الفيصل العلمية العدد ٥١

Page 1



‫هذه المجلة ورؤاها‬


‫افتتاحية‬

‫بدعم من مدينة امللك عبدالعزيز‬ ‫قام مركز امللك في�صل للبحوث والدرا�سات الإ�سالمية ٍ‬ ‫للعلوم والتقنية بو�ضع �إ�سرتاتيجية بعيدة املدى لن�شر الثقافة العلمية يف املجتمع بعنوان‪:‬‬ ‫(الإ�سرتاتيجية الوطنية لن�شر الثقافة العلمية‪1450 -1431 :‬هـ)‪ .‬و�أ�شارت الإ�سرتاتيجية �إىل‬ ‫�أن اململكة العربية ال�سعودية «ال تزال تفتقر لو�سائط الثقافة العلمية املطبوعة‪ ...‬و�أن وعي‬ ‫املجتمع ال�سعودي ب�أهمية الثقافة العلمية ما زال حمدود ًا»‪ ،‬م�ضيف ًة‪« :‬هناك قلة يف عدد الكتب‬ ‫واملجالت والن�شرات يف الثقافة العلمية»‪.‬‬ ‫تهتم بن�شر الوعي العلمي لدى‬ ‫ومن هذا املنطلق تبدو احلاجة �شديد ًة �إىل مطبوعات وجمالت ّ‬ ‫�شرائح املجتمع كاف ًة‪ ،‬كما �أن الثقافة العلمية هي �إحدى الركائز املهمة ملجتمع املعرفة الذي‬ ‫يجب على املجتمع ال�سعي نحوه؛ لتكوين عقلية علمية قادرة على �إزالة كثري من الغب�ش الفكري‬ ‫الذي يعانيه‪.‬‬ ‫عندما انطلقت هذه املجلة كان �أحد �أهم الأهداف هو «تقدمي معلومات تنا�سب القارئ غري‬ ‫املتخ�ص�ص؛ ليقف من خاللها على �أمناط من املعرفة العلمية»‪ ،‬وو�ضع القارئ العربي �أمام‬ ‫ّ‬ ‫املبني على نتائج العلم‪ ،‬وحقائق التقنية‪.‬‬ ‫امل�شهد املعا�صر ّ‬ ‫هذا ما ّ‬ ‫�سطره رئي�س حترير املجلة يف عددها الأول؛ فاملجلة ‪�-‬إذ ًا‪ -‬ت�ضع �أوىل لبنات‬ ‫�إجناز الإ�سرتاتيجية الوطنية لن�شر الثقافة العلمية‪ ،‬وجعلها مك ّون ًا رئي�س ًا من مك ّونات‬ ‫ثقافة املجتمع العربي؛ لتحقيق �شروط املعا�صرة (م�شروع ن�شر الثقافة العلمية والثقافية‬ ‫يف الوطن العربي‪ ،‬جامعة الدول العربية)‪ .‬وقد حاولت املجلة يف �أعدادها املا�ضية ‪-‬قدر‬ ‫تهم القارئ ب�أ�سلوب يجمع بني‬ ‫امل�ستطاع‪� -‬أن تطرح املو�ضوعات العلمية املعا�صرة التي ّ‬ ‫ال�سهولة والعمق‪ ،‬وا�ستقطبت نخب ًة من العلماء والكتّاب العلميني من خمتلف الدول العربية‬ ‫والأجنبية‪ ،‬ور�صدت التحوالت يف جماالت العلوم والطب والتقانة؛ لنقل امل�شهد العلمي يف‬ ‫العامل �إىل القارئ‪.‬‬ ‫وت�سعى املجلة �إىل التطوير الدائم يف �إطار ر�ؤاها ب�إعداد التقارير الوافية عن �أحدث التطورات‬ ‫العلمية يف العامل‪ ،‬وتقدميها �إىل القارئ العربي بلغة عربية �سل�سة و�سليمة‪ .‬و�إذا كنا نرى‬ ‫�أهمية معرفة ثمار العلم املعا�صر‪ ،‬والتطور املت�سارع يف العلوم‪ ،‬وانعكا�س ذلك يف حياتنا‪ ،‬ف�إننا‬


‫ن�ؤمن ب�أن �أكلنا الثمرة يجب �أن ت�سبقه معرفة م�صدرها؛ �أي‪ :‬من �أين �أتت؟ وكيف ُزرعت؟ وهل‬ ‫نحن ن�أكل مما نزرع �أو مما يزرعه غرينا؟‬ ‫ً‬ ‫�إننا ن�ؤمن ب�أن ال�شجرة وجذورها �أهم من الثمرة؛ لذلك �سنهتم �أي�ضا بتقدمي التف�سريات‬ ‫الفل�سفية‪ ،‬والإطار الثقايف للممار�سات العلمية؛ كفل�سفة العلوم مث ًال؛ يقول تعاىل يف كتابه‬ ‫ال ْلقَ ُث َّم هَّ ُ‬ ‫ن�ش ُئ ال َّن ْ�ش�أَ َة ْال ِآخ َر َة ِ�إنَّ هَّ َ‬ ‫الَ ْر ِ�ض َف ُ‬ ‫انظ ُروا َك ْي َف بَدَ �أَ خْ َ‬ ‫الل‬ ‫احلكيم‪ُ } :‬ق ْل ِ�س ُريوا فيِ ْ أ‬ ‫الل ُي ِ‬ ‫َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َقدِ ي ٌر{ (العنكبوت‪.)20 :‬‬ ‫�ستوجه املجلة اهتمامها �إىل ك ّل ما من �ش�أنه رفع �إمكانات املجتمع العلمي؛ مثل‪ :‬ال�صحافة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫متخ�ص�صة‬ ‫و�سعودية‬ ‫عربية‬ ‫أقالم‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫م�ستعين‬ ‫العلمية‪،‬‬ ‫والثقافة‬ ‫العلمي‪،‬‬ ‫والن�شر‬ ‫العلمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و ُم�ؤهَّ لة‪ ،‬كما �سنقوم برتجمة ما نراه منا�سب ًا ومهم ًا يف ال�صحف والدوريات العلمية العاملية‪.‬‬ ‫ولأنه ال م�ستقبل ل ّأي جمتمع منبتّ عن ما�ضيه وتراثه‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا كان هذا الرتاث م�ضيئ ًا‬ ‫وثري ًا‪ ،‬ف�إن املجلة �ستُعنى بالرتاث العلمي العربي الإ�سالمي الذي مل تُكت�شف كنوزه بعدُ؛‬ ‫فهناك �آالف املخطوطات املجهولة التي ت�ستحقّ البحث والتنقيب والإبراز‪ ،‬وهناك املخطوطات‬ ‫املعلومة التي مل تحُ قَّق حتقيق ًا علمي ًا بعدُ‪ ،‬ون�سوق مثا ًال ب�سيط ًا لذلك كتاب (املناظر) البن‬ ‫الهيثم‪ ،‬الذي ح ّقق الدكتور عبداحلميد �صربة املقاالت الأوىل والثانية والثالثة منه يف نحو‬ ‫وح ّققت املقالتان الرابعة واخلام�سة بعد ذلك بع�شرين عام ًا‪ ،‬ومل تحُ قَّق �إىل‬ ‫عام ‪1980‬م‪ُ ،‬‬ ‫الآن املقالتان ال�ساد�سة وال�سابعة‪ ،‬على الرغم من توافر ن�سخ من املخطوطة‪ ،‬وغري ذلك كثري؛‬ ‫ف�إن�صاف ًا لهذا الرتاث ال ّرث �ستكون هناك �صفحات عنه يف جملتنا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وماذا �أي�ض ًا؟ يحدونا الأمل يف حتقيق كثري من الطموحات التي قد تبدو �أحالما‪ ،‬والتي لها‬ ‫مردودها الإيجابي يف تطور املجتمع‪ ،‬لكن ثقتنا �أن الإجنازات الكبرية �أ�سا�سها حلم ُيطلق‬ ‫الطاقات الكامنة حتى تحُ يله �إىل حقيقة؛ فما نحتاج �إليه هو العمل مع ًا ‪�-‬إدار ًة وحترير ًا و ُكتّاب ًا‬ ‫وق ّرا ًء‪ -‬بكثري من اجلهد والدعم وال�صرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َن ِعدُكم ب�أننا لن نو ّفر جهد ًا حتى ت�صل املجلة �إىل املدى الذي نطمح �إليه جميعا‪ ،‬بل �إىل مدى‬ ‫�أبعد من ذلك يف �سبيل (�إ�شاعة الثقافة العلمية)؛ �إ�سهام ًا يف �إيجاد جمتمع املعرفة الذي‬ ‫ن�صبو �إليه‪ ،‬ونحلم به‪.‬‬ ‫د‪ .‬عبدالله الحاج‬ ‫رئيس التحرير‬


‫‪www.alfaisal-scientific.com‬‬ ‫‪contact@alfaisal-scientific.com‬‬ ‫‪@alfaisalscimag‬‬

‫مجلة فصلية تهتم بنشر الثقافة العلمية في الوطن العربي‬

‫‪alfaisalscientific‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الناشران‬ ‫رئـيـس الـتـحريـر‬

‫د‪ .‬عبد الله نعمان الحاج‬

‫رئيس الهيئة االستشارية‬

‫مدير التحـرير‬

‫د‪ .‬دحام بن إسـمـاعيل الـعـاني‬

‫د‪ .‬حسـين حســن حسـين‬

‫الهيئة االستشارية‬

‫سكرتيرا التحـرير‬

‫د‪ .‬صــــــــــدام مــثـنـى‬

‫ســـيد عـلـي الجعــفـري‬

‫د‪ .‬عبد الكريم المقادمة‬

‫حمدان العجمي‬

‫د‪ .‬محمد بن إبراهيم الكنهل‬

‫اإلخـــراج الفني‬

‫د‪ .‬يوسف بن محمد اليوسف‬

‫أزهـري أحــمـــد النويري‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫مراسالت التحرير واإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )51049‬الرياض ‪11543‬‬ ‫مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬ ‫مجلةالفيصلالعلمية‬ ‫المملكةالعربيةالسعودية‬ ‫هـاتف ‪ - )+966 11( 4652255 :‬تحويلة ‪6569‬‬ ‫فاكس‪)+966 11( 4659992 :‬‬ ‫جــــوال‪)+966( 554972092 :‬‬ ‫التسويق واإلعالنات‬ ‫هاتف ‪ 4652255 :‬ـ فاكس‪4659992 :‬‬ ‫ردمد‬ ‫‪8561-8821‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪1424/2315‬‬

‫معتز عبد الماجد بابكر‬

‫ضوابط النشر‬ ‫• أن يكون المقال مكتوب ًا بلغة علمية مبسطة لفهم القارئ غير‬ ‫المتخصص‪.‬‬ ‫• أال يزيد المقال الواحد على ‪ 2000‬كلمة مقاس ‪.A4‬‬ ‫• أن يلتزم الكاتب المنهج العلمي‪ ،‬ويشير إلى المصادر والمراجع‬ ‫العلمية‪ ،‬الورقية واإللكترونية‪.‬‬ ‫• ترحب المجلة بالمقاالت المترجمة في الموضوعات العلمية‬ ‫الحديثة‪ ،‬شريطة أن يذكر المصدر وتاريخ النشر‪.‬‬ ‫• ترحب المجلة باآلراء التي تخص القضايا العلمية‪ ،‬بشريطة أ ّ‬ ‫ال تزيد‬ ‫على ‪ 600‬كلمة‪.‬‬ ‫• يفضل إرسال المقاالت عبر إيميل المجلة أو إرسال المقال على‬ ‫قرص مرن إن أمكن‪.‬‬ ‫• يمنح كاتب المقال مكافأة مالية بعد نشر المقال‪.‬‬ ‫• المقاالت المنشورة في المجلة تعبر عن وجهة نظر أصحابها‪،‬‬ ‫وال يعني نشرها تبني المجلة ما احتوت عليه من أفكار وآراء‪.‬‬


‫تحول القرن الحادي والعشرين‬ ‫رؤية الممــلكة تحقّ ق‬ ‫ّ‬ ‫هل تتّجه التقانة إلى نقطة التالقي؟‬ ‫العلم‬ ‫توماس كـون‪ :‬رجل غ ّير نظرة العا َلم إلى ِ‬ ‫«فيسبوك» واالكتئاب ‪ ..‬هل من عالقة؟‬ ‫هل يمكن لعلماء األعصاب فهم لعبة «دونكي كونج»؟‬ ‫التغيير الناعم سأدفعك إلى التغيير من دون أن تشعر‬ ‫فلسفة اإليمان من منظور الرياضيات‬ ‫التهديدات الخمسة الكبرى للوجود البشري‬ ‫الطب النفسجسمي عند المسلمين‬ ‫قصة نجاح عربية على ُبساط الغربة‬

‫ملف العدد‬ ‫يدونون ابتكاراتهم وآراءهم في‬ ‫كان أغلب العلماء قبل ‪ 500‬عام‬ ‫ّ‬ ‫كتب‪ ،‬ولم يكن هناك وجود للمجالت العلمية المحكّ مة كما نراها‬ ‫ٍ‬ ‫اليوم؛ فكانت الكتب هي الوسيلة األولى لنشر األفكار‪ ،‬يضع فيها‬ ‫العالم فكره وما‬ ‫توصل إليه بالتفصيل؛ ففكرة أن الشمس هي‬ ‫ّ‬ ‫تدون في بحث علمي بمجلة‪ ،‬وإنما‬ ‫مركز المجموعة الشمسية لم ّ‬ ‫في كتاب كوبرنيكوس الشهير (دوران األفالك السماوية)‪ ،‬وفكرة‬ ‫دونها جاليليو في أحد كتبه‪ ،‬وقوانين الجاذبية‬ ‫القصور الذاتي ّ‬ ‫دونها نيوتن في كتابه (األصول الرياضية للفلسفة الطبيعية)‪ .‬ومع‬ ‫ّ‬ ‫تقدم العلوم أراد العلماء أن تتسارع عملية االكتشاف واالبتكار؛‬ ‫ّ‬ ‫ألن الكتب تحتاج إلى وقت لطباعتها وتوزيعها‪ ،‬فلجأوا إلى اختراع‬ ‫المجالت العلمية‪ ،‬التي ينشر فيها العالم بحثه الذي‬ ‫توصل إليه‬ ‫ّ‬ ‫المتخصصة في الفيزياء‬ ‫فور كتابته‪ ،‬فانتشرت المجالت العلمية‬ ‫ّ‬ ‫والفلك والكيمياء والفلسفة‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫‪56‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪92‬‬ ‫‪102‬‬ ‫‪108‬‬ ‫‪112‬‬ ‫‪128‬‬ ‫‪144‬‬ ‫‪166‬‬

‫راغدة حداد‪ :‬الصحافة العلمية‬ ‫تعكسواقعنا‬

‫‪28‬‬

‫المجالت العلمية العربية‪:‬‬ ‫دراما االختفاء ومحنة الغياب‬

‫‪38‬‬

‫خطوات تحسين الترجمة العلمية‬

‫‪44‬‬

‫علوم ال غنى عنها للصحفيي‬


‫واحة العلوم‬ ‫طارق راشد ‪ -‬أبو ظبي‪ -‬اإلمارات‬

‫األدمغة‪:‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫السالح السري لنجوم الرياضة‬

‫‪6‬‬

‫تعمل �أدمغة الريا�ضيني‪ ،‬الذين‬ ‫هم على درجة عالية من التدريب‪،‬‬ ‫بطريقة �أكف أ� من �أدمغة غريهم‪.‬‬ ‫وال ّ‬ ‫ين�شط الريا�ضيون من الق�شرة‬ ‫املخية (طبقة املخ اخلارجية)‬ ‫�إال الأجزاء ال�ضرورية حلركات‬ ‫معينة من قبيل املحاورة بالكرة‪� ،‬أو‬ ‫اعرتا�ضها‪� ،‬أو �إنقاذ الأهداف التي‬ ‫ّ‬ ‫يوظفها حرا�س املرمى في مباريات‬ ‫كرة القدم‪ .‬وتقول بوال فرنانديز؛‬ ‫�أ�ستاذة علم النف�س الريا�ضي‬ ‫يف جامعة كامبينا�س الربازيلية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«ين�شط ه�ؤالء الريا�ضيون جزء ًا‬ ‫�أ�صغر من �أدمغتهم‪ ،‬لكنهم‬ ‫ي�ستخدمونه ا�ستخدام ًا �أف�ضل بكثري‬ ‫من غريهم»‪.‬‬ ‫حاول �أن تت�ص ّور املخ على �أنه‬ ‫(�سوبر ماركت)؛ فالريا�ضي من‬ ‫الطراز الأول يعرف بال�ضبط مو�ضع‬ ‫الأ�صناف التي يريد �شراءها؛ فيمكنه‬ ‫ّ‬ ‫والرف‬ ‫الذهاب �إىل املم ّر ال�صحيح‪،‬‬ ‫ال�صحيح مبا�شرة‪ ،‬من دون �أن يلتفت‬ ‫حوله‪ ،‬ورمبا يعرف الهاوي يف � ّأي‬

‫ممر يبحث‪ ،‬لكن الأمر �سيحتاج منه‬ ‫�إىل بع�ض الوقت ريثما يجد املو�ضع‬ ‫بال�ضبط‪ ،‬و�سيبدّد طاقة �أكرث‪.‬‬ ‫جنم كرة القدم الربازيلي نيمار من‬ ‫بني الق ّلة الذين توجد يف تالفيف‬ ‫�أدمغتهم �أوامر كروية خمت�صرة‬ ‫كما جاء يف النتائج التي ن�شرتها‬ ‫دورية (فرونتريز �إن هيومان‬ ‫املتخ�ص�صة يف علم‬ ‫نيورو�ساين�س)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الأع�صاب‪ ،‬عام ‪2014‬م؛ فبا�ستخدام‬ ‫الت�صوير بالرنني املغناطي�سي قارن‬ ‫علماء يابانيون دماغ نيمار‪ ،‬الذي‬ ‫يلعب يف نادي بر�شلونة الإ�سباين‬

‫لكرة القدم‪ ،‬ب�أدمغة ثالثة العبني‬ ‫�إ�سبانيني �آخرين من الدرجة الثانية‪،‬‬ ‫وهم �سباحان والعب �ألعاب قوى‬ ‫ها ٍو‪ُ ،‬طلب منهم جميع ًا يف �أثناء‬ ‫التجربة حتريك �أقدامهم كما لو‬ ‫كانوا يحاورون خ�صم ًا يريدون‬ ‫ّ‬ ‫تخطيه‪ .‬و�أظهرت التجربة �أن نيمار‬ ‫ّ‬ ‫ن�شط جزء ًا من الق�شرة املخية �أ�صغر‬ ‫كثري ًا مما ّ‬ ‫ن�شطه الالعبان املحرتفان‬ ‫الآخران‪ ،‬بل كان الفرق �أكرب مقارن ًة‬ ‫بالريا�ضي الهاوي‪ .‬يقول �إيت�شي نايتو؛‬ ‫اخت�صا�صي علم الأع�صاب الذي‬ ‫�أجرى الدرا�سة‪« :‬ين ّفذ جنم كرة‬

‫ريا�ضي يخ�ضع الختبار ت�صوير املخ‬


‫جنم كرة القدم نيمار‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫القدم حركاته بطريقة طبيعة تلقائية‬ ‫حت ّرر م�ساح ًة في ّ‬ ‫خمه‪ ،‬وهو ما‬ ‫ي�ساعده على التفكري والت�ص ّرف على‬ ‫نحو �أ�سرع يف �أثناء املباراة‪ .‬لقد تك ّيف‬ ‫ّ‬ ‫ويخ�ص�ص مزيد ًا‬ ‫خمه مع اللعبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من املوارد الع�صبية تو ّقع ًا لأفعال‬ ‫الالعبني الآخرين»‪.‬‬ ‫الأكرث من ذلك �أن جنم كرة القدم‬ ‫الربتغايل كري�ستيانو رونالدو ي�ستطيع‬ ‫�إحراز �أهداف يف الظالم‪ .‬قد يبدو‬ ‫ذلك من قبيل املبالغة‪ ،‬لكنه جنح‬ ‫فع ًال في هذه املهمة ال�صعبة‬ ‫يف �أثناء اختبار مل�صلحة برنامج‬ ‫تلفزيوين بريطاين عام ‪2011‬م؛ �إذ‬ ‫�أطفئت الأنوار بعد ركل الكرة‪ ،‬لكن‬ ‫رونالدو مت ّكن من اعرتا�ضها بالتنب�ؤ‬ ‫مب�سارها من واقع حركات الالعب‬ ‫الذي ركلها ال غري‪.‬‬ ‫وتقول برونا فيال�سكي�س؛ �أ�ستاذة‬ ‫علم الأع�صاب يف جامعة ريو دي‬ ‫جانريو االحتادية‪« :‬يبحث الريا�ضي‬ ‫عن م�ؤ�شرات ت�صدر عن اخل�صم‬ ‫قبل قيامه بحركة هجومية �أو‬ ‫دفاعية‪ ،‬وعلى هذا النحو ي�ستطيع‬ ‫تو ُّقع هذه احلركة والت�ص ّرف بناء‬ ‫على ذلك»‪.‬‬ ‫ويمُ كن يف الريا�ضات الأعنف بدني ًا‬ ‫�أن يكون الفوز �أو الهزمية م�س�ألة‬ ‫�أجزاء من �ألف جزء من الثانية؛ ففي‬ ‫املالكمة ‪-‬على �سبيل املثال‪ -‬حتدث‬ ‫ك ّل حركة يف نحو ‪ 0.08‬من الثانية‪،‬‬

‫وهو زمن �أ�سرع من طرفة العني‪ ،‬ولو‬ ‫اكتفى املالكم بانتظار لكمة خ�صمه‬ ‫لكي ير ّد عليها ف�سرعان ما �س ُيغلب‬ ‫بال�ضربة القا�ضية؛ لأن املالكمة‬ ‫ريا�ضة تتط ّلب كثري ًا من الذكاء‪.‬‬ ‫�أحدثت �سنوات من التدريب‬ ‫املك ّثف حتو ًال في �أدمغة الالعبني‪،‬‬ ‫فجعلتها �أ�شبه ببنوك البيانات التي‬ ‫تختزن جميع احلركات التي تع ّلموها‬ ‫يف �أثناء م�سريتهم الريا�ضية‪ ،‬ويف‬ ‫اللحظة التي يدرك فيها املخّ حركة‬ ‫اخل�صم يبحث ب�سرعة عن �أف�ضل‬ ‫طريقة للتغلب على هذه العقبة‪.‬‬ ‫يقول العب التن�س فالفيو �ساريتا‪،‬‬ ‫الذي فاز بامليدالية الذهبية يف دورة‬ ‫الألعاب الأمريكية عام ‪2007‬م‪:‬‬ ‫«كيف �أكت�شف �أين �سي�ضرب الالعب‬ ‫الآخر الكرة؟ الأمر يبدو كما لو كنتُ‬ ‫من �سالحف النينجا‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬ ‫هذا نتيجة كثري من التدريب واللعب‬ ‫الرفيع امل�ستوى»‪ ،‬م�ضيف ًا‪ :‬قدرة‬ ‫روجر فيدرير على قراءة اللعبة‬ ‫تف�سر م�سرية‬ ‫ومفاج�أة خ�صومه ّ‬ ‫هذا املواطن ال�سوي�سري الريا�ضية‬ ‫و�إجنازاته غري العاديني؛ «فهو ال‬ ‫يكاد يعرق �أبد ًا في امللعب‪ ،‬ويتم ّكن‬ ‫من تخمني �أين �ستذهب الكرة‬ ‫ويتح ّرك بناء على ذلك؛ فيتو ّلد‬ ‫لديك انطباع ب�أنك �أينما �ضربت‬ ‫الكرة �سيكون يف انتظارها لريدّها‪،‬‬ ‫وهذا الأمر موهبة»‪.‬‬

‫يخ�ص عظماء الريا�ضة‪،‬‬ ‫وفيما‬ ‫ّ‬ ‫ُيع ّد هذا الأمر مزيج ًا من املوهبة‬ ‫والتدريب الذي ال ينقطع‪ ،‬يقول‬ ‫ريكاردو �أريدا؛ �أ�ستاذ ف�سيولوجية‬ ‫اجلهاز الع�صبي يف جامعة �ساو‬ ‫باولو االحتادية‪�« :‬إنهم يبد�ؤون في‬ ‫املمار�سة يف �سنّ الطفولة‪ ،‬وهذا‬ ‫العدد الكبري من التكرارات يثري‬ ‫حت�سن تفكريهم‬ ‫تغيرّ ات يف املخ ّ‬ ‫وقدرتهم»‪ .‬وهكذا‪ ،‬ف�إن الأجزاء‬ ‫املطلوبة من املخ لريا�ضة مع ّينة‬ ‫تط ّور مقدار ًا �أكرب من اخلاليا‬ ‫الع�صبية‪ ،‬وتزيد املادة الرمادية‪،‬‬ ‫ويحدث ال�شيء نف�سه مع املحرتفني‬ ‫يف ميادين �أخرى؛ كاملو�سيقا‬ ‫والرق�ص‪ .‬لكن التدريب وحده لي�س‬ ‫كافي ًا؛ فكما يقول �أريدا‪« :‬العوامل‬ ‫الوراثية ت�ؤدي هي الأخرى دور ًا؛ ففي‬ ‫النهاية حتى لو لعب كثريون كرة‬ ‫القدم يف �سنّ �صغرية فلن يتح ّولوا‬ ‫كلهم �إىل نيمار �آخر»‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫واحة العلوم‬

‫العلماء يتهيئون ألول‬

‫كسوف شمسي‬

‫ضة‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫«أمريكي محض» في ‪2017‬م‬

‫‪8‬‬

‫قدم و�ساقٍ‬ ‫جتري التح�ضريات على ٍ‬ ‫ت�أهب ًا ملا ي�س ّميه العلماء (الك�سوف‬ ‫الأمريكي العظيم لعام ‪2017‬م)؛‬ ‫فللمرة الأوىل يف التاريخ الأمريكي‪،‬‬ ‫ويف يوم ‪� 21‬أغ�سط�س عام ‪2017‬م‪،‬‬ ‫�سيم ّر م�سار الك�سوف الكلي‬ ‫لل�شم�س (�أي‪ :‬امل�سار الذي يعرب‬ ‫على امتداده ظ ّل القمر) ح�صري ًا‬ ‫وكلي ًة عرب �أر�ض الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية يف ّ‬ ‫خط يبلغ ات�ساعه‬

‫‪ 70‬مي ًال‪ ،‬وميتد من �أوريجون �إىل‬ ‫�ساوث كارولينا‪ ،‬ويرى علماء الفلك‬ ‫يف هذا الك�سوف فر�ص ًة مل�شاهدات‬ ‫علمية جديدة و�إ�شراك اجلمهور‪.‬‬ ‫وكان �آخر ك�سوف �شم�سي ُ�شوهد‬ ‫من ال�ساحل ال�شرقي �إىل ال�ساحل‬ ‫الغربي فوق �أمريكا ال�شمالية قد‬ ‫حدث عام ‪1918‬م‪ ،‬واتّخذ م�سار ًا‬ ‫مماث ًال مل�سار ك�سوف عام ‪2017‬م‪،‬‬ ‫لكن لأن م�ساره جعله مرئي ًا �أي�ض ًا‬

‫ارتداء النظارات الواقية للعيون‬

‫فوق منطقة برمودا‪ ،‬التي كانت‬ ‫�آنذاك جزء ًا من الإمرباطورية‬ ‫الربيطانية‪ ،‬وهي الآن �أر�ض‬ ‫بريطانية؛ لذلك مل يكن بو�سع‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية ادّعاء‬ ‫حدوثه ح�صري ًا فوق �أر�ضها‪� .‬أما‬ ‫ك�سوف عام ‪2017‬م‪ ،‬فلن مي ّر فوق‬ ‫برمودا وال � ّأي �أر�ض �أخرى؛ لذا فهو‬ ‫ك�سوف (�أمريكي حم�ض) مبعنى‬ ‫الكلمة‪.‬‬ ‫إطالالت ال نظير لها‬

‫و�صفت الفيزيائية �أجنيال دي‬ ‫جاردان ‪-‬الباحثة يف احتاد مونتانا‬ ‫للمنح الف�ضائية‪ ،‬التي ت�شرف على‬ ‫جتربة �سيقوم خاللها ‪ 50‬فريق ًا‬ ‫من الطالب مو ّزعني على ‪ 30‬والية‬ ‫�أمريكية ب�إطالق مناطيد عالية‬ ‫االرتفاع يف �أثناء هذا الك�سوف‪ -‬يف‬ ‫كلمتها �أمام امل�ؤمتر ال�سنوي الرابع‬ ‫لق�سم الفيزياء ال�شم�سية باجلمعية‬


‫إشراك الجمهور وتثقيفه‬

‫�أجرت امل�ؤ�س�سة الوطنية للعلوم‬ ‫عام ‪2014‬م درا�سة تك ّررها كل‬ ‫ب�ضع �سنوات‪ ،‬وتخترب فيها الثقافة‬ ‫العلمية ب�أن ت�س�أل الأمريكيني عما‬ ‫�إذا كانت الأر�ض تدور حول ال�شم�س‬ ‫�أم �أن ال�شم�س هي التي تدور‬ ‫حول الأر�ض‪ ،‬وهو �س�ؤال ُح�سمت‬ ‫الإجابة عنه يف القرن ال�سابع ع�شر‬ ‫امليالدي‪ ،‬لكن يبدو �أن خربه مل‬ ‫ي�صل �إىل اجلميع؛ �إذ يظنّ ‪%26‬‬ ‫من اجلمهور الأمريكي �أن ال�شم�س‬ ‫هي التي تدور حول الأر�ض‪ ،‬وتقول‬ ‫دي جاردان‪« :‬نرجو �أن نخ ّف�ض‬ ‫هذه الن�سبة بع�ض ال�شيء»‪ .‬ولهذا‬ ‫ال�سبب الوجيه متام ًا يرجو العلماء‬ ‫ي�شجع الك�سوف ال�شم�سي النا�س‬ ‫�أن ّ‬ ‫على البحث‪ ،‬وتع ّرف املجموعة‬ ‫ال�شم�سية‪ ،‬وكيفية عملها‪ ،‬ومكاننا‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫ويجوب جاي با�سات�شوف‬ ‫الأ�ستاذ يف كلية وليمز كوليدج‪،‬‬‫ونظري �إنديانا جونز يف دنيا علم‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الفلكية الأمريكية‪ ،‬الذي ُعقد يف‬ ‫مدينة بولدر بوالية كولورادو يف ‪2‬‬ ‫يونيو عام ‪2016‬م‪ ،‬الطريقة التي‬ ‫�ستبثّ بها املناطيد �إىل �سطح‬ ‫الأر�ض �صور ًة حي ًة بالفيديو من‬ ‫على م�شارف الف�ضاء‪ ،‬م�ؤ ّكد ًة �أنه‬ ‫مل ي�سبق ّ‬ ‫قط �أن ُ�شوهد ك�سوف‬ ‫�شم�سي من مثل هذا االرتفاع �إال‬ ‫مرة واحدة فوق �أ�سرتاليا عام‬ ‫‪2012‬م على الرغم من �أن التغطية‬ ‫وال�صور كانت �آنذاك حمدودة‪.‬‬ ‫و�أ�ضافت الدكتورة دي جاردان‪« :‬مل‬ ‫يحدث ّ‬ ‫قط �أن التُقط ت�سجيل فيديو‬ ‫مبا�شر من على م�شارف الف�ضاء‪،‬‬ ‫ويقين ًا مل يحدث �أن كانت هناك‬ ‫تغطية عرب قارة ب�أكملها‪� .‬سيكون‬ ‫حدث ًا مبهر ًا»‪.‬‬ ‫ويتو ّقع العلماء �أي�ض ًا �س ّد فجوات‬ ‫�أخرى ت�شوب فهمنا لل�شم�س؛‬ ‫فتقول عاملة الفلك �شادية ح ّبال؛‬ ‫الأ�ستاذة يف جامعة هاواي‬ ‫الأمريكية‪� :‬سيتيح هذا الك�سوف‬ ‫للعلماء «�إطالالت ال نظري لها على‬ ‫فيزياء هالة ال�شم�س»‪ ،‬وهي الهالة‬ ‫املك ّونة من البالزما التي حتيط‬ ‫بقر�ص ال�شم�س‪ ،‬وت�صل درجة‬ ‫حرارتها �إىل مليون درجة كلفن؛‬ ‫ف�أثناء الك�سوف‪ ،‬عندما ُيحجب‬ ‫قر�ص ال�شم�س‪� ،‬ستتم ّكن الأجهزة‬ ‫من ر�صد التفا�صيل الدقيقة لبنى‬ ‫الهالة ال�شم�سية‪ ،‬وت�سجيل ت�شتّت‬

‫املادة من ال�شم�س‪ ،‬ور�صد حاالت‬ ‫عدم ا�ستقرار البالزما التي تكون‬ ‫فيما عدا ذلك �أخفت من �أن‬ ‫يت�س ّنى ر�صدها‪ .‬و�أ�ضافت ح ّبال‪:‬‬ ‫غني‬ ‫«هالة ال�شم�س خمترب فلكي ّ‬ ‫ميكننا مالحظته مب�ستوى بديع من‬ ‫التف�صيل»‪.‬‬

‫الفلك‪ -‬العامل لدرا�سة الك�سوفات‬ ‫ال�شم�سية‪ ،‬التي ر�صد منها ‪63‬‬ ‫ك�سوف ًا �إىل الآن‪ ،‬وهو يريد من‬ ‫اجلمهور ال�سفر �إىل م�سار الك�سوف‬ ‫بن�شاط يف ك�سوف‬ ‫الكلي‪ ،‬وامل�شاركة‬ ‫ٍ‬ ‫عام ‪2017‬م‪ ،‬وقال با�سات�شوف يف‬ ‫�أثناء امل�ؤمتر‪« :‬نريد �أن نع ّرفكم‬ ‫مق ّدم ًا �أن �أ�شياء رائعة مبعنى‬ ‫الكلمة �ستفوتكم لو مل تكونوا يف‬ ‫منطقة الك�سوف الكلي يوم ‪21‬‬ ‫�أغ�سط�س عام ‪2017‬م»‪ ،‬وكان‬ ‫با�سات�شوف قد أ� ّكد �سابق ًا �أن‬ ‫َمن ي�شاهد ك�سوف ًا خارج م�ساره‬ ‫«مثله مثل َمن يذهب �إىل �شباك‬ ‫التذاكر مبلعب لكرة البي�سبول �أو‬ ‫كرة القدم وال يدخله»‪ .‬و�سيكون‬ ‫على امل�شاهدين ال�سفر �إىل‬ ‫مدينة هوبكنزفيل بوالية كنتاكي‬ ‫مل�شاهدة الك�سوف يف �أق�صى مدة‬ ‫له؛ �إذ ميكن هناك م�شاهدته مدة‬ ‫دقيقتني كاملتني و�أربعني ثانية‬ ‫ت�صري خاللها ال�سماء «مظلمة‬ ‫كالليل يف منت�صف النهار» على‬ ‫حد قول با�سات�شوف‪ .‬ومنذ �سنوات‬ ‫كثرية واملدينة تته ّي�أ لهذا احلدث‬ ‫ببناء �أمكنة لإقامة العدد ال�ضخم‬ ‫من الزائرين الذين �سيتدفقون‬ ‫عليها‪ ،‬و ُيتوقع �أن يكون عددهم‬ ‫مئات الآالف‪ .‬وقد �شهد �شهر يونيو‬ ‫عام ‪2012‬م ما ي�شبه (الربوفة)‬ ‫للحدث الو�شيك عندما تد ّفق‬

‫‪9‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫واحة العلوم‬

‫‪10‬‬

‫�آالف الزوار على املدينة مل�شاهدة‬ ‫عبور كوكب الزهرة‪ .‬لكن توجد‬ ‫�أمكنة �أخرى مل�شاهدة الك�سوف‬ ‫املقبل على امتداد امل�سار القاري‪،‬‬ ‫وهي تتيح م�شاهدات �أق�صر زمن ًا‪،‬‬ ‫لكنها جتارب فريدة من نوعها؛‬ ‫ففي والية كنتاكي وحدها ميكن‬ ‫للزائر �أن ي�صرف النظر عن‬ ‫زيارة هوبكنزفيل‪ ،‬ويزور بد ًال منها‬ ‫مدينة بولينغ غرين‪ ،‬التي �سيكون‬ ‫فيها م�سار الك�سوف الكلي �أق�صر‪،‬‬ ‫لكن جو ال�شم�س املائل �إىل احلمرة‬ ‫�سيكون �أو�ضح للناظرين هناك‪.‬‬

‫ويف �أمكنة �أخرى من الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية‪ُ ،‬يتوقع �أن يت�س ّلق‬ ‫كثريون اجلبال‪ ،‬وال ي�شاهدون‬ ‫الك�سوف من فوقهم فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫ينظرون �أي�ض ًا �إىل �أ�سفل في�شاهدوا‬ ‫ظ ّل القمر وهو يزحف عرب الأر�ض‬ ‫من حتتهم يف منظر يبعث الرهبة‬ ‫يف النف�س‪.‬‬ ‫ك ّل هذا يتو ّقف بالطبع على �صفاء‬ ‫ال�سماء؛ فيقول با�سات�شوف‪« :‬ال‬ ‫ميكن التغلب على ال�سحب؛ لذا‬ ‫فلن�أمل �أن يكون الطق�س مواتي ًا»‪،‬‬ ‫لكن حتى لو أ�دّى �سوء الطق�س �إىل‬

‫حجب هذا احلدث ف�سيبقى مع‬ ‫ذلك اال�ستمتاع ب�إظالم ال�سماء‪،‬‬ ‫ويف هذه الأثناء �سيقوم موقع وكالة‬ ‫نا�سا على الإنرتنت ومواقع �أخرى‬ ‫ببثّ احلدث‪ ،‬وعلى �أ�سو�أ الفرو�ض‬ ‫لن يطول االنتظار كثري ًا جد ًا حتى‬ ‫موعد الك�سوف التايل؛ فما هي �إال‬ ‫�سبع �سنوات؛ ففي ‪� 8‬إبريل عام‬ ‫‪2024‬م �سيعرب م�سار الك�سوف‬ ‫الكلي لل�شم�س من املك�سيك �إىل‬ ‫جزيرة نيوفاوندالند‪ ،‬مار ًا فوق‬ ‫معظم و�سط �شرق الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية يف هذه الأثناء‪.‬‬


‫التن ّبؤ باالحتباس الحراري بعد مرور ‪ 30‬عام ًا‬ ‫عاد املت�ش ّككون يف موقع (ريال‬ ‫�ساين�س) بذاكراتهم �إىل املا�ضي‬ ‫ملعرفة كيف �صار احلال مع التنب�ؤات‬ ‫ال�شهرية التي �أطلقها عامل املناخ‬ ‫جيم�س هان�سن عام ‪1986‬م عن‬ ‫االجتاهات امل�ستقبلية لدرجات‬ ‫احلرارة العاملية بعد مرور ‪ 30‬عام ًا‬ ‫عليها‪ .‬وقدّم موقع (ريال �ساين�س)‬ ‫اقتبا�سني من ق�صة ن�شرتها وكالة‬ ‫(الأ�سو�شيتدبر�س) يف ‪ 12‬يونيو‬ ‫‪2016‬م دلي ًال على ذلك‪ ،‬جاء فيها‬ ‫�أن هان�سن تن ّب�أ يف �شهادة �أدىل بها‬ ‫�أمام جلن ٍة مبجل�س ال�شيوخ الأمريكي‬

‫ب�أن درجات احلرارة العاملية �ستكون‬ ‫�أعلى مبقدار نحو درجتني يف غ�ضون‬ ‫‪� 20‬سنة‪« ،‬وهو يكاد يكون �أعلى‬ ‫م�ستوى تبلغه درجة حرارة الأر�ض‬ ‫يف املئة �ألف �سنة الأخرية»‪ ،‬ون ّوه‬ ‫املوقع �إىل �أن درجة حرارة الأر�ض‬ ‫مل ترتفع �إال مبقدار نحو ‪ 0.2‬درجة‬ ‫مئوية بني يونيو عام ‪ 1986‬ويونيو‬ ‫عام ‪2006‬م‪ ،‬وهو فرق مقداره‬ ‫ع�شرة �أ�ضعاف‪.‬‬ ‫لكن هل هذه هي الق�صة ب�أكملها؟‬ ‫غا�ص الباحث رونالد بايلي يف �آلة‬ ‫الزمن امل�سماة (نيك�سي�س)‪ ،‬ون ّقب‬

‫فيها‪ ،‬وخرج بتقريرين �إخباريني‬ ‫�آخرين يتحدثان عن �شهادة‬ ‫هان�سن؛ فقد جاء يف ق�صة �إخبارية‬ ‫�أطول ن�شرتها وكالة (يونايتد بر�س‬ ‫�إنرتنا�شيونال) عام ‪1986‬م‪« :‬قال‬ ‫جيم�س هان�سن مدير معهد غودارد‬ ‫للدرا�سات الف�ضائية التابع لوكالة‬ ‫نا�سا‪� :‬إذا مل ُتتّخذ خطوات لل�سيطرة‬ ‫على امل�شكلة ف�إن درجات احلرارة يف‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية يف العقد‬ ‫املقبل من الزمان �ستكون �أعلى‬ ‫مما كانت عليه عام ‪1958‬م بنحو‬ ‫(‪ )2 -0.5‬درجة مئوية»‪ ،‬وهو نطاق‬ ‫�أكرب بكثري من النطاق املح�صور بني‬ ‫عامي ‪ 1986‬و‪2006‬م‪.‬‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬كيف تغيرّ متو�سط درجة‬ ‫احلرارة يف الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية يف اخلم�سني �سنة التي‬ ‫تلت عام ‪1958‬م؟ وفق ًا للتقرير‬ ‫ال�صادر عن الربنامج الأمريكي‬ ‫لبحوث التغيرّ العاملي عام ‪2009‬م‬ ‫ف�إن «متو�سط درجة احلرارة يف‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية ارتفع‬ ‫مبقدار يزيد على درجتي فهرنهايت‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫كيف ستسير األمور؟‬

‫‪11‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪12‬‬

‫على مدى اخلم�سني �سنة املا�ضية»‪،‬‬ ‫وت�ساوي درجتا الفهرنهايت ما يزيد‬ ‫قلي ًال على ‪ 1.1‬درجة مئوية‪ ،‬وهي‬ ‫قيمة تقع داخل نطاق الزيادة يف‬ ‫درجة احلرارة الذي تن ّب�أ به هان�سن‪.‬‬ ‫يخ�ص متو�سط درجات‬ ‫وفيما‬ ‫ّ‬ ‫احلرارة العاملية‪ ،‬فقد ن ّوه التقرير‬ ‫التقييمي الرابع ال�صادر عن الهيئة‬ ‫احلكومية الدولية املعنية بتغيرّ‬ ‫املناخ عام ‪2007‬م �إىل �أن «املعدل‬ ‫املتو�سط لالحرتار العاملي على مدى‬ ‫اخلم�سني �سنة املا�ضية (‪°0.13‬م‬ ‫‪°0.03 ±‬م لك ّل ع�شر �سنوات) يكاد‬ ‫يكون �ضعفي هذا املعدل على مدى‬ ‫املئة �سنة املا�ضية»‪ ،‬وهذا يعني �ضمن ًا‬

‫حدوث زيادة �إجمالية بني عامي‬ ‫‪ 1958‬و‪2006‬م مقدارها ‪ 0.65‬درجة‬ ‫مئوية‪ ،‬وهي قيمة تقع �ضمن احلدود‬ ‫الدنيا لنطاق توقعات هان�سن‪ .‬وت�شهد‬ ‫�سال�سل بيانات جامعة �أالباما يف‬ ‫هانت�سفيل اخلا�صة بدرجات احلرارة‬ ‫املقي�سة بالأقمار ال�صناعية منذ عام‬ ‫‪1979‬م ازدياد ًا مبعدل ‪ 0.12‬درجة‬ ‫مئوية ك ّل ع�شر �سنوات‪ ،‬ولو ُط ّبق ذلك‬ ‫ب�أثر رجعي ف�سيعني �ضمن ًا حدوث‬ ‫زيادة يف درجة احلرارة العاملية‬ ‫على مدى خم�سة عقود من الزمن‬ ‫مقدارها ‪ 0.6‬درجة مئوية‪ ،‬وهي من‬ ‫جديد قيمة تقع �ضمن احلدود الدنيا‬ ‫لنطاق توقعات هان�سن‪.‬‬

‫يف البداية نقول‪ :‬لي�س من الالئق‬ ‫�أن َي ْعمد اخل�صوم يف اجلدال‬ ‫العلمي حول تغيرّ املناخ الناجم‬ ‫عن الأن�شطة الب�شرية �إىل تقدمي‬ ‫وجهات نظر خ�صومهم ب�صورة‬ ‫م�ض ّللة‪ .‬ومن ناحية �أخرى‪ ،‬ي�شري‬ ‫ازدياد درجة احلرارة مبعدل‬ ‫�أق ّل مما �أ�شارت �إليه التنب�ؤات‬ ‫�إىل �أن معظم النماذج املناخية‬ ‫التي اعتمد عليها هان�سن ت�شهد‬ ‫ارتفاع ًا �أكرث مما ينبغي يف‬ ‫درجة حرارتها‪ ،‬و�أن الزيادات‬ ‫امل�ستقبلية يف درجات احلرارة‬ ‫رمبا ال ت ْنبئ بتغريات كارثية‬ ‫بحلول نهاية هذا القرن‪.‬‬


‫عروض كتب‬

‫تاريخ غير طبيعي‬

‫تأليف‪:‬‬ ‫إليزابيث كولبرت‬

‫ر�سخت �إليزابيث كولربت قدميها‬ ‫ّ‬ ‫على مدار العقد املا�ضي بو�صفها‬ ‫واحد ًة من �أف�ضل امل�ؤلفني العلميني؛‬ ‫فقد �أ�ضحت �صوت ًا مميز ًا وبليغ ًا‬ ‫لل�ضمري اجلمعي بخ�صو�ص‬ ‫امل�شكالت الناجمة عن االعتداء‬

‫ال�سافر على املحيط الإيكولوجي‪،‬‬ ‫والذين ا�ستمتعوا ب�أعمالها ال�سابقة‬ ‫مثل (مالحظات ميدانية من‬ ‫قلب الكارثة) لن يخيب ظنهم‬ ‫القوي اجلديد (االنقرا�ض‬ ‫بكتابها‬ ‫ّ‬ ‫ال�ساد�س‪ :‬تاريخ غري طبيعي)‪.‬‬

‫تكتب كولربت ‪-‬الكاتبة يف جملة‬ ‫(نيويوركر) الأمريكية‪ -‬تقاريرها‬ ‫من اخلطوط الأمامية لل�صدام‬ ‫العنيف بني احل�ضارة والنظام‬ ‫البيئي لكوكبنا (�سل�سلة جبال‬ ‫الأنديز‪ ،‬وغابات الأمازون املطرية‪،‬‬ ‫واحليد املرجاين العظيم‪ ،‬وحديقتها‬ ‫اخللفية)‪ ،‬ب�أ�سلوبها النرثي النا�صع‪.‬‬ ‫وتدر�س كولربت الدور الذي ي�ؤديه‬ ‫التغيرّ املناخي ‪�-‬صنيعة الإن�سان‪-‬‬ ‫فيما ُيطلق عليه علماء البيولوجيا‬ ‫(االنقرا�ض اجلماعي ال�ساد�س)‪،‬‬ ‫وهو التقل�ص الراهن يف �أعداد‬ ‫النباتات واحليوانات الذي يهدّد‬ ‫جميع الأجنا�س احلية على كوكب‬ ‫الأر�ض خالل هذا القرن‪.‬‬ ‫االنقرا�ض فكرة جديدة ن�سبي ًا يف‬ ‫املجتمع العلمي؛ فخالل القرن‬ ‫الثامن ع�شر امليالدي وجد النا�س‬ ‫�أنه من امل�ستحيل قبول فكرة �أن‬ ‫الأجنا�س عا�شت على الأر�ض يف‬ ‫مد ٍة ما ثم اختفت الحق ًا‪ ،‬ومل‬ ‫ي�ستطع العلماء بب�ساطة ت�ص ّور قوة‬ ‫كوكبية كافية با�ستطاعتها حمو‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫االنقراض السادس!‬

‫‪13‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪14‬‬

‫�أ�شكال احلياة التي كانت �شائعة يف‬ ‫الع�صور الغابرة‪ .‬وبالطريقة نف�سها‪،‬‬ ‫وللأ�سباب عينها‪ ،‬يجد كثريون اليوم‬ ‫من امل�ستحيل �أن نكون م�س�ؤولني ب� ّأي‬ ‫حال من الأحوال عن تدمري النظام‬ ‫البيئي لكوكبنا؛ فهناك حواجز‬ ‫نف�سية حتى لتخ ّيل احتماالت فقدان‬ ‫ما نحبه كثري ًا �أو دماره �إىل الأبد‪،‬‬ ‫ونتيج ًة لذلك يرف�ض كثري منا تد ّبر‬ ‫هذه الفكرة من الأ�سا�س‪� .‬إننا ن�سمح‬ ‫لأنف�سنا‪ ،‬متام ًا كاجلمهور الذي‬ ‫ي�ستعر�ض �أمامه ال�سحرة مهاراتهم‪،‬‬ ‫ب�أن يخدعنا الذين لديهم م�صلحة‬ ‫يف �إقناعنا بتجاهل الواقع؛ فعلى‬ ‫�سبيل املثال‪ :‬ما زلنا ن�ستخدم‬ ‫الغالف اجلوي للكرة الأر�ضية ك�أنه‬ ‫بالوعة �صرف مفتوحة لنفاياتنا‬ ‫اليومية التي تتجاوز ‪ 90‬مليون طن‬ ‫من النفايات الغازية‪ ،‬و�إذا ا�ستمر‬ ‫احلال على ما هو عليه ف�ستوا�صل‬ ‫درجات احلرارة العاملية ارتفاعها‪،‬‬ ‫وهو ما �سي�ؤدي �إىل «�أحداث ُم َبدِّ َلة‬ ‫للعامل» كما كتبت كولربت يف ُم�ؤ َّلفها‪.‬‬ ‫يهددنا‬ ‫التغير المناخي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وبح�سب التقديرات املتح ّفظة‪ ،‬التي‬ ‫ال جمال للطعن فيها‪ ،‬لعامل املناخ‬ ‫جيم�س هان�سن‪ ،‬يحا�صر التلوث‬ ‫الب�شري املوجود يف الغالف اجلوي‬ ‫بالفعل كمي ًة من الطاقة احلرارية‬ ‫كل ‪� 24‬ساعة‪ ،‬ت�ضارع احلرارة‬ ‫الناجمة عن تفجري قنابل نووية‬

‫من فئة قنبلة هريو�شيما‪ .‬وال�سخونة‬ ‫ال�سريعة الناجمة للغالف اجلوي‬ ‫واملحطيات التي تزعم كولربت‬ ‫متت�ص نحو ُثلث ثاين �أك�سيد‬ ‫�أنها‬ ‫ّ‬ ‫الكربون الذي �أنتجناه تد ّمر الأنظمة‬ ‫البيئية املتوازنة ب�شكل ح�سا�س‬ ‫للأر�ض‪ ،‬وهي تهدّد �شبكة الأجنا�س‬ ‫احلية التي ن�شاركها الكوكب‪،‬‬ ‫وم�ستقبل �صالحية احل�ضارة‬ ‫وجدواها‪ .‬وت�ضيف كولربت‪� :‬إننا‬ ‫« ُنع ِّر�ض بالإخالل بتوازن هذه‬ ‫الأنظمة وجودنا نف�سه للخطر»‪.‬‬ ‫تتع ّر�ض دورة املياه على كوكب‬ ‫الأر�ض الختالل �شديد؛ �إذ ُت َب ِّخر‬ ‫املحطيات الأكرث دفئ ًا مزيد ًا من‬ ‫املياه يف الهواء‪ ،‬ويحتفظ الهواء‬ ‫الأكرث دفئ ًا مبزيدٍ من الرطوبة‬ ‫(زادت الرطوبة العاملية بن�سبة‬ ‫مذهلة بلغت ‪ %4‬خالل الثالثني‬ ‫ويوجهها �إىل‬ ‫عام ًا ال�سابقة)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكتل الأر�ضية حيث تن�سال على‬ ‫م�ساحات �شا�سعة من الأر�ض على‬ ‫هيئة �أمطار غزيرة‪ ،‬وهو ما ي�ؤدي‬ ‫�إىل في�ضانات وانهياالت طينية �أكرث‬ ‫ت�ص احلرارة الزائدة‬ ‫تواتر ًا‪ .‬وتمُ ّ‬ ‫�أي�ض ًا يف الطبقة العليا من البحار‪،‬‬ ‫وهو الأمر الذي يجعل العوا�صف‬ ‫املحيطية املن�ش�أ �أكرث تدمري ًا؛ فقبيل‬ ‫هبوب �إع�صار �ساندي مبا�شرة‬ ‫مهب الريح‬ ‫كانت املنطقة الواقعة يف ّ‬ ‫من املحيط قبالة مدينة نيويورك‬

‫ووالية نيوجري�سي �أكرث دفئ ًا من‬ ‫املعتاد بت�سع درجات‪ ،‬وقبل �أن‬ ‫ي�ضرب �إع�صار هايان �ضربته يف‬ ‫الفلبني كانت حرارة املنطقة التي‬ ‫ا�ستقى منها الإع�صار ُج ّل قوته من‬ ‫املحيط �أعلى من املعتاد مبقدار ‪5.4‬‬ ‫درجات‪.‬‬ ‫مل تمُ ِ�س املحيطات التي تُع ُّد م�صدراً‬ ‫غذائي ًا حيوي ًا ملليارات من الب�شر‬ ‫�أكرث دفئ ًا فح�سب‪ ،‬بل �أكرث حم�ضي ًة‬ ‫مما كانت عليه منذ ماليني ال�سنني‪،‬‬ ‫وهي ت�صارع من �أجل امت�صا�ص‬ ‫احلرارة الزائدة والتلوث الكربوين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتو�ضح كولربت �أنه لذلك رمبا تكون‬ ‫ال�شعاب املرجانية النظام البيئي‬ ‫الكامل الأول الذي �سينقر�ض يف‬ ‫الع�صر احلديث‪ .‬وت�ستخل�ص درجة‬ ‫احلرارة الزائدة نف�سها الرطوبة‬ ‫من الرتبة يف املناطق املعر�ضة‬ ‫للجفاف‪ ،‬وهو ما يت�س ّبب يف حاالت‬ ‫جفاف �أعمق �أثر ًا‪ ،‬و�أطول �أمد ًا‪،‬‬ ‫و�سيف�ضي جفاف الأ�شجار وغريها‬ ‫من النباتات �أي�ض ًا �إىل زيادة يف عدد‬ ‫احلرائق‪ ،‬ومتو�سط حجمها‪.‬‬ ‫وتتع ّر�ض املحا�صيل الغذائية �إىل‬ ‫خماطر جمة‪ ،‬ال بفعل الآفات‬ ‫املتزايدة‪ ،‬واختالل توازن �أمناط‬ ‫مو�سم الأمطار (موا�سم اجلفاف‬ ‫املتوقعة مد ًة طويل ًة) فح�سب‪،‬‬ ‫بل بفعل الأثر املتزايد للإجهاد‬ ‫احلراري يف الذرة والقمح والأرز‬


‫حاالت انقراض سابقة‬

‫�شهد كوكبنا منذ ن�ش�أة احلياة على‬ ‫الأر�ض منذ ‪ 3.8‬مليارات �سنة‬ ‫خم�س حاالت انقرا�ض جماعي‪،‬‬ ‫�آخرها حدثت منذ ‪ 66‬مليون �سنة؛‬ ‫�إذ ُيعتقد �أن كويكب ًا يبلغ عر�ضه‬ ‫�ستة �أميال (‪10‬كم تقريب ًا) �ضرب‬ ‫الأر�ض‪ ،‬فقتل جميع الدينا�صورات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫االنقرا�ض الطبا�شريي ب�شد ٍة‬ ‫وبدَّل‬ ‫تركيب َة التنوع البيولوجي على كوكب‬ ‫الأر�ض؛ فقد تداعت الأنظمة البيئية‬ ‫البحرية �أ�سا�س ًا‪ ،‬واختفى ‪ %75‬من‬ ‫جميع �أجنا�س النبات واحليوان‪.‬‬ ‫تقول كولربت‪� :‬إننا ن�شهد حالي ًا‬ ‫انقرا�ض ًا جماعي ًا �شبيه ًا يف غم�ضة‬ ‫عني جيولوجية‪ .‬وبح�سب �إدوارد‬ ‫�أوزبورن ويل�سون‪ ،‬يتجاوز معدل‬ ‫االنقرا�ض احلايل يف املناطق‬ ‫اال�ستوائية « ع�شرة �آالف �أ�س مقارن ًة‬ ‫مبعدل االنقرا�ض اخللفي الطبيعي»‪،‬‬ ‫و�سيتق ّل�ص التنوع البيولوجي‬ ‫�إىل �أدنى م�ستوى ممكن له منذ‬ ‫االنقرا�ض الكبري العظيم‪.‬‬ ‫لكن اللوم ال يقع على كويكب �ضخم‬ ‫هذه املرة‪ ،‬بل علينا نحن؛ �إذ بدّلنا‬ ‫الظروف البيئية على كوكبنا ب�سرعة‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫وغريهما من املحا�صيل الرئي�سة‪.‬‬ ‫وت�شهد املناطق املغطاة بالثلج على‬ ‫كوكب الأر�ض حالي ًا ذوبان ًا �سريع ًا‪،‬‬ ‫و ُي َبدِّ ل الغطاء الثلجي القطبي‬ ‫ال�شمايل املتال�شي امت�صا�ص‬ ‫احلرارة يف اجلزء العلوي من‬ ‫العامل‪ ،‬ورمبا ي�ؤ ّثر يف موقع التيار‬ ‫املتدفق للن�صف ال�شمايل للأر�ض‬ ‫وم�سارات الزوابع‪ ،‬و ُي ّ‬ ‫بطئ من حركة‬ ‫�أنظمة العوا�صف‪ .‬ويف تلك الأثناء‪،‬‬ ‫ُعجل اخل�سارة املتنامية للجليد يف‬ ‫ت ِّ‬ ‫القارة القطبية اجلنوبية ومنطقة‬ ‫جرينالند بارتفاع من�سوب البحار‬ ‫واملحيطات‪ ،‬وتهدّد املدن ال�ساحلية‬ ‫واملناطق اخلفي�ضة‪.‬‬ ‫وتتع ّر�ض الفريو�سات والبكرتيا‬ ‫والأجنا�س احلاملة للأمرا�ض‬ ‫كالباعو�ض والقرادة‪ ،‬و�أجنا�س‬ ‫الآفات كخناف�س القلف‪ ،‬ل�ضغوط‬ ‫تتجاوز قدراتها على البقاء يف‬ ‫مناطقها الأ�صلية‪ ،‬ويف كل مكان‬ ‫جند �أن العالقات املتداخلة املعقدة‬ ‫وال�ضرورية ال�ستبقاء احلياة تنقطع‬ ‫و�شائجها ب�شكل متزايد‪.‬‬ ‫هذا هو العامل الذي �صنعناه ب�أيدينا‪،‬‬ ‫ومتزج كولربت يف كتابها‪ ،‬الذي‬ ‫جاء يف وقته م�ستند ًا �إىل �أبحاث‬ ‫دقيقة و�صياغة �أنيقة‪ ،‬بني التحليل‬ ‫العلمي والروايات ال�شخ�صية‬ ‫ل�شرح املوقف لنا‪ ،‬والنتيجة تاريخ‬ ‫وا�ضح و�شمويل حلاالت االنقرا�ض‬

‫اجلماعي ال�سابقة على كوكب‬ ‫الأر�ض والأجنا�س التي خ�سرناها‪،‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل و�صف مثري للطبيعة‬ ‫املع ّقدة ب�شكل مذهل للحياة‪ ،‬والأهم‬ ‫من ذلك ك ّله �أن كولربت ّ‬ ‫تدق ناقو�س‬ ‫اخلطر‪ ،‬وتدعو الب�شر �إىل �ضرورة‬ ‫التحرك العاجل‪ .‬تقول كولربت يف‬ ‫كتابها‪�« :‬إننا نتّخذ القرار حالي ًا‬ ‫من دون وعي منا بخ�صو�ص � ّأي‬ ‫امل�سارات التطورية �ستظ ّل مفتوح ًة‪،‬‬ ‫و�أيها �س ُيغلق �إىل الأبد‪ .‬مل ي�ستطع‬ ‫� ّأي خملوق ّ‬ ‫قط �أن يقدم على هذه‬ ‫اخلطوة‪ ،‬ومن امل�ؤ�سف �أنها �ستُم�سي‬ ‫مرياثنا الباقي»‪.‬‬ ‫وتقتفي كولربت بخرب ٍة وبراع ٍة‬ ‫التاريخ الفكري (امللتوي) لكيفية‬ ‫ا�ستيعابنا مفهوم االنقرا�ض‪ ،‬ويف‬ ‫مدة �أكرث حداث ًة كيف �أدركنا الدور‬ ‫الذي �أديناه فيه؛ فعندما ُدر َِ�ست‬ ‫عظام حيوان املا�ستودون �أول مرة‬ ‫احتج كثري من العلماء‬ ‫عام ‪1739‬م ّ‬ ‫ب�أن العظام ال�ضخمة املم ّيزة تنتمي‬ ‫�إىل فيل �أو فر�س نهر‪ ،‬لكن يف عام‬ ‫‪1796‬م قدّم عامل الطبيعة الفرن�سي‬ ‫جورج كوفييه دلي ًال على نظرية‬ ‫جديدة كلي ًة‪ ،‬وهي �أن تلك العظام‬ ‫تنتمي �إىل جن�س مفقود من (عامل‬ ‫�سابق لنا)‪ .‬جمع كوفييه �أكرب عدد‬ ‫ممكن من احلفريات ودر�سها‪،‬‬ ‫وح ّدد يف نهاية املطاف ع�شرات‬ ‫من الأجنا�س املنقر�ضة‪ ،‬ثم تط ّور‬

‫االنقرا�ض على مدار العقود‬ ‫الكثرية الالحقة بو�صفه مفهوم ًا‬ ‫علمي ًا‪ ،‬وب�إ�سهامات من ت�شارلز ليل‬ ‫وت�شارلز داروين‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪16‬‬

‫و�شكل مهولني‪ ،‬لدرجة �أن ن�سب ًة‬ ‫كبري ًة من الأجنا�س الأخرى مل‬ ‫ي ُعد بو�سعها التك ّيف‪� .‬إننا نخاطر‬ ‫مب�ستقبلنا �أي�ض ًا؛ �إذ �أحدثنا خل ًال‬ ‫يف امليزان املناخي الذي ظ ّل على‬ ‫حاله تقريب ًا منذ نهاية الع�صر‬ ‫اجلليدي الأخري‪ ،‬ودعم �إىل حدٍّ‬ ‫بعيد ازدهار احل�ضارة الإن�سانية؛‬ ‫فمنذ �أوائل �أربعينيات القرن ال�سابع‬ ‫ع�شر امليالدي الحظ العلماء فجوات‬ ‫كبرية يف �سجالت احلفريات؛ فقد‬ ‫مدد زمنية تراجع التنوع‬ ‫حدث يف ٍ‬ ‫البيولوجي للأر�ض ب�سرعة مهولة‪،‬‬ ‫يف�سره � ّأي نظام ثابت‪ ،‬وخرج‬ ‫ومل ّ‬ ‫بع�ض العلماء بنظريات م�ضمونها �أن‬ ‫التغريات املناخية املفاجئة ت�س ّببت‬ ‫يف حاالت انقرا�ض جماعي �سالفة‪.‬‬ ‫ويف الع�صر احلديث اجتمعت ثالثة‬ ‫عوامل لبرت العالقة بالكامل بني‬ ‫احل�ضارة والنظام البيئي للأر�ض‪،‬‬ ‫هي‪ :‬االرتفاع املهول وغري امل�سبوق‬ ‫يف عدد �سكان الب�شر الذي ت�ضاعف‬ ‫�أربعة �أمثال يف �أق ّل من مئة �سنة‪،‬‬ ‫وتطوير التقنيات اجلديدة القوية‬ ‫التي ت ِّ‬ ‫ُعظم من �أثر ك ّل فرد يف تعدادنا‬ ‫البالغ �سبعة مليارات ن�سمة واملق ّرر‬ ‫�أن ي�صل �إىل ت�سعة مليارات ن�سمة �أو‬ ‫�أكرث‪ ،‬وظهور الأيديولوجية ال�سائدة‬ ‫التي ّ‬ ‫تف�ضل التفكري الق�صري الأجل‬ ‫على التبعات احلقيقية البعيدة‬ ‫الأجل للقرارات التي نتخذها يف‬

‫جماالت ال�صناعة و�سيا�سة الطاقة‬ ‫والزراعة وعلم الغابات وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫وت�ضيف كولربت‪« :‬النا�س يغيرّ ون‬ ‫العامل من حولهم»‪ ،‬وتعر�ض على‬ ‫القارئ برباع ٍة ودق ٍة اجلانب العلمي‬ ‫والتاريخي وراء الأزمة الراهنة‪.‬‬ ‫وتت�آلف �أ�سفار كولربت الكثرية‪ ،‬التي‬ ‫�أجرت فيها �أبحاثها لهذا الكتاب‪،‬‬ ‫مع معاجلتها الدقيقة املحكمة لك ّل‬ ‫من التاريخ والعلوم؛ لتجعل كتابها‬ ‫(االنقرا�ض ال�ساد�س) �إ�سهام ًا‬ ‫عظيم ًا لفهمنا الظروف احلالية يف‬ ‫الوقت الذي تقت�ضي فيه احلاجة‬ ‫�أكرث من � ّأي وقت م�ضى التعامل مع‬ ‫التحول اجلذري الذي تب ّينه للقراء‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من الدليل القائم‬ ‫على �أن الب�شر يدفعون املخلوقات‬ ‫باجتاه االنقرا�ض اجلماعي �إال �أننا‬ ‫تباط�أنا ب�شكل م�ؤ�سف يف التك ّيف‬

‫مع الإجراءات ال�ضرورية للتعامل‬ ‫مع هذا التحدي البيئي العاملي‪ ،‬وما‬ ‫برحت ردة فعلنا جتاه االنقرا�ض‬ ‫اجلماعي‪ ،‬وكذلك جتاه �أزمة املناخ‪،‬‬ ‫حمكومة بوجهة النظر العتيقة‬ ‫ب�شكل ميئو�س منه املتعلقة بعالقتنا‬ ‫ببيئتنا‪ .‬ومن ح�سن الطالع �أن التاريخ‬ ‫حافل ب�أمثلة على قدرتنا على جتاوز‬ ‫حتى �أ�صعب التحديات كلما ينتهي‬ ‫جدل ما يف نهاية املطاف باختيار‬ ‫ما بني اخلط�أ الوا�ضح وال�صواب‬ ‫اجللي ال�ساطع؛ فحاالت ال�شذوذ‬ ‫التي حتدّدها كولربت �أو�ضح من‬ ‫�أن نتجاهلها؛ فهي تقدّم لنا �أدل ًة‬ ‫دامغ ًة على �أن ما نقوم به ي�ؤدي �إىل‬ ‫انقرا�ض جماعي �ساد�س خاطئ‬ ‫ب�شكل وا�ضح‪ ،‬وتثبت لنا �أن تب ّني‬ ‫الإجراءات ال�صائبة يعني التعجيل‬ ‫بانتقالنا �إىل عامل �أكرث ا�ستدام ًة‪.‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ملف العدد‬

‫‪17‬‬

‫المجالت العلمية العربية‪ :‬دراما االختفاء ومحنة الغياب‬ ‫راغدة حداد‪ :‬الصحافة العلمية تعكس واقعنا‬ ‫علوم ال غنى عنها للصحفيين‬ ‫تحسين الترجمة العلمية‬


‫ملف العدد‬

‫أسباب أخرى‬ ‫لظاهرة اختفاء المجالت العلمية‬ ‫مع التطور المتسارع للعلوم والتقنية في عالم اليوم تخضع المجتمعات لتحوالت واسعة وعميقة‪،‬‬ ‫بل جذرية في هياكلها االجتماعية والثقافية‪ ،‬وهو ما يؤثّر بشكل مباشر في حياة األفراد في‬ ‫كافة من المعارف األساسية العلمية‬ ‫جميع األعمار؛ لذلك أصبح من الضروريات تمكين أفراد المجتمع‬ ‫ً‬ ‫والتقنية‪ ،‬ونعني هنا المكونات األساسية للمعرفة العلمية ومناهجها‪ ،‬وليس فقط التعريف بأحدث‬ ‫التقنيات العلمية‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫إن أسس التفكير العلمي المنهجي من األهمية‬ ‫بمكان لنمو قدرات الفرد الفكرية والسلوكية‪ ،‬وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫األمر هو أحد أهداف السياسة الوطنية للعلوم والتقنية‪ ،‬التي تشير إلى إيجاد الوعي لدى أفراد‬ ‫المجتمع بأهمية العلوم والتقنية ودورها وجدواها في تحقيق األمن الوطني الشامل والتنمية‬ ‫المستديمة‪.‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإذا نظرنا إلى حال الثقافة العلمية واإلنتاج العلمي‬ ‫الموجه إلى أطياف المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫كلّها‪ ،‬سواء الورقي منه أم اإللكتروني‪ ،‬فإن الحال ال‬ ‫يسر؛ فهو في قمة الضآلة‪ ،‬بل يع ُّد مفتقد ًا في‬ ‫ّ‬ ‫شرائح كثيرة من المجتمع‪ ،‬وأعني هنا المجتمع العربي‬ ‫خاصة‪ .‬لذلك فإن وجود‬ ‫عامة‪ ،‬والسعودي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجلة علمية مهتمة بالثقافة العلمية ليس واجب ًا فحسب‪ ،‬بل يرقى إلى مرتبة الفرض‪ ،‬ومع ذلك فإن‬ ‫وتوقف‬ ‫المتابع للحياة الثقافية العربية المعاصرة تستوقفه بقوة ظاهرة تعثّر المجالت العلمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صدورها‪ ،‬بدء ًا من (المقتطف) وانتهاءً بـ(مجلة العربي العلمية)‪.‬‬ ‫ولعل القارئ الكريم‬ ‫يتأمل في صورة الغالف التي تبرز بعض المجالت العلمية التي صدرت في العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي خالل الثالثين عام ًا الماضية‪ ،‬والتي اختفت بعد مدة وجيزة من صدورها؛ ليجد منها مجالت ماتت‬ ‫موؤودة‪ ،‬وأخرى لم تغادر مرحلة الرضاعة‪ ،‬ومنها التي لم تتجاوز السنة الرابعة من الصدور‪ ،‬والسؤال‬ ‫المتخصص؟‬ ‫تتوجه إلى الجمهور غير‬ ‫المؤلم‪ :‬لماذا تختفي المجالت العلمية العامة التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفصل اإلجابة عن ذلك‪ ،‬وقد نفرد لها ملف ًا خاص ًا الحقاً‪ ،‬لكن سأذكر مثالين هنا فقط قد‬ ‫ال نستطيع هنا أن ّ‬ ‫ُيلقيان الضوء على هذا األمر‪.‬‬ ‫المثال األول‪ :‬في مطلع عام ‪1970‬م توقفت في مصر مجلتان علميتان في أسبوع واحد‪( :‬مجلة عصر‬ ‫العلوم)‪ ،‬ومجلة (العلم والحياة)‪ ،‬وكانت األولى تصدر عن أكبر نقابة علمية مصرية بالتعاون مع إحدى‬ ‫الوزارات‪ ،‬وكانت األخرى تتبع دار ًا صحفية كبيرة‪ .‬أثار هذه القضية رئيس تحرير مجلة (المدير العربي)‪،‬‬

‫‪18‬‬


‫وطرحها تحت عنوان‪( :‬محنة الصحافة العربية)‪ ،‬ونشرت المجلة في العدد الالحق إجابتي رئيسي تحرير‬ ‫كل منهما‪ ،‬ونشرت الموضوع تحت عنوان‪( :‬محنة الصحافة العلمية‬ ‫المجلتين عن أسباب‬ ‫ّ‬ ‫توقف مجلة ّ‬ ‫كما يرويها ضحاياها)‪.‬‬ ‫تطرقت رئيسة تحرير مجلة (العلم والحياة) إلى األسباب‪ ،‬وتكلّمت بألم وحسرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكان العنوان العريض‪« :‬إنها محنة إدارة‪ ،‬ال محنة علم»‪ ،‬وخلص رئيس تحرير مجلة (عصر العلوم) إلى أن‬ ‫«المشكلة إدارية بحتة»‪ ،‬وبالطبع كان العامل االقتصادي وميزان الربح والخسارة غطاءً للسببين (مجلة‬ ‫المدير العربي‪ ،‬العددان ‪ 27‬و‪ ،28‬عام ‪1970‬م)‪ .‬وكما نرى‪ ،‬فإن هناك أسباب ًا إدارية‪ ،‬منها‪ :‬عدم وجود‬ ‫مؤهل‪.‬‬ ‫صحفي متابع‪ ،‬وفريق عمل‬ ‫ّ‬ ‫المثال الثاني‪ :‬أجرينا في هذا العدد حوار ًا مهم ًا مع السيدة راغدة حداد رئيسة تحرير مجلة (البيئة‬ ‫صامدة‪ ،‬وتحتفل بعيدها العشرين هذا العام‪ ،‬وعندما سألناها‬ ‫والتنمية)‪ ،‬وهي مجلة علمية ما زالت‬ ‫ً‬ ‫عن قلة المجالت العلمية في الوطن العربي أجابت بعدم وجود صحافة علمية عربية؛ ألن الصحفي‬ ‫العلمي غير موجود‪.‬‬ ‫كل َمن أجاب عن ذلك لم ير ّكز في انصراف الجمهور‪ ،‬أو عدم اإلقبال على المجلة‪ ،‬بل على‬ ‫ونالحظ أن ّ‬ ‫العكس‪ ،‬قال رئيس تحرير مجلة (عصر العلوم)‪« :‬إن المجلة كانت تنفد من األسواق‪ ،‬وكان فخور ًا بذلك»؛‬ ‫إذ كانت تطبع (‪ )20 -15‬ألف نسخة‪ ،‬وتوزّ ع مجلة (البيئة والتنمية) ‪-‬حسب إفادة السيدة راغدة حداد‪ -‬نحو‬ ‫‪ 38‬ألف نسخة في ‪ 22‬بلداً‪.‬‬ ‫أذكر ذلك ألن األسباب المعلنة‬ ‫يغطي‬ ‫لتوقف المجالت العلمية هي عدم توافر الدعم المالي الذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المؤهلة لمتابعة‬ ‫نفقات إصدارها‪ ،‬وهو سبب واحد‪ ،‬لكن الحقيقة أن هناك نقص ًا في الطاقات العلمية‬ ‫ّ‬ ‫متخصص يتقن لغة أخرى بجانب اللغة‬ ‫األخبار والتقارير العلمية والتقنية التي تحتاج إلى صحفي‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬ويمتلك القدرة على صياغة التقارير بلغة عربية سليمة وسهلة ومفهومة تناسب القارئ‬ ‫العادي‪.‬‬ ‫خصصنا ملف ًا في هذا العدد عن (الصحافة العلمية) ألهمية هذا الموضوع‪ ،‬وحاولنا فيه استقطاب‬ ‫ّ‬ ‫متميزة من الك ّتاب الشباب إلغناء الطرح‪ ،‬كما ُقمنا بترجمة بعض المقاالت ذات العالقة‪ ،‬آملين‬ ‫مجموعة‬ ‫ّ‬ ‫أن يكون ذلك دافع ًا نحو إيجاد دورات تدريبية في الصحافة العلمية تقوم بها جامعاتنا أو المراكز‬ ‫العلمية المعنية؛ ألهمية هذا الموضوع في صياغة مجتمع المعرفة الذي نصبو إليه‪.‬‬ ‫وإلى لقاء‪..‬‬

