cartier.com
روتوند دو كارتييه
مكرر الدقائق ،التوربيون المحلقة 9402إم سي موثقة بدمغة جنيف ،الكاليبر 9402إم سي دو كارتييه تجمع مابين اثنتين من أكثر تعقيدات الساعات الكبرى اعتباراً و ً هيبة :مكرر الدقائق و التوربيون المحلقة .بضغطة واحدة على الزر الجانبي يقوم مكرر الدقائق بتفعيل مطرقتين يمكن رؤيتهما من خالل ميناء الساعة فتعطيان الرنات التي تشير بالترتيب إلى الساعات و أرباع الساعات و الدقائق بالتطابق مع ما تؤشر إليه عقارب الساعة .يتم تنظيم الرنات بواسطة دوالب موازنة يعمل بالقصور الذاتي و يمكن رؤيته في موقع الساعة السادسة و يكمل ألف دورة في الدقيقة .مطور من خالل عدم وجود الجسر الذي يربطه إلى ميناء الساعة ،يظهر التوربيون المحلق و كأنه يطفو في قلب الساعة مبدع ًا تأثيراً بصري ًا فريداً. علبة الساعة من التيتانيوم ،تاج مصقول مرصع بحجر السافير بقطع كابوشون ،حركة ميكانيكية بتعبئة يدوية شغل الدار، مكرر الدقائق و توربيون محلق كاليبر 9402إم سي ،تصديق دمغة جنيف ( 45جوهرة 447 ،جزءاً ،تردد 21600ذبذبة في الساعة ،خزان طاقة مزدوج ،احتياطي الطاقة قرابة 50ساعة) ،مكرر الدقائق مع دوالب موازنة ،مطارق و أجراس قرصية مرئية على جانب الميناء ،توربيون محلق بدوار على شكل الحرف . C
بوتيك كارتييه في المملكة العربية السعودية ،الرياض ،ساكس فيفث أفنيو ،مركز المملكة،)01( 211 2450 : مجمع سنتريا ،شارع العليا العام)01( 462 6959 : ّ جدة ،شارع التحلية)02( 660 0720 : ّ مجمع الراشد مول)03( 881 4484 : ،13 الخبر ،بوابة ّ
الكلمة الأخرية
بقلم :م�شاري الذايدي
املشهد كله ،بعد مرور سنتني بل أكثر على بداية ما سمي “الربيع العربي” ،أربك كثيرا من األشخاص والتيارات، وأعاد بناء املشهد السياسي ،وأرجع مع هذا البناء طبيعة االصطفافات السياسية ،ومعها اإلعالمية ،التي كانت سائدة إلى ما قبل الثورة السورية ضد بشار األسد ،وخلفه إيران وروسيا وحزب الله وامليليشيات الشيعية العراقية. ملاذا نقول إلى ما قبل الثورة على بشار األسد؟ ألن الثورة ،أو ما سمي ثورة على حسني مبارك في مصر ،وزين العابدين في تونس ،وحتى على “املجنون األخضر” في ليبيا معمر القذافي ،كانت موضع ترحيب وتهليل عند أبناء الفرز السياسي واإلعالمي القائم في العالم العربي ،وكلنا يذكر أن أبناء التيار القومي العربي ّ عدوا هذه “ الثورات” دليال على عودة الروح للوعي القومي ّ والعزة والكرامة ،ومما استدلوا به على هذا ،رفع صور عبد الناصر في امليادين املصرية ،بينما عد أبناء محور املمانعة واملقاومة ،محور إيران بلغة أخرى ،أن هذه الثورات هي امتداد لصحوة وثورة الخميني ،كما قال صراحة، وباللغة العربية ،مرشد إيران خامنئي. كل هذه األمور “تلخبطت” بعد ثورة الشعب السوري على رمز من رموز محور املمانعة اإليراني ،وفي نفس الوقت هو رمز من رموز الحكم البعثي القومي العربي ،هنا حار القوم ،وأسقط في يدهم ،ووقعوا في حيص بيص ،من حسن نصر الله في لبنان ،إلى ناصريي مصر مثل هيكل وغيره. على ذكر سوريا ،كان مما ّ عمق األزمة فيها تردد الرئيس األميركي باراك أوباما وذعره تجاه الحسم ،وهو الذعر أو السطحية الذي جعل إدارة أوباما تصدق أن اإلخوان املسلمني سيكونون نسخة من اإلسالم التركي في الحكم، وتقوم بدعمهم على هذا األساس ،كما يقول عمرو موسى ،ولذلك كانت القوى اإلسالمية فرحة بإعادة انتخاب باراك أوباما ،ومن يراجع تعليقاتهم وتغريداتهم على توتير ،وأحاديثهم في الفضائيات ،أثناء هذه االنتخابات يذكر ذلك. ليس اإلسالميون وحدهم من يشعر بالرضا عن أوباما ،بل حتى انصار محور املمانعة ممن يعارضون الحسم العسكري في سوريا ،على الرغم من أن عدد الضحابا الذين حصدتهم آلة النظام تجاوز املائتي ألف ،ناهيك عن املشردين والفقودين والالجئني ،على يد قوات بشار ،وشبيحته ،وميليشيا حزب الله الطائفية. في 24مايو (أيار) املاضي ،كتب الصحافي اللبناني ،جهاد الخازن في صحيفة الحياة ،عن تاريخ بعض الرؤساء األميركان ،مثل كينيدي وجونسون ونيكسون وكارتر وريغان وبوش ،وكلينتون ،ثم بوش االبن .مستعرضا “فضائحهم” السياسية واألخالقية واالقتصادية ،ومواقفهم السياسية ،وحروبهم الخارجية ،ليخلص من ذلك إلى أن هؤالء القادة األميركان ،كلهم أصحاب سجل حافل بالفضائح والخزي. ملاذا استعرض هذا التاريخ املختزل بالسواد؟! ألنه معترض على نقد الجمهوريني وكثير من اإلعالم األميركي ألداء إدارة أوباما ،فهو يرى أنه“ :اآلن هناك في البيت األبيض باراك أوباما من دون فضيحة جنس أو حرب أو سطو على مقر حزب آخر ،غير أنني أقرأ اآلن عن «فضائح» أوباما في ميديا املحافظني الجدد من صحف ومواقع إلكترونية وغيرها”. ثم دافع بحرارة عن كل التهم املوجهة إلدارة أوباما من ملف التجسس على الصحافيني ،إلى ملف التغطية على الهجوم على قنصلية بنغازي ومقتل السفير ،إلى التحيز السياسي في االستحصال الضريبي ضد خصوم أوباما السياسسني. ثم يبدي انزعاجه ،رغم أنه صبر على هذه الحمالت ويقول“ :كنت كتبت عن املوضوع في هذه الزاوية في 14من هذا الشهر ،وسافرت إلى دبي للمشاركة في مؤتمر اإلعالم العربي ،وعدت في 19الجاري ،ألجد في مكتبي مادة أميركية عن «فضائح» إدارة أوباما تعادل مع كتبت الصحف األميركية عن مجازر سورية أو تزيد .وانتظرت أيامًا فلم تتوقف الحملة وإنما استمرت وزادت”. هو ضد خصوم أوباما ،ومنزعج من هجومهم عليه ،ويراهم األجدر باملحاسبة والنقد ،بل واملحاكمة ملن اقترف القتل والحروب ،ومسؤول عن تزايد االنتحار في الجيش األميركي. الخازن ،أيضا في مقال سابق لهذا املقال في 21مايو ،كتب منتقدا الدور القطري في األزمة السورية“ :أخشى اليوم أن يؤدي التدخل القطري في سورية ،إلى خلق أوضاع أسوأ مما شهد السوريون في ظل نظام األسد األب واالبن”. ثم يقول معلال نقده هذا لقطر“ :آليت على نفسي منذ سنوات ،أن أبتعد عن التعليق سلبًا أو إيجابًا على سياسة قطر العربية أو الدولية ،حتى ال أكون جزءًا من املتحاملني أو ّ املطبلني ّ املزمرين”. ثم يقول“ :وإذا كانت قطر تسعى إلى لعب دور أكبر من حجمها في املنطقة ،فهناك سبل كثيرة لتحقيق ذلك ،من دون التسبب في سفك مزيد من الدماء في سورية”. ثم يختم طبعا“ :النظام السوري يستحق ما يصيبه ،ومثله الجزء اإلرهابي املوالي للقاعدة من املعارضة السورية. غير أن السوريني أهلنا ،وكل َم ْن يشارك في إطالة املأساة يجب أن يتحمل مسؤوليته التاريخية”. أظن أن سبب هذه النقالت ،هو تحول قطر نفسها من موقع إلى موقع جديد ،حيث كانت قطر ،ومازالت ،طرفا مؤثرا في دعم الثورة ضد نظام بشار ،والحماسة العارمة للخيار العسكري إلسقاط بشار األسد ،وبالتالي الخروج من العالقة التي كانت تربط قطر بما سمي “محور املمانعة “ ،وتجلى هذا التحول القطري ،إعالميا ،من خالل خروج نجوم “الجزيرة” منها ،ممن هم على الجانب اإليراني ومحوره السوري ومعه حزب الله اللبناني ،أمثال غسان بن جدو ،ولونا الشبل ..وغيرهما. الدنيا تدور كدوران األفالك ،ويتعاقب فيها الحال كتعاقب الليل والنهار.
جهاد املقاومة أم جهاد التبرير؟
66
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
www.majalla.com
العدد 1584يونيو -حزيران 2013
مجلة العرب الدولية شهرية سياسية
تأسست في لندن عام 1980
علي العميم :اأزاهرة �شيوعيون ..هل كان حممد البهي �شيوعياً ؟! حت�شني قادر علي :املياه ..قنبلة موقوتة بني العراق واإيران �شتيفن غلني« :اإخوان» �شابقون ين�شمون اإىل املعار�شة يف م�شر
للحصول على العدد اسـتخـدم هاتفــك ال ــذكي لـمــسح هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم 06
ISSN 1319-0873
9 771319 087013
issue 1584 - June 2013
www.majalla.com
المجلة /العدد 1578ديسمبر -كانون االول 2012
كتب
التوظيف األداتي للدولة يعبر عن فشلها في بلورة مبادئ عملها ومهامها من داخلها.
أزمة الدولة التحديثية
,,
أي مسعى لتحقيق الديمقراطية ال يأخذ في اعتباره عالقتها العضوية بطبيعة الدولة ومستوى نموها ودرجة استعدادها مسعى طوباويا غير تاريخي
,,
األزمة العميقة التي تخترق الدولة العربية ال تكمن في ارتفاع وتيرة االستبداد والقمع فحسب ،وإنما في القطيعة بني املجتمع والدولة ،والنتيجة أن انهيار «مشروع البناء الوطني» قد أدى إلى تفريغ الدولة الحديثة من أي مشروع ،وبالتالي إلى إبراز ممارستها من جديد كتعسف مطلق غير قابل للتبرير ..األمر الذي جعلها تعيش مأزقا تاريخيا حقيقيا ،وانعداما ألي أفق، وال يتردد غليون في الجزم بأنه يكمن وراء إعادة إنتاج هذه الشروخ «إفالس ثقافة سياسية مضى زمنها».
أزمة النظام املدني ..دولنة املجتمع العالقة املضطربة بني الدولة واملجتمع املدني هي التي تفسر األزمة التي يعانيها الفكر السياسي العربي ،ويرى املؤلف أن تدمير املجتمع املدني لن يقود إال إلى تدمير السلطات الوسيطة املدنية ،وحرمانها من التشكل ،وإلغاء مبدأ وجودها ،ويضيف أن أصل الفساد في كل املجتمعات ال يكمن إال في وضع مؤسسات املجتمع املدني ومصالحه في خدمة مصالح النخب املتنافسة على السلطة. ويشير الباحث نقال عن غليون إلى أن «األمر الجديد والخطير في آن ،هو أن املجتمع الدولي الذي يغذي تفكك املجتمع املدني العربي ويمنعه من التبلور واالنصهار وتحقيق التوازن الداخلي، هو في طريقه اليوم إلى أن يطور وسائل جديدة ومستحدثة لم نعرفها من قبل للتدخل العسكري والسياسي والثقافي ،حتى يمد قدرته على التحكم في املجتمع املدني العربي والسيطرة عليه من الداخل ،من خالل التوظيف اآليديولوجي ملفهوم املجتمع املدني. ذلك ألن الحديث املتزايد في الغرب األوروبي واألميركي عن الديمقراطية واملجتمع املدني وحقوق اإلنسان لن يؤدي إال إلى تعميق ارتباط املجتمع املدني املحلي بالخارج ،ومن ثم التحكم فيه ماديا ومعنويا» .ويمكن لنا هنا أن نتذكر أزمة املجتمع املدني في مصر وبعض دول الخليج ،إذا بدأ استخدامه كيد ملنظمات خارجية ،وهو يفقد املجتمع املدني شرعية تحركه، ويصيبه في مقتل.
من «املجتمع األهلي» إلى «املجتمع املدني»:
محمد جابر األنصاري
64
في الخبرة الحضارية العربية اإلسالمية شهد التاريخ العربي اإلسالمي أشكاال مختلفة من الدول ،وإن لم تختلف في نوع وظائفها ،فقد اختلفت في أشكال إدارتها وأعرافها وقوانينها، غير أن التاريخ العربي -اإلسالمي عرف نموذجا موحدا ومتناهيا للمجتمع املديني ،كان املجتمع املديني تعدديا من الناحية الدينية (مسلمون ،مسيحيون ،يهود) ،إلى جانب الجماعات واألعراق والجنسيات املتنوعة ،باإلضافة إلى طرائقه الحرفية وطرقه الصوفية ،وغير ذلك ،على أن هذا املجتمع كان مشموال برعاية الشريعة التي توحد ثقافته ،وكان العلماء هم قادة هذا املجتمع املديني وليس األمراء أو الحكام ،ولذلك فقد كان اإلسالم يتحقق في الجماعة وليس في الدولة. االستعصاء الديمقراطي والبنية التسلطية للدولة العربية
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
االنتقال نحو الديمقراطية ال يتم إال عبر سيرورة تاريخية طويلة ومعقدة ،وال يتحقق إال بالنجاح في اعتماد تنشئة اجتماعية وسياسية ديمقراطية ،تثمر ثقافة سياسية ديمقراطية على نطاق مجتمعي واسع ..غير أن التفسير الذي يهمنا أكثر من غيره في هذا املقام هو الذي يعلل صعوبة االنتقال الديمقراطي نحو الديمقراطية في املجتمعات العربية بإشكالية بناء الدولة الوطنية الحديثة في الوطن العربي .هكذا يرى األنصاري ،وهذا ما تكشفت سنوات الربيع العربي عنه ،أن الديمقراطية تحتاج إلى أرضية حقيقية لتنمو فيها ،وإال استحالت إال دوامات عامرة بالخراب ،واحتفاالت بالخيبة ،وانقطاع الرجاء.
دور الدولة في عملية التحول الديمقراطي أي مسعى لتحقيق الديمقراطية ال يأخذ في اعتباره عالقتها العضوية بطبيعة الدولة ومستوى نموها ودرجة استعدادها مسعى طوباويا غير تاريخي. وليست الدولة هي شريك التحول فحسب ،بل حتى املعارضة، فوجود املعارضة وفاعليتها بوصفها مقوما أساسيا وشرطا الزما لبنيان أي دولة ديمقراطية حقيقية ،أس األمر ،وهو يرى أن مشكلة الديمقراطية نابعة من أزمة املعارضة أكثر مما هي نابعة من قوة النظم ،خاصة أن أغلب املعارضات العربية لم يعرف الحياة السياسية أو التنظيمية إال من خالل ارتباطه بالدولة ،ويطرح الدولة الديمقراطية كتجاوز للدولة العلمانية والدولة الدينية. ووعيا من األنصاري بالبعد الوظيفي للديمقراطية ،فقد شدد، مثل غليون ،على أهمية وحيوية العمل على استنباتها مثلما يجري الحرص على استنبات التكنولوجيا وأكثر ،معتبرا أنه إذا كان ثمة مشروع جاد الستنبات التكنولوجية« ،فال بد من التفكير ،وبجهد أكبر ،في كيفية استنبات الديمقراطية في األرض العربية ،بكل ما تقتضيه عملية االستنبات من شروط ومستلزمات». اتفاق األنصاري وغليون على الغائية الكلية للديمقراطية ال ينفي وجود تباينات كثيرة بينهما بصددها ،فبينما نجد غليون ،على سبيل املثال ،ال يربط الديمقراطية معياريا بأي آيديولوجيا محددة ،مسلما بإمكانية صدورها عن أي منظومة مرجعية ال تتناقض جوهريا مع منظومة قيمها في الحرية، واملساواة ،والعدالة ،واالختالف ،والتعددية ،والغيرية ،والتسامح، والنسبية املعرفية ..نجد األنصاري يربطها بالليبرالية ونظام السوق. وبصيغة أكثر وضوحا ،فإن غليون يشدد على ضرورة االعتراف بأن نمو التيارات العقدية يعبر عن مشاكل واقعية وحقيقية وليست مفتعلة ،تستوجب أخذها بعني االعتبار، والعمل على إيجاد الحلول املناسبة لها بدل االكتفاء بإدانتها. الكتاب محاولة جادة من مثقف جاد ،أراد وضع النقاش املفاهيمي أمام الساسة ،ليعيدوا صياغة التعاقد األول، وليحسموا الهالميات ،لينقلوا الفكر العربي من حالة الالدولة إلى بدايات الدول .أهمية الكتاب تنبع من لفته النظر ألهمية اإليمان باملواطنة كشرط واجب للتحول من مقاعد «املتخلفني»، فالوطن ما لم يكن الحقيقة األسمى ،فإنه يظل مرحلة انتقالية، غريقة بأهلها ،ومتى صارت هي اإليمان والتمكني ،تحولت إلى جسر لتفاهمات إنسانية أكبر ،فهل يعي العرب؟ <
ورهان تجاوز واقع التأخر التاريخي ترتبط عملية التنظير للدولة أنماط الدولة ..اإلصالحية ..الوطنية ..الليبرالية
لدى كل من محمد جابر األنصاري وبرهان غليون بإشكالية محورية تتمثل في السعي للوقوف على العوامل املعيقة للتقدم التاريخي للمجتمعات العربية من جهة ،والسعي باملقابل لتحديد الشروط واملقومات الالزمة لكسب رهان هذا التقدم من جهة أخرى ،من خالل افتراض أن «الدولة القطرية مرحلة إقطاعية مؤجلة» تبعا لذلك يتبلور مفهوم «الدولة العضوية» لألنصاري ،وتطوير مفهوم «الدولة التحديثية» لغليون. وجه من وجوه االختالف الجوهرية بني غليون واألنصاري الذي يعتبر أن املجتمعات العربية «ما زالت في مرحل ما قبل الحداثة، وما قبل الدولة »...فغليون يذهب ،على النقيض من أطروحة األنصاري تماما ،إلى أنه «بموازين النظام العاملي الراهن يماثل التفتت الراهن للفضاء العربي وتوزيعه على دول متعددة ترفض تنظيم التعاون فيما بينها ..التفتت الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى ،وتقسيمها بني إقطاعات مستقلة ومنعزلة واحدتها عن األخرى. وفي الحالتني النتيجة األساسية هي وضع عقبة كبرى أمام تطور القوى اإلنتاجية ،املادية والتقنية والفكرية معا» .يخلص األنصاري إلى أن التاريخ السياسي العربي منذ التجزؤ املبكر إلمبراطورية الخالفة ..وهو يشهد باستمرار «عملية استئناف تشييد للدولة من الصفر» ،حيث ظلت الدولة في املنطقة العربية تعاني حالة تكون وانحالل دائمني ،إلى أن قامت الدولة القطرية في العصر الحديث ،وقدمت بحدودها وإقليمها الجغرافي وقاعدتها السكانية ومؤسساتها املتنامية التجارب والنماذج األولى في التاريخ السياسي العربي لنواة الدولة بمعناها «العضوي املتكامل».
الدولة التحديثية ومستويات تشكلها هذه الدولة تعتبر دولة وظيفية بامتياز ،وتبرز «كمثال للقدرة على التدخل التاريخي الفاعل ،وكأداة إجرائية وتنفيذية خطيرة، من جهة ،وكذاتية جماعية مقلوبة من جهة ثانية ،وتمثل التجسيد البسيط واملطلق ألمل التقدم الحضاري الذي يثيره مفهومها ،وتأخذ على عاتقها مهام تحقيقه».
يصنف غليون الدول إلى ثالث ،اإلصالحية التي تعتقد أن تحقيق التقدم كشرط لحيازتها على الشرعية يتوقف على مدى قدرتها على استلهام املنابع الدينية الصحيحة واالقتداء بها من جديد ،أما الدولة الوطنية فهي تعتقد أن وظيفتها الرئيسية تتمثل في بناء املجتمع الوطني من خالل توسيع القاعدة االجتماعية للنظام ،في حني جاءت الدولة الليبرالية (أو دولة االنفتاح) للتعويض عن فشل الدولة الوطنية ،من خالل السعي إلى إعادة دمج االقتصادات املحلية العربية باالقتصاد العاملي، ويقول« :رغم التباين الظاهر بني كل من الدولة اإلصالحية والدولة القومية ودولة االنفتاح ،إال أن هذا التباين ليس إال تباينا ظاهريا يستبطن وحدة بنيوية عميقة» .بنية السلطة األساسية، رغم كل التباينات الشكلية ،ال تتغير. التأزم السياسي العربي ..بئر معطلة وقصر مشيد بحث األنصاري وغليون جذور االستبداد العربي ،وأصال القطيعة بني املجتمع والدولة ،في أصل الطبيعة السلطوية للدولة العربية الراهنة ،ويرى األنصاري أن ثمة تأزما سياسيا عاما يعانيه العرب على مختلف املستويات وامليادين ،وفي مختلف املواقع، ويرى أنه «تأزم يطال السلطة كما املعارضة ،واملجتمع كما الدولة» ،أما غليون فيرفض املنطق التاريخي في تبرير االستبداد، ويخلص إلى أن املركزية في األشكال التاريخية للسلطة تختلف اختالفا جذريا في وظيفتها وأسبابها ومفهومها عن نماذج الحكم الديكتاتوري الحديثة ،ومع أن األنصاري ،مثله مثل غليون ،ال ينفي الطبيعة السلطوية أو التسلطية الحادة لألنظمة العربية ،راديكالية كانت أو تقليدية ،إال أنه يختلف عنه في تفسير العوامل الكامنة وراء هذا النـزوع السلطوي ،معتبرا أن الدولة في كل مكان وفي كل التجارب ،بما في ذلك تجارب الدول الليبرالية ،لم تجنح نحو ما عبر عنه بـ «املركزية السلطوية املفرطة» إال استجابة لضرورات تأسيسها وتثبيت كيانها.
املوقف من الدولة القطرية األنصاري يعتبر الدولة القطرية دولة أصيلة وليست صنيعة لالستعمار ،يعتبرها دولة عريقة تجد أصولها في صيرورة التطور التاريخي للمجتمعات العربية اإلسالمية ،بينما يراها غليون امتدادا طبيعيا للدولة الحديثة التي خلقها االستعمار، وتبعا لذلك فإن الدولة العربية الراهنة «لم تعد تعكس جماعة سياسية تستند إلى أساس فكري أو فلسفي من رابطة دين أو رابطة قومية أو رابطة عرف ،ولكن وجود الدولة بفعل األمر الواقع ،وعليه فإن املصدر األول لتأزم الدولة العربية األخالقي والسياسي يكمن ،إذن ،في طبيعتها الالوطنية ،وعجزها عن االستجابة الفعالة للحاجات واملطالب االجتماعية».
كما أنها دولة متعينة من خالل نماذج وتجارب تاريخية محددة في الزمان واملكان خالفا لـ «الدولة العضوية» كما يتصورها األنصاري ،والحداثة عندهما جاءت تعبيرا عن توسع نمط إنتاج الطبقة البورجوازية ،لذلك فإن املقاربات التي يقترحها األنصاري للبلدان التي لم تعرف هذه الطبقة ،أو جاء ميالدها فيها متأخرا ،تشي بأن قوة خارجية من خارج املجتمع املدني تتدخل إلضفاء عناصر الحداثة ،أو على األقل لتعديل وتيرة نموها وتسريعها.فتنتج عن تفاعالتها أن تغدو الدولة أداة فوقية للتحديث.
الدولة العربية وأزمة املشروعية
غليون يتجه التجاه أكثر تحديدا إلبراز أهم خصائص هذه الدولة التحديثية ،كاشفا عن أنها ،من جهة أولى ،تمثل «دولة املركزية الشديدة والسلطة املطلقة» ،وهي أداة الستدراك التأخر التاريخي ،لذلك فهي «دولة غير تمثيلية وغير ديمقراطية»، ويرى أن أصل االستبداد فيها يتمثل في «وجود دولة حديثة مراكمة للسلطة ومجتمع مفتقر إلى التنظيم» ،إال أنه يعود لينبه ،في مفارقة واضحة ،إلى أن استبداديتها ال يعني أنها بالضرورة دولة ال قانونية!
أزمة الدولة العربية الراهنة تكمن في تمحور هذه السلطة على خدمة مصالح شديدة الخصوصية والضيق ،كما أن الطابع القطري للدولة العربية جعل الجمهور ينظر إليها باستمرار على أنها خطوة على طريق تحقيق دولة الوحدة القومية ،أي أنها مؤقتة وغير مطابقة للتصور املعياري السائد عن الهوية والشخصية الحضارية ،كما أن ضعف والء األفراد الروحي، وغياب ثقتهم بالدولة القطرية ،جعال حصولها على الشرعية مشروطا بإنجازاتها املادية ونجاحها االقتصادي فقط ،هذا
,,
األنصاري يعتبر الدولة القطرية دولة أصيلة وليست صنيعة لالستعمار يعتبرها دولة عريقة تجد أصولها في صيرورة التطور التاريخي للمجتمعات العربية اإلسالمية بينما يراها غليون امتدادا طبيعيا للدولة الحديثة التي خلقها االستعمار
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
برهان غليون
63
كتب
هذا كتاب يقدم على أعتاب عصر التأسيس لدول عربية نفضت «دولة» املاضي ،وأعاد طرح املعضلة األولى التي سببت تأخر العرب كل هذه السنوات ،وهي تتمثل في فهم «الدولة» وعناصرها واإليمان بها ،فيبذل الباحث الدكتور عبد السالم الطويل جهده لدراسة الجهود النظرية ملفكرين انتقاهما بعناية ،هما محمد جابر األنصاري وبرهان غليون ،وقد استطاعا تقديم رؤية جادة ومحاولة إلعادة الوعي العربي لسياق علمي ،ويناقشان مفهوم الدولة، ويتبنيان النقد املصوب ناحية اختراق جدار الفشل ،فكانت هذه األوراق التي تصدر عن «دار مدارك للنشر» ،في العام الثاني للربيع العربي ،وكأنها تحاول اإلشارة إلى أن الخلل لم يكن في الدولة التسلطية وحدها ،بل يمتد إلى بدايات التأسيس ،حيث علقت دول كثيرة في حالة «الالدولة» ،فأين املفر ،غير النقاش وهذا الحوار؟!
إشكالية الدولة في الفكر العربي املعاصر :محمد جابر األنصاري وبرهان غليون نموذجا
الدولة املتأخرة ..حصاد بدايات مشوهة! بقلم: عمر البشير الترابي تأليف: د .عبد السالم طويل دار النشر: مدارك للنشر أكتوبر (تشرين األول) 2012
في مقدمة الكتاب يقول الدكتور محمد مالكي ،مدير مختبر الدراسات الدستورية والسياسية بمراكش ،الذي قدم للكتاب، واعتبره محاولة جادة لالنخراط في االهتمام العربي املتأخر بقضية الدولة ،وأشاد باختيار «محمد جابر األنصاري» و«برهان غليون» ،فهما حاوال فهم سبب استعصاء الحداثة، كل خط الجواب من حرف مختلف ،وبمنهجه ،ودراستهما منحت الكاتب مسربا متاحا لوضع توليفة مميزة تهدي كثيرا من الجديد للقراء واملهتمني.
إشكالية الدولة ..البناء املنهجي والنظري وتضمن النقد املنهجي الذي قدمه غليون واألنصاري للنظريات السائدة حول الدولة ،مرورا بمعالجتيهما للتشكل التاريخي للدولة العربية ،باستحضار املحدد الجغرافي وأثره على بنية الدولة ،مطوفا بني األنثروبولوجيا السياسية وعلم السياسة، وقدم نقدا ملنهجيات التحليل السياسي السائدة ،واشتمل على تماس لحدود املقتربني التاريخي والجغرافي في تفسير الدولة العربية الراهنة. ففي املمارسة النقدية للدولة ،فإن غليون اعتبر املمارسة للنظريتني الليبرالية واملاركسية في الفضاء العربي تمثل «انعكاسا لشرخ واحد في الوعي والتفكير السياسيني»، فالنظرية املاركسية تتجاهل االستقالل الذاتي (النسبي) للدولة، بينما تتجاهل النظرية الليبرالية العوامل والقوى االجتماعية الحية الكامنة وراء كل سلطة واملحرك لها. واألنصاري ال يختلف كثيرا عن غليون في نقده ملا ينعته بـ «املناهج األجنبية» ،ولكنه يقدم نقده منصبا في التأصيل لـ «علم الخصوصية العربية في تكوينها التاريخي ،املجتمعي والسياسي» ،ويعبر عن توجه فكري في الفكر السياسي
62
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
العربي املعاصر ينطلق من دعوة «لفهم عمق تأثير العصر الوسيط في تطور تاريخنا الحديث وقضايانا املعاصرة».
التشكل التاريخي للدولة العربية يرى األنصاري أن الدولة القطرية هي «امتداد للسلطنات»، واملفارقة تأتي في أنه يرى أن «التناقض التاريخي بني السلطة واملجتمع في فترات متطاولة من التاريخ العربي اإلسالمي»، ويبني حله على استجالء هذا التاريخ ،فهو يربط بني املاضي والحاضر ،ويذهب إلى أن الثقافة السياسية العربية الحديثة تستمد جذورها من تراث سياسي -فكري وتاريخي يعتبره من أكثر مناحي التراث العربي اإلسالمي إشكاال وتأزما، وأكثرها التباسا وضعفا واضطرابا ،وأقلها ثراء وانسجاما مع منظومة اإلسالم القيمية ،أي ينتمي لثقافات رعوية قبل اإلسالم ،وغاشية عليه. أما برهان غليون فإنه يرى ذلك «يكاد يتحول إلى ما يشبه البحث عن مبدأ خطيئة أولى» ،ويتبنى بديال له «البحث عن الديناميات التاريخية الفاعلة واملستمرة واملتجددة معا» .نظرية الدولة العربية بني األنثروبولوجيا السياسية وعلم السياسة مع إقرار غليون ووعيه بأهمية البعد التاريخي في فهم مختلف الظواهر االجتماعية والسياسية ،إال أنه يعتبر هذا البعد غير كاف لفهمها ،كما أنه ال يمثل البعد الرئيس أو الحاسم في تشكلها ،معتبرا أن «فهم الحاضر ينبغي أن يبدأ من تحليل شروط الحاضر »..نفسه ما دام «الحاضر يتضمن املاضي» ويستبطنه ،والدراسة التاريخية ،تبعا لذلك ،ال تتجاوز أهميتها اإلسهام في إضاءة هذا الحاضر. حاول املؤلف التوليف بني األنصاري وغليون ،وغلب رؤية األول بأن ذكر أن «الحداثة تتخذ صورة انبعاث للتراث» .الدولة العربية
تتجاوز جمال بسهولة شديدة مثل هذه العوامل وتنسب إلى الواليات املتحدة الكثير من النتائج .ربما لم يؤثر دعم الواليات املتحدة سلبا ،ولكن بذلت هذه األنظمة جهدا كبيرا من تلقاء نفسها لتحافظ على بقائها. تسيء جمال أيضا تفسير طبيعة واشنطن التقليدية التي تقضي بعدم دعم حركات املعارضة املؤيدة للديمقراطية في العالم العربي. صحيح أن الواليات املتحدة لم تكن أبدا متحمسة لتغيير ديمقراطي مفاجئ في املنطقة ،وأنها حققت استفادة هائلة من تحالفاتها مع الحكام املستبدين املتحالفني الراغبني في حماية مصالحها .ولكن غاب عن الكاتبة حقيقة أنه على مدى العقدين املاضيني ،أشار معظم واضعي السياسات واملحللني األميركيني إلى أن هذه األنظمة االستبدادية على املدى البعيد سيكون مصيرها الفشل ،وأن تعزيز الديمقراطية في العالم العربي سوف يكون في صالح الواليات املتحدة في النهاية .لهذا السبب، ومنذ إدارة الرئيس بل كلينتون ،دعمت الواليات املتحدة عموما إجراء إصالحات ديمقراطية تدريجية. يمكن مالحظة مثل هذا الدعم لإلصالح التدريجي في املبادرات التي تمول من الواليات املتحدة منذ فترة طويلة لتطوير املجتمع املدني في الدول العربية والتشجيع على اإلصالح السياسي ،مثل مبادرة الشراكة األميركية الشرق أوسطية .وكان املهم أن الهدف من هذا النهج ليس تغيير األنظمة ولكن تحقيق االستقرار لها من خالل تعزيز شرعية حكمها. دفعت الواليات املتحدة الرئيس املصري حسني مبارك نحو اإلصالح ألن واشنطن كانت تخشى من أنه دون تحرير النظم السياسية في الدول، سوف تصبح األنظمة الحاكمة هشة وعرضة لالنهيار ،وأن كل من يأتي بعدها سوف يكون أكثر عداء للمصالح األميركية .أغفلت جمال هذا الفارق الدقيق وأضافت بدال منه حكما أخالقيا إلى فرضيتها .تشكو الكاتبة من أن السياسة األميركية ،وضعت «مصالح الواليات املتحدة فوق املصالح اليومية للمواطنني العرب» .حسنا ،نعم .أثناء إدانة جمال لدعم الواليات املتحدة لالستبداد ،يبدو أنها نسيت أن القضية الرئيسة التي توليها الواليات املتحدة اهتمامها هي مصالحها القومية. بالنظر إلى إصرار الكاتبة على أن السياسات األميركية هي املسؤول األول عن استمرار مشاعر الكراهية تجاه الواليات املتحدة ،تركز إلى حد يثير الدهشة على دور األحزاب اإلسالمية في تحديد صورة أميركا السياسية .وتدفع جمال بأن أهمية معاداة أميركا في أي بلد عربي معني يعتمد إلى حد كبير على طبيعة الحزب اإلسالمي املحلي .لذلك ،على حد قولها ،تعتبر معاداة أميركا عامال رئيسيا في السياسة األردنية ألن جبهة العمل اإلسالمي في األردن تعادي الواليات املتحدة (نظرا ألن قواعدها ال تستفيد من التحالف بني الواليات املتحدة واألردن ونظرا لألهمية املحلية للصراع اإلسرائيلي الفلسطيني) .وعلى النقيض من ذلك ،منذ أن أصبح اإلسالميون في الكويت أصدقاء لواشنطن (ألنهم يستفيدون بأكبر قدر من التحالف األميركي الكويتي) ،أصبح الكويتيون بشكل عام كذلك. لكن تؤكد جمال ببساطة أن اإلسالميني هم العامل الرئيس دون أن تثبت ذلك .وربما ينسب ذلك إلى هذه الحركات نفوذا أكبر مما تستحق .في الواقع ،في بلدان مثل مصر واألردن ،كما هو الحال في العالم العربي، تحمل األحزاب واألشخاص من مختلف األطياف اآليديولوجية وجهات نظر سلبية تجاه الواليات املتحدة .هذا يتناسب مع وجهة نظر جمال األساسية بأن معاداة أميركا في األساس ترجع إلى الصراع السياسي الداخلي ،ولكنه يتعارض مع فرضيتها بأن مواقف األحزاب اإلسالمية هي األكثر أهمية. من جانب آخر ،يناقض الربيع العربي حجج جمال التي تدعم فرضية الدور الحيوي الذي تؤديه األحزاب اإلسالمية .أوال ،هناك حركات
معارضة أخرى مهمة وفعالة بشكل واضح .ثانيا ،أصبح اإلسالميون في الوقت الحالي ،مع كراهيتهم الثقافية والسياسية للواليات املتحدة، يحتلون األنظمة القائمة التي تستفيد من الدعم األميركي .ولم يعودوا يقفون في طليعة التيار املعادي ألميركا وفي مفارقة وقع هذا الدور من نصيب حركات املعارضة اليسارية والليبرالية التي قد تتشابه قيمها املجردة مع القيم األميركية ولكنها ما زالت مهمشة في ظل الوضع الراهن الذي تدعمه الواليات املتحدة ،كما كانت تحت وطأة األنظمة االستبدادية القديمة .إذا أدى هذا إلى تحول دائم إلى وجهات نظر مؤيدة للواليات املتحدة بني اإلسالميني رغم اختالفاتهم اآليديولوجية والسياسية العميقة مع الواليات املتحدة ،فسوف يقدم أدلة قوية تدعم أطروحة جمال .ولكن ،بعبارة لطيفة ،ما زال األمر قيد املالحظة. تركز دراسة جمال على األردن والكويت وتقدم صورة مذهلة للمواقف السائدة في هذين املجتمعني .ولكن تمثل هاتان الدولتان قاعدة ضئيلة وغير ممثلة يمكن أن نقيم عليها نظرية شاملة ملشاعر العداء التي يكنها العرب تجاه أميركا .إنهما حليفتان صغيرتان تعتمدان كثيرا على الواليات املتحدة ،وعلى أي حال قد ال تنطبق تجربتاهما على قوى إقليمية أقوى ،أو أقل اعتمادا على أميركا .كان من املفيد أن تضيف الباحثة مصر ،أهم ميدان في معركة التحول الديمقراطي. وكان العراق ،الذي خضع للتحرير العسكري األميركي املؤلم ،سيقدم دراسة مقارنة مالئمة .وكذلك الحال مع نموذج تركيا ،حيث تأقلمت واشنطن طوال العقد املاضي على التعامل مع حكومة منتخبة يقودها إسالميون معتدلون. ربما كان من املفيد أن تخصص جمال مزيدا من االهتمام لكيفية التعبير عن أفكار ومشاعر العداء تجاه أميركا.
ال ي�ستطيع امل�ستبدون واملنتفعون من �أنظمتهم اال�ستمرار يف دورهم �إىل الأبد ولن ي�ستمروا يف احل�صول على دعم غري م�شروط من الواليات املتحدة
على مدار العقد املاضي ،ألقت دراسات ال حصر لها باللوم على شبكات التلفزيون الفضائية مثل «الجزيرة» بسبب إثارة مشاعر الكراهية تجاه أميركا .وعلى مدار العامني املاضيني ،تحول التركيز إلى دور اإلنترنت وشبكات التواصل االجتماعي في حشد املعارضة وتغيير أشكال الخطاب السياسي .ولكن لم تلق جمال ما يكفي من الضوء على هذا التيار الجديد املتدفق من األفكار واملعلومات ،ولم تبحث فيما إذا كان يعارض أو يؤيد التحيزات املعرفية .ولكن يتناول كتاب «عن اإلمبراطوريات واملواطنني» أمرا مهما يتعلق بعصر كراهية الواليات املتحدة املنصرم والراسخ في أنماط بدا أنها ال تتغير من اإلمبريالية األميركية والحكام املستبدين املذعنني الذين يشجعونها .ليس من املهم كيف ستنتهي املراحل االنتقالية املتعثرة في مصر وغيرها من املناطق، ولكنها لن تعود إلى هذه األنماط القديمة. ال يستطيع املستبدون واملنتفعون من أنظمتهم االستمرار في دورهم إلى األبد ولن يستمروا في الحصول على دعم غير مشروط من الواليات املتحدة. سوف يكون االختبار النهائي لفرضية جمال هو ما إذا كانت آراء العرب تجاه الواليات املتحدة سوف تتأقلم مع هذه الحقائق الجديدة وكيف سيكون ذلك؟ كما سيكون ذلك اختبارا لقدرة الواليات املتحدة على التعامل مع األوضاع السياسية الجديدة املضطربة في الشرق األوسط
فورن أفيرز /يونيو حزيران 61 - 2013 /
صحافة عالمية
نتيجة لإلصالحات االقتصادية الليبرالية الجديدة بتشجيع من الواليات املتحدة ،في حني ال يحصل عمال الزراعة والصناعة األقل مهارة على مكاسب مماثلة .لذلك على الرغم من أن رعاية واشنطن تعتبر نعمة بالنسبة للعديد من األنظمة العربية ،فإنها ال تفيد جميع سكانها بقدر متساو. ساعدت هذه املالحظة البسيطة جمال على الوصول إلي حجتها األكثر تعقيدا وهي أن الديمقراطية تشوش على أنماط الرعاية والفائدة املرتبطة بالتحالفات األميركية العربية .ويفضل مواطنو الدول العربية الذين استفادوا (أو الذين يأملون ويتوقعون أن يستفيدوا) من زيادة التكامل االقتصادي العاملي الوضع الراهن املؤيد للواليات املتحدة ويخافون من أن تفسد الديمقراطية عالقات بلدانهم مع واشنطن -فإن لم تنه هذه العالقات ،يمكنها على األقل أن تغيرها بما قد يسمح آلخرين بالحصول على قطعة أكبر من الكعكة. هذا يساعد على تفسير وجهات نظر تتبناها مجموعات مؤيدة للواليات املتحدة ربما من املفترض أن تكون معادية لها. على سبيل املثال ،ذكرت جمال في تقريرها أن األردنيني من أصل فلسطيني الذين حققوا نجاحا اقتصاديا يدافعون عن الواليات املتحدة أكثر من غيرهم األقل ثراء ،مما يوحي بأن الحصول على منافع اقتصادية من النظام القائم يتفوق حتى على االستياء القوي الناتج عن عقود من الحرمان.
بعد م�ضي عقود من انتقاد الواليات املتحدة لف�شلها يف االلتزام مببادئها الدميقراطية من خالل دعم احلكام امل�ستبدين يبدو �أن الليرباليني يف م�صر يعجزون الآن عن القبول ب�أن وا�شنطن قد غريت م�سارها
إذا كانت جمال على صواب، واملصلحة الفردية الذاتية تلعب دورا مهما في تشكيل املواقف العربية تجاه أميركا ،فيجب أن يكون لذلك تأثير على آفاق الديمقراطية في املنطقة.
إذا كانت الطبقات االجتماعية التي تستفيد من االمتيازات التي تعطيها أميركا لحكومات الدول العربية الصديقة تخشي من نضوب هذه االمتيازات في أعقاب التحول الديمقراطي ،فسوف تعارض هذه الطبقات الديمقراطية .لكن إذا اعتقدت هذه الطبقات أن الديمقراطية لن تهدد التحالفات مع الواليات املتحدة ،فلن تقف بالضرورة في طريق التغيير.
قدمت الثورات العربية التي قامت عام 2011اختبارا لهذه الفكرة .ربما ينطبق وصف جمال لسياسة الواليات املتحدة بـ«الديمقراطية املؤيدة للواليات املتحدة أو الديمقراطية على اإلطالق» على معظم العقود القليلة املاضية .لكن تجعل استجابة الواليات املتحدة للثورات فرضيتها محال للشك .حتى اآلن ،تحملت إدارة أوباما وأيدت (إن لم يكن احتضنت) األحزاب اإلسالمية الجديدة املنتخبة في مصر وتونس .وال يثير الدهشة أن يشعر مؤيدو النظام السابق -أو الفلول كما يطلق عليهم في مصر – الذين اعتادوا على احتكار العالقات مع الغرب ،بالخيانة .لكن موقف أوباما أغضب أيضا الليبراليني املؤيدين للديمقراطية واملناهضني لإلسالميني ،الذين اعتبروا أن دعم الواليات املتحدة للعملية الديمقراطية يتساوى مع دعمها لجماعة اإلخوان املسلمني. توقع كثير من الليبراليني أن أميركا ستقف ببساطة إلى جانبهم ،حتى بعد النتائج الهزيلة التي خرجوا بها في االنتخابات .وأدى هذا إلى نوع
جديد من كراهية أميركا :وأصبح في مصر في الوقت الحالي الليبراليون يتهمون الواليات املتحدة بالتآمر مع اإلخوان املسلمني من أجل تقديم نوع جديد من الحكم االستبدادي ،كل هذا تحت اسم تحقيق االستقرار .يبدو ذلك تأكيدا للفكرة التي طرحها علماء سياسة أبرزهم بيتر كاتزينتشن وروبرت كيوهان ،والتي تشير إلى أن مشاعر العداء تجاه الواليات املتحدة غالبا ما تنتج عن «التحيز املعرفي» ،أي أن الناس يرون باستمرار ما يريدون رؤيته ،بغض النظر عن املعلومات الجديدة التي تتعارض مع اعتقادهم. بعد مضي عقود من انتقاد الواليات املتحدة لفشلها في االلتزام بمبادئها الديمقراطية من خالل دعم الحكام املستبدين ،يبدو أن الليبراليني في مصر يعجزون اآلن عن القبول بأن واشنطن قد غيرت مسارها .ويرون أن قبول أوباما باالنتصارات االنتخابية لإلخوان املسلمني ليس دليال جديدا يؤيد سياسة الواليات املتحدة الديمقراطية :بل هو ببساطة دليل جديد يحمل نفس االزدواجية والنفاق القديم اللذين يتوقعهما الليبراليون املصريون من األميركيني. منذ بداية الثورات العربية ،قدمت الواليات املتحدة ما يثير هجوم هؤالء الليبراليني ،في الغالب بسبب تناقضاتها .لم تكن إدارة أوباما قادرة على تقديم شرح كاف ،على سبيل املثال ،ملاذا تدعم املطالب الشعبية من أجل الديمقراطية في مصر ،وليس في األراضي الفلسطينية. ومن املهم معرفة أسباب هذا التناقض ،ألن فهمه سوف يجعل من السهل التنبؤ بكيفية استجابة الواليات املتحدة للتحوالت السياسية املستقبلية في العالم العربي .من وجهة نظر جمال ،كشفت الثورات العربية قدرا ضئيال للغاية من موقف واشنطن تجاه الشرق األوسط .في اعتقادها، ال تزال مصالح الواليات املتحدة الراسخة العقبة الرئيسية أمام التحول الديمقراطي ،ويحق لليبراليني العرب املعادين لها أال يصدقوا إخالص موقف واشنطن الجديد بدعم التغيير الديمقراطي. تقول الباحثة إن الواليات املتحدة عملت بشكل ممنهج لخنق أي دفع نحو الديمقراطية الحقيقية ،ولم يكن العامان املاضيان مختلفني.لذلك ال ينبغي أن يكون الهجوم العنيف على دورها في املنطقة مفاجئا ،وقد شوه بدوره سياسات املعارضة من خالل اختزالها كل شيء في معاداة الواليات املتحدة .ولكن تبالغ املؤلفة في وصف هذا االدعاء ،ولهذا السبب ال يمكن اعتبار كتابها دليال دقيقا على العالقة املعقدة بني كراهية الواليات املتحدة والتحول الديمقراطي في العالم العربي املتغير .لم تنجح جمال في تناول تعقيدات التفكير األميركي في الديمقراطية العربية ،وما فعلته واشنطن تحديدا ردا على االنتفاضات العربية ،ومحدودية قدرتها على صياغة النتائج. ربما تبالغ جمال في إسناد معاداة أميركا إلى الهوية العربية والتوجهات السياسية ،السيما في حني لم تعد الواليات املتحدة تتدخل بشكل كبير في الشؤون الداخلية للدول العربية وتقلل من وجودها في املنطقة .قد تساهم قضية التحيز املعرفي في تأييد فرضية جمال .ولكن يثير اعتقاد العرب غير الصحيح بأن واشنطن قادرة على تشكيل حياتهم اهتماما أكبر بكثير من الحقيقة غير املثيرة .يشير جزء من هذه الحقيقة إلى أن الواليات املتحدة تفضل عادة شركاء مستقرين غير ديمقراطيني في العالم العربي وأنها كانت في كثير من األحيان غير متحمسة لوجود ديمقراطية حقيقية هناك .ولكن اعتمد بقاء االستبداد العربي أيضا على حقيقة أن العديد من القادة العرب استطاعوا الحصول على العائدات الضخمة أو التحالفات اإلقليمية التي سمحت لهم ببناء أنظمة محاباة قوية ومؤسسات أمنية قومية هائلة. كما أنهم كثيرا ما نجحوا في سياسة املحاباة واستراتيجية فرق تسد.
