هذه المجلة ورؤاها
افتتاحية
بدعم من مدينة امللك عبدالعزيز قام مركز امللك في�صل للبحوث والدرا�سات الإ�سالمية ٍ للعلوم والتقنية بو�ضع �إ�سرتاتيجية بعيدة املدى لن�شر الثقافة العلمية يف املجتمع بعنوان: (الإ�سرتاتيجية الوطنية لن�شر الثقافة العلمية1450 -1431 :هـ) .و�أ�شارت الإ�سرتاتيجية �إىل �أن اململكة العربية ال�سعودية «ال تزال تفتقر لو�سائط الثقافة العلمية املطبوعة ...و�أن وعي املجتمع ال�سعودي ب�أهمية الثقافة العلمية ما زال حمدود ًا» ،م�ضيف ًة« :هناك قلة يف عدد الكتب واملجالت والن�شرات يف الثقافة العلمية». تهتم بن�شر الوعي العلمي لدى ومن هذا املنطلق تبدو احلاجة �شديد ًة �إىل مطبوعات وجمالت ّ �شرائح املجتمع كاف ًة ،كما �أن الثقافة العلمية هي �إحدى الركائز املهمة ملجتمع املعرفة الذي يجب على املجتمع ال�سعي نحوه؛ لتكوين عقلية علمية قادرة على �إزالة كثري من الغب�ش الفكري الذي يعانيه. عندما انطلقت هذه املجلة كان �أحد �أهم الأهداف هو «تقدمي معلومات تنا�سب القارئ غري املتخ�ص�ص؛ ليقف من خاللها على �أمناط من املعرفة العلمية» ،وو�ضع القارئ العربي �أمام ّ املبني على نتائج العلم ،وحقائق التقنية. امل�شهد املعا�صر ّ هذا ما ّ �سطره رئي�س حترير املجلة يف عددها الأول؛ فاملجلة �-إذ ًا -ت�ضع �أوىل لبنات �إجناز الإ�سرتاتيجية الوطنية لن�شر الثقافة العلمية ،وجعلها مك ّون ًا رئي�س ًا من مك ّونات ثقافة املجتمع العربي؛ لتحقيق �شروط املعا�صرة (م�شروع ن�شر الثقافة العلمية والثقافية يف الوطن العربي ،جامعة الدول العربية) .وقد حاولت املجلة يف �أعدادها املا�ضية -قدر تهم القارئ ب�أ�سلوب يجمع بني امل�ستطاع� -أن تطرح املو�ضوعات العلمية املعا�صرة التي ّ ال�سهولة والعمق ،وا�ستقطبت نخب ًة من العلماء والكتّاب العلميني من خمتلف الدول العربية والأجنبية ،ور�صدت التحوالت يف جماالت العلوم والطب والتقانة؛ لنقل امل�شهد العلمي يف العامل �إىل القارئ. وت�سعى املجلة �إىل التطوير الدائم يف �إطار ر�ؤاها ب�إعداد التقارير الوافية عن �أحدث التطورات العلمية يف العامل ،وتقدميها �إىل القارئ العربي بلغة عربية �سل�سة و�سليمة .و�إذا كنا نرى �أهمية معرفة ثمار العلم املعا�صر ،والتطور املت�سارع يف العلوم ،وانعكا�س ذلك يف حياتنا ،ف�إننا
ن�ؤمن ب�أن �أكلنا الثمرة يجب �أن ت�سبقه معرفة م�صدرها؛ �أي :من �أين �أتت؟ وكيف ُزرعت؟ وهل نحن ن�أكل مما نزرع �أو مما يزرعه غرينا؟ ً �إننا ن�ؤمن ب�أن ال�شجرة وجذورها �أهم من الثمرة؛ لذلك �سنهتم �أي�ضا بتقدمي التف�سريات الفل�سفية ،والإطار الثقايف للممار�سات العلمية؛ كفل�سفة العلوم مث ًال؛ يقول تعاىل يف كتابه ال ْلقَ ُث َّم هَّ ُ ن�ش ُئ ال َّن ْ�ش�أَ َة ْال ِآخ َر َة ِ�إنَّ هَّ َ الَ ْر ِ�ض َف ُ انظ ُروا َك ْي َف بَدَ �أَ خْ َ الل احلكيمُ } :ق ْل ِ�س ُريوا فيِ ْ أ الل ُي ِ َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َقدِ ي ٌر{ (العنكبوت.)20 : �ستوجه املجلة اهتمامها �إىل ك ّل ما من �ش�أنه رفع �إمكانات املجتمع العلمي؛ مثل :ال�صحافة ّ ً متخ�ص�صة و�سعودية عربية أقالم � ب ة م�ستعين العلمية، والثقافة العلمي، والن�شر العلمية، ّ و ُم�ؤهَّ لة ،كما �سنقوم برتجمة ما نراه منا�سب ًا ومهم ًا يف ال�صحف والدوريات العلمية العاملية. ولأنه ال م�ستقبل ل ّأي جمتمع منبتّ عن ما�ضيه وتراثه ،خ�صو�ص ًا �إذا كان هذا الرتاث م�ضيئ ًا وثري ًا ،ف�إن املجلة �ستُعنى بالرتاث العلمي العربي الإ�سالمي الذي مل تُكت�شف كنوزه بعدُ؛ فهناك �آالف املخطوطات املجهولة التي ت�ستحقّ البحث والتنقيب والإبراز ،وهناك املخطوطات املعلومة التي مل تحُ قَّق حتقيق ًا علمي ًا بعدُ ،ون�سوق مثا ًال ب�سيط ًا لذلك كتاب (املناظر) البن الهيثم ،الذي ح ّقق الدكتور عبداحلميد �صربة املقاالت الأوىل والثانية والثالثة منه يف نحو وح ّققت املقالتان الرابعة واخلام�سة بعد ذلك بع�شرين عام ًا ،ومل تحُ قَّق �إىل عام 1980مُ ، الآن املقالتان ال�ساد�سة وال�سابعة ،على الرغم من توافر ن�سخ من املخطوطة ،وغري ذلك كثري؛ ف�إن�صاف ًا لهذا الرتاث ال ّرث �ستكون هناك �صفحات عنه يف جملتنا. ً وماذا �أي�ض ًا؟ يحدونا الأمل يف حتقيق كثري من الطموحات التي قد تبدو �أحالما ،والتي لها مردودها الإيجابي يف تطور املجتمع ،لكن ثقتنا �أن الإجنازات الكبرية �أ�سا�سها حلم ُيطلق الطاقات الكامنة حتى تحُ يله �إىل حقيقة؛ فما نحتاج �إليه هو العمل مع ًا �-إدار ًة وحترير ًا و ُكتّاب ًا وق ّرا ًء -بكثري من اجلهد والدعم وال�صرب. ً َن ِعدُكم ب�أننا لن نو ّفر جهد ًا حتى ت�صل املجلة �إىل املدى الذي نطمح �إليه جميعا ،بل �إىل مدى �أبعد من ذلك يف �سبيل (�إ�شاعة الثقافة العلمية)؛ �إ�سهام ًا يف �إيجاد جمتمع املعرفة الذي ن�صبو �إليه ،ونحلم به. د .عبدالله الحاج رئيس التحرير
www.alfaisal-scientific.com contact@alfaisal-scientific.com @alfaisalscimag
مجلة فصلية تهتم بنشر الثقافة العلمية في الوطن العربي
alfaisalscientific
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الناشران رئـيـس الـتـحريـر
د .عبد الله نعمان الحاج
رئيس الهيئة االستشارية
مدير التحـرير
د .دحام بن إسـمـاعيل الـعـاني
د .حسـين حســن حسـين
الهيئة االستشارية
سكرتيرا التحـرير
د .صــــــــــدام مــثـنـى
ســـيد عـلـي الجعــفـري
د .عبد الكريم المقادمة
حمدان العجمي
د .محمد بن إبراهيم الكنهل
اإلخـــراج الفني
د .يوسف بن محمد اليوسف
أزهـري أحــمـــد النويري الموقع اإللكتروني
مراسالت التحرير واإلدارة ص.ب ( )51049الرياض 11543 مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية مجلةالفيصلالعلمية المملكةالعربيةالسعودية هـاتف - )+966 11( 4652255 :تحويلة 6569 فاكس)+966 11( 4659992 : جــــوال)+966( 554972092 : التسويق واإلعالنات هاتف 4652255 :ـ فاكس4659992 : ردمد 8561-8821 رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 1424/2315
معتز عبد الماجد بابكر
ضوابط النشر • أن يكون المقال مكتوب ًا بلغة علمية مبسطة لفهم القارئ غير المتخصص. • أال يزيد المقال الواحد على 2000كلمة مقاس .A4 • أن يلتزم الكاتب المنهج العلمي ،ويشير إلى المصادر والمراجع العلمية ،الورقية واإللكترونية. • ترحب المجلة بالمقاالت المترجمة في الموضوعات العلمية الحديثة ،شريطة أن يذكر المصدر وتاريخ النشر. • ترحب المجلة باآلراء التي تخص القضايا العلمية ،بشريطة أ ّ ال تزيد على 600كلمة. • يفضل إرسال المقاالت عبر إيميل المجلة أو إرسال المقال على قرص مرن إن أمكن. • يمنح كاتب المقال مكافأة مالية بعد نشر المقال. • المقاالت المنشورة في المجلة تعبر عن وجهة نظر أصحابها، وال يعني نشرها تبني المجلة ما احتوت عليه من أفكار وآراء.
تحول القرن الحادي والعشرين رؤية الممــلكة تحقّ ق ّ هل تتّجه التقانة إلى نقطة التالقي؟ العلم توماس كـون :رجل غ ّير نظرة العا َلم إلى ِ «فيسبوك» واالكتئاب ..هل من عالقة؟ هل يمكن لعلماء األعصاب فهم لعبة «دونكي كونج»؟ التغيير الناعم سأدفعك إلى التغيير من دون أن تشعر فلسفة اإليمان من منظور الرياضيات التهديدات الخمسة الكبرى للوجود البشري الطب النفسجسمي عند المسلمين قصة نجاح عربية على ُبساط الغربة
ملف العدد يدونون ابتكاراتهم وآراءهم في كان أغلب العلماء قبل 500عام ّ كتب ،ولم يكن هناك وجود للمجالت العلمية المحكّ مة كما نراها ٍ اليوم؛ فكانت الكتب هي الوسيلة األولى لنشر األفكار ،يضع فيها العالم فكره وما توصل إليه بالتفصيل؛ ففكرة أن الشمس هي ّ تدون في بحث علمي بمجلة ،وإنما مركز المجموعة الشمسية لم ّ في كتاب كوبرنيكوس الشهير (دوران األفالك السماوية) ،وفكرة دونها جاليليو في أحد كتبه ،وقوانين الجاذبية القصور الذاتي ّ دونها نيوتن في كتابه (األصول الرياضية للفلسفة الطبيعية) .ومع ّ تقدم العلوم أراد العلماء أن تتسارع عملية االكتشاف واالبتكار؛ ّ ألن الكتب تحتاج إلى وقت لطباعتها وتوزيعها ،فلجأوا إلى اختراع المجالت العلمية ،التي ينشر فيها العالم بحثه الذي توصل إليه ّ المتخصصة في الفيزياء فور كتابته ،فانتشرت المجالت العلمية ّ والفلك والكيمياء والفلسفة.
20
56 70 84 92 102 108 112 128 144 166
راغدة حداد :الصحافة العلمية تعكسواقعنا
28
المجالت العلمية العربية: دراما االختفاء ومحنة الغياب
38
خطوات تحسين الترجمة العلمية
44
علوم ال غنى عنها للصحفيي
واحة العلوم طارق راشد -أبو ظبي -اإلمارات
األدمغة:
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
السالح السري لنجوم الرياضة
6
تعمل �أدمغة الريا�ضيني ،الذين هم على درجة عالية من التدريب، بطريقة �أكف أ� من �أدمغة غريهم. وال ّ ين�شط الريا�ضيون من الق�شرة املخية (طبقة املخ اخلارجية) �إال الأجزاء ال�ضرورية حلركات معينة من قبيل املحاورة بالكرة� ،أو اعرتا�ضها� ،أو �إنقاذ الأهداف التي ّ يوظفها حرا�س املرمى في مباريات كرة القدم .وتقول بوال فرنانديز؛ �أ�ستاذة علم النف�س الريا�ضي يف جامعة كامبينا�س الربازيلية: ّ «ين�شط ه�ؤالء الريا�ضيون جزء ًا �أ�صغر من �أدمغتهم ،لكنهم ي�ستخدمونه ا�ستخدام ًا �أف�ضل بكثري من غريهم». حاول �أن تت�ص ّور املخ على �أنه (�سوبر ماركت)؛ فالريا�ضي من الطراز الأول يعرف بال�ضبط مو�ضع الأ�صناف التي يريد �شراءها؛ فيمكنه ّ والرف الذهاب �إىل املم ّر ال�صحيح، ال�صحيح مبا�شرة ،من دون �أن يلتفت حوله ،ورمبا يعرف الهاوي يف � ّأي
ممر يبحث ،لكن الأمر �سيحتاج منه �إىل بع�ض الوقت ريثما يجد املو�ضع بال�ضبط ،و�سيبدّد طاقة �أكرث. جنم كرة القدم الربازيلي نيمار من بني الق ّلة الذين توجد يف تالفيف �أدمغتهم �أوامر كروية خمت�صرة كما جاء يف النتائج التي ن�شرتها دورية (فرونتريز �إن هيومان املتخ�ص�صة يف علم نيورو�ساين�س)، ّ الأع�صاب ،عام 2014م؛ فبا�ستخدام الت�صوير بالرنني املغناطي�سي قارن علماء يابانيون دماغ نيمار ،الذي يلعب يف نادي بر�شلونة الإ�سباين
لكرة القدم ،ب�أدمغة ثالثة العبني �إ�سبانيني �آخرين من الدرجة الثانية، وهم �سباحان والعب �ألعاب قوى ها ٍوُ ،طلب منهم جميع ًا يف �أثناء التجربة حتريك �أقدامهم كما لو كانوا يحاورون خ�صم ًا يريدون ّ تخطيه .و�أظهرت التجربة �أن نيمار ّ ن�شط جزء ًا من الق�شرة املخية �أ�صغر كثري ًا مما ّ ن�شطه الالعبان املحرتفان الآخران ،بل كان الفرق �أكرب مقارن ًة بالريا�ضي الهاوي .يقول �إيت�شي نايتو؛ اخت�صا�صي علم الأع�صاب الذي �أجرى الدرا�سة« :ين ّفذ جنم كرة
ريا�ضي يخ�ضع الختبار ت�صوير املخ
جنم كرة القدم نيمار
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
القدم حركاته بطريقة طبيعة تلقائية حت ّرر م�ساح ًة في ّ خمه ،وهو ما ي�ساعده على التفكري والت�ص ّرف على نحو �أ�سرع يف �أثناء املباراة .لقد تك ّيف ّ ويخ�ص�ص مزيد ًا خمه مع اللعبة، ّ من املوارد الع�صبية تو ّقع ًا لأفعال الالعبني الآخرين». الأكرث من ذلك �أن جنم كرة القدم الربتغايل كري�ستيانو رونالدو ي�ستطيع �إحراز �أهداف يف الظالم .قد يبدو ذلك من قبيل املبالغة ،لكنه جنح فع ًال في هذه املهمة ال�صعبة يف �أثناء اختبار مل�صلحة برنامج تلفزيوين بريطاين عام 2011م؛ �إذ �أطفئت الأنوار بعد ركل الكرة ،لكن رونالدو مت ّكن من اعرتا�ضها بالتنب�ؤ مب�سارها من واقع حركات الالعب الذي ركلها ال غري. وتقول برونا فيال�سكي�س؛ �أ�ستاذة علم الأع�صاب يف جامعة ريو دي جانريو االحتادية« :يبحث الريا�ضي عن م�ؤ�شرات ت�صدر عن اخل�صم قبل قيامه بحركة هجومية �أو دفاعية ،وعلى هذا النحو ي�ستطيع تو ُّقع هذه احلركة والت�ص ّرف بناء على ذلك». ويمُ كن يف الريا�ضات الأعنف بدني ًا �أن يكون الفوز �أو الهزمية م�س�ألة �أجزاء من �ألف جزء من الثانية؛ ففي املالكمة -على �سبيل املثال -حتدث ك ّل حركة يف نحو 0.08من الثانية،
وهو زمن �أ�سرع من طرفة العني ،ولو اكتفى املالكم بانتظار لكمة خ�صمه لكي ير ّد عليها ف�سرعان ما �س ُيغلب بال�ضربة القا�ضية؛ لأن املالكمة ريا�ضة تتط ّلب كثري ًا من الذكاء. �أحدثت �سنوات من التدريب املك ّثف حتو ًال في �أدمغة الالعبني، فجعلتها �أ�شبه ببنوك البيانات التي تختزن جميع احلركات التي تع ّلموها يف �أثناء م�سريتهم الريا�ضية ،ويف اللحظة التي يدرك فيها املخّ حركة اخل�صم يبحث ب�سرعة عن �أف�ضل طريقة للتغلب على هذه العقبة. يقول العب التن�س فالفيو �ساريتا، الذي فاز بامليدالية الذهبية يف دورة الألعاب الأمريكية عام 2007م: «كيف �أكت�شف �أين �سي�ضرب الالعب الآخر الكرة؟ الأمر يبدو كما لو كنتُ من �سالحف النينجا� ،ألي�س كذلك؟ هذا نتيجة كثري من التدريب واللعب الرفيع امل�ستوى» ،م�ضيف ًا :قدرة روجر فيدرير على قراءة اللعبة تف�سر م�سرية ومفاج�أة خ�صومه ّ هذا املواطن ال�سوي�سري الريا�ضية و�إجنازاته غري العاديني؛ «فهو ال يكاد يعرق �أبد ًا في امللعب ،ويتم ّكن من تخمني �أين �ستذهب الكرة ويتح ّرك بناء على ذلك؛ فيتو ّلد لديك انطباع ب�أنك �أينما �ضربت الكرة �سيكون يف انتظارها لريدّها، وهذا الأمر موهبة».
يخ�ص عظماء الريا�ضة، وفيما ّ ُيع ّد هذا الأمر مزيج ًا من املوهبة والتدريب الذي ال ينقطع ،يقول ريكاردو �أريدا؛ �أ�ستاذ ف�سيولوجية اجلهاز الع�صبي يف جامعة �ساو باولو االحتادية�« :إنهم يبد�ؤون في املمار�سة يف �سنّ الطفولة ،وهذا العدد الكبري من التكرارات يثري حت�سن تفكريهم تغيرّ ات يف املخ ّ وقدرتهم» .وهكذا ،ف�إن الأجزاء املطلوبة من املخ لريا�ضة مع ّينة تط ّور مقدار ًا �أكرب من اخلاليا الع�صبية ،وتزيد املادة الرمادية، ويحدث ال�شيء نف�سه مع املحرتفني يف ميادين �أخرى؛ كاملو�سيقا والرق�ص .لكن التدريب وحده لي�س كافي ًا؛ فكما يقول �أريدا« :العوامل الوراثية ت�ؤدي هي الأخرى دور ًا؛ ففي النهاية حتى لو لعب كثريون كرة القدم يف �سنّ �صغرية فلن يتح ّولوا كلهم �إىل نيمار �آخر».
7
واحة العلوم
العلماء يتهيئون ألول
كسوف شمسي
ضة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
«أمريكي محض» في 2017م
8
قدم و�ساقٍ جتري التح�ضريات على ٍ ت�أهب ًا ملا ي�س ّميه العلماء (الك�سوف الأمريكي العظيم لعام 2017م)؛ فللمرة الأوىل يف التاريخ الأمريكي، ويف يوم � 21أغ�سط�س عام 2017م، �سيم ّر م�سار الك�سوف الكلي لل�شم�س (�أي :امل�سار الذي يعرب على امتداده ظ ّل القمر) ح�صري ًا وكلي ًة عرب �أر�ض الواليات املتحدة الأمريكية يف ّ خط يبلغ ات�ساعه
70مي ًال ،وميتد من �أوريجون �إىل �ساوث كارولينا ،ويرى علماء الفلك يف هذا الك�سوف فر�ص ًة مل�شاهدات علمية جديدة و�إ�شراك اجلمهور. وكان �آخر ك�سوف �شم�سي ُ�شوهد من ال�ساحل ال�شرقي �إىل ال�ساحل الغربي فوق �أمريكا ال�شمالية قد حدث عام 1918م ،واتّخذ م�سار ًا مماث ًال مل�سار ك�سوف عام 2017م، لكن لأن م�ساره جعله مرئي ًا �أي�ض ًا
ارتداء النظارات الواقية للعيون
فوق منطقة برمودا ،التي كانت �آنذاك جزء ًا من الإمرباطورية الربيطانية ،وهي الآن �أر�ض بريطانية؛ لذلك مل يكن بو�سع الواليات املتحدة الأمريكية ادّعاء حدوثه ح�صري ًا فوق �أر�ضها� .أما ك�سوف عام 2017م ،فلن مي ّر فوق برمودا وال � ّأي �أر�ض �أخرى؛ لذا فهو ك�سوف (�أمريكي حم�ض) مبعنى الكلمة. إطالالت ال نظير لها
و�صفت الفيزيائية �أجنيال دي جاردان -الباحثة يف احتاد مونتانا للمنح الف�ضائية ،التي ت�شرف على جتربة �سيقوم خاللها 50فريق ًا من الطالب مو ّزعني على 30والية �أمريكية ب�إطالق مناطيد عالية االرتفاع يف �أثناء هذا الك�سوف -يف كلمتها �أمام امل�ؤمتر ال�سنوي الرابع لق�سم الفيزياء ال�شم�سية باجلمعية
إشراك الجمهور وتثقيفه
�أجرت امل�ؤ�س�سة الوطنية للعلوم عام 2014م درا�سة تك ّررها كل ب�ضع �سنوات ،وتخترب فيها الثقافة العلمية ب�أن ت�س�أل الأمريكيني عما �إذا كانت الأر�ض تدور حول ال�شم�س �أم �أن ال�شم�س هي التي تدور حول الأر�ض ،وهو �س�ؤال ُح�سمت الإجابة عنه يف القرن ال�سابع ع�شر امليالدي ،لكن يبدو �أن خربه مل ي�صل �إىل اجلميع؛ �إذ يظنّ %26 من اجلمهور الأمريكي �أن ال�شم�س هي التي تدور حول الأر�ض ،وتقول دي جاردان« :نرجو �أن نخ ّف�ض هذه الن�سبة بع�ض ال�شيء» .ولهذا ال�سبب الوجيه متام ًا يرجو العلماء ي�شجع الك�سوف ال�شم�سي النا�س �أن ّ على البحث ،وتع ّرف املجموعة ال�شم�سية ،وكيفية عملها ،ومكاننا فيها. ويجوب جاي با�سات�شوف الأ�ستاذ يف كلية وليمز كوليدج،ونظري �إنديانا جونز يف دنيا علم
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الفلكية الأمريكية ،الذي ُعقد يف مدينة بولدر بوالية كولورادو يف 2 يونيو عام 2016م ،الطريقة التي �ستبثّ بها املناطيد �إىل �سطح الأر�ض �صور ًة حي ًة بالفيديو من على م�شارف الف�ضاء ،م�ؤ ّكد ًة �أنه مل ي�سبق ّ قط �أن ُ�شوهد ك�سوف �شم�سي من مثل هذا االرتفاع �إال مرة واحدة فوق �أ�سرتاليا عام 2012م على الرغم من �أن التغطية وال�صور كانت �آنذاك حمدودة. و�أ�ضافت الدكتورة دي جاردان« :مل يحدث ّ قط �أن التُقط ت�سجيل فيديو مبا�شر من على م�شارف الف�ضاء، ويقين ًا مل يحدث �أن كانت هناك تغطية عرب قارة ب�أكملها� .سيكون حدث ًا مبهر ًا». ويتو ّقع العلماء �أي�ض ًا �س ّد فجوات �أخرى ت�شوب فهمنا لل�شم�س؛ فتقول عاملة الفلك �شادية ح ّبال؛ الأ�ستاذة يف جامعة هاواي الأمريكية� :سيتيح هذا الك�سوف للعلماء «�إطالالت ال نظري لها على فيزياء هالة ال�شم�س» ،وهي الهالة املك ّونة من البالزما التي حتيط بقر�ص ال�شم�س ،وت�صل درجة حرارتها �إىل مليون درجة كلفن؛ ف�أثناء الك�سوف ،عندما ُيحجب قر�ص ال�شم�س� ،ستتم ّكن الأجهزة من ر�صد التفا�صيل الدقيقة لبنى الهالة ال�شم�سية ،وت�سجيل ت�شتّت
املادة من ال�شم�س ،ور�صد حاالت عدم ا�ستقرار البالزما التي تكون فيما عدا ذلك �أخفت من �أن يت�س ّنى ر�صدها .و�أ�ضافت ح ّبال: غني «هالة ال�شم�س خمترب فلكي ّ ميكننا مالحظته مب�ستوى بديع من التف�صيل».
الفلك -العامل لدرا�سة الك�سوفات ال�شم�سية ،التي ر�صد منها 63 ك�سوف ًا �إىل الآن ،وهو يريد من اجلمهور ال�سفر �إىل م�سار الك�سوف بن�شاط يف ك�سوف الكلي ،وامل�شاركة ٍ عام 2017م ،وقال با�سات�شوف يف �أثناء امل�ؤمتر« :نريد �أن نع ّرفكم مق ّدم ًا �أن �أ�شياء رائعة مبعنى الكلمة �ستفوتكم لو مل تكونوا يف منطقة الك�سوف الكلي يوم 21 �أغ�سط�س عام 2017م» ،وكان با�سات�شوف قد أ� ّكد �سابق ًا �أن َمن ي�شاهد ك�سوف ًا خارج م�ساره «مثله مثل َمن يذهب �إىل �شباك التذاكر مبلعب لكرة البي�سبول �أو كرة القدم وال يدخله» .و�سيكون على امل�شاهدين ال�سفر �إىل مدينة هوبكنزفيل بوالية كنتاكي مل�شاهدة الك�سوف يف �أق�صى مدة له؛ �إذ ميكن هناك م�شاهدته مدة دقيقتني كاملتني و�أربعني ثانية ت�صري خاللها ال�سماء «مظلمة كالليل يف منت�صف النهار» على حد قول با�سات�شوف .ومنذ �سنوات كثرية واملدينة تته ّي�أ لهذا احلدث ببناء �أمكنة لإقامة العدد ال�ضخم من الزائرين الذين �سيتدفقون عليها ،و ُيتوقع �أن يكون عددهم مئات الآالف .وقد �شهد �شهر يونيو عام 2012م ما ي�شبه (الربوفة) للحدث الو�شيك عندما تد ّفق
9
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
واحة العلوم
10
�آالف الزوار على املدينة مل�شاهدة عبور كوكب الزهرة .لكن توجد �أمكنة �أخرى مل�شاهدة الك�سوف املقبل على امتداد امل�سار القاري، وهي تتيح م�شاهدات �أق�صر زمن ًا، لكنها جتارب فريدة من نوعها؛ ففي والية كنتاكي وحدها ميكن للزائر �أن ي�صرف النظر عن زيارة هوبكنزفيل ،ويزور بد ًال منها مدينة بولينغ غرين ،التي �سيكون فيها م�سار الك�سوف الكلي �أق�صر، لكن جو ال�شم�س املائل �إىل احلمرة �سيكون �أو�ضح للناظرين هناك.
ويف �أمكنة �أخرى من الواليات املتحدة الأمريكيةُ ،يتوقع �أن يت�س ّلق كثريون اجلبال ،وال ي�شاهدون الك�سوف من فوقهم فح�سب ،بل ينظرون �أي�ض ًا �إىل �أ�سفل في�شاهدوا ظ ّل القمر وهو يزحف عرب الأر�ض من حتتهم يف منظر يبعث الرهبة يف النف�س. ك ّل هذا يتو ّقف بالطبع على �صفاء ال�سماء؛ فيقول با�سات�شوف« :ال ميكن التغلب على ال�سحب؛ لذا فلن�أمل �أن يكون الطق�س مواتي ًا»، لكن حتى لو أ�دّى �سوء الطق�س �إىل
حجب هذا احلدث ف�سيبقى مع ذلك اال�ستمتاع ب�إظالم ال�سماء، ويف هذه الأثناء �سيقوم موقع وكالة نا�سا على الإنرتنت ومواقع �أخرى ببثّ احلدث ،وعلى �أ�سو�أ الفرو�ض لن يطول االنتظار كثري ًا جد ًا حتى موعد الك�سوف التايل؛ فما هي �إال �سبع �سنوات؛ ففي � 8إبريل عام 2024م �سيعرب م�سار الك�سوف الكلي لل�شم�س من املك�سيك �إىل جزيرة نيوفاوندالند ،مار ًا فوق معظم و�سط �شرق الواليات املتحدة الأمريكية يف هذه الأثناء.
التن ّبؤ باالحتباس الحراري بعد مرور 30عام ًا عاد املت�ش ّككون يف موقع (ريال �ساين�س) بذاكراتهم �إىل املا�ضي ملعرفة كيف �صار احلال مع التنب�ؤات ال�شهرية التي �أطلقها عامل املناخ جيم�س هان�سن عام 1986م عن االجتاهات امل�ستقبلية لدرجات احلرارة العاملية بعد مرور 30عام ًا عليها .وقدّم موقع (ريال �ساين�س) اقتبا�سني من ق�صة ن�شرتها وكالة (الأ�سو�شيتدبر�س) يف 12يونيو 2016م دلي ًال على ذلك ،جاء فيها �أن هان�سن تن ّب�أ يف �شهادة �أدىل بها �أمام جلن ٍة مبجل�س ال�شيوخ الأمريكي
ب�أن درجات احلرارة العاملية �ستكون �أعلى مبقدار نحو درجتني يف غ�ضون � 20سنة« ،وهو يكاد يكون �أعلى م�ستوى تبلغه درجة حرارة الأر�ض يف املئة �ألف �سنة الأخرية» ،ون ّوه املوقع �إىل �أن درجة حرارة الأر�ض مل ترتفع �إال مبقدار نحو 0.2درجة مئوية بني يونيو عام 1986ويونيو عام 2006م ،وهو فرق مقداره ع�شرة �أ�ضعاف. لكن هل هذه هي الق�صة ب�أكملها؟ غا�ص الباحث رونالد بايلي يف �آلة الزمن امل�سماة (نيك�سي�س) ،ون ّقب
فيها ،وخرج بتقريرين �إخباريني �آخرين يتحدثان عن �شهادة هان�سن؛ فقد جاء يف ق�صة �إخبارية �أطول ن�شرتها وكالة (يونايتد بر�س �إنرتنا�شيونال) عام 1986م« :قال جيم�س هان�سن مدير معهد غودارد للدرا�سات الف�ضائية التابع لوكالة نا�سا� :إذا مل ُتتّخذ خطوات لل�سيطرة على امل�شكلة ف�إن درجات احلرارة يف الواليات املتحدة الأمريكية يف العقد املقبل من الزمان �ستكون �أعلى مما كانت عليه عام 1958م بنحو ( )2 -0.5درجة مئوية» ،وهو نطاق �أكرب بكثري من النطاق املح�صور بني عامي 1986و2006م. �إذ ًا ،كيف تغيرّ متو�سط درجة احلرارة يف الواليات املتحدة الأمريكية يف اخلم�سني �سنة التي تلت عام 1958م؟ وفق ًا للتقرير ال�صادر عن الربنامج الأمريكي لبحوث التغيرّ العاملي عام 2009م ف�إن «متو�سط درجة احلرارة يف الواليات املتحدة الأمريكية ارتفع مبقدار يزيد على درجتي فهرنهايت
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
كيف ستسير األمور؟
11
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
12
على مدى اخلم�سني �سنة املا�ضية»، وت�ساوي درجتا الفهرنهايت ما يزيد قلي ًال على 1.1درجة مئوية ،وهي قيمة تقع داخل نطاق الزيادة يف درجة احلرارة الذي تن ّب�أ به هان�سن. يخ�ص متو�سط درجات وفيما ّ احلرارة العاملية ،فقد ن ّوه التقرير التقييمي الرابع ال�صادر عن الهيئة احلكومية الدولية املعنية بتغيرّ املناخ عام 2007م �إىل �أن «املعدل املتو�سط لالحرتار العاملي على مدى اخلم�سني �سنة املا�ضية (°0.13م °0.03 ±م لك ّل ع�شر �سنوات) يكاد يكون �ضعفي هذا املعدل على مدى املئة �سنة املا�ضية» ،وهذا يعني �ضمن ًا
حدوث زيادة �إجمالية بني عامي 1958و2006م مقدارها 0.65درجة مئوية ،وهي قيمة تقع �ضمن احلدود الدنيا لنطاق توقعات هان�سن .وت�شهد �سال�سل بيانات جامعة �أالباما يف هانت�سفيل اخلا�صة بدرجات احلرارة املقي�سة بالأقمار ال�صناعية منذ عام 1979م ازدياد ًا مبعدل 0.12درجة مئوية ك ّل ع�شر �سنوات ،ولو ُط ّبق ذلك ب�أثر رجعي ف�سيعني �ضمن ًا حدوث زيادة يف درجة احلرارة العاملية على مدى خم�سة عقود من الزمن مقدارها 0.6درجة مئوية ،وهي من جديد قيمة تقع �ضمن احلدود الدنيا لنطاق توقعات هان�سن.
يف البداية نقول :لي�س من الالئق �أن َي ْعمد اخل�صوم يف اجلدال العلمي حول تغيرّ املناخ الناجم عن الأن�شطة الب�شرية �إىل تقدمي وجهات نظر خ�صومهم ب�صورة م�ض ّللة .ومن ناحية �أخرى ،ي�شري ازدياد درجة احلرارة مبعدل �أق ّل مما �أ�شارت �إليه التنب�ؤات �إىل �أن معظم النماذج املناخية التي اعتمد عليها هان�سن ت�شهد ارتفاع ًا �أكرث مما ينبغي يف درجة حرارتها ،و�أن الزيادات امل�ستقبلية يف درجات احلرارة رمبا ال ت ْنبئ بتغريات كارثية بحلول نهاية هذا القرن.
عروض كتب
تاريخ غير طبيعي
تأليف: إليزابيث كولبرت
ر�سخت �إليزابيث كولربت قدميها ّ على مدار العقد املا�ضي بو�صفها واحد ًة من �أف�ضل امل�ؤلفني العلميني؛ فقد �أ�ضحت �صوت ًا مميز ًا وبليغ ًا لل�ضمري اجلمعي بخ�صو�ص امل�شكالت الناجمة عن االعتداء
ال�سافر على املحيط الإيكولوجي، والذين ا�ستمتعوا ب�أعمالها ال�سابقة مثل (مالحظات ميدانية من قلب الكارثة) لن يخيب ظنهم القوي اجلديد (االنقرا�ض بكتابها ّ ال�ساد�س :تاريخ غري طبيعي).
تكتب كولربت -الكاتبة يف جملة (نيويوركر) الأمريكية -تقاريرها من اخلطوط الأمامية لل�صدام العنيف بني احل�ضارة والنظام البيئي لكوكبنا (�سل�سلة جبال الأنديز ،وغابات الأمازون املطرية، واحليد املرجاين العظيم ،وحديقتها اخللفية) ،ب�أ�سلوبها النرثي النا�صع. وتدر�س كولربت الدور الذي ي�ؤديه التغيرّ املناخي �-صنيعة الإن�سان- فيما ُيطلق عليه علماء البيولوجيا (االنقرا�ض اجلماعي ال�ساد�س)، وهو التقل�ص الراهن يف �أعداد النباتات واحليوانات الذي يهدّد جميع الأجنا�س احلية على كوكب الأر�ض خالل هذا القرن. االنقرا�ض فكرة جديدة ن�سبي ًا يف املجتمع العلمي؛ فخالل القرن الثامن ع�شر امليالدي وجد النا�س �أنه من امل�ستحيل قبول فكرة �أن الأجنا�س عا�شت على الأر�ض يف مد ٍة ما ثم اختفت الحق ًا ،ومل ي�ستطع العلماء بب�ساطة ت�ص ّور قوة كوكبية كافية با�ستطاعتها حمو
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
االنقراض السادس!
13
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
14
�أ�شكال احلياة التي كانت �شائعة يف الع�صور الغابرة .وبالطريقة نف�سها، وللأ�سباب عينها ،يجد كثريون اليوم من امل�ستحيل �أن نكون م�س�ؤولني ب� ّأي حال من الأحوال عن تدمري النظام البيئي لكوكبنا؛ فهناك حواجز نف�سية حتى لتخ ّيل احتماالت فقدان ما نحبه كثري ًا �أو دماره �إىل الأبد، ونتيج ًة لذلك يرف�ض كثري منا تد ّبر هذه الفكرة من الأ�سا�س� .إننا ن�سمح لأنف�سنا ،متام ًا كاجلمهور الذي ي�ستعر�ض �أمامه ال�سحرة مهاراتهم، ب�أن يخدعنا الذين لديهم م�صلحة يف �إقناعنا بتجاهل الواقع؛ فعلى �سبيل املثال :ما زلنا ن�ستخدم الغالف اجلوي للكرة الأر�ضية ك�أنه بالوعة �صرف مفتوحة لنفاياتنا اليومية التي تتجاوز 90مليون طن من النفايات الغازية ،و�إذا ا�ستمر احلال على ما هو عليه ف�ستوا�صل درجات احلرارة العاملية ارتفاعها، وهو ما �سي�ؤدي �إىل «�أحداث ُم َبدِّ َلة للعامل» كما كتبت كولربت يف ُم�ؤ َّلفها. يهددنا التغير المناخي ّ ّ
وبح�سب التقديرات املتح ّفظة ،التي ال جمال للطعن فيها ،لعامل املناخ جيم�س هان�سن ،يحا�صر التلوث الب�شري املوجود يف الغالف اجلوي بالفعل كمي ًة من الطاقة احلرارية كل � 24ساعة ،ت�ضارع احلرارة الناجمة عن تفجري قنابل نووية
من فئة قنبلة هريو�شيما .وال�سخونة ال�سريعة الناجمة للغالف اجلوي واملحطيات التي تزعم كولربت متت�ص نحو ُثلث ثاين �أك�سيد �أنها ّ الكربون الذي �أنتجناه تد ّمر الأنظمة البيئية املتوازنة ب�شكل ح�سا�س للأر�ض ،وهي تهدّد �شبكة الأجنا�س احلية التي ن�شاركها الكوكب، وم�ستقبل �صالحية احل�ضارة وجدواها .وت�ضيف كولربت� :إننا « ُنع ِّر�ض بالإخالل بتوازن هذه الأنظمة وجودنا نف�سه للخطر». تتع ّر�ض دورة املياه على كوكب الأر�ض الختالل �شديد؛ �إذ ُت َب ِّخر املحطيات الأكرث دفئ ًا مزيد ًا من املياه يف الهواء ،ويحتفظ الهواء الأكرث دفئ ًا مبزيدٍ من الرطوبة (زادت الرطوبة العاملية بن�سبة مذهلة بلغت %4خالل الثالثني ويوجهها �إىل عام ًا ال�سابقة)، ّ الكتل الأر�ضية حيث تن�سال على م�ساحات �شا�سعة من الأر�ض على هيئة �أمطار غزيرة ،وهو ما ي�ؤدي �إىل في�ضانات وانهياالت طينية �أكرث ت�ص احلرارة الزائدة تواتر ًا .وتمُ ّ �أي�ض ًا يف الطبقة العليا من البحار، وهو الأمر الذي يجعل العوا�صف املحيطية املن�ش�أ �أكرث تدمري ًا؛ فقبيل هبوب �إع�صار �ساندي مبا�شرة مهب الريح كانت املنطقة الواقعة يف ّ من املحيط قبالة مدينة نيويورك
ووالية نيوجري�سي �أكرث دفئ ًا من املعتاد بت�سع درجات ،وقبل �أن ي�ضرب �إع�صار هايان �ضربته يف الفلبني كانت حرارة املنطقة التي ا�ستقى منها الإع�صار ُج ّل قوته من املحيط �أعلى من املعتاد مبقدار 5.4 درجات. مل تمُ ِ�س املحيطات التي تُع ُّد م�صدراً غذائي ًا حيوي ًا ملليارات من الب�شر �أكرث دفئ ًا فح�سب ،بل �أكرث حم�ضي ًة مما كانت عليه منذ ماليني ال�سنني، وهي ت�صارع من �أجل امت�صا�ص احلرارة الزائدة والتلوث الكربوين. ّ وتو�ضح كولربت �أنه لذلك رمبا تكون ال�شعاب املرجانية النظام البيئي الكامل الأول الذي �سينقر�ض يف الع�صر احلديث .وت�ستخل�ص درجة احلرارة الزائدة نف�سها الرطوبة من الرتبة يف املناطق املعر�ضة للجفاف ،وهو ما يت�س ّبب يف حاالت جفاف �أعمق �أثر ًا ،و�أطول �أمد ًا، و�سيف�ضي جفاف الأ�شجار وغريها من النباتات �أي�ض ًا �إىل زيادة يف عدد احلرائق ،ومتو�سط حجمها. وتتع ّر�ض املحا�صيل الغذائية �إىل خماطر جمة ،ال بفعل الآفات املتزايدة ،واختالل توازن �أمناط مو�سم الأمطار (موا�سم اجلفاف املتوقعة مد ًة طويل ًة) فح�سب، بل بفعل الأثر املتزايد للإجهاد احلراري يف الذرة والقمح والأرز
حاالت انقراض سابقة
�شهد كوكبنا منذ ن�ش�أة احلياة على الأر�ض منذ 3.8مليارات �سنة خم�س حاالت انقرا�ض جماعي، �آخرها حدثت منذ 66مليون �سنة؛ �إذ ُيعتقد �أن كويكب ًا يبلغ عر�ضه �ستة �أميال (10كم تقريب ًا) �ضرب الأر�ض ،فقتل جميع الدينا�صورات، ُ االنقرا�ض الطبا�شريي ب�شد ٍة وبدَّل تركيب َة التنوع البيولوجي على كوكب الأر�ض؛ فقد تداعت الأنظمة البيئية البحرية �أ�سا�س ًا ،واختفى %75من جميع �أجنا�س النبات واحليوان. تقول كولربت� :إننا ن�شهد حالي ًا انقرا�ض ًا جماعي ًا �شبيه ًا يف غم�ضة عني جيولوجية .وبح�سب �إدوارد �أوزبورن ويل�سون ،يتجاوز معدل االنقرا�ض احلايل يف املناطق اال�ستوائية « ع�شرة �آالف �أ�س مقارن ًة مبعدل االنقرا�ض اخللفي الطبيعي»، و�سيتق ّل�ص التنوع البيولوجي �إىل �أدنى م�ستوى ممكن له منذ االنقرا�ض الكبري العظيم. لكن اللوم ال يقع على كويكب �ضخم هذه املرة ،بل علينا نحن؛ �إذ بدّلنا الظروف البيئية على كوكبنا ب�سرعة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
وغريهما من املحا�صيل الرئي�سة. وت�شهد املناطق املغطاة بالثلج على كوكب الأر�ض حالي ًا ذوبان ًا �سريع ًا، و ُي َبدِّ ل الغطاء الثلجي القطبي ال�شمايل املتال�شي امت�صا�ص احلرارة يف اجلزء العلوي من العامل ،ورمبا ي�ؤ ّثر يف موقع التيار املتدفق للن�صف ال�شمايل للأر�ض وم�سارات الزوابع ،و ُي ّ بطئ من حركة �أنظمة العوا�صف .ويف تلك الأثناء، ُعجل اخل�سارة املتنامية للجليد يف ت ِّ القارة القطبية اجلنوبية ومنطقة جرينالند بارتفاع من�سوب البحار واملحيطات ،وتهدّد املدن ال�ساحلية واملناطق اخلفي�ضة. وتتع ّر�ض الفريو�سات والبكرتيا والأجنا�س احلاملة للأمرا�ض كالباعو�ض والقرادة ،و�أجنا�س الآفات كخناف�س القلف ،ل�ضغوط تتجاوز قدراتها على البقاء يف مناطقها الأ�صلية ،ويف كل مكان جند �أن العالقات املتداخلة املعقدة وال�ضرورية ال�ستبقاء احلياة تنقطع و�شائجها ب�شكل متزايد. هذا هو العامل الذي �صنعناه ب�أيدينا، ومتزج كولربت يف كتابها ،الذي جاء يف وقته م�ستند ًا �إىل �أبحاث دقيقة و�صياغة �أنيقة ،بني التحليل العلمي والروايات ال�شخ�صية ل�شرح املوقف لنا ،والنتيجة تاريخ وا�ضح و�شمويل حلاالت االنقرا�ض
اجلماعي ال�سابقة على كوكب الأر�ض والأجنا�س التي خ�سرناها، �إ�ضاف ًة �إىل و�صف مثري للطبيعة املع ّقدة ب�شكل مذهل للحياة ،والأهم من ذلك ك ّله �أن كولربت ّ تدق ناقو�س اخلطر ،وتدعو الب�شر �إىل �ضرورة التحرك العاجل .تقول كولربت يف كتابها�« :إننا نتّخذ القرار حالي ًا من دون وعي منا بخ�صو�ص � ّأي امل�سارات التطورية �ستظ ّل مفتوح ًة، و�أيها �س ُيغلق �إىل الأبد .مل ي�ستطع � ّأي خملوق ّ قط �أن يقدم على هذه اخلطوة ،ومن امل�ؤ�سف �أنها �ستُم�سي مرياثنا الباقي». وتقتفي كولربت بخرب ٍة وبراع ٍة التاريخ الفكري (امللتوي) لكيفية ا�ستيعابنا مفهوم االنقرا�ض ،ويف مدة �أكرث حداث ًة كيف �أدركنا الدور الذي �أديناه فيه؛ فعندما ُدر َِ�ست عظام حيوان املا�ستودون �أول مرة احتج كثري من العلماء عام 1739م ّ ب�أن العظام ال�ضخمة املم ّيزة تنتمي �إىل فيل �أو فر�س نهر ،لكن يف عام 1796م قدّم عامل الطبيعة الفرن�سي جورج كوفييه دلي ًال على نظرية جديدة كلي ًة ،وهي �أن تلك العظام تنتمي �إىل جن�س مفقود من (عامل �سابق لنا) .جمع كوفييه �أكرب عدد ممكن من احلفريات ودر�سها، وح ّدد يف نهاية املطاف ع�شرات من الأجنا�س املنقر�ضة ،ثم تط ّور
االنقرا�ض على مدار العقود الكثرية الالحقة بو�صفه مفهوم ًا علمي ًا ،وب�إ�سهامات من ت�شارلز ليل وت�شارلز داروين.
15
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
16
و�شكل مهولني ،لدرجة �أن ن�سب ًة كبري ًة من الأجنا�س الأخرى مل ي ُعد بو�سعها التك ّيف� .إننا نخاطر مب�ستقبلنا �أي�ض ًا؛ �إذ �أحدثنا خل ًال يف امليزان املناخي الذي ظ ّل على حاله تقريب ًا منذ نهاية الع�صر اجلليدي الأخري ،ودعم �إىل حدٍّ بعيد ازدهار احل�ضارة الإن�سانية؛ فمنذ �أوائل �أربعينيات القرن ال�سابع ع�شر امليالدي الحظ العلماء فجوات كبرية يف �سجالت احلفريات؛ فقد مدد زمنية تراجع التنوع حدث يف ٍ البيولوجي للأر�ض ب�سرعة مهولة، يف�سره � ّأي نظام ثابت ،وخرج ومل ّ بع�ض العلماء بنظريات م�ضمونها �أن التغريات املناخية املفاجئة ت�س ّببت يف حاالت انقرا�ض جماعي �سالفة. ويف الع�صر احلديث اجتمعت ثالثة عوامل لبرت العالقة بالكامل بني احل�ضارة والنظام البيئي للأر�ض، هي :االرتفاع املهول وغري امل�سبوق يف عدد �سكان الب�شر الذي ت�ضاعف �أربعة �أمثال يف �أق ّل من مئة �سنة، وتطوير التقنيات اجلديدة القوية التي ت ِّ ُعظم من �أثر ك ّل فرد يف تعدادنا البالغ �سبعة مليارات ن�سمة واملق ّرر �أن ي�صل �إىل ت�سعة مليارات ن�سمة �أو �أكرث ،وظهور الأيديولوجية ال�سائدة التي ّ تف�ضل التفكري الق�صري الأجل على التبعات احلقيقية البعيدة الأجل للقرارات التي نتخذها يف
جماالت ال�صناعة و�سيا�سة الطاقة والزراعة وعلم الغابات وال�سيا�سة. وت�ضيف كولربت« :النا�س يغيرّ ون العامل من حولهم» ،وتعر�ض على القارئ برباع ٍة ودق ٍة اجلانب العلمي والتاريخي وراء الأزمة الراهنة. وتت�آلف �أ�سفار كولربت الكثرية ،التي �أجرت فيها �أبحاثها لهذا الكتاب، مع معاجلتها الدقيقة املحكمة لك ّل من التاريخ والعلوم؛ لتجعل كتابها (االنقرا�ض ال�ساد�س) �إ�سهام ًا عظيم ًا لفهمنا الظروف احلالية يف الوقت الذي تقت�ضي فيه احلاجة �أكرث من � ّأي وقت م�ضى التعامل مع التحول اجلذري الذي تب ّينه للقراء. وعلى الرغم من الدليل القائم على �أن الب�شر يدفعون املخلوقات باجتاه االنقرا�ض اجلماعي �إال �أننا تباط�أنا ب�شكل م�ؤ�سف يف التك ّيف
مع الإجراءات ال�ضرورية للتعامل مع هذا التحدي البيئي العاملي ،وما برحت ردة فعلنا جتاه االنقرا�ض اجلماعي ،وكذلك جتاه �أزمة املناخ، حمكومة بوجهة النظر العتيقة ب�شكل ميئو�س منه املتعلقة بعالقتنا ببيئتنا .ومن ح�سن الطالع �أن التاريخ حافل ب�أمثلة على قدرتنا على جتاوز حتى �أ�صعب التحديات كلما ينتهي جدل ما يف نهاية املطاف باختيار ما بني اخلط�أ الوا�ضح وال�صواب اجللي ال�ساطع؛ فحاالت ال�شذوذ التي حتدّدها كولربت �أو�ضح من �أن نتجاهلها؛ فهي تقدّم لنا �أدل ًة دامغ ًة على �أن ما نقوم به ي�ؤدي �إىل انقرا�ض جماعي �ساد�س خاطئ ب�شكل وا�ضح ،وتثبت لنا �أن تب ّني الإجراءات ال�صائبة يعني التعجيل بانتقالنا �إىل عامل �أكرث ا�ستدام ًة.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ملف العدد
17
المجالت العلمية العربية :دراما االختفاء ومحنة الغياب راغدة حداد :الصحافة العلمية تعكس واقعنا علوم ال غنى عنها للصحفيين تحسين الترجمة العلمية
ملف العدد
أسباب أخرى لظاهرة اختفاء المجالت العلمية مع التطور المتسارع للعلوم والتقنية في عالم اليوم تخضع المجتمعات لتحوالت واسعة وعميقة، بل جذرية في هياكلها االجتماعية والثقافية ،وهو ما يؤثّر بشكل مباشر في حياة األفراد في كافة من المعارف األساسية العلمية جميع األعمار؛ لذلك أصبح من الضروريات تمكين أفراد المجتمع ً والتقنية ،ونعني هنا المكونات األساسية للمعرفة العلمية ومناهجها ،وليس فقط التعريف بأحدث التقنيات العلمية.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
إن أسس التفكير العلمي المنهجي من األهمية بمكان لنمو قدرات الفرد الفكرية والسلوكية ،وهذا ٍ األمر هو أحد أهداف السياسة الوطنية للعلوم والتقنية ،التي تشير إلى إيجاد الوعي لدى أفراد المجتمع بأهمية العلوم والتقنية ودورها وجدواها في تحقيق األمن الوطني الشامل والتنمية المستديمة. ومن هذا المنطلق ،فإذا نظرنا إلى حال الثقافة العلمية واإلنتاج العلمي الموجه إلى أطياف المجتمع ّ كلّها ،سواء الورقي منه أم اإللكتروني ،فإن الحال ال يسر؛ فهو في قمة الضآلة ،بل يع ُّد مفتقد ًا في ّ شرائح كثيرة من المجتمع ،وأعني هنا المجتمع العربي خاصة .لذلك فإن وجود عامة ،والسعودي ً ً مجلة علمية مهتمة بالثقافة العلمية ليس واجب ًا فحسب ،بل يرقى إلى مرتبة الفرض ،ومع ذلك فإن وتوقف المتابع للحياة الثقافية العربية المعاصرة تستوقفه بقوة ظاهرة تعثّر المجالت العلمية، ّ صدورها ،بدء ًا من (المقتطف) وانتهاءً بـ(مجلة العربي العلمية). ولعل القارئ الكريم يتأمل في صورة الغالف التي تبرز بعض المجالت العلمية التي صدرت في العالم ّ ّ العربي خالل الثالثين عام ًا الماضية ،والتي اختفت بعد مدة وجيزة من صدورها؛ ليجد منها مجالت ماتت موؤودة ،وأخرى لم تغادر مرحلة الرضاعة ،ومنها التي لم تتجاوز السنة الرابعة من الصدور ،والسؤال المتخصص؟ تتوجه إلى الجمهور غير المؤلم :لماذا تختفي المجالت العلمية العامة التي ّ ّ نفصل اإلجابة عن ذلك ،وقد نفرد لها ملف ًا خاص ًا الحقاً ،لكن سأذكر مثالين هنا فقط قد ال نستطيع هنا أن ّ ُيلقيان الضوء على هذا األمر. المثال األول :في مطلع عام 1970م توقفت في مصر مجلتان علميتان في أسبوع واحد( :مجلة عصر العلوم) ،ومجلة (العلم والحياة) ،وكانت األولى تصدر عن أكبر نقابة علمية مصرية بالتعاون مع إحدى الوزارات ،وكانت األخرى تتبع دار ًا صحفية كبيرة .أثار هذه القضية رئيس تحرير مجلة (المدير العربي)،
18
وطرحها تحت عنوان( :محنة الصحافة العربية) ،ونشرت المجلة في العدد الالحق إجابتي رئيسي تحرير كل منهما ،ونشرت الموضوع تحت عنوان( :محنة الصحافة العلمية المجلتين عن أسباب ّ توقف مجلة ّ كما يرويها ضحاياها). تطرقت رئيسة تحرير مجلة (العلم والحياة) إلى األسباب ،وتكلّمت بألم وحسرة، ّ وكان العنوان العريض« :إنها محنة إدارة ،ال محنة علم» ،وخلص رئيس تحرير مجلة (عصر العلوم) إلى أن «المشكلة إدارية بحتة» ،وبالطبع كان العامل االقتصادي وميزان الربح والخسارة غطاءً للسببين (مجلة المدير العربي ،العددان 27و ،28عام 1970م) .وكما نرى ،فإن هناك أسباب ًا إدارية ،منها :عدم وجود مؤهل. صحفي متابع ،وفريق عمل ّ المثال الثاني :أجرينا في هذا العدد حوار ًا مهم ًا مع السيدة راغدة حداد رئيسة تحرير مجلة (البيئة صامدة ،وتحتفل بعيدها العشرين هذا العام ،وعندما سألناها والتنمية) ،وهي مجلة علمية ما زالت ً عن قلة المجالت العلمية في الوطن العربي أجابت بعدم وجود صحافة علمية عربية؛ ألن الصحفي العلمي غير موجود. كل َمن أجاب عن ذلك لم ير ّكز في انصراف الجمهور ،أو عدم اإلقبال على المجلة ،بل على ونالحظ أن ّ العكس ،قال رئيس تحرير مجلة (عصر العلوم)« :إن المجلة كانت تنفد من األسواق ،وكان فخور ًا بذلك»؛ إذ كانت تطبع ( )20 -15ألف نسخة ،وتوزّ ع مجلة (البيئة والتنمية) -حسب إفادة السيدة راغدة حداد -نحو 38ألف نسخة في 22بلداً. أذكر ذلك ألن األسباب المعلنة يغطي لتوقف المجالت العلمية هي عدم توافر الدعم المالي الذي ّ ّ المؤهلة لمتابعة نفقات إصدارها ،وهو سبب واحد ،لكن الحقيقة أن هناك نقص ًا في الطاقات العلمية ّ متخصص يتقن لغة أخرى بجانب اللغة األخبار والتقارير العلمية والتقنية التي تحتاج إلى صحفي ّ العربية ،ويمتلك القدرة على صياغة التقارير بلغة عربية سليمة وسهلة ومفهومة تناسب القارئ العادي. خصصنا ملف ًا في هذا العدد عن (الصحافة العلمية) ألهمية هذا الموضوع ،وحاولنا فيه استقطاب ّ متميزة من الك ّتاب الشباب إلغناء الطرح ،كما ُقمنا بترجمة بعض المقاالت ذات العالقة ،آملين مجموعة ّ أن يكون ذلك دافع ًا نحو إيجاد دورات تدريبية في الصحافة العلمية تقوم بها جامعاتنا أو المراكز العلمية المعنية؛ ألهمية هذا الموضوع في صياغة مجتمع المعرفة الذي نصبو إليه. وإلى لقاء..
رئي�س التحرير
19
حوار
ملف العدد
كانت الصحفية العربية الوحيدة التي شاركت مع علماء دوليين في رحلة إلى منطقة القطب الشمالي على متن سفينة أبحاث في صيف عام 2008م ،وكانت شاهدةً على ظاهرتي :ذوبان الجليد ،واالحتباس الحراري. وكتبت سلسلةً من المقاالت العلمية عن هذه الرحلة ،وعن ظاهرة تغ ّير المناخ عامةً ، ُوجت بها عام 2009م بلقب أول صحفية ت ِّ عربية تحصل على جائزة صحافة األرض عن منطقة الشرق األوسط وشمال إفريقيا، التي تمنحها منظمة إنترنيوز للصحافة العالمية باالشتراك مع األمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمات عالمية أخرى، وتسلّمت جائزتها من رئيسة إيرلندا السابقة خاص ُأقيم ماري روبنسون في احتفال ّ
على هامش قمة تغ ّير المناخ التي ُعقدت في العاصمة الدانماركية كوبنهاجن في المدة ( )18-7ديسمبر عام 2009م ،وحضره الدكتور راجندرا باشاوري رئيس اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغ ّير المناخ وقتها ،ووزراء ،ومم ّثلون لمنظمات دولية
20
وأهلية ،وأكاديميون ،وإعالميون.
رئي�سة التحرير التنفيذية ملجلة «البيئة والتنمية» ..راغدة حداد:
ال�صحافة العلمية تعكس وضع بحثنا العلمي العربي ..