‫رئي�س التحرير‬

‫‪19‬‬


‫حوار‬

‫ملف العدد‬

‫كانت الصحفية العربية الوحيدة التي شاركت‬ ‫مع علماء دوليين في رحلة إلى منطقة‬ ‫القطب الشمالي على متن سفينة أبحاث‬ ‫في صيف عام ‪2008‬م‪ ،‬وكانت شاهدةً على‬ ‫ظاهرتي‪ :‬ذوبان الجليد‪ ،‬واالحتباس الحراري‪.‬‬ ‫وكتبت سلسلةً من المقاالت العلمية عن‬ ‫هذه الرحلة‪ ،‬وعن ظاهرة تغ ّير المناخ عامةً ‪،‬‬ ‫ُوجت بها عام ‪2009‬م بلقب أول صحفية‬ ‫ت ِّ‬ ‫عربية تحصل على جائزة صحافة األرض عن‬ ‫منطقة الشرق األوسط وشمال إفريقيا‪،‬‬ ‫التي تمنحها منظمة إنترنيوز للصحافة‬ ‫العالمية باالشتراك مع األمم المتحدة‬ ‫والبنك الدولي ومنظمات عالمية أخرى‪،‬‬ ‫وتسلّمت جائزتها من رئيسة إيرلندا السابقة‬ ‫خاص ُأقيم‬ ‫ماري روبنسون في احتفال‬ ‫ّ‬

‫على هامش قمة تغ ّير المناخ التي ُعقدت‬ ‫في العاصمة الدانماركية كوبنهاجن في‬ ‫المدة (‪ )18-7‬ديسمبر عام ‪2009‬م‪ ،‬وحضره‬ ‫الدكتور راجندرا باشاوري رئيس اللجنة‬ ‫الحكومية الدولية المعنية بتغ ّير المناخ‬ ‫وقتها‪ ،‬ووزراء‪ ،‬ومم ّثلون لمنظمات دولية‬

‫‪20‬‬

‫وأهلية‪ ،‬وأكاديميون‪ ،‬وإعالميون‪.‬‬


‫رئي�سة التحرير التنفيذية ملجلة «البيئة والتنمية»‪ ..‬راغدة حداد‪:‬‬

‫ال�صحافة العلمية‬ ‫تعكس وضع بحثنا‬ ‫العلمي العربي ‪..‬‬

‫‪21‬‬ ‫حمدان العجمي‬ ‫هيئة التحرير‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫عال‪ ،‬كما �ساهمت‬ ‫�إنها ال�صحفية راغدة حداد؛ رئي�سة التحرير التنفيذية تن�شر �إعالنات دولية ذات مردود ٍ‬ ‫ملجلة (البيئة والتنمية)‪ ،‬التي ت�صدر يف لبنان عن املنتدى الأحداث الأهلية يف لبنان يف تو ّقف املجلة عن ال�صدور‪.‬‬ ‫العربي للبيئة والتنمية (�أفد)‪ .‬التقتها جملة (الفي�صل‬ ‫العلمية) مبنا�سبة احتفاء جم ّلتها مبرور ع�شرين عام ًا على هناك قلة في المجالت العلمية في الوطن‬ ‫�إ�صدارها يف ظ ّل اختفاء كثري من املجالت العلمية العربية‪ ،‬العربي‪ ،‬وبحكم خبرتكم في مجال الصحافة‬ ‫وحاورتها عن واقع هذه املجالت‪ ،‬وواقع ال�صحافة العلمية العلمية‪ ،‬ما الذي يفتقر إليه العالم العربي‬ ‫لتكون لديه صحافة علمية‬ ‫العربية عام ًة‪ ،‬وغريها من املو�ضوعات ال�شائقة‪.‬‬ ‫متخصصة مرموقة؟‬ ‫ّ‬ ‫ ال�صحافة تعك�س و�ضع البلد‪ ،‬وال�صحافة العلمية‬‫كن ِ‬ ‫ت مديرةً للتحرير في مجلة (المختار)‪ ،‬وهي تعك�س و�ضع البحث العلمي يف البلد‪ ،‬وامل�ؤ�سف �أن البحث‬ ‫‪,‬‬ ‫ُخ�ص�ص له موازنة تقدّر بـ‪ %2‬من الدخل‬ ‫النسخة العربية من مجلة ‪ Reader s Digest‬العلمي الذي ت ّ‬ ‫القومي الإجمايل وفق املعدل العاملي‪ ،‬و�أكرث من ‪ %3‬يف‬ ‫الشهيرة‪ ،‬فلماذا‬ ‫توقفت المجلة عن الصدور؟‬ ‫ّ‬ ‫ �صدرت جملة (املختار) يف باري�س عام ‪١٩٧٨‬م‪ ،‬البلدان املتقدمة‪ ،‬يكاد ال يح�صل على ‪ %0.5‬يف املنطقة‬‫وانتقلت �إىل بريوت عام ‪١٩٨٠‬م‪ ،‬وتن ّوعت مقاالتها العربية؛ فعالم �ستقوم ال�صحافة العلمية؟ ومن جهة‬ ‫بني ال�صحة‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬وال�سياحة‪ ،‬والق�ص�ص �أخرى‪ ،‬معظم ال�صحفيني الذين يتابعون ال�ش�ؤون العلمية‬ ‫متخ�ص�صني‪ ،‬والعلم ال يتح ّمل اخلط�أ‪ ،‬وال�صحافة‬ ‫الواقعية‪ ،‬وكانت مدخلي �إىل العمل ال�صحفي املحرتف؛ غري‬ ‫ّ‬ ‫�إذ تو ّليت �أو ًال �أمانة التحرير‪ ،‬ثم �أ�صبحت الحق ًا مديرة‬ ‫حترير املجلة‪ .‬والعمل يف (املختار) هو الذي �صقل �أ�سلوبي‬ ‫يف الكتابة ال�صحفية؛ �إذ اعتمدت على قاعدة (�أكرث ما‬ ‫ميكن من املعلومات ب�أق ّل ما ميكن من الكلمات)‪� .‬أما عن‬ ‫تو ّقف املجلة عن ال�صدور عام ‪١٩٩٣‬م‪ ،‬فال�سبب الرئي�س‬ ‫هو حت ّول املجلة الأم �إىل م�ؤ�س�سة م�ساهمة‪ ،‬وفر�ض ر�سوم‬ ‫باهظة على حقوق الن�شر مل تكن (املختار) قادر ًة على‬ ‫حت ّملها‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل و�ضع قيود على �إعالنات الطبعة‬ ‫العربية‪ ،‬وح�صرها يف الإعالنات الإقليمية بعدما كانت‬

‫«المختار» أصقلت أسلوبي في‬ ‫الكتابة الصحفية‪ ..‬وأعتمد على‬ ‫قاعدة «معلومات أكثر‬

‫‪22‬‬

‫ّ‬ ‫وكلمات‬ ‫أقل»‬


‫الصحافة العلمية تعكس وضع البحث‬ ‫العلمي‪ ..‬فعالم ستقوم الصحافة‬ ‫العلمية وميزانية البحث العلمي في‬ ‫العالم العربي ال تكاد تصل ‪%0.5‬؟‬

‫يف اجتذاب القراء؛ لأنها تقدّم لهم اجلديد واملمتع بدقة‬ ‫وو�ضوح و�شكل ح�سن‪ ،‬وهي حتتفل هذا العام مبرور‬ ‫ع�شرين عام ًا على �صدورها‪.‬‬ ‫أيهما أفضل‪ :‬ترجمة المجالت العلمية الشهيرة‪،‬‬ ‫أم إصدار مجالت عربية جديدة؟‬

‫ هناك فئتان من املجالت العلمية‪ :‬تلك املح ّكمة التي‬‫تتوجه �إىل‬ ‫تتوجه �إىل الباحثني‬ ‫واملتخ�ص�صني‪ ،‬وتلك التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القراء عامة‪ ،‬وتوجد يف معظم البلدان العربية جمالت‬ ‫�أو ن�شرات ت�صدر عن مراكز الأبحاث فيها‪ ،‬لكن امل�شكلة‬ ‫يف الرتجمة؛ فق ّلما �أقر�أ مقا ًال علمي ًا مرتجم ًا �إىل العربية‬ ‫بدقة ولغة �سليمة و�أ�سلوب وا�ضح و�شائق‪ ،‬ولو قارنت � ّأي‬ ‫مقال مرتجم �إىل العربية بالأ�صل الأجنبي لوجدت غالب ًا‬ ‫�أخطاء فادحة يف نقل املعنى‪ ،‬ويف الأرقام‪ .‬ويف ر�أيي‪ ،‬ال‬ ‫واملتخ�ص�ص‬ ‫لزوم لرتجمة املجالت املح ّكمة؛ لأن الباحث‬ ‫ّ‬ ‫يجب �أن ُيتقن الإجنليزية �أو الفرن�سية ليقر�أ املقاالت‬ ‫العلمية الأ�صلية‪ ،‬ويتابع م�ستجدات الأبحاث العاملية‪� .‬أنا‬ ‫تتوجه �إىل القراء عام ًة‪ ،‬العلميني‬ ‫مع جملة علمية عربية ّ‬ ‫وغري العلميني؛ لتنقل جديد العلم والتكنولوجيا يف‬ ‫املنطقة العربية ب�أ�سلوب وا�ضح وممتع وق�ص�صي �أحيان ًا‬ ‫ك� ّأي جملة عام ًة‪ ،‬وال ب�أ�س �إذا اتّفقت مع جمالت علمية‬ ‫�أجنبية لن�شر بع�ض مقاالتها‪ ،‬ب�شرط �أن ينقلها �إىل‬ ‫العربية �أ�شخا�ص ذوو خلفية علمية ويتقنون اللغة الأ�صلية‪،‬‬ ‫وتخ�ضع لتحرير جيد؛ حتى ال تفوح منها رائحة الرتجمة‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫العلمية تقت�ضي الدقة‪ ،‬واخللفية العلمية‪ ،‬ومتابعة‬ ‫الأحداث‪ ،‬والإملام بجديد العلم والتكنولوجيا‪ ،‬ومعرفة‬ ‫امل�صادر املوثوقة واال�صطالحات العلمية‪ ،‬علم ًا �أنه رمبا‬ ‫�أكرث من ‪ %90‬من م�صادر املعلومات العلمية متوافرة‬ ‫باللغتني الإجنليزية والفرن�سية وغري مرتجمة‪ .‬وتع ّد‬ ‫جملة (البيئة والتنمية) من املجالت القليلة التي جنحت‬

‫‪23‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪24‬‬

‫كما ّ‬ ‫نظم املنتدى العربي للبيئة والتنمية وجملة (البيئة‬ ‫والتنمية) دورات ق�صرية يف ال�صحافة البيئية‪ ،‬ر ّكزت‬ ‫يف رفع القدرات ال�صحفية لدى امل�شاركني‪ ،‬وتوجيههم‬ ‫ّ‬ ‫لتوخي الدقة والو�ضوح‪ ،‬و�إغناء امل�ضمون العلمي‬ ‫ملقاالتهم وتقاريرهم بعيد ًا من الإن�شائيات‪ ،‬وتد ّربوا‬ ‫على تغطية امل�ؤمترات‪ ،‬و�أخذ الأخبار واملعلومات من‬ ‫م�صادرها املوثوقة‪ ،‬مبا يف ذلك الوكاالت واملنظمات‬ ‫ومراكز الأبحاث والهيئات الر�سمية‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫اال�ستخدام املحرتف للإنرتنت؛ فمن م�س�ؤوليات‬ ‫الإعالمي العلمي �إي�صال �صوت املجتمع العلمي �إىل‬ ‫النا�س وامل�س�ؤولني‪ ،‬و�إيجاد تفاعل بني هذا الثالثي‪،‬‬ ‫و�صو ًال �إىل �إحداث تغيري �سلوكي ووعي واهتمام �أكرب‬ ‫التخ�ص�صات اجلامعية‪،‬‬ ‫بامل�ستجدات العلمية‪� .‬أما عن‬ ‫ّ‬ ‫الغني ال�شائق ب�إخراج‬ ‫وال بد من �أن يقرتن املحتوى ّ‬ ‫حمرتف و�صور جذابة هي �أحيان ًا �أبلغ من الكلمات‪.‬‬ ‫ذكر ِ‬ ‫ت في مقابلة لك على قناة (اآلن) عام ‪٢٠١١‬م‬ ‫قيامك بإعطاء دورات في الصحافة العلمية‪ ،‬ما‬ ‫نيةلجعلهادورات‬ ‫محتوىهذهالدورات؟وهلهناك ّ‬ ‫تخصصات‬ ‫إلكترونية؟ ولماذا ال تدفعون باتجاه إنشاء ّ‬ ‫علمية في أقسام الصحافة بجامعات لبنان؟‬

‫من�سقة برنامج التدريب يف املنطقة العربية لدى‬ ‫ �أنا ّ‬‫االحتاد العاملي لل�صحافيني العلميني ‪ ،WFSJ‬ومركزه يف‬ ‫كندا‪ ،‬وقد ّ‬ ‫نظمنا دورتني تدريبيتني‪ ،‬ك ّل منهما على مدى‬ ‫�سنتني‪ ،‬تخ ّرج فيهما ع�شرات ال�صحفيني العرب الذي‬ ‫تل ّقوا تدريب ًا �شخ�صي ًا وجماعي ًا على ال�صحافة البيئية‬ ‫وال�صحية والزراعية وغريها من التغطيات العلمية‪،‬‬ ‫وهناك دورة �إلكرتونية ميكن االنخراط فيها فردي ًا‬ ‫وجمان ًا من خالل موقع االحتاد‪.www.WFSJ.org :‬‬

‫�شاركت راغدة حداد يف تدريب ع�شرات ال�صحفيني العلميني‬


‫مجلة «البيئة والتنمية»‬ ‫مجلة إقليمية تُعنى بتغطية القضايا‬ ‫والموضوعات البيئية والتنموية‪ ،‬تصدر‬ ‫نحو ‪ 38‬ألف نسخة في ‪ 22‬بلداً‪ .‬ونجحت‬ ‫المجلة منذ انطالقها عام ‪1996‬م في‬ ‫وضع البيئة على أجندة اهتمامات‬ ‫الحكومات في الشرق األوسط‪ ،‬وتمكّ نت‬ ‫من خالل أسلوبها الشائق والسهل من‬ ‫أن تجعل الموضوعات البيئية‬ ‫المتخصصة‬ ‫ّ‬ ‫والمتخصص‬ ‫مثار اهتمام القارئ العادي‬ ‫ّ‬ ‫آن‬ ‫واحد‪ .‬وبدأت المجلة منذ عام‬ ‫ٍ‬ ‫في ٍ‬ ‫‪1997‬م في تنظيم برامج توعية بيئية في‬ ‫المدارس بعنوان‪( :‬البيئة األفضل تبدأ بك‬ ‫أنت)‪ ،‬شارك فيها آالف الطالب‪ ،‬كما ّ‬ ‫نظمت‬ ‫ودربت األساتذة في‬ ‫مسابقات بيئية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التربية البيئية‪ ،‬وساهمت في إنشاء أكثر‬ ‫ناد بيئي مدرسي‪.‬‬ ‫من ‪ٍ 500‬‬ ‫ونجحت المجلة في الذكرى العاشرة‬ ‫لتأسيسها عام ‪2006‬م في إنشاء‬ ‫المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)‬ ‫بوصفه منظمةً إقليميةً بيئيةً مستقلةً ‪،‬‬ ‫قدم صاحب‬ ‫وفي بداية يناير عام ‪2013‬م ّ‬ ‫االمتياز ورئيس التحرير نجيب صعب المجلة‬ ‫إلى المنتدى العربي للبيئة والتنمية‬ ‫بإيجار مجاني‪ .‬وتحتفل المجلة هذا العام‬ ‫بالذكرى السنوية العشرين النطالقها‪.‬‬

‫وتغير‬ ‫ما مدى اهتمام العرب بقضايا البيئة‬ ‫ّ‬ ‫المناخ واالستدامة؟‬

‫ ال ّ‬‫�شك �أن االهتمام العربي بق�ضايا البيئة واال�ستدامة‬ ‫زاد يف املدة الأخرية‪ ،‬خ�صو�ص ًا مع �ضرورة التزام الدول‬ ‫العربية م�ستوجبات االتفاقات البيئية الدولية‪ ،‬مبا يف ذلك‬ ‫اتفاقية تغيرّ املناخ‪ ،‬و�أهداف التنمية امل�ستدمية‪ ،‬وقد تغيرّ ت‬ ‫منهجية امل�شاركة العربية يف مفاو�ضات املناخ‪ ،‬وباتت �أكرث‬ ‫جتاوب ًا مع االجتاهات الدولية‪ ،‬لكن امل�ساهمة العربية يف‬ ‫�صنع املواقف وال�سيا�سات العاملية مازالت �ضعيفة وهام�شية‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬ومع ذلك فهناك عالمات م�ضيئة‪ ،‬مثل الربامج‬ ‫الطموحة يف جمال الطاقة املتجدّدة‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف اململكة‬ ‫العربية ال�سعودية ودولة الإمارات العربية املتحدة واململكة‬ ‫املغربية‪ ،‬واخلطط الوطنية للحد من ا�ستخدام الوقود‬ ‫الأحفوري و�إنتاج االنبعاثات امل�سببة لالحتبا�س احلراري‪.‬‬ ‫و�ساهم املنتدى العربي للبيئة والتنمية (�أفد) يف تعزيز‬ ‫االهتمام العربي بق�ضايا البيئة واال�ستدامة خالل الأعوام‬ ‫الع�شرة املا�ضية‪ ،‬خ�صو�ص ًا بتقاريره ال�سنوية التي اكت�سبت‬ ‫�سمع ًة عاملي ًة بو�صفها �أبرز املراجع املوثوقة وامل�ستقلة ب�ش�أن‬ ‫الق�ضايا البيئية يف املنطقة العربية‪ ،‬واملح ّرك الأ�سا�سي‬ ‫للبدائل يف ال�سيا�سات البيئية‪.‬‬ ‫ماذا عن مواكبة مجلة (البيئة والتنمية) لتقنيات‬ ‫النشر اإللكتروني؟‬

‫ موقع (البيئة والتنمية) موجود على الإنرتنت منذ‬‫�سنوات املجلة الأوىل‪ ،‬وان�سجام ًا مع روح الع�صر ّمت‬ ‫تطوير بوابتها الإلكرتونية ‪www.afedmag.com‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫حالي ًا ّ‬ ‫كل شهرين باللغة العربية‪ ،‬وتو ِّزع‬

‫فقد افتتح العام املا�ضي برنامج ماج�ستري يف الإعالم‬ ‫البيئي وال�صحي يف اجلامعة اللبنانية يف بريوت‪ ،‬و�شاركتُ‬ ‫يف تن�سيق هذا الربنامج‪ ،‬كما �أد ّر�س مادة الإعالم البيئي‬ ‫لتخ�ص�ص املاج�ستري يف اجلامعة نف�سها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪25‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫مع حتديثها يومي ًا بالأخبار واملعلومات والتطبيقات التي فيه‪ .‬كما تتوافر املجلة بكاملها على �شبكة الإنرتنت‪،‬‬ ‫يكتبها �أبرز املحللني والقادة البيئيني يف املنطقة العربية و�أر�شيفها متاح جمان ًا جلميع القراء والباحثني‪.‬‬ ‫والعامل‪ ،‬كما ت�ضم البوابة الأر�شيف الكامل للمجلة‬ ‫المفضلة التي‬ ‫ويتم ا�ستخدامه جمان ًا؛ ما مجلتك العلمية العالمية‬ ‫ّ‬ ‫منذ �صدورها عام ‪١٩٩٦‬م‪ّ ،‬‬ ‫لذلك �أ�صبحت (البيئة والتنمية) م�ساح ًة للماليني تحرصين على قراءتها؟‬ ‫على الإنرتنت‪� .‬أما �صفحة املجلة على موقع التوا�صل ‪� -‬أطالع كثري ًا من املجالت العلمية العاملية‪ ،‬كما تردين‬ ‫االجتماعي في�سبوك‪ ،‬فقد جتاوز عدد متابعيها عتبة ع�شرات الن�شرات واملقاالت العلمية يومي ًا عرب الوكاالت‬ ‫املتخ�ص�صة‪ ،‬وللأ�سف تو ّقف كثري من املجالت‬ ‫املليون‪ ،‬الذين يتل ّقون عرب ال�صفحة �أحدث املعلومات واملواقع‬ ‫ّ‬ ‫العلمية عن ال�صدور ب�سبب امل�صاعب املادية‪ ،‬ومنها ما‬ ‫حول البيئة والطبيعة‪.‬‬ ‫بقي ي�صدر بطبعة �إلكرتونية فقط‪ .‬وجم ّلتي املف�ضلة هي‬ ‫تمر الصحافة الورقية بمرحلة مالية عصيبة‪( ،‬نا�شيونال جيوغرافيك)‪ ،‬التي ت�أخذك �إىل جماهل‬ ‫ّ‬ ‫فما سياستكم المالية المتّبعة في مجلة الأر�ض‪ ،‬وتع ّرفك �شعوب ًا وح�ضارات حا�ضرة وبائدة‪ ،‬وروائع‬ ‫الطبيعة واحلياة الربية‪.‬‬ ‫(البيئة والتنمية)؟‬ ‫ املجلة مثلها مثل جميع املطبوعات تعاين اليوم �أزمة‬‫توجهين إليه التحية؟‬ ‫توزيع‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف الو�ضع العربي احلايل؛ فهناك دول صحفي علمي عربي‬ ‫ّ‬ ‫عربية تتم ّيز �شعوبها ب�أنها من الأكرث قراء ًة باتت �شبه ‪ -‬جنيب �صعب‪ ،‬الذي � ّأ�س�س جملة (البيئة والتنمية)‬ ‫خالية من املكتبات ب�سبب ظروفها ال�سيا�سية الراهنة؛‬ ‫مثل‪� :‬سوريا‪ ،‬والعراق‪ ،‬واليمن‪ ،‬وليبيا؛ لذلك ّمت تخفي�ض‬ ‫توزيع املجلة ابتدا ًء من عدد (يوليو‪� -‬أغ�سط�س عام‬ ‫‪٢٠١٦‬م) بهدف تقليل ا�ستهالك الورق‪ ،‬وتقليل تكلفة‬ ‫عدد من املكتبات املختارة‪.‬‬ ‫ال�شحن؛ لتظهر املجلة يف ٍ‬ ‫�أما احلري�صون على اقتناء املجلة الورقية‪ ،‬فيمكنهم‬ ‫اال�شرتاك فيها لت�صل �إليهم بالربيد يف � ّأي مكان يرغبون‬

‫«البيئة والتنمية» من المجالت‬ ‫القليلة التي نجحت في اجتذاب‬ ‫القراء بما‬ ‫تقدمه‬ ‫ّ‬ ‫من معلومات جديدة‬

‫‪26‬‬

‫وممتعة في ثوب جميل‬

‫جنيب �صعب م�ؤ�س�س جملة (البيئة والتنمية)‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫أكثر من ‪ %90‬من مصادر المعلومات‬ ‫العلمية متوافرة باللغتين‬ ‫اإلنجليزية والفرنسية‪ ..‬وهو عائق‬ ‫كبير أمام الصحفيين العرب‬

‫بتمويل �شخ�صي لتكون للعرب جملة بيئية راقية‪ ،‬وقد‬ ‫بلغت عامها الع�شرين‪ ،‬وباتت مرجع ًا بيئي ًا ل�صانعي‬ ‫القرار والباحثني والقراء عام ًة يف املنطقة العربية‪،‬‬ ‫وهو الأمني العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية‬ ‫(�أفد)‪ ،‬الذي ي�صدر �أهم تقرير �سنوي عن البيئة‬ ‫العربية منذ عام ‪٢٠٠٨‬م‪.‬‬

‫‪27‬‬ ‫ماذا تتم ّنين صحفي ًا وعلمي ًا للمنطقة العربية؟‬

‫ �أمتنى ا�ستمرار جملة (البيئة والتنمية) التي‬‫نعمل فيها بحر�ص و�شغف ك�أمنا ‪ ٤٠٠‬مليون عربي‬ ‫أحب �أن �أرى مزيد ًا من املجالت‬ ‫�سيقر�ؤونها‪ ،‬و� ّ‬ ‫العربية العلمية اجلادة‪ ،‬وهو ما �سيحتاج �إىل دعم‬ ‫لت�أمني اال�ستمرارية‪ ،‬لكن ب�شرط احلفاظ على‬ ‫املو�ضوعية واال�ستقاللية‪ .‬و�أمتنى �أي�ض ًا تعزيز دعم‬ ‫البحث العلمي احلقيقي يف البلدان العربية؛ فقد‬ ‫�شاركت يف بعثة علمية دولية على منت كا�سحة جليد‬ ‫يف منطقة القطب ال�شمايل مع ‪ ٥٠‬عامل ًا من ع�شرات‬ ‫الدول ُيجرون �أبحاث ًا حول تغيرّ املناخ وذوبان اجلليد‬ ‫القطبي‪ ،‬ومع �أن املنطقة العربية �ستكون الأكرث‬ ‫ت�أ ّثر ًا بتغيرّ املناخ يف العامل مل يكن يف هذه البعثة‬ ‫باحث عربي واحد‪.‬‬


‫تحقيق‬

‫ملف العدد‬

‫يدونون‬ ‫كان أغلب العلماء قبل ‪ 500‬عام‬ ‫ّ‬ ‫كتب‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ابتكاراتهم وآراءهم في‬ ‫ٍ‬ ‫هناك وجود للمجالت العلمية المحكّ مة‬ ‫كما نراها اليوم؛ فكانت الكتب هي‬ ‫الوسيلة األولى لنشر األفكار‪ ،‬يضع فيها‬ ‫توصل إليه بالتفصيل؛‬ ‫العالم فكره وما‬ ‫ّ‬ ‫ففكرة أن الشمس هي مركز المجموعة‬ ‫تدون في بحث علمي‬ ‫الشمسية لم‬ ‫ّ‬ ‫بمجلة‪ ،‬وإنما في كتاب كوبرنيكوس‬ ‫الشهير (دوران األفالك السماوية)‪ ،‬وفكرة‬ ‫دونها جاليليو في أحد‬ ‫القصور الذاتي ّ‬ ‫دونها نيوتن‬ ‫كتبه‪ ،‬وقوانين الجاذبية ّ‬ ‫في كتابه (األصول الرياضية للفلسفة‬ ‫تقدم العلوم أراد العلماء‬ ‫الطبيعية)‪ .‬ومع‬ ‫ّ‬ ‫أن تتسارع عملية االكتشاف واالبتكار؛ ألن‬ ‫الكتب تحتاج إلى وقت لطباعتها وتوزيعها‪،‬‬ ‫فلجأوا إلى اختراع المجالت العلمية‪ ،‬التي‬ ‫توصل إليه‬ ‫ينشر فيها العالم بحثه الذي‬ ‫ّ‬ ‫فور كتابته‪ ،‬فانتشرت المجالت العلمية‬ ‫المتخصصة في الفيزياء والفلك والكيمياء‬ ‫ّ‬ ‫والفلسفة‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫املجالت العلمية العربية‪:‬‬

‫دراما االختفاء‬ ‫ومحنةالغياب‬ ‫‪29‬‬ ‫حمدان العجمي‬ ‫هيئة التحرير‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ال يزال هذا الو�ضع م�ستمر ًا �إىل الآن‪ ،‬وتط ّورت العلوم‪،‬‬ ‫واتّ�سع حمتواها وتفا�صيلها؛ ف�أ�صبحت هناك فجوة بني‬ ‫العلوم وعامة النا�س ا�ست�شعرها العلماء قبل ‪ ٢٠٠‬عام؛‬ ‫�إذ الحظوا �أن العلوم �آخذة يف التطور لدرجة �أن عامة‬ ‫النا�س ال يعرفون �إىل �أين و�صلت‪ ،‬وهو ما قد ي�ؤدي‬ ‫�إىل تدهور تطور العلوم‪ ،‬ف�أطلقوا حمل ًة كبري ًة قام بها‬ ‫عدد من العلماء‪ ،‬منهم فاراداي‪ ،‬لإلقاء حما�ضرات‬ ‫عامة للنا�س حتت �شعار (العلم للجميع)‪ ،‬وكان من‬ ‫هذه املحا�ضرات �شرح فاراداي للكهرباء‪ ،‬وكان من‬ ‫بني احل�ضور رئي�س وزراء بريطانيا وقتها‪ ،‬الذي �س�أل‬ ‫فاراداي‪ :‬كيف ن�ستفيد من الكهرباء؟ فر ّد فاراداي‪:‬‬ ‫�إنكم �ستجنون منها ال�ضرائب يا �سيدي‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫تبسيط العلوم‬

‫تو�سعت هذه احلملة‪ ،‬و�أطلقت عدد ًا من املبادرات‬ ‫ّ‬ ‫لتب�سيط العلوم و�شرحها‪ ،‬و�أطلقت كذلك جمالت‬

‫علمية لتب�سيط العلوم للعامة‪ ،‬تهدف �إىل زيادة الثقافة‬ ‫العلمية للمجتمع‪ ،‬وكان من �ضمن هذه املجالت بوبيوالر‬ ‫�ساين�س ‪ popular science‬عام ‪١٨٧٢‬م‪ .‬ومل‬ ‫يتو ّقف هذا الزخم‪ ،‬وبد�أت هذه املجالت يف االنت�شار؛‬ ‫مثل‪ :‬جملة ناوكا زيزن الرو�سية عام ‪١٨٩٠‬م‪ ،‬وجملة‬ ‫العلم واحلياة الفرن�سية عام ‪١٩١٣‬م‪ ،‬وجملة بوبيوالر‬ ‫ميكانيك�س ‪ popular mechanics‬عام ‪١٩٠٢‬م‪،‬‬ ‫حتى �أ�صبحت جولة واحدة يف � ّأي مركز لبيع املجالت‬ ‫يف �أوروبا تك�شف عن وجود الع�شرات من هذه املجالت‪،‬‬ ‫تخ�ص�ص يف الفلك‪ ،‬ور ّكزت‬ ‫بل �إن بع�ض هذه املجالت ّ‬ ‫جمالت �أخرى يف االكت�شافات‪� ،‬أو التقنية احلديثة‬ ‫كمجلة ويرد ‪ ،wired‬و�أ�صبحت هذه ال�صنعة جزء ًا ال‬ ‫يتجز�أ من ال�صحافة‪ ،‬و�أطلق عليها ال�صحافة العلمية‪،‬‬ ‫وهي تر ّكز يف تغطية �آخر �أخبار العلوم‪ .‬وتكمن �أهمية‬ ‫هذه املجالت يف �أن كثري ًا منها �ألهم جي ًال كام ًال من‬ ‫ال�شباب‪ ،‬وح ّبب �إليهم العلوم؛ ف�سريجي برين والري‬ ‫بيج ‪-‬م� ّؤ�س�سا جوجل‪ -‬كانا يقر�أان يف طفولتهما‬ ‫و�شبابهما جملة ‪ popular mechanics‬با�ستمرار‪،‬‬ ‫وق ّدم �ستيف جوبز يف خطابه ال�شهري بجامعة �ستانفورد‬ ‫�شكره العميق �إىل جملة علمية كان يقر�ؤها وهو �صغري‪.‬‬ ‫االنطالقة العربية‬

‫يرجع الف�ضل يف �إ�صدار �أول جملة علمية عربية �إىل يعقوب‬ ‫�صروف وفار�س منر‪ ،‬وهي جملة املقتطف‪ ،‬التي ا�ستمرت‬ ‫‪ ٧٧‬عام ًا‪ ،‬وظ ّلت منار ًة علمي ًة يف الوطن العربي �إىل �آخر‬ ‫�أعدادها عام ‪١٩٥٢‬م‪ ،‬حتى �س ّماها بع�ض املهت ّمني بـ(�شيخ‬ ‫املجالت العربية)؛ لأنها ا�ستمرت طوي ًال‪ ،‬وقال عنها‬ ‫الطرزي‪« :‬املقتطف هو العمل الأعظم‪ ،‬والت�أليف الأكرب‪،‬‬ ‫الذي وقف له العمر ك ّل من �صروف ومنر»‪ ،‬وتبارى للكتابة‬ ‫فيها الأطباء والعلماء وال�صيادلة العرب من خمتلف‬ ‫الوطن العربي‪ .‬وال يوجد �سبب وا�ضح لتو ّقف املجلة‪ ،‬لكن‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪31‬‬

‫عزا بع�ض املتابعني ذلك �إىل ق ّلة مواردها املالية بعد �أن‬ ‫انتقل الإ�صدار من لبنان �إىل م�صر‪ .‬ويرجع ا�ستمرار‬ ‫�صدورها مد ًة طويل ًة �إىل اعتمادها على ر�ؤ�ساء حترير‬ ‫متح ّم�سني للعلوم؛ فبعد وفاة �صروف مل تتو ّقف املجلة‪ ،‬بل‬ ‫ر�أ�س حتريرها �إ�سماعيل مظهر‪ ،‬وهو �أحد ر ّواد ال�صحافة‬ ‫العلمية يف العامل العربي‪.‬‬

‫أدى ظهور فجوة بين العلوم وعامة‬ ‫ّ‬ ‫الناس إلى ظهور المجالت العلمية‬ ‫بهدف التبسيط‬

‫كانت ثانية املجالت العربية العلمية لإ�سماعيل مظهر‪،‬‬ ‫وكان ا�سمها (ال�شعب)‪� ،‬صدرت عام ‪١٩٠٩‬م‪ ،‬ثم‬ ‫تو ّقفت‪ ،‬و�أ�صدر جمل ًة �أخرى بد ًال منها عام ‪1937‬م‪،‬‬ ‫�س ّماها (الع�صور)‪ ،‬ا�ستمرت عامني فقط‪ ،‬ثم توقفت‬ ‫�أي�ض ًا ب�سبب عوائق مالية واجهته‪ ،‬وكانت تُعنى بتغطية‬ ‫الأخبار العلمية العاملية‪ ،‬وتركز يف التفكري احل ّر‪.‬‬ ‫أول مجلة علمية مترجمة‬

‫ق ّررت م�ؤ�س�سة الكويت للتق ّدم العلمي عام ‪١٩٨٦‬م‬ ‫�إطالق مبادرة علمية تتم ّثل يف �إ�صدار �أول جملة علمية‬ ‫املتخ�ص�صني‪ ،‬تعاونت فيها مع املجلة‬ ‫مرتجمة لغري‬ ‫ّ‬ ‫الأمريكية (�ساينتفيك �أمريكان)‪ ،‬و�أ�صدرت ن�سخ ًة‬ ‫عربي ًة منها ب�شكل �شهري‪ ،‬وتوا�صل املجلة �صدورها‬ ‫�إىل الآن‪ ،‬وتع ّد من �أهم املجالت العلمية العربية‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫حالي ًا؛ ب�سبب انت�شارها الوا�سع‪ ،‬والدعم احلكومي لها‪.‬‬ ‫وقد تو ّقفت املجلة عن ال�صدور عدة �أ�شهر ب�سبب الغزو‬ ‫العراقي للكويت يف ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬لكنها‬ ‫عاودت ال�صدور‪ ،‬وقامت ب�أر�شفة جميع �أعدادها على‬

‫ال كام ً‬ ‫المجالت العلمية ألهمت جي ً‬ ‫ال‬

‫‪32‬‬

‫من الشباب وح ّببت إليهم العلوم‬


‫عربية‪ ٧٧ ،‬عام ًا منارةً علميةً في‬ ‫الوطن العربي‬

‫الإنرتنت‪ .‬وتعاين املجلة حالي ًا من تهديد بتو ّقف �صدورها؛‬ ‫ب�سبب تغيرّ مالك �شركة �ساينتفيك �أمريكان‪ ،‬وال ُيعرف‬ ‫امل�ستقبل الذي ينتظرها خالل الأ�شهر املقبلة‪.‬‬ ‫وتع ّد جملة (البيئة والتنمية)‪ ،‬التي ت�صدر من لبنان‪،‬‬ ‫وتر�أ�س حتريرها ال�صحفية العلمية راغدة حداد‪� ،‬إحدى‬ ‫�أجنح املجالت العلمية املوجودة يف الوطن العربي؛ فهي‬ ‫ت�صدر �شهري ًا‪ ،‬وتو ّزع ‪� ٣٨‬ألف ن�سخة يف ‪ ٢٢‬بلد ًا عربي ًا‪،‬‬ ‫تخ�ص�صها وتركيزها يف ق�ضايا البيئة على‬ ‫و�ساعد ّ‬ ‫جعلها حمور االهتمام العربي‪ ،‬بل تعدى ن�شاطها اجلانب‬

‫عدد من املبادرات‪ ،‬منها‪٥٠٠ :‬‬ ‫ال�صحفي‪ ،‬فقامت ب�إطالق ٍ‬ ‫ناد بيئي مدر�سي وحما�ضرات للمدار�س للتوعية بق�ضايا‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫البيئة‪ ،‬و�أثارت املجلة مبو�ضوعاتها كثريا من االهتمام حول‬ ‫عدد من الق�ضايا البيئية العربية‪ ،‬ومت ّكنت عام ‪٢٠٠٦‬م‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وهي حتتفل بذكرى ت�أ�سي�سها العا�شرة‪ ،‬من �إن�شاء املنتدى‬ ‫العربي للبيئة والتنمية‪ .‬بد�أت املجلة عام ‪١٩٩٦‬م‪ ،‬وما زالت‬ ‫باع‬ ‫ت�صدر �إىل الآن‪ ،‬وتتم ّيز بوجود رئي�سة حترير ذات ٍ‬ ‫طويل يف ال�صحافة العلمية والرتجمة؛ فقد كانت راغدة‬ ‫ٍ‬ ‫حداد تعمل مدير ًة لتحرير جملة املختار ال�شهرية‪.‬‬ ‫يف عام ‪٢٠١٠‬م‪ ،‬ومببادر ٍة من �شركة �أبو ظبي للإعالم‪،‬‬ ‫�صدرت جملة نا�شيونال جيوغرافيك العربية‪ ،‬وهي جملة‬ ‫ُمرتجمة عن املجلة الأمريكية املعروفة التي �صدرت عام‬ ‫‪١٨٨٨‬م‪ .‬وكان هدف الإ�صدار العربي هو ن�شر املعرفة‬ ‫اجلغرافية‪ ،‬والقى ترحيب ًا وا�سع ًا‪ ،‬وبح�سب كث ٍري من‬ ‫املو ّزعني يحظى هذا الإ�صدار ب�إقبال كبري من القراء‪،‬‬ ‫وترجمته ممتازة‪ ،‬و�إخراجه بديع‪ ،‬و ُيو َّزع يف خمتلف‬ ‫الأقطار العربية‪ ،‬وما زال ي�صدر �إىل الآن‪.‬‬ ‫وقبل عدة �أ�شهر تو ّقفت جملة العربي العلمي ال�شهرية‪،‬‬ ‫التي �أ�صدرتها عام ‪٢٠١١‬م جملة العربي التي ت�صدرها‬ ‫وزارة الثقافة الكويتية‪ ،‬و�ش ّكل تو ّقفها �صدم ًة للقارئ‬ ‫العربي‪ ،‬لكن يبدو �أن التمويل املايل هو �سبب تو ّقف‬ ‫ال�صدور‪ .‬وكانت جملة العربي العلمي يف البداية ملحق ًا‬ ‫مبجلة العربي‪ ،‬ثم �أ�صبحت جمل ًة م�ستقل ًة بذاتها‪ ،‬وكان‬ ‫تبويبها متم ّيز ًا؛ فهي تطرح باب ًا للنقا�ش العلمي‪ ،‬وباب ًا‬ ‫للأبحاث العلمية‪ ،‬و�آخر ال�ست�شراف امل�ستقبل‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ظلّت «المقتطف»‪ ،‬أول مجلة علمية‬

‫‪33‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ت‬

‫‪34‬‬

‫جهود مدينة العلوم والتقنية‬

‫من املجالت العربية العلمية الرائدة جملة (العلوم‬ ‫والتقنية)‪ ،‬التي ت�صدرها مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم‬ ‫والتقنية يف اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬وهي جملة ف�صلية‬ ‫تو ّزع جمان ًا‪� ،‬صدر �أول �أعدادها عام ‪١٩٨٧‬م بعنوان‬ ‫(احلا�سب ال�شخ�صي وتطبيقاته)‪ ،‬وتتم ّيز بح�ضورها‬ ‫على الإنرتنت‪ ،‬وحمتواها الر�صني‪ ،‬ودميومة �صدورها‬ ‫من دون انقطاع‪ ،‬وال تزال ت�صدر �إىل الآن‪.‬‬ ‫كما تدعم مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية جملة‬ ‫(الفي�صل العلمية) التي ي�صدرها مركز امللك في�صل‬ ‫للبحوث والدرا�سات الإ�سالمية منذ �سنة ‪1424‬هـ‪/‬‬ ‫‪2003‬م‪ .‬وكانت ال�شراكة بني املركز واملدينة �سبب ًا يف‬ ‫ا�ستمرار املجلة‪ ،‬التي جاء �إ�صدارها ل�س ّد الفجوة يف‬ ‫الإعالم العلمي العربي‪ ،‬وتقدمي مو�ضوعات علمية‬ ‫ملتخ�ص�صني و�صحفيني علميني يف املجاالت العلمية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫والتقنية وال�صحية كافة ب�أ�سلوب �سل�س يتيح لغري‬

‫املتخ�ص�ص متابعة اجلديد يف تلك املجاالت‪ .‬وللمجلة‬ ‫ّ‬ ‫موقع �إلكرتوين ي�ضم جميع �أعدادها‪ ،‬مع متابعات علمية‬ ‫متنوعة للم�ستجدات يف خمتلف العلوم‪.‬‬ ‫وبدعم من مدينة امللك عبدالعزيز‬ ‫ويف عام ‪٢٠١٢‬م‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫للعلوم والتقنية‪� ،‬صدرت الن�سخة العربية من جملة‬


‫أصدرت أول مجلة علمية مترجمة‬ ‫لغير‬ ‫المتخصصين‬ ‫ّ‬

‫نيت�شر العريقة‪ ،‬التي تع ّد �أهم جملة علمية موجودة يف‬ ‫العامل حالي ًا‪ ،‬وقد القى �صدورها ترحيب ًا عربي ًا كبري ًا‪،‬‬ ‫وهي تُو َّزع جمان ًا ملن يطلبها‪ ،‬وتوجد ن�سختها الورقية يف‬ ‫معظم مكتبات اجلامعات العربية‪ ،‬كما �أنها متوافرة على‬ ‫�شبكة الإنرتنت‪ ،‬وميكن حتميل جميع �أعدادها‪ ،‬واالطالع‬ ‫تو�سعت املجلة من خالل‬ ‫عليها من دون عائق‪ ،‬بل ّ‬ ‫تطبيقها على �أجهزة الأندرويد والآيفون‪ ،‬وح�ساباتها يف‬ ‫ال�شبكات االجتماعية‪ ،‬و�أ�صبحت ت�صل �إىل �أكرب �شريحة‬ ‫ممكنة‪ .‬وتتم ّيز املجلة برتجمة بديعة‪ ،‬و�إخراج احرتايف‬ ‫راقٍ ال ت�ضاهيه � ّأي جملة علمية �أخرى‪ .‬ومازالت املجلة‬ ‫ت�صدر �إىل الآن‪ ،‬وهي تتل ّقى الدعم املايل من مدينة‬ ‫امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مبا�شر ًة عرب �إدارة‬ ‫التوعية العلمية والن�شر‪.‬‬ ‫لي�ست جملة نيت�شر هي املجلة العلمية الوحيدة التي‬ ‫تقوم مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية برتجمتها؛‬ ‫فاملدينة ترتجم كذلك جملة (العلم واحلياة) الفرن�سية‬ ‫للفتيان‪ ،‬وهي ت�ستهدف طالب املرحلتني املتو�سطة‬ ‫والثانوية؛ فتقدّم لهم وجبات علمية ماتعة‪ ،‬وقد بد�أ‬ ‫كامل من مدينة امللك‬ ‫�إ�صدارها عام ‪٢٠١٢‬م‬ ‫بدعم ٍ‬ ‫ٍ‬

‫«ناشيونال جيوغرافيك العربية»‬ ‫ساهمت في نشر المعرفة الجغرافية‬ ‫والقت ترحيب ًا واسع ًا‬

‫المجالت اإللكترونية والشبكات االجتماعية‬

‫ال ُينكر � ّأي �صحفي التغيرّ الكبري‪ ،‬والهزة العنيفة‪ ،‬اللذين‬ ‫حدثا للن�شر الورقي منذ قدوم الإنرتنت؛ فقد تو ّقف‬ ‫عدد من املجالت حتت �ضغط �ضعف املبيعات الورقية‪،‬‬ ‫واكتفى عدد �آخر من املجالت بالوجود الإلكرتوين فقط‪،‬‬ ‫بل �إن �صحيف ًة �ضخم ًة كالوا�شنطن بو�ست ا�شرتاها موقع‬ ‫�أمازون الإلكرتوين ال�شهري‪ ،‬وبد�أت �أكرب �صحف العامل؛‬ ‫كالنيويورك تاميز‪ ،‬التفكري يف طريقة جديدة جلني‬ ‫الأرباح من موقع ال�صحيفة على الإنرتنت‪.‬‬ ‫يف ظ ّل هذه املوجة العاتية ت�أ ّثرت املجالت العلمية‬ ‫يف خمتلف دول العامل‪ ،‬وما كان منها �إال �أن ت�أقلمت‬ ‫ب�شكل �سريع‪ ،‬وحاولت تعزيز دخلها بطرح تطبيقات‬ ‫وا�شرتاكات �إلكرتونية �سنوية لتغطية تغيرّ �سلوك‬ ‫امل�ستهلك‪ .‬مل تتو ّقف املجالت العلمية‪ ،‬لكن �أ�صبحت‬ ‫املجالت العلمية اجلديدة ال تُوجد �إال على الإنرتنت‬ ‫فقط؛ فظهرت يف العامل العربي موجة جديدة من‬ ‫املجالت الإلكرتونية العلمية‪ ،‬التي عزفت عن الظهور‬ ‫الورقي‪ ،‬منها‪ :‬جملة العلوم بالعربية‪ ،‬التي ت�صدرها‬ ‫الكلية اجلامعية للعلوم التطبيقية يف م�صر‪ ،‬و�صدر‬ ‫بتمويل من البنك‬ ‫�أول �أعدادها عام ‪٢٠١١‬م‪ ،‬وت�صدر‬ ‫ٍ‬ ‫الإ�سالمي ومازالت ت�صدر �إىل الآن‪ ،‬وما مي ّيزها هو‬ ‫حتديثها الدوري وح�ضورها الإلكرتوين الوا�ضح على‬ ‫�شبكة الإنرتنت‪ .‬ويف عام ‪2014‬م ظهرت جملة مر�صد‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬التي ت�صدرها م�ؤ�س�سة دبي للم�ستقبل‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫للتقدم العلمي‬ ‫مؤسسة الكويت‬ ‫ّ‬

‫عبدالعزيز للعلوم والتقنية‪ .‬وتتم ّيز املجلة با�ستهدافها‬ ‫�شريحة الفتيان والفتيات‪ ،‬وترجمة و�إخراج رائعني‪،‬‬ ‫وتُو ّزع ب�شكل جماين للراغبني يف اقتنائها‪ .‬ومازالت‬ ‫املجلة ت�صدر ب�شكل دوري‪ ،‬وترتدّد �أخبار ب�أن هناك‬ ‫جمل ًة علمي ًة �أخرى جديدة �سرتى النور قريب ًا‪ ،‬وت�ستهدف‬ ‫�شريحة عمرية �أ�صغر‪ ،‬هم طالب املرحلة االبتدائية‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪36‬‬

‫وهي مرتجمة عن جملة فيوت�شرزم الأمريكية‪،‬‬ ‫ويدعمها مالي ًا متحف دبي للم�ستقبل‪ ،‬وير�أ�سها‬ ‫ال�صحفي العلمي اليمني ها�شم الغيلي‪ .‬وقبل عامني‬ ‫تقريب ًا �أي�ض ًا‪� ،‬أن�ش�أ ال�صحفي ال�سوري زاهر ها�شم‬ ‫املجلة العلمية العربية من خالل (زاد ميديا) يف دم�شق‪،‬‬ ‫وتُعنى املجلة ب�أخبار العلوم وال�صحة والطب‪ .‬ومن املجالت‬ ‫كذلك جملة الأهرام العلمية الإلكرتونية‪ ،‬التي �أ�صدرها‬ ‫هاين �سالم عام ‪٢٠٠٧‬م‪ ،‬ومازالت ت�صدر �إىل الآن‪ ،‬وتقوم‬ ‫على التربعات واجلهود ال�شخ�صية لرئي�س حتريرها‪.‬‬ ‫وهناك كثري من املجالت الإلكرتونية التي �صدر منها عدد‬ ‫�أو عددان بجهود �شخ�صية‪ ،‬ثم تو ّقفت بعد ذلك‪.‬‬

‫باملحتوى الأ�صلي �أو املرتجم‪ .‬وقد القت هذه الطريقة‬ ‫جناح ًا مذه ًال‪ ،‬ومن ذلك على �سبيل املثال‪ :‬موقع‬ ‫(الباحثون ال�سوريون)‪ ،‬وموقع (�أنا �أ�صدّق العلم)‪ ،‬ومي ّثل‬ ‫موقع (الباحثون ال�سوريون) م�ؤ�س�سة توعية علمية وا�سعة‬ ‫االنت�شار؛ �إذ يتابع املوقع مليونا �شخ�ص يف ال�شبكات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وهو بحقٍّ �أمر مثري للإعجاب والت�أمل‪.‬‬ ‫وهناك نوع �آخر من املحتوى العلمي القائم على �أ�شخا�ص‬ ‫متخ�ص�صني عرب ال�شبكات االجتماعية؛ فـالطبيب‬ ‫ّ‬ ‫ال�سعودي خالد النمر لديه �آالف املتابعني‪ ،‬ويقدم‬ ‫حمتوى علمي ًا طبي ًا‪ ،‬ون�ضال ق�سوم يقدّم حمتوى علمي ًا‬ ‫عرب ح�ساباته على �شبكات التوا�صل االجتماعي‪ ،‬وير ّكز‬

‫الصحافة العلمية والمبادرات التطوعية‬

‫ُيالحظ م�ؤخر ًا كرثة املبادرات التطوعية لن�شر املحتوى‬ ‫العلمي ب�شكل جماين للجميع؛ �إذ يقوم �شخ�ص ب�إن�شاء‬ ‫موقع �أو �صفحة على �إحدى ال�شبكات االجتماعية؛‬ ‫كالفي�سبوك �أو تويرت‪ ،‬ويدعو اجلميع �إىل م�شاركته‪� ،‬سواء‬

‫مدينة العلوم والتقنية نجحت في‬ ‫إصدار النسخة العربية من مجلة‬ ‫نيتشر العريقة‬


‫لماذا تختفي المجالت العلمية العربية؟‬

‫لو ُقمنا بعمل م�سح �شامل لك ّل املجالت العلمية التي‬ ‫�صدرت ثم اختفت لوجدنا �أن هناك �سببني رئي�سني‬ ‫وراء اختفاء هذه املجالت‪ ،‬و�أ�سباب ًا �أخرى ثانوية‪.‬‬ ‫ال�سبب الأول هو �ضعف الدخل املايل لهذه املجالت؛‬ ‫مثل جملتي الع�صور واملقتطف‪ ،‬و ُيعزى ذلك �إىل‬ ‫ال�ضعف العام يف القراءة لدى املجتمعات العربية‪،‬‬ ‫وال�سبب الثاين �أن املجالت كانت قائمة على جهود‬ ‫�أفراد متحم�سني‪ ،‬وال تلبث �أن تختفي هذه املجالت‬ ‫مبجرد مغادرة رئي�س حتريرها �أو مفارقته احلياة‪،‬‬ ‫وهو م� ّؤ�شر يعك�س �أن �أغلب املجالت العلمية وقعت يف‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫يف الفلك‪ ،‬وكذلك الدكتور حممد قا�سم من الكويت‪،‬‬ ‫الذي يركز يف االكت�شافات العلمية اجلديدة وغرائب‬ ‫ويهتم ه�ؤالء الكتّاب بالقراءة باللغات الأخرى‪،‬‬ ‫العلوم‪ّ .‬‬ ‫وتقدمي حمتوى حديث وفوري باللغة العربية بعد تب�سيطه‬ ‫و�شرحه للقارئ العربي بطريقة �شائقة‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫يدل على‬ ‫قوة املحتوى املُرتجم وقدرته على االنت�شار‪ ،‬وتغيرّ طرائق‬ ‫تل ّقي املعلومة‪.‬‬

‫فخّ �إداري كبري؛ �إذ �أن�ش�أها �أفراد مل ينجحوا يف حتويلها‬ ‫�إىل عمل م�ؤ�س�سي ال يت�أثر بغيابهم‪.‬‬ ‫ومن الأ�سباب الثانوية الختفاء املجالت العربية العلمية‬ ‫�أن ال�صحافة العلمية العربية تعاين غياب ال�صحفيني‬ ‫املتخ�ص�صني؛ ففي اململكة العربية ال�سعودية �صحفي‬ ‫ّ‬ ‫متخ�ص�ص يف النفط‪ ،‬مع �أنها �أكرب دولة م�صدّرة‬ ‫واحد‬ ‫ّ‬ ‫له‪ ،‬ومدار�س ال�صحافة العربية تخلو متام ًا من برامج‬ ‫ال�صحافة العلمية‪ ،‬بينما جتد ال�صحفيني العلميني يف‬ ‫تخ�ص�صات‬ ‫الغرب يقدّمون حمتوى يف غاية الروعة يف ّ‬ ‫يتخ�ص�ص يف علم الأع�صاب‪،‬‬ ‫معينة يف العلوم؛ فبع�ضهم ّ‬ ‫وثانٍ يف الفلك‪ ،‬وثالث يف الطاقة املتجدّدة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ويف‬ ‫مثل هذه البيئة العربية من ال�صعوبة مبكانٍ �أن تن� أش�‬ ‫جمالت علمية عربية ذات حمتوى يتمتّع بالدميومة‪.‬‬ ‫ومن الأ�سباب الثانوية �أي�ض ًا الختفاء املجالت العلمية‬ ‫العربية عدم مرونتها مع تغيرّ �سلوك القارئ؛ فكثري‬ ‫من املجالت العلمية العربية ال متلك تطبيقات‬ ‫تتوجه فيها �إىل القراء عرب هواتفهم املحمولة �أو‬ ‫ّ‬ ‫املت�صفحات اللوحية كالآيباد‪ ،‬وبع�ض املجالت ال‬ ‫متلك �إىل الآن ح�سابات على ال�شبكات االجتماعية‪،‬‬ ‫وتكتفي باملحتوى الورقي‪� ،‬أو مبوقع رديء ذي ت�صميم‬ ‫تقليدي على الإنرتنت‪.‬‬ ‫ال�صحافة العلمية �أمر يف غاية الأهمية لبناء جمتمعات‬ ‫املعرفة؛ فهي تق ّدم وجبات من الإلهام‪ ،‬وجتعل العلوم‬ ‫ركيز ًة �أ�سا�سي ًة يف النقا�شات االجتماعية لتقدمي‬ ‫احللول مل�شكالت الب�شر‪ ،‬و�إ�صدار جمالت علمية‬ ‫املتخ�ص�صني �أمر مهم جد ًا‪ ،‬لكن‬ ‫موجهة �إىل غري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأهم منه هو متتّع هذه املجالت بالدميومة واال�ستفادة‬ ‫الكاملة من التقنية ال�ستهداف القارئ على املن�صات‬ ‫التي ُيوجد بها من هواتف نقالة و�شبكات اجتماعية‪.‬‬ ‫وعلى هذه املجالت �أي�ض ًا االعتماد على عمل م�ؤ�س�سي‬ ‫حقيقي يكفل لها البقاء‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫تقرير‬

‫ملف العدد‬

‫مجرد أداة لنقل المعنى من‬ ‫ليست الترجمة‬ ‫ّ‬ ‫لغة إلى أخرى‪ ،‬بل هي وسيلة إثراء لغوي‬ ‫تحرك ركود اللغة‬ ‫ومعرفي قادرة على أن ّ‬ ‫المعرفية‪ ،‬والفكر العلمي والثقافي‪ ،‬إذا‬ ‫تم تفعيلها بالشكل الصحيح‪.‬‬ ‫وتعد الترجمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلمية أحد أصعب مجاالت الترجمة في‬ ‫العصر الحديث؛ لسبين‪ :‬أولهما هو ارتباطها‬ ‫بمصطلحات علمية حديثة ال وجود لمرادف‬ ‫يع ّبر عنها في البناء اللغوي التقليدي‪،‬‬ ‫نص يع ّبر‬ ‫وثانيهما أن‬ ‫النص العلمي هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫محددة‪ ،‬وهو ما يتطلّب‬ ‫عن حقائق علمية‬ ‫ّ‬ ‫النص ومعناه نق ً‬ ‫ال أمين ًا من‬ ‫نقل محتوى‬ ‫ّ‬ ‫أي تعدٍّ أو تعديل في محتواه‪ ،‬ال‬ ‫دون ّ‬ ‫النص بالغياً‪ ،‬وال لزيادة الشرح‬ ‫بهدف تجميل‬ ‫ّ‬ ‫العلمي‪ .‬وبذلك يواجه مترجم المادة‬ ‫العلمية تحدي ًا قد ال يواجهه سواه؛ فهو‬ ‫ُمطالَب بنقل المعنى من لغة إلى لغة‬ ‫ومطالب بعدم المساس بمحتوى‬ ‫أخرى‪ُ ،‬‬ ‫النص ومعناه‪ ،‬وهو فوق ذلك كلّه أمام‬ ‫ّ‬ ‫مصطلحات حديثة ال وجود لها في المعاجم‬ ‫التقليدية‪ .‬وهنا يطرأ السؤال‪ :‬كيف يمكن‬ ‫لنا أن نعمل على تحسين مستوى الترجمة‬ ‫العلمية العربية؟ وما الجهود التي ينبغي‬

‫‪38‬‬

‫التركيز فيها لتحقيق هذا الهدف؟‬


‫خطوات‬

‫خطو‬

‫تحسين الترجمة ‬ ‫العلمية‬ ‫‪39‬‬ ‫حنان القرني‬ ‫صيدالنية سعودية ومترجمة‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫على املعاجم العربية الت�صدى ملواجهة �سيل امل�صطلحات احلديثة‬

‫املتخ�ص�صة م�س�ؤولي ًة ا�ستثنائي ًة‬ ‫تتح ّمل املعاجم اللغوية‬ ‫ّ‬ ‫يف تي�سري الرتجمة العلمية العربية؛ فاللغة العلمية لغة‬ ‫متجدّدة وو ّالدة‪ ،‬تنتج �سنوي ًا كثري ًا من امل�صطلحات‬ ‫العلمية احلديثة يف �شتى املجاالت العلمية‪ :‬الطبية‪،‬‬ ‫والتقنية‪ ،‬والفلكية‪ ،‬والفيزيائية‪ ،‬وغريها من املجاالت‪،‬‬ ‫و�إذا مل تت�ص َّد املعاجم العربية مل�س�ؤوليتها مبواجهة �سيل‬ ‫امل�صطلحات احلديثة عن طريق تكييفها مع القواعد‬ ‫مي�سر ًا قاب ًال‬ ‫البالغية العربية‪� ،‬أو تعريبها تعريب ًا ّ‬ ‫لال�ستخدام‪ ،‬ثم �إعالن هذا التعريب وتعميمه على‬

‫تعد الترجمة اليوم عم ً‬ ‫ال نخبوي ًا‬ ‫لم ُ‬ ‫للمختصين فقط‪ ،‬بل هي هواية‬ ‫لدى بعض الناس‪ ،‬وجهد مسؤول‬

‫‪40‬‬

‫يؤديه آخرون خدمةً للعرب‪،‬‬ ‫وإثراء‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫للمحتوى العربي‬

‫املتخ�ص�ص الذي يبد أ� منه تداول امل�صطلح‬ ‫الو�سط‬ ‫ّ‬ ‫بني الناطقني بالعربية‪ ،‬ف�سوف يجيء يوم جند‬ ‫ِّ‬ ‫أ�سف‪ -‬و�سط �سيل جارف من‬ ‫فيه �أنف�سنا‬ ‫بكل � ٍ‬‫ً‬ ‫امل�صطلحات الأجنبية املتداولة ق�سرا يف الن�صو�ص‬ ‫العربية‪ ،‬وحينذاك لن يكون من املفيد �أن تُعاد‬ ‫ترجمة امل�صطلحات‪� ،‬أو ُيعاد تكييفها مع القواعد‬ ‫البالغية العربية؛ لأن ال�شيوع �سلطان اللغات‪،‬‬ ‫وال�شائع من الألفاظ �أوىل من �صحيحها‪.‬‬ ‫وال تنتهي مهمة املعاجم اللغوية بعد نقل امل�صطلح‬ ‫من لغته الأم �إىل اللغة العربية‪ ،‬بل متتد �إىل نحت‬ ‫ا�شتقاقاته‪ ،‬وحتديد �سياقاته ودالالته؛ لتكون‬ ‫مرجع ًا لك ّل َمن يتولىّ مهمة الرتجمة العلمية‪ .‬ومن‬ ‫املهم جد ًا �أي�ض ًا �أن تكون املعاجم اللغوية قابل ًة‬ ‫لال�ستخدام من خالل حتقيق �أهم �شرطني للو�صول‬ ‫يتم توحيد هذه املعاجم‬ ‫�إىل هذه الغاية‪� :‬أولهما �أن ّ‬ ‫اللغوية على امتداد الوطن العربي؛ فالقارئ العربي‬ ‫يف املغرب هو القارئ العربي يف اخلليج‪ ٬‬ومن املعيب‬


‫أن يبذل المترجم جهده لينقل‬ ‫المعنى من اللغة األصلية إلى اللغة‬ ‫األخرى من دون المساس‬ ‫بالنص‬ ‫ّ‬ ‫األصلي أو تحريفه أو تعديله‬

‫�أن تتعدّد وتت�ضارب الآراء يف ترجمة امل�صطلحات �إىل‬ ‫لغة واحدة؛ فيحدث ارتباك ب�سبب تع ّدد امل�صطلحات‬ ‫التي ت�شري �إىل امل�صطلح الواحد‪ ،‬وثانيهما �أن يكون‬ ‫املتخ�ص�صة �سه ًال و ُمتاح ًا للجميع؛‬ ‫الو�صول �إىل املعاجم‬ ‫ّ‬ ‫�إذ مل ت ُعد الرتجمة اليوم عم ًال نخبوي ًا للمخت�صني‬ ‫فقط‪ ٬‬بل هي هواية لدى بع�ض النا�س‪ ،‬وجهد م�س�ؤول‬ ‫ي�ؤدّيه �آخرون خدم ًة للعرب‪ ،‬و�إثرا ًء للمحتوى العربي‪.‬‬ ‫ورمبا تكون �أ�سهل طريقة لإتاحة املعاجم لال�ستخدام‬ ‫هي �أن تتوافر على �شبكة الإنرتنت‪.‬‬

‫وعلى الرغم من م�س�ؤولية املعاجم عن تلبية حاجة‬ ‫التو�سع باحتواء املعاين العلمية‬ ‫اللغة العربية �إىل‬ ‫ّ‬ ‫املتج ّددة �إال �أنه قد يكون على املرتجم �أحيان ًا �أن‬ ‫يتولىّ هذا الدور؛ ب�سبب تق�صري املعاجم‪� ،‬أو ت�سارع‬ ‫وترية ظهور امل�صطلحات‪ ٬‬ويف مثل هذه احلالة يجب‬ ‫على املرتجم �أن ي�ست�شعر م�س�ؤوليته يف نحت وتوليد‬ ‫�ألفاظ دا ّلة وبليغة تعبرّ عن املعنى الذي ي�شري �إليه‬ ‫ألفاظ منا�سبة لل�سان العربي‪.‬‬ ‫امل�صطلح الأ�صلي ب� ٍ‬ ‫ويمُ كن �أحيان ًا نقل امل�صطلح من لغته الأم �إىل اللغة‬ ‫العربية مع تهذيب حروفه مبا يتنا�سب مع الل�سان‬ ‫العربي‪ ٬‬خ�صو�ص ًا �إذا ظهر امل�صطلح بو�صفه ت�سمي ًة‬ ‫ا�شتهرت؛ فالأ�سماء املتداولة واملعروفة ال تُرتجم‪.‬‬ ‫أ�صح يف �أحيانٍ �أخرى �أن يبحث املرتجم‬ ‫ويكون من ال ّ‬ ‫عن �أقرب الألفاظ العربية �إىل داللة املعنى‪ ،‬في�شتقّ‬ ‫منه ا�صطالح ًا يعبرّ عن امل�صطلح املُراد ترجمته‪.‬‬ ‫�إذ ًا ‪ ٬‬فالرتجمة العلمية تتط ّلب �إملام ًا باللغة العربية‪،‬‬ ‫و�ألفاظها‪ ،‬و�أ�ساليبها البالغية‪ ،‬كما تتطلب الإملام‬ ‫باللغة الأخرى‪ ،‬وباال�صطالحات العلمية؛ فلي�س يكفي‬ ‫الن�ص الأ�صلي‪ ،‬ويتم ّكن من معناه‪،‬‬ ‫�أن يفهم املرتجم ّ‬ ‫ليكون قادر ًا على ترجمته‪ ٬‬بل عليه �أن ميتلك مقدر ًة‬ ‫لغوي ًة عربي ًة مت ّكنه من نقل املعنى عرب الرتاكيب‬ ‫العربية ال�صحيحة‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫المهم في حالة الترجمة األمينة‬ ‫من‬ ‫ّ‬

‫‪41‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪42‬‬

‫تتم ترجمة‬ ‫ويتم ّثل ال�شرط الأهم للرتجمة العلمية يف �أن ّ‬ ‫الن�ص العلمي (ترجم ًة �أمين ًة)‪ .‬والرتجمة الأمينة نوع‬ ‫ّ‬ ‫مم ّيز من �أنواع الرتجمة‪ ،‬يختلف عن الرتجمة بت�ص ّرف‪،‬‬ ‫�أو الرتجمة الت�أويلية‪ ،‬و�سواهما من �أنواع الرتجمة؛‬ ‫املهم يف حالة الرتجمة الأمينة �أن يبذل‬ ‫�إذ يكون من ّ‬ ‫املرتجم جهده لينقل املعنى من اللغة الأ�صلية �إىل اللغة‬ ‫بالن�ص الأ�صلي �أو حتريفه �أو‬ ‫الأخرى من دون امل�سا�س‬ ‫ّ‬ ‫تعديله؛ لذلك يواجه املرتجم بع�ض ال�صعوبات حني‬ ‫الن�ص العلمي‪ ،‬ويعجز‬ ‫ينقل م�صطلح ًا جديد ًا داخل ّ‬ ‫عن �إدراج �شروحات ّ‬ ‫تو�ضحه وتنقل معناه �إىل القارئ‪.‬‬ ‫ويف هذه احلالة قد يكون من املنا�سب �إدراج ال�شروحات‬ ‫يف الهام�ش؛ لتو�ضيح اال�صطالحات اجلديدة‪ ،‬و�شرح‬ ‫معانيها؛ �إذ ت�ساعد هذه اخلطوة على تطبيع امل�صطلح‬ ‫ون�شره وت�سهيل ا�ستخدامه‪ ٬‬وهي للأ�سف خطوة ُمغ ّيبة‬ ‫التزام‬ ‫رتجمة‪ .‬وال يعفي‬ ‫ُ‬ ‫يف الدوريات العلمية العربية املُ َ‬

‫املرتجم من‬ ‫الرتجمة الأمينة �أ�سلوب ًا للرتجمة العلمية‬ ‫َ‬ ‫الن�ص‬ ‫م�س�ؤوليته اللغوية التي تفر�ض عليه �صياغة‬ ‫ّ‬ ‫رتجم �صياغ ًة عربي ًة بالغي ًة ر�صين ًة‪ ٬‬وال تُبيح‬ ‫املُ َ‬ ‫له الت�ساهل يف القواعد البالغية والنحوية العربية‬ ‫للن�ص؛ فلي�س من‬ ‫ّ‬ ‫بحجة املحافظة على املعنى الأ�صلي ّ‬ ‫الن�ص على معناه و ُي�صاغ ب�صياغ ٍة‬ ‫امل�ستحيل �أن ُيحافظ ّ‬ ‫عربي ٍة وا�ضح ٍة وقومي ٍة‪ .‬وقد يكون من الأف�ضل يف بع�ض‬ ‫تتم عملية الرتجمة يف خطوتني‪ :‬نقل املعنى‬ ‫الأحيان �أن ّ‬ ‫�إىل اللغة العربية‪ ٬‬ثم ي�أتي دور املراجعة اللغوية لإعادة‬ ‫الن�ص ب�أ�سلوب عربي قومي‪.‬‬ ‫�صياغة ّ‬ ‫يتم نقل املعنى من‬ ‫و�أخري ًا‪ ،‬يه ّمني �أن �أقول‪ :‬ال يكفي �أن ّ‬ ‫لغ ٍة �إىل �أخرى لنقول‪� :‬إننا �أجنزنا الرتجمة‪ ،‬بل يجب �أن‬ ‫ينتقل املعنى ب�صياغ ٍة بليغ ٍة ممتع ٍة �سهل ٍة للقارئ؛ فما‬ ‫رتجم الذي ال يلقى رواج ًا بني النا�س‬ ‫الن�ص املُ َ‬ ‫قيمة ّ‬ ‫لركاكة ترجمته و�ضعفها‪ ،‬بل وجوده حينئذٍ كعدمه‪.‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪43‬‬

‫إﺻﺪارات إدارة اﻟﺒﺤﻮث‬


‫تقرير‬

‫ملف العدد‬

‫ال يقتصر واجب تعلّم ومعرفة الطرائق‬ ‫السليمة لتقييم الدراسات العلمية‪،‬‬ ‫والحكم على جودتها‪ ،‬على الصحفيين‬ ‫العاملين في المجال العلمي فحسب‪،‬‬ ‫بل هو واجب على ّ‬ ‫كل صحفي مهما كان‬ ‫اختصاصه‪.‬‬ ‫هل سرطان القنوات اللبنية ‪Ductal‬‬ ‫‪carcinoma in situ DCIS‬‬ ‫يعد أحد‬ ‫ّ‬ ‫العوامل المؤدية إلى اإلصابة بسرطان‬ ‫الثدي‪ ،‬أو ال‬ ‫يعد كذلك؟ وهل يستدعي‬ ‫ّ‬ ‫الخضوع للعالج أو ال؛ ألن آراء األطباء‬ ‫تختلف حول هذه األمور بسبب انعدام‬ ‫الدالئل العلمية الحاسمة؟‬ ‫وتقرر بعض‬ ‫ّ‬ ‫النساء المصابات بسرطان القنوات‬ ‫اللبنية‪ ،‬وهو خاليا غير طبيعية تظهر‬ ‫في قنوات اللبن في الثدي‪ ،‬الخضوع‬ ‫لعملية استئصال الثدي ‪،Mastectomy‬‬ ‫ويقتصر بعضهن على استئصال الكتلة‬ ‫الورمية ‪ lumpectomy‬مع الخضوع للعالج‬ ‫اإلشعاعي‪ ،‬وتختار قلة قليلة منهن‬ ‫االنتظار ومتابعة الوضع‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫علوم‬ ‫عنها للصحفيين‬ ‫ال غنى‬

‫‪45‬‬ ‫مريم المفضي‬ ‫مترجمة سعودية‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪46‬‬

‫لذلك عندما ظهرت يف �أغ�سط�س عام ‪2015‬م درا�سة‬ ‫تتناول هذا املو�ضوع يف جملة (جاما �أونكولوجي‬ ‫املخت�صة ب�أبحاث علم‬ ‫‪)JAMA Oncology‬‬ ‫ّ‬ ‫الأورام كانت املعلومات التي ظهرت يف التغطيات‬ ‫املختلفة للدرا�سة متباين ًة؛ فقد ذكرت جينا كوالتا‬ ‫الكاتبة ال�صحفية يف (نيويورك تاميز)‪� -‬أن �سرطان‬‫القنوات اللبنية ال يع ّد حال ًة خطري ًة �ألبتة‪ ،‬و�أنه ال ي�ش ّكل‬ ‫خطر ًا كبري ًا‪ ،‬وقالت‪« :‬ن�سب الوفيات ب�سبب �سرطان‬ ‫الثدي لدى امل�صابات ب�سرطان القنوات اللبنية مماثلة‬ ‫�أو مقاربة جد ًا لعامة الن�ساء من غري امل�صابات»‪� .‬أما‬ ‫�آلي�س بارك ‪-‬الكاتبة ال�صحفية يف �صحيفة (تامي)‪-‬‬ ‫فكان ا�ستنتاجها مغاير ًا؛ �إذ قالت‪« :‬ال يبدو �أن �سرطان‬ ‫القنوات اللبنية حميد بالقدر الذي كان يعتقده الأطباء‬ ‫�سابق ًا»‪ .‬و�أخري ًا‪ ،‬ذكرت جينيفر كالفا�س ‪-‬من �صحيفة‬ ‫(يو �إ�س �إيه توداي)‪� -‬آراء متفاوتة للخرباء من دون �أن‬ ‫تلزم نف�سها تقدمي ا�ستنتاج معني‪ ،‬فو�صفت الدرا�سة‬ ‫ب�أنها «�أثارت جد ًال حول �أهمية خيارات العالج املتاحة‬

‫للم�صابات ب�أكرث مراحل �سرطان الثدي تبكري ًا»‪ ،‬وهي‬ ‫تعني �سرطان القنوات اللبنية �إذا كان من ال�صحيح‬ ‫�أن تُع ّد هذه احلالة بالفعل من �أكرث مراحل �سرطان‬ ‫الثدي تبكري ًا‪.‬‬ ‫حيرة علمية‬

‫هل حتيرّ ت؟ لقد كانت الدرا�سة نف�سها‪ ،‬وتعليقات‬ ‫الباحث الرئي�س الدكتور �ستيفن �إي نارود وم�ست�شفاه‬ ‫حميرّ ة �أي�ض ًا؛ فقد قال الدكتور نارود ‪-‬وهو من معهد‬ ‫�أبحاث الكلية الن�سائي ة ‪Women’s College R e‬‬ ‫‪ search Institute‬التابع للم�ست�شفى الن�سائي اجلامعي‬ ‫يف تورنتو‪ -‬لل�صحفية جينا كوالتا من (نيويورك تاميز)‪:‬‬ ‫«�أف�ضل عالج ل�سرطان القنوات اللبنية هو �أن ندعها‬ ‫و�ش�أنها» بعد �أن نقوم بعمل خزعة لإزالة اخلاليا غري‬ ‫الطبيعية‪ ،‬لكن البيان ال�صحفي الذي �أ�صدره امل�ست�شفى‬ ‫ينقل عن الدكتور نارود قوله‪�« :‬سرطان القنوات اللبنية له‬ ‫خ�صائ�ص كثرية م�شابهة لل�سرطانات الغزوية ال�صغرية‬


‫أصبحت مهمة الصحفي أكثر صعوبةً‬ ‫بسبب الصعوبات الحديثة التي يواجهها‬ ‫المجال العلمي نفسه؛ فعلى سبيل‬ ‫المثال‪ :‬يقع العلماء والباحثون تحت‬ ‫ضغوط كبيرة للحصول على نتائج في‬ ‫تمر بها الميزانيات‬ ‫بعض المراحل التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتقشفشديد‬

