتي عبد الحميد‪.‬‬ ‫والسبب الرسمي أن مضمون التقرير يلحم كتاب (الفكر اإلسالمي الحديث‬ ‫وصلته باالستعمار الغربي) بكتاب سيد قطب (معالم في الطريق)‪ .‬وكان‬ ‫الرجل املكلف بمتابعة قضية تنظيم ‪1965‬م والتحقيق معهم هو شمس‬ ‫بدران الذي هو من أقرب أتباعه إليه‪ .‬وقد أفصح هو في رده على رسالة كمال‬ ‫الدين حسني الذي احتج فيها على اعتقال سيد قطب واتهامه في اإلعالم‬ ‫بقيادة مؤامرة على الثورة‪ ,‬بأنه تابع التحقيق في قضية التنظيم "خطوة‬ ‫خطوة ‪ ...‬وأن املؤامرة فيها أكثر مما نشر حتى اآلن "‪.‬‬ ‫إن جملة البهي الغامضة عن مضمون التقرير التي قال فيها أن كاتب التقرير‬ ‫كتب أن كتابه تعرض لبعض أفكار الجمعية املنحلة‪ ,‬تجعلنا نستنتج أن‬ ‫املقصود ببعض أفكار الجمعية املنحلة‪ ,‬أفكار سيد قطب في كتابه (معالم‬ ‫في الطريق) الذي كان هو املنت األساس في عقيدة التنظيم الذي قاده‪.‬‬


‫وله اجتهادات فقهية "تقدمية" يطرب اليساريون ويضيق بها زمالؤه من‬ ‫املشايخ والفقهاء‪.‬‬ ‫هذا الشيخ ظل طيلة حياته يساريًا‪ ،‬وكان يلقب بالشيخ األحمر إلى أن زاحم‬ ‫ّ‬ ‫هذا اللقب لقب آخر ‪ ,‬وهو" الشيخ ستال" بسبب فتوى له أجاز فيها شرب‬ ‫البيرة ألنه كان يستطعم شربها في خلواته مع أصدقائه من الصحافيني‬ ‫واملثقفني اليساريني‪ .‬وكانت مصر وقتها ال تصنع سوى بيرة واحدة‪ ,‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫"بيرة ستال" ‪ ,‬فإن قيل بيرة عند املصريني انصرف الذهن إلى نوعها الوطني‬ ‫ّ‬ ‫الذي يحمل اسم "ستال"‪.‬‬ ‫وفي تقرير للسفارة األمريكية في القاهرة في األربعينيات أورده رفعت‬ ‫السعيد في كتابه (تاريخ املنظمات اليسارية املصرية) ذكر فيه أن الشيخ عبد‬ ‫الرحمن حسن داعية شيوعي نشط‪ ،‬ومثابر في كلية اللغة العربية باألزهر‪.‬‬

‫هذه الحكاية تتناقض تمامًا مع ما رواه عنه عبده دهب‪ .‬فاتهامه الكيدي‬ ‫بأنه عميل لألملان يبعد عنه االتهام بامليل للشيوعية أو لليسار‪ .‬فالشيوعية‬ ‫عدوة للنازية‪ ،‬والنازية عدوة الشيوعية‪ .‬لكن هذه الحكاية التي رواها يعتورها‬ ‫خلالن‪ ,‬هما‪:‬‬ ‫الخلل األول‪ :‬هو أن املعجب بكاتب يحرص على أن ّ‬ ‫يعرف الكاتب باسمه‬ ‫وكذلك الكاتب فهو يحرص على أن يتعرف على اسم املعجب‪ ,‬والبهي يزعم‬ ‫أن وكيل النيابة اكتفى بالتعريف بنفسه من خالل صفته الرسمية‪ ,‬وأنه لم‬ ‫يسأله عن اسمه‪ ,‬مع أن اللقاء تم في منزله! الخلل اآلخر‪ :‬أنه قبل أن يروي‬ ‫حكايته أومأ إلى األزمة االقتصادية التي كانت تعانيها مصر في األربعينات‬ ‫من حيث "القصور في الغذاء والكساء ‪ ..‬فجنود الحلفاء بلغوا عشرات اآلالف‬ ‫بمصر‪ .‬وكان على مصر أن تمد هؤالء الجنود بكل ما يحتاجون حتى ببنات‬ ‫الترفيه الالتي كن يشحن في القوافل"‪.‬‬

‫ويجب علينا أن ننبه أن عددًا من هؤالء األزهريني وآخرين غير أزهريني لم‬ ‫تكن شيوعتهم شيوعية محضة‪ ,‬فهم كانوا يؤمنون بالشيوعية في جانبها‬ ‫السياسي وجانبها االجتماعي – االقتصادي ويرفضون اإليمان بالفكر‬ ‫املادي فيها‪ .‬يقول هنري كورييل لرفعت السيد عن أحد هؤالء وهو غير‬ ‫أزهري مفسرًا سبب انشقاقه عن حركة حدتو‪ :‬إن عبدالفتاح الشرقاوي كان‬ ‫يفهم الشيوعية فهمًا إسالميًا صرفًا!‬

‫هذه اإليماءة التمهيدية لرواية الحكاية تتناسب واتهام كيدي بالشيوعية وال‬ ‫تتناسب واتهام كيدي بالتأثر بالنازية‪ .‬فالتأثر بالنازية في مصر لم يكن‬ ‫سببه اجتماعي – اقتصادي وإنما كانت له أسباب ثالثة هي‪ :‬بغضًا في‬ ‫املحتل اإلنكليزي‪ ,‬ورفضًا لفساد التجربة السياسية البرملانية‪ ,‬وتجاوبًا مع‬ ‫األزمة الكبرى التي واجهتها الليبرالية والديمقراطية في أوربا‪ .‬أي أن األسباب‬ ‫– في املحل األول ‪-‬هي أسباب سياسية وفكرية محضة‪.‬‬

‫إجابة عن السؤال الذي يحمله عنوان املقال‪ ,‬أقول‪ :‬ال توجد فيما كتبه جيل‬ ‫بيرو ورفعت السعيد عن مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية إشارة إلى‬ ‫اسم محمد البهي‪ .‬ففي محضر نقاش رفعت السعيد مع هنري كورييل‪ ,‬لم‬ ‫يذكر األخير اسمه‪ .‬لكن هذا ال ينفي أنه ممن تلقوا كورسًا في الشيوعية‬ ‫في مدرسة الكادر‪ ,‬فالذين تلقوا فيها كورسًا يبلغ عددهم خمسة وعشرين‬ ‫متدرجًا لم يستطع هنري كورييل تذكر سوى أسماء قليلة منهم‪ ,‬مع أنه كان‬ ‫ينبغي له أن يتذكره لتميزه عند بقية زمالئه في مدرسة الكادر بأنه حاصل‬ ‫على الدكتوراه ويتحدث اللغة األملانية واللغة اإلنجليزية‪.‬‬

‫إننا إن افترضنا صحة ما قاله عبده دهب‪ ,‬يكون البهي أجرى على حكايته‬ ‫تعديالت هي‪:‬‬

‫والالفت للنظر أن عبده دهب الذي ذكر ألحمد سليمان أن البهي كان ممن‬ ‫يحضرون مدرسة الكادر لم يذكر لرفعت هذه املعلومة‪ ,‬رغم أنه كان أحد‬ ‫مصادر األخير الشفاهية في تاريخ الحركة الشيوعية في مصر‪.‬‬ ‫هذه املعلومة التي انفرد بها أحمد سليمان تحتاج من املعنيني بتاريخ الحركة‬ ‫الشيوعية في مصر – ورفعت السعيد أبرزهم – إلى بحث وتدقيق إما يثبتها‬ ‫وإما ينفيها‪.‬‬ ‫ثمة حكاية في سيرة محمد البهي (حياتي في رحاب األزهر‪ :‬طالبًا وأستاذًا‬ ‫أو وزيرًا) – التي نشرتها مكتبة وهبة بعد وفاته – تحتاج إلى وقفة‪.‬‬

‫ غير في تاريخ حصول الحكاية فجعله في سنة ‪ 1944‬وليس في سنة‬‫‪ ,1943‬سنة تردده على مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية‪.‬‬ ‫ أن بينه وبني وكيل النيابة معرفة مسبقة أو صلة شخصية‪ ,‬فحذره من‬‫التردد عليها‪ ,‬انطالقًا من تقارير وصلت إليه مذكور فيها اسمه‪.‬‬ ‫ أن االتهام له كان اتهامًا بالشيوعية‪ ,‬وليس بالعمالة لألملان‪.‬‬‫هذه الحكاية وبهذه الصورة املفترضة ربما تعزز ما قاله عبده دهب عن‬ ‫محمد البهي مع إقراري بأنها دليل ضعيف وواه‪.‬‬ ‫محنته مع محمود أمني العالم ومع برلنتي عبدالحميد‬

‫لم تكن في‬ ‫مصر وال بقية‬ ‫البالد العربية‬ ‫«إذا استثنينا‬ ‫السعودية»‬ ‫فوبيا الشيوعية‬ ‫فهذا الفوبيا‬ ‫انتقلت إلى‬ ‫العالم العربي‬ ‫من أميركا‬ ‫في أواخر‬ ‫السبعينات‬ ‫وتضخمت‬ ‫في سنوات‬ ‫الثمانينات‬

‫‪,,‬‬

‫تعرض محمد البهي بعد عزله من منصبه األخير (مدير جامعة األزهر) في‬ ‫سنة ‪ ,1964‬ووضعه تحت الرقابة في منزله ملحنتني‪ ،‬األولى سببها املاركسي‬ ‫محمود أمني العالم‪ ،‬واألخرى سببها عبد الحكيم عامر ‪ .‬وكلتا املحنتني‬ ‫وقعتا في سنة واحدة‪ ,‬هي سنة ‪.1966‬‬

‫الحكاية هي‪ :‬أنه في سنة ‪ 1944‬بعد والدة ابنته الوحيدة نادية زاره في بيته‬ ‫في العباسية الشرقية (العنوان نفسه الذي ذكره عبده دهب) وكيل نيابة‬ ‫قسم الوايلي‪.‬‬

‫املحنة األولى‪ :‬تتعلق بكتابه الشهير (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته‬ ‫باالستعمار الغربي) الذي صدرت طبعته األولى سنة ‪ 1957‬والذي كان إلى‬ ‫سنة املحنة أعيد طبعه مرتني‪.‬‬

‫وكان ال يعرفه فعرفه بنفسه‪ .‬وذكر له أنه يعرفه من كتاباته في مجلة‬ ‫"الرسالة" والتي ابتدأ الكتابة فيها وهو في جامعة "هامبورج" سنة ‪.1934‬‬ ‫ثم أطلعه على شكوى من مجهول ضده يبلغ إدارة األمن العام‪ :‬أنه من عمالء‬ ‫أملانيا عدوة الحلفاء في الحرب العاملية الثانية‪ ,‬وأنه خطر على األمن ضد‬ ‫جنود الحلفاء ويطلب اعتقاله‪.‬‬

‫املحنة هي – كما رواها في سيرته – " أنه في شهر يناير في سنة ‪ ,1966‬نقل‬ ‫إليه الدكتور توفيق شاهني أنه علم أن كتابه (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته‬ ‫باالستعمار الغربي) رصت حروفه بمطبعة مصر‪ ,‬ثم جمد‪ .‬ألن محمود‬ ‫أمني العالم‪ ,‬تولى إدارة هيئة الكتاب التي ضمت فيما ضمته إليها‪ :‬الدار‬ ‫القومية التي تعاقد معها على طبع الكتاب‪ ,‬وأبلغه رسالة منها شفوية تفيد‪:‬‬ ‫أنه على استعداد لزيادة املبلغ املتعاقد عليه من ألف ومئتي جنيه مصري‬ ‫إلى ألفني من الجنيهات‪ ,‬ولكن على شرط أن يحذف من الكتاب الفصول‬ ‫الخاصة بالشيوعية‪ .‬فرفض هذا العرض‪ .‬وكان رد العالم أن كلف أحد‬ ‫املشايخ املوظفني في وزارة الثقافة بكتابة تقرير ضد الكتاب‪ .‬فكتب أن الكتاب‬ ‫تعرض لبعض أفكار "الجمعية املنحلة" وهي جمعية اإلخوان املسلمني‪ .‬وفي‬ ‫مقدمة هذه األفكار أن اإلسالم دين ودولة‪ .‬وكان على وزارة الثقافة في ذلك‬