21 حمدان العجمي هيئة التحرير
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
عال ،كما �ساهمت �إنها ال�صحفية راغدة حداد؛ رئي�سة التحرير التنفيذية تن�شر �إعالنات دولية ذات مردود ٍ ملجلة (البيئة والتنمية) ،التي ت�صدر يف لبنان عن املنتدى الأحداث الأهلية يف لبنان يف تو ّقف املجلة عن ال�صدور. العربي للبيئة والتنمية (�أفد) .التقتها جملة (الفي�صل العلمية) مبنا�سبة احتفاء جم ّلتها مبرور ع�شرين عام ًا على هناك قلة في المجالت العلمية في الوطن �إ�صدارها يف ظ ّل اختفاء كثري من املجالت العلمية العربية ،العربي ،وبحكم خبرتكم في مجال الصحافة وحاورتها عن واقع هذه املجالت ،وواقع ال�صحافة العلمية العلمية ،ما الذي يفتقر إليه العالم العربي لتكون لديه صحافة علمية العربية عام ًة ،وغريها من املو�ضوعات ال�شائقة. متخصصة مرموقة؟ ّ ال�صحافة تعك�س و�ضع البلد ،وال�صحافة العلميةكن ِ ت مديرةً للتحرير في مجلة (المختار) ،وهي تعك�س و�ضع البحث العلمي يف البلد ،وامل�ؤ�سف �أن البحث , ُخ�ص�ص له موازنة تقدّر بـ %2من الدخل النسخة العربية من مجلة Reader s Digestالعلمي الذي ت ّ القومي الإجمايل وفق املعدل العاملي ،و�أكرث من %3يف الشهيرة ،فلماذا توقفت المجلة عن الصدور؟ ّ �صدرت جملة (املختار) يف باري�س عام ١٩٧٨م ،البلدان املتقدمة ،يكاد ال يح�صل على %0.5يف املنطقةوانتقلت �إىل بريوت عام ١٩٨٠م ،وتن ّوعت مقاالتها العربية؛ فعالم �ستقوم ال�صحافة العلمية؟ ومن جهة بني ال�صحة ،والبيئة ،والتاريخ ،وال�سياحة ،والق�ص�ص �أخرى ،معظم ال�صحفيني الذين يتابعون ال�ش�ؤون العلمية متخ�ص�صني ،والعلم ال يتح ّمل اخلط�أ ،وال�صحافة الواقعية ،وكانت مدخلي �إىل العمل ال�صحفي املحرتف؛ غري ّ �إذ تو ّليت �أو ًال �أمانة التحرير ،ثم �أ�صبحت الحق ًا مديرة حترير املجلة .والعمل يف (املختار) هو الذي �صقل �أ�سلوبي يف الكتابة ال�صحفية؛ �إذ اعتمدت على قاعدة (�أكرث ما ميكن من املعلومات ب�أق ّل ما ميكن من الكلمات)� .أما عن تو ّقف املجلة عن ال�صدور عام ١٩٩٣م ،فال�سبب الرئي�س هو حت ّول املجلة الأم �إىل م�ؤ�س�سة م�ساهمة ،وفر�ض ر�سوم باهظة على حقوق الن�شر مل تكن (املختار) قادر ًة على حت ّملها� ،إ�ضاف ًة �إىل و�ضع قيود على �إعالنات الطبعة العربية ،وح�صرها يف الإعالنات الإقليمية بعدما كانت
«المختار» أصقلت أسلوبي في الكتابة الصحفية ..وأعتمد على قاعدة «معلومات أكثر
22
ّ وكلمات أقل»
الصحافة العلمية تعكس وضع البحث العلمي ..فعالم ستقوم الصحافة العلمية وميزانية البحث العلمي في العالم العربي ال تكاد تصل %0.5؟
يف اجتذاب القراء؛ لأنها تقدّم لهم اجلديد واملمتع بدقة وو�ضوح و�شكل ح�سن ،وهي حتتفل هذا العام مبرور ع�شرين عام ًا على �صدورها. أيهما أفضل :ترجمة المجالت العلمية الشهيرة، أم إصدار مجالت عربية جديدة؟
هناك فئتان من املجالت العلمية :تلك املح ّكمة التيتتوجه �إىل تتوجه �إىل الباحثني واملتخ�ص�صني ،وتلك التي ّ ّ ّ القراء عامة ،وتوجد يف معظم البلدان العربية جمالت �أو ن�شرات ت�صدر عن مراكز الأبحاث فيها ،لكن امل�شكلة يف الرتجمة؛ فق ّلما �أقر�أ مقا ًال علمي ًا مرتجم ًا �إىل العربية بدقة ولغة �سليمة و�أ�سلوب وا�ضح و�شائق ،ولو قارنت � ّأي مقال مرتجم �إىل العربية بالأ�صل الأجنبي لوجدت غالب ًا �أخطاء فادحة يف نقل املعنى ،ويف الأرقام .ويف ر�أيي ،ال واملتخ�ص�ص لزوم لرتجمة املجالت املح ّكمة؛ لأن الباحث ّ يجب �أن ُيتقن الإجنليزية �أو الفرن�سية ليقر�أ املقاالت العلمية الأ�صلية ،ويتابع م�ستجدات الأبحاث العاملية� .أنا تتوجه �إىل القراء عام ًة ،العلميني مع جملة علمية عربية ّ وغري العلميني؛ لتنقل جديد العلم والتكنولوجيا يف املنطقة العربية ب�أ�سلوب وا�ضح وممتع وق�ص�صي �أحيان ًا ك� ّأي جملة عام ًة ،وال ب�أ�س �إذا اتّفقت مع جمالت علمية �أجنبية لن�شر بع�ض مقاالتها ،ب�شرط �أن ينقلها �إىل العربية �أ�شخا�ص ذوو خلفية علمية ويتقنون اللغة الأ�صلية، وتخ�ضع لتحرير جيد؛ حتى ال تفوح منها رائحة الرتجمة،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
العلمية تقت�ضي الدقة ،واخللفية العلمية ،ومتابعة الأحداث ،والإملام بجديد العلم والتكنولوجيا ،ومعرفة امل�صادر املوثوقة واال�صطالحات العلمية ،علم ًا �أنه رمبا �أكرث من %90من م�صادر املعلومات العلمية متوافرة باللغتني الإجنليزية والفرن�سية وغري مرتجمة .وتع ّد جملة (البيئة والتنمية) من املجالت القليلة التي جنحت
23
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
24
كما ّ نظم املنتدى العربي للبيئة والتنمية وجملة (البيئة والتنمية) دورات ق�صرية يف ال�صحافة البيئية ،ر ّكزت يف رفع القدرات ال�صحفية لدى امل�شاركني ،وتوجيههم ّ لتوخي الدقة والو�ضوح ،و�إغناء امل�ضمون العلمي ملقاالتهم وتقاريرهم بعيد ًا من الإن�شائيات ،وتد ّربوا على تغطية امل�ؤمترات ،و�أخذ الأخبار واملعلومات من م�صادرها املوثوقة ،مبا يف ذلك الوكاالت واملنظمات ومراكز الأبحاث والهيئات الر�سمية ،ف�ض ًال عن اال�ستخدام املحرتف للإنرتنت؛ فمن م�س�ؤوليات الإعالمي العلمي �إي�صال �صوت املجتمع العلمي �إىل النا�س وامل�س�ؤولني ،و�إيجاد تفاعل بني هذا الثالثي، و�صو ًال �إىل �إحداث تغيري �سلوكي ووعي واهتمام �أكرب التخ�ص�صات اجلامعية، بامل�ستجدات العلمية� .أما عن ّ الغني ال�شائق ب�إخراج وال بد من �أن يقرتن املحتوى ّ حمرتف و�صور جذابة هي �أحيان ًا �أبلغ من الكلمات. ذكر ِ ت في مقابلة لك على قناة (اآلن) عام ٢٠١١م قيامك بإعطاء دورات في الصحافة العلمية ،ما نيةلجعلهادورات محتوىهذهالدورات؟وهلهناك ّ تخصصات إلكترونية؟ ولماذا ال تدفعون باتجاه إنشاء ّ علمية في أقسام الصحافة بجامعات لبنان؟
من�سقة برنامج التدريب يف املنطقة العربية لدى �أنا ّاالحتاد العاملي لل�صحافيني العلميني ،WFSJومركزه يف كندا ،وقد ّ نظمنا دورتني تدريبيتني ،ك ّل منهما على مدى �سنتني ،تخ ّرج فيهما ع�شرات ال�صحفيني العرب الذي تل ّقوا تدريب ًا �شخ�صي ًا وجماعي ًا على ال�صحافة البيئية وال�صحية والزراعية وغريها من التغطيات العلمية، وهناك دورة �إلكرتونية ميكن االنخراط فيها فردي ًا وجمان ًا من خالل موقع االحتاد.www.WFSJ.org :
�شاركت راغدة حداد يف تدريب ع�شرات ال�صحفيني العلميني
مجلة «البيئة والتنمية» مجلة إقليمية تُعنى بتغطية القضايا والموضوعات البيئية والتنموية ،تصدر نحو 38ألف نسخة في 22بلداً .ونجحت المجلة منذ انطالقها عام 1996م في وضع البيئة على أجندة اهتمامات الحكومات في الشرق األوسط ،وتمكّ نت من خالل أسلوبها الشائق والسهل من أن تجعل الموضوعات البيئية المتخصصة ّ والمتخصص مثار اهتمام القارئ العادي ّ آن واحد .وبدأت المجلة منذ عام ٍ في ٍ 1997م في تنظيم برامج توعية بيئية في المدارس بعنوان( :البيئة األفضل تبدأ بك أنت) ،شارك فيها آالف الطالب ،كما ّ نظمت ودربت األساتذة في مسابقات بيئية، ّ التربية البيئية ،وساهمت في إنشاء أكثر ناد بيئي مدرسي. من ٍ 500 ونجحت المجلة في الذكرى العاشرة لتأسيسها عام 2006م في إنشاء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) بوصفه منظمةً إقليميةً بيئيةً مستقلةً ، قدم صاحب وفي بداية يناير عام 2013م ّ االمتياز ورئيس التحرير نجيب صعب المجلة إلى المنتدى العربي للبيئة والتنمية بإيجار مجاني .وتحتفل المجلة هذا العام بالذكرى السنوية العشرين النطالقها.
وتغير ما مدى اهتمام العرب بقضايا البيئة ّ المناخ واالستدامة؟
ال ّ�شك �أن االهتمام العربي بق�ضايا البيئة واال�ستدامة زاد يف املدة الأخرية ،خ�صو�ص ًا مع �ضرورة التزام الدول العربية م�ستوجبات االتفاقات البيئية الدولية ،مبا يف ذلك اتفاقية تغيرّ املناخ ،و�أهداف التنمية امل�ستدمية ،وقد تغيرّ ت منهجية امل�شاركة العربية يف مفاو�ضات املناخ ،وباتت �أكرث جتاوب ًا مع االجتاهات الدولية ،لكن امل�ساهمة العربية يف �صنع املواقف وال�سيا�سات العاملية مازالت �ضعيفة وهام�شية �أحيان ًا ،ومع ذلك فهناك عالمات م�ضيئة ،مثل الربامج الطموحة يف جمال الطاقة املتجدّدة ،خ�صو�ص ًا يف اململكة العربية ال�سعودية ودولة الإمارات العربية املتحدة واململكة املغربية ،واخلطط الوطنية للحد من ا�ستخدام الوقود الأحفوري و�إنتاج االنبعاثات امل�سببة لالحتبا�س احلراري. و�ساهم املنتدى العربي للبيئة والتنمية (�أفد) يف تعزيز االهتمام العربي بق�ضايا البيئة واال�ستدامة خالل الأعوام الع�شرة املا�ضية ،خ�صو�ص ًا بتقاريره ال�سنوية التي اكت�سبت �سمع ًة عاملي ًة بو�صفها �أبرز املراجع املوثوقة وامل�ستقلة ب�ش�أن الق�ضايا البيئية يف املنطقة العربية ،واملح ّرك الأ�سا�سي للبدائل يف ال�سيا�سات البيئية. ماذا عن مواكبة مجلة (البيئة والتنمية) لتقنيات النشر اإللكتروني؟
موقع (البيئة والتنمية) موجود على الإنرتنت منذ�سنوات املجلة الأوىل ،وان�سجام ًا مع روح الع�صر ّمت تطوير بوابتها الإلكرتونية www.afedmag.com
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
حالي ًا ّ كل شهرين باللغة العربية ،وتو ِّزع
فقد افتتح العام املا�ضي برنامج ماج�ستري يف الإعالم البيئي وال�صحي يف اجلامعة اللبنانية يف بريوت ،و�شاركتُ يف تن�سيق هذا الربنامج ،كما �أد ّر�س مادة الإعالم البيئي لتخ�ص�ص املاج�ستري يف اجلامعة نف�سها. ّ
25
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
مع حتديثها يومي ًا بالأخبار واملعلومات والتطبيقات التي فيه .كما تتوافر املجلة بكاملها على �شبكة الإنرتنت، يكتبها �أبرز املحللني والقادة البيئيني يف املنطقة العربية و�أر�شيفها متاح جمان ًا جلميع القراء والباحثني. والعامل ،كما ت�ضم البوابة الأر�شيف الكامل للمجلة المفضلة التي ويتم ا�ستخدامه جمان ًا؛ ما مجلتك العلمية العالمية ّ منذ �صدورها عام ١٩٩٦مّ ، لذلك �أ�صبحت (البيئة والتنمية) م�ساح ًة للماليني تحرصين على قراءتها؟ على الإنرتنت� .أما �صفحة املجلة على موقع التوا�صل � -أطالع كثري ًا من املجالت العلمية العاملية ،كما تردين االجتماعي في�سبوك ،فقد جتاوز عدد متابعيها عتبة ع�شرات الن�شرات واملقاالت العلمية يومي ًا عرب الوكاالت املتخ�ص�صة ،وللأ�سف تو ّقف كثري من املجالت املليون ،الذين يتل ّقون عرب ال�صفحة �أحدث املعلومات واملواقع ّ العلمية عن ال�صدور ب�سبب امل�صاعب املادية ،ومنها ما حول البيئة والطبيعة. بقي ي�صدر بطبعة �إلكرتونية فقط .وجم ّلتي املف�ضلة هي تمر الصحافة الورقية بمرحلة مالية عصيبة( ،نا�شيونال جيوغرافيك) ،التي ت�أخذك �إىل جماهل ّ فما سياستكم المالية المتّبعة في مجلة الأر�ض ،وتع ّرفك �شعوب ًا وح�ضارات حا�ضرة وبائدة ،وروائع الطبيعة واحلياة الربية. (البيئة والتنمية)؟ املجلة مثلها مثل جميع املطبوعات تعاين اليوم �أزمةتوجهين إليه التحية؟ توزيع ،خ�صو�ص ًا يف الو�ضع العربي احلايل؛ فهناك دول صحفي علمي عربي ّ عربية تتم ّيز �شعوبها ب�أنها من الأكرث قراء ًة باتت �شبه -جنيب �صعب ،الذي � ّأ�س�س جملة (البيئة والتنمية) خالية من املكتبات ب�سبب ظروفها ال�سيا�سية الراهنة؛ مثل� :سوريا ،والعراق ،واليمن ،وليبيا؛ لذلك ّمت تخفي�ض توزيع املجلة ابتدا ًء من عدد (يوليو� -أغ�سط�س عام ٢٠١٦م) بهدف تقليل ا�ستهالك الورق ،وتقليل تكلفة عدد من املكتبات املختارة. ال�شحن؛ لتظهر املجلة يف ٍ �أما احلري�صون على اقتناء املجلة الورقية ،فيمكنهم اال�شرتاك فيها لت�صل �إليهم بالربيد يف � ّأي مكان يرغبون
«البيئة والتنمية» من المجالت القليلة التي نجحت في اجتذاب القراء بما تقدمه ّ من معلومات جديدة
26
وممتعة في ثوب جميل
جنيب �صعب م�ؤ�س�س جملة (البيئة والتنمية)
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
أكثر من %90من مصادر المعلومات العلمية متوافرة باللغتين اإلنجليزية والفرنسية ..وهو عائق كبير أمام الصحفيين العرب
بتمويل �شخ�صي لتكون للعرب جملة بيئية راقية ،وقد بلغت عامها الع�شرين ،وباتت مرجع ًا بيئي ًا ل�صانعي القرار والباحثني والقراء عام ًة يف املنطقة العربية، وهو الأمني العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (�أفد) ،الذي ي�صدر �أهم تقرير �سنوي عن البيئة العربية منذ عام ٢٠٠٨م.
27 ماذا تتم ّنين صحفي ًا وعلمي ًا للمنطقة العربية؟
�أمتنى ا�ستمرار جملة (البيئة والتنمية) التينعمل فيها بحر�ص و�شغف ك�أمنا ٤٠٠مليون عربي أحب �أن �أرى مزيد ًا من املجالت �سيقر�ؤونها ،و� ّ العربية العلمية اجلادة ،وهو ما �سيحتاج �إىل دعم لت�أمني اال�ستمرارية ،لكن ب�شرط احلفاظ على املو�ضوعية واال�ستقاللية .و�أمتنى �أي�ض ًا تعزيز دعم البحث العلمي احلقيقي يف البلدان العربية؛ فقد �شاركت يف بعثة علمية دولية على منت كا�سحة جليد يف منطقة القطب ال�شمايل مع ٥٠عامل ًا من ع�شرات الدول ُيجرون �أبحاث ًا حول تغيرّ املناخ وذوبان اجلليد القطبي ،ومع �أن املنطقة العربية �ستكون الأكرث ت�أ ّثر ًا بتغيرّ املناخ يف العامل مل يكن يف هذه البعثة باحث عربي واحد.
تحقيق
ملف العدد
يدونون كان أغلب العلماء قبل 500عام ّ كتب ،ولم يكن ابتكاراتهم وآراءهم في ٍ هناك وجود للمجالت العلمية المحكّ مة كما نراها اليوم؛ فكانت الكتب هي الوسيلة األولى لنشر األفكار ،يضع فيها توصل إليه بالتفصيل؛ العالم فكره وما ّ ففكرة أن الشمس هي مركز المجموعة تدون في بحث علمي الشمسية لم ّ بمجلة ،وإنما في كتاب كوبرنيكوس الشهير (دوران األفالك السماوية) ،وفكرة دونها جاليليو في أحد القصور الذاتي ّ دونها نيوتن كتبه ،وقوانين الجاذبية ّ في كتابه (األصول الرياضية للفلسفة تقدم العلوم أراد العلماء الطبيعية) .ومع ّ أن تتسارع عملية االكتشاف واالبتكار؛ ألن الكتب تحتاج إلى وقت لطباعتها وتوزيعها، فلجأوا إلى اختراع المجالت العلمية ،التي توصل إليه ينشر فيها العالم بحثه الذي ّ فور كتابته ،فانتشرت المجالت العلمية المتخصصة في الفيزياء والفلك والكيمياء ّ والفلسفة.
28
املجالت العلمية العربية:
دراما االختفاء ومحنةالغياب 29 حمدان العجمي هيئة التحرير
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ال يزال هذا الو�ضع م�ستمر ًا �إىل الآن ،وتط ّورت العلوم، واتّ�سع حمتواها وتفا�صيلها؛ ف�أ�صبحت هناك فجوة بني العلوم وعامة النا�س ا�ست�شعرها العلماء قبل ٢٠٠عام؛ �إذ الحظوا �أن العلوم �آخذة يف التطور لدرجة �أن عامة النا�س ال يعرفون �إىل �أين و�صلت ،وهو ما قد ي�ؤدي �إىل تدهور تطور العلوم ،ف�أطلقوا حمل ًة كبري ًة قام بها عدد من العلماء ،منهم فاراداي ،لإلقاء حما�ضرات عامة للنا�س حتت �شعار (العلم للجميع) ،وكان من هذه املحا�ضرات �شرح فاراداي للكهرباء ،وكان من بني احل�ضور رئي�س وزراء بريطانيا وقتها ،الذي �س�أل فاراداي :كيف ن�ستفيد من الكهرباء؟ فر ّد فاراداي: �إنكم �ستجنون منها ال�ضرائب يا �سيدي.
30
تبسيط العلوم
تو�سعت هذه احلملة ،و�أطلقت عدد ًا من املبادرات ّ لتب�سيط العلوم و�شرحها ،و�أطلقت كذلك جمالت
علمية لتب�سيط العلوم للعامة ،تهدف �إىل زيادة الثقافة العلمية للمجتمع ،وكان من �ضمن هذه املجالت بوبيوالر �ساين�س popular scienceعام ١٨٧٢م .ومل يتو ّقف هذا الزخم ،وبد�أت هذه املجالت يف االنت�شار؛ مثل :جملة ناوكا زيزن الرو�سية عام ١٨٩٠م ،وجملة العلم واحلياة الفرن�سية عام ١٩١٣م ،وجملة بوبيوالر ميكانيك�س popular mechanicsعام ١٩٠٢م، حتى �أ�صبحت جولة واحدة يف � ّأي مركز لبيع املجالت يف �أوروبا تك�شف عن وجود الع�شرات من هذه املجالت، تخ�ص�ص يف الفلك ،ور ّكزت بل �إن بع�ض هذه املجالت ّ جمالت �أخرى يف االكت�شافات� ،أو التقنية احلديثة كمجلة ويرد ،wiredو�أ�صبحت هذه ال�صنعة جزء ًا ال يتجز�أ من ال�صحافة ،و�أطلق عليها ال�صحافة العلمية، وهي تر ّكز يف تغطية �آخر �أخبار العلوم .وتكمن �أهمية هذه املجالت يف �أن كثري ًا منها �ألهم جي ًال كام ًال من ال�شباب ،وح ّبب �إليهم العلوم؛ ف�سريجي برين والري بيج -م� ّؤ�س�سا جوجل -كانا يقر�أان يف طفولتهما و�شبابهما جملة popular mechanicsبا�ستمرار، وق ّدم �ستيف جوبز يف خطابه ال�شهري بجامعة �ستانفورد �شكره العميق �إىل جملة علمية كان يقر�ؤها وهو �صغري. االنطالقة العربية
يرجع الف�ضل يف �إ�صدار �أول جملة علمية عربية �إىل يعقوب �صروف وفار�س منر ،وهي جملة املقتطف ،التي ا�ستمرت ٧٧عام ًا ،وظ ّلت منار ًة علمي ًة يف الوطن العربي �إىل �آخر �أعدادها عام ١٩٥٢م ،حتى �س ّماها بع�ض املهت ّمني بـ(�شيخ املجالت العربية)؛ لأنها ا�ستمرت طوي ًال ،وقال عنها الطرزي« :املقتطف هو العمل الأعظم ،والت�أليف الأكرب، الذي وقف له العمر ك ّل من �صروف ومنر» ،وتبارى للكتابة فيها الأطباء والعلماء وال�صيادلة العرب من خمتلف الوطن العربي .وال يوجد �سبب وا�ضح لتو ّقف املجلة ،لكن
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
31
عزا بع�ض املتابعني ذلك �إىل ق ّلة مواردها املالية بعد �أن انتقل الإ�صدار من لبنان �إىل م�صر .ويرجع ا�ستمرار �صدورها مد ًة طويل ًة �إىل اعتمادها على ر�ؤ�ساء حترير متح ّم�سني للعلوم؛ فبعد وفاة �صروف مل تتو ّقف املجلة ،بل ر�أ�س حتريرها �إ�سماعيل مظهر ،وهو �أحد ر ّواد ال�صحافة العلمية يف العامل العربي.
أدى ظهور فجوة بين العلوم وعامة ّ الناس إلى ظهور المجالت العلمية بهدف التبسيط
كانت ثانية املجالت العربية العلمية لإ�سماعيل مظهر، وكان ا�سمها (ال�شعب)� ،صدرت عام ١٩٠٩م ،ثم تو ّقفت ،و�أ�صدر جمل ًة �أخرى بد ًال منها عام 1937م، �س ّماها (الع�صور) ،ا�ستمرت عامني فقط ،ثم توقفت �أي�ض ًا ب�سبب عوائق مالية واجهته ،وكانت تُعنى بتغطية الأخبار العلمية العاملية ،وتركز يف التفكري احل ّر. أول مجلة علمية مترجمة
ق ّررت م�ؤ�س�سة الكويت للتق ّدم العلمي عام ١٩٨٦م �إطالق مبادرة علمية تتم ّثل يف �إ�صدار �أول جملة علمية املتخ�ص�صني ،تعاونت فيها مع املجلة مرتجمة لغري ّ الأمريكية (�ساينتفيك �أمريكان) ،و�أ�صدرت ن�سخ ًة عربي ًة منها ب�شكل �شهري ،وتوا�صل املجلة �صدورها �إىل الآن ،وتع ّد من �أهم املجالت العلمية العربية
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
حالي ًا؛ ب�سبب انت�شارها الوا�سع ،والدعم احلكومي لها. وقد تو ّقفت املجلة عن ال�صدور عدة �أ�شهر ب�سبب الغزو العراقي للكويت يف ت�سعينيات القرن املا�ضي ،لكنها عاودت ال�صدور ،وقامت ب�أر�شفة جميع �أعدادها على
ال كام ً المجالت العلمية ألهمت جي ً ال
32
من الشباب وح ّببت إليهم العلوم
عربية ٧٧ ،عام ًا منارةً علميةً في الوطن العربي
الإنرتنت .وتعاين املجلة حالي ًا من تهديد بتو ّقف �صدورها؛ ب�سبب تغيرّ مالك �شركة �ساينتفيك �أمريكان ،وال ُيعرف امل�ستقبل الذي ينتظرها خالل الأ�شهر املقبلة. وتع ّد جملة (البيئة والتنمية) ،التي ت�صدر من لبنان، وتر�أ�س حتريرها ال�صحفية العلمية راغدة حداد� ،إحدى �أجنح املجالت العلمية املوجودة يف الوطن العربي؛ فهي ت�صدر �شهري ًا ،وتو ّزع � ٣٨ألف ن�سخة يف ٢٢بلد ًا عربي ًا، تخ�ص�صها وتركيزها يف ق�ضايا البيئة على و�ساعد ّ جعلها حمور االهتمام العربي ،بل تعدى ن�شاطها اجلانب
عدد من املبادرات ،منها٥٠٠ : ال�صحفي ،فقامت ب�إطالق ٍ ناد بيئي مدر�سي وحما�ضرات للمدار�س للتوعية بق�ضايا ٍ ً البيئة ،و�أثارت املجلة مبو�ضوعاتها كثريا من االهتمام حول عدد من الق�ضايا البيئية العربية ،ومت ّكنت عام ٢٠٠٦م، ٍ وهي حتتفل بذكرى ت�أ�سي�سها العا�شرة ،من �إن�شاء املنتدى العربي للبيئة والتنمية .بد�أت املجلة عام ١٩٩٦م ،وما زالت باع ت�صدر �إىل الآن ،وتتم ّيز بوجود رئي�سة حترير ذات ٍ طويل يف ال�صحافة العلمية والرتجمة؛ فقد كانت راغدة ٍ حداد تعمل مدير ًة لتحرير جملة املختار ال�شهرية. يف عام ٢٠١٠م ،ومببادر ٍة من �شركة �أبو ظبي للإعالم، �صدرت جملة نا�شيونال جيوغرافيك العربية ،وهي جملة ُمرتجمة عن املجلة الأمريكية املعروفة التي �صدرت عام ١٨٨٨م .وكان هدف الإ�صدار العربي هو ن�شر املعرفة اجلغرافية ،والقى ترحيب ًا وا�سع ًا ،وبح�سب كث ٍري من املو ّزعني يحظى هذا الإ�صدار ب�إقبال كبري من القراء، وترجمته ممتازة ،و�إخراجه بديع ،و ُيو َّزع يف خمتلف الأقطار العربية ،وما زال ي�صدر �إىل الآن. وقبل عدة �أ�شهر تو ّقفت جملة العربي العلمي ال�شهرية، التي �أ�صدرتها عام ٢٠١١م جملة العربي التي ت�صدرها وزارة الثقافة الكويتية ،و�ش ّكل تو ّقفها �صدم ًة للقارئ العربي ،لكن يبدو �أن التمويل املايل هو �سبب تو ّقف ال�صدور .وكانت جملة العربي العلمي يف البداية ملحق ًا مبجلة العربي ،ثم �أ�صبحت جمل ًة م�ستقل ًة بذاتها ،وكان تبويبها متم ّيز ًا؛ فهي تطرح باب ًا للنقا�ش العلمي ،وباب ًا للأبحاث العلمية ،و�آخر ال�ست�شراف امل�ستقبل.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ظلّت «المقتطف» ،أول مجلة علمية
33
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ت
34
جهود مدينة العلوم والتقنية
من املجالت العربية العلمية الرائدة جملة (العلوم والتقنية) ،التي ت�صدرها مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية يف اململكة العربية ال�سعودية ،وهي جملة ف�صلية تو ّزع جمان ًا� ،صدر �أول �أعدادها عام ١٩٨٧م بعنوان (احلا�سب ال�شخ�صي وتطبيقاته) ،وتتم ّيز بح�ضورها على الإنرتنت ،وحمتواها الر�صني ،ودميومة �صدورها من دون انقطاع ،وال تزال ت�صدر �إىل الآن. كما تدعم مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية جملة (الفي�صل العلمية) التي ي�صدرها مركز امللك في�صل للبحوث والدرا�سات الإ�سالمية منذ �سنة 1424هـ/ 2003م .وكانت ال�شراكة بني املركز واملدينة �سبب ًا يف ا�ستمرار املجلة ،التي جاء �إ�صدارها ل�س ّد الفجوة يف الإعالم العلمي العربي ،وتقدمي مو�ضوعات علمية ملتخ�ص�صني و�صحفيني علميني يف املجاالت العلمية ّ ً والتقنية وال�صحية كافة ب�أ�سلوب �سل�س يتيح لغري
املتخ�ص�ص متابعة اجلديد يف تلك املجاالت .وللمجلة ّ موقع �إلكرتوين ي�ضم جميع �أعدادها ،مع متابعات علمية متنوعة للم�ستجدات يف خمتلف العلوم. وبدعم من مدينة امللك عبدالعزيز ويف عام ٢٠١٢م، ٍ للعلوم والتقنية� ،صدرت الن�سخة العربية من جملة
أصدرت أول مجلة علمية مترجمة لغير المتخصصين ّ
نيت�شر العريقة ،التي تع ّد �أهم جملة علمية موجودة يف العامل حالي ًا ،وقد القى �صدورها ترحيب ًا عربي ًا كبري ًا، وهي تُو َّزع جمان ًا ملن يطلبها ،وتوجد ن�سختها الورقية يف معظم مكتبات اجلامعات العربية ،كما �أنها متوافرة على �شبكة الإنرتنت ،وميكن حتميل جميع �أعدادها ،واالطالع تو�سعت املجلة من خالل عليها من دون عائق ،بل ّ تطبيقها على �أجهزة الأندرويد والآيفون ،وح�ساباتها يف ال�شبكات االجتماعية ،و�أ�صبحت ت�صل �إىل �أكرب �شريحة ممكنة .وتتم ّيز املجلة برتجمة بديعة ،و�إخراج احرتايف راقٍ ال ت�ضاهيه � ّأي جملة علمية �أخرى .ومازالت املجلة ت�صدر �إىل الآن ،وهي تتل ّقى الدعم املايل من مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مبا�شر ًة عرب �إدارة التوعية العلمية والن�شر. لي�ست جملة نيت�شر هي املجلة العلمية الوحيدة التي تقوم مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية برتجمتها؛ فاملدينة ترتجم كذلك جملة (العلم واحلياة) الفرن�سية للفتيان ،وهي ت�ستهدف طالب املرحلتني املتو�سطة والثانوية؛ فتقدّم لهم وجبات علمية ماتعة ،وقد بد�أ كامل من مدينة امللك �إ�صدارها عام ٢٠١٢م بدعم ٍ ٍ
«ناشيونال جيوغرافيك العربية» ساهمت في نشر المعرفة الجغرافية والقت ترحيب ًا واسع ًا
المجالت اإللكترونية والشبكات االجتماعية
ال ُينكر � ّأي �صحفي التغيرّ الكبري ،والهزة العنيفة ،اللذين حدثا للن�شر الورقي منذ قدوم الإنرتنت؛ فقد تو ّقف عدد من املجالت حتت �ضغط �ضعف املبيعات الورقية، واكتفى عدد �آخر من املجالت بالوجود الإلكرتوين فقط، بل �إن �صحيف ًة �ضخم ًة كالوا�شنطن بو�ست ا�شرتاها موقع �أمازون الإلكرتوين ال�شهري ،وبد�أت �أكرب �صحف العامل؛ كالنيويورك تاميز ،التفكري يف طريقة جديدة جلني الأرباح من موقع ال�صحيفة على الإنرتنت. يف ظ ّل هذه املوجة العاتية ت�أ ّثرت املجالت العلمية يف خمتلف دول العامل ،وما كان منها �إال �أن ت�أقلمت ب�شكل �سريع ،وحاولت تعزيز دخلها بطرح تطبيقات وا�شرتاكات �إلكرتونية �سنوية لتغطية تغيرّ �سلوك امل�ستهلك .مل تتو ّقف املجالت العلمية ،لكن �أ�صبحت املجالت العلمية اجلديدة ال تُوجد �إال على الإنرتنت فقط؛ فظهرت يف العامل العربي موجة جديدة من املجالت الإلكرتونية العلمية ،التي عزفت عن الظهور الورقي ،منها :جملة العلوم بالعربية ،التي ت�صدرها الكلية اجلامعية للعلوم التطبيقية يف م�صر ،و�صدر بتمويل من البنك �أول �أعدادها عام ٢٠١١م ،وت�صدر ٍ الإ�سالمي ومازالت ت�صدر �إىل الآن ،وما مي ّيزها هو حتديثها الدوري وح�ضورها الإلكرتوين الوا�ضح على �شبكة الإنرتنت .ويف عام 2014م ظهرت جملة مر�صد امل�ستقبل ،التي ت�صدرها م�ؤ�س�سة دبي للم�ستقبل،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
للتقدم العلمي مؤسسة الكويت ّ
عبدالعزيز للعلوم والتقنية .وتتم ّيز املجلة با�ستهدافها �شريحة الفتيان والفتيات ،وترجمة و�إخراج رائعني، وتُو ّزع ب�شكل جماين للراغبني يف اقتنائها .ومازالت املجلة ت�صدر ب�شكل دوري ،وترتدّد �أخبار ب�أن هناك جمل ًة علمي ًة �أخرى جديدة �سرتى النور قريب ًا ،وت�ستهدف �شريحة عمرية �أ�صغر ،هم طالب املرحلة االبتدائية.
35
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
36
وهي مرتجمة عن جملة فيوت�شرزم الأمريكية، ويدعمها مالي ًا متحف دبي للم�ستقبل ،وير�أ�سها ال�صحفي العلمي اليمني ها�شم الغيلي .وقبل عامني تقريب ًا �أي�ض ًا� ،أن�ش�أ ال�صحفي ال�سوري زاهر ها�شم املجلة العلمية العربية من خالل (زاد ميديا) يف دم�شق، وتُعنى املجلة ب�أخبار العلوم وال�صحة والطب .ومن املجالت كذلك جملة الأهرام العلمية الإلكرتونية ،التي �أ�صدرها هاين �سالم عام ٢٠٠٧م ،ومازالت ت�صدر �إىل الآن ،وتقوم على التربعات واجلهود ال�شخ�صية لرئي�س حتريرها. وهناك كثري من املجالت الإلكرتونية التي �صدر منها عدد �أو عددان بجهود �شخ�صية ،ثم تو ّقفت بعد ذلك.
باملحتوى الأ�صلي �أو املرتجم .وقد القت هذه الطريقة جناح ًا مذه ًال ،ومن ذلك على �سبيل املثال :موقع (الباحثون ال�سوريون) ،وموقع (�أنا �أ�صدّق العلم) ،ومي ّثل موقع (الباحثون ال�سوريون) م�ؤ�س�سة توعية علمية وا�سعة االنت�شار؛ �إذ يتابع املوقع مليونا �شخ�ص يف ال�شبكات االجتماعية ،وهو بحقٍّ �أمر مثري للإعجاب والت�أمل. وهناك نوع �آخر من املحتوى العلمي القائم على �أ�شخا�ص متخ�ص�صني عرب ال�شبكات االجتماعية؛ فـالطبيب ّ ال�سعودي خالد النمر لديه �آالف املتابعني ،ويقدم حمتوى علمي ًا طبي ًا ،ون�ضال ق�سوم يقدّم حمتوى علمي ًا عرب ح�ساباته على �شبكات التوا�صل االجتماعي ،وير ّكز
الصحافة العلمية والمبادرات التطوعية
ُيالحظ م�ؤخر ًا كرثة املبادرات التطوعية لن�شر املحتوى العلمي ب�شكل جماين للجميع؛ �إذ يقوم �شخ�ص ب�إن�شاء موقع �أو �صفحة على �إحدى ال�شبكات االجتماعية؛ كالفي�سبوك �أو تويرت ،ويدعو اجلميع �إىل م�شاركته� ،سواء
مدينة العلوم والتقنية نجحت في إصدار النسخة العربية من مجلة نيتشر العريقة
لماذا تختفي المجالت العلمية العربية؟
لو ُقمنا بعمل م�سح �شامل لك ّل املجالت العلمية التي �صدرت ثم اختفت لوجدنا �أن هناك �سببني رئي�سني وراء اختفاء هذه املجالت ،و�أ�سباب ًا �أخرى ثانوية. ال�سبب الأول هو �ضعف الدخل املايل لهذه املجالت؛ مثل جملتي الع�صور واملقتطف ،و ُيعزى ذلك �إىل ال�ضعف العام يف القراءة لدى املجتمعات العربية، وال�سبب الثاين �أن املجالت كانت قائمة على جهود �أفراد متحم�سني ،وال تلبث �أن تختفي هذه املجالت مبجرد مغادرة رئي�س حتريرها �أو مفارقته احلياة، وهو م� ّؤ�شر يعك�س �أن �أغلب املجالت العلمية وقعت يف
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
يف الفلك ،وكذلك الدكتور حممد قا�سم من الكويت، الذي يركز يف االكت�شافات العلمية اجلديدة وغرائب ويهتم ه�ؤالء الكتّاب بالقراءة باللغات الأخرى، العلومّ . وتقدمي حمتوى حديث وفوري باللغة العربية بعد تب�سيطه و�شرحه للقارئ العربي بطريقة �شائقة ،وهو ما ّ يدل على قوة املحتوى املُرتجم وقدرته على االنت�شار ،وتغيرّ طرائق تل ّقي املعلومة.
فخّ �إداري كبري؛ �إذ �أن�ش�أها �أفراد مل ينجحوا يف حتويلها �إىل عمل م�ؤ�س�سي ال يت�أثر بغيابهم. ومن الأ�سباب الثانوية الختفاء املجالت العربية العلمية �أن ال�صحافة العلمية العربية تعاين غياب ال�صحفيني املتخ�ص�صني؛ ففي اململكة العربية ال�سعودية �صحفي ّ متخ�ص�ص يف النفط ،مع �أنها �أكرب دولة م�صدّرة واحد ّ له ،ومدار�س ال�صحافة العربية تخلو متام ًا من برامج ال�صحافة العلمية ،بينما جتد ال�صحفيني العلميني يف تخ�ص�صات الغرب يقدّمون حمتوى يف غاية الروعة يف ّ يتخ�ص�ص يف علم الأع�صاب، معينة يف العلوم؛ فبع�ضهم ّ وثانٍ يف الفلك ،وثالث يف الطاقة املتجدّدة ،وهكذا ،ويف مثل هذه البيئة العربية من ال�صعوبة مبكانٍ �أن تن� أش� جمالت علمية عربية ذات حمتوى يتمتّع بالدميومة. ومن الأ�سباب الثانوية �أي�ض ًا الختفاء املجالت العلمية العربية عدم مرونتها مع تغيرّ �سلوك القارئ؛ فكثري من املجالت العلمية العربية ال متلك تطبيقات تتوجه فيها �إىل القراء عرب هواتفهم املحمولة �أو ّ املت�صفحات اللوحية كالآيباد ،وبع�ض املجالت ال متلك �إىل الآن ح�سابات على ال�شبكات االجتماعية، وتكتفي باملحتوى الورقي� ،أو مبوقع رديء ذي ت�صميم تقليدي على الإنرتنت. ال�صحافة العلمية �أمر يف غاية الأهمية لبناء جمتمعات املعرفة؛ فهي تق ّدم وجبات من الإلهام ،وجتعل العلوم ركيز ًة �أ�سا�سي ًة يف النقا�شات االجتماعية لتقدمي احللول مل�شكالت الب�شر ،و�إ�صدار جمالت علمية املتخ�ص�صني �أمر مهم جد ًا ،لكن موجهة �إىل غري ّ ّ الأهم منه هو متتّع هذه املجالت بالدميومة واال�ستفادة الكاملة من التقنية ال�ستهداف القارئ على املن�صات التي ُيوجد بها من هواتف نقالة و�شبكات اجتماعية. وعلى هذه املجالت �أي�ض ًا االعتماد على عمل م�ؤ�س�سي حقيقي يكفل لها البقاء.
37
تقرير
ملف العدد
مجرد أداة لنقل المعنى من ليست الترجمة ّ لغة إلى أخرى ،بل هي وسيلة إثراء لغوي تحرك ركود اللغة ومعرفي قادرة على أن ّ المعرفية ،والفكر العلمي والثقافي ،إذا تم تفعيلها بالشكل الصحيح. وتعد الترجمة ّ ّ العلمية أحد أصعب مجاالت الترجمة في العصر الحديث؛ لسبين :أولهما هو ارتباطها بمصطلحات علمية حديثة ال وجود لمرادف يع ّبر عنها في البناء اللغوي التقليدي، نص يع ّبر وثانيهما أن النص العلمي هو ّ ّ محددة ،وهو ما يتطلّب عن حقائق علمية ّ النص ومعناه نق ً ال أمين ًا من نقل محتوى ّ أي تعدٍّ أو تعديل في محتواه ،ال دون ّ النص بالغياً ،وال لزيادة الشرح بهدف تجميل ّ العلمي .وبذلك يواجه مترجم المادة العلمية تحدي ًا قد ال يواجهه سواه؛ فهو ُمطالَب بنقل المعنى من لغة إلى لغة ومطالب بعدم المساس بمحتوى أخرىُ ، النص ومعناه ،وهو فوق ذلك كلّه أمام ّ مصطلحات حديثة ال وجود لها في المعاجم التقليدية .وهنا يطرأ السؤال :كيف يمكن لنا أن نعمل على تحسين مستوى الترجمة العلمية العربية؟ وما الجهود التي ينبغي
38
التركيز فيها لتحقيق هذا الهدف؟
خطوات
خطو
تحسين الترجمة العلمية 39 حنان القرني صيدالنية سعودية ومترجمة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
على املعاجم العربية الت�صدى ملواجهة �سيل امل�صطلحات احلديثة
املتخ�ص�صة م�س�ؤولي ًة ا�ستثنائي ًة تتح ّمل املعاجم اللغوية ّ يف تي�سري الرتجمة العلمية العربية؛ فاللغة العلمية لغة متجدّدة وو ّالدة ،تنتج �سنوي ًا كثري ًا من امل�صطلحات العلمية احلديثة يف �شتى املجاالت العلمية :الطبية، والتقنية ،والفلكية ،والفيزيائية ،وغريها من املجاالت، و�إذا مل تت�ص َّد املعاجم العربية مل�س�ؤوليتها مبواجهة �سيل امل�صطلحات احلديثة عن طريق تكييفها مع القواعد مي�سر ًا قاب ًال البالغية العربية� ،أو تعريبها تعريب ًا ّ لال�ستخدام ،ثم �إعالن هذا التعريب وتعميمه على
تعد الترجمة اليوم عم ً ال نخبوي ًا لم ُ للمختصين فقط ،بل هي هواية لدى بعض الناس ،وجهد مسؤول
40
يؤديه آخرون خدمةً للعرب، وإثراء ّ ً للمحتوى العربي
املتخ�ص�ص الذي يبد أ� منه تداول امل�صطلح الو�سط ّ بني الناطقني بالعربية ،ف�سوف يجيء يوم جند ِّ أ�سف -و�سط �سيل جارف من فيه �أنف�سنا بكل � ًٍ امل�صطلحات الأجنبية املتداولة ق�سرا يف الن�صو�ص العربية ،وحينذاك لن يكون من املفيد �أن تُعاد ترجمة امل�صطلحات� ،أو ُيعاد تكييفها مع القواعد البالغية العربية؛ لأن ال�شيوع �سلطان اللغات، وال�شائع من الألفاظ �أوىل من �صحيحها. وال تنتهي مهمة املعاجم اللغوية بعد نقل امل�صطلح من لغته الأم �إىل اللغة العربية ،بل متتد �إىل نحت ا�شتقاقاته ،وحتديد �سياقاته ودالالته؛ لتكون مرجع ًا لك ّل َمن يتولىّ مهمة الرتجمة العلمية .ومن املهم جد ًا �أي�ض ًا �أن تكون املعاجم اللغوية قابل ًة لال�ستخدام من خالل حتقيق �أهم �شرطني للو�صول يتم توحيد هذه املعاجم �إىل هذه الغاية� :أولهما �أن ّ اللغوية على امتداد الوطن العربي؛ فالقارئ العربي يف املغرب هو القارئ العربي يف اخلليج ٬ومن املعيب
أن يبذل المترجم جهده لينقل المعنى من اللغة األصلية إلى اللغة األخرى من دون المساس بالنص ّ األصلي أو تحريفه أو تعديله
�أن تتعدّد وتت�ضارب الآراء يف ترجمة امل�صطلحات �إىل لغة واحدة؛ فيحدث ارتباك ب�سبب تع ّدد امل�صطلحات التي ت�شري �إىل امل�صطلح الواحد ،وثانيهما �أن يكون املتخ�ص�صة �سه ًال و ُمتاح ًا للجميع؛ الو�صول �إىل املعاجم ّ �إذ مل ت ُعد الرتجمة اليوم عم ًال نخبوي ًا للمخت�صني فقط ٬بل هي هواية لدى بع�ض النا�س ،وجهد م�س�ؤول ي�ؤدّيه �آخرون خدم ًة للعرب ،و�إثرا ًء للمحتوى العربي. ورمبا تكون �أ�سهل طريقة لإتاحة املعاجم لال�ستخدام هي �أن تتوافر على �شبكة الإنرتنت.
وعلى الرغم من م�س�ؤولية املعاجم عن تلبية حاجة التو�سع باحتواء املعاين العلمية اللغة العربية �إىل ّ املتج ّددة �إال �أنه قد يكون على املرتجم �أحيان ًا �أن يتولىّ هذا الدور؛ ب�سبب تق�صري املعاجم� ،أو ت�سارع وترية ظهور امل�صطلحات ٬ويف مثل هذه احلالة يجب على املرتجم �أن ي�ست�شعر م�س�ؤوليته يف نحت وتوليد �ألفاظ دا ّلة وبليغة تعبرّ عن املعنى الذي ي�شري �إليه ألفاظ منا�سبة لل�سان العربي. امل�صطلح الأ�صلي ب� ٍ ويمُ كن �أحيان ًا نقل امل�صطلح من لغته الأم �إىل اللغة العربية مع تهذيب حروفه مبا يتنا�سب مع الل�سان العربي ٬خ�صو�ص ًا �إذا ظهر امل�صطلح بو�صفه ت�سمي ًة ا�شتهرت؛ فالأ�سماء املتداولة واملعروفة ال تُرتجم. أ�صح يف �أحيانٍ �أخرى �أن يبحث املرتجم ويكون من ال ّ عن �أقرب الألفاظ العربية �إىل داللة املعنى ،في�شتقّ منه ا�صطالح ًا يعبرّ عن امل�صطلح املُراد ترجمته. �إذ ًا ٬فالرتجمة العلمية تتط ّلب �إملام ًا باللغة العربية، و�ألفاظها ،و�أ�ساليبها البالغية ،كما تتطلب الإملام باللغة الأخرى ،وباال�صطالحات العلمية؛ فلي�س يكفي الن�ص الأ�صلي ،ويتم ّكن من معناه، �أن يفهم املرتجم ّ ليكون قادر ًا على ترجمته ٬بل عليه �أن ميتلك مقدر ًة لغوي ًة عربي ًة مت ّكنه من نقل املعنى عرب الرتاكيب العربية ال�صحيحة.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
المهم في حالة الترجمة األمينة من ّ
41
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
42
تتم ترجمة ويتم ّثل ال�شرط الأهم للرتجمة العلمية يف �أن ّ الن�ص العلمي (ترجم ًة �أمين ًة) .والرتجمة الأمينة نوع ّ مم ّيز من �أنواع الرتجمة ،يختلف عن الرتجمة بت�ص ّرف، �أو الرتجمة الت�أويلية ،و�سواهما من �أنواع الرتجمة؛ املهم يف حالة الرتجمة الأمينة �أن يبذل �إذ يكون من ّ املرتجم جهده لينقل املعنى من اللغة الأ�صلية �إىل اللغة بالن�ص الأ�صلي �أو حتريفه �أو الأخرى من دون امل�سا�س ّ تعديله؛ لذلك يواجه املرتجم بع�ض ال�صعوبات حني الن�ص العلمي ،ويعجز ينقل م�صطلح ًا جديد ًا داخل ّ عن �إدراج �شروحات ّ تو�ضحه وتنقل معناه �إىل القارئ. ويف هذه احلالة قد يكون من املنا�سب �إدراج ال�شروحات يف الهام�ش؛ لتو�ضيح اال�صطالحات اجلديدة ،و�شرح معانيها؛ �إذ ت�ساعد هذه اخلطوة على تطبيع امل�صطلح ون�شره وت�سهيل ا�ستخدامه ٬وهي للأ�سف خطوة ُمغ ّيبة التزام رتجمة .وال يعفي ُ يف الدوريات العلمية العربية املُ َ
املرتجم من الرتجمة الأمينة �أ�سلوب ًا للرتجمة العلمية َ الن�ص م�س�ؤوليته اللغوية التي تفر�ض عليه �صياغة ّ رتجم �صياغ ًة عربي ًة بالغي ًة ر�صين ًة ٬وال تُبيح املُ َ له الت�ساهل يف القواعد البالغية والنحوية العربية للن�ص؛ فلي�س من ّ بحجة املحافظة على املعنى الأ�صلي ّ الن�ص على معناه و ُي�صاغ ب�صياغ ٍة امل�ستحيل �أن ُيحافظ ّ عربي ٍة وا�ضح ٍة وقومي ٍة .وقد يكون من الأف�ضل يف بع�ض تتم عملية الرتجمة يف خطوتني :نقل املعنى الأحيان �أن ّ �إىل اللغة العربية ٬ثم ي�أتي دور املراجعة اللغوية لإعادة الن�ص ب�أ�سلوب عربي قومي. �صياغة ّ يتم نقل املعنى من و�أخري ًا ،يه ّمني �أن �أقول :ال يكفي �أن ّ لغ ٍة �إىل �أخرى لنقول� :إننا �أجنزنا الرتجمة ،بل يجب �أن ينتقل املعنى ب�صياغ ٍة بليغ ٍة ممتع ٍة �سهل ٍة للقارئ؛ فما رتجم الذي ال يلقى رواج ًا بني النا�س الن�ص املُ َ قيمة ّ لركاكة ترجمته و�ضعفها ،بل وجوده حينئذٍ كعدمه.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
43
إﺻﺪارات إدارة اﻟﺒﺤﻮث
تقرير
ملف العدد
ال يقتصر واجب تعلّم ومعرفة الطرائق السليمة لتقييم الدراسات العلمية، والحكم على جودتها ،على الصحفيين العاملين في المجال العلمي فحسب، بل هو واجب على ّ كل صحفي مهما كان اختصاصه. هل سرطان القنوات اللبنية Ductal carcinoma in situ DCIS يعد أحد ّ العوامل المؤدية إلى اإلصابة بسرطان الثدي ،أو ال يعد كذلك؟ وهل يستدعي ّ الخضوع للعالج أو ال؛ ألن آراء األطباء تختلف حول هذه األمور بسبب انعدام الدالئل العلمية الحاسمة؟ وتقرر بعض ّ النساء المصابات بسرطان القنوات اللبنية ،وهو خاليا غير طبيعية تظهر في قنوات اللبن في الثدي ،الخضوع لعملية استئصال الثدي ،Mastectomy ويقتصر بعضهن على استئصال الكتلة الورمية lumpectomyمع الخضوع للعالج اإلشعاعي ،وتختار قلة قليلة منهن االنتظار ومتابعة الوضع.
44
علوم عنها للصحفيين ال غنى
45 مريم المفضي مترجمة سعودية
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
46
لذلك عندما ظهرت يف �أغ�سط�س عام 2015م درا�سة تتناول هذا املو�ضوع يف جملة (جاما �أونكولوجي املخت�صة ب�أبحاث علم )JAMA Oncology ّ الأورام كانت املعلومات التي ظهرت يف التغطيات املختلفة للدرا�سة متباين ًة؛ فقد ذكرت جينا كوالتا الكاتبة ال�صحفية يف (نيويورك تاميز)� -أن �سرطانالقنوات اللبنية ال يع ّد حال ًة خطري ًة �ألبتة ،و�أنه ال ي�ش ّكل خطر ًا كبري ًا ،وقالت« :ن�سب الوفيات ب�سبب �سرطان الثدي لدى امل�صابات ب�سرطان القنوات اللبنية مماثلة �أو مقاربة جد ًا لعامة الن�ساء من غري امل�صابات»� .أما �آلي�س بارك -الكاتبة ال�صحفية يف �صحيفة (تامي)- فكان ا�ستنتاجها مغاير ًا؛ �إذ قالت« :ال يبدو �أن �سرطان القنوات اللبنية حميد بالقدر الذي كان يعتقده الأطباء �سابق ًا» .و�أخري ًا ،ذكرت جينيفر كالفا�س -من �صحيفة (يو �إ�س �إيه توداي)� -آراء متفاوتة للخرباء من دون �أن تلزم نف�سها تقدمي ا�ستنتاج معني ،فو�صفت الدرا�سة ب�أنها «�أثارت جد ًال حول �أهمية خيارات العالج املتاحة
للم�صابات ب�أكرث مراحل �سرطان الثدي تبكري ًا» ،وهي تعني �سرطان القنوات اللبنية �إذا كان من ال�صحيح �أن تُع ّد هذه احلالة بالفعل من �أكرث مراحل �سرطان الثدي تبكري ًا. حيرة علمية
هل حتيرّ ت؟ لقد كانت الدرا�سة نف�سها ،وتعليقات الباحث الرئي�س الدكتور �ستيفن �إي نارود وم�ست�شفاه حميرّ ة �أي�ض ًا؛ فقد قال الدكتور نارود -وهو من معهد �أبحاث الكلية الن�سائي ة Women’s College R e search Instituteالتابع للم�ست�شفى الن�سائي اجلامعي يف تورنتو -لل�صحفية جينا كوالتا من (نيويورك تاميز): «�أف�ضل عالج ل�سرطان القنوات اللبنية هو �أن ندعها و�ش�أنها» بعد �أن نقوم بعمل خزعة لإزالة اخلاليا غري الطبيعية ،لكن البيان ال�صحفي الذي �أ�صدره امل�ست�شفى ينقل عن الدكتور نارود قوله�« :سرطان القنوات اللبنية له خ�صائ�ص كثرية م�شابهة لل�سرطانات الغزوية ال�صغرية
أصبحت مهمة الصحفي أكثر صعوبةً بسبب الصعوبات الحديثة التي يواجهها المجال العلمي نفسه؛ فعلى سبيل المثال :يقع العلماء والباحثون تحت ضغوط كبيرة للحصول على نتائج في تمر بها الميزانيات بعض المراحل التي ّ ّ بتقشفشديد
الكتابة في مجالت متعددة
كان هذا الأمر جزء ًا من التحدي الذي �ش ّكلته درا�سة �سرطان القنوات اللبنية؛ فحتى الكتّاب ال�صحفيون املخت�صون بتغطية الأخبار الطبية العامة� ،أو الأخبار املتعلقة ب�أبحاث ال�سرطان� ،أو حتى ب�سرطان الثدي حتديد ًا ،عانوا �صعوب ًة يف التعامل مع نتائج هذه الدرا�سة، خ�صو�ص ًا �أن قل ًة قليل ًة من ال�صحفيني هم َمن يحظون التخ�ص�ص الدقيق يف جمال واحد؛ ف�أغلب ب�إمكانية ّ الكتّاب ال�صحفيني يعملون على تغطية كثري من املجاالت؛ فنجد ال�صحفي يكتب عن جتربة تقوم بها وكالة الف�ضاء نا�سا يف �أحد الأيام ،ويكتب يف يوم �آخر عن خالف �شائك حول الف�ضالت ال�سامة ،ومع ذلك ال بد للكاتب ال�صحفي من �أن يكون متم ّكن ًا من ترجمة املعلومات العلمية التي حتتاج �إليها هذه الأخبار ال�صحفية ب�سرعة ودقة ،مع احلر�ص على جت ّنب الأخطاء و(الفربكات) ال�صحفية. �أ�صبحت مهمة ال�صحفي �أكرث �صعوب ًة ب�سبب ال�صعوبات احلديثة التي يواجهها املجال العلمي نف�سه؛ فعلى �سبيل املثال :يقع العلماء والباحثون حتت �ضغوط كبرية للح�صول على نتائج يف بع�ض املراحل التي مت ّر بها امليزانيات ّ بتق�شف �شديد؛ فالف�شل يف احل�صول على نتائج قد يع ّر�ض امل�سرية املهنية للعامل �أو الباحث للخطر، وقد ي�ؤ ّثر يف فر�ص ح�صوله على دعم مادي لأبحاثه امل�ستقبلية؛ لذلك حتظى الدرا�سات التي تعرث على ن�شر ت�أثريات جانبية للعقار -على �سبيل املثال -بفر�ص ٍ
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
مقارن ًة مبا كان ُيعتقد �سابق ًا» ،م�ضيف ًا« :طبيعة املر�ض جتعل من انت�شار �سرطان القنوات اللبنية �إىل الأع�ضاء الأخرى �أمر ًا حمتم ًال» .واحلقيقة �أنه ال يوجد يف الدرا�سة ما يدعم التعميمات الواثقة التي ذكرتها معظم الأخبار التي تناولت الدرا�سة ،ومل ير ّكز �سوى عدد قليل من الأخبار يف �أكرث النتائج التي خرجت بها الدرا�سة و�ضوح ًا، وهي �أن العمر والأ�صل العرقي يعدّان من العوامل امل�ؤثرة يف الإ�صابة ب�سرطان القنوات اللبنية. تع ّد التغطية التي حظيت بها درا�سة �سرطان القنوات اللبنية منوذج ًا جيد ًا ملا قد مي ّثل �أكرب التحديات التي تواجه الكتّاب يف جمال ال�صحافة العلمية ،وهو تقييم وتف�سري النتائج املع ّقدة للدرا�سات التي قد يعار�ض بع�ضها بع�ض ًا �أحيان ًا ،خ�صو�ص ًا �أن كتابة كثري من الأخبار تعتمد على الفهم الدقيق للمعلومات العلمية وكيفية قراءتها .ويجعل هذا التحدي من دور ال�صحافة العلمية يف بناء هذه الثقافة لدى العامة �أكرب من ذي قبل؛ �إذ تقول ديبورا بلوم؛ الكاتبة ال�صحفية يف جمال العلوم ،واحلائزة على جائزة البوليتزر ،ومديرة برنامج فار�س العلم ال�صحفي التابع ملعهد ما�سات�شو�ست�س للتكنولوجي ا Knight Science Journalism pr o ،gram at MITوالنا�شرة ملجلة �أندارك Undark
العلمية اجلديدة التابعة للربنامج« :نحن نحتاج �إىل عامل يح�سن قراءة العلوم؛ فمع تغيرّ العامل والبيئة من حولنا نتيجة التقدم العلمي والتقني �أ�صبحنا نحتاج �إىل �أن نتعلم كيف نتعامل مع هذه التغيرّ ات بذكاء» ،م�ضيف ًة: «كيف ميكن لنا �أن ننجح يف ذلك �إذا كنا ال نفهم ما تعنيه نتائج هذه الدرا�سات العلمية؟».