‫الكتابة في مجالت متعددة‬

‫كان هذا الأمر جزء ًا من التحدي الذي �ش ّكلته درا�سة‬ ‫�سرطان القنوات اللبنية؛ فحتى الكتّاب ال�صحفيون‬ ‫املخت�صون بتغطية الأخبار الطبية العامة‪� ،‬أو الأخبار‬ ‫املتعلقة ب�أبحاث ال�سرطان‪� ،‬أو حتى ب�سرطان الثدي‬ ‫حتديد ًا‪ ،‬عانوا �صعوب ًة يف التعامل مع نتائج هذه الدرا�سة‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا �أن قل ًة قليل ًة من ال�صحفيني هم َمن يحظون‬ ‫التخ�ص�ص الدقيق يف جمال واحد؛ ف�أغلب‬ ‫ب�إمكانية‬ ‫ّ‬ ‫الكتّاب ال�صحفيني يعملون على تغطية كثري من املجاالت؛‬ ‫فنجد ال�صحفي يكتب عن جتربة تقوم بها وكالة الف�ضاء‬ ‫نا�سا يف �أحد الأيام‪ ،‬ويكتب يف يوم �آخر عن خالف �شائك‬ ‫حول الف�ضالت ال�سامة‪ ،‬ومع ذلك ال بد للكاتب ال�صحفي‬ ‫من �أن يكون متم ّكن ًا من ترجمة املعلومات العلمية التي‬ ‫حتتاج �إليها هذه الأخبار ال�صحفية ب�سرعة ودقة‪ ،‬مع‬ ‫احلر�ص على جت ّنب الأخطاء و(الفربكات) ال�صحفية‪.‬‬ ‫�أ�صبحت مهمة ال�صحفي �أكرث �صعوب ًة ب�سبب ال�صعوبات‬ ‫احلديثة التي يواجهها املجال العلمي نف�سه؛ فعلى �سبيل‬ ‫املثال‪ :‬يقع العلماء والباحثون حتت �ضغوط كبرية‬ ‫للح�صول على نتائج يف بع�ض املراحل التي مت ّر بها‬ ‫امليزانيات ّ‬ ‫بتق�شف �شديد؛ فالف�شل يف احل�صول على‬ ‫نتائج قد يع ّر�ض امل�سرية املهنية للعامل �أو الباحث للخطر‪،‬‬ ‫وقد ي�ؤ ّثر يف فر�ص ح�صوله على دعم مادي لأبحاثه‬ ‫امل�ستقبلية؛ لذلك حتظى الدرا�سات التي تعرث على‬ ‫ن�شر‬ ‫ت�أثريات جانبية للعقار ‪-‬على �سبيل املثال‪ -‬بفر�ص ٍ‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫مقارن ًة مبا كان ُيعتقد �سابق ًا»‪ ،‬م�ضيف ًا‪« :‬طبيعة املر�ض‬ ‫جتعل من انت�شار �سرطان القنوات اللبنية �إىل الأع�ضاء‬ ‫الأخرى �أمر ًا حمتم ًال»‪ .‬واحلقيقة �أنه ال يوجد يف الدرا�سة‬ ‫ما يدعم التعميمات الواثقة التي ذكرتها معظم الأخبار‬ ‫التي تناولت الدرا�سة‪ ،‬ومل ير ّكز �سوى عدد قليل من‬ ‫الأخبار يف �أكرث النتائج التي خرجت بها الدرا�سة و�ضوح ًا‪،‬‬ ‫وهي �أن العمر والأ�صل العرقي يعدّان من العوامل امل�ؤثرة‬ ‫يف الإ�صابة ب�سرطان القنوات اللبنية‪.‬‬ ‫تع ّد التغطية التي حظيت بها درا�سة �سرطان القنوات‬ ‫اللبنية منوذج ًا جيد ًا ملا قد مي ّثل �أكرب التحديات التي‬ ‫تواجه الكتّاب يف جمال ال�صحافة العلمية‪ ،‬وهو تقييم‬ ‫وتف�سري النتائج املع ّقدة للدرا�سات التي قد يعار�ض‬ ‫بع�ضها بع�ض ًا �أحيان ًا‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن كتابة كثري من‬ ‫الأخبار تعتمد على الفهم الدقيق للمعلومات العلمية‬ ‫وكيفية قراءتها‪ .‬ويجعل هذا التحدي من دور ال�صحافة‬ ‫العلمية يف بناء هذه الثقافة لدى العامة �أكرب من ذي‬ ‫قبل؛ �إذ تقول ديبورا بلوم؛ الكاتبة ال�صحفية يف جمال‬ ‫العلوم‪ ،‬واحلائزة على جائزة البوليتزر‪ ،‬ومديرة برنامج‬ ‫فار�س العلم ال�صحفي التابع ملعهد ما�سات�شو�ست�س‬ ‫للتكنولوجي ا ‪Knight Science Journalism pr o‬‬ ‫‪ ،gram at MIT‬والنا�شرة ملجلة �أندارك ‪Undark‬‬

‫العلمية اجلديدة التابعة للربنامج‪« :‬نحن نحتاج �إىل‬ ‫عامل يح�سن قراءة العلوم؛ فمع تغيرّ العامل والبيئة من‬ ‫حولنا نتيجة التقدم العلمي والتقني �أ�صبحنا نحتاج �إىل‬ ‫�أن نتعلم كيف نتعامل مع هذه التغيرّ ات بذكاء»‪ ،‬م�ضيف ًة‪:‬‬ ‫«كيف ميكن لنا �أن ننجح يف ذلك �إذا كنا ال نفهم ما‬ ‫تعنيه نتائج هذه الدرا�سات العلمية؟»‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪48‬‬

‫�أكرب بكثري من غريها من التجارب التي ال تو ّفق يف العثور‬ ‫على مثل هذه الت�أثريات‪ ،‬مع �أن الدرا�سات التي ت�صل �إىل‬ ‫نتائج �سلبية قد تكون يف بع�ض الأحيان بالقدر نف�سه من‬ ‫�أهمية الدرا�سات التي تنجح يف الو�صول �إىل نتائج �إيجابية‪،‬‬ ‫وقد تبدو الدرا�سة التي جتد ت�أثري ًا ّ‬ ‫مب�شر ًا وواعد ًا لعقار ما‬ ‫جذابة‪ ،‬لكن مدى تق ّبل هذه الدرا�سة قد يتغيرّ �إذا ُن�شرت‬ ‫ع�شرات الأبحاث الأخرى عن العقار نف�سه من دون �أن جتد‬ ‫� ّأي ت�أثري �إيجابي له‪ .‬كما �أن عدد مرات الرتاجع عن بع�ض‬ ‫الأبحاث؛ ب�سبب الأخطاء العلمية �أو الفربكات ال�صحفية‪،‬‬ ‫يف ازدياد؛ فالبيانات الالزمة لتقييم م�صداقية درا�سة ما‬ ‫لدواع جتارية �أو تناف�سية‪ ،‬وقد ت�سهم طريقة‬ ‫قد تبقى �سري ًة ٍ‬ ‫توفري الدعم للأبحاث‪ ،‬وهو ّية اجلهة الداعمة‪ ،‬يف تعقيد‬ ‫مهمة البحث عن احلقيقة‪ .‬وتو ّفر احلكومات غالب ًا معظم‬ ‫الدعم املادي لأبحاث اجلامعات‪ ،‬لكن هذه اجلامعات‬ ‫ت�شجع منوذج ًا ي�سري على مبد�أ (كن من�شور ًا �أو مغمور ًا)؛‬ ‫ّ‬ ‫فت�شجع الباحثني على الن�شر كلما وجدوا معلوم ًة جديد ًة‬ ‫ّ‬

‫مهما �ص ُغرت‪ ،‬حتى �إن �أحد �أ�سباب ح�صول الباحثني على‬ ‫الرتقيات هو عدد الأبحاث التي ين�شرونها‪ ،‬و�أمكنة ن�شرها‪.‬‬ ‫و ُيقال عاد ًة‪� :‬إن م�صداقية الأبحاث العلمية تعتمد على‬ ‫خ�ضوعها لتحكيم دقيق من اخلرباء؛ �أي �أن املجلة العلمية‬ ‫واملتخ�ص�صني يف املجال ّ‬ ‫االطالع على‬ ‫تطلب من اخلرباء‬ ‫ّ‬ ‫الأبحاث التي ت�صلها لتقييم �صحتها ودقتها‪ ،‬لكن الثقة‬ ‫يف عملية التحكيم يف تراجع؛ ففي بع�ض الأحيان قد تُن�شر‬ ‫الأبحاث ال�ضعيفة �أو املل ّفقة حتى بعد عملية التحكيم‪،‬‬ ‫كما ُيحتمل �أن يف�شل نظام التحكيم حتى عندما ُيط ّبق‬ ‫على �أبحاث مهمة يقودها علماء خم�ضرمون؛ فعلى‬ ‫�سبيل املثال‪ :‬قامت جمموعة من الباحثني يف م�شروع‬ ‫دام عدة �سنوات مبحاولة �إعادة �إجراء مئة بحث من‬ ‫الأبحاث يف علم النف�س‪ ،‬وجنحوا يف الو�صول �إىل النتائج‬ ‫نف�سها يف ‪ 39‬درا�سة فقط‪ ،‬ويف مار�س عام ‪2015‬م‬ ‫تراجعت املجلة الربيطانية (بايوميد �سنرتال ‪Biomed‬‬ ‫‪ )Central‬عن ‪ 43‬بحث ًا بعد �أن �أنهت حتقيق ًا ثبت فيه‬


‫ّ‬ ‫االطالع‬ ‫والمتخصصين في المجال‬ ‫ّ‬ ‫على األبحاث التي تصلها لتقييم‬ ‫صحتها ودقتها‪ ،‬لكن الثقة في عملية‬ ‫التحكيم في تراجع‬

‫م�ساع حاولت «الت�أثري يف �آراء املح ّكمني عن طريق‬ ‫وجود ٍ‬ ‫تقدمي تقييمات �إيجابية مل ّفقة»‪ ،‬ويرى �إيفان �أوران�سكي‬ ‫امل� ّؤ�س�س الثاين مع �آدام ماركو�س ملدونة (مراقبة‬‫الرتاجعات الن�شرية ‪� -)Retraction Watch‬أن‬ ‫هذا الأمر مدعاة لت�شكيك كتّاب ال�صحافة العلمية يف‬ ‫الأبحاث‪ ،‬و�أن على الكتّاب ال�صحفيني النظر �إىل العلماء‬ ‫بالعني الناقدة نف�سها التي ينظر بها الكتّاب ال�سيا�سيون‬ ‫لل�سيا�سيني‪ ،‬وي�ضيف قائ ًال‪« :‬نحن نف ّكر ونهتم بالت�أ ّكد‬ ‫من م�صداقية رجال ال�سيا�سة‪ ،‬وال�شركات التجارية‪،‬‬ ‫باحثني عن الف�ساد والكذب واخلداع‪� ...‬أما يف العلوم‪،‬‬ ‫فيقوم �أ�سا�س قيا�س امل�صداقية على تقييم ما �إذا‬ ‫كانت ادّعاءات العلماء والباحثني �ست�صمد مع الوقت‬ ‫�أم ال»؛ فعند �أخذ الأعداد املتزايدة من الأبحاث التي‬ ‫يتم الرتاجع عنها يف احل�سبان ال ميكن لل�صحفيني �أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعتمدوا على �آراء املحكمني فح�سب للت�أكد من م�صداقية‬ ‫�إحدى الدرا�سات‪.‬‬ ‫ال نقول بالطبع‪� :‬إن الف�شل يف �إعادة الو�صول �إىل نف�س‬ ‫نتائج درا�سة �سابقة يع ّد دلي ًال على �أن نتائج الدرا�سة‬ ‫الأ�صلية كانت خاطئ ًة‪� ،‬أو �أن البحث كان عر�ض ًة‬ ‫للتزييف؛ فالعمل العلمي عمل جتريبي قد مي ّر ببع�ض‬ ‫الأخطاء بطبيعة احلال‪ .‬واحلقيقة �أن جزء ًا من التحدي‬ ‫الذي يواجه الكتّاب العلميني يكمن يف تو�ضيح ال�صعوبات‬ ‫التي تواجهها الدرا�سات‪ ،‬مبا فيها تلك الدرا�سات التي‬

‫عملية مستمرة‬

‫وينبغي معاملة الأوراق البحثية بو�صفها جزء ًا ال يتج ّز أ�‬ ‫من عملية م�ستمرة‪ ،‬ولي�ست ا�ستنتاجات قاطعة؛ لأنه يف‬ ‫بع�ض الأحيان ال يقوم املح ّكمون بواجبهم يف التح ّقق‬ ‫والتث ّبت من م�صداقية الأبحاث على �أكمل وجه‪� ،‬إ�ضاف ًة‬ ‫�إىل �ضخامة عدد الأبحاث التي تُن�شر‪ ،‬وهو ما �أدّى �إىل‬ ‫كاف من املح ّكمني الذين‬ ‫م�شكلة �أخرى؛ �إذ ال يوجد عدد ٍ‬ ‫لتفح�ص ك ّل درا�سة بتم ّعن‪ ،‬لدرجة‬ ‫ميتلكون وقت ًا كافي ًا ّ‬ ‫املتخ�ص�صني‪ ،‬وهو �أتول غواندي؛ اجلراح يف‬ ‫�أن �أحد‬ ‫ّ‬ ‫م�ست�شفى بو�سطن يف بريغهام وم�ست�شفى الن�ساء‪ ،‬و�أحد‬ ‫كتّاب �صحيفة (نيويوركر)‪ ،‬وم�ؤ ّلف كتاب (لأننا كائنات‬ ‫تفنى)‪ ،‬يرى �أن نظام التح ّقق من احلقائق الذي يتبعه‬ ‫ال�صحفيون قد يكون �أكرث دق ًة يف بع�ض الأحيان من‬ ‫نظام التحكيم؛ فيقول «نظام التحكيم ي�ساعد‪ ،‬لكن‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫المجلة العلمية تطلب من الخبراء‬

‫خ�ضعت لأف�ضل املعايري التطبيقية من نتائج غري م ؤ� ّكدة‬ ‫�أو اختالفات دقيقة‪ ،‬تقول �سارة بروكهارت؛ املديرة‬ ‫التنفيذية لرابطة العلوم النف�سية ‪Association‬‬ ‫‪« :for Psychological Science‬من ال�صعب جد ًا‬ ‫�إعادة الو�صول �إىل النتائج نف�سها‪ ...‬فكثري ًا ما تظهر‬ ‫م�شكالت يف �إمكانية �إعادة الإنتاج واملحاكاة والتعميم»‪،‬‬ ‫ويرجع ذلك �إىل عدم �إمكانية تطبيق الدرا�سات التي‬ ‫�أُجريت على احليوانات على الإن�سان على �سبيل املثال‪،‬‬ ‫�أو اختالف املنهجية املتّبعة‪ ،‬وتقول بروكهارت‪« :‬على‬ ‫ال�صحفي �أن ينظر �إىل الأبحاث على �أنها جزء ال يتج ّز أ�‬ ‫من عملية علمية م�ستمرة‪ ،‬ال على �أنها ا�ستنتاجات‬ ‫قاطعة»‪ .‬و�أ ّكدت هذه الفكر َة الورق ُة البحثي ُة التي‬ ‫ن�شرتها جملة (�ساين�س ‪ )Science‬يف مطلع مار�س‬ ‫عام ‪2016‬م لأربعة باحثني من جامعة هارفارد‪،‬‬ ‫يذكرون فيها �أن درا�سة حماكاة الدرا�سات ال�سابقة تع ّد‬ ‫معيب ًة وخاطئ ًة �إح�صائي ًا‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫عندما تتح ّقق �صحيفة مثل (نيويوركر) من املعلومات‬ ‫التي �أذكرها‪ ...‬فهي ال تكتفي بالنظر �إىل قائمة الأبحاث‬ ‫تتفح�ص اختياري بتم ّعن �أكرث‪ :‬هل‬ ‫يف حا�شية بحثي‪ ،‬بل ّ‬ ‫كنتُ �أنتقي الأبحاث التي تدعم ر�أيي فقط و�أجتاهل‬ ‫غريها؟ كما ُيقر�أ املقال للت�أ ّكد مما �إذا كنتُ �أ�ستخدم‬ ‫االقتبا�س اخلارج عن ال�سياق‪ ،‬وهل هناك مقاالت �أخرى‬ ‫كثرية تدعم وجهة النظر املخالفة؟ �إن عملهم هذا‬ ‫�أ�شبه بالتحكيم»‪ .‬ويعرتف غواندي ب�أن التحكيم الدقيق‬ ‫واملتم ّعن غري ممكن بب�ساطة لأغلب املجالت العلمية‬ ‫املح ّكمة‪� ،‬أو حتى �أغلب املن�شورات الإخبارية؛ �إذ ين�شر ما‬ ‫يقارب ‪ 2.5‬مليون ورقة بحثية ك ّل عام‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫دقة النص‬

‫وميكن للنقل احل�صيف والدقيق �أن يح ّل بع�ض هذه‬ ‫امل�شكالت‪ ،‬وهو ما �أو�ضحته كري�ستي �أ�شواندن ‪-‬الكاتبة‬

‫الرئي�سة للمقاالت العلمية يف موقع البيانات ال�صحفي‬ ‫(فايفرثتي �إيت ‪ -)FiveThirty Eight‬عندما‬ ‫ح ّللت درا�س ًة ُن�شرت يف جملة طب الأطفال (جاما‬ ‫‪ )JAMA Pediatrics‬تقول‪� :‬إن م�ستخدمي ال�سجائر‬ ‫الإلكرتونية من ال�شباب �أكرث عر�ض ًة بثماين مرات من‬ ‫غريهم لتدخني ال�سجائر العادية‪ ،‬وكان الباحث الرئي�س‬ ‫يف هذه الدرا�سة هو الدكتور براين برمياك؛ الأ�ستاذ يف‬ ‫كلية الطب بجامعة بيت�سربغ‪ ،‬وقامت الدرا�سة با�ستطالع‬ ‫�شمل ‪ 694‬م�شارك ًا راوحت �أعمارهم بني ‪ 16‬و‪ 26‬عام ًا‪،‬‬ ‫منهم ‪� 16‬شخ�ص ًا كانوا ّ‬ ‫يدخنون ال�سجائر الإلكرتونية‬ ‫يف بداية الدرا�سة‪ ،‬ثم �أجرت الدرا�سة اال�ستطالع مر ًة‬ ‫�أخرى على العينة نف�سها بعد مرور �سنة‪ .‬وعند حتليل‬ ‫�أ�شواندن هذه الدرا�سة وجدت �أن ال�ضجة التي �أحدثتها‬ ‫يف عناوين ال�صحف؛ مثل‪( :‬درا�سة تقول‪ :‬املراهقون‬ ‫الذين ّ‬ ‫يدخنون ال�سجائر الإلكرتونية �أكرث عر�ض ًة‬

‫يلج�أ كارل زمير �إىل اخلرباء لتغطية املجاالت الكثرية التي يكتب فيها (‪)Revive & Restore‬‬


‫استحالة الخبرة في شكل المجالت‬

‫العمل العلمي عمل تجريبي قد‬ ‫يمر ببعض األخطاء بطبيعة الحال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والحقيقة أن جزء ًا من التحدي‬ ‫الذي يواجه الكتّاب العلميين‬ ‫يكمن في توضيح الصعوبات التي‬ ‫تواجهها الدراسات‬

‫ومن الأ�شياء التي ت�ش ّكل حتدّي ًا �أمام الكتّاب ال�صحفيني‬ ‫يف املجال العلمي ا�ستحالة �أن ي�صبح ال�صحفيون خرباء‬ ‫يف ك ّل املجاالت‪ ،‬مثلهم يف ذلك مثل العلماء �أنف�سهم؛ فعلى‬ ‫�سبيل املثال‪ :‬كتب كارل زمير ‪-‬ال�صحفي يف (نيويورك‬ ‫تاميز)‪ -‬على مدى �شهرين مقاالت يف مو�ضوعات �شتى؛‬ ‫من ارتفاع درجة حرارة املحيطات‪ ،‬وخنف�ساء �شجرة‬ ‫املران ‪ ،the emerald ash borer‬وهي خنف�ساء‬ ‫�آ�سيوية تهاجم �أ�شجار املران‪ ،‬والتخ ّفي عند احليوان‪،‬‬ ‫�إىل نظام باليو الغذائي ‪ ،Paleo Diet‬واللقاحات‪،‬‬ ‫وفطريات ال�سلمندر‪ ،‬وانتقال اخلاليا من اجلنني �إىل‬ ‫�أمه‪ .‬ويذكر زمير �أن �س ّر النجاح يف تغطية مو�ضوعات من‬ ‫جماالت خمتلفة ال يكمن يف �أن الكاتب �أ�صبح خبري ًا يف‬ ‫ك ّل هذه املجاالت‪ ،‬بل يف معرفة اخلرباء يف هذه املجاالت‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫للتدخني الحق ًا) يف �صحيفة (لو�س �أجنلو�س تاميز)‪،‬‬ ‫و(درا�سة تقول‪ :‬ال�سجائر الإلكرتونية طريق �إىل تدخني‬ ‫التبغ) يف �صحيفة (تامي)‪ ،‬جاءت بنا ًء على �أن �ستة‬ ‫ممن ّ‬ ‫دخنوا ال�سجائر الإلكرتونية �أ�صبحوا‬ ‫�أ�شخا�ص ّ‬ ‫ّ‬ ‫مدخنني لل�سجائر العادية يف املدة بني اال�ستطالع الأول‬ ‫واال�ستطالع الثاين‪� ،‬ستة فقط‪ ،‬وتقول �أ�شواندن‪« :‬ملج ّرد‬

‫�أن �ستة �أ�شخا�ص بد�ؤوا بتدخني التبغ نقلت الأخبار �أن‬ ‫ال�سجائر الإلكرتونية ت�ؤدي �إىل تدخني التبغ‪� .‬صحيح �أن‬ ‫الدرا�سة كانت درا�س ًة كبري ًة �إال �أن نتيجتها املهمة‪ ،‬التي‬ ‫كانت عر�ض ًة ل�سوء الفهم‪ ،‬مل تعتمد �إال على عدد قليل‬ ‫من العدد الكلي للم�شاركني»‪ .‬ويكمن اخلط�أ ‪-‬كما تذكر‬ ‫�أ�شواندن‪ -‬يف االلتبا�س بني مفهومي‪ :‬االرتبا ط ‪co r‬‬ ‫‪ ،relation‬وال�سببية ‪causation‬؛ فمع �أن احتمال‬ ‫االنخراط يف التدخني كان �أكرث بكثري لدى ّ‬ ‫مدخني‬ ‫ال�سجائر الإلكرتونية يف الدرا�سة �إال �أن عدد ّ‬ ‫مدخني‬ ‫هذه ال�سجائر كان قلي ًال جد ًا ال�ستخال�ص � ّأي نتائج‬ ‫م�ؤ ّكدة (‪� 16‬شخ�ص ًا من �أ�صل ‪� 694‬شخ�ص ًا)‪ ،‬وت�ضيف‬ ‫�أ�شواندن‪�« :‬إنه عمل بحثي ممتاز‪ ،‬لكن يبدو �أنها درا�سة‬ ‫تعطينا فر�ضيات مفيدة للدرا�سة املتم ّعنة م�ستقب ًال‪� .‬إنها‬ ‫ال ت�سمح لنا با�ستقاء � ّأي نتائج حا�سمة‪ .‬ولتعرف �أنهم‬ ‫كانوا ينظرون �إىل عدد �صغري من عدد امل�شاركني فقط‬ ‫كان عليك �أن تقر�أ الكتابة باخلط ال�صغري»‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫وال يعني ذلك �أن هذا العمل �سهل دائم ًا؛ فكثري من‬ ‫توجهات �أو حت ّيزات‬ ‫اخلرباء يف املجاالت املختلفة يحملون ّ‬ ‫خا�صة بهم؛ لذلك ف�إن التوا�صل مع جهة ثقة واحدة قد ال‬ ‫يكفي‪ ،‬حتى �إن زمير‪ ،‬الذي يكتب ملجلة (�ستات ‪)Stat‬‬ ‫التي ت�صدرها جمموعة بو�سطن الإعالمية الدولية‪ ،‬قد‬ ‫يحتاج عند الكتابة عن �أحد الأخبار املع ّقدة �إىل التوا�صل‬ ‫مع جمموعة من امل�صادر مع �أن اخلرب يظهر مدعوم ًا‬ ‫ب�آراء م�صدر واحد �أو م�صدرين فقط‪.‬‬ ‫ضرورة االجتهاد في نقل المعلومة‬

‫‪52‬‬

‫قد تبدو �أهمية رجوع ال�صحفيني �إىل م�صادر خارجية‬ ‫�أمر ًا بديهي ًا‪ ،‬لكن املُالحظ �أن قل ًة فقط هم من يقومون‬

‫بذلك‪ ،‬خ�صو�ص ًا عندما تكون املقالة غري علمية‪ ،‬لكنها‬ ‫حتوي جزئي ًة مهم ًة ذات طبيعة علمية‪ .‬ويحثّ زمير ك ّل‬ ‫متخ�ص�صني يف الكتابة‬ ‫الكتاب ال�صحفيني‪� ،‬سواء �أكانوا‬ ‫ّ‬ ‫العلمية �أم ال‪ ،‬على االجتهاد يف نقل املعلومة العلمية‬ ‫عندما تكون جزء ًا مهم ًا من الق�صة؛ فين�صح بالبحث‬ ‫عن م�صادر موثوقة تعينك يف دعم الأبحاث التي ترغب‬ ‫يف ذكرها‪ ،‬كما ينبغي على ال�صحفيني الذين ال ميلكون‬ ‫ح�صيل ًة وا�سع ًة من العالقات يف الو�سط العلمي �أن يطلبوا‬ ‫املتخ�ص�صني يف ال�صحافة العلمية‪.‬‬ ‫العون من زمالئهم‬ ‫ّ‬ ‫ويكمن التحدي يف بع�ض الأحيان يف �إي�ضاح املعلومة‬ ‫امل�ؤ َّكدة للق ّراء من املعلومة املبن ّية على تو ّقعات؛ لأن‬ ‫كثري ًا من نتائج الأبحاث العلمية تع ّد نتائج ن�سبية‪ .‬وقد‬ ‫واجهت هذه امل�شكلة كاثرين �شولز ‪�-‬إحدى كاتبات‬ ‫�صحيفة (نيويوركر)‪ -‬يف مقال ٍة كتبتها يف يوليو عام‬ ‫‪2015‬م بعنوان‪( :‬الزلزال الكبري)؛ �إذ ذكرت تفا�صيل‬ ‫عن الزلزال الذي ُيتو ّقع �أن ي�ضرب �شمال غرب املحيط‬ ‫الهادئ بقوة ‪ 9.2‬ريخرت ‪-‬ح�سبما ذكر علماء الزالزل‪-‬‬ ‫عقب انهيار منطقة انغراز كا�سكاديا ‪Cascadia‬‬ ‫ّ‬ ‫اخلط‬ ‫‪ subduction zone‬بالكامل‪ ،‬وهي منطقة‬


‫بروكهارت‪ :‬على الصحفي أن ينظر‬ ‫إلى األبحاث على أنها جزء ال يتجزّأ‬ ‫من عملية علمية مستمرة‪ ،‬ال على‬ ‫أنها استنتاجات قاطعة‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ال�صدعي املمتد من �شمال كاليفورنيا �إىل املنطقة‬ ‫القريبة من جزيرة فانكوفر يف كندا‪ ،‬وطوله ‪ 700‬ميل؛‬ ‫�أي �أنه �سيكون �أكرب من زلزال عام ‪2011‬م والت�سونامي‬ ‫الذي تبعه‪ ،‬اللذين �ضربا اليابان و�س ّببا خ�سائر فادحة‪.‬‬

‫ويتّفق الباحثون على �أن الزلزال �سيقع ال حمالة؛ لأن‬ ‫زالزل منطقة كا�سكاديا حتدث يف املتو�سط ك ّل ‪342‬‬ ‫عام ًا‪ ،‬وقد م�ضى الآن منذ �آخر زلزال ‪ 316‬عام ًا‪ ،‬لكن‬ ‫من امل�ستحيل حتديد وقت حدوث الزلزال بدقة‪ ،‬وتو ّقع‬ ‫نتائجه‪ .‬وبنا ًء على هذه الدالئل العلمية التي تدعم‬ ‫تو ّقع حدوث زلزال قامت �شولز بكتابة مقالها ب�صيغة‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬بد ًال من ا�ستخدام �أ�سلوب ال�شرط الأكرث‬ ‫ّ‬ ‫«�ستغطي املنطقة التي �سي�ضربها‬ ‫دق ًة وحذر ًا‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫الزلزال ‪� 140‬ألف ميل مربع‪ ،‬ت�شمل‪� :‬سياتل‪ ،‬وتاكوما‪،‬‬ ‫وبروتالند‪ ،‬ويوجني‪ ،‬و�سايلم عا�صمة �أوريغون‪ ،‬و�أولومبيا‬ ‫عا�صمة وا�شنطن‪ ،‬و�ست ؤ� ّثر يف �أكرث من �سبعة ماليني‬ ‫�شخ�ص‪ ...‬و�ستُ�سقط �سخانات املياه‪ ،‬وتحُ طم �أنابيب‬ ‫الغاز الداخلية‪� .‬أما املنازل التي مل تُربط ب�أ�سا�ساتها‬ ‫ف�ستنزلق عن مواقعها‪ ...‬ولأن املنازل مل تث ّبت بالأر�ض‬ ‫التي تتحرك من حتتها ف�ستنهار واحد ًا تلو الآخر‪.‬‬ ‫وعندما ي�ضرب الت�سونامي فلن تزداد الأمور �إال �سوء ًا»‪.‬‬ ‫يقول الربوفي�سور كري�س جولدفينجر ‪�-‬أحد علماء‬ ‫الزالزل يف جامعة والية �أوريغن‪ ،‬الذي ُذكرت بع�ض‬ ‫�أعماله يف مقالة �شولز‪ -‬مع ّلق ًا على املقالة التي فازت‬ ‫بجائزة (املجلة الوطنية للكتابة ال�صحفي ة ‪Natio n‬‬ ‫‪)al Magazine Award for feature writing‬‬ ‫عام ‪2016‬م‪ :‬رمبا جل�أت �شولز �إىل �أ�سلوب الكتابة‬ ‫اال�ستعرا�ضية بع�ض ال�شيء‪ ،‬لكنها مل تذكر � ّأي معلومات‬ ‫غري �صحيحة علمي ًا يف كتابتها‪ ،‬م�ضيف ًا‪« :‬ال �أرى ب�أ�س ًا‬ ‫من �إ�ضافة بع�ض الروح والقليل من الفكاهة �إىل الكتابة‬ ‫مادامت مل تتغيرّ احلقائق‪ ...‬فذلك ي�ساعد على لفت‬ ‫انتباه النا�س‪ ،‬ويدفعهم �إىل احلديث عن املو�ضوع؛ فلو‬ ‫كتبتَ املعلومات العلمية نف�سها ب�أ�سلوب ّ‬ ‫جاف غري �شائق‬ ‫فلن تنت�شر املعلومة بالقوة التي انت�شر بها مقال �شولز؛‬ ‫لذلك لن تتم ّكن من احل�صول على القدر نف�سه من‬ ‫الت�أثري الإيجابي الذي �أحدثته مقالة �شولز»‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪54‬‬

‫�أثارت مقالة �شولز اهتمام ًا كبري ًا وقلق ًا لدى‬ ‫العامة؛ ف ُعقدت املنتديات عرب مناطق �شمال غرب‬ ‫املحيط الهادئ املختلفة ملناق�شة افتقار املنطقة �إىل‬ ‫اال�ستعدادات‪ ،‬وناق�ش امل�س�ؤولون الإجراءات التي ينبغي‬ ‫اتّباعها للعناية بهذا املو�ضوع‪ ،‬و�إن مل يبد�ؤوا بتفعيلها‬ ‫بعد‪ ،‬و ُنوق�شت مو�ضوعات متعددة �شملت‪ :‬م�سارات‬ ‫الإخالء عند وقوع الت�سونامي‪ ،‬وحتديث املباين القدمية‬ ‫لتتح ّمل الزالزل القوية‪.‬‬ ‫ويذكر �أتول غواندي �أنه يحاول التعامل مع بع�ض ال�صعوبة‬ ‫الكامنة يف ال�صحافة العلمية عن طريق االنتظار قبل‬ ‫ن�شر املقاالت لريى �إذا كانت النتائج املذكورة �ست�صمد‬ ‫فع ًال؛ فيقول‪�« :‬أنتظر عاد ًة بع�ض الوقت مف ّكر ًا‪ :‬كيف‬ ‫�سيبدو هذا اخلرب بعد ثالثة �أ�شهر �أو �ستة؟ وكيف‬ ‫يتخ�ص�ص يف‬ ‫ممن‬ ‫يتط ّور هذا املو�ضوع؟ و�إذا كنتَ ّ‬ ‫ّ‬ ‫كتابة الأخبار ال�سريعة ب�صورة خمت�صرة على تطبيقات‬

‫التوا�صل االجتماعي ‪ short-form reporting‬فهذا‬ ‫يعني �أن ترجع �إىل الأخبار التي كتبتَها قبل �ستة �أ�شهر �أو‬ ‫�سنة‪ ،‬وت�س�أل نف�سك‪ :‬كيف تبدو الآن من هذا املنظور؟»‪،‬‬ ‫ثم اعمل على تطوير هذا النوع من الكتابة ال�صحفية؛‬ ‫لأن ذلك هو الطريق الأمثل لكي تتج ّنب االن�سياق وراء‬ ‫ك ّل خرب‪.‬‬ ‫يعرف كتّاب ال�صحافة العلمية املخ�ضرمون �أهمية‬ ‫القدرة على اتّخاذ القرارات اخلا�صة بالأخبار التي ال‬ ‫ت�ستحقّ الن�شر وتلك التي ال تُف َّوت‪ ،‬و�أهمية ال�سرعة يف‬ ‫ذلك؛ فعلى �سبيل املثال‪ :‬حدث يف �سبتمرب عام ‪2015‬م‬ ‫�أن ن�شرت جملة (نيت�شر ‪ )Nature‬درا�س ًة تدّعي �أنها‬ ‫وجدت دلي ًال على �أن مر�ض الزهامير ينتقل بالعدوى‪،‬‬ ‫قوي وخميف �أي�ض ًا‪ ،‬لكن فريجينيا هيوز ‪-‬حم ّررة‬ ‫خرب ّ‬ ‫الأخبار العلمية يف موقع �أخبار بزفييد ‪BuzzFeed‬‬ ‫‪ -News‬ق ّررت عدم تغطية هذا اخلرب قائل ًة‪�« :‬إنها‬


‫المخضرمون أهمية القدرة على‬ ‫اتّخاذ القرارات الخاصة باألخبار التي‬ ‫ال‬ ‫ُفوت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تستحق النشر وتلك التي ال ت َّ‬ ‫وأهمية السرعة في ذلك‬

‫درا�سة غري معقولة‪ ...‬كانت ع ّينة الدرا�سة ثمانية‬ ‫�أ�شخا�ص فقط على ما �أذكر‪ ،‬وكانت ا�ستنتاجات‬ ‫الدرا�سة مبني ًة على االفرتا�ضات �إىل حدٍّ كبري‪ .‬كنا‬ ‫مت�أ ّكدين �أن مثل هذا اخلرب �س ُيحدث �ضج ًة �إعالمي ًة‪،‬‬ ‫لكننا ق ّررنا عدم ن�شره‪ .‬وبعد ذلك بيوم واحد ق ّررت (*) هذا املقال مرتجم عن مقال باول ريبورن املن�شور يف جملة‬ ‫كيلي �أوك�س ‪-‬حم ّررة الأخبار العلمية يف بزفييد باململكة (نيمان ريبورت) التي ت�صدرها جامعة هارفارد‪ ،‬على الرابط‪:‬‬ ‫‪http://niemanreports.org/articles/what-every‬‬‫املتحدة‪ -‬ن�شر اخلرب‪ ،‬لكن بطريقة غري تقليدية؛ فكتبت‬ ‫‪journalist-should-know-about-science.‬‬ ‫مقال ًة تنتقد فيها هذه الدرا�سة وال�ضجة الإعالمية التي‬ ‫�صاحبتها‪.‬‬ ‫مغزى كالمنا هنا هو �أنه ينبغي على ال�صحفي �أال يقبل‬ ‫� ّأي معلومة على ع ّالتها‪ ،‬يقول بني جولداكري؛ الطبيب‬ ‫الربيطاين الذي ظ ّل يكتب لعمود العلوم الرديئة ‪Bad‬‬ ‫‪ Science‬يف �صحيفة (ذاجارديان) عقد ًا من الزمن‪:‬‬ ‫«ينبغي �أن تكون تغطية نقاط �ضعف الأبحاث العلمية‬ ‫وم�شكالتها من املها ّم الروتينية لل�صحفي‪ ...‬فعندما مت ّر‬ ‫به درا�سة وجدت عالج ًا جديد ًا مبهر ًا فعليه �أن ّ‬ ‫يغطي‬ ‫اخلرب مع ذكر �أن عادة الأبحاث التي ت�صل �إىل نتائج‬ ‫جديدة �أن ّ‬ ‫ت�ضخم هذه النتائج مبكر ًا‪� ،‬أما �إذا م ّرت به‬ ‫جتربة �سريرية ناجحة من �إحدى اجلامعات التي تقوم‬ ‫بكثري من التجارب ال�سريرية فعليه �أن ي�أخذ يف احل�سبان‬ ‫�أن النتائج الأق ّل ت�أثري ًا و�إحداث ًا لل�ضجة قد تُرتك بال‬ ‫ن�شر؛ لذلك رمبا يجدر بال�صحفي �أن يرجع �إىل الأبحاث‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫يعرف كتّاب الصحافة العلمية‬

‫ال�سابقة لهم ليعرف عدد التجارب التي مل تُن�شر»‪.‬‬ ‫ويرى �إيفان �أوران�سكي �أنه ينبغي على ال�صحفيني �أن‬ ‫يغيرّ وا متام ًا طريقتهم يف النظر �إىل الأبحاث املن�شورة؛‬ ‫فالكتابة ال�صحفية مبا تت�ض ّمنه من بحث «ال ينبغي �أن‬ ‫تتو ّقف عند ن�شر ورقة بحثية ما‪ ...‬بل على ال�صحفي �أن‬ ‫يتعامل مع ك ّل بحث بو�صفه معلوم ًة غري ُمثبتة عر�ض ًة‬ ‫للتغيري‪ .‬عليك �أن تعامل ك ّل نتيجة على �أنها نتيجة‬ ‫مبدئية»‪ ،‬خ�صو�ص ًا تلك الأخبار التي تُثري العناوين‬ ‫ال�صاخبة‪ .‬وت�ضيف ديبورا بلوم؛ مديرة برنامج فار�س‬ ‫العلم ال�صحفي‪« :‬العلم عملية م�ستمرة‪ ،‬وك ّل بحث‬ ‫مبنزلة نقطة بيانات داخل هذه العملية‪ ،‬وعليك [�أيها‬ ‫ال�صحفي] �أن تعرف �أين تقع هذه النقطة على منحنى‬ ‫هذه العملية امل�ستمرة»‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫رؤية‬

‫تحت عنوان (االعتماد على ركائز جديدة‪..‬‬ ‫الثروة النفطية تغذّ ي الطموح العلمي)‪،‬‬ ‫أعدت مجلة نيتشر ‪ Nature‬العربية في‬ ‫ّ‬ ‫عددها الصادر في يونيو عام ‪2016‬م ملحق ًا‬ ‫شام ً‬ ‫ال عن واقع الحركة العلمية في المملكة‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬وتأثيرها في إيجاد‬ ‫االقتصاد المعرفي؛ تجاوب ًا مع رؤية عام‬ ‫‪2030‬م‪ ،‬التي طرحتها حكومة خادم الحرمين‬ ‫الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز‪.‬‬ ‫أوضح محمد يحيى ‪-‬رئيس تحرير موقع‬ ‫‪ -Nature Middle East‬في مقدمة الملحق‬ ‫تعد أكبر‬ ‫أن المملكة العربية السعودية ّ‬ ‫منتج للنفط في العالم‪ ،‬ومع ذلك أعلنت‬ ‫عام ‪2008‬م عن خططها لتوسيع مواردها‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وتحويل اقتصادها من اقتصاد‬ ‫قائم على النفط إلى اقتصاد قائم على‬ ‫المعرفة في إطار رؤية إستراتيجية علمية‬ ‫وطنية تمتد إلى عام ‪2030‬م‪ ،‬وتمكّ نت‬ ‫المملكة ‪-‬بفضل االستثمارات الضخمة‪ -‬من‬ ‫إنشاء جامعات عالية التقنية‪ ،‬وإقامة‬ ‫مختبرات حديثة‬ ‫ومتطورة في مؤسساتها‬ ‫ّ‬ ‫البحثية الرائدة‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫نحو اقتصاد معرفي أساسه التفوق العلمي‬

‫رؤية الممـلكة‬ ‫ّ‬ ‫تحول القرن‬ ‫تحقق‬ ‫ّ‬ ‫الحادي والعشرين‬ ‫‪57‬‬ ‫د‪ .‬حسين حسن حسين‬ ‫هيئة التحرير‬


‫و�أ�شار يحيى �إىل �أن م�ؤ�شر ‪ Nature‬عن ال�شرق الأو�سط‬ ‫ّ‬ ‫يو�ضح مدى التغيرّ الذي تع ّر�ض له الناجت العلمي‬ ‫ال�سعودي على مدار ال�سنوات الأربع املا�ضية؛ فقد بد�أت‬ ‫ا�ستثمارات اململكة يف جمال العلوم ت�ؤتي ثمارها؛ �إذ‬ ‫ّ‬ ‫تخطت اململكة جميع الدول العربية الأخرى يف املنطقة‪،‬‬ ‫بل تف ّوقت على قوى �إقليمية رائدة؛ لتح ّقق ثاين �أعلى‬ ‫ناجت يف غرب �آ�سيا يف امل�ؤ�شر‪ .‬وير ّكز امللحق يف ت�أكيد‬ ‫�أن لدى اململكة العربية ال�سعودية خطة وا�ضحة لتنويع‬ ‫اقت�صادها‪ ،‬بعيد ًا من جمال �صناعة النفط؛ ُبغية خلق‬ ‫اقت�صاد معريف‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫أضواء‬

‫�ألقى امللحق ال�ضوء على الأو�ضاع املالية �إىل جانب الأداء‬ ‫العلمي للم�ؤ�س�سات العلمية‪ ،‬وما تواجهه اململكة العربية‬ ‫ال�سعودية من مناف�سة �إقليمية‪ ،‬خ�صو�ص ًا من تركيا و�إيران‪،‬‬ ‫و�أ�شار امللحق �إىل �أن اململكة مت�ضي قدم ًا �إىل الأمام ب�شكل‬ ‫�سريع يف جماالت كثرية‪ ،‬وح ّققت اململكة عدد ًا ك�سري ًا‬ ‫معد ًال �أكرب مما ح ّققتاه �إيران وتركيا بنحو ‪ ،%45‬وهي‬ ‫�أي�ض ًا �أكرث �إنتاج ًا بني الدول الثالث يف جممل الأوراق‬ ‫البحثية املن�شورة يف دوريات يت�ضمنها امل�ؤ�شر‪.‬‬ ‫وتر ّكز ا�ستثمارات اململكة يف املجال العلمي يف البحوث‬ ‫التطبيقية التي تخدم امل�صالح ال�صناعية للبالد‬ ‫مبا�شر ًة‪ ،‬وحتديد ًا قطاع النفط والطاقة‪ ،‬لكن حتى‬ ‫يف املجاالت التي تتم ّيز فيها اململكة بالقوة (علوم‬

‫تركّ ز استثمارات المملكة في‬ ‫المجال العلمي في البحوث‬ ‫التطبيقية التي تخدم المصالح‬ ‫الصناعية للبالد‬

‫‪58‬‬

‫ر�ؤية ‪ 2030‬مرحلة جديدة يف م�سرية اململكة‬

‫الكيمياء والفيزياء) ال يزال العدد الك�سري املعدل للمملكة‬ ‫متوا�ضع ًا‪ ،‬مقارن ًة بالفاعلني الكبار يف �آ�سيا؛ مثل‪ :‬ال�صني‪،‬‬ ‫واليابان‪ ،‬وكوريا اجلنوبية‪ .‬ولتتم ّكن اململكة من ال�سباحة‬ ‫ب�شكل �آمن مع هذه احليتان الكبرية ميكنها اال�ستفادة من‬ ‫جتارب االقت�صادات النا�شئة الناجحة يف �آ�سيا‪ ،‬وكان قرار‬ ‫احلكومة ال�سعودية �إن�شاء برنامج �ضخم لالبتعاث عام‬ ‫‪2005‬م خطو ًة �أوىل ط ّيبة على الطريق؛ �إذ ميكن القول‪:‬‬ ‫�إن هذا الربنامج هو الأكرب من نوعه على م�ستوى العامل‪،‬‬ ‫وقد مت ّكن من خالله �أكرث من ‪� 200‬ألف �شاب �سعودي من‬ ‫الدرا�سة يف اخلارج‪ ،‬وهو ما يجعل الطالب ال�سعوديني يف‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية رابع �أكرب كتلة طالبية مغرتبة‬ ‫بعد ال�صني والهند وكوريا اجلنوبية‪ ،‬وت�أمل احلكومة �أن يعود‬ ‫ه�ؤالء الطالب لقيادة حركة الثقافة العلمية يف البالد‪.‬‬


‫مدينة الملك عبدالعزيز في القيادة‬

‫يبحث العامل عن م�صادر �صاحلة للطاقة بدي ًال �أحفوري ًا‬ ‫للوقود ب�أنواعه‪ ،‬وت�سعى اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫جاهد ًة �إىل التنويع كي ت�ضمن رخاء م�ستقبلها‪ ،‬وحت ّد‬ ‫من اعتمادها االقت�صادي على النفط؛ ففي عام‬ ‫‪2002‬م �أن�ش�أت احلكومة ال�سعودية اخلطة الوطنية‬ ‫للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة)‪ ،‬وهي �إطار عمل‬ ‫�إ�سرتاتيجي متط ّلع طويل املدى لإدارة التنمية العلمية‬ ‫يف الدولة‪ ،‬وحتويل اقت�صادها �إىل اقت�صاد معريف‪،‬‬ ‫و ّمت تخ�صي�ص �أكرث من �ستة مليارات دوالر �أمريكي‬ ‫للمرحلة الأوىل من اخلطة‪ ،‬التي امتدت من عام ‪2008‬‬ ‫وتتم اجلهود التي تبذلها اململكة‬ ‫�إىل عام ‪2014‬م‪ّ .‬‬ ‫من �أجل حتويل اقت�صادها �إىل اقت�صاد معريف بقيادة‬ ‫م�ؤ�س�سة العلوم الوطنية اخلا�صة بالدولة‪ ،‬وهي مدينة‬ ‫امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ‪ ،KACST‬امل�س�ؤولة‬ ‫عن تنفيذ اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار‬ ‫و�سعت املبادرات املتط ّلعة التي تبذلها‬ ‫(معرفة)‪ ،‬وقد ّ‬ ‫املدينة؛ مثل م�شروع اجلينوم الب�شري ال�سعودي‪،‬‬ ‫النطاق العلمي يف الدولة‪.‬‬ ‫و�شهد املجال البحثي يف اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫حت ّو ًال �أي�ض ًا على �إثر بزوغ جامعة امللك عبداهلل للعلوم‬ ‫والتقنية ‪ KAUST‬ومنوها‪ ،‬وهي جامعة بحثية للدرا�سات‬ ‫العليا ت� ّأ�س�ست على �شاطئ البحر الأحمر عام ‪2009‬م‬ ‫على طراز اجلامعات الغربية؛ مثل جامعة كالتيك‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ويف جمال التعاون الدويل‪ ،‬يبينّ امللحق �أن الباحثني‬ ‫ال�سعوديني تعاونوا عام ‪2015‬م مع نظرائهم يف ‪89‬‬ ‫دولة لإنتاج �أوراق علمية‪ ،‬كما �أن امل�ؤ�س�سات العلمية‬ ‫ال�سعودية لديها �شراكات على امل�ستوى الإقليمي‪ ،‬وتع ّد‬ ‫جامعة امللك �سعود �أكرب م�ؤ�س�سة �سعودية متعاونة مع‬ ‫الباحثني يف الدول الأخرى يف منطقة ال�شرق الأو�سط‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫خطوات ثابتة نحو ريادة إقليمية‬ ‫ُ‬ ‫دفعت‬ ‫العالقات القويةُ مع العلماء الدوليين البارزين‪ ،‬واتفاقات التعاون اإلقليمية والمحلية الهادفة‪،‬‬ ‫المملكة العربية السعودية إلى مكانة رائدة في العالم العربي‪.‬‬ ‫َ‬

‫تخطيط النمو‬ ‫تقود خمسة معاهد سعودية‬ ‫تقدم المملكة السريع في مجال العلوم‪ ،‬وأسهمت في ارتقاء‬ ‫ّ‬ ‫السعودية ثمانية مراكز في مؤشر نيتشر؛ لترتفع من المركز ‪ 39‬عام ‪2012‬م إلى المركز ‪ 31‬عام ‪2015‬م‪.‬‬ ‫العدد الكسري المعدَّل عام ‪2015‬م‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫��اد ال��ذي ح��دث ف��ي ال��ع��دد الكسري‬ ‫ع��زّ ز االرت��ف��اع ال��ح ّ‬ ‫الخاص بجامعة الملك عبدالله للعلوم‬ ‫المعدل ‪،WFC‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتقنية من مكانة الجامعة بوصفها المعهد العلمي‬ ‫المتصدر للريادة في المملكة‪.‬‬ ‫المعدل‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫لجامعة الملك عبدالله‬ ‫للعلوم والتقنية‪72.1 :‬‬

‫المعدل لجامعة الملك عبدالعزيز‪14 :‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫العدد الكسري‬ ‫المعدل لجامعة الملك سعود‪5.7 :‬‬ ‫ّ‬ ‫العدد الكسري‬ ‫المعدل لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية‪1.7 :‬‬ ‫ّ‬ ‫المعدل لمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز األبحاث‪1.6:‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫المعدل لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن‪1.2 :‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬

‫صعود المملكة العربية السعودية‬ ‫المعدل للمملكة بمعدل ثابت بواقع ‪ %85‬منذ عام ‪2012‬م‪ ،‬مع‬ ‫ارتفع العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫سكون بسيط عام ‪2014‬م‪ ،‬و ُينسب نحو ‪ %90‬من الناتج العلمي للمملكة عام ‪2015‬م‬ ‫ٍ‬ ‫إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية‪ ،‬وجامعة الملك عبدالعزيز‪.‬‬

‫جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية‪%73 :‬‬ ‫جامعة الملك عبدالعزيز‪%14 :‬‬ ‫جامعة الملك سعود‪%6 :‬‬ ‫مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية‪%2 :‬‬ ‫مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز األبحاث‪%2 :‬‬ ‫جامعة الملك فهد للبترول والمعادن‪%1 :‬‬

‫‪60‬‬

‫أخرى‪%2 :‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫عدد المقاالت (‪)AC‬‬ ‫على ال��رغ��م م��ن أن ال��ع��دد الكسري‬ ‫���دل ل��ج��ام��ع��ة ال��م��ل��ك ع��ب��دال��ل��ه‬ ‫ال���م���ع ّ‬ ‫الخاص‬ ‫للعلوم والتقنية يفوق ذلك‬ ‫ّ‬ ‫بجامعة ال��م��ل��ك ع��ب��دال��ع��زي��ز بخمسة‬ ‫��وق على‬ ‫أض��ع��اف إال أن األخ��ي��رة ت��ت��ف ّ‬ ‫األول����ى ب��ع��دد ال��م��ق��االت المنشورة‬ ‫لها في مؤشر نيتشر‪ ،‬وق��د ساعدت‬ ‫أوجه التعاون الدولية القوية جامعة‬ ‫الملك عبدالعزيز على نشر ‪ 216‬مقا ً‬ ‫ال‬ ‫ع���ام ‪2015‬م‪ ،‬وت��أت��ي ج��ام��ع��ة الملك‬ ‫سعود في المرتبة الثالثة بخُ مس عدد‬ ‫مقاالت جامعة الملك عبدالعزيز‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫الظهران‬

‫جدة‬ ‫عدد مقاالت جامعة الملك عبد العزيز‪216 :‬‬ ‫عدد مقاالت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية‪174 :‬‬ ‫عدد مقاالت جامعة الملك سعود‪43 :‬‬ ‫عدد مقاالت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية‪22:‬‬ ‫عدد مقاالت مستشفى الملك فيصل ومركز األبحاث‪15:‬‬ ‫عدد مقاالت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن‪12:‬‬

‫التعاون‬ ‫ظ ّ‬ ‫���ل أب����رز ال��م��ت��ع��اون��ي��ن م��ع المملكة‬ ‫العربية السعودية تقريب ًا كما هم‬ ‫م��ن دون تغيُّر منذ ع���ام ‪2012‬م؛ إذ‬ ‫كانت الواليات المتحدة األمريكية أكبر‬ ‫شريك بحثي للمملكة‪ ،‬وكانت أوجه‬ ‫التعاون مع الصين ت��زداد بشكل كبير‬ ‫إال أن وتيرتها انخفضت بعض الشيء‬ ‫عام ‪2015‬م‪.‬‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية‬ ‫الصين‬ ‫المملكة المتحدة‬ ‫ألمانيا‬ ‫كندا‬

‫تقسيم الموضوع‬ ‫يتعلّق ُثلُثاأبحاثالمملكةفيالمؤشربعلومالكيمياء‪.‬‬

‫نقطة القوة‬ ‫الكيمياء‪.‬‬

‫المعدل للكيمياء‪67 :‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫المعدل للعلوم الطبيعية‪32 :‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬ ‫المعدل لعلوم الحياة‪9 :‬‬ ‫الكسري‬ ‫العدد‬ ‫ّ‬ ‫المعدل لعلوم األرض والبيئة‪7 :‬‬ ‫العدد الكسري‬ ‫ّ‬

‫تُقاس معدالت حاصل التعاون للناتج المستخلص من‬

‫ق��د تتداخل ال��م��ج��االت؛ ل��ذا ق��د يتجاوز إجمالي العدد‬

‫العالقة الثنائية بين المملكة العربية السعودية وكل‬

‫المعدل ألحد المجاالت إجمالي العدد الكسري‬ ‫الكسري‬ ‫ّ‬

‫دولة شريكة فقط‪.‬‬

‫المعدل للدولة‪.‬‬ ‫ّ‬


‫الدوريات العلمية التي يقوم امل�ؤ�شر بر�صدها‪� ،‬أكرث من‬ ‫�ضعف ما كانت عليه‪ ،‬فو�ضع اململكة يف املرتبة الثامنة �ضمن‬ ‫امل�ؤ�س�سات ذات الزيادة الأكرب يف العدد الك�سري املعدل على‬ ‫م�ستوى العامل‪ .‬ويف عام ‪2015‬م‪ ،‬ارتبط ‪ 21‬معهد ًا �سعودي ًا‬ ‫مب�ؤ ِّلفني ين�شرون �أبحاثهم يف دوريات م�ؤ�شر‪. Nature‬‬

‫حتديد ًا �صعود ًا �سريع ًا على مدار ال�سنني؛ �إذ �أطاح بالعلوم‬ ‫التو�سع‬ ‫الطبيعية‪ ،‬و�أتى يف املقدمة عام ‪2014‬م‪ ،‬وا�ستمر يف ّ‬ ‫عام ‪2015‬م‪ ،‬وعملت اجلهود املبذولة لتوجيه اململكة‬ ‫نحو االقت�صاد املعريف على ا�ستغالل نقاط القوة تلك‬ ‫وا�ستثمارها‪ ،‬جاني ًة ثمار امل�شروعات البحثية يف جماالت‬ ‫علوم املواد املتقدمة‪ ،‬وتقنية النانو‪ ،‬وعلم الفوتونات‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫مجاالت اكتشافية جديدة‬

‫‪62‬‬

‫ال عجب �أن تهيمن ال�صناعات البرتولية على اقت�صاد‬ ‫اململكة؛ لأنها �أكرب م�ص ّدر للنفط يف العامل؛ �إذ ُين�سب‬ ‫�إىل قطاع النفط نحو ن�صف الناجت املحلي الإجمايل‬ ‫فيها‪ ،‬البالغ ‪ 750‬مليار دوالر �أمريكي‪ ،‬والأغلبية‬ ‫العظمى من �صادرات الدولة‪ .‬ومن �ش�أن ذلك حتم ًا‬ ‫يوجه �أولوياتها البحثية؛ فقد �أتت �أغلبية الأعداد‬ ‫�أن ّ‬ ‫الك�سرية املعدلة اخلا�صة باململكة من العلوم الكيميائية‬ ‫والطبيعية‪ ،‬التي مت ّثل جمتمع ًة نحو ‪ %90‬من ناجت الدولة‬ ‫يف م�ؤ�شر ‪ Nature‬عام ‪2015‬م‪ .‬و�شهد جمال الكيمياء‬

‫دور محوري‬ ‫ُت َع ّد مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم‬ ‫والتقنية بمنزلة مختبرات المملكة‬ ‫الوطنية ووكالتها العلمية‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫من أن مخرجاتها المباشرة مسؤولة‬ ‫فقط عن جزء ضئيل من عدد المقاالت‬ ‫‪ AC‬الخاص بالمملكة العربية السعودية‬ ‫إال أنها تؤدي دور ًا محوري ًا في تنسيق‬ ‫البحوث وتيسيرها في كل أرجاء المملكة‪.‬‬ ‫وتتولى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم‬

‫‪ .Caltech‬ويعتقد حممد الداودي ‪-‬رئي�س برنامج‬ ‫العلوم الكيميائية يف اجلامعة‪ ،‬والوكيل امل�ساعد ملركز‬ ‫�أبحاث الأغ�شية واملواد امل�سامية‪� -‬أن اجلامعة تقدّم مثا ًال‬ ‫تقتدي به الدول الأخرى يف املنطقة‪ ،‬وهو ما يع ّد دلي ًال‬ ‫على �أن الأبحاث اجليدة يمُ كن �إجرا�ؤها بفعالية وكفاءة‬ ‫يف � ّأي مكان يف العامل �إذا �أعطيت العقول امل�ستنرية‬ ‫الأدوات العاملية ال�ضرورية للمناف�سة‪.‬‬ ‫ويعك�س م�ؤ�شر ‪ Nature‬ثمار تلك التطورات؛ فعلى مدار‬ ‫تو�سع ح�ضور اململكة يف امل�ؤ�شر‬ ‫ال�سنوات الأربع املا�ضية ّ‬ ‫ب�شكل �سريع‪ ،‬وجتاوز العدد الك�سري املعدل ‪WFC‬‬ ‫اخلا�ص بها‪ ،‬الذي يقي�س �إ�سهامات �أوراق امل�ؤ ِّلفني يف‬ ‫ّ‬

‫والتقنية مسؤولية إدارة السياسة‬ ‫العلمية في المملكة‪ ،‬وتمويل البحث‬ ‫العلمي‪ ،‬وإنشاء وصيانة ال ِب ْن َية التحتية‬ ‫لدعم البحث العلمي‪.‬‬


‫وعلى الرغم من تركيز الدولة الوا�ضح يف جمال‬ ‫الكيمياء �إال �أنها تعمل �أي�ض ًا على زيادة �إنتاجها يف جمال‬ ‫علوم احلياة‪ ،‬وعلوم الأر�ض والبيئة؛ فمنذ عام ‪2012‬م‬ ‫ت�ضاعفت الإ�سهامات يف الأوراق البحثية املخت�صة بعلوم‬

‫احلياة يف امل�ؤ�شر‪ ،‬وكان جزء كبري من هذه الزيادة‬ ‫نتيجة الأبحاث التي تجُ رى يف جامعة امللك عبداهلل‬ ‫التخ�ص�صي‬ ‫للعلوم والتقنية‪ ،‬وم�ست�شفى امللك في�صل‬ ‫ّ‬ ‫ومركز الأبحاث؛ فقد عكف م�ست�شفى امللك في�صل‬ ‫ين�صب تركيزه ب�شكل‬ ‫التخ�ص�صي ومركز الأبحاث‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫�شبه ح�صري يف �أبحاث علوم احلياة‪ ،‬على زيادة �أعداد‬ ‫الأوراق البحثية التي ي�شارك فيها � ّأي من امل�ؤلفني امللحقني‬ ‫بامل�ست�شفى‪ ،‬وكذلك زيادة الإ�سهامات التي يقدمونها‪.‬‬ ‫ويف عام ‪2012‬م‪� ،‬أ�سهم الباحثون يف امل�ست�شفى ب�أربع‬ ‫�أوراق بحثية فقط‪ ،‬دُرجت �ضمن عدد مقاالت اململكة‬ ‫العربية ال�سعودية‪ ،‬وقفز هذا العدد �إىل ‪ 15‬ورقة بحثية‬ ‫عام ‪2015‬م‪ ،‬كما �شهد �إ�سهام امل�ست�شفى يف قيا�س العدد‬ ‫الك�سري املعدل زياد ًة كذلك على مدار ال�سنني‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫خالل املدة (‪2013 -2012‬م)‪ .‬و�أو�ضح �سلطان ال�سديري‬ ‫املدير التنفيذي ملركز الأبحاث مب�ست�شفى امللك‬‫في�صل التخ�ص�صي‪� -‬أ�سباب هذا التح ّول قائ ًال‪« :‬يرجع‬ ‫من�صة �أبحاث قوية ّمت ت�أ�سي�سها مبجموعة‬ ‫الأمر �إىل ّ‬ ‫من الباحثني النابغني‪ ،‬وقدرات فنية ممتازة‪ ،‬و�إ�شراف‬ ‫منا�سب؛ ل�ضمان �أداء العمل ب�أف�ضل معايري‪ ،‬وكان الدافع‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية �أحد �أهم ال�صروح العلمية‬

‫‪63‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪64‬‬

‫الأ�سا�سي هو توافر التمويل من خالل اخلطة الوطنية‬ ‫للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة)‪ ،‬التي و�ضعتها مدينة‬ ‫امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية»‪.‬‬ ‫و ُيدير ال�سديري �أي�ض ًا م�شروع اجلينوم الب�شري‬ ‫�شجع على وجود �أوجه تعاون حملية‪،‬‬ ‫ال�سعودي‪ ،‬الذي ّ‬ ‫وم ّكن الباحثني املحليني من ن�شر �أوراق بحثية ذات ت�أثري‬ ‫املتخ�ص�ص‬‫�أعلى‪ .‬وان�ضم عامل الوراثة فوزان الكريع‬ ‫ّ‬ ‫يف اكت�شافات جينات الأمرا�ض‪� -‬إىل م�ست�شفى امللك‬ ‫في�صل التخ�ص�صي ومركز الأبحاث عام ‪2007‬م بعد‬ ‫�أن تد ّرب يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬و� ّأ�س�س منذ‬ ‫مو�سع ًة من املتعاونني يف �شتى �أرجاء‬ ‫ذلك احلني �شبك ًة ّ‬ ‫ال�شرق الأو�سط‪ ،‬الذين ي�صلونه باملر�ضى ذوي الأهمية‬ ‫يتم �إجرا�ؤها‪ ،‬ويقول الكريع‪�« :‬أتيح لنا‬ ‫للبحوث التي ّ‬ ‫احل�صول على تتابع الإك�سوم الكامل عام ‪2011‬م‪ ،‬ومن‬ ‫هنا �أ�صبحت لدى معملي القدرة على اكت�شاف مزيدٍ‬ ‫من اجلينات‪ ،‬و�صار ب�إمكاننا تع ّرف جني �أو جينني يف‬ ‫الأ�سبوع بعد �أن كان يحدث ذلك يف عام كامل»‪ .‬ومن‬

‫خالل م�شروع اجلينوم الب�شري ال�سعودي ميتلك فريقه‬ ‫احلقّ يف الو�صول �إىل اجليل التايل من ت�سل�سل اجلينوم‬ ‫ب�شكل جماين وغري حمدود تقريب ًا‪.‬‬ ‫و�شهدت كذلك جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية منو ًا‬ ‫كبري ًا يف �إنتاجها يف جمال علوم احلياة؛ �إذ زاد عددها‬ ‫الك�سري املعدّل نحو ثالثة �أ�ضعاف يف املدة (‪-2012‬‬ ‫‪2015‬م)‪ ،‬يقول بيري ماجي�سرتيتي؛ عميد ق�سم العلوم‬

‫يؤكّ د ماجيستريتي أن قسمه يركّ ز حالي ًا‬ ‫في عدة نطاقات محورية؛ بغية تعظيم‬ ‫أثر األبحاث التي يقوم بها من يعملون‬ ‫فيه‪ ،‬وهناك ‪ 11‬مركز ًا بحثي ًا في الجامعة‬ ‫ينصب تركيزها في األبحاث التطبيقية‬ ‫ّ‬


‫عامل الوراثة فوزان الكريع‬

‫رعاية المواهب المحلية‬

‫اخلا�ص بجامعة‬ ‫لي�س هناك مناف�س للإنتاج البحثي‬ ‫ّ‬ ‫امللك عبداهلل للعلوم والتنقية يف اململكة �سوى ذلك‬ ‫اخلا�ص بجامعة امللك عبدالعزيز‪ ،‬واجلامعتان ّ‬ ‫تخططان‬ ‫ّ‬ ‫لأمناط تعاون خمتلفة �إىل حدٍّ بعيد؛ فمنذ عام ‪2013‬م‬ ‫ن�شر باحثون منتمون �إىل جامعة امللك عبدالعزيز‬ ‫مقاالت �أكرث‪ ،‬مقارن ًة مبا �صدر عن باحثي جامعة امللك‬ ‫عبداهلل للعلوم والتقنية‪ ،‬لكن �إ�سهام اجلامعة يف تلك‬ ‫الأبحاث ظ ّل �أق ّل ن�سبي ًا‪ ،‬وقد ي�شري ذلك �إىل �أن كثري ًا من‬ ‫من�شوراتها قد نتج من �أوجه تعاون مل ت�ؤ ِّد فيها اجلامعة‬ ‫�سوى دور �صغري فح�سب‪ .‬وعلى الرغم من �أن جامعة‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫احليوية والبيئية يف اجلامعة‪« :‬هذه هي طبيعة البحث‬ ‫العلمي؛ �إذ ي�ستغرق احل�صول على نتائج مثمرة يف‬ ‫جمال الأحياء �سنوات كثرية‪ .‬ولأن جامعة امللك عبداهلل‬ ‫للعلوم والتقنية ت� ّأ�س�ست عام ‪2009‬م فالآن هو الوقت‬

‫الأن�سب الذي ميكن �أن تتو ّقع فيه بدء ظهور عدد كبري‬ ‫من املن�شورات يف دوريات بارزة»‪ ،‬وي�ؤ ّكد ماجي�سرتيتي �أن‬ ‫ق�سمه ير ّكز حالي ًا يف عدة نطاقات حمورية؛ بغية تعظيم‬ ‫�أثر الأبحاث التي يقوم بها من يعملون فيه‪ ،‬وهناك ‪11‬‬ ‫ين�صب تركيزها يف الأبحاث‬ ‫مركز ًا بحثي ًا يف اجلامعة‬ ‫ّ‬ ‫التطبيقية يف جماالت ذات �أهمية قومية؛ كتحلية مياه‬ ‫البحر‪ ،‬وزراعة املناطق ال�صحراوية‪ ،‬والطاقة ال�شم�سية‪،‬‬ ‫وللباحثني يف الأق�سام الأكادميية املختلفة يف اجلامعة‬ ‫احلرية املطلقة للخو�ض يف �أبحاث العلوم الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫وت�شجع جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية �أوجه‬ ‫ّ‬ ‫التعاون املثمرة‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل تنمية املواهب حمليا؛ً‬ ‫�إذ يقول ماجي�سرتيتي‪« :‬من املهم �أن يكون الباحثون‬ ‫الرئي�سون ن�شطني ومقيمني بالكامل هنا‪ ،‬لكن ميكنهم‬ ‫حت�سني �إمكاناتهم بالتعاون مع �آخرين من اخلارج»‪.‬‬ ‫وي�ستطيع �أولئك الباحثون الذين ح�صلوا على منح من‬ ‫اخلا�ص باجلامعة‬ ‫خالل برنامج املنح البحثية التناف�سية‬ ‫ّ‬ ‫م�شاركة ن�سبة من �أموال التمويل مع املتعاونني �إذا‬ ‫�شاركوا يف الطلب املقدّم للح�صول على املنحة‪ ،‬وهو ما‬ ‫مينح حافز ًا لبناء �شبكات دولية‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫امللك عبداهلل للعلوم والتقنية قد �أ�سهمت يف عدد �أق ّل من‬ ‫اخلا�ص‬ ‫املقاالت �إال �أن العدد الك�سري املعدّل الإجمايل‬ ‫ّ‬ ‫اخلا�ص بجامعة‬ ‫بها عام ‪2015‬م‪ ،‬البالغ ‪ ،72‬يفوق ذلك‬ ‫ّ‬ ‫امللك عبدالعزيز‪ ،‬ومي ّثل هذا الرقم ‪ %73‬من العدد‬ ‫الك�سري املعدّل امل�ؤ�س�سي الإجمايل للدولة‪.‬‬ ‫وال ّ‬ ‫ت�سخر امل�ؤ�س�سات ال�ضخمة يف اململكة العربية‬ ‫ال�سعودية؛ مثل‪ :‬جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية‪،‬‬ ‫وم�ست�شفى امللك في�صل التخ�ص�صي ومركز الأبحاث‪،‬‬ ‫ج ّل جهدها للعمل التعاوين لالرتقاء با�سم اململكة يف‬ ‫املجال العلمي فح�سب‪ ،‬و�إمنا للم�ساعدة �أي�ض ًا على بناء‬ ‫املواهب والقدرات املحلية التي ال غنى عنها لتحقيق غاية‬ ‫اململكة ب�إقامة اقت�صاد معريف‪ ،‬يقول حممد الداودي‪:‬‬

‫‪66‬‬

‫«كانت م�س�ألة وقت فح�سب‪ ،‬و�سرعان ما ر�أينا طالب ًا‬ ‫حمليني ي�صبحون م�ؤلفني �أوائل يف دوريات رائدة؛ فقد‬ ‫و�ضع ا�سم طالبة �سعودية بو�صفها امل�ؤلف الأول لورقة‬ ‫بحثية مهمة ن�شرتها جمموعتي م�ؤخر ًا‪ ،‬وكان ‪ %95‬من‬ ‫العمل قد �أُجنز يف جامعة امللك عبداهلل للعلوم والتقنية‪،‬‬ ‫ومت ّثل الن�شاط الوحيد الذي ّمت خارجها يف ا�ستخدام‬ ‫من�ش�أة �سنكروترون يف �أوروبا فح�سب»‪ .‬وي�صف البحث‬ ‫الذي ُن�شر عام ‪2015‬م يف دورية (جورنال �أوف ذا‬ ‫�أمرييكان كيميكال �سو�سايت ي ‪Journal of the Ame r‬‬ ‫‪ )ican Chemical Society‬هيك ًال م�ص ّنع ًا من املعادن‬ ‫ومواد ع�ضوية ميكن ا�ستخدامه لتخزين امليثان يف درجة‬ ‫حرارة الغرفة‪ ،‬ودرجات منخف�ضة من ال�ضغط‪ ،‬وهي‬


‫تحول يحمل التحديات‬ ‫ّ‬

‫على الرغم من هذه الإجنازات ال تزال م�س�ألة التح ّول‬ ‫�إىل االقت�صاد املعريف م�س�أل ًة بعيدة املنال‪ ،‬بينما ت�ستمر‬ ‫ال�صناعات املتعلقة بالنفط والبرتول يف �أداء الدور‬ ‫املحوري يف اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬ومل ينعك�س بعد‬ ‫�أمر �إعالء �أولوية البحث العلمي على ميزانية البحث‬ ‫والتطوير بالدولة‪ ،‬التي بلغت ‪ %0.3‬فقط من الناجت‬ ‫املحلي الإجمايل عام ‪2015‬م ح�سب تقرير �أ�صدره‬ ‫معهد باتيل التذكاري‪ ،‬مع �أن اخلطة الوطنية للعلوم‬ ‫والتقنية واالبتكار (معرفة) تدعو �إىل زيادة هذه الن�سبة‬ ‫�إىل ‪ %1.6‬بحلول عام ‪2020‬م‪ .‬ويرى حممد خور�شيد‬ ‫الأمني العام للجنة التوجيهية للنظام الإيكولوجي‬‫ال�سعودي لالبتكار‪� -‬أن �إنفاق ال�شركات اخلا�صة على‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫خطوة مهمة نحو اال�ستخدام الفعال للغاز بو�صفه وقود ًا‬ ‫بدي ًال نظيف ًا‪.‬‬ ‫قد تكون املعرفة واملهارات املكت�سبة من التدريب العلمي‬ ‫مفيدة‪ ،‬خ�صو�ص ًا لل�سعوديات الالئي يتع ّر�ضن لقيود‬ ‫ثقافية كبرية يف اململكة‪ ،‬يقول بيري ماجي�سرتيتي‪�« :‬أكرث‬ ‫من ‪ %60‬من طلبة الأحياء يف جامعة امللك عبداهلل‬ ‫للعلوم والتقنية �إناث‪ ،‬وكثري منهن �سعوديات‪� .‬أعتقد‬ ‫�أن هذه م�س�ألة �إيجابية جد ًا»‪ .‬وارتفع �إجمايل عدد‬ ‫الطالب ال�سعوديني الذين يدر�سون يف اخلارج عام‬ ‫‪2013‬م �إىل ‪� 200‬ألف طالب ح�سب ت�صريحات من�صور‬ ‫الغامدي؛ م�س�ؤول التوعية العلمية والن�شر يف مدينة‬ ‫امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية‪ .‬وت�ستفيد اململكة �أي�ض ًا‬ ‫من النقل املهم للمعرفة عن طريق الطالب العائدين‬ ‫�إىل �أر�ض الوطن‪ ،‬كما ي�شري الغامدي �إىل �أن كثريين‬ ‫يعودون �إىل ال�سعودية باحثني يوا�صلون ن�شر �أبحاثهم‬ ‫حتت �إ�شراف م�شرفيهم ال�سابقني‪ ،‬بينما يط ّورون يف‬ ‫الوقت نف�سه خرباتهم �إقليمي ًا‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪68‬‬

‫البحث والتطوير حمدود جد ًا ح�سب املعايري الدولية‬ ‫مع �أنه ال يخ�ضع للرقابة‪ .‬وي�س ّلط خور�شيد ال�ضوء �أي�ض ًا‬ ‫على املوارد االجتماعية بو�صفها حتدي ًا يواجه اململكة‪،‬‬ ‫كما ين ّبه �إىل نق�ص اهتمام العامة بالعلم‪ ،‬وغياب‬ ‫االهتمام املجتمعي بالتعليم‪ ،‬بينما ال ب ّد لالقت�صاد‬ ‫املعريف من �أن ينمو ويتطور يف كنف جمتمع معريف‪.‬‬ ‫يعمل ‪� 23‬شخ�ص ًا فقط من �أ�صل ‪� 100‬ألف �شخ�ص يف‬ ‫جمال الأبحاث والتطوير‪ ،‬ويعمل �شخ�ص واحد فقط‬ ‫من بني �ألف �شخ�ص تراوح �أعمارهم بني ‪ 20‬و‪ 34‬عام ًا‬ ‫تخ ّرجوا يف �أق�سام العلوم والهند�سة؛ �أي‪� :‬أق ّل من ُع�شر‬ ‫ن�سبة نظرائهم يف جمتمع متو�سط امل�ستوى يف � ّأي دولة‬ ‫من دول االحتاد الأوروبي‪ .‬ومت ّثل هجرة الكفاءات‬ ‫م�شكلة ج�سيمة؛ �إذ تنزح �أكف�أ العقول �إىل اخلارج؛‬ ‫فيهاجر ‪ %25‬من خريجي �أق�سام العلوم والتكنولوجيا‬ ‫والهند�سة والريا�ضيات ‪� STEM‬إىل اخلارج كل‬ ‫عام‪ .‬ومع ذلك ما زال امل�س�ؤولون متفائلني‪ ،‬وال يعتقد‬ ‫الغامدي �أن نق�ص املوارد الب�شرية �سي�ش ّكل م�شكلة‬

‫«للتو�سع غري امل�سبوق لل�سعودية يف جمال‬ ‫ج�سيمة‬ ‫ّ‬ ‫التعليم العايل يف ال�سنوات القليلة الأخرية»‪ ،‬م�ست�شهد ًا‬ ‫بتو ّقعات منظمة التعاون االقت�صادي والتنمية‬ ‫‪� OECD‬أن اململكة العربية ال�سعودية �ست�شهد بحلول‬ ‫عام ‪2030‬م زياد ًة بواقع �ستة �أ�ضعاف يف ال�شهادات‬ ‫الدرا�سية التي ما بعد املرحلة الثانوية‪.‬‬ ‫اخلا�ص بجامعة امللك عبداهلل‬ ‫ويقوم الربنامج املم ّيز‬ ‫ّ‬

‫شهدت المرحلة األولى من الخطة‬ ‫الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار‬ ‫(معرفة) تأسيس الباحثين السعوديين‬ ‫البنية التحتية المحلية إلى جانب‬ ‫المشاركة في مبادرات تعاونية على‬ ‫مستوى العالم‬