‫واستنتج وكيل النيابة أن هذا املجهول ربما يكون طالبًا‪ .‬وأخيرًا ذكر‪ :‬أنه تأكد‬ ‫أن هذه الشكوى كيدية‪ ,‬وأنه من أجل ذلك قرر حفظها‪ ,‬ورأى أن ال يزعجه إذا‬ ‫ما طلبه إلى مكتبه فآثر أن يزوره ويطلعه عليها‪ ,‬تقديرًا لكتاباته التي عرفه‬ ‫عن طريقها‪ ,‬فشكر له فضله وانصرف‪ .‬يختم البهي حكايته هذه بالقول‪:‬‬ ‫الغريب أني لم أعرف اسمه‪ ,‬ولم أسأله عنه وقت زيارتي!‬

‫‪,,‬‬

‫عبد الحكيم‬ ‫عامر‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪15‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫الكوادر الشيوعية باملنصورية بشهر تشرين األول سنة ‪ ,1943‬ويحدد عدد‬ ‫الدارسني فيها بعشرين شخصًا بينما رفعت السعيد حدد تاريخ اإلنشاء‬ ‫بأنه كان في شهر يناير من ذلك العام‪ ,‬وحدد عدد الدارسني بأنهم كانوا‬ ‫خمسة وعشرين شخصًا‪ .‬ولقد أخذت بما قاله رفعت السعيد ألنه استقى‬ ‫هاتني املعلومتني من هنري كورييل‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫اقترح الشيخ‬ ‫أبو الحسن‬ ‫الغنيمي‬ ‫اختصار اسم‬ ‫الحركة املصرية‬ ‫للتحرر‬ ‫الوطني إلى‬ ‫(ح‪.‬م) وسعد‬ ‫بذلك هنري‬ ‫كورييل وقال‪:‬‬ ‫هذا مدعاة‬ ‫لجذب املسلمني‬ ‫إلى تنظيمنا‬ ‫الشيوعي‬

‫‪,,‬‬

‫ويطلعنا على تفصيل برنامج الكادر‪ ,‬فيقول‪ " :‬كان املتدرجون يسكنون‬ ‫في البيت الكبير‪ ,‬العزبة‪ ,‬ينامون على عصائر من قصب‪ .‬وكان الطعام‬ ‫زهيدًا‪ .‬أما الدروس فكانت تبدأ عند بزوغ الشمس وتنتهي عند غروبها‪ ،‬مع‬ ‫توقف واحد ألجل الغداء وبعض االستراحات املكرسة ألناشيد ثورية‪ .‬وقد‬ ‫تعلم املتدرجون‪ ,‬الذين لم يكن أحد منهم يعرف لغة أجنبية‪ ,‬املارسيلييز‬ ‫بالفرنسية (نشيد الثورة الفرنسية ونشيد فرنسا الوطني)‪ ,‬لكن الحدث‬ ‫الكورسي كان التأدية األولى للنشيد األممي باللغة العربية على أرض‬ ‫مصر‪ :‬كان أحد املحاضرين‪ ,‬طاهر املصري قد نقله إلى العربية‪ .‬وبعد‬ ‫غروب الشمس كانت األمسية تكرس لنقاشات حرة بني املتدرجني‪ ,‬ولكتابة‬ ‫تلخيصات للمحاضرات املعطاة منذ الصباح"‪ .‬ويقول أحمد سليمان‪ :‬إن‬ ‫املحاضرات وما يعقبها من مناقشات تمتد للعاشرة مساء كل يوم‪ .‬وفق‬ ‫هذا التفصيل لهذا البرنامج‪ ,‬كان نظام املدرسة هو بالفعل – كما قال هنري‬ ‫كورييل لرفعت السعيد – نظامًا صارمًا والحياة فيه حياة برويتارية حقه‪.‬‬ ‫نشيد األممية (االنترناسيونال) الذي يبدأ نشاط مدرسة الكادر به‪,‬‬ ‫محاضرين وطلبة‪ ,‬أورد رفعت السعيد مطلعه على لسان هنري كورييل‪:‬‬ ‫يا بؤساء الدنيا قوموا‬ ‫ ‬

‫قوموا يا محرومني من الخير‬

‫سخطكم بقى رعد يالال قوموا‬ ‫ده االنتفاض األخير‬ ‫ ‬ ‫نلحظ في الشطر األخير من هذا املطلع أن هنري كورييل قاله بعامية‬ ‫خواجات‪.‬‬ ‫أحمد سليمان الذي قال عن هذا النشيد أنه ترجم بأسلوب ركيك – وهو محق‬ ‫في كالمه – أورد املقطوعة األولى (نشيد األممية "االنترناسيونال" مكون من‬ ‫ستة مقطوعات) وليس املطلع وحسب‪.‬‬

‫برلنتي‬ ‫عبد الحميد‬

‫‪14‬‬

‫يقول جيل بيرو‪" :‬جرى اتخاذ تدابير صارمة للحفاظ على سرية املكان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فجيء باملتدرجني بالسيارة ليال وأعينهم معصوبة‪ .‬ولم يكن املحاضرون‬ ‫يصلون إلعطاء محاضراتهم إال بعد جوالت طويلة عبر الريف من أجل‬ ‫إحباط أي اقتفاءات محتملة لألثر"‪.‬‬

‫يا بؤساء الدنيا قوموا‬ ‫ ‬

‫قوموا يا محرومني من الخير‬

‫سخطكم بقى رعد قوموا‬ ‫ ‬

‫جاء االنفجار األخير‬

‫انسوا املاضي وامسحوه‬ ‫ ‬

‫كونوا كل شيء كونوا كونوا‬

‫ونظام العالم غيروه‬ ‫ ‬

‫واجعلوا آخر الحروب أهلية‬

‫تسود الدولية‬ ‫ ‬

‫جميع الجنس الحي‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫نشيد األممية أو نشيد الشيوعية يعرفه الشيوعيون العرب وقد رتلوه فيما‬ ‫مضى من زمن بصيغة أخرى‪ ,‬وللمقارنة ما بني ترجمة طاهر املصري له‬ ‫من الفرنسية والترجمة التي استقر عليها‪ ,‬أورد نص املقطوعة األولى منه‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هبوا ضحايا االضطهاد‬ ‫ضحايا جوع االضطرار‬ ‫بركان الفكر في اتقاد‬ ‫هذا آخر انفجار‬ ‫هيا نحول كل ما مر‬ ‫ثوروا حطموا القيود‬ ‫شيدوا الكون‪ ,‬جديد حر‬ ‫كونوا أنتم الوجود ‪:‬‬ ‫بجموع قوية هبوا‪ ,‬الح الظفر‬ ‫ُ‬ ‫غد األممية يوحد البشر‬

‫ّ‬ ‫فوبيا الشيوعية والشيخ "ستال"‬ ‫ال يعد في املنتصف األول من القرن املاضي وجود أزهريني‪ ,‬مشايخ وطلبة‪,‬‬ ‫في صفوف التنظيمات الشيوعية أمرًا مستنكرًا أو قضية شاذة إال عند‬ ‫من يحكم على روح تلك الفترة‪ ,‬بمقاييس عقود تالية لها‪ .‬ففي عشرينيات‬ ‫وثالثينيات وأربعينيات القرن املاضي وحتى في منتصفه إلى سنوات‬ ‫السبعينيات لم تكن في مصر وال بقية البالد العربية – هذا إذا ما استثنينا‬ ‫السعودية – ما يصطلح على تسميته بالغرب وبخاصة عند اليساريني بـ‬ ‫"فوبيا الشيوعية"‪ .‬فهذه الفوبيا التي أنشأتها وغذتها أمريكا منذ منتصف‬ ‫القرن املاضي انتقلت إلى العالم العربي في أواخر السبعينيات‪ ،‬وتضخمت‬ ‫في سنوات الثمانينيات‪ .‬ونظرًا لغياب الفوبيا أو الرهاب إزاء الشيوعية‪ ,‬فإنه‬ ‫مع تحول الحزب االشتراكي املصري إلى حزب شيوعي وضمه إلى الدولية‬ ‫الثالثة (الكومنترن) سنة ‪ ,1923‬كان الشيخ األزهري صفوان أبو الفتح من‬ ‫زعماء الحزب الشيوعي املصري القديم‪ ،‬والذي حكم عليه وزعماء آخرين‬ ‫كمحمود حسني العرابي وأنطون مارون والشحات في عهد حكومة سعد‬ ‫زغلول باشا سنة ‪ 1924‬بالسجن ثالث سنوات‪ .‬وفي سنة ‪ 1925‬في عهد‬ ‫حكومة زيور باشا قبض على مجموعة شيوعية تسعى إلى إحياء الحزب‬ ‫مجددًا كان من بينها الشيخ شاكر‪ ,...‬وكان طالبًا ثالثينيًا في األزهر‪.‬‬ ‫وقد أدرك هنري كورييل الشيخ العتيق في الشيوعية صفوان أبو الفتوح‪،‬‬ ‫وتمكن في ظل إحياء التنظيمات الشيوعية في األربعينيات من ضمه هو‬ ‫ومجموعة معه من بقايا الحزب الشيوعي املصري القديم إلى الحركة‬ ‫املصرية للتحرر الوطني (ح‪.‬م)‪.‬‬ ‫وفي هذه الفترة‪ ,‬فترة األربعينيات‪ ,‬كانت ثمة مجموعة اجتمعت على الفكر‬ ‫املاركسي انضمت إلى حركة التحرر الوطني (ح‪ .‬م) ‪,‬كان من بينها شيخ‬ ‫أزهري وكان وقتها شابًا‪ ,‬وهو الشيخ سعاد جالل‪ .‬والشيخ سعاد جالل‬ ‫حاصل على العاملية من األزهر وعلى الدكتوراه من كلية الشريعة‪ ,‬وعمل‬ ‫مدرسًا في هذه الكلية وفي جامعة دمشق وفي الجامعة اإلسالمية بالسودان‪.‬‬ ‫وهو متخصص في أصول الفقه وله مؤلفات في هذا املجال‪ .‬وكان شخصية‬ ‫معروفة لها حضور في الصحافة املصرية‪ .‬وكان كتب عمودًا ثابتًا في‬ ‫ّ‬ ‫جريدة (الجمهورية) تحت عنوان "قرآن وسنة" إلى سنة وفاته في ‪1983‬م‪.‬‬


‫أي أنها انتقلت إلى مقرها الجديد في ‪ 22‬شارع الجامع اإلسماعيلي في‬ ‫شقة تعلو مباشرة الشقة التي يسكن فيها البهي‪ ,‬بعد اندماج تنظيمي‬ ‫ايسكرا (الشرارة)‪ ,‬والحركة املصرية للتحرر الوطني (ح‪ .‬م أوحمتو) في‬ ‫تنظيم واحد‪ ,‬وبعد مضي ما يقرب من أربع سنوات على انتهاء مهمة مدرسة‬ ‫الكادر الشيوعية باملنصورية‪ .‬وعبده دهب نفسه نص على أن البهي كان‬ ‫ممن يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية‪ ,‬ولم يقل أنه كان معهم‬ ‫في الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح‪.‬م) وهي املرحلة التي تلت مرحلة‬ ‫الكادر الشيوعية باملنصورية مباشرة‪.‬‬ ‫ونستخلص من تلك املعلومات السابقة أن تجاور شقة مجلة (الجماهير)‬ ‫الشيوعية مع شقة محمد البهي لم يكن أكثر من مصادفة‪ ,‬وربما أن هذه‬ ‫املصادفة جعلت عبده دهب يعرف عنوان سكن البهي‪ .‬هذا إن كان في األصل‬ ‫ال يعرفه حينما كان البهي – كما قال – يحضر مدرسة الكادر الشيوعية‬ ‫باملنصورية‪.‬‬