47
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
48
�أكرب بكثري من غريها من التجارب التي ال تو ّفق يف العثور على مثل هذه الت�أثريات ،مع �أن الدرا�سات التي ت�صل �إىل نتائج �سلبية قد تكون يف بع�ض الأحيان بالقدر نف�سه من �أهمية الدرا�سات التي تنجح يف الو�صول �إىل نتائج �إيجابية، وقد تبدو الدرا�سة التي جتد ت�أثري ًا ّ مب�شر ًا وواعد ًا لعقار ما جذابة ،لكن مدى تق ّبل هذه الدرا�سة قد يتغيرّ �إذا ُن�شرت ع�شرات الأبحاث الأخرى عن العقار نف�سه من دون �أن جتد � ّأي ت�أثري �إيجابي له .كما �أن عدد مرات الرتاجع عن بع�ض الأبحاث؛ ب�سبب الأخطاء العلمية �أو الفربكات ال�صحفية، يف ازدياد؛ فالبيانات الالزمة لتقييم م�صداقية درا�سة ما لدواع جتارية �أو تناف�سية ،وقد ت�سهم طريقة قد تبقى �سري ًة ٍ توفري الدعم للأبحاث ،وهو ّية اجلهة الداعمة ،يف تعقيد مهمة البحث عن احلقيقة .وتو ّفر احلكومات غالب ًا معظم الدعم املادي لأبحاث اجلامعات ،لكن هذه اجلامعات ت�شجع منوذج ًا ي�سري على مبد�أ (كن من�شور ًا �أو مغمور ًا)؛ ّ فت�شجع الباحثني على الن�شر كلما وجدوا معلوم ًة جديد ًة ّ
مهما �ص ُغرت ،حتى �إن �أحد �أ�سباب ح�صول الباحثني على الرتقيات هو عدد الأبحاث التي ين�شرونها ،و�أمكنة ن�شرها. و ُيقال عاد ًة� :إن م�صداقية الأبحاث العلمية تعتمد على خ�ضوعها لتحكيم دقيق من اخلرباء؛ �أي �أن املجلة العلمية واملتخ�ص�صني يف املجال ّ االطالع على تطلب من اخلرباء ّ الأبحاث التي ت�صلها لتقييم �صحتها ودقتها ،لكن الثقة يف عملية التحكيم يف تراجع؛ ففي بع�ض الأحيان قد تُن�شر الأبحاث ال�ضعيفة �أو املل ّفقة حتى بعد عملية التحكيم، كما ُيحتمل �أن يف�شل نظام التحكيم حتى عندما ُيط ّبق على �أبحاث مهمة يقودها علماء خم�ضرمون؛ فعلى �سبيل املثال :قامت جمموعة من الباحثني يف م�شروع دام عدة �سنوات مبحاولة �إعادة �إجراء مئة بحث من الأبحاث يف علم النف�س ،وجنحوا يف الو�صول �إىل النتائج نف�سها يف 39درا�سة فقط ،ويف مار�س عام 2015م تراجعت املجلة الربيطانية (بايوميد �سنرتال Biomed )Centralعن 43بحث ًا بعد �أن �أنهت حتقيق ًا ثبت فيه
ّ االطالع والمتخصصين في المجال ّ على األبحاث التي تصلها لتقييم صحتها ودقتها ،لكن الثقة في عملية التحكيم في تراجع
م�ساع حاولت «الت�أثري يف �آراء املح ّكمني عن طريق وجود ٍ تقدمي تقييمات �إيجابية مل ّفقة» ،ويرى �إيفان �أوران�سكي امل� ّؤ�س�س الثاين مع �آدام ماركو�س ملدونة (مراقبةالرتاجعات الن�شرية � -)Retraction Watchأن هذا الأمر مدعاة لت�شكيك كتّاب ال�صحافة العلمية يف الأبحاث ،و�أن على الكتّاب ال�صحفيني النظر �إىل العلماء بالعني الناقدة نف�سها التي ينظر بها الكتّاب ال�سيا�سيون لل�سيا�سيني ،وي�ضيف قائ ًال« :نحن نف ّكر ونهتم بالت�أ ّكد من م�صداقية رجال ال�سيا�سة ،وال�شركات التجارية، باحثني عن الف�ساد والكذب واخلداع� ...أما يف العلوم، فيقوم �أ�سا�س قيا�س امل�صداقية على تقييم ما �إذا كانت ادّعاءات العلماء والباحثني �ست�صمد مع الوقت �أم ال»؛ فعند �أخذ الأعداد املتزايدة من الأبحاث التي يتم الرتاجع عنها يف احل�سبان ال ميكن لل�صحفيني �أن ّ ّ يعتمدوا على �آراء املحكمني فح�سب للت�أكد من م�صداقية �إحدى الدرا�سات. ال نقول بالطبع� :إن الف�شل يف �إعادة الو�صول �إىل نف�س نتائج درا�سة �سابقة يع ّد دلي ًال على �أن نتائج الدرا�سة الأ�صلية كانت خاطئ ًة� ،أو �أن البحث كان عر�ض ًة للتزييف؛ فالعمل العلمي عمل جتريبي قد مي ّر ببع�ض الأخطاء بطبيعة احلال .واحلقيقة �أن جزء ًا من التحدي الذي يواجه الكتّاب العلميني يكمن يف تو�ضيح ال�صعوبات التي تواجهها الدرا�سات ،مبا فيها تلك الدرا�سات التي
عملية مستمرة
وينبغي معاملة الأوراق البحثية بو�صفها جزء ًا ال يتج ّز أ� من عملية م�ستمرة ،ولي�ست ا�ستنتاجات قاطعة؛ لأنه يف بع�ض الأحيان ال يقوم املح ّكمون بواجبهم يف التح ّقق والتث ّبت من م�صداقية الأبحاث على �أكمل وجه� ،إ�ضاف ًة �إىل �ضخامة عدد الأبحاث التي تُن�شر ،وهو ما �أدّى �إىل كاف من املح ّكمني الذين م�شكلة �أخرى؛ �إذ ال يوجد عدد ٍ لتفح�ص ك ّل درا�سة بتم ّعن ،لدرجة ميتلكون وقت ًا كافي ًا ّ املتخ�ص�صني ،وهو �أتول غواندي؛ اجلراح يف �أن �أحد ّ م�ست�شفى بو�سطن يف بريغهام وم�ست�شفى الن�ساء ،و�أحد كتّاب �صحيفة (نيويوركر) ،وم�ؤ ّلف كتاب (لأننا كائنات تفنى) ،يرى �أن نظام التح ّقق من احلقائق الذي يتبعه ال�صحفيون قد يكون �أكرث دق ًة يف بع�ض الأحيان من نظام التحكيم؛ فيقول «نظام التحكيم ي�ساعد ،لكن
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
المجلة العلمية تطلب من الخبراء
خ�ضعت لأف�ضل املعايري التطبيقية من نتائج غري م ؤ� ّكدة �أو اختالفات دقيقة ،تقول �سارة بروكهارت؛ املديرة التنفيذية لرابطة العلوم النف�سية Association « :for Psychological Scienceمن ال�صعب جد ًا �إعادة الو�صول �إىل النتائج نف�سها ...فكثري ًا ما تظهر م�شكالت يف �إمكانية �إعادة الإنتاج واملحاكاة والتعميم»، ويرجع ذلك �إىل عدم �إمكانية تطبيق الدرا�سات التي �أُجريت على احليوانات على الإن�سان على �سبيل املثال، �أو اختالف املنهجية املتّبعة ،وتقول بروكهارت« :على ال�صحفي �أن ينظر �إىل الأبحاث على �أنها جزء ال يتج ّز أ� من عملية علمية م�ستمرة ،ال على �أنها ا�ستنتاجات قاطعة» .و�أ ّكدت هذه الفكر َة الورق ُة البحثي ُة التي ن�شرتها جملة (�ساين�س )Scienceيف مطلع مار�س عام 2016م لأربعة باحثني من جامعة هارفارد، يذكرون فيها �أن درا�سة حماكاة الدرا�سات ال�سابقة تع ّد معيب ًة وخاطئ ًة �إح�صائي ًا.
49
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
عندما تتح ّقق �صحيفة مثل (نيويوركر) من املعلومات التي �أذكرها ...فهي ال تكتفي بالنظر �إىل قائمة الأبحاث تتفح�ص اختياري بتم ّعن �أكرث :هل يف حا�شية بحثي ،بل ّ كنتُ �أنتقي الأبحاث التي تدعم ر�أيي فقط و�أجتاهل غريها؟ كما ُيقر�أ املقال للت�أ ّكد مما �إذا كنتُ �أ�ستخدم االقتبا�س اخلارج عن ال�سياق ،وهل هناك مقاالت �أخرى كثرية تدعم وجهة النظر املخالفة؟ �إن عملهم هذا �أ�شبه بالتحكيم» .ويعرتف غواندي ب�أن التحكيم الدقيق واملتم ّعن غري ممكن بب�ساطة لأغلب املجالت العلمية املح ّكمة� ،أو حتى �أغلب املن�شورات الإخبارية؛ �إذ ين�شر ما يقارب 2.5مليون ورقة بحثية ك ّل عام.
50
دقة النص
وميكن للنقل احل�صيف والدقيق �أن يح ّل بع�ض هذه امل�شكالت ،وهو ما �أو�ضحته كري�ستي �أ�شواندن -الكاتبة
الرئي�سة للمقاالت العلمية يف موقع البيانات ال�صحفي (فايفرثتي �إيت -)FiveThirty Eightعندما ح ّللت درا�س ًة ُن�شرت يف جملة طب الأطفال (جاما )JAMA Pediatricsتقول� :إن م�ستخدمي ال�سجائر الإلكرتونية من ال�شباب �أكرث عر�ض ًة بثماين مرات من غريهم لتدخني ال�سجائر العادية ،وكان الباحث الرئي�س يف هذه الدرا�سة هو الدكتور براين برمياك؛ الأ�ستاذ يف كلية الطب بجامعة بيت�سربغ ،وقامت الدرا�سة با�ستطالع �شمل 694م�شارك ًا راوحت �أعمارهم بني 16و 26عام ًا، منهم � 16شخ�ص ًا كانوا ّ يدخنون ال�سجائر الإلكرتونية يف بداية الدرا�سة ،ثم �أجرت الدرا�سة اال�ستطالع مر ًة �أخرى على العينة نف�سها بعد مرور �سنة .وعند حتليل �أ�شواندن هذه الدرا�سة وجدت �أن ال�ضجة التي �أحدثتها يف عناوين ال�صحف؛ مثل( :درا�سة تقول :املراهقون الذين ّ يدخنون ال�سجائر الإلكرتونية �أكرث عر�ض ًة
يلج�أ كارل زمير �إىل اخلرباء لتغطية املجاالت الكثرية التي يكتب فيها ()Revive & Restore
استحالة الخبرة في شكل المجالت
العمل العلمي عمل تجريبي قد يمر ببعض األخطاء بطبيعة الحال، ّ والحقيقة أن جزء ًا من التحدي الذي يواجه الكتّاب العلميين يكمن في توضيح الصعوبات التي تواجهها الدراسات
ومن الأ�شياء التي ت�ش ّكل حتدّي ًا �أمام الكتّاب ال�صحفيني يف املجال العلمي ا�ستحالة �أن ي�صبح ال�صحفيون خرباء يف ك ّل املجاالت ،مثلهم يف ذلك مثل العلماء �أنف�سهم؛ فعلى �سبيل املثال :كتب كارل زمير -ال�صحفي يف (نيويورك تاميز) -على مدى �شهرين مقاالت يف مو�ضوعات �شتى؛ من ارتفاع درجة حرارة املحيطات ،وخنف�ساء �شجرة املران ،the emerald ash borerوهي خنف�ساء �آ�سيوية تهاجم �أ�شجار املران ،والتخ ّفي عند احليوان، �إىل نظام باليو الغذائي ،Paleo Dietواللقاحات، وفطريات ال�سلمندر ،وانتقال اخلاليا من اجلنني �إىل �أمه .ويذكر زمير �أن �س ّر النجاح يف تغطية مو�ضوعات من جماالت خمتلفة ال يكمن يف �أن الكاتب �أ�صبح خبري ًا يف ك ّل هذه املجاالت ،بل يف معرفة اخلرباء يف هذه املجاالت.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
للتدخني الحق ًا) يف �صحيفة (لو�س �أجنلو�س تاميز)، و(درا�سة تقول :ال�سجائر الإلكرتونية طريق �إىل تدخني التبغ) يف �صحيفة (تامي) ،جاءت بنا ًء على �أن �ستة ممن ّ دخنوا ال�سجائر الإلكرتونية �أ�صبحوا �أ�شخا�ص ّ ّ مدخنني لل�سجائر العادية يف املدة بني اال�ستطالع الأول واال�ستطالع الثاين� ،ستة فقط ،وتقول �أ�شواندن« :ملج ّرد
�أن �ستة �أ�شخا�ص بد�ؤوا بتدخني التبغ نقلت الأخبار �أن ال�سجائر الإلكرتونية ت�ؤدي �إىل تدخني التبغ� .صحيح �أن الدرا�سة كانت درا�س ًة كبري ًة �إال �أن نتيجتها املهمة ،التي كانت عر�ض ًة ل�سوء الفهم ،مل تعتمد �إال على عدد قليل من العدد الكلي للم�شاركني» .ويكمن اخلط�أ -كما تذكر �أ�شواندن -يف االلتبا�س بني مفهومي :االرتبا ط co r ،relationوال�سببية causation؛ فمع �أن احتمال االنخراط يف التدخني كان �أكرث بكثري لدى ّ مدخني ال�سجائر الإلكرتونية يف الدرا�سة �إال �أن عدد ّ مدخني هذه ال�سجائر كان قلي ًال جد ًا ال�ستخال�ص � ّأي نتائج م�ؤ ّكدة (� 16شخ�ص ًا من �أ�صل � 694شخ�ص ًا) ،وت�ضيف �أ�شواندن�« :إنه عمل بحثي ممتاز ،لكن يبدو �أنها درا�سة تعطينا فر�ضيات مفيدة للدرا�سة املتم ّعنة م�ستقب ًال� .إنها ال ت�سمح لنا با�ستقاء � ّأي نتائج حا�سمة .ولتعرف �أنهم كانوا ينظرون �إىل عدد �صغري من عدد امل�شاركني فقط كان عليك �أن تقر�أ الكتابة باخلط ال�صغري».
51
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
وال يعني ذلك �أن هذا العمل �سهل دائم ًا؛ فكثري من توجهات �أو حت ّيزات اخلرباء يف املجاالت املختلفة يحملون ّ خا�صة بهم؛ لذلك ف�إن التوا�صل مع جهة ثقة واحدة قد ال يكفي ،حتى �إن زمير ،الذي يكتب ملجلة (�ستات )Stat التي ت�صدرها جمموعة بو�سطن الإعالمية الدولية ،قد يحتاج عند الكتابة عن �أحد الأخبار املع ّقدة �إىل التوا�صل مع جمموعة من امل�صادر مع �أن اخلرب يظهر مدعوم ًا ب�آراء م�صدر واحد �أو م�صدرين فقط. ضرورة االجتهاد في نقل المعلومة
52
قد تبدو �أهمية رجوع ال�صحفيني �إىل م�صادر خارجية �أمر ًا بديهي ًا ،لكن املُالحظ �أن قل ًة فقط هم من يقومون
بذلك ،خ�صو�ص ًا عندما تكون املقالة غري علمية ،لكنها حتوي جزئي ًة مهم ًة ذات طبيعة علمية .ويحثّ زمير ك ّل متخ�ص�صني يف الكتابة الكتاب ال�صحفيني� ،سواء �أكانوا ّ العلمية �أم ال ،على االجتهاد يف نقل املعلومة العلمية عندما تكون جزء ًا مهم ًا من الق�صة؛ فين�صح بالبحث عن م�صادر موثوقة تعينك يف دعم الأبحاث التي ترغب يف ذكرها ،كما ينبغي على ال�صحفيني الذين ال ميلكون ح�صيل ًة وا�سع ًة من العالقات يف الو�سط العلمي �أن يطلبوا املتخ�ص�صني يف ال�صحافة العلمية. العون من زمالئهم ّ ويكمن التحدي يف بع�ض الأحيان يف �إي�ضاح املعلومة امل�ؤ َّكدة للق ّراء من املعلومة املبن ّية على تو ّقعات؛ لأن كثري ًا من نتائج الأبحاث العلمية تع ّد نتائج ن�سبية .وقد واجهت هذه امل�شكلة كاثرين �شولز �-إحدى كاتبات �صحيفة (نيويوركر) -يف مقال ٍة كتبتها يف يوليو عام 2015م بعنوان( :الزلزال الكبري)؛ �إذ ذكرت تفا�صيل عن الزلزال الذي ُيتو ّقع �أن ي�ضرب �شمال غرب املحيط الهادئ بقوة 9.2ريخرت -ح�سبما ذكر علماء الزالزل- عقب انهيار منطقة انغراز كا�سكاديا Cascadia ّ اخلط subduction zoneبالكامل ،وهي منطقة
بروكهارت :على الصحفي أن ينظر إلى األبحاث على أنها جزء ال يتجزّأ من عملية علمية مستمرة ،ال على أنها استنتاجات قاطعة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ال�صدعي املمتد من �شمال كاليفورنيا �إىل املنطقة القريبة من جزيرة فانكوفر يف كندا ،وطوله 700ميل؛ �أي �أنه �سيكون �أكرب من زلزال عام 2011م والت�سونامي الذي تبعه ،اللذين �ضربا اليابان و�س ّببا خ�سائر فادحة.
ويتّفق الباحثون على �أن الزلزال �سيقع ال حمالة؛ لأن زالزل منطقة كا�سكاديا حتدث يف املتو�سط ك ّل 342 عام ًا ،وقد م�ضى الآن منذ �آخر زلزال 316عام ًا ،لكن من امل�ستحيل حتديد وقت حدوث الزلزال بدقة ،وتو ّقع نتائجه .وبنا ًء على هذه الدالئل العلمية التي تدعم تو ّقع حدوث زلزال قامت �شولز بكتابة مقالها ب�صيغة امل�ستقبل ،بد ًال من ا�ستخدام �أ�سلوب ال�شرط الأكرث ّ «�ستغطي املنطقة التي �سي�ضربها دق ًة وحذر ًا ،فقالت: الزلزال � 140ألف ميل مربع ،ت�شمل� :سياتل ،وتاكوما، وبروتالند ،ويوجني ،و�سايلم عا�صمة �أوريغون ،و�أولومبيا عا�صمة وا�شنطن ،و�ست ؤ� ّثر يف �أكرث من �سبعة ماليني �شخ�ص ...و�ستُ�سقط �سخانات املياه ،وتحُ طم �أنابيب الغاز الداخلية� .أما املنازل التي مل تُربط ب�أ�سا�ساتها ف�ستنزلق عن مواقعها ...ولأن املنازل مل تث ّبت بالأر�ض التي تتحرك من حتتها ف�ستنهار واحد ًا تلو الآخر. وعندما ي�ضرب الت�سونامي فلن تزداد الأمور �إال �سوء ًا». يقول الربوفي�سور كري�س جولدفينجر �-أحد علماء الزالزل يف جامعة والية �أوريغن ،الذي ُذكرت بع�ض �أعماله يف مقالة �شولز -مع ّلق ًا على املقالة التي فازت بجائزة (املجلة الوطنية للكتابة ال�صحفي ة Natio n )al Magazine Award for feature writing عام 2016م :رمبا جل�أت �شولز �إىل �أ�سلوب الكتابة اال�ستعرا�ضية بع�ض ال�شيء ،لكنها مل تذكر � ّأي معلومات غري �صحيحة علمي ًا يف كتابتها ،م�ضيف ًا« :ال �أرى ب�أ�س ًا من �إ�ضافة بع�ض الروح والقليل من الفكاهة �إىل الكتابة مادامت مل تتغيرّ احلقائق ...فذلك ي�ساعد على لفت انتباه النا�س ،ويدفعهم �إىل احلديث عن املو�ضوع؛ فلو كتبتَ املعلومات العلمية نف�سها ب�أ�سلوب ّ جاف غري �شائق فلن تنت�شر املعلومة بالقوة التي انت�شر بها مقال �شولز؛ لذلك لن تتم ّكن من احل�صول على القدر نف�سه من الت�أثري الإيجابي الذي �أحدثته مقالة �شولز».
53
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
54
�أثارت مقالة �شولز اهتمام ًا كبري ًا وقلق ًا لدى العامة؛ ف ُعقدت املنتديات عرب مناطق �شمال غرب املحيط الهادئ املختلفة ملناق�شة افتقار املنطقة �إىل اال�ستعدادات ،وناق�ش امل�س�ؤولون الإجراءات التي ينبغي اتّباعها للعناية بهذا املو�ضوع ،و�إن مل يبد�ؤوا بتفعيلها بعد ،و ُنوق�شت مو�ضوعات متعددة �شملت :م�سارات الإخالء عند وقوع الت�سونامي ،وحتديث املباين القدمية لتتح ّمل الزالزل القوية. ويذكر �أتول غواندي �أنه يحاول التعامل مع بع�ض ال�صعوبة الكامنة يف ال�صحافة العلمية عن طريق االنتظار قبل ن�شر املقاالت لريى �إذا كانت النتائج املذكورة �ست�صمد فع ًال؛ فيقول�« :أنتظر عاد ًة بع�ض الوقت مف ّكر ًا :كيف �سيبدو هذا اخلرب بعد ثالثة �أ�شهر �أو �ستة؟ وكيف يتخ�ص�ص يف ممن يتط ّور هذا املو�ضوع؟ و�إذا كنتَ ّ ّ كتابة الأخبار ال�سريعة ب�صورة خمت�صرة على تطبيقات
التوا�صل االجتماعي short-form reportingفهذا يعني �أن ترجع �إىل الأخبار التي كتبتَها قبل �ستة �أ�شهر �أو �سنة ،وت�س�أل نف�سك :كيف تبدو الآن من هذا املنظور؟»، ثم اعمل على تطوير هذا النوع من الكتابة ال�صحفية؛ لأن ذلك هو الطريق الأمثل لكي تتج ّنب االن�سياق وراء ك ّل خرب. يعرف كتّاب ال�صحافة العلمية املخ�ضرمون �أهمية القدرة على اتّخاذ القرارات اخلا�صة بالأخبار التي ال ت�ستحقّ الن�شر وتلك التي ال تُف َّوت ،و�أهمية ال�سرعة يف ذلك؛ فعلى �سبيل املثال :حدث يف �سبتمرب عام 2015م �أن ن�شرت جملة (نيت�شر )Natureدرا�س ًة تدّعي �أنها وجدت دلي ًال على �أن مر�ض الزهامير ينتقل بالعدوى، قوي وخميف �أي�ض ًا ،لكن فريجينيا هيوز -حم ّررة خرب ّ الأخبار العلمية يف موقع �أخبار بزفييد BuzzFeed -Newsق ّررت عدم تغطية هذا اخلرب قائل ًة�« :إنها
المخضرمون أهمية القدرة على اتّخاذ القرارات الخاصة باألخبار التي ال ُفوت، ّ تستحق النشر وتلك التي ال ت َّ وأهمية السرعة في ذلك
درا�سة غري معقولة ...كانت ع ّينة الدرا�سة ثمانية �أ�شخا�ص فقط على ما �أذكر ،وكانت ا�ستنتاجات الدرا�سة مبني ًة على االفرتا�ضات �إىل حدٍّ كبري .كنا مت�أ ّكدين �أن مثل هذا اخلرب �س ُيحدث �ضج ًة �إعالمي ًة، لكننا ق ّررنا عدم ن�شره .وبعد ذلك بيوم واحد ق ّررت (*) هذا املقال مرتجم عن مقال باول ريبورن املن�شور يف جملة كيلي �أوك�س -حم ّررة الأخبار العلمية يف بزفييد باململكة (نيمان ريبورت) التي ت�صدرها جامعة هارفارد ،على الرابط: http://niemanreports.org/articles/what-everyاملتحدة -ن�شر اخلرب ،لكن بطريقة غري تقليدية؛ فكتبت journalist-should-know-about-science. مقال ًة تنتقد فيها هذه الدرا�سة وال�ضجة الإعالمية التي �صاحبتها. مغزى كالمنا هنا هو �أنه ينبغي على ال�صحفي �أال يقبل � ّأي معلومة على ع ّالتها ،يقول بني جولداكري؛ الطبيب الربيطاين الذي ظ ّل يكتب لعمود العلوم الرديئة Bad Scienceيف �صحيفة (ذاجارديان) عقد ًا من الزمن: «ينبغي �أن تكون تغطية نقاط �ضعف الأبحاث العلمية وم�شكالتها من املها ّم الروتينية لل�صحفي ...فعندما مت ّر به درا�سة وجدت عالج ًا جديد ًا مبهر ًا فعليه �أن ّ يغطي اخلرب مع ذكر �أن عادة الأبحاث التي ت�صل �إىل نتائج جديدة �أن ّ ت�ضخم هذه النتائج مبكر ًا� ،أما �إذا م ّرت به جتربة �سريرية ناجحة من �إحدى اجلامعات التي تقوم بكثري من التجارب ال�سريرية فعليه �أن ي�أخذ يف احل�سبان �أن النتائج الأق ّل ت�أثري ًا و�إحداث ًا لل�ضجة قد تُرتك بال ن�شر؛ لذلك رمبا يجدر بال�صحفي �أن يرجع �إىل الأبحاث
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
يعرف كتّاب الصحافة العلمية
ال�سابقة لهم ليعرف عدد التجارب التي مل تُن�شر». ويرى �إيفان �أوران�سكي �أنه ينبغي على ال�صحفيني �أن يغيرّ وا متام ًا طريقتهم يف النظر �إىل الأبحاث املن�شورة؛ فالكتابة ال�صحفية مبا تت�ض ّمنه من بحث «ال ينبغي �أن تتو ّقف عند ن�شر ورقة بحثية ما ...بل على ال�صحفي �أن يتعامل مع ك ّل بحث بو�صفه معلوم ًة غري ُمثبتة عر�ض ًة للتغيري .عليك �أن تعامل ك ّل نتيجة على �أنها نتيجة مبدئية» ،خ�صو�ص ًا تلك الأخبار التي تُثري العناوين ال�صاخبة .وت�ضيف ديبورا بلوم؛ مديرة برنامج فار�س العلم ال�صحفي« :العلم عملية م�ستمرة ،وك ّل بحث مبنزلة نقطة بيانات داخل هذه العملية ،وعليك [�أيها ال�صحفي] �أن تعرف �أين تقع هذه النقطة على منحنى هذه العملية امل�ستمرة».
55
رؤية
تحت عنوان (االعتماد على ركائز جديدة.. الثروة النفطية تغذّ ي الطموح العلمي)، أعدت مجلة نيتشر Natureالعربية في ّ عددها الصادر في يونيو عام 2016م ملحق ًا شام ً ال عن واقع الحركة العلمية في المملكة العربية السعودية ،وتأثيرها في إيجاد االقتصاد المعرفي؛ تجاوب ًا مع رؤية عام 2030م ،التي طرحتها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. أوضح محمد يحيى -رئيس تحرير موقع -Nature Middle Eastفي مقدمة الملحق تعد أكبر أن المملكة العربية السعودية ّ منتج للنفط في العالم ،ومع ذلك أعلنت عام 2008م عن خططها لتوسيع مواردها االقتصادية ،وتحويل اقتصادها من اقتصاد قائم على النفط إلى اقتصاد قائم على المعرفة في إطار رؤية إستراتيجية علمية وطنية تمتد إلى عام 2030م ،وتمكّ نت المملكة -بفضل االستثمارات الضخمة -من إنشاء جامعات عالية التقنية ،وإقامة مختبرات حديثة ومتطورة في مؤسساتها ّ البحثية الرائدة.
56
نحو اقتصاد معرفي أساسه التفوق العلمي
رؤية الممـلكة ّ تحول القرن تحقق ّ الحادي والعشرين 57 د .حسين حسن حسين هيئة التحرير
و�أ�شار يحيى �إىل �أن م�ؤ�شر Natureعن ال�شرق الأو�سط ّ يو�ضح مدى التغيرّ الذي تع ّر�ض له الناجت العلمي ال�سعودي على مدار ال�سنوات الأربع املا�ضية؛ فقد بد�أت ا�ستثمارات اململكة يف جمال العلوم ت�ؤتي ثمارها؛ �إذ ّ تخطت اململكة جميع الدول العربية الأخرى يف املنطقة، بل تف ّوقت على قوى �إقليمية رائدة؛ لتح ّقق ثاين �أعلى ناجت يف غرب �آ�سيا يف امل�ؤ�شر .وير ّكز امللحق يف ت�أكيد �أن لدى اململكة العربية ال�سعودية خطة وا�ضحة لتنويع اقت�صادها ،بعيد ًا من جمال �صناعة النفط؛ ُبغية خلق اقت�صاد معريف.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
أضواء
�ألقى امللحق ال�ضوء على الأو�ضاع املالية �إىل جانب الأداء العلمي للم�ؤ�س�سات العلمية ،وما تواجهه اململكة العربية ال�سعودية من مناف�سة �إقليمية ،خ�صو�ص ًا من تركيا و�إيران، و�أ�شار امللحق �إىل �أن اململكة مت�ضي قدم ًا �إىل الأمام ب�شكل �سريع يف جماالت كثرية ،وح ّققت اململكة عدد ًا ك�سري ًا معد ًال �أكرب مما ح ّققتاه �إيران وتركيا بنحو ،%45وهي �أي�ض ًا �أكرث �إنتاج ًا بني الدول الثالث يف جممل الأوراق البحثية املن�شورة يف دوريات يت�ضمنها امل�ؤ�شر. وتر ّكز ا�ستثمارات اململكة يف املجال العلمي يف البحوث التطبيقية التي تخدم امل�صالح ال�صناعية للبالد مبا�شر ًة ،وحتديد ًا قطاع النفط والطاقة ،لكن حتى يف املجاالت التي تتم ّيز فيها اململكة بالقوة (علوم
تركّ ز استثمارات المملكة في المجال العلمي في البحوث التطبيقية التي تخدم المصالح الصناعية للبالد
58
ر�ؤية 2030مرحلة جديدة يف م�سرية اململكة
الكيمياء والفيزياء) ال يزال العدد الك�سري املعدل للمملكة متوا�ضع ًا ،مقارن ًة بالفاعلني الكبار يف �آ�سيا؛ مثل :ال�صني، واليابان ،وكوريا اجلنوبية .ولتتم ّكن اململكة من ال�سباحة ب�شكل �آمن مع هذه احليتان الكبرية ميكنها اال�ستفادة من جتارب االقت�صادات النا�شئة الناجحة يف �آ�سيا ،وكان قرار احلكومة ال�سعودية �إن�شاء برنامج �ضخم لالبتعاث عام 2005م خطو ًة �أوىل ط ّيبة على الطريق؛ �إذ ميكن القول: �إن هذا الربنامج هو الأكرب من نوعه على م�ستوى العامل، وقد مت ّكن من خالله �أكرث من � 200ألف �شاب �سعودي من الدرا�سة يف اخلارج ،وهو ما يجعل الطالب ال�سعوديني يف الواليات املتحدة الأمريكية رابع �أكرب كتلة طالبية مغرتبة بعد ال�صني والهند وكوريا اجلنوبية ،وت�أمل احلكومة �أن يعود ه�ؤالء الطالب لقيادة حركة الثقافة العلمية يف البالد.
مدينة الملك عبدالعزيز في القيادة
يبحث العامل عن م�صادر �صاحلة للطاقة بدي ًال �أحفوري ًا للوقود ب�أنواعه ،وت�سعى اململكة العربية ال�سعودية جاهد ًة �إىل التنويع كي ت�ضمن رخاء م�ستقبلها ،وحت ّد من اعتمادها االقت�صادي على النفط؛ ففي عام 2002م �أن�ش�أت احلكومة ال�سعودية اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) ،وهي �إطار عمل �إ�سرتاتيجي متط ّلع طويل املدى لإدارة التنمية العلمية يف الدولة ،وحتويل اقت�صادها �إىل اقت�صاد معريف، و ّمت تخ�صي�ص �أكرث من �ستة مليارات دوالر �أمريكي للمرحلة الأوىل من اخلطة ،التي امتدت من عام 2008 وتتم اجلهود التي تبذلها اململكة �إىل عام 2014مّ . من �أجل حتويل اقت�صادها �إىل اقت�صاد معريف بقيادة م�ؤ�س�سة العلوم الوطنية اخلا�صة بالدولة ،وهي مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ،KACSTامل�س�ؤولة عن تنفيذ اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار و�سعت املبادرات املتط ّلعة التي تبذلها (معرفة) ،وقد ّ املدينة؛ مثل م�شروع اجلينوم الب�شري ال�سعودي، النطاق العلمي يف الدولة. و�شهد املجال البحثي يف اململكة العربية ال�سعودية حت ّو ًال �أي�ض ًا على �إثر بزوغ جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية KAUSTومنوها ،وهي جامعة بحثية للدرا�سات العليا ت� ّأ�س�ست على �شاطئ البحر الأحمر عام 2009م على طراز اجلامعات الغربية؛ مثل جامعة كالتيك
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ويف جمال التعاون الدويل ،يبينّ امللحق �أن الباحثني ال�سعوديني تعاونوا عام 2015م مع نظرائهم يف 89 دولة لإنتاج �أوراق علمية ،كما �أن امل�ؤ�س�سات العلمية ال�سعودية لديها �شراكات على امل�ستوى الإقليمي ،وتع ّد جامعة امللك �سعود �أكرب م�ؤ�س�سة �سعودية متعاونة مع الباحثني يف الدول الأخرى يف منطقة ال�شرق الأو�سط.
59
خطوات ثابتة نحو ريادة إقليمية ُ دفعت العالقات القويةُ مع العلماء الدوليين البارزين ،واتفاقات التعاون اإلقليمية والمحلية الهادفة، المملكة العربية السعودية إلى مكانة رائدة في العالم العربي. َ
تخطيط النمو تقود خمسة معاهد سعودية تقدم المملكة السريع في مجال العلوم ،وأسهمت في ارتقاء ّ السعودية ثمانية مراكز في مؤشر نيتشر؛ لترتفع من المركز 39عام 2012م إلى المركز 31عام 2015م. العدد الكسري المعدَّل عام 2015م
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
��اد ال��ذي ح��دث ف��ي ال��ع��دد الكسري ع��زّ ز االرت��ف��اع ال��ح ّ الخاص بجامعة الملك عبدالله للعلوم المعدل ،WFC ّ ّ والتقنية من مكانة الجامعة بوصفها المعهد العلمي المتصدر للريادة في المملكة. المعدل العدد الكسري ّ لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية72.1 :
المعدل لجامعة الملك عبدالعزيز14 : العدد الكسري ّ العدد الكسري المعدل لجامعة الملك سعود5.7 : ّ العدد الكسري المعدل لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية1.7 : ّ المعدل لمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز األبحاث1.6: العدد الكسري ّ المعدل لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن1.2 : العدد الكسري ّ
صعود المملكة العربية السعودية المعدل للمملكة بمعدل ثابت بواقع %85منذ عام 2012م ،مع ارتفع العدد الكسري ّ سكون بسيط عام 2014م ،و ُينسب نحو %90من الناتج العلمي للمملكة عام 2015م ٍ إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية ،وجامعة الملك عبدالعزيز.
جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية%73 : جامعة الملك عبدالعزيز%14 : جامعة الملك سعود%6 : مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية%2 : مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز األبحاث%2 : جامعة الملك فهد للبترول والمعادن%1 :
60
أخرى%2 :
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
عدد المقاالت ()AC على ال��رغ��م م��ن أن ال��ع��دد الكسري ���دل ل��ج��ام��ع��ة ال��م��ل��ك ع��ب��دال��ل��ه ال���م���ع ّ الخاص للعلوم والتقنية يفوق ذلك ّ بجامعة ال��م��ل��ك ع��ب��دال��ع��زي��ز بخمسة ��وق على أض��ع��اف إال أن األخ��ي��رة ت��ت��ف ّ األول����ى ب��ع��دد ال��م��ق��االت المنشورة لها في مؤشر نيتشر ،وق��د ساعدت أوجه التعاون الدولية القوية جامعة الملك عبدالعزيز على نشر 216مقا ً ال ع���ام 2015م ،وت��أت��ي ج��ام��ع��ة الملك سعود في المرتبة الثالثة بخُ مس عدد مقاالت جامعة الملك عبدالعزيز.
61
الظهران
جدة عدد مقاالت جامعة الملك عبد العزيز216 : عدد مقاالت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية174 : عدد مقاالت جامعة الملك سعود43 : عدد مقاالت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية22: عدد مقاالت مستشفى الملك فيصل ومركز األبحاث15: عدد مقاالت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن12:
التعاون ظ ّ ���ل أب����رز ال��م��ت��ع��اون��ي��ن م��ع المملكة العربية السعودية تقريب ًا كما هم م��ن دون تغيُّر منذ ع���ام 2012م؛ إذ كانت الواليات المتحدة األمريكية أكبر شريك بحثي للمملكة ،وكانت أوجه التعاون مع الصين ت��زداد بشكل كبير إال أن وتيرتها انخفضت بعض الشيء عام 2015م. الواليات المتحدة األمريكية الصين المملكة المتحدة ألمانيا كندا
تقسيم الموضوع يتعلّق ُثلُثاأبحاثالمملكةفيالمؤشربعلومالكيمياء.
نقطة القوة الكيمياء.
المعدل للكيمياء67 : العدد الكسري ّ المعدل للعلوم الطبيعية32 : العدد الكسري ّ المعدل لعلوم الحياة9 : الكسري العدد ّ المعدل لعلوم األرض والبيئة7 : العدد الكسري ّ
تُقاس معدالت حاصل التعاون للناتج المستخلص من
ق��د تتداخل ال��م��ج��االت؛ ل��ذا ق��د يتجاوز إجمالي العدد
العالقة الثنائية بين المملكة العربية السعودية وكل
المعدل ألحد المجاالت إجمالي العدد الكسري الكسري ّ
دولة شريكة فقط.
المعدل للدولة. ّ
الدوريات العلمية التي يقوم امل�ؤ�شر بر�صدها� ،أكرث من �ضعف ما كانت عليه ،فو�ضع اململكة يف املرتبة الثامنة �ضمن امل�ؤ�س�سات ذات الزيادة الأكرب يف العدد الك�سري املعدل على م�ستوى العامل .ويف عام 2015م ،ارتبط 21معهد ًا �سعودي ًا مب�ؤ ِّلفني ين�شرون �أبحاثهم يف دوريات م�ؤ�شر. Nature
حتديد ًا �صعود ًا �سريع ًا على مدار ال�سنني؛ �إذ �أطاح بالعلوم التو�سع الطبيعية ،و�أتى يف املقدمة عام 2014م ،وا�ستمر يف ّ عام 2015م ،وعملت اجلهود املبذولة لتوجيه اململكة نحو االقت�صاد املعريف على ا�ستغالل نقاط القوة تلك وا�ستثمارها ،جاني ًة ثمار امل�شروعات البحثية يف جماالت علوم املواد املتقدمة ،وتقنية النانو ،وعلم الفوتونات.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
مجاالت اكتشافية جديدة
62
ال عجب �أن تهيمن ال�صناعات البرتولية على اقت�صاد اململكة؛ لأنها �أكرب م�ص ّدر للنفط يف العامل؛ �إذ ُين�سب �إىل قطاع النفط نحو ن�صف الناجت املحلي الإجمايل فيها ،البالغ 750مليار دوالر �أمريكي ،والأغلبية العظمى من �صادرات الدولة .ومن �ش�أن ذلك حتم ًا يوجه �أولوياتها البحثية؛ فقد �أتت �أغلبية الأعداد �أن ّ الك�سرية املعدلة اخلا�صة باململكة من العلوم الكيميائية والطبيعية ،التي مت ّثل جمتمع ًة نحو %90من ناجت الدولة يف م�ؤ�شر Natureعام 2015م .و�شهد جمال الكيمياء
دور محوري ُت َع ّد مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بمنزلة مختبرات المملكة الوطنية ووكالتها العلمية .وعلى الرغم من أن مخرجاتها المباشرة مسؤولة فقط عن جزء ضئيل من عدد المقاالت ACالخاص بالمملكة العربية السعودية إال أنها تؤدي دور ًا محوري ًا في تنسيق البحوث وتيسيرها في كل أرجاء المملكة. وتتولى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم
.Caltechويعتقد حممد الداودي -رئي�س برنامج العلوم الكيميائية يف اجلامعة ،والوكيل امل�ساعد ملركز �أبحاث الأغ�شية واملواد امل�سامية� -أن اجلامعة تقدّم مثا ًال تقتدي به الدول الأخرى يف املنطقة ،وهو ما يع ّد دلي ًال على �أن الأبحاث اجليدة يمُ كن �إجرا�ؤها بفعالية وكفاءة يف � ّأي مكان يف العامل �إذا �أعطيت العقول امل�ستنرية الأدوات العاملية ال�ضرورية للمناف�سة. ويعك�س م�ؤ�شر Natureثمار تلك التطورات؛ فعلى مدار تو�سع ح�ضور اململكة يف امل�ؤ�شر ال�سنوات الأربع املا�ضية ّ ب�شكل �سريع ،وجتاوز العدد الك�سري املعدل WFC اخلا�ص بها ،الذي يقي�س �إ�سهامات �أوراق امل�ؤ ِّلفني يف ّ
والتقنية مسؤولية إدارة السياسة العلمية في المملكة ،وتمويل البحث العلمي ،وإنشاء وصيانة ال ِب ْن َية التحتية لدعم البحث العلمي.
وعلى الرغم من تركيز الدولة الوا�ضح يف جمال الكيمياء �إال �أنها تعمل �أي�ض ًا على زيادة �إنتاجها يف جمال علوم احلياة ،وعلوم الأر�ض والبيئة؛ فمنذ عام 2012م ت�ضاعفت الإ�سهامات يف الأوراق البحثية املخت�صة بعلوم
احلياة يف امل�ؤ�شر ،وكان جزء كبري من هذه الزيادة نتيجة الأبحاث التي تجُ رى يف جامعة امللك عبداهلل التخ�ص�صي للعلوم والتقنية ،وم�ست�شفى امللك في�صل ّ ومركز الأبحاث؛ فقد عكف م�ست�شفى امللك في�صل ين�صب تركيزه ب�شكل التخ�ص�صي ومركز الأبحاث ،الذي ّ �شبه ح�صري يف �أبحاث علوم احلياة ،على زيادة �أعداد الأوراق البحثية التي ي�شارك فيها � ّأي من امل�ؤلفني امللحقني بامل�ست�شفى ،وكذلك زيادة الإ�سهامات التي يقدمونها. ويف عام 2012م� ،أ�سهم الباحثون يف امل�ست�شفى ب�أربع �أوراق بحثية فقط ،دُرجت �ضمن عدد مقاالت اململكة العربية ال�سعودية ،وقفز هذا العدد �إىل 15ورقة بحثية عام 2015م ،كما �شهد �إ�سهام امل�ست�شفى يف قيا�س العدد الك�سري املعدل زياد ًة كذلك على مدار ال�سنني ،خ�صو�ص ًا خالل املدة (2013 -2012م) .و�أو�ضح �سلطان ال�سديري املدير التنفيذي ملركز الأبحاث مب�ست�شفى امللكفي�صل التخ�ص�صي� -أ�سباب هذا التح ّول قائ ًال« :يرجع من�صة �أبحاث قوية ّمت ت�أ�سي�سها مبجموعة الأمر �إىل ّ من الباحثني النابغني ،وقدرات فنية ممتازة ،و�إ�شراف منا�سب؛ ل�ضمان �أداء العمل ب�أف�ضل معايري ،وكان الدافع
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية �أحد �أهم ال�صروح العلمية
63
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
64
الأ�سا�سي هو توافر التمويل من خالل اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) ،التي و�ضعتها مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية». و ُيدير ال�سديري �أي�ض ًا م�شروع اجلينوم الب�شري �شجع على وجود �أوجه تعاون حملية، ال�سعودي ،الذي ّ وم ّكن الباحثني املحليني من ن�شر �أوراق بحثية ذات ت�أثري املتخ�ص�ص�أعلى .وان�ضم عامل الوراثة فوزان الكريع ّ يف اكت�شافات جينات الأمرا�ض� -إىل م�ست�شفى امللك في�صل التخ�ص�صي ومركز الأبحاث عام 2007م بعد �أن تد ّرب يف الواليات املتحدة الأمريكية ،و� ّأ�س�س منذ مو�سع ًة من املتعاونني يف �شتى �أرجاء ذلك احلني �شبك ًة ّ ال�شرق الأو�سط ،الذين ي�صلونه باملر�ضى ذوي الأهمية يتم �إجرا�ؤها ،ويقول الكريع�« :أتيح لنا للبحوث التي ّ احل�صول على تتابع الإك�سوم الكامل عام 2011م ،ومن هنا �أ�صبحت لدى معملي القدرة على اكت�شاف مزيدٍ من اجلينات ،و�صار ب�إمكاننا تع ّرف جني �أو جينني يف الأ�سبوع بعد �أن كان يحدث ذلك يف عام كامل» .ومن
خالل م�شروع اجلينوم الب�شري ال�سعودي ميتلك فريقه احلقّ يف الو�صول �إىل اجليل التايل من ت�سل�سل اجلينوم ب�شكل جماين وغري حمدود تقريب ًا. و�شهدت كذلك جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية منو ًا كبري ًا يف �إنتاجها يف جمال علوم احلياة؛ �إذ زاد عددها الك�سري املعدّل نحو ثالثة �أ�ضعاف يف املدة (-2012 2015م) ،يقول بيري ماجي�سرتيتي؛ عميد ق�سم العلوم
يؤكّ د ماجيستريتي أن قسمه يركّ ز حالي ًا في عدة نطاقات محورية؛ بغية تعظيم أثر األبحاث التي يقوم بها من يعملون فيه ،وهناك 11مركز ًا بحثي ًا في الجامعة ينصب تركيزها في األبحاث التطبيقية ّ
عامل الوراثة فوزان الكريع
رعاية المواهب المحلية
اخلا�ص بجامعة لي�س هناك مناف�س للإنتاج البحثي ّ امللك عبداهلل للعلوم والتنقية يف اململكة �سوى ذلك اخلا�ص بجامعة امللك عبدالعزيز ،واجلامعتان ّ تخططان ّ لأمناط تعاون خمتلفة �إىل حدٍّ بعيد؛ فمنذ عام 2013م ن�شر باحثون منتمون �إىل جامعة امللك عبدالعزيز مقاالت �أكرث ،مقارن ًة مبا �صدر عن باحثي جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية ،لكن �إ�سهام اجلامعة يف تلك الأبحاث ظ ّل �أق ّل ن�سبي ًا ،وقد ي�شري ذلك �إىل �أن كثري ًا من من�شوراتها قد نتج من �أوجه تعاون مل ت�ؤ ِّد فيها اجلامعة �سوى دور �صغري فح�سب .وعلى الرغم من �أن جامعة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
احليوية والبيئية يف اجلامعة« :هذه هي طبيعة البحث العلمي؛ �إذ ي�ستغرق احل�صول على نتائج مثمرة يف جمال الأحياء �سنوات كثرية .ولأن جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية ت� ّأ�س�ست عام 2009م فالآن هو الوقت
الأن�سب الذي ميكن �أن تتو ّقع فيه بدء ظهور عدد كبري من املن�شورات يف دوريات بارزة» ،وي�ؤ ّكد ماجي�سرتيتي �أن ق�سمه ير ّكز حالي ًا يف عدة نطاقات حمورية؛ بغية تعظيم �أثر الأبحاث التي يقوم بها من يعملون فيه ،وهناك 11 ين�صب تركيزها يف الأبحاث مركز ًا بحثي ًا يف اجلامعة ّ التطبيقية يف جماالت ذات �أهمية قومية؛ كتحلية مياه البحر ،وزراعة املناطق ال�صحراوية ،والطاقة ال�شم�سية، وللباحثني يف الأق�سام الأكادميية املختلفة يف اجلامعة احلرية املطلقة للخو�ض يف �أبحاث العلوم الأ�سا�سية. وت�شجع جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية �أوجه ّ التعاون املثمرة� ،إ�ضاف ًة �إىل تنمية املواهب حمليا؛ً �إذ يقول ماجي�سرتيتي« :من املهم �أن يكون الباحثون الرئي�سون ن�شطني ومقيمني بالكامل هنا ،لكن ميكنهم حت�سني �إمكاناتهم بالتعاون مع �آخرين من اخلارج». وي�ستطيع �أولئك الباحثون الذين ح�صلوا على منح من اخلا�ص باجلامعة خالل برنامج املنح البحثية التناف�سية ّ م�شاركة ن�سبة من �أموال التمويل مع املتعاونني �إذا �شاركوا يف الطلب املقدّم للح�صول على املنحة ،وهو ما مينح حافز ًا لبناء �شبكات دولية.
65
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
امللك عبداهلل للعلوم والتقنية قد �أ�سهمت يف عدد �أق ّل من اخلا�ص املقاالت �إال �أن العدد الك�سري املعدّل الإجمايل ّ اخلا�ص بجامعة بها عام 2015م ،البالغ ،72يفوق ذلك ّ امللك عبدالعزيز ،ومي ّثل هذا الرقم %73من العدد الك�سري املعدّل امل�ؤ�س�سي الإجمايل للدولة. وال ّ ت�سخر امل�ؤ�س�سات ال�ضخمة يف اململكة العربية ال�سعودية؛ مثل :جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية، وم�ست�شفى امللك في�صل التخ�ص�صي ومركز الأبحاث، ج ّل جهدها للعمل التعاوين لالرتقاء با�سم اململكة يف املجال العلمي فح�سب ،و�إمنا للم�ساعدة �أي�ض ًا على بناء املواهب والقدرات املحلية التي ال غنى عنها لتحقيق غاية اململكة ب�إقامة اقت�صاد معريف ،يقول حممد الداودي:
66
«كانت م�س�ألة وقت فح�سب ،و�سرعان ما ر�أينا طالب ًا حمليني ي�صبحون م�ؤلفني �أوائل يف دوريات رائدة؛ فقد و�ضع ا�سم طالبة �سعودية بو�صفها امل�ؤلف الأول لورقة بحثية مهمة ن�شرتها جمموعتي م�ؤخر ًا ،وكان %95من العمل قد �أُجنز يف جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية، ومت ّثل الن�شاط الوحيد الذي ّمت خارجها يف ا�ستخدام من�ش�أة �سنكروترون يف �أوروبا فح�سب» .وي�صف البحث الذي ُن�شر عام 2015م يف دورية (جورنال �أوف ذا �أمرييكان كيميكال �سو�سايت ي Journal of the Ame r )ican Chemical Societyهيك ًال م�ص ّنع ًا من املعادن ومواد ع�ضوية ميكن ا�ستخدامه لتخزين امليثان يف درجة حرارة الغرفة ،ودرجات منخف�ضة من ال�ضغط ،وهي
تحول يحمل التحديات ّ
على الرغم من هذه الإجنازات ال تزال م�س�ألة التح ّول �إىل االقت�صاد املعريف م�س�أل ًة بعيدة املنال ،بينما ت�ستمر ال�صناعات املتعلقة بالنفط والبرتول يف �أداء الدور املحوري يف اململكة العربية ال�سعودية ،ومل ينعك�س بعد �أمر �إعالء �أولوية البحث العلمي على ميزانية البحث والتطوير بالدولة ،التي بلغت %0.3فقط من الناجت املحلي الإجمايل عام 2015م ح�سب تقرير �أ�صدره معهد باتيل التذكاري ،مع �أن اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) تدعو �إىل زيادة هذه الن�سبة �إىل %1.6بحلول عام 2020م .ويرى حممد خور�شيد الأمني العام للجنة التوجيهية للنظام الإيكولوجيال�سعودي لالبتكار� -أن �إنفاق ال�شركات اخلا�صة على
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
خطوة مهمة نحو اال�ستخدام الفعال للغاز بو�صفه وقود ًا بدي ًال نظيف ًا. قد تكون املعرفة واملهارات املكت�سبة من التدريب العلمي مفيدة ،خ�صو�ص ًا لل�سعوديات الالئي يتع ّر�ضن لقيود ثقافية كبرية يف اململكة ،يقول بيري ماجي�سرتيتي�« :أكرث من %60من طلبة الأحياء يف جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية �إناث ،وكثري منهن �سعوديات� .أعتقد �أن هذه م�س�ألة �إيجابية جد ًا» .وارتفع �إجمايل عدد الطالب ال�سعوديني الذين يدر�سون يف اخلارج عام 2013م �إىل � 200ألف طالب ح�سب ت�صريحات من�صور الغامدي؛ م�س�ؤول التوعية العلمية والن�شر يف مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية .وت�ستفيد اململكة �أي�ض ًا من النقل املهم للمعرفة عن طريق الطالب العائدين �إىل �أر�ض الوطن ،كما ي�شري الغامدي �إىل �أن كثريين يعودون �إىل ال�سعودية باحثني يوا�صلون ن�شر �أبحاثهم حتت �إ�شراف م�شرفيهم ال�سابقني ،بينما يط ّورون يف الوقت نف�سه خرباتهم �إقليمي ًا.
67
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
68
البحث والتطوير حمدود جد ًا ح�سب املعايري الدولية مع �أنه ال يخ�ضع للرقابة .وي�س ّلط خور�شيد ال�ضوء �أي�ض ًا على املوارد االجتماعية بو�صفها حتدي ًا يواجه اململكة، كما ين ّبه �إىل نق�ص اهتمام العامة بالعلم ،وغياب االهتمام املجتمعي بالتعليم ،بينما ال ب ّد لالقت�صاد املعريف من �أن ينمو ويتطور يف كنف جمتمع معريف. يعمل � 23شخ�ص ًا فقط من �أ�صل � 100ألف �شخ�ص يف جمال الأبحاث والتطوير ،ويعمل �شخ�ص واحد فقط من بني �ألف �شخ�ص تراوح �أعمارهم بني 20و 34عام ًا تخ ّرجوا يف �أق�سام العلوم والهند�سة؛ �أي� :أق ّل من ُع�شر ن�سبة نظرائهم يف جمتمع متو�سط امل�ستوى يف � ّأي دولة من دول االحتاد الأوروبي .ومت ّثل هجرة الكفاءات م�شكلة ج�سيمة؛ �إذ تنزح �أكف�أ العقول �إىل اخلارج؛ فيهاجر %25من خريجي �أق�سام العلوم والتكنولوجيا والهند�سة والريا�ضيات � STEMإىل اخلارج كل عام .ومع ذلك ما زال امل�س�ؤولون متفائلني ،وال يعتقد الغامدي �أن نق�ص املوارد الب�شرية �سي�ش ّكل م�شكلة
«للتو�سع غري امل�سبوق لل�سعودية يف جمال ج�سيمة ّ التعليم العايل يف ال�سنوات القليلة الأخرية» ،م�ست�شهد ًا بتو ّقعات منظمة التعاون االقت�صادي والتنمية � OECDأن اململكة العربية ال�سعودية �ست�شهد بحلول عام 2030م زياد ًة بواقع �ستة �أ�ضعاف يف ال�شهادات الدرا�سية التي ما بعد املرحلة الثانوية. اخلا�ص بجامعة امللك عبداهلل ويقوم الربنامج املم ّيز ّ
شهدت المرحلة األولى من الخطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) تأسيس الباحثين السعوديين البنية التحتية المحلية إلى جانب المشاركة في مبادرات تعاونية على مستوى العالم
االتجاه نحو اقتصاد معرفي
قوي ،وعودة علماء �شباب كفوزان الكريع بدعم مايل ّ ٍ ّ �إىل �أر�ض الوطن ،رمبا ال يكون هناك �شك يف �أن اجلامعات ال�سعودية �ستوا�صل حت�سني �إنتاجها البحثي بالتزامن مع ن�ضج املعامل؛ فقد �شهدت املرحلة الأوىل من اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) ت�أ�سي�س الباحثني ال�سعوديني البنية التحتية املحلية �إىل جانب امل�شاركة يف مبادرات تعاونية على م�ستوى
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
للعلوم والتقنية بتمييز الطالب الواعدين يف العام قبل الأخري من مرحلة التعليم الثانوي ،ودعوتهم �إىل ق�ضاء ف�صل ال�صيف يف اجلامعة ،ثم ال�سفر �إىل الواليات املتحدة الأمريكية مبنحة من اجلامعة بعد التخ ّرج ،ويق�ضي الطالب �سنة ت�أ�سي�سية يف تع ّرف النظام الأمريكي قبل التق ّدم بطلب االلتحاق ب�أبرز اجلامعات ،ويعود ه�ؤالء الطالب بعد ا�ستكمال درا�ساتهم اجلامعية �إىل جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية للبدء بالدرا�سات العليا ،يقول ماجي�سرتيتي: «�إنه برنامج ق ّيم ،وي�ستطيع �أن يخ ّرج طالب ًا م�ؤهّ لني ب�شكل جيد».
العامل ،يقول خور�شيد« :هناك مبادرات تعاون مل تنجح ب�شكل كبري ،لكن هناك درو�س م�ستفادة منها؛ ف�إىل جانب نقل التقنية �إىل اململكة هناك جهود حثيثة �أي�ض ًا تُبذل لنقل التقنيات من اجلامعات �إىل القطاع ال�صناعي ،ولو �أن ذلك يع ّد حتدي ًا كبري ًا». وي�ساعد خور�شيد على العمل من �أجل مواجهة هذا التحدي عن طريق بناء �إطار عمل لدعم االبتكار يف اململكة العربية ال�سعودية ،وقد الحظ �أنه على الرغم من توافر امل�ستثمرين ال�سعوديني �إال �أنهم مييلون �إىل جت ّنب املخاطر ،وال يح ّبذون متويل ال�شركات النا�شئة التي تت�ص ّدر التكنولوجيا عمله .وللتغلب على ذلك � ّأ�س�ست مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية برنامج (بادر) حلا�ضنات التقنية ،الذي يهدف �إىل ت�شجيع ال�شركات النا�شئة املبتكرة .وقد �أ ّمتت �شركات كثرية الربنامج بالفعل ،منها ال�شركة التي قامت بتطوير �ضمادة جراحية لقرح القدم ال�سكري من �أحد منتجات النفايات ال�صناعية امل�ستخل�ص من ق�شور القريد�س. وتدعو املرحلة الثانية من اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة) ،التي بد�أت عام 2015م، ومتتد �إىل عام 2019م ،اململكة العربية ال�سعودية �إىل العمل على ا�ستكمال عمليات التطوير التي ّمتت يف البنية التحتية والقدرات القومية؛ لتجعل من اململكة دول ًة رائد ًة �إقليمي ًا يف جماالت العلوم والتقنية واالبتكار ،و�سيتط ّلب ذلك تركيز ًا م�ستمر ًا يف البحث، واحل�صول على براءات اخرتاع� ،إىل جانب برنامج قوي لنقل التقنية �إىل القطاع اخلا�ص ،وجهد مك ّثف ّ لتطوير املوارد الب�شرية يف اململكة ،يقول الغامدي« :ما ح ّققته اململكة العربية ال�سعودية يف ال�سنوات القليلة املا�ضية فاق توقعاتنا ،ويكمن التحدي الآن يف حتقيق الأهداف اجلديدة للمراحل املقبلة».