‫االتجاه نحو اقتصاد معرفي‬

‫قوي‪ ،‬وعودة علماء �شباب كفوزان الكريع‬ ‫بدعم مايل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �أر�ض الوطن‪ ،‬رمبا ال يكون هناك �شك يف �أن‬ ‫اجلامعات ال�سعودية �ستوا�صل حت�سني �إنتاجها البحثي‬ ‫بالتزامن مع ن�ضج املعامل؛ فقد �شهدت املرحلة الأوىل‬ ‫من اخلطة الوطنية للعلوم والتقنية واالبتكار (معرفة)‬ ‫ت�أ�سي�س الباحثني ال�سعوديني البنية التحتية املحلية‬ ‫�إىل جانب امل�شاركة يف مبادرات تعاونية على م�ستوى‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫للعلوم والتقنية بتمييز الطالب الواعدين يف العام‬ ‫قبل الأخري من مرحلة التعليم الثانوي‪ ،‬ودعوتهم‬ ‫�إىل ق�ضاء ف�صل ال�صيف يف اجلامعة‪ ،‬ثم ال�سفر‬ ‫�إىل الواليات املتحدة الأمريكية مبنحة من اجلامعة‬ ‫بعد التخ ّرج‪ ،‬ويق�ضي الطالب �سنة ت�أ�سي�سية يف‬ ‫تع ّرف النظام الأمريكي قبل التق ّدم بطلب االلتحاق‬ ‫ب�أبرز اجلامعات‪ ،‬ويعود ه�ؤالء الطالب بعد ا�ستكمال‬ ‫درا�ساتهم اجلامعية �إىل جامعة امللك عبداهلل للعلوم‬ ‫والتقنية للبدء بالدرا�سات العليا‪ ،‬يقول ماجي�سرتيتي‪:‬‬ ‫«�إنه برنامج ق ّيم‪ ،‬وي�ستطيع �أن يخ ّرج طالب ًا م�ؤهّ لني‬ ‫ب�شكل جيد»‪.‬‬

‫العامل‪ ،‬يقول خور�شيد‪« :‬هناك مبادرات تعاون مل‬ ‫تنجح ب�شكل كبري‪ ،‬لكن هناك درو�س م�ستفادة منها؛‬ ‫ف�إىل جانب نقل التقنية �إىل اململكة هناك جهود‬ ‫حثيثة �أي�ض ًا تُبذل لنقل التقنيات من اجلامعات �إىل‬ ‫القطاع ال�صناعي‪ ،‬ولو �أن ذلك يع ّد حتدي ًا كبري ًا»‪.‬‬ ‫وي�ساعد خور�شيد على العمل من �أجل مواجهة هذا‬ ‫التحدي عن طريق بناء �إطار عمل لدعم االبتكار يف‬ ‫اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬وقد الحظ �أنه على الرغم‬ ‫من توافر امل�ستثمرين ال�سعوديني �إال �أنهم مييلون �إىل‬ ‫جت ّنب املخاطر‪ ،‬وال يح ّبذون متويل ال�شركات النا�شئة‬ ‫التي تت�ص ّدر التكنولوجيا عمله‪ .‬وللتغلب على ذلك‬ ‫� ّأ�س�ست مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية برنامج‬ ‫(بادر) حلا�ضنات التقنية‪ ،‬الذي يهدف �إىل ت�شجيع‬ ‫ال�شركات النا�شئة املبتكرة‪ .‬وقد �أ ّمتت �شركات كثرية‬ ‫الربنامج بالفعل‪ ،‬منها ال�شركة التي قامت بتطوير‬ ‫�ضمادة جراحية لقرح القدم ال�سكري من �أحد منتجات‬ ‫النفايات ال�صناعية امل�ستخل�ص من ق�شور القريد�س‪.‬‬ ‫وتدعو املرحلة الثانية من اخلطة الوطنية للعلوم‬ ‫والتقنية واالبتكار (معرفة)‪ ،‬التي بد�أت عام ‪2015‬م‪،‬‬ ‫ومتتد �إىل عام ‪2019‬م‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫�إىل العمل على ا�ستكمال عمليات التطوير التي ّمتت‬ ‫يف البنية التحتية والقدرات القومية؛ لتجعل من‬ ‫اململكة دول ًة رائد ًة �إقليمي ًا يف جماالت العلوم والتقنية‬ ‫واالبتكار‪ ،‬و�سيتط ّلب ذلك تركيز ًا م�ستمر ًا يف البحث‪،‬‬ ‫واحل�صول على براءات اخرتاع‪� ،‬إىل جانب برنامج‬ ‫قوي لنقل التقنية �إىل القطاع اخلا�ص‪ ،‬وجهد مك ّثف‬ ‫ّ‬ ‫لتطوير املوارد الب�شرية يف اململكة‪ ،‬يقول الغامدي‪« :‬ما‬ ‫ح ّققته اململكة العربية ال�سعودية يف ال�سنوات القليلة‬ ‫املا�ضية فاق توقعاتنا‪ ،‬ويكمن التحدي الآن يف حتقيق‬ ‫الأهداف اجلديدة للمراحل املقبلة»‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫تقنية‬

‫أثار تسارع نمو قدرات تقانة المعلومات‬ ‫وتطورها المذهل المستمر مع‬ ‫واالتصاالت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مرور السنوات بسرعة إلكترونية؛ مثل‪ :‬التلفاز‬ ‫الذي يراقب المشاهدين‪ ،‬والطباعة الثالثية‬ ‫األبعاد‪ ،‬والسيارة الذاتية القيادة‪ ،‬والواقع‬ ‫المعزّز‪ ،‬والحوسبة الجزيئية‪ ،‬والروبوتات التي‬ ‫تشعر‪ ،‬واألجهزة الذكية‪ ،‬والحاسوب العمالق‬ ‫(آي بي إم واطسون ‪ ،)1()IBM Watson‬انتباه‬ ‫المراقبين‪ ،‬ولُوحظ أن هذا التسارع يتبع دالة‬ ‫سية‪ ،‬وهو ما دعا بعض الباحثين إلى‬ ‫نمو ُأ ّ‬ ‫االعتقاد بالوصول قريب ًا إلى نقطة يلتقي‬ ‫فيها ذكاء الحوسبة مع ذكاء اإلنسان‪ ،‬وربما‬ ‫يتجاوزه ويصبح التقدم سريع ًا ومعقد ًا لدرجة‬ ‫ال يمكن معها فهمه‪ ،‬وهو ما أطلقوا عليه‬ ‫نقطة (التالقي التقاني)‪ .‬ويمكن أن ترتبط‬ ‫هذه الحركة بمقالة (ما بعد اإلنسانية) لجوليان‬ ‫توقعت وجود إنسان معزّز‬ ‫هكسلي(‪ ،)2‬التي ّ‬ ‫ُحسن من‬ ‫في المستقبل بتقانات متقدمة ت ّ‬ ‫حواسه‪ ،‬وترفع من قدراته الحركية واإلدراكية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عال من الصحة‪ ،‬وعمر‬ ‫وتمتّعه بمستوى ٍ‬ ‫أبدي‪ ،‬وإن كان سبق ذلك مقالة (داروين بين‬ ‫ّ‬ ‫اآلالت) لصموئيل بتلر(‪ ،)3‬التي ربطت التقدم‬ ‫التقاني المتسارع للثورة الصناعية بنظرية‬

‫‪70‬‬

‫نشوء األنواع‬ ‫وتطورها لتشارلز داروين(‪.)4‬‬ ‫ّ‬


‫هل‬

‫ت ّتجه التقانة‬ ‫إلى نقطة التالقي؟‬ ‫‪71‬‬ ‫د‪ .‬أبو بكر سلطان أحمد‬ ‫مستشار تقانة معلومات واتصاالت‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫نقطة التالقي التقاين حيث يلتقي ذكاء احلو�سبة مع ذكاء الإن�سان‬

‫‪72‬‬

‫و�أدّى هذا الربط �إىل االعتقاد ب�أن التطور التقاين للآالت‬ ‫�سي�ستمر حتم ًا �إىل نقطة �سوف حت ّل فيها الآالت حم ّل‬ ‫الإن�سان؛ مبعنى �أن اخلطوة الالحقة يف نظرية (داروين)‬ ‫للتطور �سوف تنطبق على الآالت الذكية (ذات الذكاء‬ ‫اال�صطناعي) �أي�ض ًا‪ .‬وي�ؤكد فرينر فينج(‪ ،)5‬الذي ابتدع‬ ‫م�صطلح (التالقي التقاين)‪� ،‬أن الإن�سان �سوف ي�صنع‬ ‫قريب ًا ذكا ًء �أعلى من ذكائه‪ ،‬وحينئذٍ ف�إن تاريخ الإن�سان‬ ‫يكون قد و�صل �إىل نقطة حت ّول فكري ال ميكن اخرتاقها‬ ‫كالثقب الأ�سود(‪ ،)6‬و�سوف يتقدّم العامل حينئذٍ �إىل ما هو‬ ‫�أبعد من �إدراكنا احلايل‪ .‬ويتو ّقع كثري من امل�ؤ ّيدين لهذا‬ ‫االعتقاد �أنه �ستكون لدينا يف العقود القليلة املقبلة �أجهزة‬ ‫حا�سب قادرة على حتميل (وعي)(‪ )7‬الإن�سان فيها‪،‬‬ ‫وحتميل عقله و�أفكاره وذكرياته و�شخ�صيته‪ ،‬ومبجرد‬ ‫حتويل وعي الإن�سان �إىل �أمناط من الإلكرتونات ف�ستكون‬ ‫هناك �أجهزة �أخرى قادرة على ن�سخه‪ ،‬وحتريره‪ ،‬وبيعه‪،‬‬ ‫�أو �سرقته‪ ،‬وبطبيعة احلال ميكن حذفه‪ .‬وزعمت مقالة‬ ‫يف �صحيفة (ديلي ميل)‪ُ ،‬ن�شرت يف مار�س عام ‪2016‬م‪،‬‬ ‫�أن الذكاء اال�صطناعي ميكن �أن ي�ؤدي �إىل وقوع الإن�سان‬ ‫يف احلب مع الروبوتات‪ ،‬ثم الزواج يف نهاية املطاف‪.‬‬

‫وتو ّقعت مقالة �أخرى ُن�شرت يف فرباير عام ‪2016‬م �أن‬ ‫الن�ساء �سيخرتن الروبوتات بد ًال من الرجال بحلول عام‬ ‫‪2025‬م‪ ،‬وبحلول عام ‪2050‬م �سوف يف�ضل �أكرث من‬ ‫�شخ�ص �صحبة الروبوت من دون الإن�سان‪.‬‬ ‫ُحجج المؤيدين‬

‫كان وراء حجج امل�ؤيدين لفكرة (التالقي التقاين)‬ ‫ت�سارع �إبداع الإن�سان مع مرور الزمن‪ ،‬وتنامي االبتكارات‬ ‫الإن�سانية متم ّث ًال يف ازدياد براءات االخرتاع‪ ،‬والعالمات‬ ‫التجارية‪ ،‬والت�صميمات ال�صناعية‪ ،‬طبق ًا لدالة منو �أُ ّ�سية‪.‬‬

‫توقعت‬ ‫مقالة «ما بعد اإلنسانية» ّ‬ ‫إنسان ًا معزّز ًا في المستقبل بتقانات‬ ‫ُحسن من حواسه‪ ،‬وترفع‬ ‫متقدمة ت ّ‬ ‫من قدراته الحركية واإلدراكية‪ ،‬وتمتّعه‬ ‫عال من الصحة وعمر أبدي‬ ‫بمستوى ٍ‬


‫ومن مظاهر الت�سارع �أن ا�ستغرقت �أول �صورة من‬ ‫االت�صاالت (لغة التخاطب) مئات �آالف ال�سنني لتتط ّور‪،‬‬ ‫وا�ستغرق اخرتاع الكتابة اليدوية لت�سجيل املعلومات على‬ ‫الأحجار �أق ّل من نحو ع�شرات الآالف من ال�سنني‪ ،‬ثم‬ ‫جاء اخرتاع �آلة الطباعة لي�ستغرق نحو ‪� 400‬سنة‪ ،‬ثم‬ ‫جاء اخرتاع الهاتف ال�سلكي بعد نحو ‪� 50‬سنة‪ ،‬وا�ستغرق‬ ‫اخرتاع الهاتف املتن ّقل نحو �سبع �سنوات لينت�شر بني ربع‬ ‫�سكان العامل‪ ،‬وانت�شرت اخرتاعات احلا�سب ال�شخ�صي‬ ‫والإنرتنت وحم ّركات البحث والويكي يف �أق ّل من ثالث‬ ‫�سنوات‪ ،‬ثم تالحقت التطورات حديث ًا؛ مثل‪� :‬إنرتنت‬ ‫الأ�شياء‪ ،‬وحتليالت البيانات الكبرية‪ ،‬والروبوتات‪،‬‬ ‫والذكاء اال�صطناعي‪ ،‬وبحوث الدماغ وال�شبكات الع�صبية‬ ‫يف �سنوات متقاربة‪ ،‬وهو ما ي�ؤ ّيد االعتقاد ب�أن الإن�سانية‬ ‫تعي�ش العد التنازيل نحو نقطة التالقي التقاين‪.‬‬ ‫واعتمد امل�ؤ ّيدون على الأداء امل�شرق لثورة تقانة املعلومات‬ ‫واالت�صاالت نتيجة م�ضاعفة كثافة عنا�صر الدوائر‬

‫املتكاملة ك ّل ‪� 18‬شهر ًا‪� ،‬أو مبعدل منو ‪� %46‬سنوي ًا طبق ًا‬ ‫لدالة منو أُ� ّ�سية‪ ،‬وهو ما ا�شتهر فيما بعد بـ(قانون مور(‪،)8‬‬ ‫الذي ظ ّل �صامد ًا ‪ 50‬عام ًا منذ �إطالقه‪.‬‬ ‫وكلما �صغرت عنا�صر املكونات‪ ،‬وك ُثفت و�س ُرعت ُ‬ ‫ورخ�صت‪،‬‬ ‫�صاحب ذلك ازدياد قدرات تقانة املعلومات واالت�صاالت‪،‬‬ ‫وخف�ض تكاليفها‪ ،‬و�صغر حجمها‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أجهزة‬ ‫احلا�سبات‪ ،‬وترتّب على ذلك ت�ضاعف قدرات احلو�سبة ك ّل‬ ‫�سنة �أو �أق ّل‪ ،‬وا�ستغرق الأمر ‪ 90‬عام ًا لتحقيق �أول مليون‬ ‫من تعليمات احلو�سبة يف الثانية لكل ‪ ،$1000‬بينما الآن‬ ‫ُي�ضاف ‪ 1.2‬مليون من التعليمات يف الثانية لكل ‪$1000‬‬ ‫يف ال�ساعة‪ .‬وت�ستطيع قدرات احلو�سبة الآن القيام بعمليات‬ ‫تناظر ما يقوم به دماغ ح�شرة‪ ،‬ومع الت�سارع امللحوظ‬ ‫تاريخي ًا �ست�صل قدرات احلا�سبات العمالقة �إىل م�ستوى‬ ‫قدرات دماغ ف�أر‪ ،‬ثم ترتفع �إىل م�ستوى قدرات دماغ �إن�سان‬ ‫بني عامي ‪ 2020‬و‪2050‬م‪ ،‬ثم ترتفع �أكرث �إىل م�ستوى‬ ‫قدرات �أدمغة جميع �سكان العامل عام ‪2100‬م‪ .‬وتع ّد‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تنامي االبتكارات الإن�سانية‬

‫‪73‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪74‬‬

‫ذكي الآن �أعلى من قدرة حا�سب �شخ�صي‬ ‫قدرة هاتف ّ‬ ‫منذ �أربعني عام ًا بعدة باليني‪ ،‬وبال�سعر نف�سه‪ ،‬وهو �أ�صغر‬ ‫�أي�ض ًا �آالف املرات‪ ،‬ويف امل�ستقبل �سوف يقرب حجم‬ ‫الهاتف الذكي من حجم خلية مزروعة يف ج�سم الإن�سان‬ ‫وبالقدرات نف�سها �إن مل تكن �أعلى‪ .‬ومع تطور قدرات‬ ‫احلو�سبة والذكاء اال�صطناعي تط ّورت �إمكانات الروبوتات‬ ‫من جمرد �آلة �إلكرتونية �إىل �آلة �ستف ّكر عام ‪2050‬م‪.‬‬ ‫وارتكن بع�ض امل�ؤيدين على ازدياد معرفتنا بقدرات‬ ‫احلو�سبة و�أبحاث دماغ الإن�سان‪ ،‬و�أن الوعي يحدث تلقائي ًا‬ ‫طبق ًا ملبادئ فيزيائية فيه؛ لذلك فمن املمكن �إعادة‬ ‫�إنتاجها بوا�سطة حوا�سيب عمالقة وقوية‪ ،‬و�سوف ي�ؤدي‬ ‫ذلك �إىل ذكاء ب�شري خارق‪ ،‬و�سيم ّد يف �أعمار الإن�سان‬ ‫�إىل ما ال نهاية مبجرد حدوث التالقي عام ‪2033‬م بن�سبة‬ ‫احتمال �أق ّل من‪ْ � .%50‬‬ ‫حوا�س‬ ‫أ�ضف �إىل ذلك �أن تعزيز‬ ‫ّ‬ ‫الإن�سان و�أجزاء اجل�سم مبجموعة مذهلة من الأجهزة‬ ‫الذكية التعوي�ضية �سي�ؤدي �إىل متكني دمج الإن�سان مع‬ ‫الروبوتات‪ ،‬ثم بزوغ ع�صر (ال�سايبورج ‪.)9()Cyborg‬‬

‫يقول فيرنر فينج الذي ابتدع مصطلح‬ ‫(التالقي التقاني)‪ :‬اإلنسان سيصنع‬ ‫قريب ًا ذكاء أعلى من ذكائه‪ ،‬وسيصل‬ ‫تاريخ اإلنسان‬ ‫تحول‬ ‫ٍ‬ ‫حينئذ إلى نقطة ّ‬ ‫فكري ال يمكن اختراقها كالثقب األسود‬

‫ما بعد اإلنسانية‬

‫يتن ّب�أ امل�ؤيدون �أن التقانة �ست�ؤدي �إىل حدٍّ ما �إىل خلق‬ ‫خملوقات �أكرث ذكاء‪� ،‬أو �أن الإن�سان �سي�صبح �أكرث ذكا ًء‪،‬‬ ‫ومن �ش�أن مثل هذه (التالقي التقاين) �إحداث ثورة‬ ‫عاملية‪ ،‬والدخول يف حقبة (ما بعد الإن�سانية) بحلول عام‬ ‫‪2030‬م‪� ،‬أو حتى بعد مليون �سنة‪ ،‬و�سيكون من املده�ش‬ ‫فع ًال ‪�-‬إذا مل يحدث التالقي‪ -‬افرتا�ض جت ّنب الكوارث‪،‬‬ ‫واحلروب النووية‪ ،‬والأوبئة‪ ،‬والتغريات املناخية؛ مثل‬ ‫تالحق تطورات الإبداع الإن�ساين يف �سنوات متقاربة مع مرور الزمن‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪75‬‬

‫قانون مور‪ :‬م�ضاعفة كثافة عنا�صر الدوائر املتكاملة ك ّل ‪� 18‬شهر ًا‪� ،‬أو مبعدل منو ‪� %46‬سنوي ًا طبق ًا لدالة منو �أُ ّ�سية‬ ‫ويبينّ ال�شكل هنا �أ�سماء تط ّور الدوائر املتكاملة واملعاجلات ال�صغرية؛ فمث ًال‪ :‬معالج ‪ Ivy Bridge‬يعتمد على تقانة ‪ 22‬نانومرت من �شركة‬ ‫�إنتل‪� ،‬أما معالج ‪ SPARC T4‬قبله فيعتمد على تقانة ‪ 40‬نانومرت من �شركة �أوراكل‪.‬‬

‫مرتبطة مبا فيه الكفاية لت�صبح كائن (ما بعد الإن�سان)‪.‬‬ ‫مبزيج من‪:‬‬ ‫االنحبا�س احلراري‪ ،‬و�سي�أتي التالقي ٍ‬ ‫(‪)10‬‬ ‫ �سيناريو الذكاء اال�صطناعي‪ :‬بناء ذكاء ا�صطناعي ‪� -‬سيناريو (جايا ‪ )Gaya‬الرقمية‪ :‬ت�صبح �شبكة‬‫�أعلى من طاقة الإن�سان يف �أجهزة احلا�سبات‪.‬‬ ‫املعاجلات الرقمية املزروعة يف الإن�سان ف ّعالة مبا فيه‬ ‫ �سيناريو الذكاء العايل‪ :‬حت�سني الذكاء الإن�ساين من الكفاية لتنتج كائن (ما بعد الإن�سان)‪.‬‬‫خالل التوا�صل بني الإن�سان و�أجهزة احلا�سبات‪.‬‬ ‫ُحجج المعارضين‬ ‫ �سيناريو الطب احليوي‪ :‬حت�سني العمليات الع�صبية يف‬‫يقولاملعار�ضونلفكرة(التالقيالتقاين)امل�ستقبليةبخطئها‬ ‫�أدمغتنا و�أج�سامنا‪.‬‬ ‫ �سيناريو الإنرتنت‪ :‬ت�صبح الإن�سانية‪ ،‬وال�شبكات على الرغم من ب�ساطتها؛ فالفكرة تتمتّع بجر�أة بالغة تدفع‬‫ب�أنواعها‪ ،‬و�أجهزة احلا�سبات‪ ،‬وقواعد البيانات‪ ،‬جميعها �إىل ّ‬ ‫ال�شك يف �أ�شياء كنا نعتقد �أال تتح ّقق؛ مثل‪� :‬إن�شاء كائنات‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪76‬‬

‫قدرات احلو�سبة تت�ضاعف كل �سنة �أو �أق ّل‬

‫غري �إن�سانية واعية وفائقة الذكاء‪ ،‬وروبوتات نانوية ت�سبح‬ ‫يف جمرى الدم يف عروقنا‪ ،‬و�إ�صالح ما نعانيه من ق�صور‪،‬‬ ‫واالت�صال املبا�شر من عقل �إن�سان �إىل عقل �إن�سان �آخر‪ ،‬وبزوغ‬ ‫(مابعدالإن�سان)‪،‬وكذلككيفيكونوجود�آخرلعقولب�شرية‬ ‫حم ّملة بال ج�سد ب�شري‪ ،‬وتعي�ش �إىل �أجل غري م�سمى من دون‬ ‫خوف �أو مر�ض‪� ،‬أو تعي�ش يف جنة افرتا�ضية م�ص ّممة للفرحة‬ ‫والت�شويق واحلفز؟ وي�ستحيل �أن ت�صبح الآالت واعي ًة‪ ،‬وتقوم‬ ‫بتطوير �أنف�سها نحو الكمال؛ فالآالت ال وعي لها‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫من اجلر�أة يف التفكري �إال �أن الفكرة تعتمد على منطق غام�ض‬ ‫مع التم ّني وعدم امل�س�ؤولية؛ فقد افتنت امل�ؤيدون بالإح�صاءات‬ ‫الرقمية‪،‬والإجنازاتالتقانية‪،‬و�سلطةاال�ستقراء‪،‬ومايدّعونه‬ ‫�شطحات خيال علمي‪ .‬وتبد أ� امل�شكلة مع فر�ضية �أن التقدم‬ ‫التقاين قد ت�سارع؛ لأنه يف الوقت نف�سه كان لو�سائل منع‬ ‫احلمل ت�أثري عميق يف الثقافة واالقت�صاد واملجتمع‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫تتنام بالت�سارع نف�سه‪ .‬و�أبعد من ذلك حت ّقق م�شي‬ ‫فهي مل َ‬ ‫الإن�سان على القمر‪ ،‬لكن مع فوائد قليلة من ورائه‪ ،‬ونحن‬

‫حماطون بالتقانة احليوية النانوية‪ ،‬لكنها مل ت ؤ� ّثر يف حياتنا‬ ‫على الإطالق‪ .‬لقد و�ضعت البحوث الطبية العالجات التي‬ ‫تحُ دث فرق ًا يف حياتنا‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف نهايتها‪ ،‬لكن االعتالل‬ ‫والوفياتالناجمةعنال�سرطانوال�سكتةالدماغيةم�ستمران‬ ‫بال هوادة عملي ًا حتى يف البلدان املتقدمة(‪ ،)11‬بل هناك من‬ ‫جادل ب�أن الثورة التقانية كانت لها عواقبها ال�سلبية الكارثية‬

‫تستطيع قدرات الحوسبة اآلن القيام‬ ‫بعمليات تناظر ما يقوم بها دماغ‬ ‫حشرة‪ ،‬ومع التسارع الملحوظ تاريخي ًا‬ ‫ستصل قدرات الحاسبات العمالقة‬ ‫إلى مستوى قدرات دماغ فأر‪ ،‬ثم‬ ‫ترتفع إلى مستوى قدرات دماغ‬ ‫إنسان بين عامي ‪ 2020‬و‪2050‬م‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪77‬‬ ‫�إمكانات الروبوتات تط ّورت من جمرد �آلة �إلكرتونية �إىل �آلة �ستف ّكر عام ‪2050‬م‬

‫على الإن�سان والأر�ض؛ فقد زادت �أعمار الذين يعي�شون يف‬ ‫املجتمعات املتقدمة‪ ،‬لكنها زعزعت اال�ستقرار االجتماعي‬ ‫والنف�سي‪ ،‬وجعلت احلياة بائ�س ًة‪ ،‬و�أدّت �إىل معاناة نف�سية‬ ‫وا�سعة النطاق‪� ،‬إ�ضافة �إىل املعاناة اجل�سدية �أي�ض ًا يف العامل‬ ‫الثالث‪ .‬وقد �أحلق التقدّم املت�سارع �أ�ضرار ًا ج�سيم ًة بالتوازن‬ ‫الطبيعي للحياة على الأر�ض‪ ،‬وا�ستمرار تطور التقانة غري‬ ‫امل�س�ؤول يزيد من تفاقم الو�ضع‪ ،‬مثل حماولة العبث التقاين‬ ‫بالهند�سةالوراثية‪.‬‬ ‫ومن ُحجج املعار�ضني �أنه لي�ست هناك قرينة ت ؤ� ّكد �أن‬ ‫حماكاة احلا�سب للدماغ �ستُنتج يف الواقع دماغ ًا حقيقي ًا‪،‬‬ ‫وال ميكن احل�صول على ذكاء ا�صطناعي حقيقي من‬ ‫�أمناط الربجميات احلالية؛ لأنها غري كاملة‪ ،‬وبها ق�صور‬

‫�شديد‪ ،‬بل على العك�س‪ :‬ت�سارع تطور التقانات يجعل‬ ‫معرفتنا بالعامل نحونا �أقل‪ .‬و�إذا كان احلا�سب �سيكون‬ ‫لديه الذكاء الكايف لي�ص ّمم بنف�سه الأجيال الالحقة له‬ ‫فيلزم �أن يقوم �أحد الب�شر بكتابة الربجميات الالزمة‬ ‫لتنفيذ هذا الت�صميم الذاتي‪ ،‬وال توجد � ّأي قرينة ت�ؤ ّكد‬ ‫�أن الب�شر ي�ستطيعون كتابة مثل هذه الربجميات(‪.)12‬‬ ‫و�أثبتت جتارب (الغرفة ال�صينية) �أن (وحدة املعاجلة‬ ‫املركزية) يف احلا�سب ال ت�ستطيع �إدراك الربجميات‬ ‫التي تقوم بتنفيذها؛ لأن الإن�س بخربات حقيقية يف‬ ‫العامل احلقيقي هم فقط الذين لديهم الوعي والذكاء‬ ‫احلقيقي‪ ،‬وغري ذلك لي�س �إال تالعب ًا بالتقانة‪� .‬أما �إذا‬ ‫كان بالإمكان بناء �آلة متلك ن�سخة من قدرات الدماغ‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪78‬‬

‫بزوغ ع�صر الإن�سان (ال�سايبورج)‬

‫والوعي با�ستخدام بع�ض الرتاكيب الكيميائية غري‬ ‫اخلاليا الع�صبية ف�إننا �سنحتاج ن�سخ القدرات الرئي�سة‬ ‫ّ‬ ‫وتتلخ�ص جتربة‬ ‫وراء هذه القدرات اال�صطناعية‪.‬‬ ‫(الغرفة ال�صينية) يف افرتا�ض �إن�سان جال�س يف غرفة‬ ‫ال يوجد بها �شخ�ص �صيني‪ ،‬ثم قام هذا الإن�سان بكتابة‬ ‫جمموعة من القواعد باللغة الإجنليزية التي مت ّكنه من‬ ‫ربط جمموعة من الرموز ال�صينية ( ) مبجموعة‬ ‫�أخرى من الرموز ال�صينية‪ ،‬وهو ما يعطيه القدرة على‬

‫وضعت البحوث الطبية العالجات التي‬ ‫تحدث فرق ًا في حياتنا‪ ،‬خصوص ًا في‬ ‫نهايتها‪ ،‬لكن االعتالل والوفيات الناجمة‬ ‫عن السرطان والسكتة الدماغية‬ ‫مستمران بال هوادة عملي ًا حتى في‬ ‫البلدانالمتقدمة‬


‫الإجابة بال�صينية كتاب ًة على �أ�سئلة مكتوبة بال�صينية‪.‬‬ ‫ويجعل هذا الأمر ال�صينيني يعتقدون �أنه يفهم اللغة‬ ‫ال�صينية‪ ،‬بينما هو يف الواقع ال يدركها �إطالق ًا‪.‬‬ ‫وباملثل‪� ،‬إذا ا�ستطاع احلا�سب القيام مبحادثة لغوية مع‬ ‫الإن�سان ف�إنه يقوم بتنفيذ الربجميات فقط‪ ،‬لكنه ال يعي‬ ‫املحادثة اللغوية نف�سها(‪ .)13‬وال ميكن تكرار الوعي يف‬ ‫�آلة احلا�سب؛ لأن الوعي عملية فيزيائية غري حو�سبية‪،‬‬ ‫وال �أحد يدرك بدقة كيفية حدوثه؛ فهو �شيء خارج‬ ‫الفيزياء‪ ،‬لكن لعله نتيجة ظاهرة ميكانيكية ك ّمية على‬ ‫نطاق وا�سع يف اخلاليا الع�صبية الدماغية(‪ .)14‬وم�شكلة‬ ‫ه�ؤالء (التالقيون) �أنهم ينظرون �إىل التطور مثل القرد‬ ‫الذي ي�ضرب على الآلة الكاتبة ب�سرعة عالية ظان ًا �أنه‬ ‫ُينتج م�سرحية مثل (�شكيبري)(‪.)15‬‬ ‫متخ�ص�صون يف‬ ‫ومن املده�ش �أن امل�ؤمنني بالتالقي ك ّلهم‬ ‫ّ‬ ‫احلا�سبات والروبوتات ال�سكارى بالتقدّم ال�سريع لتقانة‬ ‫املعلومات واالت�صاالت بنا ًء على قانون (مور)‪ ،‬الذي‬ ‫يتجاهل تعقيد خلق الدماغ‪ ،‬لي�س يف اختالفه وتف ّرد الأدمغة‬ ‫بني الب�شر فقط‪ ،‬بل �أي�ض ًا يف ا�ستجابتها للتغريات الفردية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من التقدم يف �أبحاث اخلاليا الع�صبية منذ‬ ‫عام ‪1970‬م �إال �أن العلماء مازالوا ال ي�ستطيعون متام ًا فهم‬

‫كيف ي�صنع العقل (ذلك ال�شيء الناعم املك ّون من تكتالت‬ ‫الأن�سجة والع�صبونات) دماغ ًا واعي ًا (ذلك ال�شيء غري‬ ‫امللمو�س) الذي يجعلنا نحب ونكره‪ ،‬ونتذوق ال�شعر والأدب‬ ‫واملو�سيقا‪ ،‬ونعجب باملناظر اجلميلة‪ ،‬ون�شمئز من القبيحة‪،‬‬ ‫تف�سر كيف يقوم ‪100‬‬ ‫وما زال العلم لي�س لديه نظرية كاملة ّ‬ ‫بليون ع�صبون من الع�صبونات املختلفة يف دماغ الإن�سان‬ ‫بالتحكم يف الإدراك والوعي‪.‬‬ ‫وظهر حديث ًا �أن قانون (مور) بد أ� يتوقف بعد ‪ 51‬عام ًا‬ ‫ب�سبب ارتفاع احلرارة املتولدة نتيجة االزدحام ال�شديد‬ ‫ملكونات الدوائر املتكاملة يف امل�ساحة نف�سها‪ ،‬ولأن الأبعاد‬ ‫الرقائق تد ّنت �إىل ما يقرب من النانو مرت‪ ،‬فجعلت �أداء‬ ‫‪.‬‬ ‫الإلكرتونيات يف الدوائر املتكاملة ال يعتمد عليه‬ ‫مطالبة بتحييد الدين‬

‫ُيالحظ �أن املعتقدين بـ(التالقي التقاين) جتمعهم‬ ‫القناعة بالعلمانية ال�شاملة التي تعني االنتقال من‬ ‫الإن�ساين واملطلق �إىل املادي والن�سبي‪ .‬وتنادي العلمانية‬ ‫ال�شاملة بتحييد عالقة الدين والقيم‪ ‬املطلقة والغيبيات‪،‬‬ ‫و�أن املعرفة املادية هي امل�صدر الوحيد للأخالق‪ ،‬و�أن‬ ‫الإن�سان يغلب عليه الطابع املادي الدارويني‪ ،‬ويرجعون‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تف�سر كيف يقوم ‪ 100‬بليون ع�صبون من الع�صبونات املختلفة يف دماغ الإن�سان بالتحكم يف الإدراك والوعي‬ ‫لي�س لدى العلم نظرية كاملة ّ‬

‫‪79‬‬


‫كالب متنوعة من خلق اهلل‬

‫روبوت على هيئة كلب‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الحظ التن ّوع‪ ..‬هل ي�ستطيع الروبوت الكلب �أن يتبادل مع الإن�سان ال�شعور العاطفي �أو النظرات؟ ي�ستحيل‬

‫ن�شوء الإن�سان بامل�صادفة �إىل كائنات خلوية معقدة تطورت‬ ‫عرب ماليني ال�سنني �إىل �أن ا�ستطاع اخرتاع الآالت ب�أنواعها‬ ‫املعقدة‪ .‬وال تف�صل (العلمانية ال�شاملة) الدين عن الدولة‬ ‫وبع�ض جوانب احلياة العامة فح�سب‪ ،‬و�إمنا تف�صل كل‬ ‫القيم الإن�سانية والأخالقية والدينية عن كل جوانب احلياة‬ ‫العامة واخلا�صة‪� ،‬إىل �أن تنزع القدا�سة متام ًا عن العالمَ‬ ‫(الإن�سان والطبيعة)‪ ،‬فيتح ّول �إىل مادة ا�ستعمالية‪ ،‬وت�صبح‬

‫هناك من جادل بأن الثورة التقانية‬ ‫كانت لها عواقبها السلبية‬ ‫الكارثية على اإلنسان واألرض؛ فقد‬ ‫زادت أعمار الذين يعيشون في‬ ‫المجتمعات المتقدمة‪ ،‬لكنها زعزعت‬ ‫االستقرار االجتماعي والنفسي‪،‬‬ ‫وأدت إلى‬ ‫وجعلت الحياة بائسةً ‪ّ ،‬‬ ‫معاناة نفسية واسعة النطاق‬

‫‪80‬‬

‫كل الأمور خا�ضعة لقوانني مادية‪ ،‬وال ت�ؤمن �إال بالن�سبية‬ ‫املطلقة‪ ،‬وال ت�ؤمن ب� ّأي معايري �أو مطلق �أو كليات‪ .‬لكن مهما‬ ‫ا�ستطاع الإن�سان اخرتاع روبوتات لديها ذكاء ا�صطناعي‬ ‫فلن ي�ستطيع م�ضاهاة خلق اهلل �سبحانه وتعاىل‪ ،‬وبثّ الروح‬ ‫الل َف أَ� ُرونيِ َم َاذا َخ َلقَ ا َّل ِذينَ ِمن دُو ِن ِه َب ِل‬ ‫فيه‪}:‬هَ َذا َخ ْلقُ هَّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الظالمِ ُونَ فيِ َ�ضلاَ ٍل ُّم ِب ٍني{(لقمان‪.)11 :‬‬ ‫وتتجاوز الروح �أو الوعي �أو النف�س �أو الذات اجل�سد الب�شري‬ ‫الرتابي؛ لذلك فلن ت�ستطيع التقانة مهما بلغت من تقدّم �أن‬ ‫تبدع �آداب ًا وفنون ًا ومالمح خا�صة وفريدة ب�صاحبها‬ ‫لك ّل روبوت؛ مثل اختالف امرئ القي�س عن املتنبي‪� ،‬أو‬ ‫حممد عبدالوهاب عن بيتهوفن‪� ،‬أو بيكا�سو عن �صالح‬ ‫جاهني‪ ،‬على الرغم من �أن ه�ؤالء جميع ًا ب�شر‪ ،‬ولي�سوا‬ ‫�آالت مك ّررة‪ .‬وملاذا يرتبط الإن�سان بالفن؟ هل هي املتعة‬ ‫�أو قدرته على املحاكاة �أو التعبري؟ �س�ؤال ال ي�ستطيع � ّأي‬ ‫حا�سوب عمالق الإجابة عنه‪ .‬والفرق بني �أفراد الإن�س‬ ‫لي�س فرق ًا يف الذرات‪� ،‬أو يف حروف اجلينات الوراثية‪،‬‬ ‫بل يف كيفية ترابط هذه اجلينات ونوع العالقات بينها؛‬ ‫فلكل ج�سد �إن�سان �شفرة كيميائية خا�صة به تبلغ �آالف‬


‫إنسان قائم على البرمجيات ال يموت‬ ‫يمكن أن يتحقّ ق هذا الذكاء الخارق‬ ‫الحاسبات المتّصلة عبر شبكة‪ ،‬أو رقائق‬ ‫حاسب نانوية مزروعة في أنسجة‬ ‫القشرة الدماغية‪ ،‬أو روبوتات تعمل‬ ‫بوصفها غواصة دقيقة ذات ذكاء‬ ‫اصطناعي تجري في شرايين اإلنسان‪.‬‬ ‫ويترك ذلك الباب مفتوح ًا ليكون لدى‬ ‫ذكاء الحاسب الخارق (وعي) وخبرات‬ ‫وسيؤدي هذا‬ ‫ذاتية أعلى من اإلنسان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلنجاز إلى سلسلة من اآلالت الفائقة‬ ‫الذكاء‪ ،‬التي تقوم بإنجاب ذرية من اآلالت‬ ‫األذكى‪ ،‬واالنتقال من جيل إلى جيل خالل‬ ‫أسابيع أو أيام بد ً‬ ‫ال من عقود أو سنوات‪،‬‬ ‫وهو ما يؤدي إلى نمو اقتصادي‬ ‫هائل ال ينتهي‪ ،‬وبسرعة تفوق سرعة‬ ‫الصوت‪ ،‬حتى تبدو الثورة الصناعية مع‬ ‫التقدم كأنها لعبة أطفال‪ ،‬ويتالقى‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬ ‫الذكاء البيولوجي اإلنساني مع ذكاء‬ ‫اآللة‪ ،‬ثم ينتهي األمر عام ‪0302‬م إلى‬ ‫«إنسان قائم على البرمجيات ال يموت»‪.‬‬

‫املاليني من الأحرف الوراثية املرتّبة واملت�سل�سلة للتعبري‬ ‫عن وظائف الإن�سان احلي‪ ،‬ولي�ست ن�سخ ًا من برجميات‬ ‫احلو�سبة �أو الأرقام‪ .‬و�إذا كان ممكن ًا ت�صنيع روبوت يفوق‬ ‫ذكاء الإن�سان بالربجميات ف�إن الروبوت لن يعي ما يفعله؛‬ ‫لأنه �آلة حا�سوبية مربجمة غبية تعمل طبق ًا خلوارزميات‬ ‫حتمية (نظام ال ينطوي على ع�شوائية) و�ضعها الإن�سان؛‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ :‬ت�ستطيع خوارزميات موقع (جوجل)‬ ‫القيام برتجمة مقالة عربية لطه ح�سني �إىل اللغة‬ ‫ال�سواحلية‪ ،‬لكنه ال يفقه ما قام به‪ ،‬ويحتاج �إىل تدخل‬ ‫من الإن�سان للتنقيح‪ ،‬واملثال الآخر النحل؛ فهو خملوقات‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫بجهاز حاسب عمالق‪ ،‬أو مجموعة من‬

‫�صغرية الدماغ جد ًا (ن�صف ملليمرت)‪ ،‬ويحتوي دماغها‬ ‫على نحو مليون ع�صبون‪ ،‬بينما حجم دماغ الف�أر �سنتيمرت‬ ‫مكعب واحد‪ ،‬وبه ‪ 200‬مليون ع�صبون‪ .‬وتفتقد �أدمغة النحل‬ ‫�إىل الهياكل؛ مثل‪ :‬احل�صني‪ ،‬والق�شرة ال�شَّ ِّم َّية الداخل َّية‪،‬‬ ‫التي ت�ؤدي دور ًا حيوي ًا يف ت�شكيل (اخلرائط املعرفية) لدى‬ ‫الإن�سان والثدييات لكي حت�سب طريقها من نقطة (�أ) �إىل‬ ‫نقطة (ب) حتى لو �أن النقطة (ب) غري مرئية‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫يقوم النحل باملالحة اجلوية ب�شكل روتيني م�سافات ت�صل‬ ‫�إىل ثالثة كيلومرتات بعيد ًا من خالياه يف �سعيها ثم تعود‬ ‫�أدراجها‪ ،‬وعلى الرغم من الأبحاث املكثفة �إال �أن كيفية‬ ‫�إمتام هذه احل�سابات يف �أدمغة النحل لي�ست وا�ضحة؛‬ ‫فهل ي�ؤديها النحل داخل اخلاليا الع�صبية ذاتها �أو رمبا‬ ‫يف هياكل خمتلفة متام ًا عن احل�شرات؟ ال �أحد يعرف‪.‬‬ ‫أحب الروبوت �صاحبه‪ ،‬فهل‬ ‫و�إذا فر�ضنا �أن الإن�سان � ّ‬ ‫ميكن للروبوت مبادلته احلب؟ كال؛ لأن امل�شكلة الأ�سا�سية‬ ‫هي حتمية اخلوارزميات التي تدعم ا�ستجابة الروبوت‪،‬‬ ‫وحتى لو اخرتعت تقانة (تع ّلم �آيل هجني غري حتمية) يف‬ ‫امل�ستقبل فال يزال الأمر هو اختيار خوارزمية‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬ ‫يحب‪ ،‬و�إذا كان تكرار الذكاء‬ ‫ال يف ّكر الروبوت �أبد ًا؛ لذا ال ّ‬ ‫اال�صطناعي يف الآلة ممكن ًا ف�إن تكرار الروح م�ستحيل‪.‬‬ ‫افرت�ض امل�ؤيدون عوامل لي�ست حتت �سيطرة الإن�سان؛‬ ‫مثل‪ :‬الكوارث الطبيعية‪ ،‬والأوبئة‪ ،‬واحلروب‪ ،‬وتغيرّ املناخ‪،‬‬ ‫وارتفاع درجة حرارة الأر�ض‪ ،‬بل املتوقع �أن تت�ضاعف‬ ‫انبعاثات غازات االحتبا�س احلراري على ال�صعيد العاملي‬ ‫بحلول عام ‪2020‬م‪ ،‬وتُ�سهم تقانة املعلومات واالت�صاالت‬ ‫ب�أكرث من ‪ ٪2‬من الن�سبة الإجمالية‪ ،‬فهل ت�ستطيع الروبوتات‬ ‫ال�سيطرة؟‪� .‬إن �سبب احلروب وال�صراعات هو العلمانية‬ ‫ال�شاملة كما مت ّثلت يف احلربني العامليتني الأوىل والثانية‪،‬‬ ‫وجت�سدت يف النازية وال�صهيونية واال�ستعمار؛ فقد ف�شلت‬ ‫ّ‬ ‫العلمانية الداروينية يف تف�سري ظاهرة الإن�سان؛ لأنه‬ ‫لي�س ظاهرة مادية حم�ضة‪ ،‬و�إمنا هو ظاهرة مركبة‬

‫‪81‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪82‬‬

‫لأق�صى حدٍّ من ج�سد وروح؛ فمث ًال‪ :‬معجزة لغة الإن�سان‬ ‫ظاهرة ت ؤ� ّكد كمون اللغة يف عقل الطفل‪ ،‬و�أن العقل‬ ‫فشلت العلمانية الداروينية في‬ ‫احل�سيات‪ ،‬و�أن‬ ‫لي�س جمرد �صفحة بي�ضاء ترتاكم فيها ّ‬ ‫تفسير ظاهرة اإلنسان؛ ألنه ليس‬ ‫العقل لي�س هو املخ (خاليا و�إنزميات)؛ فالعقل يدرك‬ ‫ظاهرةً ماديةً محضةً ‪ ،‬وإنما هو‬ ‫الواقع بو�صفه جزيئات تن�ضوي حتت ٍّ‬ ‫كل متكامل‪ ،‬بينما‬ ‫ظاهرة مركّ بة ألقصى حدٍّ من جسد‬ ‫يف�سر‬ ‫ينكر العلمانيون مفهوم املطلق (�أو الروح)؛ لأنه ّ‬ ‫وروح؛ فمثالً‪ :‬معجزة لغة اإلنسان‬ ‫معجزة جتاوز الإن�سان النظام املادي والأرقام‪ .‬والفكر‬ ‫ظاهرة تؤكّ د كمون اللغة في عقل‬ ‫لي�س �صور ًة ملادة من الإنزميات والع�صارات املتحركة‪،‬‬ ‫الطفل‪ ،‬وأن العقل ليس مجرد صفحة‬ ‫و�إال فلماذا تختلف �أفكار �أ�شخا�ص يعي�شون يف الظروف‬ ‫الحسيات‬ ‫بيضاء تتراكم فيها‬ ‫ّ‬ ‫نف�سها‪ ،‬وكذلك ‪-‬باملنهج العلماين‪ -‬ال ميكن ن�سخ‬ ‫�أحا�سي�س الإن�سان الأخالقية واجلوانب النبيلة والدينية‬ ‫واجلمالية والقلق و�أ�سئلته عن الوجود‪ .‬لن يلتقي ذكاء مواجهة مآزق أخالقية عميقة‬ ‫احلو�سبة مع ذكاء الإن�سان الختالفهما البينّ ‪ ،‬و(ما بعد متتد التحديات �أمام انت�شار ا�ستخدام الروبوتات ذات‬ ‫الإن�سان) تعني يف الواقع نهاية الإن�سان‪.‬‬ ‫الذكاء اال�صطناعي �إىل جماالت تقانية وتنظيمية‪،‬‬


‫المراجع‬ ‫(‪� )1‬آي بي �إم واط�سون‪ :‬حا�سوب فائق غري متّ�صل بالإنرتنت ذو ذكاء ا�صطناعي قادر على الإجابة الواقعية عن �أيّ �س�ؤال ُيطرح بلغة التخاطب‬ ‫الب�شرية (اللغة الطبيعية)‪.‬‬ ‫(‪ )2‬جوليان هك�سلي (‪1975 -1887‬م)‪ :‬عامل �أحياء وفيل�سوف �إجنليزي‪.‬‬ ‫(‪� )3‬صموئيل بتلر (‪1902 -1835‬م)‪ :‬كاتب وروائي �إجنليزي متم ّرد عا�ش يف الع�صر الفيكتوري‪.‬‬ ‫تن�ص على �أن ك ّل الكائنات احلية على م ّر‬ ‫(‪ )4‬ت�شارلز داروين (‪1882 -1809‬م)‪ :‬عامل تاريخ طبيعي بريطاين‪ ،‬وهو م� ّؤ�س�س نظرية التطور التي ّ‬ ‫الزمان تنحدر من �أ�سالف م�شرتكة‪.‬‬ ‫(‪ )5‬فرينر فينج‪� :‬أ�ستاذ احلا�سبات يف جامعة �سان دييجو‪ ،‬وم�ؤلف اخليال العلمي‪ ،‬ومن �أوائل املنادين بـ(التالقي التقاين)‪.‬‬ ‫(‪ )6‬جرم كوين فائق اجلاذبية لدرجة �أنه ال ميكن �أن يهرب منه �أي �شيء‪ ،‬حتى ال�ضوء‪.‬‬ ‫(‪ )7‬الوعي ‪ :Consciousness‬هو ذلك ال�شيء الغام�ض الذي يجعل كل �شخ�ص فريد ًا عن الآخرين‪ .‬و�شرح الوعي من �أهم املناطق املحيرّ ة‬ ‫يف الفل�سفة‪ :‬كيف تتّ�صل احلالة الذهنية الواعية باجل�سم؟ وهل ميكن تف�سري الوعي ب�أنه ن�شاط يف الدماغ؟ وما الذي يجعل احلالة الذهنية واعية؟‬ ‫والوعي له عالقة بامليتافيزيقيا؛ مثل‪� :‬إمكانية اخللود‪ ،‬واالعتقاد يف الإرادة احلرة‪ .‬و�سيكولوجي ًا‪ ،‬الوعي هو �إدراك املرء ذاته و�أحواله و�أفعاله �إدراك ًا‬ ‫مبا�شر ًا‪ ،‬وبه ي�شعر �أنه يعرف ما يعرف‪.‬‬ ‫(‪ )8‬جوردون مور (‪1929‬م‪ :)... -‬مهند�س �إلكرتونيات‪ ،‬وم� ّؤ�س�س م�شارك يف �شركة (�إنتل)‪.‬‬ ‫(‪ )9‬ال�سايبورج‪ :‬كائن نظري �أو خيايل يتك ّون من مزيج من مكونات ع�ضوية وبيو‪ -‬ميكاترونية‪ .‬انظر‪ :‬فيلم (رجل ب�ستة ماليني دوالر)‪.‬‬ ‫(‪ )10‬جايا‪ :‬من �شخ�صيات امليثولوجيا الإغريقية الأم الأر�ض طبق ًا للأ�ساطري واخلرافات الوثنية التي �آمن بها اليونانيون القدماء‪ ،‬املهتمة‬ ‫ب�آلهتهم و�شخ�صياتهم الأ�سطورية الأخرى وطبيعة العامل‪.‬‬ ‫(‪� )11‬ألفريد نوردمان‪.‬‬ ‫(‪ )12‬جارون النيري‪.‬‬ ‫(‪ )13‬جون �سريل‪� :‬أ�ستاذ الفل�سفة يف جامعة بريكلي‪.‬‬ ‫(‪ )14‬روجر برنوز‪� :‬أ�ستاذ الفيزياء والريا�ضيات يف جامعة �أك�سفورد‪.‬‬ ‫(‪ )15‬جون هوالند‪� :‬أ�ستاذ علوم احلا�سب والهند�سة وال�سيكولوجي يف جامعة ميت�شجان‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫حتى فل�سفية؛ ف�إىل جانب م�شكالت الربجميات‬ ‫�ستجربنا �أنظمة التحكم الذاتي اجلديدة على مواجهة‬ ‫م�آزق �أخالقية عميقة‪ ،‬حتى �إنها قد تثري �أ�سئلة عن‬ ‫�إح�سا�سنا ب�أنف�سنا بو�صفنا ب�شر ًا عاقلني؛ فعلى �سبيل‬ ‫املثال‪ :‬هل ميكن زرع �أخالقيات القيادة يف ال�سيارات‬ ‫ذات القيادة الذاتية؟ و�إذا ارتكبت هذه ال�سيارة ذات‬ ‫الذكاء اال�صطناعي حادث ًة ت�س ّببت يف القتل فمن الذي‬ ‫�س ُيحا َكم‪ ،‬وكيف �ستتو ّزع امل�س�ؤولية‪ :‬الربجميات نف�سها‪،‬‬ ‫�أم َمن قام ب�إن�شائها‪� ،‬أم �أخطاء املجني عليه؟ وهل ميكن‬ ‫�أن تثق بروبوت يقوم بجراحة �آلية لك‪ ،‬ويق ّرر بالذكاء‬ ‫اال�صطناعي املزروع فيه � ّأي جراحة يقوم بها؟ و�أين‬ ‫يقطع؟ وكيف يخيط اجلراحة؟ وهل ميكن �أن نرتك‬ ‫لروبوت حمارب �أن يق ّرر َمن يقتل �أو َمن يرتكه حي ًا يف‬

‫املعارك الع�سكرية‪ ،‬مثلما حدث يف العراق و�أفغان�ستان‬ ‫حني ا�ستخدمت الطائرات من دون طيار والقوات‬ ‫الروبوتات الأر�ضية؟ �أال ميكن �أن ت�شتعل حرب عاملية‬ ‫ثالثة نتيجة خط�أ يف الربجميات �أو هجوم فريو�س؟‬ ‫ح ّذرت جمموعة من �أ�شهر علماء الذكاء اال�صطناعي‬ ‫والروبوتات يف ر�سالة مفتوحة حديث ًا ُقدِّ مت يف‬ ‫م�ؤمتر الذكاء اال�صطناعي الدويل عام ‪2015‬م من‬ ‫�أن �إنتاج هذه الأ�سلحة الذاتية �سي�ؤدي �إىل «�سباق‬ ‫ت�س ّلح يف الذكاء اال�صطناعي العاملي»‪ ،‬وميكن �أن‬ ‫تُ�ستعمل من �أجل االغتياالت ال�سيا�سية‪� ،‬أو زعزعة‬ ‫ا�ستقرار الدول‪� ،‬أو �إخ�ضاع ال�سكان‪� ،‬أو القتل‬ ‫االنتقائي لأعراق معينة‪� ،‬أو �أ�سلحة دمار �شامل‪،‬‬ ‫وبالت�أكيد ميكن �أن تقع يف �أيدي الإرهابيني‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫شخصيات‬

‫طبعت دار النشر التابعة لجامعة شيكاغو‬ ‫قبل خمسين عام ًا أحد أكثر الكتب تأثير ًا‬ ‫في القرن العشرين‪ ،‬ولم يسمع كثير من‬ ‫عامة الناس ‪-‬إن لم يكن أغلبهم‪ -‬بالمؤلف‬ ‫ّ‬ ‫توماس كـون‪ ،‬وال بكتابه (بنية الثورات‬ ‫العلمية)‪ ،‬لكن أفكار هذا المؤلف أ ّثرت في‬ ‫تفكيرهم غالباً‪ .‬ويتم ّثل هذا التأثير في‬ ‫(تحول‬ ‫استخدامهم أو سماعهم كلمة‬ ‫ّ‬ ‫البارادايم‪ ،‬أو‬ ‫تحول النسق الفكري)‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫يتم‬ ‫مصطلح من أكثر المصطلحات التي ّ‬ ‫استخدامها‪ ،‬و ُيساء فهمها أيضاً‪ ،‬عند‬ ‫الحديث عن التطورات الفكرية‪ .‬ومما يؤكّ د‬ ‫ذلك أنك عندما تبحث عن هذا المصطلح‬ ‫في‬ ‫محرك البحث (جوجل) ستظهر لك‬ ‫ّ‬ ‫عشرة ماليين نتيجة‪ ،‬كما أن البحث في‬ ‫الموقع التجاري الشهير (أمازون) س ُيظهر‬ ‫لك ثمانية عشر ألف ًا وثالثمئة كتاب تحوي‬ ‫هذا المصطلح‪ ،‬إضافةً إلى أن كتاب (بنية‬ ‫الثورات العلمية) أكثر الكتب األكاديمية‬ ‫يتم االقتباس منها في األبحاث‬ ‫التي ّ‬ ‫والكتب أخرى؛ فهذا الكتاب وما يحويه من‬ ‫عد من أسرع الكتب انتشار ًا على‬ ‫أفكار ُي ّ‬

‫‪84‬‬

‫اإلطالق‪.‬‬


‫توماس كـون‪:‬‬ ‫رجل غ ّير نظرة‬ ‫العلم‬ ‫العا َلم إلى ِ‬ ‫‪85‬‬ ‫يوسف العتيبي‬ ‫مترجم سعودي‬


‫ال يكمن المقياس الحقيقي ألهمية‬ ‫توماس كـون في مدى انتشار إحدى‬ ‫عدية‪ ،‬لكن‬ ‫الم ِ‬ ‫أفكاره ومفاهيمه ُ‬ ‫أهميته في أنه استطاع وحده‬ ‫تكمن‬ ‫ّ‬ ‫تغيير طريقة تفكيرنا حول الوسيلة‬ ‫ّ‬ ‫المنظمة الوحيدة التي استخدمتها‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫البشرية لفهم العالَم‬

‫‪86‬‬

‫غالف كتاب (بنية الثورات العلمية)‬

‫ال يكمن املقيا�س احلقيقي لأهمية توما�س كـون يف مدى‬ ‫انت�شار �إحدى �أفكاره ومفاهيمه املُعدِ ية‪ ،‬لكن تكمن �أه ّميته‬ ‫يف �أنه ا�ستطاع وحده تغيري طريقة تفكرينا حول الو�سيلة‬ ‫ّ‬ ‫املنظمة الوحيدة التي ا�ستخدمتها الب�شرية لفهم العالمَ ؛‬ ‫فقبل كـون كانت نظرتنا �إىل العلم حتت ت�أثري �أفكار‬ ‫فل�سفية تتمحور حول الطريقة التي من املفرت�ض �أن حتدّد‬ ‫خطوات املمار�سة العلمية (املنهج العلمي)‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل‬ ‫�أن التقدم العلمي �سابق ًا كان ُيع ّرف ب�أنه «�إ�ضافة حقائق‬ ‫جديدة حلزمة احلقائق القدمية‪� ،‬أو زيادة دقة النظريات‬ ‫العلمية‪ ،‬ويف بع�ض احلاالت النادرة‪ :‬ت�صحيح الأخطاء‬ ‫ال�سابقة» كما هو و�صف مو�سوعة �ستانفورد الفل�سفية‪،‬‬ ‫وبعبارة �أخرى‪ :‬ك ّنا قبل كـون ننظر �إىل العلم ح�سب‬

‫تف�سر التاريخ العلمي ب�أنه‬ ‫نظرية ‪ whig‬التاريخية‪ ،‬التي ّ‬ ‫ال�سعي التدريجي الطويل للباحثني ّ‬ ‫واملنظرين و�أ�صحاب‬ ‫التجارب العلمية نحو احلقيقة‪� ،‬أو على الأقل‪ :‬نحو فهم‬ ‫�أف�ضل للعالمَ الذي نعي�ش فيه‪.‬‬ ‫يختلف تف�سري كـون للتطور العلمي جذري ًا عن تف�سري‬ ‫‪whig‬؛ ذلك التف�سري ال�شائع الذي يرى �أن التقدّم العلمي‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫منو تدريجي منتظم‪ ،‬بينما يرى تف�سري كـون �أنه منو غري‬ ‫منتظم‪ :‬مراحل متعاقبة من التقدّم العادي والتقدّم‬ ‫الثوري‪ ،‬ت�صطدم فيها جمموعة من الباحثني يف جماالت‬ ‫ّ‬ ‫مع ّينة ب�أوقات ع�صيبة من ال�شك والقلق واحلرية‪ .‬وتتزامن‬ ‫هذه املراحل الثورية؛ مثل التح ّول من ميكانيكا نيوتن‬ ‫�إىل ميكانيكا الكم‪ ،‬مع تقدّمات فكرية ومفاهيمية هائلة‬ ‫ت�ضع �أ�سا�س التطورات الالحقة‪ ،‬وهكذا ت�ستمر‪ .‬ال يبدو‬ ‫هذا التف�سري حقيق ًة مذه ًال لنا الآن يف وقتنا احلايل؛‬ ‫بوجه ما‪ -‬املقيا�س احلقيقي لنجاح كـون‪ ،‬لكن هذا‬‫فهو‬ ‫ٍ‬ ‫التف�سري �أثار بك ّل جوانبه جد ًال وا�سع ًا عام ‪1962‬م؛ ب�سبب‬ ‫التحدّيات التي واجهها ب�صفته تف�سري ًا يقف يف وجه‬ ‫تف�سر طبيعة العلم‬ ‫امل�س ّلمات الفل�سفية القوية التي كانت ّ‬ ‫ومنهجه‪ ،‬والذي زاد الأمر �سوء ًا لفال�سفة العلم هو �أن كـون‬ ‫نف�سه كان فيزيائي ًا‪ ،‬ومل يكن فيل�سوف ًا‪.‬‬ ‫ُولِدَ كـون عام ‪1922‬م يف مدينة �سين�سيناتي التابعة لوالية‬ ‫�أوهايو‪ ،‬ودر�س الفيزياء يف هارفارد‪ ،‬وتخ ّرج مبرتبة‬ ‫ال�شرف عام ‪1943‬م‪ .‬وا�ضط ّر بعد ذلك للعمل يف وحدة‬

‫الرادار يف �أثناء احلرب‪ ،‬وعاد بعد احلرب �إىل هارفارد‬ ‫لإعداد ر�سالة الدكتوراه يف الفيزياء التي ح�صل عليها عام‬ ‫‪1949‬م‪ ،‬و ّمت اختياره بعد ذلك لالن�ضمام �إىل املجموعة‬ ‫ت�ضم نخبة �أ�ساتذة اجلامعة‪ ،‬وكان �سي�ستمر يف درا�سة‬ ‫التي ّ‬ ‫فيزياء الكم �إىل �آخر �أيام حياته لوال �أن ُطلب منه تدري�س‬ ‫مادة عن العلم الطبيعي لطالب العلوم الإن�سانية كانت‬ ‫جزء ًا من املنهج التعليمي �آنذاك‪ ،‬وكان رئي�س هارفارد‬ ‫الإ�صالحي جيم�س كونانت هو �صاحب فكرة و�ضع هذه‬ ‫املادة العلمية‪ ،‬و�إلزام الطالب درا�ستها؛ لأنه كان ي�ؤمن ب�أنه‬ ‫ال بد لك ّل �شخ�ص متع ّلم �أن يعرف �شيئ ًا عن العلم الطبيعي‪.‬‬ ‫وكانت هذه املادة العلمية تتمحور حول الدرا�سة التاريخية‬ ‫للعلم؛ لذلك ا�ضطر كـون �إىل درا�سة ن�صو�ص علمية‬ ‫قدمية بالتف�صيل للمرة الأوىل له؛ �إذ كان الفيزيائيون –‬ ‫وال يزالون– ال يح ّبون التع ّمق يف التاريخ‪ .‬وكانت درا�سة‬ ‫كـون ن�صو�ص �أر�سطو مبنزلة جتربة ثورية �أ ّثرت يف حياته‬ ‫وم�ساره املهني ب�شكل كبري‪ ،‬يقول كـون‪« :‬ال�س�ؤال الذي‬ ‫�أردتُ �أن �أجيب عنه كان‪� :‬إىل � ّأي حدٍّ كان �أر�سطو ُملم ًا‬ ‫بعلم امليكانيكا؟ وكم ترك لغريه ‪-‬مثل جاليليو ونيوتن‪� -‬أن‬ ‫يكت�شفوا؟»‪ ،‬حينها علمتُ �أن �أر�سطو مل يكن يعرف �شيئ ًا‬ ‫عن امليكانيكا على الإطالق‪ .‬هذا اال�ستنتاج كان �شائع ًا‬ ‫�آنذاك‪ ،‬وقد يكون ‪-‬مبدئي ًا‪ -‬ا�ستنتاج ًا �صائب ًا? لكنني‬ ‫�شكل؛ لأنني يف �أثناء قراءتي ن�صو�ص‬ ‫وجدتُ �أنه ا�ستنتاج ُم ِ‬ ‫�أر�سطو بدا يل �أنه مل يكن جاه ًال بامليكانيكا فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫اتّ�ضح يل �أنه عامل فيزيائي �سيئ ب�شكل م�ؤ�سف؛ فيما يتع ّلق‬ ‫باحلركة خا�صة‪ ،‬كانت كتاباته مملوءة بالأخطاء الفادحة‪،‬‬ ‫�سواء يف �صياغتها املنطقية �أم يف اعتمادها على املالحظة‪.‬‬ ‫اجلانب الذي هاجمه كـون هو نقطة ال�ضعف املركزية‬ ‫يف تف�سري ‪ whig‬للتاريخ العلمي؛ �إذ يبدو �أر�سطو غبي ًا‬ ‫مبعايري الفيزياء احلديثة‪ ،‬لكننا نعلم �أن هذا الأمر‬ ‫غري �صحيح؛ فاكت�شاف كـون الكبري كان نتيجة ا�ستيعابه‬ ‫املفاجئ حقيقة �أننا لكي نفهم العلم الأر�سطي يجب علينا‬

‫‪87‬‬


‫يقول الفيلسوف إيان هاكينج في‬ ‫مقدمته الرائعة لكتاب كـون‪ :‬ال‬ ‫يهدف العلم االعتيادي إلى االبتكار‪،‬‬ ‫لكن يهدف إلى توضيح المفاهيم‬ ‫العلمية السائدة وتنقيحها‪ ،‬إنه‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫توقع أن يكتشفه‬ ‫يكتشف ما ُي ّ‬

‫‪88‬‬

‫�أن نعرف املناخ الفكري الذي كان يعمل �أر�سطو خالله؛‬ ‫فيجب �أن نفهم –على �سبيل املثال– �أن كلمة (حركة)‬ ‫لدى �أر�سطو تعني التغيرّ ب�شكل عام‪ ،‬ولي�س انتقال اجل�سم‬ ‫الفيزيائي من مو�ضع �إىل مو�ضع �آخر كما هو تعريفنا‬ ‫للحركة يف وقتنا احلا�ضر‪ ،‬وبعبارة �أ�شمل‪ :‬لكي نفهم‬ ‫التطور العلمي يجب علينا �أن نعرف البنية الفكرية التي‬ ‫يعمل العلماء مبقت�ضاها‪ ،‬وكان هذا االكت�شاف هو الأ�سا�س‬ ‫الذي بنى عليه كـون كتابه العظيم‪.‬‬

‫بقي كـون يف هارفارد �إىل عام ‪ ،1956‬وانتقل �إىل جامعة‬ ‫كاليفورنيا يف بريكلي بعد �أن ف�شل يف احل�صول على وظيفة‬ ‫دائمة يف جامعة هارفارد‪ ،‬و�أ ّلف كتابه ال�شهري هناك‪،‬‬ ‫و ّمتت ترقيته �إىل مرتبة (بروفي�سور) عام ‪1961‬م‪ ،‬ويف‬ ‫العام التايل ن�شرت دار الن�شر التابعة جلامعة �شيكاغو‬ ‫كتابه‪ ،‬ومع �أن الطبعة الأوىل من كتابه كانت تقع يف ‪172‬‬ ‫�صفحة �إال �أنه كان يتحدث عن الكتاب بطريقته املعهودة‬ ‫بو�صفه حم�ض م�س ّودة بدائية �أو منوذج أ� ّويل‪ ،‬وكان ُي ّ‬ ‫ف�ضل‬ ‫بالت�أكيد �أن يكتب ما يقارب ‪� 800‬صفحة طويلة ومم ّلة‪،‬‬ ‫لكن حجم هذه امل�س ّودة البدائية‪ ،‬وقابل ّيتها للقراءة‪ ،‬كانا‬ ‫عاملني ُمه ّمني لنجاح الكتاب فيما بعد‪ .‬ومع �أن الكتاب مل‬ ‫ي�شتهر يف بداياته بال�سرعة املطلوبة؛ �إذ ّمت بيع ‪ 919‬ن�سخة‬ ‫عامي ‪ 1962‬و‪1963‬م‪� ،‬إال �أنه يف منت�صف عام ‪1982‬م ّمت‬ ‫بيع �أكرث من �ستمئة وخم�سني �ألف ن�سخة‪ ،‬وبلغ عدد الن�سخ‬ ‫التي بيعت من الكتاب �إىل يومنا احلايل مليون ًا و�أربعمئة‬ ‫�ألف ن�سخة‪ ،‬ويقارب كتاب بهذا احلجم واالنت�شار يف‬ ‫�شهرته �سل�سلة روايات هاري بوتر العاملية‪.‬‬

‫االكت�شاف العلمي �صور بحوث �شاقة‬


‫دعوى كـون الرئي�سة يف هذا الكتاب هي �أن الدرا�سة‬ ‫الدقيقة للتاريخ العلمي تك�شف �أن التطور يف �أي‬ ‫جمال علمي يحدث عرب مراحل متعاقبة‪� ،‬أطلق على‬ ‫املرحلة الأوىل ا�سم (العلم االعتيادي)‪� ،‬أو العمل‬ ‫الروتيني‪ ،‬ويقوم يف هذه املرحلة جمموعة من الباحثني‬ ‫امل�شرتكني يف بنية فكرية واحدة‪ ،‬تُ�س ّمى (بارادامي)‬ ‫�أو (ن�سق فكري)‪ ،‬مبحاولة ح ّل امل�شكالت الناجتة من‬ ‫الفروقات بني ما تظهره املالحظات العلمية والتجارب‬ ‫والتو ّقعات التي يفرت�ضها هذا الن�سق الفكري امل�شرتك‬ ‫(البارادامي)‪ ،‬ويتم ح ّل هذه الفروقات غالب ًا بتعديالت‬

‫طفيفة على البارادامي امل�شرتك �أو باكت�شاف �أخطاء يف‬ ‫املالحظات والتجارب‪ ،‬يقول الفيل�سوف �إيان هاكينج يف‬ ‫مقدمته الرائعة لكتاب كـون‪ :‬ال يهدف العلم االعتيادي‬ ‫�إىل االبتكار‪ ،‬لكن يهدف �إىل تو�ضيح املفاهيم العلمية‬ ‫ال�سائدة وتنقيحها‪� ،‬إنه يكت�شف ما ُيتو ّقع �أن يكت�شفه‪.‬‬ ‫وتكمن امل�شكلة يف �أن هذه الفروقات ترتاكم عرب الزمن‬ ‫حتى ت�صل �إىل مرحلة تدفع بع�ض العلماء �إىل الت�شكيك‬ ‫يف الن�سق الفكري �أو (البارادامي) نف�سه‪ ،‬وحينها يدخل‬ ‫هذا املجال العلمي يف مرحلة �أزمة ‪-‬على حد تعبري كـون‪-‬‬ ‫تتم ّثل يف «تزايد املطالبات بتف�سريات وا�ضحة‪ ،‬والرغبة‬ ‫يف جتربة � ّأي �شيء‪ ،‬والتعبري عن ال�سخط وعدم الر�ضا‪،‬‬ ‫والرجوع �إىل الفل�سفة ومناق�شة �صحة املبادئ الفل�سفية»‪،‬‬ ‫يتم يف النهاية ح ّل هذه الأزمة عن طريق تغيري جذري‬ ‫ثم ّ‬ ‫ثوري يف نظرتنا �إىل العامل؛ �إذ يتم ا�ستبدال بارادامي‬ ‫جديد بالبارادامي الناق�ص احلايل‪ ،‬وتُعرف هذه العملية‬ ‫الآن بـ(حت ّول البارادامي) �أو (حت ّول الن�سق الفكري)‪،‬‬ ‫ويرجع املجال العلمي بعد حدوث هذا التح ّول �إىل املرحلة‬ ‫الأوىل التي ذكرناها (العلم االعتيادي)‪ ،‬وي�ستمر احلال‬ ‫على هذا الو�ضع حتى يح�صل التح ّول مر ًة �أخرى‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫أثار كـون غضب الكثيرين عندما وصف‬ ‫«مجرد ّ‬ ‫حل‬ ‫الممارسة العلمية بأنها‬ ‫ّ‬ ‫ألغاز ُ‬ ‫وأحجيات»‪ ،‬وكأن رحلة الجنس‬ ‫البشري الشاقة نحو المعرفة‬ ‫مشابهة لمحاولة ّ‬ ‫حل الكلمات‬ ‫المتقاطعة في مجلة (التايمز)‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫توما�س كون‬

‫�إيان هاكينج‬

‫‪89‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪90‬‬

‫ال يفي هذا االخت�صار املخ ّل الذي ذكرناه للمرحلة الثورية‬ ‫بحقّ تعقيد فكرة كـون وعمقها‪ ،‬بل يجب �أن تقر�أ كتاب‬ ‫(بنية الثورات العلمية) لكي تفهمها ب�شكل �أو�ضح‪ ،‬لكن‬ ‫هذا االخت�صار ّ‬ ‫يو�ضح ‪-‬ب�شكل عام‪ -‬ملاذا كان هذا الكتاب‬ ‫�صاعق ًة مدوي ًة للفال�سفة وامل ؤ� ّرخني الذي �صاغوا تف�سري‬ ‫‪ whig‬التاريخي للتقدّم العلمي الذي ذكرناه �سابق ًا‪.‬‬ ‫للتو�ضيح‪ ،‬دعونا نلقي ال�ضوء على مرحلة (العلم‬ ‫االعتيادي) عند كـون‪ :‬كان �أكرث فال�سفة العلم ت�أثري ًا‬ ‫عام ‪ 1962‬هو كارل بوبر‪ ،‬الذي و�صفه هاكينج ب�أنه‬ ‫«العامل الأ�شد ت�أثري ًا يف كتاباته يف العلماء التجريب ّيني»‪.‬‬ ‫و ّ‬ ‫خل�ص كارل بوبر جوهر املنهج العلمي يف عنوان �أحد‬ ‫كتبه (الفر�ضيات والتخطئة)؛ فوفق ًا لبوبر يتم ّيز‬ ‫العلماء احلقيقيون ‪-‬على خالف املح ّللني النف�س ّيني‬ ‫مث ًال‪ -‬مبحاولة تخطئة نظرياتهم ورف�ضها‪ ،‬بد ًال من‬ ‫تن�ص على �أن حماولة‬ ‫حماولة �إثباتها‪ ،‬لكن نظرية كـون ّ‬ ‫رف�ض النظريات العلمية املت�ض ّمنة داخل البارادامي �أو‬ ‫الن�سق الفكري ال�سائد هي �آخر �شيء يريد �أن يفعله‬ ‫(العلماء االعتياديون)‪.‬‬ ‫�أثار كـون غ�ضب الكثريين عندما و�صف املمار�سة‬

‫العلمية ب�أنها «جم ّرد ح ّل �ألغاز و أُ�حجيات»‪ ،‬وك�أن‬ ‫رحلة اجلن�س الب�شري ال�شاقة نحو املعرفة م�شابهة‬ ‫ملحاولة ح ّل الكلمات املتقاطعة يف جملة (التاميز)‪،‬‬ ‫لكن يف احلقيقة ح�سا�سية ه�ؤالء الن ّقاد كانت مفرطة؛‬ ‫فاللغز �أو الأحجية يوجد لهما ح ّل‪ ،‬و�إن كان ذلك ال‬ ‫يعني �سهولة العثور على احل ّل‪� ،‬أو �أنه ال يتطلب جهد ًا‬ ‫م�ستمر ًا و�إبداع ًا فكري ًا؛ فعلى �سبيل املثال‪ :‬رحلة‬ ‫البحث ال�شاقة املك ّلفة عن بوزون (هيجز)‪ ،‬التي‬ ‫�أثمرت نتائجها م� ّؤخر ًا يف معامل �سرين النووية‪ ،‬تُع ّد‬ ‫مثا ًال رئي�س ًا لـ(حل الألغاز) الذي كان يقوله كـون؛ لأن‬ ‫وجود هذا ا ُ‬ ‫جل�سيم كان ُمتو ّقع ًا وفق البارادامي ال�سائد‪،‬‬

‫تمكّ ن كون بطريقته الهادئة من‬ ‫بناء ثورة فكرية عن طريق تحويل‬ ‫نظرتنا إلى العلوم‪ ،‬وفهمنا لها‪ ،‬من‬ ‫الخاص بـ(‪)whig‬‬ ‫السياق التاريخي‬ ‫ّ‬ ‫إلى (النظرة الكـونية) التي جاء بها‬