فورن أفيرز /يونيو حزيران 60 - 2013 /
وفي استطالع رأي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العاملية عام ،2008 سئل املواطنون األميركيون عن ترتيب أولويات واشنطن من حيث األهمية، فكانت استعادة مكانة أميركا على قمة أولويات كثير من املشاركني في االستطالع متقدمة على حماية الوظائف ومكافحة اإلرهاب ومنع انتشار األسلحة النووية. عندما جاء باراك أوباما رئيسا للبالد في عام 2008خلفا لجورج دبليو بوش ،قلت أزمة الشعور بالعداء تجاه أميركا .وتعهد أوباما بالعمل مع الشعوب وإصالح صورة الواليات املتحدة في الخارج ،وقد توج ذلك في خطابه للعالم اإلسالمي الذي ألقاه في يونيو (حزيران) عام 2009 في جامعة القاهرة .في بداية فترة أوباما الرئاسية األولى ،سجلت استطالعات الرأي في العالم العربي موجة أكثر إيجابية تجاه الواليات املتحدة ،معظمها كانت استجابة لرئيس جديد ذي شعبية .لكن ذلك لم يدم طويال .وأدى نهج أوباما التقليدي نسبيا في السياسة الخارجية، خصوصا في ما يتعلق بالنزاع اإلسرائيلي الفلسطيني ،إلى خيبة أمل الرأي العام العربي ،وسريعا ما عادت االنتقادات. في عام ،2011أثار الربيع العربي توقعات بأن تغيير السياسة الداخلية من شأنه أن يساعد املنطقة على التغلب على كراهية الواليات املتحدة والتوقف عن لوم اآلخرين بسبب معاناتها .وأثار غياب حرق األعالم األميركية والهتافات املعادية للواليات املتحدة بني الجماهير الذين كانوا يتظاهرون في ميدان التحرير في القاهرة تعجب املحللني :فألول مرة على ما يبدو ،لم يكن الغضب يتعلق بالواليات املتحدة .ولكن كما حدث مع شعبية أوباما في الشرق األوسط ،تبخر هذا األمل أيضا سريعا عندما اكتسحت األحزاب اإلسالمية االنتخابات في تونس ومصر، واستهدفت احتجاجات عنيفة سفارات الواليات املتحدة في منطقة الشرق األوسط بعد بث فيديو معاد لإلسالم على موقع «يوتيوب»، وقتل أربعة دبلوماسيني أميركيني على يد الجهاديني في ليبيا. ومن الواضح اآلن أنه حتى التغيرات الكبرى ،كرحيل بوش ،ودعم أوباما لبعض الثورات العربية التي اندلعت عام ،2011ووفاة أسامة بن الدن، وانسحاب أميركا من العراق ،لم يكن لها أثر كبير على مواقف العرب تجاه أميركا .ربما يكون العداء تجاه الواليات املتحدة انحسر لبعض الوقت ،لكنه بدأ يتزايد مرة أخرى بحرية .وفي الوقت نفسه ،يصعد اإلسالم السياسي وتزدهر الجماعات الجهادية .وبدأت الفصائل الليبرالية والعلمانية التي قد تبدو حليفة طبيعية ألميركا في اإلعالن عن بعض الشكاوى ،إنها غاضبة من الواليات املتحدة عندما تتدخل عسكريا في املنطقة (في ليبيا) ،وعندما ال تتدخل (في سوريا) ،وإنها تشعر بالغضب عندما تدعم واشنطن انتخابات ديمقراطية (في مصر، حيث فاز اإلسالميون) ،وعندما ال تفعل ذلك (في البحرين ،على سبيل املثال). استمرار العداء ألميركا في العالم العربي هو املوضوع الرئيس الذي يتناوله كتاب «عن اإلمبراطوريات واملواطنني» ألماني جمال (أستاذ العلم السياسية بجامعة برينستون) ،وهو عمل مثير لالهتمام يتحدى شروط الخالف القديم بني ثالثة معسكرات رئيسية :أولئك الذين يرون معاداة العرب للواليات املتحدة كنتاج لكراهية حضارية فريدة وعميقة ،وأولئك الذين يرون معاداة الواليات املتحدة على أنها مجرد شعور باالستياء يمكن توقعه تجاه القوة العظمي الوحيدة في العالم ،وهو شعور مشترك في أنحاء أخرى من العالم وليس قاصرا على الدول العربية ،وأولئك الذين يرون أنها رد فعل منطقي لسياسات الواليات املتحدة التي يعتقد العرب أنها أضرت بمصالحهم بطريقة ممنهجة. تتتبع جمال عن كثب املعسكر الثالث ،ولكن مع بعض االختالفات ،فهي تقول إن كراهية الواليات املتحدة ليس لها عالقة بالشعور باالستياء الثقافي أو الكراهية بني الحضارات ،كما أنها تتجاوز رد الفعل الطبيعي
تجاه قوة عاملية كبرى .وعلى الرغم من أن املؤلفة تعتقد أن سياسات واشنطن مثل الحرب على اإلرهاب ودعمها الراسخ إلسرائيل تساهم في تشكيل املواقف العربية ،فإنها تقول إن مثل هذه السياسات ليست العوامل األساسية .تعكس كراهية العرب للواليات املتحدة رفضا أعمق ألنظمة سياسية غير ديمقراطية في الدول العربية ،والتي تدعمها الواليات املتحدة على مدى عقود .تدفع أماني جمال بأن الواليات املتحدة كانت العقبة الرئيسية أمام ظهور الديمقراطية في الشرق األوسط ،ألنها أصرت على «الديمقراطية املؤيدة للواليات املتحدة أو ال ديمقراطية على اإلطالق». وترى أن دعم أميركا للحكم االستبدادي ،وهي أكثر السياسات األميركية التي تتعرض للهجوم في الغالب ،تكمن في صميم شعور العرب بالعداء تجاه الواليات املتحدة .إذا كانت جمال على صواب ،سنكون في حاجة إلى إعادة النظر في معظم اآلراء التي أطلقت في العقد املاضي .لن يحقق تغيير سياسات الواليات املتحدة ،حتى في القضايا ذات األولوية القصوى مثل إسرائيل ،تأثيرا كبيرا على كراهية أميركا ،وستكون الجهود الرامية إلى تعزيز القيم األميركية في املنطقة من خالل شن «حرب األفكار» ضد اإلسالم الراديكالي في أحسن األحوال غير مهمة وفي أسوأ األحوال سوف تؤدي إلى نتائج عكسية .في رأي جمال ،ما تحتاجه الواليات املتحدة هو بالضبط ما تعتقد املؤلفة أنها ال تستطيع القيام به :تعزيز الديمقراطية العربية جديا.
ا�ستمرار العداء لأمريكا يف العامل العربي هو املو�ضوع الرئي�س الذي يتناوله كتاب «عن الإمرباطوريات واملواطنني» لأماين جمال (�أ�ستاذ العلم ال�سيا�سية بجامعة برين�ستون)
تخضع اآلن الفرضية التي تطرحها جمال لالختبار. أبدت إدارة أوباما استعداد واشنطن الستيعاب التغيير، وفي السنوات املقبلة ،ستستمر السياسة الديمقراطية الجديدة في العالم العربي في تقويض النظام االستبدادي القديم الذي ربط كثيرون بينه وبني الواليات املتحدة .ربما تتحول هذه العملية في النهاية إلى الخطوة األولى في سبيل إنهاء تاريخ طويل من كراهية العالم العربي ألميركا، أكثر من الحرب التي قادتها الواليات املتحدة ضد األفكار املتطرفة أو التغييرات التي أجرتها من أجل مصالح األمن القومي األميركية الرئيسية. يركز كتاب جمال على دراسة عن قرب للمواقف الشعبية تجاه الواليات املتحدة في العديد من البلدان العربية .تقول الباحثة إن بعض األنظمة العربية ،تابعة بالضرورة للواليات املتحدة ،وبالتالي تملك سيادة مستقلة شكليا .وتلعب واشنطن دورا كبيرا في تشكيل النظام السياسي في مثل هذه البلدان ،وال سيما من خالل دعمها لبعض األنظمة الحاكمة، الذي يتمثل في :تبادل املعلومات االستخباراتية والتكنولوجيا العسكرية املتقدمة. بالنسبة لبعض الدول العربية ،يفتح التحالف مع الواليات املتحدة الباب أمام دعم املؤسسات املالية الدولية وغيرها من املنظمات الدولية ويسهل الوصول إلي اتفاقيات تجارية وإبرام صفقات أسلحة .في إيجاز ،ما زالت جميع الطرق السياسية واألمنية تمر عبر واشنطن. ولكن تستفيد بعض شرائح املجتمعات العربية بشكل أكثر من غيرها من عالقاتها مع واشنطن .تجني النخب املتعلمة التي تتحدث اإلنجليزية وتعيش في املدن نفعا أكبر من الشرائح األقل ثراء في املناطق النائية أو الضواحي .ويحقق الذين يملكون رأسمال مادي أو ثقافي أرباحا هائلة
فورن أفيرز /يونيو حزيران 59 - 2013 /
صحافة عالمية
تصاعد الكراهية في الشرق األوسط
استمرار العداء ألمريكا
العداء ألميركا استمر بعد الربيع العربي
بقلم :مارك لينش *
منذ عقد من الزمان ،بدا العداء ألميركا مشكلة ملحة .وأظهرت استطالعات الرأي في الخارج مشاعر كراهية عارمة تجاه الواليات املتحدة ،خاصة في العالم العربي ،وظهر هذا الشعور جليا حينما قامت جموع حاشدة بحرق األعالم األميركية وتزايد صعود متطرفني إسالميني وجماعات إرهابية .ولذلك ال يثير الدهشة أن العديد من األميركيني اعتبروا هذا التطور تهديدا خطيرا. * أستاذ مساعد في العلوم السياسية والشؤون الدولية ومدير معهد دراسات الشرق األوسط في جامعة جورج واشنطن
فورن أفيرز /يونيو حزيران 58 - 2013 /
ويجدر بمن يعتقد بخالف ذلك أن يتذكر التقديرات الخاطئة الصادرة عن االستخبارات والتي أشارت إلى أن صدام حسني لديه مخازن هائلة من أسلحة الدمار الشامل بالعراق .وأدى ذلك التضليل إلى شن حرب مكلفة ومثيرة للجدل على نطاق واسع ومسببة لخالفات دولية – إنها عبرة لهؤالء املسؤولني عن جمع املعلومات االستخبارية في سوريا في الوقت الحالي. إذا كانت إدارة أوباما جادة في سعيها للحصول على حقائق تدل على استخدام الرئيس السوري بشار األسد لألسلحة الكيماوية ،يجب عليها البدء ً أوال بفهم ما لن يحدث .لن تكون هناك تحقيقات تتسم بالشفافية أو الوضوح أو الدقة الكاملة بالتعاون مع الحكومة السورية. ويبدو ذلك كما لو أنه أمر بديهي ،ولكن في خطاب إلى الكونغرس األميركي، أعرب البيت األبيض عن تفضيله إلجراء «تحقيقات شاملة تابعة لألمم املتحدة» حول تلك القضية .ولم يقتصر األمر على رفض األسد للسماح ملفتشي األمم املتحدة بالدخول إلى البالد فحسب ،بل دائما ما تبعث حكومته ً برسائل غامضة ،ومتناقضة أيضا :ففي 25أبريل (نيسان) ،صرح وزير ً اإلعالم السوري بأن بالده ال تمتلك مثل تلك األسلحة ،مضيفا أن الجيش لن يقوم باستخدام تلك األسلحة« ،إذا افترضنا وجود مثل تلك األسلحة في املقام األول». ُ وفي النهاية ،سوف تجرى عملية جمع املعلومات االستخباراتية بسوريا على مراحل .وسوف تضطر واشنطن إلى دمج أنواع مختلفة من األدلة املجمعة عن العديد من األجهزة االستخباراتية (متضمنة وكالة املخابرات املركزية ،ووكالة االستخبارات العسكرية األميركية ووكالة األمن القومي ،وغيرها) باإلضافة إلى الوكاالت االستخباراتية النشطة لحلفائها باملنطقة – وأبرزها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. أما عن استخبارات اإلشارة – التي تتمثل في اعتراض االتصاالت وصور األقمار الصناعية – فسوف تلعب ً دورا ً حتما ً كبيرا .لذلك ينبغي على وكاالت االستخبارات أن تصب تركيزها على اعتراض اتصاالت إذاعية ورقمية بني الوحدات العسكرية التي يشتبه في استخدامها ألسلحة كيماوية؛ فإذا كانت تلك الوحدات على علم بتحرك أسلحة كيماوية أو نشرها ،فمن املحتمل أنها سوف تتطرق إلى ذلك األمر .كما ينبغي على تلك الوكاالت أن تدقق في صور األقمار الصناعية ملعرفة ما إذا كان هناك أي دليل مرئي حول تحرك أسلحة كيماوية .ولكن حتى ذلك لن ُيعد بمثابة الدليل القانوني املحكم الذي تشير إدارة أوباما إلى أنها تبحث عنه. ولهذا السبب ،سوف تؤدي االستخبارات البشرية – التي تتمثل في جمع املعلومات االستخباراتية من خالل التواصل املباشر مع األشخاص – ً دورا ً ً محوريا أيضا .بالتأكيد سوف يكون من الصعب جمع املعلومات األكيدة من االستخبارات البشرية ،حيث إن اختراق منظمة أجنبية (مثل الحكومة ً السورية أو الجيش السوري) خالل فترة قصيرة يكاد يكون مستحيال. ولكن االختراق ليس الطريقة الوحيدة للحصول على املعلومات. في إمكان العمالء النشطاء بالفعل ،التابعني للواليات املتحدة األميركية، الحصول على عينات من األنسجة البشرية من ضحايا األسلحة الكيماوية، أو عينات من التربة تؤكد استخدام األسلحة الكيماوية( .وبالفعل ،تشير التقارير إلى أن أجهزة االستخبارات البريطانية وجدت بالفعل مثل هذه ً األدلة) .يستطيع هؤالء العمالء ذاتهم أيضا جمع شهادات من األطباء والفرق الطبية التي ربما تكون قد عالجت ضحايا سقطوا نتيجة الهجمات الكيماوية. إذا بدأ نظام بشار األسد في الترنح ،يجب أن يكون عمالء االستخبارات األميركية على استعداد إلقناع مصادر داخل الحكومة السورية بتقديم معلومات كوسيلة لضمان نجاتهم شخصيا. وفي الوقت الحالي ،سوف يكون من األيسر إقناع الثوار السوريني بتقديم التفاصيل .ولكن هذا أيضا يثير املشاكل ،حيث يمكن أن تعمل املعارضة على
تزييف األدلة ،وذلك بهدف تشجيع التدخل الخارجي ،كما كان الحال فيما يتعلق بالحرب على العراق ،عندما قدم معارضون للنظام العراقي تقارير مثيرة للقلق لوكاالت االستخبارات الغربية حول القدرات التي يملكها صدام حسني. توجد أمثلة تاريخية لنجاح االستخبارات في جمع معلومات في ظل وجود قيود شديدة للغاية مثل الوضع في سوريا. على سبيل املثال ،هناك صراع الحلفاء من أجل فرض نزع السالح على أملانيا املنهزمة عقب الحرب العاملية األولى .تم تقليص عدد أفراد الجيش األملاني ليصل إلى 100ألف جندي ،فيما تم منع البالد من أن يكون لديها قوات جوية وأسلحة ثقيلة وغواصات .وبالتأكيد ،كان من مصلحة أملانيا عدم اتباع أي من تلك القواعد .وواجه مفتشو الحلفاء حالة من التعتيم ،وحتى وصل األمر إلى االعتداء الجسدي. ً كما لم يكونوا على دراية أيضا بالتعاون السري القائم بني أملانيا واالتحاد السوفياتي بشأن تدريبات الطائرات والدبابات واختبارات الغازات السامة. وعلى الرغم من ذلك ،حقق املفتشون العديد من االنتصارات :تمكن املفتشون بمساعدة مخبرين من التعرف على العديد من املخابئ السرية لألسلحة بأملانيا بصرف النظر عن مواجهتهم ملقاومة من الجيش والحكومة األملانية. ً نجاحا وشهدت املهمة في مجملها ً ملحوظا ،على الرغم من محاوالت إحباطها ،حيث تمكن املفتشون من تجريد أملانيا من معظم أسلحتها الثقيلة ،وتقويض قدرة جيشها على النهوض مرة أخرى باعتباره قوة هجومية لبعض الوقت.
يف �إمكان العمالء الن�شطاء احل�صول على عينات من الأن�سجة الب�شرية من �ضحايا الأ�سلحة الكيماوية �أو عينات من الرتبة ت�ؤكد ا�ستخدام الأ�سلحة الكيماوية
وبالفعل ،يظل الدرس األكبر املستفاد من نموذج أملانيا بعد الحرب ببساطة :حتى في أكثر الظروف االستثنائية ،من املمكن أن تثمر املثابرة عن نتائج استخباراتية مهمة. ً وهناك درس آخر أيضا :عقب جمع املعلومات االستخباراتية ،يظل أمامنا تساؤل مهم للغاية يتمثل في كيفية استخدام تلك املعلومات .وكما خلص جون كيغان ،املؤرخ العسكري البارز ،في كتابه «االستخبارات في الحرب»، فإنه «ال يوجد ما ُيسمى بالسر الذهبي ،أو (املعلومات االستخباراتية األكيدة) ،التي سوف تؤكد جميع الشكوك وترشد» القائد إلى مسار العمل الوحيد الصحيح.
يقتصر دور االستخبارات على تقديم املعلومات من أجل وضع السياسات ُ التي تعد في ذاتها وظيفة تنطوي على اإلدارة والحسابات .عقب الحرب العاملية األولى ،تم استخدام إحباطات مفتشي األسلحة واألسلحة غير القانونية التي تم اكتشافها في وضع قيود أكثر تشددا ضد أملانيا. وكذلك في حالة العراق ،قرر واضعو السياسات التأكيد بشدة على املعلومات االستخباراتية التي تشير إلى وجود أسلحة الدمار الشامل في تبريرهم لشن الحرب – وهو القرار الذي كان له في النهاية تأثير مدمر على الرأي العام بشأن الصراع عندما اتضح عدم وجود أي من تلك األسلحة. أما في حالة سوريا ،فيبدو أن األمور تشهد مسارا مختلفا ،حيث تفضل إدارة أوباما استخدام جمع املعلومات االستخباراتية كحجة لتأخير اتخاذ أي قرار سياسي واضح .ويبدو أن املسؤولني األميركيني يعلمون أنهم عندما يدعون إلى إجماع دولي بشأن الحقائق في سوريا ،فإنهم يطلبون ً أمرا يستحيل تحقيقه
فورن أفيرز /يونيو حزيران 57 - 2013 /
صحافة عالمية
كيفية جمع معلومات استخباراتية في منطقة حرب
تقصي احلقائق يف سوريا
سوريا ..أرض مفتوحة الجهزة االستخبارات
بقلم :فيغاس ليولفيشوس *
ما زالت إدارة أوباما تبحث عن دليل مادي بأن نظام بشار األسد استخدم أسلحة كيماوية في سوريا .وعلى الرغم من أن الحديث عن الدليل أسهل من العثور عليه ،فإنه من املمكن التوصل إليه .ولكن السؤال املهم بالفعل هو كيف ستستخدم الحكومة هذا الدليل املادي عقب التوصل إليه؟ * أستاذ التاريخ ومدير مركز دراسات الحرب بجامعة تينيسي نوكسفيل
في شهر أبريل (نيسان) املاضي ،توصلت أجهزة االستخبارات األميركية إلى أن غاز السارين – الذي ُيعد من األسلحة الكيماوية التي تشير التقديرات إلى أنها أقوى بواقع 500مرة من السيانيد – قد تم استخدامه خالل الحرب األهلية الدائرة في سوريا. ً وسارع البيت األبيض ،الذي أشار مسبقا إلى أن استخدام نظام بشار األسد لألسلحة الكيماوية سيكون ً دافعا للتدخل ،إلى التأكيد على عدم تيقنه من أن
هذا الدافع تحقق بالفعل .وفي خطاب ألقاه الرئيس األميركي باراك أوباما في ً نهاية الشهر ،ذكر قائال« :ينبغي علي أن أتأكد من الحصول على الحقائق»، ً مضيفا أن الواليات املتحدة األميركية بحاجة إلى العثور على دليل أوضح حول كيفية استخدام األسلحة الكيماوية ،ومن قام باستخدامها تحديدا. هذا أمر بالغ الصعوبة. إن جمع األدلة املادية في دولة منغلقة مثل سوريا بمثابة مهمة صعبة للغاية؛
فورن أفيرز /يونيو حزيران 56 - 2013 /
كيفية جمع معلومات استخباراتية في منطقة حرب
تقصي احلقائق يف سوريا بقلم :فيغاس ليولفيشوس
تصاعد الكراهية في الشرق األوسط
استمرار العداء ألمريكا بقلم :مارك لينش
فورن أفيرز /يونيو حزيران 55 - 2013 /
البـحـوث العلـميـة عاليـة التأثيـر ٌ متـاحـة ا ن للمـجتـمع بأكمله.
ﺷـﻬـﺮﻳﺎ ﺑﺎﻃﻼﻋﻚ ﻋﻠﻰ Natureﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ،ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼـﺪﺭ ًّ ﺍﻧﻀـﻢ ﺇﻟﻰ ُﺭ ّﻭﺍﺩ ﺍﻟﻌﻠــﻮﻡ ﱢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴـــﺔ ،ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﺍﻹﻟﻜﺘــﺮﻭﻧﻲ ﺍﻟﺨـﺎﺹ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺷﺒـﻜﺔ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ ،ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻢ ﺗﺤﺪﻳﺜﻪ ﺑﺼﻔﺔ ﺩﺍﺋﻤﺔ. ﺇﻥ Natureﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﺗﺘﻴﺢ ﻟﻠﻨﺎﻃﻘﻴﻦ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ ﺍﻷﺧﺒــﺎﺭ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴــﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﺍﻟﺠﻮﺩﺓ ،ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎﺕ ﻣﺘﺎﺣﺎ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ ﻛﻞ ﺃﺳﺒــﻮﻉ ،ﻣﻊ ﻭﺟـﻮﺩ ﻧُ َﺴﺦ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ”.“Natureﺇﻥ ﻣﺤﺘـﻮﻯ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ ﺳﻴـﻜﻮﻥ ً ﺷﻬﺮﻳﺎ ﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ ًّ
ﺍﻃﻠِ ْﻊ ﻋﻠﻰ Natureﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻹﻧﺘﺮﻧﺖ ،ﻭﺍﻣﻸ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺑﺎﻻﺷﺘﺮﺍﻙ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺮﺍﺑﻂ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ: ﱠ
arabicedition.nature.com
ﺑﺎﳌﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ:
كاختالف آرائهم في أصل قبائل قضاعة وعاملة وجذام ولخم وخزاعة وكندة وخثعم وبجيلة وغيرها ،واختلفت آراء النسابني في العرب العاربة واملستعربة ،ولم يتفقوا في أصول أسماء القبائل« :ومن املعروف أن الكثير من األسماء التي تنسب لها القبائل ليست أسماء أشخاص وإنما أسماء ألحالف أو مواقع سكنى أو أمهات أو حاضنات وهذا ينفي فكرة أن أبناء القبيلة بالضرورة ينتمون إلى جد واحد تناسلوا من صلبه». ويعرض أيضا فرضية ويليام روبرنسون سميث حول اتخاذ القبائل العربية ألسماء كثير إلى صنمها أو طوطمها مثل قيس ومناة ويغوث وبكر وأسد وكلب وجحش وثور وغيرها ،كما يعرج الصويان على االختالف أيضا في العصور املتأخرة حول تسميات القبائل املعاصرة.
صورة ارشيفية للدكتور سعد الصويان في حفل مهرجان «الغاط للموروث الثقافي الواحد والعشرون» على استاد نادي الحماده(عام )2006
القرابة ،يقول مورغان بأن مفهوم النسب هو حقيقة ثقافية فرضتها املجتمعات البشرية بناء على حقيقة بيولوجية ،وقد نبه إلى ضرورة التفريق بني عالقات النسب العائلي وعالقات النسب العشائري ،فالنسب العشائري هو آلية لتحديد انتماء الفرد وهويتهُ ،يعنى األنثروبولوجيون بالنسب كآلية لتحديد شرعية االنتماء العشائري بصفته كمحدد أساسي لوحدة الجماعة السياسية ،تتخذ املجتمعات العشائرية خطا أحاديا للنسب (أبوي أو أمومي) بعد قدر من التطور التكنولوجي وتبلور مفهوم امللكية الخاصة ،يرتكز ذلك الخط على جد حقيقي أو مفترض« :حينما تكبر العشيرة املنحدرة من جد واحد ويزداد عدد املنتمني لها ويتباعدون في النسب زمانيا ومكانيا وقد ال يستطيع كل واحد من هؤالء أن يتذكر صلته بسلف العشيرة أو أن يتتبع بالتحديد الدقيق عالقات القرابة التي تجمعه مع اآلخرين من أبناء عمومته وأقاربه الذين ينتمون للعشيرة، رغم افتراض الجميع أن هناك صلة قرابة تجمعهم وأنهم ينتمون لجد بعيد يجتمع فيه نسبهم» .ومع مرور الزمن تنقسم العشيرة إلى فصائل قرابية ،ويتراوح انتماء الفرد ما بني فصيله األصغر إلى فصائل أكبر، وتتخذ العشيرة الكبرى في هذه املرحلة قرابة مفترضة ،فتصبح أقرب إلى التنظيم السياسي والديني منها إلى التنظيم االجتماعي أو االقتصادي، حيث تؤدي أغراضا تنسيقية بني مختلف الفصائل ،وتؤسس للعمل املشترك فيما بينها ،ال سيما في العالقات والنزاعات مع العشائر األخرى، وتقوم نظرية النسب عند النسابني العرب على افتراض رابطة الدم وبأن أبناء القبيلة ينحدرون من صلب رجل واحد ،وأن كل العرب تناسلوا من جد واحد .وتأتي أهمية االحتفاظ بسلسلة النسب ملا تحدده من مسافة قرابية فاصلة بني تشكيل وآخر حتى تلتئم تلك التشكيالت في تشكيل أكبر ،بدأ من املتجايلني صعودا نحو األسالف. يتطلب تشييد هذا البناء التمفصلي حدا أدنى تتشعب منه سالسل األنساب ،هذا الحد األدنى يمثله جدان ،عدنان وقحطان ،ويتطلب أيضا بناء هذا النموذج تماثال في سالسل النسب ،مما يستدعي التوافق الزمني في تلك السالسل فيعمد النسابون إلى الحيل في تحقيق ذلك التوافق عبر اختراع األجداد الوهميني ..« :مثل قيس الذي كثيرا ما يتردد في جداول النسب .»..أو تكرار األسماء« :كأن يسمى الجد باسم الحفيد»، ويحاول النسابون أن يتجنبوا استخدام هذه الحيل في املواقع املفصلية التي تنشأ فيها التفرعات .وقد أتي هذا االهتمام بتدوين األنساب في الفترة الزمنية التي بدأ فيها العرب بتدوين آدابهم وتاريخهم االجتماعي مع نهاية القرن األول أو بداية القرن الثاني للهجرة ،تماشيا مع تقعيد النحويني للغة وتشابها به كما يعبر الصويان. يستعرض الصويان في كتابه بعض األمثلة الختالفات النسابني القدماء،
تأثر هذا النموذج النظري للنسابني العرب باملوروث التوراتي وباآليديولوجيا القبلية ،حيث افترضوا مثلهم مثل أبناء القبائل أن االنتماء القبلي يحتم التناسل البيولوجي ،النسب في التنظيم القبلي هو غطاء آيديولوجي لتبرير عالقات الحاضر القائمة على التنظيمات السياسية واملصالح ،تستند اآليديولوجيا القبلية على بيولوجية النسب ،وعلى رؤية اإلنسان األمي املعكوسة للتاريخ فهو حسب تعبير الصويان« :يقرأ املاضي في الحاضر وليس العكس» .وتتضح تناقضات اآليديولوجيا القبلية عند تفحص التنظيم القبلي كواقع معاش عبر مراحل التاريخ .التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على األحالف، تنشأ التحالفات على املصالح املشتركة أو التجاور ،وتحل الحقا أسطورة النسب محل الوحدة املكانية كما يقول غولدتسيهر ويذهب مذهبه جواد علي .وكما تطرأ الظروف التي تدفع لتكون األحالف ،فإن ظروفا مغايرة قد تطرأ أيضا لتنحل األحالف القديمة وتنشأ الجديدة وتتوفر شواهد هذه االستنتاجات في تاريخ القبائل العربية القديمة واملعاصرة .تبرز امليثولوجيا واألسطورة أيضا في تكريس اآليديولوجيا القبلية عبر سد فجواتها وثغراتها ..« :وهناك دائما داخل املجتمع القبلي نفسه نخبة واعية لحقيقة النسق ومدركة ملواطن الضعف في اآليديولوجيا القبلية.. يدرك هؤالء أن العالقة القبلية ،وإن اتخذت مظهر العالقة القرابية ،في حقيقتها عالقة سياسية يمكن توظيفها لتحقيق مآرب سياسية ،وما عليهم في بعض األحيان إال أن يستبدلوا أسطورة بأخرى تفسر الطريقة التي تغير بها الوضع عما كان عليه في السابق وتعطي تبريرا لهذا التغيير». يتعذر على ذاكرة أبناء القبيلة أن تتخطى سلسلة من األجداد ،كما أن الذهنية الشفهية تفتقر إلى املقومات التي تجعلها تميز ما بني التاريخي واألسطوري ،يهتم ابن القبيلة بما يحدد عالقته باآلخرين سياسيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا ،ويناط ذلك بمعرفة أفخاذ القبيلة وبطونها وعشائرها ومنها تتحدد نوعية العالقة .وتضفي اآليديولوجيا القبلية بعدا أخالقيا لتلك العالقات البراغماتية .يتطلب النظام القبلي بتحالفاته قدرا من الحركية والعملية تفرضهما ظروف تلك الحياة وآليات ذلك النظام .ومع ظهور الدولة بسلطتها املركزية تجمدت آليات النظام القبلي وتعطلت وظائفها ولم يبق سوى اآليديولوجيا القبلية« :هنا تتحول القبيلة من نظام مرن قابل للتمفصل والتكيف حسب الظروف إلى ناد مغلق ال يحق الدخول فيه إال لألعضاء املسجلني ..قيام الدولة يلغي الظروف التي كانت تمنح النظام القبلي حركيته وديناميكيته» حني تتعطل األبعاد السياسية والبراغماتية للنظام القبلي يصبح ذلك النظام كيانا مصمتا ال يمكن الخروج منه أو الدخول إليه.
,,
بذور العلمانية واملمارسات الديمقراطية في النظام القبلي موجودة وإن بصورة بدائية تجعل البدوي أكثر إجادة ملمارسة السياسة من الحضري الذي يميل إلى السكونية والتشبث باملسلمات والثوابت
,,
ما بنيت عليه اآليديولوجيا القبلية قد غاب تماما ،فبعد أن كانت تجسيدا لنظام متحرك تتبنى فيه توجهاته املصلحية وتضفي عليها الشرعية والبعد األخالقي ،أصبحت صورة ثابتة تبنى عليها التحركات املصلحية، إن خروجها من سياقاتها الطبيعية التي أفرزتها جعلها محض أصولية قبلية شبيهة باألصولية الدينية ،يحاول املنتسبون لها أن يضخموا رموزها وقيمها < المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
53
ثقافة
وتدوينه شكل حلقة من حلقات االزدهار العلمي واألدبي الذي أفرز الدعوة الوهابية الحقا .هنالك ثالثة نماذج من الشعراء النبطيني تعبر عن مدى الوعي في تلك الفترة ،رميزان ابن غشام وقد مثل له الشعر بوابة عبور للتعبير عن أفكاره االجتماعية والسياسية وإن لم يكن شاعرا محترفا فإن شخصيته القيادية الفذة تتضح من شعره ،وخاله جبر ابن سيار الشاعري الواعي سياسيا ،وحميدان الشويعر الساخر بلذاعة وأحيانا بسوداوية ،حيث عبر عن نقد سياسي واجتماعي وقد كلفته آراؤه الناقدة تلك الكثير.
,,
أصبح الفصيح في الحواضر العربية لغة رسمية يتم تعلمها عبر املدارس بينما بقي بدو الصحراء بمعزل عن تلك القواعد والقيود التي تقيد أي تغير عفوي فما يحدث في البادية هو نتيجة حتمية للتطور
,,
القبيلة والدولة تعددت اآلراء التي فسرت ظاهرة نشوء العقد االجتماعي ،ولكن الصويان اختار عرض رأيي هنري مني وفوستيل دي كوالنغ ملعالجتهما تحديدا لخطوات استبدال مفهوم النسب العشائري ليحل محله مفهوم املواطنة املكانية ،ويرى أن آراءهما قد تلقي الضوء على التحوالت السياسية والتشريعية التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية .يذهب مني إلى أن وجود القانون وأساسه ال يرجع لوجود مشرع قادر على فرضه واإللزام به خالفا لهوبز ،بل إن أساسه يرجع إلى عادات وتقاليد وسنن وأعراض وسوابق يخضع لها الناس دون وعي بذلك أو قيم تدلهم لها أو قوة رادعة وهذه تتحول بالتدريج إلى قوانني ملزمة مع نمو املؤسسات السياسية واالجتماعية .وفي تشخيصه للمجتمع القديم قال مني إن الوحدة األساسية فيه ليست هي الفرد بل هي الحمولة التي تتألف من مجموعة عوائل وكل حمولة يرأسها أب تخضع لسلطته املطلقة .وهكذا يرى مني أن ظهور الدولة لم يأت لتعاقد بني أفراد أحرار ومستقلني ،خالفا لجون لوك وجان جاك روسو ،إنما نتيجة التحول التدريجي من العالقة القرابية إلى العالقة املكانية ،وال يتم ذلك وال يحل مفهوم الفرد إال حينما يقطع شوطا في مسيرة التطور في مجال التنظيم االجتماعي وتحل امللكية الفردية محل امللكية املشاعة ويتفق دي كوالنغ مع مني في عموم ما ذهب إليه .مع مطلع القرن العشرين أدى التقدم التكنولوجي إلى انحسار البداوة تدريجيا ،استبدلت اإلبل بالسيارات واألسلحة التقليدية والبندقية .أصبح الغزو ممارسة خطيرة ،األدوات اختلفت ،وهذا االختالف أدى إلى انهيار األصول واألعراف التقليدية التي كانت تحكم هذه املمارسة .انصرف الناس عن اإلبل وتدنت أسعارها ،وجاءت ماكينات ضخ املياه وتغير عادات الناس الغذائية مكن هذا التقدم التكنولوجي السلطة املركزية من بسط نفوذها حقق لها األفضلية في قلب الصحراء. لم تعد البداوة نشاطا اقتصاديا مجزيا وال النظام القبلي نظاما فاعال وأجبر البدو على التكيف مع الحياة املدنية ،وإن لم يجيدوا عمل ذلك، مما يشعرهم بالتهميش والنكوص إلى قيم القبيلة ورموز البداوة تشبثا بهوية مفقودة .إن هذا التشبث بتلك املمارسات الفاقدة للفاعلية ،التي ال يفهمونها اآلن وال باستطاعتهم تطبيقها بشكل عملي له آثار سيئة كما يوضح الصويان« :التطرف في التشبث برموز القبيلة خارج سياقاتها يشوه مفهوم القبيلة تماما كما يشوه التزمت الديني مفهوم الدين حينما كان النظام القبلي حيا وفاعال كان على درجة عالية من املرونة واالنفتاح والقابلية للتكيف مع الظروف الطارئة وكان بعيدا عن التشنجات والعصبيات التي يمارسها أبناء القبائل اليوم» .حسم صراع الدولة والقبيلة لصالح الدولة ،لكن القبيلة لم تغب تماما عن املشهد السياسي بل تحولت بتعبير الصويان إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات املجتمع املدني األكثر فاعلية ،ويستشهد بذلك إلى التمثيل القبلي في مجالس الشورى وهيئات التشريع في السعودية ودول الخليج ،خصوصا الكويت وكذلك العراق واألردن وسوريا.
تجعل البدوي أكثر إجادة ملمارسة السياسة من الحضري الذي يميل إلى السكونية والتشبث باملسلمات والثوابت« :مجتمع الحضر الريفي يتسم باملحافظة ورفض كل جديد أو مغاير .الشخصية الريفية نمطية مقولبة تتميز بذهنية تحريمية تتشبث باملقدس والطقوس التقليدية والشكليات املتوارثة وعقليتها عقلية سكونية راكدة تفتقر إلى الحركة واملرونة الكافية للتعامل بشكل عقالني وخالق مع املستجدات والتحديات .وحيث إن مرجعيتها ماضوية فإنها تشكك في الحاضر وترفض التغيير وتخاف من املستقبل بينما تقدس املاضي» ،ويجب التوضيح بأن النسب القبلي وارتباطه باألجداد ليس هو املاضي املعني هنا ،فقد قدم النظام القبلي أمثلة كثيرة على تكيفه للتغيير ،ويكفي تعامله مع الدولة اإلسالمية األولى والدولة السعودية كاثنني منهما. إن التحرر من األعباء العقدية واآليديولوجية تجعل النظام القبلي ماديا ودنيويا وغير مقيد ،هذه الصبغة العملية البراغماتية هي مظهر جديد يتجلى أمامنا ،له أسس سابقة أسهمت حتى في تشكيل النوازع األخالقية في املجتمع القبلي ،من قيم الشرف التي تعود عليه بالفخر ،وحروبه من أجل الكسب ال طلب الشهادة ،وبذله لنيل سمعة الكرم ال للصدقة. املجتمع البدوي يشجع املبادرات ويحاول أن يستثمر في الرجال ،ما جعله أميل للتسامح واالنفتاح من مجتمع الحضر الريفي .ومن املمارسات الديمقراطية في املجتمع القبلي ،األسس الشرعية للمشيخة التي تعتمد على التوافق وما يحمله ذلك من انعكاسات على أداء شيخ القبيلة وعالقته بأبناء قبيلته ،بخالف األمير في القرى الذي ترتبط شرعيته بأسباب مختلفة تدعمها فقط القوة املجندة .كما أن النظام القبلي تضمن مظهرا من مظاهر فصل السلطات ،فالعرف مثل سلطة قضائية ،وشيخ القبيلة مثل سلطة سياسية ،وعقيد الغزو سلطة عسكرية .ويبرز هنا السؤال بكيفية تجيير الوالء القبلي إلى والء وطني؟ كيف يستبدل مفهوم القبيلة مفهوم الدولة؟ ال يفترض الصويان ضرورة تعارض هذه الوالءات ،بتبني الدولة ملفهوم القبيلة كهوية فرعية عبر السماح لها بتمثيل نفسها كحزب أو مؤسسة من مؤسسات املجتمع املدني وتجيير تلك الوالءات املدنية، سواء كانت قبلية أم ال ،تجاه الدولة يقع على عاتقها وما تقدمه للفرد من خدمات ملصالحه وأهدافه مما يعزز تفرده .إن هذه الحلول التي يقدمها الصويان ليست شكال نهائيا لتصوره املفترض للدولة ،إنما هي حلول منبثقة من واقع املنطقة تفضي على مر الزمن إلى مزج الهوايات الفرعية لتذوب في هوية وطنية واحدة.
النظام القبلي كنظام قضائي وسياسي وتعبوي ال كجماعة قرابية أصبح القبيلة كغطاء آيديولوجي هو األكثر تأهيال وقابلية للتفعيل ولعب دور األحزاب السياسية .إن بذور العلمانية واملمارسات الديمقراطية في النظام القبلي ،وإن بصورة بدائية،
52
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ينقل الصويان عن األنثروبولوجي لويس هنري مورغان في تناوله ملفهوم
الجانب املادي للثقافة ،لكن اعتماد البدو على أدوات الحضر املتقدمة تقنيا يعتمد فقط على مدى حاجتهم لها ،فالحاجة هي التي تدفع إلى اإلنتاج والتقدم في أحد مجاالت الثقافة ،ومن هنا نشدد على التقدم الثقافي للبدو في الجوانب التي استدعتها حاجتهم أكثر من الحضر :مثل التنظيمات االجتماعية والسياسية والقضائية والقدرات الحربية والفصاحة والبيان وغيرها« :ال أحد ينكر دور البدو في الفتوحات اإلسالمية قديما وفي توحيد اململكة العربية السعودية حديثا».
التمايز بني سكان الجزيرة العربية وجود الشوايا ،وهم البدو املختصون بتربية املاعز والضأن ،وهذه األنواع من املاشية ال تمكنهم من التوغل في الصحراء وممارسة الغزو ،مما يجعلهم يدفعون اإلتاوة للقبائل التي تحميهم ،وأيضا من يسمون القعدية (من القعود وعدم الحركة) وهم بدو انعدمت بفعل الظروف رواحلهم ،فسكنوا حافة املدن والقرى الزراعية.
املشهد السياسي
يورد بعد هذا الصويان اآلراء بأن الرعي جاء متقدما على ممارسة اإلنسان الزراعة بفترة طويلة ،حيث إن استئناس الحيوانات أتى بعد تدجني النبات ،فالحقول املزروعة تمثل عامل جذب للحيوانات البرية ،ثم الحقا بعد أن تمكن اإلنسان من الزراعة بعيدا عن مجاري األنهار وما حدث من تفجر سكاني نتيجة إنتاج الغذاء ،أصبح الغذاء كافيا لإلنسان فقط دون الحيوان .ما أحدثته الزراعة من نشأة للقرى وازدياد في حجمها ،أثر على الرعاة الذين اضطروا للرعي في املناطق الصحراوية: «وكلما توغل الرعاة بعيدا في الصحراء ،كلما أصبحوا هم وماشيتهم عرضة للسباع والوحوش والسلب والنهب ..في هذه املرحلة كانت الزراعة والرعي قد أصبحتا مهمتني شاقتني كل منهما تحتاج إلى مهارات خاصة مما جعل من الصعب الجمع بينهما ولذلك انفصل الرعاة عن الفالحني واصطحبوا معهم عائالتهم وصاروا يعيشون في جماعات منظمة». البداوة بمفهومها العربي ترتبط بشكل أساسي باستئناس البعير ،الذي لم يتيسر إال منذ أربعة آالف سنة .غير الزراعة التي نشأت منذ عشرة آالف سنة.
ما سبق من تصنيف ألهل الجزيرة العربية من بدو وحضر بني على أسس معيشية ال سياسية ،لم تكن هذه الثنائية سمة لحروب ذلك الزمن، نشأت املعارك والتحالفات بني البدو والحضر دون أي اعتبار الختالفهما. اإلمارات واملشيخات نشأت بعضها في جزيرة العرب على شرعية مدنية حضرية ونشأت أخرى على شرعية قبلية ،حيث تحولت القبيلة مباشرة إلى دولة دون تدرج للحضارة ،ولكنها طبعا قامت على قاعدة حضرية لحظة هذا التحول .طرق الحج والتجارة واإلنتاجية الزراعية والقدرة على استغالل املوارد مثلت العوامل األهم في نشوء تلك الدول ،استطاعت تلك الدول أن تفرض السالم واالستقرار في بعض الفترات ولكنها كانت فترات متباعدة وقصيرة .إن وجود سلطة مركزية قوية في الجزيرة العربية قبل بداية القرن العشرين في تلك الظروف كان أمرا متعذرا لضعف القاعدة التكنولوجية وقسوة البيئة الصحراوية وما خلفته على إنسانها من نزعة تنافسية تمردية .هذا الغياب أو الضعف في السلطة املركزية كان له أثر إيجابي على حياة البدو وازدهارهم ،بطبيعتهم الترحالية وقدرتهم الحربية مارسوا الغزو وتحكموا بالطرق واملسالك البرية ،أجبرت هذه الصفات القرى الضعيفة إلى دفع اإلتاوة مقابل توقف الغارات واألمن في التنقل.
يحمل أهل الجزيرة العربية تصورا نظريا تجاه مجتمعهم يسميه الصويان النموذج املحلي ،يختلف النموذج املحلي عن النموذج الخلدوني في قصر املسافة الثقافية بني البدو والحضر ،فهي ليست ثنائية تعاقبية بل ثنائية ينظر لها من منظور بنائي تقابلي ،تقوم على تبادل الخدمات واملصالح والسلع ،هذا النموذج املحلي يقدم البداوة والحضارة باعتبارهما وسيلتني متكاملتني مترابطتني للتكيف مع البيئة الصحراوية ،أي أنهما يرتكزان على قاعدتني إنتاجيتني وتكنولوجيتني في معادلة اقتصادية واجتماعية واحدة ،تخف التضادية في هذا النموذج عن النموذج الخلدوني بني البدو والحضر ولكنها ال تزول تماما« :صراع البداوة والحضارة صراع قديم يعود ،كما تحدثنا األسطورة ،إلى أيام قابيل وهابيل ..لكنه في النموذج املحلي ليس صراعا بني جماعات همجية بربرية بدائية وأمم راقية متحضرة.
كانت التغيرات الدولية في القرن السابع عشر عامال مسؤوال للتغير االقتصادي في الجزيرة العربية ،حيث اتخذت حركة التجارة بعدا إقليميا بعد أن كانت محدودة بالتبادل املحلي بني البدو والحضر ،دفع هذا إلى تنشيط حركة االستقرار والتحضر .تطور صناعة السفن وتقنيات املالحة ،ونشوء خط تجارة التوابل الجديد أدى إلى انهيار النظام التجاري القديم وتحويل استثمارات أهل الجزيرة نحو الداخل ،يقول الصويان..« : فأسسوا املستوطنات واتجهوا نحو الزراعة واالتجار بالخيول واإلبل. ومما شجعهم على ذلك زيادة طلب الدولة العثمانية على هذه السلع ،ومن بعدها الحكومة البريطانية في الهند.
ثنائية البدو والحضر
إنه في حقيقته صراع أيكولوجي بني مجموعتني تكادان تكونان متعادلتني ومتساويتني تقنيا وحضاريا» يستعرض الصويان الشواهد الشعرية لهذا الصراع ،وتنقل تلك الشواهد ما تحتله ثنائية البداوة والحضارة في ذهن أهالي الجزيرة العربية ،واستحضارها لبيان االختالف ،أو ألغراض التشبيه ،أو بيان الصور النمطية واملشاعر تجاه األخرى ،وهي عادة ما تكون غامضة تتراوح بني االزدراء واإلعجاب .إن هذا التداخل في التركيب والتشعب والكثافة في العالقات يؤكد ماهية العالقة التكاملية بني البدو والحضر« :خالف ما يفترضه النموذج الخلدوني بأن البدو فقط هم الذين ال غنى لهم عن الحضر في حاجاتهم الضرورية بينما ال يحتاج الحضر إلى البدو إال في الحاجي والكمالي» وكذلك نجد في النموذج املحلي ما يتناقض مع ما يفترضه ابن خلدون بأن غاية البدوي هي التحضر، وبأن ثنائية البداوة والحضارة تسير في حركة تطورية أحادية االتجاه حيث نجد تحوالت جمة من البداوة إلى الحضارة والعكس ،بدافع الفقر أو القحط أو التعرض للغزو الكاسح ،أو فحش الغنى وبدافع تردي الزراعة أو اضطراب األحوال السياسية عند الحضري« :وهذا ما حدث مثال في العالم اإلسالمي مع انهيار سلطة الدولة العباسية ..»..ومن األدلة على ضبابية
كما أن اكتشاف القهوة وزراعتها في اليمن عزز من التجارة الداخلية في الجزيرة العربية وزيادة حجم صادراتها» تزايد في هذه الفترة نشاط العقيالت ،وهم مجموعة من التجار البدو والحضر مثلت قوافلهم مجاال من أهم مجاالت النشاط االقتصادي ولعبوا دورا في دمج إنتاج الحضر الزراعي والبدو الرعوي في نظام اقتصادي شامل متكامل .كان تزايد نشاطهم في تلك الفترة يعزى إلى نقلهم للبضائع من موانئ الخليج إلى الشام والعكس عبر قوافلهم. كان لهذه اإلرهاصات دور الحق في قيام سلطة مركزية توحد هذه الحركة التجارية ،وال ُيغفل دور العقيالت اللوجستي أيضا في ذلك، لرغبتهم في التعامل مع سلطة واحدة يدفعون لها الرسوم والضرائب بدال من السلطات املتعددة املتمثلة في القبائل .يشير الصويان إلى التقدم الثقافي واالستقرار الحضاري ملنطقة العارض (الرياض حاليا) عن غيرها من املناطق ،كان العلم حاضرا فيها قبل الدعوة الوهابية ،حيث عجت بالعلماء واإلمارات القوية« :في الفترة التي سبقت ظهور الدعوة الوهابية وقيام الدولة السعودية نالحظ أن أهل منطقة الوشم والعارض كانوا قد وصلوا إلى درجة ال بأس بها من النضج السياسي في تفكيرهم وفهمهم لشرعية السلطة ومقومات الحكم وواجبات الحاكم ،مما يعني أن األجواء صارت مهيأة لتقبل فكرة الدولة» فاالحتفاء بالشعر النبطي
,,
التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على األحالف تنشأ التحالفات على املصالح املشتركة أو التجاور وتحل الحقا أسطورة النسب محل الوحدة املكانية
,,
صورة تخيلية لـ « امرؤ القيس بن حجر» أحد أشهر شعراء العصر الجاهلي
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
51
ثقافة
الشفاهة والكتابة
,,
ال يمكن لنا أن نتعرض لدراسة سعد الصويان للشعر النبطي دون أن نعرج على نظرة االزدراء من قبل أغلب الكتاب واملفكرين في العالم العربي تجاه عموم األدب الشعبي باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف واالنفالت
,,
قبل البدء في التعاطي مع ثقافة وشعر الصحراء العربية ،يعرج الصويان على الشفاهة والكتابة في اللغة واألدب وما يترتب على كل منهما« :إن املجتمعات الشفاهية تصوغ آدابها ومعارفها بأسلوب يسهل حفظه وتذكره واسترجاعه .التكرار واإلرداف واالتباع والتقابل والسجع وتوازن الفقرات والقوالب اللفظية في النثر والوزن والقافية في الشعر وغيرها من خصائص األسلوب الشفاهي ليست مجرد عناصر جمالية أو آليات لتسهيل النظم وارتجاله ،بل هي أيضا وسائل تساعد على الحفظ والتذكر والرواية ولذا نجد أن املجتمعات الشفاهية تعتمد كثيرا على القوالب الجاهزة والصيغ التقليدية في التفكير والتعبير وتميل نحو النمطية في الوصف والتشخيص .وهي إلى املحسوسات أقرب منها إلى التجريد.».. ومن سمات األدب الشفاهي املحافظة والتقليد .فلكونه شفاهيا فإن املتلقي له دور بارز فيه كما لألديب نفسه مادة هذا األدب هي واقع متلقيه وقيمه األخالقية والثقافية واالجتماعية ال يحاول األديب فيه أن يخلق وعيا جديدا أو أن يعبر عن ذاته بقدر ما يحاول أن يستجيب لواقع عصره وذائقة جمهوره ،ولهذا نجد أن التكرار والترداد من أبرز سماته، هذا األسلوب يناسب املتلقي ويحقق الشروط التي تضمن له البقاء في ذهن املجتمع .إن ذهنية اإلنسان األمي تختلف عن ذهنية اإلنسان املتعلم، آليات التفكير التقمصي والتموضعي تغلب على ذهنيته ،فهو ال يتعامل مع الكلمات بموضوعية ويعزلها عن صورها الحسية ،فتجد لديه أن «التلفظ بالدال يشير إلى املدلول» فيتفادى ذكر األمراض الخطيرة أو الكائنات املخيفة بأسمائها (طاعون ،سرطان ،شيطان ..إلخ) ويصعب عليه« :تصور األعداد الحسابية مجردة من أشياء حسية محددة ترتبط بها» وكذلك في وسوم إبله التي ال يسميها بمصطلحاتها املجردة بل بما تسجله من أشياء (الدائرة يسميها حلقة وهكذا) ،وكما كان الناس يتحاشون الشعراء في الجاهلية خوفا من هجائهم ،فإن الدعاء على الغريم حل محل الهجاء في الشعر النبطي. النزاعات والصراعات التي يعيشها اإلنسان األمي تنعكس على تفكيره وأدبه ،ولهذا تتسم الثقافة الشفاهية بالصبغة الصدامية وذلك ملا يعيشه إنسانها من خوف وقسوة في الحياة وضعف لألمن وما تحدثه قوى الطبيعة من ظواهر ال يمكنه تعليلها وفهمها« :هذا الجهل بقوانني الطبيعة إلى االعتقاد بحيوية املادة فيفضي على األشياء دوافع أشبه بالدوافع اإلنسانية ويصبح عامله مسكونا باألرواح التي يعزو إليها ما يحدث له من خير أو شر .»..كما أن الرجل البدائي ال يغيب عنه الحس بوجود األعداء املتربصني ،وال يتوارى عن شخصنة الخالف في الرأي« :على مبدأ أنت إما معي أو ضدي حيث ال حيادية وال موضوعية وال تفكير أو موقف متجرد» .كل هذا ال يعني كما يوضح الصويان أن اإلنسان األمي يفتقر إلى الحكمة والعقل واملنطق لكن هناك عمليات ذهنية ال تتحقق إال بالكتابة ،التراكم املعرفي الناتج عن الكتابة هو الذي يمكن اإلنسان من إتقان التحليل والتصنيف التجريدي« :املعارف الشفاهية هي معارف تكديسية تراكمية تقوم على حشد املعلومات وتجميعها لكنها تفتقر إلى وسائل املزج والدمج وآليات الربط والتركيب وإلى أدوات التأمل والنقد والتحليل التي توفرها الكتابة والتي تمنح القدرة على االستنباط واالستقراء واالستنتاج والتعميم وتقود إلى صقل ملكة النقد والتحليل وإلى نشأة العلوم» .إن عدم إدراكنا لهذه األمور يقود إلى اإلشكال في التعامل مع النتاج األدبي الشفاهي .يرى الصويان أن الثقافة العربية لم تتحول بعد بشكل كامل من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة ،حيث ال يزال الشعر الجاهلي هو نموذجها األعلى.