69
تقنية
أثار تسارع نمو قدرات تقانة المعلومات وتطورها المذهل المستمر مع واالتصاالت، ّ مرور السنوات بسرعة إلكترونية؛ مثل :التلفاز الذي يراقب المشاهدين ،والطباعة الثالثية األبعاد ،والسيارة الذاتية القيادة ،والواقع المعزّز ،والحوسبة الجزيئية ،والروبوتات التي تشعر ،واألجهزة الذكية ،والحاسوب العمالق (آي بي إم واطسون ،)1()IBM Watsonانتباه المراقبين ،ولُوحظ أن هذا التسارع يتبع دالة سية ،وهو ما دعا بعض الباحثين إلى نمو ُأ ّ االعتقاد بالوصول قريب ًا إلى نقطة يلتقي فيها ذكاء الحوسبة مع ذكاء اإلنسان ،وربما يتجاوزه ويصبح التقدم سريع ًا ومعقد ًا لدرجة ال يمكن معها فهمه ،وهو ما أطلقوا عليه نقطة (التالقي التقاني) .ويمكن أن ترتبط هذه الحركة بمقالة (ما بعد اإلنسانية) لجوليان توقعت وجود إنسان معزّز هكسلي( ،)2التي ّ ُحسن من في المستقبل بتقانات متقدمة ت ّ حواسه ،وترفع من قدراته الحركية واإلدراكية، ّ عال من الصحة ،وعمر وتمتّعه بمستوى ٍ أبدي ،وإن كان سبق ذلك مقالة (داروين بين ّ اآلالت) لصموئيل بتلر( ،)3التي ربطت التقدم التقاني المتسارع للثورة الصناعية بنظرية
70
نشوء األنواع وتطورها لتشارلز داروين(.)4 ّ
هل
ت ّتجه التقانة إلى نقطة التالقي؟ 71 د .أبو بكر سلطان أحمد مستشار تقانة معلومات واتصاالت
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
نقطة التالقي التقاين حيث يلتقي ذكاء احلو�سبة مع ذكاء الإن�سان
72
و�أدّى هذا الربط �إىل االعتقاد ب�أن التطور التقاين للآالت �سي�ستمر حتم ًا �إىل نقطة �سوف حت ّل فيها الآالت حم ّل الإن�سان؛ مبعنى �أن اخلطوة الالحقة يف نظرية (داروين) للتطور �سوف تنطبق على الآالت الذكية (ذات الذكاء اال�صطناعي) �أي�ض ًا .وي�ؤكد فرينر فينج( ،)5الذي ابتدع م�صطلح (التالقي التقاين)� ،أن الإن�سان �سوف ي�صنع قريب ًا ذكا ًء �أعلى من ذكائه ،وحينئذٍ ف�إن تاريخ الإن�سان يكون قد و�صل �إىل نقطة حت ّول فكري ال ميكن اخرتاقها كالثقب الأ�سود( ،)6و�سوف يتقدّم العامل حينئذٍ �إىل ما هو �أبعد من �إدراكنا احلايل .ويتو ّقع كثري من امل�ؤ ّيدين لهذا االعتقاد �أنه �ستكون لدينا يف العقود القليلة املقبلة �أجهزة حا�سب قادرة على حتميل (وعي)( )7الإن�سان فيها، وحتميل عقله و�أفكاره وذكرياته و�شخ�صيته ،ومبجرد حتويل وعي الإن�سان �إىل �أمناط من الإلكرتونات ف�ستكون هناك �أجهزة �أخرى قادرة على ن�سخه ،وحتريره ،وبيعه، �أو �سرقته ،وبطبيعة احلال ميكن حذفه .وزعمت مقالة يف �صحيفة (ديلي ميل)ُ ،ن�شرت يف مار�س عام 2016م، �أن الذكاء اال�صطناعي ميكن �أن ي�ؤدي �إىل وقوع الإن�سان يف احلب مع الروبوتات ،ثم الزواج يف نهاية املطاف.
وتو ّقعت مقالة �أخرى ُن�شرت يف فرباير عام 2016م �أن الن�ساء �سيخرتن الروبوتات بد ًال من الرجال بحلول عام 2025م ،وبحلول عام 2050م �سوف يف�ضل �أكرث من �شخ�ص �صحبة الروبوت من دون الإن�سان. ُحجج المؤيدين
كان وراء حجج امل�ؤيدين لفكرة (التالقي التقاين) ت�سارع �إبداع الإن�سان مع مرور الزمن ،وتنامي االبتكارات الإن�سانية متم ّث ًال يف ازدياد براءات االخرتاع ،والعالمات التجارية ،والت�صميمات ال�صناعية ،طبق ًا لدالة منو �أُ ّ�سية.
توقعت مقالة «ما بعد اإلنسانية» ّ إنسان ًا معزّز ًا في المستقبل بتقانات ُحسن من حواسه ،وترفع متقدمة ت ّ من قدراته الحركية واإلدراكية ،وتمتّعه عال من الصحة وعمر أبدي بمستوى ٍ
ومن مظاهر الت�سارع �أن ا�ستغرقت �أول �صورة من االت�صاالت (لغة التخاطب) مئات �آالف ال�سنني لتتط ّور، وا�ستغرق اخرتاع الكتابة اليدوية لت�سجيل املعلومات على الأحجار �أق ّل من نحو ع�شرات الآالف من ال�سنني ،ثم جاء اخرتاع �آلة الطباعة لي�ستغرق نحو � 400سنة ،ثم جاء اخرتاع الهاتف ال�سلكي بعد نحو � 50سنة ،وا�ستغرق اخرتاع الهاتف املتن ّقل نحو �سبع �سنوات لينت�شر بني ربع �سكان العامل ،وانت�شرت اخرتاعات احلا�سب ال�شخ�صي والإنرتنت وحم ّركات البحث والويكي يف �أق ّل من ثالث �سنوات ،ثم تالحقت التطورات حديث ًا؛ مثل� :إنرتنت الأ�شياء ،وحتليالت البيانات الكبرية ،والروبوتات، والذكاء اال�صطناعي ،وبحوث الدماغ وال�شبكات الع�صبية يف �سنوات متقاربة ،وهو ما ي�ؤ ّيد االعتقاد ب�أن الإن�سانية تعي�ش العد التنازيل نحو نقطة التالقي التقاين. واعتمد امل�ؤ ّيدون على الأداء امل�شرق لثورة تقانة املعلومات واالت�صاالت نتيجة م�ضاعفة كثافة عنا�صر الدوائر
املتكاملة ك ّل � 18شهر ًا� ،أو مبعدل منو � %46سنوي ًا طبق ًا لدالة منو أُ� ّ�سية ،وهو ما ا�شتهر فيما بعد بـ(قانون مور(،)8 الذي ظ ّل �صامد ًا 50عام ًا منذ �إطالقه. وكلما �صغرت عنا�صر املكونات ،وك ُثفت و�س ُرعت ُ ورخ�صت، �صاحب ذلك ازدياد قدرات تقانة املعلومات واالت�صاالت، وخف�ض تكاليفها ،و�صغر حجمها ،خ�صو�ص ًا �أجهزة احلا�سبات ،وترتّب على ذلك ت�ضاعف قدرات احلو�سبة ك ّل �سنة �أو �أق ّل ،وا�ستغرق الأمر 90عام ًا لتحقيق �أول مليون من تعليمات احلو�سبة يف الثانية لكل ،$1000بينما الآن ُي�ضاف 1.2مليون من التعليمات يف الثانية لكل $1000 يف ال�ساعة .وت�ستطيع قدرات احلو�سبة الآن القيام بعمليات تناظر ما يقوم به دماغ ح�شرة ،ومع الت�سارع امللحوظ تاريخي ًا �ست�صل قدرات احلا�سبات العمالقة �إىل م�ستوى قدرات دماغ ف�أر ،ثم ترتفع �إىل م�ستوى قدرات دماغ �إن�سان بني عامي 2020و2050م ،ثم ترتفع �أكرث �إىل م�ستوى قدرات �أدمغة جميع �سكان العامل عام 2100م .وتع ّد
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تنامي االبتكارات الإن�سانية
73
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
74
ذكي الآن �أعلى من قدرة حا�سب �شخ�صي قدرة هاتف ّ منذ �أربعني عام ًا بعدة باليني ،وبال�سعر نف�سه ،وهو �أ�صغر �أي�ض ًا �آالف املرات ،ويف امل�ستقبل �سوف يقرب حجم الهاتف الذكي من حجم خلية مزروعة يف ج�سم الإن�سان وبالقدرات نف�سها �إن مل تكن �أعلى .ومع تطور قدرات احلو�سبة والذكاء اال�صطناعي تط ّورت �إمكانات الروبوتات من جمرد �آلة �إلكرتونية �إىل �آلة �ستف ّكر عام 2050م. وارتكن بع�ض امل�ؤيدين على ازدياد معرفتنا بقدرات احلو�سبة و�أبحاث دماغ الإن�سان ،و�أن الوعي يحدث تلقائي ًا طبق ًا ملبادئ فيزيائية فيه؛ لذلك فمن املمكن �إعادة �إنتاجها بوا�سطة حوا�سيب عمالقة وقوية ،و�سوف ي�ؤدي ذلك �إىل ذكاء ب�شري خارق ،و�سيم ّد يف �أعمار الإن�سان �إىل ما ال نهاية مبجرد حدوث التالقي عام 2033م بن�سبة احتمال �أق ّل منْ � .%50 حوا�س أ�ضف �إىل ذلك �أن تعزيز ّ الإن�سان و�أجزاء اجل�سم مبجموعة مذهلة من الأجهزة الذكية التعوي�ضية �سي�ؤدي �إىل متكني دمج الإن�سان مع الروبوتات ،ثم بزوغ ع�صر (ال�سايبورج .)9()Cyborg
يقول فيرنر فينج الذي ابتدع مصطلح (التالقي التقاني) :اإلنسان سيصنع قريب ًا ذكاء أعلى من ذكائه ،وسيصل تاريخ اإلنسان تحول ٍ حينئذ إلى نقطة ّ فكري ال يمكن اختراقها كالثقب األسود
ما بعد اإلنسانية
يتن ّب�أ امل�ؤيدون �أن التقانة �ست�ؤدي �إىل حدٍّ ما �إىل خلق خملوقات �أكرث ذكاء� ،أو �أن الإن�سان �سي�صبح �أكرث ذكا ًء، ومن �ش�أن مثل هذه (التالقي التقاين) �إحداث ثورة عاملية ،والدخول يف حقبة (ما بعد الإن�سانية) بحلول عام 2030م� ،أو حتى بعد مليون �سنة ،و�سيكون من املده�ش فع ًال �-إذا مل يحدث التالقي -افرتا�ض جت ّنب الكوارث، واحلروب النووية ،والأوبئة ،والتغريات املناخية؛ مثل تالحق تطورات الإبداع الإن�ساين يف �سنوات متقاربة مع مرور الزمن
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
75
قانون مور :م�ضاعفة كثافة عنا�صر الدوائر املتكاملة ك ّل � 18شهر ًا� ،أو مبعدل منو � %46سنوي ًا طبق ًا لدالة منو �أُ ّ�سية ويبينّ ال�شكل هنا �أ�سماء تط ّور الدوائر املتكاملة واملعاجلات ال�صغرية؛ فمث ًال :معالج Ivy Bridgeيعتمد على تقانة 22نانومرت من �شركة �إنتل� ،أما معالج SPARC T4قبله فيعتمد على تقانة 40نانومرت من �شركة �أوراكل.
مرتبطة مبا فيه الكفاية لت�صبح كائن (ما بعد الإن�سان). مبزيج من: االنحبا�س احلراري ،و�سي�أتي التالقي ٍ ()10 �سيناريو الذكاء اال�صطناعي :بناء ذكاء ا�صطناعي � -سيناريو (جايا )Gayaالرقمية :ت�صبح �شبكة�أعلى من طاقة الإن�سان يف �أجهزة احلا�سبات. املعاجلات الرقمية املزروعة يف الإن�سان ف ّعالة مبا فيه �سيناريو الذكاء العايل :حت�سني الذكاء الإن�ساين من الكفاية لتنتج كائن (ما بعد الإن�سان).خالل التوا�صل بني الإن�سان و�أجهزة احلا�سبات. ُحجج المعارضين �سيناريو الطب احليوي :حت�سني العمليات الع�صبية يفيقولاملعار�ضونلفكرة(التالقيالتقاين)امل�ستقبليةبخطئها �أدمغتنا و�أج�سامنا. �سيناريو الإنرتنت :ت�صبح الإن�سانية ،وال�شبكات على الرغم من ب�ساطتها؛ فالفكرة تتمتّع بجر�أة بالغة تدفعب�أنواعها ،و�أجهزة احلا�سبات ،وقواعد البيانات ،جميعها �إىل ّ ال�شك يف �أ�شياء كنا نعتقد �أال تتح ّقق؛ مثل� :إن�شاء كائنات
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
76
قدرات احلو�سبة تت�ضاعف كل �سنة �أو �أق ّل
غري �إن�سانية واعية وفائقة الذكاء ،وروبوتات نانوية ت�سبح يف جمرى الدم يف عروقنا ،و�إ�صالح ما نعانيه من ق�صور، واالت�صال املبا�شر من عقل �إن�سان �إىل عقل �إن�سان �آخر ،وبزوغ (مابعدالإن�سان)،وكذلككيفيكونوجود�آخرلعقولب�شرية حم ّملة بال ج�سد ب�شري ،وتعي�ش �إىل �أجل غري م�سمى من دون خوف �أو مر�ض� ،أو تعي�ش يف جنة افرتا�ضية م�ص ّممة للفرحة والت�شويق واحلفز؟ وي�ستحيل �أن ت�صبح الآالت واعي ًة ،وتقوم بتطوير �أنف�سها نحو الكمال؛ فالآالت ال وعي لها .وعلى الرغم من اجلر�أة يف التفكري �إال �أن الفكرة تعتمد على منطق غام�ض مع التم ّني وعدم امل�س�ؤولية؛ فقد افتنت امل�ؤيدون بالإح�صاءات الرقمية،والإجنازاتالتقانية،و�سلطةاال�ستقراء،ومايدّعونه �شطحات خيال علمي .وتبد أ� امل�شكلة مع فر�ضية �أن التقدم التقاين قد ت�سارع؛ لأنه يف الوقت نف�سه كان لو�سائل منع احلمل ت�أثري عميق يف الثقافة واالقت�صاد واملجتمع ،ومع ذلك تتنام بالت�سارع نف�سه .و�أبعد من ذلك حت ّقق م�شي فهي مل َ الإن�سان على القمر ،لكن مع فوائد قليلة من ورائه ،ونحن
حماطون بالتقانة احليوية النانوية ،لكنها مل ت ؤ� ّثر يف حياتنا على الإطالق .لقد و�ضعت البحوث الطبية العالجات التي تحُ دث فرق ًا يف حياتنا ،خ�صو�ص ًا يف نهايتها ،لكن االعتالل والوفياتالناجمةعنال�سرطانوال�سكتةالدماغيةم�ستمران بال هوادة عملي ًا حتى يف البلدان املتقدمة( ،)11بل هناك من جادل ب�أن الثورة التقانية كانت لها عواقبها ال�سلبية الكارثية
تستطيع قدرات الحوسبة اآلن القيام بعمليات تناظر ما يقوم بها دماغ حشرة ،ومع التسارع الملحوظ تاريخي ًا ستصل قدرات الحاسبات العمالقة إلى مستوى قدرات دماغ فأر ،ثم ترتفع إلى مستوى قدرات دماغ إنسان بين عامي 2020و2050م
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
77 �إمكانات الروبوتات تط ّورت من جمرد �آلة �إلكرتونية �إىل �آلة �ستف ّكر عام 2050م
على الإن�سان والأر�ض؛ فقد زادت �أعمار الذين يعي�شون يف املجتمعات املتقدمة ،لكنها زعزعت اال�ستقرار االجتماعي والنف�سي ،وجعلت احلياة بائ�س ًة ،و�أدّت �إىل معاناة نف�سية وا�سعة النطاق� ،إ�ضافة �إىل املعاناة اجل�سدية �أي�ض ًا يف العامل الثالث .وقد �أحلق التقدّم املت�سارع �أ�ضرار ًا ج�سيم ًة بالتوازن الطبيعي للحياة على الأر�ض ،وا�ستمرار تطور التقانة غري امل�س�ؤول يزيد من تفاقم الو�ضع ،مثل حماولة العبث التقاين بالهند�سةالوراثية. ومن ُحجج املعار�ضني �أنه لي�ست هناك قرينة ت ؤ� ّكد �أن حماكاة احلا�سب للدماغ �ستُنتج يف الواقع دماغ ًا حقيقي ًا، وال ميكن احل�صول على ذكاء ا�صطناعي حقيقي من �أمناط الربجميات احلالية؛ لأنها غري كاملة ،وبها ق�صور
�شديد ،بل على العك�س :ت�سارع تطور التقانات يجعل معرفتنا بالعامل نحونا �أقل .و�إذا كان احلا�سب �سيكون لديه الذكاء الكايف لي�ص ّمم بنف�سه الأجيال الالحقة له فيلزم �أن يقوم �أحد الب�شر بكتابة الربجميات الالزمة لتنفيذ هذا الت�صميم الذاتي ،وال توجد � ّأي قرينة ت�ؤ ّكد �أن الب�شر ي�ستطيعون كتابة مثل هذه الربجميات(.)12 و�أثبتت جتارب (الغرفة ال�صينية) �أن (وحدة املعاجلة املركزية) يف احلا�سب ال ت�ستطيع �إدراك الربجميات التي تقوم بتنفيذها؛ لأن الإن�س بخربات حقيقية يف العامل احلقيقي هم فقط الذين لديهم الوعي والذكاء احلقيقي ،وغري ذلك لي�س �إال تالعب ًا بالتقانة� .أما �إذا كان بالإمكان بناء �آلة متلك ن�سخة من قدرات الدماغ
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
78
بزوغ ع�صر الإن�سان (ال�سايبورج)
والوعي با�ستخدام بع�ض الرتاكيب الكيميائية غري اخلاليا الع�صبية ف�إننا �سنحتاج ن�سخ القدرات الرئي�سة ّ وتتلخ�ص جتربة وراء هذه القدرات اال�صطناعية. (الغرفة ال�صينية) يف افرتا�ض �إن�سان جال�س يف غرفة ال يوجد بها �شخ�ص �صيني ،ثم قام هذا الإن�سان بكتابة جمموعة من القواعد باللغة الإجنليزية التي مت ّكنه من ربط جمموعة من الرموز ال�صينية ( ) مبجموعة �أخرى من الرموز ال�صينية ،وهو ما يعطيه القدرة على
وضعت البحوث الطبية العالجات التي تحدث فرق ًا في حياتنا ،خصوص ًا في نهايتها ،لكن االعتالل والوفيات الناجمة عن السرطان والسكتة الدماغية مستمران بال هوادة عملي ًا حتى في البلدانالمتقدمة
الإجابة بال�صينية كتاب ًة على �أ�سئلة مكتوبة بال�صينية. ويجعل هذا الأمر ال�صينيني يعتقدون �أنه يفهم اللغة ال�صينية ،بينما هو يف الواقع ال يدركها �إطالق ًا. وباملثل� ،إذا ا�ستطاع احلا�سب القيام مبحادثة لغوية مع الإن�سان ف�إنه يقوم بتنفيذ الربجميات فقط ،لكنه ال يعي املحادثة اللغوية نف�سها( .)13وال ميكن تكرار الوعي يف �آلة احلا�سب؛ لأن الوعي عملية فيزيائية غري حو�سبية، وال �أحد يدرك بدقة كيفية حدوثه؛ فهو �شيء خارج الفيزياء ،لكن لعله نتيجة ظاهرة ميكانيكية ك ّمية على نطاق وا�سع يف اخلاليا الع�صبية الدماغية( .)14وم�شكلة ه�ؤالء (التالقيون) �أنهم ينظرون �إىل التطور مثل القرد الذي ي�ضرب على الآلة الكاتبة ب�سرعة عالية ظان ًا �أنه ُينتج م�سرحية مثل (�شكيبري)(.)15 متخ�ص�صون يف ومن املده�ش �أن امل�ؤمنني بالتالقي ك ّلهم ّ احلا�سبات والروبوتات ال�سكارى بالتقدّم ال�سريع لتقانة املعلومات واالت�صاالت بنا ًء على قانون (مور) ،الذي يتجاهل تعقيد خلق الدماغ ،لي�س يف اختالفه وتف ّرد الأدمغة بني الب�شر فقط ،بل �أي�ض ًا يف ا�ستجابتها للتغريات الفردية. وعلى الرغم من التقدم يف �أبحاث اخلاليا الع�صبية منذ عام 1970م �إال �أن العلماء مازالوا ال ي�ستطيعون متام ًا فهم
كيف ي�صنع العقل (ذلك ال�شيء الناعم املك ّون من تكتالت الأن�سجة والع�صبونات) دماغ ًا واعي ًا (ذلك ال�شيء غري امللمو�س) الذي يجعلنا نحب ونكره ،ونتذوق ال�شعر والأدب واملو�سيقا ،ونعجب باملناظر اجلميلة ،ون�شمئز من القبيحة، تف�سر كيف يقوم 100 وما زال العلم لي�س لديه نظرية كاملة ّ بليون ع�صبون من الع�صبونات املختلفة يف دماغ الإن�سان بالتحكم يف الإدراك والوعي. وظهر حديث ًا �أن قانون (مور) بد أ� يتوقف بعد 51عام ًا ب�سبب ارتفاع احلرارة املتولدة نتيجة االزدحام ال�شديد ملكونات الدوائر املتكاملة يف امل�ساحة نف�سها ،ولأن الأبعاد الرقائق تد ّنت �إىل ما يقرب من النانو مرت ،فجعلت �أداء . الإلكرتونيات يف الدوائر املتكاملة ال يعتمد عليه مطالبة بتحييد الدين
ُيالحظ �أن املعتقدين بـ(التالقي التقاين) جتمعهم القناعة بالعلمانية ال�شاملة التي تعني االنتقال من الإن�ساين واملطلق �إىل املادي والن�سبي .وتنادي العلمانية ال�شاملة بتحييد عالقة الدين والقيم املطلقة والغيبيات، و�أن املعرفة املادية هي امل�صدر الوحيد للأخالق ،و�أن الإن�سان يغلب عليه الطابع املادي الدارويني ،ويرجعون
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تف�سر كيف يقوم 100بليون ع�صبون من الع�صبونات املختلفة يف دماغ الإن�سان بالتحكم يف الإدراك والوعي لي�س لدى العلم نظرية كاملة ّ
79
كالب متنوعة من خلق اهلل
روبوت على هيئة كلب
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الحظ التن ّوع ..هل ي�ستطيع الروبوت الكلب �أن يتبادل مع الإن�سان ال�شعور العاطفي �أو النظرات؟ ي�ستحيل
ن�شوء الإن�سان بامل�صادفة �إىل كائنات خلوية معقدة تطورت عرب ماليني ال�سنني �إىل �أن ا�ستطاع اخرتاع الآالت ب�أنواعها املعقدة .وال تف�صل (العلمانية ال�شاملة) الدين عن الدولة وبع�ض جوانب احلياة العامة فح�سب ،و�إمنا تف�صل كل القيم الإن�سانية والأخالقية والدينية عن كل جوانب احلياة العامة واخلا�صة� ،إىل �أن تنزع القدا�سة متام ًا عن العالمَ (الإن�سان والطبيعة) ،فيتح ّول �إىل مادة ا�ستعمالية ،وت�صبح
هناك من جادل بأن الثورة التقانية كانت لها عواقبها السلبية الكارثية على اإلنسان واألرض؛ فقد زادت أعمار الذين يعيشون في المجتمعات المتقدمة ،لكنها زعزعت االستقرار االجتماعي والنفسي، وأدت إلى وجعلت الحياة بائسةً ّ ، معاناة نفسية واسعة النطاق
80
كل الأمور خا�ضعة لقوانني مادية ،وال ت�ؤمن �إال بالن�سبية املطلقة ،وال ت�ؤمن ب� ّأي معايري �أو مطلق �أو كليات .لكن مهما ا�ستطاع الإن�سان اخرتاع روبوتات لديها ذكاء ا�صطناعي فلن ي�ستطيع م�ضاهاة خلق اهلل �سبحانه وتعاىل ،وبثّ الروح الل َف أَ� ُرونيِ َم َاذا َخ َلقَ ا َّل ِذينَ ِمن دُو ِن ِه َب ِل فيه}:هَ َذا َخ ْلقُ هَّ ِ َّ الظالمِ ُونَ فيِ َ�ضلاَ ٍل ُّم ِب ٍني{(لقمان.)11 : وتتجاوز الروح �أو الوعي �أو النف�س �أو الذات اجل�سد الب�شري الرتابي؛ لذلك فلن ت�ستطيع التقانة مهما بلغت من تقدّم �أن تبدع �آداب ًا وفنون ًا ومالمح خا�صة وفريدة ب�صاحبها لك ّل روبوت؛ مثل اختالف امرئ القي�س عن املتنبي� ،أو حممد عبدالوهاب عن بيتهوفن� ،أو بيكا�سو عن �صالح جاهني ،على الرغم من �أن ه�ؤالء جميع ًا ب�شر ،ولي�سوا �آالت مك ّررة .وملاذا يرتبط الإن�سان بالفن؟ هل هي املتعة �أو قدرته على املحاكاة �أو التعبري؟ �س�ؤال ال ي�ستطيع � ّأي حا�سوب عمالق الإجابة عنه .والفرق بني �أفراد الإن�س لي�س فرق ًا يف الذرات� ،أو يف حروف اجلينات الوراثية، بل يف كيفية ترابط هذه اجلينات ونوع العالقات بينها؛ فلكل ج�سد �إن�سان �شفرة كيميائية خا�صة به تبلغ �آالف
إنسان قائم على البرمجيات ال يموت يمكن أن يتحقّ ق هذا الذكاء الخارق الحاسبات المتّصلة عبر شبكة ،أو رقائق حاسب نانوية مزروعة في أنسجة القشرة الدماغية ،أو روبوتات تعمل بوصفها غواصة دقيقة ذات ذكاء اصطناعي تجري في شرايين اإلنسان. ويترك ذلك الباب مفتوح ًا ليكون لدى ذكاء الحاسب الخارق (وعي) وخبرات وسيؤدي هذا ذاتية أعلى من اإلنسان، ّ اإلنجاز إلى سلسلة من اآلالت الفائقة الذكاء ،التي تقوم بإنجاب ذرية من اآلالت األذكى ،واالنتقال من جيل إلى جيل خالل أسابيع أو أيام بد ً ال من عقود أو سنوات، وهو ما يؤدي إلى نمو اقتصادي هائل ال ينتهي ،وبسرعة تفوق سرعة الصوت ،حتى تبدو الثورة الصناعية مع التقدم كأنها لعبة أطفال ،ويتالقى هذا ّ الذكاء البيولوجي اإلنساني مع ذكاء اآللة ،ثم ينتهي األمر عام 0302م إلى «إنسان قائم على البرمجيات ال يموت».
املاليني من الأحرف الوراثية املرتّبة واملت�سل�سلة للتعبري عن وظائف الإن�سان احلي ،ولي�ست ن�سخ ًا من برجميات احلو�سبة �أو الأرقام .و�إذا كان ممكن ًا ت�صنيع روبوت يفوق ذكاء الإن�سان بالربجميات ف�إن الروبوت لن يعي ما يفعله؛ لأنه �آلة حا�سوبية مربجمة غبية تعمل طبق ًا خلوارزميات حتمية (نظام ال ينطوي على ع�شوائية) و�ضعها الإن�سان؛ فعلى �سبيل املثال :ت�ستطيع خوارزميات موقع (جوجل) القيام برتجمة مقالة عربية لطه ح�سني �إىل اللغة ال�سواحلية ،لكنه ال يفقه ما قام به ،ويحتاج �إىل تدخل من الإن�سان للتنقيح ،واملثال الآخر النحل؛ فهو خملوقات
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
بجهاز حاسب عمالق ،أو مجموعة من
�صغرية الدماغ جد ًا (ن�صف ملليمرت) ،ويحتوي دماغها على نحو مليون ع�صبون ،بينما حجم دماغ الف�أر �سنتيمرت مكعب واحد ،وبه 200مليون ع�صبون .وتفتقد �أدمغة النحل �إىل الهياكل؛ مثل :احل�صني ،والق�شرة ال�شَّ ِّم َّية الداخل َّية، التي ت�ؤدي دور ًا حيوي ًا يف ت�شكيل (اخلرائط املعرفية) لدى الإن�سان والثدييات لكي حت�سب طريقها من نقطة (�أ) �إىل نقطة (ب) حتى لو �أن النقطة (ب) غري مرئية ،ومع ذلك يقوم النحل باملالحة اجلوية ب�شكل روتيني م�سافات ت�صل �إىل ثالثة كيلومرتات بعيد ًا من خالياه يف �سعيها ثم تعود �أدراجها ،وعلى الرغم من الأبحاث املكثفة �إال �أن كيفية �إمتام هذه احل�سابات يف �أدمغة النحل لي�ست وا�ضحة؛ فهل ي�ؤديها النحل داخل اخلاليا الع�صبية ذاتها �أو رمبا يف هياكل خمتلفة متام ًا عن احل�شرات؟ ال �أحد يعرف. أحب الروبوت �صاحبه ،فهل و�إذا فر�ضنا �أن الإن�سان � ّ ميكن للروبوت مبادلته احلب؟ كال؛ لأن امل�شكلة الأ�سا�سية هي حتمية اخلوارزميات التي تدعم ا�ستجابة الروبوت، وحتى لو اخرتعت تقانة (تع ّلم �آيل هجني غري حتمية) يف امل�ستقبل فال يزال الأمر هو اختيار خوارزمية .ويف الواقع، يحب ،و�إذا كان تكرار الذكاء ال يف ّكر الروبوت �أبد ًا؛ لذا ال ّ اال�صطناعي يف الآلة ممكن ًا ف�إن تكرار الروح م�ستحيل. افرت�ض امل�ؤيدون عوامل لي�ست حتت �سيطرة الإن�سان؛ مثل :الكوارث الطبيعية ،والأوبئة ،واحلروب ،وتغيرّ املناخ، وارتفاع درجة حرارة الأر�ض ،بل املتوقع �أن تت�ضاعف انبعاثات غازات االحتبا�س احلراري على ال�صعيد العاملي بحلول عام 2020م ،وتُ�سهم تقانة املعلومات واالت�صاالت ب�أكرث من ٪2من الن�سبة الإجمالية ،فهل ت�ستطيع الروبوتات ال�سيطرة؟� .إن �سبب احلروب وال�صراعات هو العلمانية ال�شاملة كما مت ّثلت يف احلربني العامليتني الأوىل والثانية، وجت�سدت يف النازية وال�صهيونية واال�ستعمار؛ فقد ف�شلت ّ العلمانية الداروينية يف تف�سري ظاهرة الإن�سان؛ لأنه لي�س ظاهرة مادية حم�ضة ،و�إمنا هو ظاهرة مركبة
81
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
82
لأق�صى حدٍّ من ج�سد وروح؛ فمث ًال :معجزة لغة الإن�سان ظاهرة ت ؤ� ّكد كمون اللغة يف عقل الطفل ،و�أن العقل فشلت العلمانية الداروينية في احل�سيات ،و�أن لي�س جمرد �صفحة بي�ضاء ترتاكم فيها ّ تفسير ظاهرة اإلنسان؛ ألنه ليس العقل لي�س هو املخ (خاليا و�إنزميات)؛ فالعقل يدرك ظاهرةً ماديةً محضةً ،وإنما هو الواقع بو�صفه جزيئات تن�ضوي حتت ٍّ كل متكامل ،بينما ظاهرة مركّ بة ألقصى حدٍّ من جسد يف�سر ينكر العلمانيون مفهوم املطلق (�أو الروح)؛ لأنه ّ وروح؛ فمثالً :معجزة لغة اإلنسان معجزة جتاوز الإن�سان النظام املادي والأرقام .والفكر ظاهرة تؤكّ د كمون اللغة في عقل لي�س �صور ًة ملادة من الإنزميات والع�صارات املتحركة، الطفل ،وأن العقل ليس مجرد صفحة و�إال فلماذا تختلف �أفكار �أ�شخا�ص يعي�شون يف الظروف الحسيات بيضاء تتراكم فيها ّ نف�سها ،وكذلك -باملنهج العلماين -ال ميكن ن�سخ �أحا�سي�س الإن�سان الأخالقية واجلوانب النبيلة والدينية واجلمالية والقلق و�أ�سئلته عن الوجود .لن يلتقي ذكاء مواجهة مآزق أخالقية عميقة احلو�سبة مع ذكاء الإن�سان الختالفهما البينّ ،و(ما بعد متتد التحديات �أمام انت�شار ا�ستخدام الروبوتات ذات الإن�سان) تعني يف الواقع نهاية الإن�سان. الذكاء اال�صطناعي �إىل جماالت تقانية وتنظيمية،
المراجع (� )1آي بي �إم واط�سون :حا�سوب فائق غري متّ�صل بالإنرتنت ذو ذكاء ا�صطناعي قادر على الإجابة الواقعية عن �أيّ �س�ؤال ُيطرح بلغة التخاطب الب�شرية (اللغة الطبيعية). ( )2جوليان هك�سلي (1975 -1887م) :عامل �أحياء وفيل�سوف �إجنليزي. (� )3صموئيل بتلر (1902 -1835م) :كاتب وروائي �إجنليزي متم ّرد عا�ش يف الع�صر الفيكتوري. تن�ص على �أن ك ّل الكائنات احلية على م ّر ( )4ت�شارلز داروين (1882 -1809م) :عامل تاريخ طبيعي بريطاين ،وهو م� ّؤ�س�س نظرية التطور التي ّ الزمان تنحدر من �أ�سالف م�شرتكة. ( )5فرينر فينج� :أ�ستاذ احلا�سبات يف جامعة �سان دييجو ،وم�ؤلف اخليال العلمي ،ومن �أوائل املنادين بـ(التالقي التقاين). ( )6جرم كوين فائق اجلاذبية لدرجة �أنه ال ميكن �أن يهرب منه �أي �شيء ،حتى ال�ضوء. ( )7الوعي :Consciousnessهو ذلك ال�شيء الغام�ض الذي يجعل كل �شخ�ص فريد ًا عن الآخرين .و�شرح الوعي من �أهم املناطق املحيرّ ة يف الفل�سفة :كيف تتّ�صل احلالة الذهنية الواعية باجل�سم؟ وهل ميكن تف�سري الوعي ب�أنه ن�شاط يف الدماغ؟ وما الذي يجعل احلالة الذهنية واعية؟ والوعي له عالقة بامليتافيزيقيا؛ مثل� :إمكانية اخللود ،واالعتقاد يف الإرادة احلرة .و�سيكولوجي ًا ،الوعي هو �إدراك املرء ذاته و�أحواله و�أفعاله �إدراك ًا مبا�شر ًا ،وبه ي�شعر �أنه يعرف ما يعرف. ( )8جوردون مور (1929م :)... -مهند�س �إلكرتونيات ،وم� ّؤ�س�س م�شارك يف �شركة (�إنتل). ( )9ال�سايبورج :كائن نظري �أو خيايل يتك ّون من مزيج من مكونات ع�ضوية وبيو -ميكاترونية .انظر :فيلم (رجل ب�ستة ماليني دوالر). ( )10جايا :من �شخ�صيات امليثولوجيا الإغريقية الأم الأر�ض طبق ًا للأ�ساطري واخلرافات الوثنية التي �آمن بها اليونانيون القدماء ،املهتمة ب�آلهتهم و�شخ�صياتهم الأ�سطورية الأخرى وطبيعة العامل. (� )11ألفريد نوردمان. ( )12جارون النيري. ( )13جون �سريل� :أ�ستاذ الفل�سفة يف جامعة بريكلي. ( )14روجر برنوز� :أ�ستاذ الفيزياء والريا�ضيات يف جامعة �أك�سفورد. ( )15جون هوالند� :أ�ستاذ علوم احلا�سب والهند�سة وال�سيكولوجي يف جامعة ميت�شجان.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
حتى فل�سفية؛ ف�إىل جانب م�شكالت الربجميات �ستجربنا �أنظمة التحكم الذاتي اجلديدة على مواجهة م�آزق �أخالقية عميقة ،حتى �إنها قد تثري �أ�سئلة عن �إح�سا�سنا ب�أنف�سنا بو�صفنا ب�شر ًا عاقلني؛ فعلى �سبيل املثال :هل ميكن زرع �أخالقيات القيادة يف ال�سيارات ذات القيادة الذاتية؟ و�إذا ارتكبت هذه ال�سيارة ذات الذكاء اال�صطناعي حادث ًة ت�س ّببت يف القتل فمن الذي �س ُيحا َكم ،وكيف �ستتو ّزع امل�س�ؤولية :الربجميات نف�سها، �أم َمن قام ب�إن�شائها� ،أم �أخطاء املجني عليه؟ وهل ميكن �أن تثق بروبوت يقوم بجراحة �آلية لك ،ويق ّرر بالذكاء اال�صطناعي املزروع فيه � ّأي جراحة يقوم بها؟ و�أين يقطع؟ وكيف يخيط اجلراحة؟ وهل ميكن �أن نرتك لروبوت حمارب �أن يق ّرر َمن يقتل �أو َمن يرتكه حي ًا يف
املعارك الع�سكرية ،مثلما حدث يف العراق و�أفغان�ستان حني ا�ستخدمت الطائرات من دون طيار والقوات الروبوتات الأر�ضية؟ �أال ميكن �أن ت�شتعل حرب عاملية ثالثة نتيجة خط�أ يف الربجميات �أو هجوم فريو�س؟ ح ّذرت جمموعة من �أ�شهر علماء الذكاء اال�صطناعي والروبوتات يف ر�سالة مفتوحة حديث ًا ُقدِّ مت يف م�ؤمتر الذكاء اال�صطناعي الدويل عام 2015م من �أن �إنتاج هذه الأ�سلحة الذاتية �سي�ؤدي �إىل «�سباق ت�س ّلح يف الذكاء اال�صطناعي العاملي» ،وميكن �أن تُ�ستعمل من �أجل االغتياالت ال�سيا�سية� ،أو زعزعة ا�ستقرار الدول� ،أو �إخ�ضاع ال�سكان� ،أو القتل االنتقائي لأعراق معينة� ،أو �أ�سلحة دمار �شامل، وبالت�أكيد ميكن �أن تقع يف �أيدي الإرهابيني.
83
شخصيات
طبعت دار النشر التابعة لجامعة شيكاغو قبل خمسين عام ًا أحد أكثر الكتب تأثير ًا في القرن العشرين ،ولم يسمع كثير من عامة الناس -إن لم يكن أغلبهم -بالمؤلف ّ توماس كـون ،وال بكتابه (بنية الثورات العلمية) ،لكن أفكار هذا المؤلف أ ّثرت في تفكيرهم غالباً .ويتم ّثل هذا التأثير في (تحول استخدامهم أو سماعهم كلمة ّ البارادايم ،أو تحول النسق الفكري) ،وهو ّ يتم مصطلح من أكثر المصطلحات التي ّ استخدامها ،و ُيساء فهمها أيضاً ،عند الحديث عن التطورات الفكرية .ومما يؤكّ د ذلك أنك عندما تبحث عن هذا المصطلح في محرك البحث (جوجل) ستظهر لك ّ عشرة ماليين نتيجة ،كما أن البحث في الموقع التجاري الشهير (أمازون) س ُيظهر لك ثمانية عشر ألف ًا وثالثمئة كتاب تحوي هذا المصطلح ،إضافةً إلى أن كتاب (بنية الثورات العلمية) أكثر الكتب األكاديمية يتم االقتباس منها في األبحاث التي ّ والكتب أخرى؛ فهذا الكتاب وما يحويه من عد من أسرع الكتب انتشار ًا على أفكار ُي ّ
84
اإلطالق.
توماس كـون: رجل غ ّير نظرة العلم العا َلم إلى ِ 85 يوسف العتيبي مترجم سعودي
ال يكمن المقياس الحقيقي ألهمية توماس كـون في مدى انتشار إحدى عدية ،لكن الم ِ أفكاره ومفاهيمه ُ أهميته في أنه استطاع وحده تكمن ّ تغيير طريقة تفكيرنا حول الوسيلة ّ المنظمة الوحيدة التي استخدمتها
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
البشرية لفهم العالَم
86
غالف كتاب (بنية الثورات العلمية)
ال يكمن املقيا�س احلقيقي لأهمية توما�س كـون يف مدى انت�شار �إحدى �أفكاره ومفاهيمه املُعدِ ية ،لكن تكمن �أه ّميته يف �أنه ا�ستطاع وحده تغيري طريقة تفكرينا حول الو�سيلة ّ املنظمة الوحيدة التي ا�ستخدمتها الب�شرية لفهم العالمَ ؛ فقبل كـون كانت نظرتنا �إىل العلم حتت ت�أثري �أفكار فل�سفية تتمحور حول الطريقة التي من املفرت�ض �أن حتدّد خطوات املمار�سة العلمية (املنهج العلمي)� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن التقدم العلمي �سابق ًا كان ُيع ّرف ب�أنه «�إ�ضافة حقائق جديدة حلزمة احلقائق القدمية� ،أو زيادة دقة النظريات العلمية ،ويف بع�ض احلاالت النادرة :ت�صحيح الأخطاء ال�سابقة» كما هو و�صف مو�سوعة �ستانفورد الفل�سفية، وبعبارة �أخرى :ك ّنا قبل كـون ننظر �إىل العلم ح�سب
تف�سر التاريخ العلمي ب�أنه نظرية whigالتاريخية ،التي ّ ال�سعي التدريجي الطويل للباحثني ّ واملنظرين و�أ�صحاب التجارب العلمية نحو احلقيقة� ،أو على الأقل :نحو فهم �أف�ضل للعالمَ الذي نعي�ش فيه. يختلف تف�سري كـون للتطور العلمي جذري ًا عن تف�سري whig؛ ذلك التف�سري ال�شائع الذي يرى �أن التقدّم العلمي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
منو تدريجي منتظم ،بينما يرى تف�سري كـون �أنه منو غري منتظم :مراحل متعاقبة من التقدّم العادي والتقدّم الثوري ،ت�صطدم فيها جمموعة من الباحثني يف جماالت ّ مع ّينة ب�أوقات ع�صيبة من ال�شك والقلق واحلرية .وتتزامن هذه املراحل الثورية؛ مثل التح ّول من ميكانيكا نيوتن �إىل ميكانيكا الكم ،مع تقدّمات فكرية ومفاهيمية هائلة ت�ضع �أ�سا�س التطورات الالحقة ،وهكذا ت�ستمر .ال يبدو هذا التف�سري حقيق ًة مذه ًال لنا الآن يف وقتنا احلايل؛ بوجه ما -املقيا�س احلقيقي لنجاح كـون ،لكن هذافهو ٍ التف�سري �أثار بك ّل جوانبه جد ًال وا�سع ًا عام 1962م؛ ب�سبب التحدّيات التي واجهها ب�صفته تف�سري ًا يقف يف وجه تف�سر طبيعة العلم امل�س ّلمات الفل�سفية القوية التي كانت ّ ومنهجه ،والذي زاد الأمر �سوء ًا لفال�سفة العلم هو �أن كـون نف�سه كان فيزيائي ًا ،ومل يكن فيل�سوف ًا. ُولِدَ كـون عام 1922م يف مدينة �سين�سيناتي التابعة لوالية �أوهايو ،ودر�س الفيزياء يف هارفارد ،وتخ ّرج مبرتبة ال�شرف عام 1943م .وا�ضط ّر بعد ذلك للعمل يف وحدة
الرادار يف �أثناء احلرب ،وعاد بعد احلرب �إىل هارفارد لإعداد ر�سالة الدكتوراه يف الفيزياء التي ح�صل عليها عام 1949م ،و ّمت اختياره بعد ذلك لالن�ضمام �إىل املجموعة ت�ضم نخبة �أ�ساتذة اجلامعة ،وكان �سي�ستمر يف درا�سة التي ّ فيزياء الكم �إىل �آخر �أيام حياته لوال �أن ُطلب منه تدري�س مادة عن العلم الطبيعي لطالب العلوم الإن�سانية كانت جزء ًا من املنهج التعليمي �آنذاك ،وكان رئي�س هارفارد الإ�صالحي جيم�س كونانت هو �صاحب فكرة و�ضع هذه املادة العلمية ،و�إلزام الطالب درا�ستها؛ لأنه كان ي�ؤمن ب�أنه ال بد لك ّل �شخ�ص متع ّلم �أن يعرف �شيئ ًا عن العلم الطبيعي. وكانت هذه املادة العلمية تتمحور حول الدرا�سة التاريخية للعلم؛ لذلك ا�ضطر كـون �إىل درا�سة ن�صو�ص علمية قدمية بالتف�صيل للمرة الأوىل له؛ �إذ كان الفيزيائيون – وال يزالون– ال يح ّبون التع ّمق يف التاريخ .وكانت درا�سة كـون ن�صو�ص �أر�سطو مبنزلة جتربة ثورية �أ ّثرت يف حياته وم�ساره املهني ب�شكل كبري ،يقول كـون« :ال�س�ؤال الذي �أردتُ �أن �أجيب عنه كان� :إىل � ّأي حدٍّ كان �أر�سطو ُملم ًا بعلم امليكانيكا؟ وكم ترك لغريه -مثل جاليليو ونيوتن� -أن يكت�شفوا؟» ،حينها علمتُ �أن �أر�سطو مل يكن يعرف �شيئ ًا عن امليكانيكا على الإطالق .هذا اال�ستنتاج كان �شائع ًا �آنذاك ،وقد يكون -مبدئي ًا -ا�ستنتاج ًا �صائب ًا? لكنني �شكل؛ لأنني يف �أثناء قراءتي ن�صو�ص وجدتُ �أنه ا�ستنتاج ُم ِ �أر�سطو بدا يل �أنه مل يكن جاه ًال بامليكانيكا فح�سب ،بل اتّ�ضح يل �أنه عامل فيزيائي �سيئ ب�شكل م�ؤ�سف؛ فيما يتع ّلق باحلركة خا�صة ،كانت كتاباته مملوءة بالأخطاء الفادحة، �سواء يف �صياغتها املنطقية �أم يف اعتمادها على املالحظة. اجلانب الذي هاجمه كـون هو نقطة ال�ضعف املركزية يف تف�سري whigللتاريخ العلمي؛ �إذ يبدو �أر�سطو غبي ًا مبعايري الفيزياء احلديثة ،لكننا نعلم �أن هذا الأمر غري �صحيح؛ فاكت�شاف كـون الكبري كان نتيجة ا�ستيعابه املفاجئ حقيقة �أننا لكي نفهم العلم الأر�سطي يجب علينا
87
يقول الفيلسوف إيان هاكينج في مقدمته الرائعة لكتاب كـون :ال يهدف العلم االعتيادي إلى االبتكار، لكن يهدف إلى توضيح المفاهيم العلمية السائدة وتنقيحها ،إنه
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
توقع أن يكتشفه يكتشف ما ُي ّ
88
�أن نعرف املناخ الفكري الذي كان يعمل �أر�سطو خالله؛ فيجب �أن نفهم –على �سبيل املثال– �أن كلمة (حركة) لدى �أر�سطو تعني التغيرّ ب�شكل عام ،ولي�س انتقال اجل�سم الفيزيائي من مو�ضع �إىل مو�ضع �آخر كما هو تعريفنا للحركة يف وقتنا احلا�ضر ،وبعبارة �أ�شمل :لكي نفهم التطور العلمي يجب علينا �أن نعرف البنية الفكرية التي يعمل العلماء مبقت�ضاها ،وكان هذا االكت�شاف هو الأ�سا�س الذي بنى عليه كـون كتابه العظيم.
بقي كـون يف هارفارد �إىل عام ،1956وانتقل �إىل جامعة كاليفورنيا يف بريكلي بعد �أن ف�شل يف احل�صول على وظيفة دائمة يف جامعة هارفارد ،و�أ ّلف كتابه ال�شهري هناك، و ّمتت ترقيته �إىل مرتبة (بروفي�سور) عام 1961م ،ويف العام التايل ن�شرت دار الن�شر التابعة جلامعة �شيكاغو كتابه ،ومع �أن الطبعة الأوىل من كتابه كانت تقع يف 172 �صفحة �إال �أنه كان يتحدث عن الكتاب بطريقته املعهودة بو�صفه حم�ض م�س ّودة بدائية �أو منوذج أ� ّويل ،وكان ُي ّ ف�ضل بالت�أكيد �أن يكتب ما يقارب � 800صفحة طويلة ومم ّلة، لكن حجم هذه امل�س ّودة البدائية ،وقابل ّيتها للقراءة ،كانا عاملني ُمه ّمني لنجاح الكتاب فيما بعد .ومع �أن الكتاب مل ي�شتهر يف بداياته بال�سرعة املطلوبة؛ �إذ ّمت بيع 919ن�سخة عامي 1962و1963م� ،إال �أنه يف منت�صف عام 1982م ّمت بيع �أكرث من �ستمئة وخم�سني �ألف ن�سخة ،وبلغ عدد الن�سخ التي بيعت من الكتاب �إىل يومنا احلايل مليون ًا و�أربعمئة �ألف ن�سخة ،ويقارب كتاب بهذا احلجم واالنت�شار يف �شهرته �سل�سلة روايات هاري بوتر العاملية.
االكت�شاف العلمي �صور بحوث �شاقة
دعوى كـون الرئي�سة يف هذا الكتاب هي �أن الدرا�سة الدقيقة للتاريخ العلمي تك�شف �أن التطور يف �أي جمال علمي يحدث عرب مراحل متعاقبة� ،أطلق على املرحلة الأوىل ا�سم (العلم االعتيادي)� ،أو العمل الروتيني ،ويقوم يف هذه املرحلة جمموعة من الباحثني امل�شرتكني يف بنية فكرية واحدة ،تُ�س ّمى (بارادامي) �أو (ن�سق فكري) ،مبحاولة ح ّل امل�شكالت الناجتة من الفروقات بني ما تظهره املالحظات العلمية والتجارب والتو ّقعات التي يفرت�ضها هذا الن�سق الفكري امل�شرتك (البارادامي) ،ويتم ح ّل هذه الفروقات غالب ًا بتعديالت
طفيفة على البارادامي امل�شرتك �أو باكت�شاف �أخطاء يف املالحظات والتجارب ،يقول الفيل�سوف �إيان هاكينج يف مقدمته الرائعة لكتاب كـون :ال يهدف العلم االعتيادي �إىل االبتكار ،لكن يهدف �إىل تو�ضيح املفاهيم العلمية ال�سائدة وتنقيحها� ،إنه يكت�شف ما ُيتو ّقع �أن يكت�شفه. وتكمن امل�شكلة يف �أن هذه الفروقات ترتاكم عرب الزمن حتى ت�صل �إىل مرحلة تدفع بع�ض العلماء �إىل الت�شكيك يف الن�سق الفكري �أو (البارادامي) نف�سه ،وحينها يدخل هذا املجال العلمي يف مرحلة �أزمة -على حد تعبري كـون- تتم ّثل يف «تزايد املطالبات بتف�سريات وا�ضحة ،والرغبة يف جتربة � ّأي �شيء ،والتعبري عن ال�سخط وعدم الر�ضا، والرجوع �إىل الفل�سفة ومناق�شة �صحة املبادئ الفل�سفية»، يتم يف النهاية ح ّل هذه الأزمة عن طريق تغيري جذري ثم ّ ثوري يف نظرتنا �إىل العامل؛ �إذ يتم ا�ستبدال بارادامي جديد بالبارادامي الناق�ص احلايل ،وتُعرف هذه العملية الآن بـ(حت ّول البارادامي) �أو (حت ّول الن�سق الفكري)، ويرجع املجال العلمي بعد حدوث هذا التح ّول �إىل املرحلة الأوىل التي ذكرناها (العلم االعتيادي) ،وي�ستمر احلال على هذا الو�ضع حتى يح�صل التح ّول مر ًة �أخرى ،وهكذا.
أثار كـون غضب الكثيرين عندما وصف «مجرد ّ حل الممارسة العلمية بأنها ّ ألغاز ُ وأحجيات» ،وكأن رحلة الجنس البشري الشاقة نحو المعرفة مشابهة لمحاولة ّ حل الكلمات المتقاطعة في مجلة (التايمز)
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
توما�س كون
�إيان هاكينج
89
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
90
ال يفي هذا االخت�صار املخ ّل الذي ذكرناه للمرحلة الثورية بحقّ تعقيد فكرة كـون وعمقها ،بل يجب �أن تقر�أ كتاب (بنية الثورات العلمية) لكي تفهمها ب�شكل �أو�ضح ،لكن هذا االخت�صار ّ يو�ضح -ب�شكل عام -ملاذا كان هذا الكتاب �صاعق ًة مدوي ًة للفال�سفة وامل ؤ� ّرخني الذي �صاغوا تف�سري whigالتاريخي للتقدّم العلمي الذي ذكرناه �سابق ًا. للتو�ضيح ،دعونا نلقي ال�ضوء على مرحلة (العلم االعتيادي) عند كـون :كان �أكرث فال�سفة العلم ت�أثري ًا عام 1962هو كارل بوبر ،الذي و�صفه هاكينج ب�أنه «العامل الأ�شد ت�أثري ًا يف كتاباته يف العلماء التجريب ّيني». و ّ خل�ص كارل بوبر جوهر املنهج العلمي يف عنوان �أحد كتبه (الفر�ضيات والتخطئة)؛ فوفق ًا لبوبر يتم ّيز العلماء احلقيقيون -على خالف املح ّللني النف�س ّيني مث ًال -مبحاولة تخطئة نظرياتهم ورف�ضها ،بد ًال من تن�ص على �أن حماولة حماولة �إثباتها ،لكن نظرية كـون ّ رف�ض النظريات العلمية املت�ض ّمنة داخل البارادامي �أو الن�سق الفكري ال�سائد هي �آخر �شيء يريد �أن يفعله (العلماء االعتياديون). �أثار كـون غ�ضب الكثريين عندما و�صف املمار�سة
العلمية ب�أنها «جم ّرد ح ّل �ألغاز و أُ�حجيات» ،وك�أن رحلة اجلن�س الب�شري ال�شاقة نحو املعرفة م�شابهة ملحاولة ح ّل الكلمات املتقاطعة يف جملة (التاميز)، لكن يف احلقيقة ح�سا�سية ه�ؤالء الن ّقاد كانت مفرطة؛ فاللغز �أو الأحجية يوجد لهما ح ّل ،و�إن كان ذلك ال يعني �سهولة العثور على احل ّل� ،أو �أنه ال يتطلب جهد ًا م�ستمر ًا و�إبداع ًا فكري ًا؛ فعلى �سبيل املثال :رحلة البحث ال�شاقة املك ّلفة عن بوزون (هيجز) ،التي �أثمرت نتائجها م� ّؤخر ًا يف معامل �سرين النووية ،تُع ّد مثا ًال رئي�س ًا لـ(حل الألغاز) الذي كان يقوله كـون؛ لأن وجود هذا ا ُ جل�سيم كان ُمتو ّقع ًا وفق البارادامي ال�سائد،
تمكّ ن كون بطريقته الهادئة من بناء ثورة فكرية عن طريق تحويل نظرتنا إلى العلوم ،وفهمنا لها ،من الخاص بـ()whig السياق التاريخي ّ إلى (النظرة الكـونية) التي جاء بها
�أو ما ُيعرف بـ(النموذج املعياري) لفيزياء اجل�سيمات. كان الأمر الذي �أثار جد ًال فل�سفي ًا وا�سع ًا هو �إحدى نتائج نظرية كـون املتعلقة بتح ّول الن�سق الفكري ،يقول كـون: الأن�ساق الفكرية املتعار�ضة غري قابلة للمقارنة ،وبعبارة �أخرى :ال توجد طريقة مو�ضوعية لقيا�س قيمة كل ن�سق؛ فعلى �سبيل املثال :ال توجد طريقة لعمل مقارنة بني قيمة ميكانيكا نيوتن (التي تتعامل مع كرات البلياردو والكواكب ،لكن ال تنطبق على اجل�سيمات حتت الذرية) وميكانيكا الكم (التي تتعامل مع اجل�سيمات حتت الذرية) ،لكن �أال يلزم من عدم القدرة على املقارنة بني الأن�ساق الفكرية بنا ُء الثورات العلمية على �أ�س�س بوجه ما)؟ ويف هذه احلالة �أال تكون غري عقالنية (ولو ٍ حت ّوالت الأن�ساق الفكرية (حت ّول البارادامي) التي نحتفل بها بو�صفها فتوحات علمية جم ّرد نتائج حم�ضة ملخالفة ال�سائد� ،أو خمالفة ما ُيعرف بـ(�سيكولوجية اجلمهور)؟ �أثار كتاب كـون كثري ًا من النقا�شات والتعليقات والتحليالت النقدية؛ فقد �أدّى ت�أكيده �أهمية (اجتماع الباحثني امل�شرتكني يف ن�سق فكري معينّ ) �إىل �إن�شاء فرع �أكادميي ُيعرف بـ(اجتماعيات العلوم)؛ �إذ يقوم الباحثون مبالحظة املجاالت العلمية ،ودرا�سة �سلوك العلماء ،متام ًا كما يدر�س علماء الأنرثوبولوجيا القبائل البدائية الغريبة؛ لذلك ُيع ّد العلم الطبيعي جم ّرد ثقافة يتم النظر �إليه من الثقافات املتنوعة يف املجتمع ،وال ّ للم�س من منتجات ع�صر على �أنه منتج مقدّ�س غري قابل ّ يخ�ص فكرة كون الكبرية ،تلك املتع ّلقة التنوير� .أما فيما ّ بالبارادامي بو�صفه بنية فكرية جتعل العلم والبحث ممكن ًا ،فقد انت�شرت هذه الفكرة انت�شار ًا وا�سع ًا ،حتى �إن ّ التجار و�أ�ساتذة م�ؤ�س�سات الأعمال و�أهل الت�سويق قاموا (*) هذا املقال مرتجم عن مقال جون نوتون املن�شور يف �صحيفة بتب ّنيها بو�صفها طريقة لتف�سري احلاجة �إىل تغيرّ ات اجلارديان ،على الرابط: h t t p s ://w w w .t h e g u a r d i a n .c o m / جذرية �إبداعية عند من�سوبيهم ،ور�أى علماء االجتماع science/2012/aug/19/thomas-kuhn- structure-scientific-revolutions. يف تب ّني ن�سق فكري �أو بارادامي معينّ و�سيل ًة للح�صول
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
على االحرتام ومتويل �أبحاثهم ،وهو ما �أدّى �إىل ظهور �أن�ساق فكرية َم َر�ضية يف جماالت مثل االقت�صاد؛ �إذ �أ�صبح �إتقان الريا�ضيات مقدّم ًا على فهم كيفية عمل امل�صرفية ،و�إتقانها ،والعواقب التي ا�ضطررنا �إىل حت ّملها الآن. الفكرة املثرية حق ًا هي ا�ستخدام فكرة كـون يف تف�سري �إجنازه العظيم نف�سه؛ فقد مت ّكن كون بطريقته الهادئة من بناء ثورة فكرية عن طريق حتويل نظرتنا اخلا�ص �إىل العلوم ،وفهمنا لها ،من ال�سياق التاريخي ّ بـ(� )whigإىل (النظرة الكـونية) التي جاء بها، يتم عمله الآن يف تاريخ العلوم وفل�سفتها ُيع ّد ومعظم ما ّ من مرحلة (العلم االعتيادي) وفق البارادامي اجلديد، لكن الفروقات التي حتدّثنا عنها (بني املالحظات والتجارب العلمية والتو ّقعات التي يفر�ضها البارادامي) بد�أت الآن بالرتاكم .وكان كـون يرى �أن العلم يعتمد ب�شكل �أ�سا�سي على النظرية ،كما كان يعتقد بوبر، لكن كثري ًا من الأبحاث العلمية الريادية تعتمد على البيانات واملعلومات �أكرث من اعتمادها على النظريات، وبينما كانت الفيزياء هي ملكة العلوم عند ت�أليف كتاب (بنية الثورات العلمية) ،فقد انتقل هذا الدور �إىل علم اجلينات اجلزيئية والتكنولوجيا احليوية ،فهل ينطبق حتليل كـون على هذه املجاالت العلمية؟ و�إذا مل ينطبق فهل حان وقت التح ّول �إىل بارادامي �آخر؟ �إذا كنت تريد عمل قائمة يف الوقت احلايل بالكتب التي تو ّد قراءتها قبل موتك فال بد من �أن تكون حتفة كـون هذه �ضمن القائمة.