‫�أو ما ُيعرف بـ(النموذج املعياري) لفيزياء اجل�سيمات‪.‬‬ ‫كان الأمر الذي �أثار جد ًال فل�سفي ًا وا�سع ًا هو �إحدى نتائج‬ ‫نظرية كـون املتعلقة بتح ّول الن�سق الفكري‪ ،‬يقول كـون‪:‬‬ ‫الأن�ساق الفكرية املتعار�ضة غري قابلة للمقارنة‪ ،‬وبعبارة‬ ‫�أخرى‪ :‬ال توجد طريقة مو�ضوعية لقيا�س قيمة كل ن�سق؛‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ :‬ال توجد طريقة لعمل مقارنة بني‬ ‫قيمة ميكانيكا نيوتن (التي تتعامل مع كرات البلياردو‬ ‫والكواكب‪ ،‬لكن ال تنطبق على اجل�سيمات حتت الذرية)‬ ‫وميكانيكا الكم (التي تتعامل مع اجل�سيمات حتت‬ ‫الذرية)‪ ،‬لكن �أال يلزم من عدم القدرة على املقارنة‬ ‫بني الأن�ساق الفكرية بنا ُء الثورات العلمية على �أ�س�س‬ ‫بوجه ما)؟ ويف هذه احلالة �أال تكون‬ ‫غري عقالنية (ولو ٍ‬ ‫حت ّوالت الأن�ساق الفكرية (حت ّول البارادامي) التي نحتفل‬ ‫بها بو�صفها فتوحات علمية جم ّرد نتائج حم�ضة ملخالفة‬ ‫ال�سائد‪� ،‬أو خمالفة ما ُيعرف بـ(�سيكولوجية اجلمهور)؟‬ ‫�أثار كتاب كـون كثري ًا من النقا�شات والتعليقات‬ ‫والتحليالت النقدية؛ فقد �أدّى ت�أكيده �أهمية (اجتماع‬ ‫الباحثني امل�شرتكني يف ن�سق فكري معينّ ) �إىل �إن�شاء‬ ‫فرع �أكادميي ُيعرف بـ(اجتماعيات العلوم)؛ �إذ يقوم‬ ‫الباحثون مبالحظة املجاالت العلمية‪ ،‬ودرا�سة �سلوك‬ ‫العلماء‪ ،‬متام ًا كما يدر�س علماء الأنرثوبولوجيا القبائل‬ ‫البدائية الغريبة؛ لذلك ُيع ّد العلم الطبيعي جم ّرد ثقافة‬ ‫يتم النظر �إليه‬ ‫من الثقافات املتنوعة يف املجتمع‪ ،‬وال ّ‬ ‫للم�س من منتجات ع�صر‬ ‫على �أنه منتج مقدّ�س غري قابل ّ‬ ‫يخ�ص فكرة كون الكبرية‪ ،‬تلك املتع ّلقة‬ ‫التنوير‪� .‬أما فيما ّ‬ ‫بالبارادامي بو�صفه بنية فكرية جتعل العلم والبحث‬ ‫ممكن ًا‪ ،‬فقد انت�شرت هذه الفكرة انت�شار ًا وا�سع ًا‪ ،‬حتى �إن‬ ‫ّ‬ ‫التجار و�أ�ساتذة م�ؤ�س�سات الأعمال و�أهل الت�سويق قاموا (*) هذا املقال مرتجم عن مقال جون نوتون املن�شور يف �صحيفة‬ ‫بتب ّنيها بو�صفها طريقة لتف�سري احلاجة �إىل تغيرّ ات اجلارديان‪ ،‬على الرابط‪:‬‬ ‫‪h t t p s ://w w w .t h e g u a r d i a n .c o m /‬‬ ‫جذرية �إبداعية عند من�سوبيهم‪ ،‬ور�أى علماء االجتماع ‪science/2012/aug/19/thomas-kuhn-‬‬ ‫‪structure-scientific-revolutions.‬‬ ‫يف تب ّني ن�سق فكري �أو بارادامي معينّ و�سيل ًة للح�صول‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫على االحرتام ومتويل �أبحاثهم‪ ،‬وهو ما �أدّى �إىل ظهور‬ ‫�أن�ساق فكرية َم َر�ضية يف جماالت مثل االقت�صاد؛ �إذ‬ ‫�أ�صبح �إتقان الريا�ضيات مقدّم ًا على فهم كيفية عمل‬ ‫امل�صرفية‪ ،‬و�إتقانها‪ ،‬والعواقب التي ا�ضطررنا �إىل‬ ‫حت ّملها الآن‪.‬‬ ‫الفكرة املثرية حق ًا هي ا�ستخدام فكرة كـون يف تف�سري‬ ‫�إجنازه العظيم نف�سه؛ فقد مت ّكن كون بطريقته‬ ‫الهادئة من بناء ثورة فكرية عن طريق حتويل نظرتنا‬ ‫اخلا�ص‬ ‫�إىل العلوم‪ ،‬وفهمنا لها‪ ،‬من ال�سياق التاريخي‬ ‫ّ‬ ‫بـ(‪� )whig‬إىل (النظرة الكـونية) التي جاء بها‪،‬‬ ‫يتم عمله الآن يف تاريخ العلوم وفل�سفتها ُيع ّد‬ ‫ومعظم ما ّ‬ ‫من مرحلة (العلم االعتيادي) وفق البارادامي اجلديد‪،‬‬ ‫لكن الفروقات التي حتدّثنا عنها (بني املالحظات‬ ‫والتجارب العلمية والتو ّقعات التي يفر�ضها البارادامي)‬ ‫بد�أت الآن بالرتاكم‪ .‬وكان كـون يرى �أن العلم يعتمد‬ ‫ب�شكل �أ�سا�سي على النظرية‪ ،‬كما كان يعتقد بوبر‪،‬‬ ‫لكن كثري ًا من الأبحاث العلمية الريادية تعتمد على‬ ‫البيانات واملعلومات �أكرث من اعتمادها على النظريات‪،‬‬ ‫وبينما كانت الفيزياء هي ملكة العلوم عند ت�أليف كتاب‬ ‫(بنية الثورات العلمية)‪ ،‬فقد انتقل هذا الدور �إىل علم‬ ‫اجلينات اجلزيئية والتكنولوجيا احليوية‪ ،‬فهل ينطبق‬ ‫حتليل كـون على هذه املجاالت العلمية؟ و�إذا مل ينطبق‬ ‫فهل حان وقت التح ّول �إىل بارادامي �آخر؟‬ ‫�إذا كنت تريد عمل قائمة يف الوقت احلايل بالكتب التي‬ ‫تو ّد قراءتها قبل موتك فال بد من �أن تكون حتفة كـون‬ ‫هذه �ضمن القائمة‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫إعالم‬

‫يعمل سفين الومر في أوقات فراغه حكم ًا‬ ‫ألحد أندية بافاريا لهواة كرة القدم‪ ،‬وقد‬ ‫الحظ قبل سنوات أن عدد ًا من الالعبين تركوا‬ ‫موقع التواصل (فيسبوك)‪ ،‬وهو ما جعل‬ ‫ُ‬ ‫تنظيم فعاليات النادي أصعب من‬ ‫قبل‪ .‬ومع‬ ‫أن هذا األمر أزعجه إال أنه أثار فضوله أيض ًا‬ ‫يدرس نظم المعلومات‪.‬‬ ‫بحكم أنه بروفيسور ّ‬ ‫وما أثار فضوله هو‪ :‬لماذا يريد الشباب أن‬ ‫يتركوا (فيسبوك)‪ ،‬بينما علماء االجتماع‬ ‫يقولون‪ :‬إن التواصل االجتماعي شيء جيد؟‬ ‫تقول هانا كراسنوفا؛ الباحثة في نظم‬ ‫المعلومات في جامعة بيرن بسويسرا‪:‬‬ ‫«في ذلك الوقت‪ ،‬كان االفتراض األساسي‬ ‫في أبحاث الشبكات االجتماعية أن (فيسبوك)‬ ‫مكان إيجابي‪ ،‬مكان سعادة‪ ،‬المكان الذي‬ ‫تجد فيه المتعة‪ ،‬وتتحدث فيه مع أصدقائك‬ ‫وتجد القبول»‪ .‬كما أظهرت بعض الدراسات‬ ‫نكونها‬ ‫أن العالقات االجتماعية التي ّ‬ ‫من خالل وسائل التواصل االجتماعي قد‬ ‫تكون مفتاح ًا لنجاحنا؛ فمن المعروف أن‬ ‫عالقاتنا االفتراضية تساعدنا على الوصول‬ ‫إلى الوظائف‪ ،‬والمعلومات‪ ،‬والدعم‬

‫‪92‬‬

‫العاطفي‪ ،‬والخدمات اليومية‪ ،‬يقول الومر‪:‬‬ ‫«كان الجميع متحمس ًا لمواقع التواصل‬ ‫االجتماعي»‪.‬‬


‫«فيسبوك»‬ ‫واالكتئاب ‪..‬‬ ‫هل من عالقة؟‬ ‫‪93‬‬ ‫هناء العقيل‬ ‫مترجمة سعودية‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تويتر اإللكتروني‬

‫‪94‬‬

‫ّ‬ ‫وي�شك الومر‪ ،‬وهو بروفي�سور يف جامعة �أوتو فريدري�ش‬ ‫يف �أملانيا‪ ،‬يف �أن ترك النا�س (في�سبوك) هو ردة فعل‬ ‫طبيعية ناجتة من التوتر وال�ضغط‪ .‬وعرف الومر باحثني‬ ‫�آخرين بحثوا فيما ُي�س ّمى (التوتر الإلكرتوين)‪ ،‬الذي‬ ‫يظهر يف �أمكنة العمل ب�سبب العمليات املع ّقدة‪ ،‬لكن هذا‬ ‫الأمر ال ينطبق على (في�سبوك)؛ لأنه �سهل اال�ستخدام‪،‬‬ ‫لكن يبدو �أن هناك �شيئ ًا �آخر يوتّر النا�س‪ ،‬يقول الومر‪:‬‬ ‫«اعتقدنا �أن هناك ظاهرة جديدة ظهرت يف مواقع‬ ‫التوا�صل االجتماعي خا�ص ًة»‪ ،‬وبد�أ الباحثون ‪-‬من خالل‬ ‫عمل مقابالت‪ ،‬وا�ستبيانات‪ ،‬و�أبحاث طويلة‪ ،‬وجتارب‬ ‫خمربية‪ -‬بتغيري االعتقاد اخلاطئ ب�أن مواقع التوا�صل‬ ‫تو�صلوا �إىل �أن (في�سبوك)‬ ‫االجتماعي مكان �إيجابي؛ فقد ّ‬ ‫و(تويرت) و(�إن�ستجرام) و(�سناب �شات) ومثيالتها هي‬ ‫�أمكنة لي�ست للمتعة والنجاح فقط‪ ،‬لكنها �أمكنة �سوداوية‪،‬‬ ‫و�أمكنة مواجهة‪ ،‬وتك�شف م�شاعر الإن�سان البدائية؛ فهذه‬ ‫املواقع لي�ست اململكة ال�ساحرة‪ ،‬بل هي �أقرب �إىل لعبة‬

‫نواح كثرية‬ ‫البيت املهجور‪ ،‬يقول الباحثون‪ :‬هذه املواقع من ٍ‬ ‫هي جتارب عمالقة لإحدى خ�صال جن�سنا الب�شري‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬وهي‪ :‬طباعنا االجتماعية؛ لذا فمن الطبيعي‬ ‫وجود بع�ض العواقب غري املتوقعة‪ ،‬ويقول �إيثان كرو�س؛‬ ‫باحث علم النف�س االجتماعي يف جامعة مي�شيجان‪« :‬ال‬ ‫�أحد ين�شئ �شيئ ًا ليجعل النا�س ي�شعرون بال�سوء �أو الر�ضا‪،‬‬ ‫لكن ما نريد النظر �إليه هو كيف يتطور هذا ال�شيء وي�ؤ ّثر‬ ‫يف حياة النا�س اليومية»‪.‬‬ ‫اكتئاب فيسبوك‬

‫�إحدى هذه العواقب هي �أن ا�ستخدام (في�سبوك) قد‬ ‫ي�ؤدي �إىل �شعورك باحلزن‪ ،‬وهي ظاهرة ت�سمى (اكتئاب‬ ‫في�سبوك)؛ ففي درا�سة لكرو�س وزمالئه عام ‪٢٠١٣‬م‪،‬‬ ‫قاموا فيها ب�إر�سال ر�سائل ن�صية خم�س مرات يف‬ ‫اليوم الثنني وثمانني �شخ�ص ًا‪� ،‬أغلبهم طالب جامعيون‬ ‫من �آن �آربور مي�شيجان‪ ،‬ي�س�ألونهم فيها عن املدة التي‬ ‫ا�ستخدموا فيها (في�سبوك)‪ ،‬و�شعورهم خالل هذه‬

‫ا�ستخدام في�سبوك قد ي�ؤدي �إىل �شعورك باحلزن‬


‫املدة‪ ،‬يقول كرو�س‪« :‬ما وجدناه هو �أن كلما زاد ا�ستخدام‬ ‫(في�سبوك) خالل مدة معينة تد ّنت احلالة النف�سية‬ ‫للأ�شخا�ص من بداية تلك املدة �إىل نهايتها»‪ .‬ملاذا؟ الحظ‬ ‫الومر وزمال�ؤه �أن �آخر الأخبار املوجودة يف (في�سبوك)‬ ‫لي�ست م�سلي ًة لبع�ض امل�شاركني يف هذه التجربة‪ ،‬بل‬ ‫�أ�صبحت ك�أنها قائمة مهام ومتطلبات‪� :‬أبهجني‪ ،‬وا�سني‪،‬‬ ‫متنَّ يل ميالد ًا �سعيد ًا‪� ،‬ساعدين على لعبتي‪� ،‬أعجب‬ ‫ب�صورتي اجلديدة‪ ،‬اقر�أ ما كتب ُت ُه عن حيوان النوتر؛‬ ‫فمواقع التوا�صل االجتماعي ت�ضغط امل�ستخدمني بطرائق‬ ‫مل تكن موجودة �سابق ًا مبتطلبات كثرية يف وقت ق�صري؛‬ ‫فال عجب �أن يتوتّر النا�س من تلك املتطلبات؛ فالتوتر‬ ‫يح�س الأ�شخا�ص ب�أنه لي�س لديهم القدرة‬ ‫يظهر عندما ّ‬ ‫على مواجهة خطر ما‪ ،‬واخلطر يف هذه احلالة هو ما‬ ‫ُي�س ّميه الومر بـ(الإرهاق االجتماعي)‪.‬‬ ‫وما يثري ال�سخرية �أن الإرهاق االجتماعي هو اجلانب الآخر‬ ‫من امل�شاركة االجتماعية‪ ،‬وهو ما وجد الباحثون �أنه �أكرث‬ ‫جوانب مواقع التوا�صل االجتماعي �إيجابية‪ ،‬تقول �شيليا‬ ‫كوتن؛ باحثة علم االجتماع الطبي يف جامعة مي�شيجان‪ :‬قد‬ ‫تخ ّفف م�شاركة ال�شخ�ص م�شكالته وهمومه مع الأ�شخا�ص اإلرهاق االجتماعي‬ ‫الآخرين يف الإنرتنت من التوتر املرتبط بكل �شيء؛ من لكن لي�س كل الأ�صدقاء �سوا�سي ًة يف الإنرتنت؛ ففي مواقع‬ ‫التوا�صل االجتماعي ميكننا �أن ن�ضيف عدد ًا ال منتهي‬ ‫من جهات االت�صال‪ ،‬منهم �أ�شخا�ص نادر ًا ما نراهم‬ ‫�أو ال نراهم مطلق ًا يف احلياة الواقعية‪ ،‬يقول هامبتون‪:‬‬ ‫(فيسبوك) و(تويتر) و(إنستجرام)‬ ‫«لأول مرة يف التاريخ احلديث ت�ستمر الروابط بطريقة‬ ‫و(سناب شات) ومثيالتها هي أمكنة‬ ‫مل تكن موجودة �سابق ًا»‪ .‬كما وجد الومر وزمال�ؤه �أن‬ ‫ليست للمتعة والنجاح فقط‪ ،‬لكنها‬ ‫الإرهاق االجتماعي ي�صيب ‪-‬على الأرجح‪ -‬الأ�شخا�ص‬ ‫أمكنة سوداوية‪ ،‬وأمكنة مواجهة‪،‬‬ ‫الذين لديهم �أ�صدقاء �أكرث يف (في�سبوك) فقط‪ .‬وهذا‬ ‫وتكشف مشاعر اإلنسان البدائية؛‬ ‫الأمر منطقي؛ ففي ت�سعينيات القرن امليالدي ال�سابق‬ ‫فهذه المواقع ليست المملكة‬ ‫ذكر روبن دنبار ‪-‬الباحث يف علم الإن�سان‪� -‬أن اجلن�س‬ ‫الساحرة‪ ،‬بل هي أقرب إلى لعبة‬ ‫الب�شري لديه الوقت والقدرة للحفاظ على (‪)٢٠٠ -١٠٠‬‬ ‫البيت المهجور‬ ‫�صديق‪ ،‬والحظ دنبار وزمال�ؤه يف درا�سة حديثة �شملت ‪١.٧‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ال�ضغوط اليومية وتغيرّ ات احلياة �إىل الكوارث الطبيعية‪.‬‬ ‫و�أظهرت درا�سة �أخرى �أن ا�ستخدام الإنرتنت قد يخ ّفف‬ ‫من ال�شعور بالوحدة عند كبار ال�سن الأمريكيني‪ ،‬وتقول‪:‬‬ ‫«يوجد كثري من الدعم يف مواقع التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫التي لها جوانب مفيدة ل�صحتك و�سعادتك‪ ،‬والتي ت�ساعد‬ ‫على التخفيف من التوتر»‪ ،‬لكن امل�شكلة يف �أنه عندما يق ّل‬ ‫توتّرك فهو ينتقل �إىل �أ�شخا�ص �آخرين‪.‬‬ ‫و ُي�س ّمي كيث هامبتون ‪-‬باحث علم االجتماع يف جامعة‬ ‫روجترز‪ ،‬الذي �أجرى ا�ستبيانات عن مواقع التوا�صل‬ ‫االجتماعي ملركز (بيو) للأبحاث‪ -‬هذا التوتر الثانوي‬ ‫بـ(ثمن االهتمام)‪ ،‬ويقول‪� :‬إنه من غري املفاجئ �أن‬ ‫الن�ساء يدفعون هذا الثمن �أكرث من الرجال؛ لأنهن‬ ‫يحملن عبء االهتمام بالعائلة والأ�صدقاء‪� ،‬سواء يف‬ ‫احلياة الواقعية �أم من خالل الإنرتنت‪ ،‬وي�ضيف‪« :‬عندما‬ ‫تعلم �أحداث ًا �سيئة حتدث لأنا�س تعرفهم فهذا الأمر ال‬ ‫يجلب التوتر حلياتك فقط‪ ،‬بل يعطيك الفر�صة ملنحهم‬ ‫الدعم االجتماعي والعاطفي»‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪96‬‬

‫مليون م�ستخدم �أن م�ستخدمي (تويرت) لديهم يف املتو�سط‬ ‫عالقات اجتماعية م�ستمرة مع العدد نف�سه من الأ�شخا�ص‪.‬‬ ‫لكن �إذا كان لدينا تقريب ًا ‪� ١٥٠‬صديق ًا نحن على اتّ�صال‬ ‫معهم ب�شكل منتظم يف (في�سبوك) و(تويرت)‪ ،‬وجميعهم‬ ‫يطلبون دعم ًا اجتماعي ًا ب�شكل منتظم‪ ،‬ف�إننا نتعامل‬ ‫مع متطلبات �أكرث مما كان يتعامل معه �أجدادنا؛ ف�أين‬ ‫مكاننا لدى �أ�صدقائنا احلقيقيني؟ كثري من امل�ستخدمني‬ ‫يف ّكرون يف ترك هذه املواقع كاف ًة‪ ،‬يقول الومر‪« :‬الإرهاق‬ ‫قوي �إىل الإنهاك»‪.‬‬ ‫االجتماعي ي�ؤدي ب�شكل ّ‬ ‫�أ ّكدت الدرا�سات ‪�-‬إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ -‬ما هو وا�ضح‬ ‫لك ّل م�ستخدم‪ ،‬وهو �أن الأ�صدقاء ين�شرون الأ�شياء‬ ‫التي جتعلهم يظهرون ب�شكل جيد؛ ففي �إحدى حلقات‬ ‫م�سرحية (بورتالنديا) الهزلية ي�أخذ فريد �أرمي�سني‬ ‫�صديقته اجلديدة يف عطلة نهاية الأ�سبوع �إىل �إيطاليا‪،‬‬ ‫ويق�ضيان ك ّل العطلة نائمني يف الفندق‪ ،‬وانتهى بهم‬ ‫املطاف بائ�سني‪ ،‬وكانا يف وقت �سابق قد ن�شرا �صور ًا‬ ‫لهما وهما مبت�سمان وتبدو عليهما ال�سعادة‪ ،‬وعندما عاد‬

‫�أرمي�سني من عطلته‪ ،‬ور�أى �صديقه ي�شاهد �صورهما‪،‬‬ ‫وه ّن�أه على رحلتهما‪ ،‬قال ل�صديقته‪« :‬كل الأ�شخا�ص يف‬ ‫الإنرتنت ال يق�ضون وقت ًا ممتع ًا كما تعتقدين»‪ ،‬فردّت‬ ‫يق�صون حزنهم عرب ال�صور»‪.‬‬ ‫عليه «�أعتقد �أن النا�س ّ‬ ‫المستوى االجتماعي أصل الصلة‬

‫احلقيقة �أن النا�س حتى لو مل ميحوا احلزن من‬ ‫�صورهم التي ي�ضعونها يف الإنرتنت ف�إنهم ين�شرون‬ ‫�أ�شياء مم ّلة وغري مهمة تتع ّلق بحياتهم اليومية؛ لذلك‬ ‫املرجح �أننا لن نهتم‪ .‬ي�سعى الب�شر ب�شكل تلقائي‬ ‫فمن ّ‬ ‫خلف الأ�شخا�ص ذوي املكانة العالية‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫الأ�شخا�ص اجلذابني �أو الأثرياء؛ كعائلة الكارد�شيان‪.‬‬ ‫وتدر�س �شارلوت بلي�س ‪-‬الباحثة يف جامعة ليدز‬ ‫وكلية الطب بجامعة هارفارد‪ ،‬والباحثة يف العلوم‬ ‫املعرفية‪ -‬االكتئاب‪ ،‬وترى �أن امل�ستوى االجتماعي هو‬ ‫وتوجهت‬ ‫�أ�صل ع ّلتنا يف مواقع التوا�صل االجتماعي‪ّ ،‬‬ ‫بلي�س يف مقالها (�أ�صدقاء كثريون و�إعجابات‬

‫احلياة حلوة يف مواقع التوا�صل االجتماعي‬


‫قليلة)‪ ،‬الذي كتبته عام ‪٢٠١٥‬م‪� ،‬إىل بيئات �أ�سالفنا‬ ‫بحث ًا عن تف�سري‪ .‬وتذكر بلي�س �أن �أحد التف�سريات‬ ‫التطورية لالكتئاب هو ما ُيعرف بـ(نظرية التناف�س‬ ‫االجتماعي)‪ ،‬التي تقول‪� :‬إن االكتئاب هو جمموعة من‬ ‫ال�سلوكيات القابلة للتك ّيف التي م ّكنت �أ�سالفنا من‬ ‫االن�سحاب من الت�صادمات العدائية‪ ،‬و«�إعطاء �إ�شارة‬ ‫للقوي بعدم القتال والتعر�ض للإيذاء اجل�سدي»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن هذه ال�سلوكيات‪ :‬االن�سحاب‪ ،‬وو�ضعية االنحناء‪،‬‬ ‫و�ضعف الثقة بالنف�س؛ مبعنى �آخر‪ :‬اكتئب تبقى حي ًا‪،‬‬ ‫وتقول بلي�س‪« :‬االكتئاب يعمل بو�صفه �إ�سرتاتيجي ًة‬

‫كلما زاد استخدام (فيسبوك) خالل‬ ‫مدة معينة تدنّت الحالة النفسية‬ ‫لألشخاص من بداية تلك المدة إلى‬ ‫نهايتها»‪ ..‬لماذا؟‬

‫لعدم ت�صاعد الأمور‪ ،‬وا�ستجابة ال �إرادية لأمر ما‬ ‫ك�أنك ت�ضع يديك يف الهواء م�ست�سلم ًا»‪.‬‬ ‫بقي هذا ال�سلوك‪ ،‬وهو اخل�ضوع واتّخاذ مكانة اجتماعية‬ ‫متدنية‪ ،‬معنا‪ ،‬ويظهر يف وقتنا احلا�ضر عندما ن�شعر‬ ‫بتف ّوق َمن هم يف مكانه عالية ونفوذ علينا‪ ،‬تقول‬ ‫بلي�س‪« :‬نحن ننجذب �إىل ه�ؤالء الأ�شخا�ص‪ ،‬وهو ما قد‬ ‫يخ ّلد ال�شعور ب�أنك فا�شل مقارن ًة به�ؤالء الأ�شخا�ص»‪.‬‬ ‫وبالت�أكيد‪ ،‬قد حت ّولنا هذه املقارنة االجتماعية �إىل‬ ‫حا�سدين‪ ،‬واحل�سد من ناحية التطور كاالكتئاب اخلفيف‬ ‫قابل للتك ّيف؛ فهو يحفزنا �إىل التع ّلم من الآخرين‪،‬‬ ‫وحتديد �أهداف عالية‪ ،‬تقول كرا�سنوفا‪ :‬قد يكون احل�سد‬ ‫�أي�ض ًا م�ؤمل ًا‪ ،‬وهو ما يجعل درا�سته �صعبة‪�« ،‬إنه �شعور‬ ‫مع ّقد؛ فنحن عاد ًة ال نريد االعرتاف‪ ،‬وال حتى لأنف�سنا‪،‬‬ ‫ب�أننا ن�شعر باحل�سد جتاه الأ�شخا�ص الآخرين‪ ،‬ونكبت يف‬ ‫بع�ض الأحيان هذا ال�شعور كبت ًا قوي ًا؛ حتى ال نعرف مباذا‬ ‫ن�شعر‪ ،‬وملاذا نحن غا�ضبون �أو حزينون �أو منزعجون �أو‬ ‫متوترون»‪ .‬وعندما �س�ألت كرا�سنوفا وزمال�ؤها ‪٣٧٥‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫املقارنة مع امل�شاهري ميكن �أن ت�ؤدي �إىل الإح�سا�س باحل�سد‬

‫‪97‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪98‬‬

‫م�شارك ًا‪ ،‬معظمهم من �أملانيا حيث كانت تعمل‪ ،‬عن‬ ‫�شعورهم عندما ا�ستخدموا (في�سبوك) م�ؤخر ًا �أجاب‬ ‫‪ ٪١.٢‬منهم فقط ب�أنهم �شعروا باحل�سد؛ فقامت بتعديل‬ ‫�صيغة ال�س�ؤال �إىل‪« :‬كثري من امل�ستخدمني ذكروا �أنهم‬ ‫ي�شعرون بالإحباط والإرهاق بعد ا�ستخدام (في�سبوك)‪،‬‬ ‫فما �سبب هذه امل�شاعر يف اعتقادك؟»‪ ،‬وكانت �أكرث‬ ‫�إجابة يف هذه احلالة هي احل�سد بن�سبة ‪٪٢٩.٦‬؛‬ ‫فاحل�سد ‪-‬كما تقول‪ -‬لي�س فقط �شعور ًا �شائع ًا عند‬ ‫م�ستخدمي (في�سبوك)‪ ،‬بل هو ٍّ‬ ‫متف�ش‪ .‬والأمثلة موجودة‬ ‫يف ك ّل مكان ووقت‪ :‬احلفالت التي مت ّنينا ح�ضورها‪،‬‬ ‫واجلوائز التي ح�صل عليها زمال�ؤنا؛ ففي رواية بوال‬ ‫هوكنز (الفتاة يف القطار) كانت بطلة الرواية رايت�شل‬ ‫وات�سون مازالت تعاين من طالقها احلديث عندما‬ ‫ذهبت �إىل (في�سبوك) لرتى �إعالن زوجها ال�سابق‬ ‫بقدوم مولود له‪ ،‬ف�شعرت بالدمار‪.‬‬ ‫وتذكر كرا�سنوفا �أن �إحدى طرائق لتخفيف �أمل‬ ‫احل�سد م�ؤقت ًا هي عر�ض الأ�شخا�ص �أنف�سهم‬

‫بطريقة ُمبا َلغ فيها‪ ،‬وحت ّذر من �أن هذا الأمر قد‬ ‫يخلق (دوامة ح�سد) يف مواقع التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫م�ضيفة‪« :‬يتع ّر�ض امل�ستخدمون ملحتوى �إيجابي‪ ،‬ثم‬ ‫ين�شرون حمتوى �أكرث �إيجابية‪ ،‬ثم ين�شر املتلقون‬ ‫حمتوى �أكرث �إيجابية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ومن َث َّم ي�صبح‬ ‫عامل (في�سبوك) منف�ص ًال عن الواقع �أكرث ف�أكرث»‪.‬‬ ‫وير�سخ هذا العامل املنف�صل عن الواقع ال ُبعد بد ًال‬ ‫ّ‬ ‫من �أن يجعلنا �أقرب بع�ضنا �إىل بع�ض‪.‬‬

‫تقول بليس‪« :‬نحن ننجذب إلى هؤالء‬ ‫األشخاص‪ ،‬وهو ما قد يخلّد الشعور‬ ‫بأنك فاشل مقارنةً بهؤالء األشخاص»‪.‬‬ ‫تحولنا هذه المقارنة‬ ‫وبالتأكيد‪ ،‬قد ّ‬ ‫االجتماعية إلى حاسدين‬


‫تتحدث الطبيبة النف�سية �شريي توركيل يف كتابها‬ ‫(ا�ستعادة املحادثة) عن التوتر بني رغبتنا يف التعبري عن‬ ‫حقيقتنا وال�ضغط الذي ن�شعر به لإظهار �أف�ضل ما فينا‬ ‫يف الإنرتنت‪ .‬و�أظهرت الدرا�سات �أننا بخالف ما نظنّ‬ ‫ال نظهر تعاطفنا و�أف�ضل ما فينا عندما نكتب‪ ،‬وقد طلب‬ ‫عامل ال�سلوكيات نيكوال�س �إيبلي ‪-‬من جامعة �شيكاغو‪-‬‬ ‫من طلبة ق�سم �إدارة الأعمال التحدث ب�شكل خمت�صر‬ ‫جد ًا عن �أنف�سهم بعدة طرائق‪ ،‬ومع �أن الطالب �شعروا‬ ‫ب�أنهم ق ّدموا �أنف�سهم ب�شكل �أف�ضل كتاب ًة �إال �أن املق ّيمني‬ ‫وجدوهم مقبولني �أكرث يف اخلطاب املنطوق‪ .‬وينطبق‬ ‫هذا الأمر على (في�سبوك)؛ فقد �أظهرت درا�سة حديثة‬ ‫مماثلة لنتائج �إيبلي �أن �أ�صدقاءنا يعتقدون �أننا �أف�ضل‬ ‫يف احلياة الواقعية من ملفاتنا ال�شخ�صية يف الإنرتنت‪،‬‬ ‫يقول �إيبلي‪« :‬توحي بياناتنا ب�أن الن�صو�ص تقريب ًا لي�ست‬ ‫من �صفات الإن�سان؛ لأنها ال حتمل �صفات الإن�سان‬ ‫الفريدة؛ ك�صفات التفكري والإح�سا�س التي حتملها‬ ‫�أ�صواتنا‪ ،‬بعك�س الن�صو�ص»‪.‬‬

‫يقول كروس‪« :‬عندما تستخدم‬ ‫(فيسبوك) بطريقة سلبية تنمو‬ ‫لديك مشاعر الحسد‪ ،‬وهو ما قد‬ ‫يؤدي إلى اإلحساس بوضع أسوأ‬ ‫مع الوقت»‬

‫قد ت�ضع دوامة احل�سد يف (في�سبوك) بع�ضنا �ضد بع�ض‪،‬‬ ‫تقول كرا�سنوفا‪« :‬يظهر بحثنا بو�ضوح �أنه يف حاالت‬ ‫كثرية تُرى املعلومات التي ير ّوج فيها ال�شخ�ص لذاته‬ ‫ب�شكل �سلبي‪ ،‬وتُطلق عليه �أحكام ُم�سبقة من خاللها»‪.‬‬ ‫ويح ّذر بع�ض الباحثني من �أن نرج�سيتنا تنمو �أكرث‬ ‫ف�أكرث‪ ،‬وعاطفتنا تق ّل‪ ،‬نتيج ًة للوقت الذي نق�ضيه يف‬ ‫تخ ّيل �صورتنا على الإنرتنت‪ ،‬يقول �إيبلي‪« :‬لي�س هناك‬ ‫كثري من البيانات التي ت�شري �إىل �أن الرنج�سية �شيء‬ ‫جيد؛ فهي �شيء جيد يف املدى الق�صري‪ ،‬لكنها لي�ست‬ ‫جيدة يف املدى الطويل فيما يتع ّلق بالعالقات»‪.‬‬ ‫�أكرث ما يثري االهتمام يف نتائج البحوث احلديثة هو �أن‬ ‫الأ�شخا�ص يف الواقع ُي�ؤذون �أنف�سهم عندما ال ين�شرون‬ ‫�شيئ ًا يف الإنرتنت؛ ففي درا�سة لكرو�س وزمالئه‪ ،‬ومنهم‬ ‫الطبيب النف�سي فيليب فريدوين من جامعة ما�سرتخت‬ ‫يف هولندا‪ُ ،‬ن�شرت هذا العام‪ ،‬وقاموا فيها بدعوة ‪٨٤‬‬ ‫طالب ًا جامعي ًا من جامعة مي�شيجان �إىل معمل‪ ،‬و�أعطوا‬ ‫ن�صف الطالب تعليمات با�ستخدام (في�سبوك) ب�شكل‬ ‫ف ّعال‪ ،‬بينما �أعطوا الن�صف الآخر تعليمات با�ستخدامه‬ ‫ب�شكل �سلبي‪ .‬ي�شرح فريدوين معنى اال�ستخدام الفعال‬ ‫ب�أنه حتديث احلالة‪ ،‬والدرد�شة‪ ،‬والر ّد على تعليق‪،‬‬ ‫بينما اال�ستخدام ال�سلبي هو النظر �سريع ًا �إىل �آخر‬ ‫الأخبار‪ ،‬وم�شاهدة ال�صور وحتديثات احلاالت‪ .‬بعد‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫المنطوق أفضل من المكتوب‬

‫‪99‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪100‬‬

‫اللقاء املبا�شر �أف�ضل من التوا�صل عرب الو�سائل الإلكرتونية‬

‫اجلل�سة ب�ساعات قليلة مل يتغيرّ �شعور امل�ستخدمني بطريقة‬ ‫ف ّعالة‪ ،‬بينما �شعر امل�ستخدمون ب�شكل �سلبي بهبوط يف‬ ‫مزاجهم‪ ،‬يقول كرو�س‪« :‬عندما ت�ستخدم (في�سبوك)‬ ‫بطريقة �سلبية تنمو لديك م�شاعر احل�سد‪ ،‬وهو ما قد ي�ؤدي‬ ‫�إىل الإح�سا�س بو�ضع �أ�سو�أ مع الوقت»‪.‬‬ ‫وتعد هذه النتيجة ‪-‬من جه ٍة‪� -‬شيئ ًا جيد ًا؛ فهي تعني �أن‬ ‫هناك طريق ًة ما للهروب من اكتئاب (في�سبوك) من دون‬ ‫فقدان الفوائد الإيجابية ملواقع التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫وهي �أن تكون فعا ًال �أكرث‪ ،‬لكن يف املقابل قليل منا هو‬ ‫َمن ي�ستفيد من هذا املنفذ‪ .‬والحظ فريدوين وزمال�ؤه‬ ‫�أن ‪ ٪٥٠‬تقريب ًا من امل�ستخدمني ّ‬ ‫يف�ضلون ا�ستخدام‬ ‫(في�سبوك) بطريقة �سلبية على �أن ي�ستخدموه بطريقة‬ ‫ف ّعالة‪ ،‬وهذه الن�سبة لي�ست مق�صور ًة على جيل الألفية؛‬ ‫�إذ ت�شري �شركة (جلوبال ويب �إنديك�س) لأبحاث الت�سويق‬ ‫�إىل �أن ‪ ٪٥٢‬فقط من م�ستخدمي (في�سبوك) عام‬ ‫‪٢٠١٤‬م هم م�ستخدمون ف ّعالون‪ ،‬و�أن هذه الن�سبة نزلت‬ ‫عما كانت عليه عام ‪ ،٢٠١٢‬وهي ‪ .٪٧٠‬لي�س وا�ضح ًا‬

‫�سبب كون النا�س بهذه ال�سلبية؛ رمبا لأن الت�صفح‬ ‫يتطلب جهد ًا �أق ّل من الن�شر يف الإنرتنت‪ ،‬لكن هناك‬ ‫بحوث �أخرى عن اجلوانب املظلمة لـ(في�سبوك)‪ ،‬ت�شري‬ ‫�إىل �أن بع�ض النا�س يخافون �أن يهينوا غريهم من غري‬ ‫ق�صد‪ ،‬وي�ضعون عالقاتهم ووظائفهم يف خطر‪� ،‬أو �أنهم‬ ‫يبدون ك�أنهم فا�شلون ي�ضيعون �أوقاتهم يف الإنرتنت؛‬ ‫ف�شبح الظهور للعامة ب�شكل مخُ جل يحوم فوق ك ّل ر�سالة‬ ‫يريد ال�شخ�ص ن�شرها‪ ،‬يقول كرو�س‪ :‬مهما يكن ال�سبب‬ ‫«ف�أغلب الأوقات التي ي�ستخدم الأ�شخا�ص فيها مواقع‬ ‫التوا�صل االجتماعي ي�ستخدمونها بطريقة ُيحتمل �أن‬

‫يحذّ ر بعض الباحثين من أن نرجسيتنا‬ ‫ّ‬ ‫تقل‪،‬‬ ‫تنمو أكثر فأكثر‪ ،‬وعاطفتنا‬ ‫نتيجةً للوقت الذي نقضيه في تخ ّيل‬ ‫صورتنا على اإلنترنت‬


‫تكون �ضارة»‪ ،‬وهي اال�ستخدام ال�سلبي‪.‬‬ ‫حل�سن احلظ �أن �أبحاث مواقع التوا�صل االجتماعي جمال‬ ‫علمي قد تتح ّول النتائج فيه �إىل جتارب ب�سرعة الربق؛‬ ‫فمن املحتمل �أن تُظهر الدرا�سات �سلوكيات نافعة و�ضارة‬ ‫تتعدّى م�س�ألة اال�ستخدام الفعال وال�سلبي‪ ،‬وكذلك ّ‬ ‫تو�ضح‬ ‫النتائج جمموعات خمتلفة من امل�ستخدمني‪ ،‬ك�أ�شخا�ص‬ ‫من ثقافات خمتلفة‪ ،‬وفئات عمرية خمتلفة‪ ،‬وعوامل نف�سية‬ ‫خمتلفة؛ فما زال العلماء تنق�صهم ال�صورة ال�شاملة لكيفية‬ ‫عمل تكنولوجيا مواقع التوا�صل على الطبيعة الإن�سانية‪،‬‬ ‫التو�صل‪ ،‬من‬ ‫لكن يقول كرو�س‪« :‬ما ن�أمله هو �أن ن�ستطيع ّ‬ ‫خالل تع ّرف الآلية التي تدفع النا�س �إىل ال�شعور بال�سوء‪،‬‬ ‫�إىل �صيغ ٍة للطريقة املثلى للتعامل مع التكنولوجيا»‪.‬‬ ‫قد ت�ساعد بع�ض خ�صائ�ص (في�سبوك) على ا�ستخدامها‬ ‫يف البحث من الآن؛ ففي عام ‪٢٠١١‬م قدّم املوقع خا�صية‬ ‫(*) املقال مرتجم عن مقال لت�شيل�سيا والد من�شور يف جملة‬ ‫(قوائم الأ�صدقاء)‪ ،‬التي ميكننا ا�ستخدامها يف ح�صر‬ ‫نوتيال�س الأمريكية‪ ،‬على الرابط‪:‬‬ ‫طلباتنا من الدعم االجتماعي يف �أ�شخا�ص من املحتمل‬ ‫‪http://nautil.us/issue/31/stress/is-facebook-luring‬‬‫�أن يكونوا مهت ّمني‪ ،‬وهو ما يعفي بقية جهات االت�صال‬ ‫‪you-into-being-depressed.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫من (الإرهاق االجتماعي)‪ ،‬ويف عام ‪٢٠١٣‬م ح�صلنا‬ ‫على خا�صية (�إلغاء املتابعة)‪ ،‬التي ت�ساعدنا على‬ ‫تخفيف الإرهاق واحل�سد‪ ،‬وقد تزيد خا�صيتا (الأ�صدقاء‬ ‫القريبون) عام ‪٢٠١٤‬م‪ ،‬و(االت�صال املرئي) عام ‪2015‬م‪،‬‬ ‫من التفاعل وجه ًا لوجه‪ ،‬وهو ما يرفع من املزاج ب�شكل‬ ‫ثابت ح�سب درا�سات كرو�س‪ ،‬وقريب ًا �ستز ّودنا خا�صية‬ ‫(التفاعل)‪ ،‬التي هي بديلة لز ّر (الإعجاب)‪ ،‬وت�شمل‬ ‫(احلب) و(الفرح) و(احلزن)‪ ،‬بخيارات لل�سلوكيات‬ ‫اخلوا�ص �أهمي ًة‪ ،‬التي قد ن�ستخدمها‬ ‫الف ّعالة‪ .‬لكن �أكرث‬ ‫ّ‬ ‫يف البحوث‪ ،‬هي خا�صية متع ّلقة بامل�ستخدم ذاته‪ ،‬ولي�س‬ ‫التكنولوجيا‪ ،‬وهي التعاطف؛ ف�إنه �إجناز رائع للح�ضارة‬ ‫الب�شرية �أن يكبت النا�س ك ّل يوم غريزتهم يف التناف�س‬ ‫مع الآخرين؛ لأنهم يريدون �أن يبنوا عالقات جمزية‬ ‫ذات معنى‪ ،‬لكننا يف الإنرتنت جنعل ‪-‬من غري ق�صدٍ ‪-‬‬ ‫�أ�صدقاءنا ي�شعرون بالف�شل‪ ،‬ون�ساهم يف خلق دوامة من‬ ‫احل�سد‪ ،‬نحن �أي�ض ًا مع ّر�ضون للوقوع فيها‪ ،‬عن طريق‬ ‫تلميعنا �أنف�سنا؛ كن�شرنا �صور رحالتنا‪ ،‬و�صورنا املثالية‬ ‫التي ندّعي فيها �أننا ا�ستيقظنا بهذا ال�شكل‪ ،‬وغريها من‬ ‫الق�ص�ص التي نتوا�ضع فيها جلذب االنتباه لنا ب�شكل‬ ‫�إيجابي‪ ،‬تقول كرا�سنوفا‪ :‬تعطينا الأبحاث املتزايدة عن‬ ‫اجلانب املظلم من مواقع التوا�صل االجتماعي الفر�صة‬ ‫خللق �آداب جديدة ملواقع التوا�صل االجتماعي قد‬ ‫تعيد عامل (في�سبوك) �إىل العامل الواقعي‪ ،‬ونقدّر فيه‬ ‫�صداقاتنا احلقيقية‪ ،‬وندفع فيه ثمن االهتمام ومنافعه‪،‬‬ ‫ويجب �أن ن�ستغ ّل هذه الفر�صة‪ ،‬لي�س لأنها �ستزيل توترنا‪،‬‬ ‫بل لأن بع�ض �أنواع التوتر ت�ستحق اجلهد‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫تقنية‬

‫باحثان ط ّبقا طرائق علم األعصاب على‬ ‫رقاقة حاسوب قديمة‪ ،‬ويم ّثل هذا البحث‬ ‫نداء استفاقة للمجال كله‪.‬‬ ‫يحتوي دماغ اإلنسان على ‪ 86‬مليار خلية‬ ‫عصبية مسؤولة عن جميع مساعي‬ ‫البشرية العلمية والفنية؛ إذ يوصف الدماغ‬ ‫بأنه أكثر األشياء تعقيد ًا في هذا الكون‪.‬‬ ‫وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬فإن رقاقة ‪MOS‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 6502‬تحتوي على ‪ 3510‬مقحل‪،‬‬ ‫تشغل‬ ‫لعبة (سبيس إنفيدرز)‪ ،‬ومع ذلك فهي‬ ‫ليست أعقد األشياء في جيب‬ ‫شخص ما‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كامل‪ ،‬لكننا نعلم‬ ‫بشكل‬ ‫نحن نفهم الرقاقة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫القليل جد ًا عن كيفية عمل الدماغ‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫هل‬

‫يمكن لعلماء‬ ‫األعصاب فهم لعبة‬ ‫«دونكي كونج»؟‬ ‫‪103‬‬ ‫عبدالعزيز الشهري‬ ‫مترجم سعودي‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الطرائق امل�ستخدمة يف الدماغ ‪ ..‬هل ت�صلح للمعالج اال�صطناعي؟‬

‫�س�أل �إيريك جونا�س وكونراد كوردجن ع ّما ميكن �أن يحدث‬ ‫�إذا در�سوا هذه الرقاقة بطرائق علماء الأع�صاب‪ ،‬وهل‬ ‫الطري املع ّقد �ستنجح‬ ‫الطرائق امل�ستخدمة على الدماغ‬ ‫ّ‬ ‫عندما تُ�ستخدم على معالج ا�صطناعي �أق ّل تعقيد ًا؟ وهل‬ ‫�سيكت�شفون ك ّل ما ميكن اكت�شافه عن مقاحله‪ ،‬وبواباته‬ ‫املنطقية‪ ،‬وكيفية معاجلتها املعلومات وت�شغيلها �ألعاب‬ ‫الفيديو الب�سيطة؟ وهل با�ستطاعتهما فهم لعبة (دونكي‬ ‫كوجن) با�ستخدام طرائق علم الأع�صاب بغ�ض النظر‬ ‫عن االنتباه وامل�شاعر والتع ّلم والذاكرة والإبداع؟‬ ‫فهم معالج دقيق‬

‫‪104‬‬

‫لي�س با�ستطاعتهم‪ ،‬ولي�سوا قريبني من ذلك؛ فعلى الرغم‬

‫من �أن الثنائي عرفا ك ّل �شيء عن الرقاقة‪ ،‬وحالة كل‬ ‫مقحل‪ ،‬واجلهد الكهربائي املمتد يف كل �سلك‪� ،‬إال �أن‬ ‫ا�ستدالالتهم كانت متوا�ضعة يف �أف�ضل الأحوال‪ ،‬وم�ض ّللة‬ ‫يف �أ�سوئها‪ ،‬يقول جونا�س‪« :‬معظم �أ�صدقائي اعتقدوا‬ ‫�أننا �سنجد �شيئ ًا عن كيفية عمل املعالج‪ ،‬لكن الذي‬ ‫ا�ستخرجناه كان �سطحي ًا جد ًا‪ ،‬ما ر�أيناه هو �أن املعالج‬ ‫كانت له �ساعة‪ ،‬وكانت تقر أ� وتكتب يف الذاكرة يف معظم‬ ‫الأحيان‪ .‬هذا جميل‪ ،‬لكن يف العامل احلقيقي هذا الأمر‬ ‫يعني جمموعة بيانات تكلف ماليني الدوالرات»‪.‬‬ ‫ن�شر الثنائي يف الأ�سبوع الأخري من �شهر مايو عام‬ ‫‪2012‬م معنون ًا بـ(هل ميكن لعلماء الأع�صاب فهم معالج‬ ‫دقيق؟) بعد مقال قدمي عام ‪2002‬م‪ ،‬وهو يع ّد جتربة‬


‫نعلم أن بعض األدوية تؤ ّثر في‬ ‫الدماغ‪،‬‬ ‫وتحسن من حياة البشر‪ ،‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫ال نعلم بالضبط كيفية عملها‪ .‬كما‬ ‫نالحظ أن ضرر ًا في منطقة معينة‬ ‫من الدماغ يفقد الناس قدرات‬ ‫معينة من دون أن نعلم طبيعة‬ ‫عمل تلك المنطقة‬

‫مبادرة الدماغ‬

‫ع ّلق كثري من العلماء �آمالهم على البيانات ال�ضخمة‬ ‫امل�ستقاة من التقنيات اجلديدة التي با�ستطاعتها ت�سجيل‬ ‫حركات �آالف اخلاليا الع�صبية ب�شكل م�ستقل‪ ،‬وو�ضع‬ ‫خريطة الت�صاالتها‪ ،‬وت�صوير �أن�شطة دماغ احليوانات‬ ‫احلية ب�شكل كامل‪ ،‬وتكل ّفت هذه الآمال ميزانيات �ضخمة‬ ‫جد ًا؛ ففي عام ‪2013‬م ك ّلف م�شروع الدماغ الب�شري‬ ‫(امل�ضطرب) املفو�ضية الأوروبية ‪ 1.3‬مليار دوالر ملحاولة‬ ‫بناء حماكاة للدماغ‪ ،‬و�أطلق الرئي�س الأمريكي باراك‬ ‫�أوباما مبادرة الدماغ‪ ،‬وهي خطة طموحة لتطوير تقنيات‬ ‫جديدة لت�صوير الدماغ‪ ،‬يقول جونا�س‪« :‬عندما أُ�علن عن‬ ‫مبادرة الدماغ قلتُ يف نف�سي‪ :‬يا �إلهي‪ ،‬امل�ستقبل �سيكون‬ ‫هنا‪ .‬لكن امل�شكلة كانت �أ�صعب مما تخ ّيلتُ ؛ فالبيانات‬ ‫ال�ضخمة لن تنقذنا»‪.‬‬ ‫خطرت هذه الفكرة جلونا�س بعد قراءته عن فريق‬ ‫من (علماء �آثار الرقائق) �أعادوا تركيب �شريحة‬ ‫‪ MOS 6502‬القدمية بدقة متناهية؛ فقد �ص ّوروها‬ ‫بوا�سطة جمهر‪ ،‬و�ص ّنفوا مناطقها املختلفة‪ ،‬وعرفوا‬ ‫روابطها‪ ،‬بال�ضبط كما يفعل علماء الأع�صاب عندما‬ ‫ير�سمون خريطة ل�شبكة اخلاليا الع�صبية‪� ،‬أو ما ي�سمى‬ ‫(الكونكتوم)‪ ،‬يقول جونا�س‪�« :‬أذهلني �أن التقنيات‬ ‫نف�سها ي�ستخدمها ع�شاق احلو�سبة القدمية»‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫بكم كبري من البيانات‪ ،‬وجتربة‬ ‫ذهنية م�سلية مدعمة ٍّ‬ ‫جدية جد ًا يف الوقت نف�سه‪ .‬وعلى الرغم من �أن هذه‬ ‫التجربة يجب �أن تخ�ضع ملراجعة ر�سمية من نظرائهما‬ ‫يف هذا املجال �إال �أن كثري ًا من علماء الأع�صاب الآخرين‬ ‫�س ّموها (البحث التاريخي)‪ ،‬و(حلظة التح ّول)‪،‬‬ ‫و(البحث الذي يف �أذهاننا ومل جنر�ؤ على كتابته)؛ فقد‬ ‫كتب �ستيف فليمنج ‪-‬من جامعة كلية لندن‪ -‬يف مدونته‪:‬‬ ‫«مع �أن اكت�شافاتهم لن تكون بال�ضرورة مفاجئ ًة مل�صمم‬ ‫رقائق �إلكرتونية �إال �أنها �سبب لتوا�ضع علماء الأع�صاب‪.‬‬ ‫هذا النوع من البحث عن الذات هو ما نحتاج �إليه‬ ‫لن�ضمن �أن علم الأع�صاب ي�سري يف االجتاه ال�صحيح»‪.‬‬ ‫الحظت �إليزابيث كالرك بولرن ‪-‬من جامعة ييل‪� -‬أن‬ ‫طريقة الثنائي ما هي �إال ممار�سة طبيعية يف جماالت‬ ‫كالفيزياء؛ فهي تقول‪« :‬يف املنظمة الأوروبية للأبحاث‬ ‫النووية‪ ،‬يخترب الباحثون خوارزمياتهم �أو ًال با�ستخدام‬ ‫(�إعادة االكت�شاف) على �سل�سلة من اجل�سيمات‬ ‫املعروفة القدمية قبل �أن ي�ستخدموها على بيانات‬ ‫م�صادم الهدرونات الكبري للبحث عن ج�سيمات‬ ‫جديدة كج�سيم هيجز»‪ ،‬وت�ضيف‪« :‬يف علوم �أخرى‬ ‫�شح يف هذه الطرائق»‪.‬‬ ‫كالأحياء ال يزال هناك ّ‬ ‫قد ُيجادل النقاد ب�أن الدماغ لي�س حا�سوب ًا؛ فهو �أكرث‬

‫فو�ضوية يف بنائه‪ ،‬وخمتلف جذري ًا يف طريقة تعامله مع‬ ‫املعلومات والذاكرة‪ ،‬وهو ي�أتي مع ج�سم مرافق له‪ .‬هذا‬ ‫الأمر �صحيح‪ ،‬لكن ُيفرت�ض �أن ت�ؤدي اختالفات الرقاقة‬ ‫الكثرية �إىل جعلها �أ�سهل للفهم من الدماغ‪ ،‬وهو ما مل يكن‬ ‫مالحظ ًا؛ لذلك يجب �أن نكون حذرين من احلالة الراهنة‬ ‫لعلم الأع�صاب وم�ستقبله‪ ،‬وت�ضيف كالرك بولرن‪« :‬هذا‬ ‫الأمر يوحي ب�أن اعتقاداتنا ب�ش�أن حتقيق تقدّم �أكرب يجب‬ ‫�أن ُيعاد توازنها»‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪106‬‬

‫و�أ�ضاف‪« :‬دفعني ذلك �إىل التفكري يف �أن التماثل‬ ‫(بني الرقاقة والدماغ) �سيكون كبري ًا»‪.‬‬ ‫ا�ستخدم جونا�س وكوردجن‪ ،‬بد ًال من رقاقة حقيقية‪،‬‬ ‫حماكا ًة دقيق ًة لدرجة ت�شغيلها لألعاب قدمية؛ مثل‪:‬‬ ‫دونكي كوجن‪ ،‬و�سبي�س �إنفيدرز‪ ،‬وبيتفل‪ ،‬وهو ما �أتاح لهم‬ ‫املعرفة التجريبية والقدرة الكلية‪ ،‬وم ّكنهم من معرفة‬ ‫كل �شيء‪ ،‬وتطويع �أي �شيء؛ فعلى �سبيل املثال‪ :‬كان‬ ‫با�ستطاعتهما تعطيل � ّأي من مقاحل الرقاقة‪،‬‬ ‫استدالالت مضللة‬

‫ووجدوا بفعل ذلك �أن هناك مقاحل �أ�سا�سية لت�شغيل‬ ‫الألعاب الثالثة‪ ،‬ومقاحل مهمة لواحدة منهن فقط‪.‬‬ ‫كان علماء الدماغ يفعلون �شيئ ًا م�شابه ًا على مدى عدة‬ ‫قرون من خالل درا�سة �أ�شخا�ص لديهم تلف دماغي‬ ‫حمدّد‪� ،‬أو �إيقاف م�ؤقت ملناطق حمددة يف الدماغ‪،‬‬ ‫ومت ّكنوا يف هذه الدرا�سات من ت�صنيف مناطق خمتلفة؛‬

‫كمراكز الذاكرة‪ ،‬ومراكز اللغة‪ ،‬ومراكز العواطف‪ ،‬لكن‬ ‫عمل جونا�س وكوردجن يبينّ �سبب كون هذه اال�ستدالالت‬ ‫م�ضلل ًة؛ فهم مل يجدوا (مقاحل دونكي كوجن)‪� ،‬أو‬ ‫(مقاحل �سبي�س �إنفيدرز)‪ ،‬و�إمنا وجدوا مك ّونات تنفذ‬ ‫عمليات �أ�سا�سية ت�صادف �أن تكون مهمة لهذه الألعاب‪.‬‬ ‫حاول جونا�س وكوردجن جتربة خم�س طرائق م�شهورة‬ ‫خمتلفة‪ ،‬هي‪ :‬املماثالت لتحليل اخلاليا الع�صبية ب�شكل‬ ‫م�ستق ّل‪� ،‬أو الأن�شطة املتو�سطة يف منطقة �صغرية كما‬ ‫يف فح�ص الدماغ بتقنية الت�صوير بالرنني املغناطي�سي‬ ‫الوظيفي‪� ،‬أو �أخذ نظرة فاح�صة والبحث عن ت�شابه‬ ‫الأمناط يف الدماغ ب�شكل كامل‪ .‬لكن مل يبينّ � ّأي مما‬ ‫�سبق للفريق �شيئ ًا مفيد ًا عن كيفية عمل هذه الرقاقة‪،‬‬ ‫تقول كيلي كالن�سي من جامعة بازل‪�« :‬أرى هذا البحث‬ ‫فح�ص ًا حقيقي ًا رائع ًا لهذا املجال‪ .‬نحن ال تنق�صنا‬ ‫البيانات‪ ،‬لكن تنق�صنا طرائق تف�سريها»‪.‬‬ ‫وال يعني ذلك �أن علماء الأع�صاب كانوا ي�ض ّيعون‬


‫االنتهاء إلى حالة غير جيدة‬

‫وللم�ضي قدم ًا يقول جونا�س‪ :‬يجب �أن يبذل علماء‬ ‫ّ‬ ‫الأع�صاب جهد ًا �أكرب يف اختبار نظرياتهم عن الدماغ؛‬ ‫فهناك «نظريات كثرية ب�ش�أن كيفية عمل �أجزاء معينة‬

‫(*) املقال مرتجم عن مقال �إذ يوجن املن�شور يف �صحيفة (ذا‬ ‫�أتالنتيك)‪ ،‬على الرابط‪:‬‬

‫ ‪h t t p ://w w w .t h e a t l a n t i c .c o m /s c i e n c e /a r‬‬‫‪chive/2016/06/can-neuroscience-understand-don‬‬‫‪key-kong-let-alone-a-brain/485177.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫وقتهم‪� ،‬أو �أننا ال نعلم �شيئ ًا عن الدماغ؛ فنحن نعلم �أن‬ ‫وحت�سن من حياة الب�شر‪،‬‬ ‫بع�ض الأدوية ت�ؤ ّثر يف الدماغ‪ّ ،‬‬ ‫لكن ال نعلم بال�ضبط كيفية عملها‪ .‬كما نالحظ �أن‬ ‫�ضرر ًا يف منطقة معينة من الدماغ يفقد النا�س قدرات‬ ‫معينة من دون �أن نعلم طبيعة عمل تلك املنطقة‪،‬‬ ‫وت�ضيف كالن�سي‪« :‬تقنيات علم الأع�صاب بعيدة كل‬ ‫البعد من كونها غري مفيدة‪� ،‬إنها قراءات فعالة يف‬ ‫ال�صحة‪ ،‬واملر�ض‪ ،‬والتغريات املتعلقة مبر�ض معني‪،‬‬ ‫والتعليم‪ ،‬وامل�ستح�ضرات ال�صيدالنية‪ ،‬وهلمجر ًا‪ ،‬لكن‬ ‫ا�ستخدامها ال�ستخراج معنى عن املنطق اجلوهري‬ ‫جلهازنا الع�صبي م�س�ألة �أخرى»‪.‬‬

‫من الدماغ‪ ،‬لكنها ال تنتج تنب�ؤات قابلة لالختبار‪.‬‬ ‫لديهم كثري من املقاب�ض التي ميكن �أن نديرها كي‬ ‫من ّدها ب�شكل ع�شوائي لتتنا�سب مع �أجزاء من هذه‬ ‫البيانات‪ ،‬ومن ال�صعب جد ًا كبح بع�ض هذه الأفكار �أو‬ ‫تقييدها»‪ .‬قد ت�ساعد املعاجلات الدقيقة �إذا كان لدى‬ ‫�أحدهم نظرية عن كيفية تعامل الدماغ مع املعلومات‪� ،‬أو‬ ‫طريقة لتحليل بيانات الدماغ‪ ،‬يقول كوردجن‪« :‬لرنى كم‬ ‫�سيق ّربنا فهمنا للرقاقة؛ فما مل يعمل على الرقاقة كيف‬ ‫نفرت�ض �أنه �سيعمل على الدماغ؟»‬ ‫يريد جونا�س حالي ًا من زمالئه يف هذا املجال �أن يكونوا‬ ‫حذرين بخ�صو�ص الوعود التي يقطعونها؛ لأن �إطالق‬ ‫مبادرة الدماغ كان مقرون ًا بوعود بالغية ب�ش�أن فهم‬ ‫حاالت ع�صبية ونف�سية كثرية وعالجها؛ لذلك يقول‪:‬‬ ‫«نحن بعيدون ك ّل البعد من ذلك‪� .‬أنا قلق من �أنه �إذا‬ ‫وعدنا بوعود ُمبا َلغ فيها‪ ،‬ثم ق ّدمنا �أق ّل من ذلك‪ ،‬فهذا‬ ‫يعني �أننا �سننتهي �إىل حالة غري جيدة»‪.‬‬

‫‪107‬‬


‫علم نفس‬

‫أنت اآلن أمام الكاشير‪ /‬المحاسب‪ ،‬تريد‬ ‫أي‬ ‫أن تشتري شيئاً‪ ،‬لكن لألسف ال يوجد ّ‬ ‫طابور‪ /‬صف‪ ،‬جموع‬ ‫متكدسة‪ ،‬والكل يأخذ‬ ‫ّ‬ ‫دور اآلخر‪ ،‬وهو ما يجعلك تشعر بضغط‬ ‫نفسي يجعل تجربة الشراء هذه مزعجة‬ ‫ّ‬ ‫جد ًا لك‬ ‫ولكل الموجودين‪ .‬عدم التزام‬ ‫الطابور مشكلة بسيطة من مشكالت‬ ‫متعددة نراها حولنا‪ ،‬ونتمنى أن نجد لها‬ ‫حالً‪ .‬كيف يمكن أن نغ ّير سلوك األفراد في‬ ‫موقف معين؟ لنفكّ ر قلي ً‬ ‫ال في مشكلتنا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الحل؟‬ ‫«عدم التزام الطابور»‪ ،‬ما‬

‫‪108‬‬


‫التغيير الناعم‪:‬‬ ‫سأدفعك إلى التغيير‬ ‫من دون أن تشعر‬ ‫‪109‬‬ ‫إياد الداود‬ ‫كاتب سعودي ومخرج إبداعي‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪110‬‬

‫(ال�سلطة) و�سيل ًة لفر�ض ال�سلوك‬ ‫ن�ستطيع �أن ن�ستخدم ُّ‬ ‫ال�صحيح‪ ،‬ومن املمكن �أن نعينّ �شخ�ص ًا يفر�ض خمالف ًة‬ ‫على ك ّل �شخ�ص ال يلتزم الطابور؛ فاخلوف من العقاب‬ ‫رمبا يدفع الأ�شخا�ص �إىل التزام ال�سلوك املطلوب‪ ،‬لكن‬ ‫هل هذا احل ّل جمدٍ فع ًال؟ ماذا �سيحدث عندما تغيب‬ ‫هذه ال�سلطة؟ الو�ضع �سيعود �إىل ما كان عليه‪ ،‬وما �شعور‬ ‫الأ�شخا�ص جتاه هذه ال�سلطة؟ �سيلتزمون الطابور على‬ ‫م�ض�ض‪� ،‬شعور ًا منهم ب�أنه �إجبار‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لنف ّكر يف ٍّ‬ ‫حل �آخر‪ :‬زيادة الوعي؛ لن ُقم برفع الوعي جتاه‬ ‫هذه امل�شكلة ليبد�أ اجلميع بالتزامها‪ ،‬لكن هل ن�ستطيع‬ ‫فع ًال تغيري الوعي؟ رمبا نحتاج �إىل �سنوات من ال�ضخّ‬ ‫كاف‬ ‫الإعالمي جتاه ق�ضية معينة حتى ُيبنى حولها وعي ٍ‬ ‫م�ؤ ّثر يف ال�سلوك‪ ،‬هل لدينا الوقت؟ وهل �أي�ض ًا الوعي‬ ‫كاف لأن يغيرّ �سلوكيات الأ�شخا�ص؟ ت�ؤ ّكد درا�سات‬ ‫وحده ٍ‬ ‫متعددة من علم النف�س االجتماعي (جتربة �سجن‬ ‫�ستانفورد‪ ،‬وجتربة ميلجرام‪ ،‬وغريهما) �أن ال�سياق‬ ‫الذي نكون فيه �أقوى من وعينا؛ مبعنى �أنه عندما ترى‬ ‫تكد�س ًا �أمام الكا�شري فمهما كنت ت�ؤمن ب�أهمية الطابور‬ ‫ف�إنك �ستتزاحم مع املتزاحمني لتحقيق هدفك؛ فالبيئة‬ ‫املحيطة �أقوى من وعيك‪.‬‬ ‫التالعب بالبيئة المحيطة‬

‫هل يوجد م�سار ثالث �إذ ًا؟ نعم‪ .‬ي�ؤ ّكد جماال االقت�صاد‬ ‫ال�سلوكي وعلم النف�س االجتماعي �أننا ن�ستطيع �أن نتالعب‬ ‫واع‪ -‬يف الأ�شخا�ص‬ ‫بالبيئة املحيطة حولنا لن�ؤ ّثر ‪-‬ب�شكل غري ٍ‬ ‫لدفعهم �إىل اتخاذ �سلوك معني‪ ،‬وتُعرف هذه الفل�سفة‬ ‫بـ(عمارة اخليارات ‪.)Choice Architecture‬‬ ‫لن ُعد �إىل م�شكلتنا‪ ،‬كيف ن�ستطيع ح ّلها وفق ًا لعمارة‬ ‫اخليارات؟ الأمر ب�سيط جد ًا‪ :‬ن�ضع يف البيئة املحيطة‬ ‫م�سار ًا �أمام الكا�شري؛ فهذا التغيري يف البيئة (وجود‬ ‫امل�سار) �سيدفع الأ�شخا�ص تلقائي ًا �إىل دخول هذا امل�سار‪،‬‬

‫و�ضع م�سار �أمام الكا�شري يدفع ال�شخ�ص تلقائي ًا �إىل التزام الطابور‬

‫والتزام الطابور؛ ف� ّأي �شخ�ص يذهب بجانب امل�سار �سي�شعر‬ ‫ب�ضغط نف�سي �أنه يخالف؛ لأن ت�صميم البيئة �أ�شعره بذلك‪.‬‬ ‫ن�ستطيع �أن ّ‬ ‫نوظف هذا املبد�أ يف جماالت خمتلفة‬ ‫لإحداث تغيري ناعم يف �سلوك الأ�شخا�ص؛ لن�أخذ من‬ ‫املجال ال�صحي مثا ًال‪ :‬نريد �أن نق ّلل من ن�سبة البدانة‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬و�أحد �أ�سباب هذه امل�شكلة �أن ال�شخ�ص ي�أكل‬ ‫�أكرث من حاجته‪ ،‬فما احل ّل؟‬ ‫الإن�سان �سيئ جد ًا يف احلكم على متى يجب �أن يتوقف‬ ‫عن الأكل؛ ففي جتربة ّمت �إعطاء جمموعتني من‬ ‫الأ�شخا�ص علبة ف�شار؛ املجموعة الأوىل �أخذت علبة‬ ‫كبرية احلجم‪ ،‬واملجموعة الثانية �أخذت علبة متو�سطة‬ ‫احلجم‪ ،‬وكانت النتيجة �أن املجموعة الأوىل تناولت‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أقل ّ‬ ‫صغر حجم األطباق‬ ‫لتأكل كمية‬ ‫في المنزل‪ ،‬وبالتأكيد تجنّب (صحن‬ ‫ّ‬ ‫المفطح)؛ ألنه يجعلك تلتهم األكل‬ ‫أي وعي بالكمية‬ ‫التهام ًا من دون ّ‬ ‫التي تأكلها‬


‫�أحتاج �إىل الذهاب �إىل دورة املياه‪ ،‬ويف الطريق �س�أ�شرب‬ ‫املاء)‪ ،‬ولي�س‪�( :‬أنا �س�أقوم من مكاين لأ�شرب املاء الذي‬ ‫ال مي ّثل هدف ًا �ضروري ًا)‪.‬‬ ‫فهم �سيكولوجيا الإن�سان وطريقة اتخاذه القرارات‬ ‫ي�ساعدنا ب�شكل كبري على ت�صميم �أنظمة ومنتجات‬ ‫ومبانٍ ت�ساهم يف دفع النا�س ب�شكل ناعم �إىل اتخاذ‬ ‫ال�سلوكيات الأف�ضل لهم‪ ،‬وال تعطي هذه املقالة �سوى‬ ‫جم ّرد ملحة ب�سيطة لإمكانيات توظيف علمي النف�س‬ ‫االجتماعي واالقت�صاد ال�سلوكي يف حتقيق تغيري �سريع‬ ‫وتلقائي يف املجال االجتماعي‪ ،‬وال�صحي‪ ،‬والتعليمي‪،‬‬ ‫وغري ذلك‪.‬‬

‫الف�شار بكمية �أكرب بـ‪ %53‬من املجموعة الثانية(‪ ،)1‬وكان‬ ‫اجلميع ي�أكلون من دون �أن يعوا متام ًا كمية الأكل التي‬ ‫يتناولونها‪ .‬ن�ستنتج من هذه الدرا�سة �أن تغيري حجم‬ ‫الطبق ي�ؤ ّثر يف كمية الأكل التي ن�أكلها‪ .‬لت�أ ُكل كمية �أق ّل‬ ‫�ص ّغر حجم الأطباق يف املنزل‪ ،‬وبالت�أكيد جت ّنب (�صحن‬ ‫ّ‬ ‫املفطح)؛ لأنه يجعلك تلتهم الأكل التهام ًا من دون � ّأي‬ ‫وعي بالكمية التي ت�أكلها‪.‬‬ ‫ت�شجع‬ ‫مثال �آخر‪ :‬تخ ّيل �أنك مدير �شركة‪ ،‬وتريد �أن ّ‬ ‫موظفيك على �شرب املاء‪ ،‬فكيف ّ‬ ‫توظف عمارة‬ ‫اخليارات لتحقيق ذلك؟ من املمكن �أن تقوم بتحليل‬ ‫حركة املوظفني يف املكان؛ لتجد مث ًال �أن امل�سار امل�ؤدّي‬ ‫�إىل دورة املياه هو امل�سار الذي مي ّر به املوظفون بكرثة؛‬ ‫ً‬ ‫لذلك فو�ضعك برادة مياه يف هذا امل�سار �سي�ساهم تلقائيا (*) املقال مرتجم عن مقال ل�سارة �إي�ست�س من�شور يف �صحيفة (ذا‬ ‫يف زيادة ن�سبة �شرب املوظفني للماء‪ ،‬ملاذا؟ لأن وجودها �أتالنتيك)‪ ،‬على الرابط‪:‬‬ ‫ ‪h t t p ://w w w .t h e a t l a n t i c .c o m /h e a l t h /a r‬‬‫ً‬ ‫ّ‬ ‫�سيذكر املوظف بها على خالف �أن تكون خمتبئة يف مكان ‪c hive/2012/12/the-myth-of-self-correcting-sci-‬‬ ‫�آخر‪ ،‬ولأنك جعلتها جزء ًا من هدف �آخر �ضروري‪�( :‬أنا‬ ‫‪ence/266228.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫كلما زاد حجم الطبق زادت كمية الطعام املتناول‬

‫‪111‬‬


‫فلسفة‬

‫يعيب بعض المذاهب الفلسفية المادية‬ ‫على المؤمنين في الديانات السماوية‬ ‫أنهم ‪-‬في رأيهم‪ -‬ال يستطيعون إثبات‬ ‫صحة معتقداتهم‪ ،‬ويتقبلون التعاليم‬ ‫الدينية عن طريق (اإليمان)‪ ،‬ال (المعرفة)‪.‬‬ ‫ويذهب بعضهم ساخر ًا إلى أن عالم‬ ‫خفي‪،‬‬ ‫الالهوتيين (غير المرئي) هو أمر‬ ‫ّ‬ ‫مثل بذلة اإلمبراطور الخفية في قصة‬ ‫الكاتب الدانماركي هانس كريستيان‬ ‫أندرسن (‪5781 -5081‬م) المعروفة‪ .‬وكما‬ ‫هو األمر في تلك القصة‪ ،‬ال يتسنّى اإليمان‬ ‫بـ(غير المرئي) إال ألولئك الذين يكفّ ون عن‬ ‫تصديق أعينهم‪ ،‬وآذانهم‪ ،‬وعقلهم‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫فلسفة‬ ‫اإليمان‬ ‫من منظور الرياضيات‬ ‫‪113‬‬ ‫د‪ .‬محمود باكير‬ ‫عضو هيئة التدريس في جامعة اليرموك‬ ‫الخاصة بدمشق‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪114‬‬

‫�أر�سطو‬

‫ويردّد �أتباع هذا املذهب يف �أدبياتهم قول املحامي‬ ‫الفرن�سي جان بودان يف القرن ال�ساد�س ع�شر امليالدي‪:‬‬ ‫«ميكن القول عن دار�س الريا�ضيات الذي ي�صدّق‬ ‫النظرية عندما يطرحها معلمه من دون �أن يفهمها‪:‬‬ ‫�إنه يتحلى بالإميان بغري �أن ميتلك املعرفة‪ ،‬ولكنه حاملا‬ ‫يدرك مغزى الربهان‪ ،‬ويقتنع ب�صحة النظرية‪ ،‬ويبلغ‬ ‫املعرفة‪ ،‬يفقد الإميان»‪ .‬وهذا الكالم ما فتئ ُي�ستخدم‬ ‫�إىل يومنا هذا‪ -‬مثا ًال تو�ضيحي ًا للفرق بني (املعرفة)‬‫و(الإميان) يف تعاليم هذا املذهب الفل�سفي(‪.)1‬‬ ‫ي�شري قول جان بودان �إىل (الن�صف العلوي) من‬ ‫احلقيقة �إن جاز التعبري‪ ،‬ولي�س �إىل احلقيقة ب�أكملها؛‬ ‫لأن �أ�شياع هذا املذهب‪ ،‬ومعهم بودان‪ ،‬ن�سوا –كما‬ ‫يبدو– (الن�صف ال�سفلي) من احلقيقة‪ ،‬وهو �أن‬ ‫النظريات (املربهنات) الريا�ضية التي يبنون عليها‬ ‫�آراءهم مبنية على م�صادرات (م�س ّلمات) الريا�ضي‬ ‫الإغريقي �إقليد�س (عا�ش يف القرن الثالث قبل امليالد)‪،‬‬

‫التي �أر�ساها يف كتابه الذائع ال�صيت (الأ�صول)‪ .‬والآن‬ ‫منعن النظر فيما ُيطلق عليه ه�ؤالء (العيب) الذي ُي�ؤخذ‬ ‫على امل�ؤمنني (الت�سليم ب�أ�سا�سيات الإميان) من وجهة‬ ‫نظر الفكر الريا�ضي احلديث‪ ،‬ولنعمل على تقييمه‬ ‫با�ستخدام الريا�ضيات �أكرث العلوم مو�ضوعي ًة ودق ًة‪ ،‬وهو‬ ‫ما يتطلب منا رحلة �إىل الإطار الريا�ضي‪.‬‬ ‫الرياضيات والمسلّمات‬

‫من املعروف �أن الريا�ضيات –بب�ساطة– هي ا�ستنتاجات‬ ‫منطقية لق�ضايا جديدة من ق�ضايا قدمية �سبق �إثباتها‪،‬‬ ‫وهكذا دواليك �إىل �أن ن�صل �إىل ق�ضايا ُي�س َّلم بها‬ ‫وحدها من دون برهان؛ مبعنى �أنه لي�س ثمة ا�ستدالل‬ ‫ريا�ضي من غري وجود معطيات �أولية؛ لذلك فلبناء � ّأي‬ ‫نظام ريا�ضي‪� ،‬أو نظام منطقي‪ ،‬البد من وجود بداية‬ ‫�أو قاعدة لالنطالق منها‪ ،‬وهذه البداية �أ�ضحت الآن‬ ‫(يف الفكر الريا�ضي احلديث) تت�ألف من كلمات معينة‬


‫الفكر‪ ،‬واإليمان ضمن سلع الشخصية‪،‬‬ ‫وهما على النقيض من السلع المادية‬ ‫التي ليس لنا إمكانية اختيارها؛ كالقوة‬ ‫البدنية‪ ،‬أو الثروة التي تهبط علينا فجأة‬ ‫من جائزة مادية‬