‫هنري كورييل واألزهر واألزاهرة‬ ‫في شهر يناير‪ /‬كانون الثاني سنة ‪ ,1943‬وهو التاريخ الذي بدأ فيه نشاط‬ ‫مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية‪ ,‬كان محمد البهي أستاذًا بكلية أصول‬ ‫الدين يدرس الفلسفة اإلسالمية والفلسفة اإلغريقية‪ ،‬ويدرس علم النفس في‬ ‫قسم تخصص التدريس‪ ,‬وكان مضى على عودته إلى مصر من أملانيا أربع‬ ‫سنوات وخمسة أشهر‪ ,‬فهو قد عاد منها في شهر أغسطس سنة ‪.1939‬‬ ‫وكان قد تحصل على الدكتوراه بدرجة امتياز في الفلسفة وعلم النفس‬ ‫من جامعة هامبورج في شهر مايو سنة ‪ ,1936‬كما حصل على دبلوم‬ ‫بدرجة امتياز في اللغة األملانية وآدابها‪ ,‬وسمح له شيخ األزهر مصطفى‬ ‫املراغي بالتقدم إلى الحصول على درجة األستاذية بعد الدكتوراه من جامعة‬ ‫هامبورج‪ .‬ومع ظهور نذر الحرب العاملية الثانية عاد إلى مصر قبل أن‬ ‫يحصل على درجة األستاذية من تلك الجامعة األملانية‪.‬‬ ‫وفي األربعينيات وقبلها إلى سنة ‪ 1961‬كان التعليم العالي في األزهر عبارة‬ ‫عن ثالث كليات هي‪ :‬كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية‪,‬‬ ‫وقسم التخصص املقسمة الدراسة فيه إلى شعب هي‪ :‬الفقه واألصول‪,‬‬ ‫والتفسير والحديث‪ ,‬والبالغة واألدب‪ ,‬والنحو والصرف‪ ,‬والتوحيد ‪ ,‬واملنطق ‪,‬‬ ‫والتاريخ‪ ,‬وكانت هذه الكليات الثالث‪ ,‬وكان هذا القسم يتبع كلية اللغة العربية‬ ‫في اإلدارة‪ .‬وإضافة إلى القسم العالي كان هناك قسمان‪ :‬تعليم ابتدائي‬ ‫وتعليم ثانوي‪.‬‬ ‫هنري كورييل بخالف صنوه هيلل شوارتز ركز على استقطاب الطلبة‬ ‫األزهريني إلزالة عقبة الدين أمام االشتراكية وأمام الشيوعية‪ ،‬وليخترق بهم‬ ‫الريف املصري الذي تشكل مساحته املساحة الكبرى في مصر‪ .‬وكان أغلب‬ ‫طلبة األزهر قادمني من هذا الريف‪ ,‬وظرفهم االقتصادي واالجتماعي البائس‬ ‫كان يهيئ بعضهم لقبول الدعوة إلى االشتراكية والشيوعية‪.‬‬

‫ونتيجة لهذا التركيز حصل ما يلي‪:‬‬ ‫ في مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية والذي بلغ عدد املنضمني إليها‬‫خمسة وعشرين متدرجًا كان من بينهم أزاهرة‪ ،‬وقد توصل رفعت إلى‬ ‫تسعة أسماء من هؤالء الخمسة وعشرين متدرجًا‪ ,‬وكان من ضمن األسماء‬ ‫التسعة اسمان لشيخني أزهريني ‪ ,‬هما‪ :‬عبدالرحمن الثقفي وكمال ‪ ...‬الذي‬ ‫لم يتمكن من الوصول إلى اسمه األخير‪ .‬ومن األزاهرة أيضًا الشيخ الغنيمي‬ ‫الذي ذكر أحمد سليمان – كما مر بنا سابقًا – أنه من أعضاء مدرسة الكادر‪.‬‬ ‫ونعرف من هنري كورييل بواسطة رفعت السعيد أن الشيخني عبدالرحمن‬ ‫وكمال كانا من مجموعة طلبة الكادر الذين صعدوا إلى عضوية الحركة‬ ‫املصرية للتحرر الوطني في تشكيلها الجديد‪.‬‬

‫ إنشاء خلية شيوعية في كلية الشريعة‪ ،‬وفي كلية أصول الدين‪ ،‬وفي‬‫كلية اللغة العربية‪ ،‬وفي معهد القاهرة الديني‪ ،‬والتي كان الطالب األزهري‬ ‫مبارك عبده فضل برغم فصله من األزهر بتهمة الشيوعية يتسلق السور‪,‬‬ ‫ليتواصل مع الطلبة أعضاء تلك الخاليا‪.‬‬ ‫وكان مبارك عبده فضل املصري النوبي قد اعتنق الشيوعية في أثناء انتقاله‬ ‫من الثالثة إلى الرابعة ابتدائي في معهد القاهرة الديني عن طريق زميل له‬ ‫مصري نوبي يسبقه في الدراسة بسنتني‪ ,‬يدرس في املرحلة الثانوية في‬ ‫ذلك املعهد‪ ,‬اسمه محمد عثمان نور‪ .‬وقد صار مبارك عبده فضل عضوًا‬ ‫في الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح‪.‬م ) قبل سنة من انتقاله من االبتدائي‬ ‫إلى الثانوي‪ ،‬وفصل من األزهر بتهمة الشيوعية‪ ,‬وهو ما يزال طالبًا في‬ ‫املرحلة الثانوية‪.‬‬ ‫ عند توحد الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح‪.‬م) مع تنظيم ايسكرا‬‫(الشرارة) في حركة واحدة هي حدتو سنة ‪ ,1947‬كان في األولى – كما ذكر‬ ‫ذلك مبارك عبده فضل لرفعت السعيد – اثنان وعشرون عضوًا مقسمني‬ ‫على خاليا في كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية وفي‬ ‫معهد القاهرة الديني‪.‬‬ ‫وهذا ما جعل هنري كورييل قبل التوحد ينشئ في حركته قسمًا اسمه لجنة‬ ‫قسم األزهر‪ ،‬وجمعية اسمها جمعية الدعاية للحج‪ .‬في حني أن تنظيم ايسكرا‬ ‫(الشرارة) عند التوحد – كما ذكر املصدر نفسه – كان يضم في عضويته‬ ‫شيخني أزهريني فقط! ومما يلفت النظر في " قضية الشيوعية الكبرى " أن‬ ‫املتهم الرابع الشيخ أبو الحسن الغنيمي كان من مسوغات تبرئة النيابة له من‬ ‫تهمة الترويج للشيوعية‪ ,‬االستناد إلى شهادة تقدم بها الدكتور مظهر سعيد‬ ‫األستاذ بكلية أصول الدين وقسم التخصص باألزهر لصالحه‪ ،‬إذ قال إنه‬ ‫يعرف املتهم معرفة تامة‪ ,‬وأنه بعيد عن الشيوعية‪ ،‬بل إنه كان يحارب املبادئ‬ ‫الهدامة (املقصود بها الشيوعية)‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬إنه اطلع على كتاب الشيوعية في اإلسالم‪ ,‬وإنه ملس منه أنه مجرد‬ ‫مقارنة علمية ال أكثر وال أقل"! وهذه الشهادة غير الصادقة لصالحه من‬ ‫قبل الدكتور مظهر سعيد أحد أساتذته في كلية أصول الدين وفي قسم‬ ‫التخصص‪ ,‬وزميل الدكتور البهي في هذه الكلية وفي هذا القسم تدل على‬ ‫عمق تغلغل الخاليا الشيوعية التابعة للحركة املصرية للتحرر الوطني في‬ ‫األزهر‪.‬‬ ‫إنه من املؤكد أن الدكتور محمد البهي يعرف الشيخ الشيوعي أبو الحسن‬ ‫الغنيمي‪ ,‬فالبد أنه قد ّدرسه في كلية أصول الدين‪ ،‬ودرسه في قسم‬ ‫التخصص‪ .‬وإذا صحت معلومة عبده دهب عن البهي‪ ,‬فسيكون البهي عرف‬ ‫طريقه إلى مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية عبر الشيخ الغنيمي أو‬ ‫بواسطة شخص آخر في األزهر‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫كان الشيخ‬ ‫األزهري‬ ‫صفوان أبو‬ ‫الفتح من‬ ‫زعماء الحزب‬ ‫الشيوعي‬ ‫املصري القديم‬ ‫وقد حكم عليه‬ ‫وزعماء آخرين‬ ‫في عهد حكومة‬ ‫سعد زغلول‬ ‫سنة ‪1974‬‬ ‫بالسجن ثالث‬ ‫سنوات‬

‫‪,,‬‬

‫في بداية تعرفي على هذه املعلومة فكرت أن البهي ربما حضر إلى مدرسة‬ ‫الكادر الشيوعية باملنصورية من باب الفضول العلمي‪ ،‬وحب االستطالع‬ ‫السياسي‪ ،‬أو أنه أراد أن يعرف الشيوعية عن كثب من خالل معتنقيها‪ .‬لكن‬ ‫هذا االفتراض تعرض لشيء من الشك مع تعرفي على آلية العمل في مدرسة‬ ‫الكادر الشيوعية باملنصورية‪.‬‬ ‫توفر لي هذا التعرف عندما قرأت مؤخرًا كتاب جيل بيرو‪( :‬هنري كورييل‪:‬‬ ‫رجل من طراز فريد) الذي عربه وقدم له كميل داغر‪ .‬وباملناسبة فإن هذا‬ ‫الكتاب املعرب صدر في السنة نفسها التي صدر فيها الجزء الثاني من كتاب‬ ‫سنة ‪ .1986‬وأحمد سليمان يعرب عنوان هذا الكتاب‬ ‫أحمد سليمان‪ ,‬وهي ٌ‬ ‫إلى (هنري كورييل‪ :‬رجل على ِح َده)‪ .‬وتعريب أحمد سليمان لعنوان الكتاب‬ ‫صاف في عربيته‪.‬‬ ‫يفوق تعريب كميل داغر بوجازته وأنه‬ ‫ٍ‬ ‫وباملناسبة أيضًا‪ ,‬فإن جيل بيرو يحدد تاريخ إنشاء هنري كورييل ملدرسة‬

‫الشيخ أحمد‬ ‫حسن الباقوري‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪13‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫تصحيحات وإيضاحات‬

‫‪,,‬‬

‫مع إعالن‬ ‫عبد الناصر‬ ‫لسياسة امليثاق‬ ‫واتجاهه‬ ‫الكامل لالتحاد‬ ‫السوفياتي‬ ‫تمكن‬ ‫الشيوعيون من‬ ‫التنفيس عن‬ ‫غضبهم على‬ ‫البهي‪ .‬فهو‬ ‫ضحية استقواء‬ ‫الشيوعيني على‬ ‫اليمني في تلك‬ ‫اآلونة‬

‫‪,,‬‬

‫التصحيح هو أن محمد البهي لم يكن شيخًا لألزهر‪ ،‬وال كان هو اإلمام‬ ‫األكبر‪ ,‬وإنما كان مديرًا لجامعة األزهر مرتني‪ ،‬وما بينهما كان وزيرًا‬ ‫لألوقاف وشؤون األزهر‪ .‬وقد اختلط هذا األمر على عبده دهب ومعه ناقل‬ ‫روايته أحمد سليمان‪ ,‬لألسباب التالية‪:‬‬ ‫أولها‪ :‬أن البهي تولى هذه املناصب في سنوات متصلة قصيرة‪ ,‬هي مطلع‬ ‫الستينيات‪ .‬ثانيها‪ :‬أن منصب مدير جامعة األزهر الذي تواله للمرة األولى‬ ‫سنة ‪ 1961‬كان منصبًا مستحدثًا‪ .‬ثالثها‪ :‬أن هذا املنصب املستحدث ضمن‬ ‫القانون الخاص بتطوير األزهر‪ ,‬استحدث فيه لقب اإلمام األكبر ليطلق على‬ ‫شيخ جامع األزهر ‪ .‬إنه من الواضح أن عبده دهب ومعه أحمد سليمان كان‬ ‫يخلطان ما بني منصب مدير جامعة األزهر الجديد ومنصب شيخ جامع‬ ‫األزهر العتيق‪ .‬ونذكر هنا أن لقب "شيخ جامع األزهر" مع صدور قانون‬ ‫تطوير األزهر سنة ‪ 1961‬اختصر ليصبح "شيخ األزهر"‪.‬‬