91
إعالم
يعمل سفين الومر في أوقات فراغه حكم ًا ألحد أندية بافاريا لهواة كرة القدم ،وقد الحظ قبل سنوات أن عدد ًا من الالعبين تركوا موقع التواصل (فيسبوك) ،وهو ما جعل ُ تنظيم فعاليات النادي أصعب من قبل .ومع أن هذا األمر أزعجه إال أنه أثار فضوله أيض ًا يدرس نظم المعلومات. بحكم أنه بروفيسور ّ وما أثار فضوله هو :لماذا يريد الشباب أن يتركوا (فيسبوك) ،بينما علماء االجتماع يقولون :إن التواصل االجتماعي شيء جيد؟ تقول هانا كراسنوفا؛ الباحثة في نظم المعلومات في جامعة بيرن بسويسرا: «في ذلك الوقت ،كان االفتراض األساسي في أبحاث الشبكات االجتماعية أن (فيسبوك) مكان إيجابي ،مكان سعادة ،المكان الذي تجد فيه المتعة ،وتتحدث فيه مع أصدقائك وتجد القبول» .كما أظهرت بعض الدراسات نكونها أن العالقات االجتماعية التي ّ من خالل وسائل التواصل االجتماعي قد تكون مفتاح ًا لنجاحنا؛ فمن المعروف أن عالقاتنا االفتراضية تساعدنا على الوصول إلى الوظائف ،والمعلومات ،والدعم
92
العاطفي ،والخدمات اليومية ،يقول الومر: «كان الجميع متحمس ًا لمواقع التواصل االجتماعي».
«فيسبوك» واالكتئاب .. هل من عالقة؟ 93 هناء العقيل مترجمة سعودية
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تويتر اإللكتروني
94
ّ وي�شك الومر ،وهو بروفي�سور يف جامعة �أوتو فريدري�ش يف �أملانيا ،يف �أن ترك النا�س (في�سبوك) هو ردة فعل طبيعية ناجتة من التوتر وال�ضغط .وعرف الومر باحثني �آخرين بحثوا فيما ُي�س ّمى (التوتر الإلكرتوين) ،الذي يظهر يف �أمكنة العمل ب�سبب العمليات املع ّقدة ،لكن هذا الأمر ال ينطبق على (في�سبوك)؛ لأنه �سهل اال�ستخدام، لكن يبدو �أن هناك �شيئ ًا �آخر يوتّر النا�س ،يقول الومر: «اعتقدنا �أن هناك ظاهرة جديدة ظهرت يف مواقع التوا�صل االجتماعي خا�ص ًة» ،وبد�أ الباحثون -من خالل عمل مقابالت ،وا�ستبيانات ،و�أبحاث طويلة ،وجتارب خمربية -بتغيري االعتقاد اخلاطئ ب�أن مواقع التوا�صل تو�صلوا �إىل �أن (في�سبوك) االجتماعي مكان �إيجابي؛ فقد ّ و(تويرت) و(�إن�ستجرام) و(�سناب �شات) ومثيالتها هي �أمكنة لي�ست للمتعة والنجاح فقط ،لكنها �أمكنة �سوداوية، و�أمكنة مواجهة ،وتك�شف م�شاعر الإن�سان البدائية؛ فهذه املواقع لي�ست اململكة ال�ساحرة ،بل هي �أقرب �إىل لعبة
نواح كثرية البيت املهجور ،يقول الباحثون :هذه املواقع من ٍ هي جتارب عمالقة لإحدى خ�صال جن�سنا الب�شري الأ�سا�سية ،وهي :طباعنا االجتماعية؛ لذا فمن الطبيعي وجود بع�ض العواقب غري املتوقعة ،ويقول �إيثان كرو�س؛ باحث علم النف�س االجتماعي يف جامعة مي�شيجان« :ال �أحد ين�شئ �شيئ ًا ليجعل النا�س ي�شعرون بال�سوء �أو الر�ضا، لكن ما نريد النظر �إليه هو كيف يتطور هذا ال�شيء وي�ؤ ّثر يف حياة النا�س اليومية». اكتئاب فيسبوك
�إحدى هذه العواقب هي �أن ا�ستخدام (في�سبوك) قد ي�ؤدي �إىل �شعورك باحلزن ،وهي ظاهرة ت�سمى (اكتئاب في�سبوك)؛ ففي درا�سة لكرو�س وزمالئه عام ٢٠١٣م، قاموا فيها ب�إر�سال ر�سائل ن�صية خم�س مرات يف اليوم الثنني وثمانني �شخ�ص ًا� ،أغلبهم طالب جامعيون من �آن �آربور مي�شيجان ،ي�س�ألونهم فيها عن املدة التي ا�ستخدموا فيها (في�سبوك) ،و�شعورهم خالل هذه
ا�ستخدام في�سبوك قد ي�ؤدي �إىل �شعورك باحلزن
املدة ،يقول كرو�س« :ما وجدناه هو �أن كلما زاد ا�ستخدام (في�سبوك) خالل مدة معينة تد ّنت احلالة النف�سية للأ�شخا�ص من بداية تلك املدة �إىل نهايتها» .ملاذا؟ الحظ الومر وزمال�ؤه �أن �آخر الأخبار املوجودة يف (في�سبوك) لي�ست م�سلي ًة لبع�ض امل�شاركني يف هذه التجربة ،بل �أ�صبحت ك�أنها قائمة مهام ومتطلبات� :أبهجني ،وا�سني، متنَّ يل ميالد ًا �سعيد ًا� ،ساعدين على لعبتي� ،أعجب ب�صورتي اجلديدة ،اقر�أ ما كتب ُت ُه عن حيوان النوتر؛ فمواقع التوا�صل االجتماعي ت�ضغط امل�ستخدمني بطرائق مل تكن موجودة �سابق ًا مبتطلبات كثرية يف وقت ق�صري؛ فال عجب �أن يتوتّر النا�س من تلك املتطلبات؛ فالتوتر يح�س الأ�شخا�ص ب�أنه لي�س لديهم القدرة يظهر عندما ّ على مواجهة خطر ما ،واخلطر يف هذه احلالة هو ما ُي�س ّميه الومر بـ(الإرهاق االجتماعي). وما يثري ال�سخرية �أن الإرهاق االجتماعي هو اجلانب الآخر من امل�شاركة االجتماعية ،وهو ما وجد الباحثون �أنه �أكرث جوانب مواقع التوا�صل االجتماعي �إيجابية ،تقول �شيليا كوتن؛ باحثة علم االجتماع الطبي يف جامعة مي�شيجان :قد تخ ّفف م�شاركة ال�شخ�ص م�شكالته وهمومه مع الأ�شخا�ص اإلرهاق االجتماعي الآخرين يف الإنرتنت من التوتر املرتبط بكل �شيء؛ من لكن لي�س كل الأ�صدقاء �سوا�سي ًة يف الإنرتنت؛ ففي مواقع التوا�صل االجتماعي ميكننا �أن ن�ضيف عدد ًا ال منتهي من جهات االت�صال ،منهم �أ�شخا�ص نادر ًا ما نراهم �أو ال نراهم مطلق ًا يف احلياة الواقعية ،يقول هامبتون: (فيسبوك) و(تويتر) و(إنستجرام) «لأول مرة يف التاريخ احلديث ت�ستمر الروابط بطريقة و(سناب شات) ومثيالتها هي أمكنة مل تكن موجودة �سابق ًا» .كما وجد الومر وزمال�ؤه �أن ليست للمتعة والنجاح فقط ،لكنها الإرهاق االجتماعي ي�صيب -على الأرجح -الأ�شخا�ص أمكنة سوداوية ،وأمكنة مواجهة، الذين لديهم �أ�صدقاء �أكرث يف (في�سبوك) فقط .وهذا وتكشف مشاعر اإلنسان البدائية؛ الأمر منطقي؛ ففي ت�سعينيات القرن امليالدي ال�سابق فهذه المواقع ليست المملكة ذكر روبن دنبار -الباحث يف علم الإن�سان� -أن اجلن�س الساحرة ،بل هي أقرب إلى لعبة الب�شري لديه الوقت والقدرة للحفاظ على ()٢٠٠ -١٠٠ البيت المهجور �صديق ،والحظ دنبار وزمال�ؤه يف درا�سة حديثة �شملت ١.٧
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ال�ضغوط اليومية وتغيرّ ات احلياة �إىل الكوارث الطبيعية. و�أظهرت درا�سة �أخرى �أن ا�ستخدام الإنرتنت قد يخ ّفف من ال�شعور بالوحدة عند كبار ال�سن الأمريكيني ،وتقول: «يوجد كثري من الدعم يف مواقع التوا�صل االجتماعي، التي لها جوانب مفيدة ل�صحتك و�سعادتك ،والتي ت�ساعد على التخفيف من التوتر» ،لكن امل�شكلة يف �أنه عندما يق ّل توتّرك فهو ينتقل �إىل �أ�شخا�ص �آخرين. و ُي�س ّمي كيث هامبتون -باحث علم االجتماع يف جامعة روجترز ،الذي �أجرى ا�ستبيانات عن مواقع التوا�صل االجتماعي ملركز (بيو) للأبحاث -هذا التوتر الثانوي بـ(ثمن االهتمام) ،ويقول� :إنه من غري املفاجئ �أن الن�ساء يدفعون هذا الثمن �أكرث من الرجال؛ لأنهن يحملن عبء االهتمام بالعائلة والأ�صدقاء� ،سواء يف احلياة الواقعية �أم من خالل الإنرتنت ،وي�ضيف« :عندما تعلم �أحداث ًا �سيئة حتدث لأنا�س تعرفهم فهذا الأمر ال يجلب التوتر حلياتك فقط ،بل يعطيك الفر�صة ملنحهم الدعم االجتماعي والعاطفي».
95
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
96
مليون م�ستخدم �أن م�ستخدمي (تويرت) لديهم يف املتو�سط عالقات اجتماعية م�ستمرة مع العدد نف�سه من الأ�شخا�ص. لكن �إذا كان لدينا تقريب ًا � ١٥٠صديق ًا نحن على اتّ�صال معهم ب�شكل منتظم يف (في�سبوك) و(تويرت) ،وجميعهم يطلبون دعم ًا اجتماعي ًا ب�شكل منتظم ،ف�إننا نتعامل مع متطلبات �أكرث مما كان يتعامل معه �أجدادنا؛ ف�أين مكاننا لدى �أ�صدقائنا احلقيقيني؟ كثري من امل�ستخدمني يف ّكرون يف ترك هذه املواقع كاف ًة ،يقول الومر« :الإرهاق قوي �إىل الإنهاك». االجتماعي ي�ؤدي ب�شكل ّ �أ ّكدت الدرا�سات �-إ�ضاف ًة �إىل ذلك -ما هو وا�ضح لك ّل م�ستخدم ،وهو �أن الأ�صدقاء ين�شرون الأ�شياء التي جتعلهم يظهرون ب�شكل جيد؛ ففي �إحدى حلقات م�سرحية (بورتالنديا) الهزلية ي�أخذ فريد �أرمي�سني �صديقته اجلديدة يف عطلة نهاية الأ�سبوع �إىل �إيطاليا، ويق�ضيان ك ّل العطلة نائمني يف الفندق ،وانتهى بهم املطاف بائ�سني ،وكانا يف وقت �سابق قد ن�شرا �صور ًا لهما وهما مبت�سمان وتبدو عليهما ال�سعادة ،وعندما عاد
�أرمي�سني من عطلته ،ور�أى �صديقه ي�شاهد �صورهما، وه ّن�أه على رحلتهما ،قال ل�صديقته« :كل الأ�شخا�ص يف الإنرتنت ال يق�ضون وقت ًا ممتع ًا كما تعتقدين» ،فردّت يق�صون حزنهم عرب ال�صور». عليه «�أعتقد �أن النا�س ّ المستوى االجتماعي أصل الصلة
احلقيقة �أن النا�س حتى لو مل ميحوا احلزن من �صورهم التي ي�ضعونها يف الإنرتنت ف�إنهم ين�شرون �أ�شياء مم ّلة وغري مهمة تتع ّلق بحياتهم اليومية؛ لذلك املرجح �أننا لن نهتم .ي�سعى الب�شر ب�شكل تلقائي فمن ّ خلف الأ�شخا�ص ذوي املكانة العالية ،خ�صو�ص ًا الأ�شخا�ص اجلذابني �أو الأثرياء؛ كعائلة الكارد�شيان. وتدر�س �شارلوت بلي�س -الباحثة يف جامعة ليدز وكلية الطب بجامعة هارفارد ،والباحثة يف العلوم املعرفية -االكتئاب ،وترى �أن امل�ستوى االجتماعي هو وتوجهت �أ�صل ع ّلتنا يف مواقع التوا�صل االجتماعيّ ، بلي�س يف مقالها (�أ�صدقاء كثريون و�إعجابات
احلياة حلوة يف مواقع التوا�صل االجتماعي
قليلة) ،الذي كتبته عام ٢٠١٥م� ،إىل بيئات �أ�سالفنا بحث ًا عن تف�سري .وتذكر بلي�س �أن �أحد التف�سريات التطورية لالكتئاب هو ما ُيعرف بـ(نظرية التناف�س االجتماعي) ،التي تقول� :إن االكتئاب هو جمموعة من ال�سلوكيات القابلة للتك ّيف التي م ّكنت �أ�سالفنا من االن�سحاب من الت�صادمات العدائية ،و«�إعطاء �إ�شارة للقوي بعدم القتال والتعر�ض للإيذاء اجل�سدي»، ّ ومن هذه ال�سلوكيات :االن�سحاب ،وو�ضعية االنحناء، و�ضعف الثقة بالنف�س؛ مبعنى �آخر :اكتئب تبقى حي ًا، وتقول بلي�س« :االكتئاب يعمل بو�صفه �إ�سرتاتيجي ًة
كلما زاد استخدام (فيسبوك) خالل مدة معينة تدنّت الحالة النفسية لألشخاص من بداية تلك المدة إلى نهايتها» ..لماذا؟
لعدم ت�صاعد الأمور ،وا�ستجابة ال �إرادية لأمر ما ك�أنك ت�ضع يديك يف الهواء م�ست�سلم ًا». بقي هذا ال�سلوك ،وهو اخل�ضوع واتّخاذ مكانة اجتماعية متدنية ،معنا ،ويظهر يف وقتنا احلا�ضر عندما ن�شعر بتف ّوق َمن هم يف مكانه عالية ونفوذ علينا ،تقول بلي�س« :نحن ننجذب �إىل ه�ؤالء الأ�شخا�ص ،وهو ما قد يخ ّلد ال�شعور ب�أنك فا�شل مقارن ًة به�ؤالء الأ�شخا�ص». وبالت�أكيد ،قد حت ّولنا هذه املقارنة االجتماعية �إىل حا�سدين ،واحل�سد من ناحية التطور كاالكتئاب اخلفيف قابل للتك ّيف؛ فهو يحفزنا �إىل التع ّلم من الآخرين، وحتديد �أهداف عالية ،تقول كرا�سنوفا :قد يكون احل�سد �أي�ض ًا م�ؤمل ًا ،وهو ما يجعل درا�سته �صعبة�« ،إنه �شعور مع ّقد؛ فنحن عاد ًة ال نريد االعرتاف ،وال حتى لأنف�سنا، ب�أننا ن�شعر باحل�سد جتاه الأ�شخا�ص الآخرين ،ونكبت يف بع�ض الأحيان هذا ال�شعور كبت ًا قوي ًا؛ حتى ال نعرف مباذا ن�شعر ،وملاذا نحن غا�ضبون �أو حزينون �أو منزعجون �أو متوترون» .وعندما �س�ألت كرا�سنوفا وزمال�ؤها ٣٧٥
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
املقارنة مع امل�شاهري ميكن �أن ت�ؤدي �إىل الإح�سا�س باحل�سد
97
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
98
م�شارك ًا ،معظمهم من �أملانيا حيث كانت تعمل ،عن �شعورهم عندما ا�ستخدموا (في�سبوك) م�ؤخر ًا �أجاب ٪١.٢منهم فقط ب�أنهم �شعروا باحل�سد؛ فقامت بتعديل �صيغة ال�س�ؤال �إىل« :كثري من امل�ستخدمني ذكروا �أنهم ي�شعرون بالإحباط والإرهاق بعد ا�ستخدام (في�سبوك)، فما �سبب هذه امل�شاعر يف اعتقادك؟» ،وكانت �أكرث �إجابة يف هذه احلالة هي احل�سد بن�سبة ٪٢٩.٦؛ فاحل�سد -كما تقول -لي�س فقط �شعور ًا �شائع ًا عند م�ستخدمي (في�سبوك) ،بل هو ٍّ متف�ش .والأمثلة موجودة يف ك ّل مكان ووقت :احلفالت التي مت ّنينا ح�ضورها، واجلوائز التي ح�صل عليها زمال�ؤنا؛ ففي رواية بوال هوكنز (الفتاة يف القطار) كانت بطلة الرواية رايت�شل وات�سون مازالت تعاين من طالقها احلديث عندما ذهبت �إىل (في�سبوك) لرتى �إعالن زوجها ال�سابق بقدوم مولود له ،ف�شعرت بالدمار. وتذكر كرا�سنوفا �أن �إحدى طرائق لتخفيف �أمل احل�سد م�ؤقت ًا هي عر�ض الأ�شخا�ص �أنف�سهم
بطريقة ُمبا َلغ فيها ،وحت ّذر من �أن هذا الأمر قد يخلق (دوامة ح�سد) يف مواقع التوا�صل االجتماعي، م�ضيفة« :يتع ّر�ض امل�ستخدمون ملحتوى �إيجابي ،ثم ين�شرون حمتوى �أكرث �إيجابية ،ثم ين�شر املتلقون حمتوى �أكرث �إيجابية ،وهكذا ،ومن َث َّم ي�صبح عامل (في�سبوك) منف�ص ًال عن الواقع �أكرث ف�أكرث». وير�سخ هذا العامل املنف�صل عن الواقع ال ُبعد بد ًال ّ من �أن يجعلنا �أقرب بع�ضنا �إىل بع�ض.
تقول بليس« :نحن ننجذب إلى هؤالء األشخاص ،وهو ما قد يخلّد الشعور بأنك فاشل مقارنةً بهؤالء األشخاص». تحولنا هذه المقارنة وبالتأكيد ،قد ّ االجتماعية إلى حاسدين
تتحدث الطبيبة النف�سية �شريي توركيل يف كتابها (ا�ستعادة املحادثة) عن التوتر بني رغبتنا يف التعبري عن حقيقتنا وال�ضغط الذي ن�شعر به لإظهار �أف�ضل ما فينا يف الإنرتنت .و�أظهرت الدرا�سات �أننا بخالف ما نظنّ ال نظهر تعاطفنا و�أف�ضل ما فينا عندما نكتب ،وقد طلب عامل ال�سلوكيات نيكوال�س �إيبلي -من جامعة �شيكاغو- من طلبة ق�سم �إدارة الأعمال التحدث ب�شكل خمت�صر جد ًا عن �أنف�سهم بعدة طرائق ،ومع �أن الطالب �شعروا ب�أنهم ق ّدموا �أنف�سهم ب�شكل �أف�ضل كتاب ًة �إال �أن املق ّيمني وجدوهم مقبولني �أكرث يف اخلطاب املنطوق .وينطبق هذا الأمر على (في�سبوك)؛ فقد �أظهرت درا�سة حديثة مماثلة لنتائج �إيبلي �أن �أ�صدقاءنا يعتقدون �أننا �أف�ضل يف احلياة الواقعية من ملفاتنا ال�شخ�صية يف الإنرتنت، يقول �إيبلي« :توحي بياناتنا ب�أن الن�صو�ص تقريب ًا لي�ست من �صفات الإن�سان؛ لأنها ال حتمل �صفات الإن�سان الفريدة؛ ك�صفات التفكري والإح�سا�س التي حتملها �أ�صواتنا ،بعك�س الن�صو�ص».
يقول كروس« :عندما تستخدم (فيسبوك) بطريقة سلبية تنمو لديك مشاعر الحسد ،وهو ما قد يؤدي إلى اإلحساس بوضع أسوأ مع الوقت»
قد ت�ضع دوامة احل�سد يف (في�سبوك) بع�ضنا �ضد بع�ض، تقول كرا�سنوفا« :يظهر بحثنا بو�ضوح �أنه يف حاالت كثرية تُرى املعلومات التي ير ّوج فيها ال�شخ�ص لذاته ب�شكل �سلبي ،وتُطلق عليه �أحكام ُم�سبقة من خاللها». ويح ّذر بع�ض الباحثني من �أن نرج�سيتنا تنمو �أكرث ف�أكرث ،وعاطفتنا تق ّل ،نتيج ًة للوقت الذي نق�ضيه يف تخ ّيل �صورتنا على الإنرتنت ،يقول �إيبلي« :لي�س هناك كثري من البيانات التي ت�شري �إىل �أن الرنج�سية �شيء جيد؛ فهي �شيء جيد يف املدى الق�صري ،لكنها لي�ست جيدة يف املدى الطويل فيما يتع ّلق بالعالقات». �أكرث ما يثري االهتمام يف نتائج البحوث احلديثة هو �أن الأ�شخا�ص يف الواقع ُي�ؤذون �أنف�سهم عندما ال ين�شرون �شيئ ًا يف الإنرتنت؛ ففي درا�سة لكرو�س وزمالئه ،ومنهم الطبيب النف�سي فيليب فريدوين من جامعة ما�سرتخت يف هولنداُ ،ن�شرت هذا العام ،وقاموا فيها بدعوة ٨٤ طالب ًا جامعي ًا من جامعة مي�شيجان �إىل معمل ،و�أعطوا ن�صف الطالب تعليمات با�ستخدام (في�سبوك) ب�شكل ف ّعال ،بينما �أعطوا الن�صف الآخر تعليمات با�ستخدامه ب�شكل �سلبي .ي�شرح فريدوين معنى اال�ستخدام الفعال ب�أنه حتديث احلالة ،والدرد�شة ،والر ّد على تعليق، بينما اال�ستخدام ال�سلبي هو النظر �سريع ًا �إىل �آخر الأخبار ،وم�شاهدة ال�صور وحتديثات احلاالت .بعد
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
المنطوق أفضل من المكتوب
99
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
100
اللقاء املبا�شر �أف�ضل من التوا�صل عرب الو�سائل الإلكرتونية
اجلل�سة ب�ساعات قليلة مل يتغيرّ �شعور امل�ستخدمني بطريقة ف ّعالة ،بينما �شعر امل�ستخدمون ب�شكل �سلبي بهبوط يف مزاجهم ،يقول كرو�س« :عندما ت�ستخدم (في�سبوك) بطريقة �سلبية تنمو لديك م�شاعر احل�سد ،وهو ما قد ي�ؤدي �إىل الإح�سا�س بو�ضع �أ�سو�أ مع الوقت». وتعد هذه النتيجة -من جه ٍة� -شيئ ًا جيد ًا؛ فهي تعني �أن هناك طريق ًة ما للهروب من اكتئاب (في�سبوك) من دون فقدان الفوائد الإيجابية ملواقع التوا�صل االجتماعي، وهي �أن تكون فعا ًال �أكرث ،لكن يف املقابل قليل منا هو َمن ي�ستفيد من هذا املنفذ .والحظ فريدوين وزمال�ؤه �أن ٪٥٠تقريب ًا من امل�ستخدمني ّ يف�ضلون ا�ستخدام (في�سبوك) بطريقة �سلبية على �أن ي�ستخدموه بطريقة ف ّعالة ،وهذه الن�سبة لي�ست مق�صور ًة على جيل الألفية؛ �إذ ت�شري �شركة (جلوبال ويب �إنديك�س) لأبحاث الت�سويق �إىل �أن ٪٥٢فقط من م�ستخدمي (في�سبوك) عام ٢٠١٤م هم م�ستخدمون ف ّعالون ،و�أن هذه الن�سبة نزلت عما كانت عليه عام ،٢٠١٢وهي .٪٧٠لي�س وا�ضح ًا
�سبب كون النا�س بهذه ال�سلبية؛ رمبا لأن الت�صفح يتطلب جهد ًا �أق ّل من الن�شر يف الإنرتنت ،لكن هناك بحوث �أخرى عن اجلوانب املظلمة لـ(في�سبوك) ،ت�شري �إىل �أن بع�ض النا�س يخافون �أن يهينوا غريهم من غري ق�صد ،وي�ضعون عالقاتهم ووظائفهم يف خطر� ،أو �أنهم يبدون ك�أنهم فا�شلون ي�ضيعون �أوقاتهم يف الإنرتنت؛ ف�شبح الظهور للعامة ب�شكل مخُ جل يحوم فوق ك ّل ر�سالة يريد ال�شخ�ص ن�شرها ،يقول كرو�س :مهما يكن ال�سبب «ف�أغلب الأوقات التي ي�ستخدم الأ�شخا�ص فيها مواقع التوا�صل االجتماعي ي�ستخدمونها بطريقة ُيحتمل �أن
يحذّ ر بعض الباحثين من أن نرجسيتنا ّ تقل، تنمو أكثر فأكثر ،وعاطفتنا نتيجةً للوقت الذي نقضيه في تخ ّيل صورتنا على اإلنترنت
تكون �ضارة» ،وهي اال�ستخدام ال�سلبي. حل�سن احلظ �أن �أبحاث مواقع التوا�صل االجتماعي جمال علمي قد تتح ّول النتائج فيه �إىل جتارب ب�سرعة الربق؛ فمن املحتمل �أن تُظهر الدرا�سات �سلوكيات نافعة و�ضارة تتعدّى م�س�ألة اال�ستخدام الفعال وال�سلبي ،وكذلك ّ تو�ضح النتائج جمموعات خمتلفة من امل�ستخدمني ،ك�أ�شخا�ص من ثقافات خمتلفة ،وفئات عمرية خمتلفة ،وعوامل نف�سية خمتلفة؛ فما زال العلماء تنق�صهم ال�صورة ال�شاملة لكيفية عمل تكنولوجيا مواقع التوا�صل على الطبيعة الإن�سانية، التو�صل ،من لكن يقول كرو�س« :ما ن�أمله هو �أن ن�ستطيع ّ خالل تع ّرف الآلية التي تدفع النا�س �إىل ال�شعور بال�سوء، �إىل �صيغ ٍة للطريقة املثلى للتعامل مع التكنولوجيا». قد ت�ساعد بع�ض خ�صائ�ص (في�سبوك) على ا�ستخدامها يف البحث من الآن؛ ففي عام ٢٠١١م قدّم املوقع خا�صية (*) املقال مرتجم عن مقال لت�شيل�سيا والد من�شور يف جملة (قوائم الأ�صدقاء) ،التي ميكننا ا�ستخدامها يف ح�صر نوتيال�س الأمريكية ،على الرابط: طلباتنا من الدعم االجتماعي يف �أ�شخا�ص من املحتمل http://nautil.us/issue/31/stress/is-facebook-luring�أن يكونوا مهت ّمني ،وهو ما يعفي بقية جهات االت�صال you-into-being-depressed.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
من (الإرهاق االجتماعي) ،ويف عام ٢٠١٣م ح�صلنا على خا�صية (�إلغاء املتابعة) ،التي ت�ساعدنا على تخفيف الإرهاق واحل�سد ،وقد تزيد خا�صيتا (الأ�صدقاء القريبون) عام ٢٠١٤م ،و(االت�صال املرئي) عام 2015م، من التفاعل وجه ًا لوجه ،وهو ما يرفع من املزاج ب�شكل ثابت ح�سب درا�سات كرو�س ،وقريب ًا �ستز ّودنا خا�صية (التفاعل) ،التي هي بديلة لز ّر (الإعجاب) ،وت�شمل (احلب) و(الفرح) و(احلزن) ،بخيارات لل�سلوكيات اخلوا�ص �أهمي ًة ،التي قد ن�ستخدمها الف ّعالة .لكن �أكرث ّ يف البحوث ،هي خا�صية متع ّلقة بامل�ستخدم ذاته ،ولي�س التكنولوجيا ،وهي التعاطف؛ ف�إنه �إجناز رائع للح�ضارة الب�شرية �أن يكبت النا�س ك ّل يوم غريزتهم يف التناف�س مع الآخرين؛ لأنهم يريدون �أن يبنوا عالقات جمزية ذات معنى ،لكننا يف الإنرتنت جنعل -من غري ق�صدٍ - �أ�صدقاءنا ي�شعرون بالف�شل ،ون�ساهم يف خلق دوامة من احل�سد ،نحن �أي�ض ًا مع ّر�ضون للوقوع فيها ،عن طريق تلميعنا �أنف�سنا؛ كن�شرنا �صور رحالتنا ،و�صورنا املثالية التي ندّعي فيها �أننا ا�ستيقظنا بهذا ال�شكل ،وغريها من الق�ص�ص التي نتوا�ضع فيها جلذب االنتباه لنا ب�شكل �إيجابي ،تقول كرا�سنوفا :تعطينا الأبحاث املتزايدة عن اجلانب املظلم من مواقع التوا�صل االجتماعي الفر�صة خللق �آداب جديدة ملواقع التوا�صل االجتماعي قد تعيد عامل (في�سبوك) �إىل العامل الواقعي ،ونقدّر فيه �صداقاتنا احلقيقية ،وندفع فيه ثمن االهتمام ومنافعه، ويجب �أن ن�ستغ ّل هذه الفر�صة ،لي�س لأنها �ستزيل توترنا، بل لأن بع�ض �أنواع التوتر ت�ستحق اجلهد.
101
تقنية
باحثان ط ّبقا طرائق علم األعصاب على رقاقة حاسوب قديمة ،ويم ّثل هذا البحث نداء استفاقة للمجال كله. يحتوي دماغ اإلنسان على 86مليار خلية عصبية مسؤولة عن جميع مساعي البشرية العلمية والفنية؛ إذ يوصف الدماغ بأنه أكثر األشياء تعقيد ًا في هذا الكون. وعلى النقيض من ذلك ،فإن رقاقة MOS ّ 6502تحتوي على 3510مقحل، تشغل لعبة (سبيس إنفيدرز) ،ومع ذلك فهي ليست أعقد األشياء في جيب شخص ما. ٍ كامل ،لكننا نعلم بشكل نحن نفهم الرقاقة ٍ ٍ القليل جد ًا عن كيفية عمل الدماغ.
102
هل
يمكن لعلماء األعصاب فهم لعبة «دونكي كونج»؟ 103 عبدالعزيز الشهري مترجم سعودي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الطرائق امل�ستخدمة يف الدماغ ..هل ت�صلح للمعالج اال�صطناعي؟
�س�أل �إيريك جونا�س وكونراد كوردجن ع ّما ميكن �أن يحدث �إذا در�سوا هذه الرقاقة بطرائق علماء الأع�صاب ،وهل الطري املع ّقد �ستنجح الطرائق امل�ستخدمة على الدماغ ّ عندما تُ�ستخدم على معالج ا�صطناعي �أق ّل تعقيد ًا؟ وهل �سيكت�شفون ك ّل ما ميكن اكت�شافه عن مقاحله ،وبواباته املنطقية ،وكيفية معاجلتها املعلومات وت�شغيلها �ألعاب الفيديو الب�سيطة؟ وهل با�ستطاعتهما فهم لعبة (دونكي كوجن) با�ستخدام طرائق علم الأع�صاب بغ�ض النظر عن االنتباه وامل�شاعر والتع ّلم والذاكرة والإبداع؟ فهم معالج دقيق
104
لي�س با�ستطاعتهم ،ولي�سوا قريبني من ذلك؛ فعلى الرغم
من �أن الثنائي عرفا ك ّل �شيء عن الرقاقة ،وحالة كل مقحل ،واجلهد الكهربائي املمتد يف كل �سلك� ،إال �أن ا�ستدالالتهم كانت متوا�ضعة يف �أف�ضل الأحوال ،وم�ض ّللة يف �أ�سوئها ،يقول جونا�س« :معظم �أ�صدقائي اعتقدوا �أننا �سنجد �شيئ ًا عن كيفية عمل املعالج ،لكن الذي ا�ستخرجناه كان �سطحي ًا جد ًا ،ما ر�أيناه هو �أن املعالج كانت له �ساعة ،وكانت تقر أ� وتكتب يف الذاكرة يف معظم الأحيان .هذا جميل ،لكن يف العامل احلقيقي هذا الأمر يعني جمموعة بيانات تكلف ماليني الدوالرات». ن�شر الثنائي يف الأ�سبوع الأخري من �شهر مايو عام 2012م معنون ًا بـ(هل ميكن لعلماء الأع�صاب فهم معالج دقيق؟) بعد مقال قدمي عام 2002م ،وهو يع ّد جتربة
نعلم أن بعض األدوية تؤ ّثر في الدماغ، وتحسن من حياة البشر ،لكن ّ ال نعلم بالضبط كيفية عملها .كما نالحظ أن ضرر ًا في منطقة معينة من الدماغ يفقد الناس قدرات معينة من دون أن نعلم طبيعة عمل تلك المنطقة
مبادرة الدماغ
ع ّلق كثري من العلماء �آمالهم على البيانات ال�ضخمة امل�ستقاة من التقنيات اجلديدة التي با�ستطاعتها ت�سجيل حركات �آالف اخلاليا الع�صبية ب�شكل م�ستقل ،وو�ضع خريطة الت�صاالتها ،وت�صوير �أن�شطة دماغ احليوانات احلية ب�شكل كامل ،وتكل ّفت هذه الآمال ميزانيات �ضخمة جد ًا؛ ففي عام 2013م ك ّلف م�شروع الدماغ الب�شري (امل�ضطرب) املفو�ضية الأوروبية 1.3مليار دوالر ملحاولة بناء حماكاة للدماغ ،و�أطلق الرئي�س الأمريكي باراك �أوباما مبادرة الدماغ ،وهي خطة طموحة لتطوير تقنيات جديدة لت�صوير الدماغ ،يقول جونا�س« :عندما أُ�علن عن مبادرة الدماغ قلتُ يف نف�سي :يا �إلهي ،امل�ستقبل �سيكون هنا .لكن امل�شكلة كانت �أ�صعب مما تخ ّيلتُ ؛ فالبيانات ال�ضخمة لن تنقذنا». خطرت هذه الفكرة جلونا�س بعد قراءته عن فريق من (علماء �آثار الرقائق) �أعادوا تركيب �شريحة MOS 6502القدمية بدقة متناهية؛ فقد �ص ّوروها بوا�سطة جمهر ،و�ص ّنفوا مناطقها املختلفة ،وعرفوا روابطها ،بال�ضبط كما يفعل علماء الأع�صاب عندما ير�سمون خريطة ل�شبكة اخلاليا الع�صبية� ،أو ما ي�سمى (الكونكتوم) ،يقول جونا�س�« :أذهلني �أن التقنيات نف�سها ي�ستخدمها ع�شاق احلو�سبة القدمية»،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
بكم كبري من البيانات ،وجتربة ذهنية م�سلية مدعمة ٍّ جدية جد ًا يف الوقت نف�سه .وعلى الرغم من �أن هذه التجربة يجب �أن تخ�ضع ملراجعة ر�سمية من نظرائهما يف هذا املجال �إال �أن كثري ًا من علماء الأع�صاب الآخرين �س ّموها (البحث التاريخي) ،و(حلظة التح ّول)، و(البحث الذي يف �أذهاننا ومل جنر�ؤ على كتابته)؛ فقد كتب �ستيف فليمنج -من جامعة كلية لندن -يف مدونته: «مع �أن اكت�شافاتهم لن تكون بال�ضرورة مفاجئ ًة مل�صمم رقائق �إلكرتونية �إال �أنها �سبب لتوا�ضع علماء الأع�صاب. هذا النوع من البحث عن الذات هو ما نحتاج �إليه لن�ضمن �أن علم الأع�صاب ي�سري يف االجتاه ال�صحيح». الحظت �إليزابيث كالرك بولرن -من جامعة ييل� -أن طريقة الثنائي ما هي �إال ممار�سة طبيعية يف جماالت كالفيزياء؛ فهي تقول« :يف املنظمة الأوروبية للأبحاث النووية ،يخترب الباحثون خوارزمياتهم �أو ًال با�ستخدام (�إعادة االكت�شاف) على �سل�سلة من اجل�سيمات املعروفة القدمية قبل �أن ي�ستخدموها على بيانات م�صادم الهدرونات الكبري للبحث عن ج�سيمات جديدة كج�سيم هيجز» ،وت�ضيف« :يف علوم �أخرى �شح يف هذه الطرائق». كالأحياء ال يزال هناك ّ قد ُيجادل النقاد ب�أن الدماغ لي�س حا�سوب ًا؛ فهو �أكرث
فو�ضوية يف بنائه ،وخمتلف جذري ًا يف طريقة تعامله مع املعلومات والذاكرة ،وهو ي�أتي مع ج�سم مرافق له .هذا الأمر �صحيح ،لكن ُيفرت�ض �أن ت�ؤدي اختالفات الرقاقة الكثرية �إىل جعلها �أ�سهل للفهم من الدماغ ،وهو ما مل يكن مالحظ ًا؛ لذلك يجب �أن نكون حذرين من احلالة الراهنة لعلم الأع�صاب وم�ستقبله ،وت�ضيف كالرك بولرن« :هذا الأمر يوحي ب�أن اعتقاداتنا ب�ش�أن حتقيق تقدّم �أكرب يجب �أن ُيعاد توازنها».
105
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
106
و�أ�ضاف« :دفعني ذلك �إىل التفكري يف �أن التماثل (بني الرقاقة والدماغ) �سيكون كبري ًا». ا�ستخدم جونا�س وكوردجن ،بد ًال من رقاقة حقيقية، حماكا ًة دقيق ًة لدرجة ت�شغيلها لألعاب قدمية؛ مثل: دونكي كوجن ،و�سبي�س �إنفيدرز ،وبيتفل ،وهو ما �أتاح لهم املعرفة التجريبية والقدرة الكلية ،وم ّكنهم من معرفة كل �شيء ،وتطويع �أي �شيء؛ فعلى �سبيل املثال :كان با�ستطاعتهما تعطيل � ّأي من مقاحل الرقاقة، استدالالت مضللة
ووجدوا بفعل ذلك �أن هناك مقاحل �أ�سا�سية لت�شغيل الألعاب الثالثة ،ومقاحل مهمة لواحدة منهن فقط. كان علماء الدماغ يفعلون �شيئ ًا م�شابه ًا على مدى عدة قرون من خالل درا�سة �أ�شخا�ص لديهم تلف دماغي حمدّد� ،أو �إيقاف م�ؤقت ملناطق حمددة يف الدماغ، ومت ّكنوا يف هذه الدرا�سات من ت�صنيف مناطق خمتلفة؛
كمراكز الذاكرة ،ومراكز اللغة ،ومراكز العواطف ،لكن عمل جونا�س وكوردجن يبينّ �سبب كون هذه اال�ستدالالت م�ضلل ًة؛ فهم مل يجدوا (مقاحل دونكي كوجن)� ،أو (مقاحل �سبي�س �إنفيدرز) ،و�إمنا وجدوا مك ّونات تنفذ عمليات �أ�سا�سية ت�صادف �أن تكون مهمة لهذه الألعاب. حاول جونا�س وكوردجن جتربة خم�س طرائق م�شهورة خمتلفة ،هي :املماثالت لتحليل اخلاليا الع�صبية ب�شكل م�ستق ّل� ،أو الأن�شطة املتو�سطة يف منطقة �صغرية كما يف فح�ص الدماغ بتقنية الت�صوير بالرنني املغناطي�سي الوظيفي� ،أو �أخذ نظرة فاح�صة والبحث عن ت�شابه الأمناط يف الدماغ ب�شكل كامل .لكن مل يبينّ � ّأي مما �سبق للفريق �شيئ ًا مفيد ًا عن كيفية عمل هذه الرقاقة، تقول كيلي كالن�سي من جامعة بازل�« :أرى هذا البحث فح�ص ًا حقيقي ًا رائع ًا لهذا املجال .نحن ال تنق�صنا البيانات ،لكن تنق�صنا طرائق تف�سريها». وال يعني ذلك �أن علماء الأع�صاب كانوا ي�ض ّيعون
االنتهاء إلى حالة غير جيدة
وللم�ضي قدم ًا يقول جونا�س :يجب �أن يبذل علماء ّ الأع�صاب جهد ًا �أكرب يف اختبار نظرياتهم عن الدماغ؛ فهناك «نظريات كثرية ب�ش�أن كيفية عمل �أجزاء معينة
(*) املقال مرتجم عن مقال �إذ يوجن املن�شور يف �صحيفة (ذا �أتالنتيك) ،على الرابط:
h t t p ://w w w .t h e a t l a n t i c .c o m /s c i e n c e /a rchive/2016/06/can-neuroscience-understand-donkey-kong-let-alone-a-brain/485177.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
وقتهم� ،أو �أننا ال نعلم �شيئ ًا عن الدماغ؛ فنحن نعلم �أن وحت�سن من حياة الب�شر، بع�ض الأدوية ت�ؤ ّثر يف الدماغّ ، لكن ال نعلم بال�ضبط كيفية عملها .كما نالحظ �أن �ضرر ًا يف منطقة معينة من الدماغ يفقد النا�س قدرات معينة من دون �أن نعلم طبيعة عمل تلك املنطقة، وت�ضيف كالن�سي« :تقنيات علم الأع�صاب بعيدة كل البعد من كونها غري مفيدة� ،إنها قراءات فعالة يف ال�صحة ،واملر�ض ،والتغريات املتعلقة مبر�ض معني، والتعليم ،وامل�ستح�ضرات ال�صيدالنية ،وهلمجر ًا ،لكن ا�ستخدامها ال�ستخراج معنى عن املنطق اجلوهري جلهازنا الع�صبي م�س�ألة �أخرى».
من الدماغ ،لكنها ال تنتج تنب�ؤات قابلة لالختبار. لديهم كثري من املقاب�ض التي ميكن �أن نديرها كي من ّدها ب�شكل ع�شوائي لتتنا�سب مع �أجزاء من هذه البيانات ،ومن ال�صعب جد ًا كبح بع�ض هذه الأفكار �أو تقييدها» .قد ت�ساعد املعاجلات الدقيقة �إذا كان لدى �أحدهم نظرية عن كيفية تعامل الدماغ مع املعلومات� ،أو طريقة لتحليل بيانات الدماغ ،يقول كوردجن« :لرنى كم �سيق ّربنا فهمنا للرقاقة؛ فما مل يعمل على الرقاقة كيف نفرت�ض �أنه �سيعمل على الدماغ؟» يريد جونا�س حالي ًا من زمالئه يف هذا املجال �أن يكونوا حذرين بخ�صو�ص الوعود التي يقطعونها؛ لأن �إطالق مبادرة الدماغ كان مقرون ًا بوعود بالغية ب�ش�أن فهم حاالت ع�صبية ونف�سية كثرية وعالجها؛ لذلك يقول: «نحن بعيدون ك ّل البعد من ذلك� .أنا قلق من �أنه �إذا وعدنا بوعود ُمبا َلغ فيها ،ثم ق ّدمنا �أق ّل من ذلك ،فهذا يعني �أننا �سننتهي �إىل حالة غري جيدة».
107
علم نفس
أنت اآلن أمام الكاشير /المحاسب ،تريد أي أن تشتري شيئاً ،لكن لألسف ال يوجد ّ طابور /صف ،جموع متكدسة ،والكل يأخذ ّ دور اآلخر ،وهو ما يجعلك تشعر بضغط نفسي يجعل تجربة الشراء هذه مزعجة ّ جد ًا لك ولكل الموجودين .عدم التزام الطابور مشكلة بسيطة من مشكالت متعددة نراها حولنا ،ونتمنى أن نجد لها حالً .كيف يمكن أن نغ ّير سلوك األفراد في موقف معين؟ لنفكّ ر قلي ً ال في مشكلتنا: ّ الحل؟ «عدم التزام الطابور» ،ما
108
التغيير الناعم: سأدفعك إلى التغيير من دون أن تشعر 109 إياد الداود كاتب سعودي ومخرج إبداعي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
110
(ال�سلطة) و�سيل ًة لفر�ض ال�سلوك ن�ستطيع �أن ن�ستخدم ُّ ال�صحيح ،ومن املمكن �أن نعينّ �شخ�ص ًا يفر�ض خمالف ًة على ك ّل �شخ�ص ال يلتزم الطابور؛ فاخلوف من العقاب رمبا يدفع الأ�شخا�ص �إىل التزام ال�سلوك املطلوب ،لكن هل هذا احل ّل جمدٍ فع ًال؟ ماذا �سيحدث عندما تغيب هذه ال�سلطة؟ الو�ضع �سيعود �إىل ما كان عليه ،وما �شعور الأ�شخا�ص جتاه هذه ال�سلطة؟ �سيلتزمون الطابور على م�ض�ض� ،شعور ًا منهم ب�أنه �إجبار. ٍ لنف ّكر يف ٍّ حل �آخر :زيادة الوعي؛ لن ُقم برفع الوعي جتاه هذه امل�شكلة ليبد�أ اجلميع بالتزامها ،لكن هل ن�ستطيع فع ًال تغيري الوعي؟ رمبا نحتاج �إىل �سنوات من ال�ضخّ كاف الإعالمي جتاه ق�ضية معينة حتى ُيبنى حولها وعي ٍ م�ؤ ّثر يف ال�سلوك ،هل لدينا الوقت؟ وهل �أي�ض ًا الوعي كاف لأن يغيرّ �سلوكيات الأ�شخا�ص؟ ت�ؤ ّكد درا�سات وحده ٍ متعددة من علم النف�س االجتماعي (جتربة �سجن �ستانفورد ،وجتربة ميلجرام ،وغريهما) �أن ال�سياق الذي نكون فيه �أقوى من وعينا؛ مبعنى �أنه عندما ترى تكد�س ًا �أمام الكا�شري فمهما كنت ت�ؤمن ب�أهمية الطابور ف�إنك �ستتزاحم مع املتزاحمني لتحقيق هدفك؛ فالبيئة املحيطة �أقوى من وعيك. التالعب بالبيئة المحيطة
هل يوجد م�سار ثالث �إذ ًا؟ نعم .ي�ؤ ّكد جماال االقت�صاد ال�سلوكي وعلم النف�س االجتماعي �أننا ن�ستطيع �أن نتالعب واع -يف الأ�شخا�ص بالبيئة املحيطة حولنا لن�ؤ ّثر -ب�شكل غري ٍ لدفعهم �إىل اتخاذ �سلوك معني ،وتُعرف هذه الفل�سفة بـ(عمارة اخليارات .)Choice Architecture لن ُعد �إىل م�شكلتنا ،كيف ن�ستطيع ح ّلها وفق ًا لعمارة اخليارات؟ الأمر ب�سيط جد ًا :ن�ضع يف البيئة املحيطة م�سار ًا �أمام الكا�شري؛ فهذا التغيري يف البيئة (وجود امل�سار) �سيدفع الأ�شخا�ص تلقائي ًا �إىل دخول هذا امل�سار،
و�ضع م�سار �أمام الكا�شري يدفع ال�شخ�ص تلقائي ًا �إىل التزام الطابور
والتزام الطابور؛ ف� ّأي �شخ�ص يذهب بجانب امل�سار �سي�شعر ب�ضغط نف�سي �أنه يخالف؛ لأن ت�صميم البيئة �أ�شعره بذلك. ن�ستطيع �أن ّ نوظف هذا املبد�أ يف جماالت خمتلفة لإحداث تغيري ناعم يف �سلوك الأ�شخا�ص؛ لن�أخذ من املجال ال�صحي مثا ًال :نريد �أن نق ّلل من ن�سبة البدانة يف املجتمع ،و�أحد �أ�سباب هذه امل�شكلة �أن ال�شخ�ص ي�أكل �أكرث من حاجته ،فما احل ّل؟ الإن�سان �سيئ جد ًا يف احلكم على متى يجب �أن يتوقف عن الأكل؛ ففي جتربة ّمت �إعطاء جمموعتني من الأ�شخا�ص علبة ف�شار؛ املجموعة الأوىل �أخذت علبة كبرية احلجم ،واملجموعة الثانية �أخذت علبة متو�سطة احلجم ،وكانت النتيجة �أن املجموعة الأوىل تناولت
ُ ّ أقل ّ صغر حجم األطباق لتأكل كمية في المنزل ،وبالتأكيد تجنّب (صحن ّ المفطح)؛ ألنه يجعلك تلتهم األكل أي وعي بالكمية التهام ًا من دون ّ التي تأكلها
�أحتاج �إىل الذهاب �إىل دورة املياه ،ويف الطريق �س�أ�شرب املاء) ،ولي�س�( :أنا �س�أقوم من مكاين لأ�شرب املاء الذي ال مي ّثل هدف ًا �ضروري ًا). فهم �سيكولوجيا الإن�سان وطريقة اتخاذه القرارات ي�ساعدنا ب�شكل كبري على ت�صميم �أنظمة ومنتجات ومبانٍ ت�ساهم يف دفع النا�س ب�شكل ناعم �إىل اتخاذ ال�سلوكيات الأف�ضل لهم ،وال تعطي هذه املقالة �سوى جم ّرد ملحة ب�سيطة لإمكانيات توظيف علمي النف�س االجتماعي واالقت�صاد ال�سلوكي يف حتقيق تغيري �سريع وتلقائي يف املجال االجتماعي ،وال�صحي ،والتعليمي، وغري ذلك.
الف�شار بكمية �أكرب بـ %53من املجموعة الثانية( ،)1وكان اجلميع ي�أكلون من دون �أن يعوا متام ًا كمية الأكل التي يتناولونها .ن�ستنتج من هذه الدرا�سة �أن تغيري حجم الطبق ي�ؤ ّثر يف كمية الأكل التي ن�أكلها .لت�أ ُكل كمية �أق ّل �ص ّغر حجم الأطباق يف املنزل ،وبالت�أكيد جت ّنب (�صحن ّ املفطح)؛ لأنه يجعلك تلتهم الأكل التهام ًا من دون � ّأي وعي بالكمية التي ت�أكلها. ت�شجع مثال �آخر :تخ ّيل �أنك مدير �شركة ،وتريد �أن ّ موظفيك على �شرب املاء ،فكيف ّ توظف عمارة اخليارات لتحقيق ذلك؟ من املمكن �أن تقوم بتحليل حركة املوظفني يف املكان؛ لتجد مث ًال �أن امل�سار امل�ؤدّي �إىل دورة املياه هو امل�سار الذي مي ّر به املوظفون بكرثة؛ ً لذلك فو�ضعك برادة مياه يف هذا امل�سار �سي�ساهم تلقائيا (*) املقال مرتجم عن مقال ل�سارة �إي�ست�س من�شور يف �صحيفة (ذا يف زيادة ن�سبة �شرب املوظفني للماء ،ملاذا؟ لأن وجودها �أتالنتيك) ،على الرابط: h t t p ://w w w .t h e a t l a n t i c .c o m /h e a l t h /a rً ّ �سيذكر املوظف بها على خالف �أن تكون خمتبئة يف مكان c hive/2012/12/the-myth-of-self-correcting-sci- �آخر ،ولأنك جعلتها جزء ًا من هدف �آخر �ضروري�( :أنا ence/266228.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
كلما زاد حجم الطبق زادت كمية الطعام املتناول
111
فلسفة
يعيب بعض المذاهب الفلسفية المادية على المؤمنين في الديانات السماوية أنهم -في رأيهم -ال يستطيعون إثبات صحة معتقداتهم ،ويتقبلون التعاليم الدينية عن طريق (اإليمان) ،ال (المعرفة). ويذهب بعضهم ساخر ًا إلى أن عالم خفي، الالهوتيين (غير المرئي) هو أمر ّ مثل بذلة اإلمبراطور الخفية في قصة الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن (5781 -5081م) المعروفة .وكما هو األمر في تلك القصة ،ال يتسنّى اإليمان بـ(غير المرئي) إال ألولئك الذين يكفّ ون عن تصديق أعينهم ،وآذانهم ،وعقلهم.
112
فلسفة اإليمان من منظور الرياضيات 113 د .محمود باكير عضو هيئة التدريس في جامعة اليرموك الخاصة بدمشق
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
114
�أر�سطو
ويردّد �أتباع هذا املذهب يف �أدبياتهم قول املحامي الفرن�سي جان بودان يف القرن ال�ساد�س ع�شر امليالدي: «ميكن القول عن دار�س الريا�ضيات الذي ي�صدّق النظرية عندما يطرحها معلمه من دون �أن يفهمها: �إنه يتحلى بالإميان بغري �أن ميتلك املعرفة ،ولكنه حاملا يدرك مغزى الربهان ،ويقتنع ب�صحة النظرية ،ويبلغ املعرفة ،يفقد الإميان» .وهذا الكالم ما فتئ ُي�ستخدم �إىل يومنا هذا -مثا ًال تو�ضيحي ًا للفرق بني (املعرفة)و(الإميان) يف تعاليم هذا املذهب الفل�سفي(.)1 ي�شري قول جان بودان �إىل (الن�صف العلوي) من احلقيقة �إن جاز التعبري ،ولي�س �إىل احلقيقة ب�أكملها؛ لأن �أ�شياع هذا املذهب ،ومعهم بودان ،ن�سوا –كما يبدو– (الن�صف ال�سفلي) من احلقيقة ،وهو �أن النظريات (املربهنات) الريا�ضية التي يبنون عليها �آراءهم مبنية على م�صادرات (م�س ّلمات) الريا�ضي الإغريقي �إقليد�س (عا�ش يف القرن الثالث قبل امليالد)،
التي �أر�ساها يف كتابه الذائع ال�صيت (الأ�صول) .والآن منعن النظر فيما ُيطلق عليه ه�ؤالء (العيب) الذي ُي�ؤخذ على امل�ؤمنني (الت�سليم ب�أ�سا�سيات الإميان) من وجهة نظر الفكر الريا�ضي احلديث ،ولنعمل على تقييمه با�ستخدام الريا�ضيات �أكرث العلوم مو�ضوعي ًة ودق ًة ،وهو ما يتطلب منا رحلة �إىل الإطار الريا�ضي. الرياضيات والمسلّمات
من املعروف �أن الريا�ضيات –بب�ساطة– هي ا�ستنتاجات منطقية لق�ضايا جديدة من ق�ضايا قدمية �سبق �إثباتها، وهكذا دواليك �إىل �أن ن�صل �إىل ق�ضايا ُي�س َّلم بها وحدها من دون برهان؛ مبعنى �أنه لي�س ثمة ا�ستدالل ريا�ضي من غري وجود معطيات �أولية؛ لذلك فلبناء � ّأي نظام ريا�ضي� ،أو نظام منطقي ،البد من وجود بداية �أو قاعدة لالنطالق منها ،وهذه البداية �أ�ضحت الآن (يف الفكر الريا�ضي احلديث) تت�ألف من كلمات معينة
الفكر ،واإليمان ضمن سلع الشخصية، وهما على النقيض من السلع المادية التي ليس لنا إمكانية اختيارها؛ كالقوة البدنية ،أو الثروة التي تهبط علينا فجأة من جائزة مادية
غري قابلة للتعريف تُ�س ّمى :الالمعرفات � ،termsأو مفاهيم �أولية ،Primitive termsومن ق�ضايا �أولية ت�سمى :م�س ّلمات� ،أو مو�ضوعات� ،أو �أحيان ًا ت�سمى الالمربهنات .وامل�س ّلمة عالقة ال تُ�ستخرج من عالقة� ،أو من ق�ضية � propositionأخرى� ،أو ب�صياغة �أخرى :هي بيان statementغري ُمثبتة �صحته .ورمبا كان الفيل�سوف الإغريقي �أر�سطو ( 322 -384ق .م)، الذي يعدّه املناطقة م�ؤ�س�س علم املنطق� ،أول َمن �أبدى undefined
هانز كري�ستيان �أندر�سن
مشكلة وضوح البديهيات
كان عمل �إقليد�س نقطة انعطاف يف تاريخ الفكر الريا�ضي على الرغم من �أن التعريفات وامل�صادرات يف كتابه املذكور قد ال تل ّبي املتطلبات احلديثة من ناحيتي الدقة وال�صرامة؛ فقد تبينّ الحق ًا ،على خالف ما قام به �إقليد�س� ،أن (النقطة) و(امل�ستقيم) كلمتان من الالمعرفات يف الهند�سة ،ولنكن �أكرث دق ًة ف�إن ثمة ثالث كلمات يف الهند�سة الإقليدية ال ميكن تعريفها،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
يمكن تصنيف الرياضيات ضمن سلع
انتباه ًا �إىل طبيعة امل�سلمات؛ فقد كانت عنده حقائق �أولية� ،أو �أ�شياء للبدء بها ،وكانت هذه احلقائق نوعني: النوع الأول (�أوليات ،)axiomsومنها تُ�ستنتج حقائق العلم ،ومن الأوليات عنده :احلدود؛ �أي :التعريفات، والنوع الثاين هو (امل�صادرات ،)postulatesومنها ُيثبت وجود �أ�شياء العلم ،وامل�صادرات الزمة –من وجهة نظره– لإثبات �أن ال�شيء موجود يف الطبيعة؛ فال يكفي �أن ن�صوغ لل�شيء التعريف املنا�سب �إذا كان هذا ال�شيء غري موجود .بيد �أن �أ�شهر نظام ريا�ضي ابتكره �إقليد�س بعد وقت ق�صري من �أر�سطو وارد يف كتابه (الأ�سطق�سات ،)Stoixiaالذي �س ّماه العرب كتاب (الأ�صول) ،و ُيعرف ()2 بالإجنليزية با�سم (The Elements of Euclid ؛ فقد ا�سته ّل املقالة الأوىل بخم�س أ� ّوليات عامة� ،أو بديهيات (الأ�شياء امل�ساوية ل�شيء واحد مت�ساوية، والك ّل �أعظم من اجلزء ،و .)....كما ع ّرف النقطة، واخلط ،والدائرة ،فوجد لزام ًا عليه �أن (ي�صادر) على وجودها؛ فو�ضع امل�صادرات اخلم�س املعروف للهند�سة الإقليدية( .)3و(امل�صادرة) كما ّ يدل عليها جذرها ( ُي�صادر على� ،أو يطالب بــ= )postulare تع ّد (مطلب ًا) يتقدّم به الريا�ضي لأن ن�س ّلم له بالبداية (الق�ضايا الأولية) للح�صول على النتائج بعد �سل�سلة من املحاكمات املنطقية.