‫غري قابلة للتعريف تُ�س ّمى‪ :‬الالمعرفات‬ ‫‪� ،terms‬أو مفاهيم �أولية ‪ ،Primitive terms‬ومن‬ ‫ق�ضايا �أولية ت�سمى‪ :‬م�س ّلمات‪� ،‬أو مو�ضوعات‪� ،‬أو �أحيان ًا‬ ‫ت�سمى الالمربهنات‪ .‬وامل�س ّلمة عالقة ال تُ�ستخرج من‬ ‫عالقة‪� ،‬أو من ق�ضية ‪� proposition‬أخرى‪� ،‬أو ب�صياغة‬ ‫�أخرى‪ :‬هي بيان ‪ statement‬غري ُمثبتة �صحته‪ .‬ورمبا‬ ‫كان الفيل�سوف الإغريقي �أر�سطو (‪ 322 -384‬ق‪ .‬م)‪،‬‬ ‫الذي يعدّه املناطقة م�ؤ�س�س علم املنطق‪� ،‬أول َمن �أبدى‬ ‫‪undefined‬‬

‫هانز كري�ستيان �أندر�سن‬

‫مشكلة وضوح البديهيات‬

‫كان عمل �إقليد�س نقطة انعطاف يف تاريخ الفكر‬ ‫الريا�ضي على الرغم من �أن التعريفات وامل�صادرات‬ ‫يف كتابه املذكور قد ال تل ّبي املتطلبات احلديثة من‬ ‫ناحيتي الدقة وال�صرامة؛ فقد تبينّ الحق ًا‪ ،‬على خالف‬ ‫ما قام به �إقليد�س‪� ،‬أن (النقطة) و(امل�ستقيم) كلمتان‬ ‫من الالمعرفات يف الهند�سة‪ ،‬ولنكن �أكرث دق ًة ف�إن ثمة‬ ‫ثالث كلمات يف الهند�سة الإقليدية ال ميكن تعريفها‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫يمكن تصنيف الرياضيات ضمن سلع‬

‫انتباه ًا �إىل طبيعة امل�سلمات؛ فقد كانت عنده حقائق‬ ‫�أولية‪� ،‬أو �أ�شياء للبدء بها‪ ،‬وكانت هذه احلقائق نوعني‪:‬‬ ‫النوع الأول (�أوليات ‪ ،)axioms‬ومنها تُ�ستنتج حقائق‬ ‫العلم‪ ،‬ومن الأوليات عنده‪ :‬احلدود؛ �أي‪ :‬التعريفات‪،‬‬ ‫والنوع الثاين هو (امل�صادرات ‪ ،)postulates‬ومنها‬ ‫ُيثبت وجود �أ�شياء العلم‪ ،‬وامل�صادرات الزمة –من وجهة‬ ‫نظره– لإثبات �أن ال�شيء موجود يف الطبيعة؛ فال يكفي‬ ‫�أن ن�صوغ لل�شيء التعريف املنا�سب �إذا كان هذا ال�شيء‬ ‫غري موجود‪ .‬بيد �أن �أ�شهر نظام ريا�ضي ابتكره �إقليد�س‬ ‫بعد وقت ق�صري من �أر�سطو وارد يف كتابه (الأ�سطق�سات‬ ‫‪ ،)Stoixia‬الذي �س ّماه العرب كتاب (الأ�صول)‪ ،‬و ُيعرف‬ ‫(‪)2‬‬ ‫بالإجنليزية با�سم (‪The Elements of Euclid‬‬ ‫؛ فقد ا�سته ّل املقالة الأوىل بخم�س أ� ّوليات عامة‪� ،‬أو‬ ‫بديهيات (الأ�شياء امل�ساوية ل�شيء واحد مت�ساوية‪،‬‬ ‫والك ّل �أعظم من اجلزء‪ ،‬و‪ .)....‬كما ع ّرف النقطة‪،‬‬ ‫واخلط‪ ،‬والدائرة‪ ،‬فوجد لزام ًا عليه �أن (ي�صادر)‬ ‫على وجودها؛ فو�ضع امل�صادرات اخلم�س املعروف‬ ‫للهند�سة الإقليدية(‪ .)3‬و(امل�صادرة) كما ّ‬ ‫يدل عليها‬ ‫جذرها ( ُي�صادر على‪� ،‬أو يطالب بــ= ‪)postulare‬‬ ‫تع ّد (مطلب ًا) يتقدّم به الريا�ضي لأن ن�س ّلم له بالبداية‬ ‫(الق�ضايا الأولية) للح�صول على النتائج بعد �سل�سلة من‬ ‫املحاكمات املنطقية‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫هي‪ :‬نقطة‪ ،‬وم�ستقيم‪ ،‬ومتطابق ‪� ،congruent‬أو هناك‬ ‫خيار �آخر‪( :‬نقطة)‪ ،‬و(م�ستقيم)‪ ،‬و(بني ‪،)between‬‬ ‫�أما بقية مفاهيم الهند�سة ف�إنها تُع ّرف با�ستخدام هذه‬ ‫الكلمات الأولية‪.‬‬ ‫يتم‬ ‫جت ّذرت هذه النزعة يف الفكر الريا�ضي احلديث؛ �إذ ّ‬ ‫البحث دوم ًا يف ك ّل فرع من فروع الريا�ضيات البحتة عن‬ ‫الالمعرفات فيه‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل مو�ضوعاته (م�س ّلماته)؛‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫باروخ �سبينوزا‪ -‬فرانز‬

‫‪116‬‬


‫بيانو جوزيبي‬

‫المعرفة واإليمان‬ ‫على الرغم من أن الفالسفة َج َهدوا في‬ ‫التمييز بين (المعرفة) و(اإليمان)‪ ،‬ونظروا‬ ‫إلى البرهان الرياضي على أنه مثال ناصع‬ ‫(للمعرفة)‪ ،‬إال أن هذا البرهان في الحقيقة‬ ‫مبني في أساسه على شكل من أشكال‬ ‫ّ‬ ‫(اإليمان)‪ ،‬وهو التسليم بمجموعة من‬ ‫المسلمات؛ فلن نقتنع بالبرهان إذا لم‬ ‫نسلّم بالمبادئ األساسية التي ُبني عليها‬ ‫النظام كلّه؛ فعملية التمييز هذه ال تخلو‬ ‫واع‪،‬‬ ‫حقيقةً ‪-‬في بعض جوانبها– من زيف ٍ‬ ‫واع‪..‬‬ ‫أو ربما غير ٍ‬

‫فقد �أثبت الريا�ضي الإيطايل غيوزيب بيانو (‪-1858‬‬ ‫‪1932‬م) ‪-‬مث ًال‪� -‬أن نظرية الأعداد الطبيعية كلها ميكن‬ ‫�أن تُ�شتقّ من ثالثة مفاهيم �أ ّولية (غري قابلة للتعريف)‪،‬‬ ‫وخم�س م�س ّلمات‪� ،‬إ�ضافة �إىل ق�ضايا املنطق‪ ،‬واملفاهيم‬ ‫الثالثة الأولية هي‪ :‬ال�صفر‪ ،‬والعدد‪ ،‬والتايل(‪.)4‬‬

‫�شغلت م�شكلة و�ضوح البديهيات‪� ،‬أو الأوليات‪ ،‬حيز ًا‬ ‫كبري ًا من اهتمام الريا�ضيني والفال�سفة قدمي ًا‪ ،‬و� ّ‬ ‫أق�ضت‬ ‫م�ضاجع كثريين منهم؛ فما هو بديهي ل�شخ�ص معني قد‬ ‫ال يكون بديهي ًا ل�شخ�ص �آخر‪ ،‬و�إذا قلنا‪� :‬إن البديهي هو‬ ‫الذي يكون بديهي ًا لقطاع وا�سع من الب�شر‪ ،‬ف�إن تاريخ‬ ‫العلم حافل بالأمثلة عن (حقائق دامغة) كان يعتقد‬ ‫بها هذا القطاع الوا�سع من الب�شر ثم تبينّ �أنها غري‬ ‫�صحيحة‪ ،‬ومن هذه الأمثلة عدم كروية الأر�ض‪ ،‬و�أن‬ ‫مدارات الكواكب حول ال�شم�س دائرية ال�شكل‪ ،‬والأج�سام‬ ‫الثقيلة ت�سقط �أ�سرع من تلك اخلفيفة‪ .‬وما برح �أكرث‬ ‫النا�س �إىل يومنا هذا يعتقدون �أن لك ّل �سطح وجهني‪،‬‬ ‫مع �أن الريا�ضي الأملاين موبي�س (‪1868 -1790‬م) بينّ‬ ‫عام ‪1858‬م �أن ثمة �سطوح ًا �أحادية الوجه‪ ،‬ال وجود فيها‬ ‫ملفهومي (الداخل) و(اخلارج)‪� ،‬أو (الوجه) و(القفا)‪،‬‬ ‫كما �أن هناك �سطوح ًا �أخرى ُمغلقة‪ ،‬مثل (زجاجة‬ ‫كالين)؛ ن�سب ًة �إىل الريا�ضي الأملاين كالين (‪-1849‬‬ ‫‪1925‬م)‪ ،‬التي لي�س لها (داخل) �أو (خارج)(‪.)5‬‬ ‫التحرر من السيطرة اإلقليدية‬ ‫ّ‬

‫من املعروف �أن البداية الفعلية لظهور �إرها�صات التح ّول‬ ‫الكبري يف الفكر الريا�ضي كانت يف الن�صف الأول من‬ ‫القرن التا�سع ع�شر امليالدي على �أيدي الريا�ضيني‪:‬‬ ‫بولياي (‪1860 -1802‬م)‪ ،‬والبا�شيف�سكي (‪-1793‬‬ ‫‪1856‬م)‪ ،‬يف عمليهما املتميزين‪ ،‬اللذين �أ�صبح يطلق‬ ‫عليهما الحق ًا ا�سم (الطريقة املو�ضوعاتية ‪axiomatic‬‬ ‫‪)method‬؛ ن�سب ًة �إىل مو�ضوعه يف البناء الريا�ضي؛ فك ّل‬ ‫واحد منهما �أوجد على حد ٍة هند�سته الال�إقليدية‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك �إيذان ًا بالتحرر من ال�سيطرة الإقليدية التي هيمنت‬ ‫على الفكر الهند�سي ردح ًا من الزمن دام نحو �ألفي‬ ‫�سنة‪ ،‬بل كان ذلك فتح ًا علمي ًا �أَ ِذن بولوج الفكر الريا�ضي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ما البديهي؟‬

‫‪117‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪118‬‬

‫مرحلة جديدة؛ فقد ا�ستنتج البا�شيف�سكي �أن امل�صادرة‬ ‫اخلام�سة لإقليد�س‪ ،‬التي ت�سمى م�صادرة التوازي (من‬ ‫نقطة خارج م�ستقيم ميكن ر�سم م�ستقيم واحد فقط‬ ‫مواز له)‪ ،‬م�ستقلة عن امل�صادرات الأربع الأخرى‪ ،‬كما‬ ‫�أنه ميكن و�ضع م�صادرة �أخرى مغايرة متام ًا لها‪ ،‬ومع‬ ‫ذلك تبقى البنية الكلية للم�صادرات اخلم�س اجلديدة‬ ‫مت�سقة‪ /‬من�سجمة ‪ ،consistent‬وامل�صادرة التي و�ضعها‬ ‫يف بنائه اجلديد هي‪( :‬من نقطة خارج م�ستقيم ُم ً‬ ‫عطى‬ ‫يوجد على الأق ّل م�ستقيمان يوازيان هذا امل�ستقيم)‪ .‬ثم‬ ‫جاء الريا�ضي الأملاين جورج فريدريك رميان (‪-1826‬‬ ‫‪1866‬م)‪ ،‬ف�ش ّكل بنا ًء هند�سي ًا خمتلف ًا عن بناءي �إقليد�س‬ ‫والبا�شيف�سكي‪ ،‬وتقول م�صادرته‪( :‬ال يوجد خط م�ستقيم‬ ‫ميكن ر�سمه من نقطة خارجة عن م�ستقيم ُم ً‬ ‫عطى مواز‬ ‫لهذا امل�ستقيم)‪ ،‬ونتج من ك ّل ذلك ما �أ�ضحى ُيطلق عليه‬ ‫الآن يف الأدبيات الريا�ضية (الهند�سات الال�إقليدية)‪.‬‬

‫�ألربت �آن�شتاين‬

‫آن األوان للتوقف عن استخدام كلمة (بديهية)‬

‫مل ي ُعد ثمة وجود لكلمة (بديهية) ‪-‬باملعنى ال�شائع لها‪-‬‬ ‫يف الفكر الريا�ضي احلديث‪ ،‬بل �أ�ضحت هذه الكلمة‬ ‫عاري ًة من � ّأي معنى من وجهة نظر الريا�ضيات‪ ،‬كما‬ ‫�أ�صبح من ال�صعب الآن احلكم على (�صحة) م�سلمات‬ ‫نظام ريا�ضي‪ ،‬بل يع ّد بع�ض العلماء هذا ال�س�ؤال يف‬ ‫ح ّد ذاته لي�س له معنى؛ لأن �أي نظام ريا�ضي ُيبنى على‬ ‫جمموعة من امل�سلمات يع ّد مقبو ًال �إذا كان مت�سق ًا‪/‬‬ ‫من�سجم ًا منطقي ًا؛ مبعنى �أ ّال تُف�ضي هذه امل�سلمات �إىل‬ ‫مربهنة (نظرية) ونقي�ضها يف �آنٍ واحد؛ فلم ي ُعد مطلوب ًا‬ ‫من امل�سلمات‪� ،‬أو من نتائج املربهنات‪� ،‬أن تكون من�سجمة‬ ‫مع مفهومنا ال�شخ�صي للحقيقة؛ فبع�ض امل�سلمات تبدو‬ ‫�صحيحة‪ ،‬وبع�ضها غري ذلك‪ ،‬وبع�ضها الآخر يبدو �أنه‬ ‫حتى من ال�صعب احلكم على �صحتها �أو خطئها‪ .‬والنظام‬ ‫النا�شئ يع ّد نظام ًا ريا�ضي ًا مقبو ًال �إذا كان مت�سق ًا‬ ‫منطقي ًا‪ ،‬واحلقيقة �أن (االن�سجام) ولي�س (احلقيقة)‬ ‫�إريك فروم‬


‫النظام الموضوعاتي في‬ ‫الرياضيات ليس مجرد ابتكار عقلي‪،‬‬ ‫أو شكل من أشكال الترف الفكري‪،‬‬ ‫إنما هو ضرورة منطقية قادتنا إليه‬ ‫طبيعة بناء الرياضيات بعد عمل‬ ‫دؤوب من الرياضيين‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫هو الذي �أ�ضحى مفتاح الفكر الريا�ضي احلديث‪ ،‬بل‬ ‫�أ�ضحت امل�سلمات يف الريا�ضيات احلديثة �أبعد ما تكون‬ ‫عن الو�ضوح‪ .‬واملهم جد ًا هنا هو �أن يكون هذا النظام‬ ‫(مفيد ًا)؛ فالفوائد التي جنيناها من هند�سة ٍّ‬ ‫كل من‪:‬‬ ‫�إقليد�س‪ ،‬والبا�شيف�سكي‪ ،‬ورميان‪ ،‬ال يختلف عليها اثنان‪،‬‬ ‫لكن لك ّل نظام جماله وتطبيقاته (‪.)6‬‬

‫ومع نهاية القرن التا�سع ع�شر امليالدي‪� ،‬شرع‬ ‫الريا�ضيون يف املطابقة بني الكلمات‪ :‬مو�ضوعة‪،‬‬ ‫وم�س ّلمة ‪ ،axiom‬وفر�ضية ‪ ،assumption‬وم�صادرة‪،‬‬ ‫و�أ�صبحت ك ّل هذه الكلمات تع ّد مرتادف ًة ريا�ضي ًا‪ .‬ويع ّد‬ ‫عام ‪1936‬م هو حلظة الف�صل يف عملية املطابقة تلك‪،‬‬ ‫حينما ُن�شر بحث كان نقطة االنعطاف الكبرية(‪ .)7‬وقد‬ ‫�س ّوغ بع�ض العلماء طغيان كلمة ‪ axiom‬يف الأدبيات‬ ‫الريا�ضية املعا�صرة �أكرث من كلمة ‪ postulate‬ب�سبب‬ ‫�سهولة اال�شتقاق منها يف اللغات الأوروبية احلديثة‬ ‫من �إجنليزية وفرن�سية‪ ،‬على خالف الكلمة الثانية‪.‬‬ ‫و�صفوة الكالم �أن �أكرث العلوم مو�ضوعية ودقة قامت‬ ‫على (الت�سليم) مبجموعة من امل�سلمات‪ ،‬وما تب ّقى‬ ‫ي�شتقّ من هذه امل�سلمات‪� ،‬أو بالأحرى‪ُ :‬ي�ستنتج منطقي ًا‬ ‫منها‪ .‬وهذا الأمر لي�س عيب ًا يف النظام الريا�ضي‪ ،‬بل‬ ‫على العك�س من ذلك؛ فهو �أهم ما ميتاز به من غريه‬ ‫بو�صفه علم ًا مبني ًا منطقي ًا‪.‬‬ ‫ومل يزل بع�ض دار�سي الفل�سفة من ن�صو�صها املغرقة يف‬ ‫القدم يف بالدنا مي ّيزون �إىل الآن بني البديهية وامل�سلمة‬ ‫يف الريا�ضيات �أو يف فل�سفتها‪ ،‬ومل يزل بع�ضهم من كتّاب‬ ‫العربية يرتجم �إىل الآن كلمة ‪ axiom‬مبعنى (بديهية)‬ ‫بد ًال من (م�سلمة) �أو (مو�ضوعة)؛ نق ًال عن معاجم اللغة‬ ‫الإجنليزية‪ -‬العربية التي ترتجمها على ذلك النحو‪،‬‬ ‫وم�صدر هذه الرتجمة �أ�سا�س ًا هو ما �أق ّره جممع اللغة‬ ‫العربية يف القاهرة يف ثالثينيات القرن الع�شرين حينما‬ ‫ترجمها على ذلك النحو‪ ،‬وكان ذلك م�س َّوغ ًا يف حينها‪.‬‬ ‫وقد �آن الأوان للتوقف عن ا�ستخدام كلمة (بديهية)‪،‬‬ ‫على الأق ّل يف هذا الإطار‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن معناها اللغوي‬ ‫ال يقارب املعنى امل�ستخدم حالي ًا؛ ففي ال�صحاح‬ ‫(جتديد �صحاح العالمة اجلوهري) جند يف مادة‬ ‫(بده)‪« :‬البداهة �أول جري الفر�س‪ ...‬وبادَهَ هُ‪ :‬فاج أَ�ه‪،‬‬ ‫واال�سم البداهة والبديهة‪ ،‬وهما يتبادهان بال�شعر؛ �أي‪:‬‬

‫‪119‬‬


‫يتجاريان»‪ .‬والبديهية (لغوي ًا) يف (القامو�س املحيط)‬ ‫للفريوز�آبادي‪ُ �« :‬‬ ‫أول كل �شيء وما ُيفج�أ منه‪ ...‬ولك‬ ‫البديهية؛ �أي‪ :‬لك �أن تبد�أ»‪.‬‬ ‫و ُيعزى طول املدة التي ا�ستغرقتها عملية الن�ضج‬ ‫اللغوية– الفكرية تلك‪ ،‬و�إدراكها على نحو وا�ضح‬ ‫ومبلور‪� ،‬إىل طبيعة التجربة الفكرية املتعلقة بذلك‪،‬‬ ‫كما �أنه م�ؤ�شر على الطبيعة امل�ضنية لتلك التجربة التي‬ ‫ا�ستمرت نحو �ألفي �سنة‪ ،‬يقول عامل النف�س الأمريكي‬ ‫�إريك فروم (‪1980 -1900‬م)‪« :‬ينبغي �أن نعلم �أن كثري ًا‬ ‫من التجارب ال متنح نف�سها ب�سهولة حتى يتم ت�ص ّورها‬ ‫يف الإدراك»(‪ ،)8‬وميكن ت�ص ّور الأحا�سي�س املتعلقة‬ ‫ببقاء الفرد �أو اجلماعة؛ كاجلوع واخلوف‪ ،‬على نحو‬ ‫واع وب�سهولة‪� ،‬أما حني يتعلق الأمر بتجربة �أكرث دقة �أو‬ ‫ٍ‬ ‫تعقيد ًا ف�إن التجربة ال ت�صل �إىل الإدراك يف العادة؛ لأنها عود على بدء‬ ‫ب ّي ّنا كيف �أن الفكر الريا�ضي قد طر�أ عليه كثري من‬ ‫لي�ست مهمة مبا يكفي لأن جتذب االنتباه(‪.)9‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ولن نع ّرج على حقيقة مدلول الق�ضايا الريا�ضية؛‬ ‫فهي من امل�سائل اخلالفية بني الفال�سفة‪ ،‬بل ُج ّل ما‬ ‫ن�صبو �إليه هو الإ�شارة �إىل الطبيعة املو�ضوعاتية يف‬ ‫بناء النظام الريا�ضي يف الفكر الريا�ضي احلديث‪،‬‬ ‫وفاعليته يف �إطار الريا�ضيات‪ .‬ولأن الريا�ضيات �أ�سا�س‬ ‫كل العلوم التي تبحث عن احلقيقة ف�إن تلك الطريقة‬ ‫ّ‬ ‫مر�شحة لأن ت�ؤول �إىل منهج عام لبناء التفكري املنطقي‬ ‫املرتابط عند الإن�سان‪ ،‬وهو ما يذ ّكرنا بقول الريا�ضي‬ ‫الربيطاين جودفري هارولد هاردي (‪1947 -1877‬م)‪:‬‬ ‫«الريا�ضيات البحتة هي درا�سة كيف يجب �أن يفكر‬ ‫النا�س لكي يح�صلوا على نتائج �صحيحة‪ ،‬وهي ال ت�أخذ‬ ‫يف احل�سبان ال�ضعف الإن�ساين»‪.‬‬

‫‪120‬‬


‫لن‬ ‫نعرج على حقيقة مدلول القضايا‬ ‫ّ‬ ‫الرياضية؛ فهي من المسائل الخالفية‬ ‫بين الفالسفة‪ ،‬بل ُج ّل ما نصبو إليه هو‬ ‫اإلشارة إلى الطبيعة الموضوعاتية‬ ‫في بناء النظام الرياضي في الفكر‬ ‫الرياضي الحديث‪ ،‬وفاعليته في إطار‬ ‫الرياضيات‪ .‬وألن الرياضيات أساس كل‬ ‫العلوم التي تبحث عن الحقيقة فإن‬ ‫ّ‬ ‫تلك الطريقة‬ ‫مرشحة ألن تؤول إلى‬ ‫منهج عام لبناء التفكير المنطقي‬ ‫المترابط عند اإلنسان‪ ،‬وهو ما يذكّ رنا‬

‫دراسة مقارنة‬

‫بقول الرياضي البريطاني جودفري‬

‫الإ�سالم لغ ًة‪ :‬اال�ست�سالم واالنقياد‪ ،‬وهو م�صدر �أ�سلم‬ ‫و ُي�س ِلم‪ ،‬والإ�سالم �شرع ًا‪ :‬هو اال�ست�سالم واالنقياد‬ ‫هلل تعاىل ظاهر ًا وباطن ًا‪ .‬والإميان هو‪ :‬م�صدر �آمن‬ ‫ي�ؤمن �إميان ًا‪ ،‬ويف (ل�سان العرب) البن منظور‪« :‬اتّفق‬ ‫�أهل العلم من اللغويني وغريهم على �أن الإميان معناه‬ ‫الت�صديق»‪ .‬والإميان �شرع ًا‪ :‬هو الت�صديق يف القلب‬

‫هارولد هاردي (‪7491 -7781‬م)‪:‬‬ ‫«الرياضيات البحتة هي دراسة كيف‬ ‫يجب أن يفكر الناس لكي يحصلوا‬ ‫على نتائج صحيحة‪ ،‬وهي ال تأخذ في‬ ‫الحسبان الضعف اإلنساني»‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫البحث عن الحقيقة‬

‫التغيري خالل القرنني املن�صرمني‪ ،‬ومع ذلك ف�إن �أتباع‬ ‫بع�ض املذاهب الفل�سفية املادية مازالوا (ي�ؤمنون)‬ ‫ب�صحة قول بودان على الرغم مما ا�ستج ّد من معارف‬ ‫ريا�ضية كثرية مل (يعرفها) ه�ؤالء‪ ،‬و�صرفهم عن ذلك‬ ‫(�إميانهم) بذلك القول الذي ظ ّنوه (معرفة) خالدة‪.‬‬ ‫قد يكون م�س ّوغ قول بودان املذكور �أن الهند�سة الإقليدية‬ ‫حينها كانت مبنية على ن�سق من (البديهيات) مبفهومها‬ ‫القدمي‪ ،‬ولي�س على ن�سق من (امل�سلمات)‪ ،‬و�أنه �أتى‬ ‫�ضمن �سياق معريف تاريخي حمدّد له ما ي�س ّوغه‪ ،‬بيد �أنه‬ ‫الآن مل ي ُعد ثمة م�س ّوغات فكرية‪� ،‬أو م�س ّوغات منطقية‪،‬‬ ‫لال�ستمرار يف هذه التق�سيمات الفكرية امل�صطنعة‬ ‫والزائفة‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن بدايات تلك املذاهب الفل�سفية‬ ‫املادية تعود �إىل ما بعد ظهور �إرها�صات الفكر الريا�ضي‬ ‫احلديث منذ بولياي والبا�شيف�سكي‪ ،‬لكنها ‪-‬كما يبدو‪-‬‬ ‫مل ت�ستفد من تلك الإجنازات الفكرية‪.‬‬ ‫وقد انطلت على بع�ض الكتّاب املتدينني هذه الفكرة‬ ‫الزائفة‪ ،‬و�شرعوا دفاع ًا عن الدين ومقد�ساته يبحثون عن‬ ‫احلقائق العلمية التي تدعو �إىل الإميان باهلل‪ ،‬والت�سليم‬ ‫به‪ ،‬بو�صفه خالق ًا مبدع ًا لهذا الكون‪ .‬واحلقيقة الغائبة‬ ‫عنهم هي �أنه لي�س عيب ًا يف الدين �أن ُيبنى على ب�ضع‬ ‫م�سلمات؛ فهذا الأمر لي�س انتقا�ص ًا من قدره و�ش�أنه‪ ،‬لكن‬ ‫كان ب�إمكان ه�ؤالء �أن يقارنوا بني العلم والدين للو�صول‬ ‫�إىل �أن حقائق العلم تتطابق مع احلقائق الدينية‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪122‬‬

‫لك ّل ما جاء به الر�سول �صالهلل عليه و�سلم ‪ .‬والإ�سالم‬ ‫قائم على الإميان باهلل‪ ،‬ور�سله‪ ،‬وكتبه ال�سماوية‪ ،‬وما‬ ‫تب ّقى ُي�شتقّ من هذه (امل�سلمات)‪� ،‬أو ُيبنى عليها‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من متايز الريا�ضيات من الدين �إال �أن ك ًال منهما‬ ‫ُيبنى على جمموعة م�سلمات خا�صة به‪ .‬ومن املعروف‬ ‫�أن فقهاء الإ�سالم يق�سمون العلم ثالثة �أق�سام‪« :‬العلم‬ ‫باهلل‪ ،‬والعلم ب�أمر اهلل‪ ،‬والعلم بخلق اهلل‪ .‬الأول يتعلق‬ ‫بالعقيدة‪ ،‬والثاين بال�شريعة‪ ،‬والثالث ما يتعلق بخلق اهلل‬ ‫من �ش�ؤون الب�شر»‪ ،‬و ُيعزى ذلك �إىل الإمام الغزايل يف‬ ‫كتابه (�إحياء علوم الدين)‪ .‬وما يعنينا يف هذا املقام‬ ‫قوله‪( :‬العلم باهلل املتعلق بالعقيدة)؛ فقد و�ضعه يف‬ ‫الرتتيب الأول‪ ،‬والعقيدة يف هذا ال�سياق ت�شبه امل�سلمات‬ ‫يف النظام الريا�ضي‪ ،‬وهو ما ي�شري �إىل �أن بذور الفكر‬ ‫املو�ضوعاتي موجودة عند بع�ض مف ّكرينا منذ القدم‪،‬‬ ‫و�إن مل يكن هذا الفكر مبلور ًا كما هو حاله اليوم‪ .‬ورمبا‬ ‫جند –ببع�ض الت�أمل– �أن التفكري املو�ضوعــاتي قد‬

‫يكون جزء ًا من الفطرة الب�شرية‪ ،‬وهو ما يذ ّكرنا بقول‬ ‫الفيزيائي الإجنليزي بول ديراك (‪1984 –1902‬م)‪،‬‬ ‫وهو �أحد كبار رواد ميكانيك الكم‪« :‬مبرور الزمن يتّ�ضح‬ ‫�أكرث ف�أكرث �أن القواعد التي يراها الريا�ضيون مهمة هي‬ ‫نف�سها القواعد التي كانت الطبيعة قد اختارتها»‪.‬‬ ‫�إذا تو ّقفنا الآن عند تعريف الريا�ضيات ‪-‬وفق ما‬ ‫يقوله الريا�ضي والفيل�سوف الفرن�سي هرني بوانكاريه‬ ‫(‪1912 -1853‬م)‪ -‬من �أنها «لي�ست �أكرث من لغة مبنية‬ ‫جيد ًا» ف�إننا جند �أنه با�ستخدام هذه اللغة ميكن التعبري‬ ‫ب�صرامة وو�ضوح عن كثري من الظواهر والأفكار‪ .‬و�إذا‬ ‫ّ‬ ‫توخينا الدقة ف�إن ما نن�شده الآن هو تبيان �أن الآلية التي‬ ‫تُبنى بها الريا�ضيات فيها نوع من املحاكاة لطريقة بناء‬ ‫الدين‪ّ � ،‬أي دين‪ ،‬مع الأخذ يف احل�سبان �أن لك ّل منهما‬ ‫طريقته اخلا�صة التي تن�سجم مع ن�سيجه الفكري‪،‬‬ ‫والفرق �أن هذه الآلية خف ّية يف الدين‪ ،‬م�ضمرة يف‬ ‫ت�ضاعيفه‪ ،‬على خالف ما هو قائم الآن يف الريا�ضيات‪.‬‬


‫طبيعة مختلفة‬

‫تت�ض ّمن طبيعة الدين‪ ،‬وطريقة عر�ضه‪� ،‬إدراك ًا �أ�سرع‬ ‫لأهمية الإميان �أكرث مما هو قائم فعلي ًا يف العلوم‬ ‫الريا�ضية‪ ،‬بل �إننا جند �أن ت�ص ّور بناء الريا�ضيات على‬ ‫نحو مو�ضوعاتي يحدث يف مراحل درا�سية متقدمة‬ ‫ن�سبي ًا لدار�س الريا�ضيات‪ ،‬ولي�س يف مراحله الأوىل‪،‬‬ ‫كما يح�صل يف الدين مث ًال‪ .‬ومن هذا املنطلق ميكن‬ ‫�أن نفهم �أهمية ال�شهادتني يف الإ�سالم‪ ،‬والنطق بهما‬ ‫ملن يعلن �إ�سالمه‪ ،‬بينما جند �أن دار�س الريا�ضيات‬ ‫يلج فور ًا يف مبادئ نظرية املجموعات من دون التطرق‬ ‫�إىل املو�ضوعات التي ُبنيت عليها‪ ،‬مع �أن هذه النظرية‬ ‫�أ�ضحت حجر الأ�سا�س يف درا�سة الريا�ضيات احلديثة‪،‬‬ ‫ويكون ذلك عاد ًة (�أي‪ :‬التطرق �إىل جملة املو�ضوعات)‬ ‫يف الدرا�سة اجلامعية لطالب العلوم الريا�ضية‪ ،‬ومن‬

‫تعد األنظمة الرياضية المبنية على‬ ‫ّ‬ ‫نحو منطقي باستخدام مجموعة من‬ ‫الالمعرفات‪ ،‬والمنطلقة من مجموعة‬ ‫من المسلّمات‪ ،‬من وجهة نظر كثير‬ ‫من الرياضيين‪ ،‬محاكاةً للخالق‬

‫توما�سو‬

‫دون � ّأي عمق‪ .‬وقد يكون �سبب ذلك �أن م�سلمات الدين‬ ‫نابعة من الفطرة الإن�سانية ومبا�شرة‪ ،‬يعزّزها ال�ضعف‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬على خالف م�سلمات الريا�ضيات ذات‬ ‫الطبيعة املختلفة‪ .‬والأكرث من ذلك‪ ،‬ف�إن درا�سة طبيعة‬ ‫النظام املو�ضوعاتي يف الريا�ضيات للمبتدئني ت�ش ّكل‬ ‫�صدمة معرفية لهم‪ ،‬وقد تكون مبعث �إرباك وت�شوي�ش‪،‬‬ ‫بد ًال من �أن تعزّز ثقتهم باملو�ضوع املدرو�س‪ .‬ورمبا كانت‬ ‫ف�ض ًال عن ذلك‪ -‬عقبة �أمام متابعة درا�ستهم وتقدّمها‪.‬‬‫كما �أن االهتمام بهذا اجلانب لي�س من �ش�أن الريا�ضيات‪،‬‬ ‫بل من اخت�صا�ص فل�سفة الريا�ضيات‪ ،‬التي تهتم‬ ‫�أ�سا�س ًا مبحاولة �إعادة بناء املعارف الريا�ضية املبعرثة‬ ‫واملرتاكمة عرب الع�صور؛ حتى تتبلور �ضمن ترتيب معني‪،‬‬ ‫�أو معنى حمدّد‪ .‬وتتط ّلب درا�سة هذا العلم من املهتم‬ ‫م�ستويات جيدة يف الريا�ضيات قبل ال�شروع يف ذلك‪ ،‬كما‬ ‫�أنها حتتاج �إىل ذهنية خا�صة خمتلفة عما هو مطلوب‬ ‫من دار�س الريا�ضيات‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫واحلكمة يف ذلك �أن الدين �ضرورة حياتية‪ ،‬ويجب �أن‬ ‫يكون جزء ًا من تفكري ك ّل �إن�سان من اخلا�صة �أو العامة‬ ‫على حدٍّ �سواء؛ لذلك فلي�س من ال�ضروري �أن ت ّ‬ ‫ُوظف‬ ‫الفل�سفة يف الدين وهو ب�شكله النقي املُوحى به؛ لكيال‬ ‫يكون ع�صي ًا على فهم العامة؛ فال ي�شار ‪-‬مث ًال‪� -‬إىل‬ ‫طبيعة (البناء املنطقي) للدين على الرغم من �أن‬ ‫مدخله الإميان‪ ،‬وهو ي�سمح بذلك‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫تؤدي المعرفة الفكرية إلى‬

‫العقل‪،‬‬ ‫وتستقر في القلب‬ ‫ّ‬

‫التغيير إال بقدر ما تكون معرفة‬

‫وال بد من الإ�شارة �إىل �أن الطريقة املو�ضوعاتية لي�ست‬ ‫عيب ًا منطقي ًا كما قد يظنّ بع�ض املهتمني‪ ،‬بل �أ�ضحت �أداة‬ ‫فعالة يف عدد من احلقول املعرفية‪ ،‬و�أن اكت�شافها كان‬ ‫نقطة انعطاف يف الفكر الإن�ساين و�إغناء له؛ ملا ت�ستبطنه‬ ‫من �صرامة فكرية‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا عرفنا �أن ثمرة‬ ‫ال�صرامة هي الإبداع‪ ،‬و�أول من �أ�شار �إىل ذلك الريا�ضي‬ ‫الأملاين كارل فريدريك غاو�س (‪1855 -1777‬م)؛ �إذ‬ ‫يقول روالن �أمني�س‪« :‬غاو�س ‪-‬على � ّأي حال‪ -‬جدير بك ّل‬ ‫تقدير؛ لأنه �أعلن �أن ال�صرامة هي �أم الإبداع(‪.»)10‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫سلع روحية‬

‫‪124‬‬

‫من �أوجه ال�شبه بني الريا�ضيات والإميان �أن ك ًال منهما‬ ‫يدخل �ضمن ال�سلع الروحية للإن�سان با�ستخدام لغة �أغرو�س‬ ‫و�ستان�سيو (‪)11‬؛ لأن ال�سلع الروحية عند الإن�سان تُق�سم فئتني‬ ‫عري�ضتني‪ ،‬هما‪� :‬سلع الفكر‪ ،‬و�سلع ال�شخ�صية‪ ،‬وت�شمل الفئة‬

‫الفيلسوف باروخ إسبينوزا‪« :‬ال تؤدي‬ ‫المعرفة الفكرية إلى التغيير إال بقدر ما‬ ‫تكون معرفة وجدانية أيضاً»‪ ..‬وما يقارب‬ ‫ذلك قول كثيرين ممن كتبوا في مجال‬ ‫العقيدة اإلسالمية من أن العقيدة تبدأ‬ ‫من العقل‪،‬‬ ‫وتستقر في القلب‬ ‫ّ‬

‫الأوىل املعرفة العقلية بكل �أنواعها‪ ،‬وت�شمل الفئة الثانية‬ ‫جميع خ�صال الإرادة اجلديرة بالإطراء؛ كالكرم‪،‬‬ ‫وال�شجاعة‪ ،‬والأمانة‪ .‬وميكن ت�صنيف الريا�ضيات �ضمن‬ ‫�سلع الفكر‪ ،‬والإميان �ضمن �سلع ال�شخ�صية‪ ،‬وهما‬ ‫على النقي�ض من ال�سلع املادية‪ ،‬التي لي�س لنا �إمكانية‬


‫في القلب‬

‫ضرورة منطقية‬

‫جوزيف بودين‬

‫اختيارها؛ كالقوة البدنية‪� ،‬أو الرثوة التي تهبط علينا‬ ‫فج�أة من جائزة مادية‪� ،‬أو غري ذلك‪ .‬وتُك�سب ال�سلع‬ ‫الروحية باالختيار وحده‪ ،‬وميكن �أن تُفقد باالختيار‬ ‫وحده(‪ .)12‬ويف هذا املعنى يقول القدي�س توما الأكويني‬ ‫(‪1274 –1225‬م)‪« :‬ما كان لأحد �أن ي�ؤمن من دون �أن‬ ‫يرى �أنه يجب �أن ي�ؤمن(‪.»)13‬‬ ‫تع ّد الأنظمة الريا�ضية املبنية على نحو منطقي با�ستخدام‬ ‫جمموعة من الالمعرفات‪ ،‬واملنطلقة من جمموعة من‬ ‫امل�س ّلمات‪ ،‬من وجهة نظر كثري من الريا�ضيني‪ ،‬حماكا ًة‬ ‫للخالق؛ فالريا�ضي عندما ي�سعى �إىل �إقامة نظام منطقي‬ ‫متّ�سق يكون بذلك يحاكي طريقة اخلالق يف �إبداعه الكون‪،‬‬ ‫عدد‬ ‫بيد �أن طبيعة املحاكاة الريا�ضية تختلف عن غريها يف ٍ‬ ‫من املجاالت؛ فمحاكاتها تخ�ضع للتجريد؛ لأن الريا�ضيات‬ ‫مفاهيم جم ّردة‪ .‬لذلك‪ ،‬ومن هذا املنظور‪ ،‬ن�ستطيع فهم‬

‫ال�شيء الأ�سا�سي الذي جتب الإ�شارة �إليه هو �أن النظام‬ ‫املو�ضوعاتي يف الريا�ضيات لي�س جمرد ابتكار عقلي‪،‬‬ ‫�أو �شكل من �أ�شكال الرتف الفكري‪ ،‬بل هو �ضرورة‬ ‫منطقية قادتنا �إليه طبيعة بناء الريا�ضيات بعد عمل‬ ‫د�ؤوب من الريا�ضيني‪ ،‬وهو �أمر ال غنى عنه‪ ،‬وال مف ّر‬ ‫خال‬ ‫منه‪ ،‬من �أجل احل�صول على بناء ريا�ضي متكامل ٍ‬ ‫من التناق�ض والعيوب‪ .‬وكذلك �إميان الإن�سان منذ‬ ‫القدم بـ(قوة م�سيرّ ة) مل يكن من النوافل‪ ،‬بل كان‬ ‫�ضرورة فر�ضها كثري من الظروف الذاتية واملو�ضوعية‬ ‫للإن�سان‪ ،‬وقد ن�ستطيع القول‪� :‬إن ك ًال منهما كان‬ ‫حم�صلة (ح�صار ذهني) ال مفر للإن�سان منه‪ .‬لقد‬ ‫كان الريا�ضي والفيزيائي الإجنليزي �إ�سحاق نيوتن‬ ‫(‪1727 -1643‬م) ي�ؤمن بهذه الروح؛ لذلك «حاول �أن‬ ‫يحتفظ مبكان للألوهية يف نظامه امليكانيكي اخلا�ص‬ ‫وجهها �إىل ريت�شارد بنتلي‬ ‫بال�سماوات؛ ففي ر�سالة ّ‬ ‫عام ‪1692‬م أ� ّكد نيوتن �أن اهلل �ضروري لإحداث حركة‬ ‫الكواكب و�إر�ساء البنية الأ�صلية للمجموعات ال�شم�سية‪،‬‬ ‫قائ ًال‪ :‬حركات الكواكب الراهنة ال ميكن �أن تكون قد‬ ‫انبثقت من � ّأي علة طبيعية فح�سب‪ ،‬بل كانت مفرو�ضة‬ ‫بفعل قوة عاقلة»(‪ .)14‬وهذا الأمر ّ‬ ‫بغ�ض النظر عن �أن‬ ‫الإميان يف الإ�سالم لي�س من �أجل رب العاملني‪ ،‬بل‬ ‫غني عن العاملني‪.‬‬ ‫من �أجل الإن�سان نف�سه؛ لأن اهلل ّ‬ ‫لذلك �أ�ضحت فل�سفة (الإميان) من�سجمة مع الفكر‬ ‫املبني على الطريقة املو�ضوعاتية‬ ‫الريا�ضي احلديث‬ ‫ّ‬ ‫�أكرث من ان�سجامها مع الفكر الريا�ضي القدمي‪ ،‬الذي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫قول الريا�ضي هاردي‪�« :‬أعتقد �أن احلقيقة الريا�ضية‬ ‫قائمة خارج �أنف�سنا‪ ،‬ووظيفتنا �أن نكت�شفها �أو �أن‬ ‫نلحظها‪ ،‬وما املربهنات التي نتكلم عنها ببالغة ك�أنها‬ ‫(خملوقاتنا) �إال نتائج مالحظاتنا»‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪126‬‬

‫كان يمُ تح منه ذلك املذهب الفل�سفي الذي بقي �أ�سري‬ ‫بع�ض املعارف الراكدة؛ لأن الفكر الريا�ضي احلديث‬ ‫مل ي ُعد يت�ضمن ما ُي�س ّمى (بديهيات) مبعناها القدمي‪.‬‬ ‫وال يع ّد الإميان باهلل من البديهيات �إن ا�ستخدمنا هذه‬ ‫الكلمة مبعناها ال�شائع؛ لأن الإن�سان منذ بدء اخلليقة‬ ‫عبد الأ�صنام والكواكب والكائنات املختلفة‪ ،‬ومل تتبلور‬ ‫فكرة الإميان باهلل عنده �إال مع بعث الأنبياء‪ ،‬وجميء‬ ‫الديانات ال�سماوية‪ ،‬التي �أتت مت�أخر ًة ن�سبي ًا قيا�س ًا‬ ‫بتاريخ الب�شرية؛ لذلك ورد يف التنزيل الإلهي } َو َما ُك َّنا‬ ‫ُم َع ِّذ ِب َني َح َّتى َن ْب َعثَ َر ُ�سو ًال{ (الإ�سراء‪� .)15 :‬صحيح‬ ‫�أن الدين �ضرورة حياتية‪ ،‬و�شيء فطري‪ ،‬لكن (الإميان‬ ‫باهلل) كان منحة �إلهية مت�أخرة مل ينعم بها الإن�سان‬ ‫البدائي‪ ،‬ورمبا كان من م�س ّوغات هذا الت�أخري الن�سبي‬ ‫هو �أن ذلك الإن�سان مل يكن مهيئ ًا فكري ًا ونف�سي ًا بع ُد‬ ‫لقبول هذه (احلقيقة)‪ ،‬واال�ستعداد الب�شري �ضروري‬ ‫دوم ًا ال�ستقبال كثري من املفاهيم‪ ،‬وهو ما بد�أت تعيه‬ ‫النظريات الرتبوية احلديثة‪ ،‬وتر ّكز فيه يف �أثناء تقدمي‬ ‫مفاهيم جديدة للدار�سني‪.‬‬

‫خاص‬ ‫فرضيات من نوع ّ‬

‫(امل�صادرة) ق�ضية البد من الت�سليم بها قبل ال�شروع‬ ‫يف � ّأي �شيء‪ ،‬وهي يف ذلك تُخفي مظهر ًا من مظاهر‬ ‫العجز �أمام الفكر الدقيق‪ ،‬يقول الريا�ضي والفيل�سوف‬ ‫ال�سوي�سري فردينان جون�ست (‪1975 –1890‬م)‪�« :‬إذا‬ ‫كنا ن�ستطيع الربهنة على �شيء فلن نقول �أبد ًا‪� :‬إنه‬ ‫من الواجب علينا الت�سليم به؛ ف�ضرورة القبول تعادل‬ ‫ا�ستحالة الربهنة»(‪ .)15‬وكذلك حال الإميان؛ فمنذ‬ ‫البداية‪ ،‬وعند اخلطوة الأوىل لتل ّقي التعاليم الدينية‪،‬‬ ‫نعلن عجزنا وقبولنا‪ ،‬وما تب ّقى يع ّد ا�ستنتاج ًا‪� .‬صحيح �أن‬ ‫امل�سلمات يف الريا�ضيات تع ّد (فر�ضيات) من نوع خا�ص‪،‬‬ ‫وبعدها تبد�أ عملية اال�ستنتاجات املنطقية‪ ،‬بيد �أن هذه‬ ‫الفر�ضيات لي�س من ال�ضروري �أن تخ�ضع للتحقق العملي‬ ‫كما هو احلال يف فر�ضيات العلوم الطبيعية‪ .‬وكذلك هو‬ ‫احلال يف الإميان‪ ،‬ف�إن م�س ّلماته ال تخ�ضع �أي�ض ًا للتح ّقق‬ ‫باملعنى املعروف لهذه الكلمة‪ ،‬بل هي ذات طابع غيبي‪.‬‬ ‫الفرق الأ�سا�سي بني الإميان والنظام املو�ضوعاتي يف‬ ‫الريا�ضيات‪ ،‬الذي يجب الإ�شارة �إليه‪ ،‬هو �أن الإميان ال‬


‫يانو�س بولياي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫يكون فاع ًال‪� ،‬أو قوة م�ؤثرة يف التغيري‪� ،‬إال �إذا امتزجت‬ ‫املعرفة الفكرية باملعرفة الوجدانية‪� ،‬أو كما يقول‬ ‫الفيل�سوف الهولندي باروخ �إ�سبينوزا (‪1677 -1632‬م)‪:‬‬ ‫«ال ت�ؤدي املعرفة الفكرية �إىل التغيري �إال بقدر ما تكون‬ ‫معرفة وجدانية �أي�ض ًا»(‪ .)16‬وما يقارب هذا املعنى قول‬ ‫كثريين ممن كتبوا يف جمال العقيدة الإ�سالمية من �أن‬ ‫العقيدة تبد�أ من العقل‪ ،‬وت�ستق ّر يف القلب‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن الفال�سفة َج َهدوا يف التمييز بني‬ ‫(املعرفة) و(الإميان)‪ ،‬ونظروا �إىل الربهان الريا�ضي‬ ‫على �أنه مثال نا�صع (للمعرفة)‪� ،‬إال �أن هذا الربهان‬ ‫مبني يف �أ�سا�سه على �شكل من �أ�شكال‬ ‫يف احلقيقة ّ‬ ‫(الإميان)‪ ،‬وهو الت�سليم مبجموعة من امل�سلمات؛ فلن‬ ‫نقتنع بالربهان �إذا مل ن�س ّلم باملبادئ الأ�سا�سية التي ُبني‬ ‫عليها النظام ك ّله؛ فعملية التمييز هذه ال تخلو حقيق ًة‬ ‫واع‪.‬‬ ‫واع‪� ،‬أو رمبا غري ٍ‬ ‫‪-‬يف بع�ض جوانبها– من زيف ٍ‬

‫‪127‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬بوغو �سالف�سكي وزمال�ؤه‪ ،‬يف املادية الدياليكتيكية واملادية التاريخية‪ ،‬ترجمة‪ :‬خريي ال�ضامن‪ ،‬دار التقدّم‪ :‬مو�سكو‪1975 ،‬م‪� ،‬ص‪.15‬‬ ‫(‪ )2‬حقّقه �أحمد �سليم �سعيدان بعنوان‪( :‬هند�سة �إقليد�س يف �أيدٍ عربية)‪ ،‬دار الب�شري‪ :‬ع ّمان‪1411 ،‬هـ‪1991 /‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬ملزيد من املعلومات انظر املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )4‬مث ًال‪ :‬تايل العدد (�صفر) هو العدد (‪ ،)1‬وتايل العدد (‪ )1‬هو العدد (‪ ،)2‬وهكذا‪.‬‬ ‫(‪ )5‬انظر مث ًال‪:‬‬ ‫‪.Books Penguin, K. Devlin, «Mathematics: The New Golden Age», 1988‬‬

‫(‪ )6‬ملزيدٍ من املعلومات انظر‪ :‬حممود باكري‪ ،‬هل معنى البديهية بديهي؟ يف «درا�سات لغوية من منظور ريا�ضي»‪� ،‬ص‪ ،87‬جامعة دم�شق‪2015 ،‬م‪.‬‬ ‫‪(7) 1936, Oct. 1, No. 2, Vol. 1, Philosophical Series, Univ. of New Mexico Bulletin.‬‬

‫(‪ )8‬انظر‪ :‬جملة املعرفة‪ ،‬وزارة الثقافة‪� ،‬سوريا‪ ،‬العدد ‪1999 ،430‬م‪� ،‬ص‪.116‬‬ ‫(‪ )9‬ملزيدٍ من املعلومات انظر املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )10‬فل�سفة الكوانتم‪ ،‬روالن �أمني�س‪ ،‬ترجمة‪� :‬أحمد ف�ؤاد با�شا‪ ،‬ومينى طريف اخلويل‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪2008 ،‬م‪� ،‬ص‪.88‬‬ ‫(‪ )11‬انظر‪ :‬العلم يف منظوره اجلديد‪ ،‬روبرت م‪� .‬أغرو�س‪ ،‬وجورج ن‪� .‬ستان�سيو‪ ،‬ترجمة‪ :‬كمال خاليلي‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪� ،134‬ص‪.91 ،90‬‬ ‫(‪ )12‬ملزيد من املعلومات حول ال�سلع الروحية واملادية انظر املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )13‬الربهان يف الفل�سفة‪ ،‬حممد بديع الك�سم‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج �صدقني‪ ،‬وزارة الثقافة‪� ،‬سوريا‪1991 ،‬م‪� ،‬ص‪.68‬‬ ‫(‪ )14‬انظر‪ :‬العلم يف منظوره اجلديد‪� ،‬ص‪.58‬‬ ‫(‪ )15‬املنطق وفل�سفة العلوم‪ ،‬بول موي‪ ،‬ترجمة‪ :‬ف�ؤاد ح�سن زكريا‪ ،‬دار العروبة للن�شر والتوزيع‪ :‬الكويت‪1401 ،‬هــ‪1981 /‬م‪� ،‬ص‪.116‬‬ ‫(‪ )16‬جملة املعرفة‪ ،‬وزارة الثقافة‪� ،‬سوريا‪ ،‬العدد ‪1999 ،430‬م‪� ،‬ص‪.128‬‬


‫مستقبليات‬

‫يبدو أننا قد تناسينا في خضم الضجة‬ ‫المثارة حول المخاطر واألزمات التي تواجه‬ ‫ُ‬ ‫البشرية اليوم مسؤوليتنا تجاه مستقبل‬ ‫كثير من األجيال المقبلة‪ ،‬ليس مستقبل‬ ‫هؤالء الذين سيعيشون بعد ‪ 200‬عام من‬ ‫الوقت الحاضر فحسب‪ ،‬بل هؤالء الذين نأمل‬ ‫أنهم سوف ُيولدون ويعيشون بين ألف‬ ‫عام وعشرة آالف عام من اآلن‪.‬‬ ‫إنني أستخدم كلمة (نأمل) لوجود احتمالية‬ ‫أال تجد هذه األجيال فرصة الوجود من‬ ‫األساس؛ ألننا نواجه مخاطر حقيقية‪،‬‬ ‫تهدد بمحو‬ ‫أسميها مخاطر الوجود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجنس البشري من الوجود‪ .‬هذه المخاطر‬ ‫تهدد الحاضر‬ ‫ليست الكوارث الكبرى التي‬ ‫ّ‬ ‫والمستقبل القريب فحسب‪ ،‬وإنما أيض ًا تلك‬ ‫الكوارث التي قد تضع حد ًا للتاريخ البشري‬ ‫الذي نعرفه‪.‬‬ ‫ظهر عبر التاريخ كثيرون ممن رفضوا تجاهل‬ ‫التفكير بشأن المستقبل البعيد؛ فقد حاول‬ ‫المتن ّبئون أمثال نوستردام (‪1566 -1503‬م)‬

‫(‪)1‬‬

‫مرار ًا أن يتنبئوا بنهاية العالم‪.‬‬

‫‪128‬‬


‫التهديدات الخمسة‬

‫الكبرى للوجود‬ ‫البشري‬ ‫‪129‬‬ ‫د‪ .‬أشرف محمد خليفة‬ ‫محاضر بقسم الموارد الطبيعية بمعهد‬ ‫البحوث والدراسات اإلفريقية‬ ‫(جامعة القاهرة)‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪130‬‬

‫حماوالت لت�أ�سي�س علم التنبوء بامل�ستقبل‬

‫محاوالت سابقة‬

‫حاول الكاتب والفيل�سوف الربيطاين هربرت جورج ويلز‬ ‫(‪1946 -1866‬م)(‪� )2‬أن ي� ّؤ�س�س لعلم التنب�ؤ مب�ستقبل‬ ‫الب�شرية‪ ،‬ور�سم يف كتابه املعروف (�آلة الزمن) �صور ًة‬ ‫مل�ستقبل الب�شرية البعيد‪ .‬وحذا كثري من الكتّاب احلذو‬ ‫ذاته يف حماوالت متعددة لو�ضع ت�ص ّور للم�ستقبل‬ ‫أهداف �أخرى‬ ‫البعيد؛ بهدف التحذير مما هو � ٍآت‪� ،‬أو ل ٍ‬ ‫كالتن ّدر وا�ست�شراف امل�ستقبل‪ .‬لكن يف ال�سابق‪ ،‬على‬ ‫الرغم من �أعمال ه�ؤالء الرواد وم�ست�شريف امل�ستقبل‪،‬‬ ‫ف�إنه مل يحدث �شيء ي�ستحقّ الذكر بخ�صو�ص حماوالت‬ ‫الب�شر جت ّنب الكوارث امل�صريية التي ته ّدد الب�شرية‪.‬‬ ‫ونحن اليوم يف و�ضع �أف�ضل؛ فالن�شاط الب�شري �أ�صبح‬ ‫قادر ًا على ت�شكيل م�ستقبل هذا الكوكب‪ ،‬ومع �أننا ال‬ ‫نزال بعيدين من ال�سيطرة على الكوارث الطبيعية‬

‫�إال �أننا ‪-‬نحن اجلن�س الب�شري‪ -‬ط ّورنا كثري ًا من‬ ‫التكنولوجيات التي ت�ساعد على احلد من الأ�ضرار‪� ،‬أو‬ ‫على الأق ّل التعامل معها‪ .‬نعم‪ ،‬هذه املخاطر الوجودية‬ ‫تبقى حتت الدرا�سة‪ ،‬وهناك �شعور بانعدام احليلة‪،‬‬ ‫وا�ستحالة احل ّل جتاه هذه املع�ضالت‪ .‬وحتدث النا�س‬ ‫وتناق�شوا حول املع�ضالت الكارثية �آالف ال�سنني‪،‬‬ ‫لكن القليلني فقط هم من حاولوا منع هذه الكوارث‪،‬‬ ‫والنا�س عاد ًة عاجزون عن عمل �أي �شيء جتاه تلك‬ ‫امل�شكالت التي مل تقع بعد‪ ،‬ويرجع ذلك جزئي ًا �إىل‬ ‫اتّباع �أ�سلوب التعلم باال�ستك�شاف؛ فالنا�س مييلون �إىل‬ ‫ت�ضخيم احتمالية الأحداث التي �سبق �أن عرفنا مناذج‬ ‫منها‪ ،‬والتهوين من �ش�أن الأحداث التي ال ن�ستطيع‬ ‫ا�ستدعاء ذكراها‪.‬‬ ‫ويعني اندثار اجلن�س الب�شري مبفهومه الأ�ضيق فقد‬


‫ال يمكن فعل شيء‬

‫كانت أزمة الصواريخ الكوبية على شفا‬ ‫تتحول إلى حرب نووية‪ ،‬وإذا افترضنا‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫أن مثل هذا الحدث يمكن أن يقع مرةً‬ ‫واحدةً ّ‬ ‫تحوله‬ ‫كل ‪ 96‬عاماً‪ ،‬وأن فرصة ّ‬ ‫إلى حرب نووية كاملة تبلغ الثلث‪ ،‬فإن‬ ‫فرصة حدوث مثل هذه الكارثة لتقع‬ ‫هي مرة واحدة كل مئتي عام‬

‫قد تتغيرّ االحتماالت عرب الزمن؛ لأننا �أحيان ًا ن�أخذ‬ ‫هذه املخاطر بعني اجل ّد‪ ،‬ون�ستطيع �إيجاد احللول‬ ‫املنا�سبة لنتجنبها‪ .‬و�أخري ًا‪ ،‬ف�إن كون �شيء ما ممكن ًا‪،‬‬ ‫ومي ّثل خطر ًا حمتم ًال‪ ،‬ال يعني �أنه من املفيد �أن نقلق‬ ‫ب�ش�أنه؛ فبع�ض املخاطر لي�س يف ا�ستطاعتنا �أن نفعل‬ ‫� ّأي �شيء جتاهها؛ مثل احتمالية الإ�صابة بوابل �أ�شعة‬ ‫جاما التي تن�ش�أ عن انفجار املجرات‪� .‬إننا �إذا عرفنا‬ ‫�أن يف ا�ستطاعتنا فعل �شيء حيال اخلطر فرمبا‬ ‫تتغيرّ الأولويات؛ فمث ًال‪ :‬مع توافر ال�صرف ال�صحي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫انتقالها �إىل الأجيال الالحقة (التي رمبا يكون‬ ‫بع�ضهم ممن �سيعي�شون يف الف�ضاء اخلارجي وقتها)‪،‬‬ ‫وهو ما يه ّدد فر�ص قدرتهم على ت�أ�سي�س قيم �أخالقية‬ ‫خا�صة بهم؛ لأنه �إذا ُفقد الوعي والذكاء ف�إن ذلك‬ ‫يعني �أن القيم نف�سها �أ�صبحت غائب ًة من الكون‪ .‬وهذا‬ ‫كاف لنعمل على‬ ‫الأمر يف ح ّد ذاته �سبب �أخالقي ٍ‬ ‫منع املخاطر الوجودية املحتملة التي ته ّدد اجلن�س‬ ‫الب�شري من �أن ت�صبح حقيقة‪ ،‬وعلينا �أال نقبل الف�شل‬ ‫ولو مرة واحدة يف هذا امل�سعى‪.‬‬ ‫مع �أخذ هذا الأمر يف احل�سبان‪ ،‬فقد قمتُ باختيار ما‬ ‫�أرى �أنه املخاطر اخلم�س الكربى التي تهدد الوجود‬ ‫الب�شري‪ ،‬لكننا يف الوقت ذاته يجب �أن ن�ضع يف‬ ‫ح�سباننا �أن هذه القائمة من املخاطر لي�ست نهائية؛‬ ‫فقد اكت�شفنا‪� ،‬أو �صنعنا ب�أيدينا‪ ،‬خالل القرن املا�ضي‬ ‫خماطر وجودية جديدة؛ فقبل م�شروع مانهاتن(‪ )3‬مل‬ ‫تكن احلرب النووية ممكن ًة؛ لذلك ف�إننا يجب �أن نتو ّقع‬ ‫ظهور خماطر وجودية جديدة كلما �سعى الإن�سان �إىل‬ ‫حياة كل �أفراد اجلن�س الب�شري‪ ،‬ومعها تنتهي كل مزيدٍ من القوة وال�سيطرة‪ ،‬وكذلك ف�إن بع�ض املخاطر‬ ‫�أهدافهم‪ ،‬لكن انقرا�ض اجلن�س الب�شري رمبا يعني التي قد تبدو خطري ًة اليوم قد تختفي وتتال�شى غد ًا؛‬ ‫�أكرث من ذلك بكثري؛ فهو يعني فقد املعاين والقيم لأننا نوا�صل التع ّلم واالبتكار‪.‬‬ ‫الأخالقية التي ُوجدت عرب الأجيال ال�سابقة‪ ،‬و ُمنع‬

‫‪131‬‬


‫والتطعيمات وامل�ضادات احليوية تغيرّ ت النظرة �إىل‬ ‫وباء الطاعون من كونه فع ًال وغ�ضب ًا �إلهي ًا �إىل كونه‬ ‫عوار ًا ي�صيب ال�صحة العامة ميكن التعامل معه‪.‬‬ ‫والآن هيا بنا ننظر �إىل قائمة املخاطر الوجودية‬ ‫اخلم�س الكربى‪:‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الحرب النووية‬

‫‪132‬‬

‫على الرغم من �أن الأ�سلحة النووية مل تُ�ستخدم �سوى‬ ‫مرتني يف هريو�شيما وجنازاكي خالل احلرب العاملية‬ ‫الثانية‪ ،‬و�أن خمزون ال�سالح النووي قد انخف�ض مقارن ًة‬ ‫بكميته التي بلغت ذروتها يف �أثناء احلرب الباردة‪ ،‬ف�إنه‬ ‫من اخلط�أ ظنّ �أن �شبح احلرب النووية قد زال �أو مل‬ ‫يع ّد �أمر ًا حمتم ًال؛ لأن �أزمة ال�صواريخ الكوبية كانت‬ ‫على �شفا �أن تتح ّول �إىل حرب نووية‪ ،‬و�إذا افرت�ضنا �أن‬

‫أسلحة أكثر فعاليةً‬ ‫على الرغم من أن األسلحة ستبدو أصغر‬ ‫إال أنها ستكون أكثر دقةً وفعاليةً من‬ ‫الصورة التي نعرفها عن األسلحة حالياً؛‬ ‫ذكي‬ ‫س ّم‬ ‫فهي ربما ستبدو شيئ ًا مثل ُ‬ ‫ّ‬ ‫يبدو في ظاهره ‪-‬مثالً‪ -‬كغاز األعصاب‪،‬‬ ‫لكنه في الواقع يتخ ّير ضحاياه‪ ،‬أو حتى‬ ‫على هيئة روبوت حشري يراقب النظم‬ ‫والمجتمعات طوال الوقت‪ ،‬ويجبرها‬ ‫على اإلذعان والطاعة‪ ،‬وهو أمر على‬ ‫الرغم من غرابته ال يبدو مستحيالً‪.‬‬

‫�شبح احلرب النووية ال يزال قائم ًا‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ال�سوفييتي ال�سابق ممتلئ باحلوادث اخلطرية التي مل‬ ‫نعرف عنها �شيئ ًا‪ ،‬والتي كان من املمكن �أن تتح ّول ولو‬ ‫باخلط�أ �إىل حروب نووية مد ّمرة‪ .‬وتتغيرّ االحتمالية‬ ‫امل�ؤ ّكدة وفق ًا للو�ضع والتوتر الدويل‪ ،‬وهو ما يجعلنا‬ ‫نت�صور �أن فر�صة وقوع احلرب النووية يف الوقت احلا�ضر‬ ‫تقل عن ‪ 1000/1‬لكل عام‪ .‬وقد ت�ؤدي حرب نووية على‬ ‫م�ستوى كبري بني القوى الكربى �إىل �إبادة مئات املاليني‬ ‫من الب�شر نتيج ًة مبا�شر ًة لالنفجار يف كارثة ي�صعب‬ ‫ت�ص ّورها‪ .‬وب�صورة مماثلة‪ ،‬ف�إن الغبار الذري الناجت مي ّثل‬ ‫خطر ًا موازي ًا لت�أثري االنفجار املبا�شر‪ ،‬ورمبا يعتمد الأثر‬ ‫املدمر للقنبلة ب�صورة �أكرب على الغبار الذري املتخلف‬ ‫عنها‪ ،‬ومن �أمثلة ذلك �أن قنابل الكوبلت(‪ )4‬قدّمت �صورة‬ ‫مريعة وم�ص ّغرة ملا ي�شبه يوم القيامة؛ فهي تقتل ك ّل من‬ ‫يبلغه الغبار الذري النا�شئ عنها‪ ،‬الذي �سينت�شر على‬ ‫م�ستوى العامل ليت�س ّبب يف فناء اجلن�س الب�شري‪ ،‬لكنها‬ ‫�سالح ي�صعب ت�صنيعه وامتالكه من الناحية العملية‬ ‫مثل هذا احلدث ميكن �أن يقع مرة واحدة كل ‪ 69‬عام ًا‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬وهو ما يجعلها �سالح ًا نظري ًا‪ ،‬ويجعل‬ ‫وبفر�ض �أن فر�صة حت ّوله �إىل حرب نووية كاملة تبلغ ا�ستخدامها فعلي ًا �أمر ًا �صعب احلدوث‪.‬‬ ‫الثلث‪ ،‬ف�إن فر�صة حدوث هذه الكارثة هي مرة واحدة‬ ‫كل مئتي عام‪.‬‬ ‫السيناريو األسوأ‬ ‫لكن الأ�سو�أ هو �أن �أزمة ال�صواريخ الكوبية كانت هي يتم ّثل اخلطر احلقيقي الأكرب يف حال وقوع احلرب‬ ‫احلادثة الأ�شهر التي عرفنا بها فقط‪ ،‬لكن تاريخ النووية فيما ُيعرف بـ(ال�شتاء النووي)؛ �إذ �سيت�س ّبب‬ ‫الوقائع النووية بني الواليات املتحدة الأمريكية واالحتاد الغبار وال�سخام املت�صاعدان‪ ،‬اللذان �سي�صالن �إىل‬ ‫طبقة ال�سرتاتو�سفري(‪ )5‬يف حال حدوث احلرب النووية‪،‬‬ ‫يف �إحداث موجة من الربد واجلفاف متتد عدة �سنوات‬ ‫على م�ستوى العامل‪ ،‬وقد تن ّب�أت درا�سة حديثة عن‬ ‫حاول الكاتب والفيلسوف البريطاني‬ ‫هذا التغيرّ املناخي ب�أنه يف حال حدوثه ف�سوف ي�ؤدي‬ ‫يؤسس لعلم‬ ‫هربرت جورج ويلز أن‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �إعاقة منو املزروعات يف �أغلب بقاع العامل عدة‬ ‫التنبؤ بمستقبل البشرية‪ ،‬ورسم‬ ‫�سنوات‪ .‬و�إذا حت ّقق هذا ال�سيناريو ف�إن الباليني من‬ ‫في كتابه المعروف «آلة الزمن»‬ ‫الب�شر �سيموتون جوع ًا‪ ،‬ويرتك فقط �أعداد ًا متف ّرق ًة من‬ ‫صورةً لمستقبل البشرية البعيد‬ ‫الب�شر رمبا ميوتون �أي�ض ًا نتيجة خماطر �أخرى كانت�شار‬

‫‪133‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪134‬‬

‫الوباء مهدد رئي�س للب�شرية‬

‫الأمرا�ض‪ .‬وال�شيء غري امل�ؤ ّكد هو كيف �سيكون ت�أثري حت ّول من قاتل فتّاك عند بداية ظهوره يف �أوروبا �إىل‬ ‫ال�سخام والغبار الذري؛ فف�ض ًال عن طبيعته ونوعيته مر�ض طويل الأمد‪.‬‬ ‫�سيكون الأثر الذي يخلفه على الب�شرية متباين ًا‪ ،‬ولي�ست ول�سوء احلظ ف�إننا �أ�صبحنا الآن قادرين على تخليق‬ ‫�أمرا�ض �أ�سو�أ بكثري من ذلك‪ ،‬و�أحد �أ�شهر الأمثلة على‬ ‫لدينا حالي ًا طريقة للتنب�ؤ بذلك‪.‬‬ ‫ذلك هو‪ :‬كيف ّمت التعديل اجليني على مر�ض جدري‬ ‫الوباء المهندس بيولوجي ًا (وراثياً)‬

‫قتلت الأوبئة الطبيعية �أعداد ًا من الب�شر تفوق تلك‬ ‫التي ماتت يف احلروب‪ ،‬ومع ذلك ف�إن الأوبئة الطبيعية‬ ‫مل تع ّد غالب ًا من املخاطر الوجودية التي تهدد بفناء‬ ‫اجلن�س الب�شري؛ �إذ �أ�صبح عاد ًة لدى الب�شر املناعة‬ ‫الكافية �ضد امل�سببات املر�ضية‪ ،‬كما �أن الناجني من‬ ‫الوباء �سي�صبحون �أكرث مقاوم ًة له‪ ،‬والطبيعة التطورية‬ ‫للطفيليات امل�سببة للأوبئة كذلك جتعلها حتافظ على‬ ‫وجودها من خالل عدم �إفناء العائل الذي تتطفل‬ ‫عليه؛ لذلك فقد ر�أينا �أن ال�سفل�س ‪ )6(syphilis‬قد‬

‫المشكلة تكمن في أن الكائنات الذكية‬ ‫تتم ّيز بقدرتها على تحقيق أهدافها‪،‬‬ ‫تم وضع األهداف بطريقة‬ ‫لكن إذا ّ‬ ‫خبيثة وسيئة فإن ذلك يقود هذه‬ ‫الكائنات إلى توظيف قدرتها بذكاء‬ ‫لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬وهو ما قد‬ ‫يصل بنا إلى نهايات كارثية‬


‫الإرهاب احلكومي يهدد الإن�سانية �أكرث من اجلماعات الإرهابية‬

‫الفئران(‪ )7‬لي�صبح �أكرث فتك ًا‪ ،‬و�أ�شد �ضراو ًة‪ ،‬ولي�صبح‬ ‫كذلك قادر ًا على �إ�صابة حتى الأفراد الذين مت‬ ‫تطعيمهم؟ ويظهر العمل احلايل على فريو�س �أنفلونزا‬ ‫الطيور كيف ميكن جعل قدرة الفريو�س على �إحداث‬ ‫العدوى واملر�ض تزداد بفعل التدخل الب�شري املتعمد‪.‬‬

‫الذكاء المبني على برامج الحاسوب‬ ‫يتحول بسرعة من شيء‬ ‫يمكن أن‬ ‫ّ‬ ‫خاضع لإلنسان إلى قوة رهيبة‬ ‫ويعد سيناريو انفجار‬ ‫ومرعبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الذكاء أمر ًا ممكن ًا عندما تصبح برامج‬ ‫الحواسيب متطورةً وجيدةً بما يكفي‬ ‫إلنتاج برامج أخرى أفضل بنفسها‬

‫ويع ّد حالي ًا اخلطر من قيام �شخ�ص ما ب�إطالق متع ّمد‬ ‫لوباء مد ّمر من هذا القبيل �أمر ًا حمدود ًا‪ ،‬لكن التقنيات‬ ‫البيولوجية (البيوتوكنولوجي) �أ�صبحت اليوم �أف�ضل‬ ‫و�أرخ�ص؛ حتى �أ�صبح ب�إمكان جمموعات �أو�سع �إنتاج‬ ‫�أمرا�ض �أ�سو�أ و�أخطر‪ .‬وكان معظم العمل يف جمال‬ ‫الأ�سلحة البيولوجية يتم حتت �إ�شراف احلكومات‪،‬‬ ‫ويهدف �إىل تخليق �سالح فتاك ب�شرط �أنه ميكن‬ ‫ال�سيطرة عليه؛ لأن �إفناء اجلن�س الب�شري ال يع ّد مفيد ًا‬ ‫من الناحية الع�سكرية‪ .‬لكنه دائم ًا ما يكون هناك بع�ض‬ ‫النا�س يرغبون يف عمل �أ�شياء ملجرد �إثبات �أنهم قادرون‬ ‫على فعل ذلك‪ ،‬ولفت الأنظار �إليهم‪ .‬وهناك �آخرون لهم‬ ‫�أهداف �أبعد؛ مثل طائفة �أميو �شيرنيكي و ‪Aum Shi n‬‬ ‫‪ rikyo‬الدينية اليابانية‪ ،‬التي حاولت وفق ًا ملعتقداتها‬ ‫ت�سريع الو�صول �إىل نهاية العامل من خالل ا�ستخدام‬ ‫الأ�سلحة البيولوجية وغاز الأع�صاب يف هجماتهم التي‬ ‫ّمتت على مرتو الأنفاق يف طوكيو عام ‪1985‬م‪.‬‬ ‫ويعتقد بع�ض النا�س فع ًال �أن كوكب الأر�ض �سيكون �أف�ضل‬ ‫حا ًال من دون وجود االن�سان؛ لذلك فهم ي�سعون �إىل‬ ‫تخلي�ص الكوكب من ال�شر الب�شري‪.‬‬ ‫يبدو �أن عدد من يلقون حتفهم نتيجة ا�ستخدام الأ�سلحة‬ ‫البيولوجية يتّخذ �شكل دالة أُ��سية؛ فمعظم الهجمات تت�س ّبب‬ ‫يف �سقوط عدد حمدود من ال�ضحايا‪ ،‬ومع ذلك ف�إن هذا‬ ‫العدد املحدود يكون كبري ًا؛ فالعدد املتو ّقع من خطر وباء‬ ‫بيولوجي ينت�شر على م�ستوى العامل نتيج ًة لعمل �إرهابي‬ ‫رمبا يكون قلي ًال‪ ،‬لكن قدرة هذه اجلماعات الإرهابية تع ّد‬ ‫حمدود ًة �إذا قورنت بقدرة احلكومات واجليو�ش النظامية‬ ‫التي ت�ستطيع قتل �أعداد �أكرب كثري ًا من النا�س �إذا جل�أت‬ ‫�إىل ا�ستخدام ال�سالح البيولوجي؛ فمث ًال‪ُ :‬قتل ما يزيد‬ ‫على ‪� 400‬ألف ن�سمة نتيجة الربنامج البيولوجي الع�سكري‬ ‫الياباين خالل احلرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الحكومات أخطر من الجماعات اإلرهابية‬

‫‪135‬‬


‫ولأن التكنولوجيا تتطور ب�سرعة‪ ،‬وت�صبح �أكرث كفاءة‬ ‫وقدرة‪ ،‬ف�إن امل�ستقبل القريب قد يحمل �أوبئة مهند�سة‬ ‫وراثي ًا ‪� Bioengineered pandemic‬أ�سو�أ بكثري‬ ‫مما قد نتخ ّيل‪ ،‬و�أ�سهل يف الت�صميم والتنفيذ‪.‬‬ ‫الذكاء الفائق‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الذكاء يف ح ّد ذاته قوة رهيبة‪ ،‬وزيادة طفيفة يف القدرة‬ ‫على ح ّل امل�شكالت وتنظيم املجموعة هو ما جعلنا نطرح‬ ‫الأنواع الأخرى من القرود �أر�ض ًا‪ ،‬والآن يع ّد ا�ستمرار‬ ‫وجودهم وحياتهم على الأر�ض قرار ًا بيد الإن�سان ّ‬ ‫بغ�ض‬ ‫النظر عما يفعلونه‪.‬‬

‫‪136‬‬

‫�أن تكون ذكي ًا ميزة فعلية لدى النا�س واملنظمات الب�شرية؛‬ ‫لذلك ف�إن كثري ًا من اجلهود تُبذل لإيجاد الطرائق التي‬ ‫ميكن بها تطوير الذكاء الفردي واجلماعي للجن�س‬ ‫الب�شري وتنميته‪ ،‬بداي ًة من عقاقري حت�سني الإدراك �إىل‬ ‫برامج احلو�سبة اخلا�صة بالذكاء ال�صناعي‪.‬‬ ‫وتكمن امل�شكلة يف �أن الكائنات الذكية تتم ّيز بقدرتها‬ ‫على حتقيق �أهدافها‪ ،‬لكن �إذا ّمت و�ضع الأهداف بطريقة‬ ‫خبيثة و�سيئة ف�إن ذلك يقود هذه الكائنات �إىل توظيف‬ ‫قدرتها بذكاء لتحقيق هذه الأهداف‪ ،‬وهو ما قد ي�صل‬ ‫بنا �إىل نهايات كارثية‪.‬‬ ‫ولي�س هناك �سبب معقول يجعلنا نظنّ �أن وجود الذكاء‬

