الفصول الخمسة

Page 1

‫الفصول الخمسة‬ ‫الرياح تداعب خصالت شعري ‪ .‬قطرات عرق باردة تنسال من جبيني لتمر على ودجي فستقر في قلنسوة‬ ‫قميصي األبيض ‪ .‬قدماي ترتجفان ‪,‬ضربات قلبي تتسارع ‪,‬وابن فرناس جاثم فوق رأسي ‪,‬حاولت دفعه‬ ‫لكن لم أستطع ‪ .‬كان مجنونا ‪,‬لكنني أكثر جنونا منه ‪ .‬جنوني مجنون بدوره ‪,‬لذا فلو أبل جنون جنوني ‪,‬فال‬ ‫زلت أومن بأني أستطيع التحليق عاليا ‪ .‬قال السماء كئيبة و تجهما قلت ابتسم يكفي التجهم في السما ‪.‬‬ ‫كنت فيما مضى أحفظ القصيدة عن ظهر قلب‪,‬لكن لم يفلت من داء النسيان غير مطلعها ‪ .‬في حالي ‪,‬ال‬ ‫السماء كئيبة و ال أنا متجهم ‪,‬بل على العكس ‪,‬السماء براقة و رحبة و توحي بالدفء والحنين ‪ ,‬لكن شبح‬ ‫الخوف ال ينجاب عني ‪ .‬ربما خوفي هذا طبيعي ‪,‬كيف ال يكون كذلك و أنا أوشك أن أبحر في عوالم‬ ‫جديدة ‪ ,‬و أكتشف المجهول ‪ .‬لعلي لست خائفا من هذا المجهول بقدر خوفي من نفسي‪ .‬أخاف أن أخطئ‬ ‫المرمى أو أتيه في الطريق ‪ .‬أخاف من السقوط‪.‬‬ ‫أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه‬

‫لعلي إلى من قد هويت أطير‪.‬‬

‫مذ كنت طفال صغيرا‪ ,‬عالقا في عالم واسع و كبير‪ ,‬وأنا أتخيل نفسي طائرا في أعالي السماء‪ .‬ذرات‬ ‫الهواء المنعشة تستحيل إلى أشرعة فتحملني في األفق كريشة ‪ .‬أهفوا مع سرب الحمام ‪ ,‬أحيى البلبل و‬ ‫أناجي الشحرور ‪ .‬أسابق النسر األبي و أبحث مع العنقاء عن الزمن المفقود‪ .‬كانت أحالما مجنونة و‬ ‫طائشة ‪ ,‬لكن على األقل كانت لي أحالم ‪ .‬جنوني قديم قدم الليل و النهار ‪ ,‬أبدي و خالد ‪ .‬جنوني حرية‬ ‫مطلقة و رغبة ملحة تدفعني إلى حدود الزمن و المكان ‪,‬و يجرني إلى الحافة ‪.‬‬ ‫كبرت اآلن‪ ,‬حتى أن أمي تقول ‪ :‬في بيتنا رجل و ال كل الرجال‪ .‬لكنني ال زلت طفال ‪ .‬ال زلت أنشج‬ ‫نشيج فتاة في السادسة أبت أمها إال أن تمشط شعرها المشعكك‪ .‬ال أعلم بالضبط لماذا ‪ ,‬لكنها صارت‬ ‫عادة سرية ال تفارقني ‪ .‬صوت الدموع المختنقة و المتناغمة بغرابة مع األغاني الكالسيكية التي تصدح‬ ‫بغرفتي صار غطاء ابتهاليا لشعائري ‪ .‬أغمض عيني و أطلق لمخيلتي العنان ‪ ,‬حتى أنني و هللا أحس‬ ‫بالرياح تحملني على حصان أسطوري و تهرب بي بعيدا ‪ .‬إلى أين ؟ إلى الحافة ‪ .‬حافة ماذا ؟ ال أعلم ‪.‬‬ ‫ذات يوم كنت أطل من نافذة بيتي ‪,‬فلمحت قُبرتين اثنتين تتالعبان في خفة و نشاط مغريين ‪ .‬غرت منهما‬ ‫‪,‬حسدتهما ‪ .‬أزعجني وجودهما ‪ ,‬ضربات قلبيهما تجتاح سمعي كهزيم الرعد ‪ .‬رغبت في تلك اللحظة و‬ ‫أمام عيني المغتلمتين لو ينقض عليهما قط ساغب فيشرب الدم و يأكل اللحم و يمصمص العظم و يفترش‬ ‫الريش الرمادي الناعم ‪ .‬حين تخيلت نفسي مكانهما ‪,‬طائرا ضعيفا يخلل القط أسنانه بعظامي ‪,‬خامرني‬ ‫شعور مقيت بالندم و األسف و االنكسار‪ .‬أحب الطيور‪,‬أحبها حبي للحياة ‪ .‬ال يضاهي حبي لها إال ولهي‬ ‫بفتاة طيور الحب‪.‬‬