115
هي :نقطة ،وم�ستقيم ،ومتطابق � ،congruentأو هناك خيار �آخر( :نقطة) ،و(م�ستقيم) ،و(بني ،)between �أما بقية مفاهيم الهند�سة ف�إنها تُع ّرف با�ستخدام هذه الكلمات الأولية. يتم جت ّذرت هذه النزعة يف الفكر الريا�ضي احلديث؛ �إذ ّ البحث دوم ًا يف ك ّل فرع من فروع الريا�ضيات البحتة عن الالمعرفات فيه� ،إ�ضاف ًة �إىل مو�ضوعاته (م�س ّلماته)؛
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
باروخ �سبينوزا -فرانز
116
بيانو جوزيبي
المعرفة واإليمان على الرغم من أن الفالسفة َج َهدوا في التمييز بين (المعرفة) و(اإليمان) ،ونظروا إلى البرهان الرياضي على أنه مثال ناصع (للمعرفة) ،إال أن هذا البرهان في الحقيقة مبني في أساسه على شكل من أشكال ّ (اإليمان) ،وهو التسليم بمجموعة من المسلمات؛ فلن نقتنع بالبرهان إذا لم نسلّم بالمبادئ األساسية التي ُبني عليها النظام كلّه؛ فعملية التمييز هذه ال تخلو واع، حقيقةً -في بعض جوانبها– من زيف ٍ واع.. أو ربما غير ٍ
فقد �أثبت الريا�ضي الإيطايل غيوزيب بيانو (-1858 1932م) -مث ًال� -أن نظرية الأعداد الطبيعية كلها ميكن �أن تُ�شتقّ من ثالثة مفاهيم �أ ّولية (غري قابلة للتعريف)، وخم�س م�س ّلمات� ،إ�ضافة �إىل ق�ضايا املنطق ،واملفاهيم الثالثة الأولية هي :ال�صفر ،والعدد ،والتايل(.)4
�شغلت م�شكلة و�ضوح البديهيات� ،أو الأوليات ،حيز ًا كبري ًا من اهتمام الريا�ضيني والفال�سفة قدمي ًا ،و� ّ أق�ضت م�ضاجع كثريين منهم؛ فما هو بديهي ل�شخ�ص معني قد ال يكون بديهي ًا ل�شخ�ص �آخر ،و�إذا قلنا� :إن البديهي هو الذي يكون بديهي ًا لقطاع وا�سع من الب�شر ،ف�إن تاريخ العلم حافل بالأمثلة عن (حقائق دامغة) كان يعتقد بها هذا القطاع الوا�سع من الب�شر ثم تبينّ �أنها غري �صحيحة ،ومن هذه الأمثلة عدم كروية الأر�ض ،و�أن مدارات الكواكب حول ال�شم�س دائرية ال�شكل ،والأج�سام الثقيلة ت�سقط �أ�سرع من تلك اخلفيفة .وما برح �أكرث النا�س �إىل يومنا هذا يعتقدون �أن لك ّل �سطح وجهني، مع �أن الريا�ضي الأملاين موبي�س (1868 -1790م) بينّ عام 1858م �أن ثمة �سطوح ًا �أحادية الوجه ،ال وجود فيها ملفهومي (الداخل) و(اخلارج)� ،أو (الوجه) و(القفا)، كما �أن هناك �سطوح ًا �أخرى ُمغلقة ،مثل (زجاجة كالين)؛ ن�سب ًة �إىل الريا�ضي الأملاين كالين (-1849 1925م) ،التي لي�س لها (داخل) �أو (خارج)(.)5 التحرر من السيطرة اإلقليدية ّ
من املعروف �أن البداية الفعلية لظهور �إرها�صات التح ّول الكبري يف الفكر الريا�ضي كانت يف الن�صف الأول من القرن التا�سع ع�شر امليالدي على �أيدي الريا�ضيني: بولياي (1860 -1802م) ،والبا�شيف�سكي (-1793 1856م) ،يف عمليهما املتميزين ،اللذين �أ�صبح يطلق عليهما الحق ًا ا�سم (الطريقة املو�ضوعاتية axiomatic )method؛ ن�سب ًة �إىل مو�ضوعه يف البناء الريا�ضي؛ فك ّل واحد منهما �أوجد على حد ٍة هند�سته الال�إقليدية ،وكان ذلك �إيذان ًا بالتحرر من ال�سيطرة الإقليدية التي هيمنت على الفكر الهند�سي ردح ًا من الزمن دام نحو �ألفي �سنة ،بل كان ذلك فتح ًا علمي ًا �أَ ِذن بولوج الفكر الريا�ضي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ما البديهي؟
117
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
118
مرحلة جديدة؛ فقد ا�ستنتج البا�شيف�سكي �أن امل�صادرة اخلام�سة لإقليد�س ،التي ت�سمى م�صادرة التوازي (من نقطة خارج م�ستقيم ميكن ر�سم م�ستقيم واحد فقط مواز له) ،م�ستقلة عن امل�صادرات الأربع الأخرى ،كما �أنه ميكن و�ضع م�صادرة �أخرى مغايرة متام ًا لها ،ومع ذلك تبقى البنية الكلية للم�صادرات اخلم�س اجلديدة مت�سقة /من�سجمة ،consistentوامل�صادرة التي و�ضعها يف بنائه اجلديد هي( :من نقطة خارج م�ستقيم ُم ً عطى يوجد على الأق ّل م�ستقيمان يوازيان هذا امل�ستقيم) .ثم جاء الريا�ضي الأملاين جورج فريدريك رميان (-1826 1866م) ،ف�ش ّكل بنا ًء هند�سي ًا خمتلف ًا عن بناءي �إقليد�س والبا�شيف�سكي ،وتقول م�صادرته( :ال يوجد خط م�ستقيم ميكن ر�سمه من نقطة خارجة عن م�ستقيم ُم ً عطى مواز لهذا امل�ستقيم) ،ونتج من ك ّل ذلك ما �أ�ضحى ُيطلق عليه الآن يف الأدبيات الريا�ضية (الهند�سات الال�إقليدية).
�ألربت �آن�شتاين
آن األوان للتوقف عن استخدام كلمة (بديهية)
مل ي ُعد ثمة وجود لكلمة (بديهية) -باملعنى ال�شائع لها- يف الفكر الريا�ضي احلديث ،بل �أ�ضحت هذه الكلمة عاري ًة من � ّأي معنى من وجهة نظر الريا�ضيات ،كما �أ�صبح من ال�صعب الآن احلكم على (�صحة) م�سلمات نظام ريا�ضي ،بل يع ّد بع�ض العلماء هذا ال�س�ؤال يف ح ّد ذاته لي�س له معنى؛ لأن �أي نظام ريا�ضي ُيبنى على جمموعة من امل�سلمات يع ّد مقبو ًال �إذا كان مت�سق ًا/ من�سجم ًا منطقي ًا؛ مبعنى �أ ّال تُف�ضي هذه امل�سلمات �إىل مربهنة (نظرية) ونقي�ضها يف �آنٍ واحد؛ فلم ي ُعد مطلوب ًا من امل�سلمات� ،أو من نتائج املربهنات� ،أن تكون من�سجمة مع مفهومنا ال�شخ�صي للحقيقة؛ فبع�ض امل�سلمات تبدو �صحيحة ،وبع�ضها غري ذلك ،وبع�ضها الآخر يبدو �أنه حتى من ال�صعب احلكم على �صحتها �أو خطئها .والنظام النا�شئ يع ّد نظام ًا ريا�ضي ًا مقبو ًال �إذا كان مت�سق ًا منطقي ًا ،واحلقيقة �أن (االن�سجام) ولي�س (احلقيقة) �إريك فروم
النظام الموضوعاتي في الرياضيات ليس مجرد ابتكار عقلي، أو شكل من أشكال الترف الفكري، إنما هو ضرورة منطقية قادتنا إليه طبيعة بناء الرياضيات بعد عمل دؤوب من الرياضيين
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
هو الذي �أ�ضحى مفتاح الفكر الريا�ضي احلديث ،بل �أ�ضحت امل�سلمات يف الريا�ضيات احلديثة �أبعد ما تكون عن الو�ضوح .واملهم جد ًا هنا هو �أن يكون هذا النظام (مفيد ًا)؛ فالفوائد التي جنيناها من هند�سة ٍّ كل من: �إقليد�س ،والبا�شيف�سكي ،ورميان ،ال يختلف عليها اثنان، لكن لك ّل نظام جماله وتطبيقاته (.)6
ومع نهاية القرن التا�سع ع�شر امليالدي� ،شرع الريا�ضيون يف املطابقة بني الكلمات :مو�ضوعة، وم�س ّلمة ،axiomوفر�ضية ،assumptionوم�صادرة، و�أ�صبحت ك ّل هذه الكلمات تع ّد مرتادف ًة ريا�ضي ًا .ويع ّد عام 1936م هو حلظة الف�صل يف عملية املطابقة تلك، حينما ُن�شر بحث كان نقطة االنعطاف الكبرية( .)7وقد �س ّوغ بع�ض العلماء طغيان كلمة axiomيف الأدبيات الريا�ضية املعا�صرة �أكرث من كلمة postulateب�سبب �سهولة اال�شتقاق منها يف اللغات الأوروبية احلديثة من �إجنليزية وفرن�سية ،على خالف الكلمة الثانية. و�صفوة الكالم �أن �أكرث العلوم مو�ضوعية ودقة قامت على (الت�سليم) مبجموعة من امل�سلمات ،وما تب ّقى ي�شتقّ من هذه امل�سلمات� ،أو بالأحرىُ :ي�ستنتج منطقي ًا منها .وهذا الأمر لي�س عيب ًا يف النظام الريا�ضي ،بل على العك�س من ذلك؛ فهو �أهم ما ميتاز به من غريه بو�صفه علم ًا مبني ًا منطقي ًا. ومل يزل بع�ض دار�سي الفل�سفة من ن�صو�صها املغرقة يف القدم يف بالدنا مي ّيزون �إىل الآن بني البديهية وامل�سلمة يف الريا�ضيات �أو يف فل�سفتها ،ومل يزل بع�ضهم من كتّاب العربية يرتجم �إىل الآن كلمة axiomمبعنى (بديهية) بد ًال من (م�سلمة) �أو (مو�ضوعة)؛ نق ًال عن معاجم اللغة الإجنليزية -العربية التي ترتجمها على ذلك النحو، وم�صدر هذه الرتجمة �أ�سا�س ًا هو ما �أق ّره جممع اللغة العربية يف القاهرة يف ثالثينيات القرن الع�شرين حينما ترجمها على ذلك النحو ،وكان ذلك م�س َّوغ ًا يف حينها. وقد �آن الأوان للتوقف عن ا�ستخدام كلمة (بديهية)، على الأق ّل يف هذا الإطار ،خ�صو�ص ًا �أن معناها اللغوي ال يقارب املعنى امل�ستخدم حالي ًا؛ ففي ال�صحاح (جتديد �صحاح العالمة اجلوهري) جند يف مادة (بده)« :البداهة �أول جري الفر�س ...وبادَهَ هُ :فاج أَ�ه، واال�سم البداهة والبديهة ،وهما يتبادهان بال�شعر؛ �أي:
119
يتجاريان» .والبديهية (لغوي ًا) يف (القامو�س املحيط) للفريوز�آباديُ �« : أول كل �شيء وما ُيفج�أ منه ...ولك البديهية؛ �أي :لك �أن تبد�أ». و ُيعزى طول املدة التي ا�ستغرقتها عملية الن�ضج اللغوية– الفكرية تلك ،و�إدراكها على نحو وا�ضح ومبلور� ،إىل طبيعة التجربة الفكرية املتعلقة بذلك، كما �أنه م�ؤ�شر على الطبيعة امل�ضنية لتلك التجربة التي ا�ستمرت نحو �ألفي �سنة ،يقول عامل النف�س الأمريكي �إريك فروم (1980 -1900م)« :ينبغي �أن نعلم �أن كثري ًا من التجارب ال متنح نف�سها ب�سهولة حتى يتم ت�ص ّورها يف الإدراك»( ،)8وميكن ت�ص ّور الأحا�سي�س املتعلقة ببقاء الفرد �أو اجلماعة؛ كاجلوع واخلوف ،على نحو واع وب�سهولة� ،أما حني يتعلق الأمر بتجربة �أكرث دقة �أو ٍ تعقيد ًا ف�إن التجربة ال ت�صل �إىل الإدراك يف العادة؛ لأنها عود على بدء ب ّي ّنا كيف �أن الفكر الريا�ضي قد طر�أ عليه كثري من لي�ست مهمة مبا يكفي لأن جتذب االنتباه(.)9
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ولن نع ّرج على حقيقة مدلول الق�ضايا الريا�ضية؛ فهي من امل�سائل اخلالفية بني الفال�سفة ،بل ُج ّل ما ن�صبو �إليه هو الإ�شارة �إىل الطبيعة املو�ضوعاتية يف بناء النظام الريا�ضي يف الفكر الريا�ضي احلديث، وفاعليته يف �إطار الريا�ضيات .ولأن الريا�ضيات �أ�سا�س كل العلوم التي تبحث عن احلقيقة ف�إن تلك الطريقة ّ مر�شحة لأن ت�ؤول �إىل منهج عام لبناء التفكري املنطقي املرتابط عند الإن�سان ،وهو ما يذ ّكرنا بقول الريا�ضي الربيطاين جودفري هارولد هاردي (1947 -1877م): «الريا�ضيات البحتة هي درا�سة كيف يجب �أن يفكر النا�س لكي يح�صلوا على نتائج �صحيحة ،وهي ال ت�أخذ يف احل�سبان ال�ضعف الإن�ساين».
120
لن نعرج على حقيقة مدلول القضايا ّ الرياضية؛ فهي من المسائل الخالفية بين الفالسفة ،بل ُج ّل ما نصبو إليه هو اإلشارة إلى الطبيعة الموضوعاتية في بناء النظام الرياضي في الفكر الرياضي الحديث ،وفاعليته في إطار الرياضيات .وألن الرياضيات أساس كل العلوم التي تبحث عن الحقيقة فإن ّ تلك الطريقة مرشحة ألن تؤول إلى منهج عام لبناء التفكير المنطقي المترابط عند اإلنسان ،وهو ما يذكّ رنا
دراسة مقارنة
بقول الرياضي البريطاني جودفري
الإ�سالم لغ ًة :اال�ست�سالم واالنقياد ،وهو م�صدر �أ�سلم و ُي�س ِلم ،والإ�سالم �شرع ًا :هو اال�ست�سالم واالنقياد هلل تعاىل ظاهر ًا وباطن ًا .والإميان هو :م�صدر �آمن ي�ؤمن �إميان ًا ،ويف (ل�سان العرب) البن منظور« :اتّفق �أهل العلم من اللغويني وغريهم على �أن الإميان معناه الت�صديق» .والإميان �شرع ًا :هو الت�صديق يف القلب
هارولد هاردي (7491 -7781م): «الرياضيات البحتة هي دراسة كيف يجب أن يفكر الناس لكي يحصلوا على نتائج صحيحة ،وهي ال تأخذ في الحسبان الضعف اإلنساني».
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
البحث عن الحقيقة
التغيري خالل القرنني املن�صرمني ،ومع ذلك ف�إن �أتباع بع�ض املذاهب الفل�سفية املادية مازالوا (ي�ؤمنون) ب�صحة قول بودان على الرغم مما ا�ستج ّد من معارف ريا�ضية كثرية مل (يعرفها) ه�ؤالء ،و�صرفهم عن ذلك (�إميانهم) بذلك القول الذي ظ ّنوه (معرفة) خالدة. قد يكون م�س ّوغ قول بودان املذكور �أن الهند�سة الإقليدية حينها كانت مبنية على ن�سق من (البديهيات) مبفهومها القدمي ،ولي�س على ن�سق من (امل�سلمات) ،و�أنه �أتى �ضمن �سياق معريف تاريخي حمدّد له ما ي�س ّوغه ،بيد �أنه الآن مل ي ُعد ثمة م�س ّوغات فكرية� ،أو م�س ّوغات منطقية، لال�ستمرار يف هذه التق�سيمات الفكرية امل�صطنعة والزائفة ،خ�صو�ص ًا �أن بدايات تلك املذاهب الفل�سفية املادية تعود �إىل ما بعد ظهور �إرها�صات الفكر الريا�ضي احلديث منذ بولياي والبا�شيف�سكي ،لكنها -كما يبدو- مل ت�ستفد من تلك الإجنازات الفكرية. وقد انطلت على بع�ض الكتّاب املتدينني هذه الفكرة الزائفة ،و�شرعوا دفاع ًا عن الدين ومقد�ساته يبحثون عن احلقائق العلمية التي تدعو �إىل الإميان باهلل ،والت�سليم به ،بو�صفه خالق ًا مبدع ًا لهذا الكون .واحلقيقة الغائبة عنهم هي �أنه لي�س عيب ًا يف الدين �أن ُيبنى على ب�ضع م�سلمات؛ فهذا الأمر لي�س انتقا�ص ًا من قدره و�ش�أنه ،لكن كان ب�إمكان ه�ؤالء �أن يقارنوا بني العلم والدين للو�صول �إىل �أن حقائق العلم تتطابق مع احلقائق الدينية.
121
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
122
لك ّل ما جاء به الر�سول �صالهلل عليه و�سلم .والإ�سالم قائم على الإميان باهلل ،ور�سله ،وكتبه ال�سماوية ،وما تب ّقى ُي�شتقّ من هذه (امل�سلمات)� ،أو ُيبنى عليها .وعلى الرغم من متايز الريا�ضيات من الدين �إال �أن ك ًال منهما ُيبنى على جمموعة م�سلمات خا�صة به .ومن املعروف �أن فقهاء الإ�سالم يق�سمون العلم ثالثة �أق�سام« :العلم باهلل ،والعلم ب�أمر اهلل ،والعلم بخلق اهلل .الأول يتعلق بالعقيدة ،والثاين بال�شريعة ،والثالث ما يتعلق بخلق اهلل من �ش�ؤون الب�شر» ،و ُيعزى ذلك �إىل الإمام الغزايل يف كتابه (�إحياء علوم الدين) .وما يعنينا يف هذا املقام قوله( :العلم باهلل املتعلق بالعقيدة)؛ فقد و�ضعه يف الرتتيب الأول ،والعقيدة يف هذا ال�سياق ت�شبه امل�سلمات يف النظام الريا�ضي ،وهو ما ي�شري �إىل �أن بذور الفكر املو�ضوعاتي موجودة عند بع�ض مف ّكرينا منذ القدم، و�إن مل يكن هذا الفكر مبلور ًا كما هو حاله اليوم .ورمبا جند –ببع�ض الت�أمل– �أن التفكري املو�ضوعــاتي قد
يكون جزء ًا من الفطرة الب�شرية ،وهو ما يذ ّكرنا بقول الفيزيائي الإجنليزي بول ديراك (1984 –1902م)، وهو �أحد كبار رواد ميكانيك الكم« :مبرور الزمن يتّ�ضح �أكرث ف�أكرث �أن القواعد التي يراها الريا�ضيون مهمة هي نف�سها القواعد التي كانت الطبيعة قد اختارتها». �إذا تو ّقفنا الآن عند تعريف الريا�ضيات -وفق ما يقوله الريا�ضي والفيل�سوف الفرن�سي هرني بوانكاريه (1912 -1853م) -من �أنها «لي�ست �أكرث من لغة مبنية جيد ًا» ف�إننا جند �أنه با�ستخدام هذه اللغة ميكن التعبري ب�صرامة وو�ضوح عن كثري من الظواهر والأفكار .و�إذا ّ توخينا الدقة ف�إن ما نن�شده الآن هو تبيان �أن الآلية التي تُبنى بها الريا�ضيات فيها نوع من املحاكاة لطريقة بناء الدينّ � ،أي دين ،مع الأخذ يف احل�سبان �أن لك ّل منهما طريقته اخلا�صة التي تن�سجم مع ن�سيجه الفكري، والفرق �أن هذه الآلية خف ّية يف الدين ،م�ضمرة يف ت�ضاعيفه ،على خالف ما هو قائم الآن يف الريا�ضيات.
طبيعة مختلفة
تت�ض ّمن طبيعة الدين ،وطريقة عر�ضه� ،إدراك ًا �أ�سرع لأهمية الإميان �أكرث مما هو قائم فعلي ًا يف العلوم الريا�ضية ،بل �إننا جند �أن ت�ص ّور بناء الريا�ضيات على نحو مو�ضوعاتي يحدث يف مراحل درا�سية متقدمة ن�سبي ًا لدار�س الريا�ضيات ،ولي�س يف مراحله الأوىل، كما يح�صل يف الدين مث ًال .ومن هذا املنطلق ميكن �أن نفهم �أهمية ال�شهادتني يف الإ�سالم ،والنطق بهما ملن يعلن �إ�سالمه ،بينما جند �أن دار�س الريا�ضيات يلج فور ًا يف مبادئ نظرية املجموعات من دون التطرق �إىل املو�ضوعات التي ُبنيت عليها ،مع �أن هذه النظرية �أ�ضحت حجر الأ�سا�س يف درا�سة الريا�ضيات احلديثة، ويكون ذلك عاد ًة (�أي :التطرق �إىل جملة املو�ضوعات) يف الدرا�سة اجلامعية لطالب العلوم الريا�ضية ،ومن
تعد األنظمة الرياضية المبنية على ّ نحو منطقي باستخدام مجموعة من الالمعرفات ،والمنطلقة من مجموعة من المسلّمات ،من وجهة نظر كثير من الرياضيين ،محاكاةً للخالق
توما�سو
دون � ّأي عمق .وقد يكون �سبب ذلك �أن م�سلمات الدين نابعة من الفطرة الإن�سانية ومبا�شرة ،يعزّزها ال�ضعف الإن�ساين ،على خالف م�سلمات الريا�ضيات ذات الطبيعة املختلفة .والأكرث من ذلك ،ف�إن درا�سة طبيعة النظام املو�ضوعاتي يف الريا�ضيات للمبتدئني ت�ش ّكل �صدمة معرفية لهم ،وقد تكون مبعث �إرباك وت�شوي�ش، بد ًال من �أن تعزّز ثقتهم باملو�ضوع املدرو�س .ورمبا كانت ف�ض ًال عن ذلك -عقبة �أمام متابعة درا�ستهم وتقدّمها.كما �أن االهتمام بهذا اجلانب لي�س من �ش�أن الريا�ضيات، بل من اخت�صا�ص فل�سفة الريا�ضيات ،التي تهتم �أ�سا�س ًا مبحاولة �إعادة بناء املعارف الريا�ضية املبعرثة واملرتاكمة عرب الع�صور؛ حتى تتبلور �ضمن ترتيب معني، �أو معنى حمدّد .وتتط ّلب درا�سة هذا العلم من املهتم م�ستويات جيدة يف الريا�ضيات قبل ال�شروع يف ذلك ،كما �أنها حتتاج �إىل ذهنية خا�صة خمتلفة عما هو مطلوب من دار�س الريا�ضيات.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
واحلكمة يف ذلك �أن الدين �ضرورة حياتية ،ويجب �أن يكون جزء ًا من تفكري ك ّل �إن�سان من اخلا�صة �أو العامة على حدٍّ �سواء؛ لذلك فلي�س من ال�ضروري �أن ت ّ ُوظف الفل�سفة يف الدين وهو ب�شكله النقي املُوحى به؛ لكيال يكون ع�صي ًا على فهم العامة؛ فال ي�شار -مث ًال� -إىل طبيعة (البناء املنطقي) للدين على الرغم من �أن مدخله الإميان ،وهو ي�سمح بذلك.
123
تؤدي المعرفة الفكرية إلى
العقل، وتستقر في القلب ّ
التغيير إال بقدر ما تكون معرفة
وال بد من الإ�شارة �إىل �أن الطريقة املو�ضوعاتية لي�ست عيب ًا منطقي ًا كما قد يظنّ بع�ض املهتمني ،بل �أ�ضحت �أداة فعالة يف عدد من احلقول املعرفية ،و�أن اكت�شافها كان نقطة انعطاف يف الفكر الإن�ساين و�إغناء له؛ ملا ت�ستبطنه من �صرامة فكرية ،خ�صو�ص ًا �إذا عرفنا �أن ثمرة ال�صرامة هي الإبداع ،و�أول من �أ�شار �إىل ذلك الريا�ضي الأملاين كارل فريدريك غاو�س (1855 -1777م)؛ �إذ يقول روالن �أمني�س« :غاو�س -على � ّأي حال -جدير بك ّل تقدير؛ لأنه �أعلن �أن ال�صرامة هي �أم الإبداع(.»)10
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
سلع روحية
124
من �أوجه ال�شبه بني الريا�ضيات والإميان �أن ك ًال منهما يدخل �ضمن ال�سلع الروحية للإن�سان با�ستخدام لغة �أغرو�س و�ستان�سيو ()11؛ لأن ال�سلع الروحية عند الإن�سان تُق�سم فئتني عري�ضتني ،هما� :سلع الفكر ،و�سلع ال�شخ�صية ،وت�شمل الفئة
الفيلسوف باروخ إسبينوزا« :ال تؤدي المعرفة الفكرية إلى التغيير إال بقدر ما تكون معرفة وجدانية أيضاً» ..وما يقارب ذلك قول كثيرين ممن كتبوا في مجال العقيدة اإلسالمية من أن العقيدة تبدأ من العقل، وتستقر في القلب ّ
الأوىل املعرفة العقلية بكل �أنواعها ،وت�شمل الفئة الثانية جميع خ�صال الإرادة اجلديرة بالإطراء؛ كالكرم، وال�شجاعة ،والأمانة .وميكن ت�صنيف الريا�ضيات �ضمن �سلع الفكر ،والإميان �ضمن �سلع ال�شخ�صية ،وهما على النقي�ض من ال�سلع املادية ،التي لي�س لنا �إمكانية
في القلب
ضرورة منطقية
جوزيف بودين
اختيارها؛ كالقوة البدنية� ،أو الرثوة التي تهبط علينا فج�أة من جائزة مادية� ،أو غري ذلك .وتُك�سب ال�سلع الروحية باالختيار وحده ،وميكن �أن تُفقد باالختيار وحده( .)12ويف هذا املعنى يقول القدي�س توما الأكويني (1274 –1225م)« :ما كان لأحد �أن ي�ؤمن من دون �أن يرى �أنه يجب �أن ي�ؤمن(.»)13 تع ّد الأنظمة الريا�ضية املبنية على نحو منطقي با�ستخدام جمموعة من الالمعرفات ،واملنطلقة من جمموعة من امل�س ّلمات ،من وجهة نظر كثري من الريا�ضيني ،حماكا ًة للخالق؛ فالريا�ضي عندما ي�سعى �إىل �إقامة نظام منطقي متّ�سق يكون بذلك يحاكي طريقة اخلالق يف �إبداعه الكون، عدد بيد �أن طبيعة املحاكاة الريا�ضية تختلف عن غريها يف ٍ من املجاالت؛ فمحاكاتها تخ�ضع للتجريد؛ لأن الريا�ضيات مفاهيم جم ّردة .لذلك ،ومن هذا املنظور ،ن�ستطيع فهم
ال�شيء الأ�سا�سي الذي جتب الإ�شارة �إليه هو �أن النظام املو�ضوعاتي يف الريا�ضيات لي�س جمرد ابتكار عقلي، �أو �شكل من �أ�شكال الرتف الفكري ،بل هو �ضرورة منطقية قادتنا �إليه طبيعة بناء الريا�ضيات بعد عمل د�ؤوب من الريا�ضيني ،وهو �أمر ال غنى عنه ،وال مف ّر خال منه ،من �أجل احل�صول على بناء ريا�ضي متكامل ٍ من التناق�ض والعيوب .وكذلك �إميان الإن�سان منذ القدم بـ(قوة م�سيرّ ة) مل يكن من النوافل ،بل كان �ضرورة فر�ضها كثري من الظروف الذاتية واملو�ضوعية للإن�سان ،وقد ن�ستطيع القول� :إن ك ًال منهما كان حم�صلة (ح�صار ذهني) ال مفر للإن�سان منه .لقد كان الريا�ضي والفيزيائي الإجنليزي �إ�سحاق نيوتن (1727 -1643م) ي�ؤمن بهذه الروح؛ لذلك «حاول �أن يحتفظ مبكان للألوهية يف نظامه امليكانيكي اخلا�ص وجهها �إىل ريت�شارد بنتلي بال�سماوات؛ ففي ر�سالة ّ عام 1692م أ� ّكد نيوتن �أن اهلل �ضروري لإحداث حركة الكواكب و�إر�ساء البنية الأ�صلية للمجموعات ال�شم�سية، قائ ًال :حركات الكواكب الراهنة ال ميكن �أن تكون قد انبثقت من � ّأي علة طبيعية فح�سب ،بل كانت مفرو�ضة بفعل قوة عاقلة»( .)14وهذا الأمر ّ بغ�ض النظر عن �أن الإميان يف الإ�سالم لي�س من �أجل رب العاملني ،بل غني عن العاملني. من �أجل الإن�سان نف�سه؛ لأن اهلل ّ لذلك �أ�ضحت فل�سفة (الإميان) من�سجمة مع الفكر املبني على الطريقة املو�ضوعاتية الريا�ضي احلديث ّ �أكرث من ان�سجامها مع الفكر الريا�ضي القدمي ،الذي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
قول الريا�ضي هاردي�« :أعتقد �أن احلقيقة الريا�ضية قائمة خارج �أنف�سنا ،ووظيفتنا �أن نكت�شفها �أو �أن نلحظها ،وما املربهنات التي نتكلم عنها ببالغة ك�أنها (خملوقاتنا) �إال نتائج مالحظاتنا».
125
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
126
كان يمُ تح منه ذلك املذهب الفل�سفي الذي بقي �أ�سري بع�ض املعارف الراكدة؛ لأن الفكر الريا�ضي احلديث مل ي ُعد يت�ضمن ما ُي�س ّمى (بديهيات) مبعناها القدمي. وال يع ّد الإميان باهلل من البديهيات �إن ا�ستخدمنا هذه الكلمة مبعناها ال�شائع؛ لأن الإن�سان منذ بدء اخلليقة عبد الأ�صنام والكواكب والكائنات املختلفة ،ومل تتبلور فكرة الإميان باهلل عنده �إال مع بعث الأنبياء ،وجميء الديانات ال�سماوية ،التي �أتت مت�أخر ًة ن�سبي ًا قيا�س ًا بتاريخ الب�شرية؛ لذلك ورد يف التنزيل الإلهي } َو َما ُك َّنا ُم َع ِّذ ِب َني َح َّتى َن ْب َعثَ َر ُ�سو ًال{ (الإ�سراء� .)15 :صحيح �أن الدين �ضرورة حياتية ،و�شيء فطري ،لكن (الإميان باهلل) كان منحة �إلهية مت�أخرة مل ينعم بها الإن�سان البدائي ،ورمبا كان من م�س ّوغات هذا الت�أخري الن�سبي هو �أن ذلك الإن�سان مل يكن مهيئ ًا فكري ًا ونف�سي ًا بع ُد لقبول هذه (احلقيقة) ،واال�ستعداد الب�شري �ضروري دوم ًا ال�ستقبال كثري من املفاهيم ،وهو ما بد�أت تعيه النظريات الرتبوية احلديثة ،وتر ّكز فيه يف �أثناء تقدمي مفاهيم جديدة للدار�سني.
خاص فرضيات من نوع ّ
(امل�صادرة) ق�ضية البد من الت�سليم بها قبل ال�شروع يف � ّأي �شيء ،وهي يف ذلك تُخفي مظهر ًا من مظاهر العجز �أمام الفكر الدقيق ،يقول الريا�ضي والفيل�سوف ال�سوي�سري فردينان جون�ست (1975 –1890م)�« :إذا كنا ن�ستطيع الربهنة على �شيء فلن نقول �أبد ًا� :إنه من الواجب علينا الت�سليم به؛ ف�ضرورة القبول تعادل ا�ستحالة الربهنة»( .)15وكذلك حال الإميان؛ فمنذ البداية ،وعند اخلطوة الأوىل لتل ّقي التعاليم الدينية، نعلن عجزنا وقبولنا ،وما تب ّقى يع ّد ا�ستنتاج ًا� .صحيح �أن امل�سلمات يف الريا�ضيات تع ّد (فر�ضيات) من نوع خا�ص، وبعدها تبد�أ عملية اال�ستنتاجات املنطقية ،بيد �أن هذه الفر�ضيات لي�س من ال�ضروري �أن تخ�ضع للتحقق العملي كما هو احلال يف فر�ضيات العلوم الطبيعية .وكذلك هو احلال يف الإميان ،ف�إن م�س ّلماته ال تخ�ضع �أي�ض ًا للتح ّقق باملعنى املعروف لهذه الكلمة ،بل هي ذات طابع غيبي. الفرق الأ�سا�سي بني الإميان والنظام املو�ضوعاتي يف الريا�ضيات ،الذي يجب الإ�شارة �إليه ،هو �أن الإميان ال
يانو�س بولياي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
يكون فاع ًال� ،أو قوة م�ؤثرة يف التغيري� ،إال �إذا امتزجت املعرفة الفكرية باملعرفة الوجدانية� ،أو كما يقول الفيل�سوف الهولندي باروخ �إ�سبينوزا (1677 -1632م): «ال ت�ؤدي املعرفة الفكرية �إىل التغيري �إال بقدر ما تكون معرفة وجدانية �أي�ض ًا»( .)16وما يقارب هذا املعنى قول كثريين ممن كتبوا يف جمال العقيدة الإ�سالمية من �أن العقيدة تبد�أ من العقل ،وت�ستق ّر يف القلب. وعلى الرغم من �أن الفال�سفة َج َهدوا يف التمييز بني (املعرفة) و(الإميان) ،ونظروا �إىل الربهان الريا�ضي على �أنه مثال نا�صع (للمعرفة)� ،إال �أن هذا الربهان مبني يف �أ�سا�سه على �شكل من �أ�شكال يف احلقيقة ّ (الإميان) ،وهو الت�سليم مبجموعة من امل�سلمات؛ فلن نقتنع بالربهان �إذا مل ن�س ّلم باملبادئ الأ�سا�سية التي ُبني عليها النظام ك ّله؛ فعملية التمييز هذه ال تخلو حقيق ًة واع. واع� ،أو رمبا غري ٍ -يف بع�ض جوانبها– من زيف ٍ
127
المراجع ( )1بوغو �سالف�سكي وزمال�ؤه ،يف املادية الدياليكتيكية واملادية التاريخية ،ترجمة :خريي ال�ضامن ،دار التقدّم :مو�سكو1975 ،م� ،ص.15 ( )2حقّقه �أحمد �سليم �سعيدان بعنوان( :هند�سة �إقليد�س يف �أيدٍ عربية) ،دار الب�شري :ع ّمان1411 ،هـ1991 /م. ( )3ملزيد من املعلومات انظر املرجع ال�سابق. ( )4مث ًال :تايل العدد (�صفر) هو العدد ( ،)1وتايل العدد ( )1هو العدد ( ،)2وهكذا. ( )5انظر مث ًال: .Books Penguin, K. Devlin, «Mathematics: The New Golden Age», 1988
( )6ملزيدٍ من املعلومات انظر :حممود باكري ،هل معنى البديهية بديهي؟ يف «درا�سات لغوية من منظور ريا�ضي»� ،ص ،87جامعة دم�شق2015 ،م. (7) 1936, Oct. 1, No. 2, Vol. 1, Philosophical Series, Univ. of New Mexico Bulletin.
( )8انظر :جملة املعرفة ،وزارة الثقافة� ،سوريا ،العدد 1999 ،430م� ،ص.116 ( )9ملزيدٍ من املعلومات انظر املرجع ال�سابق. ( )10فل�سفة الكوانتم ،روالن �أمني�س ،ترجمة� :أحمد ف�ؤاد با�شا ،ومينى طريف اخلويل ،عامل املعرفة ،الكويت2008 ،م� ،ص.88 ( )11انظر :العلم يف منظوره اجلديد ،روبرت م� .أغرو�س ،وجورج ن� .ستان�سيو ،ترجمة :كمال خاليلي ،عامل املعرفة ،الكويت ،العدد � ،134ص.91 ،90 ( )12ملزيد من املعلومات حول ال�سلع الروحية واملادية انظر املرجع ال�سابق. ( )13الربهان يف الفل�سفة ،حممد بديع الك�سم ،ترجمة :جورج �صدقني ،وزارة الثقافة� ،سوريا1991 ،م� ،ص.68 ( )14انظر :العلم يف منظوره اجلديد� ،ص.58 ( )15املنطق وفل�سفة العلوم ،بول موي ،ترجمة :ف�ؤاد ح�سن زكريا ،دار العروبة للن�شر والتوزيع :الكويت1401 ،هــ1981 /م� ،ص.116 ( )16جملة املعرفة ،وزارة الثقافة� ،سوريا ،العدد 1999 ،430م� ،ص.128
مستقبليات
يبدو أننا قد تناسينا في خضم الضجة المثارة حول المخاطر واألزمات التي تواجه ُ البشرية اليوم مسؤوليتنا تجاه مستقبل كثير من األجيال المقبلة ،ليس مستقبل هؤالء الذين سيعيشون بعد 200عام من الوقت الحاضر فحسب ،بل هؤالء الذين نأمل أنهم سوف ُيولدون ويعيشون بين ألف عام وعشرة آالف عام من اآلن. إنني أستخدم كلمة (نأمل) لوجود احتمالية أال تجد هذه األجيال فرصة الوجود من األساس؛ ألننا نواجه مخاطر حقيقية، تهدد بمحو أسميها مخاطر الوجود، ّ ّ الجنس البشري من الوجود .هذه المخاطر تهدد الحاضر ليست الكوارث الكبرى التي ّ والمستقبل القريب فحسب ،وإنما أيض ًا تلك الكوارث التي قد تضع حد ًا للتاريخ البشري الذي نعرفه. ظهر عبر التاريخ كثيرون ممن رفضوا تجاهل التفكير بشأن المستقبل البعيد؛ فقد حاول المتن ّبئون أمثال نوستردام (1566 -1503م)
()1
مرار ًا أن يتنبئوا بنهاية العالم.
128
التهديدات الخمسة
الكبرى للوجود البشري 129 د .أشرف محمد خليفة محاضر بقسم الموارد الطبيعية بمعهد البحوث والدراسات اإلفريقية (جامعة القاهرة)
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
130
حماوالت لت�أ�سي�س علم التنبوء بامل�ستقبل
محاوالت سابقة
حاول الكاتب والفيل�سوف الربيطاين هربرت جورج ويلز (1946 -1866م)(� )2أن ي� ّؤ�س�س لعلم التنب�ؤ مب�ستقبل الب�شرية ،ور�سم يف كتابه املعروف (�آلة الزمن) �صور ًة مل�ستقبل الب�شرية البعيد .وحذا كثري من الكتّاب احلذو ذاته يف حماوالت متعددة لو�ضع ت�ص ّور للم�ستقبل أهداف �أخرى البعيد؛ بهدف التحذير مما هو � ٍآت� ،أو ل ٍ كالتن ّدر وا�ست�شراف امل�ستقبل .لكن يف ال�سابق ،على الرغم من �أعمال ه�ؤالء الرواد وم�ست�شريف امل�ستقبل، ف�إنه مل يحدث �شيء ي�ستحقّ الذكر بخ�صو�ص حماوالت الب�شر جت ّنب الكوارث امل�صريية التي ته ّدد الب�شرية. ونحن اليوم يف و�ضع �أف�ضل؛ فالن�شاط الب�شري �أ�صبح قادر ًا على ت�شكيل م�ستقبل هذا الكوكب ،ومع �أننا ال نزال بعيدين من ال�سيطرة على الكوارث الطبيعية
�إال �أننا -نحن اجلن�س الب�شري -ط ّورنا كثري ًا من التكنولوجيات التي ت�ساعد على احلد من الأ�ضرار� ،أو على الأق ّل التعامل معها .نعم ،هذه املخاطر الوجودية تبقى حتت الدرا�سة ،وهناك �شعور بانعدام احليلة، وا�ستحالة احل ّل جتاه هذه املع�ضالت .وحتدث النا�س وتناق�شوا حول املع�ضالت الكارثية �آالف ال�سنني، لكن القليلني فقط هم من حاولوا منع هذه الكوارث، والنا�س عاد ًة عاجزون عن عمل �أي �شيء جتاه تلك امل�شكالت التي مل تقع بعد ،ويرجع ذلك جزئي ًا �إىل اتّباع �أ�سلوب التعلم باال�ستك�شاف؛ فالنا�س مييلون �إىل ت�ضخيم احتمالية الأحداث التي �سبق �أن عرفنا مناذج منها ،والتهوين من �ش�أن الأحداث التي ال ن�ستطيع ا�ستدعاء ذكراها. ويعني اندثار اجلن�س الب�شري مبفهومه الأ�ضيق فقد
ال يمكن فعل شيء
كانت أزمة الصواريخ الكوبية على شفا تتحول إلى حرب نووية ،وإذا افترضنا أن ّ أن مثل هذا الحدث يمكن أن يقع مرةً واحدةً ّ تحوله كل 96عاماً ،وأن فرصة ّ إلى حرب نووية كاملة تبلغ الثلث ،فإن فرصة حدوث مثل هذه الكارثة لتقع هي مرة واحدة كل مئتي عام
قد تتغيرّ االحتماالت عرب الزمن؛ لأننا �أحيان ًا ن�أخذ هذه املخاطر بعني اجل ّد ،ون�ستطيع �إيجاد احللول املنا�سبة لنتجنبها .و�أخري ًا ،ف�إن كون �شيء ما ممكن ًا، ومي ّثل خطر ًا حمتم ًال ،ال يعني �أنه من املفيد �أن نقلق ب�ش�أنه؛ فبع�ض املخاطر لي�س يف ا�ستطاعتنا �أن نفعل � ّأي �شيء جتاهها؛ مثل احتمالية الإ�صابة بوابل �أ�شعة جاما التي تن�ش�أ عن انفجار املجرات� .إننا �إذا عرفنا �أن يف ا�ستطاعتنا فعل �شيء حيال اخلطر فرمبا تتغيرّ الأولويات؛ فمث ًال :مع توافر ال�صرف ال�صحي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
انتقالها �إىل الأجيال الالحقة (التي رمبا يكون بع�ضهم ممن �سيعي�شون يف الف�ضاء اخلارجي وقتها)، وهو ما يه ّدد فر�ص قدرتهم على ت�أ�سي�س قيم �أخالقية خا�صة بهم؛ لأنه �إذا ُفقد الوعي والذكاء ف�إن ذلك يعني �أن القيم نف�سها �أ�صبحت غائب ًة من الكون .وهذا كاف لنعمل على الأمر يف ح ّد ذاته �سبب �أخالقي ٍ منع املخاطر الوجودية املحتملة التي ته ّدد اجلن�س الب�شري من �أن ت�صبح حقيقة ،وعلينا �أال نقبل الف�شل ولو مرة واحدة يف هذا امل�سعى. مع �أخذ هذا الأمر يف احل�سبان ،فقد قمتُ باختيار ما �أرى �أنه املخاطر اخلم�س الكربى التي تهدد الوجود الب�شري ،لكننا يف الوقت ذاته يجب �أن ن�ضع يف ح�سباننا �أن هذه القائمة من املخاطر لي�ست نهائية؛ فقد اكت�شفنا� ،أو �صنعنا ب�أيدينا ،خالل القرن املا�ضي خماطر وجودية جديدة؛ فقبل م�شروع مانهاتن( )3مل تكن احلرب النووية ممكن ًة؛ لذلك ف�إننا يجب �أن نتو ّقع ظهور خماطر وجودية جديدة كلما �سعى الإن�سان �إىل حياة كل �أفراد اجلن�س الب�شري ،ومعها تنتهي كل مزيدٍ من القوة وال�سيطرة ،وكذلك ف�إن بع�ض املخاطر �أهدافهم ،لكن انقرا�ض اجلن�س الب�شري رمبا يعني التي قد تبدو خطري ًة اليوم قد تختفي وتتال�شى غد ًا؛ �أكرث من ذلك بكثري؛ فهو يعني فقد املعاين والقيم لأننا نوا�صل التع ّلم واالبتكار. الأخالقية التي ُوجدت عرب الأجيال ال�سابقة ،و ُمنع
131
والتطعيمات وامل�ضادات احليوية تغيرّ ت النظرة �إىل وباء الطاعون من كونه فع ًال وغ�ضب ًا �إلهي ًا �إىل كونه عوار ًا ي�صيب ال�صحة العامة ميكن التعامل معه. والآن هيا بنا ننظر �إىل قائمة املخاطر الوجودية اخلم�س الكربى:
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الحرب النووية
132
على الرغم من �أن الأ�سلحة النووية مل تُ�ستخدم �سوى مرتني يف هريو�شيما وجنازاكي خالل احلرب العاملية الثانية ،و�أن خمزون ال�سالح النووي قد انخف�ض مقارن ًة بكميته التي بلغت ذروتها يف �أثناء احلرب الباردة ،ف�إنه من اخلط�أ ظنّ �أن �شبح احلرب النووية قد زال �أو مل يع ّد �أمر ًا حمتم ًال؛ لأن �أزمة ال�صواريخ الكوبية كانت على �شفا �أن تتح ّول �إىل حرب نووية ،و�إذا افرت�ضنا �أن
أسلحة أكثر فعاليةً على الرغم من أن األسلحة ستبدو أصغر إال أنها ستكون أكثر دقةً وفعاليةً من الصورة التي نعرفها عن األسلحة حالياً؛ ذكي س ّم فهي ربما ستبدو شيئ ًا مثل ُ ّ يبدو في ظاهره -مثالً -كغاز األعصاب، لكنه في الواقع يتخ ّير ضحاياه ،أو حتى على هيئة روبوت حشري يراقب النظم والمجتمعات طوال الوقت ،ويجبرها على اإلذعان والطاعة ،وهو أمر على الرغم من غرابته ال يبدو مستحيالً.
�شبح احلرب النووية ال يزال قائم ًا
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ال�سوفييتي ال�سابق ممتلئ باحلوادث اخلطرية التي مل نعرف عنها �شيئ ًا ،والتي كان من املمكن �أن تتح ّول ولو باخلط�أ �إىل حروب نووية مد ّمرة .وتتغيرّ االحتمالية امل�ؤ ّكدة وفق ًا للو�ضع والتوتر الدويل ،وهو ما يجعلنا نت�صور �أن فر�صة وقوع احلرب النووية يف الوقت احلا�ضر تقل عن 1000/1لكل عام .وقد ت�ؤدي حرب نووية على م�ستوى كبري بني القوى الكربى �إىل �إبادة مئات املاليني من الب�شر نتيج ًة مبا�شر ًة لالنفجار يف كارثة ي�صعب ت�ص ّورها .وب�صورة مماثلة ،ف�إن الغبار الذري الناجت مي ّثل خطر ًا موازي ًا لت�أثري االنفجار املبا�شر ،ورمبا يعتمد الأثر املدمر للقنبلة ب�صورة �أكرب على الغبار الذري املتخلف عنها ،ومن �أمثلة ذلك �أن قنابل الكوبلت( )4قدّمت �صورة مريعة وم�ص ّغرة ملا ي�شبه يوم القيامة؛ فهي تقتل ك ّل من يبلغه الغبار الذري النا�شئ عنها ،الذي �سينت�شر على م�ستوى العامل ليت�س ّبب يف فناء اجلن�س الب�شري ،لكنها �سالح ي�صعب ت�صنيعه وامتالكه من الناحية العملية مثل هذا احلدث ميكن �أن يقع مرة واحدة كل 69عام ًا ،واالقت�صادية ،وهو ما يجعلها �سالح ًا نظري ًا ،ويجعل وبفر�ض �أن فر�صة حت ّوله �إىل حرب نووية كاملة تبلغ ا�ستخدامها فعلي ًا �أمر ًا �صعب احلدوث. الثلث ،ف�إن فر�صة حدوث هذه الكارثة هي مرة واحدة كل مئتي عام. السيناريو األسوأ لكن الأ�سو�أ هو �أن �أزمة ال�صواريخ الكوبية كانت هي يتم ّثل اخلطر احلقيقي الأكرب يف حال وقوع احلرب احلادثة الأ�شهر التي عرفنا بها فقط ،لكن تاريخ النووية فيما ُيعرف بـ(ال�شتاء النووي)؛ �إذ �سيت�س ّبب الوقائع النووية بني الواليات املتحدة الأمريكية واالحتاد الغبار وال�سخام املت�صاعدان ،اللذان �سي�صالن �إىل طبقة ال�سرتاتو�سفري( )5يف حال حدوث احلرب النووية، يف �إحداث موجة من الربد واجلفاف متتد عدة �سنوات على م�ستوى العامل ،وقد تن ّب�أت درا�سة حديثة عن حاول الكاتب والفيلسوف البريطاني هذا التغيرّ املناخي ب�أنه يف حال حدوثه ف�سوف ي�ؤدي يؤسس لعلم هربرت جورج ويلز أن ّ �إىل �إعاقة منو املزروعات يف �أغلب بقاع العامل عدة التنبؤ بمستقبل البشرية ،ورسم �سنوات .و�إذا حت ّقق هذا ال�سيناريو ف�إن الباليني من في كتابه المعروف «آلة الزمن» الب�شر �سيموتون جوع ًا ،ويرتك فقط �أعداد ًا متف ّرق ًة من صورةً لمستقبل البشرية البعيد الب�شر رمبا ميوتون �أي�ض ًا نتيجة خماطر �أخرى كانت�شار
133
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
134
الوباء مهدد رئي�س للب�شرية
الأمرا�ض .وال�شيء غري امل�ؤ ّكد هو كيف �سيكون ت�أثري حت ّول من قاتل فتّاك عند بداية ظهوره يف �أوروبا �إىل ال�سخام والغبار الذري؛ فف�ض ًال عن طبيعته ونوعيته مر�ض طويل الأمد. �سيكون الأثر الذي يخلفه على الب�شرية متباين ًا ،ولي�ست ول�سوء احلظ ف�إننا �أ�صبحنا الآن قادرين على تخليق �أمرا�ض �أ�سو�أ بكثري من ذلك ،و�أحد �أ�شهر الأمثلة على لدينا حالي ًا طريقة للتنب�ؤ بذلك. ذلك هو :كيف ّمت التعديل اجليني على مر�ض جدري الوباء المهندس بيولوجي ًا (وراثياً)
قتلت الأوبئة الطبيعية �أعداد ًا من الب�شر تفوق تلك التي ماتت يف احلروب ،ومع ذلك ف�إن الأوبئة الطبيعية مل تع ّد غالب ًا من املخاطر الوجودية التي تهدد بفناء اجلن�س الب�شري؛ �إذ �أ�صبح عاد ًة لدى الب�شر املناعة الكافية �ضد امل�سببات املر�ضية ،كما �أن الناجني من الوباء �سي�صبحون �أكرث مقاوم ًة له ،والطبيعة التطورية للطفيليات امل�سببة للأوبئة كذلك جتعلها حتافظ على وجودها من خالل عدم �إفناء العائل الذي تتطفل عليه؛ لذلك فقد ر�أينا �أن ال�سفل�س )6(syphilisقد
المشكلة تكمن في أن الكائنات الذكية تتم ّيز بقدرتها على تحقيق أهدافها، تم وضع األهداف بطريقة لكن إذا ّ خبيثة وسيئة فإن ذلك يقود هذه الكائنات إلى توظيف قدرتها بذكاء لتحقيق هذه األهداف ،وهو ما قد يصل بنا إلى نهايات كارثية
الإرهاب احلكومي يهدد الإن�سانية �أكرث من اجلماعات الإرهابية
الفئران( )7لي�صبح �أكرث فتك ًا ،و�أ�شد �ضراو ًة ،ولي�صبح كذلك قادر ًا على �إ�صابة حتى الأفراد الذين مت تطعيمهم؟ ويظهر العمل احلايل على فريو�س �أنفلونزا الطيور كيف ميكن جعل قدرة الفريو�س على �إحداث العدوى واملر�ض تزداد بفعل التدخل الب�شري املتعمد.
الذكاء المبني على برامج الحاسوب يتحول بسرعة من شيء يمكن أن ّ خاضع لإلنسان إلى قوة رهيبة ويعد سيناريو انفجار ومرعبة، ّ الذكاء أمر ًا ممكن ًا عندما تصبح برامج الحواسيب متطورةً وجيدةً بما يكفي إلنتاج برامج أخرى أفضل بنفسها
ويع ّد حالي ًا اخلطر من قيام �شخ�ص ما ب�إطالق متع ّمد لوباء مد ّمر من هذا القبيل �أمر ًا حمدود ًا ،لكن التقنيات البيولوجية (البيوتوكنولوجي) �أ�صبحت اليوم �أف�ضل و�أرخ�ص؛ حتى �أ�صبح ب�إمكان جمموعات �أو�سع �إنتاج �أمرا�ض �أ�سو�أ و�أخطر .وكان معظم العمل يف جمال الأ�سلحة البيولوجية يتم حتت �إ�شراف احلكومات، ويهدف �إىل تخليق �سالح فتاك ب�شرط �أنه ميكن ال�سيطرة عليه؛ لأن �إفناء اجلن�س الب�شري ال يع ّد مفيد ًا من الناحية الع�سكرية .لكنه دائم ًا ما يكون هناك بع�ض النا�س يرغبون يف عمل �أ�شياء ملجرد �إثبات �أنهم قادرون على فعل ذلك ،ولفت الأنظار �إليهم .وهناك �آخرون لهم �أهداف �أبعد؛ مثل طائفة �أميو �شيرنيكي و Aum Shi n rikyoالدينية اليابانية ،التي حاولت وفق ًا ملعتقداتها ت�سريع الو�صول �إىل نهاية العامل من خالل ا�ستخدام الأ�سلحة البيولوجية وغاز الأع�صاب يف هجماتهم التي ّمتت على مرتو الأنفاق يف طوكيو عام 1985م. ويعتقد بع�ض النا�س فع ًال �أن كوكب الأر�ض �سيكون �أف�ضل حا ًال من دون وجود االن�سان؛ لذلك فهم ي�سعون �إىل تخلي�ص الكوكب من ال�شر الب�شري. يبدو �أن عدد من يلقون حتفهم نتيجة ا�ستخدام الأ�سلحة البيولوجية يتّخذ �شكل دالة أُ��سية؛ فمعظم الهجمات تت�س ّبب يف �سقوط عدد حمدود من ال�ضحايا ،ومع ذلك ف�إن هذا العدد املحدود يكون كبري ًا؛ فالعدد املتو ّقع من خطر وباء بيولوجي ينت�شر على م�ستوى العامل نتيج ًة لعمل �إرهابي رمبا يكون قلي ًال ،لكن قدرة هذه اجلماعات الإرهابية تع ّد حمدود ًة �إذا قورنت بقدرة احلكومات واجليو�ش النظامية التي ت�ستطيع قتل �أعداد �أكرب كثري ًا من النا�س �إذا جل�أت �إىل ا�ستخدام ال�سالح البيولوجي؛ فمث ًالُ :قتل ما يزيد على � 400ألف ن�سمة نتيجة الربنامج البيولوجي الع�سكري الياباين خالل احلرب العاملية الثانية.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الحكومات أخطر من الجماعات اإلرهابية
135
ولأن التكنولوجيا تتطور ب�سرعة ،وت�صبح �أكرث كفاءة وقدرة ،ف�إن امل�ستقبل القريب قد يحمل �أوبئة مهند�سة وراثي ًا � Bioengineered pandemicأ�سو�أ بكثري مما قد نتخ ّيل ،و�أ�سهل يف الت�صميم والتنفيذ. الذكاء الفائق
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الذكاء يف ح ّد ذاته قوة رهيبة ،وزيادة طفيفة يف القدرة على ح ّل امل�شكالت وتنظيم املجموعة هو ما جعلنا نطرح الأنواع الأخرى من القرود �أر�ض ًا ،والآن يع ّد ا�ستمرار وجودهم وحياتهم على الأر�ض قرار ًا بيد الإن�سان ّ بغ�ض النظر عما يفعلونه.