‫الذكاء الفائق قد يخرج عن دائرة ال�سيطرة‬


‫كفاءة وقدرة؛ لذلك فإن المستقبل‬ ‫هندسةً وراثي ًا‬ ‫القريب قد يحمل أوبئةً ُم َ‬ ‫أسوأ بكثير مما قد نتخ ّيل‪ ،‬وأسهل في‬ ‫التصميموالتنفيذ‬

‫يف ح ّد ذاته �سيجعل الأ�شياء تت�ص ّرف بطريقة ح�سنة‬ ‫و�أخالقية؛ فاحلقيقة �أنه من املمكن �إثبات �أن �أنواع ًا‬ ‫معينة من النظم الفائقة الذكاء رمبا لن تطيع القواعد‬ ‫الأخالقية فيما لو كانت �صحيحة‪ .‬قد يكون من املقلق‬ ‫�أكرث �أن حماولة �شرح الأ�شياء للآالت ذات الذكاء‬ ‫اال�صطناعي يجعلنا ننزلق �إىل م�شكالت كبرية من‬ ‫الناحيتني التطبيقية والفل�سفية‪.‬‬ ‫تع ّد القيم الإن�سانية عميق ًة ومع ّقد ًة �إىل ح ّد �أننا �أحيان ًا‬ ‫جند �أنف�سنا عاجزين عن �شرحها �أو التعبري عنها‪،‬‬ ‫وحتى عندما ن�شرحها رمبا جند �أنف�سنا ال نفهم ك ّل‬ ‫ما تت�ضمنه هذه القيم من �أ�سباب جتعلنا نتم�سك‬ ‫املبني على برامج احلا�سوب �أن‬ ‫بها‪ .‬وميكن للذكاء‬ ‫ّ‬ ‫يتحول ب�سرعة من �شيء خا�ضع للإن�سان �إىل قوة‬ ‫رهيبة ومرعبة‪ ،‬ويع ّد �سيناريو انفجار الذكا ء ‪inte l‬‬ ‫‪� )8(ligence explosion‬أمر ًا ممكن ًا عندما ت�صبح‬ ‫برامج احلوا�سيب متطورة وجيدة مبا يكفي لإنتاج برامج‬ ‫�أخرى �أف�ضل بنف�سها‪ .‬و�إذا حدثت تلك القفزة ف�سيكون‬ ‫هناك تغيرّ كبري يف موازين القوى بني هذه النظم الذكية‬ ‫(�أو الب�شر الذين يخربونها مبا يجب �أن تفعل) وك ّل‬ ‫العامل‪ .‬و�إذا حت ّقق هذا ال�سيناريو ف�ستقع كارثة حم ّققة‬ ‫�إذا كانت الأهداف املو�ضوعة �سيئة وخبيثة‪.‬‬ ‫ال�شيء غري املعتاد بخ�صو�ص هذا الذكاء اخلارق‪/‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫التكنولوجيا تتطور بسرعة‪ ،‬وتصبح أكثر‬

‫‪137‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪138‬‬

‫الفائق ‪ intelligence Super‬هو �أننا ال نعلم �إذا‬ ‫كان هذا الت�سارع وتلك القوة اللذان ميكن �أن يقودا‬ ‫�إىل حدوث �سيناريو انفجار الذكاء هما �أمر ممكن‬ ‫احلدوث حق ًا �أم ال‪ .‬رمبا تكون ح�ضارتنا احلالية كلها‬ ‫تط ّور نف�سها ب�أق�صى معدل ممكن‪ ،‬لكن هناك �أ�سباب‬ ‫قوية جتعلنا نف ّكر يف �أن بع�ض التقنيات‪ /‬التكنولوجيات‬ ‫رمبا ت�س ّرع من الأمور مبعدالت �أ�سرع من �أن تتعامل‬ ‫معها املجتمعات احلالية‪ .‬وباملثل‪ ،‬ف�إننا ال منلك �شيئ ًا‬ ‫ملمو�س ًا عن مدى خطورة ال�صور املختلفة من الذكاء‬ ‫اال�صطناعي اخلارق‪� ،‬أو كيف ميكن لإ�سرتاتيجيات‬ ‫التعامل وتقليل ال�ضرر �أن تعمل؛ ف�إنه من ال�صعب جد ًا‬ ‫�أن نتن ّب�أ بخ�صو�ص تقنية م�ستقبلية ال منلكها بعد‪� ،‬أو �أن‬ ‫تكون �أكرث ذكا ًء من الب�شر �أنف�سهم‪.‬‬ ‫�أما عن املخاطر الواردة يف هذه القائمة‪ ،‬فرمبا يكون‬ ‫خطر الذكاء اال�صطناعي اخلارق هو �أكرثها خطور ًة‪،‬‬ ‫التعجب يف هذا‬ ‫�أو �أنه جمرد �سراب‪ ،‬ومن دوافع‬ ‫ّ‬

‫من دوافع التعجب أنه منذ خمسينيات‬ ‫القرن الماضي وستينياته عندما كان‬ ‫الناس واثقين بأن الذكاء االصطناعي‬ ‫الخارق يمكن أن يتحقّ ق خالل مدة ال‬ ‫تتجاوز الجيل الواحد فإنهم لم ينظروا‬ ‫إلى مسائل األمان‬

‫املو�ضوع �أنه منذ خم�سينيات القرن املا�ضي و�ستينياته‬ ‫عندما كان النا�س واثقني ب�أن الذكاء اال�صطناعي‬ ‫اخلارق ميكن �أن يتح ّقق خالل مدة ال تتجاوز اجليل‬ ‫الواحد ف�إنهم مل ينظروا �إىل م�سائل الأمان‪ ،‬ورمبا‬ ‫كان ذلك ب�سبب �أنهم مل ي�أخذوا توقعاتهم بجدية‪،‬‬ ‫لكن الأكرث احتمالي ًة �أنهم رمبا ر�أوا �أن هذه امل�شكلة ال‬ ‫تخ�ص امل�ستقبل البعيد‪.‬‬ ‫تخ�صهم‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬

‫عواقب الذكاء اال�صطناعي تخ�ص امل�ستقبل البعيد‬


‫تعني تقنية اجلزيئات النانومرتية (النانو تكنولوجي‬ ‫‪ )Nanotechnology‬التح ّكم يف املادة على م�ستوى‬ ‫الذرة �أو اجلزيء‪ ،‬وال يع ّد هذا الأمر يف ح ّد ذاته خطري ًا‪،‬‬ ‫بل على العك�س يع ّد �أمر ًا جيد ًا ملعظم التطبيقات‪ ،‬لكن‬ ‫امل�شكلة ‪-‬مثلما هو احلال يف التقنيات احليوية‪� -‬أنه‬ ‫كلما زادات القوة املمنوحة زادات معها خماطر �إ�ساءة‬ ‫ا�ستخدام هذه القوة‪ ،‬و�صعوبة مواجهة ذلك‪ .‬وال تكمن‬ ‫(‪)9‬‬ ‫امل�شكلة الكربى يف فر�ضية اجلرايجوو ‪Grey Goo‬‬ ‫ال�سيئة ال�سمعة التي تفرت�ض اال�ستن�ساخ الذاتي للآالت‬ ‫النانومرتية فت�أكل ك ّل �شيء يف بيئتها؛ �إذ يتط ّلب حدوث‬ ‫ذلك ت�صميم ًا ذكي ًا لهذا الغر�ض خا�ص ًة‪ ،‬ومن ال�صعب‬ ‫�أن ت�صنع �آلة ت�ستن�سخ نف�سها؛ لأن البيولوجيا هي‬ ‫الأمثل لذلك يف الطبيعة‪ ،‬ورمبا ينجح �شخ�ص مهوو�س‬ ‫يف �إحداث هذه الفر�ضية بامل�صادفة‪ ،‬لكن هناك كثري‬ ‫من الفاكهة الأقرب منا ًال يف �شجرة تكنولوجيا الدمار‬ ‫ال�شامل‪.‬‬ ‫وتكمن امل�شكلة احلقيقة للنانو تكنولوجي يف �أن‬ ‫ال�صناعات القائمة على الدقة الذرية ‪atomically‬‬ ‫‪ precise manufacturing‬تبدو مثالي ًة لإنتاج‬ ‫�سريع ورخي�ص لأ�شياء مثل الأ�سلحة‪ ،‬ويف عامل تكون‬ ‫فيه احلكومة قادر ًة على (طباعة) كميات كبرية من‬

‫القيم اإلنسانية عميقة ومعقّ دة‬ ‫حد أننا أحيان ًا نجد أنفسنا عاجزين‬ ‫إلى ّ‬ ‫عن شرحها أو التعبير عنها‪ ،‬وحتى‬ ‫عندما نشرحها ربما نجد أنفسنا ال‬ ‫نفهم ّ‬ ‫كل ما تتضمنه هذه القيم من‬ ‫أسباب تجعلنا نتمسك بها‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫النانو تكنولوجي‬

‫النانو التكنوولوجي‪� ..‬أ�سلحة �أ�صغر وفاعلية �أكرث‬

‫الأ�سلحة امل�ستقلة (تعمل من دون احلاجة �إىل العن�صر‬ ‫الب�شري) �أو �شبه امل�ستقلة‪ ،‬والتجهيزات الالزمة لبناء‬ ‫مزيدٍ منها‪� ،‬سي�صبح �سباق الت�سلح �أ�سرع بكثري‪،‬‬ ‫و�سي�صبح توجيه ال�ضربة الع�سكرية الأوىل هدف ًا مغري ًا‬ ‫يف ح ّد ذاته قبل �أن يكت�سب الأعداء فر�صة بناء مزيدٍ‬ ‫من الآليات الع�سكرية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن الأ�سلحة �أي�ض ًا �ستبدو �أ�صغر �إال‬ ‫�أنها �ستكون �أكرث دق ًة وفعالي ًة من ال�صورة التي نعرفها‬ ‫عن الأ�سلحة حالي ًا؛ فهي رمبا �ستبدو �شيئ ًا مثل ُ�س ّم‬ ‫ذكي يبدو يف ظاهره ‪-‬مث ًال‪ -‬كغاز الأع�صاب‪ ،‬لكنه‬ ‫ّ‬ ‫يف الواقع يتخيرّ �ضحاياه‪� ،‬أو حتى على هيئة روبوت‬ ‫ح�شري ‪ )10(gnatbot‬يراقب النظم واملجتمعات‬ ‫طوال الوقت‪ ،‬ويجربها على الإذعان والطاعة‪ ،‬وهو‬

‫‪139‬‬


‫�أمر على الرغم من غرابته ال يبدو م�ستحي ًال‪ .‬ورمبا‬ ‫�أي�ض ًا �ستكون هناك طرائق للح�صول على �سالح‬ ‫نووي ب�صورة �سهلة �سريعة‪� ،‬أو التحكم يف املناخ‬ ‫وا�ستعماله �سالح ًا؛ لذلك �سي�صبح يف متناول جميع‬ ‫من يرغبون يف امتالك هذه الأ�سلحة‪.‬‬ ‫ال ميكننا احلكم على ال�صورة التي �سيكون عليها‬ ‫اخلطر الوجودي الذي يه ّدد م�ستقبل الب�شرية بفعل‬ ‫النانو تكنولوجي‪ ،‬لكننا ميكن �أن نقول‪� :‬إنه �سيكون‬ ‫�سبب ًا للدمار املحتمل فقط؛ لأنه �سيعطي الب�شر ما‬ ‫يتم ّنون من قوة وقدرة على �إيجاد الرخاء �أو الدمار‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫األخطار غير المعلومة‬

‫‪140‬‬

‫الفر�ضية الأكرث �إحداث ًا للقلق هي تلك التي تقول‪:‬‬ ‫رمبا يكون هناك �شيء خميف ينتظر م�ستقبل الب�شر‪،‬‬ ‫وهو �أ�شد فتك ًا و�شرا�س ًة‪ ،‬لكننا مازلنا ال نعلم �شيئ ًا‬ ‫عنه؛ فال�سكون الذي ّ‬ ‫يلف ال�سماء من حولنا رمبا‬

‫ال يمكننا الحكم على الصورة التي‬ ‫سيكون عليها الخطر الوجودي الذي‬ ‫يهدد مستقبل البشرية بفعل النانو‬ ‫ّ‬ ‫تكنولوجي‪ ،‬لكننا يمكن أن نقول‪ :‬إنه‬ ‫سيكون سبب ًا للدمار المحتمل فقط؛ ألنه‬ ‫سيعطي البشر ما يتمنّون من قوة‬ ‫وقدرة على إيجاد الرخاء أو الدمار‬

‫يكون دلي ًال على ذلك؛ فهل حق ًا غياب املخلوقات‬ ‫الف�ضائية العاقلة ‪ aliens‬هو نتيجة لأن احلياة �أو‬ ‫الذكاء هما �شيء نادر جد ًا يف هذا الكون‪� ،‬أم �أن‬ ‫هناك اجتاه ًا �أو �سبب ًا ميحو احل�ضارات العاقلة من‬ ‫الكون؟ هل هناك م�صفاة م�ستقبلية هائلة ق�ضت‬ ‫على ح�ضارات �أخرى موازية لنا يف الكون من دون �أن‬

‫فر�ضية‪� :‬شيء خميف ينتظر م�ستقبل الب�شر‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫احلياة ت�ستمر على الرغم من التغري املناخي‬

‫ي�سعى �أحد منهم �إىل م�ساعدتنا �أو حتذيرنا؟‬ ‫�أي ًا كان نوع هذا التهديد فهو يبدو �شيئ ًا ال ميكن منعه‪،‬‬ ‫حتى عندما تعرف �أنه هناك‪ ،‬من دون النظر �إىل من‬ ‫تكون‪� ،‬أو ماذا ميكنك �أن تفعل؛ فنحن ال نعلم � ّأي �شيء‬ ‫عن مثل هذه التهديدات‪ ،‬لكنها رمبا تكون بالفعل‬ ‫قائم ًة‪ ،‬ولي�ست هناك خماطر �سبق ذكرها يف هذه‬ ‫القائمة تبدو �أنها حتمل هذه ال�صفة نف�سها‪.‬‬ ‫وال بد �أن ن�شري هنا �إىل �أن جم ّرد جهلنا بال�شيء ال يعني‬ ‫�أننا غري قادرين على تو ّقعه؛ ففي ورقة بحثية مم ّيزة‬ ‫للعاملني‪ :‬ماك�س تيجمارك‪ ،‬ونيك بو�سرتو(‪� )11‬أ�شارا �إىل‬ ‫�أن جمموعة حمدّدة من املخاطر الوجودية قد تقع بن�سبة‬ ‫فر�صة واحدة لك ّل بليون �سنة؛ اعتماد ًا على حتليالت‬ ‫علمية مرتبطة بالعمر الن�سبي لكوكب الأر�ض‪.‬‬

‫التغير المناخي ال ُيفني الحياة‬ ‫ّ‬

‫تتعجب من �أننا مل نذكر التغيرّ املناخي‪ ،‬وخطر‬ ‫رمبا ّ‬ ‫الأج�سام والنيازك الف�ضائية يف هذه القائمة؛ فالتغيرّ‬ ‫املناخي ّ‬ ‫بغ�ض النظر عن مدى خطورته ال يت�ص ّور �أنه‬ ‫�سيت�س ّبب يف جعل كل كوكب الأر�ض غري م�أهول باحلياة‬ ‫�إال �إذا تداخل مع عوامل وتهديدات �أخرى ف�شلنا يف‬ ‫جمابهتها‪ ،‬وكذلك الأج�سام الف�ضائية والنيازك قد‬ ‫متحو احلياة على كوكب الأر�ض‪ ،‬لكن حلدوث ذلك ال‬ ‫بد �أن نكون �سيئي احلظ جد ًا؛ ف�أنواع الثدييات املتو�سطة‬ ‫قد جنت وا�ستمرت يف احلياة خالل املليون عام‬ ‫املن�صرمة‪ ،‬كما �أن معدل انقرا�ض الأنواع الطبيعي ‪the‬‬ ‫‪ background natural extinction rate‬هو‬ ‫بالتقريب واحد لك ّل مليون عام‪ ،‬وهو �أق ّل بكثري من خطر‬

‫‪141‬‬


‫اندالع حرب نووية ال تزال بعد ‪ 70‬عام ًا هي التهديد التي نراها دائم ًا ماثل ًة �أمامنا يف و�سائل الإعالم‪ ،‬ونق ّلل‬ ‫الأكرب الذي يهدّد الوجود الب�شري‪.‬‬ ‫من خطورة التهديدات التي مل مت ّر بنا من قب ُل‪ ،‬و�إذا‬ ‫ويجعلنا مدى توافر �إمكانية �أن نتع ّلم عن طريق �أردنا �أن ي�ستمر اجلن�س الب�شري يف الوجود فعلينا �أن‬ ‫اال�ستك�شاف ن�سلك �سلوك ًا نبالغ فيه عند تقييم املخاطر نغيرّ هذا ال�سلوك‪.‬‬ ‫(*) هذا املقال مرتجم عن مقال للكاتب �أندر�س �ساندبريج؛ الباحث يف معهد م�ستقبل الإن�سانية بجامعة �أك�سفورد‪ ،‬بعنوان‪:‬‬

‫‪“The five biggest threats tohuman existence” by Anders Sandberg, May 29, 2014.‬‬

‫على الرابط‪:‬‬

‫‪https://theconversation.com/the-five-biggest-threats-to-human-existence-27053.‬‬

‫وقد ّمت احل�صول على موافقة امل�ؤلف على الرتجمة بوا�سطة الربيد الإلكرتوين من دون �أيّ �شروط �أو متط ّلبات‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫المراجع والهوامش‬

‫‪142‬‬

‫(‪ )1‬مي�شيل دي نو�سرتدام‪ :‬ع ّراف ومتنبئ فرن�سي‪ ،‬ن�شر عدد ًا من التنب�ؤات التي حدث بع�ضها بالفعل‪ ،‬واكت�سبت نبوءاته �شهرة عاملية‪.‬‬ ‫(‪ )2‬هربرت جورج ويلز‪ :‬كاتب وفيل�سوف �سيا�سي بريطاين‪ ،‬ا�شتهر بق�ص�صه وكتاباته التي اهت ّمت بجميع مناحي احلياة؛ من اجتماع واقت�صاد‬ ‫وعلم و�أدب وفل�سفة‪ ،‬خ�صو�ص ًا فيما كتبه من ق�ص�ص اخليال العلمي‪.‬‬ ‫(‪ )3‬م�شروع منهاتن‪ :‬م�شروع بحثي تطبيقي �أ�سفر عن �إنتاج �أول �سالح نووي خالل احلرب العاملية الثانية‪ ،‬وكان امل�شروع بقيادة الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية بالتعاون مع بريطانيا وكندا‪ .‬وكان امل�شروع يف املدة (‪1946 -1942‬م) حتت �إدارة‪ :‬املهند�س الع�سكري اجلرنال ليزيل جروف (‪-1869‬‬ ‫‪1970‬م)‪ ،‬والفيزيائي روبرت �أوبنهامير مدير معمل لو�س �آملو�س الوطني الذي �ص ّمم �أول قنبلة نووية فعلية‪.‬‬ ‫(‪ )4‬قنبلة الكوبلت‪ :‬قنبلة افرتا�ضية قدّم فكرتها الفيزيائي ال�شهري ليو �سزلريد يف فرباير عام ‪1950‬م‪ ،‬وتقوم فكرتها على �أ�سا�س ن�شر الغبار‬ ‫يتم ت�صنيعها فعلي ًا ب�سبب التكلفة العالية و�شبه‬ ‫الذري امل�شع لأحد نظائر عن�صر الكوبلت‪ ،‬وهي نظري ًا قادرة على �إفناء اجلن�س الب�شري ك ّله‪ ،‬لكن مل ّ‬ ‫اال�ستحالة التقنية لتنفيذها‪.‬‬ ‫(‪ )5‬طبقة ال�سرتاتو�سفري‪ :‬الطبقة الثانية من طبقات الغالف اجلوي‪ ،‬ويبلغ متو�سط ارتفاعها عند بدايتها م�سافة ‪ 13-10‬كيلومرت ًا من �سطح‬ ‫الأر�ض‪ ،‬وتنتهي على ارتفاع ‪ 50‬كيلومرت ًا تقريب ًا‪ ،‬وتتم ّيز ب�أن درجة احلرارة فيها تزداد كلما اجتهنا �إىل �أعلى‪ ،‬وبوجود طبقة الأوزون يف اجلزء‬ ‫ال�سفلي منها‪.‬‬ ‫(‪ )6‬ال�سفل�س‪ :‬مر�ض جن�سي ظهر �أول مرة يف �أوربا عام ‪1495‬م‪ ،‬وكان يع ّد عند ظهوره الأول وبا ًء قات ًال يقتل ك ّل َمن ي�صيبه فور ًا‪ ،‬لكن املر�ض‬ ‫�أ�صبح �أق ّل فتك ًا بعد مرور عدة �سنوات ل�سبب غري معروف‪ ،‬ثم حت ّول خالل ال�سنوات اخلم�سني الالحقة �إىل مر�ض متو�سط الأ�ضرار ي�ستمر مع املري�ض‬ ‫مد ًة طويل ًة‪.‬‬ ‫‪(7) http://jvi.asm.org/content/75/3/1205.long.‬‬

‫(‪ )8‬انفجار الذكاء‪� :‬سيناريو نظريّ يفرت�ض �أن تتم ّكن �آلة ذكية من فهم العملية التي ّمت بها �إنتاج ذكائها وحتليلها وتطويرها‪ ،‬وا�ستخدام ذلك يف‬ ‫�إنتاج �آلة �أخرى �أكرث ذكا ًء‪ ،‬وكذلك تفعل الآلة اجلديدة حتى ت�صل العملية �إىل قدرة الآالت الذكية ‪-‬من دون تدخّ ل ب�شري‪ -‬على �أن تنتج �آالت �أخرى‬ ‫�أكرث ذكاء ومهارة من اجلن�س الب�شري‪ .‬وقد ّمت تقدمي هذا ال�سيناريو �أول مرة عام ‪1965‬م بوا�سطة عامل الريا�ضيات واحلو�سبة الذكية الربوفي�سور‬ ‫�إيرفينج جوود (‪2009 -1916‬م)‪.‬‬ ‫(‪ )9‬اجلرايجوو‪ :‬نظرية افرتا�ضية ت�ضع �سيناريو لنهاية العامل يرتبط بتقنية النانو تكنولوجي اجلزيئية؛ �إذ تفرت�ض وجود ا�ستن�ساخ ذاتي للروبوت‬ ‫(الإن�سان الآيل) ‪ self-replicating robots‬خارج عن ال�سيطرة الب�شرية‪ ،‬وت�ستهلك الروبوتات ك ّل املواد اخلام املوجودة على كوكب الأر�ض خالل‬ ‫بنائها لذواتها امل�ستن�سخة‪ ،‬و ُي�س ّمى هذا ال�سيناريو (الإيكوفاج ‪ /ecophagy‬التهام البيئة)‪ .‬والفكرة الأ�صلية التي ُبني عليها هذا ال�سيناريو تفرت�ض‬ ‫�أن هذه الآالت (الروبوتات) ُ�ص ِّممت لتمتلك هذه القدرة على ن�سخ �أنف�سها‪ ،‬لكن الفكرة الأكرث انت�شار ًا و�شعبي ًة تفرت�ض �أن الروبوتات قد اكت�سبت هذه‬ ‫القدرة بامل�صادفة نتيج ًة حلادث طارئ‪ .‬وقد ُو�صفت هذه الآالت الذاتية اال�ستن�ساخ �أول مرة بوا�سطة العامل الريا�ضي جون فون نيومان‪� .‬أما م�صطلح‬ ‫اجلرايجوو‪ ،‬فقد ابتكره رائد علم النانو تكنولوجي �إيريك دريك�سلر‪ ،‬وذكره يف كتابه (حم ّركات اخللق ‪ )Engines of Creation‬عام ‪1986‬م‪.‬‬ ‫(‪ )10‬روبوت (�آيل) �صغري يتّخذ غالب ًا مظهر احل�شرات‪ ،‬وي�ستخدم للمراقبة‪.‬‬ ‫‪(11) M. Tegmark and N. Bostrom, Nature, 438, 754 (2005).‬‬


‫محمد الفالح‬

‫عدسة علمية‬

‫مصور سعودي‬ ‫ّ‬

‫نفود الثويرات‬ ‫مصور يحاول اقتناص منظر ال��غ��روب مع التكوينات‬ ‫ّ‬ ‫الرملية في نفود الثويرات‪ ،‬وهي أطول سلسلة نفود‬ ‫فيالمملكةالعربيةالسعودية‪.‬‬

‫مشهد مع النجوم‬ ‫المصور يبيت في البحيرة السابعة من البحيرات السبع‬ ‫ّ‬ ‫التي يستغرق الوصول إليها ساعات من المشي في‬ ‫أعالي الجبال سير ًا على األقدام‪ ،‬ويبدو مشهد النجوم‬ ‫المتأللئة في تلك البحيرة صافي ًا وبراق ًا بسبب عدم‬ ‫وجود إضاءة في المكان‪.‬‬

‫طفالن من بوتان‬ ‫طفالن من مملكة بوتان في ز ّيهما التقليدي‪ ،‬وتقع‬ ‫هذه الدولة في الطرف الشرقي من جبال الهيمااليا‬ ‫ُسمى (مملكة السعادة) بسبب سعادة‬ ‫بجنوب آسيا‪ ،‬وت َّ‬ ‫شعبها لعدم اختالطهم ب��ال��دول األخ���رى‪ ،‬وصعوبة‬ ‫سفر أبنائها إلى الخارج‪ ،‬وتعتمد هذه الدولة على‬ ‫الزراعة‪ ،‬ولم يدخل إليها التلفاز واإلنترنت إال عام ‪١٠٠٢‬م‪.‬‬

‫أطفال جيدبور‬ ‫أط��ف��ال ي��ق��رؤون ال��ق��رآن مستغلّين إض���اءة النافذة‬ ‫الطبيعية في مدينة جيدبور الهندية التي ال توجد‬ ‫مقومات الحياة‪ ،‬وقد حقّ قت هذه الصورة‬ ‫بها أبسط‬ ‫ّ‬ ‫ذهبية جائزة مهرجان األردن العربي الثاني عشر‬ ‫للصورةالفوتوغرافية‪.‬‬


‫تراث‬

‫سبق أطباء اإلغريق‪ ،‬ومن بعدهم أطباء‬ ‫العرب والمسلمين‪ ،‬الطب الحديث بعدة‬ ‫عدوا بعض الحاالت النفسية‬ ‫قرون حين ّ‬ ‫أمراض ًا جسمية‪ ،‬وبعض األمراض الجسمية‬ ‫حاالت نفسية‪ ،‬وأخضعوها للتشخيص‬ ‫والعالج‪ .‬وتجاوز هؤالء وأولئك نظرة‬ ‫الحضارات القديمة إلى األمراض النفسية‬ ‫على أنها حاالت ناتجة من تسلّط األرواح‬ ‫الشريرة على الجسم‪ ،‬وهي نظرة استمرت‬ ‫في أوروبا العصور الوسطى؛ إذ كانت‬ ‫تتم‬ ‫ُمعالجة المصابين بهذه األمراض ّ‬ ‫بالتقييد باألغالل واألصفاد والمبالغة في‬ ‫الضرب؛ أم ً‬ ‫ال في إخراج األرواح الشريرة‬ ‫من أجساد أولئك المرضى‪ ،‬بل إنهم كانوا‬ ‫في العصور المظلمة يلجأون إلى إحراق‬ ‫المرضى النفسيين الذين ُيستعصى‬ ‫شفاؤهم بدعوى استقرار تلك األرواح‬ ‫فيهم‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫الطب‬

‫النفسجسمي‬ ‫عند المسلمين‬ ‫‪145‬‬ ‫د‪ .‬بركات محمد مراد‬ ‫أستاذ الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬في كلية التربية‬ ‫بجامعة عين شمس في مصر‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪146‬‬

‫حقق الإغريق نقلة نوعية يف عالج الأمرا�ض النف�سية‬

‫ح ّقق �أطباء الإغريق نقلة نوعية يف ت�شخي�ص‬ ‫الأمرا�ض النف�سية‪ ،‬ويف حماولتهم معاجلتها بعيد ًا‬ ‫من ممار�سة الكهانة وال�شعوذة‪ ،‬ومن ه�ؤالء‪� :‬أبقراط‪،‬‬ ‫وجالينو‪ ،‬وثيوفرا�ست�س‪ ،‬والإ�سكندر الأفرودي�سي‪،‬‬ ‫وح ّقق ثيوفرا�ست�س والأفرودي�سي �شهر ًة وا�سع ًة يف‬ ‫ميدان الأمرا�ض النف�سية‪ ،‬خ�صو�ص ًا فيما و�صفاه من‬ ‫كتابات عن (املالينخوليا ‪� )Melancholia‬أو مر�ض‬ ‫ال�سوداء �أو االكتئاب‪ .‬و�إذا كنا ال نعرف كثري ًا عن‬ ‫الأمرا�ض النف�سية عند العرب قبل الإ�سالم ف�إن بع�ض‬ ‫الأخبار املتعلقة بط ّبهم وفرا�ستهم ّ‬ ‫تدل على معرفتهم‬ ‫بع�ض هذه الأمرا�ض‪ ،‬وحماولة عالجها‪ ،‬كما كان يفعل‬ ‫احلارث بن كلدة‪ ،‬و�ضماد بن ثعلبة الأزدي‪ ،‬و ُيروى يف‬ ‫هذا ال�صدد �أن �أحد الأمراء ا�ضطربت نف�س زوجته‪،‬‬ ‫وعجز الأطباء يف بالده عن عالجها‪ ،‬وتبينّ للطبيب‬

‫العربي بعد املعاينة الدقيقة �أن مر�ض املر�أة ميكن‬ ‫عالجه باحليلة والإيحاء‪ ،‬فو�صف لها دوا ًء‪ ،‬وعزلها‬ ‫ق�صر وحدها‪ ،‬وا�شرتط �أن يقوم م�ساعده بالعناية‬ ‫يف ٍ‬ ‫باملر�أة املري�ضة‪ ،‬فرف�ض الأمري يف �أول الأمر هذا‬ ‫مت�سك الطبيب العربي‬ ‫ال�شرط‪ ،‬لكنه عاد وقبله عندما ّ‬ ‫توجه‬ ‫بر�أيه؛ �أم ًال يف �شفاء زوجته‪ .‬ويف اليوم التايل ّ‬ ‫م�ساعد الطبيب �إىل املري�ضة يف الق�صر‪ ،‬و�أخذ يقوم‬ ‫ب�أعمال التدليك‪ ،‬فا�ستهجنت مه ّمته‪ ،‬وا�ستجمعت‬ ‫قواها‪ ،‬و�أخذت تلطم ال�شاب‪ ،‬ثم نه�ضت م�سرع ًة نحو‬ ‫فهب ذووها �إىل‬ ‫النافذة‪ ،‬و�أخذت ت�صرخ وت�ستغيث‪ّ ،‬‬ ‫جندتها‪ ،‬وكادوا يفتكون بامل�ساعد لوال �أن طلب منهم‬ ‫�إر�ساله �إىل الأمري حيث كان الطبيب العربي موجود ًا‪،‬‬ ‫وهناك ك�شف الطبيب عن هوية م�ساعده ف�إذا هي‬ ‫ابنته‪ ،‬وقال‪� :‬إن ما �أقدم عليه كان حيل ًة نف�سي ًة ل�شفاء‬


‫المسلمون وعلم النفس‬

‫وا�صل الأطباء العرب وامل�سلمون بعد ظهور الإ�سالم‬ ‫طب الإغريق يف �شتى امليادين‪،‬‬ ‫جهودهم يف تطوير ّ‬ ‫و�سجلوا يف ذلك �إجنازات طبية‬ ‫ومنها الطب النف�سي‪ّ ،‬‬ ‫رائعة‪ ،‬ويرجع ذلك يف الدرجة الأوىل �إىل موقف الإ�سالم‬ ‫ومبادئه من العلم والعلماء‪ ،‬وح ّثه على طلب العلم من‬ ‫م�صادره كاف ًة‪ ،‬ونظرته �إىل الأمرا�ض على �أنها ظاهرة‬ ‫حياتية طبيعية‪ ،‬ودعوته �إىل مداواتها‪ ،‬والتما�س ال�شفاء‬ ‫منها بالأ�ساليب الطبية العلمية؛ فقد ُروي عن الر�سول‬ ‫الكرمي �صلى اهلل عليه و�سلم نحو ثالثمئة حديث تتع ّلق‬ ‫بقواعد ال�صحة العامة‪ ،‬منها‪« :‬تداووا عباد اهلل؛ ف�إن‬ ‫لك ّل داءٍ دواء �إال الهرم»‪ .‬ومع �أن الأطباء العرب وامل�سلمني‬ ‫اعتمدوا على نظريات الأمزجة والطبائع والأخالط‬ ‫اليونانية‪ ،‬التي تقوم على �أ�سا�س حتقيق التوازن‬ ‫واالعتدال بني وظائف اجل�سد وقواه من ناحية‪ ،‬وظروف‬ ‫تو�صلوا من‬ ‫بيئته ال�صحية من ناحية �أخرى‪� ،‬إال �أنهم ّ‬ ‫خالل مطالعتهم و�أبحاثهم وجتاربهم �إىل نتائج فاقت‬

‫حقّ ق أطباء اإلغريق نقلةً نوعيةً‬ ‫في تشخيص األمراض النفسية‪،‬‬ ‫ومحاولتهم معالجتها بعيد ًا من‬ ‫ممارسة الكهانة والشعوذة‪،‬‬ ‫ومن هؤالء‪ :‬أبقراط‪ ،‬وجالينو‪،‬‬ ‫وثيوفراستس‪ ،‬واإلسكندر‬ ‫األفروديسي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الأمرية؛ ف�أكرب اجلميع ُبعد نظر الطبيب العربي‪،‬‬ ‫و�أجزلوا له املكاف�أة‪.‬‬

‫�صححوا كثري ًا منها‪.‬‬ ‫تو�صل �إليها الإغريق‪ ،‬بل ّ‬ ‫تلك التي ّ‬ ‫ومن ا�ستقرائنا تاريخ العلوم الطبية‪ ،‬وم�ؤلفات الرتاث‬ ‫العربي‪ ،‬وجدنا �أن علم النف�س ت�ش ّكل يف الرتاث الإ�سالمي‬ ‫مبوجهات الوحي‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫كما ت�ش ّكلت معارف امل�سلمني ّ‬ ‫القر�آن الكرمي خا�ص ًة يع ّد قاعد ًة جلميع العلوم الإن�سانية‬ ‫يف الرتاث الإ�سالمي ف�إن علم النف�س كان نتاج ًا جلهد‬ ‫ب�شري تبلورت من خالله مو�ضوعات ومناهج وقيم‬ ‫بحثية و�أطر نظرية م ّيزت هذا املجال‪� ،‬سواء من املعارف‬ ‫الإ�سالمية ال�شرعية �أو من اجتهادات ب�شرية طبية‪.‬‬ ‫وقد ي�ش ّكك بع�ض الباحثني يف وجود علم النف�س �أ�ص ًال‬ ‫يف الرتاث الإ�سالمي؛ ب�سبب �أنه مل يكن حينئذٍ علم ًا‬ ‫املتخ�ص�صون‪ ،‬واحلقّ‬ ‫م�ستق ًال قائم ًا بذاته‪ ،‬يجتمع حوله‬ ‫ّ‬ ‫ُيقال‪� :‬إن علم النف�س يف الرتاث الإ�سالمي مل يكن �صنع ًة‬ ‫يجتمع عليها فئة من الدار�سني‪ ،‬كما كان النحو �صنع ًة‬ ‫جتمع النحويني‪ ،‬وال�شعر �صنع ًة جتمع ال�شعراء‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫لي�س حج ًة للتدليل على عدم وجود علم النف�س يف الرتاث‬ ‫الإ�سالمي؛ لأن هذا الأمر ينطبق على علم النف�س يف � ّأي‬ ‫مرحلة تاريخية‪ ،‬وهذه احلقيقة مل تكن �أكرث و�ضوح ًا‬ ‫وجال ًء عما هي عليه اليوم؛ فقد اتجّ ه �إىل علم النف�س‬ ‫تخ�ص�صات متف ّرقة قد ال يجمع بينها‬ ‫املعا�صر علماء من ّ‬ ‫جامع �سوى �شمولية املعرفة‪ ،‬ويواجه علم النف�س املعا�صر‬ ‫�أزمة هوية‪ ،‬بامل�ستوى نف�سه الذي واجهها به علم النف�س‬ ‫يف الرتاث الإ�سالمي‪ ،‬ومع ذلك يتمتّع بنوع من التما�سك‬ ‫الداخلي مينع تف ّككه �إىل علوم نف�سية متعددة‪.‬‬ ‫�شمل علم النف�س الإ�سالمي ‪-‬كما جند جت ّلياته عند‬ ‫خمتلف العلماء واملف ّكرين امل�سلمني‪ -‬مو�ضوعات كثرية‪،‬‬ ‫�أهمها‪ :‬بيولوجيا ال�سلوك‪ ،‬والوظائف الذهنية‪ ،‬والنمو‬ ‫والدوافع‪ ،‬وال�شخ�صية وال�صحة النف�سية‪ ،‬و�سيكولوجيا‬ ‫االجتماع‪ ،‬بل ‪�-‬إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ -‬هو علم نف�س من‬ ‫حيث مناهجه؛ �إذ ا�ستخدم علماء الرتاث املناهج التي‬ ‫تُ�س ّمى معا�صر ًة يف هذا العلم؛ كاال�ستبطان‪ ،‬واملالحظة‪،‬‬

‫‪147‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪148‬‬

‫اخلوارزمي‬

‫ودرا�سة احلالة‪ ،‬واملنهج التجريبي الذي ا�ستكمل‬ ‫لدى بع�ضهم عنا�صره كاف ًة التي نعرفها اليوم‬ ‫من فر�ضيات وحت ّكم ور�صد النتائج وتف�سريها‪.‬‬ ‫واحلقيقة �أننا ال ميكن �أن ننكر �أن الدرا�سات‬ ‫النف�سية يف الرتاث الإ�سالمي مل تكن جمموع ًة يف‬ ‫جمال معريف واحد‪ ،‬كما هو معروف اليوم با�سم‬ ‫(ال�سيكولوجيا)‪ ،‬لكن هذا العلم تو ّزع بني امل�ؤلفات‬ ‫الرتاثية املعنية ب�أ�س�س ال�سلوك البيولوجية‪ ،‬والكتب‬ ‫النف�سية والفيزيائية والريا�ضية‪� ،‬أو ما ُيعرف اليوم‬

‫بـ(ال�سيكوفيزياء)‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل م�ؤلفات املت�صوفة‪،‬‬ ‫وكتب اللغة وفقهها‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫عالج علماء الرتاث الظاهرات النف�سية ك ّل من زاوية‬ ‫اهتمامه العلمي‪ ،‬لكنهم من دون ا�ستثناء عاجلوها على‬ ‫وعي تا ّم ب�أنها وظائف وعمليات وعالقات يف النف�س‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬وقد ي�صادف �أن يجمع العامل الرتاث يف‬ ‫النف�س عرب �صف ٍة‪ ،‬فتتّ�سع معاجلاته الق�ضايا النف�سية‬ ‫بقدر تن ّوع اهتماماته؛ فمنهم َمن عالج الإح�سا�س‬ ‫والإدراك والتعلم وبيولوجيا ال�سلوك يف كتاب واحد‬


‫نجد تجلّياته عند مختلف العلماء‬ ‫والمفكرين المسلمين‪ -‬موضوعات‬ ‫كثيرة‪ ،‬أهمها‪ :‬بيولوجيا السلوك‪،‬‬ ‫والوظائف الذهنية‪ ،‬والنمو‬ ‫والدوافع‪ ،‬والشخصية والصحة‬ ‫النفسية‪ ،‬وسيكولوجيا االجتماع‬

‫األمراض النفسجسمية‬

‫مثل ابن �سينا‪ ،‬ومنهم َمن جمع علم ك ّل ذلك (النمو)‬ ‫اهتم بالإدراك والتع ّلم‬ ‫مثل ابن طفيل‪ ،‬ومنهم َمن ّ‬ ‫والدافعية والوظائف الوجدانية مثل الغزايل‪ ،‬ومنهم‬ ‫تخ�ص�ص يف فرعية �سيكولوجية دقيقة مثل ابن‬ ‫َمن ّ‬ ‫الهيثم يف الب�صريات‪.‬‬ ‫ويت�ض ّمن الرتاث الإ�سالمي يف جمال الدرا�سات النف�سية‬ ‫دُرر ًا مل ُيك�شف عن كثري منها �إىل الآن‪ ،‬وما ظهر منها‬ ‫ينطوي على قيمة كربى من الناحية العلمية‪ ،‬وقد �أ ّثرت‬ ‫درا�سات ابن �سينا والفارابي والغزايل وغريهم ت�أثري ًا‬ ‫كبري ًا يف علماء الغرب‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف بداية النه�ضة‬ ‫الغربية احلديثة‪.‬‬ ‫تأثير ابن سينا في علماء الغرب‬

‫البن �سينا ق�صيدة طويلة م�شهورة يف النف�س وارتباطها‬ ‫بالبدن‪ ،‬ودرا�سات كثرية منف�صلة عن م�ؤلفاته الكربى‪،‬‬ ‫وهو ما كان له ت�أثري كبري يف درا�سات فال�سفة الغرب‬ ‫وعلمائه‪ ،‬ويف مقدمتهم ديكارت‪ .‬وكانت البن �سينا‬ ‫درا�سة مهمة يف جمال الإدراك النف�سي‪ ،‬والعالج‬ ‫النف�سي‪ ،‬والتخ ّيل‪ ،‬واالنفعاالت‪ ،‬وغريها‪ ،‬وهي درا�سات‬ ‫اهتم‬ ‫تُرجمت �إىل اللغة الالتينية الأوروبية احلديثة‪ .‬وقد ّ‬

‫مل يقت�صر ابن �سينا على معاجلة الإدراك احل�سي‬ ‫والتخ ّيل‪ ،‬لكنه عالج مو�ضوعات مهمة من مو�ضوعات‬ ‫علم النف�س احلديث‪ ،‬وهي االنفعاالت؛ مثل‪ :‬ال�ضحك‪،‬‬ ‫والتعجب‪ ،‬والبكاء‪ ،‬واخلجل‪ ،‬و�س ّماها (الأحوال‬ ‫النف�سية)‪ ،‬وهي خ�صائ�ص للنف�س دون البدن‪.‬‬ ‫وعالج ابن �سينا مو�ضوع ًا من �أحدث مو�ضوعات علم‬ ‫النف�س‪ ،‬وهو مو�ضوع الأمرا�ض النف�سية اجل�سمية �أو‬ ‫النف�سج�سمية ‪Psychosomatic Medicine‬‬ ‫(ال�سيكو�سوماتيك)؛ �أي‪ :‬الأمرا�ض اجل�سمية التي ترجع‬ ‫�أ�سبابها �إىل �أ�صول نف�سية‪ ،‬و�أورد يف كتابه (القانون)‬ ‫العوامل التي ت�شفي املري�ض بالع�شق‪ ،‬وذكر فيه جتارب‬ ‫كثرية قام بها لعالج بع�ض امل�صابني بالأمرا�ض النف�سية‪.‬‬ ‫وتابع كثري من العلماء واملف ّكرين امل�سلمني هذا االجتاه‬ ‫ال�سينوي يف تناول تلك الأمرا�ض النف�سج�سمية و�شرحها‬ ‫وحتليلها؛ فيذكر الطبيب ابن العبا�س املجو�سي ( ُتوفيِّ‬ ‫�سنة ‪384‬هـ) يف كتابه (الكامل يف ال�صناعة الطبية)‬ ‫بع�ض الن�صائح التي تقي الإن�سان �ش ّر الأمرا�ض النف�سية‬ ‫الغم‪،‬‬ ‫واجل�سمية على حدٍّ �سواء‪ ،‬منها‪ُ :‬بعد الإن�سان من ّ‬ ‫الهم والفكر‪� ،‬أو يح�سد؛ ف�إن‬ ‫و�أال يغ�ضب‪� ،‬أو يكرث من ّ‬ ‫ذلك ك ّله مما يغيرّ مزاج البدن‪ ،‬ويعمل على �إنهاكه‪،‬‬ ‫و�إ�ضعاف احلرارة الغريزية‪َ ،‬ومن كان مزاجه حاد ًا ف�إن‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫شمل علم النفس اإلسالمي ‪-‬كما‬

‫ابن �سينا بالنف�س منذ �شبابه؛ �إميان ًا تام ًا منه ب�أنه َمن‬ ‫عرف نف�سه فقد عرف ر َّبه‪ ،‬و�أ ّلف كتاب ًا �س ّماه (ر�سالة يف‬ ‫النف�س)‪ .‬وعالج ابن �سينا ما نطلق عليه اليوم (الإدراك‬ ‫احل�سي)‪ ،‬و�أو�ضح كيف ي�ؤدّي اخليال عنده دور ًا مهم ًا يف‬ ‫عملية الإدراك احل�سي؛ لأنه هو الذي يف�صل ال�صورة‬ ‫عن املادة‪ ،‬وعن طريقه ميكن الو�صول �إىل الكليات؛‬ ‫فن�ستعني باخليال لالرتفاع من اجلزئيات املدركة �إىل‬ ‫الكليات املتعقلة‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪150‬‬

‫�أدرك الطب العربي �أثر احلالة النف�سية يف �أجهزة اجل�سم‬

‫هذه الأعرا�ض تو ّلد احلميات الرديئة؛ كحمى الدق‪،‬‬ ‫وقرحة ال�س ّل‪ ،‬وما يجري هذا املجرى؛ لذلك ينبغي‬ ‫�أن يتجنب الإن�سان الأعرا�ض النف�سية كلها‪ ،‬و�أن يلهم‬ ‫نف�سه الفرح وال�سرور؛ ف�إنهما يق ّويان احلرارة الغريزية‬ ‫ويح ّركانها على ظاهر البدن‪ ،‬ويزيدان من الن�شاط‪،‬‬ ‫ويق ّويان النف�س‪ .‬وعالج �أبو ن�صر الفارابي �أي�ض ًا يف‬ ‫درا�سته امل�شهورة (�آراء �أهل املدينة الفا�ضلة) ال�سمات‬ ‫النف�سية واالجتماعية التي يجب �أن تتوافر للقائد �أو‬ ‫رئي�س املدينة‪ ،‬كما عالج �أحد املو�ضوعات املهمة يف‬ ‫علم النف�س االجتماعي‪ ،‬وهو مو�ضوع الأ�س�س النف�سية‬ ‫لتما�سك اجلماعة‪.‬‬ ‫أثر الحالة النفسية في أجهزة الجسم‬

‫�سنجد كثري ًا من العلماء واملفكرين امل�سلمني يعاجلون‬ ‫مو�ضوعات الطب النف�سي يف عالقتها باجل�سم و�أمرا�ضه‪،‬‬ ‫وقد �أدرك الطب العربي �آثار احلالة النف�سية للإن�سان‬ ‫يف وظائف �أجهزة اجل�سم املختلفة؛ فاحلالة النف�سية‬

‫يف االنقبا�ض‪ ،‬والفرح‪ ،‬والهم‪ ،‬والغم‪ ،‬واخلجل‪ ،‬ت�ؤ ّثر‬ ‫ت�أثري ًا مبا�شر ًا يف �سلوك الإن�سان‪ ،‬وقد ت ؤ�دّي �إىل اجلنون‬ ‫وفقدان العقل والأمرا�ض النف�سية ال�شديدة التي يحتاج‬ ‫عالجها �إىل بحث دقيق وعميق‪ ،‬وهو ما فعله الأطباء‬ ‫العرب امل�سلمون‪ ،‬وط ّبقوه يف �أق�سام الأمرا�ض العقلية‬ ‫يف البيمار�ستانات؛ �إذ فطنوا �إىل �ضرورة تخ�صي�ص‬ ‫�أمكنة خا�صة ملعاجلة �أ�صحاب الأمرا�ض العقلية‪ ،‬فكان‬

‫لم يقتصر ابن سينا على معالجة‬ ‫اإلدراك الحسي والتخ ّيل‪ ،‬بل عالج‬ ‫موضوعات مهمة من موضوعات‬ ‫علم النفس الحديث‪ ،‬منها االنفعاالت؛‬ ‫مثل‪ :‬الضحك‪ ،‬والتعجب‪ ،‬والبكاء‪،‬‬ ‫وسماها (األحوال النفسية)‪،‬‬ ‫والخجل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهي خصائص للنفس دون البدن‬


‫التطبيقات العملية للطب النفسي اإلسالمي‬

‫�أخذ علم النف�س املعا�صر مدة طويلة من الزمن حتى نال‬ ‫االعرتاف العلمي وال�شعبي �أي�ض ًا بعد حت ّوله من النظرية‬ ‫�إىل املمار�سة العملية‪ .‬وي�ستطيع املهتم بهذا املجال‬ ‫الك�شف عن �أ�سبقية التطبيقات العملية لعلم النف�س لدى‬ ‫العلماء العرب امل�سلمني؛ �إذ عالج ه�ؤالء العلماء كثري ًا‬ ‫من احلاالت منذ قرون م�ضت ب�أ�ساليب تع ّد من نتاج‬ ‫علم النف�س املعا�صر‪ .‬ومن �أهم علماء النف�س امل�سلمني‬ ‫تخ�ص علم النف�س‬ ‫الذين عاجلوا بعمق �شديد مو�ضوعات ّ‬ ‫والطب النف�سي العامل ابن �سينا‪.‬‬ ‫على الرغم من متابعة ابن �سينا �أر�سطو يف بع�ض‬ ‫جوانب معاجلاته للنف�س من حيث تعريفها ب�أنها «كمال‬ ‫�أ ّول جل�سم طبيعي �آيل»‪� ،‬أو تق�سيمه قوى النف�س �أو‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫خ�ص�ص لهم ق�سم يف كل بيمار�ستان‪ ،‬يتل ّقى فيه املري�ض‬ ‫ُي ّ‬ ‫عناية خا�صة من �أطباء حاذقني ومهرة يف فنون العالج‬ ‫النف�سي‪.‬‬

‫وظائفها �إىل‪ :‬نف�س نباتية �أو حيوانية‪ ،‬وناطقة‪ ،‬وتق�سيمه‬ ‫وظائف العقل �إىل‪ :‬عقل عملي‪ ،‬و�آخر نظري‪ ،‬وتق�سيمه‬ ‫القوى النف�سانية املدركة وغريها من املو�ضوعات‬ ‫تخ�ص النف�س الإن�سانية‪� ،‬إال �أننا جند له متيز ًا‬ ‫التي ّ‬ ‫من فكر �أر�سطو الفل�سفي والنف�سي يف كل املو�ضوعات‬ ‫ال�سابقة ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬ويزداد هذا التم ّيز يف بع�ض‬ ‫املو�ضوعات‪ ،‬خ�صو�ص ًا تلك التي نحا فيها منحى علمي ًا‬ ‫جتريبي ًا يف معاجلاته النف�س‪ ،‬وتناوله قواها ووظائفها‬ ‫وخ�صائ�صها‪ ،‬وتوظيفه بع�ض احلقائق واملناهج العلمية‬ ‫يف العالج النف�سي؛ فقد ا�ستطاع بحدّة ذكائه‪ ،‬ودقة‬ ‫مالحظته‪� ،‬أن ي�صل �إىل معرفة طبيعة عملية االرتباط‬ ‫ال�شرطي ‪ Conditioning‬قبل �أن يكت�شفها بافلوف‬ ‫الف�سيولوجي الرو�سي يف الع�صر احلديث نتيجة البحوث‬ ‫التجريبية التي قام بها‪ ،‬وهو تف�سري مل ي�صل �إليه علماء‬ ‫النف�س املحدثني �إال يف �أوائل القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫كما ا�ستطاع ابن �سينا قيا�س االنفعال على �أ�سا�س قيا�س‬ ‫التغريات الف�سيولوجية التي حتدث م�صاحب ًة لالنفعال‬ ‫قبل علماء الف�سيولوجيا املحدثني‪ ،‬وهو ما �سنتب ّينه‬ ‫يف عالجه �أحد مر�ضاه من (حالة ع�شق) �شديد‪ ،‬وهو‬ ‫الأ�سا�س العلمي نف�سه الذي ُي�ستخدم يف جهاز ك�شف‬ ‫الكذب‪ ،‬والطريقة العلمية نف�سها التي يتبعها املعاجلون‬ ‫النف�سانيون املعا�صرون‪ .‬كما و�صل ابن �سينا يف درا�سته‬ ‫الأحالم �إىل كثري من احلقائق التي �سبق بها العلماء‬ ‫املحدثني‪ ،‬خ�صو�ص ًا دور الأحالم يف �إ�شباع الدوافع‬ ‫والرغبات التي �سيقول بها �سيجموند فرويد يف نهاية‬ ‫القرن التا�سع ع�شر امليالدي؛ لذلك فلي�س غريب ًا �أن ُيع ّد‬ ‫ابن �سينا طبيب ًا نف�ساني ًا من الطراز الأول‪ ،‬ال يق ّل يف‬ ‫براعته وا�شتهاره عن براعته يف فروع الطب الأخرى‪ ،‬من‬ ‫العالجي �أو الوقائي �أو ال�صيديل‪.‬‬ ‫اتّخذ ابن �سينا التحليل النف�سي �أ�سلوب ًا جديد ًا من‬ ‫�أ�ساليب العالج الطبي‪ ،‬ومار�سه ممار�سة ناجحة �أك�سبته‬

‫‪151‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪152‬‬

‫�شهرة وا�سعة يف ع�صره‪ّ ،‬‬ ‫وتدل �أ�ساليبه يف ذلك على �أنه‬ ‫كان على درجة كبرية من اخلربة بعلم النف�س‪ ،‬وقد ربط‬ ‫يف فل�سفته‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف كتابه (القانون)‪ ،‬بني الطب‬ ‫وعلم النف�س‪ ،‬فا�ستغ ّل علم النف�س‪ ،‬وهو جزء من الفل�سفة‬ ‫�آنذاك‪ ،‬يف التطبيب‪ ،‬ويذهب النف�سيون يف ع�صرنا هذا‬ ‫�إىل �أن الغر�ض من التحليل النف�سي هو الو�صول �إىل‬ ‫ما يتكون يف العقل الباطن‪ ،‬ثم العمل على �إخراج هذه‬ ‫املكونات �إىل العقل الظاهر‪ ،‬واحلكمة يف ذلك تخفيف‬ ‫ال�ضغط على النف�س‪ ،‬وبذلك ميكن �أن يتخل�ص املري�ض‬ ‫من �أمرا�ضه العقلية �أو النف�سية‪.‬‬ ‫ومن املعروف الآن �أن فرويد يذهب �إىل �أن العقل الباطن‬ ‫يتكون من جمموعة من الرغبات ال�شخ�صية املكبوتة‬ ‫املودعة يف �أعماق النف�س منذ الطفولة‪ ،‬ثم �أُرغمت على‬ ‫االنتقال من الناحية ال�شعورية �إىل الناحية الال�شعورية؛‬ ‫فلم جتد لها م�أوى �إذ ذاك �إال يف حظرية العقل الباطن‪.‬‬

‫�أما ال�سبب يف هذا االنتقال‪ ،‬فريجع �إىل �أن هذه الرغبات‬ ‫املكبوتة‪ ،‬وتلك الذكريات‪ ،‬ال تالئم احلياة االجتماعية‪،‬‬ ‫وال تتّفق مع �آداب املجتمع وتقاليده‪ .‬والتحليل النف�سي‬ ‫بهذا املعنى الذي ي�شرحه فرويد مل يكن غريب ًا على ابن‬ ‫علم به؛ �إذ اتّخذه طريقة من طرائق‬ ‫�سينا؛ فقد كان على ٍ‬ ‫العالج‪ ،‬حتى ا�شتهر يف ع�صره بقدرته العظيمة على‬ ‫معاجلة املر�ضى بطريقة التحليل النف�سي؛ فقد �أ�صيب‬ ‫يوم ما رجل مبر�ض (املالينخوليا)‪ ،‬وا�ستب ّد به املر�ض‬ ‫يف ٍ‬ ‫�إىل درجة جعلته يعتقد انه �أ�صبح بقرة؛ لذلك امتنع عن‬ ‫الطعام وال�شراب مع بني الإن�سان‪ ،‬ونتيج ًة لذلك �أخذ‬ ‫الرجل يق ّلد الأبقار‪ ،‬فيخور مثلها‪ ،‬ويذهب �إىل الإقامة‬ ‫بحظائرها‪ ،‬ويتناول الأكل معها‪ .‬ا�ستمر الرجل على هذا‬ ‫النحو زمن ًا حتى �ضعفت قواه‪ ،‬وهزل ج�سمه‪ ،‬و�شحب‬ ‫لونه‪ ،‬فعر�ضه ذووه على الأطباء‪ ،‬لكنهم عجزوا عن‬ ‫عالجه‪ .‬وكان ابن �سينا �آنئذٍ قد طار �صيته يف الآفاق‪،‬‬

‫ابن �سينا من �أوائل من عرفوا حقيقة التحليل النف�سي‬


‫المحدثين إلى قياس االنفعال على‬ ‫أساس قياس التغيرات الفسيولوجية‬ ‫التي تحدث مصاحبةً لالنفعال‪ ،‬ومن‬ ‫ذلك عالجه أحد مرضاه من (حالة عشق)‬ ‫شديد‪ ،‬وهو األساس العلمي نفسه‬ ‫الذي ُيستخدم في جهاز كشف الكذب‬

‫وعرف بتطبيب مر�ضى العقول‪ ،‬فلما ُعر�ض عليه‬ ‫ُ‬ ‫هذا الرجل‪ ،‬وفح�ص عن حاله‪ ،‬قال له‪ :‬ما بالك �أيها‬ ‫الرجل؟ وما الذي ح ّل بك؟ فقال املري�ض‪ :‬لي�س بي �شيء‬ ‫�إال �أنني �أ�صبحت بقرة تخور‪� ،‬آكل ما ت�أكل‪ ،‬و�أفعل ما‬ ‫تفعل‪ ،‬فقال ابن �سينا‪� :‬إذا كنت حق ًا كذلك‪ ،‬و�أنت بقرة‬ ‫بالفعل‪ ،‬ف�إين �س�أذبحك‪ ،‬فقال املري�ض‪ :‬افعل ما ت�شاء؛‬ ‫ف�إين بقرة‪ .‬ف�أمر ابن �سينا بتقييد املري�ض بحبل متني‪،‬‬ ‫و�ألقاه على الأر�ض‪ ،‬و�أح�ضر �سكين ًا حاد ًا‪ ،‬ثم تق ّدم‬ ‫�إىل املري�ض‪ ،‬و�أراد �أن يهوي بال�سكني على رقبته‪ ،‬لكنه‬ ‫عندما قرب ال�سكني من نحره قال‪ :‬ما بال هذه البقرة‬ ‫هزيلة �ضعيفة‪� ،‬إنها ال ت�صلح للذبح‪ ،‬فقال املري�ض‪� :‬إنها‬ ‫ت�صلح للذبح فاذبح‪ ،‬فقال ابن �سينا‪ :‬كال‪ ،‬ال نذبحها‬ ‫حتى متتلئ �شحم ًا وحلم ًا‪ ،‬فقال املري�ض‪ :‬وماذا �أفعل‬ ‫حتى �أ�صري كذلك؟ فقال ابن �سينا‪ :‬ت�أكل وت�شرب كما‬ ‫ي�أكل النا�س وي�شربون‪ ،‬فقال املري�ض‪� :‬أوتذبحني بعد‬ ‫ذلك؟ قال ابن �سينا‪ :‬نعم‪ ،‬ثم �أخذ الرجل على نف�سه‬ ‫عهد ًا وميثاق ًا ليفعلنّ ذلك‪ ،‬و�أخذ ي�أكل وي�شرب كما‬ ‫يفعل النا�س‪ ،‬فعادت �إليه �صحته‪ ،‬وقوي ج�سمه‪ ،‬وبذلك‬ ‫ارت ّد �إليه عقله‪ ،‬وزايله املر�ض‪ ،‬و�شفي متام ًا‪ .‬ثم زار‬ ‫ابن �سينا بعد ذلك‪ ،‬فلما ر�آه �سليم اجل�سم والعقل قال‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫سبق ابن سينا علماء الفسيولوجيا‬

‫له مداعب ًا‪ :‬ما بال البقرة قد �سمنت؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وقد‬ ‫�أ�صبحت عاقلة‪ .‬لذلك يقول قدري حافظ طوقان يف‬ ‫كتابه (تراث العرب العلمي يف الريا�ضيات والفلك)‪:‬‬ ‫«در�س ابن �سينا اال�ضطرابات الع�صبية‪ ،‬وعرف بع�ض‬ ‫احلقائق النف�سية واملر�ضية عن طريق التحليل النف�سي‪،‬‬ ‫وكان ابن �سينا يرى �أن للعوامل النف�سية والعقلية؛‬ ‫كاحلزن واخلوف والقلق والفرح وغريها‪ ،‬ت�أثري ًا كبري ًا‬ ‫على �أع�ضاء اجل�سم ووظائفه؛ ولهذا جل�أ �إىل الأ�ساليب‬ ‫النف�سية يف معاجلته ملر�ضاه»‪.‬‬ ‫و�إذا �أردنا �أن نتبينّ تلك الظواهر النف�سية التي عاجلها‬ ‫وتو�صل فيها �إىل حقائق وقوانني ت�شبه تلك‬ ‫ابن �سينا‪ّ ،‬‬ ‫التي و�صل �إليها علماء النف�س املحدثون‪ ،‬ف�سنجد �أنه‬ ‫عرف التك ّيف‪ ،‬وظاهرة احلجب؛ فهو يذهب �إىل �أن‬ ‫املح�سو�س اخلارجي؛ �أي‪ :‬امل�ؤثر احل�سي‪ ،‬ال�شديد �أو‬ ‫املتك ّرر ُيحدث يف �أع�ضاء احلوا�س اخلارجية �أثر ًا ي�ستمر‬ ‫حت�س ب�شيء �آخر‪ ،‬يقول ابن‬ ‫بع�ض الوقت وي�صعب معه �أن ّ‬ ‫�سينا‪« :‬املح�سو�سات ال�شاقة واملتكررة ت�ضعف احل�س‪،‬‬ ‫ورمبا �أف�سدته؛ كال�ضوء للب�صر‪ ،‬والرعد ال�شديد لل�سمع‪،‬‬ ‫القوي على �إدراك ال�ضعيف؛‬ ‫وال يقوى احل�س عند �إدراك ّ‬ ‫ف�إن املب�صر �ضوء ًا عظيم ًا ال يب�صر معه وال عقبه نوراً‬ ‫�ضعيف ًا‪ ،‬وال�سامع �صوت ًا عظيم ًا ال ي�سمع معه وال عقبه‬ ‫يح�س‬ ‫�صوت ًا �ضعيف ًا‪ ،‬ومن ذاق احلالوة ال�شديدة ال ّ‬ ‫بعدها بال�ضعيفة»‪ .‬وي�صف ابن �سينا يف هذه العبارات‬ ‫ظاهرة �سيكولوجية تناولتها الدرا�سات الف�سيولوجية‬ ‫وال�سيكولوجية احلديثة‪ ،‬وهي ظاهرة (احلجب‬ ‫‪ ،)Masking‬و ُيالحظ �أن �أر�سطو �أ�شار �أي�ض ًا ‪-‬من دون‬ ‫تو�سع‪� -‬إىل هذه الظاهرة‪ .‬و�أ�شار ابن �سينا �أي�ض ًا �إىل‬ ‫ّ‬ ‫احل�سي ‪،)Sensory Adabtion‬‬ ‫ظاهرة (التك ّيف ّ‬ ‫وهي �ضعف احل�سا�سية با�ستمرار التن ّبه احل�سي‪ ،‬يقول‬ ‫ابن �سينا‪« :‬القوى الداركة يعر�ض لها من �إدامة العمل �أن‬ ‫تك ّل؛ لأجل �أن الآالت تكملها �إدامة احلركة»‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تفسير األحالم سيكولوجي ًا‬

‫‪154‬‬

‫�أ�شار ابن �سينا �إىل بع�ض الأ�سباب املهمة يف حدوث‬ ‫الأحالم‪ ،‬التي تناولها علماء النف�س املحدثون فيما بعد‬ ‫بالدرا�سة‪ ،‬وو�صلوا فيها �إىل نتائج مهمة ت�ؤ ّيد ما �سبق‬ ‫�أن قال به ابن �سينا من قبل؛ فقد ذكر �أن بع�ض الأحالم‬ ‫حتدث نتيجة ت�أثري بع�ض امل�ؤثرات احل�سية التي تقع على‬ ‫النائم‪� ،‬سواء �أكانت هذه امل�ؤثرات احل�سية �صادر ًة من‬ ‫«ومن عر�ض‬ ‫اخلارج �أم من داخل البدن‪ ،‬قال ابن �سينا‪َ :‬‬ ‫لع�ضو منه �أن �سخن �أو برد ب�سب ح ّر �أو برد ُحكي له‬ ‫�أن ذلك الع�ضو منه مو�ضوع يف نار �أو ماء بارد»‪ .‬ود ّلت‬ ‫البحوث التجريبية احلديثة على �صحة ما ذهب �إليه‬ ‫ابن �سينا من �أن للم�ؤثرات احل�سية التي تقع على النائم‬ ‫ت�أثري ًا يف حدوث الأحالم‪ ،‬و�أ ّكد كل من‪ :‬موري‪ ،‬وهريف‬ ‫دي �سان دني�س‪ ،‬وويجادند‪� ،‬أن للإح�سا�سات اخلارجية‬ ‫ت�أثري ًا يف الأحالم؛ فمث ًال‪ :‬قد يحلم النائم الذي بجانبه‬ ‫�ضوء �أنه ي�شاهد احرتاق �شيء ما‪.‬‬ ‫ابن سينا سبق فرويد‬

‫�أ�شار ابن �سينا �أي�ض ًا �إىل دور الأحالم يف �إ�شباع‬ ‫الدوافع والرغبات؛ ف�إذا كان مزاج البدن يف حالة‬ ‫ما من �ش�أنها �أن حتدث نزوع ًا �إىل �شيء ما قامت‬ ‫املخيلة مبحاكاة الأفعال التي من �ش�أنها �أن ت�شبع هذا‬ ‫الدافع‪ ،‬يقول ابن �سينا‪« :‬مثلما يكون عندما تتحرك‬ ‫للمني �إىل الدفع �إىل املتخيلة حتاكي‬ ‫القوى الدافعة‬ ‫ّ‬ ‫�صور ًا من �ش�أن النف�س �أن متيل �إىل جمامعتها‪ ،‬ومن‬ ‫كان به جوع ُحكيت له م�أكوالت»‪ ،‬وبذلك يكون ابن‬ ‫�سينا قد �سبق فرويد يف تف�سري بع�ض الأحالم ب�أنها‬ ‫�إ�شباع الدوافع والرغبات‪.‬‬ ‫و�أ�شار ابن �سينا يف درا�سته الأحالم �إىل ظاهرة طبية‬ ‫مهمة‪ ،‬وهي �أن بع�ض الأحالم ين�ش�أ عن بع�ض التغريات يف‬ ‫مزاج البدن‪� ،‬أو عن بع�ض الإح�سا�سات البدنية الداخلية‬

‫اتّخذ ابن سينا التحليل النفسي أسلوب ًا‬ ‫جديد ًا من أساليب العالج الطبي‪،‬‬ ‫ومارسه ممارسة ناجحة أكسبته‬ ‫ّ‬ ‫وتدل‬ ‫شهرة واسعة في عصره‪،‬‬ ‫أساليبه في ذلك على أنه كان على‬ ‫درجة كبيرة من الخبرة بعلم النفس‬

‫التي ميكن �أن ُي ّ‬ ‫�ستدل منها على حاالت مر�ضية‪� ،‬أو على‬ ‫بداية ظهور حاالت مر�ضية خا�صة �ستظهر يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫واهتم بع�ض الباحثني بدرا�سة هذا املو�ضوع‪ ،‬وب ّينوا وجود‬ ‫�أدلة كثرية على عالقة الأحالم بالأمرا�ض وداللتها عليها‪.‬‬ ‫فرويد‬


‫يف ّرق ابن �سينا حني يتحدث عن (احلافظة الذاكرة)‬ ‫بني مفهومي الذكر والتذ ّكر؛ فالذكر هو اال�ستعادة‬ ‫التلقائية لل�صور واملعاين‪ ،‬وهو يحدث يف احليوان‬ ‫والإن�سان‪� ،‬أما التذ ّكر فهو اال�ستعادة الإرادية لل�صور‬ ‫خا�ص بالإن�سان وحده‪ .‬و�أ�شار ابن �سينا‬ ‫واملعاين‪ ،‬وهو ّ‬ ‫�إىل وجود فروق كبرية بني النا�س يف قوة الذاكرة‬ ‫والتذ ّكر‪ ،‬كما ناق�ش �أ�سباب الن�سيان‪ ،‬وا�ستطاع بدقة‬ ‫مالحظته �أن ي�صل �إىل تف�سري علمي مل ي�صل �إليه علماء‬ ‫النف�س املحدثون �إال يف القرن الع�شرين؛ فقد كانوا‬ ‫يف�سرون الن�سيان ب�أنه راجع �إىل زوال الآثار التي يرتكها‬ ‫ّ‬ ‫التع ّلم ال�سابق نتيجة عدم اال�ستعمال‪ ،‬وا�ستمر هذا‬ ‫التف�سري �شائع ًا مدة طويلة حتى قام جينكنز ودلنباخ‬ ‫عام ‪1924‬م بدرا�سة جتريبية ب ّينت �أن الن�سيان ال يحدث‬ ‫ب�سبب جمرد م�ضي الزمن من دون ا�ستعمال املعلومات‪،‬‬ ‫و�إمنا يحدث ب�سبب كرثة ن�شاط الإن�سان وان�شغاله ب�أمور‬ ‫كثرية ت�ؤدي �إىل تداخل معلوماته اجلديدة وتعار�ضها‬ ‫و�س ِّميت هذه الظاهرة بـ(التداخل‬ ‫مع معلومات �سابقة‪ُ ،‬‬ ‫الرجعي ‪ ،Retroactire Interference‬والكف‬ ‫الرجعي ‪ .)Retroactire inhibition‬وب ّينت بع�ض‬ ‫الدرا�سات التجريبية احلديثة �أن الن�سيان قد يحدث‬ ‫�أي�ض ًا نتيجة تداخل املعلومات ال�سابقة مع املعلومات‬ ‫و�س ِّميت هذه الظاهرة بـ(التداخل الالحق‬ ‫احلديثة‪ُ ،‬‬ ‫‪ .)Proctive interence‬وقد �سبق ابن �سينا علماء‬ ‫النف�س املحدثني يف تف�سري الن�سيان ب�سبب تداخل‬ ‫املعلومات؛ فهو يقول يف هذا ال�صدد‪�« :‬أكرث َمن يكون‬ ‫حافظ ًا هو الذي ال تكرث حركاته‪ ،‬وال نّ‬ ‫تتفن هممه‪،‬‬ ‫َومن كان كثري احلركات مل يتذكر جيد ًا‪ ...‬ولذلك كان‬ ‫ال�صبيان مع رطوبتهم يحفظون جيد ًا؛ لأن نفو�سهم غري‬ ‫م�شغولة مبا ت�شتغل به نفو�س البالغني‪ ،‬فال تذهل عما هي‬ ‫مقبلة عليه بغريه»‪.‬‬

‫يذهب ابن �سينا �إىل وجود عالقة وثيقة بني النف�س‬ ‫والبدن؛ فالتغريات يف احلاالت النف�سانية التي حتدث‬ ‫يف حاالت االنفعال مث ًال ت�صاحبها �أو تتبعها تغيرّ ات‬ ‫يف احلالة البدنية‪ ،‬يقول ابن �سينا‪« :‬جميع العوار�ض‬ ‫النف�سانية يتبعها �أو ي�صاحبها الروح‪� ،‬إما �إىل خارج‪،‬‬ ‫و�إما �إىل داخل‪ ...‬واحلركة �إىل خارج �إما دافعة كما‬ ‫عند الغ�ضب‪ ،‬و�إما �أو ًال ف�أو ًال كما عند اللذة وعند الفرح‬ ‫املعتدل‪ ،‬واحلركة �إىل داخل �إما دفعة كما عند الفزع‪،‬‬ ‫و�إما �أو ًال ف�أو ًال كما عند احلزن»‪ ،‬ويعني ابن �سينا بذلك‬ ‫حركات الروح وحركات الدم‪ ،‬وهو ي�شري هنا �إىل ما‬ ‫�أثبتته البحوث احلديثة من �أن االنفعال ت�صاحبه تغريات‬ ‫ف�سيولوجية كثرية‪ ،‬من �أهمها ما يحدث من تغريات يف‬ ‫الدورة الدموية؛ �إذ تزداد �سرعة خفقان القلب و�شدته‪،‬‬ ‫وتنتج من ذلك زيادة كمية الدم التي ير�سلها القلب‬ ‫�إىل �أجزاء البدن‪ ،‬وتنقب�ض الأوعية الدموية املوجودة‬ ‫يف الأح�شاء‪ ،‬وتت�سع الأوعية الدموية املوجودة يف اجللد‬ ‫والأطراف؛ لذلك ي�شعر الإن�سان عند الغ�ضب باحلرارة‬ ‫تتد ّفق يف وجهه وبدنه‪ ،‬ويحم ّر وجهه‪ .‬و ُيالحظ كذلك‬ ‫�أن الإن�سان يف حالة الفزع ال�شديد ي�صف ّر وجهه ب�سبب‬ ‫حركة دمه �إىل الداخل‪ ،‬وهو ما عبرّ عنه ابن �سينا بقوله‪:‬‬ ‫«واحلركة �إىل داخل �إما دفعة كما عند الفزع»‪ .‬و�أ�شار‬ ‫ابن �سينا يف عبارته «جميع العوار�ض النف�سانية يتبعها �أو‬ ‫ي�صاحبها الروح» �إىل م�شكلة �شغلت علماء الف�سيولوجيا‬ ‫وعلماء النف�س املحدثني‪ ،‬وهي‪ :‬هل ال�شعور باالنفعال‬ ‫والتغريات الف�سيولوجية امل�صاحبة له يحدثان مع ًا يف‬ ‫الوقت نف�سه �أو �أن �أحدهما ي�سبق الآخر؟ فقد ذهب‬ ‫كانون وبارد يف الع�صر احلديث �إىل �أن ال�شعور باالنفعال‬ ‫يحدث يف الوقت نف�سه الذي حتدث فيه التغريات‬ ‫الف�سيولوجية والع�ضلية‪ .‬وقد �أبدى ابن �سينا ر�أيه يف‬ ‫هذه امل�شكلة قبل �أن تُثار يف الع�صر احلديث‪ ،‬فذكر يف‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫والكف الرجعي‬ ‫التذ ّكر‬ ‫ّ‬

‫االنفعاالت والتغيرات الفسيولوجية‬

‫‪155‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪156‬‬

‫الإجابة عنها احتمالني‪� :‬أحدهما هو �أن االنفعال يحدث‬ ‫م�صاحب ًا للتغريات الف�سيولوجية‪ ،‬وهو ما قال به ك ّل من‬ ‫كانون وبارد‪ ،‬والثاين �أن االنفعال يحدث �أو ًال‪ ،‬ثم تتبعه‬ ‫التغريات الف�سيولوجية‪ ،‬وهو ما ال يقول به �أحد من علماء‬ ‫الف�سيولوجية والنف�س املحدثني‪.‬‬ ‫وا�ستفاد ابن �سينا مبا يحدث من تغيري يف �سرعة النب�ض‬ ‫و�شدته يف �أثناء االنفعال يف عالج �شخ�ص م�صاب بحالة‬ ‫ع�شق �شديد؛ فقد �أراد ابن �سينا �أو ًال �أن يعرف الفتاة‬ ‫التي يع�شقها هذا ال�شخ�ص حتى ميكن بعد ذلك �أن يتّخذ‬ ‫خطوات عملية يف عالجه من ع�شقه‪ ،‬وابتكر طريقة‬ ‫لتحقيق غر�ضه؛ فكان ي�ضع �إ�صبعه على نب�ض هذا‬ ‫ال�شخ�ص‪ ،‬ثم يقول له كثري ًا من �أ�سماء الفتيات والأمكنة‬ ‫والبالد والأحياء‪ ،‬وكان يالحظ ما يحدث من تغريات‬ ‫يف �سرعة النب�ض و�شدته عندما �سمع هذه الأ�سماء‪،‬‬ ‫وا�ستطاع بهذه الطريقة �أن ي�صل �إىل معرفة الفتاة‬