نظرية االنتحال ونظرية الصياغة الشفاهية يعبر الصويان عن موقف رصني ومثير تجاه هذه النظريات ،فهو من ناحية ال يستبعد احتمال أي تغير أو تحريف قد يطال الشعر الجاهلي، 50
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
لكنه يؤكد أن مضامني هذا الشعر وبنيته تتفق تماما مع ظروف العيش في ذلك الزمن ،ومن هذا املنطلق تنتفي احتمالية نحله بأكمله ،فلو كان ُ منحوال لعبر عن عصره الذي نحل فيه« :هذا التماسك الطبيعي والتالحم العضوي واالنصهار بني مكونات املوروث الشعري الجاهلي الضخم من جهة ،وبينه وبني مجمل املعارف الغزيرة املتعلقة بحياة الجاهلية وتاريخها من جهة أخرى يجعل من الصعب علينا أن نتصور أن الشعر الجاهلي في غالبيته مزيف» .وفي حني يستدل أصحاب نظرية االنتحال بنقص اإلشارات الدينية في الشعر الجاهلي عدا ما شابه منها روح اإلسالم وصبغته فإن الصويان يستخدم هذه الشواهد لالستدالل على نقيض نظريتهم ،فاإلسالم والقرآن تبنيا لغة العرب ولسانهم ،والجانب الروحي واألخروي فيه هو امتداد لتصورات سابقة مماثلة ،يجب أن ننظر إلى العالقة بني اإلسالم والعرب الجاهليني بمنظور صحيح ،فهذه العالقة هي عالقة امتدادية .ومن ناحية أخرى فإن نقص اإلشارات الدينية في الشعر الجاهلي يعود إلى الطبيعة البدوية التي تصبغ هذا الشعر ،ومن عادة البدو« :أال يكترثوا كثيرا بأمور الدين التي يجهلونها وال يلقون لها باال .خصوصا من هم موغلون في البداوة ،ألن الدين حضري ،كما في القول املأثور» ويستشهد الصويان في هذه النقطة بنماذج من الشعر النبطي.
البداوة والحضارة يذهب الصويان إلى أن النظرة املنحازة ضد البداوة هي نتاج لصراع الحضارات النهرية مع أهالي الصحارى العربية ،نشأت الكتابة في تلك الحضارات ،في ممالك الهالل الخصيب ،وحسمت الصراع لصالحها ،لكن تبقى هذه الرؤية أمرا غير حيادي ومخالفا للمنهجية العلمية ،إن عجلة التطور تسير وفق آليات معنية يحكمها تالحم ظروف مختلفة ،ونشأة الكتابة في ممالك الهالل الخصيب تدفعها مجموعة من اآلليات التي غابت عن حياة أهالي الصحارى العربية ،وغياب تلك اآلليات يبرز االختالف فقط وال يوحي بتخلف أهالي الصحراء« :الحياة البدوية حياة ترحالية ال تبني وال تشيد وثقافتها ثقافة شفهية ال تقيد وال توثق» ومع تأسس الدولة اإلسالمية وانتقال مراكزها إلى الشام والعراق ومصر ،ترسخت تلك النظرة املنحازة ضد البدو مع إسهام أهل الهالل الخصيب والفرس في صياغة املدنية العربية« :هذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة االنحياز ضد ذاتها، خصوصا بعد نشوء مفهوم الدولة الذي هو على النقيض من مفهوم القبيلة لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضدا لها» هذا املفهوم للبدو يعتبر أهل وسط الجزيرة وشمالها كلهم بدوا ،بما فيهم من تحضر من الفالحني .ابن خلدون يؤكد أن وجود البدو يعتمد أساسيا على وجود الحضر لسد حاجاتهم الضرورية وهذا يتنافى مع أولية البدو على الحضر وهو ما يتناقض مع اعتباره للبداوة مرحلة بدائية سابقة للحضارة. يجب أن نفرق ما بني البداوة والبدائية ،اإلنسان البدائي هو الذي يعيش في مجموعات قرابية صغيرة تمارس الجمع والصيد والبحث عن مصادر الغذاء الطبيعية ،وترتحل للبحث عن القوت فقط ،وهي مرحلة من العيش سابقة للزراعة والرعي واستئناس الحيوان« :ال يمكننا مقارنة البداوة بالبدائية ألنها تختلف عنها نوعيا وتتفوق عليها بمراحل من الناحية الثقافية وألن متطلبات الحياة الرعوية ال تقل عن متطلبات الحياة الزراعية من حيث املستوى التكنولوجي ومستوى التنظيم السياسي واالجتماعي»، اإلنسان البدوي يرتحل بحثا عن املرعى ،استأنس الحيوانات واستفاد من ركوبها وحلبها كما استفاد من صوفها وجلودها وعظامها وله سلطة عليها بعكس اإلنسان البدائي ،كما أن املجتمعات البدوية ليست معزولة كما هي البدائية ،هذا الحديث بالتأكيد ال ينطبق على النظام القبلي الذي يؤكد الصويان أنه مرحلة سابقة لقيام الدولة .من الصحيح أن نقول إن الثقافة الحضرية كانت أكثر تقدما من الثقافة البدوية في
ليس عربيا .ويؤكد الصويان أن هذه الذهنية أقرب للذهنية الشعبية منها إلى العلمية في تعاطيها مع األدب الشعبي ورفضها له.
إلى حد كبير بغض النظر عن اللهجات كما هو الحال اآلن في الشعر النبطي.
الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلي
«اختالف اللهجات بني مختلف القبائل واملناطق في الفترة نفسها الزمنية، وتغير اللهجة نفسها بني سياق خطابي وآخر ،هذه ثالثة أسباب ،ويمكن إضافة أسباب أخرى إليها ،جديرة بأن تجعلنا ننتبه إلى أن اللغة العربية التي كان يمتلكها العرب األوائل لم تكن بذلك االنتظام الذي أضفته عليها فيما بعد جهود اللغويني العرب» .ومقصد الكاتب في هذا أن الفصحى كما نعرفها ليست هي بالتحديد ما كان يتكلمه أولئك العرب بهذا االنتظام واالتساق ،أي أن الفصحى بقواعدها ونظمها اآلن ليست إال صياغة لتفسير الظاهرة اللغوية ،وال يلغي ذلك أي احتمال لصياغة أخرى .هذه الصياغة «في نهاية األمر شيء مؤسس على ما كان يتكلمه أولئك العرب األوائل» تساق هذه النقطة للتشديد على أن هذا االنتظام واالتساق اللغوي هو نتاج للقواعد التي فسرت تلك الظاهرة ،وأيضا لنفي النظريات املشككة في مصداقية شعر تلك املرحلة من الزمن ملا سندته من القواعد النحوية والصرفية والصوتية التي صاغها اللغويون.
يبرز الصويان العالقة بني الشعر النبطي والشعر الجاهلي بأن كليهما أدب شعبي ال تختلف لغته عن لغة الناس اليومية ،بل ويذهب الصويان إلى أن الشعر العربي الفصيح لم يتخل عن أساليب األدب الشفهي كالتكرار واإلرداف والسجع واالستطراد« :إذا سمحنا ألنفسنا بأن ال نقتصر في تعريفنا لشعبية املادة على شكلها اللغوي بل تجاوزنا ذلك إلى املضمون فإن الكثير من املادة التي تزخر بها كتب األدب العربي ليست إال مادة ُ شعبية فصحت لغتها» كالبخالء وكليلة ودمنة وغيرهما .الظروف الطبيعية واالجتماعية لبيئة الشاعر النبطي وما تخلق من موارد ملهمة لشعره تتشابه تماما معها لدى الشاعر الجاهلي .يصل الصويان في كتابه «الشعر النبطي :ذائقة الشعب وسلطة النص» إلى نتيجة مفادها أن ،النبطي /العامي هو السليل املباشر واالمتداد للجاهلي /الفصيح. شعبية األدب ال تتحدد من خالل لغته بقدر ما تتحدد من خالل وظيفته االجتماعية والتداول الشفهي والتقليدية في الشكل واملضمون .هذه املحددات يتساوى فيها الشعر الجاهلي والشعر النبطي رغم ما بينهما من اختالف في اللغة». هذان النمطان من الشعر يشتركان في الرقعة الجغرافية وفي أمية الشعوب التي أنتجتهما ،وأسلوب تداولهما الشفاهي ،وفي املناخ االجتماعي والثقافي .قبل أن نتطرق إلى ما طرأ على اللغة من التغير تجب اإلشارة إلى أن االزدواجية اللغوية هي ظاهرة مدنية ال تنشأ إال في املجتمعات الكتابية املعقدة التركيب ،الحديث هنا هو عن االزدواجية اللغوية بغض النظر عن مستويات الخطاب في اللغة الواحدة .هذه الحواضر التي طرأ فيها االزدواج هي الحواضر العربية ما بعد الفتوحات اإلسالمية نتج عن انتقال مراكز الدولة من الجزيرة العربية نحو الشمال ،نحو تلك املدن املثقلة باإلرث الحضاري تحوالت جذرية على املستوى اللغوي نشأت لغتان ،عامية وفصيحة هذه التغيرات منطقية في سياقها حيث يفرض هذا االحتكاك مع شعوب تلك األمصار وهذا التحول إلى الحياة املدنية تغيرا في اللغة والثقافة عموما .أما التفاوت في مستويات الخطاب فهو موجود في داخل النسق اللغوي الواحد ويتعني هذا التفاوت باختالف الغرض الفني والوظيفة. بال شك فإن هذا التفاوت كان موجودا أيضا في العصر الجاهلي ،لغة التخاطب اليومي اختلفت عن لغة الشعر واألدب ،كما اختلفت أيضا لهجات القبائل واملناطق املختلفة ،لكن لغة الشعر واألدب بقيت متجانسة
إن عزلة القبائل البدوية في الصحراء العربية جعلتهم أقرب إلى النموذج الذي يصوره الشعر الجاهلي والحياة التي يعبر عنها ،أقرب إلى هذا النموذج عن عرب الحواضر واألمصار الذي بدأ شعرهم مع العصر العباسي يبتعد عن الشعر الجاهلي «في الرؤية واملضمون والوظيفة واألداء والتداول» .أصبح الفصيح في الحواضر العربية لغة رسمية ،يتم تعلمها عبر املدارس ،بينما بقي بدو الصحراء بمعزل عن تلك القواعد والقيود التي قد تقيد أي تغير عفوي فما حدث في البادية من تفشي اللحن ثم العامية هو نتيجة حتمية للتطور بشكل أساسي ،وأيضا بتأثر للتغيرات اللغوية لتلك الحواضر العربية مما أحدثه اختالط العرب باألجناس األخرى.
,,
قدم الصويان مجموعة من األعمال البحثية املتفردة واملميزة التي ال تضاهى في تعاطيها مع ثقافة الصحراء العربية وفهمها لها
,,
من املعلوم أن العامية شاعت أوال لدى سكان األمصار بينما ظل بدو الصحراء يتحدثون بلغتهم الفصحى وهذا هو أحد الشواهد ملا تم ذكره مسبقا عن سياق التغير اللغوي في الصحراء ،توقف علماء اللغة عن أخذها من غير سكان البادية في حدود منتصف القرن الثاني الهجري. وعلى الرغم من الغموض ونقص أو شبه انعدام النماذج الشعرية لسكان البادية التي قد تشير إلى بدايات الشعر النبطي إال أن الباحث يسوق الشواهد التي تشير إلى القرن الرابع الهجري بصفته حاسما في تحول لغة الشعر الفصيح إلى العامي ،ويستمر في شواهده إلى أن يصل للفترة الزمنية التي عاش فيها أبو حمزة العامري ،الذي يرجح أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف األول من القرن الثامن الهجري وتنسب له أقدم النصوص التي تمثل الشعر النبطي. المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
49
ثقافة
في يناير (كانون الثاني) املاضي صدر كتاب الباحث السعودي أستاذ علم االجتماع بجامعة امللك سعود بالرياض ،الدكتور سعد العبد الله الصويان «ملحمة التطور البشري» وترافق مع صدوره زخم واحتفاء كبيران ،كان الداعي لذلك هو موضوع الكتاب وحجمه ،ومن ناحية أخرى فإن املفاجأة كانت لدى البعض في اسم الكاتب!
ذائقة الشعب وسلطة النص من منظور سعد الصويان
أيام العرب األواخر بقلم: عبد العزيز السماري
,,
الظروف الطبيعية واالجتماعية لبيئة الشاعر النبطي وما تخلق من موارد ملهمة لشعره تتشابه تماما معها لدى الشاعر الجاهلي
,,
ارتبط اسم الصويان عند البعض باألدب الشعبي ،وربما ناله شيء من دراسة الشعر النبطي
تلك النظرة السلبية التي يحملها البعض تجاه اآلداب الشعبية ودارسيها. تكمن املفارقة هنا في أن الحفاوة بهذا الكتاب وغيابها عن كتبه السابقة هو تجسيد صريح ملا ذكره الكاتب سابقا من خلل في األطر الذهنية لدى أصحاب تلك النظرة. على مدى سنني طوال ،كرس سعد الصويان وقته وجهده لدراسة ثقافة الجزيرة العربية وتوثيقها وحفظها ،فمن الناحية التوثيقية هو من أشد الناشطني في هذا املجال ،بدأ منذ عام 1982بتسجيل مئات الساعات من أفواه الرواة ليحفظ كما هائال من املأثورات الشفهية ويحول دون فقدانها بعد غياب من اختزنوها في ذاكرتهم ،فتلك املرويات ال تمثل قيمة أدبية فقط ،بل تحمل قيمة ثقافية زاخرة لزمن مضى وملجتمعات غابت ظروف نشأتها واستمراريتها وزالت ممارساتها الشفهية ملا طرأ على املنطقة من تغيرات ثقافية واجتماعية يدفعها الزمن. وقد نتج عن ذلك املجهود الضخم (كتابه أيام العرب األواخر :أساطير ومرويات شفهية في التاريخ واألدب من شمال الجزيرة العربية مع شذرات مختارة من قبيلة املره وسبيع) ،وكتاب آخر هو «فهرست الشعر النبطي» ،كما أمضى الصويان عشر سنني ابتداء من عام 1991مع دار «الدائرة» للنشر والتوثيق رئيسا لهيئة التحرير ومشرفا علميا ومديرا عاما ملشروعني هما الثقافة التقليدية في اململكة العربية السعودية في 12مجلدا ،وآخر هو امللك عبد ُالعزيز آل سعود :سيرته وفترة حكمه في الوثائق األجنبية في 20مجلدا لخصت فيها أكثر من خمسني ألف وثيقة من األرشيفات البريطانية والفرنسية واألميركية.
قدم الصويان مجموعة من األعمال البحثية املتفردة واملميزة ،ال تضاهى، في تعاطيها مع ثقافة الصحراء العربية وفهمها لها ،هذه األعمال قد تسهم بشكل كبير في سد فراغات كبرى في نظرتنا للماضي وانعكاساته على الحاضر وحل كثير من إشكاالتها .مستندا على عمله امليداني الفذ وأدوات العلوم اإلنسانية واالجتماعية وإملام رفيع باملوروث الثقافي ،يستعرض الصويان شواهده واستنتاجاته لدوافع ابن الجزيرة العربية في اختياراته وتصرفاته ،ويبحث في كثير من الظواهر املتداخلة املعقدة التركيب التي قلما بحثت بهذا العمق والجرأة. سأسلط الضوء هنا على ثقافة الصحراء العربية بمنظور الصويان عبر التركيز على كتابيه (الشعر النبطي :ذائقة الشعب وسلطة النص) واآلخر (الصحراء العربية :ثقافتها وشعرها عبر العصور ،قراءة أنثروبولوجية)، وسأحاول أن أستخلص بعضا من آرائه فيها دون أي حرج من اإلحالة إلى نصوصه مباشرة كما ستظهر للقارئ بني عالمات التنصيص.
48
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ال يمكن لنا أن نتعرض لدراسة سعد الصويان للشعر النبطي دون أن نعرج على نظرة االزدراء من قبل أغلب الكتاب واملفكرين في العالم العربي تجاه عموم األدب الشعبي؛ باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف واالنفالت. وعلى الرغم مما تقدمه الدراسة من مادة علمية رصينة فإن الصويان يتوقف عند مقوالت الرفض هذه التي شيدت «على أسس منطقية خاطئة وعلى طرق في التفكير تنافي الروح العلمية» ليفندها ويبرز سوء الفهم فيها .إن أي تغير قد يطرأ على اللغة ال يعدو كونه ضرورة حتمية تدفعها حركة التطور ،واعتبار هذا التغير فسادا هو تجل إلشكال حقيقي تجاه أي تغير كان ،إن التعامل مع األمور بتصور مسبق عنها هو النقيض التام للمنهج العلمي ،هذه النظرة هي «نظرة بدائية ما قبل علمية تقوم على التفسيرات األسطورية لنشأة الكون ..التغير وفق هذه النظرة ليس قانونا طبيعيا يسير هذا الوجود ويحكمه ..إنه يقود بالضرورة إلى نظرة ارتجاعية في تفسير التاريخ ،فالتاريخ البشري وفق هذه النظرة يسير بانحدار نحو هاوية محتومة». إن اإلشكال الذي يعاني منه البعض مع املنهجية العلمية يتجلى في أوجه كثيرة ،منها أن يظن البعض أن دراسة موضوع ما هي دعوة لتبنيه واتباعه ،أو ممارسة اإلسقاطات اآليديولوجية تجاه الدراسات العلمية ،ال يمكن لنا أن نرفض دراسة األدب الشعبي الفتراض املؤامرات في هذا التوجه! إن أصالة اآلداب الشعبية أو الفنون القولية في الجزيرة العربية وما تقدمه من الفائدة في تعاملنا مع املاضي وحركة التاريخ وفهمنا لهما كاف لرفض هذه التوجسات من املؤامرات ،عدا عما تحمله هذه النظرة من خلل ال مجال لذكره ،كما أن رفض اآلداب الشعبية لكونها إقليمية هو في الحقيقة رفض للواقع أو مبالغة في تقدير معطياته ،ال يمكننا اإلفالت من أثر املكان كعامل للتغير كما ال يمكننا اإلفالت من أثر الزمان. أخيرا يجب أن ال يتم التعامل مع األدب الشعبي بصفته األدبية فقط ،األدب الشعبي الشفاهي يمثل «مرآة تعكس الحياة االجتماعية والقيم الثقافية في سالف العصور ..يهتم اإلثنولوجيون باألدب الشفهي ألنهم يريدون عن طريق البحث املقارن أن يتوصلوا إلى الفروق الذهنية والشعورية والسلوكية التي تميز املراحل الشفهية على سلم التطور البشري عن العصور الالحقة التي تنتشر فيها الكتابة والتدوين». إن في ازدراء األدب الشعبي ازدراء لشعب بأكمله باعتبار أن ما يحرك مشاعرهم وما أنتجوه في هذا املضمار هو محقر فقط ألن لغته مختلفة وليست فصيحة ،علما بأن اللغة ليست عامال لالستدالل على جمالية أي نص ما ،ال يمكننا الحكم مثال على األدب الفرنسي باالنحطاط فقط لكونه
الشركة؟ عالقات املوظفني؟ صعوبة التوظيف في املستقبل؟
ملاذا تراجعت النقابات العمالية؟ ً ّ املنضمني إلى النقابات في إنه سؤال محير فعال ..ملاذا ّ تراجع عدد ً أمريكا ،بل وتراجع دورهم عما كان عليه سابقا؟ كتب في هذه النقطة األستاذان Jack Fiorito & Cheryl Marantoوعزوا هذا التراجع لعدة أسباب منها: -1كان أغلب املنضمني إلى النقابات هم من الرجال الذين يعملون في ً تقريبا ،وهذا األمر ّ يحرضهم املصانع واملعامل ،وأعمارهم متوسطة للتماسك ومشاركة الهموم ،خصوصا وأن العمر ما زال به فسحة، بينما اآلن فإن هناك تزايد واضح في عمل املرأة ،وأن األعمال أصبحت تتجه لتكون طبيعتها مكتبية ،هذه األسباب ساهمت في انحسار أعداد ً خصوصا وأن األعمال الخدمية كثرت ،وأصبح املنضمني إلى النقابات َ ّ ً نقل التجارة إلى حيث أن يشعر املو ِظف بأن هناك استقرارا لدى العمال، وعدم وجود أي منغصات تدعوهم لتكوين نقابة. -2منع الشركات لكل عمل يدعو ّ العمال لتكوين نقابة عن طريق تعزيز التواصل بني اإلدارة والعمال ،والتنسيق مع خبراء ملعرفة أسباب رغبة ّ العمال في تكوين النقابة ،وبشكل عام اتباع جميع الوسائل املسموحة لصد هذا التوجه. -3املبادرات اإلدارية لتعزيز حب مؤسسة العمل بجميع السبل التي تضمن راحة العامل واستفادته واحترامه. -4التدخل الحكومي في ّ سن القوانني واألنظمة التي تلزم مؤسسات ّ العمل بالحد األدنى الحترام العمال وحفظ حقوقهم. -5الفساد املالي املستشري لدى النقابات ّ العمالية ،واملبالغ التي تدفع وربما تكون على هيئة رشوة لتمرير أجندة النقابات.
يظل جيفارا رمزا شعبيا في احتفاالت عيد العمال
عامل عن العمل ملدة ً 15 يوما ،وكلف ذلك الشركة خسائر قدرت بـ 610 مليون دوالر ،باإلضافة إلى تعهد الشركة بتوظيف 10آالف عامل بعقود دائمة خالل خمس سنوات ،والعديد من التعديالت اإلدارية ،كان هناك تعاطف شعبي مع هؤالء العمال؛ ألن UPSكانت تمتلك قرابة %80من َ حصة السوق في مجال البريد ،وللقارئ أن يتخيل تكلفة فقد السمعة آنذاك. ً هناك العديد من األعمال التي تمنع اإلضراب ،مثال رجال اإلطفاء أو الشرطة، ً ً ّ الخفي ،مثال هؤالء ال يجدون سبيال َلعرض شكواهم سوى باإلضراب ً يتفقون أن يتغيبوا عن العمل أليام ،وتكون حجتهم جميعا أنهم مرضى، اإلضراب فإن إجابة السؤال املسمى املتداول عليه هو .Blue Fluعندما يبدأ ّ األول الذي كان مديرو العمل يفكرون به تبدأ بالتجلي واالتضاح ،بكل بساطة :ما هي األمور التي بدأنا نخسرها؟ اإلنتاج؟ السمعة؟ استقرار
أخيرًا ..بتقادم الزمن وازدياد الوعي في املؤسسات الحكومية والقطاع ّ الخاص أصبح ً يتقدم صانعو القرار بخطوات واضحة لزاما أن وإستراتيجية لتعزيز قيمة اإلنسان وحفظ كرامته ،وأن يسود العدل في أماكن العمل ،تشير الدراسات إلى تراجع أعداد املنضوين إلى النقابات العمالية؛ وذلك نتيجة لتحقق أغلب املطالب التي قامت من أجلها ،بالتأكيد أن املطالب ال تنتهي لكن الشيء املؤكد هو وجود أساسيات تحفظ استقرار املجتمع وتماسكه وتراحمه ،إن العديد من املؤسسات الحكومية والشركات أصبحت تعطي أمثلة جميلة في حسن التعامل مع موظفيها ،أصبح هناك معنى أن األرباح أتت عن طريق تكاتف جهود اإلدارة مع املوظفني ،ولذلك فإن العائد البد أن ً جميعا ،إن إدارة املوارد البشرية ال تنحصر في التوظيف يشملهم وآلياته ،أو التدريب والتطوير ،إنما لها دور مهم في تحديد القيادات القادمة وتأهيلهم وحفظ حقوق جميع ّ العمال من الظلم الذي يأتي على هيئة عنصرية دينية أو طائفية أو مناطقية ،ويجدر باملؤسسات أن تحسن التعامل مع كل املتقدمني إلى العمل ،مكان العمل هو بيت للعامل فالبد أن يشعر باألمان فيه ،وبنفس الوقت البد أن يحميه باإلتقان والجد واالنضباط ،إن أعظم ظلم للعامل هو أن تخسر املؤسسة ،وتصبح ً أثرا من بعد عني ،فتبيد الثروة وال يبقى للعامل ً مكان ،إن القرارات التي تأتي بالرخاء تكون أكثر رشدا من التي تأتي ّ في زمن الشدة .على املؤسسات أن تختار الطريقة املفضلة لدى ً املوظفني إليصال رسالتهم ،فأحيانا تبرز الفردية في الرأي (كأساتذة ً وأحيانا تكون الجموع مفضلة كما هو حال ّ عمال املصانع الجامعات)، ً مثال ،وذلك ليس بالضرورة صحيح في كال الحالتني وإنما إليصال الفكرة فحسب .في الختام نقول ،إنه مع تنامي ثقافة خدمة ّ العمال ّ وتهيئة مناخ عمل محفز ،أصبحت املؤسسات في مأمن من االضطرابات العمالية واإلضرابات <
,,
املرأة فاعلة ً دوما في أي حراك اجتماعي كانت ماري جونز ً حماسا تعصف في إيقاظ ّ همة ّ العمال لالتحاد ومناكفة الظلم الحاصل عليهم تطوف بني املصانع وتحث ّ العمال ّ يتمسكوا أن بمطالبهم
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ماري جونز
47
اقتصاد
ً خصوصا مديري الشركات عادة ما يثيرون هذه فإن املناهضني للنقابات األسئلة !!
,,
في عام 1920 بدأت فكرة أن العامل املطمئن والذي ال يواجه ً ظلما سيكون أكثر ً إنتاجية وعمال فبدأ أصحاب االستثمار ومديرو املؤسسات ً اهتماما يبدون أكبر بمعنويات ّ العمال وسبل سعادتهم
,,
46
دورا ً إن للمؤسسات الربحية ً مهما في إحداث التسارع في التنمية ،وقد ّ يأخذ القارئ شعور بأن االنتصار للعمال في مجمله هو الصائب ،وهذا ال ً صحيحا ،فإن أحد مهام الحكومة أن تتوافق مع مستثمري األموال أجده ّ ّ لجني مصلحة تعم الجميع ،برز ذلك جليا في قول اإلمام علي رضي الله عنه ألحد والته" :واعلم أن الرعية طبقات ،ال يصلح بعضها إال ببعض، ُّ وال غنى ببعضها عن بعض ،فمنها جنود الله ،ومنها كتاب العامة والخاصة ،ومنها قضاة العدل ،ومنها عمال اإلنصاف والرفق ،ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ،ومنها التجار وأهل الصناعات ،ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة واملسكنة ،فالجنود حصون الرعية ،وسبل األمن ،ثم ال قوام للجنود إال بما يخرج الله لهم من الخراج ،ثم ال قوام لهذين الصنفني إال بالصنف الثالث من القضاة ً جميعا إال بالتجار وذوي الصناعات". والعمال والكتاب ،وال قوام لهم وبشكل عام ،كما قال John Commonsإن النقابات ّ العمالية تزداد كلما ّ ّ تحسن الوضع االقتصادي ،وتتراجع بتدهوره؛ وذلك ألن العمال لديهم فرص وظيفية أكثر فبذلك تزداد قوتهم في التفاوض ،باإلضافة إلى أن الشركات الربحية تجد أنها ستفقد الكثير حني يضرب ّ العم ًال بينما في األوضاع االقتصادية املتردية فإن بضاعتها ربما ال تجد سوقا نهماً ينتظرها لذا تجدها أقوى من ناحية التعامل مع النقابة .لكن في املقابل وتفسير نجد أن النقابات ازدهرت كذلك في أوقات اقتصادية عصيبة، ّ ذلك كما يراه بعض املختصني أنها ناشئة من اضطرابات اجتماعية ألبت الشارع العام لنصرة قضية معينة ،وكان من بينها التعبير الجماعي عبر النقابات ّ العمالية.
قصة اإلضرابات: أهم شيء يجب القول به هنا أن قوة ّ العمال تكمن في اإلضراب!! وبالطبع أن هناك اعتبارات أخرى تدور في ذهن العامل قبل اإلضراب ،منها على سبيل املثال نسبة البطالة ،عندما تكون نسبة البطالة عالية فإن التشبث بالوظيفة يكون هو الطابع العام ،لذا فإن نسبة اإلضرابات تقل في األزمات االقتصادية لقلة الفرص الوظيفية األخرى ،وبذلك نعلم أن القوة النسبية للنقابات ّ العمالية تتضاءل في األزمات االقتصادية ،وبعبارة أوضح حني ترتفع نسبة البطالة في املجتمع. استعراض القوة العمالية برز ّ جليا في إضراب ّ عمال شركة بوينج األمريكية ،هذه الشركة العمالقة التي لديها ما يقارب من 170ألف موظف حول العالم ،منهم حوالي 20ألف مهندس ّ وفني ،في وقت ما كان هناك نقابتان في الشركة إحداهما للمهندسني وأخرى للموظفني األقل درجة من املهندسني بحسب ترتيب الشركة ،كان السائد آنذاك في أغلب النقابات العمالية أن اإلضرابات والنزاعات تأتي من ّ ّ العمال ذوي املراتب املتدنية في الشركات ،أما املوظفون في املراتب العليا فلم يسبق أن كان هناك احتجاج ،وذلك شيء طبيعي؛ ألن الرواتب والفوائد مكفولة لهم بالطبع، شركة بوينج من عادتها أن توقع عقود ّ عمالها كل ثالث سنوات ،وبحسب ً الطلب على منتجاتها تقرر القوة ّ وغالبا ما يكون العمالية التي تحتاجها، هناك عدم تجديد عقود آلالف من العمال ،أي أن االستقرار الوظيفي في الشركة متذبذب ،كانت هناك مطالب من النقابة التي تمثل غير املهندسني بأن تلتزم الشركة بالتقارير السنوية التي تقيس ارتفاع تكلفة املعيشة وغيرها ،وتربط الرواتب بها لتبقى القوة الشرائية كما هي ّ للعمال ،وكانت هناك مطالب بشأن املكافآت كذلك ،نقابة املهندسني استحسنوا الفكرة وطالبوا بها أسوة بالنقابة األخرى ،تفاصيل كثيرة ومفاوضات نتج عنها أن أعلنت الشركة عدم توصلها لحل ،هنا دعت نقابة املهندسني لإلضراب ً عن العمل ليوم واحد استعراضا لقوة النقابة ،وكانت هذه الدعوة خطرة،
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
فإما أن يتكاتف الجميع وتبدو النقابة في أوج قوتها ،وإما أن تدرك الشركة أن أمرها هو النافذ ً دائما ،وال تهتم بمطالبات املهندسني .في يوم 19يناير 1993أضرب آالف املهندسني عن العمل (ما يقارب %70من املهندسني)، وكانت سابقة في التاريخ العمالي بأن أصحاب املناصب العالية يضربون العمل ،وعقب ذلك علمت بوينج أن التعامل مع النقابات يجب أن يكون عن ً مخططا له وال ينتهي باإلضراب وإنما باالتفاق. في مثال آخر وهو في عام ،1997عندما تمادت شركة UPSبعدم االستجابة ملطالب ّ العمال بموضوع صندوق التقاعد ،وعدم تحويل عقود آالف العمال من العمل الجزئي إلى عقود دائمة ،وعدم زيادة رواتب هؤالء العمال منذ عام ،1982حدث إضراب مدهش حيث امتنع قرابة 185ألف
ً بكثير من املؤسسة الربحية مما ينعكس على أداء ّ خصوصا عمالها أن أغلبهم يعملون بها لسنني عديدة مما يصعب إقناعهم بأي تغيير. الطرف الثاني هم ّ العمال الذين لديهم عدة أمور تشغل بالهم وهي: -1قيمة ما يستحقون من مال نظير عملهم. -2توفير بيئة عمل مناسبة من ناحية السالمة والصحة وممن حولهم من موظفني. -3بدالت العمل ومن ذلك بدل السكن والنقل والتأمني الصحي. -4االستمتاع بالعمل ذاته ومدى رضائه عن عمله. وأخيرا الطرف الثالث وهو الحكومة التي ّ ً يهمها أن يكون املواطنون (وليس هنا فرق بني املواطن واملقيم) يحظون بالعدل والسالمة في أماكن عملهم، وتبديد أي ّ مسبب للبطالة بسن القوانني والرقابة املستمرة لضمان التقيد باألنظمة. الذي البد أن يفهم أن ّ التجار يقتنصون الفرص ،وللفرصة بنظرهم ُ شر قيمتها لرجل معنى مختلف!! فهناك من يعتقد شراء أرض بع ِ أعلن إفالسه ويحاول سداد ديونه فرصة ،ومنهم من يعتقد أنها ُجنحة، ومنهم من يظن أنها مأساة أخالقية يجب النفور منهاّ ، التجار متفاوتون في أفكارهم وأعمالهمّ ، والعمال يتواجدون لدى كل فئات التجار أصحاب ّ ّ التوجهات والقناعات املختلفة ،والعمال هم العمال حيث الهموم متقاربة.
مصادر القوة عندما تكون تكلفة السلعة معظمها مبني على تكلفة اليد العاملة فإن اإلدارة تكون صارمة في قراراتها بشأن زيادة الرواتب أو املكافآت، ً ً والعكس صحيح أيضا ،فمثال لو كانت تكلفة اليد العاملة مجرد %10 ً ً تجاوبا مع مطالب العمال من تكلفة السيارة إجماال ،فإن الشركة قد تبدي بشأن زيادة الرواتب ،أما لو كانت تكلفة اليد العاملة تصل إلى %70فإن ً موقفا أكثر ّ حدية في التجاوب ً نظرا لتأثير ذلك على تكلفة اإلدارة تتخذ السلعة. هنا يبرز سؤال ،وسيكون بهيئة مثال توضيحي :هل يعتبر األمر ً ًّ نظاميا حني يضغط موظفو بنك على الشركات التي تأخذ قروضا ً بشكل مستمر من البنك ،أن يوقفوا تعاملهم مع البنك تضامنا مع عمال البنك؟ هذا األمر ّ مطالبات ّ يسمى Secondary Boycottأو ما يمكن ترجمته بـ" :التجييش اآلثم"؛ ألنه غير بارز الحدود ،وينهك ً االقتصاد بشكل عشوائي وقابل لالستغالل بشكل ملحوظ ،فمثال ربما يتضامن موظفو الدولة في إعاقة املعامالت الحكومية الصحيحة ّ وهلم ّ جرا ،ولذلك فإن القوانني األمريكية والبريطانية لذلك البنك واألسترالية تمنع هذه األعمال التي تساعد في تفاقم املشاكل بشكل تكتيكي أو استراتيجي. ليس هناك تفاوض ما دامت هناك قوة طاغية ومهيمنة على تفاصيل األمور ،لكن ما دام هناك ثمة معطف تزيد قوة طرف على حساب آخر ً فإن موازين القوى تتباين لدرجة أن تصل حد التوازن أحيانا ،في هذا الجزء سأتطرق إلى مصادر القوة لدى النقابة العمالية ومديري العمل. القوة في هذا السياق نوعان :األولى هي القوة الطاغية ،وهي التي تكتسبها ً جدا ّ قليال ً حد االنعدام ،وبالنسبة املؤسسة حني يكون عدد املنافسني ّ للعمال حني تكون أهميتهم عالية لقلة املهارات املوجودة في سوق العمل أو انعدامها ،والثانية هي القوة النسبية ،وهي التي يمتلك كل طرف منها ً جزءا ،ويكون لها تأثير حني التفاوض. تجد ممثلي النقابة العمالية يعملون ليل نهار لتكون للشركة سيطرة على
ً إيجابا عليهم في مرتباتهم السوق؛ ألنها إن ربحت فإن ذلك سينعكس ّ والفوائد التي يحصلون عليها ،بل ويتعدى األمر أن تكون للنقابة العمالية دور في الصعيد السياسي رفيع املستوى ،ظهر ّ جليا لنقابة ّ عمالية في أمريكا في التأثير على القرارات السياسية ،لتكون للشركة حظوة في أسواق عاملية ،لتكون هناك مصالح كبيرة ّ لعمال الشركة.
مجموعة «فرسان ّ العمال» تأسست عام 1869
وماذا عن مصادر قوة العمال النسبية ،أولها هو تنوع مصادر دخل ًّ العامل ،فلو كان هناك عامل يستلم ً شهريا من جهة ،ولديه مصدر مرتبا ّ دخل آخر كمحل صغير يؤجره على أحد ،فستكون لديه قابلية ولو بسيطة ألن يصبر على طعام واحد ،ومثال آخر هو عندما ال يكون هناك أجهزة إلكترونية تقوم بدور ّ العمال ،أي أن التصنيع معتمد عليهم (كعدد ّ وليس كخبرة أو ّ ّ فن) فهنا نستطيع القول أن للعمال قوة نسبية يتحدون بها مديري العمل ،لذا يعمد مديرو العمل الذين يخشون من اإلضراب أن التصنيع الحديثة ،باإلضافة إلى يستبدلوا القوة العمالية باآلالت وأجهزة ّ تخزين البضاعة الجاهزة للبيع لئال ّ تتعطل املبيعات ،بالتأكيد ستكون هناك تكلفة للتخزين ،لكن القصد كله هو حني يتنبأ املديرون بحصول إضراب ّ عمالي فإن أحد السياسات هي كثرة التخزين.
تشير الدراسات إلى تراجع أعداد املنضوين إلى النقابات العمالية في أمريكاوذلك نتيجة لتحقق أغلب املطالب التي قامت من أجلها والنتشار الفساد في بعض النقابات العمالية
لكن ماذا عن الشركات التي لديها تنوع كبير في مصادر الدخل؟ بالطبع سيكون لدى املديرين التنفيذيني لدى هذه الشركة القابضة قوة نسبية؛ ألنه عندما يضرب ّ عمال شركة واحدة من أصل عشرات الشركات فإن الشركة القابضة تستطيع الصبر لوقت أطول مما لو كان هناك مصدر دخل واحد. الدخول إلى النقابة كما هو معلوم يكون عادة برسم شهري بمبالغ مختلفة، ً شهريا ،ويزيد املبلغ إلى أكثر من فبعض النقابات تتطلب قرابة 50دوالر ذلك بكثير ،أحد املواقع قدرت مجموع ما جمعته النقابات في عام 2011هو 14مليار دوالر ،أين تذهب هذه األموال؟ جزء يذهب للنقابة العليا إن كانت نقابة العمال تتبع ألحد منها ،وجزء يذهب لقروض بعض العمال ،وجزء كرواتب للممثلني ،وجزء كمكافآت للمضربني عن العمل حال اإلضراب، وجزء يستخدم كوسيلة ضغط على صانعي القرار ،وجزء لنشاطات النقابة وتغطية تكاليفها ،وهناك العديد من األسئلة حول مصير هذه األموال ،لذا
,,
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
45
اقتصاد
مستشاره ّ حاد الذكاء وهو Harry Hopkinsالذي استحدث مؤسسات هدفها األول توظيف من يفتقدون املهارات التي تؤهلهم لسوق العمل (وهم الغالبية) في أعمال إنشائية للبنية التحتية مثل الجسور والطرق ونحوها مما تتطلب ً كبيرا من ّ عددا ً العمال ،كانت األزمة التي هو بصدد ّ حلها هو إحالل هذه الطاقات البشرية في مجاالت عمل لها قيمة حقيقية في املدى الطويل ،وتحفظ كرامة اإلنسان ،كان هذا املستشار يقول ً دائما "التصدق باملال على العاطلني يحفظ وجودهم الشكلي لكنه يدمر معنوياتهم ،أما إعطاؤهم فرصة العمل فذلك الذي يحفظ لهم كرامتهم"، ساهم هذا املشروع Works Progress Administrationوغيره كذلك Civil Works Administrationفي توظيف قرابة 8ماليني شخص ً مهوال ً ً خصوصا في ظل جدا بني عامي 1943-1935ويعتبر هذا العدد ّ األوضاع االقتصادية الصعبة ،هل انتهت اإلصالحات العمالية ؟ ال ليس بعد..
تظاهر عدد كبير من العاملني بقطاع الصحة العامة في القاهرة للمطالبة بتحسني األجور وظروف العمل بعد ثالثة أيام من تنحي مبارك
,,
أصحاب املهارات والحرف أسرع قابلية لتشكيل النقابات ألنهم يعتبرون ذوي شأن في مجتمعهم ولهم تواصل شبه يومي بكافة طبقات املجتمع حيث يبث لهم الناس همومهم
,,
44
لتلك املرحلة هي "السنوات العجاف" ،يقول االقتصاديون :إن السنوات وصلت العجاف بدأت قبيل 1930حتى ،1936لك أن تتخيل األثر حيث َّ نسبة البطالة في أمريكا %25أي ما يقدر 13مليون عاطل ،وقلت إنتاجية املصانع إلى النصف ،وبدأت مظاهر الفقر في التفشي بني أوساط الناس ،وكانت أعداد الالجئني إلى أمريكا تزداد بشكل متسارع، وانخفضت أسعار البضائع بمقدار الثلث مما دعا مستثمري األموال إلى تقليل التكاليف قدر املستطاع منطلقني من قناعة "كيف لهؤالء الرعاع القادمني إلى أمريكا أن يكونوا منتجني ،وينتظموا في حياة العملّ ،لن يتأتى ذلك إال بقسوة األوامر وإظهار الجبروت تجاههم" األمر الذي ولد للعمال من الناحية ّ أملا ّ املادية واملعنوية.
استحداث العديد من القوانني لتسهيل امتالك السكن كان له أثر كبير لجلب الطمأنينة في نفوس ّ العمال ،كانت وزيرة العمل Frances Perkins لها أثر بارز في استحداث ما يسمى Social Securityوهو صندوق مالي مصدر وفرته من ضريبة الرواتب (أي من كل راتب عامل تؤخذ نسبة معينة من الشركة) لتسديد رواتب للمتقاعدين والعجزة والعاطلني ملدة معينة ،واملرضى ذوي الدخل املحدود وغيرها من األمور االجتماعية وهي محددة بالطبع ،يجدر ذكر أن الحزب الديمقراطي يحاول الظهور بتأييده للحراك ّ العمالي ،وذلك يبرز في صحيفة New York Times ّ بينما الحزب الجمهوري يتخذ مقام أن النقابات العمالية تهدد استقرار العمل ،وتحول التدافع املحمود إلى تنازع ،ويظهر رأيهم ً غالبا في ،Washington Postولتوضيح الفرق يجد القارئ روح املعنى في سياق عبارتني من كل حزب ،حيث يقول الرئيس األمريكي أوباما الذي أتى من العمالي نعمنا بحقوق ّ الحزب الديمقراطي "بفضل الحراك ّ العمال إلى يومنا ،مثل تحديد ّ حد أعلى لعدد ساعات العمل ،والحد األدنى لألجور واإلجازات التي تمنح للظروف العائلية والتأمني الصحي وغيرها" ،بينما ّ "للعمال الحق في كان يقول منافسه من الحزب الجمهوري رومني االنضمام للنقابات ّ العمالية لكن من الظلم أن يجبر العامل لالنضمام لتلك النقابة ،وأن تصرف أموال النقابة لتعزيز موقفها بدفع األموال للسياسيني".