‫أما اإليضاحات‪ ,‬فهي على النحو التالي‪:‬‬ ‫ الشيخ أبو الحسن هو محمد أبو الحسن جاد الله الغنيمي حاصل على‬‫شهادة العاملية من كلية أصول الدين‪ ،‬ودرس في قسم التخصص بكلية‬ ‫اللغة العربية الذي يؤهل الطالب للتدريس‪ .‬بعد إنهائه الدراسة في قسم‬ ‫التخصص الذي مدته ثالث سنوات عمل مدرسًا للغة العربية في مدارس‬ ‫الليسيه الفرنسية‪.‬‬ ‫كان الشيخ أبو الحسن الغنيمي عضوًا في الحركة املصرية للتحرر الوطني‬ ‫(ح‪.‬م) واختصار اسم الحركة املصرية للتحرر الوطني بـ (ح ‪.‬م) وليس بـ‬ ‫(حمتو) كما يقتضي ذلك أوائل حروف اسمها‪ ,‬جاء – بحسب ما قال أحمد‬ ‫ً‬ ‫نقال عن عبده دهب – ً‬ ‫بناء على اقتراحه‪ .‬فـ "الشيخ أبو الحسن‬ ‫سليمان‬ ‫الغنيمي قال إن هذا الرمز (ح ‪ .‬م) لفظ قرآني‪ ,‬وكان يشير بذلك إلى بعض‬ ‫سور القرآن الكريم‪ .‬وقد سعد كورييل بقول الشيخ األزهري وقال إن ذلك‬ ‫ربما كان ذلك مدعاة لجذب املسلمني إلى التنظيم الذي ورد ذكره في القرآن"!‬ ‫كما أن الشيخ أبو الحسن الغنيمي كان من ضمن مائة شيوعي اعتقلتهم‬ ‫الشرطة‪ ,‬ومن ضمن العشرين الذين أبقتهم النيابة العامة للتحقيق في الحملة‬ ‫التي شنها رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا باسم " قضية الشيوعية‬ ‫الكبرى" سنة ‪ ,1946‬ثم حكم ببراءتهم بعد فترة قصيرة‪.‬‬ ‫استند اتهام الشيخ أبو الحسن الغنيمي بالشيوعية في هذه القضية إلى‬ ‫كتابني صدرا أو وزعا بطريقة سرية خالل ذلك العام‪ ,‬وهما‪( :‬الشيوعية‬ ‫في اإلسالم) و(دورنا في الكفاح الوطني)‪ .‬ففي الكتاب األول اتهم أنه حبذ‬ ‫الشيوعية‪ ،‬ودعا إلى إلغاء امللكية الفردية زاعمًا أن هذا نظام أقره اإلسالم‪.‬‬ ‫وفي الكتاب الثاني اتهم أنه أظهر فيه إعجابه باملاركسية وحبذ الشيوعية‬ ‫والكفاح في سبيلها‪( .‬راجع حيثيات الحكم عليه وعلى تسعة عشر آخرين‬ ‫ودفوعاته ودفوعاتهم في كتاب رفعت السعيد‪ :‬تاريخ املنظمات اليسارية‬ ‫املصرية ‪.)1950 – 1940‬‬ ‫وللشيخ كتاب ثالث وهو الذي أشار إليه أحمد سليمان‪ ,‬وعنوانه (أبو ذر أول‬ ‫ثائر في اإلسالم)‪ ,‬وهذا الكتاب كتاب مجهول‪ .‬فاملعروف هو كتاب قدري‬ ‫قلعجي الذي ألفه بالعنوان نفسه حينما كان شيوعيًا‪ ,‬وصدرت طبعته األولى‬ ‫سنة ‪ ,1947‬من دون إشارة لتاريخ صدوره‪.‬‬

‫عبد الناصر‬

‫‪12‬‬

‫إن تدريس الشيخ أبو الحسن في مدارس الليسية لم يأت اعتباطًا‪ ,‬فهو‬ ‫ذو مغزى‪ .‬يفسر هذا املغزى مناضل شيوعي من أعضاء تنظيم ايسكر‬ ‫(الشرارة) وتنظيمات شيوعية الحقة‪ ,‬هو الكاتب واملفكر السياسي محمد‬ ‫سيد أحمد في إجابة له عن سؤال موضوعه هو‪ :‬ملاذا بدأ نشاط ايسكرا في‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫مدارس الليسية الفرنسية التي يدرس فيها أبناء الجاليات األجنبية‪ ،‬وبعض‬ ‫أبناء األرستقراطية املصرية الذي هو أحدهم؟‬ ‫يقول محمد سيد أحمد (سليل أسرة اقطاعية أرستقراطية وممن درسوا‬ ‫في مدارس الليسية الفرنسية ومن املفارقات أنه يمت إلى إسماعيل صدقي‬ ‫باشا عدو الشيوعيني املصريني األول بصلة قرابة من جهتني‪ :‬األولى‪ ,‬أن عدو‬ ‫الشيوعيني املصريني األول هو ابن عم أبيه الباشا‪ .‬واألخرى‪ ,‬أنه زوج عمته!)‬ ‫في إجابته‪" :‬كانت مدارس الليسية مصدرًا للثقافة املاركسية‪ ,‬فقد كانت‬ ‫مركزًا للعناصر املعادية للفاشية‪ ،‬وبني هؤالء وجد مدرسون شيوعيون‬ ‫من أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي‪ .‬وكان هناك أيضًا ناد لخريجي‬ ‫الليسية علني‪ .‬وقد تواجدت ايسكرا في إطار ذلك كله"‪ .‬محضر نقاش أجرته‬ ‫الباحثة األمريكية سيلما بوتمان معه باللغة اإلنكليزية في ‪.1979/12/13‬‬ ‫وترجم إجابته إلى العربية وأثبتها رفعت السعيد في كتابه‪( :‬تاريخ املنظمات‬ ‫اليسارية املصرية ‪.)1950 – 1940‬‬ ‫ مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية‪ :‬دانييل كورييل والد هنري‪ ,‬ثري‬‫يهودي كفيف يحمل الجنسية اإليطالية‪ .‬وكان يملك ويدير مصرفًا‪ .‬وكانت‬ ‫له أمالك زراعية كبرى‪ ،‬ومن هذه األمالك عزبة في املنصورية‪ ,‬واملنصورية‬ ‫ضاحية بالجيزة‪.‬‬ ‫وكان دانييل كورييل كلف ابنه هنري بإدارة شؤون هذه العزبة‪ .‬ولقد استغل‬ ‫االبن هذا التكليف للتردد بحرية على العزبة ولتكون مكانًا آمنًا بعيدًا عن‬ ‫عيون األمن لتأهيل وتثقيف عشرين متدرجًا بمبادئ املاركسية بإلقاء‬ ‫محاضرات عليهم‪ .‬وكان من ضمن املتدرجني الشيخ الغنيمي وعبده دهب‪.‬‬ ‫وقام بإلقاء محاضرات عليهم كل من‪ :‬هنري كورييل جو ماتلون وداود‬ ‫ناحوم ومحمد زكي هاشم وأحمد الدمرداش التوني وطاهر املصري وموسى‬ ‫عبدالحفيظ وتحسني املصري‪ .‬وشارك فيها من لبنان فرج الله الحلو‪ ،‬ومن‬ ‫العراق الدكتور هيبه‪.‬ومدرسة الكادر الشيوعية التي أنشأها هنري كورييل‬ ‫مرحلة سبقت بأشهر صياغته السم التنظيم الذي يقوده‪ .‬وأعني باالسم‪,‬‬ ‫الحركة املصرية للتحرر الوطني‪.‬‬ ‫ مجلة (الجماهير)‪ :‬أسس هذه املجلة تنظيم ايسكرا في شهر أبريل سنة‬‫‪ 1947‬وكانت هذه املجلة تعبر عن هذا التنظيم في شهري أبريل وشهر مايو‪-‬‬ ‫كما يذكر ذلك رفعت السعيد استنادًا إلى عبده دهب – لكن بعد توحده مع‬ ‫الحركة املصرية للتحرر الوطني في حركة واحدة هو الحركة الديمقراطية‬ ‫للتحرر الوطني (حدتو) غدت املجلة مملوكة لهذه الحركة املوحدة ولسانها‬ ‫املعبر عنها‪.‬‬ ‫يمكن اآلن بعد ذلك التصحيح وهذه اإليضاحات مناقشة املعلومة املجهولة‬ ‫واملفاجئة التي أوردها أحمد سليمان على لسان عبده دهب عن املفكر‬ ‫اإلسالمي الدكتور محمد البهي‪ ،‬والتي قالت أنه كان من ضمن األزهريني‬ ‫الذين يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية‪.‬‬ ‫قال عبده دهب – كما نقل عنه أحمد سليمان – عن البهي‪ :‬أنه كان يسكن‬ ‫في شقة تقع مباشرة تحت مجلة (الجماهير) بشارع الجامع اإلسماعيلي‬ ‫بالقرب من الظوغلي‪.‬‬ ‫أفادته هذا يجب أن نفهمها على أنها تأكيد ملعرفته الشخصية بمحمد البهي‪,‬‬ ‫ال إنه يشير بها إلى الخيط الذي وصل األخير بالتعرف على الشيوعيني‪ .‬ذلك‬ ‫أن مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية أنشأها هنري كورييل – بحسب‬ ‫ما قاله لرفعت السعيد – في شهر يناير سنة ‪ 1943‬واستمرت بضع شهور‬ ‫خالل ذلك العام‪ ,‬ومجلة (الجماهير) التي عمل فيها عبده دهب في قسم‬ ‫التوزيع انتقل مقرها الجديد – كما يذكر رفعت في كتابه ‪ ( :‬الصحافة‬ ‫اليسارية في مصر ‪ -) 1948- 1925‬إلى ‪ 22‬شارع الجامع اإلسماعيلي‪ ,‬ابتداء‬ ‫من العدد رقم ‪ 15‬بعيد شهر يونيو سنة ‪.1947‬‬