‫التي يع�شقها هذا ال�شخ�ص‪ .‬و�ص ّنف ابن �سينا (حالة‬ ‫الع�شق) ال�سابقة مع �أمرا�ض عقلية وال�سبات والأرق‬ ‫والن�سيان‪ ،‬وذكر �أن من �أعرا�ض الع�شق عدم انتظام‬ ‫النب�ض‪ ،‬و�أ ّكد �أنه «�أ�صبح من املمكن التو�صل �إىل معرفة‬ ‫املع�شوق �إذا �أ�ص ّر �أحد العا�شقني على عدم الك�شف‬ ‫عنه‪ ،‬وهذا الك�شف هو �إحدى طرق العالج»‪ .‬وي�ؤ ّكد ابن‬ ‫�سينا جدوى هذه الطريقة التجريبية التي ك ّررها كثري ًا‪،‬‬ ‫وحققت جناح ًا؛ �إذ يقول‪« :‬ا�ستعملت هذه الطريقة‬ ‫مرار ًا وتكرار ًا‪ ،‬واكت�شفت بذلك ا�سم املع�شوق عند ذكر‬ ‫يح�س فيه‬ ‫�أ�سماء املدن وال�شوارع وال�صفة يف الوقت الذي ّ‬ ‫النب�ض؛ ف�إن التغري ّ‬ ‫يدل على العالقة بني املكان وال�صفة‬ ‫واملع�شوق‪ ،‬وبذلك ميكن معرفة جملة �أو�صافه»‪ ،‬ومي�ضي‬ ‫وتو�صلنا ملعرفة‬ ‫ابن �سينا قائ ًال‪« :‬ج ّربنا ذلك ب�أنف�سنا‪ّ ،‬‬ ‫معلومات مفيدة»‪ .‬ومن هنا ي ؤ� ّكد الدكتور حممد عثمان‬ ‫جناتي �أن ابن �سينا �سبق املح ّللني النف�سانيني وعلماء‬


‫النف�س يف الع�صر احلديث يف اال�ستعانة بالتغريات‬ ‫الف�سيولوجية التي تطر�أ على الإن�سان ملعرفة ما ي�صيبه‬ ‫من ا�ضطرابات انفعالية‪ ،‬وقد ا�ستخدم بع�ض املحللني‬ ‫النف�سانيني الطريقة التي ا�ستخدمها ابن �سينا‪ ،‬وهي‬ ‫نطق كلمات معينة‪ ،‬ومالحظة ما حتدثه هذه الكلمات‬ ‫من ا�ضطراب انفعايل يف الفرد‪ ،‬واال�ستدالل من ذلك‬ ‫على امل�شكلة النف�سانية التي يعانيها الفرد‪.‬‬ ‫�سبق ابن �سينا بطريقته التي قا�س بها التغريات التي‬ ‫حتدث يف �سرعة النب�ض علماء الف�سيولوجيا الذين‬ ‫ي�ستعينون الآن ب�أجهزة دقيقة ال�صنع لقيا�س التغريات‬ ‫الف�سيولوجية امل�صاحبة لال�ضطراب االنفعايل‪ ،‬وهي‬ ‫�أجهزة ح�سا�سة دقيقة لقيا�س مقاومة اجللد للتيارات‬ ‫الكهربية ال�ضعيفة التي حتدث يف �أثناء االنفعال‬ ‫(ا�ستجابة اجللد اجللفانية ‪Galvanic Skim‬‬ ‫‪ ،)response‬ويطلق عليها (�أجهزة ك�شف الكذب)؛‬ ‫ب�سبب كرثة ا�ستخدامها يف التحقيقات اجلنائية‪ .‬وقام‬ ‫ابن �سينا �أي�ض ًا بعالج بع�ض حاالت اال�ضطرابات الرازي وأمراض النفس‬ ‫العقلية‪ ،‬وذكر يف كتابه (القانون) بع�ض حاالت املر�ض يذكر �أبو بكر الرازي ( ُتوفيِّ �سنة ‪320‬هـ‪932 /‬م) يف‬ ‫العقلي التي عاجلها‪ ،‬وميكن تت ّبعها يف كتابه ملن يريد كتابه ال�شهري (احلاوي) يف الطب كثري ًا من الإ�شارات‬ ‫�إىل الأمرا�ض النف�سية‪ ،‬ف�ض ًال عن املعاجلات التي‬ ‫ت�ضمنها كتابه (يف الأوهام واحلركات والع�شق)‪ ،‬وتبينّ‬ ‫له �أن �سوء اله�ضم قد يكون نتيج ًة لأ�سباب نف�سية؛ �إذ‬ ‫قال‪« :‬للنف�س ال�ش�أن الأول فيما بينها وبني البدن من‬ ‫�صلة؛ ولذلك وجب على طبيب اجل�سم �أن يكون �أو ًال‬ ‫يفرق ابن سينا حين يتحدث عن‬ ‫ّ‬ ‫طبيب ًا للنف�س»‪ ،‬و�أ ّكد �أكرث من مرة �أهمية العامل النف�سي‬ ‫(الحافظة الذاكرة) بين مفهومي‬ ‫يف املعاجلة‪ ،‬فقال‪« :‬ينبغي على الطبيب �أن يوهم املري�ض‬ ‫الذكر والتذكّ ر؛ فالذكر هو االستعادة‬ ‫�أبد ًا بال�صحة‪ ،‬ويح ّببه بها‪ ،‬و�إن كان غري واهم بذلك؛‬ ‫التلقائية للصور والمعاني‪ ،‬وهو‬ ‫فمزاج اجل�سم تابع لأخالق النف�س»‪ .‬وط ّبق الرازي ذلك‬ ‫يحدث في الحيوان واإلنسان‪ ،‬بينما‬ ‫عملي ًا عندما عالج الأمري من�صور بن نوح ال�ساماين‬ ‫التذكّ ر هو االستعادة اإلرادية للصور‬ ‫بالعالج النف�سي بعد �إ�صابته مبر�ض مزمن �أقعده‪ .‬ومن‬ ‫خاص باإلنسان وحده‬ ‫والمعاني‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫�أ�شهر الأمرا�ض التي عدّها �سابقوه م�ستحيلة الربء‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تعمق �أمثال هذه احلاالت الإكلينيكية‪.‬‬ ‫املهم يف ك ّل هذه املعاجلات عند ابن �سينا‪ ،‬التي �سبق‬ ‫بها العلماء املحدثني‪ ،‬قوله دائم ًا‪« :‬ج ّربنا ذلك ب�أنف�سنا»؛‬ ‫�إذ يحتكم ابن �سينا �إىل التجربة لتقدير �صحة فكرة من‬ ‫خطئها كما يخربنا �أبو عبيد اجلوزجاين عنه‪ .‬ويق ّر ابن‬ ‫�سينا ب�أهمية املالحظات ال�سريرية‪ ،‬فيقول‪« :‬تعهدت‬ ‫علي من �أبواب املعاجلات املقتب�سة‬ ‫املر�ضى‪ ،‬فانفتح ّ‬ ‫من التجربة ما ال ُيو�صف»‪ .‬ومن هنا يتبينّ لنا كيف‬ ‫جمع ابن �سينا بني نظرة العامل الطبيعي املد ّقق ور�ؤية‬ ‫الفيل�سوف ال�شاملة والعميقة‪ ،‬فكان منهجه العلمي‬ ‫ي�ستند �إىل دعائم فل�سفية ت�شرتك يف تكوينه‪ :‬النظرة‬ ‫العقلية املنطقية‪ ،‬والر�ؤية احل�سية التجريبية‪ ،‬اللتان‬ ‫ت�ش ّكالن عند جمعهما وت�أليفهما َم ْعل َمني رئي�سني ملنهجه‪،‬‬ ‫وهما‪ :‬ا َمل ْعلم اال�ستقرائي التجريبي بجميع �أبعاده‪ ،‬وا َمل ْعلم‬ ‫اال�ستنباطي العقلي بكل ارت�ساماته‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪158‬‬

‫وعاجلها الرازي‪ ،‬الأمرا�ض العقلية والنف�سية والع�صبية؛‬ ‫فقد فعل معها ما يفعله مع الأمرا�ض الع�ضوية من تقدمي‬ ‫مف�صل للمر�ض ي�شرح فيه عالماته و�أعرا�ضه‪،‬‬ ‫و�صف ّ‬ ‫ثم ي�صف له العالج املنا�سب‪ .‬ومن الأمثلة على ذلك‬ ‫قوله يف كتابه (املن�صوري)‪« :‬الغم ال�شديد الدائم الذي‬ ‫ال ُيعرف له �سبب‪ ،‬وخبث النف�س‪ ،‬و�سوء الرجاء‪ ،‬ينذر‬ ‫باملالينخوليا»‪ ،‬ثم نراه يقدم و�صف ًا بليغ ًا لهذا املر�ض‬ ‫يف (احلاوي) فيقول‪« :‬من العالمات الدالة على ابتداء‬ ‫املالينخوليا حيث التف ّرد والتخ ّلي عن النا�س على غري‬ ‫وجه حاجة معروفة �أو علة‪ ،‬كما يعر�ض للأ�صحاء حلبهم‬ ‫البحث وال�سرت للأمر الذي يجب �سرته‪ .‬وينبغي �أن يبادر‬ ‫بعالجه؛ لأنه يف ابتدائه �أ�سهل ما يكون‪ ،‬و�أع�سر ما‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستدل على وقوع الإن�سان‬ ‫يكون �إذا ا�ستحكم‪ .‬و�أول ما‬ ‫يف املالينخوليا هو �أن ي�سرع �إىل الغ�ضب واحلزن والفزع‬ ‫ب�أكرث من العادة‪ ،‬ويحب التف ّرد والتخ ّلي»‪ .‬وين�صح‬

‫الرازي‬

‫حتول م�سار العالج النف�سي على يد الأطباء العرب من التعنيف �إىل الرحمة‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫وعاد �شاهر ًا �سكين ًا يف وجه الأمري‪ ،‬مهدّد ًا �إياه بالقتل‪،‬‬ ‫فخاف الأمري‪ ،‬وغ�ضب غ�ضب ًا �شديد ًا‪ ،‬و�سرعان ما نه�ض‬ ‫من أشهر األمراض التي عالجها‬ ‫واقف ًا على قدميه بعد �أن كان ال ي�ستطيع‪ ،‬وهنا ف ّر الرازي‬ ‫وعدها سابقوه مستحيلة‬ ‫الرازي‬ ‫ّ‬ ‫من احلمام �إىل حيث ينتظر خادم الأمري مع اجلوادين‪،‬‬ ‫البرء األمراض العقلية والنفسية‬ ‫فركبا وانطلقا ب�سرعة‪ .‬وعندما و�صل الرازي �إىل بلده‬ ‫والعصبية‪ ،‬ففعل معها ما فعله مع‬ ‫�أر�سل �إىل الأمري ر�سال ًة �شارح ًا فيها ما حدث من �أنه ملا‬ ‫األمراض العضوية من تقديم وصف‬ ‫تع�سر عالجه مبا �أوحاه �إليه �ضمريه‪ ،‬وخ�شي من طول‬ ‫ّ‬ ‫مفصل للمرض يشرح فيه عالماته‬ ‫ّ‬ ‫مدة املر�ض‪ ،‬جل�أ �إىل العالج النف�ساين‪ .‬واختتم الر�سالة‬ ‫وأعراضه‪ ،‬ثم يصف له العالج المناسب‬ ‫ب�أنه لي�س من اللياقة �أن يقابل الأمري بعد ذلك‪ ،‬فلما‬ ‫عزم الرازي على عدم الرجوع �أر�سل �إليه الأمري مئتي‬ ‫حمل من احلنطة‪ ،‬وح ّلة نفي�سة‪ ،‬وعبد ًا وجارية‪ ،‬وجواد ًا‬ ‫ّ‬ ‫مطهم ًا‪ ،‬و�أجرى عليه �ألفي دينار �سنوي ًا»‪.‬‬ ‫الرازي �أ�صحاب هذا املر�ض بال�سفر واالنتقال �إىل بلد‬ ‫�آخر مغاير لبلدهم يف املناخ؛ فيقول يف كتابه (املر�شد)‪:‬‬ ‫«�إذا �أزمن باملري�ض املر�ض وطال فانقله من بلده �إىل بلد الرازي يسبق األوروبيين‬ ‫م�ضاد املزاج ملزاج علته؛ ف�إن الهواء الدوام لقا�ؤه يكون كان الرازي �سباق ًا �إىل االهتمام مبعاجلة �أ�صحاب‬ ‫ف�سجل بذلك للم�سلمني والعرب‬ ‫عالج ًا تام ًا‪ ،‬وقد بر�أ خلق كثري من املالينخوليا بطول الأمرا�ض النف�سية؛ ّ‬ ‫ال�سفر»‪ .‬ويقول الرازي عن �أعرا�ض مر�ض ال�صرع يف �أروع ال�صفحات يف تاريخ الإن�سانية؛ فقد كان اليونانيون‬ ‫كتابه (املن�صوري)‪« :‬الكابو�س والدوار �إذا داما وقويا ي�أمرون �أهل املري�ض الذي يعاين �ضعف ًا يف قواه العقلية‬ ‫ينذران بال�صرع؛ فلذلك ينبغي �أال يتغافل عنهما �إذا بحب�سه يف منزله حتى مينعوا �ضرره عن املجتمع‪ ،‬وكانت‬ ‫�أوروبا يف الع�صور الو�سطى تعامل �أ�صحاب العلل �أ�سو أ�‬ ‫حدثا‪ ،‬و ُبودر بعالجهما على ما ذكرنا يف مو�ضوعه»‪.‬‬ ‫ومن �أمثلة معاجلات الرازي النف�سية يف هذا ال�ش�أن ما معاملة يعامل بها �إن�سان؛ فكان ه�ؤالء الب�شر املع ّذبون‬ ‫يقوله يف (احلاوي)‪« :‬ا�ستُدعي الرازي لعالج �أمري بخارى ُيو�ضعون يف �سجون مظلمة مقيد ًة �أيديهم و�أرجلهم مدى‬ ‫الذي كان ي�شكو من �آالم يف املفا�صل‪ ،‬لدرجة �أنه كان ال احلياة‪� ،‬أو ُيعزلون عن العامل وعن �أهلهم يف م�ست�شفى‬ ‫ي�ستطيع الوقوف‪ ،‬وعاجله الرازي بك ّل ما لديه من �أدوية‪ ،‬ال�سجن‪� ،‬أو (البيت العجيب)‪� ،‬أو (برج املجانني)‪� ،‬أو‬ ‫ولكن دون جدوى‪ ،‬و�أخري ًا ا�ستقر الرازي على العالج (القف�ص العجيب)‪ ،‬كما كانوا ي�سمونها �آنذاك‪ ،‬وي�س ّلم‬ ‫النف�سي‪ ،‬فقال للأمري‪� :‬إنه �سوف يجري عالج ًا جديد ًا �أمرهم �إىل رجال �أفظاظ ال يعرفون �إال لغة ال�ضرب‬ ‫غد ًا‪ ،‬ولكن على �شرط �أن ي�ضع الأمري �أ�سرع جوادين وال�شتم والتعذيب‪ .‬وكان مبعث ذلك لدى الأوروبيني‬ ‫لديه حتت ت�ص ّرفه‪ ،‬ف�أجابه الأمري‪ .‬ويف اليوم التايل ربط �آنذاك هو االعتقاد ال�سائد ب�أن هذا املري�ض قد لعنته‬ ‫الرازي اجلوادين خارج احلمام بظاهر املدينة‪ ،‬ثم دخل ال�سماء عقاب ًا له على �إثم ارتكبه‪ ،‬ف�أنزلت به هذا‬ ‫ي�صب عليه املر�ض‪� ،‬أو �أن �شيطان ًا ماكر ًا �ضاقت به الدنيا فح ّل‬ ‫هو والأمري غرفة احلمام ال�ساخنة‪ ،‬و�أخذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫املاء ال�ساخن‪ ،‬وج ّرعه الدواء‪ ،‬ثم خرج ولب�س مالب�سه‪ ،‬يف ج�سم هذا املري�ض؛ لذلك ف�إنه يحل تعذيب هذا‬

‫‪159‬‬


‫اجل�سد؛ لأنه مبنزلة منزل �شيطان رجيم‪ .‬وظ ّلت �أوروبا‬ ‫على هذه احلال �إىل قبيل القرن التا�سع ع�شر امليالدي‬ ‫عندما قام طبيب فرن�سي ُيدعى (بينل) مبطالبة‬ ‫جمل�س الأديرة بتحرير املجانني ال�سجناء‪ ،‬وو�ضعهم‬ ‫حتت عناية الأطباء ورعايتهم‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫إسحاق بن عمران والمالينخوليا‬

‫‪160‬‬

‫كان الطبيب البغدادي الأ�صل‪ ،‬القريواين املهجر‪،‬‬ ‫�إ�سحاق بن عمران ( ُتوفيِّ �سنة ‪295‬هـ) من �أ�شهر‬ ‫الأطباء امل�سلمني الذين تناولوا الأمرا�ض النف�سية‬ ‫بالبحث واال�ستق�صاء واملعاجلة‪ ،‬وت�صف كتب الرتاث‬ ‫الطبي الإ�سالمي ر�سالته (مقالة يف املالينخوليا) ب�أنها‬ ‫مل ي�سبق مثلها؛ فقد ع ّد املالينخوليا �أو االكتئاب مر�ض ًا‬ ‫بدني ًا له ت�أثري يف �صحة الإن�سان‪ ،‬وو�صف �أعرا�ض هذا‬ ‫املر�ض ب�شعور امل�صاب به بالك�آبة والوحدة والوهم‬ ‫واخلوف واحلزن والفزع‪� ،‬إ�ضافة �إىل الأفكار اخليالية‬ ‫الرهيبة التي تنتاب املري�ض؛ �إذ يت�ص ّور �أن جماعة من‬ ‫الزنوج يريدون قتله‪� ،‬أو يتوهّ م �أنه بال ر�أ�س‪ ،‬و�أنه ي�سمع‬ ‫�صوت ًا مثل خرير املاء‪ ،‬وقرع الرياح وع�صفها‪ ،‬و�أ�صوات ًا‬ ‫مهولة يف �أذنه‪ ،‬وقد يفقد التمييز فيخ�شى من �سقوط‬ ‫ال�سماء على ر�أ�سه‪ ،‬ويتج ّنب ال�سري حتتها‪ ،‬و�أفاد ابن‬ ‫عمران ب�أن معظم امل�صابني بهذا املر�ض ي�شكون من‬ ‫الأرق‪ ،‬ووجع الر�أ�س‪ ،‬مع ملع العينني لدى بع�ضهم‪،‬‬ ‫وعزوفهم عن الطعام وال�شراب‪ .‬و ُيع ّد املري�ض‬ ‫الذي تظهر عليه الأعرا�ض الأخرية من املر�ضى‬ ‫اخلطرين؛ لأنه ي�صبح �شديد النهم والتو ّثب والهياج‬ ‫واالفرتا�س‪ ،‬وهو ما جعل الأطباء‪ ،‬ومنهم �إ�سحاق بن‬ ‫عمران‪ ،‬ي�س ّمون هذا النوع من الأمرا�ض النف�سية‬ ‫بـ(املالينخوليا ال�سبعي)‪.‬‬ ‫وعر�ض ابن عمران يف مقالته معظم احلاالت النف�سية‬ ‫التي ت�صيب الرجال والن�ساء‪ ،‬خ�صو�ص ًا عند حدوث‬

‫ذكر ابن عمران معظم الحاالت‬ ‫النفسية التي تصيب الرجال والنساء‪،‬‬ ‫خصوص ًا عند حدوث صدمات نفسية‬ ‫شديدة ومتوالية‪ ،‬وتناول بالتحليل‬ ‫حاالت الذهول واالختالل الفكري‬ ‫التي تنتاب بعض النساء بسبب الحمل‬ ‫المتكرر أو الرضاعة الطائلة‬ ‫ّ‬

‫�صدمات نف�سية �شديدة ومتوالية‪ ،‬كما تناول بالتحليل‬ ‫حاالت الذهول واالختالل الفكري التي تنتاب بع�ض‬ ‫الن�ساء ب�سبب احلمل املتكرر �أو الر�ضاعة الطائلة‪.‬‬ ‫و�أو�صى باال�ستعانة بالعالج النف�سي للم�صابني بهذه‬ ‫الأمرا�ض عن طريق الكالم اجلميل امل�ؤثر‪ ،‬واملوا�ساة‬ ‫والتنزّه‪ ،‬واال�ستماع �إىل املو�سيقا‪ ،‬واللجوء �إىل احليل‬ ‫املنطقية والنف�سية‪ ،‬ويذكر يف هذا ال�صدد �أن رج ًال‬ ‫�أ�صيب باملالينخوليا على مقربة من القريوان يف‬ ‫تون�س‪ ،‬وكان يتوهّ م �أنه بال ر�أ�س‪« ،‬ف�أثقل ابن عمران‬ ‫ر�أ�سه بقلن�سوة من ر�صا�ص‪ ،‬وجعلها على ر�أ�سه يف حم ّل‬

‫يعطي ثابت بن سنان صورة‬ ‫رائعة ودقيقة لما نطلق عليه‬ ‫اليوم «األمراض النفسجسمية‪/‬‬ ‫وتحدث عن‬ ‫السايكوسوماتية»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األخالق الممدوحة والمذمومة‪،‬‬ ‫وعالقة ّ‬ ‫كل منها باألنفس الثالث‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫�صح عنده �أن له ر�أ�س ًا»‪.‬‬ ‫اخلوذة‪ ،‬فحينئذٍ ّ‬ ‫يكتف �إ�سحاق بن عمران بذلك‪ ،‬بل و�صف �أنواع ًا �أخرى‬ ‫ومل ِ‬ ‫من العالج الطبيعي للم�صابني مبثل هذا املر�ض؛ مثل‪:‬‬ ‫الدلك بالدهونات‪ ،‬واال�ستحمام‪ ،‬وتناول الأدوية والعقاقري‪،‬‬ ‫بل �إن هذا الطبيب مل يغفل الإ�شارة بو�ضوح �إىل �أن مر�ض‬ ‫املالينخوليا قد يكون مكت�سب ًا‪ ،‬وقد يكون فطري ًا؛ �أي‪ :‬وراثي ًا؛‬ ‫�إذ تكون لدى ال�شخ�ص قابلية للإ�صابة بهذا املر�ض‪.‬‬ ‫أبو البركات أوحد زمانه‬

‫يحدّثنا �صاحب (طبقات الأطباء) �أن هبة اهلل بن علي‬ ‫�أبو الربكات‪ ،‬من �أهل القرن ال�ساد�س الهجري‪ ،‬ا�شتهر‬ ‫بالعلوم الطبية‪ ،‬ومنها الطب النف�سي‪ ،‬حتى ُعرف ب�أوحد‬ ‫الزمان يف مهنته‪ ،‬وقد ُعر�ض عليه يف بغداد يوم ًا مري�ض‬ ‫باملالينخوليا حار الأطباء يف عالجه؛ �إذ كان يعتقد �أن‬

‫على ر�أ�سه دُن ًا ال يفارقه �أبد ًا‪ ،‬فكان كلما م�شي جتنب‬ ‫املوا�ضع ذات ال�سقوف الق�صرية‪ ،‬وي�سري برفق‪ ،‬وال يرتك‬ ‫�أحد ًا يدنو منه حتى ال مييل الدُّنّ ‪� ،‬أو يقع عن ر�أ�سه‪،‬‬ ‫فعاجله �أبو الربكات ب�أن �أوعز �إىل �أحد م�ساعديه �أن‬ ‫ينتظر منه �إ�شارة ي�أخذ هو يف حمادثة املري�ض‪ ،‬و�أن‬ ‫ي�سارع عندها �إىل خ�شبة كبرية في�ضرب بها فوق ر�أ�س‬ ‫املري�ض ك�أنه يريد ك�سر الدنّ املزعوم‪ ،‬و�أو�صى م�ساعد ًا‬ ‫�آخر كان قد �أع ّد معه دن ًا يف �أعلى ال�سطح �أن يلقي بالدن‬ ‫ب�سرعة �إىل الأر�ض عندما يرى ما فعله امل�ساعد الأول‬ ‫«فلما عاين املري�ض ما فعل به‪ ،‬ور�أى الدن املنك�سر‪ ،‬ت�أ ّوه‬ ‫لك�سرهم �إياه‪ ،‬ومل ّ‬ ‫ي�شك �أنه الدن الذي كان على ر�أ�سه‬ ‫بزعمه‪ ،‬و�أ ّثر فيه الوهم �أثر ًا برئ به من علته تلك»‪.‬‬ ‫وتُف�سر حالة مري�ض بغداد هذه يف علم النف�س احلديث‬ ‫على �أنها حالة �أعرا�ض هالو�س ‪Halluacination‬‬ ‫( ُيالحظ هنا ت أ� ّثر امل�صطلح الإجنليزي للهالو�س بالت�سمية‬

‫‪161‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫العربية‪ ،‬ومن هذا القبيل �أي�ض ًا‪ Hysteria :‬هي�سرتيا‪،‬‬ ‫و‪ Hysteric‬هي�سرتي‪ ،‬و‪ Malancholia‬مالينخوليا)‪،‬‬ ‫وهي من الأعرا�ض ال�شائعة لدى ال ُّذهانيني‪ ،‬والنادرة بني‬ ‫الع�صابيني‪ .‬وتُع ّرف الهالو�س ب�أنها مدركات ح�سية خاطئة؛‬ ‫لأنها ال تن�ش�أ عن مو�ضوعات واقعية يف العامل اخلارجي‪ ،‬بل‬ ‫عن و�ضوح اخلياالت وال�صور الذهنية ون�صوعها ن�صوع ًا‬ ‫�شديد ًا في�ستجيب لها املري�ض على �أنها وقائع بالفعل‪ ،‬وقد‬ ‫تكون هذه الهالو�س ب�صرية �سمعية �أو ذوقية �أو حتى �ش ّمية‪،‬‬ ‫وهي يف حالتنا هالو�س ب�صرية‪ .‬وقد ا�ستخدم �أبو الربكات‬ ‫يف عالجه هذه احلالة ما ُيعرف بـ(العالج بالإيحاء)‪ ،‬وهي‬ ‫طريقة لعالج �أعرا�ض املر�ض ت�ساعد على حترير املري�ض‬ ‫من اعتقاده الفا�سد‪.‬‬ ‫ثابت بن سنان وطب األخالق‬

‫‪162‬‬

‫هو حفيد �أبي احل�سن ثابت بن قرة احلراين ( ُتوفيِّ �سنة‬ ‫‪288‬هـ)‪ ،‬كان �أبوه �سنان بن ثابت مك ّلف ًا ببيمار�ستان‬

‫فخ�ص�ص لها‬ ‫بغداد �أيام الرا�ضي‪ ،‬واعتنى بال�سجون‪ّ ،‬‬ ‫�أطباء يعنون ب�صحة نزالئها‪ ،‬واهتم بـ(طب الأخالق)‪،‬‬ ‫فك ّلفه �أحد الأمراء يف زمانه ب�أن يتك ّلف ب�إ�صالح �أخالقه‬ ‫«�إ�ضاف ًة �إىل معاجلته بدنه»‪ ،‬فكتب له ر�سال ًة �شرح‬ ‫له فيها «جملة عالج ما �أنكره من نف�سه من �صفات‬ ‫و�أخالق‪ ،‬وطلب فيها قراءتها والعمل مبا فيها‪ ،‬ور ّكز يف‬ ‫الر�سالة على معاجلة الغ�ضب والغيظ بو�صفهما �أخطر‬ ‫الأمرا�ض اخللقية بالن�سبة للحاكم‪ ،‬وو�صف العالج‬ ‫على اجلملة‪ ،‬وهو �ضرورة التخ ّلق ب�ضدهما‪ :‬العفو‪،‬‬ ‫وال�صفح»‪ .‬ويحدثنا الطبيب ثابت بن �سنان عن �أبيه‪،‬‬ ‫ومعاجلته الأمري الذي النت �أخالقه‪ّ ،‬‬ ‫وكف عن كث ٍري مما‬ ‫كان ي�سرع �إليه من القتل والعقوبات الغليظة‪ ،‬وا�ستحلى‬ ‫ما كان ي�شري عليه من ا�ستعمال العدل والإن�صاف ورفع‬ ‫الظلم واجلور‪ ،‬وقد �أ ّلف كتاب ًا يف (تهذيب الأخالق)‬ ‫ـ(طب الأخالق) �إىل �أبعد ما جنده‬ ‫�سنة ‪295‬هـ‪ ،‬يذهب ب ّ‬ ‫عند جالينو�س والرازي؛ فهو يتحدث يف كتابه عن (علم‬


‫بالعلوم الطبية‪ ،‬ومنها الطب‬ ‫النفسي‪ ،‬حتى ُعرف بأنه أوحد‬ ‫الزمان في مهنته كما يقول صاحب‬ ‫«طبقات األطباء»‬

‫الأخالق)‪ ،‬و�أحيان ًا كثرية عن (الطب النف�ساين) بو�صفه‬ ‫علم ًا �ضروري ًا‪ ،‬و�أكرث �شرف ًا من الطب اجل�سماين نف�سه‪،‬‬ ‫وهو ال ي�ستعمل عبارة (الطب الروحاين) التي ا�ستعملها‬ ‫الرازي؛ لأن البحث يف الروح هو يف نظره من اخت�صا�ص‬ ‫الفال�سفة الذين اختلفوا يف �ش�أنها‪ ،‬ويتحدث عن جماع‬ ‫القوى الثالث للنف�س‪ :‬ال�شهوانية يف الكبد‪ ،‬والغ�ضبية يف‬ ‫القلب‪ ،‬والناطقة يف الدماغ‪.‬‬ ‫ويعطي ثابت بن �سنان �صور ًة رائع ًة ودقيق ًة ملا ُنطلق عليه‬ ‫اليوم (الأمرا�ض النف�سج�سمية‪ /‬ال�سايكو�سوماتية)‪،‬‬ ‫ويتحدث يف كتابه عرب ف�صوله املتعددة عن الأخالق‬ ‫املمدوحة واملذمومة‪ ،‬وعالقة ك ّل منها بالأنف�س الثالث‪،‬‬ ‫وعر�ض دور العائلة‪ ،‬وختم كتابه (تهذيب الأخالق)‬ ‫خا�ص‬ ‫بتوجيه نداء �إىل احلكام بطلب �إن�شاء بيمار�ستان ّ‬ ‫لـ(طب الأخالق) على غرار بيمار�ستان طب الأبدان‪،‬‬ ‫م�ؤ ّكد ًا �أن �أمرا�ض النف�س معدية �أكرث من �أمرا�ض البدن‪.‬‬ ‫المشافي النفسية‬

‫حتدّثنا امل�صادر العربية وكتب الرتاث عن وجود‬ ‫م�شايف وبيمار�ستانات نف�سية متنوعة يف املدن العربية‬ ‫والإ�سالمية كانت تفرد فيها غرف وقاعات خا�صة‬ ‫بامل�صابني بالأمرا�ض النف�سية والع�صبية‪ ،‬ويروي‬ ‫املقريزي يف (خططه) �أن �أحمد بن طولون �صاحب‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫اشتهر هبة الله بن علي أبو البركات‬

‫م�صر كان يزور نزالء امل�ست�شفى �أ�سبوعي ًا‪ ،‬كما تذكر‬ ‫يخ�ص�ص لكل م�صاب‬ ‫وقفية النوري بحلب �أنه كان ّ‬ ‫بالأمرا�ض النف�سية خادمني ينزعان عنه ثيابه كل‬ ‫�صباح‪ ،‬ويح ّممانه ويلب�سانه ثياب ًا نظيفة‪ ،‬ويحمالنه‬ ‫على �أداء ال�صالة‪ ،‬وي�سمعانه قراءة القر�آن من قارئ‬ ‫يف�سحانه يف الهواء الطلق‪ ،‬و ُي�سمعانه‬ ‫ح�سن ال�صوت‪ ،‬ثم ّ‬ ‫الأ�صوات اجلميلة‪ ،‬والنغمات املو�سيقية الطيبة‪ .‬كما‬ ‫كانت امل�شايف الإ�سالمية ت�ضم �أق�سام ًا خا�ص ًة برعاية‬ ‫امل�سنني‪ُ ،‬كتبت على مداخلها الآية الكرمية‪َ } :‬واخْ ِف ْ�ض‬ ‫َل ُه َما َج َن َاح ال ُّذ ِّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ِّب ا ْر َح ْم ُه َما َك َما‬ ‫َر َّب َيانيِ َ�ص ِغ ًريا{ (الإ�سراء‪.)24 :‬‬ ‫وتفتّق نبوغ الأطباء العرب وامل�سلمني عن طرائق‬ ‫و�أ�ساليب علمية ونف�سية ناجعة يف العالج‪ ،‬مثلما ت�أتّى‬ ‫لهم �أن يفعلوا يف م�ضمار الطب العقلي والنف�سي‪ ،‬والطب‬ ‫النف�سي واجل�سمي (النف�سج�سمي ‪Psychosomatic‬‬ ‫‪ ،)Medicine‬ومن ذلك ا�ستخدامهم ال�سماع‬ ‫(املو�سيقا والغناء) يف تطبيب امل�صابني ب�ضروب من‬ ‫اخلبل �أو العته‪ ،‬وكان املجانني و�صرعى الأمرا�ض‬ ‫النف�سية يف �أوروبا يف هذا الوقت يق ّيدون ب�سال�سل‬ ‫احلديد‪ ،‬وكان العالج الوحيد لهم هو ال�ضرب عندما‬ ‫ترتفع �أ�صواتهم بال�صراخ‪ ،‬وال � ّ‬ ‫أدل على ذلك من �أن‬ ‫�أ�سامة بن منقذ ( ُتوفيِّ �سنة ‪584‬هـ‪1188 /‬م) ذكر يف‬ ‫كتابه (االعتبار) �أن الفرجنة �س�ألوا ع ّمه �أن يوفد �إليهم‬ ‫طبيب ًا‪ ،‬فبعث واحد ًا ن�صراني ًا ُيدعى ثابت ًا‪ ،‬مل يغب غري‬ ‫ع�شرة �أيام‪ ،‬وملا �س�ألوه عن �سبب رجوعه و�شيك ًا روى‬ ‫لهم �أن الفرجنة �أنكروا ط ّبه يف عالجه امر�أة �أ�صابها‬ ‫ن�شاف؛ فقد ا�ستقدموا طبيب ًا منهم‪« ،‬فقال‪ :‬هذه امر�أة‬ ‫يف ر�أ�سها �شيطان قد ع�شقها‪ ،‬احلقوا �شعرها‪ ،‬فحلقوه»‪،‬‬ ‫لكنها مل ترب�أ‪ ،‬فقال‪ :‬ال�شيطان قد دخل ر�أ�سها‪ ،‬ف�أخذ‬ ‫املو�سى‪ ،‬و�شقّ �صليب ًا‪ ،‬و�سلخ و�سطه حتى ظهر عظم‬ ‫الر�أ�س‪ ،‬وح ّكه بامللح‪ ،‬فماتت من وقتها»‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫كادت تذهب مث ًال يف اللغة الالتينية‪:‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫العالج بالموسيقا‬

‫‪164‬‬

‫ذكر �إخوان ال�صفاء يف �إحدى ر�سائلهم �أن من‬ ‫املو�سيقا حلن ًا كانوا ي�ستعملونه يف البيمار�ستان‬ ‫وقت الأ�سحار يخ ّفف �أمل الأ�سقام والأمرا�ض عن‬ ‫املري�ض‪ ،‬ويك�سر َ�س ْورتها‪ ،‬وي�شفي كثري ًا من الأمرا�ض‬ ‫والأعالل‪ .‬ويبدو �أن هذا النمط يف املعاجلة ظ ّل جزء ًا‬ ‫من العالج يف البيمار�ستانات الإ�سالمية حتى العهود‬ ‫املت�أخرة‪ .‬وكان ابن �سينا ين�صح بالغناء واملو�سيقا‪،‬‬ ‫�أو ما ُي�س ّمى بـ(ال�سماع)‪ ،‬للم�صابني ب�آفات عقلية‬ ‫�أو نف�سية‪ ،‬و ُيو�صي بهما �أي�ض ًا يف ت�سكني الأوجاع؛‬ ‫�إذ هما ُي�ساعدان على النوم‪ ،‬كما يدرج يف م ؤ� َّلفاته‬ ‫الطبية (املو�سيقا والغناء) يف عداد الأدوية التي‬ ‫ُيعالج بها احلميات؛ لذلك يذكر امل�ست�شرق فارمز �أنه‬ ‫مما بلغ احل�ضارة الإ�سالمية ترجمة قدرة املو�سيقا‬ ‫على ال�شفاء‪ ،‬وهو ما �أثبته ابن �سينا يف مقالته التي‬

‫‪Inter Omni‬‬

‫‪excercitia santatis cantare Melius est‬؛ �أي‪:‬‬ ‫خري مترينات العافية الغناء‪ ،‬وهو قول قريب من قول‬ ‫�إخوان ال�صفاء‪�« :‬أمزجة الأبدان كثرية الفنون‪ ،‬وطباع‬ ‫ولكل مزاجه‪ٍّ ،‬‬ ‫احليوانات كثرية الأنواع‪ٍّ ،‬‬ ‫ولكل طبيعة‬ ‫نغمة ت�شاكلها‪ ،‬وحلن يالئمها»‪.‬‬ ‫هكذا اتّ�ضح لنا جانب من اجلهود العلمية التي بذلها‬ ‫علماء العرب وامل�سلمني يف ميدان الطب النف�سي‪،‬‬ ‫ومعاجلة الأمرا�ض النف�سية التي �أ�صبحت من �أمرا�ض‬ ‫الع�صر ال�شائعة‪ ،‬و�إن كانت ن�سبتها تظ ّل يف املجتمعات‬ ‫الإ�سالمية �أق ّل منها يف املجتمعات الغربية‪ ،‬ويرجع‬ ‫ذلك �إىل طبيعة العقيدة الإ�سالمية‪ ،‬وما تك ّونه يف‬ ‫�شخ�صية امل�سلم من �إميان عميق‪ ،‬وتوازن نف�سي‪،‬‬ ‫وعالقات وطيدة را�سخة بني الإن�سان ور ّبه من ناحية‪،‬‬ ‫ونف�سه وجمتمعه من ناحية ثانية‪.‬‬

‫العالج باملو�سيقا عرفته البيمار�ستانات العربية‬


‫أينما كنت‬

‫تصفح‬

‫ترجمات‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫تقارير‬

‫‪165‬‬ ‫ر�أي‬

‫�إنفوجرافيك‬

‫الأر�شيف‬

‫التوا�صل‬


‫شخصيات‬

‫العلَم المصري‪،‬‬ ‫صندوق خشبي يكسوه َ‬ ‫ممدة لرجل سبعيني تنتظر في‬ ‫وبه ج ّثة‬ ‫ّ‬ ‫مكان تحميل الحقائب لنقلها على رحلة‬ ‫مصر للطيران رقم ‪ 986‬المتّجهة من مطار‬ ‫جون كينيدي الدولي في مدينة نيويورك‬ ‫بالواليات المتحدة األمريكية مساء الجمعة‬ ‫‪ 5‬أغسطس عام ‪2016‬م إلى مطار القاهرة‬ ‫الدولي‪ ،‬وليس في وداع الجثمان سوى‬ ‫ثالثة مسؤولين من شركة الطيران المصرية‬ ‫الناقلة‪ .‬مشهد تجلّله مهابة الموت‪،‬‬ ‫تهتم‬ ‫وتنحسر عنه أضواء النجومية‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫فيه الدولة المصرية بتوفير طائرة خاصة‬ ‫ّ‬ ‫تقل الرجل هو وأفراد أسرته إلى مثواه‬ ‫في مصر‪ ،‬وال تعبأ البعثة الدبلوماسية‬ ‫بأن تكون في وداعه بعد أن ظلّت تفخر‬ ‫بمصريته كثيراً‪ ،‬وتتسابق إلى السالم عليه‬ ‫عندما كان ملء الدنيا‪ ،‬وحديث الناس‪ .‬إنه‬ ‫المشهد األخير في حياة عالم مصري أبدع‬ ‫على بساط الغربة‪ ،‬وكتب اسمه‬ ‫بمداد من‬ ‫ٍ‬ ‫نور في سجالت التاريخ‪ ،‬عالم سبق عصر‬ ‫السرعة‪ ،‬وأضاف إلى الزمن وحدةً جديدةً ‪،‬‬ ‫هي (الفيمتو ثانية)‪ ،‬إنه العالم المصري‬

‫‪166‬‬

‫أحمد زويل‪.‬‬


‫أحمد زويل‪..‬‬ ‫قصة نجاح عربية‬ ‫على ُبساط الغربة‬ ‫‪167‬‬ ‫سيد الجعفري‬ ‫هيئة التحرير‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪168‬‬

‫فعمل معيد ًا بالكلية‪ ،‬ثم ح�صل على درجة املاج�ستري عن‬ ‫زويل اإلنسان‬ ‫ُولد الطفل �أحمد ح�سن زويل يف ‪ 26‬فرباير عام ‪1946‬م بحثه يف علم ال�ضوء‪ ،‬وتد ّرب يف �أثناء درا�سته يف �شركة‬ ‫مبدينة دمنهور عا�صمة حمافظة البحرية امل�صرية يف (�شل) يف مدينة الإ�سكندرية عام ‪1966‬م‪.‬‬ ‫�شمال غرب دلتا النيل لوالدين كان حلمهما �أن يح�صل‬ ‫ولدهما الوحيد مع ثالث بنات على درجة علمية عالية خطواته نحو الحلم‬ ‫من اخلارج‪ ،‬ثم يعود ليكون �أ�ستاذ ًا جامعي ًا يف بلده؛ تقدّم �أحمد زويل للح�صول على منحة خارجية للح�صول‬ ‫فمنحاه الثقة التي يحتاج �إليها ليكون ناجح ًا‪ ،‬وع ّلقا على على درجة الدكتوراه من الواليات املتحدة الأمريكية‪،‬‬ ‫باب غرفته يف وقت مب ّكر من عمره ورق ًة حتمل ا�سمه التي كانت تقود �سفينة العلم احلديث بعد احلرب العاملية‬ ‫الثانية‪ ،‬لكن الظروف ال�سيا�سية مل�صر كانت متنع ال�سفر‬ ‫م�سبوق ًا بلقب دكتور «د‪� .‬أحمد»‪.‬‬ ‫انتقل �أحمد زويل مع �أ�سرته‪ ،‬وهو يف الرابعة من عمره‪� ،‬إىل هناك‪� .‬أ�ص ّر زويل على التقدّم �إىل املنحة‪ ،‬وجاءه‬ ‫�إىل مدينة د�سوق مبحافظة كفر ال�شيخ‪ ،‬وهناك ن�ش�أ خطاب املوافقة‪ ،‬فقر�أه ع�شر مرات من هول املفاج�أة‪،‬‬ ‫تك�سرت جماديف طموحه‬ ‫وتل ّقى تعليمه الأ�سا�سي‪ ،‬حتى التحق بكلية العلوم يف لكن فرحته مل تكتمل؛ فقد ّ‬ ‫يتم‬ ‫جامعة الإ�سكندرية بعد ح�صوله على الثانوية العامة‪ ،‬على �صخرة البريوقراطية امل�صرية العتيدة؛ فرمبا ّ‬ ‫وح�صل على بكالوريو�س العلوم يف الكيمياء بامتياز مع تغيري وجهة املنحة من الواليات املتحدة الأمريكية �إىل‬ ‫مرتبة ال�شرف عام ‪1967‬م‪ ،‬وكان الأول على دفعته‪ ،‬املجر �أو االحتاد ال�سوفييتي اللذين ال يعلم عنهما �شيئ ًا‪،‬‬ ‫زويل يت�سلم جائزة امللك في�صل العاملية‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫يجتازه �إال بتوقيع وزير التعليم العايل؛ فكيف له ذلك وهو‬ ‫ال ي�ستطيع مقابلة رئي�س جامعته‪.‬‬ ‫جنح زويل يف اجتياز ك ّل املعوقات‪ ،‬و�سافر �إىل الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية‪ ،‬وهناك ح�صل على درجة الدكتوراه‬ ‫من جامعة بن�سلفانيا يف علوم الليزر‪ ،‬ثم عمل باحث ًا يف‬ ‫جامعة كاليفورنيا يف بركلي يف املدة (‪1976 -1974‬م)‪،‬‬ ‫قبل �أن ينتقل �إىل العمل يف معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا‬ ‫(كالتك) عام ‪1976‬م‪ ،‬وهو من �أكرب اجلامعات العلمية‬ ‫يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ .‬ح�صل زويل على‬ ‫اجلن�سية الأمريكية عام ‪1982‬م‪ ،‬وتد ّرج يف املنا�صب‬ ‫العلمية الدرا�سية داخل جامعة كالتك �إىل �أن �أ�صبح‬ ‫�أ�ستاذ ًا رئي�س ًا لعلم الكيمياء بها‪ ،‬وهو �أعلى من�صب علمي‬ ‫جامعي يف �أمريكا خلف ًا للكيميائي والفيزيائي الأمريكي‬ ‫لينو�س بولينج‪ ،‬الذي ح�صل على جائزة نوبل مرتني‪:‬‬ ‫الأوىل يف الكيمياء عام ‪1954‬م‪ ،‬والثانية يف ال�سالم‬ ‫العاملي عام ‪1962‬م حلملته �ضد التجارب النووية‪ .‬ومل‬ ‫يت� ّأخر زويل عن �سلفه؛ فنال جائزة نوبل يف الكيمياء عام‬ ‫وعليه �أن يح�صل على توقيعات ‪ ٣٠‬معيد ًا بعدم رغبتهم ‪1999‬م لإجنازاته العلمية الهائلة يف درا�سة ذ ّرات املواد‬ ‫يف هذه املنحة‪ ،‬ال ل�شيء �سوى �أنهم �أ�صحاب (ال َّد ْور)‪ ،‬املختلفة وت�صويرها خالل تفاعالتها الكيميائية‪.‬‬ ‫وال بد �أن يجتاز القانون العتيق الذي ي�شرتط عليه العمل‬ ‫يف بلده عامني قبل ال�سفر �إىل اخلارج‪ ،‬وهو قانون لن زواج على مائدة الفيصل‬ ‫ع�شق زويل املر�أة ب�شكل خمتلف عن غريه من الرجال؛‬ ‫فقد �أح ّبها بعقله ال بقلبه‪ ،‬وكان مفتون ًا باملر�أة ال�شرقية‪،‬‬ ‫وجاءت �أوىل حمطاته يف ذلك خالل عمله معيد ًا يف‬ ‫نجح زويل في اجتياز ّ‬ ‫كل المعوقات‬ ‫جامعة الإ�سكندرية عندما �أُعجب بطالبته مريفت‪ ،‬التي‬ ‫في مصر‪ ،‬وسافر إلى الواليات‬ ‫كان ي�صفها دائم ًا بالوقورة واجلادة‪ ،‬فتز ّوجها و�أجنب‬ ‫المتحدة األمريكية‪ ،‬وحصل على درجة‬ ‫منها ابنتيه‪ :‬مها‪ ،‬و�أماين‪ ،‬قبل �أن يحدث الطالق بينهما‬ ‫الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا في‬ ‫عند تعيينيه �أ�ستاذ م�ساعد ًا يف كالتك‪ ،‬وكانت مريفت‬ ‫علوم الليزر‪ ،‬وعمل باحث ًا في جامعة‬ ‫وقتها قد ح�صلت على درجة الدكتوراه‪ ،‬وعلى وظيفة‬ ‫كاليفورنيا في بركلي‪ ،‬ثم في معهد‬ ‫تدري�س يف كلية �أمبا�سادور‪ .‬ومازالت مريفت وابنتاها‬ ‫كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)‬ ‫ُيقمن بالواليات املتحدة الأمريكية ‪-‬ح�سب موقع قناة‬

‫‪169‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪170‬‬

‫العربية‪ -‬بعد �أن تز ّوجت مها ‪-‬الأ�ستاذة يف جامعة �شيئ ًا‪� ،‬سوى �أنه قال عنها‪�« :‬أنا ما كنت�ش موجود النهاردة‬ ‫ثاوث وي�سرتن يف مدينة جورجتاون بوالية تك�سا�س‪ -‬عام ك�إن�سان عاي�ش من غري دمية؛ لأنها �شافت كتري»‪.‬‬ ‫‪1994‬م من دكتور �أمريكي يف مادة الكيمياء‪ ،‬وتز ّوجت‬ ‫�أماين‪ ،‬طبيبة �أمرا�ض الن�ساء والوالدة‪ ،‬من �شخ�ص من الفيصل إلى نوبل‬ ‫ُيدعى‪ :‬ندمي حجازي‪.‬‬ ‫ح�صل �أحمد زويل على جائزة امللك في�صل العاملية يف‬ ‫لتخ�ص�صه الرائد يف‬ ‫و�شهد حفل توزيع جائزة امللك في�صل العاملية عام العلوم عام ‪1989‬م (باال�شرتاك)‬ ‫ّ‬ ‫‪1989‬م حمطة الزواج الثاين لأحمد زويل؛ فقد جمع ا�ستخدام �أ�شعة الليزر للتح ّكم يف التفاعالت الكيميائية‬ ‫هذا احلفل بني �أحمد زويل وهو يت�س ّلم جائزته يف العلوم ب�إعطاء الذ ّرات الطاقة الالزمة لها يف املو�ضع املنا�سب‬ ‫والدكتور �شاكر الفحام وهو يت�س ّلم جائزته يف الأدب حتى تنتج التفاعالت املطلوبة فقط‪ ،‬وميتنع غريها‪ .‬وقال‬ ‫العربي‪ ،‬الذي كانت ترافقه ابنته دمية‪ ،‬وهناك على زويل نف�سه خالل حفل ت�س ّلمه هذه اجلائزة‪�« :‬إنه ل�شرف‬ ‫مائدة احلفل كان التعارف‪ ،‬الذي انتهى بالزواج يف العام عظيم �أن �أح�صل على واحدة من �أرفع اجلوائز يف العلوم‪،‬‬ ‫نف�سه‪ ،‬لينجبا ابنيهما‪ :‬نبيل‪ ،‬وهاين‪.‬‬ ‫وهي جائزة امللك في�صل العاملية»‪ ،‬مبدي ًا �سعادته بالتكرمي‬ ‫كانت دمية الفحام‪ ،‬احلا�صلة على بكالوريو�س الطب العظيم لكونه �أول عربي م�سلم يفوز بهذه اجلائزة‪ ،‬و أ� ّكد‬ ‫يف ال�صحة العامة من كلية الطب بجامعة دم�شق‪ ،‬وابنة �أنه ح�صل على جوائز عاملية رفيعة‪ ،‬لكن جائزة امللك‬ ‫الدكتور �شاكر الفحام رئي�س جممع اللغة العربية يف في�صل تتب ّو أ� مركز ًا عاملي ًا‪ ،‬وتنبع من �أ�صل عربي‪ ،‬م�شري ًا‬ ‫�سوريا حتى وفاته عام ‪2008‬م‪ ،‬هي اجلندي املجهول �إىل �أن تخ�صي�ص اململكة العربية ال�سعودية جائز ًة عاملي ًة‬ ‫ي�سجله التاريخ ب�أحرف من النور؛‬ ‫يف حياة زويل الذي ال يعرف �أحد عن خ�صو�صياتهما للإجنازات العاملية �شيء ّ‬


‫«يتوجب علينا إعادة النظر في تمويل‬ ‫ّ‬ ‫البحث العلمي في العالم العربي‪ ...‬ال‬ ‫بد أن ينظر العالم العربي نظرةً جديدةً‬ ‫إلى القرن القادم‪ ،‬وأن‬ ‫يخصص نسبةً من‬ ‫ّ‬ ‫دخله القومي لتمويل البحث العلمي؛‬ ‫ثري‪ ،‬وال بد من مراجعة‬ ‫فالعالم العربي ّ‬ ‫جادة للواقع الراهن فيما يتّصل بهذه‬ ‫ّ‬ ‫المسألة»‪.‬‬ ‫ «يتوجب أن تتوافر في العالم العربي‬‫عقيدة وطنية تُؤمن بالدور الهام للعلم‪،‬‬ ‫وتنادي بضرورة بناء القاعدة العلمية‬ ‫والتكنولوجية‪ .‬إن استهالك التكنولوجيا‬ ‫ليس هو اكتساب العلم‪ .‬وأتمنى أن‬ ‫يكون حصول شخص مثلي على جائزة‬ ‫نوبل حافز ًا إلطالق مثل هذه العقيدة‬ ‫الوطنية في مجتمعنا العربي؛ حتى‬ ‫نشارك في صنع التقدم العلمي على‬ ‫المستوى العالمي»‪.‬‬ ‫ «إنني متفائل بالعالم العربي‪ ،‬وهذا‬‫أحد أسباب زياراتي المتكررة له‪ .‬وسبب‬ ‫ّ‬ ‫تفاؤلي هو‬ ‫توفر الموارد اإلنسانية‬ ‫التي أشاهدها في جميع المجاالت‪.‬‬ ‫أرى أناس ًا ممتازين فعالً‪ ...‬وأرى جوانب‬ ‫أخرى كثيرة في العالم العربي‬ ‫تمدني بالتفاؤل‪ ،‬وهو تفاؤل‬ ‫ضروري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للخروج من الحلقة المفرغة إلى طريق‬ ‫التقد م»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مجلة شؤون عربية (مصر)‪ ،‬ع‪ ،101‬عام‬ ‫‪2000‬م‪.‬‬

‫فالأمم تُقا�س دائم ًا بح�ضاراتها‪ ،‬والأمة العربية قدّمت‬ ‫كثري ًا من الإجنازات العاملية‪.‬‬ ‫مل تكن جائزة امللك في�صل العاملية تتويج ًا جلهود �أحمد‬ ‫أ�سري فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫زويل العلمية‪� ،‬أو بداي ًة ال�ستقراره ال ّ‬ ‫كانت نقطة انطالقه �إىل �أو�سع �أبواب العاملية؛ فبعد‬ ‫ح�صوله على اجلائزة بع�شر �سنوات ارتقى من�ص ًة �أخرى‬ ‫�أكرث مت ّيز ًا‪ ،‬هي ح�صوله على جائزة نوبل يف الكيمياء عام‬ ‫‪1999‬م عن �أبحاثه يف جمال الفيمتو ثانية بعد �أن ابتكر‬ ‫جمهر ًا ي�ص ّور �أ�شعة الليزر يف زمن قدره فيمتو ثانية‪ ،‬وهو‬ ‫جزء من مليون مليار جزء من الثانية؛ لي�صبح زويل �أول‬ ‫عربي يح�صل على جائزة نوبل يف الكيمياء‪ ،‬ورابع م�صري‬ ‫يفوز بجائزة نوبل يف خمتلف فروعها بعد الرئي�س امل�صري‬ ‫الأ�سبق حممد �أنور ال�سادات يف ال�سالم عام ‪1978‬م‪،‬‬ ‫والأديب جنيب حمفوظ يف الآداب عام ‪1988‬م‪ ،‬والدكتور‬ ‫حممد الربادعي يف ال�سالم عام ‪2005‬م‪.‬‬ ‫و�أعربت الأكادميية ال�سويدية امللكية للعلوم يف حيثيات‬ ‫منحها اجلائزة لأحمد زويل �أنها نتيجة الثورة الهائلة‬ ‫يف علم الكيمياء والعلوم املرتبطة به‪ ،‬التي �أحدثها من‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫زويل يش ّرح البحث العلمي العربي‬

‫‪171‬‬


‫خالل �أبحاثه الرائدة يف جمال ردود الفعل الكيميائية‪،‬‬ ‫وا�ستخدام �أ�شعة الليزر؛ فقد أ�دّت �أبحاثه �إىل ميالد‬ ‫ما ي�سمى بـ(كيمياء الفيمتو ثانية)‪ ،‬وا�ستخدام �آالت‬ ‫الت�صوير الفائقة ال�سرعة يف مراقبة التفاعالت‬ ‫الكيميائية ب�سرعة الفيمتو ثانية‪.‬‬

‫زويل أول عربي يحصل على جائزة‬ ‫الملك فيصل العالمية في العلوم‬ ‫عام ‪9891‬م‪ ،‬وأول عربي يحصل على‬ ‫جائزة نوبل في الكيمياء عام ‪9991‬م‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫ابتكار علم جديد‬

‫مت ّيز �أحمد زويل بقدرته الفريدة على ا�ستنباط التقنيات‬ ‫املتط ّورة‪ ،‬وا�ستخدامها يف �إي�ضـاح املفاهيم النظرية‬ ‫الأ�سا�سية و�إثباتها‪ ،‬وح ّقق �إجنازات علمية باهرة يف‬ ‫ا�ستخدام �أطياف �أ�شعة الليزر الفائقة ال�سرعة يف‬ ‫متابعة احلزم ال�ضوئية للجزئيات‪ ،‬ور�صد حركتها‬ ‫بدقة متناهية ت�سمح بر�ؤية التفاعالت الكيماوية حلظة‬ ‫حدوثها‪ ،‬ف� ّأ�س�س بذلك فرع ًا جديد ًا من فروع املعرفة هو‬ ‫(كيمياء الفيمتو ‪ ،)femtochemistry‬وفتح املجال‬ ‫�أمام كثري من النظريات والتجارب اجلديدة؛ فقد‬

‫جنح علم كيمياء الفيمتو يف حتويل تخ ّيالت العلماء عن‬ ‫التفاعالت الكيميائية �إىل امل�شاهدة على �أر�ض الواقع‬ ‫عن طريق املجهر الذي ُ�ص ِّمم لهذا ال�ش�أن‪.‬‬ ‫ا�ستخدم زويل عملي ًا املقيا�س الزمني البالغ ال�ض�آلة‬ ‫(الفيمتو ثانية) يف ر�صد حركة اجلزيئات عند تكوينها‪،‬‬ ‫وعند تكوين روابط كيميائية بينها‪ ،‬وا�ستطاع �أن ي�ص ّور‬ ‫لأول مرة ما يحدث خالل التفاعالت الكيميائية؛ لأن‬ ‫هذه التفاعالت حتدث ب�سرعة كبرية جد ًا‪ ،‬وعند ت�سليط‬ ‫ال�ضوء عليها يحدث ت�شتّت للإلكرتونات؛ فال ميكن‬ ‫ت�صوير تف ّكك الروابط بني املركبات‪� ،‬أو �إعادة ترابطها‬ ‫مع ًا‪ .‬وتكمن �أهمية ابتكار زويل يف �أنه ا�ستطاع ت�سليط‬ ‫�أ�شعة الليزر على التفاعالت وت�صويرها بكامريات دقيقة‬ ‫مت ّكنت من التقاط ما يحدث يف جزء من مليون مليار‬ ‫جزء من الثانية‪ .‬و ُبنيت الكامريا املبتكرة التي ُ�صممت‬ ‫لهذا ال�ش�أن على تقنية ليزر جديدة تعتمد على �إر�سال‬ ‫وم�ضات �ضوئية �سريعة جد ًا‪ ،‬مقدارها ب�ضع ع�شرات‬

‫لم تكن جائزة الملك فيصل العالمية‬ ‫تتويج ًا لجهود أحمد زويل العلمية‪،‬‬ ‫وإنما كانت نقطة انطالقه إلى‬ ‫أوسع أبواب العالمية‬

‫‪172‬‬


‫زويل في قائمة عظماء العالم‬

‫ال يتو ّقف ر�صيد �أحمد زويل من التكرمي على جائزتي‬ ‫امللك في�صل العاملية ونوبل‪ ،‬بل نال عدد ًا كبري ًا من‬ ‫اجلوائز والأو�سمة والنيا�شني بلغت ‪ 31‬جائزة دولية على‬ ‫�أبحاثه الرائدة يف علوم الليزر؛ فقد ك ّرمه بلده م�صر بعد‬ ‫ح�صوله على نوبل مبنحه �أرفع و�سام م�صري‪ ،‬وهو قالدة‬ ‫النيل‪ ،‬عام ‪1999‬م‪ ،‬وو�سام اال�ستحقاق امل�صري‪ .‬ومن‬ ‫�أهم اجلوائز التي ح�صل عليها �أحمد زويل يف م�سريته‬ ‫العلمية‪ :‬جائزة و ِول�ش الأمريكية‪ ،‬وجائزة هاريون هاو‬ ‫الأمريكية‪ ،‬وو�سام بنجامني فرانكلني الأمريكي‪ ،‬وجائزة‬ ‫ماك�س بالنك الأوىل يف �أملانيا‪ ،‬وجائزة هوك�ست الأملانية‪،‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫من الفيمتو ثانية؛ مبعنى �أن وم�ضة الليزر تُطلق يف زمن‬ ‫قدره ب�ضع ع�شرات من الفيمتو ثانية‪ ،‬وتدخل مك ّونات‬ ‫التفاعل قبل �إطالق الوم�ضات �إىل مطياف جهاز الفيمتو‬ ‫ثانية على �شكل حزم من املواد يف غرفة تفريغ‪ ،‬ويقوم‬ ‫جهاز الليزر املتط ّور ب�إر�سال نب�ضتني‪ :‬الأوىل قوية ت�صدم‬ ‫اجلزيئات وتثريها �إىل حالة من الطاقة العالية فتت�أرجح‬ ‫ك ّل اجلزيئات يف �آنٍ واحد حتت ت�أثري الرتابط اجلزيئي‬ ‫بينها ك�أنها �صفوف يف كتيبة ع�سكرية‪ ،‬والنب�ضة الثانية‬ ‫يتم اختيار طول موجي لها‬ ‫ج�س �ضعيفة ّ‬ ‫هي نب�ضة ّ‬ ‫منا�سب الكت�شاف اجلزيء �أو �صورة معدّلة منه‪ .‬وتع ّد‬ ‫النب�ضة الأوىل �إ�شارة بدء التفاعل‪ ،‬بينما تفح�ص‬ ‫النب�ضة الثانية ك ّل ما يجري يف التفاعل من حرك ٍة‬ ‫بطريقة مطيافية ر�ؤية اجل�سم املتحرك ب�سرعة دوران‬ ‫اجلهاز نف�سه ك�أن اجل�سم املتحرك �ساكن‪ .‬ويالحظ‬ ‫يف الفا�صل الزمني بني النب�ضتني مدى �سرعة التحول‬ ‫والأو�ضاع اجلديدة التي ي�أخذها اجلزيء عند �إثارته‬ ‫واجتيازه املرحة االنتقالية‪ .‬وترتك ال�صور التي تظهر‬

‫للجزيء يف �أثناء �إثارته �أطياف ًا ك�أنها ب�صمات �أ�صابع‬ ‫ميكن ر�ؤيتها على ال�شا�شة‪ ،‬وبتتابع النب�ضات وال�صور‬ ‫نح�صل على �صور متتابعة ت�شبه الفيلم يعر�ض حركات‬ ‫اجلزيئات ببطء �شديد‪ ،‬وهي �أ�شبه �إىل حدٍّ كبري ب�إعادة‬ ‫هدف ببطء يف مباراة لكرة القدم‪.‬‬

‫‪173‬‬


‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫‪174‬‬

‫عدد من املجاالت‪ ،‬وورد ا�سمه يف قائمة‬ ‫مرموق ًا يف ٍ‬ ‫ال�شرف بالواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬التي ت�ضم �أهم‬ ‫ال�شخ�صيات التي �ساهمت يف النه�ضة الأمريكية‪ ،‬وحمل‬ ‫ا�سمه رقم ت�سعة من بني ‪� 29‬شخ�صية بارزة بو�صفه‬ ‫�أهم علماء الليزر يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬وهي‬ ‫القائمة التي ت�ضم �ألربت �أين�شتاين‪ ،‬و�ألك�سندر جراهام‬ ‫بيل‪ ،‬وغريهما من العلماء العظماء‪ّ .‬‬ ‫ور�شحه بان كي‬ ‫مون ‪-‬الأمني العام للأمم املتحدة‪ -‬لع�ضوية املجل�س‬ ‫اال�ست�شاري العلمي للمنظمة الدولية‪ ،‬الذي يقدّم امل�شورة‬ ‫يف جمال العلم والتكنولوجيا واالبتكار من �أجل حتقيق‬ ‫التنمية امل�ستدمية‪ .‬كما أُ�طلق ا�سم �أحمد زويل على بع�ض‬ ‫وميدالية �أكادميية العلوم والفنون الهولندية‪ ،‬وجائزة ال�شوارع وامليادين يف م�صر‪ ،‬و�أ�صدرت هيئة الربيد‬ ‫االمتياز با�سم ليوناردو دا فين�شي‪ ،‬وجائزة �ألك�سندر امل�صري طابعي بريد با�سمه و�صورته‪ ،‬و ّمت �إطالق ا�سمه‬ ‫فون همبولدن من �أملانيا الغربية‪ ،‬وجائزة باك وتيني من على �صالون الأوبرا‪.‬‬ ‫نيويورك‪ ،‬وجائزة ال�سلطان قابو�س يف العلوم والفيزياء‬ ‫من �سلطنة عمان‪ ،‬والو�سام الذهبي للأكادميية البابوية عصر العلم والطريق إلى نوبل‬ ‫للعلوم‪ ،‬وجائزة وزارة الطاقة الأمريكية ال�سنوية يف ن�شر �أحمد زويل �أكرث من ‪ 350‬بحث ًا علمي ًا يف املجالت‬ ‫املتخ�ص�صة؛ مثل‪� :‬ساين�س‪ ،‬ونيت�شر‪،‬‬ ‫الكيمياء‪ ،‬وجائزة كار�س من جامعة زيورخ يف الكيمياء العلمية العاملية‬ ‫ّ‬ ‫والطبيعة‪ ،‬وهي �أكرب جائزة علمية �سوي�سرية‪ ،‬وقالدة ون�شر عدد ًا من الكتب‪ ،‬هي‪ :‬رحلة عرب الزمن‪ ..‬الطريق‬ ‫بري�ستلي‪ ،‬وهي �أرفع و�سام �أمريكي يف الكيمياء‪ ،‬وو�سام �إىل نوبل‪ ،‬وع�صر العلم (‪2005‬م)‪ ،‬والزمن (‪2007‬م)‪،‬‬ ‫جوقة ال�شرف الوطني الفرن�سي برتبة فار�س‪ .‬وح�صل وحوار احل�ضارات (‪2007‬م)‪ ،‬والت�صوير امليكرو�سكوبي‬ ‫زويل على زماالت الأكادمييات واجلمعيات العلمية‬ ‫يف الواليات املتحدة الأمريكية و�أوروبا و�آ�سيا و�أمريكا‬ ‫اجلنوبية وال�شرق الأو�سط‪ ،‬وانتُخب ع�ضو ًا يف �أكادميية‬ ‫العلوم والفنون الأمريكية‪ ،‬وع�ضو ًا يف اجلمعية امللكية‬ ‫الربيطانية‪ ،‬وع�ضو ًا يف الأكادميية البابوية للعلوم‪ ،‬و ُمنح‬ ‫زويل ُمنح جائزة نوبل نتيجة الثورة‬ ‫درجات الدكتوراه الفخرية يف العلوم والفل�سفة والعلوم‬ ‫الهائلة في علم الكيمياء والعلوم‬ ‫الإن�سانية والطب والقانون من نحو ع�شرين جامعة‬ ‫المرتبطة به التي أحدثها من خالل‬ ‫يف العامل‪ ،‬منها جامعتا كامربيدج و�أك�سفورد‪ .‬كما‬ ‫أبحاثه الرائدة في مجال ردود الفعل‬ ‫اختاره الرئي�س الأمريكي باراك �أوباما �ضمن جمل�س‬ ‫الكيميائية واستخدام أشعة الليزر‬ ‫م�ست�شاريه للعلوم والتكنولوجيا‪ ،‬الذي ي�ضم ‪ 20‬عامل ًا‬


‫تم ّيز أحمد زويل بقدرته الفريدة‬ ‫المتطورة‪،‬‬ ‫على استنباط التقنيات‬ ‫ّ‬ ‫واستخدامها في إيضـاح المفاهيم‬ ‫النظرية األساسية وإثباتها‪ ،‬وحقّ ق‬ ‫إنجازات علمية باهرة في استخدام‬ ‫أطياف أشعة الليزر الفائقة السرعة‬ ‫في متابعة الحزم الضوئية للجزيئات‬

‫�أعلن التلفزيون امل�صري يوم الثالثاء ‪� 2‬أغ�سط�س عام‬ ‫‪2016‬م وفاة العامل الدكتور �أحمد زويل يف �سان مارينو‬ ‫بلو�س �أجنلو�س يف الواليات املتحدة الأمريكية بعد‬ ‫�صراع مع املر�ض عن عمر ناهز ال�سبعني عام ًا‪ ،‬وكان‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫زويل يعاين قبل وفاته ورما �سرطانيا يف النخاع ال�شوكي‬ ‫منذ عام ‪2013‬م‪ .‬وودّعته م�صر التي �أو�صى بدفنه‬ ‫فيها بجنازة ع�سكرية ُو�ضع فيها جثمانه على عربة‬ ‫مدفع جت ّرها اخليول‪ ،‬ويتقدّمها جنود يحملون �أكاليل‬ ‫الزهور والأو�سمة التي نالها زويل على مدى حياته‪.‬‬ ‫وتقدّم الرئي�س امل�صري عبدالفتاح ال�سي�سي و�أ�سرة‬ ‫زويل امل�ش ّيعني يف �ساحة م�سجد امل�شري طنطاوي مبنطقة‬ ‫التجمع اخلام�س يف �شرق القاهرة‪ ،‬و�شارك يف اجلنازة‬ ‫بع�ض ال�شخ�صيات املرموقة‪ ،‬منهم‪ :‬ج ّراح القلب العاملي‬ ‫جمدي يعقوب‪ ،‬و�شيخ الأزهر �أحمد الطيب‪ ،‬ورئي�س‬ ‫جمل�س النواب علي عبدالعال‪ ،‬وبع�ض الدبلوما�سيني‬ ‫العرب؛ ل ُي�سدل بذلك ال�ستار على ق�صة عامل م�صري‬ ‫�أبدع على ب�ساط الغربة‪.‬‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫الإلكرتوين الرباعي الأبعاد بالإجنليزية‪ ،‬وعلم الأحياء‬ ‫الفيزيائي من الذرات �إىل الطب بالإجنليزية‪ .‬كما خ ّلف‬ ‫زويل م�شروع ًا علمي ًا رائد ًا يف م�صر‪ ،‬هو (مدينة زويل‬ ‫للعلوم والتكنولوجيا)‪ ،‬وهو م�شروع مبادر لتطوير العلم‬ ‫والتعليم يف م�صر يقع يف مدينة ‪� 6‬أكتوبر على م�ساحة‬ ‫ويتم متويله‬ ‫‪ 200‬فدان‪ ،‬ويتمتّع باال�ستقاللية التامة‪ّ ،‬‬ ‫عرب تربعات الهيئات والأ�شخا�ص‪.‬‬

‫جنازة عسكرية بصحبة األوسمة‬

‫‪175‬‬


‫تلويحة لآلتي‬

‫ا السنة ‪ 13‬ا العددان ‪ 51 - 50‬ا شوال ‪ -‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬سبتمبر ‪2016‬م ا‬

‫د‪ .‬يحيى‪:‬‬ ‫عطرك مازال‬ ‫فواح ًا‬

‫‪176‬‬

‫رفض الدكتور يحيى إيقاف‬ ‫التام‬ ‫هذه المجلة؛ لوعيه‬ ‫ّ‬ ‫بحاجة العالم العربي إلى‬ ‫مثل هذه المجلة الفريدة‬ ‫في مادتها وأهدافها؛ فكان‬ ‫أن رعى هذه النبتة الصغيرة‬ ‫حتى استوى عودها‬

‫تشع في‬ ‫صدرت هذه المجلة عام ‪2003‬م‪ ،‬وهي أخت لعدة إصدارات‬ ‫ّ‬ ‫عالم الثقافة والعلوم‪ ،‬يصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫اإلسالمية في سبيل خدمة الثقافة العربية واإلسالمية‪ .‬يصدر‬ ‫المركز مجلة (الفيصل) العريقة‪ ،‬ومجلة (اإلسالم والعالم المعاصر)‪،‬‬ ‫ومجلة (الدراسات اللغوية)‪ ،‬إضافةً إلى عددٍ من المطبوعات‬ ‫والنشرات البحثية الخاصة في شتى المجاالت تصدر باللغتين العربية‬ ‫واإلنجليزية؛ مثل‪ :‬مسارات‪ ،‬ودراسات‪ ،‬وقراءات‪ ،‬وتعليقات‪ ،‬كما ظلّت‬ ‫مجلة (الفيصل األدبية) تصدر عدة سنوات حتى توقّ فت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وظل يرأس تحريرها إلى العدد السابق‬ ‫أصدر مجلة (الفيصل العلمية)‪،‬‬ ‫األستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد‪ ،‬وأص ّر على استمرارها في‬ ‫الوقت الذي تموت فيه المجالت الورقية في العالم بأسره ألسباب‬ ‫كثيرة‪ ،‬من أهمها سيطرة العالم الرقمي‪ ،‬وسهولة الوصول إلى‬ ‫المجالت والصحف الرقمية‪ ،‬وخسارة المطبوعات الورقية كثير ًا من‬ ‫قرائها‪ ،‬وتقلّص أرباحها‪.‬‬ ‫التام بحاجة العالم‬ ‫لوعيه‬ ‫المجلة؛‬ ‫هذه‬ ‫إيقاف‬ ‫رفض الدكتور يحيى‬ ‫ّ‬ ‫العربي إلى مثل هذه المجلة الفريدة في مادتها وأهدافها؛‬ ‫فكان أن رعى هذه النبتة الصغيرة حتى استوى عودها‪ .‬ولمقاومة‬ ‫أسباب التوقّ ف ذهب بها إلى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم‬ ‫والتقنية لكي تساهم في رعايتها‪ ،‬والمساعدة على استمرارها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تظل تقف على رجليها‪ ،‬وهي تؤدي رسالتها‬ ‫ودعمها مالي ًا؛ حتى‬ ‫التي آمن بها الدكتور يحيى‪ .‬ويكفي الرجل فخر ًا أن يكون له قصب‬ ‫ّ‬ ‫ليحتل موقعه الذي يستحقه‬ ‫السبق في إصدار مجلة علمية وطنية‬ ‫في مسيرة صحافتنا السعودية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل َمن يعرف الدكتور يحيى يتيقّ ن أنه يعمل في صمت‪ ،‬ويسعى إلى‬ ‫خدمة هذه الثقافة العربية اإلسالمية من خالل جميع المناصب التي‬ ‫تقلّدها‪ ،‬وال غرو أن يرتبط اسمه بمشروعات عظيمة؛ كمكتبة الملك‬ ‫يودعنا في مجلة‬ ‫فهد الوطنية التي كان أول أمين عام لها‪ ،‬وهو حين ّ‬ ‫(الفيصل العلمية) فهو يذهب إلى مكان آخر ليزرع فيه ويثمر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حللت‪ْ ،‬‬ ‫وثق أن عطرك مازال فواح ًا‪،‬‬ ‫د‪ .‬يحيى‪ :‬نعلم أنك تزهر وتثمر أينما‬ ‫ونحن في انتظار نسيم يأتي بعبق وردة تزرعها أينما تكون في هذا‬ ‫الوطن؛ فتحية لك مني‪ ،‬ومن ّ‬ ‫كل َمن عرفك‪ ،‬وتعامل معك‪.‬‬ ‫َمن يريد االطالع على منجزات الدكتور يحيى محمود بن جنيد فليقرأ ما كتبه‬ ‫مقال من ثالث حلقات في الملحق‬ ‫األخ الصديق محمد القشعمي عنه في‬ ‫ٍ‬ ‫الثقافي لصحيفة الجزيرة‪ ،‬األعداد‪ ،15955 :‬و‪ ،15962‬و‪.15969‬‬

‫د‪ .‬عبد الله الحاج‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.