كان الرئيس األمريكي حني ذاك هو هربرت هوفر (من الحزب الجمهوري) كيف نفهم النقابات العمالية؟
الذي كان يعتقد أن القطاع الخاص يجنب أن يكون بمعزل عن القطاع ّ ً ونظرا لزيادة عدد العاطلني بالتشوهات اإلدارية، الحكومي املليء ً ّ األمريكيني فإن الرئيس عمل جاهدا لطرد العمال الذين دخلوا بصورة غير نظامية ألمريكا (يقدر عدد املكسيكيني املطرودين قرابة 500ألف عامل)؛ لتكون هناك فرصة عمل "لألمريكيني" ،ووقع العديد من املشاريع الحكومية إلنعاش االقتصاد لكن جدوى جهده لم يكن له تأثير بارز، ّ رشح نفسه لوالية ثانية لكن أصوات األوراق أبت إال أن تختار روزفلت ّ ً (من الحزب الديمقراطي) ً رئيسا جديدا للبالد في عام ،1933وماذا قدم الرئيس روزفلت الذي يفتخر به الحزب الديمقراطي إلى اآلن؟
حقوق العمال الذي يهمنا هنا هو الحديث عن املشاريع التي تصب في مصلحة الوطن عن طريق حقوق العمال والتشريعات املتعلقة بها ،اشتهر روزفلت بحماسته املطلقة في أول 100يوم من توليه مقاليد الحكم ،حيث أطلق مقولته الشهيرة "الخوف هو العائق األهم الذي يجب هزمه"ّ ،قدم الرئيس روزفلت العديد من املقترحات للمجالس التشريعية بخصوص أنظمة ًّ تدريجيا في احتواء التأمني والبنوك والتي تمت املوافقة عليها مما ساهم األزمة ،لكن املشاريع التي أورثت الرئيس روزفلت سمعته أتت من عقل
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ّ واملحددات للنقابات العمالية فيجب إدراك من أجل فهم طبيعة البيئة أن هناك ثالثة أطراف رئيسة في مجال النقابات العمالية وهي :إدارة املؤسسة والعمال والحكومة ،عندما تأتي دراسة الحراك ّ العمالي فإن األنظار تتجه ً غالبا نحو هذه األطراف الثالثة؛ ألنها تلعب الدور الرئيس في املشهد ،وعندما يتم االنتقال ملعرفة الجهة األخرى وهي النقابات فهناك صنفان ،األولى هي النقابة التي تمثل وظيفة معينة (األساتذة ً ً قطاعا معينا (موظفو شركات والصباغني) ،والثانية هي التي تمثل إنتاج السيارات أو الحديد) ،في بداية الحراك النقابي كانت النقابات التي تمثل وظيفة معينة هي املسيطرة على املشهد ّ العمالي ،لكن مع ازدياد تصنيفات األعمال والتخصصات وزيادة عدد غير املتخصصني بشيء معني ،برزت النقابات التي تجمع العاملني في القطاعات املختلفة لتكون لها قوة أكثر. الطرف األول هو إدارة املؤسسة ،وهناك فرق بني املؤسسة الربحية وغير الربحية في عدة مجاالت ،واألهم أن املؤسسة الربحية تسعى ً دائما لتعاظم الربح بأي طريقة ،ومنها تقليل رواتب ّ العمال حيث املستطاع، ً أيضا تحرص اإلدارة لزيادة إنتاجية ّ العمال ضمن إطار الجودة وتقليل انتقال العمال لشركات أخرى أو ّ التغيب ،أما املؤسسات غير الربحية فإنها تحاول أن تؤدي واجباتها بأسلم الطرق ،وسبل تطورها أبطأ
ً عملهم ذا ّ فن بديع ويتبوءون منزلة عالية آنئذ ،وبالجهة املقابلة أيضا ّ تجد أن ّ العمال الذين يتشاركون العمل في مكان واحد -كعمال املناجم ً ّ مثال -أقرب للتشكل؛ ألن في تشكيالتهم تنعكس صرخات األسى والتذمر وأحالم اليأس. وماذا كانت هي مطالب ّ العمال؟ كانت –ببساطة -تتمحور حول تحسني ظروف العمل واالستحقاق املادي ،ظروف العمل تشمل نبذ التحرش ً الجنسي ،ووضع آليات لحفظ سالمة العمال وأمنهم ،وأيضا العديد من الجوانب األخرى املرتبطة بالحس اإلنساني ،كفرض راتب تقاعدي ومنع ّ جشع التجار بتوظيف األطفال ،تبدو هذه ّ املطالب خالبة للناظرين اآلن، ّ ّ لكنها أتت بتضحيات فذة حق لها أن تسطر في كتب ومؤلفات. ً ّ هناك من يظن أن انتشار ّ املعدات الصناعية ًولد حنقا لدى العمال لسهولة االستغناء عنهم ،وال يعتبر هذا القول دقيقا!! حيث إن نشاط العديد من النقابات املؤثرة بدأت بعد ذلك بسنني الحقة ،لكن القول األدق هو أن النقابات العمالية بدأت معاملها تتضح ببداية حقبة الصناعة ،وتوفر نقل البضائع بني املدن ،حيث تأثر صانعو األحذية في فالديفيا من أسعار ونحوها ،وبشكل تلقائي ازداد الطلب تستورد من نيويورك األحذية التي ّ على األحذية مما ّولد ً لقلة َ املهرة في تصنيع األحذية، عجزا في اإلنتاج ّ ّ وهنا برز األمر األهم وهو أن تشكلت طبقة جديدة ليست مصنفة بأنها أساسيات في صناعة األحذية ،وأصبحوا الحرفة لكنها تجمع ماهرة في ِ هدد َامل َهرة ّ الوقت هم األغلبية مما ّ ًّ ومعنويا. ماد ًّيا مع مرور
فرسان ّ العمال في عام 1869ظهرت مجموعة تدعى "فرسان ّ العمال" Knights of Laborوأصبحت مؤثرة ً جدا لدرجة أنه في عام 1886بلغ عدد أعضائها 700ألف عامل وعاملة؛ ألنها ال تتبع سياسة واحدة في االستقطاب ،بل كانت لديها أسس عامة ،مثال تحديد ثمان ساعات للعمل اليومي ،ووضع
قوانني لحفظ سالمة العمال وحماية األطفال من االستغالل ،واألمر الذي ّ تشكل ّ عمالي البد أن يراعي ظروف املهنة. ّميزها هو فرضية أن كل ً أحدثت صرخات التذمر حراكا نتج عنه زيادة معدل رواتب العاملني في املصانع لضعفني إلى ثالثة أضعاف في الفترة بني عامي 1870و ً ،1920فكما هو معلوم أن األلم املجتمعي يخفت أحيانا نتيجة ظروف معينة لكنه ال يموت؛ ألنه في األساس مصدر إحياء لعزيمة املظلوم، اتسعت رقعة انتشار املطالب ،وأصبحت أهمية توحيد تلك الجهود بارزة، فبرزت العديد من النقابات ّ العمالية التي كان لها أثر بارز في زيادة الوعي والوقوف مع مطالب ّ العمال منها على سبيل املثال ال الحصر Industrial Workers of the World ً تقريبا في عام 1920بدأت فكرة أن العامل املطمئن والذي ال يواجه ً ً ظلما سيكون أكثر إنتاجية وعمال ،فبدأ أصحاب االستثمار ومديرو ّ ً املؤسسات يبدون اهتماما أكبر بمعنويات العمال وسبل سعادتهم، ً في السابق كان املسئول عن كل قسم (مثال كبير املصنعني) هو من يحدد كل شيء بالنسبة للعامل ابتداء من توظيفه وتحديد راتبه وترقيته وطرده ،لكن هذه الحالة تغيرت مع تقادم الزمن ،وأصبح هناك قسم في الشركة يهتم بعالقات املوظفني ورواتبهم واألمور اإلدارية التي تختص بهم ،وأصبح املسئولون عن األقسام ُي َّ دربون لتكون قراراتهم متوافقة مع السياسات العامة للشركة. وبالجهة املقابلة فلقد كان للحركات املناهضة للنقابات ّ العمالية -وسن بناء على مطالبات ّ األنظمة ً العمال -أثر كبير في انخفاض عدد املنضمني ّ إلى النقابات العمالية ،فاألرقام تشير أنه في فترة بني 1931 – 1921 انخفض عدد املنضمني إلى النقابات من قرابة ستة ماليني إلى أقل من مليونني ،ويؤكد العديد من املختصني أن الزمن الذهبي للنقابات العمالية كانت بني 1948وحتى .1958الكثير من الناس يطلقون مسمى الكساد الكبير ملرحلة " "Great Depressionلكني أظن أن التسمية الصحيحة
اضرابات عمالية خرجت الى الشوارع بوسط القاهرة في عيد العمال املاضي
,,
نسبة اإلضرابات تقل في األزمات االقتصادية لقلة الفرص الوظيفية األخرى.
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
43
اقتصاد
هل كانت إضرابات العمل وتصاعد وتيرة الغضب لدى العمال نتيجة للبؤس والضغوط التي كانت تحيط بهم؟ كيف يصرخ عامل في وسط شارع مليء بحفاة البشر بطلب إدراج اسمه في ً مزايا التقاعد ومتوسط عمر اإلنسان حينئذ هو ً 60 تقريبا؟ هل ألنه رأى جاره الستيني عاما يكدح وعود ظهره قد تقهقر في مصنع غني أهوج؟ صورة غامضة تكتنف مشهد الفقراء وهم يوافقون لوضع قوانني تحرم عمل األطفال وهم في الحقيقة مصدر رزقهم ! هل األمهات من ً تأثيرا على يطالنب بذلك؟ ومتى كان للنساء صوت في تقرير مصير آالف العائالت أم أن للنساء قرارات الرجال بطريقة غير مباشرة؟
اإلضرابات العمالية والنقابات ..معركة الحقوق واألجور
ثورة العمال بقلم: عبدالعزيز اليحيى
أحد املعايير التي تستخدم في تقييم الشركة من ناحية حسن اإلدارة العمال الذين يخرجون ً هي Turnover Rateوهي نسبة عدد ّ طوعا من الشركة (لم يفصلوا) ،تختلف النسبة بني املصانع واملتاجر وطبيعة الوظيفة لكنها في عام 1913بلغت في مصانع السيارات %370 ً جميعا يتغيرون عامل فإنهم وبصورة أوضح لو ًكان لدى الشركة ألف ّ تقريبا ،وهذا شيء مريب حقا ..ويبقى السؤال ملاذا؟! كل ثالثة أشهر املرأة فاعلة ً دوما في أي حراك اجتماعي ،كانت Mary Jonesتعصف ً ّ ّ حماسا في إيقاظ همة العمال لالتحاد ،ومناكفة الظلم الحاصل عليهم، ّ ّ كانت تطوف بني املصانع وتحث العمال أن يتمسكوا بمطالبهم ،هذه مرت بظروف عصيبة صنعت منها امرأة ّ املرأة ّ قوية البأس وذات روح ً تحب التحدي ،حتى إنها كانت تقول بقصد ساخر "سألت رجال ً مسجونا عن جريمته فقال :سرقت ً حذاء ،فقلت له :كانت فرصتك أن ً تكون رجال ً مهما في الدولة لو سرقت ً قطارا" ،إنه أمر مفزع حني تكون هناك لقمة واحدة ملائة فاه ،كان الطفل يسأل أمه :هل عاد أبي؟! وكانت اإلجابة تأتي من صوت مفاصل والده -الذي يعمل 14ساعة ً يوميا ملدة ستة أيام في األسبوع ،وليس هناك إجازة سنوية -ليقول :نعم موجود أنا بال روح !
غالف كتاب « مقدمة في املفاوضات الجماعية والعالقات الصناعية» ملؤلفيه هاري كاتز ،توماس ،و الكسندر كولفني
42
فتبعث فيهم الحماس ،وتمنحهم ذالقة البيان ّ وقوة النقد". ً الناس بطبعهم مختلفون وهذه بذاتها تزيد هذه الدنيا ألقا وفسحة ،حيث ً ّ صنفا من ّ العمال يفضلون االنتقال الى شركة أو مؤسسة إن هناك ً أخرى فضال عن إصالح املكان الذي يعملون به ،وهناك ّصنف يرفض االنتقال ،ويصر إال أن تتغير األمور لتكون متوازية مع تطلعاتهم ،وهناك فئة مدفوعة بحب إصالح شؤون ّ العمال وهم من خارج مؤسسة العمل، ّ هناك فيض من األمثلة سنستعرضها في هذا املقال عن النقابات العمالية ً خصوصا ،وأسباب تداعياتها ،والسبل الواعية للتعامل معها، في أمريكا ّ اعتمد الكاتب على مصادر عدة ،وأبرزها وأهمها كتاب: An Introduction To Collective Bargaining And Industrial Relations ملؤلفيه Harry Katz, Thomas Kochan, Alexander Colvin
أحد التحديات التي واجهت الكاتب هي ترجمة بعض املصطلحات اإلنجليزية إلى اللغة العربية ،حيث َ عمد الكاتب لترجمة بعض الكلمات ً بطريقة تحمل معنى وشعور ووقع الكلمة ،أيضا اعتمد الكاتب كلمة َ ً ّ عوضا عن املوظف أو األجير من جهة ،وإدارة املؤسسة من جهة العمال أخرى ،وهذين القطبني هما محور الحديث في هذا املقال.
زمن الشعور بالظلم
كيف نشأت النقابات العمالية؟
عندما نشرع باب السؤال عن حيثيات النقابات ّ العمالية وأهمية دورها إننا في الحقيقة نعود لحقبة "أسمع صدى" ،هو زمن الشعور بالظلم ً فضال عن الظلم ذاته ،ال أعلم آلية تقييد األمور واعتبار أنها ظلم ،ففي السابق كان الرجل يكدح حتى يشارف رحيله عن هذه األرض ،ولم يقل أحد أن إلزام الثمانيني بالعمل هو ظلم؟ لكن األهم هنا هو الشعور بالظلم ،وقد أجاد أستاذ علم االجتماع علي الوردي -رحمه الله -حني ّ قال" :فالناس ال يثورون من ّ جراء ظلم واقع عليهم ،إنما يثورون من ً ّ جراء شعورهم بالظلم ،فالشعور بالظلم هو أعظم أثرا في الناس من الظلم ذاته ،إن ّالناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم، ّ وجوعوهم ،وسلطوا الجالوزة عليهم يضربون ظهورهم بالسياط، ً ّ ذلك ألن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى ،وألفوه جيال بعد ّ ًّ جيل ،فهم يحسبونه ً طبيعيا ال فائدة من االعتراض عليه ،لكنهم أمرا يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة
إن كان هناك ثمة حدود في الطرح ،ووجب اختزال موضوع نشأة النقابات ّ العمالية في كلمة واحدة ،فليس هناك أكثر دقة من كلمة "البؤس" ،وإن تداعى األمر لوصف الناس فلن تكون كلمة البؤساء هي الراشدة بل كلمة "املحرومون" هي األدق ،ذلك أن ّ العمال كانوا ال ينادون باسترداد شيء، وإنما الستحداث آليات للتفكير تواكب مجريات التغير في زمن مضى. ّ تعود بداية النقابات العمالية في أمريكا إلى عام 1794حني شكل صانعو األحذية في فالديفيا (التي كانت عاصمة مؤقتة ألمريكا بني عامي )1800-1790نقابة كانت لها أهمية سابقة ،ويكمن السؤال هنا :ملاذا ً تحديدا؟ الجواب أن أصحاب املهارات والحرف أسرع صانعو األحذية ّ تشكال للنقابات؛ ألنهم يعتبرون ذوي شأن في مجتمعهم ،ولهم تواصل شبه يومي بكافة طبقات املجتمع ،حيث يبث لهم الناس همومهم ،وهذا ً أيضا في عدة دول كبريطانيا والسويد ،حيث ّ الصباغون يعتبر صحيح
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ومع تراكم أحداث العنف الديني ،خاصة ما حدث في «الخصوص» ثم في محيط «الكاتدرائية» التي ظلت في مرمى اعتداء مجموعات وصفت بأنها «مجهولة» من جانب األجهزة األمنية ،في مشهد غير مسبوق ،تصاعدت نبرة النقد من جانب البابا تواضروس، خاصة عندما وجد أن حديث املسئولني ،بما في ذلك رئيس الجمهورية ،عن الوحدة الوطنية ال يجد صدى واقعيا .إدارة الشأن العام ليست باألماني ولكن باألدوات السياسية املتاحة. إذا كان مطلوبا من املؤسسة الكنسية «الصمت» فمن يتحدث؟. طاملا نادى البعض باملثالية في إبعاد املؤسسة الدينية عن الحديث عن الشأن الحقوقي لألقباط ،فالواقعية السياسية تقضي بأن يكون هناك نظام سياسي ،بمؤسساته وهيئاته وقوانينه وقراراته ،يعبر عن كل املواطنني ،ويسعى دائما لحل مشاكلهم. وهو ما لم يحدث ،بل ظهرت مؤسسات الدولة غير محايدة في مناسبات عديدة في تعاملها مع الشأن القبطي ،والسيما في ظل سعي جماعات إسالمية لفرض سيطرتها على املجتمع ،ولي ذراع أجهزة الدولة التي لم تعد تملك سوى التفاوض معها ،وهو ما يعزز سلطتها ومكانتها في املجتمع. اإلشكالية الحقيقية في نظام الرئيس محمد مرسي هي تعامله مع األقباط من منظور «العالقات العامة» ،التي تقتصر على اجتماعات في الرئاسة مع ممثلي الكنائس ،وأحاديث فضفاضة عن الوحدة الوطنية ،وخطابات عامة ال تمس جوهر املشكالت التي تواجه األقباط ،املوروثة واملستحدثة ،وال تحدث أية تغيرات على أرض الواقع ،بل ما يحدث يشكل تحوالت سلبية. الشواهد تشير إلي أن غالبية األقباط ال يشعرون بأن الرئيس محمد مرسي رئيسا لهم ،خاصة مع تكاثر املشكالت فوق رؤوسهم .هموم مصرية عامة ،وهموم قبطية خاصة ،الكل يتقاطع ،ويخلق حالة من الغضب املمزوج بالقلق .من اإلنصاف ٌ أال نحمل رئيسا جديدا تركة ثقيلة من الطائفية تراكمت على مدار ُ ٌ عقود ،لكن ينتظر منه أن يتخذ سياسات عامة تشعر املجتمع بأنه يحسن إدراكها ،ويسعى إلزالتها. وكم هو الفت ،أن رئيس الجمهورية في موقعه منذ نحو عشرة أشهر لم يظهر خاللها أي لفتة بأنه يقدر التراث الثقافي املتعدد، والتجربة الحضارية للمجتمع املصري بزيارة أي من املعالم املسيحية أو املشاركة في أي مناسبة تخص األقباط ،أو الحديث عنهم بما يتجاوز الخطابات التقليدية املعتادة عن الوحدة الوطنية، والعالقات الطيبة بني املسلمني واألقباط. وبمرور الوقت يتعمق شكل االنقسام في املجتمع .هناك قوى إسالمية لديها مشروعها السياسي الذي يهدف إلى التمكني من مفاصل املجتمع بتأكيد االنقسام على أسس دينية ،وهناك قوى آخرى مدنية ،يصطف فيها األقباط واملسلمون ،ويبدو إلي جوارها مؤسسات رئيسة في الكيان املصري مثل األزهر والكنيسة والسلطة القضائية. وقد كان الفتا عشية االحتفال بعيد القيامة ،الذي خرج عن مفتي اإلخوان املسلمني الدكتور عبد الرحمن البر للمرة األولى تصريح صادم بعد جواز تهنئة املسيحيني في هذه املناسبة ،أن يصفق األقباط في صحن الكاتدرائية لشيخ األزهر ،والجيش، والقضاء ،وجميعها في حالة مواجهة بدرجة أو بأخرى مع اإلخوان املسلمني ،دون أن يتجهوا بتصفيقهم ألي من رموز النظام الجديد<
أقباط املهجر > أقباط املهجر مصطلح يطلق على املصريني األقباط املهاجرين خارج مصر ويقصد به الوجود القبطي خارج مصرّ . ويقدر عدد األقباط في الخارج حوالي 5ماليني .وينتمي أغلب أقباط املهجر إلى الكنيسة القبطية األرثوذكسية ،ويعيش أغلبهم في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا، وبعض الدول األفريقية األخرى. > بدأت أولى موجات هجرة األقباط للخارج بعد قيام ثورة 23يوليو (تموز) 1952مباشرة ،ومع صدور قانون التأميم ،ال سيما أن األقباط كانوا أكثر املصريني ثراء ،وبعد انتزاع بعض أمالكهم سارعوا للهجرة إلى دول أميركا وأوروبا وكندا ،ثم توالت املوجات مع اندالع أي حادث له صبغة طائفية. > ثالثة أسباب يمكن وضعها ركائز رئيسة ألسباب هجرة املسيحيني األول ممثلة بالعامل االقتصادي وتدهور الحالة املعيشية،العامل الثاني يتمثل «بالتفريق في املعاملة» بني املسيحيني وسواهم ،والثالث هو تصاعد الحركات األصولية اإلسالمية. > مع زيادة أعداد األقباط في الخارج تكون ما يمكن وصفه بـ«اللوبي القبطي» ،ضد السلطات املصرية، ومارس أقباط املهجر ضغوطا قوية على األنظمة الغربية ،التخاذ مواقف متشددة ضد السلطة ،أثناء الحوادث ذات الصبغة الطائفية. > برز عدد من أقباط املهجر في كل املجاالت ،وسطع نجم عدد من أقباط املهجر ،ووصل بعضهم إلى مراكز مرموقة أمثال بطرس بطرس غالي األمني العام السابق لألمم املتحدة ،مجدي يعقوب ،وهو من أبرز جراحي جراحة القلب وأطلق عليه لقب ملك القلوب ،فايز ساروفيم رجل أعمال وملياردير ،ودينا باول مساعدة وزير الخارجية األميركي لشؤون التعليم والثقافة وغيرهم. > تؤكد االضطرابات التي تشهدها مصر بني حني وآخر بني األقباط واملسلمني إلى وجود أزمة في عالقة املواطن القبطي بالدولة املصرية .وكثيرا ما سال الدم جراء املواجهات العنيفة بني الجانبني .وينفي املفكر اإلسالمي محمد عمارة في كتابه "في املسألة القبطية ..حقائق وأوهام" ،الذي صدر عام 2001 وجود مسألة قبطية ،ويعتبر أن األمر من صنع أقباط املهجر ،وأنه أتى جراء عملية تسييس الكنيسة التي بدأت في نظره مع تولي الراحل شنودة الثالث بابا اإلسكندرية وبطريرك الكرازة املرقسية منصبه عام .1971أما منظمة العفو الدولية فتجزم في تقرير صدر عام 2008بأن أقباط مصر يعانون التمييز واالضطهاد ،وأن الدولة املصرية تتجاهل تلبية مطالبهم العادلة واملشروعة. > من أهم مطالب األقباط ،تطبيق قانون موحد لدور العبادة وإتاحة حرية بناء الكنائس ،وقانون خاص باألقباط لألحوال الشخصية ،وتدريس التاريخ القبطي ،وإنهاء ما يوصف بالتمييز في التعليم ،وإلغاء املادة الثانية من الدستور التي تقول إن اإلسالم دين الدولة ،وإلغاء خانة الديانة من البطاقة الشخصية واستمارات الوظائف ،واستعادة األوقاف القبطية ،ومنح األقباط نسبة أكبر في الوظائف القيادية، وتمثيل أكبر في الحياة السياسية ،وإنهاء التمييز في اإلعالم الرسمي ،ويطالب أقباط املهجر بحرية التحول من دين آلخر. > اتخذ مجمع الكهنة األقباط ومجلسهم امللي قرارات جاءت بصيغة مطالب "حول حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وعدم تطبيق الشرع اإلسالمي وحماية األسرة والزواج املسيحي ،وحول املساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل املسيحيني في الهيئات النيابية والوزارة والوظائف العليا وغيرها، والدعوة إلى ضرب االتجاهات الدينية اإلسالمية املتطرفة ،وهي كلها مطالب تتهم النظام املصري السابق والحالي بالتمييز ضد األقباط". > نشر بعض املسيحيني األصوليني أو ما يطلق عليهم (األقباط السلفيون) في الخارج خريطة ملصر قالوا إنه سيتم خاللها تقسيم مصر إلى 5دويالت ،من بينها الدولة القبطية وعاصمتها اإلسكندرية، وتمتد من جنوب بني سويف حتى جنوب أسيوط ،وتتسع غربا لتضم الفيوم ،وتمتد في خط صحراوي عبر وادي النطرون ليربط هذه املنطقة باإلسكندرية ،كما تضم أيضا جزءا من املنطقة الساحلية املمتدة حتى مرسى مطروح. > رأى الباحث سليمان شفيق في تصريحات لصحيفة "اليوم السابع" املصرية أن البيان الصادر عما يسمى بالدولة القبطية ليس سوى «بالونة اختبار» ،من قبل شخصيات وصفها بأنها "وهمية" ،مؤكدا أن هذه الشخصيات وهذه البيانات محاولة ملعرفة ردود الفعال وقياس الرأي العام في مصر ،خاصة األوساط السياسية منه ،وأضاف أن ما يساعد على ظهور جهات قبطية أصولية تسعى في االتجاه نفسه من قبيل ما يسمى بالبرملان القبطي ،محذرا من أن مثل تلك الكيانات تستهدف فصل األقباط عن الجماعة الوطنية املصرية. > نفى بابا اإلسكندرية ،بطريرك الكرازة املرقسية نية األقباط تأسيس دولة لألقباط وأوضح "أن من يروج النفصال املسيحيني وتأسيسي دولة قبطية (مختل) ،وكالمه غير صحيح ،فالكنائس واألديرة منتشرة بطول مصر والكنيسة جزء ال يتجزأ من مصر التي لن تتقسم وستظل موحدة منذ عهد مينا وإلى األبد. املحرر الثقافي المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
41
تقرير
تنظيما وتشعبا فيه هو «املؤسسة الكنسية» ،وهذه –بحكم تكوينها وفلسفتها وخبرتها التاريخية -يصعب أن توفر أية مظلة فكرية ٌأو مؤسسية للجوء للعنف .ثالثهما وجود قطاع عريض من األقباط في املهن املختلفة ،وبخاصة في القطاع الخاص ،واعتمادهم اقتصاديا علي التفاعل مع املجتمع العام، بمسلميه ومسيحييه ،يؤثرون عادة العالقات الهادئة ،وينأون بأنفسهم عن أي صدام قد يحدث ملا له من تأثير سلبي مباشر على مصالحهم.
,,
برز عدد من أقباط املهجر أمثال الجراح مجدي يعقوب وامللياردير فايز ساروفيم ودينا باول مساعدة وزير الخارجية األميركي
,,
ويجب أن نتذكر أنه علي مدار أكثر من أربعة عقود وقعت العشرات من أحداث التوتر الديني ،وبضعها خلف قتلى وجرحي في صفوف األقباط ،فضال عن االعتداء على الكنائس واملنازل واملحالت اململوكة لهم ،ولم نر تحوال كيفيا في اللجوء العنف أو استخدام السالح على نحو ممنهج ،وكل ما حدث في بعض املناسبات املحدودة هو استخدام بعض األفراد للسالح في الخالفات االجتماعية ،وهو أمر يحدث علي نحو متسع في مصر بمسلميها ومسيحييها منذ ثورة يناير 2011م ،لكنه ال يشكل تحركا جماعيا. وبالتالي يصعب تصور نشوء «سلفية قبطية» تؤسس للعنف منهجا ،قد تنشأ تجمعات قبطية تتبني رؤى متشددة لكنها لن تتحول يوما إلى العنف ،فضال عن أن تشددها عادة ما يرتبط بمستوى التعامل النظامي مع املطالب القبطية ،فإذا حدثت انفراجة في مجال حل املشكالت القبطية سوف ينخفض منسوب التشدد .خرج األقباط من رحم نظام مبارك بمشاعر مختلطة .هناك فريق منهم اشتبك مع الحياة العامة ،وبالتالي كانوا مشاركني أو علي األقل متعاطفني مع نداء امليادين برحيل هذا النظام ،وفريق آخر يصنف ضمن غالبية املصريني الذين ينشدون الهدوء واالستقرار. في الشهور األولى التي أعقبت ثورة يناير 2011م ،خاصة بعد ان استشعر اإلسالميون عامة القوة بعد إجراء االستفتاء علي تعديل بعض مواد في الدستور في مارس من نفس العام ،الذي أعقبه صدور اإلعالن الدستوري األول .في تلك األجواء حاول اإلخوان املسلمون التقرب لألقباط من منطلق برجماتي ،ال يبحث في مخاوف األقباط من فتاوى وممارسات اإلسالميني عامة واألخوان خاصة ،ولكن يركز على استيعاب األقباط في ظل ترتيبات النظام الجديد بما يضمن أن يحل اإلخوان املسلمون ،أو حزب الحرية والعدالة ذراعهم السياسي محل الحزب الوطني. جس النبض بدأ أوال بلقاء جمع أثنني من صحفيي اإلخوان املسلمني مع أحد قيادات الكنيسة ،ثم تعثر األمر ،والسبب أن البابا شنودة رأى أن الحوار بني اإلخوان املسلمني واألقباط ليس له مبرر .فاألقباط جزء من املجتمع ،وإذا كان لإلخوان املسلمني حزب فهو يخاطب كل املجتمع ،ومن بينه األقباط بالطبع ،أما الكنيسة -فهي مؤسسة -تتحاور وتتعاون وتدخل في عالقات مع مؤسسات مماثلة لها في مقدمتها األزهر .وبالتوازي لم تؤد اللقاءات التي عقدتها قيادات إخوانية مع مثقفني ونشطاء أقباط إلى نتائج ذات داللة ،والسيما أن اإلخوان املسلمني لم يكن لديهم رغبة في بناء جسور ثقة مع األقباط أنطالقا كونهم فصيال سياسيا جامعا ،ولكن من منطلق «الصفقة الشاملة» مع املؤسسة الكنسية أسوة بما كان يحدث في عهد مبارك.
دينا باول
40
امللفت أن اإلخوان املسلمني ،والتيار اإلسالمي عامة ،كثيرا ما كان يدعو األقباط طيلة التسعينيات تحديدا ،وما تالها إلى
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
الخروج من الكنيسة ،واملشاركة في املجتمع .وعندما جاءت اللحظة التي أصبح اإلخوان املسلمون فيها في صدارة املشهد السياسي سعوا إلى تمكني الصيغة التقليدية في تعامل النظام الحاكم مع األقباط بدال من تقديم صيغة وطنية أرحب تقوم على االندماج القومي. جاء انتخاب الرئيس محمد مرسي في أجواء من االستقطاب، لم تكن غالبية األقباط مؤيدة له .ورغم أن مرسي حاول الظهور بمظهر رئيس كل املصريني ،إال التطورات على أرض الواقع كانت تسير في اتجاه مزيد من انتهاك حقوق االقباط ،وتراكم املشكالت التي يعانون منها ،ومحاصرة الخطابات املتشددة لهم ،وإهانة العقيدة املسيحية على يد إسالميني. في حوار مع شخصية مهمة في دائرة السلطة ذكر لي :هناك اعتقاد في قصر االتحادية بأن األقباط ال يريدون الرئيس محمد مرسي ،وليسوا على استعداد للتعاون معه ،بل هم يقفون إلى جوار املعارضة .هذه املالحظة لها ما يؤكدها من شواهد ،فقد وقف األقباط إلي جانب املعارضة في كل املناسبات االنتخابية في مواجهة اإلسالميني ،والسبب يعود إلى اعتقاد األقباط بأن حكم اإلخوان املسلمني يحمل تراجعا لهم في الوضع القانوني، واملكانة السياسية ،والحضور الثقافي. وبالتالي التيارات املدنية التي تقر بمواطنتهم ،وتسعى إلدماجهم في املجتمع على أساس من املشاركة والندية واملساواة ،وترى فيهم شركاء أصالء في املشروعات السياسية واالقتصادية املطروحة أفضل بالنسبة لهم من ارتباط باإلخوان املسلمني الذين عمدوا في خطابهم السياسي خاصة في املواسم االنتخابية إلى التقسيم الديني للمجتمع أمال في حشد أصوات املسلمني طائفيا. األقباط خرجوا إلي الفضاء املدني ،وال يريدون العودة إلى االنكفاء أو العزلة مرة أخرى .ال هم يرغبون في ذلك ،وال القيادة الكنسية الجديدة متمثلة في البابا تواضروس الثاني راغبة في التدخل في الشأن السياسي .املسألة بالنسبة لألقباط لم تعد مناصب أو مواقع أو كنائس تبني أو ترمم كما كان الحال في عهد مبارك ،ولكن في األساس حضور ووجود واعتراف بالدولة الوطنية التي تحتفي بكل مواطنيها ،وليست الدولة التي تجعل الجماعة في مواجهة الوطن .باختصار هي معركة وجود في وطن يتغير ،وتهتز أسسه ،وتتبدل ثوابته. وصل البابا تواضروس الثاني إلى سدة الكرسي املرقسي في نوفمبر 2012م خلفا للبابا شنودة الثالث الذي شكل رحيله حالة من الفقد الوطني ،ولم تعرف مصر منذ عقود وداعا شعبيا جارفا إلحدى الشخصيات التي أثرت في املجتمع املصري مثلما حدث في جنازة البابا شنودة. قبل أن يجري تنصيب البابا «تواضروس الثاني» رسميا أسدى له الكثير التهنئة ،والنصائح ،والتحذيرات ،هناك من نصحه بأن يمضي على نهج سلفه ،وآخرون -من اإلسالميني على وجه الخصوص -طالبوه بتغيير توجهات الكنيسة ،وعدم االنخراط في ملفات سياسية. عقب تنصيبه بطريركا لإلسكندرية ،ظهر البابا تواضروس الثاني متحدثا عن الوحدة الوطنية ،متواصال مع املؤسسات الدينية اإلسالمية ،مفضال عدم الحديث أو الظهور في املجال السياسي العام ،تاركا األمر للمدنيني األقباط في الفضاء العام.
النضال من أجل الديمقراطية والسعي إلى مواجهة املظلومية القبطية يجد الشباب القبطي النشط نفسه في غالب األحيان. وال ينبغي أن نجهل أمرين في هذا الخصوص :أولهما اإلرث الطائفي في اإلعالم والتعليم والوظائف الذي نشأ عليه الشباب القبطي على مدار عقود ،وثانيهما التفاعل مع الحركات الشبابية االحتجاجية .في األولى تقوقع حول املظلومية القبطية املمتدة دون حل ،وفي الثانية انفتاح على رحابة النضال السياسي الديمقراطي. في حادث «الخصوص» الذي وقع في إبريل ،2013وما تاله من مواجهات أمام الكاتدرائية املرقسية بالعباسية ما يشير إلى أن الشباب القبطي بدأ يفقد حلمه .يواجه عنفا بعنف ،ويسعى إلى صد العدوان باللجوء إلي أساليب النضال الال سلمي ،والسبب يعود إلى أن دولة العدالة غير متحققة ،والقانون غائب أو مغيب، ومؤسسات الدولة ال تفعل الكثير أو القليل لحل مشاكل مواطنيها .هنا يظهر التأثير الذي تعرض له الشباب القبطي من خبرة االحتكاك مع االحتجاجات الشبابية على مستوى الشارع
التي تلجأ إلى العنف في مواجهة النظام القائم بما يحويه من نزعات لالستئثار بالسلطة ،واقصاء املختلفني ،والسعي إلى إعادة تشكيل هوية الدولة وفق تصورات فصيل سياسي واحد دون مشاركة من جانب الفصائل السياسية األخرى. ورغم أن هناك أحداثا ظهر فيه «القبطي» بمظهر من يلجأ للعنف إال أنه يصعب تصور أن تنشأ حركات قبطية تؤسس منهجها علي العنف لتحقيق غاياتها أو أهدافها .سيظل األمر عشوائيا وليد اللحظة ،مقصور على شباب في مواجهة واقع متأزم، وليس منهجا فكريا متكامال يقوم على فكر وتنظيم وحركة. ولعلنا نتذكر أن خبرة «الكتيبة الطيبية» ،التي بدأت مطبوعة تحمل األسم ،ثم تجمع قبطي في أحد املناطق العشوائية (عزبة النخل) ،رغم حدة خطاباتها ،وإرتفاع منسوب الشعور باالحتقان الطائفي بني أعضائها ،لم تنزلق لتأسيس مرجعية فكرية للعنف أو تجعلها منهجا لها ،ولم تكن في مناسبات كثيرة سوى معبئة لطاقات الغضب ،ودافعة للتظاهر. ثانيهما أن الحضور القبطي في مصر معقد ،الطرف األكثر
,,
بابا اإلسكندرية وبطريرك الكرازة املرقسية يرفض دعوة بعض اقباط املهجر الى تأسيس دولة لألقباط
جاء تولي الدكتور محمد مرسي أول رئيس ملصر من التيار اإلسالمي ليزيد من املخاوف القبطية
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
39
تقرير
بعد عقود من ابتالع آالم املواطنة املنقوصة في صمت خرج األقباط عن حلمهم املعهود في احتجاجات بدأت أوال في صحن الكاتدرائية كما حدث في األلفية الجديدة مع حادثة «راهب دير املحرق» عام 2001ثم واقعتي «وفاء قسطنطني» عام 2003و»كاميليا شحاتة» عام 2008ثم ما لبثوا أن خرجوا إلى الفضاء العام بعد عقد من الزمن قبل أندالع ثورة 25يناير 2011في مناسبتني :األولى هي أحداث العمرانية في أكتوبر(تشرين األول) ،2010ثم التفجيرات الدامية في كنيسة القديسني باإلسكندرية لحظة ميالد عام .2011
مسيحيو مصر بني «نضال الديمقراطية» و«املظلومية القبطية»
القبطي السلفي بقلم: س ــامــح ف ـ ــوزي
,,
تشكلت حركة شباب ماسبيرو من قلب النضال أمام مبني ماسبيرو احتجاجا على ما حدث في كنيسة صول بعد أسابيع من سقوط نظام مبارك
,,
38
الحوادث التي تظاهر األقباط بسببها في محيط الكاتدرائية كانت تمس «صورتهم املجتمعية» أوال احتجاجا على صحيفة نشرت وقائع مغلوطة عن راهب له فضائح أخالقية ،وثانيا احتجاجا على اختفاء زوجتي كاهنني ،تردد أنهما كانتا مقدمتني على اعتناق اإلسالم ،أو هكذا أشيع ،وأستقر في خطاب الحركات اإلسالمية الراديكالية التي وجدت في املناسبتني فرصة مواتية البتزاز نظام مبارك من ناحية ،والتضييق على األقباط من ناحية أخرى. ولم يكن مستبعدا أن يكون نظام مبارك -بما أمتلكه من خبرات في اللعب على أوتار امللف الديني -أن تكون تلبيته ملطالب األقباط بإعادة السيدتني لهم مقرونة بإطالق التيارات اإلسالمية للهجوم عليهم تحقيقا للتوازن الذي عشقه إلى حد الرتابة السياسية وتدشني الطائفية في املمارسة العملية ،وابتعاد النظام الحاكم من مرمى النيران. أما املناسبتان اللتان خرج فيها األقباط محتجني وغاضبني في املجال العام فقد اقترنت بحقوق املواطنة وهي الحق في االعتقاد وأداء الشعائر الدينية (اغالق كنيسة العمرانية) ،والحق في العبادة والسالمة الشخصية (تفجيرات كنيسة القديسني) مما سبق يتضح أن خروج األقباط باحتجاجاتهم من صحن «الكنيسة» إلى «املجتمع» استغرق ما يقرب من عقد من الزمن، وكان احتجاجهم على نظام مبارك سابقا لسقوطه ببضعة أشهر ،مما جعل مشاركتهم في الثورة املصرية عام 2011 تأكيدا على خروجهم إلى املجتمع مطالبني باملساواة والحرية والديمقراطية أسوة ببقية املصريني .راود قطاع عريض من األقباط واملسلمني حلم بأن الطائفية انتهت إلى زوال في ميدان التحرير مع سقوط نظام مبارك ،وتنسموا معا عبيرا جديدا، وتطلعوا إلى تحقق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة االجتماعية. ولكن لم يمض وقت طويل حتي تبني أن األحالم التي راودت املصريني لم تكن واقعية ،فقد أطلت التوترات الدينية بوجهها القبيح ،تارة في هدم كنيسة «صول» ،ثم حرق كنيسة «إمبابة» ثم االعتداء على كنيسة «املريناب» ،فضال عن التوسع في إحالة أقباط إلى املحاكمة بتهمة إهانة العقيدة اإلسالمية ،فضال
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
عن اختفاء فتيات قبطيات قاصرات ٌيشاع تزوجهن ملسلمني في إطار ظاهرة أعم وأشمل عن خطف أطفال ونساء وأحيانا رجال ،مسلمني ومسيحيني ،طلبا للفدية في ضوء االنفالت األمني الذي ضرب املجتمع املصري منذ ثورة 25يناير إلى اآلن. وجاء تولي الدكتور محمد مرسي ،أول رئيس ملصر من التيار اإلسالمي ليزيد من املخاوف القبطية ،ويرفع من مستوى شعورهم بالتحديات التي تواجههم خاصة في ظل تمتع بعض الفصائل اإلسالمية ،التي يربطها بالنظام القائم ،تحالف وتنسيق بغطاء واضح في تعاملها الخشن مع األقباط في مناسبات عديدة. منذ ذلك الحني وجد األقباط أنفسهم بني طريقني يتوازيان حينا ،ويتقطعان حينا آخر .هل النضال يكون من أجل «حرية مصر» أم من أجل «مواطنة األقباط» أم األثنني معا؟ هنا تبدو اإلشكالية املمتدة. عرفت الثورة املصرية خروجا للشباب القبطي إلى ميادين النضال الديمقراطي .تشكلت حركة «شباب ماسبيرو» من قلب النضال أمام مبني ماسبيرو احتجاجا على ما حدث في كنيسة «صول» بعد أسابيع من سقوط نظام مبارك. فقد هدم السكان املحليون مبنى الكنيسة ،ولم تفلح الدولة وقتئذ بقيادة املجلس العسكري في حل األزمة إال باالستعانة باملشايخ السلفيني لتهدئة الخواطر الهائجة ،مما أعطى انطباعا لدى قطاع من األقباط بأن قضاياهم تعالج بعد الثورة على أرضية دينية طائفية وليس من خالل املنظور الوطني املدني األرحب الذين توقعوه في أعقاب ثورة 25يناير. «شباب ماسبيرو» ،وما تالهم من حركات شبابية قبطية متعددة األسماء هم نتاج واقع سياسي مرتبك يجعلهم دائما بني مفترق الطريق الذي طاملا واجه األقباط :الديمقراطية ملصر أم املواطنة لألقباط ،أم كال األمرين متالزم غير منفصل. في بعض األحيان يتالصقون مع الحركات الشبابية املصرية املطالبة بالديمقراطية والعدالة االجتماعية ،وفي أحيان أخرى يرون أنفسهم في خندق املطالبة بحل املظالم القبطية ،وما بني
ملحق يومي وصفحات متخصصة في عقارات
صحتك
السبت
الجمعة
سفر وسياحة
ثقافة األحد
الثالثاء
إعالم
االثنني
حصاد
ملسـات
الخميس
األربعاء
املتخصصة صفحات أجندة األعمال السبت واألربعاء > علوم السبت سيارات األحد > فنون االثنني > التعليم االثنني > تقنية املعلومات الثالثاء كتب األربعاء > أنغام الخميس > سينما الجمعة سجاالت األحد (داخل صفحات الرأي)
..تجدد دائم
تحقيق
أن يخوض املرء جميع معاركها. في حشد انتخابي في وهران ،ثار غضب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ،عندما قام شاب من الحضور ليشكو من عدم عثوره على عمل رغم أنه خريج جامعة. سأله الرئيس :ما هي دراستك؟ أجاب الشاب :الشؤون الدولية. رد الرئيس :حسنا! أخبرني ما هي عاصمة مانغوليا؟
,,
يمكن أن تصبح قصة سقوط مهاتير محمد في هاوية الغرور موضوعا لقصة إغريقية مأساوية!
,,
عندما أجاب الشاب أنه ال يعرف ،انفرجت أسارير الرئيس شعورا باالنتصار. وصاح في مكبر الصوت :أرأيتم إنه ال يعرف أن عاصمة مانغوليا هي أوالن باتور. وضحك الجميع في حني امتقع لون الشاب. يمكن أن تصبح قصة سقوط مهاتير محمد في هاوية الغرور موضوعا لقصة إغريقية مأساوية .كان على خليفته املختار أنور إبراهيم أن يدفع الثمن بعد أن أطلقت عليه وسائل اإلعالم الغربية «مهندس املعجزة االقتصادية في ماليزيا» .وكان يجب سحق إبراهيم ليس فقط سياسيا ولكن إنسانيا أيضا .بعد تقاعده، حاول مهاتير محمد أن يقدم ذاته كفيلسوف ومؤرخ بإطالق تصريحات قليال ما يكون صاحبها .يذكر عزم مهاتير محمد على تدمير إبراهيم كراهية بورقيبة املرضية لوريثه املختار أحمد بن صالح. أحد األخطار األخرى التي يواجهها كثير من الزعماء تتعلق أيضا بالغرور ،فهم يرغبون في اكتساب الشعبية بأي ثمن حتى عندما تكون هناك حاجة إلى اتخاذ قرارات ال تحظى بشعبية. كان مصدق يفضل املوت على أن تطلق الجماهير ضده صيحات عدائية ،لذا كان أحيانا ما يرتكب أخطاء سياسية كبرى .ولم يسلم سياسي متزن مثل هويدا من فتنة الشعوبية .عندما كنت أنقل أخبار إحدى حمالته االنتخابية في السبعينات ،فوجئت باستخدامه املتكرر ملوضوعات تتعلق بكراهية األجانب للحصول على تهليل الجماهير.
مخاطر الفساد وكما هو الحال دائما ،يبقى الفساد تهديدا آخر يواجه كثير من الزعماء .في األعوام األخيرة ،دار كثير من الجدل حول «الفصل بني السياسة والدين» في الدول املسلمة .ولكن ربما تكون الحاجة إلى الفصل بني السياسة والعمل التجاري أكثر إلحاحا .حتى عندما ال يكون الزعيم شخصيا متورطا في ممارسات فساد ،أحيانا ما ينتهي به الحال كمحور أساسي في لعبة استغالل النفوذ واملحسوبية والتحيز الحزبي وحتى سوء استغالل املال العام. من املؤكد أن هويدا شخصيا لم يكن مستفيدا من ممارسات الفساد .وفي الوقت الذي قتل فيه على يد الخميني ،كان يملك فقط شقة مكونة من غرفتني بعقد إيجار ملدة 20عاما .ولكن كان هناك تصور بأن فترة رئاسته للوزراء سمحت بانتشار الفساد على نطاق واسع.
36
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
وكان بورقيبة أيضا غير فاسد بشخصه ،ولكن ماذا عن زوجته الطموح وسيلة وابنه املندفع حبيب االبن؟ كذلك لم يكن أوزال متورطا في أي صفقات فاسدة ،ولكن ماذا عن حاشيته وبخاصة شقيقه وبعض الشخصيات البارزة في حزبه الوطن األم؟ وفي مفارقة ،يمكن أن يقبل املسلمون الصفح عن زعيمهم إذا ارتكب أي خطيئة أو فشل ،وإن كان هزيمة نكراء في الحرب، ولكنهم نادرا ما يسامحونه على فساده. وأخيرا ،ربما ينتهي الحال بالقائد إلى الفشل بسبب سوء التوقيت. يبلغ موعد مغادرة السلطة في الوقت املناسب أهمية بالغة تتساوى مع موعد وصوله إليها عندما تسنح الفرصة .تخيل لو تنحى مصدق عن الحكم في عام 1952بعد تطبيق قانون تأميم النفط. ولو تنحى بورقيبة في عام 1983لكان ترك وراءه قصة مختلفة. بعد هذه الفترة بدا مثل املطرب الذي قدم أغنيته والقى استحسان الجمهور وتصفيقه ،ولكنه رفض النزول من فوق خشبة املسرح. ينتهي الحال بالقائد الذي يتمسك بالسلطة ملدة طويلة بعد أن حقق دوره التاريخي بمعاناة امللل أو السخرية .قبل نهاية فترة رئاسته للوزراء ،استسلم هويدا إلى هذه السخرية التي كانت في بعض األحيان تفوق احتماله .في اجتماعاتنا األسبوعية في صباح أيام الجمعة ،كان يكرر« :ماذا بعد؟ ما التالي؟» وقبل وفاته املأساوية، أصيب مجيب الرحمن بامللل وهو ما اتضح في حديثي معه في أكثر من مناسبة. وكان عالل الفاسي يعلم أنه بمجرد انتهاء دوره كداعية لالستقالل، لن يكون حريصا على التمسك بالسلطة .وقد أخبرني ذات مرة أنه طلب منه قبول رئاسة الوزراء كإشارة على الوحدة الوطنية في غرب الصحراء الكبرى ،قائال« :فعلت ما أستطيع فعله». قد يصاب الزعيم الذي يطيل البقاء في السلطة بميول استبدادية. على سبيل املثال ،وصل زغلول إلى إصدار أوامر بشن حملة كبيرة لفرض الرقابة على الصحف وتشكيل جماعات إنفاذ القانون لترويع خصومه السياسيني .وحل مصدق البرملان وأعلن األحكام العرفية وعرض مكافأة ملن يعتقل خصومه السياسيني. وقبل وفاته بفترة ،استسلم بوتو إلى ميوله االستبدادية. في بعض األحيان قد يكلف عدم معرفة باملوعد املناسب لالعتزال حياة القائد ذاته .قبل عام من اغتيال بي نظير بوتو ،دعوتها إلى اإلفطار في فندق في واشنطن العاصمة ،ألشجعها على الترشح ملنصب األمني العام لألمم املتحدة .وكان ذلك دور آسيا لتولي املنصب ،وكانت بي نظير ،السيدة املسلمة التي تملك خبرة سياسية واسعة وتتحدث عدة لغات ،مرشحة مثالية. انتهى لقاؤنا بتأكيدها أنها ال ترغب سوى في أن تصبح رئيسة لوزراء باكستان لفترة ثالثة لتسجل بذلك رقما قياسيا .وبعد عام بدا أنها سوف تحقق هذا الهدف ،ولكن القدر لم يحقق لها ما تريد. أما أوزال ،فقد نجا من هذا املصير السياسي بوفاته املفاجئة .هل كان هو اآلخر سيبقى في منصبه ملدة طويلة بعد إتمام مهمته التاريخية؟ ال أحد يدري .ولكن من خالل معرفتي به على مدار أعوام ،أعتقد أنه كان سيتصرف على نحو مختلف. قضى العديد من الرجال وبعض السيدات أعواما يشكلون نماذج مختلفة للقائد املسلم الحديث .وعلى الرغم من أن جهودهم لم تذهب هباء ،يجب اعتبار عملية تشكيل النموذج املثالي لم تنته بعد<
الدولة ،باإلضافة إلى تحقيق نظام رخاء اجتماعي طموح .كما عمل على تحديث النظام البيروقراطي الذي يرجع إلى 500عام في إيران وقدم برنامجا شامال لإلصالح في قضايا شائكة مثل مكانة املرأة. كما يجدر بنا تذكر بوتو في باكستان ،حيث ورث دولة هشة مزقتها حرب عام 1971مع الهند وانفصال شرق باكستان .ولكنه في غضون أعوام قليلة نجح في جمع شتات بالده ليسلم دولة ذات فعالية إلى من خلفوه. في مواجهة التحدي الثالث ،نجح مهاتير محمد في فترة رئاسته لوزراء ماليزيا .تمكنت ماليزيا تحت قيادته من تعزيز مكانتها كقوة صناعية ذات مؤسسات إدارية وقانونية تنعم بها الدول الحديثة. وفي العراق ،على الرغم من قصر مدة توليه رئاسة الوزراء ،كان عبد الرحمن البزاز أول رئيس وزراء عراقي غير عسكري منذ تحول العراق إلى جمهورية .حاول البزاز ترسيخ سلطة القانون بينما يعمل على تحرير النظام االقتصادي تحت اسم «االشتراكية الحذرة» .كما أنهى أيضا الصراع مع األقلية العرقية من خالل الوصول إلى اتفاق مكون من 12نقطة يعترف بتعدد العرقيات في العراق. وال يمكن نسيان سوهارتو ،الجنرال الذي حكم إندونيسيا ملدة 31عاما ،حيث كان الزعيم الذي أخرج بالده من حرب أهلية دموية في حني كان يبني مؤسسات الدولة التي لم تكن موجودة تقريبا. وعلى الرغم من أن سوهارتو في بدايته كان يبدو نموذجا لديكتاتور عسكري من العالم الثالث ،فإنه عمل كزعيم سياسي بدال من أن يكون حاكما مستبدا. وهنا يجدر بنا أن نذكر رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الذي أصبح صاحب أطول مدة في املنصب ،على الرغم من الشكوك األولية من جميع األوساط .في خالل عشر سنوات من القيادة، استطاع تقديم برنامج إصالح يتسم بأنه األكثر طموحا في تركيا منذ تأسيس الجمهورية في العشرينات من القرن املاضي .وفي هذا الصدد يمكن اعتبار أردوغان الوريث السياسي الحقيقي ألوزال على الرغم من أن الرجلني تربيا في وسطني آيديولوجيني مختلفني.