136
�أن تكون ذكي ًا ميزة فعلية لدى النا�س واملنظمات الب�شرية؛ لذلك ف�إن كثري ًا من اجلهود تُبذل لإيجاد الطرائق التي ميكن بها تطوير الذكاء الفردي واجلماعي للجن�س الب�شري وتنميته ،بداي ًة من عقاقري حت�سني الإدراك �إىل برامج احلو�سبة اخلا�صة بالذكاء ال�صناعي. وتكمن امل�شكلة يف �أن الكائنات الذكية تتم ّيز بقدرتها على حتقيق �أهدافها ،لكن �إذا ّمت و�ضع الأهداف بطريقة خبيثة و�سيئة ف�إن ذلك يقود هذه الكائنات �إىل توظيف قدرتها بذكاء لتحقيق هذه الأهداف ،وهو ما قد ي�صل بنا �إىل نهايات كارثية. ولي�س هناك �سبب معقول يجعلنا نظنّ �أن وجود الذكاء
الذكاء الفائق قد يخرج عن دائرة ال�سيطرة
كفاءة وقدرة؛ لذلك فإن المستقبل هندسةً وراثي ًا القريب قد يحمل أوبئةً ُم َ أسوأ بكثير مما قد نتخ ّيل ،وأسهل في التصميموالتنفيذ
يف ح ّد ذاته �سيجعل الأ�شياء تت�ص ّرف بطريقة ح�سنة و�أخالقية؛ فاحلقيقة �أنه من املمكن �إثبات �أن �أنواع ًا معينة من النظم الفائقة الذكاء رمبا لن تطيع القواعد الأخالقية فيما لو كانت �صحيحة .قد يكون من املقلق �أكرث �أن حماولة �شرح الأ�شياء للآالت ذات الذكاء اال�صطناعي يجعلنا ننزلق �إىل م�شكالت كبرية من الناحيتني التطبيقية والفل�سفية. تع ّد القيم الإن�سانية عميق ًة ومع ّقد ًة �إىل ح ّد �أننا �أحيان ًا جند �أنف�سنا عاجزين عن �شرحها �أو التعبري عنها، وحتى عندما ن�شرحها رمبا جند �أنف�سنا ال نفهم ك ّل ما تت�ضمنه هذه القيم من �أ�سباب جتعلنا نتم�سك املبني على برامج احلا�سوب �أن بها .وميكن للذكاء ّ يتحول ب�سرعة من �شيء خا�ضع للإن�سان �إىل قوة رهيبة ومرعبة ،ويع ّد �سيناريو انفجار الذكا ء inte l � )8(ligence explosionأمر ًا ممكن ًا عندما ت�صبح برامج احلوا�سيب متطورة وجيدة مبا يكفي لإنتاج برامج �أخرى �أف�ضل بنف�سها .و�إذا حدثت تلك القفزة ف�سيكون هناك تغيرّ كبري يف موازين القوى بني هذه النظم الذكية (�أو الب�شر الذين يخربونها مبا يجب �أن تفعل) وك ّل العامل .و�إذا حت ّقق هذا ال�سيناريو ف�ستقع كارثة حم ّققة �إذا كانت الأهداف املو�ضوعة �سيئة وخبيثة. ال�شيء غري املعتاد بخ�صو�ص هذا الذكاء اخلارق/
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
التكنولوجيا تتطور بسرعة ،وتصبح أكثر
137
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
138
الفائق intelligence Superهو �أننا ال نعلم �إذا كان هذا الت�سارع وتلك القوة اللذان ميكن �أن يقودا �إىل حدوث �سيناريو انفجار الذكاء هما �أمر ممكن احلدوث حق ًا �أم ال .رمبا تكون ح�ضارتنا احلالية كلها تط ّور نف�سها ب�أق�صى معدل ممكن ،لكن هناك �أ�سباب قوية جتعلنا نف ّكر يف �أن بع�ض التقنيات /التكنولوجيات رمبا ت�س ّرع من الأمور مبعدالت �أ�سرع من �أن تتعامل معها املجتمعات احلالية .وباملثل ،ف�إننا ال منلك �شيئ ًا ملمو�س ًا عن مدى خطورة ال�صور املختلفة من الذكاء اال�صطناعي اخلارق� ،أو كيف ميكن لإ�سرتاتيجيات التعامل وتقليل ال�ضرر �أن تعمل؛ ف�إنه من ال�صعب جد ًا �أن نتن ّب�أ بخ�صو�ص تقنية م�ستقبلية ال منلكها بعد� ،أو �أن تكون �أكرث ذكا ًء من الب�شر �أنف�سهم. �أما عن املخاطر الواردة يف هذه القائمة ،فرمبا يكون خطر الذكاء اال�صطناعي اخلارق هو �أكرثها خطور ًة، التعجب يف هذا �أو �أنه جمرد �سراب ،ومن دوافع ّ
من دوافع التعجب أنه منذ خمسينيات القرن الماضي وستينياته عندما كان الناس واثقين بأن الذكاء االصطناعي الخارق يمكن أن يتحقّ ق خالل مدة ال تتجاوز الجيل الواحد فإنهم لم ينظروا إلى مسائل األمان
املو�ضوع �أنه منذ خم�سينيات القرن املا�ضي و�ستينياته عندما كان النا�س واثقني ب�أن الذكاء اال�صطناعي اخلارق ميكن �أن يتح ّقق خالل مدة ال تتجاوز اجليل الواحد ف�إنهم مل ينظروا �إىل م�سائل الأمان ،ورمبا كان ذلك ب�سبب �أنهم مل ي�أخذوا توقعاتهم بجدية، لكن الأكرث احتمالي ًة �أنهم رمبا ر�أوا �أن هذه امل�شكلة ال تخ�ص امل�ستقبل البعيد. تخ�صهم ،بل ّ ّ
عواقب الذكاء اال�صطناعي تخ�ص امل�ستقبل البعيد
تعني تقنية اجلزيئات النانومرتية (النانو تكنولوجي )Nanotechnologyالتح ّكم يف املادة على م�ستوى الذرة �أو اجلزيء ،وال يع ّد هذا الأمر يف ح ّد ذاته خطري ًا، بل على العك�س يع ّد �أمر ًا جيد ًا ملعظم التطبيقات ،لكن امل�شكلة -مثلما هو احلال يف التقنيات احليوية� -أنه كلما زادات القوة املمنوحة زادات معها خماطر �إ�ساءة ا�ستخدام هذه القوة ،و�صعوبة مواجهة ذلك .وال تكمن ()9 امل�شكلة الكربى يف فر�ضية اجلرايجوو Grey Goo ال�سيئة ال�سمعة التي تفرت�ض اال�ستن�ساخ الذاتي للآالت النانومرتية فت�أكل ك ّل �شيء يف بيئتها؛ �إذ يتط ّلب حدوث ذلك ت�صميم ًا ذكي ًا لهذا الغر�ض خا�ص ًة ،ومن ال�صعب �أن ت�صنع �آلة ت�ستن�سخ نف�سها؛ لأن البيولوجيا هي الأمثل لذلك يف الطبيعة ،ورمبا ينجح �شخ�ص مهوو�س يف �إحداث هذه الفر�ضية بامل�صادفة ،لكن هناك كثري من الفاكهة الأقرب منا ًال يف �شجرة تكنولوجيا الدمار ال�شامل. وتكمن امل�شكلة احلقيقة للنانو تكنولوجي يف �أن ال�صناعات القائمة على الدقة الذرية atomically precise manufacturingتبدو مثالي ًة لإنتاج �سريع ورخي�ص لأ�شياء مثل الأ�سلحة ،ويف عامل تكون فيه احلكومة قادر ًة على (طباعة) كميات كبرية من
القيم اإلنسانية عميقة ومعقّ دة حد أننا أحيان ًا نجد أنفسنا عاجزين إلى ّ عن شرحها أو التعبير عنها ،وحتى عندما نشرحها ربما نجد أنفسنا ال نفهم ّ كل ما تتضمنه هذه القيم من أسباب تجعلنا نتمسك بها
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
النانو تكنولوجي
النانو التكنوولوجي� ..أ�سلحة �أ�صغر وفاعلية �أكرث
الأ�سلحة امل�ستقلة (تعمل من دون احلاجة �إىل العن�صر الب�شري) �أو �شبه امل�ستقلة ،والتجهيزات الالزمة لبناء مزيدٍ منها� ،سي�صبح �سباق الت�سلح �أ�سرع بكثري، و�سي�صبح توجيه ال�ضربة الع�سكرية الأوىل هدف ًا مغري ًا يف ح ّد ذاته قبل �أن يكت�سب الأعداء فر�صة بناء مزيدٍ من الآليات الع�سكرية. وعلى الرغم من �أن الأ�سلحة �أي�ض ًا �ستبدو �أ�صغر �إال �أنها �ستكون �أكرث دق ًة وفعالي ًة من ال�صورة التي نعرفها عن الأ�سلحة حالي ًا؛ فهي رمبا �ستبدو �شيئ ًا مثل ُ�س ّم ذكي يبدو يف ظاهره -مث ًال -كغاز الأع�صاب ،لكنه ّ يف الواقع يتخيرّ �ضحاياه� ،أو حتى على هيئة روبوت ح�شري )10(gnatbotيراقب النظم واملجتمعات طوال الوقت ،ويجربها على الإذعان والطاعة ،وهو
139
�أمر على الرغم من غرابته ال يبدو م�ستحي ًال .ورمبا �أي�ض ًا �ستكون هناك طرائق للح�صول على �سالح نووي ب�صورة �سهلة �سريعة� ،أو التحكم يف املناخ وا�ستعماله �سالح ًا؛ لذلك �سي�صبح يف متناول جميع من يرغبون يف امتالك هذه الأ�سلحة. ال ميكننا احلكم على ال�صورة التي �سيكون عليها اخلطر الوجودي الذي يه ّدد م�ستقبل الب�شرية بفعل النانو تكنولوجي ،لكننا ميكن �أن نقول� :إنه �سيكون �سبب ًا للدمار املحتمل فقط؛ لأنه �سيعطي الب�شر ما يتم ّنون من قوة وقدرة على �إيجاد الرخاء �أو الدمار.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
األخطار غير المعلومة
140
الفر�ضية الأكرث �إحداث ًا للقلق هي تلك التي تقول: رمبا يكون هناك �شيء خميف ينتظر م�ستقبل الب�شر، وهو �أ�شد فتك ًا و�شرا�س ًة ،لكننا مازلنا ال نعلم �شيئ ًا عنه؛ فال�سكون الذي ّ يلف ال�سماء من حولنا رمبا
ال يمكننا الحكم على الصورة التي سيكون عليها الخطر الوجودي الذي يهدد مستقبل البشرية بفعل النانو ّ تكنولوجي ،لكننا يمكن أن نقول :إنه سيكون سبب ًا للدمار المحتمل فقط؛ ألنه سيعطي البشر ما يتمنّون من قوة وقدرة على إيجاد الرخاء أو الدمار
يكون دلي ًال على ذلك؛ فهل حق ًا غياب املخلوقات الف�ضائية العاقلة aliensهو نتيجة لأن احلياة �أو الذكاء هما �شيء نادر جد ًا يف هذا الكون� ،أم �أن هناك اجتاه ًا �أو �سبب ًا ميحو احل�ضارات العاقلة من الكون؟ هل هناك م�صفاة م�ستقبلية هائلة ق�ضت على ح�ضارات �أخرى موازية لنا يف الكون من دون �أن
فر�ضية� :شيء خميف ينتظر م�ستقبل الب�شر
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
احلياة ت�ستمر على الرغم من التغري املناخي
ي�سعى �أحد منهم �إىل م�ساعدتنا �أو حتذيرنا؟ �أي ًا كان نوع هذا التهديد فهو يبدو �شيئ ًا ال ميكن منعه، حتى عندما تعرف �أنه هناك ،من دون النظر �إىل من تكون� ،أو ماذا ميكنك �أن تفعل؛ فنحن ال نعلم � ّأي �شيء عن مثل هذه التهديدات ،لكنها رمبا تكون بالفعل قائم ًة ،ولي�ست هناك خماطر �سبق ذكرها يف هذه القائمة تبدو �أنها حتمل هذه ال�صفة نف�سها. وال بد �أن ن�شري هنا �إىل �أن جم ّرد جهلنا بال�شيء ال يعني �أننا غري قادرين على تو ّقعه؛ ففي ورقة بحثية مم ّيزة للعاملني :ماك�س تيجمارك ،ونيك بو�سرتو(� )11أ�شارا �إىل �أن جمموعة حمدّدة من املخاطر الوجودية قد تقع بن�سبة فر�صة واحدة لك ّل بليون �سنة؛ اعتماد ًا على حتليالت علمية مرتبطة بالعمر الن�سبي لكوكب الأر�ض.
التغير المناخي ال ُيفني الحياة ّ
تتعجب من �أننا مل نذكر التغيرّ املناخي ،وخطر رمبا ّ الأج�سام والنيازك الف�ضائية يف هذه القائمة؛ فالتغيرّ املناخي ّ بغ�ض النظر عن مدى خطورته ال يت�ص ّور �أنه �سيت�س ّبب يف جعل كل كوكب الأر�ض غري م�أهول باحلياة �إال �إذا تداخل مع عوامل وتهديدات �أخرى ف�شلنا يف جمابهتها ،وكذلك الأج�سام الف�ضائية والنيازك قد متحو احلياة على كوكب الأر�ض ،لكن حلدوث ذلك ال بد �أن نكون �سيئي احلظ جد ًا؛ ف�أنواع الثدييات املتو�سطة قد جنت وا�ستمرت يف احلياة خالل املليون عام املن�صرمة ،كما �أن معدل انقرا�ض الأنواع الطبيعي the background natural extinction rateهو بالتقريب واحد لك ّل مليون عام ،وهو �أق ّل بكثري من خطر
141
اندالع حرب نووية ال تزال بعد 70عام ًا هي التهديد التي نراها دائم ًا ماثل ًة �أمامنا يف و�سائل الإعالم ،ونق ّلل الأكرب الذي يهدّد الوجود الب�شري. من خطورة التهديدات التي مل مت ّر بنا من قب ُل ،و�إذا ويجعلنا مدى توافر �إمكانية �أن نتع ّلم عن طريق �أردنا �أن ي�ستمر اجلن�س الب�شري يف الوجود فعلينا �أن اال�ستك�شاف ن�سلك �سلوك ًا نبالغ فيه عند تقييم املخاطر نغيرّ هذا ال�سلوك. (*) هذا املقال مرتجم عن مقال للكاتب �أندر�س �ساندبريج؛ الباحث يف معهد م�ستقبل الإن�سانية بجامعة �أك�سفورد ،بعنوان:
“The five biggest threats tohuman existence” by Anders Sandberg, May 29, 2014.
على الرابط:
https://theconversation.com/the-five-biggest-threats-to-human-existence-27053.
وقد ّمت احل�صول على موافقة امل�ؤلف على الرتجمة بوا�سطة الربيد الإلكرتوين من دون �أيّ �شروط �أو متط ّلبات.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
المراجع والهوامش
142
( )1مي�شيل دي نو�سرتدام :ع ّراف ومتنبئ فرن�سي ،ن�شر عدد ًا من التنب�ؤات التي حدث بع�ضها بالفعل ،واكت�سبت نبوءاته �شهرة عاملية. ( )2هربرت جورج ويلز :كاتب وفيل�سوف �سيا�سي بريطاين ،ا�شتهر بق�ص�صه وكتاباته التي اهت ّمت بجميع مناحي احلياة؛ من اجتماع واقت�صاد وعلم و�أدب وفل�سفة ،خ�صو�ص ًا فيما كتبه من ق�ص�ص اخليال العلمي. ( )3م�شروع منهاتن :م�شروع بحثي تطبيقي �أ�سفر عن �إنتاج �أول �سالح نووي خالل احلرب العاملية الثانية ،وكان امل�شروع بقيادة الواليات املتحدة الأمريكية بالتعاون مع بريطانيا وكندا .وكان امل�شروع يف املدة (1946 -1942م) حتت �إدارة :املهند�س الع�سكري اجلرنال ليزيل جروف (-1869 1970م) ،والفيزيائي روبرت �أوبنهامير مدير معمل لو�س �آملو�س الوطني الذي �ص ّمم �أول قنبلة نووية فعلية. ( )4قنبلة الكوبلت :قنبلة افرتا�ضية قدّم فكرتها الفيزيائي ال�شهري ليو �سزلريد يف فرباير عام 1950م ،وتقوم فكرتها على �أ�سا�س ن�شر الغبار يتم ت�صنيعها فعلي ًا ب�سبب التكلفة العالية و�شبه الذري امل�شع لأحد نظائر عن�صر الكوبلت ،وهي نظري ًا قادرة على �إفناء اجلن�س الب�شري ك ّله ،لكن مل ّ اال�ستحالة التقنية لتنفيذها. ( )5طبقة ال�سرتاتو�سفري :الطبقة الثانية من طبقات الغالف اجلوي ،ويبلغ متو�سط ارتفاعها عند بدايتها م�سافة 13-10كيلومرت ًا من �سطح الأر�ض ،وتنتهي على ارتفاع 50كيلومرت ًا تقريب ًا ،وتتم ّيز ب�أن درجة احلرارة فيها تزداد كلما اجتهنا �إىل �أعلى ،وبوجود طبقة الأوزون يف اجلزء ال�سفلي منها. ( )6ال�سفل�س :مر�ض جن�سي ظهر �أول مرة يف �أوربا عام 1495م ،وكان يع ّد عند ظهوره الأول وبا ًء قات ًال يقتل ك ّل َمن ي�صيبه فور ًا ،لكن املر�ض �أ�صبح �أق ّل فتك ًا بعد مرور عدة �سنوات ل�سبب غري معروف ،ثم حت ّول خالل ال�سنوات اخلم�سني الالحقة �إىل مر�ض متو�سط الأ�ضرار ي�ستمر مع املري�ض مد ًة طويل ًة. (7) http://jvi.asm.org/content/75/3/1205.long.
( )8انفجار الذكاء� :سيناريو نظريّ يفرت�ض �أن تتم ّكن �آلة ذكية من فهم العملية التي ّمت بها �إنتاج ذكائها وحتليلها وتطويرها ،وا�ستخدام ذلك يف �إنتاج �آلة �أخرى �أكرث ذكا ًء ،وكذلك تفعل الآلة اجلديدة حتى ت�صل العملية �إىل قدرة الآالت الذكية -من دون تدخّ ل ب�شري -على �أن تنتج �آالت �أخرى �أكرث ذكاء ومهارة من اجلن�س الب�شري .وقد ّمت تقدمي هذا ال�سيناريو �أول مرة عام 1965م بوا�سطة عامل الريا�ضيات واحلو�سبة الذكية الربوفي�سور �إيرفينج جوود (2009 -1916م). ( )9اجلرايجوو :نظرية افرتا�ضية ت�ضع �سيناريو لنهاية العامل يرتبط بتقنية النانو تكنولوجي اجلزيئية؛ �إذ تفرت�ض وجود ا�ستن�ساخ ذاتي للروبوت (الإن�سان الآيل) self-replicating robotsخارج عن ال�سيطرة الب�شرية ،وت�ستهلك الروبوتات ك ّل املواد اخلام املوجودة على كوكب الأر�ض خالل بنائها لذواتها امل�ستن�سخة ،و ُي�س ّمى هذا ال�سيناريو (الإيكوفاج /ecophagyالتهام البيئة) .والفكرة الأ�صلية التي ُبني عليها هذا ال�سيناريو تفرت�ض �أن هذه الآالت (الروبوتات) ُ�ص ِّممت لتمتلك هذه القدرة على ن�سخ �أنف�سها ،لكن الفكرة الأكرث انت�شار ًا و�شعبي ًة تفرت�ض �أن الروبوتات قد اكت�سبت هذه القدرة بامل�صادفة نتيج ًة حلادث طارئ .وقد ُو�صفت هذه الآالت الذاتية اال�ستن�ساخ �أول مرة بوا�سطة العامل الريا�ضي جون فون نيومان� .أما م�صطلح اجلرايجوو ،فقد ابتكره رائد علم النانو تكنولوجي �إيريك دريك�سلر ،وذكره يف كتابه (حم ّركات اخللق )Engines of Creationعام 1986م. ( )10روبوت (�آيل) �صغري يتّخذ غالب ًا مظهر احل�شرات ،وي�ستخدم للمراقبة. (11) M. Tegmark and N. Bostrom, Nature, 438, 754 (2005).
محمد الفالح
عدسة علمية
مصور سعودي ّ
نفود الثويرات مصور يحاول اقتناص منظر ال��غ��روب مع التكوينات ّ الرملية في نفود الثويرات ،وهي أطول سلسلة نفود فيالمملكةالعربيةالسعودية.
مشهد مع النجوم المصور يبيت في البحيرة السابعة من البحيرات السبع ّ التي يستغرق الوصول إليها ساعات من المشي في أعالي الجبال سير ًا على األقدام ،ويبدو مشهد النجوم المتأللئة في تلك البحيرة صافي ًا وبراق ًا بسبب عدم وجود إضاءة في المكان.
طفالن من بوتان طفالن من مملكة بوتان في ز ّيهما التقليدي ،وتقع هذه الدولة في الطرف الشرقي من جبال الهيمااليا ُسمى (مملكة السعادة) بسبب سعادة بجنوب آسيا ،وت َّ شعبها لعدم اختالطهم ب��ال��دول األخ���رى ،وصعوبة سفر أبنائها إلى الخارج ،وتعتمد هذه الدولة على الزراعة ،ولم يدخل إليها التلفاز واإلنترنت إال عام ١٠٠٢م.
أطفال جيدبور أط��ف��ال ي��ق��رؤون ال��ق��رآن مستغلّين إض���اءة النافذة الطبيعية في مدينة جيدبور الهندية التي ال توجد مقومات الحياة ،وقد حقّ قت هذه الصورة بها أبسط ّ ذهبية جائزة مهرجان األردن العربي الثاني عشر للصورةالفوتوغرافية.
تراث
سبق أطباء اإلغريق ،ومن بعدهم أطباء العرب والمسلمين ،الطب الحديث بعدة عدوا بعض الحاالت النفسية قرون حين ّ أمراض ًا جسمية ،وبعض األمراض الجسمية حاالت نفسية ،وأخضعوها للتشخيص والعالج .وتجاوز هؤالء وأولئك نظرة الحضارات القديمة إلى األمراض النفسية على أنها حاالت ناتجة من تسلّط األرواح الشريرة على الجسم ،وهي نظرة استمرت في أوروبا العصور الوسطى؛ إذ كانت تتم ُمعالجة المصابين بهذه األمراض ّ بالتقييد باألغالل واألصفاد والمبالغة في الضرب؛ أم ً ال في إخراج األرواح الشريرة من أجساد أولئك المرضى ،بل إنهم كانوا في العصور المظلمة يلجأون إلى إحراق المرضى النفسيين الذين ُيستعصى شفاؤهم بدعوى استقرار تلك األرواح فيهم.
144
الطب
النفسجسمي عند المسلمين 145 د .بركات محمد مراد أستاذ الفلسفة اإلسالمية ،في كلية التربية بجامعة عين شمس في مصر
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
146
حقق الإغريق نقلة نوعية يف عالج الأمرا�ض النف�سية
ح ّقق �أطباء الإغريق نقلة نوعية يف ت�شخي�ص الأمرا�ض النف�سية ،ويف حماولتهم معاجلتها بعيد ًا من ممار�سة الكهانة وال�شعوذة ،ومن ه�ؤالء� :أبقراط، وجالينو ،وثيوفرا�ست�س ،والإ�سكندر الأفرودي�سي، وح ّقق ثيوفرا�ست�س والأفرودي�سي �شهر ًة وا�سع ًة يف ميدان الأمرا�ض النف�سية ،خ�صو�ص ًا فيما و�صفاه من كتابات عن (املالينخوليا � )Melancholiaأو مر�ض ال�سوداء �أو االكتئاب .و�إذا كنا ال نعرف كثري ًا عن الأمرا�ض النف�سية عند العرب قبل الإ�سالم ف�إن بع�ض الأخبار املتعلقة بط ّبهم وفرا�ستهم ّ تدل على معرفتهم بع�ض هذه الأمرا�ض ،وحماولة عالجها ،كما كان يفعل احلارث بن كلدة ،و�ضماد بن ثعلبة الأزدي ،و ُيروى يف هذا ال�صدد �أن �أحد الأمراء ا�ضطربت نف�س زوجته، وعجز الأطباء يف بالده عن عالجها ،وتبينّ للطبيب
العربي بعد املعاينة الدقيقة �أن مر�ض املر�أة ميكن عالجه باحليلة والإيحاء ،فو�صف لها دوا ًء ،وعزلها ق�صر وحدها ،وا�شرتط �أن يقوم م�ساعده بالعناية يف ٍ باملر�أة املري�ضة ،فرف�ض الأمري يف �أول الأمر هذا مت�سك الطبيب العربي ال�شرط ،لكنه عاد وقبله عندما ّ توجه بر�أيه؛ �أم ًال يف �شفاء زوجته .ويف اليوم التايل ّ م�ساعد الطبيب �إىل املري�ضة يف الق�صر ،و�أخذ يقوم ب�أعمال التدليك ،فا�ستهجنت مه ّمته ،وا�ستجمعت قواها ،و�أخذت تلطم ال�شاب ،ثم نه�ضت م�سرع ًة نحو فهب ذووها �إىل النافذة ،و�أخذت ت�صرخ وت�ستغيثّ ، جندتها ،وكادوا يفتكون بامل�ساعد لوال �أن طلب منهم �إر�ساله �إىل الأمري حيث كان الطبيب العربي موجود ًا، وهناك ك�شف الطبيب عن هوية م�ساعده ف�إذا هي ابنته ،وقال� :إن ما �أقدم عليه كان حيل ًة نف�سي ًة ل�شفاء
المسلمون وعلم النفس
وا�صل الأطباء العرب وامل�سلمون بعد ظهور الإ�سالم طب الإغريق يف �شتى امليادين، جهودهم يف تطوير ّ و�سجلوا يف ذلك �إجنازات طبية ومنها الطب النف�سيّ ، رائعة ،ويرجع ذلك يف الدرجة الأوىل �إىل موقف الإ�سالم ومبادئه من العلم والعلماء ،وح ّثه على طلب العلم من م�صادره كاف ًة ،ونظرته �إىل الأمرا�ض على �أنها ظاهرة حياتية طبيعية ،ودعوته �إىل مداواتها ،والتما�س ال�شفاء منها بالأ�ساليب الطبية العلمية؛ فقد ُروي عن الر�سول الكرمي �صلى اهلل عليه و�سلم نحو ثالثمئة حديث تتع ّلق بقواعد ال�صحة العامة ،منها« :تداووا عباد اهلل؛ ف�إن لك ّل داءٍ دواء �إال الهرم» .ومع �أن الأطباء العرب وامل�سلمني اعتمدوا على نظريات الأمزجة والطبائع والأخالط اليونانية ،التي تقوم على �أ�سا�س حتقيق التوازن واالعتدال بني وظائف اجل�سد وقواه من ناحية ،وظروف تو�صلوا من بيئته ال�صحية من ناحية �أخرى� ،إال �أنهم ّ خالل مطالعتهم و�أبحاثهم وجتاربهم �إىل نتائج فاقت
حقّ ق أطباء اإلغريق نقلةً نوعيةً في تشخيص األمراض النفسية، ومحاولتهم معالجتها بعيد ًا من ممارسة الكهانة والشعوذة، ومن هؤالء :أبقراط ،وجالينو، وثيوفراستس ،واإلسكندر األفروديسي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الأمرية؛ ف�أكرب اجلميع ُبعد نظر الطبيب العربي، و�أجزلوا له املكاف�أة.
�صححوا كثري ًا منها. تو�صل �إليها الإغريق ،بل ّ تلك التي ّ ومن ا�ستقرائنا تاريخ العلوم الطبية ،وم�ؤلفات الرتاث العربي ،وجدنا �أن علم النف�س ت�ش ّكل يف الرتاث الإ�سالمي مبوجهات الوحي ،و�إذا كان كما ت�ش ّكلت معارف امل�سلمني ّ القر�آن الكرمي خا�ص ًة يع ّد قاعد ًة جلميع العلوم الإن�سانية يف الرتاث الإ�سالمي ف�إن علم النف�س كان نتاج ًا جلهد ب�شري تبلورت من خالله مو�ضوعات ومناهج وقيم بحثية و�أطر نظرية م ّيزت هذا املجال� ،سواء من املعارف الإ�سالمية ال�شرعية �أو من اجتهادات ب�شرية طبية. وقد ي�ش ّكك بع�ض الباحثني يف وجود علم النف�س �أ�ص ًال يف الرتاث الإ�سالمي؛ ب�سبب �أنه مل يكن حينئذٍ علم ًا املتخ�ص�صون ،واحلقّ م�ستق ًال قائم ًا بذاته ،يجتمع حوله ّ ُيقال� :إن علم النف�س يف الرتاث الإ�سالمي مل يكن �صنع ًة يجتمع عليها فئة من الدار�سني ،كما كان النحو �صنع ًة جتمع النحويني ،وال�شعر �صنع ًة جتمع ال�شعراء ،لكن ذلك لي�س حج ًة للتدليل على عدم وجود علم النف�س يف الرتاث الإ�سالمي؛ لأن هذا الأمر ينطبق على علم النف�س يف � ّأي مرحلة تاريخية ،وهذه احلقيقة مل تكن �أكرث و�ضوح ًا وجال ًء عما هي عليه اليوم؛ فقد اتجّ ه �إىل علم النف�س تخ�ص�صات متف ّرقة قد ال يجمع بينها املعا�صر علماء من ّ جامع �سوى �شمولية املعرفة ،ويواجه علم النف�س املعا�صر �أزمة هوية ،بامل�ستوى نف�سه الذي واجهها به علم النف�س يف الرتاث الإ�سالمي ،ومع ذلك يتمتّع بنوع من التما�سك الداخلي مينع تف ّككه �إىل علوم نف�سية متعددة. �شمل علم النف�س الإ�سالمي -كما جند جت ّلياته عند خمتلف العلماء واملف ّكرين امل�سلمني -مو�ضوعات كثرية، �أهمها :بيولوجيا ال�سلوك ،والوظائف الذهنية ،والنمو والدوافع ،وال�شخ�صية وال�صحة النف�سية ،و�سيكولوجيا االجتماع ،بل �-إ�ضاف ًة �إىل ذلك -هو علم نف�س من حيث مناهجه؛ �إذ ا�ستخدم علماء الرتاث املناهج التي تُ�س ّمى معا�صر ًة يف هذا العلم؛ كاال�ستبطان ،واملالحظة،
147
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
148
اخلوارزمي
ودرا�سة احلالة ،واملنهج التجريبي الذي ا�ستكمل لدى بع�ضهم عنا�صره كاف ًة التي نعرفها اليوم من فر�ضيات وحت ّكم ور�صد النتائج وتف�سريها. واحلقيقة �أننا ال ميكن �أن ننكر �أن الدرا�سات النف�سية يف الرتاث الإ�سالمي مل تكن جمموع ًة يف جمال معريف واحد ،كما هو معروف اليوم با�سم (ال�سيكولوجيا) ،لكن هذا العلم تو ّزع بني امل�ؤلفات الرتاثية املعنية ب�أ�س�س ال�سلوك البيولوجية ،والكتب النف�سية والفيزيائية والريا�ضية� ،أو ما ُيعرف اليوم
بـ(ال�سيكوفيزياء)� ،إ�ضاف ًة �إىل م�ؤلفات املت�صوفة، وكتب اللغة وفقهها ،وغريها. عالج علماء الرتاث الظاهرات النف�سية ك ّل من زاوية اهتمامه العلمي ،لكنهم من دون ا�ستثناء عاجلوها على وعي تا ّم ب�أنها وظائف وعمليات وعالقات يف النف�س الإن�سانية ،وقد ي�صادف �أن يجمع العامل الرتاث يف النف�س عرب �صف ٍة ،فتتّ�سع معاجلاته الق�ضايا النف�سية بقدر تن ّوع اهتماماته؛ فمنهم َمن عالج الإح�سا�س والإدراك والتعلم وبيولوجيا ال�سلوك يف كتاب واحد
نجد تجلّياته عند مختلف العلماء والمفكرين المسلمين -موضوعات كثيرة ،أهمها :بيولوجيا السلوك، والوظائف الذهنية ،والنمو والدوافع ،والشخصية والصحة النفسية ،وسيكولوجيا االجتماع
األمراض النفسجسمية
مثل ابن �سينا ،ومنهم َمن جمع علم ك ّل ذلك (النمو) اهتم بالإدراك والتع ّلم مثل ابن طفيل ،ومنهم َمن ّ والدافعية والوظائف الوجدانية مثل الغزايل ،ومنهم تخ�ص�ص يف فرعية �سيكولوجية دقيقة مثل ابن َمن ّ الهيثم يف الب�صريات. ويت�ض ّمن الرتاث الإ�سالمي يف جمال الدرا�سات النف�سية دُرر ًا مل ُيك�شف عن كثري منها �إىل الآن ،وما ظهر منها ينطوي على قيمة كربى من الناحية العلمية ،وقد �أ ّثرت درا�سات ابن �سينا والفارابي والغزايل وغريهم ت�أثري ًا كبري ًا يف علماء الغرب ،خ�صو�ص ًا يف بداية النه�ضة الغربية احلديثة. تأثير ابن سينا في علماء الغرب
البن �سينا ق�صيدة طويلة م�شهورة يف النف�س وارتباطها بالبدن ،ودرا�سات كثرية منف�صلة عن م�ؤلفاته الكربى، وهو ما كان له ت�أثري كبري يف درا�سات فال�سفة الغرب وعلمائه ،ويف مقدمتهم ديكارت .وكانت البن �سينا درا�سة مهمة يف جمال الإدراك النف�سي ،والعالج النف�سي ،والتخ ّيل ،واالنفعاالت ،وغريها ،وهي درا�سات اهتم تُرجمت �إىل اللغة الالتينية الأوروبية احلديثة .وقد ّ
مل يقت�صر ابن �سينا على معاجلة الإدراك احل�سي والتخ ّيل ،لكنه عالج مو�ضوعات مهمة من مو�ضوعات علم النف�س احلديث ،وهي االنفعاالت؛ مثل :ال�ضحك، والتعجب ،والبكاء ،واخلجل ،و�س ّماها (الأحوال النف�سية) ،وهي خ�صائ�ص للنف�س دون البدن. وعالج ابن �سينا مو�ضوع ًا من �أحدث مو�ضوعات علم النف�س ،وهو مو�ضوع الأمرا�ض النف�سية اجل�سمية �أو النف�سج�سمية Psychosomatic Medicine (ال�سيكو�سوماتيك)؛ �أي :الأمرا�ض اجل�سمية التي ترجع �أ�سبابها �إىل �أ�صول نف�سية ،و�أورد يف كتابه (القانون) العوامل التي ت�شفي املري�ض بالع�شق ،وذكر فيه جتارب كثرية قام بها لعالج بع�ض امل�صابني بالأمرا�ض النف�سية. وتابع كثري من العلماء واملف ّكرين امل�سلمني هذا االجتاه ال�سينوي يف تناول تلك الأمرا�ض النف�سج�سمية و�شرحها وحتليلها؛ فيذكر الطبيب ابن العبا�س املجو�سي ( ُتوفيِّ �سنة 384هـ) يف كتابه (الكامل يف ال�صناعة الطبية) بع�ض الن�صائح التي تقي الإن�سان �ش ّر الأمرا�ض النف�سية الغم، واجل�سمية على حدٍّ �سواء ،منهاُ :بعد الإن�سان من ّ الهم والفكر� ،أو يح�سد؛ ف�إن و�أال يغ�ضب� ،أو يكرث من ّ ذلك ك ّله مما يغيرّ مزاج البدن ،ويعمل على �إنهاكه، و�إ�ضعاف احلرارة الغريزيةَ ،ومن كان مزاجه حاد ًا ف�إن
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
شمل علم النفس اإلسالمي -كما
ابن �سينا بالنف�س منذ �شبابه؛ �إميان ًا تام ًا منه ب�أنه َمن عرف نف�سه فقد عرف ر َّبه ،و�أ ّلف كتاب ًا �س ّماه (ر�سالة يف النف�س) .وعالج ابن �سينا ما نطلق عليه اليوم (الإدراك احل�سي) ،و�أو�ضح كيف ي�ؤدّي اخليال عنده دور ًا مهم ًا يف عملية الإدراك احل�سي؛ لأنه هو الذي يف�صل ال�صورة عن املادة ،وعن طريقه ميكن الو�صول �إىل الكليات؛ فن�ستعني باخليال لالرتفاع من اجلزئيات املدركة �إىل الكليات املتعقلة.
149
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
150
�أدرك الطب العربي �أثر احلالة النف�سية يف �أجهزة اجل�سم
هذه الأعرا�ض تو ّلد احلميات الرديئة؛ كحمى الدق، وقرحة ال�س ّل ،وما يجري هذا املجرى؛ لذلك ينبغي �أن يتجنب الإن�سان الأعرا�ض النف�سية كلها ،و�أن يلهم نف�سه الفرح وال�سرور؛ ف�إنهما يق ّويان احلرارة الغريزية ويح ّركانها على ظاهر البدن ،ويزيدان من الن�شاط، ويق ّويان النف�س .وعالج �أبو ن�صر الفارابي �أي�ض ًا يف درا�سته امل�شهورة (�آراء �أهل املدينة الفا�ضلة) ال�سمات النف�سية واالجتماعية التي يجب �أن تتوافر للقائد �أو رئي�س املدينة ،كما عالج �أحد املو�ضوعات املهمة يف علم النف�س االجتماعي ،وهو مو�ضوع الأ�س�س النف�سية لتما�سك اجلماعة. أثر الحالة النفسية في أجهزة الجسم
�سنجد كثري ًا من العلماء واملفكرين امل�سلمني يعاجلون مو�ضوعات الطب النف�سي يف عالقتها باجل�سم و�أمرا�ضه، وقد �أدرك الطب العربي �آثار احلالة النف�سية للإن�سان يف وظائف �أجهزة اجل�سم املختلفة؛ فاحلالة النف�سية
يف االنقبا�ض ،والفرح ،والهم ،والغم ،واخلجل ،ت�ؤ ّثر ت�أثري ًا مبا�شر ًا يف �سلوك الإن�سان ،وقد ت ؤ�دّي �إىل اجلنون وفقدان العقل والأمرا�ض النف�سية ال�شديدة التي يحتاج عالجها �إىل بحث دقيق وعميق ،وهو ما فعله الأطباء العرب امل�سلمون ،وط ّبقوه يف �أق�سام الأمرا�ض العقلية يف البيمار�ستانات؛ �إذ فطنوا �إىل �ضرورة تخ�صي�ص �أمكنة خا�صة ملعاجلة �أ�صحاب الأمرا�ض العقلية ،فكان
لم يقتصر ابن سينا على معالجة اإلدراك الحسي والتخ ّيل ،بل عالج موضوعات مهمة من موضوعات علم النفس الحديث ،منها االنفعاالت؛ مثل :الضحك ،والتعجب ،والبكاء، وسماها (األحوال النفسية)، والخجل، ّ وهي خصائص للنفس دون البدن
التطبيقات العملية للطب النفسي اإلسالمي
�أخذ علم النف�س املعا�صر مدة طويلة من الزمن حتى نال االعرتاف العلمي وال�شعبي �أي�ض ًا بعد حت ّوله من النظرية �إىل املمار�سة العملية .وي�ستطيع املهتم بهذا املجال الك�شف عن �أ�سبقية التطبيقات العملية لعلم النف�س لدى العلماء العرب امل�سلمني؛ �إذ عالج ه�ؤالء العلماء كثري ًا من احلاالت منذ قرون م�ضت ب�أ�ساليب تع ّد من نتاج علم النف�س املعا�صر .ومن �أهم علماء النف�س امل�سلمني تخ�ص علم النف�س الذين عاجلوا بعمق �شديد مو�ضوعات ّ والطب النف�سي العامل ابن �سينا. على الرغم من متابعة ابن �سينا �أر�سطو يف بع�ض جوانب معاجلاته للنف�س من حيث تعريفها ب�أنها «كمال �أ ّول جل�سم طبيعي �آيل»� ،أو تق�سيمه قوى النف�س �أو
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
خ�ص�ص لهم ق�سم يف كل بيمار�ستان ،يتل ّقى فيه املري�ض ُي ّ عناية خا�صة من �أطباء حاذقني ومهرة يف فنون العالج النف�سي.
وظائفها �إىل :نف�س نباتية �أو حيوانية ،وناطقة ،وتق�سيمه وظائف العقل �إىل :عقل عملي ،و�آخر نظري ،وتق�سيمه القوى النف�سانية املدركة وغريها من املو�ضوعات تخ�ص النف�س الإن�سانية� ،إال �أننا جند له متيز ًا التي ّ من فكر �أر�سطو الفل�سفي والنف�سي يف كل املو�ضوعات ال�سابقة ب�شكل �أو ب�آخر ،ويزداد هذا التم ّيز يف بع�ض املو�ضوعات ،خ�صو�ص ًا تلك التي نحا فيها منحى علمي ًا جتريبي ًا يف معاجلاته النف�س ،وتناوله قواها ووظائفها وخ�صائ�صها ،وتوظيفه بع�ض احلقائق واملناهج العلمية يف العالج النف�سي؛ فقد ا�ستطاع بحدّة ذكائه ،ودقة مالحظته� ،أن ي�صل �إىل معرفة طبيعة عملية االرتباط ال�شرطي Conditioningقبل �أن يكت�شفها بافلوف الف�سيولوجي الرو�سي يف الع�صر احلديث نتيجة البحوث التجريبية التي قام بها ،وهو تف�سري مل ي�صل �إليه علماء النف�س املحدثني �إال يف �أوائل القرن الع�شرين. كما ا�ستطاع ابن �سينا قيا�س االنفعال على �أ�سا�س قيا�س التغريات الف�سيولوجية التي حتدث م�صاحب ًة لالنفعال قبل علماء الف�سيولوجيا املحدثني ،وهو ما �سنتب ّينه يف عالجه �أحد مر�ضاه من (حالة ع�شق) �شديد ،وهو الأ�سا�س العلمي نف�سه الذي ُي�ستخدم يف جهاز ك�شف الكذب ،والطريقة العلمية نف�سها التي يتبعها املعاجلون النف�سانيون املعا�صرون .كما و�صل ابن �سينا يف درا�سته الأحالم �إىل كثري من احلقائق التي �سبق بها العلماء املحدثني ،خ�صو�ص ًا دور الأحالم يف �إ�شباع الدوافع والرغبات التي �سيقول بها �سيجموند فرويد يف نهاية القرن التا�سع ع�شر امليالدي؛ لذلك فلي�س غريب ًا �أن ُيع ّد ابن �سينا طبيب ًا نف�ساني ًا من الطراز الأول ،ال يق ّل يف براعته وا�شتهاره عن براعته يف فروع الطب الأخرى ،من العالجي �أو الوقائي �أو ال�صيديل. اتّخذ ابن �سينا التحليل النف�سي �أ�سلوب ًا جديد ًا من �أ�ساليب العالج الطبي ،ومار�سه ممار�سة ناجحة �أك�سبته
151
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
152
�شهرة وا�سعة يف ع�صرهّ ، وتدل �أ�ساليبه يف ذلك على �أنه كان على درجة كبرية من اخلربة بعلم النف�س ،وقد ربط يف فل�سفته ،خ�صو�ص ًا يف كتابه (القانون) ،بني الطب وعلم النف�س ،فا�ستغ ّل علم النف�س ،وهو جزء من الفل�سفة �آنذاك ،يف التطبيب ،ويذهب النف�سيون يف ع�صرنا هذا �إىل �أن الغر�ض من التحليل النف�سي هو الو�صول �إىل ما يتكون يف العقل الباطن ،ثم العمل على �إخراج هذه املكونات �إىل العقل الظاهر ،واحلكمة يف ذلك تخفيف ال�ضغط على النف�س ،وبذلك ميكن �أن يتخل�ص املري�ض من �أمرا�ضه العقلية �أو النف�سية. ومن املعروف الآن �أن فرويد يذهب �إىل �أن العقل الباطن يتكون من جمموعة من الرغبات ال�شخ�صية املكبوتة املودعة يف �أعماق النف�س منذ الطفولة ،ثم �أُرغمت على االنتقال من الناحية ال�شعورية �إىل الناحية الال�شعورية؛ فلم جتد لها م�أوى �إذ ذاك �إال يف حظرية العقل الباطن.
�أما ال�سبب يف هذا االنتقال ،فريجع �إىل �أن هذه الرغبات املكبوتة ،وتلك الذكريات ،ال تالئم احلياة االجتماعية، وال تتّفق مع �آداب املجتمع وتقاليده .والتحليل النف�سي بهذا املعنى الذي ي�شرحه فرويد مل يكن غريب ًا على ابن علم به؛ �إذ اتّخذه طريقة من طرائق �سينا؛ فقد كان على ٍ العالج ،حتى ا�شتهر يف ع�صره بقدرته العظيمة على معاجلة املر�ضى بطريقة التحليل النف�سي؛ فقد �أ�صيب يوم ما رجل مبر�ض (املالينخوليا) ،وا�ستب ّد به املر�ض يف ٍ �إىل درجة جعلته يعتقد انه �أ�صبح بقرة؛ لذلك امتنع عن الطعام وال�شراب مع بني الإن�سان ،ونتيج ًة لذلك �أخذ الرجل يق ّلد الأبقار ،فيخور مثلها ،ويذهب �إىل الإقامة بحظائرها ،ويتناول الأكل معها .ا�ستمر الرجل على هذا النحو زمن ًا حتى �ضعفت قواه ،وهزل ج�سمه ،و�شحب لونه ،فعر�ضه ذووه على الأطباء ،لكنهم عجزوا عن عالجه .وكان ابن �سينا �آنئذٍ قد طار �صيته يف الآفاق،
ابن �سينا من �أوائل من عرفوا حقيقة التحليل النف�سي
المحدثين إلى قياس االنفعال على أساس قياس التغيرات الفسيولوجية التي تحدث مصاحبةً لالنفعال ،ومن ذلك عالجه أحد مرضاه من (حالة عشق) شديد ،وهو األساس العلمي نفسه الذي ُيستخدم في جهاز كشف الكذب
وعرف بتطبيب مر�ضى العقول ،فلما ُعر�ض عليه ُ هذا الرجل ،وفح�ص عن حاله ،قال له :ما بالك �أيها الرجل؟ وما الذي ح ّل بك؟ فقال املري�ض :لي�س بي �شيء �إال �أنني �أ�صبحت بقرة تخور� ،آكل ما ت�أكل ،و�أفعل ما تفعل ،فقال ابن �سينا� :إذا كنت حق ًا كذلك ،و�أنت بقرة بالفعل ،ف�إين �س�أذبحك ،فقال املري�ض :افعل ما ت�شاء؛ ف�إين بقرة .ف�أمر ابن �سينا بتقييد املري�ض بحبل متني، و�ألقاه على الأر�ض ،و�أح�ضر �سكين ًا حاد ًا ،ثم تق ّدم �إىل املري�ض ،و�أراد �أن يهوي بال�سكني على رقبته ،لكنه عندما قرب ال�سكني من نحره قال :ما بال هذه البقرة هزيلة �ضعيفة� ،إنها ال ت�صلح للذبح ،فقال املري�ض� :إنها ت�صلح للذبح فاذبح ،فقال ابن �سينا :كال ،ال نذبحها حتى متتلئ �شحم ًا وحلم ًا ،فقال املري�ض :وماذا �أفعل حتى �أ�صري كذلك؟ فقال ابن �سينا :ت�أكل وت�شرب كما ي�أكل النا�س وي�شربون ،فقال املري�ض� :أوتذبحني بعد ذلك؟ قال ابن �سينا :نعم ،ثم �أخذ الرجل على نف�سه عهد ًا وميثاق ًا ليفعلنّ ذلك ،و�أخذ ي�أكل وي�شرب كما يفعل النا�س ،فعادت �إليه �صحته ،وقوي ج�سمه ،وبذلك ارت ّد �إليه عقله ،وزايله املر�ض ،و�شفي متام ًا .ثم زار ابن �سينا بعد ذلك ،فلما ر�آه �سليم اجل�سم والعقل قال
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
سبق ابن سينا علماء الفسيولوجيا
له مداعب ًا :ما بال البقرة قد �سمنت؟ قال :نعم ،وقد �أ�صبحت عاقلة .لذلك يقول قدري حافظ طوقان يف كتابه (تراث العرب العلمي يف الريا�ضيات والفلك): «در�س ابن �سينا اال�ضطرابات الع�صبية ،وعرف بع�ض احلقائق النف�سية واملر�ضية عن طريق التحليل النف�سي، وكان ابن �سينا يرى �أن للعوامل النف�سية والعقلية؛ كاحلزن واخلوف والقلق والفرح وغريها ،ت�أثري ًا كبري ًا على �أع�ضاء اجل�سم ووظائفه؛ ولهذا جل�أ �إىل الأ�ساليب النف�سية يف معاجلته ملر�ضاه». و�إذا �أردنا �أن نتبينّ تلك الظواهر النف�سية التي عاجلها وتو�صل فيها �إىل حقائق وقوانني ت�شبه تلك ابن �سيناّ ، التي و�صل �إليها علماء النف�س املحدثون ،ف�سنجد �أنه عرف التك ّيف ،وظاهرة احلجب؛ فهو يذهب �إىل �أن املح�سو�س اخلارجي؛ �أي :امل�ؤثر احل�سي ،ال�شديد �أو املتك ّرر ُيحدث يف �أع�ضاء احلوا�س اخلارجية �أثر ًا ي�ستمر حت�س ب�شيء �آخر ،يقول ابن بع�ض الوقت وي�صعب معه �أن ّ �سينا« :املح�سو�سات ال�شاقة واملتكررة ت�ضعف احل�س، ورمبا �أف�سدته؛ كال�ضوء للب�صر ،والرعد ال�شديد لل�سمع، القوي على �إدراك ال�ضعيف؛ وال يقوى احل�س عند �إدراك ّ ف�إن املب�صر �ضوء ًا عظيم ًا ال يب�صر معه وال عقبه نوراً �ضعيف ًا ،وال�سامع �صوت ًا عظيم ًا ال ي�سمع معه وال عقبه يح�س �صوت ًا �ضعيف ًا ،ومن ذاق احلالوة ال�شديدة ال ّ بعدها بال�ضعيفة» .وي�صف ابن �سينا يف هذه العبارات ظاهرة �سيكولوجية تناولتها الدرا�سات الف�سيولوجية وال�سيكولوجية احلديثة ،وهي ظاهرة (احلجب ،)Maskingو ُيالحظ �أن �أر�سطو �أ�شار �أي�ض ًا -من دون تو�سع� -إىل هذه الظاهرة .و�أ�شار ابن �سينا �أي�ض ًا �إىل ّ احل�سي ،)Sensory Adabtion ظاهرة (التك ّيف ّ وهي �ضعف احل�سا�سية با�ستمرار التن ّبه احل�سي ،يقول ابن �سينا« :القوى الداركة يعر�ض لها من �إدامة العمل �أن تك ّل؛ لأجل �أن الآالت تكملها �إدامة احلركة».
153
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تفسير األحالم سيكولوجي ًا
154
�أ�شار ابن �سينا �إىل بع�ض الأ�سباب املهمة يف حدوث الأحالم ،التي تناولها علماء النف�س املحدثون فيما بعد بالدرا�سة ،وو�صلوا فيها �إىل نتائج مهمة ت�ؤ ّيد ما �سبق �أن قال به ابن �سينا من قبل؛ فقد ذكر �أن بع�ض الأحالم حتدث نتيجة ت�أثري بع�ض امل�ؤثرات احل�سية التي تقع على النائم� ،سواء �أكانت هذه امل�ؤثرات احل�سية �صادر ًة من «ومن عر�ض اخلارج �أم من داخل البدن ،قال ابن �سيناَ : لع�ضو منه �أن �سخن �أو برد ب�سب ح ّر �أو برد ُحكي له �أن ذلك الع�ضو منه مو�ضوع يف نار �أو ماء بارد» .ود ّلت البحوث التجريبية احلديثة على �صحة ما ذهب �إليه ابن �سينا من �أن للم�ؤثرات احل�سية التي تقع على النائم ت�أثري ًا يف حدوث الأحالم ،و�أ ّكد كل من :موري ،وهريف دي �سان دني�س ،وويجادند� ،أن للإح�سا�سات اخلارجية ت�أثري ًا يف الأحالم؛ فمث ًال :قد يحلم النائم الذي بجانبه �ضوء �أنه ي�شاهد احرتاق �شيء ما. ابن سينا سبق فرويد
�أ�شار ابن �سينا �أي�ض ًا �إىل دور الأحالم يف �إ�شباع الدوافع والرغبات؛ ف�إذا كان مزاج البدن يف حالة ما من �ش�أنها �أن حتدث نزوع ًا �إىل �شيء ما قامت املخيلة مبحاكاة الأفعال التي من �ش�أنها �أن ت�شبع هذا الدافع ،يقول ابن �سينا« :مثلما يكون عندما تتحرك للمني �إىل الدفع �إىل املتخيلة حتاكي القوى الدافعة ّ �صور ًا من �ش�أن النف�س �أن متيل �إىل جمامعتها ،ومن كان به جوع ُحكيت له م�أكوالت» ،وبذلك يكون ابن �سينا قد �سبق فرويد يف تف�سري بع�ض الأحالم ب�أنها �إ�شباع الدوافع والرغبات. و�أ�شار ابن �سينا يف درا�سته الأحالم �إىل ظاهرة طبية مهمة ،وهي �أن بع�ض الأحالم ين�ش�أ عن بع�ض التغريات يف مزاج البدن� ،أو عن بع�ض الإح�سا�سات البدنية الداخلية
اتّخذ ابن سينا التحليل النفسي أسلوب ًا جديد ًا من أساليب العالج الطبي، ومارسه ممارسة ناجحة أكسبته ّ وتدل شهرة واسعة في عصره، أساليبه في ذلك على أنه كان على درجة كبيرة من الخبرة بعلم النفس
التي ميكن �أن ُي ّ �ستدل منها على حاالت مر�ضية� ،أو على بداية ظهور حاالت مر�ضية خا�صة �ستظهر يف امل�ستقبل. واهتم بع�ض الباحثني بدرا�سة هذا املو�ضوع ،وب ّينوا وجود �أدلة كثرية على عالقة الأحالم بالأمرا�ض وداللتها عليها. فرويد
يف ّرق ابن �سينا حني يتحدث عن (احلافظة الذاكرة) بني مفهومي الذكر والتذ ّكر؛ فالذكر هو اال�ستعادة التلقائية لل�صور واملعاين ،وهو يحدث يف احليوان والإن�سان� ،أما التذ ّكر فهو اال�ستعادة الإرادية لل�صور خا�ص بالإن�سان وحده .و�أ�شار ابن �سينا واملعاين ،وهو ّ �إىل وجود فروق كبرية بني النا�س يف قوة الذاكرة والتذ ّكر ،كما ناق�ش �أ�سباب الن�سيان ،وا�ستطاع بدقة مالحظته �أن ي�صل �إىل تف�سري علمي مل ي�صل �إليه علماء النف�س املحدثون �إال يف القرن الع�شرين؛ فقد كانوا يف�سرون الن�سيان ب�أنه راجع �إىل زوال الآثار التي يرتكها ّ التع ّلم ال�سابق نتيجة عدم اال�ستعمال ،وا�ستمر هذا التف�سري �شائع ًا مدة طويلة حتى قام جينكنز ودلنباخ عام 1924م بدرا�سة جتريبية ب ّينت �أن الن�سيان ال يحدث ب�سبب جمرد م�ضي الزمن من دون ا�ستعمال املعلومات، و�إمنا يحدث ب�سبب كرثة ن�شاط الإن�سان وان�شغاله ب�أمور كثرية ت�ؤدي �إىل تداخل معلوماته اجلديدة وتعار�ضها و�س ِّميت هذه الظاهرة بـ(التداخل مع معلومات �سابقةُ ، الرجعي ،Retroactire Interferenceوالكف الرجعي .)Retroactire inhibitionوب ّينت بع�ض الدرا�سات التجريبية احلديثة �أن الن�سيان قد يحدث �أي�ض ًا نتيجة تداخل املعلومات ال�سابقة مع املعلومات و�س ِّميت هذه الظاهرة بـ(التداخل الالحق احلديثةُ ، .)Proctive interenceوقد �سبق ابن �سينا علماء النف�س املحدثني يف تف�سري الن�سيان ب�سبب تداخل املعلومات؛ فهو يقول يف هذا ال�صدد�« :أكرث َمن يكون حافظ ًا هو الذي ال تكرث حركاته ،وال نّ تتفن هممه، َومن كان كثري احلركات مل يتذكر جيد ًا ...ولذلك كان ال�صبيان مع رطوبتهم يحفظون جيد ًا؛ لأن نفو�سهم غري م�شغولة مبا ت�شتغل به نفو�س البالغني ،فال تذهل عما هي مقبلة عليه بغريه».