‫كانت متسمرة أمام قفص لطيور الحب ترنوا إلى طائرين يؤكالن بعضهما‪ .‬أذهلتني نظراتها و مالمح‬ ‫وجهها كأنها طفل يرى قوس قزح ألول مرة‪ .‬لم تتحرك و لم تنتبه لوقوفي بجانبها ‪ .‬وددت لو أستطيع أن‬ ‫أنفذ إلى أعماقها و أستبين كنه تلك النظرة الغامضة كنظرات الفالسفة‪.‬‬ ‫ما الشيء الذي أسرك في ذينك الطيرين يا آنسة ؟ سألتها ‪ .‬انتظرت أن تجيب لكنها لم تفعل‪ .‬استغرق‬‫القفص نظرها و أحالها تمثاال إغريقيا ال حياة فيه‪ .‬يا سيدة ؟ لم تجب أيضا ‪ .‬أدركت أنها ال تود الحديث‬ ‫معي‪ ,‬فغادرت حانقا مكرها‪ .‬إنه الجمال ‪ .‬التفت فوجدتها تحدق في بعينين لونهما مائل بين األزرق و‬ ‫األخضر تتخلل لجته خطوط حمراء دقيقة و قانية تتحلق حول البؤبؤ‪ .‬إنه الجمال ‪ .‬كان وقع صوتها علي‬ ‫كمرتي األولى مع الدانوب األزرق ‪ .‬يتردد في أذني كالصدى ‪ ,‬صدى آت من عالم غير عالمنا ‪ .‬هناك‬ ‫طيور أجمل يا آنسة ؟‪ .‬أعلم ‪ .‬إذن ماذا ترين فيهما ؟ ‪.‬جمال الحب و جمال الحرية ‪ .‬لم أفهم ‪ .‬أخبرني هل‬ ‫تحب الطيور؟ ‪ .‬أحبها حبي للحياة‪ .‬لماذا؟ ‪ .‬أخبريني أوال لماذا تحبين الحياة ؟ ‪ .‬أحب الحياة ألنني أحب و‬ ‫أحلم و أخاف‪ .‬ماذا تحبين؟ ‪ .‬أحب الطيور و الغابة و الماء و التراب و الهواء و الحقول و الورود‪ .‬و ما‬ ‫حلمك ؟ ‪ .‬أحلم أن أطير‪ .‬و مم تخافين ؟ ‪ .‬أجابت و الدمع يترقرق في محجريها كاللؤلؤ ‪ :‬أخاف من‬ ‫السقوط ‪ .‬لكن ماذا تع‪..‬‬ ‫غادرت مسرعة دون أن تترك لي مجاال ألستوضح‪.‬آخر ما رأيت منها كان شعرها األسود المتطاير و هي‬ ‫تجري ‪ ,‬و قامتها الخيزرانية و هي تنساب وسط المارة ‪ .‬سرقت قلبي و طارت بعيدا ‪,‬و لم أرها بعد ذلك‬ ‫أبدا ‪.‬‬ ‫أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه‬

‫لعلي إلى من قد هويت أطير‪.‬‬

‫لم يكن حلما ‪ .‬كان حقيقة بل أكثر من ذلك كان شعاع أمل في ليل شعائري المدلهم ‪ .‬رأيت نفسي فيها‬ ‫كأنها مرآة من بالد العجائب ‪ .‬كنت كذاك األمير الذي كانت فردة الحذاء هي الخيط الوحيد الذي يربطه‬ ‫بمعشوقته ‪ .‬هي مخطوطتي المفقودة و طوق نجاتي وإكسير الحياة تنتهي‪.‬شطر األخير من قصيدة عمودية‬ ‫أبت إال أن ال تنتهي ‪.‬‬ ‫قالوا أن الحب من النظرة األولى خرافة بل جنون ‪.‬فما قولهم في أني أحببتها حتى قبل أن أراها ‪.‬سكرت‬ ‫من أديم حسنها زمنا يسموا على الزمن‪.‬دقات قلبينا توحدتا ‪,‬تناغمتا في صمت يصم أذن الزمكان ‪ .‬شنقت‬ ‫نفسي بجدائلها المتموجة مرة و ثانية و ثالثة حتى اختلط علي الموت و الحياة‪ .‬تالمست يدانا في غفلة من‬ ‫القدر‪.‬و تحت ضوء القمر و أشعة الشمس التقت شفاهنا في قبلة سرمدية أحيت براكين األرض كلها ‪.‬‬ ‫رفرف قلبي لها وحدها‪ ,‬ولن يرفرف ألخرى بعدها أبدا‪.‬‬ ‫كالمها كله أحاجي‪ ,‬ظننت في األول أنها تتحدث بلغة غير لغة البشر‪ .‬كنت مخطئا و لم أكن‪ ,‬كانت تتحدث‬ ‫حديث القلوب‪ .‬أغنية مالئكية تناجي الروح و تحفر في سماء الشعور حفرا عميقة و موحلة ‪ .‬ذكرتني‬ ‫بطائر اسمه سعدون كنت قد قرأت عنه في قصة ‪ ,‬وجط وجط ‪.‬و بعصفور طل من الشباك كنت قد سمعت‬ ‫عنه في أغنية ‪ .‬هجر الجميع إلى جبل قاف ‪ .‬بحثت عنها و لم أجدها ‪,‬قالت أنها أيضا تحلم بالطيران ‪,‬ربما‬ ‫قد سبقتني إلى تلك األرض ‪ ,‬لعلها لهذا السبب كانت تجري ‪,‬لعلها وجدت الجواب نفس اليوم الذي التقيتها‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه‬