أخطاء القيادة عندما يتعلق األمر بمنح وسام ،يظهر لنا ألسباب مختلفة أن كثيرا من القادة املسلمني في العصر الحديث فاشلون. السبب األول هو العنف االستثنائي في الحياة السياسية في العالم اإلسالمي .ففي هذه املنطقة ،تتجاوز املخاطر التي تحدق بالزعيم السياسي مجرد خسارة انتخابات أو الطرد من معسكره .أحيانا ما يواجه الزعيم السياسي النفي أو االعتقال أو حتى املوت .وتطول قائمة القادة السياسيني املسلمني الذين تم اغتيالهم أو إعدامهم على يد أعدائهم بما ال يسع ذكره في هذا املقال. ولكن من بينهم :لياقت علي في باكستان ،والنقراشي باشا في مصر، وبوتو وابنته بي نظير بوتو في باكستان ،وضياء الحق في باكستان، وموسى شفيق ومحمد داود في أفغانستان ،ومجيب الرحمن وضياء الرحمن في بنغالديش ،ومحمد بوضياف في الجزائر.
وفي إيران وحدها ،في ثالثة عقود ،اغتيل أربعة رؤساء وزراء هم عبد الحسني هزير ،وحاجي علي رزم آرا ،وحسن علي منصور وأمير عباس هويدا. وربما يواجه القادة السياسيون الذين ينجحون في الهرب من املوت مشاكل أخرى .أولها اإلصابة بالغرور .حاول عدد قليل من الزعماء املسلمني في العصر الحديث الهروب من طبيعة ثقافتهم التي يرسخ فيها االستبداد .على سبيل املثال ،في بداية مشواره كان سعد زغلول بطل الدفاع عن الحرية ،وسريعا ما أطلق على عال يتطلع إلى األسفل لرؤية ذاته «زعيم األمة» ليصبح فوق برج ٍ تابعيه .وكان مصدق يحب أن يطلق عليه اسم «بيشوا» ،وهي الكلمة الفارسية املقابلة لكلمة فرير األملانية .وفي آخر عام له في رئاسة الوزراء ،تأثر مصدق كثيرا بجنون العظمة لدرجة أنه رفض عقد اجتماع واحد كامل ملجلس وزرائه .وكان يعتقد أنه نظرا لكونه األكثر ذكاء ووطنية وإخالصا بني جميع اإليرانيني ،فهو ال يحتاج إلى أي شخص ليتم «مهمته التاريخية». وفي أثناء وجوده في الحكم ،اتخذ تونكو عبد الرحمن لذاته لقب «بابا ماليزيا» .ولكنه عندما تقاعد في السبعينات من القرن املاضي ،كان يتقبل املزاح بشأن ذلك .وصرح لي في إحدى املرات قائال« :أعترف بأنني أب لبعض املاليزيني». ولم يكن بورقيبة ليقبل بأي شيء أقل من أن يطلق عليه «املجاهد األكبر» .قمت ذات مرة بزيارته في قصره بقرطاج ،واصطحبني في جولة استمرت أكثر من ساعة ملشاهدة الصور واللوحات التي تسرد قصة «حياته البطولية» .وقال متباهيا فيما يشبه الدعابة: «لوالي ملا كانت هناك تونس».
,,
تورغوت أوزال ورجب طيب أردوغان
سعد زغلول رمز النضال املصري ومن اهم إنجازاته نحو االستقالل استبدال اللغة اإلنجليزية باللغة العربية وإصالح األزهر وإثارة قضية حقوق املرأة
,,
وقبل عام من إسقاط بوتو وإعدامه ،كان الزعيم الباكستاني يفكر في «أعوامه العشرين املقبلة» كقائد ملصير باكستان .وكان «أسفه الوحيد» هو عدم وجود أشخاص يملكون قدرة كبيرة ملساعدته على بناء مستقبل عظيم لباكستان. بمساعدة التابعني والعقي األحذية املحترفني ،يتأثر الزعيم بجنون العظمة ،حتى يقتنع بأنه وحده األكثر حكمة وبطولة وذكاء وإخالصا من الجميع .ويجب أن يفوز في جميع املناقشات وينتصر في كل معركة ،حتى أكثرها تفاهة .عندما يفقد القائد الشعور بنسبية األمور ،ينسى أن السياسة مثل الحياة ال تستحق المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
35
تحقيق
وعلى الرغم من أن تونكو عبد الرحمن تلقى تعليمه في بريطانيا، فإنه يصعب وصفه بالديمقراطي أيضا .ولكنه أدرك هو اآلخر أن دولة متعددة العرقيات واألديان مثل ماليزيا ال تستطيع العمل دون درجة من املشاركة الشعبية في صناعة القرار .ماذا عن بورقيبة؟ من املؤكد أنه لم يكن ديمقراطيا ،ولكنه أيضا لم يسع إلى العودة إلى الوراء بأن يحكم مثل الباي العثماني. وفي إيران ،أدمن قوام ومصدق ،على الرغم من كونهما مستبدين بالطبيعة والخلفية العائلية ،اللعبة السياسية ،بصورها املختلفة، التي تتطلب بعض املشاركة على األقل من النخبة.
,,
ولكن فيما يتعلق بتعريف وترسيخ مساحة سياسية جديدة، حقق زعيمان نجاحا بارزا .أحدهما هو عدنان مندريس ،الذي نجح عندما كان رئيسا للوزراء في إدخال جماهير الفالحني األتراك في النظام السياسي .ومع احترامه لإلطار العلماني الذي وضعه أتاتورك للدولة ،حاول أن يقلل من الجوانب املعارضة للدين لدى الجيش.
بورقيبة وعبد الناصر -القاهرة عام 1965
وفي املغرب ،كان القائد السياسي الذي ارتبط اسمه بالنضال من أجل االستقالل هو محمد عالل الفاسي الذي استعد في مرحلة ما لحمل السالح من أجل محاربة الفرنسيني.
ّ يعد أحمد سوكارنو الذي جمع ما يزيد على 17000 جزيرة من أجل إقامة أكبر دولة مسلمة تعدادا في العالم «بطل» حركة االستقالل
وفي مااليا ،التي أصبحت ماليزيا فيما بعد ،قاد تونكو عبد الرحمن فوترا الحاج بالده إلى االستقالل عن االستعمار البريطاني.
,,
34
وفي بنغالديش ،يظل الشيخ مجيب الرحمن قائدا بال منازع للحركة التي حولت شرق باكستان إلى دولة مستقلة للمسلمني في شرق البنغال.
وعلى نطاق أكثر اعتداال في أفغانستان ،حاول محمد موسى شفيق أيضا أن يوسع من قاعدة الدولة ،وعندما كان رئيسا للوزراء شجع على حرية الصحافة وحاول أن يمنح الشعب فرصة أكبر للمشاركة في صناعة القرار من خالل هيئات شعبية تقليدية وحديثة .وفي ماليزيا ،عمل تونكو عبد الرازق على تعزيز النظام التعددي ليكون جزءا ال يتجزأ من برنامج طموح يستهدف التحديث السياسي واالقتصادي. يستحق بورقيبة التقدير على إنجازه الوحيد في منع تونس من السقوط تحت وطأة الحكم األمني العسكري ملدة ثالثة عقود .وظلت تونس ملدة طويلة من بني كثير من الدول العربية غير التقليدية التي ال تخضع لحاكم عسكري .وحتى بعد ذلك عندما استولى زين العابدين بن علي ضابط الشرطة على الحكم ،إثر انقالب عسكري على بورقيبة ،لم يكن يحظى بقاعدة له بني صفوف الجيش ،وهي الحقيقة التي اتضحت بعد أن رفضت القوات املسلحة مساندته ضد االنتفاضة الشعبية التي اندلعت ضده.
وفي إيران ،لم يكن الصراع على االستقالل نظرا ألن البالد لم تكن محتلة من قوى استعمارية .ولكن على مدار معظم القرنني التاسع عشر والعشرين ،كان االستقالل ال يزيد عن كونه مجرد ظل .لذلك كانت هناك حاجة إلى الصمود وإعادة تأكيد سيادة الدولة واستعادة ثقتها .وقد بذل أبناء العمومة أحمد قوام ومحمد مصدق أكثر من غيرهما من أجل تحقيق هذه األهداف .عندما كان قوام رئيسا للوزراء في األربعينات من القرن املاضي ،استطاع التفاوض من أجل إجالء االحتالل السوفياتي الذي يؤثر على األقاليم الواقعة في شمال غربي إيران .وفي الخمسينات ،كان الدور على مصدق ليعزز القومية اإليرانية بتأميم موارد النفط اإليرانية ومواجهة املضايقات البريطانية.
ولكن يظل تورغوت أوزال ،الذي كان رئيس وزراء ثم رئيسا لتركيا، أبرز نموذج بني القادة املسلمني املعاصرين بفضل جهوده في توسعة نطاق املساحة السياسية الجديدة وتدعيمها .أصبح أوزال أول رئيس غير عسكري في تركيا ،واستطاع أن يخرج بالده من دائرة األزمات املفرغة التي تخللتها انقالبات عسكرية.
مشاركة شعبية
مؤسسات الدولة الجديدة
حاول معظم الزعماء املذكورين فيما سبق أيضا مواجهة التحدي الثاني الذي يكمن في تحديد املساحة السياسية الناشئة حديثا. أثار ذلك التعريف درجة املشاركة الشعبية في صناعة القرار. وفي هذا اإلطار ،ال يمكن وصف أي زعيم بالديمقراطي الحقيقي. بيد أن جميعهم تقريبا حاولوا أن يقللوا من الجوانب االستبدادية التقليدية في الثقافة السياسية لدولهم .لم يكن جناح ولياقت علي ديمقراطيني باملعنى املعتاد ،كما لم يتصرفا مثل النواب والشاه واملهراجا الذين كانوا يحكمون شبه القارة في عصر ما قبل االستعمار.
ماذا عن التحدي الثالث ،بناء مؤسسات الدولة؟ من جديد ،قليل من القادة املذكورين استطاعوا اجتياز هذا التحدي .من بينهم مندريس وبورقيبة وعبد الرازق وأوزال .وفي مصر ،ال يمكن تجاهل إنجازات محمود فهمي (النقراشي باشا)، الذي استطاع في فترة قصيرة للغاية أن يقيم مؤسسات الدولة الحديثة .فرض النقراشي باشا نظام الضرائب على الطريقة الغربية ،وأنشأ املستشفيات في بعض املناطق الريفية وأسس بنكا لتمويل الصناعة وطبق أول قانون مدني حديث في البالد.
في البداية نصب ذو الفقار علي بوتو من نفسه بطل التحول الديمقراطي في باكستان ،ونجح إلى حد ما في توسعة القاعدة الشعبية في بالده بالتودد إلى الجماهير الفقيرة واملضطهدة.
وفي إيران ،يستحق رئيس الوزراء أمير عباس هويدا الذي مكث في منصبه لفترة طويلة أكثر من إشادة .طوال ما يقرب من 13 عاما ،حقق هويدا نموا اقتصاديا غير مسبوق ودعم مؤسسات
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
من دون إثارة خالفات دينية .ومن املؤكد أنه ال يوجد قائد مسلم يستطيع أن يحقق أي شيء من دون االعتراف بأن اإلسالم هو نظام االعتقاد األوسع نطاقا في املجتمع .وال يوجد مجتمع مسلم مستعد حتى اآلن لالختيار ،واألهم من ذلك اتباع قائد ال يملك خلفية إسالمية واضحة. وهكذا يملك القائد املسلم الحديث مساحة ضيقة للغاية يمكنه فيها أن يحدد ذاته وأن يسعى إلى السلطة السياسية. في إطار هذه املساحة الضيقة ،وبعيدا عن األنظمة امللكية التقليدية التي تملك قواعدها السياسية الخاصة ،هل يستطيع املرء أن يرسم صورة للقائد املسلم «املثالي» في العصر الحديث؟
قادة وتحديات واجه القائد السياسي املسلم في العصر الحديث ثالثة تحديات رئيسة. أولها التأكيد أو إعادة التأكيد على استقالل بالده في عالم جديد من الدول القومية .منذ مائة عام ،كان من بني 57دولة تشكل العالم اإلسالمي ،هناك أربع دول تقريبا مستقلة .وحتى الدول التي كانت مستقلة شكليا مثل اإلمبراطورية العثمانية وإيران ،كانت تعاني من وطأة الديون األجنبية ،واملضايقات العسكرية الغربية وفقدان الثقة في الذات. وكان التحدي الثاني هو تحديد املساحة السياسية الناشئة وحدود الخطاب والعمل السياسي .هل يتم التعامل مع بعض القضايا، مثل دور رجال الدين أو مكانة املرأة ،بصفتها محظورات ال يمكن مطلقا أن تثار علنا؟ وقد فشل مؤتمر إسالمي ذو أهمية كبيرة عن اإلصالح ،كان منعقدا في أوفا في روسيا القيصرية ،عندما أثارت بعض الوفود قضية املساواة بني الرجل واملرأة في فرص التعليم ،مستلهمني تعاليم إسماعيل أغا غاسبرينسكي .ما هي اآليديولوجيا األجنبية ،أو أي صورة منها ،يجب أن يسمح لها بالدخول في املساحة السياسية الجديدة في الدول اإلسالمية؟ كان هذا السؤال مهما أيضا بسبب الصعود والتوسع الحاد لآليديولوجيات األوروبية مثل القومية واالشتراكية وبعد ذلك الشيوعية .تبنى بعض الزعماء ،مثل عرابي باشا في مصر، ومصطفى كمال أتاتورك في اإلمبراطورية العثمانية ،ورضا خان بهلوي في إيران ،القومية في مجملها لتكون آيديولوجيتهم. وفي مطلع القرن العشرين ،كانت هناك أيضا أحزاب ديمقراطية اجتماعية في إيران واإلمبراطورية العثمانية .وفي اإلمبراطورية الروسية ،أصبح بعض املثقفني املسلمني شيوعيني متحمسني، مثل سلطان عليف. وكان التحدي الثالث هو بناء مؤسسات الدولة .أنشأت جميع املجتمعات اإلسالمية عبر القرون نوعا من البيروقراطية تلبية لالحتياجات اإلدارية األساسية .ولكن هل تستطيع هذه األنظمة البيروقراطية مواكبة طموحات الدول الحديثة الناشئة مع ميلها إلى التدخل في جميع مظاهر الحياة.
زعماء وسجالت إذا حكمنا على كيفية تعامل القادة السياسيني في العصر الحديث مع التحديات الثالثة التي تناولناها فيما سبق ،سوف نجد أن سجالتهم تقدم لنا عددا من املفاجآت.
من الذي برز في تحدي السعي إلى االستقالل أو إعادة تأكيده؟ في مصر لدينا شخصية سعد زغلول ،أحد تالميذ األفغاني ،الذي أصبح رمزا للنضال املصري نحو االستقالل .وعلى الرغم من قصر مدته في املنصب ،وزير تعليم ووزير عدل ثم في النهاية رئيس وزراء ،فإن السياسات التي ساعد على نشرها سادت الحياة العامة املصرية على مدار ثالثة عقود تقريبا .ويمكن اعتبار استبدال اللغة اإلنجليزية باللغة العربية كلغة التعليم في املدارس الحكومية ،وإصالح األزهر ،وإثارة قضية حقوق املرأة من إنجازاته الرئيسة. وفي الهند تحت الحكم البريطاني ،اعتبر محمد علي جناح الزعيم السياسي البارز في املجتمع اإلسالمي في شبه القارة .ولكن ال يجب تجاهل نواب زاده لياقت علي خان الذي عمل وزيرا للدفاع ثم رئيسا للوزراء في باكستان عندما تأسست. وفي إندونيسياّ ، يعد أحمد سوكارنو «بطل» حركة االستقالل والرجل الذي جمع ما يزيد على 17000جزيرة من أجل إقامة أكبر دولة مسلمة تعدادا في العالم. وفي تونس ،أصبح الحبيب بورقيبة ،املحامي الذي تلقى تعليمه في فرنسا ،أبو االستقالل بال منازع .وكان إنجازه املميز هو الخروج ببالده من تحت وطأة االستعمار من دون صراع مسلح مكلف كما حدث في الجزائر ،التي ظهر بها أحمد بن بال كرمز إلقامة دولة قومية.
جمال عبد الناصر
,,
تبنى بعض الزعماء مثل عرابي باشا وأتاتورك وبهلوي القومية في مجملها لتكون آيديولوجيتهم
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
33
تحقيق
مجتمع مثالي أم قائد مثالي؟ ظل هذا السؤال يشغل الفالسفة واملؤرخني والشعراء من الثقافات املختلفة عبر قرون .كان التأكيد في املجتمعات الغربية منذ عصر أفالطون على السعي إلى «املجتمع املثالي» ،بداية من الجمهورية األسطورية التي تحدث عنها الحكيم األثيني إلى الصور األوروبية الحديثة لـ«اليوتوبيا» .أما في الشرق في كل من الدول اإلسالمية والصني ،فقد كان التركيز على البحث عن «قائد مثالي».
القائد املثالي :هل هو موجود؟
الدكتاتور العادل بقلم: أمير طاهري
,,
يستحق بورقيبة التقدير على إنجازه الوحيد في منع تونس من السقوط تحت وطأة الحكم األمني العسكري ملدة ثالثة عقود
,,
32
منذ عصر ازدهار الدويالت اإلغريقية في الغرب وحتى العصر الحديث ،سرى اإلجماع على أن القضية تكمن في بناء نظام رشيد. في ظل هذا النظام ،لن يستطيع أعتى الطغاة أن يسبب ضررا كبيرا. في املقابل ،في الشرق ،كان ،وما زال بدرجة ما ،االفتراض بأن «املجتمع املثالي» محدد بالفعل إما وفقا للتقاليد القديمة ،على سبيل املثال مذهب كونفوشيوس في الصني ،أو بفضل العقيدة الدينية كما في حالة العالم اإلسالمي .وفي كلتا الحالتني ،اكتشف أجدادنا بالفعل املجتمع املثالي وكل ما نحتاج إليه هو العودة إلى عصرهم الذهبي .ونحن في حاجة إلى «قائد مثالي» يرشدنا في هذا االتجاه.
واملصطلحات الضرورية لتعريفها والتعبير عنها ،أصبحت املجتمعات اإلسالمية تسيس الدين .على مدار التاريخ ،اتخذت الصراعات على السلطة السياسية غطاء «االنقسامات الدينية»، وهو اتجاه مستمر حتى يومنا. منذ القرن التاسع عشر ،بدأ بعض املفكرين املسلمني في لفت االنتباه إلى الحاجة لوجود مساحة سياسية ،يمكن في إطارها مناقشة الخالفات حول كيفية تنظيم املجتمع وإدارته من دون إثارة املشاعر الدينية.
أحالم اإلصالح
يتضمن السعي إلى تحقيق مجتمع مثالي خالفات وانقسامات؛ حيث تتنافس آراء مختلفة في الدفاع عن نماذجها املختلفة .وهذا بدوره يستدعي وجود مساحة سياسية محددة ال يتم التعبير فيها عن اآلراء املختلفة بشأن «املجتمع املثالي» من جانب ديني، مما ال يثير نزاعات وحروب دينية أو طائفية.
أحد هؤالء املسلمني األوائل الذين أثاروا هذه القضية هو جمال الدين األسد أبادي ،املعروف أيضا باألفغاني ،وهو مفكر إيراني درس املنهج الغربي في السياسة بعناية .ومن أجل الوصول إلى جمهور عريض في العالم اإلسالمي ،كان عليه أن يخفي أصوله اإليرانية ،وبالتالي انتماءه الشيعي ،حتى يبتعد عن الوقوع في شرك الريبة والكراهية الطائفية .وأصبح األفغاني أحد مؤسسي املحافل املاسونية األولى في إيران واإلمبراطورية العثمانية.
في الشرق ،لم تكن توجد مساحة سياسية محددة حتى وقت قريب .وعلى الرغم من عدم وجود دين في الصني باملعنى املتعارف عليه ،فإنها حولت مذهب القدماء واتباع تقاليدهم ومبادئهم القديمة إلى ما يشبه العقيدة الدينيةّ . ويعد أي انحراف عن األنماط القائمة في املجتمع محل ارتياب وعداء .كانت هناك طريقة واحدة «صحيحة» لفعل أي شيء .وكانت النتيجة الضعف التاريخي الذي أدى إلى انهيار الصني املؤلم .كذلك يفتقد العالم اإلسالمي إلى مساحة سياسية محددة .ونتيجة لذلك أصبح التعبير عن الخالفات السياسية ،التي ال بد منها في أي مجتمع بشري ،يتم فقط في ساحة دينية .يمكن أن يتهم أي شخص ال يوافق على السياسات القائمة بالهرطقة والكفر.
ودون أن يدري ،خاض جمال الدين موجة تغيير تاريخي .بعد ظهور الدول اإلسالمية املقامة حديثا من تحت أنقاض اإلمبراطورية العثمانية ،وبعد ذلك وطأة الحكم االستعماري األوروبي ،اتفقت هذه الدول مع اعتقاد األفغاني بأن اإلسالم يجب أن يوفر مساحة سياسية محددة كجزء من برنامج إصالحي أوسع نطاقا.
الصني والعالم اإلسالمي
ال يستطيع املسلمون ،مثل كل البشر ،أن يعيشوا من دون سياسة؛ إذ ان اإلنسان ،كما أشار أرسطو ،حيوان سياسي بطبيعته ،بدال من أن يكون اجتماعيا .اإلنسان هو املخلوق الوحيد الذي يستطيع االختالف مع رفاقه حول األشياء التي تتم في املساحة التي يتشاركون فيها .لذلك ،في ظل عدم وجود املساحة السياسية
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
كما أعرب كثير من املفكرين اآلخرين عن أفكار مشابهة ،من بينهم ميرزا ملكم خان ،وفتح علي أخوند زاده (فتالي أخوندوف) واألمير منوشهر ميرزا قاجار في إيران ،وحركات مثل «تركيا الفتاة» في اإلمبراطورية العثمانية وجمعيات اإلصالح اإلسالمي في الهند الخاضعة للحكم البريطاني .وكانت هناك أيضا حركة إصالح كبرى تعرف باملجددين في املناطق اإلسالمية من اإلمبراطورية القيصرية في روسيا قادها رموز مثل عبد الرؤوف فطرت وأحمد دانش وصدر الدين عيني. سمح الظهور التدريجي للمساحة السياسية بنشأة جيل جديد من القادة السياسيني املسلمني الذين يسعون إلى إعادة تنظيم املجتمع
املعارضة األخرى ،كالتيارات القومية واليسارية ،والتيار السياسي الشيعي ،وهي ممارسات اتسمت في أحيان كثيرة باملواجهات والصدامات مع السلطة ،وانتهت بعدد من أعضاء تلك التنظيمات إلى املنافي والسجون والقتل أحيانا. فلقد رتب اإلخوان أوضاعهم بالقيام بالعمل الدعوي التربوي، والعمل الخيري .والهدف :إعداد الشباب املسلم امللتزم بدينه، وإنشاء األسرة املسلمة الصالحة ،مع عدم إدارة الظهر للقضايا اإلسالمية العامة ،وخصوصا تلك التي تجري خارج حدود البالد، وأيضا خارج حدود دول مجلس التعاون. كانت هناك تجربة فريدة على مستوى اإلخوان في البحرين .وذلك حينما خاض املؤسس الشيخ عبد الرحمن الجودر االنتخابات عام ،1973ففشل ولم يحصل إال على 73صوتا ،وفي هذا داللة واضحة على ما كان لدى اإلخوان في تلك الفترة من شعبية متدنية. في عام 2000شكل ملك البحرين (األمير آنذاك) لجنة لصياغة ميثاق للبالد ،تنطلق من خالله العملية السياسية وما اصطلح عليه محليا «املشروع اإلصالحي» ،وكان من بني املشاركني األربعني في صياغة امليثاق الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، الذي استثمر خبرته السياسية والقانونية في املناقشات ،مضفيا عليها البعد اإلسالمي في الكثير من املفاصل والتعليقات ،ما أمكن .وطرحت جمعية اإلصالح في تلك الفترة ،وألول مرة،
ميثاقا موازيا ،نّ يبي رؤيتها من القضايا السياسية والوطنية بشكل عام. ومن هنا ،انطلق القطار السياسي لإلخوان املسلمني ،كما فعل غيرهم .فتم تأسيس ذراع سياسية تحت اسم (املنبر الوطني اإلسالمي) ،الجمعية التي ّ تعرف نفسها بأنها «جمعية سياسية بحرينية تأسست ليأخذ الصوت اإلسالمي دوره بني املؤسسات السياسية في مملكة البحرين ،مستندين على وضوح رؤيتنا وأهدافنا ،والقيم املستمدة من التعاليم اإلسالمية السمحاء، وقواعدنا الشعبية املناصرة ،وكوادرنا السياسية والعلمية املؤهلة، وتاريخ أعضائنا الطويل في خدمة الوطن واملواطن ،قاصدين رفعة الوطن وتقدمه وأمنه واستقراره». تمكنت الجمعية السياسية من أن تفوز بسبعة مقاعد نيابية عام ،2002ومثلها في 2006من ضمن 40مقعدا .يرى غسان الشهابي أن جماعة اإلخوان املسلمني في البحرين تميزت بمرونة عالية وعرفت كيف تتجنب االنتحار الجماعي في امللمات «فهي لم تدخل في صدام وخالف مع الحكم ،حيث اعتبرها الكثير من املراقبني حالة شاذة عن كل اإلخوان اآلخرين بمن فيهم إخوان بقية دول الخليج ،فهي تسير مع الحكم وتتبادل املنافع وباتت قريبة من مفاصل مهمة في األجهزة الرسمية ،ومتأخر اآلن العودة إلى الوراء ومالحظة التسلل الذكي والهادئ للعناصر اإلخوانية في هذه األجهزة»<
املنامة عام 1960
,,
لم تكن جمعية اإلصالح تمارس عمال سياسيا منظما قبل ميثاق العمل الوطني عام 2002
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
31
قصة الغالف
على الرغم من الحضور الطاغي واملؤثر لجماعة اإلخوان املسلمني في الكويت على جيرانهم من أعضاء الجماعة في دول الخليج العربي ،فإن البحرين كانت تشكل أول انطالقة فعلية لتنظيم هيكلي حركي لجماعة اإلخوان املسلمني في الخليج ،بحسب ما تؤكد ذلك الروايات واملصادر من أبناء الجماعة أنفسهم ،أو املراقبني واملحللني.
جماعة اإلخوان املسلمني في البحرين
مكاسب الوالء بقلم: املحرر الثقافي
,,
ابتعث الشيخ عبد الرحمن الجودر إلكمال دراسته العليا في القاهرة وهناك التقى باإلمام حسن البنا ،وتعرف على بعض القادة والدعاة
,,
بحسب موسوعة اإلخوان املسلمني (ويكيبيديا اإلخوان) فإن النشاط اإلخواني كان موجودا في البحرين منذ الثالثينيات أي في عهد مؤسسها حسن البنا« ،فلقد نصت جريدة (اإلخوان املسلمني) األسبوعية في عددها الرابع 11يونيو (حزيران) 1937م ،أن شعب اإلخوان املسلمني في العالم كله يتوزع إلى مناطق وكل منطقة إلى دوائر ،وكل دائرة إلى عدة شعب ،فخصصت املنطقة الثامنة عشرة لشعب السودان ،وخصصت املنطقة التاسعة عشرة لدول العالم اإلسالمي ،ووضعت البحرين في هذا التقسيم في املنطقة التاسعة عشرة ،وكان النائب املندوب لها السيد محمد بن إبراهيم الخليفة ،كما خصصت املنطقة العشرون لدول العالم الخارجي التي تقطنها أغلبية غير مسلمة». وفي شهر مايو (أيار) 1941م تأسست جمعية اإلصالح أول جمعية تحمل فكر اإلخوان املسلمني ،في حني كان أول تأسيس لجماعة اإلخوان املسلمني في الكويت بعد هذا التاريخ بست سنوات .في البحرين قام عدد من طلبة مدرسة الهداية الخليفية باملحرق بتأسيس هذه الجمعية ،وكانت تتخذ اآلية القرآنية (إن أريد إال اإلصالح ما استطعت) شعارا لها ،وفي البداية نشأت تحت اسم مستعار وهو« :نادي الطلبة» عندما تطورت األهداف واتسعت مجاالت العمل أمامهم تم تغيير االسم إلى (نادي اإلصالح) عام 1948م ،وظل محتفظا بهذا االسم يمارس مختلف األنشطة الثقافية واالجتماعية حتى عام 1980م ،حيث تحول النادي إلى (جمعية اإلصالح) ،تصف نفسها بأنها «جمعية إسالمية أهلية تلتزم باملنهج اإلسالمي املستمد من الكتاب والسنة والقائم على الشمول والوسطية». يتحدث محمود جناحي – مدير املنتدى الفكري لجمعية اإلصالح عن سيرة مؤسس الجمعية الشيخ عبد الرحمن الجودر ،قائال:«ابتعث الشيخ إلكمال دراسته العليا في القاهرة ،وهناك التقى باإلمام حسن البنا ،وتعرف على بعض القادة والدعاة ،واطلع على األنشطة والبرامج الثقافية والتربوية واالجتماعية ،التي كان يقوم بها اإلخوان املسلمون في مصر آنذاك ،وتأثر بما شاهده وملسه، وتأصل ذلك في قلبه ونفسيته ،وكان ذلك بمثابة معالم الطريق الذي سار عليه عندما عاد إلى البحرين». يضيف جناحي« :في أوائل الخمسينيات أنشأ الشيخ عبد الرحمن مع مجموعة من إخوانه الدعاة (مكتبة املحرق) ،وأخذوا في جلب واستيراد الكتب والرسائل من مصر وسوريا ولبنان ،وعملوا على نشر وترويج الكتاب اإلسالمي .وبدأ الشباب في تلقي هذه الكتب
30
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
اإلسالمية وبأهدافها والرسائل مما جعلهم يرتبطون بفكر الحركة َّ ومنطلقاتها ،وبعد مضي سنتني أو ثالث استقل الشيخ باملكتبة وسماها (مكتبة اآلداب) ،التي ظلت لفترة طويلة من أكبر املكتبات اإلسالمية التي ِّ تروج للفكر اإلسالمي في البحرين .والشيخ عضو مؤسس في منظمة املساجد التابعة لرابطة العالم اإلسالمي وعضو مؤسس في الهيئة الخيرية اإلسالمية التي مقرها دولة الكويت». وهنا يرى الكاتب البحريني غسان الشهابي أن املساجد كانت الواجهة األمثل الستقطاب الصغار والشباب ،عبر الدروس الدينية والنشاطات والرحالت ودروس التقوية ،لتعضيد التيارات باألعضاء واملناصرين. وفي هذا املسعى يرى الشهابي أن جمعية اإلصالح حققت نجاحا جيدا عبر جملة من النشاطات بالنسبة للجنسني ،حتى ضاق مقرها القديم بالعدد الكبير من الشباب الذين يلتحقون بالجمعية في السنوات األخيرة من السبعينيات والثمانينيات ،إما كأعضاء أو رواد للجمعية .ولكن كان هناك حراك آخر ليس يخفى ،يقوم به اإلخوان طمعا في سيادة القيم التي آمنوا بها في املجتمع. يضيف الشهابي في دراسة له بعنوان (اإلخوان املسلمون في البحرين ..تحوالت العقود السبعة)« :هناك الكثير من الشواهد على تغلغل عناصر جماعة اإلخوان املسلمني في مواقع وزارة التربية والتعليم في الجانبني اإلداري والتعليمي وقد استطاعت جماعة اإلخوان في حاالت كثيرة في الخليج ،في السابق كما هو اآلن، أن تتغلغل داخل األنظمة التعليمية .بل إنها في بعض حاالتها قد أحكمت السيطرة عليه من خالل سيطرتها على مراكز التحكم في هذا النظام». لم تكن جمعية اإلصالح تمارس عمال سياسيا منظما قبل ميثاق العمل الوطني ،2002بل كانت تعلن مواقفها السياسية عن طريق البيانات والندوات والزيارات التي تتواصل بها مع املسؤولني في البحرين .وقد كان البيان الذي حمل عنوان «هذا بياننا» والذي نشرته جمعية اإلصالح أثناء األحداث السياسية في التسعينيات، بمثابة توضيح للنهج السياسي الذي تتبناه الجمعية وقد تضمن البيان موقف الجمعية من األحداث التي حصلت والتي عرفت الحقا باسم «انتفاضة التسعينيات». قبل عام ،2001لم يكن يدور في خلد جماعة اإلخوان في البحرين االندماج في العمل السياسي ،بالشكل الذي كانت تمارسه التيارات
البنا وتنزيل هذا الفكر على تجربة (اإلخوان) في مصر وتجارب (اإلخوان) خارج مصر» ،وصف النفيسي لهذه الجدية بأنها «الفتة للنظر» يعود لكون تجارب إخوانية كثيرة ماتت فيها دعوات إصالحية نتيجة ضعف القدرة على التساؤل وتبيئة التجربة في السياق املحلي بما يناسب املجتمعات التي نشأت فيها هذه التجارب. عملية املراجعة الداخلية استمرت طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات ،ولم تستند تلك املراجعات ألي تراكم حقيقي لنقد داخلي في جماعة اإلخوان ،إذ يشير جاسم سلطان إلى أن الجماعة لم تصدر أي مراجعة أو نقد منذ عام 1949؛ سنة وفاة حسن البنا ،كانت أولى ثمرات هذه املراجعات هي إصدار دراسة من جزأين عام ،1991الجزء األول نشر بعنوان «حول أساسيات املشروع اإلسالمي لنهضة األمة ..قراءة في فكر اإلمام الشهيد حسن البنا» والالفت للنظر أنه صدر باسم الراحل عبد الحميد الغزالي ( )2011 - 1937الذي كان عضو مجلس شورى اإلخوان في مصر ،ومسؤوال عن القسم السياسي قرابة ثماني سنوات، واملستشار السياسي للمرشد العام ،وربما كان هذا التغييب للمؤلف الحقيقي للكتاب وتقديمه باسم قيادي مصري كبير هو جزءا من الجدل الذي دار بني التنظيم القطري والجماعة األم في مصر في مسيرة هذه املراجعات وما آلت إليه ،والذي سنعرض له الحقا .الجزء الثاني من الدراسة لم ينشر بعد ،وخلصت الدراسة بالعموم إلى ذات اإلشكال الذي دفع هذه املراجعات للبدء ،وهو أن جماعة اإلخوان بشكل عام تفتقر للوضوح في مشروعها، ماذا تريد بالضبط؟ وكيف تصل إليه؟ يقول أحد القياديني من أصحاب الدراسة« :اإلشكال األساسي عند (اإلخوان) في مصر هو فقدان البوصلة ( .)directionإنهم مشغولون بالفعل اليومي والصراع على النقابات واألندية واالتحادات الطالبية والسيطرة على املساجد وينسون في غمرة كل ذلك التوجه االستراتيجي والفكر املنهجي بعيد املدى». استمر الجدل الداخلي في الجماعة القطرية ،وانتهى في عام 1999م إلى قرار حاسم اتخذه مجلس شورى الجماعة بحل الجماعة لنفسها ،واندماج أفرادها في مؤسسات املجتمع املدني القائمة وتكوين تيار إسالمي نهضوي بدل البقاء في هرمية تنظيمية .هذا القرار الذي أحدث جدال كبيرا ،اتخذ (بحسب الرواية السائدة) عبر قرار حر داخلي للجماعة ،وتتويجا ملراجعات طويلة ونقد ذاتي عميق ،إال أن هناك من يسرد رواية أخرى ،فيشير عبد العزيز آل محمود إلى أن بعض القيادات تخوفت مما يحصل في املنطقة من مالحقة لجماعات اإلخوان، ورأى أن األفضل هو تجنب املواجهة.
في الحالة التي كانوا فيها وجدوا أنه ال داعي لوجود التنظيم، أو أن املجتمع ال يحتاج لهذا النمط ،وهذا أمر غير ُم ّ عمم في كل املجتمعات؛ فكل مجتمع له ظروفه الخاصة ..وأن التيار تشكل طبيعي وفيه أفراد ومنظمات ومبادرات وأعمال تقوم بها جموع املجتمع ولبعضها خط ناظم فكري وليس تنظيميا محددا.. بينما فكرة التنظيم الشمولي هي وهم ألنها تشبه بالدولة وليس بأي دولة إنما بالدولة الشمولية التي سقطت بسبب شموليتها، كما يقول جاسم سلطان عراب املراجعات.
وتشير رواية آل محمود وروايات إخوانية أخرى إلى أن قرار الحل تم اتخاذه في ظل رفض بعض القيادات في الجماعة، وذهب البعض ملقابلة أحد أهم املرجعيات الفكرية والروحية للجماعة وهو الشيخ يوسف القرضاوي ،الذي استاء من قرار جاسم سلطان ومن معه .وأعاد الرافضون بناء هيكلية الجماعة من جديد ،بينما واصل من تبنى قرار الحل العمل كتيار عام ال تجمعه هيكلية تنظيمية هرمية .كانت رؤية الرافضني نابعة عن تمسك باملنهج اإلخواني التقليدي املتشبث بفكرة التنظيم ،الذي عبر عنه محمد حبيب (نائب مرشد اإلخوان سابقا) ،حني علق على قرار حل جماعة إخوان قطر لنفسها قائال« :التنظيم يحدد البوصلة واألصول حتى ال يتم فقدان الحركة واملنهج ..وهذه الدعوة -التحول من تنظيم إلى تيار -أثبت الواقع فشلها» ،بينما رأت املجموعة التي دافعت عن قرار الحل والتحول إلي تيار أنه
ما هو أبعد من الحل واملعارضة له وذلك الجدل ،وبغض النظر عن نتيجة مراجعاتهم ،أن القطريني عملوا ما كان ينبغي لكل إخوان الخليجيني عمله ،وهو مراجعة ما ورد إليهم من أفكار تنظيمية وآيديولوجيا فكرية ،ألن كل فكر وليد عصره ومكانه، ومن الخلل الفادح تلقيه دون أي محاولة ملراجعته ،وتأسيس الذات بناء على أصالة فكرية خاصة وليس مجرد االستهالك والتقليد .يقول جاسم سلطان« :من الحوار تتولد أجوبة أكثر صالبة تقود األمة طورا بعد طور لألمام ..إن ما يبدو تناقضا وطرحا بديال لشكل معني أو أشكال معينه للوهلة األولى.. هو استئناف للتفكير والفعل في مسار النهضة الذي قصده الجميع ،فاألساس الحرص على حيوية األفكار وديمومة تجددها ،وليس الحرص على األشكال التي ربما تجاوزها الزمن دون أن نشعر» <
,,
الشيخ يوسف القرضاوي
في عام 1961 هاجر الشاب املصري حينها يوسف القرضاوي إلى قطر ليقوم على املعهد الديني الثانوي ويؤسس كلية الشريعة بجامعة قطر
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
29
قصة الغالف
اسواق الدوحة عام 1965
,,
كان البنا حريصا على ربط قطاع التنظيم العاملي (متابعة الشؤون الخارجية) بقطاع من املعلمني واالستشاريني
,,
28
للنموذج اإلخواني ،كانت بعض القيادات الشابة تدرس في الخارج ،التي سيكون لها أثر كبير على مستقبل هذا التنظيم. إحدى أبرز هذه الشخصيات هو طالب كان يدرس الطب في القاهرة منتصف السبعينات ،وهو جاسم سلطان ،الذي سيكون له عظيم األثر القيادي والفكري على جماعة اإلخوان في قطر. تكون جاسم سلطان -وعلى خالف التكوين التقليدي للكوادر اإلخوانية -بمزيج من الثقافة اإلسالمية واالطالع على العلوم اإلنسانية ،فباإلضافة لقراءته الكتب اإلخوانية التقليدية لسيد قطب وسعيد حوى وفتحي يكن وغيرهم من كتاب «اإلخوان»، فإنه «حني كان يدرس الطب كان اهتمامه كبيرا بالعلوم اإلنسانية واألدب ،وربما هذه االهتمامات اإلنسانية كانت أكبر من اهتمامه بالطب» ،كما يقول عن نفسه .وأيضا ساهم اطالعه على األفكار السياسية املختلفة في الساحة العربية في وعيه بأهمية دراسة التراث اإلنساني من الشرق والغرب« ،بدأنا أكثر وعيا باالتجاه إلى قراءة توينبي ،وهيغل ومفكري عصر النهضة والتنوير وتراثهم املتعلق بالنهضة والحراك االجتماعي، ومع امتداد التحوالت الكبرى باتجاه الصني ،وآسيا بدأت أيضا بدراسة هذه التجارب» ،كما يتذكر. ساهم وجود جاسم سلطان في مصر في منتصف السبعينات وقت نشوء التيار اإلسالمي ومن ثم التحامه بجماعة اإلخوان ومزاملته للقيادات الشابة الجديدة كعبد املنعم أبو الفتوح وعصام العريان ،ساهم ذلك كله بتكوين وعيه حول اإلشكاالت التي ما زالت تحملها حركة اإلخوان بشكلها التقليدي ،وبحث األفكار اإلصالحية في عقله وخطابه .ربما جاسم سلطان حمل
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
ذات التوجهات اإلصالحية للقيادات الشابة في التنظيم املصري جيل السبعينات -إال أن عدم نجاح الكوادر املصرية في بلورةهذه التوجهات في مشروع تغييري داخل الجماعة األم له عدة عوامل ،منها تلك الحمولة التقليدية للقيادات اإلخوانية القديمة يعان والتي خرجت من السجون بداية السبعينات والتي لم ِ منها التنظيم القطري ،وأيضا الفارق املهم في حجم التنظيم ومساحة البلدين ،حيث تتمكن أي قيادة إصالحية في بلد مساحته محدودة كقطر من الوصول لجميع الكوادر بسهولة والتأثير فيها ،وهذه أيضا ميزة للتنظيم القطري على كثير من التنظيمات اإلخوانية في املنطقة ،إذ جعلت التواصل بني الكوادر أكثر مرونة وأقل بيروقراطية لصناعة القرار والتأثير فيه. حني عاد جاسم سلطان وكوادر أخرى بداية الثمانينات من الدراسة في الخارج لقطر ،واندمجوا في جماعة اإلخوان املحلية اصطدموا بضيق أفق للقيادة (حقيقة كان ضيق أفق دافعا لطرح التساؤالت بأكثر مما كان يمنع التغيير) .لم تكن الجماعة حاملة ألي مشروع أو رؤية إصالحية واضحة سوى األدبيات اإلخوانية العامة ،لذلك بدأت تنطرح األسئلة الجدية داخل املجموعة من هذه الكوادر العائدة :من نحن؟ وإلى نسير؟ وهل هناك مشروع نحمله ونتحمل حمله؟ هل هذا ما نريد؟ ما مصلحة املجتمع القطري في كل ذلك؟ هل هذا الثوب مناسب ارتداؤه في قطر؟ وكما يقول عبد الله النفيسي في مقال له عن هذه التطورات: «الالفت للنظر أن املجموعة تعاملت مع هذه التساؤالت بكل رصانة وجدية وحزم وقررت تفويض أفراد منها للقيام بدراسة هذه األسئلة دراسة تفصيلية واستحضار فكر املؤسس حسن
معظم املبعوثني القطريني من املدرسني واإلداريني من اإلخوان املسلمني وجلهم من جنسيات فلسطينية وسورية مرتبطة بشكل أو بآخر بالجماعة ومناهجها السياسية .وجاءت مديرية مكتب البعثة القطرية لتثبت أن (اإلخوان) عازمون على أن يكون لهم موضع قدم في اإلمارات ،إذ تولى أمر اإلدارة إخواني شديد التعصب لـ (اإلخوان) هو املرحوم عدنان سعد الدين السوري، وكان خطيبا مفوها ومجادال شديد املراس ،وكان حاد الخطاب جريئا في الدعوة إلى نهج (اإلخوان) والتحامل على مخالفيهم، بعكس صاحبه الشيخ عبد البديع صقر الذي كان أكثر دبلوماسية وتحفظا في مهاجمة مناوئ (اإلخوان) ،وخاصة في العلن ،وكان الشيخ عبد البديع يعمل في السر أكثر مما يعمل في العلن». ويواصل« :والعجيب أن ممثلي اإلنجليز الذين كان لهم وجود سياسي قوي في الخليج وفي اإلمارات قبل عام ،1968كانوا يقفون موقف املتفرج بعني الرضا من نشاط (اإلخوان) في هذه املناطق ،ولعل ذلك يرجع إلى مناوأة (اإلخوان) للراديكالية العربية وعلى رأسها الناصرية في مصر ،حيث كانت مصالح الطرفني تلتقي عند هذه الحدود .وأول من تولى مديرية املكتبة العامة في دبي هو شقيق الشيخ عبد البديع األستاذ أمني صقر منبعثا من قطر مع مساهمات قيمة من الكتب من مكتبة قطر الوطنية التي أسسها الشيخ علي بن عبد الله ،كما تمت اإلشارة فيما سبق .وتوالى على رئاسة البعثة القطرية وافدون عرب من
ذوي امليول اإلخوانية التشددية» (عبد الغفار حسني ،الخليج اإلماراتية ،أغسطس «آب» .)2012
قطر..أهل الهجرة املتأخرة! بالحديث عن الرموز اإلسالمية املعدودة في الخليج ،نجد أن «البدريني» (مصطلح يستخدمه اإلسالميون للتعبير عن األوائل في االنسالك في الدعوة) في البحرين يقودهم عبد الرحمن الجودر الذي بايع البنا في القاهرة .وفي الكويت نجد أبناء املطوع بها في الثالثينات ،ولكن ال يسجل املتابعون ملسيرة «اإلخوان» في قطر حراكا لـ «اإلخوان» ُيذكر ،وهذا ال يعني االنعزال التام لإلسالميني فيها ،ولكنه يشي بشح املصادر الذي تحدث عنه محمود عاشور في دراسته عن «اإلخوان» في قطر. ويشير الدكتور عبد الله النفيسي إلى أنه مع منتصف السبعينات شرعت مجموعة من الشباب القطري ،ال تتعدى املائة ،في بناء تنظيم خاص لـ «اإلخوان» في قطر ،وتركز أغلب نشاط هذه املجموعة على النشاط الدعوي والتربوي.
زمن املراجعات
,,
الدوحة في الستينات
لم يكن الطريق سهل املسالك أمام التوسع اإلخواني وغيرهم من الجماعات في الخليج العربي
,,
وبينما كانت هذه املجموعة البسيطة في قطر تنظم نفسها وتنشئ نواة التنظيم بشكله التقليدي حسب الهيكل التنظيمي المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
27
قصة الغالف
التعريف الفضفاض لإلسالميني ال يجعل من تتبع دخول التيار اإلسالمي إلى قطر صعبا، فقطر الدولة البكر التي تشكلت على أنقاض انفصالها عن البحرين في عام ،1868ظلت تتفاعل مع الطبيعة السلفية بتدين تقليدي بحت ،طرأ عليها الحقا إسالمات السكينة ،وبعض دعوة التبليغ ،وهذا وجه ،أما الوجه املراد ،فهو تتبع اإلسالم السياسي أو الحركات اإلسالمية الناشئة، في بيئة كهذه ،خاصة أن التجربة القطرية كانت فريدة.