يذهب ابن �سينا �إىل وجود عالقة وثيقة بني النف�س والبدن؛ فالتغريات يف احلاالت النف�سانية التي حتدث يف حاالت االنفعال مث ًال ت�صاحبها �أو تتبعها تغيرّ ات يف احلالة البدنية ،يقول ابن �سينا« :جميع العوار�ض النف�سانية يتبعها �أو ي�صاحبها الروح� ،إما �إىل خارج، و�إما �إىل داخل ...واحلركة �إىل خارج �إما دافعة كما عند الغ�ضب ،و�إما �أو ًال ف�أو ًال كما عند اللذة وعند الفرح املعتدل ،واحلركة �إىل داخل �إما دفعة كما عند الفزع، و�إما �أو ًال ف�أو ًال كما عند احلزن» ،ويعني ابن �سينا بذلك حركات الروح وحركات الدم ،وهو ي�شري هنا �إىل ما �أثبتته البحوث احلديثة من �أن االنفعال ت�صاحبه تغريات ف�سيولوجية كثرية ،من �أهمها ما يحدث من تغريات يف الدورة الدموية؛ �إذ تزداد �سرعة خفقان القلب و�شدته، وتنتج من ذلك زيادة كمية الدم التي ير�سلها القلب �إىل �أجزاء البدن ،وتنقب�ض الأوعية الدموية املوجودة يف الأح�شاء ،وتت�سع الأوعية الدموية املوجودة يف اجللد والأطراف؛ لذلك ي�شعر الإن�سان عند الغ�ضب باحلرارة تتد ّفق يف وجهه وبدنه ،ويحم ّر وجهه .و ُيالحظ كذلك �أن الإن�سان يف حالة الفزع ال�شديد ي�صف ّر وجهه ب�سبب حركة دمه �إىل الداخل ،وهو ما عبرّ عنه ابن �سينا بقوله: «واحلركة �إىل داخل �إما دفعة كما عند الفزع» .و�أ�شار ابن �سينا يف عبارته «جميع العوار�ض النف�سانية يتبعها �أو ي�صاحبها الروح» �إىل م�شكلة �شغلت علماء الف�سيولوجيا وعلماء النف�س املحدثني ،وهي :هل ال�شعور باالنفعال والتغريات الف�سيولوجية امل�صاحبة له يحدثان مع ًا يف الوقت نف�سه �أو �أن �أحدهما ي�سبق الآخر؟ فقد ذهب كانون وبارد يف الع�صر احلديث �إىل �أن ال�شعور باالنفعال يحدث يف الوقت نف�سه الذي حتدث فيه التغريات الف�سيولوجية والع�ضلية .وقد �أبدى ابن �سينا ر�أيه يف هذه امل�شكلة قبل �أن تُثار يف الع�صر احلديث ،فذكر يف
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
والكف الرجعي التذ ّكر ّ
االنفعاالت والتغيرات الفسيولوجية
155
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
156
الإجابة عنها احتمالني� :أحدهما هو �أن االنفعال يحدث م�صاحب ًا للتغريات الف�سيولوجية ،وهو ما قال به ك ّل من كانون وبارد ،والثاين �أن االنفعال يحدث �أو ًال ،ثم تتبعه التغريات الف�سيولوجية ،وهو ما ال يقول به �أحد من علماء الف�سيولوجية والنف�س املحدثني. وا�ستفاد ابن �سينا مبا يحدث من تغيري يف �سرعة النب�ض و�شدته يف �أثناء االنفعال يف عالج �شخ�ص م�صاب بحالة ع�شق �شديد؛ فقد �أراد ابن �سينا �أو ًال �أن يعرف الفتاة التي يع�شقها هذا ال�شخ�ص حتى ميكن بعد ذلك �أن يتّخذ خطوات عملية يف عالجه من ع�شقه ،وابتكر طريقة لتحقيق غر�ضه؛ فكان ي�ضع �إ�صبعه على نب�ض هذا ال�شخ�ص ،ثم يقول له كثري ًا من �أ�سماء الفتيات والأمكنة والبالد والأحياء ،وكان يالحظ ما يحدث من تغريات يف �سرعة النب�ض و�شدته عندما �سمع هذه الأ�سماء، وا�ستطاع بهذه الطريقة �أن ي�صل �إىل معرفة الفتاة
التي يع�شقها هذا ال�شخ�ص .و�ص ّنف ابن �سينا (حالة الع�شق) ال�سابقة مع �أمرا�ض عقلية وال�سبات والأرق والن�سيان ،وذكر �أن من �أعرا�ض الع�شق عدم انتظام النب�ض ،و�أ ّكد �أنه «�أ�صبح من املمكن التو�صل �إىل معرفة املع�شوق �إذا �أ�ص ّر �أحد العا�شقني على عدم الك�شف عنه ،وهذا الك�شف هو �إحدى طرق العالج» .وي�ؤ ّكد ابن �سينا جدوى هذه الطريقة التجريبية التي ك ّررها كثري ًا، وحققت جناح ًا؛ �إذ يقول« :ا�ستعملت هذه الطريقة مرار ًا وتكرار ًا ،واكت�شفت بذلك ا�سم املع�شوق عند ذكر يح�س فيه �أ�سماء املدن وال�شوارع وال�صفة يف الوقت الذي ّ النب�ض؛ ف�إن التغري ّ يدل على العالقة بني املكان وال�صفة واملع�شوق ،وبذلك ميكن معرفة جملة �أو�صافه» ،ومي�ضي وتو�صلنا ملعرفة ابن �سينا قائ ًال« :ج ّربنا ذلك ب�أنف�سناّ ، معلومات مفيدة» .ومن هنا ي ؤ� ّكد الدكتور حممد عثمان جناتي �أن ابن �سينا �سبق املح ّللني النف�سانيني وعلماء
النف�س يف الع�صر احلديث يف اال�ستعانة بالتغريات الف�سيولوجية التي تطر�أ على الإن�سان ملعرفة ما ي�صيبه من ا�ضطرابات انفعالية ،وقد ا�ستخدم بع�ض املحللني النف�سانيني الطريقة التي ا�ستخدمها ابن �سينا ،وهي نطق كلمات معينة ،ومالحظة ما حتدثه هذه الكلمات من ا�ضطراب انفعايل يف الفرد ،واال�ستدالل من ذلك على امل�شكلة النف�سانية التي يعانيها الفرد. �سبق ابن �سينا بطريقته التي قا�س بها التغريات التي حتدث يف �سرعة النب�ض علماء الف�سيولوجيا الذين ي�ستعينون الآن ب�أجهزة دقيقة ال�صنع لقيا�س التغريات الف�سيولوجية امل�صاحبة لال�ضطراب االنفعايل ،وهي �أجهزة ح�سا�سة دقيقة لقيا�س مقاومة اجللد للتيارات الكهربية ال�ضعيفة التي حتدث يف �أثناء االنفعال (ا�ستجابة اجللد اجللفانية Galvanic Skim ،)responseويطلق عليها (�أجهزة ك�شف الكذب)؛ ب�سبب كرثة ا�ستخدامها يف التحقيقات اجلنائية .وقام ابن �سينا �أي�ض ًا بعالج بع�ض حاالت اال�ضطرابات الرازي وأمراض النفس العقلية ،وذكر يف كتابه (القانون) بع�ض حاالت املر�ض يذكر �أبو بكر الرازي ( ُتوفيِّ �سنة 320هـ932 /م) يف العقلي التي عاجلها ،وميكن تت ّبعها يف كتابه ملن يريد كتابه ال�شهري (احلاوي) يف الطب كثري ًا من الإ�شارات �إىل الأمرا�ض النف�سية ،ف�ض ًال عن املعاجلات التي ت�ضمنها كتابه (يف الأوهام واحلركات والع�شق) ،وتبينّ له �أن �سوء اله�ضم قد يكون نتيج ًة لأ�سباب نف�سية؛ �إذ قال« :للنف�س ال�ش�أن الأول فيما بينها وبني البدن من �صلة؛ ولذلك وجب على طبيب اجل�سم �أن يكون �أو ًال يفرق ابن سينا حين يتحدث عن ّ طبيب ًا للنف�س» ،و�أ ّكد �أكرث من مرة �أهمية العامل النف�سي (الحافظة الذاكرة) بين مفهومي يف املعاجلة ،فقال« :ينبغي على الطبيب �أن يوهم املري�ض الذكر والتذكّ ر؛ فالذكر هو االستعادة �أبد ًا بال�صحة ،ويح ّببه بها ،و�إن كان غري واهم بذلك؛ التلقائية للصور والمعاني ،وهو فمزاج اجل�سم تابع لأخالق النف�س» .وط ّبق الرازي ذلك يحدث في الحيوان واإلنسان ،بينما عملي ًا عندما عالج الأمري من�صور بن نوح ال�ساماين التذكّ ر هو االستعادة اإلرادية للصور بالعالج النف�سي بعد �إ�صابته مبر�ض مزمن �أقعده .ومن خاص باإلنسان وحده والمعاني ،وهو ّ �أ�شهر الأمرا�ض التي عدّها �سابقوه م�ستحيلة الربء،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تعمق �أمثال هذه احلاالت الإكلينيكية. املهم يف ك ّل هذه املعاجلات عند ابن �سينا ،التي �سبق بها العلماء املحدثني ،قوله دائم ًا« :ج ّربنا ذلك ب�أنف�سنا»؛ �إذ يحتكم ابن �سينا �إىل التجربة لتقدير �صحة فكرة من خطئها كما يخربنا �أبو عبيد اجلوزجاين عنه .ويق ّر ابن �سينا ب�أهمية املالحظات ال�سريرية ،فيقول« :تعهدت علي من �أبواب املعاجلات املقتب�سة املر�ضى ،فانفتح ّ من التجربة ما ال ُيو�صف» .ومن هنا يتبينّ لنا كيف جمع ابن �سينا بني نظرة العامل الطبيعي املد ّقق ور�ؤية الفيل�سوف ال�شاملة والعميقة ،فكان منهجه العلمي ي�ستند �إىل دعائم فل�سفية ت�شرتك يف تكوينه :النظرة العقلية املنطقية ،والر�ؤية احل�سية التجريبية ،اللتان ت�ش ّكالن عند جمعهما وت�أليفهما َم ْعل َمني رئي�سني ملنهجه، وهما :ا َمل ْعلم اال�ستقرائي التجريبي بجميع �أبعاده ،وا َمل ْعلم اال�ستنباطي العقلي بكل ارت�ساماته.
157
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
158
وعاجلها الرازي ،الأمرا�ض العقلية والنف�سية والع�صبية؛ فقد فعل معها ما يفعله مع الأمرا�ض الع�ضوية من تقدمي مف�صل للمر�ض ي�شرح فيه عالماته و�أعرا�ضه، و�صف ّ ثم ي�صف له العالج املنا�سب .ومن الأمثلة على ذلك قوله يف كتابه (املن�صوري)« :الغم ال�شديد الدائم الذي ال ُيعرف له �سبب ،وخبث النف�س ،و�سوء الرجاء ،ينذر باملالينخوليا» ،ثم نراه يقدم و�صف ًا بليغ ًا لهذا املر�ض يف (احلاوي) فيقول« :من العالمات الدالة على ابتداء املالينخوليا حيث التف ّرد والتخ ّلي عن النا�س على غري وجه حاجة معروفة �أو علة ،كما يعر�ض للأ�صحاء حلبهم البحث وال�سرت للأمر الذي يجب �سرته .وينبغي �أن يبادر بعالجه؛ لأنه يف ابتدائه �أ�سهل ما يكون ،و�أع�سر ما ّ ي�ستدل على وقوع الإن�سان يكون �إذا ا�ستحكم .و�أول ما يف املالينخوليا هو �أن ي�سرع �إىل الغ�ضب واحلزن والفزع ب�أكرث من العادة ،ويحب التف ّرد والتخ ّلي» .وين�صح
الرازي
حتول م�سار العالج النف�سي على يد الأطباء العرب من التعنيف �إىل الرحمة
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
وعاد �شاهر ًا �سكين ًا يف وجه الأمري ،مهدّد ًا �إياه بالقتل، فخاف الأمري ،وغ�ضب غ�ضب ًا �شديد ًا ،و�سرعان ما نه�ض من أشهر األمراض التي عالجها واقف ًا على قدميه بعد �أن كان ال ي�ستطيع ،وهنا ف ّر الرازي وعدها سابقوه مستحيلة الرازي ّ من احلمام �إىل حيث ينتظر خادم الأمري مع اجلوادين، البرء األمراض العقلية والنفسية فركبا وانطلقا ب�سرعة .وعندما و�صل الرازي �إىل بلده والعصبية ،ففعل معها ما فعله مع �أر�سل �إىل الأمري ر�سال ًة �شارح ًا فيها ما حدث من �أنه ملا األمراض العضوية من تقديم وصف تع�سر عالجه مبا �أوحاه �إليه �ضمريه ،وخ�شي من طول ّ مفصل للمرض يشرح فيه عالماته ّ مدة املر�ض ،جل�أ �إىل العالج النف�ساين .واختتم الر�سالة وأعراضه ،ثم يصف له العالج المناسب ب�أنه لي�س من اللياقة �أن يقابل الأمري بعد ذلك ،فلما عزم الرازي على عدم الرجوع �أر�سل �إليه الأمري مئتي حمل من احلنطة ،وح ّلة نفي�سة ،وعبد ًا وجارية ،وجواد ًا ّ مطهم ًا ،و�أجرى عليه �ألفي دينار �سنوي ًا». الرازي �أ�صحاب هذا املر�ض بال�سفر واالنتقال �إىل بلد �آخر مغاير لبلدهم يف املناخ؛ فيقول يف كتابه (املر�شد): «�إذا �أزمن باملري�ض املر�ض وطال فانقله من بلده �إىل بلد الرازي يسبق األوروبيين م�ضاد املزاج ملزاج علته؛ ف�إن الهواء الدوام لقا�ؤه يكون كان الرازي �سباق ًا �إىل االهتمام مبعاجلة �أ�صحاب ف�سجل بذلك للم�سلمني والعرب عالج ًا تام ًا ،وقد بر�أ خلق كثري من املالينخوليا بطول الأمرا�ض النف�سية؛ ّ ال�سفر» .ويقول الرازي عن �أعرا�ض مر�ض ال�صرع يف �أروع ال�صفحات يف تاريخ الإن�سانية؛ فقد كان اليونانيون كتابه (املن�صوري)« :الكابو�س والدوار �إذا داما وقويا ي�أمرون �أهل املري�ض الذي يعاين �ضعف ًا يف قواه العقلية ينذران بال�صرع؛ فلذلك ينبغي �أال يتغافل عنهما �إذا بحب�سه يف منزله حتى مينعوا �ضرره عن املجتمع ،وكانت �أوروبا يف الع�صور الو�سطى تعامل �أ�صحاب العلل �أ�سو أ� حدثا ،و ُبودر بعالجهما على ما ذكرنا يف مو�ضوعه». ومن �أمثلة معاجلات الرازي النف�سية يف هذا ال�ش�أن ما معاملة يعامل بها �إن�سان؛ فكان ه�ؤالء الب�شر املع ّذبون يقوله يف (احلاوي)« :ا�ستُدعي الرازي لعالج �أمري بخارى ُيو�ضعون يف �سجون مظلمة مقيد ًة �أيديهم و�أرجلهم مدى الذي كان ي�شكو من �آالم يف املفا�صل ،لدرجة �أنه كان ال احلياة� ،أو ُيعزلون عن العامل وعن �أهلهم يف م�ست�شفى ي�ستطيع الوقوف ،وعاجله الرازي بك ّل ما لديه من �أدوية ،ال�سجن� ،أو (البيت العجيب)� ،أو (برج املجانني)� ،أو ولكن دون جدوى ،و�أخري ًا ا�ستقر الرازي على العالج (القف�ص العجيب) ،كما كانوا ي�سمونها �آنذاك ،وي�س ّلم النف�سي ،فقال للأمري� :إنه �سوف يجري عالج ًا جديد ًا �أمرهم �إىل رجال �أفظاظ ال يعرفون �إال لغة ال�ضرب غد ًا ،ولكن على �شرط �أن ي�ضع الأمري �أ�سرع جوادين وال�شتم والتعذيب .وكان مبعث ذلك لدى الأوروبيني لديه حتت ت�ص ّرفه ،ف�أجابه الأمري .ويف اليوم التايل ربط �آنذاك هو االعتقاد ال�سائد ب�أن هذا املري�ض قد لعنته الرازي اجلوادين خارج احلمام بظاهر املدينة ،ثم دخل ال�سماء عقاب ًا له على �إثم ارتكبه ،ف�أنزلت به هذا ي�صب عليه املر�ض� ،أو �أن �شيطان ًا ماكر ًا �ضاقت به الدنيا فح ّل هو والأمري غرفة احلمام ال�ساخنة ،و�أخذ ّ ّ املاء ال�ساخن ،وج ّرعه الدواء ،ثم خرج ولب�س مالب�سه ،يف ج�سم هذا املري�ض؛ لذلك ف�إنه يحل تعذيب هذا
159
اجل�سد؛ لأنه مبنزلة منزل �شيطان رجيم .وظ ّلت �أوروبا على هذه احلال �إىل قبيل القرن التا�سع ع�شر امليالدي عندما قام طبيب فرن�سي ُيدعى (بينل) مبطالبة جمل�س الأديرة بتحرير املجانني ال�سجناء ،وو�ضعهم حتت عناية الأطباء ورعايتهم.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
إسحاق بن عمران والمالينخوليا
160
كان الطبيب البغدادي الأ�صل ،القريواين املهجر، �إ�سحاق بن عمران ( ُتوفيِّ �سنة 295هـ) من �أ�شهر الأطباء امل�سلمني الذين تناولوا الأمرا�ض النف�سية بالبحث واال�ستق�صاء واملعاجلة ،وت�صف كتب الرتاث الطبي الإ�سالمي ر�سالته (مقالة يف املالينخوليا) ب�أنها مل ي�سبق مثلها؛ فقد ع ّد املالينخوليا �أو االكتئاب مر�ض ًا بدني ًا له ت�أثري يف �صحة الإن�سان ،وو�صف �أعرا�ض هذا املر�ض ب�شعور امل�صاب به بالك�آبة والوحدة والوهم واخلوف واحلزن والفزع� ،إ�ضافة �إىل الأفكار اخليالية الرهيبة التي تنتاب املري�ض؛ �إذ يت�ص ّور �أن جماعة من الزنوج يريدون قتله� ،أو يتوهّ م �أنه بال ر�أ�س ،و�أنه ي�سمع �صوت ًا مثل خرير املاء ،وقرع الرياح وع�صفها ،و�أ�صوات ًا مهولة يف �أذنه ،وقد يفقد التمييز فيخ�شى من �سقوط ال�سماء على ر�أ�سه ،ويتج ّنب ال�سري حتتها ،و�أفاد ابن عمران ب�أن معظم امل�صابني بهذا املر�ض ي�شكون من الأرق ،ووجع الر�أ�س ،مع ملع العينني لدى بع�ضهم، وعزوفهم عن الطعام وال�شراب .و ُيع ّد املري�ض الذي تظهر عليه الأعرا�ض الأخرية من املر�ضى اخلطرين؛ لأنه ي�صبح �شديد النهم والتو ّثب والهياج واالفرتا�س ،وهو ما جعل الأطباء ،ومنهم �إ�سحاق بن عمران ،ي�س ّمون هذا النوع من الأمرا�ض النف�سية بـ(املالينخوليا ال�سبعي). وعر�ض ابن عمران يف مقالته معظم احلاالت النف�سية التي ت�صيب الرجال والن�ساء ،خ�صو�ص ًا عند حدوث
ذكر ابن عمران معظم الحاالت النفسية التي تصيب الرجال والنساء، خصوص ًا عند حدوث صدمات نفسية شديدة ومتوالية ،وتناول بالتحليل حاالت الذهول واالختالل الفكري التي تنتاب بعض النساء بسبب الحمل المتكرر أو الرضاعة الطائلة ّ
�صدمات نف�سية �شديدة ومتوالية ،كما تناول بالتحليل حاالت الذهول واالختالل الفكري التي تنتاب بع�ض الن�ساء ب�سبب احلمل املتكرر �أو الر�ضاعة الطائلة. و�أو�صى باال�ستعانة بالعالج النف�سي للم�صابني بهذه الأمرا�ض عن طريق الكالم اجلميل امل�ؤثر ،واملوا�ساة والتنزّه ،واال�ستماع �إىل املو�سيقا ،واللجوء �إىل احليل املنطقية والنف�سية ،ويذكر يف هذا ال�صدد �أن رج ًال �أ�صيب باملالينخوليا على مقربة من القريوان يف تون�س ،وكان يتوهّ م �أنه بال ر�أ�س« ،ف�أثقل ابن عمران ر�أ�سه بقلن�سوة من ر�صا�ص ،وجعلها على ر�أ�سه يف حم ّل
يعطي ثابت بن سنان صورة رائعة ودقيقة لما نطلق عليه اليوم «األمراض النفسجسمية/ وتحدث عن السايكوسوماتية»، ّ األخالق الممدوحة والمذمومة، وعالقة ّ كل منها باألنفس الثالث
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
�صح عنده �أن له ر�أ�س ًا». اخلوذة ،فحينئذٍ ّ يكتف �إ�سحاق بن عمران بذلك ،بل و�صف �أنواع ًا �أخرى ومل ِ من العالج الطبيعي للم�صابني مبثل هذا املر�ض؛ مثل: الدلك بالدهونات ،واال�ستحمام ،وتناول الأدوية والعقاقري، بل �إن هذا الطبيب مل يغفل الإ�شارة بو�ضوح �إىل �أن مر�ض املالينخوليا قد يكون مكت�سب ًا ،وقد يكون فطري ًا؛ �أي :وراثي ًا؛ �إذ تكون لدى ال�شخ�ص قابلية للإ�صابة بهذا املر�ض. أبو البركات أوحد زمانه
يحدّثنا �صاحب (طبقات الأطباء) �أن هبة اهلل بن علي �أبو الربكات ،من �أهل القرن ال�ساد�س الهجري ،ا�شتهر بالعلوم الطبية ،ومنها الطب النف�سي ،حتى ُعرف ب�أوحد الزمان يف مهنته ،وقد ُعر�ض عليه يف بغداد يوم ًا مري�ض باملالينخوليا حار الأطباء يف عالجه؛ �إذ كان يعتقد �أن
على ر�أ�سه دُن ًا ال يفارقه �أبد ًا ،فكان كلما م�شي جتنب املوا�ضع ذات ال�سقوف الق�صرية ،وي�سري برفق ،وال يرتك �أحد ًا يدنو منه حتى ال مييل الدُّنّ � ،أو يقع عن ر�أ�سه، فعاجله �أبو الربكات ب�أن �أوعز �إىل �أحد م�ساعديه �أن ينتظر منه �إ�شارة ي�أخذ هو يف حمادثة املري�ض ،و�أن ي�سارع عندها �إىل خ�شبة كبرية في�ضرب بها فوق ر�أ�س املري�ض ك�أنه يريد ك�سر الدنّ املزعوم ،و�أو�صى م�ساعد ًا �آخر كان قد �أع ّد معه دن ًا يف �أعلى ال�سطح �أن يلقي بالدن ب�سرعة �إىل الأر�ض عندما يرى ما فعله امل�ساعد الأول «فلما عاين املري�ض ما فعل به ،ور�أى الدن املنك�سر ،ت�أ ّوه لك�سرهم �إياه ،ومل ّ ي�شك �أنه الدن الذي كان على ر�أ�سه بزعمه ،و�أ ّثر فيه الوهم �أثر ًا برئ به من علته تلك». وتُف�سر حالة مري�ض بغداد هذه يف علم النف�س احلديث على �أنها حالة �أعرا�ض هالو�س Halluacination ( ُيالحظ هنا ت أ� ّثر امل�صطلح الإجنليزي للهالو�س بالت�سمية
161
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
العربية ،ومن هذا القبيل �أي�ض ًا Hysteria :هي�سرتيا، و Hystericهي�سرتي ،و Malancholiaمالينخوليا)، وهي من الأعرا�ض ال�شائعة لدى ال ُّذهانيني ،والنادرة بني الع�صابيني .وتُع ّرف الهالو�س ب�أنها مدركات ح�سية خاطئة؛ لأنها ال تن�ش�أ عن مو�ضوعات واقعية يف العامل اخلارجي ،بل عن و�ضوح اخلياالت وال�صور الذهنية ون�صوعها ن�صوع ًا �شديد ًا في�ستجيب لها املري�ض على �أنها وقائع بالفعل ،وقد تكون هذه الهالو�س ب�صرية �سمعية �أو ذوقية �أو حتى �ش ّمية، وهي يف حالتنا هالو�س ب�صرية .وقد ا�ستخدم �أبو الربكات يف عالجه هذه احلالة ما ُيعرف بـ(العالج بالإيحاء) ،وهي طريقة لعالج �أعرا�ض املر�ض ت�ساعد على حترير املري�ض من اعتقاده الفا�سد. ثابت بن سنان وطب األخالق
162
هو حفيد �أبي احل�سن ثابت بن قرة احلراين ( ُتوفيِّ �سنة 288هـ) ،كان �أبوه �سنان بن ثابت مك ّلف ًا ببيمار�ستان
فخ�ص�ص لها بغداد �أيام الرا�ضي ،واعتنى بال�سجونّ ، �أطباء يعنون ب�صحة نزالئها ،واهتم بـ(طب الأخالق)، فك ّلفه �أحد الأمراء يف زمانه ب�أن يتك ّلف ب�إ�صالح �أخالقه «�إ�ضاف ًة �إىل معاجلته بدنه» ،فكتب له ر�سال ًة �شرح له فيها «جملة عالج ما �أنكره من نف�سه من �صفات و�أخالق ،وطلب فيها قراءتها والعمل مبا فيها ،ور ّكز يف الر�سالة على معاجلة الغ�ضب والغيظ بو�صفهما �أخطر الأمرا�ض اخللقية بالن�سبة للحاكم ،وو�صف العالج على اجلملة ،وهو �ضرورة التخ ّلق ب�ضدهما :العفو، وال�صفح» .ويحدثنا الطبيب ثابت بن �سنان عن �أبيه، ومعاجلته الأمري الذي النت �أخالقهّ ، وكف عن كث ٍري مما كان ي�سرع �إليه من القتل والعقوبات الغليظة ،وا�ستحلى ما كان ي�شري عليه من ا�ستعمال العدل والإن�صاف ورفع الظلم واجلور ،وقد �أ ّلف كتاب ًا يف (تهذيب الأخالق) ـ(طب الأخالق) �إىل �أبعد ما جنده �سنة 295هـ ،يذهب ب ّ عند جالينو�س والرازي؛ فهو يتحدث يف كتابه عن (علم
بالعلوم الطبية ،ومنها الطب النفسي ،حتى ُعرف بأنه أوحد الزمان في مهنته كما يقول صاحب «طبقات األطباء»
الأخالق) ،و�أحيان ًا كثرية عن (الطب النف�ساين) بو�صفه علم ًا �ضروري ًا ،و�أكرث �شرف ًا من الطب اجل�سماين نف�سه، وهو ال ي�ستعمل عبارة (الطب الروحاين) التي ا�ستعملها الرازي؛ لأن البحث يف الروح هو يف نظره من اخت�صا�ص الفال�سفة الذين اختلفوا يف �ش�أنها ،ويتحدث عن جماع القوى الثالث للنف�س :ال�شهوانية يف الكبد ،والغ�ضبية يف القلب ،والناطقة يف الدماغ. ويعطي ثابت بن �سنان �صور ًة رائع ًة ودقيق ًة ملا ُنطلق عليه اليوم (الأمرا�ض النف�سج�سمية /ال�سايكو�سوماتية)، ويتحدث يف كتابه عرب ف�صوله املتعددة عن الأخالق املمدوحة واملذمومة ،وعالقة ك ّل منها بالأنف�س الثالث، وعر�ض دور العائلة ،وختم كتابه (تهذيب الأخالق) خا�ص بتوجيه نداء �إىل احلكام بطلب �إن�شاء بيمار�ستان ّ لـ(طب الأخالق) على غرار بيمار�ستان طب الأبدان، م�ؤ ّكد ًا �أن �أمرا�ض النف�س معدية �أكرث من �أمرا�ض البدن. المشافي النفسية
حتدّثنا امل�صادر العربية وكتب الرتاث عن وجود م�شايف وبيمار�ستانات نف�سية متنوعة يف املدن العربية والإ�سالمية كانت تفرد فيها غرف وقاعات خا�صة بامل�صابني بالأمرا�ض النف�سية والع�صبية ،ويروي املقريزي يف (خططه) �أن �أحمد بن طولون �صاحب
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
اشتهر هبة الله بن علي أبو البركات
م�صر كان يزور نزالء امل�ست�شفى �أ�سبوعي ًا ،كما تذكر يخ�ص�ص لكل م�صاب وقفية النوري بحلب �أنه كان ّ بالأمرا�ض النف�سية خادمني ينزعان عنه ثيابه كل �صباح ،ويح ّممانه ويلب�سانه ثياب ًا نظيفة ،ويحمالنه على �أداء ال�صالة ،وي�سمعانه قراءة القر�آن من قارئ يف�سحانه يف الهواء الطلق ،و ُي�سمعانه ح�سن ال�صوت ،ثم ّ الأ�صوات اجلميلة ،والنغمات املو�سيقية الطيبة .كما كانت امل�شايف الإ�سالمية ت�ضم �أق�سام ًا خا�ص ًة برعاية امل�سننيُ ،كتبت على مداخلها الآية الكرميةَ } :واخْ ِف ْ�ض َل ُه َما َج َن َاح ال ُّذ ِّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ِّب ا ْر َح ْم ُه َما َك َما َر َّب َيانيِ َ�ص ِغ ًريا{ (الإ�سراء.)24 : وتفتّق نبوغ الأطباء العرب وامل�سلمني عن طرائق و�أ�ساليب علمية ونف�سية ناجعة يف العالج ،مثلما ت�أتّى لهم �أن يفعلوا يف م�ضمار الطب العقلي والنف�سي ،والطب النف�سي واجل�سمي (النف�سج�سمي Psychosomatic ،)Medicineومن ذلك ا�ستخدامهم ال�سماع (املو�سيقا والغناء) يف تطبيب امل�صابني ب�ضروب من اخلبل �أو العته ،وكان املجانني و�صرعى الأمرا�ض النف�سية يف �أوروبا يف هذا الوقت يق ّيدون ب�سال�سل احلديد ،وكان العالج الوحيد لهم هو ال�ضرب عندما ترتفع �أ�صواتهم بال�صراخ ،وال � ّ أدل على ذلك من �أن �أ�سامة بن منقذ ( ُتوفيِّ �سنة 584هـ1188 /م) ذكر يف كتابه (االعتبار) �أن الفرجنة �س�ألوا ع ّمه �أن يوفد �إليهم طبيب ًا ،فبعث واحد ًا ن�صراني ًا ُيدعى ثابت ًا ،مل يغب غري ع�شرة �أيام ،وملا �س�ألوه عن �سبب رجوعه و�شيك ًا روى لهم �أن الفرجنة �أنكروا ط ّبه يف عالجه امر�أة �أ�صابها ن�شاف؛ فقد ا�ستقدموا طبيب ًا منهم« ،فقال :هذه امر�أة يف ر�أ�سها �شيطان قد ع�شقها ،احلقوا �شعرها ،فحلقوه»، لكنها مل ترب�أ ،فقال :ال�شيطان قد دخل ر�أ�سها ،ف�أخذ املو�سى ،و�شقّ �صليب ًا ،و�سلخ و�سطه حتى ظهر عظم الر�أ�س ،وح ّكه بامللح ،فماتت من وقتها».
163
كادت تذهب مث ًال يف اللغة الالتينية:
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
العالج بالموسيقا
164
ذكر �إخوان ال�صفاء يف �إحدى ر�سائلهم �أن من املو�سيقا حلن ًا كانوا ي�ستعملونه يف البيمار�ستان وقت الأ�سحار يخ ّفف �أمل الأ�سقام والأمرا�ض عن املري�ض ،ويك�سر َ�س ْورتها ،وي�شفي كثري ًا من الأمرا�ض والأعالل .ويبدو �أن هذا النمط يف املعاجلة ظ ّل جزء ًا من العالج يف البيمار�ستانات الإ�سالمية حتى العهود املت�أخرة .وكان ابن �سينا ين�صح بالغناء واملو�سيقا، �أو ما ُي�س ّمى بـ(ال�سماع) ،للم�صابني ب�آفات عقلية �أو نف�سية ،و ُيو�صي بهما �أي�ض ًا يف ت�سكني الأوجاع؛ �إذ هما ُي�ساعدان على النوم ،كما يدرج يف م ؤ� َّلفاته الطبية (املو�سيقا والغناء) يف عداد الأدوية التي ُيعالج بها احلميات؛ لذلك يذكر امل�ست�شرق فارمز �أنه مما بلغ احل�ضارة الإ�سالمية ترجمة قدرة املو�سيقا على ال�شفاء ،وهو ما �أثبته ابن �سينا يف مقالته التي
Inter Omni
excercitia santatis cantare Melius est؛ �أي: خري مترينات العافية الغناء ،وهو قول قريب من قول �إخوان ال�صفاء�« :أمزجة الأبدان كثرية الفنون ،وطباع ولكل مزاجهٍّ ، احليوانات كثرية الأنواعٍّ ، ولكل طبيعة نغمة ت�شاكلها ،وحلن يالئمها». هكذا اتّ�ضح لنا جانب من اجلهود العلمية التي بذلها علماء العرب وامل�سلمني يف ميدان الطب النف�سي، ومعاجلة الأمرا�ض النف�سية التي �أ�صبحت من �أمرا�ض الع�صر ال�شائعة ،و�إن كانت ن�سبتها تظ ّل يف املجتمعات الإ�سالمية �أق ّل منها يف املجتمعات الغربية ،ويرجع ذلك �إىل طبيعة العقيدة الإ�سالمية ،وما تك ّونه يف �شخ�صية امل�سلم من �إميان عميق ،وتوازن نف�سي، وعالقات وطيدة را�سخة بني الإن�سان ور ّبه من ناحية، ونف�سه وجمتمعه من ناحية ثانية.
العالج باملو�سيقا عرفته البيمار�ستانات العربية
أينما كنت
تصفح
ترجمات
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
تقارير
165 ر�أي
�إنفوجرافيك
الأر�شيف
التوا�صل
شخصيات
العلَم المصري، صندوق خشبي يكسوه َ ممدة لرجل سبعيني تنتظر في وبه ج ّثة ّ مكان تحميل الحقائب لنقلها على رحلة مصر للطيران رقم 986المتّجهة من مطار جون كينيدي الدولي في مدينة نيويورك بالواليات المتحدة األمريكية مساء الجمعة 5أغسطس عام 2016م إلى مطار القاهرة الدولي ،وليس في وداع الجثمان سوى ثالثة مسؤولين من شركة الطيران المصرية الناقلة .مشهد تجلّله مهابة الموت، تهتم وتنحسر عنه أضواء النجومية ،وال ّ فيه الدولة المصرية بتوفير طائرة خاصة ّ تقل الرجل هو وأفراد أسرته إلى مثواه في مصر ،وال تعبأ البعثة الدبلوماسية بأن تكون في وداعه بعد أن ظلّت تفخر بمصريته كثيراً ،وتتسابق إلى السالم عليه عندما كان ملء الدنيا ،وحديث الناس .إنه المشهد األخير في حياة عالم مصري أبدع على بساط الغربة ،وكتب اسمه بمداد من ٍ نور في سجالت التاريخ ،عالم سبق عصر السرعة ،وأضاف إلى الزمن وحدةً جديدةً ، هي (الفيمتو ثانية) ،إنه العالم المصري
166
أحمد زويل.
أحمد زويل.. قصة نجاح عربية على ُبساط الغربة 167 سيد الجعفري هيئة التحرير
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
168
فعمل معيد ًا بالكلية ،ثم ح�صل على درجة املاج�ستري عن زويل اإلنسان ُولد الطفل �أحمد ح�سن زويل يف 26فرباير عام 1946م بحثه يف علم ال�ضوء ،وتد ّرب يف �أثناء درا�سته يف �شركة مبدينة دمنهور عا�صمة حمافظة البحرية امل�صرية يف (�شل) يف مدينة الإ�سكندرية عام 1966م. �شمال غرب دلتا النيل لوالدين كان حلمهما �أن يح�صل ولدهما الوحيد مع ثالث بنات على درجة علمية عالية خطواته نحو الحلم من اخلارج ،ثم يعود ليكون �أ�ستاذ ًا جامعي ًا يف بلده؛ تقدّم �أحمد زويل للح�صول على منحة خارجية للح�صول فمنحاه الثقة التي يحتاج �إليها ليكون ناجح ًا ،وع ّلقا على على درجة الدكتوراه من الواليات املتحدة الأمريكية، باب غرفته يف وقت مب ّكر من عمره ورق ًة حتمل ا�سمه التي كانت تقود �سفينة العلم احلديث بعد احلرب العاملية الثانية ،لكن الظروف ال�سيا�سية مل�صر كانت متنع ال�سفر م�سبوق ًا بلقب دكتور «د� .أحمد». انتقل �أحمد زويل مع �أ�سرته ،وهو يف الرابعة من عمره� ،إىل هناك� .أ�ص ّر زويل على التقدّم �إىل املنحة ،وجاءه �إىل مدينة د�سوق مبحافظة كفر ال�شيخ ،وهناك ن�ش�أ خطاب املوافقة ،فقر�أه ع�شر مرات من هول املفاج�أة، تك�سرت جماديف طموحه وتل ّقى تعليمه الأ�سا�سي ،حتى التحق بكلية العلوم يف لكن فرحته مل تكتمل؛ فقد ّ يتم جامعة الإ�سكندرية بعد ح�صوله على الثانوية العامة ،على �صخرة البريوقراطية امل�صرية العتيدة؛ فرمبا ّ وح�صل على بكالوريو�س العلوم يف الكيمياء بامتياز مع تغيري وجهة املنحة من الواليات املتحدة الأمريكية �إىل مرتبة ال�شرف عام 1967م ،وكان الأول على دفعته ،املجر �أو االحتاد ال�سوفييتي اللذين ال يعلم عنهما �شيئ ًا، زويل يت�سلم جائزة امللك في�صل العاملية
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
يجتازه �إال بتوقيع وزير التعليم العايل؛ فكيف له ذلك وهو ال ي�ستطيع مقابلة رئي�س جامعته. جنح زويل يف اجتياز ك ّل املعوقات ،و�سافر �إىل الواليات املتحدة الأمريكية ،وهناك ح�صل على درجة الدكتوراه من جامعة بن�سلفانيا يف علوم الليزر ،ثم عمل باحث ًا يف جامعة كاليفورنيا يف بركلي يف املدة (1976 -1974م)، قبل �أن ينتقل �إىل العمل يف معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) عام 1976م ،وهو من �أكرب اجلامعات العلمية يف الواليات املتحدة الأمريكية .ح�صل زويل على اجلن�سية الأمريكية عام 1982م ،وتد ّرج يف املنا�صب العلمية الدرا�سية داخل جامعة كالتك �إىل �أن �أ�صبح �أ�ستاذ ًا رئي�س ًا لعلم الكيمياء بها ،وهو �أعلى من�صب علمي جامعي يف �أمريكا خلف ًا للكيميائي والفيزيائي الأمريكي لينو�س بولينج ،الذي ح�صل على جائزة نوبل مرتني: الأوىل يف الكيمياء عام 1954م ،والثانية يف ال�سالم العاملي عام 1962م حلملته �ضد التجارب النووية .ومل يت� ّأخر زويل عن �سلفه؛ فنال جائزة نوبل يف الكيمياء عام وعليه �أن يح�صل على توقيعات ٣٠معيد ًا بعدم رغبتهم 1999م لإجنازاته العلمية الهائلة يف درا�سة ذ ّرات املواد يف هذه املنحة ،ال ل�شيء �سوى �أنهم �أ�صحاب (ال َّد ْور) ،املختلفة وت�صويرها خالل تفاعالتها الكيميائية. وال بد �أن يجتاز القانون العتيق الذي ي�شرتط عليه العمل يف بلده عامني قبل ال�سفر �إىل اخلارج ،وهو قانون لن زواج على مائدة الفيصل ع�شق زويل املر�أة ب�شكل خمتلف عن غريه من الرجال؛ فقد �أح ّبها بعقله ال بقلبه ،وكان مفتون ًا باملر�أة ال�شرقية، وجاءت �أوىل حمطاته يف ذلك خالل عمله معيد ًا يف نجح زويل في اجتياز ّ كل المعوقات جامعة الإ�سكندرية عندما �أُعجب بطالبته مريفت ،التي في مصر ،وسافر إلى الواليات كان ي�صفها دائم ًا بالوقورة واجلادة ،فتز ّوجها و�أجنب المتحدة األمريكية ،وحصل على درجة منها ابنتيه :مها ،و�أماين ،قبل �أن يحدث الطالق بينهما الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا في عند تعيينيه �أ�ستاذ م�ساعد ًا يف كالتك ،وكانت مريفت علوم الليزر ،وعمل باحث ًا في جامعة وقتها قد ح�صلت على درجة الدكتوراه ،وعلى وظيفة كاليفورنيا في بركلي ،ثم في معهد تدري�س يف كلية �أمبا�سادور .ومازالت مريفت وابنتاها كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) ُيقمن بالواليات املتحدة الأمريكية -ح�سب موقع قناة
169
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
170
العربية -بعد �أن تز ّوجت مها -الأ�ستاذة يف جامعة �شيئ ًا� ،سوى �أنه قال عنها�« :أنا ما كنت�ش موجود النهاردة ثاوث وي�سرتن يف مدينة جورجتاون بوالية تك�سا�س -عام ك�إن�سان عاي�ش من غري دمية؛ لأنها �شافت كتري». 1994م من دكتور �أمريكي يف مادة الكيمياء ،وتز ّوجت �أماين ،طبيبة �أمرا�ض الن�ساء والوالدة ،من �شخ�ص من الفيصل إلى نوبل ُيدعى :ندمي حجازي. ح�صل �أحمد زويل على جائزة امللك في�صل العاملية يف لتخ�ص�صه الرائد يف و�شهد حفل توزيع جائزة امللك في�صل العاملية عام العلوم عام 1989م (باال�شرتاك) ّ 1989م حمطة الزواج الثاين لأحمد زويل؛ فقد جمع ا�ستخدام �أ�شعة الليزر للتح ّكم يف التفاعالت الكيميائية هذا احلفل بني �أحمد زويل وهو يت�س ّلم جائزته يف العلوم ب�إعطاء الذ ّرات الطاقة الالزمة لها يف املو�ضع املنا�سب والدكتور �شاكر الفحام وهو يت�س ّلم جائزته يف الأدب حتى تنتج التفاعالت املطلوبة فقط ،وميتنع غريها .وقال العربي ،الذي كانت ترافقه ابنته دمية ،وهناك على زويل نف�سه خالل حفل ت�س ّلمه هذه اجلائزة�« :إنه ل�شرف مائدة احلفل كان التعارف ،الذي انتهى بالزواج يف العام عظيم �أن �أح�صل على واحدة من �أرفع اجلوائز يف العلوم، نف�سه ،لينجبا ابنيهما :نبيل ،وهاين. وهي جائزة امللك في�صل العاملية» ،مبدي ًا �سعادته بالتكرمي كانت دمية الفحام ،احلا�صلة على بكالوريو�س الطب العظيم لكونه �أول عربي م�سلم يفوز بهذه اجلائزة ،و أ� ّكد يف ال�صحة العامة من كلية الطب بجامعة دم�شق ،وابنة �أنه ح�صل على جوائز عاملية رفيعة ،لكن جائزة امللك الدكتور �شاكر الفحام رئي�س جممع اللغة العربية يف في�صل تتب ّو أ� مركز ًا عاملي ًا ،وتنبع من �أ�صل عربي ،م�شري ًا �سوريا حتى وفاته عام 2008م ،هي اجلندي املجهول �إىل �أن تخ�صي�ص اململكة العربية ال�سعودية جائز ًة عاملي ًة ي�سجله التاريخ ب�أحرف من النور؛ يف حياة زويل الذي ال يعرف �أحد عن خ�صو�صياتهما للإجنازات العاملية �شيء ّ
«يتوجب علينا إعادة النظر في تمويل ّ البحث العلمي في العالم العربي ...ال بد أن ينظر العالم العربي نظرةً جديدةً إلى القرن القادم ،وأن يخصص نسبةً من ّ دخله القومي لتمويل البحث العلمي؛ ثري ،وال بد من مراجعة فالعالم العربي ّ جادة للواقع الراهن فيما يتّصل بهذه ّ المسألة». «يتوجب أن تتوافر في العالم العربيعقيدة وطنية تُؤمن بالدور الهام للعلم، وتنادي بضرورة بناء القاعدة العلمية والتكنولوجية .إن استهالك التكنولوجيا ليس هو اكتساب العلم .وأتمنى أن يكون حصول شخص مثلي على جائزة نوبل حافز ًا إلطالق مثل هذه العقيدة الوطنية في مجتمعنا العربي؛ حتى نشارك في صنع التقدم العلمي على المستوى العالمي». «إنني متفائل بالعالم العربي ،وهذاأحد أسباب زياراتي المتكررة له .وسبب ّ تفاؤلي هو توفر الموارد اإلنسانية التي أشاهدها في جميع المجاالت. أرى أناس ًا ممتازين فعالً ...وأرى جوانب أخرى كثيرة في العالم العربي تمدني بالتفاؤل ،وهو تفاؤل ضروري ّ ّ للخروج من الحلقة المفرغة إلى طريق التقد م». ّ مجلة شؤون عربية (مصر) ،ع ،101عام 2000م.
فالأمم تُقا�س دائم ًا بح�ضاراتها ،والأمة العربية قدّمت كثري ًا من الإجنازات العاملية. مل تكن جائزة امللك في�صل العاملية تتويج ًا جلهود �أحمد أ�سري فح�سب ،و�إمنا زويل العلمية� ،أو بداي ًة ال�ستقراره ال ّ كانت نقطة انطالقه �إىل �أو�سع �أبواب العاملية؛ فبعد ح�صوله على اجلائزة بع�شر �سنوات ارتقى من�ص ًة �أخرى �أكرث مت ّيز ًا ،هي ح�صوله على جائزة نوبل يف الكيمياء عام 1999م عن �أبحاثه يف جمال الفيمتو ثانية بعد �أن ابتكر جمهر ًا ي�ص ّور �أ�شعة الليزر يف زمن قدره فيمتو ثانية ،وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية؛ لي�صبح زويل �أول عربي يح�صل على جائزة نوبل يف الكيمياء ،ورابع م�صري يفوز بجائزة نوبل يف خمتلف فروعها بعد الرئي�س امل�صري الأ�سبق حممد �أنور ال�سادات يف ال�سالم عام 1978م، والأديب جنيب حمفوظ يف الآداب عام 1988م ،والدكتور حممد الربادعي يف ال�سالم عام 2005م. و�أعربت الأكادميية ال�سويدية امللكية للعلوم يف حيثيات منحها اجلائزة لأحمد زويل �أنها نتيجة الثورة الهائلة يف علم الكيمياء والعلوم املرتبطة به ،التي �أحدثها من
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
زويل يش ّرح البحث العلمي العربي
171
خالل �أبحاثه الرائدة يف جمال ردود الفعل الكيميائية، وا�ستخدام �أ�شعة الليزر؛ فقد أ�دّت �أبحاثه �إىل ميالد ما ي�سمى بـ(كيمياء الفيمتو ثانية) ،وا�ستخدام �آالت الت�صوير الفائقة ال�سرعة يف مراقبة التفاعالت الكيميائية ب�سرعة الفيمتو ثانية.
زويل أول عربي يحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في العلوم عام 9891م ،وأول عربي يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 9991م
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
ابتكار علم جديد
مت ّيز �أحمد زويل بقدرته الفريدة على ا�ستنباط التقنيات املتط ّورة ،وا�ستخدامها يف �إي�ضـاح املفاهيم النظرية الأ�سا�سية و�إثباتها ،وح ّقق �إجنازات علمية باهرة يف ا�ستخدام �أطياف �أ�شعة الليزر الفائقة ال�سرعة يف متابعة احلزم ال�ضوئية للجزئيات ،ور�صد حركتها بدقة متناهية ت�سمح بر�ؤية التفاعالت الكيماوية حلظة حدوثها ،ف� ّأ�س�س بذلك فرع ًا جديد ًا من فروع املعرفة هو (كيمياء الفيمتو ،)femtochemistryوفتح املجال �أمام كثري من النظريات والتجارب اجلديدة؛ فقد
جنح علم كيمياء الفيمتو يف حتويل تخ ّيالت العلماء عن التفاعالت الكيميائية �إىل امل�شاهدة على �أر�ض الواقع عن طريق املجهر الذي ُ�ص ِّمم لهذا ال�ش�أن. ا�ستخدم زويل عملي ًا املقيا�س الزمني البالغ ال�ض�آلة (الفيمتو ثانية) يف ر�صد حركة اجلزيئات عند تكوينها، وعند تكوين روابط كيميائية بينها ،وا�ستطاع �أن ي�ص ّور لأول مرة ما يحدث خالل التفاعالت الكيميائية؛ لأن هذه التفاعالت حتدث ب�سرعة كبرية جد ًا ،وعند ت�سليط ال�ضوء عليها يحدث ت�شتّت للإلكرتونات؛ فال ميكن ت�صوير تف ّكك الروابط بني املركبات� ،أو �إعادة ترابطها مع ًا .وتكمن �أهمية ابتكار زويل يف �أنه ا�ستطاع ت�سليط �أ�شعة الليزر على التفاعالت وت�صويرها بكامريات دقيقة مت ّكنت من التقاط ما يحدث يف جزء من مليون مليار جزء من الثانية .و ُبنيت الكامريا املبتكرة التي ُ�صممت لهذا ال�ش�أن على تقنية ليزر جديدة تعتمد على �إر�سال وم�ضات �ضوئية �سريعة جد ًا ،مقدارها ب�ضع ع�شرات
لم تكن جائزة الملك فيصل العالمية تتويج ًا لجهود أحمد زويل العلمية، وإنما كانت نقطة انطالقه إلى أوسع أبواب العالمية
172
زويل في قائمة عظماء العالم
ال يتو ّقف ر�صيد �أحمد زويل من التكرمي على جائزتي امللك في�صل العاملية ونوبل ،بل نال عدد ًا كبري ًا من اجلوائز والأو�سمة والنيا�شني بلغت 31جائزة دولية على �أبحاثه الرائدة يف علوم الليزر؛ فقد ك ّرمه بلده م�صر بعد ح�صوله على نوبل مبنحه �أرفع و�سام م�صري ،وهو قالدة النيل ،عام 1999م ،وو�سام اال�ستحقاق امل�صري .ومن �أهم اجلوائز التي ح�صل عليها �أحمد زويل يف م�سريته العلمية :جائزة و ِول�ش الأمريكية ،وجائزة هاريون هاو الأمريكية ،وو�سام بنجامني فرانكلني الأمريكي ،وجائزة ماك�س بالنك الأوىل يف �أملانيا ،وجائزة هوك�ست الأملانية،
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
من الفيمتو ثانية؛ مبعنى �أن وم�ضة الليزر تُطلق يف زمن قدره ب�ضع ع�شرات من الفيمتو ثانية ،وتدخل مك ّونات التفاعل قبل �إطالق الوم�ضات �إىل مطياف جهاز الفيمتو ثانية على �شكل حزم من املواد يف غرفة تفريغ ،ويقوم جهاز الليزر املتط ّور ب�إر�سال نب�ضتني :الأوىل قوية ت�صدم اجلزيئات وتثريها �إىل حالة من الطاقة العالية فتت�أرجح ك ّل اجلزيئات يف �آنٍ واحد حتت ت�أثري الرتابط اجلزيئي بينها ك�أنها �صفوف يف كتيبة ع�سكرية ،والنب�ضة الثانية يتم اختيار طول موجي لها ج�س �ضعيفة ّ هي نب�ضة ّ منا�سب الكت�شاف اجلزيء �أو �صورة معدّلة منه .وتع ّد النب�ضة الأوىل �إ�شارة بدء التفاعل ،بينما تفح�ص النب�ضة الثانية ك ّل ما يجري يف التفاعل من حرك ٍة بطريقة مطيافية ر�ؤية اجل�سم املتحرك ب�سرعة دوران اجلهاز نف�سه ك�أن اجل�سم املتحرك �ساكن .ويالحظ يف الفا�صل الزمني بني النب�ضتني مدى �سرعة التحول والأو�ضاع اجلديدة التي ي�أخذها اجلزيء عند �إثارته واجتيازه املرحة االنتقالية .وترتك ال�صور التي تظهر
للجزيء يف �أثناء �إثارته �أطياف ًا ك�أنها ب�صمات �أ�صابع ميكن ر�ؤيتها على ال�شا�شة ،وبتتابع النب�ضات وال�صور نح�صل على �صور متتابعة ت�شبه الفيلم يعر�ض حركات اجلزيئات ببطء �شديد ،وهي �أ�شبه �إىل حدٍّ كبري ب�إعادة هدف ببطء يف مباراة لكرة القدم.
173
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
174
عدد من املجاالت ،وورد ا�سمه يف قائمة مرموق ًا يف ٍ ال�شرف بالواليات املتحدة الأمريكية ،التي ت�ضم �أهم ال�شخ�صيات التي �ساهمت يف النه�ضة الأمريكية ،وحمل ا�سمه رقم ت�سعة من بني � 29شخ�صية بارزة بو�صفه �أهم علماء الليزر يف الواليات املتحدة الأمريكية ،وهي القائمة التي ت�ضم �ألربت �أين�شتاين ،و�ألك�سندر جراهام بيل ،وغريهما من العلماء العظماءّ . ور�شحه بان كي مون -الأمني العام للأمم املتحدة -لع�ضوية املجل�س اال�ست�شاري العلمي للمنظمة الدولية ،الذي يقدّم امل�شورة يف جمال العلم والتكنولوجيا واالبتكار من �أجل حتقيق التنمية امل�ستدمية .كما أُ�طلق ا�سم �أحمد زويل على بع�ض وميدالية �أكادميية العلوم والفنون الهولندية ،وجائزة ال�شوارع وامليادين يف م�صر ،و�أ�صدرت هيئة الربيد االمتياز با�سم ليوناردو دا فين�شي ،وجائزة �ألك�سندر امل�صري طابعي بريد با�سمه و�صورته ،و ّمت �إطالق ا�سمه فون همبولدن من �أملانيا الغربية ،وجائزة باك وتيني من على �صالون الأوبرا. نيويورك ،وجائزة ال�سلطان قابو�س يف العلوم والفيزياء من �سلطنة عمان ،والو�سام الذهبي للأكادميية البابوية عصر العلم والطريق إلى نوبل للعلوم ،وجائزة وزارة الطاقة الأمريكية ال�سنوية يف ن�شر �أحمد زويل �أكرث من 350بحث ًا علمي ًا يف املجالت املتخ�ص�صة؛ مثل� :ساين�س ،ونيت�شر، الكيمياء ،وجائزة كار�س من جامعة زيورخ يف الكيمياء العلمية العاملية ّ والطبيعة ،وهي �أكرب جائزة علمية �سوي�سرية ،وقالدة ون�شر عدد ًا من الكتب ،هي :رحلة عرب الزمن ..الطريق بري�ستلي ،وهي �أرفع و�سام �أمريكي يف الكيمياء ،وو�سام �إىل نوبل ،وع�صر العلم (2005م) ،والزمن (2007م)، جوقة ال�شرف الوطني الفرن�سي برتبة فار�س .وح�صل وحوار احل�ضارات (2007م) ،والت�صوير امليكرو�سكوبي زويل على زماالت الأكادمييات واجلمعيات العلمية يف الواليات املتحدة الأمريكية و�أوروبا و�آ�سيا و�أمريكا اجلنوبية وال�شرق الأو�سط ،وانتُخب ع�ضو ًا يف �أكادميية العلوم والفنون الأمريكية ،وع�ضو ًا يف اجلمعية امللكية الربيطانية ،وع�ضو ًا يف الأكادميية البابوية للعلوم ،و ُمنح زويل ُمنح جائزة نوبل نتيجة الثورة درجات الدكتوراه الفخرية يف العلوم والفل�سفة والعلوم الهائلة في علم الكيمياء والعلوم الإن�سانية والطب والقانون من نحو ع�شرين جامعة المرتبطة به التي أحدثها من خالل يف العامل ،منها جامعتا كامربيدج و�أك�سفورد .كما أبحاثه الرائدة في مجال ردود الفعل اختاره الرئي�س الأمريكي باراك �أوباما �ضمن جمل�س الكيميائية واستخدام أشعة الليزر م�ست�شاريه للعلوم والتكنولوجيا ،الذي ي�ضم 20عامل ًا
تم ّيز أحمد زويل بقدرته الفريدة المتطورة، على استنباط التقنيات ّ واستخدامها في إيضـاح المفاهيم النظرية األساسية وإثباتها ،وحقّ ق إنجازات علمية باهرة في استخدام أطياف أشعة الليزر الفائقة السرعة في متابعة الحزم الضوئية للجزيئات
�أعلن التلفزيون امل�صري يوم الثالثاء � 2أغ�سط�س عام 2016م وفاة العامل الدكتور �أحمد زويل يف �سان مارينو بلو�س �أجنلو�س يف الواليات املتحدة الأمريكية بعد �صراع مع املر�ض عن عمر ناهز ال�سبعني عام ًا ،وكان ٍ ً ً زويل يعاين قبل وفاته ورما �سرطانيا يف النخاع ال�شوكي منذ عام 2013م .وودّعته م�صر التي �أو�صى بدفنه فيها بجنازة ع�سكرية ُو�ضع فيها جثمانه على عربة مدفع جت ّرها اخليول ،ويتقدّمها جنود يحملون �أكاليل الزهور والأو�سمة التي نالها زويل على مدى حياته. وتقدّم الرئي�س امل�صري عبدالفتاح ال�سي�سي و�أ�سرة زويل امل�ش ّيعني يف �ساحة م�سجد امل�شري طنطاوي مبنطقة التجمع اخلام�س يف �شرق القاهرة ،و�شارك يف اجلنازة بع�ض ال�شخ�صيات املرموقة ،منهم :ج ّراح القلب العاملي جمدي يعقوب ،و�شيخ الأزهر �أحمد الطيب ،ورئي�س جمل�س النواب علي عبدالعال ،وبع�ض الدبلوما�سيني العرب؛ ل ُي�سدل بذلك ال�ستار على ق�صة عامل م�صري �أبدع على ب�ساط الغربة.
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
الإلكرتوين الرباعي الأبعاد بالإجنليزية ،وعلم الأحياء الفيزيائي من الذرات �إىل الطب بالإجنليزية .كما خ ّلف زويل م�شروع ًا علمي ًا رائد ًا يف م�صر ،هو (مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا) ،وهو م�شروع مبادر لتطوير العلم والتعليم يف م�صر يقع يف مدينة � 6أكتوبر على م�ساحة ويتم متويله 200فدان ،ويتمتّع باال�ستقاللية التامةّ ، عرب تربعات الهيئات والأ�شخا�ص.
جنازة عسكرية بصحبة األوسمة
175
تلويحة لآلتي
ا السنة 13ا العددان 51 - 50ا شوال -ذو الحجة 1437هـ /يوليو -سبتمبر 2016م ا
د .يحيى: عطرك مازال فواح ًا
176
رفض الدكتور يحيى إيقاف التام هذه المجلة؛ لوعيه ّ بحاجة العالم العربي إلى مثل هذه المجلة الفريدة في مادتها وأهدافها؛ فكان أن رعى هذه النبتة الصغيرة حتى استوى عودها
تشع في صدرت هذه المجلة عام 2003م ،وهي أخت لعدة إصدارات ّ عالم الثقافة والعلوم ،يصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية في سبيل خدمة الثقافة العربية واإلسالمية .يصدر المركز مجلة (الفيصل) العريقة ،ومجلة (اإلسالم والعالم المعاصر)، ومجلة (الدراسات اللغوية) ،إضافةً إلى عددٍ من المطبوعات والنشرات البحثية الخاصة في شتى المجاالت تصدر باللغتين العربية واإلنجليزية؛ مثل :مسارات ،ودراسات ،وقراءات ،وتعليقات ،كما ظلّت مجلة (الفيصل األدبية) تصدر عدة سنوات حتى توقّ فت. ّ وظل يرأس تحريرها إلى العدد السابق أصدر مجلة (الفيصل العلمية)، األستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد ،وأص ّر على استمرارها في الوقت الذي تموت فيه المجالت الورقية في العالم بأسره ألسباب كثيرة ،من أهمها سيطرة العالم الرقمي ،وسهولة الوصول إلى المجالت والصحف الرقمية ،وخسارة المطبوعات الورقية كثير ًا من قرائها ،وتقلّص أرباحها. التام بحاجة العالم لوعيه المجلة؛ هذه إيقاف رفض الدكتور يحيى ّ العربي إلى مثل هذه المجلة الفريدة في مادتها وأهدافها؛ فكان أن رعى هذه النبتة الصغيرة حتى استوى عودها .ولمقاومة أسباب التوقّ ف ذهب بها إلى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لكي تساهم في رعايتها ،والمساعدة على استمرارها، ّ تظل تقف على رجليها ،وهي تؤدي رسالتها ودعمها مالي ًا؛ حتى التي آمن بها الدكتور يحيى .ويكفي الرجل فخر ًا أن يكون له قصب ّ ليحتل موقعه الذي يستحقه السبق في إصدار مجلة علمية وطنية في مسيرة صحافتنا السعودية. ّ كل َمن يعرف الدكتور يحيى يتيقّ ن أنه يعمل في صمت ،ويسعى إلى خدمة هذه الثقافة العربية اإلسالمية من خالل جميع المناصب التي تقلّدها ،وال غرو أن يرتبط اسمه بمشروعات عظيمة؛ كمكتبة الملك يودعنا في مجلة فهد الوطنية التي كان أول أمين عام لها ،وهو حين ّ (الفيصل العلمية) فهو يذهب إلى مكان آخر ليزرع فيه ويثمر. َ حللتْ ، وثق أن عطرك مازال فواح ًا، د .يحيى :نعلم أنك تزهر وتثمر أينما ونحن في انتظار نسيم يأتي بعبق وردة تزرعها أينما تكون في هذا الوطن؛ فتحية لك مني ،ومن ّ كل َمن عرفك ،وتعامل معك. َمن يريد االطالع على منجزات الدكتور يحيى محمود بن جنيد فليقرأ ما كتبه مقال من ثالث حلقات في الملحق األخ الصديق محمد القشعمي عنه في ٍ الثقافي لصحيفة الجزيرة ،األعداد ،15955 :و ،15962و.15969
د .عبد الله الحاج