‫لعلي إلى من قد هويت أطير‪.‬‬

‫انتظريني أنا آت‪ .‬أخيرا حانت لحظة الوداع ‪ .‬لست آسفا على شيء بالقدر الذي آسف على فراق طيور‬ ‫هذا العالم المأسورة‪ .‬ربما قد أسقط قبل وصولي إلى الجبل‪ ,‬و ربما قد أنجح و أعوذ ذات يوم إلى هذه‬


‫البالد فاتحا‪ ,‬و أضيف فصال إلى الفصول األربعة يكون خالله موسم الهجرة إلى بالد الطيور‪ .‬أشغل على‬ ‫الجهاز مقطوعة الفصول األربعة لفيفالدي ‪,‬أحب المقطوعات إلى قلبي و أفضلها إلحياء طقسي األخير‪.‬‬ ‫يبدوا لي العالم أسفلي صغيرا و منكمشا ‪,‬و أنا شامخ و سامق كالجبال ‪ .‬و ألول مرة أحس بالراحة‪ .‬حان‬ ‫الوقت ‪,‬أشعر أنني أكبر و أتشامخ ‪,‬يجدر بي اإلسراع قبل أن ينوء البرج بالحمل فيهوي ‪ .‬الرياح تنادي و‬ ‫أصوات العصافير تتردد في المدى متماهية مع معزوفة الفصول ‪ .‬لن أستسلم إليك يا خوف ‪ ,‬العصافير‬ ‫تنادي ‪,‬و حلمي يبعد عني قيد أنملة‪.‬‬ ‫ائتمنت الرياح على جسدي و طرت‪ .‬ال أعلم كيف ‪,‬و ال أريد أن أعلم ‪ .‬يد تلقفتني في رحاب السماء و‬ ‫حملتني بعيدا بعيدا‪ .‬كانت يدا دافئة وفي ضخامة سفينة نوح ‪ .‬شعرت بالدوار و تهافتت في ذهني الصور‬ ‫و األصوات في نوستالجية قاتمة ‪ .‬رأيت قبور أبي و جدتي و البواب العجوز و مدرس اللغة العربية ‪.‬‬ ‫ماتوا كلهم منذ زمن بعيد‪ .‬كنت في مقبرة موحشة و مخيفة ‪,‬و قبور أحبتي متراصة كصناديق الكبريت ‪.‬‬ ‫ثمة في آخر الطابور قبر ال اعلم لمن ‪ .‬أ هو ألمي ‪ ...‬أ أختي ساكنته ‪..‬أم هو لي ؟؟ !‬ ‫البرد يلفح وجهي كضربات المروحة ‪ .‬فتحت عيني و إذا بعصفور صغير ‪,‬ريشه ملون باألزرق و‬ ‫األصفر و البنفسجي ‪.‬منقاره أصفر و رجاله حمراوان‪ ,‬يرفرف أمام وجهي بخفة و ابتهاج‪ .‬يردد ‪ :‬وجط‬ ‫وجط‪ .‬أعرفك ‪ ,‬أنت سعدون من القصة ؟ أومأ برأسه أن نعم ‪.‬تحلقت حولي مئات و آالف الطيور‬ ‫الجميلة‪ .‬عصفور األغنية أيضا كان هناك‪ .‬وجدت الجميع إال هي ‪ .‬رفرف الجميع بقوة فتهاويت كأوراق‬ ‫الخريف‪ ,‬و لم يبق مني إال عصفور صغير في ألوان قوس قزح‪.‬صرت طيرا من طيور الحب ‪.‬‬


‫نبذة عن الكاتب‬ ‫دمحم الوهابي ‪ 91,‬سنة ‪ ,‬من مدينة الدروة (قرب برشيد) ‪ .‬طالب بالمدرسة الوطنية‬ ‫للتجارة و التسيير بسطات ‪.‬‬ ‫خريج البرنامج العالمي للكتابة اإلبداعية 'بين السطور' بجامعة أيوا بالواليات‬ ‫المتحدة األمريكية ‪ .‬مهتم بالكتابة و العمل الجمعوي‪.‬‬ ‫البريد اإللكتروني ‪wahabi1996@gmail.com‬‬ ‫‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.