كيف استطاع إسالميو قطر كسر وثن التنظيم عند اإلخوان املسلمني؟
إخوان قطر واملسار اخملتلف بقلم: عمر الترابي طارق املبارك
,,
تكون جاسم سلطان وعلى خالف التكوين التقليدي للكوادر اإلخوانية بمزيج من الثقافة اإلسالمية والعلوم اإلنسانية
,,
26
تتبع الحركات اإلسالمية في الخليج ،يحكمه سيناريو متشابه، يكاد يصبح مكررا ،يدور في حلقة واحدة ،تبدأ من الطالب املبعوثني إلى مصر لالستنارة ،أو االستزادة من العلم الصحيح، فيختلطون بأطياف الفكر القومي واإلسالمي واليساري، فيعودون إما بصورة لعبد الناصر ومعها حفنة شعارات ،أو بأعناق لفتها البيعة لحسن البنا ومعها أيضا حفنة شعارات بديكور مختلف ،ويكونون هم الحاضنة األولى لنواة التيار اإلسالمي «الحركي» ،فيوقظون إسالم السكينة ،ويمتطونه أو يتحضرون لذلك ،كما يسهم في هذه الفترة املعلمون والعاملون لنهضة الخليج األوائل من مصر تحديدا والشام ،وقد كان البنا حريصا على ربط قطاع التنظيم العاملي (متابعة الشؤون الخارجية) بقطاع من املعلمني واالستشاريني ،يقدمون للحكام من فترة ألخرى ،يدعمهم هو برحالته وعالقاته ،وتأتي في أعقابهم الهجرة الثانية وهي هجرة قسرية ،عقب تضييق السلطات املصرية على «اإلخوان» في أعقاب أحداث املنشية، وانكشاف التنظيم السري واملحاكمات املصاحبة التي أودت بحياة مفكر «اإلخوان» سيد قطب ،وتأتي الهجرة الثالثة إلخوان سوريا في فترة بعد أحداث حماه الدامية ،أضف إلى ذلك التأثر بالعراق الذي كان حاضرة التأثير في أقطار الخليج األخرى، بما فيها الكويت ،فتنتهي التشكيالت بإخوان «مصر والشام» في الخليج ،يسدلون «غترهم» ويخالطون «بدو الخليج» ،وتبقى التفاصيل الداخلية مبهمة ،ملن الوالء ،وكيف البيعة ،وإلى غيره.
إطاللة من الحكايات القديمة.. عبد البديع صقر والقرضاوي في عام ،1961وبعد مالبسات مختلفة ،من اعتقال إلى إفراج مفاجئ ،هاجر الشاب املصري حينها يوسف القرضاوي إلى قطر ليقوم على املعهد الديني الثانوي ،الذي يطوره ،ويسهم في الوسط الديني فيها ،ويؤسس كلية الشريعة بجامعة قطر، وبالتزامن مع ذلك ينال الثقة ،وتحولت قطر إلى محطة لرحالته في دول الخليج ،ولم يكن القرضاوي وحده ،بل معه عبد املعز عبد الستار ،والدكتور أحمد العسال ،وعبد البديع صقر ،فتولوا مهام الدعوة والدين ،وكان حاكم قطر آنذاك الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني يوليهم الثقة ،يقول عبد الغفار حسني في مقالة بجريدة «الخليج» اإلماراتية« :ولم يكن الطريق سهل املسالك
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
أمام التوسع اإلخواني وغيرهم من الجماعات في الخليج العربي غير املنسجمة مع التيار القومي ،ولذلك لم تقم في هذه املناطق تجمعات إخوانية منظمة لها الحول والطول قبل السبعينات من القرن املنصرم ..ولكن بارقة األمل ملع وميضها في قطر ،حيث لجأ إليها أفراد من (اإلخوان) أخرجوا من مصر أو خرجوا منها، فتبناهم حاكم قطر األسبق الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الذي اعتبر (اإلخوان) سلفيني مسلمني اضطهدوا في ديارهم فلجأوا إلى بلده وعليه نصرتهم ،وكان الشيخ علي (رحمه الله) أميرا مسلما شديد التدين ويقرب إليه أهل العلم ،ولم يكن منغمسا في أمور السياسة خارج إطار بيئته البسيطة ،وجاء إليه أفراد من اإلخوان املسلمني بينهم رجالن لهما مكانتهما في جماعة اإلخوان ،وهما الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد البديع صقر ،ولعب هذا األخير دورا قياديا نفع به (اإلخوان)، وتولى الشيخ عبد البديع مركز املستشار لحاكم قطر ومديرا لدار الكتب القطرية التي تم تأسيسها في تلك السنني».
إسالميون في قطر ..قنطرة "اإلخوان" يواصل حسني« :قطر كانت املكان الذي انطلق منه (اإلخوان) صوب اإلمارات ،وبالذات دبي ،التي ربطتها عالقة وطيدة بقطر ولم يكن املجتمع اإلماراتي يومئذ (أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن املاضي) على وعي ثقافي وسياسي كاف يستطيع أن يميز به بني ما ينفعه في أمور السياسة وما ال ينفعه ،وكانت تفاعالته مبنية على املشاعر العاطفية املحضة تجاه القضايا واألحداث الجارية في املنطقة ،وكانت وسائل اإلعالم املوجهة في الدول العربية ذات األنظمة الراديكالية هي التي توجه أحاسيس الناس وتسيطر عليها وتسيرها حسب أهدافها» ،ويواصل« :وقد بدأ نشاط (اإلخوان) في اإلمارات من دبي التي أشرنا إلى ارتباطها بقطر ،وانطلق هذا النشاط من مقر البعثة التعليمية القطرية التي جاءت من مساعدات قطر لإلمارات في عام ،1962وكان للشيخ عبد البديع صقر ضلع في تأسيس هذا املكتب واختيار املدرسني والقائمني على شؤون املكتب ،وكان الشيخ عبد البديع يتردد بانتظام على اإلمارات، وأسس فيها مدرسة تابعة له اسمها مدرسة اإليمان في منطقة الراشدية في دبي وأعتقد أن هذه املدرسة ما زالت قائمة ،وكان مديرو املدرسة من أقرباء الشيخ عبد البديع واملتصلني به ،وكان
الحدود العراقية اإليرانية نزاعات تاريخية وأزمة تتجدد
احلرب املائية بقلم :املحرر األقتصادي
شكلت حدود العراق مع إيران أحد القضايا التي تسببت في إثارة كثير من النزاعات في العالقة بني الدولتني ،ومنذ أن كان العراق تحت الهيمنة البريطانية في عام 1937تم توقيع اتفاقية تعتبر أن نقطة معينة في شط العرب غير “خط القعر” هي الحدود البحرية بني العراق وإيران لكن الحكومات املتالحقة في إيران رفضت هذا الترسيم الحدودي واعتبرت نقطة “خط القعر” في شط العرب التي كان متفقا عليه عام 1913بني إيران والعثمانيني بمثابة الحدود الرسمية ونقطة “خط القعر” هي النقطة التي يكون الشط فيها في أشد حاالت انحداره ،وفي عام 1969أبلغ العراق الحكومة اإليرانية أن شط العرب كاملة هي مياه عراقية ولم تعترف بفكرة خط القعر. في 6مارس (آذار) عام 1975وقع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسني وشاه إيران محمد رضا بهلوي وبإشراف رئيس الجزائر آنذاك هواري بومدين االتفاقية املعروفة بـ"اتفاقية الجزائر" وتم االتفاق على نقطة خط القعر باعتبارها حدودا بني الدولتني ولكن صدام حسني ألغى هذه االتفاقية في عام 1979عشية قيام الثورة اإليرانية ،ووصول اإلسالميني إلى الحكم.. األمر الذي أشعل حرب الخليج األولى. يقول الباحث في شؤون املياه صاحب الربيعي" :كان الصراع بني العراق وإيران على أوجه في انتهاكات وممارسات عدائية مارستها إيران كتحويل مجاري وروافد األنهار التي تنبع من أراضيها وتصب في األراضي العراقية بما يخالف مبادئ القانون الدولي ،ويمكن إجمال املمارسات اإليرانية في تحويل مجاري األنهار منذ الستينات من القرن املاضي بتغيير مسارات عدد منها خاصة في املنطقتني الوسطى والجنوبية من العراق وباشرت بتحويل بعض الروافد األخرى في املنطقة الشمالية من القطر" ويذكر الربيعي أهم تلك الروافد ومواقعها من بينها: - 1نهر الوند :قامت الحكومة اإليرانية في عام ،1951بشق قناة من نهر الوند (دون موافقة العراق) وقد أدى شق القناة النخفاض كميات املياه خالل موسم الصيف نحو األراضي العراقية التي تعتمد على مياه النهر لري مسحات زراعية قدرها 50ألف دونم ،من أراضي قضاء خانقني. - 2نهر كنجان جم :ينبع من مرتفعات (بشتكوه) اإليرانية ويجري باتجاه الجنوب الغربي نحو األراضي العراقية على امتداد 20كم ،وتتفرع من الجانب الغربي من النهر عدة قنوات وترع لري بساتني ومزارع ناحية "زرباطية" شرعت الحكومة اإليرانية في عام 1932بشق قناة من نهر "كنجان جم" لري أراضي مهران .باإلضافة إلى ذلك ،أنشأت سدا ترابيا في منتصف النهر وتم استغالل كامل مياه النهر ،ومع الزمن أدى إلى جفاف النهر بالكامل. - 3مياه نهر وادي كنكير :بلغ تصريف النهر عند الحدود العراقية قرب قضاء مندلي نحو 280م / 3ث ،قامت إيران وعلى مراحل باستغالل مياه النهر بشكل تعسفي ،مما أدى النخفاض جريانه تجاه األراضي العراقية خاصة في موسم الصيف. - 4نهر قره تو :يدخل الحدود العراقية عند قرية "طنكي حمام" بعد اجتيازه مناطق سهلية إيرانية وتصب به عدة روافد صغيرة بعد دخوله األراضي العراقية ،انقطع مجرى النهر تماما عن قرية "قره تو" جراء املشاريع اإليرانية ،مما أدى إلى أضرار فادحة باألراضي الزراعية على الجانب العراقي. - 5نهر دويريج :قامت السلطات اإليرانية بتاريخ 1966 / 3 / 6بإنشاء سد ترابي على مقطع مجرى النهر في املوقع املسمى «كبة هشال» الذي يقع على مسافة خمسة كيلومترات تقريبا
الرئيس الجزائري هواري بومدين يتوسط كال من نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسني وشاه إيران محمد رضا بهلوي في الجزائر عام 1975
من مخفر الفكة العراقي ،فتسبب بقطع املياه التي تجري إلى األراضي العراقية. وغير ذلك من أنهار تنبع من غرب إيران لتصب في األراضي العراقية ويبلغ عددها 18نهرا قامت إيران بقطع روافدها عن العراق ،ويبلغ تصريفها املائي 7مليارات متر مكعب. ويضيف الباحث العراقي صاحب الربيعي بأن "تلك التجاوزات اإليرانية بشأن قطع الروافد املائية (الدولية) التي تغذي نهر دجلة في األراضي العراقية ما زالت تجري ،مما أدى إلى انخفاض املياه الواردة إلى األراضي العراقية بنسبة .%70 - 60وتشهد املناطق الحدودية لشمالي العراق مع إيران جفافا ال سابق له ،نتيجة إجراءات الحرب املائية اإليرانية غير املعلنة وغير القانونية والتي تعتبر انتهاكا للقانون الدولي الخاص باألنهار املشتركة". ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكريت حاتم الدفاعي ،إن املواثيق واألعراف الدولية حسمت الخالف حول املياه بني الدول املتشاطئة قانونيا ،لكن التوظيف السياسي للمياه سيعقد املشكلة ويحيل بالدنا إلى صحراء ودعا الدفاعي إلى عدم بناء سدود تضر بالعراق ونبذ االبتزاز السياسي لهذه املسألة. وحذر أكاديميون عراقيون من تفاقم أزمة املياه والنقص الحاد في الكميات الواردة إلى أنهار العراق مؤكدين أن ذلك سيؤدي لتحول البالد إلى صحراء بحلول عام .2025ويؤكد املدير العام في وزارة املوارد املائية سلوان عامر أن "مشكلة نقص املياه تفاقمت بعد إقامة سوريا سد الحسكة العمالق فتقلصت نسب املياه في الفرات مثلما في دجلة" .وأضاف عامر أن "اإليرانيني زادوا املشكلة تعقيدا عندما أقاموا بدورهم سدودا على الحدود ،تسببت في تصريف املياه الفائضة عن حاجتهم إلى أراضينا ،وهي مياه مالحة ،ومنعت جريان املياه في األنهار التي كانت تغذي القرى والبلدات الحدودية العراقية" .وأوضح أن العراق يخوض منذ ثالثة عقود مفاوضات ومناقشات مع جيرانه حول املياه ،محذرا من أن "املستقبل ال ينبئ بخير إذا استمر الجيران يصمون آذانهم". ويرى صاحب الربيعي أن إيران تسعى لدور إقليمي في منطقة الخليج العربي ،وأن استخدام إيران املياه سالحا ضد العراق هو مسعى لتحجيم دور العراق في املنطقة ورهن إرادته السياسية،ويؤكد الربيعي أن "هناك عددا من القيادات السياسية العراقية ذوي أصول إيرانية منفذين ألجندة إيران في العراق ،وهذا ما يفسر الصمت الرهيب للقيادات السياسية العراقية على التعديات املائية اإليرانية على الحقوق املائية املكتسبة للعراق"< المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
25
شؤون سياسية
الدمار سيكون كارثيا ،نظرًا لخزينه املائي العالي ،ودرجة امليل الكبيرة ملجرى دجلة من املوصل باتجاه الجنوب (فرق منسوب االرتفاع بني نهر الفرات ودجلة نحو 7أمتار في الشمال) .مما يؤدي لحدوث فيضانات كارثة تضر باملنشآت املائية والخدمية أسفل املجرى وتشريد نحو ( )5 - 4ماليني من السكان في حوض دجلة من الشمال إلى الجنوب. الحكومة العراقية إلبعاد خطر انهيار السد واملتمثلة ان إجراءات ُ بالحقن البيتوني املكلف ،وتخفيض منسوب املاء في حوض السد ،ليست بحلول جذرية إلنهاء مشكلة االنهيار املحتمل للسد ،فالحل الجذري هو تنفيذ الحلول املقترحة من قبل الشركات االستشارية املقدمة الى وزارة املواد املائية العراقية، لضمان سالمة السد بشكل جذري ،وبالتزامن مع تلك اإلجراءات، ال بد من اإلسراع بإنجاز سد بخمة والسدود املقترحة االخرى على الزاب الكبير. إن كارثة أزمة العراق املائية ال تتمثل فقط بفقدانه باليني األمتار نشر من تقارير املكعبة من مياهه في السنوات السابقة ،بل بما ْ محلية وعن منظمات دولية بأن دجلة والفرات مهددان بالجفاف في عام ،2040ومن بني هذه املنظمات "املنظمة الدولية للبحوث واملنتدى العربي للبيئة والتنمية" و"منظمة املياه األوروبية "، والتي أكدت بمجملها أن نهر دجلة في طريقه للجفاف الكامل.
,,
انهيار مقومات الدولة في العراق ال يبرر األداء الحكومي الذي يمكن وصفه باملشلول تجاه كارثة تصحر بالد ما بني النهرين
,,
24
إن السياسات املائية اليران والتي عمقت الفجوة املائية في العراق ،كانت محل تحذير من قبل املركز العاملي للدراسات التنموية ،حيث حذر املركز من كارثة بيئية كبيرة قد تحل بمحافظات العراق الشرقية والجنوبية ،إذا ما استمرت إيران في االمتناع عن إطالق مياه بعض األنهار ،ومنها نهر الوند الذي تمتنع إيران عن إطالق مياهه منذ أربع سنوات .وقد أدى هذا األمر إلى أضرار بيئية كبيرة في األراضي الزراعية ،حيث تسببت في تدمير نحو %10من األراضي الخصبة ،وساهم في تشريد أهالي العديد من القرى بسبب جفاف أراضيهم. وقد تراجع اإلنتاج الزراعي لبعض املحاصيل في العراق بنسب كبيرة وصلت في بعض السنوات إلى %80مع ترد كبير في جودتها. ان انهيار مقومات الدولة في العراق ،ال يبرر األداء الحكومي الذي يمكن وصفه باملشلول تجاه كارثة تصحر بالد ما بني النهرين ،فهناك عالوة على اللجوء الى املحافل الدولية ،إجراءات عديدة منها على سبيل املثال ال الحصر ،قيام الحكومة املركزية ببناء السدود في إقليم كردستان ،ألن ذلك يصب في صالح أبناء الشعب العراقي في الوسيط والجنوب ،وهذا يتطلب أيضا تفاهما وتعاونا بني بغداد واربيل .إن تقنني استهالك املاء واستخدام الطرق العلمية للسقي واإلرواء ،ناهيك عن االستثمار الوطني واألجنبي في مجال املاء بغرض ردم الفجوة املائية ،أمور ضرورية وملحة لحل مشكلة املياه في العراق.
سد املوصل إن تآكل الدولة العراقية ألقى بضالله على تآكل واندثار بناه التحتية واإلنتاجية ،فعلى سبيل املثال ،فإن سد املوصل بمعدل تصريفه املائي 17500م /3ثا .والذي بدأ العمل به في عام 1980 وانجز في عام 1986ألغراض متعددة :تخزيني ،تحكمي، وإنتاج طاقة كهرومائية ،إضافة إلرواء مساحة قدرها 3.5 ماليني مشارة ،مهدد باالنهيار ،ففي حال حدوثه ،فإن حجم
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
إن للمشكلة جوانب وأبعادا (جيو -سياسية – فنية) ،حيث تتحكم دول الجوار متمثلة بتركيا وسوريا وإيران في نحو 85 في املائة من املوارد املائية التي تدخل العراق .أما البعد السياسي فهو غياب املعاهدات واالتفاقيات الدولية املبرمجة الستغالل املياه واستخدامها بشكل قانوني يراعي حقوق دول املصب.
الحل املقترح إن الحل الجذري ملشكلة املياه في العراق واملنطقة تتمثل في ما يلي: تطبيق اإلدارة املتكاملة للموارد املائية في العراق وكوردستان بما في ذلك "حصاد املياه" ،وذلك للحفاظ على املوارد املائية السطحية والجوفية واالستفادة القصوى منها. إن حل مشكلة املياه في الشرق األوسط يجب أن يجري من خالل عملية حلول شاملة ملشاكل بنيوية تشمل السياسة، واالقتصاد ،والبيئة في منطقتنا ،ويمكن تحديد الخطوط العامة لتلك املشاكل ،وأهم حلقة لحل سلسلة املشاكل هذه، تتمثل بحل املشاكل البنيوية للعراق .كما ينبغي أن يؤخذ في االعتبار أيضا اإلدارة املتكاملة والشفافة للموارد املائية بني دول املنطقة ،ورفع الحظر على كافة املعلومات واالجراءات املتعلقة باملياه ،وهذا املقترح قدمته نائبا عن حكومة إقليم كردستان في "األسبوع العاملي للمياه" ،والذي أقيم في العاصمة السويدية استوكهولم عام 2007بحضور ممثلي دول املنطقة والعالم ،إال أنه لم يحدث أي تقدم إلى اآلن. كلنا في نفس املركب وهذا توصيف يحتم ضرورة التواصل اإلنساني لحل املشاكل السياسية في العالم ،وهذا التوصيف أيضا ينبغي أن يكون شعارا لحل مشكلة املياه في املنطقة والعالم ،ألن أية سياسة مائية ال تراعي دول املصب ،ستؤدي بالضرورة الى جريان نهر من املشاكل ،وإيقاف التنمية والتقدم <
في ذلك مشاكل املياه ،كما حدث حينما تنازل النظام السابق في زمن حكم الرئيس العراقي صدام حسني عن األراضي واملياه الوطنية العراقية للجانب اإليراني ،فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي ،وكان الهدف منها القضاء على الحركة التحررية الكردية ،وقد نقض هذا االتفاق من قبل الجانب العراقي بعد الثورة اإلسالمية في إيران ،تلك الثورة التي اتخذت ولظروف ذاتية وموضوعية منحى جمهورية إسالمية ،نراها أكثر إصرارا من نظام الشاه محمد رضا بهلوي على إعادة العمل باتفاقية ( صدام – شاه – بومدين) عام 1975والتي تنازل بموجبها الجانب العراقي عن نصف شط العرب ،ناهيك عن جزء من أراضيه الوطنية.
تاريخ وجغرفيا إن مشكلة املياه في منطقتنا إذ تتضاعف مستندة إلى إشكاالت تاريخية ،وجغرافية ،وسياسية قائمة ال يمكن تجاهلها، تتجه نحو التصعيد ،ألن دول املنبع تتعامل مع املشكلة وفق مصالحها الوطنية من دون أي اعتبار للقوانني الدولية التي تضمن حقوق دول املصب ،واألنكى من ذلك هو قيام دول املنبع باستغالل املتغيرات الجيو -سياسية التي أضعفت بعض الدول، كما هو عليه الحال مع العراق الذي فقد هيبة الدولة القوية ،ومن ثم خسارته ملوقف وموقع الند املحاور واملطالب بحقوقه املائية باستثناء مطالباته االعالمية الخجولة ،التي تهدف في تقديري، الى إرضاء الشارع العراقي ،ألن املوقف العراقي ال يتناسب مع حجم الكارثة التي تهدد النهرين وما بينهما من امتداد لحضارات كانت البدء بكافة مفرداتها وتفاصيلها. فالعراق ،الذي حمل اسم "بالد ما بني النهرين" يعتمد على
نهري "دجلة" و"الفرات" ،ويتشكل األول من التقاء نهري فرات صو وقره صو في حوض ملطية في هضبة أرمينيا التركية، ويبلغ طوله 2880كيلو مترا ،موزعة على البلدان الثالثة كاآلتي: 1000كيلو متر في تركيا ،و 680 – 675كيلو مترا في سوريا – بسبب التعاريج – و 1200كيلو متر في العراق ،أما نهر دجلة، فيبلغ طوله 1899كيلو مترا ،منها 44كيلو مترا في سوريا، و 1415كيلو مترا في العراق ،وتساهم إيران أيضًا بمد النهر بروافد غزيرة نابعة من أراضيها. املشكلة التي تحتاج حلوال جذرية تتمثل بعدم وجود معاهدة ُ ُمتكاملة تنظم املشاركة في مياه الفرات أو االستغالل املشترك لها ،على الرغم من وجود اتفاقيات ترسي مبادئ عامة تشدد على حقوق بلدان أسفل النهر في املياه الداخلة الى أراضيها، اما فيما يتعلق بمياه نهر دجلة ،فإن تركيا ّ تعدها مياهًا وطنية عابرة للحدود ،ولها حق السيادة املطلقة عليها ،وأن ما تمرره من مياه الى كل من سوريا والعراق هو تضحية منها وليس واجبًا.
سياسة إيران املائية املوقف اإليراني على الرغم من العالقة االستراتيجية بني حكومتي طهران وبغداد ،والتي تعمقت إثر تراجع ما طرح قبل "الربيع العربي" من مخاطر "الهالل الشيعي" وبروز مفهوم "الهالل السني" بعد النتائج األولية لـ"الربيع العربي" ال يختلف عن املوقف التركي ،إذ تقوم إيران بتحويل معظم الروافد املائية التي تغذي نهر دجلة ،مما ُيخفض املياه املتدفقة باتجاه األراضي العراقية ،ويسيء إلى نوعية املياه ويزيد من نسب التلوث.
مع احتماالت تعرض العراق للجفاف، شباب إيراني يتبادل إطالق املياه على بعضهم البعض خالل مهرجان «مدافع املياه» في شمال طهران ،يوليو، 2011ضمن موجة جديدة من التهديد بالعصيان املدني واعتقل االمن االيراني عشرات من «مقاتلي املياه» وحذر مسؤول قضائي إيراني أن «أعداء الثورة» يقفون وراء هؤالء الشباب
,,
إن مشاكل املنطقة بما فيها مشكلة املياه ال يمكن حلها دون حل القضية الكردية
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
23
شؤون سياسية
يواجه "الذهب األسود" ُمنافسًا "ماسيًا" ،وإن كان عديم اللون ،والطعم ،والرائحة ،اال أنه يمتلك ُ مجرى األلوان ،وضفاف الحياة ،وعبق األشياء ،فهو شريان الحياة ،وجذرها .ويمثل املاء امل َّح ِدد الرئيس للعالقات الدولية ،وباألخص في جنوب قريتنا الكونية ،وأيضا في دول مثل تركيا، َّ وإيران ،والعراق ،وكوردستان ،وبالد الشام ،ومصر وشمال افريقيا) فهل تحول مسار "طريق الحرير" الى "طريق املوت" في هذه البلدان ،من خالل سياسات داخلية لدول املنبع ومحاوالتها تغيير مجرى األنهر الدولية صوب داخلها الوطني ،ومن ثم مصادرة هذه املياه العابرة للدول في عملية هي أشبه ما تكون بعملية اختطاف الرهائن واحتجازهم؟
قصة اغتيال دجلة والفرات ..ومحاوالت إيران لتغيير مجرى األنهار الدولية
املياه ..قنبلة موقوتة بقلم: تحسني قادر علي
إن التحذير الذي أعلنت عنه "منظمة املياه األوروبية" في أواخر القرن العشرين من إمكانية جفاف نهر دجلة بالكامل ،بسبب مشاريع تركيا ،وكذلك إيران التي لها دوافع سياسية واقتصادية، وأكدته دراسة أجراها علماء من وكالة الفضاء األميركية (ناسا) بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا واملركز الوطني ألبحاث الغالف الجوي ،يبرر املخاوف التي أعلنت عنها وكالة املخابرات املركزية األميركية (سي آي إيه) من أن ثمة مناطق مرشحة لحدوث صدام عسكري ّ مسلح بسبب شحة املياه وهي: ٍ
السياسات املائية اليران والتي عمقت الفجوة املائية في العراق كانت محل تحذير من قبل املركز العاملي للدراسات التنموية
املجموعة األولى :وتضم مصر والسودان وإثيوبيا وكينياوزائير وبوروندي وتنزانيا وراوندا ،وتشترك جميعها في حوض نهر النيل.
,,
,,
22
ّ نهري املجموعة الثانية :وتشمل تركيا وسوريا والعـراق حولدجلة والفرات. املجموعة الثالثة :وتضم فلسطني واألردن وسوريا ولبنانمن جهة وإسرائيل من جهة أخرى ،وهي الدول التي تشترك في أنــهار األردن واليرموك والليطاني والحاصباني والوزان. ان شعوب املنطقة ودولها إذ تعيش مخاوف حقيقية ،وكوارث االتجاهات على خلفية حرب وسيناريوهات مفتوحة في كافة ُ املياه التي بدأت فصولها ،فإن اإليقاع املتعثر للربيع العربي الذي جعل من الحدود الوطنية عاملا افتراضيا مقارنة بــ"الكتلة الهوياتية" والتي ظهرت بشكل واضح بني العراق وسوريا من جهة ،والعراق مع (إيران وتركيا) من جهة ثانية ،ككتل قومية مهدت الظروف إلعالن حروب املياه الداخلية ،فالكتلة الهوياتية كتجمع سكاني يوحده خطاب سياسي قائم على أساس "القومية أو الدين أو املذهب" سيفجر الحقا "حروب املياه" داخل الدول القائمة ،وهذا ما تجلى بوضوح بتهديد بعض املحافظات العراقية ألخرياتها بقطع املياه عنها ،فحرب املياه الداخلية وإن انطلقت من منابعها املذهبية ،فإن تلك املنابع تتراجع حني تعلقها بحرب املياه بني الدول ،ففي مشهد ّ عده البعض الجزء املكرر والهزلي للتاريخ قطعت جمهورية إيران اإلسالمية املياه عن عدد من املحافظات العراقية ومدن كوردستان ،وهي
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
محافظات غالبية سكانها من "أتباع أهل البيت" ،بل إن مدينة خانقني الكردستانية غالبية سكانها من الشيعة ،وكما نعلم فإنه قد جرى تجفيف نهر الوند من قبل حكومة طهران. في حرب مقبلة تهدد الزرع والضرع وتحيل حواضر الشرق الى امتداد صحراوي بال نهايات ،يدرك األكراد بأن محزونهم املائي في أجزاء كردستان األربعة هو األكبر على صعيد املنطقة ،هذه امليزة قد تكون أحد أسباب الرفض اإلقليمي والدولي لتوحيد األجزاء ضمن مشروع قومي ،تضم جغرافيتها أكبر احتياطي للذهبني "األسود" و"الجاري" أي (النفط واملاء). األكراد وبعيدا عن واقع عدم امتالكهم لدولتهم القومية وبنى تحتية إلعالن حرب املياه ،فإنهم وعبر تاريخهم ونضالهم التحرري ،ورغم كل حمالت اإلبادة الجماعية التي طبقت بحقهم لم يمارسوا أي شكل من أشكال اإلرهاب ،فكيف الحال مع "اإلرهاب البيئي" الذي نشهد مقدماته واألكراد أحد ضحاياه. إن أحد أهم أسباب الحروب والتي تلد أخرياتها في املنطقة ،وهي بطبيعتها التعبير األدق واألكثر كثافة لطبيعة األنظمة الحاكمة في املنطقة ،هو عدم حل القضية الكردية ،ألن أحداث التاريخ تؤكد وبما ال يقبل الشك بأن املياه ،والجغرافية ،واملصائر تكون متناحرة بدون حل هذه املشكلة في العراق واملنطقة من خالل ممارسة األكراد لحق تقرير مصيرهم عبر استفتاء شعبي في كردستان. إن مشاكل املنطقة بما فيها مشكلة املياه ال يمكن حلها دون حل القضية الكردية ،وما املحاوالت الجريئة بدمقرطة تركيا من خالل تغيير دستورها على خلفية الحوار بني الكرد وأنقرة إثر 3 عقود من النضال التحرري الديمقراطي ،الذي مارسه األكراد في تركيا وكردستان تركيا ،إال جزء من حلول شاملة ستشهدها املنطقة ،إن تكلل الحوار السلمي والحضاري بني الطرف التركي والكردي بالنجاح. إن حل املشكلة الكردية عبر سياسات القمع والتآمر ال يعقد املشاكل القائمة فحسب ،بل يضيف ملا هو موجود وقائم بما
السياسية واآليديولوجية في التاريخ اإلنساني لم تستطع أن تمحو هذا الغموض من مفهوم الهوية ،وفي أقل من قرن من الزمان ،عادت الهويات إلى بيتها الصغير ،متناهي الصغر ،وسقطت الدولة املتعالية ،دولة الحزب ،دولة النظرية ،وولدت دولة الهويات الصغرى. غموض معنى األنا ووعي العالم ،جزء من النسيج االجتماعي ذاته .ال يمكن للهوية أن تكون واضحة كوضوح الشمس ،ففيها -أي الهوية -جانب مظلم وعميق وعصي على اإلدراك .هذا يسهل الدول الصغرى ،الهويات الصغرى، ويصعب املفاهيم الشمولية كثيرا ويجعل نجاحها مؤقتا وسطحيا .فال قيمة للهوية خارج صغرها ومحدوديتها .كلما كبرت الهوية تقلصت الخصوصية. إال أن التجربة األميركية في مفهوم الدولة والهوية ،لهي من أهم التجارب في التاريخ الحديث ،وال يمكن إخضاع أسسها ونتائجها ملبدأ القياس .فقد نجحت نجاحا باهرا بالجمع ما بني الهويات الصغرى والهوية الكبرى ،بحيث تتولى األولى التعبير عن نفسها كما هي من دون أي تزيني آيديولوجي ،وتعبر الثانية عن نفسها عبر التقديس غير املسبوق للقانون والدستور .صحيح أن اليونانيني دمجوا ما بني التمثيل النخبوي والتمثيل الشعبي في السلطة ،إال أن التجربة األميركية أكثر تعقيدا من هذا الجمع ،ولعل مفهوم القانون في الثقافة األميركية ،هو الذي سهل التقاء الهويات الصغرى بالكبرى من دون أي تعارض يذكر .وال ننسى أن القانون في الدولة اليونانية القديمة لم يكن يمتلك قداسة كافية ليوفر التقاء الهويات املتضاربة من دون اشتباك .على عكس القانون في الثقافة األميركية الذي بات جزءا من الهوية ذاتها ،حتى بات من املتعذر رؤية الفارق ما بني الهويات بسبب االحترام الفطري واملكتسب الذي تكنه الثقافة األميركية للقانون .ويالحظ أن عدم احترام القانون في االتحاد السوفياتي السابق كان من أهم أسباب ضعف الدولة اآليديولوجية والذي عجل بسقوطها.
النظام العربي الرسمي ضامن الهويات إال أن مفهوم الدولة العربية -أو لنقل مفهوم النظام العربي الرسمي ،فهو األدق تعبيرا في الجمع ما بني شبه الدولة وكل السلطة -لم يقترب من الهويات الصغرى إال من منظار نقدي ،كما لو أن رجاالت النظام العربي مالئكة شمولية ال هويات ضيقة لها .لقد كانت الهويات الصغرى عرضة للنقد وللسخرية وللتهجم والتعنيف ،وليعلم القارئ أن الهجوم على الهويات الصغرى (الطائفية واملذهبية والعرقية) جاء من تيارات شمولية في األصل،
إما ماركسية وإما إسالمية وإما قومية .وحني لم تقدر دولتهم النظرية على الوقوف على قدميها إال بضع سنني ،لم نسمع منهم كالما عما رفضوه في السابق ،بدليل أن الكالم عن تقسيم سوريا مثال أو ما حصل في «قسمة العراق» أو طريقة التعاطي مع العقل السياسي في لبنان ،أيضا على سبيل املثال ،لم نجد له وعيا مقابال يكافح ضده ،ليس من منظار النضال ،طبعا، بل من خالل نظرية املعرفة ذاتها .باختصار :هل استطاعت النخب الثقافية العربية أن تفهم الهويات الصغرى على أنها وعي حاد بـ«األنا» ال يمكن القفز على أسواره العالية إال بوعي حاد أكثر جاذبية منه ،كجاذبية القانون في الثقافة األميركية السياسية واالجتماعية؟ ثم ملاذا هذه الحساسية املفرطة من طرح الهويات الصغرى؟ أليست هذه الحساسية املفرطة دليال على أن املوقف من األمر من دون مرجعية فكرية؟! الخالصة ،سيظل «النظام العربي الرسمي» (شبه الدولة وكل السلطة) هو الجنة الحالية التي ال يجب تضييعها .على األقل يعمل هذا النظام على اعتراف غير علني بالهويات الصغرى ،وبقدر من االحترام للهويات الكبرى .الحظ مثال في الخليج العربي قد تجد كثيرا من املاركسيني والبعثيني والقوميني العرب ومثلهم من الدروز والعلويني واملسيحيني واألكراد يعملون في مؤسسات اقتصادية أو إعالمية من دون أن يشكل هذا األمر خطرا على مفهوم الدولة في الخليج ،بدليل جديد يضاف إلى رصيد النظام العربي الرسمي أنه ال يزال يسبق النخبة بواقعيته ويمتلك جاذبية مضاعفة عندما يتعامل حتى مع خصم آيديولوجي من دون أن يحرمه حق العمل أو املشاركة .ولنكمل األمر ،حتى في الدول ذات الصوت الجهوري بالقومية أو االشتراكية ،كسوريا والعراق ،كان أساس تعيني األشخاص في مناصبهم ينطلق ،في األصل ،من مكوناته الطائفية أو املذهبية أو املناطقية ،من دون اعتراف علني بذلك ،بل من خالل ممارسة سلطوية ينطبق عليها مفهوم التواطؤ الطبقي. النظام العربي الرسمي ،شبه الدولة وكل السلطة ،هو املكان األمثل للمثقفني اآلن ،خصوصا بعدما أثبتت التجارب عقم الهويات الكبرى في الثقافة العربية من دون احترام القانون .وإن كان هذا النظام هشا ومترددا وفقد الثقة بنفسه إلى أقصى حد ،فدور املثقفني مده بأسس الحياة والدوام بشتى السبل .فهو يمثل اآلن خالصة املمارسة العملية ملفهوم السلطة في توازنات غير معلنة تجمع املفكر فيه والالمفكر فيه ،في آلية ضمنت حتى اآلن وجود الحد األدنى من مفهوم الدولة والحد األعلى من ممارسة السلطة ،وريثما تتم معالجة هذه الفجوة الفادحة ،يبقى النظام العربي الرسمي هو املمارسة الواقعية التراكمية التي يمكن أن يستخرج منها مفاهيم أكثر أصالة للدولة العربية القادمة <
املرشد العام لالخوان املسلمني الدكتور محمد بديع يرد على أسئلة اإلعالميني بحضور الدكتور سعد الكتاتني رئيس حزب الحرية والعدالة (ديسمبر )2012
,,
األفكار القومية جميعها اتفقت على تجاوز الحد السياسي الجغرافي كتمهيد لعدم االعتراف بالدولة الجارة أو غير الجارة
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
21
شؤون سياسية
على الرغم من التعارضات العميقة التي تفصل ما بني اآليديولوجيات السياسية والدينية ،يمينا ويسارا ،فإن ثمة اتفاقا في ما بينها ،وفي تطبيقاتها العربية ،بشكل خاص ،أال وهو العمل من خارج الدولة ،أو العمل على إسقاط الدولة ،في مفهومها املكون .لقد تالقت األحزاب العربية على اعتبار مفهوم الدولة بحاجة إلى تفكيك جذري وإعادة بناء شاملة .ولعل الفكر املاركسي هو من أوائل الذين تعاملوا مع الدولة العربية على أنها خطأ تاريخي بحاجة إلى تصحيح .واملفارقة أن املاركسية واإلسالم السياسي اجتمعا على هذه الرؤية ،فكانت الدولة ،بصفة عامة ،خصما للكل، من دون تمييز .حتى األحزاب التي وصلت إلى السلطة ،كحزب البعث ،سوريا وعراقيا ،كانت تتعامل مع فكرة الدولة الراهنة على أنها «محطة» عابرة للوصول إلى الدولة األكبر ،بحيث تصبح الدولة األم درجة في سلم طويل ومتعرج تجعل من اإليمان بالدولة الحالية ،الراهنة ،الجارية أو القائمة ،زائفا وقشوريا ال يلبث أن يزول عند أبسط امتحان أو تطور.
دولة اإلخوان املسلمني هي دولة الشيوعيني والقوميني ..واالختالف زائف
الدولة األم والدولة الوهم! بقلم: عهد فاضل
,, سيظل «النظام العربي الرسمي» (شبه الدولة وكل السلطة) هو الجنة الحالية التي يجب أال تضيع
,,
في نظرة عامة كان اإلسالم السياسي من السباقني البارعني في تقويض مفهوم الدولة .مبرره واضح من خالل اتساع رقعة الدولة الدينية واشتمالها على فوارق أقل وتذويب لكثير من التعارضات ما بني الشعوب ،خصوصا إذا ما الحظنا السياق التاريخي الذي تأصلت فيه النظرة العدائية للدولة القائمة، بالنسبة إلى األحزاب الدينية ،كاإلخوان املسلمني ،حيث تشكل مفهوم الدولة املطاط ليحل محل مفهوم الدولة الخالفي (من الخالفة) ،حيث كان سقوط الخالفة العثمانية دافعا لدى هذه الجماعة إلى البديل النظري ،فكانت الدولة الراهنة بالنسبة إليه نسفا للدولة الحلم ،الدولة املطاطة الواسعة .فكان الطالق، عمليا ،منذ اللحظة األولى لوالدة الدولة العربية باعتبارها قضما للدولة األكبر وتحجيما لسلطتها التي كانت في السابق الخالفي ال تحد .وللمفارقة فإن الوقت الذي أعلن فيه رسميا عن سقوط الخالفة العثمانية ،كان هو الوقت الذي تنتصر فيه الفكرة البلشفية املكونة لالتحاد السوفياتي ،وأيضا ،ومن منظور مختلف ،فإن الوعي املساحي غلب على مفهوم الدولة لديها ،فالتقت نظرة اإلخوان املسلمني والبلشفية على عدم منح الشرعية للدولة الناشئة ،مهما بلغت شرعيتها ،فتكاتف االثنان على إسقاطها بشتى السبل!
الخطأ التاريخي ينتصر على الثورة!
ويشار في هذا السياق إلى أن األفكار القومية جميعها اتفقت على تجاوز الحد السياسي الجغرافي كتمهيد لعدم االعتراف بالدولة الجارة ،أو غير الجارة بطبيعة الحال ،فكان الحزب القومي السوري االجتماعي مثال ،والذي لم يفترق عن سواه في تقويض مفهوم الدولة ،وأيضا العتبارات تتعلق بمفهومه هو لألصل القومي للدولة ولنقاء ما يسميه مؤسسه أنطوان سعادة بـ«النفس السورية» ،من العاملني األوائل في الوعي املساحي ،حيث أسس من نهاية ثالثينات القرن املاضي مفهوم الدولة املساحية الواسعة ،مثله كاإلخوان املسلمني واملاركسيني والبعثيني.
وألن الدولة العربية الجارية تشكلت على أنقاض دولة خالفية أكبر ،فإن
معارضتها اتخذت طابعا مساحيا أو جغرافيا ،فبدأ النظر إلى الدول صغيرة هوية أكبر ..خصوصية أقل املساحة على أنها «فتات سياسي» أو «خطأ تاريخي» ،كما تعامل حزب البعث السوري مع الدول اللبنانية ،باعتبار األخيرة ملحقة بالدولة األم ،سوريا .وكما تعامل حزب البعث العراقي مع الكويت أيضا على أنها خطأ تاريخي .وكما تجلى التوسع البعثي من خالل إدخال القوات املسلحة السورية إلى لبنان أواسط سبعينات القرن املاضي ،كذلك فعل النظام العراقي البعثي في العراق، حيث أقدم على احتالل الدولة املستقلة الكويت. لقد كان األساس املساحي فاعال في االعتراف أو سحب االعتراف بشرعية هذه الدولة أو تلك .كما لو أن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة يمنحها مبررا نظريا ،وتقلص هذه املساحة يسحب منها هذه الشرعية .إن الوعي املساحي
20
كان مشتركا بني جميع األحزاب كسبب أصيل ملنح الحق بتأسيس الدولة أو هدمها .ومن هنا ،كان مفهوم الدولة مخلخال لدى جميع هذه األحزاب لكونه على األقل لم يتعامل مع الخصوصيات املكونة لقيام الدول ،أال وهي الجماعات االجتماعية املشكلة لهذه الدولة أو تلك .كما في التجربة اللبنانية، حيث عملت الجماعات االجتماعية ذات املالمح الخاصة على رسم الحد الجغرافي املساحي القاطع مع الدولة السورية األكبر مساحة ،سوريا .ليظهر أن قيام الدول وشرعيتها مستمد من مالمح الجماعات االجتماعية وليس األصل املساحي الذي ال يتعدى دوره في الغالب إال رسم الحدود ،كالجبال واألنهار والبحور ،كما يعلم الجميع.
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
بقيت الدولة خصما لكل األحزاب العربية بال استثناء .الدولة كانت تمثل الشر، بطريقة ما ،لليميني ولليساري ،وكراهيتها جمعت ما بني املختلفني ،وفعلت فعل السحر في ذلك .واآلن يحصل ما أسس له املتخاصمون املختلفون في تقويض مفهوم الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر. نعلم أن في الدولة العربية ما يفتح شهية تقويضها ..فهي في الغالب عواصم تأسست بفعل غير ذاتي عبر مفهوم مائع للهوية وللقانون والحريات والدستور ،إال أن هذا الغموض هو جزء من ثقافة عامة ال تستطيع نخبة أن تمحوها بنظرية أو تصور سياسي .إن البلشفية التي هي من أقوى الثورات
واملعادين له من أساتذة الجامعة ومدرسيها وطالبها. ويؤكد هذا األمر رضوان السيد في مذكراته املصرية ,فيقول :إن إقالة عبد الناصر له ,لقيت ترحيبًا من األزهريني على اختالف فئاتهم. ومرد هذا إلى أن األزهر وقتذاك ,يمر بمرحلة انتقال جذرية ,وكان الرجل جادًا وحازمًا ونظاميًا ,ومطبوع على املواجهة واملجابهة ,وهو إلى ذلك مستقيم ونزيه. والشاهد على استقامته األخالقية ونزاهته املالية أنه خرج من الوزارة دون أن يتملك بيتًا .وأن خصومه في املجلس األعلى للشؤون اإلسالمية عندما بثوا أقاويل حوله في أوساط األزهريني لم يكن من بينها ما يمس ذمته املالية ,مثلما حصل مع الباقوري حني غضب عليه عبد الناصر .البهي هو من األزهريني الذين هم مع إصالح األزهر وتطويره منذ وقت مبكر ,بحكم دراسته في جامعة أوروبية ,فهو من خالل هذه الدراسة عرف أن الجامعات األوروبية هي في أصلها مدارس الهوتية ,ورأى في الغرب كليات ومعاهد الهوتية تدرس العلوم التطبيقية الحديثة ,وهو مع إصالح األزهر حني سعى إلى تحقيق شيء منه شيخ األزهر مصطفى املراغي ،وخلفه الشيخ الدكتور مصطفى عبد الرازق ،وخلف األخير الشيخ محمود شلتوت .فهو يصنف نفسه ضمن مدرسة الشيخ محمد عبده الذي هو أول من نادى بإصالح األزهر .ومن هنا كان حماسه لتنفيذ قانون تطوير األزهر.
هذه الكتب الثالثة التي كانت وقتذاك صادرة حديثًا تمثل نشرات للدعاية الشيوعية في مصر.
إننا إن قارنا بني ما قاله البهي في الباقوري وما قاله الباقوري في البهي, سنجد أن األخير كان األشد ضغينة وافتئاتًا ,واألبعد عن املوضوعية في سرد ما جرى.
خالد محمد خالد في تلك املرحلة كان علمانيًا دينيًا بنكهة ليبرالية اشتراكية, وكان قريبًا من اليساريني والشيوعيني ,وكان اليساريون والشيوعيون متحمسني لتوجهه العلماني الديني الثوري.
يقول عبد الله إمام – وهو يتذكر أيامه مع البهي – :إنه قرأ كتابه (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) الذي أهداه إياه مدير مكتبه الدكتور فتحي عثمان .ويعرف بالكتاب أنه "كتاب هام ,وكان في الغالب ردًا على الدكتور زكي نجيب محمود". ً الكتاب هو – فعال – كتاب هام لكنه ليس في أغلبه رد على الدكتور زكي نجيب محمود .فما كتبه عن كتاب زكي نجيب محمود (خرافة امليتافيزيقيا) هو سبع صفحات ونصف الصفحة.
ومصطفى محمود في تلك املرحلة كان شيوعيًا .وقد احتفى الشيوعيون بكتابه (الله واإلنسان) – وكان هو أول كتبه – وكان على راس املحتفني بهذا الكتاب وبالكاتب محمود أمني العالم.
وربما أنه وقع في هذا الخطأ لبعد عهده بقراءة الكتاب ,وألن زكي نجيب محمود هو الكاتب الوحيد الذي رد على ما جاء عنه في الكتاب ضمن مقال كان عنوانه (من معاركنا الفلسفية) جمعه ومقاالت أخرى له في سنوات متأخرة في كتابه (من زاوية فلسفية) ,فعلق في ذهنه حينما قرأ الرد في هذا الكتاب أن كتاب البهي في أغلبه هو رد على زكي نجيب محمود. إن كتاب البهي لو كان في أغلبه نقد لزكي نجيب محمود ملا كان الشيوعيون حاربوه في منصبه وفي كتبه .فأكثر من نقد زكي نجيب محمود هم املاركسيون واليساريون الختالفهم املنهجي واأليديولوجي معه. إن الشيوعيني غضبوا على كتاب (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) الذي صدر في سنة 1957م ,وعلى صاحبه ,ليس ألنه قارن بني طه حسني في كتابه (الشعر الجاهلي) وبني هاملتون جب في كتابه (املحمدية) وانتهى إلى أن طه حسني مثل جب يقول ببشرية القرآن ,وال ألنه نقد على عبد الرازق في كتابه (اإلسالم وأصول الحكم) ,وال ألنه – كما أسلفنا – نقد زكي نجيب محمود في كتابه (خرافة امليتافيزيقيا) ,وإنما غضبوا عليه بسبب نقده للماركسية في باب (الدين مخدر) وبسبب ما كتبه في هذا الباب عن (املاركسية والتجديد في الفكر اإلسالمي وعناصر الدعاية الشيوعية في الفكر اإلسالمي) ,فتحت هذا العنوان نقد خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ) ونقد مصطفى محمود في كتابه (الله واإلنسان), ونقد أحمد رشدي صالح في كتابه (رجل في القاهرة :ابن خلدون) ,واعتبر
أما أحمد رشدي صالح ,فهو شيوعي صميم وعريق منذ منتصف األربعينيات امليالدية ,وعضو أساسي في مجموعة شيوعية اتخذت لها ً أسماء متعددة ,كالتنظيم والطليعة الشعبية للتحرر وطليعة العمال والطليعة الديمقراطية وحزب العمال والفالحني الشيوعي املصري .وكان يشار إليها عند إصدارها مجلة (الفجر الجديد) في سنتي 1945م و1946م ,بمجموعة الفجر الجديد .ومجلة الفجر الجديد تعد من األعمال ذات الشأن في تاريخ الحركة الشيوعية بمصر إبان األربعينيات. أنشأ هذه املجلة أحمد صادق سعد (اسمه الحقيقي إيزودور سلفادور وهو يهودي مصري وفدت عائلته من تركيا) وريمون دويك (يهودي مصري أصله من حلب) ويوسف درويش (يهودي مصري وهو جد املمثلة بسمة من جهة األم) ,وشارك معهم في إنشائها أحمد عباس صالح بعد أن ضموه إلى مجموعتهم. وقد كان هو صاحب االمتياز فيها ورئيسًا للتحرير ,لسبب عملي أفصح عنه أحمد صادق سعد لرفعت السعيد ,فهو – كما قال – "كان أكثرنا قدرة على الحصول على ترخيص إلصدار مجلة ,فقد كان والد زوجته على عالقة ما بوزارة الداخليةّ ، وسهل له الحصول على ترخيص بإصدار مجلة (الفجر الجديد) باسمه" وفي هذه املجلة كانت بداية عمله الصحافي. ومع إعالن عبد الناصر لسياسة امليثاق واتجاهه الكامل لالتحاد السوفيتي، واإلفراج عن الشيوعيني بعد قبولهم لحل الحزب الشيوعي املصري ،وانضمام كوادره لالتحاد االشتراكي أصبح للشيوعيني ولليساريني نفوذ كبير في االتحاد االشتراكي واإلعالم والثقافة واحتدم الصراع بني اليمني واليسار املوالي لثورة يوليو .وتمكن الشيوعيون من التنفيس عن غضبهم على البهي. فالبهي في جزء مما جرى له كان ضحية استقواء الشيوعيني واليساريني على خصومهم في تلك اآلونة الذين ينحون إلى مجابهتهم <
الثالثي لينني وانجلز وماركس
,,
مدارس الليسية الفرنسية كانت مركزًا للعناصر املعادية للفاشية، وبني هؤالء وجد مدرسون شيوعيون ,لهذا اعتنق بعض أبناء الجاليات األجنبية وبعض أبناء األرستقراطية املصرية, الشيوعية
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
19
شؤون سياسية
ّ ّ أنه كان يصلي ,وملا فرغ من صالته أنبه على ما قاله (روى الباقوري هذه الحكاية مرتني ,األولى في حوار لنعم الباز معه ,ضمته إلى حوارات أخرى أجرتها معه أصدرتها فيما بعد في كتابها :ثائر تحت العمامة .واألخرى في سيرته الذاتية :بقايا ذكريات). لم يكتف عبد الناصر بإقالته من الوزارة ,بل حكم عليه بأن يلزم بيته وال يغادره إال لضرورة قصوى. وبعد خمس سنوات وبضع أشهر عينه مديرًا لجامعة األزهر بعد أن زال غضبه عليه .وعزل البهي من منصبه.