‫موسكو ولندن ونيجيريا وواشنطن ‪ .‬عمل بعدها مندوبًا للسودان في هيئة‬ ‫األمم املتحدة‪ ،‬وكان قد فصل من عضوية الحزب الشيوعي هو وأحد عشر‬ ‫عضوًا سنة ‪.1970‬‬ ‫في تجربة قدري قلعجي التي رواها كان قد تحول من الشيوعية إلى القومية‬ ‫العربية‪ ,‬أما أحمد سليمان في الوقت الذي روى تجربته كان قد تحول من‬ ‫الشيوعية إلى اتجاه إسالمي‪.‬‬ ‫لم ينل كتاب أحمد سليمان بجزأيه ذيوعًا في العالم العربي‪ ,‬رغم أن‬ ‫الكتاب بجزأيه حفل بمعلومات طريفة‪ ،‬وتضمن إضاءات مهمة حول تاريخ‬ ‫الحركة الشيوعية في مصر والسودان‪ .‬فاملعرفة به اقتصرت على املثقفني‬ ‫السودانيني واملعنيني بالشأن الحزبي وتاريخه في السودان‪.‬‬ ‫إنك إن تذكر عنوان الكتاب (ومشيناها خطى) ألحد املثقفني فسينصرف‬ ‫ذهنه فورًا إلى كتاب صدر منذ سنوات قريبة‪ ,‬هو (مشيناها خطى – سيرة‬ ‫ذاتية ) للمؤرخ واألكاديمي اليساري رؤوف عباس‪.‬‬ ‫هذا العنوان منتزع من فاتحة بيتني شعريني شهيرين‪ ,‬يترددان على األلسنة‬ ‫كثيرًا‪ ,‬هما‪:‬‬ ‫مشيناها خطى كتبت علينا‬ ‫ومن كتبت عليه خطى مشاها‬ ‫ومن كتبت منيته بأرض‬ ‫فليس يموت في أرض سواها‬ ‫ ‬ ‫وقد استهوت هذه الفاتحة املنتزعة أحمد سليمان‪ ,‬ومن بعده رؤوف عباس‪,‬‬ ‫ليتخذانها عنوانا لسيرتهما الذاتية‪ .‬واستهوت من بعدهما حامد عمار شيخ‬ ‫التربويني العرب‪ ,‬ليجعلها عنوانًا لسيرته الذاتية – مع بعض التحوير –‪,‬‬ ‫املوسومة بـ (خطى اجتزناها‪ )...‬وقبلهم جميعًا راقت لألديب والصحافي‬ ‫املصري عباس خضر ليضعها عنوانًا لكتاب له يدنو من السيرة الذاتية‪ ,‬هذا‬ ‫الكتاب هو‪( :‬خطى مشيناها)‪.‬‬ ‫من املعلومات الطريفة التي حفل بها كتاب أحمد سليمان معلومة غير‬ ‫معروفة وكانت مفاجئة‪ ,‬وهي أن املفكر اإلسالمي محمد البهي كان من‬ ‫ضمن األزهريني الذين يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية!‬ ‫أورد أحمد سليمان هذه املعلومة في الجزء الثاني من كتابه على لسان عبده‬ ‫دهب‪ ,‬وعبده دهب هو اسم الشهرة‪ ،‬أما اسمه الكامل فهو عبد اللطيف دهب‬ ‫حسنني‪ .‬هو سوداني نوبي مقيم في مصر‪ ,‬كان كادرًا شيوعيًا نشطًا‪ ،‬وهو‬ ‫مرجع شفاهي لتاريخ الحركة الشيوعية في مصر والسودان‪ّ .‬‬ ‫رحلته السلطة‬ ‫املصرية إلى بلده سنة ‪1950‬م‪.‬‬ ‫عبده دهب كان مقربًا من هنري كورييل ولصيقًا به‪ .‬وهنري كورييل‬ ‫كان أبرز قيادي في التنظيمات الشيوعية في مصر‪ .‬وهو مؤسس إحدى‬ ‫تنظيماتها‪ :‬الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح‪ .‬م أو حمتو) سنة ‪ 1943‬وكان‬ ‫له إسهام في تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) التي تغير‬ ‫اسمها فيما بعد إلى الحزب الشيوعي السوداني‪ .‬وتولى منصب سكرتير‬ ‫عام الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) عند تأسيسها سنة ‪,1947‬‬ ‫وهي اندماج بني الحركة املصرية للتحرر الوطني التي أسسها هو وتولى‬ ‫قيادتها وبني تنظيم ايسكرا (الشرارة) التي أسسها وقادها هيلل (يرسم‬ ‫املصريون اسمه بهذه الطريقة‪( :‬هليل)‪ .‬وهيلل اسم يهودي توراتي) شوارتز‬ ‫ابتداء من سنة ‪ .1943‬ولقد ظل كورييل قائدًا لهذه الحركة املوحدة (حدتو)‬ ‫إلى أن طرد من مصر سنة ‪ .1950‬ومع إنشاء (مجموعة روما) في باريس‬ ‫التي تكونت من هنري كورييل وثلة من الشيوعيني املصريني الذين بعد أن‬ ‫خرجوا من السجن سنة ‪1949‬م‪ ,‬ذهبوا إلى إسرائيل ثم غادروها بعد فترة‬

‫إلى االستقرار في باريس‪ ,‬استأنف هنري كورييل نشاطه في حدتو عبر‬ ‫هذه املجموعة من موقع املوجه لحدتو وللحزب الشيوعي السوداني أيضًا‪.‬‬ ‫اغتيل هنري كورييل وهو يهم بمغادرة مصعد العمارة التي يسكن فيها في‬ ‫‪ 4‬مايو سنة ‪1978‬م‪ .‬ملزيد من املعلومات عن (مجموعة روما)‪ ,‬راجع تقديم‬ ‫رؤوف عباس لكتاب (أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية املصرية)‪.‬‬ ‫حاولت مذ عرفت تلك املعلومة عن محمد البهي أن أتتبع أثرها في كتابات‬ ‫اإلسالميني وفي كتابات الشيوعيني املصريني وفي كتابات املصريني عامة‪,‬‬ ‫فلم أعثر على أية إشارة لها‪.‬‬ ‫لنقف عند الفقرة التي وردت فيها تلك املعلومة املهملة ‪ .‬يقول أحمد سليمان‪:‬‬ ‫" كان كورييل يعتز كثيرًا بوجود الشيخ أبو الحسن بني ظهراني تنظيمهم‪,‬‬ ‫ويدفعه إلى محاولة تطويع دين الله ألغراضهم الدنيوية‪ .‬وكان أن ألف الشيخ‬ ‫كتابًا عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري وصفه بأنه أول ثائر في اإلسالم‪.‬‬ ‫ولم يكن الشيخ الغنيمي هو الوحيد بني األزهريني الذين حضروا مدرسة‬ ‫الكادر الشيوعية باملنصورية‪ ,‬فقد كان هناك عالم أزهري آخر يقول عبده‬ ‫دهب أنه صار في سنني الحقة شيخًا لألزهر هو اإلمام األكبر البهي‪،‬‬ ‫وكان يسكن في شقة تقع مباشرة تحت مجلة الجماهير بشارع الجامع‬ ‫اإلسماعيلي بالقرب من الظوغلي"‪ .‬تحتاج هذه الفقرة –ونحن نحاول‬ ‫التحقق من صحة تلك املعلومة– إلى تصحيح وإلى إيضاحات‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫ال يعد في‬ ‫املنتصف األول‬ ‫وجود أزهريني‬ ‫في التنظيمات‬ ‫الشيوعية أمرًا‬ ‫مستنكرًا إال عند من‬ ‫يحكم على روح تلك‬ ‫الفترة بمقاييس‬ ‫عقود تالية‬

‫‪,,‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪11‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫شهدت الحركة الشيوعية في العالم العربي في املنتصف األخير من القرن املاضي تجارب في‬ ‫الخروج عليها من بعض قادتها ومثقفيها وكوادرها‪ ,‬وكان أول كتاب قدم شهادة عليها – وكانت‬ ‫شهادة مؤذية – هو كتاب قدري قلعجي الشهير ( تجربة عربي في الحزب الشيوعي) ‪ ,‬وقد لقي‬ ‫ً‬ ‫هذا الكتاب منذ طبعته األولى إقباال كبيرًا ورواجًا عظيمًا‪ ,‬فتعددت طبعاته‪ .‬ومع هذا اإلقبال عليه‬ ‫والرواج له ال أعرف كتابًا َّ‬ ‫رد على هذا الكتاب أو تضمن تعليقًا على ما جاء فيه سوى تعليق تضمنه‬ ‫مقال (مشكالت الحزبني الشيوعيني في سوريا ومصر) للمستشرق الفرنسي املاركسي مكسيم‬ ‫رودنسون املنشور ضمن مقاالت أخرى له في كتابه‪( :‬املاركسية والعالم العربي)‪.‬‬

‫هل كان وزير األوقاف وشؤون األزهر‪ ,‬محمد البهي شيوعيًا؟!‬

‫أزاهرة شيوعيون‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫علي العميم‬

‫‪,,‬‬

‫عند توحد الحركة‬ ‫املصرية للتحرر‬ ‫الوطني مع تنظيم‬ ‫ايسكرا في حركة‬ ‫واحدة هي (حدتو)‬ ‫كان في األولى‬ ‫اثنان وعشرون‬ ‫شيخًا وفي األخرى‬ ‫شيخان فقط!‬

‫‪,,‬‬

‫هذا التعليق أبداه في ذلك املقال حني حديثه عن شخصية خالد بكداش‪,‬‬ ‫األمني العام للحزب الشيوعي اللبناني السوري‪ .‬تعليقه هو عبارة عن مرافعة‬ ‫عاطفية حميمة مفعمة بود شخصي وإعجاب كبير في قيادة مبنية على‬ ‫الطراز الستاليني‪ ,‬كقيادة خالد بكداش‪ .‬وهي إلى ذلك كانت مرافعة حذقة‪,‬‬ ‫فهو قد انطلق فيها من اإلقرار بصحة ما قاله قدري قلعجي عن خالد بكداش‬ ‫في املجمل‪ ,‬لكن مع التنبيه إلى أن سلسلة النوادر التي رواها عنه‪ ,‬تؤدي‬ ‫مراكمتها بأسلوب أحادي الجانب إلى إعطاء فكرة خاطئة عن الرجل‪.‬‬ ‫وألنه كان يرى أن قلعجي قد فعل هذا‪ ,‬فلقد قدم صورة أخرى عن بكداش‪,‬‬ ‫كان يعتقد أنها تعطي فكرة صحيحة عنه‪ ,‬العتمادها – كما ظن ‪ -‬على‬ ‫أسلوب غير أحادي الجانب‪ ،‬واتكائها على تفسيرات مغايرة لبعض وقائع‬ ‫عددها قلعجي‪ ,‬تدين بكداش‪ ,‬رأى أنها تبرئه أو على األقل تقف بنا على‬ ‫تفهم دوافعها وأسبابها‪.‬‬ ‫وفي واقع األمر أن الصورة التي جهد رودنسون أن يحسنها ال تعطي‬ ‫فكرة صحيحة عن بكداش‪ ,‬وأن األسلوب الذي اعتمده لم يكن أفقه متعددًا‬ ‫وواسعًا‪ ,‬وتفسيراته لم تكن مقنعة‪ ,‬وإنما كان األسلوب وكانت التفسيرات‬ ‫مثقلة بالتسويغ‪ .‬وال عجب في ذلك فمكسيم رودنسون في تلك الفترة كان‬ ‫ستاليني الهوى‪.‬‬ ‫ولنفوذ الشيوعيني واليساريني في حقل األدب والثقافة تأثر بنظرتهم‬ ‫التحقيرية إلى األعمال التي يحكي أصحابها عن تجربتهم الشيوعية السابقة‬ ‫أو التي ينقدون فيها الشيوعية أو اليسار بعد تحولهم عنها –سواء أكانت‬ ‫هذه األعمال كتبًا أم مقاالت– مثقفون هم غير شيوعيني وغير يساريني‪.‬‬

‫عليه ‪ -‬بالضرورة – هذان االتهامان أو أحدهما‪.‬‬ ‫إن ما وراء هذين االتهامني األخالقويني كان إرهاب املثقفني املتحولني عن‬ ‫الشيوعية وعن اليسار؛ كي ال يسجلوا تجربتهم مع الشيوعية‪ ،‬أو يتجهوا‬ ‫في بعض أعمالهم إلى نقد الشيوعية ونقد اليسار‪.‬‬ ‫ولقد أصابت الشيوعية واليسار –والحديث هو عن العالم العربي ‪ -‬بعض‬ ‫النجاح في إرهابها هذا‪ ,‬فظل سيف هذين االتهامني مصلتًا على رقاب‬ ‫املتحولني عن الشيوعية وعن اليسار‪ .‬وهذا سبب امتناع بعض هؤالء في‬ ‫فترة ماضية عن نقد الشيوعية واليسار‪ ,‬إذ كانوا يرهبون أن يطال سيف‬ ‫ذلك االتهامني عنق شرفهم األخالقي!‬ ‫وألنهم تورعوا عن الوقوع في ما هو (منهي عنه) وما هو (آثم) ومحظور‬ ‫و(محرم) عند رفاقهم السابقني‪ ,‬كان ال ينالهم منهم هجوم أو غمز أو ملز‪,‬‬ ‫واالختالف معهم إن حصل‪ ,‬يعبر عنه بطريقة مهذبة محوطة بالتقدير‬ ‫واالحترام ألشخاصهم‪.‬‬ ‫واألهم من ذلك أنهم نجوا من قذفهم بتهمة شنيعة عندهم‪ ,‬ذات وقع ديني‬ ‫مرعب أال وهي – أجارنا الله – الردة! وللفائدة الفقهية (أو الشرعية أو‬ ‫القانونية) أشير إلى أنه عند الطائفتني الكريمتني – الطائفة الكريمة تعبير‬ ‫لبناني (خاص) ‪ ,‬يستخدمه املتحدث إزاء الطائفة التي ال ينتمي إليها‪ ,‬وأرى‬ ‫أنه ال حرج علمانيًا من (تعميمه) بلدانيًا وفي املجال غير الديني‪ -‬الشيوعية‬ ‫واليسار ردتان‪ :‬ردة مستورة مستوعبة وهي التي تمالئ الرفاق السابقني‪,‬‬ ‫وردة فاضحة وفاجرة‪ ,‬وهي التي ال تمالئهم‪ ,‬بل تجابههم‪.‬‬

