الفصول الخمسة الرياح تداعب خصالت شعري .قطرات عرق باردة تنسال من جبيني لتمر على ودجي فستقر في قلنسوة قميصي األبيض .قدماي ترتجفان ,ضربات قلبي تتسارع ,وابن فرناس جاثم فوق رأسي ,حاولت دفعه لكن لم أستطع .كان مجنونا ,لكنني أكثر جنونا منه .جنوني مجنون بدوره ,لذا فلو أبل جنون جنوني ,فال زلت أومن بأني أستطيع التحليق عاليا .قال السماء كئيبة و تجهما قلت ابتسم يكفي التجهم في السما . كنت فيما مضى أحفظ القصيدة عن ظهر قلب,لكن لم يفلت من داء النسيان غير مطلعها .في حالي ,ال السماء كئيبة و ال أنا متجهم ,بل على العكس ,السماء براقة و رحبة و توحي بالدفء والحنين ,لكن شبح الخوف ال ينجاب عني .ربما خوفي هذا طبيعي ,كيف ال يكون كذلك و أنا أوشك أن أبحر في عوالم جديدة ,و أكتشف المجهول .لعلي لست خائفا من هذا المجهول بقدر خوفي من نفسي .أخاف أن أخطئ المرمى أو أتيه في الطريق .أخاف من السقوط. أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير.
مذ كنت طفال صغيرا ,عالقا في عالم واسع و كبير ,وأنا أتخيل نفسي طائرا في أعالي السماء .ذرات الهواء المنعشة تستحيل إلى أشرعة فتحملني في األفق كريشة .أهفوا مع سرب الحمام ,أحيى البلبل و أناجي الشحرور .أسابق النسر األبي و أبحث مع العنقاء عن الزمن المفقود .كانت أحالما مجنونة و طائشة ,لكن على األقل كانت لي أحالم .جنوني قديم قدم الليل و النهار ,أبدي و خالد .جنوني حرية مطلقة و رغبة ملحة تدفعني إلى حدود الزمن و المكان ,و يجرني إلى الحافة . كبرت اآلن ,حتى أن أمي تقول :في بيتنا رجل و ال كل الرجال .لكنني ال زلت طفال .ال زلت أنشج نشيج فتاة في السادسة أبت أمها إال أن تمشط شعرها المشعكك .ال أعلم بالضبط لماذا ,لكنها صارت عادة سرية ال تفارقني .صوت الدموع المختنقة و المتناغمة بغرابة مع األغاني الكالسيكية التي تصدح بغرفتي صار غطاء ابتهاليا لشعائري .أغمض عيني و أطلق لمخيلتي العنان ,حتى أنني و هللا أحس بالرياح تحملني على حصان أسطوري و تهرب بي بعيدا .إلى أين ؟ إلى الحافة .حافة ماذا ؟ ال أعلم . ذات يوم كنت أطل من نافذة بيتي ,فلمحت قُبرتين اثنتين تتالعبان في خفة و نشاط مغريين .غرت منهما ,حسدتهما .أزعجني وجودهما ,ضربات قلبيهما تجتاح سمعي كهزيم الرعد .رغبت في تلك اللحظة و أمام عيني المغتلمتين لو ينقض عليهما قط ساغب فيشرب الدم و يأكل اللحم و يمصمص العظم و يفترش الريش الرمادي الناعم .حين تخيلت نفسي مكانهما ,طائرا ضعيفا يخلل القط أسنانه بعظامي ,خامرني شعور مقيت بالندم و األسف و االنكسار .أحب الطيور,أحبها حبي للحياة .ال يضاهي حبي لها إال ولهي بفتاة طيور الحب.
كانت متسمرة أمام قفص لطيور الحب ترنوا إلى طائرين يؤكالن بعضهما .أذهلتني نظراتها و مالمح وجهها كأنها طفل يرى قوس قزح ألول مرة .لم تتحرك و لم تنتبه لوقوفي بجانبها .وددت لو أستطيع أن أنفذ إلى أعماقها و أستبين كنه تلك النظرة الغامضة كنظرات الفالسفة. ما الشيء الذي أسرك في ذينك الطيرين يا آنسة ؟ سألتها .انتظرت أن تجيب لكنها لم تفعل .استغرقالقفص نظرها و أحالها تمثاال إغريقيا ال حياة فيه .يا سيدة ؟ لم تجب أيضا .أدركت أنها ال تود الحديث معي ,فغادرت حانقا مكرها .إنه الجمال .التفت فوجدتها تحدق في بعينين لونهما مائل بين األزرق و األخضر تتخلل لجته خطوط حمراء دقيقة و قانية تتحلق حول البؤبؤ .إنه الجمال .كان وقع صوتها علي كمرتي األولى مع الدانوب األزرق .يتردد في أذني كالصدى ,صدى آت من عالم غير عالمنا .هناك طيور أجمل يا آنسة ؟ .أعلم .إذن ماذا ترين فيهما ؟ .جمال الحب و جمال الحرية .لم أفهم .أخبرني هل تحب الطيور؟ .أحبها حبي للحياة .لماذا؟ .أخبريني أوال لماذا تحبين الحياة ؟ .أحب الحياة ألنني أحب و أحلم و أخاف .ماذا تحبين؟ .أحب الطيور و الغابة و الماء و التراب و الهواء و الحقول و الورود .و ما حلمك ؟ .أحلم أن أطير .و مم تخافين ؟ .أجابت و الدمع يترقرق في محجريها كاللؤلؤ :أخاف من السقوط .لكن ماذا تع.. غادرت مسرعة دون أن تترك لي مجاال ألستوضح.آخر ما رأيت منها كان شعرها األسود المتطاير و هي تجري ,و قامتها الخيزرانية و هي تنساب وسط المارة .سرقت قلبي و طارت بعيدا ,و لم أرها بعد ذلك أبدا . أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير.