,,
كان الشيخ سعاد جالل وهو من شيوعي األربعينات يلقب بالشيخ األحمر إلى أن زاحم هذا اللقب لقب آخر وهو الشيخ ّ «ستال»
,,
ولم يكن البهي راضيًا عن عزله من منصبه ,فهو يريد أن يكمل مشروع إصالح األزهر الذي كان متحمسًا له منذ زمن طويل .وقد عارض تعيني الباقوري في هذا املنصب بحجة أكاديمية وإدارية وحجة قانونية ,وهو أن الباقوري لم يسبق له أن ّدرس في كلية من كليات األزهر ,كما ينص على ذلك القانون رقم 103لسنة 1961م .وقد نشأت خصومة وعداوة بسبب هذا األمر بني الرجلني استمرت معهما إلى وفاتهما. نلمس هذا في إشارة البهي غير الصحيحة ّ عمن كان وراء تولية الباقوري منصب مدير جامعة األزهر .فاملشير عبد الحكيم عامر ذو سمعة رديئة َّ وقل أن تجد من يدافع عنه وليس كعبد الناصر الزعيم الجماهيري املوهوب الذي يختلف القول فيه. ونلمسه في سيرة الباقوري الذي قال عن نفسه أنه رد الحقوق إلى الذين ظلمهم سلفه البهي .وشنع بالبهي أنه وصف الشيخ محمود شلتوت – اإلمام ً األكبر – "بأوصاف نابية ال يرضاها ذو مروءة ,فضال عن أن يكون ابنًا للشيخ وصنيعة من صنائعه" .راجع دفاع البهي عن نفسه بشأن خالفه مع شيخه شلتوت في كتابه( :حياتي في األزهر ,طالبًا وأستاذًا ووزيرًا). ولكره الباقوري للبهي كان في سيرته ال يسميه باسم الشهرة :محمد البهي, وإنما يسميه باسمه العائلي الكامل املجهول عند كثيرين ,وهو محمد البهي قرقر ,للسخرية من هذا االسم الشعبي في مصر (في أوراق األزهر الرسمية اسمه الكامل محمد محمد عامر البهي). يذكر الباقوري في سيرته هذه ,أن البهي "لم يستطع أن يباشر مهام منصبه بسبب كثرة الحاقدين عليه ,واملعادين له من أساتذة الجامعة ومدرسيها وجميع طالبها". الشطر األول مما ذكره الباقوري وهو أن البهي "لم يستطع أن يباشر مهام منصبه" فيه نظر. يسوء الباقوري أمران ,هما :أن أول مدير جامعة األزهر كان البهي وليس هو. وأن قانون إصالح األزهر ارتبط باسم البهي وليس باسمه. ويكشف هذان األمران اللذان يسوءانه حوار أجراه الصحافي إبراهيم البعثي معه في كتاب له ,عنوانه( :شخصيات إسالمية معاصرة) صدر في سنة 1972م ,فهو في هذا الحوار تجاهل تمامًا أن البهي كان مدير جامعة األزهر قبله ,وكان على نحو غير مباشر يقدم نفسه بوصفه أول مدير لها .وما قدمه على نحو غير مباشر قاله الصحافي الذي حاوره صراحة ,إذ قال :إن "تعيني أول مدير للجامعة األزهرية – وهو الشيخ الباقوري – لم يتم إال في عام 1964م"!! أما قانون إصالح األزهر ,فهو في هذا الحوار أعلن أنه هو صاحبه أو هو اآلمر به ,فقال" :تقتضي األمانة لله ثم للتاريخ أن أقرر أن التفكير في هذا التطوير بدأ حوالي عام 1954م بدراسة أعدها برجاء مني أخي الصديق األستاذ خالد محمد خالد .وهذه الدراسة ظلت تتعثر حتى عام 1961م ,فصدر القانون بعد مناقشته في مجلس األمة الذي كان برئاسة السديد أنور السادات" .ثم يقفز
18
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
في حديثه إلى سنة 1964م ,سنة تعيينه في األزهر ,شاطبًا فترة البهي في تنفيذ قانون اإلصالح في األزهر ,ومدعيًا أن تنفيذ قانون اإلصالح هو الذي بدأه وهو الذي رعاه وتعهده إلى أن "تخرجت في سنة 1969م الدفعات األولى من الكليات املعملية من جامعة األزهر ومن كلية البنات ,وبهذا يصبح لدينا ألول ّ مرة مهندسون زراعيون وأطباء أزهريون ,وكذلك وكالء نيابة من كلية الشريعة والقانون ,وهو أمر ما كان يحلم به األزهريون" .وسنة 1969م ,هي آخر سنة له في إدارة جامعة األزهر. إن البهي حينما زاره رضوان السيد وزمالؤه في بيته سنة 1966م في خضم "النقد العلني لقانون إصالح األزهر والتأييد العلني له من جانب بعض األساتذة واتحاد الطالب" ,وسألوه عن هذا القانون كان رده أنه "أنكر أن ً يكون مسؤوال عن وضعه .وأما حماسته لتطبيقه ,فألنه كان يرى في أكثر مواده خيرًا لألزهر ,وإنقاذًا له من النسيان وعدم الفاعلية اللذين وقع فيهما منذ ما قبل قيام الثورة". وقال لهم" :لقد رأيت في القانون الجديد على األخطاء التي فيه ,والناجمة عن جهل لدى واضعية من القانونيني بطبيعة تركيبة البنى العليا باألزهر, ً فرصة ذهبية لبث الحياة في أوصال األزهر ,إذ يصبح مؤهال الحتالل موقع محفوظ له في ترشيد التجربة الثورية بمصر بسبب غياب كل املواقع اإلسالمية األخرى تقريبًا (اإلخوان املسلمون ,والشبان املسلمون, والجمعية الشرعية ,وأنصار السنة املحمدية) .لكن القانون لم يطبق كله بسبب معارضة الشيوعيني التائبني لبعض بنوده من جهة ,وبسبب جمود األزهريني وتقليديتهم من جهة ثانية". والبهي في سيرته الذاتية( :حياتي في األزهر :طالبًا وأستاذًا ووزيرًا) لم يدع أنه واضع القانون وال أن له دور في خروجه .فهو قد اطلع عليه – كما ذكر – بالصدفة في سنة 1961م ,حيث كان في دمشق لحضور ندوة للمجلس األعلى للفنون واآلداب ,وكان عضوًا فيها بحكم املنصب الذي يشغله ,وهو مدير الثقافة باألزهر. وفي هذه الندوة التقاه محمد املبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق, وسأله إن كان اطلع على مشروع القانون الخاص بتطوير األزهر .فلما أجابه بأنه لم يطلع عليه .ذكر أنه عنده وأنه استلمه من كمال الدين حسني وسيحضره له لالطالع عليه سرًا .وبعد أن اطلع عليه في ذات الليلة أعاده له في صباح اليوم التالي. ً ويضيف قائال" :لم أسأل بحكم وظيفتي وال بصفتي الشخصية عن الرأي في تطوير األزهر .وإنما سألني املرحوم األستاذ محمد سعيد العريان عن مفهوم الثقافة والبحوث في اإلدارة العامة للثقافة .ولم يشر في سؤاله إلى أي شيء يتعلق بقانون تطوير األزهر". األديب محمد سعيد العريان كان وقتها معارًا من وزارة املعارف إلى جامع األزهر بوظيفة وكيل له ,وهو الذي صاغ قانون تطوير األزهر الذي طرح في مجلس األمة ملناقشته .واختار شيخ األزهر محمود شلتوت محمد البهي والشيخ محمد نور الحسن وكيل األزهر ليمثالنه في شرح قانون تطوير األزهر .والبهي – كما يذكر ذلك عبد الله إمام – هو الذي تحدث نيابة عن اإلمام األكبر في مجلس األمة مدافعًا عن قانون تطوير األزهر .وبعد أيام صدر قرار جمهوري بتعيينه مديرًا لجامعة األزهر. فالبهي هو الذي قام على تنفيذ قانون تطوير األزهر من سنة 1961م إلى سنة 1964م ,إذ إنه خالل هذه السنوات التي عني فيها في منصب وزارة األوقاف وشؤون األزهر ,ظل محتفظًا بوظيفته مديرًا لجامعة األزهر التي عاد إليها مرة أخرى. أما الشطر األخير من جملة الباقوري ,إذا ما أخذناه بوصفه تقييمًا وليس ً ً تعليال ,فهو صحيح .إذ كان هناك – فعال – كثرة من الحاقدين على البهي
ويعزز من هذا االستنتاج الشهادة التي قدمها رضوان السيد عن تلك الفترة في ذكرياته املصرية .ففي تلك الفترة كان رضوان طالبًا في كلية أصول الدين بجامعة األزهر.
الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب اإلسالم ووسائلهم" الذي يتلقاه أعضاء التنظيم الذي قاده ,خص البهي بملحوظة دون سواه ,هي الفصل بينه وبني كتابه ,منبهًا إياهم إن العبرة بالكتاب ال بالكاتب.
يحدثنا رضوان أنه في سنة 1966م ,زار هو وزمالء له محمد البهي في بيته, ويقول عن هذه الزيارة" :بدأنا معه بقراءة كتابه املشهور( :الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) .وقد قلت له إن ما لفت انتباهي في الكتاب مشابهته ألفكار اإلخوان املسلمني في مسألة األفكار املستوردة رغم غياب فكرتي الحاكمية وضرورة تغيير السلطة بالقوة .فانفعل شأنه في ذلك شأن كل األزهريني القدامى الذي ال ينسون صراعاتهم مع اإلخوان في األربعينيات ,وقال أن سيد قطب أخذ الفكرة عنه ,ووصل بها إلى نتائج متطرفة .ثم ّ كرر على مسامعنا أنثروبلوجيا العقاد لحسن البنا التي تستند إلى شكل جمجمته ,ومهنة أسرته املتوارثة (ساعاتية) للوصول إلى أن الرجل يهودي األصل!!" .راجع مقال رضوان السيد :السلفية والهزيمة :ذكريات مصرية ,في كتابه (اإلسالم املعاصر :نظرات في الحاضر واملستقبل).
البهي بعد عزله من منصب مدير جامعة األزهر ,وإحالته للتقاعد ,ووضعه تحت الرقابة ,وامتحان الشيوعيني ويساريي االتحاد االشتراكي له منذ مطلع الستينيات إلى وفاة عبد الناصر ,وامتحان عبد الحكيم عامر له في مسكنه الخاص ,وقبلها امتحان املجلس األعلى للشؤون اإلسالمية (تابع لوزارة األوقاف لكن سلطة سكرتيرة املساعد ,املالزم ثان محمد توفيق عويضة توازي سلطة وزير األوقاف أو تتفوق عليها ألن هذا املجلس في األساس جهاز استخباراتي ودعائي ,وباإلضافة إلى هذا كان عويضة مسنودًا من سامي شرف وعلي صبري) له حني كان وزيرًا لألوقاف وشؤون األزهر، وحني عاد مجددًا إلى منصبه السابق مدير جامعة األزهر ,أقول بعد هذا كله حنق على جمال عبد الناصر وعلى الثورة وعلى العسكر.
الوقفة الثانية :في الحديث الذي جرى بينه وبني املشير عبد الحكيم عامر عندما سأله األخير عن رأيه في محاكمة اإلخوان املسلمني (املقصود بها محاكمة تنظيم 1965م) أوحى أنه مناصر لإلخوان املسلمني ،وادعى أنه معجب بكتاب سيد قطب (معالم في الطريق) إلى الحد الذي سجل فيه موقفًا شجاعًا ,فتمنى لو أنه هو الذي كتبه! فهاج املشير وماج ووقف من جلوس, مستنكرًا ما قاله :فلم يعبأ باستنكاره ورد عليه :بأن هذا الكتاب يصدر عن القرآن! وما عرفناه من رضوان السيد أنه في تلك الفترة كان له موقف بالغ التطرف من اإلخوان املسلمني وزعيمهم الشيخ حسن البنا ,وأنه يستنكف أن يوضع سيد قطب في مصافه .فهو ال يشابه سيد قطب ,وإنما سيد قطب أخذ بعض أفكاره ودفع بها خالصات متطرفة! ثم إن السياق العام (محاكمة سياسية لسيد قطب ورفاقه بتهمة التآمر على الحكم ,بتنفيذ اغتياالت سياسية وتخريب منشآت كبرى ,إشراف عبد الحكيم عامر على متابعة قضية التنظيم ,وكون كتاب (معالم في الطريق) من أدلة اإلدانة بأنه مرشد وموجه لتنظيم انقالبي سري) ,والسياق الخاص (غضب جمال عبد الناصر عليه لسبب غير معروف ,ومنازعة عبد الحكيم عامر له على سكنه الخاص ,والوشاية واالستعداء الشيوعي على كتابه ّ أنصدق دعوى التمنى واملجاهرة بأن رأي وعلى شخصه) ,يمليان علينا أال سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) هو رأي القرآن! األقرب واألصح – استنادًا إلى كل املعطيات التي سردتها – أنه قال في حضرة املشير عبد الحكيم عامر كالمًا غير هذا الكالم املزعوم. ما الذي دعا البهي أن يوحي بموقف من اإلخوان املسلمني هو خالف موقفه الحقيقي منهم في تلك الفترة؟ وما الذي دعاه أن يدعي أنه تمنى لو كان هو الذي كتب (معالم في الطريق) ,ويدعي أيضًا أن ما جاء في هذا الكتاب هو رأي القرآن؟
سأبني عن البواعث بالكالم اآلتي: يأخذ اإلخوان املسلمون على البهي في فترة الستينات توليه تنفيذ قانون اإلصالح في األزهر ,وتوزره ,والدعوة لالشتراكية العربية من منطلق إسالمي حينما اتجه عبد الناصر إلى تطبيق االشتراكية سنة 1961م. ويشارك سيد قطب املؤسس الثاني للعقيدة والفكر اإلخواني اإلخوان املسلمني في مآخذهم الثالثة عليه ,رغم تقديره الكبير لكتابه "الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي" .لذا نجده في الكتب التي اعتمدها في املنهج الدراسي الخاص بما أسماه بـ"الدراية واملعرفة باملخططات
وبما أن االشتراكية العربية التي دعا لها من منطلق إسالمي لم تكن عن قناعة ,وإنما أملى عليه تبنيهما منصبيه الحكوميني .سهل عليه التخلص من هذا اإلرث ,فحذف – كما تخبرنا بذلك الصحافية املصرية أمل خيري – "الكثير مما كتبه عنها من كثير من كتبه"؟ .وفي غمرة إعادته طباعة كتبه في السبعينيات حرص أن يخفى عن أعني قرائه كتابه الدعوي لالشتراكية العربية( :الفرد واملجتمع في امليثاق) الذي هتف في خاتمة أسطره بـ"عاش الرئيس جمال عبد الناصر . .وعاش األزهر مصدر الدعوة والثورة"!. وألن خالف اإلخوان املسلمني معه هو خالف سياسي وليس خالفًا فقهيًا وال ثقافيًا وال أيديولوجيًا ,فهم يرجعون إلى كتبه منذ الخمسينيات والستينيات ,روجوا لكتبه التي أعاد طباعتها مع انتعاش فكر اإلخوان املسلمني في السبعينيات وصعوده في أول الثمانينيات .ففي ظل هذا املناخ الذي راجت فيها كتبه وكتيباته بعد سنوات من التضيق عليها ,قال ذلك الكالم املزعوم لرد الجميل لإلخوان املسلمني الذين أفادوا كتبه تجاريًا واستفادوا منها أكاديميًا ودعويًا واستفادوا من اسمه العلمي الرصني.
العداوة بني السلف والخلف :البهي والباقوري أشار البهي بمناسبة سؤال املشير عبد الحكيم عامر له عن رأيه في الشيخ أحمد حسن الباقوري ,أنه عرف من سؤاله وحديثه ,مدى ارتباطه بشخص الباقوري ,وكان يريد من هذه اإلشارة القول بأن الذي كان وراء تعيني الباقوري خلفًا له في جامعة األزهر هو عبدالحكيم عامر وليس جمال عبد الناصر ،وقد قال ذلك – على نحو مباشر – في موضع آخر في سيرته.
,,
نتيجة لتركيز هنري كورييل على استقطاب األزهريني أنشأ في حركته الشيوعية قسمًا اسمه لجنة قسم األزهر وجمعية اسمها جمعية الدعاية للحج
,,
إنه من املعروف أن الباقوري – أول وزير أوقاف في عهد الثورة – كانت له صلة شخصية قوية بعبد الناصر ،وأنه أقاله من الوزارة في 13فبراير سنة 1959م ,لسبب يتعلق بشرفه الشخصي. فالباقوري كان من ضمن الذين يحضرون ندوة العالمة محمود محمد شاكر ,وذات يوم في أحد اجتماعات الندوة اتصل األديب يحيى حقي بمحمود شاكر – وهو صديقه ومن أعضاء الندوة – بالتلفون ,وكان يشكو إليه نقله إلى عمل ال يناسبه .فقال محمود محمد شاكر :ما حيلتي يا أخ يحيى في هؤالء العساكر الذين يحكمون البلد ,وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ...وشتمه في أمه شتيمة بذيئة .وحينما استنكر يحيى حقي هذا األسلوب منه ,قال له" :جبان وخائف من عبد الناصر ...الشيخ الباقوري جنبي أهو سامع الكالم" .تلفون محمود محمد شاكر كان مراقبًا ,كذلك كان ً كل ما يدور من أحاديث في الندوة مسجال عن طريق أحد رجال املخابرات الذي يسكن في العمارة نفسها التي يسكن فيها محمود محمد شاكر. وكانت األحاديث ال تخلو من انتقاد للثورة ولرجاالتها .اعتذر الباقوري لعبد الناصر عندما أسمعه تسجيل ما قاله محمود محمد شاكر بحق أمه,
هنري كورييل
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
17
شؤون سياسية
هذه املناقشة وثيقة الصلة بكتابة تقرير عن كتابه (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) الذي كلف محمود أمني العالم أحد املشايخ املوظفني في وزارة الثقافة بإعداده .وما قاله البهي عن مضمون التقرير ،وما ذكر أنه قاله في املناقشة هو غير دقيق .ولنبدأ في وقفتنا مع ما قاله عن مضمون التقرير.
محمود أمني العالم
,,
للموافقة على طباعة كتاب (الفكر اإلسالمي الحديث )... طبعة ثالثة طلب محمود أمني العالم من البهي أن يحذف من الكتاب الفصول الخاصة بالشيوعية. وملا رفض كلف شيخًا بكتابة تقرير ضده فمنع طبعه
,,
16
الوقت الدكتور سليمان ّ حزين ,ولم يستطع مع تغلغل الشيوعية في وزارته أن ينصف الكتاب ,وال أن ينفذ العقد .وبقي الكتاب تحت الرقابة إلى أن طبع في بيروت سنة ."1969 املحنة األخرى :يلخص هذه املحنة التي استمرت إلى سنة وفاته الكاتب الناصري عبد الله إمام بأسطر قليلة في كتابه (حياتي في الصحافة) ,وهو الذي كان يعرفه عن قرب ,حيث كانت تربطه صلة صحافية به .يلخص املحنة بقوله" :كان الدكتور البهي قد انتقل قبل الوزارة من بيته في العباسية في يناير 1963م إلى فيال بجوار فندق البارون أمبان بمصر الجديدة (خانت عبد الله إمام الذاكرة في هذه املعلومة ,فهو قد عني وزيرًا في التاسع والعشرين من سبتمبر سنة 1962م ,وانتقل في سكناه إلى هذه الفيال بعد ثالثة أشهر من تعيينه وزيرًا) بإيجار سبعة وأربعني جنيهًا وعرض عليه صاحبها سعيد العطار أن يشتريها تسعة آالف جنيه ,ولكنه لم يتمكن من تدبير املبلغ ,وقد بيعت الفيال بعد ذلك باسم سيدة إسماعيل فراج وهي والدة السيدة نفيسة عبد الحميد حواس الشهيرة ببرلنتي عبد الحميد ,وقد أنذرته بإخالء الفيال لكي تسكنها ...والحقيقة أن املشير عبد الحكيم عامر كان قد اشترى الفيال للسيدة برلنتي عبد الحميد لتكون إلى جوار القيادة املشتركة حيث كان مكتبه .وحدثت تداعيات كثيرة بسبب هذه الفيال ,رواها في كتاب منشور كان يوزعه مجانًا كما رواها بالتفصيل في مذكراته .وقد تعرضت إلى جانب منها في كتابي (عامر وبرلنتي)". تعرض البهي في بداية هذه املحنة لكذب واحتيال كي يجبر بطريقة قانونية على إخالء الفيال ثم إلى إغراء بمنصب وزاري من قبل عبد الحكيم عامر وإغراء مالي وتوفير فيال بالقاهرة ,وأخرى باألسكندرية من شركة التأمني من قبل مدير مكتبه علي شفيق زوج الفنانة مها صبري ,وملا رفض إغراءاتهما مقابل تخليه عن الفيال هدداه باإليذاء .يهمنا من هذه املحنة مناقشة حصلت بينه وبني عبد الحكيم عامر ,رواها وهو يفصل مجريات هذه املحنة .يقول البهي" :سألني عن الرأي في الشيخ أحمد الباقوري وفي محاكمة اإلخوان املسلمني ,وفي كتاب (معالم في الطريق) للمرحوم سيد قطب .فعرفت من سؤاله وحديثه :مدى ارتباطه بشخص الشيخ أحمد الباقوري ومدى كراهيته لإلخوان وللمرحوم سيد قطب بالخصوص .ولذا عندما أجبته عن تقييمي لكتاب (معالم في الطريق) :بأني كنت أتمنى أنا (كذا) الذي كتبته ,هاج ووقف من جلوس .وقال :كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له :إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى .وما تقوله الصحافة عنه شيء سياسي ال دخل له إطالقًا في تقييمه ,وانصرفت".
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
الوقفة األولى :قال عن مضمون التقرير في كتابه :إن كاتبه "كتب أنه الكتاب تعرض لبعض أفكار "الجمعية املنحلة" ,وهي جمعية اإلخوان املسلمني .وفي مقدمة هذه األفكار أن اإلسالم دين ودولة" .إن قوله هذا يخفي أكثر مما يظهر .فماذا يقصد بهذه الجملة" :تعرض لبعض أفكار الجمعية املنحلة؟" هل تعرض هنا بمعنى الشرح واإلبانة أم بمعنى التصدي واملجابهة؟! وملاذا اقتصر هذا التعرض – بصرف النظر عن غموض هذه الجملة – على "بعض" أفكار الجمعية املنحلة ولم يشملها "كلها" ,مادام أن التقرير أعد أساسًا لالنتقام من موقفه املعادي للشيوعية؟! كما أن القول بأن اإلسالم دين ودولة معتقد ال يقتصر على الجمعية املنحلة أو اإلخوان املسلمني ,فهو معتقد عام يقول به كثيرون منذ فجر اإلسالم الحديث ،ويقول به مشايخ ومفكرون إسالميون موالون لجمال عبد الناصر ,ويقول به آخرون من الفعاليات الحركية الدينية في االتحاد االشتراكي الذين بعضهم كانوا من اإلخوان املسلمني التائبني .ولو قال البهي بعكس هذا ,أي أن اإلسالم دين ال دولة ,ملا كان تولى منصب مدير الثقافة في األزهر ،وال منصب مدير جامعة األزهر ،وال منصب وزير األوقاف وشؤون األزهر .والبهي بحكم اطالعه على أدبيات املستشرقني كان يعرف جيدًا أن كثرة منهم تقرر أن اإلسالم ليس مجرد دين ,وإنما هو دين ودولة. إن ما أخفاه هو أن التقرير الذي أعده شيخ بتكليف من املاركسي محمود ُ أمني العالم بسنة 1966م على أساس أن "العصا من ُالع ّ صية وأن خشينًا من أخشن" أو بتعبير آخر أن كتاب سيد قطب هو الفرع وكتابه هو األصل. هذا التقرير العدواني كتب في وقت حرج وسيئ .فهو قد كتب قبل فترة قصيرة من بدء محاكمة سيد قطب واملجموعة التي قادها في تنظيم 1965م لقلب نظام الحكم في مصر .وكان كتاب محمد البهي (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) من ضمن كتب معدودة وضعها سيد قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا ألفراد التنظيم في خانة ما أسماه بـ"الدراية واملعرفة باملخططات الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب اإلسالم ووسائلهم" .والبد أن بعض أعضاء التنظيم حني القبض عليهم اعترف بهذا األمر ,وبخاصة على عشماوي. وهذا التقرير قد اطلع عليه املشير عبد الحكيم عامر لسبب شخصي ,وآخر رسمي. السبب الشخصي هو الستخدامه في الضغط على البهي من أجل أن يوافق على إخالء الفيال ,لتسكن فيها زوجته السرية الفنانة برلنتي عبد الحميد. والسبب الرسمي أن مضمون التقرير يلحم كتاب (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) بكتاب سيد قطب (معالم في الطريق) .وكان الرجل املكلف بمتابعة قضية تنظيم 1965م والتحقيق معهم هو شمس بدران الذي هو من أقرب أتباعه إليه .وقد أفصح هو في رده على رسالة كمال الدين حسني الذي احتج فيها على اعتقال سيد قطب واتهامه في اإلعالم بقيادة مؤامرة على الثورة ,بأنه تابع التحقيق في قضية التنظيم "خطوة خطوة ...وأن املؤامرة فيها أكثر مما نشر حتى اآلن ". إن جملة البهي الغامضة عن مضمون التقرير التي قال فيها أن كاتب التقرير كتب أن كتابه تعرض لبعض أفكار الجمعية املنحلة ,تجعلنا نستنتج أن املقصود ببعض أفكار الجمعية املنحلة ,أفكار سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) الذي كان هو املنت األساس في عقيدة التنظيم الذي قاده.
وله اجتهادات فقهية "تقدمية" يطرب اليساريون ويضيق بها زمالؤه من املشايخ والفقهاء. هذا الشيخ ظل طيلة حياته يساريًا ،وكان يلقب بالشيخ األحمر إلى أن زاحم ّ هذا اللقب لقب آخر ,وهو" الشيخ ستال" بسبب فتوى له أجاز فيها شرب البيرة ألنه كان يستطعم شربها في خلواته مع أصدقائه من الصحافيني واملثقفني اليساريني .وكانت مصر وقتها ال تصنع سوى بيرة واحدة ,وهي ّ "بيرة ستال" ,فإن قيل بيرة عند املصريني انصرف الذهن إلى نوعها الوطني ّ الذي يحمل اسم "ستال". وفي تقرير للسفارة األمريكية في القاهرة في األربعينيات أورده رفعت السعيد في كتابه (تاريخ املنظمات اليسارية املصرية) ذكر فيه أن الشيخ عبد الرحمن حسن داعية شيوعي نشط ،ومثابر في كلية اللغة العربية باألزهر.
هذه الحكاية تتناقض تمامًا مع ما رواه عنه عبده دهب .فاتهامه الكيدي بأنه عميل لألملان يبعد عنه االتهام بامليل للشيوعية أو لليسار .فالشيوعية عدوة للنازية ،والنازية عدوة الشيوعية .لكن هذه الحكاية التي رواها يعتورها خلالن ,هما: الخلل األول :هو أن املعجب بكاتب يحرص على أن ّ يعرف الكاتب باسمه وكذلك الكاتب فهو يحرص على أن يتعرف على اسم املعجب ,والبهي يزعم أن وكيل النيابة اكتفى بالتعريف بنفسه من خالل صفته الرسمية ,وأنه لم يسأله عن اسمه ,مع أن اللقاء تم في منزله! الخلل اآلخر :أنه قبل أن يروي حكايته أومأ إلى األزمة االقتصادية التي كانت تعانيها مصر في األربعينات من حيث "القصور في الغذاء والكساء ..فجنود الحلفاء بلغوا عشرات اآلالف بمصر .وكان على مصر أن تمد هؤالء الجنود بكل ما يحتاجون حتى ببنات الترفيه الالتي كن يشحن في القوافل".
ويجب علينا أن ننبه أن عددًا من هؤالء األزهريني وآخرين غير أزهريني لم تكن شيوعتهم شيوعية محضة ,فهم كانوا يؤمنون بالشيوعية في جانبها السياسي وجانبها االجتماعي – االقتصادي ويرفضون اإليمان بالفكر املادي فيها .يقول هنري كورييل لرفعت السيد عن أحد هؤالء وهو غير أزهري مفسرًا سبب انشقاقه عن حركة حدتو :إن عبدالفتاح الشرقاوي كان يفهم الشيوعية فهمًا إسالميًا صرفًا!
هذه اإليماءة التمهيدية لرواية الحكاية تتناسب واتهام كيدي بالشيوعية وال تتناسب واتهام كيدي بالتأثر بالنازية .فالتأثر بالنازية في مصر لم يكن سببه اجتماعي – اقتصادي وإنما كانت له أسباب ثالثة هي :بغضًا في املحتل اإلنكليزي ,ورفضًا لفساد التجربة السياسية البرملانية ,وتجاوبًا مع األزمة الكبرى التي واجهتها الليبرالية والديمقراطية في أوربا .أي أن األسباب – في املحل األول -هي أسباب سياسية وفكرية محضة.
إجابة عن السؤال الذي يحمله عنوان املقال ,أقول :ال توجد فيما كتبه جيل بيرو ورفعت السعيد عن مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية إشارة إلى اسم محمد البهي .ففي محضر نقاش رفعت السعيد مع هنري كورييل ,لم يذكر األخير اسمه .لكن هذا ال ينفي أنه ممن تلقوا كورسًا في الشيوعية في مدرسة الكادر ,فالذين تلقوا فيها كورسًا يبلغ عددهم خمسة وعشرين متدرجًا لم يستطع هنري كورييل تذكر سوى أسماء قليلة منهم ,مع أنه كان ينبغي له أن يتذكره لتميزه عند بقية زمالئه في مدرسة الكادر بأنه حاصل على الدكتوراه ويتحدث اللغة األملانية واللغة اإلنجليزية.
إننا إن افترضنا صحة ما قاله عبده دهب ,يكون البهي أجرى على حكايته تعديالت هي:
والالفت للنظر أن عبده دهب الذي ذكر ألحمد سليمان أن البهي كان ممن يحضرون مدرسة الكادر لم يذكر لرفعت هذه املعلومة ,رغم أنه كان أحد مصادر األخير الشفاهية في تاريخ الحركة الشيوعية في مصر. هذه املعلومة التي انفرد بها أحمد سليمان تحتاج من املعنيني بتاريخ الحركة الشيوعية في مصر – ورفعت السعيد أبرزهم – إلى بحث وتدقيق إما يثبتها وإما ينفيها. ثمة حكاية في سيرة محمد البهي (حياتي في رحاب األزهر :طالبًا وأستاذًا أو وزيرًا) – التي نشرتها مكتبة وهبة بعد وفاته – تحتاج إلى وقفة.
غير في تاريخ حصول الحكاية فجعله في سنة 1944وليس في سنة ,1943سنة تردده على مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية. أن بينه وبني وكيل النيابة معرفة مسبقة أو صلة شخصية ,فحذره منالتردد عليها ,انطالقًا من تقارير وصلت إليه مذكور فيها اسمه. أن االتهام له كان اتهامًا بالشيوعية ,وليس بالعمالة لألملان.هذه الحكاية وبهذه الصورة املفترضة ربما تعزز ما قاله عبده دهب عن محمد البهي مع إقراري بأنها دليل ضعيف وواه. محنته مع محمود أمني العالم ومع برلنتي عبدالحميد
لم تكن في مصر وال بقية البالد العربية «إذا استثنينا السعودية» فوبيا الشيوعية فهذا الفوبيا انتقلت إلى العالم العربي من أميركا في أواخر السبعينات وتضخمت في سنوات الثمانينات
,,
تعرض محمد البهي بعد عزله من منصبه األخير (مدير جامعة األزهر) في سنة ,1964ووضعه تحت الرقابة في منزله ملحنتني ،األولى سببها املاركسي محمود أمني العالم ،واألخرى سببها عبد الحكيم عامر .وكلتا املحنتني وقعتا في سنة واحدة ,هي سنة .1966
الحكاية هي :أنه في سنة 1944بعد والدة ابنته الوحيدة نادية زاره في بيته في العباسية الشرقية (العنوان نفسه الذي ذكره عبده دهب) وكيل نيابة قسم الوايلي.
املحنة األولى :تتعلق بكتابه الشهير (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) الذي صدرت طبعته األولى سنة 1957والذي كان إلى سنة املحنة أعيد طبعه مرتني.
وكان ال يعرفه فعرفه بنفسه .وذكر له أنه يعرفه من كتاباته في مجلة "الرسالة" والتي ابتدأ الكتابة فيها وهو في جامعة "هامبورج" سنة .1934 ثم أطلعه على شكوى من مجهول ضده يبلغ إدارة األمن العام :أنه من عمالء أملانيا عدوة الحلفاء في الحرب العاملية الثانية ,وأنه خطر على األمن ضد جنود الحلفاء ويطلب اعتقاله.
املحنة هي – كما رواها في سيرته – " أنه في شهر يناير في سنة ,1966نقل إليه الدكتور توفيق شاهني أنه علم أن كتابه (الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار الغربي) رصت حروفه بمطبعة مصر ,ثم جمد .ألن محمود أمني العالم ,تولى إدارة هيئة الكتاب التي ضمت فيما ضمته إليها :الدار القومية التي تعاقد معها على طبع الكتاب ,وأبلغه رسالة منها شفوية تفيد: أنه على استعداد لزيادة املبلغ املتعاقد عليه من ألف ومئتي جنيه مصري إلى ألفني من الجنيهات ,ولكن على شرط أن يحذف من الكتاب الفصول الخاصة بالشيوعية .فرفض هذا العرض .وكان رد العالم أن كلف أحد املشايخ املوظفني في وزارة الثقافة بكتابة تقرير ضد الكتاب .فكتب أن الكتاب تعرض لبعض أفكار "الجمعية املنحلة" وهي جمعية اإلخوان املسلمني .وفي مقدمة هذه األفكار أن اإلسالم دين ودولة .وكان على وزارة الثقافة في ذلك
واستنتج وكيل النيابة أن هذا املجهول ربما يكون طالبًا .وأخيرًا ذكر :أنه تأكد أن هذه الشكوى كيدية ,وأنه من أجل ذلك قرر حفظها ,ورأى أن ال يزعجه إذا ما طلبه إلى مكتبه فآثر أن يزوره ويطلعه عليها ,تقديرًا لكتاباته التي عرفه عن طريقها ,فشكر له فضله وانصرف .يختم البهي حكايته هذه بالقول: الغريب أني لم أعرف اسمه ,ولم أسأله عنه وقت زيارتي!
,,
عبد الحكيم عامر
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
15
شؤون سياسية
الكوادر الشيوعية باملنصورية بشهر تشرين األول سنة ,1943ويحدد عدد الدارسني فيها بعشرين شخصًا بينما رفعت السعيد حدد تاريخ اإلنشاء بأنه كان في شهر يناير من ذلك العام ,وحدد عدد الدارسني بأنهم كانوا خمسة وعشرين شخصًا .ولقد أخذت بما قاله رفعت السعيد ألنه استقى هاتني املعلومتني من هنري كورييل.
,,
اقترح الشيخ أبو الحسن الغنيمي اختصار اسم الحركة املصرية للتحرر الوطني إلى (ح.م) وسعد بذلك هنري كورييل وقال: هذا مدعاة لجذب املسلمني إلى تنظيمنا الشيوعي
,,
ويطلعنا على تفصيل برنامج الكادر ,فيقول " :كان املتدرجون يسكنون في البيت الكبير ,العزبة ,ينامون على عصائر من قصب .وكان الطعام زهيدًا .أما الدروس فكانت تبدأ عند بزوغ الشمس وتنتهي عند غروبها ،مع توقف واحد ألجل الغداء وبعض االستراحات املكرسة ألناشيد ثورية .وقد تعلم املتدرجون ,الذين لم يكن أحد منهم يعرف لغة أجنبية ,املارسيلييز بالفرنسية (نشيد الثورة الفرنسية ونشيد فرنسا الوطني) ,لكن الحدث الكورسي كان التأدية األولى للنشيد األممي باللغة العربية على أرض مصر :كان أحد املحاضرين ,طاهر املصري قد نقله إلى العربية .وبعد غروب الشمس كانت األمسية تكرس لنقاشات حرة بني املتدرجني ,ولكتابة تلخيصات للمحاضرات املعطاة منذ الصباح" .ويقول أحمد سليمان :إن املحاضرات وما يعقبها من مناقشات تمتد للعاشرة مساء كل يوم .وفق هذا التفصيل لهذا البرنامج ,كان نظام املدرسة هو بالفعل – كما قال هنري كورييل لرفعت السعيد – نظامًا صارمًا والحياة فيه حياة برويتارية حقه. نشيد األممية (االنترناسيونال) الذي يبدأ نشاط مدرسة الكادر به, محاضرين وطلبة ,أورد رفعت السعيد مطلعه على لسان هنري كورييل: يا بؤساء الدنيا قوموا
قوموا يا محرومني من الخير
سخطكم بقى رعد يالال قوموا ده االنتفاض األخير نلحظ في الشطر األخير من هذا املطلع أن هنري كورييل قاله بعامية خواجات. أحمد سليمان الذي قال عن هذا النشيد أنه ترجم بأسلوب ركيك – وهو محق في كالمه – أورد املقطوعة األولى (نشيد األممية "االنترناسيونال" مكون من ستة مقطوعات) وليس املطلع وحسب.
برلنتي عبد الحميد
14
يقول جيل بيرو" :جرى اتخاذ تدابير صارمة للحفاظ على سرية املكان. ً فجيء باملتدرجني بالسيارة ليال وأعينهم معصوبة .ولم يكن املحاضرون يصلون إلعطاء محاضراتهم إال بعد جوالت طويلة عبر الريف من أجل إحباط أي اقتفاءات محتملة لألثر".
يا بؤساء الدنيا قوموا
قوموا يا محرومني من الخير
سخطكم بقى رعد قوموا
جاء االنفجار األخير
انسوا املاضي وامسحوه
كونوا كل شيء كونوا كونوا
ونظام العالم غيروه
واجعلوا آخر الحروب أهلية
تسود الدولية
جميع الجنس الحي
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
نشيد األممية أو نشيد الشيوعية يعرفه الشيوعيون العرب وقد رتلوه فيما مضى من زمن بصيغة أخرى ,وللمقارنة ما بني ترجمة طاهر املصري له من الفرنسية والترجمة التي استقر عليها ,أورد نص املقطوعة األولى منه: ّ هبوا ضحايا االضطهاد ضحايا جوع االضطرار بركان الفكر في اتقاد هذا آخر انفجار هيا نحول كل ما مر ثوروا حطموا القيود شيدوا الكون ,جديد حر كونوا أنتم الوجود : بجموع قوية هبوا ,الح الظفر ُ غد األممية يوحد البشر
ّ فوبيا الشيوعية والشيخ "ستال" ال يعد في املنتصف األول من القرن املاضي وجود أزهريني ,مشايخ وطلبة, في صفوف التنظيمات الشيوعية أمرًا مستنكرًا أو قضية شاذة إال عند من يحكم على روح تلك الفترة ,بمقاييس عقود تالية لها .ففي عشرينيات وثالثينيات وأربعينيات القرن املاضي وحتى في منتصفه إلى سنوات السبعينيات لم تكن في مصر وال بقية البالد العربية – هذا إذا ما استثنينا السعودية – ما يصطلح على تسميته بالغرب وبخاصة عند اليساريني بـ "فوبيا الشيوعية" .فهذه الفوبيا التي أنشأتها وغذتها أمريكا منذ منتصف القرن املاضي انتقلت إلى العالم العربي في أواخر السبعينيات ،وتضخمت في سنوات الثمانينيات .ونظرًا لغياب الفوبيا أو الرهاب إزاء الشيوعية ,فإنه مع تحول الحزب االشتراكي املصري إلى حزب شيوعي وضمه إلى الدولية الثالثة (الكومنترن) سنة ,1923كان الشيخ األزهري صفوان أبو الفتح من زعماء الحزب الشيوعي املصري القديم ،والذي حكم عليه وزعماء آخرين كمحمود حسني العرابي وأنطون مارون والشحات في عهد حكومة سعد زغلول باشا سنة 1924بالسجن ثالث سنوات .وفي سنة 1925في عهد حكومة زيور باشا قبض على مجموعة شيوعية تسعى إلى إحياء الحزب مجددًا كان من بينها الشيخ شاكر ,...وكان طالبًا ثالثينيًا في األزهر. وقد أدرك هنري كورييل الشيخ العتيق في الشيوعية صفوان أبو الفتوح، وتمكن في ظل إحياء التنظيمات الشيوعية في األربعينيات من ضمه هو ومجموعة معه من بقايا الحزب الشيوعي املصري القديم إلى الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح.م). وفي هذه الفترة ,فترة األربعينيات ,كانت ثمة مجموعة اجتمعت على الفكر املاركسي انضمت إلى حركة التحرر الوطني (ح .م) ,كان من بينها شيخ أزهري وكان وقتها شابًا ,وهو الشيخ سعاد جالل .والشيخ سعاد جالل حاصل على العاملية من األزهر وعلى الدكتوراه من كلية الشريعة ,وعمل مدرسًا في هذه الكلية وفي جامعة دمشق وفي الجامعة اإلسالمية بالسودان. وهو متخصص في أصول الفقه وله مؤلفات في هذا املجال .وكان شخصية معروفة لها حضور في الصحافة املصرية .وكان كتب عمودًا ثابتًا في ّ جريدة (الجمهورية) تحت عنوان "قرآن وسنة" إلى سنة وفاته في 1983م.
أي أنها انتقلت إلى مقرها الجديد في 22شارع الجامع اإلسماعيلي في شقة تعلو مباشرة الشقة التي يسكن فيها البهي ,بعد اندماج تنظيمي ايسكرا (الشرارة) ,والحركة املصرية للتحرر الوطني (ح .م أوحمتو) في تنظيم واحد ,وبعد مضي ما يقرب من أربع سنوات على انتهاء مهمة مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية .وعبده دهب نفسه نص على أن البهي كان ممن يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية ,ولم يقل أنه كان معهم في الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح.م) وهي املرحلة التي تلت مرحلة الكادر الشيوعية باملنصورية مباشرة. ونستخلص من تلك املعلومات السابقة أن تجاور شقة مجلة (الجماهير) الشيوعية مع شقة محمد البهي لم يكن أكثر من مصادفة ,وربما أن هذه املصادفة جعلت عبده دهب يعرف عنوان سكن البهي .هذا إن كان في األصل ال يعرفه حينما كان البهي – كما قال – يحضر مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية.
هنري كورييل واألزهر واألزاهرة في شهر يناير /كانون الثاني سنة ,1943وهو التاريخ الذي بدأ فيه نشاط مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية ,كان محمد البهي أستاذًا بكلية أصول الدين يدرس الفلسفة اإلسالمية والفلسفة اإلغريقية ،ويدرس علم النفس في قسم تخصص التدريس ,وكان مضى على عودته إلى مصر من أملانيا أربع سنوات وخمسة أشهر ,فهو قد عاد منها في شهر أغسطس سنة .1939 وكان قد تحصل على الدكتوراه بدرجة امتياز في الفلسفة وعلم النفس من جامعة هامبورج في شهر مايو سنة ,1936كما حصل على دبلوم بدرجة امتياز في اللغة األملانية وآدابها ,وسمح له شيخ األزهر مصطفى املراغي بالتقدم إلى الحصول على درجة األستاذية بعد الدكتوراه من جامعة هامبورج .ومع ظهور نذر الحرب العاملية الثانية عاد إلى مصر قبل أن يحصل على درجة األستاذية من تلك الجامعة األملانية. وفي األربعينيات وقبلها إلى سنة 1961كان التعليم العالي في األزهر عبارة عن ثالث كليات هي :كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية, وقسم التخصص املقسمة الدراسة فيه إلى شعب هي :الفقه واألصول, والتفسير والحديث ,والبالغة واألدب ,والنحو والصرف ,والتوحيد ,واملنطق , والتاريخ ,وكانت هذه الكليات الثالث ,وكان هذا القسم يتبع كلية اللغة العربية في اإلدارة .وإضافة إلى القسم العالي كان هناك قسمان :تعليم ابتدائي وتعليم ثانوي. هنري كورييل بخالف صنوه هيلل شوارتز ركز على استقطاب الطلبة األزهريني إلزالة عقبة الدين أمام االشتراكية وأمام الشيوعية ،وليخترق بهم الريف املصري الذي تشكل مساحته املساحة الكبرى في مصر .وكان أغلب طلبة األزهر قادمني من هذا الريف ,وظرفهم االقتصادي واالجتماعي البائس كان يهيئ بعضهم لقبول الدعوة إلى االشتراكية والشيوعية.
ونتيجة لهذا التركيز حصل ما يلي: في مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية والذي بلغ عدد املنضمني إليهاخمسة وعشرين متدرجًا كان من بينهم أزاهرة ،وقد توصل رفعت إلى تسعة أسماء من هؤالء الخمسة وعشرين متدرجًا ,وكان من ضمن األسماء التسعة اسمان لشيخني أزهريني ,هما :عبدالرحمن الثقفي وكمال ...الذي لم يتمكن من الوصول إلى اسمه األخير .ومن األزاهرة أيضًا الشيخ الغنيمي الذي ذكر أحمد سليمان – كما مر بنا سابقًا – أنه من أعضاء مدرسة الكادر. ونعرف من هنري كورييل بواسطة رفعت السعيد أن الشيخني عبدالرحمن وكمال كانا من مجموعة طلبة الكادر الذين صعدوا إلى عضوية الحركة املصرية للتحرر الوطني في تشكيلها الجديد.
إنشاء خلية شيوعية في كلية الشريعة ،وفي كلية أصول الدين ،وفيكلية اللغة العربية ،وفي معهد القاهرة الديني ،والتي كان الطالب األزهري مبارك عبده فضل برغم فصله من األزهر بتهمة الشيوعية يتسلق السور, ليتواصل مع الطلبة أعضاء تلك الخاليا. وكان مبارك عبده فضل املصري النوبي قد اعتنق الشيوعية في أثناء انتقاله من الثالثة إلى الرابعة ابتدائي في معهد القاهرة الديني عن طريق زميل له مصري نوبي يسبقه في الدراسة بسنتني ,يدرس في املرحلة الثانوية في ذلك املعهد ,اسمه محمد عثمان نور .وقد صار مبارك عبده فضل عضوًا في الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح.م ) قبل سنة من انتقاله من االبتدائي إلى الثانوي ،وفصل من األزهر بتهمة الشيوعية ,وهو ما يزال طالبًا في املرحلة الثانوية. عند توحد الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح.م) مع تنظيم ايسكرا(الشرارة) في حركة واحدة هي حدتو سنة ,1947كان في األولى – كما ذكر ذلك مبارك عبده فضل لرفعت السعيد – اثنان وعشرون عضوًا مقسمني على خاليا في كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية وفي معهد القاهرة الديني. وهذا ما جعل هنري كورييل قبل التوحد ينشئ في حركته قسمًا اسمه لجنة قسم األزهر ،وجمعية اسمها جمعية الدعاية للحج .في حني أن تنظيم ايسكرا (الشرارة) عند التوحد – كما ذكر املصدر نفسه – كان يضم في عضويته شيخني أزهريني فقط! ومما يلفت النظر في " قضية الشيوعية الكبرى " أن املتهم الرابع الشيخ أبو الحسن الغنيمي كان من مسوغات تبرئة النيابة له من تهمة الترويج للشيوعية ,االستناد إلى شهادة تقدم بها الدكتور مظهر سعيد األستاذ بكلية أصول الدين وقسم التخصص باألزهر لصالحه ،إذ قال إنه يعرف املتهم معرفة تامة ,وأنه بعيد عن الشيوعية ،بل إنه كان يحارب املبادئ الهدامة (املقصود بها الشيوعية). وقال :إنه اطلع على كتاب الشيوعية في اإلسالم ,وإنه ملس منه أنه مجرد مقارنة علمية ال أكثر وال أقل"! وهذه الشهادة غير الصادقة لصالحه من قبل الدكتور مظهر سعيد أحد أساتذته في كلية أصول الدين وفي قسم التخصص ,وزميل الدكتور البهي في هذه الكلية وفي هذا القسم تدل على عمق تغلغل الخاليا الشيوعية التابعة للحركة املصرية للتحرر الوطني في األزهر. إنه من املؤكد أن الدكتور محمد البهي يعرف الشيخ الشيوعي أبو الحسن الغنيمي ,فالبد أنه قد ّدرسه في كلية أصول الدين ،ودرسه في قسم التخصص .وإذا صحت معلومة عبده دهب عن البهي ,فسيكون البهي عرف طريقه إلى مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية عبر الشيخ الغنيمي أو بواسطة شخص آخر في األزهر.