‫تستند تلك النظرة التحقيرية إلى اتهامني أساسيني‪ :‬األول‪ ,‬هو أن صاحب الشيوعي الذي اهتدى‬

‫التجربة وصاحب النقد يبيع نفسه لألنظمة السياسية اليمينية الرجعية‬ ‫املعادية للتقدم‪ .‬واآلخر أنه يتاجر بتجربته وبنقده عند القارئ‪ .‬وكان هذان‬ ‫االتهامان يكتسبان قيمة في وقت كان الصراع فيه بني اليمني واليسار في‬ ‫السياسة والثقافة على أشده وفي ذروته‪.‬‬

‫محمد البهي‬

‫‪10‬‬

‫قد يكون هذان االتهامان صحيحني من حيث الحدوث واإلمكان‪ ,‬فأي تجربة‬ ‫عقدية مذهبية أو سياسية هي قابلة للشراء والبيع ولكل ضروب االتجار‬ ‫واملتاجرة‪ ,‬لكن سوأتهما أنهما كان ينطويان على تعميم جارف وإطالق‬ ‫ظالم‪ ,‬فليس كل من روى تجربته مع الشيوعية ونقدها ونقد اليسار ينطبق‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫مع نهايات القرن املاضي‪ ,‬وعلى وجه التحديد سنة ‪ 1983‬صدر كتاب في‬ ‫السودان عنوانه ( ومشيناها خطى‪ :‬صفحات من مذكرات شيوعي اهتدى)‬ ‫ألحمد سليمان عن دار الفكر‪ ,‬ثم أتبعه بجزء ثان صدر سنة ‪ 1986‬عن دار‬ ‫القلم بالكويت‪ ،‬وعن دار الفكر بالسودان‪.‬‬ ‫أحمد سليمان كانت مهنته املحاماة‪ ,‬وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي‬ ‫السوداني تولى منصب وزير في أربع وزارات هي‪ :‬الزراعة واالقتصاد‬ ‫والصناعة والعدل‪ ,‬ابتداء من سنة ‪ ,1964‬ثم تولى العمل سفيرًا للسودان في‬


‫يفرضها صندوق النقد الدولي‪ ،‬وذلك بعد أن رفضها قادة حزبه‪ .‬ويعتقد‬ ‫بعض املراقبني في الوقت الحالي أنه قد فات األوان على أن تحقق حزمة إنقاذ‬ ‫صندوق النقد الدولي أي تأثير‪.‬‬ ‫وعلى جانب آخر‪ ،‬اتجهت حكومة مرسي نحو الحكومات الصديقة في ليبيا‬ ‫وقطر للحصول على منح وهبات تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدوالرات‬ ‫األميركية التي تدعم البالد ولكنها تثير القلق الشعبي حيال الثمن السياسي‬ ‫مقابل تلك الهبات‪ .‬صرح وائل زيادة‪ ،‬رئيس قطاع بحوث االستثمار‬ ‫باملجموعة املالية «هيرميس» التي يقع مقرها في القاهرة‪ ،‬قائال‪« :‬كنا نشعر‬ ‫بالقلق طوال العام املاضي حول ما إذا كان صندوق النقد الدولي سيصل إلى‬ ‫اتفاق مع الحكومة املصرية أم ال‪ .‬ولكننا في الحقيقة حصلنا على تحويالت‬ ‫من ليبيا وقطر تبلغ قيمتها ضعف قيمة حزمة اإلنقاذ الصادرة عن صندوق‬ ‫النقد الدولي‪ ،‬ولكنها لم تؤد إلى وقف التراجع الحاد في االحتياطي‪ .‬وال يمكن‬ ‫تحمل املسار املالي الحالي»‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من التزامها باقتصاديات السوق الحرة‪ ،‬فإن جماعة اإلخوان‬ ‫املسلمني التي تسيطر على الحكم في مصر أثارت غضب رجال األعمال‬ ‫واملستثمرين نتيجة لفرضها ما يطلقون عليه تنفيذا جزافيا‪ ،‬إن يكن ذا‬ ‫دوافع سياسية‪ ،‬لقانون الضرائب‪ ،‬وال يعد التحقيق مع مجموعة شركات‬ ‫«أوراسكوم» التابعة لعائلة ساويرس‪ ،‬التي تمثل رأس املال املسيطر على‬ ‫البورصة املصرية‪ ،‬تحقيقا قضائيا بقدر ما يبدو مزعزعا لعائلة مسيحية‬ ‫قبطية بارزة وتحذيرا إلخوانهم األقباط‪ .‬وعلى الرغم من أنهم ال يمثلون سوى‬ ‫‪ 15‬في املائة فقط من نسبة السكان‪ ،‬فإن أقباط مصر يساهمون في تحقيق‬ ‫نسبة ضخمة من الناتج االقتصادي‪ .‬ويعد التحقيق مع مجموعة «أوراسكوم»‬ ‫سببا لهجرة العديد من األسر املسيحية ذات املوارد الضخمة واملؤثرة في‬ ‫االقتصاد املصري‪.‬‬ ‫وتذكر بسنت موسى‪ ،‬التي تدير شركة إعالمية تهتم بالقضايا املسيحية‪ ،‬أن‬ ‫«اإلسالميني أصبحوا هم رجال األعمال الجدد‪ ،‬فهم يعتقدون أن بإمكانهم‬ ‫ملء الفراغ فقط»‪ .‬وبعد أقل من عام من تولي اإلخوان حكم البالد‪ ،‬قدمت‬ ‫الجماعة والحركات اإلسالمية األخرى بمصر ذريعة لهؤالء الذين حذروا من‬ ‫أن التشدد الديني ال يتفق مع مبادئ الديمقراطية‪ ،‬وأن ثقافة القيادة داخل‬ ‫اإلخوان املسلمني ‪ -‬التي تتسم بالهرمية واالستبداد والغموض‪ ،‬ال تتالءم مع‬ ‫الحكم الشعبي‪ .‬ومع اقتراب موعد االنتخابات‪ ،‬ال تجد حكومة مرسي سوى‬ ‫القليل من الوقت الثمني للوفاء بوعودها‪ .‬وما زالت جماعة اإلخوان املسلمني‬ ‫تحتفظ بقدرتها على حشد أنصارها وتوجيههم نحو صناديق االقتراع‪ ،‬مما‬

‫قد يكفي لفوز الجماعة في جولة انتخابية أخرى‪ .‬ولكن يشك البعض في أن‬ ‫مستقبل الديمقراطية في مصر سوف يشهد انحسار السياسة التوسعية‬ ‫االحتكارية التي يطبقها اإلخوان لصالح السياسة التوافقية التي يتبناها أبو‬ ‫الفتوح وزمالؤه في املنفى االختياري‪.‬‬ ‫يشير هذا االفتراض إلى مرور الثورة املصرية بانقالب عسكري‪ ،‬يبدو أن‬ ‫عددا هائال ومتنوعا من املصريني يترقبونه بحماس‪ .‬يقول إبراهيم زهران‪،‬‬ ‫استشاري الطاقة وزعيم حزب سياسي ليبرالي‪« :‬سوف يأتي اليوم الذي‬ ‫ينهض فيه الشعب الفقير ضد اإلخوان املسلمني‪ .‬وسوف يأتي ذلك اليوم‬ ‫عندما يتدخل الجيش‪ ،‬وهذا هو الحل األمثل»‪.‬‬ ‫بدوره كمال الهلباوي‪ ،‬البالغ من العمر ‪ً 74‬‬ ‫عاما وهو أحد أقدم أعضاء جماعة‬ ‫اإلخوان املسلمني وقد قدم استقالته من الجماعة في العام املاضي‪ ،‬أقل تفاؤال‪،‬‬ ‫حيث إنه يخشى حدوث انقالب على الرغم من تصريحه بأن ذلك ليس أسوأ‬ ‫نتيجة محتملة لحكم مرسي‪ .‬وقد أوضح قائال‪« :‬السيناريو األسوأ واألكثر‬ ‫احتماال هو نشوب صراع طائفي ومتطرف‪ .‬ثم تتدخل على أثره القوات‬ ‫العسكرية األميركية لتسيطر على اإلرهابيني في شبه جزيرة سيناء وغيرها‬ ‫من املناطق»‪.‬‬ ‫املسلمني منذ كان عمره ‪12‬‬ ‫يتأسف الهلباوي‪ ،‬الذي انضم لجماعة اإلخوان ُ‬ ‫سنة‪ ،‬على ما وصفه بتحريف مليثاق الجماعة التي أنشئت عام ‪ ،1928‬والتي‬ ‫تحولت من جماعة دعوية إلى آلة سياسية ال تلتفت كثيرا للمبادئ الليبرالية‬ ‫التي قامت من أجلها الثورة‪« .‬كان ينبغي على جماعة اإلخوان املسلمني أن‬ ‫تكون أكاديمية لتطوير شخصية الشباب املصري‪ ،‬وإعدادهم مهنيا‪ ،‬بما‬ ‫في ذلك املشرعون‪ .‬وكان لدى قادتها املوارد التي تمكن من ضمان مسار‬ ‫الديمقراطية وتحقيق مطالب الثورة‪ ،‬ولكنهم لم ينفذوا سوى األولى‪ .‬في األيام‬ ‫األولى من الثورة‪ ،‬تردد القادة في االنضمام إليها‪ ،‬وبعد نجاحها‪ ،‬أبوا أن‬ ‫يحافظوا عليها‪ .‬ولهذا السبب قدمت استقالتي من الجماعة»‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫عبد املنعم أبو الفتوح‬

‫يتأسف‬ ‫الهلباوي على‬ ‫ما وصفه‬ ‫بتحريف مليثاق‬ ‫جماعة االخوان‬ ‫التي تحولت‬ ‫من جماعة‬ ‫دعوية إلى آلة‬ ‫سياسية‬

‫‪,,‬‬

‫أخرج الهلباوي مجلدا من خزانة كتبه وقدمه ألحد الزوار‪ .‬كان هذا املجلد‬ ‫نسخة من املوازنة األولى للرئيس مرسي‪ ،‬يحمل عنوان «أعظم دستور ألعظم‬ ‫شعب»‪ .‬وعلق الهلباوي‪ ،‬قائال إن هذه املبالغة «ليست سوى دعاية لالستبداد‪.‬‬ ‫إنه أمر قد تتوقعه من برلني أو روما في منتصف القرن العشرين‪ .‬ولكن ما‬ ‫تحتاجه مصر في الوقت الحالي هو ليبرالي إسالمي‪ .‬نحتاج إلى ذلك من أجل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ال سيما ما يتعلق بقضايا املرأة والحكم والبيئة والعوملة والفلسفة‬ ‫الغربية مما يمكن أن ينطبق علينا‪ .‬هذا هو املستقبل»<‬ ‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫كمال الهلباوي‬

‫‪9‬‬


‫شؤون سياسية‬

‫خالل لقاء أجري معه أخيرا‪ ،‬ظهر السياسي املصري عبد املنعم أبو الفتوح كرجل يتسم باالتزان‬ ‫وروح الدعابة‪ ،‬يتمتع بنظرة بعيدة املدى جعلته ينزل من حافلة توشك على السقوط في حفرة‪.‬‬ ‫تحدث العضو السابق البارز في جماعة اإلخوان املسلمني بثقة كبيرة حول مصر الديمقراطية‬ ‫الجديدة‪ ،‬التي يرى أنها سوف تنجح طاملا ظلت ملتزمة بتقاليدها املتقبلة لجميع األديان‪.‬‬