لم يكن حلما .كان حقيقة بل أكثر من ذلك كان شعاع أمل في ليل شعائري المدلهم .رأيت نفسي فيها كأنها مرآة من بالد العجائب .كنت كذاك األمير الذي كانت فردة الحذاء هي الخيط الوحيد الذي يربطه بمعشوقته .هي مخطوطتي المفقودة و طوق نجاتي وإكسير الحياة تنتهي.شطر األخير من قصيدة عمودية أبت إال أن ال تنتهي . قالوا أن الحب من النظرة األولى خرافة بل جنون .فما قولهم في أني أحببتها حتى قبل أن أراها .سكرت من أديم حسنها زمنا يسموا على الزمن.دقات قلبينا توحدتا ,تناغمتا في صمت يصم أذن الزمكان .شنقت نفسي بجدائلها المتموجة مرة و ثانية و ثالثة حتى اختلط علي الموت و الحياة .تالمست يدانا في غفلة من القدر.و تحت ضوء القمر و أشعة الشمس التقت شفاهنا في قبلة سرمدية أحيت براكين األرض كلها . رفرف قلبي لها وحدها ,ولن يرفرف ألخرى بعدها أبدا. كالمها كله أحاجي ,ظننت في األول أنها تتحدث بلغة غير لغة البشر .كنت مخطئا و لم أكن ,كانت تتحدث حديث القلوب .أغنية مالئكية تناجي الروح و تحفر في سماء الشعور حفرا عميقة و موحلة .ذكرتني بطائر اسمه سعدون كنت قد قرأت عنه في قصة ,وجط وجط .و بعصفور طل من الشباك كنت قد سمعت عنه في أغنية .هجر الجميع إلى جبل قاف .بحثت عنها و لم أجدها ,قالت أنها أيضا تحلم بالطيران ,ربما قد سبقتني إلى تلك األرض ,لعلها لهذا السبب كانت تجري ,لعلها وجدت الجواب نفس اليوم الذي التقيتها فيه. أسرب القطا هل لي من يعيرني جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير.
انتظريني أنا آت .أخيرا حانت لحظة الوداع .لست آسفا على شيء بالقدر الذي آسف على فراق طيور هذا العالم المأسورة .ربما قد أسقط قبل وصولي إلى الجبل ,و ربما قد أنجح و أعوذ ذات يوم إلى هذه
البالد فاتحا ,و أضيف فصال إلى الفصول األربعة يكون خالله موسم الهجرة إلى بالد الطيور .أشغل على الجهاز مقطوعة الفصول األربعة لفيفالدي ,أحب المقطوعات إلى قلبي و أفضلها إلحياء طقسي األخير. يبدوا لي العالم أسفلي صغيرا و منكمشا ,و أنا شامخ و سامق كالجبال .و ألول مرة أحس بالراحة .حان الوقت ,أشعر أنني أكبر و أتشامخ ,يجدر بي اإلسراع قبل أن ينوء البرج بالحمل فيهوي .الرياح تنادي و أصوات العصافير تتردد في المدى متماهية مع معزوفة الفصول .لن أستسلم إليك يا خوف ,العصافير تنادي ,و حلمي يبعد عني قيد أنملة. ائتمنت الرياح على جسدي و طرت .ال أعلم كيف ,و ال أريد أن أعلم .يد تلقفتني في رحاب السماء و حملتني بعيدا بعيدا .كانت يدا دافئة وفي ضخامة سفينة نوح .شعرت بالدوار و تهافتت في ذهني الصور و األصوات في نوستالجية قاتمة .رأيت قبور أبي و جدتي و البواب العجوز و مدرس اللغة العربية . ماتوا كلهم منذ زمن بعيد .كنت في مقبرة موحشة و مخيفة ,و قبور أحبتي متراصة كصناديق الكبريت . ثمة في آخر الطابور قبر ال اعلم لمن .أ هو ألمي ...أ أختي ساكنته ..أم هو لي ؟؟ ! البرد يلفح وجهي كضربات المروحة .فتحت عيني و إذا بعصفور صغير ,ريشه ملون باألزرق و األصفر و البنفسجي .منقاره أصفر و رجاله حمراوان ,يرفرف أمام وجهي بخفة و ابتهاج .يردد :وجط وجط .أعرفك ,أنت سعدون من القصة ؟ أومأ برأسه أن نعم .تحلقت حولي مئات و آالف الطيور الجميلة .عصفور األغنية أيضا كان هناك .وجدت الجميع إال هي .رفرف الجميع بقوة فتهاويت كأوراق الخريف ,و لم يبق مني إال عصفور صغير في ألوان قوس قزح.صرت طيرا من طيور الحب .
نبذة عن الكاتب دمحم الوهابي 91,سنة ,من مدينة الدروة (قرب برشيد) .طالب بالمدرسة الوطنية للتجارة و التسيير بسطات . خريج البرنامج العالمي للكتابة اإلبداعية 'بين السطور' بجامعة أيوا بالواليات المتحدة األمريكية .مهتم بالكتابة و العمل الجمعوي. البريد اإللكتروني wahabi1996@gmail.com .