,,
كان الشيخ األزهري صفوان أبو الفتح من زعماء الحزب الشيوعي املصري القديم وقد حكم عليه وزعماء آخرين في عهد حكومة سعد زغلول سنة 1974 بالسجن ثالث سنوات
,,
في بداية تعرفي على هذه املعلومة فكرت أن البهي ربما حضر إلى مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية من باب الفضول العلمي ،وحب االستطالع السياسي ،أو أنه أراد أن يعرف الشيوعية عن كثب من خالل معتنقيها .لكن هذا االفتراض تعرض لشيء من الشك مع تعرفي على آلية العمل في مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية. توفر لي هذا التعرف عندما قرأت مؤخرًا كتاب جيل بيرو( :هنري كورييل: رجل من طراز فريد) الذي عربه وقدم له كميل داغر .وباملناسبة فإن هذا الكتاب املعرب صدر في السنة نفسها التي صدر فيها الجزء الثاني من كتاب سنة .1986وأحمد سليمان يعرب عنوان هذا الكتاب أحمد سليمان ,وهي ٌ إلى (هنري كورييل :رجل على ِح َده) .وتعريب أحمد سليمان لعنوان الكتاب صاف في عربيته. يفوق تعريب كميل داغر بوجازته وأنه ٍ وباملناسبة أيضًا ,فإن جيل بيرو يحدد تاريخ إنشاء هنري كورييل ملدرسة
الشيخ أحمد حسن الباقوري
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
13
شؤون سياسية
تصحيحات وإيضاحات
,,
مع إعالن عبد الناصر لسياسة امليثاق واتجاهه الكامل لالتحاد السوفياتي تمكن الشيوعيون من التنفيس عن غضبهم على البهي .فهو ضحية استقواء الشيوعيني على اليمني في تلك اآلونة
,,
التصحيح هو أن محمد البهي لم يكن شيخًا لألزهر ،وال كان هو اإلمام األكبر ,وإنما كان مديرًا لجامعة األزهر مرتني ،وما بينهما كان وزيرًا لألوقاف وشؤون األزهر .وقد اختلط هذا األمر على عبده دهب ومعه ناقل روايته أحمد سليمان ,لألسباب التالية: أولها :أن البهي تولى هذه املناصب في سنوات متصلة قصيرة ,هي مطلع الستينيات .ثانيها :أن منصب مدير جامعة األزهر الذي تواله للمرة األولى سنة 1961كان منصبًا مستحدثًا .ثالثها :أن هذا املنصب املستحدث ضمن القانون الخاص بتطوير األزهر ,استحدث فيه لقب اإلمام األكبر ليطلق على شيخ جامع األزهر .إنه من الواضح أن عبده دهب ومعه أحمد سليمان كان يخلطان ما بني منصب مدير جامعة األزهر الجديد ومنصب شيخ جامع األزهر العتيق .ونذكر هنا أن لقب "شيخ جامع األزهر" مع صدور قانون تطوير األزهر سنة 1961اختصر ليصبح "شيخ األزهر".
أما اإليضاحات ,فهي على النحو التالي: الشيخ أبو الحسن هو محمد أبو الحسن جاد الله الغنيمي حاصل علىشهادة العاملية من كلية أصول الدين ،ودرس في قسم التخصص بكلية اللغة العربية الذي يؤهل الطالب للتدريس .بعد إنهائه الدراسة في قسم التخصص الذي مدته ثالث سنوات عمل مدرسًا للغة العربية في مدارس الليسيه الفرنسية. كان الشيخ أبو الحسن الغنيمي عضوًا في الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح.م) واختصار اسم الحركة املصرية للتحرر الوطني بـ (ح .م) وليس بـ (حمتو) كما يقتضي ذلك أوائل حروف اسمها ,جاء – بحسب ما قال أحمد ً نقال عن عبده دهب – ً بناء على اقتراحه .فـ "الشيخ أبو الحسن سليمان الغنيمي قال إن هذا الرمز (ح .م) لفظ قرآني ,وكان يشير بذلك إلى بعض سور القرآن الكريم .وقد سعد كورييل بقول الشيخ األزهري وقال إن ذلك ربما كان ذلك مدعاة لجذب املسلمني إلى التنظيم الذي ورد ذكره في القرآن"! كما أن الشيخ أبو الحسن الغنيمي كان من ضمن مائة شيوعي اعتقلتهم الشرطة ,ومن ضمن العشرين الذين أبقتهم النيابة العامة للتحقيق في الحملة التي شنها رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا باسم " قضية الشيوعية الكبرى" سنة ,1946ثم حكم ببراءتهم بعد فترة قصيرة. استند اتهام الشيخ أبو الحسن الغنيمي بالشيوعية في هذه القضية إلى كتابني صدرا أو وزعا بطريقة سرية خالل ذلك العام ,وهما( :الشيوعية في اإلسالم) و(دورنا في الكفاح الوطني) .ففي الكتاب األول اتهم أنه حبذ الشيوعية ،ودعا إلى إلغاء امللكية الفردية زاعمًا أن هذا نظام أقره اإلسالم. وفي الكتاب الثاني اتهم أنه أظهر فيه إعجابه باملاركسية وحبذ الشيوعية والكفاح في سبيلها( .راجع حيثيات الحكم عليه وعلى تسعة عشر آخرين ودفوعاته ودفوعاتهم في كتاب رفعت السعيد :تاريخ املنظمات اليسارية املصرية .)1950 – 1940 وللشيخ كتاب ثالث وهو الذي أشار إليه أحمد سليمان ,وعنوانه (أبو ذر أول ثائر في اإلسالم) ,وهذا الكتاب كتاب مجهول .فاملعروف هو كتاب قدري قلعجي الذي ألفه بالعنوان نفسه حينما كان شيوعيًا ,وصدرت طبعته األولى سنة ,1947من دون إشارة لتاريخ صدوره.
عبد الناصر
12
إن تدريس الشيخ أبو الحسن في مدارس الليسية لم يأت اعتباطًا ,فهو ذو مغزى .يفسر هذا املغزى مناضل شيوعي من أعضاء تنظيم ايسكر (الشرارة) وتنظيمات شيوعية الحقة ,هو الكاتب واملفكر السياسي محمد سيد أحمد في إجابة له عن سؤال موضوعه هو :ملاذا بدأ نشاط ايسكرا في
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
مدارس الليسية الفرنسية التي يدرس فيها أبناء الجاليات األجنبية ،وبعض أبناء األرستقراطية املصرية الذي هو أحدهم؟ يقول محمد سيد أحمد (سليل أسرة اقطاعية أرستقراطية وممن درسوا في مدارس الليسية الفرنسية ومن املفارقات أنه يمت إلى إسماعيل صدقي باشا عدو الشيوعيني املصريني األول بصلة قرابة من جهتني :األولى ,أن عدو الشيوعيني املصريني األول هو ابن عم أبيه الباشا .واألخرى ,أنه زوج عمته!) في إجابته" :كانت مدارس الليسية مصدرًا للثقافة املاركسية ,فقد كانت مركزًا للعناصر املعادية للفاشية ،وبني هؤالء وجد مدرسون شيوعيون من أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي .وكان هناك أيضًا ناد لخريجي الليسية علني .وقد تواجدت ايسكرا في إطار ذلك كله" .محضر نقاش أجرته الباحثة األمريكية سيلما بوتمان معه باللغة اإلنكليزية في .1979/12/13 وترجم إجابته إلى العربية وأثبتها رفعت السعيد في كتابه( :تاريخ املنظمات اليسارية املصرية .)1950 – 1940 مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية :دانييل كورييل والد هنري ,ثرييهودي كفيف يحمل الجنسية اإليطالية .وكان يملك ويدير مصرفًا .وكانت له أمالك زراعية كبرى ،ومن هذه األمالك عزبة في املنصورية ,واملنصورية ضاحية بالجيزة. وكان دانييل كورييل كلف ابنه هنري بإدارة شؤون هذه العزبة .ولقد استغل االبن هذا التكليف للتردد بحرية على العزبة ولتكون مكانًا آمنًا بعيدًا عن عيون األمن لتأهيل وتثقيف عشرين متدرجًا بمبادئ املاركسية بإلقاء محاضرات عليهم .وكان من ضمن املتدرجني الشيخ الغنيمي وعبده دهب. وقام بإلقاء محاضرات عليهم كل من :هنري كورييل جو ماتلون وداود ناحوم ومحمد زكي هاشم وأحمد الدمرداش التوني وطاهر املصري وموسى عبدالحفيظ وتحسني املصري .وشارك فيها من لبنان فرج الله الحلو ،ومن العراق الدكتور هيبه.ومدرسة الكادر الشيوعية التي أنشأها هنري كورييل مرحلة سبقت بأشهر صياغته السم التنظيم الذي يقوده .وأعني باالسم, الحركة املصرية للتحرر الوطني. مجلة (الجماهير) :أسس هذه املجلة تنظيم ايسكرا في شهر أبريل سنة 1947وكانت هذه املجلة تعبر عن هذا التنظيم في شهري أبريل وشهر مايو- كما يذكر ذلك رفعت السعيد استنادًا إلى عبده دهب – لكن بعد توحده مع الحركة املصرية للتحرر الوطني في حركة واحدة هو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) غدت املجلة مملوكة لهذه الحركة املوحدة ولسانها املعبر عنها. يمكن اآلن بعد ذلك التصحيح وهذه اإليضاحات مناقشة املعلومة املجهولة واملفاجئة التي أوردها أحمد سليمان على لسان عبده دهب عن املفكر اإلسالمي الدكتور محمد البهي ،والتي قالت أنه كان من ضمن األزهريني الذين يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية. قال عبده دهب – كما نقل عنه أحمد سليمان – عن البهي :أنه كان يسكن في شقة تقع مباشرة تحت مجلة (الجماهير) بشارع الجامع اإلسماعيلي بالقرب من الظوغلي. أفادته هذا يجب أن نفهمها على أنها تأكيد ملعرفته الشخصية بمحمد البهي, ال إنه يشير بها إلى الخيط الذي وصل األخير بالتعرف على الشيوعيني .ذلك أن مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية أنشأها هنري كورييل – بحسب ما قاله لرفعت السعيد – في شهر يناير سنة 1943واستمرت بضع شهور خالل ذلك العام ,ومجلة (الجماهير) التي عمل فيها عبده دهب في قسم التوزيع انتقل مقرها الجديد – كما يذكر رفعت في كتابه ( :الصحافة اليسارية في مصر -) 1948- 1925إلى 22شارع الجامع اإلسماعيلي ,ابتداء من العدد رقم 15بعيد شهر يونيو سنة .1947
موسكو ولندن ونيجيريا وواشنطن .عمل بعدها مندوبًا للسودان في هيئة األمم املتحدة ،وكان قد فصل من عضوية الحزب الشيوعي هو وأحد عشر عضوًا سنة .1970 في تجربة قدري قلعجي التي رواها كان قد تحول من الشيوعية إلى القومية العربية ,أما أحمد سليمان في الوقت الذي روى تجربته كان قد تحول من الشيوعية إلى اتجاه إسالمي. لم ينل كتاب أحمد سليمان بجزأيه ذيوعًا في العالم العربي ,رغم أن الكتاب بجزأيه حفل بمعلومات طريفة ،وتضمن إضاءات مهمة حول تاريخ الحركة الشيوعية في مصر والسودان .فاملعرفة به اقتصرت على املثقفني السودانيني واملعنيني بالشأن الحزبي وتاريخه في السودان. إنك إن تذكر عنوان الكتاب (ومشيناها خطى) ألحد املثقفني فسينصرف ذهنه فورًا إلى كتاب صدر منذ سنوات قريبة ,هو (مشيناها خطى – سيرة ذاتية ) للمؤرخ واألكاديمي اليساري رؤوف عباس. هذا العنوان منتزع من فاتحة بيتني شعريني شهيرين ,يترددان على األلسنة كثيرًا ,هما: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها ومن كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها وقد استهوت هذه الفاتحة املنتزعة أحمد سليمان ,ومن بعده رؤوف عباس, ليتخذانها عنوانا لسيرتهما الذاتية .واستهوت من بعدهما حامد عمار شيخ التربويني العرب ,ليجعلها عنوانًا لسيرته الذاتية – مع بعض التحوير –, املوسومة بـ (خطى اجتزناها )...وقبلهم جميعًا راقت لألديب والصحافي املصري عباس خضر ليضعها عنوانًا لكتاب له يدنو من السيرة الذاتية ,هذا الكتاب هو( :خطى مشيناها). من املعلومات الطريفة التي حفل بها كتاب أحمد سليمان معلومة غير معروفة وكانت مفاجئة ,وهي أن املفكر اإلسالمي محمد البهي كان من ضمن األزهريني الذين يحضرون مدرسة الكادر الشيوعية! أورد أحمد سليمان هذه املعلومة في الجزء الثاني من كتابه على لسان عبده دهب ,وعبده دهب هو اسم الشهرة ،أما اسمه الكامل فهو عبد اللطيف دهب حسنني .هو سوداني نوبي مقيم في مصر ,كان كادرًا شيوعيًا نشطًا ،وهو مرجع شفاهي لتاريخ الحركة الشيوعية في مصر والسودانّ . رحلته السلطة املصرية إلى بلده سنة 1950م. عبده دهب كان مقربًا من هنري كورييل ولصيقًا به .وهنري كورييل كان أبرز قيادي في التنظيمات الشيوعية في مصر .وهو مؤسس إحدى تنظيماتها :الحركة املصرية للتحرر الوطني (ح .م أو حمتو) سنة 1943وكان له إسهام في تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) التي تغير اسمها فيما بعد إلى الحزب الشيوعي السوداني .وتولى منصب سكرتير عام الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) عند تأسيسها سنة ,1947 وهي اندماج بني الحركة املصرية للتحرر الوطني التي أسسها هو وتولى قيادتها وبني تنظيم ايسكرا (الشرارة) التي أسسها وقادها هيلل (يرسم املصريون اسمه بهذه الطريقة( :هليل) .وهيلل اسم يهودي توراتي) شوارتز ابتداء من سنة .1943ولقد ظل كورييل قائدًا لهذه الحركة املوحدة (حدتو) إلى أن طرد من مصر سنة .1950ومع إنشاء (مجموعة روما) في باريس التي تكونت من هنري كورييل وثلة من الشيوعيني املصريني الذين بعد أن خرجوا من السجن سنة 1949م ,ذهبوا إلى إسرائيل ثم غادروها بعد فترة
إلى االستقرار في باريس ,استأنف هنري كورييل نشاطه في حدتو عبر هذه املجموعة من موقع املوجه لحدتو وللحزب الشيوعي السوداني أيضًا. اغتيل هنري كورييل وهو يهم بمغادرة مصعد العمارة التي يسكن فيها في 4مايو سنة 1978م .ملزيد من املعلومات عن (مجموعة روما) ,راجع تقديم رؤوف عباس لكتاب (أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية املصرية). حاولت مذ عرفت تلك املعلومة عن محمد البهي أن أتتبع أثرها في كتابات اإلسالميني وفي كتابات الشيوعيني املصريني وفي كتابات املصريني عامة, فلم أعثر على أية إشارة لها. لنقف عند الفقرة التي وردت فيها تلك املعلومة املهملة .يقول أحمد سليمان: " كان كورييل يعتز كثيرًا بوجود الشيخ أبو الحسن بني ظهراني تنظيمهم, ويدفعه إلى محاولة تطويع دين الله ألغراضهم الدنيوية .وكان أن ألف الشيخ كتابًا عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري وصفه بأنه أول ثائر في اإلسالم. ولم يكن الشيخ الغنيمي هو الوحيد بني األزهريني الذين حضروا مدرسة الكادر الشيوعية باملنصورية ,فقد كان هناك عالم أزهري آخر يقول عبده دهب أنه صار في سنني الحقة شيخًا لألزهر هو اإلمام األكبر البهي، وكان يسكن في شقة تقع مباشرة تحت مجلة الجماهير بشارع الجامع اإلسماعيلي بالقرب من الظوغلي" .تحتاج هذه الفقرة –ونحن نحاول التحقق من صحة تلك املعلومة– إلى تصحيح وإلى إيضاحات.
,,
ال يعد في املنتصف األول وجود أزهريني في التنظيمات الشيوعية أمرًا مستنكرًا إال عند من يحكم على روح تلك الفترة بمقاييس عقود تالية
,,
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
11
شؤون سياسية
شهدت الحركة الشيوعية في العالم العربي في املنتصف األخير من القرن املاضي تجارب في الخروج عليها من بعض قادتها ومثقفيها وكوادرها ,وكان أول كتاب قدم شهادة عليها – وكانت شهادة مؤذية – هو كتاب قدري قلعجي الشهير ( تجربة عربي في الحزب الشيوعي) ,وقد لقي ً هذا الكتاب منذ طبعته األولى إقباال كبيرًا ورواجًا عظيمًا ,فتعددت طبعاته .ومع هذا اإلقبال عليه والرواج له ال أعرف كتابًا َّ رد على هذا الكتاب أو تضمن تعليقًا على ما جاء فيه سوى تعليق تضمنه مقال (مشكالت الحزبني الشيوعيني في سوريا ومصر) للمستشرق الفرنسي املاركسي مكسيم رودنسون املنشور ضمن مقاالت أخرى له في كتابه( :املاركسية والعالم العربي).
هل كان وزير األوقاف وشؤون األزهر ,محمد البهي شيوعيًا؟!
أزاهرة شيوعيون بقلم: علي العميم
,,
عند توحد الحركة املصرية للتحرر الوطني مع تنظيم ايسكرا في حركة واحدة هي (حدتو) كان في األولى اثنان وعشرون شيخًا وفي األخرى شيخان فقط!
,,
هذا التعليق أبداه في ذلك املقال حني حديثه عن شخصية خالد بكداش, األمني العام للحزب الشيوعي اللبناني السوري .تعليقه هو عبارة عن مرافعة عاطفية حميمة مفعمة بود شخصي وإعجاب كبير في قيادة مبنية على الطراز الستاليني ,كقيادة خالد بكداش .وهي إلى ذلك كانت مرافعة حذقة, فهو قد انطلق فيها من اإلقرار بصحة ما قاله قدري قلعجي عن خالد بكداش في املجمل ,لكن مع التنبيه إلى أن سلسلة النوادر التي رواها عنه ,تؤدي مراكمتها بأسلوب أحادي الجانب إلى إعطاء فكرة خاطئة عن الرجل. وألنه كان يرى أن قلعجي قد فعل هذا ,فلقد قدم صورة أخرى عن بكداش, كان يعتقد أنها تعطي فكرة صحيحة عنه ,العتمادها – كما ظن -على أسلوب غير أحادي الجانب ،واتكائها على تفسيرات مغايرة لبعض وقائع عددها قلعجي ,تدين بكداش ,رأى أنها تبرئه أو على األقل تقف بنا على تفهم دوافعها وأسبابها. وفي واقع األمر أن الصورة التي جهد رودنسون أن يحسنها ال تعطي فكرة صحيحة عن بكداش ,وأن األسلوب الذي اعتمده لم يكن أفقه متعددًا وواسعًا ,وتفسيراته لم تكن مقنعة ,وإنما كان األسلوب وكانت التفسيرات مثقلة بالتسويغ .وال عجب في ذلك فمكسيم رودنسون في تلك الفترة كان ستاليني الهوى. ولنفوذ الشيوعيني واليساريني في حقل األدب والثقافة تأثر بنظرتهم التحقيرية إلى األعمال التي يحكي أصحابها عن تجربتهم الشيوعية السابقة أو التي ينقدون فيها الشيوعية أو اليسار بعد تحولهم عنها –سواء أكانت هذه األعمال كتبًا أم مقاالت– مثقفون هم غير شيوعيني وغير يساريني.
عليه -بالضرورة – هذان االتهامان أو أحدهما. إن ما وراء هذين االتهامني األخالقويني كان إرهاب املثقفني املتحولني عن الشيوعية وعن اليسار؛ كي ال يسجلوا تجربتهم مع الشيوعية ،أو يتجهوا في بعض أعمالهم إلى نقد الشيوعية ونقد اليسار. ولقد أصابت الشيوعية واليسار –والحديث هو عن العالم العربي -بعض النجاح في إرهابها هذا ,فظل سيف هذين االتهامني مصلتًا على رقاب املتحولني عن الشيوعية وعن اليسار .وهذا سبب امتناع بعض هؤالء في فترة ماضية عن نقد الشيوعية واليسار ,إذ كانوا يرهبون أن يطال سيف ذلك االتهامني عنق شرفهم األخالقي! وألنهم تورعوا عن الوقوع في ما هو (منهي عنه) وما هو (آثم) ومحظور و(محرم) عند رفاقهم السابقني ,كان ال ينالهم منهم هجوم أو غمز أو ملز, واالختالف معهم إن حصل ,يعبر عنه بطريقة مهذبة محوطة بالتقدير واالحترام ألشخاصهم. واألهم من ذلك أنهم نجوا من قذفهم بتهمة شنيعة عندهم ,ذات وقع ديني مرعب أال وهي – أجارنا الله – الردة! وللفائدة الفقهية (أو الشرعية أو القانونية) أشير إلى أنه عند الطائفتني الكريمتني – الطائفة الكريمة تعبير لبناني (خاص) ,يستخدمه املتحدث إزاء الطائفة التي ال ينتمي إليها ,وأرى أنه ال حرج علمانيًا من (تعميمه) بلدانيًا وفي املجال غير الديني -الشيوعية واليسار ردتان :ردة مستورة مستوعبة وهي التي تمالئ الرفاق السابقني, وردة فاضحة وفاجرة ,وهي التي ال تمالئهم ,بل تجابههم.
تستند تلك النظرة التحقيرية إلى اتهامني أساسيني :األول ,هو أن صاحب الشيوعي الذي اهتدى
التجربة وصاحب النقد يبيع نفسه لألنظمة السياسية اليمينية الرجعية املعادية للتقدم .واآلخر أنه يتاجر بتجربته وبنقده عند القارئ .وكان هذان االتهامان يكتسبان قيمة في وقت كان الصراع فيه بني اليمني واليسار في السياسة والثقافة على أشده وفي ذروته.
محمد البهي
10
قد يكون هذان االتهامان صحيحني من حيث الحدوث واإلمكان ,فأي تجربة عقدية مذهبية أو سياسية هي قابلة للشراء والبيع ولكل ضروب االتجار واملتاجرة ,لكن سوأتهما أنهما كان ينطويان على تعميم جارف وإطالق ظالم ,فليس كل من روى تجربته مع الشيوعية ونقدها ونقد اليسار ينطبق
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
مع نهايات القرن املاضي ,وعلى وجه التحديد سنة 1983صدر كتاب في السودان عنوانه ( ومشيناها خطى :صفحات من مذكرات شيوعي اهتدى) ألحمد سليمان عن دار الفكر ,ثم أتبعه بجزء ثان صدر سنة 1986عن دار القلم بالكويت ،وعن دار الفكر بالسودان. أحمد سليمان كانت مهنته املحاماة ,وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي السوداني تولى منصب وزير في أربع وزارات هي :الزراعة واالقتصاد والصناعة والعدل ,ابتداء من سنة ,1964ثم تولى العمل سفيرًا للسودان في
يفرضها صندوق النقد الدولي ،وذلك بعد أن رفضها قادة حزبه .ويعتقد بعض املراقبني في الوقت الحالي أنه قد فات األوان على أن تحقق حزمة إنقاذ صندوق النقد الدولي أي تأثير. وعلى جانب آخر ،اتجهت حكومة مرسي نحو الحكومات الصديقة في ليبيا وقطر للحصول على منح وهبات تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدوالرات األميركية التي تدعم البالد ولكنها تثير القلق الشعبي حيال الثمن السياسي مقابل تلك الهبات .صرح وائل زيادة ،رئيس قطاع بحوث االستثمار باملجموعة املالية «هيرميس» التي يقع مقرها في القاهرة ،قائال« :كنا نشعر بالقلق طوال العام املاضي حول ما إذا كان صندوق النقد الدولي سيصل إلى اتفاق مع الحكومة املصرية أم ال .ولكننا في الحقيقة حصلنا على تحويالت من ليبيا وقطر تبلغ قيمتها ضعف قيمة حزمة اإلنقاذ الصادرة عن صندوق النقد الدولي ،ولكنها لم تؤد إلى وقف التراجع الحاد في االحتياطي .وال يمكن تحمل املسار املالي الحالي». وعلى الرغم من التزامها باقتصاديات السوق الحرة ،فإن جماعة اإلخوان املسلمني التي تسيطر على الحكم في مصر أثارت غضب رجال األعمال واملستثمرين نتيجة لفرضها ما يطلقون عليه تنفيذا جزافيا ،إن يكن ذا دوافع سياسية ،لقانون الضرائب ،وال يعد التحقيق مع مجموعة شركات «أوراسكوم» التابعة لعائلة ساويرس ،التي تمثل رأس املال املسيطر على البورصة املصرية ،تحقيقا قضائيا بقدر ما يبدو مزعزعا لعائلة مسيحية قبطية بارزة وتحذيرا إلخوانهم األقباط .وعلى الرغم من أنهم ال يمثلون سوى 15في املائة فقط من نسبة السكان ،فإن أقباط مصر يساهمون في تحقيق نسبة ضخمة من الناتج االقتصادي .ويعد التحقيق مع مجموعة «أوراسكوم» سببا لهجرة العديد من األسر املسيحية ذات املوارد الضخمة واملؤثرة في االقتصاد املصري. وتذكر بسنت موسى ،التي تدير شركة إعالمية تهتم بالقضايا املسيحية ،أن «اإلسالميني أصبحوا هم رجال األعمال الجدد ،فهم يعتقدون أن بإمكانهم ملء الفراغ فقط» .وبعد أقل من عام من تولي اإلخوان حكم البالد ،قدمت الجماعة والحركات اإلسالمية األخرى بمصر ذريعة لهؤالء الذين حذروا من أن التشدد الديني ال يتفق مع مبادئ الديمقراطية ،وأن ثقافة القيادة داخل اإلخوان املسلمني -التي تتسم بالهرمية واالستبداد والغموض ،ال تتالءم مع الحكم الشعبي .ومع اقتراب موعد االنتخابات ،ال تجد حكومة مرسي سوى القليل من الوقت الثمني للوفاء بوعودها .وما زالت جماعة اإلخوان املسلمني تحتفظ بقدرتها على حشد أنصارها وتوجيههم نحو صناديق االقتراع ،مما
قد يكفي لفوز الجماعة في جولة انتخابية أخرى .ولكن يشك البعض في أن مستقبل الديمقراطية في مصر سوف يشهد انحسار السياسة التوسعية االحتكارية التي يطبقها اإلخوان لصالح السياسة التوافقية التي يتبناها أبو الفتوح وزمالؤه في املنفى االختياري. يشير هذا االفتراض إلى مرور الثورة املصرية بانقالب عسكري ،يبدو أن عددا هائال ومتنوعا من املصريني يترقبونه بحماس .يقول إبراهيم زهران، استشاري الطاقة وزعيم حزب سياسي ليبرالي« :سوف يأتي اليوم الذي ينهض فيه الشعب الفقير ضد اإلخوان املسلمني .وسوف يأتي ذلك اليوم عندما يتدخل الجيش ،وهذا هو الحل األمثل». بدوره كمال الهلباوي ،البالغ من العمر ً 74 عاما وهو أحد أقدم أعضاء جماعة اإلخوان املسلمني وقد قدم استقالته من الجماعة في العام املاضي ،أقل تفاؤال، حيث إنه يخشى حدوث انقالب على الرغم من تصريحه بأن ذلك ليس أسوأ نتيجة محتملة لحكم مرسي .وقد أوضح قائال« :السيناريو األسوأ واألكثر احتماال هو نشوب صراع طائفي ومتطرف .ثم تتدخل على أثره القوات العسكرية األميركية لتسيطر على اإلرهابيني في شبه جزيرة سيناء وغيرها من املناطق». املسلمني منذ كان عمره 12 يتأسف الهلباوي ،الذي انضم لجماعة اإلخوان ُ سنة ،على ما وصفه بتحريف مليثاق الجماعة التي أنشئت عام ،1928والتي تحولت من جماعة دعوية إلى آلة سياسية ال تلتفت كثيرا للمبادئ الليبرالية التي قامت من أجلها الثورة« .كان ينبغي على جماعة اإلخوان املسلمني أن تكون أكاديمية لتطوير شخصية الشباب املصري ،وإعدادهم مهنيا ،بما في ذلك املشرعون .وكان لدى قادتها املوارد التي تمكن من ضمان مسار الديمقراطية وتحقيق مطالب الثورة ،ولكنهم لم ينفذوا سوى األولى .في األيام األولى من الثورة ،تردد القادة في االنضمام إليها ،وبعد نجاحها ،أبوا أن يحافظوا عليها .ولهذا السبب قدمت استقالتي من الجماعة».
,,
عبد املنعم أبو الفتوح
يتأسف الهلباوي على ما وصفه بتحريف مليثاق جماعة االخوان التي تحولت من جماعة دعوية إلى آلة سياسية
,,
أخرج الهلباوي مجلدا من خزانة كتبه وقدمه ألحد الزوار .كان هذا املجلد نسخة من املوازنة األولى للرئيس مرسي ،يحمل عنوان «أعظم دستور ألعظم شعب» .وعلق الهلباوي ،قائال إن هذه املبالغة «ليست سوى دعاية لالستبداد. إنه أمر قد تتوقعه من برلني أو روما في منتصف القرن العشرين .ولكن ما تحتاجه مصر في الوقت الحالي هو ليبرالي إسالمي .نحتاج إلى ذلك من أجل اإلسالم ،ال سيما ما يتعلق بقضايا املرأة والحكم والبيئة والعوملة والفلسفة الغربية مما يمكن أن ينطبق علينا .هذا هو املستقبل»< المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
كمال الهلباوي
9
شؤون سياسية
خالل لقاء أجري معه أخيرا ،ظهر السياسي املصري عبد املنعم أبو الفتوح كرجل يتسم باالتزان وروح الدعابة ،يتمتع بنظرة بعيدة املدى جعلته ينزل من حافلة توشك على السقوط في حفرة. تحدث العضو السابق البارز في جماعة اإلخوان املسلمني بثقة كبيرة حول مصر الديمقراطية الجديدة ،التي يرى أنها سوف تنجح طاملا ظلت ملتزمة بتقاليدها املتقبلة لجميع األديان.
«إخوان» سابقون ينضمون إلى املعارضة في مصر
املنشقون عن اجلماعة بقلم: ستيفن غلني
ذكر عبد املنعم أبو الفتوح بمكتبه في إحدى ضواحي القاهرة ،والذي يتخذه ً مقرا لحزب مصر القوية« ،ينبغي على الدين أن يغير املجتمع بطريقة غير مباشرة من خالل اإللهام ،وليس على نحو مباشر من خالل السياسة». ُ ويستأنف حديثه قائال« :أعارض الجماعات اإلسالمية التي تشكل أحزابها الخاصة ،حيث من املؤكد أن ينشب صراع بني الدين والسياسة».
يعد التحقيق مع مجموعة «أوراسكوم» سببا لهجرة العديد من األسر املسيحية ذات املوارد الضخمة واملؤثرة في االقتصاد املصري
واتسم أبو الفتوح ،الذي خسر الجولة األولى من االنتخابات الرئاسية التي أجريت العام املاضي ،بضبط النفس والذكاء عندما طلب منه التعليق على أداء الحكومة التي يسيطر عليها اإلخوان في عامها األول ،في ظل تركه لجماعة اإلخوان املسلمني منذ عامني .صرح أبو الفتوح الطبيب البالغ من العمر 61 ً عاما قائال« :لست أنا من يجب أن يقيم هذا األداء ،على الرغم من أننا ضد مفهوم اإلسالم السياسي».
,,
,,
نجيب ساويرس
8
دائما ما تثير الرؤية الصادرة عن خلفية أخالقية راقية كثيرا من االهتمام، خاصة عندما يعاني خصوم الشخص من نتاج أفعالهم .قامت مجموعة بارزة من أعضاء جماعة اإلخوان املسلمني بالخروج عن الجماعة ،وأصبحوا في الوقت الحالي معارضني أحرارا ،ومن بينهم ثروت الخرباوي ،الذي يعمل محاميا ،وألف العديد من الكتب حول اإلخوان ،وفوز الجناح املحافظ بها في الفترة التي سبقت اشتعال الثورة التي أدت إلى إسقاط الديكتاتور حسني مبارك عام 2011؛ ومحمد حبيب ،النائب السابق للمرشد األعلى للجماعة، الذي ذكر أنه قد تعرض للهزيمة من قبل متشددين عندما انحازوا إلى الرئيس السابق حسني مبارك في مقابل دعمهم لتوريث منصب الرئاسة؛ وإبراهيم الزعفراني ،الطبيب الذي شارك ،باعتباره سجينا سياسيا في نهاية التسعينيات ،في مناظرات قوية حول السياسة وعلم الالهوت مع معتقلني سابقني مثل أبو الفتوح ومنافسه خيرت الشاطر ،الذي ُيعتبر الرجل األقوى في جماعة اإلخوان املسلمني. يؤكد الزعفراني ،الذي أسس حزبه الخاص خالل العام املاضي ،على ما يحذر بشأن خلط السياسة مع الدين .وحسبما ذكر الزعفراني في منه أبو الفتوح ُ أحد اللقاءات التي أجريت معه في العام املاضي ،فإنه يرى أن «الحزب السياسي يختلف عن الحركة الدينية .فالقيم الدينية مطلقة ،ولكن السياسة تقوم على املفاوضات والتسويات والخالفات .وبالنسبة لجماعة اإلخوان املسلمني ،فإنها تخلط بني الدين والسياسة مما يعرضها للمخاطر». تزداد جرأة املنشقني عن الجماعة ،مثل الزعفراني الذي يؤمن بأن جماعة اإلخوان املسلمني أصبحت فاسدة نتيجة لتوليها السلطة وينبغي أن تعود مرة أخرى ملهمتها التقليدية املتمثلة في نشر الدعوة ،مع األخطاء املتوالية التي ترتكبها الحكومة التي يقودها اإلخوان املسلمون .عندما كان محمد الجبة أحد الكوادر الشابة في جماعة اإلخوان املسلمني ،كان يعمل على وضع
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
املتاريس والحواجز خالل الثورة ،وخاض معارك ضارية مع القوات املوالية للنظام في ميدان التحرير بالقاهرة .ولكنه انشق عن جماعة اإلخوان املسلمني في العام املاضي ،ويدرس في الوقت الحالي إمكانية ترشحه في البرملان أثناء االنتخابات التشريعية التي من املقرر مبدئيا أن تعقد في شهر أكتوبر (تشرين األول) املقبل .يقول الجبة« :لقد أصبت بصدمة كبيرة عندما سمح قادة اإلخوان املسلمني ملصالحهم الشخصية بأن تتضارب مع قيم اإلسالم. وإذا كان هناك أي شيء حدث نتيجة لتوليها للسلطة ،فهو أن جماعة اإلخوان املسلمني ظهرت على حقيقتها». وصرح الجبة ،الذي يعد تلميذا لكل من حبيب وأبو الفتوح ،بأن جماعة اإلخوان املسلمني فقدت مصداقيتها بشكل نهائي وغير قابل لإلصالح بني املسلمني املتشددين ،باإلضافة إلى املسلمني العلمانيني .ويشعر الجبة بالقلق من أن االنتخابات قد تؤدي إلى وقوع أحداث عنف وربما تؤدي إلى انقالب عسكري ،ولكنه يرى أن اإلسالم املعتدل سوف يسود في النهاية .ويستأنف حديثه قائال إن «جماعة اإلخوان املسلمني بجميع أعضائها ال يمثلون سوى نسبة ضئيلة من سكان مصر ،وها هم يفقدون شعبيتهم .واملصريون ال يثقون في أي شخص بعد اآلن .سوف تكون هناك اشتباكات ،ولكن النتيجة سوف تتمثل في نهاية جماعة اإلخوان املسلمني كحركة سياسية». منذ فوزه باالنتخابات الرئاسية التي أجريت في شهر يونيو (حزيران) املاضي بفارق ضئيل ،أثار الرئيس محمد مرسي ،القيادي السابق بجماعة اإلخوان ،حفيظة املصريني من خالل محاوالته لجعل املناصب الحكومية الرئيسة حكرا على رفاقه السابقني (جدير بالذكر أن الرئيس مرسي استقال من جماعة اإلخوان املسلمني قبل تنصيبه رئيسا ،وذلكً ليبدو في مظهر املستقل عن الجماعة ،على الرغم من أن ذلك لم يحدث مطلقا) وبعد أن رفض الرئيس مرسي تشكيل حكومة ائتالفية، أصبح يتحمل اللوم بمفرده بسبب فشل قيادته طوال ما يقرب من اثني عشر ً شهرا مضت .يوشك االقتصاد املصري على اإلفالس ،بينما انخفض االحتياطي األجنبي ليصل إلى 13.5مليار دوالر أميركي ،أي ثلث املستوى الذي بلغه قبيل الثورة ،فيما هبطت قيمة الجنيه املصري .أما عن نسب ً ارتفاعا ً كبيرا حتى في ظل تراجع النمو التضخم والبطالة ،فما زالت تشهد االقتصادي بنسبة 2في املائة فقط خالل العام الحالي ،ليأتي دون تغيير مقارنة بالعام املاضي. وفي ظل حاجة مصر امللحة للحصول على عملة صعبة ،لم يتفق الرئيس مرسي وصندوق النقد الدولي حتى اآلن على شروط حزمة إنقاذ مالية تبلغ قيمتها 4.8مليار دوالر أميركي .وخالل شهر ديسمبر (كانون األول)، توقفت املفاوضات نتيجة لسحب الرئيس دعمه لتدابير التقشف التي
الكتــاب املســاهمـون يف هـذا العـدد علي العميم :كاتب وصحافي وناقد ومؤرخ سعودي عمل صحافيًا في مجلة اليمامة، زاول الكتابة في الجرائد التالية :الرياض، اليوم ،واالقتصادية .عمل صحافيًا متفرغًا في جريدة الشرق األوسط ،كما عمل صحافيًا وكاتبًا في جريدة الرياض .من مؤلفاته «شيء من النقد شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار» و عبدالله النفيسي :الرجل، الفكرة ،التقلبات :سيرة غير تبجيلية».
تحسني قادر علي :وزير سابق ومحاضر دولي وجغرافي وباحث اكاديمي وخبير استراتيجي في شؤون املياه ،تولى في عام 2006 وزارة املوارد املائية في حكومة اقليم كردستان العراق.
ستيفن غلني :صحفي مستقل وكاتب مقيم في واشنطن .انضم عام 1991لصحيفة وول ستريت جورنال التي عينته مراسال في كوريا الجنوبية واستمر بالعمل لديها طيلة عقد كامل مغطيا اخبار آسيا والشرق االوسط من سيول وطوكيو وفلسطني وعمان .وعمل ايضا مراسال لنيوزويك.
أمير طاهري :كاتب ومحلل سياسي إيراني خبير في شؤون الشرق األوسط وهو محرر مشارك في صحيفتي «نيويورك بوست» و«ناشيونال ريفيو» ويكتب أيضا بشكل منتظم في العديد من املطبوعات الدولية مثل «دير شبيغل» األملانية و«الديلي تيلغراف» اإلنجليزية و«نيويورك تايمز» وجريدة «الشرق األوسط».
سامح فوزي :كاتب ومحلل سياسي عضو مجلس الشورى املصري نَّ املعي من الرئيس محمد مرسي وعضو لجنة الوساطة الثالثية املشكلة من الرئاسة للحوار مع قوى املعارضة ،وممثل الكنيسة بلجنة الحوار الوطني ،ومدير مركز دراسات التنمية بمكتبة اإلسكندرية .
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
7
المحتوى
«إخوان «سابقون ينضمون إلى املعارضة في مصر
املنشقون عن اجلماعة
هل كان وزير األوقاف وشؤون األزهر ,محمد البهي شيوعيًا؟!
أزاهرة شيوعيون
القائد املثالي :هل هو موجود؟
الدكتاتور العادل
اإلضرابات العمالية والنقابات.. معركة الحقوق واألجور
ثورة العمال
كيفية جمع معلومات استخباراتية في منطقة حرب
تقصي احلقائق يف سوريا 6
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
كيف استطاع إسالميو قطر كسر وثن التنظيم عند اإلخوان املسلمني؟
إخوان قطر واملسار اخملتلف
www.majalla.com
Al Majalla
مجلة العــــــرب الدولية
ﻣـﺠـﻠـــﺔ ﺍﻟـﻌــــــــﺮﺏ ﺍﻟـﺪﻭﻟـﻴــــﺔ
االفتتاحية
رساله المحرر ّ اإلسالمية في الخليج يكاد يكون متشابها ،فعلى الرغم من الحضور الطاغي واملؤثر تاريخ الحركات لإلخوان املسلمني في الكويت على جيرانهم من أعضاء الجماعة في دول الخليج العربي ،فإن البحرين كانت تشكل أول انطالقة فعلية لتنظيم هيكلي حركي لإلخوان في شبه الجزيرة العربية. "املجلة"وفي موضوعني جديرين بالقراءة والتحليل تطرح «مكاسب» اإلخوان املسلمني في البحرين وكيف استطاع إسالميو قطر كسر «وثن» التنظيم عند الجماعة. بدأ تاريخ الوجود اإلخواني عبر الطالب املبعوثني إلى مصر للدراسة واالستنارة ،لكن بعضهم عاد بأعناق لفتها بيعة لحسن البنا والجماعة ليكونوا هم الحاضنة األولى لنواة ّ التيار اإلسالمي «الحركي» ،في مجتمعات اعتادت إسالم السكينة الخالي من الشعارات والسياسة. تشير وثائق الجماعة إلى أن النشاط اإلخواني كان موجودا في البحرين منذ الثالثينات أي في عهد مؤسسها حسن البنا« ،فلقد نصت جريدة اإلخوان املسلمني األسبوعية في عددها الرابع 11يونيو (حزيران) ،1937أن شعب اإلخوان املسلمني في العالم كله يتوزع إلى مناطق وكل منطقة إلى دوائر ،وكل دائرة إلى عدة شعب ،فخصصت املنطقة الثامنة عشرة لشعب السودان ،وخصصت املنطقة التاسعة عشرة لدول العالم اإلسالمي ،ووضعت البحرين في هذا التقسيم في املنطقة التاسعة عشرة ،وكان النائب املندوب لها السيد محمد بن إبراهيم الخليفة ،كما خصصت املنطقة العشرون لدول العالم الخارجي التي تقطنها أغلبية غير مسلمة». في عام 1961هاجر الشاب املصري حينها يوسف القرضاوي إلى الدوحة ليقوم على املعهد الديني الثانوي قبل أن يؤسس كلية الشريعة ،لتتحول قطر إلى محطة لرحالته في دول الخليج. قطر ،كانت املكان الذي انطلق منه اإلخوان صوب اإلمارات من خالل مقر البعثة التعليمية القطرية التي جاءت من مساعدات قطر لإلمارات في عام 1962وكان للشيخ عبد البديع صقر ضلع في تأسيس هذا املكتب واختيار املدرسني والقائمني على شؤون املكتب ..لتبدأ الحكاية وعالقة لها ما بعدها. في موضوع آخر يطرح علي العميم -استنادا إلى معلومة مغفلة -سؤاال هو :هل كان املفكر اإلسالمي محمد البهي في فترة ما شيوعيا؟ وفي خضم بحثه عن إجابة لسؤاله هذا يتتبع تاريخ اعتناق املشايخ األزهريني للشيوعية منذ عشرينيات القرن املاضي ،ويشرح خطة الزعيم الشيوعي هنري كورييل في األربعينات في اجتذاب األزهريني .ويعرض لقضايا تتصل بهذين الجانبني :األزهر والشيوعية. ندعوك عزيزي القارئ لقراءة هذه املوضوعات وغيرها الكثير على موقعنا majalla.comونرحب دائما بآرائك وندعوك للتعليق على املوضوعات أو االتصال بنا إذا رغبت في التواصل معنا.
المحرر
4
المجلة /العدد 1584يونيو -حزيران 2013
مسؤول مكتب اخلليج
عبد اهلل الر�شيد سكرتري التحرير
م�صطفى الد�سوقي
للمشاركة
إلرسال مقاالت أو آراء يرجى المراسلة على البريد اإللكتروني editorial@majalla.comملحوظة :جميع المقاالت يجب أال تزيد على 800كلمة
اشتراكات
لالشتراك في الطبعة الرقمية ،يرجى االتصال بـ subscriptions@majalla.com :لالشتراك في االلكترونيةwww.issuu.com/majalla : حقوق النشر محفوظة لمجلة المجلة 2009التي تصدر عن الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (المملكة المتحدة) شركة محدودة .وال يجوز بأي حال من األحوال إعادة طباعة المجلة أو أي جزء منها أو تخزينها في أي نظام استرجاعي أو نقلها بأي صورة أو أي وسيلة إلكترونية أو آلية أو تصويرها أو تسجيلها أو ما شابه دون الحصول على تصريح مسبق من الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (شركة محدودة) .وتصدر المجلة شهرياً .لتلقي استفسارات االشتراك الرقمي ،يرجى زيارة www.majalla.com
issue 1584 - June 2013
العدد 1584يونيو -حزيران 2013 الرياض -حي المؤتمرات -طريق مكة -تقاطع التخصصى
مرخص لها
الرياض :هاتف - 4419933لندنA Monthly Political News Magazine +44 207 831 8181 :
www.majalla.com/eng
HH Saudi Research and Marketing (UK) Ltd Arab Press House, 184 High Holborn, London WC1V 7AP Tel: +44 207 831 8181 - Fax: +44 207 831 2310
الوكيل اإلعالني
موقع إلكتروني ،www.alkhaleejiah.com :بريد إلكترونيhq@alkhaleejiah.com :
وكيل اإلشتراكات
بريد إلكتروني ، info@arabmediaco.com :موقع إلكتروني ،www.arabmediaco.com :هاتف مجاني 800-2440076 :
وكيل التوزيع مركز الطباعة
من داخل المملكة ،920 000 417 :دبي ،+9714 3 914440 :باريس ، +331 537 764 00:لندن ، +44 207 404 6950:ومن مختلف الدول +966 1 441 1444 :
وكيل التوزيع في المملكة العربية السعودية حي المؤتمرات -ص.ب - 62116الرياض ،11585هاتف +966 1 4419933 :فاكس،+966 1 2121774 : موقع إلكترونيwww.saudidistribution.com : ص.ب - 121 .الرياض ،11383هاتف ،+9661.2657000فاكس ،+9661.2658000موقع إلكترونيwww.halaprintco.com :
شركات المجموعة Saudi Specialized Publishing Company
حقوق التوزيع لهذه المطبوعات محفوظة
لشركة «تريبيون لخدمات اإلعالم»
حقوق النشر لهذه المطبوعات باللغة العربية مرخصة «المجلة»
للحصول على المزيد من المعلومات ،يرجى اإلتصال على الهاتف المجاني 8002440014
AN AMERICAN EDUCATION A BRITISH SETTING A GLOBAL FUTUR E A Since the 1970’s Richmond has been educating leading Middle Eastern families. Richmond’s unique style of personalised higher education ensures that students leave us with a dually accredited degree, that is recognised in the UK, the USA and worldwide.
+44 20 8133 2877 • enroll@richmond.ac.uk Visit www.richmond.ac.uk/al-majalla today to download our catalog and viewbook.
العدد 1584يونيو -حزيران 2013
مجلة العرب الدولية شهرية سياسية
تأسست في لندن عام 1980
علي العميم� :أزاهرة �شيوعيون ..هل كان حممد البهي �شيوعياً ؟! حت�سني قادر علي :املياه ..قنبلة موقوتة بني العراق و�إيران �ستيفن غلني�« :إخوان» �سابقون ين�ضمون �إىل املعار�ضة يف م�صر
للحصول على العدد اسـتخـدم هاتفــك ال ــذكي لـمــسح هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم 06
ISSN 1319-0873
9 771319 087013
issue 1584 - June 2013
www.majalla.com