‫«إخوان» سابقون ينضمون إلى املعارضة في مصر‬

‫املنشقون عن اجلماعة‬ ‫بقلم‪:‬‬ ‫ستيفن غلني‬

‫ذكر عبد املنعم أبو الفتوح بمكتبه في إحدى ضواحي القاهرة‪ ،‬والذي يتخذه‬ ‫ً‬ ‫مقرا لحزب مصر القوية‪« ،‬ينبغي على الدين أن يغير املجتمع بطريقة غير‬ ‫مباشرة من خالل اإللهام‪ ،‬وليس على نحو مباشر من خالل السياسة»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ويستأنف حديثه قائال‪« :‬أعارض الجماعات اإلسالمية التي تشكل أحزابها‬ ‫الخاصة‪ ،‬حيث من املؤكد أن ينشب صراع بني الدين والسياسة»‪.‬‬

‫يعد التحقيق‬ ‫مع مجموعة‬ ‫«أوراسكوم»‬ ‫سببا لهجرة‬ ‫العديد من األسر‬ ‫املسيحية ذات‬ ‫املوارد الضخمة‬ ‫واملؤثرة في‬ ‫االقتصاد‬ ‫املصري‬

‫واتسم أبو الفتوح‪ ،‬الذي خسر الجولة األولى من االنتخابات الرئاسية التي‬ ‫أجريت العام املاضي‪ ،‬بضبط النفس والذكاء عندما طلب منه التعليق على أداء‬ ‫الحكومة التي يسيطر عليها اإلخوان في عامها األول‪ ،‬في ظل تركه لجماعة‬ ‫اإلخوان املسلمني منذ عامني‪ .‬صرح أبو الفتوح الطبيب البالغ من العمر ‪61‬‬ ‫ً‬ ‫عاما قائال‪« :‬لست أنا من يجب أن يقيم هذا األداء‪ ،‬على الرغم من أننا ضد‬ ‫مفهوم اإلسالم السياسي»‪.‬‬

‫‪,,‬‬

‫‪,,‬‬

‫نجيب ساويرس‬

‫‪8‬‬

‫دائما ما تثير الرؤية الصادرة عن خلفية أخالقية راقية كثيرا من االهتمام‪،‬‬ ‫خاصة عندما يعاني خصوم الشخص من نتاج أفعالهم‪ .‬قامت مجموعة‬ ‫بارزة من أعضاء جماعة اإلخوان املسلمني بالخروج عن الجماعة‪ ،‬وأصبحوا‬ ‫في الوقت الحالي معارضني أحرارا‪ ،‬ومن بينهم ثروت الخرباوي‪ ،‬الذي يعمل‬ ‫محاميا‪ ،‬وألف العديد من الكتب حول اإلخوان‪ ،‬وفوز الجناح املحافظ بها في‬ ‫الفترة التي سبقت اشتعال الثورة التي أدت إلى إسقاط الديكتاتور حسني‬ ‫مبارك عام ‪2011‬؛ ومحمد حبيب‪ ،‬النائب السابق للمرشد األعلى للجماعة‪،‬‬ ‫الذي ذكر أنه قد تعرض للهزيمة من قبل متشددين عندما انحازوا إلى‬ ‫الرئيس السابق حسني مبارك في مقابل دعمهم لتوريث منصب الرئاسة؛‬ ‫وإبراهيم الزعفراني‪ ،‬الطبيب الذي شارك‪ ،‬باعتباره سجينا سياسيا في نهاية‬ ‫التسعينيات‪ ،‬في مناظرات قوية حول السياسة وعلم الالهوت مع معتقلني‬ ‫سابقني مثل أبو الفتوح ومنافسه خيرت الشاطر‪ ،‬الذي ُيعتبر الرجل األقوى‬ ‫في جماعة اإلخوان املسلمني‪.‬‬ ‫يؤكد الزعفراني‪ ،‬الذي أسس حزبه الخاص خالل العام املاضي‪ ،‬على ما يحذر‬ ‫بشأن خلط السياسة مع الدين‪ .‬وحسبما ذكر الزعفراني في‬ ‫منه أبو الفتوح ُ‬ ‫أحد اللقاءات التي أجريت معه في العام املاضي‪ ،‬فإنه يرى أن «الحزب السياسي‬ ‫يختلف عن الحركة الدينية‪ .‬فالقيم الدينية مطلقة‪ ،‬ولكن السياسة تقوم على‬ ‫املفاوضات والتسويات والخالفات‪ .‬وبالنسبة لجماعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬فإنها‬ ‫تخلط بني الدين والسياسة مما يعرضها للمخاطر»‪.‬‬ ‫تزداد جرأة املنشقني عن الجماعة‪ ،‬مثل الزعفراني الذي يؤمن بأن جماعة‬ ‫اإلخوان املسلمني أصبحت فاسدة نتيجة لتوليها السلطة وينبغي أن تعود‬ ‫مرة أخرى ملهمتها التقليدية املتمثلة في نشر الدعوة‪ ،‬مع األخطاء املتوالية‬ ‫التي ترتكبها الحكومة التي يقودها اإلخوان املسلمون‪ .‬عندما كان محمد‬ ‫الجبة أحد الكوادر الشابة في جماعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬كان يعمل على وضع‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫املتاريس والحواجز خالل الثورة‪ ،‬وخاض معارك ضارية مع القوات املوالية‬ ‫للنظام في ميدان التحرير بالقاهرة‪ .‬ولكنه انشق عن جماعة اإلخوان املسلمني‬ ‫في العام املاضي‪ ،‬ويدرس في الوقت الحالي إمكانية ترشحه في البرملان‬ ‫أثناء االنتخابات التشريعية التي من املقرر مبدئيا أن تعقد في شهر أكتوبر‬ ‫(تشرين األول) املقبل‪ .‬يقول الجبة‪« :‬لقد أصبت بصدمة كبيرة عندما سمح‬ ‫قادة اإلخوان املسلمني ملصالحهم الشخصية بأن تتضارب مع قيم اإلسالم‪.‬‬ ‫وإذا كان هناك أي شيء حدث نتيجة لتوليها للسلطة‪ ،‬فهو أن جماعة اإلخوان‬ ‫املسلمني ظهرت على حقيقتها»‪.‬‬ ‫وصرح الجبة‪ ،‬الذي يعد تلميذا لكل من حبيب وأبو الفتوح‪ ،‬بأن جماعة‬ ‫اإلخوان املسلمني فقدت مصداقيتها بشكل نهائي وغير قابل لإلصالح بني‬ ‫املسلمني املتشددين‪ ،‬باإلضافة إلى املسلمني العلمانيني‪ .‬ويشعر الجبة بالقلق‬ ‫من أن االنتخابات قد تؤدي إلى وقوع أحداث عنف وربما تؤدي إلى انقالب‬ ‫عسكري‪ ،‬ولكنه يرى أن اإلسالم املعتدل سوف يسود في النهاية‪ .‬ويستأنف‬ ‫حديثه قائال إن «جماعة اإلخوان املسلمني بجميع أعضائها ال يمثلون سوى‬ ‫نسبة ضئيلة من سكان مصر‪ ،‬وها هم يفقدون شعبيتهم‪ .‬واملصريون ال‬ ‫يثقون في أي شخص بعد اآلن‪ .‬سوف تكون هناك اشتباكات‪ ،‬ولكن النتيجة‬ ‫سوف تتمثل في نهاية جماعة اإلخوان املسلمني كحركة سياسية»‪.‬‬ ‫منذ فوزه باالنتخابات الرئاسية التي أجريت في شهر يونيو (حزيران)‬ ‫املاضي بفارق ضئيل‪ ،‬أثار الرئيس محمد مرسي‪ ،‬القيادي السابق بجماعة‬ ‫اإلخوان‪ ،‬حفيظة املصريني من خالل محاوالته لجعل املناصب الحكومية‬ ‫الرئيسة حكرا على رفاقه السابقني (جدير بالذكر أن الرئيس مرسي استقال‬ ‫من جماعة اإلخوان املسلمني قبل تنصيبه رئيسا‪ ،‬وذلكً ليبدو في مظهر‬ ‫املستقل عن الجماعة‪ ،‬على الرغم من أن ذلك لم يحدث مطلقا) وبعد أن رفض‬ ‫الرئيس مرسي تشكيل حكومة ائتالفية‪،‬‬ ‫أصبح يتحمل اللوم بمفرده بسبب فشل قيادته طوال ما يقرب من اثني‬ ‫عشر ً‬ ‫شهرا مضت‪ .‬يوشك االقتصاد املصري على اإلفالس‪ ،‬بينما انخفض‬ ‫االحتياطي األجنبي ليصل إلى ‪ 13.5‬مليار دوالر أميركي‪ ،‬أي ثلث املستوى‬ ‫الذي بلغه قبيل الثورة‪ ،‬فيما هبطت قيمة الجنيه املصري‪ .‬أما عن نسب‬ ‫ً‬ ‫ارتفاعا ً‬ ‫كبيرا حتى في ظل تراجع النمو‬ ‫التضخم والبطالة‪ ،‬فما زالت تشهد‬ ‫االقتصادي بنسبة ‪ 2‬في املائة فقط خالل العام الحالي‪ ،‬ليأتي دون تغيير‬ ‫مقارنة بالعام املاضي‪.‬‬ ‫وفي ظل حاجة مصر امللحة للحصول على عملة صعبة‪ ،‬لم يتفق الرئيس‬ ‫مرسي وصندوق النقد الدولي حتى اآلن على شروط حزمة إنقاذ مالية تبلغ‬ ‫قيمتها ‪ 4.8‬مليار دوالر أميركي‪ .‬وخالل شهر ديسمبر (كانون األول)‪،‬‬ ‫توقفت املفاوضات نتيجة لسحب الرئيس دعمه لتدابير التقشف التي‬


‫الكتــاب املســاهمـون يف هـذا العـدد‬ ‫علي العميم ‪ :‬كاتب وصحافي وناقد ومؤرخ‬ ‫سعودي عمل صحافيًا في مجلة اليمامة‪،‬‬ ‫زاول الكتابة في الجرائد التالية‪ :‬الرياض‪،‬‬ ‫اليوم‪ ،‬واالقتصادية‪ .‬عمل صحافيًا متفرغًا‬ ‫في جريدة الشرق األوسط‪ ،‬كما عمل‬ ‫صحافيًا وكاتبًا في جريدة الرياض‪ .‬من‬ ‫مؤلفاته «شيء من النقد شيء من التاريخ‪:‬‬ ‫آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية‬ ‫واليسار» و عبدالله النفيسي‪ :‬الرجل‪،‬‬ ‫الفكرة‪ ،‬التقلبات‪ :‬سيرة غير تبجيلية»‪.‬‬

‫تحسني قادر علي ‪ :‬وزير سابق ومحاضر‬ ‫دولي وجغرافي وباحث اكاديمي وخبير‬ ‫استراتيجي في شؤون املياه ‪ ،‬تولى في عام ‪2006‬‬ ‫وزارة املوارد املائية في حكومة اقليم كردستان‬ ‫العراق‪.‬‬

‫ستيفن غلني ‪ :‬صحفي مستقل وكاتب مقيم‬ ‫في واشنطن‪ .‬انضم عام ‪ 1991‬لصحيفة‬ ‫وول ستريت جورنال التي عينته مراسال‬ ‫في كوريا الجنوبية واستمر بالعمل لديها‬ ‫طيلة عقد كامل مغطيا اخبار آسيا والشرق‬ ‫االوسط من سيول وطوكيو وفلسطني‬ ‫وعمان‪ .‬وعمل ايضا مراسال لنيوزويك‪.‬‬

‫أمير طاهري‪ :‬كاتب ومحلل سياسي إيراني‬ ‫خبير في شؤون الشرق األوسط وهو محرر‬ ‫مشارك في صحيفتي «نيويورك بوست»‬ ‫و«ناشيونال ريفيو» ويكتب أيضا بشكل منتظم‬ ‫في العديد من املطبوعات الدولية مثل «دير‬ ‫شبيغل» األملانية و«الديلي تيلغراف» اإلنجليزية‬ ‫و«نيويورك تايمز» وجريدة «الشرق األوسط»‪.‬‬

‫سامح فوزي‪ :‬كاتب ومحلل سياسي عضو‬ ‫مجلس الشورى املصري نَّ‬ ‫املعي من الرئيس محمد‬ ‫مرسي وعضو لجنة الوساطة الثالثية املشكلة‬ ‫من الرئاسة للحوار مع قوى املعارضة‪ ،‬وممثل‬ ‫الكنيسة بلجنة الحوار الوطني‪ ،‬ومدير مركز‬ ‫دراسات التنمية بمكتبة اإلسكندرية ‪.‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫‪7‬‬


‫المحتوى‬

‫«إخوان «سابقون ينضمون‬ ‫إلى املعارضة في مصر‬

‫املنشقون عن اجلماعة‬

‫هل كان وزير‬ ‫األوقاف وشؤون‬ ‫األزهر‪ ,‬محمد البهي‬ ‫شيوعيًا؟!‬

‫أزاهرة‬ ‫شيوعيون‬

‫القائد املثالي‪ :‬هل هو موجود؟‬

‫الدكتاتور العادل‬

‫اإلضرابات العمالية والنقابات‪..‬‬ ‫معركة الحقوق واألجور‬

‫ثورة العمال‬

‫كيفية جمع معلومات استخباراتية‬ ‫في منطقة حرب‬

‫تقصي احلقائق يف سوريا‬ ‫‪6‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫كيف استطاع‬ ‫إسالميو قطر كسر‬ ‫وثن التنظيم عند‬ ‫اإلخوان املسلمني؟‬

‫إخوان قطر‬ ‫واملسار اخملتلف‬


‫‪www.majalla.com‬‬

‫‪Al Majalla‬‬

‫مجلة العــــــرب الدولية‬

‫ﻣـﺠـﻠـــﺔ ﺍﻟـﻌــــــــﺮﺏ ﺍﻟـﺪﻭﻟـﻴــــﺔ‬


‫االفتتاحية‬

‫رساله المحرر‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية في الخليج يكاد يكون متشابها‪ ،‬فعلى الرغم من الحضور الطاغي واملؤثر‬ ‫تاريخ الحركات‬ ‫لإلخوان املسلمني في الكويت على جيرانهم من أعضاء الجماعة في دول الخليج العربي‪ ،‬فإن البحرين كانت‬ ‫تشكل أول انطالقة فعلية لتنظيم هيكلي حركي لإلخوان في شبه الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫"املجلة"وفي موضوعني جديرين بالقراءة والتحليل تطرح «مكاسب» اإلخوان املسلمني في البحرين وكيف‬ ‫استطاع إسالميو قطر كسر «وثن» التنظيم عند الجماعة‪.‬‬ ‫بدأ تاريخ الوجود اإلخواني عبر الطالب املبعوثني إلى مصر للدراسة واالستنارة‪ ،‬لكن بعضهم عاد بأعناق‬ ‫لفتها بيعة لحسن البنا والجماعة ليكونوا هم الحاضنة األولى لنواة ّ‬ ‫التيار اإلسالمي «الحركي»‪ ،‬في‬ ‫مجتمعات اعتادت إسالم السكينة الخالي من الشعارات والسياسة‪.‬‬ ‫تشير وثائق الجماعة إلى أن النشاط اإلخواني كان موجودا في البحرين منذ الثالثينات أي في عهد‬ ‫مؤسسها حسن البنا‪« ،‬فلقد نصت جريدة اإلخوان املسلمني األسبوعية في عددها الرابع ‪ 11‬يونيو‬ ‫(حزيران) ‪ ،1937‬أن شعب اإلخوان املسلمني في العالم كله يتوزع إلى مناطق وكل منطقة إلى دوائر‪ ،‬وكل‬ ‫دائرة إلى عدة شعب‪ ،‬فخصصت املنطقة الثامنة عشرة لشعب السودان‪ ،‬وخصصت املنطقة التاسعة‬ ‫عشرة لدول العالم اإلسالمي‪ ،‬ووضعت البحرين في هذا التقسيم في املنطقة التاسعة عشرة‪ ،‬وكان النائب‬ ‫املندوب لها السيد محمد بن إبراهيم الخليفة‪ ،‬كما خصصت املنطقة العشرون لدول العالم الخارجي التي‬ ‫تقطنها أغلبية غير مسلمة»‪.‬‬ ‫في عام ‪ 1961‬هاجر الشاب املصري حينها يوسف القرضاوي إلى الدوحة ليقوم على املعهد الديني‬ ‫الثانوي قبل أن يؤسس كلية الشريعة‪ ،‬لتتحول قطر إلى محطة لرحالته في دول الخليج‪.‬‬ ‫قطر‪ ،‬كانت املكان الذي انطلق منه اإلخوان صوب اإلمارات من خالل مقر البعثة التعليمية القطرية التي‬ ‫جاءت من مساعدات قطر لإلمارات في عام ‪ 1962‬وكان للشيخ عبد البديع صقر ضلع في تأسيس هذا‬ ‫املكتب واختيار املدرسني والقائمني على شؤون املكتب‪ ..‬لتبدأ الحكاية وعالقة لها ما بعدها‪.‬‬ ‫في موضوع آخر يطرح علي العميم ‪ -‬استنادا إلى معلومة مغفلة ‪ -‬سؤاال هو‪ :‬هل كان املفكر اإلسالمي‬ ‫محمد البهي في فترة ما شيوعيا؟ وفي خضم بحثه عن إجابة لسؤاله هذا يتتبع تاريخ اعتناق املشايخ‬ ‫األزهريني للشيوعية منذ عشرينيات القرن املاضي‪ ،‬ويشرح خطة الزعيم الشيوعي هنري كورييل في‬ ‫األربعينات في اجتذاب األزهريني‪ .‬ويعرض لقضايا تتصل بهذين الجانبني‪ :‬األزهر والشيوعية‪.‬‬ ‫ندعوك عزيزي القارئ لقراءة هذه املوضوعات وغيرها الكثير على موقعنا ‪ majalla.com‬ونرحب دائما‬ ‫بآرائك وندعوك للتعليق على املوضوعات أو االتصال بنا إذا رغبت في التواصل معنا‪.‬‬

‫المحرر‬

‫‪4‬‬

‫المجلة ‪ /‬العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬


‫مسؤول مكتب اخلليج‬

‫عبد اهلل الر�شيد‬ ‫سكرتري التحرير‬

‫م�صطفى الد�سوقي‬

‫للمشاركة‬

‫إلرسال مقاالت أو آراء يرجى المراسلة على البريد اإللكتروني ‪ editorial@majalla.com‬ملحوظة‪ :‬جميع المقاالت يجب أال تزيد على ‪ 800‬كلمة‬

‫اشتراكات‬

‫لالشتراك في الطبعة الرقمية‪ ،‬يرجى االتصال بـ‪ subscriptions@majalla.com :‬لالشتراك في االلكترونية‪www.issuu.com/majalla :‬‬ ‫حقوق النشر محفوظة لمجلة المجلة ‪ 2009‬التي تصدر عن الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (المملكة المتحدة) شركة محدودة‪ .‬وال يجوز بأي حال من األحوال إعادة طباعة المجلة أو أي جزء منها أو تخزينها في أي نظام‬ ‫استرجاعي أو نقلها بأي صورة أو أي وسيلة إلكترونية أو آلية أو تصويرها أو تسجيلها أو ما شابه دون الحصول على تصريح مسبق من الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (شركة محدودة)‪ .‬وتصدر المجلة شهرياً‪ .‬لتلقي‬ ‫استفسارات االشتراك الرقمي‪ ،‬يرجى زيارة ‪www.majalla.com‬‬

‫‪issue 1584 - June 2013‬‬

‫العدد ‪ 1584‬يونيو‪ -‬حزيران ‪2013‬‬ ‫الرياض ‪ -‬حي المؤتمرات ‪ -‬طريق مكة ‪ -‬تقاطع التخصصى‬

‫مرخص لها‬

‫الرياض‪ :‬هاتف ‪ - 4419933‬لندن‪A Monthly Political News Magazine +44 207 831 8181 :‬‬

‫‪www.majalla.com/eng‬‬

‫‪HH Saudi Research and Marketing (UK) Ltd‬‬ ‫‪Arab Press House, 184 High Holborn,‬‬ ‫‪London WC1V 7AP‬‬ ‫‪Tel: +44 207 831 8181 - Fax: +44 207 831 2310‬‬

‫الوكيل اإلعالني‬

‫موقع إلكتروني‪ ،www.alkhaleejiah.com :‬بريد إلكتروني‪hq@alkhaleejiah.com :‬‬

‫وكيل اإلشتراكات‬

‫بريد إلكتروني‪ ، info@arabmediaco.com :‬موقع إلكتروني‪ ،www.arabmediaco.com :‬هاتف مجاني‪ 800-2440076 :‬‬

‫وكيل التوزيع‬ ‫مركز الطباعة‬

‫من داخل المملكة ‪ ،920 000 417 :‬دبي‪ ،+9714 3 914440 :‬باريس‪ ، +331 537 764 00:‬لندن‪ ، +44 207 404 6950:‬ومن مختلف الدول ‪+966 1 441 1444 :‬‬

‫وكيل التوزيع في المملكة العربية السعودية حي المؤتمرات ‪ -‬ص‪.‬ب ‪ - 62116‬الرياض ‪ ،11585‬هاتف‪ +966 1 4419933 :‬فاكس‪،+966 1 2121774 :‬‬ ‫موقع إلكتروني‪www.saudidistribution.com :‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 121 .‬الرياض ‪ ،11383‬هاتف ‪ ،+9661.2657000‬فاكس ‪ ،+9661.2658000‬موقع إلكتروني‪www.halaprintco.com :‬‬

‫شركات المجموعة‬ ‫‪Saudi Specialized Publishing Company‬‬

‫حقوق التوزيع لهذه المطبوعات محفوظة‬

‫لشركة «تريبيون لخدمات اإلعالم»‬

‫حقوق النشر لهذه المطبوعات باللغة العربية مرخصة «المجلة»‬

‫للحصول على المزيد من المعلومات‪ ،‬يرجى اإلتصال على الهاتف المجاني ‪8002440014‬‬


AN AMERICAN EDUCATION A BRITISH SETTING A GLOBAL FUTUR E A Since the 1970’s Richmond has been educating leading Middle Eastern families. Richmond’s unique style of personalised higher education ensures that students leave us with a dually accredited degree, that is recognised in the UK, the USA and worldwide.

+44 20 8133 2877 • enroll@richmond.ac.uk Visit www.richmond.ac.uk/al-majalla today to download our catalog and viewbook.


‫العدد ‪ 1584‬يونيو ‪ -‬حزيران ‪2013‬‬

‫مجلة العرب الدولية‬ ‫شهرية سياسية‬

‫‪‬‬

‫تأسست في لندن عام ‪1980‬‬

‫علي العميم‪� :‬أزاهرة �شيوعيون ‪..‬هل كان حممد البهي �شيوعياً ؟!‬ ‫حت�سني قادر علي‪ :‬املياه‪ ..‬قنبلة موقوتة بني العراق و�إيران‬ ‫�ستيفن غلني‪�« :‬إخوان» �سابقون ين�ضمون �إىل املعار�ضة يف م�صر‬

‫‪‬‬

‫للحصول على العدد‬ ‫اسـتخـدم هاتفــك‬ ‫ال ــذكي لـمــسح‬ ‫هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم‬ ‫‪06‬‬

‫‪ISSN 1319-0873‬‬

‫‪9 771319 087013‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫‪issue 1584 - June 2013‬‬

‫‪www.majalla.com‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.